المبحث الثالث:
آثار الشروط الباطلة على صحة عقود البطاقات البنكية
أثر اشتراط الزيادات (الفوائد البنكية الربوية) على عقد بطاقة الإقراض بفوائد والتسديد على أقساط: (Credit Card) :
إن اشتراط هذه الزيادة على مقدار القرض الحقيقي قلّت أو كثرت تؤثر على صحة عقد الإقراض شرعًا.
ولكن: هل يصل التأثير على العقد إلى بطلانه وفساده شرعًا، أو أنه يصح العقد ويبطل الشرط؟
ذهب المالكية والشافعية إلى بطلان العقد وعدم صحته كلية.
ورد النص على هذا في المذهب المالكي في العبارات التالية:
" وأما شرطه: فهو أن لا يجر القرض منفعة، فإن شرط زيادة قدر أو صفة فسد، ولم يفد جواز التصرف، ووجب الرد إن كان المقترض قائمًا، وإن فات وجب ضمانه بالقيمة، أو بالمثل على المنصوص ". (1)
أصبح من جملة الضوابط الفقهية المسلمة في هذا الموضوع:
" (وفسد) القرض (إن جر نفعًا) للمقرض ". (2)
يتفق الشافعية مع المالكية في الحكم بفساد عقد القرض المشروط بفائدة (الزيادة) للمقرض حيث ورد النص لديهم أيضًا: " (ألا يجوز) قرض نقد، أو غيره إن اقترن (بشرط رد صحيح عن مكسر، أو) رد (زيادة) على القدر المقرض، أو رد جيد عن رديء، أو غير ذلك من كل شرط جر منفعة للمقرض ". (3)
__________
(1) ابن شاس، عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، ج 2، ص 566
(2) الدردير، الشرح الصغير، ج 3، ص 295
(3) الرملي، شمس الدين محمد، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، (مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده) ، ج 4، ص 230(10/1096)
خالف في هذا كل من الحنفية والحنابلة، إذ يرون صحة العقد، وبطلان أمثال هذه الشروط.
المذهب الحنفي: ورد النص على هذا صراحة في المذهب الحنفي في العبارة التالية:
" القرض لا يتعلق بالجائز من الشروط، فالفاسد منها لا يبطله (1) ، ولكنه يلغو شرط رد شيء آخر، فلو استقرض الدراهم المكسورة على أن يؤدي صحيحًا كان باطلًا، وكذا لو أقرضه طعامًا بشرط رده في مكان آخر، وفي الخلاصة: القرض بالشرط حرام، والشرط لغو ". (2)
المذهب الحنبلي: ورد النص بصحة عقد القرض المشروط في العبارة التالية: " ولا يفسد القرض بفساد الشروط ". (3)
صريح هذين المذهبين أن عقد الإقراض صحيح في بطاقات الإقراض، وليس للشروط الفاسدة تأثير على صحته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: " ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله , من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مئة شرط ". (4)
__________
(1) يفرق الحنفية بين البيع الباطل والفاسد: " الباطل ما لا يكون مشروعًا بأصله ووصفه لانتفاء ركنه ومحله. . .، والفاسد ما يكون مشروعًا بأصله دون وصفه، ويثبت به الملك إذا اتصل به القبض العيني ". أبو محمد محمود بن أحمد، البناية في شرح الهداية، الطبعة الأولى، تصحيح المولى محمد عمر الشهير بناصر الإسلام الرافوري، (بيروت: دار الفكر، عام 1401هـ/ 1981م) ، ج 6، ص 374
(2) الحصكفي، محمد علاء الدين، شرح الدر المختار، (مصر: مطبعة صبيح وأولاده) ، ج2، ص 88
(3) البهوتي، شرح منتهى الإرادات، ج 2، ص 227
(4) باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف كتاب الله) ، باب رقم (17)(10/1097)
يقول العلامة أحمد بن علي بن حجر العسقلاني في شرح الحديث السابق:
" المراد بكتاب الله - في الحديث المرفوع - حكمه وهو أعم من أن يكون نصًّا، أو مستنبطًا، وكل ما كان كذلك فهو مخالف لكتاب الله.
قال ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا حكمه من كتابه وسنة رسوله،
أو إجماع الأمة ".
وقال ابن خزيمة: " ليس في كتاب الله أي: ليس في حكم الله جوازه أو وجوبه، لا أن كل من شرط شرطًا لم ينطق به الكتاب يبطل، لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط، ويشترط في الثمن شروط من أوصافه، أو من نجومه، ونحو ذلك فلا يبطل ". (1)
عنون الإمام أبو البركات مجد الدين عبد السلام بن تيمية لحديث عائشة رضي الله عنها السابق: (باب أن من شرط الولاء أو شرطًا فاسدًا لغا وصح العقد) ، وذكر الإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني تعليقًا على ما جاء في بعض روايات الحديث:
" قوله: (وإن اشترطوا مئة شرط) قال النووي: أي لو شرطوا مئة مرة توكيدًا فالشرط باطل، وإنما حمل ذلك على التوكيد؛ لأن الدليل دل على بطلان جميع الشروط التي ليست في كتاب الله ". (2)
أما صحة العقد مع وجود شرط فاسد فهو محل خلاف.
يقول الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد رحمه الله: " وظاهر الحديث أنه لا يفسده، لما قال فيه: واشترطي لهم الولاء، ولا يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عقد باطل، وإذا قلنا: إنه صحيح فهل يصح الشرط؟ فيه خلاف في مذهب الشافعي، والقول ببطلانه موافق لألفاظ الحديث وسياقه، وموافق للقياس أيضًا من وجه، وهو أن القياس يقتضي: أن الأثر مختص بمن صدر منه السبب، والولاء من آثار العتق فيختص بمن صدر منه العتق، وهو المعتق، وهذا التمسك والتوجيه في حصة البيع والشرط يتعلق بالكلام على معنى قوله: (واشترطي لهم الولاء) ". (3)
يستشهد لهذا ما تشترطه البنوك المصدرة للبطاقة في جميع أنحاء العالم، والبنوك التابعة لها محليًّا من الزيادات الربوية المتنوعة الأسباب حتى أضحى نشاطها بارزًا في هذا المجال، يظهر تأثيره في إقبال المواطنين عليه وتقبله، ورواجه بينهم بدعوى (التسهيلات النبيلة) .
__________
(1) فتح الباري، ترقيم وتبويب محمد فؤاد عبد الباقي، وتصحيح محيي الدين الخطيب، (مصر: المطبعة السلفية ومكتبتها) ، ج 5، ص 353
(2) نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار، شرح منتقى الأخبار، الطبعة الأولى، ضبط وتصحيح محمد سالم هاشم، (بيروت: دار الكتب العلمية، عام 1415 هـ/ 1995 م) ، ج5، ص 191
(3) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، الطبعة الثانية، تحقيق: أحمد محمد شاكر، (القاهرة: دار الكتب السلفية، عام 1407 هـ/ 1987 م) ، ج 2، ص 135(10/1098)
نسبة الزيادات الربوية على بطاقات الإقراض في البنوك المحلية:
فيما يلي نماذج من الواقع للزيادات الربوية التي تفرض على بطاقات الإقراض والتسديد على أقساط، التي يشترطها كل بنك على القروض المقدمة لحملة البطاقات: (Credit Cards) .
البنك الأهلي التجاري:
يصدر البنك البطاقتين ماستر كارد/ فيزا البنك الأهلي التجاري.
تحدد المواد (6 و 7 و 8) من شروط الإصدار طرق تسديد حامل البطاقة للمبالغ المستحقة عليه، وتحديد الزيادة الربوية في حالة اختيار التقسيط الشهري، والرسوم على السحب النقدي وفي حالة عدم وجود رصيد كاف بالحساب حسب العبارات التالية:
" 6 - على حامل البطاقة أن يحدد أسلوب سداد المستحقات، وذلك
إما عن طريق دفع كامل المطالبة الشهرية (ائتمانية) (1) ، أو عن طريق التقسيط الشهري (اعتمادية) بواقع 10 % من المطالبة المستحقة، وبحد أدنى (100) مئة ريال أيهما أعلى، وبذلك سوف يقوم البنك بقيد رسوم خدمة قدرها 1.5 % على المبلغ المتبقي.
7 - يقيد البنك على السحوبات النقدية التي تتم بواسطة البطاقة رسومًا قدرها 2.5 % من قيمة السحب، إضافة إلى مبلغ 20 ريال سعودي رسوم خدمة، وتقيد على حساب العميل.
8 - يصدر البنك كشف حساب شهري، يرسله إلى حامل البطاقة خلال منتصف كل شهر ميلادي، ويخصم المبلغ من حساب العميل في أول الشهر الميلادي التالي حسب تحديد أسلوب السداد.
ويجب أن يحتفظ حامل البطاقة برصيد كاف في حسابه الجاري لسداد المصروفات المستحقة عليه.
وفي حالة عدم وجود رصيد كاف بالحساب، ففي كلتا الحالتين - بطاقة ائتمان أو اعتماد - سيقيد البنك على الرصيد المكشوف رسومًا قدرها 1.75 % شهريًا، وبحد أدنى قدره 20 ريالًا حتى سداد المبلغ بالكامل ". (2) تعد شروط إصدار بطاقة البنك الأهلي التجاري بالنسبة للزيادات الربوية أصرح النشرات في تحديدها، وهي في نفس الوقت من أعلى ما تتقاضاه البنوك الأخرى من الفوائد.
__________
(1) يستعمل البنك كلمة (ائتمانية) بمعنى قرض هنا، وهي تمثل في أقسام البطاقات حسب العنوان الصحيح (بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الفائدة)
(2) البنك الأهلي التجاري، شروط الإصدار، تمت زيارة فرع هذا البنك بحي العزيزية بمكة المكرمة على فترتين مختلفتين 1417/4/14 هـ، ثم في 417/4/17 هـ، للحصول على نشرة شروط الإصدار، حيث إن المتوافر هو استمارات الطلب فقط، أما شروط الإصدار فقد كانت غير موجودة حتى وجدت، فاستخرج منها نسخة مصورة.(10/1099)
البنك العربي الوطني:
(1)
يصدر البنك العربي الوطني بطاقة الإقراض فيزا (Visa) لمن له رصيد في البنك، بنوعيها: الذهبية، والفضية.
لم يرد تصريح في اتفاقية البنك وأوراق الإعلان عن سوى بطاقة الإقراض بزيادة ربوية والتسديد على أقساط، ولكن يوجد في ورقة الإعلان (دعوة للحصول على بطاقة فيزا العربي الائتمانية) في الصفحة الداخلية الأخيرة العنوان التالي: (بإمكانك اختيار طريقة التسديد التي تناسبك) جاء تحته ما يلي:
" عند استلامك لكشف الفواتير، يمكنك التسديد للبنك العربي الوطني بالطريقة المناسبة التي لا تؤثر على التزاماتك المالية، إما بتسديد قيمة الفواتير بالكامل لدى أي فرع من , فروعنا، أو إرسال شيك بالبريد إلينا، أو بموجب أقساط شهرية مريحة ".
يعني هذا أنه يمكن لحامل البطاقة أن يسدد فوريًّا حسب (بطاقة السحب المباشر من الرصيد (Debit Card) دون أن تترتب عليه زيادة ربوية. أما في حالة اختيار التسديد على أقساط شهرية مريحة فإنه يضاف إليها الزيادات الربوية حسب النسب التالية:
1.75 % شهريًّا على القسط الشهري.
في حالة التأخير عن التسديد يضاف إلى العمولة الشهرية السابقة على كامل المبلغ ما تقدر نسبته 2.5 % في المئة.
في حالة السحب النقدي تفرض 10 % ريال سعودي على كل خمسمائة ريال.
__________
(1) تمت زيارته وأخذ المعلومات من المسؤولين في فترات مختلفة في 22/ 3/ 1417 هـ، وفي 30/ 3/ 417 اهـ، الموافق لـ 14 أغسطس 1996م، نتيجة لعدم توافر لائحة الشروط أثناء الطلب والمراجعة، أخذت المعلومات المتعلقة بالزيادات المفروضة على الإقراض شفويًّا من المسؤولين.(10/1100)
البنك السعودي البريطاني:
(1)
يصدر البنك السعودي البريطاني بطاقة فيزاVisa، وبطاقة ماستر كارد (Master Card) ولا يصدر في الوقت الحالي من البطاقات سوى (بطاقة الإقراض والتسديد بزيادة على أقساط) (Credit Card) .
تضمنت (اتفاقية إصدار بطاقة الائتمان) في الفقرة رقم (6) النص التالي:
" يرسل البنك كشف حساب البطاقة إلى حامل البطاقة شهريًا، متضمنًا تفاصيل إجمالي الفواتير على البطاقة، والحد الأدنى للتسديد، وعلى حامل البطاقة تدقيق ذلك الكشف، وإشعار البنك خلال مدة أقصاها عشرون يومًا من تاريخه بأية ملاحظات قد يتضمنها ذلك الكشف، وبعد انقضاء هذه المدة المذكورة فسوف يعتبر كشف حساب البطاقة والقيود التي يتضمنها ملزمًا لحامل البطاقة، ولن يقبل البنك بعد ذلك أي مطالبات، أو اعتراضات على ذلك.
كما يلتزم حامل البطاقة بتسديد عمولة على إجمالي المبلغ حسب
ما يحدده البنك، ويكون الحد الأدنى للسداد الشهري بواقع 30 % من إجمالي المبلغ، أو حد أدنى قدره 100 ريال، بالإضافة إلى العمولة الشهرية المحتسبة، ويعطى حامل البطاقة مهلة خمسة وعشرين يومًا من تاريخ إصدار الكشف لتسديد المبلغ المستحق قبل حلول تاريخ الدفع المحدد، وفي حال تأخر حامل البطاقة عن تسديد كامل الرصيد المستحق خلال فترة خمسة وعشرين يومًا فسوف يتم احتساب رسم التأخير، حسبما يحدده البنك من وقت لآخر.
هذا وللعميل الخيار في تسديد كامل الرصيد المستحق عليه، أو تسديد الحد الأدنى المشار إليه آنفًا.
إذا رغب العميل في تسديد الفواتير بموجب التسهيلات الائتمانية الدوارة، وفي حالة عدم تمكن حامل البطاقة من سداد الحد الأدنى المستحق في تاريخه المحدد فإن كافة الفواتير المصروفة القائمة بموجب البطاقة تصبح مستحقة الدفع فورًا، وأنه يحق للبنك السعودي البريطاني اتخاذ كافة الإجراءات الملائمة ضده لدى الجهة الحكومية المعنية لتحصيل قيمة الفواتير القائمة، مع العمولات المستحقة، هذا ولن يفسر أي إخفاق، أو تأخير من جانب البنك في ممارسة هذا الحق على أنه تنازل عنه ". (2)
__________
(1) تمت زيارة فرع البنك السعودي البريطاني بحي العزيزية بمكة المكرمة يوم الاثنين 21/ 3/ 1417 هـ، الموافق ـ 5 أغسطس 1996 م
(2) البنك السعودي البريطاني، اتفاق إصدار بطاقات الائتمان.(10/1101)
الملاحظ على هذا أن على حامل البطاقة أن يدفع عمولة على القرض لم يفصح عنها البنك في نص الاتفاقية، وإنما وردت عبارة: " كما يلتزم حامل البطاقة بتسديد عمولة على إجمالي المبلغ، حسبما يحدده البنك. . . ".
لدى الاستفسار من الموظف المسؤول أفاد بأنه لا تحتسب عمولة على القسط الأول إذا دفعه حامل البطاقة معجلًا، أما بقية الأقساط فيدفع عمولة بنسبة 1.95 ريالًا في المئة.
" وفي حالة عدم تمكن حامل البطاقة من سداد الحد الأدنى المستحق في تاريخه المحدد، فإن كافة الفواتير المصروفة القائمة بموجب البطاقة تصبح مستحقة الدفع فورًا , وأنه يحق للبنك تحصيل قيمة الفواتير القائمة مع العمولات المستحقة ". بموجب هذا النص وحسبما شرحه الموظف المسؤول بالبنك يتوجب في مثل هذه الحالة أن يدفع حامل البطاقة الزيادات الربوية التالية:
59. 1 ريالًا في المئة، وهي الفائدة الشهرية المعتادة على القسط الشهري أو الدوري، يضاف إليه نسبة 5. 2 % ريالًا في المئة على إجمالي المبلغ، بمعنى إذا كان القرض 5000 ريال يصبح إجماليه مضافًا إليه الزيادات الربوية كالتالي:
5000 + 1.95 % +2.5 %
هذه النسب لم يشر إليها في نص الاتفاقية، بل هي مجهولة، ونادرًا ما يسأل عنها حامل البطاقة.
أما بالنسبة للسحب النقدي فالفائدة هي: نسبة 3.5 % ريالًا على كل مئة لريال.(10/1102)
البنك السعودي الأمريكي: (1)
يصدر بطاقتي سامبا ماستر كارد الذهبية، وسامبا ماستر كارد الفضية، وسامبا فيزا الذهبية، وسامبا فيزا الفضية، ورد في الفقرة الأولى من نموذج طلب البطاقة:
" يمكنك الشراء الآن والسداد على دفعات شهرية بحد أدنى 5 % من المبلغ المستحق عليك، أو 250 ريال للبطاقة الفضية، و 400 ريال للبطاقة الذهبية أيهما أكثر، كما يمكنك بالطبع دفع كامل المبلغ المستحق عليك دفعة واحدة، الأمر الذي يمنحك مرونة في السداد، ويتيح لك القدرة على التحكم بمدفوعاتك. عند السداد على دفعات شهرية سيتم احتساب 1.95 % شهريًّا على المبلغ المستحق كرسم خدمة تقسيط ".
لم يرد ذكر لنسبة العمولة على التأخير في التسديد، ولدى الاستفسار عنها من الموظف المسؤول أجاب: بأنه تضاف إلى العمولة الشهرية زيادة أخرى بنسبة 5، 2 % على التأخير.
البنك السعودي الفرنسي: (2)
يصدر البنك السعودي الفرنسي نوعين من البطاقات:
1 - بطاقة إقراض بزيادة ربوية والتسديد على أقساط (Credit Card) .
2 - بطاقة السحب الفوري (Debit) لكل من:
1) بطاقة ماستر كارد (Master Debit Card) .
2) بطاقة فيزا (Visa Credit Card) .
يصدر البطاقة فقط لمن لديه رصيد بالبنك بمقدار مئة ألف ريال بالنسبة للبطاقة الذهبية، وخمسين ألف ريال للبطاقة الفضية.
قيمة المشتريات والسحب النقدي لحامل البطاقة تسحب مباشرة من الرصيد، فهي بهذا الاعتبار تعد من قبيل بطاقة السحب المباشر من الرصيد (Debit Card) ، في حالة رغبة العميل التسديد على أقساط، أو عدم وجود رصيد، وعدم التسديد في الوقت المحدد يصبح حامل البطاقة مقترضًا من البنك تفرض عليه الزيادات التالية:
1.79 % على المبلغ كل شهر + 50 ريالًا شهريًّا على التأخير.
السحب النقدي بالبطاقة: تضاف زيادة 2.5 % على المبلغ لكل عملية سحب نقدي.
سعر التحويل للعملات الأجنبية هو سعر الشركة المصدرة للبطاقة.
غالبًا ما يكون أعلى من سعر السوق، محتسبًا فيه الأرباح، والزيادات، والخدمات للشركة المصدرة للبطاقة.
__________
(1) تمت زيارة فرع هذا البنك بحي العزيزية بمكة المكرمة يوم الاثنين 21/ 3/ 1417 هـ، الموافق لـ 5 أغسطس 1996 م
(2) تمت زيارة فرع هذا البنك بفرع العزيزية بمكة المكرمة على فترتين يوم الاثنين 21/ 3/ 1417 هـ، الموافق لـ 5 أغسطس عام 1996 م، كما تمت زيارة فرع هذا البنك ثانية بحي العزيزية في 22/ 3/ 1417 هـ، الموافق لـ 6 أغسطس عام 1996 م(10/1103)
__________(10/1104)
الزيادة الربوية (الفائدة) المشروطة المضافة كما تقدم إلى أصل القرض الحكم الشرعي فيها واضح وبين، وكذلك الزيادة بالنسبة للسحب النقدي، فإنها من قبيل القرض أيضًا في بطاقات الإقراض.
أما بالنسبة للرسوم المفروضة المضافة إلى قيمة الصرف في العملات الأجنبية، فمن المعلوم أن البنوك تتخير السعر الأفضل لها، وهو الأعلى لدى البيع، والتخفيض عند شراء العملة، آخذة في حساباتها في كلتا الحالتين أجور الخدمات والصرف والأرباح، علمًا بأن الشركات الأم للبطاقات مثل (فيزا) لها سعر خاص في تحويل العملات يزيد عن السعر السائد في الأسواق.
في ضوء هذه الحقائق لا يمكن تخريج النسبة المضافة إلى قيمة
صرف العملات في بطاقة الإقراض أنها أجور وخدمات، حيث تزيد الفائدة (الزيادة) كلما زادت كمية العملة الأجنبية.
بعبارة أخرى: الشراء لعملة أجنبية ببطاقة الإقراض، والسحب النقدي بها هما قرض يضاف إليهما زيادة مشروطة تضم إلى الزيادات الأخرى المفروضة على القرض الأساس، لتصبح الأرباح مضاعفة ومركبة. من المحقق أن هذه النسب للزيادات تتغير من وقت لآخر حسب الأسواق المالية دون علم من حامل البطاقة، هذا ما يحدث فعلًا في البلاد الإسلامية والدول النامية، على العكس من هذا في دول الغرب، حيث يجد الأفراد حماية قانونية لأموالهم وممتلكاتهم، وحرصًا كبيرًا من دولهم على سلامة الاقتصاد الوطني.(10/1105)
أثر اشتراط الزيادات على عقد بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة ابتداء (Charge Card) :
تختلف الشروط في هذا النوع من البطاقات، كما تختلف طرق التسديد فيها عن بطاقة الإقراض بزيادة والتسديد على أقساط (Credit Card) .
التسديد حسب نظام هذه البطاقة يتم كاملًا في فترة معينة دون زيادة أو إضافة على قيمة المشتريات. هذا إذا التزم حامل البطاقة الوفاء بالتسديد في الفترة المقررة في العقد، أما إذا تراخى عن التسديد فحينئذ تفرض على القرض نسبة من الزيادات نتيجة التأخير حسب المتفق عليه في العقد، وحسبما تقدم توضيحه في نصوص اتفاقيات البنوك وشروط إصدار البطاقة. يعد هذا الشرط من الشروط الباطلة، أما تأثيره على صحة العقد فإنه يجري فيه الخلاف السابق في (آثار الشروط الباطلة على صحة عقود البطاقات) . (1)
لو قيل فرضًا بصحة العقد حيث الحاجة داعية لمثل هذه البطاقات لمن يكثر ترحالهم إلى بلاد أوضاعها الأمنية غير مأمونة، على شرط أن يعقد حامل هذه البطاقة العزم على الوفاء والتسديد في الوقت المقرر، ليخرج من طائلة إثم الوقوع في الربا؛ لَظَلَّ جانب آخر منها يصعب التخلص منه، ذلك هو أن بطاقة الإقراض الشهري تظل بها بقية الزيادات والإضافات المالية، كالنسبة المقررة على صرف العملات الأجنبية، والسحب النقدي وغيرها، التي تجر نفعًا لمصدر البطاقة مما لا يستطيع حامل البطاقة تفاديه والخلاص منه، حيث تحسب عليه تلقائيًّا من دون مراجعته، هذه جميعًا تعكر صحة عقد هذه البطاقة، فتلحقه حكمًا ببطاقة عقد الإقراض بفوائد والتسديد على أقساط (Credit Card) .
أما لو ألغيت هذه الإضافات والزيادات أو حاول حاملها تفاديها وبخاصة عمولة السحب النقدي، ورسوم التحويل من العملات الأجنبية فإن صحة العقد وسلامته مؤكدة مع التزام حامل البطاقة الوفاء في الفترة المقررة، دون أن تلحقه زيادة ربوية بسبب التأخير في التسديد.
تستعمل أحيانًا بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة للإقراض بزيادة والتسديد على أقساط أيضًا في آن واحد، وهو ما يحدث لبعض أنواع " بطاقة أمريكان إكسبرس، وبطاقة دانرزكلوب، وبطاقة فيزا - في بعض الحالات - بطاقة ائتمانية، يفترض في المشترك أن يسدد رصيده خلال فترة محددة من استلامه كشف حسابه، بينما هناك بطاقات أخرى تجمع بين الطابع الائتماني (2) والإقراض الربوي حيث تتقاضى 25 - 35 % سنويًا على المبالغ غير المدفوعة ". (3) في مثل هذه الحالة تعامل هذه البطاقة معاملة بطاقة الإقراض بزيادة والتسديد على أقساط في أحكامها وآثارها على صحة عقد الإقراض. (4)
__________
(1) انظر: ص 719 - 722 من هذا البحث
(2) يعني الكاتب بـ (الائتمان) بطاقة الإقراض الشهري (Charge Card) و (الإقراض الربوي) الإقراض بزيادة والتسديد على أقساط (Credit)
(3) أبو غدة، محمد زاهد عبد الفتاح، بطاقة الائتمان هذه، (الكويت، مجلة النور، السنة التاسعة، الأعداد: 90- 91 - 92 رمضان عام 1412 هـ/ مارس عام 1992 م) ، ص 28
(4) انظر: ص 719 من هذا البحث.(10/1106)
أثر اشتراط الزيادات على عقد بطاقة شراء التجزئة (Retailer Or Inhouse Card) :
هذا النوع من البطاقات يعتمد الحكم الشرعي فيه حسب نوع الاتفاق بين حامل البطاقة ومصدرها (المحل التجاري) .
قد يتم الاتفاق بينهما على أساس التسديد الكامل لقيمة المشتريات نهاية كل شهر دون فرض زيادة من أي نوع، حيث يكون الشراء بعملة محلية، ودون سحب نقدي من قبل حامل البطاقة، ودون إضافة أي عمولة، إذ يكتفي التاجر بتسويق سلعه والربح المعتاد، حينئذ يكون العقد صحيحًا سالمًا من أي شائبة تؤثر على صحته.
قد يتضمن هذا العقد شرط نسبة معينة تفرض على حساب حامل البطاقة في حالة التباطؤ في الدفع، حينئذ يخضع هذا الشرط والعقد لما سبق بحثه في (أثر اشتراط الزيادة لمصلحة المقرض (مصدر البطاقة) على صحة العقد) . (1)
قد يتم الاتفاق بين الطرفين في عقد بطاقة شراء التجزئة على أساس ما هو متبع في عقد بطاقة الإقراض والتسديد بزيادة على أقساط (Credit card) ، وذلك هو التسديد لقيمة المشتريات على أقساط شهرية وإضافة نسبة من الزيادات، حينئذ ينزل حكم هذا النوع من البطاقة بهذا الاتفاق على أحكام عقد بطاقة الإقراض بزيادة والتسديد على أقساط (Credit Card) صحة وبطلانًا، وتأثير أمثال هذه الشروط على هذا العقد. (2)
أثر اشتراط الزيادات على عقد بطاقة السحب المباشر من الرصيد (Debit Card) :
لا تعد هذه البطاقة من قسم بطاقات الإقراض الثلاث السابقة، وليس حولها ما يقال بالنسبة للزيادات والإضافات على القروض في تلك البطاقات، فهي خالية وسليمة من هذا الجانب الربوي المحرم , ذلك أن العلاقة بين مصدر البطاقة وحامل هذا النوع من البطاقات ليست علاقة إقراض أساسًا ابتداء وانتهاء.
من جانب آخر إن الزيادات الأخرى المفروضة على عقود البطاقات الأخرى التي منها: الزيادة لدى تحويل العملات الأجنبية، والزيادة المقطوعة على السحب من بنك آخر البنك المصدر للبطاقة لا يمكن أن ينظر إليها موضوعًا بمثل النظر إليها في بطاقات الإقراض، لأنه لا يوجد هنا إقراض أصلًا حتى تعد من قبيل (كل قرض جر نفعًا فهو ربا) . إن القرض غير موجود أساسًا في المعاملة، حينئذ تحمل على أساس أجور للخدمات التي يقدمها البنك المصدر للبطاقة، سواء كانت على أساس نسبة السحب، أو قيمة الصرف، أو السحب من بنك غير البنك المصدر للبطاقة، أن المبلغ المقطوع، وإن كان بعضها مبالغًا فيه مثل الإضافة المفروضة على صرف العملات الأجنبية بالإضافة إلى سعر الصرف المرتفع فهذا أمر آخر لا علاقة له بصحة العقد أو بطلانه.
__________
(1) انظر: ص 719 من هذا البحث.
(2) انظر من هذا البحث: أثر اشتراط الزيادات (الفوائد البنكية الربوية) على صحة عقد بطاقة الإقراض بفوائد والتسديد على أقساط، ص 719(10/1107)
يصدر هذا النوع من البطاقات عدد من البنوك الإسلامية التي تتحرى أن تجري معاملاتها وفق أحكام الشريعة الإسلامية مع تطوير شروط شركة فيزا وتطويعها لإصدار البطاقة. من هذه البنوك على سبيل المثال:
دار المال الإسلامي:
تصدر دار المال الإسلامي بالكويت بطاقة فيزا الإسلامية بنوعيها: الذهبية والفضية. تشترط هذه الدار أن يفتح حامل البطاقة حساب مضاربة إسلامية بحد أدنى 50 ألف ريال سعودي للبطاقة الذهبية، و10لآف ريال سعودي للبطاقة الفضيلة.
" يتم حجز قيمة الضمان المقر حسب نوعية البطاقة: البطاقة الذهبية عشرة آلاف دولار أمريكي، وهو ما يمثل الحد المسموح به للصرف. البطاقة الفضية ألفا دولار أمريكي، وهو ما يمثل الحد المسموح به للصرف.
مبلغ الضمان يتم استثماره على نحو دوري لصالح حامل البطاقة.
تتم تغطية الحساب في حالة السحوبات، أو المشتريات أولًا بأول ". (1)
شركة الراجحي المصرفية للاستثمار:
كذلك شركة الراجحي المصرفية للاستثمار تحاول أن يكون إصدار البطاقة والتعامل بها بعيدًا عن الزيادات المحرمة شرعًا، فلا تصدر إلا بطاقة السحب المباشر من الرصيد (Debit Card) ولذا تشترط التأمين النقدي كما في المادة (3) من شروط أحكام إصدار البطاقة، إذ تنص على التالي:
" 3 - التأمين النقدي: للشركة حق حجز قيمة تأمين نقدي لبعض الحالات بعد إشعار العميل، ويبقى هذا التأمين تحت يدها طوال استمرار العضوية، وذلك ضمانًا لحقوق الشركة، أو حقوق الغير، ولا يرد هذا التأمين أو جزء منه إلا بعد انقضاء 90 يومًا من تاريخ انتهاء العضوية، أو إلغائها لأي سبب من الأسباب، بشرط تسليم البطاقة إلى المركز، أو الفرع، وشرط عدم وجود حقوق للشركة، أو للغير لدى حامل البطاقة ". (2)
قد تستعمل بطاقة السحب الفوري من الرصيد للإقراض أيضًا، تصبح حينئذ بطاقة إقراض، تخضع أحكام الزيادات فيها للأحكام المذكورة في بطاقة الإقراض بزيادة والتسديد على أقساط (Credit card) ، وتنزل حالتها شرعًا على مثيلاتها من بطاقات الإقراض الأخرى السابقة تغليبًا للجانب الأحوط، وتمشيًا مع القاعدة الفقهية:
" إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام ". (3)
وبمعناها: " ما اجتمع محرم ومبيح إلا غلب المحرم ".
__________
(1) الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي، بطاقة فيزا الإسلامية الخيار الأفضل، نشرة إعلانية.
(2) نشرة إعلانية.
(3) ابن نجيم، زين العابدين بن إبراهيم، الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، تحقيق وتعليق عبد العزيز محمد الوكيل، (مصر: مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، عام 1387 هـ/ 1968م) ، ص 109(10/1108)
الفصل الثاني
العلاقة بين أطراف عقد البطاقات البنكية
بالنسبة للتسديد والخصم
المبحث الأول: عقد الضمان في الفقه الإسلامي، وتطبيقه على البطاقات البنكية.
المبحث الثاني: عقد الوكالة في الفقه الإسلامي، وتطبيقه على تصرفات مصدر البطاقة بالتسديد والخصم
المبحث الثالث: مرجعية البنوك في قضايا البطاقات.
المبحث الرابع: الآراء المختلفة في تكييف عقد نظام البطاقات والتوفيق بينها.
المبحث الأول:
عقد الضمان في الفقه الإسلامي وتطبيقه على البطاقات البنكية
العقد الذي يتم بين التاجر وحامل البطاقة قد يكون عقد بيع، يكون التاجر هو البائع، وحامل البطاقة هو المشتري، أو عقد خدمات يكون التاجر أو صاحب المؤسسة مؤجرًا، وحامل البطاقة مستأجرًا.
حينئذ تصنف العقود بحسبها بيعًا أو إجارة، وتحدد علاقتهما حسب تصنيف العقد: بائع ومشتر، مؤجر ومستأجر. في حالة البيع يقدم التاجر البضاعة لحامل البطاقة ويمكنه من تملكها، وفي حالة الخدمات ينجز التاجر أو المؤسسة المنفعة المتفق عليها، وفي كلا العقدين يستحق التاجر أو المؤسسة الثمن، أو الأجرة. يقدم حامل البطاقة بطاقته، ويوقع على السندات ليتقاضى التاجر القيمة من مصدر البطاقة الضامن لها بموجب العقد.
العقود التي تتم بين التاجر، أو مؤسسة الخدمات وحامل البطاقة تخضع في الأركان والشروط والأحكام للعقد الذي صنفت عليه بيعًا أو إجارة، أو غير ذلك.(10/1109)
بإتمام طرفي العقد الإجراءات المطلوبة للسندات الموقعة من قبل حامل البطاقة تنتهي العلاقة بينهما، وتنتقل مسؤولية المطالبة بالثمن إلى البنك مصدر البطاقة الذي ضمن للتاجر تسديد مبيعاته، أو أجور خدماته. من المهمات الأولية أن تحدد العلاقة الشرعية لمصدر البطاقة فيما يتصل بدفع قيمة مشتريات حامل البطاقة واستخدامه للبطاقة في معاملاته المالية.
يقوم نظام البطاقات الإقراضية على أساس التزام البنك مصدر البطاقة بتسديد قيمة مشتريات حامل البطاقة مباشرة للمؤسسات والمحلات التجارية، التي جرى استخدامه للبطاقة في الحصول على حاجياته مما يتوافر لديها، إذا تم هذا في حدود المبلغ المخصص لحامل البطاقة، وتوافرت كافة الشروط المطلوبة في سندات البيع، وتقديمها في الصورة والوقت المقررين.
هذا ما تنص عليه الاتفاقية بين البنك مصدر البطاقة والراغب في الحصول عليها في المادة الأولى.
" يلتزم المصدر للبطاقة بقبول سندات مشتريات حامل البطاقة، وأجور خدماته، وسحبه النقدي ". (1)
__________
(1) انظر: (مواد الاتفاقية بين مصدر البطاقة وحاملها) من هذا البحث، ص 616(10/1110)
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المحلات التجارية قبلت بالبطاقة في تلبية حاجات حاملها من البضائع المتوافرة لديها على أساس التزام مصدر البطاقة بالتسديد نيابة عنه، حيث ورد النص كالتالي: " يوافق البنك على قبول سندات البيع ودفع قيمتها للتاجر دون تراجع فيما عدا حالات معينة ". (1)
يمثل البنك مصدر البطاقة الطرف المشترك بين حامل البطاقة والتاجر، فيما يتصل بالتسديد. يلتزم البنك للتاجر دفع قيمة ما توجب على حامل بطاقة الإقراض من دون رجوع إليه، وبهذا يصبح (ضامنا) وكفيلًا ماليًّا له، كما يصبح حامل البطاقة (مضمونًا) ومكفولًا.
البنك المصدر للبطاقة فيما يخص علاقته بدفع القيمة للتاجر يلتزم بتسديده وكالة عن حامل البطاقة إذا سلمت السندات، فيصبح التاجر بموجب الاتفاقية (مضمونًا له) ، وقيمة المشتريات الدين (المضمون به) الذي التزمه مصدر البطاقة.
هذه المسؤوليات في ضوء هذه العلاقات والالتزامات من البنك المصدر للبطاقة تجاه حامل البطاقة من جهة والتاجر من جهة أخرى تندرج بانسجام تام مع أحكام عقد الضمان والكفالة بالمال في الفقه الإسلامي.
__________
(1) انظر: (ثانيًا: عن مواد الاتفاقية بين مصدر البطاقة والتاجر) من هذا البحث، ص 618(10/1111)
يتم فحص هذه العلاقات من عقود البطاقات الإقراضية ومدى مطابقتها على عقد الضمان في الفقه الإسلامي، وتنزيلها عليه تعريفًا، وأركانًا، وشروطًا، وأحكاما فيما يأتي:
تعريف الضمان في الفقه الإسلامي:
الضمان في اللغة: مشتق من الضَمّ، أو من التضمن؟ لأن ذمة الضامن تتضمن الحق، أو من الضمن لأن ذمة الضامن في ضمن ذمة المضمون، لأنه زيادة وثيقة. (1)
يقول الإمام أبو الحسن الماوردي: " أما الضمان فهو أخذ الوثائق في الأموال؛ لأن الوثائق ثلاثة: الشهادة، والرهن، والضمان ". (2) .
" ويسمى حمالة: مشتقة من الحمل؛ لأن الضامن حمل، والمضمون نقل ما كان عليه ". (3)
كذلك من الأسماء المرادفة له: " الكفالة، والإذانة، والزعامة، والقبالة. . .
وللضامن في اللغة سبعة أسماء هي: زعيم، وكفيل، وقبيل، وأذين، وحميل، وصبير، وضامن ". (4)
الضمان في اصطلاح الفقهاء متفق عليه بينهم في مدلوله ومسماه، وإن اختلفت العبارات، وهنا يتم استعراض تعريفات المذاهب الفقهية حسب الترتيب التالي:
المذهب الحنفي: يعنون الحنفية هذا النوع من العقود أيضا (الكفالة) فيعم الكفالة بدين، أو نفس، أو عين ونحوه، ولذا جاء التعريف بما يناسب هذا التعميم في العبارة التالية: " (ضم ذمة) الكفيل (إلى ذمة) الأصيل (في المطالبة مطلقا) بنفس، أو بدين، أو عين كمغصوب ونحوه ". (5) فمن ثم تقسم الكفالة إلى نوعين: كفالة بالنفس وكفالة بالمال، ظهر هذا التقسيم لكلمة (كفيل) في شرح معنى حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم ".
يقول العلامة شمس الأئمة السرخسي في معنى الجملة الأخيرة من الحديث:
" والزعيم غارم: معناه، الكفيل ضامن، أي ضامن لما التزمه من مال، أو تسليم نفس، على معنى أنه مطالب به ". (6)
__________
(1) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: ج 2، ص 245، يقول أبو الحسين أحمد بن فارس: (ضمن) : الضاد والميم والنون أصل صحيح، وهو جعل الشيء في شيء يحويه. . . والكفالة تسمى ضمانًا من هذا الوجه ": 3/ 272؛ يقول العلامة المناوي: " وقول بعض الفقهاء: الضمان مأخوذ من الضم غلط من جهة الاشتقاق؛ لأن نون الضمان أصلية، والضم لا نون فيه، فهما مادتان مختلفتان. التوقيف على مهمات التعريف، الطبعة الأولى، تحقيق: محمد رضوان الداية - بيروت، دار الفكر عام 1410 هـ، ص 14.
(2) الحاوي الكبير، ج 3، ص 105
(3) القرافي، شهاب الدين أحمد بن إدريس، الذخيرة، الطبعة الأولى، تحقيق: محمد بو خبرة، (بيروت: دار الغرب الإسلامي: طبعة الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم، عام 1994 م) ، ج 29، ص 189
(4) ابن رشد، المقدمات الممهدات، الطبعة الأولى، تحقيق: سعيد أحمد أعراب وعبد الله الأنصاري، (بيروت: دار الغرب الإسلامي - عام 1408هـ/ 1988 م) ، ج 2، ص 373 - 377
(5) الحصكفي، محمد علاء الدين، شرح الدر المختار، ج 2، ص 117
(6) المبسوط، ج 2، ص 27 - 28، الحديث أخرجه ابن ماجه في (باب العارية) ، ج 2، ص 802، مقتصرًا على (العارية مزداة والمنحة مردودة) ، رقم الحديث 2399، وجاء في (باب الكفالة) عن أبي أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الزعيم غارم، والدين مقضي ". ابن ماجه، رقم الحديث: 2405، ج 2، ص 804(10/1112)
المذهب المالكي:
الضمان: " التزام مكلف غير سفيه دَيْنًا على غيره ". (1)
المذهب الشافعي:
الضمان: " التزام حق ثابت في ذمة الغير ". (2)
يشترط الشافعية في الضمان أن يكون الحق ثابتًا على خلاف المذاهب الأخرى، ولذا ضمنوا التعريف بـ (الحق الثابت) . وسيأتي البحث في هذا الموضوع.
المذهب الحنبلي:
الضمان: " التزام من يصح تبرعه ما وجب، أو يجب على غيره مع بقائه عليه، أو هو: ضم الإنسان ذمته إلى ذمة غيره فيما يلزمه حالًا أو مآلًا ". (3)
هذه التعريفات بمجموعها تنطبق على البنك مصدر البطاقة بالتزامه ما وجب، أو يجب على حامل البطاقة. وهنا يتحقق من أركان الضمان في عقد بطاقة المعاملات المالية:
أولًا: الضامن: مصدر البطاقة (هو ما التزم ما على غيره) . (4)
الثاني: المضمون: " ولذلك يقال لذلك الغير: مضمون، ومضمون عنه "، وهو حامل البطاقة.
الثالث: المضمون به: " هو الحق الذي التزمه الضامن " مصدر البطاقة.
الرابع: المضمون له: التاجر في عقد البطاقة " هو رب الحق الذي التزمه الضامن ". (5)
الخامس: الصيغة: " يصح الضمان بكل لفظ يفهم منه الضمان عرفًا ". (6)
مواد اتفاقية البطاقة بين البنك مصدر البطاقة وحاملها في الفقرة الثانية تصرح بالتزام البنك بتسديد المبالغ التي يقترضها حامل البطاقة
وقيمة مشترياته، كذلك الاتفاقية بين البنك مصدر البطاقة والتاجر في الفقرة السادسة منها يلتزم له البنك بدفع قيمة مبيعاته حسب الشروط المطلوبة، وبهذا يتوافر هذا الركن من أركان الضمان في عقد البطاقة.
__________
(1) الدردير، أبو البركات أحمد بن محمد، الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، (مصر، دار المعارف) ، ج 3، ص 429
(2) ابن حجر الهيتمي، أحمد، تحفة المحتاج بشرح المنهاج، ج 5، ص240 الرملي، شهاب الدين، نهاية المحتاج، ج 4، ص 432
(3) البهوتي، كشاف القناع، ج 3، ص362؛ القاري، أحمد بن عبد الله، مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ص 354
(4) القاري، مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد، ص 354
(5) القاري، مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد، ص 354
(6) البهوتي، كشاف القناع، ج 3، ص 363(10/1113)
المقصد الشرعي من عقد الضمان في الشريعة الإسلامية:
حفظ الأموال مقصد مهم من مقاصد الشريعة الإسلامية، التعامل بالدين تجارة، والإقراض لذوي الحاجات من أعمال البر التي رغب فيها الإسلام، لكن إعطاءها لمن لا معرفة بهم لدى أرباب الأموال ضياع وإهدار لها من جهة، والامتناع عن ذلك والكف عن إقراضهم ومداينتهم، وتجاهل حاجاتهم لا ترضاه الشريعة السمحة، ولا تقبل به بين المسلمين، فشرع الإسلام الضمان حفظًا للأموال، وسدًّا لحاجات المحتاجين، دون ضرر يمس بمصلحة واحد منهم. فمن ثم جاءت تشريعاته وأحكامه منسجمة مع تلك المقاصد والأهداف.
أخذ الأجر على الضمان:
الضمان في الشريعة الإسلامية من أعمال البر والمعروف التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، ناسب أن لا يؤخذ عليها أجر قل أو كثر، فقد ورد في الحديث الشريف: " ثلاثة لا تكون إلا لله: الجعل، والضمان، والجاه ". (1)
في ضوء المقصد الشرعي من الضمان استنتج الفقهاء أنه " لا يجوز ضمان بجعل؛ لأن الضمان معروف، ولا يجوز أن يؤخذ عوض عن معروف وفعل خير، كما لا يجوز على صوم ولا صلاة؛ لأن طريقها ليس لكسب الدنيا، وقال مالك: لا خير في الحمالة بجعل.
قال ابن القاسم: فإن نزل وكان يعلم صاحب الحق سقطت الحمالة، ورد الجعل، وإن لم يكن يعلمه فالحمالة لازمة للحميل، ويرد الجعل على كل حال. . . " (2) قال أبو بكر بن المنذر: " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحمالة بجعل يأخذه الحميل لا تحل، ولا تجوز ". (3)
فرع الفقهاء على هذا الحكم مسائل وصورًا عديدة. ذكر العلامة عبد الباقي الزرقاني تعليقًا على بعض مسائل الضمان قوله: " إن الجعل للضامن ممتنع سواء كان من عند رب الدين، أو من المدين، أو من أجنبي، وعلم ربه به قبل رده، فإن لم يعلم به رد، والحمالة ثابتة. ". علل للتحريم بأن الضامن " إذا غرم رجع بما غرمه مع زيادة الجعل، وذلك لا يجوز لأنه سلف بزيادة ". (4)
من فروع هذه المسألة عند الشافعية: " لو أمره بالضمان عنه بجعل جعله له، لم يجز، وكان الجعل باطلًا، والضمان إن كان بشرط الجعل فاسدًا، بخلاف ما قاله إسحاق بن راهويه؛ لأن الجعل إنما يستحق في مقابلة عمل، وليس الضمان عملًا فلا يستحق به جعلًا ". (5)
هذا هو الأصل الشرعي في حكم أخذ أجر على الضمان.
في ضوء هذا الأصل لا يجوز شرعًا في عقد الضمان المتضمن في عقود بطاقات الإقراض أن يفرض أجر للضمان، سواء من المضمون عنه (حامل البطاقة) ، أو المضمون له (التاجر) ، أو من غيرهما من أجنبي عن العقد.
__________
(1) الصاوي، أحمد بن محمد، حاشية على الشرح الصغير على أقرب المسالك مع الشرح، ج 3، ص 442، لم أقف على هذا الحديث في المصادر، وقد انفرد العلامة الصاوي بذكره بين المؤلفين الفقهاء، فيما توصلت إليه من البحث، والله أعلم.
(2) المواق، أبو عبد الله محمد بن يوسف العبدري، التاج والإكليل لمختصر خليل، هامش مواهب الجليل للحطاب، الطبعة الأولى، (مصر: مطبعة السعادة، عام 1329 هـ) ، ج 5، ص 111
(3) ابن المنذر النيسابوري، محمد بن إبراهيم، الإشراف على مذاهب أهل العلم، الطبعة الثانية، تحقيق: محمد نجيب سراج الدين، (قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عام 1414 هـ/ 1994) ، ج 1، ص 120
(4) شرح الزرقاني على مختصر خليل، (بيروت: دار الفكر) ، ج 6، ص 33
(5) الماوردي، الحاوي الكبير، ج 8، ص 121(10/1114)
أحكام الضمان في عقود البطاقات البنكية:
من المقرر شرعًا أن الضمان من أعمال البر، وأنه لا يؤخذ عليه
أجر، وأن حكم العقد الجواز، والصحة.
من شروط عقد الضمان: أن الدين الذي يلتزم به الضامن عن المضمون عنه يكون دينًا صحيحًا، ويتسامح فيما عدا ذلك من حيث معلوميته، وثبوته في ذمة المضمون عنه، وأنه سيثبت، أو أنه وجب سابقًا، أو أنه سيجب.
هذا كله يتلاءم ويتناسب مع طبيعة القرض والديون في بطاقات الإقراض، إذ أن الديون على حامل البطاقة لدى إتمام عقد بطاقة الإقراض غير معلومة في ذلك الحين، بل لما يجب شيء منها في ذمة حامل البطاقة بعد، " فصح ضمان ما هو محتمل الثبوت استقبالًا ". (1) ، وليس شيء من هذا يؤثر على صحة عقد الضمان لدى جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وهو ما تدل عليه نصوص هذه المذاهب في الاقتباسات التالية:
المذهب الحنفي: " وأما الكفالة بالمال فجائزة، وكان المكفول به معلومًا، أو مجهولًا إذا كان دَيْنًا صحيحًا، مثل أن يقول: تكفلت عنه بألف، أو بما لك عليه، أو بما يدركك في هذا البيع؛ لأن مبنى الكفالة على التوسع، فيحتمل فيها الجهالة، وعلى الكفالة بالدرك إجماع ". (2)
المذهب المالكي: " الكفالة بالمال جائزة في الشرع، لازمة في صريح الحكم، وهي من المعروف، وتجوز عند مالك وأصحابه في المعلوم والمجهول ". (3) " وصح الضمان و (إن جهل) قدر الحق المضمون حالًا ومالًا. . .، ذلك أن الضامن إنما يرجع بما أدى، وما أدى معلوم ". (4) المذهب الحنبلي: " (ولا) يعتبر (كون الحق معلوما) ؛ لأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة، فصح في المجهول كالإقرار، (ولا) كون الحق (واجبًا إذا كان مآله) أي الحق (إلى العلم والوجوب) ، فيصح ضمان ما لم يجب إذا آل إلى الوجوب، ومنه أي من ضمان ما يجب (ضمان السوق) ، وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دَيْن، وما يقبضه من عين مضمونة ". (5)
هذه الأحكام فيما يتصل بالديون والقروض في عقد الضمان تنطبق على الكيفية التي تتم واقعًا بالنسبة لقروض البطاقات المضمونة من قبل البنوك المصدرة لها. لا يخالف في هذا إلا المذهب الشافعي، حيث " يشترط في المضمون كونه (ثابتًا) حال الضمان، لأنه وثيقة، فلا يتقدم ثبوت الحق كالشهادة، فلا يكفي جريان سبب وجوبه كنفقة الغد للزوجة، وصحح في القديم ضمان ما سيجب، كأن يضمن المئة التي ستجب ببيع، أو قرض؛ لأن الحاجة قد تدعو إليه، والمذهب صحة ضمان الدرك، ويسمى ضمان العهدة، وإن لم يكن ثابتًا؛ لمس الحاجة إليه ". (6)
__________
(1) المواق، التاج والإكليل لمختصر خليل، ج 5، ص 99
(2) المرغيناني، أبو الحسن علي، الهداية بداية المبتدي، الطبعة الأخيرة، (مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده) ، ج 3، ص 90
(3) ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد القرطبي، المقدمات الممهدات، ج 2، ص 376
(4) الزرقاني، عبد الباقي، شرح الزرقاني على مختصر خليل، ج 6، ص 25
(5) البهوتي، كشاف القناع، ج 3، ص 367
(6) ابن حجر الهيتمي، تحفة المحتاج، ج 5، ص 246(10/1115)
المطالب بالدين في عقد البطاقات البنكية:
البنك المصدر للبطاقة هو المسؤول الوحيد أمام التاجر عن قيمة مبيعاته لحاملي البطاقات. وبموجب الاتفاقية يكون الدفع النقدي للتاجر من مصدر البطاقة في كافة الحالات.
لم يكن التاجر ليوافق على بيع بضاعة دينًا على من لا يعرفه، لولا أن مصدر البطاقة شرط له استلام حقوقه منه، وليس من حامل البطاقة المشتري، بل إنه نص في الاتفاقية بينهما على عدم جواز تسليم التاجر لحامل البطاقة ثمن البضاعة المرجوعة له من حامل البطاقة لدى إرجاعها لأي سبب من الأسباب.
تقضي النصوص في الفقه الإسلامي أن للدائن حق المطالبة للضامن والمضمون سويًا، إلا إذا شرط صاحب الدين استيفاء حقه من الضامن خاصة فله شرطه، وكما سبق فإن هذا شرط متفق عليه بين مصدر البطاقة والتاجر، وبموجبه قبل التاجر بالبيع لحاملي البطاقات.
يتفق هذا الأسلوب في التعامل في هذا الجانب مع ما نص عليه المذهبان الحنفي والمالكي في النصوص التالية:
المذهب الحنفي:
" والمكفول له بالخيار إن شاء طالب الذي عليه الأصل، وإن شاء طالب كفيله؛ لأن الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وذلك يقتضي قيام الأول لا البراءة. . . خلافًا لما يقول ابن أبي ليلى: إن الكفالة توجب براءة الأصيل. . .
إلا إذا شرط في عقد الكفالة براءة الأصل (فحينئذ تنعقد) أي الكفالة (حوالة اعتبارًا للمعنى) وهو أنه أتى بخاصية الحوالة. . . " (1) ؛ ذلك أن الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة اعتبارًا للمعنى. كما أن الحوالة بشرط أن لا يبرًا بها المحيل تكون كفالة) وهي في اصطلاح الفقهاء: " تحول الدين من ذمة الأصيل إلى ذمة المحال عليه على سبيل التوثيق ". (2)
المذهب المالكي:
" الضمان لا يبرئ ذمة المضمون عنه ". (3) للمكفول له أن يطالب الضامن والمضمون عنه " (إلا أن يشترط) رب الدين عند الضمان (أخذ أيهما شاء) ، أو يشترط (تقديمه) في الأخذ عن المدين، (أو ضمن) الضامن المدين في الحالات الست: الحياة والموت، والحضور والغَيْبَة، واليسر والعسر، فله مطالبته، ولو تيسر الأخذ من مال الغريم " (4)
يختلف المذهبان الشافعي والحنبلي عما هو مقرر في المذهبين السابقين.
المذهب الشافعي:
" (وللمستحق) الشامل للمضمون له ولوارثه. . . (مطالبة الضامن) رضا منه. . . (والأصيل) اجتماعًا، وانفرادًا، وتوزيعًا، بأن يطالب كلًّا ببعض الدين لبقاء الدين على الأصيل، وللخبر السابق: " الزعيم غارم ". ولا محذور في مطالبتها، وإنما المحذور في تغريمهما معًا كلًّا كل الدين ... ولو أفلس الأصيل فلطب الضامن بيع ماله أولًا أجيب إن ضمن بإذنه، وإلا فلا، لأنه وطن نفسه على عدم الرجوع ". (5)
المذهب الحنبلي:
" ولرب الحق مطالبة أيهما شاء، أي الضامن والمضمون عنه لثبوت الحق في ذمتهما (و) له مطالبتهما (معًا) لما تقدم.... (في الحياة والموت) ". (6)
__________
(1) العيني، البناية في شرح الهداية، ج 6، ص 745- 807؛ وانظر: ابن الهمام، فتح القدير، ج7، ص 182.
(2) العيني، البناية في شرح الهداية، ج 6، ص 745- 807؛ وانظر: ابن الهمام، فتح القدير، ج 7، ص 182
(3) البغدادي، القاضي عبد الوهاب، المعونة على مذهب عالم المدينة، ج 2، ص 1231
(4) الدردير، أبو البركات أحمد بن محمد، الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، ج 3، ص 438 - 439
(5) الهيتمي، ابن حجر، تحفة المحتاج بشرح المنهاج، ج 5، ص 27
(6) البهوتي، شرح منتهى الإرادات، ج 2، ص 246(10/1116)
ضمان سلامة البضائع والخدمات في عقد البطاقات البنكية:
إن ضمان البضائع والخدمات في عقد البطاقات البنكية:
إن ضمان البنك المصدر للبطاقة للتاجر دفع قيمة مبيعاته لا تعني تلقائيًّا مسؤلياته عن ما يجري من نزاع بين التاجر وحامل البطاقة فيما يخص سلامة البضاعة أو الخدمات؛ لأن مصدر البطاقة إنما ضمن دفع القيمة، وليس له شأن بغير ذلك فيما يحصل بين التاجر والمشتري حامل البطاقة من نزاع بسبب البضاعة.
أخذت البنوك المحلية في المملكة العربية السعودية بهذا المبدأ، بل خصصت لهذه القضية بعض النصوص الصريحة التي تبين موقفها منها، وهي بهذا أخذت بالحيطة والحذر، فنفت أن تكون العلاقة علاقة شراكة، أو وكالة، أو تضامن ... إلخ. ذلك أن بعض القوانين تجعل المسؤولية مشتركة بين هذين الطرفين (1) .
على سبيل المثال: البنك السعودي البريطاني:
خصص لهذه القضية مادتي (10) و (25) في اتفاقية التاجر، ورد نصها كالتالي:
" المادة (10) النزاعات ودعاوى حاملي البطاقات:
يوافق التاجر على التعامل مع جميع شكاوى حاملي البطاقة بخصوص البضاعة والخدمات الأخرى، التي يحصل عليها بموجب البطاقة المصرفية تمامًا، كما لو أن هذه البضاعة أو الخدمات بيعت من قبل التاجر نقدًا.
المادة (25) علاقة الطرفين:
لا يعتبر طرفا هذه الاتفاقية بموجب هذه الاتفاقية أحدهما شريكًا، أو وكيلًا للآخر، ولا يجوز تفسير أي نص في هذه الاتفاقية على أنه يعني إقامة شراكة تضامنية، أو اتحاد ائتماني، بل إن كل طرف يعتبر مسؤولا بصفة فردية فقط عن التزاماته المنصوص عليها في هذه الاتفاقية ". (2)
المادتان السابقتان في هذا الخصوص موجود نصًّا، وترتيبًا، وترقيمًا، في (الاتفاقية التجارية الخاصة بنقاط البيع) للبنك السعودي الفرنسي. كما أنها موجودة ومنصوص عليها في مواد مستقلة في بقية الاتفاقيات بهذا النص والمضمون.
* * *
__________
(1) انظر في قسم الدراسة القانونية من هذا البحث، (الحماية القانونية لحاملي البطاقات البنكية) ، ص 647
(2) مركز البطاقات، البنك السعودي البريطاني.(10/1117)
المبحث الثاني:
عقد الوكالة في الفقه الإسلامي
وتطبيقه على تصرفات مصدر البطاقة بالتسديد والخصم
معلوم أن مبلغ القرض في عقد البطاقات البنكية في حوزة مصدر البطاقة، يتصرف فيه بتسديد قيمة المشتريات نيابة عن حامل البطاقة، كما أن لمصدر البطاقة " صلاحية السحب من حساب التاجر الخاص للمبالغ المطالب بها مثل: استرجاع قيمة السندات غير الصحيحة، أو قيمة البضاعة المعادة إليه ". (1)
هذه العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها من جهة هي علاقة وكالة يصبح مصدر البطاقة وكيلًا عن حامل البطاقة في تسديد قيمة مشترياته بطريق استخدام البطاقة.
كما أن مصدر البطاقة أيضًا وكيل عن التاجر في خصم المبالغ المطالب بها التي دفعت لحسابه نتيجة قبول البيع بالبطاقة.
بهذا يصبح مصدر البطاقة وكيلًا عن الطرفين؛ عن حامل البطاقة بالتسديد لقيمة مشترياته، وعن التاجر بالخصم من حسابه، فمن ثم تخضع هذه العلاقة الشرعية بين هؤلاء الأطراف في هذا الجانب لأحكام عقد الوكالة في الفقه الإسلامي.
__________
(1) انظر هذا الموضوع في هذا البحث تحت عنوان: (علاقة مصدر البطاقة بالتاجر) ، ص 677(10/1118)
أولًا: عقد الوكالة في الفقه الإسلامي وتصرفات مصدر البطاقة بالتسديد عن حامل البطاقة:
الوكالة في اللغة بمعنى: " الحفظ، والكفالة، والضمان والتفويض ". (1)
وفي المصطلح الفقهي: " استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة ". (2)
أركان الوكالة متفق عليها بين المذاهب الأربعة هي: موكل، ووكيل، وموكل فيه، وصيغة. الموكل في عقد بطاقة الإقراض: حامل البطاقة لتسديد قيمة مشترياته.
هذا ما تنص عليه الشروط في اتفاقية إصدار البطاقة، من هذه النماذج: شروط وأحكام إصدار بطاقة الراجحي فيزا، في المادتين (4) و (6) إذ تنصان على التالي:
" 4 - الرسوم:
يتعهد حامل البطاقة بسداد جميع المصاريف والرسوم مقابل إصدار، أو تجديد البطاقة.
للشركة الحق في خصم هذه الرسوم والمبالغ تلقائيًّا من الحساب الجاري الخاص بالعميل. . .
6 - تفويض الشركة:
يتعهد حامل بطاقة الراجحي فيزا بتفويض الشركة بخصم جميع الالتزامات المالية المترتبة على استخدام البطاقة على حساب العميل الجاري لدى الشركة، أو أي حساب جاري آخر يخصه لدى الشركة دون الرجوع إليه، وأن يكون استخدامه للبطاقة باعتبارها وسيلة دفع غير نقدي، وعدم تجاوز حدود الحد المصرح له باستخدام البطاقة، ويعتبر هذا التفويض تفويضًا مطلقا متجددا من العميل للشركة ".
هذا النص موجود في شروط إصدار بطاقات البنك الأهلي التجاري المادة (10) بصيغة مختلفة:
" يحتفظ البنك بحقه في استخدام أي حساب لديه يخص حامل البطاقة لتسوية رصيد حساب البطاقة المدين المستحق بعد 90 يومًا من تاريخ آخر سداد ".
__________
(1) الدردير، أبو البركات أحمد، الشرح الصغير على أقرب المسالك، ج 3، ص 501
(2) البهوتي، كشاف القناع، ج 3، ص461(10/1119)
كما تنص المادة (8) قبلها على التالي:
" 8 - يصدر البنك كشف حساب شهري يرسله إلى حامل البطاقة خلال منتصف كل شهر ميلادي، ويخصم المبلغ من حساب العميل في أول الشهر الميلادي التالي حسب تحديد أسلوب السداد. . . ".
كما ورد النص بهذا المعنى في اتفاقية إصدار بطاقات فيزا وماستر كارد من بنك القاهرة السعودي في المادة (2) التي تنص على التالي:
" 2 - تصدر البطاقة كبطاقة تسديد بالخصم ذات حدود شهرية محددة سلفًا للمطلوبات التراكمية الجارية، وسوف يتم خصم قيم الفواتير والإيصالات التي تتم بموجبها المشتريات، والسحوبات النقدية من الحساب الجاري الصادر عليه البطاقة بمجرد استلامها من قبل البنك، وفضلًا عن ذلك للبنك الحق في الخصم مباشرة من هذا الحساب عن أي رسوم، أو عمولات، أو مطلوبات مترتبة على إصدار واستخدام البطاقة، وسيقوم البنك في فترات منتظمة بتحويل رصيد حساب البطاقة إلى الحساب الجاري لحامل البطاقة، وتحديد الحدود المحددة سلفا للبطاقة ".
البنك المصدر للبطاقة وكيل عن حامل البطاقة في دفع قيمة مشترياته، مفوض في ذلك تفويضًا مطلقًا، كما ورد النص بهذا في بعض اتفاقيات البنوك. الشرط الذي يجب أن يتوافر في الوكيل والموكل وهما في هذا الموضوع؛ البنك مصدر البطاقة - بشخصيته الاعتبارية - وحامل البطاقة جواز التصرف، وهو شرط مشترك بينهما، وَرَدَ النص عليه في الفقه الإسلامي.(10/1120)
" الركن الثاني: (الموكل) :
وكل من جاز له التصرف لنفسه جاز له أن يستنيب فيما تجوز النيابة فيه، لأجل الحاجة إلى ذلك على الجملة.
وكذلك حكم الوكيل، وهو الركن الثالث، فإن من جاز له أن يتصرف لنفسه في الشيء جاز له أن ينوب عن غيره إذا كان قابلًا للاستنابة. هذا هو الأصل إلا أن يعرض ما يمنع من توكيل شخص فلا يوكل. . . ". (1)
الركن الثالث: (الموكل فيه) : تسديد قيمة المشتريات عن حامل البطاقة.
قد فصل الحكم فيه وفي شروطه العلامة ابن شاس من المالكية بقوله: " ما فيه التوكيل، وله شرطان:
الأول: أن يكون قابلًا للنيابة، وهو ما لا يتعين لحكمه مباشرة: كأنواع البيع، والحوالة، والكفالة، والشركة، والوكالة، والمضاربة (والمصارفة) ، والجعالة، والمساقاة، والنكاح، والطلاق، والخلع، والصلح، وسائر العقود والفسوخ. . . ويجوز التوكيل بقبض الحقوق واستيفاء الحدود والعقوبات. . .
الشرط الثاني: أن يكون ما به التوكيل معلومًا في الجملة، ويستوي كونه منصوصًا عليه، أو داخلًا تحت عموم اللفظ، أو معلوما بالقرائن، أو بالعادة،. . . والتوكيل بالإبراء لا يستدعي علم الموكل بمبلغ الدين المبرأ عنه، ولا علم الوكيل، ولا علم من عليه الحق. . . " (2)
وفي المذهب الحنبلي: " تصح الوكالة (في كل حق آدمي) متعلق بمال، أو ما يجري مجراه (من عقد) كبيع وهبة وإجارة ونكاح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وكّل في الشراء والنكاح، وألحق بهما سائر العقود، (وفسخ) لنحو بيع (وطلاق) ؛ لأن ما جاز التوكيل في عقده جاز في حَلّه بطريق أولى، (ورجعة) لأنه يملك بالتوكيل الأقوى، وهو إنشاء النكاح، فالأضعف وهو تلافيه بالرجعة أولى، وتملك المباح، وصلح وإقرار ". (3)
__________
(1) ابن شاس، الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، ج 3، ص 677
(2) الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، ج 2، ص675 -677
(3) البهوتي، شرح منتهى الإرادات، ج 2، ص 302(10/1121)
الركن الرابع: الصيغة
تنص اتفاقيات شروط إصدار البطاقة صراحة على تفويض البنك المصدر للبطاقة للسحب مباشرة من حساب حامل البطاقة، وهذا متفق تمامًا مع ما هو مطلوب لهذا الركن، منسجم مع المنصوص عليه فقهًا. يقول العلامة ابن شاس المالكي رحمه الله تعالى:
" الركن الرابع: الصيغة الدالة على معنى التوكيل، أو ما يقوم مقامها في الدلالة عليه، ثم لا بد من القبول، فإن وقع على الفور فلا خفاء بصحة العقد، وإن تراخى بالزمان الطويل فقال الإمام أبو عبد الله: قد يتخرج عندي على الروايتين في قول الرجل لزوجته: اختاري. أو قوله: أمرك بيدك. فقامت من المجلس ولم تختر، ثم قال: والتحقيق في هذا يرجع إلى اعتبار القصد والعوائد، هل المراد في هذه الألفاظ استدعاء الجواب فورًا، فإن تأخر سقط حكم الخطاب، أو المراد استدعاء الجواب معجلًا أو مؤجلًا ". (1) " قال البساطي: ليس للوكالة صيغة خاصة، بل كل ما دل لغة أو عرفًا فإنها تنعقد به. . . ". (2)
يتفق الحنابلة في هذا مع المالكية في القول بأنه: " (تصح) الوكالة أي إيجابها (بكل قول يدل على الإذن) في التصرف (كوَكَّلتك، أو فوضت إليك) في كذا. . .، أو جعلتك نائبًا عني، لأنه لفظ دال على الإذن، فصح كلفظه الصريح، قال في الفروع: ودل كلام القاضي على انعقادها بفعل دال كبيع، وهو ظاهر كلام الشيخ فيمن دفع ثوبه إلى قصار، أو خياط، وهو أظهر كالقبول. اهـ.
" (و) يصح قبول الوكالة بـ (كل قول، أو فعل من الوكيل يدل على القبول ... ) . (3) ، (ويصح قبولها) أي الوكالة (على الفور والتراخي بأن يوكله في بيع شيء فيبيعه بعد سنة، أو يبلغه أنه وكله منذ شهر فيقول: قبلت) . وكذا سائر العقود الجائزة كشركة، ومضاربة، ومساقاة، ونحوها) كالمزارعة (في أن القبول يصح بالفعل فورًا ومتراخيًا. . . ". (4)
__________
(1) الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، ج 2، ص 678 - 679
(2) الحطاب، مواهب الجليل لشرح مختصر أبي الضياء سيدي خليل، ج 5، ص 191
(3) البهوتي، كشاف القناع، ج 3، ص 461 - 462.
(4) البهوتي، كشاف القناع، ج 3، ص 461 - 462(10/1122)
ثانيًا - تصرفات مصدر البطاقة بالخصم من حساب التاجر:
من جملة الأعمال التي تسند وكالة إلى مصدر البطاقة خصم مصدر البطاقة عمولته المتفق عليها بينه وبين التاجر من حساب التاجر، يتقاضاها البنك مصدر البطاقة على إجمالي قيمة مبيعاته مقابل خدماته لتحصيل مستحقاته، والخدمات الإدارية، والأدوات المكتبية التي يقدمها له. كذلك إرجاع قيمة السندات غير الصحيحة وقيمة البضاعة المعادة إليه.
يتولى البنك المصدر للبطاقة هذه الأعمال بطريقة شرعية قانونية حيث ينص عليها في الاتفاقية بينهما.
أنموذج للاتفاقية المبرمة في هذا الخصوص بين التاجر ومصدر البطاقة:
(اتفاقية التاجر) لبنك القاهرة السعودي في المادتين 2 و 8 حسب النصوص التالية:
" 2 - شروط الشراء وتسديد الحسابات والمصاريف:
يقدم التاجر إلى البنك كشفًا رسميًّا بالحسابات والمصاريف الناتجة عن هذه العمليات طبقًا لشروط الاتفاقية، وبعد اعتمادها من البنك تعتبر أنها مباعة ومنقولة إليه (1) ، ويتم قيد كامل قيمة الكشف لحساب التاجر، ناقصا الخصم المتفق عليه كما هو مبين فيما بعد، خلال خمسة عشر يومًا من تاريخ تقديم قسائم البيع للبنك ".
8 - قسائم قيد للسلع المعادة والتعديلات:
في حالة موافقة التاجر على إعادة ثمن سلع مباعة، أو جزء منه إلى حامل البطاقة يترتب عليه إصدار قسيمة قيد بالحساب على النموذج المزود به من قبل البنك، وطبعها طبقا لتعليمات البنك الواردة إليه، وتسلم نسخة منها إلى حامل البطاقة، ونسخة إلى البنك.
ويقوم البنك بإعادة المبلغ المستحق لحامل البطاقة، وذلك بقيد القيمة لحسابه، وخصم نفس المبلغ من حساب التاجر، على أن يتم تعديل الخصم (إذا وجد) الذي يكون التاجر قد دفعه بشأن هذه العملية، كما هو مبين في هذه الاتفاقية، ولا يجوز للتاجر في أي حال من الأحوال دفع أية مبالغ نقدية لحامل البطاقة مقابل سلع معادة ".
مصدر البطاقة يأخذ للتاجر قيمة مبيعاته من حامل البطاقة ليضعها في حسابه بالبنك، فهو وكيل عنه في القبض، كما أنه يخصم من حساب التاجر المستحق عليه من قيمة البضائع المعادة، والمبالغ المخصومة الأخرى بحكم الوكالة والتفويض.
ورد النص على صحة الوكالة في قبض سائر الحقوق في المذاهب الفقهية من دون تخصيص للقرض.
__________
(1) تفيد هذه العبارة ظاهرًا - ولعل هذا غير مقصود - أن البنك أصبح مشتريًا للبضائع التي حصل عليها حامل البطاقة حتى يكون هذا - حسب اعتقاد البنك - سببا للخصم بطريقة مشروعة.(10/1123)
المذهب الحنفي:
يقول الإمام أحمد بن محمد القدوري: " كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه جاز أن يوكل به غيره، ويجوز التوكيل بالخصومة في سائر الحقوق، وبإثباتها، ويجوز التوكيل بالاستيفاء إلا في الحدود والقصاص ". (1) والمقصود من (الاستيفاء) : " استيفاء الحقوق وهو قبضها ". (2)
قد سبق أن مصدر البطاقة ضامن للتاجر حقوقه في ذمة حامل البطاقة لما يبيعه له لدى استخدامه البطاقة، يعني هذا أن مصدر البطاقة أصبح وكيلًا في قبض حقوق التاجر، وهو نفسه الضامن لحقوق التاجر من حامل البطاقة.
هذا الجمع بين الضمان والوكالة في شخص واحد غير صحيح لدى الحنفية، ويصبح التوكيل باطلًا، نصُّوا على هذا وعللوه في النص التالي:
" (وبطل توكيله الكفيل بمال) معناه إذا كان لرجل دين على رجل، وكفل به رجل، فوكل الطالب الكفيل بقبض ذلك الدين من الذي عليه الأصل، لم يصح التوكيل؛ لأن الوكيل هو الذي يعمل لغيره، ولو صححنا هذه الوكالة صار عاملًا لنفسه ساعيًا في براءة ذمته، فانعدم الركن فبطل، ولأن قبول قوله ملازم للوكالة لكونه أمينًا، ولو صححناه وجب أن لا يقبل قوله، لكونه متهما فيه بإبراء نفسه.
ولا يقال: ينبغي أن تبطل الكفالة وتصح الوكالة كعكسه، فإنه لو وكله بقبض الدين، ثم ضمن الوكيل الدين صح الضمان وبطلت الوكالة، لأنا نقول: الكفالة أقوى من الوكالة لكونها لازمة، فتصلح ناسخة بخلاف العكس ". (3)
__________
(1) الكتاب (المختصر) مع شرحه اللباب في شرح الكتاب، (بيروت: دار الكتب العلمية، عام 1400هـ/ 1980 م) ، ج2، ص 138
(2) العيني، البناية في شرح الهداية، ج 7، ص 266
(3) الزيلعي، فخر الدين عثمان، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، (بيروت: دار المعرفة) ، ج4، ص 281(10/1124)
المذهب المالكي:
ورد النص بالصحة في مختصر سيدي خليل رحمه الله تعالى بقوله: " صحت الوكالة في قابل النيابة من عقد وفسخ , وقبض حق، وعقوبة وحوالة، وإبراء، وإن جهله الثلاثة (الموكل والوكيل، ومن عليه الحق) ". (1) ولم يرد نص على تقييد صحة الوكالة أو تعليقها بخلو الوكيل من عقد الضمان فيما توصلت إليه في البحث على قدر ما أحاط به العلم.
في المذهبين الشافعي والحنبلي:
يصح أن يتولى شخص واحد في العقد طرفي العقد، كأن يكون
وكيلًا عن الدائن يستلم له حقوقه من المدين، ووكيلًا عن المدين في دفع ما توجب عليه في ذمته للدائن.
بمعنى أن مصدر البطاقة في عقد البطاقة يكون وكيلًا للتاجر في استلام حقوقه من مدينه حامل البطاقة، كما أن مصدر البطاقة يكون وكيلًا لحامل البطاقة المدين في دفع ما عليه في ذمته للتاجر، وهو ما يجري به العمل في البنوك المصدرة للبطاقات في الاتفاقية مع حامل البطاقة واتفاقية التاجر.
ورد النص بهذه القاعدة عند الشافعية في العبارة التالية: " (ويصح) التوكيل (في طرفي بيع وهبة ورهن، ونكاح، وطلاق، وسائر العقود والفسوخ كالصلح، والحوالة، والضمان،، والشركة، والإجارة، والفسخ، بخيار المجلس، والإقالة، والرد بالعيب،) وقبض الديون، وإقباضها والدعوى والجواب ". (2)
كما ينص المذهب الحنبلي على العقود التي تجوز فيها الوكالة في العبارة التالية:
" (ويصح التوكيل (في طلاق، ورجعة، وحوالة، ورهن، وضمان، وكفالة، وشركة، ووديعة، ومضاربة، ومساقاة) ومزارعة (من إجارة، وقرض، وصلح، وهبة، وصدقة، ووصية، وكتابة، وتدبير، وإيقاف، وقسمة، وحكومة ". (3)
وينصُّ المذهب صراحة على صحة تولي طرفي العقد وكالة في عقد البيع لشخص واحد يقاس عليه بقية العقود التي تجوز فيها الوكالة، ومنها القرض إيفاء واستيفاء. ولا يصح بيع وكيل لنفسه، ولا شراؤه منها لموكله، ولو زاد على مبلغ ثمنه في النداء، أو وكَّل من يبيع، وكان هو
أحد المشترين إلا بإذنه. فيصح تولي طرفي العقد فيهما) أي في البيع والشراء لانتفاء التهمة ومثله نكاح. . . ودعوى " (4)
اتضح من كل ما سبق أنه لا اعتراض فقهًا حسب رأي الجمهور أن يكون مصدر البطاقة وكيلًا في الدفع والقبض عن حامل البطاقة والتاجر في آن واحد، وضامنًا أيضًا.
* * *
__________
(1) شرح المواق بهامش الحطاب، مواهب الجليل، ج5، ص 181
(2) المحلي، جلال الدين محمد بن أحمد، شرح منهاج الطالبين مع الحاشيتين، ج 2، ص 338
(3) البهوتي، كشاف القناع، ج 3، ص 464
(4) البهوتي، شرح منتهى الإرادات، ج 2، ص 473؛ انظر القاعدة الفقهية في هذا الموضوع، ص 697 من هذا البحث.(10/1125)
المبحث الثالث:
مرجعية البنوك في قضايا البطاقات
لا بد لكل عقد من مرجعية يلجأ إليها المتنازعان في العقود في حالة الاختلاف بينهما، ينص عليها لدى إبرام العقد.
ليست البطاقات البنكية استثناء من هذه القاعدة، المثال القائم اتفاقية البطاقات التي تقدمها البنوك في المملكة العربية السعودية للراغبين في الحصول عليها اشتملت على النص على الجهة التي يرجع إليها في قضايا النزاع للفصل والحكم فيها.
نصت جميع الاتفاقيات بين البنوك المصدرة للبطاقات وحاملي البطاقات، أو التجار أن المرجع في ذلك هو الأنظمة واللوائح المعمول بها في المملكة العربية السعودية، باستثناء البنك السعودي الفرنسي، فقد أعطى لنفسه حرية الرجوع إلى أي جهة، أو لجنة، أو هيئة قضائية، في المادة (3) وكذلك في المادة (4) حيث لم يخصص القضاء في السعودية للمحاكمة وحل النزاع، وهو خروج على القاعدة المعروفة: أن جهة التقاضي تكون في البلاد التي يزاول فيها الخصوم نشاطاتهم التي تكون السبب في منازعاتهم. فيما يلي الفقرات التي تنص على هذا من اتفاقيات البنوك العاملة في المملكة العربية السعودية:
البنك السعودي البريطاني:
المادة (22) من اتفاقية التاجر النموذجية تنص على التالي:
" القانون الذي يحكم هذه الاتفاقية: تخضع هذه الاتفاقية، وتفسر وفقًا للقوانين المعمول بها في المملكة العربية السعودية ".(10/1126)
البنك الأهلي التجاري:
" 17- تخضع هذه الشروط للأنظمة والقوانين المعمول بها في المملكة العربية السعودية، وأي نزاع ينشأ بخصوص هذه الشروط سيحال إلى السلطات السعودية التي سيكون حكمها نهائيًّا وملزمًا ".
بنك الرياض:
تنص المادة (14) من اتفاقية بطاقة إقراض (ائتمان) بنك الرياض على ما يأتي:
" 14- النظام واجب التطبيق وتسوية المنازعات:
يخضع تفسيره وتنفيذ شروط وأحكام هذه الاتفاقية، وأية معاملات ناشئة عنها، أيًّا كان مكان إجرائها أو أطرافها لأحكام الأنظمة واللوائح السعودية وحدها، وتختص لجنة تسوية المنازعات المصرفية بمؤسسة النقد العربي السعودي أي نزاع قد ينشأ بشأنها ".
البنك العربي الوطني:
ينص في كل من استمارة الطلب دعوة للحصول على بطاقة فيزا العربي الإقراضية - الائتمانية - في المادة: " 22 - أحكام الاتفاقية: تخضع شروط وأحكام هذه الاتفاقية إلى القوانين والأنظمة المعمول بها في المملكة العربية السعودية ".
وكذلك بالنسبة لاستمارة طلب (بطاقة العربي إلكترون الدولية) في الفقرة: " 16 - تخضع هذه الشروط للأنظمة واللوائح الصادرة من الجهات المختصة في المملكة العربية السعودية ".
البنك السعودي الفرنسي:
تنص المادة (24) من اتفاقية البنك السعودي الفرنسي:
" القانون الذي يغطي هذه الاتفاقية: (24 Covering Law) . يوافق حامل البطاقة في حالة إخفاقه في تسديد مدفوعاته، أو عدم وفائه بشروط الاتفاقية، أو مسؤولياته على الآتي:
للبنك الحق في إقامة الدعوى، والتوجه إلى أي محكمة، أو لجنة، أو هيئة لها نفوذ قانوني على حامل البطاقة. سواء كانت ممتلكاته داخل المملكة السعودية أو خارجها، يقدم للقضاء أمام أي محكمة أو لجنة أو هيئة أو مجلس، لا يمنعه هذا من اتخاذ أي إجراء ضده في أي هيئة قضائية سواء وافق عليها، أو لم يوافق.(10/1127)
3 - يعطى حامل البطاقة موافقته على عدم الاعتراض في الحاضر والمستقبل أيضًا لأي دعوى، أو إجراء أحضر أمام أي هيئة قضائية.
4 - هذه المواد والشروط تقرأ وتفحص حسب القانون واللوائح القضائية والتنظيمية إذا جرت المحاكمة في المملكة العربية السعودية، أو خارجها باستثناء القانون الدولي الخاص ".
إن العرض المغري للبطاقات من قبل البنوك المحلية، والإقبال الشديد عليها من قبل الأفراد على كافة المستويات، دون فحص للشروط والأحكام التي تضعها البنوك على حامل البطاقات ودون حماية قانونية، كما هو المعمول به في الدول الأخرى سيتكشف المستقبل عن مشاكل ومنازعات واسعة ومعقدة، تستوجب الأخذ بالحيطة والحذر مبكرًا، وإلا فستجد المحاكم الشرعية - أو لجان فض المنازعات بوزارة التجارة - نفسها غارقة في مشاكل وخصومات لا حدود لها من جراء الغفلة عن إحكام أمرها ووضع اللوائح والأنظمة التي تحمي كافة أطراف العقد فيها.
* * *(10/1128)
المبحث الرابع:
الآراء المختلفة في تكييف عقد نظام البطاقات والتوفيق بينها
أولى مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة عناية كبيرة لموضوع نظام البطاقة من الناحية الفقهية الشرعية، فقد طرح الموضوع للبحث والنقاش في الدورات السنوية التالية:
1) دورة مؤتمره السابع المنعقد بجدة (المملكة العربية السعودية) من 7 -12 ذي القعدة عام 1412 هجرية/ 9 - 14 مايو عام 1992 ميلادية، وقدمت فيه البحوث التالية:
1 - (بطاقات الائتمان المصرفية والتكييف الشرعي المعمول به في بيت التمويل الكويتي) .
2 - (بطاقة الائتمان وتكييفها الشرعي) : إعداد الدكتور عبد الستار أبو غدة.
3 - (بطاقات الائتمان) : إعداد الدكتور محمد علي القري بن عيد.
4 - (بطاقات الائتمان دراسة شرعية عملية موجزة) : إعداد الأستاذ الدكتور رفيق يونس المصري.
2) ثم عُرض الموضوع في جدول أعمال الدورة الثامنة المنعقدة ببندر سيري باجوان بروناي دار السلام من 21 - 27 محرم عام 1313 هجرية، الموافق 21 - 27 يونيو، عام 1993، قدمت فيه البحوث التالية:
1 - (بطاقات الائتمان) : إعداد فضيلة الشيخ حسن الجواهري.
2 - (بطاقات الائتمان) : إعداد فضيلة الشيخ محمد المؤمن.
3) ثم أخيرًا وضع على جدول أعمال الدورة العاشرة المنعقدة بجدة في المملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 إلى 28 صفر عام 1418 هجرية، الموافق 28 - 3 يوليو عام 1997 ميلادية، وقدم فيه بحث بعنوان (بطاقات المعاملات المالية: بطاقات الإقراض، والسحب المباشر من الرصيد (1) (Credit Card) من إعداد: عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، وهو مشروع هذا البحث، وقد استغرقت مناقشته يومًا كاملًا من أيام الدورة.
__________
(1) أعيدت صياغة العنوان إلى (البطاقات البنكية. . .) رغبة في تبسيطها وتوضيحها للعامة.(10/1129)
كما أقامت بعض البنوك الإسلامي الندوات المتعددة داخل المملكة العربية السعودية وخارجها توصل فيها الفقهاء إلى آراء مختلفة، والذي أدى إلى هذا الاختلاف عمومًا هو عدم دقة العنوان الاقتصادي وغموض مصطلح كلمة (ائتمان) كما سبق توضيحه، فمن ثم اختلفت آراء الفقهاء الباحثين في مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة في تكييف عقد نظام البطاقة كلًّا، وفي حكم بعض أجزائه، إباحة وتحريمًا، وفيما يلي عرض لهذه الآراء ومناقشتها في إيجاز:
أولًا: الآراء في تكييف العقد كلًّا:
الرأي الأول:
رأي فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة:
يرى فضيلته أن نظام البطاقة يتضمن:
أولًا: توكيلًا وكفالة، وقرضًا حسنًا بالنسبة للبنوك الإسلامية، وهو ما صرح به في العبارة التالية:
" الأصل في استخدام البطاقة أن هناك توكيلًا وكفالة، وهناك قرضًا حسنًا في بعض الأحيان من البنوك التي لا تشترط أن يكون السحب من حساب العميل مباشرة، وإنما أن يدفع المصدر، ثم يستوفي. . . ". (1)
وفي جوابه على السؤال عن تصوره للتكييف الشرعي لهذا العقد للبطاقة يقول بعد شرحه لإجراءات العمل بالبطاقة:
". . . إن البطاقة تتضمن مرورًا بهذه التصرفات حسب الحاجة فهي تقوم أساسًا على الحوالة مع جزء من الوكالة، وفيها ضمان من مصدر البطاقة لحاملها، كما أنها تصبح قرضًا، ولكنه بالنسبة للبنوك الإسلامية يكون في إطار القرض الحسن. . . ". (2)
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، العدد السابع، عام 1412 هـ/ 1992 م، ج1، ص 657 -659
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، العدد السابع، عام 1412 هـ/ 1992 م، ج 1، ص 657 -659(10/1130)
المناقشة:
أولًا: يسلم لفضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة حفظه الله ما توصل إليه من أن هذا العقد يتضمن (الوكالة، والضمان) من مصدر البطاقة، وهو ما توصل إليه البحث في الفصل الثاني في المبحث الثاني منه بالنسبة لعقد الوكالة تصويرًا وتكييفًا، وكذلك بالنسبة لعقد الضمان في تكييف العلاقات المتعددة بين مصدر البطاقة وحاملها.
أما عقد (الحوالة) فإنه لا يشكل حسب الضابط الفقهي في المذهب الحنفي " أن الكفالة بشرط براءة الأصل (حوالة) اعتبارًا للمعنى، كما أن الحوالة بشرط أن لا يبرأ بها المحيل تكون (كفالة) ".
هذان الجانبان نقطتا اتفاق بيننا، على أنهما لا يمثلان كل العقود التي يتضمنها نظام البطاقة.
ثانيًا: يعترف فضيلته بأن هذا النظام يتضمن قرضًا حسنًا بالنسبة للبنوك الإسلامية، وهذا صحيح إذا لم يكن ثمّت زيادة على مبلغ الإقراض، ولكن على أي حال فثمت عقد إقراض هو أحد العقود الأساسية في نظام البطاقة (Credit Card) ، وهو قرض بزيادة ربوية لدى البنوك التقليدية الربوية.
إذا تم التسليم من قبل فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة بأن هذه العقود تتوافر جميعها في نظام البطاقة من جوانب وعلاقات مختلفة فإن وجهات النظر متفقة، وهو ما توصل إليه البحث بصورة تفصيلية.
إن القول بأن نظام البطاقة هو عقد (حوالة) فقط فيه صرف للأنظار عما يحتوي عليه من عمليات ربوية محرمة مبنية أساسًا على القرض الربوي المعلوم الحرمة بالضرورة.
ثالثًا: عقد الوكالة في تصور فضيلته يتمثل في التالي:
" في تحصيل البنك دين التاجر من حامل البطاقة، وأن البنك قام بدفع هذا الدين من ماله لاختصار الإجراءات، ثم ذهب ليحصل على مستحقاته على هذا الذي حمل البطاقة ".
الوكالة هي في دفع البنك مصدر البطاقة ما توجب للتاجر في ذمة حامل البطاقة، أما القول بأن " البنك قام بدفع هذا الدين من ماله لاختصار الإجراءات "، فيبدو لي أنه مستبعد لا يمت للواقع بشيء، كما أن فيه تعارضًا لما سبق تقريره من قبل الدكتور نفسه؛ ذلك أنه: اعترف سابقًا أنها - أي البطاقة - تصبح قرضًا، " ولكنه بالنسبة للبنوك الإسلامية يكون في إطار القرض الحسن ".
حينئذ لا يمكن القول بأن " البنك قام بدفع هذا الدين من ماله لاختصار الإجراءات "، القضية الأساس هي القرض باعترافه، البنك يقوم بتسديد الدين عن حامل البطاقة بحكم الوكالة المخول بها من قبل حامل البطاقة، حسب العقد المبرم بينهما والاتفاقات التي تنص على هذا.(10/1131)
الرأي الثاني:
رأي فضيلة الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي:
عقد البطاقة (حوالة) ، أو (وكالة) بأجر. هذا ما نص عليه في العبارة التالية:
" أنها إما من قبيل الحوالة، واليوم الحوالات المصرفية تكون مقابل أجر، فيمكن أن نعتبرها من هذا القبيل، أو أن نعتبرها كما ذكر من قبيل: (الوكالة) بالأجر، باستيفاء مبلغ أو بوكالة بالقبض، أو وكالة بالدفع، وهذا كله سائغ عند الفقهاء ". (1)
جاء هذا النص في معرض التعقيب على الباحثين بعد أن رفض أن يكيف عقد البطاقة بأنه عقد (كفالة) ، أو (ضمان) كما هو رأي فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة.
وفي معرض تعقيبه أيضًا رفض أن يكون من قبيل (الجعالة) ، أو (صلح الحطيطة) وهو الرأي الذي تبناه فضيلة الأستاذ الدكتور نزيه حماد. كما رفض أن يكون عقد البطاقة من قبيل (القرض الحسن) ، وعقب أخيرًا بقوله:
" إذن بعد رفض كل هذه التكييفات - قبل أن يتكلم الأخ الدكتور
عبد الستار أبو غدة - فإني أتصور أن هذه البطاقة إذا أردنا التسامح والتكييف السريع لها فأوافقه في أنها من قبيل الحوالة , أو أن نعتبرها كما ذكر من قبيل الوكالة بالأجر ". (2)
وهو رأي مقبول في التصور الجزئي لبعض جوانب عقد البطاقة البنكية، وقد سبق تقرير هذا في ثنايا البحث، وهو يمثل جانبًا واحدًا بين العقود المتعددة في نظام البطاقة، ويتفق مع ما جاء في البحث من نتيجة بهذا الخصوص، ولكنه لا يقدم تصورًا كاملًا.
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، ج 1، ص 668 - 669
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، ج 1، ص 668 - 669(10/1132)
الرأي الثالث: (كفالة) :
تبنى هذا الرأي فضيلة الأستاذ الدكتور نزيه حماد في قوله:
" من أجل ذلك لا أرى بتاتا أن تطبق على القضية أحكام عقد (الوكالة) ، (ووكالة بأجر) ، إنما تطبق عليها أحكام (الكفالة) ، فالشركة المصدرة هي (كفيل) ؛ لأنها لا تأخذ أجرًا على الكفالة من المدين (من المكفول) ، وإنما تأخذ من طرف ثالث وهو البائع ". (1)
المناقشة:
تكييفه نظام عقد البطاقة بعقد واحد يقال فيه ما قد سبق قوله عند عرض الآراء السابقة.
القول بالكفالة أو الضمان صحيح فيما يتعلق بضمان مستحقات التاجر على حامل البطاقة، وهو ما يربط الأطراف الثلاثة في عقد واحد هو (الضمان) ، أو (الكفالة) ، ولكن من غير المسلم به أن يكون هو العقد الوحيد في تكييف عقود نظام البطاقة؛ فقد أغفل العقد بين مصدر البطاقة وحاملها من جهة وبينه وبين التاجر، وبين التاجر ومصدر البطاقة من جهة أخرى.
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، ج 1، ص 664(10/1133)
الرأي الرابع:
لفضيلة العلامة الفقيه الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقا، هو في حقيقته توفيقي وتحليلي للآراء السابقة حسب ما ورد في تعليقه بقوله: " فكرة الكفالة ذكرها الدكتور عبد الستار أبو غدة ولم ينفها، ولكن الوكالة أعتقد لا يمكن نفيها أيضًا عن بطاقة (الائتمان) .
الواقع أن بطاقة (الائتمان) تتضمن وكالة وكفالة، فحامل البطاقة الذي يفتح حسابًا في المصرف، ويأخذ البطاقة منه، هذه عملية إصدار البطاقة وأخذها من المصرف تتضمن توكيلًا للمصرف مصدر البطاقة، بأن يدفع عن مستعملها وحاملها أن يدفع عنه ما يقع عليه من التزامات مالية، وأن يحتسب ما دفعه عنه، يقتطعه من حسابه، يعني إذن فيها توكيل، وفيها كفالة وضمان ". (1)
اتسع تكييف فضيلة الأستاذ الدكتور الزرقا حفظه الله لعقدين فقط:
هما (الكفالة والوكالة) بتصور لا يبعد كثيرًا عما توصل إليه البحث، وقد أبان حفظه الله بوضوح كيفية التصور لهما. لم يتعرض فضيلته لعقد القرض في نظام البطاقة، لأنه كان في معرض التعقيب للتوفيق بين الآراء المختلفة، وليس في مجال العرض والتحليل لكامل نظام عقد البطاقة.
* * *
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، ج1، ص 672(10/1134)
ثانيًا: الآراء حول بعض الجزئيات في نظام عقد البطاقات
ناقش بعض الفقهاء الباحثين بعض الجزئيات في نطاق نظام عقد البطاقة وأبدى رأيه حولها، من المفيد عرض هذه الآراء ومناقشتها مثل: رسوم العضوية، اشتراط دفع غرامات التأخير، العمولة التي تؤخذ على التاجر، وقد تباينت الآراء حولها تكييفًا فقهيًّا وأحكامًا شرعية.
رسوم العضوية:
يرى فضيلة القاضي محمد تقي العثماني:
" أنها تخول حامل البطاقة بعدة تسهيلات، فإن بطاقة (الائتمان) الإقراض لا تقدم تسهيل الاقتراض فقط، وإنما تخول عدة تسهيلات، فهي رسوم العضوية للحصول على هذه التسهيلات، وكذلك لا ترتبط هذه الرسوم بالمبالغ التي تدفعها الشركة نيابة عن صاحب البطاقة، فتكون هذه الرسوم معينة سنويًا، وليس هناك أي ارتباط بما دفعته الشركة المصدرة نيابة عن صاحب البطاقة، فلا يمكن أن يقال: إنها ربا ". (1)
هذا الرأي يتفق تمامًا مع ما تم عرضه في ثنايا البحث بخصوص هذا الموضوع، بل إن فيه بعض الجوانب المهمة التي لم تذكر هناك؛ ذلك أن البعض يعتقد ارتباط هذه الرسوم بمسألة القرض وكميته، في حين أنه لا يوجد ارتباط أبدًا بين رسوم العضوية ومقدار السحب من القرض، وسواء استخدم البطاقة أم لم يستخدمها فإن مجرد طلبه البطاقة يتوجب عليه أن يدفع هذه الرسوم، وقد سبق الكلام على هذه الجزئية في ثنايا البحث.
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، العدد السابع، ج 1، ص 667 - 674(10/1135)
اشتراط دفع غرامات التأخير:
عرض فضيلة القاضي محمد تقي العثماني حفظه الله هذا الموضوع كالتالي:
" من الواضح جدًّا أن الشركة المصدرة لا تحمل صاحب البطاقة هذه الغرامات إلا في حالة التأخير، وقد تعطي الشركة المصدرة مدة مثل شهر أو شهرين، فإن سدد صاحب البطاقة ما يجب عليه في خلال هذه المدة فلا مطالبة عليه إطلاقًا ولا يزاد عليه أي مبلغ، وإنما تحمل هذه الغرامة في حالة تأخره عن الأداء في تلك المدة المحدودة. ولا شك أن هذه الغرامة إذا حصلت فعلًا ينطبق عليها تعريف الربا، ولكن الرجل المسلم إذا دخل في مثل هذه المعاملة وحصل على هذه البطاقة، ومن نيته وعزمه أنه لا يؤخر في التسديد وإنما يؤدي في خلال هذه المدة المحددة، فلا أرى أن هناك مانعًا شرعيًّا من الدخول في هذه المعاملة ". (1)
رأي فضيلة العلامة الفقيه الشيخ محمد المختار السلامي حفظه الله
أنه لا يجوز للمسلم الدخول في مثل هذا العقد المرتبط بشرط باطل، قرر هذا المعنى في العبارة الآتية:
" تحدث الدكتور عبد الستار عن الشرط الباطل وعن الشرط الصحيح، القضية ليست قضية شرط باطل وقضية شرط صحيح، لا بد أن نخرج بالفقه الإسلامي أولًا لما جاءت به الشريعة وهو التحريم والتحليل. فهل يحل للإنسان أن يقدم على مثل هذه المعاملة، أي أنه يمتلك بطاقة ائتمان يكون عند تعامله بها هو قد دخل على أساس أنه ملزم بدفع الربا، وأنه سيدفعه إذا تأخر؟ " (2)
هذان الرأيان المتعارضان: رأي القاضي العثماني ورأي فضيلة الشيخ السلامي يمثل اجتهادهما ما سبق عرضه أثناء البحث من عرض لفقه المذاهب الأربعة بالنسبة للعقد الذي تضمن شرطًا باطلًا، وموقف الفقهاء منه.
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، العدد السابع، ج1، ص 667 - 674
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، العدد السابع، ج 1، ص 667 - 674(10/1136)
عمولة البنك التي يدفعها التاجر من قيمة المبيعات:
لخص فضيلة القاضي العثماني حفظه الله الأقوال حول هذه المسألة وخلص إلى جوازها وإباحتها على أنها أجرة (السمسرة) ؛ حيث يتمثل عمل مصدر البطاقة في الترويج لمبيعات التجار، وتسويق مبيعاتهم، وفيما يلي ما جاء نصًّا في تعقيباته:
" المسألة الثانية: هي مسألة خصم الشركة المصدرة نسبة معينة من الثمن الواجب على صاحب البطاقة، وإن هذا الخصم يتحمله التاجر الذي باع السلع إلى صاحب البطاقة، وإن هذا الخصم هو الذي اختلف فيه فقهاء عصرنا في تكييفه، فمن قائل يقول: إنه مماثل لخصم الكمبيالة، فإذا قلنا: إنه مماثل لخصم الكمبيالة، وخصم الكمبيالة عقد ربوي لا يجوز، فنضطر إلى القول بعدم الجواز.
وقد خرجه بعض الأخوة هنا أنه أجرة على الكفالة، ولعلي سمعت الدكتور نزيه كمال حماد أنه يميل إلى هذه الناحية - أو الدكتور وهبة - أنه أجرة على الكفالة، وبما أن الأجرة على الكفالة لا تجوز شرعًا فلعله يريد أن هذا الخصم غير جائز. ولكن الذي أريد أن ألفت الأنظار إليه هو: أن الأجرة على الكفالة لا تجوز، هي الأجرة المدفوعة إلى المكفول عنه، وهنا الأجرة لا تدفع للمكفول عنه، إنما يطالب به المكفول له لا المكفول عنه، والأجرة المحرمة شرعًا هي التي يطالب بها المكفول عنه؛ فلذلك لا ينطبق عليه ما قيل في الأجرة على الكفالة، والذي أميل إليه أنه يمكن له تكييف آخر، وهو أنه أجرة السمسرة، وإني أميل إلى هذا التكييف لسببين: الأول: أن الشركة المصدرة تقوم للتجار بخدمة، وهي أنها تجلب إليهم الزبائن من خلال إصدار هذه البطاقة، فمن خلال هذه الخدمة تطالب بأجرة، وهي الخصم الذي تحصل عليه من قبل التجار.
الثاني: أن سعر هذا الخصم يختلف غالبا عن سعر الفائدة السائد في السوق، يعني سعر الفائدة الذي هو سعر هذا الخصم ليس مطابقًا لسعر الفائدة السائد في السوق. فيمكن تكييف هذا الخصم على أساس أنه أجرة السمسرة تطالب بها الشركة المصدرة التجار. ومن هذه الناحية أرى أنه إذا حصل رجل على هذه البطاقة ومن نيته وعزمه أنه لا يتجاوز في الأداء عن المدة المحددة من قبل الشركة المصدرة فلا مانع منه شرعًا ". (1)
هذا الرأي بخصوص الخصم من قيمة مبيعات التاجر لا يتعارض مع ما جاء في البحث من أنها أجرة على الخدمات أو الوكالة بأجر.
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، العدد السابع، ج 1، ص675(10/1137)
التوفيق بين الآراء المختلفة:
أبدى معظم الباحثين كما سلف تكييفات متعددة ومختلفة لنظام البطاقة كلًّا، وهذا غير سليم؛ للأسباب التي ذكرت في ثنايا البحث، يضاف إلى ما تقدم أن من يعد نظام عقد البطاقة عقد (حوالة) فقط كما يذهب إلى هذا عدد من فقهاء المجمع يأتي في مقدمتهم فضيلة العلامة الفقيه الأستاذ الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير وفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع.
إن الاطلاع على عقود البنوك للبطاقة يثبت أنه ليس فيها ما يشير إشارة صريحة أو ضمنية إلى هذا العقد، بل إن الاتفاقيات تبرم بشكل منفصل بين حامل البطاقة والبنك المصدر من جهة، ثم بين التاجر ومصدر البطاقة، وهي تنص على العلاقة الفقهية والقانونية بينهما، فليس من الصواب أن يكيف بعقد واحد جميع هذه العقود.
وللتوفيق بين ما ذكره هؤلاء الباحثون الأفاضل وبين ما توصل إليه البحث يقال: إن نظام البطاقة يشتمل على عدة عقود وليس عقدًا واحدًا. لدى التأمل والفحص يمكن القول:
إن العقد الذي يضم أطراف العقد في نظام البطاقة هو عقد (الضمان) ، أو عقد (الحوالة) صحيح، حيث يضم أطراف العقد الثلاثة:
المصدر، حامل البطاقة، التاجر.
ولا يشكل الأمر بينهما، حيث يتردد هذا العقد من هذا الجانب بين الضمان والحوالة حسب الضابط السابق في المذهب الحنفي: " الحوالة بشرط البراءة ضمان، والضمان بشرط عدم البراءة حوالة "، وينفرد كل طرف مع الآخر بعقد مستقل له خصوصيته واستقلاله دون تعارض مع ما عداه.
حامل البطاقة يرتبط مع مُصدِر البطاقة بعقد قرض ووكالة بالإضافة إلى ما قيل عن الضمان أو الحوالة سابقًا. التاجر يرتبط مع مصدر البطاقة بعقد وكالة، بالإضافة إلى ما قيل في الضمان سابقًا.
هذا التفصيل يجمع الجوانب الصحيحة في كل مقالة، ويقدم تصورًا كاملًا للموضوع من جميع جوانبه دون أن يعود بالنقض والإبطال على أي واحد منها، والله أعلم بالصواب.(10/1138)
خاتمة البحث
خلصت الدراسات: الشرعية، والقانونية، والاقتصادية، والميدانية للبطاقات البنكية بقسميها: الإقراضية، وبطاقة السحب المباشر من الرصيد؛ إلى النتائج والملاحظات والتوصيات الآتية:
أو لًا - النتائج:
1 - تُعرَّف البطاقات البنكية الإقراضية والسحب المباشر من الرصيد تعريفًا يبين حقيقتها وأقسامها بأنها: (أداة يصدرها بنك أو تاجر، أو مؤسسة تُخوِّل حاملها الحصول على السلع والخدمات، سحبًا لأثمانها من رصيده، أو قرضًا مدفوعا من قبل مُصدِرها ضامنًا لأصحاب الحقوق ما يتعلق بذمة حاملها، الذي يتعهد بالوفاء والتسديد للقرض خلال مدة معينة من دون زيادة على القرض إلا في حالة عدم الوفاء، أو بزيادة ربوية لدى اختياره الدفع على أقساط، مع حسم عمولة على التاجر من قيمة مبيعاته في جميع الحالات) .
2 - البطاقات البنكية على قسمين: بطاقات إقراض، وبطاقة سحب مباشر من الرصيد، أما بطاقات الإقراض فهي ثلاثة أنواع:
1) بطاقة الإقراض بفوائد والتسديد على أقساط (Credit Card) .
2) بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الفائدة ابتداءً (Charge Card) .
3) بطاقة شراء التجزئة (Retailer Card)
تخضع هذه البطاقات لأحكام عقد الإقراض في الفقه الإسلامي من صحة الشروط وبطلانها.
3 - الشروط الصحيحة فيها هي كل ما يقتضيه العقد ولا ينافيه: كالاشتراط بالتزام المسؤوليات، والوفاء في التسديد، واشتراط فتح حساب، أو رصيد بالبنك، ودفع رسوم الاكتتاب، والعضوية، والتجديد، والاستبدال؛ مما هو بالفعل لخدمة العملاء وليس لها دخل في الإقراض، كذلك الجوائز وغيرها التي هي مباحة أصلًا، واشتراط إنهاء العقد لدى عدم التزام حامل البطاقة بشروطه وأحكامه.
4 - العمولة التي يشترطها البنك المصدر للبطاقة على التاجر هي خصم من قيمة المبيعات ليس زيادة، فليس ما يقال فيها إنها ربا، كما أنها ليست من قبيل (الوضع من الدين على التعجيل بتسديده) ؛ لأن تسديد البنك الضامن المُصدِر للبطاقة فوري لدى تسليم سندات البيع صحيحة، وليس في هذا شيء من الغرر، انتفاء هذه الأسباب والصفات الموجبة للبطلان يؤيد صحتها، حملًا لها بأنها مقابل الخدمات التي يقدمها مصدر البطاقة من تسويق، وتأمين للعملاء، وتحصيل لقيمة البضائع.
كما أن لها توجيهًا آخر ذلك هو الوكالة بأجر، إذ يعدُّ البنك المصدر للبطاقة وكيلًا للتاجر في قبض استحقاقات قيمة المبيعات من حاملي البطاقات وضمها إلى حسابه، كما أنه وكيل عنه في السحب من رصيده، فيما هو مستحق عليه للبضائع المرجوعة، كل هذه أعمال لها تكاليفها الإدارية والمكتبية.
5 - الشروط الباطلة تتمثل في الزيادات المفروضة على عقد الإقراض في بطاقات الإقراض؛ من عمولات على القرض، وتأجيل التسديد، والسحب النقدي، والزيادة على تحويل العملات الأجنبية، وعمولة الشراء بأزيد من القرض المحدد. . . إلخ. ما ورد التنويه عنه في عرض البحث. هذه الشروط تؤثر على صحة العقد بالبطلان عند المالكية والشافعية، في حين أنها تعتبر باطلة وملغاة عند الحنفية والحنابلة ويظل العقد الأصل صحيحًا في هذين المذهبين.(10/1139)
6 - بطاقة السحب المباشر من الرصيد، أو ما تسمى بـ (القيد المباشر على الحساب المصرفي) (Debit Card) ليست معدودة في بطاقات الإقراض، ولا ينزل عليها أحكام باب القرض في الفقه الإسلامي.
الزيادات المضافة إلى قيمة الشراء، أو السحب النقدي أو صرف العملات الأجنبية، لا تعد في باب الزيادة الربوية في عقد هذه البطاقة ما دامت لا تتعارض مع الأحكام الأخرى، لأنه لا يوجد إقراض حتى يحكم بوجود زيادة ربوية أساسًا، ومن باب أولى أنه لا مجال لإدخالها في عموم حديث: " كل قرض جر نفعًا فهو ربا ". إلا إذا عد سحبه النقدي من غير بنكه قرضًا مسجلا عليه ليتقاضاه هذا البنك من بنك حامل البطاقة، ويسجل عليه عمولة على اعتبار أنه قرض فحينئذ يعد من باب الإقراض، تسري عليه أحكامه في الحل والتحريم، كما أن أي مزاولة أخرى بهذه البطاقة خارجة عن طبيعتها وحقيقتها ينبغي أن تخضع لتكييف وأحكام شرعية تتلاءم وتلك المزاولة.
إذا استعملت بطاقة السحب المباشر من الرصيد (Debit Card) بقصد الإقراض بزيادة ربوية، أو خالية من الزيادة الربوية ابتداء فإنها تضم إلى قسم بطاقات الإقراض، تأخذ حكمها في الصحة والبطلان من حيث الشروط، ويتم تبعًا لهذا تصحيح عقد الضمان أو بطلانه كما هو الأمر بالنسبة لبطاقات الإقراض.(10/1140)
7 - البطاقات الأخرى كبطاقات شركات الطيران، وتأجير السيارات وبطاقات المحلات التجارية تصنف حسب الاتفاق والعقد بين مصدر البطاقة وحاملها.
هل هي من نوع بطاقات الإقراض أم لا؟ هذا يخضع لطريقة تسديد المستحقات وكيفيته، والشروط المفروضة من قبل مصدرها.
في ضوء التأكد من الإجابة على هذه الأسئلة تأخذ حكم العقود التي تكيف بها إباحة وتحريمًا، صحة وبطلانًا.
8 - يشتمل نظام بطاقات المعاملات المالية، سواء منها بطاقات الإقراض بأنواعها، أو السحب المباشر من الرصيد على عدة عقود بحسب طبيعة العقد وأطرافه.
أ) العقود التي تتم بين مصدر البطاقة وحاملها:
يرتبط هذان الطرفان بعقدين أساسيين:
الأول: عقد إقراض، حيث يخول مصدر البطاقة حاملها التصرف في حدود مبلغ يحدده له.
الثاني: عقد وكالة، وذلك حين يوّقع حامل البطاقة على بنود اتفاقية البطاقة التي تتضمن تفويضه للبنك مصدر البطاقة السحب من رصيده لقضاء ديونه، والتسديد للتجار نيابة عنه لكافة المستحقات والعمولات للبنك نفسه ولغيره.
ب) العقود التي تتم بين مصدر البطاقة والتاجر:
يرتبط هذان الطرفان بعقدين أساسيين:
الأول: عقد ضمان مالي، يلتزم به البنك المصدر للبطاقة للتاجر - الممول حاملي البطاقات بالبضائع والخدمات - دفع قيمة مبيعاته وأجوره، يقوم بتسديدها لحسابه مباشرة إذا توافرت كافة الشروط المطلوبة في سندات البيع.
يصبح مصدر البطاقة ضامنًا، والتاجر مضمونًا له، وحامل البطاقة مضمونًا، وقيمة المبيعات الدين المضمون به.
الثاني: عقد وكالة، حين يقوم البنك بتحصيل مستحقات التاجر من حاملي البطاقة ووضعها في حسابه بعد خصم عمولته، وبالخصم من حسابه لإرجاع قيمة السندات غير الصحيحة، وقيمة البضاعة المعادة إليه من دون رجوع إليه. كل هذا يقوم به مصدر البطاقة توكيلًا وتفويضا من التاجر حسب الاتفاقية بينهما.
ج) العقود بين حامل البطاقة والتاجر:
يعتمد تفعيل نظام البطاقة على التعامل بين حاملها وفئة التجار والمؤسسات بيعًا، أو إجارة، أو غير ذلك من العقود المالية التي قد يرتبط بها حامل البطاقة مع المحلات التجارية والمالية. تخضع هذه العقود للشروط والأركان في أبوابها من الفقه، وفي ضوئها يحكم لها بالصحة من عدمها.(10/1141)
9 - لا تعارض بين أحكام الضمان في الفقه الإسلامي، وعقد بطاقات الإقراض؛ من حيث احتمالية ثبوت الدَيْن وجهالته أثناء العقد وغير هذا من الأحكام مما سبق عرضه تفصيلًا، ذلك أن مبنى الضمان في الفقه الإسلامي على التوسع فيتحمل فيه الجهالة، وفي الفقه الإسلامي للتاجر المضمون له حق مطالبة مصدر البطاقة الضامن، وحامل البطاقة المضمون سويًّا، إلا إذا شرط التاجر استيفاء حقه من مصدر البطاقة الضامن خاصة.
10 - أما فيما يخص سلامة البضاعة المباعة من قبل التاجر لحامل البطاقة، فقد نفت البنوك ضمانها، وصلتها به في أي صورة وشكل صراحة، فلا علاقة ضمان، ولا وكالة تربطها به في هذا الخصوص. معنى هذا أن مسؤولية سلامتها هي مسؤولية التاجر لا غير، وهذا مقبول شرعًا. برغم أن المادة (75) من قانون القرض الاستهلاكي الإنجليزي تثبت مسؤولية البنك مصدر البطاقة بالشراكة مع التاجر.
11 - من الضوابط الفقهية المقررة أنه: يصح عقد الضمان إذا صح الأصل الذي ترتب عليه. ولما أن عقد القرض في بطاقتَي:
1 - الإقراض بزيادة ربوية والتسديد على أقساط (Credit Card) .
2 - الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة الربوية ابتداء (Charge Card) يتضمن شروطًا باطلة تؤثر على صحة العقد بالبطلان والفساد، فإن عقد الضمان يعد فاسدًا لفساد المتحمل به.
أما عقد الضمان في بطاقة شراء التجزئة (Retailer Card) فإنه يحكم فيه على الصحة من عدمها حسب الشروط المتفق عليها بين مصدر البطاقة وحاملها؛ يعد عقد الضمان صحيحًا إذا كانت الشروط صحيحة مقبولة شرعًا، وباطلًا إذا كانت على خلاف ذلك.
" (وبطل) الضمان (إن فسد متحمّل به) أصالة كدراهم بدنانير، أو عكسه لأجل، أو عُروضًا كما لو باع ذمي سلعة لذمي بخمر أو خنزير، وضَمَنَه ذمي، فأسلم الضامن فلا يلزم الضامن حينئذ شيء، وظاهره ولو فات المبيع الفاسد، ولزم فيه القيمة ". (1)
__________
(1) الدردير، أبو البركات أحمد، الشرح الكبير، ج 3، ص 340(10/1142)
12- بطاقة السحب المباشر من الرصيد (Debit card) هي الأصح والأسلم شرعًا بين جميع أنواع البطاقات , وهي التي تنسجم مع القواعد الشرعية , وفي نفس الوقت تحقق ربحًا إسلاميًّا حلالًا للبنوك , خصوصًا إذا طُوّرت واتخذ رصيد حاملها في البنك أداة استثمارية بالمضاربة والمشاركة مع البنك , يتحقق به العدل للطرفين؛ إذ يستفيد حامل البطاقة من تنمية رصيده , فلا يجمد بالنسبة له , ولا يكون المستفيد الوحيد من الرصيد البنك فحسب , بل يصبح الربح مشاركة بين الطرفين حسب الاتفاق دون غبن أو شطط.
ثانيًا - الملاحظات:
1 - يستبدل الاقتصاديون الوضعيون والمؤسسات المصرفية التقليدية الربوية كلمة (ائتمان) بكلمة (إقراض) أو (دين) ، ويتجاهلون عمدًا استعمال إحدى هاتين الكلمتين برغم وضوحهما ومعرفة مدلولهما لدى عامة الناس.
2 - كلمة (ائتمان) بمدلول (إقراض) أو (دين) لا وجود لها في المصطلح الأجنبي في اللغة الإنجليزية بمعنى (القرض) خصوصًا في معرض الكلام عن بطاقات المعاملات المالية والشؤون المالية والاقتصادية والبنكية، فاستعمالها بهذا المدلول لا أصل له في اللغة العربية، ولا في اللغة الإنجليزية المنقولة عنها.
3 - إغفال الكثير من اتفاقيات البنوك المصدرة للبطاقات الإقراضية ذِكر نسبة رسوم الزيادات والعمولات الربوية الدورية على اختلاف أنواعها قصدًا، وإنما تذكر مجملة مبهمة.
4 - عدم توافر نشرات اتفاقيات إصدار البطاقة الإقراضية والشروط والأحكام لدى البنوك المحلية، جل الاهتمام ومعظمه مركز على استمارة الطلب التي لا تحمل سوى خصائص الحصول على البطاقة وامتيازاتها.
إغفال مثل هذه البيانات، وكل ما ينبغي أن يعرفه حامل البطاقة تحاسب عليه البنوك المصدرة للبطاقة في القوانين الغربية، في الوقت الذي لا تجد من يحاسبها عليه هنا وهناك في البلاد الإسلامية.
5 - نسبة الزيادات الربوية على كافة أنواع البطاقات التي تتقاضاها البنوك في منطقتنا متفاوتة وأعلى من نسبة زيادات قروض البطاقة في البلاد الغربية بشكل عام.
6 - تعطي البنوك الربوية التقليدية الأفضلية والأولوية لبطاقات الإقراض (Credit Card) بجميع أنواعها على ما عداها من البطاقات؛ إذ تدر عليها أرباحًا طائلة بصورة وزخم أكبر وأفضل من صيغ ربا قرض النسيئة بأسلوبه التقليدي القديم.
7 - يقبل أفراد المجتمع على كافة مستويات دخولهم المالية إقبالًا شديدًا متزايدًا على الحصول على بطاقات الإقراض بخاصة، دون تبصر بأحكامها الشرعية، أو إدراك لعواقبها المدنية، والاقتصادية، والكثير منهم لا يعرف ما تعنيه كلمة (بطاقة ائتمان) في مصطلح البنوك الربوية.
أما الأسباب لهذا الإقبال فهو التقسيط المريح والذي تقدمه البنوك لعملائها في تسديد الديون، لتتضاعف أرباحها أولًا، والسبب الثاني: الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية، والأهم من كل ذلك هو الأسلوب الذي تستعمله البنوك في طريقة العرض والتوهيم على العميل، بحيث لا يشعر بخطورة الأمر دينيًّا واقتصاديًّا إلا حين تثقله الديون ولا يجد ما يسدد به ديونه.(10/1143)
8 - الحماية القانونية مكفولة لحاملي البطاقات بكافة أقسامها وأنواعها بخاصة، وللمستقرضين قرضًا استهلاكيًّا بعامة في القوانين الغربية، في حين أنه ليس لها وجود في البلاد الإسلامية، برغم الحماية الدينية الشرعية لفئات المحتاجين المقترضين.
9 - تضمنت القوانين الغربية لحماية المقترض المستهلك جوانب عديدة أهمها:
1) حماية المقترض قبل العقد بالنسبة للإعلانات، والحملات الدعائية، وصدق المعلومات المعلن عنها.
2) فرض أنظمة وقوانين صارمة على الشركات، والمنظمات المالية، والمحلات التجارية المخولة صلاحية إقراض المستهلكين.
3) وضع ضوابط للاتفاقيات التي تبرم بين المقرضين والمقترضين.
الأمر الذي لا تضطلع به جهة مسؤولة في أغلب البلاد الإسلامية، وإن ترك الحبل على الغارب للبنوك جعلها تضع من الشروط والأحكام ما يحقق مصلحتها دون نظر إلى مصلحة المقترضين، أو مراعاة للعواقب السيئة على الاقتصاد الوطني.
10 - تخطط البنوك العالمية لإصدار البطاقات أن تحل البطاقة الإقراضية محل النقود، يجري بها التعامل محليًّا ودوليًّا، لا يخفي الخبراء الاقتصاديون تخوفهم أن يكون لهذا دوره على المدى الطويل في احتكار التجارة بأيدي فئة محدودة من التجار، تتحكم في الأسواق وتحتكر العملاء، ولا تترك الفرصة لجمهور التجار. قد أعلن هذا التخوف وكيل مدير بنك شيس منهاتن مستر إرك كومبتن Compton.Eric N) قائلا: " إن الكثير من البنكيين أصحاب الفكر يخشون أن تؤدي طريقة اعتماد المستهلكين على الشراء بالبطاقة إلى احتكار سوق التجارة محليًّا ودوليًّا، فتكون بيد فئة معينة محدودة ". (1) .
11 - تفتقد المكتبة العربية الدراسات العلمية المتعمقة للبطاقات البنكية في المجالين: القانوني والاقتصادي، فأثر هذا بدوره على تأخر الدراسات الشرعية لها، وأسهم في عدم وضوح الرؤية لدى الفقهاء لإصدار دراسات وأحكام شرعية سليمة بخصوصها.
__________
(1) انظر: 98 Inside Commercial Banking. P. 98(10/1144)
ثالثًا - التوصيات:
1 - ضرورة إعادة صياغة المصطلحات الاقتصادية ذات العلاقة والأبعاد الشرعية فيما يتعلق بالمعاملات الجائزة والمحرمة بما يناسب حقيقتها، ويكشف عن ماهيتها , وإيثار ما له وجود في المصطلح الشرعي على غيره فلا يعدل عنه بحال؛ حيث ترسخ لفظه ومعناه، خصوصًا ما يكون له آثار حكمية شرعية مثل: كلمة (قرض) ، و (إقراض) و (دين) فلا يعدل عنها إلى كلمة (ائتمان) وغيرها مما يجهل معناه العامة والخاصة؛ إذ أنها لا تكشف بلفظها عن المقصود منها، وقد أثبتت الدراسات جهل غالبية حاملي بطاقة الإقراض بمعنى كلمة (ائتمان) .
المسؤولية في هذا تقع على علماء الاقتصاد الإسلامي، والمؤسسات المالية الإسلامية في تقويم صياغة المصطلحات الاقتصادية وانسجامها مع المصطلحات الفقهية ما أمكن، مستخرجة من تراث الأمة ومفاهيمها الشرعية.
2 - الإكثار من الدراسات والبحوث الشرعية والقانونية والاقتصادية للبطاقات البنكية عمومًا، وترجمة بعض الكتب العلمية المهمة في هذا الموضوع، ونشرها بما يكفل وعي أفراد المجتمع الإسلامي في التمييز بين البطاقات الإقراضية الربوية المحرمة، فيمتنعوا من الحصول عليها مهما كانت الإغراءات، والأخرى الخالية منها حتى يكونوا على بصيرة بأحكامها الشرعية.
3 - منع البنوك من إصدار بطاقات الإقراض الربوية صيانة للأمة من الوقوع في مستنقع الربا المحرم، وحفظًا للاقتصاد الوطني وأموال الأفراد. وهي مسؤولية الحكومة الإسلامية التي قلدها الله حكم هذه الأمة.
4 - إيجاد هيئة شرعية، وأخرى مالية واقتصادية تكون مسؤوليتها حماية الأفراد من استغلال البنوك، والمحافظة على حقوقهم في حدود الأحكام الشرعية، والسياسة المالية لحماية الاقتصاد الوطني، ووضع لوائح محكمة لحماية المجتمع والأفراد من استغلال البنوك، لتفادي النتائج الوخيمة المترتبة على ذلك.
تم الفراغ بحمد الله وتوفيقه من بحث (البطاقات البنكية الإقراضية الإقراضية والسحب المباشر من الرصيد (Debit Credit Card) . دراسة فقهية تحليلية مقابلة) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أ. د. عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان(10/1145)
المصادر
(1) مصادر البحث باللغة العربية:
* بحث البطاقات البنكية الإقراضية والسحب من الرصيد - دراسة فقهية قانونية اقتصادية تحليلية مقابلة.
بدوي، أحمد زكي.
* معجم المصطلحات التجارية والتعاونية. عربي، إنجليزي، فرنسي.
بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، عام 1404/ 1984. البغدادي، القاضي عبد الوهاب.
* المعونة على مذهب عالم المدينة الإمام مالك بن أنس. الطبعة الأولى. تحقيق حميش عبد الحق.
مكة المكرمة: المكتبة التجارية، عام 1415/ 1995 م.
البهوتي، منصور بن يونس.
* شرح منتهى الإرادات. المدينة المنورة: المكتبة السلفية.
* كشاف القناع عن متن الإقناع. راجعه هلال مصطفى هلال. الرياض: مكتبة النصر الحديثة.
أبو حبيب، سعدي.
* القاموس الفقهي لغة واصطلاحًا. الطبعة الأولى. بيروت: دار الفكر، عام 1402/ 982 1.
الحصكفي، محمد علاء الدين.
* شرح الدر المختار. مصر: مطبعة صبيح وأولاده.
الحطاب، أبو عبد الله محمد بن محمد.
* مواهب الجليل لشرح مختصر أبي الضياء سيدي خليل. الطبعة الأولى. مصر: مطبعة السعادة، عام 1329.
حماد، نزيه.
* معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء. الطبعة الأولى. أمريكا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عام 1414/ 1993. خروفة، علاء الدين.
* عقد القرض في الشريعة الإسلامية، دراسة مقارنة مع القانون الوضعي. الطبعة الأولى. بيروت: مؤسسة نوفل، عام 1982.
الدردير، أبو البركات أحمد
* الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك. الطبعة الأولى. أخرجه مصطفى كمال وصفي. مصر: دار المعارف 1393.
ابن دقيق العيد، تقي الدين.
* إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام. الطبعة الثانية. تحقيق أحمد محمد شاكر. القاهرة: دار الكتب السلفية، عام 1407/ 1987. الدسوقي، محمد بن عرفة.(10/1146)
* حاشية على الشرح الكبير. بيروت: دار الفكر.
أبادير، رفعت.
* بطاقات الائتمان من الوجهة القانونية. الكويت: مجلة إدارة الفتوى والتشريع، السنة الرابعة. العدد الرابع، عام 1984.
ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد.
* المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات. الطبعة الأولى. تحقيق سعيد أعراب وعبد الله بن إبراهيم الأنصاري. بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1408/ 1988.
الرملي، شمس الدين محمد.
* نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج. مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
الزرقاني، عبد الباقي.
* شرح الزرقاني على مختصر خليل. بيروت: دار الفكر.
أبو زيد، بكر بن عبد الله.
* فقه النوازل. قضايا فقهية معاصرة. الطبعة الأولى. بيروت: مؤسسة الرسالة، عام 1416 هـ/ 1996 م.
الزيلعي، فخر الدين عثمان بن علي.
* تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق. بيروت: دار المعرفة.
السرخسي، شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل.(10/1147)
* المبسوط. الطبعة الأولى. مصر: مطبعة السعادة.
ابن شاس، جلال الدين عبد الله.
* عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة. الطبعة الأولى. تحقيق محمد أبو الأجفان وعبد الحفيظ منصور. بيروت: دار الغرب الإسلامي عام 1415/ 1995.
الشرواني، عبد الحميد.
* حاشية على تحفة المحتاج. بيروت: دار الفكر.
الشوكاني، محمد بن علي بن محمد.
* نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار.
الطبعة الأولى. ضبط وتصحيح محمد سالم هاشم. بيروت: دار الكتب العلمية عام 1415/ 1995.
الصاوي، أحمد بن محمد.
* حاشية على الشرح الصغير على أقرب المسالك مع الشرح الصغير. مصر: دار المعارف.
ابن عابدين، محمد أمين.
* حاشية رد المحتار على الدر المختار. بيروت: دار الكتب العلمية.
العسقلاني، أحمد بن حجر.
* بلوغ المرام من أدلة الأحكام، ومعه سبل السلام للصنعاني.
مصر: مطبعة الاستقامة.
* فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه محمد فؤاد عبد الباقي، وأشرف على طبعه محب الدين الخطيب. مصر: المطبعة السلفية ومكتبتها.
ابن عطية الأندلسي، أبو محمد عبد الحق.
* المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. الطبعة الأولى. تحقيق الرحالي الفاروق، عبد الله الأنصاري، السيد إبراهيم الشافعي، صادق العناني. قطر: على نفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، عام 1398/ 1977.
عكاظ، صحيفة
جدة: صحيفة عكاظ. (المال والاقتصاد) . السنة الثلاثون. العدد 8734 الأحد 24 ذي القعدة 1410/ 17 يونيو 1990.
* السنة الثامنة والثلاثون. العدد 10960، الخميس الأول من ربيع الآخر عام 1417/ 15أغسطس عام 1996.
عمر، حسين.
* موسوعة المصطلحات الاقتصادية. الطبعة الثالثة. جدة: دار
الشروق، عام 1399 /1979.
عميرة، شهاب الدين أحمد البرلسي.
حاشية على شرح المحلى. الطبعة الرابعة. بيروت: دار الفكر.
ابن عيد، محمد علي القري.
* بطاقات الائتمان. جدة: مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، الدورة السابعة. العدد السابع، عام 1412/ 1992.
العيني، أبو محمد محمود بن أحمد.(10/1148)
* البناية في شرح الهداية. الطبعة الأولى. تصحيح المولى محمد عمر الشهير بناصر الإسلام الرامفوري. بيروت: دار الفكر، عام 1401/ 1981.
أبو غدة، محمد زاهد عبد الفتاح.
* (بطاقة الائتمان هذه) . الكويت: مجلة النور، السنة التاسعة، الأعداد 90 - 91 - 92، رمضان 1412 / 1992.
ابن فارس، أبو الحسين أحمد.
* معجم مقاييس اللغة. الطبعة الأولى. تحقيق عبد السلام محمد هارون. بيروت: دار الفكر.
القاري، أحمد بن عبد الله.
* مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. الطبعة الأولى، تحقيق عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان، ومحمد إبراهيم أحمد علي. جدة: تهامة، عام 1401/ 1981.
القباب، أبو العباس أحمد بن قاسم الجذامي.
* (شرح المسائل التي وضعها ابن جماعة في البيوع) . مخطوط.
مكة المكرمة: مكتبة مكة المكرمة، فقه حنفي، رقم 31.
القدوري، أحمد بن محمد.
* الكتاب (مختصر القدوري) . بيروت: دار الكتب العلمية، عام 1400/ 1980.
القرافي، شهاب الدين أحمد بن إدريس.
* الذخيرة. الطبعة الأولى. تحقيق محمد بوخبرة. بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1408/ 1988.
القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد.
* الجامع لأحكام القرآن. بيروت: دار إحياء التراث العربي
القليوبي، شهاب الدين أحمد.
* حاشية على منهاج الطالبين. بيروت: دار الفكر.
ابن القيم، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر.
* مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. تحقيق محمد حامد الفقي. بيروت: دار الفكر.
ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني.
* سنن ابن ماجه. حقق نصوصه محمد فؤاد عبد الباقي. مصر: دار إحياء الكتب العربية.
الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب.
* الحاوي الكبير. حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه محمود مطرجي.
أسهم في التحقيق ياسين ناصر الخطيب، عبد الرحمن بن عبد الرحمن محمد سفيان الأهدل، حسن على كوركولو، أحمد حاج محمد شيخ ماص. بيروت: دار الفكر، عام 1414/ 1994.
المحلي، جلال الدين محمد بن أحمد.
* شرح على منهاج الطالبين. الطبعة الرابعة. بيروت: دار الفكر.
مركز تطوير الخدمة المصرفية ببيت التمويل الكويتي.
* بحث عن بطاقات الائتمان المصرفية والتكييف الشرعي المعمول به في بيت التمويل الكويتي. جدة: مجلة مجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي. الدورة السابعة، عام 1412/ 1992.
ابن مفلح، أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم.(10/1149)
المبدع في شرح المقنع. دمشق: المكتب الإسلامي، 1394/ 1974.
مجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي.
جدة: مجلة المجمع. الدورة السابعة عام 1412/ 1992.
* قرارات وتوصيات، 1406/ 1409- 1985/ 1988.
المطرزي، أبو الفتح ناصر.
* المغرب في ترتيب المعرب. بيروت: دار الكتاب العربي.
المقري، شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر.
* إخلاص الناوي. الطبعة الأولى. تحقيق عبد العزيز زلط. مصر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف، عام 1410/ 1990. المناوي، محمد عبد الرؤوف.
* التوقيف على مهمات التعريف. الطبعة الأولى. تحقيق محمد رضوان الداية. بيروت: دار الفكر، عام 1410/ 1990.
ابن المنذر، النيسابوري، محمد بن إبراهيم.
* الإشراف على مذاهب أهل العلم. الطبعة الثانية. تحقيق محمد نجيب سراج الدين. قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عام 1414/ 1994.
المواق، أبو عبد الله محمد بن يوسف العبدري.
* التاج والإكليل لمختصر خليل، على هامش مواهب الجليل للحطاب. الطبعة الأولى. مصر: مطبعة السعادة، عام 1329.
الميرغناني، أبو الحسن علي.
الهداية شرح بداية المبتدي. الطبعة الأخيرة. مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
ابن نجيم، زين العابدين بن إبراهيم.
* الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان. تحقيق وتعليق عبد العزيز بن محمد الوكيل. مصر: مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، عام 1387/ 1968.
ابن الهمام، كمال الدين محمد بن عبد الواحد.
* فتح القدير على الهداية شرح بداية المبتدي. مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
الهيتمي، شهاب الدين أحمد بن حجر.
* تحفة المحتاج بشرح المنهاج. بيروت: دار الفكر.(10/1150)
(2) مصادر البحث باللغة الإنجليزية:
Allen, R.E
The Concise Oxford Dictionary. Eighth Edi.
Oxford: Claredon Press, 1990,
Chamber Of Commerce & industry Estern Province,
Saudi Arabia: Dammam, No. 27,. Joly 1996.
Competan, Eric N.
Inside Commercial Banking. New York: Jah Wiley & Sons.
Curzon, LB.
Dictionary Of Law. Third Edition. Kuala Lumpur:
International LAW banking services, 1989.
Jones, Sally A.
The Law Relating to Credit Cards. London: BSP.
Professional Books, 1989.
Al- Melhem Ahmad A.
The Legal Regeme Of Payment Cards, A Comparative Study Between American, British and Kuwait Laws With Particular Referance to Credit Cards. Thesis for the degree of Phd. in the Faculty of Law: England: University of Exeter, 1990
Sloan, Irving J. General Editor.
The Law and Legislation of Credit Cards Use and Misuse.
London, Rome, New Uork: Oceana Publications, lnc., 1987.(10/1151)
(3) نشرات البنوك الإعلامية واتفاقياتها:
أمريكان إكسبريس
* البطاقة الذهبية: اتفاقية العضوية.
* فرصة فريدة لنخبة مختارة لحيازة البطاقة الذهبية.
* البطاقة الذهبية غلوبل أسست بلس، شروط الاستعمال.
* دليلك لعضوية البطاقة الذهبية.
* شهادة تأمين حوادث السفر لحامل (البطاقة الذهبية) .
* البطاقة الذهبية: اتفاقية العضوية.
* البطاقة الذهبية استمارة القبول.
البنك الأهلي التجاري.
شروط الإصدار.
بنك الراجحي.
الراجحي فيزا.
بنك الرياض.
* اتفاقيات بطاقات ائتمان بنك الرياض.
* التعديلات المدخلة على الشروط والأحكام المنظمة لإصدار واستخدام بطاقات الصرافة الفورية ونقاط البيع.
البنك السعودي الأمريكي.
افتح إلى عالم من الفرص مع بطاقات سامبا الائتمانية.
البنك السعودي البريطاني.
* بيد تنفق وبيد تكسب. برنامج (اكسب) ميزة جديدة ورائدة من البنك السعودي البريطاني.
* إصدار بطاقات الائتمان.
* أمر التاجر النموذجية لخدمة التسديد الإلكتروني في نقاط البيع عبر الشبكة السعودية للمدفوعات.
البنك السعودي الفرنسي.
* تقدم بطلب بطاقة فيزا العالمية اليوم.
*Master Card & Visa Terms Condition Credit & Debit Cards.
* " لم أشعر براحة البال أثناء السفر إلا مع خدمات البنك السعودي الفرنسي ".
* الاتفاقية التجارية الخاصة بنقاط البيع.
الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي.
بطاقة فيزا الإسلامية الخيار الأفضل.
البنك العربي الوطني.
* البطاقات الذهبية. اتفاقية بطاقة فيزا / ماستر كارد الائتمانية.
* فرصة ذهبية من البنك العربي الوطني.
* دعوة للحصول على بطاقة فيزا العربي الائتمانية.
* حسابك الجاري أضحى عالميًّا مع بطاقة إلكترون الدولية.
* بطاقة إلكترون العربي الدولية.
بنك القاهرة السعودي.
* اتفاقية إصدار بطاقات فيزا وماستر كارد من بنك القاهرة السعودي.
* اتفاقية التاجر.(10/1152)
__________(10/1153)
بطاقات المعاملات المالية
العرض
الرئيس:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع هذه الجلسة الصباحية هو بطاقات المعاملات المالية، والبحث للشيخ عبد الوهاب أبو سليمان (موزع عليكم) ، نرجو من الشيخ عبد الوهاب أن يتفضل بإعطاء ملخص لبحثه.
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
شكرًا معالي الرئيس، من المسلم به أن عقد بطاقات المعاملات المالية جديد في الفقه الإسلامي، استحدثه الغرب فنما وتطور في بلاده، ثم عمّ وانتشر في جميع أقطار المعمورة بما فيها البلاد الإسلامية، وتقتضي دراسة هذا النوع من العقود، لسلامة تصوره وتنزيله على أحكام الفقه الإسلامي تنزيلًا صحيحًا؛ الرجوع إلى مصادره في البلاد التي نشأ فيها، وتطورت فيها لوائحه ونظمه، واللغة التي صيغت بها مصطلحاته، فهذا أدل على التعرف على حقيقته وأدق لسلامة تصوره، يضاف إلى هذا الرجوع إلى نصوص الاتفاقيات والشروط التي تبرم بين أطرافه، هذه شروط أساسية لسلامة التصور والتكييف الفقهي الصحيح.
عقود المعاملات المالية القديمة والحديثة لها بعدان: بعد اقتصادي، وبعد شرعي فقهي قانوني.
لقد اعتمدت البحوث الفقهية الخاصة بعقد بطاقات المعاملات المالية المقدمة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة ولغيره من المؤسسات والمراكز العلمية والمالية في تصورها على العرض الاقتصادي المحدود، دون أن يكون للدراسة القانونية في بلاد منشأ العقد أو لدراسة مصطلحاته في لغته الأصلية أثر يذكر، الأمر الذي ترك آثاره ونتائجه على البحوث الفقهية اختلافًا في التكييف وإسقاط الأحكام الشرعية عليها، كما لم يكن للدراسة الميدانية والواقع العملي أثر يذكر، ويأتي هذا البحث لسد تلك الثغرة العلمية، معتمدًا - بعد الله عز وجل وتوفيقه - على الرجوع إلى المصادر الأصلية القانونية واللغوية في لغته الأم الإنجليزية استئناسًا بها، وتعرض إلى العلاقة بين أطرافه لاستكشاف حقيقة العقد، وقد استمد منهما مادته وتحليلاته ومفاهيمه ومصطلحاته، تعضدها دراسة ميدانية لتشرح ما قد يكتنفهما من غموض.(10/1154)
وفي ثنايا البحث، لم تغب عن نظر الباحث أهمية نصوص الاتفاقيات والشروط المعقودة بين البنوك مصدرة البطاقة وحامليها من جهة، وبين البنوك والمحلات التجارية من جهة أخرى، (صورها مرفقة في نهاية البحث) ، فقد ساهمت في تكييف العقود تكييفًا شرعيًّا فقهيًّا معتمدًا - أيضًا - على فقرات نصوصها، كل هذا مجموعًا يصب في بوتقة الفقه الإسلامي، يخضع لمبادئه وقواعده في دراسة شرعية وبلغة ومصطلحات فقهية مفهومة للعامة فضلًا عن الخاصة.
بدأ البحث أول ما بدأ بمدخل هو تصحيح المصطلح العلمي الذي كان أحد أسباب الغموض في التكييف الفقهي لعقد البطاقة والكشف عن ماهيته، حيث كان تقديمها في البحوث الفقهية والاقتصادية بعنوان (بطاقات الائتمان) فجاء مدخل البحث كالتالي (تصحيح العنوان: بطاقات الائتمان عنوان غير صحيح) ، أما عدم الصحة فهو من عدة جوانب، تتلخص إجمالًا في الجانب اللغوي والقانوني والاقتصادي، وقد تم شرح ذلك في البحث، أما أن يقال: إن هذا مصطلح ولا مشاحة في الاصطلاح؛ فهذا بالنسبة للمصطلح الصحيح الذي لا يغير مفهومًا ولا يؤدي إلى اللبس وخفاء الأحكام الشرعية. هذا ما تكفل به المدخل في البحث عرضًا مفصلًا تحليلًا واستشهادًا في دراسة مستقلة توصلت إلى أن العنوان الصحيح الذي يشمل كافة أقسام البطاقات وأنواعها حسب ما هو موجود في اللغة الأصلية وقوانين البلاد التي نشأ فيها هو (بطاقات المعاملات المالية (Transaction Cards) أو بطاقات الدفع (payment Cards) .
تلا هذا الدراسة الموضوعية للبحث وهي في قسمين رئيسيين: القسم الأول بعنوان الدراسات القانونية لبطاقات المعاملات المالية في فصلين رئيسيين، عرض الفصل الأول التحليل والأقسام، أما الفصل الثاني فعن العلاقات والمسئوليات بين أطراف العقد.
القسم الثاني من البحث بعنوان: عقود بطاقات المعاملات المالية في الفقه الإسلامي: التكييف والعلاقات، ويشتمل على فصلين، الفصل الأول بعنوان: عقد الإقراض في الفقه الإسلامي وبطاقات المعاملات، ويتضمن عدة مباحث:
المبحث الأول عقد الإقراض في الفقه الإسلامي وتطبيقاته على بطاقات الإقراض (Credit Cards) .
المبحث الثاني: الشروط في عقود بطاقات المعاملات المالية الصحيحة أولًا، والباطلة ثانيًا، ثم آثارها على صحة العقود ثالثًا.(10/1155)
الفصل الثاني من القسم الثاني بعنوان: العلاقة بين أطراف عقود البطاقات بالنسبة للتسديد والخصم، ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عقد الضمان في الفقه الإسلامي وتطبيقه على بطاقات المعاملات المالية.
المبحث الثاني: عقد الوكالة في الفقه الإسلامي وتطبيقه على تصرفات مصدري البطاقة بالتسديد والخصم.
المبحث الثالث: مرجعية البنوك في قضايا بطاقات المعاملات المالية.
وفي نهاية المطاف توصل البحث - بحمد الله وتوفيقه - إلى مجموعة من النتائج والملاحظات والتوصيات، انتظم جميعها في الخاتمة، وفيما يلي ملخص لأهم ما جاء فيها:
أولًا: إن تسمية بطاقات المعاملات المالية ببطاقات الائتمان تسمية غير صحيحة لا تتفق مع الترجمة اللغوية ولا القوانين الغربية التي ابتدعتها، بالإضافة إلى غموض معناها على الخاصة فضلًا عن العامة، وعدم دلالتها على مدلولها الشرعيّ، كما أن هذا العنوان لا يصح إطلاقه على أقسام البطاقات كافة بالمعنى الاصطلاحي للقرض، وإنما يخص قسمًا معينًا منها. ثانيًا: التعريف الشامل للبطاقة بأقسامها وأنواعها المتداولة في الأسواق والذي يفصح عن علاقات أطرافها وأهم خصائصها هو: أداة يصدرها بنك أو محل تجاريّ أو مؤسسة تُخَوِّل لحاملها الحصول على نقد أو سلع أو خدمات تسحب قيمتها من رصيده، وهذا النوع هو ما يسمى Debity Card الذي هو السحب المباشر من الرصيد، أو قرض مدفوع من قِبِل مُصدِرها، يضمن لأصحاب الحقوق ما يتعلق بذمة حاملها، الذي يتعهد من قبله بتسديد القرض خلال مدة معينة من دون زيادة ربوية على القرض، أو بزيادة ربوية لدى اختياره الدفع على أقساط، وهذا هو ما يسمى بطاقات الإقراض بأنواعها الثلاثة، التي يطلق عليها إخواننا الاقتصاديون: (الائتمان) ، وحسم عمولة على التاجر من قيمة مبيعاته بها.(10/1156)
ثالثًا: تنقسم البطاقات الرئيسية حسب وجودها في سوق المعاملات:
إلى قسمين رئيسيين: بطاقات إقراض، وبطاقات السحب المباشر من الرصيد.
أما بطاقات الإقراض فهي ثلاثة أنواع:
الأولى: بطاقة الإقراض بزيادة ربوية والتسديد على أقساط، المسماة في اللغة الإنجليزية CREDIT Cards، تمنح البنوك المصدرة للبطاقة العملاء الراغبين في هذا النوع من البطاقات صلاحية الشراء والسحب نقدًا في حدود مبلغ معين لا يتجاوزونه، في صيغة قرض ممتد متجدد على فترات بزيادة ربوية محددة، وهذه أنواع: فضية، ذهبية، ماسية. . . إلخ، وقد وضح البحث الزيادات الربوية المتنوعة المتعددة المفروضة على قرض هذه البطاقة.
الثانية: بطاقة الإقراض المؤقت الخالية من الزيادة الربوية وتسمى باللغة الإنجليزية Charge Cards، تخول البنوك لحامل هذه البطاقة دَيْنًا في حدود معينة حسب درجة البطاقة - فضية، ذهبية -، يلتزم حامل البطاقة المقترض بتسديد الدين كاملًا من دون زيادة ربوية إذا سدد قيمة مشترياته في الوقت المحدد المتفق عليه، غير أن مصدرها يشترط زيادة ربوية على حاملها المقترض إذا تأخر عن التسديد في الوقت المحدد.
الثالثة: بطاقة التجزئة وتسمى في اللغة الإنجليزية Retaler Card أو In house Card، وتصدرها المحلات التجارية بقصد جلب العميل والاحتفاظ به، يخول المحل التجاري لحاملها الشراء دَيْنًا من ذلك المحل، وبعض هذه المحلات يقدم قروضًا نقدية قد يكون تسديد القرض شهريًا بدون زيادة، أو على أقساط بحد أدنى مع زيادة النسبة الربوية.
يخضع هذا القسم من البطاقات لأحكام عقد الإقراض في الفقه الإسلامي من صحة الشروط وبطلانها، وقد جرى توضيحها وتفصيلها في مكانها من البحث.(10/1157)
القسم الثاني: بطاقات السحب المباشر من الرصيد، وتسمى في اللغة الإنجليزية Debit Card، ويكون لحاملها رصيد في البنك يتم سحب قيمة مشترياته من حسابه الجاري مباشرة، وهذا النوع من البطاقات لا يعد ضمن بطاقات الإقراض شرعًا وقانونًا، حيث لا ينطبق عليها تعريف القرض، وبالتالي لا تنزل عليها أحكامه، إلا إذا استخدمت للإقراض أيضًا فحينئذ تخضع لأحكامه.
رابعًا: يشتمل نظام عقد البطاقات عمومًا بقسميه الإقراضي والسحب من الرصيد على عدة عقود بحسب طبيعة العقد وأطرافه:
- أولًا: العقود التي تتم بين البنك مصدر البطاقة وحاملها وهي عقدان: عقد إقراض حيث يخول مصدر البطاقة لحاملها حق التصرف في حدود مبلغ معين، أما العقد الثاني فهو عقد وكالة، حيث إن العقد بين مصدر البطاقة وحاملها ينص على تفويضه البنك لتسديد التجار نيابة عنه.
- ثانيًا: العقود التي تتم بين مصدر البطاقة والتاجر، وهي عقدان:
الأول عقد ضمان مالي يلتزم البنك للتاجر بدفع قيمة مبيعاته وأجوره عن حامل البطاقة وتسديدها مباشرة.
أما العقد الثاني فهو عقد وكالة، حيث يقوم البنك بتحصيل مستحقات التاجر من حامل البطاقة ووضعها في حسابه بعد خصم عمولته، والقيام بالخصم من حساب التاجر لدى إعادته قيمة السندات غير الصحيحة وقيمة البضاعة المعادة دون رجوع إلى التاجر.
ثالثًا: العقود بين حامل البطاقة والتاجر تكيف بحسبها بيعًا أو إجارة، وتخضع للشروط والأركان في أبوابها من الفقه، وفي ضوئها يحكم لها بالصحة من عدمها.
خامسًا: أثبتت الدراسة الشرعية الفقهية أن بطاقة السحب المباشر من الرصيد Debit Card هي الأصح والأسلم شرعًا بين جميع أنواع البطاقات، وهي التي تنسجم مع القواعد الشرعية، ولا تصادم مبدأً شرعيًّا، تحقق لحاملها كافة المنافع المتوافرة في بطاقات الإقراض، كما تحقق للبنوك الأرباح التي يبتغونها دون تجاوز لمبدأ شرعي.
سادسًا: العمولة التي يتقاضاها البنك المصدر للبطاقة من التاجر هي:
خصم من قيمة المبيعات وليست زيادة حتى يقال بأنها من قبيل الربا، وليست من قبيل (ضع وتعجل) ؛ لأن البنك ضمن دفع القيمة للتاجر فور تسليم سندات البيع صحيحة، كما تنص عليه الاتفاقية بينهما، وليس في هذا شيء من الغلط. انتفاء جميع هذه الأسباب يؤيد القول بأنها في مقابل الخدمات التي يقدمها مصدر البطاقة، أو أنها تحمل على الوكالة بأجر.(10/1158)
ومن أهم الملاحظات ما يلي:
أولًا: لوحظ تشجيع البنوك عملاءهم على الحصول على بطاقات الإقراض بأنواعها؛ لما تدر عليهم من أرباح طائلة دون مراعاة للجوانب الشرعية والمصلحة العامة.
ثانيًا: نسبة الزيادات الربوية على بطاقات الإقراض في البلاد الإسلامية أعلى من البلاد الغربية.
ثالثًا: لا توجد حماية رسمية لحامل البطاقات، بل إن الحبل متروك على الغارب للبنوك تفرض ما تشاء.
رابعًا: تفتقر المكتبة العربية الدراسات العلمية الأصيلة لبطاقات المعاملات المالية في المجالين القانوني والاقتصادي، إذ لا يوجد بين يدي الفقهاء مصدر يعتمدون عليه يُعرَف به التعريف الكامل، لتَسْلَم تصوراتهم وتصح أحكامهم.
أما التوصيات فأهمها في إيجاز:
أولًا: ضرورة إعادة صياغة المصطلحات الاقتصادية ذات العلاقة بالمعاملات المباحة والمحرمة بما يتلاءم وحقيقتها، وإيثار استعمال ما له مصطلح شرعي على غيره فلا يعدل عنه بحال، وأن تتكفل المجامع الفقهية بهذا الأمر وتتحمل المسؤولية في تصحيحها.
ثانيًا: منع البنوك من إصدار بطاقات الإقراض الربوية في البلاد الإسلامية، وأن تقدم بطاقة السحب المباشر من الرصيد بديلًا عن ذلك.
ثالثًا: تشكيل هيئة شرعية وأخرى مالية واقتصادية في كل بلد إسلامي، تكون مسؤوليتها حماية الأفراد من استغلال البنوك، وتبصير الأمة بالمباح والمحرم من المعاملات والبطاقات.
وأود التنويه بأني ألحقت بالبحث مذكرة تعقيبية على بحوث الدورة السابعة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، الخاصة بعقد بطاقات المعاملات المالية.
والله ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(10/1159)
التعقيب
الشيخ محمد علي القري
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله.
شكرًا سيدي الرئيس، أما بعد؛ فأقول:
أولًا: تعليقًا على هذا البحث الذي عرضه فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، إن هذه دراسة جمعت بين الفقه والاقتصاد، وقد اتسمت ببعد النظر وعمق الفكر ومراعاة المنهجية العلمية، وقد عرض صاحبها وحلل بروح الإنصاف والتجرد للحق والأمانة العلمية، وناقش موضوع البطاقات الائتمانية مناقشة الناقد البصير، وخلص إلى استنتاجات مهمة، وتقريرات قيمة، وإضافات علمية ذات بال، واجتهادات صائبة في الجملة، نسأل الله له المثوبة الحسنة والتوفيق.
ثم ثانيًا إن الكمال متعذر، ولذلك كان لنا بعض الملاحظات التي لا تمس جودة هذه الدراسة ولا تدل بحال على خطأ أو نقص، وإنما هي كما يقولون من حشو اللوزنج، فعسى الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها، منها ما ذكره حفظه الله في تعريف الائتمان، فإن قوله فيه غير سديد، فقد ذكر أن الائتمان هو القرض. وأضاف: ولا يوجد سبب واضح للعدول عنه إلى ألفاظ أقل ما فيها أن المراد منها غامض على أهل العربية أنفسهم، انتهى كلامه. الائتمان غير القرض، فالقرض هو جزء مما يسمى الائتمان، لكن الائتمان في التعريف الفني له يتضمن البيع بالتقسيط ويتضمن مجرد الالتزام بالإقراض، ولذلك يكون ائتمانًا التزامُ المصرف بالإقراض حتى لو لم ينته هذا الالتزام إلى إقراض، وقد جاء في المعجم القانوني وهو معجم جيد حسن بلغ من جودته أن قدم له وقرظه عبد الرزاق السنهوري، قال في تعريف كلمة Credit: أي الائتمان، قال هي الائتمان وهو في تعريفه التزام يقطعه بنك أو مصرف لمن يطلب منه أن يجيز له استعمال مال معين، نظرًا للثقة التي يشعر بها نحوه. فدل على أن الائتمان أكبر وأوسع من القرض، ولذلك فإن كل حكم توصل إليه الكاتب يكون قد انبنى على أن الائتمان هو القرض، وهذا الاستنتاج في حاجة لإعادة نظر.(10/1160)
ثالثًا: إن للاصطلاح قوة، وإن المسألة المبحوثة تسمى عند الناس سواء كانوا من العامة أو أهل الاختصاص تسمى بطاقة الائتمان، ومع ذلك فقد اتجه الكاتب - حفظه الله - إلى تسمية خاصة به غير معهودة، وهي تسمية البطاقة المذكورة ببطاقة المعاملات المالية، وليس هذا منهج المجمع الموقر؛ فإنه عندما نظر في الفائدة المصرفية سماها باسمها، أن يستخدم كلمة فائدة لتعني الربا هو خطأ من الناحية اللغوية، ولكننا مطالبون أن نخاطب الناس بما يفهمون، ولا يكون للفتوى تأثير لو صدرت فلم تنص على تحريم الفائدة بالاسم الذي يعرفه الناس ويعملون به، خطأ كان أو صوابًا، فإن قيل: إن بطاقة المعاملات المالية جائزة لما عَرف الناس أن في هذا حكمًا ينسحب على بطاقة الائتمان التي يعرفون، وإذا قيل: إنها غير جائزة لاستمر الناس يسألون ما حكم بطاقة الائتمان. والائتمان كلمة عربية لا يرفضها إلا من أصر على الوقوف بلغتنا العربية عند حد النقل، يريد منا أن نتابع أسلافنا متابعة الأرقاء، حتى تتمشى لغات العالم مع المدنية والتقدم وتقف لغتنا وحدها لا أثر لحياتنا المعاصرة فيها، ولذلك أقول: لا نعرف شيئًا اسمه بطاقات المعاملات المالية بل نعرف بطاقة الائتمان.
رابعًا: ثم إنه حفظه الله، قال في صفحة 137: أن لا مجال لعقد الضمان بين المصدر والتاجر في بطاقة السحب، ذلك أنه لا علاقة للبنك المصدر للبطاقة بتسديد قيمة مشتريات حامل البطاقة من هذا النوع، وهي التي تسمى Debit Card. وهذا غير صحيح، إذ أن التاجر لا يعرف ولا يظهر له نوع البطاقة عندما يقبلها من حاملها، والمصرف ضامن لثمن المشتريات أو للقرض على أية حال، حتى لو تخطى حامل البطاقة ما حدد له من مبلغ فإن المصرف ضامن لكل ذلك، فالضمان في هذه العلاقة موجود.(10/1161)
خامسًا: ثم إنه اقترح أن تكون العلاقة بين التاجر والبنك هي علاقة وكالة يدفع نيابة عن حامل البطاقة قيمة مشتريات حاملها، وهو غير سديد، لما ذكرنا من وجود الضمان، والوكيل لا يضمن.
سادسًا: ذكر - حفظه الله - بأن السحب المباشر من الرصيد ليس معدودًا في بطاقات الإقراض ولا يتنزل عليه حكم القرض. والواقع خلاف ذلك؛ إذ أن حاملها ربما استخدمها في ماكينة مصرف غير مصدرها، عندئذ يكون المبلغ الذي سحبه قرضًا بفائدة حتى يجري تسديده من حساب حامل البطاقة لدى البنك، وهذا ربما يستغرق أيامًا، فالقرض فيها وارد محتمل.
سابعًا: ثم إنه اعتمد في تصوره للبطاقة أن فيها قرضًا يقدمه المصرف إلى حامل البطاقة في حالات ما أسماه بطاقات الإقراض، وافترض أن استخدام حامل البطاقة بطاقته في الشراء من تاجر هو قرض يقدمه المصرف إليه. وفي هذا إشكال، ذلك أن تعريف القرض عند الفقهاء يتضمن فكرة تمليك مال مثليٍّ على أن يرد مثله، مثل قول ابن عابدين (ما يعطيه أحد الطرفين من مثليٍّ يتقاضاه) . وقوله في كشاف القناع: (دفع مال إرفاق لمن ينتفع به ويرد بدله. . .) وإلخ مما قارب هذا التعريف، وليس في البطاقة الائتمانية في استخدامها المشهور - وهو شراء السلع والخدمات - هذا المعنى، بل الواضح فيها الحوالة. ثم إنه بعد أن يشتري يحيل التاجر بالثمن على المصرف، ولا يحصل القرض إلا في حالات سحبه النقود مباشرة من آلة الصرف الآلي لتحقيق صفة القرض في المعاملة؛ ولأنه افترض دائمًا أن الائتمان قرض، فإنه ذكر في الصفحة التالية أن في البطاقة عقد إقراض بين مصدر البطاقة وحاملها، والواقع أن البطاقة لا يترتب عليها مثل ذلك إلا في حالات السحب من ماكينة الصرف الآلي، بل إن من البطاقات ما لا يستخدم خلال مدته في أي شيء، فلا يترتب عليه دين ولا قرض ولا أي شيء من ذلك. إن لسان حال مصدر البطاقة يقول للتجار: بيعوا عليه، أي على حاملها، وما كان لكم فأنا به زعيم. وهذا لا يكون قرضًا بل يكون من أنواع الضمان.
ثامنًا: وأخيرًا فإنه أغفل - حفظه الله - بيان أهمية كل نوع من البطاقات، فبطاقة السحب من الرصيد التي قال بجوازها لا تمثل في العالم إلا نحو 18 % من جملة البطاقات، وما نحن بصدده وما يحتاج منا إلى إيجاد البديل والنظر في أحكامه هو البطاقة الائتمانية التي تخول حاملها الشراء ثم التسديد بعد أجل.
هذا ما تيسر تحريره، والله سبحانه وتعالى يحفظكم جميعًا.
وشكرا سيدي الرئيس.(10/1162)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد سبقني الأخ د. القري إلى كثير من النقاط التي كنت أريد أن أتحدث فيها، وليس ذلك من باب توارد الأفكار، وإنما من باب الاطلاع على الورقة المسهبة الطيبة التي أعدها الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، والحقيقة أن هذا التعقيب مني ومن الدكتور القري (وأخص نفسي) إنما هو على الورقة وليس على الخاتمة، فالخاتمة جاءت مشذبة مهذبة والأمور بخواتيمها، فكثير من الملاحظات ترد على مجريات هذا البحث المسهب الطيب الذي بذل فيه الدكتور جهدًا كبيرًا.
وقبل هذا أريد أن أقول: إن هذا الموضوع طرح مرتين في دورات المجمع، وكتبت فيه أبحاث اشتملت عليها مجلته ورُئِيَ أن ذلك كافٍ، أي أن وجود هذه الأبحاث في المجلة يغني عن توزيعها، وهذا كافٍ فعلًا، لكننا كنا نود من الأخ الدكتور عبد الوهاب أن يشرف ويطل على تلك الأبحاث ويناقش ما فيها حتى نتوصل إلى حصيلة من جميع ما يطرح على هذا المجمع من أبحاث ومناقشات.
إن العهد في مثل هذه الموضوعات الشائكة تعدد الأنظار فيها، ولذلك نجد أن من طريقة المجمع أن تعقد الندوات والحلقات لمثل هذه الموضوعات الشائكة، أو أن نستفيد مما طرح في مثل هذا المجال.
وهذه الأهمية لهذا الموضوع ليست فقط من هذا المنطلق، وإنما من كون أن البنوك الإسلامية بادرت إلى طرح بطاقات ائتمان بديلة عن بطاقات الائتمان التي فيها شبهات وفيها جوانب ربوية، البحث كما صرح به كاتبه - رعاه الله - مُركّز على الناحية الاقتصادية والقانونية والإجرائية، ولكن تركيزه هذا كان بهدف الوصول إلى الجوانب الشرعية، والذي يطلع على الورقة يلحظ أنه قد غلب الجانب القانوني والاقتصادي على الدراسة الشرعية للنقاط التي سأبينها، وقد بين الدكتور أن الجانب القانوني والاقتصادي هما بمثابة جناحين لهذا الموضوع، ونحن نتطلع بعد الجناحين إلى القلب والرأس بل إلى الذَنَب أيضًا وهي الإجراءات، فلم تأخذ الناحية التنظيمية للبطاقات العلاقات والاتفاقيات التي تتم بين الأطراف المختلفة: المؤسسة الأم التي ترعى البطاقة، البنك المصدر، البنك التاجر، إلى جوانب جاءت متناثرة.(10/1163)
أيضًا أريد أن أشير إلى أن هذه الجوانب القانونية والاقتصادية التي أوردها وعُنِيَ بها أيما عناية، حتى إن من ينظر في مبادئ البحث يحسب أن هذا البحث مقدم إلى جهة متخصصة في هذا المجال، وهذا يعني مما يمدح فيه هذا البحث، لكن لم يشر إلى مدى المرونة في مراعاة المتطلبات الفنية، فهناك مدونة استفادت منها البنوك الإسلامية في تجاربها المتعددة، وكان هناك مفاوضات ومراجعات بين البنوك الإسلامية وبين المؤسسات الراعية للبطاقات، وقد تم تذليل كثير من الصعوبات وخضد كثير من الأشواك، وهذا عاصرته في تجربة بيت التمويل التي تعتبر من التجارب المبكرة، وقد أشار إليها الدكتور وتجارب أخرى.
أيضًا إن بطاقات الائتمان من خلال الهيئات الشرعية للبنوك الإسلامية قد حظيت بطرح كبير في مجال التكييفات الشرعية التي كانت نتاج اللقاءات بين الفنيين في البنوك الإسلامية والمتخصصين بعضهم في مجال البطاقات وبين الشرعيين من خلال تقديم التصورات الدقيقة في هذا المجال.
أعود إلى البحث فأعقب على النقطة التي أشار إليها الدكتور القري وهي موضوع التسمية؛ إن الخطورة التي تخوف منها الدكتور في تسمية هذه الصيغة أو هذا الأسلوب بطاقات الائتمان إنما تحدث إذا كانت تغير النظرة إلى ذات الموضوع، ولكن إذا كانت هذه التسمية متداولة والكل يعلم أن بطاقات الائتمان متعددة، وأنها ذات طبائع مختلفة، فهذه التسميات لا تضر، وكيف تضر هذه التسمية ونحن في معرض الاصطلاحات، القاعدة المقررة أنه لا مشاحة في الاصطلاح، وهذه الاصطلاحات إنما تؤخذ من الفنيين الذين يتواضعون ويتواطؤون على تسميات معينة يتفاهمون بها، ولا تؤخذ من كتب اللغة فكتب اللغة لا تُعْنَى بالمصطلحات، وإنما للمصطلحات كتب أخرى تهتم بها.
الجانب القانوني الذي أولاه الدكتور كثيرًا من العناية إنما يحتاج إليه في مجال التنازع، فإذا حصل نزاع بين حامل البطاقة ومصدرها حينئذ نرجع إلى تلك القوانين، والبنوك الإسلامية قد احتاطت أيما احتياط في بطاقة الائتمان التي أصدرتها؛ حيث قيدت أي رجوع إلى قانون وضعي بأن لا يتعارض مع مقتضى الشريعة الإسلامية. ثم إن الاتفاقيات التي تعتمد بين أطراف البطاقة والعلاقات المنظمة بها تقدم على القوانين، فالكل يعلم أن الخاص يقدم على العام، وأن العقد في النظرة القانونية شريعة المتعاقدين، وأن المسلمين عند شروطهم إلا ما أحل حرامًا أو حرّم حلالًا، وهذا أمر معترف به في التقنين، فللعاقدَيْن أن يتفقا على ما يشاءان، على أن لا يخالفا النظام العام، وهذا ليس فيه مخالفة للنظام العام.(10/1164)
التعديل على أن مدار البطاقات على الإقراض أشار إليه الدكتور القري، وأريد أن أزيده من الناحية الشرعية، والشيخ عبد الوهاب، (أريد أن أبرز الجانب المشيخي فيه) يعلم الفرق الكبير بين الدَّيْنِ والقرض، وبين المداينة والإقراض، فالمداينة الالتزام الذي يثبت في الذمة، وقد يكون عن قرض مثلي، وقد يكون عن بيع آجل، وقد يكون عن أجرة مؤجلة أو عن السلم أو عن غيره، فلماذا نلح على الإقراض ونستبعد كلمة المداينة التي تستوعب الحلال والحرام، وتستوعب الصور التي فيها ربح والصور التي فيها إرفاق ومعروف عن طريق القرض، مع أن القرض موجود في تكييف البطاقات، ولكنه ليس هو الطابع الرئيسي والأساسي في هذا المنتج كما يعلم الفنيون أيضًا.
الجانب الشرعي الذي استهدفه الدكتور من ورقته تمثل في تناوله لثلاثة عقود؛ عقد القرض، وأشير إلى بعض محاسن هذا التناول أنه أشار إلى آثار الشروط الباطلة، ونوّه بالخلاف الفقهي لأن كثيرًا من البطاقات تحتوي على شروط باطلة، ولكنها ليست وجوبية ولكنها جوازية أي احتمالية إذا وقع الإنسان في أمر يطبق عليه هذا الشرط، فقد أشار بوضوح إلى أن هناك اتجاهين فقهيين أحدهما يبطل العقد والشرط، والآخر يبطل الشرط دون العقد، وقد أحسن وأجاد في هذا المجال.
ثم تناول عقد الضمان، وأيضًا تكلم عن نقطة جوهرية أساسية فيه، وهي تقاضي الأجر عن الضمان، وفصّل في هذا تفصيلًا جيدًا.
ثم أشار إلى عقد الوكالة، ولكنه أغفل عقد الحوالة مع أن التكييف الأساسي في العلاقة بين البنك المصدر وبين حامل البطاقة هو الحوالة، بالرغم من إشارات خفيفة جاءت في الخاتمة، ولكنه كان حريًّا به أن يعطي عقد الحوالة أكثر مما أعطى لتلك العقود التي علاقاتها محدودة وخصوصًا عقد الإقراض في البطاقات التي أصدرتها البنوك الإسلامية، فجانب الإقراض فيها ضئيل جدًّا، وهو حيث يستخدم حامل البطاقة بطاقته في أكثر من رصيده، أو إذا كان مأذونًا له بأن يستخدم بدون رصيد، فهي فترة إقراض بسيطة ولمبادئ محدودة.(10/1165)
أشير هنا أيضًا إلى بعض الجوانب الجزئية في البحث. فقد جاءت الإشارة إلى ثلاثة عقود، وقد ذكر اثنين منها وغاب الثالث ولا بد أنه موجود في البحث، عقد بين البنك والعميل وعقد بين البنك والتاجر، وهذه الإشارات الجزئية لاستكمال البحث، وليست تغض من شأنه كما أشار (د. القري) .
كذلك أشار إلى حديث ((كل قرض جَرَّ نفعًا فهو ربًا)) وبين في صلب البحث أنه مرفوع من رواية البيهقي، ولكن جاء في الهامش أنه موقوف بنص البيهقي، وهذا طبعًا سهو.
في موضع من بحثه سوَّى بين بيع المضطر وعقد الإذعان، وهذه التسوية فقهيًّا غير مقبولة، لأن بيع المضطر بيّن، وهو من يضطر إلى ما يقيم به أوده ولا يوجد إلا من يعطيه هذا بثمن محدد. أما عقود الإذعان فهي أمور تتعلق بالمرافق العامة التي للإنسان بعض الفسحة في تركها ولا تؤدي إلى الهلاك.
وعند تفسير كلمة الضمان نُقِلَ عن البهوتي أن هناك رأيين في اشتقاق الضمان، أحدهما أنه مشتق من الضمن، والآخر أنه مشتق من الضم، وقد استغربت هذا وكنت أتمنى من الدكتور إما أن يؤكد هذا من كتب اللغة أو أن يعقِّب عليه.
وأورد في بحثه عدم جواز استلام التاجر ثمن البضاعة المرجوعة له نقدًا من حامل البطاقة، أظن أن هنا قلبًا في الكلام، عدم جواز استلام حامل البطاقة ثمن البضاعة المرجوعة له، لأن هذا أيضًا نص تؤكد شروط البطاقات، بطاقات الائتمان، وهي أنه لا تسمح بأن تستخدم هذه البطاقة للقرض المباشر، ليس حرصًا على الابتعاد عن القرض، وإنما من باب التدقيق؟ لأن الفوائد التي ترتب في بعض الحالات ضئيلة، فإذا اقترض قرضًا مباشرًا بهذه الفوائد الضئيلة كأنما البنوك الربوية غمطت حقها، ولذلك تمنع حامل البطاقة إذا اشترى سلعة بالبطاقة ثم ردها إلى التاجر ليس له أن يسترجع ثمنها، لأنه بهذه الطريقة يكون اقترض، وإنما يقيد له قيد معاكس في إشعار الدفع.
أيضًا أشار إلى أن تصرف مصدر البطاقة بالخصم من حساب التاجر ليس فيه شيء، لأنه خصم وليس زيادة. الواقع أنه زيادة لأن مصدر البطاقة يدفع للتاجر أقل مما يستوفي من حامل البطاقة، فهي زيادة ضمنية، ولكن هذه الزيادة سائغة كما بين الدكتور، فالمناقشة إنما هي في التعليل.
كذلك أشار في أكثر من موطن إلى أن الخصم من حساب العميل بتفويض منه هو من باب الوكالة، والحقيقة أنه ليس من باب الوكالة، إنما هو من باب المقاصة، والمقاصة عقد معروف خصوصًا عند المالكية، وقد بينوا أحكامه، وهي إما أن تكون مقاصة وجوبية أو جوازية، بحسب اتحاد العملة أو اختلافها.(10/1166)
هذا ما أردت أن أنوه به، وحاولت أن لا أكرر ما فصله الدكتور القري (جازاه الله خيرًا) ، وأكرر أيضًا التحفظ والاحتياط الذي أشار إليه، وهو أننا نعتبر هذا البحث مفخرة ونريد أن يكتمل شأنه، وأن ينجو من بعض ما وقع فيه خصوصًا في التسمية وفي التكييف، وأخيرًا أريد أن أبين أن هذه العقود الثلاثة التي أشار إليها الدكتور وهي: عقد الإقراض، وعقد الضمان وعقد الوكالة، جاءت بياناتها الفقهية دون أن ترشح على طبيعة العلاقات والتكييفات الشرعية التي هي الهدف من ذكر هذه العقود، ولذلك إذا سمح لي فضيلة الرئيس أن أشير إلى بعض التكييفات الشرعية في هذا المجال.
العلاقات بين أطراف بطاقة الائتمان علاقات متشابكة؛ لأنها كما وصفت تعتبر تنظيمًا متكاملًا تدخل فيه أطراف متعددة وتترتب هناك رسوم وعمولات شتى على إعطاء البطاقة وباستخدامها أو السحب النقدي أو قبول التاجر بها، ولذلك لا يمكن أن نكيف هذه العلاقات بتكييف واحد الذي هو الإقراض، ثم نحدث فيه خروقًا مرة عن طريق الوكالة ومرة عن طريق الكفالة، لا بد أن نستحضر جميع هذه التكييفات الشرعية، ولكن نركز على التكييف الأساسي الذي هو الحوالة، فإذا كان لحامل بطاقة الائتمان - الذي هو عميل البنك - حساب لدى البنك المصدر للبطاقة، واتفق على أن البنك يدفع من حساب العميل المبالغ التي استخدمت لها البطاقة، فإن العلاقة التي تنشأ هي علاقة حوالة، وهذه الحوالة هي من نوع الحوالة المقيدة، وهي أن يحيل المدين دائنه على مدين آخر له عليه دين، فهذه حوالة مقيدة بمديونية أخرى، العميل فيها محيل، والتاجر محال، والبنك محال عليه.
إذا لم يكن لعميل البنك حساب، وقبل البنك أن يتولى الدفع عنه ويطالبه بالسداد فيما بعد بغير فائدة فالعلاقة حوالة أيضًا، حوالة على غير مدين، وهي ما تسمى الحوالة المطلقة.(10/1167)
هذا طبعًا بالنسبة لتكييف العلاقة بين البنك المصدر وحامل البطاقة، بالإضافة إلى التكييفات الأخرى التي سنلمحها وهي الكفالة من حيث استمرار بنك التاجر بالأداء للتاجر دون ربط بالرجوع على المحيل، فالتاجر يتلقى هذه المطالبة ويلتزم بدفعها سواء كان هناك التزام من العميل حامل البطاقة أو لا، وهناك أيضًا الوكالة من حيث قيام بنك التاجر وكيلًا عن التاجر بإتمام عملية التحصيل من المحال عليه الذي هو البنك المصدر، وهناك القرض في حالة انكشاف رصيد حامل البطاقة.
الرسوم التي تؤخذ عن بطاقة الائتمان أمرها هين، لأنها أجر عن خدمات، وتكييفها الشرعي هو الوكالة، والوكالة كما تكون مجانًا من باب المعروف والتعاون تكون بأجر، فتنضوي وتطبق عليها أحكام الإجارة. تقاضي عمولة من التاجر الذي يقبل التعامل بالبطاقة أيضًا مقابل خدمات يقدمها البنك المصدر للتاجر في منح البطاقة وقبول الدفع بها وتوفير العملاء وتحصيل المستحقات بالوكالة عن التاجر، ولا مانع من اقتسام هذه العمولة بين البنك المصدر وبنك التاجر، لاشتراكهما في تقديم الخدمات المشار إليها، ولا مانع أيضًا من تقديم ضمانات للحصول على بطاقات الائتمان، لأنها سيترتب عليها مداينة، والضمانات هي عقود تبعية لتوثيق المديونية والشروط التي توثق العقود مأذون بها ومطلوبة كالكتابة والرهن والكفالة وحبس الرصيد على سبيل توفير إمكانية المقاصة مباشرة دون مطالبة ومتابعة لاستخدام بطاقة الائتمان في السحب النقدي لقاء عمولة أيضًا، هذا فيه عنصر توصيل المال إذا كان لحامل البطاقة رصيد لدى البنك، أو لم يكن له رصيد ووافق البنك على تقديم تسهيلات بدون فائدة، فإن في ذلك توصيلًا للمال إليه، فلا يمنع أخذ عمولة على هذا العمل؛ لأنه أيضًا من باب الأجر على الوكالة توكيلًا بين حامل البطاقة وبين البنك المصدر بسبب اختلاف العملات؛ لأن البطاقة عالمية فيشترى بها بعملات مختلفة، وقد تكون عملة حسابه عملة أخرى، فيكون هناك توكيل بالمصارفة. وقد فصل الدكتور في بحثه هذا وبين أن هناك توكيلًا بالصرف بالسعر السائد، وأن هناك توليًّا لطرفي العقد، وأشار إلى المذاهب التي أذنت بذلك، أما إذا كانت العملة متحدة فكما أشرت إن العلاقة علاقة مقاصة.(10/1168)
هناك أيضًا استخدام البطاقة في سلع أو خدمات محرمة، وهذه نقطة اهتمت بها البنوك الإسلامية، فأملت وتطلعت من عملائها حملة البطاقات ألا يستخدموا هذه البطاقات في أنشطة محرمة، وأنهم إذا استخدموها في ذلك فإن من حقها أن تسحب هذه البطاقة.
هناك أيضًا طروحات أخرى لمعالجة قضايا جديدة أدخلها أصحاب البطاقات التي تصدرها البنوك الربوية، وهي أنها لم تقتصر على فترات السماح لمدة شهر، وإنما بعض هذه البطاقات بدأت تعطي تخويلًا مباشرًا لحامل البطاقة بأن يحصل على السلع، وأن يقترن هذا الحصول بأجل محدد من البداية ستة أشهر أو كذا، هذه أيضًا بدأت تروج، وتأتي كثير من الاستفتاءات؛ لأنها تأتي في عملية ربا ضمني، ولكن هذه أيضًا فيها جانب آخر وهو أنه ما دام هناك سلعة تباع بالأجل فإن من الممكن استخدام صيغة بيع الأجل بترتيبات معينة، يؤذن فيها لحامل البطاقة بأن يتوكل عن البنك المصدر بشراء هذه السلعة بأجل فيه تحديد لموعد السداد وفيه زيادة عن ربح الأجل. والحقيقة أن الدكتور أشار إلى هذا في بحثه، ولكنه أدرجها أيضًا في الاقتراض. فقال: إن هناك أحيانًا في بعض البطاقات مرونة في دفع الدين الشهري بتحديد أدنى في نهاية كل شهر، وجعلها تماثل الإقراض بفائدة، مع أن المقرر شرعًا أن الدين عند نشوئه في بيع آجل أو تأجير آجل لا يمثل الإقراض بفائدة، سواء كان الدفع في نهاية شهر المداينة أو بمرونة الدفع عن طريقة التقسيط، فما أمكن فيه فسحة وأمكن فيه تخريج فإنّ تصرف المسلم يعمل على تصحيحه ما أمكن.
أقول قولي هذا وأكرِّر شكري ومعايشتي لهذا البحث الذي استمتعت به أيما استمتاع، ولا أشك أن من اطلع عليه وجد فيه منهجية عُرِفَ بها الدكتور؛ فقد كتب في منهجية البحث الفقهي، وقبل ذلك كتب في أصول إعداد البحوث والدراسات، ولكن إذا حسن الأمر ظهرت الدقائق، وإذا كان الأمر فيه أخطاء كثيرة فإن الإنسان لا ينتبه للصغائر، وكما يقولون: (حسنات الأبرار سيئات المقربين) . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/1169)
د. رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحقيقة أنني لم أكن أعلم أنني معقب إلا قبل يومين من انعقاد دورتكم الموقرة، ولم أعلم أيضًا بالتغيير الذي طرأ في الليلة الماضية إلا هذا الصباح، وبمحض المصادفة بالاقتصار على بطاقة الائتمان، وقد استأذنت شيخي بكر أبو زيد في أن أقدم خمس دقائق حول موضوع ضوابط العقود المستجدة، ثم أعود إلى ما تيسر لي من بعض الانطباعات عن بطاقة الائتمان.
موضوع العقود المستجدة يبدو أنه قد تأجل إلى دورة لاحقة، وأنا أود أن أضع في دقائق معدودات مسألة في غاية الأهمية لم تركز عليها الأوراق التي قدمت إلينا حول موضوع العقود المستجدة، وهي مسألة الوعد وإدخاله في المعاوضات. لن أكرر عليكم ما قلته سابقًا ولا ما قاله الآخرون، سأضع هذه الكلمات القليلة تحت أنظاركم، وشكرًا لكم.
المسألة قسمان:
القسم الأول:
أولًا: المذهب في الوعد، أحسن مذهب في الوعد في نظري هو التفصيل، فقد يكون الوعد حرامًا أو مكروهًا أو مباحًا أو مستحبًا.
ثانيًا: ولكن لا يكون الوعد واجبًا أو ملزمًا إلا أن يكون قد صار بمعنى العهد.
ثالثًا: لو كان الوعد ملزمًا لكان عقدًا، ولصار الوعد كالعقد، وعندئذ يكون مرادفًا له فلا لزوم له.
