وروى الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) .
وإذا لم يكن مكلفا للتسمية فقد أوقع الذكاة على الوجه المأمور به فلا يفسده ترك التسمية، وغير جائز إلزامه ذكاة أخرى؛ لفوات ذلك منه. وليس ذلك مثل نسيان تكبيرة الصلاة أو نسيان الطهارة ونحوها، لأن الذي يلزمه بعد الذكر هو فرض آخر، ولا يجوز أن يلزمه فرض آخر في الذكاة لفوات محلها (1)
قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام 121]
قال ابن العربي: مطلق سبب الآية: الميتة، وهي التي قالوا هم فيها: ولا نأكل مما قتل الله.
فقال الله لهم: لا تأكلوا منها، فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها.
وقال: قد آن أن نكشف لكم نكتة أصولية وقعت تفاريق في أقوال العلماء.
إنا نقول: مهما قلنا: إن اللفظ الوارد على مسبب، هل يقصر عليه أو لا؟
فإنا لا نخرج السبب عنه بل نقره فيه، ونعطف به عليه، ولا نمتنع أن يضاف غيره إليه إذا احتمله اللفظ أو قام عليه الدليل.
فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام 121] ظاهر في متناول الميتة بعموم لفظه، وكونها سببا لوروده ... ويدخل فيه ما ذكر اسم غير الله عليه من الآلهة المبطَلة (2)
__________
(1) الجصاص- أحكام القرآن: 3/ 5- 8
(2) ابن العربي- أحكام القرآن: 2/ 748(10/427)
قال القرطبي (1) : وقد استدل جماعة من أهل العلم على أن التسمية ليست بواجبة، لقوله عليه السلام لأناس سألوه قالوا: يا رسول الله، إن أقواماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا الله عليه أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سموا الله عليه وكلوا)) أخرجه الدارقطني عن عائشة، ومالك مرسلا عن هشام بن عروة عن أبيه، لم يختلف عليه في إرساله، وتأوله بأن قال في آخره: (وذلك في أول الإسلام) يريد قبل أن ينزل عليه: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام 121] .
قال أبو عمر: وهذا ضعيف، وفي الحديث نفسه ما يرده، وذلك أنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل، فدل على أن الآية قد كانت نزلت عليه. ومما يدل على صحة ما قلناه: أن هذا الحديث كان بالمدينة، ولا يختلف العلماء أن قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام 121] نزل في سورة الأنعام بمكة.
ومعنى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] أي لمعصية، عن ابن عباس، والفسق: والخروج.
واحتج البيهقي أيضا بحديث عائشة، رضي الله عنها، أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: ((سموا عليه أنتم وكلوه)) .
قالت: "كانوا حديثي عهد بكفر". (2) قال: "لو كان وجود التسمية شرطا لم يرخص لهم إلا مع تحققها".
وهذا هو المتبادر من سياق الحديث، حيث وضع الجواب فيه (سموا أنتم) كأنه قيل لهم: لا تهتموا بذلك، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا، وهذا من الأسلوب الحكيم، ومما يدل عليه قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] فأباح الأكل من ذبائحهم، مع وجود الشك في أنهم سموا أم لا.
__________
(1) القرطبي- جامع الأحكام: 7/ 76
(2) رواه البخاري في 72 كتاب الذبائح والصيد، 21 باب ذبيحة الأعراب ونحوها حديث (1038) ؛ ورواه النسائي.(10/428)
ترك التسمية على الذبيحة.
وأما اختلاف العلماء فيمن ترك التسمية على الذبيحة، أو على الإرسال على الصيد عامدا أو ناسيا:
فقال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، والحسن بن يحيى:إن تركها عمدا لم تؤكل الذبيحة، ولا الصيد، وإن نسي التسمية في ذلك أكلت.
وبه قال إسحاق بن راهويه، ورواية عن أحمد بن حنبل.
وقال بعض هؤلاء: من تعضد ترك التسمية مع علمه بما أمره الله به فيها، فقد استباح بغير ما أذن الله له فيه، فصار في معنى قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] فلم تؤكل ذبيحته.
وهذا ليس بشيء، لأن هذا إنما قيل في ذبيحة من ذبح لغير الله عز وجل ممن لا يؤمن بالله.
وقال الشافعي وأصحابه: تؤكل الذبيحة والصيد في الوجهين جميعا تعمد في ذلك أو نسيه.
وهو قول ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء، وسعيد بن المسيب، والحسن، وجابر بن زيد، وعكرمة، وعطاء، وأبي رافع، وطاوس، وإبراهيم النخعي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقتادة (1)
ولا أعلم أحدا روي عنه أنه لا يؤكل ممن نسي التسمية على الصيدأو الذبيحة إلا ابن عمر (2) والشعبي، وابن سيرين.
__________
(1) مصنف عبد الرزاق: 4/ 479؛ وسنن البيهقي: 9 / 240؛ وأحكام القرآن، للجصاص: 3/ 5: والمغني: 8/ 565
(2) كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه لا يحل أكل متروك التسمية عليه سواء كان الذبّاح مسلمًا أو غيره، وسواء كان ترك التسمية عمداً أو سهواً، وقد سأله رجل في ذبيحة اليهودي والنصراني فتلا عليه: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5] وتلا عليه: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [النحل: 115] وتلا عليه: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، فجعل الرجل يكرر عليه، فقال ابن عمر: "لعن الله اليهود والأنصار وكفرة العرب، فإن هذا وأصحابه يسألونني فإذا لم يوافقهم أتوا يخاصمونني". مصنف عبد الرزاق: 6 / 120(10/429)
وذهب قوم إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلما- عمدا تركت التسمية أو نسيانا- واحتجوا بقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ} [المائدة: 4]
كما استدلوا بالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، كحديث عدي بن حاتم: ((إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل ... )) (1) وحديث أبي ثعلبة قال: سمعت أبا ثعلبة الخشني، رضي الله عنه، يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله, إنا بأرض قوم أهل كتاب نأكل من آنيتهم. فقال: ((أما ما ذكرت أنك بأرض صيد فما صدت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم كل, وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل، وما صدت بكلبك الذي ليس معلَّم فأدركت ذكاته فكل)) . (2)
وحديث رافع بن خديج: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكلوه)) في الصحيحين (3)
وقالوا: ففي هذه الأحاديث إيقاف الإذن في الأكل على التسمية , والمعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم، والشرط أقوى من الوصف.
وأجاب من حمل الآية على الوجه الأول بأن الأمر في حديث عدي وأبي ثعلبة محمول على التزين، وقال ابن التين: يحتمل أن يراد التسمية هنا عند الأكل، وبذلك جزم النووي.
وأما الذبح على تسمية ما تولاه غيرهم فلا تكليف عليهم فيه، وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها.
وقال المهلب: هذا الحديث أصل في أن التسمية ليست فرضا، فلما نابت تسميتهم عن التسمية على الذبح دل على أنها سنة، لأن السنة لا تنوب عن فرض (4)
__________
(1) أخرجه مسلم في 34 كتاب الصيد والذبائح؛ والبخاري في 72 كتاب الذبائح والصيد.
(2) أخرجه البخاري في 72 كتاب الذبائح والصيد، 10 باب ما جاء في التصيد، حديث رقم (2198)
(3) البخاري 72 كتاب الذبائح والصيد، ومسلم في 35 كتاب الأضاحي.
(4) القاسمي- التفسير: 6/ 121(10/430)
وقت التسمية
وأما وقت التسمية: فوقتها في الذكاة الاختيارية وقت الذبح، لا يجوز تقديمها عليه إلا بزمان قليل لا يمكن التحرز عنه، لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] والذبح مضمر فيه، معناه: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من الذبائح.
ولا يتحقق ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة إلا وقت الذبح، وكذا قيل في تأويل الآيتين الأخريين أن الذبح مضمر فيهما أي (فكلوا ما ذبح بذكر اسم الله عليه) و (ما لكم ألا تأكلوا مما ذبح بذكر اسم الله تعالى عليه) فكان وقت التسمية الاختيارية وقت الذبح.
وأما الذكاة الاضطرارية: فوقتهما وقت الرمي والإرسال لا وقت الإصابة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه حين سأله عن صيد المعراض والكلب: ((إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل)) . وقوله: "عليه "، أي: على المعراض والكلب، ولا تقع التسمية على السهم والكلب إلا عند الرمي والإرسال، وكان وقت التسمية فيها وهو الرمي والإرسال.
والمعنى هكذا يقتضي وهو: أن التسمية شرط، والشرائط يعتبر وجودها حال وجود الركن، لأن عند وجودها يكون الركن علة، كما في سائر الأركان مع شرائطها، هو المذهب الصحيح على ما عرف في أصول الفقه.
والركن في الذكاة الاختيارية هو الذبح، وفي الاضطرارية هو الجرح، وذلك مضاف إلى الرامي والمرسل، وإنما السهم والكلب آلة الجرح، والفعل يضاف إلى مستعمل الآلة لا إلى الآلة، لذلك اعتبر وجود التسمية وقت الذبح، والجرح هو وقت الرمي والإرسال.
ولا يعتبر وقت الإصابة في الذكاة الاضطرارية، لأن الإصابة ليست من صنع العبد لا مباشرة ولا سببا , بل محض صنع الله تعالى- يعني به مصنوعة- وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وهي المسألة المعروفة بالمتولدات، وهذا لأن فعل العبد لابد وأن يكون مقدور العبد، ومقدور العبد ما يقوم بمحل قدرته هو نفسه، وذلك الرمي السابق والإرسال السابق، فتغير التسمية عندهما، على أن الإصابة قد تكون وقد لا تكون فلا يمكن إيقاع التسمية عليها، وعلى هذا الأصل يخرج مسائل:
- ما روى بشر عن أبي يوسف، رحمهما الله تعالى، أنه قال: لو أن رجلا أضجع شاة ليذبحها وسمى، ثم بدا له فأرسلها وأضجع أخرى فذبحها بتلك التسمية لم يجزه ذلك، ولا تؤكل لعدم التسمية على الذبيحة عند الذبح.
- ولو رمى صيدا فسمى فأخطأ وأصاب آخر فقتله لا بأس بأكله ...
- ومنها: لو أضجع شاة ليذبحها وسمى عليها، ثم ألقى السكين وأخذ سكيناً آخر فذبح به يؤكل، لأن التسمية في الذكاة الاختيارية تقع على المذبوح لا على الآلة، والمذبوح واحد فلا يعتبر اختلاف الآلة بخلاف ما إذا سمي على سهم ثم رمى بغيره فإنه لا يؤكل.
ولأن التسمية في الذكاة الاضطرارية تقع على السهم لا على المرمي إليه , وقد اختلف السهم، فالتسمية على أحدهما لا تكون تسمية على الآخر.
- ولو سمي ثم انقلبت الشاة وقامت من مضجعها ثم أعادها إلى مضجعها فقد انقطعت التسمية (1)
__________
(1) الكاساني- البدائع: 5/ 49(10/431)
حكم متروك التسمية على الصيد والذبيحة
قال ابن العربي: اختلف العلماء في متروك التسمية على ستة أقوال (1) الأول: إن تركها سهوا أكلت، وإن تركها عمدا لم تؤكل قاله في الكتاب: مالك وابن القاسم، وأبو حنيفة وعيسى، وأصبغ (2)
الثاني: إن تركها عامدا أو ناسيا تؤكل، قاله الحسن والشافعي: وذكر مثله عن الأوزاعي (3)
الثالث: أنه إن تركها عامدا أو ناسيا حرم أكلها، قاله ابن سيرين وأحمد.
الرابع: إن تركها متعمدا كره أكلها ولم تحرم، قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من أصحابنا، وهو ظاهر قول الشافعي.
الخامس: قال أحمد بن حنبل، التسمية شرط في إرسال الكلب، دون السهم في إحدى روايتيه.
السادس: قال القاضي أبو بكر، رضي الله عنه، (ابن العربي) : يجب أن تعلق هذه الأحكام بالقرآن والسنة والدلائل المعنوية التي أسسها الشريعة. فأما القران: فقال تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118] . وقال سبحانه: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] .
فبين الحالين، وأوضح الحكمين.
__________
(1) ابن العربي- أحكام القرآن: 2/ 749
(2) الطحاوي- مختصر اختلاف العلماء: 3/ 198
(3) الجصاص- أحكام القران: 3/ 5(10/432)
وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] نهيٌ محمول على التحريم، ولا يجوز حمله على الكراهة؛ لتناوله في بعض مقتضياته الحرام المحض، ولا يجوز أن يتبعض، هذا من نفيس علم الأصول.
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم في الصحاح: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل)) .
وقال أيضا: ((إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل)) .
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: ((وإن وجدت مع كلبك كلبا آخر فلا تأكل، فإنك سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر)) .
ثم قال: هذه أدلة ظاهرة عالية، وذلك من أظهر الأدلة؛ وأعجب لرأس المحققين إمام الحرمين يقول في معارضة هذا: وذكر الله إنما شرع في القرب، والذبح ليس بقربة. والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنصب باللسان، فنسخ الله ذلك بذكر الله في الألسنة، واستمر ذلك في الشريعة.
حتى قيل لمالك: هل يسمي الله إذا توضأ؟
فقال: أيريد أن يذبح؟ إشارة إلى أن محل التسمية وموضوعها إنما هو في الذبائح لا في الطهارة.
الرد على استدلال المخالف بالحديث: وأما الحديث الذي تعلقوا به في قوله:" اسم الله على قلب كل مؤمن " فحديث ضعيف, لا تلتفتوا إليه. وأما الناسي للتسمية على الذبيحة: فإنها لم تحرم عليه، لأن الله تعالى قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وليس الناسي فاسقا بإجماع، فلا تحرم عليه.(10/433)
فإن قيل: وكذلك المتعمد ليس بفاسق إن أكلها إجماعا، لأنها مسألة اجتهاد اختلف العلماء فيها.
قلنا: قد أجبنا على هذه النكتة في مسائل الخلاف، وصرحنا فيه بالحق من وجوه أظهرها:
أن تارك التسمية عمدا لا يخلو من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يترك التسمية إذا أضجع الذبيحة، لأنه يقول: قلبي مملوء من أسماء الله وتوحيده فلا أفتقر إليها، ونسب ابن العربي في الأحكام مقالة إلى إمام الحرمين مفادها: وذكر الله إنما شرع في القرب، والذبح ليس بقربة. ثم سارع إلى الرد عليه حيث قال:
قلنا: هذا فاسد من ثلاثة وجوه:
أحدها: أنه يعارضه القرآن والسنة كما قلنا، وفي بعض النسخ كما بينا.
الثاني: أن ذكر الله مشروع في كل حركة وسكنة، حتى في خطبة النكاح، وإنما تختلف درجاته في الوجوب والاستحباب.
الثالث: أن الذبيحة قربة بدليل افتقارها إلى النية- عندنا وعندك- وقد قال الله تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: 37] .
فإن قيل: المراد بذكر اسم الله في القلب؛ لأن الذكر أيضا كالنسيان، ومحل النسيان القلب.(10/434)
وقد روى البراء بن عازب وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ((سم الله على قلب كل مؤمن يسمي أو لم يسم)) ولهذا تجزيه الذبيحة إذا نسي التسمية تعويلا على ما في قلبه من اسم الله سبحانه.
قلت: الذكر يكون باللسان، ويكون بالقلب، إن ذكر ذلك بلسانه، فذلك يجزيه، لأنه قد ذكر الله وعظمه.
وإن قال: ليس هذا موضع التسمية صريحة- فإنها ليست بقربة- فهذا يجزيه لكونه على مذهب يصح اعتقاده اجتهادا للمجتهد فيه، وتقليدا لمن قلد.
وإن قال: لا أسمي، وأي قدر للتسمية؟
فهذا متهاون كافر فاسق لا تؤكل ذبيحته، فإنما يتصور الخلاف في المسألة على الصورتين الأوليين، فأما على الصورة الثالثة فلا تشخيص لها.
ثم انتهى إلى القول: والذي نعتمد عليه في صورة الناسي أن الخطاب لا يتوجه إليه لاستحالة خطاب الناسي، فالشرط ليس بواجب عليه. أهـ.
قال الجصاص (1) :
قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] فيه نهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وقد اختلف في ذلك.
فقال أصحابنا- فقهاء الحنفية- ومالك والحسن بن صالح: إن ترك المسلم التسمية عمدا لم يؤكل، وإن تركها ناسيا أكل.
__________
(1) الجصاص- أحكام القرآن: 3/ 6(10/435)
وقال الشافعي: يؤكل في الوجهين. وذكر مثله عن الأوزاعي.
وقد اختلف أيضا في تارك التسمية ناسيا:
فروي عن علي وابن عباس ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وابن شهاب وطاوس قالا: لا بأس بأكل ما ذبح ونسي التسمية عليه.
وقال علي: إنما هي على الملة.
وقال ابن عباس: المسلم ذِكْر الله في قلبه.
وقال ابن عباس: كما لا ينفع الاسم في الشرك، ولا يضر النسيان في الملة.
وقال عطاء: المسلم تسمية الله تعالى، المسلم. وهو اسم من أسماء الله تعالى والمؤمن هو اسم من أسمائه، والمؤمن تسمية للذابح.
أجمع العلماءُ في ذبيحة الكتابي أنها تؤكل، وإن لم يسم الله عليها، إذا لم يسم عليها غير الله، وأجمعوا أن المجوسي والوثني لو سمي الله لم تؤكل ذبيحته.
وروى أبو خالد عن ابن عجلان عن نافع: أن غلاما لابن عمر قال له:
يا عبد الله قل باسم الله، قال: قد قلت.
قال: قل بسم الله، قال (الغلام) : قد قلت.
قال: قل بسم الله، قال (الغلام) : قد قلت.
قال: فذبح فلم يأكل منه. أهـ.(10/436)
ترك التسمية عامدا
وإذا ترك التسمية عامدا حرم به الصيد والمذبوح عندنا, ولم يحرم عند الشافعي رحمه الله، والمسلم والكتابي في ذلك سواء، وقال الخطابي: " قال الشافعي: التسمية استحباب وليس بواجب وسواء تركها عامدا أو ساهيا ... وهو قول مالك وأحمد , وإن ترك ناسيا لم يحرم عندنا ". (1)
وقال مالك رحمه الله تعالى وأصحاب الظاهر: يحرم. وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما، وقال ابن سيرين: إن ترك التسمية ناسيا لم يؤكل، وروي أن غلام ابن عمر قام عند قصاب ذبح شاة ونسي أن يذكر اسم الله عليها، فأمره ابن عمر أن يقوم عنده، فإذا جاء إنسان يشتري قال ابن عمر يقول: إن هذه لم يذكها فلا تشتري. اهـ (2)
وكان علي وابن عباس رضي الله عنهما يفصلان بين العامد والناسي كما هو مذهبنا- الحنفية- وقد كانوا مجمعين على الحرمة إذا ترك التسمية عامدا وإنما يختلفون إذا تركها ناسيا، وكفى بإجماعهم حجة.
ولهذا قال أبو يوسف، رحمه الله: متروك التسمية عامدا لا يسوغ فيه الاجتهاد، ولو قضى القاضي بجواز البيع فيه لا يجوز قضاؤه، لأنه مخالف للإجماع.
وقال أبو ثور وداود: كل من ترك التسمية عامدا أو ساهيا فذبحته لا تحل، ومثله عن ابن سيرين والشعبي. اهـ
__________
(1) الخطابي- معالم السنن: 3/ 283
(2) الجصاص- أحكام القرآن: 3/ 6(10/437)
دليل الشافعي:
استدل الشافعي رحمه الله تعالى بحديث البراء بن عازب وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم يذبح على اسم الله، سمي أو لم يسم)) ؛ وفي رواية قال: ((ذكر اسم الله تعالى في قلب كل مسلم)) . وجه الاستدلال من الحديثين: كون الذكر في قلبه في حالة العمد أظهر منه في حالة النسيان.
ولما سئل ابن عباس رضي الله عنهماعن متروك التسمية قال: يحل تسمية ملته. وفي إقامة الملة مقام التسمية لا فرق بين النسيان والعمد.
وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: إن الأعراب يأتوننا بلحوم فلا ندري أسموا أم لم يسموا، فقال عليه الصلاة والسلام: ((سموا أنتم وكلوا)) .
وجه الاستدلال: لو كانت التسمية من شرائط الحل لما أمرها بالأكل عند وقوع الشك فيها, ولأن التسمية لو كانت من شرائط الحل كانت مأمورا بها، وفي المأمورات لا فرق بين النسيان والعمد كقطع الحلقوم والأوداج, وكالتكبير والقراءة في الصلاة.
إنما يقع الفرق في المزجورات كالأكل والشرب في الصوم، لأن موجب النهي عنه الانتهاء، والناسي اعتقادًا.
فأما موجب الأمر الائتمار، والتارك ناسيا أو متعمدا لا يكون مؤتمَرا، ولأنه استصلاح الأكل فكانت التسمية فيه ندبا لا حتما. كالطبخ والخبز، ثم فيما هو المقصود- وهو الأكل- التسمية فيه ندب وليس بحتم، فهذا هو طريق إليه أولى، والدليل عليه: أنه تحل ذبائح اليهود والنصارى، ولو كانت التسمية شرطاً لما حلت ذبائحهم، لأنهم وإن ذكروا الله تعالى فإنهم يريدون غير الله، وهو ما يتخذونه معبودا لهم، لأن النصارى يقولون: "المسيح ابن الله " تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ونحن نتبرأ من إله له ولد.(10/438)
دليل فقهاء الحنفية:
واستدل فقهاء الحنفية لمذهبهم بالنقل والعقل.
أما النقل: فقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] فمطلق النهي يقتضي التحريم، وأكد ذلك بحرف (مما) لأنه في موضع النهي للمبالغة فيقتضي حرمة كل جزء منه.
والهاء في قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] إن كان كناية عن الأكل فالفسق أكل الحرام ,
وإن كان كناية عن المذبوح، فالمذبوح الذي يسمى فسقا في الشرع يكون حراما، كما قال تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [الأنعام:145] وفي الآية بيان الحرمة لعدم ذكر الله تعالى، لأن التحريم بوصفٍ دليل على ذلك الوصف هو الموجب للحرمة كالميتة والموقوذة.
وبهذا تبين فساد حمل الآية على الميتة وذبائح المشركين، فإن الحرمة هناك ليست لعدم ذكر الله تعالى، حتى إنه وإن ذكر اسم الله تعالى لم يحل، وقال تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} يعني عند النحر، بدليل قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] ، أي: سقطت، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير الآية: ذكر اسم الله تعالى أن يقول عند الطعن: بسم الله، والله أكبر.
قال تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، والمراد التسمية عند الإرسال, فثبت بهذين النصين أن التسمية مأمور بها، ومطلق الأمر يفيد الوجوب، وهي من شرائط الحل، ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه: ((إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى عليه فكل)) . والمعطوف على الشرط شرط, وأكد ذلك بقوله: ((وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك)) .(10/439)
وجه الاستدلال من الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم علل للحرمة بأنه لم يسم على أكل غيره، فهو دليل الحرمة إذا لم يسم على نفسه، وشيء من المعنى يشهد له، فإن ذبيحة الكتابي تحل، وذبيحة المجوس لا تحل، وليس بينهما فرق يعقل معناه بالرأي، سوى من يدعي التوحيد يصح منه تسمية الله على الخلوص، ومن يدعي الاثنين لا يصح منه تسمية الله على الخلوص فيه يتبين أن التسمية من شرائط الحل.
أو إنما أمرنا ببناء الحكم في حق أهل الكتاب على ما يظهرون دون ما يضمرون، ألا ترى أن تسمية غير الله تعالى على سبيل التعظيم موجبة للحرمة كقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 3] ، فلو اعتبرنا ما يضمرون لم تحل ذبيحتهم,
وكذلك يستحلفون في المظالم بالله، والاستحلاف بغير الله لا يحل، فعرفنا أنه ينبني على ما يظهرون.
ثم إنا أمرنا بالتسمية عند الذبح مخالفة للمشركين؛ لأنهم كانوا يسمون آلهتهم عند الذبح، ومخالفتهم واجبة علينا, فالتسمية عند الذبح تكون واجبة أيضا، بخلاف الطبخ والأكل، فإنهم ما كانوا يسمون آلهتهم عند ذلك، فالأمر بالتسمية عند ذلك ندب.
وكذلك عند الوصف، فالأمر بالتسمية عند الوصف لم يكن لمخالفتهم فكان ندبا.
ألا ترى أن في حالة النسيان تقام ملته مقام التسمية؟
قاله ابن عباس، رضي الله عنهما، لمعنى التخفيف، وهذا التخفيف يستحقه الناسي دون العامد، ولأن العامد مُعْرِضٌ عن التسمية فلا يجوز أن يجعل مسميا حكما بخلاف الناسي فإنه غير معرض بل معذور.
والفرق بين المعذور وغير المعذور أصل في الشرع في الذبح,
ألا ترى أن اعتبار الذبح في المذبح يفصل بين المعذور وغيره؟
وفي الأكل في الصوم يفصل بين الناسي والعامد؟ ولا يعتبر بالمأمور والمزجور, فالأكل في الصلاة مزجور.
ثم سوى فيه بين النسيان والعمد , والجماع في الإحرام كذلك, ولكن ما اقترن بحالة ما يذكره كهيئة المحرمين والمصلين لا يعذر بالنسيان.
وهنا في الذبح لم تقترن بحالة ما يذكره ... وقد يذبح الإنسان الطير وقلبه منشغل بشغل آخر , فيترك التسمية ناسيا، وعليه يحمل الحديث على أنه ذبح على اسم الله تعالى إذا كان ناسيا غير معرض, بدليل أنه ذكر في بعض الروايات ((وإن تعمد لم يحل)) ، وحديث عائشة رضي الله عنها ((إن الأعراب يأتوننا بلحم ... )) دليلنا؛ لأنها سألت عن الأكل عند وقع الشك في التسمية , فذلك دليله على أنه كان معروفا عندهم أن التسمية من شرائط الحل، وإنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكل بناء على الظاهر أن المسلم لا يدع التسمية عمدا؛ لمن اشترى لحما من سوق المسلمين يباح له التناول بناء على الظاهر، وإن كان يتوهم أنه ذبيحة مجوسي (1) .
__________
(1) السرخسي- المبسوط: 12/ 238(10/440)
الخطأ في الذبح
وما يأخذ حكم الذبح
ذكر ابن سماعة في نوادره، رحمه الله، عن أبي يوسف:
لو أن رجلا قطع شاة نصفين، ثم إن رجلا فرى أوداجها والرأس يتحرك، أو شق بطنها فأخرج ما في جوفها، وفرى رجل آخر الأوداج فإن هذا لا يؤكل، لأن الأول قاتل.
وذكر القدوري رحمه الله تعالى أن هذا على وجهين:
إن كانت الضربة مما يلي العجز لم تؤكل الشاة، وإن كانت مما يلي الرأس أكلت، لأن العروق المشروطة في الذبح متصلة من القلب إلى الدماغ, فإذا كانت الضربة مما يلي الرأس فقد قطعها فحلت.
وإن كانت مما يلي العجز فلم يقطعها فلم تحل.
وأما خروج الدم بعد الذبح فيما لا يحل إلا بالذبح فهل هو من شرائط الحل فلا رواية فيه.
لو ضرب صيدا بسيف فقطعه نصفين يؤكل النصفان عندنا جميعا، وهو قول إبراهيم النخعي.
وجه هذا القول: لأنه وجد قطع الأوداج لكونها متصلة من القلب بالدماغ فأشبه الذبح فيؤكل الكل.
وإن قطع أقل من النصف فمات: فإن كان مما يلي العجز لا يؤكل المبان عندنا، وقال الشافعي: يؤكل.
وجه قوله: إن الجرح في الصيد إذا اتصل به الموت فهو ذكاة اضطرارية، وأنها سبب الحل كالذبح.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أبين من الحي فهو ميت)) . والمقطوع مبان من الحي فيكون ميتاً.
وأما قوله: إن الجرح الذي اتصل به الموت ذكاة في الصيد, فنعم ... لكن حال فوات الحياة عن المحل وعند الإبانة المحل كان حيا، فلم يقع الفعل ذكاة له، وعندما صار ذكاة كان الجزء منفصلا، وحكم الذكاة لا يلحق الجزء المنفصل.
وإن كان مما يلي الرأس يؤكل الكل لوجود قطع الأوداج، فكان الفعل حال وجوده ذكاة حقيقية فيحل به الكل.(10/441)
ولو ذبح شاة ولم يسل منها دم- قيل: وهذا قد يكون في شاة اعتلفت بالعناب- واختلف المشايخ فيه:
قال أبو القاسم الصفار رحمه الله: لا تؤكل، لقوله، عليه الصلاة والسلام: ((ما فرى الأوداج وأنهر الدم فكل)) يؤكل بشرط إنهار الدم ولم يوجد.
ولأن الذبح لم يشرط لعينه بل لإخراج الدم المحرم وتطييب اللحم ولم يوجد، فلا يحل.
وقال أبو بكر الأسكافي والفقيه أبو جعفر الهندواني رحمهما الله:
يؤكل لوجود الذبح وهو فري الأوداج، وأنه سبب لخروج الدم عادة، لكنه امتنع لعارض بعد وجود السبب، فصار كالدم الذي احتبس في بعض العروق عن الخروج بعد الذبح، وذا لا يمنع الحل كذا هذا.
وعلى هذا يخرج ما إذا قطع من إلية الشاة قطعة أو من فخذها أنه لا يحل المبان، وإن ذبحت الشاة بعد ذلك، لأن حكم الذكاة لم يثبت في الجزء المبان وقت الإبانة لانعدام ذكاة الشاة لكونها حية وقت الإبانة، وحال فوات الحياة كان الجزء منفصلا، وحكم الذكاة لا يظهر في الجزء المنفصل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ما أبين من الحي فهو ميت)) والجزء المقطوع مبان من حي وبائن منه فيكون ميتا.
وكذلك إذا قطع من صيد لم يؤكل المقطوع- وإن مات الصيد بعد ذلك- لما قلت.
وقال الشافعي: يؤكل إذا مات الصيد من ذلك.
وإن قطع فتعلق العضو بجلده لا يؤكل، لأن ذلك القدر من التعلق لا يعتبر فكان وجوده والعدم بمنزلة واحدة، وإن كان متعلقا باللحم يؤكل الكل؛ لأن العضو المتعلق باللحم من جملة الحيوان، وذكاة الحيوان تكون لما اتصل به (1) .
__________
(1) الكاساني- بدائع الصنائع: 5/ 66(10/442)
أهلية الذابح
وقال الكاساني: ومن شرائط ركن الذكاة- اختيارية كانت أو اضطرارية- أن يكون المذكي عاقلا، فلا تؤكل ذبيحة المجنون والصبي الذي لا يعقل، والسكران الذي لا يعقل.
وجاء في وجه هذا القول: إن القصد إلى التسمية عند الذبح شرط، ولا يتحقق القصد الصحيح ممن لا يعقل- فإن كان الصبي يعقل الذبح ويقدر عليه تؤكل ذبيحته، وكذا السكران.
ومنها: أن يكون المذكي مسلما أو كتابيا- فلا تؤكل ذبيحة أهل الشرك والمجوسي والوثني وذبيحة المرتد.
أما ذبيحة أهل الشرك فلقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة:3] ، وقوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] ، والنصب هي الأصنام التي يعبدونها.
وأما ذبيحة المجوسي: فلقوله صلى الله عليه وسلم: ((سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم)) , ولأن ذكر الله تعالى على الذبيحة من شرائط الحل عند فقهاء الحنفية.
وأما المرتد فلأنه لا يقر على الدين الذي انتقل إليه، فكان كالوثني الذي لا يقر على دينه.
وأما ذبيحة الكتابي فتؤكل؛ لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] والمراد منه ذبائحهم، لأن غير الذبائح من أطعمة الكفرة مأكول، ولأن مطلق اسم الطعام يقع على الذبائح كما يقع على غيرها؛ لأنه اسم لما يتطعم، والذبائح مما يتطعم، فيدخل تحت اسم إطلاق اسم الطعام فيحل لنا أكلها.
ومنها: التسمية حالة الذكر عندنا (فقهاء الحنفية) وعند الشافعي ليست بشرط أصلا.
وقال مالك: إنها شرط حالة الذكر والسهو حتى لا يحل متروك التسمية ناسيا عندهم. والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم (1) .
__________
(1) السرخسي- المبسوط: 11/ 236(10/443)
ذبيحة الكتابي
إنما تؤكل ذبيحة الكتابي إذا لم يُشهد ذبحه ولم يُسمع منه شيء، أو سمع وشهد منه تسمية الله تعالى وحده.
والوجه في ذلك: أنه إذا لم يسمع منه شيء يحمل على أنه قد سمي الله تعالى وجرد التسمية، تحسينا للظن به كما بالمسلم.
- ولو سمع منه ذكر الله تعالى لكنه على بالله عز وجل المسيح عليه السلام قالوا:
تؤكل لأنه أظهر تسمية هي تسمية المسلمين إلا إذا نص فقال: بسم الله الذي هو ثالث ثلاثة، فلا تحل.
وقد روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه سئل عن ذبائح أهل الكتاب وهم يقولون ما يقولون، فقال رضي الله عنه: قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
فأما إذا سمع منه أنه سمي المسيح عليه السلام وحده، أو سمي الله تعالى وسمى المسيح لا تؤكل ذبيحته عندنا.
كذا روي عن علي رضي الله عنه، ولم يرو عن غيره خلافه، فيكون إجماعا، ولقوله عز وجل: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة:3] وهذا أهل لغير الله عز وجل فلا يؤكل.
ومن أكلت ذبيحته ممن ذكرنا أكل صيده الذي صاد بالسهم أو بالجوارح, ومن لا فلا، لأن أهلية المذكي شرط في نوعي الذكاة الاختيارية والاضطرارية جميعا. (1)
__________
(1) الكاساني- البدائع: 5/ 68(10/444)
وقال ابن عبد البر: وأخبرنا معمر، قال: سألت الزهري عن ذبائح نصارى العرب فقال: من انتحل دينا فهو من أهله، ولم ير بذبائحهم بأسا (1) وروى عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا نساءهم، فإن الله تعالى يقول: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] (2) قال أبو عمر: على هذا أكثر العلماء، إلا أن يسمي النصراني من العرب المسيح على ذبيحته، فإن قال: بسم المسيح، أو ذبح لآلهته، أو لعيده، إنهم اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا، نذكره في هذا الباب إن شاء الله.
وأما نصارى العرب: فمذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نصارى العرب بني تغلب كغيرهم.
وقد قيل: إنه خص بني تغلب بأن لا تؤكل ذبائحهم. روى معمّر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، أن عليا رضي الله عنه كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب، ويقول: إنهم لا يتمسكون من النصرانية إلا بشرب الخمر (3)
وقالت بهذا طائفة منهم: عطاء، وسعيد بن جبير، وهو أحد قولي الشافعي.
__________
(1) مصنف عبد الرزاق: 4/ 486 الأثر: (8571)
(2) مصنف عبد الرزاق: 4/ 486 الأثر: (8573)
(3) مصنف عبد الرزاق: 4/ 485، الأثر: (8570) و 6/ 27 و 7/ 186؛ والروض النضير: 3/ 369؛ تفسير ابن جرير الطبري: 9/ 576، ط المعارف؛ وسنن البيهقي: 9/ 218؛ وأحكام القرآن، للجصاص: 3/ 323؛ والجامع لأحكام القرآن: 6/ 78(10/445)
وأما اختلاف العلماء فيما ذبح النصارى لكنائسهم وأعيادهم أو ما سموا عليه المسيح: فقال مالك: ما ذبحوه لكنائسهم أكره أكله، وما سمي عليه باسم المسيح لا يؤكل.
والعرب عنده والعجم في ذلك سواء.
وقال الثوري: إذا ذبح، وأهل به لغير الله كرهته. وهو قول إبراهيم (1) .
قال سفيان: وبلغنا عن عطاء أنه قال: قد أحل الله ما أهلوا لغير الله، لأنه قد علم أنهم سيقولون هذا القول، وقد أحل ذبائحهم.
وروي عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت، قالا: لا بأس بما ذبح النصارى لكنائسهم وموتاهم، قال أبو الدرداء: طعامهم كله لنا حل، وطعامنا لهم حل.
وإلى هذا ذهب فقهاء الشاميين: مكحول، والقاسم بن مخيمرة، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وسعيد بن عبد العزيز، والأوزاعي، وقالوا: سواء سمي النصراني المسيح على ذبيحته أو سمي جرجس، أو ذبح لعيده، أو لكنيسته، كل ذلك حلال؛ لأنه كتابي ذبح بدينه، وقد أحل الله ذبائحهم في كتابه.
وقال المزني، عن الشافعي: لا تحل ذبيحة نصارى العرب (2)
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب (3) وعلي بن أبي طالب (4) .
__________
(1) مختصر المزني، ص 284 في كتاب (الضحايا)
(2) مصنف عبد الرزاق: 6/ 119، وآثار أبي يوسف، ص 239
(3) روى البيهقي في سننه: 9/ 216، عن الفاروق عمر قوله: (ما نصارى العرب بأهل كتاب، ما تحل لنا ذبائحهم، وما أنا بتاركهم حتى يسلموا أو أضرب أعناقهم) .
(4) الجامع لأحكام القران، القرطبي: 6/ 78؛ وأحكام القرآن، للجصاص: 3/ 323؛ وتفسير الطبري: 9/ 576، ط دار المعارف، عن الإمام علي مثل قول الفاروق(10/446)
وروى قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي، قال: إذا سمعت النصراني يقول: باسم المسيح فلا تأكل، وإذا لم يسم (فكل) فقد أحل الله ذبائحهم (1) ،وعن عائشة قالت: لا تأكل ما ذبح لأعيادهم.
وعن عمر مثله، وعن الحسن، وميمون بن مهران: إنهما كانا يكرهان ما ذبح النصارى لأعيادهم، وكنائسهم، وآلهتهم.
وقد قال إسماعيل بن إسحاق: كان مالك يكرهه من غير أن يوجب فيه تحريما.
وذكر عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عمر بن ميمون بن مهران أن عمر بن عبد العزيز كان يوكل بقوم من النصارى قوما من المسلمين إذا ذبحوا أن يسموا الله، ولا يتركوهم أن يهلوا لغير الله (2)
وجاء في البيان والتحصيل مسألة:
وسئل عن ذبيحة الخصي فقال: أحب ألا يذبح، فإن ذبح أكلت، فقيل له: فذبيحته للعيد؟
قال: هو يؤم الناس في النافلة وفي السفر، فأما صلاة الجماعات في المساجد فلا، قيل: أرأيت إن أَمَّ خصي قوما أيعيدون الصلاة حين علموا قال: لا ...
__________
(1) المحلى: 7/ 411؛ ومثله في أحكام القرآن، للجصاص: 1/ 125
(2) مصنف عبد الرزاق: 4/ 488، الأثر (8581)(10/447)
قال محمد بن رشد: كره ذبح الخصي ولم يكره ذبح العبد وكلاهما لا يكون إماما راتبا، ولا تجب الإعادة على من صلى خلفه.
فالفرق بينهما: أن الخصاء أمر ثابت، فنحا به ناحية التأنيث, والعبودية ليست بثابتة، قد يعتق العبد.
إلى أن قال: وإن كان الأولى في ذلك الذبح الكمال في الطهارة والدين، فقد كان الناس يبتغون لذبائحهم أهل الفضل والإصابة.
وقال: فستة لا تجوز ذبائحهم, وستة تكره ذبائحهم , وستة يختلف في جواز ذبائحهم:
فأما الذين لا تجوز ذبائحهم: فالصغير الذي لا يعقل، والمجنون في حالة جنونه، والسكران الذي لا يعقل، والمجوسي، والمرتد، والزنديق. وأما الذين تكره ذبائحهم: فالصغير الذي يعقل، والمرأة، والخنثى، والخصي، والأغلف، والفاسق.
قال القرافي: ومنشأ الخلاف: هل النظر إلى أن ضعف طبع الثلاثة الأُول يمنع الذكاة على وجهها، ومشابهة الخصي بهم ونقص الآخرين من جهة الدين ,
أو أن القصد والفعل من الجميع ممكن فتصح.
وأما الذين يختلف في جواز ذبائحهم: فتارك الصلاة، والسكران الذي يخطئ ويصيب، والمبتدع الذي يختلف في تكفيره، والعربي النصراني، والنصراني يذبح للمسلم بأمره، والعجمي يجيب إلى الإسلام قبل البلوغ، هذا كله مذهب مالك (1) .
وقال: ولا ينبغي لمسلم أن يشتري اللحم من مجزرة يهودي وهو يجد من ذلك مندوحة، فقد كانوا يبتغون لذبائحهم أهل الفضل والإصابة,
فكيف باليهودي والنصراني والكتابي؟ وقال: في اختيار الذبائح. (2)
__________
(1) القرافي- الذخيرة: 4/ 122؛ التحصيل: 3/ 3546؛ البيان والتحصيل: 17/ 124
(2) القرافي- الذخيرة: 4/ 123(10/448)
قال مالك: ولقد أخبرني شيخ من بني عبد الأشهل قال: أدركت الناس يختارون لذبائحهم.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم - من كتاب الصيد والذبائح ساقها فيه- على أن الاختيار للمرأة إذا اضطرت إلى ذكاة ذبيحتها وعندها نصراني أن تذكيها ولا تكلها إلى النصراني ووجه اختيار أهل الفضل للذبائح صحيح؛ لأن الفاسق- وإن كانت تؤكل ذبيحته- لكن لاينبغي أن يؤتمن ابتداء على الذبح، مخافة أن يقصر فيما يلزمه فيه، فيكتم ذلك ولا يعلم به، وذلك مأمون من أهل الفضل (1) .
وقال ابن القاسم: وما لا يستحلونه ولا يؤكل، كذي الظفر وهو الإبل والنعام والبط وما ليس مشقوق الأصابع، خلافا لابن حنبل لأنه ليس من طعامهم.
جاء في معالم السنن للخطابي (388 هـ) : ومن باب أكل ذبائح أهل الكتاب.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عمر بن عيينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا نأكل مما قتلنا، ولا نأكل مما قتل الله!! فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهٌ} [الأنعام: 121]
__________
(1) البيان والتحصيل: 17/ 124(10/449)
قال الشيخ (الخطابي) : في هذا دلالة على أن معنى ذكر اسم الله على الذبيحة في هذه الآية ليس باللسان, وإنما معناه تحريم ما ليس بالمذكى من الحيوان.
فإذا كان الذابح ممن يعتقد الاسم ولكن لم يذكره بلسانه فقد سمي, وإلى هذا ذهب ابن عباس في تأويل الآية (1)
وجاء في (باب أكل اللحم لا يدري أذكر اسم الله عليه أم لا) :
قال أبو داود ... عن حماد ومالك وعائشة أنهم قالوا:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سموا الله وكلوا)) .
قال الشيخ الخطابي: فيه دليل على أن التسمية غير واجبة عند الذبح،
لأن البهيمة أصلها على التحريم حتى يتيقن وقوع الذكاة، فهي لا تستباح بالأمر المشكوك فيه، فلو كانت التسمية من شرط الذكاة لم يجز أن يحمل الأمر فيها على حسن الظن بهم فيستباح أكلها، كما لو عرض الشك في نفس الذبح , فلم يعلم هل وقعت الذكاة أم لا، يجوز أن تؤكل (2)
__________
(1) الخطابي- معالم السنن: 4/ 277
(2) الخطابي- معالم السنن: 4/ 283.(10/450)
شرط الحل في الحيوان المذكى
إن الشرع إنما ورد بإحلال الطيبات قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وقال سبحانه وتعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ولأن الحرمة في الحيوان المأكول لمكان الدم المسفوح، وأنه لا يحل إلا في الذبح، ولا يطيب إلا بخروج الدم المسفوح، وذلك بالذبح فيما يذبح من الشاة والبقر ونحوهما، والنحر فيما ينحر وهو الإبل عند القدرة على الذبح والنحر, ولهذا حرمت الميتة؛ لأن المحرم وهو الدم المسفوح قائم فيها، ولذا لا يطيب مع قيامه، ولذا يفسد في أدنى مدة ما يفسد في مثلها المذبوح، وكذا المنخنقة والموقودة والمتردية والنطيحة لما قلنا، ولأن المقصود من- الذبح والنحر- إخراج الدم المسفوح وتطيب اللحم (1) .
وكذلك إذا قطع من إلية الشاة قطعة أنه لا يحل المبان وإن ذبحت الشاة بعد ذلك، لأن حكم الذكاة لم يثبت في الجزء المبان وقت الإبانة، لانعدام ذكاة الشاة لكونها حية وقت الإبانة، وحال فوات الحياة كان الجزء منفصلا، وحكم الذكاة لا يظهر في الجزء المنفصل.
وروي أن أهل الجاهلية كانوا يقطعون قطعة من إلية الشاة ومن سنام البعير فيأكلونها، فلما بعث النبي المكرم عليه الصلاة والسلام نهاهم عن ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أبين من الحي فهو ميت)) والجزء المقطوع مبان من الحي وبائن منه فيكون ميتا.
__________
(1) الكاساني- البدائع: 5/ 41(10/451)
وهذا الحديث الشريف يعتبر أصلا وقاعدة في هذا الباب يفرع عليه مسائل كثيرة، منها:
1- إذا قطع جزء من الصيد لم يؤكل المقطوع وإن مات الصيد بعد ذلك.
2- لو ضرب صيدا بسيف- ويصدق ذلك على المذبوح بالآلات- فقطعه نصفين، يؤكل النصفان عندنا جميعا، وهو قول إبراهيم النخعي , وجه هدا القول: وجد قطع الأوداج لكونها متصلة من القلب بالدماغ فأشبه الذبح فيؤكل الكل، وإن قطع أقل من النصف فمات؛ كان مما يلي العجز لا يؤكل المبان عندنا.
قال الشافعي: يؤكل.
وجه قوله: إن الجرح في الصيد إذا اتصل به الموت فهو ذكاة اضطرارية وأنها سبب الحل كالذبح.
واستدل فقهاء الحنفية بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أبين من الحي فهو ميت)) والمبان من الحي فيكون ميتا.(10/452)
الرد على وجه قول الشافعي:
وأما قول الشافعي: إن الجرح الذي اتصل به الموت ذكاة في الصيد , فنعم، لكن حال فوات الحياة من المحل، وعند الإبانة: المحل كان حيا فلم يقع الفعل ذكاة له، وعندما صار ذكاة كان الجزء منفصلا، وحكم الذكاة لا يلحق الجزء المنفصل، وإن كان مما يلي الرأس ويؤكل الكل لوجود قطع الأوداج، فكان الفعل حال وجوده ذكاة حقيقية فيحل به الكل. اهـ (1) .
ومن شروط الحل في الحيوان المذكى:
ا- قيام أصل الحياة في الحيوان وقت الذبح - قلت أو كثرت - في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يكتفي بقيام أصل الحياة، بل تعتبر حياة مقدورة كالشاة المريضة، والوقيذة، وجريحة السبع، والنطيحة, إذا لم يبق فيها إلا حياة قليلة عرف ذلك بالصياح أو بتحريك الذنب أو طرف العين أو التنفس.
وأما خروج الدم فلا يدل على الحياة إلا إذا كان يخرج كما يخرج من الحي المطلق.
فإذا ذبحها وفيها قليل حياة على الوجه الذي ذكرنا تؤكل عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعن أبي يوسف روايتان:
في ظاهر الرواية عنه أنه إن كان يعلم أنها لا تعيش مع ذلك فذبحها
لا تؤكل، وإن كان يعلم أنها تعيش مع ذلك فذبحها تؤكل.
وفي رواية قال: إن كان لها من الحياة مقدار لا تعيش به أكثر من نصف يوم فذبحها تؤكل، وإلا فلا.
__________
(1) الكاساني- البدائع: 5/ 45(10/453)
وقال محمد رحمه الله: إن كان لم يبق من حياتها إلا قدر حياة المذبوح بعد الذبح أو أقل فذبحها لا تؤكل، وإن كان أكثر من ذلك تؤكل. وذكر الطحاوي قول محمد مفسرا فقال: على قول محمد إن لم يبق معها إلا الاضطراب للموت فذبحها لا تحل.. وإن كانت تعيش مدة كاليوم أو كنصفه حلت.
وجه قولهما: إذا لم يكن لها حياة مستقرة على الوجه الذي ذكرنا كانت ميتة معنى , فلا تلحقها الذكاة كالميتة.
ولأبي حنيفة رضي الله عنه قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] .
وجه الاستدلال: استثنى سبحانه وتعالى المذكى من الجملة المحرمة، والاستثناء من التحريم إباحة، وهذه مذكاة لوجود فري الأوداج مع قيام الحياة فدخلت تحت النص (1) .
__________
(1) الكاساني- البدائع: 5/ 55- 51(10/454)
الذبح الاضطراري:
قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، استثنى سبحانه وتعالى المذكى من المحرم، والاستثناء من التحريم إباحة، هذا والحرمة في الحيوان المأكول لمكان الدم المسفوح، وأنه لا يزول إلا بالذبح والنحر، ولأن الشرع ورد بإحلال الطيبات، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وقال سبحانه وتعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ولا يطيب إلا بخروج المحرم وهو الدم المسفوح، وذلك بالذبح والنحر، ولهذا حرمت الميتة لأنه المحرم وهو الدم المسفوح فيها قائم، ولذا لا يطيب مع قيامه, وكذا المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة؛ لما قلنا.
هذا والذكاة على ما عرف قسمان: اختيارية واضطرارية:
والاختيارية: الذبح فيما يذبح، والنحر فيما ينحر.
والاضطرارية: فركنها العقر، وهو الجرح في أي موضع كان وذلك في الصيد وما هو في معنى الصيد، وإنما كان كذلك لأن الذبح إذا لم يكن مقدورا ولا بد من إخراج الدم لإزالة المحرم وهو الدم المسفوح وتطيب اللحم، فيقام سبب الذبح مقامه وهو الجرح على الأصل المعهود من إقامة السبب مقام المسبب عند العذر والضرورة ... وكذلك ما ندَّ من الإبل والبقر والغنم بحيث لا يقدر عليها صاحبها، لأنه بمعنى الصيد وإن كان مستأنسا (1) .
__________
(1) الكاساني- بدائع الصنائع: 5/ 63(10/455)
باب ما يجوز من الذكاة في حال الضرورة
وقال ابن عبد البر، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رجلا من الأنصار، من بني حارثة، كان يرعى لقحة (1) له بأحد. فأصابها الموت (2) فذكاها بشظاظ (3) فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ذلك، فقال: ((ليس بها بأس, فكلوها)) (4) .
مالك عن نافع، عن رجل من الأنصار (5) ، عن معاذ بن سعد أو سعد ابن معاذ: أن جارية كانت لكعب بن مالك كانت ترعى غنمها فأصيبت شاة منها، فأدركتها، فذكتها بحجر، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال: ((لا بأس بها فكلوها)) (6) .
__________
(1) اللقحة: الناقة ذات اللبن
(2) أصابها الموت: أراد المرض أو الإصابة مما يتيقن أنها تموت بسببه
(3) الشظاظ: العود المحدد الطرف
(4) الموطأ، ص 489؛ الموطأ برواية محمد بن الحسن، ص 17 2، الحديث (640) وهو مرسل عند جميع الرواة عن مالك, وروي موصولا عن أبي سعيد الخدري: أخرجه النسائي في الضحايا- باب (إباحة الذبح بالعود) عن محمد بن معمر، عن حبان بن هلال، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن زيد بن أسلم، قال جرير: فلقيت زيدا فحدثني عن عطاء بن يسار.
(5) الرجل من الأنصار: هوعبد الرحمن بن كعب بن مالك، على ما رجحه الحافظ ابن حجر.
(6) الموطأ، ص 489؛ والموطأ برواية محمد بن الحسن، ص 218، الحديث (641) ؛ ومن طريق مالك أخرجه البخاري مما في الذبائح والصيد (5505) (ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد) والبيهقي في السنن: 9/ 282-283، عن نافع عن رجل من الأنصار بهذا الإسناد؛ وأخرجه البخاري في الوكالة (2354) باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئا يفسد ذبح أو أصلح ما يخاف عليه الفساد و (5551) في الذبائح والصيد "باب ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد" من طريقين عن معتمر بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، به. وأخرجه البخاري (5504) باب (ذبيحة المرأة والأمة) وابن ماجه (3182) في الذبائح باب ذبيحة المرأة؛ البيهقي: 9/ 282 من طريق عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، به؛ وأخرجه أحمد: 6/ 386؛ والطبراني 19/ 190، من طريق حجاج عن نافع، به؛ وأخرجه الطبراني: 19/ 144، 169 من طريق ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك عن أبيه؛ وأخرجه أحمد: 3/ 454، من طريق وكيع، عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن ابن كعب أن جارية لكعب كانت ترعى ...(10/456)
قال أبو عمر: أما حديثه الأول، عن زيد بن أسلم، فلم يختلف عنه في إرساله على ما في (الموطأ) ، وقد ذكره البزار مسندا فقال: حدثنا محمد بن معمر قال: حدثني حبان بن هلال، قال: حدثني جرير بن حازم، عن أيوب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكره السراج محمد بن إسحاق، أبو العباس (1) ، قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن خراش، قال: حدثنا حيان بن هلال قال: حدثنا جرير بن حازم، قال: حدثنا أيوب، عن زيد بن أسلم؛ فلقيت زيد بن أسلم فحدثني عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: كانت لرجل من الأنصار ناقة ترعى في قبلي أحد، فنحرها يزيد، بوتد من حديد، أو خشب، قال: بلى من خشب، وأتى النبي عليه فسأله , فأمره بأكلها (2) .
__________
(1) هو محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران، الإمام الحافظ الثقة، شيخ الإسلام، محدث خراسان، أبو العباس الثقفي مولاهم الخرساني النيسابوري، صاحب المسند الكبير على الأبواب والتاريخ وغير ذلك، وأخوه إبراهيم المحدث إسماعيل. مولده في سنة ستة عشرة ومئتين، ووفاته سنة ثلاثة وثلاثمائة بنيسابور وكان من الثقات الأثبات، وقد عني بالأحاديث، وصنف كتبًا كثيرة من أهمها: "المسند الكبير". وقد أفاض العلماء في توثيق روايته، وأنه متفق عليه من شرط الصحيح، وأنه صدوق، مجاب الدعوة، وأنه السراج كالسراج، وأنه كان ذا تعبد وتهجد، وذا ثروة واسعة، وبر معروف. وقد كتب عن الأقران، ومن هو أصغر منه سنا، لعلمه وتبحره، حتى إنه كتب عن ألف وخمسمائة وزيادة. ترجمته في: الجرح والتعديل: 7/ 196؛ فهرست ابن النديم (220) ؛ تاريخ بغداد: 1/ 248- 735؛ سير أعلام النبلاء: 14/ 388؛ العبر: 2/ 157- 158؛ دول الإسلام: 1/ 189؛ الوافي بالوفيات: 2/ 187- 188؛ مرآة الجنان: 2/ 266-267؛ طبقات الشافعية، للسبكي: 3/ 108- 109؛ البداية والنهاية: 11/ 153؛ طبقات القراء للجزري: 2/ 97؛ النجوم الزاهرة: 3/ 214؛ طبقات الحفاظ، ص 311؛ شذرات الذهب: 2/ 286؛ الرسالة المستصرفة، ص 75
(2) تقدم ذكره مع الحديث (1012) وروى البزار، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر: (أن جارية لآل كعب كانت ترعى غنما، فخافت على شاة منها أن تموت، فأخذت حجرا، فذبحتها به، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بأكلها) زوائد البزار (1223) ؛ وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 4/ 33، وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ... ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح. وقال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد (16/ 126) : " قد روي هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر، وليس بشيء، وهو خطأ، والصواب: رواية مالك ومن تابعه على هذا الإسناد.(10/457)
قال أبو عمر: اللقحة: الناقة ذات اللبن، والشظاظ: العود الحديد الطرف. كذا قال أهل اللغة.
وقد روى هذا الحديث يعقوب بن جعفر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، فقال فيه: فأخذها الموت، فلم يجد شيئا ينحرها به، فأخذ وتدا، فوجأ في لبتها حتى أهرق دمها، ثم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فأمره بأكلها.
وقال ابن عبد البر في (الاستذكار) عن مالك، عن يحيى بن سعيد،عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب؛ أنه سأل أبا هريرة: عن شاة ذبحت فتحرك بعضها, فأمره أن يأكلها, ثم سأل عن ذلك زيد بن ثابت فقال: إن الميتة لتتحرك, ونهاه عن ذلك (1) .
وذكر ابن وهب هذا الخبر في موطئه عن مالك بإسناده، قال في آخره: سألت مالكا عن ذلك، فقال: إذا كان شيئا خفيفا، فقول زيد أحب إلي، وإن كان جرى الروح في الجسد، فلا بأس بأكلها.
قال ابن وهب: وأخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أنه كان يقول: الذكاة في العين تطرف، والذنب يتحرك، والرجل تركض.
قال: وأخبرني يونس، عن ربيعة، قال: ما أدركت مما أكل السبع حيا، فكله، يريد إذا أدركت ذكاته.
وسئل مالك عن شاة تردت فتكسرت، فأدركها صاحبها فذبحها.
فسال الدم منها ولم تتحرك. فقال مالك: إذا كان ذبحها ونفسها يجري، وهي تطرف فليأكلها.
قال أبو عمر: على قول مالك هذا في الموطأ على أكثر العلماء. وهو قول علي، وأبي هريرة، وابن عباس، ومن ذكرنا معهم في الباب قبل هذا من الصحابة والتابعين، وأئمة الفتوى من الفقهاء.
__________
(1) الموطأ، ص 495(10/458)
وقد اختلف في ذلك أصحاب مالك، واختلف فيه قول الشافعي , وذكر حماد بن سلمة، عن يوسف بن سعيد، عن يزيد مولى عقيل بن أبي طالب، قال: كانت لي عناق كريمة، فكرهت أن أذبحها، فلم ألبث أن تردت، فأمررت الشفرة على أوداجها، فركضت برجلها، فسألت زيد بن ثابت، فقال: إن الميت يتحرك بعد موته، فلا تأكلها.
قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من الصحابة قال بقول زيد هذا.
وقد قال علي، وابن عباس، وأبو هريرة، وجماعة التابعين: إنه إذا ذبحت وفيها حياة، فإن ذلك منها، فإن تطرف بعينها، أو تحرك ذنبها، أو تضرب بيديها، أو رجلها، فهي ذكية جائز أكلها.
وقال محمد بن سلمة: إذا قطع السبع حلقوم الشاة، أو قسم صلبها، أو شق بطنها، فأخرج معاها، أو قطع عنقها لم تذك إذا كان فيها حياة.
وذكر ابن حبيب، عن أصحاب مالك - خلا ذلك في الذي شق بطنها-أنها تذكى.(10/459)
وقال إسحاق بن منصور: سمعت إسحاق بن راهويه يقول في الشاة يعدو عليها الذئب، فيبقر بطنها، ويخرج المصارين حتى يعلم أنها لا يعيش مثلها. قال: السنة في ذلك ما ذكر ابن عباس؛ لأنه وإن خرجت مصارينها، فإنها حية بعد، وموضع الذكاة منها سالم.
وقال: وإنما ينظر عند الذبح أهي حية أو ميتة؟ ولا ينظر هل تعيش مثلها.
وكذلك المريضة التي لا يشك أنه مرض موت؛ جائز ذكاتها إذا أدركت فيها حياة.
قال: وما دامت فيها الحياة فله أن يذكيها.
قال: ومن قال بخلاف هذا فقد خالف السنة من جمهور الصحابة، وعامة العلماء.
قال أبو عمر: هذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه في أصل مذهبهم.
وقد روى أصحاب (الإملاء) عن أبي يوسف أنه إذا بلغ التردي، أو النطح، أو الضرب من الشاة حالا لا تعيش من مثله لم تؤكل، وإن ذكيت قبل الموت.
وكذلك قول الحسن بن حي.(10/460)
وذكر ابن سماعة (1) عن محمد (2) : إن كان يعيش مثله اليوم، أو دونه، وإن كانت لا تبقي إلا كتف المذبوح لم تؤكل.
__________
(1) هو قاضي بغداد أبو عبد الله، محمد بن سماعة بن عبد الله التميمي الكوفي، صاحب أبي يوسف ومحمد، (130- 233 هـ) ، روى عن أبي يوسف، ومحمد بن حسن الشيباني، والليث بن سعد، وغيرهم، وتولى القضاء ببغداد عند موت أبي يوسف، ودام إلى أن ضعف بصره، فصرفه المعتصم بإسماعيل بن حماد. كان محدثا ثقة، وفقيها عالما ممن جمع العلم والعمل، قال فيه أبن معين: لو أن المحدثين يصدقون في الحديث كما يصدق ابن سماعة في الفقه، لكانوا فيه على نهاية. صنف بعض الكتب منها: (الاكتساب في الرزق المستطاب) ، وكتاب (النوادر) وترجمته في (أخبار القضاة) : 3/ 282؛ مروج الذهب: 7/ 209؛ الفهرست، ص 205؛ تاريخ بغداد: 5/ 341؛ سير أعلام النبلاء: 110/ 646؛ الوافي بالوفيات: 3/ 139- 140؛ تهذيب التهذيب: 9/ 204؛النجوم الزاهرة: 2/ 271؛ الجواهر المضية: 2/ 58، 59؛ الفوائد البهية، ص 175، 171؛ معجم المؤلفين: 10/ 157؛ تاريخ التراث العربي: 2/ 76
(2) محمد بن حسن الشيباني.(10/461)
واحتج بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت جراحته متلفة، وصحت أوامره، ونفذت عهوده، ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القود.
وقال الأوزاعي: إذا كان فيها الحياة وذبحت، أكلت. قال: والمصبورة إذا ذبحت لم تؤكل.
وقال الليث: إذا كانت حية وأخرج السبع جوفها، أكلت إلا ما بان منها.
هذا قول ابن عباس (1) .
حدثني أحمد بن عبد الله قال: حدثني إسماعيل بن محمد، قال: حدثني عبد الملك بن بحر الجلاب، قال: حدثني محمد بن إسماعيل الصائغ، قال: حدثني سنيد بن داود، قال: حدثني جرير بن حازم، قال: عن الركين بن الربيع بن عميلة، عن أبي طلحة الأسدي، قال: سأل رجل ابن عباس، قال: كنت في غنمي فعدا الذئب فبقر شاة منها، فوقع قصبها بالأرض، فأخذت ظررًا من الأرض، فضربت بعضها ببعض، فصار لي منه كهيئة السكين، فذبحتها به، فقطعت العروق، وأهرقت الدم.
قال: انظر ما أصاب الأرض منه فاقطعه، وارم به، فإنه قد مات، وكل سائرها.
__________
(1) مصنف عبد الرزاق: 4/ 494؛ والمحلى 7/ 458؛ والمغني: 8/ 584؛ وكشف الغمة: 1 /239(10/462)
وقال الشافعي: إذا شق بطن الشاة، واستوقن أنها تموت إن لم تذك، فذكيت، فلا بأس بأكلها (1) . قال المزني: وأحفظ له: أنها لا تؤكل إذا بلغ ذلك منها (2) لا بقاء لحياتها إلا كبقاء المذبوح (3) .
وقال البويطي: إذا انخنقت الشاة، أو تردت، أو وقذت، أو نطحت، أو أكلها السبع، فبلغ ذلك منها مبلغا ليس لها معه حياة، إلا مدة قصيرة، والروح قائم فيها؛ ذكيت وأكلت، رجيت حياتها أو لم ترج، وهي كالمريضة ترجى حياتها.
قال أبو عمر: "أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها ونحو ذلك، وأجمعوا أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يدا ولا رجلا أنه لا ذكاة فيها.
فكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية ". اهـ
__________
(1) نقله المزني في (مختصره) ، ص 283 كتاب الصيد والذبائح.
(2) مختصر المزني: إذا بلغ منها ما لا بقاء لحياتها إلا كحياة المذكى.
(3) مختصر المزني، ص 283(10/463)
وقد اختلف الفقهاء في ذكاة ما نزل به الموت من الأنعام، والمتردية، والنطيحة، والموقوذة، وأكيلة السبع، والمنخنقة, فقال أبو قرة موسى بن طارق (1) : سألت مالكا عن المتردية والمفروسة تدرك ذكاتها وهي تتحرك فقال: لا بأس بها إذا لم يكن قطع رأسها، أو نثر بطنها.
قال: وسمعت مالكا يقول: إذا غير ما بين المنحر إلى المذبح لم تؤكل.
وفي المستخرجة لمالك وابن القاسم أن ما فيه الحياة- وإن كان لا يعيش، ولا يرجى له بالعيش- يذكى ويؤكل في ذلك.
وقال الليث بن سعد: إذا كانت حية، وأخرج السبع بطنها أكلنا إلا ما بان منها.
وهو قول ابن وهب، وهو الأشهر من مذهب الشافعية، وبه قال إسحاق ابن راهويه.
قال المزني: وأحفظ للشافعي قولا اخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أوالتردي إلى ما لا حياة معه (2)
, قال المزني: وهو قول المدنيين (3) .
__________
(1) هو المحدث الإمام الحجة، أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي السكسكي، قاضي زبيد، ومن شيوخ الإمام أحمد بن حنبل، وقد ذكره وأثنى عليه خيرا، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الخليلي: ثقة صنف كتاب (السنن) على الأبواب، وأصابت كتبه آفة، فتورع أن يصرح بالأخبار، فكان يقول: ذكر فلان. ترجمته في: الجرح والتعديل 8/ 148؛ ثقات ابن حبان: 9/ 159؛ ميزان الاعتدال: 4/ 207؛ تهذيب التهذيب: 1/349
(2) مختصر المزني، ص 283 كتاب الصيد والذبائح.
(3) في مختصر المزني، ص 283: وهو عندي أقيس، لأني وجدت الشاة تموت عن ذكاة فتحل، وعن عقر فتحرم، فلما وجدت الذي أوجب الذبح موتها وتحليلها لا يبدلها أكل السبع لها، ولا يرد بها، كان ذلك في القياس إذا أوجب السبع موتها وتحريمها لم يبدلها الذبح لها.(10/464)
وقال أبو حنيفة: في كل ما تدركه ذكاته، وفيه حياة -ما كانت الحياة - بأنه إذا ذكي قبل أن يموت.
وروى الشعبي، عن الحارث، عن علي- رضي الله عنه- قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة، أو المتردية، أو النطيحة، وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها (1) .
وكان الشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء، وطاوس، والحسن، وقتادة، كل هؤلاء يقولون في قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] : إذا أطرفت بعينيها، أو مضغت بذنبها- يعني حركته وضربت به- أو ركضت برجلها؛ فذكيتها، فقد أحل الله لك ذلك. وذكره عن أصحابه، وهو قول أبي هريرة وابن عباس (2) .
وإليه ذهب ابن حبيب، وذكره عن أصحاب مالك.
وروى ابن عيينة، وشريك، وجرير، عن الركين بن الربيع، عن أبي طلحة الأسدي، قال: سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة، فشن بطنها حتى انتثر، فسقط منه شيء إلى الأرض؟ فقال: كل وما انتثر من بطنها فلا تأكل (3) .
__________
(1) مسند زيد: 3/ 385؛ المجموع: 9/ 95؛ المحلى: 7/ 459؛ الدر المنثور: 3/ 15
(2) مصنف عبد الرزاق: 4/ 496؛ المحلى: 7/ 45
(3) مصنف عبد الرزاق: 4/ 494، الأثر، (8613) وفيه: (فأمره أن يذكيها فيأكلها) ؛ والمحلى: 7/ 458؛ والمغني: 8/ 548؛ وكشف الغمة: 1/ 239(10/465)
التحرك بعد الذبح
ذكر في بعض الفتاوى أنه لا بد من أحد شيئين:
إما التحرك، وإما خروج الدم، فإن لم يوجد لا يحل، كأنه جعل أحدهما بعد الذبح علامة الحياة وقت الذبح، فإن لم يوجد لم تعلم حياته وقت الذبح فلا يحل.
وقال بعضهم: إن علم حياته وقت الذبح بغير التحرك يحل، وإن لم يتحرك بعد الذبح ولا خرج منه الدم , والله أعلم (1) .
مسائل تخرج عن حكم التسمية على الذبيحة
- لو أضجع شاة وأخذ السكين وسمي، ثم تركها وذبح شاة أخرى وترك التسمية عامدا عليها: لا تحل. كذا في الخلاصة.
- وإن أخذ سهما وسمى، ثم وضع ذلك السهم، وأخذ آخر ورمى: لم يحل بتلك التسمية. كذا في جواهر الألخلاطي.
- وإذا أضجع شاة ليذبحها وسمى عليها، ثم كلم إنسانا أو شرب ماء أو حد سكينا، أو أكل لقمة، أو ما أشبه ذلك من عمل لم يكثر؛ حلت بتلك التسمية.
- وإن طال الحديث وكثر العمل كره أكلها، وليس في ذلك تقدير، بل ينظر فيه إلى العادة (2) : إن استكثره الناس في العادة يكون كثيرا، وإن كان يعد قليلا فهو قليل، ثم ذكر في هذا الفصل لفظة الكراهة.
__________
(1) الكاساني- البدائع: 5/ 52
(2) الكاساني- البدائع: 5/ 49(10/466)
- وقد اختلف المشايخ، رحمهم الله تعالى، في أضاحي الزعفراني، إذا حد الشفرة تنقطع تلك التسمية من غير فصل بينما إذا قل أو كثر. كذا في المحيط.
- ولو سمي ثم انفلتت الشاة وقامت من مضجعها، ثم أعادها إلى مضجعها فقد انقطعت التسمية. كذا في البدائع.
- ولو أن رجلا نظر إلى غنمه فقال: بسم الله، ثم أخذ واحدة فأضجعها وذبحها وترك التسمية عامدا، وظن أن تلك التسمية تجزئه لا تؤكل. كذا في البدائع.
- ولو أضجع إحدى الشاتين على الأخرى تكفي تسمية واحدة إذا ذبحهما بإمرار واحد، ولو جمع العصافير في يده فذبح وسمي، وذبح آخر على إثره ولم يسم: لم يحل الثاني.
ولو أمر السكين على الكل جاز بتسمية واحدة. كذا في خزانة المفتين, والله أعلم (1)
ومن شرائطها: أن تكون التسمية من الذابح، حتى لو سمي غيره والذابح ساكت وهو ذاكر غير ناس لا يحل، لأن المراد من قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] أي لم يذكر اسم الله عليه من الذابح، فكانت مشروطة فيه.
ومنها: أن يريد بها التسمية على الذبيحة، فإن أراد بها التسمية لافتتاح العمل لا يحل، لأن الله سبحانه وتعالى أمر بذكر اسم الله تعالى عليه في الآيات الكريمة، ولا يكون ذكر الله عليه إلا وأن يراد بها التسمية على الذبيحة.
وعلى هذا إذا قال: (الحمد لله) على سبيل الشكر لا يحل، كذا لو سبح أو هلل أو كبر، ولم يرد به التسمية على الذبيحة، وإنما أراد به وصفه بالوحدانية والتنزه عن صفات الحدوث لا غير: لا يحل، لما قلنا.
ومنها: أن يقصد بذكر الله تعالى تعظيمه على الخلوص، ولا يشوبه معنى الدعاء، حتى لو قال: اللهم اغفر لي، لم يكن ذلك تسمية لأنه دعاء، والدعاء لا يقصد به التعظيم المحض فلا يكون تسمية، كما لا يكون تكبيرا (2) .
__________
(1) الفتاوى الهندية: 5/ 288- 289
(2) الكاساني- البدائع: 5/ 48(10/467)
ما يستحب من الذكاة وما يكره منها
قال الكاساني في البدائع: إن المستحب أن يكون الذبح بالنهار ويكره بالليل,
والأصل فيه: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أنه نهى عن الأضحى ليلا، وعن الحصاد ليلا)) ، وهو كراهة تنزيه، ومعنى الكراهة يحتمل أن يكون لوجوه:
أحدها: أنه دليل وقت أمن وسكون وراحة، فإيصال الألم في وقت الراحة يكون أشد.
الثاني: لا يأمن أن يخطئ فيقطع يده، ولهذا كره الحصاد بالليل.
الثالث: أن العروق المشروطة في الذبح لا تتبين في الليل، فربما لا يستوفي قطعها، ولكن هذا لا يمنع الجواز (1) .
ومنها: أنه يستحب في الذبح- حالة الاختيار- أن يكون بآلة حادة من الحديد كالسكين والسيف ونحو ذلك، ويكره بغير الحديد، وبالقليل من الحديد، لأن السنة في ذبح الحيوان ما كان أسهل على الحيوان وأقرب إلى راحته.
والأصل فيه: ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((إن الله عز شأنه كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) (2)
__________
(1) السرخسي- المبسوط: 12/ 19
(2) رواه مسلم (1955) ؛ وأحمد: 4/ 123، 124، 125؛ والترمذي (1409) ؛ والنسائي: 7/ 227؛ وابن ماجه (3170) ؛ والبيهقي: 8/ 60 ... وغيرهم.(10/468)
وفي بعض الروايات: ((وليشد قوائمه وليلقه على شقه الأيسر، وليوجهه نحو القبلة، وليسم الله تعالى عليه)) والذبح بما قلنا أسهل على الحيوان وأقرب إلى راحته.
ومنها: التدفيف (الإسراع) في قطع الأوداج، ويكره الإبطاء فيه لما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((وليرح ذبيحته)) والإسراع نوع راحة له.
ومنها: الذبح في الشاة والبقر، والنحر في الإبل، ويكره القلب في ذلك لما ذكرنا فيما تقدم، والله عز شأنه أعلم (1) .
ومنها: أن يكون ذلك من قبل الحلقوم، ويكره قبل القفا لما مر (2) .
ومنها: قطع الأوداج كلها، ويكره قطع البعض، دون البعض لما فيه من إبطاء فوات حياته.
ومنها: الاكتفاء بقطع الأوداج ولا يبلغ به النخاع، وهو العرق الأبيض الذي يكون في عظم الرقبة، ولا يبان الرأس، ولو فعل ذلك يكره لما فيه من زيادة إيلام من غير حاجة إليها، وفي الحديث: ((ألا لا تنخعوا الذبيحة)) والنخع القتل الشديد حتى يبلغ النخاع.
ومنها: أن يكون الذابح مستقبلا القبلة، والذبيحة موتجهة إلى القبلة، لما روينا، ولما روي أن الصحابة، رضي الله عنهم، كانوا إذا ذبحوا استقبلوا القبلة، فإنه روي عن الشعبي أنه قال: كانوا يستحبون أن يستقبلوا القبلة، وقوله: "كانوا" كناية عن الصحابة رضي الله عنهم، ومثله لا يكذب، ولأن المشركين كانوا يستقبلون بذبائحهم إلى الأوثان فتستحب مخالفتهم في ذلك باستقبال القبلة التي هي جهة الرغبة إلى طاعة الله عز شأنه، وذلك مندوب إليه في غير الصلاة، فلهذا كان تركه موجبا للكراهة غير مفسد للذبحة (3)
ويكره: أن يقول عند الذبح: اللهم تقبل من فلان، وإنما يقول ذلك بعد الفراغ من الذبح، أو قبل الاشتغال بالذبح ... هكذا روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله، عن حماد عن إبراهيم، وكذلك قال أبو يوسف: ادع بالتقبل قبل الذبح إن شئت أو بعده.
__________
(1) السرخسي- المبسوط: 12/ 3
(2) السرخسي- المبسوط: 12/ 3
(3) العيني- البناية على الهداية: 9/ 46(10/469)
- وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((موطنان لا أذكر فيهما: عند العطاس، وعند الذبح)) . وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: "جردوا التسمية عند الذبح ". ولو قال ذلك لا تحرم الذبيحة، لأنه ما ذكر اسم غير الله عز شأنه على سبيل الإشراك، لكنه يكره لتركه التجريد من حيث الصورة.
- فإن قيل: أليس أنه ((روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته)) .
فالجواب: أنه ليس فيه أنه ذكر مع اسم الله تعالى جل شأنه نفسه عليه الصلاة والسلام، أو أمته، فيحتمل أن ضحى بأحدهما وذكر اسم الله تعالى ونوى بقلبه أن يكون عنه، وضحى بالآخر وذكر اسم الله تعالى ونوى بقلبه أن يكون عن أمته، وهذا لا يوجب الكراهة.
ويكره له بعد الذبح قبل أن تبرد أن ينخعها أيضا، وهو أن ينحرها حتى تبلغ النخاع. قاله صاحب الهداية.
ويكره له: أن يسلخها قبل أن تبرد، لأن فيه زيادة إيلام لاحاجة إليها.
فإن نخع أو سلخ قبل أن تبرد فلا بأس بأكلها لوجود الذبح بشرائطه.
ويكره: جرها برجلها إلى المذبح، لأنه إلحاق زيادة ألم بها من غير حاجة إليها في الذكاة.(10/470)
وروي عن ابن سيرين عن سيدنا عمر رضي الله عنهما، أنه رأى رجلا يسوق له شاة ليذبحها سوقا عنيفا، فضربه بالدرة ثم قال له: سقها إلى الموت سوقا جميلا، لا أم لك.
ويكره: أن يضجعها ثم يحد شفرته بين يديها، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته وهي تلاحظه فقال عليه الصلاة والسلام: ((أوددت أن تميتها موتات؟ ألا حددت الشفرة قبل أن تضجعها)) (1) .
قوله صلى الله عليه وسلم: "أن تميتها موتات " أي مرات عديدة.
فإن قلت: كيف يكون ذلك ولا يعلم الحيوان بذبحه، لأنه لا عقل له؟
قلت: هذا سؤال ساقط, وفيه سوء أدب؟ لأنه الوهم في ذلك كاف وهو موجود فيه, والعقل يحتاج إليه لمعرفة الكليات, وما نحن فيه فليس منها.
وأجاب السرخسي في المبسوط: بأن الحيوان يعرف ما يراد منه كما جاء في الخبر:
أبهمت البهائم إلا عن الأربعة خالقها ورازقها وضعفها وشقائها. فإذا كانت تعرف ذلك وهو يحد الشفرة عندها كان فيه زيادة ألم غير محتاجة إليه، ولهذا قيل: يكره أن يذبح شاة والأخرى تنظر إليها، وروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه، أنه رأى رجلا قد أضجع شاة ووضع رجله على صفحة وجهها وهو يحد الشفرة، فضربه بالدرة فهرب الرجل وشردت الشاة.
ولأن البهيمة تعرف الآلة الجارحة كما تعرف المهالك فتتحرز عنها، فإذا حد الشفرة وقد أضجعها يزداد ألمها.
وهذا كله لا تحرم به الذبيحة؛ لأن النهي عن ذلك ليس لمعنى في المنهي، بل لما يلحق الحيوان من زيادة ألم لا حاجة إليه، فكان النهي عنه لمعنى في غير المنهي عنه، وأنه لا يوجب الفساد كالذبح بسكين مغصوب، والاصطياد بقوس معضوب (2) .
والحاصل أن ما فيه زيادة إيلام لا يحتاج إليه في الذكاة: مكروه.
__________
(1) وهذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك، في الضحايا، عن حماد بن زيد عن عاصم عن عكرمة عن ابن عباس، رضي الله عنهم.
(2) الكاساني- بدائع الصنائع: 5/ 60- 61(10/471)
الحكمة من تحريم الميتة
ولئن قيل: ما هو الفقه في تحريم ما مات حتف أنفه؟ وهو المتبادر من لفظ الميتة عند الإطلاق، وما هو في معناه كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع منها إذا لم تذك، أي يجهز عليها بقصد الأكل.
- وما هو الفرق بين الصيد يأتي به الكلب المعلم ميتا فيكون حلالا، وبين ما أكل السبع منه فمات ولم تدرك ذكاته؟
وما ضرب الإنسان بعصا أو حجر فمات كذلك ولم يذك القصد؟
وما الحكمة في جعل القصد محللا؟
الجواب عن ذلك: فيما يظهر لنا بعد اعتبار تعظيم شأن القصد في الأمور كلها ليكون الإنسان معتمدا على كسبه وسعيه، وهو الحكمة الأولى في ذلك، وهو أن الميت حتف نفسه يغلب أن يكون قد مات في مرض أو أكل نبات سام، وبذلك يكون لحمه ضارا كلحم الخنزير، فإن هذا قد حرم لضرره فهذه حكمة ثانية.
والحكمة الثالثة:- غير اعتبار القصد وخوف الضرر- وهي أن الطباع السليمة تستقذر الميت حتف أنفه ولا تعده من الطيبات، والدين يربي الإنسان على شرف النفس، ولذلك أحل له الطيبات، وحرم عليه الخبائث. وأما ما هو في معنى الميتة حتف أنفها من المنخنقة والموقوذة فيظهر في علة تحريمه كل ما ذكر إلا حكمة توقع الضرر في الجسم، فيظهر فيه بدلها تنفير الناس عن تعريض البهيمة إلى الموت بإحدى هذه الميتات القبيحة في حال من الأحوال، وأن يعرفوا أن الشرع يأمر بالمحافظة على حياة الحيوان، وينهى عن تعذيبه، أو تعريضه للتعذيب، ويعاقب من تهاون في ذلك بتحريم أكل الحيوان عليه، إذا تهاون في حفظ حياته.(10/472)
الحكم في مشروعية التسمية في الذبح والإرسال
وقال ولي الله الدهلوي:
واعلم أن ههنا أمور مهمة تحتاج إلى ضبط الحدود، وتمييز المشكل:
منها أن المشركين كانوا يذبحون لطواغيتهم ويتقربون به إليها، وهذا نوع من الإشراك، فاقتضت الحكمة الإلهية أن ينهى عن هذا الإشراك، ثم يؤكد التحريم بالنهي عن تناول ما ذبح لها ليكون كابحًا عن ذلك الفعل, وأيضا فإن قبح الذبح يسري في المذبوح، ثم المذبوح للطواغيت أمر مبهم ضبط بما أهل لغير الله به، وبما ذبح على النصب، وبما ذبحه غير المتدين بتحريم الذبح بغير اسم الله، وهم المسلمون وأهل الكتاب، وجر ذلك أن يوجب ذكر اسم الله عند الذبح، لأنه لا يتحقق الفرقان بين الحلال والحرام بادي الرأي إلا عند ذلك.
وأيضا فإن الحكمة الإلهية لما أباحت لهم الحيوانات - التي هي مثلهم في الحياة وجعل لهم الطولى عليها- أوجبت أن لا يغفلوا عن هذه النعمة عند إزهاق أرواحهم، وذلك أن يذكروا اسم الله عليها، وهو قوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34] .
ومنها: أن الميتة حرام في جميع الملل والنحل.
أما الملل فاتفقت عليها لما تلقّى من حظيرة القدس أنها من الخبائث.
وأما النحل فلما أدركوا أن كثيرا منها يكون بمنزلة السم؛ من أجل انتشار أخلاط سمية تنافي المزاج الإنساني عند النزع، ثم لا بد من تمييز الميتة عن غيرها، فضبط بما قصد إزهاق روحه بالأكل، فجر ذلك إلى تحريم المتردية والنطيحة وما أكل السبع ... فإنها كلها خبائث مؤذية.
ومنها: أن العرب واليهود كانوا يذبحون وينحرون، وكان المجوس يخنقون ويبعجون (يشقون البطون) ، والذبح والنحر سنة الأنبياء، عليهم السلام، توارثوهما، وفيهما مصالح (1)
__________
(1) الدهلوي- حجة الله البالغة: 2/ 168(10/473)
الخاتمة
وبعد:
فقد تحصل لدينا أن التذكية أمر تعبدي، لا كما ذهب إليه صاحب المنار، ومن تأثر برأيه من بعض الفضلاء المعاصرين- وأن التسمية على الذبح والإرسال مطلوبة شرعا بصريح النص من الكتاب والسنة، والمسلم يذبح بدينه وكذلك الكتابي، والإسلام شرع الرفق بالحيوان قبل الذبح وبعده بما لا يوجد في ملة سواه، ولا في قانون وضعي، كما سن آداباً على جانب من الأهمية، يحسن أن تلحظ في التوصيات التي يصدرها المؤتمر نتيجة المناقشات.
- والتذكية في المذابح الآلية الحديثة أقرب إلى الذبح الاضطراري منه إلى الذبح الاختياري، نتيجة ضرب الحيوان أو صعقه بالكهرباء قبل الذبح، بحيث يوصف بالموقوذة والمتردية والنطيحة.
ولا بد من بقاء الروح في الحيوان المذكى على هذا الوجه بما يوصف (فوق حياة المذبوح) وألا كان ميتة يحرم تناولها ...
آملين أن تتوصل دول العالم الإسلامي إلى الاستغناء عن مثل هذه الذبائح، خروجاً من الخلاف، واستبراء لدين المسلمين، وتجنبا لمواطن الشبه.
والله من وراء القصد
الشيخ خليل محيي الدين الميس(10/474)
قائمة بأهم المصادر والمراجع
ا- أحكام القرآن، ابن العربي
2- أحكام القران، الجصاص
3- بدائع الصنائع، الكاساني
4- معالم السنن، الخطابي
5- المبسوط، السرخسي
6- الجامع لأحكام القران، القرطبي
7- صحيح البخاري
8- صحيح مسلم
9- الموطأ، الإمام مالك
10- سنن البيهقي
11- سنن ابن ماجه
12- المستدرك، الحاكم
13- مصنف عبد الرزاق
14- مختصر المزني
15- الفتاوى الهندية
16- حجة الله البالغة، الدهلوي
17- المنار
18- الحاوي الكبير، الماوردي
19- الاستذكار، ابن عبد البر
20- المنتقى، الباجي
21- البناية على الهداية، العيني.
22- أوجز المسالك، الكاندهلوي.(10/475)
الذبائح
العرض- التعقيب- المناقشة
العرض
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في هذه الجلسة الصباحية المباركة- إن شاء الله- نستعرض موضوع الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاة، والآن الشيخ محمد تقي الدين العثماني يعطي عرضًا عن بحثه، ونرجو أن يكون في حدود عشرين دقيقة: الشيخ محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فموضوع الذبائح والطرق الشرعية لإنجاز الذكاة ليس موضوعا جديدا، وإنما هو مبسوط في كتب الفقه الإسلامي كل البسط، ومن البدهي أنه ليس المقصود من عرض هذا الموضوع على المجمع الكريم استقصاء جميع الأحكام المتعلقة بالذبائح، وإنما المقصود التعرض للأحكام التي تتعلق بالقضايا المستجدة والطرق الجديدة لإنجاز الذكاة والذبح. ومن هنا فإني قد فصلت بحثي على أقسام، وقد استحسنت أن أشرع في هذا البحث بالرد على قول شاذ خطير قد صدر من الشيخ المفتي محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا؛ من أن الذبح ليس من الأمور التعبدية وإنما هو من الأمور العادية، ويجوز للإنسان أن يتصرف فيه كيف ما شاء.
فهذا قول قد استغله بعض الناس للانخلاع عن ربقة التكليف بأسرها، فأردت أن أرد على هذا القول، والذي يكفي في الرد عليه هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله)) .(10/476)
وأصرح من ذلك رواية النسائي جاء فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها)) . فهذا الحديث يدل على أن الذبح من الشعائر الدينية التي يمتاز بها المسلم عن غيره, ولولا أن ذبح الحيوان له أحكام خاصة تعبدية لجاز كل حيوان قتله وثني أو مجوسي أو دهري، ولا ما اقتصر الحل على ذبيحة مسلم أو كتابي.
ومن هنا أصبحت أحكام الصيد والذبائح من أهم أبواب الفقه الإسلامي، وقد بسط الفقهاء هذه الأحكام، وهي مستمدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة.
وبعد هذا التمهيد، فإن التذكية الشرعية لها شروط، والشروط التي تهمنا في يومنا هذا هي ثلاثة:
الشرط الأول: هو طريق إزهاق الروح.
الشرط الثاني: ذكر اسم الله تعالى عند الذبح.
الشرط الثالث: كون الذابح مسلما أو كتابيا.
فأما طريق إزهاق الروح، فقد اتفق الفقهاء على أن في الذكاة الاختيارية يجب أن يقع إزهاق الروح عن طريق محدد، وبما يفري الأوداج أو يقطع العروق، والعروق هي أربعة وهي: الحلقوم، والمريء، والودجان. وربما يتوسع بعض الفقهاء في استعمال كلمة الأوداج لجميع هذه الأربعة. ثم قد اختلف الفقهاء فيما إذا قطع بعض هذه العروق ولم يقطع بعضها؛ على أقوال معروفة فيما بين أهل العلم، فمنهم من قال: إنه يجب أن يقطع الحلقوم والمريء، ومنهم من قال: إنه يجب أن يقطع أكثرها، ومنهم من قال: إن الودجين لابد من قطعهما؛ اختلافات.
فإنه يتبين أن جميع الفقهاء مطبقون على أن فري الأوداج أو قطع العروق هو لازم لإنجاز الذكاة الاختيارية الشرعية, وقد ثبت ذلك بعدة أحاديث ذكرتها في البحث، وهي معروفة عن أهل العلم.(10/477)
أما إذا وقع إزهاق الروح بغير قطع الأوداج فلا تحصل به الذكاة الشرعية في الحيوان المقدور عليه، لأنه داخل إما في المنخنقة أو الموقوذة أو في النطيحة، لأن الله- سبحانه وتعالى- حين قال: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3] فإن النطيحة من الحيوانات التي ينطحها حيون آخر فيسيل الدم، وربما يسيل الدم من مذابحها، ولكن صرح القرآن الكريم بحرمتها؛ فظهر بذلك أن الحيوان لا يحل بمجرد سيلان الدم ولو من مذابحه، إنما يجب أن يسيل الدم بطريق شرعه الله- سبحانه وتعالى- للتذكية.
هذا ما يتعلق بطريق إزهاق الروح.
والمسألة المهمة هي شرط التسمية عند الذبح, والمعروف أن جمهور الفقهاء يشترطون لحل الذبيحة أن يسمي الذابح عليها اسم الله تعالى، فلا تحل ذبيحة من ترك التسمية عامدا عند أبي حنيفة ومالك وأحمد وجمهور الفقهاء, أما إذا نسيها فالذكاة معتبرة عند الحنفية والمالكية ولا فرق عندهم في هذا بين الذبيحة والصيد، أما عند الحنابلة فالنسيان معفو عنه في الذكاة الاختيارية فقط، أما في الصيد فلا تعتبر الذكاة إذا لم يذكر الصائد اسم الله عند إرسال السهم أو الكلب، سواء أتركها عمدا أم نسيانا.
وقد اشتهر عن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى- أنه يقول بجواز متروك التسمية عامدا, ولكن الذي يظهر من مراجعة كتاب (الأم) للإمام الشافعي- رحمه الله- أنه لم يصرح بحل متروك التسمية عمدا، وإنما صرح بحل ما نسي الذابح ذكر الله عليه، وعبارته مايلي: "وإذا أرسل الرجل المسلم كلبه أو طائره المعلمين أحببت له أن يسمي، فإن لم يسم ناسيا فقتل أكل، لأنهما إذا كان قتلهما كالذكاة، فهو لو نسي التسمية في الذبيحة أكل، لأن المسلم يذبح على اسم الله عز وجل وإن نسي ". فهنا ذكر الإمام الشافعي- رحمه الله- حالة النسيان، ولم يذكر حالة التعمد.(10/478)
ثم إن الإمام الشافعي- رحمه الله- صرح فيما بعد بأن من يترك التسمية عند الذبح استخفافا لا يحل أكل الذبيحة، فقد ذكر رحمه الله في معرض ما هو مسلم عنده: "إن المسلم إن نسي اسم الله تعالى أكلت ذبيحته، وإن تركه استخفافا لم تؤكل ذبيحته ".
وقد صرح بعض العلماء بأن الفقهاء أجمعوا على ذلك، فقد جاء في التفسير المظهري نقلا عن شرح المقدمة المالكية: "وكل هذا في غير المتهاون، وأما المتهاون فلا خلاف أنها لا تؤكل ذبيحته تحريما، قاله ابن الحارث والبشير، والمتهاون هو الذي يتكرر منه ذلك كثيرا. والله أعلم ". وهذه العبارات تدل على أن مذهب الإمام الشافعي- رحمه الله- ليس على إطلاق الحل فيما تعمد ترك التسمية عليه، وإنما تحرم الذبيحة عنده إذا ترك عليها التسمية تهاونا واستخفافا، وجعله الرجل عادة له.
ومفاد ذلك أن حكم الحل مقتصر عنده على من ترك التسمية مرة أو مرتين اتفاقا، لا تهاونا واستخفافا، وفي تلك الصورة أيضا لا يخلو ذلك من كراهة، لأنه قال:"أحببت له أن يسمي "، وقد صرح فقهاء الشافعية بأن ترك التسمية عمدا مكروه، وأنه يأثم به التارك.(10/479)
وبهذا ظهر أن متروك التسمية عمدا حرام عند الحنفية والمالكية والحنابلة، وحرام عند الشافعي- رحمه الله- أيضا إذا كان ذلك استخفافا وتهاونا، وصار كالعادة للذابح وما وقع اتفاقا، فإنه لا يحكم بحرمته عنده، ولكنه لا يخلو من كراهة. وهذه الرخصة أيضا لا تساندها نصوص القرآن والسنة، حيث تظافرت الآيات والأحاديث على اعتبار التسمية ركنا من أركان الذكاة الشرعية.
قال الله سبحانه وتعالى {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وهذه الآية من أصرح ما يكون في الموضوع, ولم يقع هذا التحريم مرة واحدة في القرآن، وإنما تتابعت الآيات في جعل اسم الله تعالى ركنا من أركان الذبح الإسلامي، فقال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34]
{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]
{وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ} [الأنعام: 138]
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 119](10/480)
وهذه الآيات كلها تدل بأساليب مختلفة أن ذكر اسم الله تعالى من أهم العناصر التي تحل للمسلم أكل لحم الحيوان، ولم يكتف القرآن ببيان ذلك في آية أو آيتين، وإنما ذكر هذا الركن في كل من الذبيحة، والصيد، والأضحية بصفة مستقلة، وأنكرعلى من يتركه إنكارا بليغا، فجعله افتراء على الله، وأنكر أيضا على من لا يستحل الذبيحة التي ذكر اسم الله عليها، مما يدل على أنه من أعظم الشروط للذكاة الشرعية.
وكذلك تكاثرت الأحاديث على اعتبار التسمية شرطا وركنا من أركان الذبيحة الشرعية، وقد سردت هذه الأحاديث في بحثي، وهي تسعة أحاديث وهي معروفة لديكم.
وإن هذه النصوص من الكتاب والسنة تدل على مدى التأكيد والتركيز على ذكر اسم الله تعالى عند الذبح، وإن النص الواحد من هذه النصوص كان كافيا لبيان أن التسمية ركن من أركان الذبح، ولكن الشارع لم يكتف ببيان هذا الحكم مرة واحدة، وإنما جاء به مرارا وتكرارا في عدة مناسبات وبأساليب مختلفة، وما ذلك إلا لأهميته البالغة ولكونه شرطا قطعيا لحصول الذكاة الشرعية في الحيوان.(10/481)
أما حالة النسيان فقد استثنيت بالأدلة العامة وببعض الأحاديث التي استثني فيها حالة النسيان في موضوع الذبح بنفسه، وجئت بهذه الأحاديث وتكلمت على إسنادها، وهي موجودة في بحثي.
وإزاء هذه الآيات والأحاديث المتكاثرة، من يستدل بحل ترك التسمية عمدا ربما يستدل بقول الله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، قائلا إن الله - سبحانه وتعالى- أطلق التذكية ولم يقيدها بالتسمية, لكن هذا الاستدلال ضعيف بالمرة، لأن الله- سبحانه وتعالى- استعمل كلمة (الذكاة) ، والذكاة بمعناها الشرعي يشمل شرط التسمية، والحديث الذي يستدل به من يحل متروك التسمية هو حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها- أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوه)) ، وقالت: كانوا حديثي عهد بالكفر. وهذا لفظ البخاري. ولكن هذا الحديث لا يتم به الاستدلال على حقة على ما علم فيه باليقين أن ذابحه ترك التسمية عمدا، لأن غاية هذا الحديث حمل فعل المسلم على الوجه الصحيح، ومفاده أن المسلم إن قدم لحما أو طعاما فالظاهر أنه حلال مذبوح بطريقة شرعية، فيحمل على الظاهر، ونحن مأمورون بإحسان الظن بكل مسلم، فلا يجب البحث عن طريقة ذبحه ما لم يتبين أنه ذبحه بطريقة غير مشروعة. وإن هؤلاء القوم الذين وقع السؤال منهم كانوا مسلمين وإن كانوا حديثي عهد بالكفر، كما صرحت به عائشة - رضي الله عنها- فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل فعلهم على الظاهر، وهو أنهم ذكرو اسم الله عليه، ولا يلزم منه حل الذبيحة إذا تيقن الرجل أن ذابحها ترك التسمية متعمدا. فالحديث في حكم هذه الحالة، وأين ذلك من الحالة التي نعلم فيها بيقين أن الذابح ترك التسمية عن قصد وعمد وكيف تقاس الحالة الثانية على الأولى؟(10/482)
ثم الشرط الثالث لحل الذبيحة هو أن يكون الذابح إما مسلما أو كتابيا، وقد شذ بعض المعاصرين فقالوا: إن الحرمة مقتصرة على ذبيحة الوثنيين من أهل العرب، وأباح ذبيحة سائر الكفار غيرهم- سواء أكانوا وثنيين أم ملحدين أم دهريين أم عبدة النار، وهذا قول خاطئ لا عهد به في الكتاب والسنة ولا في أقوال السلف رحمهم الله تعالى , وقد رددت على هذا القول بشيء من التفصيل.
أما ذبائح أهل الكتاب فقد صرح القرآن الكريم بحل ذبيحتهم، وهو كلمة الإجماع فيما بين الفقهاء من أجل هذا النص، ولكن المسألة في ذبائح أهل الكتاب هي هل يشترط في ذبح أهل الكتاب ما يشترط في ذبح المسلمين من فري الأوداج ومن الآلة المحددة ومن ذكر اسم الله تعالى؛ هذه المسألة تحتاج إلى دراسة بالنظر إلى ما ادعى بعض المعاصرين من حل ذبيحتهم بقطع النظر عن الطريق الذي اختاروه لذلك. وهذه المسألة قد قسمتها إلى شقين: الشق الأولى: هل يجب لحل ذبيحة أهل الكتاب أن يذبحوا الحيوان بطريقة مشروعة للذبح من فري الأوداج بآلة محددة؟
الشق الثاني: هل يجب أن يذكروا اسم الله تعالى عند الذبح؟(10/483)
فالشق الأول فالجمهور من الفقهاء على أن ذبيحة الكتابي إنما تحل إذا ذكاها بقطع العروق اللازمة بآلة محددة، وهو الحق الثابت بالأدلة الناطقة التي ذكرتها في هذا البحث، والحمد لله، ولكن زعم بعض المعاصرين أن ذبيحة الكتابي حلال بأي طريق قتلها ذلك الكتابي، لأنه داخل في عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، وتمسكوا في ذلك بقول القاضي ابن العربي - رحمه الله- حيث قال في أحكام القرآن: "ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها: هل يؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه؛ وهي المسألة الثامنة. فقلت: تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا، إلا ما كذبهم الله سبحانه وتعالى".(10/484)
ولكن هذا القول الغريب من ابن العربي - رحمه الله- متعارض تمام التعارض مع الأصل الذي ذكره هو نفسه في نفس الكتاب قبل نحو صفحة من هذه العبارة، وعبارته هناك ما يلي:
"فإن قيل: فما أكلوه (أي أهل الكتاب) على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس؟ فالجواب أن هذه ميتة، وهي حرام بالنص، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن، كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم، وهو حرام علينا، فهذه مثله، والله أعلم ".
وهذا تعارض صريح في عبارتي ابن العربي، ومتى وقع التعارض بين عبارتين، فالأجدر بالقول ما هو ثابت بالنصوص، ومؤيد بتعامل الأمة، وهذا القول رددت عليه بعدة دلائل:
ا- إن الله سبحانه وتعالى قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، فحرم المنخنقة والموقوذة على الإطلاق, فيشمل كل ما مات بالخنق والوقذ، بالرغم من ديانة خانقه أو واقذه، فمن يستدل بعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] على كون مخنوقة الكتابي أو موقوذته حلالا، يلزمه أن يقول بحل الخنزير الذي ذبحه كتابي، لأنه من جملة (طعام أهل الكتاب) ، فإن تمسك بالآية المذكورة في حرمة لحم الخنزير، فإن نفس الآية تحرم المنخنقة والموقوذة، ولا سبيل إلى التفريق بينهما.(10/485)
2- وقد تقرر في أصول الفقه أنه متى ورد حكم على اسم مشتق، فمادة اشتقاقه هي العلة لذلك الحكم, مثلا إذا قلنا: "أكرموا العلماء"، فإن حكم الإكرام ورد على "العلماء" الذي هو اسم مشتق، فمادة اشتقاقه، وهي العلم، علة للإكرام، وهذا واضح مسلم, فإذا ورد حكم الحرمة في آية المائدة على "المنخنقة" و"الموقوذة" فإن الخنق والوقذ علة لهذا الحكم.
وإن ذلك يدل على أنه متى وجد الخنق والوقذ، ثبت حكم الحرمة، ولا تأثير في ذلك لديانة الخانق أوالواقذ.
3- غاية ما يثبت من قول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] أنهم في أمر الذبائح في حكم المسلمين سواء بسواء، لا أنهم يفوقون المسلمين حتى يحل منهم ما يحرم من المسلمين، ونتيجة قول ابن العربي أن تكون للكفار مزية على المسلمين من حيث إن ما يقتلونه بأي طريق حلال طيب, وما يقتله المسلم بنفس الطريقة حرام , وهذه النتيجة باطلة بالبداهة.
4- من المسلم في الأمة الإسلامية أن الكفار كلهم ملة واحدة، وكان هذا الأصل يقتضي أن يكون أهل الكتاب مثل الكفار الآخرين في تحريم ذبيحتهم، ولكن الشريعة الإسلامية ميزت أهل الكتاب من بين سائر الكفار في أمر الذبيحة والمناكحة، لأن أحكام الذبح والنكاح عندهم كانت مماثلة لأحكام الإسلام في كلا الأمرين, فكانوا يراعون في الذبح نفس الشروط التي فرضها الإسلام على المسلمين, وهذه الأحكام موجودة حتى الآن في كتبهم المقدسة، بالرغم من التحريفات الكثيرة التي وقعت فيها. وإليكم بعض النصوص من كتابهم المقدس:
جاء في سفر اللاويين- الذي قد يسمى سفر الأحبار-:
"وأما شحم الميتة وشحم المفتَرَسة، فيستعمل لكل عمل لكن أكلا لا تأكلوه ".(10/486)
وجاء في سفر الاستثناء:
"وأما ذبائحكم فيسفك دمها على مذبح الرب إلهك واللحم تأكله، احفظ واسمع جميع هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها لكي يكون لك ولأولادك من بعدك خير إلى الأبد إذا عملت الصالح والحق في عيني الرب إلهك ".
وهذان الكتابان يعترف بهما كل من اليهود والنصارى.
أما كتب النصارى فقط، فقد جاء في سفر أعمال الرسل- المنسوب إلى لوقا-:"لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلا أكثر، غير هذه الأشياء الواجبة، أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق، والزنا". وجاء مثل ذلك في كتب أخرى.
وإن بولوس- الذي هو رسول في زعم النصارى، وهو المقتدى عندهم- يكتب في رسالته الأولى إلى أهل كورنيوس:
"بل إن ما يذبحه الأمم فإنما يذبحونه للشياطين لا لله، فلست أريد أن تكونوا أنتم شركاء الشياطين، لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب , كأس الشياطين، لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة شياطين ". ويجدر بالذكر أن بولوس هو الشخص الذي حكم- بالرغم من نصوص سيدنا عيسى عليه السلام- بنسخ جميع أحكام التوراة في حق النصارى، ومع ذلك فإنه أبقى الأحكام المتعلقة بالذبح محكمة غير منسوخة، فحرم الحيوان المخنوق، وأوجب أن يكون الذبح لله تعالى.(10/487)
وبهذا يتبين أن أحكام الذبح في أصل دين النصارى كانت باقية على نحو ما كانت عند اليهود, وكذلك كتب اليهود مملوءة بالأحكام التفصيلية للذبح, وجاء في كتاب مشنا، وهو المرجع الأساسي للأحكام المشروعة عند اليهود:
"إن ذبح المرء بشفرة يدوية أو بزجاج حاد أو بقصب، فإن ما يذبحه حلال, كل أحد يستطيع أن يذبح وفي أي وقت وبأية أداة، إلا بالمحصدة أو بالمنشار أو بالسن، أو بظفر الأصابع لأنها تخنق ".
وقد ذكرت بعض العبارات من كتب اليهود في بحثي، أنهم يوجبون مثل هذه الشروط وهذا يدل.
أولا: على أن المنخقة والموقوذة حرام في شريعتهم كما هو حرام في شريعتنا.
ثانيا: الظاهر أنهم يوجبون أن يكون الذبح لله، وبعبارة أخرى يذكر اسم الله، كما يظهر من رسالة بولوس إلى كورنثيوس والتي ذكرتها قبل قليل.
ثالثا: إن ابن العربي - رحمه الله- حينما أفتى بحل الدجاجة التي فتل نصراني عنقها في العبارة المنقولة من أحكام القرآن- إن صحت نسبتها إليه- فإنما أفتى على زعم منه أن المخنوقة حلال عند النصارى، لأنه علل هذه المسألة بقوله: "وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا"، وقد تبين من النصوص النصرانية أن زعمه هذا خاطئ، فإن كتبهم المقدسة تصرح بكون المخنوق حراما، كما حكينا في سفر أعمال الرسل.
رابعا: يتبين من هذه العبارات ما قاله الحافظ ابن كثير - رحمه الله- حيث قال: "وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه ".
خامسا: نظرًا إلى ما سردنا من النصوص النصرانية يتحصل من حلة المخنوقة والموقوذة بيد نصراني أنه لو كان الخانق أو الواقذ مسلما، فإن الحيوان حرام، ولو خنقه نصراني فإن الحيوان حرام في دين النصارى أيضا، ولكن لو أخذنا بقول ابن العربي يتحصل منه أن يكون حلالا للمسلمين، وإن كان حراما للنصارى.
فكأن كون الخانق من الكفار مزية تبرز أفعاله التي هي محظورة في شريعتنا وفي شريعتهم جميعًا, وإن هذه النتائج الباطلة بالبداهة إنما تحصل إذا قلنا: إن ما قتله أحد من أهل الكتاب حلال للمسلمين، ولو قتله بطريق غير مشروع, وما يؤدي إلى مثل هذه النتائج الباطلة باطل.