رابعًا: يجوز إخلاف الوعد لعذر ولا يكون المُخْلِفُ آثمًا ولا منافقًا ولا كاذبًا.
خامسًا: الإنسان عندما يعد ولا يعقد فإنه يتوقع أن تكون هناك أسباب في المستقبل قد تضطره لإخلاف وعده، ولذلك يريد عن طريق الوعد أن يجعل لنفسه الخيار في الإمضاء أو في الرجوع، إن الله سبحانه عالم قادر، فإذا وعد فإنه لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه شيء، بخلاف البشر.
سادسًا: لا يجوز أن يعد وفي نيته الإخلاف؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيءَ عليه)) . حديث رواه أبو داود. فإذا فعل يعني: إذا وعد وعند الوعد كان في نيته الإخلاف، فإذا فعل كان كاذبًا منافقًا متحايلًا.(10/1170)
سابعًا: يجب عند الوعد أن تكون نيته الوفاء أو إمكان الوفاء على الأقل، وإلا كان متحايلًا منافقًا كاذبًا.
ثامنًا: القول بلزوم الوعد مطلقًا غير معقول كما بدا من الكلمات السابقة.
تاسعًا: القول باستحباب الوفاء أيضًا غير مسلم في جميع الحالات
كما ترون.
عاشرًا: مذهب المالكية في الوعد مذهب السبب أو الورطة تلخيصًا لقوله هو مذهب غير قوي، فلو وعدني رجل بأنني إذا تزوجت أعطاني مئة ألف ريال فإنني لا أمضي إذا عرفت أن وعده غير ملزم، وقد أمضي إذا عرفت أن وعده ملزم وهو ملتزم فعلًا وسلوكًا بمذهبه.
حادي عشر: قد يكون مناسبًا أن نجرب إلزام القائلين بلزوم الوعد بمذهبهم، لو فعلنا ذلك لرأينا أن هذا المذهب لا يعدو أن يكون من باب المزايدات اللسانية.
ثاني عشر: التمييز في الأحكام بين الوعد والعدة والمواعدة تمييز لم أفهم له وجهًا، وهذا هو رأي الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني أيضًا في بحثه الذي نشره المجمع الموقر.
ثالث عشر: من ذهب من العلماء إلى أن الوعد في المعاوضات الوفاء به أولى وأوجب من التبرعات فمذهبه عجيب جدًّا، فإنه يقلب الفقه والأصول وأحكام الوعد والغرر رأسًا على عقب وبجرأة عجيبة.
رابع عشر: الوعد في الاستصناع، لم يختلف الحنفية في الاستصناع هل هو وعد ملزِم أو غير ملزم كما صور لنا شيخنا القرضاوي، إنما اختلفوا هل عقد أو وعد؟ ولوكان الوعد عندهم ملزمًا كالعقد ما كان لخلافهم معنى.
خامس عشر: في المبدع شرح المقنع الجزء التاسع آخر صفحة منه ثلاثمائة وخمسة وأربعون: ((العِدة عطية)) قال: إسناده حسن، ((والعِدة دين)) إسناده ضعيف.(10/1171)
القسم الثاني:
في الوعد، تصوير مسألة الوعد في المرابحة.
أولًا: سلهم: لماذا عدلوا عن العقد إلى الوعد؟
ثانيًا: لقد عدلوا عن العقد إلى الوعد؛ لأن العقد لا يجوز.
ثالثًا: فكيف يجعلون الوعد ملزمًا، ألا يصير الوعد الملزم عندئذ
حيلة محرمة؟
رابعًا: خلاف العلماء في الوعد يصلح مقدمة فقط، ولكن لا يجري هنا أبدًا في المرابحة وأمثالها، بدليل أن العلماء جميعًا منعوا الإلزام في الوعد في الصرف وفي المرابحة وأمثالها من المعاوضات، فالذين يسحبون خلاف العلماء في الوعد إلى المرابحة إنما هم غالطون أو مغالطون.
خامسًا: المذهب في المرابحة أنه لا جناح على من أخلف وعده، ولا أقول هنا بمذهب الجمهور في الاستحباب.
سادسًا: من كان مذهبه في الوعد هو الإلزام أو حتى الندب (الاستحباب) ، فلا يجوز له إدخال الوعد في المرابحة بحال إلا أن يختار العدول عن مذهبه إلى مذهب الخيار؛ فلو عمل بمذهبه لأدى الوعد إلى حرام في معنى أن يهرب من عقد حرام، فيلجأ إلى الوعد فيجعله ملزمًا فيعود إلى ما كان هرب منه.
سابعًا: الوعد الملزم، أيها السادة العلماء، أكبر كارثة فقهية في هذا العصر، فإذا كنتم ترون أن استحلالي ربا الإنتاج كارثة والتأمين التجاري كارثة، فالوعد الملزم أعظم، إذ به يستحلون بالتدريج ما شاؤوا من محرمات.
أعود إلى بطاقة الائتمان، الأستاذ أبو سليمان لا شك أنه شيخي، وملاحظاتي التي سأبديها هنا إنما هي ملاحظات وانطباعات تلميذ على شيخه.(10/1172)
إن دراسته التي قدّمها لنا دراسة واسعة رجع فيها إلى مراجع أجنبية، لأجل الزينة كما يفعل البعض، والمكتبة العربية لا تزال فقيرة في هذا الباب، وإنما معرفته بالإنجليزية والعربية والفقه قد ساعدته على إخراج مثل هذا البحث، وهذا الأمر قلما يجتمع في باحث واحد.
أنا كنت أود في الحقيقة لو أن أستاذنا أبو سليمان قد لخص هذه الدراسة غير هذا التلخيص الذي سمعناه في هذا الصباح، وركَّز على القضايا المؤثِّرة في الحكم الشرعي، ولكن مع ذلك أقول: إن مكتبتنا العربية بحاجة إلى المزيد من مثل هذه الدراسات، ليس فقط في بطاقة الائتمان أو بطاقة المعاملات المالية بل في كثير من المعاملات التي مصدرها الغرب.
الحمد لله أنه كانت نتيجة الدراسة هو ما تمَّ الوصول إليه في دراسات سابقة، ومنها دراسة للعبد الفقير مختصرة بجواز البطاقة المدينة Debit Card. اعتراضه على اسم بطاقات الائتمان له وجه وليس له وجه؛ له وجه على سبيل الحقيقة على سبيل الدقة، فقوله: بطاقات المعاملات المالية هو قول في غاية الدقة، لكن ليس له وجه من جانب آخر، فإن شيخنا أبو سليمان قد نسي باب المجاز في اللغة، وباب المجاز واسع فيها، فقولنا بطاقة الائتمان له فائدتان: الفائدة الأولى أن بطاقة الائتمان هو الاسم الشائع الدارج بين الناس، فلو استخدمنا من أول الأمر هذا الاسم بطاقات المعاملات المالية لربما لم يفهم الناس ماذا نريد، فإذا قلنا: بطاقة الائتمان Credit Card نكون قد لفتنا أسماعهم وأنظارهم، فإذن بطاقة الائتمان اسم له وجه من ناحية المجاز.(10/1173)
الحقيقة أنا سأذكر بعض الملاحظات السريعة غير المرتبة لضيق الوقت الذي كان قد أتيح لي:
إن أطراف عقد هذا النوع من البطاقات يسمى مقرض Creditor يسمى مُقْرِضًا ومقترضًا. . أي نعم. . هناك أشياء قد تمر معنا وتكون ذات أهمية أكبر، نفس الصفحة الثالثة عشرة استخدم بطاقة السحب المباشر من الرصيد، أنا لا أدري ما معنى كلمة المباشر هنا، والمسألة الأخرى - وقد تكون أهم - في الصفحة الرابعة عشرة وجدت هذا التعريف، طبعًا هذا قد يكون مرده إلى ضيق الترجمة، في السطر الثالث قال: منح دائن لمدين مهلة من الوقت يلتزم المدين بانتهائها دفع قيمة الدين، ما أدري ربما لو حذف (دائن لمدين) لكان أفضل: (منح مهلة من الوقت يلتزم المدين بانتهائها دفع قيمة الدين) . ولكنها الترجمة.
ثم بعد ذلك ورد في القاموس القانوني تحت تعريف القرض، أنا كنت أتمنى كما قال أخونا (د. أبو غدة) أن يستخدم لفظ الدين بدل القرض، فالدين أعم فقهيًّا من القرض.
وأيضًا في المتن استخدم هذه البطاقة، رابعًا: بطاقة دين ذي طرفين دائن مدين، هل هناك دين، يعني ما أدري، ما بين طرفين Two parties Cards Agreement يعني أظن الترجمة هنا ليست دقيقة، اتفاقية، يعني دين مداينة لا أدري ما هو دين ذي طرفين؟
أعود إلى نقطة مهمة، أنا رأيي في المسألة هنا دون أن أعود إلى ما فعله (د. عبد الستار أبو غدة) قد أعاد علينا بحثه السابق، أنا أود أن أقول باختصار: إن البطاقة المدينة Debit Card هي جائزة في نظري، والله أعلم، مع تسامح قليل سأبيِّنه لكم فقط، التسامح هو التالي: أنا ذكرت في بحثي السابق الذي نشر في مجلة المركز، قلت هذا الكلام:
(الجهة المصدرة لا تعتبر كفيلًا للعميل حامل البطاقة حيال المنشأة التجارية، فلو اعتبرت هذه كفالة لكانت بأجر لأنها مقابلة بالاشتراك السنوي، فهي إذن غير جائزة، لأن الكفالة في الإسلام هي كالقرض من أعمال الإرفاق، أي الإحسان إنما تعتبر هذه العملية حوالة، والحوالة في الإسلام جائزة. . .) إلى آخر الكلام. علقت بعد أن كتبت هذا الكلام، قلت: هنا الحِوالة أو الحُوالة أيضًا من عقود الإرفاق، فهنا تجتمع عقود إرفاق وعقود معاوضة، أنا أتسامح بهذه النقطة، وأقول اختصارًا: إن البطاقة المدينة جائزة، والله أعلم.
وأخيرًا فإن لي كلمة أخيرة بدقيقة واحدة، إن لي عتب على المجمع الموقر في أنني سمعت أو قرأت الكلمة الافتتاحية لمعالي الشيخ بلخوجة فوجدت أن الهيئات التي ذكرها هي بنوك ولم يذكر أبدًا دور الجامعات، يعني ركز على الأموال ونسي الأعمال، الأعمال الذهنية، هناك جامعات سعودية أيضًا هنا وتجمعنا أرض واحدة ومدينة واحدة كجامعة الملك عبد العزيز، ومركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، وجامعة أم القرى، وجامعة الإمام محمد، وهناك أيضًا جامعة الأزهر والجامعات الأردنية، لا يُنْكَرُ فضلها أبدًا في قضايا المعاملات المالية، لكن ما أدري ما السبب، يعني إذا ما فيش فلوس ما فيش مرحبًا؟ والسلام عليكم.(10/1174)
المناقشة
الرئيس:
شكرًا: الراغبون في المناقشة.
المشايخ والأساتذة: الجناحي، سامي، عجيل، الغويل، حمداتي، المنيع، محيي الدين، شوقي، السالوس، ناجي، يوسف جيري، الصديق، سعود، منذر قحف، خليفة الحاج حسن، الفرفور، التسخيري، محمد سالم، نبيل، الأشقر، تقي، عبد الله إبراهيم.
تفضل أستاذ عبد اللطيف.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
لحظة، سلمك الله، تعليق للشيخ الحبيب.
الشيخ الحبيب ابن الخوجة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
نحن في مثل هذا الاجتماع نتناقش ونتحاور في الموضوعات العلمية المطروحة، ولكن تفضل الأستاذ الدكتور رفيق المصري بذكر معاتبة للمجمع عن تقصيره في شكر بعض الهيئات، وأنا أقول بأن الكلام يكون مرددًا حين نتحدث عن شيء واحد في عشرة اجتماعات أو ثماني اجتماعات وبكل مناسبة، نحن في الاجتماع في هذه الدورة في المكتب تحدثنا عن الجامعات كلها سواء التي في بلد المقر أو خارج بلد المقر، والدليل على هذا، وينبغي أن يتفطن له، أن دعوته شخصيًّا تعتبر شكرًا للمركز، ووجود الشيخ د. محمد علي القري هو شكر للمركز؛ لأننا نتعاون مع مركز الاقتصاد الإسلامي كما نتعاون مع بقية الجامعات، وهذه الجامعات كلها ممثلة في جميع الشُّعَب التي تكونت منها البحوث والدراسات في المجمع، فالشعب الفقهية الاقتصادية مثلًا أكثرها من رجال الاقتصاد الموجودين في الجامعات أو في المراكز أو في البلاد، بلد المقر أو خارج بلد المقر، لأننا نستكتب هؤلاء وعندئذ فلا معنى للتكرار، ولا للتحذلق عندما نريد أن نتحدث، وشكرًا.
الرئيس: شكرًا، الأستاذ عبد اللطيف.
الأستاذ عبد اللطيف:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين.
لا شك أننا أمام بحث قيم كافي ووافي، صور الباحث الموضوع تصويرًا علميًّا وبأمانة تامة، فلذلك نقدم له شكرنا الجزيل على هذا الجهد الذي بذله.
أخوي الكريمين، د. القري ود. عبد الستار - الحقيقة - كفياني وسبقاني في الملاحظات التي كنت أود أن أثيرها، ولكن أود التأكيد على بعض النقاط: أولًا: قضية التسمية، هنا مصطلح الائتمان عبارة عن ثقة تطرحها جهة مالية في شخص، وتترجم هذه الثقة إلى كم من المال: مائة ألف، أو مائتي ألف، فهو مصطلح موجود ومتداول، وخروجنا عنه قد يحدث نوعًا من اللبس.
العلاقة من الأطراف، في الحقيقة هناك خمس علاقات وسبعة عقود، فلذلك يمكن إذا أردنا أن نجمل هذه العلاقات: عميل البنك، حامل البطاقة، المفوض بإصدار البطاقة، مرخص البطاقة، أي هناك مفوض ومرخص، المرخص بإصدار البطاقة الجهة الراعية للبطاقة أو ما يسمى المرخص الأول، القابلين لها من تجار ومتعاملين آخرين.(10/1175)
بين هؤلاء تقع سبعة عقود فيما بينهم، وكيف نستطيع أن ننظر إلى هذه العقود، لا بد إذن من وضع ضوابط عامة لهذه العقود، ويجب أن نشيع بين المتعاقدين في المصارف الإسلامية ما هي هذه الضوابط، ولنشر إلى بعض هذه الضوابط الرئيسية: هناك ضوابط عامة؛ عدم مخالفة نص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهنا يوجه لنا في بعض الأحيان نقد أنكم تقفون عند النص ونحن نقول لا، نحن نضع العقل في خدمة النص، ولكن إدراك الإنسان نسبي، فلذلك نضبط العقل بالنص مرة أخرى، فالعقل في خدمة النقل، والنقل يضبط العقل.
ثم الأصل في العقود الحِلُّ إلا عقد يحل حرامًا أو يحرم حلالًا، وهناك ثوابت يجب أن تنتشر بين العاملين في المصارف الإسلامية وهي خطوط حمراء يجب ألا يتعدوها في العقد، من هذه الثوابت الربا، الغرر، الجعالة، الغبن، بيع ما لا يملكه الإنسان، أيضًا اعتبارات عامة يجب أن تؤخذ عند النظر في العقد؛ دفع المضرة مقدم على جلب المنفعة، لا ضرر ولا ضرار، تحمل الضرر الأدنى في سبيل دفع الضرر الأعلى، ارتكاب أخف الضررين، النفع العام مقدم على النفع الخاص، رعاية المصالح ودرء المفاسد، سد الذرائع المفضية إلى المفاسد؛ إذن نضع هذه الضوابط أمام العقود السبعة حتى لا تخرج عن إطارها.
بطاقة الائتمان بطاقة لها مستقبل باهر، بحلول سنة 2010 م، يتوقع البعض أن الإنسان لن يحمل نقدًا في جيبه، إنما فقط بطاقة تحملها، وهذه البطاقة ذكية بحيث تحمل عنوانك وتحمل فصيلة الدم وبيانات كثيرة عنك في وريقة صغيرة أو بطاقة بلاستيكية صغيرة، وحتى أن هناك فكرة مطروحة الآن لو ارتكبت مخالفة في الشارع مخالفة مرورية مثلًا فإن شرطي المرور لديه آلة يأخذ بطاقتك ويسحبها في هذه الآلة ويسجل عليك في البنك مثلًا مائة ريال، ويسجل لصالح الشرطة مائة ريال، فإذن لا مندوحة لنا من استخدام هذه البطاقة، التي يتوقع أن تحدث ثورة كبيرة بحلول عام 2010 م.(10/1176)
بقي أن ننبه عند الصياغة أو التوصيات، بضرورة صياغة العقود بين الأطراف المعنية جميعًا صياغة يراعى فيها الناحية الشرعية، والتأكيد على التزام العميل باستخدام البطاقة بعيدًا عما حرمه الله، لأن في الحقيقة لا ضوابط لنا على استخدام البطاقة، فقد يستخدمها العميل فيما شاء، لذلك لا بد أن ينبه المتعامل مع البنك الإسلامي على أن هذه البطاقة يجب أن تستخدم في ضمن ما أحله الله سبحانه وتعالى، وفي حالة كشف حساب العميل لسبب ما، وباعتبارنا نتعامل بالإقراض كبنوك إسلامية، فإننا يجب أن نؤكد على ألا تحسب فوائد أو غرامات، لأنه في بعض الأوقات تؤخذ الغرامات محل الفوائد.
الالتزام بالضوابط الشرعية للعقود كما جاء في النصوص الشرعية، بقيت مسألة أننا نستطيع إذا فكرنا أن نروج، أو أن نطرح موضوع البيع الآجل بالبطاقة، وهذا ينص عليه في العقد، ويذكر في استمارة معينة مع التاجر، يعني العميل عندما يتجه إلى التاجر هل يريد أن يشتري البضاعة نقدًا أم يشتري البضاعة آجلًا؟ وإذا كان يريد أن يشتري البضاعة آجلًا فكيف سيدفع هذه الأقساط؟ أنا فقط أثير هذا الموضع حتى ينال الانتباه، ونستطيع كبنوك إسلامية أن ننافس البنوك التقليدية؛ لأنهم يعطون، يقدمون قرضًا، وهم يقدمون قرضًا بفائدة، ولكن ما الأمر لو أننا وضعنا مثل هذه الشروط والالتزامات والاستمارات أمام التاجر؛ فيملأ هذا الذي يريد أن يدفع نقدًا يملأ البطاقة النقدية استمارة البطاقة النقدية، وهذا الذي يريد أن يدفع آجلًا يملأ استمارة معينة، وكأنه طلب بالمرابحة مقدم للبنك يذكر فيه كيف يدفع هذا المبلغ، فنحن ندفع للتاجر نقدًا ونقسطه عليه، والتاجر هنا نعطيه تعليمات بأن البيع الآجل سعر البضاعة كذا يضاف عليه نسبة معينة، والسعر النقدي كذا، وأطرح هذا فقط لينال اهتمام أصحاب الفضيلة.(10/1177)
الأستاذ سامي حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الموضوع تكرَّر التعرض إليه، وأرجو أن يكون في هذا البحث ختام المناقشة وأن نصل فيه إلى رأي، ولقد أجاد الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان في العرض التفصيلي، والعنوان الذي اختاره في الواقع بطاقات المعاملات المالية هو عنوان شامل يشمل جميع أنواع البطاقات، فنحن لا نذهب إلى أن هناك تناقضًا أو لبسًا، أودُّ أن أفسر مقدار ما أعلم في هذا المجال، حيث إنني أتعامل بهذه البطاقات في حدود ما هو مسموح به شرعًا.
فهناك بطاقة الخصم التجاري تصدرها شركة أو محل تجاري من يحمل هذه البطاقة له الحق في أن يحصل على خصم من أثمان البضاعة التي يشتريها، فهذه بطاقة خاصة بالمحلات التجارية ولا علاقة لها بالائتمان ولا بالقيد على الحساب، ولا علاقة لها بالبنوك والتعامل المصرفي، فهي علاقة مباشرة، يدفع نقدًا ولكنه يحصل على خصم تمييزي باعتباره من العملاء الذين يأخذون باستمرار من هذا المحل التجاري.
النوع الثاني: بطاقات القيد على الحساب وهي Debit Card هذه يصدرها مصرف ولا بد أن يكون لحامل البطاقة حساب لدى المصرف، وأنه بدل استعمال الشيك في الأداء في المدفوعات يستعمل حامل البطاقة هذه البطاقة، والتاجر الذي يبيع بناء على هذه البطاقة، إما أن يعتمد على المطالبة بأنه يجمع جميع مبيعاته والفواتير التي تسدد بهذه البطاقة ليقدمها إلى البنك ويحصل على قيد لحسابه، ويخصمها البنك من حساب العميل، وإما أنه دخل الآن في التطور الحديث بفضل نظام الكمبيوتر وسهولة الاتصالات المباشرة مع البنوك بأنه يستطيع فعلًا (كما ذكر مثال الشرطي) أن يضع المحل التجاري الكبير هذه البطاقة في هذه الآلة فيتم القيد مباشرة في نفس اللحظة على حساب العميل ولصالح الجهة التجارية التي قامت بالبيع، فهنا العملية عملية دفع أو أداة، فسواء دفع بشيك أو ببطاقة فالعلاقة بين حامل البطاقة والبنك علاقة مباشرة وإنه يحصل على خدمة، هذه الخدمة إن لم تكن مرتبطة بالاقتراض والاستدانة فهي خدمة فيها منفعة معتبرة، والأجر الذي يأخذه البنك لقاء تقديم هذه الخدمة له مقابل طالما أنه ليس فيه عنصر الإقراض، إذا دخل عنصر الإقراض هنا يأتي دور البنوك الإسلامية بأن ليس لها حق في أن تأخذ فائدة، وهذا ما تفعله فعلًا هذه البنوك، وأنها تعتبر هذا العميل إما أن تقدم له هذا التسهيل باعتبار أنه في أيام الرخاء كان دائنًا فأصبح في بعض الحالات مدينًا، فهذا يقابل هذا، وتعتبر هذا تسهيلًا من جملة التسهيلات التي تجذب بها العملاء.(10/1178)
النقطة الهامة في القضية أن البنك عندما يدفع للتاجر هذه القيمة فهناك للدفع وسيلتان: إما أن يدفع القيمة مباشرة كما هي بقيمتها الأساسية، وإما أن يحصل على خصم مشابه لما تحصل عليه الجهات التي تقدم بطاقات الائتمان، فيكون قد باع الفاتورة بمائة ريال مثلًا، فيدفع له خمسة وتسعون ريالًا، ويخصم خمسة لقاء هذه الخدمة.
هنا طالما أن العملية عملية حوالة في الدفع، أن عميل البنك حامل البطاقة قد أحال التاجر ليقبض من البنك ما كان مفروضًا أن يدفعه هو، فالحوالة تكون بقيمتها الأساسية، فإذا حصل البنك الإسلامي على خصم فإن هذا الخصم يجب أن يعود لحامل البطاقة، ولا يكون يستفيد من وراء ذلك بأن يبيع، لأنه دَين يشتري دين المائة بثمانية وتسعين أو بخمسة وتسعين. هذه نقطة هامة جديرة بالملاحظة في موضوع بطاقات القيد على الحساب.
النوع الثالث: بطاقات ضمان الأداء وهي Credit بمعنى أنه ائتمنه ليؤدي بعد مدة، فهي نوع من ضمان الأداء، وهذا الضمان ليس فيه حقيقةً مفهوم الكفالة، لأننا إذا أخذنا بطاقة American Express التي هي أشهر بطاقات Credit Cards فإننا نجد أنني عندما أشتري السلعة من التاجر يتم هناك اتصال بأن حامل هذه البطاقة يرغب في أن يشتري بعشرة آلاف ريال فهل تسمحون؟ فإذا حصلت الموافقة تمت العملية، وإذا لم تحصل الموافقة فلا تحصل العملية إلا في بعض الحالات، كالشراء من الطائرات مثلًا في حدود معينة، فإنه لا يتم الاتصال لتعذر الاتصال من الطائرة فتقبل على أنها ضمان مقبول، لكن هناك حدود لا تتعدى على ما أظن ثلاثمائة دولار.
هذه البطاقة التي فيها إقراض، فالعملية والعلاقة بين الشخص حامل البطاقة والجهة التي تؤدي عنه، هناك ترتيب إذا تم الدفع خلال شهر فلا يوجد عليه فائدة، إذا تجاوز الشهر فإنه يتحمل الفائدة، فإذا تصورنا أن البنك الإسلامي يريد أن يصدر بطاقات Credit Card فالأمر يبقى على حاله؛ لأنه لا فائدة في شهر وما بعد شهر، ويقيد ذلك بالأداء بأن العميل الذي تجاوز يكون عقابه ألا يصدر له مثل هذه البطاقة.(10/1179)
وهناك موضوع الخصم لأنه من جملة شروط العملية أن مؤدي القيمة بالبطاقة يجب أن يخصم، وإلا ما قام بهذه الخدمة، فهذه علاقة خارجة عن علاقة العميل نفسه بالبائع، ولكن إذا كان المتعامل في هذه هو بنك إسلامي فيدخل موضوع شراء الدين بالنقد، وفيه أيضًا مصارفة إجبارية وهذه نقطة يجب أن تكون ملحوظة عند اتخاذ القرار، بمعنى أني إذا اشتريت ببطاقة American Express بالريالات، فإنهم يدفعون القيمة للتاجر بالريال، وأني أنا لأسدد القيمة فتصدر لي الفاتورة بالدولار، فلو جئت لأسدد American Express بدولارات أقدمها شيكًا أو نقدًا، فإنهم يرفضون الاستيفاء ويجبرونني على أن أقدم لهم ريالات لأن العملية فيها مكسب ضمني، بمعنى أنني لو دفعت لهم بالدولار فالألف دولار تسدد بألف دولار فلا يكون هناك مكسب، أما إذا سددت لهم بالريال فإنهم يشترون مني بسعر شراء الريال، ومعلوم أن في الصرف هناك سعر للشراء وسعر للبيع فيكسبون عن طريق سعر الشراء التي هي القيمة الأقل، بأنني أدفع ريالات أكثر حتى أسدد القيمة المطلوبة مني في هذا النوع من البطاقة، فهذا الإجبار على الصرف بحاجة إلى ملاحظة عند اتخاذ القرار والتوصية.
النقطة الأخيرة التي أثارها الأخ الفاضل الأستاذ عبد اللطيف جناحي خلال القول في موضوع المرابحة عن طريق البطاقة، أخشى أننا نعمل مرابحة بلا بيع؛ لأن عملية المرابحة - باعتباري مبتكرها أو مكتشفها - يجب أن تتم فيها عملية البيع بدخول السلعة والثمن في ذمة المشتري ثم أبيعها، فإذا مرت العملية مباشرة دون مرور السلعة وضمانها بذمة المشتري الوسيط، فإننا نكون قد قلنا له: استدن من هذا المحل بكذا ونحن نأخذ منك لقاء هذا الدين بمائة وعشرين باسم المرابحة، فأرجو أن نفكر في ذلك مليًّا وكثيرًا. وشكرًا لكم على حسن الاستماع.(10/1180)
الرئيس:
شكرًا، يا أستاذ سامي، كأنا نريد الآن خلال بعض الكلمات توصيف البطاقة التي تصدرها المصارف الإسلامية كذا.
الأستاذ سامي: نعم أن نفرق بين أنواع البطاقات.
الرئيس:
مهلًا، دعني أكمل. . أنه يراد توصيف للبطاقة التي ينبغي أن تصدرها المصارف الإسلامية، والواقع ليس هذا هو الموضوع الرئيسي، الموضوع هذه البطاقة التي تصدرها البنوك التجارية الربوية التي ليس لها غطاء، ومندوبو البنوك بحقائبهم للشركات والمؤسسات وبإعلاناتهم في الصحف وفي الإعلان للمسارعة إلى المشاركة في هذه البطاقات التي ليس لها غطاء، ما هو موقف الشريعة الإسلامية، وما هي كلمة الفقهاء في حكم هذه البطاقة التي ملأت جيوب الناس، وبسببها بدل المديونية العالمية والمديونية الدولية صارت المديونية الشخصية على الأفراد وصارت السجون الآن تعاني منهم، هذه أهم نقطة لأن قضية بيان الحكم الشرعي في هذه البطاقة التي ليس لها غطاء يأتي المُعدَم إلى بنك من البنوك ويعطى بطاقة بسقف معين ويصرف ثم بعد تسعة وعشرين يومًا أو ثلاثين أو أكثر أي مدة محددة لا يجد وفاء ثم تتراكم عليه هذه المديونية. هذا هو الذي أرجو أن يتفضل أصحاب الفضيلة والإخوان الأساتذة الاقتصاديين بأن يولوه شيئًا من الاهتمام.
الشيخ عجيل:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا الهادي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أعتقد أن هذا الموضوع على درجة كبيرة من الأهمية، ونتمنى أن ينتهي المجمع إلى البت فيه، لأنه من الواقعات المختلف فيها. ومن خلال النظر في الأبحاث السابقة والنظر في البحث المقدم من د. عبد الوهاب أبو سليمان وهو أوسع البحوث التي قدمت وأوضح من جلا وحرر الوصف أو التكييف الفقهي لبطاقات الائتمان، فجازاه الله خيرًا.
الموضوع أصبح واضحًا، ويلزم المجمع أن ينبه على ربوية بطاقات الائتمان من النوع الثاني والثالث كما ذكرها
د. عبد الوهاب أبو سليمان.
هذه البطاقات التي تصدرها البنوك الربوية لا بد من الإشارة الواضحة لها في مقررات المجمع، إشارة إلى حرمتها لأن أغلب المسلمين يستعملونها، ولو نبهوا لانتبهوا وأقلعوا عن الحرام إن شاء الله، وأعتقد أن المجمع مسؤول بعلمائه عن هذا التنبيه.(10/1181)
ودليل ربوية هذه البطاقات واضح من المصالح التي تعود على أطرافها، وخاصة مصدر البطاقة، حيث يأخذ مصدر البطاقة إضافة إلى رسوم الإصدار نسبة يقتطعها من كل فاتورة شراء يقدمها له التاجر، وفوائد الصرف إذا استخدمها حامل البطاقة - أي العميل - خارج بلاده هذه أيضًا فائدة، بالإضافة إلى استفادة البنوك الربوية من السيولة الضخمة التي تتوفر لديهم.
ولا شك أن النسبة التي يقتطعها هي منفعة جرها إقراض البنك لحامل البطاقة، وكل قرض جر نفعًا فهو ربا، كذلك فوائد التأخير مقطوع بحرمتها، ولا يشفع للقول بجواز هذا العقد اضطرار العميل حامل البطاقة إلى حفظ أمواله من المخاطر ووجود سهولة التعامل - خاصة خارج بلاده - في البيع والشراء، فهذه مصالح ملغاة ومنافع ملغاة، ربما أخف هذه الأطراف هو التاجر وإن كان شريكًا في إثم هذا التعامل، وإنما تعتبر هذه المصالح ملغاة لاعتبارين:
أولًا: لأنها مبنية على قرض بفائدة وهو ربا، فيه ربا واضح.
الثاني: ما يترتب على استعمال البطاقة الربوية من الأضرار التي تلحق العامة وتلحق المجتمع، وهذه أضرار المديونيات التي تلحق العامة، وتوسيع دائرة المدينين، هذه مشكلة تعانيها الآن الدول الأوروبية، وبعض هذه الدول وصلت المديونية فيها إلى 50 % من أفراد الشعب.
حين يصدر المجمع رأيه في هذا أرى أنه لا بد وأن يقدم البديل للبطاقة التي لا يجوز استعمالها، وليس هذا بالأمر المعقد ولا هو بالصعب تنفيذه بالنسبة للمصارف أو البنوك الإسلامية، وكثير من البنوك الإسلامية تطبقه حاليًا، لكن دون فتوى مجمعية تضبط مسار هذا التطبيق. التكييف أو الوصف الشرعي الذي نراه في هذا اعتبار العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر علاقة حوالة، حيث يحيل حامل البطاقة التاجر فيما ثبت في ذمته من قيمة المشتريات أو غيرها من الخدمات التي تجيزها وتخولها البطاقة على مصدر البطاقة وهو المحال عليه، ولا يشترط في الحوالة أن يكون للمحال دين على المحال عليه.
أنتقل إلى قضية عمولات البنوك، وهذا أذكره هنا بناء على ورقة قدمت لنا ضمن الأبحاث.
نقول إنه لا بأس أن يأخذ البنك الإسلامي عمولة مقابل إصدار البطاقة وعمولة على استخدام البطاقة، ويشمل ذلك بطاقة السحب النقدي أو غيرها من البطاقات، وينبغي أن تكون العمولة مقطوعة.(10/1182)
والذي تجري عليه البنوك الإسلامية حسبما أعلم أنها تأخذ عمولة عبارة عن نسبة مئوية من المبلغ، وهذا لا أراه صحيحًا لأنه فيه استغلال للعميل، وأخذ للمال دونما يقابله من عمل، فإن الجهد والتكلفة الفعلية لاستخدام العميل للبطاقة لا يختلف من المبلغ القليل أو الكثير، نسبة 1 % مثلًا على مائة دينار غيرها لمبلغ ألف دينار، بينما الجهد واحد والتكلفة واحدة ولا يجوز للبنك الإسلامي أن ينهج نهج شروط الإذعان التي تتضمن حيفًا وظلمًا وإن رضي بها العميل.
وإذا كانت هذه نسبة غير جائزة في تقديري بالنسبة لبطاقة السحب النقدي التي لا شبهة في جوازها كما تجريها البنوك الإسلامية، هذه النسبة تكون أكثر إشكالًا في حال المديونية لمن يقع فيها، إذا وقع العميل في هذه المديونية فتكون العمولة منسوبة إلى مقدار الدين، وهذا من الربا الواضح في تقديري.
وهذه هي النقطة الثانية تنص في لوائحها أو تجيز لوائحها اشتراط غرامة مقطوعة أو نسبة محددة على المبلغ حال تأخر حامل البطاقة عن السداد دون عذر مشروع، وهذا ما تنص عليه بعض المصارف الإسلامية على أساس صرف هذه الغرامة بعد ذلك في وجوه البر، ولا يتملكها مستحق المبلغ، هذا الشرط في تقديري باطل ولا يجوز تضمينه لوائح البنوك الإسلامية؛ لأنه لا يجوز شرعًا الدخول على عقد يتضمن شرطًا ربويًّا، ولو كان قصده عدم الدخول تحت طائلته أو الالتزام به، ولا يصح قياسه - كما قاس البعض - على جواز اشتراط غرامة على التأخير، قياس جواز اشتراط غرامة على التأخير على التعزير بالمال، لأن هذا قياس مع الفارق، طبعًا معلوم أن التعزير بالمال قال به الأقل، جمهور الفقهاء منعه، التعزير بالمال ليس فيه دخول بشرط أو على شرط ربوي باطل، بينما هذا العقد واضح فيه أنه دخول على شرط ربوي باطل والله أعلم، وشكرًا.(10/1183)
الشيخ إبراهيم الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أولًا بما أنني آخذ الكلمة لأول مرة فلا بد أن أحيي رئيسنا الشيخ أو الشيخ الرئيس والحبيب الأمين العام لهذا المؤتمر على جهدهم المتواصل لوضعنا دائمًا في مستجدات الأمور والبحث عن تأصيلها في فقهنا وفي شريعتنا.
أود أن أتحدث في الموضوع محل البحث وكلمة Credit في الحقيقة هي أقرب إلى كلمة (الدائنة) باللغة الإنجليزية، ولكن هذا البحث العظيم في الحقيقة والموصل أعجبني كثيرًا وقرأته أكثر من مرة من حين وصوله إلي في البلاد هناك وهنا، وأتمنى دائمًا أن تكون محاولة تكوين التصور عن الأمور التي نريد أن ننزل عليها حكم الشرع دائمًا موضَّحة ومؤصَّلة، بل إنني وددت لو أن شيخنا أبو سليمان قد توسع فيما بدأ به في الصفحة السادسة حينما قال: (نشأ نظام البطاقات وتطورت أنظمته ولوائحه في البلاد الغربية على أساس الاقتصاد الرأسمالي بفلسفته وأساليبه، وبلغ من الإحكام بحيث لم يترك منفذًا إلا سلكه أو طريقًا للربح - والأولى للاستغلال - من حامل البطاقة إلا قننه ونفذ إليه) . ولو أنه توقف عند هذه الفقرة وتوسع فيها فتحدث عن النشأة والتطور وبلوغ درجة الإحكام لكشف ما أوجزه شيخنا الرئيس بكلمة رائعة في حديثه الآن حينما قال: إنه نظام جاء ليضيف كارثة المديونية الشخصية إلى كارثة المديونية العالمية للدول الإسلامية والمستضعفة.
النظام الرأسمالي أصلًا الذي نشأ فيه هذا النظام وتطور من خلاله واكتمل عنده يقوم على فكرة المديونية أو الدائنية أصلًا، ومن هنا كلمة الائتمان، لأن النظام يقوم على فكرة إيهام العاملين الطالبين للمنتجات أن في يدهم أكثر مما هو في الحقيقة، ومن هنا جاءت فكرة الدائنية التي تقدمها الدول الغربية إلى العالم الثالث، وجاءت فكرة بطاقات الائتمان لإيهام صاحب المال أن لديه أكثر مما في يده، لأن النظام يقوم أصلًا على الفكرة التالية: إن كان بائع المواد الأولية مثلناه في (أ) مثلًا وباع بما يساوي 500 وحدة سواء ملايين أو بلايين أو ما شئنا من الأرقام، العاملون جميعًا مثلناهم بمجموعة واحدة (ب) مثلًا فهو يعطيهم مثلًا 500 وحدة من الملايين أو البلايين , مجموع المنتجات ستكون مساوية لكمية النقد، لأن الأصل في النظرية الاقتصادية أن مجموع المنتجات يساوي عرض النقود، فسيكون عرض النقود هو مئة ألف من الوحدات التي اتفقنا عليها من الملايين أو البلايين أو التراليين، في هذه الحالة الرأسمالي لكي يكسب لا بد أن يوهم الذين عندهم ألف وحدة أنهم يملكون أكثر من ذلك.(10/1184)
هذا الوهم هو الذي يأتي بفكرة الإقراض بالفائدة وبفكرة Credit Card وبفكرة إقراض العالم الثالث، وهذا النظام في حقيقته هو نوع من إيهام الأفراد أنهم يملكون في حساباتهم وفي جيوبهم أكثر مما يملكون في الحقيقة، ولذلك فهو نظام يقوم على فكرة إيهام، والحصول على سعر فائدة من وراء ذلك، واستنزاف حامل البطاقة إلى أقصى مليم يستطيع أن يستنزفه البنك وكيل الرأسماليين في ذلك، فإنه لم يترك منفذًا إلا سلكه أو طريقًا للربح أو للاستغلال من حامل البطاقة إلا قننه ونفذ إليه.
ولذلك حينما نريد أن نتحدث عن هذه البطاقات ثم نريد أن نلزمها بحدود الشريعة تفقد معناها بالنسبة للمصارف، وتفقد معناها بالنسبة للرأسمالية، لأن الشريعة لا تسمح له بذلك، والفقه الإسلامي سيوقفه عن ذلك ويمنعه، وبالتالي نصبح كأننا نقدم نظامًا بديلًا عن هذه البطاقات الائتمانية، لأن المقصود من Credit Cards هو ما يؤدي إلى مديونية الأشخاص واستنزافهم إلى آخر مليم بإيهامهم أنهم يملكون أكثر، ثم مطالبتهم ثم محاصرتهم، ثم كل ما يترتب على ذلك مما ترتب على الدول الإسلامية ودول العالم الثالث حينما قدمت لها القروض ثم رتبت عليها الفوائد، ثم لم تعرف أن ترد لا الفوائد ولا القروض وأصبحت في الوضع الذي هي فيه، وشكرًا.
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين.
الحقيقة أن الكلمات التي سأتقدم بها لا تعد ملاحظات ولا استدراكًا، ولكنها تتميم لبعض ما ورد في البحث القيم الذي تمسك صاحبه بروح الإسلام العالية، فلقد كان أخونا الدكتور أبو سليمان موفقًا في تعريفه بتلك البطاقة وشرحه لمختلف الإجراءات التي تتكون منها، والتشريعات البنكية التي تنظمها، ثم كان بارعًا أيضًا كما هي عادته عند استخلاص النقط التي جعلها أساسًا للتطبيق على تلك الأوراق.(10/1185)
فالحقيقة أنه مجهود يستحق التقدير والتنويه للبحث عن أوجه الدليل وحسن استخدامه بطرق أضفى عليها سحر البيان كثيرًا من الأهمية، وعند حكمه بأن تلك الورقة تشتمل على معايير تجعلها ترتبط بعدة عقود مثل القرض والسلم والضمان والوكالة اتضح بتبريراته أن تلك العقود ترتبط بها تلك البطاقات شكلًا ولا أقول جوهرًا، فترتبط بتلك العقود التي قارنها الدكتور الجليل، ولكن فيما يرجع إلى تنزيلها منزلة القرض في الصفحة 67 ففيه مفارقات حسب نظري، فالهدف من القرض في الشريعة الإسلامية هو ثواب الآخرة، وإلى ذلك أشار الحديث الشريف الذي رواه مسلم عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يقرض مسلمًا مرتين إلا كان كصدقة)) ، وهذا عكس ما تهدف إليه البنوك من وراء إصدار البطائق، إذ هدفها هو الربح عن طريق الفائدة، وإن التعريف الذي أعطاه الدكتور العالم أبو سليمان للقرض وضّح بكل تفصيل هذه المقارنة.
إذن فما دام القرض عملًا من أعمال البر، لا يرجو من قدمه لمن احتاجه سوى ثواب الآخرة فكيف تنزل تلك الأوراق على عموم صورها منزلته؟ فهي يشترط فيها استرجاع المبالغ التي أخذت بواسطتها بفائدة وحسب شروط إذعانية ليس لحاملها بد من قبولها، ثم إن الطرق التي تمت بها جميع الإجراءات التي أعدت بها تخالف صور القرض التي نظمتها أحكام الفقه الإسلامي، فهي أعدت أساسًا لجني الربح بواسطة الفائدة، بينما القرض سن التعامل به لنفع المحتاج بطرق تضمن لرب المال ماله بدون زيادة.
إن تلك البطائق تصدرها المؤسسات البنكية بهدف الربح من الفائدة التي تجعلها على الحسابات المؤداة بتلك البطائق، وخصوصًا على الذين لا يتوفرون على ودائع، فهي تضم صورًا من البيع وأخرى من القرض وبعضًا من تطبيقات السلم، فإن ما تضمنته من صور القرض يجر في الغالب نفعًا للمقرض، وعلى تلك الصور نص المغني على حرمتها، فقال: " والبيع مع السلف أن يبيع منه شيئًا ليقرضه أو ليؤجله بالثمن ليعطيه في ذلك ربحًا ".(10/1186)
فهذه البطائق تضم بيعًا وشرطًا وسلفًا جر منفعة مشروطة، وذلك نهى عنه الحديث الشريف الذي سيأتي قريبًا، ثم إنها أعدت من أجل تسهيل قرض تترتب عليه فائدة محددة تحديدًا ملزمًا للمذعن الذي هو حامل البطاقة، ولذلك تختلف مع عقد القرض الذي هو في الشريعة الإسلامية الحصول على ثواب الآخرة بقضاء حاجة المقترض بطريقة تستبعد اشتراط المقرض لأي منفعة من قرضه.
ولذا نرى أنه يصعب تنزيل هذه البطائق منزلة عقد القرض الإسلامي بسبب الزيادة التي يجنيها الممول، وخصوصًا إذا كان حامل البطاقة لا يتوفر على ودائع في البنك، بل إن مصدر البطاقة يأمل أن يسترجع حساباته من المداخيل الجارية التي تمر إلى حامل البطاقة عن طريق البنك كأجور الموظفين وأكرية عقارات المُلَّاك وصفقات التجار، ففي هذه الحالة المستهلك حامل البطاقة يتسلمها بشروط لا مجال للمناقشة فيها، ومن أبرزها نسبة الفائدة التي ستضرب على ما سحب بتلك البطاقة، ولا مجال لقبول زيادة مشروطة عند إبرام عقد القرض في الإسلام.
قال السرخسي: " ولهذا قلنا: إن المنفعة إذا كانت مشروطة في الإقراض فهو قرض جر منفعة، وهو حرام، وإن لم تكن مشروطة فلا بأس به، حتى ولو رد المستقرض أجود مما قبضه فإن كان ذلك عن شرط لم يحل ".
أما عن اشتمال تلك البطائق على أوصاف عدة عقود فيمكن النظر إليه من خلال قصة أسيد بن عتاب لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة فقال عليه الصلاة والسلام: ((انههم عن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف، وعن بيع مالم يُقْبَض)) .(10/1187)
أما الحوالة بدون فائدة إذا كان المقترض سيرد أحسن مما أخذ وهو ما أشير إليه في الفارق بين الصرف والحوالة، فقال السرخسي: " إن ابن الزبير رضي الله عنه كان يأخذ بمكة وَرِقًا من عند التجار، فيكتب إلى أصحابه في الكوفة فيعطونهم وَرِقًا أجود منه، فسألت ابن عباس - يقول عطاء - عن أخذهم لورق أجود من ورقهم فقال: لا بأس به إذا لم يكن مشروطًا، وإن كتب له سفتجة بذلك ولم تكن الجودة مشروطة جاز ".
قال في جواهر الإكليل مؤيدًا لما جاء فيما قاله السرخسي على جواز أخذ الزائد أو الأحسن عند استرجاع القرض، إذا لم يكن ذلك مشروطًا عند تكوين القرض، وذلك عند قول المختصر: " وكَعَيْنٍِ ترهن أقامتها إلا أن يقوم دليل على أن القصد نفع المقترض فقط ".
هذه العبارة تأتي دليلًا واضحًا على أن مقصد الشارع من القرض هو نفع الضعيف وذوي الحاجة.
وسوَّى بعض الفقهاء بين القرض والسلم، ومنهم من ألحقه به، فردَّ صاحب التجريد على ذلك بقوله: " إن ذلك مجرد تسمية ولا يقتضي أنهما نوع واحد لتغاير مفهوميهما، إذ السلم بيع موصوف في الذمة، والقرض تمليك شيء على أن يرد بدله، فكيف يكون نوعًا واحدًا مع تغاير مفهوميهما؟ " ومن هنا أمكن تكرار ما قاله كثير من العلماء ورجال الفكر، وهو أن الشريعة الإسلامية نظام قائم بنفسه، ولا يمكن أن يرغم على قبول جميع الإجراءات المستحدثة خارج نظمه ما لم تستبعد منها جميع الإجراءات المخالفة لأقوال فقهاء شريعته السمحة.
أما عن تطبيق أحكام الضمان على تلك البطائق، فواضح أنه يصح شكلًا، ولكن لا يصح جوهرًا، وأقرب قول فقهي يطبق على ذلك قول مختصر خليل بن إسحاق عندما قال: " الضمان شغل ذمة أخرى بالحق وصَحَّ من أهل التبرع ".(10/1188)
الحقيقة أن ذمة البنك مصدر البطاقة انضمت إلى ذمة الحامل وحلَّت محلها في الالتزام بأداء المبلغ الذي سُحِبَ بواسطة البطاقة على أن يردَّه بفائدة حسب مسطرة التعامل مع البنك، وهي شروط فاسدة حسب الحديث الشريف: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له ولو اشترط مائة شرط، كتاب الله أحق وشرطه أوثق)) رواه الصحيحان بألفاظ مختلفة، فإذا صح ضمان من حين حلول ذمةٍ محل أخرى، فإن اشتراط نسبة الفائدة باطل، وإن ارتبط العقد به فهو باطل.
وتخضع مسألة الضمان في هذه الورقة لما يمكن أن يطبق عليه ما قاله السرخسي في الواقعة التالية: " وإذا أمر رجل خليطًا له أن يؤدي عنه ألف درهم فضمنها، والآمر مقرٌّ بأن الألف عليه، فأدى الكفيل المال رجع به عليه الآمر استحسانًا، لأن الخلطة بينهما تقوم مقام تصريحه بالأمر بالكفالة عنه. فإن الخلطة بينهم مقصودة لهذا، وهو أن يؤدي ما عليه ليرجع به عليه فنزل ذلك منزلة الضمان. . . إلى أن قال: والخليط عندنا هو الذي يأخذ منه ويعطيه ويداينه ويضع المال عنده ".
هذه الإجراءات تقترب جدًّا من العلاقات الرابطة بين مصدر البطاقة وحاملها، وبين البنك المصدر والمورد والذي سحب منه العميل حامل الور قة.
مع فارق في الهدف، فالشريعة الإسلامية تريد نفع المحتاج والبنك يريد الربح، فاتحدت الصورة واختلف الهدف، لذلك فشكل علاقة هذه البطاقة في الإطار العام لتلك التصورات يبدو واردًا جدًّا، ولكن في نظري يمكن أن يبيح منها الفقه الإسلامي حالة واحدة هي أن يكون حامل البطاقة له ودائع لدى المصرف، واشترط الرجوع عليه بها بما سحب دون فائدة.(10/1189)
إن هذا التحليل القيم الذي اشتمل على مختلف الصيغ الإجرائية التي تتم عليها تلك البطاقة حسب ما أورده أخونا أبو سليمان يسوق إلى القول بأن صاحب البطاقة إذا كانت لديه أموال في البنك المسحوبة عليه فاتورات الشراء عن طريق تلك البطاقة، بحيث لم يسجل عليه البنك فائدة، وإنما دخل تسديده بالثمن في إجراءات السحب العادية، فإن هذا في نظري لا بأس به؛ لأنه لم يدخل في سلف جَرِّ منفعة ولما يتم فيه قرضًا بفائدة على ما دفع البنك عن صاحب البطاقة.
أما الحالة الثانية فهي أن يكون صاحب البطاقة ليست له ودائع في البنك، وإنما ربط مع اتفاق مسبق على التسديد والرجوع عليه بما سدد عنه مع الفائدة، قليلة كانت أم كثيرة فإن هذه تكون في نظري حالة من حالات الربا وهي حرام بالإجماع، ويجب النظر إليها ضمن الموقف الإسلامي منه، وما ينبغي أن ينظر فيه هو تحديد المعاملات الربوية لأنها حرام بالإجماع، وتمييز جميع صوره أصبحت الحاجة تعود إليه، وما لم يكن منه ينبغي أن يوضح للرأي العام الإسلامي.
وختامًا أشكر الأستاذ أبو سليمان على بحثه الذي شدنا جميعًا إلى قراءته عدة مرات، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في الواقع أنني أكرر ولا أقول أثنِّي أو أثلِّث، وإنما أكرر ما تفضل به إخوتي من الثناء على بحث أخينا وزميلنا الدكتور عبد الوهاب وعلى المجهود الذي بذله، وهو في الواقع ليس بحثًا وإنما هو مؤلف نرجو أن يوفقه الله سبحانه وتعالى إلى استكمال ما يمكن أو ما ظهر أنه ملاحظة عليه في هذا اللقاء المبارك.
أولًا قبل دخولي أعتب عليه في أنه عبَّر عن اللغة الإنجليزية بأنها اللغة الأم، هي ليست لغة أُمٍّ وليست لغة، وإنما هي لغة يصدق عليها بأنها شرٌّ لا بد منه، هذه واحدة.(10/1190)
أما اللغة الأم فهي اللغة العربية، لغة كتاب الله ولغة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولغة أهل الجنة، فهذه هي اللغة الأم، أبى من يكابرنا في ذلك أم استجاب.
الحاصل، هي شر لا بد منه بالنسبة للبطاقة وغيرها، في الواقع إن بطاقات الائتمان خدمت وتخدم المجتمع الإنساني على وجه العموم، ومن ذلك المجتمع الإسلامي، ولكننا - ونحن مطالبون بالتقيد بالأمور الشرعية - يجب علينا أن يكون لدينا مراقبة، وأن يكون لدينا قيود، وأن يكون لدينا نظر فيما يَصِحُّ وفيما لا يصحُّ؛ فما كان صحيحًا فالحمد لله نأخذ به سواء جاءنا من الشرق أو من الغرب، والحكمة ضالة المؤمن، وإذا كان فيه ما فيه فيجب أن يطرح ولو كان جاءنا من أكبر أئمة الإسلام، فالإمام الشافعي رحمه الله يقول: " إذا جاء حديث رسول الله فاضربوا بقولي عُرض الحائط ". فيجب أن يكون لدينا مبدأ من هذا المنطلق.
الله سبحانه وتعالى خصَّنا بهذا الدين الحنيف، وما حرّم شيئًا إلا وأباح لنا ما هو أفضل منه وأتم وأسلم، الزنا حرمه، أباح النكاح وما فيه من الفضائل، حرم الربا أباح البيع وما فيه من المكاسب الطيبة، حرم علينا ما حرم، مشارب مآكل، لكنه سبحانه وتعالى أباح لنا مشارب أطيب منها ومطاعم أطيب منها، فنحن، والحمد لله، نعتز بهذا الدين الذي هو تشريع من حكيم حميد، خلقنا وهو العالم بأحوالنا.
ما يتعلق بهذا الموضوع، الواقع أن بطاقات الائتمان وإن تنوعت وكثرت وقيل إن فيها البطاقة الفضية والذهبية والماسية وفيها بطاقة الائتمان للقرض والاستخدام ولكذا وكذا. . إلخ، أرى أنها في الواقع تتفق في جوهر لا تختلف جميع أقسامها عنه، هذا الجوهر هو أنها في الواقع منقسمة أو قائمة على ثلاثة عقود حسبما درسناها، ويكاد إجماع الباحثين عن هذه البطاقة ينعقد على أنها مشتملة على هذه العقود الثلاثة.(10/1191)
العقد الأول: هو عقد بين المنظمة الدولية المشرفة على بطاقات الائتمان الصادرة عن مصدريها من مصارف وغير مصارف، وهذه العلاقة أو هذا العقد يقضي بأن يكون لهذه المنظمة الإشراف وحق المتابعة في أي مخالفة تكون، وكذلك حق الضمان لاستمرارية خدمات هذه البطاقة، ولها - أعني هذه المنظمة - جزء مما يكتسبه مصدر البطاقة من هذه البطاقات التي يصدرها.
العقد الثاني: عقد بين مصدر البطاقة وبين العميل الحامل لها، وهذا العقد في الواقع سمعنا بأن هناك من يقول بأنه عقد ضمان، أو عقد وكالة، والحقيقة أن الأمر غير صحيح، فليس عقد ضمان وليس عقد وكالة، لأنه لو كان عقد وكالة لكانت ذمة العميل منشغلة لدى التاجر الذي أخذ منه البضاعة أو الخدمة، لكانت منشغلة مع البنك إن كان كفيلًا ولا تنشغل معه إن كان وكيلًا، وليس الأمر كذلك فإن ذمة البنك قد استقلت - أعني مصدر البطاقة - قد استقلت بالحق المترتب على هذه البطاقة من قبل التاجر، وليس للعميل حامل البطاقة علاقة مطلقة بهذا الحق الذي للتاجر، بمجرد تقديم هذه البطاقة وقبول التاجر هذه البطاقة وأخذه بضاعته برئت ذمته براءة تامة، ولو أفلس مصدر البطاقة لما كان في حكم أنظمة هذه البطاقات لما كان للتاجر أن يرجع على العميل، وإنما رجوعه على البنك.
هل هذه من خصائص الوكالة؟ هل هذه من خصائص الضمان؟ الواقع أنها حوالة وحوالة كاملة، والحوالة هي نقل حق من ذمة إلى ذمة، وهذا الحق قد انتقل من ذمة العميل الذي اشترى هذه البضاعة أو أخذ هذه الخدمة إلى ذمة مصدر البطاقة، فإذن كيف نقول بأن هذه حوالة؟ أو نقول بأنها ضمان؟
لا يخفى أن الضمان ضم ذمة إلى ذمة، وللدائن أن يطالب مَنْ أراد منهما؛ الدائن أو الكفيل له.
الآن بموجب أنظمة البطاقات ليس للتاجر أية علاقة، وليس له حق قبل العميل حامل البطاقة، فكيف نقول بأنها وكالة؟ أو نقول بأنها ضمان؟
هناك حفظكم الله كذلك عقد بين التاجر وبين مصدر البطاقة، هذا العقد يعني أنه يتحمل أو يتقبل جميع الحوالات المتعلقة ببطاقات الائتمان من حامليها الذين يشترون بضائع أو يأخذون خدمات، سواء كانت خدمات فندقية أو خدمات تذاكر طيران أو أية خدمة من الخدمات المعروضة للبيع.(10/1192)
فإذن التاجر في الواقع الآن تحول حقه من ذمة العميل إلى ذمة مصدر البطاقة تحولًا كاملًا وبرئت ذمة العميل، بعد هذا، نستطيع أن نقول إن العلاقة بينهما علاقة حوالة، ولا يأتينا أو يرد علينا بأن الحوالة يشترط أن تكون على دين مستقر، نعم قال بذلك مجموعة أهل العلم، ولكن هناك مجموعة من أهل العلم آخرون قالوا بأنه لا بأس أن تكون الحوالة على دين مستقر، أو على غير دين، إذا قبلها المحال عليه.
في الواقع، أنا أجد، بأن هذه العلاقة بين التاجر وبين مصدر البطاقة فيها تجاوز وفيها جرثومة، لا بد أن نفطن لها، ما هي هذه الجرثومة أو هذا الشيء؟ هو في الواقع أن الحق حينما يتحول، من التاجر إلى ذمة مصدر البطاقة، مصدر البطاقة لا يعطيه كامل المبلغ، قيمة البضاعة التي أخذها حامل البطاقة مائة ألف، يقول: أنا لا أعطيك إلا سبعة وتسعين ألفًا، ثلاثة آلاف أين ذهبت؟ هي في الواقع إذا أردنا أن نكيفها كيفناها؛ لأن الدين الآن استقر في ذمة مصدر البطاقة، فكيف إذن نكيف هذا المبلغ الذي أخذه مصدر البطاقة الذي هو ثلاثة آلاف ويريد أن يتقاسمه بينه وبين المنظمة العالمية، هذا في الواقع لا نستطيع أن نجد له أكثر من تكييف أو أكثر من تخريج وهو أنه مصارفة، فقد تمَّت المصارفة بين التاجر وبين مصدر البطاقة على أن تكون المصارفة المائة بسبعة وتسعين، ولا يخفى أن هذه المصارفة باطلة؛ لأن المصارفة من شأنها ومن شروطها أن تكون مِثْلًا بِمِثْل في حال اتحاد الجنس، وقد اتحد الجنس ولم يكن الأمر بالنسبة لذلك مِثْلًا بمثل، فإذن كيف نقول بأن هذه مباحة؟ هل المبلغ الذي أخذه في أثناء هذه العملية مصارفة أو عملية باطل بإجماع أهل العلم؟
لا شك ولا أعرف أن أحدًا من أهل العلم أجاز المصارفة إذا كانت من جنس واحد بتفاضل، وإنما الأمر في ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب. . .)) إلخ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مثلًا بمثل، يدًا بيد، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطي فيه سواء)) ، هذه في الواقع تعتبر من الأمور التي يجب علينا أن تكون في اعتبارنا، وأن نستبعد ما يقال بأن لدينا وكالة، لدينا ضمان، ليس لدينا في العلاقة بين العميل وبين التاجر، وبين التاجر ومصدر البطاقة: ليس لدينا غير حوالة، وحوالة أبرأت ذمة العميل. هذه واحدة، أرى - حفظكم الله - عندي بديل، نحن في الواقع نتحدث ونفخر بأننا - والحمد لله - مسلمون، وأن إسلامنا لا يَسُدُّ بابًا إلا ويفتح بابًا أطيب منه وأوسع، ونحن لا نقول بناء على وجود هذا الشيء فنقول بأن البطاقات باطلة، ولا يجوز التعامل بها، ونقول هذه النقطة نستطيع أن نعالجها معالجة من شأنها أن يبتعد فيها عنصر البطلان وأن تتفق مع المعطيات الشرعية.(10/1193)
ما هي هذه المعالجة؟ هذه المعالجة في الواقع أرى أنه لو حصل اتفاق كما هو الحاصل بين مصدري البطاقة والتجار أنفسهم، لو عُدِّل الاتفاق بأن يقول مصدر البطاقة: حقك عندي كاملًا، لكني أنا أشترط عليك ألا أسدده إلا بعد زمن خمسة أشهر، ستة أشهر، سبعة أشهر، مدة معينة، يعني يكون دينًا مؤجلًا عليه، ثم بعد ذلك بعد أن يستقر الدين في ذمته وهو مؤجل، يخيره بعد ذلك، يقول: هل تريد أن أعجل لك دينك؟ فضع وتعجل. هل تريد أن تستمر حتى تنتهي المدة؟ فأنا مستعد أن أعطيك كامل حقك من غير نقص.
في الواقع إن التاجر أو مصدر البطاقة لا يتضرر من هذا الإجراء؛ لأنه إن رضي التاجر بأن ينتظر فهذا يعني أن مصدر البطاقة سينتفع أو في الواقع سيستغل هذا الدين هذه المدة، وسيكون له من استغلاله هذا الدين قدر المبلغ الذي يأخذه مصارفة وهو مبلغ باطل.
إن رغب أن يعجل فيقول له: ضع وتعجل، يقول: ضع مما تريد وأعطيك مبلغك، ويصير منتفعًا بذلك.
هذا في الواقع ما يتعلق بهذا الشيء، وهناك حفظكم الله نقطة وهي ما يتعلق بالرسوم المتعلقة بإصدار البطاقة، ورسوم العضوية، ورسوم إصدار بطاقة تلف، هذه الرسوم المتعلقة بالخدمات الدفترية أو الخدمات الاختصاصية لهذه البطاقة، هي في الواقع محل نظر ويمكن التيسير في أمرها. هناك حفظكم الله أمر يتعلق بالبطاقات التي يترتب عليها فوائد ربوية، وهذه لا شك بإجماع الحاضرين، إن شاء الله، لا تجوز، وينبغي أن توضع القيود المترتبة على منع مثل ذلك.
هناك حفظكم الله أمر وهو أن من البطاقات الائتمانية ما يسمى ببطاقات التخفيض، أو بطاقات السحب، بطاقات التخفيض لا أجد فيها شيئًا يدعونا إلى التوقف في قبولها، لماذا؟ لأنها في الواقع بطاقات اختصاص، أنا أعطيك بطاقة وأقول هذه البطاقة تجعل لك الحق في الدخول على هذا السوق وأن تشتري منه حينما تعرض هذه البطاقة بأسعار منخفضة وتدفع الثمن نقدًا، ما فيها شيء إلا أنها تيسر لديك أمر تخفيض السلع، هذه ما يظهر فيها شيء، كذلك بطاقات السحب على الصراف، كذلك حينما تسحب من نقودك ويؤخذ أجرة لهذا الجهاز، كذلك هذا يمكن إن شاءالله ما يكون به بأس.
هذا في الواقع أهم ما لدي، حفظكم الله.
الرئيس: بطاقات التخفيض يا شيخ عبد الله غير داخلة في البحث.(10/1194)
الشيخ محي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وعلى من والاه.
نقدم شكرنا مرة أخرى للإدارة ثم للباحث الكريم على بحثه القيم الذي استفدت منه كثيرًا، وكذلك للإخوة الكرام الذين سبقوه بالبحوث، وهناك ملاحظات بسيطة، منها شكلية ومنها من ناحية الأسهم، الإخوة الكرام سبقوني، ولكن من الناحية اللغوية Credit في القاموس حتى في قانون اللغة ذكر أن ضمن معانيه الائتمان، الأستاذ الدكتور نفسه ذكر أن ضمن معاني Credit الائتمان، فلذلك هذا التركيز الشديد والعناية الشديدة بقضية أن هذا المصطلح غلط: الائتمان، أعتقد أنه جازاه الله على حرصه، لكن لم يكن هناك دواعي كثيرة لهذا الإجهاد الذي بذله في سبيل تحقيق ذلك، إضافة إلى أن فضيلته قال: إن هذا العنوان هو بطاقات المعاملات المالية مرجوح لديه في بحثه وقال: " الأحسن والأفضل هو بطاقات الإقراض وبطاقات السحب المباشر من الرصيد "، ومع ذلك لم يختر ما هو رجحه واختار المرجوح، فما أدري إذا كان هو يرجح المرجوح لماذا لم يرجح المرجوح الشائع، والناس يقولون: الغلط الشائع أفضل من الصحيح غير الشائع، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وذكر أن الحنفية والحنابلة إذ يرون بالنص صحة العقد مع اشتراط الفائدة - الربا - ومشى على هذه المسألة وأسند هذه القضية إلى الحنفية، وثنَّى عليه الدكتور أبو غدة، هنا، وكذلك ذكر في بحثه الذي قدمه في السابق، وأصل ذلك واعتمد على حديث بريرة، وهذه المسألة في اعتقادي تختلف عن مسألة العتق في عدة جوانب ليس الآن مجال البحث فيها، والذي أريد أن أوكده أن إسناد هذا الرأي للحنابلة والحنفية ليس دقيقًا إن لم يكن - لا أقول: - صحيحًا؛ لأنه غير الصحيح ولكن أقول غير دقيق، وذلك بالرجوع إلى مصادرهم من ناحية، وما ذكره فضيلته عن الحنابلة ليس نصًّا في الموضوع، والحنابلة يرون بطلان الشرط والعقد في هذه المسألة كما نصَّ عليه في أكثر كتبهم، والنص الذي ذكره عن الحنابلة لا ينص على ما ذكره، بل نجد نصوصًا صريحة في (منتهى الإرادات) ينص على أن اشتراط الفائدة يجعل العقد باطلًا، كذلك عموم قواعدهم ينص على ذلك، وهم أشد الناس في هذا المجال في مسألة النهي، هل النهي يقتضي الفساد؟ هم أوسع الناس في أن النهي يقتضي الفساد، حتى ولو كان لوصف غير لازم.(10/1195)
أما بالنسبة للحنفية أيضًا فهم لا يقولون بأن العقد صحيح، وإنما يقولون بأن العقد فاسد، والعقد الفاسد محرم عندهم، ولكنه يترتب عليه عند القبض بعض الآثار الفقهية، نعم، يشترط في كل العقود شرطًا، فيها شرط إذا لم تدفع تقبل بهذا الشرط، إذا لم تدفع المال حتى مع وجود الغطاء أو إذا كان الغطاء ينتهي أو إذا أنت سحبت فلوسك؛ المهم الإنسان بهذا الشرط ينص عليه بأنه فيه فائدة ربوية بنسبة كذا مع وجود الغطاء أو عدم وجود الغطاء، فالقبول بهذا الشرط الفاسد محرم في اعتقادي.
إضافة إلى أن التعاون في البلاد التي يوجد فيها البنوك الإسلامية مع البنوك الربوية، وإجازة التعامل في هذا المجال، أيضًا يفتح المجال في التعاون على الإثم والعدوان، أما في حالات الضرورة في الدول غير الإسلامية والتي يحتاج الإنسان فيها إلى هذه البطاقة ربما يكون الأمر يختلف بعض الشيء.
كذلك أودُّ أن أقول: إن مسألة الوعد التي أطال فيها النفس أخونا الحبيب والأستاذ الفاضل، ليس لها بهذه المسألة علاقة بموضوع البطاقات، وبالنسبة من الناحية التطبيقية في البنك الدولي الإسلامي نحن حقيقة الهيئة أجازت بطاقة الائتمان، ولكن ليس فيها السحب، فلذلك إسناد القول إلى الحنفية والحنابلة بأن العقد صحيح مع بطلان الشرط يحتاج إلى إعادة النظر.
العلاقات التي ذكرها فضيلته كلها تحتاج - لا أدخل في تفاصيل - إلى إعادة نظر، وقد أشار إلى ذلك فضيلة الأستاذ د. القري، وكذلك الدكتور أبو غدة.
هذا بخصوص ملاحظاتي البسيطة على البحث، أما موضوع البطاقات الحالية التي يجب كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ الرئيس أن يكون الجهد منصبًّا عليها، فإن البطاقات الحالية التي تصدرها البنوك الربوية بوضعها الحالي، أنا في اعتقادي بجميع صورها التي نبحثها البطاقات الائتمانية حرام، سواء كان لها غطاء أو ليس لها غطاء، أما الذي ليس لها غطاء فهو قرض بفائدة؛ لأنه من النصوص التي فيها أنه إذا لم يكن هناك أداء مباشر أو غطاء مباشر فسوف تؤخذ الفائدة مباشرة، فحينئذ تؤخذ الفائدة مباشرة فتكون فائدة وربًا، ولا يجوز الربا بإجماع المجامع الثلاثة، كذلك إذا كان لها غطاء لا يجوز، لوجود هذا الشرط الذي يجعل العقد فاسدًا، ونحن لسنا مع الذين يقولون بصحة العقد تمامًا، وأن الشرط باطل وأن المسألة مثل عتق بريرة رضي الله عنها.(10/1196)
النقدي، لما أن في السحب النقدي بعض الإشكاليات التي قد تصل إلى كأنها فوائد على هذا السحب , في اعتقادي، في كل الاعتبارات، وقد أشار إلى ذلك فضيلة الأستاذ أبو سليمان إلى أن القرض هنا إن اعتبرناه قرضًا فهو ليس قرضًا عاديًّا، وإنما هو ما يسمى بالقرض الاستجراري أو استدانة الاستجرار التي ذكرها الحنفية وذكرها كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
وهناك فضيلة الشيخ ابن منيع - الله يحفظه ويبارك فيه - استفدنا من ملاحظاته، هناك علاقة رابعة لم يذكرها وهي العلاقة بين التاجر وحامل البطاقة، حيث يتعاقد أيضًا مع هذا التعاقد لا بد من بيان التاجر وحامل البطاقة إضافة إلى العلاقات الثلاث.
مسألة أنه جمع بين الحوالة والوكالة لا مانع منها أبدًا؛ لأن حتى الحوالة والوكالة والكفالة لأنها باعتبارات مختلفة، وقضية النهي عن الصفقتين، لي بحث في هذا الموضوع وصلت فيه إلى أن النهي في هذه المسألة مخصص فيما إذا جمع بين القرض السلف وبين التبرعات أو نحو ذلك، فالجمع بين الحوالة والوكالة والضمان ليس فيها إشكالية في اعتقادي.
أما العلاقة بين التاجر والمصدر، فيمكن اعتبار هذه العلاقة مصارفة؛ تحتاج في الحقيقة إلى تحقيق، وما صرح به شيخنا الفاضل الشيخ المنيع حقيقة وحتى البديل الذي أتى به يؤدي إلى أن يتضرر التاجر أكثر من السابق؛ لأنه يتضرر بالتأخير ثم في نفس الوقت يدفع نفس النسبة للشخص، ولماذا لا يكون العقد أو الدين يستقر بمجرد دفعه وبمجرد ضمان البنك له؟ فوجود الزمن لمدة ستة أشهر أو أكثر من ذلك يعني هل يحتاج إلى هذا الوقت إلى أن يستقر، والاستقرار بالنسبة للقرض يتم بالنسبة للمذاهب الثلاثة بالقبض وبالنسبة للإمام مالك بمجرد العقد، فالمسألة أنه تأخير شهرين أو ثلاثة أشهر ويتضرر به التاجر ثم بعد ذلك المصدر يأخذ نفس النسبة، أعتقد يحتاج في اعتقادي إلى إعادة النظر. وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/1197)
الدكتور شوقي دنيا:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله.
أود أن أطرح أمام حضراتكم بعض النقاط، ولن أطيل، وآمل ألا أكرر ما سبق أن قيل.
النقطة الأولى، سبق أن طرح موضوع بطاقات الائتمان في الدورة السابعة للمجمع، قدمت فيه بعض الأوراق الجيدة من فقهاء واقتصاديين، ودارت حوله مناقشات موسعة، ونظرًا لما بدر من خلاف واسع حول التكييف الفقهي لبطاقة الائتمان وما تنطوي عليه من علاقات واتفاقيات، وما نجم عنه من خلاف أوسع حول الحكم الشرعي لما يحدث عنها من تصرفات مالية، نظرًا لذلك كله رأى المجلس الموقر أن يُرْجِئَ البَتَّ في هذا الموضوع، طالبًا المزيد من الدراسة حوله.
هنا يجيء البحث القيم للأخ الكريم د. عبد الوهاب، وقد اهتم فيه من وجهة نظره اهتمامًا بالغًا بجانبين مهمين أغفلتهما الدراسات السابقة. الجانب الأول: تحرير القول في موضوع التسمية، هو يرى أن التسمية الشائعة عليها ملاحظات، وأنا أؤيد في هذا تأييدًا كبيرًا، والملاحظات التي أبداها عليها ليست فقط ملاحظات لغوية، وإنما هي بالدرجة الأولى ملاحظات شرعية أو فقهية، أنا لست فقيهًا، ولكنني أقرأ جيدًا الفقه والحمد لله، نحن نعلم أن هناك عقود أمانة في الفقه الإسلامي، وليس من بين هذه العقود عقود الأمانة أو الاستئمان أو الائتمان، كلها مادة واحدة، أم إن هذه العقود لا يدخل تحتها عقد القرض، فإذن إذا ما سلَّمنا بأن بطاقة الائتمان تنصرف بشكل أو بأخر إلى أن تكون عقد قرض فلا يصح شرعًا أن يطلق عليها عقد ائتمان، لأن مسؤولية المؤتمن أو المؤتمن في الفقه الإسلامي غير مسؤولية المقترض.
القضية الأخرى فيما يتعلق بالتسمية، نحن المهتمين بالاقتصاد الإسلامي نعاني أشد المعاناة من الأسماء التي فرضت علينا فرضًا، واعتبرت مصطلحات اقتصادية عالمية وشائعة، رغم أن فيها ما فيها من بعض المخالفات الشرعية أو الفقهية، فإذا طلبنا بأن تُعَدَّلَ هذه المصطلحات، وتؤصل إسلاميًّا وتستبدل بمصطلحات إسلامية تنسجم مع تراثنا ومع عقيدتنا ومع شريعتنا يقال: إنّ هذا اصطلاح شائع، وإن هذا اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، وهذا كذا، وهذا شيء أنا أقره وأعترف به هو اصطلاح شائع، لكن إلى متى سنظل أسرى لهذه المصطلحات الشائعة إذا كان فيها بعض المخالفات الشرعية.(10/1198)
بالتأكيد كلمة Credit أوسع من كلمة القرض، والبحث ذكر هذا وإن كان لم يركز عليه كثيرًا، وأنا أتفق مع بعض الإخوة بأن هذه الكلمة الإنجليزية أوسع من كلمة دين، والدين نحن نعلم جميعًا أنه أوسع من كلمة قرض، لكن هل استخدام هذا المصطلح والإبقاء عليه ألا يحقق مفاسد؟ الفرد الذي يتعامل ببطاقة اسمها بطاقة ائتمان، هو أبعد ما يكون ذهنيًّا عن محاذير شرعية، أما إذا تعامل ببطاقة اسمها بطاقة إقراض أو بطاقة مداينة، أو بطاقة دين، في تلك الحالة سوف يتوقف بعض الشيء ليدرس هل هذا الدين دَين شرعي أو دين غير شرعي، وبالتالي ممكن أن نحد من هذه القضية. ولذلك أنا بقدر ما، أنا أرى أن لا بد من النظر في التسميات والمصطلحات القائمة وإن كان فيها ما فيها شيوع ومن هيمنة ومن سيادة، وإن كان سيترتب عليها بعض القلاقل المفاهيمية مؤقتًا إلى أن تستقر المفاهيم السليمة.
القضية الثانية التي التفتَ إليها بذكائه وببراعته أخونا د. عبد الوهاب، وأغفلتها البحوث السابقة، هي التحليل القانوني الجيد من مصادره الأصلية وبلغته الأم، ويقصد بالأم اللغة التي استخدمت فيها هذه الأدوات، وهذه القضية وهذه الصياغة وليس أي شيء آخر.
قدم تحليلًا قانونيًّا رائعًا ابتعدت عنه الدراسات السابقة، وأرى أنه يعني في المناقشات التي أثيرت حاليًا، يبدو أنها لم تطلع على الورقة بشكل جيد؛ لأن ما زال الخلاف قائمًا بين الفقهاء هل هي حوالة؟ هل هي كذا؟ هل هي كذا؟
يقول لنا البحث طبقًا لمصادره ولبلاده وللقائمين على تنفيذه هم كَيَّفوه بأنه كذا وكذا وكذا، ثم نعرض عن هذا كله ونقول: ربما كان كذا وربما كان كذا، إذن ما قيمة هذا البحث والدراسة الجيدة التي استغرقت الوقت الطويل؟
الأخ الدكتور عبد الوهاب ذهب بحق إلى أن التكييف الفقهي الدقيق في مثل هذه الجوانب يتوقف على جناحين، الجناح القانوني الوضعي والجناح الاقتصادي، وهو من الجناح القانوني توفية جيدة طيبة يشكر عليها، لكن الجانب الاقتصادي رغم أهميته القصوى في مثل هذه المسائل لم أر له وجودًا إلا نادرًا، منفعة التاجر، يعني كلام طبعًا أن أفهم ما وراء ذلك، هو بحكم الاختصاص أو بحكم التخصص هو فقيه ورجل قانوني ولا يدعي أنه رجل اقتصادي، لكن من حسن الحظ أن هناك بحثًا سابقًا قدم من أخ اقتصادي فاضل وهو (د. القري) أشار إلى بعض الجوانب الاقتصادية.(10/1199)
أنا أهيب بالمجلس في مثل هذه القضايا العصرية الكبرى الاقتصادية
أن يولي الجانب الاقتصادي ما يستحقه من عناية فيها، ولا أقصد الجانب الاقتصادي فقط مجرد تصوير المسألة تصويرًا اقتصاديًّا، يعني هي كذا وكذا لا، أنا أرى أن يمتد البحث فيها إلى بيان مآلاتها، آثارها الاقتصادية.
الأخ الكريم السيد الرئيس أشار إشارة جيدة، وهي بفرض أن هناك منافع جزئية في بطاقة الائتمان للحامل وللمصدر وللتاجر، لنفترض هذا ولنفترض أنها ليس فيها مديونية بفائدة، لكن ماذا عن آثارها الاقتصادية على المستوى الكلي على المستوى القومي، ماذا عن آثارها على المديونية؟ وقد طرحت، هي تتجاوز هذا، ليس فقط المديونية ومشكلاتها الفردية والدولية والقومية التي نعيشها جميعًا، هي أكثر من هذا، ماذا عن آثارها على مشكلة التضخم؟ مشكلة التضخم، شراء بكثرة، مديونية، مديونية وشراء بكثرة، سوف تولد لي مشكلة تضخم، سوف تولد لي أو تؤثر تأثيرًا سلبيًّا كبيرًا في مشكلة الاحتكار، وتزيد من الاحتكار سيطرة بعض المراكز التجارية وسيطرة بعض البنوك، ماذا عن سيطرة بعض المصارف على التمويل بكل صنوفه حتى التمويل التجاري وليس التمويل المالي، ماذا عن تزايد الاستهلاك وتناقص المدخرات، يعني أن يولي المجمع الموقر وقد انصرف إلى دراسة هذه القضايا الكبرى، آمل أن يولي دراسة الجانب الاقتصادي الكلي أو القويّ في مثل هذه القضايا اهتماماته؛ لأن ما قد يجوز بالجزء قد لا يجوز بالكلي كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله.
هناك نقطة ثالثة مسألة الضمان والأجر عليه، بغض النظر عما في البطاقة، وهل فيها ضمان والأجر عليها أو عدم الأجر عليها في البطاقة، هذه مسألة لا تقف عند حدود بطاقة الائتمان، في الحياة الاقتصادية الكفالة أو الضمان أصبحت شائعة، وأصبحت أساسية وأصبحت مهمة جدًّا، فهل أخذ الأجر عليها يظل محرمًا في ظل هذا الواقع القائم، بحكم أنها من أعمال البر والرفق، أم أن هناك محظورًا شرعيًّا أقوى من هذا؟ وخاصة أن بعض كتب الفقه الشافعي أشارت إلى ما فيه شبهة ربا، يعني آمل أن تراعى مثل هذه القضية في نظر المجمع الموقر.(10/1200)
مسألة الإذعان في البطاقة، يعني أنا أختلف مع الأخ د. عبد الوهاب في أن البطاقة فيها إذعان، والإذعان مبطل للعقد، أي إذعان هذا؟ البنك طرح شروطًا وطرح اتفاقات، من يرغب يتقدم ومن لا يرغب لا يتقدم، هل التسعير هل بيع المرابحة بصيغته الأصلية الموجودة في الفقه أشياء محددة من طرف دون الطرف الآخر هل تبطل العقود، المرافق تحتاج إلى بحث وإلى نظر فقهي جيد.
نقطة أخيرة أثارها د. عبد الوهاب وهي نقطة فقهية جيدة، لكن صداها العملي في حياتنا الاقتصادية غير واضح، هي قضية الشروط في العقود، وهل تبطل العقد أو لا تبطل العقد، هل شرط فاسد ينصرف أثره إلى العقد فيفسد أو يبطل، أو يبقى العقد صحيحًا ويفسد الشرط؟ كلام فقهي جميل، ولكن ما هو الصدى العملي لهذا الكلام عند رجال الأعمال وعند التجار، ما معنى أن يقال لرجل أعمال: الشرط باطل والعقد صحيح، هل هناك أثر عملي يترتب على هذا؟
آمل ألا أطيل في هذه القضايا، وأعود وأكرر شكري للإدارة وللأخ الدكتور على هذا البحث الجيد الذي عايشته طويلًا. وشكر الله لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ ناجي عجم:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين.
أولًا: بالنسبة إليَّ، هذا أوسع بحث شرعي اطلعت عليه، فصنع
الباحث إلي معروفًا وأنا أشكره على هذا المعروف.
ثانيًا: أشكره أيضًا على تغيير هذا الاسم إلى بطاقة المعاملات المالية، فإن هذا اسم بطاقة الائتمان كما تفضل الدكتور شوقي ليس من عقود الأمانات هذه، عقود الأمانات: المرابحة، التولية، الوضيعة، وهذه العقود غير داخلة في هذه البطاقة أبدًا فهذا الاسم (بطاقة المعاملات المالية) من حيث اللغة ومن حيث المضمون هو ألصق بواقع العمل بهذه البطاقة.(10/1201)
الأمر الآخر بطاقة السحب النقدي أو بطاقة القيد على الحساب، ما أرى في ذلك بأسًا لكن على ألا يكون في بطاقة السحب النقدي قرض، فإذا سحب صاحب البطاقة مبلغًا من غير صندوق البنك المصدر للبطاقة يسجل عليه قرض ثم يترتب على ذلك فوائد، وكذلك في بطاقة القيد على الحساب ينبغي أن لا تشمل هذه البطاقة شرط أنه إذا انكشف حسابه، فإنه ملزم بدفع ما يترتب عليه من غرامات التأخير، فهذا هو الربا بعينه. ينبغي أن يحذف هذا الشرط حتى يصح عقد بطاقة القيد على الحساب مع ما تفضل به بعض الإخوة أن لا تستعمل هذه البطاقة في المحرمات، وإنها إذا استعملت في المحرمات فينبغي أن يعاقب على الأقل بسحب هذه البطاقة.
أما البطاقات التي ليس لها غطاء، أو البطاقات المدينة، هذه الربا فيها واضح، الذي أجمعت الشرائع السماوية كلها على تحريمها، أما تكييفها بأنها حوالة، ليست هي حوالة، هذا قرض، ثم هناك ملاحظة فاتني أن أقولها في بطاقة السحب على الحساب أو بطاقة السحب النقدي، أسمع بطاقة ذهبية وبطاقة فضية وبطاقة ماسية ولكل بطاقة رسم إصدار، ثم يكون لكل بطاقة ميزات، مثلًا في البطاقة الذهبية أنها إذا استعملها في شراء بطاقة للطائرة أو أنه إذا أكثر الشراء بها، فسوف يكون له تأمين تجاري إذا فاته مثلًا الحجز في الطائرة أو تأخرت الطائرة فيعطون حق التأمين التجاري بغطاء 150.000دولار، والمجمع الكريم أفتى بحرمة التأمين التجاري، فكون يكون هناك رسومًا متفاوتة للبطاقة ويسمونها خدمات أو رسوم خدمات فالخدمة واحدة سواء في إصدار بطاقة ذهبية أو فضية، فما أرى أن يكون هناك تفاوت في رسوم إصدار هذه البطاقة ولا يكون تمايز في هذه البطاقات. أكتفي بهذا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(10/1202)
الشيخ سعود الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وبعد:
فالشكر موصول لأستاذنا الجليل د. عبد الوهاب أبو سليمان، حفظه الله، على تقديم هذا البحث القيم الذي أفدنا منه جميعًا، وبين ووضح فيه كثيرًا من الأمور الغامضة قبله.
وإن كان لي بعض المداخلات، سوف أقتصرها وأضيف أو أثني على بعض ما سبقني به أصحاب الفضيلة وخصوصًا الكلمة التعليقية الوافية الضاهية من شيخنا ابن المنيع، حفظه الله.
والذي تلخَّص لي من العرض ومن المداخلات على هذا العرض، أن بطاقات الائتمان كما يسميها أهلها تنقسم إلى أقسام منها: بطاقة السحب وهي التي تسمح للعميل بالشراء على الحساب، ولكن يتم الدفع بالكامل خلال فترة من شهر إلى شهرين، ولا بد أن يكون حساب العميل فيه رصيد لا يقل عن المبلغ المتاح للشراء بهذه البطاقة.
الموضوع الثاني: بطاقة الائتمان أو المدفوعات، وتؤدي هذه وظيفة بطاقة السحب، كما يمكن بواسطتها أن يقوم البنك بالدفع عن العميل، ولو لم يتوفر في حسابه شيء، حسب المدة التي يرغبها العميل، واحتساب فوائد ربوية عليه نظير عملية الإقراض هذه، أو عدم احتسابها إذا كان البنك إسلاميًّا.
في الواقع أن التكييف الشرعي لبطاقة الائتمان يختلف حسب طبيعتها والشروط المقترنة بها واستخدامها. فإذا تم استخدام البطاقة في الاقتراض من البنك المصدر لها حيث يقوم بالتسديد نيابة عن العميل لعدم وجود رصيد في حسابه وتحتسب عليه فوائد ربوية، فهذه لا شك في حرمتها؛ لأنها قرض بفائدة، وكل قرض جر نفعًا فهو ربا.(10/1203)
وهذا هو الغالب في تعامل البنوك غير الإسلامية مع عملائها. وإن سدد البنك عنه ولم يحتسب عليه فائدة فهذا قرض حسن، وحينئذٍ لا تمنع البطاقة لعدم الربا فيها، وهذا قلما يكون.
ويبقى النظر حينئذ في الجوانب والشروط الأخرى للبطاقة ومدى مشروعيتها، فإذا تضمنت شروط البطاقة بين البنك المصدر لها والعميل شرطًا يلتزم فيه العميل بالتسديد من رصيده، وفي حال خلوه أو نقصه يقوم البنك بإقراضه واحتساب فائدة عليه، ثم لم يحصل ذلك بمعنى أن العميل جعل رصيده أكثر مما يستحق عليه نتيجة الشراء بالبطاقة، فإن هذا الشرط يجعل العملية محرمة، لما فيه من التزام الربا والرضا به والتوقيع عليه، وهذا لا يجوز، وإن ذهب البعض إلى جواز ذلك. إذا اتخذ العميل من الاحتياطات ما يكفل عدم تطبيق الشرط المحرم؛ لأن هذا الشرط في معرض الإلغاء كما يقولون شرعًا، وهو مستنكر له وعامل على استبعاد مفعوله، وسواء في هذا الأمر كان السحب من البنك أو من الأجهزة الآلية، لا فرق في ذلك.
الرسم الذي يأخذه البنك المصدر للبطاقة من العميل، وهو ما يسمى برسم الإصدار، ذهب بعض الباحثين إلى تحريم أخذ البنك لهذا الرسم من العميل على اعتبار أن ذلك غرر وجهالة، لأن العميل يدفع رسمًا ولا يستخدم البطاقة، وقد يستخدمها مرات معدودة، لا تساوي هذا الرسم المدفوع عليها، والظاهر أن حجج هذا الرأي غير مقنعة، لأن الرسم يمكن تكييفه على أنه قيمة لتلك البطاقة وأجر على الخدمات والمنافع التي تقدمها أو يمكن تقديمها لتلك البطاقة للعميل. والغرر والجهالة غير موجودين؛ لأن العميل يمكن أن يستخدمها بعدد مرات الأخذ لها، فإذا لم يستخدمها فهذا حقه لم يستخدمه وليس ملزمًا بممارسته وعدم استيفائه. وهذا الأمر لا يجعل عند البطاقة غررًا أو جهالة.
الرسوم المأخوذة من أصحاب المحال التجارية مقابل الجهاز الخاص الذي تمرر فيه البطاقة وكذلك مقابل خدمات السمسرة بين العملاء وأصحاب المحلات التجارية الذي تم عن طريق البنوك، حسم نسبة مئوية من قيمة فاتورة السلع والخدمات المشتراة التي تحصل عليها شركة البطاقة حيث لا يحصل أصحاب المحلات التجارية على كامل قيمة الفاتورة. فهل هذه كما يسميها البعض عمولة وأجر على تحصيل الثمن من العميل حامل البطاقة يجوز أخذها على تحصيل الدين؛ لأنها إجارة على تحصيل منفعة مباحة وهي جائزة شرعًا، أم أنها خصم في حالة مصارفة كما أشار إلى هذا الأمر صاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع حفظه الله؟(10/1204)
في الواقع أني أثني على ما ذهب إليه الشيخ عبد الله بن منيع في اعتبار أن جانب الحوالة لم يعط الأهمية الكافية والوافية في هذا البحث، وما ذهب إليه أستاذنا الجليل د. عبد الوهاب أبو سليمان من أنه وكالة أو ضمان، فهذا بعيد كل البعد عن واقع بطاقة الائتمان، حيث إن الساحب من حسابه أو الآخذ إن أخذ من حسابه فنحن كيفنا الحسابات الجارية فيما تقدم في هذا المجمع الموقر على أنها قرض، والقرض دين، والسحب من الحساب سواء كان عن طريق الآلة أو عن طريق الأوراق أو غيرها فهو استيفاء من الدين، والدين إذا لم يكن له أجل فهو حال، فيجوز لصاحبه أن يستوفي منه في أي وقت من الأوقات.
وأما إذا كان حامل البطاقة قد اشترى من التاجر فقد أصبح مدينًا، هذا المدين له دين على مصدر البطاقة وحينئذ يصبح الأمر بين المدين الذي هو حامل البطاقة وبين التاجر أمر حوالة؛ لأن ذمة حامل البطاقة مشغولة بدين، وذمة مصدر البطاقة مشغولة بدين، ونقل الدين من ذمة إلى ذمة أخرى هو الحوالة بعينها، ولا اعتبار بتكييف من كيف هذا الأمر بأنه وكالة أو كما برره الشيخ (د. شوقي) بأن هذا تكييف من إصدار البطاقة فلا اعتبار بتكييفاتهم إن كانت.
فإذا كان للعميل دين، أو حسابه مغطى في البنك فهذه حوالة وليس إلا، وإن لم يكن له دين أو لم يكن حسابه مغطى فهذه العملية يتنازعها أمران: الأمر الأول أنها حوالة على مذهب الحنفية، والحنفية قد ذهبوا إلى جواز الحوالة على من لا دين له للمحيل، وهذا يتماشى مع مذهب الحنفية، والذي أراه أن هذا من باب الضمان، وإن كان واقع بطاقة الائتمان العملي الآن لا ينطبق على هذا، فنرجو أن يدخل على بطاقة الائتمان التي يرغب التعامل بها في الدول الإسلامية شرط أن تبقى ذمة المدين مشغولة، وذمة العميل مشغولة، حيث كما عرفنا أن العميل تبرأ ذمته والدائن لا يطالبه بحال من الأحوال، علمًا بأن الذمة إذا شُغلت بدين لا تبرأ منه إلا بأدائه، فهذا أمر ينبغي التركيز عليه في حالة ما إذا كان حساب العميل مكشوفًا.(10/1205)
مسألة أشار إليها شيخنا الفاضل ابن منيع حفظه الله، بأن المبلغ الذي يقتطعه مصدر البطاقة من البائع أو من أصحاب الخدمات أننا نعتبره من مسألة (ضع وتعجل) ، والواقع أن مسألة (ضع وتعجل) لا تكون إلا في دين، والعلاقة بين العميل وبين المصدر للبطاقة وبين البائع ليست بدين، وإنما هي آجل فلا تنطبق في الواقع مسألة (ضع وتعجل) في هذا المجال، وإن أرادت البنوك أو الجهات المصدرة الاحتيال على هذا، فتجعلها مؤجلة إلى وقت ثم تخصم منها، وهذا من صور الاحتيال المرفوضة.
وأشكركم على إتاحة الفرصة والاستماع، وشكرًا.
الرئيس:
شكرًا.
بهذا ترفع الجلسة، إن شاء الله تعالى، ونعود في الساعة الرابعة والنصف.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نستأنف هذه الجلسة المسائية بعون الله وتوفيقه لاستكمال المناقشات حول موضوع بطاقات المعاملات المالية.
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله خير البشر، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين. أحب أولًا أن أقدم الشكر والتقدير لهذا البحث القيم، وإن ما وجه إليه لا يقلل من قيمته، فهو من أفضل الأبحاث التي قدمت إن لم يكن أفضلها.
بعد هذا نأتي إلى الموضوع، ولا أريد أن أعقب على البحث بشيء؛ لأن المهم هنا أن نخرج بقرارات، لا أن نتحدث عن تعليق أو نقد لبحث، في تصوري أن المطلوب من المجمع الموقر هو ما يأتي:
أولًا: بيان تحريم البطاقات العالمية التي تصدرها البنوك الربوية، وبيان جوانب التحريم.(10/1206)
جوانب التحريم موجودة في الشرط الربوي، سواء أكانت البطاقة لها غطاء أم ليس لها غطاء، ثم في وقوع الربا فعلًا، وبالنسبة للشرط الربوي المناقشة التي دارت بأن العقد باطل والشرط باطل، أم العقد صحيح والشرط باطل - حديث بريرة - لا شك أن قرارات المجمع تنظر إلى الواقع العملي - حديث بريرة - الشرط ألغي، حتى لو فرضنا أن هذا الشرط مثل شرط حديث بريرة هو ليس مثل شرط حديث بريرة، إنما لو فرضنا هذا الشرط ألغي، لكن هنا حامل البطاقة أيملك إلغاء الشرط أو إبطال العقد؟ إنه بمجرد أن يوقع يصبح ملتزمًا قانونًا بكل الشروط التي وقع عليها، سواء أكانت هذه الشروط باطلة أم غير باطلة، لذلك الحكم الشرعي هنا يأتي بالنسبة للواقع العملي، هذا شرط لا بد منه، هذا عقد أصبح ملزمًا إذن فما الحكم الشرعي؟
إنما إذا جئنا إلى الجانب الفقهي النظري بأن هذا العقد صحيح أم باطل والشرط صحيح أم باطل، هذا أعتقد لا أثر له في الواقع العملي، فلا بد أن ننظر إلى مخالف، لأنه شرط ربوي، إذن غير جائز شرعًا، هذا العقد المشتمل على هذا الشرط غير جائز شرعًا، وكون المسلم يقدم على هذا يعلم أنه يقدم على شيء غير جائز.
عندما يقال هنا الضرورة، لا يفتى بالضرورة؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها، قلت بأن هذا جائز لأن هناك ضرورة، فكل مسلم هو الذي يقدر ضرورة نفسه ويقدرها بقدرها، لذلك إذا بين المجمع الموقر بأن هذا غير جائز، فالمسلم عندئذ لا يقدم إلا إذا كان عنده ضرورة، وما لم يكن هناك ضرورة فلا يقدم على هذا.
لازلت أذكر منذ سنوات عندما سئلت في إحدى الدول الأوروبية عن حكم البطاقة وبينت هذا الجانب، وجدت كثيرًا من الحاضرين ألغوا بطاقتهم إذا لم يوجد ضرورة، وعندما تحدثت في مدينة أخرى قالوا: إخوانكم هناك مزقوا بطاقاتهم، إذن هنا مسألة الضرورة لا تجعلنا نقول هذا جائز لأنه ضرورة، وإنما نقول: هذا غير جائز، والمسلم هو الذي يُقدِّر أعنده ضرورة أم ليس عنده ضرورة.
أمر آخر أرى أيضًا أنه مطلوب من مجمعنا الموقر، وهو ما أشار إليه بعض الإخوة الكرام، بيان المفاسد المترتبة على استخدام هذه البطاقات، مفاسد بالنسبة للجانب الاقتصادي، فعلًا هذه البطاقات لها مفاسد كثيرة إن كانت لها بعض المحاسن عند الضرورات أو ما استخدمته المصارف الإسلامية إنما أتحدث عن هذا النوع بالذات، الذي يغري بالديون الربوية والمفاسد التي ترتبت على هذا، وأذكر هنا على سبيل المثال بأن مجمع الفقه برابطة العالم الإسلامي عندما بين تحريم فوائد البنوك لم يكتف ببيان التحريم، وإنما تحدث عن المساوئ المترتبة على تفشي المصارف الربوية، لذلك أرجو من مجمعنا الموقر أن يتوسع في هذا الجانب، والإخوة الذين كتبوا؛ الأخ الكريم دكتور عبد الوهاب والإخوة الذين كتبوا من قبل والإخوة الاقتصاديون الموجودون معنا، كل هؤلاء، إن شاء الله، يمكن أن يستفاد من علمهم.(10/1207)
النقطة الثالثة التي أرى أن المجمع الموقر مطالب بها هي: بيان البديل الإسلامي لهذه البطاقة، والبديل الإسلامي لم يعد مسألة نظرية، وإنما خرج إلى التطبيق العملي، وفي البحث الذي بين أيدينا عقدان وهناك مصارف إسلامية أخرى كثيرة أخرجت هذا البديل، لذلك على المجمع الموقر مطلوب منه إن شاء الله أن يضع الضوابط الشرعية لهذا البديل الإسلامي. فالمصارف الإسلامية التي أصدرت البطاقات تنظر في هذه الضوابط، ويكون وضع الضوابط هذا إقرارًا لعملها، أو تعديلًا لبعض ما جاء في هذه البطاقات، أو إلغاء لبعض شروط هذه البطاقات، يعني إذن هنا تكون المصارف الإسلامية مطمئنة إلى أن عملها يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، وعلى الأخص أن هناك مصارف إسلامية تلتزم بقرارات المجامع الفقهية، هذا يجعل مسؤولية المجمع هنا، أن هناك المصارف التي تلتزم بهذه القرارات، نعم هناك مصارف إسلامية لا تلتزم، لكن المجمع ما دام فيه مصارف إسلامية (وهي غالب المصارف الإسلامية) ، هذه المصارف تلتزم بقرارات المجمع إذن هي بحاجة إلى هذه القرارات.
يلزم إذن أن ننظر في عمل البطاقات الإسلامية، الإجراءات التي تتم، العلاقة والمبالغ التي تؤخذ لنرى: ألها وجهة شرعية أم فيها مخالفة؟
أول شيء إصدار البطاقة وأخذ أجر مقابل إصدار البطاقة، لعل هذا من الأمور الجائزة، لأنها مقابل عمل يقوم به، ثم بعد ذلك شروط العقد، ما علاقة المصرف المصدر للبطاقة بحاملها المستفيد؟ وما علاقة المصرف المصدر للبطاقة بالتاجر؟ وما علاقة المصرف المصدر للبطاقة بالشركة العالمية؟ وما علاقة حامل البطاقة بالتاجر؟ ثم بعد بيان هذه العلاقات ما يؤخذ تبعًا لهذه العلاقات أهو جائز أم غير جائز؟ الاتجاه إلى أن حامل البطاقة عندما يشتري يصبح مُحيلًا والتاجر محالًا، والمصرف المُصدِر محالًا عليه، هذا التخريج جائز، لكن ليس حوالة فقط، هنا عقدان لأنه من شروط الحوالة التساوي في القدر والزمن، شروط الحوالة معروفة، فهنا لا يوجد التساوي لأن المصارف المصدرة تأخذ نسبة مئوية من المبالغ التي يأخذها التاجر ثم هي قد تأخذ بعملة أخرى، فإذن لا يوجد التساوي ولا اتحاد العملة، إذن لا بد أن ينظر هنا إلى عقدين معًا أهما جائزان معًا أم لا؟ الحوالة مع أخذ هذا المبلغ، المبلغ هذا يمكن أن يكون أجرًا مقابل وكالة - كما قال بعض الإخوة - أم يمكن أن يكون سمسرة؟ لأن التاجر قبل أن يؤخذ منه هذه النسبة لأن البطاقة تسهل له البيع فأشبه هنا بالسمسار، فأرجو أن تبحث هذه النقطة، هل يمكن التخريج على هذا الأساس؛ أنها حوالة وفي الوقت نفسه سمسرة أو حوالة مع وكالة بأجر؟ أم لا؟(10/1208)
ثم ما قيل هنا بالتخريج على المرابحة، هذه الحقيقة يعني أن المرابحة سيكون لها دور غير البيع، لأن المصرف ليس بائعًا، المصرف يقوم بأداء الثمن الذي أصبح دينًا في ذمة حامل البطاقة المستفيد، وأحيل هذا الدين إلى المصرف المصدر للبطاقة، فأين البيع هنا؟ وأيضًا ليس دائنًا أو مدينًا أصليًّا , إنما هو مدين بعد أن تمت الحوالة فهو محال عليه، لذلك مسألة المرابحة أو (ضع وتعجل) هذا أمر أرى أنه بعيد عن موضوعنا.
المصرف المصدر للبطاقة يأخذ مبلغًا آخر من المستفيد من البطاقة، والمستفيد من البطاقة له رصيد في المصرف الإسلامي، وقد يحدث أن يكون رصيده لا يكفي، فالمصارف الإسلامية بحمد الله تعالى لا تأخذ زيادة، في حالة السحب النقدي يأخذ من حامل البطاقة وليس من التاجر، فتخريج هذا بعض البنوك الإسلامية رأت إلغاء السحب النقدي، قالت هنا: إن الزيادة ستكون زيادة مقابل دين فهي ربا، مصارف إسلامية أخرى رأت أن السحب النقدي قد يكون ضرورة من الضرورات في بعض الحالات، فوجهت العملاء إلى عدم السحب النقدي إلا عند الضرورة.
لكن ثم السحب النقدي ما تأخذه المصارف الإسلامية تبعًا لهذا السحب النقدي، أيجوز أم لا يجوز؟ إذا أخذت نسبة من المبلغ فكما بين بعض الإخوة الزملاء، هذه النسبة إذن ترتبط بالمبلغ فعندئذ لا تكون مقابل عمل.
لكن أذكر هنا أن القائمين على المصرف الإسلامي، عندما عرضوا الموضوع على هيئة الرقابة الشرعية، بينوا الإجراءات التي يقومون بها، عند السحب النقدي يحدث كذا وكذا، إجراءات معينة يقوم بها المصرف، وطالبوا بأجر مقابل هذا العمل، فأجازت لهم هيئة الرقابة الشرعية أن يأخذوا أجرًا مقطوعًا، ثم حدد هذا الأجر، يعني لم يجعل الأجر المقطوع للمصرف يحدده كيفما شاء، وإنما قالوا كذا وكذا، فهو: نريد هنا الأجر أن يكون مبلغ كذا.
فإذن هنا في هذه الحالة المصرف الإسلامي كان يقوم بإجراءات ويتكلف تكاليف، وموظفون يعملون في هذا السحب النقدي وما يترتب على السحب النقدي، إذا أخذ مبلغًا مقطوعًا أيجوز أم لا يجوز؟ إذا كانت هيئة الرقابة الشرعية قد أجازته , الآن نريد أن نعرف رأي المجمع لنرى هل هذا جائز فعلًا أم أنه غير جائز؟(10/1209)
ويسترشد هنا، الحقيقة أن الهيئة التي أجازت استرشدت بقرار المجمع في خطابات الضمان، حيث رأى المجمع أنه لا يجوز أخذ أجر على الكفالة المجردة، ولكن يجوز أخذ أجر على العمل المصاحب لإصدار خطاب الضمان. استرشدت الهيئة بقرار المجمع الموقر، وقالت هنا: إذا ما دام هذا العمل فعلًا، فيمكن أن يؤخذ مبلغ مقطوع مقابل هذا العمل، يتناسب مع العمل ولا ينظر فيه إلى المبلغ.
هنا نقطة أيضًا، نريد أن نعرف رأي المجمع فيها، شراء الذهب والفضة بهذه البطاقة، المعلوم أن الذهب والفضة والنقود الورقية لا يجوز بيع بعضها ببعض إلا مع التقابض الفوري، فهل الشراء بالبطاقة يعتبر تقابضًا فوريًّا، أم أن هنا تأخير، لأنه يشتري في دولة ثم بعد الشراء بفترة يصل المبلغ إلى التاجر، فهل يعتبر هنا من القبض الفوري، أم ليس من القبض الفوري؟ هذا أيضًا نريد قرارًا من المجمع الموقر به، في حالة شراء الذهب والفضة. أيضًا نريد قرارًا من مجمعنا الموقر، بارك الله فيه وفي عمله بالنسبة للصرف، حامل البطاقة اشترى بالدولار، بالجنيه الاسترليني، بالمارك الألماني، بأي عملة من العملات، ثم يأتي إلى المصرف المصدر للبطاقة العملة مختلفة، نريد أن نفرق بين أمرين:
الأمر الأول، لو أن حامل البطاقة أراد أن يدفع بالعملة نفسها فقبل المصرف، أو لم يستطع أن يدفع بالعملة نفسها فطالب بالصرف، هذه حالة.
والحالة الأخرى، إذا رفض المصرف الإسلامي أن يكون الدين هذا بالعملة الأصلية، وإنما لا بد أن يكون بعملة البلد التي فيها هذا المصرف. نريد قرارًا بالنسبة للحالتين.
هنا أمر أخير أكتفي به وهو التأخر في الدفع بالنسبة للبنوك الإسلامية وما نسمع عنه من غرامات التأخير، المجمع الموقر له قرار في هذا سابقًا , بحث باب التقسيط له قرار سابق في هذا، لكن أريد الحقيقة أن نبرز هذا القرار من جديد، لأن أخذ المبلغ ثم إضافته إلى جهة خيرية أقول هنا من البنوك الإسلامية ما تأخذ هذه الغرامات التأخيرية سواء كان المدين مماطلًا أم غير مماطل، وتأخذها هي، بل إن بعض البنوك الإسلامية وضعت على الحاسب الآلي نسبة المرابحة التي تأخذها، هي كم تأخذ في المرابحة 10 %، 20 % أي أحد يتأخر في دفع الأقساط الحاسب الآلي نفسه يحسب هذا التأخير، وما يقابله من فوائد تأخير؛ لأنه أصاب المصرف بضرر، فهذا تعويض عن الضرر، منع المبلغ من أن يستثمر، لو أنه استثمر فكنا نأخذ كذا من المرابحة، أيمكن أن نفرق بين هذا وبين الربا؟
أكتفي بهذا، وشكرًا.(10/1210)
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
الحديث في بطاقات الائتمان كثير، وسأحاول أن أختصر حديثي بقدر الإمكان على نقاط أربع أو خمس بالأكثر:
المسألة الأولى: التسمية.
المسألة الثانية: التكييف.
المسألة الثالثة: حكم إصدار هذه البطاقات.
المسألة الرابعة: البديل للبطاقات المحرمة.
المسألة الخامسة: بعض الملحوظات على البحث.
ما يتعلق بالتسمية كثر الحديث فيها بسبب ما أشاره الدكتور عبد الوهاب جزاه الله خيرًا في بحثه من تخطئة، وأنا أوافقه على هذه التخطئة وعلى أنها ترجمة غير موفقة، الائتمان ترجمة غير موفقة لكلمة Credit، وأوافقه على أن كلمة الائتمان هذه لو لم تكن ترجمة فسوف يصعب فهمها، حتى على الخاصة، وقد عانيت أنا شخصيًّا الكثير في فهم المراد منها في بطاقات الائتمان وفي مجالات أخرى في أعمال البنوك عندنا في السودان.
وقد سررت كثيرا عندما قرأت ما كتبه الدكتور عبد الوهاب عن هذه الكلمة، ولكني توقفت عند ترجمته لها بالقرض وتسميته لبطاقات Credit Card ببطاقات الإقراض بفوائد، لا سيما وأن الدكتور عبد الوهاب جعل اللغة الإنجليزية والقانون الإنجليزي هو الأساس.
كلمة Crediter أو Credit تقابلها Debit، هاتان كلمتان معروفتان في لغة البنوك ولغة المحاسبة، والترجمة المعروفة هي دائن ومدين، وليست مقرض ومقترض.
أما كلمة قرض فلها معنى آخر في اللغة الإنجليزية، وقد استعملها الدكتور عبد الوهاب كثيرًا في بحثه وهي كلمة Boro وBoroar المقترض، ولا يقابله Crediter، على أني أوافق الدكتور عبد الوهاب على أنه لا بد لنا من البحث عن تسمية عربية تؤدي المعنى المراد من غير عناء ومشقة، ولعله يرشدنا إلى هذه الكلمة.
الموضوع الثاني التكييف: الذي يظهر لي أن تكييف بطاقة الائتمان بالنسبة للعلاقة بين الأطراف الثلاثة: البنك المصدر، وحامل البطاقة، والتاجر، وهذه هي الأطراف الرئيسية في بطاقة الائتمان، والتكييف يجب أن يعم هذه الأطراف الثلاثة، فلا نكيف كل طرفين وحدهما، هذا لا يؤدي إلى الغرض.(10/1211)
والبنك المصدر، أنا توصلت إلى أنها حوالة بهذا التكييف، البنك المصدر يقول لحامل البطاقة: خذ هذه البطاقة واشتر بها ولا تدفع الثمن وأَحِلْ من اشتريت منه عَلَيّ وأنا أدفع له، ويقول للتاجر: بايع حامل هذه البطاقة وأنا سأدفع لك الثمن، وحامل البطاقة يقول للتاجر عندما يذهب إليه ويشتري منه ويصبح الثمن دينًا في ذمته: أحلتك على البنك مصدر هذه البطاقة بالثمن.
هذا هو التكييف الذي توصلت إليه، فإذا حصل الشراء فقد تمت الحوالة مستوفية لأركانها وشروطها، أركانها: محيل ومحال ومحال عليه، ولا يصح أن تكون كفالة، كما ذهب إليه بعض الإخوة؛ لأن الكفالة هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة (ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة) ، يستطيع فيها الدائن الذي هو المكفول له أن يطالب المكفول وأن يطالب الكفيل، والدائن في هذه المعاملة لا يستطيع أن يطالب حامل البطاقة، وإن انتفى شرط الكفالة، وإنما يطالب البنك فقط.
كذلك لا يصح أن تكون وكالة، لأن حامل البطاقة لا يملك الدفع للتاجر، الذي يدفع هو البنك المصدر، والوكالة لا تكون إلا في أمر مملوك للموكل، فلم يبق أمامنا سوى الحوالة، على أنني أعترف بأنه قد تثار بعض المشاكل بالنسبة لبعض الشروط الموضوعة في بعض عقود البطاقة نحو الحوالة هذه.
المحال عليه يصح أن يكون مدينا كما يصح أن يكون غير مدين، غير مدين هذا هو مذهب الحنفية، رأي الجمهور أن المحال عليه لا بد أن يكون مدينًا، وعندنا في بطاقات الائتمان تارة يكون المحال عليه مدينًا، إذا كان هذا في نوع البطاقة الأولى التي يكون حامل البطاقة عنده رصيد، عنده حساب جار، والحساب الجاري كما هو معروف تكييفه قرض، فهو دائن للبنك ويحيل التاجرعليه، هذه لا خلاف فيها.
الخلاف في المسألة الثانية إذا كان حامل البطاقة ليس عنده رصيد، البنك ليس مدينًا هذه جائزة عند الحنيفة، فلا بأس من الأخذ بها.
يؤيد هذا التكييف ما جاء في بحث الدكتور عبد الوهاب، يقول الدكتور عبد الوهاب: " يقوم نظام البطاقات على أساس التزام البنك مصدر البطاقة بتسديد مشتريات حامل البطاقة مباشرة للمؤسسات والمحلات التجارية، وهذا هو شأن المحال عليه "، وعبارة أخرى أيضًا وردت في البحث: " يلتزم البنك التاجر دفع قيمة ما توجب عن حامل البطاقة من دون رجوع إليه "، ويقول أيضًا: " البنك المصدر للبطاقة هو المسؤول الوحيد أمام التاجر عن قيمة مبيعاته لحامل البطاقة ".(10/1212)
ولهذا فإني لا أوافق الدكتور عبد الوهاب على ما انتهى إليه من أن التكييف هو كفالة أو كفالة ووكالة معًا.
حكم البطاقات: البطاقات التي عرضت علينا ثلاث وحكمها يختلف قطعًا، فيجب أن نأخذ كل واحدة على حدة.
البطاقة الأولى هي بطاقة السحب المباشر من الرصيد، بتسمية أخرى: بطاقة الخصم الفوري، وهي ترجمة لكلمة واحدة باللغة الإنجليزية Debit Card إصدار هذه البطاقة جائز، ولا أظن أن في هذا نزاع في الجملة، لكن هناك مسائل ينبغي التنبيه إليها، لا يصح أن نقول هذه البطاقة جائزة ونسكت، لأن هناك ممارسات كثيرة تتعلق بهذه البطاقة، وأخونا الدكتور السالوس قد أشار إلى كثير منها يجب علينا بحثها بدقة.
فمن هذه الحالات استعمالات البطاقة عندما تكون صرفًا، وقد تكلم الدكتور السالوس عن هذه، هذه البطاقة قد تستعمل في شراء سلع، وقد تستعمل في سحب نقدي، وقد يكون الشراء أو السحب لعملة غير العملة التي في البنك المصدر للبطاقة، وهي عملة حامل البطاقة، البنك سيدفع بالعملة التي عنده ما يقابل المبلغ المستحق عليه الذي دفعه البنك المصدر للتاجر، وهنا تأتي المشكلة، هذا يحتاج إلى قرار.
مَثَل آخر، يقول الدكتور عبد الوهاب: إن البطاقة إذا لم تكن إلكترونية فإن القيمة تخصم من حساب حامل البطاقة بعد فترة من الزمن، وهذا لا إشكال فيه إذا كان السحب بنفس العملة، أما إذا كان بعملة مختلفة فإنه يحتاج إلى بيان الحكم، مع الأسف الدكتور عبد الوهاب لم يتعرض لهذه الجزئية بتاتًا، تأتي أيضًا مسألة العمولة، مصدر البطاقة يأخذ عمولة من التاجر، هنا لا بد أن نتأكد من أن الذي يدفع العمولة حقيقة هو التاجر وليس حامل البطاقة، قد تكون هذه مسألة صورية، فالتاجر يُحَمِّلُ حامل البطاقة هذه العمولة بزيادة السعر، كذلك عمولة البنك التاجر من قيمة الفاتورة التي يدفعها للتاجر، هذا أيضًا يحتاج إلى قرار.
الرسوم، وهي متعددة تحتاج إلى فتوى، وبخاصة أن الدكتور عبد الوهاب يقول: إن رسم بطاقة السحب المباشر من الرصيد أعلى من بطاقة الإقراض بفوائد، وهذا يورث شبهة في أن هذه الزيادة جاءت لأنها ليس فيها فائدة، فتبقى فائدة مستترة، وأنا لا مانع عندي من الرسوم ما لم تتضمن فائدة مستترة، وهناك مسائل أخرى بعضها أشار إليه الدكتور السالوس، وبعضها ورد في ندوة البركة في الأردن، كلها تحتاج إلى قرار من المجمع.
فجواز النوع الأول مقيد ببحث هذه المسائل وبيان الحكم فيها.(10/1213)
النوع الثاني: بطاقة الاعتماد أو الخصم الشهري، هذه ليست تسمية الدكتور عبد الوهاب، يسميها بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الفائدة، وكلا هذين اللفظين ترجمة لكلمة Charge CArd، اللفظ الإنجليزي واحد، اختلفت الترجمة، الدكتور عبد الوهاب يعتبر هذه من بطاقات الإقراض، ولا يريد أن يستعمل كلمة ائتمان أو اعتماد.
يقول الدكتور عبد الوهاب: " تخول هذه البطاقة لحاملها الشراء والسحب النقدي في حدود مبلغ معين ولفترة محدودة دون تقسيط في دفع المبلغ المستحق عليه، فإذا تأخر العميل في تسديده، فرضت عليه فوائد ربوية حسبما تنص عليه الاتفاقية بين المصدر وحامل البطاقة ".
معنى هذا أن الاتفاقيات تنص على فوائد يدفعها حامل البطاقة إذا تأخر، ويقول في بحثه: " يفرض مصدرها عقوبة مالية وفوائد ربوية عند التأخير في السداد ". ومع هذا يقول لنا الدكتور عبد الوهاب في تسميتها: إنها خالية من الفائدة، والفائدة مشروطة فيها حسب هذه النصوص وحسب التسمية، فكيف تكون خالية من الفائدة؟
يرى الدكتور عبد الوهاب أيضًا أن اشتراط الزيادة هذه لا يؤثر إذا التزم حامل البطاقة بالوفاء في الموعد، يرى أن هذا الالتزام يرفع الحرج ويخرجه من المحظور وفي هذا القول نظر، فإن حامل البطاقة يقع في المحظور بمجرد موافقته على هذا الشرط، فلا يمكن أن أذهب إلى رجل مرابي وأنا في حاجة إلى المال وأتفق معه وأكتب معه شرطًا بأني إذا تأخرت في الدفع أدفع له كذا فائدة، وأقول: إن هذا جائز! لا أظن هذا يقبل، ولهذا فإني لا أوافق الباحث على ما يفهم من كلامه، وإن كان لم يصرح بذلك من جواز إصدار هذه البطاقة، وأرى أن تلحق بالنوع الثالث، وليس بالنوع الأول.
والنوع الثالث: هو بطاقة الإقراض بفوائد والتسديد على أقساط، كما يسميها الباحث، أو بطاقة الائتمان، التسمية التي رفضها؛ وكلا التسميتين لكلمة واحدة هي Credit Card ولا خلاف في منع هذه الصورة، فلم يبق أمامنا سوى البحث عن بديل لها، فما هذا البديل؟
قدم أحد الأساتذة الأفاضل بديلًا لبطاقة الائتمان هذه، سماها بطاقة المرابحة، وقرأت بحثه ولا أوافقه على ما جاء فيه، ولم ألق أحدًا من الفقهاء وافقه عليه، وأريد أن أقدم مشروعًا بديلًا، يبدأ بأصل البطاقة ويجعل للبنوك الإسلامية بطاقة خاصة نسميها البطاقة الإسلامية islam card بدلًا عن visa card أو American card وهذا يتطلب إنشاء منظمة على غرار منظمة Visa Card American هذا يحتاج إلى تكاتف البنوك الإسلامية جميعًا، فإذا قامت هذه المنظمة استطاعت أن تضع النظم والقوانين للبنوك الإسلامية.(10/1214)
يبقى بعد ذلك كيف تعمل هذه البنوك لكي تربح، لأن الغرض من هذه الـ Visa هو الربح، فالبنوك الربوية تأتي بهذا الربح عن طريق الفائدة، ونحن نريد أن نأتي به للبنوك عن طريق مشروع، فهذا الطريق عندي هو أن تصدر البنوك الإسلامية بطاقة البيع بالتقسيط وليس بطاقة المرابحة، بدلًا من بطاقات الائتمان، وذلك بأن تنشئ البنوك الإسلامية مجتمعة أو كل بنك لوحده محلات للبيع بالتقسيط مملوكة للبنوك ملكًا كاملًا أو بالمشاركة مع بعض البيوت التجارية، يشتري حامل البطاقة منها ما يريد، البيع بالتقسيط، البنوك تكون استفادت وربحت، مفهوم أن البيع بالتقسيط أكثر من البيع الحالي، فتستفيد بهذه الزيادة، والمشاركة عندي أولى لأنها تمكن البنك من إنشاء عدد من المتاجر.
ما في شك أن هذه العملية تحتاج إلى عدد كبير من البنوك كما هو في الوضع الحاضر بالنسبة للبطاقات الربوية، تحتاج إلى آلاف المتاجر فيمكن أن يكون هذا عن طريق المشاركة مع المتاجر القائمة، فبدل أن ينشئ البنك متجرًا واحدًا بـ 10 مليون , يمكن بهذه العشرة مليون أن يشارك عشرة أشخاص وينشئ عشرة متاجر.
هذا تصور أَوَّليٌّ رأيت أن أطرحه عليكم، ويبقى بعد ذلك الملحوظات، ولا داعي لذكرها، سأقدمها إلى صاحب البحث القيم زيادة في جودته إن شاء الله.
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة هذا الموضوع عولج بتفصيل وإفاضة في الدورة السابعة وهو يُعالَج أيضًا بحمد الله بتفصيل وببحث قيم تقدم به الأخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان.
لي ملاحظة في هذا المجال، تفتيت هذه المسألة وتحديد العلاقات التي تقوم، واضح أن مدار العملية هو على استقصاء هذه العلاقات وملاحظة أنها تقوم في دافعها عند البنوك على تحقيق مزيد من الأرباح لهذه البنوك في موضوع الفوائد التي تؤخذ والمبالغ التي تحصّل كرسوم أو كأجور أو غير ذلك.(10/1215)
اقتراح بديل كما سمعنا الآن من الأخ الكريم الدكتور صديق يجب أن يلاحظ عنصرًا في غاية الأهمية فيما يتعلق بتعامل البنوك الإسلامية، وهو أن هذه البنوك نتيجة للتكييف الذي تم لأعمالها تحقق أرباحًا كبيرة، المشكلة أن أرباحها لا تظهر؛ لكثرة الودائع التي تحصل عليها نتيجة رغبة الكثير من المودعين في تعاملهم بالتعامل الإسلامي البعيد عن الربا، ونتيجة عدم قدرتها على تحقيق مجالات استثمارية جديدة قائمة على مشاركة فاعلة في التنمية وتحقيق الأرباح.
إذن يجب أن يكون دافعنا في طرح أي بديل عنصر هام يدفع الإنسان العادي للحصول على هذه البطاقة، وهو رغبة أن يكون هناك تسهيل لتعامله وبالتالي وجود النقود محفوظة لدى البنك، ومن ثَمَّ إذا تحققت مبيعات له أو مشتريات له يتم تحصيلها من البنك، فلماذا لا يوضع ترتيب بتفكير متقدم في هذا المجال يقوم على أساس أن البنوك الإسلامية تقدم في هذا المجال، خدمة لعملائها عن طريق فكرة الدفع فيما إذا تحصلت المبالغ على الذين يحملون هذه البطاقات من أرصدتهم، وإذا زاد عن أرصدتهم فمن ترتيب معين يكون هذا على أساس ثقتهم بالعميل، يكون قائمًا على فكرة القرض الحسن.
أما لحظة التفكير بأي صيغة تقوم على مناظرة الصيغ المطروحة في البنوك الدولية، فإننا ندخل في محاذير الربا وغيرها.
في هذا المجال أحب أن أشير، وكنت أتمنى في الواقع، ما دام أن البنوك الإسلامية قد أصدرت بطاقات في هذا المجال أن تكون الصيغ التي جرى التعامل بها الآن أمامنا حتى نرى أن هذه الصيغ يمكن تبنيها أو لا يمكن تبنيها، يعني أستغرب أن يسأل المجمع الفقهي ويبحث المجمع الفقهي وما زال يبلور في هذه المسألة والتطبيق جاري، وكثير من البنوك قد أصدرت بطاقات في هذا المجال! إذن أصدرتها فعلى أي أساس؟ إذا كانت أصدرتها على أساس سليم، كفينا مؤنة البحث وأصبح التطبيق خير شاهد على الإنجاز، لكن إذا أصدرتها وهي مخالفة، إذن لماذا نشغل أنفسنا في إطالة القول في هذه القضايا وتأجيلها من دورة إلى دورة دون أن يكون هنالك بلورة لهذا الموضوع ما دام أن الأمر جرى عليه التطبيق وباتت كثير من البنوك تصدر مثل هذه البطاقات.
أذكر في دورة عمان عرضت بعض صيغ الممارسة، كان في البنك الإسلامي الأردني أو في بيت التمويل الكويتي أو غير ذلك، يعني كنت أتمنى في الواقع أن تكون معروضة أمامنا الصيغ التي استخدمت لإنجاز مثل هذه البطاقات، فإذا رأينا أنها سليمة اكتفينا بذلك، وإلا انتقدناها وحذزنا المسلمين منها، وشكرًا.(10/1216)
الرئيس:
شكرًا، نناقش بحدود عشر دقائق لعلنا نغطي أكثر الموجودين. الأستاذ منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أريد أن أبدأ كما بدأ كثيرون غيري بتقريظ بحث الدكتور عبد الوهاب وتهنئته على الأسلوب العلمي الذي اتبعه فيه، هذا أيضًا كما قال غيري لا يعني أن البحث لا يتعرض لبعض الملاحظات.
أهم ملاحظة - الحقيقة - تنطلق من فهم أساس البطاقة، بطاقة الائتمان هي وعد من البنك وليست غير ذلك، وعد من البنك بأن يدفع عن حامل البطاقة ثمن ما يشتريه، وأيضًا لو اقترض منه أن يدفع عنه ذلك القرض اقترضه من أي جهة أخرى قرضًا، فيدفع عنه ذلك ويحمله فوائد على ذلك، هذه هي البطاقة الموجودة بطاقة الائتمان. هي نفسها ليست بطاقة إقراض ولا اقتراض، هي بطاقة ائتمان فعلًا، وهي ائتمان بكل معنى الكلمة، بكل معناه العام، ما يشمله هذا الائتمان، لأنك بتلك البطاقة تُمَكَّن من أن تستأجر سيارة فتعطى السيارة أمانة لك بالأجرة ودون بطاقة الائتمان لا تستطيع أن تستأجرها في أي مكان، الآن في أوروبا وأمريكا وفي السعودية أيضًا، لا بد لك من بطاقة ائتمان حتى تستطيع أن تؤمن على أن تستلم هذه السيارة من شركة تأجير السيارات، وكذلك الحجز في الفنادق وغير ذلك. فمعنى الائتمان واضح فيها.
النقطة الثانية، أن هذا الوعد، الحقيقة التمييز بين نوعين من بطاقة الائتمان اللذين ذكرهما الدكتورCredit Card أو Charge card يعني لعل هذا التمييز كان موجودًا في وقت من الأوقات، لا أقول إنه في السبعينات أو الستينات لم يكن موجودًا، لكن هذا غير موجود الآن، والشيء الرئيسي الموجود هي البطاقات العادية، أنا عندي الآن عدد من بطاقات Credit Card هذه واحدة منها ليس لها Charge ليس فيها رسم، لا يوجد فيها رسم ولا يوجد فيها التزام من طرفي إلا بأحد شكلين، لو دفعت في الوقت فلا فائدة عليك، وإن لم تدفع في الوقت تترتب الفوائد، هذا وعد من البنك، فإذا دفعت أنا في الوقت فما الذي يترتب علي إذن، يعني لو وعدني شخص - أيًّا كان ذلك الشخص - لو لم تؤخر فلا شيء عليك، فإذا أخرت يترتب شيء آخر، ولا أؤخر.(10/1217)
النقطة الثالثة، بالنسبة للعمولة التي يأخذها البنك المصدر من التاجر، قيل: إنها حوالة، وهي حوالة بالثمن. لماذا هي حوالة بالثمن؟
أنا اشتريت سلعة ومعلوم لدى التاجر أن هذه السلعة إذا باعني بهذه البطاقة فما ثمنه خمسمائة، وفي حقيقته يعلم قبل أن يبيعه بأنه يبيعه بأربعمائة وتسعين ولا يبيعه بخمسمائة، هو يعلم عند استعماله البطاقة بأنه يبيعه بأربعمائة وتسعين. فهي إنشاء لذلك الدين على الفضول الذي التزم به، وليس نشوء لدين عليّ ثم تحويل هذا الدين وإنقاص منه أو زيادة، هو إنشاء للدين على الفضول الذي التزم به للواعد، فليس هناك خصم، العمولة معناها أنه معلوم لديه قبل أن ينشئ الدين أن هذا الدين سينشأ بأربعمائة وتسعين وليس بخمسمائة، هذا معلوم لديه مسبقًا، فهي إنشاء، هي فيها معنى الحوالة بكل تأكيد، إلا أن هذا المعنى ليس كاملًا، ليس دين ينشأ ثم يحول، دين بخمسمائة ينشأ ثم يحول، الدين ينشأ للتاجر بأربعمائة وتسعين منذ أن ينشأ.
النقطة الرابعة، أدخل عدد من الإخوان مسألة الصرف فيها. مسألة الصرف مسألة ينبغي أن ينظر إليها بشروطها، إلا أنها ليست جزءا من بطاقة الائتمان، وما يحصل فيها من صرف يحصل في يوم الأداء ولا يحصل في غير يوم الأداء، يعني ما يسجل على حامل بطاقة الائتمان لو استعمل هذه البطاقة لشراء بعملة أخرى غير عملتها، المبلغ الذي يسجل عليه هو المبلغ بيوم أداء البنك المصدر لذلك الشخص، أو لوكيل ذلك الشخص، وهو بنك محلي. فيحصل في يوم الوفاء، يعني لا أظن أن هناك مشكلة في الصرف ينبغي أن يركز عليها، والصرف بشروطه على كل حال.
بالنسبة لأجر إصدار البطاقة في بعض البنوك التي تحمل أجرًا على إصدارها، أجر إصدار البطاقة في كثير من الأحيان، وهو في البنوك العربية واللاإسلامية هو كذلك أجر إصدار البطاقة أكثر بكثير من كلفة إصدارها الحقيقية وأكثر بكثير من أي ربح معقول يضاف إلى كلفة إصدارها الحقيقية، يعني بطاقة تصدرها كل البنوك مجانًا، وتصدر لك ما شئت من البطاقات , لماذا هنا في السعودية يصدرونها بثلاثمائة ريال؟ أكثر بكثير من أي سعر آخر، فالسعر هذا ينبغي أن لا نطلق الكلمة على عمومها أنها أجرة مقابل الإصدار، هي تتضمن شيئًا آخر ينبغي أن يبحث هذا الشيء الآخر.(10/1218)
البنوك تنتفع من هذه البطاقة. نعم، تنتفع كثيرًا، إلا أن الانتفاع الرئيسي للبنوك من هذه البطاقة هو الانتفاع من خلال شرط الفوائد، هم يعلمون أن الناس الذين هم مثلي لا يؤخرون الدفع هؤلاء قلة، ولا يعولون عليهم، هؤلاء يسمونهم باللغة الإنجليزية الراكبون المجانيون، هؤلاء يستفيدون منها مجانًا، أما الراكبون الحقيقيون الذين يدفعون الرسم هم أولئك الذين يدفعون الفائدة ويأخذون منهم فائدة مضاعفة عن فائدة الإقراض المعتاد الذي تقرض به البنوك الربوية، ذلك هو كسبهم الحقيقي وليس من الأجرة، لأنهم يصدرونها مجانًا، ولا من العمولة التي يأخذونها من التاجر.
الشيخ خليفة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأشكر فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب على بحثه وهو حقيقة بحث جيد في بابه ويمثل مبادرة جيدة، وزيادة في هذا المجال إن شاء الله في أدبيات الفقه المصرفي الإسلامي.
ومن مآخذ بعض الذين علقوا على بحثه أنه دخل في موضوع المصطلحات الخاصة بالنظام المصرفي الإسلامي. وأن المقصود ليس هذا إنما المقصود هو أن ننظر إلى المعاملة الموجودة الآن في البنوك التجارية لكي نبين رأي الشرع فيها، وأنا أرى أنه لا بأس من الجمع بين الأمرين، بل إن تأسيس نظام مصرفي إسلامي لا يكون إلا من خلال مثل هذه الأبحاث التي تحاول أن تضع مصطلحات، أن تضع مسميات لكي ينشأ من خلال ذلك إن شاء الله في المستقبل بنيان متكامل حينما تتوسع المؤسسات المالية الإسلامية.
هذا فيما يتصل بهذه النقطة، أيضًا أخذ عليه أنه توسع كثيرًا في الجانب الخاص بالاقتصاد والقانون، وحُقَّ له أن يفعل ذلك؛ لأن هذه الجوانب هي التي تبين حيثيات الموضوع، ولا يمكن إصدار الفتوى إلا إذا فهم الموضوع بدقائقه، فأرى أن مثل هذه الدراسة دراسة جيدة، القاضي يصدر الحكم في صفحة أو صفحتين لكن ملف القضية يكون دائمًا ملفًا كبيرًا؛ لأنه يُعْنَى بالوقائع والبحث فيها إلى أن يصل خلال تلك الحقائق إلى الحكم الذي يمكن أن يصدره. فحينما تستبين المسألة يسهل بعد ذلك إصدار الفتوى، فإيغاله في هذا الجانب وإغراقه في الدخول في التفاصيل أرى أنه أمر مفيد ولا يؤخذ أبدًا على بحثه، وإنما يعتبر ميزة من ميزات البحث.(10/1219)
فقط أود أن أقف عند بعض المسائل، منها:
أولًا: أن العلاقة بين الأطراف المختلفة بحسب ما ذهب إليه تحتاج فعلًا إلى ضبط أكثر، كما وأن العلاقة لا تثبت على حالة واحدة، نجد أن هذا من جهة وكالة وهذا من جهة كفالة، وهكذا مما يصعب معه إصدار الفتوى المناسبة.
مثلًا في موضع يذكر هو أن الطرف الأول مثلًا، مصدر البطاقة هو المخول قانونًا بإصدار البطاقة لحاملها، ويقوم وكالة عنه بتسديد قيمة المشتريات للتاجر، ويكون وكيلًا عنه إذا كان لدى العميل ما يغطي ما يسدده البنك، فيكون البنك وكيلًا في هذه الحال، لكن إذا كان ما عنده لا يكون وكيلًا، قد يكون كفيلًا أو شيئًا آخر. هذه نقطة.
الطرف الثالث، التاجر يعتبره ممولًا، هو صحيح ممول وهو في نفس الوقت مقرض، لأن التاجر يقرض العميل البضاعة ويأخذ الثمن بعد ذلك من البنك، ويترتب على ذلك أن يمر زمن إلى أن يحصّل الثمن من البنك الذي التزم بهذا، فهو مقرض من هذه الناحية، فيكون عندنا مقرض أول هو البنك الذي أصدر البطاقة، وعندنا مقرض ثاني هو التاجر الذي أقرض العميل، وعندنا عميل هو المقترض. ليس هناك حل فعلًا إلا أن تعتبر أن المسألة من باب الحوالة، ولهذا فإن الانتهاء إلى أنها من باب الحوالة أمر مناسب؛ لأن العلاقات اضطربت كثيرا في الجوانب الأخرى؛ اعتبارها وكالة أو غير ذلك من الجوانب.
فالمسألة كلها تؤول نهاية إلى المحال عليه وهو البنك الأول.(10/1220)
هذا، وفيما عدا ذلك - وكما ذكر بعض الإخوان أيضًا - فإن كل هذه المسائل مؤسسة على نظام مصرفي غير إسلامي وهو النظام الرأسمالي، ولهذا جاءت هذه المحاذير، فلو فعلًا البنوك الإسلامية استطاعت أن تؤسس لنفسها مسميات ومصطلحات وأن تستقل بنفسها عن طريق التعاون بينها في أن تشتق لنفسها النظام الذي يمكن أن يكون بعيدًا عن هذه الأنظمة، ويخلق من نفسه الأسلوب الذي يمكن أن يسير عليه، ويكون فعلًا فقهًا إسلاميًّا مصرفيًّا، يكون هذا هو السليم؛ لأننا بحالة أو بأخرى يمكن أن نقع في المحظور إذا لم تكن الفلسفة الأساسية التي قام عليها النظام ابتداء فلسفة منسجمة. وشكرًا لكم. والسلام عليكم.
الحاج حسن كمارا:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. حضرة صاحب السماحة رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي ,
حضرة معالي الأمين العام للمجمع، أصحاب الفضيلة ,
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
سماحة الرئيس، قبل كل شيء يسرني أن أرفع أسمى آيات الشكر والتقدير لسماحتكم بتفضل تقديم دعوتكم الكريمة للمشاركة في هذه الدورة المباركة لمجمع الفقه الإسلامي، أسأل المولى العلي القدير أن يكلل هذه الدورة بالتوفيق والنجاح، وأن يحفظكم ويرعاكم للإسلام والمسلمين. صاحب السماحة:
إنني لم أطلب الكلام لأناقش ما استمعنا إليه من البحوث القيمة من الفقهاء والأطباء في هذا الموضوع، إنما طلبت الكلام لأقدم لسماحتكم هذه المبادرة نظرًا لأهمية مجمعكم الموقر، ونظرًا لتحقيق الغرض المنشود الذي يعود بالفائدة إلى الأفراد والمجتمعات الإسلامية، ألا وهي تكوين لجان أو اللجنة الفرعية التابعة لمجمعكم الموقر لدى الدول الأعضاء على الصعيد الوطني، التي يجتمع فيها العلماء والفقهاء للبحوث في المسائل الفقهية والموضوعات الأخرى التي تهم المسلمين.
سماحة الرئيس:
أرجو أن تكون هذه المبادرة من ضمن التوصيات والقرارات التي تصدرها أو التي ستصدر من هذه الدورة المباركة.
الشيخ عبد اللطيف:
في دورتنا المجمعية المباركة بيانات شافية وافية عن هذه البطاقات التي تريد الفتوى فيها أو يراد لها الفتوى فيها. فهذا الموضوع يحتاج إلى تصور، وقد أحسن الباحث الكريم في هذه التصورات التي وضعها في كتابه إجمالًا، ولذلك فإنها كما ظهر من كلام إخوتنا وزملائنا لها صور ثلاث: الصورة الأولى وهي صورة السحب المباشر، ويمكن تكييفها بالحوالة وربما إن شاء الله لا يكون فيها بأس إذا خلت عن الفائدة سرًّا وعلانية وضبطت بقيود، وهذا ما ينبغي أن يقوم به إخوتنا في المجمع الموقر.(10/1221)
أما الصورة الثانية فهي صورة لا بد أن ندرسها وأن نكيفها تكييفًا فقهيًّا جديدًا وهي قضية الإقراض، ما يسمى بالإقراض، ولا مانع أن يقال: بطاقة التعامل أو المداينة، طبعًا المداينات لها قيمتها هنا وهي أفضل من قضية القرض، ولكن لا مانع أن نقول بطاقة التعامل فهذه تحتاج إلى دراسة وتكييف فقهي؛ هل هي من طريق القرض مع الضمان أم هي من طريق آخر؟ فهذا هو محل الخلاف، وأرجو أن يحرر محل الخلاف أولًا، فإنني دائمًا أصبو في مجمعنا الموقر وأعضاءه العلماء الأجلاء قبل البدء في الحديث أن يحرر محل الخلاف، ولعل البعض قد حرر محل الخلاف بصورة غير مباشرة حتى نضع أيدينا على ما يجب أن نبحث عنه بالذات بالضبط، وهذه هي الصورة التي يجب أن نبحث عن قيودها.
أما الصورة الأخيرة فهي مفروغ من تحريمها؛ لأنها صورة ربوية لا مجال للشك فيها إطلاقًا.
الموضوع كله خطير ولا شك أنه هجمة شرسة من أعداء الإسلام في الشرق والغرب يريدون الكيد للإسلام والمسلمين ولمجتمعاتنا عن هذا الطريق، فينبغي التحرز، فلا نغلق الباب إغلاقًا كاملًا، ونوصده في وجه التغير والتطور الذي لا بد منه للمجتمعات الإنسانية، ولا نفتحه كذلك فتحًا كاملًا، بل نغلق بمقدار ونفتح بمقدار كي نكون متوسطين، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة143] وهذه الوسطية تتجلى في وضع القيود والمعايير للأمور التي ينبغي أن تدرس.
أما المفروغ من جوازها فهي جائزة. والمفروغ من حرمتها فهي محرمة، وبطاقة الائتمان على الوجه الموجود فعليًّا الآن حاليًا في الوضع الراهن في البنوك الربوية حرام بحت لا مجال للشك في ذلك إطلاقًا. والله تبارك وتعالى أعلم، وعلمه أتم وأحكم. وشكرًا.(10/1222)
الشيخ علي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أيضًا الشكر موصول للأستاذ الكريم أبو سليمان على هذا البحث الرائع، حفظه الله وأبقاه ذخرًا.
أردت أن أشير فقط إلى بعض النقاط، ولا أطيل:
النقطة الأولى: الآثار السلبية التي ذكرت لنظام بطاقة الائتمان كمسألة المديونية الشخصية ومسألة التضخم ومسألة سيطرة البنوك على مجمل العمل التجاري، وما إلى ذلك. هذه الأضرار أعتقد أنها تأتي حتى ولو صححنا قضية بطاقة الائتمان، حتى ولو كانت هذه البطاقة تصدرها البنوك الإسلامية وفق الشروط التي نطرحها. مسألة المديونية مطروحة باعتبار سهولة الاستفادة من هذه البطاقة وفي أي مكان، خصوصًا وإذا كانت هذه مسندة من قبل شركات عالمية تسمح بالاستفادة من البطاقة بمستويات أسهل في مختلف المجالات.
الشيء الذي أريد أن أقوله هنا واقعًا، هذه الآثار موجودة، لكن هذه الآثار تختلف من حالة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر ومن ظرف إلى ظرف، ومن هنا فهي أمور يجب أن تنتبه لها الدولة الإسلامية، يعني هذه من وظائف الحكم أوالحكومة الإسلامية التي تلاحظ مدى نفع مثل هذا النظام أو ضرره، وأحيانًا قد يلاحظ الحاكم الإسلامي أن عقدًا مباحًا ما في مثل هذا الظرف يجب أن يوقف تنفيذه ولا يسمح به لكي تمر آثاره السلبية ولا يصيب هذا العقد بها المجتمع.
إذن أنا أفرق بين أن تصدر فتوى في قضية أو أن يصدر حكم حكومي من قبل ولي الأمر من قبل الحكومة الإسلامية في مثل هذه القضايا.
وأريد أن أقول إن هذه المديونية أو ما قيل عن التضخم وما إلى ذلك، هذه كلها تترتب حتى لو أننا صححنا نظام البطاقة وحذفنا منها النقطة الأساسية.(10/1223)
النقطة الثانية: ما ذكره الأستاذ سامي من أن خصم البنك من المؤسسة يجب أن يعود إلى العميل؛ فيه روايات لدينا مروية عن أئمة أهل البيت وتؤكد هذا المعنى، ومن هنا فأنا أميل لمثل هذا الرأي وإن كان يمكن تصحيح هذا المعنى على السمسرة باعتباره واقعًا، يقدم البنك بهذه البطاقات خدمات كبرى لهذه المحلات عندما يسوق لها الزبائن من شتى أنحاء العالم. هذه خدمات سمسرة يمكن أن يؤخذ عليها أجر.
النقطة الثالثة: ما أشير في هذا الصباح إلى أننا يجب، أو ما أشار إليه الأستاذ الدكتور أبو سليمان، أننا يجب أن نرجع إلى مباني أولئك الذين اكتشفوا هذه الطريقة وطرحوها.
الحقيقة نرجع إليهم، ولكن لا مانع من أن نصحح أو أن نبطل هذه المباني على ضوء مبانينا نحن، يعني هذه العملية يجب أن تعرض على ضوء مبانينا، وهذه المباني هي التي يجب أن تصدر حكمها في هذه الطريقة المعينة. والذي أعتقده أن المشكلة الأساسية في بطاقة الائتمان هي العملية الربوية التي تنتج عن التأخير في دفع تسديد هذه الأجور. يعني هذه هي النقطة الأساسية، وأما الإشكالات الأخرى فأعتقد أنها إشكالات فرعية يمكن حلها أو يمكن إعطاء تخريج فقهي آخر لها. المشكلة هي ما ركزنا عليه وما رأيناه من مسألة الربا المحقق والمسلم من الربا وهو هذه الفوائد التي تؤخذ من التأخير.
آخر شيء أطرحه، أعتقد أن البديل الذي ذكره شيخنا الجليل الشيخ الضرير بديل غير عملي، وليسمح لي، وإلا كان على هذه البنوك أن تنشئ شركات طيران وتنشئ فنادق ضخمة، لأن هذه أمور لا تقتصر على شراء من محلات، وإنما هي أمور الآن هي مال الإنسان في كل مكان، وهي كل ما يملك في مختلف الأمور، فأعتقد أنه غير عملي. لكن ما طرحه الأستاذ العبادي من أن البنوك الإسلامية يمكنها أن تعتبر هذه العملية من التسهيلات التي تقدمها لعملائها هي بهذه الأساليب قد تربح كثيرا من العملاء وتربح الكثير من الأموال التي تودع لديها لكي تستثمر في مجالات أخرى. فليكن هذا من تسهيلات البنوك الإسلامية، التسهيلات المجانية التي تقدم للعملاء ويكتفي البنك بخصوم المؤسسات المدفوعة لقاء عملية السمسرة المطروحة. أعتقد أن الحل الوحيد لهذا المعنى هو هذا المعنى، يعني البنك الإسلامي هو يقدم نفس التسهيلات، بل لو رجح على البنوك الربوية وقدم تسهيلات أكبر استطاع أن يسحب الكثير من الأموال ويوظفها في مشاريع بشكل أمتن وأحسن وأقوى، أعتقد أن ما طرح من أن جعل هذا المعنى من التسهيلات هو السبيل الأمثل، بمعنى أنه حتى لو تأخر فإما أن تحذف منه البطاقة، أو لا يؤخذ نتيجة لتأخيره شيء. شكرا جزيلًا.(10/1224)
الشيخ محمد سالم:
بسم الله الرحمن الرحيم
انا لا أريد أن أعقب على البحث لأني لم أتمكن من قراءته، ولكن أريد تصحيح بعض الأخطاء التي وردت في بعض التدخلات من طرف الإخوة.
أتكلم عن كلمة صدرت من الأخ ابن يونس، أنا أسميه هذا لأن ابن يونس هو علم من أعلام الفقه المالكي معروف، هو رفيقنا ابن يونس هنا. هو عزى للمالكية أن الوعد المورط يلزم الوفاء به، هذا ليس هو كل ما عند المالكية في الموضوع، الوعد عندهم لا خلاف في طلب الوفاء به لكن اختلفوا في درجة هذا الطلب، منهم من قال: يجب الوفاء بالوعد، ومنهم من قال: لا يجب، ومنهم من قال: يجب إذا كان على سبب وإذا كان على غير سبب لم يجب، ومنهم من قال: إذا أدخل الواعد الموعود في ورطة يعد الرجل امرأته إذا أتته بألف فارقها، فباعت زينتها أو باعت ريعها فإنه في هذه الحال ملزم بالوفاء لها، وهذا ما هو معروف عندنا، وقد نظمه الزقاق في منهجه بقوله: يلزم الوفاء بالوعد. نعم هذا قول بالإطلاق أو لا هذا قول بالإطلاق، وقصدي بالقول يدل على عدم ضعفه، نعم لسبب هو الثالث أو أن يلزم هو الرابع.
هذه واحدة من المسائل التي أردت أن أنبه عليها، وإذا سمح لي الشيخ أذكر أننا قتلنا كثيرا من الوقت في ذكر أهل الكتاب اسم الله على ذبائحهم حتى تحل لنا، والمعروف عندنا والذي نقله أئمة الفقه المالكي أنه لا يشترط أن يذكر الكتابي اسم الله على ذكيته إما بالإجماع وإما على الخلاف، فقد نقل الزواوي الإجماع أن هذا لا يجب ونقل فيه القرطبي الخلاف.
وأكتفي بهذا لأن الوقت ضائق ولا أريد أن أضايق. وشكرًا.(10/1225)
الأستاذ نبيل نصيف:
شكرًا سيدي الرئيس، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
يجزي الله أستاذي الجليل الدكتور عبد الوهاب خير الجزاء على هذا البحث القيم، وأستسمحه في بعض الملاحظات والتوضيحات.
أولًا: إن بطاقات الفيزا أو الماستركارد ما هي إلا شركات تشبه التجمعات مثل نادي باريس، وهي تقدم نظامًا دوليًّا للدفع تسهل من خلاله إعطاء العضوية للبنوك التي تتيح لهم - هذه العضوية - إصدار البطاقات. وبالتالي فإن العقد الأساسي للبنوك هذه هو العضوية لدى الشركات، ولم يوضح أستاذي الجليل - في بداية بحثه - من ضمن الثلاثة عقود الأساسية هذا العقد.
ثانيًا: أشير إلى استنتاج فضيلته في الصفحة السادسة بأن البنك يحقق أمجادًا مالية من خلال إصدار البطاقات , قد يكون من المناسب توضيح أهداف البطاقات المذكورة بالنسبة للبنك المصدر لها:
أولًا: هو تقديم أدوات متطورة للعميل للمنافسة في السوق المصرفية والإبقاء على هذا العميل لديه. وهي الآن - أعني بطاقات الائتمان - من الاحتياجات الأساسية لكل شخص، خصوصًا كثير السفر.
ثانيًا: إن هدف هذه البطاقات هو تيسير عملية الشراء الآجل والدفع المضمون، واسمحوا لي بقراءة مقدمة أحد مستندات المصارف الإسلامية: إن المصرف يقدم لعملائه أداة دفع متطورة من خلال نظم الدفع الدولية مثل الـ Visa أو Master Card، وقد أطلق المصرف الإسلامي على هذه البطاقة، بطاقة الدفع.
ثالثًا: إن الهدف الأساسي أيضًا من هذه البطاقات هو إتاحة عملية الشراء دون حمل النقود أو الأموال السائلة حتى لا تتعرض للضياع والسرقة. وبالتالي فإن التكييف الشرعي مهم جدًّا لعمليات هذه البطاقات، وأعتقد أن كثير من البنوك الإسلامية كما أشير قد بدأت التعامل بها، وقد يكون من المناسب وجود بحث تطبيقي يوضح كيفيات هذا التعامل وكيف أخذت الهيئات الشرعية بها.
هناك ملاحظة - في منتصف البحث - يكون مصدر البطاقة وكيلًا عن التاجر، وهذه الجملة على إطلاقها قد يكون فيها شيء من المبالغة، لأنه ليس دائمًا مصدر البطاقة هو وكيل عن التاجر.
أخيرًا، الخطورة في استخدام هذه البطاقات كما أشار السيد الرئيس أنها تدفع المقترض أو تدفع المرء إلى التعامل بصورة كبيرة على أساس دخله المستقبلي، وقد تجره إلى مشاكل كبيرة لا يستطيع مقابلتها، وبالتالي قد يكون من ضمن التوصيات أن البنوك التي تصدر هذه البطاقات في الدول الإسلامية تصدرها للأفراد الذين لديهم الأرصدة الكافية، ويمكن إصدارها للشركات التي يعمل لديها الأفراد، وبالتالي هم مسؤولون عن إدارة شؤون هؤلاء الأفراد، وأشكر السيد الرئيس على إتاحة الفرصة.(10/1226)
الشيخ محمد الأشقر:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أنا أناقش الأخ الدكتور عبد الوهاب في نقاط محدودة، ولي تعليقات على بعض كلام الأخوة الذي سمعناه في المناقشات.
الأمر الأول: بطاقة المعاملات المالية، وهذا الاسم الذي اهتم به الأخ الدكتور عبد الوهاب لا أرى الحقيقة داعيًا لهذا الاهتمام الكبير، مع أنه معروف أن المصطلحات لا مشاحة فيها، وخاصة إذا انتشر المصطلح وتعارف عليه الاقتصاديون والبنوك والجماهير حتى تعرفه معرفة تامة، وله أصل في اللغة، الائتمان - كما بين الإخوان - يعني ما ادَّيَن إنسان ولا أعطيه ولا أبيعه بالأقساط ولا أؤاجر بمؤجر إلا وقد ائتمنته نوعًا من الائتمان.
النقطة الثانية: العمولة التي تخصم للبنك من حساب التاجر ويتقاسمها بنك التاجر مع البنك المصدر للبطاقة، رأيت الأخ الدكتور عبد الوهاب حاول أن يخرج الجواز من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: قال: إن هذه العمولة أو الخصم هو خصم وليس بزيادة، إذن ليس ربا، وأعتقد أن هذا لا ينبغي أن يقبل في مجال الربا، فالخصم والزيادة أثرهما متفق أن أحد العوضين أكثر من الآخر. فإذا كان أحد العوضين أنقص من الآخر فالآخر أكثر منه.
الوجه الثاني: وهو أنه خرج الجواز على ما خرج عليه مركز تطوير الخدمة المصرفية لبيت التمويل الكويتي من أن هذه أجرة وكالة. يعني ما يبدو لنا هنا أجرة وكالة هي في الحقيقة دين سينتقل من ذمة المشتري إلى ذمة البنك وتسقط عن المشتري، ولا يحق له الرجوع إلى المشتري أصلًا. فإذن هنا لا شك أنها إما شيء من قبيل الحوالة، ولا يجوز أن تكون الحوالة بأكثر من الدين الذي انتقل.
الوجه الثالث: أنه استند إلى العرف، وأن استخدام البطاقات هذا وإجراء الخصم جرى به العرف وتعارف عليه الناس، فينبغي أن يكون هذا، نقول: العرف إذا بني على باطل فلا شك أنه يكون باطلًا، وخاصة إذا كانت الأدلة الشرعية لا ترضاه.(10/1227)
فإذن هذه الوجوه الثلاثة يبدو لي أنها ليست كافية، وهناك طرحت وجوه أخرى في هذه الجلسة وربما طرح الباحثون في غير هذه الجلسات أشياء أخرى، فليت المجمع يحاول جمع هذا أو يكلف من يجمع الوجوه والمعالجات المختلفة التي ربما تكون طرحت أو ربما البنوك الإسلامية - يعني هيئاتها الشرعية - توصلت إليها، وينظر فيها.
وقد ذكر الباحث الجواز الذي يعطى على بعض بطاقات الإقراض، ولا أدري لماذا أجازها على البنوك الإسلامية ومنعها عن البنوك غير الإسلامية؟
كما نقل الباحث نقلًا عن الحنابلة جاء على غير وجهه، فمعروف أن مذهب الحنابلة يلزم رد بدل القرض ولو طلبه صاحبه فورًا. فله الفسخ في أي وقت، لأنه عندهم عقد جائز، ولو أجله لا يتأجل حتى لو أجله في ضمن العقد. أما الذي يلزم بالقبض فهو امتلاك المقترض للعين. فلا يملك المقرض استرجاع العين نفسها، وإنما له بدلها، وهذا عند جميع الفقهاء إلا في حالة الإفلاس.
أما جواز الفسخ قبل الإقراض فهو مذهب الجميع فيما يبدو لي ما عدا المالكية. فإذا ما نقله الأخ الباحث أرجو أن يصحح هذا الموضع. ونقل عن البهوتي الحنبلي أنه يلزم الشرط الصحيح فإن وفى به حصل المشتري شرطه فلا فسخ، وإلا يوفي به فله الفسخ لفقد الشرط. هذا القول هو في شروط البيع , وليس في شأن القرض، ولا القرض عند الحنابلة يجوز فسخه في أي وقت ودون أي اشتراط.
أما النقطة التي أشار لها الدكتور عبد الستار فأنا أوافقه عليها فعقود الإذعان ليست عقودًا اضطرارية ما دام له الخيار أن لا يدخل أصلًا في العقد. ليس هناك اضطرار ولا ينطبق عليه حديثنا عن بيع المضطر.
الأخ الدكتور رفيق المصري الذي تكلم في الوعد، وليته يحوله إلى رسالة أو كتيب ليسهم في تصحيح ما أوقعه القول بالإلزام بالوعد من خلل في الفقه الشرعي في أذهان المتفقهين في تصورهم لمعنى العقود وتصورهم لإمكان الوصول إلى المحرمات بتسمية الأشياء، هذه التي حصلت - يعني - في نواحي مختلفة.(10/1228)
في كلمة أشار إليها الأخ الدكتور علي القره داغي من أن القبول بالشرط الفاسد محرم. العقد الفاسد محرم أما القبول بالشرط الفاسد ليس محرم. بمعنى أن عقدًا صحيحًا يدخل فيه شرط فاسد لا يكون محرمًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدخوله إذ قال: ((اشتريه وخذيه واشترطي لهم الولاء)) . فلا نستطيع القبول بهذا القول على إطلاقه وخاصة إذا لاحظنا دلالة الحديث: ((خذيه واشترطي لهم الولاء)) .
إذا كان أصل العقد صحيحًا، فلو اشترى سيارة بالأقساط على أنه إن أخّر يضاف عليه فوائد، لا شيء في ذلك في نظري من ناحية قبول الطرف المشتري والعقد صحيح والشرط باطل؛ فإن أدى الأقساط في مواعيدها فلم يؤد فائدة فلا حرج على المشتري في ذلك في نظري، وخاصة إن كان مضطرًا إلى الدخول تحت هذا الشرط أو محتاجًا إلى شراء المذكور، والحرمة والإثم تكون على الطرف الذي يضع مثل هذا الشرط ويطلب من الطرف الآخر الالتزام به، وليس على الطرف الذي التزم به تحت ضغط الضرورة أو الحاجة، أو حتى لغير حاجة ولا ضرورة كما في حديث بريرة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الشيخ تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.
أما بعد ,
فإن هذا الموضوع قد طرح على هذا المجمع لمرة ثالثة وقد طال فيه الكلام، وإنما أقصر حديثي على موضوع قد أثير وهو إذا حصل أحد على بطاقة الائتمان بنية الالتزام بأداء الثمن في خلال الفترة المحددة لكي لا تترتب عليه فوائد، فبعض الإخوة قد ذهبوا إلى عدم جواز ذلك، بناء على أنه قد دخل في عقد يشتمل على شرط الربا. والواقع أننا في هذا العصر مضطرون إلى كثير من العقود التي يشترط فيها فرض مثل هذه الفوائد عند التأخير، فعندنا في بعض البلاد مثلًا حينما يتعامل أحد مع شركة الكهرباء فإن شركة الكهرباء تفرض في نفس العقد أنه إذا تأخر المساهم في أداء الفاتورة في حدود معينة فإنه يلزمه فائدة بنسبة كذا وكذا. فهل نقول بأنه لا يجوز أن يتعامل مع هذه الشركة (شركة الكهرباء) لأنها تفرض مثل هذه الغرامة أو تفرض مثل هذه الفائدة؟ لا شك أننا دخلنا مع هذه الشركة (شركة الكهرباء) بنية الالتزام بأداء الفواتير في موعدها فهذا يباح لنا شرعًا.
ويبدو لي أنه يمكن على ذلك الاستئناس إن لم أقل الاستدلال بحديث
بريرة وقد تقدمني فضيلة الشيخ محمد الأشقر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اشترطي لها الولاء)) معنى اشتراط الولاء هو غير جائز شرعًا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لأنه كان يعرف أن هذا الشرط باطل ولا ينفذ، فلو دخل أحد في مثل هذا العقد بمثل هذه النية فلا بد - يبدو لي - أنه يكون حرامًا.
أما بالنسبة للخصم الذي يخصم من التاجر من قبل مشتري البطاقة.(10/1229)
ففيما يبدو لي يمكن تخريجه على أساس السمسرة. فإن هذه البطاقة تجلب زبائن للتجار وخصوصًا في الظروف الحاضرة. إنه إذا لم يقبل أحد التجار هذه البطاقات فإنه لا يمكن أن يتاجر في السوق المعاصرة، فإنه يأتي إليه أي زبون أو يأتي إليه زبائن بقلة فهذه البطاقة تجلب إليه زبائن كثيرين وزبائن جياد، فمن هذه الناحية يمكن تكييفه على أساس السمسرة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
الشيخ عبد الله إبراهيم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فضيلة الرئيس، أصحاب السماحة والفضيلة، والحاضرين جميعًا السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أولًا أشكر الرئيس على إتاحة الفرصة للمشاركة في إبداء الرأي في الموضوع الذي طرح علينا في هذا الوقت وهو موضوع بطاقات الائتمان. وقبل كل شيء أريد أن أضم صوتي إلى الأصوات التي سبقتني بالإشادة بالبحث وبصاحب البحث، لا شك أنه بحث قيم قدمه لنا صاحبه وهو الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان. إنه لبحث قيم هام لنا جميعًا، نهنئه على نجاحه في إعداده وتقديمه ويشكر عليه، ويكثر الله من أمثاله.
وأنا هنا أريد أن أتناول نقطتين مما تناوله الباحث وكذلك المعقبون على هذا البحث، وهما من حيث تكييف العلاقة ما بين الأطراف التي منها نحصل على هذه البطاقة، والنقطة الأخرى العمولة على السحب النقدي.
حيث نسمع بالنسبة لتكييف العلاقات أن هناك علاقة عقود مختلفة متعددة منها علاقة عقد الحوالة ووكالة وغير ذلك. هذا من حيث التكييف.(10/1230)
وهنا أريد أن ألفت النظر هل يكفي مجرد التكييف في هذه العلاقات أن هناك يوجد عقد بالفعل عقد حوالة مثلًا، مجرد التكييف التصوري والاعتباري، هل هذا التكييف يوجب بالفعل هذه العقود؟ أرى أن البطاقات التي أصدرتها هذه البنوك الربوية لا تصدرها على هذه العقود، إنما تصدرها على الأساس الربوي كما نعلم جميعًا. فالتكييف مجرد تكييف لا يجعلها تشتمل على عقد الحوالة وغيرها إذن، فإذا أردنا أن يشتمل على العقد الحقيقي الفعلي لعقد الحوالة وغيرها لا بد من أن تتضمن استمارة الطلب للحصول على هذه البطاقات على الصيغة لهذه العقود من إيجاب وقبول بين الأطراف، وحتى لو أصدرتها البنوك الإسلامية نفسها فإنه لا بد من اشتمال استمارة الطلب على الصيغة لهذه العقود، وإلا فلا يخرجها عن كونها كما هي في الأصل.
ثانيًا: العمولة على السحب. كما يظهر لنا أنها كما يرى ليست بفائدة وإنما هي في مقابل خدمات، لأنها فيما يرى لا ترتبط بمبلغ قرض ولا بأجله، ولكن فيما يظهر لي كيف لا ترتبط هذه العمولة بمبلغ القرض ولا بأجله خاصة في حالة إذا كانت مقطوعة من نفس المبلغ للقرض وتحسم على حسب أجله، فلا أستطيع أن أتصور أنها لا ترتبط بمبلغ القرض ولا بأجله.
ومن ناحية أخرى قد تناول بعض المعقبين مسألة فرض الغرامة، وهنا أريد أن أؤيد ما قاله الأستاذ علي السالوس نظرًا لما سبق للمجمع أن أصدر قرارًا بعدم جواز فرض الغرامة على التأخر في سداد القرض، وحتى هنا أرى أن فرض هذه الغرامة حرام ومعصية من المعاصي، ومنهي عنه في المعاملات الإسلامية. فلذلك أؤيد ما قاله الأستاذ علي السالوس ولا أرى بجوازها ولو على قصد التصدق بها على جهات البر , مثلها مثل وضع أموالنا في البنوك الربوية فإنه من باب معونة لهذه البنوك فهي معونة على المعاصي، فلا أرى في جوازها، لذلك لإخراج هذه المعاملة من المنهي عنه، فلا بد من عدم فرض غرامة على التأخر في سداد القرض لا غير. وشكرًا.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أود - ليس جريًا على عادتي ولكن صدقًا - أن أنضم إلى موكب الذين أثنوا على هذا البحث، فهو بحث علمي كثيف وجاد.
بحث في قضية غائمة يلفها ضباب الغرب وسحبه الكثيفة، فالغرب كما يصدر السلع فإنه يصدر وسائل التعامل والتبادل، وقد أعجبني في هذا البحث - وكله حسن وشائق - منهجية الباحث حيث أخرج أصل هذا العقد من خَبِيّه وتتبعه في بيئته، وأخذ الكعك من صناعه كما يقول أحد علمائنا في المغرب.(10/1231)
تتبعه في بيئته فتعرف عليه وعرَّفه، ووصفه وكيف تصوره وصوره، ليحكم والحكم على الشيء فرع عن تصوره، ساعد في تحقيق المناط لإبراز الوقائع، وتحقيق المناط هو تطبيق الحكم على الواقع، ولا ينقطع الاجتهاد فيه أبدًا.
لعل كثافة هذا البحث وتدفق التعريفات وتصاريف وجوه العقود وتفاريقها ومحاولة تصنيفها تجعلها تشتبه في عين المطالع أو على الأقل تشتبه في عيني، وبخاصة عندما تندك على حياض المذهب تعريفات مختلفة في وقت واحد.
ولهذا فإن عقدة هذا العقد كانت العلاقة الغامضة بين أطراف هذا العقد بدءًا بمصدر البطاقة هل هو مجرد جهة تصدر بطاقة ضمان تتعهد بمقتضاه أن تسدد، قد ظهر من خلال أقوال القائلين بأنه ليس من باب عقد الضمان لأن الضمان هو التزام بأداء الدين، وهذا الالتزام تنشغل فيه ذمة أخرى، أو كما يقول ابن عرفة: هو الحمالة بالتزام دين لا يسقط.
إن الأمر هنا يتعلق بالالتزام، من جهة أخرى هو التزام سابق؛ لأن القرض قد تم بالقول على الطريقة التي عرضها الدكتور عبد الوهاب؛ لأنه وقع إقراض بالقول، والإقراض بالقول يجوز على المعتمد من مذهب مالك. ولقد استهوتني فكرة الحوالة. فإن حامل البطاقة إذا كان يملك وديعة في البنك المصدر، وهذا البنك يتصرف في هذه الوديعة، فهذا التصرف يعتبر اقتراضًا كما هي عبارة الإمام ناصر اللقاني: " إن اتجر في الوديعة يصيرها سلفًا ". لكن عند التأمل إن اتجر في الوديعة يصيرها سلفًا، إذن من هو المقرض في هذه الحالة؟ المقرض في هذه الحالة هو المتلقي، هو حامل البطاقة هو المقرض الذي أقرض البنك، وهنا قد أقرض البنك من أجل قرضٍ جَرَّ نفعًا، لأنه يستفيد من هذا القرض ضمانًا، وهذا واضح جدًّا إذا اعتبرنا هذه الوديعة التي هي تحت تصرف البنك قرضًا وهي كذلك، لأن البنك يتصرف فيها فهو المقترض هنا مقرض، المقرض الأول هو حامل البطاقة. إذن الأدوار التي يقوم بها تقوم بها مجموعة؛ مصدر البطاقة وحامل البطاقة والمتجر أو الطرف الثالث.
هي أدوار ما زالت بالنسبة لي على الأقل ليست واضحة رغمًا من التوضيحات القيمة والجيدة - أعترف بذلك - التي قرأتها في هذا البحث. فالمودع مقرض وقرضٌ جرَّ نفعًا لأنه يستفيد من الضمان، والبنك هو المقترض وهل يمكن اعتبار كل منهما مقرضًا للآخر مع وجود مقاصة مؤخرة؟(10/1232)
هذا لا يصح. لكن هناك شرط وهذا الشرط الذي يشترطه البنك سواء كانت حوالة أم قرضًا، الشرط الذي يشترطه بأنه إذا كشف هذا الغطاء إذا كان غطاء فإن العميل يلتزم بفوائد ربوية، هذا الشرط مفسد عند قوم، وحرام عند قوم آخرين، لأنه ما ألغي إلا لأنه حرام، إلغاء الشرط يدل على حرمته، والمعاملة الفاسدة لا يجوز تعاطيها كما يقول السيوطي في الأشباه والنظائر.
إذن النتيجة متقاربة جدًّا بين من يقول بفساد القرض، وبين من يقول بإلغاء الشرط مع عدم فساد العقد، لأن العقد إذا فسد ماذا يقع؟ أرى قولين، إما أن يرد إلى فاسد أصله وهو البيع، وإما أن يرد إلى صحيح نفسه، معنى أنه يرجع قرضًا كما كان. ولا فرق إلا في الرجوع بالقيمة عند الفوات، يعني النتيجة بالنسبة لمن يقول بالتحريم وبإسقاط الشرط هي نتيجة متقاربة جدًّا أردت أن أنبه عليها وهذا في غاية الأهمية.
إذن لا يمكن أن يقبل هذا الشرط، لا بد من البحث في هذه المسألة، على ضوء التحقيق والتشقيق الذي قدمه الدكتور أعتقد أن الأمر يحتاج إلى أن يدرس، فمازال الخلاف في التكييف كما سمعنا قائمًا، وما زالت البدائل المتفق عليها إلى الآن غير موجودة.
هنا اسمحوا لي، كتبت بعض الملاحظات السريعة هكذا. البطاقة الإسلامية كما دعا إليها البعض كبديل أعتقد أنه لا يصح، لأن استعمال الإسلام في الدعاية ليغطي ربما يغطي في وقت من الأوقات ما ليس شرعيًّا أمر لا يستحسن. أسموها بطاقة بيع، بطاقة دين بطاقة تقسيط ... أي شيء آخر، ولكن أعطوها مضمونًا إسلاميًّا.
ألا يمكن أن نكتب في المحاور أن نستكتب في المحاور لإيجاد البدائل؟ على سبيل المثال وعلى أساس الخطة والأرضية التي وفرها البحث، كتابة في النظر إلى هذه البطاقة من زاوية الحوالة، وبحث يكرس للعلاقة من زاوية القرض، وبحث آخر من زاوية الكفالة، لتعقد ندوة لتقدم التكييف والبدائل في وقت واحد.(10/1233)
لقد استمعنا إلى الحوالة والكفالة والوكالة والسمسرة، لكن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ.
أخيرًا، كلمة واحدة عن حديث عائشة رضي الله عنها. عائشة ليست هي المشترطة وإنما هي التي قبلت الشرط. بل هي المشترط عليها، هو مشترط عليها، اشترطي: معناه اقبلي الشرط. ومما قالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تقريع المشترطين وأراد بيان الحكم، ولو أن الشرط لا يجوز ما ألغي، ولولا أنه لا يجوز ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟)) والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ العقروبي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
معالي الرئيس أشكرك على إتاحة الفرصة لي للتحدث في مجلسكم الموقر هذا، وأمام أساتذتنا وعلمائنا الأفاضل. ولي بعض الملاحظات على ما دار من تعقيب من الإخوة الأفاضل على البحث المقدم من أستاذنا الدكتور عبد الوهاب جازاه الله خيرًا، وهي:
ذكر الأستاذ الجناحي بخصوص بطاقات الائتمان وأنها تمر بعدة مراحل، وذكر على سبيل المثال سبع مراحل. هل نحن درسنا هذه المراحل التي تمر بها هذه البطاقات؟ أرجو أن تتاح الفرصة للإخوة يدرسوا هذه المراحل، لأن الرجل يمارس هذا العمل وهو من الاقتصاديين الذين يمارسون هذه القضية. كذلك أثار قضية البطاقة بالأجل، البيع بالأجل. وهي التي سوف تطبق ربما يلتزم بها جميع الناس في عام 2010 م. الرجاء
من الإخوة في المجمع أن ينظروا إلى مثل هذه الأشياء المستحدثة في العالم والنظر إليها بجدية.
ثانيًا: ذكر الشيخ الدكتور عجيل النشمي جزاه الله خيرا بخصوص البطاقة وعلق عليها ثم ذكر البديل. والبديل الذي هو مطروح , وكثير من الإخوة ذكروا أن البديل هو Visa الإسلامية، وهل الـVisa المطروحة من البنوك الإسلامية أصلها؟ الأصل كيف تتعامل، لأن بطاقة الفيزا مرتبطة بالشركات الأجنبية الأمريكية أو الأوروبية , فإذن كيف التعامل مع مثل هذه الأشياء؟
وكذلك ذكر الشيخ إبراهيم جازاه الله خيرًا أن البطاقات تغري كثيرا من الناس بالشراء، هذا صحيح ومع الأسف الشديد نحن واقعون في هذه المسألة عندما نسافر لا ندفع شيئًا نقديًّا نشتري به هذه الأشياء، ربما تجرنا - وما بالك بغيرنا - إلى كثير من الشراء بدون جدوى، إذن بين مضار هذه البطاقة إذا كان لم تستخدم في مجالها الحقيقي.(10/1234)
وذكر الشيخ عبد الله المنيع جازاه الله خيرا بخصوص المنظمة الدولية فما كنا عارفين بالنسبة للمنظمات الدولية هل هي الشركات الأم التي تصدر هذه البطاقات؟ أما الشيخ محيي الدين جازاه الله خيرًا فقد ذكر بخصوص البطاقات التي تصدر، وخاصة بالنسبة لقطر (بنك قطر الدولي الإسلامي) ثم ذكر أنه بالنسبة لبطاقة الصرف الآلي لا تعطى للزبائن، أخي الكريم أصبحت هذه المسألة ضرورية الآن. ربما كنتُ مخطئًا في هذا، سواء كان الآلي أو في الخارج إذا كان الإنسان عنده مثل هذه البطاقة وأراد مبلغًا ما، احتاج إلى مبلغ ما، هل لا يصرف له؟ الشركات الأخرى تصرف للزبون وتحسب على حسابه الخاص في البنك الذي يتعامل معه، وهذه من المفروض أنها تعطى من ضمن التسهيلات للأشخاص.
كما ذكر أستاذنا شوقي جازاه الله خيرًا بخصوص تسمية البطاقة، على أساس أنها كمصطلح جديد بأن تسمى بطاقة دين كما ذكر الدكتور عبد الوهاب جازاه الله خيرًا، فإذا رأيت دراسة هذه المسألة وأنها تسمى بهذا الاسم لماذا لا نأخذ هذا المصطلح ويعمم في عالمنا الإسلامي؟
ذكر الدكتور الشيخ علي السالوس جازاه الله خيرًا بخصوص مواضيع جدّ مهمة، ومن ضمن هذه المواضيع بخصوص البطاقات أنه عندما ذهب إلى الغرب وحاضر هناك أن كثيرا من الناس ألغوا هذه البطاقات، دكتور ما أعرف بالنسبة تعلم أن الكثير في دول أوروبا الإنسان لا يستطيع أن يحمل نقودا في جيبه، فكيف بنا نحن كمسلمين أن نقول لهم: لا تستخدموا مثل هذه الأشياء؟ وأن هناك إذا كان الإنسان حمل مبلغًا ما في جيبه يتوقف أو يأخذونه بالإكراه أو بالغصب. كذلك بالنسبة في بعض الدول عملاتها جدّ رخيصة وأن الإنسان إذا حمل مبلغًا ما يأخذونه بكميات كبيرة، فهذه المسائل تسهل على الإنسان إنه يأخذ هذه البطاقة وتسهل له أموره كثيرًا، فعلينا أن نبحث هذه من جميع الجوانب.
ذكر شيخنا جازاه الله خيرًا الدكتور الضرير بخصوص إقامة مجمعات لهذه البطاقات والشراء منها، دكتور جازاك الله خيرًا، الآن كثير من البنوك الإسلامية في الواقع متهمة أو كثير من الناس يتهمونها بأنها لا تفي بأغراض الناس، فكيف نجمع أغراض متعددة ومختلفة أهواء الناس ومطالبهم في مجموعات من المحلات التجارية، فأعتقد أن هذا يضيق على الناس، وعلينا أن نوسِّع على الناس بما لا يخالف الشريعة الإسلامية.(10/1235)
الدكتور منذر قحف جازاه الله خيرًا ذكر بخصوص البطاقة، البطاقة هذه كثيرًا ما نحملها صحيح كثير منا، ولكن مع الأسف الشديد في بعض المحلات يا دكتور عندما تعرف أنك ستشتري عن طريق البطاقة ترفع السعر مباشرة أمامك، يقول لك: إذا كنت ستشتري بهذه البطاقة ترفع السعر على أساس تحسب أرباح العميل الذي يتوسط في هذا الجانب.
وفي الختام أشكركم، جزاكم الله خيرًا. واسمحوا لي.
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
جرت عبارة على لسان سعادة الأستاذ الدكتور شوقي دنيا أثناء تعليقه قائلا: المناقشات بعض المناقشات تدل على عدم الاطلاع على البحث. وهو يقول هذا بحاسة المدرس المحترف الذي يعرف عندما يناقش الطالب أمرًا من الأمور يعرف من حديثه إذا كان مستوعبًا الموضوع أو أنه يريد إثبات الوجود. فجزاه الله خيرًا على هذه العبارة، ومن أجل هذا فإني قسمت المناقشين في هذه الجلسة إلى مناقشات في نفس البحث، وعين البحث فيها الكثير من التأمل والدقة، فجزى الله الأساتذة الناقدين مدحًا أو قدحًا وهذا هو النقد. جزاهم الله خير الجزاء. وأشكرهم على إنصافهم في كلا الأمرين، ولعل الله أن يستجيب ويجعلهم كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((بشر المقسطين بمنابر من نور يوم القيامة)) .
وبعض المناقشات اكتفت بقراءة الجانب الشرعي فدققت فيه دون أن تطلع على الجانب القانوني، وأنا ما أردت أن أقحم الجانب القانوني لأنه قانوني أو اقتناعًا بالغرب أو أي كلمة تقال من هذا النوع، وإنما أردت من هذا إيضاح الحقيقة.
أنا بنيت بحثي على ثلاثة أمور. لم يكن على تصور وخيال، ولم يكن على مقولات تقال، وإنما على كتب في اللغة الأم معتمدة لم يكن في اللغة فقط لم يكن بحثي في كتب اللغة وإنما اللغة هي الأساس ثم بعد ذلك العمل الجاري في تلك الأماكن. بنيت أحكامي هذه على نصوص الاتفاقيات في البنوك التي أرفقتها في نهاية البحث ودققت النظر فيها. لم أضمها إلى البحث تضخيمًا للبحث، فقد كنت خائفًا من ضخامة البحث، الأشياء والوثائق والمعلومات التي تحصلت عليها في أكثر من عام، ولا أريد أن أبالغ بأكثر، شيء كثير جدًّا، ولكن أردت أن أضع الحقائق العلمية بمنطق الواقع وأخاطب العقل. وإلا لو أردت أن أضع كل ما قيل كنت عندما قدمت للأمانة العامة كنت مترددًا أن يكون مقبولًا، أن يقبل بهذا الحجم. لأني أعرف منهج الأمانة العامة وقد رفضت بحوثًا طويلة، فاعتبرت هذا يدًا أن يقبل البحث بهذه الضخامة، اعتبرت هذا يدًا ورعاية من معالي الأمين العام رعاية خاصة بي، فجزاه الله خيرًا.(10/1236)
الإخوة الشرعيون بعضهم لم يطلع على القسم القانوني، اطلع على الجانب الفقهي فقط، والجانب الفقهي قائم على الجانب القانوني على تصور ووضع الجانب القانوني، وبعضهم التقط النقاط فقط، وأعتقد أنه ليس من الأمانة أن يعالج موضوعنا هذا أو يناقش بمثل هذه المناقشة.
على أي حال أنا أشكر كل من تحدث وكل من تناول الموضوع بدقة وعناية.
أبدأ أولًا، سعادة الأستاذ الدكتور محمد القري جازاه الله خيرًا وضع نقاطًا على الحروف، أولًا هو اعترض على الوقفة على تصحيح العنوان. أنا ما اعتمدت على الناحية اللغوية فقط، ثم اقتبس لي من كتاب الشيخ عبد الرزاق السنهوري، أنا اعتمدت على الموسوعة الاقتصادية، ولذلك كلمة ائتمان لا تطبق مع المصطلح الاقتصادي الذي يقولون عنه.
أنا أقرأ من الموسوعة الاقتصادية: الائتمان بمعنى القرض، وهذه للدكتور عمر حسين موسوعة المصطلحات الاقتصادية يقول: منح دائن لمدين مهلة من الوقت يلتزم المدين بانتهائها دفع قيمة الدين. وفي الشؤون المالية يعني الائتمان عادة قرضًا. إذا كان هذا القاموس الاقتصادي يتكلم هكذا ويقول في الشؤون المالية بالائتمان عادة قرضًا، واسمحوا لي الآن في الصحف والإعلام ألا يقال عن القرض قرضًا - تعمية - وإنما يقال ائتمان، لا يمكن أن تنهض الدول النامية المتخلفة إلا بالائتمان، هذه عناوين في الصحف فهل نقبل أن نقاد وننساق ونخدع بهذه العناوين. ثم أنا اعتراضي ليس على المصطلح لأنه شائع بين العامة يزاوله العامة، ووددت أيضًا لو قرئ البحث تمامًا في هذه النقطة، جريدة عكاظ عملت استبيان على ثلاثمائة شخص - وهذا موجود في البحث -:(10/1237)
ما معنى كلمة ائتمان؟ فمنهم من قال: وديعة. ومنهم من قال: هبة.
والبعض قال بأنها قرض.
فإذن الناس في لبس، وأنا أول من وقع في هذا اللبس. على أي حال أنا لم أكن أعتمد على الناحية اللغوية إنما الناحية اللغوية أساسًا، وذكرت المبررات لأنه يتعلق بهذا أمر شرعي. والشيخ ابن القيم نقلت عنه نقلًا عن ما كتبه معالي الدكتور بكر أبو زيد على أن المصطلح الفاسد غير مقبول، وهذا له صلة بنواحي شرعية حتى يعرفها العامة قبل الخاصة، وبعد نتهاون في هذا ونجادل في هذا، والأغرب من هذا أن يخالف الشرعيون في هذا. الضمان في بطاقة السحب المباشر: المصرف ضامن لثمن المشتريات، هذه نقطة، الحقيقة توقفت فيها، وأنا فعلًا ذكرت على أنه ليس ضامن، وهذه من النقاط التي أوافق فيها الدكتور. التاجر البنك وكالة غير سديدة، المشكلة أننا نريد أن نكيف عقد البطاقة بجميع أطرافه بتكييف واحد. ولذلك أنا ذكرت في المقدمة من أجل ألا أطيل في القسم الثاني بطاقة القرض أو عقد الإقراض في الفقه الإسلامي، أنا أقرأ الجزئية هذه لتكفيني التعليق: من الصعب تكييفه في صورته الكلية بعقد واحد، وهذا عليه أكثر الباحثين الشرعيين، حوالة، أو جعالة أو ضمان أو وكالة، أو عقدين معًا، أنا أتيت بالجانب القانوني حتى يتبين هذا الأمر كالوكالة والكفالة والجعالة. أنا عملت مذكرة تعقيبية على كل تكييف قيل في هذا المجمع وهي موجودة , وما أردت أن أقرأها، يعني المسألة هذه مذكرة تعقيبية وليست ادعاء على كل ما كتب. لأن زميلي الدكتور عبد الستار أبو غدة قال: ليته لو اطلع على البحوث وليته اطلع على التعقيبات، اطلعت على التعقيبات وهذه هنا الإشارات كلها. فنصيحته هذه أقبلها ولكن أنا أعتب عليه أنه لم يقرأ البحث، ولم يقرأ إلا الجانب الفقهي فقط، لأن كلامك لم يكن يدل على أنك قرأته.
الدكتور القري اعترف بأن البطاقة فيها قرض، ثم أنا أود أن أوجه الكلام إلى زملائي أساتذة الاقتصاد وغيرهم وهم الذين لا يتصورون أن العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها علاقة القرض. الزيادة التي لا تأتي عن تجارة أو حرفة كما هي في تسديد البطاقة متفقون بأنها زيادة ربوية، على ماذا؟ نعم على دين، كلام جميل هذه سنرجع لها يا دكتور فهذه نقطة مهمة جدًّا.(10/1238)
إذن القوانين التي أبدعتها تعتبرها قرضًا وهو قرض بالمفهوم الإسلامي أيضًا. وكان اعتراض الدكتور القري وبعض الأساتذة بأن القرض تمليك، ولكن جئت فرحًا لأن الشيخ عبد الله بن بيه جزاه الله خيرًا يشاركني العناء ويشاركني الهموم في هذا، فلم أنم بعض الظهر وجئت له بالنص وهو قد وقف عليه أيضًا، يقول المالكية وجزى الله الإمام مالك والمالكية في كل زمان ومكان خير الجزاء. يا سعادة الرئيس لا أقصد مفهوم المخالفة، ولذلك كنت دقيقا جدًّا في العبارة بين حامل البطاقة والمصدر (البنك) ، لم أقل في أي كلمة بأنه ملكه القرض، قلت خوله، منحه، هذه العبارة عند المالكية تقول: (وهو يملكه القرض) المقترض بالعقد، وإن لم يقبضه المقترض ذلك لأنه لا يتوقف عن (الحوز) .
إذن ليس شرطًا. وجزى الله المالكية خيرًا، أنقذوني على الأقل يا دكتور. الائتمان في مصطلحهم أبرز ما يكون في مدلوله هو القرض، ما علي أنا معهم أنه ليس الائتمان هو القرض، ولكن أبرز ما فيه القرض، وهذا عند المصطلح الاقتصادي أنا ما أتكلم من الناحية اللغوية فقد أتيت بها. أما الحديث مع الفقهاء الرافضين القرض وتكييف العقد كله بحوالة، أو ضمانة أو وكالة فإني أسترجع كلام الزميل الدكتور؟ الشيء يحكم عليه بنتائجه، إذا لم يسدد المبلغ أليس المتوقع أن يسجل عليه أصل المبلغ مع زيادة ربوية متصاعدة عند التأخير، ألا يكفي أن يكون هذا دينًا أيها الشرعيون؟ إذا كان إخواننا الاقتصاديون مانعوا في هذا. ألا يكفي هذا بأن نسميه دينًا؟ أعجبني بعض الإخوة في مقدمتهم الأستاذ علي محيي الدين القره داغي الجماعة الذين يمانعون أن يكون هناك تكييف على حسب علاقات الأطراف, قال: إنه باعتبارات مختلفة كل واحد يكيف وضعه باعتبار مختلف وكما نقول في عباراتنا التقليدية: الجهة منفكة، بمعنى أن أكون قد أكون أنا أبًا وأكون ابنًا وأكون جَدًّا أكون شيخًا وأكون طالبًا، فهي باعتبارات مختلفة ولا تتعارض ولا تتناقض، إذا مصدر البطاقة كونه مقرضًا، كونه وكيلًا بنص الوثائق الموجودة عندكم هنا بنص الوثائق أنه له وكيل عن حامل البطاقة في التسديد ووكيل عن التاجر يسدد له ويخصم منه ما هو عليه. هذه كلها في النصوص. إذن كونه وكيل مقرض هذا باعتبار صاحب البطاقة وكيل عنه لأنه فوضه في التسديد، ولأن التاجر أيضًا فوضه في سحب من رصيده ما هو مرجوع عليه. ووضع أيضًا في رصيده، ليس في ذلك شيء.
ثم إن العملية كلها ضمان وكفالة، مصدر البطاقة ضمن للتاجر حقه، فالمقترض مضمون والتاجر مضمون له والمبيعات مضمونة ولذلك هو يدفعها , فإذن التكييف هذا ليس منكرًا , ولذلك كل شخص حاول أن يكيف البطاقة بشيء واحد، هو ركز على جانب معين، والجوانب الأخرى تظهر عنده ضعيفة.(10/1239)
على أي حال أنا وضحت وجهة النظر هذه أو الكلام في هذا الموضوع في بداية الكلام على الفصل الأول والفصل الثاني؛ إذا صح تصوير عقد بطاقة الإقراض، إذا صح تصويرها وتكييفها بواحد من تلك العقود من جانب فإنه يختل من طرف وجانب آخر لا يسلم لصاحبه، ولذلك فإن الذين يقولون حوالة لا يسلموا لصاحب الضمان، والذين يقولون ضمان لا يسلموا لصاحب الحوالة. نحن لا نقول إن هذا كله وكالة ولا كله ضمان ولا كله حوالة.
إخوتنا الشرعيون الذين يصرون على هذا الموقف لم يطلعوا على الجانب القانوني بمعنى لم تصل إليهم معلومات جديدة، بمعنى أن البحث لم يحقق غرضه بالنسبة إليهم , فإذن ما هو إلا تكرار وشريط مكرر وإعادة لما كان سابقًا؛ لأنه لو كانت هناك قراءة متأنية لوجدت على الأقل اعتراضًا على نقطة، لكن المسك بجزئيات، التزام بمقولات سابقة، هذا دليل أنه لم يكن هناك قراءة للبحث ولم يضف البحث إلى أفكارهم شيئًا جديدًا.
يقول الدكتور القري: إن القرض تمليك. وقد شرحت هذه الكلمة، صحيح أنا تكلمت وقلت: تمليك. ولكن فيما بعد ذكرت أن المالكية، هنا يختل موضوع البطاقة على القرض، على رأي المالكية يصح , أغفلت بيان أهمية كل نوع , والله يا دكتور مجال الحديث كبير جدًّا، ولكن خشيت ألا يقرأ البحث، وفعلًا لم يقرأ عند الكثيرين فإذا كنت بدأت أهمية كل نوع، الحمد لله أعطيتموها ببحثكم حقها، وفي رأيي لم يكن لها دور في صحة التكييف، لأن هذا شيء أو كلنا نوافقكم على أهميتها، لكن أنا الآن في موضوع مهم جدًّا وهو التكييف والعلاقات.
الدكتور عبد الستار جزاه الله خيرًا ما أدري هل كان مادحًا أو ذامًّا لأنه قال نختلف معه في تصحيح العنوان وفي التكييف. وهذا هو كل البحث!! ماذا بقي من البحث يا دكتور مدح بما يشبه الذم أو ذم بما يشبه المدح. على أي حال بيننا وبينه بعض معاكسات في هذا الأمر,
هو كما قلت نصحني بأن أطلع على كل هذه الأشياء، والواقع أنني اطلعت عليها وعندي تعقيب على كل شيء، ولذلك عندي مذكرة تعقيبية لو أردت للبحث أن يطبع لا بد أن تكتب هذه المذكرة التعقيبية.
البطاقة حظيت بدراسة شرعية في الهيئة الشرعية، لكن ما خرجت بنتيجة ما فيه تصور، الشرعيون اعتمدوا على بحثين فقط، كل من كتب في الدراسات الشرعية البحوث الفقهية اعتمد على بحث الدكتور محمد علي القري وبيت التمويل الكويتي. حل يكفي هذا لكتابة بحث علمي تبنى عليه أحكام شرعية ويعطينا تصور كامل؟
أيضًا الدكتور تعرض لموضوع التسمية وأعتقد انتهينا من موضوع التسمية , يقول تغير إذا كانت تغير النظرة إلى ذات الموضوع. ما في شك تغير النظرة إلى ذات الموضوع، وأنا أول من تغير، أنا عندي بطاقات استطعت أن أتخلص من بعضها وأبقيت البعض وهو Debit Card.
الجانب القانوني يقول الدكتور عبد الستار: يحتاج إليه في مجال التنازع، تنازع البنوك، نعم صحيح، ولذلك هذه الهيئات القانونية تساعدنا على التكييف الفقهي، وهو الذي نريده، ثم نحن لم نستسلم لتكييفهم، تكييفهم هو وسيلة لوضوح الصورة، ولكن لم نخضع لقواعدهم لم نخضع لمبادئهم، وقد شرحت هذا الكلام حتى لا يلتبس على البعض كما التبس على اللغة الأم.(10/1240)
الاستنساخ البشري
إعداد
الشيخ محمد المختار السلامي مفتى الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
الاستنساخ
في شهر فبراير من هذه السنة 1997، أعلن العالم السكوتلندي (إيان ولموت) أنه مع فريقه قد حققوا خطوة جديدة في طريق التكاثر النوعي؛ إذ تمكنوا في الضيعة التجريبية في مؤسسة روزلان (Roslin lnstitute) من تطوير التقنيات التي بلغت أن نعجة ولدت نسخة منها دون لقاح.
ما قاموا به يتمثل في الخطوات التالية:
1) الخطوة الأولى: تم تفريغ كل بييضة من البييضات التي أخذوها مما أفرزه مبيض الأنثى- ذات الرأس الأسود - بعد حثه، تفريغها من نواتها وأبقوا على الستوبلازم والغشاء الواقي، وكان عددها 277 بييضة مفرغة.
2) أخذوا من ضرع نعجة من فصيلة (فان دورسات) (Fin dorset) بيضاء الرأس خلايا.
3) نزعوا من كل خلية من خلايا الضرع النواة، ثم خدروا نشاطها.
4) غرسوا داخل كل بييضة مفرغة من نواتها نواة من خلية الضرع، هذه النواة التي تحمل في الستة والأربعين وحدة، الحقيبة الوراثية (مجموع الجينات) ، وهي التي تعطي للكائن المسار الذي يسلكه التطور في كل جزء من أجزائه وتحمل جميع الخصائص الذاتية له التي سيكون عليها في الوجود الفعلي كامل حياته.
هـ) وضعت كل خلية في أنبوب الاختبار.
6) سلطوا على الخلية في أنبوب الاختبار صعقة كهربائية، مساوية للصعقة التي تحدث عند الاندماج الطبيعي بين الثلاثة والعشرين كرموزومًا من الحيوان المنوي والثلاثة والعشرين من البييضة؛ فتحركت للانقسام المتماثل.
من (277) فقط 29 أخذت في الانقسام حتى بلغت ما بين 8 - 0 1 خلايا متماثلة.
7) قاموا بزرع هذه العلقة 8 - 10 في مكانها من الرحم.(10/1241)
8) من بين 29 بلغت واحدة غاية مداها فولدت سخلة (نعجة صغيرة) حية تامة الخلق في شهر جولاي 1996 وكانت تزن 6 كغ، وهي مماثلة لأمها ذات الرأس الأبيض.
9) أخذوا يراقبون نموها حتى بلغت شهرها السابع، فأعلنوا نجاحهم العلمي للعالم، ونقلت صورتها وسائل الإعلام عبر العالم.
هذه طريقة تم نجاح العلماء السكوتلانديين فيها، ثم إنه بعد مدة قصيرة أعلن عن نجاح تجربة ثانية، هذه التجربة مرت بالمراحل التالية:
1) تم تخصيب بييضة منزوعة من قردة بحيوان منوي من قرد، ووضعت اللقيحة في أنبوب الاختبار.
2) انقسمت اللقيحة حسب سنة الله في الخلق إلى اثنتين، وهكذا.
3) عزلوا من هذه السلسلة المتلاحمة من الخلايا الجنسية الباكرة واحدة، وضمدوا بواسطة تقنيات متطورة مكان الانفصال، فأصبحت خلية مستقلة حاملة لـ 46 كروموزوما، تحتوي على البرنامج الكامل للحقيبة الوراثية التي في الخلايا الأخرى.
4) وضعوا هذه الخلية التوأم في أنبوب الاختبار وقاموا بالتقنيات التي تساعدها على التكاثر الانقسامي.
هـ) بعد مرحلة معينة من التكاثر زرعوا المجموعة الأولى في رحم قردة وزرعوا المجموعة الثانية التوأم في رحم قردة أخرى.
6) نمت كل علقة في الرحم المزروعة فيه إلى أن وضعت كل قردة قريدة توأمًا مماثلة للأخرى، في جميع خصائصها ومميزاتها، وتحمل حقيبة وراثية مساوية للتوأم، ويمكن تسمية هذه الطريقة بالتوأمية - مصدر صناعي: كالمدنية، والتماثلية، والتعددية -
ويبدو الفرق واضحًا بين الطريقتين.
1) الطريقة الأولى: حققت إخراج حيوان حي من بييضة غير ملقحة، وإنما غرس بدل نواتها التي لا تحتوي إلا على نصف كروموزومات الخلية نواة خلية تحمل الستة والأربعين كروموزومًا.
2) الطريقة الثانية: حققت إخراج حيوانين توأمين من الخلية الملقحة بعد انقسامها.
وهناك فرض ثالث لم يعلن عن تجربة ولا عن النجاح فيه لحد الآن هو إخراج توأمين أو عدة توائم من بييضة مفرغة من نواتها ويزرع فيها نواة من خلية، ثم بعد انقسامها الأولي تعزل بعض وحداتها لتأخذ في التكاثر حسبما تقدم، فتكون النتيجة حصول توائم متماثلة تماثلًا كاملًا مع بعضها، ومتماثلة مع من أخذت منه النواة أول مرة.(10/1242)
تشكيل العقول والمشاعر
تمردت وسائل الإعلام في عصرنا هذا، عن وظيفتها الأساسية التي هي وسيلة تيسير إيصال المعلومات إلى الإنسان بصدق إلى قوة غازية تثير - حسبما سطر لها المتحكمون فيها والموجهون لها - التفاعل إلى الحد الذي يرغبون في بلوغه من الإثارة، أو تنوم العواطف والمشاعر والعقول حسب المقدار المسطر إلى أن يسقط في هوة النسيان أو التعتيم.
فأصبحت البشرية من سحرها الغلاب في كثير من القضايا ترضى بالباطل وتعتقد أنه الحق، وترفض الحق معتقدة أنه الباطل والإثم والضلال المبين، وتشكلت الحقائق بالمظهر الذي يبدو من الزاوية التي يرغبون أن ينظر منها المغزوون. وهذا السلطان أعان على بلوغه الشاشة الصغيرة، باعتمادها نقل المشاهد مقرونة بالخبر، فتجاوزت وسائل الإعلام المحدودة بطبيعتها، فإذا كانت الكتب تعمل على التأثير في القراء الذين لهم مستوى ثقافي ومران أكسبهم حب القراءة، وإذا كانت الجرائد والمجلات لها قاعدة أوسع من الكتاب، فإن التلفزة لا تعرف حدًّا، وتصل بواسطة البصر والأذن إلى كل مبصر وسامع، بل لغة المشاهد الحية تعوض إلى حد جهل الناظر باللغة التي تصحب المعلومات المرسلة، والمنتقاة بطريقة بارعة لتحقيق رد الفعل المرغوب فيه عند المشاهد.
أثر الإعلام بالاستنساخ
ظهرت (دولي) سخلة عمرها سبعة أشهر نشيطة الحركة مرفوعة الرأس مصحوبة صورتها، بأنها طريقة تمت للمرة الأولى في عمر الكون معلنة عن مرحلة سوف تتبعها تطورات لاحقة على هذه السبيل في التكاثر أو في توالد أجيال الأحياء، بوسائل الإعلام المتنوعة قد تكون صورة (دولي) اليوم أعرف من العلماء الذين قاموا بالتجربة وأعلنوا نجاحهم فيها، وتخيروا لها الوضع والزاوية والضوء حتى تكون الصورة مقبولة، لا شعوريًّا من المتابعين للخبر، وأضافوا إلى ذلك تسميتها باسم (دولي) المغنية النجمة الأمريكية ذات الصدر الخصب، بما أنها أخذت من ضرع بَرُزَ واحتقن.
وعقب ذلك هزة عظيمة واضطراب في تحديد الموقف الذي ينبغي أن يقفه العالم من هذه التجربة التي هي الحلقة الأولى في سلسلة التجارب التي ربما سترتفع من النعجة والقرد إلى الإنسان. وانقسمت ردود الفعل الأولى بين مصفق للنجاح وبين رافض له، فصدرت فتوى بأن الذين يقومون بهذه التجارب مفسدون في الأرض، يجب أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، هذا أدنى عقوبة لهم، وإلا فيجب إعدامهم (1)
__________
(1) المسلمون: 14/ 3/ 97(10/1243)
وتحركت السلط السياسية حركتها المحسوبة الخطى بعوامل المسؤولية والرأي العام، وصفق للحدث المفتونون بالتقدم العلمي أينما كان مساره وإلى أية غاية سيتم الوصول إليها.
وحققت وسائل الإعلام لمن يقف وراء التجربة الهدف الذي يقصدون إليه الذي قد يكون:
أولًا: وزن رد الفعل العالمي على التجربة.
ثانيًا: امتصاص الرفض باستقرار النبأ في العقول مع التعتيم عليه إلى الأجل الذي يظن فيه أن لا يحدث رد فعل قوي إذا تعلق بما يمس الحياة البشرية مساسًا أعمق.
ثالثا: التعريف بالقدرة العلمية للقائمين على المخبر، ومستواهم التقني في ميادين التجربة، وهو ما يحقق لهم أرباحًا هامة، وهذا هو الدافع الكبير - إن لم نقل الوحيد - لهذه البحوث، فشركة P.P.L الإنكليزية لصناعة الأدوية، هي التي مولت مخبر بحوث روزلان، وهي التي تملك البراءة، وقد ارتفعت أسهمها غداة الإعلان بـ 13 % في بورصة لندن.
المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية
في هذه الساحة المضطربة والقلقة أراد القائمون على المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية أن ينظروا في الموضوع نظرة متأملة مسؤولة - وذلك كشأنهم - لتحديد النظرة الإسلامية إلى التطورات التي تحققت أو ستتحقق في الميدان الطبي، والبيولوجي الطبي، ووصلني البحثان القيمان للأستاذ الكبير في الطب والأديب البارع الدكتور حسان حتحوت، والبحث القيم للعالم الدكتور أحمد رجائي الجندي الأمين العام المساعد للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، والبحوث الثلاثة تتلاقى في الكشف عن التجربة، ثم في إثارة ما يمكن أن ينشأ عنها، وقد أفدت من هذه البحوث ومما طالعته في هذا الموضوع، فتبين لي أن البحث يجب أن يتناول دائرتين:
الدائرة الأولى: هي تدخل الإنسان في ميدان الاستنساخ والتوأمية.
الدائرة الثانية: هي تدخل الإنسان في الحقيبة الوراثية.
الدائرة الأولى: تدَخُّل الإنسان في الاستنساخ والتوأمية
1) تدخل الإنسان في عالم النبات.
2) تدخل الإنسان في عالم الحيوان.
3) تدخل الإنسان في البشر.(10/1244)
الاستنساخ النباتي:
إن الاستنساخ في عالم النبات قد فتح أبوابًا للعلماء للتحصيل على الفسائل بأقصر طريق وبأقل ثمن، مع الاطمئنان على نوعية الأثمار وخصائص الشجرة التي ستكون كالأصل المأخوذة منه في قوتها ومقاومتها للأمراض ووفرة عطائها ومذاقها، وفي هذا الميدان فإن الأمر الهام هو تكوين المختصين في البحث وتمويل المخابر العلمية، وحفز الهمم للمضي قدمًا في هذه السبيل، فصيحات الفزع من الانفجار السكاني العالمي والخوف من المجاعات ومن اختلال التوازن بين عطاء الأرض والأفواه قد تصبح رؤى أحلام تبددها خصوبة يقظة العلم تحقيقًا للإرادة الإلهية، ولإذنه السامي في تسخير الأرض للإنسان في حياته الدنيا.
الاستنساخ الحيواني في دائرة العلاج:
لما ظهرت صورة الفاتنة دولي ثار سيل عارم من الأسئلة:
السؤال الأول: هل يعتبر هذا العمل تحديًا للقدرة الإلهية؟ هل أصبح الإنسان خالقًا خَلَقَ خلقًا كخلقِ الله؟ هذه القضية التي تحدى بها القرآن الذين اتخذوا آلهة من دون الله {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]
فالقرآن يؤكد في غير ما آية على هذه الحقيقة التي هي عجز كل مخلوق أن يقدر على الخلق، وها هو الإنسان قد وصل إلى الخلق!
إنّ تَصوّر ما قام به هؤلاء العلماء أنه خلق هو تصور خاطئ ينبئ عن سذاجة من توهمه , ذلك أن غاية ما قاموا به أنهم درسوا قوانين الخلق الإلهي ووعوها وقاموا بتطبيق ما علموا على ما عملوا، فهم لم يوجدوا خلية ولا نواة ولا كروموزومًا، وليس لهم أي تحكم في قسر الخلية على الانقسام والتكاثر لمجرد الإرادة والتسلط، فهي سلسلة متتابعة في التوالد عرفوا كيف يدخلون عليها عوامل من خلق الله ليحدث ما يحدثه الله أرادوه أو لم يريدوه.
والذي يرفع كل ريبة أن الله أرى العالمين أن خلق الإنسان من الذكر والأنثى هو سنة في الطبيعة ذاتها يصل إليها الإنسان بالبحث. فالأجسام مثلًا تنجذب إلى الأرض هذه هي السُّنَّة، ومع هذه السنة المدركة مظاهرها إدراكًا عامًا هناك سنن تمكن الإنسان بذكائه أن يخرج هو، وأن يخرج آلاته من منطقة الجاذبية. والله خلق نسل الحيوان من الذكر والأنثى حسب التكاثر الذي يجري عليه أمر بقاء الفصائل الحيوانية، ويصل الإنسان بعلمه إلى تحويل هذه السنة الكونية، وكما قال عمر: " بل خرجنا من قدر الله إلى قدر الله ".(10/1245)
السؤال الثاني: لماذا هذا المجهود ولم تصرف هذه الطاقات البشرية؟ أليس هذا عبثًا؟! فإذا كان كل نوع من أنواع الحيوان يتكاثر بالطريقة التي طبع الله عليها الكون , فلماذا هذا العبث والجهود المهدرة وزعزعة المسار المألوف والوافي بحاجات البشرية؟
إن الذي قام به العلماء ليس القصد منه العبث بالخلق، إن الأمر جدٌّ، وإن العلم قد ارتبط بالاقتصاد، وإنه إذا كانت الحضارة التي كتبت لها اليوم أن تنفرد بسيادة العالم، أعني الحضارة الرأسمالية الغربية، فإن كل مظاهر النشاط العلمي والثقافي والاجتماعي هي مطبوعة بطابع هذه الحضارة وموجهة في الطريق الذي ينسجم معها، في القانون الذي هو القطب والمعيار: (دعه يعمل) الحرية.
ولذلك لا نفهم القصد من هذا العمل إلا إذا نظرنا إليه من زاوية الربح المادي المترتب عن ذلك، إن هذه الحيوانات التي أمكن للعلماء أن يتدخلوا في خليتها الأولى بإبرهم المكروسكوبية قد تمكنوا حتى قبل هذه التجربة من أن يضموا إلى الكروموزومات جين إحدى البروتينات الصالحة لمعالجة بعض الأمراض، وأعطت هذه الحيوانات في ألبانها كمية كبيرة من هذه البروتينات وصلت إلى خمسين نوعًا في سوق الدواء كلها مستخلصة من ألبان النعاج والمعز والخنزيرات، وفي الأخير الأبقار، ولهذا صور بعضهم هذه الطريقة بأنها منجم لا ينضب لاستخلاص ما ينفع الإنسان ويداوي أسقامه، وسوف تفتح هذه التجربة الناجحة بواسطة الاستنساخ آفاقًا أرحب.
يقول الدكتور مارتين بيريز Martin perez بعد أن عدد أنواعًا جديدة من البروتينات العلاجية التي بصدد التجربة والتي سيكون لها دور كبير في علاج بعض الأمراض، يقول: إن اكتشاف هذه الأدوية الرائعة لا تعود إلى المصادفة، بل إن الباحثين قد استطاعوا أن يعزلوا الجين البشري الذي لبرنامجه تأثير في التعرض لمرض معين، وصنعوه في أنبوب ثم لحموه بجين بروتين لبن الثدييات، فوصلوا بذلك إلى تصنيع جين قادر أن ينتج مع بروتين اللبن، بروتينًا علاجيًا مرغوبًا فيه.(10/1246)
ولكن منظمة الصحة العالمية أيقظت العالم من مركز مسؤوليتها على الصحة العالمية، إلى ما يمكن أن يصحب هذا المنهج في التحصيل على الدواء من مضاعفات سلبية قد تكون خطرًا على الإنسان، فقد جاء في الإعلان الذي جاء على لسان الناطق باسم المنظمة الدكتور هيروشي نكاجاما: " إنه إذا كانت آثار الاستنساخ الحيواني والأنواع المتغيرة جينيًّا يمكن أن تكون إيجابية، فإنه يجب أن نكون دائمًا على حذر من الآثار السلبية كخطر انتقال أمراض للإنسان، بمجاوزة الحدود النوعية، وعلى جميع الأحوال فإنه ينبغي دومًا ملاحظة مبدأ الاحتياط، بأن يكون بين أيدينا دومًا المراجع التقنية والخِلقية التي تؤمن صحة وكرامة الإنسان وتحفظها بصفة كاملة ".
إن هذا التحذير الذي صيغ في قالب واضح دون أن يتعرض للطرق التنفيذية، التي قد تقترحها المنظمة بعد عقد لقاءات تجمع الباحثين والعلماء، والتي ستكون أول حلقاتها ستلتئم في نهاية شهر إبريل حسبما جاء في التصريح، إن هذا التحذير يجب أن يفهم على أساس كبح التسرع في الإعلان عن النتائج أو الاطمئنان إليها في ميدان ما يزال جديدًا، والذي قد تكون آثاره السلبية بطيئة لا تظهر إلا بعد مدة طويلة.
إن ظاهرة التسرع في عرض الأدوية الجديدة للرواج العام؛ أمر يدركه أهل الاختصاص وغيرهم، فقد حصل في هذه السنوات الأخيرة أنه يسحب من الأسواق أنواع من الأدوية كشفت التجربة عن آثارها السيئة على الصحة بعد أن استهلكها المرضى وعلقت آثارها السيئة بأبدانهم، واستقل أصحاب البراءة بالغُنْم، ولكن وسائل الإعلام تعتم على هذا الجانب السلبي ولا تتولى نقده وإثارة الرأي العام العالمي، حتى يكون سندًا لاستصدار ميثاق عالمي للأدوية، يكون الإنسان وصحته الغاية التي تحكم ترويج الأدوية، وليس وسيلة تشبع جشع الشركات الكبرى المصنعة للدواء.
إن تجربة (دولي) ينظر فيها من نواحٍ عديدة:
أولًا: باعتبار أنها تجربة تعطي للمختصين إمكانات أوسع لاستخراج أدوية جديدة تساعد على الشفاء من أمراض ما تزال لحد اليوم مستعصية على العلاج، أعجزت الأطباء عن تخفيف آلام المصابين أو إنقاذ حياتهم، ومن هذه الناحية فإن التجربة مشروعة والاستمرار فيها لتبلغ الدقة اللازمة لا يختلف حكم ذلك عن حكم تصنيع بقية الأدوية لنفع الإنسان.(10/1247)
كما ينظر فيها ثانيًا من ناحية اتخاذ الحيوان وسيلة وحقلًا للتجارب، وهذا أمر مشروع، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} . [البقرة: 29]
فجميع الكائنات فوق هذه الأرض وفي باطنها وفي جوها والتي هي من خلق الله ومملوكة له، قد مكن منها الإنسان ليستفيد منها ويطورها تبعًا لما آتاه الله من ذكاء وقدرة على تطويعها في نطاق مصلحته الحقيقية، لا في نطاق هواه ونزواته، ودون تعسف أو فساد.
كما ينظر فيها ثالثًا على أساس أن ذلك مستوى علمي ستظهر الحاجة إليه واعتماده، فينقلب السعي إلى بلوغ ذلك المستوى واجبًا كفائيًّا على الأمة، على ما حققه أبو إسحاق الشاطبي من أن المباح أو المندوب بالجزء ينقلب واجبًا بالكل، فإذا كان التوجه للاستفادة من استنساخ الحيوان في ميدان العلاج أمرًا غير واجب على كل فرد من أعضاء الأمة الإسلامية، فإنه من ناحية تحتم أن يكون في الأمة الإسلامية من يغنيها في هذا الميدان عن الاحتياج لغيرها ينقلب واجبًا كفائيًّا تأثم الأمة كلها بتقصيرها فيه إذا هي لم تخصص الاعتمادات اللازمة والإطارات المقتدرة على البحث والاكتشاف.
الاستنساخ الحيواني لتحسين النوع
كما فتح الاستنساخ الحيواني لمخابر الدواء طرقًا جديدة في استحضاره، فإنه فتح في ميدان الفلاحة إمكانات جديدة لتحسين الإنتاج كمًّا ونوعًا.
لقد شرعوا في تجربة زرع الأجنة الممتازة المأخوذة من بييضات من أبقار مختارة لسرعة نموها أو لوفرة ما تدره من ألبان أو لمذاق لحمها، بعد تخصيبها خارج الرحم من فحول ممتازة؛ فتحمل البقرة اللقيحة لتبلغ بها إلى ولادتها في أمدها. ابتدأت البحوث من سنة 1940 وبلغت نجاحها سنة 1970، حتى وصل عدد الأبقار التي حملت بهذه الطريقة في سنة 1996 (27000) بقرة بفرنسا.
إن هذه التقنية تأخذ مرحلة جديدة بعد الاستنساخ، ذلك أن الشبه في اللقيحة المخصبة خارج الرحم لا يحقق تماثلًا تامًّا بين البقرة صاحبة البييضة وبين النتاج، أما بواسطة التقنية الجديدة فإن التماثل سيكون قريبًا من التمام، وبذلك يمكن في النهاية امتلاك قطعان من الأبقار متماثلة في الشكل والعطاء وقوة المناعة مما يوفر أرباحًا أكثر للفلاحين.(10/1248)
تنبيه أول: إن سِفْرَ الحياة علمنا من الواقع المشاهد ما علمناه يقينًا بواسطة الوحي أن علم الإنسان محدود وقليل، وأنه لا يحيط بالموضوع إحاطة كاملة ولا يتأتى الكامل من الناقص، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]
ولذا فإنه كثيرًا ما ينخدع العلماء والباحثون بما ينكشف لهم من الجوانب الإيجابية لتجربة فيجزمون بصلاحها للحياة ثم تصبح في التطبيق المستمر شواهد غفلتهم وحدود معرفتهم، ولكن بعد هدم وتخريب. جنون البقر الذي كان حصيلة تغذية، وصفت بأنها علمية ومفيدة وتعطي للأبقار ما هي في حاجة إليه من متنوع العناصر المستحضرة صناعيًّا إدرارًا للألبان ونموًا سريعًا في الوزن، مع نتيجة المعادلة التي هي دومًا وفرة في الأرباح؛ فزيادة القطعان التي اضطربت حياتها وضعت قوائمها عن حملها وفسدت فطرتها، سرى الداء إلى الإنسان الذي تغذى من لحومها وألبانها وسجلت وفيات من تأثير ذلك.
إن الاستنساخ لتحسين النوع يجب أن يحرم إدخاله في حياة الإنسان إلا بعد أن تمضي مدة كافية تنفي كل احتمال ضرر للإنسان من تناول لحم أو لبن الحيوانات التي تمت بواسطة الاستنساخ، حسبما يقرره الخبراء الذين لا تربطهم صلة بالمخابر باستمرار المراقبة الحازمة جيلين أو ثلاثة حتى نطمئن على سلامة صحة الإنسان وأنه لا يمكن أن تظهر أعراض متولدة عن التناسخ ضارة.
تنبيه ثانٍ: إن عالم المكروبات عالم متطور ما يزال العلم بعيدًا عن الإحاطة بالعوامل التي تعمل في تحولاته العميقة وتشكله ومناعته، حتى فيروس الزكام يغالطنا باستمرار، وتبين التجربة أنه كثيرًا ما يتم تلقيح البشر بما يكسبهم المناعة منه، ولكنه عندما يغزوهم يكون قد تشكل بشكل جديد خادع لا تستيقظ له قوة الدفاع الذاتي، فكذلك قد تحدث أوبئة فتقضي على سلالات تكون عاجزة عن مجابهة جيوش المرض، وتقاوم سلالات أخرى فتصمد ويكتب لها الاستمرار، فالمضي في التجربة يجب أن يصحبهما دومًا الاحتفاظ بالسلالات الأخرى حتى لا ينقطع النوع في الحالات غير المتوقعة والتي يجب أن لا تغيب على القائمين على أمن الغذاء للعالم.(10/1249)
الاستنساخ البشري
إن استمرار الحياة البشرية قد تم في تاريخ الكون بطريقة واحدة، أن تلقح بييضة الأنثى بالحيوان المنوي داخل الرحم فتنشأ الخلية الأولى التي حسب قوانين الخلق حتى تبلغ إنسانًا سويًّا قادرًا على التأقلم مع الأرض ومحيطها، ولم يشذ عن سنة الخلق هذه إلا آدم عليه السلام، فقد خلق بأمر التكوين من غير أب ولا أم، وحواء زوجه التي خلقت كأول أنثى من آدم، وعيسى عليه السلام الذي ولدته أمه وليس له أب , إعلان من القدرة الإلهية للإنسان بأن التوالد على سنة الاتصال الجنسي ليس أمرًا يقضي به العقل، ولكنه أمر نظّم عليه الكون، مما يعبر عنه بالقوانين الطبيعية، والقوانين الطبيعية تُخْرَق، أما القوانين العقلية فهي ثابتة مستمرة لا يلحقها خلل ولا استثناء متى كانت صحيحة.
ومنذ القرن الماضي أخذ الطب يتدخل في الإنجاب؛ ففي سنة 1884 تم في أمريكا الشمالية حقن كمية من المني داخل الرحم لستر عدم خصوبة الزوج، وتبقى هذه الطريقة محاطة بالسرية الكاملة، فلا يعرف المانح أين ذهب ماؤه، ولا تعرف المرأة صاحب المني، ولما تمكن العلماء من تجميد اللقاح تيسر انتشار هذه الطريقة في الخمسينات، وهذا محرم في نظر الإسلام، واختلاط الأنساب فيه واضح.
وفي سنة 1978 تطورت التقنيات فتمت ولادة لويز بروان، بتخصيب ببيضة أمها باللقاح خارج الرحم in- vitro في بريطانيا، واستمرت هذه التقنيات في حالات كسل الحيوانات المنوية أو قلتها أو في حالة انسداد قناة فالوب موعد اللقاء والاندماج بين البييضة واللقاح.
وفي سنة 1983 وصلت التقنيات لتجميد اللقائح، الأمر الذي يمكن من الاحتفاظ بها لمدد طويلة، فاتسعت دائرة استخدام طريقة الحمل بواسطة زرع هذه اللقائح في الرحم بعد تحريكها من جديد لتبدو الحياة الكامنة فيها. وفي سنة 1993 تمت أول محاولة للاستنساخ البشري في الولايات المتحدة الأمريكية على الطريقة التوأمية وتم الإعلان عنها في مؤتمر الخصوبة الأمريكية بمدينة مونريال.
وأعلن العالمان اللذان قاما بها أنهما عزما من أول الأمر على أن تكون تجربتهما تقف عند حد محدود ولا تنتهي إلى غاية المدى الذي تصل فيه اللقيحة إلى إنسان مكتمل الخلق، ذلك أنهما خصبا البييضة بأكثر من حيوان منوي، فأصبحت بذلك محكومًا عليها سلفًا بالتوقف عن الانقسام وبالموت. واعتبر المؤتمرون تجربتهما أفضل ما قدم في المؤتمر لما اعتمدته من تقنيات دقيقة ومضبوطة أدت إلى عزل خلية عن أختها مع الحفاظ على كل مقومات الحياة لها للاستمرار لو لم تخصب قصدا بأكثر من واحد، وتحصلا بذلك على جائزة أهم بحث في المؤتمر.(10/1250)
وإذا كان المؤتمرون قد رأوا في هذه النتيجة فتحًا حقق في ميدان الواقع ما كان ينظر إليه من قبل كفرض من الفروض بعيدة التناول ونوهوا مكرمين صاحبيه، فإن وقع الخبر لما تردد صداه في أنحاء العالم كان له دوي هائل في أوساط علماء الدين وعلماء الأخلاق والفلاسفة ورجال السياسة والصحافة والإعلام.
وما أن أطلّت (دولي) تغازل البشرية أو تتحداها حتى ملأت الدنيا وشغلت الناس، وحق للإنسان أن يشعر بالخطر الداهم من الزلزال الذي سيدك كل ما بنيت عليه البشرية من قيم وأخلاق وروابط اجتماعية.
إن القرن العشرين الذي ورث حصاد ما زرعه الفكر الإنساني في حقل المعرفة من أول الكون إلى اليوم قد تمرد فيه العلم تمردًا أعماه عن البصر بدوره الذي هو إسعاد البشرية، فعزل الغاية، وقصر همَّه على ذاته فانطلق بدون هدى يهديه ولا قيم تحكمه، يبني ويهدم يعمر ويخرب، ويستعبد الإنسان ثم يرمي به في زاوية العجز ليقضى عليه.
إن قرننا هذا هو قرن الزلازل.
فما إن انتهى النصف الأول حتى فجر العلماء ما خلق ليكون ملتئمًا، فجروا الذرة فكان للفيزياء الدور الرائد، وتسابق رجال السياسة للبذل السخي على تطوير البحوث والتجارب وخزنوا من قوة التدمير ما يكفي لإفناء الأرض وما عليها مرات متوالية.
ويكفي أن يتسرب حتى الشعاع من مفاعل ذري قالوا إنه للسلم والحياة المدنية السهلة، حتى يدمر الحياة من حوله ويأتي على الأخضر واليابس. وما تزال إلى اليوم مشكلة النفايات التي يبقى إشعاعها أكثر من ألفي سنة حملًا مرهقًا عجزت البشرية عن إيجاد حل له يؤمن المحيط من تلوثه المخرب، وإذا استعصت مشكلة النفايات إلى هذا الحد فأعجزت؛ فإنه يبدو أن التخلص من السلاح النووي ما يزال خيالًا بعيد المنال. أدخلوا العلم المنبت المتمرد في هاوية الخراب والتدمير، وأوهموا الإنسانية أنها تقدمت؛ ولكنه تقدم إلى الفناء والعذاب.
وما أن استيقظ العالم مما جرفتنا له العلوم الفيزيائية حتى قامت العلوم البيولوجية تأخذ صدارتها في نهاية القرن، مؤذنة بانهيار كل القيم الإنسانية سواء أتعلقت بكرامة الإنسان أو بالأصول التي يقوم عليها الترابط الاجتماعي أو بالمشاعر والعواطف التي كانت لُحمة النسيج الرابط بين البشر.(10/1251)
نعم إن العلماء لم نسمع منهم إلى حد الآن أنهم قد وصلوا إلى الاستنساخ البشري، ولكن الاستنساخ قد خطا خطوة عملاقة وسريعة. كانت المحاولة الأولى الناجحة أجريت على الضفادع سنة 1975، أجراها العالم جون قوردون في أكسفورد، أخذ الخلية من مصير شرغوف هو ولد الضفدع في تطوراته (قبل أن ينقلب ضفدعًا) ، ومن جلد ضفدع بالغ وبما أن نواة خلية الضفدعيات أضخم من نواة خلية الثدييات، فإن التجربة كانت أيسر، ومع هذا فإن الضفادع المستنسخة كانت عقيمة، إذ لم تصل إلى الضفدع البالغ، والنجاح في استنساخ (دولي) ، معناه أنه قد تم التغلب على كثير من المعوقات واقترب العلم جدًّا من التدخل في استنساخ الإنسان.
وما الذي يمنع العلماء في مخابرهم من القيام بهذه التجربة؟ إن الستار الحديدي أطلق تجوزًا على العالم الشيوعي إبان الحرب الباردة، ولكن الستار الحديدي الذي أحكم عزله عن العالم الخارجي هي المخابر، لا يقل حرص الشركات عن حرص الدول على صيانتها من الأسماع والأبصار، وتقوم فرق حماية التجسس في كل دولة على هذه المخابر حتى لا يتأتى اختراقها لأحد، ويكاد الضنّ بها والاحتياط ومحاولات التجسس لا تختلف بين الدول المرتبطة بأوثق الروابط الاقتصادية والدفاعية وبين الدول التي تقوم علاقتها على أخذ الحيطة لكل واحدة من الأخرى.
إن هذه الأسوار العازلة للمخابر وما يجري في عوالمها الداخلية، وسلطان السبق للأسواق والاستئثار بما يدره الجديد من أرباح مما يزيد الأمر خطورة وتعقيدًا.
إنه إذا جاوزنا قصار النظر الذين لا يرون في (دولي) إلا نجاحًا علميًّا، وأن العلم سالك سبيله في البحث والاكتشاف، وأن طبيعة العقل البشري أن تستفيد من الحاصل لتنطلق منه إلى المجهول حتى إذا غدا المجهول معلومًا فتح للعلماء آفاقًا جديدة من البحث عن مجاهيل أخرى وهكذا دواليك، وأن العهد الذي كانت الكنيسة توقف سير العلم قد ولى من بداية عهد التنوير، وأن استنساخ البشر يحل مشاكل كانت مستعصية كالأم التي حرمت الإنجاب لعقم خلقي فيها أو في زوجها، فيصبح في الإمكان أن تنجب وأن تنعم بالولد، والأسرة التي فقدت ولدها يمكن أن تكون نسخة منه محفوظة مجمدة فيحضنها رحم الأم أو رحم مستعار وما هي إلا تسعة أشهر حتى يكون شقيق الميت المساوي له في كل الصفات يملأ حياتها بهجة، وإذا تعرض الولد لمشاكل صحية وتعذر الحصول على عضو لا يرفضه جسم المريض أو خلايا نخاع أو كبد أو غير ذلك، فإنا نجد في النسخة المحفوظة ما يساعد الأطباء على إنقاذ حياة التوأم. وهكذا في سلسلة التطبيقات الداخلة في إطار الخيال العلمي مما يتوقع تحققه ومما هو بعيد عن التحقيق.
إن كل ما سمعته من أقلام المؤيدين أجده لا يصمد أمام المبادئ الآتية:
فالعلم حقًا قد تحرر من وصاية الكنيسة عليه، وأن هذه الحرية هي التي مكنت الحضارة الإنسانية من المكاسب التي دخلت كل ميدان، واستفادت منها حتى الكنيسة ذاتها في تعديل مواقفها ورؤاها. فالنظرة الموضوعية للأشياء والأخذ بمبدأ قبول الحقائق التي يؤمن بها البشر عن تقليد للتعديل حسبما يؤدي إليه سلطان العقل وما تبرزه التجربة، وأن الحقائق الكونية مرجعها التجربة فيما تثبته والعقل فيما يتصوره ويتأكد عنده بالبرهان ثم ينجلي عنه الشك والزيف بالعيان تطبيقًا عمليًّا متكررًا إلى أن يذوب كل أثر للمصادفة أو للظروف الطارئة وغير الثابتة.(10/1252)
وليس معنى تحرر العلم من سلطان الكنيسة أنه استبدل كرامة الإنسان وحقوقه بحريته، وإن شئت فقل: إنه فرق عظيم بين حرية البحث الذي يسعد الإنسان، والبحث المدمر للإنسان، إنه ليس السلطان الغيبي الذي لا يعطيه العلمانيون أية قيمة هو الذي يصرخ بالمنع. ولكن إلى جانب ذلك الإنسانية يعلو صوتها مستغيثة من تمرد التجارب اللامسؤولة ودخولها نطاق الإنسان ذاته لتحطم عزته وحقوقه، فليست وصاية على العلم، لكن تبصير العلم بحدوده حتى لا يدمر نفسه ويدمر الإنسان معًا؛ هذا الإنسان الذي تكمن سر إنسانيته في كرامته، وذهاب كرامته معناه ضياعه وضياع مكاسب الإنسانية التي جاهدت وما تزال تجاهد في الحفاظ عليها والتي تعتبر كل المكاسب الحضارية الأخرى متفرعة عنها ومنبثقة منها.
والإسلام يؤكد على صيانة الكرامة الإنسانية.. تناولها القرآن بطرق مختلفة وبأساليب متنوعة تفضي كلها إلى الحقيقة التي لا تقبل الإخلال بها في عرف الحق الذي أنزله الله - أن الإنسان مكرم , وغاية لا وسيلة.
إنه من أول مراحل التكوين البشري، يبرز القرآن كرامة الإنسان وتفضيله بجعله خليفة في الأرض، بتمكينه من المعرفة والوصول إلى الحقيقة، بسجود الملائكة له، وبتمكينه من الاختيار في حياته، إذ كل الكائنات تسير حسبما هو مودع في ذاتها إلى أن تفنى، يستوي في ذلك أصغر كائن كالهباءة وأضخم كائن من الكواكب، كلها تسير وفق قانونها المودع فيها لا تحيد عنه، وكرم الإنسان فأعطي القدرة على الاختيار ثم اعتبر هذا حقًّا له، فالآيات القرآنية تعتبر التسلط على الإنسان التسلط السالب لاختياره تعديًا مرفوضًا وغير مقبول بحال، حتى الحق الذي جاء به القرآن لا يكره الناس عليه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] , {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] وعبر عن هذه الحقيقة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما خالطت أنوار الهداية الإلهية قلبه وعقله: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ "
فاتخاذ نسخة موازية للتوأم والاحتفاظ بها لتكون رصيدًا لقطع الغيار لأخيه التوأم إهدار للقيمة الإنسانية التي يتساوى فيها المولود والمجمد يوم أخذت نسخته فأودعت الرحم وأودعت الأخرى التبريد الآزوتي. وصورة أخرى إذا كبر التوأم ولم يحتج إلى أخيه فهل نحكم عليها بالإعدام أو نبقيها إلى أبد الآبدين، مع ما في التجميد من خطر الاختلاط، فقد أعلنت جريدة الفيغارو في سنة 1995 أن الخطأ في اللقائح المجمدة يصل إلى 10 % في إنكلترا.
أولًا: أن اللقيحة أو البييضة المعوضة نواتها بنواة خلية تامة، كائن إنساني في أول مراحل حياته، له من الكرامة ما يتناسب مع عمره ولا يقبل أن تكون وسيلة لغيرها.(10/1253)
ثانيًا: فإن الله لما كلف الإنسان بمهمة تعمير الأرض خلقه خلقًا يمكنه من ذلك، فتعمير الأرض لا يتحقق إلا بتوجه كل فرد إلى ما يلائم مواهبه وإمكاناته، ثم ضم ما ينتجه جهده إلى جهود إخوانه وإفادته منها؛ ولذا كان الاختلاف ضروريًّا لعمارة الكون، فلو اتحدت أذواق وعقول وميول البشر لانصبوا على مكان واحد وعلى عمل واحد وعلى إنتاج واحد، الأمر الذي يساوي في الحقيقة التعطل العام المطلق، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]
ثالثًا: إن الاجتماع البشري يقوم على أساس العائلة، واستمرار طفولة الإنسان، واحتياجاته سنوات إلى من يقوم عليه بالتربية للتطور، وليسلم عقله ومشاعره وقواه الجسمية، تجعل قيام راشد واحد بذلك حِملًا ثقيلًا، ولذا فإنه في حالات اليتم العارض يدعو الإسلام بقية أعضاء الأسرة والجماعة الإسلامية لبذل رعاية خاصة للأيتام تعويضًا عما فقدوا وكانت القوامة والحرمة للزوجين الذكر والأنثى، والاستنساخ يهدم القيم الاجتماعية كلها، فيقيم الحياة على المرأة التي هي العنصر الذي لا غنى عنه فيه، ويصبح دور الرجل لا يتعدى إشباع الشهوة، فالمرآة هي التي تفرز البييضة وهي التي تحملها، فإذا تعلقت الرغبة بولادة الأنثى أضحى أي دور للذكر، وإذا تعلقت الرغبة بميلاد ذكر، فإن دوره لا يتعدى أخذ خلية من خلاياه، وقد تكون شعرة من شعره كافية، والله يقول: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]
ر ابعًا: إن التقدير المحكم الذي يسير عليه الكون، مما تمت ملاحظته فيه من أسرار، أن التوازن بين الذكران والإناث متقارب دائمًا، فإذا اختل التوازن زمن الحرب بموت الرجال في الحروب عاد التوازن سريعًا بتفوق ولادة الذكور، فلو ارتبط الإنجاب برغبة النساء وهن حسب قانون الاستنساخ صواحبات الحق والدور الفعلي، فإن الاختلال سيلحق المجتمع في تنوع الجنس، قال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) } .
[النجم: 45 -46](10/1254)
خامسًا: ماذا ستكون علاقة النسخة؟ هل النسخة باعتبار أنها تحمل نفس الحقيبة الوراثية، وأنه سيبرز كل خط من خطوط البرنامج في النسخة، فهل تكون النسخة بالنسبة للمأخوذ منها وهي أنثى، أختًا لها أو بنتًا، أو هي ذات واحدة في شخصين؟ ما علاقة النسخة بالزوج، أهي ربيبة أو هي أخت زوجته أو هي زوجته كما لو تضخم ثدي زوجته أو يدها أو رجلها أو أي جزء من أجزائها، مع أن زوجته هي التي ولدتها في حال قيام العلاقة الزوجية. ولو حملت الزوجة بالنسخة من الزوج وسيولد ذكرًا، هل يكون أخًا لزوجها، وقد حملته في بطنها وولدته، أو يكون زوجًا لها في صورتين الأصلية والنسخة، أو يكون ابنًا لها؟
ولو فرضنا أن الزوجة أُعجبت برجل , فأخذت خلية من خلاياه، ويكفي شعرة واحدة سقطت من رأسه ثم تستكمل المراحل حسبما وصفناه , فتكون صلته بالزوج كصلته بالزوج الذي خدعته زوجته وحملت من غيره، يجب عليه شرعًا أن ينفي نسبه منه، لأن اختلاط الأنساب محرم في شرع الله، وليس قبوله أو رفضه مرتبطًا برضا الزوج، لأنه عندما يولد على فراشه سيكون اتصاله النسبي بكل أصوله وفروعه، ولا يحل له أن يدخل عليهم من ليس هو منهم.
ولو فرضنا الزوجة أن الزوجة لإعجابها بأبيها (وكل فتاة بأبيها معجبة) , فأخذت نواة خلية من أبيها وأُودعت مكان نواة بييضتها , ثم غُرست في الرحم، ووصل المولود إلى أمد وضعه؛ هل يكون هذا المولود أبًا لها، أو ابنًا أو أخًا؟
إن الصور التي يمكن أن تحدث من المضي قدمًا في هذه التقنية لا تحصر، وإنها في معظم الأحوال ستؤدي إلى فوضى في العلاقات البشرية، ثم إنه لا يستطيع أي فرد أن يتصور الانعكاسات السلبية لذلك على التوازن النفسي للإنسان في المستقبل، وبذلك فهي خطر على الإنسان وخطر على العلم ذاته الذي هو ثمرة الصحة العقلية والنفس السوية.
سادسًا: إن هذه التقنيات يوم يكتب لها أن تصل إلى غاية مداها فستفتح على مصراعيها أبواب استئجار الأرحام، فإذا كان الفقر والخصاصة، والجوع والعراء قد وصلت بالإنسانية إلى التجارة في السوق السوداء بالأعضاء البشرية، وإذا كان في كثير من الدول الآسيوية والإفريقية يرضى الإنسان أن يبيع كليته لمن يربح فيها أضعاف أضعاف ما يبذله للإنسان (الشيء والمتاع) ، فإن سوق استئجار الأرحام ستكون قطعًا نافعة بمقدار تعدد الأغراض وسعة مسالك الشهوة والخطيئة.(10/1255)
1) تلتجئ إليها العاقر التي ترغب في تعمير بيتها بأنفاس الطفولة البريئة، ونغمات أصواتها التي توقظ الأم من عمق النوم وتلهيها حتى عن نفسها، فترغب العاقر في القيام بتمثيلية تعيش فيها مع الخيال أشواطًا، ذلك أن الأم ترتبط بوليدها من أول ما تشعر أنها أصبحت حاملة لحياة في أحشائها، محتضنة لاستمرارها في الوجود في بطنها، ثم تتأكد الصلة كلما نما، وتنسج مع إحساسها بحركته الأولى حركتها النفسية لرؤيته يومًا بين يديها حتى يثقلها فتضعه، وسترسل في عالم المشاهدة مع ما كان إحساسًا غير مرئي ولا مسموع.
2) ترغب باستئجار رحم الأنثى المعجبة بوسامتها الحريصة على أناقتها من النجوم والمترفات والمثريات، فهي تستطيع أن تشتري بييضة من أنثى، وخلية منها أو من ذكر يملأ عينيها، ورحمًا تودع فيه الخلية لتبلغ به إنسانًا مكتمل الخلق، وقد دفعت الثمن فهي أحق به، وتكون علاقتها به في الحقيقة صفقة تجارية، هذا ما يؤدي إليه الاسترسال في اقتحام الاستنساخ.
3) أما عصابات الإجرام فستفتح لهم ساحات العمل الإجرامي، فهم يستطيعون كما بيناه التحصيل على نسخ من أكبر المجرمين شراسة ومكرًا، حسبما تبين أعلاه ثم هم ينشؤونهم تنشئة تزيد انحرافهم حدة ويضللون العدالة بالنسخ المتماثلة، إذ يخفون الذي قام بالجريمة، ويثبتون أن مماثله كان في الوقت الذي حدثت فيه الجريمة بعيدًا آلاف الأميال عن موقعها.
4) ولا نغفل عن المتاجرين بالجنس فهؤلاء سوف يجدون في الاستنساخ ما كان يتجاوز أحلامهم، إذ يستطيعون إنجاب نسخ من نجوم السينما وملكات جمال العالم بثمن زهيد على الطريقة السابقة، خلية بييضة، رحم مولودة نسخة مساوية لصاحبة الخلية طولًا وتناسبًا وجمالًا وصفاء، تربى تربية خاصة حتى إذا ما نضجت كانت تبعًا لتربيتها وغسل دماغها وإغراء الشباب وسلطان الوسامة ثروة في سوق الخَنَا يدرّ على الأشقياء.
وقائمة الاضطراب الفردي والاجتماعي تطول وتطول في ميدان التطبيقات التي لا تجد ما يحول بينها وبين التحقيق، والإمعان في الفساد والاختلال في منحرف الطريق إلا عامل الدين المستند إلى صادق التنزيل الذي يبصر العقل والعلم ويهديهما سواء السبيل البصيرة التي لا تنخدع بالجديد لجدته، ولا تقدس القديم لتطاول مدته، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . [يوسف: 108](10/1256)
وبجانب إحياء القيم الدينية لا بد من رادع يحرم على كل مؤمن أو كافر أن يفسد على الإنسانية حياتها وقيمها وعلاقاتها الاجتماعية، ويهدم ما بنته الإنسانية في عشرات القرون، فظنت أنها أمنت الإنسان على كرامته، وأقامت المنظمات تحرس حقوقه وحقوق المرأة وحقوق الطفل، فيكون العبث بهذا الهرم الحضاري عداء للإنسانية على الأمم والدول أن تحمي نفسها باستصدار ميثاق ملزم توقع عليه كل الدول معتبرة كل من يعمل على الاستنساخ أو التوأمة من الباحثين أو المؤسسات مجرما ضد البشرية تأخذه أحكام وتبعات ذلك أينما حل في أرض الله.
هذا وقد أخذت البشرية بحمد الله تقوم بالدفاع عن نفسها من هذا الخطر الذي هو الابن غير الشرعي لحضارة السوق، فإنه بمجرد ما تم الإعلان عن بلوغ (دولِّي) شهرها السابع وانتشرت صورتها في أرجاء العالم حتى سبق البرلمان النرويجي فأصدر قانونًا وافق عليه 88 نائبًا من مجموع تسعين، يمنع منعًا باتًّا إجراء التجارب أو القيام باستنساخ الإنسان أو أحد أعضائه الرفيعة التطور، وكذلك رئيس الجمهورية الفرنسية فقد دعا في نفس اليوم المجلس الاستشاري القومي للأخلاق، وطلب منه أن يدرس القانون الفرنسي ليطمئن على سلامته من وجود ثغرات يمكن للباحثين الفرنسيين أن يقوموا في يوم من الأيام بالاستنساخ البشري، وبعد أن اتصل بتقريرهم يوم 29 إبريل 1997 أعلن أنه يعتقد أن الاستنساخ الإنساني هو تعدٍّ مهين للكرامة الإنسانية وأنه لا بد من العمل على منع القيام به على النطاق العالمي، وأنه سيكون المثير لهذا التوجه والمدافع عنه في اجتماع الدول السبع الأكثر غنى في العالم في اجتماعهم القادم في آخر شهر جوان - بدنفار - بالولايات المتحدة الأمريكية.
فعلى وسائل الإعلام الشريفة أن تمضي في هذه السبيل حتى يصدر ميثاق المنع العالمي.
الدائرة الثانية: تدخل الإنسان في الحقيبة الوراثية
إن ما خط من برنامج حياة الكائن في الكروموزومات لم يفصح عن كل محتواه وأسراره لحد الآن، وما يزال العلماء يتعاونون في هذا الميدان، وفي حدود علمي فإنهم وصلوا إلى قراءة بعض ما هو مسجل من استعدادات كامنة قابلة للظهور في المستقبل، وأنهم يتوقعون أنه يمكنهم التأثير فيما قرؤوه فعرفوه، وهذا التأثير منه ما هو من باب الوقاية كما لاحظوه في بعضها من استعداد للتحول إلى فوضى سرطانية والتدخل لحماية الإنسان باكرًا مشروعة.
وقد يكون التدخل لتغيير صورة الإنسان كلَوْنِ جلده أو شكل شعره تبعًا لرغبة الأبوين، وأرجح أن هذا من باب الاعتداء على حرية الإنسان في حال قصوره عن التعبير عن اختياراته في ميدان لا ضرر عليه فيه، وأن ذلك غير جائز.
ولما كانت البحوث لم تستكمل بعد، وأن التدخل في ميدان دقيق كهذا أو انزلاق الإبرة المكروسكوبية غير مأمون؛ فإن الذي أطمئن إليه أن لا نتعجل ولا نحكم على الشيء قبل تصوره في ذاته، وتصور السلاسل المترتبة عن ولوج هذا النوع من التأثير.
والله أعلم.
محمد المختار السلامي(10/1257)
الاستنساخ
حقيقته - أنواعه - حكم كل نوع في الفقه الإسلامي
أ. د. حسن علي الشاذلي
الخبير بموسوعة الفقه الإسلامي
بقطاع الإفتاء والبحوث الشرعية
بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ومن نهج على نهجه وسار على هديه إلى يوم الدين
الاستنساخ
تعريفه لغة وشرعًا واصطلاحًا طبيًّا
أ- تعريف الاستنساخ لغة:
النسخ لغة يقال لأكثر من معنى، فهو يستعمل بمعنى النقل، وبمعنى الإزالة، يقال: نسخت الكتاب نسخًا - من باب نفع - أي نقلته، وانتسخته كذلك أي نقلته.
وكل شيء خلف شيئًا فقد (انتسخه) .
قال ابن فارس: كل شيء خلف شيئًا فقد (انتسخه) ، فيقال: (انتسخت الشمس الظل، والشيب الشباب، أي: أزاله) .
وكتاب (منسوخ) و (منتسخ) منقول، و (النسخة) الكتاب المنقول، والجمع (نسخ) مثل غرفة وغرف، وكتب القاضي (نسختين) بحكمه، أي كتابين.
و (تناسخ) الأزمنة والقرون تتابعها وتداولها، لأن كل واحد (ينسخ)
حكم ما قبله ويثبت الحكم لنفسه، فالذي يأتي بعده (ينسخ) حكم ذلك الثبوت، ويغيره إلى حكم يختص به، ومنه تناسخ الورثة؛ لأن الميراث لا يقسم على حكم الميت الأول، بل على حكم الثاني، وكذا ما بعده.
وفي الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري أن الفرق بين الكتب والنسخ، أن النسخ نقل معاني الكتاب، وأصله الإزالة، ومنه نسخت الشمس الظل، وإذا نقلت معاني الكتاب إلى كتاب آخر، فكأنك أسقطت الأول وأبطلته، والكتب قد يكون نقلًا، وغيره، وكل نسخ كتب، وليس كل كتب نسخًا.(10/1258)
والنسخ شرعًا هو أن يرد دليل شرعي متراخيًا عن دليل شرعي مقتضيًا خلاف حكمه، فهو تبديل بالنظر إلى علمنا، وبيان لمدة الحكم بالنظر إلى علم الله تعالى.
أو هو بيان انتهاء الحكم الشرعي في حق صاحب الشرع، وكان انتهاؤه عند الله تعالى معلومًا، إلا أن في علمنا كان استمراره ودوامه، وبالناسخ علمنا انتهاءه، وكان في حقنا تبديلًا وتغييرًا. (1)
الاستنساخ في اصطلاح الأطباء:
يختلف تعريف الاستنساخ باختلاف أنواعه، وأنواعه كما بيّنها لنا علماء هذا الفن ثلاثة:
النوع الأول: الاستنساخ التقليدي:
وهو زرع خلية جسمية (تحتوي على 46 كروموزومًا) مكان نواة منتزعة من بييضة في هذه البييضة، ليتولى السيتوبلازم المحيط بالنواة الجديدة حثها على الانقسام والتنامي من طور إلى طور من أطوار الجنين الذي يكون بعد ودلاته صورة مطابقة لصاحب تلك الخلية الجسمية من الناحية المظهرية. (2)
النوع الثاني: الاستنساخ الجديد (الاستتئام) :
وهو العمل على فصل خلايا بييضة ملقحة بحيوان منوي، بعد انقسامها إلى أربع خلايا، لتصبح كل خلية منها صالحة للانقسام أيضًا بعد تهيئة ظروف نموها وانقسامها , ثم زرع إحدى الخلايا في رحم الأم، وتبريد الباقي، ليحتفظ به إلى وقت اللزوم.
النوع الثالث: الاستنساخ العضوي:
وهو العمل على استنساخ العضو الذي يحتاج إليه الإنسان في حياته، حال حدوث عطب في هذا العضو.
ونتناول كل نوع من هذه الأنواع في بحث منفصل على حدة، ونبين رأي الفقه الإسلامي في جوازه أو عدم جوازه بعد مقدمة نؤيد فيها الأمر بالاستزادة من العلم النافع , وبالله التوفيق.
__________
(1) المصباح المنير؛ والفروق اللغوية، ص 240؛ والتعريفات للجرجاني.
(2) راجع تعريف الدكتور أحمد رجائي الجندي في بحثه: الاستنساخ البشري بين الإقدام والإحجام.(10/1259)
مقدمة
تحتوي على:
1) الأمر بالبحث العلمي في الإسلام.
2) الأمر بالاستزادة من العلم النافع.
3) التحذير من العلم الضار.
الأمر بالبحث العلمي في الإسلام:
إن العلم هو فيض إلهي، وهو هبة من الخالق جل شأنه لعباده، وهو نور يستضاء به لمعرفة أسرار الكون، وفهم نواميس الحياة، وإدراك حكمة الله في الخلق، الذي {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } [البقرة: 255]
ينزل الله العلم بقدر، ويأذن فيه لمن يشاء بحكمة، ويوحي به إلى العقول شيئًا فشيئًا، وآنًا بعد آن، مع تناسب تام بين قدرات الإنسان- جميعها- على تحمل هذا الفيض الرباني، وبين معطيات عصره، وحاجات زمنه، قطرة فقطرة، وجرعة بعد جرعة؛ ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، وليهتدي الضال، ويسترشد الحائر، بآيات الله البينات التي أدركها، وسننه المتتاليات التي وعاها، ومعجزاته الظاهرات التي اكتشفها، والتي يقف أمامها العلماء خاضعين خاشعين، قائلين: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} .
وقد أرشدنا الله تعالى في كتابه الكريم - القرآن- وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى البحث فيها وعنها في أكثر من موطن، ومن ذلك:
قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) } [الذريات: 20- 23](10/1260)
ومعرفة هذه الآيات، وهذه المعجزات في الأرض، وفي النفس، وفي السماء، هي تكليف رباني وإرشاد إلهي إلى البحث في الأسرار الكامنة في هذه الأشياء التي نعيش عليها، وفيها، وتحتها، طوال حياتنا؛ وما البحث في أسرار النفس الإنسانية، وفي معجزات الله في خلقه - جل شأنه، في تكوينها - بدءًا، ونهاية، حياة وموتًا، تدرجًا في الخلق، خلية فنطفة، فعلقة، فمضغة، فعظامًا، ولحمًا، ورُوحًا، فولادة، ثم صغرًا وشبابًا وشيبة، صحة ومرضا، قوة وضعفًا ثم موتًا؛ أسرار تتلوها أسرار، ومعارف تتلوها معارف، وعلوم تتلوها علوم , الكل قابع مفكر ويلتمس شعاعًا من أشعة أسرار الخلق، وبصيصًا من أنوار الهدى الرباني ويكشف عن سر من أسرار حقيقتنا، وحقيقة ما يحيط بنا من أرض وسماء، من شموس وكواكب، وماء وهواء ونبات وحيوان، وجماد، وأمطار، وبحار وأنهار.
إن البحث في كل ذلك لا يمكن أن يصل إليه الإنسان طفرة؛ إذ من آياته البينات، وسننه الظاهرات اليقينيات أن تتمشى العلوم والمعارف، حقائقها وإدراكاتها واكتشافاتها، وآفاقها، ونتائجها مع تطور الخلق - جيلًا بعد جيل - وتقدم العقل، ونمو الفكر آنًا بعد آن، مع ما يلازمه من ظروف وأسباب تفجر ينابيع البحث وتزكي عناصر المعرفة وتدعو إلى البحث والتنقيب عن علاج مرض من الأمراض، أو مواجهة ظاهرة من الظواهر، تؤثر على مسيرة الإنسان، أو طلبًا لما هو أفضل وأكمل في نظر الباحثين والعلماء.
لكل ذلك كان التطور والتنامي في الأبحاث العلمية منذ بدء الخليقة، طفرة إثر طفرة، وجديدًا إثر جديد، حتى انبلج في أواخر القرن الرابع عشر الهجري، وأوائل القرن الخامس عشر الهجري، الذي يوافقه القرن العشرون الميلادية؛ ظاهرة غير مسبوقة في موضوعات متنوعة، وفي مجالات شتى، كلها لا يصدقها إلا العلماء، ولا يفهمها إلا المتخصصون، وقد كان من بين ذلك البحث في تكوّن الجنين وتكوينه منذ بداية علوقه، وفي أثناء تشكله وتطوره، وقبل كل ذلك وبعده، مما كشف لنا عن بعض الأسرار، ووضع يدنا على معارف جديدة.(10/1261)
ونحن في دائرة شريعة الله تعالى، الشريعة التي نزلت على خاتم المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي - نؤمن تمام الإيمان بأن العلم في كل مجالاته وفروعه، سواء ما تعلق منها بالخالق جل شأنه - معرفة وإيمانًا وتصديقًا وامتثالًا - أو بالمخلوق من إنسان أو حيوان أو نبات أو ماء أو جماد أو أرواح أو غير ذلك؛ بحثًا في تكونه وتكوينه، وفي تنميته وتطوره، وفي الحفاظ عليه ودرء الأخطار عنه، وفي معرفة كل ما يحيط به وما يؤثر فيه، أو يتأثر به، كل ذلك مطلوب منا شرعًا، ونحن مكلفون به، أفرادًا وجماعات، دولًا، وشعوبًا، والأمر في ذلك عام لكل البشر، لكل من آتاه الله عقلًا، وحباه بصرًا وبصيرة، ولكل من هيَّأه الله تعالى للنظر والبحث، ووهبه نعمة العلم.
والآيات الدالة على الأمر بذلك كثيرة منها:
قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) } [الطارق: 5- 7]
وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) } . [عبس: 24 -32]
وقوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) } [الغاشية: [17- 22] .
وأيضًا بعد أن يبين الله جل شأنه في سورة الروم آيات الله في الخلق , في الحياة والموت، وفي خلق الإنسان وتطور خلقه، وفي سنة زواجه، وفي خلق السماوات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان، وفي النوم واليقظة، وفي إنزال المطر لتحيا الأرض بعد موتها، وفي البعث بعد الموت , ثم يقول جل شأنه:
{فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50]
فقد أمرنا الله تعالى بالنظر والبحث الدائم، والتفكر الدائب في كل أسرار الكون، لمعرفة آيات الله جل شأنه فيه، وقدرته، هداية لنا، وبثًّا، ودفعًا لنا إلى الانخراط في آفاق العلم المتنوعة، حتى يتبين لنا أنه الحق- جل شأنه - وأنه على كل شيء قدير.(10/1262)
الأمر بالاستزادة من العلم النافع:
إن اهتمام الإسلام بالعلم والعلماء قضية أساسية، وركيزة هامة، وركن ركين في المحور الإيماني للمسلم.
يفيدنا ذلك بوضوح تام، ويدلنا عليه دلالة واضحة؛ أن أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي هو أمره بالقراءة، وهي وسيلة الحصول على المعارف والعلوم.
قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } [العلق: 1- 5]
ثم يوجه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن يدعوه جل شأنه أن يزيده في العلم، فيقول جل شأنه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]
يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم حينما ينزل عليه الوحي بأن ينصت إليه، ولا يتعجل بالقرآن قبل أن ينتهي المَلَك من تلاوة ما أنزل، ثم يأمره بأن يدعوه - جل شأنه - أن يزيده علمًا: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي زدني منك علمًا، قال ابن عيينه رحمه الله: "ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة حتى توفاه الله عز وجل "، ولهذا جاء في الحديث: ((إن الله تَابَعَ الوحيَ على رسوله، حتى كان أكثر ما كان يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا، والحمد لله على كل حال)) (1)
ومن ثم كان طلب العلم دائمًا تكليفًا كلف الله به خلقه، وفي تقرير ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . [الحجرات: 13]
والتعارف هو تعرُّف على ما عند الآخرين من علم ومعرفة، وتعرف الآخرين على ما عندنا من علم ومعرفة، وليس التعارف هو مجرد معرفة من أنت ومن أبوك ومن أي بلد، بل هو أعمق من ذلك؛ هو متابعة ما عند شعوب أهل الأرض، ما عند علمائهم وحكمائهم، ما عند مدارسهم وما في معاملهم ونتائج تجاربهم من علم ومعرفة، ومن تطور وتقدم في فروع العلوم المختلفة، فقد خلقنا الله ذكورًا وإناثًا، شعوبًا وقبائل، من أجل هذا التعارف وهذا التلاقي، وهذا الانتفاع والاقتباس، والتقدم والتطور {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} . [هود: 118]
__________
(1) رواه ابن ماجه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن نمير عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة: (.. الحديث..) ، وأخرجه الترمذي عن أبي كريب، عن عبد الله بن نمير به، وقال: غريب من هذا الوجه، ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس، عن أبي عاصم، عن موسى بن عبيدة به، وزاد في آخره (وأعوذ بالله من حال أهل النار) ابن كثير.(10/1263)
ولقد كان تكريم العلم والعلماء في ظل الإسلام وفي ظل شريعته الغراء آية تكشف لنا عن مدى اهتمام المشرع الحكيم بتنمية هذا الحقل، ورعاية هذا الغرس حتى يؤتي ثماره، ويحقق أهدافه السامية في إسعاد البشرية جميعها.
قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28] . وقرئ لفظ (العلماء) مرفوعًا على أنه فاعل يخشى، أي أن العلماء العالمين به جل شأنه هم الذين يخشونه أشد الخشية، وقرئ منصوبًا على أنه مفعول ليخشى ولفظ الجلالة فاعله، وحينئذ تكون خشية الله من العلماء العالمين والمؤمنين به هي خشية تكريم وإجلال لهم.
وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} . [الزمر: 9]
وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) [المجادلة: 11]
وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] ، شهد الله تعالى وكفى به شهيدًا، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم وأصدق القائلين (لا إله إلا هو) أي المنفرد بالألوهية، وأن الجميع عبيده وخلقه، وفقراء إليه، وهو الغني عما سواه، ثم قرن - جل شأنه - بشهادته شهادة الملائكة وشهادة أولي العلم، وهذه خصوصية عظيمة لأولي العلم في هذا المقام، وهي أجل مقام وأعزه.
ومن الأحاديث أنه روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا سلك الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وإن العالم ليتستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثُوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) . (2)
__________
(1) المعنى أن الله سبحانه وتعالى يرفع الذين آمنوا منكم في الدنيا وفي الآخرة بتوفير نصيبهم فيها، ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات.
(2) أخرجه الترمذي: 5/ 48- 49، وقال: ليس عندي بمتصل؛ وأخرجه مسلم: 4/ 2074 من حديث أبي هريرة مرفوعًا (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة) .(10/1264)
التحذير من العلم الضار:
بين الله تعالى أن من يتعلم العلم بغية الإضرار بنفسه، أو بالناس، أو يعلمه لغيره؛ فما له من خلاق في الآخرة، وبئس ما باع به نفسه، فقال تعالى بشأن من يتعلمون السحر، أو من يعلمونه: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . [البقرة: 102]
وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أوردناه آنفا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني وزدني علمًا، والحمد لله على حال)) .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ في دعائه من علمٍ لا ينفع، فقد كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشغ، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) . (1)
وفيما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا ضرر، ولا ضرار)) أي لا يضر الإنسان غيره، ولا يرد الضرر بالضرر, والعلم الذي يضر ولا ينفع، داخل تحت هذا الحديث، والعبرة بالضرر العام، فما كان ضرره عامًّا يحرم ويمنع، حتى وإن كان فيه مصلحة خاصة.. وشواهد ذلك كثيرة في شريعة الله تعالى , ومنها الخمر والميسر، فقد حرما، مع أنه قد يكون فيهما نفع، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، فنفعهما أُهدِر، وجاء التحريم بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] ، يما يترتب عليهما من مضارَّ كثيرة.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه، حديث رقم 1871 مختصرًا، رواه زياد بن أرقم.(10/1265)
النوع الأول
الاستنساخ التقليدي
زرع خلية جسدية في بييضة منزوعة النواة
عرف العلماء هذا النوع من الاستنساخ بأنه: "زرع نواة خلية من خلايا الجسم الحي - كالجلد مثلًا - داخل بييضة ناضجة تم إخلاؤها من نواتها ومن ثم تأخذ النواة الضيفة في الانقسام لتكون جنينًا ". لا نفس العضو الذي أخذت منه.
والهدف من هذا النوع هو الحصول على عدد من النسخ مطابقة إلى حد كبير من الناحية المظهرية للجسم الذي أخذت منه هذه النواة، من إنسان، أو حيوان، أو نبات، ولا يحتاج هذا النوع إلى تلقيح خلايا ذكرية وأنثوية. والنسخة الناتجة من هذا الزرع تحتوي على التراث الإرثي الكامل الموجود في خلايا صاحب الزريعة.
نجاح هذا النوع من الاستنساخ:
أخبرنا العلماء المتخصصون في هذا الفن أن هذه التجربة كما نجحت من قبل في النبات نجحت أيضًا في استنساخ الحيوان، فقد تتم استنساخ ضفدعة، ثم في الفئران - منذ عشرين عامًا -، ثم في الأبقار - منذ عشر سنوات - وأخيرًا في النعجة (دولي) . (1)
__________
(1) تراجع أبحاث: د. أحمد رجائي الجندي، د. حسان حتحوت، د. صديقة العوضي، وأيضًا د. مختار الظواهري - نشر صحيفة القبس الكويتية في 25/ 3/ 1979(10/1266)
حكم الاستنساخ التقليدي
بالنسبة للكائنات الحية غير الإنسان
في الفقه الإسلامي
إن جميع الكائنات الموجودة في الكون - غير الإنسان - والتي تقع تحت نظرنا، أو أذن الله بأن يحيط بها علمنا، ما ظهر منها وما بطن، كلها: من سماء بما تحويه من نجوم وكواكب ومن شمس وقمر فأرض، وما نتج عن حركتها من ليل ونهار وفصول، وما تحمله من جبال وسهول ووديان , وحيوان بأنواعه، ونبات بأشكاله وألوانه، ومن زرع وثمر، وبحار وأنهار بما تحويه، وأمطار وما تحمله وتحدثه، كل تلك الكائنات خلقها الله تعالى وسخرها لخليفته في الأرض وهو الإنسان. (1) قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 30]
فقد عني القرآن الكريم بإبراز هذا التسخير في ثماني عشرة آية، كلها تدل على أن الله سبحانه وتعالى قد خص الإنسان بالتمتع بكل هذه الكائنات رقبة ومنفعة، أو منفعة فقط، أو انتفاعًا فقط، كل ذلك في إطار شرع الله تعالى، وكل ذلك منحة من عند الله لعبده دون مقابل، إلا الحمد والشكر لخالقه، ونعمة ومنة منه جل شأنه {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} موردًا جل شأنه في نهاية كل آية من الآيات الدالة على التسخير ما يدفع العلماء إلى البحث والتفكر في خلق الله تعالى: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ، ثم يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} .
__________
(1) ومن هذه الآيات: قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) } [إبراهيم: 32- 34] ، وقالي تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20] ومنها قوله تعالى: {..وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُمْ مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 5-19](10/1267)
من هذا يتبين لنا أن جميع ما في الكون من الكائنات الحية، في عالم الحس والمشاهدة هي أمارات دالة على قدرة الله جل شأنه، وهي الطريق الموصل إلى معرفته، والهادي إلى الإيمان به والناطق بوحدانيته ذاتًا وصفات، والإيمان بما جاء به رسله صلوات الله وسلامه عليهم، وما جاء به خاتم النبيين والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم من شريعة.
وفي نفس الوقت هي نعم موهوبة، وهي نعم متجددة، وهي نعم تسد حاجة الإنسان في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن هنا فإن إعمال العقل الواعي والفكر السليم في هذه النِّعم يزيدها خيرًا، وينمي آفاقها، ويوسع عطاءها؛ خدمة لخليفته في الأرض، وحفاظًا عليه، ومدًّا لأسباب الكائنات المسخرة.
ولذلك كان الاستنساخ في هذا المجال- مجال الحيوان والنبات- سببًا من أسباب تنمية هذه الكائنات المسخرة للإنسان، ووسيلة توسع آفاق الانتفاع بها وتطوره تطويرًا نافعًا، وتوجيهًا للعلماء والباحثين نحو العمل على ما ينمي مصادر ثرواتهم والخيرات الممنوحة لهم، ونحو ما يحقق مصالحهم الضرورية والحاجية والتحسينية، ويلبي رغباتهم في ظل الشريعة التي جاء بها خير الأنام، وإذا كان الاستنساخ هنا سببًا ووسيلة لتحقيق مصالح الناس، كان أمرًا جائزًا شرعًا، بل هو مطلوب ومأمور به في كل مكان؛ لأنه طريق المعرفة الحقة، ومحور الهداية، والنور الكاشف لبعض أسرار الخلق، والمحقق لمصالح الناس أجمعين، والماد لأسباب البقاء لهم، والكاشف عن نعم جديدة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} .
حكم الاستنساخ التقليدي
بالنسبة للإنسان في الفقه الإسلامي
أرى أن أوجز هنا وجهة نظر المؤيدين للمضي في قضية الاستنساخ التقليدي بالنسبة للإنسان، ثم وجهة نظر المعارضين من علماء هذا الفن، ثم أتبع ذلك ببيان رأي الفقه الإسلامي.(10/1268)
أ- دواعي المضي في هذ االنوع من الاستنساخ عند علماء هذا الفن:
ذكر العلماء الباحثون في هذه القضية الدواعي التي من أجلها حدث هذا الاتجاه نحو اقتحام منهج التناسل الطبيعي، والخروج على المألوف، والمعتاد، والمشروع منذ بدء الخليقة حتى الآن، ويمكن أن نلخص ما أورده مؤيدوا الاستنساخ - كما قدمه لنا أ. د: أحمد رجائي الجندي في بحثه فيما يلي (1)
- نسخ أشخاص بهدف تحسين النوع، وإضافة البهجة على الحياة.
- تأمين مجموعات كبيرة من البشر المتطابقين وراثيًّا، بغية إجراء دراسات علمية عليهم لمعرفة أهمية كل من البيئة والتربة في مختلف أوجه الأداء البشري.
- نسخ الأصحاء لتلافي مخاطر الأمراض الوراثية الكامنة في (يانصيب) التراكيب الجسدية.
- منح طفل للزوجين العقيمين.
- إنجاب طفل له طابع وراثي معين حسب الطلب.
- التحكم في جنس الأطفال في المستقبل.
- إنتاج مجموعات من الأشخاص المتطابقين لأداء مهمات خاصة في
الحرب.
- إنتاج نسخة جنينية لكل شخص تحفظ وقت الحاجة إليها أثناء مرضه، أو إعادته مرة ثانية للحياة.
- التفوق على الروس والصينيين، ومنع حدوث فجوة علمية في مجال النسخ.
- من بين التطبيقات - بالتعاون مع الهندسة الوراثية والاستنساخ - هو تغيير الوظائف الفسيولوجية لبعض أنواع البكتريا؛ لإنتاج أنواع ذات صفات معينة لها قدرات خاصة، إما لمعالجة مشاكل مثل: بكتريا البترول، والإنفلونزا، أو إنتاج سلالات لها مقاومة خاصة لأنواع من المضادات الحيوية؛ خاصة تلك التي تستخدم في الحرب الجرثومية.
- التغلب على الشيخوخة إذا نجحت هذه الأبحاث.
ب - دواعي رفض المضي في هذا النوع من الاستنساخ في نظر علماء هذا الفن:
ذكر العلماء الرافضون لاستنساخ الإنسان عدة أسباب لرفضه، ويمكن إجمالها فيما يلي:
يثير الاستنساخ البشري كثيرًا من التحفظات حول:
الأسرة - وتعريفها - الأبوة والأمومة - ما نسب النسخة، هل هو ابن صاحب الخلية، أو هو شقيقه ... والحاضنة هل هو ابنها، أو زوجها، أو شقيق زوجها؟ وما كيفية توريثه من كل من صاحب الخلية، ومن الحاضنة، ومن أقارب كل منهما؟ وما كيفية تزويجه - إذا كان صالحًا للزواج - من المحرم، ومن غير المحرم منه -؟ على ضوء جهالة حقيقة وضعه الشرعي أو القانوني.
__________
(1) يراجع بحث د. أحمد رجائي الجندي، وبحث د. صديقة العوضي، سواء بالنسبة للمؤيدين أو المعارضين.(10/1269)
- فرض وضع معين على الإنسان المستزرع شكلًا، وذاتًا، لا يتعداه.
إذ هو صورة مطابقة لمن أخذ منه الخلية غالبًا، وقد لا يرتضي هو ذلك في مستقبل حياته، وبخاصة أن البيئة قد تبذل كثيرًا من المفاهيم السائدة حول الحاجة إلى إنسان ذي صفة معينة، تبعًا لاختلافها وتبذل الظروف والأحوال والأزمان والأماكن.
- إذا ترتب على الاستنساخ إنتاج نسخة بها عيوب خطيرة، ما مصير هذا الإنسان؟ ومن المسؤول عنه؟
- هل يعطي حق الاستنساخ لكل شخص إذا أراد أن يحسن نسله
سواء بطريقة الاستنساخ التقليدي، أو الاستتئام؟
- لكل خلية عمر افتراضي، فإذا أخذت من إنسان كبير السن - 50 سنة مثلًا - فما عمر هذه النسخة؟ هل هو نفس العمر؟ أم هو استكمال للجزء الباقي من عمر صاحبه، أم عمر جديد؟
- إن نجاح هذه التجارب قد يؤدي إلى تدمير البشرية؛ فالاكتشافات البشرية جميعها موجهة ومسخرة لدمار الإنسان، فمخزون الأسلحة النووية بأنواعها يكفي لتدمير البشرية عشرات المرات , ورغم هذا فشل العالم في حل مشكلة المجاعة.
- إن الاستنساخ يؤدي إلى هدم التنظيم المحكم الذي أراده الله للبشرية، في أن يكون بينهم الصحيح والمريض، والقوي والضعيف، والقادر والعاجز، والذكي والخامل ... وكل له دوره في الحياة، وبهم جميعًا يسعد المجتمع ويتواد ويتراحم.
جـ - موقف الفقه الإسلامي من استنساخ الإنسان استنساخًا تقليديا:
يلزمنا حين نتعرض لبيان حكم هذا النوع من الاستنساخ أن نوضح المنهج الذي أوضحته الشريعة الإسلامية طريقًا للتناسل والتكاثر البشري، والإرواء الغريزي، والعاطفي، والنفسي، والاجتماعي، وما يحققه هذا المنهج من فوائد، وما يدفعه من مضار , ثم نبين بعد ذلك ما في الاستنساخ التقليدي من منافع، وما يحققه من مضار، ونحن نعلم أن الشيء إذا غلب نفعه على ضرره شرع، وإذا غلب ضرره نفعه مُنِع.
أولًا: المنهج والأسلوب الذي سار عليه الفقه الإسلامي في التناسل البشري:
اختص الله سبحانه وتعالى الإنسان خليفته في أرضه بنظام معين ومحدد يحقق له كل مآربه الغريزية، والعاطفية، والنفسية، والاجتماعية، والحياتية؛ مالية وغيرها، فضلًا عن حياته العقائدية والأخلاقية، وطالبه بأن يهتدي إلى الطريق المستقيم، بأن يلتزم بما أمره الله تعالى به وينهاه عنه ... وجعل العقل الذي ميزه وخصه به دون سائر المخلوقات؛ هو مركز التكليف، وبه يكون الثواب، ويكون العقاب , ولا يشاركه في هذه الخاصية أحد من الكائنات.(10/1270)
وكان منهج الإنسان في حياته تلك يسير مع هذه الخاصية، وهذه الميزة، ومن ثم:
- اختص الله تعالى الإنسان بمنهج معين للزواج، أي للإرواء الغريزي، والعاطفي، والنفسي، والاجتماعي , فكان أن شرع الله تعالى له الزواج، رباطًا وثيقًا بين الرجل والمرأة، ووثاقًا مؤكدًا يجمع بينهما {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] وأقامه على الرضا، والاختيار، وحسن العشرة، وتفيض الآيات الكريمة والسنة النبوية المطهرة في إرساء ضوابط هذه العلاقة الزوجية , (1) فتبين ضوابطها، في البداية وفي النهاية، وفيما بينهما (2) , وترغب فيها، وتعدد فوائدها.. قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . [النور: 32]
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)) . (3) وغير ذلك كثير.
- وكما اختار الله تعالى للإنسان الزواج حدد له من يحل له التزوج منها، ومن يحرم (4) تحديدًا قطعيًا بآيات من القرآن الكريم، وبأحاديث من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
- كما حدد للزوجين طريق الإرواء الغريزي والعاطفي، والنفسي ومنهجه، قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . [البقرة: 223]
قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: " الحرث مكان الولد " أقول: إذ بذلك تتحقق مصالحه من الإرواء الغريزي، والمودة والسكن، والإنجاب، وتكوين الأسرة ... ، وبغير هذا المسلك الشرعي بداية ونهاية ينتشر الفساد في الأرض؛ من الزنا، واللواط، والسحاق ... ، وما يصاحب كل ذلك من انهيار الأسرة، وتفسخ المجتمع، وضعف الانتماء الوطني ...
__________
(1) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، ويقول: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) رواه ابن حبان وصححه، ورواه أحمد والطبراني في الأوسط، وقال ابن أبي حاتم: رجاله رجال الصحيح.
(2) قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]
(3) رواه الجماعة.
(4) راجع آيات سورة النساء: 22، 23، 24 ...(10/1271)
- كما بين بوضوح العلاقات والانتماءات التي تنبثق أساسًا من علاقة الزوجية؛ فهذا زوج وهذه زوجة، هذا أب وهذه أم، وهذا ابن وهذه ابنة، وهذا أخ وهذه أخت ... إلى آخر هذه العلاقات، مُطلِقًا على كل علاقة الاسم الذي يناسبها قربًا أو بعدًا، من جهة الأب أو من جهة الأم ... وكلها علاقات محددة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكل علاقة من العلاقات حقوق وعليها واجبات.. تشير إلى ذلك الآيات الكريمة، ومنها: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . [الأعراف: 189] فقد أشار القرآن الكريم إلى أن حواء خلقها الله من آدم، فهي جزء من نفسه، من ضلعه الأقصر الأيسر، جزء من قلبه؛ ولذلك كان الائتلاف بينهما، وكان السكن والهدوء ... وكانت آمالهما متجهة إلى ربهما صاحب النعم أن يؤتيهما من الذرية الصالحة.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} . [النساء: [1]
- كما بين القرآن الكريم أن هذه العلاقة المنبثقة عن الأرحام، هي أولى العلاقات ببعضها من غيرها من العلاقات، ولها حقوق وعليها واجبات، في الحياة وبعد الممات، في السراء وفي الضراء ...
قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] .
وبين حقوق كل قريب من قريبه.. في مجالات متنوعة، منها في المواريث قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] ، ثم بين هذا النصيب في آيات منها الآيتان 11، 12 من السورة نفسها، وأولهما {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، والآية 176 من السورة نفسها.(10/1272)
فالعلاقات كلها مبينة وكلها محددة، وكل علاقة منها تجب لها حقوق وتَلَزَمُها واجبات، فأي خلل يصيبها يهدم كل هذا البيان الذي نظمه الشرع وشيده لحكمة بالغة، بنصوص قطعية.
ثانيًا - المرحلة الأولى لتكون الإنسان:
- وهي مرحلة أخرى يلزمنا الإشارة إليها، والتعرض لمنهجها، طبقًا لما ورد في الكتاب والسنة، وهي مرحلة الجنين؛ لأنه موضع بحثنا الرئيسي:
- فقد أشار القرآن الكريم لبداية تكون الإنسان في أكثر من آية، وفي أكثر من حديث، ومن هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } [المؤمنون: 12-14] (1)
فقد عبر القرآن عن مراحل تكون الإنسان بعد خلق آدم عليه السلام من سلالة من طين؛ بأن جعل أول مراحل جنس الإنسان النطفة، وهي في اللغة: الشيء القليل.. والمراد بها هنا {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) } [الطارق: 5- 7] ، أي: من صلب الرجل - وهو المني - وترائب المرأة - وهي البييضة- فإذا التقيا وشاء الله الحمل، أصبحا علقة، وسميت بذلك لأنه لا بد من تعلقها برحم المرأة وانغراسها فيه لتعيش وتنمو، ويتوالى نموها، لتصبح مضغة، فعظامًا: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . [المؤمنون: 12- 14]
فإشارة القرآن واضحة إلى أن تكون الإنسان إنما يكون من مني الزوج وبييضة زوجته.. قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7] فالماء الدافق هو: المصبوب في الرحم، والمجمع فيه، وهو مني الرجل وبييضة المرأة.
فوائد هذا المنهج على الأفراد والجماعات:
لا نستطيع أن نحصر حكمة الله تعالى في اختيار هذا المنهج لتناسل الإنسان (الزواج) فإنها أجل وأعظم من أن تحصى أو تعد، فهي ناطقة بتكريم الله للإنسان، وتمييزه عما سواه من الكائنات؛ لما أودعه الله تعالى فيه من ميزات، جعلته أهلًا لأن يكون خليفته في الأرض (2) وأن يتحمل الأمانة.. ولكن يمكننا فقط أن نبرز في هذه العجالة، بعض ما يجلي لنا الأمور في قضية الاستنساخ بأنواعه، ويوضح أمامنا طرفًا من هذه الحكم، فنقول:
أ- ذكرنا آنفًا بعضًا من الفوائد أثناء شرحنا لهذا المنهج الذي نظمه الإسلام، سواء منها ما كان عائدا على الزوجين، أم ما كان عائدًا منها على فلذات أكبادنا.. أم ما كان عائدًا على الأسرة أو على المجتمع في كل الظروف والأحوال؛ في الحياة وبعد الممات، في السراء وفي الضراء - فلا داعي للإعادة.
ب- هذا المنهج يحقق الارتقاء بالنوع الإنساني أو البشري على مر الأزمان وتوالي القرون، واختلاف الأماكن.. هذه الحقيقة تتضح من خلال ما عرضه علينا العلماء والمختصون في هذا الفن فقالوا:
"يتمثل هذا الارتقاء في عملية الانتخاب الطبيعي الذي يحدث أثناء عملية الإخصاب، حيث لا يظفر من بين الملايين من الحيوانات المنوية التي يقذفها الرجل في المرأة الواحدة (من 200-600 مليون) إلا حيوان منوي واحد غالبًا، هذا الحيوان استطاع أن يقطع الطريق إلى مكان البييضة في الثلث الطرفي من قناة المبيض (قناة فالوب) - وهي حوالي عشرة سنتمترات، وهذا يدل على لياقته البدنية والصحية، فهو أقوى وأصح هذه الحيوانات المنوية، وبذلك يحصل انتخاب وراثي وطبيعي ورباني، يجني ثماره المخلوق الجديد.
__________
(1) وتدبر الآيتين 5، 6 من سورة الحج وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
(2) يراجع بحث د. مختار الظواهري - أستاذ الوراثة الطبية بكلية العلوم جامعة الكويت، نشر صحيفة القبس يوم 25/ 3/ 1997(10/1273)
ويتمثل أيضًا هذا الارتقاء بالنوع البشري في علمية انتخاب ثانية بالنسبة للبييضة التي تفرزها الزوجة، حيث لا تنمو سوى بييضة واحدة في كل دورة، وهي البييضة السليمة وراثيًّا، وذلك يجني ثماره أيضًا المخلوق الجديد.
ومن ناحية ثالثة: فإنه بعد تلقيح هذه البييضة بهذا الحيوان المنوي، فإنها لا تستكمل التضاعف، والتشكل إلا إذا كانت سليمة وراثيًّا وإحصائيًا؛ فإن من 40- 60 في المائة من الأجنة في الإنسان يطردها الرحم، أو تجهض ذاتيًّا في مراحل الحمل المبكرة، ووجد أن نصفها على الأقل يحتوي على شذوذات كروموزومية، وذلك أيضًا يجني ثماره المخلوق الجديد.
ومن ناحية رابعة: فإن في حالة الزواج إذا ورث الطفل جين مرض معين من الأم، فإن جين الأب السليم يسود عليه، ويخفي أثره، والشيء نفسه يحدث إذا ورث الطفل جين المرض من الأب فإن جين الأم السليم يسود عليه ويخفي أثره، والنتيجة غالبا - أن يكون الطفل أقوى وراثيًا وصحيًا من الأب والأم ".
فهذه العمليات الطبيعية الربانية التي تصاحب الطفل منذ أن كان في صلب أبيه وبين ترائب أمه.. إلى أن يندمج ويتشكل ويصبح خلقًا جديدًا، هي عملية محاطة بحِكَم بالغة وقدرة فائقة.. تجمع بين المتباعدين، وتدمجهما إدماجًا ذاتيًّا وعاطفيًّا ونفسيًّا.. وبقدر هذا الاندماج بقدر ما يكون الخير للطفل.. وللمجتمع وللعالم بأسره.
وصدق الله العظيم إذ يقول: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . [المؤمنون: 14]
ولقد رأينا كيف أن الشريعة الإسلامية حرمت بنصوص من كتاب الله تعالى - أن يكون الزوجان من ذوي القرابات القريبة - أي من ذوي الرحم المحرم (1) قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] ، وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: ((اغتربوا لا تضووا)) أي: تزوجوا من الأباعد عنكم في القرابة.. ((لا تضووا)) أي: لا يضعف نسلكم.. والحكمة في ذلك واضحة وضوحًا تامًا، وقد قررها العلماء المختصون في هذا الشأن- كما ذكرنا آنفًا.
__________
(1) وذوو الرحم المحرم من إذا فرضت أحدهما ذكرًا والآخر أنثى، لا يحل لهما أن يتزوجا، كالأب وابنته أو الأم وابنها.. كما في الآية.(10/1274)
المضار التي تترتب على إباحة الاستنساخ التقليدي:
إن ما ذكرناه آنفًا من المنافع التي تترتب على المنهج الطبيعي والشرعي للزواج؛ تبرز لنا بشكل قاطع أن ترك كل منفعة منها يؤدي إلى إحداث ضرر خاص، وعام. ومع ذلك فإننا نوضح هنا المخاطر الأخرى التي تترتب على إباحة هذا النوع من استنساخ، وهي:
أ- اختلال أو انعدام صفة الأمومة أو الأبوة التي ترتبط بها الأحكام الشرعية، وذلك لأن هذه الصفة هي حقيقة شرعية، أو معنى شرعي، لا يتصور إلا بوجود أركانه وتوافر شرائطه.
أما أركانه فهي:
1- وجود حيوان منوي صادر من الزوج.
2 - بييضة صادرة من الزوجة.
3 - التقاؤهما (الحيوان- البييضة) في رحم الزوجة، وتعلق اللقيحة به، وتدرجها في النمو من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى أن تولد خلقًا سويًّا.
ومن ثم مثل الفقهاء لهذه العلاقة بعلاقة التعاقد (إيجاب، وقبول) ، ومحل للتعاقد؛ فأي اختلال في أحد هذه الأركان يجعل العقد باطلًا، ولا ينتج آثاره، ومثل ذلك نقوله إذا لم تتوافر أركان هذه النسبة (الأبوة والأمومة) .
فإذا عرضنا هذه الحقيقة، وهي صفة الأمومة والأبوة على حالتنا هذه - وهي الاستنساخ التقليدي - نجد الأمر يختلف، والأركان لا تتوافر، ومن ثم لا نستطيع أن نطلق هذه الحقيقة على الكائن أو الإنسان الذي نتج عنها، وذلك لأن أركان هذه العلاقة الجديدة - في الاستنساخ التقليدي- هي:
1- خلية جسدية، مستوفية لكل مقومات النمو، إذ هي مكونة من 46 كروموزومًا، فصفاتها الوراثية كاملة بما تحمله من محاسن وعيوب ولا تحتاج إلا إلى وسط تعيش وتنمو فيه، لتخرج لنا نسخة من صاحبها.
2 - بييضة ناضجة تنزع نواتها , أو بعبارة أخرى تفرغ من جوهرها، وهي النواة، ولا يبقى إلا هيكلها بما فيه من سيتوبلازم، كالجسم الذي نزع قلبه , وتوضع الخلية الجسدية فيها، لتنتفع بالسائل المحيط بالنواة - السيتوبلازم - وتنمو فيه، هي بخواصها وصفاتها الوراثية فقط، وليس للبييضة أي أثر في تغيير هذه الصفات أو تعديلها؛ ومن ثم كان الناتج نسخة من صاحب الخلية الجسدية فقط بكل ما فيه من محاسن أو مساوئ، من ضعف أو قوة، من طول أو قصر، من مرض أو صحة، من لون أو شكل - بل قد يكون - ومن عمر؛ وبانتشار هذا المسلك ينهار التنظيم الحكيم من وراء التفاوت بين الخلق، وبذلك ينهار التعاون والتواصل والتخادم، ويتوقف التطور.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن الأمومة بالمعنى الشرعي الذي ذكرناه قد فقدت تمامًا، وأيضًا فإن الأبوة بالمعنى الشرعي الذي ذكرناه قد فقدت، إذ حقيقتها وأركانها فيها قد اختلت، وأصبح ما معنا هو خلية أخذت من جسم حي، بغية إيجاد صورة منه بالطريق الذي ذكرناه.(10/1275)
ومن ثم فما أخذ من جسم الإنسان ليكون إنسانًا بعد نموه على المنهج الذي ذكرناه، لا يصدق عليه أنه ابن لمن أخذت منه الخلية الجسدية، إذ هو نسخة منه، أي هو نفسه، ولا يصدق عليه أنه هو نفسه، إذن صاحب الخلية الجسدية شخص معين، أصبحت له حقوق وعليه واجبات، قِبَل الخالق والمخلوق، قبل الأب والأم، وقبل الأسرة جميعها، وقبل المجتمع، في الشرع، بل وفي القوانين الوضعية.
وكذلك لا يصدق عليه أنه شقيق له، لأن علاقة الإخوة لها أيضًا أركان لا بد من استيفائها، وهي تدور حول ما أنجبه الزوجان من أولاد لهم تحت ظل عقد زواجهما على المنهج الشرعي المعروف , ومن ثم فلا يتأتى شرعًا وعقلًا وعرفًا أن يقتحم هذه العلاقة كائن جديد، لا تتوافر فيه هذه الضوابط، ولا يتأتى أيضًا أن يتأثر بحقوق غيره من أصحاب الحقوق الشرعية ويختص بها دونهم، فإذ حدث ذلك حدث تغالب وتناحر، وأدى هذا إلى فساد كبير.
وكذلك لا يصدق على هذا الكائن (النسخة) أنه ابن للمرأة التي أخذت بييضتها، وفرغت من نواتها، ووضعت فيها هذه الخلية الجسدية ... وذلك لأن خواص الأم، وصفاتها الوراثية قد أعدمت عندما انتزعت نواة بييضتها، ولم يتحقق الامتزاج بين خلية الذكر وخلية الأنثى على الوجه الذي ذكرناه، ولم يكتسب الجنين من صفات الأم الوراثية الأساسية شيئًا، أي لم يحدث انتماء لها لا معنًى ولا حقيقة.. سوى كونها حاضنة، ودور الحاضنة هو دور إنماء لا إنشاء، ودور رعاية وتنمية لا دور تكوين وتكون، ما دامت خواصها وصفاتها الوراثية قد انتزعت من بييضتها، وحل محلها كائن آخر لا يحتاج إلا إلى وسط ملائم لنموه، وبذلك تفقد صفة الأم أهم أركانها وأساس محورها ومحور كيانها ووجودها حقيقة لا صورة ولا شكلًا.
وكذلك لا يصدق عليه أنه زوج لهذه المرأة؛ إذ الفرض أن الخلية أخذت من زوجها وإلا لا يجوز إطلاقًا , إذ علاقة الزوجية أيضًا مثل علاقة الأبوة والبنوة، هي علاقة خاصة بين اثنين معينين بذواتهما، اسمًا ورسمًا - فلان وفلانة، تحت ظل عقد زواج صحيح، ولا يسمح الشرع باختلاط هذه العلاقة أو العبث بها، أو اقتراب الغير منها، وإلا كان العقاب أشد العقاب.. ومن ثم لا تأخذ (النسخة) الحادثة من الاستنساخ التقليدي صفة الزوجية، باعتبار أنها أخذت من الزوج، كما أنها لا تأخذ صفة البنوة، لأن دور الأمومة قد انتقض بتفريغ نواة بييضة الزوجة من صفاتها وخواصها الوراثية، وعادت مجرد وعاء يحوي إنسانًا كاملًا له خواصه وصفاته ... وأيضًا من المشكلات التي يمكن تصورها، والتي تؤدي إلى اضطراب كبير ما يلي:
- ما يمكن أن يتصور حينما يتجه الزوج إلى أخذ خلية منه لاستنساخه، ليكون المستنسخ ولدًا.. كما تتجه الزوجة إلى أخذ خلية منها واستنساخها ليكون الناتج أو المستنسخ بنتًا.. فما علاقة كل من المستنسخين الولد والبنت بالآخر، هل هما أخوان؟ هل هما بمنزلة زوج وزوجة، بحيث يمكن أن يكون وجودهما امتدادًا للزواج السابق للأصليين؟ هذا ما لا يتأتى.(10/1276)
ومن كل ذلك يتبين لنا بما لا يحتمل الشك جهالة موقف المستنسخ من انتمائه النسبي جهالة فاحشة، وأيضا ًجهالة من يصح شرعًا أن ينسب إليه من الأصول، الآباء والأمهات، وإن علوا، والفروع وإن نزلوا.. مما يؤدي قطعًا إلى جهالة حقوقه وواجباته المقررة شرعًا له وعليه.
ومن المعلوم لدينا يقينًا أن الحقوق لا تنال إلا بحق، فطريقها اليقين، أما الظن أو الشك أو الوهم فلا مجال لإثبات الحقوق أو الواجبات الشرعية بأي منها، ولكل صاحب مصلحة الحق كل الحق في أن يتدخل لمنع المستنسخ مما قد يعطى له تحت أي اصطلاح أو مسمى.. لأن الشريعة قد أعطت كل ذي حق حقه، وبينت ذلك بيانًا واضحًا لا لبس فيه.
البصمة:
هذا وفي المجال الجنائي قد أصبحت (البصمة) دليلًا قويًا، يتعرف بها على المجرمين، وهنا وفي ظل هذا النوع من الاستنساخ ستكون بصمة المستنسخ مطابقة لبصمة من أخذت منها خليته الجسدية، ومن ثم يفقد هذا الدليل قدرته على التعرف على مرتكبي الجرائم، وبخاصة أنه يمكن أن تستنسخ بؤر الإجرام أشخاصًا متعددين من شخص واحد، ثم تدفعهم لارتكاب الجرائم التي يرغبون في ارتكابها في أي مكان، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
الرأي في الاستنساخ التقليدي:
إنه إزاء ما ذكرته من أدلة، وما أوضحته من مضار لهذا النوع من الاستنساخ (التقليدي) ، وما ثبت من تقلص جدواه ومنافعه، أرى أنه لا يجوز شرعًا اتخاذ هذا المسلك لإيجاد إنسان عن طريق الاستنساخ التقليدي، تكريمًا للإنسان وحفاظًا على ذاتيته وكيانه، وصيانة لحقوقه وواجباته، ودفعًا للشرور المترتبة على ذلك، ودرءًا لمفاسد عظيمة عن الأفراد والجماعات، بل والعالم بأسره، كما أرى أن الاستنساخ التقليدي في مجال المسخرات للإنسان - من النبات والحيوان - جائز شرعًا لما سبق أن ذكرته من أدلة. والله الهادي إلى سواء السبيل.
أما علاج العقم فقد أشار القرآن الكريم إلى أن من المتزوجين من ينجب إناثًا، ومنهم من ينجب ذكورًا، ومنهم من ينجب ذكورًا وإناثًا، ومنهم من يكون عقيمًا، أحوال أربعة:
قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) } [الشورى: 49- 50]
وقد ثبت بما لا يقبل شكًّا أو ظنًّا ما يأتي:
أن العالم ينمو بصفة دائمة ومطردة، في كل دول العالم دون استثناء، حتى أن بعض الدول أخذت تدعو إلى تحديد النسل، أو تنظيمه، ليس فقط بل وبعضها لا يمنع ذلك داخليًّا ويدعو إليه دولًا أخرى، بل ويقدم معونات للإنفاق على هذه الدعوة، لمآرب وغايات، ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها لا يخفى على لبيب.. فالنمو البشري مطرد بصفة دائمة ومنتظمة رغم ما يتفجر من حروب وما قد ينتشر من أوبئة.. مما يدل على أن الكون قد نظمت جميع أموره بحكمة بالغة، وقدرة لا تدانيها قدرة.(10/1277)
وأيضًا فإن نسبة الذكور إلى الإناث في العالم، بل وفي كل دولة على حدة متقاربة إلى حد كبير، بتدبير الله، فلا تطغى نسبة الذكور على الإناث، ولا نسبة الإناث على الذكور، رغم سريان المنهج الطبيعي للتناسل، وترك تحديد نوع الإنسان لخالق الإنسان ومدبر الكون، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة.. قال تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] .
وأيضًا فإن العقم، وهو عدم الإنجاب، لم يشكل في العالم حتى الآن ظاهرة بارزة، ولا صفة سائدة أو غالبة عمت البشر أو كادت.. ولم يبت العالم مضطربًا ولا خائفًا منها، من سطوتها وشمولها، بل خطورتها، وتهديدها للعالم بالانقراض، لا بل هي حالات فردية، قد يكون سببها عضويًا، أو نفسيًّا، أو اجتماعيًّا، أو غير ذلك من الأسباب التي يعرفها أهل الخبرة وذوو البصر بهذه الأمور، والحالات الفردية - بل والجماعية - لا يمنع المشرع الحكيم من التصدي لها بالدراسة ووصف الدواء لذي الداء دون أن يضر بالآخرين.
التداوي من الأمراض مطلوب شرعًا:
التداوي أمر مطلوب شرعًا، كما نص عليه المحققون من علماء الشريعة الإسلامية، وقد عرضنا في كتابنا (حكم نقل أعضاء الإنسان في الفقه الإسلامي) (1) وبينا أدلته من الكتاب والسنة، ويكفي أن نشير هنا إلى بعض الأحاديث، ومنها ما رواه أسامة بن شريك أنه قال: جاء أعرابي، فقال: يا رسول الله، أنتداوى؟ قال: ((نعم، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله)) . (2)
وعن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لكل داء دواء، فإذا أصاب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى)) (3)
وفي التداوي بالمحرمات، أوردنا الأحاديث التي تناولت ذلك، ومنها ما روي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام)) . (4)
وعن وائل بن حجر الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه ليس بدواء، ولكنه داء)) . (5)
ورجحت جواز التداوي بالمحرمات كالدم والميتة - سوى المسكر - وذلك عند عدم وجود دواء يغني عنه، ويقوم مقامه من الطاهرات، فإذا لم يوجد غير المسكر دواء جاز التداوي به للضرورة، إنقاذًا للنفس البشرية من الهلاك.
فعلاج العقم مطلوب شرعًا لمن رغب في علاجه، وقد تطور الطب بحمد الله تعالى في علاج جميع الأمراض، ومن بينها العقم، في حالات كثيرة، وكان (طفل الأنابيب) أحد أساليب علاج هذه الحالة؛ بعد أن وضعت له الضوابط والقيود التي تؤمن مسيرة هذا العلاج في طريقها الصحيح، ومن ثم حوصرت مثالب هذه الحالة إلى حد كبير إذ أجريت تحت بصر وبصيرة الأطباء المسلمين الحاذقين العدول الذين يخشون ربهم، ولا يبيعون دينهم بدنياهم.
أما علاج العقم عن طريق الاستنساخ التقليدي، فنتيجته لا تنتج للزوجين ما أراده من ابن أو بنت لهما - كما بينا آنفًا - فهو علاج لم يصادف محله، ولم يعالج دواء، بل فجر فسادًا كبيرًا، ونشر داء عظيم الخطر على كل الناس.
* * *
__________
(1) ينظر كتابنا (حكم نقل أعضاء الإنسان في الفقه الإسلامي) من ص 25 -36، نشر كتاب الجمهورية- مصر.
(2) رواه أحمد
(3) رواه أحمد ومسلم.
(4) رواه أبو داود.
(5) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه.(10/1278)
النوع الثاني:
الاستنساخ الجديد (الاستتئام)
أ- تعريف هذا النوع من الاستنساخ:
أ- عرف العلماء هذا النوع من الاستنساخ بأنه: " تلقيح حيوان منوي- يحتوي على 23 كروموزومًا ببييضة تحتوي على 23 كروموزومًا لينتجا بييضة ملقحة ذات ستة وأربعين كروموزومًا، ثم تنقسم هذه الخلية إلى جيل بكر من خليتين، ثم جيل حفيد من أربع خلايا ... وهكذا تتضاعف الخلايا ... وهنا بدأ العلماء في فصل كل خلية عن أختها، بإذابة الغشاء البروتيني السكري المحيط بهذه الخلايا , بواسطة أنزيم ومواد كيماوية , فانفصلت عن بعضها، وتوصل العلماء إلى مادة جديدة من الطحالب البحرية، لإصلاح جدار الخلايا المنفصلة وتغطيتها، بحيث لا تفقد صلاحيتها.
ثم أخذت كل خلية من هذه الخلايا، وتم استنساخ كل واحدة منها على حدة، لتنتج أربع خلايا مرة ثانية , ثم فصلت هذه الخلايا ... وهكذا، وبذلك تكون كل واحدة من هذه الخلايا صالحة لأن تكون جنينًا إذا وضعت في رحم الأم.. وبذلك يصبح لدينا عدة أجنة تَوَائِمُ متشابهة وكلهم ينتمون إلى أم وأب معينين، وهما اللذان تم التلقيح بين ماءيهما؛ (1) مني الرجل وبييضة المرأة.
وقد كشف عن هذا النوع من الاستنساخ عام 1993 العالمان الأمريكيان (ستيلمان، وهول) ولكنهما بعد أن جمدا هذه الخلايا الناتجة؛ أخذا خلية واحدة فقط لتنميتها حتى وصلت إلى 32 خلية، ولم يكملا العمل خوفًا من الجوانب الأخلاقية ... " (2)
- ومن هنا يتضح لنا الفرق بين الاستنساخ التقليدي - الأول - حيث البداية نواة خلية جسدية تنقل إلى بييضة منزوعة النواة، وبين الاستنساخ الجديد - الاستتئام - إذ البداية حيوان منوي ينغرس في بييضة، وهي الطريقة الطبيعية لبداية تكون الجنين ...
- وقد تم إنتاج (القردة) في جامعة أوريجون بطريق استنساخ خلايا
جنينية.
ب- فوائد هذا النوع من الاستنساخ (الاستتئام) :
ذكر العلماء المؤيدون له أن من فوائده:
1 - التغلب على مشكلة العقم بالنسبة لكل من الزوجين:
قالوا: إن هذه الطريقة تفيد الزوج الذي تكون حيواناته المنوية معظمها ميت إلا أن القليل جدًّا منها به حياة، أو ضعيفة، أو مصابة بتشوهات، وتكون البييضة من الزوجة صالحة، ففي هذه الحالة يمكن تلقيح البييضة بالحيوان المنوي، فإذا تم ذلك أمكن الوصول بهذه الطريقة إلى الحصول على أكثر من توأم، وفي هذه الحالة يمكن التغلب على مشكلة العقم بطريقة علمية مأمونة. (3)
__________
(1) يراجع بحث د. حسان حتحوت؛ وبحث د. أحمد رجائي الجندي، وبحث د. صديقة العوضي.
(2) عن بحث د. أحمد رجائي الجندي، وقد بين الدكتور " أن هذين العالمين لم يتمكنا من إنتاج إنسان بسبب أن البييضات التي استخدماها كانت ملقحة من حيوانين منويين، حيث البييضة تحتوي على عدد كبير من الكروموزومات بسبب تلقيحها من الحيوان الثاني، إلا أنهما حققا هدفًا كانا يسعيان إليه "، ويمكن استخدام هذه التكنولوجيا نفسها في حال كون البييضة ملقحة تلقيحًا طبيعيًّا، لتنتج المطلوب من الأجنة التي ستتطور - إذا ما وضعت في أرحام الأمهات - إلى إنسان كامل كما قال الدكتور أحمد: " إن هذا البحث جرى بعيدًا عن أعين اللجان الأخلاقية وعلماء الدين، إلا أن علماء الخلايا والبيولوجيا منحوه جائزة أحسن بحث في المؤتمر، وقد زعما أنهما أخذا تصريحًا بهذا العمل، إلا أن التصريح من أجل هذه التجارب، وهذا ما أفزع علماء الأخلاقيات، وطالبوا بوضع حدود معينة للأبحاث في هذا المجال ".
(3) بحث د. أحمد رجائي الجندي.(10/1279)
- وأيضا فإن الزوجة التي يعاني مبيضها نوعًا من الفقر البييضي، فلا تنتج إلا بييضة واحدة - مهما أعطيت من الأدوية المنشطة للإباضة - فإذا تم تلقيح هذه البييضة، فإن فرصتها في الحمل تهبط هبوطًا كبيرًا، لأنها قد لا تنغرس في الرحم.. ولا توجد بييضات أخرى ملقحة غير هذه البييضة حتى يعاد غرس غيرها مرة أخرى- كما هو الحال في أطفال الأنابيب - لذلك قالوا: إنه من الممكن أن نفصل بييضتها الملقحة في بواكير انقسامها إلى جنينين، ثم نفصل كلاًّ منهما إلى جنينين أيضًا، وهكذا حتى نوفر عددًا كافيًا من الأجنة يودع في رحمها منه أربعة ويحفظ ما زاد من الأجنة (التوائم) في التبريد العميق ليكون رصيدًا احتياطيًّا يستعمل في مرات قادمة، أو مرات، إذا لم تسفر الزرعة الأولى عن حمل.
2 - كما قال المؤيدون: " إن هذه الطريقة لها فائدة أخرى للنساء اللائي تعاني نوعًا من الفقر المبيضي، وذلك في مجال تشخيص مرض جنيني محتمل قبل أن يودع الجنين الباكر، المكون من عدد صغير من الخلايا إلى الرحم لينغرس، فقد جرى الأمر على فصل خلية من هذا الجنين لإجراء تشخيص عليها، فإذا كان الجنين صحيحًا معافى غرس، وإلا أهدر، لكن أخذ خلية من جنين باكر ذي عدد محدود من الخلايا فيه خطر على الجنين، بينما لو فصلنا هذا الجنين إلى توأمين، بطريقة الاستتئام هذه، فإننا نستعمل نسخًا - توأمًا - للتشخيص، والآخر للزرع كاملًا غير منقوص ". (1) أي أننا نهدر واحدًا من الأجنة تحقيقًا لمصلحة الآخر.
جـ - العيوب التي تنتج عن استخدام هذه الطريقة (الاستتئام) :
أفاض بعض العلماء في ذكر العيوب والمثالب التي تترتب على الاستنساخ (الاستتئام) وكان من بين ما أثاروه من عيوب ما يلي:
1 - إن طريقة الاستتئام هذه تفضي إلى وجود أجنة فائضة ليس أمامها إلا الموت، أو الاستزراع في أرحام سيدات أخريات، فإن تركت للموت؛ كان مؤدى هذه الطريقة هو التسبب في إنشاء حياة، ثم إسلامها إلى الموت!! وإن أودعت الأجنة الفائضة في أرحام نساء أخريات غير الأم؛ كان مؤدى ذلك أن تحمل أنثى جنينًا غريبًا عنها، لا هو من زوجها - لأن الحيوان المنوي ليس من زوجها - ولا هو منها في نطاق عقد زواج. (2) أقول: وكل ذلك يمنع شرعًا وعقلًا، وخُلقًا وعادة؛ لأن التسبب في الموت جريمة، ولأن انتماء الجنين إلى غير أبويه جريمة.
2 - إن النسخ الفائضة عن الحاجة "يمكن حفظها في التبريد لآماد طويلة، وربما زرعت النسخة (المبردة) في وقت أجل في رحم، في الوقت الذي يكون توأمها - النسخة الأصل - قد بلغ من العمر سنوات، وهي تقانة ستفضي بالتأكيد لا إلى سوق - بورصة - جينية فحسب، بل إن المشترية تستطيع أن ترى شكل جنينها مستقبلًا بالاطلاع على صورة لتوأمه - النسخة الأصل - الذي يكبره بسنوات، وقد تنتقي جنينها من (كتالوج) يحمل صور النسخ التي عمرها سنوات، من الفائضة عن الحاجة من الأمهات والآباء الذين أخذو النسخة أصل، وتركوا الباقي مبردًا ". (3)
__________
(1) بحث الدكتور حسان حتحوت.
(2) عن بحث أ. د. حسان حتحوت.
(3) عن بحث أ. د. حسان حتحوت.(10/1280)
أقول: وأيضًا فإنه يمكن أن يموت الأب، الذي لقح حيوانه المنوي بييضة زوجه، وتم استنساخ هذه الخلية، يمكن بعد موته أن تطلب الزوجة التي مات عنها زوجها أن تضع هذه النسخة - التوأم- في رحمها، لتنجب منه طفلًا أو أطفالًا آخرين، هم في الظاهر أشقاء لأبنائها منه، مع أن الشرع والعقل يقضي بأن من ينتمي إلى الميت، والمستحق لحقوقه من ميراث وغيره ينحصر في الموجودين فعلًا وقت حادثة الموت، أما الجنين فلابد من أن يكون عالقًا في رحم أمه حتى يأخذ هذه الحقوق، ومن ثم وضع الشرع له مدة من الزمن، إذا ولد فيها كان ابنًا له، أو أخًا - حسب حالة القرابة - فإذا تجاوز هذه المدة، أو كانت المرأة غير حامل إطلاقًا عند الموت، فإن الصلة قد انقطعت بينهما، ولا يحل لها أن تستدخل في رحمها هذه النسخة؛ التوأم.
3 - إن هذه البحوث إن استطردت بغير معوقات، فمن المؤكد أن تلك الأجنة النسخ ستستخدم كوسيلة تأمين على الحياة أو على الصحة، فإذا حملت الأم، واختزنت منه نسخة تحفظ بالتبريد، فإن هذه النسخة قد تدعو الحاجة إليها إن مات الطفل، وأراد والداه أن يعوضاه بطفل مماثل له تمامًا.
أو قد يحتاج الطفل في المستقبل إلى زرع عضو أو نسيج، وتعوق ذلك مشكلة المناعة إن عز العثور على الزرعة الموائمة، فتزرع النسخة التوأم الاحتياطية، وتنمو ليؤخذ منها العضو أو النسيج المطلوب، ونظرًا للتطابق بينهما، فمن المؤكد أن الزرعة سيقبلها الجسم المنقولة إليه دون احتمال رفضها مناعيًّا.
ويقول الأستاذ الدكتور حسان حتحوت: " وهل من الجائز أن تنشأ حياة ثم تهدر من أجل إنقاذ حياة أخرى؟ " (1)
أقول: إن حياة الإنسان مصونة ومعصومة لا تمس إلا بحق - ولو كان جنينًا ولو في مراحله الأولى - قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] ، والجنين نفس، لها حياتها ولها حقوقها شرعًا؛ وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم ... حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ... )) (2)
وليس من الحق شرعًا أن نأخذ من جنينن عضوًا، أو نسيجًا، أو غيرهما؛ لينتفع به شخص آخر، ولو كان المنتفع أبًا له، أو أمًا، أو ابنًا، أو بنتًا، أو أخًا، أو أختًا ... أو غير ذلك من القرابات، قربت أم بعدت، لأن عصمة النفس الإنسانية معناها أن هذه النفس يمنع الاعتداء عليها، ويرتب الشرع على كل اعتداء عليها عقوبة أو ضمانًا؛ إذ هي بنيان الرب، وملعون من هدم بنيانه. (3)
4 - وقال البعض: إن قدرة الجنس البشري على البقاء في حياته الأرضية اعتمد بدرجة كبيرة على التنوع الجيني، وفتح باب الاستنساخ خطوة في عكس الاتجاه؛ إذ سيكون الاتجاه إلى إنجاب الذراري المتشابهة جينيًّا، وذات الصفات الوراثية المتميزة مع الاستغناء - عن طريق الإجهاض - عن الأجنة التي لا تتمتع بهذه الصفات، مما سيزيد في ترخيص الحياة البشرية، خاصة في بلاد مثل أمريكا، إذ تتم بها كل عام مليون ونصف المليون من عمليات الإجهاض؛ لأسباب تافهة، أو لغير سبب على الإطلاق، وبذلك تدخل البشرية حقبة جديدة لا يكون الطفل فيها مرغوبًا من والديه بدافع غريزة الوالدية، لأنه ضناهما وفلذتهما، لكن بشروط ومقاييس وصفات وراثية، إن توفرت فبها ونعمت، وإن لم تتوفر فلهما عنه مندوحة. (4)
__________
(1) يراجع بحث أ. د. حسان حتحوت.
(2) الحديث رواه مسلم، رقم 707 (المختصر) .
(3) راجع: لنا بحث (حق الجنين في الحياة) ؛ وبحث (حكم نقل أعضاء الإنسان) .
(4) بحث د. حسان حتحوت.(10/1281)
حكم الاستتئام في الفقه الإسلامي:
على ضوء ما بيناه آنفًا يتضح لنا أن فوائد هذا النوع من الاستساخ الجديد (الاستتئام) تظهر في علاج العقم، وفي المساعدة على تشخيص مرض جنيني محتمل، قبل أن يودع الجنين الباكر.. إلى الرحم، عن طريق فصل خلية من هذا الجنين لإجراء تشخيص عليها، فإذا كان الجنين صحيحًا غرس، وإلا أهدر.
وأن من عيوب هذه العملية أنها تفضي إلى وجود أجنة فائضة عن الحاجة ليس أمامها إلا الموت، أو الاستزراع في أرحام سيدات أخريات لا علاقة لهن بهذه الأجنة، كما أنه يمكن تبريدها وتركها مدة طويلة، ثم استزراعها بعد أن يبلغ عمر النسخة الأولى - الأصل - عدة سنوات.. وأشرنا إلى ما ذكره العلماء من مخاطر حول وجود هذه الأجنة.
فإذا نظرنا إلى حكم هذا النوع من الاستنساخ في الفقه الإسلامي فلابد من أن نبرز الحقائق التالية:
أولًا: أن الاستنساخ الجديد (الاستتئام) قد تم حسب المنهج الطبيعي للتناسل بين الزوجين وهو (حيوان منوي ناضج من الزوج لقح بييضة ناضجة من الزوجة) وإلى هنا فالأمر طبيعي.
ثانيًا: ولكن بعد هذا التلقيح وعند بداية التكاثر إلى خلايا تدخل العلم ففصل الخلية عن أختها، بالأسلوب العلمي الذي ذكرناه، وأصلح جدار الخلايا التي انفصلت، ثم غطاها، ثم أخذ يستنسخ كل واحدة منها على حدة.. وهكذا، لتصبح كل واحدة منها جنينًا.
ثالثًا: عند غرس إحدى هذه الخلايا في الرحم فإنها تواصل مسيرتها الطبيعية في تكوين الجنين بإذن الله تعالى.
أقول: إن الأمر إلى هنا لا يظهر فيه إلا مخالفة واحدة عن المنهج الطبيعي، وهي العمل على فصل الخلايا عن بعضها بإذابة الغشاء البروتيني السكري المحيط بالخلايا بواسطة (أنزيم ومواد كيماوية، ثم إصلاح جدار الخلايا وتغطيتها ... ) وإلى هنا فإننا إذا سلمنا ألا تأثير على أي خلية من الخلايا أثناء عملية الفصل، وعملية التغطية.. وبخاصة أننا نتعامل مع (خلية) بالغة الدقة تحتوي على كل ما في الإنسان، وأن كل ذرة كائنة في الخلية تمثل جزءًا من أجزاء الإنسان، وأن أي عطب يصيبها يصيب جزءًا من الإنسان، ومن ثم يشكل ذلك اعتداء على الجنين.(10/1282)
أقول: فإنه إذا قطع الأطباء بسلامة كل خلية من هذه الخلايا بعد فصلها، وتغطيتها؟ أنها لم ولن يعتريها تخريب، أو عطب، أو أي أثر ضار عليها من قريب أو من بعيد، فإنها قد تتشابه من وجه - وهو بداية التلقيح، أو مرحلة الجنين الأولى - مع (طفل الأنابيب) الذي أخذ حظه من الدراسة الفقهية، وسلم فقهاء الشريعة في المجامع الفقهية بجوازه إذا كان بين زوجين، وعلى يد طبيب مسلم حاذق تتوافر فيه صفة العدالة، وتحت مظلة من رعاية وإشراف دولة مسلمة، صيانة وحماية للنفس الإنسانية، وحفظًا للأنساب، ومنعًا من الاتجار بها، وقد كان للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية دور بارز في تناول هذه القضية في وقتها، وعلى ضوء ما رأته صدر تنظيم قانوني لهذه العملية في دولة الكويت , على حد علمي.
ولكنها تختلف عنه بعد ذلك اختلافًا جوهريًّا، فإن الأمر هنا في الاستتئام يختلف عن طفل الأنابيب، إذ كل طفل من أطفال الأنابيب يتكون من بييضة ملقحة بحيوان منوي، فلكل طفل ذاتيته، وصفاته وخواصه، وحياته الطبيعية، وتدرجه في الأطوار، دون تدخل أو مساس بمسيرته الذاتية.
أما في حالة (الاستتئام) ففي الحقيقة هو جنين واحد مكون من تلقيح بييضة بحيوان منوي، وعندما يأخذ في التنامي والتكاثر تتدخل الأيدي فتفصل كل خلية من خلاياه عن الأخرى، ثم الخلية المنفصلة يجري عليها ما جرى على الأولى، وهكذا حتى يصبح عندنا من جنين واحد عشرات الأجنة، وجميعها في واقع الأمر ترجع إلى ذات واحدة وصفات وراثية واحدة وخواص واحدة، أي هي إذا صح التمثيل كشخص واحد وقف أمام عدة مرايا، فانعكست صورته في كل مرآة لتردها إلى الأخرى حتى يرى نفسه عشرات المرات.
ومن هنا يختلف طفل (الاستتئام) عن طفل (الأنابيب) ويقترب من طفل الاستنساخ التقليدي؛ إذ الأخير كانت خليته جسدية بها (46) كروموزومًا، والبييضة منزوعة النواة هي الحاضنة فقط، وكلما كررنا الخلية الجسدية في بييضة منزوعة النواة نتج عنها نفس الشخص بجميع صفاته، ثم إنها أيضًا في طفل (الاستتئام) وقد اتحدت الذات والشكل والصورة، يلزم أن تتحد البصمات أيضًا، ويصبح لدينا تحت ظل (الاستتئام) أناس متعددون جسمًا، وقد يختلفون عمرًا، ولكنهم متحدون في أشكالهم وصفاتهم.
ويترتب على ذلك اضطراب في معرفة أصحاب الحقوق، ومن نحملهم الواجبات، ومن يعاقبون، إذا حدث التناكر والتهرب من الاعتراف بالحقيقة، أو ادعاء ذلك، كما أنه إذا ظهر عيب في واحد منهم فإنه سيتكرر في كل واحد منهم، ولا يملك أحدهم إعدام الآخرين، لأن للجنين حرمته. (1) وقد سبق أن قررت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية "أن الخلايا الجنينية هي: الخلايا الجنينية الباكرة لإنسان الغد، والاعتداء عليها اعتداء على الإنسان، وهي حياة محترمة في كل أطوارها تتدرج عقوبتها بسبب أطوارها ". (2)
أما من حيث انتماء أطفال الاستتئام إلى الأب والأم - أي الزوج والزوجة - فلا ريب في اتصال نسبهم بالزوج - الأب - صاحب الحيوان المنوي، وبالزوجة - الأم - صاحبة البييضة الملقحة بهذا الحيوان، والحاضنة للخلية الأصل، طالما تم غرس هذه الأجنة في رحم الزوجة تحت ظل الزوجية الصحيحة والقائمة التي لم تنفصل عراها بطلاق أو غيره، أو موت الزوج.
__________
(1) راجع: لنا بحث (حق الجنين في الحياة) نشر في مجلة كلية الحقوق بجامعة الكويت، والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية؛ بحث د. أحمد رجائي الجندي.
(2) وقد بينت في كتابي (حق الجنين في الحياة) العقوبات التي يقررها الفقه الإسلامي على الاعتداء على الجنين في كل طور من أطواره.(10/1283)
النوع الثالث:
الاستنساخ العضوي، والخلوي، والجيني
بين لنا العلماء المتخصصون (1) أن هناك نوعًا ثالثًا من الاستنساخ، يقتصر دوره على إنتاج عضو معين من الأعضاء، أو استنساخ جين معين من الجينات، أو استنساخ خلايا (2)
وقد عرف الدكتور أحمد رجائي الجندي الاستنساخ العضوي بقوله:
" يقصد به استنساخ بعض الأعضاء التي يحتاجها الإنسان في حياته في حالة حدوث عطب في أحد هذه الأعضاء ".
ثم ذكر أنه قد نجحت حتى الآن زراعة الجلد البشري، ويوجد بنوك لهذا الجلد في معظم العالم، ثم يقول: "ومن المعروف أن الجلد يعتبر أحد الأعضاء الهامة والتي يتوقف عليها إنقاذ إنسان تعرض جسده بنسبة كبيرة للحروق، وكما ذكر أحد الباحثين، إمكانية النجاح في استنبات المبايض والخصي الذكرية البشرية مخبريًا، بحيث يمكن الحصول منها على بييضات ونطف بشرية ". (3)
ثم ذكر لي في محادثة تليفونية معه " أن ما نجحوا فيه بالنسبة للجلد هو استنبات الأنسجة فقط، أما ما يحتويه الجلد من أعصاب وشرايين وغير ذلك فإنه لم يحدث، وكذا ما تحدثوا عن إمكانه بالنسبة لاستنبات المبايض والخصي، لم يحدث أيضًا حتى الآن ".
وتقول الدكتورة صديقة العوضي: " إن استنساخ الأعضاء أمر مستبعد، لأن عملية تكوين الأعضاء داخل الجنين تخضع لعوامل وراثية، أو مورثات مسؤولة عن تكوين هذه الأعضاء ما دامت داخل الجنين. إنه بدراسة علم الأجنة (Embryology) كل طبيب يعلم كم من المراحل المتعددة تتعاقب في توال ونظام محكم لتصل في النهاية للكائن الحي بأعضائه، وأن أي خطأ - ولو كان صغيرًا - يؤدي إلى التشوهات الخلقية، على هذا الأساس فإنه لو زرعت نواة الخلية الكبدية في بييضة فارغة، فإنها بالتالي ستنتج مستنسخًا كاملًا - أي جنينًا - وليس كبدًا فقط، أما إذا زرعت الخلية في وسط المعمل فإنها تنتج كلون (Clone) مكونًا من صنف واحد من الخلايا الكبدية (Manclonalcells) وليس كبدًا بكل أوصافه وأشكاله ووظائفه المختلفة، قس على ذلك جميع الأعضاء ".
__________
(1) بحث د. أحمد رجائي الجندي؛ د. صديقة العوضي.
(2) بحث د. أحمد رجائي الجندي؛ د. صديقة العوضي.
(3) بحث د. أحمد رجائي الجندي؛ د. صديقة العوضي.(10/1284)
ومثل ذلك ما قرره الدكتور مختار الظواهري أستاذ الوراثة الطبية بكلية العلوم بجامعة الكويت (1)
__________
(1) يقول أ. د. مختار الظواهري في مقاله الذي نشر بالقبس تحت عنوان (لا تطبيقات مفيدة في الاستنساخ البشري) في 25/ 3/ 1997: "يظن البعض أن الاستنساخ البشري سيحل مشكلة توفير أعضاء بشرية لزرعها لمن يحتاج إليها، يقول: هذا أمل كاذب، يمني به من لا يملك لمن يعيشون على الأمل، فيصدمون بالسراب والفشل، فالاستنساخ لن يحل هذه المشكلة، ولن تكون تقنية لإنتاج قطع غيار بشرية، مثل: كبد، قلب، كلية، أو بنكرياس ... فالبعض يقترح أن يكون هناك نسخة أخرى للطفل المريض ليكون مخزونًا، أو اسكراب، يؤخذ منه قطعة غيار لنسخته الأصل المريضة كلما اقتضى الأمر!! كيف ذلك؟ ولا تعليق ". أقول: قد ذكرنا فيما تقدم أن حياة كل كائن مصونة ولا تمس إلا بحق، وهذا ليس بحق، فلا يجوز شرعًا التسبب في إيجاد حياة ثم إعدامها من أجل أي شيء، ولو كان لحياة نفس أخرى، أما الاقتراح الآخر الأكثر منطقية - إذا كان ممكنًا - فهو دفع خلية كبد لتنمو في خارج الجسم إلى كبد!! كيف؟ وهذا غير ممكن، بل ومستحيل؟ إذ أن أي عضو ينمو من خلال منظومة هندسية مبرمجة وراثيًّا بشكل دقيق ومعقد للغاية، فالعضو لا ينمو ويتشكل إلا من خلال كيان متكامل يمد هذه الأعضاء بالإحساس، والأوامر العصبية والدم والهرمونات، لكي تنمو وتتشكل، وتستطيع القيام بوظائفها، وكل عضو ينمو ويتشكل حسب دوره في النوتة الموسيقية ضمن المنظومة الجينية المتكاملة لجسم الإنسان، وليس منفصلًا عنها، وبذلك إذا زرعت خلية من كبد في معزل عن باقي الجسم لمحاولة إنتاج كبد، كعضو مستقل، فإنها ستنتج نسيجًا فقط مشابهًا لنسيجها المأخوذة منه، ولن ينمو أبدًا إلى عضو منفرد مستقل بعيدًا عن جسم الجنين، فلا نتوقع أن يستطيع العلماء إنتاج قلب فقط، أو رئة فقط، أو كبد فقط، أو كلية فقط، كقطعة غيار بشرية. ونشر في صحيفة الوطن الكويتية الصادرة يوم الأحد 28/ 11/ 1417 هـ، 6/ 4/ 1997م مايلي: "شانغهاي - شينخو: نجح طبيب صيني في استنساخ أذن إنسانية بواسطة تجربة لتكاثر الخلايا، وقد بدأ الطبيب (تساو بي لين) بحثه في عام 1993م معتمدًا على تجاربه الإكلينيكية في جراحة التجميل، ولاستنساخ العضو أخذ (تساو) خلايا العضو لإكثارها، ورباها في جهاز مصنوع من مادة خاصة على شكل حامل، ثم بعد ذلك نقل الجزء الغضروفي المتكون في الخلايا، وزرعه في فأر أبيض، فظهرت أذن إنسان على الحيوان في غضون ستة أسابيع، وتوقع (تساو) أن تستخدم هذه التكنولوجيا في جسم الإنسان بنهاية القرن، مع تطور هندسة الأنسجة. وعلى أساس نفس المبدأ يمكن تصور إعادة إنتاج القصبة الهوائية، وكبد، ومفاصل، وأوتار، وجلد، وعظام إنسان، بجمع بعض الأنسجة النشطة من الأعضاء المريضة، وقال (داي كيرونغ) اختصاصي جراحة تقويم الأعضاء - المشهور في الصين -: إن هندسة الأنسجة تختلف عن استنساخ الحمض النووي (D.N.A) إذ أنه في هندسة الأنسجة يمكن تكثير أنسجة الخلايا، كما أنه يمكن استخدامها بشكل واسع في الممارسات الإكلينيكية.(10/1285)
حكم استنساخ العضو في الفقه الإسلامي:
تبين لنا مما تقدم أن استنساخ عضو معين فقط دون استنساخ كل الجسم، كالقلب، والكبد، والكلية، واليد، والرجل، والعين، والأذن، والجلد ... وغير ذلك بكل خواصه التي أودعها الله فيه، غير ممكن علميًّا؛ فبعضهم استبعده، وبعضهم جعله أملًا كاذبًا، أو أنه غير ممكن، بل ومستحيل، كما نقلنا عنهم آنفًا، وهم أهل الاختصاص في هذا الفن.
- أما استنساخ الأنسجة فقط، فيمكن - كما حدث في الجلد - ونسخها حينئذٍ يتم معمليًّا، كما ذكرت الدكتورة صديقة العوضي، من أنه إذا زرعت خلية كبد في وسط المعمل فإنها تنتج (كلون) مكونًا من صنف واحد من الخلايا الكبدية، وليس كبدًا بكل أوصافه وأشكاله ووظائفه المختلفة، قس على ذلك جميع الأعضاء.
أقول: إن ما يصل إليه العلم من استنساخ شيء من أنسجة الأعضاء منفصلًا عن استنساخ جسم الإنسان كله , كما هو الحال في الاستنساخ التقليدي معمليًّا - على الوجه الذي أوضحناه - فإنني لا أرى مانعًا شرعيًّا من المضي فيه، وإنتاجه، ولكن بقيود:
أولها: أنه من خلايا الإنسان الذي كرمه الله تعالى وعصم دمه، ومنع المساس به إلا بحق، وجعل كل دمه وبشرته حرام على غيره، وحرم ورود العقد عليه من بيع أو غيره، وعلى أجزائه كذلك. (1) فهي بمنزلته في التكريم والعصمة، وقد سبق أن أوردنا الأحاديث الدالة على ذلك، ومنها: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) .
وثانيها: أن انتفاع الإنسان بنسيج من أنسجته، لعلاج ما قد أصابه من مرض، أو حادث - كما يحدث في حال تآكل جلد من أصابته النار فاحترق بعض جلده - جائز شرعًا، بل ومطلوب حتى تعود - بإذن الله تعالى - بشرته وجلده على ما كان عليه قدر الإمكان.
وثالثها: أن انتفاع الغير بذلك النسيج مشروط بالحاجة الملحة فقط، وقد تنزل الحاجة منزلة الضرورة، وبخاصة أن توافر استنساخ هذا النسيج من نفسه لنفسه في وقت معين، قد يحتاج إيجاده إلى وقت بعيد، مما قد يؤدي إلى الإضرار به، إلا أنه مع ذلك يجب الاطمئنان إلى عدم نقل هذا النسيج مرضًا من الأمراض المعدية التي قد يكون صاحبه مصابًا بها، وأن يأذن له به.
هذا ما أردنا إبرازه في هذا المجال، والله ولي التوفيق.
{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . [البقرة: 286] صدق الله العظيم.
أ. د حسن علي الشاذلي
__________
(1) راجع لنا (حكم نقل أعضاء الإنسان في الفقه الإسلامي) نشر الجمهورية في مصر، ومجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة.(10/1286)
نظرة في الاستنساخ وحكمه الشرعي
إعداد
آية الله محمد علي التسخيري
رئيس رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية بإيران
نظرة في
الاستنساخ وحكمه الشرعي
ما هو الاستنساخ؟
يقسم العلماء (1) الاستنساخ إلى نوعين: تقليدي وجديد.
أما التقليدي منه فيعني الحصول على عدد من النسخ طبق الأصل من نبات أو حيوان بدون حاجة إلى تلاقح خلايا جنسية ذكرية أو أنثوية.
وتتم من خلال إدخال نواة من أي خلية من خلايا الجسم كخلية جلدية مثلًا إلى داخل بييضة ناضجة بعد أن يتم إخلاؤها من نواتها، فإن النواة الجديدة تشرع في الانقسام في اتجاه تكوين خلايا جلدية ولكن (بتأثير من السائل الخلوي السيتوبلازمي) , تشرع في تكوين جنين سيكون نسخة طبق الأصل ممن أخذنا عنه الخلية.
وأما الجديد فإنه يعتمد على المنع من تمزق الجدار الخلوي السميك للمنع من الانقسام المعهود في الخلايا الجنسية ذلك أن الحالة الطبيعية المعهودة هي أن يخترق الحيوان المنوي الذكري (الذي يحمل نصف عدد كروموزومات الخلية الإنسانية) البييضة الناضجة (التي تحمل النصف الآخر) لتكمل في الخلية الناتجة الكروموزومات الـ 46 وهي كروموزومات الإنسان، وهذه الخلية الناتجة من الالتحام تتكاثر إلى خليتين ثم أربع ثم ثمان ثم ست عشرة ثم اثنتين وثلاثين ... وهكذا، ولكن العلماء يركزون على الخلية الناتجة من الالتحام فيمنعون من تمزق جدارها الخلوي، فإن النواة تنقسم إلى قسمين وكل قسم يتصور نفسه النواة الأم وتبدأ في النمو إلى جنين وتتطابق الأجنة تمامًا في الصفات.
والملاحظ: هنا أن هذا الأسلوب بشكليه التقليدي والجديد لا يستغني عن تلاقح الحيوان المنوي الذكري والبييضة الأنثوية ولو في المراحل السابقة، أما في الشكل الجديد فواضح، وأما في الشكل القديم فلأن النواة المجلوبة من الجلد مثلًا إنما نتجت بعد تكاثر خلية ملقحة سابقًا.
وقد ثارت ضجة عالمية حول هذا الموضوع، وانقسم العلماء الطبيعيون والاجتماعيون والفقهاء إلى مؤيدين ومعارضين ونسجت خيالات القُصَّاصِ الكثير من الأوهام، وراح (الأرايتيون) كما يسميهم الدكتور حتحوت يفترضون ويفترضون.
__________
(1) راجع مقالة الأستاذ الدكتور حسان حتحوت حول الموضوع.(10/1287)
وقبل أن نلقي نظرة على الموضوع نرى ضرورة التذكير ببعض الأمور.
الأول: أن كل حدث جديد - وخصوصًا إذا كان يتصل بمسألة حياتية كهذه مما يغير مجرى الحياة البشرية - لا بد أن يثير أجواء عاطفية ويغرق الأفكار في افتراضات وتخمينات بعضها رائع وبعضها مرعب ولكل بعض يتكون أنصار ومؤيدون، وفي هذه الأجواء ربما لا يستطيع الباحث أن يدرس الموضوع بكل موضوعية وتجرد وإنما يجنح مع هذا الفريق أو ذاك دون أن يشعر.
ولذا فمن البعيد التوصل إلى رأي اجتماعي أو علمي أو فقهي موضوعي في هذه المرحلة.
الثاني: أن الأبحاث العلمية لا يمكن منعها والوقوف بوجهها خصوصًا إذا كانت بهذا المستوى من التأثير الواسع، وإذا كانت تطل على عالم مجهول لتفتح مغاليقه ومجاهيله؟ فيجب التأمل كثيرًا قبل إصدار الأحكام المطلقة، ويجب أن نضع في الحسبان تلك الحالات التي سنواجهها شئنا أم أبينا.
الثالث: قد نجد بعض الافتراضات نتاجًا للخيال القصصي المجنح مما يؤثر سلبيًا على سلامة الدراسة كما أن بعض الافتراضات تحذر من أنماط الاستغلال السيئ، الأمر الذي يدفع الفقهاء والشرعيين للتحريم المطلق سدًا للذرائع، وقد مررنا من قبل بموضوع التلقيح الصناعي والافتراضات التي طرحت حوله ثم استسلم الفقهاء للأمر الواقع وراحوا يدرسون كل حالة على حدة بمنأى عن الضجيج والافتراضات، ومازال البحث فيه غير ناضج كما نعتقد.
الرابع: إن المنهج الصحيح هو دراسة نفس الحالة أولًا ومدى انطباق العناوين المحللة أو المحرمة عليها ثم محاولة معرفة النتائج المتوقعة والعوارض الناتجة لمعرفتها خلال أحكامها المعروفة، وقد تتشابك النتائج الحسنة والسيئة منها، مما يدعو إلى التأمل وملاحظة الأغلبية الساحقة في البين.
الخامس: يجب أن نعترف بأن الأخصائيين الطبيعيين لهم الحق وحدهم في تقرير الآثار العلمية المخربة أو الإيجابية لهذا الأسلوب ولا نستطيع نحن أن نقرر شيئًا إلا بعد انتهائهم من بحوثهم، نعم إذا انتهى هؤلاء إلى نتائج ولو كانت شبه قطعية أمكننا أن نلاحظ مدى انسجام هذه الآثار مع معتقداتنا ومع قيمنا ومع مبادئنا الإسلامية ونظريتنا السياسية والاجتماعية وتخطيطنا للحياة.
ومن هنا فلا ينبغي التسرع في الحكم ما دامت النتائج العملية غير قطعية.(10/1288)
بعد هذا لا بد من أن نلقي نظرة سريعة على آراء المؤيدين والمخالفين، ثم نحاول الترجيح بما لا يخرج هذا البحث عن كونه مجرد إلقاء نظرة على الموضوع:
آراء المؤيدين:
ويركز المؤيدون على نقطتين أساسيتين هما:
أولًا: عدم توفر ما يمنع من القيام بهذه العملية من الأدلة الشرعية.
وثانيًا: الآثار الإيجابية الكبرى التي يتوقع حصولها والآفاق العلمية التي ستنفتح أمام الإنسان، وهم بهذا الصدد يذكرون أمور كثيرة، منها:
أ- المعلومات الضخمة التي سيكسبها العلماء في مجال تمايز الخلايا، ومعرفة جذور أمراض السرطان، والآثار السلبية الوراثية، وعوامل المناعة، وأسباب الإجهاض، ووسائل منع الحمل، وأمثال ذلك.
ب - الآثار التي سيتركها هذا الموضوع في مجال منح الأطفال للأزواج المبتلين بالعقم.
جـ- أنه سيساعد بشكل كبير في التحكم بسلامة الجيل الآتي وتحسين حياته.
د - أنه سيساهم في مسألة الاستفادة من الخصائص المتميزة للأفراد وتكثيرها.
هـ - أنه سيساعد في إنجاح الدراسات بعد إجرائها على أناس متطابقين، وذلك للتأكد من سلامة النتائج.
ويضيف هؤلاء المؤيدون أن الاستنساخ عملية طبيعية قد تحدث بشكل طبيعي عند بعض الحيوانات.
كما يؤكدون أن العلم ملك للجميع ولا يمكن إيقاف بحوثه وحرمان البشرية من نتائجه.
وهنا نجد الإغراق أحيانًا في الخيال بتصور مجتمع خال من الأمراض متحكم في عناصره، يحوي سلالات معرفية واسعة وما إلى ذلك.(10/1289)
آراء المعارضين:
وهؤلاء أيضًا يستفيدون من الخيال المجنح لبيان الأضرار المتوقعة من هذه العملية بل يفرقون المؤيدين في هذا المجال، ومن الأمور المطروحة، ما يلي:
أ- يستلزم اختلاط الأنساب.
ب - يعني تغيير خلق الله.
جـ- يعني التقاء المياه الأجنبية.
د - إنه التدخل في خلق الله.
هـ- إنه يؤدي إلى الاستغناء عن الزواج.
و استلزامه لإماتة اللقائح وهي مشروعات إنسانية جاهزة.
ز - احتمال تهديم المجتمعات وتجريد الإنسان من إنسانيته.
ح - إن استمرار البشرية يعتمد على التنوع الجنيني وهذا التنوع يفنى من خلال هذا الأسلوب.
ط - إنه يشجع عمليات الإجهاض.
ي - تحويل الرغبة الطبيعية في الأولاد إلى الرغبة في الصفات المعينة.
الثاني: إن هذه الحالة لا يمكن أن تشكل ظاهرة اجتماعية واسعة، بل هي حالات قليلة - على الأقل في الإمكان الحاضر - ولا مانع حينئذ من وجود أفراد لا يعلم نسبهم أو ينتسبون إلى الأم فقط كما ينتسب ولد الشبهة إلى أمه فلا يلزم منه اختلاط الأنساب - كما يقال - وإنما قد يلزم مجهولية النسب مما يخرجه موضوعًا عن أحكام النسب.
الثالث: إن احتمال إساءة الاستفادة موجود بنفس النسبة في موضوع التلقيح الصناعي وقد أجازه كل الفقهاء تقريبًا.
ولا نريد أن نؤيد هذه الإشكالات بقدر تأكيدنا على لزوم التأكد من المحذور.
أما موضوع تغيير خلق الله تعالى: فقد ذكر أن الآية الشريفة تقول عن الشيطان: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) } [النساء: 118 -119]
ومن الواضح أن الشيطان الرجيم يهدد بالتركيز على مجموعة من عباد الله ليسخرهم لأعماله الشيطانية ومنها تبتيك آذان الأنعام وتغيير خلق الله , وهي أمور مبغوضة للمولى جل وعلا بلا ريب , ولذا يعدها سبحانه من الخسران المبين.
فهل هذا العمل الذي نحن بصدده من مصاديق تغيير خلق الله المنهي عنه؟ وهنا يقال بأن التبتيك والتغيير لا يمكن أن يكون المراد به مطلق المفهوم اللغوي لهما، حتى ولو كان بدواع مشروعة عقلانية لا شيطانية، وإلا لكان كل تغيير يحدث في البدن كحلق الشعر أو الختان أو تعليم آذن الإبل أو التجميل من المحرمات، وهو أمر واضح البطلان.(10/1290)
بل إن التعميم يعني كل تغيير في خلق الله وهذا يعني في تغيير في الطبيعة، فهل نمنع ذلك؟ كلا، فليس المراد هو العموم وإنما المراد - وكما يقول بعض العلماء - عمليات شيطانية خرافية تقوم على أساس من تصورات شيطانية جاهلية يتم بموجبها إهدار للثروات الطبيعية، من قبيل ما جاء في قوله تعالى:
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}
. [المائدة: 103]
حيث تبتك آذان البحائر وتترك، يقول العلامة الطباطبائي في الميزان: " إن عرب الجاهلية كانت تشق آذان البحائر والسوائب لتحريم لحومها "، كما يؤكد أنه ليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف، مستشهدًا بقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] ، ولعل سباق الآيات يساعد على ذلك، وقد أيدته رواية عن الإمام الصادق (ع) كما جاء في مجمع البيان في ذيل تفسير هذه الآية، وحينئذ لا يمكن أن يستند لهذه الآية الشريفة في رد أي تغيير طبيعي، ومنه موردنا هذا، إذ المراد وهو قسم خاص يتم بتسويل الشيطان وتسويغه.
على أنه في الواقع استفادة من قوانين طبيعية فرضها الله في الطبيعة ولا يمكن أن يعد تدخلًا في خلق الله- كما جاء في اتهامات المعارضين - أو يعد تحديًا لله تعالى في خلقه - كما ربما يأتي على ألسنة بعض المخالفين للاستنساخ - وإلا كان علينا أن نسد باب أي إبداع علمي في علم الوراثة في جميع حقول الخلق.
أما حكاية التقاء الأجنبية هنا فهي مرفوضة كبرى وصغرى أما كبرى:
فلا دليل على حرمة التقاء المياه الأجنبية، وإنما الأدلة كلها تنظر إلى عملية الزنا، إلا ما يتوهم استفادته من روايات تتحدث عن حرمة وضع المني في الرحم المحرم من قبيل ما جاء في الكافي بإسناد معتبر إلى علي بن سالم عن أبي عبد الله الصادق (ع) ، قال: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أقر نطفته في رحم يحرم عليه. (1) ورواه الصدوق في عقاب الأعمال (2) وعن البرقي في المحاسن مثله.
وما جاء عن الصدوق في (من لا يحضره الفقيه) قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يعمل ابن آدم عملًا أعظم عند الله تبارك وتعالى من رجل قتل نبيًا أو إمامًا، أو هدم الكعبة التي جعلها الله عز وجل قبلة لعباده، أو أفرغ ماءه في امرأة حرامًا)) .
إلا أن أمثال هذه الروايات بالإضافة لضعف سندها ناظرة بلا ريب إلى عمليات الزنا خصوصًا إذا لاحظنا العذاب الشديد المذكور فيها فلا يحتمل أن العذاب إنما هو لمجرد إيصال ماء الرجل إلى رحم يحرم عليه.
وشموله لموردنا من حيث الصغرى أيضًا غير صحيح، فليس هنا التقاء ولا انعقاد - كما هو واضح - إلا أن يقال: إن المورد هو بحكم انعقاد النطفة فيقاس عليه، وهنا يقتصر على المورد الذي يحل فيه هذا الانعقاد. أما موضوع الاستغناء عن الزواج فإذا افترضنا أن الأمر فيه تيسر إلى هذا الحد - وهو بعيد - فإن دواعي الزواج لا تقتصر على الاستيلاد أولًا، على أن الاستيلاد من طريق الزواج هو المطلوب للإنسان قبل كل شيء، ولا يُلجأ لمثل هذه الطرق إلا استثناء.
__________
(1) الكافي باب الزاني، من كتاب النكاح: 5/ 541؛ الوسائل باب 4: 14/ 239
(2) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص 310.(10/1291)
أما مسألة اللقائح المتعددة وإعدامها فالذي يتصور في البين أن هذه اللقائح لا ينطبق عليها أنها أناس، وأن إعدامها غير مشمول لأدلة حرمة القتل، أو أدلة دية الجنين، وأمثال ذلك.
وأما مسألة احتمال تهديم المجتمعات، أو تجريد الإنسان من إنسانيته فهو مسألة لا دليل عليها، بل إن عملية إنقاذ بعض المجتمعات أو بعض العوائل من أمراضها الوراثية وتقوية الصفات الجيدة مطروحة هنا، وكذلك مسألة التنوع الجنيني فإنه أولًا لم يثبت التطابق التام إلى حد ينتفي معه أي تنوع، على أن اختلاف البيئات والعوامل الخارجية لا بد أن تؤدي إلى نوعٍ من الاختلاف.
ونحن نتصور أن عمليات الإجهاض إنما يتحكم فيها القانون والشريعة، تمامًا كما هي الحال في وضعنا الحالي.
ومسألة الرغبة الطبيعية في الأولاد سوف تبقى، لأنها نابعة من عمق الفطرة الإنسانية، ولسنا نتصور الإنسانية آلة صماء لا تحكم إلا ما خطط لها من قبل، دونما رحمة أو عواطف أو دواعي فطرية.
أما احتمال أن يعرف التوأم الصغير مستقبله من خلال حياة التوأم الكبير، فهي قد تكون مشجعة على تلافي الوقوع في المرض من خلال الرصد المبكر لها.
وتبقى المسألة الشرعية للإرث والنظر والعلاقات الاجتماعية، فهي أمور يجب أن يسعى الفقه الإسلامي لبيان موقفه فيها بدلًا من التخلص من التبعة عبر إغلاق الباب من الأساس، وحرمان العلم الإنساني النتائج الباهرة لهذه البحوث.
وأخيرًا تبقى مسألة التطبيق السيء لهذا الكشف والاستغلال السيء له فهذا أمر بيد الإنسان يستطيع أن يتجنبه ويتحاشاه عبر بناء الخلق الاجتماعي الرصين، والروح الإنسانية النزيهة، ولا يمكننا أن نغلق بابًا للخير لأن هناك من يستفيد منه للشر.
وهنا نعود لما ساقه المؤيدون من أدلة، فنراها أدلة قوية محكمة ينبغي التأمل فيها ودراستها، وخصوصًا ما ذكروه من أن العلم للجميع، ولا يمكن حرمان البشرية من نتائجه لمجرد احتمالات وظنون وافتراضات، تقابلها ظنون إيجابية واحتمالات إثباتية مقبولة.
نعم: يجب أن تخلو الأساليب المتبعة مما يخالف الشريعة من الملابسات التي تقترن بشكل طبيعي بمثل هذه الأبحاث.
وأخيرًا:
فلسنا نريد أن نصدر حكمًا قاطعًا بهذا الشأن، بقدر ما نريد أن نؤكد على ضرورة عدم التسرع في الحكم ونقله من صفحات الجرائد إلى معاهد البحث العلمي، وتخليصه من الأجواء الحماسية والعاطفية والغوغائية، ونقله إلى حيث البحث العلمي النزيه.
والله تعالى هو العالم بالصواب
محمد علي التسخيري(10/1292)
الاستتئام والاستتنساخ
الاستتئام والاستتنساخ
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الثورة العلمية المعاصرة قد أتحفت البشر بما ليس في الحسبان في عالم النبات والحيوان، وستفضي في المستقبل القريب أو البعيد بما تحمله من تقنية عالية إلى ثورة في المعرفة تقلب الموازين، خصوصًا في عالم التكاثر البشري، فالعلم والعقل لا بد لهما من انطلاق، ولا يجوز أن نحجر على العقل في التفكير وعلى العلم في المواصلة والارتقاء وتقصي الاحتمالات للتوصل إلى الممكن.
ولكن لا بد من أن يحكم العلم نظام ويهيمن عليه دستور ليكون في صالح البشرية لا في ضررها وفنائها، ولهذا احتجنا إلى الفقه أو القانون لأجل أن يصرح بكلمته اتجاه هذه الثورة المعاصرة التي لا بد لها من الاستمرار لصالح المجتمع، فإن الدين قادر على مواجهة ومسايرة الحياة وانضباطها بالشكل الصالح للمجتمع.
ومن الطبيعي أن يعتمد الفقه أو القانون على أهل التخصص بالعلوم الطبيعية في تشخيص الموضوع الموجود أو الذي يفترض أن يحدث لأن الحكم على شيء فرع تصوره.
وهذا الذي ذكرنا هو الطريق الأصلح للعلم الذي لا بد أن لا يترك لوحده يمتطي طغيانه في عالم البشرية الكبير، ولهذا سنعتمد على أهل التخصص في تصوير الموضوع الذي حدث أو الذي يترقب أن يحدث، ثم نعرضه أمام الفقه ليقول كلمته من القرآن والسنة أو قواعد الشريعة المستلهمة منهما.
توطئة:
كانت هناك فكرة بدأت (بدافع التمييز البشري) في ألمانيا في العقد الثالث من هذا القرن (العشرين) يوم قرر الحزب النازي بقيادة هتلر خلق عرق متميز، ولكن التقنية المتوفرة آنذاك قد خذلته.
ثم جاءت نقطة التحول عام 1960 م يوم استطاع العلماء استنساخ النباتات.(10/1293)
ثم في عام 1993 م حيث تمكن (جيري هال وروبرت ستلمان) العالمان الأميركيان من إنجاز علمي كبير كشفا عنه خلال اجتماع جمعية الخصوبة الأمريكية بمدينة منتريال بكندا في أكتوبر، وهذا الحدث قد تناول جنين الإنسان رأسًا، وقد حصل هذا الإنجاز العلمي على جائزة أهم بحث في المؤتمر، ثم أعقبه زوبعة من الاعتراضات.
وهذا الإنجاز العلمي يطلق عليه اسم (الاستتئام) لأنه يحاول إيجاد التوائم البشرية بطريقة علمية سيأتي شرحها.
ثم في عام 1995 تمكن علماء يابانيون من دمج خلية جنينية (بييضة) مع خلية جسدية عن طريق تيار كهربائي ليحصلوا لأول مرة في تاريخ الإنسان على نسل لم يتم بالمعاشرة الجنسية (أي طريق تلقيح البييضة بالحيوانات المنوية) .
والخلاصة: في العشرة الأخيرة من القرن العشرين شهد العالم حدثين مهمين:
الأول: ما حدث سنة 1993 م على يد العالمين الأمريكيين وهو (الاستتئام) .
والثاني: ما حصل سنة 1997 م من استنساخ النعجة (دولي) على يد البروفسور (آيان ويلموت) العالم الأسكوتلندي مع خبراء من معهد روزلين في مدينة أدنبرة البريطانية، وهذا يعتبر تعميقًا لما عمله العلماء اليابانيون من دمج خلية جنينية مع خلية جسدية عن طريق التيار الكهربائي.
والآن سنشرح كلا الحدثين المهمين مع رأي الفقه الإسلامي فيهما.
الأول: الاستتئام (1)
وقبل البدء في بيان طريقة الاستتئام يحسن بنا أن نبين الولادة التي تتم عن طريق الخلايا الجنسية فنقول:
الخلايا الجنسية هي المنويات التي تفرزها الخصية , والبييضات التي يفرزها المبيض , وهذه الخلايا الجنسية تختلف عن بقية خلايا الجسم؛ وتوضيح ذلك:
إن خلايا الجسم (غير الجنسية) كخلايا الأمعاء والجلد والعظم وغيرها تشتمل على نواة في داخل الخلية هي سر النشاط الحياتي فيها، ويحيط بالنواة غشاء نووي، وتحتوي النواة بداخلها على شبكة مكونة من ستة وأربعين شريطًا تسمى بالأجسام الصبغية (الكروموزومات) ، أما باقي مساحة الخلية فيما بين النواة وبين جدار الخلية فمليء بسائل يعرف بالسائل الخلوي أو (السيتوبلازم) .
والأجسام الصبغية (الكروموزومات) الستة والأربعين هي حوامل الصفات الوراثية التي تسمى (الجينات) وهي التي تقرر الصفات الوراثية للفرد.
__________
(1) إن توضيح موضوع الاستتئام اعتمدنا فيه على بحث الأستاذ الدكتور حسان حتحوت، في بحث له تحت عنوان (استنساخ البشر) ، ولكن هناك معلومات أخرى أضيفت من علماء آخرين نشرت الصحف والمجلات العالمية تصريحات لهم.(10/1294)
وتتكاثر الخلية بالانقسام الذي بموجبه ينشق كل شريط من هذه الأجسام طوليًا إلى نصفين يتمم كل منهما نفسه إلى شريط كامل بالتقاط المواد اللازمة من السائل المحيط به، وهكذا تتكون شبكتان صبغيتان تغلف كل منهما نفسها بغلاف نووي لتصبح هناك نواتان تقتسمان السائل الخلوي ويحيط بكل منهما غشاء خلوي وتصبح الخلية خليتين وهكذا أجيالًا بعد أجيال من الخلايا المتماثلة، فالخلية الجلدية مثلًا تنجب أجيالًا من الخلايا الجلدية، وخلية الكبد تعطي أجيالًا من خلايا الكبد ... وهكذا.
أما الخلية الجنسية: فلها خاصيتها التي ليست لغيرها، وذلك فإنها في انقسامها الأخير الذي تتهيأ به للقدرة على الإخصاب، لا ينشطر الشريط الكروموزومي إلى نصفين يكمل كل منهما نفسه، بل تبقى الأجسام الصبغية سليمة، ويذهب نصفها ليكون نواة خلية والنصف الآخر ليكون نواة خلية أخرى، وحينئذ تكون نواة الخلية الجديدة مشتملة على ثلاثة وعشرين من الأجسام الصبغية (لا على ثلاثة وعشرين زوجًا) ، ولهذا يسمى هذا الانقسام بالانقسام الاختزالي، فكأن النواة فيما يختص بالحصيلة الإرثية نصف نواة. (1)
والقصد من ذلك: أنه إذا أخصب منوي ناضج بييضة ناضجة باختراق جدارها السميك تممت نواتاهما إلى نواة واحدة ذات ثلاثة وعشرين زوجًا لا فردًا، أي صارت النواة مشتملة على (46) من الأجسام الصبغية كما هي سائر خلايا جسم الإنسان، فكأن المني مع البييضة نصفان التحما إلى خلية واحدة هي البييضة الملقحة، وهي أول مراحل الجنين.
__________
(1) إن الآيات القرآنية تشير إلى هذه الحقيقة، فقد قال تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6] ، وهذا خطاب لكل البشر حيث قال الله تعالى لهم لقد خلقت هذا النوع من البشر وكثر أفراده من نفس واحدة (الزوج، أو آدم أبو البشر) وزوجها الذي هو الأنثى مثلًا، فقد قال الراغب: الزوج يقال: لكل واحد من الفريقين من الذكر والأنثى من الحيوانات المتزاوجة، وقد قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] أي خلق لأجلكم من جنسكم قرائن لأن كل واحد من الرجل والمرأة يجهز بجهاز تناسلي يتم فعله بمقارنة الآخر، فكل واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر، ويحصل من المجموع واحد تام له أن يلد وينسل. ولهذا النقص والافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الآخر، حتى إذا اتصل به سكن إليه. راجع تفسير الميزان، السيد الطباطبائي: 16/ 166(10/1295)
خصوصية البييضة الملقحة: وهناك خصوصية للبييضة الملقحة تنفرد بها دون سائر خلايا الجسم، وسر هذه الخصوصية مركوز في السائل الخلوي (السيتوبلازم) الذي يحيط بالنواة، إذ بينما تتكاثر خلايا الجسم إلى أجيال لا نهاية لها من الخلايا المتماثلة، فإن البييضة الملقحة تشرع في الانقسام إلى خلايا متماثلة لعدد محدود من الأجيال، فما تكاد تفضي إلى كتلة من اثنين وثلاثين خلية حتى تتفرع خلايا الأجيال التالية إلى اتجاهات وتخصصات شتى ذات وظائف متباينة، وتتخلق إلى خلايا الجلد والأعصاب والأمعاء وغيرها، أي ينحو إلى تكوين جنين ذي أنسجة وأعضاء مختلفة ومتباينة رغم أنها لا زالت تشبه خلايا الأم التي ينشق الشريط الكروموزومي إلى نصفين يكمل كل منهما نفسه، ولكن طوائف من الجينات (الكروموزومات) تنطفئ (بقدرة قادر) فتبقى موجودة (لكنها غير فعالة) في تمايز يتيح لكل مجموعة من الخلايا أن تفضي إلى نسيج أو عضو من أنسجة الجسم وأعضائه المتعددة، هذا كله هو الطريق المألوف للولادة الذي يتم عن طريق التلاقح الجنسي.
أما الاستتئام:
فهو إنجاز علمي "كشف عنه العالمان (جيري هال) و (روبرت ستلمان) خلال اجتماع جمعية الخصوبة الأمريكية بمدينة منتريال بكندا في أكتوبر عام 1993 م؛ تناول جنين الإنسان رأسًا، وحصل هذا الإنجاز العلمي على جائزة أهم بحث في المؤتمر.
وخلاصة هذا الإنجاز العلمي هو: أن البييضة الناضجة التي تحتوي على (23 كروموزوما) إذا اخترق جدارها السميك منوي ناضج يحتوي على (23 كروموزومًا) فتلتحم النواتان في نواة تحمل الكروموزومات الستة والأربعين (23 زوجًا) وهي صفة خلايا الإنسان.
ثم يحدث انقسام النواة إلى جيل بكر من خليتين، وإلى جيل حفيد من أربع خلايا، وأجيال تالية من ثماني، ثم أجيال من ست عشرة، ثم أجيال من اثنين وثلاثين، ثم يحدث الشروع في التخصص لتكوين أنسجة وأعضاء. وبما أن الانقسام الأول للخلية الأم إلى خليتين يحتوي على تمزق الجدار الخلوي السميك، فيكون عندنا خلية أم أصلية واحدة يتم انقسامها لتكوين جنين واحد، ولكن كشف العلماء في أن الانقسام الأول إذا لم يمزق الجدار السميك فإن كلًّا من الخليتين الناتجتين عن الانقسام الأول تعتبر نفسها، أما أصلية من جديد، وتشرع في الانقسام لتكوين جنين لوحدها، وهذا ما يحدث في الطبيعة في حالات التوائم المتشابهة (أي التي تنتمي إلى خلية أم واحدة) .
آية الله محمد علي التسخيري(10/1296)
الاستنساخ البشري
بين الإقدام والإحجام
إعداد
الدكتور أحمد رجائي الجندي
الأمين العام المساعد للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستنساخ البشري بين
الإقدام والإحجام
لقد حفل القرن العشرون بتطور تكنولوجي هائل في العلوم الأساسية والذي انعكس بدوره على المجالات التطبيقية وكان نصيب الطب منها حظًّا وافرًا، ولعلي لا أكون مبالغًا إذا قلت بأن ما شهدته الخمسون عامًا الماضية من تطور وتقدم يعتبر أكثر بكثير مما أحرزته البشرية في القرون الماضية، ومن بين ما أنتجته وأفرزته العلوم البيولوجية (الهندسة الوراثية) التي أصبحت حديث الساعة، وتطالعنا الأنباء بتقدم كبير يومًا بعد يوم بل ساعة بعد ساعة، فقد استطاعت هذه التقنية الجديدة في علم الوراثة أن تشرح الكثير مما غمض أو غم على العلماء من قبل، بل هي الآن في مراحل متقدمة سيشهدها القرن الحادي والعشرون بتطبيقات كبيرة في علاج الأمراض المستعصية، فقد أصبح العلاج الجيني قاب قوسين أو أدنى أن يظهر إلى حيز الوجود وتتناقله الصيدليات لاستخدامه في علاج أمراض كثيرة.
وقد قدر العاملون في هذا المشروع بأنه في عام 2010 سوف يشهد العالم إعلان الخريطة الجينية للجسم البشري، والتي عن طريقها سوف يعرف الكثير من المعلومات الصحية والأسباب المرضية والتوقعات للمسيرة الإنسانية في المستقبل، ورغم أهمية هذا الجانب إلا أنه أثار العديد من المشاكل الأخلاقية المتعلقة بسرية المعلومات وأهميتها ومن له الحق في تداولها وإصدار القرار المبني على معرفتها، إلى غير ذلك من الأسئلة التي يحاول علماء الأخلاقيات والمهتمون بها وعلماء الأديان عاكفين على محاولة الإجابة عنها، والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية تولي هذا الموضوع أهمية كبرى وستدعو في القريب العاجل إلى ندوة لدراسة الحِل والحرمة من منظور إسلامي لكل ما ظهر حتى الآن في هذه الموضوعات.
وما لبث هذا الموضوع الساخن والهام يبدأ في تفهمه العامة والخاصة والتشوق لسماع أخباره حتى ظهر موضوع الاستنساخ البشري الذي أثار ضجة كبرى، وتناولته الأقلام بانفعال شديد اضطرت الحكومات ورؤساؤها والبرلمانات وعلماء الأخلاقيات والأديان أن يناقشوا الموضوع تحت ضغط الرأي العام، وصدر العديد من الفتاوى والآراء قبل أن يدرس الموضوع دراسة علمية متأنية، إن موضوع الاستنساخ هو محاولة أنانية للتغلب على الموت أملًا في الخلود باستمرار نسخ الشخص نفسه واستنساخه جيلًا بعد جيل وهذه المحاولات للخلود ليست الأولى فقدماء المصريين كما يحكي لنا التاريخ اعتقدوا بأن الموت مرحلة ستعقبه مرحلة حياة أخرى، ولذلك وضعوا بجانب جثث موتاهم المحنطة ما لذ وطاب من أصناف الأكل والشرب التي كان يحبها المتوفى اعتقادًا منهم بأنه سيصحو يومًا ما فيجد مأكله ومشربه حاضرًا بين يديه، والشيطان عندما أغوى آدم سأله
{هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]
نظرة تاريخية: إن أول من تنبأ بعلم الاستنساخ البشري هو العالم النمساوي هبرلانت، عام 1902 حيث قال: التكاثر النسخي سيطبق يومًا ما. ورغم أن نبوءته هذه جاءت في أوائل القرن الحالي ولم يكن علم الوراثة قد استقر بعد إلا أن هذه النبوءة بدأت بوادر تحققها تظهر في أواخر القرن العشرين، وظل الحديث هكذا بين المد والجزر حتى أوائل الستينيات حيث قام البروفسور (إف، سي ستبورد) وزملاؤه في معهد (كورتل) بأخذ بعض خلايا الجزر ووضعها في وسط غذائي دقيق الإعداد يحتوي على حليب جوز الهند فحدث أمر مرعب، حيث بدأت بعض هذه الخلايا بالانقسام كما لو كانت ملقحة، وهي في الواقع لم تكن ملقحة أبدًا، حتى إن بعض الخلايا الناشطة انبثقت منها البراعم وأرسلت الجذور، وفي أوساط غذائية أخرى تفرعت منها أغصان خضراء ونما بعضها إلى أن تحول إلى جزر ناضج طبيعي في كل شيء، ومن هنا أطلق عليها Clones وأصلها يونانية Klan التي تعني الحشد أو الشتل.(10/1297)
وبعد وقت قصير تم تطبيق التكاثر النسخي على الحيوانات والنباتات وابتداء من أواخر الستينيات واستنادًا إلى العمل الرائد الذي قام به اثنان من العلماء الأمريكيين - الدكتور بريجز، والدكتور كينج - قام الدكتور جوردون من جامعة أكسفورد بتطبيق التكاثر النسخي على الضفدع الإفريقي ذي المخلب، حيث استعمل الأشعة فوق البنفسجية لإتلاف النواة في البييضة غير الملقحة لهذا الضفدع، ثم أدخل في هذه البييضة عن طريق الجراحة المجهرية نوى خلايا جسمية مأخوذة من الضفدعة، وعندها شاهد جهازًا معينًا للإرشاد داخل بلازما البييضة يأمر النواة بالانقسام تمامًا كما لو كانت البييضة قد اكتملت صبغياتها عن طريق التلقيح بالنطفة، واستمر الانقسام إلى أن تشكل ضفدع جديد كامل التكوين.
الدكتورة بياتريس منتز (Beatric mintz) من مؤسسة أبحاث السرطان في فيلادلفيا توصلت إلى طريقتين تقاربان الاستنساخ، الأولى: النسخ الناتج عن تفكيك الأجنة، والثانية: دمج الأجنة وتشكيل كائنات لها زوجان من الأبوين بدلًا من زوج واحد.
والطريقة الأولى معروفة الآن، وهي نفس الطريقة التي نشرها ستيلمان وهول على الأجنة البشرية عام 1993، وسيتم شرحها بالتفصيل فيما بعد.
أما تفاصيل الطريقة الثانية أي الالتحام الجنيني فقد توصلت إليها أثناء بحثها عن أوساط بيولوجية مفيدة لدراسة التمايز الخلوي وتشكُّل الخلايا الجنينية.
أخذت الدكتورة (منتز) جنينًا ناتجًا عن التلاقح الطبيعي لزوج من الفئران البيض النقية ووضعته في أنبوبة اختبار مع جنين آخر ناتج عن التلاقح الطبيعي لزوج من الفئران السود النقية ثم أضافت في أنبوب الاختبار هذا بعض المركبات الكيماوية المذيبة للمادة التي تربط الخلايا ببعضها فتفككت الخلايا وامتزجت وبعد قليل أخذت تلتصق ببعضها، بغض النظر عن ارتباطاتها السابقة، وكونت هذه الخلايا أخيرًا جنينًا واحدًا.
زرعت دكتورة منتز هذا الجنين المركز في رحم إحدى الفئران لتقوم بدور الأم البديلة فتثبت الجنين في الرحم وتطور بشكل طبيعي وولد فأرة سليمة نمت وعاشت بصورة طبيعية، غير أن لونها كان غريبًا بعض الشيء. وبهذه الطريقة تم تشكيل المخلوقات المتعددة الآباء والأمهات.
أما الدكتور هيرو شهورن رئيس قسم الوراثة الطبية في معهد جبل سيناء الطبي بنيويورك، وكان رئيسًا سابقًا للجمعية الأمريكية للوراثة البشرية، فقد قال: " إن النسخ ليس فقط ممكنًا بل إن هناك احتمالًا كبيرًا في نجاحه وأعتقد بأن هذا النجاح سيتحقق في وقت أسرع مما يظنه الناس بكثير ".(10/1298)
ولا شك في أن نسخ البشر أصعب من نسخ الضفادع والجزر، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن البييضة البشرية لا بد أن يتم حملها في الرحم بدلًا من تركها على إحدى الصخور أو نقعها في حليب جوز الهند، بالإضافة إلى أن البييضة البشرية أصغر بكثير من بييضة الضفدع وأسرع منها عطبًا لذلك فإن أكبر عقبة تواجه المتخصصين في هذا المجال هي إيصال النواة المتناهية الصغر للخلية الجسمية سالمة إلى داخل سيتوبلازم البييضة، وعندما يتمكن العلم من القيام بذلك فلن يكون هناك ما يمنع نمو هذه البييضة كأية بييضة ملقحة بالطريقة العادية، (هذه المقولة قيلت قبل ظهور طفل الأنابيب، وبعد النجاح الكبير في مجال طفل الأنابيب أصبح التخوف من رفض الأرحام للأجنة المخصبة في غير محله) .