سادسا: إن ما يتميز به اليهود والنصارى بين سائر الكفار أمران: الأول: حل ذبيحتهم. والثاني: حل مناكحة نسائهم.(10/488)
ولئن وقع النكاح بامرأة من أهل الكتاب على غير طريق المسلمين، مثل نكاح إحدى المحرمات، أو النكاح بغير شهود، أو بغير الإيجاب والقبول المشروعين، لا يقول بحله أحد، فتبين أن حلة نساء أهل الكتاب مشروطة بأن يقع العقد بطريق مشروع عند المسلمين، ولو وقع العقد بطريق غير مشروع فلا يصح الاستدلال على حلته بقول الله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُم} [المائدة: 5] ، فكيف لا تكون حقة ذبائحهم مشروطة بأن يقع الذبح بطريق مشروع؟ ولئن وقع ذبحهم بطريق غير مشروع مثل الخنق والوقذ، فكيف يصح الاستدلال على حلته بقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]
مع أن كلا الحكمين مقترنان في نسق واحد.
سابعا: أن حرمة الميتة والمنخنقة والموقوذة ثابتة بالنص القطعي المطلق، فإن فقهاء الأمة أطبقوا على حرمتها، ولو كان الخانق أو الواقذ من أهل الكتاب. ولم يقل أحد بحل المخنوقة أو الموقوذة بيد كتابي- فيما نعلم- إلا ابن العربي في عبارته المذكورة في نفس الكتاب، أفتترك نصوص الكتاب والسنة والأدلة القوية التي ذكرناها؛ بمجرد فتوى شاذة لابن العربي، في حين أنها متناقضة، وفي حين أنها مبنية على زعم المخنوقة حلال في دين النصارى، وقد تبين خطؤه بنصوص كتبهم المقدسة.
ثم تعرضت للمسألة الثانية، وهي أنها هل يشترط للكتابي أن يسمي الله تعالى؟ وهل تحل ذبيحته إذا لم يسم؟ فهناك أقوال للفقهاء ذكرتها، والجمهور على أنه يشترط في الكتابي أيضا أن يسمي الله تعالى عند الذبح، ولكن ذهب المالكية إلى أنه إنما تشترط التسمية في حق المسلم، ولا تشترط في حق الكتابي، فإذا ذبح الكتابي ولم يسم الله تعالى فإن الذبيحة حلال عند المالكية.
وقد ذكرت أن الراجح المؤيد بالنصوص، هو أنه يشترط التسمية للكتابي كما أنه يشترط للمسلم، ولكن قضية ترك التسمية أخف بالنسبة إلى مسألة الخنق والوقذ، من جهة أن حرمة متروك التسمية من ذبائح أهل الكتاب مسألة مجتهد فيها، أما مسألة الخنق والوقذ فهي مسألة إجماعية ليست محل اختلاف.(10/489)
ثم تعرضت إلى أن الذين يسمون أنفسهم نصارى بعضهم دهريون وماديون لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى فهؤلاء لا يدخلون في مفهوم أهل الكتاب إذا تبين في أحد بعينه أنه لا يؤمن بالله تعالى وهو متسم باسم نصراني فقط، أما إذا وجدنا رجلا أنه يتسمى باسم النصرانية ويعلن بكونه نصرانيا، فنحمله على ظاهره، ولا نقول بأن ذبيحته حرام ما لم يتبين أنه قد ترك دين النصرانية وكفر بالله سبحانه وتعالى.
ثم تعرضت لحكم ما جهل ذابحه، وأترك هذا الموضوع لضيق الوقت ولأنه موجود في كتب الفقه.
وأخيرا تعرضت لمسألة الذبح الآلي: وهذه هي قضية العصر. والطرق الآلية المستخدمة للذبح هي تتنوع في ذبح الدجاج وفي ذبح الأغنام والبقر وغيرهما.(10/490)
أما الطريق الذي يستخدم في ذبح الدجاج- وقد شاهدته في عدة أماكن- أن الجهاز الواحد، وهو كبير جدا، يتكفل جميع مراحل الذبح والإنتاج، بحيث يدخل فيها الدجاج من طرف واحد، ويخرج لحمه الصافي معلبا من الطرف الآخر, وجميع المراحل ما بين ذلك؛ من ذبحه، ونتف ريشه، وإخراج أمعائه، وتنظيف لحمه، وتقطيعه وتعليبه؛ تتم بواسطة الجهاز الكهربائي, وإن هذا الجهاز يحتوي على قضيب حديدي طويل ينصب في عرض القاعة ما بين الجدارين، وإن هذا القضيب في أسفله علاقات كثيرة تتجه عراها إلى الأرض, فيؤتى بمئات من الدجاج في شواحن كبيرة، ثم يعلق كل دجاج برجليه، بحيث تعلق رجلاه في عروة العلاقة، وسائر جسمه معلق معكوسا، بمعنى أن حلقومه ومنقاره متجهان إلى الأرض.
وإن هذه العلاقات تسير على العمود مع الدجاج المعلق، حتى تأتي إلى منطقة ينصب فيها الماء البارد من فوق في صورة شلالة صغيرة، فتمر بهذا الدجاج من خلالى الماء البارد, والمقصود بغمسها في الماء تنظيفها من الأدران، وفي بعض الحالات يحتوي هذا الماء على تيار كهربائي يخذر الدجاج,. ثم تأتي هذه العلاقات إلى منطقة وضع في أسفلها سكين دوار يدور بسرعة شديدة، وإن هذا السكين الدوار منصوب في مكان تصل إليه أعناق الدجاج المعلقة معكوسة، فحينما تأتي العلاقة في هذه المنطقة فإنها تدور حول هذا السكين الدوار بشكل هلالي، فتصل أعناق الدجاج إلى طرف هذا السكين الدوار دفعة واحدة وتمر عليه، فيقطع السكين حلقوم كل واحد منها تلقائيا.
ثم تتقدم العلاقات إلى الأمام، وقد فرغ الجهاز من قطع حلقوم الدجاجات المعلقة فيها, وبعد قليل تمر على منطقة ينصب فيها الماء من فوق مرة أخرى، ولكن هذا الماء حار، ومقصود المرور عليه نتف ريش الدجاج, ثم هناك مراحل أخرى من إخراج أمعائه وتصفيته وتقطيعه في نفس الجهاز، ولكن نترك ذكرها لكونها خارجة عن عملية الذبح المقصودة بالبحث هنا, والجدير بالذكر أن هذا الجهاز الكهربائي لايزال يسير طوال النهار، وأحيانا على مدار الساعة، لا يقف إلا في حالات استثنائية.(10/491)
وإن ما يحتاج إلى البحث في هذه الطريقة من الناحية الشرعية: أمور أربعة:
الأول: المرور على الماء البارد الذي فيه تيار كهربائي.
الثاني: قطع الحلقوم بالسكين الدوار.
الثالث: المرور على الماء الحار.
الرابع: كيف يتأدى واجب التسمية في هذا الطريق الميكانيكي؟
أما المرور على الماء البارد قبل قطع حلقوم الدجاج، فلا يستخدم هذا الطريق في جميع المسالخ، بل يستغنى عنه في كثير منها، وإن كان الماء البارد بدون أثر كهربائي فهذا لايؤثر في قضية الذبح، فإن كان في الماء أثر من الكهرباء، فإن ذلك لا يسبب موت الحيوان عادة، وإنما يخدر دماغه، والتخدير وإن كان يسبب انكماشا في القلب، فلا يخرج منه الدم عادة بذلك المقدار الذي يخرج من المذبوح بدون التخدير، ولكن مجرد ذلك لا يجعل الحيوان ميتة. ولكن إذا تحقق في حيوان بعينه أن هذه العملية سببت موته فلا يجوز أكله.
وأما الذبح بالسكين الدوار، فإن هذا السكين يشبه الرحى وأطرافه حادة، وإن هذا الرحى لايزال يدور بسرعة، وتميز على أطرافه أعناق الدجاج من جانب الحلقوم فتقطع تلقائيا، والظاهر أنه يقطع عروق الدجاج، ولكن قد يحدث أن تتحرك الدجاجة في العلاقة لسبب من الأسباب، فلا ينطبق عنق الدجاج على طرف السكين الدوار، فإما أن لا يقطع عنقه بتاتا، أو يقطع جزء قليل منه بحيث يقع الشك في قطع العروق، وفي كل من الحالتين لا تحصل به الذكاة الشرعية.(10/492)
أما قضية التسمية، فإنها صعبة جدا في استخدام هذا الطريق، فالمشكلة الأولى في تعيين الذابح، لأن التسمية إنما تجب على الذابح، حتى لو سمي رجل وذبح غيره لا يجوز، فالسؤال إذن، من هو الذابح في هذا الجهاز الميكانيكي؟ فيحتمل أن نقول: إن من شغل هذا الجهاز لأول مرة يعتبر ذابحا، لأن عمليات الأجهزة الكهربائية إنما تنسب إلى من شغلها، لأن الآلة ليست من ذوي العقول حتى ينسب إليها الفعل، فينسب الفعل إلى من استعملها، فيصير هو الفاعل بواسطة الآلة, ولكن المشكلة هنا: أن من يشغل هذا الجهاز في أول النهار مثلا، إنما يشغله مرة واحدة، ثم لايزال يسير الجهاز طول أوقات العمل، وفي بعض الأحيان على مدار الساعة، فيقطع أعناق آلاف من الدجاج, فإذا سمى من شغله في أول النهار مرة واحدة، فهل تكفي هذه التسمية الواحدة للآلاف من الدجاج التي تذبح بهذا التشغيل في سائر النهار؟ والظاهر من النص القرآني {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]
أن كل حيوان يحتاج إلى تسمية مستقلة يذبح بعدها على الفور، وعلى هذا الأساس استنبط الفقهاء أحكاما تدل على أنه يجب أن تكون التسمية على كل حيوان أو على كل فعل.
وذكرت هذه العبارات في بحثي , واستنتجت منها أن الجمهور من الأئمة الذين يشترطون التسمية عند الذبح يشترطون أن تقع التسمية على حيوان بعينه، وأن تكون عند الذبح، وألا يفصل بين التسمية وبين الذبح فاصل يعتد به، وهذه الشروط مفقودة في الطريق المذكور في الجهاز الميكانيكي، فإنه لو سمي من شغله لأول مرة لم يسم على حيوان بعينه، وقد وقع بين تسميته وبين ذبحه آلاف الدجاج فاصل كبير ربما يمتد إلى نهار كامل أو يومين، فالظاهر أن هذه التسمية لا تكفي لذكاة هذه الحيوانات بأجمعها.(10/493)
ثم رأيت في بعض المذابح من مذابح كندا أنهم أوقفوا رجلا عند السكين الدوار وهو لايزال يسمي (بسم الله الله أكبر) ، تحدثت عن هذه الآلة، وقلت: إن في كون تسميته معتبرة شرعا إشكالات آتية:
الأول: أن التسمية ينبغي أن تصدر من الذابح، وهذا الرجل الواقف أمام السكين الدوار لا علاقة له بعملية الذبح، فإنه لم يشغل الجهاز، ولا أدار السكين، ولا قرب الدجاجة إليه، وإنما هو رجل منفصل عن عملية الذبح تمام الانفصال، فتسميته ليست من الذابح.
الثاني: أن السكين الدوار تأتي إليه عدة دجاجات بفصل ثوان، ولا يمكن لهذا الرجل الواقف أن يسمي على كل واحد من هذه الدجاجات من غير فصل.
الثالث: أن هذا الرجل الواقف إنسان، وليس جهازا أوتوماتيكيا، فلا يستطيع أن لا ينشغل بأي عمل آخر دون التسمية، فربما تعرض له حاجات تشغله عن التسمية، وفي هذه الأثناء تمر عشرات من الدجاج على السكين الدوار.(10/494)
وهناك ملحظ آخر في موضوع التسمية على الجهاز الأوتوماتيكي، وهو أن نقيس تشغيل الجهاز الأوتوماتيكي على إرسال كلب الصيد، حيث لا تجب التسمية عند هلاك الصيد، وإنما تجب عن إرسال الكلب، وقد يكون بين الإرسال وبين هلاك الصيد فاصل كبير، وقد يهلك كلب الصيد عدة حيوانات في إرسال واحد، والظاهر أن التسمية الواحدة تكفي لحل جميعها. قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: وإن سمي الصائد على صيد فأصاب غيره حل، وإن سمى على سهم ثم ألقاه وأخذ غيره فرمى به لم يبح ما صاده به ".
وهذا، وإن كان متعلقا بالذكاة الاضطرارية، ومسألتنا تتعلق بالذكاة الاختيارية، ولا تقاس حالة الاختيار على حالة الاضطرار، ولكن إذا نظرنا إلى حاجة إكثار الإنتاج في أسرع وقت، وذلك لازدياد العمران، وتكاثر عدد المستهلكين، وقلة الذابحين، وإلى أن الشريعة إنما أسقطت اعتبار تعيين الصيد لمشقته، كما يقول ابن قدامة رحمه الله، والمعهود من الشريعة في مثله دفع الحرج، فإن ذلك قد يبدو مبررا لقياس حالة الاختيار على حالة الاضطرار في موضوع التسمية فقط، دفعا للحرض وتيسيرا على الناس, ولست أجزم بمدى قوة هذا الملحظ، ولكن أردت أن أطرحه للبحث أمام العلماء للبت في هذا الموضوع, ولم أفت بذلك حتى الان، وخاصة في حين أن عندنا بديلا مناسبا للسكين الدوار، وهو يلبي جميع حاجات الإنتاج في نفس الوقت، وذلك أن يزال السكين الدوار عن موضعه في الجهاز، ويقوم في محله أربعة أشخاص مسلمين يتناوبون في قطع حلقوم الدجاج مع ذكر اسم الله تعالى، كلما تمر عليهم العلاقات بالدجاج.(10/495)
وهذا أمر اقترحته على مذبح كبير في جزيرة ري يونين، فعملوا بذلك، وقد دلت التجربة على أن ذلك لم ينقص من كمية الإنتاج شيئا، وذلك لأن هؤلاء الأشخاص يقطعون حلقوم الدجاج في نفس الوقت الذي كان السكين الدوار يقطعه، وإن هذا الجهاز لا يغني عن استعمال الطاقة البشرية بالكلية، فقد شاهدنا أنهم اضطروا إلى تعيين رجال يقومون في بعض المناطق التي تمر عليها هذه العلاقات، وأنهم يستعملون أيديهم أو آلات يدوية لإخراج الأمعاء وغيرها من بطن الدجاج؛ ولم أعرف مذبحا يستغني عن مثل هذا العمل البشري بتاتا. فإن كانوا يقيمون أشخاصا لهذا الغرض، فإنهم يستطيعون أن يقيموا أربعة أشخاص عند مرحلة الذبح أيضا، فيقع الذبح بالطريقة المشروعة بأيدي ذابحين مسلمين يسمون الله تعالى عند الذبح، والأمور الباقية يتكفلها الجهاز.(10/496)
أما مرور الدجاج على الماء الحار، فهو ليس ماء مغليا حتى يؤدي إلى نجاسة اللحم.
أما في الأنعام من البقر والغنم؛ فالطرق الآلية فهي لا تذبح الحيوان وإنما تتكلف بقيده في الآلة. والموضوع المهم في تلك الأنعام هو أن الطرق المستخدمة هل تقطع الأوداج؟ لأن المعمول به في تلك المذابح هو أنهم يقطعون جانبا من العتق، أو بقطع الرقبة، فلا نجزم بأنها هل قطعت الأوداج أم لا؟ ثم إنهم يستعملون طرقا للتدويخ قبل الذبح، وهذه الطرق تحتاج إلى نظر، لأن للتدويخ طرقا كثيرة يستخدمونها؛ ففي بعض الحالات وقد شاهدت أنهم يطلقون على جبهته المسدس ويحصل به وخز عنيف، ورأيت أن قضيبا مثل الأصبع قد دخل في جبهة الحيوان، وخرج منه الدم وانهار الحيوان على الأرض فورا، وانقطعت حركة أعضائه بالكلية كأنه ميت، ولَكَم يذكرون أن هذا مجرد تخدير ولا يسبب الموت، ولكن لقيت مشرفا حكوميا- في كندا - الذي يشرف على هذه العمليات، فقال: إن التخدير بهذه الصورة فيه مجال لاحتمالين: إما أن يموت به الحيوان بعد دقائق، أو يعود إلى شعوره بعد دقائق. وقد أكد هذا المشرف بأن تخدير عدة حيوانات يقع على التعاقب، وكذلك عملية الذبح تقع على التعاقب، فلا يبعد عند تخدير الحيوانات أن يموت أحد منها قبل أن تقع عملية الذبح.
فمثلا إذا خدروا خمسة حيوانات، وبعد ذلك جاء هذا الذابح بالحيوان الأول فذبحه، ثم انتقل إلى الثاني والثالث ثم الرابع، فليس ببعيد أن يكون الرابع قد مات قبل أن يصل إليه الذابح، ثم قال لي: إنه ليس عندنا طريق للتأكد من كون الحيوان حياً عند عملية الذبح.
وهذا الموضوع يحتاج إلى دراسة فنية عميقة من المتخصصين المسلمين الغيورين على دينهم، وبما أن الموضوع خارج عن اختصاصي، فلا يسع لي أن أبت فيه بشيء، وأقترح على المجمع أن يكون لجنة من الخبراء المسلمين؛ ليقدموا تقريرا بعد دراستهم للموضوع.(10/497)
ولا شك أن هذه الطرق للتدويخ لو كانت مسببة للموت أو يخشى منها الموت؛ فلا يجوز استعمالها ولا القول بحلة الحيوان المذبوح بعد التدويخ، وما دامت هذه الطرق مشكوكة فالأسلم أن يبتعدوا عنها. ومن المعروف أن اليهود لا يقبلون أي طرق للتدويخ، والمسلمون أولى منهم بالابتعاد عن الشبهات, وهيئة كبار العلماء في (المملكة العربية السعودية) أرسلت مندوبين إلى هذه المجازر، وقد ضمنت بحثي جميع التقارير التي جاءت من هؤلاء المندوبين، وتشهد بأن هذه الشهادات غير موثوق بها أصلا، ولا ينبغي أن يثق بها المسلمون، وقد وجد في كراتين السمك أنها مذبوحة بالطريقة الإسلامية.
وبهذا أكتفي، والله سبحانه وتعالى أعلم.(10/498)
الشيخ محمد سليمان الأشقر:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
إن الكلام في الذبائح وطرق الذبح مما يهم كل مسلم التعرف عليه وعلى الطرق الشرعية فيه، حيث إنه من الوسائل التي يتحقق بها للمسلم طيب المطعم وحله، والله تعالى أرسل رسوله يحل لنا الطيبات، ويحرم علينا الخبائث، فما حرمه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلا شك عند المسلم أنه خبيث، وإن لم ير فيه ضررا ظاهرا، وما أحله فهو الطيب.
وطبعًا الآيات الواردة في هذا واضحة- والحمد لله- ولا تخفى على أحد، وأشير إلى الحديث النبوي الشريف الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو مسلم)) . فقرن النبي صلى الله عليه وسلم التزام الإنسان بأحكام الشريعة في الذبائح بالصلاة واستقبال القبلة في تحديد هوية المسلم, هذا ولأن هذه الأمور الثلاثة كما هو ملاحظ في بعض المجتمعات الغربية تجمع المسلمين على أمور ظاهرة، فيعتني بها المسلم فيعرف أنه مسلم, فالذبح الشرعي شعيرة من شعائر الدين يجب أن تقام ويعتنى بها كل الاعتناء، وليس مقصودي بأنه شعيرة أن الذبح في حد ذاته قربة، لكن يكون قربة إذا قصد القربة، بأن قصد أن يضحي أو يقدم هديا، أما الذبح العادي للطعام فليس هو بقربة، ولكن الذكر عليه، والالتزام بالذكر هو من شعائر الدين.(10/499)
تكلمت في مشروعية التذكية وبينت أن المراد بها إخراج ما في بدن الحيوان من الدم، وأن الدم في شريعة الإسلام حرم نصا بنفس آية تحريم الميتة ولحم الخنزير، لأن الدم يحتوي على الميكروبات الضارة، وكذلك يحتوي على البول- وذلك قبل تصفيته في الكلى يكون البول موجودا في الدم- والبول يحتوي على فضلات.
وأيضا الذبح هو أيسر الوسائل المتاحة للإنسان عادة لإخراج الدم الخبيث من الحيوان الذي يعد لحمه للأكل، فهو أيسر ما يمكن للحيوان وأقل لتألمه؛ لسرعة خروج الدم من الودجين، وإنهاره بقوة شديدة، وهذا يؤدي إلى إزهاق نفسه وتخليص لحمه من دمائه في مدة قليلة جدا.
ثم تطرقت بعد ذلك في بحثي إلى أن هناك أربعة أمور هي التي سنتطرق إليها، وهي:
1- في شروط الذكاة.
2- في الطرق التي تتبع في المسالخ العصرية لازهاق أرواح الحيوانات.
3- في العمل في حالة الجهل بتحقق شروط الذكاة في اللحم المقدم للطعام.
4- في مشكلات اللحوم المستوردة.
ففي الأول في شروط التذكية تكلم الشيخ تقي العثماني على جزء كبير منها، وأنا أحاول أن أتجنب ما تكلم فيه.
مسألة ذبح غير المسلم والكتابي والوثني وغيره وخاصة في البلاد الشرقية والبلاد الشيوعية والبلاد التي في شرق آسيا، فهذه البلدان لا تدين لا بالنصرانية ولا بالإسلام، فلا شك أن هذا أمر مجمع على تحريم استيراد الذبائح منهم، والحمد لله التوجه العام في البلاد الإسلامية ألا تستورد اللحوم من تلك البلدان، ولم أر شيئا من اللحوم استورد من الصين مثلا أو من البلاد الشرقية هذه إلا مرات قليلة جدًّا، فقد جاء إلى الكويت بعض اللحوم وكرهها الناس.(10/500)
الشروط في آلة الذبح:
طبعًا الأدلة الشرعية والحديث الصحيح نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالسن والظفر، فقال عليه الصلاة والسلام، ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ليس السن والظفر)) . وأحسن التأويلات في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس السن والظفر)) أنه السن القائم والظفر القائم الذي في اليد، أي أن ينهش الذبيحة بأظافره أو بأسنانه أي بفمه كما تفعل الوحوش، فهذا نهي في الحقيقة، وتكريم للإنسان عن أن يفعل مثل ما تفعل الوحوش، وإذا فعل ذلك فقد حرمه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ليس السن والظفر)) .
شروط التسمية:
وفَّى الكلام فيه الشيخ تقي العثماني، وأنا أشكره على ذلك، وتعرض لمسألة مهمة في أن ما ينسب إلى الإمام الشافعي بأنه يرى جواز أكل ما تعمد الذابح ترك التسمية عليه، هذا ينسب للإمام الشافعي، وأنا رجعت إلى (كتاب الأم) حتى أتأكد من هذا الموضوع، فوجدته يقول ما يلي بالضبط: "إذا أرسل المسلم كلبه المعلم أحببت له أن يسمي، وإن لم يسم ناسيا فقتل أكل، لأنه إذا كان قتله كالذكاة، فهو لو نسي في الذبيحة أكل، لأن المسلم يذبح على اسم الله عز وجل وإن نسي ". فهذا النص من الشافعي- رحمه الله- يحتمل معنيين لأن قوله: "أحببت له " قد يوحي بالاستحباب، وآخره يدل على أنه لا بد من التسمية عنده، والتحليل الذي ذكره الشيخ تقي تحليل مقبول وجيد وجزاه الله خيرا.(10/501)
شرط آخر وهو أن لا يذكر عند التسمية غير الله تعالى، وأن لا يقصد الذبح لغير الله، وهذا دلت عليه النصوص الصريحة مثل قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 3] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من ذبح لغير الله)) . ولذلك اهتم العلماء المسلمون بهذا، وأوجبوا تجريد التسمية على الذبيحة- تسمية الله تعالى- ولا يذكر معه غيره، حتى النبي صلى الله عليه وسلم , عند الإمام مالك لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال: للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا شك عند الجميع. فإذا قال: ((بسم الله، والله أكبر، اللهم صل على محمد)) فبعض العلماء يرى أنه يحرم الذبيحة.
هناك مسألة يقع فيها الكثير من المسلمين وهو أنه يذبح للولي, أهل العلم يعرفون أنه يذبح للولي لا بمعنى أنه يقصد التقرب إلى الولي لينفعه أو ليقربه إلى الله زلفى فهذا محرم، وبعض العامة يذبحون للولي تقربا إليه لكي يعطيه مالا أو ولدا، وقد سمعنا بآذاننا من يقول: يا رسول الله أعطني ولدا أو أعطني مالا. فإذا قصد العامي هذا فلا شك أنه نوع من الشرك في العمل, ولذلك ينبغي أن يتجنب أهل العلم أن يذبح للولي بقصد نفع الولي؛ لأن العامي لا يفرق بين الحالتين.
بالنسبة أيضا لذبائح أهل الكتاب، هل يترخص في ذبائحهم من ناحية التسمية أم لا؟ أيضا هذه المسألة استعرضها فضيلة الشيخ، وأنا أقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- قوى القول إنه ينبغي أن يلتزم في ذبائح أهل الكتاب ما التزم في ذبائح المسلمين.(10/502)
الذبح على النصب مذكور في القران مع قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 3] بمعنى أنه ذكر الأمران (وما أهل لغير الله به) ومعناه ما رفع الصوت به بذكر اسم المذبوح له، فإذا أهل به لله فهو حلال، وإذا أهل به لغير الله فهو حرام، ثم قال: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] ، وهو ما كان يفعله أهل الجاهلية من نصب حجر أو نصب صنم أو نصب تراب يعبده ويقرب إليه؛ فهذا ينبغي أن يتجنب أيضا، ويكون ما ذبح له يكون محرماً.
بالنسبة لموضع ما يقطع من الحيوان بالذبح, هنا في الحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم نبه إلى أن الذكاة بين اللبة وبين اللحيين، اللبة هي الوهدة التي في أسفل العنق، واللحيان معروفان، فالذبح لا يكون إلا هنالك، فلو ذبح في الفخذ أو في الظهر أو في أعلى الرقبة؛ فإن كل ذلك لا يحل به المذبوح، ولا بد أن يكون الذبح في هذا المكان.
ووجد الخلاف فيما يجب قطعه من الذبيحة من هذه العروق الأربعة في الرقبة، وهي عرقا الدم وهما الودجان، والمريء وهو مجرى الطعام، والحلقوم وهو مجرى الهواء (القصبة الهوائية) ، هذه الأربعة، العلماء يختلفون فيما يجب قطعه منها، ويبدو لي أن الذي خالف وأجاز أو أوجب قطع المريء والقصبة الهوائية كان يتصور تصورا غير صحيح، وهو أنهم كانوا يتصورون أن الإنسان إذا قطع حلقومه (مجرى الهواء) ، فإنه يموت فورا، وإذا قطع المريء فإنه يموت فورا، ولذلك أوجب بعضهم قطع الحلقوم أو قطع المريء أو كليهما، وتساهلوا في قطع الأوداج.(10/503)
ينسب للإمام الشافعي - رحمة الله عليه- أنه كان يرى أن قطع الحلقوم وقطع المريء هذا هو الذي تتحقق به الذكاة، وأنه لو قطع الودجين وحدهما فلا تتحقق به الذكاة، هذا نص كلامهم، قال الشافعي: "ولا يشترط قطع الودجين؛ لأنهما قد يسلان من الإنسان وغيره ويعيش، والمريء والحلقوم إذا قطعا لم يعش طرفة عين ". هذا تصور غير سليم، بحسب ما كان عندهم من المعلومات كانوا يتصورون هذا, فالآن التصور الطبي، وأعتقد لا يخفى على أحد من الأطباء، وأنا قد راجعت بعضهم ومنهم الأخ محمد البار، فأكد لي ما أخبرني به بعض الأطباء في الأردن وهو أنه يمكن للحيوان والإنسان أن يعيش إذا قطع حلقومه ومريئه ولا يموت في الحال، قد يبقى أياما وأسابيع وشهورا وهو يتنفس من مقطع الحلقوم، ويأكل من فتحة المريء أو يأكل بأن يفتح له في جدار المعدة خرق ويصب فيه الطعام السائل.
فإذن أنا أرى أنه ينبغي أن ينتهي الخلاف في هذه المسألة، وأن الذبح هو في حقيقته هو قطع الودجين فقط، ولا دخل للمريء ولا للحلقوم. ولكن في واقع الأمر تركيبة الأنابيب الأربعة هذه جعلها الله- عز وجل- بشكل معين بحيث تكون القصبة في الوسط (مقدمة) والمريء في الوسط (متأخر) والودجان على الجانبين، فلو أراد إنسان أن يقطع الودجين هو بطبيعة الحال يقطع.. يعني الجزار العادي ما ينتبه إلا لو كلفنا طبيبا حاذقا بأن يقطع الودجين ويترك المريء والحلقوم، وهذا أمر غير معقول وهو في العادة لا يصير، لكن تحقيق المناط في الذبح هو بقطع الودجين، والحديث أيضا يؤيد هذا صراحة، الحديث النبوي: ((أفر الأوداج بما شئت)) والأوداج في اللغة هي مجرى الدم، وليسر الحلقوا ودجا ولا المريء ودجا، إنما قالوا هذا من باب التغليب، والتغليب يصار إليه مع وجود الحقيقة، هذا أمر في الحقيقة غير مقبول.(10/504)
أنتقل إلى مسائل متقدمة ومنها التوقف في الذبح عند حد العظم, هذا في الحقيقة ينبغي أن يعتنى به، لأن بعض الآلات الآن تقطع وكذلك بعض الذابحين في بلاد أوروبا أنه يضرب بالبلطة، بحيث يضع رأس الدجاجة على قطعة الخشب، ويضرب الرأس بالبلطة فيقطع العظم, الحقيقة قطع العظم ينقطع به النخاع، وإذا انقطع النخاع توقف القلب فورا، لأنه لا تأتيه إشارات من الدماغ فيقل خروج الدم، لأنه إذا توقف القلب يتوقف خروج الدم، ولذلك لا تخرج إلا كمية ضئيلة من الدم، فلا يكون هذا الذبح على الوجه الأمثل، وإن كان تحل به الذبيحة على ما هو معروف عند العلماء.
بالنسبة للفصل الثاني من بحثي والمتعلق بالطرق التي تتبع في المسالخ العصرية لإزهاق أرواح الحيوانات، فذكرت المسالخ ومميزاتها في المحافظة على نظافة المجتمعات المتحضرة، وخاصة التجمعات السكانية الكبيرة، ولو ترك المجال لكل إنسان يذبح في بيته أو في مكانه لأدى ذلك إلى وجود أمراض, فالمسالخ هي تقدم عصري جيد جدا ومقبول ويشكر أصحابه عليه، ولكن مسالخنا الكثير منها للأسف استورد المسلخ بما فيه بدون أن يرجعوا إلى أهل العلم ليضبطوا المسألة كما ينبغي.(10/505)
فطريقة الصعق الكهربائي إذا وقف عندها، وكما أشار الشيخ محمد رشيد رضا- رحمة الله عليه وغفر له- أن الصعق الكهربائي يكون تذكية, هذا أمر غيرمقبول لأنه من باب المنخنقة التي لا يخرج منها دم بالمرة.
لكن إذا ذبح بعد ذلك، وهو الذي نسمعه الآن من بعض الإخوة الأطباء- والذين يعرفون ما يجري- أن هناك بعض المسالخ تذبح بعد الصعق, فنحن إذا كنا نتحقق من أن الصعق لم يقتل هذا الحيوان وإنما شله وخدره؛ فهذا الصحيح أن نقول: إنه يجوز أكله، ولكن ليكون متبعا في المسالخ في البلاد الإسلامية، فلا بد من التحقق من خمسة أمور:
1- التحقق من أن هذه الطريقة ليست قاتلة ولو للبعض، لو 1 % من الحيوانات التي تصعق تموت يجب ترك هذه الطريقة.
2- التحقق من أنها لا تصحبها آلام للحيوان, يعني الصعق الكهربائي إذا لامست سلك الكهرباء تجد ألما فظيعا جدا إذا لم يكن قاتلا، يعني حتى في حالة عدم القتل فهل الحيوان عندما يصعق بالكهرباء هل يتألم أو لا يتألم؟ في النشرة التي وزعت علينا بالأمس أنه إلى الآن لم يستطع أن يجزم أهل الخبرة في هذا الموضوع بأن الحيوان يتألم بالصعقة أو لا يتألم، بمعنى هل هو يتألم أولًا ثم يتخدر أو يتخذر بدون أن يتألم؟ لأن النشرة التي وزعت علينا وعليها اسم منظمة الصحة العالمية تقول: إنه إلى الآن لم يمكن التحقق من أن الحيوان لا يتألم بالصعق.
3- يجب التحقق من أن الصعق لا يحول دون تدفق الدم عند إجراء الذبح بعده، ولا ينقصه عما يحصل إن ذبح الحيوان دون صعق، وهذا يحتاج إلى اختبارات, من ذهب إلى التحقق من هذا الموضوع يجب أن يجري هذه الاختبارات حتى يعرف الأمر, يعني يمكن يذبح دجاجات ويعرف من كل منها كم يخرج من الدم، ويذبح دجاجات بعد الصعق ويزن الدم ويعرف هل ينقص أم لا ينقص؟
4- التحقق من أن الذبح يحصل فورا بعد الصعق وبالحيوان حياة مستقرة.
5- يجب أن يتحقق من عدم تأثير هذه الطريقة بحصول فساد في اللحم نقصان لطيبه. وهنا أذكر ما أورده الأخ الدكتور فتحي الدريني في بحثه في الذبائح، أن أهل الدانمارك رفعوا إلى حكومتهم يطلبون إيقاف العمل بالصعق الكهربائي، لأن اللحم يفسد بسرعة.(10/506)
طريقة المسدس أو الشاكوش والبلطة والمطرقة هذه التي يشلون بها الحيوان، هذه في الحقيقة باقية عند الغربيين أثرا لما كان عليه الأمر قديما من أنهم كانوا لا يبالون بأي طريقة قتلوا الحيوان، سواء بالساطور على رأسه أم بالوقذ كما رأيناه في بعض التلفزيونات؛ حيث يضرب الحيوان بالعصي ويهجمون عليه ويقتلونه ثم يأكلونه بعد ذلك، فهذه بقاياه لكن إذا هذبوها بطريقة ما، أنا أستبعد أن يدخل مسمار من الحديد طوله طول الأصبع في رأس الحيوان ثم لا يكون قاتلا، أستبعد هذا جدا إلا أن يكون حيوانا ضخما جدا، فلا يصل إلى الدماغ، أما إذا اخترق الدماغ كيف لا يكون قاتلا؟! أنا أستبعد هذا.
أيضا النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) .
الخنق إذا كان قاتلا فلا شك أنه من المنخنقة، وهي محرمة وإن كان مجرد مسكن لحركة الحيوان ومخدر له, وهذا ما رأيته في كتابة الدكتور الهواري إذا كان مجرد إفقاده للوعي ولا ينقص خروج الدم، فيبدو أنه لا بأس بذلك إن شاء الله, لكن أذكر أولًا الطريقة الإنجليزية في قتل الحيوان للأكل؛ وهي إدخال المنفاخ الذي ننفخ به إطارات السيارات، ويتم إدخاله بين الأضلاع ويبدأ ينفخ فيه حتى لا تستطيع الرئتان أن تجذب الهواء، فإن مات بذلك فلا شك أنه منخنقة، لأنه مات بسبب عدم وصول الهواء إلى رئتيه.(10/507)
أما طريقة التخدير فلا أدري، كل الأبحاث التي اطلعت عليها لم تعتن بطريقة التخدير, طريقة التخدير أعتقد هناك كما يجري البنج على الذي نجري له عملية ويخدر، ويبقى في غرفة العمليات ساعات؛ المباضع تشتغل في قلبه وجسده وصدره، وهو لا يحس بشيء من ذلك، ثم يعود إلى الإفاقة, لماذا لا تستعمل هذه الطريقة في مسالخ المسلمين؟ هذه طريقة سهلة ومريحة، وأعتقد ربما يكون المانع هو التكلفة المادية، لكن نحن نعرف أن الصيادين يصيدون الطيور البرية بأن يلقوا لها حبوبا فيها مخدرات ويمسكون بها وتفيق بعد ذلك في الأقفاص, فلو درست هذه الطريقة وهي عندي طريقة مثالية إذا لم تكن تكلفتها الاقتصادية عالية جدا.
الذبح بالآلات السريعة، ووصف الشيخ تقي العثماني كان وصفا ممتعا للجهاز الذي ذكره، ولكن مسألة التسمية أنا أذكر أن هيئة الفتوى في وزارة الأوقاف أفتت- وكنت حاضرا في تلك الفتوى- أنه عند ذبح مجموعة كبيرة من الدواجن تكفي التسمية عليها مرة واحدة عند أولها إن جرى الذبح بصورة متتابعة دون توقف، فإن جرى توقف لسبب ما فعلى الذابح أن يسمي على المجموعة الباقية من جديد، وأما تكليف الذابح الذي يذبح له عشرة آلاف طير في اليوم أو نحو ذلك بأن يسمي على كل مرة؛ لا شك أن هذا حرج لا يمكن أن تأتي به الشريعة, لا بد من عمل طريقة، والطريقة التي ذكرها الشيخ تقي العثماني طريقة سليمة وجيدة, إذا كان أربعة من الذابحين يقومون مقام أحسن جهاز موجود لهذا الموضوع فممكن أن يمشي الأمر.(10/508)
الجهل بتحقيق شروط الذبح:
أنواع الجهالة ذكرتها وهي خمسة أنواع، والنبي صلى الله عليه وسلم نبهنا على نوع منها وهو جهل أنهم هل سموا عليه أو لم يسموا؟ ونبه على أن الأمر في ذلك سهل، وأنه يكفي المؤمن أن يسمي عليه, فإذا كان الذابح مسلما لن تكلف بالبحث عن أن هذا اللحم الذي قدمه لك صديقك أو قدمه لك أهلك أو اشتريته من السوق أو من أي مكان، فإنه لم تكلف أن تسأل هل ذبح على الطريقة الشرعية؟ وهل هو بالسن أو بالظفر؟ وهل هو بكذا وكذا ... ؟ أنت تأكل مادام هذا مسلما قد قدمه لك وأنت مستريح القلب ودون أي حرج، والجهل في هذه المسألة نعمة كبيرة، وأنا أتذكر أن الإمام ابن تيمية - رحمه الله- نبه إلى أن هذا نعمة, الجهل قد يكون نعمة في هذه المسألة بالذات.
لكن لا أتذكر وقد بحثت هذا الموضوع في مظان ذهني من قديم، ويمكن الاستدلال على ذلك بالآية القرآنية: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أو بُيُوتِ آبَائِكُمْ أو بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أو بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أو بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أو بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أو بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أو بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أو بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أو مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أو صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] ، ولم يشترط السؤال.
ولكن إذا رأيت مخايل لوجود أشياء تدل على أن الذبح قد وقع بطريقة غير صحيحة, افرض أنك دخلت بيت صديقك ووجدت عنده علبا مكتوبا عليها لحم خنزير وملقاة خارج باب المنزل مثلا، هذه قرينة على أن طعامه ليس بسليم, ففي هذه الحالة ربما تسأل، وربما تترك الطعام.(10/509)
اللحوم المستوردة هذه هي مشكلة العصر في الحقيقة، وأسبابها واضحة وهي:
- انحياز أكثر الأفراد في المجتمعات الإسلامية إلى العواصم والمدن الكبرى لما فيها من الثروة والتعليم والاقتصاد والمصانع وغير ذلك، وترك العمل في القرى والفلاحة, وإنشاء مشاريع زراعية كبيرة، ولكن مشاريع إنتاج الدواجن لم تكن على قدر المطلوب في البلاد الإسلامية ولا نقول في كل البلاد الإسلامية، فمثلا هنا الدواجن والحمد لله تنتج بكثرة وتصدر للخارج.
- تضخم الثروات في بعض البلاد الإسلامية، ففي هذه استطاعوا أن يأكلوا اللحم كثيرا، ولكن لم ينتجوا لحما بدله, وطريقة التجميد في البلاد البعيدة والتي وجدت في هذا العصر، والتي أمكن بها نقل الحيوانات من أماكن بعيدة بعد ذبحها وتخزينها بصورة سليمة وإرسالها إلى البلاد التي تحتاج إلى اللحوم، كل هذا يساعد على وجود هذا الأمر، والبلاد الإسلامية الآن أكثرها مستورد للحوم وغير منتج لها, ولذلك وجدت هذه المشكلة, أيضا مما يجعل المسلم في حرج في هذه الناحية- الناحية الاقتصادية- أن الذبح باليد فيه تكلفة زيادة، والذبح بالآلات يوفر هذا، وأيضا الحيوان إذا بقي دمه فيه فإنه يفيد المصدر اقتصاديا، وخاصة إذا أدخل في اللحوم المفرومة. فارق السعر هو الذي يدعونا إلى التشكك، لأنهم يسيرون حسب المنفعة الاقتصادية. أيضا لحوم الخنازير في بعض الجهات أرخص من لحوم الأغنام كما هو معروف ولكن قيل لنا: إن بعض البلاد لحوم الخنازير فيها أغلى، لكن إذا كان لحم الخنزير أرخص فهم سيحاولون إدخاله، وقد ذكر بعض الإخوان، وأنا رأيت بعيني علبا جاءت إلى الكويت مكتوبا عليها باللغة العربية لحم بقر وباللغة الإنجليزية يعني لحم طعام، وباللغة الألمانية مكتوبا عليها لحم خنزير، هذه أتت من ألمانيا أو من رومانيا، ونحن نقول: إنهم لا يكذبون ولكنهم أحيانا يكذبون إذا اقتضت المصلحة ذلك.(10/510)
تعليق الحكم بالبلد إن جهلت ديانة الذابح بالنسبة للحوم المستوردة, هذه الفتاوى في العصر الحاضر كثير منها ذهب إلى تعليق الأمر، لأننا لا يمكن أن نقول الذابح وحده إلا في المسائل الكبيرة جدا، ممكن ابتعاث ناس ينظرون، لكن بالنسبة للشخص الواحد ينظر إلى غالبية البلد، وهذه قرينة قوية جدا ويمكن الاكتفاء بها.
المشكلة الكبيرة هي ما جهلت كيفية ذبحه من اللحوم المستوردة من بلاد أهل الكتاب, الفتاوى مذكورة في بحثي، وهي أننا إذا كنا جاهلين طريقتهم للذبح، فأنا أميل إلى ما أفتى به شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز أنه إذا جهل ما يأتي من بلادهم وهم أهل كتاب فالأصل أنه يجوز الأكل، لكن هذا مع الشبهة.
نحن نريد البلاد الإسلامية أن تخرج المسلمين من الشبهة، نريد أن نعمل شيئا يبعد المسلمين عن الشبهة، وعندما يأكل المسلم طعامه فإنه مطمئن القلب إلى أن هذا حلال.
وذكرت الشهادات التي تأتي مع اللحوم، وأنا أيضا أكلت من هذا اللحم الذي جاء إلى الكويت، وهو أسماك مكتوب عليها (مذبوح على الطريقة الإسلامية) والشهادات التي وردت كثير منها عرف أنه كاذب، وللأسف هي صادرة عن جماعة من المسلمين، ولكنهم لم يحملوا الأمانة التي حملهم الله إياها.(10/511)
اقترحت مشروعا وهو مشروع يمكن أن يتصوره أي إنسان، وقلت:
واجب الدول الإسلامية تجاه استيراد اللحوم. أقول: إن الوضع الحاضر للحوم المستوردة إلى كافة البلاد الإسلامية من البلاد غير المسلمة وضع سقيم بلا شك ,وهو بحاجة إلى إصلاح وتنظيم ليكون ما يأكله المسلمون حلالا سائغا لا شبهة فيه ولا مخالفة لشريعة الله. ونرى أن ذلك يمكن أن يتم بما يلي:
أولا: أن توجد جهة إسلامية موحدة، تجمع بين المقدرة والأمانة، لتتولى إصلاح هذا الوضع وتنظيمه، وتضمن استمرارية التنفيذ.
وليس أولى من ذلك في نظري من (رابطة العالم الإسلامي) فإنها موضع ثقة المسلمين، ولديها إمكانيات علمية وإدارية كافية.
ثانيا: تشكل الجهة التي يوكل إليها هذا الأمر، تشكل إدارة أو مؤسسة تتولى العمل المباشر وتتفرغ له تفرغا كليا.
ثالثا: تضع تلك الإدارة، مع الاستعانة بآراء الخبراء الشرعيين والإداريين لائحتين: إحداهما شرعية تبين ما يجب مراعاته في شأن اللحوم المستوردة، والثانية إدارية تتضمن كيفية تسيير دفة العمل، بما يحكم الرقابة ويقضي على الفوضى.
رابعا: توضع على اللحوم التي يوافق على استيرادها، وهي التي حازت شروط القبول الشرعي، علامة تجارية مميزة، تسجل لدى جميع الدول في سجل العلامات التجارية، ويطلب من الدول المصدرة الاعتراف بها كعلامة خاصة مملوكة للجهة الإسلامية القائمة بالأمر، وإدخالها ضمن العلامات التجارية المحمية بالقانون، بحيث يمكن مقاضاة أي جهة تستعملها استعمالا غير مرخص به من جهة المؤسسة المالكة له.
خامسا: يمكن أن يوضع لاستعمال تلك العلامات رسوم مادية بحيث تكون موردا تمول منه العملية بكاملها.
والله الموفق للصواب والهادي إلى سبيل الرشاد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/512)
الشيخ أحمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سأحاول- إن شاء الله- أن أختصر، لأنه سبقني من سبقني من أصحاب الفضيلة، وقد أتوا على كثير مما أردت أن أقوله ولا أريد التكرار. البحث كما هو معلوم التذكية الشرعية شروطها وأحكام مخالفتها، مما وقع فيه إزهاق الروح بالطرق الحديثة, واشتمل على مقدمة في تعريف الذكاة لغة واصطلاحا ومباحث.
المبحث الأول: في كيفية الذكاة الشرعية. قسمت فيها أصناف الحيوانات إلى مقدور عليه وغير مقدور عليه, فالأول هو الإنسي وما وقع في قبضة اليد من الوحشي، فتذكيته لا تكون إلا بنحر أو ذبح. وتكلمت عن النحر والذبح، ثم ذكرت في الذبح أقوال العلماء كيف يتم الذبح، وهي ثمانية أقوال، واخترت من بينها القول الذي وقع الإجماع عليه، وهو أنه لا بد من قطع الودجين والحلقوم والمريء, وفي هذا حسب ما يبدو راحة للحيوان من أجل الإسراع في موته، ومن ناحية أخرى فإن الحديث الذي يدل على فري الأوداج كما قال بعض العلماء، ومن بينهم الإمام النووي في (المجموع) والإمام ابن نجيم في (البحر الرائق) : الأوداج تطلق تغليبا على المريء والحلقوم بجانب الودجين. وذكرت بأن الذبح مشروع في كل ما لا ينحر كالغنم والطيور والأرانب، وما كان مقدوراًَ عليه من الحيوانات الوحشية، بخلاف النحر فإنما هو في الحيوانات الطويلة العنق وفي مقدمتها الإبل، وجاءت به السنة في الخيل واختلف في البقر هل الأولى فيها النحر أو الذبح؟(10/513)
فقد رجحت طائفة الذبح لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، وآخرون رجحوا النحر لحديث جابر - رضي الله عنه- قال: ((نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة)) . وذكرت ما أورد عليه وما يتجه إلى الإيراد من اعتراض, وذكرت أن الذبح أنسب بطبيعة البقر لقصر أعناقها بخلاف الإبل، وقد أوضح حكمة هذا التفاوت العلامة القرافي فقال: " وأصل ذلك أن المقصود بالذكاة الفصل بين الحرام الذي هو الفضلات المستقذرة وبين اللحم الحلال بأسهل الطرق على الحيوان، فما طالت عنقه كالأبل فنحره أسهل لزهوق روحه لقربه من الجسد وبعد الذبح منه، والذبح في الغنم أسهل عليها لقربه من الجسد والرأس معًا، ولما توسطت البقر بين النوعين جاز الأمران ".(10/514)
وذكرت خلاف العلماء في نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر، والأقوال
طبعًا موجودة في البحث. وخلصت من ذلك إلى أن الذكاة في المقدور عليه تنحصر في الحلق واللبة , وهو ثابت بالسنة والإجماع، فقد أخرج الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى: ألا إن الذكاة في الحلق واللبة، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق ... )) إلى آخر الحديث. والعلامة ابن قدامة حكى الإجماع على ذلك وقال: "ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع " إلى أن قال: " وإنما نرى أن الذكاة قد اختصت بهذا المحل لأنه مجمع العروق فتنسفح بالذبح فيه الدماء السيالة ويسرع زهوق النفس، فيكون أطيب للحم وأخف على الحيوان ".
وهي يعني أن العدول عن هذه الطريقة إلى طريقة أخرى في أزهاق
روح الحيوان المقدور عليه تجعله ميتة غير حلال الأكل, وذكرت بعد ذلك حديث أبي العشراء عن أبيه أن ((النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال: لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك ")) وذكرت بأن الرواية هي متروكة لا عمل بها عند الأمة، لأن الإجماع منعقد على خلافها، كما نص على ذلك كلام ابن قدامة وغيره من الفقهاء، وأبو العشراء هذا مجهول يروي عن مجهول، إلى آخر ما ذكره أهل العلم عنه.(10/515)
وذكرت رأي العلامة السيد محمد رشيد رضا في تفسير المنار، ومتابعة العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في رسالته (فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب) الذي جاء رأيا غريبا. وقد تحدث العلامة الشيخ تقي العثماني عن رأي السيد محمد رشيد رضا وذكركثيراًَ مما قلته في التعقيب على كلامه. ثم ذكرت أن جمهور أهل العلم بأن الناد من الحيوان الإنسي حكمه حكم الوحشي في أن الذكاة فيه إنما تكون برميه بالسهم أو بصيده بالجوارح, وعندها ذهبت طائفة إلى خلاف رأيهم، وهو مذهب مالك وأصحابه وربيع والليث بن سعد , وحجة الجمهور حديث رافع بن خديج قال: كنا مع النبي عين في غزاة وقد أصاب القوم غنما وإبلا، فند منها بعير فرمي بسهم فحبسه الله به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا)) ، واستدلوا من جهة القياس أن الوحشي إذا تأنس يعامل معاملة الإنسي، فكذا الإنسي إذا توحش. وأجاب المالكية بأنه مقدور عليه في الغالب، فلا يراعى النادر من أحواله، وقالوا في حديث رافع: إن النبي سلط على حبسه لا على ذكاته بدليل قوله "فحبسه " ولم يقل إن السهم قتله.
واستأنست لتأييد رأي الجمهور بتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الأوابد الأهلية بأوابد الوحش، وفي ذلك إشارة لطيفة إلى إلحاقها بها في الحكم.
ثم ذكرت أن جمهور العلماء ألحقوا بالنادِّ من بهيمة الأنعام ما وقع في بئر أو نحوها، فتعذر التوصل إلى تذكيته بالذبح.(10/516)
ثم انتقلت بعد ذلك إلى مبحث ثان في أهلية المذكي, وذكرت أنه لا خلاف بين الأمة في كون المسلم أولى من يقوم بالتذكية من أجل سلامة باطنه من الانحراف الفكري، وظاهره من الانحراف السلوكي، وهو أولى بأن يحافظ على الأمانة ويعطي التذكية حقها الشرعي، ولا خِلَاف أيضا بين الأمة في أن المشركين من عبدة الأوثان والملاحدة الذين لا دين لهم لا تحل ذبائحهم، لأنها في حكم الميتة إلا ما ذكره بعض المتأخرين، وهذا كما قال فضيلة الشيخ العثماني: لا يلتفت إليه.
كذلك ذكرت بأن لأهل الكتاب حكما خاصا مخالفا لأحكام المشركين في ذلك لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، وإنما وقع الخلاف في أمور وقفت عند بعضها لعدم اتساع البحث لاستيعابها كلها منها:
- هل يشترط أن يكون المذكي عاقلا أو أن يكون بالغًا؟
- حكم المرتد إلى النصرانية أو إلى اليهودية.
- وكذلك الأعجم.
عدة قضايا وقع فيها الخلاف ذكرت أقوال العلماء فيها.
ثم انتقلت بعد ذلك إلى مبحث ثالث فيما يذكى به, وقلت: ينبغي للإنسان أن يحرص على الرفق بالحيوان حسب وسعه في تذكيته، فيختار له الآلة الأنسب التي تؤدي إلى الغرض مع التخفيف عنه بقدر المستطاع، وذكرت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) . وعلى هذا الأساس يكون اختيار آلة التذكية، وقد وسع الله تعالى لعباده المجال في ذلك ليختاروا بأنفسهم ما يرونه أنسب، كما يدل عليه حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه- عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر وسأحدثكم عنه، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة)) فالحديث أطلق جواز التذكية بكل ما أنهر الدم إلا أنه استثنى شيئين دل تعليله استثناء أحدهما على استثناءٍ ثالث لهما، فهو دليل على عدم جواز الذكاة بالعظام كالأسنان والأظافر.(10/517)
ثم بعد ذلك انتقلت إلى المبحث الرابع في النية والتسمية, وذكرت
أنه قد سبق ذلك في البحث أن التذكية من القربات إلى الله عز وجل، والقربات لا بد لها من نية, وفي هذا بيني وبين زميلي وأخي الدكتور الأشقر شيء من الخلاف، ولكن لا أعده إلا خلافًا لفظيا، فهو لا يعتبر الذبح مطلقا من القربات، واعتبرته من القربات نظرًا إلى التقيد بالأحكام الشرعية، لأن التقيد بالأحكام الشرعية في الذبح قربة إلى الله تبارك وتعالى، فلذلك لم يبح للإنسان أن يزهق الروح بأي وجه كان, ومن أجل ذلك اشترط جماعة من العلماء النيةَ في الذبح، وإن كان هنالك قول آخر بخلاف ذلك، ووجدنا الكثير من العلماء يشترطون النية، وأما ذكر اسم الله عند التذكية فلا خلاف بين الأمة في مشروعيته، وحكى الإجماع عليه كل من الإمام النووي والحافظ ابن حجر، وإنما اختلف علماء الأمة في كونه شرطاًَ لصحة التذكية يترتب عليها حل لحم الحيوان وعدم حله، على أقوال ستة سردتها في البحث.