وكان العلم قد تمكن من إيجاد وسيلة لغرس البييضة الملقحة في أرحام الأمهات، وقد أجري العديد من التجارب على الحيوانات بهذا الخصوص قبل الإنسان، حيث تمكنوا من تحفيز أبقار ذات صفات عالية لتبيض عددًا كبيرًا من البييضات ثم تم تلقيحها خارج الرحم من ذكور ذات صفات ممتازة لإنجاب أبقار جديدة ذات صفات عالية في الجودة والإنتاج الحيواني من لحم وألبانٍ ومقاومةٍ للأمراض.
ماهو الاستنساخ؟
الاستنساخ كما ذكرت المراجع العلمية على نوعين:
الأول: التقليدي: وهو عبارة عن نقل نواة خلية جسمية (تحتوي على 46 كروموسومًا) مكان نواة بييضة (تحتوي على 23 كروموسومًا) ويتولى السيتوبلازم المحيط بالنواة الجديدة في البييضة حث النواة المزروعة وتنبيهها على الانقسام، فتبدأ في الانقسام مكونة الخلايا الأولى للجنين الذي سيصبح بعد ذلك إنسانًا هو صورة طبق الأصل من صاحب النواة الجسدية التي زرعت نواته في البييضة، وتصل نسبة التطابق من الناحية المظهرية إلى نسبة كبيرة جدًا، أما الصفات الأخرى النفسية والعقلية والسلوكية وغيرها فستتأثر بالأم الحاضنة والبيئة التي سينشأ فيها وغير ذلك من عوامل النشأة التي اختلفت بين الأصل والصورة.
الثاني: وقد ظهر عام 1993 من العالمين الأمريكيين ستيلمان وهول حيث أخذا حيوانًا منويًا (يحتوي على 23 كروموسومًا) ولقحا بييضة (تحتوي على 23 كروموسومًا) لينتجا بييضة ملقحة بنواة ذات ستة وأربعين كروموسومًا ثم انقسمت هذه الخلية الملقحة لتعطي أربع خلايا.(10/1299)
الجديد في بحث ستيلمان وهول الآتي:
1 - أنهما توصلا إلى أنزيم ومواد كيميائية تستطيع أن تذيب الغشاء البروتيني السكري المحيط لهذه الخلايا فانفصلت عن بعضها البعض.
2 - توصلا إلى مادة جديدة من الطحالب البحرية لإصلاح جدار الخلايا المنفصلة وتغطيتها بحيث لا تفقد صلاحيتها.
3 - أخذا كل خلية من هذه الخلايا وقاما باستنساخ كل واحدة على حدة لتنتج أربع خلايا مرة ثانية، أي الناتج ست عشرة خلية، ثم فصلا هذه الخلايا واستنسخاها على أربع وستين.
ثم جمدا هذه الخلايا والتي هي البداية الأولى للجنين، وأخذا واحدة فقط لتنميتها حتى وصلت إلى 32، خلية ولم يكملا العمل خوفًا من الجوانب الأخلاقية.
ستيلمان وهول لم يتمكنا من إنتاج إنسان بسبب أن البييضات التي استخدماها كانت ملقحة مرتين من حيوانين منويين، حيث البييضة تحتوي على عدد كبير من الكروموسومات بسبب تلقيحها من الحيوان الثاني، إلا أنهما حققا هدفًا كانا يسعيان إليه، ويمكن استخدام هذه التكنولوجيا نفسها لبييضة ملقحة تلقيحًا طبيعيًّا لتنتج المطلوب من الأجنة التي سوف تتطور إذا ما وضعت في أرحام الأمهات إلى إنسان كامل.
الفرق واضح عن الاستنساخ التقليدي الأول حيث البداية نواة خلية جسدية تنقل إلى بييضة خالية من نواتها، أما النوع الثاني فالبداية كانت من حيوان منوي وبييضة، يمكن أن تكون هذه الطريقة مفيدة إذا تم ذلك من أب حيواناته المنوية معظمها ميت إلا القليل جدًّا منها به حياة، أو ضعيفة أو مصابة بتشوهات، ويمكن أن تكون البيضة من الأم، وفي هذه الحالة يمكن التغلب على مشكلة العقم بطريقة علمية مأمونة.
هذا البحث جرى بعيدًا عن أعين اللجان الأخلاقية، وأذيع في أحد المؤتمرات عام 1993 وأثار زوبعة من علماء الأخلاقيات وعلماء الدين، إلا أن علماء الخلايا والبيولوجيا منحوه جائزة أحسن بحث في المؤتمر. وقد زعما أنهما أخذا تصريحًا بهذا العمل، إلا أن التصريح لم يكن من أجل هذه التجارب، وهذا ما أفزع علماء الأخلاقيات وطالبوا بوضع حدود معينة للأبحاث في هذا المجال.
النوع الثالث من الاستنساخ:
هو الاستنساخ العضوي والخلوي والجيني، ويقصد به استنساخ بعض الأعضاء التي يحتاجها الإنسان في حياته حال حدوث عطب في أحد هذه الأعضاء، ولقد نجحت حتى الآن زراعة الجلد البشري ويوجد بنوك لهذا الجلد في معظم دول العالم، ومن المعروف أن الجلد يعتبر أحد الأعضاء الهامة والتي يتوقف عليها إنقاذ إنسان تعرض جسده بنسبة كبيرة للحروق. وكما ذكر أحد الباحثين بإمكانية النجاح في استنبات المبايض والخصى الذكرية البشرية مخبريًّا بحيث يمكن الحصول منها على بييضات ونطف بشرية.(10/1300)
أما الاستنساخ الجيني: فقد تمكن العلماء منذ فترة قصيرة من اكتشاف أسباب كثيرة من الأمراض الوراثية فإذا أمكن إصلاح هذا العطب في الجين يمكن بعد ذلك استنساخه واستخدامه في العلاج.
أما عن استنساخ الخلايا، فقد نجح بشكل كبير في البكتريا، فاستخدامها يتم بالتعاون مع الهندسة الوراثية لإنتاج أنواع لها وظائف فزيولوجية معينة بعد تغيير بعض الأجزاء في حامض النوويك قابل الالتحام، ثم استنساخ البكتريا الجديدة ذات الصفات الفزيولوجية الجديدة.
فمثلًا تم تعديل الصفات الفزيولوجية لبعض أنواع البكتريا لكي تنتج أنسولين الآن في المعمل، وهو ما يسمى بالأنسولين البشري.
وهناك أنواع أخرى من البكتريا تم فيها تعديل الشفرة الوراثية واستنساخها للتغلب على مشكلة التلوث بالبترول ... وهناك الكثير والكثير.
إنتاج الخروف دولي
تم أخذ خلية من ضرع الأم واندمجت مع بييضة خالية من النواة لتدخل الخلية الجسمية مع البييضة وتكون الحياة الباكرة للجنين ومن حوالي 277 خلية مندمجة، نجح فقط 29 بدأت في النمو في المعمل وتم زرعها جميعًا، وقد ثبتت 13 فقط من هذه الخلايا التي تحتوي على خلايا جنينية في رحم النعاج، واستمر ثلاثة في الحمل اثنان أجهضا وماتا والثالث فقط (دولي) هي التي ولدت.
الطريقة كانت عشوائية ولا أحد يعرف الأسرار ولا كيف تمت، وقد صرح العاملون في هذا المشروع بأن الهدف الرئيسي لهذا الموضوع هو إنتاج خروف قد تم تعديل حقيبته الوراثية لإنتاج بعض المواد الصيدلية مثل إنتاج بروتين شبيه ببروتين الإنسان أو هرمونات في اللبن.
سؤال هام يثور هنا من أن (دولي) أنتجت من خلية من نعجة عمرها ست سنوات، ومن المعروف أن الخلايا لها عمر افتراضي، فهل سيقدر لدولي أن تعيش مثل الخراف العادية أم أنها ستعيش الجزء الباقي من حياة الخلية؟
سؤال ثان: هل دولي سيكون عقيمًا أم لا؟ حيث وجد أن الضفادع المنتجة عن طريق الاستنساخ كانت عقيمة.
هذه الطريقة ليست جديدة، فقد سبق أن طبقت على الفئران منذ عشرين عامًا وعلى الأبقار منذ عشر سنوات - إلا أن الجديد أنها على القردة. وهكذا نجد أن الخلايا الجنينية التي استهل بها الانقسام مسيرته كانت لها القدرة العامة على إنتاج الخلايا المتخصصة فمنها تولد خلايا الجلد واللحم والعظم ... فضلًا عن الأوعية الدموية التي تمدها بالغذاء المطلوب لها، والأعصاب التي تضبط حركتها الحية وإفرازاتها الحيوية، والتي يضبطها في نهاية الأمر جهاز مركزي هو أكثر الأجهزة تعقيدًا وكفاءة.
والأمر الجدير بالملاحظة أن هذه الخلايا الجنينة بمجرد أن تتحول إلى خلايا ناضجة محددة الهوية يتم قفل برنامج حمضها النووي بما يشبه التأمين الذي يغلق به مغذي الكمبيوتر ملفًّا ما حتى لا يضيع ما اختزنه فيه من معلومات قبل أن يغادر مقعده أمام لوحة المفاتيح والشاشة المضيئة، ولهذا فليس أمام خلية الجلد البالغة مثلًا، إلا أن تنتج جلدًا فقط فهذا هو البرنامج الوحيد المقترح أمامها وذلك لتعويض ما يتهرأ من نسيج الجلد وما يموت من خلايا، فإذا ما أتيح لهذه الخلية أن تسترسل في الانقسام في وسط تغذوي كاف فإنها تصبح قادرة معمليًا على إنتاج أمتار عديدة من الجلد حسب اللون المخزن فيها وهكذا بقية الخلايا.(10/1301)
إذن السبق العلمي الذي وصل إليه (ويلموت) لإنتاج النعجة أنه أتاح الفرصة معمليًا لخلية جسدية بالغة ومحددة الهوية للعودة إلى صفاتها الجنينية بتعريضها لوسط فقير في مكوناتها الغذائية الأمر الذي أفضى بحمضها النووي إلى أن ينكفئ على نفسه فاضًا ختم تخصصه مستعيدًا ذاكرته القديمة مستردًا قدرته الأولية على إنتاج جنين متنوع الأعضاء كامل النمو متكامل الوظائف، وكأن رجل الكمبيوتر عاد إلى مقعده أمامه ونقر على لوحة المفاتيح بحروف كلمة السر وعلى أثرها انفتحت مغاليق مغارة علي بابا الأسطورية.
إن الذي حدث إنجاز تقني وليس بإعجاز علمي، إنه إفراز تكنولوجي وليس علمًا جديدًا أو معرفة أخرى، وعلينا أن نعي هذا رغم اندهاشنا العظيم، ونعي أكثر أن التكنولوجيا يجب ألا تكون بديلًا عن العقل، ويجب ألا ندعها من الآن فصاعدًا أن تفكر لنا وتشير علينا، وإلا فإن نسخ (فرانكشتين) هو الذي سوف يقود خطانا في دروب جهولة سوف تغطي بنا عوالم غير إنسانية.
إن الباحث يعمل في شركة دواء تسمى PPL وهذه تحاول أن تنتج بروتينًا معينًا يفرز في ألبان هذه الحيوانات وتستعمل بعض هذه البروتينات كعوامل مجلطة لمرض الهيموفيليا أو سيولة الدم، وبعضها يستعمل كهرمونات مثل هرمون النمو لعلاج التقزم الناتج عن ضمور الغدة النخامية. أو هرمون الأنسولين لعلاج مرض السكر، وبناء على أسلوب الهندسة الوراثية المستحدثة يتم معالجة جينات البييضة المخصبة لأنثى حيوان ثديى، وبعد المعالجة يتاح لهذه البييضة أن تحمل في رحم حملًا طبيعيًا حتى تولد، وعند بلوغها يمكن الحصول على المركب البروتيني المطلوب من إفرازها اللبني.
ولم تكن النعجة (روزي) والدة (دولي) إلا واحدة من المحطات الحية لتحضير مركب بروتيني بعينه، ولم تطرأ فكرة الاستنساخ إلا خوفًا على الصفات الوراثية التي اكتسبتها (روزي) من المعاملة الجنسية ومحاولة الحصول على (دولي) بنفس الصفات الوراثية لروزي.
إنتاج القردة
في نفس الوقت الذي أذاعت الأنباء إنتاج النعجة (دولي) أذيع أن جامعة (أوريجون) أنتجت قردة.
أذاع السيد (ريك فينر) و (جون شفارتز) المحرران العلميان في مجلة الواشنطن بوست بتاريخ 2 مارس 1997 صA04 بأن إنتاج القردة في جامعة أوريجون تم بطريقة استنساخ خلايا جنينية وليست مثل إنتاج النعجة (دولي) ، وقد صرح الدكتور (دون ولف) الباحث الرئيس في جامعة أوريجون الذي كان وراء إنتاج القردة بأن الأبحاث لم تكن مصممة لإنتاج قردة مثل النعجة دولي، ولكن كان الهدف إنتاج قردة توائم متشابهة من الناحية الجنينية لاستخدامها في الأبحاث الطبية، والتي تحتاج دائمًا إلى تشابه كامل في حيوانات التجارب. والطريقة التي تم إنتاج القرود بها تمت على مرحلتين.
الخطوة الأولى: تم تلقيح بييضة من الأنثى بحيوان منوي من الذكر بطريقة طفل الأنابيب، وبعد التلقيح وانقسام هذه الخلايا إلى ثمانية قام العلماء بفصل هذه الخلايا عن بعضها البعض.
الخطوة الثانية: قام العلماء بانتزاع نواة من تلك الخلايا الجنينية السابقة وزرعوها في بييضة أخرى منزوعة الخلية، وهذه البييضة الجديدة لديها القدرة أن تنقسم لتصبح جنينًا، ثم أخذوا تسعة من هذه الأجنة وزرعوها في أرحام تسع قردة أنثوية؛ ثلاث من هذه القردة حملت، إلا أن جنينًا واحدًا مات، بينما الاثنتان الأخريان ولدتا القردين اللذين ظهرا أمام العالم، ورغم أنهما ولدا من أمهات مختلفة إلا أنهما أخوان، نظرًا لأن البداية كانت من ذكر واحد وأنثى واحدة.(10/1302)
وأضاف العالمان صاحبا الإنتاج بإمكانية استخدام الاستنساخ مع الهندسة الوراثية للتحكم في الصفات الوراثية المطلوبة من المواليد الجدد. ثم يذكر العلماء بأن هذه التقنية سوف تتغلب على كثير من الصعاب التي تواجه المصابين بالعقم بحيث يمكن التغلب عليه.
إن إذاعة أنباء استنساخ الثدييات قد دفع الكثيرين إلى انفعال شديد، والآن هناك لغط حول الموضوع؛ هل إجراء هذا الموضوع صحيح؟ هل هناك حدود يجب الالتزام بها؟ وهل هناك معايير يجب التقيد بها؟
وقد لوحظ أن عددًا كبيرًا من الناس قد دخل النقاش وهم في تهور شديد، وبالتأمل القليل في الإجابات، نجد أن الناس يجيبون باندفاع شديد تحكمهم في ذلك العاطفة أكثر من العقل.
الانعكاسات الأخلاقية على الاستنساخ:
لقد انقسم العلماء على أنفسهم؛ منهم من يرفض الموضوع رفضًا مطلقًا، ومنهم من يؤيده تأييدًا مطلقًا، ولكل حججه وبراهينه.
وفيما يلي سنورد ما ذكره الرافضون:
فالرافضون للموضوع يخشون جنوح الأمر أمام الخيال الذي لا حدود له، فعالم الوراثة الكبير (واطسن) الحائز على جائزة نوبل للبيولوجيا يقول: "إن هذا العمل سيؤدي إلى تشويش كبير في النشوء والتطور، وهذا يعني الفوضى الأبدية "، ثم يضيف قائلًا: " إنه لأمر شديد الخطورة أن تسلب ابنك شعوره بذاته كفرد وتفرض عليه أمرًا قد لا يرضاه لنفسه بتدخلك السافر ضد طبيعة الأمور "، ويردف قائلًا: " إن ذلك قد يؤدي إلى تغيير طبيعة الارتباط بين الطفل ووالديه تغييرًا جذريًّا لدى من نشؤوا نشأة دينية، هذا عدا القيم التي يحملها كل فرد، وهي قيم خاصة به كشخص متميز عن غيره من الناس ".
أما الدكتور (ليون كاس) الأخصائي في البيولوجيا الجزيئية (Molecular Biology) وآداب البيولوجيا في كلية (صن كوين) في أنا بوليس، وصف النسخ بقوله: "إنه استمرار طابع وراثي معين يحقق استمرارًا مصطنعًا من جيل لآخر، ويمكن تخيل مخاطر هذا الإجراء على الجنس البشري بسيادة البعض وانقراض الآخر ".
وقد كتب الدكتور (دانيا كالاهان) مقالًا مطولًا يقول فيه: "إن جانبًا كبيرًا من مشاعره وأفكاره ودوافعه الفطرية هو مع (د. كاس) وهو يخشى أن تؤدي ممارساتنا اللامسؤولة في مجال التخليق والتصنيع إلى تجريدنا من إنسانيتنا إلى درجة خطيرة، وهو أمر وارد حقًّا، فإننا كبشر قد توصلنا منذ زمن قريب إلى تعريف دقيق لـ (الإنسان) ، وبالرغم من ذلك فإننا لا نزال حتى الآن في طور تفسير ذاتنا، ويضيف قائلًا: إن إلغاء الجماع والتوالد وإشاعة التزواج اللاجنسي عن طريق الاستنساخ وأمثاله يؤدي إلى تجريد الإنسان من إنسانيته، وقد ميزه الله عن بقية المخلوقات الحيوانية بذاتيته إذ لا يمكن القبول أن يكون إنتاجه بصورة تشبه إنتاج قطيع من الأبقار أو الخراف ".(10/1303)
ويرى بعض المعارضين أن هذا تطاول على الخالق، حيث تنبأت شركة (راند) ذات النظرة الواقعية بتخليق (أشباه البشر) لتكليفها بالأعمال المتدنية، وقد لوحظ أن بعض أرباب العمال يفضلون استخدام العمال المتخلفين عقليًّا، لأنهم الأناس الوحيدون الذين هم على استعداد تحمل أعباء هذه الأعمال كمسح الأرض وغير ذلك من الأعمال المتدنية.
ثانيًا: المؤيدون للاستنساخ ماذا يقولون؟
إن السعي إلى تحقيق التوالد النسخي سيزود العلماء بكثير من المعلومات العلمية الأساسية عن تمايز الخلايا والسرطان والوراثة والمناعة وتحقيق نسخ الإنسان قد يدفع الأبحاث النفسية والعصبية وما شابهها قدمًا إلى الأمام لاكتشاف الكثير مما غم على العلماء.
الدكتور (فلتشر) وهو أحد أهم الباحثين في علم البيولوجيا يقول:
"إن الشرط الأول والأخير للتصرف الأخلاقي للإنسان هو أن يتمتع هذا الإنسان بحرية الاختيار فبدونها لا يمكن اعتبار تصرفه أخلاقيًّا لأن ما يجبر على القيام به لا يمت إلى الأخلاق بصلة، ولذلك يجب فتح مجال الأبحاث على مصراعيه مهما كانت العواقب، لأنها تصب أولًا وأخيرًا في صالح الإنسان ... !! ".
ثم يضيف قائلًا: "وإن وجود العديد من النسخ المتطابقة قد يحث كلا منها على السعي لتحقيق التفوق على النسخ الأخرى، وبالتالي إثبات شخصية متميزة، ومن ناحية أخرى يمكن للنسخة أن تعوض عن نقصها بادعائها أنها تتمتع بمزية عجيبة هي التطابق مع أفراد آخرين في عالم يختلف فيه كل فرد عن الآخر ".
وبعضهم يقول: "إن الخلية هي من صنع الله، وما قمنا به هو مجرد نقل نواة من خلية شخص إلى بييضة أنثى، وبأمر الله انقسمت ونمت، وكلها من صنع الله، وهذا ليس تطاولًا على الله كما يدعي البعض ".
البعض الآخر يثير نقطة هامة هي:
أن الطبيعة فيها كثير من الاستنساخ بين الكائنات الثديية وحتى بين الإنسان، فقد أكدت الدكتورة هيلين (Helen spurway) الأستاذة في الكلية الجامعية بلندن، أن هناك احتمالًا بوقوع ولادة بكرية (وهي الولادة التي تحصل نتيجة حمل ناشئ عن انقسام بييضة أنثوية غير مخصبة بنطفة ذكرية) ، واحدة في كل مليون إلى مليوني امرأة، ذلك لا يتم إلا بشروط، منها تطابق الزمرة الدموية بين الأم وابنتها، بدون رفض، فإذا أمكن توفر كل هذه الشروط في إحدى النساء فإنها ستحمل، وهناك حيوانات كثيرة تتحول الذكور فيها إلى إناث إذا ما زاد عدد الذكور والعكس بالعكس، مثل بطلينوس البحر.(10/1304)
أما الدكتور (غلاس) فإنه يذكر بعد أن لاحظ تحقيق إنجازات معينة في مجال أنسجة الثدييات فتنبأ بتوصل العلم قريبًا إلى استنبات أجزاء المبايض والخصي البشرية مخبريًّا بحيث يمكن الحصول منها باستمرار على بييضات ونطف بشرية.
بعض المؤيدين يعتقدون بأن الاستنساخ البشري سوف يساعد على تحسين الحياة للأجيال القادمة.
وآخرون يرون أنه قد حان الأوان بأن يتدخل الإنسان ليساعد الطبيعة على انتقاء الأنواع بدلًا من ترك الطبيعة منفردة بذلك.
ويعتقد هؤلاء العلماء أن هذا هو الهدف الرئيسي لهم تجاه المجتمع والتزامهم نحو الأجيال القادمة.
بعض أطباء أمراض النساء يشجعون أبحاث الاستنساخ لأنه سوف يكشف الكثير من الغموض عن أسباب الإجهاض المبكر دون معرفة سببه.
اختصاصيو تحديد النسل يعتقدون بأنه إذا تم إيجاد كيفية تعرف الجنين زرع نفسه في الرحم سيتمكنون من إيجاد وسيلة لمنع الجنين من الانزراع داخل الرحم، وبذلك يتوصلون إلى وسيلة جديدة لمنع الحمل. اختصاصيو السرطان يعتقدون بأن ذلك سيفتح أمامهم طريقًا للتعرف على الأسباب وراء سرعة انقسام الخلايا السرطانية، والتي تبين أنها تماثل سرعة انقسام الخلايا الجنينية، وبالتالي فإذا تم التعرف على طريقة معينة لإيقاف انقسام الخلايا الجنينية فإنه يمكن استخدام ذلك في وقف انقسام الخلايا السرطانية.
مجال آخر من مجالات فوائد الاستنساخ البشري هو الخلايا الجذعية (Stem cell) هذه الخلايا لا يمكن تمايزها وبالتالي يمكن أن تتطور إلى أي نوع من الخلايا في الجسم، وهذه الخلايا لا تهاجم بالجهاز المناعي الشخصي للجسم، وذلك لسرعة تطورها إلى حالة لا تحايزية.
ويعتقد كثير من الأطباء أن هذه الخلايا الجذعية يمكن استخدامها في علاج دمار المخ والجهاز العصبي، حيث إن هذه الأجهزة عند دمارها في البالغين لا يمكن إصلاحها، وبالتالي فإن الخلايا الجذعية يمكن استخدامها نظريًّا لعلاج هذه الحالات، ولهذا فإن خلايا الأجنة المستنسخة يمكن استخدامها لإنتاج عدد كبير من الخلايا الجذعية.
كما يمكن استخدام الاستنساخ في المسح الجيني وفي حالة إصابة أحد الوالدين بمرض ما مثل (Cystic fibrosis) ، وحتى يمكن تلافي إصابة الأبناء فيمكن عن طريق الاستنساخ الجنيني إنتاج عدد من الأجنة بهذه الطريقة، وإجراء الاختبار على أحدها وتجميد الآخرين، فإن ثبت عدم الإصابة؛ فإنه يمكن استخدام أحد الأجنة المجمدة لغرسه في رحم الأم، لأن الاختبار يؤدي إلى هلاك الخلايا الجنينية التي تم إجراؤه عليها.
وإذا ثبت أن الاختبار إيجابي فيمكن تدمير بقية الأجنة المخزونة.(10/1305)
ومجال آخر يطرقه المؤيدون للاستنساخ إلا أنه يثير الكثير من علامات الاستفهام، هو استخدام الاستنساخ لتوفير الأعضاء البشرية للزراعة نظرًا لندرتها وأهميتها في الوقت نفسه، إذ يمكن للأهل أن ينفقوا على إجراء الاستنساخ لأكثر من جنين بزرع واحد فقط في الأم ويجمد الباقي احتياطيًّا للوليد إذا ما أصابه مكروه أو توفي، وفي هذه الحالة يمكن استخدام الاحتياطي.
وهنا يتساءل المرء: أين الجوانب الأخلاقية التي تحكم هذا الموضوع بالذات؟ وما موقف الأخ من أخيه الذي استخدم كضحية له؟ والعديد من الأسئلة الحائرة في أذهان علماء الدين والمشتغلين بالأخلاقيات.
وقد قدم مؤيدو الاستنساخ قائمة طويلة لتطبيقاته التي قد ينجذب إليها الكثيرون في المستقبل إذا لم يكونوا قد انجذبوا إليها فعلًا الآن، وهذه القائمة هي:
1 - نسخ أشخاص بهدف تحسين النوع وإضافة البهجة على الحياة.
2 - تأمين مجموعات كبيرة من البشر المتطابقين وراثيًّا، بغية إجراء دراسات علمية عليهم لمعرفة أهمية كل من البيئة والتربية في مختلف أوجه الأداء البشري.
3 - نسخ الأصحاء لتلافي مخاطر الأمراض الوراثية الكامنة في يانصيب التراكيب الجنسية.
4 - منح طفل للزوجين العقيمين.
5 - إنجاب طفل له طابع وراثي معين حسب الطلب.
6 - التحكم بجنس الأطفال في المستقبل.
7 - إنتاج مجموعات من الأشخاص المتطابقين لأداء مهمات خاصة في الحرب.
8 - إنتاج نسخة جنينية لكل شخص تحفظ وقت الحاجة إليها أثناء مرضه أو إعادته مرة ثانية للحياة.
9 - التفوق على الروس والصينيين، ومنع حدوث فجوة علمية في مجال النسخ.
10 - من بين التطبيقات بالتعاون مع الهندسة الوراثية والاستنساخ هو تغيير الوظائف الفزيولوجية لبعض أنواع البكتيريا لإنتاج أنواع ذات صفات معينة لها قدرات خاصة، إما لمعالجة مشاكل مثل: بكتريا البترول والأنفلونزا، أو إنتاج سلالات لها مقاومة خاصة لأنواع من المضادات الحيوية، خاصة تلك التي تستخدم في الحرب الجرثومية.
محاذير أخلاقية:
إن موضوع الاستنساخ البشري سوف يثير الكثير من التحفظات والأسئلة خاصة في الدول الإسلامية - بل وفي كل دول العالم - حول: الأسرة وتعريفها، الأبوة والأمومة، مفهوم الإنسان والذات الإنسانية، حق الأبناء في ذاتيتهم الإنسانية، التطور الذي تفرضه الطبيعة والبيئة، الإرث، فقدان الهوية للأصل والصورة، الحق القانوني للنسخة، هل من حق أي شخص إذا أراد أن يحسن نسله أن يلجأ إلى هذه الوسيلة؟ إذا نجح الاستنساخ في إنتاج نسخة بها عيوب خطيرة.. ما مصير هذا الإنسان هل يقتل أو يبقى هكذا؟ ومن المسؤول عنه؟ ما نسب النسخة؟ هل هو ابن صاحب الخلية أم شقيقه؟ والحاضنة هل هو ابنها أم زوجها أم شقيق زوجها؟(10/1306)
لكن سؤالًا يثيره أخصائيو التكاثر السكاني: إذا كان مني الأب خاليًا من الحيوانات المنوية أو به حيوانات منوية ولكنها كلها ميتة أو مشوهة هل له الحق في الاستنساخ بالطريقة الأولى أو الثانية؟ ، وسيجرنا هذا الموضوع إلى وضع تعريف جديد لمن هو الإنسان؟ هل هو القادم مثل بقية الحيوانات من قطيع أو هو الذي كرمه ربه حسب قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] ، وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} . [الإسراء: 70]
هل هذا تدخل في مشيئة الله، أو هذا من مشيئة الله ومن قدره ومما فتح الله على الإنسان من مكنونات أسراره واستخدامها؟
سؤال آخر: لكل خلية عمر افتراضي، هل الخلية التي أخذت من إنسان عمره 50 عامًا - على سبيل المثال - عند أخذ نواتها واستنساخها ما هو عمر هذه النسخة، هل هو نفس العمر أم استكمال للجزء الباقي من عمر صاحبه أم عمر جديد؟
ويعتقد المؤيدون للاستنساخ بأن هذا الموضوع سيفتح الآفاق أمام التغلب على الشيخوخة إذا نجحت هذه الأبحاث.
هنا يثور سؤال: هل الإنسان إلى تقدم وازدهار أم إلى خراب ودمار؟ هل هذه الثورة الهائلة ضد الموضوع هي مسائل عادية في مواجهة كل جديد مثلها في ذلك مثل كل شيء خرج إلى حيز الوجود يمس الكيان الإنساني والبشري؟
وفي غمرة هذه الانتصارات البشرية نعود لنذكر مفهوم العلم في القرآن، إن الله سبحانه وتعالى عندما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ لم يتركها قراءة عبثية أو بما فيها من هوى للنفس الأمارة بالسوء، ولكنه سبحانه أمره بأن يقرأ قراءة نافعة وبكل ما هو خير للبشرية، فأمره بأن يقرأ باسم الله، وهنا نعود لنقول: إن انفصال العلم عن الدين والحكمة سيضل ويضل صاحبه، وإن القرآن بين أيدينا يقص علينا قصة آدم ومحاولات الشيطان إغواءه، فوسوس له الشيطان في قوله سبحانه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) } [طه: 122- 123] ، وهنا يوسوس الشيطان مرة أخرى تحت دعاوى فصل الدين عن العلم وبأن يكون ما لقيصر لقيصر وما لله لله، إنها دعوة ما أنزل الله بها من سلطان، ستكون نتيجتها على البشرية خرابًا ودمارًا.
إن هذه التقنية إذا استمرت على ما هي عليه فقد تصل يومًا ليد دكتاتور كبير يسخرها ضد البشرية، فالاكتشافات البشرية جميعها الآن مسخرة لدمار الإنسان، فمخزون العالم اليوم من القنابل النووية بأنواعها كفيل بتدمير الأرض عشرات المرات، وكل فرد على هذا الكوكب مخصص له 500 كجم من مادة (TNT) ، ورغم هذا التقدم فشل الإنسان في أن يحل مشكلة المجاعات في العالم، ففي صباح كل يوم يموت عشرات الألوف من البشر بسبب عدم توفر الغذاء أو الدواء.(10/1307)
القنابل الجرثومية والعنقودية تغص بها ترسانات السلاح دون توجه لزيادة الموارد الغذائية أو اكتشاف دواء لأمراض كثيرة بسيطة تعاني منها شعوب فقيرة كثيرة.
إن المجانين الذين يحكمون العالم كثيرون ويحلمون بالخلود والسيطرة وبذل كل غال ونفيس للحصول على مثل هذه التقنيات الخطيرة ظنًّا منهم أنهم سيخرقون الأرض أو يبلغون الجبال طولًا ...
العالم الآن بجبروته وقوته يقف عاجزًا أمام فيروس بسيط لا يرى بالعين المجردة من أضعف الفيروسات، وهو (الإيدز) هذا هو التحدي الإلهي يقول للإنسان: تعلم وابحث واجتهد ولكن لا تتطاول ولا تظن أنك أصبحت قادرًا عليها، إن قومًا قبلكم ظنوا أنهم قادرون عليها فأرسلنا عليهم طيرًا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلتهم كعصف مأكول.
إن التداوي واجب وأمر محتم، وطلب العلاج أباحه الإسلام، بل اعتبره واجبًا على كل مسلم بالطرق المشروعة، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما جعل الله شفاء أمتي فيما حرم)) ، وكان يقصد بذلك تناول الخمر كعلاج، فمن باب أولى احترام بنية الإنسان، فهو كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((الإنسان بناء الله ملعون من هدمه)) .
ماذا يحدث لو تحول المجتمع كله إلى أصحاء أقوياء أذكياء، بالتأكيد سيشقى هذا المجتمع، فستموت بين أهله الرحمة والمودة والإيثار، إن وجود المعوق والعاجز والمريض والمتخلِّف وغيرهم ما هي إلا نماذج بشرية تذكرنا بنعم الله علينا، وبأن يكون بيننا التراحم والتحاب والتآلف، ولا نكون أشداء قست قلوبنا على أنفسنا، فسنجني وبالًا شديدًا لا محالة. ماذا يمكن أن يحدث لو استنسخنا نسخًا عدة من شخص ما؟ ما هو الموقف القانوني خاصة إذا ما وضعت إحدى هذه النسخ في بيئة إجرامية طغى فيها عنصر الشر على الخير ... من المسؤول في هؤلاء إذا ضاعت المعالم؟ وهنا يظهر دور البيئة على التكيف والتربية.
أما الدكتور (جيمس واطسن) وهو حائز على جائزة نوبل فكان يتصور أن نسخ الإنسان سيؤدي إلى ما يشبه انهيار الحضارة، وكان يشعر بأن ذلك النسخ سيتحقق لا محالة إذا لم نتخذ الاحتياطات اللازمة لمنعه.
إلا أن هناك من أغواهم الشيطان فانحرفت أفكارهم عن الطريق الصحيح، فهذا (فرانسيس كريك) الحائز على جائزة نوبل يعتقد بأن إنجاب الأطفال ينبغي أن يولي اهتمامًا لكل من الرجل والمرأة المرشحين للزواج بإثبات جدارتهما، وألا يترك الإنجاب عرضة للصدفة التي تحكمت فيه أجيال.
إن تقنية الاستنساخ لن تكون حكرًا على القوى العظمى فقط، بل ستنتشر وسرعان ما ستتملكها قوى أخرى أقل مكانة من العظمى، والشاهد على ذلك تقنية طفل الأنابيب التي أصبحت مشاعًا في كل دول العالم، ومن هنا تأتي المخاطر الكبرى.
أحد هؤلاء المتحمسين للاستنساخ يعتبر أن الرغبة البشرية لا تقل أهمية عن أي شيء، ويجب أخذها ووضعها بعين الاعتبار ومحاولة تحقيقها بأي وسيلة أو طريقة حتى لو كانت غير مشروعة.. أية رغبة هذه التي يمكن أن تحول الإنسان إلى ذئب ينهش الأعراض ويأكل الحرام؟
ثم يضيف بأن من يستخفون بالرغبة الإنسانية فإنهم يعيشون في عقم نفسي.(10/1308)
وهناك قائمة طويلة لعلماء يقفون مع التناسخ البشري مثل (ج. ب. س هالدين) الذي يعده الكثيرون أحد ألمع علماء القرن العشرين، وهو الذي اقترح نسخ أشخاص ذوي مواصفات خاصة كانعدام الشعور بالألم، والرؤية في الظلام، والقزامة، كما أكد (جان روسنان) العالم البيولوجي الفرنسي المعروف أن التكاثر النسخي قد يستخدم لإضفاء نوع من الخلود المتسلسل على الفرد باستبدال النسخ المهترئة بنسخ جديدة إلى الأبد. واقترح الدكتور (جوشدا ليدبرج) الحائز على جائزة نوبل الاستفادة من التشابه العصبي بين الأصول والنسخ في رأب الصدع الكائن بين الأجيال بعضها مع بعض ... وافترض الدكتور (ألوف أكسل كارلسون) تطبيق النتائج البشرية على الموتى وذلك للاستفادة من أشخاص تاريخيين من نفس الطابع الوراثي مثل (توت عنخ آمون) .
لقد أثبت إنتاج النعجة (دولي) والقردة أن الاستنساخ ممكن، لكن الطريق قد يبدو شاقًّا وطويلًا، ولكنها الخطوة الأولى.
إن الضجة التي أحدثتها الإعلانات الخاصة باستنساخ (دولي) ، والقردين أدت بكثير من الخبراء العاملين في هذا المجال إلى توخي الحذر في الإعلان عن أبحاثهم وعما يجري في المعامل، خوفًا من المطالبة بوقف هذه الآمال التي تراود العلماء.. وقد صرح البعض بأنه من المستحسن أن يعلن عن استنساخ الإنسان بعد وقوعه وليس قبل ذلك.
وقال: إن أحدًا لا يستطيع وقف اختطاف البندقة الآن، فالضجة نفسها حدثت عندما أذيع لأول مرة عن طفل الأنابيب وزراعة الأعضاء، بل عند استخدام الدم في العلاج، إن الأجنة الآن متوفرة، وبكميات كبيرة لدى عيادات علاج العقم، فماذا يحدث لو راود أحد الأطباء البدء بتجربة مثل هذه الأبحاث بعيدًا عن الأعين والبروتوكولات، خاصة أنها لا تحتاج إلى تجهيزات كثيرة ومعقدة.
وقد اضطرت إدارة الرئيس ريجان والرئيس بوش لوقف أبحاث الاستنساخ البشري تحت ضغط عدم توفر الميزانية، لكنها عادت مرة ثانية في عهد الرئيس كلينتون حيث ميزانية الأبحاث تم تدعيمها، لكنها أولًا وأخيرًا مهما وضعت لها مقاييس ومعايير سوف يتوقف كل شيء على ضمير القائمين على كل حالة على حدة، والخطورة هنا ناشئة من أن قانون الأبحاث الجديد أصبح يبيح للباحث ألا يعلن أبحاثه إلا بعد الوصول إلى نتائج يرى أنها تحفظ حقه في الامتلاك الفكري، لذلك فإن معظم هذه الأبحاث تجري في الظلام وبعيدًا عن الأعين، ولذلك فقد نفاجأ يومًا ما بأخبار استنساخ إنسان موجود بالفعل كما يشاع الآن.
هناك جدل في الغرب الآن مفاده بأن فكرة الاستنساخ على الحيوانات كانت بهدف فصل الجنين إلى جنينين متشابهين تمامًا في جميع الصفات.(10/1309)
إلا أن تعريف الموضوع يختلف في حالة الإنسان عنه في حالة الحيوان فهل يعتبر الجنين إنسانًا أم لا؟ واختلف الباحثون في هذا الخصوص، فمنهم من رأى أن الجنين إنسان كامل فيه كل المواصفات الإنسانية، وهي المراحل الأولى للإنسان البالغ، والبعض الآخر قرر أنه مجموعة من الخلايا لا أكثر ولا أقل، ورغم أن هذه المناقشات هي مناقشات عقيمة، إلا أن السؤال الهام الذي يطرح نفسه هو: هل الخلايا الجنينية في مراحلها الأولى تتمتع بنفس الاحترام للإنسان الكامل؟ وهنا أحب أن أذكر بأن المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية كانت سباقة في هذا المجال وبحثت هذا الموضوع وقررت بأن الخلايا الجنينية هي الخلايا الباكرة لإنسان الغد، والاعتداء عليها اعتداء على الإنسان، وهي حياة محترمة في كل أطوارها تتدرج عقوبتها حسب أطوارها.
الأسئلة المثارة الآن عن الاستنساخ والتي يتداولها العامة والخاصة تنحصر في: هل الاستنساخ البشري ممكن؟ وهل هو أخلاقي ويتوافق مع الدين؟ وهل هو قانوني؟
وهذه الأسئلة تنظر إلى البعد الآخر للموضوع، فالمتتبع لهذا الموضوع يلاحظ بأن الإعلان عن إنتاج النعجة (دولي) ظهر فجأة وبعد إنتاجها بعدة أشهر، وهذا يعني أن الأبحاث تجري على قدم وساق داخل أروقة المعامل، وبعيدة عن الأعين وعن- القوانين، فاستصدار قرار بوقف الاستنساخ لن يوقفه ولن يكون حائلًا دون إجراء الأبحاث والخروج بنتائج مبهرة للباحثين ومدهشة للسامعين ولعلنا جميعًا لاحظنا أن المؤتمر الذي أعلن- فيه الدكتور (ويلموت) عن إنتاجه للنعجة (دولي) كانت خلفيته أنه يوجد عليها اسم الشركة التي مولت الأبحاث والتي لها الحق في استخدامه تجاريًّا، ومن هنا يكمن الخطر وهو دخول التجارة كعنصر أساسي في هذا الموضوع.
إن المبادئ التي تحكم الأبحاث البيولوجية والطبية قد تغيرت كثيرًا، ففي السابق كانت الأبحاث تجري تحت أنظار اللجان المختلفة التي تحكم العملية البحثية وتنشر النتائج أولًا فأولًا، إلا أن هذا الاتجاه قد تغير في الفترة الأخيرة، ودخلت هذه الأبحاث إلى الأسواق التجارية وتتنافس الشركات المهتمة بتمويل هذه الأبحاث لاستخدامها بعد ذلك تجاريًّا، خاصة أن قانون حماية الإنتاج الفكري الآن يعطي لهؤلاء الحق في احتكار هذه التقنية لمدة عشرين عامًا ومدير الشركة الممولة لأبحاث إنتاج مواد بروتينية تماثل تمامًا البروتين البشري لاستخدامها مباشرة كغذاء، وفي العلاج وإنتاج أدوية، وبناء على ذلك، فهل هو صادق أم أنها تغطية قانونية للموضوع، ومظلة يحتمي فيها حسب القانون الأمريكي الصادر أخيرًا؟ ولا يخفى على أحد أثر الإغراء المادي والشهرة والأضواء على الإنسان مهما كان ملتزمًا.(10/1310)
المشكلة الأخرى أن العلماء العاملين في مثل هذه المجالات الطموحة والخيالية لا يهتمون ولا يؤمنون كثيرًا بالجوانب الأخلاقية، ولذلك فإن عملهم في كثير من الأحيان يجري بعيدًا عن رقابة القوانين غير عابئين بأقوال وأحاديث وتحفظات المهتمين بالأخلاقيات، وهذه حماقة قد تؤدي إلى كوارث لا يعرف مداها إلا الله.
وهنا تظهر أهمية دراسة الأخلاقيات الطبية وإدراجها ضمن برامج كليات الطب وعدم الاكتفاء بعدد محدود من الساعات في نهاية الدراسة الجامعية؛ إذ يتضح الآن أهمية ترسيخ العقائد والجوانب الأخلاقية، ومدى الحِل والحرمة للطبيب، وأهمية الالتزام بهذه الجوانب ليس فقط في سلوكياته المهنية، ولكن أيضًا في أبحاثه وقبل أن يبدأ بها ليعرف معنى القيم الإنسانية وأهمية ما يقوم به وانعكاساته على الإنسان من حيث هو إنسان. وهنا يمكن أن يطرح سؤال هام: هل ننتظر رأي الدين وعلماء الأخلاقيات بعد وقوع الواقعة وخروج المارد من الزجاجة، وفي هذه الحالة يصعب السيطرة عليه أم يجب إبداء الرأي قبل وقوع الكارثة ومنذ بداية التفكير في إجراء التجارب والهدف منها؟
إن الأمر يبدو خطيرًا وأبعاده أخطر من أن ترى الآن، وإذا أردنا أن نوقف هذا الهدر وهذه الكوارث المحدقة بنا فعلينا أن نغلظ العقوبات على الاستنساخ البشري - ويكون ذلك معلومًا للباحثين في هذا المجال وأن أبحاثهم لن تنشر، ويجب وقف الدعم الحكومي والأهلي ودعم المنظمات والهيئات لهذه الأبحاث.(10/1311)
إننا أمام عقد اجتماعي عالمي جديد لا يجب أن يمر هكذا، فإن البشرية تعاني اليوم من اكتشافها للانشطار النووي وتحدق بها الأخطار بعد أن أصبحت هذه التكنولوجيا متوافرة لدى الجميع، حتى الدول النامية التي قد لا يزيد دخل الفرد فيها على بضع مئات من الدولارات سنويًّا وتعتمد على الغير في غذائها ودوائها، لكن الشهرة وحب السيطرة والدكتاتورية تسول للإنسان أنه سيخرق الأرض ويبلغ الجبال طولًا.
ويجب علينا ألا نخضع لابتزاز العاملين في هذا المجال بأن العلم والتكنولوجيا يجب أن يكونا هما السيدين المطاعين، وهنا يمكن تطويع التكنولوجيا والعلم للإرادة البشرية والإنسانية وحاجتها باستخدام الحكمة والعقل وليس باستخدام الجينات والاستنساخ.
ثم هل الإقدام على الاستنساخ سيفتح آفاقًا جديدة للإنسان للتغلب على متاعبه ومشاكله، ومحاربة الأمراض، أم أنها خطوة لتحطيم إنسانيته وتؤدي به إلى انحدار وتدهور الصفات الوراثية؟
ولعل الندوة تتطرق إلى النقاط الآتية:
1- وضع تعريف كامل لمعنى الاستنساخ بكل أنواعه.
2 - وضع الرأي الشرعي في كل نوع من أنواع الاستنساخ.
3 - الحدود الشرعية التي يجب ألا يتخطاها البحث العلمي في هذا المجال.
4 - الضوابط المطلوبة لهذا الموضوع لضمان عدم انحرافه.
5 - العقوبات لمن لم يلتزم بهذه الضوابط الأخلاقية.(10/1312)
بيان صحفي لمنظمة الصحة العالمية / 20
11 مارس 1997:
المدير العام للمنظمة يدين الاستنساخ البشري
في بيان صدر اليوم في جنيف علق الدكتور هيروشي ناكاجيما، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية (م. ص. ع) ، على الإعلان الذي صدر مؤخرًا عن نجاح عملية الاستنساخ لنعجة بالغة على يد فريق من العلماء في أسكتلندا، وأشار إلى أنه أثار اهتمامًا عظيمًا كما أثار قلقًا عظيمًا لدى كل قطاعات المجتمع في جميع الثقافات، وقال: إن م. ص. ع، في هذه المرحلة، ترى أن من الضروري أن تتناول القضية وتوضحها كي يمكن القيام بتقدير معقول لما ينطوي عليه هذا البحث.
وقال ناكاجيما: إن م. ص. ع، تعتبر استخدام الاستنساخ لإنتاج نسخ لأفراد من البشر عملًا غير مقبول أخلاقيًّا، كما أن فيه انتهاكًا لبعض المبادئ الأساسية التي تحكم الإنجاب عن طريق العون الطبي، ويدخل في هذا احترام كرامة الإنسان وحماية أمن المادة الوراثية الإنسانية.
وذكر المدير العام بأن البرنامج الخاص للبحث والتطوير والتدريب البحثي في مجال التكاثر البشري كلف - عام 992 - مجموعة علمية بمراجعة الجوانب التقنية للإنجاب المدعوم طبيًّا والقضايا الأخلاقية المتعلقة به، وقد أيدت المجموعة- كل إنسان في التمتع بمنافع التقدم العلمي وتطبيقاته، كما أيدت الحاجة إلى احترام الحرية التي لا غنى عنها للبحث العلمي والنشاط الإبداعي، لكن المجموعة أكدت كذلك على أن هناك إجماعًا عالميًّا على الحاجة إلى تحريم الأشكال المتطرفة من التجارب، مثل الاستنساخ البشري والتخصيب بين الأنواع، وتخليق الكائنات الخرافية cHIMERAS، وأخيرًا، تغيير الأطقم الوراثية genome في أصل الخلية.(10/1313)
وقال الدكتور ناكاجيما: إن م. ص. ع تود أن تقترح جعل هذه المبادئ الهادية بمثابة منطلق للحوار العام المطلوب على المستويين الوطني والدولي لإرساء المعايير والاحتياطات الوقائية اللازمة.
لكنه أوضح أن معارضة الاستنساخ البشري يجب ألا تؤدي إلى حظر على إجراءات وبحوث الاستنساخ دون تمييز، فالاستنساخ في حقل الخلية البشرية هو إجراء معتاد في إنتاج الأجسام المضادة النقية من أجل التشخيص والبحث في أمراض كالسرطان، كما أن الاستنساخ في الحيوان يوفر مجالات لتقدم البحث في الطب المتعلق بتشخيص الأمراض التي تؤثر على البشر وبعلاجها.
وبينما البحث في استنساخ الحيوان وفي الأنواع عبر الوراثة قد تنتج عنه منافع من بينها التطبيقات العلاجية، فإن علينا في كل الأوقات أن نبقى متيقظين لنتائجها السلبية المحتملة كأن تنقل إلى الإنسان الأمراض القابلة للانتقال بين الأنواع، وتريد م. ص. ع، أن تؤكد على أهمية أن نلاحظ في جميع الأحوال مبادئ الاحتياط وأن نكون قادرين على الاعتماد على الإرشادات الفنية والأخلاقية التي تؤمن الحماية الكاملة لصحة الكائن البشري وكرامته، وهذا يتطلب تدقيقًا واعيًا وحوارًا جماهيريًّا وآخر منظمًا يشمل كل القطاعات والهيئات المعنية ويأخذ في الاعتبار مختلف البنيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وأكد د. ناكاجيما أن م. ص. ع، ستمسك بالزمام في تنظيم هذا الحوار، وقال: " إننا نطالب بوجوب أن تكون الجوانب الأخلاقية في البحوث والتقنية المتعلقة بالصحة هي جوهر الحوار، وفي حدود قدرتنا سوف نركز في البداية على منطقتين لهما أولوية: صحة الإنجاب، والتطبيقات الطبية الأحيائية للبحوث الجارية على الطاقم الوراثي البشري، وسوف يكون هدفنا هو أن نساعد في تقويم الاحتياجات والممارسات الحالية، وأن نراجع الطرق الفنية والإجراءات، وأن نعين في بناء إجماع على الاحتياطات التقنية والأخلاقية التي ستطبق ".
وبين المدير العام أن مجموعة المراجعة العلمية والأخلاقية للإنجاب البشري سوف تتولى قيادة العمل على الجانب الأخلاقية للبحث في صحة الإنجاب، وأعلن أنها ستراجع قضية الاستنساخ في اجتماعها التالي، في الفترة من 23 - 25 أبريل، وسوف تكون هذه خطوة مهمة نحو تنظيم سلسلة من المشاورات القطرية والإقليمية التي ستساعد في تحديد القيم المشتركة التي يجب أن تقوم عليها معايير الممارسة السليمة والتوجيهات والتشريعات.
وقال د. ناكاجيما في ختام بيانه: " سوف تجري أولى هذه المشاورات في مطلع أبريل في بانكوك، إن م. ص. ع، تطلب المساهمة على أوسمع نطاق ممكن في هذه العملية العالمية ".(10/1314)
مخاوف أخلاقية
إرشادات لكل الولايات حول استنساخ الأجنة البشرية:
نظرًا لأن البحث في ميدان الكيس الجنيني البشري (embryo) لا يزال في بدايته، فقد كان هناك تسرع في تقرير أي الإرشادات يمكن أن تعتمد لتنظيم بحوث الاستنساخ، ومن أجل أن نساعد (المركز القومي للصحة) في تحديد تجارب الاستنساخ التي سيمولها، فقد كونت هيئة طبية لوضع مجموعة أولية من الإرشادات، بدأ (ستيفن موللر Steven Moller) ، رئيس الهيئة، وبمساعدة عدد من علماء الأحياء البارزين، من بينهم (بريجد هوجان Brigid Hogan) واختصاصي الأجنة (مارك هيوز Mark Hughes) ، في وضع مجموعة من الإرشادات التي تزيل مخاوف كل من التجمعات العلمية والدينية، أما التجمعات الدينية فإنها تعارض بقوة جميع إجراءات الاستنساخ البشري، وتتعاطف التجمعات العلمية مع هموم التجمعات الدينية.
لكنها لا تحب أن تحرم من الكم الهائل من المعلومات التي يمكن أن تكتسب من الاستنساخ البشري، وقد أعلنت هيئة موللر مجموعة من الإرشادات تأمل أن تكون مقبولة لدى الفريقين كليهما، لقد أوصوا بإباحة البحث في الأكياس الجنينية في المرحلة السابقة على التخلق preextsting، ويسمح بتنمية هذه الأكياس لمدة أربعة عشر يومًا بما فيها اليوم الرابع عشر، كما يسمح للباحثين أن ينتجوا أكياسًا جديدة تكون فقط لازمة لما يعتبر في نظر (المركز القومي للصحة) بحثًا إجباريًّا، وكذلك يرخص للباحثين في إزالة بعض الخلايا الجنينية من الأجنة المخطط لها أن تخصب خارج الرحم في وقت لاحق (Marshall 1024) .(10/1315)
لم تتوصل الهيئة إلى قرار بشأن مجالات أخرى عديدة تنتظر بحوثها التمويل، فالبحث حول البييضات الجنينية غير الناضجة، والبحث حول الأكياس الجنينية التي لا يوجد من تبرع بها لأخذ موافقته قد تركا بدون اتخاذ قرار بشأنهما، وقد نجم عن ذلك سؤال عمن أسقط جنينًا (fetus) هل تبقى له عليه حقوق الوالدية أم لا؟ فالجنين المسقط ليس شخصًا في حكم القانون وليس له اعتبار قانوني، والمجتمع بحاجة إلى أن يقرر ما إذا كان الجنين له اعتبار أخلاقي أم لا.
لقد اقترحت الهيئة أنه يجوز السماح بالبحث بعد الأربعة عشر يومًا من النمو بناء على الملابسات، لكن لا يسمح به قطعًا بعد اليوم الثامن عشر، حيث يبدأ انغلاق الأنبوب العصبي، والأنبوب العصبي هو بداية النظام العصبي، بما في ذلك الدماغ، في الإنسان البالغ: (مارشال 1024) ، وعلى هذا يبدو أن جماعة العلماء يولون الكيس الجنيني اعتبارًا أخلاقيًا أكثر مما تعطي أغلبية المجتمع للجنين الأكثر نموًا، أما التجارب التي أوصت الهيئة بمنعها فتشمل الأكياس الجنينية البشرية المخصبة في أنواع أخرى من الحيوان، والأكياس المستنسخة في بشر، واستخدام الأكياس لانتقاء نوع الجنين، ونقل نواة من كيس إلى آخر، وهذه ليست سوى بعض الإجراءات التي أحست الهيئة أنها غير ملائمة لتلقي التمويل الفيدرالي: (مارشال 1024) وأود أن أكون واضحًا بشأن هذه الحقيقة: هذه القيود المذكورة سابقًا إنما تطبق فقط على التجارب الممولة من الصندوق الفيدرالي، ولا يوجد في الوقت الحاضر أي قوانين تحرم بشكل مباشر أيًّا من الإجراءات السابقة في نطاق البحوث الخاصة، وكذلك يجب أن نبين أن كل الإجراءات السابقة قد نفذت أو يمكن أن تنفذ بالإمكانات التقنية الحالية.
الدكتور أحمد رجائي الجندي(10/1316)
الاستنساخ
تقنية، فوائد، ومخاطر
إعداد
د. صالح عبد العزيز الكريم
أستاذ مشارك في علم الأجنة التجريبي
كلية العلوم- جامعة الملك عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]
قال الله تعالى {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]
قال الله تعالى حكاية عن إبليس اللعين: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} . [النساء: 119]
مقدمة
تابعت لأكثر من عشرين عامًا موضوع محاولات استنساخ الأجنة وهو أحد مجالات علماء الأجنة التجريبي الذي هو تخصصي الدقيق، وعندما أصدرت كتابي (المدخل إلى علم الأجنة الوصفي والتجريبي) عام 1411 هـ، تحدثت في أحد أبوابه عن تطبيقات التكاثر العذري الاصطناعي على الحيوانات (الاستنساخ بطريقة تنشيط البويضة) ، وفي كتابي الثقافي (الهندسة الوراثية وتكوين الأجنة: الحقيقة والمستقبل) تحدثت فيه عن فكرة الاستنساخ بطريقة زراعة النواة، وذكرت أن ما تم تطبيقه في زراعة النواة في البرمائيات (الضفدعة) والثدييات (الفأر) يمكن تطبيقه على كل من حيوانات المزارع (الأغنام والأبقار) وكذلك مستقبلًا على الإنسان، وقد أعلنت اليوم معامل أدنبره للاستنساخ الحيوي بأنه قد تم فعلًا استنساخ (نعجة) من بويضة قد زرعت بها نواة لخلية جسدية، أي دون الحاجة للحيوان المنوي.
والاستنساخ كموضوع حديث لم يتبلور بعد في أذهان كثير من الناس، خاصة تطبيقاته ذات الفوائد أو المخاطر، فإنه حري أن يحظى باهتمام خاص من المجلات الثقافية، وعلى وجه الخصوص من المجلة العربية التي تبنت الأصالة في طرح قضاياها وبناء عليه فإن المجلة العربية متمثلة في رئيس تحريرها الأستاذ حمد القاضي دعتني لتبني مشروع كتيب تعريفي مبسط يسلط الضوء على موضوع الاستنساخ، ويؤدي الغرض الثقافي من الناحية العلمية، أما ما يخص النواحي الأخلاقية والمفاهيم الاجتماعية والتصورات الشرعية، فإنه سيتم الكتابة عنها في جزء آخر مستقل بإذن الله، وذلك بعد عرضها - أي تقنية الاستنساخ - بأنواعها المختلفة على المجامع الفقهية والشرعية المتخصصة، لأن الإسلام في مصدريه الكتاب والسنة يملك قواعد صلبة في التعامل مع جميع الإفرازات العلمية خيرها وشرها، فوائدها ومخاطرها. وأخيرًا أرجو من الله العلي القدير أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(10/1317)
الاستنساخ: المصطلح والمفهوم
مصطلح Cloning يعني باللغة العربية (التنسيل) وهي العملية البيولوجية التي بمقتضاها تتكون مجموعة من الخلايا ليس شرطًا بأن تكون متجانسة وذلك عبر الانقسامات الميتوزية المتتابعة لخلية واحدة فقط.
وقد استخدم هذا المصطلح في بعض الكائنات الحية ليعطي معنى التناسل الذاتي، وهو الخاص بالنمو عن طريق التكاثر اللاجنسي كما يحدث في حيوان البراميسيوم، ويتداول العلماء كلمة Clone لتعطي معنى (نسيلة) وهي تكوين خلايا أو أنسجة أو أعضاء أو أجنة من خلية سابقة واحدة، وقد استخدم هذا المصطلح أول مرة عام 1903 م بواسطة أحد علماء البساتين وهو هربرت ويبر H.Webber كمصطلح زراعي جديد، وهو يعني المجموعة المتكونة من التكاثر اللاجنسي لفرد سابق، وكان يطلق على جميع أشجار التفاح الناتجة عن تطعيم grafting شجرة أبوية واحدة.
ثم دخل الاستخدام التجريبي لمفهوم التنسيل (الاستنساخ) حيث تم استخدامه في تنسيل نباتات من خلية واحدة إما عادية أو مهندسة وراثيًّا، وهو ما يندرج تحت تقنية زراعة الخلايا والأنسجة النباتية، حيث تمكن العلماء من إنتاج أصناف نباتية جديدة ذات صفات مرغوبة ومطلوبة بطريقة Cloning.
منذ أكثر من ثلاثين عامًا انحصر مفهوم الاستنساخ Cloning على الاستنساخ الجيني للمادة الوراثية من خلال الخلايا النباتية والحيوانية، وهو اليوم يتحدد أكثر بأن أي خلية سواء جنسية أو جسدية Sex or Somatic إذا استطاعت أن تعطي تكوين مجموعة خلايا أو يكون الناتج النهائي لها كائنًا حيًّا فإن ذلك يكون استنساخًا، وتجربة الاستنساخ في الأجنة (تجربة دولي) صعدت المفهوم النهائي للاستنساخ بأنه استنساخ الأجنة، وقد استخدم هذا المصطلح في أجنة الحيوان لأول مرة عام 1952 م عندما تمكن الباحثان (روبرت بركز) و (ثومس كنك) من زرع خلية جنينية في مرحلة البلاستولا في بويضة غير مخصبة بعد أن انتزعت نواتها.
الجينات: سر الكائنات
تسكن المادة الوراثية كشبكة ملتفة في نواة الخلية (الكائنات الحية ذات النواة الحقيقية) ، ويصعب في هذه الحالة تحديدها وتمييزها عن بعضها البعض، لكنها تظهر على شكل صبغيات Chromosomes متراصة على هيئة أزواج خاصة في الطور الانقسامي الاستوائي Metaphase ويمكن من خلال استخدام طريقة كيمياء الخلايا تثبيت هذا الطور بمادة الكولثسين، ومن ثم التعرف على الكروموزومات باستخدام الأصباغ الحيوية.(10/1318)
إن جينات الكائنات الحية العليا محمولة على هذه الصبغيات، هذه الصبغيات في حقيقتها عبارة عن شرائط من الـ DNA (لم يعرف أحد ماهية وجود الـ DNA حتى الأربعينات من هذا القرن، حيث قال باحث اسمه فري: إن ماهية ووظيفة الـDNA هي نقل المعلومات الوراثية. وفي عام 1953 م اكتشف العالمان (واتسون) و (كريك) البنية الحقيقية لتركيبة مادة الـDNA) .
وتحتوي كل خلية من خلايا جسم الإنسان على 46 صبغيًّا أي 23 زوجًا، وخلية نبات البازلاء تحتوي على 14 صبغيًّا، بينما خلية ذبابة الفاكهة فيها 8 صبغيات، والكروموزومات لا تعدو أن تكون مَرْكَبَات Vehicles مخصصة لنقل الجينات أثناء الانقسام الخلوي، بيد أن مهمتها هذه ليست بسيطة، وآلية عملها ليست واضحة تمامًا.
والثلاثة والعشرون زوجًا من الصبغيات في الإنسان تكون متشابهة ما عدا زوج واحد في خلية الذكر وهو الزوج الجنسي، فهو موجود على شكل كروموزومين من سلسلتين من الـ DNA تلتفان على بعضهما البعض بشكل حلزوني وتكونان لولبًا مزدوجًا بحيث تتناغم على سلالمه القواعد النيتروجينية بقواعد هيدروجينية، ويقدر مجموع DNA في كل خلية بشرية على شكل شريط طوله 2800 كم، والحامض النووي DNA عبارة عن مجموعة من النيوكليوتيدات، وتتكون كل نيوكليوتيدة من مجموعة فوسفات PO4 وسكر خماسي pentose (سكر الدي أوكسي رايبوز Deoxyribose) ، ومجموعة قاعدة نيتروجينية، وهي عبارة عن الأدنين Adenine، سايتوزين Cytosine، وجوانين Guanine، وثايمين Thymine بحيث إن الثايمين (T) في إحدى السلسلتين يرتبط مع الأدنين (A) في السلسلة الأخرى، وأن السايتوسن (C) يرتبط مع الجوانين (G) .(10/1319)
__________(10/1320)
وقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الأحماض النووية هي التي تحمل المعلومات الوراثية، وأن الـ DNA يخضع لجميع أوامر خالقه في الاحتفاظ بأسرار الوراثة المعقدة وإظهار ما يمكن إظهاره منها، وإخفاء الباقي لأجيال أخرى، بعضها يعبر عنه بالسائد، والبعض الآخر يعبر عنه بالمتنحي.
يخضع الـ DNA لجميع أوامر خالقه في الالتزام بمواثيق توجيه نشاط الخلايا: صفاتها، خصائصها، أنزيماتها، وظائفها ... فكيف يكون ذلك؟ وما الذي يجعل الـ DNA مسيّرًا لأحداث التغير في كل الأجيال والأنواع؟
الـ DNA من أكبر الجزئيات المعروفة، يعطي تركيبًا أدق منه يعرف بالمورثات (الجينات) والمورثات حقًا عالم عجيب غريب ... يحاول العلماء أن يسبروا أغواره اليوم مستخدمين كل أدوات وإمكانيات البحث لمعرفة ما يحمله من أسرار ... ولكن مع كل ما يستخدمونه من تقنية دقيقة يظل يشفر لهم فقط، ويطلعهم على شيء يسير من أطراف تركيبه وبعض وظائفه، فالمورثات تنادي من الأعماق بأنها سر من أسرار الله، وأنكم أيها البشر: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .
وقد ذكر البروفسور الفرنسي دانيال كوهن (1993) وهو واضع خارطة العوامل الوراثية الإنسانية ومدير مركز التعدد الشكلي للدراسات الوراثية بباريس، ورئيس مؤسسة جان دوسيه لكتلة العوامل الوراثية يقول: "ما نعرفه تمامًا، أي يمكننا قراءته واستيعابه علميًّا حتى الآن تقدر نسبته بـ1 في المائة منه الـ DNA، أما ما هو فعال في جسم الإنسان فمقدر بين 5- 10 في المائة منه، في الوقت الذي تبقى فيه النسبة المتبقية وهي 90 - 95 في المائة قيد الفرضيات ".(10/1321)
والمورث (الجين) عبارة عن مجموعة كبيرة من النيوكليتيدات مرتبة ترتيبًا خاصًّا ضمن سلسلة الحامض النووي DNA، قد يصل عدد هذه النيوكليتيدات للجين الواحد إلى 2000 نيوكلوتيدة.
مصطلح الجين يستخدم لوصف الوحدات القاعدية للوراثة، ويتحكم الجين في الصفات الوراثية المختلفة من طول الجسم أو قصره أو شكله أو لونه، بل ونبرة الصوت ولون العين وحدة شم الأنف، أو الإصابة بمرض وراثي معين.
ويشترك في إبراز كل صفة من الصفات الماضية جينات متعددة.
وأول من أطلق لفظ جين Gene هو العالم فيلهلم جوهانسين W.johansson عام 1909 م، ورغم أن هذه الجينات موجودة في كل خلية من خلايا الجسم إلا أن جزءًا يسيرًا منها يعمل في كل خلية معينة، أي أن هناك جينات يلحقها تنشيط وأخرى تكون غير نشطة.
وتشكل كل ثلاثة قواعد نيتروجينية بما يعرف بالشفرة Codon بحيث تختار أحد الأحماض الأمينية التي تكون البروتين، ولقد أشرنا فيما سبق أن عدد القواعد النيتروجينية أربعة، فلو أردنا أن نصيغ منها كلمات كيميائية، على شكل شفر فيمكن أن تعطي 64 كلمة كيميائية وكل كلمة مكونة من ثلاثة أحرف، وتتحكم هذه الكلمات الكيميائية في عشرين حمضًا أمينيًّا نصوغ بها آلاف المركبات البروتينية المعقدة، مثلها في ذلك مثل أحرف الهجاء والتي عددها 28 حرفًا يمكن من خلالها صياغة آلاف الكلمات، بل يمكن من خلالها صياغة آلاف من أبيات الشعر ومقالات النثر وروايات القصص.(10/1322)
الاستنساخ
هناك ثلاثة أنواع للاستنساخ هي:
1 - الاستنساخ الجيني.
2 - الاستنساخ الخلوي.
3 - استنساخ الأجنة.
لكل نوع من الأنواع الثلاثة السابقة طريقته الخاصة به وكذا أنواعه التي تندرج تحته، مع العلم بأن الذي يستنسخ في النوع الأول هو الجينات المنقولة فقط، وذلك من خلال (نسخ) الخلايا الحاملة لنفس الجينات المستنسخة، ويستنسخ في النوع الثاني جينات الخلية المزروعة نفسها بانقسامها لتعطي مثلها، بينما يستنسخ في النوع الثالث جميع خلايا الجنين المطلوبة، وذلك بأحد طرق استنساخ الأجنة التي سنذكرها.
أولًا: الاستنساخ الجيني
يقصد بهذا النوع من الاستنساخ التحكم في وضع المورثات (الجينات) وترتيب صيغها الكيميائية فكًّا (قطع الجينات عن بعضها البعض) ووصلًا (وصل المادة الوراثية المضيفة بالجينات المتبرع بها) باستخدام الطرق المعملية، بحيث ينتج عن ذلك الحصول على الجينات الجديدة، ومن ثم يمكن أن نستنسخ منها (أي من الخلايا التي تحتوي على الجينات الجديدة) ما نريده.
استخدم الاستنساخ الجيني في تطبيقات الهندسة الوراثية، وقد بدأ الاهتمام به في عام 1964 م، حيث أوضح العالمان (أبل) و (ترتلز) أن هناك أنواعًا من البكتريا لديها القدرة على استقبال مواد وراثية خارجية، وأنه يمكن لهذه المواد الوراثية (الجينات) أن تتكاثر داخل السيتوبلازم لتلك البكتريا، وفي عام 1973 أعلن عن التناسل الذاتي لأول جين (الاستنساخ لأول مرة) ، وفي عام 1974 تمكن العالم ستانلي كوهن من استعمال طريقة الترقيع الجيني Gene Splicing وهي ما تعرف بعملية التهجين الكروموسومي، حيث نقل قطع كروموسومية من الـ DNA للضفدع إلى بكتريا القولون، وفي نفس العام جرت أول مناقشة علنية لتجارب إعادة تنظيم المادة الوراثية (DNA) أو ما يعرف بالتقنية الهندسية للـ DNA، ومنذ أكثر من عشرين عامًا وعلماء الاستنساخ الجيني في تطوير دائم ومستمر لتطبيقات هذه التقنية، وقد حفلت معاملهم بالعديد من الإنجازات والفوائد للبشر كما أنها محفوفة بكثير من المخاطر التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.(10/1323)
تطبيقات الاستنساخ الجيني
لن نتطرق هنا إلى شرح تقنيات الهندسة الوراثية الخاصة بالاستنساخ الجيني، ويمكن العودة إليها مختصرة في كتابي (الهندسة الوراثية وتكوين الأجنة: الحقيقة والمستقبل) لكن نذكر أهم فوائد استخدام تقنية الاستنساخ الجيني وهي كما يلي:
1 - في مجال الزراعة والنبات:
حيث تم إنتاج أكثر من خمسين نوعًا نباتيًّا ذي صفات مطلوبة وجيدة مثل مقاومة الحشرات والفيروسات ومبيدات الأعشاب أو نباتات تنتج ثمارًا تقاوم التلف، أو نباتات لها قيمتها الاقتصادية برفع قيمتها الغذائية، أي تحسين الناتج الغذائي لها.
وهناك ثلاثة تقنيات تستخدم للاستنساخ الجيني هي:
أ- تقنية استخدام الأكروبكتيريومAgrobacterium.
ب- تقنية النباتات العارية Protoplasts.
جـ- تقنية قذف جزيئات الـDNA.
2 - في مجال الصيدلة والدواء:
وقد استخدم لذلك الكائنات الحية الدقيقة، حيث من خلالها تمكن العلماء من إنتاج أصعب الأدوية وأندرها، لأن التغيير في مورثات (جينات) الكائن الدقيق يجعل ذلك الكائن مصنعًا يتخصص في إنتاج المطلوب من الدواء، وأكثر الكائنات المستخدمة لذلك هي بكتريا القولون، من تلك الأدوية التي تم إنتاجها بهذه التقنية:
أ- الأنسولين المنظم لسكر الدم.
ب- السوماتاستاتين المنظم لأعمال بعض الغدد في الجسم.
جـ- الأنترفيرونات التي تستخدم في علاج السرطان، ومنع الإصابة بالفيروسات.
3 - المعالجة بالمورثات (الجينات) Gene Therpy:
1 % من الأطفال الذين يولدون يكونون مصابين ببعض الأمراض الوراثية، وذلك يجعلهم مصابين بتشوهات ظاهرية أو داخلية (فيزيولوجية) ، أو يؤدي وضعهم ذلك إلى الموت المبكر.
معظم الأمراض الوراثية سببها جينات متنحية والأغلبية منها ترجع إلى طفرة تعطل جينًا ينتج طبيعيًّا بريوتينًا هامًّا، وهذا ما جعل العلماء يحملون تصورًا لمعالجة تلك الأمراض بالجينات.(10/1324)
__________(10/1325)
وبعد تطبيق المعالجة بالجينات على الحيوانات بدأت تخرج من المعمل إلى الحياة، حيث طبقت لأول مرة على الطفلتين (سينثيا) و (أشانتي) حيث ولدت الطفلتان وهما تعانيان من عيب وراثي وهو عدم إنتاج أنزيم (adenosince deaminase) الذي يعمل نقصه على موت خلايا الدم التائيّة المسماة بالخلايا التائية (T-Cells) مما يؤدي إلى التأثير على جهاز المناعة لديهما، وفي سبتمبر 1990 م بدأت رحلة العلاج الجيني بحقن الطفلة (أشانتي) بالخلايا المعالجة وراثيًّا، وكرر حقن مثل هذه الخلايا الحاملة للجين المسؤول عن أنزيم (أدينوزين ديمتاز) عدة مرات، وبذلك تم شفاؤها وحصلت معالجتها، وخضعت الطفلة (سنثيا) لنفس الإجراء في عام 1991 م وأعطت نشر النتيجة، فمنذ ذلك العام وتطبيقات المعالجة بالجينات في تزايد، خاصة في معالجة الأمراض الوراثية.
4 - الاستفادة من الحيوانات المهندسة وراثيًّا Transgenic animals
امتدت يد الاستنساخ الجيني إلى الحيوانات خاصة الثديية منها بشكل غير طبيعي، مما أدى اليوم إلى ظهور حيوانات تسمى الحيوانات الثديية المحولة (المهندسة) وراثيًّا تسمى Transgenic animals، والطريقة المباشرة لتكوين مثل تلك الحيوانات يكون بحقن عدة نسخ من سلسلة DNA المتبرع في داخل النواة الذكرية للبويضة المخصبة (وتستخدم النواة الذكرية لأنها أكبر من النواة الأنثوية) ، حقن DNA في بعض حالات التجارب يدخل بثبات إلى كروموزومات العائل، ويعبر عن بعض الجينات الموجودة فيه.(10/1326)
هناك ما يعرف بـinjection chimera وهي عبارة عن تكوين لحيوان ثديي دخل في تكوينه بعض المورثات (سلسلة من DNA) في مرحلة البلاستولا، ويتم ذلك بزراعة خلايا الكتلة الداخلية Inner cells mass والتي يخلق منها الجنين إلى أن يتم الحصول على خط خلوي يعرف باسم الخلايا الجنينية الأصلية Embryonic Stem (تمتاز بقدرتها على إعطاء أي نوع من الخلايا) ، سلسلة DNA المانح (المطلوب نقله) يمكن إدخالها في تلك الخلايا بتقنية الثقب الكهربائي electroporation.
تحقن 8 - 12 من الخلايا السابقة - المحتوية على الجينات المنقولة - في تجويف البلاستولا لفأر طبيعي، حيث تتحد مع كتلة الخلايا الداخلية وتشترك في تكوين الجنين، تغرز بعد ذلك البلاستولا في رحم أنثى مهيأة فسيولوجيًّا وتترك لتنمو الأجنة، الجينات الممنوحة (المنقولة) تمر غالبًا إلى الأجيال، تسمى الأجنة الناتجة بهذه الطريقة Chimeras بسبب احتوائها على خلايا من مصدرين مختلفين.
ومن تطبيقات ذلك ما يلي:
أ- الحصول على أغنام أو أبقار تحتوي على الجين المسؤول عن إنتاج الحليب البشري، وقد أعلنت معامل أسكتلندا (معهد روزلين) عن إنتاج بقرة تسمى Rosie بحيث يحتوي حليبها على البروتين البشري alpha- lactalbumin وهو بروتين يحتوي على كل الأحماض الأمينية التي يحتاجها الطفل الرضيع، ويتداول حاليًا مدى الاستفادة التجارية من مثل هذه الأبقار، وذلك بتجفيف حليبها (البشري) وتعليبه ومن ثم بيعه.(10/1327)
__________(10/1328)
ب - وضحت معامل عديدة أن الجين المسؤول عن تكوين بيتا جلوبين البشري Human beta globin gene يمكن إدخاله من خلايا نقي العظام في الفأر بواسطة الفيروسات التراجعية كنواقل retroviral vectors، وعند زراعة تلك الخلايا في الفأر وجد أن التعبير الجيني ممثل تمثيلًا جيدًا، وحديثًا استخدم Verma وزملاؤه الفيروسات التراجعية لإدخال جين مسؤول عن عامل النمو البشري (IX) إلى أرومات ليفية fibroblasts وزرعت الخلايا في طبقة الأدمة للفأر، فأعطت نتائج جيدة من حيث ظهور عامل النمو في الدم.
جـ - هناك محاولات لاستزراع بعض الجينات الخاصة ببعض الأنسجة والأعضاء البشرية ضمن التكوين الجنيني لبعض الحيوانات الثديية خاصة الخنازير والأغنام، ومن ثم استخدامها كقطع غيار في حالة زراعة الأعضاء في الإنسان.
الفوائد والمخاطر
إن فوائد تقنية الاستنساخ الجيني كبيرة جدًّا، وقد حصرنا بعضًا منها فيما تم ذكره في التطبيقات السابقة، وهي تفتح المجال في المستقبل القريب في إنتاج العديد من البروتينات الخاصة في الاستخدام البشري لمعالجة بعض الأمراض، خاصة استخدام الثدييات المهندسة وراثيًّا مثل استخدام الماعز لإنتاج البروتين البشري أنتى ثروبين 3 (Antithrombin 3) وهو بروتين يسيطر على عملية تجلط الدم، وهناك تجارب حاليًا لمعرفة مدى إمكانية استخدامه في جراحات القلب المفتوح.
إن فوائد الحيوانات المنهدسة وراثيًّا توفر لنا معلومات قيمة عن الأمراض وطريقة تطورها، وهي أشبه ما تكون بأنابيب اختبار لبعض الأمراض.
والحقيقة أن التوسع في دائرة العمل الهندسي للنواحي يحمل جوانب إيجابية كبيرة جدًّا إلا أننا لا نستطيع أن نغفل الدور الخطير الذي يمكن أن يبتلى به العالم من جراء عدم وضع ضوابط لهندسة الكائنات والخلايا وتكمن الخطورة فيما يلي:
* إنتاج سلالات جديدة من الكائنات الحية تحمل أمراضًا جديدة نتيجة لنقل جينات غير معروفة أو تكون بيولوجيًّا مدمرة، وهذا النوع من التجارب يقوم على سرية تامة، ولا يعرف إلى الآن ما هي الكائنات التي تعمل أمريكا على إنتاجها كما يقول العالم كوهن أحد علماء الهندسة الوراثية، ويخشى من هذا النوع من النتائج في أن تستخدم في الحروب البيولوجية المدمرة ضد الشعوب، أو أن يحدث خطأ فتنتشر في الكون أحد الكائنات أو الفيروسات ذات التركيب الجيني الخطير.
* تشكيل مخلوقات حيوانية لا يمكن التخلص منها وتبقى سلالات حيوانية جديدة ذات صفات شرهة، كما حدث في إنتاج سلالة من الفئران ذات صفات متوحشة، وذلك من خلال نقل جينات غير معروفة ومحددة.(10/1329)
__________(10/1330)
ثانيًا: الاستنساخ الخلوي
يقصد بالاستنساخ الخلوي إفراد خلية واحدة معروفة التركيب والوظيفة والشكل ومحددة تصنيفيًّا تسمى Clone ومن ثم تنسيلها (استنساخها) بحيث لا تعطي إلا النوع نفسه، ويتم ذلك خلال تقنية زراعة الخلايا في الأوساط البيئية المحددة والمعروفة، ويكون التنسيل في هذه الحالة لمواصفات وخصائص معروفة تتبع نفس الخلية المستنسخة.
تطبيقات الاستنساخ الخلوي
1- معالجة الأجنة قبل ولادتها:
يمكن الآن معرفة التكوين الوراثي للجنين، لأن الجنين أثناء تكوينه يطرد بعض خلاياه إلى السائل الأمينوتي، عند أخذ هذه الخلايا بطريقة تعرف باسم Aminocentesis وزراعتها في بيئة صناعية وفحصها بواسطة الطبيب المختص فإنه يمكن معرفة وجود الكروموزومات الشاذة التي تؤدي إلى تكوين تشوه وراثي للجنين، تستخدم تقنية الاستنساخ الخلوي في معالجة بعض الأمراضر الوراثية مثل الأمراض الخاصة بالجهاز المناعي وكذلك مرض الثلاسيميا، وذلك بطريقة زراعة خلايا الكبد الجنيني، حيث مع تحفظ خلايا من كبد الجنين الطبيعي المجهض، وتغرس عن طريق إبرة في وريد الحبل السري للجنين المشوه، تذهب هذه الخلايا إلى كبد الجنين وتعمل بعد ذلك على تصنيع البروتين المطلوب، ولأن جهاز المناعة في الطور الجنيني غير مكتمل فإن زراعة خلايا من جنين إلى آخر لا ترفض كما في حالة زراعة الأعضاء.
2- الحصول على الأجسام المضادة من وحيدة النسيلة Monoclonal antibodies:
هناك طرق علمية معملية باستخدام زراعة الخلايا، تمكن العلماء من الحصول على الأجسام المضادة من خلال الاستنساخ الخلوي لخلية واحدة monoclonal ويستفاد من هذه التقنية في زراعة الأعضاء فيما يخص رفض جهاز المناعة للأعضاء المغروسة، وكذلك بعض أمراض الجهاز المناعي في الجسم.
3- في دراسة التمايز الخلوي والخلايا السرطانية:
إن تحديد وظيفة الخلية سواء الطبيعية أو السرطانية ومعرفة مدى تحولها من نوع لآخر أو التأثير عليها بحيث تترك تمايزها وخصائصها يساعد في تحديد مفهوم التمايز الخلوي الذي هو سر التحول الخلوي الذي يحدث للخلايا السرطانية، وباستخدام تقنية الاستنساخ الخلوي فإن ذلك يفيد في حل كثير من المعضلات العلمية.(10/1331)
الفوائد والمخاطر
إن هذا النوع من الاستنساخ يتم بطريقة شبيهة لأن تكون طبيعية 100 % لذلك فإن فوائده جمة وكبيرة، خاصة أنه يخدم الإنسان تطبيقيًّا في معالجة الأجنة قبل ولادتها، وكذلك الحصول على الأجسام المضادة الضروريَّة جدًّا للجهاز المناعي، ولا يتوقع أن تكون هناك مخاطر لهذا النوع من الاستنساخ.
ثالثًا: استنساخ الأجنة
إن تنسيل جنين كامل من الأمور المعقدة جدًّا، وذلك لأن الأمر مرتبط بغموض التكوين، حيث إنه إلى الآن لم يعرف السبب الحقيقي في قضية تمايز الخلايا، وكيف أن بعضها يتحول ويتخصص ليعطي خلايا عظم، بينما خلايا أخرى مجاورة تعطي خلايا كبد، وأخرى خلايا عصبية وهكذا، والتعقيد الأكبر أن بعض هذه الخلايا إذا تخصصت لا تتراجع أبدًا عن تخصصها، ولا يمكن إعادة تأهيلها إلى تخصصات أخرى ما عدا في حالات قليلة، من هنا يجيء القول بأن استنساخ الأجنة محل استغراب الجميع ولكن مع هذا أود أن يفرق القارئ الكريم بين أنواع استنساخ الأجنة التي هي على النحو التالي:
الاستنساخ بطريقة فصل الخلايا
الطريقة الأولى في الحصول على أجنة مستنسخة هي فصل الخلايا بعد الانقسام الأول أو الثاني للبويضة المخصبة (حيث يتم إخصاب البويضة بالحيوان المنوي) وهذا النوع من الاستنساخ يؤدي إلى تكوين نسخ متطابقة تمامًا، كما هي الحال في حالة التوائم.
وأول تجارب تحققت في هذا المجال هي ما قام به العالم سبيمان قبل نصف قرن تقريبًا، وحصل على جائزة نوبل نظير أعماله التجريبية في البرمائيات، ثم تدرج تطبيق هذه التقنية على الثدييات حيث تمكن العالم Willndson في كمبردج من تطبيق ذلك على الأغنام عام 1985م، وحديثًا عام 1993م تم تطبيق هذه التقنية على الإنسان بعد أن استطاع العلماء أن يمارسوا تطبيقات التلقيح الاصطناعي (طفل الأنبوب) بكل ثقة، وأجنة هذا النوع من الاستنساخ تكون متطابقة 100 % لأن المادة الوراثية مصدرها واحد وهو البويضة المخصبة، وأصبح استنساخ الأجنة بطريقة فصل الخلايا طريقة في متناول اليد لكثير من المراكز الطبية.(10/1332)
الاستنساخ بطريقة تنشيط البويضة
هذا النوع من الاستنساخ هو في حقيقته ليس إلا تطبيقًا لفكرة التكاثر العذري parthenogenesis الموجودة في الطبيعة كما هو موجود في بعض الحشرات (دودة القز والنحل) وقد تم تطبيقه معمليًّا، وعرف بالتكاثر العذري الاصطناعي Artificial Parthenogenesis كما في بعض الحيوانات اللافقارية، وكذلك البرمائيات وبعض أنواع الثدييات، ويستخدم لحث البويضة غير الملقحة عدة وسائل منها المواد الكيميائية والصدمات الحرارية والكهربائية المفاجئة، وفي مثل هذه التجارب يحاول العلماء في كثير من الأحيان محاكاة دور الفعل المنشط للحيوان المنوي، وقد وضع العلماء ثلاثة تفسيرات لتجارب البويضة وانقسامها:
1- وجود مغزل الجسم القطبي.
2- إطلاق أيونات الكالسيوم في داخل البويضة.
3- دخول مادة بروتينية إلى داخل البويضة.
على أية حال يبقى هذا النوع من الاستنساخ في بداياته الأولى، حيث إن نتائجه تكوين أجنة مشوهة، وهي بطبعها تكون أحادية المجموعة الكروموزومية، وهناك محاولات جادة من العلماء في تطبيق ذلك على الإنسان لينتج لنا بعد ذلك أطفال هم في حقيقتهم أطفال العذارى.(10/1333)
الاستنساخ بطريقة زراعة النواة
هذا النوع من الاستنساخ يختلف عن النوعين السابقين تمامًا، حيث إنه يجمع بين الصفتين الموجودتين فيهما، فالنُّسخ متطابقة 100 % كالنوع الأول (طريقة فصل الخلايا) وهو يحدث بدون حاجة للحيوان المنوي كالنوع الثاني (طريقة تنشيط البويضة) .
تعتمد التقنية في هذا النوع على قتل نواة البويضة غير الملقحة بالأشعة وزراعة نواة خلية جسدية مكانها (نواة الخلية الجسدية تحتوي على العدد الزوجي للكروموزومات، بينما نواة البويضة تحتوي على العدد الفردي) وبعد حثها - كهربائيًّا - على الانقسام يتم إعادتها إلى أم مستقبلة فتنمو وتؤدي إلى تكوين جنين.
أول تجربة في مجال نقل النواة واستزراعها كانت على البرمائيات (الضفدعة) عام 1952 م، حيث زرعت نواة خلية في مرحلة البلاستولا في بويضة منزوعة النواة وتم استنساخ أجنة عديدة، ثم في عام 1962 تمكن العالم جورج كيردن من استنساخ ضفادع من أنوية الأمعاء للطور البالغ، وجرى تطبيق فكرة الاستنساخ على أجنة الفئران، وتم أخيرًا استنساخ نعجة (1997 م) على يد العالمين الأسكتلنديين (أيان ولمت) و (كيث كامبل) في معهد (روزلين) في أسكتلندة، ونشرت تفاصيل التجربة في المجلة العلمية Nature وكذلك في العديد من المجلات الأخرى مثل Newsweek.(10/1334)
طريقة استنساخ دولي
1 - الحصول على البويضة وسحب نواتها.
2 - الحصول على نواة خلية جسدية (خلية من الضرع) مع ملاحظة أن كل الخلايا الجسدية تحتوي على العدد الزوجي للكروموزومات وأنها تحتوي على جميع الجينات، لكن لا يكون منها نشيطًا إلا ما له علاقة بالخلية نفسها.
3 - معاملة الخلية الجسدية السابقة (خلية الضرع من نعجة عمرها 6 سنوات) بوضعها في وعاء به مواد غذائية خاصة، وتم التدرج بتغذيتها بتحديد المواد الغذائية مقارنة بالاحتياج الأساسي للخلية الجسدية، وفي ذلك محاولة من الباحث إعادة النواة لحالة السكون لتهيئة تنشيطها مرة أخرى بوضعها في بويضة.
4 - تم نقل النواة من الخلية الجسدية إلى البويضة مسحوبة النواة، وترك المجال للجزيئات المنشطة والحاثة في سيتوبلازم البويضة تؤدي دورها في تنشيط الجينات لتعمل وكأنها بويضة مخصبة.
5 - بعد نجاح عملية حث الجينات بدأت البويضة بالانقسام والتلقيح، بعد 4- 5 انقسامات خلوية تم نقلها إلى أم مستقبلة، وتركت لتنمو إلى أن تم ولادتها.
6 - جاءت النتيجة الإيجابية بتكوين دولي بعد حوالي 277 محاولة.
إن السؤال الكبير علميًّا هنا هو: كيف استطاعت خلية متخصصة (جسدية) أن تعطي جميع أنواع الخلايا وذلك بتكوين جنين كامل؟ هذا السؤال لا يزال يكتنفه شيء من الغموض لدى جميع العلماء، لكن السر بلا شك يكمن في شيئين:
أ- وضع الطور (المرحلة) التي كانت تعيشها نواة الخلية المنقولة (دورة الخلية) .
ب- دور مكونات ومركبات البويضة (السيتوبلازم) .(10/1335)
التفسير العلمي
إن تجارب إنتاج أجنة ثدييات كاملة وحية بطريقة زراعة النواة كانت تبوء بالفشل أو تعاني من تشوهات خلقية أو تكون ميتة، ولا يعرف إلى الآن على وجه الدقة ما هو سبب نجاح نواة جسدية واحدة من الضرع من بين 277 نواة، وكيف تمكنت تلك النواة من إدارة عملية تكوين جنين كامل هي (دولي) .
إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في مهارة الدكتور ويلمت بأن وافق بين حالة النواة الجسدية وحالة سيتوبلازم البويضة منزوعة النواة.
إن أي نواة جسدية تملك كل الجينات الخاصة بإدارة العملية الجنينية، لكنها في حالة مثبَّطة (يمكن مراجعة كتابي المدخل أو الهندسة الوراثية لمعرفة ذلك) وتشغيل تلك الجينات المثبطة له ارتباط وثيق بالنواحي الجزيئية التي تكوّن سيتوبلازم البويضة وهذا سبب، أما السبب الآخر فهو دور حياة الخلية cell cycle ومعروف أن الخلية تمر قبل الانقسام الميتوزي بثلاث مراحل تعرف (G2,S,G1) وخلال مرحلة S يتم مضاعفة الـ DNA بحيث يصبح في كل خلية من الخليتين المنقسمتين نفس الكمية من الـ DNA.
وعملية التوافق بين حالة البويضة والخلية الجسدية يعتبر من أصعب الحالات لطبيعة التركيبات الجزيئية والبروتينية، وقد فشل العلماء في تحقيق النجاح في ذلك مما جعل العالم (ويلمت) يضطر إلى استخدام خلية ساكنة QUIESCENT بعد أن تكون انتهت لتوها من مرحلة الانقسام وتوقف نشاطها، وقد حصل ويلموت على تلك الخلية من خلال نقص التغذية تدريجًا لخلايا الضرع المزروعة، حيث حصل على خلية ضرع في بداية مرحلة دورة الخلية، وهي تحوي على المطلوب من الـ DNA ويساعد استزراع النواة في حالة السكون التوافق بين حاثات السيتوبلازم (بروتينات البويضة) وبين تنشيط جيناتها بحيث يحقق عملية النمو بشكل طبيعي.
استنساخ البشر
على ضوء التجارب الناجحة في استنساخ أجنة الحيوان فإنه بات من الواضح تمامًا بأن استنساخ البشر أصبح قاب قوسين أو أدنى، وأن المسألة مسألة زمن ووقت فقط.
هل المستنسخ أو المستنسل (بفتح السين) من البشر سيحمل سمات التطابق مع المستنسخ منه أم لا؟ هذا سؤال مهم يحتاج إلى إجابة.
إن العلماء يؤكدون بأن التطابق الوراثي للمستنسخ والمستنسخ منه يكون 100 % فيما يخص التركيب الحيوي من أنسجة وأعضاء وأجهزة، وهو يشبه إلى حد بعيد التطابق الذي يحدث في التوائم المتشابهة، أما ما يخص التطابق الشخصي والأخلاقي والميول والرغبات والتطابق النفسي فإن ذلك كله لا يمكن تأكيده أو نفيه، حيث إن ذلك يقتضي الإثبات ويفتقر إلى الدليل، وذلك ما لم يتم علمه إلى الآن، لكن لا يمكن تجاهل دور البيئة والمجتمع والتنشئة ورصيد التجارب في صقل الشخصية البشرية.(10/1336)
الفوائد والمخاطر
إن استنساخ الأجنة مجال تطبيقي وسيأخذ انتشارًا في مستقبل الأيام، خاصة النوع الأول (بفصل الخلايا) سواء في الحيوان أو الإنسان، وهو بهذا يكون مفيدًا للإنسانية أما النوع الثاني (تنشيط البويضة) فهو محصور في مجال الأجنة التجريبي ونتائجه إلى الآن سلبية، ولا يحمل في طياته أي منافع بشرية بل هو من أشد الأنواع تغييرًا لخلق الله، وهو مجال تضييع للوقت وتأكيد لانحرافات شيطانية كما قال الله تعالى حكاية عن إبليس:
{وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} أما النوع الثالث وهو (زراعة النواة) فيحمل جوانب إيجابية وجيدة تكمن فوائده فيما يلي:
* إيجاد سلالات من الحيوانات ذات صفات مطلوبة أو المحافظة على أنواع قد تتعرض للانقراض.
* في علاج العقم من خلال نقل نصف عدد الكروموزومات من خلية جسدية للرجل إلى نواة البويضة التي تحتوي على نصف العدد من الكروموزومات، وهذا النوع من التجارب يحتاج إلى تقنية عالية في نقل الكروموزومات.
* يمكن استخدامه في زراعة الأعضاء كأن يتم استزراع بعض الجينات الخاصة بالأعضاء في أغنام أثناء تكوينها الجنيني، فتتكون حيوانات حاملة لأعضاء يمكن نقلها إلى الإنسان، وهذا يحتاج إلى معرفة جينات الأعضاء المستزرعة ولا يزال مثل هذا المشروع في بداءاته الأولية.
أما مخاطر استنساخ الأجنة بطريقة زرع النواة فكثيرة جدًّا منها:
* استحداث طريقة شاذة في تنسيل البشر، وذلك خروج سافر على ناموس الله في الكون، ولمثل هذا العمل دور سلبي اجتماعيًّا وتربويًّا على الأطفال المستنسخين.
* الزيادة في استئجار الأرحام وترويج فتنة بيع البويضات.
* تعريض الأجنة المستنسخة للبيع والتشويه، واعتبار الإنسان المستنسخ مستودع لقطع الغيار البشري.
* في حالة استنساخ أشخاص يعانون من بعض الأمراض، فإنه قد يستنسخ مع الأجنة تلك الأمراض وذلك يحمل خطرًا كبير أو أذى مريرًا على البشرية.
* في استنساخ أجنة بشرية متطابقة ذهاب للهوية الفردية وتضييع لمعالم الإنسان النفسية والشخصية.
الدكتور صالح عبد العزيز الكريم(10/1337)
مراجع الصور
الصفحة المراجع
226، 241 Villeetal
235 Verna
238 Gasserand Fraley
243 Science
249 Waddington
232 العلوم
235 مجلة اليمامة
244 روعة الخلق
المراجع العربية
- أبو خطوة، أحمد نبيل، موسوعة أبو خطوة 1992 م، الناشر: دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة.
- طيفور، ماجد، روعة الخلق 1991 م، الناشر: الدار العربية للعلوم.
- كريم، صالح عبد العزيز، المدخل إلى علم الأجنة الوصفي والتجريبي 1411 هـ، دار المجتمع، جدة.
- كريم، صالح عبد العزيز، الهندسة الوراثية وتكوين الأجنة 1415 هـ، دار المجتمع، جدة.
- كريم، صالح عبد العزيز، مقدمة في زراعة الخلايا والأنسجة، تحت الطبع.
المجلات والجرائد:
- العلوم، المجلد 9، العددان 3 و 4 (مارس- إبريل 1993م) .
- اليمامة، العدد 1291 في 8/15/ 1414 هـ(10/1338)
المراجع الأجنبية
- Chakrabarty, A. (1985) . Gentic Engineering Fith. ed. CrC. press.
- Gasser, C. and Fraley, R. (1992) . Transgenic Crops. Scientific American, june.
- Larsen, W. (1993) . Human Euman Embryology. Churchill.
Livingstone. Newyork.
- Lewin, B. (1990) Genes IV. Oxford Cell press.
- Verna, I. (1990) . Gene Therpy, Scientific American. November.
68-84.
- Waddington, C (1956) . principles Of embryology. the Macmillan Company, newyork.
المجلات والجرائد:
- Newsweek, March 10, 19967.
- Nature, Feb 27, 1997.
- Science, November, 1985.(10/1339)
توصيات
الندوة الفقهية الطبية التاسعة
رؤية إسلامية لبعض المشاكل الطبية
الدار البيضاء: 8- 11صفر 1418هـ
14- 17 يونيو 1997م
الاستنساخ البشري
أ- مقدمة:
سبق للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية أن عقدت ندوة عام 1983 م
عن (الإنجاب في ضوء الإسلام) عرضت فيها ورقتان لاحتمالات إنجاز الاستنساخ البشري بعد أن نجح الاستنساخ في النبات وفي الضفادع والبحريات الصغيرة. وكانت التوصية التي اتخذت في هذا الصدد تنص على الآتي: (عدم التسرع في إبداء الحكم الشرعي في قضايا الاستنساخ بالنسبة للإنسان (على نحو ما أدت إليه التجارب في مجال الحيوان) مع الدعوة إلى مواصلة دراسة هذه القضايا طبياً وشرعياً مع جواز تطبيق تكنولوجيا التكاثر على مستوى الكائنات الدقيقة باستخدام خصائص الحامض النووي المعاود للالتحام لإنتاج مواد علاجية وفيرة) .
والآن عاد الموضوع يطرح نفسه بشكل حاد وعاجل، منذ تم استنساخ
جنين الإنسان بطريق الاستتآم عام 1993 م، ثم في الأشهر الأخيرة حين أعلن عن استنساخ النعجة التي سميت (دولي) في اسكتلندا في فبراير 1997 م بعد تكتم عن الأمر قرابة ثمانية أشهر، وتلا ذلك الإعلان عن استنساخ قردين بطريقة أخرى في جامعة أوريجون. ولما كانت التقانة التي استعملها العلماء للوصول لهذا الإنجاز يفترض أنها وافية بإجراء نفس التجربة على الإنسان، فقد اكتسب الموضوع منحىً عاجلاً أثار ردود فعل قوية.
ورغم أنه لم يعلن عن ممارسته على الإنسان بعد، إلا أن الحاجة إلى استباقه بالتعرف على آثاره المتوقعة ووضع ضوابطه الشرعية والقانونية والأخلاقية، حدت بكثير من الدول الغربية إلى منع التجارب البشرية أو تجميدها سنوات حتى تتم الدراسات المطلوبة.
* لذلك رأت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية أن تبادر ببحث الموضوع في هذه الندوة.
ب - تعريف الاستنساخ Cloning:
الاستنساخ هو تكوين مخلوقين أو أكثر كل منهما نسخة إرثية من الآخر، وهو نوعان:
الأول: الاستتآم أو شق البييضة، ويبدأ ببييضة مخضبة (بييضة دخلها منوي) ، تنقسم إلى خليتين فتحفز كل منهما إلى البدء من جديد وكأنها الخلية الأم، وتصير كل منهما جنيناً مستقلاً وإن كانا متماثلين لصدورهما عن بييضة واحدة.
الثاني: الاستنساخ العادي الذي لا يعتمد على الخلايا الجنسية وإنما يكون بوضع نواة خلية جسدية داخل غلاف بييضة منزوعة النواة. وتتكاثر الخلية الناتجة إلى برنين هو نسخة إرثية تكاد تكون طبق الأصل من صاحب الخلية الجسدية.(10/1340)
ج - المناقشات:
ناقشت الندوة الجوانب الطبية لهذا الموضوع مناقشة مستفيضة استجلت من خلالها المرتكزات الرئيسة التي يقوم عليها الاستنساخ من حيث الآتي:
1- استنساخ الجنين البشري عام 1993 م عن طريق (الاستتآم) وهو خفر البييضة المخضبة إلى سلوك النهج الذي تتبعه طبيعياً لتكوين التوائم المتماثلة؟ بحيث تتصرف كل من الخليتين الناجمتين عن أول انقسام للبييضة وكأنها بييضة جديدة من البداية، تأخذ في سلسلة التكاثر بالانقسام في اتجاه تكوين جنين مستقل، فإن أودع الجنينان الرحم، وضعت السيدة توأمين متطابقين لأنهما نتاج بييضة واحدة. ولم يستكمل البحث نظراً لتورع العالقين المبتكرين عن زرعهما في الرحم، بل إنهما اختارا خلية معيبة لا تنهض أن تنقسم لتنمو إلا لدور مبكر، وذلك لأن التجارب على الجنين البشري أمر حساس وخطير. ولا بد من مرور وقت حتى توضع له الضوابط الأخلاقية والقانونية.
وترى الندوة أن الطريقة من حيث مبدأ التلقيح سليمة، لكن تقويمها
من ناحية النفع والضرر لا يزال في حوزة المستقبل. ومن منافعها القريبة المنال إمكان تطبيق الوسائل التشخيصية على أحد الجنينين أو خلايا منه، فإن بانت سلامته سمح أن يودع الحمل الرحم، وكذلك التغلب على بعض مشاكل العقم، وينطبق عليها كل الضوابط المتعلقة بطفل الأنابيب.
أما التقنية التي أفضت إلى إنتاج النعجة (دولي) بإيداع نواة خلية جسدية داخل بييضة منزوعة النواة لتشرع في الانقسام متجهة لتكوين جنين، فقد أولتها الندوة بحثاً مستفيضاً، وتوسمت بعض النتائج التي تنجم عن تكوين جنين (ثم وليد) جديد يكون نسخة إرثية (جينية) طبق الأصل من صاحب الخلية الجسدية، فلا يمنع من تمام التماثل إلا وجود عدد ضئيل من الجينات في سيتوبلازم البييضة المستقبلة.
2 - ظهر أن تلك القضية تكتنفها محاذير فادحة إن دخلت حيز التطبيق، من أبرزها العدوان على ذاتية الفرد وخصوصيته وتميزه من بين طائفة من أشباهه (نسخه) ، وكذلك خلخلة الهيكل الاجتماعي المستقر، والعصف بأسس القرابات والأنساب وصلات الأرحام والهياكل الأسرية المتعارف عليها على مدى التاريخ الإنساني وكما اعتمدتها الشريعة وسائر الأديان أساساً للعلائق بين الأفراد والعائلات والمجتمع كله، بما في ذلك من انعكاسات على أحكام القرابات والزواج والمواريث والقانون المدني والجنائي وغيرها، وسيقت في هذا الباب فرضيات واحتمالات كثيرة.
وقد استبعدت الندوة من البداية بحث كل ما يقحم على عقد الزواج الشرعي القائم طرفاً غريباً عنه فإنه حرام بلا ريب.
وقد تطرق بعض السادة الفقهاء بالبحث إلى طائفة من الأحكام العقائدية والأخلاقية والعملية، تكليفية أو وضعية التي تتصل بموضوع الاستنساخ.(10/1341)
3 - وقد أخذ في الاعتبار أن الدول الغربية، ومنها التي تجري فيها أبحاث الاستنساخ، قد كان رد الفعل فيها قوياً على الحذر الشديد، فمنها من منعت أبحاث الاستنساخ البشري، ومنها من حرقتها من معونة ميزانية الدولة، ومنها من جمدتها سنوات حتى تبحثها اللجان المختصة ثم ينظر في أمرها من جديد.
لهذا فإن الندوة تخشى أن يسعى رأس المال الخاص وشركات الأدوية إلى تخالي هذا الحظر بتهيئة الأموال واستمرار الأبحاث في دول العالم الثالث واستغلالها حقلاً للتجارب البشرية كما كان ديدنها في كثير من السوابق.
4 - أكدت الندوة أن الإسلام لا يضع حجراً ولا قيداً على حرية البحث العلمي، إذ هو من باب استكناه سنة الله في خلقه وهو من تكاليف الشريعة. ولكن الإسلام يقضي كذلك بألا يترك الباب مفتوحاً بدون ضوابط أمام دخول تطبيقات نتائج البحث العلمي إلى الساحة العامة، بغير أن تمر على مصفاة الشريعة، لتمرر المباح وتحجز الحرام. فلا يسمح بتنفيذ شيء لمجرد أنه قابل للتنفيذ، بل لا بد أن يكون خالياً من الضرر وغير مخالف للشرع.
ولما كانت بعض المضار لا تظهر قبل مرور وقت طويل، فلابد من
عدم التسرع قبل التثبت والتأكد قدر الاستطاعة.
5 - وتأسيساً على هذه الاعتبارات التي أجمع عليها الحاضرون، رأى البعض تحريم الاستنساخ البشري جملة وتفصيلاً. بينما رأى آخرون إبقاء فرصةٍ لاستثناءات حاضرة أو مقبلة، إن ثبتت لها فائدة واتسعت لها حدود الشريعة على أن تبحث كل حالة على حدة.
6 - وفي كافة الأحوال فإن دخول الاستنساخ البشري إلى حيز التطبيق
سابق لأوانه بزمن طويل. لأن تقدير المصالح والمضار الآنية قد يختلف عليه على المدى البعيد والزمن الطويل. وإن من التجاوز في الوقت الحاضر أن نقول إن تطبيقات الهندسة الوراثية في مجال النبات قد أثبتت سلامتها على الإنسان، رغم مامر من سنوات. في حين لم تكد تدخل التطبيقات الحيوانية من العتبة بعد. ولعل المجهول هو أكبر الهموم في هذا الباب. ولا ينبغي أن تنسى الإنسانية درسها الكبير بالأمس القريب في مجال انشطار الذرة، إذ ظهر له بعد حين من الأضرار الجسيمة ما لم يكن معلوماً ولا متوقعاً، ولابد أن يستمر رصد نتائج التجارب النباتية والحيوانية لزمن طويل.
7 - حتى لا يعيش عالمنا الإسلامي عالة وتبعاً للعالم الغربي في ملاحقته لهذه العلوم الحياتية الحديثة؛ أكدت الندوة على أن تكون لدينا المعاهد والمؤسسات العلمية التي تقوم بذلك وفق الضوابط الشرعية.
8 - لم تر الندوة حرجاً في الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالي النبات والحيوان في حدود الضوابط المعتبرة.(10/1342)
د - التوصيات:
توصي الندوة بما يلي:
أولاً: تجريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحماً أم بييضة أم حيواناً أم خلية جسدية للاستنساخ. ثانياً: منع الاستنساخ البشري العادي، فإن ظهرت مستقبلاً حالات استثنائية عرضت لبيان حكمها الشرعي من جهة الجواز أو المنع.
ثالثاً: مناشدة الدول شن التشريعات القانونية اللازمة لغلق الأبواب المباشرة، وغير المباشرة، أمام الجهات الأجنبية، والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب؛ للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميداناً لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها.
رابعاً: متابعة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية وغيرها لموضوع الاستنساخ ومستجداته العلمية، وضبط مصطلحاته، وعقد الندوات واللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة به.
خامساً: الدعوة إلى تشكيل لجان متخصصة في مجال الأخلاقيات الحياتية لاعتماد بروتوكولات الأبحاث في الدول الإسلامية، وإعداد وثيقة عن حقوق الجنين.(10/1343)
الاستنساخ
العرض- التعقيب- المناقشة
العرض
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بين يدينا موضوع الاستنساخ، والمقرر هو الطبيب الأستاذ أحمد رجائي الجندي وهو صاحب البحث الأول فليتفضل.
الدكتور أحمد رجائي الجندي:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا سيادة الرئيس.
اسمحوا لي أن أتقدم لمعاليكم ولسماحة الأخ الفاضل الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة، الأمين العام للمجمع ونيابة عن رئيس المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية الدكتور عبد الرحمن العوضي ومجلس أمناء المنظمة وأمانتها؛ على هذا التعاون الوثيق بين مؤسستينا، والتي كان من أثرها إصدار العديد من القرارات المجمعية للعديد من المحدثات الطبية التي كانت علامة مضيئة على الطريق للأطباء والفقهاء، مما أكسب هذا التعاون الاحترام والتقدير من جميع الجهات العالمية والعلمية، ولعل آخر مظاهر هذا التعاون - ولن يكون الأخير إن شاء الله- الاجتماع الذي عقد بالدار البيضاء في الفترة ما بين 14- 17 يونيو، وناقشت الندوة من بين ما ناقشت المفطرات والاستنساخ، وأصدرت التوصيات التي بين أيدي حضراتكم والتي أرجو أن تكون تحت نظركم عند إصدار قراراتكم.
هذه كلمة ضرورية حملني إياها سعادة الأخ الدكتور عبد الرحمن العوضي ومجلس أمناء المنظمة متمنين لكم التوفيق والسداد.
وأعود إلى موضوع الاستنساخ، وفي البداية أحب أن أوضح نقطة هامة، وهي أن الاستنساخ يختلف تمامًا عن الهندسة الوراثية، ولذلك أرجو ألا يكون هناك خلط بين الموضوعين.
نوقش هذا الموضوع في الندوة الفقهية الطبية التاسعة، وقد شارك في إعداد الأبحاث الطبية الزملاء: الدكتور حسان حتحوت، د. عمر الألفي، د. صديقة العوضي، د. محمد ياشيع، ومحدثكم د. أحمد رجائي الجندي، ومن حسن الحظ أنهم جميعًا اتفقوا على الجوانب الطبية العملية لهذا الموضوع وهذه نقطة هامة حتى لا تضيع منا المسائل، وناقشت الندوة أيضًا الانعكاسات المختلفة للاستنساخ، فتحدث الدكتور حسن الشاذلي عن الإنسان وذاتيته وكرامته في الإسلام، وانعكاس الاستنساخ على الجوانب الاجتماعية والنفسية والقانونية، كما كتب في الجانب الفقهي للاستنساخ السادة الأفاضل: فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي، فضيلة الشيخ الدكتور نصر فريد واصل، الدكتور حسن الشاذلي، الدكتور محمد الأشقر، وكان من المفروض أن يشارك معنا سماحة الشيخ محمد التسخيري الذي أناب عنه الشيخ حسن الجواهري ولكنه لم يتمكن من الحضور، ونوقشت جميع هذه الجوانب على مدى يومين.(10/1344)
وسأقصر حديثي على الجانب الطبي، فكما سبق وذكرت في بداية حديثي. . فإن جميع من تحدثوا في هذا الجانب لم يختلف أي منهم عن الآخر في هذه التقنية، حيث الجانب النظري للموضوع بسيط جدًّا من الناحية النظرية ولكنه معقد كثيرًا من الناحية العملية، فنقل نواة خلية متخصصة- أي تحتوي على 46 كروموزومًا - مكان نواة بييضة- أي تحتوي على 23 كروموزومًا - إلا أن تطبيق ذلك عمليًّا أمر في غاية الصعوبة، ويحتاج إلى تقنيات متقدمة ومعلومات كثيرة.
وفي البداية أتحدث عن أنواع التكاثر، فهناك التكاثر اللاتزاوجي، أي تكاثر لا جنسي، وهو موجود في الكائنات ذات الخلية الواحدة مثل الأميبا والبكتريا، حيث تنقسم النواة إلى العديد من الخلايا وينتج عن ذلك الملايين في وقت بسيط، وهناك التكاثر التزاوجي، وهو الجنسي الذي لا بد وأن يكون بين الحيوانات الثديية، أي أن يكون هناك ذكر وأنثى، ويتم ذلك عن طريق تلقيح حيوان منوي من الذكر لبييضة من الأنثى، وبعد تلقيح نواة الخلية تبدأ الخلية بالانقسام إلى اثنين ثم إلى أربعة، وهكذا، وهذه هي الحياة الباكرة للإنسان الكامل حيث تبدأ عملية تخصص الخلايا لإنتاج الأنسجة والأعضاء المختلفة التي يتكون منها الإنسان.
ماهو الاستنساخ؟
في الحقيقة أن في سورة يس الآية 36 {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} أنبه فقط إلى هذه الآية إلى أنها ملفتة للنظر {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} يجب أن نتوقف نحن أمام هذا الموضوع.
نأتي بعد ذلك إلى شيء بسيط جدًّا حتى نعرف ماذا يتم في هذا الموضوع؛ الخلية، الحيوان المنوي يحتوي على 23 كروموزومًا، الحيوان المنوي يحتوي على جدار الخلية والنواة، وأيضًا البييضة الناضجة كل منهم يحتوي على نواة، وكل نواة تحتوي على 23 كروموزومًا، وهي الحقيبة الوراثية.
هذا هو الحيوان المنوي بتبسيط شديد، ويمكن الأخ صالح سوف يعرض لنا صورًا أكثر إيضاحًا، وهذه هي البييضة الناضجة، وكل منهما يحتوي على جدار للخلية، داخل هذه الخلية يوجد السيتوبلازم لتغذية النواة ثم تغذية الخلية، ثم توجد النواة وحولها الغشاء النووي، ونفس الشيء بالنسبة للبييضة الناضجة، بينما الخلية الجسدية تحتوي على نفس هذا التكوين بمعنى جدار خلوي ثم سيتوبلازم ثم النواة، لكن الفرق أن الحيوان المنوي يحتوي على 23 كروموزومًا والبييضة أيضًا تحتوي على 23 كروموزومًا وهو نصف الحقيبة الوراثية من الأب ونصف الحقيبة الوراثية من الأم، بينما الخلية الجسدية، أي خلية في جسم الإنسان ما عدا الخليتين سابقتا الذكر، تحتوي على 46 كروموزومًا، أي نتجت نتيجة هذا التلاحم.(10/1345)
ماذا يحدث عند التكاثر؟
هذا هو الحيوان المنوي يحتوي على 23 كروموزومًا، وهذه هي البييضة تحتوي على 23 كروموزومًا، فيتحدا مع بعضهما ليكونا المرحلة الأولى، ثم يكونا البييضة التي نتجت عن التلقيح، هذه الخلية أصبحت تحتوي على نواة تحتوي على 46 كروموزومًا، تبدأ بعد ذلك في الانقسام إلى 2 ثم إلى 4 وهكذا، وهي الحياة الباكرة للجنين فيما بعد.
هنا نأتي إلى عملية الاستنساخ، هذه هي البييضة (23 كروموزومًا) وهذه هي الخلية الجسدية تحتوي على 46 كروموزومًا، الفكرة بدأت طالما أن هذه تحتوي على 46 كروموزومًا، هل يمكن أن نقوم بعملية تنشيط للنواة الموجودة وهي تحمل الحقيبة الوراثية الكاملة للإنسان، هل ننشطها وأن تنقسم؟ هذا هو السؤال الذي كان موجودًا، ربنا- سبحانه وتعالى - عندما يتم 32 خلية في المراحل الأولى يبدأ عملية تخصيص الخلايا، جزء من الخلايا يذهب ليكون الكبد، وجزء يذهب ليكون الجلد، وجزء يذهب ليكون القلب، وهكذا، وحتى الآن لا يعرف أحد ما هو السر في هذا التخصص وكيف يتم؟ حتى الآن لا أحد يعرف ذلك، ثم الذي يحدث بعد ذلك أن هذه الخلايا المتخصصة تقوم بوظيفة واحدة فقط وتغلق بقية الوظائف، ولا نعرف أيضًا كيف تغلق ولماذا تغلق، فمثلًا خلايا الجلد تعطي خلايا جلدية فقط ولا تنتج أي شيء آخر مهما زرعناها ومهما حاولنا، الخلايا الكبدية تعطي أيضًا خلايا كبدية مماثلة للموجود ولا تعطي أي وظيفة أخرى، فكانت الفكرة هل نستطيع أن ننشط هذه النواة وأن نحولها إلى الانقسام لنعود مرة ثانية , مثل الكمبيوتر عندما يوجد به العديد من الملفات لكنه مغلق على ملف واحد إذا صاحب هذا الكمبيوتر لم يضع يده على جميع المفاتيح لن يفتح نهائيًّا، هذه هي كانت المحاولات، ومحاولة فك الرموز بحيث أنها تنقسم وتتحول إلى خلية نشطة تعطي الإنسان الكامل.
(وول موت) عندما بدأ يعمل قام بـ 277 محاولة، المحاولات الأولى الغرض منها تنشيط الخلية الجسدية نفسها , وهذا التنشيط يحاول أن يرغم النواة بالطرق المختلفة أن تنقسم لتتحول إلى خلية كأنها خلية جنسية وإلى ما شابه ذلك، لكنه فشل وبدأ ينقل عمله وينقل هذه النواة إلى هذه الخلية والتي هي البييضة، البييضة تحتوي على النواة، وضع هذه النواة، وفرغ الخلية من النواة , وأصبحت هذه الخلية خالية النواة والتى هي البييضة، وأخذ نواة الخلية الجسدية من هذه النواة مرة ثانية وأصبحت البييضة + نواة الخلية الجسدية، إذن هنا حدث تزاوج، ووجد أنه بعد ذلك انقسمت وبعد عملية الانقسام بدأت تعطي المراحل الأولى، كأن هناك تلقيحًا جنسيًّا تم في هذه العملية، وبدأت تنقسم إلى أن تكوّن الحياة الباكرة للجنين، هذا النوع هو النوع الأول أو ما نطلق عليه الاستنساخ التقليدي وهو نقل نواة من خلية جسدية إلى بييضة منزوعة الخلية وإرغام الجسم الجديد على الانقسام لكي يتحول إلى خلايا منقسمة ويتحول إلى الحياة الأولى للجنين الكامل ثم يوضع في الرحم.(10/1346)
أما قصة (دولي) وهي أن بعض الشركات ومعهد روزالين في أيرلندا وهو معهد مشهور جدًّا بالإنتاج الحيواني، أنتج العديد من الحيوانات بالهندسة الوراثية، الهدف في هذا الموضوع أنهم أنتجوا أم دولي والتي اسمها روز مهجنة أو محسنة من ناحية الجينات لكي تنتج لبنا يشابه لبن الأم تمامًا. . كانت هذه القصة في بدايتها، وعملوا (277) محاولة على الأم بحيث إنه يمكن إنتاج هذه العملية، الشركة التي أنتجت هذا الموضوع اسمها PPL هي التي مولت هذا الموضوع على أنها في سنة 2010 تكون بعض المستحضرات الصيدلانية موجودة داخل الأسواق العالمية لتسويقها عن طريق هذه الحيوانات المعدلة بالهندسة الوراثية وتنتج عن طريق الإقطاع في هذا الموضوع , وهم منتظرين موافقة الصحة العالمية وموافقة الجهات المختلفة التي هي الأغذية والصحة الأمريكية، هذه هي القصة التي كانت وراء إنتاج النعجة دولي، وبسبب هذا الموضوع بدأت تثور هذه المشاكل.
هناك نوع آخر من الاستنساخ والذي هو الاستنساخ الجنيني، بعدما أذيع مباشرة موضوع إنتاج دُولّي بالهندسة الوراثية في هذا الاستنساخ العادي أذيع بعدها بأسبوعين أو بحوالي شهر إنتاج قردين أعلنت عنهم جامعة أوريجون وهما توأمان تمام التماثل، لكن إنتاجهما كان مختلفًا تمامًا عن إنتاج دولي، في إنتاج دولي تم أخذ نواة خلية جسدية متخصصة إلى بييضة منزوعة الخلية، لكن في القردين العملية بدأت عادة بحيوان منوي عادي مع بييضة وتم التلقيح بشكل عادي، وهذه تحتوي على 23 كروموزومًا، وهذه تحتوي على 23 كروموزومًا، أنتج بعد ذلك الزيجون الذي يحتوي على 46 كروموزومًا وبدأت تنقسم العملية، عندما انقسمت إلى اثنين تركت إلى أن انقسمت إلى أربعة، وبعد ذلك بدأ يحدث أنهم يفصلوا كل خلية عن بعضها لتتحول كل خلية من هذه إلى خلية قابلة للانقسام، بمعنى أنه أصبح عندي أربعة إخوان موجودون في هذه العملية، وجمعت هذه الخلايا مرة ثانية لتنتج اثنين وأربعة، بعد ذلك أخذوا بفصلهم إلى أن وصلوا إلى 37 جنينًا موجودًا ومحفوظًا وقابلًا للنمو.(10/1347)
هذه التقنية بدأت في السبعينات عن طريق إحدى الطبيبات التي كانت تعمل في فيلادلفيا في موضوع السرطان ووجدت أن تناسب عملية انقسام الخلايا الجنينية يتماثل تمامًا مع انقسام الخلايا السرطانية وقامت بفصل هذه العملية، بعد ذلك ستنمان ودهول في سنة 1993 - وهم من واشنطن - طلبوا التصريح بعمل الشيء هذا، وأخذوا بعض البييضات المشوهة مع الحيوانات المنوية المشوهة وتصريح من لجنة الأخلاقيات للعمل عليها ونجحوا في عمل هذه الخطوة الجبارة، بمعنى أنه لو حصلت هذه الخلايا عندما تنفصل جدارها سوف تتهتك، فهم اخترعوا - وهو الجديد في الموضوع - الفصل ثم محاولة التئام الجدار مرة ثانية وذلك باستخدامهم بعض الطحالب البحرية وبعض الأنزيمات المختلفة بحيث أنهم استطاعوا أن يفصلوا هذه العملية وتوقفوا في بحثهم عند إنتاج 32 خلية لأن هذا سوف يصبح جنينًا بشريًّا، ولجنة الأخلاقيات عاقبتهم على هذا، وأمرت بتحويلهم إلى لجان تحقيق، لأن هذا البحث لم يكن مدرجًا ضمن المطلوب، لكن لجنة التحكيم أعطتهم أحسن جائزة على أحسن بحث.
بعد هذا أخذت جامعة أوريجون هذه التقنية وطورتها وأنتجت القردة التي تحدثت عنها، هذا هو الجزء الثاني من أنواع الاستنساخ.
النوع الثالث من الاستنساخ هو الاستنساخ الخلوي أو الجيني أو العضوي، هو عبارة عن حدث بدأ يدخل في موضوع البكتيريا. . تدخل الهندسة الوراثية وتغير الجين الموجود داخل هذه الأنواع من البكتيريا لتغير الوظائف الفيزولوجية الموجودة داخل هذه الخلية، ومن هذا الموضوع تم إنتاج الأنسولين البشري وبعض الهرمونات، وهي موجودة الآن تحت هذه المسميات، طبعًا يدخل تحت هذا البند أيضًا الحرب الكيماوية بتغيير بعض الصفات المختلفة لبعض أنواع البكتيريا بحيث إنها تعطي نتائج خطيرة جدًّا في الحرب.
بعد ذلك سوف أتعرض إلى أنه عندما قام هذا الموضوع أحدث ردود فعل عالمية، وهذه الردود اختلفت في كثير من البلاد؛ ففي بعض الدول الإسلامية أصبح هناك من طالب بمعاملته معاملة خطيرة، وكانت هناك ردود فعل قوية جدًّا، لكن العالم كله كان لديه ردود فعل، وكان هناك المؤيدون وهناك الرافضون لهذا الموضوع، المؤيدون للموضوع قالوا: إن السعي إلى تحقيق التوالد النسخي سيزود العلماء بكثير من المعلومات العلمية الأساسية عن تمايز الخلايا والسرطان والوراثة وما إلى ذلك، والأبحاث عن الاستنساخ سيتيح فرصة كبيرة للعلماء لاستكشاف الكثير.
فالاستنساخ ليس تدخلًا في المشيئة الإلهية لأن العنصر الرئيسي في الاستنساخ هو الخلية الحيّة وهي من صنع الله، وما تم هو الاستفادة من التقنيات الحديثة فقط.(10/1348)
الاستنساخ موجود أصلًا وهو جزء من الطبيعة، فمثلًا الأميبات وحيدة الخلية تتكاثر بالاستنساخ كذلك، وبعض الحيوانات مثل رفايوس البحر يتكاثر بالاستنساخ، وما تم هو الاستفادة من التقنيات وكشف أسرار الإنسان الحي.
دكتور غلاس هو أحد أساتذة أمراض النساء يقول: بأن هذا الموضوع سوف يفتح آفاقًا جديدة للتغلب على مشكلات الحمل سواء عند الرجال أو النساء باستنفاذ أجزاء المبايض أو الخصي البشرية مخبريًّا، والتعرف على أسباب عدم إنتاجها للبويضات والحيوانات المنوية للتغلب على ذلك.
أيضًا يضيف بعض أطباء أمراض النساء الذين يشجعون أبحاث الاستنساخ أن ذلك سوف يكشف الكثير عن أسباب الإجهاض المبكر التي لا تعرف أسبابه، أما اختصاصيو تحديد النسل يعتقدون بأنه إذا تم إيجاد كيفية تعرف الجنين على زرع نفسه في الرحم سيتمكنون من إيجاد وسيلة جديدة لمنع الجنين من الانزراع داخل الرحم، وبذلك يتوصلون إلى وسيلة جديدة لمنع الحمل.
اختصاصيو السرطان يعتقدون بأن ذلك سيفتح أمامهم طريقًا للتعرف على الأسباب وراء سرعة انقسام الخلايا السرطانية والتي تبين أنها تماثل سرعة انقسام الخلايا الجنينية، وبالتالي فإذا تم التعرف على طريقة معينة لإيقاف انقسام الخلايا الجنينية فإنه يمكن استخدام ذلك في وقف انقسام الخلايا السرطانية.
مجال آخر يثيره مؤيدو الاستنساخ وهو إنتاج الخلايا الجذعية (Stem Cell) هذه الخلايا لا يمكن تمايزها وبالتالي يمكن أن تتطور إلى نوع من الخلايا في الجسم، وهذه الخلايا لا تهاجم بالجهاز المناعي الشخصي للجسم، وذلك لسرعة تطورها إلى حالة لا تمايزية، وإذا تمكن الإنسان من الحصول على كميات كبيرة من الخلايا الجذعية يمكن استخدامها في علاج أمراض المخ والجهاز العصبي، وهذه كلها مجرد افتراضات نظرية لم يتم إجراء التجارب عليها ولم تثبت أمام البحث العلمي، كما يمكن استخدام الاستنساخ في المسح الجيني وفي حالة إصابة أحد الوالدين.
التحكم بجنس الأطفال في المستقبل حسب الظروف العائلية.
إنتاج مجموعة من الأشخاص المتطابقين لأداء مهمات خاصة سواء في الأعمال أو الحروب.
تحقيق الرغبة البشرية في حق الفرد في تحقيق ذاته، إما من خلال إنتاج نسخة متطابقة له، أو إنتاج وليد بمواصفات خاصة؛ ويثيرون بأن الرغبة البشرية يجب أن تنزل منزلة التطور.
ومؤيدو هذا البحث يقولون إنه لن يتقدم إلا إذا أعطي الحرية الكاملة في الانطلاق، وإلا فلن يكون للحياة آثاره في التطبيق وإخراجه إلى حيز الوجود، يرد المؤيدون على المعارضين بأن وجود نسخ عديدة للشخص سوف تدفع هذه النسخ إلى البحث عن التمايز ليكون لكل نسخة شخصيتها وأسلوبها في الحياة مميز عن غيرها.
التزاوج بين الهندسة الوراثية والاستنساخ سيؤدي إلى إنتاج أجيال صحيحة معافاة من الأمراض.(10/1349)
إنتاج نسخ جنينية لكل شخص تُجَمَّد وتخزن وتحفظ وتستخدم وقت الحاجة خاصة للمصابين بالأمراض.
المؤيدون يبررون أعمالهم وتجاربهم بأنها تجرى على خلايا جنينية، وفي رأيهم بأنها تمثل الحياة الباكرة للجنين ويجب احترامه وتطبيق العقوبات على من يعتدي عليها، بينما المعارضون يرفضون هذا الرأي ويعتبرون هذه الخلايا لا حرمة لها ولا تتمتع بالحرمة البشرية التي يثيرها رجال الأخلاقيات.
هذا ما يثيره المؤيدون للاستنساخ، أما المعارضون فيعترضون على ذلك وأن ذلك سوف يؤدي إلى خلط الأنساب وإلى عدم تمايز الشخصية. الرافضون لهذا الموضوع يقولون: إن هناك تشويشًا كبيرًا سوف يحدث الاعتداء على ذاتية الفرد، وقد يؤدي ذلك إلى تغيير طبيعة العلاقة بين النسيخ وأصحاب الخلية والبييضة تغيرًا جذريًّا، والخوف من استمرار طابع وراثي معين، وهذا قد يؤدي إلى مخاطر جمة وانقراض البعض وسيادة البعض الآخر.
- الخشية من تأييدنا لإنسانيتنا وهو أمر وارد حتمًا، بينما تميز الإنسان بذاتيته لا يمكن إنتاجه بصورة تشبه إنتاج قطيع الأبقار أو الخراف.
- الخوف من إنتاج أشباه البشر واستبدالهم إما في مجال أعمال معينة أو لإنتاج قطع الغيار البشرية.
- الخوف من أن يمزج نسيج مشوه تشويهًا كبيرًا فما العمل حياله؟ هل يقتل أم يبقى؟ ومن المسؤول عن ذلك؟
- وصول هذه التكنولوجيا في أيدي أحد الزعماء الدكتاتوريين، وعواقب ذلك على العالم، ويربطون ذلك بالتكنولوجيا النووية والقنابل الجرثومية التي أصبحت في متناول أيدي الجميع.
- سهولة إجراء الأبحاث إذا تم تملك التقنية، وفي هذه الحالة فيمكن أن تتم في الدول النامية ومخاطر ذلك كثيرة في استخدامهم كحقول للتجارب.
النقطة الأخيرة - وهي من المعارضين - أن العمر الافتراضي للنسيج غير معروف، إلا أن المؤيدين يقولون إنه إذا كان هذا العمر الافتراضي مثلًا عمر (دولي) هل سيكون استكمالًا لعمر أمها أم عمر جديد؟ وهنا يثير المؤيدون للاستنساخ أنه إذا حدث أنها عاشت عمرًا جديدًا فسيتم التعرف على أسباب الشيخوخة، لأن الخلية تكون قد تجددت، ولا بد من البحث حول كيف عادت العناصر الأساسية الموجودة داخل الخلية والنواة إلى شبابها مرة ثانية وأنتجت هذا الجيل؟ وبالتالي يمكن التغلب على الشيخوخة.
- مخاطر تعرض الإنسان للظروف البيئية المختلفة قد تؤدي إلى ظهور أمراض خطيرة في الجنس البشري لا يمكن السيطرة عليها، فمثلًا الإنسان في عمر حياته بعد سن الخمسين إذا أخذنا خلية من جسمه تعرض إلى مشاكل كثيرة جدًّا هذه المشاكل من إشعاعات ومواد كيماوية وغير ذلك، هذه المواد يمكن أن تؤثر على إنتاجه هو، فعندما تؤخذ خلية منه يمكن أن يظهر أفراد جدد هي غير موجودة في الأب أو في صاحب الخلية نفسها.
هناك مخاطر قانونية ونفسية واجتماعية ستعاني منها المجتمعات، في الحقيقة موضوع الاستنساخ كانت له آثار على النبات ويحاولون الآن استخدامه في الحيوانات.(10/1350)
نتائج استخدامه في النبات كثيرة جدًّا فهناك المحاصيل الوفيرة ذات الصفات والجودة العالية المقاومة للفيروسات والبكتيريا ودرجات الحرارة، وبالتالي يمكن في هذه الحالة الاستفادة خاصة أمام قلة الأراضي المزروعة وكثرة السكان، إلا أن هناك المعارضين أيضًا يثيرون نقطة هامة، وهي أن هذا الموضوع له مخاطره، وطالبت جمعيات كثيرة بأن يوضع على هذا الإنتاج أنه لم ينتج إنتاجًا طبيعيًّا 100 % ويجب أن يوضع في مكان خاص به ويعلن عن ذلك بأنه غير منتج طبيعيًّا، منظمة الصحة العالمية لم تتخذ قرارًا بهذا الموضوع، إدارة الأدوية والأغذية الأمريكية أيضًا لم تتخذ قرارًا ضد هذا الموضوع، وتركته حتى الآن، لكن ظهرت بعض الآثار الجانبية ومنها زيادة الحساسية عند بعض الناس الذين يستخدمون هذه المنتجات.
لذلك فإن هناك مخاطر يجب ألا تغفل في هذا الجانب.
الانعكاسات في الساحة العالمية كانت كثيرة، فمثلًا في الولايات المتحدة الأمريكية أصدر الرئيس كلينتون قراره بوقف هذا الموضوع مؤقتًا وشكل لجنة من ثمانية عشر شخصية لوضع الأسس العلمية وتقديم تقرير عن هذا الموضوع، اللجنة طلبت وقف - فقط - تمويل الحكومات الفيدرالية لميزانيات الأبحاث في مجال الاستنساخ البشري فقط، لكنها تركت الباب مفتوحًا أمام التقنيات الأخرى لتطوير هذا، وأيضًا هي قررت أن تترك الباب مفتوحًا أمام الأبحاث الخاصة بعملية الاستنساخ حتى يمكن التعرف على كثير من هذه المواضيع.
البرلمانات الأوروبية أصدرت تشريعًا بوقف هذا الموضوع، لكن رغم التحفظ على وقف هذا الموضوع فإن هناك القطاع الخاص الذي سوف يستطيع أن يقوم بعملية تمويل الأبحاث في هذا المجال وستظهر نتائج هذا الموضوع في القريب، وأنا قلت مثل شركة PPL التي مولت إنتاج دولي، وبعد الإعلان عن إنتاج دولي زادت أسعار أسهمها بحوالي 15- 30 % وذلك في ثاني أوثالث يوم.
إذن نحن أمام مخاطر كثيرة وأيضًا أمام فوائد كثيرة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وشكرًا لكم على حسن استماعكم.(10/1351)
الدكتور صالح الكريم:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونصلي ونسلم ونبارك على حبيبنا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أشكر لمعالي الأمين العام دعوته لي للتحدث عن موضوع الاستنساخ، في البداية أحب أن أحدد بعض المصطلحات.
فالهندسة الوراثية هي جزء من عملية التقنية الحيوانية , والهندسة الوراثية في جزئية منها في تطبيقاتنا تعتبر فعلًا أحد أنواع الاستنساخ، طبعًا الاستنساخ عندما جاء كموجة عالية على العالم الإسلامي من تطبيقات في معامل الوراثة، لقربي من التخصص كنت أعتبر الموضوع طبيعيًّا جدًّا وليس هنالك أي بعد خلقي أو تدخل بشري في خلق أدق الكائنات البسيطة، لذلك كان بالنسبة لي أن أستعرض بنوع من التفصيل لكل حالة من الحالات.
طبعًا عملية الاستنساخ تدور كلها حول النواة، النواة موجودة، هذه خلية حقيقية تحت المجهر وتبين لنا أين تسكن مادة الإنسان أو الحيوانات، تسكن في داخل النواة من الخلية نفسها، في داخل النواة يضع الله- سبحانه وتعالى - سرًّا من أسراره في الخلق وهي مادة DNA , هذه المادة إذا نقلت وهيئت لها في بيئة أخرى فإنها ستعمل بنفس الكيفية الموجودة فيها الخلية. هذه الكروموزومات تختلف عادة من كائن إلى آخر - كما ذكر - في النساء 46 من الكروموزومات، في ورق الفاكهة 8 في البازلاء 14، وهكذا نجد عددها يعتبر تصنيفًا نوعيًّا أو محددًا لكل كائن من الكائنات الحية.
أنا دخلت مباشرة لتعريف الاستنساخ وهو موجود في بحثي وكان عنوانه (الاستنساخ: تقنية، فوائد، ومخاطر) ، وندخل على تطبيقات الاستنساخ، هناك ثلاثة أنواع للاستنساخ، هي:
1 - الاستنساخ الجيني.
2 - الاستنساخ الخلوي.
3 - استنساخ أجنة.
وكل نوع من هذه الأنواع له تطبيقاته، وأيضًا له فوائده وله مضاره.(10/1352)
أولًا: الاستنساخ الجيني يطبق من خلال علاقة مباشرة بأن نقطع أجزاء من المادة الوراثية، الكروموزومات الموجودة هذه نقطع أجزاء منها وننقلها إلى نواة أخرى، يعني له ارتباط في انتزاع جينات معينة، كلنا يعرف أن الجينات هي التي تحمل الصفات والخصائص والحركات ونبرة الصوت، كل الصفات الدقيقة توجد أصلًا في الجينات أو الكروموزومات - الصور التي رأيناها قبل قليل - هذه الكروموزومات لو نحن أخذنا واحدًا منها وقتلناه نجد فيه آلاف مؤلفة من الجينات، هذه الجينات بقدرة الله هي التي تحدد الصفات والخصائص لكل كائن.
في الإنسان تجد أن لكل شخص توجد فيه جينات فاعلة ونشطة وتعمل ولكنها مفقودة عند شخص آخر، طبعًا هناك نظرية حديثة في مجال الوراثة وهو أن كل ما يخص الجينات البشرية موجودة في كل نواة من هذه الناحية، لكن التي تعمل منها مجموعة وتترك الباقية نائمة وهكذا، فإذن ما يسكن في داخل النواة من الكروموزومات ومن الجينات هي حاملة لكل الصفات البشرية، ولذلك توقفت عند حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا استقرت النطفة في الرحم جمع الله ما بيننا وبين آدم من نسب، فطبعًا هذه النظرية تذكر أن هنالك جينات نشيطة وتعمل وتبين الخصائص مثل لون الشعر والصفات والوجه، وهي أيضًا موجودة صفات فلان وفلان في نفس النواة هذه لكنها غير فاعلة.
تطبيقات الاستنساخ:
ذكرنا أن للاستنساخ ثلاثة أنواع منها الاستنساخ الجيني وهو أن نأخذ أجزاء من الكروموزومات أو الجينات وننقلها، هذا هو النوع الأول وهو له تطبيقات عديدة وكثيرة منها، في مجال الزراعة والنبات، وتم إنتاج أكثر من خمسين نوعًا نباتيًّا، وذلك عن طريق الهندسة الوراثية والاستنساخ الجيني، وهي ذات فوائد كثيرة منها: طريقة نقل الـ DNA أو الجينات، بحيث يدخل الجينات المراد إدخالها أو قطع الكروموزومات داخل الخلية النباتية، طبعًا هذه القطع التي تم اختيارها تكون ذات صفات وخصائص ممتازة ومرغوب فيها ومطلوبة، وبالتالي يتم نقلها إلى نواة خلية نباتية ثم بعد ذلك تزرع مرة ثانية ثم تترك لتعطي نسخًا منها، وهنا يأتي معنى الاستنساخ.(10/1353)
هنا بعض النتائج ونقل بعض الجينات نفسها يحسّن لنا أنواع النبات بحيث يمكننا إنتاج سلالة من النبات مقاومة للآفات ومقاومة للمبيدات الحشرية وتعطي ثمارًا جيدة مقاومة للتلف.
المجال المهم للإنسان أكثر هو الاحتياج للدواء، فبطريقة الاستنساخ الجيني يتم الآن الحصول على كميات كبيرة من الأنسولين، طريقة الأنسولين البشري طبعًا أخذوا الجينات الخاصة بإنتاج الأنسولين وزرعت في بكتيريا تسمى بكتيريا القولون، هذه البكتيريا لها قابلية على أن تستزرع في داخلها الجينات الخاصة بإنتاج الأنسولين، وبالتالي تنتج عندنا إنزيمات بكتيريا القولون، ونجد طبعًا في داخلها مزروعة أو منقول إليها الجينات الخاصة بإعطاء الأنسولين، وطبعًا هنالك الكثير من الأدوية الأخرى وهذا نموذج.
أيضًا يستخدم استنساخ الجينات أو نقل الجينات وزراعتها في معالجة الأمراض الوراثية، ومن السهل الآن للكثير من الأطباء أن يجدوا من خلال أخذ خلايا معينة للجنين، وبالتالي يحددوا أين توجد المعطلة الوراثية أو التشوه الوراثي، ويعالج من خلال استنساخ أو زرع الجينات المعالجة للمرض نفسه، ومن هنا يتم نقلها من خلايا في السرة، وتنقل وتعامل وتدخل الجينات إلى الخلية المطلوبة، ثم تعاد إلى الجنين مرة ثانية، وهذه طبقت في عام 1991 م ونجحت فعلًا.
أيضًا الاستنساخ الجيني يستخدم في شيء نسميه الحصول على حيوانات مهندسة وراثيًّا أي معدلة وراثيًّا، بمعنى أن نحصل على خلايا ونرغب في جينات معينة لنقلها، ونستزرعها في نفس الجنين ويعطي حيوانات مهندسة وراثيًّا تحمل الإنتاج الخاص بالجينات التي زرعت فيها، وهذه طبعًا نجحت في استزراع عوامل النمو، بحيث يتم أخذ الخلية ويزرع فيها ثم تعاد مرة ثانية تحت الجلد، ونجد بعد ذلك أنه ينتج عندنا عوامل النمو المطلوبة.
طريقة الحصول على الحيوانات المهندسة وراثيًّا إما أن تتم بأن نستزرع عدة أعضاء للخلايا، وذلك في الفئران والأرانب وغيرها، وينتج عندنا الجنين من عدة آباء، ويحصل فيه بعض الصفات والخصائص المطلوبة.
هذا طبعًا إذا تم من خلال نقل الخلايا نفسها والذي هو النوع الآخر الذي نتكلم عنه وهو الاستنساخ الخلوي، لكن قد يتم أيضًا النقل من خلال استزراع الجينات المطلوبة نفسها، وتعاد مرة ثانية ضمن الخلايا الجنينية وهذه أيضًا نجحت، بمعنى أنه لو أخذنا خلية معينة واستزرعنا فيها الجينات المطلوبة كما في استزراع الحليب البشري في الأبقار ونجح، وهذه تمت من خلال استزراع الجنين نفسه أي استزراع الجينات نفسها، استزراع الجينات كيف يتم؟ الآن بعض العلماء حديثًا قالوا: إنه يتم من جين إلى جين هذا خاص بالحليب البشري وتؤخذ الجينات هذه نفسها وتستزرع ضمن خلية، الخلية تدمج مرة ثانية مع البلاستولا يكون الناتج النهائي أنه الجينات تعمل في الأخير في الحيوان نفسه، وهذا مجال كبير وواسع، يمكن عشرة سنين العلماء قطعوا شوطًا كبيرًا جدًّا ويستفاد منه الكثير، وذلك من خلال الحيوانات المهندسة أو المعدلة وراثيًّا، بل إنه أصبحت تصنف بأن هذه السلالة من كذا وهذه السلالة الجديدة من كذا وأن أي باحث يريد أن يعمل لا بد أن يعطى الضوء من خلال معرفة بطاقة شخصية للحيوان المهندس وراثيًّا نفسه.
هذه طبعًا مجموعة من الحيوانات المهندسة وراثيًّا.(10/1354)
إذن هذا النوع الأول الذي تحدثنا عنه وهو الاستنساخ الجيني، الاستنساخ الذي له علاقة باستنساخ الجينات بعد استزراعها في الخلايا نفسها.
النوع الآخر الذي نسميه الاستزراع الخلوي، أي أننا نحدد من خلال تقنية زراعة الخلايا والأنسجة الخلايا المطلوبة المعينة عندنا وبالتالي نستزرعها، وبعد ذلك تؤخذ خلية، هذه الخلية تبقى معروفة، وهذه تستخدم في إنتاج المضادات وحيدة النسيلة، هذه طبعًا تستخدم كثيرًا في علاج أمراض المناعة وكذلك في زراعة الأعضاء، لأن التثبيط الناتج يحصل على المضادات، وتعطى للمريض الذي ليس لديه أي مناعة في جسمه لاستقبال أي عضو، وهذه تستخدم فيها فعلًا ويسمى الاستنساخ الخلوي وحيد النسيلة ويتم تحديد خلية معينة، ويركزون عليها ويضعوها في زراعة معينة وفي بيئة معينة يعرفون مواصفاتها ويحددون أنشطتها، وتعطى بعد ذلك بعض المواد بدورها تنتج الأشياء التي ضد النواحي المناعية، وبالتالي تعطى للمريض، وهذه يستفاد منها طبيًّا كثيرًا.
أيضًا هذه صورة لمجموعة من الخلايا التي تستنسخ.
الاستنساخ الخلوي مهم جدًّا في عملية تفسير معضلة السرطان أو مقارنة الخلايا الجنينية والخلايا السرطانية.
مما هو معروف علميًّا بأن هنالك تشابهًا كبيرًا جدًّا جدًّا بين الخلايا الجنينية والخلايا السرطانية، وهذا التشابه حير العلماء وجعلهم يركزون أكثر، واستزرعوا خلايا سرطانية في ضمن أجنة عادية ليروا هل تعطي أم لا؟ تصور أنت تضع هنا خلايا سرطانية ضمن خلايا جنينية، هذه الخلايا الجنينية تذوبها ولا يكون لها أثر أو وجود لهذه الخلايا السرطانية، والعكس أيضًا، فهنالك إذن عوامل متبادلة بين الخلايا السرطانية والخلايا الجنينية قد تكون هذه العوامل على مستوى النواحي الفيزيائية الكيميائية، إلا أن العلماء لم يعرفوها، إن استخدام الاستنساخ الخلوي يساعد على التعرف على معضلة السرطان، أيضًا الخلايا الخاصة بالجنين وتحدد من خلال اختبارات معينة. . . ثم بعد ذلك تعالج من خلال معاملتها، هذه الخلايا من الكبد نسميها الأستنسل أو الخلايا الجذعية، الخلايا الجذعية عبارة عن خلايا جنينية صرفة تعطيك أي نوع من أنواع الخلايا، فعند معالجة أو تحديد الأمراض الوراثية إذا كان يحتاج معالجتها مثلًا خلايا من الكبد تؤخذ بعض الخلايا من الكبد للأطفال المجهضين وتستزرع مرة ثانية في الأجنة قبل ولادتها وتتجه مباشرة إلى الكبد وبالتالي تغطي المرض الوراثي الموجود.(10/1355)
النوع الثالث هو استنساخ الأجنة:
يتم استنساخ الأجنة من خلال الأنسجة، هذا الكلام قبل خمسين أو ستين سنة. أحد العلماء اسمه سنيمان والثاني لينتون، والملفت للنظر أن العلماء في أسكتلندا هم أكثر الناس قربًا (أو لهم باع طويل) في قضايا الاستنساخ، لذلك كانت ردة الفعل في أمريكا وغيرها قوية لأن هنالك ممكن في أسكتلندا وفي المعهد هذا بالذات هو المكان الذي ولد فيه الاستنساخ والمتابعة، وهنالك طبعًا قضايا لها سريتها الكبيرة ولا يمكن الإعلان عنها بسهولة، فقبل أن تنتج عملية استنساخ الأجنة لا تجد استنساخ أجنة نسميها في كتب الأجنة كلها مذكورة، وفي كتابي أيضًا ذكرت استنساخ أجنة من خلال قطعة بسيطة، نأتي إلى الجنين هذا مثلًا ونأخذ جزءًا بسيطًا ونستزرعه في بييضة ثم تجده يعطينا جنينًا، وهذه طبعًا نال عليها سنيمان جائزة نوبل.
وهذه الصورة تبين بأننا نأخذ جزءًا من جنين ونضعه في جنين آخر ويعطي أيضًا جنينًا ملاصقًا.
فإذن كان على مستوى , قبل خمسين سنة , على مستوى نقل نسيج بسيط مجموعة من الخلايا تعطي جنينًا كاملًا.
نأتي إلى استنساخ الأجنة، في الحقيقة استنساخ الأجنة ثلاثة أنواع وهي:
- استنساخ الأجنة بفصل الخلايا، عندما نقول: فصل الخلايا معناه أن هناك حيوان منوي هذه صورة حقيقية وأيضًا هناك بييضة، طبعًا الملفت للنظر هو أن الحيوان المنوي لا يحمل إلا رسالة المادة الوراثية التي تتجه بعد ذلك إلى النواة نفسها، بينما البييضة نفسها تحمل سيتوبلازم وتركيبات داخلية.
لاحظوا هنا أن الحيوان المنوي عندما يدخل إلى النواة ويتجه أيضًا إلي نواة البييضة.
وفي حالة أخرى يتحد الاثنان مع بعضهما ومنهما ينشأ التكوين ويخلق الله - سبحانه وتعالى - يعني من المادة الوراثية من الأب 23 كروموزومًا وأيضًا من الأم 23 كروموزومًا، ومن خلالهما يتم الدمج ويخلق الله - سبحانه وتعالى - الجنين.
وفي حالة أخرى أيضًا، هذه أربع خلايا البييضة الأولى التي رأيناها بعدما اندمجوا مع بعضهم يكوّنون البييضة المخصبة والتي هي سوف تعطي الجنين، تبدأ بعد ذلك عملية الانقسام، الانقسام الأول عبارة عن خليتين، الانقسام الثاني فيه أربع خلايا، بعد ذلك، هذه اثنان، أربعة، ثمانية، ستة عشر، اثنان وثلاثون، أربعة وستون، مائة وثمانية وعشرون، وهكذا، ما هي ميزة هذه الخلايا؟ ميزة هذه الخلايا بأنها تستمر خلايا نسميها بأنها غير متمايزة، لو أخذت أي خلية من هذه الخلايا واستزرعتها تعطي جنينًا، هذا النوع استفاد منه العلماء في الإنتاج الحيواني وأيضًا طبق على الإنسان عام 1993، بمعنى إذا أخذنا أي خلية فإنها تعطي جنينًا، إذن يستنسخ منها، ممكن أن ينتج من خلالها 128 نسخة متطابقة لأن المادة الوراثية واحدة قادمة من أب واحد ومن أم، ومن 23 و 23 من جهة واحدة، وفي حالة أخرى نرى أن هذا النوع يشبه التوائم المتطابقة، لأن عندنا نوعين من التوائم وهما: توائم غير متطابقة (عادية) وتتكون من حيوانين منويين ويخصبان بييضتين، كل حيوان منوي يخصب بييضة، لكن النوع الثاني (التوائم المتطابقة) والتي تكون مواصفاتهم واحدة هو أن حيوانًا منويًّا واحدًا يخصب بييضتين، ثم تنقسم مثل ما رأينا قبل قليل ثم يحصل في داخل المرأة أنه ينزل إلى الرحم بعد عملية الفصل، الخلايا تنفصل عن بعضها بعد عملية تلقيح الحيوان المنوي للبييضة وبالتالي يعطي توائم متطابقة.(10/1356)
الاستنساخ بطريقة فصل الخلايا توائم متطابقة 100 %، لذلك تعاد مرة أخرى إلى الرحم، أي خلية أخذناها يصبح عندنا جنينًا.
طريقة فصل الخلايا تم تطبيقها على الضفادع ونجحت، وكذلك على الفئران والأغنام، والآن تستخدم كطريقة في كثير من المعامل.
أيضًا هذه طريقة إنتاج أبقار بطريقة فصل الخلايا.
نأتي إلى النوع الثاني من الاستنساخ والذي فيه كثير من الناس لا يعرفونه وهو الاستنساخ الخاص بتنشيط البييضة، والذي أسميه أحيانًا أطفال العذارى أو الإنتاج بدون الحاجة إلى الحيوان المنوي، هذا طبعًا تم تطبيقه في الحيوانات وهي الضفادع والفئران، لكن لم يتم إلى الآن تطبيقه في الأغنام والأبقار، من خلال عامل: معين شرارة كهربائية، مادة كيميائية معينة؛ يحث بييضة فقط دون وجود حيوان منوي وتنشط البييضة وتنقسم ثم تعطي حيوانًا، طبعًا هذا يلفت أنظار كثير من العلماء، وإلى الآن لم يعرفوا ما هو السبب، لماذا دون الحاجة إلى حيوان منوي؟ ربما يكون لعامل آخر يحاكي ما يفعله الحيوان المنوي ويؤثر، وبالتالي ينتج الجنين، الفرق طبعًا بين الاستنساخ هذا والاستنساخ السابق هو أن مجموعة الكروموزومات الموجودة التي تنتج، لو كانت الخلية خلية جسدية تجد أن عدد الكروموزومات 23 كروموزومًا، بينما فصل الخلايا 46، والشيء الآخر أنه يعطي حيوانات عقيمة والشيء الآخر أنها مشوهة، إنما الذي حصل بالضبط أنه ينتج حيوانات في النهاية لكن قليلة.
النوع الأخير من الاستنساخ هو استنساخ (دولي) وفكرته طبقت عام 1956م، وطبقت على استنساخ من خلايا البلاستولا، يعني مرحلة جنينية مبكرة، أخذوا خلايا البلاستولا وطبقت.(10/1357)
النوع الأخير والذي كانت عليه ضجة كبيرة وهو الاستنساخ بطريقة زراعة النواة الجسدية في بييضة منزوعة النواة، بمعنى أنه يجمع بين الاستنساخين، وهو أنه لا يوجد عندنا حيوان منوي وأيضًا تكون النسخ متطابقة، فعندنا - طبعًا - تم تطبيقه في حيوانات الضفادع والفئران والأغنام، طبعًا فكرته مشروحة وموجودة.
الحالة التي بعدها، هذه طبعًا عصر استنساخ البشر، من الناحية العلمية النظرية ما طبق في الحيوان يطبق على البشر، لكن المحاولات كما سبق مثل ما رأينا 277 مرة، هو قد يكون ابتدأ بالصدفة، لكن القضية قضية موافقة النواة للبيئة السيتوبلازمية، فإذا استطاعوا أن يتوصلوا مثل (ويل موت) استطاع أن يجعل النواة تكون ساكنة في عملية الطور الانقسامي، فكأنه وفق بينها وبين السيتوبلازم الذي نقلت إليه البييضة، وبالتالي حقق النجاح وهو لا يعلم أنه حققه، وإذا توصل العلماء إلى لمس خيوط هذا الموضوع فإنه سيتم الاستنساخ البشري.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
هذه القضية التي ظهرت بقوة في عامنا هذا في السابع والعشرين من شهر فبر اير 1997 م، والتي كما قيل في المتنبي: أنها شغلت الناس وملأت الدنيا، وقد كتبت فيها بحثًا إلا أنني سأقتصر على بعض النواحي التي أراها أهم، طلبًا للاختصار.
فأقول: إن الدوائر التي تدخل الإنسان فيها في الاستنساخ والتوأمية هي ثلاث دوائر:
الدائرة الأولى: تدخل الإنسان في عالم النبات.
ثانيًا: تدخل الإنسان في عالم الحيوان.
ثالثا: تدخل الإنسان في البشر ذاته، أي في الإنسان ذاته.(10/1358)
أما الاستنساخ في عالم النبات فقد فتح أبوابًا للعلماء للحصول على الفسائل بأقصر طريق وبأقل ثمن مع الاطمئنان على نوعية الأثمار وخصائص الشجرة التي ستكون كالأصل المأخوذة منه في قوتها ومقاومتها الأمراض ووفرة عطائها ومذاقها، وفي هذا الميدان فإن الأمر الهام هو تكوين المختصين في البحث، وتمويل المخابر العلمية، وحفز الهمم للمضي قدمًا في هذه السبيل، فصيحات الفزع من الانفجار السكاني العالمي والخوف من المجاعات ومن اختلال التوازن بين عطاء الأرض والأفواه قد تصبح رؤى أحلام تبددها خصوبة يقظة العلم تحقيقًا للإرادة الإلهية، ولإذنه السامي في تسخير الأرض للإنسان في حياته الدنيا.
الد ائرة الثانية: الاستنساخ الحيواني:
وقد ظهرت هذه النعجة (دولي) وأثارت سيلًا عارمًا من الأسئلة فكان السؤال الأول: هل يعتبر هذا العمل تحديًا للقدرة الإلهية؟ هل أصبح الإنسان خالقًا، خلق خلقًا كخلق الله؟
هذه القضية التي تحدى بها القرآن الذين اتخذوا آلهة من دون الله {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ، فالقرآن يؤكد في غير ما آية هذه الحقيقة التي هي عجز كل مخلوق أن يقدر على الخلق وها هو الإنسان قد وصل إلى الخلق!
إن تصور ما قام به هؤلاء العلماء أنه خلق هو تصور خاطئ ينبئ عن سذاجة من توهمه، ذلك أن غاية ما قاموا به أنهم درسوا قوانين الخلق الإلهي ووعوها وقاموا بتطبيق ما علموا على ما عملوا، فهم لم يوجدوا خلية ولا نواة ولا كروموزوما، وليس لهم أي تحكم في قسر الخلية على الانقسام والتكاثر لمجرد الإرادة والتسلط، فهي سلسلة متتابعة في التوالد عرفوا كيف يدخلون عليها عوامل من خلق الله ليحدث ما يحدثه الله أرادوه أو لم يريدوه.
والسؤال الثاني في هذه القضية عن (دولي) : لماذا هذا المجهود؟ ولم تصرف هذه الطاقات البشرية؟ أليس هذا عبثًا؟
إننا لا نفهم القصد من هذا العمل إلا إذا نظرنا إليه من زاوية الربح المادي المترتب عن ذلك، إن هذه الحيوانات التي أمكن للعلماء أن يتدخلوا في خليتها الأولى بإبرهم المكروسكوبية قد تمكنوا حتى قبل هذه التجربة من أن يضموا إلى الكروموزومات جين إحدى البروتينات الصالحة لمعالجة بعض الأمراض، وأعطت هذه الحيوانات في ألبانها كمية كبيرة من هذه البروتينات وصلت إلى خمسين نوعًا في سوق الدواء كلها مستخلصة من ألبان النعاج والمعز، والخنازير، حتى قالوا إنها منجم لا ينضب لاستخلاص ما ينفع الإنسان ويداوي أسقامه، ولكن منظمة الصحة العالمية أيقظت العالم من مركز مسؤوليتها على الصحة العالمية إلى ما يمكن أن يصحب هذا المنهج في التحصيل على الدواء من مضاعفات سلبية قد تكون خطرًا على الإنسان.(10/1359)
إن ظاهرة التسرع في عرض الأدوية الجديدة للرواج العام أمر يدركه أهل الاختصاص وغيرهم، فقد حصل في هذه السنوات الأخيرة أنه يسحب من الأسواق أنواع من الأدوية كشفت التجربة عن آثارها السيئة على الصحة بعد أن استهلكها المرضى وعلقت آثارها السيئة بأبدانهم، واستقل أصحاب البراءة بالغُنم، ولكن وسائل الإعلام تعتم على هذا الجانب السلبي ولا تتولى نقده وإثارة الرأي العام العالمي، حتى يكون سندًا لاستصدار ميثاق عالمي للأدوية، يكون الإنسان وصحته الغاية التي تحكم ترويج الأدوية، وليس وسيلة تشبع جشع الشركات الكبرى المصنعة للدواء.
إن تجربة (دولي) ينظر فيها من نواح عديدة.
أولًا: باعتبار أنها تجربة تعطي للمختصين من إمكانات أوسع لاستخراج أدوية جديدة تساعد على الشفاء من أمراض ما تزال لحد اليوم مستعصية على العلاج، أعجرت الأطباء عن تخفيف آلام المصابين أو إنقاذ حياتهم، ومن هذه الناحية فإن التجربة مشروعة والاستمرار فيها لتبلغ الدقة اللازمة لا يختلف حكم ذلك عن حكم تصنيع بقية الأدوية لنفع الإنسان.
كما ينظر فيها ثانيًا من ناحية اتخاذ الحيوان وسيلة وحقلًا للتجارب، وهذا أمر مشروع لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} . كما ينظر فيها ثالثًا على أساس أن ذلك مستوى علمي ستظهر الحاجة إليه واعتماده، فينقلب السعي إلى بلوغ ذلك المستوى واجبًا كفائيًّا على الأمة على ما حققه أبو إسحاق الشاطبي رضي الله عنه من أن المباح أو المندوب بالجزء ينقلب واجبًا بالكل.
الاستنساخ لتحسين النوع:
إن الاستنساخ لتحسين النوع يجب أن يحرم إدخاله في حياة الإنسان إلا بعد أن تمضي مدة كافية تنفي كل احتمال ضرر للإنسان من تناول لحم أو لبن الحيوانات التي تمت بواسطة الاستنساخ، حسبما يقرره الخبراء الذين لا تربطهم صلة بالمخابر، باستمرار المراقبة الحازمة جيلين أو ثلاثة، حتى نطمئن على سلامة صحة الإنسان، وأنه لا يمكن أن تظهر أعراض متولدة عن التناسخ ضارة.(10/1360)
الاستنساخ البشري:
تاريخه: منذ القرن الماضي، أخذ الطب يتدخل في الإنجاب أو في التكاثر البشري، ففي سنة 1884 م تم في أميركا الشمالية حقن كمية من المني داخل الرحم لستر عدم خصوبة الزوج، وبقيت هذه الطريقة عندهم محاطة بالسرية الكاملة، فلا يعرف المانح أين ذهب ماؤه، ولا تعرف المرأة صاحب المني، ولما تمكن العلماء من تجميد اللقاح تيسر انتشار هذه الطريقة في الخمسينات، وهذا محرم في نظر الإسلام، واختلاط للأنساب.
وفي سنة 1978 تطورت التقنيات فتمت ولادة لويز براون، بتخصيب بييضة أمها باللقاح خارج الرحم - في بريطانيا - واستمرت هذه التقنيات في حالات كسل الحيوانات المنوية أو قلتها أو في حالة انسداد قناة فالوب موعد اللقاء والاندماج بين البييضة واللقاح، أو بغير ذلك من النقائص.
وفي سنة 1983 وصلت التقنيات لتجميد اللقائح، الأمر الذي مكن من الاحتفاظ بها لمدد طويلة، فاتسعت دائرة استخدام طريقة الحمل بواسطة زرع هذه اللقائح في الرحم بعد تحريكها من جديد لتبدو الحياة الكامنة فيها.
وفي سنة 1993 تمت أول محاولة للاستنساخ البشري في الولايات المتحدة الأمريكية على الطريقة التوأمية، وتم الإعلان عنها في مؤتمر الخصوبة الأمريكية بمدينة مونريال.
وأعلن العالمان اللذان قاما بها أنهما عزما من أول الأمر أن تكون تجربتهما - خوفًا من النتيجة - تقف عند حد محدود، ولا تنتهي إلى غاية المدى الذي تصل فيه اللقيحة إلى إنسان مكتمل الخلق، ذلك أنهما خصبا البييضة بأكثر من حيوان منوي، فأصبحت بذلك محكومًا عليها سلفًا بالتوقف عن الانقسام والموت، وأشاد المؤتمرون بتجربتهما واعتبرت أفضل ما قدم في المؤتمر.
وما أن أطلت (دولي) تغازل البشرية أو تتحداها حتى ملأت الدنيا وشغلت الناس، وحق للإنسان أن يشعر بالخطر الداهم من الزلزال الذي سيدك كل ما بنيت عليه البشرية من قيم وأخلاق وروابط اجتماعية.
إن القرن العشرين الذي ورث حصاد ما زرعه الفكر الإنساني في حقل المعرفة من أول الكون إلى اليوم، قد تمرد فيه العلم تمردًا أعماه عن البصر بدوره الذي هو إسعاد البشرية، فعزل الغاية، وقصر همه على ذاته، فانطلق بدون هدى يهديه ولا قيم تحكمه، يبني ويهدم ويعمر ويخرب، ويستعبد الإنسان ثم يرمي به في زاوية العجز ليقضي عليه.(10/1361)
إن قرننا هذا هو قرن الزلازل، فما إن انتهى النصف الأول حتى فجر العلماء ما خلق ليكون ملتئمًا، فجروا الذرة، فكان للفيزياء الدور الرائد، وتسابق رجال السياسة للبذل السخي على تطوير البحوث والتجارب وخزنوا من قوة التدمير ما يكفي لإفناء الأرض وما عليها مرات متوالية.
ويكفي أن يتسرب حتى الشعاع من مفاعل ذري - قالوا إنه للسلم والحياة المدنية السهلة - حتى يقضي على الحياة.
وما أن استيقظ العالم مما جرفتنا له العلوم الفيزيائية حتى قامت العلوم البيولوجية تأخذ صدارتها في نهاية هذا القرن، مؤذنة بانهيار كل القيم الإنسانية، سواء تعلقت بكرامة الإنسان أو بالأصول التي يقوم عليها الترابط الاجتماعي أو بالمشاعر والعواطف التي كانت لُحمة النسيج الرابط بين البشر.
وما الذي يمنع العلماء في مخابرهم من القيام بهذه التجربة؟ إن الستار الحديدي أطلق تجوزًا على العالم الشيوعي إبان الحرب الباردة، ولكن الستار الحديدي الذي أحكم عزله عن العالم الخارجي هو المخابر، لا يقل حرص الشركات عن حرص الدول على صيانتها عن الأسماع والأبصار، وتقوم فرق حماية التجسس في كل دولة على هذه المخابر حتى لا يتأتى اختراقها لأحد، ويكاد الظن بها والاحتياط ومحاولات التجسس من ناحية أخرى لا تختلف بين الدول المرتبطة بأوثق الروابط الاقتصادية والدفاعية وبين الدول التي تقوم علاقتها على أخذ الحيطة لكل واحدة من الأخرى.
إن هذه الأسوار العازلة للمخابر وما يجري في عوالمها الداخلية، وسلطان السبق للأسواق والاستئثار بما يدره الجديد من أرباح مما يزيد الأمر خطورة وتعقيدًا.(10/1362)
وأخذ الناس يتحدثون: هل لنا أن نوقف العلم؟
أولًا: إنه فرق عظيم بين حرية البحث الذي يسعد الإنسان، والبحث المدمر للإنسان، إنه ليس السلطان الغيبي الذي لا يعطيه العلمانيون أية قيمة هو الذي يصرخ بالمنع، ولكن إلى جانب ذلك الإنسانية يعلو صوتها مستغيثة من تمرد التجارب اللامسؤولة ودخولها نطاق الإنسان ذاته لتحطم عزته وحقوقه، فليست وصاية على العلم، لكن تبصير العلم بحدوده حتى لايدمر نفسه ويدمر الإنسان معًا، هذا الإنسان الذي يكمن سر إنسانيته في كرامته، وذهاب كرامته معناه ضياعه وضياع مكاسب الإنسانية التي جاهدت وما تزال تجاهد في الحفاظ عليها، والتي تعتبر كل المكاسب الحضارية الأخرى متفرعة عنها ومنبثقة منها.
فاتخاذ نسخة موازية للتوأم والاحتفاظ بها لتكون رصيدًا لقطع الغيار لأخيه التوأم إهدار للقيمة الإنسانية التي يتساوى فيها المولود والمجمد يوم أخذت نسخته فأودعت الرحم، وأودعت الأخرى التبريد الآزوتي، وصورة أخرى: إذا كبر التوأم ولم يحتج إلى أخيه، فهل نحكم عليه بالإعدام أو نبقيه إلى أبد الآبدين، مع ما في التجميد من خطر الاختلاط؟ فقد أعلنت جريدة الفيفارو في سنة 1995، أن الخطأ في اللقائح المجمدة يصل إلى حدود 10 % في إنجلترا.
ثانيا: فإن الله لما كلف الإنسان بمهمة تعمير الكون خلقه خلقًا يمكنه من ذلك، فتعمير الأرض لا يتحقق الا بتوجه كل فرد إلى ما يلائم مواهبه وإمكاناته، هذه المواهب هي مختلفة، ولذا كان الاختلاف ضروريًّا لعمارة الكون، فلو اتحدت أذواق وعقول وميول البشر؛ لانصبوا على مكان واحد وعلى عمل واحد وعلى إنتاج واحد، الأمر الذي يساوي في الحقيقة التعطل العام المطلق، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} .(10/1363)
وثالثًا: إن الاجتماع البشري يقوم على أساس العائلة، واستمرار طفولة الإنسان، واحتياجه سنوات إلى من يقوم عليه بالتربية ليتطور وليسلم عقله ومشاعره وقواه الجسمية، تجعل قيام راشد واحد بذلك حملًا ثقيلًا، ولذا فإنه في حالات اليتم العارض يدعو الإسلام بقية أعضاء الأسرة والجماعة الإسلامية لبذل رعاية خاصة للأيتام تعويضًا عما فقدوا.
رابعًا: إن التقدير المحكم الذي يسير عليه الكون، مما تمت ملاحظته فيه من أسرار، أن التوازن بين الذكران والإناث متقارب دائمًا، ولذلك فإذا اختل التوازن زمن الحرب بموت الرجال في الحروب عاد التوازن سريعًا بتفوق ولادة الذكور، فلو ارتبط الإنجاب برغبة النساء وهن حسب قانون الاستنساخ صواحبات الحق والدور الفعلي فإن الاختلال سيلحق المجتمع في تنوع الجنس، قال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} .
خامسًا: ماذا ستكون علاقة النسخة؟ هل النسخة باعتبار أنها تحمل نفس الحقيبة الوراثية وأنه سيبرز كل خط من خطوط البرنامج في النسخة؟ فهل تكون النسخة بالنسبة للمأخوذ منها وهي أنثى، أختا لها أو بنتًا، أو هي ذات واحدة في شخصين؟ ما علاقة النسخة بالزوج أهي ربيبته أو هي أخت زوجته أو هي زوجته - كما لو تضخم ثدي زوجته أو يدها أو رجلها أو أي جزء من أجزائها -؟ مع أن زوجته هي التي ولدتها في حال قيام العلاقة الزوجية. ولو حملت الزوجة بالنسخة من الزوج وسيولد ذكرًا، هل يكون أخًا لزوجها وقد حملته في بطنها وولدته، أو يكون زوجًا لها في صورتين الأصلية والنسخة، أو يكون ابنًا لها؟
ولو فرضنا أن الزوجة أعجبت برجل فأخذت خلية من خلاياه، ويكفي شعرة واحدة سقطت من رأسه ثم تستكمل المراحل حسبما وصفناه فتكون صلته بالزوج كصلته بالزوج الذي خدعته زوجته وحملت من غيره؟(10/1364)
ولو فرضنا أن الزوجة لإعجابها بأبيها - وكل فتاة بأبيها معجبة - فأخذت نواة خلية من أبيها وأودع مكان نواة بييضتها ثم غرست في الرحم، ووصل المولود إلى أمد وضعه، هل يكون هذا المولود أبًا لها، أو ابنًا أو أخًا؟
سادسًا: إن هذه التقنيات يوم يكتب لها أن تصل إلى غاية مداها، فستفتح على مصراعيها أبواب استئجار الأرحام، فإذا كان الفقر والخصاصة، والجوع والعراء قد وصلت بالإنسانية إلى التجارة في السوق السوداء بالأعضاء البشرية، وإذا كان في كثير من الدول الآسيوية والإفريقية يرضى الإنسان أن يبيع كليته لمن يربح فيها أضعاف أضعاف ما يبذله للإنسان (الشيء والمتاع) ، فإن سوق استئجار الأرحام ستكون قطعًا نافقة بمقدار تعدد الأغراض وسعة مسالك الشهوة والخطيئة.
فتلتجئ إليها العاقر التي ترغب في تعمير بيتها بأنفاس الطفولة البريئة ونغمات أصواتها التي توقظ الأم من عمق النوم وتلهيها حتى عن نفسها، فترغب العاقر في القيام بتمثيلية تعيش فيها مع الخيال أشواطًا.
وترغب في استئجار رحم الأنثى المعجبة بوسامتها الحريصة على أناقتها من النجوم والمترفات والمثريات، فهي تستطيع أن تشتري بييضة من أنثى، وخلية منها أو من ذكر يملأ عينيها، ورحمًا تودع فيه الخلية لتبلغ به إنسانًا مكتمل الخلق، وقد دفعت الثمن فهي أحق به، وتكون علاقتها به في الحقيقة صفقة تجارية.
أما عصابات الإجرام فستفتح لهم ساحات العمل الإجرامي، وهم يستطيعون كما بيناه التحصيل على نسخ من أكبر المجرمين شراسة ومكرًا، حسبما تبين، ثم هم ينشؤونهم تنشئة تزيد انحرافهم حدة ويضللون العدالة بالنسخ المتماثلة، إذ يخفون الذي قام بالجريمة، ويثبتون أن مماثله كان في الوقت الذي حدثت فيه الجريمة بعيدًا آلاف الأميال عن موقعها.(10/1365)
ولا نغفل عن المتاجرين بالجنس، فهؤلاء سوف يجدون في الاستنساخ ما كان يتجاوز أحلامهم، إذ يستطيعون إنجاب نسخ من نجوم السينما وملكات جمال العالم بثمن زهيد على الطريقة السابقة، خلية بييضة، رحم مولودة، نسخة مساوية لصاحبة الخلية طولًا وتناسبًا وجمالًا وصفاء، تربى تربية خاصة، حتى إذا ما نضجت كانت تبعًا لتربيتها وغسل دماغها، وإغراء الشباب وسلطان الوسامة ثروة في سوق الخنا يدر على الأشقياء.
وقائمة الاضطراب الفردي والاجتماعي تطول وتطول في ميدان التطبيقات التي لا تجد ما يحول بينها وبين التحقيق، والإمعان في الفساد والاختلال في منحرف الطريق؛ إلا عامل الدين المستند إلى صادق التنزيل الذي يُبَصِّر العقل والعلم ويهديهما سواء السبيل، البصيرة التي لا تنخدع بالجديد لجدته، ولا تقدس القديم لتطاول مدته، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .
وبجانب إحياء القيم الدينية لا بد من رادع يحرم على كل مؤمن أو كافر أن يفسد على الإنسانية حياتها وقيمها وعلاقاتها الاجتماعية، ويهدم ما بنته الإنسانية في عشرات القرون، فظنت أنها أمّنت الإنسان على كرامته، وأقامت المنظمات التي تحرس حقوقه وحقوق المرأة وحقوق الطفل، فيكون العبث بهذا الهرم الحضاري عداء للإنسانية. . على الأمم والدول أن تحمي نفسها باستصدار ميثاق ملزم توقع عليه كل الدول معتبرة كل من يعمل على الاستنساخ أو التوأمة من الباحثين أو المؤسسات في الميدان البشري مجرمًا ضد البشرية، تأخذه أحكام وتبعات ذلك أينما حل في أرض الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(10/1366)
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.
أيها السادة، كل ما سمعناه حول الاستنساخ وما قرأناه كان بحق تخوفًا من آثاره الضارة والمرعبة، لكننا في اللغة الفارسية - وهذه معلومة لديكم - عندما نأتي بمتهم لمحكمة ولا يريد أن ينتخب له محاميًا نسمي بالفارسية المحامي الذي تنتخبه المحكمة بـ (المحامي التسخيري) ، اسمحوا لي أن أكون محاميًا تسخيريًّا في هذه الورقة المختصرة بشكل ربما يطرح الرأي الآخر، ولكنه رأي قد لا أقتنع أنا به، لكي تتم المداولة بشيء من التعادل؛ لا أريد أن أتحدث عن أنواع الاستنساخ فقد سمعنا منها هذا الصباح ما يفيد، ولكني ألاحظ أن الاستنساح بأشكاله التقليدية والجديدة لا يستغني عن تلاقح المنوي الذكري والبييضة الأنثوية ولو في المراحل السابقة، أما في شكله الجديد فواضح، وأما في الشكل القديم فلأن النواة المجلوبة من الجلد مثلًا إنما نتجت بعد تكاثر خلية ملقحة سابقًا، وقد سمعنا - هذا الصباح - من الدكتور أن البييضة قد تنشط حتى تصل إلى حيوان، هذه البييضة هي نفسها نتيجة تلقيح بلا ريب من قبل، وعندما تصل إلى الحيوان، هذا الحيوان عقيم لا يمكنه أن يمتد، كأن آثار التلقيح السابقة امتدت إلى هذا الحد ووقفت عند حدها.
قبل أن نلقي نظرة على الموضوع نرى ضرورة التذكير ببعض الأمور:
الأول: إن كل حدث جديد وخصوصًا إذا كان يتصل بمسألة حياتية كهذه مما يغير مجرى الحياة البشرية لا بد أن يثير أجواء عاطفية، ويغرق الأفكار في افتراضات وتخمينات بعضها رائع وبعضها مرعب، ولكل بعض أنصارٌ ومؤيدون. . في هذه الأجواء ربما لا يستطيع الباحث أن يدرس الموضوع بكل موضوعية وتجرد، وإنما يجنح مع هذا الفريق أو ذاك دون أن يشعر أحيانًا؛ ولذا فمن البعيد التوصل إلى رأي جماعي أو علمي أو فقهي موضوعي في هذه المرحلة.
الثاني: إن الأبحاث العلمية لا يمكن منعها والوقوف بوجهها، خصوصًا إذا كانت بهذا المستوى من التأثير الواسع، وإذا كانت تطل على عالم مجهول لتفتح مغاليقه ومجاهله، فيجب التأمل كثيرًا قبل إصدار الأحكام المطلقة، ويجب أن نضع في الحسبان تلك الحالات التي سنواجهها شئنا أم أبينا.(10/1367)
الثالث: قد نجد بعض الافتراضات نتاجًا للخيال القصصي المجنح مما يؤثر سلبيًّا على سلامة الدراسة، كما أن بعض الافتراضات تحذر من أنماط الاستغلال السيئ، الأمر الذي يدفع الفقهاء والقانونيين للتحريم المطلق سدًا للذرائع، وقد مررنا من قبل بموضوع التلقيح الصناعي والافتراضات التي طرحت حوله، ثم استسلم هؤلاء للأمر الواقع وأخذوا يدرسون كل حالة على حدة بمنأى عن الضجيج والافتراضات، ومازال البحث فيه غير ناضج كما نعتقد.
الرابع: أن المنهج الصحيح هو دراسة نفس الحالة أولًا، ومدى انطباق العناوين المحللة أو المحرمة عليها، ثم محاولة معرفة النتائج المتوقعة والعوارض الناتجة لمعرفتها من خلال أحكامها المعروفة، وقد تتشابك النتائج الحسنة والسيئة منها، مما يدعو إلى التأمل وملاحظة الأغلبية الساحقة في البين.
الخامس: يجب أن نعترف بأن الأخصائيين الطبيعيين لهم الحق وحدهم في تقرير الآثار العلمية المخربة أو الإيجابية لهذا الأسلوب ولا نستطيع نحن أن نقر شيئًا إلا بعد انتهائهم من بحوثهم، نعم إذا انتهى هؤلاء إلى نتائج - ولو كانت شبه قطعية - أمكننا أن نلاحظ مدى انسجام هذه الآثار مع معتقداتنا ومع قيمنا ومع مبادئنا الإسلامية ونظريتنا السياسية والاجتماعية وتخطيطنا للحياة، ومن هنا فلا ينبغي التسرع في الحكم ما دامت النتائج العملية غير قطعية.
بعد هذا لا بد من أن نلقي نظرة سريعة على آراء المؤيدين والمخالفين ثم نحاول الترجيح بما لا يخرج هذا البحث عن كونه مجرد إلقاء نظرة على الموضوع.
آراء المؤيدين:
يركز المؤيدون على نقطتين أساسيتين هما:
أولًا: عدم توفر ما يمنع من القيام بهذه العملية من الأدلة الشرعية.
ثانيًا: الآثار الإيجابية الكبرى التي يتوقع حصولها والآفاق العلمية التي ستنفتح أمام الإنسان، وهم بهذا الصدد يذكرون أمورًا كثيرة، منها:
أ- المعلومات الضخمة التي سيكسبها العلماء في مجال تمايز الخلايا، ومعرفة جذور أمراض السرطان، والآثار السلبية الوراثية، وعوامل المناعة، وأسباب الإجهاض، ووسائل منع الحمل، وأمثال ذلك.
ب - الآثار التي سيتركها هذا الموضوع في مجال منح الأطفال للأزواج المبتلين بالعقم.
جـ- أنه سيساعد بشكل كبير في التحكيم بسلامة الجيل الآتي وتحسين حياته.
د - أنه سيساهم في مسألة الاستفادة من الخصائص المتميزة للأفراد
وتكثيرها.
هـ - أنه سيساعد في إنجاح الدراسات بعد إجرائها على أناس متطابقين، وذلك للتأكد من سلامة النتائج.(10/1368)
ويضيف هؤلاء المؤيدون أن الاستنساخ عملية طبيعية قد يحدث بشكل طبيعي عند بعض الحيوانات، كما يؤكدون أن العلم ملك للجميع، ولا يمكن إيقاف بحوثه وحرمان البشرية من نتائجه.
هنا نجد الإغراق أحيانًا في الخيال بتصور مجتمع خال من الأمراض متحكم في عناصره، يحوي سلالات معرفية واسعة وما إلى ذلك.
آراء المعارضين:
وهؤلاء أيضًا يستفيدون من الخيال لبيان الأضرار المتوقعة من هذه العملية، بل يفوقون المؤيدين في هذا المجال، ومن الأمور المطروحة لديهم ما يلي:
أ - يستلزم اختلاط الأنساب.
ب - يعني تغيير خلق الله.
جى - يعني التقاء المياه الأجنبية.
د - إنه التدخل في خلق الله.
هـ - إنه يؤدي إلى الاستغناء عن الزواج.
و إنه يستلزم إماتة اللقائح وهي مشروعات إنسانية جاهزة.
ز - أنه يعمل على تهديم المجتمعات وتجريد الإنسان من إنسانيته.
ح - إن استمرار البشرية يعتمد على التنوع الجنيني، وهذا التنوع يخنع من خلال هذا الأسلوب.
ط - إنه يشجع عمليات الإجهاض.
ي - إنه يحول الرغبة الطبيعية في الأولاد إلى الرغبة في الصفات المعينة.
ك - إنه يؤدي إلى ألا يعرف التوأم الصغير مستقبله من خلال حياة
التوأم الكبير.
ل - مشكلات الإرث هنا معقدة وأسئلتها محرجة، وقد ورد النهي عن فساد المواريث.
م - مشكلات حمل العذراء وخصوصًا من إحدى خلاياها.
ن - احتمال استفادة المجرمين المحترفين من هذا الأسلوب، إلى جانب ما هناك من أضرار يتصورها المعارض.
التقويم الأَوَّلِي لهذه الاتهامات:
وإذا تم تقويم هذه الاتهامات فإن الأمر سيتضح بالنسبة لآراء المؤيدين، وإذا ألقينا نظرة سريعة على هذه الاتهامات، رأينا أنها قد لا تصمد للنقد، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر من جديد فيها وعدم تكوين موقف سلبي قاطع منها.(10/1369)
مسألة اختلاط الأنساب مسألة تشير لها بعض الروايات وتحذر منها، بل إننا نجد أن البناء الاجتماعي في التصور الإسلامي يبتني على هذه المسألة، وعلى ضوء هذه الأنساب تبتنى أنظمة اجتماعية مهمة كالنظام العائلي ونظام الإرث وبعض النظم الاجتماعية الأخرى.
هناك رواية عن الإمام الرضا فيما كتب إليه من جواب مسائله، وحرم الله الزنا لما فيه من الفساد من قتل النفس وذهاب الأنساب، ورواية أخرى عن الصادق عندما سئل لم حرم الله الزنا؟ قال: لما فيه من الفساد وذهاب المواريث وانقطاع الأنساب، لا تعلم المرأة في الزنا من حبلها ولا المولود يعلم من أبوه.
إلا أن الذي يمكن أن يطرحه المؤيدون يمكن تلخيصه في أمور:
الأول: أن النسب يمكن ضمانه هنا إذا كانت النواة الضيفة مأخوذة من جلد الزوج مثلًا والبييضة مأخوذة من الزوجة، فلا ريب في أن المولود ولد لهذين، ومن الواضح أن الكثير من النتائج الإيجابية يمكن أن يتم الحصول عليها مع توفر هذه الشروط.
الثاني: أن هذه الحالة لا يمكن أن تشكل ظاهرة اجتماعية واسعة، بل هي حالات قليلة (على الأقل في الإمكان الحاضر) ولا مانع حينئذ من وجود أفراد لا يعلم نسبهم أو ينتسبون إلى الأم فقط، كما ينتسب ولد الشبهة إلى أمه فلا يلزم منه اختلاط الأنساب، كما يقال.
الثالث: أن احتمال إساءة الاستفادة موجود بنفس النسبة في موضوع آخر كالتلقيح الصناعي وقد أجازه الفقهاء.
ولا نريد أن نؤيد هذه الإشكالات بقدر تأكيدنا على لزوم التأكد من المحذور.
أما موضوع تغيير خلق الله تعالى: فقد ذكر أن الآية الشريفة التي تتحدث عن الشيطان وأوامره اللعينة {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} . هنا ومن الواضح أن الشيطان الرجيم يهدد بالتركيز على مجموعة من عباد الله ليسخرهم لأعماله الشيطانية ومنها تبتيك آذان الأنعام وتغيير خلق الله , وهي أمور مبغوضة للمولى جل وعلا بلا ريب , ولذا يعدها سبحانه من الخسران المبين.
فهل هذا العمل الذي نحن بصدده من مصاديق تغيير خلق الله المنهي عنه؟ وهنا يقال بأن التبتيك والتغيير لا يمكن أن يكون المراد بهما مطلق المفهوم اللغوي لهما، حتى ولو كان ذلك بدواع مشروعة عقلانية لا شيطانية، وإلا لكان كل تغيير يحدث في البدن كحلق الشعر أو الختان أوتعليم آذان الإبل أو التجميل من المحرمات، بل إن التعميم يعني كل تغيير في خلق الله، وهذا يشمل أي تغيير في الطبيعة، فهل نمنع ذلك؟ ليس المراد هو العموم وإنما المراد - وكما يقول بعض العلماء: - عمليات شيطانية خرافية تقوم على أساس من تصورات شيطانية جاهلية يتم بموجبها إهدار للثروات الطبيعية، من قبيل ما جاء في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} حيث تبتك آذان البحائر وتترك.(10/1370)
يقول العلامة الطباطبائي في الميزان: " إن عرب الجاهلية تشق آذان البحائر والسوائب لتحريم لحومها ". كما يؤكد أنه ليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف، مستشهدًا بقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ، ولعل سياق الآيات يساعد على ذلك، وقد أيدته رواية جاءت في مجمع البيان عن الإمام الصادق، وحينئذ لا يمكن أن يستند لهذه الآية الشريفة في رد أي تغيير طبيعي، ومنه موردنا هذا، إذ المراد هو قسم خاص يتم بتسويل الشيطان وتسويفه.
على أنه في الواقع استفادة من قوانين طبيعية - كما تفضل الشيخ السلامي - فرضها الله في الطبيعة، ولا يمكن أن يعد تدخلًا في خلق الله - كما جاء في اتهامات المعارضين - أو يعد تحديًا لله تعالى في خلقه - كما ربما يأتي على ألسنة بعض المخالفين للاستنساخ - وإلا كان علينا أن نسد باب أي إبداع علمي في علم الوراثة في جميع حقول الخلق.
أما حكاية التقاء المياه الأجنبية هنا فقد قلت إنها مرفوضة كبرى وصغرى، أما الكبرى فلن أطرحها لأنها تخالف قرار من قرارات المجمع، وأما الصغرى فشمولها للمورد غير صحيح فليس هنا التقاء مياه ولا انعقاد نطفة - كما هو واضح - إلا أن يقال إن المورد هو بحكم انعقاد النطفة فيقاس عليه.
أما موضوع الاستغناء عن الزواج فإذا افترضنا أن الأمر فيه تيسير إلى هذا الحد - وهو بعيد - فإن دواعي الزواج لا تقتصر على الاستيلاد أولًا، على أن الاستيلاد من طريق الزواج هو المطلوب للإنسان قبل كل شيء، ولا يلجأ لمثل هذه الطرق إلا استثناء.
أما مسألة اللقائح المتعددة وإعدامها فالذي يتصور في البين أو يقال إن هذه اللقائح لا ينطبق عليها أنها أناس، وأن إعدامها غير مشمول لأدلة حرمة القتل، أو أدلة دية الجنين، وأمثال ذلك.
وأما مسألة احتمال تهديد المجتمعات أو تجريد الإنسان من إنسانيته فإنها مسألة لا دليل عليها، بل إن عملية إنقاذ بعض المجتمعات أو بعض العوائل من أمراضها الوراثية وتقوية الصفات الجيدة مطروحة هنا، وكذلك مسألة التنوع الجنيني فإنه أولًا لم يثبت التطابق التام إلى حد ينتفي معه أي تنوع، على أن اختلاف البيئات والعوامل الخارجية لا بد أن تؤدي إلى نوع من الاختلاف.(10/1371)
ونحن نتصور أن عمليات الإجهاض إنما يتحكم فيها القانون والشريعة، تمامًا كما هي الحال في وضعنا الحالي، ومسألة الرغبة الطبيعية في الأولاد سوف تبقى، لأنها نابعة من عمق الفطرة الإنسانية، ولسنا نتصور الإنسانية آلة صماء لا تحكم إلا ما خطط لها من قبل، دونما رحمة أو عواطف أو دواع فطرية.
أما احتمال أن يعرف التوأم الصغير مستقبله من خلال حياة التوأم الكبير، فهي قد تكون مشجعة على تلافي الوقوع في المرض من خلال الرصد المبكر لها.
وتبقى المسائل الشرعية للإرث والنظر والعلاقات الاجتماعية أمورًا يجب أن يسعى الفقه الإسلامي لبيان موقفه فيها بدلًا من التخلص من التبعية عبر إغلاق الباب من الأساس وحرمان العلم الإنساني من النتائج الباهرة لهذه البحوث.
وأخيرًا تبقى مسألة التطبيق السيئ لهذا الكشف والاستغلال السيئ له، فهذا أمر بيد الإنسان يستطيع أن يتجنبه ويتحاشاه عبر بقاء الخلق الاجتماعي الرصين، والروح الإنسانية النزيهة، ولا يمكننا أن نغلق بابًا للخير لأن هناك من يستفيد منه للشر.
وهنا نعود لما ساقه المؤيدون من أدلة، فنراها أدلة ينبغي التأمل فيها ودراستها، وخصوصًا ما ذكروه من أن العلم للجميع، ولا يمكن حرمان البشرية من نتائجه.
نعم , يجب أن تخلو الأساليب المتبعة مما يخالف الشريعة من الملابسات التي تقترن بشكل طبيعي.
وأخيرًا: فلسنا نريد أن نصدر حكمًا قاطعًا بهذا الشأن بقدر ما نريد أن نؤكد على ضرورة عدم التسرع في الحكم ونقله من صفحات الجرائد إلى معاهد البحث العلمي، وتخليصه من الأجواء الحماسية والعاطفية ونقله إلى حيث البحث الموضوعي المجرد.
والله تعالى هو العالم بالصواب وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله.(10/1372)
* * *
التعقيب
التعقيب
الشيخ نزيه حماد
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد اتضح من البحوث والدراسات المقدمة من العلماء الأجلاء في موضوع الاستنساخ أن معناه والمراد به تكوين مخلوقَيْن أو أكثر كل منهما نسخة إرثية من الآخر، وأنه نوعان أحدهما ما يسمى بالاستنساخ الجديد أو الاستتئام أو شق البييضة، ويبدأ بييضة مخصبة أي بييضة دخلها حيوان منوي تنقسم إلى خليتين، فتحفز كل منهما إلى البدء من جديد وكأنهما الخلية الأم، وتصير كل منهما جنينًا مستقلًا وإن كان متماثلين في صدورهما عن بييضة واحدة، وعلى ذلك فإذا أودع الجنينان الرحم فإن السيدة تضع توأمين متطابقين لأنهما نتاج بييضة واحدة.
وقد ذكر بعض الباحثين أن طريقة الاستتئام هذه يمكن أن تسهم في علاج حالات العقم التي تحتاج إلى تقنية أطفال الأنابيب، وأنها تتيح الفرصة لتطبيق الوسائل التشخيصية على أحد الجنينين أو خلايا منه، فإن بانت سلامته سمح أن يودع الحمل الرحم، ومع أن هذه الطريقة من حيث المبدأ يتحقق فيها التلقيح كما هو الحال في أطفال الأنابيب فإن آثارها ونتائجها وما تجلبه من مصالح راجحة أو مفاسد راجحة لا تزال حتى الآن مجهولة، ومن أجل ذلك يتعسر البت حاليًا في حكمها الشرعي لتوقف صحة النظر الفقهي على استكمال أمور خفية أو غامضة متعلقة بها، وهذا كله إذا وقعت في إطار عقد الزواج الشرعي بين بييضة الزوجة ومني الرجل، أما إذا وقعت خارجه فهي محظورة من حيث المبدأ والأساس.
أما النوع الثاني من الاستنساخ العادي الذي لا يعتمد على الخلايا الجنسية وإنما يكون بوضع نواة خلية جسدية داخل غلاف بييضة منزوعة النواة ثم تتكاثر الخلية الناتجة إلى جنين هو نسخة إرثية تكاد تكون طبق الأصل من صاحب الخلية الجسدية، وهذا النوع من الاستنساخ كما تبين من البحوث المقدمة تكتنفه مخاطر ومحاذير كثيرة ورهيبة إن دخل حيز التطبيق والممارسة، ومن أبرزها العدوان على ذاتية الفرد وخصوصيته وتميزه بين طائفة من أشباهه، وكذا خلخلة الهيكل الاجتماعي المستقر والعصف بأسس القرابات والأنساب وصلات الأرحام، والهياكل الأسرية المتعارف عليها على مدى التاريخ الإنساني والتي أقرتها الشريعة الإسلامية وسائر الأديان الربانية، واعتمدتها أساسًا للصلات بين الأفراد والأسر والعلاقات في المجتمع كله، بما في ذلك من انعكاسات على أحكام القرابات والزواج والمواريث وكثير من التشريعات المدنية والجنائية وغيرها.(10/1373)
ونظرًا لما قد يترتب على هذا النوع من الاستنساخ من مفاسد خالصة أو راجحة لا تزال مطوية في عالم الغيب ولا يمكن أن تعرف أو تقدر على التحقيق إلا بعد مرور زمن طويل على تطبيقاته وممارساته، فإنه لا يعبأ بما ذكر أو افترض من منافعه ومصالحه المظنونة أو المحتملة الموهومة فيما إذا كان الزوجان مصابين بالعقم ولا يصلح لهما طفل الأنبوب، أو ما إذا كان الزوجان مصابين بالعقم وقد يفيدهما طفل الأنبوب لكنهما يفضلان عدم المجازفة فيه ويرغبان استنساخ إنسان يرونه أو يعرفون عنه مقدما، وكما إذا أصيب طفل بمرض خطير أو توفي وليس لأبويه طفل غيره وسنهما لا يسمح بالإنجاب بعد ذلك ويطلبون استنساخًا من طفلهم، إلى آخر ما قيل في ذلك، فإنه يلزم الاحتياط بعدم الإفتاء بتجويز شيء من صوره وحالاته الآن، فإن ظهر في المستقبل حالات تستدعي حكمًا استثنائيًّا فعندئذ ينظر في شأنها وحكمها الشرعي، هذا ما يتعلق بالاستنساخ البشري.
أما الاستنساخ في عالم الحيوان فالذي يبدو - والله أعلم - أنه سائغ شرعًا حيث لا يترتب عليه محظور أو مفسدة غالبة أو راجحة، وقد ثبتت له مزايا كثيرة ومن أهمها:
أولًا: إمكان استنساخ أعداد هائلة من الخراف والبقر لتوفير الغذاء للعباد.
ثانيًا: إمكان استنساخ أبقار تنتج حليبًا يعادل حليب الأم، وفي ذلك فائدة عظيمة للأطفال المصابين بنزلات معوية أو حساسية نتيجة رضاع الطفل لحليب البقر.
ثالثًا: إمكان استنساخ بعض الحيوانات التي لها قلوب وأكباد يمكن نقلها جراحيًّا إلى الإنسان دون أن يرفضها جسم الآدمي.
رابعًا: إمكان استنساخ حيوانات كل مجموعة منها لها صفات وراثية واحدة مما يسهل أبحاث مرض السرطان وقضايا المناعة، ونحو ذلك من البحوث الطبية الهامة.
خامسًا: إمكان استنساخ بعض فصائل الحيوانات المهددة بالانقراض، إلى غير ذلك من الاستخدمات التي تجلب مصالح حقيقية راجحة للإنسان فيما يبدو إلى الآن.
وما ظهر من جواز الاستنساخ في عالم الحيوان فإنه يقال أيضًا بالنسبة للاستنساخ في النباتات، حيث تم بواسطته إنتاج كثيرٍ من الأنواع النباتية المتميزة التي تختص بمقاومة الحشرات والفيروسات ومبيدات الأعشاب، أو نباتات تنتج ثمارًا مقاومة للتلف، أو نباتات لها قيمة غذائية محسنة عالية.
وكذلك الحكم أيضًا في استخدام الاستنساخ في مجال الصيدلة والدواء، حيث تمكن العلماء من إنتاج أصعب الأدوية وأندرها، مثل: الأنسولين المنظم لسكر الدم، والسوماستاتين المنظم لأعمال بعض الغدد الصماء في الجسم، والإنترفرونات التي تستخدم في علاج السرطان ومنع الإصابة بالفيروسات، ونحو ذلك.
هذه خلاصة ما أردت بيانه في هذا التعقيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(10/1374)
المناقشة
المناقشة
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
ألا إنها الأيام قد سرن كلها عجائب حتى ليس فيها عجائب
إن هذا الأمر ينقسم بالنسبة لنظرنا الشرعي إلى قسمين:
الأول: من حيث العقيدة.
الثاني: يتعلق بحكم الشرع في الإقدام على هذا العمل.
من حيث العقيدة؛ إن هذا الأمر لا ينافي في شيء قدرة البارئ جل وعلا وقدره، فهو سبحانه وتعالى سواء استطاعوا أن يفعلوا ذلك أو لم يفعلوه فإنما يفعلونه بقدرته وقدره، وقد نبه البارئ جل وعلا على ذلك في سورة الواقعة، فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} ، طالعت المفسرين عند هذه الآية فتوقفوا كثيرا عند (ما) ، {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} هذه النكرة العامة، فقالوا: في أي شكل من الأشكال أو في أي حال من الأحوال، والشيخ ابن عاشور في (التحرير والتنوير) توقف عندها طويلًا وزاد على القرطبي وعلى الوجيز وقال: " إنها أحوال وأشكال لا نعلمها ويعلمها الله سبحانه وتعالى. . ".
نلاحظ في هذه الآية ثلاثة أنواع من التخلق:
أولًا: التخلق العادي {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} فالله سبحانه وتعالى يخلق في المني الذي نسب إلى الإنسان.
ثانيًا: ثم ذكر نشأة أخرى لا نعلمها.
ثالثًا: ثم ذكر النشأة الأولى وهي نشأة آدم (عليه السلام) من طين.
من هذه الآية ندرك أن هذه الأفعال كلها سائرة في طريق قدرة الله- سبحانه وتعالى - وقدره، وهنا وافق الجزء الأول من التحليل الذي اعتقد به الإخوان.(10/1375)
نحن نؤمن بأننا في آخر الزمان بالنصوص الواردة في ذلك ولا نستغرب بين يدي الساعة أن تظهر غرائب وعجائب، إلا أنه يجب ألا تجرفنا هذه العجائب والغرائب فنستعجل ونحاول مسايرة الذين لا يعقلون بالإباحة تارة وبالموافقة تارة أخرى، وهنا نصل إلى الحكم الشرعي لمحاولة التعرف على أي حكم شرعي كما في كريم علمكم فإن هذا الأمر جديد ولا بد أن يخضع لثلاثة معايير:
المعيار الأول: هو البحث في النصوص، وحيث لا يوجد نص ينص على هذا لأنها مسألة جديدة فالبحث حينئذ في هذه النصوص للقياس عليها سواء كان قياسًا جليًّا أوخفيًّا.
المعيار الثاني: هو معيار المقاصد الشرعية المفهومة من استقراء نصوص الشريعة.
المعيار الثالث: هو المصالح والمفاسد المجردة المترتبة على الفعل أو على تركه.
سأتحدث باختصار عن المعيارين الأولين، حيث إن المعيار الثالث قد تحدث عنه الباحثون وذكروا جملة من المفاسد والمصالح، ولهذا فينبغي أن نبحث في المعيارين الأولين، النصوص للقياس عليها، والمقاصد. أولًا: النصوص، قال تعالى في سورة النساء عن إبليس: {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} ، تغيير خلق الله عام لا يمكن أن نقول إنه الفطرة فقط بمعنى التوحيد أو ما يتعلق به، ولكنه عام في تغيير الخلق كله، وليس كلمة الخلق تعني تغيير الخلق أي المخلوقات أو الأشياء التي تخلق، فهذا كلام ذكره الله سبحانه وتعالى عن الشيطان أنه سيأمر أتباعه بأن يفعلوا ذلك، وهذا يدل على أنهم يستطيعون أن يفعلوه فعلًا، لكن ذلك لا يرضي الله سبحانه وتعالى، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوشم والنمص والوشر والتفليج لكونها من تغيير خلق الله، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التماثيل والتصاوير مع وعيد شديد، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إنزاء الخيل عن الحمير، كل هذه تدخلات في الفطرة، شريعة تنهى عن ذلك سأستغرب أن تبيح للإنسان أن يتدخل في خلق إنسان آخر، أما المقاصد فكرامة الإنسان وحضانته وحياضته وعلاقاته كل ذلك لا يبيح هذه المسألة.
هذا باختصار شديد في هذه المسألة وأرجو أن تراجع على ضوء ما ذكرته خصوصًا النصوص، لم أر أحدًا تعرض لها ويقيس عليها.
وشكرًا. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/1376)
الشيخ محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد؛
فالواقع أنني أشكر جميع الأخوة الباحثين الذين قدموا بحوثًا قيمة في هذا الموضوع الشائك الذي شغل أذهان الكثير من الناس في وقتنا الحاضر، وكان لا بد لعلماء الشريعة أن ينتبهوا في هذا الموضوع ويدرسوا أبعاده الإيجابية والسلبية، وقد حصل هذا المقصود بقدر ما نستطيع - والحمد لله- بهذه الأبحاث التي قدمت سواء كانت من الأطباء أو من الفقهاء فجزاهم الله خيرًا وأجزل أجرهم.
أما أن نحاول أن نصل في هذه الجلسة إلى قرار حاسم في الأحكام الشرعية الفقهية المتعلقة بهذا الموضوع فإنه يبدو لي أنه سيكون إقدامًا على شيء قبل أوانه، فإن هذا الموضوع لم ينضج بعد، وواضح لكل أحد أن الاستنساخ البشري حتى الآن ليس إلا نظرية وخيالًا ولم يأتِ إلى حيز الوجود، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يقولون: لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله. وخاصة في حين أن النتائج الحسنة أو السيئة للاستنساخ البشري لم تظهر لنا بعد، هذه التجربة إنما أقيمت على بعض الحيوانات ولم تقم هناك تجربة على إنسان، ولا يبعد أن تأتينا معلومات جديدة حينما تجرى هذه التجربة على إنسان، فما لم تأتنا تلك المعلومات، وما لم يتضح لنا الصورة الحقيقية لهذه العملية ونتائجها، فإنه لا يجدر بهذا المجمع أن يتخذ قرارًا حاسمًا في الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الموضوع، فالذي أراه ألا نستعجل في اتخاذ فتوى أو قرار في هذا الموضوع.
وهذا ما أراه والله سبحانه وتعالى أعلم.(10/1377)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد:
لقد هز موضوع الاستنساخ جوانب الحياة العلمية العالمية والإسلامية الموضعية في كل بلد وفي كل مكان، وكثرت الندوات والمحاضرات والتعقيبات وظهرت بعض المؤلفات، وكان منها ما أسهمت به في سورية، حيث طبع كتاب يجمع بين جميع النواحي المتعلقة بالاستنساخ من الناحية النفسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والتربوية والإسلامية، وعقدت ندوات ومحاضرات في رحاب الجامعة عندنا في دمشق وكان حصيلة هذه المحاضرات والندوات ما يلي:
أولًا: الاستنساخ ليس هو خلقًا جديدًا، وإنما هو بترجمته الدقيقة (إعادة للخلق) ، فهو كما أشار الأخوة فعلًا ليس مما يتنافى مع تفرد الله بالخلق والإبداع والابتكار لأن الاستنساخ يعتمد على أخذ خلية من خلق الله ثم إجراء تعديلات عليها بتسليط عوامل فيزيائية وكيميائية بحيث تبطل مفعول بعض مدلولات الخلية وتنمي البعض الآخر حتى تظهر بشكل معين.
ثانيًا: الاستنساخ في الحقيقة ينبغي أن نفرق بينه وبين الهندسة الوراثية، فالهندسة الوراثية في عالم النبات وتهجين النباتات، وكذلك تهجين الحيوان، هذا في الواقع أمر ربما يكون مقبولًا بشرط عدم تحقق الضرر منه، وأما الخطر فهو في الإنسان، فالاستنساخ الذي هو الهندسة الوراثية في النبات والحيوان وتلافي آثاره الضارة وإيجاد بدائل جيدة تكون في خير الإنسان.
ومنه أضرار كثير من الأمراض التي تهدد حياة الإنسان والتي بإمكان الهندسة الوراثية أن توجد نوعيات متفوقة وكثيرة، ففي الواقع الهندسة الوراثية في عالم النبات والحيوان أمر جائز، بشرط ألا يكون هناك شيء من المردود السلبي أو الإضرار الذي يلحق بالإنسان إذا أخلص العلماء في بيان هذه السلبيات، ومن هنا يمكن أن نكون مع هؤلاء الذين يتحدثون عن الاستنساخ، وأنه إذا لم يتحقق منه الضرر بصحة الإنسان وكان في خير الإنسان بحسب ضوابط الشريعة التي جاءت لتحقيق الخير والنفع والمصلحة ومدافعة كل ألوان الفساد والضرر والإساءة بالإنسان.
في ضوء هذا المعيار حينئذ يمكن أن نقول إلى حد ما بأن الهندسة الوراثية لا مانع منها شرعًا.
وبناء على ذلك فلا يصح، نحن نتكلم في حدود ما عرضه العلماء وفي حدود ما قرروه، نحن لسنا ضد العلم إطلاقًا، ونحن دائمًا مع العلم، ولسنا كما يزعم بعض الصحفيين أن المفتين الإسلاميين يتسرعون في الفتوى، ولسنا أيضًا مع فضيلة الأخ الشيخ تقي أنه يجب أن نكون من فريق الواقفية أو الحياد لننتظر النتائج المرتقبة، لأن العالم يريد أن يكون لنا رأي في الموضوع وخصوصًا أن الأفكار اهتزت من الناحية الدينية حول هذا الموضوع، فلم لا يكون لنا كلمة تطمئن الناس وأن ذلك في الحقيقة لا يتنافى مع العقيدة الإسلامية؟ فإذن في مجال الهندسة الوراثية الاستنساخ أمر مقبول بشرط عدم الضرر وتحقيق النفع للإنسان.(10/1378)
أما فيما يتعلق بالإنسان وكما ذكرت في بحثي الذي طبع في دمشق بينت أن الاستنساخ في الحقيقة يتنافى مع مبدأين أساسيين في الخلق الإلهي خلافًا لما كرره وذكره الصحفيون أن هذا تغيير وتبديل لخلق الله، واستشهدوا جميعًا بالآية التي هي من تحريض الشيطان لتغيير خلق الله، هذا كله في الحقيقة لا يمس حقيقة الاستنساخ وإنما الذي يتصادم مع مبدأ الخلق الإلهي أمران نص عليهما القرآن الكريم:
الأمر الأول: قضية التوازن بين الأشياء {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن:1 - 7] ، فالأشياء كلها تخضع لميزان إلهي ونسبية دقيقة، الله جل جلاله أراد من تلك الأمور النسبية تحقيق مصلحة البشرية ودوامها وتحقيق الخلود والبقاء والاستمرار لها بحسب علم الله وتقديره.
فالاستنساخ الذي يعني إحداث صور متشابهة والتطور العلمي، يقولون بأنه يمكن أن يتحول الاستنساخ إلى آلة طابعة يطبع بشرًا بعد التحكم في قضايا الخلايا، وحينئذ لا يحتاج لا إلى الرحم ولا يحتاج لشيء مما سمعناه من السادة الأساتذة الذين تحدثوا في الموضوع، وإنما القضية أخطر من هذا بكثير، ولذلك نجد هناك اهتمامًا دوليًّا، فبعض الدول منعت فعلًا التورط في مسألة الاستنساخ البشري، فلسنا نحن أقل من هذه الدول أن نحكم على ما هو موجود، أما أن ننتظر النتائج ونتفرج على الأحداث فهذا في الحقيقة يثير فتنة دينية لدى الوسط الإسلامي.
هذا المبدأ - مبدأ التوازن بين الأشياء - يتنافى مع حقيقة الاستنساخ ومخاطره وأوضاعه التي تؤثر في صميم جميع النسب الإنسانية والاجتماعية في الخلق الإلهي.
الأمر الثاني: الذي يتنافى مع الاستنساخ هو القضية الكبرى وهي أن الاستنساخ في الواقع ما هو إلا عبث بالأشياء، وأن إحداث التشابه بين الموجودات فيه خطر على الإنسان نفسه، والله سبحانه وتعالى يقول {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} .
هذا هو سر الحياة في أن نعرف الجمال مع القبيح والأسمر والأبيض والطويل والقصير، والقضايا في هذا العالم لنتمكن من أن نسهم في الحياة الاجتماعية، وإلا كما قلت في بعض التعقيبات على بعض المحاضرات لو أننا أوجدنا سبعين رجلًا بصورة متشابهة وامرأة تزوجت واحدًا من هؤلاء، كيف تفعل بعلاقتها مع هذا الرجل؟ أيهم زوجها؟ والعكس أيضًا إذا تزوج رجل امرأة من سبعين امرأة متشابهات كيف يفعل؟ كيف تتم العلاقة الاجتماعية؟ كيف يمكن ضبط الجرائم؟ كيف يمكن ضبط قضايا المصنع والمعمل والمتجر والوظيفة إذا حدث هذا التشابه؟ فإن الاستنساخ يتصادم مع أصالة القرآن في اختلاف الألسنة والألوان وهذه من آيات الإبداع الإلهي. فإذن وجود التشابه هو في الحقيقة فكرة راودت هتلر ليوجد نوعيات من الجنود المتفوقين في الحرب العالمية الثانية ومن أجل أن يقوموا بإحداث أعمال الشغب ولا يمكن أن يعرف شخص من شخص آخر، فإذن تهتز كل عوالم الحياة وكل أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والحياة الزوجية والأسرية.(10/1379)
فإذن ينبغي أن يكون لنا موقف حازم ودقيق وصريح وجريء حول هذا الموضوع الذي سبقتنا إليه عدة جهات، فالبابا أعلن تحريمه، وقريبًا أمريكا حرمت الاستنساخ البشري، دول نصرانية كثيرة، فهل ننتظر نحن الدول المسيحية التي تحرم وتمنع ونخاف أن نبدي رأينا في الموضوع؟! الواقع الاستنساخ البشري خطر على الحياة الإنسانية ويهز كيان المجتمع الإسلامي وغير الإسلامي، ويعطل كيفية التعامل مع الأشياء المختلفة كلها، فجدير بنا أن يكون لنا موقف حازم ورأي صريح بالقول بمنع الاستنساخ في دائرة البشر، وأما الهندسة الوراثية في عالم النبات والحيوان فأمر لا مانع منه.
وأخيرًا أريد أن أطمئنكم بأن (دولي) التي يتحدث عنها الناس الآن تخضع لأجهزة الإنعاش فهي في خطر لأن الخلية التي أخذت منها غير الخلية الطبيعية بحيث يزيد سنها ثمان سنوات عن الحقيقية الأصلية، فهي إذن في خطر وفي حال ترقب الموت، فلذلك لنطمئن جميعًا أن العملية فاشلة، وشكرًا.
الشيخ الشمري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في الحقيقة إن هذا الموضوع الخطير الذي تناوله الناس بمختلف فئاتهم حتى وضعت المجتمعات في جو مرعب يخافه الكثير من هذا الموضوع، وإن موضوع الاستنساخ موضوع خطير، وهو موضوع جديد في طرحه وفي موضوعه، ولذلك فلا بد من تأصيل المسألة تأصيلًا شرعيًّا وعلميًّا دقيقًا، وحَسَنٌ فَعَلَ المجمع أنه طرح هذا الموضوع للبحث والمناقشة، وأن يدرس دراسة تجلي كثيرًا من غوامضه، وتعطي صورة واضحة عن واقعه الحاضر، وما قد يترتب على تلك الدراسة من فتاوى شرعية وقرارات يتخذها المجمع سواء كان في دورته هذه أو في دورات أخرى.
الأمر الذي أراه من وجهة نظري وأضم رأيي إلى رأي فضيلة الشيخ تقي العثماني أن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة متأنية في ضوء الأحكام الشرعية والنصوص الفقهية، وأن تكون تلك الدراسة مبنية على هذه النصوص ومبنية على ما يقدمه المختصون في الطب والعلم التطبيقي وما يتوصلون إليه، فإن هذا الجو الذي قد نوضع فيه بأنه فيه خطر على المجتمعات وعلى الأنساب وعلى كذا وكذا، هذا الأمر ما زال لم يطبق ما زال مطروحًا، فإن التلقيح الصناعي عندما طرح طرح أيضًا في هذا الجو الذي اختلف فيه كثير من العلماء.(10/1380)
ولذلك فإن موضوع الاستنساخ قد يشابه إلى حد كبير في بعض موضوعاته موضوع التلقيح الصناعي، فقد يجوز لنا أن نقول: إن ما يجوز في التلقيح الصناعي أو ما أجيز في التلقيح الصناعي قد يجاز في الاستنساخ، وما منع هناك قد يمنع أيضًا هنا، هذه مسألة أيضًا ينبغي أن تطرح للبحث والمناقشة والدراسة، وحتى يخلص الباحثون والفقهاء والأطباء إلى قرار سديد سليم في هذه المسألة.
الأمر الآخر في هذا الموضوع هو أن موضوع البحث في هذا ما زال من وجهة نظري قاصرًا يحتاج إلى المزيد وإلى التأني والبحث، وليس مطلوبًا منا أن يكون عندنا قرارات سريعة في مواجهة مثل هذا الموضوع بحجة أن البابا قد فعل وأن كلينتون قد فعل، نحن ننطلق من منطلقات لا ينطلقون منها، فينبغي أن تكون منطلقاتنا مؤصلة ومبنية على نصوص شرعية وفقهية وبحث علمي أصيل دقيق، فنجيز ما كان جائزًا، ونمنع ما كان ممنوعًا؛ لأن في شريعتنا وديننا كما تعلمون أنها ليست ضد العلم، وإنما ضد العبث وضد الشيء الذي يضاد هذه العلوم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ مصطفى التارزي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
حضرات السادة العلماء:
لقد استمعت في هذا الصباح بكل اهتمام إلى بحثي الطبيبين العالمين الدكتور أحمد رجائي، والدكتور صالح الكريم، حول قضية الاستنساخ من الناحية الطبية والبيولوجية، وكنت مبتهجًا بحسن العرض ووضوح البيان، فشكرًا لهما.
وقد استوقفني تعرض الدكتور أحمد رجائي حفظه الله إلى كلمة المؤيدين لقضية الاستنساخ، وبالأصح في قضية التكاثر الخلوي أو التكاثر الجيني، وإلى المعارضين لقضية الاستنساخ، مع أني أعتقد أن كل المتشبعين بالمبادئ الإسلامية يرون أن الموقف المتبصر يرى أن هناك خطوطًا حمراء يجب ألا يتجاوزها العلم درءًا لأخطارها الجسيمة التي يمكن أن تترتب على نتائج هذه الأبحاث العلمية وخاصة في مجال بيولوجية الإنسان، وصلة ذلك بحكمة الخالق في خلق الكائن البشري، لأن كل سلبيات الاستنساخ في ميدان الزراعة وميدان الماشية هي أقل خطورة من سلبيات الاستنساخ البشري، ونتيجة لنجاح العملية التي أنجبت نعجة بطريقة التكاثر الجيني قالوا: إن هذا يمكن أن ينطبق على الإنسان نفسه كما يمكن أن يخلق من هذا الشخص آلاف الأشخاص، ولا يستبعد علميًّا أن يتوصل العلم إلى الاستنساخ البشري، ومعناه أن تجرى كل التجارب الممكنة مهما كلف هذا العمل من مال وجهد وتشريح وتلقيح وتركيب وإخفاق، وبذلك يفقد الإنسان كرامته التي منحه الله إياها في قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} .(10/1381)
وإن هذا الاستنساخ وهو إخراج صور عديدة من أصل واحد إذا قدر له النجاح سيفقد ضوابط الأسرة والبنوة والأخوة، ويهدد الحقوق الإنسانية بأكملها والواجبات الإنسانية في المجتمع، ويفتح باب جرائم التزوير وانتحال شخصيات الآخرين، مع أننا نعلم أن العلم في الإسلام له حدود وهو مقيد بأن يسخر لسعادة الإنسان، ومن أجل أن يبقى النوع الإنساني ويستمر ينبغي أن يكون العلم حارسًا ومهيِّئًا لظروف أفضل للإنسان، أما إذا انحرف العلم عن ذلك فيكون وسيلة لتدمير الإنسان وهذا أمر حرام.
وإذن فليست القضية في نظر الشريعة الإسلامية قضية مؤيدين ومعارضين في نظري، إذ قامت الشريعة الإسلامية على اعتبار الإنسان خليفة الله في الأرض بنص القرآن في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} .
أما الحيوان لو كان من فصيلة الثدييات كالإنسان فقد خلق للإنسان لتكتمل به إنسانيته ويتقوى به على القيام بأعباء الخلافة ويقدمه قربانًا إلى الله , والله تعالى يقول: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} .
هذا والله سبحانه وتعالى قد عظم الإنسان وتباهى بخلقه عندما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] ، فهل ننتقل بالإنسان من هذه العناية الإلهية وهذا الإبداع في الخلق وهذا التركيب المحكم المتسلسل من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى نشأة خلق الإنسان، هذا الإنسان الذي اختاره الله لأن يتولى خلافته في الأرض؟ لا يمكن أن يغير إلى خلق جديد لمجرد نجاح جزئي جاء صدفة في تجارب خلية جينية للأغنام وخلية أخرى من الغدة الثديية لأغنام أخرى، مع اعتراف الباحث أن التجارب التي أجراها لم تنجح في أغلبها وأن معظم الأجنة التي حصل عليها المعهد ماتت أثناء فترة الحمل ولم ينجح سوى واحد فقط، ومع العلم أن هذا المعهد لم يتخصص في الاستنساخ الحيواني أو البشري وإنما كان يعمل لفائدة شركة المستحضرات الطبية والتكنولوجيا الحيوية بهدف الوصول إلى إيجاد أدوية لعلاج بعض الأمراض الوراثية التي توجد بكثرة لدى الأطفال، كما تسعى عديد من الشركات الأخرى المنتجة للخنازير وعبر تقنيات الهندسة الوراثية أن تستعين بهذا الأسلوب في عملية زرع الأعضاء البشرية.(10/1382)
وتخوفت الأوساط العلمية في أن هذه الخطوة الأخيرة وهي تجربة استنساخ النعجة (دولي) قد تفتح الباب أمام قضايا بيولوجية وأخلاقية ودينية شائكة، ولهذا صدرت ردود فعل دينية وعلمية وسياسية واسعة النطاق على المستوى العالمي، واتخذت إجراءات للحد من هذه التجارب إذا حاولت تجربة الاستنساخ على البشر، وقدمت مشروعات بقوانين لمنع هذا الأمر وتحريمه في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الدول التي لها مراكز أبحاث متخصصة في علم البيولوجيا وعلم الوراثة، مع أننا كلنا نعلم أن الإسلام يشجع البحث العلمي ولا يقف حجر عثرة أمام التقدم العلمي، ونعلم أن تجربة استنساخ النعجة (دولي) قد أثارت ردود فعل دينية وعلمية، وإذا تعالت صيحات الفزع من جهات متعددة للحد من هذه التجارب إنما كان ذلك لما اتجه إليه تفكير الباحثين لمحاولة تجريب الاستنساخ على البشر، خوفًا من عواقبه الوخيمة، ولا يعتبر هذا موقفًا ضد العلم أو ضد التقدم العلمي، لأن الإسلام يبارك العلم، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، ولا يمكن أن يقف الإسلام ضد العلم ما دام مسخرًا في الخير وفي خدمة الإنسان والمجتمعات البشرية ووسيلة اكتشاف قوانين الله في هذا الكون، فالإسلام يحث على كل تقدم علمي نافع مفيد، والله تعالى يقول: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} .
وكثيرًا ما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه قائلًا: ((اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، وأعوذ بك من علم لا ينفع)) ، وقد منح الله - تبارك وتعالى - العقول لخلقه لكي يتفكروا وينظروا إلى الكون وما فيه من دلائل عظيمة على قدرته، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وبهذا يمكن القول بأن الاستنساخ إذا كان في النبات والحيوان أو مما يوفر وسائل طبية علاجية فيما كان قبل مستعصيًا على الإنسانية، فلا معارضة فيه لأنه ثمرة التقدم الطبي المخبري الذي ما تزال تصرف من أجله أموال ضخمة لاستئصال بعض الأمراض المستعصية ولتتمة الطب الوقائي في العلم، كما أن هذه التجربة ستكون فائدتها عظيمة في الميدان الفلاحي كتوفير الماشية وتحسين الزراعة والتطور في مجال الهندسة الجينية، والمعرفة الدقيقة لخصائص المورثات الصبغية ستجنب الكثيرين أمراضًا كالصلع وتساقط الشعر، كما يساعد على إصلاح علوم الجينات الوراثية , وفي هذا الميدان يقف الإسلام جنبًا إلى جنب مع التقدم العلمي ما دام لتوفير إنتاج ينفع الناس والبشرية، والإسلام يفرق بين الخلق والتخليق، فالخلق لله عز وجل، والتخليق أو التكوين أو الاختراع يستطيعه الإنسان بواسطة ما خلق الله، فالإنسان لم يخلق المادة الحية ولم يخلق الخلية، ولم يخلق البييضة، ولكنه استطاع أن يستخدم هذه المواد حسب طرق معينة موصلة إلى هذه النتائج، والإسلام يفتح باب ذراعيه للعلم.
حكم الاستنساخ البشري: إن جملة ما تقدم ذكره في هذه الدراسة يبين بكل وضوح أن عملية الاستنساخ البشري هي مخالفة للمبادئ الأساسية التي قام عليها التشريع الإسلامي في تكوين المجتمع الإنساني، ودفعت علماء الشريعة إلى رفع أصواتهم بتحريم الاستنساخ البشري لاعتبارات متعددة.(10/1383)
أولًا: لأن عملية الاستنساخ البشري ستؤدي بالإنسانية إلى أضرار فادحة ومتنوعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، فكل ما أدخل ضررًا على حياة المجتمع فهو حرام، وللقاعدة الشرعية (الضرر يزال) ، (وما أدى إلى الحرام فهو حرام) ، فالاستنساخ حرام.
ثانيًا: الاستنساخ البشري يخالف التوازن الحياتي القائم على اختلاف الجنس وتباينه لقوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} ، إذ بالتمييز جعل الله لكل إنسان شخصيته ودوره.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
د. هيثم الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
أود أن أدعو أولًا إلى تحرير المصطلحات قبل كل شيء تمهيدًا لإصدار الحكم الشرعي، فلفظة (الاستنساخ) لفظة فرضتها علينا وسائل الإعلام وهي لفظة غير دقيقة ولكنها فرضت علينا، وهي في مقابلتها الأجنبية مظلة تغطّي عددًا من المفاهيم، عددها في الوقت الحاضر أربعة:
أولها: أخذ الحقيبة الوراثية الكاملة على شكل نواة من خلية من خلايا الأب وإيلاجها في خلية بويضية من الأم مسلوبة النواة، فتتألف بذلك خلية تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وهي في الوقت نفسه تمتلك طاقة التكاثر إن اكتملت حقيبتها الوراثية، فإذا غرست في رحم الأم تنامت وتكاملت وولدت مخلوقًا مكتملًا بإذن الله، وهذا هو الذي يقصد بالاستنساخ إذا أطلقت هذه اللفظة بلا تحديد، ومن المهم أن نشير هنا إلى أن المخلوق الجديد لا يمكن أن يشبه أباه 100 % لأن بييضة الأم المسلوبة النواة تظل مشتملة على بقايا نووية في الجزء الذي يحيط بالنواة التي سلبت، ولهذه البقايا أثر ملحوظ في تحوير الصفات التي ورثت من الخلية الأبوية؛ هذا هو المفهوم الأول.
المفهوم الثاني: ازدواج حقيبة وراثية نصفية من منوي الأب مع حقيبة وراثية نصفية من بويضة الأم بحيث أصبحتا معًا خلية تشتمل على حقيبة وراثية كاملة وتمتلك طاقة التكاثر، فإذا أخذت بالتكاثر إلى خلايا متماثلة شطرنا بعض هذه الخلايا عن بعض في مراحلها الأولى السابقة لمرحلة التمايز، فكانت كل منها قادرة على تكوين مخلوق مكتمل - بإذن الله - يشبه تمام الشبه شقائقها الأخرى، وهذا الذي يطلق عليه البعض اسم الاستتئام أو الاستيئام.
المفهوم الثالث: أخذ سلالة من خلايا الكائن الحي وتكثيرها بشكل مناسب في وسط مناسب وذلك للاستفادة من هذه النسيلة الأحادية في التشخيص أو المعالجة.(10/1384)
المفهوم الرابع: تناوش جين من الجينات- أي مورثة من المورثات - وهي تلك الحبيبات الصغار التي تؤلف سلسلتها ما يعرف بالصبغي أو الكروموزوم، أقول: تناوش هذا الجين إذا كان يحمل خلية مرضية لإصلاح هذا الخلل بإذن الله.
هذا كله في البشر وهو فيما يخيل إليّ موضوع بحثنا، لم يحدث النوعان الأولان فيه بعد فيما نعلم، لا الاستنساخ بالمفهوم الشائع ولا الاستيئام، النوع الثالث بدأ بنجاح منذ سنين، والنوع الرابع يتم العمل عليه في الوقت الحاضر، أما ما يتم من تجارب الهندسة الوراثية على النبات والحيوان فليست محل بحثنا وهو أمر فيما بدا لي لا يلقى نكيرًا من أحد. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الشيخ عكرمة:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبينا محمد رسول الله.
وبعد:
ما من شك أن كل قضية جديدة لا بد وأن تحاط بقواعد عامة وأدلة شرعية لمعرفة مدى مطابقتها وعدم مطابقتها، فقبل أن نصدر حكمًا عن الاستنساخ لا بد وأن نراعي عددًا من القواعد العامة التي دعا إليها ديننا الحنيف، منها: بأن التناسل والتكاثر في الشريعة الإسلامية يكون عن طريق الزواج المعروف: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، وقاعدة أخرى معروفة في الشريعة الإسلامية هي التي فيها أب وأم ونسل وإنجاب، والله سبحانه وتعالى يقول: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ويقول أيضًا {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} ، وقاعدة أخرى أن المسؤولية الجنائية في الشريعة الإسلامية تقع على الشخص نفسه وهو الذي يتحمل عاقبة أثره، فحين تتشابه النسخ البشرية قد يتعذر حينئذ تحديد المسؤولية ومعرفة صاحب العلاقة، والله سبحانه وتعالى يقول: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ويقول أيضًا: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، ومن القواعد التي يجب أن تراعى في هذا المجال بأن الله سبحانه وتعالى قد كرم الإنسان وخلقه في أحسن صورة بقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} ويقول أيضًا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} .
فالاستنساخ حسب تصوري يؤدي إلى امتهان الإنسان وإلى تشويه خلقه وصورته.(10/1385)
أيضًا، من القواعد الشرعية أن الشرع يهدف إلى حفظ الكليات الخمس وهي: النفس والعقل والدين والمال والنسل، وهذه الكليات لا يستطيع أي مجتمع العيش بدونها، وإذا حدث إخلال بواحدة منها فسدت الحياة، وعليه، فإن قضية الاستنساخ كما يبدو فيها اعتداء على بعض هذه الكليات الأساسية في المجتمع.
هذه بعض القواعد الكلية المدعومة بالنصوص الشرعية لا بد من مراعاتها حينما نحكم على مشروعية الاستنساخ وعدم مشروعيته، مع التأكيد على أننا لسنا ضد العلم، والدليل على ذلك أننا قد أجزنا من الناحية الشرعية أطفال الأنابيب بقيود حينما يكون الحيوان المنوي من الزوج والبويضة من زوجته فقط.
بالنسبة للحيوانات والنباتات أتصور أنه هو جائز ولكن ضمن حدود أيضًا، ضمن حدود المصلحة الشرعية للإنسان وضمن التوازن البيئي الذي وضعه الله للبشرية، فإن قلنا إن الحيوانات يجوز الاستنساخ فيها مطلقًا فكيف باستنساخ الخنازير على سبيل المثال؟ فلا بد أيضًا في استنساخ الحيوانات أن يكون ذلك ضمن المصلحة الشرعية للإنسان، وكذلك بالنسبة للنباتات فهناك نباتات محرمة كنبتة الحشيس وغير ذلك من النباتات المحرمة لا يجوز أيضًا أن نجيز في استنساخها من الناحية العلمية، فالحيوانات والنباتات من حيث المبدأ جائزة الاستنساخ ولكن ضمن المصلحة الشرعية للإنسان وضمن التوازن البيئي الذي وضعه الله للبشرية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ الطيب سلامة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قضية الاستنساخ هذه التي هي حديث العالم أو حادث القرن إن شئنا، هي قضية في أصلها مفتعلة لأن هذا الاستنساخ ليس وليد اليوم ولا وليد أسبوع ولا شهر ولا سنة، عمليات الاستنساخ والتجارب فيه بدأت في مطلع هذا القرن، وأخذت نشاطًا زائدًا قبل الحرب العالمية الثانية، ثم خمدت زمن الحرب وتواصل العمل فيها إلى يوم الناس هذا، الجدير بالملاحظة أن حسناء الأغنام (دولي) هذه التي أثارت الدنيا وأقعدتها ليست هي الأولى من نوعها بل قبلها بسنة ولدت أخت لها بنفس العملية تقريبًا وتختلف عنها في الاسم اسمها (مراق) وهي حية إلى اليوم، ولكن لم تتكلم فيها الصحافة ولم يثر الحدث انتباه أي إنسان، هذا يدل على أن وسائل الإعلام العالمية مُسَيَّرة وهي تسير لا حسب قواعد معلومة، وإنما حسب سُلَطٍ تُسَيِّرُهَا في العالم، ونحن في هذا العالم نعيش مع سلطة أخرى جديدة هي هذه الشركات العظمى التي ارتفعت بمستواها وقدراتها وصورتها فوق الدول حتى الدول العظمى والغنية في نطاق ما يسمى بـ (العولمة) .(10/1386)
ونحن نعرف أن هذه النعجة المستنسخة هي عملية اختراع، بحيث أخذت الإجراءات لإجراء عملية طبيعية كما يقع في المصانع من اختراع الآلات الجديدة، لأنها ولدت في 5/ 7/ 1996 م وتم الإعلان عنها في 27/ 2/ 1997 م، أي بعد ثمانية شهور تقريبًا، وبعد أن تم تسجيل براءتها حتى تبقى الشركة التي أنتجتها هي المالكة لهذا المخترع وحتى توهم الناس أيضًا أنه حقيقة مخترع علمي له بال، في حين أن المعلومات الأخيرة دلت على أن إعادة هذه التجربة محل شك ومحل توقف، لأن العملية وقعت على صورتها التي ذكرت، ولكن إعادتها كما هي ليس فيها نجاح مضمون. وجميع الشركات المهتمة بهذا الأمر وجميع المخابر العلمية تحاول أن تعيد هذه التجربة ولكن مع نسبة كبيرة من اليأس في أنها تنجح، ونفس الباحثين اللذين ولدت على يديهما (دولي) يعترفان بأنها ضربة حظ، بدليل أنهما استعملا قبل نجاحهما في هذه النعيجة 277 خلية ولم تنجح، ونجحا في الخلية 278، حينئذ لعل فيه خير، لعل من الأسباب التي نحمد الأقدار عليها لأنها تحفزنا إلى أن ننظر إلى المستقبل وأن نحتاط، ولأن نرى ما يجري في عالم الأبحاث العلمية وفي ميدان التقدم العلمي , وإن كان يؤسفنا أن يأخذ هذا الحجم، في حين أن العالم يعيش أشياء مريعة وفظيعة إلى أبعد الحدود ولا تتكلم عنها صحافة ولا وسائل إعلام.
وأذكر من هذه الأمور التي تمر بالعالم ولا يلتفت لها لا العالم المتحضر ولا العالم المتخلف ولا العالم المتوسط، من ذلك أننا نعيش في هذا الوقت الذي نتحدث فيه هناك أسواق يباع فيها الأطفال وليست في آسيا أو إفريقيا وإنما هي في أمريكا الجنوبية، أطفال يباعون ويقع الاتجار فيهم، والنسب محفوظة بنسبة 300 أو 500 طفل كل شهر، يعني 42000 طفل في السنة، وهو عدد سكان مدينة متوسطة، يباعون في هذه البلدان ويقبض أهلهم الذين يبيعونهم أثمانهم؟ يقول قائل: لماذا يباع هذا الطفل؟ وماذا يفعل به؟ هو مستعمل في أحد أمور ثلاثة: إما في الأشغال الشاقة - والأطفال هؤلاء سنهم من سنة إلى 15 سنة بين ذكور وإناث - ويربون على ذلك ويتم تدريبهم على هذه الأعمال، ولكن الأشد قسوة والمنكر هو أن هؤلاء الأطفال يستعملون في البغاء وفي اللواط، ثالثًا يستعملون في أخذ أعضائهم لبيعها للأثرياء والكبراء، والأسعار محددة ومعروفة، الكلية من 9000 دولار إلى 20000 دولار بحسب العرض والطلب، طبعًا الكلية تؤخذ من ذلك الطفل وتعطى لذلك الغني وهكذا.(10/1387)
المنكرات التي تمر بها البشرية اليوم كأننا نعيش في عصر ندعي فيه الرقي والحضارة ولكننا نفقد فيه كل ضمير، حتى السوق المالية التي تعيش من جراء هؤلاء الأطفال قدروها بما يقارب من خمسة مليارات دولار، المنظمات هذه موجودة ومعروفة، هناك منظمة مشهورة وهي عتيدة ومتمكنة وسمتها بعض الجرائد لأنها ذكرت هذا الخبر في زاوية خفية، هي المافيا العالمية كما قالت والعهدة عليهم.
الاستنساخ بأنواعه في النباتات، وقد بدأ في النباتات ودعت الحاجة إليه وإلى تكثير النبات وإلى حماية النباتات من الأمراض والحشرات الطفيلية التي تفتك بها، ثم الاستنساخ الحيواني، والآن نحن في محل أخذ ورد حول الاستنساخ البشري؛ حتى الاستنساخ النباتي الآن محل توقف بحيث لا يقدر الإنسان أن يقول ولا يقدر المسلم أو العالم أو الفقيه أن يقول إن الاستنساخ النباتي مسلم وهو جائز ومعمول به، هو معمول به في التطبيق ولكن ما زالت نتائجه الحقيقية غير مسلمة وغير معروفة، بدليل أنه توجد منظمات في أوروبا نفسها التي يجري فيها هذا الاستنساخ منظمات متعددة وهي المنظمات التي يجمعها عنوان حماية الطبيعة.
من هذه المنظمات منظمة معروفة ومشهورة وهي جماعة السلام الأخضري، المنظمة هذه تعارض بكل شدة أن يقبل الناس على استهلاك هذا المنتوج المحور جينيًّا، لأنهم يقولون لا ندري، بعد التجارب لا بد أن تكون تجارب سنوات حتى نعلم انعكاس هذه المنتوجات على جسم البشر، ونحن نعرف التجارب كما يقولون، تجارب الأدوية التي تجرب في إطار خاص، والأطباء يعرفون هذا، ثم تجرب في نطاق واسع، ثم تجرب إكلينيكيًّا، لا نكتشف أضرار هذه الأدوية ولا نسحبها من الأسواق إلا بعد مضي عشرات السنوات ونتفطن إلى ما تحدثه هذه الأدوية من أضرار على المرضى، كذلك يقولون يجب أن نحفظ حقوق المستهلك في أننا نميز بين المنتوج المحور جينيًّا وبين المنتوج الطبيعي، ولكن الشركات التي تنتج هذه المنتوجات المحورة جينيًّا تأبى أن تميز وتمتنع عن ذلك، وفي طليعة هذه الشركات: الشركات الأمريكية التي تورد حبوبها إلى أوروبا، بحيث التجار في أوروبا يطالبون بالتمييز بين الحبوب الطبيعية وغير الطبيعية ويأبى الباعة هذا التمييز.(10/1388)
وقد أصدر البرلمان الأوروبي توصية إلى الحكومات بأن تعمل على إصدار قرارات وقوانين توجب في المتاجر التمييز، يعني في أماكن العرض، أو بوضع العلامات والملصقات، التمييز بين الإنتاج الطبيعي وغير الطبيعي، إذا كان هذا الإنتاج النباتي الذي مر عليه عقود كثيرة من التجربة، ومازال محل توقف من أهله فكيف نستطيع نحن أن نسارع بأن نصدر الحكم بأنه حلال أو طيب، ثم نجد أنفسنا متناقضين مع الواقع بعد سنة أو أكثر، فأعتقد أن الانتظار أولى.
استنساخ الحيوان جرى ووقع، ولكن أيضًا هو محل توقف، وقضية البقر المجنون لمجرد تغيير طبيعته في أنه أصبح يتناول من دقيق اللحم فجنت الأبقار فجنت وراءها البشرية لأنها أكلت لحومها، حينئذ حدثت أخطاء كبيرة زيادة على ما هو واقع، ومما لاحظه العديد من الأطباء في أن هذه المحورات جينيًّا تثير عند كثير من الناس أنواعًا من الحساسية، إذا أتينا إلى الاستنساخ البشري فهو عملية ليست سهلة، إذا نحن في (دولي) الآن الذي نعتقده أنه أمر مسلم، هي ما زالت محل توقف، المخابر في البحث العلمي تتمنى لو أنها تستطيع أن تعيد تجربة (دولي) ، نفس العالمين يتمنيان أن يقدرا على إعادة تجربة (دولي) ، هي في حيز العدم تقريبًا وهي شبه حلم عاشته البشرية، ثم إنه هل يستمر أم ينطفئ؟
حينئذ بالنسبة للإنسان الاستنساخ ليس سهلًا، أولًا لأن العقلاء من العلماء والباحثين يقولون: أي غرض يتعلق باستنساخ الإنسان؟ وأي فائدة تأتي من استنساخ الإنسان؟ وضربوا مثلًا لذلك حين استشهدوا بأينشتاين أو هتلر الذي يحكي عنه التاريخ من الشدة والحزم، قالوا: لو نستنسخ ونظفر بخلية من خلايا هتلر ونستنسخه فلن يكون على التحقيق هو هتلر نفسه الذي عاش، بل قد يكون إنسان شبه مخبول أو لعابه سائل وهو يمشي في الأسواق، ولعل إسرائيل تشتريه.(10/1389)
حينئذ استنساخ الإنسان، كلمة الاستنساخ معناها أخذ النسخة لا تدل على المطابقة، وهو أمر مجزوم به، فنحن عندما نستنسخ ورقة على ماكينة التصوير نجد أنها ملوثة، زيادة على أن ما يقوله العلماء - والعهدة عليهم - أن الفارق الزمني في تنشيط الخلية، الخلية التي ننطلق منها في تكوين الحيوان والخلية التي ننطلق منها في تكوين الإنسان إن حدث أننا سنستنسخ الإنسان، أقول إن الفارق الزمني هو كثير لأننا عندما نلقح البييضة، فإن القيادة في تسيير حياة الخلية الملقحة تكون للحامض النووي وللسيتوبلازم، هذه القيادة تستمر إلى الانقسام الرابع أو الخامس، يعني إلى أن تصبح الخلية الواحدة عددها 32 خلية تقريبًا، بالنسبة للإنسان هذا غير موجود، وقد أجريت تجارب على خلايا إنسانية، ففي الانقسام الثاني بعدما تصبح الخلية 4 يتخلى الحامض النووي والسيتوبلازم ويطلبا من النواة أن تأخذ القيادة، فلا تستطيع النواة وهي لم تتهيأ بعد لأخذ قيادة الخلية، ولذلك تموت الخلية، من هنا أحد الباحثين في مداخلة له خجل من أن يقول: إن الأمر مستحيل بالنسبة للاستنساخ البشري وقال: صعب، ثم تردد كثيرًا، وفي الآخر نطق بها وقال: العهدة علي أن أتحمل هذا، أنا أعتقد أن الاستنساخ البشري أمر مستحيل، وهذا من تكريم الله تعالى لبني آدم وهو من نعم الله تعالى علينا.
الحكم بالنسبة للاستنساخ ينبغي ألا نستعجل فيه، وبعض الإخوان يرى أننا نتبع ما جرى في أمريكا وأوروبا من الإسراع في تحريم الاستنساخ، يا أخي أمريكا وأوروبا عندهم سابقة حيث إن المسيحية كانت تقاوم العلم وفي الإسلام عكس ذلك، ولكن نسارع ونحرم ربما يكون موقفنا مغاير للإسلام، لأن الإسلام يحرم الفساد والإفساد في الأرض، أما المجال العلمي فهو مفتوح، وقضية الاكتشاف العلمي لا يتحمل جرم تصرف الإنسان، نحن نعرف مثلًا أن آلة الكشف بالصدى موضوعة للكشف عن باطن الإنسان بصورة أوضح من أشعة x ولكنها اليوم أصبحت مستعملة في بعض البلدان للقضاء على الجنين إذا كان بنتًا، يعني بهذه الآلة يطلعون على الجنين وإذا علموا أنه بنت يقع الإجهاض لأنهم لا يريدون البنات، هذا ليس ذنب الآلة أو ذنب العلم وإنما ذنب البشر. وشكرًا لكم.(10/1390)
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أريد كلمة خطابية بل أريد أن أسأل رجال البحث العلمي عندنا حتى نبحث عن هذا الحكم أو ذاك، إننا نتوجه بهذه المناسبة إلى إخواننا في البحث العلمي، إلى الأطباء والبيولوجيين، نريد أن نرى نظرية علمية على أيديهم تولد لنحييهم، ثم نقول إن الله رفع أيديهم عن الإنسان، نعم لن تصل أيديهم إلى الإنسان لأننا كما سمعنا وتعرفون وستعرفون: لن يصلوا إلى (دولي) في الإنسان، ولكن نقول يا ترى - نسأل الأطباء - كم وكم تسرب من هذه التي تسمى لجان البحث أو المختبرات، كم وكم تسلل من مصائب إلى البشرية لم نعرفها؟ هم يعرفونها ونحن لا نعرفها، إذن أمام هذا البحث العلمي نحن نتساءل كيف وقد ورد في أول آية من آيات القرآن {اقْرَأْ} ؟ وفيها علم الإنسان ما لم يعلم، إذن نحن لا نخاف من البحث العلمي ولكن نقول لهم: ارفعوا أيديكم عن الإنسان، والله قد رفع أيديهم عن الإنسان. وشكرا لكم. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين.
إن الاستنساخ نتيجة مدهشة من نتائج تطور البحث العلمي والتي وضعنا الأساتذة الأطباء جزاهم الله خيرًا في صورة عامة عنها مما يتيح لنا إبداء الرأي في شكل الموضوع لا في جوهره، بناء على نظرة عجلاء لفحص بعض النصوص التي تحمل دلالات عامة يمكن استنباط الحكم منها، ولكن يبقى التساؤل عن النتائج النهائية في جولة العلم في هذا المجال، تحاشيًا للتطويل في تكرار التفاصيل العلمية التي تعرض لها الأساتذة الكرام، وبالأخص التصوير القيم الذي قدمه الدكتور رجائي والدكتور صالح صباح هذا اليوم، يمكن القول: إن لدينا ثوابت يتجه المجاهرة بحكم الله فيها وهي أن استنساخ الإنسان على الشكل الذي تم في النعجة المشؤومة (دولي) حرام، ولا يجوز السكوت عنه إن وقعت الإساءة، ولكن أيضًا لا بد من الإشارة إلى أن العلم سجل إمكانية كذا التغيير في الخلق مبكرًا وخصوصًا عند علماء المسلمين، فالقرطبي عند قول الله عز وجل {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} قال: ولذلك حرم بعض العلماء تعاطي بعض صنوف الكيمياء حتى لا يجر ذلك إلى تغيير خلق الله، وحديث لعن الواصلة والمستوصلة ورد في أحد الروايات بالجمع، وفي آخره: (المغيرات لخلق الله) .(10/1391)
وعلى هذا، فإنني أرى ما دامت أداة البحث خارجة عن دائرة نفوذ الحكم في الدول الإسلامية وجهات التمويل ليست إسلامية، ومراكز البحث والأطباء العاملون بها مع الأسف ليسوا أيضًا من المسلمين، فإن دائرة حكم الدول الإسلامية لا تستطيع التحكم في النتائج التي يمكن أن يصلوا إليها خشية انتشار هذه الصفة ونصبح أمامها لا نستطيع رد ما توصلت إليه، فإنني أرى أنه يجب إصدار قرار تحريم استنساخ الإنسان، ولكن أيضًا أقترح القيام بإجراءات هامة ما دام البحث متقدم في هذه القضية، وما دامت جهات التشريع في الدول العلمانية ومرافق الكنيسة تحرم هذا الموضوع الآن، فإنني أقترح أن المجمع الفقهي بتنسيق مع منظمة المؤتمر الإسلامي يسعيان إلى حوار بين رجال الديانات السماوية لاستصدار قرار بحرمة هذا الموضوع بينما حرموه هم الآن.
وكذلك الدول العلمانية جهات التشريع فيها تعالت منها صيحات بتحريمه، ففي هذا الوقت الذي تتأجج فيه العواطف بتحريم هذا الموضوع يسعى المجمع الفقهي بتنسيق مع منظمة المؤتمر الإسلامي وأمينها العام باستصدار قرار يمكن أن يطرح حتى على مجلس الأمن حتى يكون بأيدينا تحريمه من العالم ولا نصيح غدًا بعد الرجوع عن قراراتهم، نحن الذين نصطدم بالعلم كما يدعون ويعبرون هم عن رأيهم ونبقى نحن وحدنا في الميدان بتحريمه.
وشكرًا لكم. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
أتمنى أن يكون الشيخ علي التسخيري موجودًا لأني سأبدأ بالتعليق على بحثه وعلى ما ذكر أنه مسخر للدفاع عن هذه المسألة وإن كان لا يعتقد أمرها، فعلى كل حال ذكر لنا أن هذا وضع أو عمل قائم في بلادهم في المحاكم، وهذا شيء ممكن أن نذكر مثيلًا له وهو من سيرة الملك عبد العزيز رحمه الله , فالملك عبد العزيز حينما يعرض له مسألة من المسائل أو من المشاكل سواء كانت مشكلة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية فهو يجمع لها مستشاريه وإخوانه ويفرض على أخيه محمد بن عبد الرحمن أن يكون معارضًا ولو لم يكن معتقدًا المعارضة، وأن يأتي بما يبرر هذه المعارضة حتى تتضح الصور وتتضح المداخل ويمكن أن يكون هناك علاج لها.(10/1392)
في الواقع أن الشيخ علي أعطانا بحثًا فيه بيان وهو بيان يشبه السحر نرجو الله سبحانه وتعالى أن ينجينا من سحره، فهذا الموضوع موضوع خطير وموضوع في الواقع يعتبر عبثًا بالإنسانية وعبثًا بالمجتمع الإنساني على وجه العموم، فلا بد أن يكون لنا موقف يناهض هذا العبث الذي من شأنه أن يقضي على الإنسانية ويعتبرها ميدان تجارب على ما يريد.
ذكر بأن تغيير خلق الله الذي آلى الشيطان على ربه أن يأخذ به أنه عبارة عن توهمات وإيحاءات شيطانية ولكننا نقال: لا ليس الأمر كذلك، بل هو في الواقع من الشيطان هي إيحاءات للقيام بأعمال مادية، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن النمص، ونهى عن الفلج، ونهى عن الوشم، وقال صلى الله عليه وسلم: بأن هذا من تغيير خلق الله، والله سبحانه وتعالى قال في محكم كتابه مما يريد الشيطان أن يفعله {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ} ، فهذا كذلك تصرف مادي ليس إيحاءًا ولا توهمًا.
في الواقع كم أتمنى أن تشتمل بحوثنا المقدمة في هذا المجمع على ما يتعلق بالآثار السلبية على العقيدة، هل هذا تدخل في خلق الله وفي تغيير الأسس الربانية للخلق؟ أقصد هل في ذلك فتح لأبواب الإلحاد من قبل الإيحاء إلى ضعاف الإيمان بأن الحياة طبيعية ودهرية وجاءت عن طريق الصدفة؟ أتمنى أن يكون هناك رد على إنكار هذا التصور، وإن كان هذا التصور من ضعاف الإيمان، وأتمنى أن يكون من الرد على ذلك أن العناصر الأساسية للاستنساخ هي من الله تعالى، وهي خلق من خلق الله تعالى، وأن القائمين بهذه البحوث لا يستطيع أي واحد منهم أن يوجد عناصر مستقلة لإيجاد خلق آخر، فمهما تقدمت بحوثهم ونتائجهم في هذه المسألة فهي لا تتجاوز القول بأن ذلك خلق الله، يكون في الاعتبار أن معظم القائمين بهذه البحوث علماء طبيعيون، دهريون، ليس لهم ولا عندهم ضوابط دينية تجعلهم يقفون دون مسالكهم.
وهناك مؤسسات مالية لها قدرة على تمويل هذه البحوث وقفت الحكومات من ذلك مواقف سالبة موفقة إلا أن هذه المؤسسات المالية الخاصة لها غرض من الجانب الاقتصادي، أي من جانب الكسب المادي، فهي تمول هذه المعاهد المختصة بهذه البحوث لا لغرضٍ إلا الاستزادة من التكثر في المال، هذا يوجب علينا أن نكذب الردود على هذا العبث الإنساني المفضي إلى الكفر بالله من ضعاف النفوس - وما أكثرهم - نظرًا إلى أن مسائل الاستنساخ ليست مما تحتاجه الإنسانية في مجالات حياتها من حيث الاجتماع والاقتصاد والصحة، وهو في الواقع تدخل في الخصائص الربانية، وآثاره السلبية أضعاف أضعاف ما يمكن أن يقال بوجود جوانب إيجابية.(10/1393)
لذلك أرى أن على مجمع الفقه أن يسارع في إبداء الحكم الشرعي نحوه، فهو مجمع يمثل أكثر المسلمين في أنحاء المعمورة، وهو - أعني الاستنساخ - عبث ممن لا أخلاق لهم ولا أهداف غير التعاون والتعاضد مع الشيطان في تحقيقه ما آل به على ربه من تغيير خلق الله سبحانه وتعالى، فنظرًا إلى ما في ذلك من الآثار السلبية الخطيرة على العقيدة بصفة خاصة، وعلى أسس المجتمع الإنساني وتماسكه، وحيث إن المقامات العالية في الإنسانية عالميًّا قاومت هذا العبث واستنكرته، والمسلمون أولى بالمقاومة؛ فأرى ضرورة الإسراع في استنكار ذلك وذكر مسوغات ذلك الاستنكار وإصدار قرار من المجمع بذلك.
أسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.
الدكتور محمد علي البار:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين.
عندي بعض النقاط البسيطة التي أحب أن أشير إليها، وهي أن المسلمين بصورة عامة في هذا الميدان، ميدان العلوم البشرية وغير البشرية، متخلفون جدًّا بصورة عامة، وخاصة في موضوع الهندسة الوراثية وغيرها، وهذه الأبواب يحتاج إليها البشر، وسنوضح ذلك، ونحن الآن لا في العير ولا في النفير في معظم الأبحاث العلمية، ونحن نتلقى ما يأتي من الغرب ثم نحاول نرى تطبيقات حوله، وهذا الموقف، وموقف كل علم نافع والعلوم النافعة كثيرة جدًّا، سواء كانت في مجال الطب أو البيولوجيا أو الفيزياء أو الطيران أو غيرها، نحن أحق بها وهي من فروض الكفاية التي أشار إليها العلماء منذ زمن طويل جدًّا، لأنه لا بد أن يكون للمسلمين علم أفضل مما هو لدى الكفار، وأقل ذلك أن يكون مماثلًا له، ونحن في الأبحاث العلمية المختلفة جميع الدول الإسلامية بصورة عامة متخلفة في هذا الميدان وتنفق ربما في كرة القدم أو في مباريات أخرى، وغيرها أضعاف أضعاف ما تنفقه في مشاريع الأبحاث العلمية، فهذه نظرة عامة مهمة للتنويه بهذا الجانب.
إن الجوانب العلمية والعلماء المختصون في هذا الميدان يشتكون كثيرًا في الجامعات وفي غيرها من نقص الموارد وعدم الاهتمام بالأبحاث العلمية بصورة عامة، كم نحن محتاجون إلى أن نركز مواضيعنا في الأبحاث العلمية بصورة عامة، دول العالم الثالث بصورة عامة لا تخصص للأبحاث العلمية إلا أقل القليل، بينما نرى اليابان والغرب وغيره يخصصون مبالغ طائلة حتى من الدخل القومي، جزء كبير من الدخل القومي يفرد للأبحاث العلمية بصورة عامة، هذه نقطة أساسية ويبدو لي أن المجمع يستطيع أن يشير في توصياته إلى الاهتمام بالتطبيقات العلمية الحديثة، ليس في ميدان الاستنساخ والهندسة الوراثية فقط ولكن في الميادين كلها.(10/1394)
النقطة الثانية وهي قد تنبهت لها ندوة الدار البيضاء في المغرب وفي توصياتهم جاءت: أن ما يُمنع، قد تمنعه الدول الغربية من الناحية القانونية في إجراء بعض الأبحاث حول الاستنساخ البشري، في بعضها وليست كلها سوف تكون ممنوعة، لكن بعض الأنواع ربما تكون ممنوعة هناك وتستصدر قوانين بمنعها منعًا باتًّا، هذه الشركات لها سوابق سواء كانت شركات الأدوية أو شركات الأبحاث العلمية، تأتي هذه إلى دول العالم الثالث الفقير وتقوم بمشاريع مموهة على أنها مشاريع علمية لتنفع هذا البلد الفقير المحتاج، وفي نفس الوقت يقومون بأبحاث علمية ممنوعة عندهم.
وعلى سبيل المثال حتى حبوب منع الحمل عندما بدأت كانت تعطى في ورتيريكو - وهي جزيرة قريبة من الولايات المتحدة - يمكن حوالي مائة ضعف الكمية التي تعطى بها الآن، وتعطى لهؤلاء الناس، وكانت ممنوعة في الولايات المتحدة وفي أوروبا، وبعد أن جربت في هؤلاء البشر، يعني من المفروض أولًا أن يجربوها في الحيوانات، (الحيوانات الدنيا والحيوانات التي أكبر منها إلى الفئران) ثم تطلع بعد ذلك إلى حيوانات أخرى ثم بعد ذلك تجرب في البشر، وغالبًا يكون التجريب في البشر من العالم الثالث، ثم ينتقل بعد ذلك إلى البشر في العالم الأول عندهم، فهذه نقطة جديرة بالاهتمام وخاصة في التوصيات بألا ينتقل إلى عالم المسلمين ما هو ممنوع عندهم هناك لإجراء التجارب علينا باسم مموه صورة من صور الأبحاث العلمية أو مركز علمي يقام، ولا تزال هذه المراكز الموجودة في بعض الدول الإسلامية ممولة من شركات غربية ومن دول غربية تقوم بما هو ممنوع عندهم هناك أصلًا، هذه نقطة تحتاج إلى الاهتمام بها.
موضوع الاستنساخ يبدو أن فيه سوء فهم إلى الآن وهو ليس غريبًا أن يساء فهمه لأنه موضوع جديد وإن كان له طبعًا سوابق قديمة جدًّا، حتى الاستنساخ البشري، يعني الآن في خلايا جسم أي شخص جعل الله سبحانه وتعالى خلايا الجلد تموت ويخلق مثلها بالضبط وتستنسخ منها مئات الملايين من الخلايا، يمكن في خلال الجلسة هذه المسائية تم استنساخ مئات الملايين من خلايا الجلد، ومئات الملايين من خلايا الدم، ومئات الملايين من خلايا الأمعاء، في جسم أي واحد موجود فينا، فالاستنساخ الطبيعي موجود ولا جدال فيه، حتى الاستنساخ البشري.(10/1395)
النقطة الثانية التقسيمات التي جاءت في موضوع الاستنساخ وأنواعه تحتاج إلى إعادة نظر في تبسيطها للناس، من ذلك يمكن أن تقسم إلى استنساخ للأجنة (الجنيني) ، والاستنساخ الجيني للجينات والحقائب الوراثية، والاستنساخ العادي الذي يدخل في الخلايا الجسدية (استنساخ زرع النواة) ، وكل واحد من هؤلاء له تطبيقات تختلف عن الأخرى.
بالنسبة لاستخدامات استنساخ الجينات تحدث عنها الدكتور صالح وبحثه واضح فيها ربما يحتاج إلى إعادة القراءة وهو بحث قيم جدًّا في هذا الميدان، وكذلك الدكتور أحمد رجائي الجندي أوضح هذه النقاط، الجينات، هذا البحث حول الهندسة الوراثية وإيجاد الجينات موجود في النبات والحيوان وموجود أيضًا في الإنسان، وحتى في النبات والحيوان رغم فوائده العديدة يحتاج إلى إعادة نظر حتى لا تكون بعض الأضرار، لكن هذا لا يمنع أبدًا مثل أضرار الأدوية لا بد من المراقبة والمتابعة وإلا لأوقفنا باب استخدام الأدوية كلها، يعني بعض الأدوية لها أضرار وقد يكون حتى في المدى البعيد يمكن بعد عشر سنوات تكتشف لها أضرار.
وأنا أؤيد ما ذكره الشيخ الطيب سلامة وغيره من المتحدثين قالوا: إن هناك بعض الأضرار تظهر بعد عدة سنوات وهذا حق ولكن هذا لا يقفل باب استخدام الأدوية، إلا أن استخدام الأدوية المفيدة والمتابعة لذلك يحتاج إلى زمن لظهور بعض الأضرار، فإذا ظهرت لنا هذه الأضرار أوقفناه، لكن أننا نوقف جميع الأدوية والعقاقير لأن لها أضرارًا، هذا لا جدال أن لها بعض الأضرار وكل دواء في الدنيا يستخدم، حتى الأكل يعني بعض الناس عندهم حساسية له، وقد يضره فلا تمنع من أجل حالات محدودة ثبت ضررها، إذا ثبت النفع للأغلبية من الملايين من البشر وثبت الضرر لخمسة أو عشرة أو مائة لا يعني ذلك أننا نوقف هذا الدواء، ولكننا نتعرف على هذه الأضرار، وهذا أمر معروف وطبيعي ويدرسه كل طالب في كلية الطب أو الصيدلة.
هذا بالنسبة للجنين أو الجينات، الجينات أيضًا تستخدم في الهندسة الوراثية هذه لمداواة كثير من الأمراض ولإيجاد كثير من الأدوية والعقاقير، وأشار إليها الباحثون مثل بعض الهرمونات، (الأنترفيرون، الأنسولين) أو إدخال جينات بعد معرفة التشوهات الجينية الموجودة في الأجنة، وهذا البحث جاري، وقد بدأ بالفعل في بعض المراكز المتقدمة محاولة إصلاح هذا الخلل، يعني طفل سيولد بمرض وراثي هل من الممكن إصلاح هذا العطب، هذا الخطأ الموجود فيه؟ يعني هذا الطفل يعاني من مرض قد يكون مرضًا خطيرًا جدًّا.
كانت الفتاوى حتى من المجامع الفقهية بأنه قبل مائة وعشرين يومًا إذا ثبت لدينا الضرر البالغ الخطير في هذا الجنين أنه يباح - إذا ثبت ذلك بلجنة طبية مكونة من ثلاثة أطباء ثقات مسلمين - يباح الإجهاض، هذا كان رأي الأغلبية في مجمع الفقه الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي وأصدروا فتوى بذلك قبل بضع سنوات، طيب إذا أمكن الآن تجنب حتى الإجهاض هذا وأمكن المعالجة أأرفض المعالجة، لأن فيها تدخل جيني؟ هذا تدخل جيني ممكن أن يتم في مراحل مبكرة، أيضًا يمكن أن يتم في مرحلة تكوين النطفة الأمشاج أو البييضة الملقحة عندما تبدأ تنقسم.(10/1396)
الآن أصبح ممكنًا عمليًّا - في كثير من المراكز المتقدمة - أن تأخذ خلية واحدة من الخلايا وتدرسها، فإما أنك تحاول الإصلاح وهذا في المستقبل القريب، بإذن الله تعالى، لمداواة كثير من الأمراض بالتغييرات الجينية، أو على الأقل أن هذه البييضة الملقحة التي لم تدخل بعد إلى الرحم ولم تستقر فيه تترك إذا ثبت أنها مريضة، ما المانع من تركها؟ هذا هو الموجود حاليًا وينفذ حتى في جدة هنا، إمكان دراسته وإيجاد الخلايا وأن هذه البييضة الملقحة فيها مرض وراثي خطير لماذا أتركه؟ لا بد أن يدخل إلى الرحم ثم بعد ذلك أجهضه لا أحد يقول بعملية الإجهاض لجنين قد تكامل أو بدأ في التكامل قبل مائة وعشرين يومًا.
لكن إذا أمكن الآن - وقد أمكن بالفعل لبعض المراكز المتقدمة - أن نأخذ خلية من هذه الخلايا التي بدأت بالانشطار وصارت أربعة خلايا وثماني خلايا، ولمعرفة أن فيها مرضًا وراثيًّا - هذه مرحلة - وعدم إدخالها، المرحلة الثانية إذا أمكن بعد ذلك إصلاحها، يعني عرفنا أن فيها مرضًا وراثيًّا نستطيع إصلاحها، بإذن الله تعالى، ومداواتها، بإذن الله سبحانه وتعالى، لماذا نقول هذا محرم وممنوع مداواتها؟ لا بد أن يأتينا مجموعة كبيرة من المشوهين حتى يكون ذلك من قدر الله!! كله من قدر الله، كما قال عمر - رضي الله عنه -: إن رعيتها في الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيتها في الجدبة رعيتها بقدر الله، قال ذلك لأبي عبيدة عندما استقبله في صرف عندما انتشر الطاعون في ذلك الوقت.
فالأمر واضح الدلالة أن هناك مجالات للاستخدام، هذا الآن في الجينات، واستخدامها في الجينات واسعة جدًّا، وللأسف نحن متخلفون جدًّا، يعني الدكتور صالح كريم يمكن هو الوحيد عندنا في جدة الذي يختص بهذا البحث الجيني أي، ولكن إمكانياتهم ضئيلة ومحدودة جدًّا، وحتى في الرياض الذين هم أفضل قليلًا في بعض الأماكن عندهم إمكانيات ضئيلة جدًّا، وكذلك العالم العربي يعاني بأكمله من هذه المشكلة، وكذلك العالم الإسلامي؛ متخلفون جدًّا في مشروع دراسة الهندسة الوراثية. والدول الغربية واليابان تنفق آلاف الملايين لأن فيها تقدمًا رهيبًا في عالم مداواة الأمراض وفي الأدوية في مجالات واسعة جدًّا جدًّا، معرفة الجينوم البشري والتركيب الجينومي البشري سارية بدون توقف ولا أحد يمنعها، وهي سائرة في كل مكان في العالم ويوجد تعاون وثيق بين الدول الغربية لأن التكاليف ستكون باهظة إذا قامت بها كل دولة لوحدها، فصارت هناك جمعيات تضم أوروبا والولايات المتحدة واليابان لدراسة الجينوم البشري أو الحقيبة الوراثية البشرية، وهم سائرون في ذلك بخطى حثيثة جدًّا ولا ينبغي أن نتخفف عن هذا، يعني الحقيقة ينبغي أن يكون هناك حث شديد بأن تهتم الحكومات الإسلامية بجميع أنواع الأبحاث العلمية بما فيها هذا الجانب وهو الهندسة الوراثية، وإعطائها حقها من الدراسة، وفتح الإمكانيات العلمية الكاملة.(10/1397)
الجانب الآخر من الاستنساخ الذي ذكر وهو الاستنساخ الجنيني أو ما يسمى الاستنساخ الجنيني، بمعنى تؤخذ بييضة ملقحة من أب وأم، تلقيح عادي مثل ما يحدث في أي زواج عادي ومثل ما يحدث في مشاريع أطفال الأنابيب والذي أقرته المجامع العلمية الفقهية الكثيرة أنه ينبغي أن يكون من الزوج والزوجة حال قيام الزوجية إلى آخر ذلك من الشروط التي وضعتموها، ثم تتكون هذه اللقائح الموجودة. تكونت لقيحة موجودة مكونة من زوج وزوجة، في بعض الحالات المرأة هذه ليس لديها إلا بييضة واحدة فقط وهي حالة نادرة جدًّا، لإنجاح مشروع أطفال الأنابيب ينبغي إعادة ثلاثة أو أربعة من البييضات وتكون ثلاثة في الغالب، فعملية أنها تجعلها تنشطر وهذا الآن ممكن، هي مثل التوائم الطبيعية التي تحدث والتي هي التوائم المتشابهة المتماثلة ومتطابقة تمامًا، هي عبارة عن لقيحة واحدة، بييضة ملقحة بدأت الانقسام ثم انشطرت وصارت كل خلية منها إلى لقيحة جديدة، وبدأت تنمو حتى يظهر لنا طفلان متشابهان تمام التشابه ومتماثلان تمام التماثل من الناحية الجينية ومن ناحية الشكل، ولكن هنا اختلافات طفيفة جدًّا مهما كانت حتى لو كانا متشابهين تمامًا، لكن لا تزال هناك اختلافات دقيقة ويمكن التمييز بينهما ولو بصعوبة في أول الأمر.
فهذا الاتجاه وهو محاولة تقليب ما يحدث طبيعيًّا في الطبيعة - بإذن الله سبحانه وتعالى - وتنقسم الخلية إلى اثنين فصارت خليتين، حسنًا، هاتان الخليتان تفيدانني في أشياء كثيرة جدًّا.
أولًا: قد تكون المرأة تعاني من عقم شديد ولم يستطع الأطباء إلا إخراج بييضة واحدة منها فقط، وهذه البييضة تحتاج إلى اثنين أو ثلاثة أو أربعة إلى إعادتها إلى الرحم.
ثانيًا: قد تؤخذ أيضًا من هذه النسخة الموجودة لدراستها من ناحية الإصابة بالأمراض الوراثية وإذا عرفنا أن هذه مصابة بمرض وراثي تركنا هذه المصابة والمجموعة المصابة الأخرى، وإذا عرفنا أنها سليمة استطعنا أن نعيدها.
فلها بعض الفوائد المحدودة، وإن كنت أقول إنها محدودة في حالات قليلة جدًّا لا يمكن أن تكون عامة ولا يمكن أن تكون متوسعة في هذا الميدان.(10/1398)
موضوع تنشيط البييضة الذي ذكره أخي الكريم الدكتور صالح كريم هذا حدث طبعًا بالنسبة للولادة من غير أب أو التوالد البكري أو العذري، هذه حدثت في الحيوانات الدنيا في الضفادع والفئران وغيرها ممكن أن تحدث، نظريًّا هل يمكن أن تحدث بالنسبة للإنسان؟ الله أعلم، وهذه طبعًا التي طلعت منها أجنة مشوهة أي أنها ناقصة في حقيبتها الوراثية حتى بالنسبة للفئران أو غيرها وعقيمة أيضًا، فهذه بابها يبدو بالنسبة للإنسان لا مجال فيه على الإطلاق، تنشيط البييضة لوحدها على الأقل في هذه المرحلة.
موضوع زرع النواة وهو الذي تحدث عن موضوع (دولي) ، هذا زرع النواة وبمعنى أخذ النواة ووضعها في بييضة أخرى فيها سيتوبلازم، وكما ذكر بعض المعلقين أن الحقيبة الوراثية ليست كلها في النواة هي 97 % منها في النواة، وفي السيتوبلازم المحيط بها فيها مادة تسمى المايتوكوندرايف فيها حوالي 3 % أو أقل من المادة الوراثية، فهي أيضًا يعني إذا نقلنا لن تكون متطابقة 0 0 1 %، لكن ربما تكون متطابقة 97 % أو 98 %؛ حتى أنها أقل من التوائم المتطابقة، وحتى التوائم المتطابقة أو المتشابهة - التي نراها - أيضًا بينها خلاف نتيجة البيئة الموجودة في الرحم، وبعد ذلك طبعًا التنشئة لها دور آخر؛ هذا في مجال دراسة الحيوانات أو ما سيحدث منه من فوائد، هذا مجال يدرس إذا ثبتت فيه الفوائد واتضحت بالنسبة للحيوان والاستفادة منها بالنسبة للإنسان، كما هو في المشاريع المقررة والتي تسعى إليها هذه الشركات. . فما المانع؟ بشرط أن تثبت الفائدة، والضرر يكون بعيدًا أو احتماله بعيد جدًّا وضئيل جدًّا في مقابل النفع الكبير.
بالنسبة للإنسان أضم صوتي إلى أصوات المعارضين لاستخدام هذه التقنية للإنسان، استخدام هذه التقنية لإيجاد بشر بأخذ خلية من الجلد أو خلية من غيرها، هذه ستوجد مشاكل كبيرة جدًّا ومشاكلها واضحة جدًّا، حتى إن الدول الغربية، وطبعًا هم ليسوا قدوة لنا وإن حرمتها الكنيسة فليس معنى ذلك أننا نحرمها لكن بسبب أنها واضحة الضرر والمشاكل التي ستظهر منها , فالاتجاه - والله أعلم - أن البشرية تتجه إلى تحريمها , أو منعها بهذه الصورة في إنتاج البشر.
أما الصور الأخرى كلها - الاستنساخ في عالم الحيوان والنبات - إذا كانت المنافع غالبة وظاهرة والأضرار المحتملة قليلة جدًّا ومحدودة حيث إنه لا يمكن أن يكون شيء بدون أضرار على الإطلاق، هذا مستبعد جدًّا؛ لكن إذا كانت الأضرار القليلة منغمرة تمامًا في جانب الفوائد العديدة والواضحة والجليلة فلا يبدو هناك أي منطق لرفضها ومنعها، حتى ولو ظهرت في المستقبل بعض الأضرار المحدودة القليلة، وإلا لمنعنا التداوي بأشياء كثيرة أخرى.
شكرًا لكم. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/1399)
الشيخ فيصل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في الحقيقة أشكر الدكتور البار على هذا الإيضاح الجيد، ولكنه جزاه الله خيرًا على الخاتمة الجيدة التي أحببت أن أنطلق منها.
الاستنساخ إذا كان بدأ بالنبات ثم بالحيوان، والآن يريدون أن يطبقونه على الإنسان، السؤال: هل الإنسان ينطبق عليه ما ينطبق على الكائنات الحية الأخرى؟ القياس كما ذكر الدكتور ناجي أن القياس مردود بقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} فالذي نستنتجه من هذه الآية؛ بم فضل الله الإنسان؟ فضله بالعقل، ولذلك كلف بالعبادة والواجبات، وإذا أخذ الله ما وهب أسقط ما وجب.
قد لا أشك أن في استطاعة علماء الهندسة الوراثية وغيرهم أن يصلوا إلى استنساخ بشر مماثل باتباع القوانين الإلهية التي هداهم الله إليها، وليس في ذلك خلق، ولكني أتوقف في أنهم يستطيعون أن يكون هذا المستنسخ إنسان كامل العقل، لأنهم بنوا نظريتهم على نجح في النبات والحيوان، ولكن الإنسان يختلف عنهما، فلا نستطيع أن نقول ما نجح في النبات والحيوان يمكن أن ينطبق على الإنسان، فالقياس مردود، فضل الله الإنسان بالعقل على جميع الكائنات الحية.
ومما أثر عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما سئل عن عدم شربه للخمر، فقال: " ما رأيت شيئًا يذهب كله ويعود كله ". فعلمت بعد ذلك أن استخدام الخمر والمخدرات يقتل بعض الخلايا في المخ فلا تعود هذه الخلايا.
فقبل أن نتكلم في موضوع استنساخ إنسان كامل هل يستطيع الأطباء أن يعيدوا للمخ خلاياه التي ماتت؟ ولذلك يموت المخ، فيقول الأطباء هذا مات أو توفي دماغيًّا وهو لا زال حيًّا ينبض قلبه، فأنا أخشى أن الاستنساخ لأجسام بدون عقول فلا يكون فائدة منها، ولا يمكن ظهور ذلك في النبات والحيوان لأن الإنسان فضله الله بالعقل دون غيره، وما قيمة إنسان مخلوق بدون عقل؟ ولقد ظهر في جنون البقر وكذلك في نقل الأعضاء، عندما ينقل القلب الآن والعين والكبد والبنكرياس ولكن لم نسمع أن عقلًا نقل إلى عقل إنسان آخر أو مكان عقل آخر، فأنا هذا الذي يستوقفني وأتحفظ أنه لا يمكن، قد يكون هناك استنساخ لأجسام وأجرام ولكن لا يكون استنساخًا لعقول بشرية، لأنهم عجزوا الآن في هذا الوقت مع التقدم التقني والتكنولوجي والطبي أن يعيدوا بعض خلايا المخ أو ما يحصل لأمراض المخ.
وشكرًا لكم. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/1400)
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
يعني الناظر فيما قدم من بحوث وما سمعنا من تعلقيات يستنتج في إطار الحديث الواسع الذي تم في هذا الموضوع في خلال السنتين الأخيرتين أن هنالك تهويلًا كبيرًا أحاط هذا الموضوع، وبحيث أعطينا مجالًا واسعًا أو أطلقنا العنان لهذا الخيال أن يفترض افتراضات واسعة خرجت من إطار البحث العلمي، لذلك رأينا أن كثيرًا من البحوث والتعليقات قد انصبت على افتراض حدوث الاستنساخ بالمعنى الواسع من أن هنالك نسخًا بشرية سيجري إنتاجها وستنشغل المصانع باستحداث هذه النسخ البشرية، وبالتالي ذهب خيالنا يتصور ما هي الأحكام الشرعية التي ستضبط هذا الأمر؟ وهل نقول بالتحريم أو التحليل أو بغير ذلك؟
إخوتي الكرام، الواقع حتى البحوث الطبية التي أمامنا مع احترامي للجهد الكبير الذي بذل فيها ما زالت الصورة أمام الفقهاء ليست واضحة، أين وصلنا في هذا المجال في إطار البحث العلمي؟ بمعنى لا بد في الواقع من تقويم هذه البدايات التي وصلنا إليها في إطار البحث العلمي على طريق ما تخيله خيالنا وما تصورته عقولنا، الذي لاحظ أجهزة الإعلام في الفترة الأخيرة، لاحظ كيف أن صدور بعض الصفحات قد ملئت بصورة مكررة مثل هتلر أو مثل الممثل الفلاني وبات العامة يتوقعون أنه بين لحظة وأخرى سنرى إنتاجًا بشريًّا بهذا الخصوص.
إخواننا الأطباء أشاروا في بعض مداخلاتهم في موضوع البحث العلمي وما يتحقق من نفع في هذا المجال، وهذا شيء يشكر لهم ويقدر، لكن في القضايا الفقهية لا بد من تصور دقيق للأمر، ثم السؤال عن حكمه في أي جزئية من الجزيئات التي طرحت، حتى في موضوع البحوث الطبية الآن في مقاومة بعض الأمراض مثل مرض السرطان أو في إنتاج بعض الأدوية أو في نوافع بعض البحوث في الهندسة الوراثية أو في الآثار التي تحدث نتيجة اختلال في الإنجاب لضعف في البنية عند الزوج أو الزوجة، أو في موضوع عوامل المناعة، لا بد من أن نسأل سؤالًا محددًا، لا أن نضع عنوانًا كبيرًا ثم بعد ذلك يقال لنا إن بعضه في طريقه للإنجاز وبعضه لا يتحقق.(10/1401)
أنا أذكر التقيت بعدد من المتابعين لهذا الموضوع، وأحد كبار الأطباء كان يقول: هذا شبه مستحيل. إذن لماذا نحن ننشغل في قضية بعض مختصيها يقولون بأن هذا الأمر شبه مستحيل؟ ونحن ما زلنا في البدايات، حتى أخانا الدكتور حسان هنا في بحثه يقول بأنه ستمر فترة طويلة في إطار التجريب في الحيوان وللوصول إلى بعض القناعات، ثم بعد ذلك الانتقال إلى مرحلة التجريب في إطار الخلايا الإنسانية، ولا ندري ما هي الحواجز التي سيصطدم بها هؤلاء الأطباء، وبالتالي كيف يكون المستقبل؛ لذلك إذا أردنا أن نرسم دورًا لمجمعنا في هذا المجال يعني يمكن أن يركز في هذه المرحلة على التحذير من مغبة الدخول في هذه الأبحاث التي ليس لها ضوابط خلقية وقد يحركها الربح أو الإثارة أو نوع من الرغبة في تحطيم المجتمع الإنساني، لأنه نعلم أن هنالك قوى كثيرة في هذا المجتمع تحرص لسبب أو لآخر على إفساده.
فالتركيز في هذه المرحلة على ضوابط البحث العلمي في مجالات الهندسة الوراثية وعمليات الاستنساخ المحدودة سواء كانت في النبات أو في الحيوان عملية مهمة ليكون هنالك نوع من التوضيح لأخطار التلاعب في ما خلق الله - جل وعلا - وبالتالي حاولت إخراجها عن الغاية التي من أجلها خلقت، والذي أشار إليه القرآن كما تعلمون أن دور الشيطان دور باستمرار يدعو إلى تغيير خلق الله جل وعلا وتغيير خلق الله صوره متعددة ومتنوعة، وإذا نجحت بعض الصور التي شرحت واضح الأخطار التي ستمس المجتمع الإنساني.
لكن بعض القوى الآن تروج لمثل هذه الأبحاث محاولة الوصول إلى موضوع التشكيك العقدي، هنا لا بد أن نكون واضحين في أن نبين أن هذه القضايا كلها مهما تقدمت هي في إطار ما خلق الله جلا وعلا، ومحاولتها لاستخدام ما خلق الله جل وعلا من قوانين، إما استخدامًا حسنًا أو استخدامًا قبيحًا، لكن ليست خلقًا آخر غير خلق الله جل وعلا، وبالتالي قضية العقيدة لا تمس وقضية الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لا تمس، وإنما كلها محاولات تغيير لخلق الله جل وعلا في إطارها السيئ، وفي إطارها الحسن محاولة للاستفادة مما خلق الله جل وعلا ومما أودع من قوانين لوقف بعض ما يتهدد الإنسان من أمراضٍ أو من مشكلات أو محاولات التحسين أو غير ذلك.(10/1402)
لكن رجائي إذا أردنا أن يظل هذا الموضوع على جدول أعمال المجمع أن نأتي في المرة القادمة ونحن أمام توصيف لبعض البدايات في هذا الأمر لنقول إن هذا البحث العلمي في إطاره الذي وصف لنا وفي أهدافه التي شرحت لنا يمكن قبوله من الناحية الشرعية، أو أنه فيه مخالفة للأمر الشرعي الفلاني أو غير ذلك، أما أن نضع موضوع الاستنساخ ونحاول أن نلقي الكلام فيه في كل مجالاته سواء كان واردًا في البدايات أو غير وارد، وبعض العلماء ينبهون إلى أنه أقرب إلى المستحيل.
وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لعل الكثير منا لم يستمع إلى علماء أطباء في هذا الموضوع إلا حينما
أخذت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية المبادرة بهذا في المغرب ثم أعادت الكَرّة في هذا المكان، وما بعد هذا أو قبل هذا ما هي إلا انطباعات وإشارات من الصحافة والتلفزيون ووسائل الإعلام، وهؤلاء يهمهم أن يشغلوا الرأي العام بمثل هذه الأشياء، وتتحدث المجتمعات وتستهلك الأوقات في مثل هذا.
بالنسبة لي لأول مرة أسمع كلامًا علميًّا في هذا، ولعل الكثيرين من الحاضرين لأول مرة يسمعون هذا بعد ندوة الدار البيضاء لمن حضرها، لا أعتقد أنه في هذه الفترة البسيطة وهذا الوقت المحدد يمكن أن يتم التصور كاملًا لقضية كبيرة جدًّا ليست على المستوى المحلي ولا الإسلامي ولكن كل العالم، ولنا في هذا صوت، العالم الإسلامي سيسمع له العالم الآخر، لا أريد أن أطيل في هذا، وإنما أقف معقبًّا على كلمة لربما لم تعط الاهتمام الكامل في تعليق الدكتور محمد هيثم الخياط عندما قال: أدعو إلى تحرير المصطلحات قبل كل شيء، أولًا: تصحيح العنوان، ما هو العنوان في لغته الأجنبية؟ ثم تحديد هذا المصطلح.(10/1403)
إذن عندي ترجمة العنوان وتحديد المصطلح وهو الذي غاب عنا، وكثيرًا ما تكون مثل هذه الأمور المستجدة تبنى فيها الآراء على الترجمة الخاطئة أو الترجمة غير الدقيقة، وكثيرًا ما تعثرت أحكامنا بسبب هذه الترجمات، على سبيل المثال: كلمة: (تبشير) ، كلمة تبشير شيء جميل جدًّا , بينما هي ارتداد وكفر أو تكفير، فاستعمال هذه العبارات أنا أعتقد وجود علماء من الأطباء ومن الفقهاء بيننا يمكن أن يجتمعوا لتحديد المصطلح ولتحرير العنوان أو تصحيح العنوان وتحديد المصطلح، وستأتي بعض الأمثلة لنا أن الفقهاء خاضوا كثيرًا في بعض الأمور المستجدة والحقيقة غائبة عنهم، وكان العنوان مضللًا أو مثل ما يقول الإنجليز Misslaiding ولا يدل على حقيقة ذلك الشيء.
ولذلك أنا أضم صوتي ويجب ألا تمر هذه العبارة أو الجملة التي علق عليها الدكتور محمد هيثم الخياط عندما قال: لا بد، أنا أقول: لا بد من تصحيح العنوان ومعرفته في لغته الأصلية، ثم بعد ذلك تحديد هذا المصطلح وتصور الموضوع، عندئذ يمكن أن يكون الحكم، وأعتقد أن المجمع من مهماته تصحيح العناوين وتصحيح المصطلحات بدلًا أن يقودنا إلى هذه المتاهات صحفيون لا يجيدون اللغة ولا يجيدون الترجمات.
وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ محمد سليمان الأشقر:
بسم الله الرحمن الرحيم
ننادي بالتمهل في اتخاذ قرار هذه الجلسة، التوقف يكون لأمور مختلفة، إما أن الصورة لم تتضح للقائل أو المفتي , وهنا نحن قد رأينا وسمعنا ودرسنا واطلع كثير ما على ما وقع، ونتيجة العمل ذكرت لنا أن أخذ خلية من إنسان وإيداعها في بييضة منزوعة النواة وإيداعها في رحم إلى أن تتكامل وتخرج إنسانًا؛ أو قسم خلية مخصبة بعد أن تنقسم إلى أكثر من خلية، اثنتان أو أربعة، وقسمها إلى أكثر من خلية حتى يتكون من كل خلية جنين آخر، والنتيجة أن يخرج توائم، هذا التصور في حد ذاته - في نظري - كافٍ وإن كانت جوانب الأمور من الناحية الاجتماعية وغيرها هذه أمور أخرى، لكن نتيجة العملية قد عرفت من حيث الجملة وهذا يكفي الفقيه في نظري.(10/1404)
الناحية الثانية: أن تكون المسألة لم تقع، حينئذ قد يتوقف الفقيه إذا
كان الأمر غير جلي عنده، إذا كان لا يوجد في المسألة آية صريحة أو حديث صريح فله أن يتوقف.
الحالة الثالثة: أن تتعارض الأدلة ولا يمكن الترجيح بينها ويضيع
الفقيه بين أن يرجح هذا الوجه أو ذاك الوجه. هل المسألة التي نحن بصددها غير واضحة والأدلة فيها متعارضة أو متعادلة حتى نتوقف فيها؟
أنا في الحقيقة أرى أن النظر إلى الآن لم يدخل إلى الجزئيات، نحن إذا دخلنا إلى جزئيات المسألة واحدة واحدة فلا شك أن شرعنا يدلنا بصراحة ووضوح كامل مثل الشمس على بعض الصور على الأقل، فنصدر القرار في هذه الصور التي قد لا تخفى، وأنا أطرح تصوري لهذه الجزئية، كون المسألة لم تقع يعني أنا أشك في هذا، هو في ناحية الحيوانات لا شك أنه قد وقع , والأخبار تكاد تكون متواترة عن هذه الناحية، بالنسبة للبشر المسألة على وشك الوقوع، نحن على عتبة وقوع الاستنساخ في عالم البشر في المختبرات الأجنبية , وأنا رأيت بنفسي في كثير من المجلات العلمية الرصينة أنهم يقدرون أن هذا الأمر بالنسبة للبشر سيقع في حدود عشر سنوات، وبعضهم قال في حدود سبع سنوات.
وأنا لا أستبعد أن يكون العمل جاريًا في بعض المحلات، لأنني
رأيت في بعض المجلات الأجنبية الرصينة وحصلت على نسخ منها أنه عندما خرجت (دولي) إلى الوجود هناك عشرة مختبرات في ذلك الوقت كان بإمكانها أن تقوم بالعملية بالنسبة للحيوانات , ولكن كان كثير منهم متوقف لكن كان بإمكانهم، ولا تستبعد الآن أن هناك من 27/ 2/ 97 إلى الآن ربما زادت هذه المراكز إلى المئات وربما إلى الألوف، وحتى في الأردن سمعنا - ولا أدري يمكن الدكتور عبد السلام اطلع على هذا أكثر مني - أنه قال بعض القائلين إنه يمكننا نحن إذا لم يكن هناك مانع فإنا نستطيع أن نجري هذا، فإذن نحن لا بد لنا من اتخاذ قرار في الأمور الواضحة ونترك الأمور الخفية.
فالآن المسألة في نظري تنقسم إلى أمور، أنا في نظري أن بعض الجزئيات واضحة، والحكم واضح جدًّا عندي، فمثلًا استنساخ النبات هل يشك في جوازه؟ لا أعتقد بأن أحدًا يشك في جوازه، وكثيرًا من المزارعين عندنا في البلاد وفي جميع بلاد العالم وفي المخابر الحديثة بطرق مختلفة تأخذ غصن التين أو غصن الزيتون أو غصن العنب وتدفنه في الأرض وينمو ويصير شجرة، في النبات أعتقد ممكن ذكر هذا في القرار، بالنسبة للحيوانات أيضًا أعتقد أن الجميع أو الأكثر يرون جوازه مع وضع القيود تمنع الدخول في شيء يكون ضرره أكثر من نفعه، لكن إذا كان النفع أغلب فيمكن أيضًا أن ندخل هذا في القرار، ولا أعتقد أن أحدًا من الحاضرين - إن شاء الله - يمنع هذا.(10/1405)
لاحظوا يا إخواني أنا لا أتكلم في الاستنساخ وفي كل ما قيل إنه استنساخ، أتكلم في نوعين فقط بالنسبة للحيوان والنبات، الاستنساخ الذي يدخل في الهندسة الوراثية لا أريد أن أتكلم فيه فهذا أمر أولا تكلم فيه الجمعية الإسلامية للعلوم الطبية، تكلمت في سنة 1983، والأمر بالنسبة لي خفي وهذا يمنعني الكلام فيه، لكن أنا أقصر كلامي على المسألتين وهما الأخذ من خلية مخصبة مجموعة أجنة توائم أو من نواة خلية جسدية.
الصورة الثالثة: في استنساخ البشر، استنساخ البشر فيه صور حكمها لا يخفى في نظري وأنتم تقدرون هذا.
الحالة الأولى: استنساخ خارج نطاق الزوجية، يعني جارة ما عندها ولد تقول لجارها: أعطني نواة من جسدك أو حيوان منوي، وأخذه إلى المختبر وإدخاله في بييضة منها أو من غيرها، هذه صورة، أو طلب خلية جسدية أو طلب رحم مستأجر أو رحم متبرعات، الدولة مثلًا تريد تكوين جيش من الرجل الفلاني يقول أعطونا ألف امرأة متبرعة أو ألفين كل واحدة منهن تعطينا بييضة، وكل واحدة نودع في رحمها من جسد فلان ذلك وخارج نطاق الزوجية، هل في هذا توقف؟ سيخرج هؤلاء وليس لهم أب معروف ولا أقارب معروفين، ولا أسر تحتضنهم، إنما هم أناس يكادون كالحيوانات وهذا يكثر ظاهرة اليتم في المجتمع، اليتم ظاهرة هائلة المردود على نفسية الأطفال وعلى الدولة في تكاليف الرعاية الاجتماعية، ومفاسدها لا تخفى على أحد من الحاضرين - في تصوري – بتاتًا ولا أحد من أهل العلم.
فإذن نحن لو اتخذنا هذا القرار فقط يكفينا ويحطم كل ما يتطلع إليه الأوروبيون الدين لا يبالون بالعلاقات الأسرية، هذا أمر معروف وهذا أمر عندهم سهل وهين، نحن عندنا أمر عظيم أن يوجد إنسان بلا أب، إذا مات أبوه فهذا من قدر الله ويعطف عليه الآخرون، لكن أن يوجد إنسان ليس له أب وليس له أسرة ولا رابطة أسرية تحميه وتحفظه وتنشئه حتى ينشأ بشرًا سويًّا، هل أحد من الحاضرين يقبل هذا؟ أنا أستبعد أن يكون هناك أحد من الأخوة الحاضرين يقبل أن يوجد استنساخ خارج نطاق الزوجية، فهذا أيضًا متروك للإخوان إذا أمكن أن يتخذ فيه قرار، لو اتخذنا هذا القرار وحده لكفى.(10/1406)
بقي في داخل نطاق الزوجية، الآن استخدام نواة من غير الزوج، أيصلح؟ لا أعتقد، نقول الزوج لا ينجب نذهب ونأتي بنواة من غير الزوج أو حيوان منوي من غير الزوج، هذا لا يصلح في نظري، استنساخ أيضًا داخل نطاق الزوجية باستخدام بييضة من غير الزوجة، يمكن اتخاذ قرار فيه، وقد سبق القرار المشابه لهذا في مسألة أطفال الأنابيب، استخدام رحم مستأجر، أعتقد أن هذا مستأجر أو غريب أو متطوع ولو في نطاق يعني الزوج والزوجة يطلبان من امرأة أجنبية أن تحمل لهما فهذا أيضًا أعتقد يمكن اتخاذ قرار فيه.
بقي الصورة التي يمكن التوقف فيها فيما بين الزوجين، فيما بين الزوجين هناك حالتان: الاستنساخ من نواة ملقحة بأن تقسم إلى توائم ويحتفظ ببعض الأجنة للمستقبل، وحتى المرآة في بعض الحالات المرضية لا تحتاج إلى أن يعمل لها تشريط التبييض، فيحتفظ بهذا لوقت اللزوم أو يُعمل في الحال إذا كان هناك موانع في مسالك الولادة والحمل.
هذه الصورة أعتقد أنها ليست بعيدة من طفل الأنابيب بقيوده كما هي، لا أعتقد أن هناك فرقا لأن هذه الخلية مأخوذة من المرأة ومخصبة بماء زوجها وأخذ منها توائم أجنة، ممكن استخدامها، لا أعتقد أن هناك فرقًا بينها وبين طفل الأنابيب الذي سبق أن قرار المجمع في دورات سابقة الموافقة عليه وعدم منعه، طبعًا بالضوابط المعروفة وشروط وقيود مذكورة في القرار وواضحة تمامًا.
الصورة الوحيدة التي يمكن أن يختلف فيها الرأي هي صورة واحدة
فقط وهي ما كان بين الزوجين لكن باستخدام نواة - وليست خلية مخصبة - من جسد الزوج في بييضة المرأة في رحم نفس المرأة (الزوجة نفسها) ، هذه قد يرى ويقال إننا نتوقف فيها إلى أن يظهر لنا.
في الحقيقة هذه المسألة هي نادرة وليست على مستوى العالم أو على مستوى جميع البشر ولا إمكانيات اتخاذ جيوش من البشر أو كما يقال وسمعناه كثيرًا في الصباح , ولا شك أنها دراسة علمية موفقة والحمد لله، والذي سمعناه من الناحية الطبية ومن الناحية الشرعية والآثار الاجتماعية أمر كله ينصب في الحقيقة على ما هو خارج الزواج، أما داخل الزواج فلا يبقى إلا قضية أخذ نواة من الزوج وإيداعها في بييضة المرأة نفسها ووضعها في رحم الزوجة نفسها، أنا أقول يمكن التوقف وللتوقف وجه كبير، وأنا في الحقيقة أول ما طلب مني الأخ الدكتور أحمد رجائي أن أكتب ملخصًا للبحث - كما فعل الإخوان الذين كتبوا الأبحاث - طلب أن أكتب ملخصًا قبل أن أكتب البحث، فأنا قلت هذه الصورة يمكن أن يتجه رأي المجمع إليها لكن بعد الدراسة - وبحثي موجود بين أيديكم - أرى أن هذه الصورة يجب منعها، والرأي لكم.
والحمد لله رب العالمين.(10/1407)
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم،
الواقع أنه بعد أن حرر أخوتنا وزملاؤنا الأطباء المصطلحات، وشكر الله لهم ولكم، ينبغي تحرير محل الخلاف، فإن الفقهاء مكلفون أن يحرروا محل الخلاف، وقد تفضل أخي فضيلة الشيخ محمد سليمان الأشقر إلى شيء كثير من تحرير محل الخلاف، وإذا حررنا محل الخلاف ضيقنا دائرة القضية التي نحن بصددها، وربما كان ذلك أدعى إلى التوصل إلى الحل بإذن الله، فنحن أمام ثلاثة أمور: أمر يرى لدى الجمهور من أخوتنا العلماء في هذا المجمع الموقر، يرى أنه لا مانع من ذلك، وهو ما كان في حيز النبات والحيوان.
وأما بالنسبة للبشر فكذلك هنالك صور يرى أنها محرمة ممنوعة، وهو ما كان خارج دائرة الزوجية، وأما الخلاف الحقيقي فينبغي أن يحرر محله في قضية دائرة الزوجية بالذات، وفي الصورتين اللتين تكلم فيهما أخي الشيخ محمد الأشقر قضية النواة المخصبة أو قضية الخلية التي تزرع في بييضة المرأة، هذا هو محل الخلاف في الواقع، ثم هنالك ما تفضل به أخي الدكتور محمد علي البار الطبيب المعروف في قضية إصلاح الحيوان المنوي قبل تلقيحه في البييضة بأن نذهب منه بعض الأمراض الوراثية وهو الصورة الثالثة والرابعة من التقرير الذي قدمه في تحرير المصطلحات الدكتور الخياط، في هذا الموضوع لا شك أن الخلاف قائم ولا نستطيع أن نقول إن هذا مسموح به قطعًا أو ممنوع قطعًا، هذا مما ينبغي أن يبحث، وإذا بحثنا فيه فلا مانع أن نتوقف اليوم وأن نبحث فيه غدًا حتى تتكامل أدوات البحث.
وبالنسبة لقضية دائرة الزوجية بصورتيها، ففضيلة الشيخ الأشقر يرى المنع أو الحظر كما فهمته، والبعض يرى السماح ضمن دائرة الزوجية من الزوج لزوجته حصرًا، ولعل فضيلة الدكتور الشيخ وهبة - حفظه الله - يرى المنع بالكلية، والذي يذهب إليه الرأي ويطمئن إليه القلب بالنسبة لهذه الصور كلها: الحظر - حتى بالنسبة للدائرة الزوجية – سدًّا للذريعة، لأننا إذا فتحنا الباب قليلًا يخشى أن ينفتح الباب على مصراعيه، وإذا استطعنا أن نفتح الباب بضوابط وشروط يجتمع عليها الفقهاء والأطباء وواضحة جدًّا فلا مانع من ذلك، وإذا لم نستطع أن نتوصل إلى ذلك فلا مانع من الحظر الآن، أو أن نتوقف الآن ريثما تتضح لنا الضوابط المطلوبة لأن سد الذريعة مطلوب شرعًا، فقد يحرم ما يبدو لنا أنه مباح كي لا يتوصل بهذا المباح إلى كثير من الحرام؟ بمعنى أنه قد نترك كثيرًا من المباح كي لا نصل إلى المحرم قطعًا، وهذا الرأي لا أُلزم به وإنما يظهر لي.
والله تعالى أعلم، وعلمه أتم وأحكم. . وشكرًا لكم.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من خلال هذه البحوث وما قرره الأطباء، ومن هذه المداولات بين الأطباء والفقهاء التي تفضلتم بها فإن الرأي العام يتجه في هذا المجمع إلى تحريم ومنع الاستنساخ البشري بمفهومه العام، وتقرير المناشدة بألا يتخذ المسلمون أو البلاد الإسلامية ميدانًا للممارسة في إنتاج الاستنساخ البشري، وقد ترون مناسبًا أن تكون اللجنة المؤلفة لصياغة القرار وإعداده من المشائخ: عبد الله بن بيه، الشيخ عبد الله بن منيع، الشيخ علي السالوس، الشيخ نزيه حماد، الأطباء: صالح كريم، محمد علي البار، هيثم الخياط.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(10/1408)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 100/ 2/ د 10
بشأن
الاستنساخ البشري
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر
بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 إلى 28 صفر 1418 هـ (الموافق 28 يونيو -3 يوليو 1997 م) .
بعد إطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع الاستنساخ البشري، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من 9 - 12 صفر 1418 هـ، الموافق 14 - 17 يونيو 1997 م.
واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، انتهى إلى ما يلي:
مقدمة:
لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه غاية التكريم، فقال
عز من قائل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] ، زينه بالعقل، وشرفه بالتكليف، وجعله خليفة في الأرض واستعمره فيها، وأكرمه بحمل رسالته التي تنسجم مع فطرته، بل هي الفطرة بعينها لقوله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] ، وقد حرص الإسلام على الحفاظ على فطرة الإنسان سوية من خلال المحافظة على المقاصد الكلية الخمسة (الدين والنفس والعقل والنسل والمال) ، وصونها من كل تغيير يفسدها، سواء من حيث السبب أم النتيجة، يدل على ذلك الحديث القدسي الذي أورده القرطبي من رواية القاضي إسماعيل: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم.. إلى قوله: وأمرتهم أن يغيروا خلقي)) .(10/1409)
وقد علم الله الإنسان ما لم يكن يعلم، وأمره بالبحث والنظر والتفكير والتدبر مخاطبًا إياه في آيات عديدة: {أَفَلَا يَرَوْنَ} ؟ ، {أَفَلَا يَنْظُرُونَ} ، {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ...
والإسلام لا يضع حجرًا ولا قيدًا على حرية البحث العلمي، إذ هو من باب استكناه سنة الله في خلقه. ولكن الإسلام يقضي كذلك بأن لا يترك الباب مفتوحًا بدون ضوابط أمام دخول تطبيقات نتائج البحث العلمي إلى الساحة العامة بغير أن تمر على مصفاة الشريعة، لتمرر المباح وتحجز الحرام، فلا يسمح بتنفيذ شيء لمجرد أنه قابل للتنفيذ، بل لا بد أن يكون علمًا نافعًا جالبًا لمصالح العباد ودارئًا لمفاسدهم.
ولا بد أن يحافظ هذا العلم على كرامة الإنسان ومكانته والغاية التي خلقه الله من أجلها، فلا يتخذ حقلًا للتجريب، ولا يعتدي على ذاتية الفرد وخصوصيته وتميزه، ولا يؤدي إلى خلخلة الهيكل الاجتماعي المستقر، أو يعصف بأسس القرابات والأنساب وصلات الأرحام والهياكل الأسرية المتعارف عليها على مدى التاريخ الإنساني في ظلال شرع الله وعلى أساس وطيد من أحكامه.
وقد كان مما استجد للناس من علم في هذا العصر، ما ضجت به وسائل الإعلام في العالم كله باسم الاستنساخ. وكان لا بد من بيان حكم الشرع فيه، بعد عرض تفاصيله من قِبَل نخبة من خبراء المسلمين وعلمائهم في هذا المجال.
تعريف الاستنساخ:
من المعلوم أن سنة الله في الخلق أن ينشأ المخلوق البشري من اجتماع نطفتين اثنتين تشتمل نواة كل منهما على عدد من الصبغيات (الكروموزومات) يبلغ نصف عدد الصبغيات التي في الخلايا الجسدية للإنسان، فإذا اتحدت نطفة الأب (الزوج) التي تسمى الحيوان المنوي بنطفة الأم (الزوجة) التي تسمى البييضة، تحولتا معًا إلى نطفة أمشاج أو لقيحة، تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وتمتلك طاقة التكاثر. فإذا انغرست في رحم الأم تنامت وتكاملت وولدت مخلوقًا مكتملًا بإذن الله، وهي في مسيرتها تلك تتضاعف فتصير خليتين متماثلتين فأربعًا فثمانيًا، ثم تواصل تضاعفها حتى تبلغ مرحلة تبدأ عندها بالتمايز والتخصص.
فإذا انشطرت إحدى اللقيحة في مرحلة ما قبل التمايز إلى شطرين متماثلين تولد منهما توأمان متماثلان. وقد أمكن في الحيوان إجراء فصل اصطناعي لأمثال هذه اللقائح، فتولدت منها توائم متماثلة، ولم يبلغ بعد عن مثل ذلك في الإنسان، وقد عُدَّ ذلك نوعًا من الاستنساخ أو التنسيل، لأنه يولد نسخًا أو نسائل متماثلة، وأطلق عليه اسم الاستنساخ بالتشطير.(10/1410)
وثمة طريقة أخرى لاستنساخ مخلوق كامل، تقوم على أخذ الحقيبة الوراثية الكاملة على شكل نواة من خلية من الخلايا الجسدية، وإيداعها في خلية بييضية منزوعة النواة، فتتألف بذلك لقيحة تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وهي في الوقت نفسه تمتلك طاقة التكاثر، فإذا غرست في رحم الأم تنامت وتكاملت وولدت مخلوقًا مكتملًا بإذن الله. وهذا النمط من الاستنساخ الذي يعرف باسم (النقل النووي) أو (الإحلال النووي للخلية البييضية) هو الذي يفهم من كلمة الاستنساخ إذا أطلقت، وهو الذي حدث في النعجة (دولي) .
على أن هذا المخلوق الجديد ليس نسخة طبق الأصل، لأن بييضة
الأم المنزوعة النواة تظل مشتملة على بقايا نووية في الجزء الذي يحيط بالنواة المنزوعة، ولهذه البقايا أثر ملحوظ في تحوير الصفات التي ورثت من الخلية الجسدية، ولم يبلغ أيضًا عن حصول ذلك في الإنسان.
فالاستنساخ إذن هو: توليد كائن حي - أو أكثر - إما بنقل النواة من خلية جسدية إلى بييضة منزوعة النواة، وإما بتشطير بييضة مخصبة في مرحلة تسبق تمايز الأنسجة والأعضاء.
ولا يخفى أن هذه العمليات وأمثالها لا تمثل خلقًا أو بعض خلق،
قال الله عز وجل: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] ، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) } [الواقعة: 58 - 62] .
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } [المؤمنون: 12- 14]
وبناء على ما سبق من البحوث والمناقشات والمبادئ الشرعية التي طرحت على مجلس المجمع:
قرر ما يلي:
أولًا: تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري.
ثانيًا: إذا حصل تجاوز للحكم الشرعي المبين في الفقرة (أولًا) ؛ فإن
آثار تلك الحالات تعرض لبيان أحكامها الشرعية.(10/1411)
ثالثًا: تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحمًا أم بييضة أم حيوانًا منويًّا أم خلية جسدية للاستنساخ.
رابعًا: يجوز شرعًا الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد.
خامسًا: مناشدة الدول الإسلامية إصدار القوانين والأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات المحلية أو الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميدانًا لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها.
سادسًا: المتابعة المشتركة من قبل كل من مجمع الفقه الإسلامي والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية لموضوع الاستنساخ ومستجداته العلمية، وضبط مصطلحاته، وعقد الندوات واللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة به.
سابعًا: الدعوة إلى تشكيل لجان متخصصة تضم الخبراء وعلماء الشريعة لوضع الضوابط الخلقية في مجال بحوث علوم الأحياء (البيولوجيا) لاعتمادها في الدول الإسلامية.
ثامنًا: الدعوة إلى إنشاء ودعم المعاهد والمؤسسات العلمية التي تقوم بإجراء البحوث في مجال علوم الأحياء (البيولوجيا) والهندسة الوراثية في غير مجال الاستنساخ البشري، وفق الضوابط الشرعية، حتى لا يظل العالم الإسلامي عالة على غيره، وتبعًا في هذا المجال.
تاسعًا: تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية، ودعوة أجهزة الإعلام لاعتماد النظرة الإيمانية في التعامل مع هذه القضايا، وتجنب توظيفها بما يناقض الإسلام، وتوعية الرأي العام للتثبت قبل اتخاذ أي موقف، استجابة لقول الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]
والله أعلم(10/1412)
االقرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 99/ 1/ د 10
بشأن
المفطرات في مجال التداوي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية، خلال الفترة من23 إلى 28 صفر 1418 هـ (الموافق 28 يونيو -3 يوليو 1997 م) .
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع المفطرات في مجال التداوي، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية، في الفترة من 9 إلى 12 صفر 1418هـ (الموافق 14 - 17 يونيو 1997 م) ، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، والنظر في الأدلة من الكتاب والسنة، وفي كلام الفقهاء.
قرر ما يلي:
أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات:
1 - قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
2 - الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
3 - ما يدخل المهبل من تحاميل (لبوس) ، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع للفحص الطبي.
4 - إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم.
5 - ما يدخل الإحليل - أي مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى - من قثطرة (أنبوب دقيق) أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.
6 - حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
7 - المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
8 - الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية.
9 - غاز الأوكسجين.
10 - غازات التخدير (البنج) ما لم يعط المريض سوائل (محاليل) مغذية.
11 - ما يدخل الجسم امتصاصاً من الجلد؛ كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية.(10/1413)
12 - إدخال قثطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء.
13 - إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها.
14 - أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء، ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل.
15 - منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى.
16 - دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي.
17 - القيء غير المتعمد، بخلاف المتعمد (الاستقاءة) .
ثانياً: ينبغي على الطبيب المسلم نصح المريض بتأجيل ما لا يضر تأجيله إلى ما بعد الإفطار من صور المعالجات المذكورة فيما سبق.
ثالثا: تأجيل إصدار قرار في الصور التالية، للحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة في أثرها على الصوم، مع التركيز على ما ورد في حكمها من أحاديث نبوية وآثار عن الصحابة:
أ- بخاخ الربو، واستنشاق أبخرة المواد.
ب - الفصد، والحجامة.
ج - أخذ عينة من الدم المخبري للفحص، أو نقل دم من المتبرع به، أو تلقي الدم المنقول.
د - الحقن المستعملة في علاج الفشل الكلوي حقناً في الصفاق (البريتون) أو في الكلية الاصطناعية.
هـ - ما يدخل الشرج من حقنة شرجية أو تحاميل البوس) أو منظار أو إصبع للفحص الطبي.
و العمليات الجراحية بالتخدير العام إذا كان المريض قد بيت الصيام من الليل، ولم يعط شيئا من السوائل (المحاليل) المغذية.
والله أعلم
* * *(10/1414)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 100/ 2/ د 10
بشأن
الاستنساخ البشري
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر
بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 إلى 28 صفر 1418 هـ (الموافق 28 يونيو -3 يوليو 1997 م) .
بعد إطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع الاستنساخ البشري، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من 9 - 12 صفر 1418 هـ، الموافق 14 - 17 يونيو 1997 م.
واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، انتهى إلى ما يلي:
مقدمة:
لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه غاية التكريم، فقال
عز من قائل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] ، زينه بالعقل، وشرفه بالتكليف، وجعله خليفة في الأرض واستعمره فيها، وأكرمه بحمل رسالته التي تنسجم مع فطرته، بل هي الفطرة بعينها لقوله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] ، وقد حرص الإسلام على الحفاظ على فطرة الإنسان سوية من خلال المحافظة على المقاصد الكلية الخمسة (الدين والنفس والعقل والنسل والمال) ، وصونها من كل تغيير يفسدها، سواء من حيث السبب أم النتيجة، يدل على ذلك الحديث القدسي الذي أورده القرطبي من رواية القاضي إسماعيل: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم.. إلى قوله: وأمرتهم أن يغيروا خلقي)) .(10/1415)
وقد علم الله الإنسان ما لم يكن يعلم، وأمره بالبحث والنظر والتفكير والتدبر مخاطبًا إياه في آيات عديدة: {أَفَلَا يَرَوْنَ} ؟ ، {أَفَلَا يَنْظُرُونَ} ، {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ...
والإسلام لا يضع حجرًا ولا قيدًا على حرية البحث العلمي، إذ هو من باب استكناه سنة الله في خلقه. ولكن الإسلام يقضي كذلك بأن لا يترك الباب مفتوحًا بدون ضوابط أمام دخول تطبيقات نتائج البحث العلمي إلى الساحة العامة بغير أن تمر على مصفاة الشريعة، لتمرر المباح وتحجز الحرام، فلا يسمح بتنفيذ شيء لمجرد أنه قابل للتنفيذ، بل لا بد أن يكون علمًا نافعًا جالبًا لمصالح العباد ودارئًا لمفاسدهم.
ولا بد أن يحافظ هذا العلم على كرامة الإنسان ومكانته والغاية التي خلقه الله من أجلها، فلا يتخذ حقلًا للتجريب، ولا يعتدي على ذاتية الفرد وخصوصيته وتميزه، ولا يؤدي إلى خلخلة الهيكل الاجتماعي المستقر، أو يعصف بأسس القرابات والأنساب وصلات الأرحام والهياكل الأسرية المتعارف عليها على مدى التاريخ الإنساني في ظلال شرع الله وعلى أساس وطيد من أحكامه.
وقد كان مما استجد للناس من علم في هذا العصر، ما ضجت به وسائل الإعلام في العالم كله باسم الاستنساخ. وكان لا بد من بيان حكم الشرع فيه، بعد عرض تفاصيله من قِبَل نخبة من خبراء المسلمين وعلمائهم في هذا المجال.
تعريف الاستنساخ:
من المعلوم أن سنة الله في الخلق أن ينشأ المخلوق البشري من اجتماع نطفتين اثنتين تشتمل نواة كل منهما على عدد من الصبغيات (الكروموزومات) يبلغ نصف عدد الصبغيات التي في الخلايا الجسدية للإنسان، فإذا اتحدت نطفة الأب (الزوج) التي تسمى الحيوان المنوي بنطفة الأم (الزوجة) التي تسمى البييضة، تحولتا معًا إلى نطفة أمشاج أو لقيحة، تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وتمتلك طاقة التكاثر. فإذا انغرست في رحم الأم تنامت وتكاملت وولدت مخلوقًا مكتملًا بإذن الله، وهي في مسيرتها تلك تتضاعف فتصير خليتين متماثلتين فأربعًا فثمانيًا، ثم تواصل تضاعفها حتى تبلغ مرحلة تبدأ عندها بالتمايز والتخصص.
فإذا انشطرت إحدى اللقيحة في مرحلة ما قبل التمايز إلى شطرين متماثلين تولد منهما توأمان متماثلان. وقد أمكن في الحيوان إجراء فصل اصطناعي لأمثال هذه اللقائح، فتولدت منها توائم متماثلة، ولم يبلغ بعد عن مثل ذلك في الإنسان، وقد عُدَّ ذلك نوعًا من الاستنساخ أو التنسيل، لأنه يولد نسخًا أو نسائل متماثلة، وأطلق عليه اسم الاستنساخ بالتشطير.(10/1416)
وثمة طريقة أخرى لاستنساخ مخلوق كامل، تقوم على أخذ الحقيبة الوراثية الكاملة على شكل نواة من خلية من الخلايا الجسدية، وإيداعها في خلية بييضية منزوعة النواة، فتتألف بذلك لقيحة تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وهي في الوقت نفسه تمتلك طاقة التكاثر، فإذا غرست في رحم الأم تنامت وتكاملت وولدت مخلوقًا مكتملًا بإذن الله. وهذا النمط من الاستنساخ الذي يعرف باسم (النقل النووي) أو (الإحلال النووي للخلية البييضية) هو الذي يفهم من كلمة الاستنساخ إذا أطلقت، وهو الذي حدث في النعجة (دولي) .
على أن هذا المخلوق الجديد ليس نسخة طبق الأصل، لأن بييضة
الأم المنزوعة النواة تظل مشتملة على بقايا نووية في الجزء الذي يحيط بالنواة المنزوعة، ولهذه البقايا أثر ملحوظ في تحوير الصفات التي ورثت من الخلية الجسدية، ولم يبلغ أيضًا عن حصول ذلك في الإنسان.
فالاستنساخ إذن هو: توليد كائن حي - أو أكثر - إما بنقل النواة من خلية جسدية إلى بييضة منزوعة النواة، وإما بتشطير بييضة مخصبة في مرحلة تسبق تمايز الأنسجة والأعضاء.
ولا يخفى أن هذه العمليات وأمثالها لا تمثل خلقًا أو بعض خلق،
قال الله عز وجل: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] ، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) } [الواقعة: 58 - 62] .
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } [المؤمنون: 12- 14]
وبناء على ما سبق من البحوث والمناقشات والمبادئ الشرعية التي طرحت على مجلس المجمع:
قرر ما يلي:
أولًا: تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري.
ثانيًا: إذا حصل تجاوز للحكم الشرعي المبين في الفقرة (أولًا) ؛ فإن
آثار تلك الحالات تعرض لبيان أحكامها الشرعية.(10/1417)
ثالثًا: تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحمًا أم بييضة أم حيوانًا منويًّا أم خلية جسدية للاستنساخ.
رابعًا: يجوز شرعًا الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد.
خامسًا: مناشدة الدول الإسلامية إصدار القوانين والأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات المحلية أو الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميدانًا لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها.
سادسًا: المتابعة المشتركة من قبل كل من مجمع الفقه الإسلامي والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية لموضوع الاستنساخ ومستجداته العلمية، وضبط مصطلحاته، وعقد الندوات واللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة به.
سابعًا: الدعوة إلى تشكيل لجان متخصصة تضم الخبراء وعلماء الشريعة لوضع الضوابط الخلقية في مجال بحوث علوم الأحياء (البيولوجيا) لاعتمادها في الدول الإسلامية.
ثامنًا: الدعوة إلى إنشاء ودعم المعاهد والمؤسسات العلمية التي تقوم بإجراء البحوث في مجال علوم الأحياء (البيولوجيا) والهندسة الوراثية في غير مجال الاستنساخ البشري، وفق الضوابط الشرعية، حتى لا يظل العالم الإسلامي عالة على غيره، وتبعًا في هذا المجال.
تاسعًا: تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية، ودعوة أجهزة الإعلام لاعتماد النظرة الإيمانية في التعامل مع هذه القضايا، وتجنب توظيفها بما يناقض الإسلام، وتوعية الرأي العام للتثبت قبل اتخاذ أي موقف، استجابة لقول الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]
والله أعلم(10/1418)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم 101/ 3/ د10
بشأن
الذبائح
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 إلى 28 صفر 1418هـ (الموافق 28 يونيو-3 يوليو 1997 م) .
بعد إطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع الذبائح، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء وخبراء الأغذية، واستحضاره أن التذكية من الأمور التي تخضع لأحكام شرعية ثبتت بالكتاب والسنة، وفي مراعاة أحكامها التزام بشعائر الإسلام وعلاماته التي تميز المسلم من غيره، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله)) . قرر ما يلي:
أولا: التذكية الشرعية تتم بإحدى الطرق التالية:
1- الذبح: ويتحقق بقطع الحلقوم والمريء والودجين، وهي الطريقة المفضلة شرعا في تذكية الغنم والبقر والطيور ونحوها، وتجوز في غيرها.
2- النحر: ويتحقق بالطعن في اللبة، وهي الوهدة (الحفرة) التي في أسفل العنق, وهي الطريقة المفضلة شرعا في تذكية الإبل وأمثالها، وتجوز في البقر.
3- العقر: ويتحقق بجرح الحيوان غير المقدور عليه في أي جزء من بدنه، سواء الوحشي المباح صيده، والمتوحش من الحيوانات المستأنسة، فإن أدركه الصائد حيا وجب عليه ذبحه أو نحره.(10/1419)
ثانيا: يشترط لصحة التذكية ما يلي:
ا- أن يكون المذكي بالغا أو مميزا، مسلما أو كتابيا (يهوديا أو نصرانيا) ، فلا تؤكل ذبائح الوثنيين، واللادينيين، والملحدين، والمجوس، والمرتدين، وسائر الكفار من غير الكتابيين.
2- أن يكون الذبح بآلة حادة تقطع وتفري بحدها، سواء كانت من الحديد أم من غيره مما ينهر الدم، ما عدا السن والظفر.
فلا تحل (المنخنقة) بفعلها أو بفعل غيرها، ولا (الموقوذة) وهي التي أزهقت روحها بضربها بمثقل (حجر أو هراوة أو نحوهما) ، ولا (المتردية) وهي التي تموت بسقوطها من مكان عال أو بوقوعها في حفرة، ولا (النطيحة) وهي التي تموت بالنطح، ولا (ما أكل السبع) وهو ما افترسه شيء من السباع أو الطيور الجارحة غير المعلمة المرسلة على الصيد.
على أنه إذا أدرك شيء مما سبق حيًّا حياة مستقرة فذكي جاز أكله.
3- أن يذكر المذكي اسم الله تعالى عند التذكية، ولا يكتفى باستعمال آلة تسجيل لذكر التسمية، إلا أن من ترك التسمية ناسيا فذبيحته حلال.
ثالثا: للتذكية آداب نبهت إليها الشريعة الإسلامية للرفق والرحمة بالحيوان قبل ذبحه، وفي أثناء ذبحه، وبعد ذبحه:
فلا تُحَدُّ آلة الذبح أمام الحيوان المراد ذبحه، ولا يذبح حيوان بمشهد حيوان آخر، ولا يذكى بآلة غير حادة، ولا تعذب الذبيحة، ولا يقطع أي جزء من أجزائها، ولا تسلخ ولا تغطس في الماء الحار، ولا ينتف الريش إلا بعد التأكد من زهوق الروح.(10/1420)
رابعا: ينبغي أن يكون الحيوان المراد تذكيته خاليا من الأمراض المعدية، ومما يغير اللحم تغييرا يضر بآكله، ويتأكد هذا المطلب الصحي فيما يطرح في الأسواق، أو يستورد.
خامسا:
أ- الأصل في التذكية الشرعية أن تكون بدون تدويخ للحيوان، لأن طريقة الذبح الإسلامية بشروطها وآدابها هي الأمثل، رحمة بالحيوان وإحسانا لذبحته وتقليلا من معاناته, ويطلب من الجهات القائمة بالذبح أن تطور وسائل ذبحها بالنسبة للحيوانات الكبيرة الحجم، بحيث تحقق هذا الأصل في الذبح على الوجه الأكمل.
ب- مع مراعاة ما هو مبين في البند (أ) من هذه الفقرة، فإن الحيوانات التي تذكى بعد التدويخ ذكاة شرعية يحل أكلها إذا توافرت الشروط الفنية التي يتأكد بها عدم موت الذبيحة قبل تذكيتها، وقد حددها الخبراء في الوقت الحالي بما يلي:
1- أن يتم تطبيق القطبين الكهربائيين على الصدغين أو في الاتجاه الجبهي- القذالي (القفوي) .
2- أن يتراوح الفولطاج ما بين (100- 400 فولط) .
3- أن تتراوح شدة التيار ما بين (0.75إلى 1.0 أمبير) بالنسبة للغنم، وما بين (2 إلى 2.5 أمبير) بالنسبة للبقر.
4- أن يجري تطبيق التيار الكهربائي في مدة تتراوح ما بين (3 إلى6 ثوان) .
جـ- لا يجوز تدويخ الحيوان المراد تذكيته باستعمال المسدس ذي الإبرة الواقذة أو بالبلطة أو بالمطرقة، ولا بالنفخ على الطريقة الإنجليزية.
د- لا يجوز تدويخ الدواجن بالصدمة الكهربائية، لما ثبت بالتجربة من إفضاء ذلك إلى موت نسبة غير قليلة منها قبل التذكية.
هـ- لا يحرم ما ذكي من الحيوانات بعد تدويخه باستعمال مزيج ثاني أكسيد الكربون مع الهواء أو الأوكسجين، أو باستعمال المسدس ذي الرأس الكروي بصورة لا تؤدي إلى موته قبل تذكيته.(10/1421)
سادسا: على المسلمين المقيمين في البلاد غير الإسلامية أن يسعوا بالطرق القانونية للحصول على الإذن لهم بالذبح على الطريقة الإسلامية بدون تدويخ.
سابعا: يجوز للمسلمين الزائرين لبلاد غير إسلامية أو المقيمين فيها، أن يأكلوا من ذبائح أهل الكتاب مما هو مباح شرعا، بعد التأكد من خلوها مما يخالطها من المحرمات، إلا إذا ثبت لديهم أنها لم تذك تذكية شرعية.
ثامنا: الأصل أن تتم التذكية في الدواجن وغيرها بيد المذكي، ولا بأس باستخدام الآلات الميكانيكية في تذكية الدواجن ما دامت شروط التذكية الشرعية المذكورة في الفقرة (ثانيا) قد توافرت، وتجزئ التسمية على كل مجموعة يتواصل ذبحها، فإن انقطعت أعيدت التسمية.
تاسعاً:
أ- إذا كان استيراد اللحوم من بلاد غالبية سكانها من أهل الكتاب، وتذبح حيواناتها في المجازر الحديثة بمراعاة شروط التذكية الشرعية المبينة في الفقرة (ثانيا) فهي لحوم حلال لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] .
ب- اللحوم المستوردة من بلاد غالبية سكانها من غير أهل الكتاب محرمة، لغلبة الظن بأن إزهاق روحها وقع ممن لا تحل تذكيته.
ج- اللحوم المستوردة من البلاد المشار إليها في البند (ب) إذا تمت تذكيتها تذكية شرعية تحت إشراف هيئة إسلامية معتمدة وكان المذكي مسلما أو كتابيا فهي حلال.
ويوصي المجمع بمايلي:
أولا: السعي على مستوى الحكومات الإسلامية لدى السلطات غير الإسلامية التي يعيش في بلادها مسلمون، لكي توفر لهم فرص الذبح بالطريقة الشرعية بدون تدويخ.
ثانيا: لتحقيق التخلص نهائيا من المشكلات الناجمة عن استيراد اللحوم من البلاد غير الإسلامية ينبغي مراعاة ما يلي:
أ- العمل على تنمية الثروة الحيوانية في البلاد الإسلامية لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
ب- الاقتصار ما أمكن على البلاد الإسلامية في استيراد اللحوم.
جـ- استيراد المواشي حية وذبحها في البلاد الإسلامية للتأكد من مراعاة شروط التذكية الشرعية.
د- الطلب إلى منظمة المؤتمر الإسلامي لاختيار جهة إسلامية موحدة تتولى إصلاح مهمة المراقبة للحوم المستوردة، بإيجاد مؤسسة تتولى العمل المباشر في هذا المجال، مع التفرغ التام لشؤونه، ووضع لوائح مفصلة عن كل من شروط التذكية الشرعية، وتنظيم المراقبة والإشراف على هذه المهمة؛ وذلك بالاستعانة بخبراء شرعيين وفنيين، وأن توضع على اللحوم المقبولة من الإدارة علامة تجارية مسجلة عالميا في سجل العلامات التجارية المحمية قانونيا.
هـ- العمل على حصر عملية المراقبة بالجهة المشار إليها في البند
(د) ، والسعي إلى اعتراف جميع الدول الإسلامية بحصر المراقبة فيها.
و إلى أن تتحقق التوصية المبينة في البند (د) من هذه الفقرة يطلب من مصدري اللحوم ومستورديها ضمان الالتزام بشروط التذكية الشرعية فيما يصدر إلى البلاد الإسلامية؛ حتى لا يوقعوا المسلمين في الحرام بالتساهل في استيراد اللحوم دون التثبت من شرعية تذكيتها.
والله أعلم(10/1422)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه قرار رقم: 102 /4/د10
بشأن
بطاقة الائتمان
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية، خلال الفترة من 23 إلى 28 صفر 1418 هـ (الموافق 28 يونيو- 3 يوليو 1997 م)
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع بطاقة الائتمان، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع من الفقهاء والاقتصاديين؛ قرر ما يلي:
أ- تكليف الأمانة العامة إجراء مسح ميداني لجميع نماذج الشروط والاتفاقيات للبطاقات التي تصدرها البنوك.
ب - تشكيل لجنة تقوم بدراسة صيغ البطاقات لتحديد خصائصها وفروقها وضبط التكييفات الشرعية لها، وذلك بعد توفير المصادر العربية والأجنبية عن أنواع البطاقات.
جـ- عقد حلقة بحث لمناقشة الموضوع في ضوء التحضيرات السابقة، وإعداد نتائج متكاملة عنه لعرضها على الدورة القادمة.
ويوصي بما يلي:
أ - ضرورة إعادة صياغة المصطلحات الاقتصادية ذات العلاقة والأبعاد الشرعية فيما يتعلق بالمعاملات الجائزة والمحرمة بما يناسب حقيقتها، ويكشف عن ماهيتها , وإيثار ما له وجود في المصطلح الشرعي على غيره، بحيث يترسخ لفظه ومعناه، خصوصًا ما تكون له آثار حكمية شرعية، لتقويم صياغة المصطلحات الاقتصادية، وانسجامها مع المصطلحات الفقهية، واستخراجها من تراث الأمة ومفاهيمها الشرعية.
ب - مناشدة الجهات المعنية في البلاد الإسلامية منع البنوك من إصدار بطاقات الائتمان الربوية، صيانة للأمة من الوقوع في مستنقع الربا المحرم، وحفظًا للاقتصاد الوطني وأموال الأفراد.
جـ- إيجاد هيئة شرعية ومالية واقتصادية تكون مسؤوليتها حماية الأفراد من استغلال البنوك والمحافظة على حقوقهم، في حدود الأحكام الشرعية، والسياسة المالية لحماية الاقتصاد الوطني، ووضع لوائح محكمة لحماية المجتمع والأفراد من استغلال البنوك، لتفادي النتائج الوخيمة المترتبة على ذلك.
والله أعلم.(10/1423)
قرار حول
دور المرأة المسلمة في التنمية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه قرار رقم: 153/ 5/ د 15
بشأن
دور المرأة المسلمة في التنمية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر
بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 إلى 28 صفر1418 هـ (الموافق 28 يونيو -3 يوليو 1997 م) .
بعد إطلاعه على التوصيات المعدة بشأن دور المرآة المسلمة في التنمية، وبعد المداولة التي دارت حول الموضوع؛
قرر:
- تكليف لجنة للنظر في موضوع التوصيات المعدة بشأن دور المرأة المسلمة في التنمية، تشكلها الأمانة العامة للمجمع، وتعرض نتائج أعمالها في دورة لاحقة إن شاء الله تعالى.
والله أعلم(10/1424)
البيان الختامي
الصادر عن
مجلس مجمع الفقه الإسلامي
في دورة مؤتمره العاشر المنعقد في جدة بالمملكة العربية السعودية
خلال الفترة من 23إلى 28 صفر 1418هـ
28 يونيو- 3 يوليو 1997م
البيان الختامي
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وصلى الله على عبده ورسوله إمام الأمة ونبي الرحمة، الداعي إلى الخير وإلى صراط مستقيم، وعلى آله وصحبه ومن تمسك بهديه وجرى على سنته إلى يوم الدين. وبعد:
فبتوفيق من الله وجميل رعايته، وتيسيره وكمال عنايته، انعقدت الدورة العاشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة على مدى ستة أيام من 23 إلى 28 من صفر الخير 1418 الموافق لـ28 من يونيو حتى 3 من يوليو 1997.
وشملنا التكريم الملكي من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك
فهد بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله وأمد في عمره، بإشرافه السامي على هذه الأيام الدراسية، وتوجيهه خطابه السني إلى أعضاء المؤتمر، ألقاه نيابة عنه صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن نائب أمير مكة المكرمة.
وقد جاء في هذه الرسالة الملكية أن العالم اليوم يتطور تكنولوجيًّا بسرعة هائلة في شتى ألوان الحياة، بما يتمخض عنه من قضايا لم تواجه أسلافنا من أعلام الفقه الإسلامي، وبالتالي لا بد من الاجتهاد فيها استئناسًا بآراء فقهائنا المعاصرين لحل قضايا ومشاكل هذه الأمة. وقد حدد خادم الحرمين الشريفين في هذا الخطاب التحديات الحاقدة التي يواجهها المسلمون في عقيدتهم وأخلاقهم وسلوكياتهم، مهيبًا بأعضاء المجمع إلى بذل الجهد لتحقيق الأهداف الإسلامية والإنسانية العامة، خدمة للإسلام والمسلمين، مؤكدًا مساندة حكومته الرشيدة، ومبينًا تأييدها ومناصرتها لكل ما فيه الخير والرفعة والعزة للإسلام والمسلمين.(10/1425)
وقد تناولت الدراسات والعروض المقدمة لهذه الدورة المحاور الأربعة المحددة للبحث. فوقع النظر والتأمل في مسائل فقهية تتعلق بالمفطرات وفي قضايا علمية بيولوجية تتصل بالاستنساخ وموقف الشريعة منه، ودراسة موضوع الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاة، والوقوف طويلًا عند العقود المستجدة في فقه المعاملات لبحث بطاقة المعاملات المالية (بطاقة الائتمان) ، وتحديد الرأي الفقهي فيها وما يتصل بها من أحكام.
وقد شارك الباحثين العارضين للدراسات عدد كبير من المعقبين، ودارت المناقشة في ذلك بين جمهرة من العلماء وأصحاب الاختصاصات المتنوعة من أعضاء مجلس المجمع وخبرائه. وكانت لجان الصياغة لإعداد القرارات والتوصيات المناسبة تعمل ليل نهار لتقديم نتائج أعمال الدورة المتمثلة في قرارات المجمع لحضراتكم تتويجًا لجهودكم، وتنويهًا باجتهاداتكم.
وإنه لعمل ضروري ومثمر هذا الذي يقوم به المجمع في كل دوراته معتمدًا على الصفوة الكريمة من العلماء والخبراء، مستجيبًا لحاجات الأمة من النظر فيها بما تدعو إليه ظروف الحياة الجديدة وتطوراتها، وقائمًا بما يمليه عليه الواجب الديني الذي دعاه إليه الله في قوله عز وجل {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 83] ، وباذلًا أقصى جهده في تجلية الشريعة، مبينًا أحكامها فيما يستجد من القضايا، وباحثًا عن الحلول المقبولة والمرعية لما يعرض للمجتمع الإسلامي وغيره من المشاكل المستعصية. وهو يعتمد في كل ذلك سبيل عباد الله المخلصين، وطريقة الأئمة المحققين من الرجوع أولًا وبالذات إلى المصدرين الأساسيين كتاب الله الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وثانيًا إلى المناهج العلمية الدقيقة الأصولية، وإلى القواعد العامة الشرعية، غير غافلين عن ملاحظة الحكمة الإلهية في تقرير الأحكام، والمقاصد الشرعية التي نيط بها الفقه الإسلامي.(10/1426)
ويسعدني في نهاية أعمالنا أن نحمد الله على ما من به علينا من النظر
في قضايا المجتمع الإسلامي والإنساني معتمدين منهجه، وسائرين على هدي رسوله. وإنا لنجزل عظيم الشكر والتقدير لخادم الحرمين الشريفين، يحفظه الله، ولولي عهده الأمين يرعاه الله، وللنائب الثاني، أدام الله توفيقه، ولجميع أجهزة الدولة المعنية، على ما لقيناه منها من إكرام وحفاوة، وما قدمته لنا من مساعدات وتسهيلات كان لها دور هام في نجاح أعمال هذه
الدورة.
ويقتضينا واجب الإنصاف أن نسجل شكرنا العميق لصاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن، لحضوره افتتاح هذه الدورة، ولمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور عز الدين العراقي، الذي بذل النصح ودعا إلى الجد من أجل النهوض برسالة المجمع على الوجه الأكمل.
ولا أنسى هنا المنظمات الدولية والمحلية التي شاركتنا جهودنا أعمالنا وأخص بالذكر منهم رجال الفكر والعلم بمختلف الجامعات ومراكز البحث العلمي، وأنوه في هذا المقام بحكمة ودراية سماحة الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع، وأحمد له دأبه وجده وحسن تصرفه في إدارة أعمالنا، وتلخيص الآراء المطروحة والتهيئة المنهجية والعلمية في اتخاذ القرار.
وإني لأخلص من هذه الكلمة إلى شكر وتقدير أعضاء المجمع، وخبرائه، والسادة العلماء الأكارم من أطباء واقتصاديين، الذين بذلوا ما في وسعهم لمواكبة البحوث الشرعية والإعانة على اتخاذ القرار.
وقبل ختام هذه الكلمة يطيب لي، أن أتوجه بأخلص مشاعر التقدير وأزكاها لكل من ساهم في إنجاح هذه الدورة، وأخص بالذكر منهم لجنة الصياغة، والمقرر العام، ومقرري الجلسات، كما أتقدم بمثل ذلك إلى القائمين على الطبع والسحب والتوزيع، وهيئات الاستقبال والسكرتارية العامة. وأجزل الشكر لأجهزة الإعلام والمشرفين عليها على ما قاموا به من جهودٍ خيرة لتغطية أعمال هذا المؤتمر المجمعي الفقهي العاشر طيلة انعقاده، مما مكن من نقل صورة مشرفة عن اهتمامات فقهاء العالم الإسلامي ومواكبتهم للواقع والعصر.(10/1427)
ولا أنسى كريم الضيافة، وجميل الخدمات، التي قدمها لنا المسؤولون عن فندق الحارثي والعاملين به باحتضانهم لوفودنا ومساعدتهم.
وختامًا آمل أن تكون قرارات هذه الدورة إضافة جديدة إلى منجزات مجمعكم الموقر، وأن يتضاعف نشاطه عامًا بعد عام، ليواصل مسيرته ويقوم بواجبه من أجل خير الأمة الإسلامية، وإلى لقاءٍ خير جديد حافل بالجهود العلمية والدراسات الشرعية الفقهية، والقرارات المجمعية العلمية التي تخدم الإسلام والمسلمين في أنحاء المعمورة كافة.
وفي نهاية هذا الاجتماع وقبل التوديع يسعدني أن أحيط حضراتكم
علمًا بدعوة دولة البحرين لإقامة المؤتمر الحادي عشر على أرضها الطيبة السخية، بلغنا إياها أخونا العلامة الفقيه القاضي محمد عبد اللطيف آل سعد، عضو المجمع وممثل دولة البحرين فيه. فنشكر الله لسمو أمير دولة البحرين الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة كريم دعوته، وللعضو الكريم حسن رعايته وحرصه على انتظام دورات المجمع واستمراره على أداء مهمته.
والله أسأل أن يديم توفيقنا ويسدد خطانا على طريق الحق والحكمة والخير، وفي خدمة الإسلام والحفاظ على ملته. إنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أنا الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(10/1428)
توصيات
الندوة الفقهية الطبية التاسعة
" رؤية إسلامية لبعض المشاكل الطبية "
الدار البيضاء: 8- 11- صفر 1418هـ.
14- 17 يونيو 1997 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فلقد آلت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية على نفسها أن تبادر إلى طرح ما يستجد من مشكلات طبية معاصرة تلتمس لها الحكم الشرعي، والرأي الفقهي عبر ندواتها التي دأبت على إقامتها في هذا المجال، والتي يساهم فيها جمع من كبار الفقهاء والأطباء والصيادلة، والمتخصصين في علوم إنسانية أخرى.
ولما كانت تسعى جاهدة إلى وحدة الرأي، وتوحيد الكلمة وفق تصور طبي صائب لتلك المستجدات تبني على أساسه الأحكام الفقهية التي يستنبطها فقهاؤنا الأجلاء؛ لذلك فقد حرصت المنظمة على أن تشاركها في تحمل هذه الأمانة هيئات علمية ومؤسسات ثقافية وصحية لها دور جليل فيما تقوم به، وفي مقدمتها مجمع الفقه الإسلامي بجدة، والأزهر الشريف، والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالإسكندرية، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم الثقافية " إيسيسكو ".
وكان من توفيق الله وفضله أن تقام الندوة الفقهية الطبية التاسعة، وموضوعها " رؤية إسلامية لبعض المشكلات الطبية المعاصرة " في الفترة من 8 - 11 صفر 1418 هـ الموافق 14 - 17 يونيو 1997 م، في مدينة الدار البيضاء بالمملكة المغربية، وتحت الرعاية السامية لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني، وأن تكون بمشاركة مؤسسة الحسن الثاني للأبحاث العلمية والطبية عن رمضان، والإيسيسكو ومجمع الفقه الإسلامي والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية.(10/1429)
باشرت الندوة أعمالها - في فندق سفير بالدار البيضاء - بحفل افتتاح استهل بتلاوة من القرآن الكريم، وأعقب ذلك كلمة الأستاذ (عبد الهادي بوطالب) الرئيس الشرفي لمؤسسة الحسن الثاني للأبحاث العلمية والطبية عن رمضان، فكلمة سماحة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة أمين عام مجمع الفقه الإسلامي، فكلمة الدكتور حسين الجزائري المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية، ثم كلمة الدكتور عبد العزيز التويجري المدير العام لمنظمة الإيسيسكو، وأخيرًا كلمة الدكتور عبد الرحمن عبد الله العوضي رئيس المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية.
وقد اشتملت الندوة على الموضوعات التالية:
1 - الاستحالة والمواد الإضافية في الغذاء والدواء.
2 - الاستنساخ.
3 - المفطرات.(10/1430)
وعلى مدى أربعة أيام عرضت الجوانب الطبية والفقهية لكل موضوع من تلك الموضوعات، وتتم تدارس الآراء المختلفة، وجرى نقاش مسهب لكل من الجوانب الطبية والفقهية، وتداول المشاركون ما عرض من أفكار واقتراحات، ثم توصلت الندوة بحمد الله إلى ما يلي:
أولا
الاستحالة والمواد الإضافية في الغذاء والدواء
تؤكد الندوة على جميع التوصيات التي وردت في الندوة الثامنة في البند " ثانيًا " المتعلق بالمواد المحرمة والنجسة في الغذاء والدواء.
واستكمالًا لما سبقت دراسته في الندوة السابقة فإن هذه الندوة ناقشت الجوانب الطبية والفقهية المتعلقة بهذا الموضوع، وخلصت إلى أن المواد الإضافية في الغذاء والدواء التي لها أصل نجس أو محرم تنقلب إلى مواد مباحة شرعًا بإحدى طريقتين:
الاستحالة:
تشير الندوة ابتداء إلى ما سبق اتخاذه من توصية في الفقرة (8) من البند " ثانيًا " المتخذة في الندوة الفقهية الثامنة بشأن الاستحالة.
ويقصد بالاستحالة في الاصطلاح الفقهي: " تغير حقيقة المادة النجسة أو المحرم تناولها وانقلاب عينها إلى مادة مباينة لها في الاسم والخصائص والصفات ". ويعتر عنها في المصطلح العلمي الشائع بأنها كل تفاعل كيميائي يحول المادة إلى مركب آخر؛ كتحول الزيوت والشحوم على اختلاف مصادرها إلى صابون، وتحلل المادة إلى مكوناتها المختلفة؛ كتفكك الزيوت والدهون إلى حموض دسمة وغليسرين، وكما يحصل التفاعل الكيميائي بالقصد إليه بالوسائل العلمية الفنية يحصل أيضًا - بصورة غير منظورة - في الصور التي أوردها الفقهاء على سبيل المثال: كالتخلل والدباغة والإحراق، وبناء على ذلك تعتبر:
1- المركبات الإضافية ذات المنشأ الحيواني المحرم أو النجس التي تتحقق فيها الاستحالة - كما سبقت الإشارة إليها - تعتبر طاهرة حلال التناول في الغذاء والدواء.
2 - المركبات الكيميائية المستخرجة من أصول نجسة أو محرمة كالدم المسفوح أو مياه المجاري والتي لم تتحقق فيها الاستحالة بالمصطلح المشار إليه؛ لايجوز استخدامها في الغذاء والدواء، مثل:
الأغذية التي يضاف إليها الدم المسفوح كالنقانق المحشوة بالدم، والعصائد المدماة (البودينغ الأسود) ، والهامبرجر المدمى، وأغذية الأطفال المحتوية على الدم، وعجائن الدم، والحساء بالدم ونحوها؛ تعتبر طعامًا نجسًا محرم الأكل لاحتوائها على الدم المسفوح الذي لم تتحقق به الاستحالة.
أما بلازما الدم - التي تعتبر بديلًا رخيصًا لزلال البيض - وقد تستخدم في الفطائر، والحساء، والعصائد (بودينغ) ، والخبز، ومشتقات الألبان، وأدوية الأطفال وأغذيتهم، والتي قد تضاف إلى الدقيق.
فقد رأت الندوة أنها مادة مباينة للدم في الاسم والخصائص والصفات، فليس لها حكم الدم، وإن رأى بعض الحاضرين خلاف ذلك.(10/1431)
الاستهلاك:
ويكون ذلك بامتزاج مادة محرمة أو نجسة بمادة أخرى طاهرة حلال غالبة، مما يذهب عنها صفة النجاسة والحرمة شرعًا، إذا زالت صفات ذلك المخالط المغلوب من الطعم واللون والرائحة، حيث يصير المغلوب مستهلكًا بالغالب، ويكون الحكم للغالب، ومثال ذلك:
1- المركبات الإضافية التي يستعمل من محلولها في الكحول كمية قليلة جدًا في الغذاء والدواء، كالملونات والحافظات والمستحلبات مضادات الزنخ.
2 - الليستين والكوليسترول المستخرجان من أصول نجسة بدون استحالة، يجوز استخدامهما في الغذاء والدواء بمقادير قليلة جدًا مستهلكة في المخالط الغالب الحلال الطاهر.
3 - الأنزيمات الخنزيرية المنشأ، كالببسين وسائر الخمائر الهاضمة ونحوها المستخدمة بكميات زهيدة مستهلكة في الغذاء والدواء الغالب.
وترى الندوة ما يلي:
1 - إن المذيبات الصناعية، والمواد الحاملة والدافعة للمادة الفعالة في العبوات المضغوطة؛ إذا استخدمت وسيلة لغرض أو منفعة مشروعة جائزة شرعًا، أما استعمالها من أجل الحصول على تأثيرها المخدر أو المهلوس باستنشاقها فهو حرام شرعًا، اعتبارًا للمقاصد ومآلات الأفعال.
2 - لا حرج شرعًا في استخدام الذهب في مجال الأشياء التعويضية السنية (مثل تلبيس الأضراس والأسنان وشد بعضها ببعض ونحو ذلك) لغرض المعالجة الطبية للرجال، أما إذا استعمل لغرض الزينة فقط، فإنه يأخذ حكم لبس الرجال للذهب للزينة، وهو محظور شرعًا.
3 - الأصل الشرعي حرمة لبس الحرير الطبيعي على الرجال، ويستثنى من ذلك لبسه لغرض المعالجة الطبية كأمراض الحساسية والحكة وما شابه ذلك، فإنه سائغ شرعًا.(10/1432)
ثانيًا المفطرات
المفطرات في كتاب الله عز وجل، وفي السنة الصحيحة ثلاثة: هي
الأكل والشرب والجماع، فكل ما جاوز الحلق وكان ينطبق عليه اسم الأكل أو الشرب، كمًّا وكيفًا، يعد مفطرًا. وبناء على ذلك اتفق المجتمعون على أن الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات:
1- قطرة العين أو الأذن أو غسول الأذن.
2 - قرص النيتروغلسيرين ونحوه الذي يوضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية.
3 - ما يدخل المهبل من فراز، أو بيوض دوائية مهبلية، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع طبيب أو قابلة فاحصة.
4 - ما يدخل الإحليل - إحليل الذكر والأنثى - أي مجرى البول الظاهر؛ من قثطرة، أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.
5 - حفر السن أو قلع الضرس أو تنظيف الأسنان أو السواك وفرشاة الأسنان، على أن يتجنب الابتلاع.
6 - الحقن الجلدية أو العضلية أو الوريدية باستثناء السوائل الوريدية المغذية.
7 - التبرع بالدم وتلقي الدم المنقول.
8 - غاز الأكسجين وغازات التخدير.
9 - ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد، كالدهونات والمروخات واللصقات الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية.
10 - أخذ عينة من الدم للفحص المختبري.
11 - إدخال قثطرة في الشرايين لتصوير أوعية القلب، أو غيره من الأعضاء.
12 - إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء، أو إجراء عملية جراحية عليها.
13 - المضمضة والغرغرة وبخاخ العلاج الموضعي للفم على أن يتجنب الابتلاع.
14 - إدخال المنظار أو اللولب إلى الرحم.
15 - أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء.(10/1433)
ورأت أكثرية المجتمعين أن الأمور الآتية لا تعتبر مفطرة:
1 - قطرة الأنف وبخاخ الأنف وبخاخ الربو.
2 - ما يدخل الشرج من حقنة شرجية، أو تحاميل (لبوس) ، أو منظار، أو إصبع طبيب فاحص.
3 - العمليات الجراحية بالتخدير العام، إذا كان المريض قد بيت الصيام من الليل.
4 - الحقن المستعملة في علاج الفشل الكلوي حقنًا في الصفاق (الباريتون) ، أو بالكلية الاصطناعية.
5 - منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل أو مواد أخرى.
والندوة في ختام أعمالها لا يسعها إلا أن ترفع إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني ملك المملكة المغربية، عظيم الشكر وجميل العرفان على رعايته لهذه الندوة المقامة على أرض المملكة المغربية، داعين لجلالته وولي عهده بالنصر والعزة ومزيد من الازدهار والتقدم لشعب المملكة المغربية، كما تتوجه الندوة بالشكر لحكومة صاحب الجلالة والمسؤولين على حسن الاستقبال وكرم الوفادة.
والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية تتقدم بخالص الشكر لجميع المؤسسات التي شاركت في أعمال هذه الندوة، وهي: مؤسسة الحسن الثاني للأبحاث العلمية والطبية عن رمضان، ومنظمة الإيسيسكو، ومجمع الفقه الإسلامي بجدة، والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية، كما تتقدم بجزيل الشكر والامتنان للسادة الفقهاء والأطباء والعلماء الذين ساهموا في إنجاح هذه الندوة، داعين سبحانه وتعالى أن يحتسب ذلك في ميزان أعمالهم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* * *(10/1434)
توصيات
ندوة الخبراء حول دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي إلى المؤتمر الإسلامي الثالث والعشرين لوزراء الخارجية
(معدلة من قبل لجنة الفتوى)
إن ندوة منظمة المؤتمر الإسلامي حول (دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي) التي عقدت بطهران، بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، في الفترة 17 -19 من ذي القعدة 1415هـ الموافق 17 -19 إبريل 1995 م، بموجب القرار رقم 10/ 7 - ث (ق0إ) الصادر عن مؤتمر القمة الإسلامي السابع.
وبعد أن ناقشت المسألة بعناية في ضوء تقرير أمانة منظمة المؤتمر الإسلامي والمقترحات والأوراق التي قدمها الخبراء، والآراء التي أبدتها مختلف الوفود.
وإذ تؤكد مجددًا التزام الدول الأعضاء بمبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة، وميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، وصيانة المكانة الرفيعة للمرأة وكرامتها ووضعها في المجتمعات الإسلامية.
واقتناعًا منها بأن الدين الإسلامي الحنيف يقدم حلولًا شاملة لكافة جوانب الحياة الإنسانية والاجتماعية ومراميها.
وإدراكًا للحاجة المتزايدة التي يشعر بها المسلمون في كافة أرجاء العالم لتعزيز انبعاث القيم والمبادئ الإسلامية، وإيجاد مجتمعات مرتكزة على المبادئ الإسلامية، في السلم والعدالة والتسامح والتقدم والإنصاف والمساواة في الحقوق لجميع البشر.
واقتناعًا منها بأنه لا يمكن بلوغ هذه الأهداف النبيلة إلا بمشاركة جميع المسلمين بما في ذلك المشاركة الكاملة والحثيثة والفاعلة للنساء المسلمات اللاتي يشكلن نصف الأمة الإسلامية.
وإذ تؤكد المبادئ الإلهية والتعاليم الإسلامية المتعلقة بتعزيز وحماية حقوق المرأة، ووضعها السامي في مختلف الأصعدة الشخصية والعائلية والاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية.
وتأكيدًا للدور الفاعل للمرأة في تنمية المجتمعات الإسلامية. وإذ تأكد مجددًا ضرورة التعاون والتنسيق فيما بين البلدان الإسلامية لتشجيع التنمية الشاملة والمنصفة لكافة قطاعات الأمة الإسلامية.(10/1435)
والتزامًا بإبراز الصورة الصحيحة للدين الإسلامي الحنيف، ولدور ومكانة المرأة المسلمة ومكافحة جميع المحاولات الرامية لتشويه صورة التعاليم الإسلامية الخاصة بالمرأة.
1- توصي المؤتمر الإسلامي الثالث والعشرين لوزراء الخارجية
باتخاذ التدابير التالية:
1 - 1 - الاعتراف بالدور البارز الذي تعطيه التعاليم الإسلامية للمرأة في المجتمع الإسلامي , وتبني سياسات إيجابية تعطي المرأة حق المشاركة النشطة والفعالة والبناءة في مختلف المجالات؛ الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية.
1 - 2 - تقديم وتعزيز الصورة الإسلامية الصحيحة للمرأة ودورها الحقيقي وكرامتها ووضعها في المجتمع الإسلامي، وخاصة عبر أجهزة الإعلام والكتب المدرسية، وبذل جميع الجهود لإبراز الصورة الإيجابية للمرأة بما يتوافق مع الفكر الإسلامي الصحيح، بعيدًا عن الصور المشوهة والبدع الدخيلة على الفكر الإسلامي.
1 -3 - التأكيد على أن للمرأة المسلمة الحق في التفقه في أمور دينها، والاجتهاد فيه إذا توافرت شروط الاجتهاد.
1 - 4 - إيجاد بيئة مواتية وظروف روحية وأخلاقية وثقافية وسياسية واجتماعية مناسبة، وفق التعاليم الإسلامية المؤدية لتقدم وتطور شخصية المرأة المسلمة، ورفض جميع صور الغزو الثقافي الذي يلحق الأذى بهوية وشخصية المجتمعات الإسلامية، وخاصة النساء المسلمات.
1 - 5 - بذل كافة الجهود لضمان احترام الحقوق الإنسانية الأساسية للأقليات والجماعات الإسلامية، وبخاصة الأقليات النسائية المسلمة، على أن يشمل ذلك حقهن في ممارسة شعائر دينهن.
1 - 6- القيام بالأبحاث والقضاء على كافة أشكال العنف واستغلال
النساء، بما في ذلك العنف المنزلي والاستغلال الجنسي والتصوير الإباحي والدعارة والتهريب والمضايقات الجنسية والممارسات التقليدية غير المشروعة، وكذلك القضاء على استخدام العنف ضد النساء نتيجة للصراعات المسلحة.
1 - 7 - تعزيز الوعي العام بين النساء والرجال المسلمين بالتعاليم
الإسلامية فيما يتعلق بدور ووضع المرأة وحقوقها ومسؤولياتها في الشريعة الإسلامية.
1 - 8 - نشر الوعي بين النساء والرجال بشأن حقوقهم الذاتية والعائلية والاجتماعية ومسؤولياتهم وواجباتهم بمقتضى الشريعة الإسلامية، وتوفير البيئة المناسبة من أجل التحقيق الكامل لممارسة حقوقهم ومسؤولياتهم، ومطالبة السلطات المختصة بإتاحة الظروف والإمكانات اللازمة للاستجابة بفعاليةٍ لحاجات المرأة وتشجيعها على المشاركة في الحياة العامة، وتمكينها بالتالي من التوفيق بين مسؤولياتها الأسرية من جهة، وبين حقوقها الاجتماعية والسياسية، والمساهمة في اتخاذ القرار من جهة أخرى.(10/1436)
1 - 9 - نشر الوعي العام، واحترام الحقوق والمميزات الاقتصادية والمالية المعترف بها للمرأة بموجب الشريعة الإسلامية، وخاصة تلك المتعلقة بالملكية الخاصة والدخول والميراث.
1 - 10 - تشجيع التخطيط والاعتماد المناسب للموارد اللازمة في إطار برامج التنمية الوطينة والموازنات، بغية تحقيق تقدم المرأة، في جميع المجالات.
1 - 11 - إيجاد البيئة المناسبة والتسهيلات اللازمة من أجل التنمية الكاملة لجميع طاقات وقدرات المرأة، في مختلف المجالات، بما يتواءم مع الدور الأساسي للمرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية والعائلية.
1 - 12 - إنشاء ودعم مراكز محو الأمية، ومرافق التدريب المهني، وفرص العمل، وتطويرها بما يلائم الحياة العصرية، وبما يتوافق مع الشريعة الإسلامي.
1 - 13 - دعم الآليات القانونية والاجتماعية لتمكين النساء من أداء مهامهن كإجازات الوضع المدفوعة الأجر، وساعات عمل مرنة، وإنشاء مرافق للعناية بالأطفال.
1 - 14 - تعزيز وتشجيع جميع فرص العمل المنتج التي تدر دخلًا للمرأة في المجتمعات الإسلامية، والتي من شأنها أن تقوي دورها في التنمية والنمو الشامل للمجتمعات الإسلامية، وذلك من خلال التخطيط المناسب والمنصف لإيجاد توظيف منتج، وزيادة الأمن الاجتماعي والرفاهية للجميع.
1 - 15 - تقديم الدعم المالي والاجتماعي اللازمين، وحماية الأسر وسائر النساء اللائي يحتجن إلى عون اجتماعي ومساعدات.
1 -16 - تشجيع التخطيط والتعاون الوطني والدولي من أجل القضاء على الفقر الذي يؤثر بصفة أساسية على النساء.(10/1437)
1- 17 - التركيز الصحيح على الدور الهام للمرأة الريفية في الإنتاج والتنمية، وتسهيل حصولهن على الموارد الضرورية، ومن بينها الأرض والقروض والأسعار المؤمنة والتسويق، ودعم روابط وجماعات المرأة الريفية والحضرية باعتبارها آليات لتقدمهن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
1 - 18 - تسهيل وتدعيم حصول المرأة الكامل على الرعاية الصحية المناسبة والمتوفرة والجيدة، والخدمات والمرافق الأخرى المجانية ذات العلاقة، ومن بينها التخطيط العائلي والصحة الإنجابية والأمومة والطفولة بما يتفق مع المبادئ الإسلامية.
1- 19 - دعم وتشجيع مختلف الأنشطة الجماعية الاجتماعية،
والعلمية، والاقتصادية، والثقافية، والرياضية، والخيرية؛ التي تمارسها المرأة المسلمة.
1 - 20- القيام بمشاريع البحوث والدراسات المناسبة حول الجوانب النظرية والعملية المتعلقة بتحسين وضع المرأة في مختلف مجالات الحياة الشخصية والاجتماعية، والتعرف على العقبات الراهنة والإجراءات الكفيلة بتجاوزها.
1 - 21 - اتخاذ تدابير مشتركة، وتبادل الخبرات فيما بين البلدان الإسلامية، بغية تحسين أحوال المرأة وتطورها في مختلف الأصعدة والمجالات.
1 - 22 - تشجيع التعاون وتبادل الآراء والخبرات فيما بين النساء المسلمات في مختلف المجتمعات.
1 - 23 - إنشاء وتعزيز الآليات المناسبة من أجل التنسيق والتنفيذ الأفضل للبرامج والسياسات الرامية لتحسين أوضاع المرأة، ونشر المعلومات الموضوعية على نطاق العالم عن دورها في التعليم الإسلامي، وفي تنمية المجتمعات الإسلامية.
ومن بين أمور أخرى، استكمال المشاورات في أقرب وقت ممكن وعلى وجه التفضيل، قبل انعقاد المؤتمر الإسلامي الرابع والعشرين لوزراء الخارجية، حول موضوع إنشاء منظمة إسلامية دولية للمرأة في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي وبما يتفق مع لوائحها.
1 - 24 - كل ما جاء في هذا التوصيات يجب أن يتم وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
2 - يوصي بأن تواصل البلدان الإسلامية تنسيق مواقفها في المحافل والاجتماعات الدولية حول دور المرأة.
3 - يطلب من الأمانة العامة للمنظمة تنظيم وتسهيل إجراء مشاورات منتظمة لتنسيق المواقف فيما بين الوفود الإسلامية المشاركة في المؤتمرات الدولية بشأن المرأة.(10/1438)
بسم الله الرحمن الرحيم
مبادئ مقدمة من
ندوة منظمة المؤتمر الإسلامي الأولى حول
(دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي)
المنعقدة بطهران - الجمهورية الإسلامية الإيرانية
17 - 19 إبريل 1995م
للاسترشاد بها لدى حضور المؤتمرات الدولية حول المرأة نحن، ممثلي الدول الإسلامية، المشاركين في الندوة الأولى لمنظمة المؤتمر الإسلامي حول (دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي) ؛ إذ نؤكد مجددًا التزامنا بميثاق الأمم المتحدة، وميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي.
وإذ نأخذ في الاعتبار أهداف المساواة والتنمية والسلام الواردة في استراتيجيات نيروبي الرائدة من أجل ترقية المرأة، ومداولات الدورة التاسعة والثلاثين للجنة وضعية المرأة.
وإذ نؤكد مجددًا ثقتنا في أن الأديان السماوية وبخاصة الإسلام يمكن أن تكون منطلقات لتطور وترقية المجتمعات الإنسانية، الرجال والنساء، على حد سواء.
وإذ نؤكد على ضرورة احترام التعاليم السماوية والقيم الإسلامية في قرارات المؤتمر العالمي الرابع في بكين، ونؤكد مجددًا عزمنا على العمل معًا في المؤتمر المذكور لضمان تحقيق هذا الهدف.
وإذ ندرك بأن الحقوق والمسؤوليات والفرص المتساوية والمنصفة، وكذلك الشراكة المنسجمة بين النساء والرجال تعتبر أمرًا حيويًّا لتطور وتقدم البشرية.
وإذ ندرك أيضًا أنه يجب اعتبار نموذج جديد للتنمية، متضمنًا التنمية المعنوية والروحية شرطًا مسبقًا لترقية المرأة.
1 - نوصي بأن تسترشد الدول الأعضاء بالمبادئ والتدابير التالية - في مواقفها خلال المؤتمرات العالمية للمرأة -:
1 - 1 - حماية وتعزيز كرامة المرأة ومكانتها الإنسانية الراقية في جميع مجالات الحياة، والاعتراف بأن التنمية المستمرة تتطلب المشاركة المتكاملة للنساء والرجال باعتبارهم عوامل التنمية والمستفيدين منها.
1 - 2 - اتخاذ كافة التدابير اللازمة للقضاء على جميع أشكال التفريق غير المبررة شرعًا ضد الفتيات والنساء وإزالة كل العقبات أمام تقدمهن.
1 - 3 - اعتبار الأسرة بمثابة النواة للمجتمع، تقوم على أساس التعاون الكامل بين الرجل والمرأة. إن الدور الهام للمرأة وكذلك حقوقها في الأسرة أمور أساسية لاستقرار هذه المؤسسة، ويتعين اتخاذ تدابير لدعم وتعزيز الأسرة، ويجب الاعتراف بأن الاستقرار الأسري أحد المؤشرات الرئيسية للتنمية.