واخترت من بين هذه الآراء الرأي الذي يقول بأن ذكر اسم الله- تبارك وتعالى- شرط في صحة التذكية على أي حال، سواء مع الذكر أو مع النسيان لأجل أن الله- تبارك وتعالى- أطلق النهي عن أكل ما لا يذكر اسم الله تعالى عليه في قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ، وأمرنا أن نأكل مما ذكر اسم الله عليه في قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] ولا ريب أن الشرط كما قيل يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود ولا العدم لذاته, فإذا انعدم الشرط ينعدم المشروط, ومع هذا فإن هذا الرأي يعتضد أيضا بالكثير من أدلة القرآن التي قرنت بذكر اسم الله- تبارك وتعالى- مع نحر الإبل {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] ومع استعمال الجوارح، وكذلك ما جاء في الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من اشتراط ذكر اسم الله تعالى على إرسال السهم.(10/518)
وعللت هذا الحكم حسب ما يبدو أو ذكرت حكمة هذا الحكم من الله تعالى حسب ما يبدو أن الحيوان هو كائن ذو روح يتألم كما يتألم الإنسان، ويحب الحياة لنفسه كما يحبها الإنسان، فتدخل الإنسان في أمر حياته بإزهاق روحه من أجل التنعم بأكله لو لم يكن بإذن الله تبارك وتعالى لكان ذلك عدوانا، والعدوان محرم، ولكن بما أن الله تبارك وتعالى الذي ملك هذا الحيوان هو الذي سلط الإنسان على هذا الفعل فإن الإنسان يقدم على هذا العمل باسم الله الذي هو مالك الإنسان ومالك الحيوان، وهو الذي أعطى هذا الحكم للإنسان.
وتناول أيضا البحث موضوع الفرق بين التذكية الشرعية والطرق الحديثة في إزهاق الروح!
إن المقارنة بين هذه التذكية المشروعة في الإسلام وبين ما يجري في بلاد الغرب أو الشرق من إزهاق روح الحيوان بالطرق القديمة أو الحديثة متعذرة لبعد ما بينهما، فإن الحق والباطل لا يلزان في قرن، وشتان بين ما كان تعبدا ربانيا وما كان عادة بشرية مستمدة من إيحاءات نفوس شيطانية وأفكار مأفونة وفطر منحرفة عن سواء السبيل، على أن تلك الطرق التي يتبعونها في ذلك لا تزال امتدادا للتقاليد الوثنية التي كانت متبعة في عهود الرومان قبل اعتناق الإمبراطور قسطنطين للنصرانية.
ولئن كانت تطورت شكليا بتطور وسائلها الحديثة فإن آثارها واحدة، فقد كانوا يستخدمون البلطة والمطرقة والمرزية لتهشيم رأس الحيوان قبل ذبحه، وكثيرا ما يؤدي بها ذلك إلى الموت من غير ذبح، كما كانوا يستخدمون المنفاخ الآلي بعد خرق حائط صدر الحيوان بين الضلعين الرابع والخامس إلى أن يختنق الحيوان بضغط الهواء على الرئتين، ولم يتركوا هذه الطرق إلا إلى مثيلاتها، كاستعمال مسدس الطلقة المسترجعة؟ وذلك بتوجيه طلقة إلى جمجمة الحيوان ونسيج مخه من أجل تدويخه، وهو مما قد يؤدي إلى موت الحيوان قبل الذبح، وقد لا يصلون بذلك إلى غرضهم من إفقاد الحيوان إحساسه، فيستعينون بإدخال سلك فولاذي عدة مرات في الثقب الدي أحدثه المسدس في الجمجمة، أو استخدام التدويخ الكهربائي الذي شاع في دول متعددة، ونص عليه القانون البريطاني في عام 1958 م، أو التخدير بثاني أكسيد الكربون، وهي طريقة تعود أولى تجاربها إلى عام 1904 م، إلا أن إدخالها في عالم صناعة اللحوم تمت في عام 1950م في أحد مصانع اللحوم المحلية بأمريكا، ثم انتقلت إلى الدانمارك ثم شملت معظم الدول الأوروبية.(10/519)
وهذه الطرق كلها بعيدة عن الذكاة الشرعية وما فيها من خصائص الرحمة والرفق والشعور بالمسؤولية أمام الله، ولا حاجة بنا في هذه العجالة إلى بحث ما في استخدام الطرق القديمة من مضار، وإنما يكفينا أن نلم إلمامة خاطفة بالطرق المستخدمة الآن.
فأولاها: وهي طريقة استخدام مسدس الطلقة المسترجعة تنتج عنها حالة باللحم تسمى بالتبقع الدموي، وهي نقط نزيفية أو بقع أو خطوط في أجزاء مختلفة من أعضاء الذبيحة.
أما الطريقة الثانية: وهي التدويخ الكهربائي فإن عدم الدقة والإتقان في استخدامها يؤدي إلى نتيجة سلبية حتما، فعندما ينخفض التيار يشل الحيوان شللًا تاما مع بقاء وعيه، وتسمى هذه بالصدمة الضائعة، وعندما يزداد يصاب الحيوان بالسكتة القلبية القاتلة، وقد عدل استخدام هذه الطريقة في الطيور والدواجن منذ عام 1970 م بأمرارها في حمام مائي مكهرب، ليجتمع لها الغرق والصعق، على أن التدويخ الكهربائي في جميع أحواله يؤدي إلى إسراع التعفن في اللحم.(10/520)
وأما الطريقة الثالثة: وهي التخدير بثاني أكسيد الكربون فمن أشهرعيوبها أنها تؤدي إلى سرعة فساد اللحم، كما قد تؤدي إلى اختناق الحيوان وموته لعدم التحكم في كمية الغاز.
هذا ومن المعلوم أن الذبح بالآلات الكهربائية يفتقد فيه عنصر التعبد اللازم كما تحدث الشيخ العثماني في هذا.
هذا، ويتميز الذبح في الإسلام بالعديد من المزايا:
ا- أنه طريقة لإدماء الحيوان , فهو أقل ألما وأشبه بإدماء المتبرع بالدم، بعكس غيره فإن الحيوان يدمى حتى الموت.
2- أنه يؤدي إلى سرعة موت الحيوان ويعجل بإخراج روحه نتيجة النزيف الشديد الناتج عن فري الأوداج.
3- أنه أشبه بالتخدير أي حالة إفقاد الشعور بالألم، بخلاف التدويخ (إفقاد الوعي بضربة أو صدمة) وهو الشكل البدائي الذي تخلى عنه الإنسان منذ سنين.
4- أنه طريقة صحية إنسانية تمدنا بلحم خال من الدم، فهو صحي ولذيذ.(10/521)
ثم بعد هذا انتقلت إلى موضوع اللحوم المستوردة، وذكرت أن ما استورد من بلاد الإسلام لا حاجة إلى البحث فيه؛ لأن الأصل في ذبائح المسلمين أن تكون على الطريقة الشرعية وحديث عائشة - رضي الله عنها- في ذبائح الأعراب الذين كانوا قريبي عهد بكفر دليل على ذلك، وإنما ذكرت ما إذا كان القطر الذي استورد منه اللحم يرفع شعار الانتساب إلى أهل الكتاب، وقلت: وكذلك إن كان من بلاد كتابية وعرف أن الذبح من قبل أهل الكتاب أنفسهم، مع محافظتهم على طرق الذكاة الشرعية، وكان من لحوم البهائم المحللة؛ فهو أيضا حلال لأنه داخل في طعام أهل الكتاب الذي أحله الله لنا.
أما إن كان القطر الذي استورد منه اللحم يرفع شعار الانتساب إلى أهل الكتاب من أجل مصلحة سياسية وأغراض دنيوية مع انغماسه في الإباحية والإلحاد بسبب تلاشي العقيدة الدينية في نفوس أبنائه كما هو الشأن في بلاد الغرب اليوم، فالواجب تمحيص مسألة اللحوم المستوردة منه والوقوف عندها طويلا من أجل استظهار الحق، ويزيد ذلك تأكيدا ما عرف عنهم من أنهم يتبعون في الذبح طرقًا غير مشروعة في الدين بل هي أقرب إلى أن تكون قتلًا للحيوان ثم ذكرت اتجاهات العلماء المعاصرين حول هذه المسألة، وهي:
الاتجاه الأول: منهم من أباح اللحوم على علاتها؛ نظرا لما في البلاد من كنائس، وأن أهلها ينتسبون ولو شكليا إلى ديانة كتابية.
الاتجاه الثاني: اتجاه من أباحها مع مراعاة الضوابط الشرعية التي تحل بها الذبيحة، منها أن يكون الذابح يهوديا أو نصرانيا، وأن يكون ذبحه إياها في رقبتها أو نحرا في لبتها حال كونها حية، وأن يذكر اسم الله عليها على رأي من يشترط التسمية في صحة الذكاة، وأن لا يذكر عليها غير اسمه تعالى، وأن لا تكون موقوذة بإطلاق مسدس عليها أو تسليط تيار كهربائي إلى أن تموت، وهو الذي نصت عليه الفتوى رقم (1216) الصادرة عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الرياض بالمملكة العربية السعودية.(10/522)
الاتجاه الثالث: اتجاه من تشدد في هذه اللحوم وعدها في حكم الميتة المحرمة بالنص، وأفتى بحرمة الاتجار فيها كحرمة أكلها، وهو قول طائفة كبيرة من أهل العلم، ذكرتُ جماعة من هؤلاء في بحثي. وذكرت حجج أصحاب هذا القول منها:
أ) أن معظم شعوب هذه الدول قد تخلت في العصر الحديث عن الدين، ولم يبق له عندهم أي سلطان على حياة الناس العقدية والعملية، وإنما بقيت المحافظة على الكنائس في تلك الدول مظهرًا لا أثر له في الفكر ولا في السلوك، ولم تعد الكنائس قادرة على مواجهة التيار الإلحادي الهادر الذي يأتي على كل أثر من آثار التدين، وقد يكون استبقاء هذه الكنائس لأغراض سياسية، فإنها من وسائل نفوذهم في الشعوب التي يسعون إلى غزوها بأفكارهم وتخديرها بمكرهم، وهذا هو الذي سجله الكتاب الأوروبيون بأقلامهم، ودونكم شهادة شاهد من أنفسهم يقول الأستاذ جود الذي كان رئيس الفلسفة وعلم النفس في جامعة لندن:
" سألت عشرين طالبا وتلميذة كلهم في أوائل العقد الثاني من أعمارهم، كل منهم مسيحي بأي معنى من معاني الكلمة؟ فلم يجب بنعم إلا ثلاثة فقط، وقال سبعة منهم أنهم لم يفكروا في هذه المسألة أبدا، أما العشرة الباقية فقد صرحوا أنهم معادون للمسيحية". ويضيف إلى ذلك الأستاذ جود قوله: "أنا أرى هذه النسبة بين من يؤمن بالمسيحية ويدين بها وبين من لا يؤمن في هذه البلاد ليست شاذة ولا غريبة، نعم إذا وُجِّه هذا السؤال إلى مثل هذه الجماعة قبل خمسين سنة أو عشرين كانت الأجوبة مختلفة".(10/523)
هذه شهادة من أحد أبناء جلدتهم، وهو غير خارج عن ملتهم ولا مفارق لهم , إنما في بيئتهم، وقد قرر في كلامه أن هذه الأجوبة من أولئك التلاميذ إنما كانت ناشئة من حال مجتمعهم ولم تكن مجرد تصرف صبياني، كيف وهو يقول بأن هذه النسبة في تلك البلاد ليست شاذة ولا غريبة.
وهاكم شهادة عادلة من رجل نشأ في هذه البيئة المتعفنة ثم هداه الله للإسلام وهو الأستاذ محمد أسد الألماني الذي يقول: "لا شك أنه لا يزال في الغرب أفراد يعيشون ويفكرون على أسلوب ديني، ويبذلون جهدهم في تطبيق عقائدهم بروح حضارتهم، ولكنهم شواذ, إن الرجل العادي في أوروبا ديمقراطيا كان أو فاشيا، رأسماليا كان أو اشتراكيا، عاملا باليد أو رجلا فكريا إنما يعرف دينا واحدا وهو عبادة الرقي المادي والاعتقاد بأنه لا غاية في الحياة غير أن يجعلها الإنسان أسهل وبالتعبير الدارج حرة مطلقة من قيود الطبيعة، أما كنائس هذا الدين فهي المصانع الضخمة ودور السينما والمختبرات الكيمائية ودور الرقص ومراكز توليد الكهرباء، وأما كهنتها فهم رؤساء الصيارف والمهندسون والممثلات وكواكب السينما وأقطاب التجارة والصناعة والطيارون، والمبرزون الذين يضربون رقما قياسيا".
وفي هذا يقول المفكر الإسلامي الكبير الشيخ أبو الحسن الندوي:
"وعلى كل حال فقد وقع المحذور وانصرف اتجاه الغرب إلى المادية بكل معانيها، وبكل ما تتضمنه هذه الكلمة من عقيدة ووجهة نظر ونفسية وعقلية وأخلاق واجتماع وعلم وأدب وسياسة وحكم، وكان ذلك تدريجيا وكان أولًا ببطء وعلى مهل، ولكن بقوة وعزيمة، فقام علماء الفلسفة والعلوم الطبيعية ينظرون في الكون نظرا مؤسسًا على أنه لا خالق ولا مدبر ولا آمر وليس هناك قوة وراء الطبيعة والمادة تتصرف في هذا العالم وتحكم عليه وتدبر شؤونه، وصاروا يفسرون هذا العالم الطبيعي ويعللون ظواهره وآثاره بطريق ميكانيكي بحت، وسموا هذا نظر! علميا مجردًا, وسموا كل بحث وفكر يعتقد بوجود إله ويؤمن به طريقاًَ تقليديا لا يقوم عندهم على أساس العلم والحكمة، واستهزؤوا به واتخذوه سخريا، ثم انتهى بهم طريقهم الذي اختاروا وبحثهم ونظرهم إلى أنهم جحدوا كل شيء وراء الحركة والمادة وأبوا الإيمان بكل ما يأتي تحت الحس والاختبار، ولا يدخل تحت الوزن والعد والمساحة، فأصبح- بحكم الطبيعة وبطريق اللزوم- الإيمان بالله وبما وراء الطبيعة من قبيل المفروضات التي لا يؤيدها العقل ولا يشهد بها العلم " إلخ.(10/524)
ب) أن ذبائح الغربيين اليوم لا تخرج عن كونها موقوذة أو منخنقة، وقد نص على تحريمها القرآن، وذلك أنه تواتر اليوم أن هذه الدول تقتل إما بواسطة الصعق الكهربائي أو المسدس أو بالبلطة أو بالغازات، وهذا ما نقله الثقات الذين زاروا مسالخ هذه الدول، ورأوا بأم عينهم ما تقشعر منه الجلود من ارتكاب المخالفات التي لا يقرها الدين في إزهاق روح الحيوان.
ج) أنه ثبت بالعيان تزوير الشهادات التي تلصق بغلف هذه اللحوم من أجل خداع الناس بأنها مذكاة على الطريقة الإسلامية، وذكرت عدة شواهد، ومن بين هذه الشواهد أنني بنفسي جاء إلي رجل اشترى دجاجة مكتوب على غلافها مذبوح على الطريقة الإسلامية، وإذا بها لا أثر لإدمائها قط، هي مخنوقة من غير إدماء.
د) أن الأغنام والأبقار تذبح في بلاد الغرب مع الخنازير، فتختلط بلحومها، والخلطة في مثل هذه الحالة تؤدي إلى الحرمة، لتعذر التمييز معها بين الحلال والحرام.
هـ) أنه ثبت في تعاملهم الغش، فقد نقل عدد من الناس أنهم رأوا أسماكًا معلبة مكتوبا عليها (ذبح على الطريقة الإسلامية) ، بل قيل لي إن لحوم الخنزير هي موردة لبلاد الإسلام من أجل النصارى وغيرهم ووجد عليها مكتوب (ذبح على الطريقة الإسلامية) ! على أن هذا الغش قد يكون حتى من المستوردين في بلاد الإسلام، فقد قال الدكتور عبد الله عزام في عمان: اكتشفت أمانة العاصمة قبل سنوات عند شركة ملصقات كثيرة مكتوبا عليها (مذبوح على الطريقة الإسلامية) حتى تلصقها على علب اللحوم فور وصولها، ولقد جاء إلى وزارة الأوقاف الأردنية وأنا فيها علبة لحم مكتوب عليها (مذبوح على الطريقة الإسلامية لحم بقر صاف 100 %) ، وفي الجهة المقابلة باللغة الألمانية أنها تحتوي على نسبة من شحم الخنزير.(10/525)
وبعد هذه الجولة بين منحنيات هذه الحقائق لا يبقى ريب لمرتاب أن القول الثالث- وهو القول بالتشديد- هو أقوم قيلا وأصح دليلا، على أن القول الثاني يعود إليه كما ذكر الأستاذ الشريف في رسالته، لانعدام تلك الضوابط التي وضعها أصحاب هذا القول في اللحوم المستوردة من بلاد الغرب، وعليه فالخلاف بين القولين لا يعدو أن يكون لفظيا، وإنما الخلاف بينهما وبين القول الأول الذي يبيح هذه اللحوم من غير مراعاة لشيء من تلك الضوابط، ويستند إلى عموم قوله تعا لى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وهو استدلال في منتهى البعد، وذلك يتضح بالنظر إلى هذه الأمور:
أولها: أنه لا يكفي في إعطاء أحد حكم أهل الكتاب إلا إن كان على عقيدة تقوم على الإيمان بكتابه، وأنى ذلك في أمة فقد سوادها الأعظم هذا الإيمان , واستولى عليها الإلحاد , وتفشت فيها الاباحية كما تقدم , ولا يغني عنهم انتسابهم إلى أصول تؤمن بالكتاب شيئا، فإن الرجل الذي كان نفسه على الإسلام وولد من أبوين مسلمين مؤمنين قانتين إن ارتد عن إسلامه - والعياذ بالله- لم يغن عنه كل ذلك شيئا، ولم يعط أحكام المسلمين في إباحة أكل ذبيحته ولا غيرها، وما الفارق في ذلك بين المسلم والكتابي؟
ثانيها: أن قوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] جاء إثر تحريم طائفة من الحيوان، منها المنخنقة والموقوذة فكيف يمكن أن يكون دليلا على إباحة المخنوق والموقوذ إن كانا على يد كتابي مع أنهما حرام بالقطع إن كان الواقذ أو الخانق مسلما؟ وهو مما يترتب عليه كون الكتابي أكرم على الله من المسلم، لأنه أباح على يديه ما لم يبحه على يدي المسلم، ويأبى الله ذلك، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.(10/526)
ثالثها: أنه يلزم هؤلاء أن يحلوا بهذا لحم الخنزير إن كان على مائدة
كتابي، لأنه من طعامهم الذي استحلوه بهوى أنفسهم كما استحلوا المنخنقة والموقوذة وغيرهما، ولا فرق بين الصورتين فإن تحريم المنخقة والموقوذة جاء في نسق واحد مع تحريم الخنزير ومع تحريم الميتة والدم.
رابعها: أن الآية الكريمة مصدرة بإباحة الطيبات، ولا يقول عاقل آتاه الله رشدا: إن المنخقة والموقوذة وغيرهما مما حرمه الله عليه تعد من جنس الطيبات، وهل يطيبها أن يكون الواقذ أو الخانق من جنس الكفار الذين رفضوا الاستجابة لدعوة كتابهم إلى الإيمان بخاتم الرسل عليه أفضل الصلاة والسلام الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل؟ وهذه مغالطة للحقيقة ليس أبعد منها مغالطة، فكيف يكون الشيء الواحد خبيثا إن كان على يد المسلم، وطيبًا إن كان على يد غيره؟(10/527)
وقد استدل بعض أصحاب هذا القول لما ذهبوا إليه بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها، في ذبائح الأعراب، وهو استدلال منتقض من أساسه، فإن أولئك الأعراب ما كانوا على ملة غير الإسلام، ولا ثبت أنهم يرتكبون مخالفات للشريعة في ذبحهم، وإنما وقع في نفوس بعض الناس شك في تسميتهم على الذبح لحداثة عهدهم بالكفر، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يفيدهم أن أعمال المسلم- وإن كان جديد عهد بالإسلام- محمولة على موافقة الحق ما لم يثبت خلافه له.
وأما ما استأنسوا به من كلام ابن العربي الذي يبيح أكل الدجاجة التي يفتل عنقها النصراني، فهو مدفوع بما نص عليه ابن العربي نفسه قبله بسطور معدودة وهو قوله: "فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس, فالجواب أن هذه ميتة , وهي حرام بالنص، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن، كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا".
فيا ترى هل نترك من كلامه ما وافق الدليل القرآني إلى ما خالفه؟ على أن أي أحد وإن بلغ ذرى المراتب في العلم والفضل لا يحتكم إلى كلامه مع قيام الدليل الشرعي، بل يحكم الشرع في كلامه، لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59](10/528)
أما محاولة الجمع بين الكلامين بأن يحمل المنع على غير ما يعتقدونه ذكاة عندهم، والإباحة على ما اعتقدوه تذكية فهي محاولة فاشلة، لأن الصورة واحدة وهم هم أنفسهم، على أنه يفيد كلامه أن ذلك يحرم علينا وإن كانوا هم في اعتقادهم له مستحلين، بدليل تمثيله بالخنزير وبقوله بأنه حلال لهم ومن طعام وهو حرام علينا.
على أننا لا نسلم أن الخنزير حلال لهم، فإنهم لم يأكلوه استنادا إلى نص كتاب على حله، ولكن بفتوى من أفتاهم بذلك من رهبانهم، ومثله الميتة- ومنها المنخنقة والموقوذة- إذ النصارى لم يبح لهم إلا ما أباحته التوراة إلا ما كان تحريمه في التوراة وقتيا عقوبة لليهود على سوء صنيعهم وشططهم في العناد ومكابرة الحق.
على أنه لو ادعى أحبارهم ورهبانهم حل ذلك لهم لم يصدقوا فيه كما قال الإمام الرهوني: "كيف يقبل قولهم بعد إخبار الله تعالى عنهم بأنهم حرفوا وبدلوا حسبما أفصحت بذلك الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة النبوية ... " إلى أن قال: "على تسليم تصديقهم تسليما جدليا فلا وجه في تصديقهم أن المنخنقة والمسلولة العنق والموقوذة المضروبة في الرأس بشاطور مثلا حلال عندهم، وعدم تصديقهم في أن الميتة والخنزير حلال عندهم، وما فرق به- يعني أبا عبد الله الحفار المنتصر لرأي ابن العربي- من أن الله قد كذبهم في الميتة والخنزير دون المضروبة بشاطور مثلا، وما ذكر معه لا يصح؛ لأنه إن عنى أن الله كذبهم في إخبارهم بحليتها، فليس في القرآن ولا الأحاديث شيء من ذلك، وإن عنى أن الله كذبهم بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] فهذه مصادرة، لأن الله قد كذبهم فيما زعم أنهم يصدقون فيه، لأنها إما منخنقة أو موقوذة، وقد ذكر الله حرمة كل واحدة منهما في الآية نفسها بقوله عز من قائل: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} الآية، وقد قال ابن العربي نفسه في الأحكام ما نصه: "وأما قوله والمنخنقة فهي التي تختنق بحبل بقصد، أو بغير قصد أو بغير حبل ".(10/529)
هذا وأما استدلال ابن العربي لحلية طعام الكتابي مطلقا بأنهم يعطوننا أولادهم ونساءهم ملكا في الصلح فيحل لنا وطؤهن فكيف لا تحل ذبائحهم والأكل دون الوطء في الحل والحرمة، فهو غير مسلم إن كان ذبحهم خنقا أو وقذا لمجيء النص القطعي بحرمة الموقوذة والمنخنقة، فهو قياس في مقابلة النص على أنه يترتب على قوله أن تباح بسبب ذلك ذبائح المشركين، فإن ما ذكروه من حكم الأولاد والنساء لا ينحصر في أهل الكتاب دونهم، وللعلامة الرهوني في رد احتجاج ابن العربي هذا بحث موسع اكتفينا عنه بما ذكرناه فليرجع إليه من يشاء الاطلاع والاستفادة.
ثم ذكرت بعد ذلك أنه نظرًا إلى أن كون اليهود أكثر التزاما من النصارى -أو من الذين يدعون النصرانية - في الذبح فإن جماعة من المشايخ أوصوا بأن يأكل المسلم عندما لا يجد ذبيحة المسلم في بلاد الغرب مثلا يأكل ذبيحة اليهودي، لأجل محافظته على الطريقة الشرعية في الذبح، لا على ذبيحة من يدعي النصرانية.
ذكرت بعد ذلك ملخصا لما جاء في البحث وهو بين أيديكم.
ونسأل الله تعالى التوفيق للخير، وأشكركم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/530)
الدكتور محمد الهواري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد أغناني الإخوة الذين تقدموني بالبحث عن تناول النواحي الفقهية والأمور المختلفة التي تعرضوا إليها، وسيكون تركيز بحثي- بإذن الله- على الطرق الحديثة التي يجري عليها الذبح الآن في المجازر الغربية في أوروبا. وقبل أن أبدأ الحديث، فلا بد لي من بعض الملاحظات في هذا الموضوع, لم يبحث فقهاؤنا القدامى هذا الموضوع أصلا، لأنه لم يكن واقعا في عصرهم، فكان لا بد من الاجتهاد - أي في موضوع الطرق الحديثة في الذبح- بالرأي على ضوء ما تقرر في هذا التشريع الإلهي من مبادئ وأحكام، وخاصة بعد تطور وسائل ذبح الحيوان وإماتته بغية تحصيل لحمه للطعام، وهي وسائل فنية متطورة ذات قدرة فائقة على الإنتاج الكبير للحم وتصنيعه وتعليبه أو تجميده أو تجفيفه في المصانع الحديثة.
ومما يؤسف له أن العالم الإسلامي في معظم أقطاره أصبح يعتمد في تأمين غذائه على ما يستورده من الخارج، وفي طليعة ذلك اللحوم والحبوب.(10/531)
وقبل الوصول إلى الحكم في اللحوم المستوردة وأمثالها لا بد لنا من الإشارة إلى الحقائق التالية:
1- إن الغاية من إنشاء المجازر الصناعية الحديثة التي تستورد منها اللحوم هي إزهاق روح الحيوان بغية تحصيل لحمه للطعام، وليس هناك غاية أخرى كالذبح للكنيسة أو أب أو لفلان من الناس، ولا محل في الواقع الحالي لهذا الأمر.
2- لا تسمح القوانين السائدة التي تحكم المجازر الحديثة بأكل لحم الميتة ولا بتسويقها, هذا من حيث الأصل.
3- تتمتع جمعيات الرفق بالحيوان بنفوذ كبير جدا، ولها تأثير على التشريعات الخاصة بالحيوان، وهي تدعو دائما إلى الرفق بالحيوان وعدم استعمال أي أسلوب يؤدي لتعذيبه وإيلامه عند الذبح، وتصل في ذلك إلى حد المبالغة.
4- فهم بعض العلماء من الطرق التي تتبع قبل ذبح الحيوان أنها تستعمل لقتل الحيوان، ومن غير بينة ووضوح أفتوا بحرمة التدويخ أو الصعق الكهربائي والصرع بالمسدس، وأرادوا تحريم أية ذبيحة يستعمل فيها المسدس للصرع أو الكهرباء للتدويخ, ونحن معهم في أن ما يموت بالصرع أو بالصعق من غير ذبح حرام، ولا يجوز أكله أبدًا، ولكن الواقع يخالف ذلك. طريقة الصرع أو التدويخ لا تقتل الحيوان، ولكنها تؤدي إلى فقدان وعيه ووقوعه، ثم يذبح بعد ذلك ذبحا كثيرا ما يتوافق مع متطلبات التذكية الشرعية.
وقد كنت عضوًا في لجنة مكونة من أطباء بيطريين يمثلون بلدان السوق الأوروبية المشتركة، وأجرينا تجارب في مدينة جامبلو ببلجيكا على عجول جرى تدويخها بالمسدس الواقذ, وثبت لنا أن قلب الحيوان استمر في النبض لأكثر من (10) دقائق، ثم جرى ذبحه فأنهمر الدم منه بشدة.
5- وفي مناسبة أخرى، تمت دراسة تجريبية على خروفين كنا في لجنة ومن ضمن أفرادها الشيخ ابن الخوجة وذلك عام 1986 م، أحدهما بالغ بوزن (35) كغ، والآخر فطيم يزن (18) كغ، وأخضع الحيوانان لشروط متماثلة من التدويخ باستعمال تيار كهربائي يبلغ كمونه (300) فولط، وشدته (1.25) أمبير، لمدة (3) ثوان، وذلك بتطبيق المسريين على الصدغين.
وظهرت على الحيوانين المظاهر الوصفية التوترية والرمعية (الارتجافية) للصرع قبل أن يتماثلا للشفاء التام.
وقد دلت هذه التجربة على الطبيعة المعكوسة للتدويخ الكهربائي ضمن الشروط الموصوفة، أي عودة الحيوان بعد التدويخ إلى وضعه الطبيعي الذي كان عليه، كما لم تظهر أي آثار إضافية متعلقة بعمر أو حجم الحيوان الفتي.
6- طريقة التدويخ بغاز ثاني أكسيد الكربون co2 على الرغم من عدم انتشارها في تدويخ الماشية والشياه حتى الآن، إلا أنها لا تهيج الحيوان، وتنشط التنفس والدورة الدموية، مما يسهل معه نزف دم الحيوان، ولا تعطي لحوما ذات نقط نزفية، ولا تحدث تغيرات في درجة حموضة اللحم.
7- تقضي القاعدة العامة في الإنتاج الصناعي أن يذبح الحيوان فورا بعد التدويخ، لأن التماهل في ذلك يؤدي إلى خفض الإنتاج، وهذا يتعارض مع المبدأ الاقتصادي والصناعي.(10/532)
أما ما يتعلق بطرائق الذبح فسنتعرض لها الآن- إن شاء الله-:
1) التذكية الشرعية: موضوع الذبائح من الأمور التعبدية في الشريعة الإسلامية، وهي مما يتقرب به الإنسان المسلم إلى الله تعالى كما هو الحال بإراقة الدماء في الأضحية والهدي، وينال الثواب بإطعام الفقراء والجيران والأهل من ذبيحته. والأصل في الذبح عند المسلمين أن يكون بدون تدويخ للحيوان، لأن المسلمين يرون أن طريقة الذبح الإسلامية هي الأمثل؛ رحمة بالحيوان وإحسانا لذبحته وتقليلًا من معاناته، وقد تأكد لنا هذا بالتجربة العملية.
2) ذبح الحيوان بعد التدويخ:
تقضي القوانين الغربية بأن إزهاق روح الحيوان يمكن أن يتم بأية طريقة إرادية تؤدي إلى موت الحيوان الأهلي أو الزراعي بغية الاستهلاك الغذائي.
وتشترط هذه القوانين أن لا يلجأ إلى ذبح أي من الحيوانات الفقارية إلا من قبل شخص مؤهل تتحقق فيه الخبرة الكافية بأصول الذبح، حسب الطريقة المستعملة والتي من شأنها أن تقلل ما أمكن من ألم الحيوان. وبصورة عامة لا تجيز القوانين الغربية ذبح الحيوانات إلا بعد تخديرها أو تدويخها بطريقه يقبلها القانون ووفقا لظروف الذبح ونوع الحيوان, ويستثني كثير من التشريعات الغربية الحالات الاضطرارية القصوى التي تجيز الذبح بدون تدويخ، وخاصة بالنسبة لبعض الطوائف الدينية كاليهود بصورة عامة، والمسلمين في عدد محدود جدا من البلدان الغربية، أو حالات الذبح التي يتطلبها تصدير اللحوم إلى بعض الدول الإسلامية, وقد أجاز بعض الدول الغربية التي اعترفت بالإسلام أن يذبح المسلمون على طريقتهم الشرعية في المجازر المرخصة، وبدون تدويخ مسبق، وتحت إشراف الرقابة الصحية اللازمة.
لا تجيز القوانين الغربية تسويق لحوم الحيوانات الميتة، ولكنها لا تشترط بوضوح في طرق التدويخ أن لا تؤدي إلى موت الحيوان قبل الذبح.(10/533)
وسنستعرض فيما يلي أشهر الطرق الحديثة المتبعة في تثبيت الحيوانات المختلفة وتدويخها وذبحها:
أولا- تثبيت الحيوان أثناء التدويخ والذبح:
يستعمل لحجز الماشية نموذجان مشهوران من الصناديق الخاصة هما:
1) الصندوق الدوار من نموذج واينبرغ weinberg:
وهو يتكون من جدار أمامي ينتصب إلى حوالي نصف ارتفاع الحيوان، ويشتمل على حاصرة تحجز رأس الحيوان وتشده نحو الأمام والأعلى، ومن باب خلفي يدفع الحيوان نحو الأمام، ومن جدارين جانبيين يقومان بحصر الحيوان من خاصرتيه, ويرتبط بالصندوق سكتان معدنيتان دائريتان تسمحان بدوران الصندوق (180) درجة، وفقا لمحور أفقي لتسهيل عملية الذبح.
2) الصندوق الثابت من نموذج سينسيناتي Cincinatti.
يتكون الصندوق من جدار أمامي يصل إلى نصف ارتفاع الحيوان. ومن حاصرة للرأس، ومن باب خلفي يدفع الحيوان نحو الأمام، ومن جارين جانبيين أحدهما ثابت والثاني متحرك، ومن لوح بطني يسند الحيوان ويحميه من السقوط.
أما الحيوانات الصغيرة كالخراف والماعز فيتم تدويخها مباشرة دون حاجة إلى تثبيتها.(10/534)
ثانيا- التدويخ:
هناك (5) طرق رئيسية مستعملة:
1) تخريب المادة البصلية النخاعية، وذلك بإحداث ثقب في جوف الجمجمة بواسطة مسدس واقذ مزود بساق مصادمة، تنتهي برأس إبري أو برأس نصف كروي.
2) التدويخ بالصدمة الكهربائية.
3) التدويخ بغاز ثاني أكسيد الكربون.
4) التدويخ بضرب الحيوان على الرأس بالمطرقة أو بالبلطة.
5) الخنق بالطريقة الإنكليزية.
1-التدويخ بالمسدس ذي الواقذة الإبرية:
يتألف المسدس من كتلة معدنية تسمح بوضع متفجر ناري يدفع ساقا تصادمية مرتدة تنتهي برأس إبرية، وتؤدي الطلقة إلى أن تقوم الساق بإحداث ثقب نافذ إلى دماغ الحيوان، يؤدي إلى فقدان الوعي بشكل فوري نتيجة لتخريب جزء من البنية الحية من الدماغ، كما يؤدي إلى زيادة عنيفة مفاجئة في الضغط , ويختلف مكان وضع المسدس باختلاف الحيوان وعمره.
أ) ففي الماشية يغرز الساق في وسط الجزء الجبهي، ويكون بوضع أخفض في العجول لأن القسم العلوي من الدماغ فيها قليل النمو.
هذا وإن توجيه رأس المسدس في العجول نحو الرقبة (القذال) يؤدي إلى شلل فوري، إلا أن فقدان الوعي لا يحدث إلا بعد مرور (20) ثانية من تحرير الطلقة.
ب) وفي صغار المجترات يتم تصويب الطلقة في القسم العلوي من الرأس باتجاه زاوية الفك.
ج) وفي ذوات القرون من الخراف والماعز، يوضع المسدس مباشرة خلف الخط الواصل بين القرنين وتصوب الطلقة باتجاه الفم.
د) أما في الخيل فيتم إحداث الصدمة فوق نقطة تقاطع الخطوط الواصلة بين العين من طرف والأذن في الطرف الآخر.(10/535)
3- التدويخ بالصدمة الكهربائية:
تستخدم هذه الطريقة لتدويخ صغار العجول والشياه (الخراف والماعز) والأرانب والدواجن. ولهذه الغاية تستخدم آلة تشبه الملقط متصلة بمأخذ كهربائي, يثبت طرفا المقلط على صدغي الحيوان، ويمرر تيار كهربائي ذي شدة معينة وفولطاج محدد ولمدة ثابت، في الغالب تكون 3- 6 ثوان، وتختلف جميعها باختلاف الحيوان.
يحدث فقدان الوعي مباشرة نتيجة إلى اللاتقاطب الكبير في العصبونات الدماغية, وهو يسبق عادة حدوث طور من التقلص العضلي المزمن الذي يلاحظ قبل المرحلة النهائية من الارتخاء.
أ) هذا والأمثل في الحيوانات الكبيرة أن تطبق المساري الكهربائية على جانبي رأس الحيوان بين الحجاج وقاعدة الأذن، وذلك باستخدام تجهيزات خاصة تسمح بتعديل شدة التيار الكهربائي وكمونه الذي قد يصل إلى (1000) فولط.
ب) وفي حالة الخرفان لا يكون التدويخ كافيا إذا كان جلد الحيوان مغطى بالصوف في موضع التماس مع المساري الكهربائية، ولتجنب ذلك تستخدم مساري كهربائية ذات نهاية إبرية تسمح باختراق الصوف نحو الجلد مباشرة.(10/536)
ج) ومنذ نهاية الثمانينات تستخدم المجازر النيوزلندية الصدمة الكهربائية لتدويخ الماشية، وذلك باستعمال تيار كهربائي شدته (2.5) أمبير يؤدي إلى توقف القلب، وقد أدى هذا إلى مشاهدة مظاهر حبرية وكسور عظمية في جسم الذبيحة، مما يقلل من قيمة نوعية اللحم.
هذا وإذا لم يحدث توقف القلب، فيمكن للحيوانات أن تستعيد وعيها خلال بضعة عشر ثانية، وحينئذ لا تضمن هذه الطريقة الشروط المطلوبة لإراحة الحيوان عند الذبح.
د) ويتم تدويخ الدجاج آليا بالصدمة الكهربائية، بحيث يعلق الدجاج من رجليه على سلكين معدنيين ويغطس الرأس المدلى في مجرى مائي يتصل بمسرى كهربائي, يمر التيار في جسم الحيوان من الرأس إلى القدمين، ونظرًا لسماكة الجلد في القدمين المتقرنين يلجأ إلى إنقاص المقاومة الكهربائية برش الكلاليب التي تعلق بها الأقدام بالماء, يطبق مرور التيار لمدة لا تقل عن (4) ثوان, وتؤدي شدة التيار المستعمل إلى توقف القلب في (95 %) بالمئة من الحالات دون أن يؤثر ذلك بشكل ملحوظ على نزيف الدم بعد الذبح بقطع الرأس بسكين دوارة، بيد أنه لوحظ أن زمن النزف أطول من الوقت المعتاد بدون تدويخ, وكذلك لوحظ أن 10 % من الدجاج يموت أثناء هذه العملية، إن استعمال تيار كهربائي شدته (7.5) ميلي أمبير يعتبر كافيا لإحداث التدويخ، بيد أن هناك محذورا فعليا قد يؤدي إلى عودة الوعي إلى الحيوانات قبل أو أثناء الذبح.
ويتردد الخبراء المهنيون كثيرا في استعمال تيار كهربائي عالي الشدة لما يلاحظونه من زيادة كبيرة في النزف العضلي، والكسور العظمية المرافقة نتيجة لتقلص العضلات التشنجي بسبب التيار الكهربائي، وهذا ما يؤدي إلى تعارض المصلحة بين إراحة الحيوان ونوعية اللحم الناتج.
أما الدواجن كبيرة الحجم كالأوز والبط والديك الرومي وما شابه ذلك، فيتم ذبحها عادة يدويا وبدون تدويخ، نظرا لضآلة الإنتاج بالمقارنة مع الدجاج، ولثقل وزنها ولعدم تلاؤم وزنها وحجمها مع التقنية الآلية المتبعة في ذبح الدجاج.(10/537)
4- التدويخ بضرب الحيوان على الرأس بالمطرقة أو بالبلطة:
طريقة بدائية قديمة تتبع لتدويخ الحيوانات الكبيرة كالماشية والخيول وذلك بضرب العظم الجبهي للحيوان بمطرقة ضخمة تحدث ألما شديدا للحيوان وتفقده الوعي وينهار الحيوان مباشرة، ثم يتم ذبحه باليد.
وقد تخلت المجازر الحديثة عن هذه الطريقة البدائية، واستبدلت بها طريقة التدويخ بالمسدس الواقذ, في حين لا يزال يلجأ بعض الأفراد في القرى أو في المزارع إلى التدويخ بالمطرقة، وذلك لاستهلاك اللحم محليًّا.
5- التدويخ بغاز ثاني أكسيد الكربون:
أكثر ما تستخدم هذه الطريقة في تدويخ الخنازير، وقد يلجأ إليها أحيانا لتدويخ الشياه والماشية.
يحبس الحيوان في بيئة هوائية تحتوي على (70 %) من غاز ثاني أكسيد الكربون، ويبقى الحيوان محتفظا بوعيه خلال (20) ثانية ثم يحدث فقدان الوعي مباشرة، ويتبعه منعكسات حركية تستمر لمدة (10) ثوان, ولا يعتبر الخبراء ذلك نتيجة لمحاولة الحيوان في الفرار؛ نظرا لأن هذه الظاهرة تشاهد في المخطط الكهربائي الدماغي للحيوان بعد تخدير عميق.
تعقب المنعكسات الحركية حالة إرتخاء عضلي حينما يصبح الحيوان في حالة تخدير عميق، تستمر عادة من (2- 3) دقائق، ولا يؤدي هذا إلى توقف القلب إلا في حالات نادرة.
هذا وإن زيادة نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء تؤدي إلى تسريع عملية التدويخ، وهو ما يرغبه المهنيون.(10/538)
ويظن بعض العلماء البيطريين استنادا إلى قياس تركيز (الكاتشولامين Catecholamine) في البلاسما ولسلوك الحيوان الظاهري، بأنه لا يشعر بالألم ولا بالضيق أثناء عملية التخدير بالغاز, بيد أن هذا لا يتفق مع رأي كثير من العلماء الآخرين الذين يعتقدون بأن الحيوان يتعرض لحالة ضيق تنفسي شديد أثناء التخدير, وقد تأيد ذلك من خلال تجارب أجريت على متطوعين من البشر كانوا قد شعروا بالضيق التنفسي عندما تجاوزت نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء (40 %) .
ويرى بعض الخبراء أن التخدير بالغاز يضمن إراحة الحيوان إذا كانت الطريقة سليمة الأداء، وألا فالطريقة تؤدي إلى محاذير كبيرة إذا لم تتم حسب الأصول.
هناك دراسات حديثة تجري لمحاولة تطبيق هذه الطريقة على الدواجن، حيث يتم تدويخها في الأقفاص عند استقدامها إلى المجزرة، ويرون في هذه الطريقة أنها تجنب حالات التوتر التي تصيب الحيوانات عند إخراجها من الأقفاص وتعليقها في الكلاليب وطرح رأسها إلى الأسفل, ويبدو أن النتائج كانت مشجعة من حيث إراحة الحيوان ونوعية اللحم.(10/539)
6- الخنق بالطريقة الإنكليزية:
تعتمد على خرق جدار الصدر بين الضلعين الرابع والخامس، ومن خلال هذا الخرق ينفخ بمنفاخ (أو كير) فيختنق الحيوان نتيجة لضغط هواء المنفاخ على رئتي الحيوان، وهذا الاختناق يحول دون نزيف الدم وإنهاره, ولا نرى حاجة لبيان الحكم الشرعي لهذه الطريقة التي تؤدي لموت الحيوان بالاختناق، والمنخنقة محرم أكلها بالنص القرآني.
ثالثا- الذبح:
يتم الذبح بإنهار الدم: حيث ينزف منه حوالي (50 %) , وفي حالات توقف القلب تنقص كمية الدم النازف كثيرا وخاصة في الخراف والماشية، وينحبس الدم المتبقي عادة في الأحشاء.
يجري الذبح عادة في المجازر الأوروبية بقطع الجانب البطني من العنق بجرح ينفذ حتى الفقرات.
وقد نشاهد أسلوبا آخر يتم بإحداث قطع في جانب العنق، بحيث تفري السكين الأوعية الدموية والعمود الفقاري والرغامى والمريء.
وهناك أسلوب ثالث يجري بقطع الرقبة وخلع الموصل الفقهي القذالي (القذال: مؤخر الرأس والفقهة: فقرة العنق الأولى) .
هناك بعض الدراسات التي أجريت حول عملية إراحة الحيوان قبل الذبح. يمكن أن ننظر إلى إراحة الحيوان بصورة موضوعية من خلال (3) علامات رئيسية هي: الألم والكرب والوعي. ولا شك أن هذه العلامات متشابكة جدا ووثيقة الارتباط ببعضها البعض, فالألم يسبب الكرب ويتطلب الإحساس به، والكرب قد يحدث نتيجة لأسباب عديدة أحدها الإحساس بالألم، ومع فقدان الوعي يزول الكرب والإحساس بالألم.(10/540)
ا) الألم:
غياب الألم هو العنصر الرئيسي في إراحة الحيوان. ولذا كان من الضروري إنقاص الإحساس بالألم إلى حده الأدنى عند الذبح, ويعتبر هذا من الناحية العلمية من أصعب الأمور التي يمكن ملاحظتها عيانا, ولهذا ليس بالإمكان الاعتماد إلا على بعض المعايير الذاتية لمعرفة ما إذا كان الحيوان يتألم أو لا؟ وعلاوة على ذلك لا يمكن قياس درجة الإحساس بالألم بصورة كمية, وفي الواقع تختلف التفاعلات المشاهدة من فرد إلى آخر.
كما تعلمون جرى هنا في عام 1985 م اجتماع مشترك ما بين رابطة العالم الإسلامي ومنظمة الصحة العالمية وعدد من الخبراء المتخصصين في قضايا الذبح، وتشكل عن هذا المؤتمر نتائج هي التي ترونها في هذه النشرة، وتشكل عن ذلك عدة لجان تابعت عملها خلال سنين، من هذه اللجان اللجنة التي ذهبت إلى برلين عام 1986، ودرست القضايا المتعلقة بالصعق الكهربائي، وكان من بين أعضاء اللجنة فضيلة الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، ولجنة أخرى ذهبت إلى بريطانيا لدراسة الألم عند الحيوان والتخدير بالكهرباء، وكان في هذه اللجنة الأستاذ محمد عبد المنعم، وهو الذي قام بهذه الدراسات بشكل مباشر.(10/541)
الجدير بالذكر أن العلماء حتى الآن غير متفقين على معرفة أين يوجد مركز الألم؟ نحن نتألم في منطقة من الجلد أو في أي منطقة ما، لكن أين يوجد مركز الألم؟ هل هو في الدماغ؟ هل في جهة عصبية معينة؟ إلى الآن لم يتوصل العلم مع تقدم التجارب العلمية في هذا المجال إلى تحديد معرفة مركز الألم، هل هناك مركز للألم أم لا؟ الشيء المعروف على أن الألم يمكننا أن نتعرف عليه من خلال موضع شكة الدبوس مثلا، وهذه حالة ارتكاسات، أما الألم لا يمكن معرفته بشكل مباشر، كذلك لا يمكن قياسه بشكل كمي مثل أن نقول: عندنا (50) وحدة ألم، لا توجد عندنا هذه الإمكانية لمعرفة هذا.
أجريت بعض الدراسات العملية لمراقبة إحساس الحيوان بالألم عند الذبح، ولهذا الغرض وضعت أبقار بهدوء في قفص (سينسيناتي) وتم إحكام الحاصرة بصورة تسمح للحيوان أن يسحب رأسه كيفما شاء. وجرى ذبح الحيوان بدون تدويخ- الطريقة الإسلامية- مسبق وبإمرار السكين بحركة واحدة مستمرة. ولم يلاحظ أن أحدا من الحيوانات المذبوحة قد حاول أن يسحب رأسه، وشوهدت فقط علامات ارتجاف خفيفة لدى تماس السكين مع جلد الحيوان.
وإذا لمسنا أو صدمنا أطراف الجرح بالسكين، وانغلق الجرح على السكين يلاحظ أن الحيوان يبدأ بالتخبط, وإذا كان رأس الحيوان مشدودا تماما، وتم الذبح بحركة واحدة وسريعة، فإن أغلب الحيوانات ينهار مباشرة، وبقية الحيوانات تنظر فيما حولها وكأن شيئا لم يحدث أبدا، وهذا يدعو إلى الظن بأنها لم تستوعب ما حدث.(10/542)
(2) الكرب:
من الواضح أن الحيوانات تصاب بالكرب الشديد في المجازر وقبل القيام بأي نوع من التدويخ أو الذبح, وقد يتولد هذا أثناء عمليات نقل الحيوانات التي تجد نفسها مع حيوانات غريبة عنها وفي بيئة لا تعرفها مسبقا, وللتقليل من خوف الحيوان هناك بعض المبادئ السلوكية التي يحسن مراعاتها؛ وتأخذ جدارة العاملين أهمية كبيرة في هذه المرحلة, وعلى العامل أن يبقى بعيدا عن منطقة حركة الحيوانات، لتجنب حالات الهلع ومحاولة الهروب.
وتؤثر تسلية الحيوانات كثيرا على تهيجها وإثارتها؛ فالظل ووضع العاملين في مقدمة الحيوانات، وعدم توجيه النور الساطع إلى العيون مباشرة، وتخفيف الضجيج، وإخماد أصوات المحركات وصفير الهواء وقرقعة الصفائح المعدنية والصراخ، والتهوية المناسبة التي لا تحمل معها رائحة الحيوانات المذبوحة؛ كل ذلك يؤثر إيجابيا على راحة الحيوان وعدم إصابته بالكرب, وهذا يذكرنا بالأشياء المستحبة والمسنونة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملة الحيوان قبل الذبح والرأفة به.
وللدم أثر ملحوظ على الحيوانات، فإذا كان مصدر الدم من حيوان هادئ، فالملاحظ أنه لا يسبب أي خوف، بل قد يقوم بعض الحيوانات بلعق هذا النوع من الدم, وبالعكس إذا كانت هناك آثار من دم حيوان مكروب يتخبط، فالملاحظ أن الحيوانات الأخرى ترفض الدخول إلى صندوق التثبيت, ولقد تأكدت هذه الظاهرة بالنسبة لتأثير لعاب الحيوان الذبيح على الحيوانات الأخرى.
وتدخل الحيوانات بسهولة إذا ما تم غسل الصندوق بعناية، مما يشير إلى أن هناك مادة ذات رائحة خاصة تسبب هلع الحيوان.
ولقد أعيدت هذه التجارب على الجرذ، وتأكدت جميع المشاهدات السابقة.
ويعتقد بعض الباحثين أن هذه المادة التي توجد في اللعاب والدم هي الكورتيزولCortisol أو مادة أخرى يتم إفرازها مع الكورتيزول, ولا شك أن عملية إفراز الكورتيزول في البدن تتطلب بعض الوقت، ولهذا إذا قمنا بتهييج الكرب في حيوان بتأثير بيل كهربائي شديد النور في غرفة محصورة، فالحيوان التالي مباشرة يدخل الغرفة بسهولة ويبقى هادئا، ولكن إذا بقي الحيوان الأول محصورا فترة من الزمن في الغرفة، فالحيوانات الأخرى ترفض الدخول إلى المكان خلال عدة ساعات.(10/543)
3) الوعي:
إن فقدان الوعي هو العلامة المهمة جدا في إراحة الحيوان أثناء الذبح لأنه يضمن عدم الإحساس بالألم وإزالة مظاهر الكرب، ولهذا يجب الوصول إلى هذه المرحلة في أسرع وأقصر وقت ممكن.
إن استخدام المسدس الواقذ الإبري (الثاقب) يؤدي إلى فقدان الوعي آنيًا وبصورة غير معكوسة.
أما المسدس الواقذ الكروي والصدمة الكهربائية فهما يسببان فقدان الوعي بصورة وقتية محدودة ومعكوسة. واستدعى هذا أن يتم ذبح الحيوان بسرعة بعد التدويخ حتى لا تتحول حالة اللاشعور الناتجة عن عوز الأوكسجين إلى طريق استعادة الوعي والإحساس بالألم.
هذا، ولقد اعتمد في الدراسات المختلفة في مراقبة الوعي على قياسات الاستجابات البصرية وعلى قياس مخططات قشرة الدماغ.(10/544)
1- قياس الاستجابات البصرية الإيحائية:
يقاس النشاط الكهربائي لسطوح الدماغ البصرية بغرز مساري كهربائية في القشرة, ويتم التحريض بواسطة ومضة ضوئية flash موجهة إلى عيني الحيوان.
إن غياب الاستجابة الإيحائية في الدماغ يعتبر دليلا قاطعا على انعدام الوعي في الحيوان، ومع ذلك لا يعتبر وجود الاستجابات الإيحائية شاهدا جيدا للإدراك الشعوري، لأننا قد نشاهدها أيضا في الحيوان المخدر.
2-التخطيط الكهربائي لقشرة الدماغ:
عندما نغرس المساري الكهربائية في جمجمة الحيوان وفي مستوى قشرة الدماغ، نستطيع أن نقيس النشاط العفوي للدماغ.
يتميز المخطط الطبيعي للحيوان المستيقظ بظهور موجة ذات سعة ضعيفة وتواتر مرتفع. بينما تشاهد السعة المرتفعة والتواتر المنخفض في الحيوانات النائمة أو المخدرة، أما المخطط الكهرساوي (المتساوي التكهرب) فيدل على موت الدماغ.
في الخراف المذبوحة بدون تدويخ مسبق (الطريقة الإسلامية) يلاحظ انعدام الاستجابات الإيحائية بعد (2- 7) ثوان من القطع، ويصبح المخطط كهرساويا بعد (10-25) ثانية، ولا يتوقف القلب إلا بعد (10) دقائق من الذبح.
وإذا تم جرح الحيوان في جانب واحد من الرقبة (الطريقة اليهودية) فيتأخر انعدام الاستجابات الإيحائية إلى (29) ثانية.
وفي الماشية المذبوحة بدون تدويخ مسبق (الطريقة الإسلامية) تنعدم الاستجابات الإيحائية بعد (85) ثانية، ولا يصبح مخطط قشرة الدماغ كهرساويا إلا بعد مرور (132- 326) ثانية من الذبح.
وقبل أن يحدث موت الدماغ هذا تلاحظ تدفقات دورية للاستجابات الإيحائية، تستمر من (123- 323) ثانية. ومن الصعب جدا الحكم بأن هذه الاستجابات الملاحظة تدل على عودة الشعور.
وهذا كله يؤكد على حقيقة أن مطلب المسلمين في ذبح الحيوانات بدون تدويخ أمر له مبرر علمي ومبرر شرعي كما رأينا.(10/545)
لو سمحتم عندي توصية فقط.
الحقيقة نحن نعاني كمسلمين في الغرب، وكما تعلمون أن المسلمين في الغرب الآن يبلغ عددهم ثلاثة وثلاثين مليونا، يعانون كثيرا في التعامل مع الدول الغربية والسلطات المحلية في الحصول على أذون بالذبح على الطريقة الإسلامية بدون تدويخ.
بعض الدول ومنها بلجيكا صدر منها في العام الماضي قانون يجيز لجميع الطوائف التي تحرم على نفسها أكل الحيوان الذي يذبح بعد التدويخ، فيجيز لها أن تذبح بدون تدويخ. هولندا الآن في طريقها لإنجاز قانون بهذا الصدد.
نحن في ألمانيا على صلة مستمرة مع الدولة منذ أكثر من عشر سنوات لم ننجح إلى اليوم في الحصول على هذا، وأحد الأسباب أن الفتاوى التي صدرت عن بعض المؤسسات الفقهية المعتبرة- مثل الأزهر وغيره- كانت تجيز أنه طالما أن هذا الحيوان الذي يوقذ ويترك وهو حي وبعد ذلك يذبح؛ ففي هذه الحالة يجوز أكله لأن الذابح كتابي. نحن طبعا معهم في هذا المجال ولكن لا بد من توصية تقول بأن الدول الإسلامية على الأقل التي تستورد اللحم، لا بد أن تكون هذه اللحوم ناتجة عن حيوانات تذبح بدون تدويخ وأن يتم الإشراف عليها من هيئات إسلامية معتبرة، يمكن للمجع الفقهي أن يحدد أسماء هذه الهيئات، لأنه ثبت أن بعض الهيئات يتلاعب عليها ويُدفع لها مبالغ رمزية، ويدفع لها إيجار المكان ... إلخ، فتعطي الشهادات بدون مشاهدة حقيقية. فلا بد من تحديد هذه المراكز بشكل صحيح، وأن تعتمد شهاداتها من المؤسسات الرسمية مثل السفارات وغيرها.
أسأل الله أن أكون قد وفقت في شرح الأمور التي تساعد إخواننا الفقهاء على هذا الأمر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/546)
التعقيب
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
مما يلفت الانتباه أن مسألة التعبد في الذكاة يبدو أن الأوراق الثانية لم تأخذ حظها، لذلك وجهت بحثي نحو مسألة (وجه التعبد في الذكاة) والذي أثار هذا الموضوع ما جاء في تفسير المنار، وقال صاحب المنار: إن المسألة ليست من المسائل التعبدية وأنه لا شيء من فروعها وجزئياتها يتعلق بروح الدين وجوهره إلا تحريم الإهلال في الذبيحة لغير الله تعالى لأن هذا من عبادة الوثنيين، فحرم أن نشايعهم أو نشاركهم فيه.
هذه المسألة كأني بها قد استلت من ظاهر مذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، والذي أيضا تعرض لها الشيخ تقي ولكن بإشارة دون تفصيل.
قال ابن عبد البر (المتوفي 463 هـ) : "التسمية على الذبيحة من سنن الإسلام ". ثم زاد هذه الفكرة وضوحا وتأصيلا بقوله: "التسمية على الذبيحة سنة مسنونة لا فريضة، ولو كانت فريضة ما سقطت بالنسيان، لأن النسيان لا يسقط ما وجب عمله من الفرائض, إلا أنها عندي من مؤكدات السنن، وهي آكد من التسمية على الوضوء وعلى الأكل ".
وكأني بابن العربي - رحمه الله- قد تلقف هذا المبدأ وعمل على تأصيل هذه الحكمة بمناسبة تفسيره قول تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُم} [المائدة: 3] فقال: لا سيما والذكاة عبادة.(10/547)
إذن ابن عبد البر قال: "التسمية على الذبيحة سنة مسنونة" بينما ابن العربي قال: "الذكاة عبادة كلفها الله عباده للحكمة التي يأتي بيانها في سورة الأنعام "، وفيها يقول: "إن الذبيحة قربة بدليل افتقارها إلى النية، قالى تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: 37] ، وقال: إن ذكر الله مشروع في كل حركة وسكنة حتى في خطبة النكاح، وإنما تختلف درجاته بالوجوب والاستحباب ".
وإن ضابط العلم الذي يجمع أنواع التذكية هو أن يكون إزهاق روح الحيوان بقصد أكله، ويشترط في ذلك شرط ديني واحد هو: ألا يكون فسقا أهل لغير الله به من مسلم أو وثني مشرك بالله كالذين كانوا يذبحون على النصب. قال صلى الله عليه وسلم: ((سموا عليها ثم كلوها)) .
قال مالك: وذلك في أول الإسلام, وفيه من الفقه أن التسمية على الذبيحة من سنن الإسلام.
قال الباجي: " يحتمل أن يريد به الأمر بالتسمية عند الأكل لأن ذلك مما بقي عليهم من التكليف، وأما التسمية على الذبح تولاه غيرهم من غير علمهم فلا تكليف عليهم فيه، وإنما يحمل على الصحة حتى يتبين خلافها".
وقال المهذب: " وقد أجمعوا على أن التسمية على الأكل ليست فرضا، فلما نابت التسمية على الذبيحة دل على أنها سنة لأن السنة لا تنوب عن الفرض ".(10/548)
وفي تحرير مذهب الإمام الشافعي في حكم ترك التسمية عامدا، الشيخ تقي العثماني- حفظه الله- قال: إنه بالعودة إلى كتاب الأم لم ير هذا المذهب ولكن لو عدنا إلى ما قاله العلماء، قال ابن العربي: وإن تركها متعمدا كره أكلها ولم تحرم، وبه قال القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من أصحابنا وهو ظاهر قول الشافعي.
قال الخطابي: "وإذا ترك التسمية عامدا لم يحرم عند الشافعي رحمه الله والمسلم والكتابي في ذلك سواء".
وقال الخطابي أيضا: التسمية استحباب وليس بواجب، وسواء أتركها عامدا أم ساهيا، وهو قول مالك وأحمد، وإن تركها ناسيا لم يحرم عندنا. هذه خلاصة قول الخطابي.
وعلى أية حال دليل الشافعي، وأستدل له أيضا من كتبهم- رحمه الله- هو حديث البراء بن عازب وأبي هريرة رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم يذبح على اسم الله، سمي أو لم يسم)) وفي رواية قال: ((ذكر اسم الله تعالى في قلب كل مسلم)) وجه الاستدلال من الحديثين كون الذكر في قلبه في حالة العمد أظهر منه في حالة النسيان. ولما سئل ابن عباس - رضي الله عنهما- عن متروك التسمية قال: يحل تسمية ملته , وفي إقامة الملة مقام التسمية لا فرق بين النسيان والعمد. وسألت عائشة - رضي الله عنها- رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ((إن الأعراب يأتون بلحوم فلا ندري أسموا أم لم يسموا, فقال عليه الصلاة والسلام: "سموا أنتم وكلوا")) .(10/549)
إذن وجه الاستدلال في هذا الحديث هو أنه لو كانت التسمية من شرائط الحل لما أمرها بالأكل عند وقوع الشك فيها، ولأن التسمية لو كانت من شرائط الحل كانت مأمورة بها، وفي المأمورات لا فرق بين النسيان والعمد كقطع الحلقوم والأوداج، وكالتكبير والقراءة في الصلاة، إنما يقع الفرق في المزجورات كالأكل والشرب في الصوم، لأن موجب النهي عنه الانتهاء والناسي اعتقادا.
إذن هكذا يتحرر مذهب الشافعي أنّ تَرْكَ التسمية عامدا لا يمنع من صحة أكلها.
ثم في ذبح الآلات. الحقيقة بعد أن سمعنا ما سمعناه.. يا ترى: هل ذبح الآلات بعد الضرب والصعق- وما إلى ذلك من هذه الصور- هل يدخل تحت عنوان الذبح الاضطراري كالنطيحة والموقوذة والمتردية؟ والذبح الاضطراري كيف يحل بعد ذلك؟. الحقيقة أن ذبح الآلات الحديثة إذا سلمنا أن هذا الضرب والصعق لا يؤديان إلى القتل هنالك كلام للفقهاء وهو أنه يخرج على حكم التسمية على الذبيحة مسائل:
- لو أضجع شاة وأخذ السكين وسمي ثم تركها وذبح شاة أخرى وترك التسمية عامدا عليها لا تحل. كذا في الخلاصة.
- وإن أخذ سهما وسمي ثم وضع ذلك السهم وأخذ آخر ورمى لم يحل بتلك التسمية.
- وإذا أضجع شاة ليذبحها وسمي عليها ثم كلم إنسانا أو شرب ماء، أو حد سكيناً، أو أكل لقمة، أو ما أشبه ذلك من عمل لم يكثر حلت بتلك التسمية.
- وإن طال الحديث وكثر العمل كره أكلها، وليس في ذلك تقدير بل ينظر فيه إلى العادة، إن استكثره الناس في العادة يكون كثيرا، وإن كان يعد قليلا فهو قليل، ثم ذكر الكاساني في هذا الفصل لفظة الكراهة.
- ولو سمي ثم انفلتت الشاة وقامت من مضجعها ثم أعادها إلى مضجعها فقد انقطعت التسمية. كذا في البدائع.
- ولو أن رجلا نظر إلى غنمه فقال بسم الله، ثم أخذ واحدة فأضجعها وذبحها وترك التسمية عامدا، وظن أن تلك التسمية تجزئه، لا تؤكل. كذا في البدائع.
إلى آخر هذه الصور.(10/550)
وفي الحقيقة هنالك مسائل يمكن أن تدخل فيما يعرف الآن في الرفق بالحيوان, الحقيقة في باب الذبائح لا شك أن الفقهاء تكلموا في آداب الذبح وفيها من الآداب ما لا يرقى إليه قانون وضعي في العالم, لذلك يحسن أن ننظر إليه.
يقول الكاساني: " إن المستحب أن يكون الذبح بالنهار ويكره في الليل".
الأمر العجيب أنه قيل في دول معينة أنهم يمنعون الاصطياد بالليل لأنه وقت استراحة الطير, إذن هذا الكلام عندنا في النص وهو: والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ((نهى عن الأضحى ليلا وعن الحصاد ليلا)) ، وهو كراهة تنزيه، ومعنى الكراهة يحتمل أن يكون لوجوه:
أحدها: أنه دليل وقت أمن وسكون وراحة- ما هذا؟ شيء عجيب في الفقه الإسلامي فعلا في الحقيقة ينبغي علينا أن نخرج هذه الكنوز للعالم كله, فايصال الألم في وقت الراحة يكون أشد.
الثاني: أنه لا يأمن أن يخطئ فيقطع يده ولهذا كره الحصاد بالليل.
الثالث: أن العروق المشروطة في الذبح لا تتبين في الليل.
ومنها أنه يستحب في الذبح حالة الاختيار أن يكون بآلة حادة من الحديد كالسكين والسيف ونحو ذلك، ويكره بغير الحديد وبالقليل من الحديد، إلى آخره.
والأصل فيه ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز شأنه كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتهم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) . وفي بعض الروايات ((وليشد قوائمه، وليوجهه على شقه الأيسر، وليوجهه نحو القبلة، وليسم الله تعالى عليه)) ، والذبح بما قلنا أسهل على الحيوان وأقرب إلى راحته.
ومما يستحب التدفيف- أي الإسراع في قطع الأوداج- لما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وليرح ذبيحته)) والإسراع نوع راحة له.
ومنها: الذبح في الشاة والبقر، والنحر في الإبل، ويكره القلب في ذلك لما ذكرنا فيما تقدم.
ومنها: أن يكون ذلك من قبل الحلقوم ويكره قبل القفا لما مر.
ومنها: قطع الأوداج كلها، ويكره قطع البعض لما فيه من إبطاء الموت.
هذا ما أردت أن أذكره باستعجال، إلا أننا نود أن يلحظ في التوصيات الآداب الإسلامية في التذكية مما أورده ولي الله الدهلوي في كتاب (حجة الله البالغة) , وهذا ما أردت أن أضيفه وشكرا لكم,
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/551)
الشيخ محمد الحاج الناصر:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله على رسول الله وعلى آله وصحبه.
لن يكون تعقيبي في موضوع الذكاة الحديثة أو القديمة، لكنه في موضوعات تتصل بهذا الموضوع من قريب, وهي في تقديري الأسس التي ينبغي أن تعتمد في كل محاولة لاستنباط منهاج لتكييف حدث من الأحداث الحديثة بحكم الله- سبحانه وتعالى- في القرآن وفي السنة، ذلك بأن ما نصل إليه لا ينبغي أن يعتبر حكما، فليس لأي بشر مهما يبلغ علما وذكاء واجتهادا أن يزعم أن ما انتهى إليه فهمه واجتهاده هو حكم الله، إنما الحكم الحق لله سبحانه وتعالى، والذي تنتهي إليه أفهامنا هي محاولة لاجتلاء أو استكشاف حكم الله من نص قطعي أو ظني, ولذلك كان التابعون- رضوان الله عليهم, يقولون: الأشبه كذا. وكان أئمة الاجتهاد في الأول من بعدهم يقولون: أحببت أو كرهت، أو ما إلى ذلك من المعاني، ولا يقولون: حكم الله، بل لم يقولوا: الصحيح والضعيف إلا بعد القرن الثاني.
هذه الموضوعات أرجو أن تراعى حين يراد الاستنباط لمنهاج أو لطريقة لتكييف التوافق بين حَدَثٍ حَدَثَ وأحكام الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/552)
المناقشة
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الحمد لله على قربنا من جنابكم الممرع وروضكم المربع حتى أتيحت لنا الفرصة للتحدث في هذا الموضوع.
هذا الموضوع أعتقد أنه موضوع أطال فيه الإخوة الكلام في موضوعات لا تستحق أن تبحث هنا لأنها مفروغ منها, شروط الذكاة موضوعات معروفة في سائر أمهات الكتب، ونحن هنا شأننا الاتباع وليس الابتداع, الأشياء التي فرغ منها الفقهاء لا حاجة بإعادتها وتكرارها هنا.
في رأيي هناك أمور خاصة وإن كانت قد اختلف فيها قديما، هي التعامل مع ذبائح أهل الكتاب سواء في أرضهم أم تلك التي تستورد ونستوردها في بلادنا, والنظر في هذه القضية هو من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول- كما طرحه بعض الإخوان-: هل هم أهل كتاب؟ هذا السؤال طرح.
السؤال الثاني: كيف يذبحون؟
السؤال الثالث: هو تحقيق حالة هذا الذبح بمعنى أننا سمعنا أنواعا من إزهاق الروح أو الوسائل التي يجعلون بها البهيمة يغمى عليها، وهي وسائل متعددة وتحتاج إلى توضيح ليحكم على كل صورة منها بحكم يخصها.
سأتحدث عن هذه المسائل عن القضيتين: مسيحيتهم أو ذبائحهم التي ترد منهم.
أولا: الجواب على المسألة الأولى أقول: إنها مسألة طرحت أيام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أمير المؤمين علي - رضي الله عنه- في نصارى بني تغلب: إنهم لم يتمسكوا من المسيحية إلا بشرب الخمر، ومع ذلك فإن جمهور العلماء من الصحابة وغيرهم اعتبروهم نصارى فأكلوا ذبائحهم وقالوا: "من يتولهم منكم فإنه منهم " هؤلاء النصارى.
وكذلك اعتبروا السامرية من اليهود كما قال خليل: وإن سامرية. حتى ولو كان هذا الشخص سامريا فإنه يعتبر تابعا لتلك الملة. فاستصحاب الحال في من يدعي ملته هو الأصل، لكي يجب أن نرفع هذا الحرج, وقال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى أنه سأل مشايخه في القدس، في بيت المقدس عندما كان في الشام عن النصارى وقال: هل هم ما زالوا نصارى؟ فقالوا له: هم ما زالوا نصارى. والأمر في ذلك واضح لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] ،
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72]
ومع ذلك تركهم على كتاب, فالمسألة هي مسألة رخصة وليست مسألة عزيمة.(10/553)
هذا هو الجواب عن المسألة الأولى, إذن هم نصارى ومن ينتمي إليهم، وهذا الأمر ما زال حيا إلى اليوم.
أخيرا عين رئيس وزراء في فرنسا هو من الحزب الاشتراكي ولكنهم لاحظوا وقالوا: هذا أول بروتستاني يكون رئيس حكومة في فرنسا, كان الرؤساء كلهم من الكاثوليك، من نحلة الكاثوليك, إذن ما زال هذا حيا، وكل واحد عندما تقرأ عنه يقول: إن أبي بروتستاني أو كاثوليكي، إلى آخره، فهذه النسبة وهذا الإدعاء رخص الله سبحانه وتعالى لنا بعلمه ما سيكون ,وبقاؤنا معهم هذه الفترة الطويلة رخص لنا في التعامل معهم، فلنتعامل طبقا لذلك ولنستصحب الأصل ولا نحيد عنه إلا بيقين, هذه هي النقطة الأولى وفي رأيي أنها مهمة جدا ويمكن أن يبت فيها المجلس.
النقطة الثانية: هي مسألة الذبائح, الذبائح أولاً أريد أن أجيب على اعتراض وهو: هل الكافر يكون أزكى من المسلم في ذبيحته؟ الكافر.... أُعفينا من بعض القضايا ومن بعض الشروط، أعفينا من النية، وأعفينا من التسمية عند الكافر، حتى عند مالك: لو سمي عليه الصليب أو عيسى قال: أكره ذلك, ولم يقل أمنعه، وذهب كل أتباع مالك إلى أن الكراهة هذه على بابها. طبعا تعرفون أن مالكا قد يقول: أكره , لما يرى أنه من باب الحرام، ولكنهم قالوا: (أكره) هذه على بابها.
إذن سواء ذكر اسم الصليب أم المسيح فإن ذبيحته تؤكل عند مالك.(10/554)
إذن الكتابي له أحكام خاصة وشروط أعفيناه من تتبعها بالنسبة إليه,
هنا تأتي إشكالية أبي بكر بن العربي , أبو بكر العربي رحمه الله تعالى وكما قرره الحفار وغيره؟ هو شرط أشار الشيخ اليوم إلى كلامه، قال: إن ذبائحهم بالشكل الذي يذبحون به، وأوضح ذلك الشيخ الطاهر بن عاشور، فقال: "إذا كانت ناقصة عن ذبحنا" بمعنى أنه اعتبر النقص بالذبح، وقال: هذا النقص قد يكون بأن يضربوا بحديدة حادة الرأس، فأبو بكر بن العربي قال:
تؤكل لأنه في قوة الاستثناء، كأن الله سبحانه وتعالى قال: حرمت عليكم الميتة- وما أهل به لغير الله حرام - إلا إذا كان الأمر يتعلق بأهل الكتاب، كما استثنى الصيد فهو استثناء في قوة الاستثناء عندهم، هو تخصيص لذلك العام في تقرير مذهب أبي بكر بن العربي، لا أدافع عنه ولا أقول به أصلا، لكن أود أن أوضح مذهب أبي بكر بن العربي، لأنه رأى التخصيص، رأى آخر الآيات مخصصا لأولها، فمذهبه منطقي، ورأى أنه من باب الرخصة؛ فأهل الكتاب تجوز ذبائحهم حتى ولو كانت غير مطابقة لذبائحنا، وقال: آكل ما يأكله أحبارهم ورهبانهم, هذا هو تقرير مذهب أبي بكر بن العربي. ومع ذلك فإذا شككنا في أنهم لا يذبحون كذبحنا هنا قاعدة مهمة جدا, هذه القاعدة هي أن الشك في المقتضى يضر، بمعنى أننا إذا شككنا هل هذا مذكى أم ليس مذكى فالأصل في اللحوم كما يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله الحرمة، أنها حرام في اللحوم والأبضاع؛ قدم هذه القاعدة لأنها تقتضي شروطا معينة، إذا لم تتوفر هذه الشروط فلا يجوز الأكل. فهذا الاحتمال إذا كان قائما بناء على معطيات حقيقية فيجب أن نتجنب ذلك، أما إذا لم يكن قائما على معطيات حقيقية فالأصل أن الشك في المانع ليس مؤثرا. الشك في المانع لا يؤثر فيه: كطلاق وعتاق يؤثر، وعكسه الشرط كموقن ... هذا طبعا الفرق عند المالكية وليس عند غيرهم.(10/555)
إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يأكلون أجبان أهل الكتاب، وبعضهم كان يأكل أجبان المجوسي، وقد نسب ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية إلى سلمان رضي الله عنه وقال: " إنه كان يفتي بذلك "، وذكر حديث أبي داود، وقال: إذا كان هذا مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا نزاع في المسألة. وعمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى: "وما لم يتبين لكم - أي من الجبن- فكلوه، ولا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم "، مع أنهم قالوا: إنها تجبن بإنفحة الخنزير. وكذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أجاب امرأة لما سألته عن ذلك- كما ذكر صاحب المطالب العالية- فقالت: إنهم يجبنون بإنفحة الخنزير؟ فقال: " ما يصنع أهل الكتاب والمسلمون فكليه ". فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يكرهون السؤال عن مثل هذه الذبائح أو مثل الأجبان إذا كانت قادمة من بلاد أهل الكتاب.
يجب أن نضع ذلك في الاعتبار وألا نضيق على الناس، لكن إذا ظهر أنهم يأكلون الميتة وأنهم لا يذبحون أو أن هذه الذبائح تموت قبل أن تذبح، إذن هذا أمر مهم جدا، لو صعقها أو دوخها فلم تمت إلا بعد أن ذبحت فهي حلال على مذهب الثلاثة خلافا لمالك، لأن مالكا يرى الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] استثناء منفصل، بينما يرى غيره أنه متصل, بمعنى أن مالكا لو أنفذ مقتلها ما نفعت الذكاة عنده، بينما الثلاثة يرون أنه استثناء متصل، أي هذه المذكورات إذا ذكيت قبل أن تموت، فإن الذكاة تنفع فيها. مالك قال: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة لا تنفع فيها ذكاة إذا أنفذت مقاتلها، وأن (إلا) هنا هو استثناء منفصل أي: وما ذكيتم فإنه يجوز لكم أن تأكلوه. هذا هو التعليق على هذه المسألة.
حسبنا أن نتبع أقوال الفقهاء، وحسبنا أن نفهم أقوالهم وأن نستنبط من أقوالهم.
نقطة أخيرة هي ما يتعلق بالمقترحات، وأعتقد أن هذه المقترحات هي متنوعة، وقد قدمها الإخوان، ويجب أن تقدم إلى إخواننا في بلاد الغربة، وأن تقدم إلى دول المسلمين والجهات المختصة حتى تطبقها؛ لأنها عندما تشير بأصبعها إلى هذه الشركات ستلتزم بالذبح الشرعي. الذي ينقص فقط هو شيء من الهمة وشيء من الاهتمام.
فأنا أرجو أن يؤكد مجلسنا هذا ذلك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/556)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
كلامي ينحصر في متروك التسمية عمدا وفي ذبائح أهل الكتاب وفي الطرق الحديثة للذبح الآلي أو المسالخ الآلية.
أما ما يتعلق بمتروك التسمية عمدا فأؤيد ما حققه الشيخ خليل بأن المذهب الشافعي يجيز ذلك مع الكراهة، وأن ما نقل عن الأم ليس بالضرورة أن يكون هو المذهب, فلذلك كثيرا أو بعض الحالات رجحها المتأخرون وخصوصا محرر المذهب الشافعي الإمام النووي، فليس دائما الاحتكام إلى الأم حجة في المذهب الشافعي، والدليل على ذلك أن الأوضاع الحديثة خصوصا المسالخ الآلية يتعذر فيها تحقيق التسمية، وأن الإمام الشافعي في هذا رفع الحرج عن الأمة في العصر الحاضر حينما أجاز ذلك.
والتسمية خلافا لما ذكر الشيخ تقي العثماني من أنها تعد ركنا بل إنما هي شرط عن القائلين بضرورتها، فليست التسمية من الأركان، وإنما هي من الشروط بدليل أنه مرة ذكرها وقال: إنها شرط، في آخر كلامه، وأغلب المرات قال: إنها ركن.
فإذن مترك التسمية عمدا في الواقع الأدلة على جوازه، منها حديث الدارقطني ((اسم الله على فم كل مسلم واسم الله على قلب كل مسلم)) فهذا مفترض فيه ويرفع الحرج عن المسلمين.(10/557)
وأما الحديث الذي ذكره فضيلة الشيخ تقي في رواية البخاري: "إن قوما حديثي عهد بالإسلام " هناك روايات أخرى: "إن قوما من أهل الكتاب يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: سموا الله عليها وكلوا" فهذه هي الرواية الأشهر وليست رواية البخاري. أيضا ما يتعلق بالتسمية، هناك أمور نرجو أن نوضحها، الآن يتعذر تحقيق التسمية في المسالخ الآلية، فما المانع من أن يوضع جهاز تسجيل وتسجل عليه التسمية، لأن فتح المسجل يعد فعل فاعل، وتكرار ذلك كأن إنسانا يكرر، كما أن أغلب البلاد الإسلامية تعتمد في الأذان على الأذان المسجل, فلذلك إذن فعل الفاعل يكفي, وكذلك لابد من الاتجاه إلى أن نقول: إذا تعذر ذلك فالتسمية على المجموعة في حكم التسمية أيضا على كل ذبيحة من هذه الذبائح لأنه يتعذر يقينا إذ بثوان معدودة قبل أن ينطق الإنسان بالتسمية الآلة تذبح العشرات، ونحن لا نستطيع أن نلاحق الآلة في قضية تكرار التسمية.
فإذن من الممكن أن نعتمد على المسجل، ومن الممكن أن نكتفي بالتسمية على المجموعة، ولا يشترط أن يكون على كل واحدة منها.(10/558)
قضية الذبح الآلي: في الواقع أثيرت هذه القضية عندنا في عام1965، وجاءنا مدير المسلخ الآلي حينما أرادوا إقامة المسلخ وقال: إنه درس في أوروبا، وأنه أكد لنا أن الأوروبيين حريصون كل الحرص على استنزاف الدم، لأنهم أصبحوا يصنعون الدم ويأكلونه، فإذن هم حريصون على أن تذبح الذبيحة وهي في حالة الحياة، وأما أنها تكون ميتة فهم بعيدون كل البعد عن ذلك في الغالب كما حقق الدكتور الهواري، وأنه يعيش في البلاد الغربية.
فالواقع من هذه الناحية ينبغي أن نلاحظها, وأما إذا تحققنا من الموت بقضية الصرع بمسدس قاتل، فلا شك أنه لا يؤكل، لكن إذا كان التأثير بالكهرباء أو بثاني أكسيد الفحم أو بشيء أخف من هذا ما لم يكن ببلطة يهشم الجملة العصبية، فحينئذ لا مانع من أكل هذه الذبائح خصوصا وأن الذبح بعد هذه الأشياء التي استخدموها لتثبيت الحيوان ومنع مقاومته للآلات، إنما تتم العملية بسرعة فائقة التصور، يعني لا يكاد أن تمر لحظات وهي أقل من نصف دقيقة ما بين التخدير أو التدويخ وبين إجراء الذبح بالمسالخ الآلية, وهذا طبق في البلاد الإسلامية ولم يعد محصورا في البلاد الغربية, أما الذبائح المستوردة من أهل الكتاب، فالواقع أن الفقهاء كلهم قرروا أن ذلك مكروه بالتأكيد. وهناك مذاهب ثلاثة لا تجيز فعلا ذبائح أهل الكتاب، وهذه المذاهب هي: الإمامية والإباضية (على لسان سماحة المفتي كما فهمنا) وعمليا الفقه الشافعي لا يجيز ذبائح أهل الكتاب. الشافعية في الواقع يشترطون شروطا تمنع من أكل ذبائح أهل الكتاب، فيشترطون في النصراني أن يعلم أن أصوله دخلوا في الدين المسيحي قبل نسخه، ومن يستطيع أن يعلم أن الشخص الفلاني دخلت أصوله في الدين المسيحي قبل مجيء الإسلام؟ وأما اليهود فالشرط أخف، قالوا: ألا يعلم أن أصوله دخلوا في الدين اليهودي قبل نسخه، فالشرط هنا أخف, التمييز لأنه يظهر أنه أسبق في الزمان ويتعذر تحقيق هذا الشرط.
الواقع هذا الشرط عند الشافعية أخف، هكذا أنا أنقل المذهب الشافعي، بمعنى الشرط عند الشافعية في ذبائح اليهودي أخف من شرط ذبيحة النصراني، لأن النصارى متأخرون وقريبون من الإسلام أما اليهود فأقدم منهم فيتعذر تحقيق هذا الشرط من قبيل دفع الحرج أو ما شاكل ذلك.(10/559)
فهذه المذاهب في الحقيقة بعضها يمنع صراحة على الرغم من وجود النص القرآني {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وبالإجماع قالوا: إنها الذبائح كحل نساءهم أيضا.
فنحن أمام هذا الواقع ينبغي أن نختار ما يتيسر لنا في حال الحاجة أو الضرورة، لكن إذا لم نحتج إلى هذا؛ فالأولى تجنب الأكل من كل هذه اللحوم المستوردة، وخصوصا وأنهم يلبسون الأمور علينا ويدلسون في كثير من القضايا.
أشار فضيلة الشيخ محمد الأشقر إلى قضية مجهول التسمية. الواقع الأخذ برأي ابن تيمية في هذا الموضوع فيه كما ذكر أنه نعمة , وهذا وضع سليم ويمكن الأخذ به، لكن أشار إلى قضية الذبح للولي, أنا خلافا لما ذكره من إحصاءات هذه ظاهرة منتشرة بين العوام ينذرون للأولياء والعلماء والصحابة وغير ذلك، لكن ما سألت إنسانا من هؤلاء العوام حينما يذبح: هل يذبح لذات الولي أو ينذر لهذا الولي؟ في الواقع لم أجد أحدا ولو كان أميا إلا ويقول: الذبح لذات الله عز وجل, هو يسيء الاستعمال فقط, ينبغي أن نعلمه ونبين له، وخصوصا المسيطر على أوضاعنا العامة هم العوام، نحن لا نمثل شيئا في المجتمع الإسلامي إلا القليل، ولا نمارس هذه الأمور، هم يمارسون الذبح والتجارة والصناعة وكل شيء، فما سألت أحدا إلا قال: أنا أذبح بسم الله وعلى اسم الله ومن أجل التقرب إلى الله عز وجل ولا يذبح لذات هذا الولي، وإن أساء التعبير فهو يتأوله فورا حينما نناقشه في هذا الموضوع.
وقضية اتهام الناس في عقائدهم ليس من السهل وألا كان يكفر إذا ذبح.
صحيح أن بعض الناس يذبحون بين رجلي رئيس من الرؤساء حينما يأتي أو عند قدوم الحاج، هذا بالتأكيد لا يؤكل لأنه ذبح من أجل غير الله عز وجل، وليس فيه تعظيم ولا عبادة، فهذا لا يؤكل قطعا. الآية الكريمة: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]
الرئيس:
طيب، ما هو الفرق بين هذه الصورة وبين صورة الذبح لولي؟(10/560)
الشيخ وهبة:
هم هناك بين رجلي الولي، بين رجلي القادم، واضح أن الذبح لغير الله عز وجل، أما هنا فالولي ميت ولا يوجد تصور لا مادي ولا معنوي ولا شيء من هذا القبيل.
الرئيس:
عمل العوام ليس حجة على الشريعة يا شيخ، النصوص صحيحة صريحة، ومع تقديرنا لكلامك لا يمكن قبول هذا الشيء يا شيخ. والشيخ محمد الأشقر ذكر أنه يصعب التفريق بين هاتين الصورتين فألحقت أحداهما بالأخرى.
الشيخ وهبة:
نحن نعلمهم لكن لا نتهمهم، لأننا إذا سألناهم بالإجماع , أنا أسألهم حينما يستفتوننا في هذه القضايا ونسمعهم لا نقرهم نحن على هذه الحال إطلاقا، لكن هل نقول: إن هذه الذبيحة لا تؤكل؛ أغلب الناس يأكلونها، والفقراء يعيشون على هذه القربات التي تأتي إلى المساجد ويعلمون بالتأكيد أن القصد هو لله عز وجل، والذبح على اسم الله، ويسمون ولا يريدون ذات هذا الولي ولا غيره من هذا القبيل. أنا هذا ما أحصيته، على العموم القضية قضية استقراء وإحصاء.
أيضا قضية المستورد من الهند , يعني دائما نتردد في دعوة فضيلة الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي إلى الهند بمجمع الفقه الإسلامي، فالمعروف طبعا أن الهنود أغلبهم بوذيون وهناك مسلمون، فتحرجت في الأكل فسألت، فقالوا لي: اطمئن كل الذبائح التي تذبح في الهند هي من المسلمين، لأن الهنود لا يقدمون على هذا العمل، وهذه أيضا تيسر لنا حينما نزور الهند، لأن من طبيعة الهندوس أنهم لا يأكلون اللحم، ولذلك المسلمون هم الذين يأكلون هذه الأشياء.(10/561)
قضية الذبح من القفا: في الحقيقة هذا وإن كان مكروها لكنه جائز، صحيح أن فيه شيئا من التعذيب خصوصا المذابح، المسالخ الآلية تذبح بسرعة فائقة التصور، فلا يتصور ما قاله بعض الفقهاء أنهم إذا ذبحوا من الحلق يصبح ميتة، حينما تصل السكين إلى الودجين يكون قد مات لأنه قطع النخاع الشوكي، العملية الآن في المسالخ الآلية سريعة جدا ولا نتحرج من أكل هذه الذبائح.
قضية قطع الأوداج, في الواقع أنا أميل إلى ما قرره الأطباء وقرره أغلب الفقهاء من أنه لا بد من قطع الودجين لأن بهما نستنزف دم الحيوان، وأما الاكتفاء كما ذكر الشافعية بقطع الحلقوم والمريء، فهذا في الحقيقة محل نظر، ويخالف ما عليه الواقع.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
أحب أن أذكر الشيخ وهبة بمسألة التنظير بالأذان المسجل أنه سبق وأن صدر قرار المجمع الفقهي بالرابطة على عدم جواز ذلك, هذه للتذكير فقط.(10/562)
الشيخ إبراهيم السلقيني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الواقع بالنسبة لما يتعلق بمتروك التسمية في الذبيحة، وبالنسبة لذبيحة أهل الكتاب إذا لم تكن متوافقة مع قواعد الشريعة، لمست من الإخوة أن هناك اتجاها - بحجة التيسير ورفع الحرج - أن نأخذ بالرأي الذي يقبل متروك التسمية أو الذبيحة من الكتابي مثلا ولو كانت خنقا.
أقول: أيها الإخوة، نحن أمام أمر تعبدي، والأمور التعبدية يجري فيها الاحتياط لا التساهل.
في الواقع كل من الرأيين سواء رأي الجمهور أو رأي الشافعية، لكل مستنده، فمثلا فيما يتعلق بالجمهور استدلوا بمجموعة من الأدلة منها الآية الكريمة {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ، قالوا: الواو هنا للعطف وليست للحال، فكل ما لم يذكر اسم الله عليه فإنه فسق. طبعا المجيزون قالوا: إنها للحال أي حال كونه فسقاً، أي حال ذكر اسم غير الله عز وجل.
كذلك بالنسبة للاستدلال بالحديث: ((المسلم يذبح على اسم الله، سمي أو لم يسم)) هذا بالنسبة كخبر واحد لا يقيد عموم الكتاب على رأي من قال: إن دلالة العام قطعية، والقطعي لا يخصص بظن. أيضا إن الذي أحفظه وأذكره فيما يتعلق بالحديث ((سم وكل)) هذا فيما يتعلق بالأعراب وليس بالكتابيين، وأنا لأول مرة أسمع رواية أنها في الكتابيين.(10/563)
كذلك ((سم وكل)) ليس فيه دليل على الإباحة، بل بالعكس أنها- أي التسمية- هي الأصل من المسلم، ولذلك فنأخذ بالأصل.
كذلك فيما يتعلق بذبيحة الكتابي, أقول: إن علينا أن نلتزم بقواعد الشريعة مع غير المسلم كما نلتزم مع المسلم، والآية الكريمة {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] هنا ضمن الأسس والقواعد العامة في الشريعة الإسلامية، وما يتعلق بالتسمية بآلة أو مسجل أقول هذا باب خطير جدا إذا سلكناه فنأتي للأذان ونقول بمسجل، نأتي بخطبة الجمعة فنقول في استديو يخطب الخطيب، وتوضع المسجلات في المساجد!! هذا أمر خطير لا أراه، وقد سررت حينما علمت بأن هناك قرارا مسبقاً للرابطة في منعه.
المهم أيها الإخوة، نحن كمسلمين نعتز بإسلامنا، ليس الأمر في كل موضوع أن الأيسر هو ما يؤخذ به، نعم إذا كان هناك في بلد غير مسلم وبنظام غير إسلامي ابتلينا أن نعيش فيه فنأخذ بالآراء المخالفة للجمهور، أما في أحكامنا وقواعدنا وفتاوانا العامة؛ فيجب أن نأخذ في الأمور العبادية - كما قلت، وأنا أؤكد على هذا دائما- بالأحوط، أما في أمور المعاملات والعقود والبيوع فنسلك مسلك الأيسر، والله تعالى أعلم.(10/564)
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله الكريم.
اسمحوا لي في البداية أن أشارك الأخ الكريم الأستاذ عبد الله بن بيه على أن الموضوع أخذ أبعادًا واسعة ما كان من داع لها، لأنه نحن أمام التزام من المسلمين استمر أربعة عشر قرنا في قضايا الذبائح. الأصل أن نلاحظ ما أثير من قضايا حادثة ونركز عليها، ما أثير من قضايا يتعلق بما يفعله أهل الكتاب نتيجة استيراد المسلمين لكميات كبيرة من اللحوم من الدول التي أغلبها أو أكثرها أهل كتاب، لنثير قضية هل هم أهل كتاب رغم ما حدث من تطورات وتغييرات وتبدلات؟ ونثير موضوع كيفية الذبح وما يتعلق به من أدوات حادثة في الذبح الجماعي لأنواع الماشية، أما أن ندخل في تفصيلات كل الأمور ونتحدث في كل الأمور، حقيقة يتسع الأمر دون أن يكون له ضرورة.
وفي ظني أن النقطة الأساسية التي يجب أن يركز وتسلط عليها الأضواء هذه النقطة، ونحاول أن نسلط في النقاش الحديث عليها لننتهي إلى بلورة رأي فيها.(10/565)
أما استطرادات وحتى مناقشة بعضنا في التفاصيل، لأننا إذا أردنا أن نمسك كل جزئية، فإن الأمر سيطول في الحوار والنقاش ونغيب عن المسألة الرئيسية، لكن قبل أن أدخل في هذه القضية أريد أن أتحدث في قضية الأولياء- هذا إذا سمح لي معالي الرئيس- حتى يكون الأمر واضحا في هذه القضية لا نستطيع أن نطلق فيها الكلام أيضا دون تفصيل، إذا كان الذبح للولي تقديسا وتعظيما وإشراكا بالله جل وعلا فنحن معكم في أن القضية تدخل في إطار أن هذا الشخص عقيدته لم تعد العقيدة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، وأصبح يقدس شخصا ويعظم مكانا، وبالتالي نحن أمام فعل لا نستطيع أن نقول إنه من ذبائح المسلمين، أما إذا كان الذبح عند الولي أو عند حضور الرئيس حتى (عند وليس لـ) ، ليس تعظيما وتقديسا فالأمر مختلف، قد يكون ارتكب إثما كبيرا، بل قد يكون ارتكب كبيرة، لكن لا يخرجه هذا من دائرة الإسلام، ويجعل فعله فعل إشراك بالله جل وعلا، وبالتالي نحكم بالتحريم.(10/566)
هذه وجهة نظري ولكل شخص وجهة نظره، خاصة ونحن نعرف أن هذا الموضوع، وما يكتنفه من حساسيات ومن كلام ومن حديث، لكن لكل أن يبين رأيه في هذا المجال مادام أثير، على الأقل نحترم آراء بعضنا بعضا, فيما يتعلق بالموضوع المطروح, المشكلة في هذا المجال تتعلق بالدول الإسلامية وتتعلق بالمسلمين الذين يعيشون في تلك الدول التي تذبح مثل هذه الذبائح، بالنسبة للدول الإسلامية- كما تفضل الشيخ ابن بيه- دور المسؤولين وجهدنا في هذا المجال أن نستوثق وأن نتأكد، وبالتالي ما يقال بأنه من الممكن أن يكون هنالك شهادات مزورة أو غير ذلك ليس مطلوبا منا من الاستيثاق، ولا يمكن في الواقع أن نأخذ أنفسنا بمزيد من الاحتياط، لم يطلب أصلا منا في الشريعة. وأنتم تذكرون في هذه القضايا كراهية طلب الاستفسار والسؤال، وتذكرون حادثة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضية الحوض "أترد السباع حوضكم؟ فسارع وقال: لا تخبرنا يا صاحب الحوض "، لأن هذا الأمر ليس مطلوبا من الناحية الشرعية، لكن إذا وردنا بيقين هنا عند ذلك الحكم المنوط به باليقين.(10/567)
فأما بالنسبة للذين يعشيون في تلك الديار أو يزورونها فالقضية أصبحت مختلفة، هنا نتمكن من الاستيثاق والحصول على الشهادات، في تلك الديار الأصل عموم المعاملة إلا إذا ورد اليقين، بمعنى أنه ليس مطلوبا منا الاستفسار والبحث والتأكد ما دام أن هذا الأمر- في الواقع- ظاهره ملتزم بقواعد الشريعة.
وهنا أريد أن أسأل سؤالا في موضوع التسمية: لماذا لم يرد في النصوص الشرعية خلال المسار الطويل لهذه الأمة- حتى في النصوص الشرعية الأولى- لم يرد موضوع التسمية؟ بمعنى أنه عندما ورد {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] لم يرد في النصوص أنه: اسألوا أهل الكتاب عندما يأتون لكم بالطعام أو عندما تزورونهم هل سموا أو لم يسموا؟ لَمَّا ورد هذا النص, أكلوا دون أن يسألوا ودون أن يستفسروا, فإذن موضوع التسمية في الواقع يجب أن ننبه إلى أن المقصود ألا تكون الغاية من الذبح لغير الله تعالى؛ كالذبح على النصب والأزلام وغير ذلك، أما إذا كانت الغاية من الذبح الإطعام فليس مطلوبا من أهل الكتاب أن نسألهم أتم هنالك تسمية أم لم يتم؟
في موضوع طريقة الذبح مادام الخبراء والمختصون المطلعون أفادوا بما يشبه اليقين بأن عمليات التدويخ واستخدام الأجهزة الحديثة لا تؤثر في وفاة الحيوان قبل ذبحه وأن الذبح يتم بفري الأوداج والقطع لأغلبها أو لمعظمها كما ورد، إذن لماذا نتعب أنفسنا ونحاول أن نحملها أكثر من ذلك ونحرر ونستقصي؟ في ذلك خنق. نعم.
على أية حال هذه القضية تحتاج إلى نظر، وكنت أتمنى مادام الحديث في إطار المذهب الإمامي مادام هنالك أقوال ثلاثة عند الإمامية، يعني كنا نتمنى أن يوضح القولان الآخران توضيحا كافيا وأن يؤتى بما استدل أصحابهما لهذا القول، أي بما أننا في بحث علمي نتمنى أن يفصل القول في هذا الأمر ويرجح بعد ذلك ما انتهى إليه الجمهور لمنعه.
أكتفي بهذا وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/568)
الشيخ ساتريا أفندي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين:
اسمحوا لي أن أشترك في هذه المداخلات ولو بكلمة قصيرة مختصرة ومتواضعة حول هذا الموضوع، وهو موضوع مهم جدا باعتبار أنه موضوع يمس حاجة المسلمين اليومية, ومما تعرض له السادة الباحثون الأفاضل في بحوثهم هو حكم اللحوم المستوردة من البلاد غير الإسلامية من اليهود والنصارى، وقد استمعنا إلى أقوال العلماء في ذلك، كما وضحها السادة العلماء الأفاضل الباحثون في بحوثهم، وأنا أميل إلى قول من قال: إن ذبائح أهل الكتاب مباح لنا أكلها، وذلك إذا ذبحت بطريقة صحيحة مألوفة, وأعجبني في هذا الصدد ما كتبه الأستاذ الباهر الدكتور الهواري- جزاه الله خيرا- في بحثه عن الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس حيث قال: "ويمكننا بعد أن عرضنا وجهات النظر المتباينة أن نفتي الناس ونحن مطمئنون بما يلي: أن الأصل في ذبائح أهل الكتاب من يهود ونصارى سواء كانوا من رعايا الدولة الإسلامية أو أعدائها المحاربين لها ولحومهم المثلجة والمجففة والمطبوخة حلال إلا أن يثبت للمسلم أنها ذبحت مخالفة للطريقة الإسلامية". وأنا أضم رأي إلى هذا الرأي وأوافقه على هذا الحد، ولكنني أخالفه في ناحية أخرى في قوله بعد ذلك: "إن المسلم ليس مكلفا بالبحث عن ما غاب عنه، فلا يجب عليه أن يسأل عن طريقة الذبح وهل ذكر اسم الله عليها أو لم يذكر؟ هل ذكر اسم غير الله تعالى؟ كل هذا ليس مطلوبا منه ولا مأمورا به ".(10/569)
وإنني أرى نظرا إلى فساد أخلاق اليهود والنصارى اليوم أنه يجب على المسلمين أن يتأكدوا من صحة تذكية أهل الكتاب للحوم المصدرة إلى بلاد المسلمين، لأن الواقع قد أثبت لنا أن بعض الذبائح كانت قد ذبحت مخالفة للطريقة الإسلامية، وهناك منطقة ببلدي أندونيسيا معظم سكانها من النصارى يذبحون الدجاج عن طريق الطعن الجانبي في الرقبة وتستخرج الشرايين الدموية من مكانها ويستخرج منها الدم في إناء كبير ثم ترمى الدجاجة لتهدأ أو يتناولها العامل الآخر ليضعها في آلة تنظيف الريش.
وذلك الدم المستخرج يباع ويشتريه ويأكله بعض الناس من النصارى وغيرهم، كما يباع لحم الدجاج في السوق, وهذا الواقع أكبر وأقوى دليل على أن النصارى اليوم لا يتقيدون في الذبح بالقيود الشرعية. ولذلك أكرر مرة أخرى أنه يجب علينا- نحن المسلمين- أن نتأكد من صحة تذكيتهم للحوم المصدرة إلى بلادنا، وإن الوسائل لمعرفة ذلك قد أصبحت متنوعة ومتعددة في عالمنا المتحضر المتقدم، ويمكن استخدام تلك الوسائل لمعرفة ذلك على مستوى حكومي، أو عن طريق البعثات والسفارات بالدول المصدرة التي يتم استيرادها منها، ولكن يجب أن نعتمد على أياد أمينة مسلمة، ولا ينبغي أن نترك هذا الأمر -وهو أمر ديني مهم - في يد اليهود والنصارى الماكرين.
ولحدوث التنافس التجاري القائم بين تجار اللحوم ومنتجيها بالبلاد الأجنبية غير الإسلامية لكسب مزيد من الربح الذي يؤدي إلى الغش في التجارة ومن المحتمل- كما قاله فضيلة الشيخ محمد سليمان الأشقر- أن يخلطوا لحم الخنزير المحظور تناوله عند المسلمين باللحوم المباحة المعلبة، وأن يدخلوا شحمها في الحلويات المصنعة كالبسكويت والشوكولاتة ونحو ذلك. وأقول: إنه من المحتمل بل من الراجح أن يستخدموا شيئا محرما عندهم لزيادة اللذة في المأكولات، ومثل هذه الأشياء الملذذة تباع في أسواق المسلمين، وحسب قول فضيلة الشيخ محمد سليمان الأشقر في بحثه إن لحم وشحم الخنزير في بعض بلاد النصارى أرخص ثمنا وأقل تكلفة من لحم البقر والغنم وذلك لكثرة توالد الخنازير وميلها إلى العلف الرديء والقذر، وهذا ما دفع مجلس العلماء الأندونيسي- وأنا أحد أعضائه- إلى تشكيل هيئة لمراقبة الأطعمة والحلويات المتنوعة المتداولة في الأسواق المحلية، ومن وظائفها التأكد من عدم وجود المواد المستخدمة لزيادة اللذة وفتح الشهية، وكذا المواد المستخدمة في صناعة الأطعمة عامة, وقد صدر- والحمد لله- قرار ملزم رسميا من جانب الحكومة، وهو أن يضع منتجو الأطعمة عبارة حلال على كل مصنوعاتها بعد أن يتم تفتيشها من قبل الهيئة، وذلك قبل أن تصل تلك المصنوعات والمنتوجات إلى الأسواق للبيع.
وشكرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/570)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فلي مجموعة مواد من التداخلات.
الأولى: التأويل أو التعليق على التأويل في غالب البحوث على التسمية, لا يخفى أن التسمية موضع خلاف بين أهل العلم، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((سم وكل)) إشارة إلى التيسير في ذلك وأن الأرجح والأقرب أن التسمية من السنن المؤكدة بآداب الذكاة.
الثانية: القول، هل التذكية والتوجيهات الشرعية في الأخذ بها هل هي من قبيل العبادة أو التوجيه لما فيه مصلحة العباد؟
لا يخفى أن الذبح من أنواع العبادة، فمتى ما قصد بالذبيحة التعبد فهي عبادة، فإن كانت لله فهي عبادة لله، وإن كانت لغير الله فهي شرك بالله ويحرم أكلها مهما كانت متفقة مع شروط الذبح وصحته. أما إذا كانت التذكية للأكل فقط، فهي من شؤون الحياة, وتعتبر التوجيهات الشرعية ذات حكم تقتضي مصلحة العباد في أكل لحوم هذه الذبائح ومن خالفها بمخالفة تجعلها في عداد المحرمات المذكورة في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] فهي محرمة بنص كتاب الله.(10/571)
الثالثة: هل غرض المجمع في إدراج هذا الموضوع في جدول أعمال هذه الدورة؛ النظر في اللحوم المستوردة من الغرب أو الشرق من حيث التسمية وأنهم لا يسمون عند الذبح، أو أن الغرض من ذلك ما هو معروف من التجار والانحراف في طريقة الذبح، وأنه الآن لا يتم الذبح إلا بعد أن تكون الذبيحة من أنواع المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، حيث إنها بعد الصعق والتخدير في الغالب تكون في حركة هي حركة الذبيح؟ إذا كان كذلك، فهل يجوز لنا أن نعول أو نقول بأن هذه ذبائح أهل الكتاب، وهم يذبحون بطريقة لو أخذ بها المسلم لقلنا في ذبحه ما نقول؟ فهل للكتابي وضع أعلى من وضع المسلم؟ لا شك أن إباحة ذبائح أهل الكتاب كانت مبنية على تقيدهم بالتوجيهات الربانية في طرق الذبح، ولهذا كان المعروف عن اليهود بأنهم لا يزالون على الأخذ بالطريقة السليمة في الذبح.
هذا الموضوع بحث في هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وندبت للتحقيق فيما يقال عن مجاوزات أهل الكتاب في الذبح هيئات، فجاءت تقارير هذه الهيئات محزنة ومفزعة، فهي تشتمل على المشاهدة والنظر؛ أما من حيث المشاهدة فقد شاهدوا كيف تصعق الذبائح وتخدر، وقالوا بأنها قبل ذبحها وبعد تخديرها وصعقها في حكم المتردية والنطيحة والموقوذة، حيث لا تبقى معها حركة بعد ذلك إلا كحركة الذبيح، وذكروا التجاوزات من مراقبي الذبح، ومع الأسف من جهات إسلامية، وجاء في بعض التقارير أن مصنع تسويق لحوم كان في البرازيل كتب عند مدخله (بسم الله والله أكبر) : لوحة عند مدخل المصنع، وقالوا: هذه التسمية، وصاروا يعتبرون أن كل ما يصدر في هذا المصنع من ذبائح قد سمي بهذه اللوحة الموجودة عند باب المصنع، ثم كذلك وجد أكثر من هذا؛ وردت مجموعة اللحوم المستوردة وهي لحوم أسماك مكتوب عليها (ذبح بالطريقة الإسلامية) ! وهذا في الواقع شيء معروف؛ كذلك ذكر لنا الشيخ أحمد الخليلي، وقد ذكر غيره، بأنه وجد مجموعة من الذبائح ولا سيما الدجاج، يقال بأنها ذبحت بالطريقة الإسلامية، وهي في الواقع رأسها ورقبتها متصلان مع جسمها لم تمس بجرح!! فلا شك أن هذه تغريرات.(10/572)
أنا أرى أن على المسلمين أن يثبتوا هويتهم الإسلامية، والحمد لله، المسلمون الآن في وضع من الجانب الاقتصادي ولهم أسواق لها قيمتها واعتبارها، والغرب يتسابق في الحصول على هذه الأسواق، فلو فرضنا عليهم ما يجب علينا من التقيد بآداب الذبح لا شك أنهم سيستجيبون استجابة كاملة، ليس لأنهم يريدون أن يتقربوا بذلك إلى الله؛ وإنما يريدون أن يتقربوا إلى هذه الأسواق.