1 - 4 - إقامة آليات مساندة اجتماعية واقتصادية مناسبة لتكوين الأسر في سن مناسبة، مع استبعاد العلاقات الجنسية خارج نطاق الرابطة الزوجية.
1- 5 - الأخذ في الاعتبار دور الديانات السماوية في تعزيز القيم الإنسانية للعدالة والتسامح والإنصاف والتنمية، من أجل المجتمعات البشرية، وذلك في إطار ترقية المرأة والاعتراف بذلك الدور.
1 - 6 - احترام ومراعاة القيم الدينية والهوية الثقافية، وسيادة الدول وسلامة أراضيها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ومراعاة ذلك في جميع المحافل الدولية، وعدم فرض أي نموذج مجتمعي دخيل.(10/1439)
1- 7 - القيام بدراسات وبحوث حول جميع أشكال المواقف التمييزية والممارسات والمحرمات التقليدية التي نسبت بغير حق للدين، وذلك من أجل إزالة آثارها السلبية، التي تحط من الكرامة التي ضمنها الإسلام للمرأة والرجل على حد سواء ونشر نتائجها.
1- 8 - اتخاذ التدابير المناسبة لمنع ومكافحة جميع أشكال العنف
ضد المرأة ومحاربتها، بما في ذلك استغلالها جنسيًّا والمتاجرة بها، والتصوير الإباحي، وعرضها على أنها بضاعة جنسية في أجهزة الإعلام، وذلك نظرًا إلى وضعها الرفيع في المجتمع.
1 -9 - ضمان حقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية منصفة للنساء في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في جميع البلدان والمنظمات الدولية.
1 - 10 - ينبغي أن تولي سياسات مكافحة الفقر أهمية خاصة لاحتياجات المرأة ومتطلباتها.
1- 11 - إدراك أن منع العدوان والتطهير العرقي وردعهما والعمل
على حل النزاعات المسلحة وغيرها، كلها أمور ذات أهمية بالغة لحماية المرأة وصغيرات السن ولمنع استخدامهن كسلاح في الحرب.
1 - 12 - تبني إجراءات لتأمين الحماية الاجتماعية والاقتصادية والقانونية للمرأة اللاجئة والنازحة.
1- 13 - زيادة الاستفادة من الخدمات الصحية الفعالة والمتوازنة، خاصة بالنسبة للصحة الإنجابية والتنظيم الأسري والتربية والخدمات في إطار الأسرة، مع إدراك أن الإجهاض يجب أن لا يكون بأي حال من الأحوال أداة في التخطيط الأسري.
1 - 14 - اتخاذ التدابير اللازمة لتوفير الفرص التعليمية المتساوية للبنات والبنين، ومكافحة ظاهرة الانقطاع الباكر عن الدراسة، حتى يتمكن كل ناشئ من الاستعداد للحياة وصقل مواهبه؛ إذ في ذلك ما يساعد على القضاء على أمية الإناث.(10/1440)
مشروع إعلان طهران
حول
دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي
نحن، ممثلي الدول الأعضاء لمنظمة المؤتمر الإسلامي، المجتمعين بمدينة طهران عاصمة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في الفترة 17 - 19 ذي الحجة 1415 هـ الموافق 17 - 19 إبريل 1995 م، في ندوة على مستوى الخبراء، حول دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي، تنفيذًا لقرارات مؤتمري القمة الإسلامية السادس والسابع المنعقدين في داكار (جمهورية السنغال) والدار البيضاء (المملكة المغربية) عامي (1411 هـ) و (1415 هـ) على التوالي
تأكيدًا للدور التاريخي للأمة الإسلامية التي أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة، ربطت الدنيا بالآخرة وجمعت بين العلم والإيمان، وبين المادة والروح , وتأكيدًا أيضًا للدور الحضاري المنتظر من هذه الأمة اليوم لهداية البشرية الحائرة بين التيارات والمذاهب المتنافسة، وتقديم الحلول المناسبة لمشكلات الحضارة المادية المزمنة.
نعلن ما يلي:
أولا: إن من أهداف الإسلام بناء مجتمع يكون فيه لكل من الرجل والمرأة دور متكامل في عملية البناء والتنمية، وإن الإسلام هو أول دين أعطى المرأة حقوقها كاملة على أساس ينسجم مع شخصيتها وكفايتها وتطلعاتها ودورها الرئيس في الحياة. وفي التصور الإسلامي يشكل المجتمع وحدة متكاملة، يتم فيها التعامل مع الرجل والمرأة بصورة شاملة، ويؤكد القرآن الكريم والسنة النبوية على وحدة الأمة الإسلامية بعناصرها الحيوية، فلكل من المرأة والرجل شخصيته ومكانته في المجتمع الإسلامي.
ثانيًا: يعتبر الإسلام الأسرة، بمفهومها المعترف به في الأديان السماوية، حجر الزاوية في البناء الاجتماعي السليم، ويرفض أية صورة مزعومة أخرى للأسرة، وأية علاقة جنسية بديلة خارج هذا الإطار، وللمرأة بمقتضى أمومتها وخصائصها الأخرى الدور الأساسي في استقرار ورفاه هذا البناء العائلي.
ثالثًا: إن الأمومة هي إحدى وظائف المرأة الطبيعية في حياتها، ولن تستطيع أداء هذه الرسالة النبيلة على أحسن وجه، وتكوين الأجيال القادمة؛ إلا إذا أتيحت الفرص الصحيحة لممارسة كافة حقوقها، والقيام بدورٍ نشط في باقي مجالات الحياة.(10/1441)
رابعًا: المرأة والرجل يتساويان في الكرامة الإنسانية، كما أن للمرأة من الحقوق مثل ما عليها من الواجبات، وبينما يتمتع كل من الرجل والمرأة بصفات طبيعية متميزة، إلا أنهما مكملان تمامًا لبعضهما البعض في المسؤوليات الأسرية والاجتماعية، وللمرأة شخصيتها المدنية والحقوق والمسؤوليات المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
خامسًا: إن مشاركة المرأة - في وقتنا الحاضر - في الإسراع بنهضة وانبعاث الأمة الإسلامية أمر ضروري، ويجب توفير كافة الفرص المعنوية والمادية، لتمكينها من القيام بهذا الدور الهام المنوط بها في كافة المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
سادسًا: إن المرأة عنصر أساسي في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة ومستفيدة منها، مما يؤكد حقها في تقلد الوظائف المختلفة، والحصول على الموارد الضرورية، والمشاركة في عملية اتخاذ القرار، بما يحقق مبدأ الإنصاف والتوازن الاجتماعي، وذلك تمشيًا مع المبادئ الإسلامية.
سابعًا: يجب توفير الترتيبات التنظيمية للنساء المسلمات لكي يقررن تحديد المسائل والمهام المتعلقة بدورهن، ويتخذن الإجراءات المناسبة لتحقيق الأهداف المرجوة، على أساس المبادئ والقيم الإسلامية لحفظ كرامة المرأة وشخصيتها، وللوصول إلى النتائج العملية لإبراز دورها في تنمية المجتمع الإسلامي.
ثامنًا: العمل على تشجيع الاتصال المستمر بين مختلف مؤسسات ومنظمات المرأة في الدول الإسلامية بهدف الاستفادة من خبرة بعضها البعض والسعي لتحقيق ذلك.(10/1442)
تاسعًا: الدعوة إلى احترام المرأة في كافة المجالات ورفض العنف الممارس عليها، ومنه العنف المنزلي والاستغلال الجنسي والتصوير الإباحي، والدعارة والاتجار بالمرأة والمضايقات الجنسية، مما هو ملاحظ في بعض المجتمعات من ممارسات تمتهن المرأة وكرامتها وتتنكر لحقوقها الشرعية، وهي أمور دخيلة لا علاقة للإسلام بها.
عاشرًا: قيام الوسائل الإعلامية بتعزيز الدور الإيجابي للمرأة، ورفض جميع أشكال استغلال المرأة في وسائل الإعلام والدعاية المسيئة للقيم والفضائل بما يشكل تحقيرًا لشخصيتها وامتهانًا لكرامتها.
حادي عشر: ينبغي بذل جميع الجهود لتخفيف آلام النساء المجموعات الضعيفة، وبصفة خاصة النساء المسلمات اللائي ما زلن ضحايا النزاعات المسلحة والاحتلال الأجنبي والفقر، وضحايا الضغوط الاقتصادية الأجنبية وعمليات الحظر.
ثاني عشر: إن التنمية الشاملة المتواصلة لا يمكن تحقيقها إلا على أساس من القيم الدينية والأخلاقية، ولذلك فإننا نعلن رفضنا محاولات فرض مفاهيم ثقافية واجتماعية دخيلة، وإدانتنا للهجمات المتواصلة من بعض الجهات ضد المفاهيم والأحكام الإسلامية المتعلقة بالمرأة.
ثالث عشر: إن الشريعة الإسلامية في مصادرها الأساسية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذا الإعلان.(10/1443)
* * *
قرار حول
دور المرأة المسلمة في التنمية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه قرار رقم: 103/ 5/ د 10
بشأن
دور المرأة المسلمة في التنمية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر
بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 إلى 28 صفر1418 هـ (الموافق 28 يونيو -3 يوليو 1997 م) .
بعد إطلاعه على التوصيات المعدة بشأن دور المرآة المسلمة في التنمية، وبعد المداولة التي دارت حول الموضوع؛
قرر:
- تكليف لجنة للنظر في موضوع التوصيات المعدة بشأن دور المرأة المسلمة في التنمية، تشكلها الأمانة العامة للمجمع، وتعرض نتائج أعمالها في دورة لاحقة إن شاء الله تعالى.
والله أعلم(10/1444)
البرنامج الخاص المشترك
بين منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي وصندوق الأمم المتحدة للسكان وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي
للبحث والتطوير والتدريب على البحوث في مجال الإنجاب البشري
اجتماع مجموعة المراجعة العلمية والأخلاقية
حول قضية الاستنساخ
جنيف 25 نيسان / أبريل 1997
المخلص التنفيذي لتقدير الاجتماع
بسم الله الرحمن الرحيم
استهدف الاجتماع الذي استغرق يومًا واحدًا الأمور التالية:
1) دراسة القضايا التقنية والأخلاقية والسياسية العامة المتصلة بالاستنساخ البشري.
2) تحديد الموضوعات والمتحدثين وأوراق البحوث التي ستقدم في اجتماع لاحق تعقده منظمة الصحة العالمية.
3) إعداد تقرير يستخدم كخلفية معلومات لجمعية الصحة العالمية.
وقد شارك في هذا الاجتماع أعضاء مجموعة المراجعة العلمية والأخلاقية التابعة للبرنامج الخاص للبحوث والتنمية والتدريب على البحث في مجال الإنجاب البشري, ومتحدثون من خارج المجموعة دعوا لتقديم مطالعاتهم حول جوانب العلم والأخلاقيات والسياسة العامة في قضية الاستنساخ البشري؛ كما شارك في الاجتماع أعضاء الأمانة.
ولم يكن المقصود من هذا الاجتماع الذي استغرق يومًا واحدًا التوصل إلى نتائج قاطعة حول الجانب الأخلاقي من الاستنساخ البشري، وإنما كانت الغاية هي إجراء استقصاء أولي لأهم جوانب القلق التي تستحق دراسة وتحريًا أكثر استيفاء في المستقبل القريب.
إلا أنه على الرغم من ذلك فقد أجمع المشتركون في نهاية الاجتماع على أنه في ضوء العديد من التساؤلات التي لا تزال في حاجة إلى إجابات شافية، والعديد من القضايا التي ينبغي التحاور بشأنها ومناقشتها، ليس من الحكمة، بل من غير المجدي في هذا الوقت بالذات أن تتجه الآراء إلى فرض حظر دولي على جميع أنشطة الاستنساخ البشري. ففرض حظر على هذه الأنشطة أو تعليقها بصورة مؤقتة هو إجراء أبعد ما يكون عن الاحتياط؛ لأن الحظر المتسرع قد يؤدي إلى ضياع الكثير من الفوائد الماثلة والفوائد المحتملة.(10/1445)
ولاحظ المشاركون أن أي محاولة لإبرام ميثاق أو معاهدة دولية في هذا الصدد، سوف تكون عين الخطأ. وليس من المهم أن تبادر بلدان أو أقاليم بمفردها إلى المسارعة باتخاذ موقف معين؛ وإنما المهم هو أن تتصرف منظمة الصحة العالمية بمزيد من العناية، وأن يتم ذلك بالتعاون مع جهات دولية أخرى كالهيئات المعنية بالملكية التجارية والملكية الفكرية.
وأكد المجتمعون أن ثمة حاجة أساسية لوضع تعريفات واضحة للمصطلحات المستخدمة في هذا المجال. وأبدوا أسفهم للأسلوب الذي انتهجته وسائل الإعلام في التركيز على روايات من قبيل الخيال العلمي حول الاستنساخ البشري، والتأكيد على تداعيات مبدأ اختيار (أسوأ الحالات) ، فقد أدى ذلك إلى نشر الخوف والجهل بين عامة الجمهور، وحدا بالمشرعين وراسمي السياسات إلى التصرف انطلاقًا من الهلع الأخلاقي دونما تروٍّ ولا تدبر.
ومن هنا نشأت الحاجة الماسة إلى عرض هذه القضايا بطريقة واضحة ومفهومة. غير أن هذا الجهد يتطلب انتهاج أسلوب تشارك فيه مختلف التخصصات، بما في ذلك علماء البيولوجيا والاجتماع، والمحامون وعلماء الأخلاق، والمحللون السياسيون وسواهم من أهل الدراية بالموضوع.
ومن عناصر التعريف الواسع للاستنساخ ما يطلق عليه تعبير التشطير الاصطناعي للبييضة المخصبة. فالانشطار الطبيعي للبييضة المخصبة في العملية المألوفة هو الذي تنجم عنه توائم وحيدة الزيجوت متماثلة وراثيًّا. ولقد تم إجراء تجارب على التشطير الاصطناعي للمضغة في الحيوانات، وأمكن من خلال ذلك التوصل إلى عدد أقصى مقداره أربعة أشقاء متماثلين، غير أن معدل النجاح في هذه العملية ضئيل جدًّا. ولم تبلغ حتى الآن في أي نشرة طبية عن استنساخ نسخ متعددة من الأجنة البشرية عن طريق تشطير البييضة المخصبة (أو ما يطلق عليه البعض اسم الاستتآم) .
وبالمقابل، أمكن من خلال التقنية المعروفة بعملية (النقل النووي) إنتاج العديد من الأفراد المتماثلين وراثيًّا، وكان هذا هو نمط الاستنساخ الذي أنتج النعجة (دولي) ، أول حيوان ثدي أمكن استنساخه بعد إجراء مائتين وسبع وسبعين محاولة. وفي هذه العملية التي يطلق عليها تعبير (الاستبدال النووي للبييضة) ، يتم أخذ نواة من خلية مانحة مضاعفة الصبغيات (ضعفانية) ، ثم تزرع في بييضة مستقبلة مسلوبة النواة، ويمكن الحصول على النواة من خلية مأخوذة من بييضة مخصبة مبكرة، أو من سلالة خلايا حيوانية مستزرعة، أو من كائن حي بالغ، على أنه يمكن إجراء الاستبدال النووي للبييضة لأسباب علاجية بحتة، كتوقي الأمراض الناجمة عن عيب في (دنا) المتقدرات (وهي مخازن الطاقة في السيتوبلازما التي تحيط بالنواة، وهي تحتوي على بعض من المادة النووية) .(10/1446)
وبعد عرض الآراء والدراسات ومناقشة القضايا المتصلة بالعلم والأخلاقيات والسياسات بما في ذلك هموم السياسات الدولية، قام المشاركون بتحديد العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات، والموضوعات التي تحتاج إلى مزيد من الاستكشاف والتحري الدقيق في اجتماع مقبل. وصنفت هذه الموضوعات في ثلاث فئات رئيسية هي:
أولًا - القضايا العلمية والأخلاقية:
1- من الممكن التصدي لأمراض المتقدرات عن طريق نقل النواة إلى بييضة مانحة مسلوبة النواة ذات (دنا) متقدرية طبيعية، ولكن كيف تستطيع البحوث التي تجرى على أشخاص يعانون من أمراض المتقدرات، أن تعزز إدراكنا للفوائد والعواقب المترتبة على نقل النواة، باعتباره إجراء علاجيًّا؟
2 - في حالة الإنجاب الطبيعي يتم نقل تجميعة المعلومات الوراثية من كلا الوالدين بصورة عمودية إلى الأطفال، غير أن هذا لا يمكن أن يتم بالنسبة للأفراد المستنسخين. ترى ما الذي يمكن أن نستفيده في هاتين الحالتين من معلومات حول تنظيم البروتينات داخل البييضة المخصبة وحول تطورها اللاحق؟
3 - (كم تبلغ دولّي من العمر الآن؟) إن الإجابة عن هذا السؤال غير معروفة في الوقت الحاضر. فهل تراها تبلغ ست سنوات ونصف السنة من العمر (أي عمر النعجة التي أخذت منها النواة) ، أم هل تراها ما تزال (طفلة) صغيرة؟ وهل ترى الخلايا المأخوذة من حيوانات كبيرة في السن قد استجمعت من (الأخطاء) الوراثية ما يفوق الأخطاء المتجمعة في خلايا الحيوانات الأصغر سنًّا بفعل العامل الزمني؟ إن استخدام النواة المأخوذة من الخلايا الجذعية قد يؤدي إلى حدوث نمط للتشيخ يختلف عن النمط الذي تولده الخلايا الأكثر تطورًا. كما أن البحوث التي تجرى على الحيوانات في مجال الاستنساخ تستطيع أن تتصدى للعديد من الأسئلة التي لا تزال بدون إجابة حول بيولوجية التشيخ.
4 - إن النسل الناتج من تطورٍ أحادي المجين (أي الذي تكون فيه الخلايا المانحة والخلايا المستقبلة مأخوذة من نفس المصدر) قد يأتي مختلفًا عن النسل المستولد من فردين مختلفين. ولا يعرف عن هذه الفروق أو الاختلافات إلا القليل.(10/1447)
5 - ترى هل يؤدي النقل الفردي للنواة المانحة إلى نتائج تختلف عن النتائج التي يؤدي إليها النقل على التسلسل، ناهيك عن مسألة كفاءة عملية النقل نفسها؟
6 - هل تؤثر مرحلة تطور البييضة المخصبة في نتيجة الاستنساخ عن طريق تشطير البييضة المخصبة، وما هو الحد الأقصى للزمن اللازم للانشطار لضمان الحصول على أجنة قابلة للحياة؟
7 - إذا استخدم الاستنساخ من أجل توليد المادة اللازمة لنقل عضو أو نسيج عضوي، ففي أي مراحل التطور يمكن استخدام هذه الأنسجة وتخزينها؟ وهنا نحتاج إلى توضيح ما نقصده حينما نشير إلى (المستنسخات كمصدر مانح للأعضاء) . فهل ترى هذا يعني تحديد الخلايا الجذعية مصدرًا لإنتاج الأعضاء؟ أم أن المقصود هو إنتاج الأجنة لكي نحصل منها على الأعضاء؟ أم أن المقصود هو إنتاج بشر عاديين ليكونوا مصادر (لقطع الغيار) ؟ من وجهة النظر الأخلاقية لا شك في أن الخيار الأخير سوف يقابل بالرفض القاطع، لأن الفرد المستنسخ سوف يكون إنسانًا له كل الحقوق التي للأشخاص الآخرين، ولكن هل ترى الخيارين الأولين يحظيان بالقبول؟ لا شك في أن الأمر يحتاج إلى مزيد من النقاش حول هذه النقطة.
8 - ثمّت سؤال علمي أخير كانت الإجابة عنه واضحة لا لبس فيها؛ والسؤال هو: ترى هل سيتأثر التنوع الوراثي لأفراد النوع البشري بفعل الاستنساخ؟ لا يبدو هذا أمرًا محتملًا، لأن تنوع التجميعات الجينية لن يتأثر بالاستنساخ البشري، ما لم يشكل الأفراد المستنسخون أكثر من خمسين في المائة من مجموع بني البشر.(10/1448)
القضايا الأخلاقية:
تثار قضية الاعتبارات الأخلاقية في المستويين: الجزئي في ما يتعلق بالأفراد وبحقوقهم ومصالحهم، وفي المستوى الكلي في ما يتعلق بالمجتمعات المحلية والمجتمعات الكبيرة، بل وبأنواع المخلوقات بصورة عامة. وقد تترتب على الاهتمامات الأخلاقية في كلا المستويين الجزئي والكلي مضاعفات تنعكس على السياسات العامة. وعلى الرغم من أنه لا تنتظر أن يتحقق الإجماع في نهاية الأمر على كافة القضايا الأخلاقية التالية، إلا أن المشاركين قد اتفقوا على أن كل هذه القضايا تستحق المزيد من الدراسة والتدبر:
1- يبدو أن الاستنساخ البشري يمثل تحديًا لتصرونا الأساسي حول المقصود بكلمة (إنسان) ، ولقد تم اختبار ثلاثةٍ من جوانب الطبيعة الإنسانية على أقل تقدير.
أ- يتطلب الإنجاب البشري الطبيعي وجود سلفين أو والدين، بينما لا يتطلب استنساخ الخلية البالغة سوى سلف أو والد واحد، فما هو تأثير ذلك في الخصائص البشرية الأساسية في مجال الاعتماد المتبادل والترابط؟ ومن ناحية أخرى يمكن أن يقال عن الفرد المستنسخ إن له سلفين، إلا أنهما ينتميان إلى جيل سابق واحد. وتبعًا للتفسير الأخير فهنالك أيضًا سلفان، هما والدا الشخص الذي اشتق منه الفرد المستنسخ.
ب - إن الإنجاب البشري الطبيعي لا يمكن معرفة مولوده مسبقًا، بينما يتيح الاستنساخ الخلوي اختيار نوعية الإنسان الجديد من خلال معرفة طريقة توصيل المادة الوراثية المأخوذة من خلية بالغة إلى شخص حي ولكن هل نرى هذه الفكرة تنسف مفهومنا حول الإنسان الذي يخلق بإمكانيات وراثية لا يمكن تحديدها مسبقًا؟
ج - يفتح الاستنساخ الخلوي الباب لتخليق عدد لا نهائي من الأشخاص المتماثلين وراثيًّا، فهل ترى هذا الأمر يمثل انتهاكًا لمفهومنا حول الخصائص الفردية الأساسية لكل كائن بشري؟ هذا، مع أن من الممكن من ناحية أخرى أن تفرض قيود على عدد النسخ البشرية التي يمكن الحصول عليها من شخص واحد. وهذا أمر ممكن التحقيق عن طريق نظام للترخيص في مجال الاستنساخ البشري.
2 - إن الاعتراض الشائع على الاستنساخ البشري هو أنه ينسف كرامة الإنسان. وعلى الرغم من أن الكرامة قيمة بالغة الأهمية إلا أن معناها يظل غامضًا، غير محدد. ترى ما هو المعنى المحدد لكلمة (كرامة) في مجال الاستنساخ البشري، وكيف يمكن الحفاظ على هذه الكرامة وتعزيزها إذا ما أصبح الاستنساخ حقيقة واقعة؟(10/1449)
3 - ترى هل ستنتهك أي حقوق أخلاقية من جزاء الاستنساخ البشري؟ وحتى لو لم تتعرض هذه الحقوق للتهديد، فهل للأفراد أو للمجتمع أو للنوع بأكمله مصالح قد يضر بها الاستنساخ البشري؟ وهل تستطيع المبادئ الأخلاقية الأساسية أن تعين على الإجابة عن هذين السؤالين؟
4 - وبالمثل هل ترى يمكن أن تنتهك أي حق من الحقوق من جراء تحريم الاستنساخ البشري (كحق حرية الإنجاب على سبيل المثال) ؟ وما هي مسؤوليات الأفراد والمجتمع إزاء تطبيق الاستنساخ؟
5 - لقد نشأ رد فعل جماهيري سلبي قوي تجاه فكرة الاستنساخ البشري، ترى ما هو الأساس الذي قام عليه رد الفعل هذا؟ هل تراه مجرد رد فعل لروايات الخيال العلمي التي صورتها وسائل الإعلام؟ أم هل تراها نابعة من بعض الانفعالات الأخلاقية العميقة الجذور؟ إن بحوث علم الاجتماع تستطيع أن تسهم في الإجابة عن هذا السؤال.
6 - ينطوي الاستنساخ البشري على منافع علاجية، ولاسيما
فيما يتعلق بالعقم. غير أنه أمكن تحديد مجموعة كبيرة من المخاطر المحتملة في هذا السبيل. فكيف يتسنى لنا أن نوازن بين المنافع والأخطار، تمهيدًا لاتخاذ القرار حول ما إذا كنا سنقر مبدأ الاستنساخ البشري أو سننكره
7 - إن القلق حول الجانب الأخلاقي في المستوى الكلي يتصل بمسألة العدالة. فهل الاستنساخ البشري سيؤثر تأثيرًا سلبيَّا تمييزيًّا على الجنس، أو الطبقة الاجتماعية، أو العرق، أو (الإثنية) ؟ وإن كان الأمر كذلك فكيف يتم هذا التأثير؟
قضايا تتصل بالسياسة الدولية
1- الحظر الإلزامي:
فقد سبق أن اعتمدت سياسات مشابهة تتعلق بجرائم الحرب، والرق، والجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية؛ فهذه كلها قيم غير مقبولة في أي بلد من بلدان العالم، ولذلك التزمت بحظرها كافة البلدان.
2 - الحظر الرضائي (الدائم) أو وقف النشاط أو تعليقه:
وهو أضعف من الحظر الإلزامي.
ومن الأمثلة على ذلك إعلانات الحظر العديدة على التكنولوجيا النووية، والتي تكررت على مدى سنوات طويلة.
3 - التقييد الرضائي:
ومثال ذلك تحريم العلاج بالسلالة النسلية، والذي قد لا يستمر إلى الأبد، غير أنه لا يزال ساري المفعول إلى أن يتاح المزيد من المعطيات العلمية حول هذا الموضوع.
4 - التعاون الدولي:
إن كل إنسان يعمل في مجال البحث العلمي على سبيل المثال، يتقاسم المعلومات مع الآخرين ويراقب عملهم. ومن الخيارات النوعية لتحقيق هذه الغاية:
(أ) التصرف على أساس فردي، مع الالتزام بنموذج المعاهدات الدولية.
(ب) التصرف عن طريق وكالة دولية.(10/1450)
وينبثق عن هذا الخيار خيارات أخرى كتعيين وكالة قائمة كمنظمة الصحة العالمية، أو إنشاء وكالة جديدة، كالوكالة التي أنشئت لرصد جهود التعاون الدولي، الرامية إلى تعيين خريطة ومتوالية المجين البشري (مجموعة الجينات البشرية) .
وثمت مجموعة من النقاط الأخرى التي تحتاج إلى التوضيح والمناقشة. وأول هذه النقاط مسألة تحديد كيفية التصرف حيال البحوث الخارجية، في الحالات التي ينتقل فيها الباحثون من بلد إلى بلد آخر، حينما يكون لون معين من البحوث محظورًا في بلادهم.
والنقطة الثانية هي مسألة البراءات الدولية والملكية الفكرية؛ ولهذه النقطة بالذات بعض المضاعفات على اتفاقيات التجارة، إذ ما هي النماذج الاقتصادية الملائمة في ظل الاقتصاد العالمي السائد في هذه الأيام؟
وثمت مجموعة ثالثة من التساؤلات التي تدور حول مصادر تمويل بحوث الاستنساخ البشري. فما هي المضاعفات المختلفة للتمويل من يتل القطاع العام مقابل التمويل من يتل القطاع الخاص؟ وهل ترى البحث الذي يموله القطاع الخاص يقبل الخضوع للإشراف والرصد بنفس الطريقة المطبقة في القطاع العام لهذه الغاية؟
ولقد انتهى الاجتماع إلى مجموعة من الأفكار حول احتمالات المستقبل. فقد أثبتت الخبرات المتحصلة على مدى الأعوام العشرين الماضية في مجال أطفال الأنابيب، وغير ذلك من الطرائق الأخرى المتبعة في الإنجاب المدعم؛ قد بينت أنه بعد انقضاء فترة أولى من الخوف والمعارضة، تلاشى الكثير من التحفظات الأخلاقية، بينما ظل ما تبقى منها موضع المراعاة والاحترام.
ولكن ترى أين يقع موضع التسليم في مجال تحريم الاستنساخ البشري أو السماح به؟ وهل تحريم الاستنساخ إلى أن يثبت أنه مأمون ومفيد يعكس اتجاه التسليم المعتاد في أمور السياسة العامة؟ وفي ضوء العديد من الأسئلة العلمية التي ما زالت تحتاج إلى الإجابة، وفي ضوء الآراء المتضاربة حول الجوانب الأخلاقية للاستنساخ البشري، اتفق المشاركون على أن تكون الخطوة التالية هي الاستكشاف الشامل والتحري الدقيق والمناقشة الوافية للأمور التي حددتها هذه المناقشة الأولية.
ولسوف يكون من الأهمية بمكان أن نضمن تحقيق أوسع تمثيل
جغرافي، وثقافي، وديني، وفلسفي في البرنامج، وأن يكون المشاركون في أي اجتماع تعقده المنظمة في المستقبل حول هذا الموضوع من الذين يمثلون أوسع القطاعات الممكنة، بغية إضفاء الصفة العالمية على هذا النوع من الاجتماعات.(10/1451)
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان مجمع الفقه الإسلامي في دورته العاشرة بجدة
حول محاولة انتهاك حرمة خاتم الأنبياء والمرسلين
محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن العظيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فلقد ذهل علماء المسلمين الذين التقوا في الدورة العاشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي بمدينة جدة، ممثلين لجميع دول العالم الإسلامي، وهز مشاعرهم نبأ الجريمة النكراء التي أقدم على اقترافها بعض المستوطنين اليهود الصهاينة في مدينة خليل الرحمن بفلسطين، والتي أساءت بالغ الإساءة إلى الإسلام الحنيف ونبيه الكريم وقرآنه العظيم، وذلك بتعليق ملصق أثيم عبر عن تلك الإساءة البالغة.
وإنهم ليستنكرون أشد الاستنكار هذا التحدي السافر والاستفزاز الشائن لمشاعر المسلمين في جميع بقاع الأرض، ويشجبون تلك الفعلة الأثيمة التي تنم عن حقد دفين على الإسلام والمسلمين.
ثم إن ممثلي الدول الإسلامية في مجمع الفقه الإسلامي بمناسبة اجتماعهم هذا إلى جوار البيت العتيق، وعلى مقربة من مسجد الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، في هذه الديار المقدسة التي ربط الله سبحانه وتعالى بينها وبين المسجد الأقصى الذي بارك حوله بمعجزة الإسراء والمعراج في قرآن يتلى على مر العصور والدهور؛ ليدعون المسلمين في كل مكان قادة وشعوبًا إلى العمل على وقف مثل هذه الممارسات والتحديات الآثمة، وبأن يعملوا بكل جد وإخلاص لتوحيد كلمتهم، ورص صفوفهم في وجه العدوان والظلم حتى يتم تحرير الأرض المغتصبة، واستعادة المقدسات السليبة.
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .(10/1452)
توصيات
الندوة الفقهية الطبية التاسعة
رؤية إسلامية لبعض المشاكل الطبية
الدار البيضاء: 8- 11صفر 1418هـ
14- 17 يونيو 1997م
الاستنساخ البشري
أ- مقدمة:
سبق للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية أن عقدت ندوة عام 1983 م
عن (الإنجاب في ضوء الإسلام) عرضت فيها ورقتان لاحتمالات إنجاز الاستنساخ البشري بعد أن نجح الاستنساخ في النبات وفي الضفادع والبحريات الصغيرة. وكانت التوصية التي اتخذت في هذا الصدد تنص على الآتي: "عدم التسرع في إبداء الحكم الشرعي في قضايا الاستنساخ بالنسبة للإنسان (على نحو ما أدت إليه التجارب في مجال الحيوان) مع الدعوة إلى مواصلة دراسة هذه القضايا طبيًّا وشرعيًّا مع جواز تطبيق تكنولوجيا التكاثر على مستوى الكائنات الدقيقة باستخدام خصائص الحامض النووي المعاود للالتحام لإنتاج مواد علاجية وفيرة ".
والآن عاد الموضوع يطرح نفسه بشكل حاد وعاجل، منذ تم استنساخ جنين الإنسان بطريق الاستتئام عام 1993 م، ثم في الأشهر الأخيرة حين أعلن عن استنساخ النعجة التي سميت (دولّي) في اسكتلندا في فبراير 1997 م بعد تكتم عن الأمر قرابة ثمانية أشهر، وتلا ذلك الإعلان عن استنساخ قردين بطريقة أخرى في جامعة أوريجون. ولما كانت التقانة التي استعملها العلماء للوصول لهذا الإنجاز يفترض أنها وافية بإجراء نفس التجربة على الإنسان، فقد اكتسب الموضوع منحًى عاجلًا أثار ردود فعل قوية.
ورغم أنه لم يعلن عن ممارسته على الإنسان بعد، إلا أن الحاجة إلى استباقه بالتعرف على آثاره المتوقعة ووضع ضوابطه الشرعية والقانونية والأخلاقية , حدت بكثير من الدول الغربية إلى منع التجارب البشرية أو تجميدها سنوات حتى تتم الدراسات المطلوبة.
* لذلك رأت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية أن تبادر ببحث الموضوع في هذه الندوة.
ب - تعريف الاستنساخ Cloning:
الاستنساخ هو تكوين مخلوقين أو أكثر كل منهما نسخة إرثية من الآخر، وهو نوعان:
الأول: الاستتآم أو شق البييضة، ويبدأ ببييضة مخصبة (بييضة دخلها منوي) ، تنقسم إلى خليتين فتحفز كل منهما إلى البدء من جديد وكأنها الخلية الأم، وتصير كل منهما جنينًا مستقلًا وإن كانا متماثلين لصدورهما عن بييضة واحدة.
الثاني: الاستنساخ العادي الذي لا يعتمد على الخلايا الجنسية وإنما يكون بوضع نواة خلية جسدية داخل غلاف بييضة منزوعة النواة. وتتكاثر الخلية الناتجة إلى جنين هو نسخة إرثية تكاد تكون طبق الأصل من صاحب الخلية الجسدية.(10/1453)
ج - المناقشات:
ناقشت الندوة الجوانب الطبية لهذا الموضوع مناقشة مستفيضة استجلت من خلالها المرتكزات الرئيسة التي يقوم عليها الاستنساخ من حيث الآتي:
1- استنساخ الجنين البشري عام 1993 م عن طريق (الاستتآم) وهو حفز البييضة المخصبة إلى سلوك النهج الذي تتبعه طبيعيًّا لتكوين التوائم المتماثلة؛ بحيث تتصرف كل من الخليتين الناجمتين عن أول انقسام للبييضة وكأنها بييضة جديدة من البداية، تأخذ في سلسلة التكاثر بالانقسام في اتجاه تكوين جنين مستقل، فإن أودع الجنينان الرحم، وضعت السيدة توأمين متطابقين لأنهما نتاج بييضة واحدة. ولم يستكمل البحث نظرًا لتورع العالِمَين المبتكِرَيْن عن زرعهما في الرحم، بل إنهما اختارا خلية معيبة لا تنهض أن تنقسم لتنمو إلا لدور مبكر، وذلك لأن التجارب على الجنين البشري أمر حساس وخطير. ولا بد من مرور وقت حتى توضع له الضوابط الأخلاقية والقانونية.
وترى الندوة أن الطريقة من حيث مبدأ التلقيح سليمة، لكن تقويمها
من ناحية النفع والضرر لا يزال في حوزة المستقبل. ومن منافعها القريبة المنال إمكان تطبيق الوسائل التشخيصية على أحد الجنينين أو خلايا منه، فإن بانت سلامته سمح أن يودع الحمل الرحم، وكذلك التغلب على بعض مشاكل العقم، وينطبق عليها كل الضوابط المتعلقة بطفل الأنابيب.
أما التقنية التي أفضت إلى إنتاج النعجة (دولي) بإيداع نواة خلية جسدية داخل بييضة منزوعة النواة لتشرع في الانقسام متجهة لتكوين جنين، فقد أولتها الندوة بحثًا مستفيضًا، وتوسمت بعض النتائج التي تنجم عن تكوين جنين (ثم وليد) جديد يكون نسخة إرثية (جينية) طبق الأصل من صاحب الخلية الجسدية، فلا يمنع من تمام التماثل إلا وجود عدد ضئيل من الجينات في سيتوبلازم البييضة المستقبِلة.
2 - ظهر أن تلك القضية تكتنفها محاذير فادحة إن دخلت حيز التطبيق، من أبرزها العدوان على ذاتية الفرد وخصوصيته وتميزه من بين طائفة من أشباهه (نسخه) ، وكذلك خلخلة الهيكل الاجتماعي المستقر، والعصف بأسس القرابات والأنساب وصلات الأرحام والهياكل الأسرية المتعارف عليها على مدى التاريخ الإنساني وكما اعتمدتها الشريعة وسائر الأديان أساسًا للعلائق بين الأفراد والعائلات والمجتمع كله، بما في ذلك من انعكاسات على أحكام القرابات والزواج والمواريث والقانون المدني والجنائي وغيرها، وسيقت في هذا الباب فرضيات واحتمالات كثيرة.
وقد استبعدت الندوة من البداية بحث كل ما يقحم على عقد الزواج الشرعي القائم طرفًا غريبًا عنه فإنه حرام بلا ريب.
وقد تطرق بعض السادة الفقهاء بالبحث إلى طائفة من الأحكام العقائدية والأخلاقية والعملية، تكليفية أو وضعية التي تتصل بموضوع الاستنساخ.(10/1454)
3 - وقد أخذ في الاعتبار أن الدول الغربية، ومنها التي تجري فيها أبحاث الاستنساخ، قد كان رد الفعل فيها قويًّا على الحذر الشديد، فمنها من منعت أبحاث الاستنساخ البشري، ومنها من حرمتها من معونة ميزانية الدولة، ومنها من جمدتها سنوات حتى تبحثها اللجان المختصة ثم ينظر في أمرها من جديد.
لهذا فإن الندوة تخشى أن يسعى رأس المال الخاص وشركات الأدوية إلى تخطي هذا الحظر بتهيئة الأموال واستمرار الأبحاث في دول العالم الثالث واستغلالها حقلًا للتجارب البشرية كما كان ديدنها في كثير من السوابق.
4 - أكدت الندوة أن الإسلام لا يضع حَجْرًا ولا قيدًا على حرية البحث العلمي، إذ هو من باب استكناه سنة الله في خلقه وهو من تكاليف الشريعة. ولكن الإسلام يقضي كذلك بألا يترك الباب مفتوحًا بدون ضوابط أمام دخول تطبيقات نتائج البحث العلمي إلى الساحة العامة، بغير أن تمر على مصفاة الشريعة، لتمرر المباح وتحجز الحرام. فلا يسمح بتنفيذ شيء لمجرد أنه قابل للتنفيذ، بل لا بد أن يكون خاليًا من الضرر وغير مخالف للشرع.
ولما كانت بعض المضار لا تظهر قبل مرور وقت طويل، فلابد من عدم التسرع قبل التثبت والتأكد قدر الاستطاعة.
5 - وتأسيسًا على هذه الاعتبارات التي أجمع عليها الحاضرون، رأى البعض تحريم الاستنساخ البشري جملة وتفصيلًا. بينما رأى آخرون إبقاء فرصةٍ لاستثناءات حاضرة أو مقبلة، إن ثبتت لها فائدة واتسعت لها حدود الشريعة على أن تبحث كل حالة على حدة.
6 - وفي كافة الأحوال فإن دخول الاستنساخ البشري إلى حيز التطبيق سابق لأوانه بزمن طويل؛ لأن تقدير المصالح والمضار الآنية قد يختلف عليه على المدى البعيد والزمن الطويل. وإن من التجاوز في الوقت الحاضر أن نقول إن تطبيقات الهندسة الوراثية في مجال النبات قد أثبتت سلامتها على الإنسان، رغم ما مر من سنوات. في حين لم تكد تدخل التطبيقات الحيوانية من العتبة بعد. ولعل المجهول هو أكبر الهموم في هذا الباب , ولا ينبغي أن تنسى الإنسانية درسها الكبير بالأمس القريب في مجال انشطار الذرة، إذ ظهر له بعد حين من الأضرار الجسيمة ما لم يكن معلومًا ولا متوقعًا، ولابد أن يستمر رصد نتائج التجارب النباتية والحيوانية لزمن طويل.
7 - حتى لا يعيش عالمنا الإسلامي عالة وتبعًا للعالم الغربي في ملاحقته لهذه العلوم الحياتية الحديثة؛ أكدت الندوة على أن تكون لدينا المعاهد والمؤسسات العلمية التي تقوم بذلك وفق الضوابط الشرعية.
8 - لم تر الندوة حرجًا في الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالي النبات والحيوان في حدود الضوابط المعتبرة.(10/1455)
د - التوصيات:
توصي الندوة بما يلي:
أولًا: تجريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحمًا أم بييضة أم حيوانًا أم خلية جسدية للاستنساخ.
ثانيًا: منع الاستنساخ البشري العادي، فإن ظهرت مستقبلًا حالات استثنائية عرضت لبيان حكمها الشرعي من جهة الجواز أو المنع.
ثالثًا: مناشدة الدول شن التشريعات القانونية اللازمة لغلق الأبواب المباشرة، وغير المباشرة، أمام الجهات الأجنبية، والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب؛ للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميدانًا لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها.
رابعًا: متابعة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية وغيرها لموضوع الاستنساخ ومستجداته العلمية، وضبط مصطلحاته، وعقد الندوات واللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة به.
خامسًا: الدعوة إلى تشكيل لجان متخصصة في مجال الأخلاقيات الحياتية لاعتماد بروتوكولات الأبحاث في الدول الإسلامية، وإعداد وثيقة عن حقوق الجنين.(10/1456)
العدد الحادي عشر(11/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
معالي الدكتور عز الدين العراقي
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله أشرف المرسلين وخاتم النبيين.
تنفيذًا لقرار أصدرته القمة الإسلامية الثالثة، عقد المؤتمر التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي في السابع من شهر يونيو 1982م، في مكة المكرمة. وكان ذلك المؤتمر مشمولاً برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز الذي افتتحه بخطاب ضافٍ أكد فيه أهمية حشد جهود الصفوة من المفكرين المسلمين ومن علماء الدين، لإنجاح فكرة إقامة المجمع التي كانت حلمًا يراود مخيلات العديد من قادة الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي.
وها نحن بعد سبع عشرة سنة من التاريخ، نرى أن المجمع العتيد أضحى محط أمل الأمة وملء سمعها وبصرها. ذلك أننا نجني اليوم – ولله الحمد – ثمرات دانية من ذلك الغرس الطيب، لأن المجمع برهن على أنه مؤسسة إسلامية أكاديمية نشيطة، يلتقي في رحابها فقهاء الأمة وعلماؤها وحكماؤها، ويتعاونون على التعريف بالنظريات الفقهية، والاجتهاد في تطبيق ما غمض من أحكام الشريعة تطبيقًا ينم على تطور وتفتح يقتضيهما العصر، من ناحية، كما ينم على تمسك بالأصالة وارتباط بالعقيدة من ناحية أخرى.
وأهمية الدور الذي يضطلع، أو يجب أن يضطلع به الفقه الإسلامي في مجتمعاتنا الإسلامية الحالية، تتجلى في أنه يمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة، حياة الأسرة المسلمة والفرد المسلم، كما يمس العلاقات بين تلك المجتمعات الإسلامية وغيرها من المجتمعات.(11/2)
وقد لبت الشريعة الإسلامية الغراء حاجات المسلمين على صعيد الفقه، عبر القرون، فأمدتهم بقواعد وأصول تتسم بالمرونة الهادفة إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد. وعمل فقهاء المسلمين على ضبط القواعد الفقهية وجمعها، كما عملوا على تلقينها لأبنائهم. بل إنهم استنبطوا أحكامًا لما كان يصادفهم من مسائل وقضايا، ووضعوا لكل مسألة الحلول التي تلائمها. ولذا فقد وصل إلينا بفضلهم تراث زاخر من المؤلفات الفقهية والبحوث والفتاوى التي تثري حياة الناس.
وإذا كان مجمع الفقه الإسلامي، والحال تلك، لم ينطلق حين شرع في أداء مهمته، من فراغ، فقد كان عليه أن يعمل على إغناء ذلك التراث الزاخر، من ناحية، وأن يسد كل ثغرة أو نقص طارئ ينجم عن ظروف الحياة المتطورة المعاصرة، من ناحية أخرى.
وقد حرصت هذه المؤسسة الفقهية منذ قامت على أن تعمل بأناة وانسجام مع تطور الحياة دون خروج على مبادئ الدين الحنيف. كما أصدرت مؤلفات وصاغت بحوثا ودراسات كي تكون في متناول الدول الأعضاء، للرجوع إليها ولاستيحاء ما يناسب المؤسسات والمجتمعات الإسلامية من القواعد الفقهية، مما يوفر التنسيق والانسجام بينها، ويسهم في تمهيد السبيل أمام تعزيز التضامن الإسلامي ودعم العمل المشترك.
نعم؛ لقد شهد مجمع الفقه الإسلامي، منذ قيامه، حركة علمية ناشطة، كان نتاجها مشروعات علمية نافعة هادفة إلى تقريب الفقه من أبناء هذه الأمة: باحثين ودارسين وفقهاء. ومن تلك المشروعات: الموسوعة الفقهية الاقتصادية – ومعلمة القواعد الفقهية – وتيسير الفقه الإسلامي – إلى جانب ما أصدره المجمع حتى الآن من نفيس الكتب الفقهية التراثية.(11/3)
وبعد: فلعل في طليعة الإنجازات التي حققها المجمع، هذه المجلة العلمية الفقهية، التي تتسم بالرصانة والتي حرص المجمع على إصدارها بعيد إنشائه. والمجلة التي أعني هي التي أقدم بكلمتي هذه لعددها الجديد (الحادي عشر) الذي يصدر في أجزاء ثلاثة. وبصدوره تكون مجلدات المجلة قد بلغت حتى الآن ثلاثة وثلاثين. وشأنه شأن ما سبقه من أعداد، فهو ينطوي على جملة من البحوث الإسلامية العلمية التي تتناول مجالات متعددة: شرعية واجتماعية واقتصادية. وعلى أية حال، فهو يتحدث عن نفسه.
ويأتي صدور العدد الجديد والمجمع يعد لعقد دورته المقبلة وهي الثانية عشرة، في الرباط بالمملكة المغربية، بعد بضعة أشهر، وهي الدورة التي كان المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه قد تفضل فأصدر موافقته السامية على عقدها. ومن المعروف أن هذه الدورات تمثل العمود الفقري لعمل المجمع. ويشارك عادة في أعمالها نخبة من خيرة علماء هذه الأمة المتخصصين في الموضوعات التي يتقرر بحثها ومناقشتها.
ولا يفوتني، في هذا المقام، أن أذكر، كي أكون منصفًا، بالتقدير والثناء، الجهود الدائبة التي ما انفك فضيلة الشيخ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، يبذلها بمثابرة وحيوية وجد وتواضع، منذ إنشاء المجمع. وأسأل الله تعالى أن يوفقه ويعينه على مواصلة أداء مهمته على خير وجه.
ولا يفوتني كذلك أن أنوه أصدق تنويه بما يبذله فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع، من اهتمام فائق بشؤون المجمع، حرصًا منه على تقدم هذه المؤسسة وازدهارها فليجازه الله عن ذلك خير الجزاء.
والمجمع، بطبيعة الحال، لن يحقق أهدافه السامية، إلا بدعم الدول الأعضاء، وفي مقدمتها دولة المقر، المملكة العربية السعودية التي لا تدخر جهدًا في مد يد العون لمنظمة المؤتمر الإسلامي: أمانة عامة ومؤسسات ومراكز. فلحكومة خادم الحرمين الشريفين أطيب عبارات الشكر وأجمل العرفان.
والله الموفق. وهو نعم المولى ونعم النصير.
الدكتور عز الدين العراقي
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي(11/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة مجمع الفقه الإسلامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، محمد وعلى آل وصحبه أجمعين.
وبعد: يسر مجمع الفقه الإسلامي الدولي أن يقدم إلى القراء الكرام هذا الجني الداني للجهود الكبيرة المتواصلة التي يبذلها أعضاؤه وخبراؤه، إمعانًا للنظر في دقائق المسائل والموضوعات المطروحة للبحث والنقاش.
والحق أن هذا المجمع منذ إنشائه اعتمد البحث العلمي والنقاش البناء وسيلة إلى دراسة النوازل والقضايا وحل المعضلات بالاجتهاد فيها اجتهادًا جماعيًّا. وساهم مفكروه وباحثوه في ذلك إسهاما يذكر فيشكر، وشاركوا بأبحاثهم القيمة في الدورات والمؤتمرات والندوات التي يقيمها.
وقد قام المجمع بطبع تلك الأبحاث والدراسات ونشرها على نطاق واسع في أنحاء العالم الإسلامي.
ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى اجتهاد علمائنا اجتهادًا جماعيًّا، بضوابطه في ضوء الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح، فإن ما يواجه المسلمين من مشكلات وما يعتري حياتهم من متغيرات يتطلب هذا النوع من الفتاوى من رجال الفقه والاقتصاد والطب والفلك وغيرهم من المفكرين والمتخصصين، الذين يجمعون إلى جانب التخصص الدقيق، إدراكًا لطبيعة مجتمعاتهم، ورغبة صادقة أكيدة في خدمة أمتهم على الوجه الإسلامي المنشود.
ودعمًا لهذا التوجه قامت، مشكورة، حكومة دولة البحرين، ممثلة في وزارة العدل والشؤون الإسلامية، باستضافة المجلس العلمي لمجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الحادي عشر في الفترة من 25 إلى 30 رجب 1419هـ (14- 19 نوفمبر 1998م) بمدينة المنامة العاصمة.
وقد افتتح صاحب السعادة الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة، وزير العدل والشؤون الإسلامية هذه الدورة بكلمة ضافية رحب فيها بالمشاركين، منوهًا بدور المجمع ورسالته، وتلقى المؤتمر الكلمة بالثناء والتقدير والشكر الجزيل. وعدها من وثائقه الرسمية.(11/5)
ثم واصلت الدورة أعمالها على مدار ستة أيام، عرض فيها أصحاب الفضيلة العلماء والسادة الخبراء عددًا وافرًا من الأبحاث القيمة والدراسات الهادفة، تناولوا فيها أهم عناصر المسائل والقضايا والنوازل والمستجدات المدرجة للبحث والدراسة والنقاش وهي:
1- بيع الدين بالدين وسندات القرض وبدائلها الشرعية.
2- سبل الاستفادة من النوازل (الفتاوى) ، والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة.
3- المضاربات في العملة والوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصادية.
4- عقود الصيانة وتكييفها الشرعي.
5- الوحدة الإسلامية.
6- الإسلامية في مواجهة العلمنة.
7- الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة.
- بالإضافة إلى التوصيات الصادرة عن:
أ - ندوة طهران حول دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي.
ب - ندوة الكويت حول الهندسة الوراثية والعلاج بالجين والبصمة الوارثية.
وأنتم أيها القراء الكرام. تروننا قد جمعنا لكم نتائج هذه الدورة في المجلدات الثلاثة التي نضعها بين أيديكم ممثلة في العدد الحادي عشر من مجلة مجمع الفقه الإسلامي في ثوبها القشيب، لتبلغ مع أعداد الدورات السابقة ثلاثة وثلاثين مجلدا، نشرناها لإفادة العلماء والطلاب والقضاة والمفتين، وخاصة المسلمين وعامتهم، بما يقوم به هذا المجمع من أنشطة وما يقدمه من دراسات ويصدر عنه من قرارات وتوصيات مجمعية، آملين أن تنمو هذه المجلة، وأن يكون كل عدد منها خيرًا من سابقه، وأن يظل مجالا للفكر النير والبحث الجاد والرأي السديد الذي يبتغي الحق ويعمل لإعلائه.
وسيواصل المجمع، بحول الله وقوته، انتقاء القضايا والموضوعات المعاصرة لاستيعاب أكثر ما يمكن من المسائل المختلفة والمتنوعة والمستجدة التي يحتاج إلى تناولها المسلم، لما لها من صلة بحياته الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
والله ولي التوفيق في جميع الأمور، وهو المستعان وعليه الاتكال في إنجاح وقبول صالح الأعمال. وصلى الله وبارك على نبينا محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الأمين العام للمجمع الدكتور رئيس مجلس المجمع الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة بكر بن عبد الله أبو زيد(11/6)
كلمة
حضرة صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة
أمير دولة البحرين
ألقاها نيابة عنه معالي وزير العدل والشؤون
الإسلامية
سعادة الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الهدى وخاتم النبيين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أصحاب الفضيلة والسعادة.. الحضور الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحية طيبة نزجيها إليكم جميعًا، وترحيبًا حارًا بأصحاب الفضيلة العلماء والضيوف المشاركين في المؤتمر الحادي عشر لمجمع الفقه الإسلامي الذي يعقد اجتماعه المبارك على أرض البحرين العربية المسلمة التي أيدت الإسلام وناصرته منذ فجر الدعوة، وعملت بشرائعه السمحاء ومبادئه السامية.
وإنها لمناسبة سعيدة أن نلتقي اليوم مع أعلام الفقه ورجالات الفكر الإسلامي وأصحاب النظر والفتوى ومن يمثل المؤسسات العاملة في مجال البحوث الفقهية والدراسات الشرعية، وكل المهتمين بقضايا الدين التي تخص أمور العباد وتنير لهم سبل الخير والرشاد.
وإنه لمن فضل الله على الأمة الإسلامية أن جعل علوم الفقه من أفضل العلوم وأعلاها قدرًا، وأجلها وأكثرها بركة. فمن خلال هذه العلوم تعرف الأحكام، وقواعد المعاملة الحسنة بين الناس فتكون العبادة لله سبحانه وتعالى على علم، والتقرب إليه على بصيرة، وبذلك يطمئن قلب المسلم ويعيش في سلام مع نفسه ومع غيره، فتسود الألفة والمحبة بين الناس.(11/7)
أصحاب الفضيلة:
ينعقد مؤتمركم اليوم وعالمنا الإسلامي يمر بظروف دقيقة تستدعي وحدة دوله وشعوبه، وتضافر جهود علمائه الأجلاء لمواجهة ما يحيكه له أعداء الإسلام من مؤامرات ودسائس بقصد الإساءة إلى تعاليمه السامية وإشاعة الفرقة والانقسام بين المؤمنين برسالة نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام.
إن ديننا الإسلام الحنيف ليدعونا إلى توحيد الأمة الإسلامية ووحدة كلمتها والتركيز على جوهر العقيدة ومواطن الاتفاق والأخذ بأولويات الدعوة، وإن أكثر ما ينهانا عنه هو أن تشتد ضراوة بعضنا على بعض، وأن يقسو بأسنا فيما بيننا إذا ما اختلفنا في رأي أو إفتاء فتعلو بذلك صيحات التكفير، والتجهيل، والقذف بالبدع والضلال؛ فتعم بذلك بذور الفتنة والعداوة بين المسلمين لا سمح الله.
أصحاب الفضيلة:
إن حرصكم الشديد على حضور هذا المؤتمر والمشاركة في أعماله على الرغم من الأبعاد الجغرافية التي تفصل بين دول عالمنا الإسلامي ليدل على أن عملنا الإسلامي المشترك يسير - وبحمد الله - إلى الأمام، ونحو التضامن الإسلامي المنشود إن شاء الله. وإن أي عمل تنجزونه وفي أي من الميادين التي كرستم جهودكم لخدمتها ما هو إلا خطوة نحو المزيد من التقارب والتآخي بين الأشقاء.
إننا وبعون الله متفقون على أن السبيل لبناء وحدة عالمنا الإسلامي هو نبذ الخلافات بين المسلمين وتصفيتها بروح الأخوة الإسلامية عملا بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .
كما وأن من مقومات قوتنا تعاوننا على حل ما نواجهه جميعا من مشكلات أو اختلاف في الرأي بروح إسلامية تقوم على الشريعة السمحاء المتجاوبة مع احتياجات العصر الذي نعيشه.
إنني أحمد الله الذي أسعدني بمشاركتكم هذا اللقاء، وأدعوه سبحانه وتعالى أن يجمعنا على الخير والمحبة دائما، وأن يسدد على طريق الخير خطاكم ويوفقكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/8)
كلمة معالي
الدكتور عز الدين العراقي
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
في افتتاح
الدورة الحادية عشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
بالمنامة – دولة البحرين –
ألقاها نيابة عنه سعادة السفير
محمد صالح الزعيمي
مدير ديوان معالي الأمين العام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
سعادة الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة،
وزير العدل والشؤون الإسلامية؛
أصحاب المعالي والسعادة؛
أصحاب السماحة والفضيلة؛
أيها الجمع الكريم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنه لمن دواعي الشرف والغبطة أن تنعقد الدورة الحادية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي بهذا البلد المضياف تحت الرعاية السامية والكريمة لصاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، أمير دولة البحرين، حفظه الله، وكم كنت أتمنى أن أتشرف بمشاركتكم افتتاح هذا المؤتمر غير أن مهمات أخرى حالت دون ذلك، وأغتنم هذه الفرصة لأعرب لصاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة عن خالص التهاني بمناسبة بشرى نتائج الفحوصات الطبية المطمئنة متمنيًا لسموه من الله تعالى موفور الصحة وتمام العافية.
أيها الإخوة الأفاضل:
ينعقد اليوم هذا المؤتمر بعد انقضاء خمس عشرة سنة على قيام هذا الصرح الفقهي العتيد في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي، تنفيذًا لإدارة قادة الدول الإسلامية في قمتهم الثالثة بمكة المكرمة، ليتخطى خدمة الشريعة الإسلامية وحدود الجهود الفردية والإقليمية، وينتقل إلى العمل الجماعي المنظم مع ما يضطلع به من بحوث ودراسات جادة في سبيل تعريف المسلمين بدينهم وأحكام شريعتهم وإيجاد الحلول الفقهية للعديد من مشاكلهم.
وإنني لسعيد حقًّا، بأن هذه المؤسسة أصبحت اليوم ملتقى صفوة فقهاء الأمة وعلمائها ومفكريها.
وأنتهز مناسبة انعقاد المؤتمر، لأتوجه بكلمتي هذه إلى السادة العلماء قائلا: إنه يقع على أكتافكم إعداد مجتمعاتنا الإسلامية على أسس سليمة، من الاعتزاز بالقيم، وترجمة الفضائل إلى سلوك، وتوجيه هذه المجتمعات إلى كيفية التعايش مع الحاضر، وطريقة التعامل مع تحديات المستقبل، وفي سبيل ذلك كله، تقع على عاتقكم واجبات كثيرة؛ لعل أهمها، الدراسة والبحث عن كافة جوانب الحياة في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية الشاملة.
فمهمتكم إذًا تكمن في الأخذ بأيدي مجتمعاتنا، ترشدونها، وتصونون مسيرتها، وتوجهونها الوجهة السليمة، لتمكينها من القدرة على التعامل والتفاعل مع التحديات الكبيرة التي يفرضها التطور في ظل نظام العولمة، الذي نقل إلينا، مفاهيم وسلوكيات بعيدة كل البعد عن تراثنا الثقافي والحضاري.(11/9)
أيها الأخوة:
إن جدول أعمال هذه الدورة يزخر بالقضايا التي تمس نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها المسلمون، بدءًا بالوحدة الإسلامية، والعلمنة، والحداثة، ودور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي، مرورًا ببيع الدين، والنوازل، والمضاربات وعقود الصيانة، وهي مواضيع تمثل جوهر اهتمامات المسلمين في مشارف القرن الواحد والعشرين. إننا نضع ثقتنا وتفاؤلنا في هذا المؤتمر ونتوقع منه أن يخلص إلى عدد من القرارات والفتاوى السديدة.
إن مجمع الفقه الإسلامي، رغم ما يعترضه من صعوبات مالية، استطاع أن يواصل مسيرته والقيام ببعض المهام المنوطة به ممثلة في أنشطة عدة تشمل مؤتمرات مجلسه السنوية، ومشروعاته العلمية، وندواته المتخصصة، ومشاركته في اجتماعات وندوات مختلفة، وإصداراته؛ كما أن قاعدته في اتساع مستمر إذ انضمت أربع دول جديدة إلى عضوية مجلسه.
ولا يسعني في هذا المقام إلا الإشادة بالدعم الثابت الذي تلقاه منظمة المؤتمر الإسلامي ومؤسساتها وخاصة مجمع الفقه الإسلامي من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية الذي ما فتئ يولي المجمع رعاية خاصة منذ تأسيسه. وبهذه المناسبة أناشد الدول الأعضاء بمعاونة هذه المؤسسة الهامة لتتمكن من أداء دورها كاملا، وذلك بتسديد مساهماتها المالية نحوها وتقديم مزيد من الدعم إليها.
صاحب السعادة؛
أصحاب المعالي؛
أصحاب السماحة والفضيلة؛
أيها الجمع الكريم:
اسمحوا لي في ختام هذه الكلمة أن أرفع إلى مقام حضرة صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أجمل عبارات التقدير والامتنان على استضافة دولة البحرين لمجمع الفقه الإسلامي في دورته العلمية الحادية عشرة، وهو أكبر دليل على ما يوليه – حفظه الله – من عناية بالفقه والفقهاء والعلم الإسلامي. فجزاه الله خير الجزاء وأحسنه، ووفقه في نضاله من أجل نهضة دولة البحرين وشعبها الكريم.
واسمحوا لي أيضا أن أثني على الجهود الموفقة التي يبذلها فضيلة الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع، وأن أنوه بالدور البارز الذي يضطلع به فضيلة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع في إدارة هذه المؤسسة وتنظيم أعمالها وترتيب ندواتها والإعداد لمؤتمراتها، مشيدًا بجهود الأعضاء والخبراء والمفكرين والعاملين، سائلا الله أن يوفق الجميع لما فيه خير هذه الأمة لتعود كما كانت قوية عزيزة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/10)
كلمة الدكتور
عبد الله بن صالح العبيد
الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
في افتتاح
الدورة الحادية عشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
بالمنامة – دولة البحرين -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا
محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
صاحب السعادة الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة
وزير العدل والشؤون الإسلامية.
أصحاب الفضيلة رئيس وأمين المجمع الفقهي الإسلامي الدولي.
أصحاب السمو والفضيلة والمعالي والسعادة. . أيها الحفل الكريم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
باسم رابطة العالم الإسلامي أشارككم هذا اللقاء، وأسأل الله عز وجل أن يكلل أعمال هذه الدورة لمجمع الفقه الإسلامي بالتوفيق والنجاح، وأن تضيف إلى سجله الحافل بالمنجزات الكثيرة من النتائج والإنجازات.
لقد أنجز هذا المجمع بحمد الله ثم بجهود العاملين فيه من أعضاء وخبراء وخلال الثمانية عشر عاما من عمره المديد بإذن الله، أنجز الكثير على مستوى الدراسات والأبحاث واتخاذ القرارات والتوصيات التي من شأنها المساعدة على تطبيق الشريعة، وتحقيق وحدة الأمة، وبعث على الكثير من الآمال لدى الشعوب الإسلامية بالعمل على التطبيق على مستوى الدول والمؤسسات والهيئات. وإن رابطة العالم الإسلامي لتشيد في هذا المكان، وفي كل مكان بجهود الدول التي تسعى لتطبيق شرع الله، وتحكيم كتابه، والعمل على نهج نبيه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
ولا شك أن من دلائل الرشاد لهذه الأمة أن يجتمع علماؤها في مثل هذا الاجتماع لبيان الحق والإرشاد إليه، ونسأله سبحانه أن يمن بالتوفيق على قياداتها وأمرائها للأخذ بذلك والسعي إليه. ذلك أن اجتماع العلماء والقادة على كلمة الحق بيانًا وتحقيقًا، غاية تسعى الشريعة المطهرة لتحقيقها ووسيلة لتحقيق أهدافها وغاياتها.(11/11)
وهو أنموذج عملي يتمثل فيه بناء الإنسان والمجتمع الصالح حيث يتكامل الإيمان والعمل والالتزام وحسن التعامل في حق كل من الفرد والمجتمع على السواء، كما بين ذلك ربنا عز وجل في سورة العصر بقوله: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } وما أحوجنا في هذا العصر الذي أصبح التفكك من أوضح سماته، وهذا المكان حيث الخليج الذي أصبح لا يذكر إلا ويذكر الصراع بين دوله وجيرانه، وهذا الإنسان الذي تتجاذبه الصراعات وتزرع الفرقة بين قادته وعلمائه وسائر أبنائه.
ما أحوجنا في هذا الخضم من الفتن والمشكلات إلى الألفة والوحدة وجمع الشمل.
ولقد أدرك هذا المجمع المبارك هذه الحاجة، كما أدركتها مشكورة دولة البحرين بقيادة الأمير الجليل صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة – حفظه الله – وصاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى نائب سموه. فكان تركيز هذه الدورة على الكثير من الموضوعات التي تتعلق بحفظ كيان الأمة الإسلامية من حيث الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية، ومنهجية المقارنة بين المذاهب الفقهية ودراسة ما استجد في مجتمعاتها من تيارات العلمنة والحداثة في قضاياه من النوازل والمعاملات.
ونأمل مرة أخرى أن يلقى ما يلتقي عليه العلماء والخبراء في هذه المسائل والقضايا مواقع التنفيذ والتطبيق لدى المسؤولين من القادة والأمراء، ولاستجابة القادة من أفراد الأمة جمعاء.
وختاما؛ أشكر لدولة البحرين أميرًا وحكومة وشعبًا حسن الاستضافة لهذا الجمع الكبير من علماء الأمة، كما أشكر للمجمع حسن متابعته لما يتعرض له الأمر من مشكلات، وما يستجد لديها من مسائل وقضايا نتيجة للمعطيات الجديدة والمتغيرات الكثيرة، فلفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس المجمع، ولفضيلة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع، ولأصحاب الفضيلة الأعضاء والخبراء كل الشكر والتقدير على جهودكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/12)
كلمة معالي الدكتور
بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله لا يستحق الحمد أحد سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ونسأل الله الصلاة والسلام على عبده، ومصطفاه محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وعلى أصحابه، وعلى من اهتدى بهداه.
أما بعد:
فعلى أرض الجزيرة العربية منبت العراري والخزامي، ومهب الصباء ومسرى النعام. وعلى ذروة سنامها بلد الله الحرام إذ جعل الله الكعبة البيت الحرام والمشاعر المشهودة والمآثر المأثورة؛ على هذه الأرض المباركة، هبت ريح الرسالة الخالدة ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد ولد آدم أجمعين، عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأتم التسليم، فبان دين الله واكتمل وظهر في المشارق والمغارب وانتشر وأظهره الله على سائر الملل والنحل، وصدق الله إذ يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ويقول عز شأنه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله أن جعلنا من أهل الإسلام، فاللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك وأنت راض عنا.
واليوم ونحن على ثغر من ثغور جزيرة العرب على أرض دولة البحرين، ينعقد المؤتمر الحادي عشر لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بضيافة صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، أمير دولة البحرين نصر الله به الحق وأهله، آمين.
تنعقد هذه الدورة مفتتحة بحضرة سموه الكريم نيابة صاحب المعالي وزير العدل والشؤون الإسلامية عبد الله بن خالد آل خليفة، وفقه الله وسدد خطاه.
صاحب المعالي الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة وزير العدل والشؤون الإسلامية بدولة البحرين.
صاحب المعالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ عبد الله بن صالح العبيد.
صاحب المعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة.
أيها العلماء الأجلاء.
أيها الجمع الكريم:
من عجائب المقدور أن يجتمع في هذه الدورة الحادية عشرة ثلاثة موضوعات مرتبطة ارتباط الروح بالهيكل كأنما بنيت على موضوعي النفي والإثبات في كلمة التوحيد، إثبات الوحدة الإسلامية ونفي العصرنة والعلمنة وأساليب الحداثة التي غزت الأمة الإسلامية.
وإنه على التحقيق، فإن الوحدة الإسلامية تنبني على تحقيق العبودية الخالصة لله – سبحانه وتعالى – اعتقادا وقولا وعملا مؤسسة على الإخلاص وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منتجة عامل الولاء والبراء، الولاء لمن والى الله ورسوله، والبراء ممن تبرأ الله منه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومنتجه الحب والبغض في الله، فإنه أساس الملة وقوام هذا الدين.(11/13)
وإن من أعظم أنواع العبودية التي تعبَّد الله بها المسلمين هو تحكيم الشرع المطهر في جميع مساريب الحياة ومجالاتها من الأفراد والجماعات والولاة والعلماء، وسائر من انتسب إلى هذا الدين. إنِ الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ويقول الله – سبحانه وتعالى – في أول أمر في التنزيل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] ، ويقول سبحانه في فاتحة سور القرآن: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، ويقول عز شأنه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] ، ويقول سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 18- 20] وقول ربنا جل علا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] .
لهذا فيجب على من بسط الله يده على أي من بلاد المسلمين أن يعلن تحكيم شريعة الإسلام في جميع مجالات الحياة، وأن يطرد هذه القوانين الوافدة التي تخالف شريعة الله، وأن يُحَكِّمَ في الناس كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
صاحب المعالي الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة؛
أصحاب المعالي؛
أيها العلماء الإجلاء:
وأصالة عني ونيابة عن هذا المجمع ورجاله ومنسوبيه نبدي خالص شكرنا وتقديرنا لصاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، الذي تفضل باستضافة هذا المجمع؛ وما هذا على خلقه الكريم بكثير. نسأل الله سبحانه أن يرده معافى، شفاه الله وعافاه ونصر به الحق وأهله. آمين.
وإنني أبدي خالص الشكر والتقدير لرجال هذه الحكومة المباركة وعلى رأسهم ولي العهد نصر الله به الحق وأيده وسمو رئيس الوزراء وفقه الله وسدد خطاه، وصاحب المعالي الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة، وسائر العاملين على حسن استضافتهم لهذا المجمع، كما أبدي خالص الشكر والتقدير لمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي في إدارته الدقيقة على مدار العام لهذا المجمع مما أدى إلى حسن العطاء. وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/14)
كلمة معالي الدكتور
محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة
في افتتاح
الدورة الحادية عشرة
لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه.
حضرة صاحب السعادة الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة،
وزير العدل والشؤون الإسلامية؛
سعادة السفير صالح الزعيمي،
مندوب الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي؛
سعادة الدكتور عبد الله بن صالح العبيد،
الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي،
حضرة صاحب الفضيلة الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد،
رئيس المجلس العلمي للمجمع؛
حضرات أصحاب السعادة والفضيلة؛
أيها الملأ الكريم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
ههنا في البحرين (لؤلؤ الخليج) وبهذه المدينة الساحرة الجميلة (المنامة) عاصمة الدولة التي تزخر حيوية ونشاطا وجدا وعملا، وتتجلى فيها النهضة الجديدة العصرية في مختلف المجالات، وعلى مقربة من المركز الأحمدي الإسلامي، ومن بيت القرآن، نقيم اليوم بفضل الله وحسن عونه المؤتمر الحادي عشر لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، شاكرين لحضرة صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، أمير البلاد حفظه الله وسلمه، وأسبل عليه رداء الصحة والعافية وأطال عمره – رعايته السامية لمؤتمرنا، واستضافته الكريمة له، بهذه الأرض الطيبة المعطاء بلاد البحرين.(11/15)
ولا أنسى في هذا المقام أن أنوه بالجهود الكبيرة المتنوعة التي قدمتها حكومته الرشيدة، وبخاصة رئيس الوزراء حضرة صاحب السمو الشيخ خليفة ابن سلمان آل خليفة الموقر، وولي العهد الأمين صاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، ووزير العدل والشؤون الإسلامية سعادة الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة الموقر. فقد وجدنا من المسؤولين ومساعديهم التعاون الكامل والدعم الفائق لمسيرتنا العلمية، وإنا إذ نحييهم جميعا، وندعو الله تعالى أن يجزيهم عنا خير الجزاء، لا ننسى للأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي معالي الدكتور عز الدين العراقي ومساعديه حسن رعايتهم للمجمع وعنايتهم الكاملة بنشاطاته وتقدير الأمين العام للمنظمة لأعمال المجمع، ودعمه له بما يقدمه إليه من اقتراحات وتوجيهات صائبة.
وقد تناول المجمع في دوراته العشرة الماضية جملة قضايا: منها اثنتان عقيديتان، وأربع أصولية، وإحدى عشرة شرعية، وثماني عشرة شرعية طبية، وسبع وثلاثون اقتصادية فقهية، وأربع اجتماعية، وأجوبة عن ستة وعشرين استفسارا وردت إلينا من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن. وجملة ما قدم فيها تسعون وأربعمائة بحث. وكان بحث كل موضوع من هذه الموضوعات يخضع لتحليل المشكل، أو الجانب الخصوصي منه، تمهيدا لكمال تصوره، ثم تكييفه الشرعي، والنظر فيه من الناحية الشرعية الفقهية للبت فيه باتخاذ القرار المجمعي المناسب. وقرارات المجمع: إما كاشفة عن الحكم الشرعي وتتمثل في خمسة وستين موضوعات متلوه بقراراتها، وإما مؤجلة لمزيد من النظر في الموضوع باستكتابات جديدة، أو بعقد ندوات تخصصية فيها وهي اثنا عشر موضوعا.
وعقد المجمع أيضا من سنتين خلتا جلسات دورية شهرية لبحث جملة من القضايا الاقتصادية في فقه المعاملات، اقترحتها لجنة الموسوعة الفقهية الاقتصادية. وهي خمسون موضوعا. ضبطت محاور أكثرها، واستكتب فيها باحثون، ووصلتنا حتى الآن خمس دارسات نعد بإذن الله لنشرها.
وبجانب ذلك تولى المجمع بالتعاون مع مؤسسة سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الخيرية – الإشراف على القيام بمشروع (مَعْلَمَة القواعد الفقهية) الذي أنجز النظر فيه من قبل أحد عشر أستاذا تناولوا بالدرس – لاستخراج القواعد والمقاصد – أربعة وعشرين مصدرا هي: إيضاح المسالك للونشريسي، والمقدمات الممهدات، والفتاوى، والبيان والتحصيل لابن رشد الجد، والأم للإمام الشافعي، والمبسوط للسرخسي، والبحر الرائق، والأشباه والنظائر، والرسائل لابن نجيم، وشرح الحموي للأشباه، والمغني لابن قدامة، والفروق للقرافي، والقواعد للمقري، وقواعد الأحكام الشرعية لـ محمد بن أحمد المالكي، والموافقات، والاعتصام للشاطبي، وبدائع الصنائع للكاساني، وأحكام القرآن لابن العربي، وإعلام الموقعين لابن القيم، وإحياء علوم الدين للغزالي، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، وعلل الشرائع للشيخ الصدوق ابن بابويه القمي.
ونحن في انتظار بقية البحوث المتصلة باستخراج القواعد العامة الفقهية والأصولية والمقاصد الشرعية من جملة أمهات الكتب الفقهية، حيث لم يصلنا بعد عدد كبير من الدراسات التي تشمل ستة وعشرين كتابا وزعت على سبعة باحثين.
ووقع، بالإضافة إلى ذلك، استكتاب ثلة أخرى تتكون من سبعة فقهاء أيضا، تقوم بالنظر في تسعة عشر مصنفا من أمهات الكتب الفقهية.
وهكذا تكون جملة الكتب التي اعتمدناها لاستخراج القواعد العامة الفقهية والأصولية والمقاصد الشرعية تسعة وستين كتابا موزعة على أربعة وعشرين عالما من رجال الاختصاص.
وكذلك تولى مجمع آل البيت بمدينة قم (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) ، مشكورا، الإعداد لتخريج القواعد الكلية والمقاصد الشرعية من كتب الفقه والأصول المعتمدة لدى الشيعة الإمامية.
ولعلنا بهذا العمل المجيد، إذا وفقنا فيه، يمكننا أن نضع أقدامنا على الطريق التي أشار إليها الدكتور السنهوري باشا عند مقارنته بين التشريع الإسلامي والتشاريع الغربية حين قال: (الفقه الإسلامي فقه محض لا تقل عراقته في ذلك عن عراقة القانون الروماني، وهو لا يقل عنه في دقة المنطق، وفي متانة الصياغة، وفي القابلية للتطور وهو مثل صالح لأن يكون قانونا عالميا، بل كان بالفعل قانونا عالميا ... وإذا أحييت دراسته، وانفتح فيه باب الاجتهاد قمين بأن ينبت قانونا حديثا لا يقل في الجدة ومسايرة العصر عن القوانين اللاتينية والجرمانية) .(11/16)
كما أصدر المجمع خلال هذه الفترة عددا من المنشورات منها كتب تراثية مثل: (عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة) لابن شاس في الفقه المالكي في ثلاثة مجلدات من الحجم الكبير على نفقة خادم الحرمين الشريفين، أجزل الله مثوبته، و (بلغة الساغب وبغية الراغب) للعلامة فخر الدين ابن تيمية في الفقه الحنبلي. ومن التآليف الفقهية والأصولية: (المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل) , (وتخريجات الأصحاب) تأليف العلامة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، و (قواعد الفقه الإسلامي) من خلال كتاب (الإشراف على مسائل الخلاف) للقاضي عبد الوهاب تأليف الأستاذ الدكتور محمد الروكي، وبطاقات الإقراض والسحب المباشر من الرصيد تأليف الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان. وستصدر، بإذن الله، قريبا جملة من المنشورات العلمية الأخرى مثل كتاب (صلة الناسك في صفة المناسك) لابن الصلاح تحقيق مدير الدراسات والبحوث بالمجمع، وكتاب (مقاصد الشريعة الإسلامية) للمرحوم العلامة شيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور، وتقديم وتحقيق وتعليق الأمين العام للمجمع.
هذا وقد صدرت عن المجمع مجلته العلمية السنوية في تسعة أعداد وهي تتألف من سبعة وعشرين مجلدا. وقيد الطبع الآن العدد العاشر منها في ثلاثة مجلدات. كما صدرت عنه (قرارات المجمع وتوصياته) في طبعتين؛ الأولى حتى الدورة الخامسة، والثانية من الدورة الأولى حتى الدورة العاشرة. وهي بعدد من اللغات: العربية والفارسية والتركية والأردية والإنكليزية والفرنسية.
أما الندوات التي عقدها المجمع حتى اليوم فهي:
1- ندوة سندات المقارضة: عقدت بين المجمع والبنك الإسلامي للتنمية بجدة.
2- الندوة الطبية الفقهية: عقدت بين المجمع والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت.
3- الندوة الأولى للأسواق المالية: عقدت بين المجمع والبنك الإسلامي للتنمية باستضافة وزارة الأوقاف المغربية.
4- ندوة الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية: عقدت بين المجمع والبنك الإسلامي للتنمية بجدة.
5- ندوة استخدام الحاسوب في العلوم الشرعية: عقدت بين المجمع والبنك الإسلامي للتنمية بجدة.
6- الندوة الثانية للأسواق المالية: عقدت بين المجمع والبنك الإسلامي للتنمية باستضافة بنك البحرين الإسلامي بالمنامة.
7- الحلقة الدراسية للنظر في توصيات ندوة البحرين: عقدت بمقر الأمانة العامة للمجمع بجدة وشارك فيها ثلة من الفقهاء والاقتصاديين.
8- 9 – 10 – ثلاث ندوات فقهية اقتصادية بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة.
11- ندوة عن (الجوانب الفقهية لمرضى الإيدز) بالتعاون مع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الكويت.
12- ندوة عن (حقوق الطفل في الإسلام) بالتعاون مع الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة.
13- الندوة الفقهية الاقتصادية حول قضايا العملة: وهي ذات ثلاث حلقات. تم عقد الحلقتين الأوليين بجدة، وكوالالمبور، وستعقد في الأيام القريبة، بإذن الله، الحلقة الثالثة بالمنامة.
14- ندوة حقوق الإنسان بجدة.
15- الندوة الفقهية الطبية حول (رؤية إسلامية لبعض المشاكل الصحية) : انعقدت في مدينة الدار البيضاء بالمملكة المغربية، وتحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك الحسن الثاني، نصره الله، وبمشاركة مؤسسة الحسن الثاني للأبحاث العلمية والطبية عن رمضان، والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) ، ومجمع الفقه الإسلامي بجدة، والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية.
16- الندوة الفقهية الطبية حول (الهندسة الوراثية والعلاج الجيني والبصمة الوراثية من منظور إسلامي) .
وتتسم أعمال المجمع، في كل هذا، برصانة البحث، والتأني في اتخاذ القرار والسير على المنهج العلمي الأصولي في بحوثه ودراساته، معتمدا في الأكثر الأحوط من الاتجاهات والآراء، وآخذا بما هو الأيسر والأوفق بمصالح الناس في أخرى ولكل من المسلكين مجاله وموضوعاته.(11/17)
والمعتمد في ذلك كله ما قدمه ويقدمه، في كل دورة، السادة أعضاء المجمع، من منتدبين ومعينين ومراسلين، من جواهر العلم ونفائسه مما نزداد به عمقا في بحوثنا ودراساتنا. وإني لأراهم في أمرهم واجتهاداتهم على نحو ما وصف به محمد بن الحسن الشيباني العالم في قوله: هو من كان عالما بالكتاب والسنة، وبقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما استحسن فقهاء المسلمين فهذا من يسعه أن يجتهد رأيه فيما ابتلي به، ويقضي به، ويمضي في صلاته وصيامه وحجه بجميع ما أمر به ونهي عنه. فإذا اجتهد ونظر وقاس على ما أشبه ولم يأل، وسعه العمل بذلك، وإن أخطأ الذي ينبغي أن يقول فيه.
ويوضح هذا ما قاله أبو عمر بن عبد البر: إن الاجتهاد لا يكون إلا على أصول يضاف إليها التحليل والتحريم، وإنه لا يجتهد إلا عالم بها. ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولًا في دينه لا نظير له من أصل، ولا هو في معنى أصل. وهذا لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديما وحديثا، فتدبره.
ولا يفوتني في ختام هذه الكلمة أن أجدد الشكر والامتنان لحضرة صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البلاد – حفظه الله – ولأعضائه الميامين، وأنوه مع فائق التقدير بما يبذله رئيس مجلسنا العلمي العلامة الفقيه الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، كما ألتفت إلى السادة أعضاء المجلس العلمي بالمجمع فأحييهم أكمل تحية، وأرحب بهم أصدق ترحيب، وأشكرهم على ما تجشموه من مشاق السفر حتى التحقوا بنا، وسعدنا بلقائهم بهذا البلد الميمون.
حضرات أصحاب الفضيلة الفقهاء؛
حضرات السادة العلماء؛
زادكم الله علما وتثبيتا، وسدد خطانا وخطاكم على طريق الحق، حتى يستعيد المسلمون منهج الإسلام في سلوكهم، وهدي الرسول في معاملاتهم، والالتزام بشريعة الله في أحكامهم.
فأنتم- إن شاء الله- التالون لكتابه، المتدبرون لآياته الملتزمون بأحكامه، وأنتم المتمسكون بسنة نبيكم، وهي الحكمة، تنير لكم المسالك وتهديكم سبل الرشاد، وأنتم المطلعون على الآثار وعلى ما قاله العلماء والأئمة المجتهدون، تستعينون بكل ذلك حين تسألون أو تستفتون، لا تصدرون إلا عما فيه لكم مستمسك وبه اقتناع.
والله المنعم الكريم يلهمنا السداد ويقينا الزلل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/18)
بيع الدين والأوراق المالية
وبدائلها الشرعية
إعداد
القاضي محمد تقي العثماني
قاضي القسم الشرعي للمحكمة العليا
بباكستان
ونائب رئيس دار العلوم بكراتشي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وإمام المتقين سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، على كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد أصبح بيع الدين وتداوله ظاهرة فاشية في الأسواق المالية في النظام الرأسمالي في صورة حسم الكمبيالة، وإجراء المزايدات في سندات الخزينة، وتداول شهادات الاستثمار وسندات الديون وسائر الأوراق المالية، وترجع جميع هذه العمليات إلى بيع الدين بأنقص من قيمته الاسمية تارة، وبأزيد من قيمته الاسمية أخرى، وقد ادعى بعض المعاصرين جواز بيع الدين وجواز هذه العمليات على ذلك الأساس، استنادًا بتفسير خاطئ لما حكي عن المالكية وبعض الشافعية من جواز بيع الدين. فسمت الحاجة إلى بيان الحكم الشرعي لبيع الدين بجميع صوره وأنواعه، وتحرير مذاهب الفقهاء في هذا الموضوع. وإن هذا البحث المتواضع يهدف إلى إنجاز هذه الحاجة، وأسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفقني لما هو الحق والصواب، ويعصمني عن الزلل والخطأ والضلال. إنه تعالى سميع قريب مجيب الدعوات.(11/19)
الصور المختلفة لبيع الدين
وإن بيع الدين له صور مختلفة تكلم عنها الفقهاء، وهي:
1- بيع الدين بالدين في ذمة مشتريه.
2- بيع الدين بالدين في ذمة طرف ثالث.
وهذان القسمان قد يعبر عنهما ببيع الكالئ بالكالئ.
3 - بيع الدين من المديون بالعروض.
4- بيع الدين من المديون بالنقد.
وهذان القسمان يعبر عنهما ببيع الدين ممن عليه الدين.
5- بيع الدين من غير المديون بالعروض.
6- بيع الدين من غير المديون بالنقد.
وهذان القسمان يعبر عنهما ببيع الدين من غير من عليه الدين. فلنتكلم على كل واحدة من هذه الأقسام على حدة.
1 - بيع الكالئ بالكالئ:
أما بيع الدين بالدين الذي يسمى بيع الكالئ بالكالئ، فيمكن أن يعقد منع المديون نفسه، أو مع طرف ثالث. مثال الأول، أن يقول شخص لآخر: اشتريت منك طنًا من القمح بألفي روبية على أن يتم تسليم العوضين بعد شهر مثلًا. فالطن الواحد من القمح دين في ذمة البائع، وألفا روبية دين في ذمة المشتري، ووقع بيع أحد الدينين بالدين الآخر. ومثل أن يبيع زيد طنًا من القمح سلمًا، فإذا حل الأجل عجز عن تسليم القمح على المشتري، فيقول له: بعني هذا القمح الذي هو في ذمتي بثلاثة آلاف روبية أؤديها إليك بعد شهر. فالقمح الذي كان دينًا في ذمة البائع اشتراه البائع بنقد في ذمته.
وقد اتفق جمهور الفقهاء على كون هذا البيع ممنوعًا شرعًا، واستندوا في ذلك على الحديث المعروف: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ)) (1) .
__________
(1) هذا الحديث مروي عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، فيما أخرجه الحاكم في المستدرك: 2/65، رقم الحديث 2342 / 213 و 2 / 66، رقم 2343 / 214، طبع بيروت 1411هـ؛ والدارقطني في سننه 3 / 71 و 72، رقم 269 و 270 من كتاب البيوع؛ والبيهقي في سننه الكبرى: 5 / 290، باب ما جاء في النهي عن بيع الدين بالدين؛ وعبد الرزاق في مصنفه 8: 90 حديث 14440؛ وابن أبي شيبة في مصنفه: 6 / 598، حديث 2169؛ والطحاوي في شرح معاني الآثار: 4/ 21، طبع مصر؛ والبزار في مسنده؛ كما في كشف الأستار للهيثمي: 2 / 91، رقم 1280؛ وابن عدي في الكامل: 6 / 2335؛ وكذلك روي عن رافع بن خديج، فيما أخرجه الطبراني في معجمه الكبير 4: 417 حديث 4375.(11/20)
واعترض عليه بأن هذا الحديث ضعيف من حيث إن جميع طرقه ضعيفة. فإنه مروي عن عبد الله بن عمر ورافع بن خديج، رضي الله عنهما، ومدار كلا الحديثين على موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف عند جمهور المحدثين، وذكر الإمام أحمد بن حنبل أنه لا تحل الرواية عنه، فقيل له: إن شعبة روى عنه، فقال: لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه (1) وليتنبه أن الحاكم والدارقطني رويا هذا الحديث من طريق موسى بن عقبة، بدلاً من موسى بن عبيدة، ولذلك صححه الحاكم على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي بشيء (2) ، ولكن حقق الإمام البيهقي، رحمه الله، في سننه أنه وهم وأن الصحيح أن راويه موسى بن عبيدة، وليس موسى بن عقبة (3) ؛ وذكر الحافظ ابن حجر، رحمه الله، أن الدارقطني نفسه اعترف في العلل أن موسى بن عبيدة تفرد به (4) ، فتبين أن ما ذكره الدارقطني في سننه من اسم موسى بن عقبة فإنه وهم.
وبالرغم من ضعف هذا الإسناد، فإنه قد يتأيد بما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه؛ قال: أخبرنا الأسلمي، قال: حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ ـ وهو بيع الدين بالدين ـ وعن بيع المجر ـ وهو بيع ما في بطون الإبل ـ (كذا) وعن الشغار)) ، وليس فيه موسى بن عبيدة، بل هو مروي من طريق الأسلمي، وهو إبراهيم ابن أبي يحيى الأسلمي (5) والكلام فيه معروف، فقد تركه أكثر المحدثين، ولكن أكثر عنه الإمام الشافعي، وقال فيه: " لأن يخر من السماء – أو قال من بعد – أحب إليه من أن يكذب، وكان ثقة في الحديث ". وكذلك وثقه ابن عقدة، وابن الأصبهاني وابن عدي وإن كان أكثر المحدثين تركوه لبدعته، والجرح مقدم كما قال فيه الذهبي (6) ، ولكن يحتمل أن يصلح للمتابعة على أساس توثيق الإمام الشافعي وغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) تهذيب التهذيب: 10 / 357.
(2) مستدرك الحاكم مع التخليص: 2 / 57 طبع دائرة المعارف.
(3) سنن البيهقي: 5 / 290.
(4) تلخيص الحبير: 3 / 26، رقم 1205.
(5) نصب الراية: 4 / 40.
(6) ميزان الاعتدال: 1 / 59.(11/21)
ثم إن جمهور علماء الأمة عملوا بمضمون هذا الحديث وحرموا بيع الدين بالدين، وقد ذكر غير واحد من المحدثين أن ما تلقاه أهل العلم بالقبول ينجبر به ضعف إسناده. قال السيوطي رحمه الله تعالى، وهو يبحث عن تعريف الحديث الصحيح:
" وكذا ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول. قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح. قال ابن عبد البر في الاستذكار: لما حكي عن الترمذي أن البخاري صحح حديث البحر ((هو الطهور ماؤه)) وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده: لكن الحديث عندي صحيح، لأن العلماء تلقوه بالقبول، وقال في التمهيد: روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدينار أربعة وعشرون قيراطًا)) . قال: وفي قول جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه غني عن الإسناد فيه (1) .
وقال ابن الهمام رحمه الله تعالى:
" ومما يصحح الحديث أيضًا عمل العلماء على وفقه. وقال الترمذي عقيب روايته: "حديث غريب، والعمل عليه عند أهل العلم. . . إلخ"، وفي الدارقطني: قال القاسم وسالم: عمل به المسلمون. وقال مالك: شهرة الحديث بالمدينة تغني عن صحة سنده" (2) .
وقال السخاوي رحمه الله تعالى:
"وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح. . . ولهذا قال الشافعي، رحمه الله، في حديث ((لا وصية لوارث)) : إنه لا يثبته أهل الحديث، ولكن العامة تلقته بالقبول وعملوا به حتى جعلوه ناسخًا لآية الوصية " (3) .
وقال السيوطي، رحمه الله، وهو يتكلم في حديث ابن عباس: ((من جمع بين الصلاتين من غير عذر، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر)) :
الحديث أخرجه الترمذي، وقال: حسن: ضعفه أحمد وغيره، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم " فأشار بذلك أن الحديث اعتضد بقول أهل العلم، وقد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث قول أهل العلم به، وإن لم يكن له إسناد يعتمد على مثله" (4) .
وعلى كل، فقد اتفق جمهور الفقهاء على تحريم بيع الكالئ بالكالئ، وفسره أكثرهم ببيع الدين بالدين، حتى حكى بعضهم الإجماع على كونه ممنوعًا، وروي عن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، أنه قال: " ليس في هذا حديث يصح، لكن الإجماع على أنه لا يجوز بيع دين بدين " (5) والحق أن الإجماع على منع بيع الدين بالدين إنما وقع على بعض صوره، مثل عقد السلم برأس مال مؤجل إلى ما فوق ثلاثة أيام، أو استبدال المسلم فيه بثمن أكثر من رأس مال السلم، وقد أجاز المالكية بعض صور لبيع الدين بالدين، وكذلك أجازة العلامة ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله تعالى، صورًا منه (6) . وبما أن غرض هذا البحث لا يتعلق بتفاصيل هذه الصور، فنكتفي في هذا الموضوع بهذا القدر.
__________
(1) تدريب الراوي، للسيوطي، ص 25، طبع المدينة المنورة.
(2) فتح القدير لابن الهمام: 3 / 349، مبحث طلاق الأمة من كتاب الطلاق.
(3) فتح المغيث للسخاوي: 1 / 268.
(4) التعقبات على الموضوعات ص 14، طبع لاهور، سنة 1886 م.
(5) فيض القدير، للمناوي: 6 / 330.
(6) راجع الدسوقي على الشرح الكبير: 3 / 195 – 197، ط. دار الفكر، بيروت، وإعلام الموقعين: 2 / 388 و 389؛ والغرر وأثره في العقود، للشيخ الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، ص 331.(11/22)
2 – بيع الدين من المديون:
والصورة الثانية من بيع الدين: أن يباع الدين من المديون نفسه بثمن حال، ويعبر عنه الفقهاء ببيع الدين ممن هو عليه. وهذا جائز عند جمهور الفقهاء، قال الكاساني رحمه الله تعالى:
" ويجوز بيعه (يعني الدين) ممن عليه، لأن المانع هو العجز عن التسليم، ولا حاجة إلى التسليم هنا، ونظيره: بيع المغصوب أنه يصح من الغاضب ولا يصح من غيره إذا كان الغاصب منكرًا ولا بينة للمالك (1) .
ولا يخفى أن جواز بيع الدين من المديون خاضع لجميع الشروط العامة التي تشترط لجواز البيوع كلها، فمثلاً: يشترط لجواز البيع أن يكون المبيع مقبوضًا للبائع، وهذا الشرط يتأتى في بيع الدين أيضًا، ولذلك لا يجوز بيع المسلم فيه من المسلم إليه قبل أن يقبضه رب السلم. ولذلك يقول الكاساني رحمه الله:
" ولا يحوز بيع المسلم فيه، لأن المسلم فيه مبيع، ولا يجوز بيع المبيع قبل القبض " (2) .
ويقول الشيرازي رحمه الله:
" وإن كان الدين غير مستقر، نظرت، فإن كان مسلمًا فيه لم يجز بيعه لما روي أن ابن عباس، رضي الله عنهما، سئل عن رجل أسلف في حلل دقاق فلم يجد تلك الحلل، فقال: آخذ منك مقام كل حلة من الدقاق حلتين من الجل، فكرهه ابن عباس" (3) .
وكذلك إن كان الدين وعوضه ربويين، يشترط في جواز بيعه ما يشترط في مبادلة الربويات بعضها ببعض، ولذلك منع أكثر الفقهاء أن يعجل الدين المؤجل مقابل إسقاط بعض الدين، كما تقرر في مسألة " ضع وتعجل" (4) .
وكذلك إذا اشترى المدين دينه من الدائن بثمن أكثر مؤجل، فهذا عين الربا، وهو في معنى " أتقضي أم تربي؟ ". وقد نزل بحرمته القرآن الكريم.
ولكن معنى جواز بيع الدين ممن عليه الدين، أن يقول المديون: "اشترِ مني هذا الثوب بدينك علي" أو يقول الدائن: " أبيعك ديني في ذمتك بثوبك هذا ". فهذا جائز عند جمهور الفقهاء.
__________
(1) بدائع الصنائع: 5 / 148.
(2) بدائع الصنائع: 5 / 148.
(3) المجموع شرح المهذب: 9 / 297.
(4) وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في كتابي (بحوث في قضايا فقهية معاصرة) ، ص 25 – ص 35، طبع دار القلم دمشق، 1419 هـ، وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي بجدة قرارًا في الموضوع سيأتي نصه.(11/23)
3 - بيع الدين من غير المديون:
الصورة الثالثة من بيع الدين: أن يبيع الدائن دينه من طرف ثالث غير المديون. وإن هذه الصورة وقع فيها اختلاف بين الفقهاء، فذهب الحنفية والحنابلة والظاهرية إلى أن بيع الدين من غير من عليه الدين لا يجوز. قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى:
" لا ينبغي للرجل إذا كان له دين أن يبيعه حتى يستوفيه، لأنه غرر، فلا يدري أيخرج أم لا يخرج" (1) .
وقال الكاساني رحمه الله تعالى:
" ولا ينعقد بيع الدين من غير من عليه الدين، لأن الدين إما أن يكون عبارة عن مال حكمي في الذمة، وإما أن يكون عبارة عن فعل تمليك المال وتسليمه، وكل ذلك غير مقدور التسليم في حق البائع، ولو شرط التسليم على المديون لا يصح أيضًا، لأنه شرط التسليم على غير البائع، فيكون شرطًا فاسدًا، فيفسد البيع " (2) .
وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي رحمه الله تعالى:
" واختلف في بيع الدين ممن هو عليه، فنقل أبو طالب المنع: ونقل مهنا جواز ذلك، ولا تختلف الرواية أنه لا يجوز بيعه من غير من هو في ذمته. وجه الأولى: أنه بيع دين قبل قبضه فلم يصح كما لو باعه من غير من هو عليه. ووجه الثانية أنه إذا باعه ممن هو عليه فقد حصل القبض فيه، فيجب أن يصح، ويفارق هذا إذا باعه من غيره أنه لا يصح، لأنه قد لا يتمكن من استيفائه ممن هو عليه فيتعذر تسليم المبيع، فلهذا لم يصح" (3) .
وقال المرداوي رحمه الله تعالى:
" لا يجوز بيع الدين المستقر لغير من هو في ذمته، وهو الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب، وعنه: يصح. قاله الشيخ تقي الدين رحمه الله. . . وقد شمل كلام المصنف مسألة بيع الصكاك، وهو الورق ونحوه. . . فإن كان الدين نقدًا، أو بيع بنقد لم يجز بلا خلاف، لأنه صرف بنسيئة. وإن بيع بعرض وقبضه في المجلس ففيه روايتان: عدم الجواز. قال الإمام أحمد: وهو غرر، والجواز: نص عليها في رواية حرب وحنبل ومحمد بن الحكم " (4) .
وقال ابن حزم، رحمه الله، من الظاهرية:
" ولا يحل بيع دين يكون لإنسان على غيره، لا بنقد ولا بدين، ولا بعين ولا بعرض، كان ببينة أو مقرًّا به أو لم يكن، كل ذلك باطل. . . برهان ذلك أنه بيع مجهول وما لا يدرى عينه. وهذا هو أكل مال بالباطل، وهو قول الشافعي. وروينا من طريق وكيع، نا زكريا بن أبي زائدة قال: سئل الشعبي عمن اشترى صكًا فيه ثلاثة دنانير بثوب؟ قال: لا يصلح. قال وكيع: وحدثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، قال: هو غرر" (5) .
__________
(1) الموطأ، للإمام محمد، رحمه الله، باب الرجل يكون له العطايا أوالدين على الرجل فيبيعه، ص354.
(2) بدائع الصنائع: 5 / 148.
(3) كتاب الروايتين والوجهين لأبي يعلى: 1 / 357.
(4) الإنصاف للمرداوي: 5 / 112؛ وراجع أيضًا الفروع لابن مفلح: 4 / 185.
(5) المحلى، لابن حزم: 9 /6.(11/24)
ثم إن الذين منعوا بيع الدين من غير المدين، إنما منعوه عن طريق البيع. أما إذا وقع نقل الدين بطريق الحوالة، فإنه جائز عند الجميع، والفرق بين البيع والحوالة ظاهر جدًا على مذهب الحنفية، فإنهم قائلون بأنه إذا توى الحوالة بإفلاس المحال عليه أو جحوده عند عدم البينة فإن للمحتال (الدائن الأصلي) أن يرجع على المحيل (وهو المديون الأصلي) (1) . أما إذا باع المديون دينه، فكأنه أحل مشتري الدين محله في جميع حقوقه ومخاطره، فإذا أفلس المديون الأصلي أو جحد الدين لا يستطيع أن يرجع على بائع الدين. ومن هنا يتحقق الغرر الذي منعوا بيع الدين من أجله. ولا يتحقق هذا الغرر في الحوالة، لأن للدائن أن يرجع على المحيل عند إفلاس المحال عليه أو جحوده.
أما الحنابلة، فلا يرجع عندهم المحتال على المحيل أبدًا، وإن أفلس المحتال عليه أو جحد، ولكن إن شرط المحتال ملاءة المحتال عليه، وقبل الحوالة على ذلك الأساس، ثم تبين أنه معسر، فإنه يحق له أن يرجع على المحيل (2) ومن هذه الجهة: الفرق عندهم بين بيع الدين، حيث لا يجوز، وبين الحوالة، حيث تجوز، من ناحيتين:
الأولى: أن في بيع الدين ينتقل الدين إلى المشتري بمجرد العقد، وبما أن حصول الدين غير متيقن، فالغرر لازم فيه بمجرد العقد، فلا يجوز. أما إذا باع رجل شيئًا بثمن لم يقبضه، وأراد المشتري أن يحيل البائع على مديون له، فإن ذلك لا يمكن إلا برضا البائع بعد العقد. ولا يجوز أن يشترط المشتري الحوالة في البيع، فلا سبيل إلى انتقال الدين إلى البائع تلقائيًا بمجرد العقد، ولذلك يجوز للبائع أن يطالبه بثمن ما باعه وأن لا يرضى بالحوالة، فالبيع لا غرر فيه، ومن ثم جاز العقد، وانعقدت الحوالة بعقد مستقل برضا البائع.
الثانية: أنه إذا قبل المحتال الحوالة على شرط ملاءمة المحتال عليه، ثم تبين أن المحال عليه معسر، فإنه يجوز للمحتال أن يرجع على المحيل. ولا يتيسر ذلك في بيع الدين.
__________
(1) راجع الهداية مع فتح القدير: 6 / 352.
(2) المغني، لابن قدامة: 5 / 59، دار الفكر.(11/25)
مذهب المالكية في بيع الدين لغير المدين:
أما المالكية، فالأصل عندهم أيضًا أنه لا يجوز بيع الدين من غير المدين، إلا أنهم أجازوا ذلك بشروط. وقد لخص الزرقاني، رحمه الله، أحكام بيع الدين من طرف ثالث بقوله:
" ومنع بيع دين على الغائب ولو قربت غيبته، أو ثبت ببينة وعلم ملاؤه، بخلاف الحوالة عليه فإنها جائزة. . . ومنع بيع دين على حاضر ولو ببينة إلا أن يقر، والدين مما يباع قبل قبضه، وبيع بغير جنسه وليس ذهبًا بفضة، ولا عكسه، وليس بين مشتريه ومن عليه عداوة، ولا قصد إعناته، فلا بد من هذه الخمسة شروط لجواز بيعه زيادة على قوله (يقر) " (1) .
والحاصل أن بيع الدين من غير المدين يجوز عند المالكية بشروط آتية:
1- أن يكون المديون حاضرًا، لا غائبًا.
2- أن يكون المديون مقرًّا بالدين.
3- أن يكون الدين مما يجوز بيعه قبل قبضه، فلا يجوز بيعه إذا كان طعامًا، فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه.
4- أن يباع الدين بغير جنسه، فإن كان الدين دراهم، وبيع بالدراهم فإنه لا يجوز، وزاد الدسوقي أنه إن كان من جنسه، فلا بد من التساوي (2) .
5- أن لا يباع دين الذهب بالفضة أو بالعكس، لكونه صرفًا وانعدم فيه التقابض.
6- أن لا يكون بين المدين ومشتري الدين عداوة، حتى لا يكون في البيع إعنات للمدين بتمكين عدوه منه. وزاد الدسوقي عليها شرطين:
الأول: أن يكون الثمن نقدًا، وهو ظاهر لأنه إن كان دينًا صار بيع الدين بالدين، وقد مر امتناعه.
والثاني: أن يكون المديون ممن تأخذه الأحكام، ليمكن تخليص الحق منه عند القاضي إذا امتنع عن الأداء (3) .
مذهب الشافعية:
قد اختلفت الروايات في مذهب الشافعية في قضية بيع الدين من غير المدين. وقال النووي رحمه الله:
" اعلم أن الاستبدال بيع لمن عليه دين. فأما بيعه لغيره، كمن له على إنسان مائة، فاشترى من آخر عبدًا بتلك المائة، فلا يصح على الأظهر لعدم القدرة على التسليم، وعلى الثاني: يصح بشرط أن يقبض مشتري الدين ممن عليه وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس، فإن تفرقا قبل قبض أحدهما بطل العقد. قلت: الأظهر الصحة (4) .
__________
(1) شرح الزرقاني على مختصر خليل: 3 / 83.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير: 3 / 63.
(3) الدسوقي على الشرح الكبير: 3 / 63.
(4) روضة الطالبين، للنووي: 3 / 514.(11/26)
وقال البغوي رحمه الله تعالى:
" أما إذا باع الدين من غير من عليه، مثل أن كان له على زيد عشرة دراهم، فاشترى من عمرو ثوبًا بتلك العشرة، أو قال لعمرو: بعتك العشرة التي في ذمة زيد لي بثوبك هذا، فاشتراه عمرو، فالمذهب أنه لا يجوز، لأنه غير قادر على تسليمه. وفيه قول آخر: أنه يجوز على حسب ما يجوز ممن عليه فعلى هذا يشترط أن يقبض مشتري الدين الدين ممن عليه، وبائعه يقبض العوض في المجلس حتى لو تفرقا قبل قبض أحدهما بطل " (1) .
وبمثله جاء في شرح المهذب، ولفظه:
" فأما بيعه لغيره، كمن له على رجل مائة فاشترى من آخر عبدًا بتلك المائة ففي صحته قولان مشهوران، أصحهما: لا يصح، لعدم القدرة على التسليم، والثاني: يصح بشرط أن يقبض مشتري الدين الدين ممن هو عليه وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس. فإن تفرقا قبل قبض أحدهما بطل العقد (2) .
وحاصل هذه النصوص أن بيع الدين من غير المدين لا يجوز عند الشافعية إلا إذا قبض المشتري الدين من المدين في مجلس العقد، وهذا الشرط في الحقيقة يؤول إلى عدم جواز بيع الدين، لأن الدين متى قبض في المجلس لم يبق دينًا. ولعل هذا هو السبب في أن النووي، رحمه الله، لم يذكر في منهاج الطالبين إلا قول عدم الجواز، فقال:
" وبيع الدين لغير من عليه باطل في الأظهر بأن اشترى عبد زيد بمائة له على عمرو " (3) .
ولكن كثيرًا من علماء الشافعية لم يذكروا هذا الشرط، حتى أن الشيرازي، رحمه الله، لم يذكره في متن المهذب حيث قال:
" وهل يجوز من غيره؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز، لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة. والثاني: لا يجوز لأنه لا يقدر على تسليمه إليه، لأنه ربما منعه أو جحده، وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز، والأول أظهر، لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود " (4) .
__________
(1) التهذيب للبغوي: 3 / 417.
(2) المجموع شرح المهذب: 9 / 300.
(3) منهاج النووي مع مغني المحتاج: 2 / 71.
(4) المهذب مع المجموع: 9 / 297.(11/27)
وقال الشربيني الخطيب، رحمه الله، بعد ما اعتمد على قول الجواز:
" وصرح في أصل الروضة كالبغوي باشتراط قبض العوضين في المجلس وهذا هو المعتمد، وإن قال المطلب: مقتضى كلام الأكثرين بخالفه" (1) .
ويظهر من تمحيص كتب الشافعية أن كثيرًا منهم ذهبوا إلى عدم جواز بيع الدين من غير المدين مطلقًا. والذين ذهبوا إلى الجواز قيدوه بقبض الدين في مجلس العقد. والذين ذكروا الجواز بدون هذا الشرط، كالشيرازي، فإما أن يحمل مطلق كلامهم على التقييد الذي ذكره الآخرون، أو يكون قولاً ثالثًا، ومنهم من حاول التطبيق بينهما بأن شرط القبض في المجلس محله إذا كان الدين وعوضه من الأموال الربوية، وإطلاق الجواز بدون هذا الشرط محله إذا لم يكونا من الأموال الربوية، وهذا التفريق يبدو حسنًا، ولكن رده الشربيني والرملي على أساس أن من قيد الجواز بالقبض جاء بمثال مال غير ربوي، وهو العبد (2) .
__________
(1) مغني المحتاج: 2 / 71؛ وذكر مثله الرملي في نهاية المحتاج: 4 / 90.
(2) المهذب مع المجموع: 9 / 297؛ مغني المحتاج: 2 / 71؛ وذكر مثله الرملي في نهاية المحتاج: 4/ 90.(11/28)
تداول الأوراق المالية المعاصرة
بعد دراسة الأحكام الفقهية المتعلقة ببيع الدين، ننتقل الآن إلى الأوراق المالية التي شاع تداولها في الأسواق المعاصرة وبيان حكمها الشرعي. فمن هذه الأوراق المالية أسهم الشركات أو الصناديق التي تمثل موجودات عينية غير النقود، وإن هذه الأوراق خارجة عن موضوع هذا البحث، لأنها لا تمثل قروضًا أو ديونًا، وقد فرغنا عن بيان حكمها الشرعي في بحوث أخرى. والأوراق التي نريد بيان حكمها الشرعي في هذا البحث هي الأوراق التي تمثل قروضًا أو ديونًا لحاملها في ذمة مصدرها. وهي – على تنوع أسمائها – ترجع إلى نوعين كبيرين: النوع الأول: السندات، والثاني: الكمبيالات، فلنتكلم على كل واحد منها بصفة مستقلة.
السندات (Bonds) :
السند (bond) : في الاصطلاح المعاصر وثيقة يصدرها المديون لمقرضه اعترافًا منه بأنه استقرض من حاملها مبلغًا معلومًا يلتزم بأدائه في وقت معلوم. وإن هذه السندات تصدر عادة لعرضها على الجمهور ليحصلوا عليها بأداء المبلغ المكتوب على وجهها حتى يصيروا مقرضين ذلك المبلغ لمصدر السند.
وإن هذه السندات ربما تصدرها الشركات المساهمة التجارية أو الصناعية حينما تحتاج إلى اقتراض مبالغ كبيرة من المال لإنجاز مشاريعها، ولا تجد أفرادًا أو مؤسسات تقرضها الأموال بالحجم المطلوب، فتعرض هذه السندات على الجمهور.
وربما تصدر مثل هذه السندات من قبل الحكومات التي تريد أن تمول عجز ميزانيتها فتقترض من الجمهور.
وإن هذه السندات، سواء أصدرتها الشركات أو أصدرتها الحكومة إنما تلتزم بأداء فوائد ربوية إلى من يحملها، فالسند الذي قيمته الاسمية مائة روبية مثلاً تستحق أن يدفع لحاملها مائة وخمس عشرة بعد سنة. ويحق له أن يبيع هذا السند في السوق، وإنها تباع وتشترى بثمن يتراضى عليه الفريقان، فمن حصل على هذا السند بمائة، فإنه يبيعه إلى آخر بمائة وخمسة، ويشتريه ذلك الآخر بهذا الثمن لأنه يرجو أن يحصل على مائة وخمس عشرة روبية في نهاية المدة.(11/29)
وهناك سندات أخر تصدر من قبل الحكومة، وتعرض عادة على البنوك والمؤسسات المالية الأخرى، وتسمى سندات الخزينة. ومقصود هذه السندات نفس المقصد الذي من أجله تصدر السندات الحكومية الأخرى. غير أن هذه السندات تعرض على البنوك لتشتريها على أساس المزايدة، فالسند الذي قيمته ألف روبية مثلاً يتضمن التزام الحكومة بأداء ألف روبية إلى حامله عند حلول أجله، فتجرى في شرائه المزايدة فيما بين البنوك، وتأتي العروض من قبلها إلى البنك المركزي، فتباع هذه السندات إلى من عرضه أكثر. ومعنى بيع هذه السندات أن مشتريها أقرض مبلغ الثمن إلى الحكومة واستحق من خلال هذا الإقراض أن يحصل على قيمة السند الاسمية عند حلول أجله.
إنَّ هذه السندات كلها ربوية من أصلها، حيث إن المقرض يلتزم فيها بأداء مبلغ القرض وزيادة، فلا يخفى حرمة تداولها لأنها تؤدي إلى تعامل ربوي حرام. ولكن لو فرضنا أن هذه السندات أصدرت من قبل الحكومة. على أساس القرض الشرعي بدون فائدة، فهل يجوز بيعها؟ يتأتى فيه الخلاف المذكور في بيع الدين، فلا يجوز بيعها عند الحنفية والحنابلة والظاهرية مطلقًا، وكذلك لا يجوز في الظاهر عند الشافعية، إما لأن الكثيرين منهم مع الحنفية والحنابلة في منع بيع الدين من غير المدين، وإما لأنهم اشترطوا لجوازه أن يقبض الدين في المجلس كما أسلفنا، وحصول هذا الشرط متعذر في السندات، فلا يجوز عندهم.
نعم يجوز ذلك عند من لا يشترط لجواز بيع الدين أن يقبض الدين في المجلس، فإن اشتريت هذه السندات بعين من الأعيان، مثل الثوب، أو الحبوب الغذائية، أو الأشياء الأخرى غير النقود فهذا البيع جائز على هذا القول مطلقًا. أما إذا اشتريت بالنقود، فلم أجد من الفقهاء الشافعية تصريحًا في هذا الباب، ولكن قياس قولهم في الصرف أن لا يجوز، لأن بيع النقود بالنقود صرف، ويشترط فيه التقابض في المجلس، ولو أجزنا بيع السندات بثمن حال، فكأننا أجزنا بيع النقود بالنقود نسيئة. فيشترط لجوازه أن يقبض الدين في المجلس، وهو متعذر في السندات: فلا يجوز.
أما المالكية، فيجوز عندهم بيع الدين لغير المدين بالشروط التي ذكرناها في تحقيق مذهبهم، ومن جملة هذه الشروط أنه إذا بيع الدين بجنسه فإنه يشترط فيه التساوي (1) فإن كان السند قيمته مائة، فلا يباع إلا بمائة لا يزاد ولا ينقص، ومن الظاهر أن هذا الشرط لا يحصل به غرض السوق الثانوية التي تباع فيها السندات، فالحاصل أن التعامل الذي يجري في سوق الأوراق المالية من بيع السندات وشرائها محرم شرعًا. وسوف نتكلم على بدائلها الشرعية في آخر البحث إن شاء الله تعالى.
__________
(1) قال الدسوقي في سياق شروط جواز الدين لغير المدين: " وبيع (أي الدين) بغير جنسه، أو بجنسه وكان مساويًا، لا أنقص، وإلا كان سلفًا بزيادة، ولا أزيد، وإلا كان فيه حط الضمان وأزيدك"، راجع حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: 3 / 63.(11/30)
الكمبيالات (Bills of Exchange) :
النوع الثاني من الأوراق المالية التي تتداول في السوق اليوم تسمى كمبيالة، وهي عبارة عن الوثيقة التي يكتبها المشتري للبائع في بيع مؤجل، ويعترف فيها بأنه وجب في ذمته ثمن المبيع، وأنه يلتزم بأدائه في تاريخ آجل. وإن البائع حامل الكمبيالة ربما يريد استعجال الحصول على مبلغها، فلا ينتظر إلى تاريخ نضج الكمبيالة، بل يبيعها إلى طرف ثالث بأقل من قيمتها الاسمية ويسمى (حسم الكمبيالة) أو (خصم الكمبيالة) (Discounting) والعادة في سوق الأوراق أن مقدار هذا الحسم نسبة من مبلغ الكمبيالة تحدد على أساس مدة نضجها، فكلما كانت مدة نضجها أكثر كانت نسبة الحسم أكثر، وكلما كانت المدة أقل، كانت نسبة الحسم أقل.
وإن معظم العلماء المعاصرين خرجوا حكم الكمبيالة على أساس أنه بيع دين بنقد أقل منه، وحرموه من هذه الجهة.
وقد ذكر الفقهاء ورقًا يشابه ورق الكمبيالة اسمه (الجامكية) (1) وهي عبارة عن ورقة تصدر من بيت المال أو من ناظر الوقف لصالح رجل له حق مالي على بيت المال أو الوقف. وقد ذكره العلامة الحصكفي في الدر المختار بقوله:
" وأفتى المصنف (أي صاحب تنوير الأبصار) ببطلان بيع الجامكية لما في الأشباه: بيع الدين إنما يجوز من المديون".
وقال ابن عابدين تحته:
" عبارة المصنف في فتاواه: سئل عن بيع الجامكية: وهو أن يكون لرجل جامكية في بيت المال ويحتاج إلى دراهم معجلة قبل أن تخرج الجامكية فيقول له رجل: بعني جامكيتك التي قدرها كذا بكذا، أنقص من حقه في الجامكية، فيقول له: بعتك، فهل البيع المذكور صحيح أم لا؟ لكونه بيع الدين بنقد، أجاب: إذا باع الدين من غير من هو عليه كما ذكر لا يصح.
قال مولانا في فوائده: وبيع الدين لا يجوز، ولو باعه من المديون أو وهبه " (2) .
وجاء في كشاف القناع للبهوتي:
" ولا يصح بيع العطاء قبل قبضه، لأن العطاء مغيب فيكون من بيع الغرر، وهو أن العطاء قسطه في الديوان، ولا يصح بيع رقعة به، أي بالعطاء، لأن المقصود بيع العطاء، لا هي " (3) .
وهذا متفرع على أصل الحنفية والحنابلة، فإنهم لا يجوزون بيع الدين من غير المدين إطلاقًا وعليه يخرج حكم بيع الكمبيالة عند الحنفية والحنابلة أنه لا يجوز أصلاً، سواء كان الثمن مساويًّا لقيمة الكمبيالة لأنه بيع الدين من غير من هو عليه، فلا يجوز كما لا يجوز بيع الجامكية.
__________
(1) هذه الكلمة معربة من (جامكي) وهي كلمة فارسية مأخوذة من (جامه) بمعنى الثوب، وكانت موضوعة في الأصل لأجرة تدفع إلى من يحفظ الثياب، ثم أطلقت على كل أجرة أو راتب (راجع لغة نامه ده خدا: 16 / 97) وفسره في المنجد بمرتب خدام الدولة العسكرية والملكية، وذكر أن أصله تركي وجمعه جوامك.
(2) رد المحتار: 4 / 518، مطلب في بيع الجامكية.
(3) كشاف القناع، للبهوتي: 3 / 156.(11/31)
أما المالكية، فقد تقدم أنهم يجوزون بيع الدين من غير المدين بشروط سبقت، ولذلك قياس قولهم جواز بيع الجامكية، وقد صرح بذلك الحطاب رحمه الله تعالى حيث قال:
"بخلاف الجامكية، فإن الملك محصل فيها لمن حصل له شرط الواقف، فلا جرم صح أخذ العوض بها وعنها " (1) .
ولكن لا يخفى أن جواز هذا البيع مشروط بأن يكون بيعه بخلاف جنسه، وإن كان بجنسه، فلا بد من التساوي، كما سبق التصريح بذلك في عبارة الدسوقي.
وعليه يخرج حكم بيع الكمبيالة في مذهب المالكية، حيث يجوز بشرط أن يكون الثمن إما غير النقود أو مساويًّا لقيمة الكمبيالة.
أما الشافعية، فقد ذكر بعض المتأخرين منهم أنه يجوز لمستحق الجامكية أن ينزل عنها في حق غيره ويطالبه بالعوض عن ذلك. قال الشبراملسي بعد ما ذكر جواز النزول عن الوظائف.
" ومن ذلك الجوامك المقرر فيها، فيجوز لمن له شيء من ذلك وهو مستحق له بأن لا يكون له ما يقوم بكفايته من غير جهة بيت المال النزول عنه، ويصير الحال في تقرير من أسقط حقه له موكولاً إلى نظر من له ولاية التقرير فيه كالباشا، فيقرر من رأى المصلحة في تقريره من المفروغ له أو غيره " (2) .
ولكن ليس مقصود الشبراملسي إجازة بيع الكمبيالة، أو النزول عن راتب شهر معين. وإنما مقصوده أنه لو كان لرجل عطاء في بيت المال يحصل عليه كل شهر، جاز له أن ينزل عنه في حق غيره للأبد، ويأخذ عوضًا عن ذلك، ولكن المنزول له لا يستحق العطاء بمجرد نزول الأول، بل مفاد نزوله أنه تزول مزاحمته له في ذلك العطاء، ثم يصير الأمر موكولاً إلى من له ولاية التقرير، فإن رأى المصلحة جعل المنزول له في محل النازل، فيستحق هو العطاء، وإن شاء عين غيره. وهذا هو حكم النزول عن الوظائف عند الشافعية. وعلى هذا، فما ذكره الشبراملسي خارج عن مسألتنا لأنه ليس بيعا لورقة الدين، ولا نزولاً عنها في حق من يحل محله في حق المطالبة.
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 4 / 224، طبع 1398 هـ، في سياق تعريف البيع.
(2) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج: 5 / 478، آخر مبحث الجعالة.(11/32)
وقياس قول الشافعية في مسألة بيع الدين أن لا يجوز بيع الجامكية أو الكمبيالة إلا بقبض العوضين في المجلس، ولو أخذنا بقول بعضهم الذين لا يشترطون هذا الشرط، فإنه يشترط عنهم أن يكون الثمن مساويًّا لقيمة الكمبيالة، ولا يجوز بيعها بأقل من قيمتها، إلا إذا كان البدل من المعروض.
خلاصة حكم بيع الكمبيالة:
يتلخص مما ذكرنا أن بيع الكمبيالة لا يجوز على قول الحنفية والحنابلة أصلاً، حتى بثمن مساو، وكذلك في مذهب الشافعية الذين يشترطون قبض البدلين في المجلس. وأما الذين لا يشترطون ذلك فيجوز بيع الكمبيالة عندهم بشرط أن يكون الثمن مساويًّا لمبلغ الكمبيالة، وهو مذهب المالكية أيضًا.
فتبين بهذا أن حسم الكمبيالة بمبلغ أقل من مبلغها لا يجوز عند أحد من المذاهب الفقهية المعتبرة، فإنه بيع لنقد حال بنقد مؤجل أقل منه وهو في معنى الربا. وهو الذي انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة، ونص قراره:
" إن حسم (خصم) الأوراق التجارية غير جائز شرعًا، لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم" (1) .
موقف بعض الإخوة الماليزيين:
وقد أفتى بعض إخوتنا في ماليزيا بجواز بيع الدين، وتوصلوا بذلك إلى القول بجواز حسم الكمبيالة، وقد عقدت مؤسسة الأوراق المالية في ماليزيا حوارًا لي معهم فاجتمعت معهم في كوالالمبور حتى أعرف مستندهم في ذلك، فتبين لي أنهم اعتمدوا في ذلك على أدلة آتية:
1- إنهم فرقوا بين القرض وبين الدين الذي ينتج عن بيع بضاعة فقالوا: إن القرض لا يجوز بيعه أو شراؤه، فإنه لا يستند إلى بضاعة. أما الدين الذي ينشأ عن طريق البيع المؤجل، فإنه يستند إلى بضاعة تم بيعها، فوثيقة هذا الدين لا يمثل النقود البحتة، وإنما يمثل النقود التي حلت محل البضاعة المبيعة، فبيع هذه الوثيقة بيع للدين الذي قام مقام البضاعة، فكأنه بيع للبضاعة.
وإن هذا الدليل – مع احترامي لهؤلاء الإخوة – لا يخفى وهنه.
__________
(1) قرار رقم: 66 / 2 / 7، فقرة 3، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع: 2 / 217.(11/33)
أما أولا: فلأن من النتائج اللازمة لعقد البيع انتقال ملك المبيع إلى المشتري، فلما تم البيع بين الفريقين، انتقلت البضاعة إلى ملك المشتري، ولم يبقَ للبائع إلا مطالبة الثمن الذي ثبت في ذمة المشتري. وهو الدين الذي تمثله الكمبيالة، وبعد ثبوت هذه النقود في ذمة المشتري، لم يبقَ هناك أي فرق بين النقود المقترضة، وبين النقود التي ثبتت في ذمته بسبب الشراء، وإن هذه النقود ليست قائمة مقام البضاعة بحيث يمكن عود البضاعة إلى محلها، وإنما هي عوض عن البضاعة المبيعة التي تم بيعها بيعًا باتًّا لا رجعة فيه، فلا يمكن أن تجري عليها أحكام البضاعة. وإلا لصارت جميع النقود التي حصل عليها الإنسان ثمنًا للبضاعة قائمة مقام البضاعة في جواز تداوله بالتفاضل، وهو محظور بالبداهة.
وثانيًا: القول بأن الكمبيالة بيع للبضاعة التي يقوم الدين مقامها يستلزم أن يقع على البضاعة الواحدة بيعان لجهتين مختلفتين، فإن البضاعة تم بيعها إلى مصدر الكمبيالة وانتقل ملكها إليه فكيف يبيع حامل الكمبيالة نفس هذه البضاعة إلى جهة أخرى؟ مع أن حامل الكمبيالة ليس مالكًا لها، ولا الجهة الأخرى تحصل على هذه البضاعة في مرحلة من مراحل العملية.
وثالثًا: إن هذا الدليل معارض للنص، وهو حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال:
كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطى هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله! رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (1) .
دل هذا الحديث على أنه إذا وقع البيع على نقد من النقود، ثم أراد المتبايعان أن يحولوه إلى نقد آخر، فإن ذلك إنما يجوز بشرطين: الأول أن يكون على سعر يوم الأداء، والثاني: أن يتم الأداء في المجلس ولا يبقى في ذمة المشتري شيء.
ولا يخفى أن المبيع في هذه العملية إبل، وثبت ثمنها بالدراهم مثلاً في ذمة المشتري، فكأنما أصبحت دينًا في ذمته، وإنه يريد أن يستبدلها بالدنانير، فاشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك أن يقع الاستبدال بسعر يوم الأداء، وبأن لا يبقى شيء من الثمن في ذمة المشتري. وإنما اشترط هذين الشرطين لأنه، صلى الله عليه وسلم، جعل هذا الاستبدال صرفًا، فاشترط فيه ما يشترط لجواز الصرف، مع أن أصل البيع كان للإبل؛ ولو كان ثمن البضاعة يقوم مقام البضاعة كما قاله هؤلاء الإخوة؛ لكان هذا الاستبدال شراء للبضاعة نفسها، ولم يشترط لجوازه ما يشترط للصرف.
ولينظر أن هذه العملية وقعت بين البائع والمشتري، ولم يتخللها ثالث، وكان من السهل أن يقال: إنهما فسخا البيع السابق، وعقداه من جديد على أساس الدنانير، ولذلك لا يشترط فيه سعر يوم الأداء، ولا التقابض، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله صرفا ليحترز من كل شبهة للربا، وكذلك كان هذا بيعا للدين ممن هو عليه، ومع ذلك اشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم تساوي البدلين في السعر، فيشترط هذا الشرط من باب أولى في بيع الدين من غير من هو عليه، لأن تخلل الثالث أبعد كل احتمال للاستبدال أو فسخ البيع السابق وعقده من جديد.
2- إن بعض هؤلاء الإخوة استدلوا بما روي عن المالكية وعن بعض الشافعية أنهم أجازوا بيع الدين من غير من هو عليه، وتمسكوا بلفظ " بيع الدين "، وقالوا: متى جاز بيع الدين، فإن البيع يقتضي أن يجوز بكل ما اتفق عليه العاقدان من ثمن، فيجوز بيع الدين بأقل من مبلغ الدين إذا تراضى عليه الطرفان.
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب البيوع، رقم 3354: 3: 25 وهذا لفظه؛ وأخرجه الترمذي في البيوع، باب ما جاء في الصرف، رقم 1242؛ والنسائي: 7 / 281، باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة، وابن ماجه، باب اقتضاء الذهب من الورق، رقم 2262، ورجاله ثقات.(11/34)
وهذا الدليل أضعف من الأول، لأنه حينما يقال بجواز بيع شيء، فإن الجواز يخضع لجميع الشروط اللازمة في مثل ذلك البيع، فمثلاً: إذا قلنا يجوز بيع الذهب، فليس معناها أنه يجوز بذهب أقل منه أو أكثر، وإنما المراد أنه يجوز هذا البيع بجميع شروطه المعتبرة، ومنها أنه إذا بيع بجنسه فلا يجوز فيه التفاضل. وكذلك حينما ذكر هؤلاء الفقهاء جواز بيع الدين فإنما قالوا بجوازه بجميع الشروط المعتبرة، ومنها أنه إذا كان الدين من الأموال الربوية وبيع بجنسه فإنه لا يجوز التفاضل. وقد صرح بذلك العلماء المالكية كما سبق في تنقيح مذهبهم. أما الشافعية، فإنهم تصوروا بيع الدين بغير جنسه، فإنهم مثلوه بشراء العبد بالدراهم في ذمة المديون ولذلك لم يذكروا شرط التساوي، فإن هذا الشرط من البديهيات إذا كان الدين من الأموال الربوية، ووقع بيعه بجنسه. وقد ذكروا في مسألة الاستبدال (وهو بيع الدين ممن هو عليه) أنه إذا وقع الاستبدال في الأموال الربوية، اشترط قبض البدل في المجلس (1) فظهر أنهم اشترطوا في الأموال الربوية جميع الشروط اللازمة لجواز البيع فيها.
3- وربما استدل بعضهم بما ذهب إليه العلماء من جواز "ضع وتعجّل" استدلالاً بقصة بني النضير حينما أجلوا من المدينة المنورة وكانت لهم ديون على أهل المدينة، فروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم: ((ضعوا وتعجلوا)) فحطوا من ديونهم وتعجلوها من المديونين (2) .
والواقع أن جمهور فقهاء الأمة ذهبوا إلى منع " ضع وتعجل " وهو مذهب عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت، ومحمد بن سيرين، والحسن البصري وابن المسيب والحكم بن عتبة، والشعبي. والأئمة الأربعة (3) وضعفوا حديث بني النضير، نعم روي عن عبد الله بن عباس وإبراهيم النخعي وزفر بن الهذيل وأبي ثور جوازه، وإليه ذهب العلامة ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية، رحمهم الله تعالى (4) ، ولكن الذين ذهبوا إلى جوازه، إنما جوزوه إذا كان ذلك فيما بين الدائن والمدين، ولم يجوزه أحد منهم إذا تخلل ثالث في العملية، فلا يقاس حسم الكمبيالة على مسألة "ضع وتعجل" لأن الدائن مالك للدين، فله أن يضع من الدين ما شاء. أما من يشتري الدين بنقد، فإنه يشتري النقود الواجبة في ذمة المديون، فهو في حكم بيع النقود بالنقود، ولا يجوز فيه التفاضل.
وإن هذه المسألة صدر فيها قرار من مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة، ونصه:
" الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية " (5) .
حكم الكمبيالة على أساس الحوالة:
ثم إن ما ذكرناه من حكم الكمبيالة مبني على أساس كونه بيعًا للدين. والذي يظهر لي أن حسم الكمبيالة ليس بيعًا في الحقيقة، وإنما هو إقراض وحوالة. فالذي يحسم الكمبيالة يقرض إلى حاملها مبلغًا ثم يحيل الحامل المقترض إياه على مصدر الكمبيالة. والدليل على ذلك أن في قوانين معظم البلاد لا يتحمل الحاسم خطر عدم التسديد، بل يحق له أن يرجع على حامل الكمبيالة إذا لم يقع التسديد من مصدر الكمبيالة، وهذا شأن الحوالة (على مذهب الحنفية) .
وعلى هذا، فما يعطيه حاسم الكمبيالة قرض أقرضه إلى حاملها بشرط أن يحيله على مديونه بمبلغ أكثر منه، وهو ربا صراح، لأن الحوالة من صحة شرطها تساوي الدينين، وقد تحقق هنا بين مبلغ القرض والمبلغ المستوفى فيما بعد زيادة في مقابل الأجل، وهو من ربا النسيئة.
__________
(1) المجموع شرح المهذب: 9 / 299.
(2) راجع السنن الكبرى للبيهقي: 6 / 38 كتاب البيوع، وقد بسطت الكلام على هذا الحديث وعلى أدلة مذاهب الفقهاء في المسألة في كتابي " بحوث في قضايا فقهية معاصرة" مبحث البيع بالتقسيط.
(3) راجع موطأ مالك: 1 / 606؛ ومصنف عبد الرزاق: 8 / 71 – 74 وموطأ الإمام محمد: 1 / 332؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 174 و 175.
(4) كنز العمال: 2 / 235؛ وأعلام الموقعين: 3 / 371.
(5) قرار رقم: 66 / 2 / 7 / مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع: 2 / 217، فقرة 4.(11/35)
البدائل الممكنة لبيع الدين
تبين بما تقدم أن الأوراق المالية التي تمثل ديونًا في ذمة مصدرها، مثل السندات والكمبيالات، لا يجوز تداولها إلا بمبلغ مساو لقيمتها الاسمية. ثم هذا التداول بقيمتها الاسمية يمكن أن تكون على طريق البيع عند المالكية وبعض الشافعية بشروط مر ذكرها، ولا يجوز على طريق البيع عند الحنفية والحنابلة.
ولكن يجوز بطريق الحوالة عند الجميع، ومعنى ذلك أن حامل السند أو الكمبيالة يقترض من طرف ثالث مبلغًا يساوي مبلغ السند أو الكمبيالة، ثم يحيل هذا الطرف الثالث إلى مصدر السند أو الكمبيالة. فتجري على هذا التداول أحكام الحوالة.
ولا يخفى أن تداول هذه الأوراق بمبلغ مساو لقيمتها الاسمية لا يؤدي الغرض المطلوب من السوق الثانوية. فهل هناك من طريق يمكن به إنشاء سوق ثانوية للأوراق المالية على الوجه المقبول شرعًا؟ وبعبارة أخرى، هل هناك من بديل لتداول السندات والكمبيالات على الوجه المقبول شرعًا؟ والجواب: نعم، وفيما يلي نذكر هذه البدائل باختصار، والله سبحانه هو الموفق للصواب.
بديل حسم الكمبيالات:
أما حسم الكمبيالات، فيمكن تحصيل غرضه بطرق ثلاثة:
1- إن حسم الكمبيالات يحتاج إليه تاجر يبيع بضاعته بيعًا مؤجلاً، فيريد أن يحصل على مبلغ الثمن (أو ما يقاربه) معجلاً قبل حلول الأجل ليمكن له الوفاء بالتزاماته تجاه التجار الذين اشترى منهم البضاعة المصدرة، أو الصناع الذين صنعوها له، وأكثر ما يحتاج إليه التجار في تصدير بضاعاتهم إلى خارج البلد عن طريق اعتماد مستندي، فيذهبون بالكمبيالات إلى بنك ليحسمه ويؤدي إليهم مبلغ الكمبيالة ناقصًا منه نسبة الحسم.
والطريق المشروع للحصول على هذا الغرض بالوجه الذي لا غبار عليه من الناحية الشرعية أن يعقد التجار المشاركة مع البنك قبل تصديرهم للبضاعة، وبما أن عندهم طلبًا معينًا من خارج البلاد، والسعر معلوم متفق عليه بين الفريقين والتكلفة معلومة، فلا يصعب على البنك الدخول في المشاركة في هذه العملية بخصوصها، لأن الربح المتوقع من العملية شبه المتيقن، فيمكن للبنك أن يعطي العميل المبلغ المطلوب على أساس المشاركة، ويتقاضى نسبة من الربح الحاصل من العملية، فيحصل العميل على السيولة ويتمكن بها الوفاء بالتزاماته التي يتحملها لإعداد البضاعة المصدرة، ويحصل للبنك الربح بنسبة معلومة.(11/36)
2- الطريق الثاني: أن يبيع البنك إلى حامل الكمبيالة بضاعة حقيقية مقابل الكمبيالة على مذهب المالكية وبعض الشافعية، أو مقابل ثمن يساوي مبلغ الكمبيالة، ثم يقبل حوالته على مصدر الكمبيالة. وبما أن مقابل الكمبيالة بضاعة، فلا بأس أن يبيعه البنك بسعر أعلى من سعر السوق، وبهذا يحصل على ربح.
3- الطريق الثالث: أن تكون هناك معاملتان مستقلتان بين البنك وبين حامل الكمبيالة. المعاملة الأولى: أن يوكل حامل الكمبيالة البنك بتحصيل مبلغه من مصدر الكمبيالة عند نضجها، ويعطيه أجرًا معلومًا مقابل هذه الخدمة.
والمعاملة الثانية: أن البنك يقرض العميل مبلغ الكمبيالة ناقصًا منه أجرة الوكالة قرضًا بدون فائدة.
مثاله: إن زيدًا يحمل كمبيالة مبلغها مائة ألف روبية، فيوكل زيد البنك بتحصيل هذا المبلغ من مصدر الكمبيالة بأجر ألف روبية. ثم يقرض البنك زيدًا بعقد مستقل مبلغ تسعة وتسعين ألف روبية. وحينما يحصل البنك على مائة ألف من مصدر الكمبيالة فإنه تقع المقاصة، فيمسك منها تسعة وتسعين استردادًا لمبلغ قرضه ويمسك ألفًا كأجرة له على تحصيل المبلغ.
وإن هذا الطريق يشترط لجوازه أمور:
الأول: أن يكون كل واحد من العقدين منفصلاً عن الآخر، فلا تشترط الوكالة في القرض، ولا القرض في الوكالة.
الثاني: أن لا تكون أجرة الوكالة مرتبطة بمدة نضج الكمبيالة، بحيث تكون الأجرة زائدة إن كانت المدة طويلة وتكون أقل إن كانت قصيرة.
الثالث: أن لا يزاد في أجرة الوكالة بسبب القرض الذي أقرضه البنك، فإنه يكون حينئذ قرضًا جر منفعة.(11/37)
بديل سندات تصدرها الشركات:
أما السندات التي تصدرها الشركات التجارية للحصول على القروض من الجمهور للزيادة في طاقتها المالية، فإن بديل هذه السندات صكوك يمكن أن تصدرها الشركة على أساس المشاركة أو المضاربة، بحيث يكون حملة الصكوك يشاركون الشركة في نشاطها التجاري، وتوزع عليهم نسبة من الأرباح المكتسبة من خلال هذا النشاط. وبما أن هذه الصكوك تمثل ملكية شائعة في موجودات الشركة (وينبغي أن تكون هذه الموجودات في صورة الأعيان بنسبة (51 %) على الأقل على ما أفتى به مجمع الفقه الإسلامي) فإنه يجوز تداول هذه الصكوك في السوق الثانوية بأي سعر يتفق عليه البائع والمشتري، لأن الممنوع الاتجار في الأوراق التي لا تمثل إلا النقود والديون القابلة للتحصيل، أما إذا كانت الأوراق تمثل حصة شائعة من الأعيان كالأسهم، فإنه يجوز فيه المتاجرة، ويتعين سعرها على أساس العرض والطلب، شأن سائر البضائع.
وقد سبق أن درس مجمع الفقه الإسلامي هذا الموضوع في دورته الرابعة، وأصدر فيه قرارًا مبسوطًا ذكر فيه الضوابط التي تحكم هذه الصكوك (1) وقد تحدثت عن مسائلها في بحث قدم في هذه الدورة (2) ، فلا حاجة إلى تفصيل هذه المسائل والضوابط في هذا البحث.
بديل سندات تصدرها الحكومة:
أما سندات القروض التي تصدرها الحكومة لتمويل عجز ميزانيتها فيمكن الاستعاضة عنها بالصكوك الشرعية، ولكن لا يمكن في الطرق الشرعية لتمويل هذا العجز أن تحصل الحكومة على قروض تصرفها كيفما شاءت، وإنما يجب في أدوات التمويل الشرعية أن يكون التمويل مرتبطًا بمشاريع معينة، وتكون هذه الأدوات متنوعة حسب طبيعة المشروع الذي يراد تمويله. وعلى هذا، فيمكن أن تختار إحدى الطرق الآتية في مجالات مختلفة تحتاج إلى تمويل:
1 ـ صكوك المشاركة أو المضاربة:
إن كثيرًا من الحكومات تكون لديها مشاريع تجارية تدر ربحًا، مثل توزيع الماء والكهرباء، وخدمات الهاتف والبريد، أو خدمات المواصلات من القطار والشحن والخطوط الجوية، فإن احتاجت هذه المشاريع إلى تمويل، فإن ذلك يمكن عن طريق إصدار صكوك المشاركة أو المضاربة، فكل مؤسسة من هذه المؤسسات يمكن لها أن تعرض هذه الصكوك على الجمهور، وكل من يحصل على هذا الصك بدفع مبلغ من المال فإنه يشارك المؤسسة في نشاطها التجاري، ويستحق الربح بنسبة شائعة، وبما أن هذه الصكوك تمثل حصة شائعة في موجودات المؤسسة، فإنها يجوز تداولها في السوق الثانوية، ويتعين سعرها حسب العرض والطلب، شأن أسهم الشركات المساهمة.
__________
(1) قرار رقم (5) من الدورة الرابعة سنة 1408هـ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الرابع: 3/2161.
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الرابع: 3 / 8151؛ وبحوث في قضايا فقهية معاصرة، ص224.(11/38)
2 - صكوك التأجير:
قد تحتاج الحكومة إلى بناء مشاريع يمكن تأجيرها، ويمكن تمويل هذه المشاريع عن طريق إصدار صكوك التأجير، مثلاً: تريد الحكومة أن تبني جسرًا وإنه يمكن أن تتقاضى رسومًا ممن يستخدم هذا الجسر، ويمكن أيضًا أن يؤجر هذا الجسر إلى جهة تجارية، وإن هذه الجهة تتقاضى الرسوم ممن يستخدمه.
فيمكن أن تصدر الحكومة صكوكًا تحصل عليها العامة بدفع مبالغ معلومة، فيشتركون في ملكية هذا الجسر بنسب شائعة، ويستحقون بذلك حصة من الأجرة أو الرسوم التي تحصل من الجهة المستأجرة أو من المستخدمين للجسر.
ويمكن في النهاية أن يباع هذا الجسر إلى الحكومة أو إلى جهة أخرى، ويقسم الثمن على حملة الصكوك بنسبة مساهماتهم.
وبما أن هذه الصكوك تمثل حصة شائعة من ملكية الجسر، فإنه يجوز تداولها في السوق الثانوية حسب العرض والطلب.
3 - صندوق تمويل الحكومة:
قد تكون لدى الحكومة مشاريع لا تدر ربحًا، أو تدر ربحًا بسيطًا لا يكفي لتشويق الناس إلى المساهمة فيه. مثل دعم القوات المسلحة، وإنشاء المعاهد الدراسية، أو المستشفيات العامة، أو إنشاء المباني التي لا تدر ربحًا. وإن تمويل هذه المشاريع لا يمكن على أساس المشاركة أو المضاربة.
ويمكن تمويل هذه المشاريع بإنشاء صندوق خاص لتمويل الحكومة. وإن هذا الصندوق يتكون بمساهمات عامة الناس، ويصدر لهم صكوك تشهد بمساهمتهم فيه. ثم إن الصندوق يمول مثل هذه المشاريع الحكومية على أساس المرابحة، أو التأجير، أو الاستصناع، حسب طبيعة المشروع. فمثلًا: إذا احتاجت الحكومة إلى شراء أسلحة، فإن هذا الصندوق يشتريها من المصدرين، ويبيعها إلى الحكومة مرابحة مؤجلة، وإن احتاجت الحكومة إلى ماكينة أو معدات أخرى، فإن هذا الصندوق يشتريها ثم يؤجرها إلى الحكومة إما إجارة عادية، أو إجارة منتهية بالتمليك. وإن احتاجت الحكومة إلى بناء عمارة، فإن الحكومة تعقد الاستصناع مع هذا الصندوق، وإن الصندوق يبني العمارة عن طريق مقاول من الباطن، ويسلمها إلى الحكومة، وتدفع الحكومة الثمن إلى الصندوق في أقساط معلومة، ويراعى في تعيين ثمن الاستصناع أن يحصل الصندوق على ربح مناسب. وإن الربح الذي يتكون من خلال هذه العمليات المختلفة، يوزع على حملة صكوك الصندوق.(11/39)
ومما ينبغي أن يراعى في عمليات هذا الصندوق أن لا تزيد نسبة عمليات المرابحة على (49 %) من مجموع العمليات، حتى يكون معظم ممتلكات الصندوق أعيانًا. وحينئذ تكون صكوك هذا الصندوق تمثل حصة شائعة في وعاء معظم موجوداته أعيان، فيجوز تداولها في السوق الثانوية، ويتعين سعرها حسب العرض والطلب.
4 - سندات القروض بدون فائدة:
الطرق الثلاث المذكورة فيما سبق تستطيع أن تلبي أكثر الحاجات التي من أجلها تحتاج الحكومة إلى التمويل من مواطنها وبما أن هذه الطرق للتمويل مرتبطة بمشاريع معينة، فإنها تضمن أن تستخدم الأموال المحصلة في مشاريع حقيقية يرجع نفعها إلى المجتمع. أما القروض التي لا ترتبط بمشاريع معينة فإنها مظنة أن تصرف في سرف وترف.
ولئن بقيت بعد استنفاد هذه الطرق بعض المجالات الحقيقية التي لا يمكن للحكومة أن تختار فيها إحدى الطرق الثلاث، فيمكن أن تطلب من مواطنيها قروضًا بلا فائدة. ولئن علم عامة الناس أن الحكومة قد بذلت كل ما في وسعها من الطرق المشروعة للحصول على التمويل، وأنها في حاجة حقيقية لزيادة من التمويل لأغراض يرجع نفعها إلى المجتمع، وليس لمجرد الترف والتنعم، فإنهم يستعدون لإقراض الحكومة بدون فائدة، ولاسيما إذا أحدثت الحكومة جوًّا دينيًا عن طريق التعليم والإعلام. إن هؤلاء المقرضين يعطون سندًا لقروضهم. وإن هذه السندات لا يجوز بيعها في السوق بثمن أكثر أو أقل لما قدمنا من منع بيع الدين بالتفاضل، ولكن يمكن أن تسيل هذه السندات بمثل قيمتها على أساس الحوالة.
ويمكن للحكومة أن تعفي حملة هذه السندات من بعض الضرائب أو تخفض نسبتها لهم، والظاهر أن ذلك لا يكون من قبيل القرض الذي جر نفعًا، وذلك لأن القرض إنما يدخل في القرض الربوي إذا تضمن إعطاء زيادة على رأس المال أو إعفاء المقرض عن دين كان يجب عليه. أما الضرائب فإنها ليست من قبيل الديون الواجبة على المواطنين، وإنما يجوز للحكومة فرض الضرائب عليهم للوفاء بحاجات الحكومة بقدر الحاجة، ولذلك للحكومة معايير مختلفة في فرضها على بعض المواطنين دون بعض، وتعيين نسب مختلفة لأصناف مختلفة منهم. ولما تقدم هؤلاء المقرضون بقروض وفت بعض حاجات الحكومة، فللحكومة أن تعفيهم عن بعض الضرائب أو تخفض عنهم بعضها، لأنهم أدوا بعض دورهم في سد حاجات الحكومة، فلا يطالب منهم قدر ما يطالب من الآخرين الذين لم يؤدوا هذا الدور إطلاقًا. والله سبحانه وتعالى أعلم، وله الحمد أولًا وآخرًا.
القاضي محمد تقي العثماني.(11/40)
أحكام التصرف في الديون
دراسة فقهية مقارنة
إعداد الدكتور
علي محيي الدين القره داغي
أستاذ الفقه والأصول بجامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
وبعد؛
فإن من أسباب خلود الشرعية الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان أن أودع فيها منزلها الحكيم الخبير كل ما تحتاج إليه البشرية من حلول لمشاكلهم الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقال الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] .
لذلك لم تحتج هذه الشريعة طوال أكثر من أربعة عشر قرنًا إلى أن تنقل قاعدة قانونية، أو مبدءًا قانونيًّا من غيرها، بل استطاع الفقهاء المسلمون في كل عصر أن يستنبطوا من الشريعة نفسها الحلول الناجحة لكل مشكلة جدت على الرغم من اختلاف الحضارات وتعدد الشعوب والأقوام.
ولذلك نجد أمامنا تراثًا ضخمًا من فقه النوازل لا يوجد أبدًا لأية أمة أخرى، وهو تراث غني مليء بالتجارب والحلول الناجحة، صالح للاستفادة منه لجيلنا الحاضر، وللأجيال اللاحقة من خلال التنقية والاجتهاد الانتقائي للوصول إلى ما هو الراجح الذي يدعمه الدليل من الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة الغراء، ثم الاعتماد على الاجتهاد الإنشائي فيما لا يوجد فيه قول من أقوال فقهائنا الكرام رضي الله عنهم.
ولذلك لا نجد قضية من قضايا عصرنا إلا ونجد لها حكم الله تعالى إما نصًّا أو دلالة، أو استنباطًا من المبادئ الكلية والقواعد العامة لهذه الشريعة.
ومن هذا المنطلق كان بحثنا حول التصرف في الديون بالبيع، ونحوه حيث وجدنا أن النصوص الشرعية قد تناولت أحكامها، وأن فقهاءنا قد فصلوا القول فيها، وأن ما استجد منها من أمور يمكن معرفة حكمه بوضوح من خلال المنهج السابق.
ومن هنا كان بحثنا حول التعريف بالدين لغة واصطلاحًا؛ وما ذكره الفقهاء حول الدين والعين بإيجاز، وما يقابلهما في القانون، ثم تطرقنا إلى تقسيمات الدين، وخطورة الدين وآثاره السلبية وأسبابه؛ ثم ركزنا على أحكام التصرف في الديون، سائلاً الله تعالى أن يجعل أعمالي خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمني من الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل، وأن أكون قد وفقت فيما أصبو إليه؛ إنه مولاي، فنعم المولى ونعم النصير.(11/41)
أولاً – التعريف بالدين لغة واصطلاحًا:
الدَّين – بفتح الدال – لغة يطلق على ما له أجل، وأما الذي لا أجل له فيسمى بالقرض، وقد يطلق عليهما أيضًا، ويقال دنته وأدنته أي أعطيته إلى أجل وأقرضته، وداينته أي أقرضته. وجمعه ديون، وأدين، واسم فاعله دائن، واسم مفعوله: مدين، ومديون عند التميم وأصل اشتقاقه ينبئ عن الذل والخضوع، فهو من دان بمعنى خضع واستكان (1) .
وقد ورد لفظ الدين – بفتح الدال – في القرآن الكريم أكثر من مرة، بل إن أطول آية فيه هي آية الدَّين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ، وقد فسره المفسرون بعدة تفسيرات:
قال الشافعي: " يحتمل كل دين، ويحتمل السلف " (2) .
وقال الطبري: "إذا تبايعتم أو اشتريتم به، أو تعاطيتم، أو أخذتم به إلى أجل مسمى ... وقد يدخل في ذلك القرض والسلم، كل ما جاز فيه السلم مسمى أجل بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة، كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى إذا كانت آجالها معلومة" (3) .
وقال الجصاص: " ينتظم سائر عقود المداينات التي تصح فيها الآجال"، لكنه ذكر أن القرض وإن كان يسمى دينًا إلا أنه لا يدخل في منطوق هذه الآية، لأنه في الديون المؤجلة.
فعلى هذا فالدين في الآية هو: " كل دين ثابت مؤجل سواء كان بدله عينًا أو دينًا" (4) ؛ وقد ذكروا أيضًا أن ابن عباس قال: "نزلت هذه الآية في السلم خاصة"، لكنها تتناول جميع المداينات إجماعًا، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (5) .
__________
(1) القاموس المحيط: 3 / 226؛ ولسان العرب، ص 1467؛ والمصباح المنير: 1 / 220.
(2) أحكام القرآن للشافعي: 1 / 137.
(3) تفسير الطبري، تحقيق الأستاذ شاكر، ط. دار المعارف: 6 / 43.
(4) أحكام القرآن للجصاص، ط. دار الفكر، بيروت: 1 / 482 – 484.
(5) وراجع: تفسير ابن عطية، ط. مؤسسة دار العلوم بالدوحة: 2 / 500؛ وأحكام القرآن للالكيا الهراسي: 1 / 364؛ وأحكام القرآن لابن العربي: 1 / 342؛ وتفسير القرطبي، ط. دار الكتب: 3 / 377؛ وزاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي: 1 / 340؛ والتحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، ط. دار التونسية: 3 / 99.(11/42)
وورد لفظ (الدين) في السنة المشرفة بمعنى الدين الشامل لحقوق الله تعالى وحقوق العباد المتعلقة بالذمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جواب الرجل الذي سأله عن قضاء صوم شهر عن أمه المتوفاة: ((نعم، فدين الله أحق أن يقضى)) (1) ؛ وورد مثله في الحج حيث قال: ((نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء)) (2) ؛ وورد فيه بمعنى الدين الخاص بالمال الذي ثبت في ذمة شخص لشخص آخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم حينما أتي بجنازة: ((هل عليه من دين)) ؟ قالوا: نعم (3) ، وفي رواية قالوا: ثلاثة دنانير، فقال أبو قتادة: وعلي دينه (4) .
وأما الفقهاء فقد أطلقوا الدين على معنيين: معنى عام، ومعنى خاص.
أحدهما: إطلاق عام على كل ما يجب في ذمة الإنسان بأي سبب من الأسباب، سواء كان من حقوق الله تعالى، أو من حقوق العباد؛ وقد رأينا أنه بهذا المعنى قد ورد في السنة المشرفة أيضًا، ذكر الحافظ ابن حجر أن لفظ الدين يشمل كل حق ثبت في ذمة الشخص من حج وكفارة ونذر، وزكاة ونحوها (5) . فعلى هذا يمكن تقسيم الدين إلى نوعين: دين الله تعالى، ودين الآدمي.
والثاني: إطلاقه على ما يثبت في ذمة الإنسان بسبب عقد، أو استهلاك، أو استقراض، أو تحمل التزام، أو قرابة ومصاهرة (6) .
ولا يخفى أن هذا المعنى أخص من المعنى الأول؛ إذ هو خاص بما ثبت من حقوق العباد في ذمة المدين، ومقابله العين، والعمل، والنفس، قال الكاساني: "إن المكفول به أربعة أنواع: عين، ودين، ونفس، وفعل ليس بدين ولا عين ولا نفس " (7) ، فعلى ضوء هذا يقسم محل الالتزامات إلى هذه الأنواع الأربعة، ولكننا لو دققنا النظر فيه لأمكن إرجاع الجميع إلى الدين والعين، إذًا الفعل الملتزم به داخل في الدين ما دمنا نحن فسرناه بما ثبت في الذمة، لا بالمال فقط، وكذلك الالتزام بإحضار نفس راجع إلى الحق المتعلق بالعين (8) .
ويقابل هذين المصطلحين الشرعيين مصطلحان في القانون المدني هما: الحق الشخصي، والحق العيني؛ فالحق الشخصي – ويسمى الالتزام أيضًا -: هو رابطة بين شخصين دائن ومدين، بمقتضاها يطالب الدائن المدين بإعطاء شيء، أي بنقل ملكية شيءٍ أو القيام بعمل، أو بالامتناع عن عمل. وأما الحق العيني: فهو سلطة يمنحها القانون لشخص على عين بالذات (9) ، ونحن لسنا بصدد الخوض في تفاصيل هذه المسألة، إذ أن بحثنا معقود لبيان الديون المالية (10) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح – كتاب الصوم: 4 / 192؛ ومسلم في صحيحه: 2 / 804.
(2) رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح – كتاب الحج: 4 / 64.
(3) رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح – كتاب الكفالة: 4 / 474.
(4) رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح – كتاب الحج: 4 / 764.
(5) فتح الباري: 4 / 66.
(6) يراجع: حاشية ابن عابدين على الدر المختار، ط. دار الفكر: 5 / 157؛ وفتح القدير مع شرح العناية على الهداية: 5 / 431؛ وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي: 2 / 4؛ والمنثور في القواعد للزركشي: 2 / 158؛ والقواعد لابن رجب، ص 54؛ والأشباه والنظائر للسيوطي، ص 354؛ وتبيين الحقائق للزيلعي: 4 / 171؛ والبحر الرائق: 6 / 46.
(7) بدائع الصنائع: 7 / 1415.
(8) المصادر السابقة، ويراجع في الدين والعين: د. السنهوري مصادر الحق: 1 / 47؛ ود. محمد زكي عبد البر: الدين والعين في الفقه الإسلامي، بحث في مجلة القانون والاقتصاد، سنة 43.
(9) د. السنهوري: الوسيط: 1 / 103؛ ود. محمد زكي عبد البر: بحثه السابق، ص 6؛ ود. محمود جمال الدين زكي: الوجيز في النظرية العامة للالتزام، ط. جامعة القاهرة 1978، ص 11.
(10) يراجع في تفصيل ذلك: المصادر السابقة.(11/43)
تقسيمات الدين:
يقسم الدين باعتبار الزمن إلى: حال، ومؤجل، فالدين الحال: هو ما يجب أداؤه عند طلب الدائن، ويقال له الدين المعجل أيضًا.
والدين المؤجل: هو ما لا يجب أداؤه قبل حلول الأجل، لكن لو أدي قبله يصح ويسقط عن ذمته (1) ؛ وقد ذكر الزركشي أن الدين المؤجل يحل بموت المدين إلا في ثلاث صور:
الأولى: المسلم إذا لزمته الدية ولا مال له ولا عصبة، تحمل عنه بيت المال، فلو مات أخذ من بيت المال مؤجلاً.
الثانية: إذا لزمت الدية في الخطأ وشبه العمد الجاني كما لو اعترف وأنكرت العاقلة فإنها تؤخذ من الجاني مؤجلة، فلو مات هل تحل الدية؟ وجهان: أصحهما نعم.
الثالثة: ضمن دينًا مؤجلاً ومات الضامن، يحل عليه الدين على الأصح ولو مات الأصلي حل عليه الدين، ولم يحل على الضامن على الصحيح (2) .
وكذلك تحل الديون المؤجلة بالفلس عند جماعة من العلماء (3) .
قال الزركشي: " ليس في الشريعة دين لا يكون مؤجلاً إلا الكتابة والدية، وليس فيها دين لا يكون إلا حالاً إلا في القرض (4) ، ورأس مال السلم، وعقد الصرف، والربا في الذمة ... " (5) .
وأما الدين الحال، فقد قال الإمام المتولي والإمام الروياني: إنه لا يتأجل إلا في مسألتين: إحداهما: إذا قال صاحب الدين عند حلوله: لله علي أن لا أطالبه إلا بعد شهر؛ لزم (6) .
الثانية إذا أوصى من له الدين الحال أن لا يطالب إلا بعد شهر فإنه تنفذ وصيته، وقيدها ابن الرفعة في المطلب بأن يكون في حدود الثلث.
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي: 2 / 158.
(2) المنثور في القواعد للزركشي: 2 / 158- 159.
(3) منهم المالكية، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد في إحدى روايتيه، انظر: الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3 / 264؛ وشرح ابن ميارة على تحفة الحكام: 2 / 240؛ والروضة: 4 / 28؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 481.
(4) المنثور في القواعد: 2 / 159.
(5) وقد استشكلها الزركشي، فراجع المنثور: 2 / 26.
(6) المنثور في القواعد: 2 / 27.(11/44)
وقد قسم التهانوي الدين إلى: دين صحيح وهو الدين الثابت الذي لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء كدين القرض ونحوه. وإلى دين غير صحيح وهو ما يسقط بغيرهما بسبب آخر مطلقًا مثل دين الكتابة فإنه يسقط بتعجيز العبد المكاتب نفسه (1) .
ثانيًا – خطورة الدين وآثاره السلبية:
للديون آثار سلبية لا تقف عند الجانب الاقتصادي فقط، بل يتعداه إلى الجوانب السياسية والاجتماعية، وإلى نطاق العقيدة، والأخلاق، والحرية الشخصية.
فقد أشار رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حيث كان يستعيذ من الدين مع استعاذته من الكفر والإثم، والبخل، والهم والحزن والعجز والكسل وغلبة الرجال.
فقد روى أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((أعوذ بالله من الكفر والدين)) (2) ، فلا شك أن في جمعهما معًا في استعاذة واحدة إشارة إلى وجود نوع من الترابط والتلازم – وإن كان تلازمًا عاديًّا – بينهما فيما بين عامة الناس الذين لم يتزودوا بزاد التقوى؛ إذ الديون في الغالب دليل على الفقر، وهو إن وجد في الإنسان قد يؤدي به إلى الزلات إن لم يكن قد ربي على الإيمان والقناعة والرضا.
وقد روى البخاري وغيره بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: ((اللهم إني أعوذ بك من اللهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال)) (3) ، فقد استعاذ من ثمانية أشياء بينهما ترابط وثيق، فالهم والحزن يؤديان إلى العجز والكسل.
وهذا ما أثبته الطب الحديث، فقد أثبت أن نسبة كبيرة من أسباب الأمراض الخطيرة ترجع إلى القلق النفسي والهموم، والعكس أيضًا صحيح، حيث إن العجز والكسل يؤديان إلى الأحزان، فالعلم خير وسيلة لطرد الهموم، وأن البطالة مكان خصب للمشاكل والغموم، ثم إن الجبن والبخل يترتب عليهما الهم والحزن، فالجبان خائف مترقب لا يهدأ باله ولا تسكن نفسه، لأنه يخاف من نفسه وماله، ويعيش في الخوف الذي يصبح له كابوسًا يطارده، فيحدث له الهم والحزن، وكذلك الأمر في البخيل فهو ممسك ماله لخوفه عليه من الضياع والهلاك، فإذا أنفق شيئًا أو أجبر عليه فقد لزمته الهموم ويتراكم عليه الخوف، فقد قيل: فالناس لخوف الفقر فقراء.
ثم أشار صلى الله عليه وسلم إلى الترابط بين ضلع الدين – أي شدته – وبين غلبة الرجال، وحقًا إنهما متلازمان في الغالب، ويترتب الثاني على الأول، كما أن الدين يأتي في الغالب نتيجة للعجز والكسل والهم والحزن.
ثم إن نفس المؤمن المدين معلقة بدينه في يوم القيامة حتى يقضى عنه، بل إن ((القتال في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين)) (4) .
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون: 2 / 305.
(2) مسند الإمام أحمد: 3 / 27.
(3) صحيح البخاري – مع الفتح – ط. دار الطباعة بالقاهرة، كتاب الدعوات: 7 / 155؛ مسند الإمام أحمد: 2 / 173، 3 / 122.
(4) رواه مسلم في صحيحه مرفوعًا، كتاب الإمارة: 3 / 1502؛ وأحمد في مسنده 2 / 220.(11/45)
وبالإضافة إلى ذلك فإن للدين آثارًا سلبية في نطاق الأخلاق والاجتماع والسياسة، فقد أشار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى خطورة الدين على الأخلاق والسلوك، فقد روى الشيخان وغيرهما بسندهم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) قالت: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! قال: ((إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف)) (1) ، بالإضافة إلى أنه قد يسلك سبلاً ملتوية في سبيل الحصول على المال، ولا سيما إذا رأى بجنبه الأغنياء المترفين، وقد قيل قديمًا: إن صوت المعدة لا تنكر قوته (2) .
وفي نطاق السياسة كان للديون آثارها الكبيرة في تبرير المستعمر احتلاله لبعض البلدان، أو كان من خلالها يعبر نحوها عبر شركاتها الاحتكارية، فقد كانت الشركات الشرقية البريطانية هي التي مهدت لاحتلالها الهند، كما أن للديون المتراكمة على الخلافة العثمانية آثارًا خطيرة في إسقاطها (3) ، ولا تزال كثرة الديون وتراكمها على بعض الدول الإسلامية لها آثارها الخطيرة على قراراتها السياسية، حيث غلت يداها عما تريده حقًا.
ثالثًا – أسباب الديون وتفاقمها:
توجد للديون أسباب مباشرة، وغير مباشرة، فالأولى هي ما يسميه الفقه الإسلامي بالسبب الشرعي، حيث سمى العقد مثلاً سببًا لترتب آثاره، ويسميه الفقه الوضعي بمصادر الالتزام، والثانية هي التي تكون وراء العقد، أو الضمان، فمثلاً إن السبب غير المباشر للقرض هو الحاجة إلى المال التي تدفع صاحبها إلى الاستقراض وهكذا.
إذًا فالأسباب المباشرة للديون هي:
1- العقود التي تترتب عليها التزامات مالية في ذمة الإنسان، وهي تشمل عقد البيع، والقرض، والنكاح، وغيرها؛ ولا شك أن القرض هو أهم أسباب الديون.
2- التصرف الانفرادي كالنذر ونحوه.
3- الضمان حيث هو سبب لثبوت ما ضمن به من المتلفات، والديات في ذمة المتلف.
4- تحمل الحمالة والالتزامات عن الناس.
5- القرابة والمصاهرة حيث جعلهما الشرع سببين لثبوت النفقة على تفصيل فيها.
وأسباب الديون غير المباشرة (4) .
إذا كانت تلك الأمور السابقة أسبابًا مباشرة للديون فإن وراء هذه الأسباب أسبابًا أخرى غير مباشرة، فإذا كان القرض هو السبب الشرعي للدين ومصدره، فإن الحاجة هي السبب للاستقراض، وكذلك الأمر بالنسبة للضمان، فالإتلاف هو السبب للضمان الذي يترتب عليه دين في الذمة وهكذا.
فلما كان السبب الرئيسي في الديون هو القرض، فإن الحاجة هي السبب الرئيسي له، ولذلك سنلقي بصيصًا من الضوء على الحاجة وأسبابها.
فحاجة الفرد إلى النقود أو الأعيان لأي غرض من الأغراض تدفعه إلى الاستقراض أو تجعله غير قادر على أداء ما عليه، بحيث لا يتوفر عنده مال أو عنده ولكنه لا يكفي لتلبية متطلباته المشروعة أو غير المشروعة، فقد يكون الشخص له مال ولكنه لجشعه يستدين ليأكل أموال الناس بالباطل، وهذا الصنف الأخير لا يمثل الشريحة العريضة للمجتمع.
إذن فالسبب الغالب هو الحاجة إلى المال، ويعود سببها بإيجاز إلى الأمور الآتية:
1- الكسل حتى تأكل نفقاته أمواله فيحتاج إلى الاستدانة.
2- عدم الاكتساب، أو يكتسب لكنه بشكل لا يفي بحاجاته أو متطلباته وذلك بأن يعمل في نطاق عمل لا يستطيع الإجادة فيه فيخسر أو لا يربح، وبعبارة أخرى لا يشتغل بعمل يناسب طاقاته الخاصة ومهاراته البدنية أو الفكرية أو لا يقوم بالتثمير والاستثمار في أمواله، أو يقوم به ولكن مع عدم وضع خطة دقيقة وإسناد الأمر إلى غير أهله لا ينجح المشروع.
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب الاستقراض: 5 / 54؛ ومسلم – كتاب المساجد: 1 / 12؛ والسنن الكبرى للبيهقي: 5 / 356.
(2) الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي، مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، ص 4.
(3) مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة وتعليق د. محمد حرب – دار الهلال، ص 33.
(4) يراجع: بدائع الصنائع: 5 / 2196 – 2248؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 2 / 508؛ والروضة: 9 /40؛ والكافي: 3 / 354.(11/46)
3- الإسراف حتى وإن كان في المباحات، والقاعدة الفقهية الحاكمة في هذه المسألة هي البدء بالضروريات، ثم الحاجيات، ثم المحسنات مع عدم الإسراف فيها.
4- عدم العدالة في توزيع الثروات، أي وجود ظلم اجتماعي، وطفح نظام الطبقات كما هو الحال في النظام الرأسمالي، أو كبت الحرية الشخصية، وإزالة الملكية الفردية، وعدم وجود المنافسة المشروعة فيما بين الأفراد كما هو الحال في النظام الاشتراكي، أو سوء التخطيط والإدارة والتنظيم كما هو الحال في دول العالم الثالث.
5- تكاليف المعيشة الباهظة لأي سبب كان. وهذا السبب ناتج من السببين السابقين.
6- كارثة تلحق به فتحوجه إلى الاستدانة. وهذا استثناء، كما أن على الدولة أن تقوم بواجبها نحو هؤلاء.
ويمكن أن نوجز هذه الأسباب كلها في عدم التزام الفرد والمجتمع بمنهج الله سواء من حيث الاكتساب والإنفاق، أو من حيث طريقة التثمير والاستثمار، أو من حيث توزيع الثروة والتوازن المطلوب، أو من حيث الغاية والهدف من المال.
وأما أسباب تفاقم الديون وتضخمها وتضاعفها فتعود إلى الربا – أي الفوائد التي توضع على الدين نظير الأجل – (1) فالديون الاستهلاكية تتضاعف عليها الفوائد الربوية دون حصول على ربح للمدين حتى تصل إلى حالة قد يعجز عن أدائها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] .
وأما الديون التجارية فيعود سبب تفاقمها إلى شيئين، أولهما: الربا، والثاني: عدم قيامه باستثمارها على الوجه المطلوب حتى يؤدي إلى أرباح تستغرق الفائدة الربوية ومتطلبات المعيشة، وفي نظر المسلم أن السبب الأول هو الأساس وأنه وحده يكفي حيث لا توجد البركة في المال المرابى قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] ، والواقع أيضًا يؤيد ذلك، حيث ثبت للعالم اليوم أن النظام الربوي لا يخدم سوى حفنة من المرابين الذين يعيشون على سحق البشرية لصالحهم، فإلى هؤلاء يرجع جهد البشرية كلها، وكدها وعرق جبينها فهم الرابحون والذين لهم الضمان الكامل لأموالهم مع فوائدها في حين يكون الشخص المدين معرضًا للربح والخسارة، فعلى ضوء نظرية الاحتمال تتجمع الأموال في النهاية في يد من يربح دائمًا (2) .
ومن هنا أجمعت الشرائع جميعًا (3) وأصحاب العقول السليمة على حرمة الربا، وإن كان اليهود قد حرفوا التوراة في هذه المسألة أيضًا وحصروا حرمته بالنسبة لليهودي فقط، وهذا مبني على نظرتهم العنصرية بأنهم شعب الله المختار (4) .
__________
(1) يراجع: أحكام القرآن للجصاص: 1 / 464؛ وأحكام القرآن لابن العربي: 1 / 342؛ والأٍستاذ المودودي كتابه عن الربا.
(2) في ظلال القرآن: 1 / 469؛ والأستاذ سعيد بحثه السابق، ص 39.
(3) المصادر السابقة، وسيأتي لذلك المزيد من البحث في المبحث الخاص بالعلاج في هذا البحث.
(4) يراجع: التوراة – الإصحاح: 23 من سفر التثنية؛ والمصادر السابقة.(11/47)
أحكام التصرف في الديون
يمكن أن ترد على الديون تصرفات كثيرة، نذكر هنا أهمها:
بيع الدين بالدين إذا لم يكونا نسيئين:
فالتحقيق (1) أن الممنوع منه هو بيع الدين النسيء بالدين النسيء، لأن الإجماع على منع (الكالئ بالكالئ) وهو كما فسره علماء اللغة وغريب الأحاديث بيع النسيئة بالنسيئة، وهي التأخير (2) ؛ قال البيهقي: قال أبو عبيدة: " هو النسيئة بالنسيئة" (3) .
وأما الفقهاء فقد اختلفوا في تفسيره اختلافًا كبيرًا أثر في وجهات نظرهم في حكمه، لكن المجمع عليه هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال: قال أحمد: لم يصح منه – أي في النهي عن بيع الكالئ بالكالئ – حديث، ولكن هو إجماع، وهذا مثل أن يسلف إليه شيء مؤجل، فهذا الذي لا يجوز بالإجماع " (4) ، ثم قال ابن تيمية: " وإذا كان العمدة في هذا الإجماع، والإجماع إنما هو في الدين الواجب بالدين الواجب كالسلف المؤجل من الطرفين" (5) .
لذلك أخرج ابن تيمية: بيع ما هو ثابت في الذمة ليسقط بما هو في الذمة عن صور الكالئ بالكالئ، فقال: "ليس في تحريمه نص ولا إجماع ولا قياس، فإن كلاً منهما اشترى ما في ذمته وهو مقبول بما في ذمة الآخر " (6) .
ولكن في حصر صور بيع الكالئ بالكالئ على هذه الصورة نظر (7) ، غير أنها تنحصر عند التحقيق في بيع الدين النسيء بالدين النسيء، ويمكن الاستفادة من بيع الدين بالدين في سوق المال ما داما غير نسيئين فيما يأتي:
بيع الديون لمن هو عليه:
جاء في المذهب: " وأما الديون فينظر فيها، فإن كان الملك عليه مستقرًا كغرامة المكلف، وبدل العرض جاز بيعه ممن عليه قبل القبض، لأن ملكه مستقر عليه فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض" (8) .
__________
(1) قام الأخ الدكتور نزيه حماد بتحقيق هذه المسألة، وأجاد فيها فليراجع كتابه: دراسات في أصول المداينات، ط. دار الفاروق، ص 242 وما بعدها.
(2) يراجع: لسان العرب مادة كلأ؛ وغريب الحديث لأبي عبيد: 1 / 20.
(3) السنن الكبرى: 5 / 290.
(4) قاعدة العقود – التي طبعت باسم نظرية العقد – ط. دار المعرفة: ص 234 – 235.
(5) قاعدة العقود – التي طبعت باسم نظرية العقد – ط. دار المعرفة: ص 234 – 235.
(6) قاعدة العقود: ط. دار المعرفة، ص 234 – 235.
(7) نزيه حماد؛ أصول المداينات طبعة دار الفاروق، ص 245.
(8) المهذب وشرحه المجموع: 9 / 272.(11/48)
والمراد باستقرار الدين أن سببه قد تحقق فعلاً، وأمن من الفسخ كتسليم المبيع، أو يحقق الوطء في المهر، أو نحو ذلك كغرامة المتلف، وبدل العرض، وقيمة المغصوب، وعوض الخلع، وثمن المبيع، والأجرة بعد استيفاء المنفعة، والمهر بعد الدخول (1) .
ويسمى هذا النوع أيضًا بالاستبدال، والاعتياض، وهو جائز في جميع الديون المستقرة بالاتفاق، والثانية ما عدا دين السلم عند الجمهور – كما سبق – (2) .
ولكن يشترط في بيع الدين بالدين لمن هو عليه ملاحظة قواعد الصرف بحيث لو باع دينه الذي كان نقودًا بالنقود يشترط فيه التقابض في المجلس، ويدل على ذلك حديث ابن عمر في هذا الباب – ولكن إذا لم يكن من باب الصرف فيجوز البيع بتأجيل وغيره كبيع الدين بالعين، أو بالعكس (3) .
وهذا الحل يفيد كثيرًا في تصفية الديون بين الناس، وفي المصارفة في الذمة دون الحاجة إلى القبض الفعلي، وذلك بأن يكون لرجل دنانير في ذمة رجل آخر، وللآخر عليه ريالان فاصطرفا بما في ذمتهما جاز عند الأكثر منهم المالكية، والحنفية؛ أما اقتضاء أحد النقدين من الآخر ويكون صرفًا بعين، وذمة فهو جائز في قول أكثر أهل العلم، لحديث ابن عمر (4) . وذكر ابن القيم أن مسألة التقاص فيها غرض صحيح ومنفعة مطلوبة، لأن ذمتهما تبرأ من أسرها، وهي مطلوبة للشرع والعاقدين (5) .
جعل الدين الحال رأس مال في السلم:
وهذه المسألة نقل فيها الإجماع على عدم جوازه بناء على أنه داخل في بيع الكالئ بالكالئ (6) .
غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم بينا أنه لا إجماع فيها، بل هي جائزة، قال ابن القيم: "وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم عليه في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته فقد وجب له عليه دين، وسقط له عنه دين غيره، وقد حكى الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه، قاله شيخنا واختار جوازه، وهو الصواب، إذ لا محذور فيه، وليس بيع كالئ بكالئ فيتناوله النهي بلفظه، ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى، فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة، فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله، وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة، وأما ما عداه من الصور الثلاث فلكل منها غرض صحيح ومنفعة مطلوبة " (7) .
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي، ط. وزارة الأوقاف الكويتية: 2 / 159 – 160؛ والأشباه والنظائر للسيوطي، ص 351؛ ود. نزيه حماد: أصول المداينات، ص 47.
(2) يراجع: حاشية ابن عابدين: 4 / 166؛ والمدونة: 4 / 80؛ والمجموع للنووي: 9 / 274؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 53؛ وقال النووي في المجموع: 9 / 274: "فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف، كما لو كان له في يد غيره مال بغصب، أو عارية فإنه يجوز بيعه له ".
(3) فتح العزيز: 8 / 436؛ والمجموع: 9 / 274.
(4) يراجع: بدائع الصنائع: 7 / 3155؛ ومجموع الفتاوى: 29 / 472؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 530 – 540؛ ود. نزيه حماد، ص 146.
(5) إعلام الموقعين، ط. شقرون: 2 / 8 – 9.
(6) جاء في المغني: 4 / 329 – 330: " وإذا كان له في ذمة رجل دينارًا فجعله سلمًا في طعام إلى أجل لم يصح، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم؛ لأنه بيع دين بدين.
(7) إعلام الموقعين: 2 / 8.(11/49)
بيع الساقط بالواجب:
هذا مصطلح استعمله ابن القيم في تقسيم بيع الدين بالدين وأجازه، فقال: " والساقط بالواجب كما لو باعه دينًا له في ذمته بدين آخر من غير جنسه فسقط الدين المبيع ووجب عوضه، وهي بيع الدين ممن هو في ذمته ".
ثم بين فائدة هذا النوع للطرفين (1) .
لكن الفقهاء الذين أجازوا هذا النوع – وهم الحنفية، والحنابلة، ووجه للشافعية – اشترطوا لصحة بيع الدين ممن هو عليه بشيء موصوف في الذمة أن يقبض الدائن العوض قبل التفرق في المجلس حتى لا يقع في المنهي عنه من بيع الكالئ بالكالئ (2) .
هذا كله في الديون المستقرة، أما الديون التي لم يستقر ملك الدائن عليها لعدم قبض المدين العوض المقابل لها كالأجرة قبل استيفاء المنفعة، أو مضى زمانها، وكالمهر قبل الدخول، فهذه الديون اختلف الفقهاء في جواز تمليكها ممن هي عليه بعوض، والذي يظهر رجحانه هو جواز ذلك كما سبق في السلم.
تمليك الدين لغير المدين:
لخص الإمام الرافعي والنووي هذا الموضوع تلخيصًا طيبًا نذكره ثم نذكر آراء الفقهاء فيه وهو:
الدين في الذمة ثلاثة أضرب: مثمن، وثمن، ولا مثمن ولا ثمن (3) .
الضرب الأول – المثمن: وهو المسلم فيه فلا يجوز بيعه، ولا الاستبدال عنه، وهل تجوز الحوالة به أو عليه فيه ثلاثة أوجه.
الضرب الثاني – الثمن: فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة، ففي الاستبدال عنها طريقان: أحدهما القطع بالجواز قاله القاضي أبو حامد وابن قطان، وأشهرهما على قولين: أصحهما وهو الجديد جوازه، والقديم منعه.
ولو باع في الذمة بغير الدراهم والدنانير فإن قلنا: الثمن ما ألصقت به الباء صح الاستبدال عنه كالنقدين، وادعى البغوي أنه المذهب وإلا فلا؛ لأن ما ثبت في الذمة مثمنًا لم يجز الاستبدال عنه.
وأما الأجرة فكالثمن، وأما الصداق وبدل الخلع فكذلك إن قلنا: إنهما مضمونان ضمان العقد، وإلا فهما كبدل الإتلاف.