في الواقع أننا كذلك ينبغي أو أرى أن يكون من المجمع تأكيد وتوصية للمجتمعات الإسلامية والشركات الإسلامية بأن تكثف من أمر إيجاد مصانع وتصنيع اللحوم، فالحمد لله، البلاد الإسلامية الآن قوية، قوية بمواردها وقوية بطاقاتها البشرية والفنية والمادية، فلماذا لا يوجد عندنا مزارع لتربية الدواجن والأنعام؟ وإيجاد المصانع بطريقة معتبرة شرعية ونخدم إخواننا المسلمين، ونكون في ذلك على جانب من التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالاستقامة.
ثم أيها الإخوة هناك تنبيه خفيف، ولكنه مهم؛ وهو أنني سمعت من أخي الكريم فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه أنه قال: يقول الله سبحانه وتعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، لا شك أنه في الواقع لا يعتقد هذا، لكنها جاءت سبقا على لسانه، ولكنني أرى أن هذا يجب أن يكون محل تنبيه، الله سبحانه وتعالى لا يتعوذ من الشيطان، الشيطان أحقر وأذل وأدحر من أن يتعوذ الله سبحانه وتعالى منه، ولكن حينما يقول الله: بسم الله الرحمن الرحيم، فلا شك أنها آية من سورة النمل، أما أن نقول: يقول الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذا ما يجب أن يكون محل تنبيه منا.
بقيت حفظكم الله نقطة تكرم بها أو تفضل بها أخي الشيخ وهبة، وهو اقتراح في أن يوجد تسجيل في الذبح، (بسم الله والله أكبر) مسجلة، الواقع أنا أرى أن هذا ليس صحيحا، هل يجوز أن يكون هناك تسجيل في الأذان والإقامة؟ إذا لم يجز فالتسمية كذلك، لأن التسمية يجب أن تكون مصاحبة لنية، فلا بد من التنبه على أن هذه النقطة- في رأيي- غير صحيحة. والله يحفظكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/573)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم،
عندي نقطة واحدة فقط، يقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . قلت: يقول الله- سبحانه وتعالى- وأردت أن أقرأ قرآنا، فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. هل في هذا شيء. والله لا شيء في هذا.
الرئيس:
على كل أنا أظن أن السيوطي رحمه الله تعرض لها في الإتقان وذكر قولين، إنه للذاكر أن يقول: قال الله تعالى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يسوق الآية، وهذا بإجماع القائل والسامع أنه لا يرى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإنما هو امتثال للأمر بالاستعاذة، أنا قصدي أنه حكي الخلاف في هذه المسألة لكن لو قال مثلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم ساق الآية خرج من الخلاف.(10/574)
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عندي مسألتان فقط.
المسألة الأولى: دفاع عن ابن العربي الذي اتهمه بعض الباحثين- وهم ثلاثة- بالتناقض في كلامه، أولهم القاضي العثماني، ولكي يتضح هذا أقرأ لكم عبارة ابن العربي التي فهمها بعض المعاصرين على غير ما تدل عليه، وفهموا منها أن ابن العربي يجيز أكل ذبيحة الكتابي ولو كانت مخنوقة أو متردية أو نطيحة، ونقل الشيخ العثماني وغيره ما اعتمدوا عليه من عبارة ابن العربي وفهموها كما فهمها هؤلاء المعاصرون, قبل العبارة يحسن أن أقرأ لكم: زعم بعض المعاصرين- هذا تعبير القاضي العثماني- أن ذبيحة الكتابي حلال بأي طريقة قتلها، لأنه داخل في عموم قول الله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، وتمسكوا في ذلك بقول القاضي ابن العربي - رحمه الله- حيث قال: ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة، ثم يطبخها هل يؤكل معه أو يؤخذ طعام منه؟ وهي المسألة الثامنة فقلت: تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقًا وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا إلا ما كذبهم الله سبحانه فيه. هذه خاتمة العبارة الأولى: "إلا ما كذبهم الله سبحانه فيه ".(10/575)
يعلق القاضي العثماني على هذا: ولكن هذا القول الغريب من ابن العربي- رحمه الله- متعارض تمام التعارض مع الأصل الذي ذكره هو نفسه في نفس الكتاب قبل نحو صفحة من هذه العبارة، وعبارته- أي ابن العربي-: "فإن قيل: فما أكلوه- أي أهل الكتاب- على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس، فالجواب أن هذه ميتة وهي حرام بالنص، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير؛ فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا، فهذه أمثلة". ثم قال القاضي العثماني: وهذا تعارض صريح في عبارتي ابن العربي، ومتى وقع التعارض بين عبارتين فالأجدر بالقبول ما هو ثابت بالنصوص، إلى آخره. وأخذ يفند هذا القول.
الواقع أنه لا تعارض مطلقا في عبارتي ابن العربي اللتين ذكرهما، ولا يمكن أن نتصور أن ابن العربي يرى أن المخنوقة يجوز أكلها بأي حال من الأحوال سواء كانت من مسلم أو من غير مسلم, وهذا التصور جاء من العبارة الأولى، والتي فيها: سئل عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ... فهموا من هذا أن هذه مخنوقة. ابن العربي لم يرد هذا، بدليل قوله في آخر العبارة نفسها، لأنه لو أراد هذا لكانت العبارة نفسها متناقضة، وليست متناقضة مع العبارة التالية، لأنه قال في آخرها: " إلا ما كذبهم الله فيه "، والقرآن كذبهم في المنخنقة، فكيف يجيزها قبل ثلاثة أسطر ثم يمنعها بعد ذلك. هذا لا يمكن أن يتصور أن يصدر من ابن العربي، فابن العربي لا يرى في فتل عنق الدجاجة أنها منخنقة، ولذلك أجازها بدليل أنه في العبارة الأخرى قال. عندما سئل وجه الذكاة فقال: كالخنق وحطم الرأس "، منعه بعبارة واضحة، فكيف نظن به التناقض؟!(10/576)
لم أستطع أن أفهم أن ابن العربي يجيز المخنوقة على أي حال سواء كان مصيبا أم مخطئا في هذه، قد يكون تأويله، هو اعتبر فتل الدجاجة ليس خنقا، لأنه لا يمكن أن أفهم أن ابن العربي يعتبر فتل الدجاجة خنقا ثم يقول بجوازه، ويأتي في آخر العبارة ويقول: "إلا ما كذبهم الله فيه " وهو يعلم أن الله كذبهم في المنخنقة وغيرها مما في الآية ومما ذكره هو نفسه في العبارة الثانية!! فهذا هو التأويل الأولى بكلام ابن العربي، لأنه يؤدي إلى أمر لا يصح أن ننسبه إلى ابن العربي, هذا ما فهمه بعض المعاصرين وكما فهمه الذين نقلوا عنه، لكن ابن العربي في عبارته هذه لا يرى أن الفتل خنقا، ولذلك جوزه.
المسألة الثانية: أورد بعض الباحثين من ضمن الشروط ألا يكون الذابح شيوعيا، وفصل بعضهم في هذا فذكر أن اللحوم التي تأتينا من البلاد الشيوعية أو التي أغلبها شيوعيون لا يحل أكلها وهذا مقبول ولا شك فيه، لكن العبارة الأخرى التي وردت في بعض البحوث من ضمن الشروط ألا يكون مرتدا وألا يكون ملحدا وألا يكون مشركا وألا يكون شيوعيا، ونحن نعلم أن الشيوعيين في بلاد المسلمين، فهل الشيوعي الذي في بلاد المسلمين ويذبح الذبيحة لا نأكلها؟ إذا حكمنا عليه بأنه مرتد فيدخل في المرتدين، أما إذا لم نحكم عليه بهذا.. ظاهر العبارات التي وردت في أكثر من بحث أن ذبيحته لا تجوز، لأنه ذكره مع المرتد والملحد. وهذه مسألة تحتاج إلى جواب من الذين ذكروها.
أكتفي بهذا، وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/577)
الشيخ عكرمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد؛
فإني أثمن الجهود الطيبة المباركة التي قدمها الإخوة الباحثون والمعقبون والمتداخلون، وسوف أحرص على ألا أكرر ما تفضل به الإخوة جميعهم، وسأنحو منحى آخر بما لا يتناقض مع ما تفضل به الإخوة الكرام. ما من شك أن مجمع الفقه الإسلامي لم يطرح موضوع اللحوم المستوردة إلا بعد أن شك أو تيقن بأن هناك خللا موجودا في هذه اللحوم المستوردة، وألا لما طرح للمناقشة والبحث، ومعنى هذا لابد أن نعالج الموضوع معالجة جذرية عملية بالإضافة إلى الأحكام الفقهية الشرعية.
أولا: أن تعتمد الدول والأقطار العربية والإسلامية جميعها على نفسها في الذبح اليدوي أو في الذبح الآلي وفي تعليب المعلبات.
ثانيا: إذا اضطر أي قطر من الأقطار الإسلامية إلى الاستيراد ينبغي أن يكون ذلك من قطر إسلامي آخر ليطمئن المسلمون على سلامة الذبح من جهة، ومن جهة أخرى ليحصل على نوع من التقارب والتعاون بين الأقطار الإسلامية من الناحية الاقتصادية.
ثالثا: إذا لم يتوفر فائض من المواشي واللحوم المذبوحة أو المعلبات
في الأقطار العربية والإسلامية، فلا مانع من الناحية الشرعية الاستيراد من الدول غير الإسلامية، ولكن شريطة الإشراف المباشر للذبح وللتعليب من قبل لجنة فنية متخصصة، وحتى نتأكد من صحة الشعار الذي يكتب على المعلبات: "ذبح على الطريقة الشرعية". ليس هذا فحسب، بل إن بعض الدول الأجنبية المصدرة للمعلبات فإنها تصدر اللحوم- أحيانا- الفاسدة أو التي انتهى مفعولها إلى العالم العربي والإسلامي، فهل يجوز من الناحية الشرعية أن تكون بلادنا الإسلامية حقلا للتجارب وحقلا للتسويق؟
فإني أميل إلى الدعوة للاعتماد والاكتفاء الذاتي فيما بيننا كعرب ومسلمين، ولا ينقصنا أي شيء، كما أميل إلى مقاطعة الاستيراد من الدول غير الإسلامية في موضوع المأكولات، ويا حبذا أيضا في غير المأكولات, وأناشد مجلس مجمع الفقه بما يحمله من السمعة الطيبة والثقة الجيدة، وبما يضم من علماء أفذاذ أن يستفيد من نفوذه للتأثير على مقاطعة ما أمكن من الصناعات الأجنبية بما فيها المأكولات وذلك من باب سد الذرائع من جهة، ومن جهة أخرى لنقوي أنفسنا نحن العرب والمسلمين اقتصاديا، ولا نكون نحن سببا في تقوية الاقتصاد غير الإسلامي، وآمل أن تسجل الملاحظة لدى المجمع في التوجه نحو الاعتماد على الذات ومقاطعة المأكولات الأجنبية، وأيضا تقوية الاقتصاد الإسلامي.
وبارك الله فيكم جميعا، والسلام عليكم.(10/578)
الشيخ ثقيل الشمري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في الحقيقة الكثير مما أحببت أن أقوله تحدث عنه كثير من المتدخلين وفقهم الله، ولكنني سأركز على بعض النقاط التي أرى أنها مهمة.
أولا: في الموضوعات التي تحدث عنها بعض أصحاب الفضيلة في موضوع الاقتصاد، في الحقيقة نحن الآن نعيش عولمة الاقتصاد، وانعزالنا عن العالم يعني كأننا ندس رؤوسنا ونخفي الواقع, فينبغي أن نتعامل مع واقع معين من الناحية الاقتصادية، وموضوع اللحوم هو من هذه الموضوعات, لا شك أن الذبح من الأمور المهمة في واقع المسلمين وفي طعامهم وشرابهم، وموضوع التذكية كما تحدث عنه المتحدثون أمر لا يعنينا كثيرا لأن في كلامهم كفاية، ولكن الموضوع المهم أن الذبح لغير الله هو فيه إشراك بالله- عز وجل- فما ذبح على القبور أو نذر لأصحاب القبور أو نذر للأولياء فهو شرك بالله وإشراك مع الله- عز وجل- ولا يجوز لنا أن نفصل في ذلك وأن ندخل في النوايا لأن ظاهر الأمر ينصرف إلى أن هذا الإنسان ما ذبح إلى صاحب الضريح أو صاحب القبر إلا لأنه يعتقد أن صاحب القبر أو الولي أو كذا له نفع بقدر ما يكون يعتقد ذلك الذابح كان كبيرا أو صغيرا فإن هذه الذبيحة محرمة لا تجوز.(10/579)
ثانيا: في البحث الذي تفضل به الدكتور الهواري قال: إن الطرق الحديثة في الذبح أو في التدويخ هي طرق لا تقضي على الحيوان المذبوح، وإنما تدوخه ويمكن بعد فترة أن ينتعش وأن يعود, فإذا دوخ بهذه الطريقة التي نتيقن معها أن الحيوان الذي يراد ذبحه لا يموت بها، فهذا التدويخ أظنه يدخل في إراحة الذبيحة التي أمر بها الشرع وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم: ((فليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) فهذه من الإراحة المطلوبة وعلى الإخوة أن يتأملوا في هذا الموضوع، وكما ذكر الدكتور أن هذا التدويخ لا يقتل الحيوان، أما إذا كان يقتله أو نشك أن هناك ما يموت منها بهذه الطريقة فهذا موضوع نقاش.
أما أهل الكتاب فقد سماهم الله- عز وجل- (أهل كتاب) ، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده فعلوا ذلك، فهم أهل كتاب، والرخصة في طعامهم أي في ذبائحهم ونكاح العفائف من نسائهم، هذه من الرخص الشرعية التي تكلم عنها الفقهاء، فلسنا في حاجة إلى أن نبحثها إلا إذا كنا نتيقن أن ذبائحهم يذبحونها بطريقة هي محرمة في شرعنا وفي ديننا، وعند ذلك لا يجوز أكلها.(10/580)
أما موضوع الدول الإسلامية أو إثبات الهوية كما تحدث عنه فضيلة الشيخ ابن منيع حفظه الله فإثبات الهوية لا أظن أن أحدا من الحاضرين أنه ينازع فيه، فإثبات الهوية أمر مطلوب، ولكن بعض المتحدثين يتمنى أماني في الحقيقة بعيدة لا ينبغي أن نعيشها في الأحلام، وإن حق لهم أن يحلموا ما شاؤوا، ولكن هناك واقع معين، ينبغي أن نتعامل مع واقع معين، وأن نعيش فيه, فواقعنا يحتاج في كثير من الأمور الاقتصادية وأمور الذبائح إلى قرار، وهذا القرار من يملكه؟ يعني نحن إذا أوصينا بتوصيات ولم تتابع ولم تنفذ لا قيمة لها، فلماذا نخوض في أمور بعيدة عن الواقع؟ نحن نريد أن نبين الحكم الشرعي في هذه المسألة أما القرارات تترك لأصحابها إلا إذا كنا نعتقد أننا نملك مثل هذا القرار أو نبلغه إلى من يملكونه، فإن كان هناك توجه للمجمع بتوصية بإثبات الهوية للمسلمين في أمور الاقتصاد وأخذ بتوصية الشيخ ابن منيع فأنا معه على ذلك.
الأمر الآخر في موضوع التسمية على الذبيحة، أنا أريد أن أقتصر وقد تم التحدث في موضوع التسجيل، إذا كانت المجموعة تدخل- وهذا ما ذكره الشيخ الأشقر في بحثه- أنه إذا دخلت هذه المجموعة وسمي عليها وهي في وقت واحد في مجموعة واحدة، فهذه التسمية الواحدة تكفي وأنا معه في هذا، أما قضية التسجيل فأمر لا ينبغي أن يفعل وأمر لا يجوز، وأظن أن الشيخ وهبة يمكن أن يرجع عن هذا بعدما سمع كلام فضيلة الرئيس.
هذا ما أحببت أن أقوله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/581)
الشيح علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
قبل أن أدخل في الذبائح أحب أن أشير إلى نقطة تتصل بالمنهج في النقاش والتعليق, أحد الإخوة الكرام وهو يختلف مع أخ كريم آخر؛ استشهد بقول السابقين (قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب) ، وهذا أدب لعلنا نستمر عليه، وأعتقد أن المجمع منذ بدئه كان يسير على هذا المنهج، ولكن اليوم استمعنا إلى بعض العبارات التي تؤثر في النفوس، وهذا أمر لا نرتضيه.. إنما أقول لألفت نظره إلى هذا الخطأ لأنه لم يفهم معنى الآية، أنه اضطراب في الفتوى ... مثل هذه الكلمات أعتقد لو استبعدناها من حوارنا كان أفضل. نقول مثلا العبارات الأخرى تكون أفضل من هذا.
بعد ذلك أقول إن الذكاة عبادة، والعبادة تحتاج إلى الاحتياط مع رفع الحرج أيضا.
مسألة ميتة أهل الكتاب ومنخنقة أهل الكتاب - سواء كان ابن العربي قد وقع في التناقض أم لم يقع، سواء هذا أم ذاك- فأعتقد أن الاتجاه العام يتجه إلى تحريم هذه الميتة وهذه المنخنقة. فإذا انتهى المجمع إلى هذا، وأرجو أن ينتهي إلى هذا، فأرجو ألا نكتفي بذكر القرار؛ لأن إخوة أجلاء لهم مكانتهم في العالم الإسلامي دافعوا عن تحليل هذه الميتة وهذه المنخنقة، وآراؤهم منتشرة في الغرب والشرق وبلاد الإسلام، ولذلك أرى إذا انتهى المجمع إلى التحريم أن يذكر الأدلة بالتفصيل، ولنا في مجمع الرابطة أسوة حسنة، فمثلا عندما تحدث عن التأمين فصل الشُبه ورد عليها، لأنه احتمال أن يقول قائل: لو أن المجمع قرأ كذا وعرف كذا واطلع على أدلة فلان وهو علم مشهور لما أصدر هذه الفتوى, لكن ذكر الأدلة بالتفصيل يبين أن المجمع على علم بهذا ويرد على هذه الأدلة لأن الأمر خطير, ميتة المسلم ومنخنقة المسلم حرام وأهل الكتاب حلال؟! أمر خطير في الحقيقة, وأرجو من المجمع إذا تكرم أن يسلك في هذا مسلك ذكر الشبهة التي أثيرت ورد عليها، والإخوة الأفاضل أصحاب البحوث- جزاهم الله خيرا- تولوا هذا بالتفصيل.(10/582)
التدويخ بالتيار الكهربائي - كما رأينا منه, كما ذكر الأخ الكريم الهواري بالنسبة للدجاج- توقف القلب في 90 %، والموت 15 %، إذن الدجاج إما أن يتوقف قلبه أو يموت، والدجاجة التي نأخذها لا ندري أهي توقف قلبها أم ماتت؟ وحتى توقف القلب, لذلك بالنسبة لمثل هذه الأمور أرجو أن نفضل لأن هذا الذي ذكر- التوضيحات هذه- كثير مما كتب ليس في هذا إنما الكتابات الموجودة أن هذا التيار الكهربائي على عمومه دون تفصيل لا يؤثر، لأنه مجرد راحة للذبيحة, والأخ الدكتور الهواري- جزاه الله خيرا- بين أن الذبح بالطريقة الإسلامية هو أكثر راحة للذبيحة من هذا التدويخ.
أمر آخر هنا بالنسبة للتدويخ ما ذكره أيضا - جزاه الله خيرا- من أن الدول التي اعترفت بالإسلام وأباحت للمسلمين أن يذبحوا بطريقتهم لم يستطع المسلمون أن يذبحوا بالطريقة وأن يتجنبوا التدويخ بسبب صدور فتاوى تبيح هذا التدويخ, إذن الفتاوى التي صدرت للتيسير- الهدف كان منها التيسير- جاءت هنا على عكس الهدف، أي أن هؤلاء الإخوة المسلمين في بلاد الغرب لو أن الفتوى صدرت بالمنع واعترفت تلك الدول بالإسلام وسمحت لهم بالذبح بالطريقة الإسلامية لاستطاعوا أن يذبحوا بالطريقة الإسلامية. لذلك مسألة التيسير، والتيسير مطلوب، لكن لا بد أن نراجع أنفسنا عندما نصدر فتوى لنرى هل فيها تيسير فعلا أم ليس فيها تيسير؟ وهل هي متفقة مع القواعد العامة أم لا؟
وأكتفي بهذا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/583)
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
فضرورة حسن التعبير في تعبيراتنا، وأذكر أن من سنة علمائنا القدامى أنهم عندما- أحيانا- يريدون أن ينتقدوا عالما آخر ربما لا يذكرون اسمه، يقولون: ذكر بعض العلماء ذلك، ونرى أنه لم يصب الحق.
لي بعض الملاحظات:
الملاحظة الأولى: أنا لم أشأ أن أذكرها، لكن طلب بعض المتحدثين- حفظهم الله- أن أتحدث.
الإمامية مشهورهم من أشد المذاهب في مسألة الذبح, فهم أولا يشترطون أن يكون الذابح مسلما، وقد يبدو هذا لأول وهلة مخالفا، طبعا مشهورهم يشترط هذا. والرأي الثاني لا يشترط. والرأي الثالث- وذلك بناء على طلب الأستاذ العبادي أن نفصل الرأي الثالث- ما إذا سمعت التسمية منهم. هؤلاء عندما يقولون ذلك يقولون إن كلمة (وطعامهم حل لكم) هذه الكلمة مطلقة، لكن هذا الإطلاق مخدوش تماما, نحن نعلم علما من الخارج من القناعة من الضرورة الفقهية من الضرورة المعرفية أن هذا الكلام لم يبق على إطلاقه مطلقا، وإنما طعامهم من الخنزير مرفوض، طعامهم من الخمر مرفوض، طعامهم النجس مرفوض، طعامهم من الميتة مرفوض، المنخنقة.. فمعنى أن هذا الإطلاق لم يبق على إطلاقه، وإنما يقتصر منه القدر المتيقن. القدر المتيقن هو نسبة هذا الطعام إلى أهل الكتاب, هو كأن المقصود هو دفع توهم في ذهن الناس أننا يجب أن نقاطع أهل الكتاب تماما، ومن أساليب مقاطعتهم عدم أكل طعامهم, فدفعت هذه العبارة شبهة مسألة الانتساب، ولذلك قالوا: إن التحليل جهتي، من جهة كونهم أهل كتاب، ولم يفسروا {وطعامهم} بذبائحهم، لأن الطعام أعم من مسألة الذبائح، يشمل حتى الأمور التي ليس فيها ذبح, هذا هو اتجاههم في هذا المعنى.
أيضا هم يشترطون في أن يكون الذبح مستقبلا القبلة، طبعا شرط ذكري يعني إذا ذكر ذلك، أما إذا نسي فلا مانع.
يشترطون أيضا أن يكون الذبح بحديدة فلزية، يعني الشرط أن يكون بالحديد، وربما ذلك من النصوص التي ركزت على أن تكون الآلة القاطعة آلة حديدية، فكان هناك اشتباه بين أن يكون الحديد حديدا فلزيا أو لا، الحديد معناه حاد {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] أي نافذ، على أي حال هناك اختلاف , وما أردت أن أتحدث في هذا الموضوع لولا طلب الأستاذ العبادي ذلك, ومن هنا نحن مصيبتنا في شراء اللحوم الخارجية أشد, نحن نشترط أن تكون الآلات باتجاه القبلة, ونشترط أن يكون الذبح بحديدة، ونشترط أن يكون الذابح مسلما، ولذلك إما من مسلمي المنطقة أو نرسلهم هناك، وأنا أشرف على العملية، ونشترط على الشركات إذا تخلف أي شرط فسوف نرجع الكمية بكاملها، وقد أرجعنا كميات ضخمة، ولم يستطيعوا أن يردوا ذلك، لا أعلم هل باعوها إلى مناطق إسلامية أخرى أم لا؟(10/584)
النقطة الثانية: البحث الآخر هناك بحث أصولي، وأنا أركز عليه لأن هذا البحث الأصولي يدخل- طبعا أنا أشير إلى نتائجه فقط- في قضية مسائل الذبح والتذكية, يقول العلماء: إذا جاءنا إطلاقان متعارضان أحدهما يحظر والآخر يبيح، فإذا كان أحد الإطلاقين مخدوشا يقدم الإطلاق الآخر. هنا عندنا إطلاق من كلمة {َالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] يشمل منخنقة المسلم ومنخنقة الكافر، وعندنا لفظ {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} [المائدة: 5] أيضا مطلق يشمل المنخنقة وغير المنخنقة. المناطقة يقولون: إن النسبة بينهم عموم من وجه. هذا التعارض يرتفع بتقديم كل ما لدينا من أدلة في قضية التذكية على هذا الدليل، يعني على هذا الإطلاق الموجود في أهل الكتاب باعتبار أنها إطلاقات سليمة وإطلاق {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] مخصص أو مقيد بتعبير أدق.
النقطة الثالثة: أصولية أيضا , عندما نشك في كون هذا مذكى, تارة نحن في سوق المسلمين شكنا لا قيمة له, سوق المسلمين أمارة عامة على صحة ما يأتي، أما عندما لا يكون هناك سوق مسلمين، وأشك في كون هذا اللحم مذكى، لا ريب أن المحكم هنا أصالة عدم التذكية أصلا، استصحاب عدم التذكية لم يكن مذكى، وأشك في أنه ذكي استصحب العدم, والدليل هنا هو الاستصحاب، وهو دليل مقبول عند عموم العلماء، وليس دليلا كما تفضل فذكره إمام المسجد الحرام المرحوم ابن حميد؛ أنه من باب تغليب الحظر على الإباحة، يعني ليس هنا نقاش بين الحظر والإباحة، وإنما هنا حالة سابقة يجب أن تبقى حتى تنقض بيقين لاحق.
الحالة، حالة استصحاب، وأصالة عدم التذكية جارية بشكل كامل, هناك شيء يترتب: نشترط ويشترط كثير من العلماء أن تكون الصلاة في ثوب، من جلد، طاهر مذكى، أي أن تكون هناك تذكية في البيت, هنا يمكن التمسك بأصالة أخرى وهي أصالة الطهارة طبق قاعدة "كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه نجس "، هنا أصالة الطهارة جارية، وهناك بحث عند العلماء كيف يحرم علينا لحمه، ولكن يسمح لنا بلبسه في الصلاة؟(10/585)
الواقع هناك نقطة أصولية أخرى أود أن أشير بها إلى الأستاذ محمد الحاج الناصر عندما قال: لا يمكن أن ننسب ما ننتهي إليه إلى الإسلام وأنه حكم إسلامي, هذه سنة كل العلماء عندما يصل إلى نتيجة قاطعة هو يطمئن إلى أنه رأي الإسلام, هناك بحث للعلماء حول الحجة والحجية, يعني عندما يقوم لي دليل حجة من خبر عادل أو من ظهور حجة, الحجية يقولون هي توجب تنجز الأمر، بمعنى إذا دلت على شيء فهو ينجز عليَّ، وعليَّ العمل به حتى ولو كان في علم الله لم يصدر، ويعذر أي إذا كانت الحجة معذرة أي مرخصة ومبيحة، حتى لو كان في علم الوجود، لكن مادام الدليل عذرني فأنا أقول وأيضا نتائج الحجية نسبة هذا الأمر إلى الإسلام أو إلى الله حتى. يعني أقول: هذا ما ثبت لي من حكم الله، هذا ما أراه حكمًا لله في حقي، هذه ليست جرأة بل هي سنة، هذا ما أراه وقد أكون أنا مخطئا, إذن لا أعتقد أن هناك تجرؤا في البين وأعتذر من سماحة شيخنا.(10/586)
النقطة الأخرى: التي أرجو أن نلاحظها، وهي نقطة مهمة وأتصور أن الكثير ربما كانوا ينظرون إلي عندما يتحدثون عن مسألة الذبح. الحقيقة أنا أولا أعتقد أن عملية التذكية هي عملية توصلية ليست عملية تعبدية، يشترط فيها أن يذكر اسم الله، ولكن ليست كالصلاة بمعنى أنه إذا قصد أي أمر آخر في هذا المعنى يبطل هذا المعنى. الصلاة لو قصدت فيها أن أقوي عضلاتي إلى جانب القصد إلى قربة الله تعالى فصلاتي باطلة, الحقيقة أن هذه عملية توصلية بمعنى أي حكم شرعي أطبقه إذا لم يكن يشترط فيه قصد القربة الصلاتية التي أشرت إليها هذا العمل يؤدي أثره, غسل الثوب حتى لو كان بنية التطهير يؤدي أثره وهو تطبيق لحكم شرعي. الشيخ الخليلي قال: إنه مادام هو مشترط بشروط شرعية فهو عمل قربى. ما أكثر الأحكام الشرعية التي تشترط ولكن ليس فيها عنصر القربة, يشترط التسمية لكن إذا كان هناك من يقوم بهذا العمل ويسمي الله (بسم الله والله أكبر) بل يوجه إلى القبلة، ولكن يريد من ذلك بعد ذلك أن يبتهج ويعلن ابتهاجه بقدوم- مثلا- هذا الرئيس، أو يريد أن يطعم الفقراء والمساكين، أو يريد أن يهدي ثواب هذا الإطعام لروح هذا الولي الكبير مثلا، الحقيقة يجب ألا نتهمه بسرعة بأنه مشرك، وهو يسمي الله ويقول (بسم الله) ويقول (الله أكبر) ، ويوجه هذه الذبيحة إلى الكعبة، وباسم الله تعالى يذبح، لكن يريد أن يعبر عن نوع من التعبيرات الابتهاجية، أنه حاج قدم, هل عندما يذبح هؤلاء العوام الذبيحة للحاج يشركون الحاج بالله تعالى؟ حاج عليه نور الحج يشركونه بالله! الواقع عندما أقول بتعبيرنا العامي تفتق قلبه، هو لا ينظر لمسألة الشرك مطلقا، هو يقول: (بسم الله) ويقول: (الله أكبر) ويوجه إلى الكعبة, مثلا يعبر عن ابتهاجه لقدوم الحاج، وهذه أشياء صدقات تبذل للفقراء والمساكين.(10/587)
أنا أؤيد ما يقوله الشيخ العبادي من أننا يجب أن نتوقف في نسبة الشرك لمثل هذه الأمور, فرق إذن بين أن أقصد التعبير بابتهاجي وأحقق كل الشرائط المطلوبة في الذبح وباسم الله تعالى أذبح، وبين أن أشرك بالله هذا الولي أو الحاج أو الرئيس ... وما إلى ذلك.
النقطة الأخيرة: أنا أعتقد أن الملاحظ {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] يعني يجب أن يكون الذبح في إطار وفي جو التسمية لله تعالى بعيدا عن ما يفعله المشركون وأمثالهم، في قضية فرد يقف والشريط يتحرك والدجاجات تمر أمامه، هذا الفرد الذي يقف ربما ضحكنا عندما قيل: إن هناك فردا يسمي، والشريط يمر أمامه. لا، هذا الفرد هو مسيطر على هذا الشريط يمكن أن يطفئ الكهرباء فيقف الشريط عن عمله لأنه مسيطر وهو الذي يدفع التيار الكهربائي يمشي ويحرك هذا الشريط. هذا الرجل هو مشرف على الشريط تماما، وهو رجل يسمي بتسميات عرفية يقول: (بسم الله) ، (بسم الله والله أكبر) ويستمر في هذه التسمية. هذا الشيء الذي يذبح في جو تسمية بشكل كامل، وجو التسمية هنا متحقق، وحينئذ نستطيع أن نتقبل منه هذا الجو إذا كان إنسانا لا مسجلا. وشكرا لكم.(10/588)
الشيخ ناجي عجم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، سيد المرسلين.
أرى أن موضوع كيفية التذكية، قد أشبعه السلف- جزاهم الله خيرا- بحثا، وما أراه أنه هو موضوع البحث، إنما موضوع البحث المستجد في إسقاط هذه الكيفية أو تطبيق مدة الكيفية على الطرق المستحدثة والمبتدعة من النصارى - بالوراثة لا الواقع والحال- هذه الطرق التي ابتدعوها في إزهاق الروح وقبلها الصعق الكهربائي والتدويخ والتخدير وضغط الهواء ... وغير ذلك، ثم نحن نستورد هذه اللحوم وإخواننا المسلمون الذين يعيشون بينهم مضطرون ومحتاجون إلى تناول هذه اللحوم، والحمد لله، هذه المشكلة غير موجودة في بلاد المسلمين وما حصلت شكوى، وإنما وجدت المشكلة عندهم ونحن محتاجون إلى أن نستورد.
أيها الإخوة؛ ضوابط التذكية المشروعة واضحة جدا، وإنما كما أشار الإخوة في أبحاثهم- جزاهم الله خيرا- ضعف الالتزام بهذه الضوابط أو عدم الاهتمام بها والتساهل من بعض المسلمين في الأكل لعلهم يعتمدون على الفتوى التي نقلها الإخوة عن الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى أنه يجيز أكل الحيوان الميت ولو بالصعق الكهربائي.
أرى أن هذه هفوة منه رحمة الله عليه, وعليه أنا أثني على الاقتراح الذي تفضل به الأخ الدكتور محمد الأشقر في بحثه أن تشكل جهة إسلامية موحدة تتابع ما يذبح في بلاد الكفر وفي بلاد النصارى، ورشح أن تكون رابطة العالم الإسلامي ونعم هذا الترشيح، تشكل هذه اللجنة لتتابع هذه الذبائح، ويكون لها ختم أو يكون لها علامة وممكن أن تتقاضى رسوم مقابل وضع هذه الأختام على أن هذا الذبح تم بإشرافها ومعرفتها، تتقاضى رسوما لتغطية النفقات ولا بأس بهذا مع وضع خطة وتوصية للحكومات الإسلامية لكي يكون الاكتفاء الذاتي في الثروة الحيوانية، على الأقل نصدر لإخواننا المسلمين الذين يعيشون في بلاد الكفار، فيأكلون من ذبائح المسلمين في بلاد المسلمين، لا أن نأكل نحن من ذبائحهم, والله الموفق، وشكرا.(10/589)
الشيخ أحمد بن حميد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أحب أن أشير وباختصار إلى أمور ثلاثة:
الأمر الأول: ما أشارت إليه بعض الأبحاث وما سمعناه أثناء عرض الدكتور الهواري -جزاه الله خيرا- من أن الطيور في المذابح الآلية تمر بثلاث مراحل: مرحلة الماء المكهرب، ثم مرحلة السكين، ومرحلة الماء الحار, وأن الوفاة تحدث في أحد هذه المراحل، وإن كان بعضها أغلب من بعض, فهذه إن غلب على الظن حدوثها في مرحلة معينة فيعمل بهذا الظن، فإن غلب على الظن حدوث الوفاة بالسكين كانت حلالا بعد توفر الشروط الشرعية الأخرى، وإن غلب على الظن حدوثها بالماء المكهرب أو الماء الحار كانت حراما؛ لأن الظن كالعلم في عامة فروع الشريعة، وأما إذا شككنا في ذلك ولم تتوفر غلبة الظن المعمول بها شرعا، فيمكن أن يؤخذ بالقاعدة الفقهية المشهورة، وهي أن الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن , وحينئذ على الترتيب السالف الذكر- الماء المكهرب ثم السكين ثم الماء الحار- تعتبر الوفاة حدثت في مرحلة الماء الحار، فتكون حراما.(10/590)
الأمر الثاني: فإن الإشارة أو التأكيد على القاعدة الفقهية والمهمة -وإن كان أشار إليها بعض المداخلين -وهي: أن الأصل فيما يذكى الحرمة حتى تثبت ذكاته بيقين. ولها أدلة واضحة الدلالة؟ كحديث عدي بن حاتم وغيره، ومقتضى هذه القاعدة أننا إن شككنا في توفر شروط الذكاة الشرعية من أهلية المذكي أو كون الذكاة على الوجه الشرعي، إذا شككنا في ذلك فنأخذ بالأصل وهو الحرمة ولا ننتقل عنه إلا بيقين. وهذه القاعدة هي العمدة في هذا الباب، وهي الفيصل في الموضوع, وقد يشكل على هذه القاعدة حديث عائشة - رضي الله عنها- ((سموا الله وكلوا)) . فيستدل بحديث عائشة على حل أكل ما جهل حاله، غير أنه إذا حمل حديث عائشة رضي الله عنها على ما كان في بلاد المسلمين؛ فهذا لا يشرع للإنسان أن يسأل عنه ولا أن يفتش بل يسمي الله ويأكل، أما اللحوم المستوردة من بلادٍ الغلبة فيها لغير المسلمين، أو يغلب على الظن أنها تذبح على غير الطريقة الإسلامية، فهذه يعمل بالقاعدة السابقة التي يقتضيها حديث عدي، وهو أن الأصل فيما يذكى الحرمة، جمعا بين حديث عائشة وحديث عدي، إذ المعروف أن العمل بالدليلين أولى من إهدار أحدهما.
بقي أن أشير إلى قضية وهي تتصل بالتسمية الجماعية لكن من جانب آخر، وهي ما استدل به بعض الباحثين من أن قول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] أنها تدل بظاهرها على أن كل حيوان يحتاج إلى تسمية مستقلة, الذي يبدو ويظهر أن الآية لا تدل على ذلك، لأن الآية دلت في منطوقها على عدم الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، ودلت في مفهومها على جواز الأكل مما ذكر اسم الله عليه، أي كلوا مما ذكر اسم الله عليه، فالمفهوم هنا، وهو من باب المطلق، والقاعدة الأصولية "أن المطلق يصدق بأي صورة كان " كما قرر ذلك علماء الأصول، فإن ذكر اسم الله عليه استقلالا فهو داخل، وإن ذكر اسم الله عليه مع غيره فهو داخل أيضا بدلالة ظاهر الآية, هذا ما أحببت أن أقوله، والله أعلم.(10/591)
الرئيس:
في الواقع بقي ما يزيد عن عشرة من أصحاب الفضيلة الذين طلبوا الكلمات والوقت تجاوزناه بنحو خمس وأربعين دقيقة، ولعلكم ترون أن ننهي الجلسة.
بسم الله الرحمن الرحيم،الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من خلال المداولات في موضوع الذبائح، وطرق التذكية الشرعية، وضوابطها، فإن المداولات تضمنت أمرين تبعا للبحوث:
الأمر الأول: البحث في المسائل التي هي كمرتكزات وأصول للقضايا المستجدة والتي بحثها الفقهاء وفرغ منها كما ذكره بعض أصحاب الفضيلة الأعضاء.
والأمر الثاني: في المستجدات التي من أجلها طلب عرض هذا الموضوع على المجلس.
ولهذا فإننا نرجو من اللجنة التي تؤلف أن تركز- وقد سمعت وقيدت ما دار في هذا الموضوع- على المستجدات التي حصلت في موضوع الذبائح وحصل فيها المداولة والبحوث ومن أجلها أدرج هذا الموضوع في جدول أعمال المجلس, وقد ترون مناسبا أن تكون اللجنة من أصحاب الفضيلة المشائخ:
الشيخ تقي العثماني، الشيخ محمد الأشقر، الشيخ الخليلي، الشيخ أحمد بن حميد، الشيخ علي محي الدين القره داغي، الطيب الهواري، الطيب هيثم.
وقبل أن ترفع الجلسة أحب أن أشير إلى أن الموضوع في الجلسة الصباحية ليوم الأربعاء- إن شاء الله تعالى- غدا هو موضوع العقود المستجدة، والعقود المستجدة يحتوي على أمور: العقود المركبة، والشركات المتناقصة، والإيجار المنتهي بالتمليك وبطاقة الائتمان، وعدد من المعاملات الأخرى. وتعلمون أن ما يتعلق ببطاقة الائتمان سبق وأن درست في دورة أو دورتين، فالنفوس متهيئة والأبحاث موجودة، وآخر بحث معد من الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان موجود وموزع عليكم، وكون هناك جلستان صباحية ومسائية لهذه العقود هذا من العسر بمكان كبير، فلهذا نرى أن يكون الاقتصار على بطاقات الائتمان، ويكون التحضير غدا - إن شاء الله تعالى- لهذا الموضوع، ويكن العرض فيه للشيخ عبد الوهاب، وأما الشيخ نزيه والشيخ محمد القري بن عيد فلهم السبق فيما يتعلق بقضية بطاقة الائتمان؛ فيدخلون في المناقشة في هذا الباب. وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(10/592)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم 101/ 3/ د10
بشأن
الذبائح
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 إلى 28 صفر 1418هـ (الموافق 28 يونيو-3 يوليو 1997 م) .
بعد إطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع الذبائح، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء وخبراء الأغذية، واستحضاره أن التذكية من الأمور التي تخضع لأحكام شرعية ثبتت بالكتاب والسنة، وفي مراعاة أحكامها التزام بشعائر الإسلام وعلاماته التي تميز المسلم من غيره، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله)) . قرر ما يلي:
أولا: التذكية الشرعية تتم بإحدى الطرق التالية:
1- الذبح: ويتحقق بقطع الحلقوم والمريء والودجين، وهي الطريقة المفضلة شرعا في تذكية الغنم والبقر والطيور ونحوها، وتجوز في غيرها.
2- النحر: ويتحقق بالطعن في اللبة، وهي الوهدة (الحفرة) التي في أسفل العنق, وهي الطريقة المفضلة شرعا في تذكية الإبل وأمثالها، وتجوز في البقر.
3- العقر: ويتحقق بجرح الحيوان غير المقدور عليه في أي جزء من بدنه، سواء الوحشي المباح صيده، والمتوحش من الحيوانات المستأنسة، فإن أدركه الصائد حيا وجب عليه ذبحه أو نحره.(10/593)
ثانيا: يشترط لصحة التذكية ما يلي:
ا- أن يكون المذكي بالغا أو مميزا، مسلما أو كتابيا (يهوديا أو نصرانيا) ، فلا تؤكل ذبائح الوثنيين، واللادينيين، والملحدين، والمجوس، والمرتدين، وسائر الكفار من غير الكتابيين.
2- أن يكون الذبح بآلة حادة تقطع وتفري بحدها، سواء كانت من الحديد أم من غيره مما ينهر الدم، ما عدا السن والظفر.
فلا تحل (المنخنقة) بفعلها أو بفعل غيرها، ولا (الموقوذة) وهي التي أزهقت روحها بضربها بمثقل (حجر أو هراوة أو نحوهما) ، ولا (المتردية) وهي التي تموت بسقوطها من مكان عال أو بوقوعها في حفرة، ولا (النطيحة) وهي التي تموت بالنطح، ولا (ما أكل السبع) وهو ما افترسه شيء من السباع أو الطيور الجارحة غير المعلمة المرسلة على الصيد.
على أنه إذا أدرك شيء مما سبق حيًّا حياة مستقرة فذكي جاز أكله.
3- أن يذكر المذكي اسم الله تعالى عند التذكية، ولا يكتفى باستعمال آلة تسجيل لذكر التسمية، إلا أن من ترك التسمية ناسيا فذبيحته حلال.
ثالثا: للتذكية آداب نبهت إليها الشريعة الإسلامية للرفق والرحمة بالحيوان قبل ذبحه، وفي أثناء ذبحه، وبعد ذبحه:
فلا تُحَدُّ آلة الذبح أمام الحيوان المراد ذبحه، ولا يذبح حيوان بمشهد حيوان آخر، ولا يذكى بآلة غير حادة، ولا تعذب الذبيحة، ولا يقطع أي جزء من أجزائها، ولا تسلخ ولا تغطس في الماء الحار، ولا ينتف الريش إلا بعد التأكد من زهوق الروح.(10/594)
رابعا: ينبغي أن يكون الحيوان المراد تذكيته خاليا من الأمراض المعدية، ومما يغير اللحم تغييرا يضر بآكله، ويتأكد هذا المطلب الصحي فيما يطرح في الأسواق، أو يستورد.
خامسا:
أ- الأصل في التذكية الشرعية أن تكون بدون تدويخ للحيوان، لأن طريقة الذبح الإسلامية بشروطها وآدابها هي الأمثل، رحمة بالحيوان وإحسانا لذبحته وتقليلا من معاناته, ويطلب من الجهات القائمة بالذبح أن تطور وسائل ذبحها بالنسبة للحيوانات الكبيرة الحجم، بحيث تحقق هذا الأصل في الذبح على الوجه الأكمل.
ب- مع مراعاة ما هو مبين في البند (أ) من هذه الفقرة، فإن الحيوانات التي تذكى بعد التدويخ ذكاة شرعية يحل أكلها إذا توافرت الشروط الفنية التي يتأكد بها عدم موت الذبيحة قبل تذكيتها، وقد حددها الخبراء في الوقت الحالي بما يلي:
1- أن يتم تطبيق القطبين الكهربائيين على الصدغين أو في الاتجاه الجبهي- القذالي (القفوي) .
2- أن يتراوح الفولطاج ما بين (100- 400 فولط) .
3- أن تتراوح شدة التيار ما بين (0.75إلى 1.0 أمبير) بالنسبة للغنم، وما بين (2 إلى 2.5 أمبير) بالنسبة للبقر.
4- أن يجري تطبيق التيار الكهربائي في مدة تتراوح ما بين (3 إلى6 ثوان) .
جـ- لا يجوز تدويخ الحيوان المراد تذكيته باستعمال المسدس ذي الإبرة الواقذة أو بالبلطة أو بالمطرقة، ولا بالنفخ على الطريقة الإنجليزية.
د- لا يجوز تدويخ الدواجن بالصدمة الكهربائية، لما ثبت بالتجربة من إفضاء ذلك إلى موت نسبة غير قليلة منها قبل التذكية.
هـ- لا يحرم ما ذكي من الحيوانات بعد تدويخه باستعمال مزيج ثاني أكسيد الكربون مع الهواء أو الأوكسجين، أو باستعمال المسدس ذي الرأس الكروي بصورة لا تؤدي إلى موته قبل تذكيته.(10/595)
سادسا: على المسلمين المقيمين في البلاد غير الإسلامية أن يسعوا بالطرق القانونية للحصول على الإذن لهم بالذبح على الطريقة الإسلامية بدون تدويخ.
سابعا: يجوز للمسلمين الزائرين لبلاد غير إسلامية أو المقيمين فيها، أن يأكلوا من ذبائح أهل الكتاب مما هو مباح شرعا، بعد التأكد من خلوها مما يخالطها من المحرمات، إلا إذا ثبت لديهم أنها لم تذك تذكية شرعية.
ثامنا: الأصل أن تتم التذكية في الدواجن وغيرها بيد المذكي، ولا بأس باستخدام الآلات الميكانيكية في تذكية الدواجن ما دامت شروط التذكية الشرعية المذكورة في الفقرة (ثانيا) قد توافرت، وتجزئ التسمية على كل مجموعة يتواصل ذبحها، فإن انقطعت أعيدت التسمية.
تاسعاً:
أ- إذا كان استيراد اللحوم من بلاد غالبية سكانها من أهل الكتاب، وتذبح حيواناتها في المجازر الحديثة بمراعاة شروط التذكية الشرعية المبينة في الفقرة (ثانيا) فهي لحوم حلال لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] .
ب- اللحوم المستوردة من بلاد غالبية سكانها من غير أهل الكتاب محرمة، لغلبة الظن بأن إزهاق روحها وقع ممن لا تحل تذكيته.
ج- اللحوم المستوردة من البلاد المشار إليها في البند (ب) إذا تمت تذكيتها تذكية شرعية تحت إشراف هيئة إسلامية معتمدة وكان المذكي مسلما أو كتابيا فهي حلال.
ويوصي المجمع بمايلي:
أولا: السعي على مستوى الحكومات الإسلامية لدى السلطات غير الإسلامية التي يعيش في بلادها مسلمون، لكي توفر لهم فرص الذبح بالطريقة الشرعية بدون تدويخ.
ثانيا: لتحقيق التخلص نهائيا من المشكلات الناجمة عن استيراد اللحوم من البلاد غير الإسلامية ينبغي مراعاة ما يلي:
أ- العمل على تنمية الثروة الحيوانية في البلاد الإسلامية لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
ب- الاقتصار ما أمكن على البلاد الإسلامية في استيراد اللحوم.
جـ- استيراد المواشي حية وذبحها في البلاد الإسلامية للتأكد من مراعاة شروط التذكية الشرعية.
د- الطلب إلى منظمة المؤتمر الإسلامي لاختيار جهة إسلامية موحدة تتولى إصلاح مهمة المراقبة للحوم المستوردة، بإيجاد مؤسسة تتولى العمل المباشر في هذا المجال، مع التفرغ التام لشؤونه، ووضع لوائح مفصلة عن كل من شروط التذكية الشرعية، وتنظيم المراقبة والإشراف على هذه المهمة؛ وذلك بالاستعانة بخبراء شرعيين وفنيين، وأن توضع على اللحوم المقبولة من الإدارة علامة تجارية مسجلة عالميا في سجل العلامات التجارية المحمية قانونيا.
هـ- العمل على حصر عملية المراقبة بالجهة المشار إليها في البند
(د) ، والسعي إلى اعتراف جميع الدول الإسلامية بحصر المراقبة فيها.
و إلى أن تتحقق التوصية المبينة في البند (د) من هذه الفقرة يطلب من مصدري اللحوم ومستورديها ضمان الالتزام بشروط التذكية الشرعية فيما يصدر إلى البلاد الإسلامية؛ حتى لا يوقعوا المسلمين في الحرام بالتساهل في استيراد اللحوم دون التثبت من شرعية تذكيتها.
والله أعلم(10/596)
المفطرات
إعداد
الشيخ محمد المختار السلامي
مفتي الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
إن التخطيط الذي ضبط به الموضوع قد قسمه إلى شعبتين:
- المفطرات في مجال التداوي.
- المفطرات في مجال الحالات المرضية.
وإنه بعد تتبعي وجدت أن الفطر لا يختلف تحققه سواء أكان صاحبه مريضًا أم صحيحًا معافى، فما يعتبر مُفَطِّرًا للمريض يعتبر مفطرًا للصحيح، وإنما يفترق المريض عن الصحيح في حكم الإقدام على تناول المفطر.
يقول الكاساني: (انتقاض الشيء عند فوات ركنه أمر ضروري، وذلك بالأكل والشرب والجماع، سواء كان صورة ومعنى، أو صورة لا معنى، أو معنى لا صورة، وسواء كان بعذر أو بغير عذر ". (1)
__________
(1) بدائع الصنائع، ص 1006 - 1007(10/597)
الباب الأول
المرض وعلاقته بالصيام
الصيام عزيمة وحكم عام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
رخص الله للمريض أن يفطر، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]
إن ظاهر الآية يقتضي أن كل من صدق عليه الوصف " مريض " يجوز له أن يفطر، ويكون داخلًا ضمن إطار المرخص لهم.
ومن يصدق عليه الوصف مراتب:
1) من لا يقدر على الصوم.
2) من يقدر عليه بجهد ومشقة.
3) من يقدر عليه من غير جهد ومشقة، ولكن يتوقع أن يضاعف الصيام مرضه.
4) المريض الذي يشعر بألم في جزء من بدنه , ولكن تأثير الصيام والفطر على مصدر الألم لا يختلف.
5) الصحيح الذي يخشى المرض.
6) المريض الذي يكون الصيام أعون على شفائه.
7) المرضِع الصحيحة التي تتناول الدواء لتعالج به رضيعها.(10/598)
حكم كل مرتبة:
أولا: من لا يقدر على الصوم.
الصيام تكليف، وما لا يطاق مجمعٌ على عدم وقوع التكليف به في الشريعة الإسلامية (1)
ثانيا: من يقدر على الصوم بجهد ومشقة.
يقول ابن رشد: "والمريض الذي يصح له الفطر هو الذي لا يقدر على الصيام أو يقدر عليه بجهد ومشقة من أجل مرضه " (2) .
ظاهر كلام ابن رشد أن الفطر جائز، والجواز ينبغي أن يفهم على أنه جواز الإقدام، فيشمل الوجوب، يقول خليل: " ووجب أن خاف هلاكا أو شديد أذى ".
يقول في البحر: " الفطر رخصة والصوم عزيمة، فكان أفضل إلا إذا خاف الهلاك فالإفطار واجب ". هكذا في البدائع (3)
وأجرى الشافعية فطر المريض على تيممه، وحكم ما إذا كان المريض يخاف تلف نفس أو عضو أو فوات منفعة عضو أنه يجوز له التيمم فيجوز له الفطر (4) .
ثالثا: من يقدر عليه من غير جهل ومشقة، ولكنه يتوقع أن يضاعف الصيام مرضه.
يقول ابن رشد:" قيل أن الفطر له جائز. وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في العتبية، وقيل أن ذلك لا يجوز له؛ لأن الصوم عليه واجب لقدرته عليه، وما يخشى من زيادة مرضه أمر لا يستيقنه، فلا يترك فريضة بشك، والأول أصح ". (5)
وذكر القرطبي: "قال جمهور العلماء إذا كان به مرض يؤلمه أو يؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر ". قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون، ورجح القرطبي أن الفطر مستحب ولا يصوم إلا جاهل (6) .
وفي البحر: "أن شرعية الفطر لدفع الحرج، وتحقق الحرج منوط بزيادة المرض أو إبطاء البرء أو إفساد عضو ". (7)
وذكر النووي أنه أن خاف إبطال البرء أو زيادة المرض - وهي كثرة الألم، وإن لم تطل مدته - أو شدة الضنى - وهو الداء الذي يخامر صاحبه، وكلما ظن أنه برئ نكس، وقيل: هو النحافة والضعف - أو خاف حصول شين فاحش على عضو ظاهر؛ ففي هذه الصور وقع الخلاف، والأصح جواز التيمم، أي وكذلك الفطر (8) .
__________
(1) الموافقات: 1/ 150
(2) المقدمات: 1/ 247
(3) البحر: /303
(4) المجموع: 2/ 285، 6 / 258
(5) المقدمات: 1/ 247
(6) أحكام القرآن، للقرطبي: 2/ 276
(7) البحر الرائق: 2/ 303
(8) المجموع: 285/2(10/599)
رابعا: المريض الذي يشعر بالألم ولكن فطره لا يعجل برءه ولا يؤخره، فمن أخذ بظاهر الآية أجاز له الفطر، روي عن طريف بن تمام العطاردي أنه دخل على محمد بن سيرين وهو يأكل في رمضان فلم يسأله؛ فلما فرغ قال له: إنه وجعت أصبعي هذه. (1) وحجته أنه متى حصل الإنسان في حالي يستحق بها اسم المرض صح الفطر قياسا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة (2) .
ويكاد ابن سيرين ينفرد بهذا الرأي، والقواعد الشرعية لا تساعده، وتسويته بين السفر والمرض تسوية بين المظنة والعلة، فإن السفر مظنة المشقة، ولما كانت المشقة غير منضبطة أقام الشارع المظنة مقام العلة، أما المرض فهو نفس العلة، فما دام المرض لم يبلغ الدرجة المقتضية للتخفيف يلغى من الاعتبار، وسنزيد هذا توضيحا عند ضبط مفهوم الرخصة.
خامسا: الصحيح الذي يخشى المرض.
جاء في الفتاوى الهندية أن الصحيح الذي يخشى المرض هو كالمريض، هكذا في التبيين (3) .
وفي البحر نقلا عن التبيين أيضا: لو برأ من المرض ولكن الضعف باقٍ وخاف أن يمرض بالصوم فهو كالمريض قال: " ومراده بالخشية غلبة الظن ". ونقل في فتح القدير أنه سأل عنه القاضي الإمام فقال: " الخوف ليس بشيء ". (4)
المذهب المالكي في الصحيح الذي يخشى المرض:
يقول الزرقاني في شرح قول خليل: " وجاز الفطر بمرض موجود ". ثم صرح بمفهوم هذا الوصف فقال: " ومفهوم قوله (بمرض) أن خوف أصل المرض بصومه ليس حكمه كذلك، وهو كذلك على أحد قولين إذ لعله لا ينزل به، والآخر يجوز ". (5)
__________
(1) المقدمات: 1/ 247
(2) أحكام القران، للقرطبي: 2/ 276
(3) الفتاوى الهندية: 1/ 207
(4) البحر: 303/2
(5) الزرقاني: 2/ 214(10/600)
وفي حاشية العدوي: " واعلم أن الصحيح إذا خاف بصومه الهلاك أو شدة الأذى يجب عليه الفطر، ويرجع في ذلك إلى أهل المعرفة، والجهد يبيح الفطر ولو للصحيح كما هو ظاهر الخطاب، وصرح به بعض الشراح، لكن ما في المجموعة وذكره اللخمي أنه إنما يبيح ذلك للمريض ". (1) فالمذهبان الحنفي والمالكي أثر عنهما الاختلاف في حكم الصحيح الذي يخاف المرض إذا هو صام.
والشافعية سووا بين الترخص بالتيمم والترخص بالفطر , وفي التيمم جاء في المجموع: " إذا خاف حدوث مرض يخاف منه تلف النفس أو عضو أو فوات منفعة عضو، أنه يجوز له التيمم بلا خلاف بين أهل المذهب إلا صاحب الحاوي، فإنه حكى في خوف الشلل طريقين، كما في خوف زيادة المرض، وأصحهما القطع بالجواز ". (2)
وعليه فإن حكم خوف حدوث المرض هو كحدوثه فعلا عند الشافعية. ومذهب أحمد أصرح المذاهب في اعتبار الترخص بخوف حدوث المرض، جاء في المغني: " والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادته في إباحة الفطر؛ لأن المريض إنما أبيح له الفطر خوفا مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله، فالخوف من تجدد المرض في معناه ". (3)
وصرح البهوتي بأن الفطر مع خوف المرض سنة، وأن الصوم مكروه. (4)
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الخرشي: 2/ 261
(2) المجموع: 2/285
(3) المغني: 404/4 -405
(4) شرح منتهى الإرادات: 1/ 443(10/601)
سادسا: المريض الذي يكون الصوم أعون على شفائه.
لم أجد من صرح بحكم هذا النوع، ولكن القواعد تقتضي أنه يجب
عليه الصوم ويحرم عليه الفطر، وأن مذهب ابن سيرين لا ينسحب على هذا النوع.
سابعا: المرضع التي تتناول الدواء ليصل أثره إلى رضيعها المريض.
في الظهيرية: " رضيع مبطون يخاف موته من هذا الداء، وزعم الأطباء أن الظئر إذا شربت دواء كذا برئ الصغير وتماثل، وتحتاج الظئر إلى أن تشرب ذلك نهارا في رمضان، قيل: لها ذلك إذا قال الأطباء الحذاق، وهو محمول على الطبيب المسلم دون الكافر، قياسا على من شرع في الصلاة بتيمم، فوعد له كافر إعطاء الماء فإنه لا يقطع الصلاة.
أما المرضع في ذاتها فلا يعتبر قيامها بالإرضاع مرضا مبيحا للفطر، بخلاف الحامل إذا خافت على حملها.
جاء في المدونة: " قلت: ما الفرق بين الحامل والمرضع؟ فقال: لأن الحامل هي مريضة، والمرضع ليست بمريضة ". (1)
هل تعتبر المرضع في تناولها الدواء لإبلاغ أثره إلى رضيعها مترخصة؟
إن التحقيق الذي ضبط به أبو إسحاق الشاطبي الرخصة ينفي أن تكون المرضع في هذه الحالة داخلة تحت قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى. . . .}
يقول الشاطبي: " من لا يقدر على القيام رخص له أن يصلي جالسا، فهذه رخصة محققة، فإن كان المترخص إماما فقد جاء في الحديث: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) ثم قال: ((وإن صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون)) (2) فصلاتهم جلوسا وقعت لعذر إلا أن العذر في حقهم ليس المشقة، بل لطلب الموافقة للإمام وعدم المخالفة عليه، فلا يسمى مثل هذا رخصة ". (3) فإقدام المرضع على تناول الدواء في نهار رمضان، ليصل عبر لبنها إلى جسم الرضيع المريض، إقدامها ليس من قبيل الرخصة، وإنما سبيله حفظ الحياة للرضيع المسؤولة عن احترامه، ويفهم هذا على أنه تعينت تلك الطريقة لإنقاذ حياة الرضيع.
__________
(1) المدونة: 1/ 186
(2) فتح الباري: 2/ 321 - 322؛ ومسلم إكمال الإكمال: 2/ 169
(3) الموافقات: 1/ 302(10/602)
تأصيل ما قدمناه:
ارتبط التخفيف بحصول المشقة التي تفتح للصائم باب الترخص، لذا يكون ضبط المشقة وضبط الرخص يعطي لما قدمناه وضوحًا وتدقيقا.
المشقة: عقد القرافي في الفروق (الفصل الرابع عشر للفرق بين المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها) أورد فيه سؤالا مهماً وهو: ما ضابط المشقة المؤثرة في التخفيف من غيرها؟ يقول: فإذا سألنا الفقهاء يقولون: يرجع إلى العرف، فيحيلون على غيرهم، ولا نجد ذلك، ولم يبق بعد الفقهاء إلا العوام، وهم لا يصح تقليدهم في الدين، ثم أن الفقهاء من جملة أهل العرف، فلو كان في العرف شيء لوجدوه معلومًا لهم أو معروفًا.
ويجيب عنه، بأن هذا السؤال ينبغي أن يكون الجواب عنه أن ما لم يرد فيه الشرع، بتحديد يتعين تقريبه بقواعد الشرع؛ لأن التقريب خير من التعطيل فيما اعتبره الشرع، فنقول: يجب على الفقيه أن يبحث عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة فيحققه بنص أو بإجماع أو استدلال، ثم ما ورد عليه بعد ذلك من المشاق مثل تلك المشقة أو أعلى منها جعله مسقطًا، وإن كان أدنى منها لم يجعله مسقطًا، مثاله التأذي بالقمل في الحج جعله مبيحًا للحلق في حديث كعب بن عجرة، فأي أمر كان مثله أو أعلى منه أباح وإلا فلا، والسفر مبيح للفطر بالنص فيعتبر به غيره من المشاق ". (1)
فالقرافي أراد أن يحرر الترخص بضبط المعيار الذي توزن به المشاق فجعله في المقدار الذي له دليل شرعي على اعتباره، ثم مقارنة ما يعرض على الفقيه بذلك المستوى، وفي باب الصيام اعتبر المعيار المنصوص عليه هو السفر، والسفر حسب طبيعته ليس علة ولكنه مظنة العلة، وذلك لعدم انضباطه، فليس السفر راجلًا كالسفر راكبًا، والركوب على الدابة غير الركوب على الدراجة والسيارة والطائرة، ومشقة السفر زمن الحَرِّ الشديد أو البرد المجمد غيرها زمن اعتدال الهواء والحرارة، ولعل وجعَ الأصبع الذي رفض قبوله الفقهاء أشق من السفر بالطائرة من جدة إلى المدينة في فصل الربيع، ولذا فإن ضبط المشقة برجوعنا إلى التأصيل تبعا للقواعد والتعمق في أسرار التشريع أعون على إدراك المرض المسقط للوجوب.
ولما كان الانتقال من تحتم الصيام إلى الإذن في الفطر رخصة؛ يكون ضبط الرخصة وتحديدها مساعدًا في هذا المقام على تبين حكم الإفطار بعذر المرض.
__________
(1) الفروق: 1/ 120(10/603)
مفهوم الرخصة:
حاول شهاب الدين القرافي تعريف الرخصة، فانتقد أولًا تعريف الإمام فخر الدين في المحصول، ثم حصل من تقليب وجوه النظر تعريفا ارتضاه، ثم انتقد تعريفه هذا الذي ظنه في بادئ الأمر كاشفًا عن مفهوم الرخصة، يقول إثر ذلك: " فبقيت بعد ذلك أستصعب تحديدها، فمن انضبط له ذلك فليفعله ". (1)
واستمر الإشكال معه، فقد ذكر في شرح التنقيح: " والذي تقرر عليه حالي في شرح المحصول وههنا أني عاجز عن ضبط الرخصة بحدٍ جامعٍ مانع ". (2)
ونظر أبو إسحاق الشاطبي نظره الذي يتجاوز الجزئيات ليؤلف عنها المفهوم الشرعي، فحالفه التوفيق في تعريف الرخصة لما قال: " الرخصة ما شرع لعذر شاقٍّ، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه ".
يعلق على تعريفه: " أن علماء الأصول قبله قصروا التعريف على الخاصة (ما شرع لعذر) ، وهو لهذا غير مانع، إذ يدخل فيه القراض والمساقاة والسلم ونحوها من العقود المستثناة، مع أنها لا تسمى رخصة لبقاء حكمها حتى مع عدم وجود العذر، فالقادر على استثمار المال يجوز له أن يعطي المال قراضا، وذلك لأن هذا ونحوه راجع إلى أصل اعتبار الحاجي من كليات الشريعة، وكذلك ما كان راجعا إلى مكمل فمن لا يقدر على القيام في الصلاة اعتبرت المشقة مخففة، وأداؤه للصلاة من جلوس رخصة، أما مساواة المأمومين لإمامهم إذا كان لا يقدر على القيام؛ فليس برخصة لأن العذر في حقهم ليس المشقة وإنما طلب موافقة الإمام". (3)
__________
(1) نفائس الأصول: 1/ 336
(2) منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح: 1/ 312
(3) الموافقات: 1/ 302(10/604)
حكم الرخصة: يرى الشاطبي أن حكم الرخصة من حيث إنها رخصة هو الجواز مطلقا، وذلك لدلالة نصوصها على رفع الحرج، ولأن أصل الرخصة هو السهولة واليسر، وفي الالتزام والحث ما ينافي السهولة، ولأن الرخص لو كانت مأمورًا بها لانقلبت عزائم، وينهي بحثه بقوله: " فإذا كان ذلك كذلك ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين، وذلك يبين أن الرخصة لا يكون مأموراً بها ". (1)
لكن إذا ورد الإلزام فليس ذلك تبعًا للرخصة، وإنما هو لقيام دليل آخر يفيد الندب أو الوجوب.
فالمؤمن إذا شق عليه الصيام رخص له في الإفطار ودفع عنه الحرج، ثم إن حكم إفطاره قد يكون محتَّمًا أو راجحًا تبعًا للدليل الدال على تناول المشروب أو المأكول في نهار رمضان، فإذا بلغ به الأمر إلى الخوف على حياته وجب الفطر، وإن لم يصل إلى ذلك ولكن مشقة الصوم تضعفه عن القيام بالعبادات الأخرى أو بمهامه الحياتية فإن الفطر راجح غير واجب.
__________
(1) المرجع السابق: 1/ 306 -308(10/605)
الرخصة شخصية:
إنه لا يوجد ضابط يحدد الرخصة بطريقة تطبق بها على جميع المكلفين، ذلك أنها تستند إلى المشقة، والمشاق تختلف قوة وضعفًا في ذاتها، وتبعًا للظروف التي يقع فيها العمل، وحسب الأحوال والزمان والمكان، وحسب قدرة التحمل عند الأفراد بعوامل قوة البدن وضعفه والسن ومضاء العزيمة أو وهنها.
يقول الشاطبي في السفر: " فرُبَّ رَجُلٍ جَلد ضَرَيٍّ على قطع المَهَامِهِ حتى صار ذلك عادة له لا يحرج بها , ولا يتألم بسببها , يقوى على عباداته وعلى أدائها على كمالها وفي أوقاتها، ورب رجل بخلاف ذلك، وكذلك في الصبر على الجوع والعطش. . . وإذا كان كذلك فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص، ولا حد محدود يطرد في جميع الناس.
ولذا أقام الشارع في جملة منها السبب مقام العلة - يعني أقام المظنة مقام العلة - فإذن ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي ولا ضابط مأخوذ باليد، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه، فمن كان من المضطرين معتادًا للصبر على الجوع، لا تختل حاله بسببه كما كانت العرب، فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك ". (1)
اختلاف الفقهاء في حكم الترخص:
بناءً على ما قدمناه فإن اختلاف الفقهاء في حكم الترخص بالفطر ليس اختلافًا حقيقيًّا، وإنما هو اختلاف في حال؛ لأن حكم الترخص بالفطر شخصي، فقد يكون أخوان مرضهما واحد وفطر أحدهما واجب والآخر راجح، وهذا ما أغناني عن تتبع الأقوال، لارتباطها بهذا الضابط الذي أراه هو الحق الذي لا محيد عنه.
__________
(1) الموافقات: 1/ 313 - 314(10/606)
الباب الثاني
ما يعتبر مُفَطِّرًا للصائم من العلاج
ينقسم العلاج أولًا إلى قسمين:
أ - البحث عن المرض، للتأكد من وصف الاختلال لذي طرأ على الجسم.
ب - الدواء الذي يداوي به المريض داءه.
وينقسم ثانيا:
أ - إلى التداوي بمباشرة الدواء للجسم.
ب - إلى التداوي بفصل شيء عن الجسم.
*وتحت هذين التقسيمين الكبيرين أنواع عديدة.
وينقسم ثالثا:
أ - إلى التداوي النافذ إلى باطن الجسم من منافذه.
ب - إلى التداوي الظاهر الذي لا يتجاوز السطح الخارجي لجسم المريض.
* وتحت هذه الأقسام أنواع كثيرة.(10/607)
الفصل الأول
التداوي من المنافذ إلى الباطن
المنفذ الأول: الفم (1)
أولا - دواء الفم
تحديد الفم:
الفم هو ما بين باطن الشفتين والحلق.
ينقسم إلى ثلاثة أقسام، أعلى الحلق: وهو مخرج الغين والخاء المعجمة، ووسط الحلق: وهو مخرج الحاء والعين المهملتين، وأقصى الحلق من الباطن: وهو مخرج الهمز والهاء.
جاء في كلام الحنفية ما يفيد أن الفطر لا يتحقق إلا بمجاوزة الدواء الحلق بأقسامه الثلاثة، يقول في الدر عادًّا لما لا يفطر: " أو خرج الدم بين أسنانه ودخل حلقه، يعني ولم يصل إلى جوفه ". (2)
وجاء في البحر نقلا عن الفتاوى الظهيرية ما يفيد الاختلاف في التأثير:
" ولو أن رجلًا رمى إلى رجل حبة عنب فدخلت حلقه وهو ذاكر لصومه يفسد صومه، وما عن نصير الدين بن يحيى فيمن اغتسل ودخل الصاء في حلقه لم يفسد ". (3) ، علق ابن نجيم على القول الثاني أنه خلاف المذهب.
__________
(1) والمنفذ الطبيعي والأهم.
(2) الدر المختار: 2/ 98
(3) الدر المختار: 2/ 292(10/608)
وقد يكون وجه الاختلاف أن المتعرض لحبة العنب، وهو ذاكر لصومه متجاوز بذلك، بينما المغتسل غير متجاوز باغتساله.
وعند المالكية قولان، أن الحلق كله من الداخل الذي يفطر الصائم بوصول مائع أو متحلل إليه، يقول الزرقاني: " وصول المائع إلى الحلق يوجب الفطر، ولو رده على المشهور، فالقول بأن الواصل من الأعلى يشترط فيه أن يجاوز الحلق قول ضعيف في المذهب، والمذهب أن الفطر يتحقق بوصوله إلى الحلق، وإن لم يجاوزه ". (1)
ثم عقد تنبيها جاء فيه: " ظاهر قول خليل (حلق) شموله لمخارجه الثلاثة، ونص الشيخ علي الأجهوري أنه لم ير نصا لشيوخ المالكية يفصل ما بين أعلى الحلق وأسفله ". ووجه الرهوني القول بأن كل ما وصل إلى الحلق مفطر بأن المتحلل إذا رجع من الحلق لا يسلم غالبا من أن يبقى في الحلق منه ما يصل إلى الجوف مع الريق، بخلاف غير المتحلل. (2)
ومذهب الشافعية أن مضغ العلك مكروه، ولا يفطر بمجرد المضغ ولا بنزول الريق منه إلى جوفه، فإن تفتت فوصل شيء إلى جوفه عمدًا أفطر، وإن شك لم يفطر، ولو نزل طعمه في جوفه أو ريحه دون جرمه لم يفطر؛ لأن ذلك الطعم بمجاورة الريق له، هذا هو المذهب. وحكى الدارمي وجهًا عن ابن القطان أنه أن ابتلع الريق وفيه طعمه أفطر، وليس لهذا القول وجه. (3) ومذهب الشافعي أن مخرج الخاء والغين المعجمتين من الظاهر،
ومخرج الهمز والهاء من الباطن، والاختلاف في مخرج الحاء والعين المهملتين. (4)
__________
(1) شرح الزرقاني: 2/ 204
(2) حاشية الرهوني: 2/ 361
(3) المجموع: 6/ 354
(4) المجموع: 6/ 319(10/609)
وما يترتب على هذا في باب التداوي:
1) تناول الأدوية التي يغرغر بها المريض، فهي واصلة قطعا إلى أعلى الحلق، فهي مفطرة على الراجح عند المالكية، غير مفطرة عند الحنفية والشافعية، ولكن ينبغي أن يبصق بعد المج. يقول ابن عابدين: " لاختلاط الماء بالبصاق فلا يخرج بمجرد المج، نعم لا يشترط المبالغة في البصق؛ لأن الباقي بعده مجرد بلل ورطوبة لا يمكن التحرز منه ". (1)
2) مضغ دواء لا يتحلل منه شيء إلى المعدة، ففي التتارخانية أنه إذا مضغ الإهليلج، ولم يدخل منه شيء إلى المعدة إلا أن الريق المتأثر بالمضغ قطعًا وصل إلى معدته، أنه لا يفطر. (2)
وعند المالكية أنه من يمضغ العلك الذي لا يتحلل منه شيء ثم يمجه لا يضره، وقيده أبو الحسن الصغير في تعليقه على المدونة أن محل ذلك إذا مضغه مرة واحدة ليداوي به شيئا، وأما إذا كان يمضغه مرارا ويبتلع ريقه فلا شك أنه يفطر؛ لأنه يبتلع بعض أجزائه مع ريقه. (3)
وفي مذهب أحمد قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: الصائم يمضغ العلك؟ قال: لا. وقال أصحابه: ما يتحلل من العلك لا يجوز مضغه إلا أن لا يبلع ريقه، فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شيء أفطر به، وأما ما لا يتحلل منه شيء فهو كالحصاة مضغها في فيه، إلا أنه إن مضغه فوجد طعمه في حلقه دون أجزاء منه فوجهان. (4)
__________
(1) رد المحتار، ابن عابدين: 2/ 98؛ البحر: 2/ 294 - 301
(2) رد المحتار، ابن عابدين: 2/ 98؛ البحر: 2/ 294 - 301
(3) شرح الزرقاني: 2/ 199؛ ومواهب الجليل: 2/ 355
(4) المغني: 358/4(10/610)
مداواة حفر الأسنان:
يقول خليل: وكره مداواة حفر زمنه إلا لخوف ضرر.
فمداواة حفر الأسنان في نهار رمضان له أحوال:
أ - أن يخشى الضرر من تأخير الدواء إلى الليل أو إلى ما بعد رمضان، وهنا إن بلغ خوفَ هلاكٍ وجب، وإن خشي حدوث مرض أو زيادته أو شدة ألم جاز له الإقدام على المداواة، فإن سلم ولم يبتلع منه شيئًا صح صومه، وإن ابتلع منه غلبة قضى، وإن تعمد الابتلاع فهو كمن أكل في نهار رمضان متعمدًا.
ب - أن لا يخشى الضرر ولا شدة الألم، ولكنه في حاجة إلى مداواة حفر أسنانه، فيكره له ذلك في نهار رمضان.
جـ - المداواة ليلًا، فإن لم ينزل منه شيء إلى باطنه في النهار فلا حرج في ذلك، وإن نزل منه إلى حلقه فيمكن إلحاقه بالكحل، فلا حرج فيه , ويمكن التفريق بينه وبين الكحل بأن الكحل نفذ من الداخل إلى الحلق، والفم ليس من الداخلِ. (1)
وجاء في نوازل ابن رشد في الذي يقلع ضرسه من وجع فلا يفتر إلا بدواء يضعه عليه كيف يفعل؟
وسئل عن الرجل يقلع ضرسه من وجع به فلا يفتر الوجع من الموضع إلا بدواء يضعه عليه، كيف يفعل في رمضان؟
فأجاب: " إذا كانت حاله على ما وصفت، فله سعة في أن يضع اللبان في موضع الضرس في رمضان , ويقضي اليوم الذي اضطر فيه إلى ذلك، والله تعالى ولي التوفيق لا شريك له ". (2)
الذي يظهر لي أن المالكية قد اعتمدوا في فتاواهم الأصل الذي توسعوا في تطبيقه والقول بمقتضاه، وهو سد الذرائع، وإلا فإنه إذا لم ينزل شيء إلى المعدة مما دخل الفم، فهو لا يختلف عن الذي تمضمض بالماء ثم مجه، ومما يوضح ذلك ما علل به الرهوني: " أن المتحلل إذا رجع من الحلق لا يسلم غالبا من أن يبقى في المحل منه ما يصل إلى الجوف مع الريق بخلاف غير المتحلل ". (3) وما علل به أيضا ابن الماجشون بأنه ليست العبرة بالغذاء، وإنما لأن حلق الصائم حمى فلا يجاوزه شيء. (4)
الجامد إذا وصل الحلق ولم ينفذ إلى الداخل:
يقول الرهوني: " إذا وصل الجامد إلى الحلق ولَفَظَه، فلغو باتفاق، خلافا لما فهمه البناني ومصطفى احتجاجا بكلام التلقين ". (5)
ولا يظن أن كلام البناني ومصطفى يدل على وجود قولين في المذهب؛ لأن مستواهما لا يعدو ضبط الأقوال وحسن فهمها وإسنادها إلى قائليها، فيعترض عليهما وعلى من كان في مرتبتهما بعدم التوفق في فهم أقوال من سبقهم فقط.
__________
(1) الزرقاني: 2/ 199
(2) الفتاوى: 2/ 912؛ حاشية كنون: 2/ 355
(3) حاشية الرهوني: 2/ 361
(4) حاشية الرهوني: 2/ 359
(5) الرهوني: 2/ 361(10/611)
ثانيا - الدواء المتجاوز للحلقوم عبر الفم
الدواء المتجاوز للحلقوم عبر الفم أنواع:
1 - مائع ومثله المتحلل الواصل إلى المعدة.
2 - جامد واصل إلى المعدة.
3 - المتخلخل النافذ من الفم إلى الداخل.
المائع والمتحلل من الأدوية المجاوز للحلق:
كل مائع أو قابل للتحلل تجاوز الحلق وبلغ المعدة حالا أو توقف في المريء عند ازدراده هو مفطر بإجماع.
الجامد المجاوز للحلق:
الجامد غير القابل للتحلل قد يكون جهاز الكشف ينفذ إلى ما وراء الحلقوم من المريء أو المعدة.
وقد يكون جهازًا مشعا يؤثر في المرض.
واستقرار الجامد فيما وراء الحلقوم قد اختلف فيه الفقهاء.
الحنفية: جاء في بدائع الصنائع: " لو أكل حصاة أو نواة أو خشبا أو حشيشا أو نحو ذلك مما لا يؤكل عادة ولا يحصل به قوام البدن؛ يفسد صومه لوجود الأكل صورة ". (1)
وجاء في البحر: " إذا ابتلع ما لا يتغذى به ولا يتداوى به كالحصاة
والحديد؛ فالقضاء لوجود صورة الفطر ". ثم واصل التمثيل لما لا يؤكل عادة وأنه مفسد للصوم موجب للقضاء. (2)
ولكن الحنفية اشترطوا لتحقق الفطر: الاستقرار، ويقصدون بالاستقرار: الانفصال الكامل عن الخارج وحوز ما بعد الحلق له بتمامه. يقول ابن عابدين: " أن ما دخل الجوف إن غاب فيه فسد الصوم، وهو المراد بالاستقرار، وإن لم يغب بل بقي طرف منه في الخارج أو كان متصلًا بشيء خارج لا يفسد لعدم الاستقرار ". (3)
وبناء على هذا الشرط، فإن المسبار النافذ من المريء إلى المعدة والذي بقي طرفه الأعلى خارج الفم لا يؤثر في الصوم، ولا يترتب عليه الفطر، إلا إذا كان إدخاله إلى المريء يتم بطلاء ظاهره بمرهم ميسر لدخوله، فإن الفطر بالطلاء لا بالمسبار ذاته.
__________
(1) بدائع الصنائع، ص 1015
(2) البحر: 2/ 296
(3) البحر: 2/ 99(10/612)
المالكية: اختلف قول المالكية في تأثير وصول ما لا يتحلل إلى ما وراء الحلق.
مذهب مالك وابن القاسم أن تعمد إدخال جامد لا يتحلل إلى المعدة مقتضٍ فساد الصوم موجب للقضاء، ونقل ابن شاس عن بعض المتأخرين أن الصوم لا يفسد بذلك.
وقد حقق الرهوني ذلك بما ذكرته بعد أن بين اضطراب كلام المؤلفين وأطال. (1)
الشافعية: قال الشافعي والأصحاب - رحمهم الله تعالى -: إذا ابتلع
الصائم ما لا يؤكل في العادة كدرهم ودينار أو تراب أو حصاة أو حشيشا أو حديدا أو خيطا أو غير ذلك؛ أفطر بلا خلاف في مذهبه.
وحكي عن أبي طلحة الأنصاري رحمه الله والحسن بن صالح أنه لا يفطر بذلك، وحكوا عن أبي طلحة الأنصاري أنه كان يتناول البرد وهو صائم ويبتلعه ويقول: ليس هو بطعام ولا شراب. وسند الشافعية ما رواه البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل، وإنما الفطر مما دخل وليس مما خرج. (2) الحنابلة: سوى الحنابلة بين المتحلل وغيره، يقول البهوتي عادًّا لما يترتب عليه الفطر: "أو أدخل إلى جوفه شيئا من كل محل ينفذ إلى معدته مطلقا , أي سواء كان ينماع ويغذي أو لا، كحصاة وقطعة حديد ورصاص ونحوها، ولو طرف سكين من فعله أو فعل غيره بإذنه فسد صومه ". (3)
__________
(1) الرهوني: 2/ 359 - 361
(2) المجموع: 6/317
(3) شرح منتهى الإرادات: 1/ 448(10/613)
ثالثا - المتخلخل النافذ إلى ما وراء الحلقوم
المتخلخل النافذ إلى ما وراء الحلقوم يشمل:
1) الدخان 2) الغبار 3) البخار.
1) الدخان:
الدخان هو تحول كيميائي يحصل في المادة عند الاحتراق، يدخل الدخان من الفم وينفذ إلى ما وراء الحلقوم، وكما يقول الدكتور محمد علي البار، وهو يتحدث عن دخان السجائر أو الشيشة: " إنه يمر من الفم والبلعوم الفمي، ثم ينزل جزء منه إلى البلعوم الحنجري ومنه إلى الرغامى فالرئتين وينزل الجزء الآخر إلى المريء فالمعدة ". (1)
ولا شك أن الدخان يحتوي على مواد عالقة تختزن في الممرات التي تعبرها وتحدث تأثيرها.
الحنفية: يفصل الحنفية بين دخول الدخان بدون قصد وبين إدخاله، يقول في الدر المختار: " لو أدخل حلقه الدخان أفطر - أي دخان كان ولو عودا أو عنبرا لو ذاكرا - لإمكان التحرز عنه فلينتبه كما ذكره الشرنبلالي ". يعلق ابن عابدين: " ولا يتوهم أنه كشم الورد ومائه والمسك، لوضوح الفرق بين هواء تطيب بريح المسك وشبهه، وبين جوهر دخان وصل إلى جوفه بفعله ". (2)
وبهذا يكون الدواء الذي يقذف به في النار ليجذبه المريض من فمه إلى الداخل مفطرا عند الحنفية.
المالكية: يقول خليل فيما على الصائم تركه: (وبَخُور) ويعلق عليه عبد الباقي الزرقاني: " ويترك إيصال بخور ".
وبهذا يتفق المالكية مع الحنفية أن الإيصال هو المفطر، وهو ما صرح به العدوي: " فلو وصل بغير اختياره لم يفطر ".
وما ذكره خليل هو أحد قولين ذكرهما ابن عرفة بدون ترجيح، ونص السليمانية: " من تبخر بالدواء فوجد طعم الدخان في حلقه قضى صومه، والقول بأنه لا يؤثر في الصوم منقول عن ابن لبابة قائلا: إنه يكره ولا يفطر، وحمله بعضهم على الخلاف كما هو عند ابن عرفة وفهم الزرقاني، وحمله بعضهم على الوفاق على معنى أن قصد إدخال الدخان مكروه، ولا يفطر أن لم يجد طعمه، ويفطر أن وجد طعمه". (3)
حكم التداوي بالدخان: كل دواء يؤثر بواسطة إدخال دخانه إلى الباطن مفطر، لأنه يترسب من مادته ما يؤثر في الصائم، فهو والأكل في الحقيقة سواء.
__________
(1) المفطرات في مجال التداوي، ص 36
(2) المختار: 2/ 97
(3) الزرقاني: 2/ 254؛ وحاشية العدوي شرح الخرشي: 2/ 249(10/614)
2) البخار:
نص الزرقاني أن إيصال بخار القدر يحصل به غذاء للجوف؛ لأن ريح الطعام يقوي الدماغ. ونقل الحطاب عن الشيخ ابن أبي زيد: واستنشاق قدر الطعام بمثابة البخور؛ لأن ريح الطعام له جسم ويتقوى به الدماغ، فيحصل به ما يحصل بالأكل. (1)
ولما كان البخار تحول في تماسك جزيئات الماء؛ إذ يتخلخل الماء بالحرارة، ثم يتجمع عندما يعود إلى ما كان عليه. وإن كنت لم أجد فيما وصلته يدي من كتب الحنفية والشافعية نصًّا إلا أنه لا شك في إجرائه على حكم الدخان.
حكم التداوي بالبخار: كل دواء محلول مائع ينقلب إلى بخار، ويدخله المريض إلى باطنه من منفذ الفم مفطر، سواء كان تحوله إلى بخار بواسطة الحرارة أو بواسطة الأجهزة المخلخلة.
__________
(1) الزرقاني: 2/ 254؛ ومواهب الجليل: 2/ 426(10/615)
3) الغبار:
المذهب الحنفي: ظاهر كلام الحنفية أنه لا فارق بين الدخان والغبار، فإذا دخل بنفسه بدون قصد فإنه لا يؤثر، وإن دخل بقصد أثر في الصيام، وصرح بهذا ابن نجيم لما قال: " وغبار الطاحونة كالدخان " (1)
المذهب المالكي: يقول خليل بأنه لا قضاء في غبار طريق ودقيق أو كيل أو جبس لصانعه.
يفهم من كلام شراحه: أن ما دخل غلبة مما لا يمكن التحرز منه، إما لعمومه كغبار الطريق، أو للحاجة كصناعة الطحانين والكيالين وحراس الأندر وصناع الجبس؛ أنهم لا يفطرون بما نفذ من الفم إلى داخلهم. وصرح الزرقاني بأنه إذا لم يعم كغبار غير الطريق إذا دخل الفم ونفذ منه إلى ما بعده أفطر وعليه القضاء.
وفي اشتراط إمكان التحرز منه صرح بمفهوم الشرط فقال: " وانظر إذا كثر غبار الطريق وأمكن التحرز منه بوضع حائل على فيه، هل يلزم بوضعه أم لا؟ وهو ظاهر كلام غير واحد ". (2) فهو يرجح أنه إذا أمكن التوقي من وصول الغبار العام ولم يفعل أنه بتقصيره لم يشمله التخفيف ويجب عليه القضاء. وأفتى الشيخ أحمد هريدي لما سئل: هل يفطر مريض الربو باستعماله الجهاز المعروف بجهاز البخاخة؟ ، أفتى: " إذا كان الدواء الذي يستعمله بواسطة البخاخة يصل إلى جوفه عن طريق الفم أو الأنف؛ فإن صومه يفسد، وإذا كان لا يصل منه شيء إلى الجوف فلا يفسد ". (3) ، وليس الأمر في الواقع على الاحتمال، فإنه من المؤكد أن جذب الدواء بواسطة البخاخ ينفذ إلى ما وراء الحلق. (4)
حكم التداوي بالغبار: القصد إلى التداوي بمادة مسحوقة سحقا ناعما ينفذ إلى ما وراء الحلق بجذبها بالفم أو بآلة؛ مفطر موجب للقضاء إذا كان المرض غير ملازم.
__________
(1) ابن نجيم: 294/2
(2) الزرقاني: 2/ 212
(3) الفتاوى الإسلامية: 5/ 1757
(4) انظر: المفطرات في مجال التد اوي للدكتور البار المقدم للدورة التاسعة، ص 35 - 37(10/616)
المنفذ الثاني: الأنف
الأنف منفذ إلى الحلق وما وراءه - قطعا يدرك ذلك حتى غير أهل الاختصاص - فكثير من العمليات الجراحية يدخل الفريق الطبى أنبوبًا طرفه بالمعدة وطرفه بجهاز استقبال يتجمع فيه إفرازات المعدة (1)
وبالرجوع إلى نظريات الفقهاء نجد:
الحنفية: أن المتحلل المار من الأنف مفطر إذا بلغ ما وراء الحلق - وهو السُّعُوط -، ونقل عن الولوالجي أن السعوط غير مفطر، دخل بنفسه أو أدخله، لأنه لم يوجد الفطر صورة ولا معنى، لأنه مما لا يتعلق به صلاح البدن بوصوله إلى الدماغ، وصحح هذا القول في المحيط وفي فتاوى قاضي خان (2)
ويقول ابن عابدين تعليقا على قول المتن (أو اسْتَعَطَ) : " والسعوط الدواء الذي صب في الأنف وأسعطه إياه، موجب للإفطار والقضاء، ويعلل ذلك بأن الإفطار بالسعوط إفطار معنى لا صورة؛ لأن السعوط يقع بدون ابتلاع الذي هو الصورة ". (3)
ويترجح ما ذهب إليه ابن عابدين خلافا للولوالجي والمحيط وقاضي خان؛ لأن الدماغ لا مدخل له في السعوط، وأنه مبني على ما يتوهم أن الاستنشاق لما كان تصعيدا ظن أنه يمر إلى الدماغ مع أن قنواته تنزل إلى الحلق.
المالكية: يرون أن مرور المائع من الحلق عبر الأنف موجب للفطر.
قال اللخمي: يمنع الاستعاط لأنه منفذ متسع، ولا ينفك المستعط من وصول ذلك إلى حلقه، ولم يختلف في وقوع الفطر. (4)
ولم أجد تفصيلا في كتب المالكية ولا اختلافا إلا في اعتبار منفذ الأنف أهو واسع كما نص اللخمي وابن عبد السلام، أو هو ضيق وهو ما تفرد به الخرشي. (5)
وأما لو دهن داخل أنفه بدواء لا ينفذ إلى الحلق، فهو كمن لا يتجاوز الماء فمه؛ لأن تعليلهم للفطر بالسُّعوط ظاهر في الذي ينفذ إلى الداخل.
الشافعية: يرون أن السعوط أن وصل إلى الدماغ أفطر بلا خلاف، قال في المجموع: " قال أصحابنا: ما جاوز الخيشوم في الاستعاط فقد حصل في حد الباطن وحصل به الفطر، فداخل الأنف إلى الخيشوم له حكم الظاهر ". (6)
وذكر الشيخ الشربيني: أن الاستعاط مفطرٌ سواء اشترطنا أن يصل إلى الجوف الذي فيه قوة تحيل الدواء أو لم نشترط ذلك؛ لأن الاستعاط يصل إلى باطن الدماغ الذي فيه قوة (7)
الحنابلة: يرون أن السعوط مفطر، لأنه يصل إلى الدماغ: " يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في بدنه، كدماغه وحلقه، إذا وصل باختياره وأمكن التحرز منه، وصل من الفم أو غيره كالسعوط، والدماغ جوف والواصل إليه يغذيه فيفطره كالواصل إلى الحلق ". (8)
الاتفاق بين المذاهب الأربعة أن السعوط إذا تجاوز الأنف مفطر، إلا أن الحنفية عللوا الفطر بنفاذه إلى المريء، والشافعية والحنابلة بصعوده إلى الدماغ، والعلم التجريبي يؤيد وجهة النظر الأولى، وأن القوة المودعة في جسم الإنسان التي تحيل الداخل ليست في الدماغ قطعا.
إدخال الدواء عبر الأنف سواء أكان مائعًا أم غبارًا أم دخانًا أم بخارًا؛ مفطر، وأما إدخال أنبوب لإخراج إفرازات المعدة؛ فغير مفطر إلا على رأي الشافعية.
__________
(1) انظر: المفطرات في مجال التداوي، ص 13
(2) البحر: 2/ 299 -350
(3) حاشية ابن عابدين: 2/ 102
(4) مواهب الجليل: 2/ 425
(5) شرح الخرشي: 2/ 249؛ وشرح ابن عبد السلام: 1/ 323؛ مخطوطة بتركيا
(6) المجموع: 6/ 313
(7) مغني المحتاج: 1/ 428
(8) المغني: 4/ 352 -353(10/617)
المنفذ الثالث: العين
يرى الحنفية أن الكحل نهارا لا يفطر، ولا يكره عمله، وفي الدر: " أو اكتحل وإن وجد طعمه في حلقه ". وفي رد المحتار: " وكذا لو بزق فوجد لونه في الأصح، وعلل ذلك بأن الموجود في حلقه داخل من المسام، الذي هو خلل البدن، والمفطر هو الداخل من المنافذ، للاتفاق على أن من اغتسل فوجد برده في باطنه أنه لا يفطر ". (1)
فعلى هذا التعليل لا يعتبر الحنفية على الراجح عندهم العين منفذا، وبهذا يستوي الكحل مع المائع.
يرى المالكية أن العين منفذ ظاهر كالفم والأنف، فإذا لم يجاوز العين إلى الحلق فلا فطر، وإن تداوى بدواء وجد طعمه أو لونه في حلقه أفطر. يقول الزرقاني: " فمن اكتحل نهارا، فإن تحقق عدم الوصول للحلق فلا قضاء عليه، ومحل وجوب القضاء فيما يصل إذا فعله نهارا، فإن فعله ليلًا فلا شيء عليه أن وجد طعمه بالنهار ". (2)
ونقل القرافي أن مُطَرِّفًا أباح الكحل، وأن ابن الماجشون أباح الإثمِد (3)
الشافعية يرون أن العين ليست منفذا. قال أبو علي السنجي والفوراني وصححه الغزالي: أن الاكتحال لا يفطر في نهار رمضان، وأنه لا منفذ بين العين والدماغ، وإنما يصله من المسام (4)
وذكر الشربيني أيضا أنه لا يضر الاكتحال، ولو وجد طعم الكحل بحلقه؛ لأن الواصل إليه هو من المسام، ولا يكره الاكتحال لما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتحل وهو صائم (5) عن بقية، ثنا الزبيدي، والزبيدي سعيد بن أبي سعيد الزبيدي كما صرح به البيهقي، قال في التنقيح: وهو مجمع على ضعفه، كما أخرج البيهقي حديثا آخر عن محمد بن مالك أنه كان يكتحل وهو صائم، قال في التنقيح: إسناد مقارب (6) ونقل ابن التركماني أن ابن حبان وثقه (7)
الحنابلة: أن ما بلغ الحلق من العين كالكحل مفطر. يقول ابن قدامة: " فأما الكحل فما وجد طعمه في حلقه، أو علم وصوله إليه فطره، وإلا لم يفطره. نص عليه أحمد، وقال ابن أبي موسى: ما يجد طعمه كالذرور والصبر والقطور أفطر، وإن اكتحل باليسير من الإثمد غير المطيب كالمِيل ونحوه لم يفطر نص عليه أحمد، وقال ابن عقيل: أن كان الكحل حاد فطره وإلا فلا ". (8)
ورأي المالكية والحنابلة أرجح؛ لأن علماء التشريح يثبتون أن الله خلق العين مشتملة على قناة تصلها بالأنف ثم بالبلعوم (9) ، فما بنوا عليه رأيهم في عدم الفطر أنه لا صلة بين العين والحلق ألا من طريق المسام أكد العلم صلاحه.
تقطير الدواء في العين في نهار الصيام مفسد للصوم، موجب للقضاء.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 2/ 98
(2) شرح الزرقاني: 2/ 204
(3) الذخيرة: 2/ 506
(4) المجموع: 315/6
(5) مغني المحتاج: 1/ 429
(6) نصب الراية: 2/ 456 - 457
(7) الجوهر النقي: 4/ 262
(8) لمغني: 4/ 353 -354
(9) لمفطرات في مجال التداوي، للدكتور البار، ص 13(10/618)
المنفذ الرابع: الأذن
مذهب الحنفية: أطلق في الكنز القول بأن التقطير في الأذن مفطر، وتعقبه ابن نجيم قائلا: " المائع الواصل إلى باطن الأذن أن كان دهنا فكما قال، وأما الماء فالذي اختاره صاحب الهداية أنه لا يفطر، سواء دخل بنفسه أو أدخله، وبه صرح الولوالجي معللا بأنه لم يوجد الفطر لا صورة ولا معنى، ونقل عن قاضي خان في فتاواه أنه أن خاض الماء فدخل أذنه لا يفطر، وإن أدخل الماء إلى أذنه أفطر، ورجح هذا التفصيل في فتح القدير ". (1)
وحصل ابن عابدين مذهب أبي حنيفة فقال: " والحاصل الاتفاق على الفطر بصب الدهن، وعلى عدمه بدخول الماء، واختلاف التصحيح في إدخاله ". (2)
مذهب المالكية: سوى المالكية بين منفذ الأنف والعين والأذن، يقول خليل (أو وصل المتحلل فقط إلى) حلق من أنف وأذن وعين، وذكر ابن عبد السلام في شرحه على مختصر ابن الحاجب أن المائع إذا دخل من المنفذ الضيق من الأعالي أو من الأسافل حتى وصل ذلك إلى المعدة فاختلف فيه على ثلاثة أقوال، أحدها: وجوب القضاء، والثاني: سقوطه، والثالث: التفصيل بين العين ونحوها، فيجب، وبين الأسافل فلا يجب، لأنه ليس ببعيد نزول الغذاء من الأعالي بخلاف العكس. (3)
مذهب الشافعية: الشافعية وجهان؛ الأول أنه لو قطر ماء أو دهنا في أذنه فإنه يفطر وهو الأصح، وبه قطع الشيرازي في المهذب، والثاني لا يفطر، قاله أبو علي السنجي والقاضي حسين والفوراني وصححه الغزالي، لأنه لا منفذ بين الأذن والدماغ، وإنما يصله من المسام. (4)
ومذهب الحنابلة: أن ما يدخل من الأذن من المائعات ويصل إلى الدماغ فهو مفطر، يقول البهوتي: " أو قطر في أذنيه شيئًا وصل إلى دماغه فسد صومه، لأنه واصل إلى جوفه باختياره، أَشْبَهَ الأكلَ ". (5)
والذي أثبته علماء التشريح بالاعتماد على المشاهدة والتجربة أن الأذن ليس بينها وبين الجوف ولا الدماغ قناة ينفذ منها المائعات إلا إذا تخرمت طبلة الأذن (6)
__________
(1) لبحر: 2/ 300
(2) رد المحتار: 2/ 98
(3) شرح ابن عبد السلام: 1/ 324، مخطوط السليمانية
(4) المجموع: 6/ 315؛ وشرح الرا فعي: 6/ 367 - 369
(5) شرح منتهى الإرادات: 1/ 448؛ والمغني: 6/ 353
(6) المفطرات في مجال التداوي، للدكتور البار، ص 14، 36، 43(10/619)
المنفذ الخامس: الرأس السالم
إذا دهن رأسه في نهار رمضان بدواء فهل يؤثر في صومه؟
ظاهر قول ابن الحاجب أنه وقع خلاف؛ فذهب بعضهم إلى أنه يفطر بذلك، وذهب آخرون إلى التفصيل، فإن وجد طعمه في حلقه أفطر، وإن لم يجد لم يؤثر ذلك في صحة صيامه. وفرق بعضهم بين النفل فلا يؤثر وبين الفرض فيفطر به.
وأرجع الحطاب الخلاف إلى أن منفذ الرأس منفذ ضيق والوصول منه إلى الحلق نادر، فتجري إذن على الخلاف في الطوارئ البعيدة الوقوع النادرة أتعتبر مطلقا أو تلغى مطلقا، أو ينظر أن تحقق الوقوع ترتب الحكم وإلا لا؟ (1)
وهذه الطريقة التي خرج عليها الخلاف غير ما ذهب إليه ابن عبد السلام في شرحه على مختصر ابن الحاجب، إذ جعله خلافًا في حال يعني أنه إذا لم يصل إلى الحلق شيء فلا يمكن أن يقال إنه مفطر، وأنه إذا وصل منه شيء إلى الحلق فلا وجه للقول بعدم الإفطار، ووصول الدواء إلى الدماغ غير مفطر، ولا يفطر إلا بما وصل إلى حلقه.
وذهب الحنفية إلى أن الادِّهَان لا يترتب عليه الفطر، قال ابن نجيم:
" لأن الادهان غير منافي للصوم لعدم وجود الفطر صورة ومعنى، والداخل من المسام لا من المسالك فلا ينافيه، كما لو اغتسل بالماء فوجد برده في كبده ". (2) .
ولم أجد للشافعية نصا ولا للحنابلة.
والذي أكده العلم التجريبي أنه لا منفذ يجمع بين ظاهر البدن والحلق وما وراءه على الخصوص، ولذا لا وجه للقول بأن الإحساس بطعم الدهن موجب للفطر، وللصائم أن يطلي ظاهر جسده بما هو في حاجة إليه من الأدوية وهو صائم دون أن يؤثر ذلك في صومه.
__________
(1) مواهب الجليل: 2/ 425؛ والجواهر الثمينة: 1/ 358
(2) البحر الرائق: 2/ 293.(10/620)
المنفذ السادس: الدُبُر
كما يصل الدواء المؤثر من المنافذ العالية: الفم والأنف والعين، فكذلك يصف الأطباء الأدوية من منفذ الشرج.
والاعتماد على هذا المنفذ في الطب يشمل:
ا - إدخال جهاز غير متحلل يساعد على أخذ صورة لبعض أجهزة الجسم الواقعة في ذلك المحيط، والتي لا تتأتى إلا منه.
2 - الكشف بواسطة إدخال الطبيب أصابعه لمعرفة إمكان وجود ورم ونحوه في بعض الأجزاء من الجسم.
3 - إدخال سوائل مساعدة على الكشف.
4 - إدخال سوائل محتوية على محلول أدوية أو مساعدة على التغوط.
5 - إدخال فتائل تذوب بحرارة الجسم ثم تبلغ أعالي المصير، وتؤثر في العلاج.
6 - دهن الشرج بمراهم.
إدخالُ غيرِ متحلل:
يشمل هذا الأجهزة، والكشف بالجس بواسطة الأصابع.
المذهب الحنفي: الذي عليه الحنفية أن إدخال ما لا يستقر من الشرج غير مفطر، ففي الظهيرية: " لو أدخل خشبة أو نحوها وطرف منها بيده لم يفسد صومه، وكذلك لو أدخل أصبعه في استه، إلا إذا كانت الأصبع مبتلة بالماء أو الدهن، فحينئذ يفسد لوصول الماء أو الدهن ". (1)
المذهب المالكي: جاء في المدونة ما ظاهره يفيد أن إدخال غير المتحلل لا يفطر، ولا قضاء، وسئل مالك عن الفتائل تجعل للحقنة، قال: أرى ذلك خفيفا، ولا أرى عليه فيه شيئا. ثم نقل عن ابن وهب , قال ابن وهب: قال مالك فيمن يحتقن أو يستدخل شيئا من وجع، قال: " أما الحقنة فإني أكرهها للصائم، وأما السبور فإني أرجو أن لا يكون به بأسا " قال ابن وهب: والسبور: الفتيلة. (2)
وأكد هذا الحطاب: " وقوله في الحقنة بالفتائل: لا شيء عليه؛ دل على أن كلامه في الفطر إنما هو في الحقنة المائعة، وهي التي فيها الخلاف كما قال اللخمي " (3) ، ودقق الزرقاني فقال: " إن الجامد لا يفطر إذا وصل إلى المعدة إلا أن يتحلل قبل الوصول والفتائل لا تفطر ولوكان عليها دهن ". (4)
المذهب الشافعي: قال النووي: " (فرع) لو أدخل الرجل أصبعه أو غيره دبره أو أدخلت المرأة أصبعها أو غيره في دبرها أو قبلها وبقي البعض خارجا بطل الصوم ". (5)
المذهب الحنبلي: يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في جسده (6)
حكم الكشف بإدخال غير المتحلل:
هي عند الشافعية والحنابلة مفطرة، وعند الحنفية كذلك؛ لأنه يستعان على إدخالها بطلاء الجهاز أو الأصابع بمراهم.
وعند المالكية غير مفطرة ولا قضاء لذلك.
__________
(1) البحر: 2/ 300، ومثله في رد المحتار: 2/ 99
(2) المدونة: 1/ 177
(3) مواهب الجليل: 2/ 424
(4) شرح الزرقاني: 2/ 204
(5) المجموع: 6/ 114
(6) المغني: 4/352(10/621)
إدخال السوائل داخل الشرج:
إذا دخلت السوائل من الشرج سواء أكانت محتوية على مواد بقصد الكشف أو للمداواة، أو لتيسير البراز فإن الحكم لا يختلف.
هي مفطرة عند الحنفية والشافعية والحنابلة، وعلى الأرجح من مذهب مالك، واختار اللخمي عدم الفطر بالحقنة قال: " واختلف في الاحتقان بالمائعات هل يقع به فطر أو لا يقع، وألا يقع به أحسن؛ لأن ذلك مما لا يصل إلى المعدة ولا إلى موضع يتصرف منه ما يغذي الجسم بحال ". (1)
دهن داخل الشرج بمرهم:
دهن داخل الشرج مفطر عند الحنفية والشافعية والحنابلة , غير مفطر عند المالكية كما نعلم مما قدمناه.
__________
(1) مواهب الجليل: 2/ 424(10/622)
المنفذ السابع: إحليل الرجل وفرج المرأة
المذهب الحنفي: إذا أدخل إحليلَه مائعًا أو دهنا، فنقل عن محمد بن الحسن وأبي حنيفة أنه لا يفطر. والمنقول عن أبي يوسف أنه يفطر.