__________
(1) إعلام الموقعين: 2 / 8 – 9.
(2) بدائع الصنائع: 7 / 3230؛ وكشاف القناع: 3/ 294؛ والمجموع: 9 / 274؛ ود. نزيه حماد: أصول المداينات طبعة دار الفاروق، ص 148.
(3) ذكر الرافعي في الفتح: 8 / 431؛ والنووي في المجموع: 9 / 273 أن حقيقة الثمن مختلف فيها على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ما ألصق به الباء كقولك: بعت كذا بكذا، فالأول مثمن، والثاني ثمن. وهذا قول القفال. والثاني: أن الثمن هو النقد فقط. والثالث: أن الثمن هو النقد، والمثمن ما يقابله، فإن لم يكن في العقد نقد، أو كان العوضان نقدين فالثمن ما دخلت عليه الباء، والمثمن ما يقابله. ورجح الرافعي والنووي الوجه الثالث.(11/50)
الضرب الثالث – ما ليس ثمنًا ولا مثمنًا: كدين القرض، والإتلاف فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف كما لو كان له في يد غيره مال بغصب، أو عارية فإنه يجوز بيعه له (1) .
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أربعة آراء:
الرأي الأول: جواز تمليك الدين بعوض وبغير عوض.
وهذا وجه للشافعية، ورواية للحنابلة (2) .
الرأي الثاني: عدم جواز تمليك الدين لغير من هو عليه بعوض أو بغير عوض.
وهذا رأي الحنفية، والشافعية في قول، والحنابلة في رواية، والظاهرية (3) غير أن الحنفية استثنوا بعض الحالات منها الوصية (4) .
الرأي الثالث: جواز بيع سائر الديون ما عدا دين السلم لغير من عليه الدين، وهذا قول للشافعية صححه جماعة من أئمتهم منهم الشيرازي، والنووي واختاره السبكي، والقاضي زكريا الأنصارى (5) ، قال النووي: " أما بيعه لغيره كمن له على إنسان مائة فاشترى من آخر عبدًا بتلك المائة فلا يصح على الأظهر. . وعلى الثاني: يصح.. قلت: الأظهر الصحة والله أعلم " (6) .
الرأي الرابع: جواز بيع الدين لغير المدين إذا لم يكن فيه غرر، أو محظور شرعي آخر، جاء في شرح الخرشي: " والمعنى أن الدين ولو حالاً لا يجوز بيعه بدين، قال المؤلف: ولا بد من تقدم عمارة الذمتين، أو إحداهما، ويتصور في ثلاثة كمن له دين على شخص فيبيعه من ثالث بدين، وفي أربعة كمن له دين على إنسان، ولثالث دين على رابع فيبيع كل ما يملك من الدين بمال صاحبه من الدين. . . ولا يتصور بيع الدين بالدين في أقل من ثلاثة ".
ثم قال: " وفهم من قوله (بدين) عدم منع بيع الدين بمعين يتأخر قبضه، أو بمنافع معين. . . ولا يجوز للشخص بيع ما له على الغير من دين سواء كان حيًّا أو ميتًا ولو علم المشتري تركته، لأن المشتري لا يدري ما يحصل له بتقدير دين آخر إلا أن يكون من هو عليه حاضرًا بالبلد مقرًا، والدين مما يباع قبل قبضه لا طعامًا من بيع، وبيع من غير جنسه، وليس ذهبًا بفضة، ولا عكسه، وأن لا يكون بين المشتري والمدين عداوة، وأن لا يقصد المشتري إعنات المدين، وأما إن لم يقر فلا يجوز لأنه من شراء ما فيه خصومة" (7) .
والذي يظهر لنا رجحانه هو أن بيع الدين لمن هو عليه ولغيره جائز مع ملاحظة قواعد الصرف، وكون الدين ثابتًا مقدورًا عليه يمكن تسليمه بالفعل، أو عن طريق المصارفة في الذمة، وأن لا يكون فيه محظور شرعي آخر من جهالة فاحشة، وغرر ونحو ذلك. والله أعلم.
__________
(1) نقلنا النص عنهما مع اختصار؛ فتح العزيز: 8 / 431 – 439؛ والمجموع: 9 / 273 – 275.
(2) المنثور في القواعد للزركشي: 2 / 160؛ والمبدع: 4/ 199؛ ومجموع الفتاوى: 29 / 506.
(3) حاشية ابن عابدين: 4/ 166؛ وبدائع الصنائع: 7 / 3104؛ والروضة: 3/ 514؛ والأشباه والنظائر للسيوطي، ص 331؛ والمحلى لابن حزم: 9 / 6، 117.
(4) حاشية ابن عابدين: 4 / 116؛ ويراجع للمزيد د. نزيه حماد: أصول المداينات طبعة دار الفاروق، ص 158.
(5) المهذب مع المجموع: 9 / 275؛ والروضة: 3 / 514؛ والأشباه والنظائر للسيوطي، ص331.
(6) الروضة: 3 / 514.
(7) شرح الخرشي على المختصر مع حاشية العدوي: 5 / 77 – 78.(11/51)
الصلح عن دين بدين:
هذا له عدة صور:
منها أن يتصالح الدائن مع مدينه بأن يكون للمدين أيضًا دين آخر عليه من نفس جنسه، فيتصالحان بما في ذمتيهما سواء كان ما في ذمتيهما متساويين أم لا، وهذا بمثابة إسقاط من الطرفين، وإبراء، وتخارج.
ومنها: أن يتصالح الدائن مع مدينه في الذمة، وذلك بأن يصالحه على موصوف في الذمة من غير جنسه، (كأن يصالحه عن دينار في ذمته بأردب من قمح، أو نحوه في الذمة) (1) ، فهذا الصلح صحيح عند جمهور الفقهاء – الحنفية والمالكية، والحنابلة – إذا تم قبض البدل في المجلس قبل التفرق (2) .
وذهب الشافعية إلى أنه يشترط تعيين بدل الصلح في المجلس، ولا يشترط القبض في المجلس على أصح الوجهين (3) .
أما إذا كان بدل الصلح ليس في الذمة فيجوز مع تفصيل، ذكره النووي حيث قال:
" أما إذا كان صالح الدائن على دينه عن بعض الأموال التي يقع فيها الربا على ما يوافقه في العلة، فلا بد من قبض العوض في المجلس، فإن لم يكن العوضان ربويين، فإن كان العوض عينًا صح الصلح ولا يشترط قبضه في المجلس " (4) .
المقاصة:
حيث فصل الفقهاء فيها ولا سيما المالكية، وقالوا: إنها " إسقاط مالك من دين على غريمك في نظير ماله عليك بشروطه " (5) . أي بشروط الإسقاط.
والمقاصة قد تكون جائزة، وقد تكون واجبة، والغالب عليها الجواز، ووجوبها في ثلاث أحوال وهي: "إذا حل الدينان، أو اتفقا أجلاً، أو طلبها من حل دينه فإن المذهب وجوب الحكم بها " (6) .
وقد فصل علماء المالكية تفصيلاً للحالات التي يمكن أن تقع فيها المقاصة فبلغت ثماني وأربعين حالة، لخصها الدردير فقال: " واعلم أن الدينين إما من بيع، أو من قرض، أو مختلفين، وفي كل إما أن يكونا عينًا، أو طعامًا، أو عرضًا " قال الدسوقي: " فهذه تسعة أحوال، وفي كل إما أن يكون الدينان حالين، أو أحدهما حالاً، والآخر مؤجلاً، أو يكونا مؤجلين متفقين في الأجل، أو مختلفين فيه، فالجملة ست وثلاثون حالة " وعلق الشيخ محمد عليش على ذلك، فقال: " بل ثمانية وأربعون حالة، أسقط المحشي منها اثنتي عشرة صورة اختلافهما قدرًا وصفة، وحكمها حكم صور اختلاف القدر فقط " (7) .
__________
(1) مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد، المادة (1628) .
(2) تبيين الحقائق: 5 / 42؛ والتاج والإكليل للمواق: 5 / 81؛ والمغني: 4 / 534؛ ويراجع لمزيد من التفصيل د. نزيه حماد: أصول المداينات طبعة دار الفاروق، ص 260.
(3) روضة الطالبين: 4 / 195 حيث قال: " وإن كان دينًا صح على الأصح، ولكن يشترط التعيين في المجلس، ولا يشترط القبض بعد التعيين على الأصح ".
(4) الروضة: 4 / 195.
(5) الشرح الكبير: 3 / 227.
(6) الشرح الكبير: 3 / 227..
(7) انظر الشرح الكبير للدردير، مع حاشية الدسوقي، وتقريرات الشيخ محمد عليش على الشرح؛ والحاشية: 3 / 227 فتجد فيها هذه الصور، من ص 227 إلى 231.(11/52)
التصرف في دين السلم:
السلم كما هو معروف بيع شيء موصوف في الذمة إلى أجل معلوم بثمن معجل، أو أنه عقد على موصوف في الذمة، ويجوز أن يكون الثمن نقودًا أو غيرها، والمسلم فيه أي شيء يمكن ضبطه عن طريق الوصف، ويشترط فيه تعجيل الثمن في مجلس العقد عند الجمهور، وعدم تأخيره أكثر من ثلاثة أيام عند المالكية (1) ، وأن يكون الأجل معلومًا إما تحديدًا، أو حسب العرف كالحصاد والجذاذ، والمقدار محددًا وزنًا أو كيلاً، أو عددًا، أو ذرعًا، وأن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها، وأن يكون مقدور التسليم عليه عند الحلول.
والسلم يمكن أن يكون في جميع السلع والمعادن، والحيوان والبضائع، وحتى في المنافع عند جماعة من الفقهاء، كما أنه يمكن تجزئة تسليم المسلم فيه على أوقات متفرقة معلومة، وأيضًا يمكن أن يكون سلمًا حالاً، أو مؤجلاً، وكذلك يمكن أن يكون رأس مال السلم نقدًا، أو سلعة، أو طعامًا، أو حيوانًا، أو نحو ذلك (2) .
والمقصود أن دائرة عقد السلم واسعة تسع كثيرًا من الأمور، ولذلك يمكن الإفادة منه في سوق المال الإسلامية إفادة كبيرة، باعتباره عقدًا فيه مرونة كبيرة، ويحقق كثيرًا من مصالح المجتمع، ومنافع للعاقدين، ولاسيما لمن لم يكن لديه السيولة، أو لديه الأعيان في المستقبل، أو هو قادر على توفيرها في الوقت المحدد، كما أن تداول عقود السلم يؤدي إلى نوع من الضمان، والتشجيع على الإنتاج المستقبلي في الزراعة والصناعة ونحوهما.
ففيه فائدة للمسلم (البائع) ، حيث يستفيد من السيولة المتحققة لديه للإنتاج الزراعي، أو الصناعي، أو التجارة، كما أن المسلم إليه (المشتري) يستفيد من تصريف نقوده وتدويرها واستثمار فائق أمواله من خلال رخص الثمن، وتحقيق الأرباح.
وإدارة سوق المال يمكن الإفادة منها من خلال تداول عقود السلم، وصكوكه، والسمسرة فيها، ونحو ذلك.
التصرفات في المسلم فيه:
تصرفات المسلم إليه في المسلم فيه إما أن تكون بعد القبض، أو قبله، ولذلك تنقسم إلى نوعين:
النوع الأول – التصرف في المسلم فيه بعد القبض:
فللمسلم إليه (المشتري) بعد قبض المسلم فيه (حسب العرف) (3) جميع التصرفات المشروعة من بيع عاجل، وآجل، ومرابحة، ومشاركة، وتولية، وتأجير، ورهن ونحو ذلك بدون خلاف، لأنه دخل في ملكه التام.
__________
(1) يراجع لتفصيله: فتح القدير – ط. مصطفى، بالقاهرة: 7 / 69؛ وحاشية ابن عابدين: ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت: 4 / 203؛ والمدونة، ط. السعادة، مصر 1323هـ: 4 / 2؛ والمقدمات والممهدات: ط. دار الغرب الإسلامي: 2 / 19؛ والأم: ط. دار المعرفة – بيروت: 3 / 89؛ والغاية القصوى: ط. دار الاعتصام: 1 / 493؛ والروضة: ط. المكتب الإسلامي: 4 / 3؛ والمحلى لابن حزم: 10 / 45؛ والمغني: 4 / 3- 4.
(2) المصادر السابقة؛ ويراجع: الغاية القصوى: 1 / 494؛ والمغني: 4 / 304.
(3) يراجع قرار مجمع الفقه الإسلامي الموقر في تحديد القبض في دورته السادسة، وبحثنا عن القبض وصوره المعاصرة المقدم إلى تلك الدورة.(11/53)
النوع الثاني – التصرف في المسلم فيه قبل القبض:
هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل لأنها تحتمل عدة احتمالات:
الاحتمال الأول: التصرف فيه عن طريق الاعتياض عنه ممن عليه السلم.
الاحتمال الثاني: بيع المسلم فيه لشخص آخر.
الاحتمال الثالث: التصرف في المسلم فيه بالمشاركة، والحوالة، والتولية، ونحو ذلك.
الاحتمال الرابع: أن ينفسخ عقد السلم بالإقالة أو نحوها، فهل يجوز أن يصرف الثمن في عوض آخر غير المسلم فيه؟
ومجمع الفقه الإسلامي تحدث في قراره في دورته السابعة عن حالة واحدة وهي: "عدم جواز بيع السلعة المشتراة قبل قبضها"؛ لذلك أرى إعادة الموضوع بكامله وطرحه على بساط البحث والمناقشة للوصول إلى رؤية شاملة واضحة.
وهأنذا أعرض هذا الموضوع بجميع جوانبه واحتمالاته وما ثار فيه من خلاف، وما نراه راجحًا على ضوء ما يأتي:
الاحتمال الأول: الاعتياض عن المسلم فيه من المسلم نفسه عند حلول الأجل:
وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم (رحمهما الله) في هذه المسألة؛ ننقل منهما بعض النصوص (1) :
جاء في مجموع الفتاوى: "سئل – رحمه الله – عن رجل أسلف خمسين درهمًا في رطل من حرير إلى أجل معلوم، ثم جاء الأجل فتعذر الحرير، فهل يجوز أن يأخذ قيمة الحرير؟ أو يأخذ عوضه أي شيء كان؟
فأجاب: " هذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: لا يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره كقول الشافي.
والقول الثاني: يجوز ذلك، كما يجوز في غير دين السلم وفي المبيع من الأعيان وهو مذهب مالك، وقد نص على هذا في غير موضع، وجعل دين السلم كغيره من المبيعات، فإذا أخذ عوضًا غير مكيل، ولا موزون يقدر دين السلم حين الاعتياض لا بزيادة على ذلك، أو أخذ نوعه يقدره مثل أن يسلم في حنطة فيأخذ شعيرًا بقدر الحنطة، فإنه يجوز، وقد ذكر ذلك طائفة من الأصحاب، لكن في بعض الصور. .. روايتان ".
ثم قال: " وأما المطلعون على نصوص أحمد فذكروا ما هو أعم من ذلك، وأنه يجوز الاعتياض عن دين السلم بغير المكيل والموزون مطلقًا. . . وكذلك إن أخذ قيمته مما لا يكال، ولا يوزن كيف شاء. . . ".
ثم ذكر أن بعض الروايات قيدت بأن لا يأخذ مكان المسلم فيه إلا بقيمته أو أنقص منها، وهذا هو قول ابن عباس (رضي الله عنهما) (2) . وجاء في المجموع أن السلم إذا فسخ لانقطاع المسلم فيه كان لصاحب رأس المال بيعه قبل استرداده (3) .
وقد استدل المانعون بعدة أدلة أهمها ما يأتي:
1- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) (4) .
__________
(1) مجموع الفتاوى: 29 / 503 – 519؛ وشرح سنن أبي داود لابن القيم، بهامش عون المعبود: 9 / 353. . .
(2) مجموع الفتاوى: 19 / 503 – 518.
(3) المجموع للنووي: 9 / 266.
(4) الحديث رواه أبو داود: الحديث رقم 3451؛ عون المعبود: 9 / 353؛ وابن ماجه: 2 / 766: الحديث رقم: 2283؛ والبيهقي: 6 / 25؛ والدارقطني: 308.(11/54)
2- أن هذا يدخل في بيع الشيء قبل قبضه، وهذا لا يجوز، لأنه يدخل ضمن النهي عن ربح ما لم يضمن.
يقول ابن تيمية: " فإن علته في منع بيع دين السلم كونه مبيعًا فلا يباع قبل القبض" (1) ثم بين بأن مبنى ذلك على ما رواه ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)) ، وقال: ((ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام)) (2) .
3- الإجماع حيث ذكر صاحب المغني الإجماع على ذلك فقال: " أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافًا" (3) .
وهذه الأدلة كلها مجال للنقاش والرد والبدل على ضوء ما يأتي:
1- فبالنسبة للدليل الأول (الحديث) فهو:
أولاً: ضعيف لا ينهض حجة في مثل هذه القضايا، حيث في سنده عطية بن سعد وهو كما قال عبد الحق في أحكامه: لا يحتج به، وقد ضعفه أحمد، وغيره، وقال ابن عدي: وهو مع ضعفه يكتب حديثه، وقال مسلم بن الحجاج: قال أحمد: وذكر عطية العوفي فقال: هو ضعيف، ثم قال: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي ويسأله عن التفسير وكان يكنيه بأبي سعيد فيقول: قال أبو سعيد وكان هشيم يضعف حديث عطية، وقال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه، وقال النسائي: هو ضعيف، وذكر ابن عدي: أن عطية مع أهل البدعة، وذكره ابن حبان في الضعفاء، وذكر أنه كان يسمع أحاديث من الكلبي ويرويها فإذا قيل: من حدثك بهذا؟ فيقول: حدثني أبو سعيد، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري، وإنما أراد الكلبي، قال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب" (4) .
فرجل هذا حاله كيف يؤخذ منه أحاديث الأحكام؟ لذلك فالحديث ضعيف لا ينهض حجة، لأن مداره على رجل (مجمع على ضعفه) (5) .
ثانيًا: أن الحديث – على فرض ثبوته – ليس نصًا على الدعوى، حيث يحتمل أكثر من معنى فقد قال الطيبي: " يجوز أن يرجع الضمير في (غيره) إلى (من) في قوله " من أسلف" يعني لا يبيعه من غيره قبل القبض، أو إلى شيء أي لا يبدل المبيع قبل القبض بشئ آخر " (6) .
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الحديث بجوابين أحدهما أنه ضعيف، ثم قال: " والثاني: المراد به أن لا يجعل السلف سلمًا في شيء آخر فيكون معناه النهي عن بيعه بشيء معين إلى أجل وهو من جنس بيع الدين بالدين، ولهذا قال: " لا يصرفه إلى غيره " أي لا يصرف المسلم فيه إلى مسلم فيه آخر، ومن اعتاض عنه بغيره قابضًا للعوض لم يكن قد جعله سلمًا في غيره" (7) .
__________
(1) مجموع الفتاوى: 29 / 505.
(2) الحديث رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح – كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض: 4 / 349؛ ومسلم: 3 / 1159.
(3) المغني لابن قدامة: 4 / 334.
(4) انظر تهذيب التهذيب: ط. دار صادر بيروت: 7 / 224 – 226؛ والمغني في الضعفاء، ط. قطر: 1 / 617.
(5) قال الذهبي في المغني: 1 / 617 عطية بن سعد العوفي الكوفي تابعي مشهور، مجمع على ضعفه، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص: 3 / 225 وهو – أي هذا الحديث – ضعيف، وأعله أبو حاتم، والبيهقي وعبد الحق، وابن القطان بالضعف والاضطراب.
(6) عون المعبود: 9 / 354.
(7) مجموع الفتاوى: ط. الرياض: 29 / 17 حـ؛ ويراجع كذلك شرح ابن القيم على سنن أبي داود: 9 / 355.(11/55)
ثالثًا: أن الحديث رواه الدارقطني بلفظ آخر ليس فيه ما يدل عليه اللفظ السابق، وهو " من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ما أسلم فيه، أو رأس ماله " (1) ، فهذا اللفظ ليس فيه النهي عن صرفه إلى غيره، لكن الحديث ضعيف جدًا، ومضطرب ومعلول كما قال الحافظ ابن حجر وغيره (2) ، فلا ينهض حجة.
2- وأما البيع قبل القبض – كقاعدة عامة – ستأتي مناقشته فيما بعد عند كلامنا عن بيع المسلم فيه لغير المسلم.
3- وأما الإجماع الذي ادعاه صاحب المغني ابن قدامة، فقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: " وأما ما ذكره الشيخ أبو محمد في (مغنيه) ، قال: "بيع المسلم فيه قبل قبضه لا نعلم في تحريمه خلافًا" فقال: رحمه الله، بحسب ما علمه، وإلا فمذهب مالك أنه يجوز بيعه من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائل الديون من غير من هو عليه، وهذا أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته، وإن كان ذلك ليس في كتب كثير من متأخري أصحابه، وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد " (3) .
وإذا كان هذا هو القول الأصح للإمام أحمد، فلنذكر رأي المالكية في هذه المسألة: جاء في المدونة: " قلت: فإن كنت أسلفت في شعير، فلما حل الأجل أخذت سمراء، أو محمولة؟ قال: لا بأس بذلك وهو قول مالك، قلت: ولا ترى هذا بيع الطعام قبل أن يستوفى؟ قال: لا إذا حل الأجل فأخذت بعض هذا من بعض مثل الذي ذكرت لي، أخذت مثل كيله، فإنما هذا بدل، وليس هذا بيع الطعام قبل أن يستوفى " (4) .
ثم ذكر أن هذا " إنما يجوز بعد محل الأجل، أن يبيعه من صاحبه الذي عليه السلف، ولا يجوز أن يبيعه من غير صاحبه الذي عليه السلم. . . حتى يقبضه من الذي عليه السلف، لأنه إن باعه من غير الذي عليه ذلك بمثل كيله وصفته صار حوالة، والحوالة عند مالك بيع من البيوع فلذلك لا يجوز أن يحتال بمثل ذلك الطعام الذي سلف فيه على غير الذي عليه السلف، لأنه يصير دينًا بدين وبيع الطعام قبل أن يستوفى " (5) .
هذا في السلم في الطعام حيث يجوز الاعتياض عنه إلا ممن عليه السلم، ويكون بعد حلول الأجل، أما قبل حلول الأجل فتجوز الإقالة، وحينئذ يكون له الحق أن يأخذ رأس ماله، أو الطعام الذي أسلم فيه (6) .
__________
(1) الدارقطني: 308.
(2) تلخيص الحبير: 3 / 25.
(3) مجموع الفتاوى: 29 / 506؛ وقد سرد ابن القيم في شرح سنن أبي داود – بهامش عون المعبود: 9 / 353 – مجموعة من أجوبة أحمد وأصحابه منها أن القاضي قال: نقلت من خط أبي حفص في مجموعه: " فإن كان ما أسلم فيه مما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه في الجودة جاز، وكذلك إن أخذ بثمنه مما لا يكال، ولا يوزن كيف شاء ". . . ومنها ما قال حرب: سألت أحمد: فقلت: رجل أسلم إلى رجل دراهم في بر، فلما حل الأجل لم يكن عنده بر، فقال قوم: الشعير بالدراهم فخذ من الشعير. . مثل كيل البر، أو أنقص ".
(4) المدونة: 4 / 34.
(5) المدونة: 4 / 34 – 35.
(6) المدونة: 4 / 59، 69.(11/56)
فالاعتياض عن الطعام يجوز عند مالك ممن عليه السلم، ولكنه لا يجوز بيعه قبل القبض (1) .
أما غير الطعام فيجوز بيعه لغير المسلم مطلقًا أما ممن له فلا يجوز قبل حلول الأجل بأكثر، جاء في المدونة في كتاب السلم: "قلت أرأيت إن أسلمت في طعام معلوم. . . أيجوز لي أن أبيع ذلك الطعام. . . قبل أن أقبضه؟ قال: لا يجوز ذلك في قول مالك. قلت: وما سوى الطعام والشراب مما سلفت فيه كيلاً أو وزنًا فلا بأس أن أبيعه قبل أن أقبضه من الذي باعني، أو من غيره؟ قال: قال مالك: " لا بأس أن تبيع ما سلفت فيه إذا كان من غير ما يؤكل ويشرب من غير الذي عليه ذلك السلف بأقل أو بأكثر، أو بمثل ذلك إذا انتقدت، وأما الذي عليه ذلك السلف فلا تبعه منه قبل الأجل بأكثر، ولا تبعه منه إلا بمثل الثمن، أو بأقل، ويقبض ذلك " (2) .
وجاء في الشرح الكبير: " وجاز بلا جبر قبل زمانه أي أجل المسلم فيه قبول صفته – أي موصوفها فقط لا أوفى ولا أجود، ولا أقل ولا أكثر. . . قبل محله إلا الموضع الذي اشترط فيه القبض أو موضع العقد عند عدم الشرط فيجوز في العرض مطلقًا حل الأجل أم لا، وفي الطعام إن حل ".
وعلق الدسوقي على ذلك بأن في العرض والطعام قولين " أحدهما لابن القاسم، وأصبح الجواز قبل محله بشرك الحلول فيهما. والثاني لسحنون واختاره ابن زرقون: الجواز قبل محله وإن لم يحل فيهما " (3) .
وجاء فيه أيضًا: " وجاز قضاؤه ولو قبل الأجل بغير جنسه، أي المسلم فيه بشروط أربعة" وهي: إن جاز بيعه قبل قبضه كسلم ثوب في حيوان فأخذ عنه دراهم، إذ يجوز بيع الحيوان قبل قبضه، وثانيها: قوله: وجاز بيعه أي المأخوذ عن المسلم فيه بالمسلم فيه مناجزة كدراهم في ثوب أخذ عنه طشت نحاس، إذ يجوز بيع الطشت بالثوب يدًا بيد. . . والثالث قوله: وأن يسلم فيه – أي في المأخوذ- رأس المال، كالمثال المتقدم، إذ يجوز سلم الدراهم في طشت نحاس، والرابع أن يعجل المأخوذ ليسلم من نسخ الدين في دين " (4) .
وجاء في بداية المجتهد: "اختلف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلاً، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه. . . وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين:
أحدهما: إذا كان المسلم فيه طعامًا. . .
والثاني: إذا لم يكن المسلم فيه طعامًا فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله. . . ".
ثم قال: " وأما بيع السلم من غير المسلم إليه فيجوز بكل شيء يجوز التبايع به ما لم يكن طعامًا، لأنه لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه (5) .
الخلاصة: أن مالكًا أجاز الاعتياض عن المسلم فيه ممن هو عليه السلم إلا الطعام حيث لا يجوز فيه بيعه قبل قبضه، وهذا رواية عن أحمد، وفي رواية أخرى أجاز بيع المكيل والموزون بغير المكيل والموزون، وكذلك الاعتياض عن المكيل والموزون أو بالعكس، إذا كان يقدره (6) .
__________
(1) المدونة: 4 / 59، 87.
(2) المدونة: 4 / 87.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3 / 219.
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3 / 219.
(5) بداية المجتهد: ط. مصطفى الحلبي: 2 / 206.
(6) مجموع الفتاوى: 29 / 511.(11/57)
وأما الدليل على جواز الاعتياض عن المسلم فيه ممن عليه السلم فهو ما يأتي:
1- الاستدلال بالحديث الثابت الذي يرويه ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: " كنت أبيع الإبل بالنقيع – بالنون سوق المدينة وبالباء مقبرتها – فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت يا رسول الله: رويدك، أسألك إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) " (1) .
وقد اعتبر شيخ الإسلام هذا الحديث دليلاً على جواز الاعتياض عن المسلم فيه فقال: "والدليل على ذلك أن الثمن يجوز الاعتياض عنه قبل قبضه بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. . . فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتاضوا عن الدين الذي هو الثمن بغيره مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينتقل إلى ضمان البائع، فكذلك المبيع الذي هو دين السلم يجوز بيعه وإن كان مضمونًا على البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يجوز الاعتياض عنه إذا كان بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن" (2) ، ثم ختم كلامه بقوله: " والصواب الذي عليه جمهور العلماء. . . أنه يجوز بيع الدين ممن هو عليه، لأن ما في الذمة مقبوض للمدين، لكن إن باعه بما لا يباع به نسيئة اشترط فيه الحلول والقبض لئلا يكون ربا، وكذلك إذا باعه بموصوف في الذمة، وإن باعه بغيرهما ففيه وجهان:
أحدهما: لا يشترط، كالاشتراط في غيرهما.
والثاني يشترط، لأن تأخير القبض نسيئة كبيع الدين بالدين، ومالك لم يجوز بيع دين السلم إذا كان طعامًا، لأنه بيع، وأحمد جوز بيعه وإن كان طعامًا أو مكيلاً، أو موزونًا من بائعه إذا باعه بغير مكيل، أو موزون، لأن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه هو في الطعام المعين، وأما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملك له، فلا يقاس هذا بهذا، فإن البيع المعروف هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهنا لم يملك شيئًا، بل سقط الدين من ذمته، وهذا لو وفَّاه ما في ذمته لم يقل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال أوفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بدراهم معينة فإنه بيع، فلما كان في الأعيان إذا باعها بجنسها لم يكن بيعًا، فكذلك إذا وفاها من غير جنسها لم يكن بيعًا بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة " (3) .
__________
(1) الحديث رواه أحمد في مسنده: 2 / 82، 154؛ وأبو داود في سننه – مع عون المعبود – كتاب البيع: 9 / 203؛ وابن ماجه في سننه لكنه بدون (سعر يومها) ؛ كتاب التجارات: 2 / 70؛ والدارمي: 2 / 174؛ والنسائي، البيوع: 7 / 281؛ قال النووي في المجموع: 9 / 273: "حديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وآخرون بأسانيد صحيحة عن سماك بن حرب عن سعيد عن ابن عمر "، ثم ذكر بأن الحديث إذا روي مرفوعًا، وموقوفًا، ومرسلا كان محكومًا بوصله ورفعه على المذهب الصحيح الذي قاله الفقهاء والاًصوليون ومحققو المحدثين من المتقدمين والمتأخرين ".
(2) مجموع الفتاوى: 29 / 510.
(3) مجموع الفتاوى، 29 / 512.(11/58)
ومما يدل على تسامح أكثر في بيع اعتياض دين السلم من المسلم إليه أن ابن عباس الذي لم يجوز بيع المبيع قبل قبضه مطلقًا (1) أجاز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح، حتى أنه لم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما، قال ابن تيمية: " لأن البيع هنا من البائع الذي هو عليه، وهو الذي يقبضه من نفسه لنفسه، بل ليس هنا قبض، لكن يسقط عنه ما في ذمته فلا فائدة في أخذه منه، ثم إعادته إليه، وهذا من فقه ابن عباس" (2) .
2- بل إن شيخ الإسلام ذكر في توضيح الرأي القائل بجواز الاعتياض عنه سواء تعذر المسلم فيه أم لا (3) : أن قول ابن عباس في جواز ذلك لا يعرف له في الصحابة مخالف، وذلك لأن السلم دين ثابت فجاز الاعتياض عنه كبدل القرض، وكالثمن في المبيع، ولأنه أحد العوضين في البيع فجاز الاعتياض عنه كالعوض الآخر ما دام بسعر يوم الاعتياض (4) .
قال ابن القيم: " قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: " إذا أسلفت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عوضًا أنقص منه لا تربح مرتين" رواه شعبة، فهذا صحابي، وهو حجة ما لم يخالف ".
ثم قال: " والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم، وقالوا: لأنه دين فلا يجوز بيعه كدين السلم، وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه، (حيث يدل على جواز بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه، فما الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين أسلم بغيره) ؟
__________
(1) صحيح البخاري: مع الفتح: 4 / 349.
(2) مجموع الفتاوى: 29 / 514.
(3) جاء هذا في جواب سؤال هذا نصه: " وسئل عن الرجل يسلم في شيء فهل له أن يأخذ من المسلم إليه غيره، كمن أسلم في حنطة، فهل له أن يأخذ بدلها شعيرًا سواء تعذر المسلم فيه أم لا"؟ مجموع الفتاوى: 29 / 518.
(4) مجموع الفتاوى: 29 / 519.(11/59)
والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه – كما سبق -.
والذين فرقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر، والقياس التسوية بينهما (1) . بحيث ينقطع طعمه في الفسخ، ولا يتمكن من الامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه لم يطرد النهي في بيعه من بائعه قبل قبضه لانتفاء هذه العلة في حقه. وهذه العلة أظهر وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة ولا تنافي بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه وعليه من وجه آخر، فهي مضمونة له وعليه باعتبارين. وأي محذور في هذا؟ كـ منافع الإجارة. فإن المستأجر له أن يؤجر ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه، وكالثمار بعد بدو صلاحها له أن يبيعها على الشجر، وإن أصابتها جائحة رجع على البائع فهي مضمونة له وعليه ونظائره كبيرة.
وأيضًا فبيعه من بائعة شبيه بالإقالة وهي جائزة قبل القبض على الصحة.
وأيضًا فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع، وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين.
فعلم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان. فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز، فكما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقًا بخلاف الإقالة في الأعيان.
ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه، واحتج عليه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وقال: ((أحسب كل شيء بمنزلة الطعام)) ، ومع هذا فلقد ثبت عنه أنه جوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه. ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما؛ لأن البيع هنا من البائع الذي هو في ذمته. فهو يقبضه من نفسه لنفسه، بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته فتبرأ ذمته وبراءة الذمم مطلوبة في نظر الشرع، لما في شغلها من المفسدة، فكيف يصح قياس هذا على بيع شيء غير مقبوض لأجنبي لم يتحصل بعد، ولم تنقطع علق بائعه عنه؟
وأيضًا: فإنه لو سلم المسلم فيه، ثم أعاده إليه جاز. أي فائدة في أخذه منه. ثم إعادته إليه، وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقة لم تحصل بها فائدة؟
ومن هنا يعرف فضل علم الصحابة وفقههم على كل من بعدهم.
__________
(1) شرح سنن أبي داود للحافظ ابن القيم، بهامش عون المعبود: 9 / 356.(11/60)
قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن: فنحن نقول بموجبه، وأنه لا يربح فيه، كما قال ابن عباس: (خذ عرضًا بأنقص منه، ولا تربح مرتين) .
فنحن إنما نجوز له أن يعاوض عنه بسعر يومه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة: ((لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها)) فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل العوض وغيره من الديون أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وكذلك قال مالك: يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه كما قال ابن عباس لكنَّ مالكًا يستثني الطعام خاصة، لأن من أصله أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز بخلاف غيره.
وأما أحمد: فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعرض أو حيوان أو نحوه، دون أن يعتاض بمكيل أو موزون. فإن كان بعرض ونحوه جوزه بسعر يومه، كما قال ابن عباس ومالك، وإن اعتاض عن المكيل بمكيل، أو عن الموزون بموزون، فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض، إذ كأن لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين. ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه، كالشعير عن الحنطة، نظرًا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة، كما يستوفى الجيد عن الرديء. ففي العرض جوز المعاوضة، إذ لا يشترط هناك تقابض. وفي المكيل والموزون: منع المعاوضة، لأجل التقابض، وجوز أخذ قدر حقه أو دونه. لأنه استيفاء. وهذا من دقيق فقهه – رضي الله عنه -.
قالوا: وأما قولكم: إن هذا الدين مضمون له، فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين فهو دليل باطل من وجهين.
أحدهما: أنه لا توالي ضمانين هنا أصلاً، فإن الدين كان مضمونًا له في ذمة المسلم إليه، فإذا باعه إيَّاه لم يصر مضمونًا عليه بحال. لأنه مقبوض في ذمة المسلم إليه، فمن أي وجه يكون مضمونًا على البائع؟ بل لو باعه لغيره لكان مضمونًا له على المسلم إليه ومضمونًا عليه للمشتري وحينئذ فيتوالى ضمانان.(11/61)
الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين، وليس بوصف مستلزم لمفسدة يحرم العقد لأجلها. وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف؟ وأي حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له.
وقد قدمنا ذكر الصور التي فيها توالي الضمانين. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة ولا فرق بينه وبين دين السلم.
قالوا: وأيضًا فالمبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري، فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر. فلا محذور في ذلك.
وشاهده: المنافع في الإجارة والثمرة قبل القطع. فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة التي لا معارض لها: وضع الثمن عن المشتري إذا أصابتها جائحة، ومع هذا يجوز التصرف فيها، ولو تلفت لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه.
قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع، فكيف يصح دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس، وعالم المدينة مالك بن أنس؟
فثبت أنه لا نص في التحريم، ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم".
3- أن الأصل في العقود أنها تنعقد بمجرد الإيجاب والقبول – مع توافر الشروط المطلوبة – فإذا انعقد العقد تحققت التزامات الطرفين، ويجب الوفاء بها تنفيذًا لقوه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .(11/62)
الاحتمال الثاني: بيع المسلم فيه لشخص آخر قبل القبض:
لقد ثار خلاف كبير في بيع المبيع قبل القبض يمكن إرجاعه إلى ثلاثة اتجاهات وهي:
الاتجاه الأول: يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقًا سواء كان المعقود عليه طعامًا أم غيره وسواء أكان مكيلاً أم موزونًا، عقارًا أو منقولاً.
وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه (1) وأحمد في رواية (2) ومحمد بن عبد الحق وزفر من الحنفية (3) ، والظاهرية (4) ، والزيدية (5) ، ورواية للإمامية (6) ، والإباضية في المشهور عنهم (7) ، وروي ذلك عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب في رواية عنه، وسفيان الثوري (8) .
الاتجاه الثاني: يرى جواز بيع المبيع، وكل تصرف فيه مطلقًا، وهذا رأي عطاء بن أبي رباح، وعثمان البتي (9) ، ورأي للإمامية (10) .
الاتجاه الثالث: يرى التوسط والتفصيل، وأصحاب هذا الاتجاه مختلفون على خمسة آراء حيث ذهب أكثرهم إلى عدم جواز بيع الطعام قبل قبضه، وإلى جواز ما عداه، وهذا رأي مالك في المشهور عنه (11) وأحمد في رواية عنه (12) واختيار أبي ثور وابن المنذر (13) وإليه أشار البخاري في صحيحه (14) .
وهذا الرأي هو الذي يدعمه الدليل (15) ، وقد قال الحافظ ابن المنذر: " هو أصح المذاهب. . . " (16) .
هذا هو الخلاف في بيع الشيء قبل قبضه بصورة عامة، وهل هذا الخلاف يجري في بيع المسلم فيه قبل قبضه؟
إنه من الثابت في كتب المالكية والحنابلة أن مذهب مالك على جوازه فيما عدا الطعام (17) ، وكذلك نص عليه أحمد (18) ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فمذهب مالك أنه يجوز بيعه من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه، وهذا أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد، نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته. . . وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد (19) ثم قال: " والمقصود أن أصل أحمد ومالك جواز التصرف، وأنه يوسع في البيع قبل انتقال الضمان إلى المشتري، بخلاف أبي حنيفة والشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد " (20) .
وأصل الخلاف يعود إلى مسألة الضمان هل هو من ضمان البائع، أم من ضمان المشتري، وهل ذلك الضمان يمنع المشتري من التصرف فيه؟
فمالك وأحمد في المشهور عنه ومن معهم قالوا: إن ما تمكن المشتري من قبضه فهو من ضمانه، وأن المشتري يستطيع أن يتصرف في المبيع قبل التمكن من قبضه، لأن ضمان البائع له لا يمنع تصرف المشتري الذي انتقلت إليه ملكية المبيع والمسلم فيه بمجرد العقد، قال ابن تيمية: "فظاهر مذهب أحمد أن جواز التصرف فيه ليس ملازمًا للضمان ولا مبنيًّا عليه، بل قد يجوز التصرف فيه حيث يكون من ضمان البائع كما ذكر في الثمرة، وصنائع الإجارة، وبالعكس كما في الصبرة المعينة" (21) .
__________
(1) الأم: 3 / 60؛ والمجموع للنووي: 9 / 264 – 275.
(2) المغني لابن قدامة: 4 / 121 – 123.
(3) بدائع الصنائع: 7 / 3100؛ وفتح القدير: 7 / 22.
(4) المحلى لابن حزم: 9 / 592.
(5) البحر الزخار: 4 / 311.
(6) المختصر النافع، ص 148.
(7) شرح النيل: 8 / 59.
(8) المصنف لعبد الرزاق: 8 / 38 – 44؛ والمحلى: 9 / 594؛ والمغني: 4 / 121.
(9) المحلى: 8 / 597؛ والمغني: 4 / 220؛ وشرح ابن القيم على السنن: 9 / 382.
(10) المختصر النافع، ص 148.
(11) المدونة: 4 / 90.
(12) المغني: 4 / 120؛ ومجموع الفتاوى: 29 / 398؛ وشرح ابن القيم على سنن أبي داود: 392/9
(13) المغني: 4 / 121 – 123.
(14) حيث ترجم البخاري في صحيحه: باب بيع الطعام قبل أن يقبض: 4 / 349؛ وباب إذا اشترى متاعًا، أو دابة، فوضعه عند البائع أو مات قبل أن يقبض: 4 / 351.
(15) يراجع في تفصيل الأدلة والآراء: بحثنا عن القبض وصوره المعاصرة المقدم إلى مجمع الفقه الموقر في دورته السادسة بجدة عام 1990 م.
(16) المجموع: 9 / 270 – 271.
(17) المدونة: 4 / 88، 90، 91، 95؛ وبداية المجتهد: 2 / 206.
(18) مجموع الفتاوى: 29 / 506.
(19) مجموع الفتاوى: 29 / 506.
(20) مجموع الفتاوى: 29 / 5 – 509.
(21) مجموع الفتاوى: 29 / 5 – 6 – 509.(11/63)
بينما ربط أبو حنيفة والشافعي جواز التصرف بالضمان فإذا لم ينتقل الضمان إلى المشتري لا يجوز له التصرف فيه حتى لا يتوالى الضمانان.
لكن شيخ الإسلام رد على هذا الأصل بأنه مأخذ ضعيف، وأنه لا محذور في وجود ضمانين، لأن الواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان ذاك (1) ، فلو تلف المبيع قبل التمكن من القبض فإن المشتري الثاني يعود إلى المشتري الأول وهو على البائع، وكل يرجع على الآخر بما دفعه.
ويدل على أن ضمان البائع لا يمنع من تصرف المشتري في المبيع حديث ابن عمر الثابت السابق في البيع بالذهب والأداء بالفضة، أو بالعكس، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتاضوا عن الدين الذي هو الثمن بغيره، مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينتقل إلى ضمان البائع، فكذلك المبيع الذي هو دين السلم يجوز بيعه وإن كان مضمونًا على البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن، وهكذا قد نص أحمد على ذلك في بدل القرض وغيره من الديون، إنما يعتاض عنه بسعر يومه " (2) .
ومن ناحية أخرى أن ما في ذمة المدين البائع مقبوض للدائن فحينما يبيعه للآخر فكأنه سلمه إليه، وحل محله. يقول ابن تيمية: "إن ما في الذمة مقبوض للمدين " (3) ، كما أن الموجود في الذمة فكأنه موجود في الواقع والخارج.
الاحتمال الثالث: التصرف في المسلم فيه بالتولية، والشركة، والحطيطة، والمصالحة، والحوالة، والوكالة ونحوها:
فعقد الوكالة والسمسرة في السلم جائز، لأن القاعدة فيها هي أن كل من صح تصرفه في شيء بنفسه وكان مما تدخله النيابة صح أن يوكل فيه رجلاً أو امرأة، مسلمًا كان أو كافرًا، وكل ما يصح أن يستوفيه بنفسه وتدخله النيابة صح أن يتوكل لغيره فيه " (4) .
وأما التولية، والشركة في المسلم فيه قبل قبضه فمحل خلاف بين الفقهاء:
فذهب مالك إلى جوازهما سواء كان المسلم فيه طعامًا، أم غيره، جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن اشتريت سلعة من السع فأشركت فيها رجلاً قبل أن أنقده، أو بعد ما نقدته أيصلح ذلك في قول مالك أم لا؟
قال: لا بأس بذلك عند مالك.
قال: ولقد سألت مالكًا عن رجل اشترى من رجل طعامًا بثمن إلى أجل فأتاه رجل، فقال: أشركني في هذا الطعام، وذلك قبل أن يكتال طعامه الذي اشترى.
قال مالك: لا بأس بذلك إن أشركه على أن لا ينتقد إلا إلى الأجل الذي اشترى إليه الطعام، فإن انتقد فلا خير في ذلك (5) .
__________
(1) مجموع الفتاوى: 29 / 5 – 6 – 509.
(2) مجموع الفتاوى: 29 / 510.
(3) مجموع الفتاوى: 29 / 512.
(4) يراجع المغني لابن قدامة: 5 / 88؛ وحاشية ابن عابدين: 4 / 399؛ وروضة الطالبين: 4 / 291؛ وبداية المجتهد: 2 / 301؛ والمدونة: 4 / 49.
(5) المغني لابن قدامة: 5 / 88.(11/64)
وكذلك الأمر في التولية، جاء في المدونة: " قلت: أرأيت إن اشتريت سلعة من رجل بنقد، فلم أقبضها حتى أشركت فيها رجلاً، أو وليتها رجلاً أيجوز ذلك؟ "
قال: لا بأس بذلك عند مالك.
قلت: وإن كان طعامًا اشتريته كيلاً، وفقدت الثمن فوليته رجلاً أو أشركته فيه قبل أن أكتاله من الذي اشتريته.
قال مالك: لا بأس بذلك، وذلك الحلال إذا انتقد مثل ما نقد.
قلت: لِمَ جوزه مالك وقد جاء في الحديث الذي يذكره مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى؟
قال: قد جاء هذا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى إلا ما كان من شرك، أو إقالة، أو تولية.
قال سحنون: وأخبرني ابن القاسم عن سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شرك، أو إقالة، أو تولية)) .
قال مالك: " اجتمع أهل العلم على أنه لا بأس بالشرك والإقالة والتولية في الطعام قبل أن يستوفى إذا انتقد الثمن ممن يشركه، أو يقيله، أو يوليه" (1)
وهذا الحديث الذي رواه الإمام سحنون بسنده، رواه أيضًا عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، عن ربيعة عن ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التولية، والإقالة، والشركة سواء لا بأس به)) . وأما ابن جريج فقال: أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا مستفاضًا بالمدينة، قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه ويستوفيه إلا أن يشرك فيه، أو يوليه، أو يقيله)) (2) .
والحديث الذي رواه سحنون، وعبد الرزاق مرسل لكنه مرسل سعيد بن المسيب، وهو يحتج به عند جمهور العلماء (3) .
وأما سند الحديث فـ الحافظ عبد الرزاق معروف بأنه ثقة حافظ (4) وهو قد روى عن معمر وغيره، ومعمر أيضًا ثقة ثبت، بل عده علي بن المديني، وأبو حاتم فيمن دار الإسناد عليهم، بل اعتبره النقاد من أثبت الناس (5) ، وأما ربيعة المعروف بربيعة الرأي فهو أيضًا ثقة ثبت من التابعين الفقهاء المفتين، حتى قال مالك: " ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة" (6) .
__________
(1) المدونة: 4 / 80 – 81.
(2) المصنف للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق خليل الرحمن الأعظمي، ط. المجلس العلمي: 8 / 49؛ ونصب الراية: 4 / 31.
(3) المجموع: 1 / 60 – 63؛ والإحكام للآمدي: 2 / 178؛ والمقدمة لابن الصلاح، ص 130.
(4) تقريب التهذيب، ط. دار المعرفة: 1 / 505؛ وتهذيب التهذيب: 6 / 310.
(5) تهذيب التهذيب: 10 / 243 – 246؛ وتقريب التهذيب: 2 / 266.
(6) يراجع للمزيد من التفصيل: تهذيب التهذيب: 3 / 258؛ وتقريب التهذيب: 1 / 247.(11/65)
إذن فالحديث مرسل صحيح الإسناد، أو أنه لا تقل درجته عن الحسن الذي ينهض حجة، وكذلك فهو نص في الدعوى حيث يدل بنصه على جواز الشرك، والإقالة، والتولية في الطعام قبل القبض والاستيفاء، ويقاس عليه بطريق أولى غير الطعام.
وذهب جماعة آخرون منهم الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) إلى عدم جواز الشركة، والتولية في المسلم فيه قبل قبضه. واستدلوا بأن هذه التصرفات معاوضة في المسلم فيه قبل القبض فلم يجز، كما لو كانت بلفظ البيع، ولأنهما نوعا بيع، فلم يجوزا في المسلم قبل قبضه كالنوع الآخر (4) .
ويمكن أن يرد على هذا الاستدلال بأنه لا نسلم أن التولية والشركة بيع، ولو سلم فالبيع نفسه محل خلاف، فلا يكون الدليل ملزمًا، لأنه أيضًا محل خلاف.
ويكاد الخلاف السابق ينسحب على الصلح في المسلم فيه قبل قبضه (5) .
والذي يظهر رجحانه رأي مالك لقوة دليله، ومنطقه، وموافقة رأيه للأصل القاضي بأن الأصل في العقود والشروط الإباحة إلا ما دل على حرمته، فليس هناك نص من الكتاب ولا من السنة يمنع التصرف في المسلم فيه قبل القبض عن طريق الشرك، أو التولية، أو الحطيطة، أو الصلح لكنه بشرط واحد، وهو أن ينقد الثمن حتى لا يكون بيع دين نسيء بدين نسيء.
وأما الحوالة بالمسلم فيه (دين السلم) ، أو عليه فمحل خلاف كبير.
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار: 4 / 209 – 210.
(2) يراجع: تحفة المحتاج مع حواشي الشيرواني؛ وابن قاسم العبادي، ط. دار صادر بيروت: 3 / 30 – 31؛ والغاية القصوى: 1 / 497.
(3) المغني لابن قدامة: 4 / 234 – 235؛ والمبدع شرح المقنع، ط. المكتب الإسلامي: 4 / 197 – 198.
(4) المغني لابن قدامة: 4 / 235.
(5) يراجع المدونة: 4 / 31؛ وروضة الطالبين: 4 / 4؛ والتحفة مع حواشيها لابن قاسم والشيرواني: 4 / 31؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 542.(11/66)
فذهب جماعة من الفقهاء منهم الحنفية (1) ، ووجه للشافعية (2) ، والمالكية (3) . .. في غير ما إذا كان البدلان: المحال به، وعليه طعامًا من بيع، إلى جواز الحوالة بدين السلم وعليه.
وذهب الحنابلة (4) ، ووجه للشافعية – رجحه النووي (5) إلى أنه لا تجوز الحوالة بدين السلم، ولا عليه.
وهؤلاء المانعون استدلوا على ما يأتي:
أولاً: أنهم اعتمدوا في منعهم هذا على أن دين الحوالة يجب أن يكون مستقرًّا، وأن السلم بعرض الفسخ (6) .
ويمكن الجواب عنه بأن هذا الشرط نفسه محل خلاف وليس عليه دليل من الكتاب والسنة، والإجماع؛ فالنص النبوي الشريف في الحوالة لم يشترط كون الدين مستقرًّا أم غير مستقر، بل قال: ((فإذا أتبع – أو أحيل – على مليء فليتبع)) (7) ، فالنص لم يشترط سوى كون المحال عليه مليئًا قادرًا على أداء الدين، ولذلك قال الشوكاني معلقًا على اشتراط استقرار الدين لدى البعض: " فلا أدري لهذا الاشتراط وجهًا، لأن من عليه الدين إذا أطال على رجل يمتثل حوالته، ويسلم ما أحال به كان ذلك هو المطلوب، لأن به يحصل المطلوب بدين الحال ولو لم يكن في ذمة المحال عليه شيء من الدين (8) ، ولذلك أجاز الحانبلة أنفسهم استعمال لفظ الحوالة في صورتين ليستا بحوالة، وإنما هي وكالة وقرض (9) .
ثانيًا: واستدل المانعون كذلك بأن الحوالة إما بيع وهو لا يجوز قبل قبض المبيع، أو هو كالبيع، أي يقاس عليه فيكون حكمه مثل حكمه.
والجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: " أن هذا الكلام مبني على أن الحوالة بيع، وهذا بناء ضعيف؛ لأن الحوالة عقد مستقل له شروطه ومواصفاته، وأن اسمها ومسماها قد أثبتهما الشرع، فلا يقبل أن تدخل في عقد آخر، ومن هنا فاختلاف الاسم والمسمى لغة وشرعًا يدل على اختصاص هذا العقد بأحكامه الخاصة به دون غيره، ولذلك لا يشترط في عقد الحوالة التقابض حتى ولو كان الدينان من النقود، أو الطعام، ولا يدخل في بيع الدين بالدين الذي منعه الفقهاء، وجاز فيه كون أحد الدينين أكثر من الآخر وغير ذلك. (10)
__________
(1) جاء في الدر المختار – مع حاشية ابن عابدين: 4 / 208: " وصحت الكفالة والحوالة والارتهان برأس مال السلم ".
(2) يراجع: فتح العزيز بهامش المجموع: 10 / 340؛ والروضة: 3 / 512.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3 / 327.
(4) المغني لابن قدامة: 4 / 335، 577؛ والمبدع: 4 / 198.
(5) انظر الروضة: 3 / 512؛ وتحفة المحتاج: 5 / 228.
(6) المغني لابن قدامة: 4 / 335.
(7) الحديث متفق عليه، رواه الشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، انظر: صحيح البخاري مع الفتح: 4 / 464 ومسلم: 3 / 1197؛ وسنن أبي داود مع العون: 9 / 195؛ والترمذي مع التحفة: 4/ 535؛ وابن ماجه: 2/ 803؛ والسنن الكبرى للبيهقي: 6 / 70؛ والنسائي: 7 / 278؛ والأم: 3 / 203؛ ومسند أحمد: 2 / 463.
(8) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: 4 / 242.
(9) جاء في المغني: 4 / 579: " وإن أحال من لا دين له عليه رجلاً على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة، بل هي وكالة. . وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة، لاشتراكهما في المعنى. . . وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فليست حالة أيضًا. . . وإنما هو اقتراض، فإن قبض المحتال منه الدين رجع على المحيل، لأنه قرض. . . وإن أحال من لا دين عليه فهي وكالة في اقتراض، وليست حوالة، لأن الحوالة إنما تكون لدين على دين ". وعند المالكية لو أعلم المحيل المحال بأنه لا دين له على أعمال عليه، أو علم من غيره، وشرط المحيل البراء من الدين الذي عليه، ورضي المحال صح التحول، ولا رجوع له على المحيل، لأنه ترك حقه حيث رضي بالتحول؛ انظر: الشرح الكبير مع الدسوقي: 3 / 326.
(10) المغني لابن قدامة: 4 / 335.(11/67)
الوجه الثاني: أن قياس الحوالة على البيع قياس مع الفارق، لما ذكرنا في الوجه الأول.
الوجه الثالث: أن المقيس عليه نفسه مختلف فيه فلا يصلح أن يكون أصلا ملزمًا للطرفين، فبيع المبيع قبل قبضه – بما فيه المسلم فيه – محل خلاف كما سبق.
ثالثًا: استدلوا بما روي: " من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره " (1) .
والجواب عنه – كما سبق – أنه ضعيف جدًا لا ينهض حجة ولو فرضنا ثبوته فلا يدل على منع الحوالة، لأن معناها النهي عن عدم صرف المسلم فيه إلى شيء آخر، ولا يدل الحديث على منع الحوالة به أو عليه.
ويتبين من خلال هذه المناقشة الموجزة ضعف الحجج التي بنى عليها المانعون، حيث لم تصمد أمام المناقشة.
أما المجيزون للحوالة بـ دين السلم، أو عليه فحجتهم قوية – كما سبق.
وقد يرد تساؤل حول حق المحال في الحفاظ على حقه إذا لاحظنا أن المحيل تبرأ ذمته بمجرد الحوالة، وأن المحال عليه (المسلم) يمكن أن ينفسخ سلمه للأسباب المقبولة شرعًا في الفسخ أو الإقالة، وحينئذ ماذا يفعل المحال في الحفاظ على حقه؟
للجواب عن ذلك نقول: إن هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن لها شقين:
الشق الأول: هل تبرأ ذمة المحيل إذا تمت الحوالة بشروطها؟
للجواب عن ذلك نقول: إن فيها اختلافًا كبيرًا بين الفقهاء:
1- حيث ذهب الحسن في رواية، وشريح، وزفر إلى أن الحوالة لا يترتب عليها براءة ذمة المحيل مطلقًا، بل تبقى ذمته مع ذمة المحال عليه مشغولة كالكفالة (2) .
2- وذهب أبو حنيفة إلى أن المحتال لا يرجع إلى المحيل إلا بالتوى (3) وهو بأحد أمرين: أن يجحد المحال عليه الحوالة، ويحلف ولا بينة للمحتال والمحيل، أو يموت مفلسًا بغير دين، ولا عين، ولا كفيل.
3- وأضاف صاحباه إليهما حالة ثالثة وهي: أن يحكم بإفلاسه الحاكم في حياته (4) .
4- وذهب الثوري إلى أنه يرجع على المحيل في حالة الموت فقط (5) .
5- وذهب الحسن في رواية، وقتادة إلى أنه إذا كان يوم أحال عليه مليئًا لم يكن له حق الرجوع على المحيل (6) .
6- وذهب مالك إلى أن المحال لا يرجع على المحيل وإن أفلس المحال عليه، أو جحد بعد الحوالة، غير أن مالكًا استثنى حالتين هما:
الحالة الأولى: أن يعلم المحيل بإفلاسه فقط دون الحال، فحينئذ له الرجوع عليه، لأنه غره، قال الدردير: " والظاهر أن الظن القوي كالعلم، ومثل علمه بإفلاسه علمه بلدده، أو عدمه – أي فقره " (7) .
وهناك رواية عن أحمد بمثل هذا القول (8) .
__________
(1) فتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع: 10 / 338.
(2) فتح الباري: 4 / 464؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 580.
(3) التوى على وزن الحصى بمعنى الهلاك، المصباح مادة (توي) .
(4) حاشية ابن عابدين: 4 / 293.
(5) فتح الباري: 4 / 464.
(6) صحيح البخاري مع الفتح: 4 / 464.
(7) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3 / 328.
(8) المغني: 4 / 581.(11/68)
الحالة الثانية: أن يشترط المال على المحيل أنه إذا أفلس المحال عليه يرجع على المحيل فله شرطه، قال الدسوقي: " ونقله الباجي كأنه المذهب، وقال ابن رشد: هذا صحيح ولا أعلم فيه خلافا. (1)
وذهب وجه للشافعية إلى مثل هذا. (2)
7 – وذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور عنهم إلى أن الحوالة تبرئ ذمة المحيل إذا جرت بشروطها – ومن رضا الأطراف – ولا سيما المحيل والمحال، وفى المحال عليه خلاف – ومن كون الدين ثابتا، أو مستقرا، وتماثل الدينين أو أن لا يكون ما على المحال عليه أقل – وحينئذٍ ليس للمحال الحق في الرجوع عليه بأي حال من الأحوال. (3)
فمسألة براءة ذمة المحيل عن الدين ليست منصوصًا عليها، ولا متفقًا عليها، بل الذي يظهر رجحانه هو أن ذمته إنما تبرأ بشروط وضوابط منها أن يكون المحال عليه مليئا وقت الحوالة كما اشترط ذلك النص النبوي الشريف، ومنها أن لا يموت أو يفلس قبل أداء الدين، وأن لا يشترط المحال حق الرجوع إليه مطلقا.
الشق الثانى: أن دين السلم في حالة فسخه يبقى في ذمة المسلم من خلال الثمن، لأنه قد استلم الثمن فعلا، فإما أن يدفع المسلم فيه بشروطه ومواصفاته، وحينئذ يتسلمه المحال كما هو بدلا من دينه الذي كان على المحيل (المسلم إليه) أو تحدث ظروف تؤدي إلى فسخ السلم بشروطه، وحينئذ يتسلم الثمن، وإذا وجد نقص في دينه فإنه يرجع إلى المحيل بناء على الرأي القائل بعدم براءة ذمته – كما سبق -.
وهناك حل آخر، وهو جواز الاعتياض عنه، بل بيعه لآخر بشروطه كما سبق.
ومن هنا فلا مانع أن يشترط في الحوالة على دين السلم، أو به أن يوضع هذا الشرط، وهو أنه في حالة نقص المتسلم عن الدين فإن المحال يرجع إلى المحيل تحقيقًا للعدالة، كما أن المحال ينبغي أن يحتاط لنفسه فلا يقبل إلا في حدود الثمن إلا إذا كان المسلم مليئًا معروفًا بقدرته على الوفاء.
الاحتمال الرابع: أنه إذا انفسخ عقد السلم بإقالة (4) ، أو غيرها، فهل يجوز أن يأخذ عن دين السلم عوضًا من غير جنسه؟:
هذه المسألة ذكر فيها العلامة ابن القيم وجهين:
أحدهما: أنه لا يجوز ذلك حتى يقبضه، ثم يصرفه فيما يشاء وهذا اختيار الشريف أبي جعفر، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: يجوز أخذ العوض عنه، وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الشافعي، وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون من القرض وغيره.
__________
(1) حاشية الدسوقي: 3 / 328، لكن الدسوقي بعد نقله هذا الكلام عن ابن عرفة قال: "فيه نظر؛ لأن شرطه هذا مناقض لمقتضى العقد، وأصل المذهب في الشرط المناقض للعقد أن يفسده. تأمل ". لكن الحقيقة ليس في هذا الشرط تناقض لمقتضى العقد.
(2) جاء في الروضة: 4 / 232: " فلو شرط في الحوالة الرجوع بتقدير الإفلاس أو الجحود فهل تصح الحوالة والشرط، أم الحوالة فقط، أم لا يصحان؟ فيه أوجه. هذا إذا طرأ الإفلاس، فلو كان مفلسًا حال الحوالة، فالصحيح المنصوص: أنه لا خيار للمحتال سواء شرط يساره أم أطلق، وفيه وجه يثبت خياره في الحالين، وفي وجه يثبت إن شرط فقط، واختار الغزالي الثبوت مطلقًا".
(3) الروضة: 4 / 231 – 232؛ والمغني: 4 / 580 – 581.
(4) جاء في المغني: 4 / 336: " قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة " وأما في بعضه فمحل خلاف.(11/69)
وأيضًا فهذا مال رجع إليه بنسخ العقد فجاز أخذ العوض عنه كالثمن في المبيع.
وأيضًا فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز (1) .
وهؤلاء المانعون استدلوا بالحديث السابق وهو: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ... )) وقد سبق أن الحديث ضعيف جدًا لا ينهض حجة، وأنه يحتمل معاني أخرى كما سبق، قال ابن القيم: " ولو صح لم يتناول محل النزاع، لأنه لم صرف المسلم فيه في غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره، فأين المسلم فيه من رأس مال السلم؟ (2) .
واستدلوا كذلك بأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم تجز المعاوضة عليه قبل قبضه وحيازته كالمسلم منه.
ويجاب عنه بأن قياسكم المنع على نفس المسلم فيه، فالكلام فيه أيضًا قد تقدم، وأنه لا نص يقتضي المنع، ولا إجماع ولا قياس.
قال ابن القيم: " ثم لو قدر بتسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه، ورأس مال السلم واضحًا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يضمن بعد فسخ العقد فكيف يلحق أحدهما بالآخر فثبت أنه لا نص في المنع، ولا إجماع، ولا قياس " (3) .
ثم بين ابن القيم أن حكم رأس المال في السلم بعد الفسخ حكم سائر الديون، ولذلك لا يجوز أن يجعل سلمًا في شيء آخر، وأنه إذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض العوض في المجلس، لأنه صرف بسعر يومه، لأنه غير مضمون عليه، وإن عاوض عن المكيل بمكيل، أو عن الموزون بموزون من غير جنسه كقطن بحرير، أو كتان وجب قبض عوضه في مجلس التعويض، وإن بيع بغير مكيل، أو موزون كالعقار والحيوان فهل يشترط القبض في مجلس التعويض؟ فيه وجهان:
أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد.
والثاني: يشترط. .. (4) .
قال ابن القيم: "ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلاً بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حطنة أو ميكلاً آخر من غير المجلس مما يمتنع ربا النساء بينهما، فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: المنع، وهو المأثور عن ابن عمر، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وهو مذهب مالك، وإسحاق.
والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة (5) ، وبه قال جابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب المغني (6) وشيخنا. . . " (7) .
ثم قال: " والصحيح الجواز، لما تقدم، قال عبد الله بن زيد: قدمت على علي بن حسين، فقلت له: " إني أجد نخلي، وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل فيقدمون بالحنطة، وقد حل الأجل فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم، وأقاصهم؟ قال: لا بأس بذلك، إذا لم يكن منك على رأي "، يعني إذا لم يكن حيلة مقصودة. فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول، فصح، لأنه لا يتضمن ربا بنسيئة ولا تفاضل، والذين يمنعون ذلك يجوزون أن يشتري منه الطعام بدراهم، ويسلمها إليه، ثم يأخذها منه وفاء أو نسيئة منه بدراهم في ذمته، ثم يقاصه بها، ومعلوم أن شراءه الطعام منه بالدراهم التي في ذمته أيسر من هذا، وأقل كلفة والله أعلم " (8) .
__________
(1) شرح سنن أبي داود للحافظ ابن القيم بهامش عون المعبود: 9 / 360؛ ويراجع مذهب أبي حنيفة في: حاشية ابن عابدين: 4/ 209، لكنه أجاز الاستبدال في حالة كون عقد السلم فاسدًا.
(2) شرح سنن أبي داود للحافظ ابن القيم بهامش عون المعبود: 9 / 360؛ ويراجع مذهب أبي حنيفة في: حاشية ابن عابدين: 4/ 209
(3) شرح سنن أبي داود لابن القيم: 9 / 360 – 361؛ ويراجع المذهب الشافعي في: الروضة: 3/493.
(4) شرح سنن أبي داود لابن القيم بهامش عون المعبود: 9 / 361.
(5) يراجع: حاشية ابن عابدين: 4 / 210؛ والروضة: 3 / 493، و 4 / 29؛ ويراجع المدونة: 4 / 69 – 79.
(6) المغني لابن قدامة: 4 / 337.
(7) شرح سنن أبي داود: 9 / 361.
(8) شرح سنن أبي داود بهامش عون المعبود: 9 / 361 – 362.(11/70)
والخلاصة أن الإقالة جائزة في عقد السلم بالاتفاق، وأن المسلم إليه (المشتري) له الحق في أن يأخذ بدل رأس ماله (دينه) أي شيء من المسلم، مع ملاحظة قواعد الصرف فيما لو كان رأس ماله نقدًا، ويأخذ الآن نقدًا آخر مكانه، أما لو كان رأس ماله عينًا فيسترد مثله إن كان مثليا، وقيمته إن كان قيميا.
وكذلك له الحق في أن يشتري برأس مال السلم – بعد فسخه – أي شيء آخر مع ملاحظة قواعد الربا في النقود والطعام، ولكنه لا يجوز له أن يشتري به دينًا نسيئة، لأنه لا يجوز بيع الدين النسيء.
وله الحق في الحوالة، والتولية والإشراك، والصلح ونحو ذلك، كما سبق.
صور من بيع الدين المعاصر بناءً على ما أسند إلى الشافعية!!
يلاحظ أن بعض البلاد التي يسود فيها المذهب الشافعي تقوم بعض مؤسساتها المالية الإسلامية ببيع دين المرابحة، وحتى بعض علمائها حل معاملات شبيهة بخصم الكمبيالات (سندات الدين) التجارية، فمن هذه الصور أن يقوم المصرف اليوم ببيع سلعة بالمرابحة إلى أحمد بثمن مقدر بعشرة آلاف دولار (مثلاً) لمدة سنة، وحينئذ يتحول الثمن إلى دين يستحق الأداء بعد سنة موثق بسندات القبض، وعندئذ يقوم المصرف ببيع تلك السندات على محمود حالاً أو في زمن أقل من السنة مثلاً بمبلغ أقل من دين المرابحة، ثم يقوم محمود باستيفاء الدين كاملاً (قيمة الصفقة السابقة بين المصرف وأحمد) بعد انتهاء مدته.
تحقيق مذهب الشافعية في بيع الدين:
وبالرجوع إلى المصادر المعتمدة في المذهب الشافعي نرى أن خلافه ليس في بيع الدين بالدين على التفصيل الذي ذكرناها، وإنما خلافه في بيع الدين بالعين، كما ظهر ذلك من خلال ما نص عليه الشافعي وفقهاء المذهب، فقد جاء في الأم: " من سلف في طعام موصوف فحل السلف، فإنما له طعام في ذمة بائعه، فإن شاء أخذه به كله حتى يوفيه إياه، وإن شاء تركه كما يترك سائر حقوقه إذا شاء، وإن شاء أخذ بعضه وأنظره ببعض، وإن شاء أقاله منه كله. .. ".
ثم قال: " فالقياس والمعقول مكتفى به فيه " كما ذكر عدة آثار تدل على ذلك (1) .
وقد لخص الأئمة الشيرازي والرافعي والنووي مذهب الإمام الشافعي في بيع الديون، جاء في المهذب: " وأما الديون فينظر فيها فإن كان الملك عليها مستقرًا كغرامة المتلف، وبدل القرض جاز بيعه ممن عليه قبل القبض، لأن ملكه مستقر عليه، فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض، وهل يجوز من غيره؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة.
والثاني: لا يجوز، لأنه لا يقدر على تسليمه إليه، لأنه ربما منعه، أو جحده، وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز.
والأول أظهر، لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود وإن كان الدين غير مستقر نظرت فإن كان مسلما فيه لم يجز بيعه.
وإن كان ثمنا في بيع ففيه قولان: قال في الصرف: " يجوز بيعه قبل القبض لما روى ابن عمر، قال: " كنت أبيع الإبل بالبقيع (2) بالدنانير فآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس بذلك ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) (3) ، ولأنه لا يخشى من انفساخ العقد فيه بالهلاك فصار كالبيع بعد القبض.
__________
(1) الأم، ط دار المعرفة، بيروت: 3 / 132.
(2) جاء في المجموع: 27319 وقوله بالبقيع هو الباء الموحدة، وإنما قيدته لأني رأيت من يصحفه.
(3) الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والحاكم وغيرهم وصححه النووي وغيره كما سبق وضعفه الألباني في الإرواء: 5 / 173.(11/71)
ورى المزني في جامعه الكبير أنه لا يجوز. . . . ". (1)
وقال النووي في شرحه: " وهل تجوز الحوالة به بأن يحيل المسلم إليه المسلم بحقه على من له عليه دين قرض، أو إتلاف أو الحوالة عليه بأن يحيل المسلم من عليه قرض دين أو إتلاف على المسلم إليه فيه ثلاثة أوجه:
أصحها: لا، والثانى: نعم، والثالث: لا يجوز عليه، ويجوز به. ..
ثم قال: " فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة ففي الاستبدال عنها طريقان. ...
أحدهما: القطع بالجواز. ... وأما الأجرة فكالثمن، وأما الصداق وبدل الخلع، فكذلك إن قلنا: إنهما مضمونان ضمان العقد، وإلا فهما كبدل الإتلاف.
ثم قال: " وإن جوزنا الاستبدال فلا فرق بين بدل وبدل، ثم ينظر إن استبدل ما يوافقهما في علة الربا كدنانير عن دراهم اشترط قبض البدل في المجلس، وكذا إن استبدل عن الحنطة المبيعة شعيرًا إن جوزنا ذلك.
وفي اشتراط تعيين البدل عند العقد وجهان:
أحدهما: بشرط، وإلا فهو بيع دين بدين.
وأصحهما: لا يشترط كما لو تصارفا في الذمة، ثم عينا وتقابضا في المجلس.
وإن استبدل ما ليس موافقًا لها في علة الربا كالطعام والثياب عن الدراهم نظر:
إن عين البدل والاستبدال جاز، وفي اشتراط قبضه في المجلس وجهان.
صحح الغزالي وجماعة الاشتراط، وهو ظاهر نصه في المختصر.
وصحح الإمام والبغوي عدمه، قلت: هذا الثاني أصح، وصححه الرافعي في المحرر. وإن لم يعين، بل وصف في الذمة فعلى الوجهين السابقين، وإن جوزناه اشترط التعيين في المجلس وفي اشتراط القبض الوجهان:
ثم قال: وأما دين القرض والإتلاف فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف كما لو كان له في يد غيره مال بغصب، أو رعاية فإنه يجوز بيعه له. . . ولا يجوز استبدال المؤجل عن الحال ويجوز عكسه.
وهذا الذي ذكرناه كله في الاستبدال وهو بيع الدين ممن هو عليه، فأما بيعه لغيره كمن له على رجل مائة فاشترى من آخر عبدًا بتلك المائة، ففي صحته قولان مشهوران: أصحهما: لا يصح لعدم القدرة على التسليم.
والثاني: يصح بشرط القبض في المجلس.
ثم قال: " ولو كان له دين على إنسان ولآخر مثله على ذلك الإنسان فباع أحدهما ما له عليه بما لصاحبه، لم يصح سواء اتفق الجنس أو لا، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ " (2) .
وهذا الكلام هو ملخص لما ذكره الرافعي في شرح الوجيز (3) وعليه نصوص الكتب الشافعية (4) حيث تدل على أنه ليس هناك خلاف للشافعية في عدم جواز بيع الدين بالدين، وأن قواعد الصرف تنسحب على كل التعامل الذي يجري بالدين حيث يشترط فيه التماثل والتقابض في المجلس إذا كانا من جنس ربوي واحد، والتقابض في المجلس إذا كان من جنسين ربويين مختلفين، أما إذا كانا من غير ذلك فتطبق عليه القواعد العامة في البيع، بأن كان الدين دراهم ودنانير (النقود) والمستبدل عنه طعامًا، أو غيره من القيميات، أو المثليات (ما عدا النقود) فيجوز البيع زيادة ونقصانًا ودون الحاجة إلى القبض في المجلس.
وأما إذا كان الدين غير النقود بأن باع بغيرها في الذمة مثل أن باع جمله بسيارة موصوفة في الذمة فيجوز الاستبدال عنها بأي شيء آخر على أحد الوجوه. (5)
__________
(1) المهذب مع شرحه المجموع: 9 / 372.
(2) المجموع: 9 / 273 – 275.
(3) فتح العزيز: 8 / 431 – 439.
(4) روضة الطالبين: 3 / 512؛ والمنهاج مع شرحه للعلامة المحلي، وحاشيتي القليوبي وعميرة، ط. عيسى الحلبي بالقاهرة: 2 /214
(5) فتح العزيز: 8 / 435.(11/72)
جاء في المنهاج للنووي وشرحه للمحلي: " ولا يشترط في الأصح القبض للبدل ما لا يوافق في العلة للربا كثوب عن دراهم، كما لو باع ثوبًا بدراهم في الذمة، لا يشترط قبض الثوب في المجلس، والثاني يشترط لأن أحد العوضين دين، فيشترط قبض الآخر في المجلس كرأس مال السلم " (1) .
وأما بيع الدين لغير من عليه الدين ففيه خلاف بين الشافعية على قولين، أحدهما يصح، والآخر لا يصح، مع خلاف في الترجيح لأحدهما، وعلى القول بالصحة؛ قال المحلي: "يشترط عليه قبض العوضين " في المجلس، فلو تفرقا قبل قبض أحدهما بطل البيع كذا في الروضة وأصلها كالتهذيب، وفي المطلب أو مقتضى كلام الكثيرين يخالفه (2) قال القليوبي معلقًا على ما هو المعتمد في الروضة وأصلها: "وعلم أنه لا فرق بين ما اتفقا في علة الربا وعدمه على المعتمد الذي اقتضاه كلام الشيخين" (3) ، ولكن النووي في زيادات الروضة قال: " الأظهر الصحة" أي دون الحاجة إلى القبض في المجلس (4) .
الخلاصة:
فعلم مما سبق أن ما يجري من تلك الدولة من بيع الدين المؤجل لشخص آخر بثمن معجل أقل من الدين لا يجوز أبدًا عند الشافعية، وليس عليه أي قول من أقوال الإمام الشافعي، ولا وجه من وجوه أصحابه، وإنما هو نابع من عدم فهم بعض العبارات المطلقة الواردة في جواز بيع الدين دون الخوض في مرادها وما تتطلبها قواعد المذهب في مسائل الصرف ونحوها.
كما أن ذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء السابقين – حسب علمي – بل هو داخل في ربا النسيئة، ولا يختلف عن سندات الدين التي صدر بحظرها قرارات المجامع الفقهية. هذا والله أعلم.
__________
(1) شرح المنهاج للمحلي: 2 / 215.
(2) شرح المحلي، مع حاشية القليوبي وعميرة: 2 / 215؛ ويراجع الروضة: 3 / 513.
(3) شرح المحلي، مع حاشية القليوبي وعميرة: 2 / 215؛ ويراجع الروضة: 3 / 513.
(4) الروضة: 3 / 514.(11/73)
خلاصة أحكام التصرف في الدين
ينقسم التصرف في الدين إلى تصرف من الدائن، وتصرف من المدين، ثم إن التصرف من الدائن قد يكون مع المدين نفسه أو مع غيره.
1 – تصرف الدائن في دينه، للمدين نفسه أو لغيره:
التصرف في الدين إذا كان بتمليكه للمدين نفسه فإما أن يكون الدين مملوكا للدائن بصورة مستقرة، كبدل القرض وثمن المبيع والمهر بعد الدخول، وإما أن يكون ملكه له غير مستقر كالأجرة قبل استيفاء المنفعة والمهر قبل الدخول.
1 /1 – تصرف المدين في الدين للمدين نفسه فيما ملكه مستقر عليه:
1/1 / 1 – لا خلاف بين الفقهاء في جواز تمليك الدائن للمدين نفسه دينا استقرت ملكيته، لأن ذلك التصرف يقع من المالك فيما استقر ملكه عليه وهو من قبيل الاستبدال (البيع) أو الهبة (الإسقاط) . والدليل على ذلك من السنة قول ابن عمر، رضي الله عنه: كنت أبيع الإبل بالدنانير وآخذ مكانها الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ مكانها الدنانير، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك فقال: ((لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)) .
1/ 1 / 2- ويستثنى من جواز تمليك الدين بعوض (عند جمهور الفقهاء) بدل الصرف ورأس مال السلم، فلا يجوز التصرف فيهما قبل القبض، لأن ذلك يخل بشرط صحتهما وهو القبض قبل الافتراق وإذا باع الذهب الذي في الذمة بفضة اشترط قبضها في المجلس.
1/ 1/ 2/ 1- وفي تمليك الدين للمدين يجوز عند بعض الفقهاء أن يكون العوض نفسه دينا ويسمى ذلك (تطارح الدينين) وهو إن يبيع دينا له بدين عليه للمدين ولكن شريطة حلول أجل الدينين وبراءة الذمتين، إذ يعتبر حلول الأجلين بمثابة التقابض، ولذا يسمي هؤلاء الفقهاء هذه المعاملة (الصرف في الذمة) . وأما حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ – أي الدين بالدين – فالمراد الدين الواجب بالدين الواجب، أي السلف المؤجل من الطرفين. وههنا دينان ساقطان، وليس في تحريم ذلك نص ولا تترتب في هذا مفسدة بيع الدين بالدين (حيث تبقى الذمة مشغولة مع وجود العقد، والمقصود من العقود القبض فلم يحصل) ، أما هنا فقد حصلت بالبيع براءة كل منهما من دين صاحبه.(11/74)
1 / 1 / 2/ 2- كما يجوز أيضا عند بعض الفقهاء تمليك الدين بجعله رأس مال للسلم، لأنه قبض حكمي، فلم يتحقق فيه انتفاء قبض رأس مال السلم، لأنه بالتمليك للمدين صار مقبوضا فارتفع المانع ويسمى هذا (بيع الساقط بالواجب) .
1/ 1/ /2 / 3- في حالة بيع الدائن دينه إلى المدين نفسه بشيء موصوف في الذمة يشترط قبض العوض قبل التفرق كي لا يكون بيع دين بدين، أما إذا كان العوض شيئا معينا فلا يشترط قبضه اكتفاء بتعينه.
1 / 2 – تصرف المدين في الدين للمدين نفسه فيما لم يستقر ملكه عليه:
التصرف من الدائن مع المدين في دين غير مستقر الملك، كالأجرة قبل استياء المنفعة، والمسلم فيه، والمهر قبل الدخول إذا كان بغير عوض فهو جائز، لأنه إسقاط. أما بعوض فيختلف الحكم في السلم عن غيره.
1 / 2 / 1 – بيع السلم:
يجوز عند بعض الفقهاء الاعتياض عن الدين المسلم فيه إذا كان بثمن المثل أو دونه لا أكثر منه لأنه لا يندرج بهذا القيد في جر منفعة بالسلف، أما إذا كان بأكثر ففيه ذلك المحذور. وبعض الفقهاء منع ذلك مطلقا لأن دين السلم غير مستقر لاحتمال فسخه بانقطاع المسلم فيه، فلا يصح البيع أصلا.
1/2/2 – غير دين السلم من الديون التي لم يستقر ملك الدائن لها. يجوز الاستبدال عن تلك الديون.
2 - تمليك الدائن دينه لغير مدينه:
يجوز عند بعض الفقهاء تمليك الدائن دينه لغير مدينه بعوض وبغير عوض إذا انتفى غرر العجز عن تسليمه، ولم يقترن به شيء من المحظورات كربا النسيئة، وبيع الدين بالدين.
يتم هذا عن طريق الحوالة، وأحكامها معروفة.
* وفى جميع الأحوال لا يجوز بيع الدين لغير من هو عليه بأقل من قدره نظير الأجل الذي ينتظر إليه مشتري الدين (خصم الكمبيالات والسندات) لأن هذا من الربا المحرم.
علي محيى الدين القره داغي(11/75)
بيع الدين
أحكامه – تطبيقاته المعاصرة
إعداد
أ. د نزيه كمال حماد
بسم الله الرحمن الرحيم
بيع الدين
أحكامه – تطبيقاته المعاصرة
ويتألف هذا البحث من تمهيد ومبحثين وخاتمة:
التمهيد
حقيقة الدين
1- يطلق الفقهاء كلمة الدين في اصطلاحهم باعتبارين: اعتبار التعلق، واعتبار المضمون:
* أما باعتبار التعلق: فيرد استعمالهم للدين في مقابل العين، حيث يقولون:
العين: هي الشيء المعين المشخص، كبيت وسيارة وحصان وكرسي وصبرة حنطة وصبرة دراهم حاضرتين. فكل ذلك بعد من الأعيان. والدين: هو ما يثبت في الذمة من غير أن يكون معينًا مشخصا، سواء أكان نقدا أو غيره (1) . وعلى ذلك قال المقري في قواعده: " المعين لا يستقر في الذمة، وما تقرر في الذمة لا يكون معينا ". (2)
وأساس التمييز بين العين والدين في هذا التقسيم الفقهي هو الاختلاف والتباين في التعلق، حيث إن الدين يتعلق بذمة المدين، ويكون وفاؤه بدفع أية عين مالية مثلية من جنس الدين الملتزم به ولهذا صحت فيه الحوالة والمقاصة، بخلاف العين، فإن الحق يتعلق بذاتها، ولا يتحقق الوفاء في الالتزام بها إلا بأدائها بعينها، ومن أجل ذلك لم تصح الحوالة أو المقاصة في الأعيان، لأنها إنما تستوفي بذواتها لا بأمثالها. (3)
* وأما باعتبار المضمون والمحتوى: فقد استعمله الفقهاء بمعنيين أحدهما أعم من الآخر.
أ – أما الدين بالمعنى الأعم: فيشمل كل ما ثبت في الذمة من أموال – أيًّا كان سبب وجوبها – أو حقوق محضة، كسائر الطاعات من صلاة وصيام ونذر وحج ونحوها. "لأن الدين لزوم حق في الذمة" (4) .
وبناءً على هذا الاعتبار، فلا يشترط في الدين أن يكون مالاً، ولو كان مالاً فلا يشترط فيه أن يكون ثابتًا في معارضة أو إتلاف أو قرض فحسب. وعلى ذلك عرف بأنه: " وصف شرعي في الذمة يظهر أثره عند المطالبة " (5) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م 158، 159؛ رد المحتار: 4/ 25.
(2) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي، ص 331.
(3) المدخل إلى نظرية الالتزام للزرقا، ص 170 وما بعدها؛ مصادر الحق للسنهوري: 1 / 15؛ تبيين الحقائق: 4 / 171؛ رد المحتار: 4 / 290؛ والفروق للقرافي: 2 / 133.
(4) فتح الغفار شرح المنار لابن نجيم: 3 / 20.
(5) العناية على الهداية: 6 / 346.(11/76)
وقد جرى عامة الفقهاء على استعمال كلمة (دين) بهذا المعنى، كما ورد استعمالها به في كثير من الأحاديث النبوية.
ب- وأما الدين بالمعنى الأخص: (أي في الأموال) فقد اختلف الفقهاء في حقيقته على قولين:
أحدهما للحنفية؛ وهو أن الدين عبارة عما يثبت في الذمة من مال في معاوضة أو إتلاف أو قرض. وبناءً على ذلك عرفه ابن عابدين بقوله: "الذين: ما وجب في الذمة بعقد أو استهلاك، وما صار في ذمته دينًا باستقراضه" (1) .
والثاني لجمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة؛ وهو أن الدين عبارة عن " ما يثبت في الذمة من مال بسبب يقتضي ثبوته". فتدخل فيه كل الديون المالية، سواء منها ما ثبت في نظير عين مالية وما ثبت في نظير منفعة وما ثبت حقًّا لله تعالى من غير مقابل كالزكاة، وتخرج عنه سائر الديون غير المالية من صلاة فائتة وإحضار خصم إلى مجلس الحكم ونحو ذلك (2) .
الدين الحال والمؤجل:
2- لقد قسم الفقهاء الدين باعتبار وقت أدائه إلى قسمين: حال، ومؤجل (3) .
* فالدين الحال: هو ما يجب أداؤه عند طلب الدائن، وتجوز المطالبة بأدائه على الفور، والمخاصمة فيه أمام القضاء، سواء أكان كذلك في أصله، أم كان مؤجلا فحل أجله.
* والدين المؤجل: هو ما لا يجب أداؤه قبل حلول أجله، ولا تصح المطالبة به إلا عند حلول الأجل، لكن يجوز للمدين أن يعجل الأداء ويسقط الأجل، وليس للدائن أن يمتنع من أخذه إلى إذا كان في ذلك ضرر عليه.
والدين المؤجل قد يكون منجمًا على أقساط، لكن قسط منه أجل معلوم، وعند ذلك يجب الوفاء بكل قسط في الموعد المضروب له، ولا يجبر المدين على أدائه قبل حلول أجله.
__________
(1) رد المحتار: 5 / 157؛ (وانظر فتح القدير: 5 / 431؛ طلبة الطلبة، ص 141) .
(2) الولاية على المال والتعامل بالدين لعلي حسب الله، ص 83؛ وانظر نهاية المحتاج: 3 / 130؛ العذب الفائض شرح عمدة الفارض: 1 / 15.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي: 2 / 502؛ طلبة الطلبة للنسفي، ص 147؛ غمز عيون البصائر للحموي: 2 / 48؛ التعريفات الفقهية للمجددي، ص 296.(11/77)
المبحث الأول
أحكام بيع الدين
3- لقد ذهب ابن حزم الظاهري إلى عدم جواز بيع الدين مطلقًا في جميع صوره وحالاته (1) ، خلافًا لجمهور الفقهاء الذين أجازوا بعض صوره، وحظروا بعضها الآخر، ولهم في أحكامه تفصيلات وتقييدات، وخلاف وتعدد مقولات، وقد فرقوا فيها بين ما إذا كان البيع من المدين نفسه أو من غيره، وبين ما إذا كان الدين حالاً أو مؤجلاً، وبين ما إذا كان الثمن حالاً أو مؤجلاً. وبيان مذاهبهم منحصر في الصور الثمان التالية:
الصورة الأولى – بيع الدين المؤجل للمدين بثمن مؤجل:
4- لقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة في المذهب إلى عدم جواز بيع الدين المؤجل من المدين بثمن مؤجل، لأنه من بيع الكالئ بالكالئ (أي الدين المؤخر بالدين المؤخر) ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم (2) عنه، ووقع الإجماع على فساده.
جاء في (المبدع) : " ولا يجوز بيع الكالئ بالكالئ: وهو بيع ما في الذمة بثمن مؤجل لمن هو عليه " (3) .
وجاء في (تكملة المجموع) للسبكي: "تفسير بيع الدين بالدين المجمع على منعه: وهو أن يكون للرجل على الرجل دين، فيجعله عليه في دين آخر مخالف له في الصفة أو القدر، فهذا هو الذي وقع الإجماع على امتناعه " (4) .
وجاء في (منحة الخالق) لابن عابدين نقلاً عن جواهر الفتاوى: " رجل له على آخر حنطة غير السلم، فباعها منه بثمن معلوم إلى شهر لا يجوز، لأن هذا بيع الكالئ بالكالئ، وقد نهينا عنه " (5) .
5- وذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى جوازه (6) ، واحتجوا على ذلك:
أ- بأن لكل واحد منهما فيه غرضًا صحيحًا ومنفعة مطلوبة، إذ تبرأ ذمة المدين عن دينه الأول، وتنشغل بدين آخر، قد يكون وفاؤه أسهل عليه وأنفع للدائن، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يكون جائزًا شرعًا، لأن التعامل إنما شرع لجلب منافع الناس وتحصيل مصالحهم.
__________
(1) المحلى: 8 / 503، 9 / 6.
(2) رواه الدارقطني والبيهقي والطحاوي والحاكم والبزار وابن أبي شيبة وابن عدي وعبد الرزاق من حديث موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. قال الشافعي: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث. وقال أحمد: ليس في هذا حديث يصح. غير أن هذا الحديث مع ضعف سنده لعلة تفرد موسى بن عبيدة به فقد تلقته الأمة بالقبول بين عامل به على عمومه وبين متأول له، واتفقت المذاهب الأربعة على الأخذ بمضمونه والاحتجاج به؛ (انظر التلخيص الحبير: 3 / 26؛ السيل الجرار للشوكاني: 3 / 14؛ الدراية لابن حجر: 2 / 157؛ المغني لابن قدامة: 4 / 53؛ نظرية العقد لابن تيمية، ص 235؛ نيل الأوطار: 5 / 255؛ سبل السلام: 3 / 18؛ تكملة المجموع للسبكي: 10 / 107؛ بداية المجتهد: 2 / 162) .
(3) المبدع لبرهان الدين ابن مفلح: 4 / 150.
(4) تكملة المجموع: 10 / 107.
(5) منحة الخالق على البحر الرائق: 5 / 281.
(6) إعلام الموقعين: 1 / 389.(11/78)
ب- وبأن بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه بالإجماع هو أن يبيع المرء شيئًا موصوفًا في الذمة إلى أجل بثمن مؤجل، أما غير هذه الصورة فهي محل خلاف العلماء. قال ابن تيمية: "والإجماع إنما هو في الدين الواجب بالدين الواجب، كالسلف المؤجل من الطرفين " (1) . أما بيع الدين الساقط بالواجب كما هو الحال في هذه الصورة فلم يرد عنه نهي لا بلفظه ولا بمعناه. قال ابن القيم: " والساقط بالواجب: كما لو باعه دينًا له في ذمته بدين آخر من غير جنسه، فسقط الدين المبيع، ووجب عوضه، وهو بيع الدين ممن هو في ذمته. . . وإذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته، والآخر يحصل على الربح – وذلك في بيع العين بالدين – جاز أن يفرغها من دين ويشغلها بغيره، وكأنه شغلها به ابتداءً، إما بقرض أو بمعاوضة، فكانت ذمته مشغولة بشيء، فانتقلت من شاغل إلى شاغل، وليس هناك بيع كالئ بكالئ، وإن كان بيع دين بدين، فلم ينه الشارع عن ذلك لا بلفظه ولا بمعنى لفظه، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه، فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فقد عاوض المحيل المحتال من دينه بدين آخر في ذمة ثالث، فإذا عاوضه من دينه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز " (2) .
6- وبالنظر في أدلة الفريقين يبدو لي رجحان قول جمهور الفقهاء بعدم جواز هذه الصورة، وذلك لصدق (بيع الكالئ بالكالئ) المنهي عنه بإجماع الفقهاء عليها (3) ، حيث إن معناها (بيع النسيئة بالنسيئة) أو (بيع الدين المؤخر الذي لم يقبض بالدين المؤخر) باتفاق أهل العلم (4) ، وهذه الصورة من مشتملاته. قال ابن هبيرة الحنبلي في (الإفصاح) : "واتفقوا على أن بيع الكالئ بالكالئ باطل" (5) . ولأن قصر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم معنى بيع الكالئ بالكالئ على صورة السلف المؤجل من الطرفين غير مسلم، لافتقاره إلى دليل يفيده، ولوجود صور أخرى يصدق عليها معناه وتدخل تحت عمومه، وقد نقل الإجماع على حظر بعضها باعتبارها من أفراده، ومنها هذه الصورة.
__________
(1) نظرية العقد لابن تيمية، ص 235؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 274.
(2) إعلام الموقعين: 1 / 389.
(3) وقد حكى هذا الإجماع الإمام أحمد وابن المنذر وابن رشد وابن قدامة وابن تيمية والسبكي وغيرهم؛ (انظر المغني: 4/ 53؛ نظرية العقد لابن تيمية، ص 235؛ الإجماع لابن المنذر، ص 117؛ بداية المجتهد: 2 / 162؛ تكملة المجموع للسبكي: 10 / 107؛ الزرقاني على الموطأ: 3 / 308؛ سبل السلام: 3 / 18) .
(4) المذهب: 1 / 278؛ أحكام القرآن للجصاص: 1 / 466، 483؛ مرقاة المفاتيح: 3 / 322؛ نظرية العقد، ص 235؛ حاشية ابن رحال على شرح ميارة: 1 / 317.
(5) الإفصاح: 1 / 361.(11/79)
الصورة الثانية – بيع الدين الحال للمدين بثمن مؤجل:
7- وقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة في المذهب إلى عدم جوازها، لأنها من بيع الكالئ بالكالئ الذي ورد النهي عنه، وأجمع الفقهاء على حظره. ويسمي المالكية هذه الصورة (فسخ الدين في الدين) لأن ما في ذمة المدين من الدين الأول قد فسخ وزال بالتزامه دينًا آخر بدله (1) .
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: " النسيئة بالنسيئة في وجوه كثيرة من البيع، منها: أن يسلم الرجل إلى الرجل مائة درهم إلى سنة في كر طعام، فإذا انقضت السنة وحل الطعام، قال الذي عليه الطعام للدافع: ليس عندي طعام، ولكن بعني هذا الكر بمائتي درهم إلى شهر، فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض. فهذه نسيئة انقلبت إلى نسيئة، ولو كان قبض الطعام منه، ثم باعه منه أو من غيره بنسيئة لم يكن كالئًا بكالئ" (2) .
وقال المطرزي: " النسيئة بالنسيئة هو أن يكون على رجل دين، فإذا حل أجله استباعك ما عليه إلى أجل " (3) .
وقال الباجي: " بيع ثوب إلى أجل بحيوان على بائعه إلى أجل أدخل في باب الكالئ بالكالئ" (4) .
8- وخالفهم في ذلك ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقالوا بجواز هذا البيع، وحجتهم على ذلك نفس الحجة التي ساقوها على الصورة السابقة وهي بيع الدين المؤجل للمدين بثمن مؤجل (5) .
9- والراجح في نظرية ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم جواز هذه الصورة، وذلك لصحة اندراجها تحت مفهوم بيع الكالئ بالكالئ المحظور بإجماع أهل العلم، ولأنها ذريعة إلى ربا النسيئة، حيث إن استبدال الدين الحال بدين مؤجل من غير جنسه مظنة الزيادة في الدين في مقابل الأجل الممنوع للمدين، وذلك في معنى ربا الجاهلية (تقضي أم تربي) . وقد نبه إلى هذا المعنى القاضي عياض بقوله في معنى بيع الكالئ بالكالئ: "وتفسيره: أن يكون لرجل على آخر دين من بيع أو غيره، فإذا جاء لاقتضائه لم يجده عنده، فيقول له: بع مني شيئًا إلى أجل أدفعه إليك – وما جانس هذا – ويزيده في المبيع لذلك التأخير، فيدخله السلف بالنفع" (6) .
__________
(1) الزرقاني على خليل: 5 / 81؛ منح الجليل: 2 / 562؛ التاج والإكليل: 4 / 367؛ مواهب الجليل: 4 / 368؛ حاشية الحسن بن رحال على شرح ميارة: 1 / 317؛ المعونة: 2 / 992.
(2) غريب الحديث لأبي عبيد: 1 / 21 وقد نقله عنه ابن منظور في اللسان: 1 / 147؛ والفيومي في المصباح: 2 / 654.
(3) المغرب في ترتيب المعرب: 2 / 228.
(4) المنتقى شرح الموطأ: 5 / 33.
(5) انظر ف 5 من البحث.
(6) مشارق الأنوار للقاضي عياض: 1 / 340؛ وانظر أيضًا: الزرقاني على خليل: 5 / 81؛ منح الجليل: 2 / 562؛ الموافقات: 4 / 40.(11/80)
الصورة الثالثة – بيع الدين الحال للمدين بثمن حال:
10 – لقد فرق الفقهاء في هذه الصورة بين حالتين، حالة ما إذا كان الدين مستقرًا، وحالة ما إذا كان غير مستقر.
الحالة الأولى: فإن كان الدين مستقرًا، كغرامة المتلف، وبدل القرض، وقيمة المغصوب، وبدل الخلع، وثمن المبيع، والأجرة بعد استيفاء المنفعة، والمهر بعد الدخول، فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة إلى جواز بيعه من المدين بثمن حال (1) .
واحتجوا على ذلك:
أ- بما ورى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي والدارقطني وغيرهم عن ابن عمر، رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ مكانها الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ مكانها الدنانير، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)) (2) . قالوا: فهذا ابن عمر يأخذ الدنانير مكان الدراهم، والدراهم مكان الدنانير، وهو بيع لأحدهما بالآخر، ويقره النبي صلى الله عليه وسلم، على ذلك، فكان ذلك دليلاً على جواز بيع ما في الذمة من أحد النقدين بالآخر إذا كان المشتري هو المدين، وكان الثمن حالاً، وإذا جاز بيع أحد النقدين بالآخر جاز بيع غيرهما مما يثبت في الذمة من باب أولى.
ب- وأن ما في ذمة المدين مقبوض له، فإذا دفع ثمنه للدائن كان ذلك بيع مقبوض بمقبوض، وهو جائز شرعًا.
11- واشترط ابن تيمية وابن القيم – وهو قول الإمام أحمد – لصحة ذلك الاعتياض أن يكون بسعر يومه (3) لقوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث ابن عمر: ((لا بأس إذا كان بسعر يومه إذا افترقتما وليس بينكما شيء)) (4) . حيث شرط النبي، عليه الصلاة والسلام، لصحة الاعتياض عن الدين أن يكون بسعر يومه، أي بثمن المثل أو دونه، لا أكثر منه، لئلا يربح الدائن فيما لم يضمن، حيث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن ربح ما لم يضمن (5) . وما ذهب إليه الشيخان ابن تيمية وابن القيم قول وجيه، وفقه في المسألة سديد.
12- واستثنى جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة من قولهم بجواز بيع الدين من المدين بثمن حال بدل الصرف ورأس مال السلم، فلم يجيزوا بيع أي منهما للمدين قبل قبضه، لأن في ذلك تفويتا ًلشرط الصحة، وهو القبض في بدلي الصرف ورأس مال السلم قبل الافتراق (6) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 358؛ رد المحتار: 4 / 166؛ شرح منتهى الإرادات: 2 / 222؛ كشاف القناع: 3/ 293؛ المهذب: 1 / 269؛ نهاية المحتاج: 4 / 88؛ المجموع شرح المذهب: 9 / 274؛ فتح العزيز: 8 / 434 وما بعدها؛ المبدع: 4 / 198؛ أسنى المطالب: 2 / 84؛ المغني: 4 / 134؛ تبيين الحقائق: 4 / 82؛ بدائع الصنائع: 7 / 3103؛ القواعد لابن رجب، ص 79، 80؛ الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 331؛ وانظر م (424) من مرشد الحيران.
(2) عارضة الأحوذي: 5 / 251؛ بذل المجهود: 15 / 12؛ سنن ابن ماجه: 760؛ السنن الكبرى للبيهقي: 5 / 284؛ سنن الدارقطني: 3 / 24؛ المستدرك: 2 / 44؛ التلخيص الحبير: 25/3.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 519؛ شرح ابن القيم على مختصر سنن أبي داود: 5 / 134، 154، 116.
(4) عارضة الأحوذي: 5 / 251؛ بذل المجهود: 15 / 12؛ سنن ابن ماجه: 760؛ السنن الكبرى للبيهقي: 5 / 284؛ سنن الدارقطني: 3 / 24؛ المستدرك: 2 / 44؛ التلخيص الحبير: 25/3.
(5) أخرجه ابن ماجه والدارقطني وأبو داود والترمذي والنسائي والطحاوي والحاكم وأحمد والدارمي وغيرهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (سنن ابن ماجه: 2 / 738؛ سنن النسائي: 7 / 259؛ بذل المجهود: 15 / 179؛ عارضة الأحوذي: 5 / 243؛ مسند أحمد: 2 / 175؛ سنن الدارقطني: 3 / 75؛ المستدرك: 2/17؛ إرواء الغليل: 5 / 146) .
(6) رد المحتار: 4 / 166، 244، 209؛ تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه: 4 / 82، 118، 136؛ بدائع الصنائع: 7 / 3102 وما بعدها؛ أسنى المطالب: 2 / 85؛ القواعد لابن رجب، ص 82؛ وانظر م (559) من مرشد الحيران.(11/81)
الحالة الثانية: أما إذا كان الدين غير مستقر، كالمسلم فيه، والأجرة قبل استيفاء المنفعة أو مضي زمانها، والمهر قبل الدخول ونحو ذلك، فقد فرق الفقهاء في حكم بيعه من المدين بين ما إذا كان دين سلم أو غيره (1) :
أولاً – دين السلم:
13- لقد اختلف الفقهاء في صحة بيع رب السلم الدين المسلم فيه للمدين على قولين:
أحدهما: لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة؛ وهو أنه لا يصح بيع المسلم فيه ممن هو في ذمته، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) (2) . حيث دل على حظر بيع دين السلم من صاحبه أو غيره (3) .
والثاني: للمالكية وأحمد في رواية عنه صححها ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو قول ابن عباس، وهو جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه لمن هو في ذمته بثمن المثل أو دونه لا أكثر منه (4) . قال ابن المنذر: "ثبت عن ابن عباس أنه قال: "إذا أسلفت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عوضًا أنقص منه، لا تربح مرتين" (5) .
* واحتجوا على جواز بيعه من المدين بثمن المثل أو دونه:
أ – أنه قول ابن عباس، رضي الله عنه، ولا يعرف له في الصحابة مخالف.
ب- وبأن دين السلم دين ثابت، فجاز الاعتياض عنه كبدل القرض والثمن في البيع.
ج – وبأنه أحد العوضين في البيع، فجاز الاعتياض عنه كالعوض الآخر.
__________
(1) وأساس التفرقة كما قال السيوطي في الأشباه والنظائر، ص 326 أن "جميع الديون التي في الذمة بعد لزومها وقبض المقابل لها مستقرة إلا دينًا واحدًا وهو دين السلم، فإنه وإن كان لازمًا فهو غير مستقر، وإنما كان غير مستقر لأنه بصدد أن يطرأ انقطاع المسلم فيه، فينفسخ العقد ".
(2) أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني والبيهقي عن أبي سعيد الخدري. (بذل المجهود: 15 / 146؛ سنن ابن ماجه: 2 / 766؛ سنن البيقهي: 6 / 30؛ سنن الدارقطني: 3 / 45؛ الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2 / 160) .
(3) رد المحتار: 4 / 166، 209؛ كشاف القناع: 293؛ المجموع: 9 / 273؛ البدائع: 7/3178؛ الأم: 3 / 133؛ المغني: 4 / 334؛ شرح منتهى الإرادات: 2 / 222؛ أسنى المطالب: 2 / 84؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 500، 503، 506؛ وانظر م (559) من مرشد الحيران؛ وم (492) من مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية.
(4) القوانين الفقهية، ص 296؛ مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية، ص 345؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 503، 504، 518، 519؛ تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 5 / 113 وما بعدها.
(5) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 5 / 113.(11/82)
د – ولأن حديث ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ضعيف لا تقوم به حجة كما ذكر علماء الحديث. قال الحافظ ابن حجر: " فيه عطية بن سعد العوفي، وهو ضعيف. وأعله أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان بالضعف والاضطراب " (1) . وحتى لو ثبت، فمعنى لا يصرفه إلى غيره: أي لا يصرفه إلى سلم آخر ببدل مؤجل، أو لا يبعه بثمن مؤجل، وذلك خارج عن محل النزاع. قال ابن القيم: " فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة (2) .
* واستدلوا على عدم جواز الاعتياض عنه ببدل يساوي أكثر من قيمته (3) :
أ – أن يتهم في الأكثر بسلف جر نفعًا.
ب- ولأن دين السلم مضمون على البائع، ولم ينتقل إلى ضمان المشتري، فلو باعه المشتري من المسلم إليه بزيادة، فيكون رب السلم قد ربح فيما لم يضمن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما لم يضمن.
14- غير أن المالكية اشترطوا لصحة جواز بيعه من المسلم إليه ببدل حال ثلاثة شروط بينها الخرشي بقوله: " يجوز للمسلم إليه أن يقضي دين السلم من غير جنس المسلم فيه، سواء حل الأجل أم لا، بشروط ثلاثة:
الأول: أن يكون المسلم فيه مما يباع قبل قبضه (وهو ما سوى الطعام) كما لو أسلم ثوبًا في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان دراهم، إذ يجوز بيع الحيوان قبل قبضه.
الثاني: أن يكون المأخوذ مما يباع بالمسلم فيه يدًا بيد، كما لو أسلم دراهم في ثوب مثلاً، فأخذ عنه طشت نحاس، إذ يجوز بيع الطشت بالثواب يدا بيد.
الثالث: أن يكون المأخوذ مما يجوز أن يسلم فيه رأس المال، كما لو أسلم دراهم في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان ثوبًا، فإن ذلك جائز، إذ يجوز أن يسلم الدراهم في الثوب" (4) .
15- وعندي أن مذهب المجيزين بشرط أن يكون البيع بثمن المثل أو دونه لا أكثر منه أولى بالاعتبار والترجيح لقوة مسندهم ونصاعة برهانهم، وسلامته من الإيراد عليه.
__________
(1) التلخيص الحبير: 3 / 25.
(2) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 5 / 117.
(3) القوانين الفقهية، ص 296.
(4) شرح الخرشي: 5 / 227؛ وانظر القوانين الفقهية، ص 274؛ عقد الجواهر الثمينة: 2 /563.(11/83)
ثانيًا – الديون الأخرى غير المستقرة:
16- اختلف الفقهاء في حكم بيع ما لم يستقر عليه ملك الدائن من الديون – غير السلم – لعدم قبض المدين البدل المقابل لها، كالأجرة قبل استيفاء المنفعة أو مضي زمانها، وكالمهر قبل الدخول، والجعل قبل العمل ونحو ذلك على قولين:
أحدهما: للحنابلة في المذهب؛ وهو عدم جواز بيعها ممن هي عليه، لأن ملكه عليها غير تام (1) .
والثاني: للحنفية والشافعية في الأظهر وأحمد في رواية، وهو جواز بيعها ممن عليه الدين، كالديون التي استقر عليها ملك الدائن، إذ لا فرق بينهما (2) . وقد صحح ابن تيمية وابن القيم هذا القول بشرط أن يكون الاعتياض عنها بسعر يومها أو أقل، كما هو الشأن في الديون الأخرى عندهم (3) . وهو الراجح في نظري.
الصورة الرابعة – بيع الدين المؤجل للمدين بثمن حال:
17- والأحكام المتعلقة بهذه الصورة، وخلاف الفقهاء فيها وأدلتهم هي نفس ما بيناه في الصورة السابقة (بيع الدين الحال للمدين بثمن حال) ، وفيها غنية عن الإعادة والتكرار.
الصورة الخامسة – بيع الدين المؤجل لغير المدين بثمن مؤجل:
18- ذهب جماهير أهل العلم إلى عدم جواز بيع الدين المؤخر من غير المدين بثمن مؤخر، سواء اتفق الأجلان أو اختلفا، إذ يصدق عليه (بيع الكالئ بالكالئ) المنهي عنه بإجماع الفقهاء، ولأنه بيع ما لا يقدر على تسليمه، وذلك غرر، فلا يحل شرعًا. قال ابن تيمية: " فإن ذلك منع منه لئلا تبقى ذمة كل منهما مشغولة بغير فائدة حصلت لا له ولا للآخر، والمقصود من العقود القبض، فهو عقد لم يحصل به مقصود أصلاً، بل هو التزام بلا فائدة " (4) . وقال ابن القيم: " فإن المنهي عنه – أي من بيع الكالئ بالكالئ – قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة، فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه، فينتفع بتعجيله، وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة" (5) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات: 2 / 223؛ كشاف القناع: 3 / 294.
(2) رد المحتار: 4 / 166؛ نهاية المحتاج: 4 / 88؛ المجموع: 9 / 275؛ فتح العزيز: 8 / 434 وما بعدها.
(3) الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية، ص 131؛ تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 5 / 113، 117، 134، 154؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 519.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 472؛ نظرية العقد لابن تيمية، ص 235.
(5) إعلام الموقعين: 1 / 389.(11/84)
الصورة السادسة – بيع الدين الحال لغير المدين بثمن مؤجل:
19 – ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة إلى عدم جواز بيع الدين الحال لغير المدين بثمن مؤجل، لأنه بيع ما ليس في يد البائع، ولا له من السلطة شرعًا ما يمكنه من قبضه، فكان بيعًا لشيء لا يقدر على تسليمه، إذ ربما منعه المدين أو جحده، وذلك غرر، فلا يجوز (1) .
الصورة السابعة – بيع الدين الحال لغير المدين بثمن حال:
20- اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال:
أحدها: لجمهور الفقهاء من الحنفية والحنابلة والشافعية في الأظهر؛ وهو عدم جواز بيع الدين الحال من غير المدين بثمن حال، وذلك لانطوائه على غرر عدم القدرة على التسليم (2) .
قال السرخسي: "وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم من قرض أو غيره، فباع دينه من رجل آخر بمائة دينار وقبض الدنانير، لم يجز، وعليه أن يرد الدنانير، لأن البيع لا يرد إلا على مال متقوم، وما في ذمة زيد لا يكون مالاً متقومًا في حق عمرو، فلا يجوز بيعه منه، ولأن البائع لا يقدر على تسليمه حتى يستوفى، ولا يُدرى متى يستوفى" (3) .
وجاء في شرح منتهى الإرادات: " ولا يصح بيع دين مطلقًا لغيره، أي من غير من هو عليه، لأنه غير قادر على تسليمه، أشبه الآبق" (4) .
وقال السيوطي: " أما لغير من هو عليه بالعين، كأن يشتري عبد زيد بمائة له على عمرو، ففيه قولان أظهرهما في الشرحين والمحرر والمنهاج: البطلان، لأنه لا يقدر على تسليمه " (5) .
والثاني: وجه عند الشافعية وقول للإمام أحمد صححه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: وهو الجواز مطلقًا (6) .
قال ابن القيم: "والدين في الذمة يقوم مقام العين، ولهذا تصح المعاوضة عليه من الغريم وغيره" (7) .
وجاء في الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية: " ويجوز بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره، ولا فرق بين دين السلم وغيره، وهو رواية عن أحمد " (8) .
والثالث: للمالكية؛ وهو التفريق بين دين السلم وغيره، قالوا:
أ – فإن كان دين سلم، فيجوز بيعه من غير المدين بعوض حال من غير جنسه – إذا لم يكن طعامًا – بمثل ثمنه وبأقل وأكثر، كي لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه، أو يؤول إلى بيع الكالئ بالكالئ.
قال ابن رشد الحفيد: " وأما بيع دين السلم من غير المسلم إليه فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع ما لم يكن طعامًا، لأنه يدخله بيع الطعام قبل قبضه " (9) .
وجاء في القوانين الفقهية: " ويجوز بيع العرض المسلم فيه من غير بائعه بالمثل وأقل وأكثر يدًا بيد، ولا يجوز بالتأخير للغرر " (10) .
__________
(1) رد المحتار: 4 / 166؛ تبيين الحقائق: 4 / 83؛ البدائع: 7 / 3104؛ الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 357، 358؛ أسنى المطالب: 2 / 85؛ نهاية المحتاج: 4 / 89؛ فتح العزيز: 8/439؛ المجموع: 9 / 275؛ الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 331؛ المبدع: 4 / 199؛ شرح منتهى الإرادات: 2 / 222؛ كشاف القناع: 3 / 294؛ القوانين الفقهية، ص 275؛ منح الجليل: 2 / 564؛ الزرقاني على خليل: 5 / 83؛ الخرشي: 5 / 77؛ البهجة شرح التحفة: 2 / 47؛ التاودي على التحفة: 2 / 48؛ الموطأ: 2 / 675.
(2) رد المحتار: 4 / 166؛ البدائع: 7 / 3104؛ تبيين الحقائق: 4 / 83؛ أسنى المطالب: 2/85؛ نهاية المحتاج: 4 / 89؛ المجموع: 9 / 275؛ كشاف القناع: 3 / 294؛ المبدع: 4/199.
(3) المبسوط: 14 / 22.
(4) شرح منتهى الإرادات: 2 / 222.
(5) الأشباه والنظائر، ص 331.
(6) مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 503، 506؛ المبدع: 4 / 199؛ تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 5 / 114؛ المنثور في القواعد للزركشي: 2 / 160، 161.
(7) إعلام الموقعين: 4 / 3.
(8) الاختيارات الفقهية للبعلي، ص 131.
(9) بداية المجتهد: 2 / 231.
(10) القوانين الفقهية لابن جزي، ص 275.(11/85)
ب- أما سائر الديون الأخرى: فيجوز بيعها من غير المدين بشروط تباعد بينه وبين الربا والغرر، وتنفي عنه سائر المحظورات الأخرى، وهذه الشروط ثمانية (1) :
1- أن يعجل المشتري الثمن، لأنه إذا لم يعجل في الحين، فإنه يكون من بيع الدين بالدين.
2- أن يكون الدين مما يجوز بيعه قبل قبضه، احترازًا مما لو كان طعامًا، إذ لا يجوز بيعه قبل قبضه.
3- أن يباع بغير جنسه، أو بجنسه بشرط أن يكون مساويا له وأن يكون عرضًا غير نقد.
4- أن لا يكون ذهبًا بفضة ولا عكسه، لاشتراط التقايض في صحة بيعها.
5- أن يكون المدين حاضرًا في البلد، ليعلم حاله من فقر أو غنى، لأن عوض الدين يختلف باختلاف حال المدين، والمبيع لا يصح أن يكون مجهولاً.
6- أن يكون المدين مقرًا بالدين، فإن كان منكرًا له فلا يجوز بيع دينه، ولو كان ثابتًا بالبينة، حسمًا للمنازعات.
7- أن لا يكون بين المشتري والمدين عداوة.
أن لا يقصد المشتري إعنات المدين والإضرار به.
والرابع: للشافعية في قول – صححه كثير من أئمتهم كالشيرازي في المهذب والنووي في زوائد الروضة، واختاره السبكي وأفتى به شيخ الإسلام زكريا الأنصاري وغيره – وهو أنه يجوز بيع سائر الديون – عدا دين السلم – لغير من عليه الدين، كما يجوز بيعها من المدين ولا فرق إذا كان الدين حالاً، والمدين مقرًا مليئًا أو عليه بينة لا كلفة في إقامتها، وذلك لانتفاء الغرر الذي ينشأ من عدم قدرة الدائن على تسليم الدين إليه (2) .
أما دين السلم فلا يجوز بيعه من المدين ولا من غيره، لأنه لا يؤمن من فسخ العقد بسبب انقطاع المسلم فيه وامتناع الاعتياض عنه، فكان كالمبيع قبل القبض، ولقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) . وهذا يقتضي عدم جواز بيع دين السلم لا من صاحبه ولا من غيره (3) .
21- وبالنظر في هذه الأقوال الأربعة وأدلتها نجد أن حجج المانعين من بيع الدين في هذه الصورة تنحصر في وجود الغرر فيه، لعدم قدرة البائع على تسليمه، وفي اقترانه ببعض المحظورات الأخرى، كربا النسيئة، وبيع ما لم يقبض، وبيع الدين بالدين في بعض حالاته.
وحيث كان الأمر كذلك، فإنه يترجح لدينا أن بيع الدين الحال لغير من عليه بثمن حال إذا خلا من المحظورات الشرعية العارضة، فإنه يكون صحيحًا مشروعًا إذا انتفى غرر عدم القدرة على تسليمه.
__________
(1) الخرشي: 5 / 77؛ منح الجليل: 2 /564 وما بعدها؛ الزرقاني على خليل: 5 / 83؛ البهجة شرح التحفة: 2 / 47 وما بعدها؛ التاودي على التحفة: 2 / 48؛ الموطأ: 2/ 675.
(2) أسنى المطالب: 2 / 85؛ روضة الطالبين: 3 / 514؛ فتح العزيز: 8 / 439؛ المهذب: 1 / 270؛ نهاية المحتاج: 4/ 90؛ المجموع شرح المهذب: 9 / 275؛ الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 331.
(3) الأم: 3 / 133؛ نهاية المحتاج: 4 / 87؛ أسنى المطالب: 2 / 84؛ فتح العزيز: 8 / 432.(11/86)
الصورة الثامنة – بيع الدين المؤجل لغير المدين بثمن حال:
22- للفقهاء في هذه الصورة ثلاثة أقوال:
أحدها: لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة على الصحيح المُفْتَى به في مذاهبهم؛ وهو عدم جواز بيع الدين المؤجل بثمن حال لغير من عليه الدين مطلقًا، ولذلك لانتفاء شرط صحة البيع، وهو القدرة على تسليم المحل، حيث إن البائع ههنا يبيع ما ليس تحت يده، ولا له من السلطة شرعًا ما يمكنه من قبضه، فكان بيعًا لمال لا يقدر على تسليمه، إذ ربما جحده المدين أو منعه، وذلك غرر، فلا يجوز (1) .
والثاني: للمالكية؛ وهو التفريق بين دين السلم وبين غيره من الديون الأخرى، حيث قالوا:
أ- فإن كان دين سلم، فيجوز بيعه من غير المدين بعوض من غير جنسه – إذا لم يكن طعامًا – كي لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه، وهو محظور شرعًا. وقد اشترط تعجيل البدل في الحال كي لا يؤول إلى بيع الدين بالدين (2) . ولا فرق بين أن يقع البيع بثمن المثل أو أقل أو أكثر.
ب- وأما سائر الديون الأخرى، فيجوز بيعها من غير المدين بثمن معجل من غير جنسها – إذا لم تكن طعامًا – بشرط أن لا تكون ذهبًا بفضة ولا عكسه، لاشتراط التقابض في صحة بيعها. كما يجوز بيعها بجنسها بشرط أن يكون مساويًّا له وأن تكون عرضًا غير نقد، فأما النقود فلا يجوز بيعها بجنسها مطلقًا، لإفضائه إلى الربا أو ذرائعه.
كذلك يشترط لصحة بيع الدين من غير المدين بثمن حال: أن يكون المدين حاضرًا في البلد، وأن يكون مقرًّا بالدين، وأن لا يكون بين المشتري والمدين عداوة، وأن لا يقصد المشتري إعنات المدين والإضرار به (3) .
والثالث: رواية عن الإمام أحمد اختارها وصححها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم؛ وهو جواز بيع الدين المؤجل بثمن حال لغير من عليه الدين، سواء أكان دين سلم أو غيره، إذا لم يفض إلى الربا (4) . وهو وجه عند الشافعية أيضًا (5) .
قال ابن تيمية: " ويجوز بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره، ولا فرق بين دين السلم وغيره، وهو رواية عن أحمد " (6) . وجاء في مجموع فتاوى ابن تيمية: " فمذهب مالك أنه يجوز بيع المسلم فيه من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه. وهذا أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد. نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته، وإن كان ذلك ليس في كتب كثير من متأخري أصحابه. وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد، وذلك لأنَّ دين السلم مبيع " (7) .
__________
(1) المبسوط: 14 / 22؛ رد المحتار: 4 / 166؛ تبيين الحقائق: 4 / 83؛ أسنى المطالب: 2/85؛ الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 331؛ شرح منتهى الإرادات: 2 / 222؛ كشاف القناع: 3 / 294؛ المبدع: 2 / 85؛ نهاية المحتاج: 4 / 89؛ المجموع شرح المذهب: 9 / 275.
(2) بداية المجتهد: 2 / 231؛ القوانين الفقهية لابن جزي، ص 275.
(3) الخرشي وحاشية العدوي عليه: 5 / 77؛ الزرقانى على خليل: 5 / 83؛ منح الجليل: 2 / 564 وما بعدها؛ البهجة شرح التحفة: 2 / 47 وما بعدها؛ التاودي على التحفة: 2 / 48.
(4) إعلام الموقعين: 4 / 3.
(5) المنثور في القواعد للزركشي: 2 / 161.
(6) الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تميمة، ص 131.
(7) مجموع فتاوى ابن تميمة: 29 / 506.(11/87)
23 – وبالنظر في هذه الأقوال الثلاثة وما استند كل واحد منها إليه يبدو لي رجحان:
أ – جواز بيع العرض المسلم فيه المؤجل من غير المدين ببدل حال من غير جنسه، سواء أكان عرضًا أو نقدًا، إذا انتفى غرر عدم القدرة على التسليم والربا، وذلك لعدم وجود مانع شرعي من ذلك، حيث إن حديث ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ضعيف لا تقوم به حجة كما ذكر علماء الحديث. . . وحتى لو ثبت فمعناه: فلا يصرفه إلى سلم جديد ببدل مؤجل أو لا يبعه بثمن مؤخر. . . ولعدم انطباق بيع الكالئ بالكالئ على هذه الصورة، إذ المراد به (النسيئة بالنسيئة) أو (الدين المؤخر الذي لم يقبض بالدين المؤخر) . وههنا بيع دين مؤخر بثمن معجل، فافترقا.
ب – جواز بيع الديون الأخرى من غير المدين بثمن حال، إذا انتقى غرر عدم القدرة على التسليم والربا وذرائعه. وعلى ذلك: فيجوز بيع دين النقود المؤجل منه بعرض معجل، وعكسه وهو بيع العرض الموصوف في الذمة المؤجل بنقد معجل، لعدم وجود ما يمنع من ذلك شرعًا. . . ولا يجوز بيع دين النقود المؤجل منه بنقد معجل من غير جنسه – لإفضائه إلى ربا النّساء – ولا من جنسه إذا كان أقل منه، لإفضائه إلى ربا الفضل والنساء. أما بيعه منه بأكثر منه أو بمساو له من جنسه معجل، فلا حجر فيه شرعًا، ولكنه ليس من شأن العقلاء دفع نقد عاجل ليأخذ مساويًّا له أو أقل من جنسه مؤجلاً في البيع.
* * *(11/88)
المبحث الثاني
التطبيقات المعاصرة لبيع الدين
وسنعرض في هذا المبحث للكلام عن ثلاث مسائل:
المسألة الأولى
التعامل ب سندات القرض
24 – ل سندات القرض أكثر من صورة، والذي يعنينا في هذا المقام منها: الصكوك المالية التي تصدرها الحكومة أو شركة أو شخص اعتباري عام، ويتعهد المصدر بأن يدفع لحاملها مبلغًا معينًا من المال في وقت محدد في المستقبل يعرف بـ (تاريخ الاستحقاق) . وهذه السندات لا يحتسب عليها فائدة عادة، ولكنها تباع مقدمًا بحسم يجري عند بيعها من قيمتها الاسمية، يكون بمثابة الفائدة، ويحسب على أساس سعر الفائدة السائد في الأسواق المالية. ويجري تداول هذه السندات عن طريق البيع في سوق الأوراق المالية (البورصة) على نفس المبدأ.
ومن هذا القبيل سندات الخزينة التي تصدرها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرهما من الدول الغربية باسم (Treasury Bill) أو (Treasury Bond) ، وكذا السندات التي تصدرها حكومات الولايات والأقاليم والبلديات على هذا الأساس.
25 – وهذه السندات لا يجوز شرعًا إصدارها ولا شراؤها ولا تداولها بالبيع. أما شراؤها عند الإصدار، فلأنه إقراض بفائدة ربوية حسم مقدارها عن المشتري (المقرض) وقت الشراء من مبلغ القرض، والتزم المصدر (المقترض) بدفعها وقت الاستحقاق، إذ لا فرق في الآلية والحكم الشرعي بين سعر الفائدة وسعر الحسم في القروض الربوية وسنداتها.
وأما تداولها بالبيع بعد صدورها من الحسم، فهو من باب بيع الدين لغير من هو عليه، وهو غير جائز شرعًا في قول أحد من الفقهاء إذا انطوى على الربا، حتى عند من يرى صحة بيع الدين لغير من هو عليه. ولا خفاء في تحقق الربا في بيع هذا النوع من السندات، إذ البدلان من النقود – ومن المعلوم المقرر في باب الصرف عدم جواز بيع النقود بجنسها مع التفاضل أو النساء، وحتى عند اختلاف الجنس يجب التقابض – وقد انتفى في هذا البيع شرط التساوي والتقابض، فتحقق فيه ربا الفضل والنساء في قول سائر الفقهاء. (ر. ف 22 من البحث) .
ولا فرق في ذلك بين أن تكون الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة، ولا أثر لتسميتها شهادات أو سندات أو صكوكًا استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية التي ينطوي شراؤها وتداولها عليها حسمًا أو فائدة أو عمولة أو عائدًا أو ربحًا أو غير ذلك.
وقد أكد هذا الحكم ووثقه قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) رقم (62 / 11 / 6) في دورته السادسة المنعقدة في جدة من 17 – 23 شعبان 1410 هـ / الموافق 14 – 20 آذار 1990 م، وقد جاء فيه:
" تحرم أيضًا السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضًا يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها خصمًا لهذه السندات".(11/89)
المسألة الثانية
حسم الكمبيالات
26- الكمبيالة: هي سند دين يتعهد مصدره بأن يدفع في وقت معين في المستقبل إلى شخص محدد اسمه في السند أو لأمره أو لحامل السند مبلغًا محددًا من النقود نتيجة بيع مؤجل الثمن أو قرض أو غير ذلك. ولا يحل أجل وفاء هذه الورقة التجارية إلا في التاريخ المدون عليها.
وحسم الكمبيالات: عملية مصرفية تتلخص في قيام حامل الورقة التجارية (الكمبيالة) بنقل ملكيتها وملكية الحق الثابت فيها عن طريق التظهير إلى المصرف أو غيره قبل ميعاد الاستحقاق، مقابل حصول المظهر على قيمتها مخصومًا منها مبلغ معين، وهو مجموع عمولة المصرف لقاء الاحتفاظ بالكمبيالة وتحصيلها، مع فائدة المبلغ المدفوع إلى المظهر عن المدة الباقية من تاريخ دفعه إلى تاريخ استحقاق الكمبيالة. وللمصرف أن يكرر الخصم لدى مصرف آخر أو لدى البنك المركزي.
27- حسم الكمبيالات صورة من صور الإقراض بفائدة التي تقوم بها البنوك التقليدية، وهو عملية محظورة شرعًا، لابتنائها على قاعدة القرض الربوي، ولانطوائها بلا ريب على الربا، وهو محرم شرعًا، وذلك لأمرين:
أحدهما: أننا لو أخذنا عملية خصم الكمبيالات على ظاهرها بحسب الشكل الذي أفرغت فيه لوجدناها من قبيل بيع الدين لغير من عليه الدين، حيث يبيع صاحب الكمبيالة (الدائن) دينه المؤجل المسطور فيها لغير المدين بثمن معجل أقل منه من جنسه، وبيع الدين لغير من عليه الدين محظور مطلقًا عند أكثر الفقهاء، وجائز عند بعضهم إذا انتفى فيه الغرر والربا، غير أن الربا ليس بمنتف ههنا، بل هو متحقق، لأن العوضين من النقود، وقد باع الدائن نقدًا آجلاً لغير المدين بنقد عاجل أقل منه من جنسه، فانطوى بيعه هذا على ربا الفضل والنساء، ومن هنا كان محظورًا باتفاق الفقهاء (1) . (رف 22، 23 من البحث) .
والثاني: أننا لو نظرنا إلى عملية خصم الكمبيالات بحسب المقصود والغاية منها، لوجدناها أحد أمرين:
أ – إما إقراض مبلغ وأخذ المقرض حوالة من المقترض بمبلغ أكثر منه يستوفى بعد مدة معينة، وهو ربا صريح لا مجال للتأويل فيه، لأن الحوالة يشترط لصحتها التساوي بين الدين المحال به والمحال عليه، وهنا تحقق بين الدين المحال به (وهو مبلغ القرض) والدين المحال عليه (وهو المبلغ الذي تثبته الكمبيالة) زيادة في مقابل الأجل، وذلك من ربا النسيئة (2) .
ب- وإما قرض مضمون بالورقة التجارية المظهرة لأمر المصرف تظهيرًا تامًا، إذ المصرف لم يقصد أن يكون مشتريًّا للحق الثابت في الذمة، ولا أن يكون محالاً، وإنما قصد الإقراض، فقبل انتقال ملكية الورقة المخصومة إليه على سبيل الضمان، فإذا حل وقت استحقاقها، ولم يدفع أي من الملتزمين قيمتها، فإن المصرف يعود على الخاصم بالقيمة، دون أن يرغب أو يكلف نفسه مؤونة ملاحقة الملتزمين حتى نهاية المطاف، كما هو الحاصل عمليًّا (3) .
__________
(1) انظر المصارف، معاملاتها وودائعها وفوائدها للأستاذ المحقق مصطفى الزرقا، ص 10.
(2) المصارف، معاملاتها وودائعها وفوائدها للأستاذ المحقق مصطفى الزرقا، ص 10؛ الحوالة للدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص 242، 243.
(3) انظر تطوير الأعمال المصرفية للدكتور سامي حمود، ص 284.(11/90)
38- ولا يخفى أن عملية خصم الكمبيالات مغايرة تمامًا لمسألة (ضع وتعجل) السائغة شرعًا في نظر بعض الفقهاء، ذلك أن حديث (ضعوا وتعجلوا) (1) تضمن مشروعية حط الدائن لمدينة بعض الدين المؤجل نظير تعجيل باقيه على أساس أنه نوع من الصلح في الديون بين الدائن والمدين فحسب، ولذلك صنف الفقهاء مسألة ضع وتعجل تحت عنوان (صلح الإسقاط) أو (صلح الإبراء) أو (صلح الحطيطة) باعتبار أن القصد منه إسقاط الدين عن المدين وإبراء ذمته، خلافًا لربا النسيئة الذي يتضمن إنشاء دين وشغل الذمة، والفرق بينهما كما ذكر ابن القيم ِ: " أن مقابلة الأجل بالزيادة في الربا ذريعة إلى أعظم الضرر، وهو أن يصير الدرهم الواحد ألوفًا مؤلفة، فتشتغل الذمة بغير فائدة، وفي الوضع والتعجيل تتخلص ذمة هذا من الدين، وينتفع ذاك بالتعجيل له، والشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون، وقد سمى الغريم المدين أسيرًا، ففي براءة ذمته تخليص له من الأسر، وهذا ضد شغلها بالزيادة مع الصبر" (2) .
ثم إن حديث الوضع والتعجيل تضمن مشروعية الصورة التي ورد فيها على أساس أن تكون العلاقة في هذه العملية ثنائية بين الدائن والمدين، إذ لا يتصور صلح الحطيطة أو الإسقاط والإبراء في علاقة ثلاثية – كما هو الحال في خصم الكمبيالات – حيث يدخل طرف ثالث ممول (وهو البنك الخاصم) فيقدم قرضًا بزيادة إلى أجل بشكل صريح أو ضمني، فافترقا. .
وقد جاء في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة المنعقدة بجدة من 7- 12 ذي القعدة 1412 هـ / الموافق 9 – 14 مايو 1992 م حول متعلقات موضوع (البيع بالتقسيط) ما يلي:
"الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، ولا تدخل في الربا المحرم إذا لمن تكن بناءً على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها حينئذ تأخذ حكم حسم الأوراق التجارية ".
__________
(1) رواه الحاكم والبيهقي. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقد اعترض الذهبي على تصحيحه، وأشار إلى ضعفه. قال ابن القيم: " قلت: هو على شرط السنن، وقد ضعفه البيهقي، ورجال إسناده ثقات، وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي، وهو ثقة فقيه، روى عنه الشافعي واحتج به "؛ (إغاثة اللهفان: 2 / 13؛ وانظر السنن الكبرى للبيهقي: 6 / 28؛ المستدرك وبهامشه تلخيصه للذهبي: 2 / 13) .
(2) إغاثة اللهفان: 2 / 13؛ وانظر إعلام الموقعين: 3 / 371.(11/91)
المسألة الثالثة
التوريق (تصكيك الديون)
29- كلمة (التوريق) تعريب لمصطلح اقتصادي حديث وهو (Securitization) الذي يعني: جعل الدين المؤجل في ذمة الغير – في الفترة ما بين ثبوته في الذمة وحلول أجله – صكوكًا قابلة للتداول في سوق ثانوية. وبذلك يمكن أن تجرى عليه عمليات التبادل والتداول المختلفة، وينقلب إلى نقود ناضة بعد أن كان مجرد التزام في ذمة المدين.
وقد اشتقت هذه التسمية مما جاء في اللغة من قولهم: أورق الرجل؛ إذا صار ذا ورق. والورق: الدراهم المضروبة من الفضة. وذلك كناية عن كثرة النقود في يده (1) . ومن المعلوم أن الدائن يصير بالتوريق ذا نقود سائلة (ورق) بعد أن كان مجرد صاحب دين مؤجل في ذمة الغير، وكذا سائر من انتقلت إليه ملكية ذلك الصك. . . ونظير ذلك مصطلح (التورق) في الفقه الحنبلي الذي يعني (أن يشتري الشخص سلعة نسيئة، ثم يبيعها نقدًا لغير البائع بأقل مما اشتراها به، ليحصل بذلك على النقد) (2) . حيث إن قصد ذلك الشخص بالبيعتين هو الحصول على الدراهم الناضة (النقود السائلة) لا غير.
وقد أطلق بعض العلماء المعاصرين على هذه العملية اسم (التصكيك) وذكر أنها تقوم في الأساس على خلق أوراق مالية قابلة للتداول، مبنية على حافظة استثمارية ذات سيولة متدنية (3) . هذا وقد اكتسبت هذه الأوراق المالية (وثائق تداول الديون) أهمية كبرى في أسواق المال العالمية في السنوات الأخيرة، حيث فتحت الباب على مصراعيه لتداول الديون واستثمار الأموال في هذا السبيل الميسر المنظم.
وفي ذلك يقول الدكتور القري: " لقد بدأت فكرة تداول الديون عندما قامت مؤسسة تمويل بناء المساكن في الولايات المتحدة Government National Mortgage Association والمشهور باسم Ginne Mea – والتي تتولى عملية تمويل بناء المنازل – سنة 1968م بالتمويل لا عن طريق الإقراض المباشر، ولكن عن طريق توفير السيولة لمؤسسات الإقراض الخاصة، التي تقوم عندئذ بتقديم القروض. ثم تقوم المؤسسة بشراء تلك القروض (الديون) التي تقدمها المؤسسات لبناء المساكن، ومن ثم بتمكينها من التوسع في الإقراض. ولقد ولد ذلك سوقًا ثانوية لقروض بناء المساكن، سرعان ما توسعت، ودخلت فيها مؤسسات أخرى غير المؤسسة المذكورة Ginne Mea، مما أدى إلى تطورها، بحيث لم تعد تقتصر على قروض بناء المساكن، بل شملت كل أنواع الديون، كذلك الناتجة عن تمويل شراء السلع الاستهلاكية والسيارات وقروض بطاقات الائتمان والقروض الخاصة بإنشاء الأصول الرأسمالية. . . إلخ، وقد أمكن بهذه الطريقة تحويل الديون طويلة الأجل وقليلة السيولة إلى أصول سائلة.
__________
(1) القاموس المحيط، ص 1198؛ أساس البلاغة، ص 496؛ المصباح المنير: 2 / 441.
(2) وهذه المسألة معروفة عند بقية المذاهب، ولكنهم لا يسمونها تورقًا. أما عن حكم التورق عند الفقهاء: فقد ذهب جمهورهم إلى إباحته، لأنه بيع لم يظهر فيه قصد الربا ولا صورته. وكرهه عمر بن عبد العزيز ومحمد بن الحسن الشيباني. وقال الكمال بن الهمام: هو خلاف الأولى. واختار تحريمه ابن تيمية وابن القيم على أنه من بيع المضطر. غير أن المذهب الحنبلي على إباحته. (رد المحتار: 4 / 279؛ فتح القدير: 5 / 425؛ روضة الطالبين: 3 / 416؛ تهذيب مختصر سنن أبي داود لابن القيم: 5 / 108؛ كشاف القناع: 3 / 150، 186؛ الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي، ص 129؛ مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد م 234) .
(3) الدكتور محمد علي القري؛ الأسواق المالية، ص 116.(11/92)
وتتم عملية تداول الديون وتنميطها بطرق مختلفة، فقد يبيع المصدر الأصلي (أي البنك مثلاً) الدين برمته إلى مالك جديد، يقوم بعد شرائه تلك الديون بقبض أقساط التسديد والفوائد المترتبة على القرض وعلى التأخير. .. إلخ. وتقتصر مهمة المصدر الأصلي على خدمة العلاقة بينهما، وتسمى Pass – Throughs. وقد تبقى ملكية الدين للمصدر الأصلي، وتبقى العلاقة مستمرة بينه وبين المدين، ولكنه – أي المصدر الأصلي – يقوم ببيع تيار الفوائد المتوقع من ذلك القرض، فيكون الدين مستحقًا للمصدر الأصلي، ويتحمل هو المخاطرة المتضمنة فيه، ولكنه يستعجل قبض الفوائد بأخذها من طرف ثالث معجلة (بمبالغ أقل طبعًا) وتسمى Pay – Throughs، أي أن المصدر يقبض مقدمًا الفوائد المتوقع دفعها فقط. أما الطريقة الثالثة، فهي إصدار سندات مضمونة بتلك الديون، ثم بيعها، فتكون الديون الأصلية ضمانًا لتلك السندات فقط، وتسمى Mortgage Baked.
وفي كل الحالات تقوم عملية تداول الديون على التنميط، إذ يقوم الدائن الأصلي بتوزيع تلك القروض إلى مجموعات متشابهة في مقدار المخاطرة المتضمنة فيها (أي ملاءة المدين) وتواريخ استحقاقها، ومعدلات الفوائد عليها، ثم يصدرها على شكل أدوات قابلة للتداول، وبذلك تستطيع أن تحول الدين قليل السيولة إلى سيولة كاملة.
وقد توسعت هذه العمليات حتى صار جل الديون قابلاً للتنضيض بهذه الطريقة، بما في ذلك الديون على الدول (دون العالم الثالث) للبنوك الدولية، ولا يلزم أن يكون لربا وثائق مثل الأسهم والسندات، بل كثيرًا ما تبقى على صفة قيود محاسبية في دفاتر المؤسسات المعنية، وتتداول بينهم بواسطة الكمبيوتر " (1) .
حكم التوريق في الفقه الإسلامي:
أما عن الحكم الشرعي للتوريق ومدى مشروعيته، فالنظر الفقهي يقتضي التفريق بين نوعين من المديونية: مديونية النقود، ومديونية السلع (عروض التجارة) . وبيان ذلك فيما يلي:
أ – توريق الدين النقدي:
30 – إذا كان الدين الثابت في الذمة المؤجل السداد نقودًا، فقد اتفقت كلمة الفقهاء على عدم جواز توريقه، وامتناع تداوله في سوق ثانوية، سواء بيع بنقد معجل من جنسه – حيث إنه يكون من قبيل حسم الكمبيالات، وينطوي على ربا الفضل والنساء باتفاق الفقهاء _ أو بيع بنقد معجل من غير جنسه، لاشتماله على ربا النساء، وذلك لسريان أحكام الصرف عليه شرعًا. ولا فرق في ذلك الحكم بين ما إذا كان سبب وجوب الدين النقدي في الذمة قرضًا أو بيعًا أو إجارة أو غير ذلك.
31 – وبناءً على ذلك فلا يجوز توريق دين المرابحة (المصرفية) المؤجل، وتداوله من قبل المصارف الإسلامية أو الأفراد في سوق ثانوية أو عن طريق البيع المباشر بنقد معجل أقل منه، كما يجري في عمليات توريق الديون المختلفة وتداولها في سوق الأوراق المالية، حيث إن ذلك من الربا باتفاق أهل العلم.
32- أما عن حكم بيع صكوك المضاربة لدى البنوك الإسلامية، التي تمثل حصصًا شائعةً في وعاء المضاربة، فيفرق في شأنها بين ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن تكون موجودات وعاء المضاربة سلعًا عينية. فهذه لا حرج شرعًا في بيع صكوكها بنقود معجلة أقل من قيمتها السوقية أو أكثر أو مساوية، ولا حرج أيضًا في شراء المساهم (الجديد) حصة المساهم (الخارج) ، لأن ذلك كله من قبيل بيع الأعيان بالنقود المعجلة، ولا ينطوي على صريح الربا أو شبهته، وهو خالٍ أيضًا من الغرر المحظور شرعًا، والأصل فيه الحل والمشروعية.
الحالة الثانية: أن تكون موجودات وعاء المضاربة ديون مرابحات مؤجلة فقط. فهذه الديون لا يحل توريقها، ولا يجوز بيع صكوكها بنقود معجلة أقل من مقدار الديون المؤخرة، كما أنه لا يجوز شراء مساهم (جديد) حصة مساهم (خارج) بنقود ناجزة أقل من المقدار المؤجل الذي تمثله، لاشتمال ذلك على الربا باتفاق أهل العلم.
__________
(1) الأسواق المالية للدكتور القري بتصرف، ص 116 – 118.(11/93)
الحالة الثالثة: أن تكون موجودات وعاء المضاربة خليطًا من سلع عينية (ونحوها من المنافع) وديون مرابحات. وفي هذه الحالة يفرق بين صورتين:
الأولى: أن تكون قيمة الأعيان (ونحوها من المنافع) أكثر من مقدار الدين الموجود في الوعاء، وعندها يسري على هذه الصورة حكم الحالة الأولى، وهو الحل والجواز، إذ (الأقل تبع للأكثر، وللأكثر حكم الكل) (1) ، كما هو مقرر في قواعد الفقه، ولأنه (يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها) (2) ، حسب ما جاء في القواعد الفقهية أيضًا.
والصورة الثانية: أن تكون قيمة الأعيان والمنافع أقل من مقدار دين المرابحة، وعندها يسري على هذه الصورة حكم الحالة الثانية، وهو الحرمة والحظر، إذ (الأقل لا يزاحم الأكثر) (3) ، ولأن (إقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع) (4) كما جاء في قواعد الفقه.
وقد جاء تأكيد ذلك في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة حول سندات المقارضة وسندات الاستثمار ونصه:
"الصورة المقبولة شرعًا ل سندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيه العناصر التالية:
- أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب، باعتبار ذلك مأذونًا فيه من المضارب عند نشوء السندات، مع مراعاة الضوابط التالية:
أ- إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودًا، فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد، وتطبق عليه أحكام الصرف.
ب- إذا أصبح مال القراض ديونًا، فتطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول التعامل بالديون.
ج- إذا صار مال القراض موجودات مختلطة من النقود والديون والأعيان والمنافع، فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقًا للسعر المتراضى عليه، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانًا ومنافع (5) .
33 – غير أن عدم جواز توريق المديونية النقدية باعتباره لونًا من حسم الأوراق التجارية لا يعني إغلاق باب المشروعية بالكلية أمام فكرة توريق الدين النقدي، وذلك لأننا لو طورنا مفهوم التوريق التقليدي السائد، ووضعنا بعض القيود الشرعية على ممارساته لأمكننا الخروج بصورة مقبولة شرعًا للتوريق.
وبيان ذلك: أننا لو صككنا الدين النقدي المؤجل على أساس قصر مبادلته على عروض التجارة (أي السلع العينية) الحاضرة، بأن يجعل ثمنًا لها، لكان ذلك جائزًا شرعًا.
أ- بناء على قول مالك والنخعي والقاضي شريح وزفر بن الهذيل وغيرهم بجواز الشراء بالدين من غير من هو عليه، حيث جاء في المبسوط للسرخسي: "وعلى قول زفر: الشراء بالدين من غير من عليه الدين صحيح، كما يصح ممن عليه الدين، لأن الشراء لا يتعلق بالدين المضاف إليه، ألا ترى أنه لو اشترى بالدين الظنون (6) شيئًا، ثم تصادقا على أن لا دين، كان الشراء صحيحًا بمثل ذلك الثمن في ذمته، فكذلك هنا يصح الشراء بمثل ذلك الدين في ذمة المشتري " (7) . وجاء فيه أيضًا: "ذكر عن إبراهيم وشريح أنهما كانا يجوزان الشراء بالدين من غير من عليه الدين، وقد بينا أن زفر أخذ بقولهما في ذلك " (8) .
__________
(1) المبسوط للسرخس: 3 / 39.
(2) مجلة الأحكام العدلية م (54) .
(3) المبسوط للسرخسي: 2 / 115.
(4) المبسوط: 16 / 100، 26 / 100.
(5) القرار رقم (5) د 4 / 08 / 88 (الدورة الرابعة للمجمع المنعقدة بجدة ما بين 6- 11 فبراير 1988م) .
(6) الدين الظنون: هوالدين الذي لا يرجى قضاؤه، ويئس صاحبه من عوده إليه في الغالب، لإعدام المدين أو جحوده، مع عدم البينة على الدين، أو لأي سبب آخر؛ (الأموال لأبي عبيد، ص 466؛ المحلى لابن حزم: 6 / 103؛ أساس البلاغة، ص 291؛ القاموس المحيط، ص 1566) .
(7) المبسوط: 14 / 22.
(8) المبسوط: 14 / 47.(11/94)
وروى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن شهاب وأبي بكر بن حزم أنهم نهوا عن أن يبيع الرجل حنطة بذهب إلى أجل، ثم يشتري بالذهب تمرًا قبل أن يقبض الذهب (1) . ثم عقب مالك على ذلك بقوله: "وإنما نهى هؤلاء عن أن يبيع الرجل حنطة بذهب، ثم يشتري الرجل بالذهب تمرًا قبل أن يقبض الذهب من بائعه الذي اشترى منه الحنطة. فأما أن يشتري بالذهب التي باع بها الحنطة إلى أجل تمرًا من غير بائعه الذي باع منه الحنطة قبل أن يقبض الذهب، ويحيل الذي اشترى منه التمر على غريمه الذي باع منه الحنطة بالذهب التي له عليه في ثمن التمر فلا بأس بذلك. وقد سألت عن ذلك غير واحد من أهل العلم، فلم يروا به بأسًا" (2) .
ب- وتخريجًا على القول المشهور في مذهب المالكية، وهو وجه عند الشافعية، ورواية عن أحمد اختارها ورجحها ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو جواز بيع الدين النقدي المؤجل لغير المدين بسلعة حاضرة، إذا انتفى غرر عدم القدرة على تسليم الدين في وقت محله (3) .
وبناءً على ما تقدم يمكن للبنك الإسلامي أن يشتري (مثلاً) ألف سيارة بثمن معجل، ثم يبيعها للعملاء بثمن مؤجل موثق بكفيل أو رهن، ولا حرج بعد ذلك شرعًا في أن يعمد إلى توريق تلك الديون على عملائه، والشراء بصكوكها كمية أخرى من السيارات الحاضرة من المصنع مثلاً، ثم يبيعها بثمن مؤجل موثق آخر، ثم يورق ثمنها، ويشتري به سلعًا حاضرة أخرى غيرها، وهكذا. . . وبذلك لا تتجمد تلك الديون النقدية المؤجلة في الفترة ما بين ثبوتها في الذمة وحلول أجلها، بل تتحول إلى ما يشبه النقود السائلة بجعلها ثمنًا لسلع عينية حاضرة.
ب- توريق الدين السلعي:
34- إذا كان الدين الثابت في الذمة – المؤجل الوفاء – سلعيًّا، بأن كان مبيعًا موصوفًا في الذمة، منضبطًا بمواصفات محددة، طبقًا لمقاييس دقيقة معروفة، سواء أكان من المنتجات الزراعية كالحبوب أو الحيوانية كالألبان ومشتقاتها أو الصناعية كالحديد والإسمنت والسيارات والطائرات أو من منتجات المواد الخام كالبترول والغاز الطبيعي أو نصف المصنعة كالنفط والكلنكر وغيرها. . . فإنه يمكن تخريج جواز توريقه على قول الإمام أحمد الذي رجحه ابن تيمية وابن القيم – وهو وجه عند الشافعية أيضًا – بجواز بيع الدين المؤجل من غير المدين بثمن معجل إذا خلا من الربا، وكذا على مذهب المالكية القائلين بجواز بيعه إذا لم يكن طعامًا، وسلم من الغرر والربا وبعض المحظورات العارضة الأخرى التي ذكروها، مع مراعاة ما تلزم مراعاتها من القيود والشرائط الشرعية (4) .
فإن قيل: كيف جوزتم بيع الدين قبل قبضه من غير المدين، مع أنه بيع لما لم يقبض، وهو منهي عنه في الأحاديث الصحيحة؟! فالجواب ما قاله ابن تيمية في الرد على ذلك: " النهي إنما كان في الأعيان لا في الديون" (5) . فافترقا. . . والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أ. د نزيه كمال حماد
__________
(1) الموطأ: 2 / 643.
(2) الموطأ: 2 / 643.
(3) انظر ف 22، 23 من البحث.
(4) انظر ف 22، 23 من البحث.
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 519؛ المسائل الماردينية لابن تيمية، ص 102.(11/95)
بيع الدين
إعداد الدكتور
عبد اللطيف محمود آل محمود
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فبناءً على دعوة سماحة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة للمشاركة في الدورة الحادية عشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي التي تعقد في دولة البحرين، بتقديم بحث حول موضوع (بيع الدين وسندات القرض وبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاص) أقدم جزءًا من الموضوع وهو عن (بيع الدين) .
ولأن هذا الموضوع قد سبقت دراسته والتركيز عليه فإني تركت ذكر الاستشهاد بنصوص الكتب الفقهية المذهبية اعتمادًا على المصادر التي نقلت عنها خاصة كتاب الأخ د. نزيه حماد (دراسات في أصول المداينات في الفقه الإسلامي) .
والإضافة التي أقدمها في هذا البحث هي التفصيل في صور بيع الدين لغير المدين، حيث تناولت المراجع التي اطلعت عليها بيع الدين لغير المدين بشكل إجمالي، فإن أصبت فمن فضل الله علي، وإن جانبت الصواب فمن نفسي وقلة بضاعتي، راجيًّا أن ينفع الله بهذا البحث كاتبه وقارئه ومن أسدى جميلاً لصاحبه بالتوجيه والتنبيه.
وعلى الله قصد السبيل.(11/96)
بيع الدين
تعريف الدين
الدين في اللغة:
يطلق الدين في اللغة على أكثر من معنى (1) :
1- القرض، يقال: دنت الرجل أي أخذت منه دينًا (أي قرضًا) وأدنت أي أقرضت.
2- القرض إلى أجل.
3- كل شيء غير حاضر.
الدين في اصطلاح الفقهاء:
ورد في الموسوعة الفقهية: أن أوضح الأقوال المتعددة لمعنى الدين عند الفقهاء قول ابن نجيم: (الدين لزوم حق في الذمة) ليشمل الحقوق المالية وغير المالية سواء كانت لله تعالى أو للناس. كما بينت الموسوعة اختلاف الفقهاء في تعريف الدين حيث عرفه الحنفية بأنه: (ما يثبت في الذمة من مال في معاوضة أو إتلاف أو قرض) ، وعرفه جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة بأنه: (ما يثبت في الذمة من مال بسبب يقتضي ثبوته) ، وأشارت إلى اختلافهم في المال حيث يرى الحنفية أن المال هو (ما يميل إليه طبع الإنسان ويمكن ادخاره لوقت الحاجة) وعليه لم يعتبروا المنافع من الأموال، لأنها غير قابلة للإحراز والادخار ولا تقبل الثبوت في الذمة دينا، بينما يرى غيرهم أن المنافع تعتبر أموالاً بحد ذاتها وتحاز بحيازة أصولها ومصادرها (2) .
غير أن التحقيق لمصطلح (الدين) يبين أن الفقهاء يستخدمون هذا المصطلح باعتبارين شكلي وموضوعي (3) .
فمن الناحية الشكلية يستعملون (الدين) في مقابل العين، ويريدون بالعين الشيء المعين المشخص سواء أكان نقدا أم غير نقد، وبالدين ما يثبت في الذمة من غير أن يكون معينًا مشخصًا سواء أكان نقدًا أم غيره. وبهذا المعنى جاءت القاعدة الفقهية: (المعين لا يستقر في الذمة، وما تقرر في الذمة لا يكون معينًا) .
ومن الناحية الموضوعية يستعلم الفقهاء الدين بالنظر إلى أسباب وجوبه ومصادر ثبوته بمعنيين أحدهما أعم من الآخر.
أ – الدين بالمعنى الأعم: كل ما ثبت في الذمة من أموال أو حقوق لله تعالى أو للناس بأي سبب من الأسباب سواء أكان الحق مالاً (نقدًا أو غير نقد) أم غير مال (كالصلاة والحج الواجبين) .
ب- الدين بالمعنى الأخص: ويعنون به ما ثبت في الذمة من أموال.
وقد اختلف الفقهاء في تعريف الدين بالمعنى الأخص، فعرفه الحنفية بأنه: (ما يثبت في الذمة من مال في معاوضة أو إتلاف أو قرض) ، وعرفه جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة بأنه: (ما يثبت في الذمة من مال بسبب يقتضي ثبوته) .
وحيث إن موضوع البحث هنا هو ما يتعلق بعمل المؤسسات المالية الإسلامية (من مصارف وشركات استثمار) فينبغي التنبه إلى أن المقصود من (بيع الدين) الدين النقدي دون سائر الديون.
__________
(1) ترتيب القاموس، الطاهر أحمد الزاوي، (مادة د ي ن) ؛ لسان العرب المحيط، يوسف خياط، (مادة دين) ؛ معجم مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، (مادة دين) .
(2) الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت: 21 / 103 – 106.
(3) حماد، ص 10 – 19.(11/97)
آراء المذاهب الإسلامية في بيع الدين وسندات القرض
تحدث فقهاء المذاهب الإسلامية عن الدين والتصرف فيه من الدائن والمدين بشيء من التفصيل، وأصبح هذا الموضوع محل اهتمام الباحثين والدارسين بصورة واضحة منذ نشأة المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة العاملة في مجال المصارف والاستثمار لما لهذا الموضوع من تأثير في التعاملات المالية خاصة، وأن بيع الدين من المعاملات المالية التي تقوم بها المصارف التجارية التي لا تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية، كما أن القوانين الوضعية تقر هذا النوع من التعاملات. ولا بد من اتضاح وجهة النظر الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية حتى تلتزم بها.
ولوفرة الدراسات المعمقة والمقارنة في موضوع بيع الدين على وجه الخصوص سأكتفي باستعراض ملخص لها مع بعض الزيادة التي اقتضاها التفصيل. (1)
التصرف في الدين:
التصرف في الدين إما أن يكون من الدائن أو من المدين , ولكل منهما أوجه من التصرف.
أولا – تصرف المدين:
تصرف المدين في الدين الثابت في ذمته يكون بأحد وجهين: (2)
أ – الحوالة: أي حوالة الدين الثابت في ذمته على طرف ثالث ليتقاضى الدائن دينه منه (من الطرف الثالث) .
ب – السفتجة (3) : وهى علاقة مالية بين ثلاثة أطراف، يدفع الطرف الأول للطرف الثاني مبلغا من المال، ويرسل الطرف الثاني للطرف الثالث (وكيله أو مدينه) في مكان آخر كتاب ليدفع للطرف الأول نظير ما أخذه منه، وهذه العلاقة قد تكون على وجه القرض أو الحوالة أو الوكالة.
وتصرف المدين في الدين الثابت في ذمته لا يدخل في موضوع بيع الدين وسندات القرض.
ثانيا – تصرف الدائن: (4)
حصر الفقهاء تصرف الدائن في الدين الذي له في صور قائمة على أساس أن يملك الدائن دينه لمدينه أو لغيره بعوض أو بغير عوض، ولهذا التمليك صور:
الصورة الأولى: تمليك الدائن دينه المستقر للمدين بغير عوض.
__________
(1) انظر: الموسوعة الفقهية ج 21، دراسات في أصول المداينات في الفقه الإسلامي، د. نزيه حماد، الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية، د. عمر عبد العزيز الترك.
(2) الموسوعة الفقهية: 21 / 132؛ حماد، ص 163 – 197.
(3) الموسوعة الفقهية: 25 / 23 – 26؛حماد، ص 187 –197
(4) حماد ص 138 – 162، الموسوعة الفقهية: 12 / 121 – 131.(11/98)
الدين المستقر هو ما ثبت في ذمة المدين ولا خيار له في الرجوع عن تصرفه إلا بعقد جديد، ويمثل له بغرامة المتلف وبدل القرض وقيمة المغصوب وعوض الخلع وثمن المبيع والأجرة بعد استيفاء المنفعة والمهر بعد الدخول.
ويكون التمليك في هذه الصورة بالهبة والإبراء ونحوهما.
هذه الصورة لا خلاف بين الفقهاء في جوازها شرعا لأنها إسقاط حق، وإسقاط الحق أمر مشروع في الشريعة الإسلامية.
الصورة الثانية: تمليك الدائن دينه المستقر للمدين بعوض.
ويكون التمليك في هذه الصورة بالصرف والبيع (الاستبدال) ، وتحت البيع مسائل.
أ – إن كان تمليك الدين للمدين صرفا بأن كان العوضان نقدين وكان العوض عن الدين نقدا غير النقد الذي في ذمة المدين، فإنه يشترط لصحته شرعا قبض العوض في مجلس العقد، وأن يكون الصرف بسعر يومه، لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ مكانها الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ مكاناها الدنانير. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له فقال: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . (1)
ب – إن كان تمليك الدين للمدين استبدالا بين غير الربويات اشترط لصحة هذا التمليك القبض العوض في مجلس العقد (2) عملا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((الورق بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء)) . (3)
ج – وإن كان تمليك الدين للمدين استبدالا بين غير الربويات وكان البدل حالا، فيجوز عند جمهور الفقهاء (4) ، مثل أن يستبدل ألف دينار في ذمة المدين بسيارة يملكها المدين.
__________
(1) قال البغوي: لا يعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث سماك ين حرب عن سعيد، وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم والدارقطني وقال الترمذي والبيهقي: لم يرفعه غير سماك بن حرب. انظر حاشية شرح السنة للبغوي 8 / 111.
(2) نص على ذلك الشافعية والحنابلة، انظر حماد، ص 141.
(3) رواه مسلم، كتاب المساقاة، رقم 2968.
(4) خالف في ذلك الظاهرية، وهو قول ابن عباس وابن مسعود ورواية عن الإمام أحمد، انظر الترك، ص 288 – 289.(11/99)
د- إن كان تمليك الدين للمدين استبدالا بين غير الربويات وكان البدل مؤجلاً، فلا يجوز ذلك عند جمهور الفقهاء، ومنهم الأئمة الأربعة وابن حزم لما فيه من بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، وذهب ابن تيمية وابن القيم إلى جواز ذلك (2) .
وتطبيقًا لشرط حلول البدل:
نص الشافعية والحنابلة على عدم جوز صرف ما في الذمة، كم لو كان الرجل في ذمة رجل آخر دينار والآخر علية عشرة دراهم فاصطرفا ما في ذمتيهما. وخالف في ذلك الحنفية والمالكية والسبكي من الشافعية وابن تيمية حيث قالوا بجواز صرف ما في الذمة، لأن الذمة الحضرة كالعين الحاضرة، غير أن المالكية اشترطوا أن يكون الدينان حالين (3) .
- ذهب كثير من الفقهاء ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة إلى عدم جواز جعل الدين في ذمة شخص رأس مال سلم، لأنه يؤدي إلى بيع الدين بالدين، ولأن قبض رأس مال السلم شرط لصحة السلم. وخالفهم في ذلك ابن تيمية وابن القيم بعدم صحة الإجماع في منع ذلك ولا محذور فيه وليس هو من بيع كالئ بكالئ لفظًا ولا معنى (4) . نص الحنفية والحنابلة والشافعية في وجه على أنه لا يجوز بيع الدين ممن هو عليه بشيء موصوف في الذمة إذا لم يقبض الدائن العوض في المجلس قبل التفرق (5) .
الصورة الثالثة: تمليك الدائن دينه غير المستقر للمدين تغير عوض. يمثل للدين عير المستقر بالمسلم فيه والأجرة قبل استيفاء المنفعة أو مضي زمانها، والمهر قبل الدخول، والجعل قبل العمل، والأجرة قبل فراغ المدة.
وهذا النوع من الديون يجوز تمليكه لمن هو عليه بغير عوض بهبة أو إبراء؛ لأن ذلك من إسقاط الدين عن المدين، ولا دليل يمنع من هذا الإسقاط (6) .
الصورة الرابعة: تمليك الدائن دينه غير المستقر للمدين بعوض. يفقر الفقهاء بين دين السلم غير المستقر في الذمة – لاحتمال فسخ العقد – وبين غيره من الديون؛ لذا يندرج تحت هذا الصورة مسألتان:
المسألة الأولى: تمليك الدائن دين السلم (وهو دين غير مستقر) للمدين (المسلم إليه) بعوض (7) . اختلف الفقهاء في صحة تمليك المسلم (الدائن) دين المسلم للمدين (المسلم إليه) بعوض إلى ثلاثة آراء:
الرأي الأول: أنه لا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه للمسلم إليه، استدلالًا بحديث: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) (8) . ولأنه كالمبيع قبل القبض. وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية والحنابلة والشافعية.
__________
(1) رواه الدارقطني والبيهقي والطحاوي والحاكم والبزار وابن أبي شيبة وابن عدي وعبد الرزاق من حديث موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. قال الشافعي: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث. وقال أحمد: ليس في هذا حديث يصح. غير أن هذا الحديث مع ضعف سنده لعلة تفرد موسى بن عبيدة به فقد تلقته الأمة بالقبول بين عامل به على عمومه وبين متأول له، واتفقت المذاهب الأربعة على الأخذ بمضمونه والاحتجاج به؛ (انظر التلخيص الحبير: 3/26؛ السيل الجرار للشوكاني: 3/14؛الدراية لابن حجر: 157/2 ح المغني لابن قدامة: 4/53؛ نظرية العقد لابن تيمية، ص 235؛ نيل الأوطار: 5/255؛ سبل السلام: 3/18؛ تكملة المجموع للسبكي: 10/107؛ بداية المجتهد: 2/162) .
(2) انظر الترك، ص 293-294.
(3) انظر الترك، ص 142-143.
(4) حماد، 146- 148.
(5) حماد، ص 148/149.
(6) الموسوعة الفقهية: 21/129؛ حماد، ص 149.
(7) الموسوعة الفقهية: 129-130؛ حماد، ص 149-154.
(8) أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني والبيهقي عن أبي سعيد الخدري. (بذل المجهود: 15 / 146؛ سنن ابن ماجه: 2 / 766؛ سنن البيهقي: 6 / 30؛ سنن الدراقطني: 3 / 45؛ الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2 / 160) .(11/100)
الرأي الثاني: يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه للمسلم إليه بثمن المثل أو أقل منه، ولا يصح بيعه بأكثر من ثمن المثل. والمراد بثمن المثل ثمن مثل العوض لا المعوض عنه (المسلم فيه) لئلا يكون من السلف الذي جر منفعة، أو يكون من ربح ما لم يضمن. وهذا قول ابن عباس ورواية عن أحمد.
الرأي الثالث: يجوز بيع المسلم فيه للمسلم إليه بأربعة شروط:
1- أن يكون المسلم فيه مما يباع قبل قبضه، فلا يجوز بيع المسلم فيه إذا كان طعامًا.
2- أن يكون المأخوذ مما يباع بالمسلم فيه يدًا بيد، كما لو أسلم دراهم في ثوب فأخذ عنه طشت نحاس إذ يجوز بيع الطشت بالثوب يدًا بيد.
3- أن يكون المأخوذ مما يجوز أن يسلم فيه رأس المال، كما لو أسلم دراهم في حيوان فأخذ عن ذلك الحيوان ثوبًا، لأنه يجوز أن يسلم الدراهم في الثوب.
4- أن يقبض العوض في مجلس العقد:
المسألة الثانية: تمليك الدائن دينه غير المستقر وهو غير السلم للمدين بعوض.
اختلف الفقهاء في جواز تمليك الدين غير المستقر في الذمة للمدين على رأيين (1) .
الرأي الأول: لا يجوز بيع الدين غير المستقر في الذمة (غير السلم) لمن هي عليه؛ لأن ملكه عليها (أي ملك البائع لها) غير تام، وهو رأي الحنابلة.
الرأي الثاني: يجوز بيعها لمن هي عليه، لأنه لا فرق بين الديون المستقرة وغير المستقرة، وهو رأي الحنفية والشافعية.
الصورة الخامسة: تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بغير عوض (2) .
ويكون ذلك بأن يهب دينه على شخص لطرف ثالث أو يوصي به بعد موته.
نص الحنفية على صحة الوصية بالدين لغير من هو عليه لأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، فينتقل الملك فيه للموصى له كما ينتقل بالإرث للوارث. كما نصوا على جواز الهبة إذا أمر الواهب الموهوب له بقبض الدين على وجه الاستحسان وإن لم يأمره لم تجز الهبة (3) .
ونص الشافعية والحنابلة على عدم صحة هبة الدين لغير من هو عليه، لأن الدين غير مقدور على تسليمه (4) .
وحيث إن المالكية يجيزون بيع الدين لغير المدين بشروط تبعده عن الغرر مع شرط قدرة الدائن على تسليم الدين للمشتري فبالأولى القول عندهم بهبة الدين والوصية به بذات الشروط.
الصورة السادسة: تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بعوض (5) .
وتفصيل القول في هذه الصورة مبني على تفصيل القول في الصورة الثانية (تمليك الدائن دينه المستقر للمدين بغير عوض) من حيث كون التمليك صرفًا أو بيعًا (استبدالاً) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية: 21 / 130؛ حماد، ص 154 – 155.
(2) حماد، ص 156 – 162؛ الموسوعة الفقهية: 21 / 130 – 132.
(3) حماد، ص 158 – 159.
(4) حماد، ص 157 – 158.
(5) الموسوعة الفقهية: 21 / 130 – 132؛ حماد، ص 156 – 162؛ الترك، ص 296 – 301.(11/101)
أ- فإن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين صرفًا من جنس واحد (ذهب بذهب أو فضة بفضة ومثلهما النقد المتداول بمثله (، فيجوز التمليك إذا تساوى البدلان وبذل المدين الدين في مجلس العقد بأن كان الدين حالاً فأقبضه، أو مؤجلاً فعجله وأقبضه فلا خلاف في القول بصحته، وإذا اختل أحد الشرطين أو كلاهما فلا يجوز، لمخالفته شروط الصرف.
ب- وإن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين صرفًا من جنسين (ذهب بفضة ومثله نقد متداول بنقد آخر) فيجوز التمليك إذا كان الصرف بسعر يومه، وبذل الدين في مجلس العقد بأن كان الدين حالاً فأقبضه أو مؤجلا فعجله وأقبضه، وإلا فلا لمخالفته شروط الصرف.
ج – وإن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بيعًا بين الربويات المتماثلة في الجنس غير النقدين (تمر بتمر مثلاً) ؛ فإنه يصح إذا تساويا في القدر وأقبض المدين دينه في مجلس العقد للطرف الثالث، وإن لم يسلمه في مجلس العقد فلا يجوز هذا التمليك.
د- وإن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بيعًا بين الربويات غير المتماثلة في الجنس (شعير بقمح مثلاً) ، وأقبض المدين دينه في مجلس العقد للطرف الثالث فإنه يصح، وإن لم يسلمه في مجلس العقد فلا يجوز هذا التمليك.
هـ – وإن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بيعًا بين غير الربويات بثمن حال، كأن يكون لإنسان على آخر دين مقداره مائة صاع من القمح، فيبيعها على آخر بمائتي ريال نقدًا، أو يكون له مبلغ من المال على شخص، فيشتري سيارة من ثالث بذلك الدين، فقد اختلف الفقهاء فيه على آراء (1) :
الرأي الأول: لا يجوز بيع الدين بثمن حال، وهو رأي جمهور العلماء من الحنفية والحنابلة والظاهرية وأحد قولي الشافعي.
الرأي الثاني: يجوز ذلك بشروط. وهو رأي المالكية الذين اشترطوا لذلك ثمانية شروط تباعد بينه وبين الغرر والربا وهي:
1- أن يكون المدين حاضرًا.
2- أن يكون المدين مقرًّا بالدين.
3- أن يكون المدين ممن تأخذه الأحكام (يمكن أن تطبق عليه) ليمكن تخليص الدين منه.
4- أن يباع الدين بغيرِ جنسه أو بجنسه بشرط المساواة إن كانا ربويين.
5- ألا يكون صرفًا.
6- ألا يكون بين المدين والمشتري عداوة.
7- أن يكون الدين مما يجوز بيعه قبل قبضه.
8- أن يباع الدين بثمن مقبوض.
__________
(1) الترك، ص 296 – 301؛ حماد، ص 159.(11/102)
الرأي الثالث: يجوز بيع دين غير السلم لغير من عليه الدين، كما يجوز بيعها للمدين بشروط تنفي الغرر الناشئ عن عدم قدرة الدائن على تسليم الدين إلى المشتري بشروط، وهو رأي للشافعية في قول صححه كثير من أئمتهم كالشيرازي في المهذب والنووي في زوائد الروضة وغيرهما.
والشروط هي:
1- أن يكون المدين حالاً.
2- أن يكون المدين مقرًّا بالدين.
3- أن يكون المدين مليًّا أو عليه بينة لا كلفة في إقامتها.
4- التقابض في المجلس في بيع الدين للمدين إذا كان العوضان من الربويات.
و– وإن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بيعًا بين غير الربويات بثمن مؤجل، كأن يكون لشخص على آخر مائة صاع من قمح مثلاً، فيبيعها على ثالث بمائتي ريال مؤجلة إلى شهر، فقد اختلف الفقهاء فيها على قولين (1) :
القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى فساد هذا البيع وعدم صحته، لأنه من بيع الدين بالدين (الكالئ بالكالئ) ، وفيه شغل لذمتي البائع والمشتري دون أن يجني أحدهما من وراء هذا التعاقد فائدة.
القول الثاني: يجوز هذا البيع، وهو رأي بعض العلماء المعاصرين قياسًا على الحوالة، وفيه تحقيق مصلحة للطرفين وليس هناك ضرر يلحق بالمدين.
وقد رجح القول الأول.
الصورة السابعة: تمليك الدائن دينه غير المستقر لغير المدين بغير عوض.
قد تبدو هذه الصورة شبيهة بتمليك الدائن دينه غير المستقر للمدين بغير عوض (الصورة الثالثة) فتعطي حكمها وهو الجواز، غير أن ذلك الحكم بني على أساس أن ذلك التمليك إسقاط للدين عن المدين، والصورة التي معنا ليس فيها إسقاط للدين حتى يأخذ حكمه.
ذلك أننا نرى في هذا التمليك عطية من جانب الدائن لطرف ثالث يتبعه انتقال الحق في الدين من الدائن للطرف الثالث ويترتب عليه حق مطالبة الطرف الثالث المدين بالدين. وهذا الفرق يستدعي معرفة رأي الفقهاء في هبة الدين غير المستقر.
إن من شروط الموهوب أن يكون مملوكًا للواهب (2) ، وحيث إن الملك غير مستقر للدائن فلا يصح له أن يهبه لغير المدين.
وقد صرح ابن قدامة في المغني بأن هبة الدين لغير من هو في ذمته لا تصح، لأنه غير قادر على تسليمه، وقياسًا على عدم صحة بيعه عندهم (الحنابلة) . قال: ويحتمل أن تصح، لأنه لا غرر فيها على المتهب ولا الواهب فصح كهبة الأعيان (3) .
الصورة الثامنة: تمليك الدائن دينه غير المستقر لغير المدين بعوض.
سنفرق في الحديث عن الدين غير المستقر بين دين السلم وغيره على نحو ما مضى من قبل.
__________
(1) الترك، ص 302 – 305.
(2) الزحيلي: 5 / 14.
(3) ابن قدامة: 6 / 257.(11/103)
أ- دين السلم:
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى عدم صحة بيع المسلم فيه (دين السلم) لغير من هو في ذمته، لأنه لا يؤمن فسخ العقد بسبب انقطاع المسلم فيه وامتناع الاعتياض عنه، فكان كالمبيع قبل القبض.
وذهب المالكية إلى جواز بيع المسلم فيه لغير من هو عليه إذا لم يكن (المسلم فيه) طعامًا؛ لأنه لا يجوز عندهم بيع الطعام قبل قبضه.
ب- دين غير السلم:
مر في الصورة الرابعة أن الفقهاء قد اختلفوا في بيع غير السلم للمدين على رأيين: الأول يرى عدم جواز بيعها لأن الملك عليها غير تام، وأصحاب هذا الرأي يرون عدم جوازه لغير المدين من باب أولى.
والثاني يرى جواز بيع الدين غير المستقر (غير السلم) على المدين لأنهم لم يفرقوا بين الديون المستقرة وغير المستقرة.
ما الذي يدخل من هذه الصور في موضوع النقاش؟
+الصورة الأولى: تمليك الدائن دينه المستقر للمدين بغير عوض.
الصورة الثانية: تمليك الدائن دينه المستقر للمدين بعوض.
الصورة الثالثة: تمليك الدائن دينه غير المستقر لغير المدين بغير عوض.
الصورة الرابعة: تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بغير عوض.
الصورة الخامسة: تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بعوض.
الصورة السادسة: تمليك الدائن دينه غير المستقر لغير المدين بغير عوض.
الصورة السابعة: تمليك الدائن دينه غير المستقر لغير المدين بعوض.
إذا أخرجنا من هذه الصور تمليك الدائن للمدين سواء كان دينه مستقرًّا أو غير مستقر، وتمليك الدين غير المستقر لغير المدين بعوض أو بغير عوض، وتمليك الدائن دينه لغير المدين بغير عوض، فإننا أمام صورة واحدة من الصور التي ينطبق حكمها على التعاملات المالية في بيع الدين الذي يعمل به في الوقت الحاضر، وهي الصورة السادسة (تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بعوض) .
لقد رأينا حكم هذه الصورة مختلفًا حسب نوع البيع وجنس المبيع وأجل الدين وحلوله على النحو التالي:
أ- إن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين صرفًا من جنس واحد (ذهب بذهب أو فضة بفضة ومثلهما النقد المتداول بمثله) فيجوز التمليك إذا تساوى البدلان وبذل المدين الدين في مجلس العقد.
ب- إن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين صرفًا من جنسين (ذهب بفضة ومثله نقد متداول بنقد آخر) ، فيجوز التمليك إذا كان الصرف بسعر يومه وبذل المدين الدين في مجلس.
ج – إن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بيعًا بين الربويات المتماثلة في الجنس غير النقدين (تمر بتمر مثلاً) ، فإنه يصح إذا تساويا في القدر وأقبض المدين دينه في مجلس العقد للطرف الثالث، وإن لم يسلمه في مجلس العقد فلا يجوز هذا التمليك.(11/104)
د – وإن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بيعًا بين الربويات غير المتماثلة في الجنس غير النقدين (شعير بقمح مثلاً) وأقبض المدين دينه في مجلس العقد للطرف الثالث فإنه يصح، وإن لم يسلمه في مجلس العقد فلا يجوز هذا التمليك.
هـ – إن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بيعًا بين غير الربويات بثمن حال فقد اختلف الفقهاء فيه على آراء:
الرأي الأول: لا يجوز بيع الدين بثمن حال، وهو رأي جمهور العلماء من الحنفية والحنابلة والظاهرية وأحد قولي الشافعي.
الرأي الثاني: يجوز ذلك بشروط تباعد بينه وبين الغرر والربا وهي (1) :
1- أن يكون المدين حاضرًا.
2- أن يكون المدين مقرًّا بالدين.
3- أن يكون المدين ممن تأخذه الأحكام (يمكن أن تطبق عليه) ليمكن تخليص الدين منه.
4- ألا يكون بين المدين والمشتري عداوة.
5- أن يباع الدين بثمن مقبوض.
الرأي الثالث: يجوز بيع دين غير السلم لغير من عليه الدين بشروط هي (2) :
1- أن يكون الدين حالاً.
2- أن يكون المدين مقرًّا بالدين.
3- أن يكون المدين مليًّا أو عليه بينة لا كلفة في إقامتها.
و– إن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بيعًا بين غير الربويات بثمن مؤجل، فقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى فساد هذا البيع وعدم صحته، لأنه من بيع الدين بالدين (الكالئ بالكالئ) .
القول الثاني: يجوز هذا البيع، وهو رأي بعض العلماء المعاصرين قياسًا على الحوالة، وفيه تحقيق مصلحة للطرفين وليس هناك ضرر يلحق بالمدين.
وقد رجح القول الأول.
وبناءً على ذلك فإن بيع الدين وسند القرض النقدي بالنقد ينطبق عليه حكم بيع الصرف بجنسه، فلا يصح إلا متماثلاً مع تسليم البدل في مجلس العقد، أو بغير جنسه فلا يصح إلا أن يكون بسعر يومه مع قبض البدل في مجلس العقد.
والله أعلم.
عبد اللطيف محمود آل محمود
__________
(1) حذفت الشروط التي تجعل البيع من نوع ذكر سابقًا.
(2) حذفت الشروط التي تجعل البيع من نوع ذكر سابقًا.(11/105)
بيع الدين وسندات القرض
وبدائلها الشرعية
في مجال القطاع العام والخاص
إعداد الدكتور
محمد علي القري بن عيد
مدير مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله نحمده الحمد كله، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد؛ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي سنة 1989 م نشر الاقتصادي الفرنسي المشهور الذي حاز في سنة 1988 م على جائزة نوبل في الاقتصاد مقالاً عنوانه " من الانهيار إلى الازدهار" (1) حذر فيه مما أسماه مصيبة الديون، وذكر فيه أن تراكم الديون لا يؤثر على الاستقرار الاقتصادي فحسب، بل إنه أضحى خطرًا يهدد الحضارة الإنسانية برمتها.
والأدلة تترى على صدق توقع هذا الخبير، ذلك أن ما وقع في بعض دول العالم ابتداءً من المكسيك في سنة 1995م، ثم انتهاءً بجنوب شرقي آسيا في سنة 1997 م، وروسيا 1998م؛ إنما سببه الأساس تراكم الديون وتداولها بالبيع وإنشاء أسواق لها يتولد عن المعاملات فيها أرباح صورية، إذ لا يتصور أن يتولد الفائض إلا من العمليات الإنتاجية الحقيقية التي تتمخض عن سلع أو خدمات. فإذا تراكمت هذه الديون على صفة أهرامات مقلوبة كما وصفها (موريس آليه) انهارت لتخلف وراءها اقتصادًا محطمًا استلبت منه ثمرة جهود أبنائه وعرقهم.
وهكذا يتبين لنا تفوق نظام الإسلام على كل ما سواه إذ منع من بيوع الدين ما فيه هذه الأضرار، وأباح منها ما يتحقق منه المطلوب من تيسير المعاملات وتحقيق الكفاءة في الأسواق دون أن ينتهي إلى هذه الآثار السيئة.
وهذه الورقة عرض لمسألة الديون وأنواع معاملات البيع التي تجري فيها وصفة البيع الجائزة، وسندات القرض وبدائلها المشروعة.
نفع الله بها كاتبها وقارئها.
__________
(1) وقد نشر مترجمًا إلى العربية في العدد الأول من المجلد الأول من مجلة بحوث الاقتصاد الإسلامي، مجلة الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي، 1991م.(11/106)
أولاً: بيع الدين
1- 1 تعريف الدين:
قال ابن منظور " كل ما ليس بحاضر دين (1) ، وعرفته مجلة الأحكام العدلية فقالت: " الدين ما يثبت في ذمة رجل " (2) ، ويستعمل الفقهاء كلمة الدين بمعنيين: عام وهو مطلق الحق اللازم في الذمة، وخاص وهو عند جمهور الفقهاء: "كل ما يثبت في الذمة من مال بسبب يقتضي ثبوته " (3) في نظير معاوضة أو إتلاف أو قرض أو أرش جناية أو حق لله تعالى كالزكاة. ولا يثبت في الذمة إلا المثليات وهي الأموال التي تتماثل آحادها وتتساوى في القيمة كالمكيل والموزون والنقود ونحو ذلك. أما القيميات فلا تثبت في الذمة بل تثبت قيمتها كـ ثمن البيع وغرامة الإتلاف. وكل قرض دين، ولكن الدين ربما كان من قرض وربما كان من أمور أخرى كالبيع الآجل والسلم والمهر المؤخر وأرش الجناية وعوض الخلع. . . إلخ. والدين حال إذا كان يجب أداؤه عند طلب الدائن أو مؤجل إذا كان للوفاء به مدة مضروبة.
1 – 2 بيع الدين:
يقصد ببيع الدين تصرف الدائن بالدين بتمليكه لغيره مقابل عوض. ويتفرع عن ذلك أن يباع الدين لمن هو عليه أو لسواه، في أجله أو قبل أجله. بمقدار مبلغه أو بأقل منه نقدًا أو بثمن مؤجل، ولكل أحكامه التي فصلها الفقهاء. وكل هذه الحالات مهم ولا يكتمل النظر من الناحية الفقهية في المسألة إلا باستقصائها جميعًا وتفصيل أحكامها. وهي مبسوطة في كتب الفقهاء وفي الدراسات الفقهية المعاصرة فلا حاجة بنا إلى الإسهاب فيها. بل سنقتصر على الصيغة التي انتشر العمل بها في يوم الناس هذا في المصارف وأسواق المال ومعاملات الناس خشية التطويل ولكنها الصيغة المقصودة عند الكلام عن بيع الدين وهي النازلة التي استشكل على المعاصرين أمرها، تلكم هي بيع الدين لغير من هو عليه قبل أجله بأقل من قيمته الاسمية (مبلغه) .
وبيع الدين ليس من مخترعات العصر الحديث بل هو قديم حتى بصوره التي تبدو لنا مبتكرة. فقد أورد بعض المؤرخين الاقتصاديين أن الوثائق البابلية والآشورية قد تضمنت ما يمكن القول إنه سندات دين لحامله تعود إلى نحو 1800 سنة قبل الميلاد، وأن وثائق الدين كانت تباع وتشترى في الأسواق في نحو سنة 1400 قبل الميلاد (4) .
1 – 3 أهمية الموضوع:
تعد مسألة الديون من أهم وأخطر القضايا الاقتصادية المعاصرة، ومع ذلك فإن الكتابات فيها من المنظور الإسلامي قليلة جدًا، رغم تأثيرها المباشر على حياة الناس في كل مكان، وسوف نورد أدناه بعض المعلومات المختصرة التي تبين أهمية وخطورة المسألة محل البحث.
إن العالم يغرق في الديون، على مستوى الأفراد، والشركات والحكومات وفيما بين الدول.
- فعلى مستوى الأفراد، تدل الإحصاءات في بعض البلدان أن الدين يستغرق نحو (90 %) من الدخل الشهري للسواد الأعظم من الأفراد يسددون ديونهم الناتجة عن شراء المنزل بالأجل والسيارة والأثاث والقروض المصرفية. .. إلخ (5) .
__________
(1) لسان العرب لا بن منظور.
(2) المجلة مادة رقم 158.
(3) نزيه حماد، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء.
(4) انظر في تفصيل ذلك: Moris Silver, Economic structure of the Ancient Neareast, London, Croom Helm, 1985, P. 60 وما بعدها.
(5) منها الولايات المتحدة، كما نقلت ذلك جريدة (وول ستريت جورنال) .(11/107)
- وعلى مستوى الشركات، تمثل الديون المصدر الأهم للتمويل. ولذلك صارت أسواق المال العالمية أسواقًا للديون وليس لحقوق الملكية (الأسهم) وتفضل الشركات في كل أنحاء العالم إصدار سندات الدين وليس أسهم الاشتراك والملكية. ففي الولايات المتحدة حيث تتوفر الإحصاءات لا تمثل الأسهم أكثر من (4.5 %) من مجمل مصادر التمويل للشركات المساهمة من أسواق المال، بينما أن نحو (93 %) منها كان بإصدار سندات الدين (هذا إضافة إلى القروض المصرفية) (1) .
- وعلى مستوى الحكومات، تصل الديون على الحكومة في بعض الدول إلى أكثر من (100 %) من الناتج المحلي الإجمالي للقطر، وتصل قروض حكومة الولايات المتحدة على سبيل المثال إلى نحو (50 %) من مجموع مدخرات المواطنين السنوية، وهي تدفع في كل عام فوائد على قروضها بلغت سنة 1992م (293) بليون دولار. كما أن (70 %) من إيرادات الضرائب في إيطاليا تخصص لدفع الفوائد على القروض الحكومية التي لا حيلة للحكومة في تسديد أصلها، ولا قدرة لها إلا على دفع الفوائد السنوية عليها (2) ، وليست حكومات بلاد المسلمين مختلفة عن ذلك.
وكذلك حال الدول وبخاصة النامية منها، فقد بلغت ديون الأقطار النامية إلى الدول الصناعية سنة 1991م ترليون و600 مليون دولار تدفع عليها فوائد تبلغ نحو 60 ألف مليون دولار سنويًّا (3) .
وقد نما حجم المداينات على مستوى العالم بمعدلات عالية في السنوات الأخيرة؛ إذ تدل الإحصاءات على أن الاقتراض للدولة من الأسواق الخارجية ارتفع من (36.4) مليون دولار سنويًّا في سنة 1974 م إلى (1,8) ترليون دولار في سنة 1993م (4) .
لا ريب أن ظاهرة الديون تثير مسائل كثيرة تحتاج إلى نظر ومن أهمها المعاملات التي تجري في الديون بعد ثبوتها في الذمم، ومن أهم ذلك بيع الدين.
إن بيع الدين بأنواعه وصوره المتعددة هو في يوم الناس هذا قوام عمل الأسواق المالية التي تتداول فيها الأموال بآلاف البلايين من الدولارات.
1-4 أسباب نزوع الناس إلى المداينات في المعاملات المعاصرة:
الدين قديم، وقد تعامل الناس بالبيوع الآجلة والقروض في كل دورات التاريخ. إلا أن هذا الانتشار العظيم للمداينات هو ظاهرة معاصرة تعد من سمات العصر الحديث، وبخاصة في العقود الأخيرة من هذا القرن. والجهات التي تستدين هي الأفراد، والشركات، والحكومة ومؤسساتها وتنزع هذه الجهات جميعًا إلى المداينة لأسباب.
1-4-1 على مستوى الفرد:
لا يكاد الإنسان يسلم من الدين في المجتمعات المتمدنة في يوم الناس هذا، وقد أضحى من المعتاد أن يخصص كل فرد جزءًا ثابتًا من دخله الشهري لسداد الديون، وقد دلت بعض الإحصاءات أن الفرد في بعض الدول يذهب جل دخله الشهري لدفع الأقساط الناتجة عن شرائه المنزل والسيارة والأثاث، وأقساط تعليم أبنائه ومدفوعات بطاقة الائتمان وفاتورة الهاتف والكهرباء ومصاريف التأمين الصحي. ... إلخ. لا ريب أن لهذه الظاهرة أسبابًا لعل أهمها:
أ- استقرار دخول السواد الأعظم من أفراد المجتمع بسبب ارتباطهم بوظائف دائمة (أو شبه دائمة) لها سلم رواتب معلن مما مكن هؤلاء من التخطيط لإنفاقاتهم في المستقبل بقدر كبير من الاطمئنان. فلم يعد إنفاق الفرد اليوم معتمدًا على دخله في ذلك اليوم، بل هو مبني على إمكاناته المستقبلية. فهو لا ينتظر عند شرائه للسيارة حتى يدخر كامل ثمنها مثلاً ثم يشتريها، بل هو يشتريها اليوم ليدفع ثمنها منجمًا على مدى سنوات قادمة. وكذلك يفعل في شرائه المنزل وفي انخراطه في برامج التعليم. .. إلخ.
ب- ومن جهة أخرى تشجع برامج التأمين بأنواعها، سواء كانت برامج تقاعدية أو تأمينًا ضد البطالة أو تأمينًا صحيًّا أو تأمينًا على الحياة (في البلاد الغربية) ، يشجع وجود مثل هذه البرامج المؤسسات المالية والشركات التجارية على تقديم القروض وأنواع الائتمان لأفراد المجتمع غير قلقة على احتمالات موت المدين أو إفلاسه لإمكانية استيفاء الدين من مستحقاته الأخرى. فإذا أضيف إلى ذلك تطور الإجراءات القانونية والإدارية ووسائل جمع المعلومات وتحصيل الديون بطريقة صارت فعالة في ردع المماطلين وتقليل حجم الديون المعدومة في العمليات الائتمانية. لهذا السبب وجدنا أن النسيئة صارت هي أساس جل البيوع عند الناس ولم يعد البيع النقدي شيئًا مذكورًا إلا في المواد الاستهلاكية وما شابهها.
__________
(1) R.H.Rupert P. 113
(2) ففي سنة 1992م وصلت الديون على حكومة بلجيكا (120 %) من الناتج المحلي الإجمالي، و (108 %) في إيطاليا – عن جريدة (وول ستريت جورنال) أعداد مختلفة سنة 1993م؛ وكذلك كتاب 1995 Bank ruptcy لمؤلفيه: Harry Figgie, Gerald Swanson من دار Little Bron في نيويرك، 1992م.
(3) جريدة (وول ستريت جورنال) ، 30 /12 / 1992 م.
(4) مجلة أكونومست، 17 ديسمبر 1994م، ص 17.(11/108)
1-4-2 على مستوى الشركات
كذلك الأمر في الشركات والمؤسسات الإنتاجية التي تهدف بصورة أساسية إلى تحقيق الربح لملاكها، إذ هي تجد الدين خير أنواع التمويل المتاحة لها من حيث تحقيقه الربحية.
إن الشركة إذا احتاجت إلى المال فإن أمامها طريقان: الأول: هو القرض بفائدة من البنوك أو من الجمهور (أو بصيغ تمويل إسلامية قائمة على الدين في الشركات الملتزمة بأحكام الشريعة) ، والثاني: زيادة رأسمالها بالمشاركة (أو إصدار الأسهم) . وتنزع أكثر الشركات إلى النوع الأول. ذلك أن القرض وأنواع الديون الأخرى تعد في المعيار المحاسبي تكلفة، ولذلك فإنها تقلل من وعاء الضريبة على الشركة حيث يمكنه أن تطرح من أقساط تسديد الدين من دخلها السنوي قبل حساب الربح (دخلها الصافي) الذي يكون وعاءً للضريبة. أما لو أنها أصدرت أسهمًا جديدة للحصول على نفس المبلغ من المال فسوف يترتب على ذلك دفع مبلغ أعلى لمصلحة الضرائب بسبب انتفاخ الوعاء الضريبي (1) ، ولذلك يفضل أصحاب الشركة الحاليين الدين لأن بإمكانهم غندئذ الحصول على عائد أعلى من ملكية الأسهم.
ومن جهة أخرى فإن الفائدة على القروض لما كان مستواها دائمًا أدنى من المستوى المتوسط للأرباح، فإن الشركات التي تحقق ربحًا صافيًا يزيد على سعر فائدة القروض تجد من الأجدى لغرض رعاية مصالح حملة الأسهم الحاليين وهو تعظيم الربح (في غياب اعتبارات أخرى) أن تقترض فتدفع الفائدة ولا تصدر الأسهم الجديدة، ثم تدفع عليها ربحًا يزيد مبلغه عن مدفوعات الفائدة.
وهي بهذه الطريقة تزيد حجم المبلغ الذي تستطيع توزيعه على ملاكها الحاليين على صفة أرباح سنوية. أضف إلى ذلك هيمنة النظام الغربي المعتمد على المداينات والفائدة هيمنته على النظام الاقتصادي في أكثر بلدان العالم.
ولذلك تجد أكثر الشركات نفسها تعمل في بيئة تقنن الاقتراض وتوفر له الترتيبات الإدارية والمؤسسات التي تنظم شؤونه والمعايير المحاسبية الخاصة به وقواعد المراجعة الضرورية لضبطه مما يسهل للشركة التعامل مع القروض وبخاصة تجاه إدارة الضرائب، بينما هي لا تعطي المشاركات اعتبارًا ولا تعدها من الخيارات المتاحة للشركة (فيما عدا إصدار الأسهم وهي طريقة معقدة ومكلفة) .
إن الشركة لو حاولت الحصول على المال على أساس المضاربة أو السلم أو المشاركة المؤقتة لواجهت المصاعب من الناحية التطبيقية في كل جوانبها ولا سيما من ناحية عدم وجود قوانين تنظم مثل هذه الصيغ ومعايير تمكن من قياس الأداء ومقارنة الأرباح، لوجدت الجهات الضريبية صعوبة في التعامل معها.
__________
(1) لأن مبلغ ما تدفعه كزيادة في القرض أو ربحًا في البيوع الآجلة لو أنها استدانت سيظهر على صفة ربح لحملة الأسهم عند تمويلها بإصدار أسهم جديدة، فيدخل في وعاء الضريبة (وهو الدخل الصافي للشركة) . وتكون المسألة أكثر تأثيرًا على الشركات في الأنظمة التي تتبننى الضرائب التصاعدية؛ لأن انتفاخ الوعاء الضريبي سيؤدي إلى وضع الشركة في شريحة ضريبية أعلى.(11/109)
1-4-3 على مستوى الحكومة:
تحتاج الحكومة إلى التمويل كسائر المؤسسات الأخرى إلا أن نشاط الحكومة يختلف عن تلك المؤسسات من حيث:
أ- إن نشاطها لا يولد الربح إذ جل نشاط الحكومة، وبخاصة في الدول التي تسير على منهاج الاقتصاد الحر، هو تقديم الخدمات الأساسية كالأمن والدفاع والرعاية الصحية والتعليم وما شابه ذلك. ومن ثم هذه النشاطات غير قابلة لصيغ التمويل المعتمدة على الربح؛ كالمشاركة والمضاربة وإصدار الأسهم. .. إلخ. ولا سبيل لتمويلها إلا بالاقتطاع الضريبي من الدخول أو بواسطة الاقتراض.
ب – إن جزءًا مهمًّا من نفقات الحكومة يوجه نحو مشاريع ممتدة عبر الأجيال، فالمطار الدولي والطرق السريعة للسيارات وخطوط السكة الحديد وإنشاء الجامعات ... إلخ؛ كل ذلك مشاريع تحتاج إلى رأسمال ضخم عند الإنشاء ولكن منافعها تمتد عبر الأجيال لعشرات السنين. ولذلك فإن من العدل أن لا تحمل برمتها (من خلال الضرائب) على جيل واحد من سكان البلد، إن متطلبات العدالة في التوزيع عبر الأجيال تقتضي نثر هذه التكاليف على كل أولئك الذين سينتفعون بهذه البنية الأساسية للاقتصاد اليوم وغدًا، ولذلك صارت الحكومة تقترض اليوم لتسدد من إيرادات الضرائب التي سوف تفرض على الناس في المستقبل فتجعلهم بذلك يتحملون جزءًا من هذه التكاليف.
جـ – إن المواءمة بين إيرادات الحكومة (وهي تأتي في الغالب من الرسوم والضرائب المرتبطة بدورات الإنتاج والظروف البيئية والمناخية وأحوال الاقتصاد العالمي. ..إلخ) . ونفقات الحكومة (والتي ترتبط بدورة مختلفة لأن جلها يكون على صفة صرف الرواتب الشهرية والمخصصات المختلفة وما قد يقع من نفقات طارئة. ..إلخ) . تضطر الحكومة في بعض الأحيان إلى الاقتراض للمواءمة بين النفقات والإيرادات التي لا تتطابق من الناحية الزمنية. مع أن جملة نفقات الحكومة مساوٍ لإيرادتها في نهاية العام. لقد ترتب على هذه الظروف نزوع الحكومات إلى الاقتراض، ولذلك نجدها في يوم الناس هذا مثقلة بالديون في كل بلاد العالم.(11/110)
1 -5 الباعث على بيع الدين في المعاملات المعاصرة.
هناك أسباب متعددة كان لها دور في انتشار عمليات بيع الدين ونمو أسواقه نلخصها فيما يلي:
1-5-1 التخصص وتقسيم العمل:
قام النشاط الاقتصادي في يوم الناس هذا على فصل وظيفة التمويل عن وظيفة التجارة. إن النشاط المالي الذي يقوم على التخصص في التمويل له خصائص متميزة ويحتاج إلى مهارات مختلفة عن النشاط التجاري الذي يتخصص في شراء الأصول والسلع ثم تسويقها لتحقيق الربح. وجلي أن مسألة التخصص وتقسيم العمل لا تقتصر على ما ذكر، بل إن التجار يختلف بعضهم عن الآخر بحسب تخصصه؛ فتاجر السيارات ومعدات النقل عنده خبرات ومهارات لا تتوافر على تاجر المواد الغذائية أو الأثاث المنزلي وكل تاجر بارع في تخصصه وعارف بأسرار مهنته وخفايا السوق التي يشتغل فيها.
ويرى المؤرخون الاقتصاديون أن التخصص وتقسيم العمل هو أساس الحضارة المعاصرة إذ مكن من زيادة الكفاءة الإنتاجية بسبب إتقان العمل وتزايد القدرة على الإبداع فيه. ولذلك فإن الاتجاه هو المزيد والمزيد من التخصص وتقسيم العمل هو سمة من سمات الحياة المعاصرة. فإذا تخصص تاجر في الملابس فقط، جاء آخر فتخصص في الملابس النسائية فحسب، ثم يأتي آخر فيتخصص في الملابس النسائية القطنية، ثم ثالث في الملابس النسائية القطنية الداخلية ... وهلم جرًّا. وفي كلِّ مرة يظهر مستوى جديد للتخصص يرغم صاحبه من سبقه على التخصص الدقيق.
بعد هذه المقدمة نقول إن الائتمان، والديون، والتحصيل وما شابه هي نشاطات متخصصة تعد من عمل المؤسسات المالية وبخاصة البنوك، ولذلك يجد التجار أن الانخراط فيها إضافة إلى عملهم في التجارة يضيع عليهم فرصة التخصص فيها، ومن ثم زيادة كفاءة العمل وتعظيم الأرباح والبيع بالآجل هو قوام التجارة في زماننا هذا. ولا يلزم أن تكون الآجال طويلة، ولكن الواقع أن لا أحد يبيع بالنقد، بل يؤجل الدفع أيامًا أو أسابيع أو أشهرًا أو نحو ذلك.
ثم إذا حل الأجل احتاج الأمر إلى تحصيل، وقبل ذلك فإن البيع إلى جهة يحتاج إلى دراسة حالتها المالية والتأكد من جودتها الائتمانية، وكل ذلك من صميم عمل البنوك. ولذلك قام عمل الناس في الدول الغربية على قيام المؤسسات التجارية بإنشاء الديون ثم بيعها قبل الأجل إلى المؤسسات المالية التي تخصص في المداينات.1
- القوانين المصرفية:
تلزم القوانين المصرفية البنك بضرورة ربط حجم الديون التي تحملها دفاترها لرأس مال البنك، بحيث لا تزيد الديون عن أضعاف محددة لرأس المال ليس هذا فحسب، بل إن القوانين اليوم في أكثر الدول تحدد نسبًا لأنواع الديون المختلفة بحسب المخاطرة المتضمنة فيها، وتجعل البنوك ملتزمة بنسب مرتبطة برأس المال لكل صنف من الديون (1) . لكن إدارة البنك لا تستطيع على الدوام المحافظة على المزيج المطلوب وبخاصة أن التصنيف الائتماني للمدينين قد يتغير بعد ثبوت الدين في ذممهم (2) . تضطر البنوك في مثل هذه الحالات إلى بيع بعض الديون التي لا تتوافق مع المتطلبات القانونية. ولا يلزم أن تبيع الديون الرديئة فقط فقد تجد نفسها أحيانًا تحمل في دفاترها من الديون الممتازة أكثر مما تحتاج، فتبيع بعض ذلك لأن العائد المالي الذي يتحقق من الديون الممتازة أقل مقارنة بتلك التي تقل عنها جودة.
__________
(1) وأفضل أنواع الديون عندهم: ديون الحكومة، لأن الحكومات لا تفلس، ثم الديون الموثقة برهون تزيد من قيمته، وهي على مدينين في الصف الممتاز ثم الأقل. .. وهكذا.
(2) كما حصل عندما تغير التصنيف الائتماني لجميع المدينين في جنوب شرقي آسيا، وكلهم مدين لبنوك من أنحاء كثيرة من العالم.(11/111)
1-5-5 التوسع في النشاط التجاري:
والرغبة في التوسع في النشاط التجاري هي باعث على بيوع الدين.
ذلك أن التجار لما كان جل بيعهم يكون بالنسيئة وجدوا أن رأس مالهم يضحى جامدًا لا يستطيعون التوسع في نشاطهم ما دام في أيدي الناس ديون لم تستحق بعد. فكان السبيل إلى ذلك هوالاقتراض من البنوك لكن ذلك يكون مكلفًا لا سيما مع ما يحتاج إليه من رهون وضمانات، فاتجه التجار إلي بيع الديون المستحقة له في ذمم العملاء إلي البنوك أو المؤسسات المالية أو إلي الجمهور في سوق الديون. فيتمكن التاجر عندئذ من استرداد رأسماله لشراء بضائع جديدة يبيعها إلي عملائه وهكذا. ولذلك كانت الرغبة في التوسع في النشاط التجاري أحد أهم البواعث على بيع الدين.
1-6 بيع الدين:
1-6-1 صفة بيع الدين في المعاملات المعاصرة:
تتم عملية تداول الديون بطرق مختلفة. فقد يبيع الدائن الأصلي (أي البنك مثلاً) الدين برمته إلي مالك جديد يقوم، بعد شرائه هذه الديون، بقبض أقساط التسديد والفوائد المترتبة على القرض وعلى التأخير. .. وتقتصر مهمة الدائن الأصلي علي خدمة العلاقة بينهما (أي المالك الجديد) للدين والمدين الأصلي) ، وتسمى هذه الطريقة (pass-Thruoghs) وهي أكثر صوره شيوعًا. ومن أشهر أنواعها حسم الكمبيالات.
وقد تبقى ملكية الدين للدائن الأصلي، وتبقى العلاقة مستمرة بينه وبين المدين، ولكنه – أي الدائن الأصلي – يقوم ببيع تيار الفوائد. المتوقع من ذلك القرض فقط. فيكون الدين مستحقًا للمصدر الأصلي ويتحمل هو المخاطرة المتضمنة فيه، ولكنه يستعجل قبض الفوائد بأخذها من طرف ثالث قبل أجل الدين (بمبالغ أقل من قيمتها الاسمية) ويسمى (pay-Throughs) ، أي أن المصدر يقبض مقدمًا يقبض مقدمًا الفوائد المتوقع دفعها فقط) .
أما الطريقة الثالثة فهي إصدار سندات مضمونة بتلك الديون، ثم بيعها في الأسواق المالية فتكون الديون الأصلية ضمانًا لتلك السندات فقط، من أهم أنواعها (MortgageeBacked) .
وفي كل الحالات تقوم عملية تداول الديون في الأسواق على التنميط، إذ يقوم الدائن الأصلي بترزيم تلك القروض في مجموعات متشابهة في مقدار المخاطرة المتضمنة فيها (أي أن تكون ملاءمة المدينين فيها متشابهة) ، وتواريخ استحقاقها، ومعدلات الفوائد عليها، ونوع الفائدة هل هي ثابتة أم متغيرة، ثم يصدرها على شكل أدوات قابلة للتداول، وبذلك يستطيع أن يحول الدين قليل السيولة إلى سيولة كاملة. وقد توسعت هذه العلميات حتى صار جل الديون قابلاً للتنضيض بهذه الطريقة بما في ذلك الديون على الدول (دول العالم الثالث) للبنوك الدولية. ولا يلزم أن يكون لها وثائق مثل الأسهم والسندات، بل كثيرًا ما تبقى على صفة قيود محاسبية في دفاتر المؤسسات المعنية وتتداول بينهم بواسطة الكمبيوتر.(11/112)
1-6-2- السوق الأولية والسوق الثانوية:
يقصد بالسوق الأولية تلك التي تكون العلاقة فيها مباشرة بين الدائن الذي يبيع الدين وذلك الذي يشتريه. فإذا احتفظ الأخير بملكية الدين المباع حتى يحل أجله اقتصرت المعاملة على تلك السوق الأولية. إلا أن كثيرًا من الديون تجري عمليات إعادة بيعها على صفة تداول وثائقها في أسواق منظمة. ومن أشهر الديون ذات الأسواق الثانوية، السندات (سندات الحكومة وسندات دين الشركات) إذ يجري تداولها بالبيع مرات قبل حلول أجلها. أما السوق الثانوية فإن سائر الديون قابلة للتداول فيها؛ فالكمبيالات على سبيل المثال تحسم في السوق الأولية، ولكن يمكن أن يكون لها أسواق ثانوية تتداول فيها قبل حلول أجلها. وعمليات البيع التي تقع على الديون في السوق الأولية لا تختلف عنها في السوق الثانوية من حيث طبيعة المعاملة ولا يتصور أن تختلف أحكامها لذلك. على أن تداول الديون هو مرحلة متقدمة في عمليات بيع الدين، أما مجرد البيع فهو قديم وينتشر في كل دول العالم.
1-6-3 أهم صور بيع الدين في المعاملات المعاصرة:
أ- بيع الأوراق التجارية (1) :
الورقة التجارية وثيقة يعد مصدرها بدفع مبلغ من النقود إلى شخص آخر أو إلى حاملها في تاريخ محدد أو على الحلول بفائدة أو بغير فائدة، ويعرفها أهل القانون بأنها " صك قابل للانتقال بالطرق التجارية يقوم مقام النقود في التعامل ويرد على مبلغ معين يستحق الدفع عادة بعد أجل قصير" (2) ، وأهم أنواعها وثائق الدين المتولد عن بيوع التقسيط وما شابهها من أنواع الديون. والورقة التجارية يصدرها المدين لتوثيق مديونيته. وتحدد القوانين المنظمة لتداول الأوراق التجارية شكل هذه الورقة والمعلومات الأساسية التي يجب أن تدون فيها، مثل مبلغ الدين وتاريخ الاستحقاق وتوقيع المدين. . . إلخ وتعد هذه الشكليات مهمة لتوفر الحماية القانونية للورقة التجارية. ويشمل معنى الأوراق التجارية الشيك والحوالة المصرفية والكمبيالة والسند لحامله.
ومن أهم طرق بيع الأوراق التجارية ما يسمى بالحسم وبخاصة حسم الكمبيالات، والكمبيالة هي (السند لأمر) الذي يوقع عليه المدين عندما يشتري سلعة بالتقسيط من البائع ثم يقوم ذلك التاجر – رغبة منه في استعجال مبلغ الدين – في تقديم هذه الكمبيالة إلى المصرف الذي يحسم جزءًا من مبلغها ويعجل له دفع ما بقي ثم ينتظر – أي المصرف – حتى يحين أجل السداد فيحصل على مبلغ الكمبيالة كاملاً، فيكون الفرق بين ما دفعه للتاجر وبين ما حصل عليه من المدين وهو رسوم الحسم. ويكون ذلك الرسم معتمدًا على طول المدة، وربما قام المصرف بإعادة الحسم في حالة احتياجه للسيولة قبل حلول الأجل ويكون ذلك لدى المصرف المركزي أو في سوق النقد. وحسم الكمبيالات غير جائز فهو من أنواع بيع الدين المحرمة.
__________
(1) سيجري الحديث عند سندات الدين في الفصل الثاني من هذه الدراسة.
(2) نقله زهير عباس كريم، النظام القانوني للشيك، عمان، مكتبة الثقافة، 1997م، ص 7.(11/113)
وقد تبنت المجامع الفقهية القرارات التي تنص على عدم جواز حسم الكمبيالات. وللأوراق التجارية في دول الغرب أسواق منظمة تتداول فيها البيع. وهو نوع من أنواع المعاملات الربوية التي لا تجوز.
ب- الفوترة (Factoring) :
تعد عملية الفوترة نوعًا من بيع الدين في المعاملات المعاصرة. وهو كثير الانتشار في الدول الغربية وبخاصة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. والفوترة ليست جديدة إذ تعود قوانينها في بريطانيا إلى القرن السابع عشر. وفيها تسند الشركة المنتجة التي تبيع بالأجل أمر فواتيرها إلى جهة مالية تسمى (Factor) تكون في الغالب مؤسسة متفرعة عن بنك. فتتولى الشركة المنتجة عمليات الإنتاج والتسويق والبيع، وكلما باعت أرسلت إلى مؤسسة الفوترة حساباتها لكي تصدر فاتورة البيع (وقد تصدرها بنفسها) . فتقوم هذه المؤسسة بإصدار الفواتير ومتابعة التحصيل ومسك الدفاتر الخاصة بمبيعات هذه الشركة، وتحصل مقابل ذلك على رسوم إدارية. ولكن وظيفتها لا تقتصر على ذلك، بل هي تقوم في كل مرة تصدر فيها فاتورة بدفع مبلغها (أو نسبة محددة منه متفق عليها) إلى الشركة المنتجة مباشرة، ثم تقوم بتحصيله من زبائنها الذين صدرت لهم الفواتير. وتدفع الشركة المنتجة الفوائد المصرفية على المبلغ الذي استلمته من قيمة الفاتورة للفترة التي تفصل بين استلامها لذلك المبلغ وتحصيل مؤسسة الفوترة للمبالغ من الزبائن على صفة حسم من الدين. ويعد المبلغ الذي تدفعه هذه المؤسسة للشركة المنتجة مثل ما يسمى في البنوك " الجاري المدين " (1) . ولذلك فإن الشركة المنتجة ضامنة لمبالغ الديون على عملائها فإذا فشلت مؤسسة الفوترة في التحصيل عادت على الشركة بتلك المبالغ.
وتستفيد من الفوترة شركات الإنتاج التي تتعاقد مع الباعة على توريد كميات من السلع خلال العام، ولذلك فهي تتفق معهم على دورة تسليم المبيعات ودورة دفع المستحقات. والغرض من عملية الفوترة في جانبها الائتماني هو تمويل رأس المال العامل. فالغرض هو حصول الشركة المنتجة على تمويل لرأسمالها العامل، إلا أن قيام مؤسسة الفوترة بإصدار فواتير البيع بنفسها يحقق قدرًا من الاطمئنان لها حيث يمكن من خلاله أن نتعرف مباشرة على حال الشركة من الناحية المالية ونوعية عملائها وقبضها للمبالغ المستحقة للشركة بنفسها لتسديد الديون. وظاهر في هذه الصورة بيع الدين فإن السلع عندما باعتها الشركة إلى عملائها ترتب في ذممهم لها ديون. قامت ببيعها إلى هذه الجهة المالية (Factor) بمبلغ أدنى من قيمتها الاسمية (والفرق هو الفائدة المشار إليها) .
ج – حسم الفواتير:
تشبه عملية حسم الفواتير ما أشرنا إليه أعلاه مما يسمى الفوترة إلا أنها أوسع انتشارًا منها، والاختلاف بينهما أن المؤسسة المالية لا تتدخل في هذه العملية في نشاط الشركة المنتجة، بل يقتصر الأمر على تقديم الأخيرة فواتير هي أصدرتها إلى عملائها فتقوم المؤسسة المالية بحسم جزء من مبلغها ودفع الباقي بطريقة لا تختلف عن حسم الكمبيالات. وتكون الشركة المنتجة مسؤولة عن التحصيل وهي ضامن للدين على كل حال. وتستفيد الشركة المنتجة من هذه العملية بالحصول على تمويل لرأسمالها العالم واستقرار في التدفقات النقدية. ولكنها تتضمن مخاطرة أعلى على المؤسسة المالية لأنها (أي الأخيرة) لا تشرف على كل عمل الشركة وربما لا يقدم إليها إلا جزء من الفواتير الصادرة كما لا تقوم بنفسها بالتحصيل والمتابعة. وفي كل الأحوال فإن الفواتير المذكورة لا تخص بالبيع الآجل. إلا أن أيّامًا أو أسابيع تفصل دائمًا بين إصدار الفاتورة وتحصيلها في العلاقة بين الشركات المنتجة وعملائها الموزعين والتجار.
__________
(1) الجاري المدين: هو إجراء يعطي البنك بموجبه العميل صلاحية السحب على المكشوف من حسابه، وتفرض عليه عندئذ الفائدة.(11/114)
د – المقابلة:
إذا وقع البيع بالأجل تكون الدين الذي يثبت في ذمة المشتري من تكلفة شراء البائع مضافًا إليها ربحه. إلا أن الدين مبلغ واحد يمثل ثمن البيع بالأجل؛ فلا ينفصل المكون الأول عن الثاني، سواء كان دينًا منجمًا على أقساط أو يسدد دفعة واحدة. وإذا فرق فيه بين الأجل والزيادة في الدفاتر المحاسبية لم يترتب على هذا الفصل حكم فيما يتعلق بذلك الدين إذ يبقى في ذمة المدين مبلغًا واحدًا. هذا في بيوع المسلمين.
أما في المعاملات التقليدية فإن القوم يتعاملون مع المكون الأول كجزء منفصل عن الثاني، سواء كان ذلك في السجلات والدفاتر، أو في المعاملات الأخرى التي تجري في الديون ومنها البيع. وتجري في أسواق النقود في الدول الغربية – ثم امتد الأمر إلى غيرها – بيوع تقتصر على الزيادة على الدين دون أصله. فمثلاً إحدى المؤسسات المالية أقرضت شركة قرضًا قدره مليون دولار لخمس سنوات بفائدة سنوية ثابتة قدرها (5 %) ، يمكن لها عندئذ أن (تبادل) الزيادة في دينها مع الزيادة في دين مماثل (مليون دولار لمدة خمس سنوات) ، التي تكون زيادة متغيرة غير ثابتة (1) . ويبقى أصل الدين للدائن في الدينين بينما أنهما يتبادلان الزيادة فيأخذ هذا الثابتة (ودينه في الأصل ذا فائدة متغيرة) ويأخذ الثاني المتغيرة (ودينه في الأصل ذا فائدة ثابتة) .
والباعث على مثل هذه المعاملة التي تسمى (SWAP) هو الاعتبارات القانونية، إذ تمنع بعض الدول البنوك من الاحتفاظ في دفاترها بديون ذات فوائد ثابتة لمدة تزيد عن سنة مما يضطر تلك المؤسسات أحيانًا إلى عملية المقابلة المذكورة، واعتبارات اقتصادية، ذلك أن شركات التأمين يتلاءم العائد الثابت مع حساباتها الاكتوارية أكثر من العائد المتغير، ولذلك فقد اشتهرت بشرائها لهذا النوع من الديون، واعتبارات تسويقية، ذلك أن عقود التأجير للمعدات على سبيل المثال لا يمكن تسويقها إلا بعائد ثابت في كثير من الأسواق. لذلك تقوم المؤسسة المالية بإنشاء الديون بطريقة الموافقة الطلبات السوق، ثم تفصله عن زيادته فتحتفظ بجزء وتبيع الآخر، وربما وقع البيع عليها لجهتين مختلفتين.
هـ التصكيك:
اكتسبت وثائق تداول الديون أهمية في أسواق المال في السنوات الأخيرة. وتقوم هذه العملية التي تسمى التصكيك (Securitization) على توليد أوراق مالية قابلة للتداول مبنية على حافظة استثمارية ذات سيولة. متدنية تتضمن تلك الديون. لقد بدأت فكرة تداول الدون عندما قامت مؤسسة تمويل بناء المساكن في الولايات المتحدة Governent National Mortgage Association والمشهورة باسم (Ginne Mea) والتي تتولى عملية تمويل بناء المنازل، قامت سنة 1986م، بالتمويل ليس عن طريق الإقراض المباشر، ولكن عن طريق توفير السيولة المؤسسات الإقراض الخاصة لكي تقوم عندئذ بتقديم القروض للمواطنين. ثم تقوم المؤسسة المذكورة بشراء تلك القروض منهم، ثم تمكينها من التوسع في الإقراض لحصولها على النقود. لقد ولد ذلك سوقًا ثانوية لقروض بناء المساكن سرعان ما توسعت ودخلت فيها مؤسسات أخرى غير المؤسسة المذكورة (Ginne Mea) ، مما أدى إلى تطورها بحيث لم تعد تقتصر على قروض بناء المساكن، ولكن شملت كل أنواع الديون، كتلك الناتجة عن تمويل شراء السلع الاستهلاكية والسيارات وقروض بطاقات الائتمان والقروض الخاصة بإنشاء الأصول الرأسمالية. .. إلخ، وقد أمكن بهذه الطريقة تحويل الديون طويلة الأجل وقليلة السيولة إلى أصول سائلة.
__________
(1) الفائدة الثابتة هي التي تحدد كنسبة مئوية من الدين (5 % مثلاً تدفع سنويًّا ولا تتغير، أما المتغيرة فلا تكون معروفة عند التعاقد بل أنها تحدد وقت الوفاء بحسب سعر الفائدة السائد في السوق عندئذ والذي يتحدد إشارة إلى مؤشر متفق عليه مثل لبيور وهو سعر الإقراض بين البنوك في لندن.(11/115)
وبيع التدفقات النقدية:
ينتشر في بعض البلدان عمليات مالية مستجدة تتضمن ما يسمى بيع التدفقات النقدية. فمثلاً تحصل إدارة المرور في مدينة نيويورك في كل عام ملايين الدولارات على صفة مخالفات مرورية وتمثل هذه الإيرادات تدفقًا نقديًّا على خزينة تلك الإدارة، ولكنها ربما احتاجت إلى الأموال اليوم، ولكنها بدلاً عن أن تقترض من البنوك أو الجمهور؛ فإنها تقوم ببيع تلك الإيرادات التي ستحصل عليها في سنوات قادمة. فهي تتوقع مثلاً أن تحصل رسوم مخالفات مرورية تبلغ (40) مليون دولار خلال السنة التالية، فتقوم اليوم ببيع ذلك إلى جهة مالية بمبلغ يقل عن (40) مليون دولار تدفع لها اليوم، ثم توجه حصيلة المخالفات خلال السنة المتفق عليها لمصلحة تلك الجهة المالية. وكذلك تفعل بعض دور السينما في الولايات المتحدة، فهي بدلاً من أن تقترض لتمويل إنتاج الأفلام تقوم ببيع تذاكر مشاهدة الأفلام للسنوات القادمة إلى جهة مالية، ثم تقوم الأخيرة بتحصيل المبلغ من خلال الإيرادات المحصلة من بيع تلك التذاكر في المستقبل. ولهذا البيع صيغ بعضها يكون البائع ضامنًا للمبلغ، فإذا قل الإيراد عن المبلغ المتفق عليه كان الفرق دينًا على البائع، وفي بعضها لا يكون ضامنًا وعندها تتضمن عنصر مقامرة إذ لا يدري هل سيكون الإيراد كثيرًا أو قليلاً. إن المبالغ التي يجري بيعها في هذه المعاملة ليست ديونًا في ذمم الآخرين، وإنما هي إيرادات متوقعة. ولكننا أدرجناها ضمن صيغ بيع الدين للأسباب التالية:
أ- لأنها من القبالات التي تعد من الربا.
ب – لأنها محسوبة على أساس سعر الفائدة المرتبط بالزمن ولذلك فهي حسم من نوع ما، ليس للأوراق التجارية ولكن الإيرادات.
1-6-4 الأضرار الاقتصادية المترتبة على انتشار بيع الدين بصيغته الممنوعة:
الوضع الاقتصادي السليم الذي يحقق النمو والرفاهية في الاقتصاد الوطني هو الوضع الذي يصفه الاقتصاديون بأنه يتسم بالاستقرار. ويقصد بالاستقرار سلامة النظام الاقتصادي من الصدمات التي تؤدي إلى تشويش القرارات الاقتصادية إلى الحد الذي يعرقل عملية النمو الاقتصادي ويؤثر على مستوى رفاهية الإفراد. والوضع الذي تنشر فيه عمليات بيع الدين، وبخاصة إذا أنشئت لذلك أسواق تتداول فيها وثائق الدين، هو وضع غير مستقر على مستوى الاقتصاد الوطني. إذ أن شعور الدائنين بالقلق تجاه المستقبل يدفعهم لبيع وثائق الدين للحصول على النقد خوفًا من عجز المدين على الدفع لكن ذلك يولد شعورًا عامًا بعدم الثقة ومن ثم تزايد عمليات البيع. فإذا تدهورت أسعار وثائق الدين ترتب على ذلك نتائج سلبية فيما يتعلق بقدرة المؤسسات على اجتذاب الأموال وعلى استقرار العملة المحلية للقطر.
والأمثلة المعاصرة كثيرة؛ فإن ما وقع في المكسيك في سنة 1991م وترتب عليه انهيار اقتصادها إنما سببه ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، إذ حدا ذلك بدائني المكسيك إلى بيع ديونهم لنقل أموالهم للبلد الذي ارتفعت فيه أسعار الفائدة. وكذلك الحال في جنوب شرقي آسيا فإن جزءًا مهمًّا من أسباب المصاعب الاقتصادية فيها كان تراكم الديون.(11/116)
يجب ملاحظة أن بيع الدين النقدي بالعرض لا بالنقود لا يتولد عنه مثل ذلك الأثر لأسباب:
منها؛ أن المعاملات التي تحري فيها تبقى جزءًا من سوق السلع الحقيقية، أما في الطريقة التقليدية فإن المعاملات يتولد لها سوق مستقلة عن أسواق السلع ومنفصلة عنها. إن المشكلة الأساسية في نظام الربا أن يقسم الاقتصاد إلى قطاعين منفصلين؛ الأول خاص بإنتاج السلع والخدمات الحقيقية وهو القطاع الذي تتولد فيه الأرباح والنمو الحقيقي في الاقتصاد الوطني، والثاني هو قطاع الديون حيث يتحقق التزايد لمجرد تفاعل قوى العرض والطلب على الديون التي تمتص نتائج القطاع الحقيقي.
1 -7 بعض صور بيع الدين التي تحدث عنها الفقهاء قديمًا:
1-7-1 بيع الكالئ بالكالئ:
الكالئ بالكالئ يعني لغةً النسيئة بالنسيئة (1) . والنسيئة هي التأخير. وبيع الكالئ بالكالئ يعني بيع الدين بالدين. وقد ورد في الحديث فيما رواه الدارقطني والبيهقي وابن أبي شيبه وعبد الرزاق ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ)) . وقد اختلف العلماء في مسألتين:
الأولى: سند الحديث، فوهنه أكثرهم ولم يحتجوا به لضعف سنده، قال الإمام أحمد: " ليس في هذا حديث يصح " (2) .
والثانية: اختلافهم في معناه وصوره التي وقع عليها النهي، كما سيأتي تفصيله.
أما ضعف إسناده فأغنى عنه الإجماع على معناه وتلقي الأمة له بالقبول واحتجاج العلماء به على مر العصور، وبخاصة في معانيه التي يوافقها القياس بتحريم بيع الدين بالدين. ولبيع الكالئ بالكالئ معان وردت في كتب الفقهاء أهمها:
أ- ابتداء الدين بالدين قالوا: وصورته " كما لو أسلم شيئًا في شيء الذمة "، مثل أن يشتري زيد من عمرو سلمًا ولا ينقده بل يؤخر له الثمن. فكلاهما مؤخر (3) . وإجماع العلماء على عدم جواز هذه الصورة وهي مؤجل بمؤجل. وقد ذكر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن إجماع المحكي عن تحريم الكالئ بالكالئ إنما يقتصر على هذا الصورة (4) . وعلة منع هذه الصيغة من البيوع في نظرهم لأن فيها شغل ذمتين بلا فائدة لأي منهما. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة، فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة " (5) . وابتداءً الدين بالدين يختلف عن البيع المضاف في أن الأخير (أي البيع المضاف) واقع على عين موجودة. كما يختلف عن بيع الموصوفات الغائبة لأن ذلك يقع أيضًا على أعيان وأثمان موجودة وإن كانت غائبة عن مجلس العقد. أما ابتداءً الدين بالدين فهو بيع موصوف في الذمة بموصوف في الذمة، أي أنه يكون على شرط السلم مع تأجيل دفع رأس المال.
ب – فسخ الدين بالدين: وصورته، بيع دين ثابت في الذمة إلى المدين بغير جنسه إلى أجل: مثل أن يكون زيد مدينًا لعمرو بمائة دينار ثم يدخلان قبل حلول الأجل في عقد سلم يبيع زيد فيه كر قمح إلى عمرو، بأجل جديد. أما إن كان بعد حلول الأجل فلا بأس (6) ، وقد حكي أن الإجماع على عدم جواز هذه الصورة من بيع الدين بالدين لأنها تؤول إلى ربا النسيئة، فالزيادة الطارئة على الدين المؤجل أخفيت في عقد سلم جديد.
ج- بيع الدين بالدين: وهي بيع الدين من غير من هو عليه بثمن موصوف في الذمة مؤجل ولا يدخل في هذه الصورة الحوالة أوجمهور فقهاء المذاهب على عدم جواز هذه الصورة، وقد عدها المالكية من صور الكالئ بالكالئ (7) . قال مالك في الموطأ: "والكالئ بالكالئ أن يبيع الرجل دينًا له على رجل بدين على رجل آخر" (8) . وجاء في مسائل الإمام أحمد " سألت أبا عبد الله عن الكالئ بالكالئ قال: الدين بالدين، قيل له: كيف يكون الدين بالدين؟ قال: مثل الرجل يكون له على الرجل دين ويكون على الآخر دين فيحيل هذا على هذا وهذا على هذا ". (9) وجلي من كل ذلك أن صور بيع الكالئ بالكالئ التي تحدث عنها الفقهاء قديمًا لا يدخل فيها الصورة المشتهرة في يوم الناس هذا وهي بيع الدين بالنقد (أي بالعين) ، وهذه الصورة وإن كانت غير جائزة فإنها لا تدخل في ما يسمى بيع الكالئ بالكالئ، بل هي مختلفة عنه.
__________
(1) لسان العرب، لابن منظور.
(2) نيل الأوطار، للشوكاني: 5/154.
(3) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 20/512.
(4) نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ، ص 14.
(5) إعلام الموقعين، لابن القيم: 2/9.
(6) نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ، ص 26.
(7) المنتقى شرح الموطأ، للباجي: 5/33.
(8) الموطأ مع حاشية الزرقاني: 3/308.
(9) مسائل الإمام أحمد بن حنبل، لإسحاق بن هاني، تحقيق زهير الشاويش – المكتب الإسلامي 20/191.(11/117)
1-7-2 - بيع الصكوك:
جاء في مسند أحمد عن سليمان بن يسار أن صكاك التجار خرجت في زمن مروان بن الحكم فاستأذن التجار مروان في بيعها، فإذا لهم، فدخل أبو هريرة – رضي الله عنه – عليه، فقال له: " أذنت في بيع الربا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشترى الطعام ثم يباع حتى يستوفى ". قال سليمان: فرأيت مروان بعث الحرس فجعلوا ينتزعون الصكاك من أيدي من لا يتحرج منهم، وجاء في الموطأ: أن مالكا بلغه أن صكوكا خرجت للناس في زمان مروان بن الحكم من طعام الجار، فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على مروان بن الحكم، فقالا: أتحل بيع الربا يا مروان، قال: أعوذ بالله، وما ذاك؟ فقالا: هذه الصكوك تبايعها الناس ثم باعوها قبل أن يستوفوها؛ فبعث مروان الحرس ينزعونها من أيدي الناس ويردونها إلى أهلها ".
والصكوك: جمع صك وهي التواقيع السلطانية بالأرزاق؛ أي هو الورقة المكتوبة بدين والمراد هنا الورقة التي تخرج من ذوي الأمر برزق من الطعام لمستحقيه، كأن يكتب فيها لفلان كذا من الطعام. فالنهي عن بيع الصكاك الذي ورد في الآثار المذكورة أعلاه إنما هو واقع على البيع الثاني لأن الذي خرج له الصك مالك ملكًا مستقرًا، وليس هو بمشتر بل موهوب فلا يمتنع عليه البيع قبل القبض، لأن النهي إنما جاء في منع بيع الطعام قبل القبض إذا كان ملكه بالشراء. كما لا يمتنع بيع ما ورثه قبل قبضه، وقول أبي هريرة في الحديث محمول على ذلك، لأن الأول وصل إليه الرزق على جهة العطاء لا المعوضة، ودليل ذلك ما ذكره مالك في الموطأ، إذ قال: " إن مروان بعث الحرس لينزعوا الصكوك من أيدي الناس، ثم قال ويردونها إلى من ابتاعها " (1) .
ونقل صاحب إعلاء السنن عن النووي قوله: " والأصح عندنا جواز بيعها وهو قول مالك " (2) . ولفظ صاحب الموطأ يفيد بجواز بيع الصك والذي أنكروه إنما هو بيع مشتري الصك ما فيه قبل أن يستوفيه وهو طعام ولا خلاف في أن الطعام لا يجوز بيعه قبل القبض.
والصكوك التي تحدث عنها الفقهاء إنما هي صكوك أعطيات الخلفاء إلي الناس، فهي مختلفة عن بيع الدين بصوره المعاصرة من عدة وجوه، منها أن دينها طعام وليس نقودًا، ثم ثانيا أنها مأمونة لأن بيت المال مليء، وهو مظنة الوفاء فلا يكون فيها غرر عدم القدرة على التسليم، ثم ثالثًا أنها على سبيل الهبة لا المعاوضة، ومن هذا الباب قال جمهور الفقهاء: بجواز بيع صاحبها الأول لها.
أما بيعها من قبل المشتري لتلك الصكوك إلى مشتر آخر فلا تجوز إلا بعد القبض، لأنه يكون من بيع الطعام يستوفى. وقال المرداوي في الإنصاف: " لا يجوز بيع العطاء قبل قبضة، لأنه غرر ومجهول ولا بيع رقعة به وعنه يبيعها بعوض مقبوض " (3) .
__________
(1) القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 4 / 380.
(2) إعلاء السنن: 14 / 142.
(3) الإنصاف للمرداوي: 4 / 291.(11/118)
1-7-3 - بيع دين السلم قبل القبض:
جمهور الفقهاء على أن دين السلم لا يجوز بيعه قبل قبضه. وصفة هذا البيع أن يكون لرجل على رجل دين من سلم هو مائة أردب من القمح مثلاً يحل أجل قبضها في شهر محرم. فيقوم هذا الرجل ببيع هذا القمح إلى رجل ثالث بثمن معجل قبل حلول الأجل ويقبض ثمن البيع نقدًا، ثم ينتظر هذا الثالث حتى يحل الأجل فيقبضه من البائع الأول.
هذه هي الصورة التي قال جمهور الفقهاء: إنها لا تجوز. إلا أن المالكية انفردوا بإجازة صور قريبة منها. فلو كان الطعام غير مكيل، قال بعض المالكية بجواز بيع دين السلم عندئذ، قال ابن عبد البر في الكافي: " كل ما اشتريت من العروض كلها: الحيوان والعقار والثياب ما خلال المبيع من الطعام على الكيل فلا بأس عند مالك أن يبيع ذلك كله قبل أن يقبضه" (1) .
وقال في التمهيد: " وما عدا المأكول والمشروب من الثياب والعروض والعقار وكل ما يكال ويوزن أنه لا بأس لمن ابتاعه أن يبيعه قبل قبضه واستيفائه" (2) .
أما إذا كان المبيع غير طعام، فتحصيل مذهب مالك على جواز البيع قبل القبض في السلم. قال القاضي عبد الوهاب في التلقين: "الأعيان المبيعة ضربان: طعام وغير طعام، والشراب من سائر المبيعات من العروض والعبيد والحيوان والعقار وما ينقل ويحول أو لا ينقل ولا يحول فبيعه جائز قبل قبضه في الجملة" (3) .
وقال التسولي: " يجوز بيع العروض قبل قبضها كان المعجل فيها عرضًا أيضًا أو دراهم أو حيوانًا أو طعامًا من بيع أو سلم بخلاف الطعام؛ فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه مطلقًا كان من معاوضة أو لا، لأنه قرض فيجوز نقدًا فقط، وظاهره أنه يجوز بيع العرض قبل قبضه لمن هو عليه ولغيره نقدًا وإلى أجل قبل حلوله وبعده "، وجاء في حاشية المواق على كتاب مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب: " قال مالك: كل ما ابتعته أو أسلمت فيه عدا الطعام والشراب من سائر العروض على عدد أو كيل أو وزن؛ فجائز بيع ذلك كله قبل قبضه وقبل أجله من غير بائعك بمثل رأس المال أو أقل أو أكثر نقدًا أو بما شئت من الأثمان إلا أن تبيعه بمثل صنفه فلا خير فيه يريد أقل أو أكثر. . . " (4) .
وذكر ابن تيمية في الفتاوى: "وأما ما ذكره الشيخ أبو محمد في مغنيه لما ذكر قول الخرقي: بيع المسلم فيه من بائعه أو غيره قبل قبضه فاسد، قال أبو محمد: بيع المسلم فيه قبل قبضه لا نعلم في تحريمه خلافًا، فقال رحمه الله بحسب ما علمه وإلا مذهب مالك أنه يجوز بيعه من غير المستسلف كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه، وهذه أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد " (5) .
وقال المرداوي في الإنصاف: "قوله: " ولا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه " هذا المذهب وعليه الأصحاب وقطع به أكثرهم، وفي المبتهج وغيره رواية بأن بيعه يصح واختاره الشيخ تقي الدين، رحمه الله، وقال: هو قول ابن عباس، رضي الله عنهما، لكن يكون بقدر القيمة فقط لئلا يربح فيما لم يضمنه قال: وكذا ذكره الإمام أحمد في بدل القروض وغيره" (6) .
__________
(1) الكافي لابن عبد البر، ص 319.
(2) التمهيد لابن عبد البر: 13 / 327.
(3) التلقين للقاضي عبد الوهاب: 2 / 370 – 371.
(4) حاشية المواق على كتاب مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب.
(5) الفتاوى لابن تيمية: 29 / 506.
(6) الإنصاف للمرداوي: 5 / 95.(11/119)
1-7-4 بيع الجامكية:
الجامكية مبلغ معلوم تقرره الدولة للرجل عطاء من بيت المال له أجل معين. ولكن ربما احتاج إلى دراهم معجلة قبل أن تخرج الجامكية فيقول له رجل: بعني جامكيتك التي قدرها كذا بكذا؛ أنقص من حقه في الجامكية، فيقول له: بعتك. فالجامكية مبلغ تلزم الدولة به نفسها، فأضحى كالدين في الذمة.
قال ابن عابدين في الدر المختار ببطلان بيع الجامكية (1) ، وعدها صاحب إعلاء السنن من بيع الدين الذي لا يجوز (2) ، ونقل إبراهيم فاضل الدبو عن حاشية الشبراملسي الشافعي على الرملي في مسألة جواز النزول عن الوظائف بمال وهي مشهورة عن الشافعية فقال: " وفرع على ذلك جواز النزول عن الجوامك بمال أيضًا " (3) . والذي يظهر أن الجامكية تكون نقودًا بينما أن الصكوك تكون طعامًا.
1-7-5 بيع دين المكاتبة:
المكاتب هو العبد الذي تواضع معه سيده على بدل يدفعه العبد نجومًا في مدة معلومة فيعتق إذا أتم دفع ما عليه. ويكون ذلك البدل دينًا في ذمة العبد ويسمى دين المكاتبة. وقد حث الإسلام على المكاتبة. لأنها باب من أبواب إعتاق الرقيق فقال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] . فلو كاتب الرجل عبده بألف، فهل يجوز له أن يقول لآخر: أعطني المبلغ الفلاني واستقبل ما يدفعه لك العبد؟ جلي أن المشتري لا يدري هل يفي المكاتب بما عليه فيحصل على الدراهم أو لا يحصل عليها فينتهي به ذلك إلى امتلاك العبد، لأن المكاتب إذا انتهت مدة كتابته ولم يفِ بما عليه من دين رد في الرق (4) .
قال ابن رشد الجد: "حدثني ابن القاسم عن مالك عن ربيعة بن عبد الرحمن أنه كره أن تباع كتابة المكاتب ويقول هو خطار إن عجز كان عبدًا له وإن أدى أربعة آلاف درهم"، وأضاف: " الغرر في هذا بين كما قال: وهو قول عبد العزيز بن سلمة، إلا أن مالكًا وأصحابه أجازوا ذلك استحسانًا واتباعًا على غير قياس وله وجه وهو أن المشتري للكتابة يحل محل سيده الذي كاتبه في الغرر، لأنه إذا كاتبه لا يدري هل يؤدي ما كاتبه عليه أو يعجز فيرجع رقيقًا له وذلك جائز " (5) .
1-7-6 - بيع العبد وفي ذمته دين:
ومن صور البيع التي تحدث عنها الفقهاء ولها صلة ببيع الدين، بيع العبد ذي المال. فقد ورد في الحديث: ((من باع عبدًا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع)) (6) . ومال العبد ربما كان نقودًا أو ديونًا في ذمم الآخرين، فإذا اشترطه المبتاع فهل تجري عليه أحكام ربا الفضل وبيع الدين؟ جمهور الفقهاء على أن ذلك لا يجري على شرط بيع الدين، قال مالك رحمه الله: "الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إذا اشترط مال العبد فهو له نقدًا كان أو دينًا أو عرضًا يعلم أو لا يعلم، وإن كان للعبد من المال أكثر مما اشترى به كان ثمنه نقدًا أو دينًا أو عينًا " (7) .
وقال ابن قدامة في المغني: "وجملة ذلك أن السيد إذا باع عبده أو جاريته وله مال ملكه إياه مولاه أو خصه به فهو للبائع. . وإن اشترطه المبتاع كان له، للخبر، روى ذلك نافع عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وقضى به شريح، وبه قال عطاء وطاوس ومالك والشافعي وإسحاق، قال الخرقي: إذا كان قصده للعبد لا للمال هذا منصوص أحمد وهو قول الشافعي وأبي ثور والبتي. . ومعناه أنه لا يقصد بالبيع شراء مال العبد، وإنما يقصد بقاء المال لعبده وإقراره في يده، فمتى كان ذلك صح اشتراطه ودخل في البيت سواء كان المال معلومًا أو مجهولاً من جنس الثمن أو من غيره عينًا كان أو دينًا وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر، قال البتي: إذا باع عبدًا بألف درهم ومعه ألف درهم فالبيع جائز إذا كانت رغبة المبتاع في العبد لا في الدراهم " (8) .
__________
(1) الدر المختار لابن عابدين: 4 / 517.
(2) إعلاء السنن: 14 / 243.
(3) إبراهيم فاضل الدبو، ضمان المنافع، ص 453.
(4) فقد أخرج مالك في الموطأ، وأبو داود، والترمذي في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من كتابته) .
(5) ابن رشد الجد البيان والتحصيل: 18 / 83.
(6) رواه البخاري ومسلم.
(7) الموطأ: 2 / 611.
(8) المغني لابن قدامة: 4 / 276.(11/120)
1-7-7 القبالات:
القبالة بيع إيراد آجل بثمن عاجل، وهي شبيهة ببيع الدين وإن لم تكن مطابقة له، لأن الإيراد ربما كان دينًا في ذمم وربما كان غير ذلك، والمشهور أنها ربا على حديث ابن عمر، رضي الله عنه، (القبالات ربا) وقد ذكر ابن تيمية، رحمه الله، في القواعد النورانية القبالات التي عدها ابن عمر من الربا هي ضمان الأرض بقدر معين من جنس فعلها فهي جنس واحد وفضل آجل. أما ضمان الأرض بالدراهم والدنانير فليس من الربا بسبيل (1) .
1 – 8 بيع الدين في عمل البنوك الإسلامية:
يشوب عمل البنوك الإسلامية بيع الدين بصيغته الممنوعة بطريقتين، الأولى ظاهرة الحرمة أسميناها البيع الجلي والثانية غير ظاهرة أسميناها البيع الخفي.
1-8-1 البيع الجلي:
تمارس البنوك الإسلامية في بضع الدول الإسلامية صيغة لبيع الدين المتولد من عمليات المرابحة والبيع الآجل لا تختلف كثيرًا عن حسم الكمبيالات في العمل المصرفي التقليدي ووصفها كما يلي:
يقوم البنك ببيع سلعة إلى عميله بالمرابحة بثمن مقسط يدفعه على مدى 24 شهرًا (أو أكثر أو أقل) ، ثم يوقع هذا العميل على (سندات لأمر) (كمبيالات) توثيقًا للدين الثابت في ذمته وهو ثمن البيع، ثم يقوم البنك ببيع هذه الكمبيالات للحصول على النقد ويكون ذلك قبل حلول الأجل وبسعر بيع لتلك الأوراق يقل عن القيمة الاسمية لها (مبلغ الدين الثابت في الذمة) . وتتضمن هذه العملية حسم الكمبيالة إذ أن ما يدفع فيها من ثمن عاجل يقل دائمًا عن القيمة الاسمية التي تستحق في أجل السداد والفرق بينهما هو ربح مشتري الورقة. وقد وقف الكاتب أثناء زيارته لبعض الدول الإسلامية على طريقة ممارسة البنوك الإسلامية فيها لهذه الصيغة، فوجدها كالوصف المذكور أعلاه. كما أنها قد ذكرت في مطبوعات صادرة في تلك البلاد باللغة الإنجليزية والعربية (2) .
إن الجدير بالنظر في هذه المسألة هو أن هذه البنوك الإسلامية عندما تمارس ما ذكر أعلاه من بيع الدين، فإنها تفعل مدعية أنه جائز من الناحية الشرعية. وفي حديث للكاتب مع بعض القائمين على العمل في أحد هذه البنوك فهمت منه أن الرأي المذكور قد اعتمد عندهم على التفريق بين الدين يكون أصله قرضًا والدين يكون أصله بيعًا. فهم يرون أن المعاملة لو كانت قرضًا لم يجز بيعهم وثائقه، ذلك أن مبلغ القرض إذا ثبت في ذمة المقترض وصار دينًا عليه لا يجوز التصرف به من قبل الدائن بالبيع.
أما ثمن البيع الآجل للسلع فإنه إذا ثبت في ذمة المشتري وصار دينًا عليه فللدائن التصرف فيه بالبيع، لأن هذا التصرف في نظرهم إنما يقع على السلعة المباعة التي يرون أن ملك المشتري عليها لم يستقر بعد، ومن ثم فليست هذه المعاملة في رأيهم نقودًا مقابل نقود (عاجلة وآجلة) ، ولكن المجل فيها هو تلك السلعة. وهو قول غريب.
ولا نعلم أن الفقهاء فرقوا بين الدين يكون أصله القرض أو يكون أصله البيع الآجل إلا في حالة واحدة وهي التي ذكرها الفقهاء في باب الرهن إذ أجازوا الانتفاع بالرهن بالشرط السابق للعقد في حال كونه لتوثيق دين من بيع آجل، وعدم جواز ذلك في حال كونه لتوثيق القرض. لأنه يكون مظنة الزيادة فيه وهي ربا.
1-8-2 – البيع الخفي:
لقد وقعت بعض البنوك الإسلامية في نوع من بيوع الدين الممنوعة وقد أسميناه البيع الخفي، لأن البنوك الإسلامية قد وقعت في معاملات تؤول إليه بسبب أعمالها للتنضيض الحكمي في معاملات قائمة على الديون.
وهذه المشكلة تظهر في عمل بعض البنوك الإسلامية، ولكنها أوضح وأبين في الصناديق الاستثمارية والحسابات خارج الميزانية في البنوك التي توجه بجملتها للمرابحات.
__________
(1) القواعد النورانية الفقهية: ص 267 – 268.
(2) من ذلك مثلاً كتاب أصدره البنك الإسلامي في ماليزيا يصف فيه طريقة عمله عنوانه Islamic Banking theory and practice- Bank Islam Malysia Berhard – Kuala Lumpur, Malysia 1994، وقد ورد فيه في الصفحات 39، 43، 104، 109، 111 على سبيل المثال لا الحصر وصف لصيغة بيع الدين التي يمارسها البنك. كما ذكرت الطريقة في كتاب آخر عنوانه: Islamic Banking System، لمؤلفه: Sudin Haron, Bala Shanmugan – Kuala Lumpur, pelanduk publications 1997. وادعى المؤلف انتشار الطريقة في أكثر من بلد إسلامي في البنوك الإسلامية. ثم ذكرت العملية ووصفت في كتاب أصدرته اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بعنوان: "ملتقى التجربة الماليزية في العمل المصرفي الإسلامي"، وهو محاضر ندوة عقدت في شهر مارس سنة 1997م، وقد ورد ذلك في صفحات 75، 110 على سبيل المثال لا الحصر.(11/121)
إن البنوك الإسلامية لما كانت جملة معاملاتها هي على أساس المرابحة؛ أدى ذلك إلى أن تكون أكثر أصول (موجودات) البنك الإسلامي هي الديون، لأن عمليات المرابحة كسائر البيوع الآجلة تولد ديونًا ذات أجل (1) . وهذا لا بأس به. لكن الأموال التي تستخدم للمرابحة إنما مصدرها الحسابات الاستثمارية التي اعتمدت صيغتها على المضاربة في العلاقة بين البنك وأصحاب هذه الأموال، وعلى صيغة الشركة في العلاقة بين أصحاب الأموال مجتمعين إذ كل واحد منهم يقدم حصة في شركة عنان فهم شركاء فيما تولد عن أموالهم من أصول.
ثم يستخدم البنك هذه الأموال وهي حسابات قصيرة الأجل (حصل عليها على أساس المضاربة) مدة بعضها شهر وربما تصل إلى ثلاثة أشهر أو ستة (وقد تصل في القصر إلى يوم واحد في بعض البنوك) ، يستخدم البنك الإسلامي هذه المبالغ في تمويل عمليات مرابحة تصل مددها إلى سنة وربما تصل إلى سبع أو عشر سنوات.
إن المشكلة الأساسية هي أن الفرد الذي قدم أمواله للبنك على أساس المضاربة يستطيع استرداد أمواله في نهاية ثلاثة أشهر مثلاً، وعند ذلك الوقت يجري المصرف تنضيضًا حكميًّا على أساس الدفاتر المحاسبية، ثم بناءً على ذلك تجري القسمة بين المضارب (وهو البنك) ، وأرباب الأموال وهم مجموع المودعين في الحسابات الاستثمارية وبينهم وبين البنك باعتباره مضاربًا وهم أرباب المال. بحيث يسترد هذا المستثمر رأس ماله ونصيبه من الربح.
وقد اختلف نظر الفقهاء في قسمة الأموال المشتركة فقال بعضهم: هي إفراز، وقال آخرون: هي بيع. وعلى القول إن القسمة بيع لا تجوز القسمة فيما لا يجوز بيع بعضه ببعض، فإن كان ربويًّا اشترط فيها التقابض في المجلس ويثبت في القسمة التي تكون بيعًا أحكام البيع من الخيار والشفعة وغيرهما ولا يجبر عليها من أباها. وعلى القول إنها إفراز فإن قسمة الأموال الربوية والتفرق فيها قبل القبض جائز. وهذا كله في الشركة في الدور والأرضين والطعام والحيوان.
أما الديون في الذمم فالقسمة فيها لا تجوز، لأنه بيع للدين وهو ممنوع. قال المرداوي في الإنصاف: "وإن تقاسما الدين في الذمة لم يصح في إحدى الروايتين وهو المذهب "، ثم قال: " فمحل الخلاف إن كان في ذمتين فأكثر قاله الأصحاب. أما إذا كان في ذمة واحدة فلا تصح المقاسمة فيها قولاً واحدًا، قاله في المغني والشرح والفروع وغيرهم " (2)
فإذا كان زيد وعمرو شركاء بالتساوي في دين قدره مائة ريال، خمسون منها في ذمة عبيد وخمسون في ذمة أحمد، فهذه التي اختلفت فيها الرواية إذا قبض زيد من عبيد خمسين، فهل تكون له أم هو وعمرو فيها شركاء؟ أما لو كان زيد وعمرو شركاء في دين مقداره مائة في ذمة عبيد أو اختلفت أسهمهما في الشركة وكثر المدينون فلها فلا تجوز القسمة قولاً واحدًا؛ لأنها بيع وهي بعض مسألتنا.
__________
(1) أما في البنوك والصناديق التي يكون غالب موجوداتها من الأصول الحقيقية كالمعدات فلا يكون لهذه المشكلة أثر، لأن القسمة عندئذ، حتى لو كانت رضائية، تقوم على أساس البيع فهي جائزة.
(2) الإنصاف للمرداوي: 5 / 397؛ وانظر قواعد ابن رجب المسألة التاسعة عشرة.(11/122)
إلا أن التطبيقات المعاصرة تتضمن دخول شركاء جدد يدفعون اليوم مبلغًا يقل عن الدين الذي يحل أجله بعد زمن. ومن ثم لم تعد قسمة بين الشركاء فحسب بل بيعًا محضًا، لأن دخول أطراف جديدة لا يخرج عن ذلك. فالإشكال هنا أن القسمة تكون إفرازًا في الأعيان، أما في الديون فإنها لا تكون إفرازًا إلا عند حلول الأجل وقبض الدين، أما قبل ذلك فإن القسمة إذا وقعت فهي بيع. أما دخول شركاء جدد والدين قائم فلا وجه له.
1-8-3 – علاقة مسألتنا هذه بالتنضيض الحكمي:
لا يعرف الربح في المضاربة إلا بعد سلامة رأس المال، ولا تعرف سلامة رأس المال إلا بالتنضيض، وتحول الأصول المملوكة للشركة من عروض وديون إلى نقود ثم تقع القسمة. هذا هو الأصل في عقد المضاربة. إلا أن عمل البنوك الإسلامية قائم على أساس النشاط المستمر (going concern) فالبنك يدخل في عقود بصفة مستمرة مع مصادر الأموال (أرباب المال في المضاربة) ومستخدمي الأموال (الذين يستفيدون من عمليات التمويل) ، وهي عمليات ذات مدد متعددة ومتنوعة. فلا يتصور أن تنض جميعًا في وقت واحد إلا عند تصفية عمل البنك برمته وهذا لا يقع في ظل الأنظمة المعاصرة.
ولذلك جاء التنضيض الحكمي بديلاً عن التصفية الحقيقية للأصول والديون. والتنضيض الحكمي من الاجتهادات المعاصرة التي كان لها أثر هام في نجاح عمل البنوك الإسلامية. وقد اتجه النظر الفقهي المعاصر إلى إعطاء التنضيض الحكمي المعتمد على الدفاتر والسجلات حكم التنضيض الحقيقي. جاء في فتاوى ندوة البركة الثامنة للاقتصاد الإسلامي المنعقدة في جدة 8 /9/1413 هـ ما يلي:
"1- للتنضيض الحكمي بطريقة التقويم في الفترات الدورية خلال مدة عقد المضاربة حكم التنضيض الفعلي لمال المضاربة شريطة أن يتم التقويم وفقًا للمعايير المحاسبية المتاحة.
2- يجوز شرعًا توزيع الأرباح التي يظهرها التقويم كما يجوز تحديد أسعار تداول الوحدات بناء على هذا التقويم ".
لكن المشكلة أن المعايير المحاسبية لا تقتصر على تقويم العروض والأصول الحقيقية، بل يتوصل من خلالها لتقويم الديون بناء على سعر الحسم المعتمد في المعاملات الربوية. فإذا كانت الأصول في جملتها ديونًا تولدت عن عمليات المرابحة أصبح التنضيض الحكمي وسيلة تؤدي إلى بيع الدين بطريقة لا تختلف عن حسم الكمبيالات، أي بيع الدين النقدي إلى غير من هو عليه قبل أجله بقيمة نقدية تقل عن قيمته الاسمية، وكل ذلك ممنوع.
1 – 9 البديل المشروع لبيع الدين:
صفة بيع الدين التي عمت بها البلوى في زماننا الحاضر هي بيع الدين بالعين، أي بيع دين نقدي ثابت في ذمة مدين قبل أجله بثمن نقدي غير مؤجل يقل عن مبلغ الدين، وهذا البيع غير جائز لأنه صرف مؤجل وهو ممنوع. لكن الأغراض التي من أجلها يبيع الناس ديونهم هي أغراض حسنة، ولها قدر كبير من الوجاهة في عالم المال والأعمال وبخاصة في ظل عمل الأسواق الذي تشتد فيه المنافسة ويقع الملتزمون بأحكام الشريعة فيه ضحية التجار الذين لا يأبهون بحرمة الربا.
فهل من سبيل إلى الوصول للغرض ضمن نطاق المباح؟ الجواب عن ذلك أن الشريعة ما أغلقت بابًا للحرام إلا وفتحت أبوابًا للمباح والحلال. ولذلك فإن في أحكام الشريعة ما يمكن معه تنضيض الأصول التي تكون على صفة ديون للأغراض التي ذكرنا في مكان آخر من هذا البحث، ويمكن أن يتم ذلك بالحوالة أو ببيع الدين بالعرض. فالدائن إذا أراد أن يستعجل دينه قبل أجله يمكن له أن يشتري عرضًا من بائع (غير المدين) بالأجل ثم يحيله بالثمن على ذلك المدين.(11/123)
قال ابن حزم في المحلى: "ولا يحل بيع دين يكون لإنسان على غيره لا بنقد ولا بدين ولا بعين ولا بعرض كان ببينة أو مقرًّا به أو لم يكن كل ذلك باطل، ووجه العلم في ذلك لمن أراد الحلال أن يبتاع في ذمته ممن شاء ما شاء مما يجوز بيعه، ثم إذا تم البيع بالتفرق أو التخير ثم يحيله بالثمن على الذي له عنده الدين فهذا حسن " (1) . فالحوالة طريق مشروع لمعالجة المشكلة المذكورة. كما يمكن بيع الدين النقدي بالعرض.
قال ابن رجب في القواعد الفقهية: "ونقل حرب عن أحمد في بيع الزيادة في العطاء لا بأس به بعرض قال: وسألته عن بيع الصك بعرض، قال: لا بأس به "، ثم قال: " المسألة الثانية بيع الصكاك قبل قبضها وهي الديون الثابتة على الناس وتسمى صكاكًا لأنها تكتب في صكاك وهي ما يكتب فيه من الرق ونحوه فيباع ما في الصك، فإن كان الدين نقدًا وبيع بنقد لم يجز بلا خلاف، لأنه صرف بنسيئة وإن بيع بعرض وقبضه في المجلس ففيه روايتان إحداهما لا يجوز. قال أحمد في رواية ابن منصور في بيع الصك: هو غرر، ونقل أبو طالب عنه أنه كرهه، وقال: الصك لا يدري أيخرج أو لا، وهذا يدل على أن مراده الصك من الديون. الثانية الجواز نص عليه في رواية حرب وحنبل ومحمد بن الحكم وفرق بينه وبين العطاء، وقال الصك إنما يحتال على رجل وهو يقر بدينه عليه، والعطاء إنما هو شيء مغيب لا يدري أيصل إليه أملا، وكذلك نقل حنبل عنه في الرجل يشتري الصك على الرجل بالدين قال: لا بأس به العرض إذا خرج ولا يبيعه حتى يقبضه، يعني مشتريه" (2) .
ولا يختلف عن ذلك بيع الدين إلى طرف آخر غير المدين بسلعة أو عرض من العروض أو منفعة.
وقد ذكر الضرير في كتابه (الغرر وأثره في العقود) : "إذا بيع الدين قبل أجله بسلعة أو منافع معينة كان ذلك جائزًا. . . كما لو كان لرجل على آخر دين فباعه لثالث بسيارة يسلمها له بعد شهر مثلاً فإن هذا البيع جائز " (3) ، وذكر فضيلته رأيه في جواز بيع جميع الأوراق المالية كالكمبيالات وما شابهها فقال: "فلصاحب الكمبيالة التي لم يحل أجلها أن يبيعها بغير النقود ولا يصح أن يبيعها بنقود أقل من قيمتها" (4) ، ومن المعلوم أن الأسهم تعد في ظل الفتاوى المعاصرة من الأصول الحقيقية كالعروض، إذا أن السهم يمثل حصة شائعة في موجودات الشركة.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السابعة سنة 1412هـ: "إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة".
فإذا كانت هذه الموجودات من المعدات والعقار وما شابه جاز أن تكون مما يباع بالأجل.
جاء في فتاوى ندوة البركة الثامنة: "يجوز شراء الأسهم وبيعها بالمرابحة المؤجلة الثمن بشروطها الشرعية مثل تملك البائع والقبض بحسبه وبيان رأس المال والربح" (5) . وعلى ذلك يمكن القول: إن بيع الدين الثابت في ذمة مدين قبل أجله من قبل الدائن إلى طرف ثالث بالأسهم لا يعد من البيوع الممنوعة، بل هو ضمن الصيغة الجائزة لبيع الدين. ولما كانت الأسهم من الأصول التي تتوفر عليها السيولة أضحى بإمكان الدائنين الوصول إلى أغراضهم في (تسييل) الديون ضمن نطاق المباح.
* * *
__________
(1) المحلى، تحقيق أحمد شاكر: 9 /6، طبعة دار التراث.
(2) القواعد للحافظ ابن رجب الحنبلي، توزيع دار الباز: 84 / 85 القاعدة 52.
(3) الضرير، الغرر وأثره في العقود، ص 331.
(4) الضرير، الغرر وأثره في العقود، ص 336.
(5) فتاوى ندوة البركة، مجموعة دلة البركة، ص 143.(11/124)
ثانيًا: سندات القرض وبدائلها الشرعية
القرض في اللغة يعني القطع، وفي الاصطلاح: ما تعطيه غيرك من المال لتتقاضاه؛ فسمي قرضًا لأنه قطعة من مالك. وعرفه صاحب مرشد الحيران بقوله: "أن يدفع شخص لآخر عينًا معلومة من الأعيان المثلية التي تستهلك بالانتفاع بها فيرد مثلها" (1)
2 – 1 سندات القرض:
السند وثيقة تثبت مديونية مصدرها لمالكها أو حاملها، وتعهد ذلك المصدر بدفع فائدة دورية في تاريخ محدد لحاملها (وأحيانًا لمالكها المسجل في دفاتر المصدر) . ثم دفع القيمة الاسمية المطبوعة عليها عند وقت استحقاقها الذي يحل في تاريخ محدد. ولا يقتصر إصدار السندات على الحكومة إذ تعمد المؤسسات والشركات الخاصة في كثير من الدول إلى إصدارها. والسند وثيقة دين لا ملكية، ولذلك يعامل مالكه كمقرض للشركة تسري عليه القوانين المنظمة للعلاقة بين الدائن والمدين وليس من حقه المشاركة في إدارة الشركة أو عضوية جمعيتها العمومية. وإن كان لبعض السندات حق التصويت كما سيأتي تفصيله.
كان للسندات، رغم أنها أقدم من الأسهم، أهمية ثانوية في أسواق المال، ولكن التذبذب الذي تعرضت له الأسهم في السنوات الأخيرة حول أنظار المتعاملين في السوق إلى الأوراق ذات العائد الثابت (وأهمها السندات) ، حتى صارت تمثل في الوقت الحاضر الجزء الأكبر من الأوراق المالية المتداولة في أسواق الدول المتقدمة.
وإذا كان السند مضمونًا برهن حيازة محدد سمي باللغة الإنجليزية (Bond) .
وقد يكون الرهن جميع ممتلكات الشركة من عقار ومصانع وآلات. . . إلخ وعندها يسمى (Mortgage Bond) ، فإذا فشلت الشركة المصدرة في دفع الفوائد أو القيمة الاسمية للسند، تقوم الجهة المشرفة على الإصدار ببيع ممتلكاتها حتى يتم الوفاء بذلك الالتزام. وقد يكون الرهن مقتصرًا على ما سوف تمتلكه الشركة من أصول بعد تاريخ إصدار السند، أي تلك التي استخدمت حصيلة بيع الإسناد لشرائها After Aquired Property Clause فلا يكون مضمونًا عندئذ إلا لما تمتلكه الشركة بعد حصولها على مبالغ السندات المصدرة.
وقد تتعهد الشركة عند إصدارها لتلك السندات المضمونة بعدم إصدار أي سندات جديدة مضمونة بنفس الممتلكات، فتسمى السندات عندئذ مغلقة (closed – end bond) ، أما إذا لم تتعهد فإنها تسمى سندات مفتوحة (open – end bond) ، وتكون عادة أقل قيمة في التداول نظرًا إلى أن نفس الأصول السابقة سوف تمثل ضمانًا لعدد أكبر من السندات، الأمر الذي سيعني أن حصة الدائن عند اضطرار الشركة إلى تصفية أموالها ستكون أقل.
__________
(1) قدري باشا، مرشد الحيران، مادة 779.(11/125)
ويسمى الإصدار الثاني أو الثالث المرهون بالممتلكات نفسها (Second Mortgage) ونادرًا ما يتعدى إلى رابع أو خامس. أما إذا كان السند غير مضمون برهن حيازي؛ فإنه يسمى بالإنجليزية (Debenture) ، ويكون الضمان الوحيد عندئذ هو سمعة الشركة المصدرة ومركزها المالي وثقة المتعاملين بها، وقد تعمد بعض الشركات لأسباب متعددة إلى تحويل السندات المضمونة إلى أخرى غير مضمونة والعكس.
وقد تصدر الشركة سندات مضمونة بسندات شركة أخرى، إذ تكون مالكة لسندات تلك الشركة وهي في حاجة إلى السيولة. ولكنها بدلاً من بيع ما تمتلك من سندات تقوم هي بإصدار سندات وتضمنها بسندات تلك الشركة الأخرى. إن الهدف من ذلك هو رغبتها في الاحتفاظ بالتأثير على الشركة صاحبة السندات خصوصًا عندما تكون إحداهما فرعًا للأخرى، أو مملوكة لها بصفة جزئية.
وقد تعمد الشركات إلى إصدار أنواع من السندات لا يكون مضمونًا بأي شيء، ويستخدم في أعمال يكتنفها قدر كبير من المخاطرة مثل محاولة امتلاك شركة أخرى أو ما شابه ذلك. ويسمى هذا النوع في الولايات المتحدة سندات القمامة أو الخردة (Junk Bond) وهي من الاختراعات المالية الحديثة. وتكون أسعار الفائدة عليها عالية جدًا مقارنة بغيرها من الأسهم. ولكن احتمال استرداد الدائن للقيمة الاسمية لتلك السندات قليل نسبيًّا.
وربما يجعل للسند موقعًا معروفًا في قائمة الدائنين فيسمى (Subordinated) إنه يأتي في آخر قائمة المطالبين ولا يضمن برهن أو ما شابه ذلك. وربما يكون أسوأ من ذلك فيأتي بعد ما سبقه من سندات غير مضمونة برهن أو ضمان فيسمى subordinated debenture bond وغالبًا ما تتضمن شروط إصدار السند ما يسمى بشرط التعجيل Accelarator Clause، والذي ينص على أنه بمجرد عجز الشركة عن دفع الفوائد المستحقة في وقتها يصبح الدين وجميع الفوائد المتأخرة حالة، ويحول الرهن عندئذ إلى أمين (Trustee) يقوم بتنفيذ ذلك الشرط.
والسندات الحكومية هي في الحقيقة من نوع (debenture) لأنها غير مضمونة إلا بسمعة الحكومة وثقة الناس بها وحقيقة أن الحكومة لا تفلس (إلا في حالات نادرة جدًّا) ، فهي قادرة على الدوام على دفع ديونها.
وللسندات مدد مختلفة أقصرها (في الغالب) 90 يومًا. ولكن يمتد إلى مائة عام مثل السندات التي أصدرتها في الولايات المتحدة سنة 1895م شركة سانتا في (Santafe) ، وهي مستحقة الرد في سنة 1995م. وتستمر الشركة المصدرة بدفع فوائد سنوية (أو دورية) على تلك السندات حتى يحين وقت استردادها. على أن بعض السندات تصدر بدون مدة فهي تستمر لحين قيام المصدر باستدعائها أو شرائها من السوق. وتحديد مدة السند عند إصداره ليس له أهمية كبيرة بالنسبة للمستثمرين لأن المدة الحقيقية هي ما بقي من عمره. فطويل الأجل يصبح متوسطًا ثم قصيرًا اعتمادًا على تاريخ شراء المستثمر له.
والسندات التي تصدرها الشركات أنواع منها ما يعطي حامله حق الاشتراك في التصويت في الجمعية العمومية للشركة. وتميل الشركات إلى إعطاء هذا الحق عندما تكون ثقة المستثمرين في إدارتها قليلة، ولذلك فإنهم سيقبلون إقراضها بشراء سنداتها على شرط أن يشاركوا في توجيه الإدارة، فيعطى لهم عندئذ حق التصويت بصفة دائمة أو مؤقتة.
والمعتاد أن الشركة المصدرة للسندات إذا عجزت عن دفع الفوائد أو القيمة الاسمية للسند في الأوقات المحدد لها وجب عليها أن تعلن الإفلاس. لكن هذا النوع من السندات المسمى سندات الدخل لا تلتزم الشركة عند عجزها بإعلان الإفلاس، فهي لا تلتزم بدفع الفوائد إلا في حالة تحقيقها لدخل يمكنها من ذلك فهي معتمدة على تحقيق الدخل فقط. وجلي أن هذا النوع مشابه للأسهم الممتازة.
ومنها السندات المشاركة وهي شبيهة بالسندات المعتادة، يضمن فيها سعر فائدة محدد، ولكنها تتميز بوعد من الشركة بإضافة نسبة أخرى إذا لم يستحق حامل السند إلا النسبة الأولى فقط.
ومنها ما يكون لحامله حق تحويله إلى سهم عادي أو ممتاز أو نوع آخر من الأوراق المالية التي تصدرها الشركة، في الوقت الذي تحدده نشرة الإصدار. وكل هذه أنواع من الإغراءات والميزات التي تجذب الدائنين وتحقق رغباتهم وميولهم في الاستثمار.
وعندما لا يكون للسند مدة محددة، أو تكون مدته طويلة بحيث ترغب الشركة المصدرة أن تعطي نفسها فرصة سداد القرض قبل نهاية المدة، فإنها تشترط القابلية للاستدعاء (أو الحق في الإطفاء) ، فإذا اشترطت استرداده بالقيمة الاسمية فإن إقبال المستثمرين عليه يكون متدنيًّا، لأن الشركة ربما تستدعيه في وقت ارتفاع سعره فلا يستفيدون من بيعه، أو في وقت تكون أسعار الفائدة الثابتة عليه أعلى من تلك السائدة في السوق. ولذلك ربما تعطيهم ضمانات بأنها لن تفعل ذلك خلال السنتين أو الثلاث الأول. وربما تكون الطريقة كما يلي: تبيع الشركة السند وتشتري (من يشتريه) خيارًا يتضمن الحق في شرائه عند سعر محدد، غالبًا ما يكون قيمته الاسمية.(11/126)
أما الإطفاء بالقيمة السوقية فهو متاح دائمًا لأي نوع من الإسناد. ومنها سندات الادخار الأمريكية (U.S.Saving Bonds) والتي تصدرها الحكومة وتباع مباشرة إلى الأفراد وإلى عدد قليل من الجمعيات والشركات، وما إلى ذلك. وهي غير قابلة للتداول، وهناك حد أعلى لما يمكن للفرد أن يشتريه منها (150.000 دولار) . وقد تدفع الفائدة نصف سنوية، والأغلب أن تؤجل إلى نهاية مدتها التي تختلف، وإن كان الغالب فيها أن تكون عشر سنوات. وتتغير شروط إصدارها كثيرًا، فقد حددت في 1948م بسعر فائدة عائم. يمثل (85 %) من العائد على سندات الحكومة الأخرى.
من الجلي أن هذه السندات شبيهة بالسندات المعتادة، إلا أنها تختلف عنها في عدم تداولها، في تدني الفوائد عليها. ولذلك فإن الحكومة عند بيعها للناس إنما تخاطب فيهم الروح الوطنية، والتضحية من أجل صالح الحكومة فيشتريها الناس رغم أن الفائدة عليها أقل من متوسط السوق، ورغم عدم قابليتها للتداول.
ومنها السندات المربوطة بالقوة الشرائية للنقود، معلوم أن من آثار حدوث التضخم تدهور القوة الشرائية للنقود، وهو أمر يلحق الضرر بالدائنين ومنهم أصحاب السندات باعتبار أنها وثائق دين، ونظرًا إلى أن الدائن إنما ينظر إلى العائد الحقيقي، لذلك ربما لا يكون في سعر الفائدة المضاف إلى السند الكفاية لتحقيق زيادة حقيقية في قيمة الدين.
وربما لا تكون المشكلة ملحة في السندات ذات المدد القصيرة مثل السندات ذات مدة ثلاثة أشهر أو ستة، ولكن بالنسبة للسندات التي تمتد إلى سنوات طويلة تبرز الحاجة إلى ترتيب مختلف. ومنها أن لا يحدد سعر الفائدة كنسبة ثابتة بل تصدر بنسبة متغيرة أو عائمة (Variable or Floating Rate) وغالبًا ما تكون مربوطة بسعر يتحدد في سوق حرة مثل (ليبور) وهو سعر فائدة الإقراض بين البنوك في سوق لندن أو بريم ريت (prime Rate) وهو سعر الفائدة على القروض إلى أفضل الزبائن في سوق نيويورك.
ومن هذه السندات المربوطة بالقوة الشرائية للنقود فيكون السند فيها مربوطًا بمؤشر تكاليف المعيشة (Consumer price Index) وهو المؤشر الذي تصدره سلطة حكومية متخصصة لمعرفة التغير في القوة الشرائية للنقود عن طريق قياس الارتفاع والانخفاض في أسعار سلعة من السلع الأساسية وهي عندئذ تحمي القيمة الاسمية للسهم والعائد عليه (الفوائد) من التدهور.
ومنها تلك المسماة سندات غراني (Granny Bonds) في بريطانيا، وهي نوع من أنواع شهادات الادخار التي تصدرها الحكومة لصالح فئات محددة. فهي ذات مدة طويلة وتدفع فوائدها بعد مضي عدد من السنوات كنسبة مئوية تزيد على معدل الارتفاع في مستوى الأسعار. وتمثل برنامجًا تقاعديًّا يمكن للمرء أن يشترك فيه فيدفع القيمة الاسمية خلال سنين عمله، ثم يقبض الفوائد المربوطة برقم تكايف المعيشة عند التقاعد. ولا يسمح بشرائها عادة إلا للأفراد من الموظفين أو العمال. فهي ليست أداة استثمارية قابلة للتداول.
ومع أن أنواعًا من السندات المربوطة بتكاليف المعيشة تلقى قبولاً وشعبية في بريطانيا إلا أن الأمر ليس كذلك في الولايات المتحدة ويعتقد بعض الباحثين أن مقدار المخاطرة المتدني فيها يبعد عنها المقامرين وهم الكثرة الكاثرة في أسواق المال.
ومنها السندات ذات الكوبون الصفري هي سندات دين تختلف عن المعتاد في طريقة إصدارها وحساب الفائدة عليها، ولهذا السند قيمة اسمية مطبوعة على وثيقته. ولا يلتزم مصدره إلا برد تلك القيمة الاسمية في تاريخ الاستحقاق الذي يحدد عند البيع. ويباع هذا السند بالمزاد. لاحظ هنا أن الفائدة التي ستدفعها الحكومة على السند ليست محددة بنسبة معينة عند الإصدار، ولكنها تحدد في المزايدة.(11/127)
والسعر المدفوع هو بالضرورة أقل من تلك القيمة الاسمية (مع أنه لا يستبعد نظريًّا في ظروف نادرة جدًّا أن يباع بنفس القيمة الاسمية) . والفرق بين القيمة الاسمية وما يدفعه المستثمر فعلاً في المزاد هو الفائدة على القرض. ومدته تكون دائمًا قصيرة لا تزيد عن ستة أشهر. وهو قابل للتداول في السوق الثانوية ويباع بسعر يتحدد اعتمادًا على قوى العرض والطلب التي تتأثر بظروف الاقتصاد والفرص الاستثمارية المتاحة.
ولقد سميت بذات الكوبون الصفري؛ لأن السندات تتضمن غالبًا كوبونات يسجل عليها تواريخ استحقاق الفائدة، ولكل كوبون قيمة تمثل تلك الفائدة، فكأن هذا السند كوبونه يساوي صفرًا.
2 – 2 البدائل الشرعية ل سندات القرض:
2-2-1 في القطاع العام:
لم يتطرق الفقهاء القدامى لهذا الموضوع بصورة مباشرة. فقد كانت الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وطبيعة نشاط الحكومة مختلفة كل الاختلاف عنها اليوم. والملاحظ أن أمهات كتب الفقه التي تعود إلى القرون الأربعة الأولى لدولة الإسلام، كانت تشير إلى ولي الأمر والأمير، وليس إلى (الحكومة) . ولا ريب أن كثيرًا من الأحكام التي استقرت في الفقه حول ولي الأمر، تصلح أن يقاس عليها أمور الدولة في عصرنا الحاضر. ولكن يبقى أن الاختلاف بين ولي الأمر كما تصوره الفقهاء، وبين الحكومة كما نعلمها اليوم، شاسع وكبير بالقدر الذي يستدعي نظرًا فقهيًّا معاصرًا في كثير من الأمور المستجدة. ولذلك لا يسعفنا في الوصول إلى استنتاج في موضوع سد العجز الحكومي، نصوص ذات دلالة على ما نحن بصدده، لأن فكرة العجز مرتبطة بفكرة الميزانية السنوية وهي – على الأرجح – تنظيم جديد للمالية العامة.
ومع ذلك، فإننا نجد أن بعض الفقهاء قد تطرق إلى ما له علاقة بموضوع الاقتراض الحكومي، فتكلموا عن أربعة مصادر محتملة لسد حاجة بيت المال هي: الاقتراض وتعجيل الزكاة والتوظيف المالي والتبرعات. وانصب أكثر تناولهم للموضوع على ترتيب هذه المصادر، وبيان الأحكام المتعلقة بها، والظروف التي تبيح لولي الأمر اللجوء إلى أي منها.
والعجز الحكومي الذي تصوره الفقهاء ليس عجز الميزانية، ولكنه عجز بيت المال عن النهوض بما يلزم من نفقات، وخصوصًا تلك المتعلقة بحماية الثغور وحفظ البيضة ورد العدو الغاشم. والثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقترض للحاجات العامة كما اقترض للخاصة. ومنها ما روى ابن ماجه بسنده عن أبي ربيعة المخزومي عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف منه حين غزا حنينًا ثلاثين أو أربعين ألفًا، فلما قدم قضاها إياه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الوفاء والحمد)) (1) .
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشًا فنفدت الإبل، قال فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ من قلائص الصدقة، فكنت آخذ البعير بالبعيرين (2) ، وجلي أن كلا القرضين كان لحاجة عامة ودينًا على بيت المال.
وجاء جل تناول الفقهاء لهذا الموضوع، في معرض المفاضلة بين التوظيف (الضريبة) وبين الاقتراض، فمال أكثرهم إلى ترجيح الاقتراض لعظم اهتمامهم بحرمة المال الخاص، واشترط في ذلك شروط أهمها: أن يرجى لبيت المال دخل في المستقبل. يقول الشاطبي: " الاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجى، أما إذا لم ينتظر شيء وضعفت وجوه الدخل، بحيث لا يغني كبير شيء فلا بد من جريان حكم التوظيف" (3) .
__________
(1) رواه ابن ماجه والنسائي.
(2) رواه الحاكم في مستدركه كتاب البيوع؛ وأخرجه الدارقطني بمعناه.
(3) الشاطبي، الاعتصام: 2 / 22، 123.(11/128)
وأشار الغزالي إلى اقتراض بيت المال، فاشترط فيه أيضًا أن يرجى لبيت المال دخل في المستقبل، فقال: لو كان له (أي الإمام) مال غائب أو جهة معلومة، يجري مجرى الكائن الموثوق فالاستقراض أولى" (1) وذكر في شفاء الغليل: "ولسنا ننكر جواز الاستقراض ووجوب الاقتصار عليه إذا دعت المصلحة إليه"، ولكنه اشترط أن يغلب على الظن مجيء مال يزيد عن الحاجة مستقبلاً.
ومن الملاحظ أن الشاطبي والغزالي وغيرهم، قد شبهوا بيت المال بالغني المحتاج وافترضوا أن التوظيف هو نوع من التبرع لهذا الغني، فإذا كان له مال يرجى وكان محتاجًا في وقت من الأوقات، فلا يلزم الآخرين التبرع له بل يلزمهم إقراضه فقط، ولذلك نجد الماوردي قد قال بمعاملة بيت المال كالمعسر فينظر، إذا لم يوجد فيه الكفاية، إلى ميسرة (2)
أما الجويني، وهو سابق لهؤلاء جميعًا، فقد عالج الموضوع من زاوية سد الذرائع إلى التوظيف، وتقليل سلطة ولي الأمر في ذلك فافتراض أن موارد بيت المال تقتصر على الزكاة والخراج والجزية، ولذلك فكل ما أخذ الإمام مما يزيد عليها فهو دين، يجب عليه سداده بعد يسار بيت المال. (3)
وقد اشترط بعضهم لجواز الاقتراض عدالة الإمام، فقد نقل الشاطبي أن شرط جواز الاستقراض عند الغزالي وابن العربي هو عدالة الإمام، وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع.
وربما يفهم من تصرف العز بن عبد السلام مع سلطان مصر، أنه يشترط للاستقراض الإقلاع عن النفقات الترفيهية أولا. فقد داهم التتار بلاد الإسلام فأراد السلطان في مصر أن يقترض من التجار لقلة المال في بيت المال، فاستشار عز الدين؛ فقال: " اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر، إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام، وضربته سكة ونقدا، وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم ذلك الوقت اطلب القرض، أما قبل ذلك فلا، فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك بين يدي الشيخ.. " (4) .
وشبيه بذلك ما ذكره الشوكاني حيث قال: " وعلى الإمام أن لا يدع صفراء ولا بيضاء ويعين بفاضل ماله الخالص، ولكن الواجب أن يأخذ ذلك جهة الاقتراض ويقضيه من بيت المسلمين عند حصول ما يمكن القضاء منه. ... " (5) .
وأما الماوردي فقد ربطه بالخوف من الفساد فقال: " لو اجتمع على بيت المال حقان وضاق واحد منهما، جاز لولي الأمر إذا خاف الفساد أن يقترض على بيت المال ما يصرفه (6)
__________
(1) السبكى، الإبهاج على شرح المنهاج: 3 / 195.
(2) الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 206.
(3) الجويني، غياث الأمم في التباث الظلم، ص 391.
(4) نقله صلاح سلطان عن طبقات المفسرين للداودي: 1 /؛ وطبقات الشافعية للسبكي: 8 / 215.
(5) السيل الجرار للشوكاني: 4 / 520.
(6) الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 215.(11/129)
مما ذكر سابقا نستخلص ما يلي:
أ – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقرض لبيت المال عند نقص الموارد عن النفقات إبان تجهيز الجيوش.
ب – أن الاستقراض الذي أجازه الفقهاء بشروط هو استقراض لا يتضمن الربا، فليس للحكومة على أي حال كانت أن تقترض بالفائدة.
ج – ينظر إلى الاستقراض كأمر عارض مؤقت، وليس كسياسة دائمة أو طريقة مستمرة للتمويل الحكومي، وجل حديثهم ينصب على المفاضلة بين الضريبة والقرض.
د – ينظر الفقهاء إلى بيت المال كرجل مليء، فهو يقترض إذا كان يرجى له مال ولا يتبرع له أو يتصدق عليه، لأنه ليس فقيرا. فإن أعسر ينظر إلى الميسرة محدودة ومعروفة غالبًا. ولا يظهر العجز فيه (على الأرجح) إلا عند حدوث طارئ غير متوقع، كخطر عدو غاشم أو آفة سارية، أو نقص في الأموال والثمرات.
و– إن شرط أن يرجى لبيت المال مورد في المستقبل، شرط بسيط في زماننا الحاضر حيث تعددت فيه موارد الحكومات، وتنوعت بحيث أضحى أن الغالب على الظن هو تحقق الإيراد مستقبلاً.
- لعلاج العجز الطارئ في الميزانية (التمويل الجسري) :
حتى لو نجحت السلطات المالية في الحكومة في موازنة نفقاتها مع إيراداتها، فإن ذلك لا يعني بالضرورة عدم احتياج الخزينة إلى التمويل خلال السنة المالية. ذلك أن هيكل نفقات الحكومة، يختلف دائمًا عن هيكل إيراداتها. فالتدفقات الداخلة إلى الخزينة، لا ترتب في كل الأحيان بشكل مواز للتدفقات الخارجة منها. ولذلك قد تجد الحكومة نفسها في أزمة سيولة مؤقتة، تحتاج معها إلى ما يسمى بالتمويل الجسري (Bridge Financing) .
والطريقة التي تستخدمها الحكومات في كل أنحاء العالم تقريبًا هي الاقتراض، فتقترض الحكومات من الجمهور، أو من المصارف التجارية أو من الدول الأجنبية أو من مصرفها المركزي، ولا يكاد يكون للاقتراض بديل من الناحية العملية. فطبيعة هذه الحاجة تجعل القرض هو الصيغة الوحيدة الملائمة لأن الحاجة المذكورة تظهر في وقت قصير تحتاج معه إلى معالجة سريعة.
وهذا النوع من الحاجة المالية ليس أمرًا جديدًا على الحكومات، فالثابت أن دول العالم على مر التاريخ، قد احتاجت دائمًا إلى التمويل الجسري. وقد اتخذت لمواجهة ذلك الوضع إجراءات مختلفة، أهمها الاقتراض بالفائدة. وحتى في التاريخ الإسلامي نجد أن بعض الخلفاء والولاة، قد استخدم القبالة للحاجة العاجلة لإيرادات لا تتحقق إلا لاحقًا.(11/130)
أ - سندات القرض الحسن:
ليس من المعتاد أن تصدر سندات الاقتراض الحكومي على شكل قروش حسنة، فلا تتضمن إلا التعهد برد القيمة الاسمية للسند ذلك أنها، في هذه الحالة ستخلو من الحافز المادي الذي يدفع الناس إلى شرائها. وقد اعتقد المودودي – رحمه الله – في كتابه (الربا) ، أن تطبيق النظام الإسلامي كفيل بأن يخلف الحافز لدى الأفراد لإقراض الحكومة قروضًا لا فائدة عليها لثقتهم بها واطمئنانهم إلى المستقبل، ورغبتهم في تحقيق التكافل الاجتماعي (1) وهو أمر – في نظرنا – محتمل.
ومن حيث المبدأ فإن إصدار هذا لنوع من السندات إذا خلت من الفائدة أمر مباح في الشريعة، لأنها لا تتعدى أن تكون تنظيمًا جديدًا للقرض. والمشكلة التي تبرز هنا هي تداول هذا النوع من الوثائق. ذلك أن السند المذكور لا يمثل إلا النقود المؤجلة. ولذلك تجري عليه أحكام الصرف لا البيع، ثم إن السند وثيقة دين لا حصة في استثمار، ومن ثم لا يجوز أن يتحدد له في الأسواق الثانوية سعر يختلف عن قيمته الاسمية.
وقد ظن البعض أن ظهور هذا النوع من السندات لا يستدعي بالضرورة ظهور سوق ثانوية إذ يمكن أن يحتفظ حامل كل سند بسنده حتى الأجل المحدد له، لكن ذلك غير صحيح، بل الأرجح ظهور تلك السوق الثانوية لأن السند ليس له قوة إبراء قانونية، ومن ثم ليس بديلاً للنقود، ولذلك قد يضحي حامله ببعض قيمته في مقابل الزمن، أي التعجيل بقبض مقابلة من النقد لحاجته العاجلة.
وإنما الإشكال بيعه بالنقد بأقل من قيمته الاسمية قبل أجله، كما تحسم الكمبيالات. أما بيعه بنفس قيمته الاسمية فلا بأس به. فقد أجاز المالكية بيع الدين بالنقد لغير المدين بشروط تباعد عن الغرر، كما يرى ابن القيم جواز بيع الدين للمدين ولغيره ولا يمنع إلا صورة واحدة هي ابتداء الدين بالدين (انظر فقرة 1 – 7 – 1 أعلاه) ، وهذه الصورة ليس فيها حسم من أجل الزمن.
وقد ذكر الضرير في كتابه (الغرر وأثره في العقود) المسألة ثم أضاف: " لو أن حكومة من الحكومات الإسلامية أو مؤسسة من المؤسسات الخيرية طلبت من الجمهور قرضًا بغير فائدة وأصدرت سندات بذلك فهل يصح لحاملي تلك السندات بيعها؟ الجواب: نعم يصح؛ لأن هذا بيع الدين، وقد رجحنا قول من يجوزه، لكن ينبغي أن لا يباع السند بثمن يقل عن قيمته إذا بيع بنقود، أما إذا بيع السند بغير النقود كأن بيع بحيوان مثلاً فالبيع صحيح " (2) .
ورب قائل ما الباعث على شراء مثل ذلك النوع من السندات، التي لا تحقق لحاملها ميزة تزيد على احتفاظه بالنقود ذاتها؟
الواقع أن الحكومات تصدر في كثير من الدول أنواعًا من السندات، التي يشتريها المواطنون لنوازع الوطنية والمسؤولية الاجتماعية، راضين بما تحققه من فائدة تقل عن المستوى السائد لمثيلاتها المتاحة لهم شراءه من الأسواق، وتصدر بشروط غير تنافسية مثل السندات الوطنية التي تصدرها حكومة الولايات المتحدة. فليس مستبعدًا إذن أن يقبل الناس في مجتمع مسلم على الاكتتاب في تلك السندات رغم أنها لا تحقق لهام عائدًا ماديًّا.
__________
(1) المودودي، الربا، ص 134.
(2) انظر في تفصيل ذلك (الضرير) في كتابه الغرر وأثره في العقود، ص 300 وما بعدها.(11/131)
وتتميز مثل تلك السندات بالضمان، فحاملها دائن للحكومة، كما أن بإمكان الحكومة إلزام فئات من الناس (كالأغنياء أو بعض الشركات) بالاكتتاب بها واقتنائها لفترة محددة.
وللاقتراض بإصدار السندات منافع اجتماعية متعددة، منها دوره في نقل العبء المالي عبر الأجيال. ففي المشاريع ذات الأجل الطويل، أي تلك التي لا يجني المجتمع أكلها إلا بعد عدد من السنين (مثل بناء طرق أو مطار أو مرفأ) ، يصبح الاقتراض بإصدار السندات أكثر ملاءمة من التمويل بفرض الضريبة. ذلك أن السندات سوف تسدد في النهاية (في أكثر الدول) بفرض الضرائب، ومن ثم يمكن إرجاء ذلك فتفرض الضرائب على الجيل الذي سيتمتع بالآثار المفيدة للمشروع، وليس على الجيل الذي شهد بداية الإنشاء. وتعطي السندات القدرة على تحويل العبء المالي عبر الأجيال، فتحقق ذلك الغرض.
ب- الاقتراض من نقود الودائع التي يولدها النظام المصرفي:
يعتمد العمل المصرفي المعاصر على قبول البنوك لأنواع من الودائع النقدية واعتمادها على نظام الاحتياطي الجزئي. فهي لا تحتفظ إلا بنسبة ضئيلة من تلك الودائع بينما تقرض الجزء الأكبر. ويعتمد تحديد النسبة المشار إليها إلى القوانين في كل بلد، ولكنها تتراوح غالبًا بين (2 %) إلى (7 %) من مجمل الودائع مع اختلاف بين الحسابات الجارية والحسابات لأجل. ويحصل المودعون في الحسابات الجارية على دفتر للشيكات، الأمر الذي يضع في أيديهم وسائل دفع جاهزة. وبهذا تتمكن البنوك من توليد الائتمان وهو ما يسمى بنقود الودائع، والذي يبلغ عادة أضعاف النقود التي تصدرها الحكومة وتسمى النقود ذات الطاقة العالية.
ففي الولايات المتحدة تبلغ الودائع المشتقة (نقود الودائع) 6 إلى 10 أضعاف الودائع الأولية (أي النقود المودعة ابتداءً) . والفرق بين العائد على النقود المولدة (أو القوة الشرائية لتلك النقود) وتكلفة توليدها (وهي في الحسابات الجارية تساوي صفرًا تقريبًا) هي عوائد إصدار (Siegniorage) يحصل عليها المصرف التجاري. والنقود ذات طبيعة خاصة، فهي مؤسسة اجتماعية وهي كفكرة مجردة، ليست أكثر من اتفاق جميع أفراد المجتمع على قبول العملة كوسيط للتبادل ومستودع للقيمة.
وهذا القبول الاجتماعي العام، هو الذي يضفي الشرعية والقبول العام على النقود، ومن ثم كان للمجتمع ككل – باعتبار أن النقود وليدة قراره الجماعي – الحق في الانتفاع بجزء من العائد المتولد منها والذي تستأثر به البنوك في النظام المعاصر، ولذلك فقد اقترح بعض الكتاب، أن يكون للحكومة الحق في الاقتراض من النقود التي يولدها النظام المصرفي قروضًا حسنة بدون فائدة. فعندما يولد النظام المصرفي سيولة قدرها (مثلاً) عشرة أضعاف النقود ذات الطاقة العالية (أي النقود التي أصدرتها الحكومة) يمكنه أن يقرض (20 %) من ذلك للحكومة قروضًا دون فائدة.
والفكرة في محصلتها النهائية، شبيهة بإلزام البنك المركزي المصارف التجارية، أن تودع لديه جزءًا أكبر من الاحتياطي القانوني. فنحن نعلم أن جزءًا من الاحتياطي الإلزامي يودع لدى البنك المركزي في أكثر القوانين البنكية المعاصرة. ولذلك يمكن للأخير أن يلزم البنوك بنسبة أعلى من الاحتياطي المودع لديه، على أن يسمح للحكومة باستخدامه بدون فوائد.(11/132)
وقد ذكر المودودي – رحمه الله – أن تبني الحكومة لمثل ذلك الإجراء، شبيه بحقها في طلب الخدمة العسكرية الإجبارية من أهالي البلاد، ووضع اليد على بيوت الأهالي وسيارتهم عند الحاجة في الطوارئ، ولذلك فهي لا تتناقض مع مبدأ حرمة مال الفرد.
بهذه الطريقة يمكن للحكومة أن تحصل على الدوام على مصدر جاهز للاقتراض بدون فائدة. وهي تستطيع عندئذ أن تستخدمه في حالات التمويل الجسري. ولا ريب أن هذه فكرة وجيهة تحتاج إلى نظر ودراسة، للتأكد من آثارها على قدرة الجهاز المصرفي، على توليد قدر كاف من السيولة للاقتصاد، وخصوصًا في حالات احتياج الحكومة إلى التمويل. ومن الجلي أن الحكومة ستستطيع الحصول مرة واحدة على مبلغ كبير من المال، ثم بعد ذلك لن تحصل إلا على نسبة من النمو السنوي في حجم الودائع فقط. ويمكن تطوير هذه الفكرة بحيث تقوم الحكومة بإنشاء مؤسسة مستقلة للودائع الجارية، يودع الأفراد فيها نقودهم، وتعمل بنظرية الاحتياطي الجزئي، أما ما تولده من نقود الودائع فيستخدم كله لصالح الحكومة.
ج – سندات المقارضة:
وتتضمن هذه الفكرة تطويرًا لصيغة المضاربة المعروفة لتنتج صكوك قابلة للتداول. فيمكن لجهة حكومية أن تنشئ هيئة علي صفة المضاربة تصدر صكوكًا يكون من يشتريها (رب مال) وتلك الجهة (المضارب) ، ثم تستخدم الأموال في إنشاء مشروع عام كطريق أو ميناء بحري، وتحصل الهيئة من مستخدمي هذا الطريق علي رسوم تدفع لحملة الشهادات (وهم أرباب مال) ، والصكوك المذكورة قابلة للتداول لأنها تمثل ملكية تلك الأصول كما تستطيع الجهة شراء تلك الشهادات من جملتها ليصبح المشروع مملوكًا للحكومة. ولا تصلح الصيغة إلا بضمان الحكومة لطول مدة استرداد المستثمرين لأموالهم. ولذلك كانت ملائمة في الحالات التي تكون الحكومة فيها طرفًا ثالثًا مستقلاً عن الطرفين (1) .
2 -2-2 في القطاع الخاص:
يختلف القطاع العام عن القطاع الخاص في أن جل نشاطات الأول لا تولد الإرباح التي يمكن اقتسامها مع الممولين؛ ولذلك فإن أكثر الصيغ التي طرحناها أعلاه ربما لا تكون مناسبة لحاجة القطاع الخاص. وقد طرحت أفكار كثيرة لإيجاد بدائل ل سندات القرض لأغراض القطاع الخاص.
ويدور جل هذه الصيغ المقترحة نحو تطوير عقود المضاربة المشاركة والإجارة لكي تولد صكوكا قابلة للتداول. فعند حاجة الشركة إلى المال، يمكن لها أن تستغني عن إصدار سندات القرض الربوية بإصدار صكوك الإجارة مثلًا. وفي هذه الحالة تبيع بعض الأصول المملوكة لها (مثل مبنى الإدارة، أو مصنع من مصانعها. ..إلخ) عن طريق إصدار وحدات استثمارية تمثل ملكية هذا الأصل. فإذا طرحت هذه الصكوك في السوق واشتراها الناس أصبحوا ملاكًا للأصل المشار إليه، وحصلت الشركة على النقود التي تحتاج إليها. وتتضمن هذه العملية استئجار الشركة للمبنى المذكور بعقد طويل الأجل يحصل حملة الصكوك فيه على عائد دوري (شهري أو سنوي) يمثل مبلغ الإيجار، ثم يباع الأصل في نهاية عقد الإجارة الذي ربما امتد لسنوات.
__________
(1) انظر في تفصيل ذلك منذر قحف، (سندات القراض وضمان الفريق الثالث) ، مجلة جامعة الملك عبد العزيز الاقتصاد الإسلامي 1409 هـ، ص 43 – 77.(11/133)
هذه الصيغة وإن كانت قابلة للتطبيق، إلا أنها مكلفة وبخاصة في الحالات التي تتطلب عملية تحويل ملكية الأصول إلى حملة الصكوك إجراءات معقدة، أو لا يتوفر على الشركة أصول حقيقة صالحة مثل هذه الصيغة.
إن البديل المناسب ل سندات القرض الربوية هو صكوك المشاركة التي جرى تطويرها من قبل بعض الجهات الفنية، وقد وقع العمل بها فعلا. وتقوم فكرتها الأساسية على إصدار الشركة عند حاجتها إلى المال لصكوك لا تختلف في طبيعتها عن الأسهم بما فيها التداول في أسواق المال، ويتمتع حملتها بكل حقوق المساهم، ويأخذ من الأرباح نصيبا لا يختلف عن أنصباء من يملك من حملة الأسهم مثل حصته من الشركة. ما عدا أن حامل الصك يتنازل عن حقه في التصويت في الجمعية العمومية وتلتزم الشركة بإعادة شراء هذه الصكوك بعد فترة محددة.
والسؤال: ما الجديد في هذه الفكرة؟ ولماذا اختلفت هذه الصيغة عن تجارب سابقة لم تكلل بالنجاح؟ الجواب عن ذلك أن القائمين على هذا المشروع تداركوا أن سبب فشل التطبيقات السابقة هو الإخفاق في تحقيق العدالة بين حملة الأسهم القدامى ومن يشترى هذه الصكوك وهي صكوك ملكية لا مداينة. فالإشكال فيما مضى كان في تحديد معنى الربح، ومتى يتحمل أصحاب هذه الصكوك هذه الصكوك الخسار. ولذلك فقد تضمنت الصيغة تطويرا جديدا هو تعريف الخسار بأنه ما تقع فيه الشركة بعد استنزاف الاحتياطات المتراكمة لديها، بمعنى آخر أن الشركة ستستمر في توزيع الأرباح حتى تستنفذ ما لديها من احتياطات. ينبني على هذا نتيجتان:
الأولى: أن مشتري الصك يمكنه الاطلاع على حسابات الشركة، فيعرف قبل إقدامه على الشراء قوتها المالية وحجم احتياطياتها.
والثانية: أن لا مصلحة للشركة في إخفاء أرباحها عن حملة الصكوك أو زيادة تكاليف نشاطها لحرمانهم من العائد إذ هم سيقتسمون مع حملة الأسهم القدامى تلك الاحتياطات.
هذه فكرة جديرة بالنظر، لأنها قادرة على أن تقدم بديلا عمليا بالغ الكفاءة ل سندات القرض الربوية، وصيغة تنسجم مع روح النظام الإسلامي الذي يشجع المشاركات كما أنها قابلة للتطبيق وتمثل تطويرا متميزا حتى بموازين ومقاييس الماليين.
محمد على القري بن عيد(11/134)
المراجع
_ القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم.
ـ إسحاق بن هاني، مسائل الإمام أحمد، تحقيق زهير الشاويش، بيروت، المكتب الإسلامي.
ـ مالك بن أنس، والموطأ مع شرح الزرقاني.
ـ الباجي، المنتقى شرح الموطأ.
ـ نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز – جدة.
ـ ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين.
ـ ابن قيم الجوزية، شفاء الغليل.
ـ ابن تيميه الحراني، مجموع الفتاوى.
ـ الشوكاني، السيل الجرار.
ـ الشوكاني، نيل الأوطار.
ـ ابن منظور، لسان العرب.
ـ مجلة الأحكام العدلية العثمانية.
ـ أبو الأعلى المودودي، الربا – بيروت، مؤسسة الرسالة، 1399 هـ.
ـ التهانوي، إعلاء السنن.
ـ ابن عبد البر، الكافي.
ـ ابن عبد البر، التمهيد.
ـ القاضي عبد الوهاب، التلقين.
ـ المواق، حاشية على مواهب الجليل.
ـ المرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف.
ـ ابن عابدين، الدر المختار.
ـ إبراهيم فاضل الدبو، ضمان المنافع دراسة مقارنة – عمان، دار عمار، 1997 م.
ـ ابن رشد الجد، البيان والتحصيل.
ـ زهير عباس كريم، النظام القانوني للشيك –عمان، مكتبة الثقافة، 1997 م.
ـ السبكي، الإبهاج على شرح المنهاج.
ـ الصديق محمد الأمين، الغرر وأثره في العقود، طبعة البركة.
ـ صلاح سلطان، سلطة ولي الأمر في فرض وظائف مالية، دار هجر.
ـ محمد على القري، مشكلة العجز المالي الحكومي في الاقتصاد الإسلامي، بحوث الاقتصاد الإسلامي، مجلد 2، عدد 1، 1412 هـ.
ـ محمد علي القري، الأسواق المالية ـ جدة دار حافظ للنشر والتوزيع، 1415 هـ.
***(11/135)
بيع الدين وسندات القرض
وبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاص
إعداد
الدكتور سامي حسن حمود
نائب رئيس شعبة البنوك والتمويل الإسلامي
المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
البنك الإسلامي للتنمية ـ جدة
ملاحظة: يعبر هذا البحث عن رأي كاتبه ولا يمثل بالضرورة رأي المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بحكم انتسابه إليه بالعمل فيه.
قبس من نور الكتاب المبين
يقول الله تعالى: { {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} .} صدق الله العظيم [النساء: 13 – 14] .
نفحة من نسمات الحديث النبوي
عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب))
[متفق عليه] (1)
__________
(1) انظر: الإمام النووي؛ رياض الصالحين، الطبعة الأولى بالترتيب الجديد (دمشق، المكتب الإسلامي، 1992) ، ص 267.(11/136)
الفصل التمهيدي
في الديون والسندات والأدوات المستحدثة
أولا ـ تعريف الدين وبيان أسباب ثبوته:
الدين في اللغة ـ كما في المعجم الوسيط – القرض ذو الأجل (1) . أما في الاصطلاح فقد اختارت الموسوعة الفقهية الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالكويت ما قاله ابن نجيم بأن الدين: " لزوم حق في الذمة (2) . وهذا تعريف واسع يشمل الحقوق غير المالية مما يثبت بذمة المكلف. لذلك يهمنا تحديد المراد من الديون نطاق هذا البحث بأنه ما يكون مرتبطا بالحقوق المالية مثل الدين الناشئ عن قرض أو ثمن مبيع أو بدل إجازة أو إتلاف (3)
وقد أمر الله سبحانه وتعالى بكتابة الدين في آية هي الأطول في القرآن الكريم حيث ابتدأها بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوه ... } [البقرة: 282] .
ويذكر المفسر الشيخ عبد الرحمن السعدي أن هذه الآية تدل على جواز المعاملات في الديون سواء كانت دين سلم أو شراء ما كان مؤجلا ثمنه (4) .
ويقتضي تحديد اصطلاح الفقه في تعريف الدين بأنه: " ما وجب من مال في ذمة المدين " أن يتعلق الدين بذمة المدين ولا يتعلق بشيء من أمواله، وذلك سواء كانت هذه الأموال مملوكة للمدين حتى ثبوت الدين أم كانت مما ملكه من أموال بعد ذلك ولا يكون وجود الدين مانعا له من التصرف فيما يملك (5) .
أسباب ثبوت الدين في الذمة:
الأصل في الإنسان أنه بريء الذمة، ولكن قد تشغل ذمته بأحد الأسباب الموجبة لاعتباره مدينا. وقد أرجعت الموسوعة الفقهية أسباب وجوب الدين في ذمة الإنسان إلى تسعة أسباب (6) وهى تقبل التقسيم عند التحقيق إلى ثلاث زمر:
أـ ديون تنشأ عن تعاقد، وذلك مثل الديون الناتجة عن ثمن الشراء ودين السلم والقرض والإجارة، والزواج والطلاق على مال والكفالة بالمال. وهذه هي ديون الالتزامات التعاقدية.
ب- ديون تنشأ عن الاستحقاق أو التصرف المنفرد؛ كالديون التي تستحق على العباد مثل الزكاة حيث يصبح المستحق من الزكاة دينًا في ذمة المكلف وكذلك الوقف والوصية في حدودهما الشرعية، وهذه هي ديون التصرفات.
ج ـ ديون تنشأ عن ضمان، مثل إتلاف ملك الغير والتفريط في حفظ الأمانة والوديعة والعارية، وهذه هي ديون الضمانات.
__________
(1) انظر: المعجم الوسيط، الجزء الأول، الطبعة الثانية، كلمة دين.
(2) انظر: الموسوعة الفقهية، الطبعة الثانية، الجزء الحادي والعشرون، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، كلمة دين.
(3) انظر: الموسوعة الفقهية، الطبعة الثانية، الجزء الحادي والعشرون، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، كلمة دين.
(4) انظر: عبد الرحمن بن ناصر السعدي؛ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، = الطبعة الخامسة (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1997) ، ص 98.
(5) انظر: الموسوعة الفقهية؛انظر: الموسوعة الفقهية، الطبعة الثانية، الجزء الحادي والعشرون، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، كلمة دين. ص 106.
(6) انظر: انظر: الموسوعة الفقهية، الطبعة الثانية، الجزء الحادي والعشرون، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، كلمة دين.(11/137)
وبذلك تنحصر أسباب ثبوت الديون في ذمة من يتحملها في أحد ثلاثة أسباب هى: التعاقد، الإرادة المنفردة، الضمان.
يتبين مما سبق أن ما يقبل الثبوت في الذمة من أموال إنما يرتبط بالسبب الموجب لذلك الثبوت. ففي حالة الشراء مثلا، فإن ما يثبت في الذمة هو ثمن الشيء المشترى، وهو غالبا من الأثمان كذا دينار أو كذا ريال، أما الدين الناشئ عن السلم فإن ما يثبت الذمة هو الشيء المسلم فيه مثل مائة طن من القمح أو ألف إردب من الأرز. أما القروض فقد تكون نقودًا، وقد تكون سلعا مثلية مما يقبل الإقراض كالقمح والشعير والأرز.
أما ديون ضمان المتلفات فإن الأصل أن يرد الشيء بمثله، فإذا تعذر رد الأصل فإنه يصار إلى البدل، والبدل هو في العادة قيمة الشيء.
وأما ديون المستحقات، فإنها تكون تابعة لموجب الاستحقاق، فالزكاة عن النقود مثلا تستحق نقودا.
ثانيًا – التمييز بين الديون والأعيان المالية:
أوضح الشيخ مصطفى الزرقاء عند تناوله مسألة التمييز بين الديون والأعيان المالية أنه يترتب على هذا التمييز نتائج هامة في الأحكام الفقهية العملية أهمها ما يلي:
1 – الديون أمور اعتبارية محلها الذمم وليس لها وجود خارجي، أما الأعيان المالية فهي أموال ذات وجود خارجي.
2 – الديون لا يكون محلها إلا مالا مثليًّا وذلك لأن المال المثلي هو الذي يقبل الثبوت في الذمة، وهناك أموال قيمية تنضبط بالوصف كالأقلام المصنعة آليًّا، فإنها تأخذ حكم المال المثلي. كما استثنى الفقهاء المهر في عقود النكاح حيث أجازوا أن يكون الدين فيه من الأموال القيمية.
3 – الديون الثابتة في الذمم لا تقبل القسمة إلا بعد أن تقبض، فلا يحق لأحد الشركاء في الدين المشترك أن يستأثر بما قبضه من الدين في مقابل حصته بل يكون لشركائه في الدين أن يقاسموه في المقبوض بحسب حصصهم.
4 – الديون في الذمم لا تعتبر محلا صالحا لعقود التمليك والمعاوضة.
5 – عقد الحوالة لا يجري إلا في الديون دون الأعيان لأن الأعيان إنما تستوفى بذواتها لا بأمثالها.
6 – الديون يجري فيها التقاص، وبذلك فإنها تقضى بأمثالها، أما الأعيان فلا تجري فيها المقاصة فإذا ثبت للمدين عند الدائن مثل ما للدائن عليه جنسا وصفة واستحقاقا تقع المقاصة حكما، وذلك بخلاف ما لو كان لشخصين عين مغصوبة لكل منهما عند الآخر وهما متماثلتان، فإن لكل منهما أن يطالب الآخر بالعين التي تخصه حيث لا تقع المقاصة بينهما.
7 – الإبراء إنما يتعلق بالديون ولا يتعلق بالأعيان وذلك لأن الإبراء إسقاط وملكية الأعيان لا تقبل ذلك.
8 – إن الدعوى بالعين لا تقام إلا على ذي اليد، أما الدعوى بالدين فإنها يمكن أن ترفع على غير المدين.(11/138)
هذه هي مجمل خصائص الدين بالمنظور الفقهي الشامل حيث تتبين طبيعة هذا الالتزام، وأنه يمثل حقًّا شخصيًّا مرتبطا بذمة المدين، وأن هذا الحق محله الذمة.
ويعبر الفقه الإسلامي عن الدين غالبا بالتزام الملتزم بالنقود، أو ما في حكمها من الأشياء المثلية التي تثبت في الذمة من المكيلات أو الموزونات أو المزروعات أو العدديات المتقاربة (المادة 158 من مجلة الأحكام العدلية) .
ثالثا – سندات القرض وموقعها من الدين:
يعتبر سند القرض من الديون سواء كان قرضا حكوميًّا أو قرضا لشركة مساهمة من القطاع الخاص، ويتم إصدار السندات الحكومية المعاصرة بقيمة نقدية أي أنها اقتراض بالنقود.
وعندما تقترض الحكومة فإنها تفعل ذلك بموجب قانون ـ غالبًا ـ وهو يسمى قانون الدين العام، وتتخذ إصدارات الدين الحكومي صورة السندات المسجلة أو السندات لحاملها أو أذونات الخزينة (1) . ويكون لهذه السندات فوائد محددة النسبة وجوائزأحيانًا وتعتبرقيمة السندات وفوائدهاوجوائزها المستحقة دينًا ممتازًا على موجودات الحكومة وتسدد من إيراداتها العامة (2) .
وتسير معظم الحكومات في البلاد الإسلامية – مع الأسف العميق – على هذا المنهج في الاقتراض بسندات الفوائد حيث تعتبر هذه السندات أسرع وسيلة لتغطية عجز الموازنة الحكومية.
وقد استحدثت إحدى دول جنوب شرق آسيا وسيلة جديدة أسمتها (السندات الإسلامية الحكومية) وفقًا لقانون برلماني صادر تحت مسمى قانون الاستثمار الحكومي لسنة 1983 (3) ورغم صدور السندات بموجب قانون الاستثمار المشار إليه أعلاه، إلا أن الواقع الذي صرح به أحد المسؤولين بالبنك المركزي لتلك الدولة يشير صراحة أن هذه السندات هي اقتراض لصالح الحكومة على أساس القرض الحسن ظاهرًا، وذلك باعتبار أن أصحاب هذه الأموال لا ينتظرون أي عائد على قروضهم، ولكن تكفل الحكومة لهم إعادة رؤوس أموالهم عند الاستحقاق (4)
ويقول هذا المسؤول بأنه تم تشكيل لجنة تتضمن ممثلين من وحدة التخطيط الاقتصادي، وشعبة الشؤون الدينية برئاسة الوزراء، ومن وزارة المالية والبنك المركزي لتقديم المشورة للحكومة حول معدل العائد الذي يتم إعلانه فقط عند استحقاق السندات ومدتها سنة واحدة.
وكانت هذه الأرباح المعلنة قد تدرجت نسبتها من عام 1989 – 1995 م) من (5,5 % - 8,5 %) (5) .
أما سندات القطاع الخاص فإن أشهر ما هو معروف منها هو سند القرض الذي تخول معظم قوانين الشركات إصداره بقيود نظامية مفروضة على الشركات المساهمة وهى سندات قرض بفائدة غالبا.
فقد عرف قانون الشركات الأردني رقم (1) لسنة 1989 م إسناد القرض بأنها: " أوراق مالية ذات قيمة اسمية واحدة قابلة للتداول تصدرها الشركة المساهمة العامة، وتطرحها للاكتتاب العام أو الخاص وفقا لأحكام هذا القانون للحصول على قرض لا تقل مدته عن خمس سنوات، وتتعهد الشركة بموجب هذه الأسناد بسداد القرض وفوائد وفقا لشروط الإصدار ". (المادة 141) .
__________
(1) انظر: قانون الدين العام لسنة 1971 – الأردن، المادة رقم 4.
(2) انظر: قانون الدين العام لسنة 1971 – الأردن، المادة رقم 10.
(3) انظر: ملتقى التجربة الماليزية في العمل المصرفي الإسلامي؛ كتاب مطبوع (الكويت: اللجنة الاستشارية العليا، 1996 م) ص 228.
(4) انظر: ملتقى التجربة الماليزية في العمل المصرفي الإسلامي؛ كتاب مطبوع (الكويت: اللجنة الاستشارية العليا، 1996 م) ص 228.
(5) انظر: ملتقى التجربة الماليزية في العمل المصرفي الإسلامي؛ كتاب مطبوع (الكويت: اللجنة الاستشارية العليا، 1996 م) ص 228.(11/139)
أما قانون الشركات التجارية الكويتي رقم (15) لسنة 1960 م فإنه لم يورد تعريفًا ل سندات القرض بل أخذ ضمنا بما هو معروف عموما عن تلك السندات من حيث اعتبارها قرضا، وأنها تعطي الحق لمالكها في استيفاء فائدة محددة تدفع في آجال معينة (المادة 117) .
وكان القانون الكويتي أدق في التعبير من القانون الأردني عندما اعتبر أن الشركة المساهمة تقترض في مقابل إصدارات سندات (المادة 116) ، بينما قلب القانون الأردني الوضع المنطقي عندما نص على أن تصدر الشركة المساهمة إسنادًا تعرضها بطريق الاكتتاب للحصول على قرض (المادة 141) .
أما نظام الشركات السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م / 6) تاريخ 22/3/1385 هـ وتعديلاته، فقد نص على سندات القرض للشركات المساهمة، ولكنه تميز عن غيره من القوانين بإسقاط ذكر الفائدة، أو حتى الالتزام بأداء أي عائد في مقابل هذا الإقراض.
رابعًا – الأدوات التجارية المستحدثة للديون:
تنص غالب القوانين التجارية على أدوات مختلفة للديون منها السند لأمر Promissory note وسند السحب أو الكمبيالة Bill of Exchange. والفرق بين هاتين الأداتين أن الأداة الأولى تعهد يصدره الشخص على نفسه بأن يدفع إلى شخص معين أو لأمره مبلغًا من النقود في تاريخ معين ومكان محدد، بينما تكون الأداة الثانية أمرا من دفع يوجهه الساحب إلى المسحوب عليه ليدفع للساحب نفسه أو إلى طرف آخر أو لأمره مبلغا معينا من النقود في تاريخ معين ومكان محدد، ويحتاج هذا الأمر إلى العرض على المسحوب عليه ليكتب عليه عبارة مقبولة الدفع بتاريخ كذا حتى يصبح ملزمًا له.
وتحدد القوانين التجارية أحكام التعامل بهذه الأدوات سواء من حيث إنشائها وما يتطلبه ذلك من بيانات، وكذلك أحكام تداولها، وضمانتها وأحكام انقضاء الالتزام الثابت فيها (1) .
أما الشيك وهو الصك المحرر المسحوب على بنك بطلب دفع مبلغ معين من النقود لحامله أو لشخص مسمى أو لأمره، فإنه لا يعتبر من أدوات الديون بل هو أداة وفاء. والفرق بين الشيك والسند لأمر وسند السحب أن الشيك يحرر بتاريخ معين ليدفع فور الاطلاع عليه، وهذا ما نص عليه على سبيل المثال قانون التجارة الكويتي في المادة 532:
1 – أن يكون الشيك مستحق الوفاء بمجرد الاطلاع عليه وكل بيان مخالف للشيك يعتبر كأن لم يكن.
2 – وإذا قدم الشيك للوفاء اليوم البين فيه كتاريخ لإصداره وجب وفاؤه في يوم تقديمه.
لذلك فقد نصت المادة (518) من قانون التجارة المشار إليه على أن اشتراط فائدة في الشيك يعتبر كأن لم يكن. والسبب في ذلك هو أنه يفترض عدم وجود مدة ائتمان في الشيك حيث أنه يحرر ليدفع وتقبض قيمته، وذلك على خلاف السند لأمر أو سند السحب.
ذلك أن السند لأمر وسند السحب كلاهما يجرى تحريرهما بتاريخ معين هو تاريخ الإنشاء لتدفع القيمة في تاريخ آجل هو تاريخ الاستحقاق، أي أن هناك فارقًا زمنيًّا بين تاريخ الإنشاء وتاريخ الاستحقاق. ورغم ذلك فقد يخلو السند لأمر وسند السحب من تاريخ الاستحقاق، فيعتبر كل منهما في هذه الحالة مستحقا بالاطلاع (م 406) تجارى كويتي لسند السحب (الكمبيالة) و (م 507) تجارى كويتي للسند لأمر.
وقد استحدث البنك الإسلامي الماليزي ما أطلق عليه اسم الكمبيالات الإسلامية المقبولة (2)
Accepted Bills) ، وكذلك سندات السحب للصادرات (3) .
__________
(1) انظر: على سبيل المثال: قانون التجارة الكويتي الصادر بالمرسوم رقم 86 لسنة 1960؛ الكتاب الثالث؛ الأوراق التجارية م 405 – م 554.
(2) انظر: Islamic Banking Practice (K. L. Islamic Bank Malaysia) P.155 (Islamic
(3) انظر: أحمد تاج الدين؛ محاضرة في كتاب مطبوع عن التجربة الماليزية؛ مرجع سابق، ص 113.(11/140)
أما الشكل الأول فتطبيقها مبني على أن البنك الإسلامي الماليزي عندما يكون له دين على العميل، ويكون هذا الدين ناشئا عن مراجعة سابقة مع ذلك العميل، فإن البنك يحرر سند سحب (كمبيالة) بالقيمة ويتم قبولها من قبل المسحوب عليه بمبلغ يشمل أصل الدين، ويسمح البنك المركزي الماليزي لهذه الكمبيالة المسماة (الكمبيالة الإسلامية المقبولة) أن تتم المتاجرة فيها بالبيع والشراء في السوق الثانوية. والمتاجرة بالكمبيالة المذكورة في واقع الأمر هي بيع الكمبيالة وشراؤها بنقود حاضرة تقل عن القيمة الاسمية المحررة بها تبعا لزمن استحقاقها.
أما كمبيالة الصادرات فإنها عبارة عن سند السحب الذي يصدره العميل المصدر في ماليزيا على المستورد في الخارج لدفع قيمة البضائع المصدرة حيث يكون الدفع محددا بتاريخ آجل في المستقبل، فإذا صدر هذا السند وتم قبوله من المستورد، فإنه يصبح ورقة تجارية قابلة للتداول. فإذا كانت البضائع المصدرة واقعة ضمن نطاق ما هو مطلوب تشجيعه، فإن البنك الإسلامي الماليزي يبيع هذه الكمبيالة للبنك المركزي الماليزي بشروط تفضيلية (1) ، أي بسعر يتضمن هامش ربح مخصوم حسب الاصطلاح الماليزي لبيع الديون.
كما ظهرت في ماليزيا أيضا ولأول مرة منذ عام 1990 م أدوات الدين الخاصة الإسلامية Islamic Private Debt Instruments لتكون مصدرًا بديلًا وأداة إضافية للتمويل كما يقول السيد عون إسماعيل من البنك المركزي الماليزي في محاضرته بالكويت عن التجربة الماليزية (2) .
وقد تم تصوير إصدار هذه السندات في المحاضرة المشار إليها بشكل مبهم، ولكن مؤلف كتاب التمويل الإسلامي كان واضحا في الإفصاح عن طبيعة هذه الأدوات التي صدرت لصالح شركة (شل) الماليزية في يونيو عام 1990 م تحت الاسم المبين أعلاه باستحقاق لخمس وثماني سنوات، وبعائد (7,5 %) للاستحقاق الأول (7,75 %) للاستحقاق الثاني، ثم تبع ذلك في نفس العام في شهر ديسمبر إصدار أدوات من ذات النوع لصالح شركة شل في ساراواك (ماليزيا الشرقية) باستحقاقين أيضًا؛ أولهما بمقدار (240) مليون دولار ماليزي، والثاني بمقدار (320) مليون دولار ماليزي (3) .
كما قام المجلس الوطني للرهونات Cagmas Berhard بإصدار مشروع أسهم ديون الإسكان الماليزية أو سندات (كاجماس) للمضاربة وذلك – كما يقول المحاضر عون إسماعيل من البنك المركزي الماليزي – لتمويل ديون الإسكان الإسلامية والتي تبلغ (30 مليون رنجيث ماليزي) عن طريق المؤسسات التي زودت عملاءها وموظفيها بالتمويل الإسلامي (4) .
وفي ظل هذا المشروع يقوم (كاجماس) بشراء ديون الإسكان الموجودة والمتعاقد عليها في ظل مشروع العمل المصرفي الإسلامي حيث يصدر بدوره سندات (كاجماس) للمضاربة لتمويل هذا الشراء، ويتم التفاوض على شراء الديون حيث يتشارك كل من حملة السندات و (كاجماس) في الأرباح بناء على نسبة معين من المشاركة في الربح (5) .
ورغم هذا الوصف المعقد فإن العملية إذا كانت شراء موجودات مشاريع الإسكان بهدف المشاركة في الربح عند البيع، فإن العمل لا يعتبر من بيع الديون. أما إذا كانت القضية شراء الديون التي تمثل الثمن الآجل للمساكن ليتم هذا الشرط بنقد حاضر، فإن هذا هو ما يدخل ضمن نطاق البحث عن حكم بيع الديون في الفقه الإسلامي.
* * *
هذه هي المقدمة الاستعراضية في تعريف الدين وبيان أسباب ثبوته، وما يقبل الثبوت في الذمة من أموال مع التمييز بين الديون والأعيان، وبيان موقع سندات القرض من الدين، وأخيرًا بيان أدوات الدين التجارية المعاصرة والمستحدثات الورقية الجديدة تحت المسميات الإسلامية.
* * *
وبذلك فقد تضمن هذا الفصل التمهيدي بيان مختلف أشكال الديون سواء كانت ناشئة عن التزامات بما في ذلك الاقتراض أو مرتبة على مبايعات سابقة.
فهل يجوز مثل بيع هذه الديون، وما هي ضوابط هذا البيع وشروطه في الفقه الإسلام؟
جواب ذلك سيأتي إن شاء الله في القسم الأول من هذا البحث.
ثم إن هذه السندات ذات الفوائد والتي يظن البعض أن للقطاع العام كالحكومة ومؤسساتها وللقطاع الخاص كالشركات المساهمة حاجة بإصدارها، أليس هناك عنها غنى أو بديل يحل محلها بالحلال؟
وهل أصبح الفكر الإنساني عقيمًا فلا يقدم الأدوات التي تخضع للشرع وتحقق المقصود دون مواربة أو التواء؟
والجواب على ذلك هو أن البديل موجود، ولكن ما ينقصنا هو إرادة الخلاص من الحرام، والتوجه إلى ما هو أقوم وأطهر وأسلم.
__________
(1) انظر: أحمد تاج الدين؛ دراسة بنك ماليزيا؛ مرجع سابق، ص 113.
(2) انظر: التجربة الماليزية كما عرضت بالكويت؛ مرجع سابق، ص 229.
(3) انظر: philip moore , islamic finance , page 193
(4) انظر: ملتقى التجربة الماليزية؛ مرجع سابق، ص 231 – 232.
(5) انظر: ملتقى التجربة الماليزية، ص231-232.(11/141)
القسم الأول
أحكام بيع الديون في الفقه الإسلامي
تمهيد:
تتعلق أحكام بيع الديون في الفقه الإسلامي بتحديد مفهوم البيع، وبيان أقاسمه من حيث: المحل والشروط الخاصة بالمبيع؛ للوصول بالنتيجة إلى حكم المبيع إذا كان من الديون. وبيان ما يجوز بيعه من الديون وما لا يجوز.
الفصل الأول – تحديد مفهوم البيع وتقسيمه من حيث المحل
الفرع الأول – تحديد مفهوم البيع:
يطلق البيع على المبادلة بين شيئين، فمن يبيع يعطي شيئًا ليأخذ بدله شيئًا آخر، وهو من أسماء الأضداد، ولكن إذا أطلق لفظ البائع فالمتبادر للذهن أنه يراد بذلك باذل السلعة (1) .
أما في الاصطلاح الفقهي فقد اختارت مجلة الأحكام العدلية أن تعرف البيع بأنه: "مبادلة مال بمال ".
وقد أوضح شارح المجلة المرحوم علي حيدر بأن المراد من ذلك: " أن البيع هو تمليك مال مقابل مال على وجه مخصوص"، وأن هذا القيد يقصد به إخراج التبرع والهبة بشرط العوض (2) .
ويعرف المالكية البيع بأنه: " دفع عوض في معوض" (3) ، وجاء في المقدمات لابن رشد (الجد) إن البيع: " نقل الملك عن عوض " (4) .
كما عرَّف الشافعية البيع بأنه: " مقابلة مال بمال على وجه مخصوص" (5) ، وأورد القليوبي تعريفًا للبيع بقوله: " عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد لا على وجه القربة" (6) .
أما الحنابلة فقد عرفوا البيع بأنه: "مبادلة مال – ولو في الذمة – أو منفعة مباحة بمثل أحدهما على التأبيد يغر ربا وقرض " (7) .
فالبيع مبني إذن على المبادلة وذلك على أساس المعاوضة حيث يقدم البائع شيئًا ليأخذ بدلاً عنه ما يماثله في نظره قيمة، وذلك على سبيل التراضي وبهدف التمليك والامتلاك القاطع. فالبائع يعطي السلعة والمشتري يقدم الثمن وهما يقصدان تمليك بعضهما البعض ما يقدمه كل منهما عن رضا وعن اختيار.
وبديهي أن المبادلة تعني المغايرة حيث لا يعطي الإنسان العاقل شيئًا ليأخذ مثل ما أعطى، وذلك لأنه لا يفيد من ذلك شيئًا إلا إذا كان هناك فارق نوع وجودة بين البدلين، وهنا يتدخل الشرع في حالة مبادلة الجنس بجنسه كالتمر بالتمر مثلًا، فيمنع زيادة أحد البدلين عن الآخر أو تأجيل تسليم أحدهما حيث يشترط في مثل هذا البيع أن يكون يدًا بيد ومثلاً بمثل.
__________
(1) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية؛ مرجع سابق؛ مادة (بيع) .
(2) علي حيدر؛ درر الحكام شرح مجلة الأحكام؛ الكتاب الأول (بيروت: دار النهضة) ، ص 92.
(3) انظر: الحطاب؛ مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، الجزء الرابع، الطبعة الثانية (مصر: مطبعة السعادة، 1978) ، ص 222.
(4) انظر: ابن رشد (الجد) المقدمات الممهدات (القاهرة: مطبعة السعادة) ، ص 186.
(5) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، الجزء التاسع، ص 5.
(6) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، الجزء التاسع، ص 5.
(7) انظر: أحمد بن عبد الله القاري؛ مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد، الطبعة الأولى (جدة: تهامة، 1401هـ، ص 107 المادة رقم 161) .(11/142)
ومن هنا يمكن للناظر فهم كلام الإمام الشافعي بأن الله – سبحانه وتعالى – قد ذكر البيع في غير موضع من كتابه الكريم بما يدل على إباحته فاحتمل أن يكون هناك معنيان:
أحدهما: أن يكون الله – سبحانه وتعالى – أحل كل بيع تبايعه المتبايعان جائزي الأمر فيما تبايعاه عن تراض منهما، وهذا أظهر معانيه.
والثاني: أن يكون الله – عز وجل – أحل البيع إذا كان مما لم ينه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله – عز وجل – معنى ما أراد، فيكون هذا من الجمل التي أحكم الله فرضها بكتابه، وبين كيف هي على لسان نبيه أو من العام الذي أراد به الخاص. . . أو من العام الذي أباحه إلا ما حرم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ومنه وما في معناه. (1)
فأصل البيوع – كما يقول الإمام الشافعي – كلها مباح إذا كانت برضى المتبايعين الجائزي التصرف في الأمر فيما تبايعا إلا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان في معنى ما نهى عنه. (2) .
فالبيع إذن هو مطلق المبادلة تمليكًا وامتلاكًا، ومحله هو ما يقع عليه التعاقد.
فما هي أقسام هذا المحل؟
الفرع الثاني – تقسيم البيع من حيث المحل:
ينقسم البيع من حيث محله أي الشيء المعقود عليه إلى أربعة أقسام، وذلك وفق ما بينته مجلة الأحكام العدلية في المواد 121 – 123، وهذه الأقسام هي:
أ- بيع المال بالثمن أي مبادلة المثمنات بالأثمان، وذلك مثل بيع السيارة بعشرة آلاف دولار، وهذا القسم هو أشهر أنواع البيوع وهو الذي يسمى بيعًا عند إطلاق الوصف (م 120) .
ب- بيع النقد بالنقد وهو المسمى بالصرف كما عرفته المادة 121) من مجلة الأحكام العدلية، ويخضع هذا البيع لأحكام الصرف من حيث اشتراط المماثلة عند اتحاد الجنس مع الفورية في تقابض البدلين (كالذهب بالذهب مثلاً) ، وكذلك اشتراط الفورية لتقابض البدلين فقط عند اختلاف الجنس (كالذهب بالفضة والدولار بالريال) .
ج – بيع العين بالعين وهذه هي المقايضة أي مبادلة المال بالمال من غير النقدين حسب تعريف المادة (122) .
د – بيع السلم وهو مبادلة آجل بعاجل أي بيع مؤجل بمعجل حسب تعريف المادة (123) .
ويدل هذا التقسيم أن البيع رغم أنه مباح في الجملة إلا ما يندرج تحته من أقسام إنما يخضع للشروط التي تخص كل عقد بحسب طبيعته.
فالتبادل في البيع المطلق يجيز مثلاً تعجيل الثمن أو تأجيله أو تقسيطه، أما في بيع السلم فإنه لا بد من تعجيل أداء رأس المال.
فإذا كانت الحالة بيع صرف؛ أي بيع نقد بنقد، فإنه يشترط هنا الفورية في تقابض البدلين إذا اختلفا جنسًا؛ كالذهب بالفضة، والدولار بالدينار. أما إذا اتحد الجنس كالدينار بالدينار والدولار بالدولار، فإنه يشترط قيام المماثلة مع فورية التقايض فلا تباع المائة دولار بتسعين ولا بمائة وعشرة.
فالقول بحل البيع إذن يعني جواز المعاملة، ولكن في حدود ما أحل الله ورسوله حيث يختلف حكم البيع باختلاف محله حسب التفصيل الذي سنبينه عند الكلام عن شروط المحل، وما يتفرع عن ذلك من تفريق بين بيع الدين للمدين، وبيعه لغير من هو عليه الدين.
__________
(1) انظر الإمام الشافعي، كتاب الأم، المجلد الثالث، الجزء السادس، الطبعة الأولى (دمشق: دار قتيبة 1962) ، ص5-6.
(2) انظر الإمام الشافعي، كتاب الأم، المجلد الثالث، الجزء السادس، الطبعة الأولى (دمشق: دار قتيبة 1962) ، ص5-6.(11/143)
الفرع الثالث – الشروط الخاصة بالمبيع:
اشترط الفقهاء في المبيع، وهو محل التعاقد في عقد البيع؛ شروطًا متفاوتة، وقد أوجزت هذه الشروط الموسوعة الفقهية الكويتية في خمسة شروط عامة وأضافت لها شرطين خاصين (1) .
أما الشروط العامة فهي:
1- أن يكون المبيع موجودًا حين العقد، فلا يصح بيع المعدوم باتفاق الفقهاء، ويستثنى من ذلك بيع السلم للنص عليه بالحديث النبوي المروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم.
2- أن يكون المبيع مالاً، فلا يباع ما ليس بمال.
3- أن يكون المبيع مملوكًا فلا يجوز بيع ما ليس بمملوك للبائع سواء كان من الأموال العامة أو من أملاك الغير.
4- أن يكون المبيع مقدور التسليم، فلا يجوز بيع ما ليس مقدورًا على تسليمه، ويدخل في هذا الاعتبار كون المبيع من الديون، فهل يستطيع المشتري انتزاع المبيع الذي هو دين من ذمة المدين انتزاعًا؟
5- أن يكون المبيع معلومًا لكل من العاقدين، فلا يصح بيع المجهول جهالة تفضي إلى المنازعة.
أما الشرطان الخاصان فهما:
6- شرط أضافه المالكية والشافعية تتعلق بطهارة المبيع، فلا يجوز بيع ما كان نجسًا.
7- شرطان ذكرهما المالكية ويمكن إدراجهما في شرط واحد وهو أن لا يكون المبيع مما هو منهي عن بيعه كالكلب مثلاً، أو كون المبيع طعامًا لم يقبضه مالكه حتى يستطيع أن يبيعه.
__________
(1) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية؛ مرجع سابق، مادة بيع.(11/144)
الفصل الثاني – الأحكام الفقهية في بيع الدين
تمهيد:
يختلف النظر الفقهي في بيع الدين بين حالة بيع الدين لمن هو عليه أو بيعه لغير من هو عليه. ويقرر الفقه الحنفي – كما يصور ذلك الشيخ مصطفى أحمد الزرقا – أن الدين هو وصف في الذمة. واختلف النظر الفقهي الحنفي من حيث اعتبار الدين ملكًا لصاحبه وهو في الذمة، حيث رجح الشيخ الزرقا النظر الأول باعتبار الدين ملكًا لصاحبه بدليل جواز هبة الدين للمدين وهي تمليك، وكذلك اعتبار الدين المشترك من قبيل شركة الملك (1) .
أما بالنسبة لاعتبار الدين مالاً، فيقول الشيخ الزرقا بأن الدين بالمعنى الاصطلاحي في نظر الفقه الحنفي لا يعتبر كذلك، إلا أن فقهاء الحنفية قد يصفون الدين بأنه مال حكمي – كما في الأشباه والنظائر لابن نجيم – حيث يقال: إن الدين عندهم هو مال من حيث المآل (2) .
أما بالنسبة للمفهوم الفقهي الأعم، فإن تعريف المال هو ما يمكن حيازته وإحرازه والانتفاع به انتفاعًا معتادًا (3) . ويقرر الشيخ بدران أبو العينين بدران ثبوت المالية للأشياء بتمول الناس لها أو بتمول بعضهم، كما أن الشيء نفسه قد يكون مالاً في حق البعض وهو ليس بمال في حق الآخرين، وذلك كالخمر والخنزير فإنها تعتبر أموالاً بالنسبة لغير المسلمين، وهي ليست أموالاً بالنسبة للمسلمين (4) .
__________
(1) انظر: مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام: 3 / 109، دمشق، مطابع ألف باء الأديب، 1968.
(2) انظر: مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام: 3 / 109، دمشق، مطابع ألف باء الأديب، 1968.
(3) انظر: بدران أبو العينين بدران؛ الشريعة الإسلامية؛ تاريخها ونظرية الملكية والعقود، القاهرة، مؤسسة شباب الجامعة، ص 226.
(4) انظر: بدران أبو العينين بدران؛ الشريعة الإسلامية؛ تاريخها ونظرية الملكية والعقود، القاهرة، مؤسسة شباب الجامعة، ص 287.(11/145)
ويرى الشيخ علي الخفيف – رحمه الله – أن شرط الحيازة لا يحول دون اعتبار المنافع أموالاً حيث يعتبر الشافعية والمالكية والحنابلة المنافع أموالاً، وذلك لأن الإحراز ليس بلازم، بل يكفي أن يحاز الأصل الذي تتولد عنه المنفعة المقصودة (1) .
وقد أخذ القانون المدني الأردني المستمد من أحكام الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه بهذا المفهوم الواسع للمال حيث عرف المال بأنه: كل عين أو حق له قيمة مالية في التعامل (المادة رقم 53) وبذلك يعتبر مالاً كل ما كانت له قيمة مادية في تعامل الناس سواء كان من الأعيان أم من الحقوق المالية كالديون. وفصلت المادة (54) من القانون المدني الأردني لك الأمر بالقول: إن كل شيء يمكن حيازته ماديًّا أو معنويًّا والانتفاع به انتفاعًا مشروعًا ولا يخرج عن التعامل بطبيعته أو بحكم القانون يصح أن يكون محلاً للحقوق المالية.
وبناءً على ذلك فإن الديون بأنواعها – سواء كانت ديونًا تتضمن تعهدًا بأداء مبلغ معين من النقود في تاريخ محدد أو تسليم كمية من الحبوب معينة الوصف والقدر – فإن هذه الديون جميعًا تصلح أن تكون محلاً للتصرف فيها.
وقد مرَّ آنفًا ما نقلناه عن الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا من ناحية ما يقرره الفقه الحنفي في جواز هبة الدين للمدين رغم أن الهبة تمليك، وكذلك اعتبار الدين المشترك من قبيل شركة الملك.
وبذلك فإنه تكاد تتلاشى الأهمية النسبية للتفريق بين الرأي الحنفي وغيره من المذاهب الفقهية حيث تصبح الديون في النتيجة كأنها أموال وهي تعامل على هذا الأساس.
فهل يصح بيع هذه الأموال وهي ديون في الذمة؟
للجواب على ذلك فإنه يحسن التفريق بين حالتين هما:
1- بيع الدين لمن هو عليه الدين أي للمدين.
2- بيع الدين لغير من هو عليه.
الفرع الأول – بيع الدين لمن هو عليه:
يتفق الفقه الإسلامي عمومًا على جواز بيع الدين ممن هو عليه وهبته والمصالحة عليه بالأقل.
يقول الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي بأن جمهور الفقهاء أئمة المذاهب الأربعة أجازوا بيع الدين لمن هوعليه الدين وكذلك هبته له؛ لأن المانع من صحة بيع الدين هو العجز عن التسليم، وليست هنا حاجة إليه حيث إن ما في ذمة المدين مسلم إليه من الأساس (2) . ولم يخرج عن هذا المنهج المنطقي عدا ابن حزم حيث منع ذلك لأنه بيع مجهول، وأنه بيع ما لا يدري عينه وأنه من باب أكل المال بالباطل (3) .
__________
(1) انظر: علي الخفيف، أحكم المعاملات الشرعية، البحرين، بنك البركة الإسلامي، ص 226.
(2) انظر: وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته: 4 / 433، دمشق، دار الفكر.
(3) انظر: ابن حزم، المحلى، 8 / 504، بيروت، دار الفكر.(11/146)
فعندما يكون الدين مبلغًا من النقود فإن البيع بالأقل هنا هو إبراء. فإذا قال الدائن لمدينه: أبيعك المائة ريال التي لي عليك بثمانين ريالاً، فإنما هو في الحقيقة يبرئ ذمة المدين من عشرين ريالاً، وإذا كان الدائن يملك المسامحة في كل ما له من الديون، فإن المسامحة بجزء من الدين تجوز من باب أولى.
وكذلك لو كان لزيد على عمرو دينًا من السمسم مثلاً من غير السلم كمائة أردب مثلاً، فإنه يمكن أن يبيع السمسم إلى عمرو بسعر السوق دون الحاجة للاستلام والتسليم باعتبار أن السمسم متعلق أصلاً بذمة عمرو.
ومن قبيل ذلك المصارفة في الذمة كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعه الإبل بالدراهم واقتضائه الثمن بالدنانير، وكذلك العكس حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تبيعها بسعر يومها ما لم تفرقا وبينكما شيء)) (1) .
فهذه المصارفة هي بيع لجنسين مختلفين، والثمن نقد حاضر والمبيع دين في الذمة، وقد أدى المدين الثمن للدائن بسعر الصرف في ذلك اليوم.
ويفيد تقييد البيع بين الدائن والمدين بالأقل إبعاد عنصر الربا وإدخال مفهوم الإبراء والإسقاط، إذ لو سمح ببيع الدين بالأكثر لكان ذلك هو الربا.
فالدين يمكن أن يباع لمن هو عليه (أي للمدين) إذا كان بالمثل، أو بالأقل على سبيل المصالحة في كل حال.
الفرع الثاني – بيع الدين لغير من هو عليه:
اختلفت الآراء الفقهية في موضوع بيع الدين لغير من هو عليه اختلافًا واسعًا، وهو ما يتطلب تفحص المسألة بشكل دقيق.
فقد عرضت الموسوعة الفقهية الكويتية موضوع اختلاف الفقهاء في حكم تمليك الدين لغير من هو عليه، حيث أوردت في ذلك أربعة أقوال هي (2) :
أولها – رواية عن أحمد ووجه عند الشافعية، وهو أنه يجوز تمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض وبغير عوض.
__________
(1) انظر: البيهقي، السنن الكبرى: 5 / 284، حيدر آباد الدكن، بالهند، دائرة المعارف النظامية، 1344هـ.
(2) انظر: الموسوعة الفقهية، مرجع سابق، ص 59.(11/147)
الثاني – قول الحنفية والحنابلة ورأي للشافعية في الأظهر، أنه لا يصح تمليك الدين لغير من هو عليه سواء كان بعوض أم بغير عوض (1) كأن يقول شخص لآخر: وهبتك الدين الذي لي على فلان فيقبل، ويقول له: اشتريت منك كذا بمالي من دين على فلان فيقبل أو يقول له: أستأجرت منك كذا بالدين الثابت لي في ذمة فلان فيقبل، "فهذا كله غير جائز لأن الواهب أو المشتري أو المستأجر يهب أو يبيع ما ليس فيه يده، ولا له من السلطة شرعًا ما يمكنه من قبضه منه، فكان بيعًا لشيء لا يقدر على تسليمه إذ ربما ضيعه المدين أو جحده، وذلك غرر فلا يجوز " (2) .
الثالث – "قول للشافعية – صححه كثير من أئمتهم كالشيرازي في المهذب والنووي في زوائد الروضة، واختاره السبكي وأفتى به زكريا الأنصاري وغيره، وهو أنه يجوز بيع سائر الديون – عدا دين السلم لغير من عليه الدين، كما يجوز بيعها للمدين ولا فرق، وذلك إذا كان الدين حالاً والمدين مقرًّا مليئًا، أو عليه بينة لا كلفة في إقامتها، وذلك لانتفاء الغرر الناشيء عن عدم قدرة الدائن على تسليم الدين إليه " (3) .
ثم أضافت الموسوعة قيدًا هامًا وإن كان يحتاج إلى توضيح وهو قولها: " وكما اشترط التقابض في المجلس في بيع الدين للمدين إذا كان مما لا يباع به نسيئة – كالربويات ببضعها -، فإنه يشترط كذلك في بيع الدين لغير من هو عليه " (4) .
الرابع – رأي الماليكة: وهو أنه يجوز بيع الدين لغير المدين بشروط تباعد بينه وبين الغرر، وتنفي عنه سائر المحظورات الأخرى، حيث أوردت الموسوعة ثمانية شروط أهمها بالنسبة لموضوع البحث منع بيع الدين بجنسه مع اشتراط التساوي إذا كان بجنسه.
وقد أوضح الشيخ السيد سابق أن بيع الدين لغير من هو عليه لا يصح عند الأحناف والحنابلة والظاهرية؛ بسبب أن البائع لا يقدر على تسليم المبيع. فإذا شرط على المدين التسليم فإن البيع لا يصح كذلك لأن فيه شرطًا بالتسليم على غير البائع فيكون شرطًا فاسدًا يفسد به البيع (5) .
__________
(1) انظر: الموسوعة الفقهية: 21 / 131.
(2) انظر: الموسوعة الفقهية
(3) انظر: الموسوعة الفقهية؛ المرجع السابق، ص 130.
(4) انظر: الموسوعة الفقهية: 21 / 130.
(5) انظر: السيد سابق، فقه السنة: 13 / 63، جدة 1984 م.(11/148)
أما الظاهرية: فقولهم معروف حيث إنهم لم يجيزوا بيع الدين للمدين من الأساس لأنه بيع مجهول، وأنه بيع ما لا يدري عينه، وأنه من باب أكل المال بالباطل – كما سبق بيان ذلك.
وأما الحنفية: فإنهم يرون هذا البيع أنه بيع لا قدرة فيه على التسليم إذ المال عندهم وهو دين إنما هو مال حكمي في الذمة، وأنه ليس في مقدور البائع أن يسلم ما لا يملكه. فإذا شرط التسليم على المدين فإن البيع يفسد من جهة الشرط، وذلك لأن البائع يشترط على غيره (1) .
كما فصل الأستاذ العلامة الصديق محمد الأمين الضرير الرأي المالكي في جواز بيع الدين لغير من هو عليه بشكل جلي وواضح. فقد بيَّن فضيلته أن المالكية قد وضعوا لهذا البيع شروطًا تباعد بينه وبين الغرر وأي محظور آخر ممنوع في الشرع، وقد ذكر من هذه الشروط ما يلي:
1- أن يكون المدين حاضرًا في البلد، ليعلم حاله من فقر أو غنى؛ لأن عوض الدين يختلف باختلاف حال المدين.
2- أن يكون المدين مقرًّا بالدين، فإن كان المدين ميتًا أو غائبًا عن البلد أو حاضرًا في البلد ولكنه لم يقر بالدين، فلا يجوز بيع دينه ولو ثبت ذلك الدين بالبينة حسمًا للنزاعات.
3- أن يكون المدين ممن تأخذه الأحكام، وذلك حتى يمكن تخليص الدين منه إذا امتنع.
ثم أورد فضيلة العلامة الشيخ الصديق في حاشية نفس الصفحة باقي الشروط في بيع الدين لغير من هو عليه وهي الشروط الأهم والأدق، ولاسيما الأول منها حيث أضاف ما يلي: (2)
4- أن يباع الدين بغير جنسه، أو بجنسه بشرط المماثلة (إذا كان من جنسه) .
5- ألا يكون ذهبًا بفضة، أو فضة بذهب.
6- ألا يكون بين المشتري والمدين عداوة.
7- أن يكون الدين مما يجوز بيعه قبل القبض.
وينتهي العلامة الشيخ من ذلك كله إلى جواز بيع الدين مطلقًا سواء كان البيع للمدين أم لغير من هو عليه بنقد أو بدين ما دام البيع خاليًا من الربا (3) . وهو يعلل لذلك أنه لم يرد نص يعتمد عليه في منع أية صورة من هذه الصور، وأن دعوى عدم القدرة على التسليم (التي يقول بها الفقه الحنفي) – غير مسلمة بسبب أن الكلام هو في دين معترف به.
__________
(1) انظر: السيد سابق، فقه السنة: 13 / 63، جدة 1984 م.
(2) انظر: الصديق محمد الأمين الضرير، الغرر وأثره في العقود، البحرين، بنك البركة الإسلامي، 1984م، ص 334.
(3) انظر: الصديق محمد الأمين الضرير، الغرر وأثره في العقود، البحرين، بنك البركة الإسلامي، 1984م، ص 335.(11/149)
ويستطرد فضيلته بالقول: " إن بيع الدين قد تدعو الحاجة إليه وفيه مصلحة ظاهرة للمتعاقدين فلا يصح التضييق عليهم بمنعه"، وينتهي من ذلك إلى القول بأن دعوى الإجماع على منع الدين بالدين ليست مسلمة، بدليل ما جوزه بعض المالكية في بعض صوره إلى أن يقول فضيلته: " ولعل الصورة المجمع على منعها في بيع الدين بالدين هي ما كان فيه الدين من الأموال الربوية " (1) .
وأما بالنسبة للمذهب الشافعي فقد عرض الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي للمسألة في كتابه الجامع عن الفقه الإسلامي وأدلته حيث بين أن الشافعية يجوزون في الأظهر عندهم بيع الدين المستقر للمدين ولغير المدين قبل القبض (2) . وكان المأمول أن يفصل فضيلة الأستاذ وهبة هذا النقل الموجز بمثل ما فعلت الموسوعة الفقهية الكويتية على الأقل.
فقد بينت الموسوعة أنه كما يشترط التقابض في المجلس في بيع الدين للمدين إذا كان بما لا يباع به نسيئة – كالربويات ببعضها – فإنه يشترط كذلك في بيع الدين لغير من هو عليه (3) أي أن الموسوعة ترى أن الشافعية يطبقون على بيع الدين لغير من هو عليه أحكام التعامل بالأصناف الربوية، فالنقود ببعضها يشترط فيها التماثل عند اتحاد الجنس مع التقابض الفوري، أو التقابض الفوري دون مماثلة عند اختلاف الجنسين.
وإن هذا الرأي الذي تنقله الموسوعة الفقهية عن الشافعية هو ما يؤيده واقع القول في أمهات كتب الفقه الشافعي، وهو الأمر الذي كان يحتاج إلى التوضيح والبيان منعًا للالتباس ودفعًا للإيهام.
فقد أورد أبو إسحاق الفيروزآبادي الشيرازي في كتابه المهذب في فقه الإمام الشافعي هذه المسائل المتعلقة ببيع الديون وفصلها بقوله – رحمه الله تعالى كما يلي:
" ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإجارة والصداق وما أشبهها من المعوضات قبل القبض. . . وأما الديون فينظر فيها، فإن كان الملك عليها مستقرًا كغرامة المتلف وبدل القرض جاز بيعه ممن عليه قبل القبض؛ لأن ملكه مستقر عليه فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض، وهل يجوز من غيره فيه وجهان:
أحدهما: يجوز لأن ما جاز بيعه ممن هو عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة.
الثاني: لا يجوز لأنه لا يقدر على تسلميه، لأنه ربما منعه أو جحده وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز.
والأول أظهر؛ لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود (4) . أما إذا كان الدين غير مستقر كالسلم مثلاً؛ فإنه لا يجوز بيعه " (5) .
__________
(1) انظر: الصديق محمد الأمين الضرير، الغرر وأثره في العقود، ص 335.
(2) انظر: وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته: 4 / 434؛ مرجع سابق.
(3) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية؛ المرجع السابق، ص 132.
(4) انظر: محمد بن علي الفيروز آبادي الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي: 1 / 262 – 263، جاكارتا، شركة نور الثقافة الإسلامية، ص 262 – 263.
(5) انظر: محمد بن علي الفيروز آبادي الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي: 1 / 262 – 263، جاكارتا، شركة نور الثقافة الإسلامية، ص 262 – 263.(11/150)
واستطرد صاحب المهذب في تفصيل المسألة عندما يكون المبيع ثمنًا حيث طبق عليه قواعد الصرف مستدلاً في ذلك بحديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – حيث نقله بلفظ: كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير فآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) ، وروى المزني في جامعه الكبير أنه لا يجوز لأن الملك غير مستقر (1) .
وقد بين الإمام محيي الدين بين شرف النووي موضوع بيع الدين لغير من هو عليه نقلاً عن الإمام الرافعي، فأوضح أن بيع الدين لغير من هو عليه مقصود به المغايرة في البدل، مثل من له على رجل مائة فاشترى من آخر عبدًا بتلك المائة، حيث قال: إن في صحة ذلك قولين (2) .
ويستدل من هذه النقول بكل وضوح أن الشافعية في مسألة بيع الدين لغير من هو عليه الدين لا يختلفون عن المالكية من ناحية الحرص على عدم الوقوع في الربا، وذلك بدليل التصريح بالمغايرة في البيع إما صرفًا كالذهب بالفضة أو الفضة بالذهب – كما في حديث عبد الله بن عمر السابق بيانه – أو بيعًا في مبادلة العبد بالمائة كما في كتاب المجموع. وإن هذا الاستدلال مؤيد بالشروح الوافية في أكثر من مؤلف من مؤلفات الفقه الشافعي.
يقول الإمام النووي في كتاب روضة الطالبين وعمدة المفتين: إنه إذا باع الرجل مالاً بمال فله حالان:
أحدهما: أن لا يكونا ربويين.
والثاني: أن يكونا.
" فالحال الأول: يشمل ما إذا لم يكن فيهما ربوي وما إذا كان أحدهما ربويًّا، وعلى التقديرين في هذا الحال لا تجب رعاية التماثل ولا الحلول ولا التقابض في المجلس سواء اتفق الجنس أو اختلف حتى لو باع حيوانًا بحيوانين من جنسه أو أسلم ثوبًا في ثوبين من جنسه جاز.
وأما الحال الثاني: فتارة يكونان ربويين بعلتين (الثمنية والطعم) ، وتارة بعلة (الثمنية مثلاً أو الطعم) فإن كانا بعلتين مثل أن يسلم أحد النقدين في الحنطة أو يبيع الحنطة بالذهب أو بالفضة، نقدًا أو نسيئة، فإن ذلك يجوز حيث لا تشترط المماثلة ولا التقابض ولا الحلول.
وإن كانا بعلة واحدة، فإن اتحد الجنس بأن باع الذهب بالذهب والحنطة بالحنطة، ثبتت أحكام الربا الثلاثة فتجب رعاية التماثل والحلول والتقابض في المجلس.
وإن اختلف الجنس، كالحنطة بالشعير والذهب بالفضة لم تعتبر المماثلة، ويعتبر الحلول والتقابض في المجلس" (3) .
وإن هذا الكلام الذي يورده الإمام النووي واضح تمامًا في تطبيق أحكام الصرف حيثما توافرت علة الربا.
كما يفصل الإمام الماوردي المسألة بنفس المفهوم عن الصرف حيث يقول بأن الصرف إنما يختص ببيع الذهب بالفضة أو الفضة بالفضة والذهب بالذهب، وشروط الصرف التي لا يتم إلا بها ثلاثة لازمة ورابع يختلف باختلاف الصرف.
__________
(1) انظر: محمد بن علي الفيروز آبادي الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي: 1 / 262 – 263، جاكارتا، شركة نور الثقافة الإسلامية، ص 262 – 263.
(2) انظر: محيي الدين بن شرف النووي؛ كتاب المجموع شرح المذهب، تحقيق محمد نجيب المطيعي: 9 / 332، جدة، مكتبة الإرشاد.
(3) انظر: النووي، روضة الطالبين: 3 / 380، الطبعة الثالثة، دمشق، المكتب الإسلامي، 1991م.(11/151)
" أما الثلاثة اللازمة:
فأحدها: إطلاق العقد من غير أجل مشروط فيه.
والشرط الثاني: أن يعقد ناجزًا من غير خيار مشروط فيه.
والشرط الثالث: التقابض قبل الافتراق، فإن تفرقا قبل القبض كان باطلاً.
فهذه الشروط اللازمة.
وأما الشرط الرابع: وهو المماثلة، فإن كان الجنس واحدًا كانت المماثلة شرطًا معتبرًا، وإن اختلف الجنسان لم يكن شرطًا معتبرًا (1) .
ويمضي الإمام الماوردي – رحمه الله – في تفصيل المسألة بقوله: ثم الصرف ينقسم أقسامًا أربعة:
القسم الأول: جنس بمثله كالفضة بالفضة والذهب بالذهب، وجنس بغيره كالفضة بالذهب فهذا يصح بشروطه المعتبرة فيه.
والقسم الثاني: بيع دين بدين وهذا باطل للنهي عنه؛ كرجل باع دارهم له على زيد دينًا بدنانير أو بدراهم للمشتري على عمرو دينًا.
والقسم الثالث: بيع عين بدين وهذا باطل، وهو الصرف الآجل.
والقسم الرابع: (وهذا هو موضع الاعتبار) بيع دين بعين، كرجل له على رجل ألف درهم يبيعها عليه بمائة دينار يأخذها منه عينًا، فإن كان الدين حالاً صح لحديث عبد الله بن عمر، وإن كان مؤجلاً لم يصح؛ لأن المؤجل لا يملك المطالبة به فلم تجز المعاوضة عليه" (2) .
__________
(1) انظر: علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الحاوي الكبير: 5 / 147، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1994م.
(2) انظر: علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الحاوي الكبير: 5 / 147، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1994م.(11/152)
وبما أن بيع الديون في الأوراق التجارية التي مرت معنا في الأدوات المستحدثة بالاسم الإسلامي تحت مسمى الكمبيالات الإسلامية المقبولة (Islamic Accepted Bills) هي دين محرر بالنقد الوطني (للكمبيالات المحلية) ، أو دين محرر بالنقد الأجنبي كالدولار (للكمبيالات الخارجية في حالة الصادرات) ، فإن بيع هذه الكمبيالات داخل في الربا الحرام؛ لأنه نقد بنقد مع التفاضل وغياب التقابض بين البدلين. ولا تصح المعاملة إلا بتطبيق قواعد الصرف مثلاً بمثل مع التقابض الفوري (عند اتحاد الجنس) ، أو التقابض الفوري عند اختلاف الجنس.
وإن هذا البيع للكمبيالة المقبولة – وإن أطلق عليها الوصف الإسلامي – هو في الواقع نوع من أنواع خصم الأوراق التجارية حيث يتعجل البنك (البائع) قبض قيمة الكمبيالة بما هو أقل منها، وذلك بطريق البيع إلى جهة أخرى غير المدين.
وفي هذه الحالة فإن المشتري للكمبيالة المقبولة بدفع القيمة الأقل (950 – دولار مثلاً) ليأخذ الكمبيالة بقيمتها الاسمية (1000 دولار) ، ويحصلها من المدين عند الاستحقاق بهذه القيمة.
وبذلك، فإن المعاملة بهذه الصورة لا تخرج عن نطاق خصم الكمبيالات، وهي الصورة التي تتعامل بها البنوك الربوية في كل مكان في العالم. وإن خصم الأوراق التجارية بمعنى الخصم غير جائز شرعًا حسبما قرره مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السابع المنعقد في جدة بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 4 – 9 مايو 1993م، ولا عبرة لما يقال في الكمبيالة الإسلامية المقبولة بأن أصل الدين هو بيع حلال حيث المنظور في ذلك هو واقع الحال من حيث محل البيع، فالدولار إذا بيع بالدولار زيادة ونقصانًا فهذا هو الربا الحرام.
وعلى ذلك يمكن قياس سائر الأدوات الأخرى والتي يطلق عليها في جنوب شرق آسيا الأدوات الإسلامية للديون، حيث إن الديون هناك هي ديون بالنقود وليست بالأعيان أو السلع، وإن مذهب الإمام الشافعي – رحمه الله – براء مما يقال عنه بإجازة بيع الدين لغير من هو عليه إذا كان هذا الدين المباع نقودًا بنقود. ذلك أن مذهب الإمام الشافعي لا يختلف عن سائر المذاهب الفقهية من ناحية تطبيق قواعد الصرف على مبادلة النقود بالنقود مهما كان السبب المنشئ للدين من الأساس.
* * *
وإننا إذ نقفل هذا الباب وما به من شر مستطير، فإننا نتجه في القسم الثاني نحو البدائل الشرعية ل سندات القرض في مجالي القطاع العام والخاص، لنرى اتساع أبواب الحلال في مقابل هذا الضيق والتضييق عند المداخل الحرام.(11/153)
القسم الثاني
سندات القرض وبدائها الشرعية
في مجالي القطاع العام والخاص
تمهيد:
يتبين لنا مما سبق بيانه أن سندات القرض في العصر الحديث تصدر بالقيمة النقدية، وأن ما يباع منها في أسواق رأس المال إنما يباع على أساس الخصم الزمني أي إنقاص القيمة الحاضرة بالنسبة والتناسب مع مدة الاستحقاق تبعا لسعر الفائدة السائدة في التعامل.
وليس هذا البيع بالمعايير الشرعية إلا بيع نقد بنقد مع الزيادة والنقصان، وهو بذلك يقع في نطاق دائرة الربا الحرام.
فهل هناك بديل يخلص الحكومات والشركات والمستثمرين من هذه المخالفة الواضحة للشرع الخالد العظيم؟
إن من يستقرئ منهج الشرع الإسلامي يستطيع أن يتبين بكل وضوح أنه منهج ميسر لمن أراد أن يستقيم، وأنه لا حرج فيه، وأنه الأصلح في كل حال. ذلك أن الله – سبحانه وتعالى – ما حرم أمرًا إلا وكان للناس عنه غنى من ناحية، كما أنه يوجد عنه دائمًا بديل فيما هو أزكى وأطهر وأقوم.
وإن أبواب التمويل الحلال تقدم الدليل للاستغناء عن كل ما زين للناس من شبهات التمويل الحرام سواء كان ذلك لسد احتياجات القطاع العام أم لسد متطلبات القطاع الخاص. ذلك أن باب الأدوات التمويلية الإسلامية فيه الثراء والغناء إذا أتاه الراغبون في الاهتداء بشرع من بسط الأرض ورفع السماء.
فالأدوات التمويلية الإسلامية تفتح الباب على مصراعيه للمشاركة الشعبية الشاملة في سد احتياجات الدولة والمؤسسات الحكومية، وإعمار الأوقاف وتمويل الشركات المساهمة بصورة يشعر معها المواطن بالانتماء المتكامل في وطنه الذي أعطاه.
ومعنى الأدوات لغويًّا هو الآلات حيث أن كلمة (أداة) – كما في القاموس المحيط – تعني الآلة (1) . وجاء في المعجم الوسيط عن الأداة بأنها الآلة الصغيرة وجمعها أدوات (2) .
وقد دخل الوصف المالي للكلمة في مجال البحوث بطريق ترجمة العبارة الإنجليزية الخاصة بذلك وهي: (Financial Instruments) وهي عبارة عامة المدلول حيث أنها تشمل الأسهم وسندات القرض والشيكات والكمبيالات، وسائر الأوراق التجارية ذات الصفة المالية.
__________
(1) انظر: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة (الأداة) : 4 / 300.
(2) انظر: المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، الطبعة الثانية، القاهرة، 1972، مادة (الأداة) .(11/154)