ووجه قول كل منهما؛ يقول في البحر هو مبني على أنه هل بين المثانة والجوف منفذ أو لا؟ وهو ليس باختلاف فيه على التحقيق.
فالقول الأول يرى أن وصول البول إلى المثانة بالترشح، وما يخرج بالترشح لا يعود رشحًا، وقاسوا هذا على الجرة التي ترشح فإنه يخرج منها الماء ولا يعود إليها.
تحقيق نفيس: قال في الهداية: " ليس هذا من باب الفقه، لأنه متعلق بالطب، وإذا قطر في إحليله ولم يصل إلى المثانة فقد اختلف النقل في تأثيره في الصوم، هذا إذا أدخل مائعًا، أما إذا أدخل غير مائع، فإن القياس ينبغي أن يجري فيه من النقل في ذلك أنه لو حشا ذكره بقطنة حتى غابت أنه يفطر". (1) وذكر ابن عابدين أن قصبة الذكر منطبقة لا تنفتح إلا عند خروج البول، فلذلك لا يعطى لقصبة الذكر حكم الداخل من الشرج إذا غاب.
وأما قُبُل المرأة فإذا قطرت فيه مائعا فهو مفسد لصومها , قيل إجماعا عند الحنفية، وقيل على الراجح، والأصح أنه مجمع عليه. (2)
المذهب المالكي: جاء في المدونة: " قلت: أرأيتَ من قطَّر في إحليله دهنًا وهو صائم , أيكون عليه القضاء في قول مالك؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئا، وهو عندي أخف من الحقنة، ولا أرى فيه شيئا " (3) فابن القاسم لا يرى قضاء على من تعمد إدخال مائع في إحليله فضلًا عن الذي لا يتحلل , ونص خليل: (ولا قضاء في حقنة إحليل) . الزرقاني على قول خليل: " وهو بكسر الهمزة ثقب الذكر، وأما فرج المرأة فيجب عليها القضاء لحقنها منه أن وصل للمعدة، وتفرقته بين إحليل الرجل وفرج المرأة لم يؤيدها بنص لمن تقدمه من أهل الاجتهاد أو الترجيح ".
ولذا ناقشه أبو علي من جهة المعنى بأن فرج المرأة ليس متصلًا بالجوف، فلا يصل إليه منه شيء. كما أن لفظ الإحليل قد اختلف في معناه، فهو عند عياض والقاموس والصحاح: ثقب الذكر , ومن حيث يخرج البول، وفي النهاية يطلق على ذكر الرجل وفرج المرأة. (4) وعند ابن منظور: الإحليل يقع على ذكر الرجل وفرج المرأة (5) ، وبناء على هذا يكون جواب ابن القاسم في المدونة نصًا في التسوية بين الرجل والمرأة في عدم الإفطار بالتقطير في القبل.
المذهب الشافعي: يقول النووي: " وإذا قطر في إحليله شيئا ولم يصل إلى المثانة أو زرف فيه ميلًا ففيه ثلاثة أوجه، أصحها يفطر، وبه قطع الأكثرون، لأنه منفذ يتعلق الفطر بالخارج منه، فتعلق بالواصل إليه كالفم. والثاني لا يوجب الفطر. والثالث أن جاوز الحشفة أفطر وإلا فلا ". (6)
المذهب الحنبلي: يقول ابن قدامة: " وإذا قطر في إحليله دهنًا لم يفطر به، سواء وصل إلى المثانة أم لم يصل، لأنه ليس بين باطن الذكر والجوف منفذ ". (7)
ويقول البهوتي عادًّا لما لا يؤثر في صحة الصوم: " ولا أن دخل في قبل كإحليل، ولو كان القبل لأنثى غير ذكر أصلي؛ لأن مسلك الذكر من فرجها في حكم الظاهر كالفم ". ثم قال: " وأبلغ من هذا أنه لو قطر في إحليله أو غيب فيه شيئا فوصل إلى المثانة لم يبطل صومه نصًّا ". (8)
وبناء على ما تقدم:
فإن إدخال أنبوب إلى المثانة لتيسير خروج البول إذا احتقن في المثانة وانسد سبيل خروجه فتعسر البول أو تعذر؛ غير مفطر على ما يراه الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو وجه عند الشافعية، ويستوي في هذا الرجل والمرأة؛ لأن التشريح كشف أن جهاز البول غير مرتبط بقناة إلى المعدة.
__________
(1) البحر: 2/ 301
(2) رد المحتار: 2/ 101
(3) لمدونة: 1/ 177
(4) مواهب الجليل: 2/ 422
(5) سان العرب: 1/ 706
(6) المجموع: 6/ 314
(7) المغني: 4/ 360
(8) شرح منتهى الإرادات: 1/ 489(10/623)
المنافذ غير الخلقية
قد تنفتح منافذ إلى داخل الجسم، إما لتعرض الجسم لحادث أو يتدخل الفريق الطبي لعلاج المريض، ونحن نتابع هذه المنافذ تبعًا لما جاء في كتب الفقه.
1 - ما يصيب الصائم من جراح، وهي إما أن تكون في رأسه ووصلت إلى أم الدماغ، أو في بطنه , أو في بقية جسده، فما يصيب رأسه هو المأمومة، وما يصيب بطنه هي الجائفة، وما سوى ذلك جراح قد تكون سطحية وقد تكون عميقة تصل إلى مخ العظام، ولا غنى للصائم عن العناية بجراحه ومداواتها.
كما أن التطور الطبي وصل إلى إجراء عمليات جراحية لاستئصال المرارة مثلا أو أخذ عينة من الكبد أو الطحال أو من أجزاء أخرى من أجهزة البطن، كما يمكن غسل الأمعاء بصفة مسترسلة ودقيقة لإزالة التلوث الذي يحصل إثر تمزق المصران وانسياب محتواه في البطن دون أن يدخل السائل إلى المعدة، كما يمكن إدخال وريد إلى المعدة يحمل إليها الغذاء والري، فلنتابع أولاً ما أثر عند الفقهاء.
المذهب الحنفي: قال في البحر: " التحقيق أن بين الدماغ والجوف منفذ، فما وصل إلى الدماغ يصل إلى الجوف، ولذا فإنه إذا داوى الآمة أو الجائفة ووصل الدواء إلى دماغه أو جوفه أفطر وقضى.
ثم أن الدواء إما أن يكون يابسا أو مائعا، فإذا تحقق وصوله إلى دماغه أو جوفه أفطر، وإن لم يتحقق فإن كان الدواء يابسا فإنه لا يفطر، وإذا كان مائعا فهو مفطر عند أبي حنيفة؛ لأن العادة وصول المائع، وغير مفطر عند محمد وأبي يوسف؛ لأن الوصول مشكوك فيه ولا يحصل الفطر بالشك ". (1)
المذهب المالكي: جاء في المدونة: قلت: أرأيت أن كانت به جائفة فداواها بدواء مائع أو غير مائع، ما قول مالك في ذلك؟ قال: لم أسمع منه في ذلك شيئا، ولا أرى عليه قضاء ولا كفارة، قال: لأن ذلك لا يصل إلى مدخل الطعام والشراب، ولو وصل ذلك إلى مدخل الطعام والشراب لمات من ساعته ". (2) ، وهو نص ابن شاس في عقد الجواهر (3)
, وقد تقدم وجهة نظر المالكية في دواء الرأس، وأن الدماغ وخريطته لا يوجب وصول مائع أو يابس لهما أو لواحد منهما الفطر.
__________
(1) البحر الرائق: 2/ 300
(2) المدونة: 1/ 177 - 178
(3) عقد الجواهر: 1/ 358(10/624)
المذهب الشافعي: جاء في المجموع وشرحه ما يفيد أنه أن وصل الدواء من المأمومة أو الجائفة إلى خريطة دماغه أو إلى بطنه أفطر , وإن لم يصل إلى ما تحت الخريطة وباطن الأمعاء: يقول النووي: " حتى لو كانت برأسه مأمومة وهو الآمة، فوضع عليها دواء فوصل جوفه أو خريطة دماغه أفطر، وإن لم يصل باطن الأمعاء وباطن الخريطة، وسواء كان الدواء رطبا أو يابسا ". (1)
ودقق الخطيب الشربيني مؤكدا أن الوصول إلى ظاهر خريطة الدماغ أو ظاهر الأمعاء مفطر، وإن لم يصل إلى باطن الأمعاء التي يتم فيها إحالة الدواء إلى ما يفيد الجسم. (2)
المذهب الحنبلي: عدد ابن قدامة المفطرات التي توجب القضاء، فقال: " أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه أو من مداواة المأمومة إلى دماغه، فهذا كله يفطره؛ لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل ". (3) ويذهب ابن تيمية إلى أن مداواة الجائفة والمأمومة لا يؤثر في الصوم، وحجته أن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها؛ لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة، وأطال بقوة عارضته وحسن بيانه. (4)
__________
(1) المجموع: 6/ 313
(2) مغني المحتاج: 1/ 428
(3) المغني: 4/ 353
(4) الفتاوى، لابن تيمية: 26/ 233 وما بعدها(10/625)
وجل ما يقوم عليه نفيه للإفطار أن هذا من دين الله يجب على النبي صلى الله عليه وسلم بيانه , وأنه مما تعم به البلوى فتتوفر الدواعي على نقله، وأنه لم ينقل فلذلك لا يقبل القول به.
وهذا البناء وإن محكما قويا في ظاهره إلَّا أن التأمل فيه يكشف ثغرات فيه، ذلك أن عوارض التشريع الأصلي مما أوكله الله لمن أوتي فهما في القرآن وفي السنة، وأنه لا يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعرض لكل جزئية يمكن أن تحدث بالبيان، وليست المأمومة ولا الجائفة مما تعم به البلوى، فمن أين له أن المجروحين في عهد النبوة بجائفة أو مأمومة كانوا من الكثرة حتى أن البلوى عفت، والمتتبع للفقه وقضايا الطهارة والصلاة، يجد عددا كثيرا من المسائل وكثارا من القضايا التي وصل إليها الفقهاء بالاستنباط من النصوص الواردة، إما فهما نافذا وإما قياسا.
ولذا فإن الطريقة التي اتبعها وحملته على الإمام أحمد والشافعي وإن كان لم يسمهما مما لا يقنع.
وأرى أن البحث في هذه القضية يجب أن ينظر إليه في واقع الأمر حسب سنن الله في الخلق، فإذا كانت المأمومة يصل أثر دوائها إلى الأجهزة القابلة ثم المحيلة فهي مفطرة، وإذا كانت تتشربها المسام الظاهرة فلا وجه للقول بتأثيرها في الفطر، وقد أكد الدكتور البار في بحثه أنه لا صلة بين الدماغ والجوف مادام الحاوي سليما، وأنه إذا انكسر فالوضع أخطر من الصيام والفطر؛ لأن المصاب يكون في وضع يستدعي العلاج المكثف، وإجراء عمليات دقيقة وبقاءه مدة في المراقبة المستمرة، وفي بيت الإنعاش إن كتبت له الحياة، وقلما يقع إذا ما انهدم بناء الجمجمة، فالصورة كلها افتراضية.(10/626)
وأما الجائفة فإنه قد يمكن أن تبلغ الطعنة إلى جزء من أجزاء المعدة أو ما اتصل بها من فوق أو من أسفل، وهي حالات تستدعي علاجا سريعا ومكثفًا، وإذا تمت مداواة داخل ذلك بدواء فلا شك أنه محقق للفطر، إذا نفذ يقينا إلى الجهاز الذي خلقه الله في الإنسان لهضم ما يرد إليه وتحويله إلى أجزاء الجسم حسب التقدير الدقيق في الخلق. (1)
أما إدخال المنظار مع الأجهزة التي تقوم بكشف ما في الداخل للفريق الطبي لاستئصال المرارة أو غيرها أو أخذ عينة فهي لا تعتبر مفطرة عند الحنفية لعدم الاستقرار والانفصال عن الخارج، إذ هذه الأجهزة طرفها في داخل الجسم وطرفها الآخر بيد الفريق الطبي.
وكذلك أخذ عينة لتحليلها من الكبد أو الطحال أو أي جزء من الباطن، وكذلك هي غير مفطرة عند المالكية لعدم وصولها إلى المعدة، وكذلك عند ابن تيمية، وهي مفطرة عند الشافعية والحنابلة، والرأي الأول أولى بالأخذ؛ لليقين بأن من أدخلت في بطنه هذه الأجهزة لم يأكل ولم يشرب ولم يتغذ، ولم يصل شيء إلى الجهاز الهضمي الذي يقوم عليه الصيام.
وأما التغذية من ثقب بالمعدة، فلم أجد من تعرض لها من الفقهاء إلا الرهوني، أنهى كلامه على الحقنة بوضع سؤال، فقال: وانظر هل مثله - أي الإيصال بحقنة - ما يصل للمعدة من ثقبة تحتها أو فوقها أو كالحقنة بالدبر أو يجري على ما تقدم في الوضوء؟
ما تقدم له في الوضوء: أنه لا يخلو الحال من خروج الخارج من الثقب:
ا - أن يكون الثقب في المعدة، فوق المعدة، تحت المعدة؛ وفي كل إما أن يكون المخرجان قد انسدا، أو انفتحا، أو انفتح أحدهما وانسد الآخر.
فإذا كان الثقب تحت المعدة وانسد المخرجان نقض، وإن كان فوقها في الصور الثلاث أو تحتها وانفتحا أو انفتح أحدهما فقولان، الراجح عدم النقض عند سند، وعرض الإشكال إذا كان الثقب في المعدة، ولم يجد له نصا ". (2)
والإشكال السابق الذي أورده في باب الصيام وفرض فيه أن يجري على ما تقدم في الوضوء لا يظهر وجهه، ذلك أن الخارج من الثقب في المعدة يمكن أن يجري فيه القولان، أما في الصيام فلا؛ لأنه لا رابطة بين التأثير على الصائم وبين انسداد المخرجين.
والذي يظهر لي - والله أعلم - أنه إذا كان الثقب في المعدة ذاتها، فوصول شيء منه مفطر يقينا، وإذا كان الثقب فوق المعدة في القناة الرابطة بين المعدة والحلقوم فمفطر قطعا، وإذا كان الثقب تحت المعدة في المسلك الخارج منها فهو جار مجرى الحقنة، وإن كان الثقب فوق المعدة أو تحتها غير نافذ إلى المسلك الفوقي أو التحتي فلا أثر له في الفطر.
__________
(1) المفطرات في مجال التداوي، للدكتور البار، ص 13، 37، 39، 40
(2) شرخ الزرقاني: 1/ 86(10/627)
الفصل الثاني
التداوي بالإخراج
كما يتم التداوي بإدخال دواء من منفذ من المنافذ التي تحدثنا عنها فإنه يمكن علاج المريض بالتدخل لإخراج:
1- الدم، بالفصد والحجامة.
2 - القيء.
1) إخراج الدم بالفصد والحجامة
أما الفصد فالاتفاق على أنه غير مفطر، وأما الحجامة فقد اختلف فيها الفقهاء على ثلاثة مذاهب:
ذهب أبو حنيفة إلى أن الحجامة لا تؤثر في الصيام ولا كراهة فيها للصائم.
وذهب مالك والشافعي وأبو ثور إلى أن الحجامة مكروهة، ولكن لا تؤثر في الصيام.
وذهب أحمد وداود والأوزاعي وإسحاق بن راهويه إلى أن الحجامة في نهار رمضان حرام وتفطر الصائم. (1)
وترجع الأقوال إلى قولين في بحثنا هذا؛ لأن الفرض أن الحجامة وصفت كطريقة للتداوي فارتفعت الكراهة والإثم وبقي التأثير في الفطر.
وسبب الخلاف تعارض الآثار المروية في ذلك؛ فقد روي في مجمع الزوائد ثلاثة عشر حديثا تثبت أن الحجامة تفطر، وروي ثلاثة عشر حديثا أنها لا تفطر، وروي ثلاثة أحاديث تثبت الكراهة، ومعظم الأسانيد فيها مقال , ومع اختلاف الأحاديث، فأحمد ومن معه اعتمدوا الأحاديث الموجبة للفطر، لأنها مثبتة لحكم، وإذا ثبت الحكم فلا يرتفع إلا بما يفيد العلم برفعه، وأحاديث عدم التأثير يحتمل أن تكون ناسخة وأن تكون منسوخة، فلا تقوى على رفع ما يثبت، ومن رأى عدم التأثير رجح الأحاديث النافية للفطر لأن القياس يؤيدها، وذلك أن هذا دم خارج فلا يؤثر، كدم الفصد وخروج الدم من مكان الحجامة، ولأنه دم لا يجب منه الغسل فلم يوجب الفطر.
والقول بأن العلم لا ينتفي ما يوجبه إلا بما يفيد العلم غير مسلَّم، إذ العلم هو اليقين، فإذا دخل عليه الاحتمال في ذاته نفاه، وحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم يؤيده القياس، قال الشافعي بعد أن ساق حديث الفطر بالحجامة وحديث عدم الفطر: أن حديث ابن عباس أمثلها إسنادًا، فإن توقى أحد الحجامة كان أحب إلي احتياطاً، والقياس مع حديث ابن عباس، والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة. (2)
__________
(1) الهداية شرح البداية: 5/ 146
(2) تفصيل الحجامة وسندها؛ انظر الإشراف على مسائل الخلاف: 1/ 206؛ وفتح الباري: 5/ 76 - 81؛ والمجموع: 6/ 349 - 353(10/628)
وذكر القاضي ابن العربي أنه كان يستشكل الأمر، فحديث الإفطار صحيح , إلى أن روى حديث الدارقطني عن أنس , أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على جعفر بن أبي طالب وهو يحتجم فقال: " أفطر هذا " , ثم رخص صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الحجامة. فهذا نص فيه ثلاثة فوائد: تسمية المحتجم، ثبوت حظر الحجامة للصائم، وثالثها ثبوت الرخصة بعد الحظر. (1)
قد يحتاج المعالج لإفراغ ما في معدة المريض، فإن كان ذلك بدون إدخال مادة إلى حلق المريض، ولكن بإثارة أعصاب الجهاز الهضمي، وهو المعبر عنه بالاستقاء، فقد اختلف فيه نظر الفقهاء.
1 - الحنفية: قالوا: الاستقاء يتصور باثنتى عشرة صورة؛ لأنه إما أن يكون ما أخرجه ملء الفم فأكثر، أو دون ذلك، وفي كليهما إما أن لا يعود شيء، أو يعيد هو بإرادته بعضه، أو يعود شيء من قيئه غلبة، وفي كل إما أن يكون ذاكرا لصومه أو ناسيًا له.
وتحصيل المذهب أنه أن كان ناسيا فلا يفطر؟ وإن كان ذاكرا أفطر، إذا بلغ الخارج ملء الفم، ابتلع منه شيئا أو لم يبتلع, وإن كان أقل من ملء الفم، فإن لم يعد شيء منه إلى حلقه، لا غلبة ولا بقصد لم يفطر عند أبي يوسف، وهو الصحيح في المذهب، وأفطر عند محمد - ومذهب محمد هو ظاهر الرواية- وإن عاد منه شيء غلبة لا يفطر عند أبي يوسف، وإن عاد شيء منه بقصده ففيه روايتان عن أبي يوسف. (2)
2 - المالكية: إن من استقاء فقد أفطر، رجع إلى حلقه أو لم يرجع ملء الفم أو أقل. (3)
3 - الشافعية: من استقاء فقد أفطر، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من تقيأ عمدًا أفطر. (4)
__________
(1) العارضة: 3/ 245 - 246
(2) البحر: 2/ 295؛ رد المحتار: 2/ 110 - 111
(3) المدونة: 1/ 179؛ الزر قا ني: 2/ 203
(4) المجموع: 6/ 320(10/629)
4 - الحنابلة: من استقاء فقد أفطر وعليه القضاء بغير تفصيل، قال الخطابي: لا أعلم في هذا خلافا. وحكى ابن قدامة أنه قد حكي عن ابن عباس وابن مسعود وطاوس أن القيء لا يفطر لما رواه الترمذي والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة والقيء والاحتلام)) (1) . ودليل الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم: ((من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض)) . (2)
وبناء على ما قدمناه يتقرر:
أولا - أخذ قدر من دم المريض لتحليله لا يفطر قطعا؛ لأنه كالفصد.
وأما الحجامة فقد ذكرناها تبعًا للفقهاء، وإلا فإن امتصاص الدم بعد شرط الرقية أمر تجاوزه الزمن، وانتهى من يحذق الحجامة بالامتصاص.
ثانيا - أنه إذا رأى الطبيب أن من مصلحة المريض أن يفرغ ما في معدته بالاستقاء فليفعل، وأن من استقاء عليه القضاء؛ لأن حالات التسمم ونحوها تستدعي إفراغ كل ما تحويه المعدة، فلا يظهر أثر لتفصيل أبي يوسف.
***
__________
(1) المغني: 4/ 368؛ عارضة الأحوذي: 3/ 243
(2) رواه أبو داود في السنن والترمذي؛ عارضة الأحوذي: 3/ 244(10/630)
الفصل الثالث
التخدير والحقن
أولا – التخدير:
التخدير يتم بطرق منها: استنشاق غازات تؤثر في الشعور بالإحساس أو بواسطة حقنة عبر الأوردة الدموية أو بهما أو بغير ذلك، وينقسم إلى قسمين:
1 - تخدير جزئي يقتصر مفعوله على جزء من البدن، ويبقى الوعي وإدراك المعالج لما يجري حوله طبيعيا، وهذا لا يؤثر في الصيام.
2 - تخدير كامل للبدن، بحيث يفقد المعالج معه الوعي بما حوله، مع الحرص على أن يستمر على هذه الحالة حسب ما يقرره الفريق الطبي، وهي حالة أقرب ما تكون إلى الإغماء , فيقرر لها من الأحكام ما قرر في الإغماء.
المذهب الحنفي: بأن المغمى عليه إذا نوى الصيام في الليل فصومه صحيح ولا قضاء عليه، يقول ابن نجيم: " ويقضي بإغماء سوى يوم حدث في ليلته، لأنه نوع مرض يضعف القوى ولا يزيل الحجى، وإنما لا يقضي اليوم الأول لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية ". (1)
المذهب المالكي: جاء في المدونة: " أنه أن أغمي عليه كل النهار أو جله وجب عليه القضاء، وإن أغمي بعد أن أصبح صائما وقد مضى جل النهار وهو صائم؛ لا قضاء عليه، وكذلك إذا نوى الصيام وأصبح معافى ثم أغمي عليه نصف النهار؛ لا قضاء عليه، فإن انقطع صيامه في الشهر ثم أفاق بعد طلوع الفجر عليه القضاء؛ لأنه لم يبيت الصيام من الليل ".
ويرى ابن القاسم أنه كلما كان وقت الفجر مغمى عليه فعليه قضاء ذلك اليوم.
ويرى من كان وقت الفجر معافى ناويًا للصوم ثم أغمي عليه معظم النهار أن قضاء ذلك اليوم هو احتياط واستحسان، قال: ولو لم يقضي ما عنف، ورجوت أن ذلك له أن شاء الله. (2)
__________
(1) البحر الرائق: 2/ 2 - 3
(2) المدونة (بتصرف) : 1/ 184 - 185(10/631)
فالمالكية حسب قول ابن القاسم يربطون القضاء:
أولا: بدخوله في الفجر وهو مغمى عليه، طال زمن الإغماء بعد ذلك أو قصر.
ثانيا: بإغمائه أكثر من نصف النهار، كان وقت الفجر مغمى عليه أولًا.
وأنهى الزرقاني بحثه في شرح خليل بإثارة قضية وهي: السكر الحلال، هل يجري مجرى الإغماء، وهذه قريبة جداً من مسألتنا، وقاس ذلك على النوم، فكما أن النائم لو استغرق نومه كامل اليوم ما طولب بالقضاء، فكذلك السكر بالحلال إذا بيت الصيام من الليل، وناقشه البناني بأن النائم مكلف ولو أوقظ استيقظ، بخلاف المغمى عليه، ولما كان المخدر يمكن للطبيب المختص بالتخدير أن يوقظه متى أراد، فالظاهر تبعا لذلك الأخذ بما قاله الزرقاني في التخدير لكامل الجسم. (1)
المذهب الشافعي: إذا انسحب الإغماء على كامل اليوم بعد أن نوى الصيام في الليل فعليه القضاء، وذهب المزني إلى أنه لا قضاء عليه.
إذا نوى الصيام من الليل ولم يستغرق الإغماء كامل اليوم ففيه خلاف؛ قيل: إنه ينظر إلى أول النهار، فإن كان غير مغمى عليه صح صومه، وقيل: إنه إذا لم يستغرق الإغماء كامل النهار صح صومه، وقيل: أن كان مفيقا طرفي النهار صح صومه وإلا قضى، وقيل ببطلان الصوم والقضاء، والذي رجحه في المجموع أن أي جزء من النهار حصلت فيه الإفاقة، فذلك مصحح للصوم نافي للقضاء. (2)
وجاء في المنهاج مع شرحه المغني، والأظهر أن الإغماء لا يضر إذا أفاق لحظة من نهاره، وإن شرب مسكرا ليلا فإن أفاق في بعض نهاره فهو كالإغماء في بعض النهار، قال الأسنوي: " ويعلم منه الصحة في شرب الدواء، أي إذا أفاق في بعض النهار بطريق الأولى ". (3)
فكلام الأسنوي نص على أن الإغماء الحاصل بالدواء إذا لم يستغرق كامل اليوم فالصوم صحيح ولا قضاء، وهو ما نص عليه أيضا الكرد علي: أن من شرب الدواء لحاجة، هو كالإغماء إن استغرق النهار؛ بطل صومه ولزمه القضاء ولا إثم.
المذهب الحنبلي: أن المغمى عليه إذا استغرق الإغماء كامل اليوم عليه القضاء، وإن أفاق في جزء منه أيا كان، فصومه صحيح ولا قضاء عليه. (4)
وبناء على ذلك فإن التخدير لا يوجب قضاء اليوم الذي خدر فيه المريض، سواء استغرق كامل اليوم أو لم يستغرق، ما دام قد بيت الصيام من الليل لذلك اليوم أو للشهر ما لم ينقطع الصيام لعذر.
__________
(1) حاشية البناني: 2/ 203
(2) المجموع: 6/ 345 -346
(3) المغني: 1/ 432 -433
(4) المغني:: 4/ 343 - 344(10/632)
ثانيا - التداوي بالحقن
من وسائل معالجة المريض: الحقن، وهو أنواع:
1 - حقن تحت الجلد.
2 - حقن في العضلة.
3 - حقن عبر الأوردة الدموية.
4 - حقن عبر مفاصل العظام.
الحقن تحت الجلد والحقن في العضلة:
يقوم الجلد الحي بامتصاص ما يرد عليه بواسطة الحقن تحت الجلد أو في العضلة ليوزعه على الجسد، فهو تشرب يضاهي تشرب مسام الجلد للمراهم وغيرها.
ولذا فإن الذي يترجح عندي - والله أعلم - أن هذا النوع لا يؤثر في الصيام.
ومثل ذلك الحقن بين المفاصل لتغذية المفصل الذي جفت المادة المساعدة على الحركة، أو لغير ذلك من العلاج للأسقام.
الحقن عبر الأوردة الدموية:
الحقن عبر الأوردة الدموية إما أن يكون دواء لا ينتفع منه المريض إلا في التغلب على اسقامه، أو تخفيف أوجاعه، وإما أن يكون غذاء يعطي للجسم السعرات الحرارية التي كان يحصل عليها بواسطة الغذاء، وتروي الجسم بما هو بحاجة إليه من الماء.
أما القسم الثاني: فإذا اعتمدنا رأي من يرى أن الصيام عبادة غير معقولة المعنى تعبدية خالصة، فإنه يقتصر على ما وصل إلى الجسم عبر القنوات المعتادة، ومن ربط وريده بمحلول (الغلوكوز) - السكريات - لا يقال له إنه أكل أو شرب، والآية نص في منع الأكل والشرب والشهوة الجنسية: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، ولذا فإن الصائم لا يتأثر صومه بذلك ولا قضاء عليه.
ومن رأى أن الصيام معقول المعنى وأنه تحكيم للإرادة في مغالبة شهوتي البطن والفرج، وأن الصيام يضعف غلمة الإنسان وقوته الغضبية، وهما مجاري الشيطان، فلما كان هذا النوع من الحقن يعطي للجسم كل وحداته الحرارية ويحدث فيه التوازن لمتطلباته من الماء، حتى إن الإنسان إذا التهب كبده ظمأ فحقن بهذه المحلولات ذهب عطشه وروي. من رأى أن الصيام معقول المعنى حصل له ظن قوي بالإفطار، وإن كان هذا الإفطار لا يبلغ في صورته مبلغ التغذي من الفم إلا أنه يقاربه، ولذلك كان العامد الصحيح يجب عليه القضاء فيه، مع حرمة إقدامه على ما أقدم عليه.
أما التغذي من المنافذ المعتادة ففيه مع ذلك الكفارة.
ولذا فالقضاء واجب على من ربط وريده بهذه المحلولات.
أما السابور الذي يبعثه الفريق الطبي عبر الوليد الدموي من أحد أمكنة الجسم المناسبة لفتح انسداد في معابر الدم من القلب أو الأوردة فإنه غير مؤثر في الصوم.
والله أعلم وأحكم، وهو حسبي ونعم الوكيل.
نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* * *(10/633)
خلاصة البحث:
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
إن المذاهب الأربعة بنت تحديدها لما يوجب القضاء لمن أفطر في شهر رمضان بعلة المرض على قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة 187] ولتحقيق مناط هذه النصوص اليقينية؛ ذهب كل مذهب في طريقٍ خاص.
الحنفية: رأوا أن الفطر يتحقق بالأكل والشرب من كل غير غالب سواء أكان صورة ومعنى، أو معنى فقط، أو صورة فقط، فإن انتفيا فلا فطر، والأكل صورة ومعنى مرور ما يغذي البدن أو يصلحه من الفم إلى المعدة، وصورة فقط في بلوغ ما لا يغذي من الفم إلى المعدة، واستقراره بها، ومعنى لا صورة في بلوغ ما يغذي أو يصلح إلى المعدة عبر غير طريق الحلق.
المالكية: كل عين يمكن الاحتراز منه غالبا وصل من الظاهر إلى المعدة أو الحلق من منفذ واسع كالفم والأنف والأذن.
الشافعية: كل عين بلغت الجوف بقصد، وهو كل مجوف كالمعدة والمثانة وخريطة الدماغ، وداخل البطن، من منفذ لا من مسام، والعين ليست منفذا، بخلاف الإحليل.
الحنابلة: كل عين بلغت عن قصد جوفه مرت من أي طريق؛ من فم أو عين أو أنف أو أذن، أو من جرح في الرأس أو البطن أو من الشرج، والإحليل ليس منفذا.(10/634)
حكم الفطر للمريض
الفطر رخصة للمريض، وذلك للمشقة التي جعلها الشارع مسقطة للإلزام.
والمشقة ليس لها معيار ذاتي، فهي تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال.
وكذلك حكم الفطر لأجل المرض يكون واجبا أو مندوبا أو جائزا، تبعا لحالة المريض وما يؤثر الصوم على صحته أو حياته.
أما الفطر لأجل الغير كشرب المرضعة الدواء لإنقاذ رضيعها فليس رخصة، وإنما هو من قبيل الترجيح بين المصالح عند التعارض.
أولا: منفذ الفم
الدواء من مسلك الفم الذي لم يتجاوز الحلقوم.
الفم من الظاهر الذي لا يتأثر الصيام بدخول أي شيء فيه إذا لم يتجاوز حده، وحد الفم قد اختلف فيه؛ هل هو أعلى الحلق من جهة الفم وهو مخرج الخاء، أو هو أسفله وهو مخرج الهمز والهاء.
1 - الغرغرة:
إذا غرغر المريض بمحلول يحتوي على دواء في نهار رمضان وهو متجاوز لأعلى الحلق، فهو غير مفطر عند الشافعية والحنفية، وعليه أن يصحب المج ببصق ما علق بفمه منه دون مبالغة، وهو مفطر عند المالكية، ولعل الأخذ بالمذهب الأول أولى، لأنه لم يتحقق وصول أي غذاء أو ما يصلح إلى المعدة، وأنه قد طرح.
2 - مضغ علك لا يتحلل منه ما يدخل إلى المعدة:
هو عند الحنفية غير مفطر، وعند المالكية إذا لم يتكرر المضغ، وعند أحمد أن مضغه ولم يجد طعمه في حلقه فهو غير مفطر، وإن وجد طعمه ففيه وجهان.
ويترجح عدم الفطر لعدم وصول ما يصلح البدن ويغذيه.
3 - مداواة حفر الأسنان:
مداواة حفر الأسنان إذا كان لا ينفذ من ذلك شيء إلى المعدة غير مفطر على الصحيح.
الدواء المتجاوز للحلقوم
4 - الدواء المائع والقابل للتحلل إذا تجاوز الحلقوم مفطر، قل أو كثر.
5 - الأجهزة التي لا يتحلل منها شيء وتصل إلى المعدة، كالمسبار الكاشف لصورة المعدة، أن دخل بطلاء ميسر لمروره من البلعوم أفطر، وإن أدخل بدون طلاء فهو غير مفطر عند الحنفية، لأنه متصل بالخارج غير مستقر، وهو مفطر عند الشافعية والحنابلة، والصحيح من مذهب مالك.
الدواء المتحلل إلى ما وراء الحلقوم
6 - الدواء الذي يحرق فيمتص المريض دخانه ليداوي به مرضه مفطر عند الحنفية وعند المالكية أن وجد طعمه، والراجح أنه مفطر أحسن بطعمه أو لا.
7 - البخار:
كل دواء مائع محلول ينقلب بخارًا ويدخله المريض إلى باطنه من منفذ الفم: مفطر، وسواء أكان تحوله بواسطة الحرارة أم الأجهزة المخلخلة.
8 - الغبار:
أن القصد إلى ابتلاع الغبار للتداوي مفطر.
9 - الجهاز الذي يستعمله المرضى بالربو مفطر؛ لأنه يصل إلى الداخل عبر الفم.(10/635)
ثانيا: منفذ الأنف:
10 - الدواء المتحلل إذا مر من الأنف إلى ما وراءه؛ مفطر عند المذاهب الأربعة.
11 - القنوات التي تمر عبر الأنف إلى المعدة لتخرج منها إفرازاتها تجري مجرى الاستقاء.
12 - دهن منفذ الأنف بمرهم من المراهم لا يفطر، وإن وجد رائحته وأحس بها في حلقه - لأنه من خداع الإحساس - إذ حاسة الشم ليست في الحلقوم.
ثالثا: منفذ العين:
13 - اختلف الفقهاء في العين؛ أيمر منها ما وضع فيها إلى الحلق كمنفذ أو كتشرب من المسام، ويرى الحنفية والشافعية أنه لا صلة، ويرى المالكية والحنابلة أن القناة بين العين والمعدة واصلة، ولذا فمن قطر في عينيه أو في أحداهما في نهار رمضان أفطر وعليه القضاء.
رابعا: منفذ الأذن
14 - اختلف الفقهاء في صب الدواء في فتحة الأذن، فذهب الحنفية في الأصح عندهم، والمالكية والحنابلة إلى أن بين الأذن والباطن منفذًا ولذلك فهو مؤثر في الصوم موجب للقضاء، واختلف قول الشافعية، والحق ما قاله الغزالي والسنجي والقاضي حسين أنه لا منفذ بين الأذن والباطن، فصب الدواء غير مفطر إلا إذا ثقبت الطبلة.
خامسًا: جلدة الرأس
15 - دهن الرأس بدواء في نهار رمضان غير مفطر؛ لأنه لا منفذ بين جلدة الرأس والباطن إلا المسام، والمسام لا يفطر ما مر عبرها.
سادسا: الدبر:
16 - إدخال جهاز صلب عبر الشرج لتسجيل صورة للمحيط الشرجي من أجهزة الجسم غير مفطر إذا كان غير مطلي بمرهم عند المالكية والحنفية، وهو مفطر عند الشافعية والحنابلة.
17 - إذا كان مطليًا بمرهم هو غير مفطر عند المالكية، مفطر عند المذاهب الثلاثة الأخرى.
18 - إدخال الطبيب أصابعه للتحقق من وجود الورم أو عدم وجوده، ولا يكون إلا مع طلاء الأصابع، ولذا فحكمه كسابقه.
19 - إدخال سوائل في الشرج مساعدة على الكشف بالأشعة أو سوائل لتيسير البراز؛ مفطرة عند المذاهب الثلاثة، مختلف فيها في مذهب مالك.
20 - دهن الشرج بمراهم أو إدخال فتائل تذوب بالحرارة؛ غير مفطرة في مذهب مالك، مفطرة عند المذاهب الأخرى.(10/636)
سابعاً: منفذ القبل
21 - القبل يشمل إحليل الرجل وفرج المرأة، وإدخال أنبوب إلى المثانة لتيسير خروج البول؛ غير مفطر.
22 - إدخال جهاز للكشف عن رحم المرأة أو المهبل غير مفطر، وإن طلي بمرهم.
ثامنا: المنافذ غير الخلقية
23 - جراح الرأس وهي المأمومة إذا داواها بيابس غير متحلل أو بمرهم لا يفطر؛ لأنه ليس بين الدماغ والمعدة منفذ.
24 - جراح البطن إذا لم تخترق المعدة، دواؤها لا يوجب الفطر؛ لأن داخل الجوف لا صلة له بالتغذية.
25 - إدخال منظار لإجراء جراحة باطنية لا يفطر.
26 - إدخال أجهزة لأخذ عينات مما يحويه البطن كالكبد والطحال ومحيط البطن الداخلي؛ غير مفطر.
تاسعا: التداوي بالإخراج
يشمل التداوي بالإخراج: الفصد - الحجامة - الاستقاء.
27 - الفصد غير مفطر إجماعا، ومثله أخذ عينة من الدم لتحليلها من أي مكان.
28 - الاستقاء يترتب عليه وجوب القضاء.
عاشرًا: التخدير
29 - التخدير الجزئي غير مؤثر في الصيام.
30 - التخدير الكلي لا يبطل الصوم، ولا قضاء فيه إذا بيت الصيام من الليل.
حادي عشر: التداوي بالحقن
الحقن أنواع: حقن تحت الجلد، حقن عبر العضلة، حقن عبر الأوردة الدموية، حقن عبر مفاصل العظام.
31 -الحقن تحت الجلد أو عبر العضلة أو عبر مفاصل العظام غير مفطر؛ لأنه أقرب ما يكون لما يتشربه الجسم من المسام، وهو غير مفطر.
32 - الحقن عبر الأوردة الدموية بما لا يغذي الجسم؛ الراجح أنه لا يؤثر في الصيام.
33 - الحقن عبر الأوردة الدموية بما يغذي الجسم من المحلولات؛ لا نصن فيه، وإذا اعتمدنا أن الصيام عبادة معقولة المعنى فإنه يترجح أنه من غذى جسمه بهذه الحقن عليه قضاء اليوم الذي تم فيه ذلك.
34 - إدخال سابور يسري وسط العرق ليصل إلى القلب ليفتح ما انسد من معابر الدم؛ لا يؤثر في الصيام، ولا يوجب القضاء.
والله أعلم
محمد المختار السلامي(10/637)
مفطرات الصائم
في ضوء المستجدات الطبية
إعداد الدكتور محمد جبر الألفي
أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة اليروموك
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن بهداهم اقتدى إلى يوم الدين.
وبعد؛
فهذه محاولة لبيان حكم بعض ما استجد في مجال العلاج الطبي وأثره على صحة الصيام، دفعني إلى خوض غمارها ما لمسته من كثرة السؤال عنها، وتباين الفتاوى بشأنها، وتكرار ذلك مع مقدم رمضان في كل عام، ولا أزعم أنني أتيت بما لم يستطعه من سبقني، أو اكتشفت حقيقة غابت عن غيري، وإنما أقول: إنني بذلت في هذه المحاولة قصارى جهدي باتباع منهج صارم ألزمت به نفسي، أرجو أن ينتج أحكامًا يتوافق عليها العقل والنقل، وعندها أردد بخشوع: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108](10/638)
منهجية البحث:
لا خلاف بين الأوائل والأواخر في أن ماهية الصيام لا تتحقق إلا بالإمساك عن المطعوم والمشروب والجماع؛ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بناء على الدليل القطعي من الكتاب والسنة، وإنما يجري الخلاف في مسائل مسكوت عنها، وفي مسائل أخر تعارضت الآثار التي أوردت حكمها. (1)
فأما المستجدات - المسكوت عنها - في مجال العلاج الطبي، فسوف نبين حكمها على ضوء ما توصل إليه العلم الحديث، وما أمكن الاطمئنان إليه من مقاصد الشريعة الكلية.
وأما المسائل التي تعارضت بشأن حكمها الآثار، فنختار لها الحكم الذي قوي سنده، وإلا فما يدل عليه القياس إذا لم يصادم حقيقة علمية، وفي نطاق المقاصد الشرعية الكلية.
ولأنني من بين المنادين بضرورة الاجتهاد الجماعي (2) ، فقد ألزمت نفسي هذا المنهج: فجمعت كل ما أمكن الحصول عليه من كتابات الفقهاء، وفتاوى المجتهدين، وآراء أساتذتي وزملائي المستنيرين (3) ، ثم تتبعت ما قاله أو كتبه النابهون من ذوي الاختصاص في الصيدلة والطب، ممن أثق بأنه جمع مع العلم خشية الله، وكانت لي مع بعضهم لقاءات مثمرة. (4)
__________
(1) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ط الخانجي: 1/ 201
(2) محمد جبر الألفي، محاولات تقنين أحكام الفقه الإسلامي، مجلة كلية الشريعة والقانون - جامعة الإمارات العربية المتحدة، عدد خاص بأعمال ندوة " نحو ثقافة شرعية قانونية موحدة ": 1414 هـ/ 1994 م، ص 153 - 154
(3) انظر في تفسير آيات الصيام: أحكام القرآن، للجصاص؛ والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي؛ وتفسير المنار، لمحمد عبده ومحمد رشيد رضا؛ وفي أحاديث الصيام: التحقيق في أحاديث الخلاف، لابن الجوزي " مخطوط "؛ فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني؛ نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، للشوكاني. ومن كتب الفقه: رد المحتار، لابن عابدين؛ فتح الجليل، للخرشي؛ مجموع الفتاوى، لابن تيمية، جـ 25، وله كذلك: حقيقة الصيام، تخريج: محمد ناصر الدين الألباني؛ المحلى، لابن حزم. ومن الكتب الحديثة: أحكام الصوم والاعتكاف، أبو سريع محمد عبد الهادي؛ التبيان والإتحاف في أحكام الصيام والاعتكاف، فضل حسن عباس؛ تيسير الفقه في ضوء القرآن والسنة (فقه الصيام) ، يوسف القرضاوي؛ رفع الحرج والملام عن ذوي الأعذار والأسقام في الأحكام المتعلقة بالصيام، يوسف بن حسن مغربي؛ الصوم: أحكامه وأثره في بناء المجتمع الإسلامي، رفعت فوزي عبد المطلب؛ الصيام: محدثاته وحوادثه، محمد عقلة؛ فتاوى الصيام، عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين؛ الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي؛ فقه السنة، السيد سابق؛ فقه الصيام، محمد حسن هيتو؛ الفقه على المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزيري
(4) على سبيل المثال: الأمراض الباطنية والصدرية، محمود رفعت؛ التداوي بالصوم هـ. م. شلتون، ترجمة: دار الرشيد، تقديم: محمود البرشة (المختص بالصوم الطبي) ، تصدير: أحمد كفتارو (المفتي العام للجمهورية العربية السورية) ؛ تشريح ووظائف أعضاء جسم الإنسان، محمود البرعي وهانئ البرعي؛ الطب محراب الإيمان، خالص جلبي؛ الطب النبوي، للذهبي، تحقيق: مجدي السيد إبراهيم؛ معجم المصطلحات العلمية، عبد العزيز محمود ومحمود البرعي وحسن ريحان(10/639)
خطة البحث:
المستجدات الطبية التي قد تؤثر على صحة الصيام، منها ما تعرض له العلماء بالبحث والإفتاء، فتباينت بشأنه آراؤهم، والأمر - بعد - يتطلب اتخاذ موقف موحد - ما أمكن - يلتزم به المفتون، ومنها ما لم يتعرض له أحد - على حد علمي - فصار لزاما علينا بيان حكمه.
وهذه المؤثرات، منها ما يدخل بدن الصائم عن طريق منفذ طبيعي، ومنها ما يدخل البدن عن طريق غير معتاد، ومنها ما يستخرج من البدن عن أي طريق.
وهكذا يمكن تقسيم البحث إلى مطالب ثلاثة:
في المطلب الأول: نتعرض لحكم ما يدخل البدن عن طريق المنافذ.
وفي المطلب الثاني: نبحث حكم ما يدخل البدن عن طريق غير معتاد.
وأما المطلب الثالث: فنخصصه لبيان حكم ما يستخرج من البدن.
والفرض في كل هذه الأمور أن الصائم متعمد ومختار فيما يقوم به منها أثناء فترة الصوم، وأنه - حتى لو كان من ذوي الأعذار - يريد أن يتم صومه على حد قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . [البقرة: 184]
والله من وراء القصد.
* * *(10/640)
المطلب الأول
ما يدخل البدن عن طريق المنافذ:
الفم - الأنف - العين - الأذن - الإحليل - الدبر - القبل
أولا - الفم:
اتفق الفقهاء على أن ما يدخل الفم ويكون في حد الظاهر منه، لا يفطر الصائم، لما ثبت من النصوص والآثار الدالة على ذلك، والتي تجيز المضمضة (1) وذوق الطعام (2) ، ونحوهما، وقد ضبط الفقهاء حد الظاهر من الفم بمخرج الحاء، وهو ما يطلق عليه " الحلقوم "، (انظر شكل 1) ، وبناء على هذا التحديد: نبين حكم بخاخ الربو، ومضغ العلك، والتدخين.
1 - بخاخ الربو (VENTOLIN) :
تباينت الفتاوى بشأن البخاخ الذي يتعاطاه بعض المرضى عن طريق الفم، فذهب البعض إلى أنه لا يفسد الصوم، وذهب آخرون إلى أنه يفسد الصوم.
الرأي الأول: البخاخ لا يفسد الصوم: استظهرت اللجنة الدائمة عدم الفطر باستعمال هذا الدواء، لأنه ليس في حكم الأكل والشرب، بوجه من الوجوه (3) ، وهو ما جاء في فتوى للشيخ ابن عثيمين، لأنه شيء يتطاير ويتبخر ويزول ولا يصل منه جزء إلى المعدة (4) , ويستند بعض أصحاب هذه الفتوى إلى أن الرذاذ الذي تنفثه بخاخة الربو حدوده الرئتان ومهمته توسيع شرايينها التي تضيق بسبب الربو، وهذا الرذاذ لا يصل إلى المعدة، ولا يشكل غذاء ولا شرابا للمريض. (5)
الرأي الثاني: البخاخ مما يفطر به الصائم , استظهر أصحاب هذا الرأي أن ما يعرف بالنشاق يكون فيه دواء سائل مضغوط في زجاجة، ويستنشقه الصائم من طريق فمه، يفطر الصائم؛ لأنه دواء دخل من طريق الفم (6) ، وقيد بعضهم ذلك بما إذ وصل الدواء المستعمل بالبخاخة إلى الجوف، وإلا فالصوم صحيح. (7)
الرأي الراجح: يحتوي بخاخ الربو على مستحضرات طبية + ماء + أوكسجين، وقد أكد لي عدد من الأطباء والصيادلة أن هذا المحتوى يدخل إلى المعدة بيقين، فالرأي: أن استعماله يفسد الصوم، والله أعلم.
__________
(1) روى أبو داود وأحمد والبيهقي عن جابر رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟) قال: قلت: لا بأس.
(2) ما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " لا بأس أن يتطاعم الصائم بالشيء؛ وفي البخاري عنه: لا بأس أن يتطعم القدر أو الشيء ".
(3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، جمع وترتيب: صفوت الشوادفي، دار الجلاء - القا هرة: 1408 هـ.
(4) يوسف بن حسن مغربي، رفع الحرج والملام، ص 84
(5) محمد أحمد جمال، يسألونك، مجلة المسلمون: عدد 37، ص 24؛ محمد عقلة، الصيام ص 227 - 228. ويعلل الشيخ الجبرين رأيه بقوله: الأنه ليس له جرم، ثم هو يدخل من مخرج النفس، لا مخرج الطعام والشراب ". انظر: فتاوى الصيام، الشيخ عبد الله الجبرين، جمع وترتيب: راشد الزهراني، ص 49
(6) فضل عباس، التبيان والإتحاف، ص 115
(7) جريدة المسلمون: عدد 119، ص 5(10/641)
2 - العلك:
تكلم الفقهاء في هذه المسألة عندما كان العلك مادة طبيعية لم تدخلها الصنعة، وقالوا: إن تفرق وتفتت بالمضغ فوصل منه شيء إلى الجوف، بطل الصوم (1) ، وإن كان قويًّا - كالمطاط الرخو - فإنه يكره ولا يبطل الصوم، وعلى الكراهة حمل قول أم حبيبة رضي الله عنها: " لا يمضغ العلك الصائم ". (2) وقول عطاء: " ولا يمضغ العلك، فإن ازدرد ريق العلك لا أقول إنه يفطر، ولكن ينهى عنه ". (3)
ومعظم العلك الموجود في هذه الأيام من النوع الصناعي، فهو يحتوي على مواد سكرية وطعم الفواكه أو النباتات، وصبغات طبيعية أو مصنعة كيميائيا، وكل هذا يتحلل داخل الفم عندما يختلط باللعاب الذي يتكون من أكثر من 99 % من الماء + أملاح غير عضوية (مثل البيكربونات والفوسفات وكربونات الكالسيوم) + مواد عضوية (مثل أنزيم الأميليز اللعابي والتيالين) ، ويصل مع اللعاب إلى الجوف. (4)
فيا حبذا لو أدرك المفتون هذه الحقيقة، وشددوا في النهي عن العلك للصائم سدا للذريعة، وخاصة إذا لاحظنا أن التجارب الطبية أثبتت أن مضغ العلك يمكن أن ينهي إفراز المعدة، وبذلك يعرقل عملية الهضم، وخصوصًا بالنسبة إلى البروتينات، كما أن العلك ينهك الغدد اللعابية، ويستنفد بعض طاقات الصائم، ولذلك ينصح الأطباء الصائم بالابتعاد عن استعمال العلك. (5)
__________
(1) الشيرازي، المهذب: 1/ 186؛ ابن قدامة، المغني: 3/ 109
(2) رواه البيهقي وغيره.
(3) البخاري: 2/ 235
(4) محمود وهانئ البرعي، تشريح ووظائف أعضاء جسم الإنسان، ص 81 - 82
(5) هـ. م. شيلتون، التداوي بالصوم، ص 137(10/642)
3 -التدخين:
يشفق بعض من يتصدون للفتيا على مدمني الدخان والتبغ والمخدرات، ويظنون أن الرفق بهؤلاء وتصحيح صيامهم قد يؤدي بهم إلى الإقلاع عن هذه العادات، لما عرف طبيًا من أن الصوم بالنسبة إلى المدمنين على التبغ هو أفضل علاج، فهو يسهل لهم الانقطاع عن هذه العادة، وفي أغلب الحالات يورثهم كرهًا لطعم التبغ (1)
ولا يجد بعض من يتصدون للفتيا دليلًا على أن الدخان بأنواعه يفسد الصوم، بناء على أصلهم في أن ما ليس له جرم، ويدخل مع مخرج النفس لا مخرج الطعام والشراب ليس من المفطرات. (2)
أما الذين دونت فتاواهم فإنهم متفقون على أن التدخين ونحوه مفسد للصوم، وقد وجه بعضهم فتواه توجيهًا عاطفيًا، حين نصح المدخن بالإقلاع عن التدخين ليحفظ صحته وأسنانه وماله وأولاده ونشاطه مع أهله، وحين ذكر أن الدخان نوع من الشراب بلا شك، ولكنه شراب ضار محرم بدليل قولهم: فلان يشرب الدخان، وشرب كل شيء بحسبه. (3) ، واستند بعضهم إلى ما نص عليه الحنفية من أن الدخان عامة إذا دخل حلق الصائم بدون صنع منه لا يفسد صومه لعدم إمكان التحرز عنه، وأما إذا أدخله
حلقه بصنعه وإرادته - أيًّا كان الدخان - وبأي صورة كان إدخاله، وهو متذكر صومه؛ فإن صومه يفسد شرعا لإمكان التحرز عنه، وهو مما يميل إليه الطبع، وتنقضي به شهوة البطن. (4)
والواقع أن الدخان بجميع أنواعه الفائف التبغ " سجائر وسيجار "، وما يحرق في الأنبوب " pipe "، وما يوضع في النارجيل) من المواد العضوية التي تحتوي على القطران والنيكوتين، ولها جرم يظهر في " الفلتر " وعلى الرئتين، وتصبغ الطبقة المخاطية التي تغطي جدار البلعوم بلون داكن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإن التدخين يلبي شهوة المدخن (الكيف والمزاج) فيؤثر على أعصابه تأثيرا لا يقل عن تأثير الخمور والمخدرات، ولهذا نجد المدخن يصبر عن الطعام والشراب، ولكنه لا يصبر عن الدخان، فتناول الدخان - إذن - ينتفي مع معنى الصوم الذي ذكره الحديث القدسي: " يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ". (5)
من أجل ذلك: نرى ضرورة تقيد المفتين - شفهيًّا وتحريريًا - باعتبار التدخين في كل صوره من مفسدات الصوم دون أي تردد أو أدنى خشية، والله أعلم.
__________
(1) هـ. م. شيلتون، التداوي بالصوم، ص 180 - 181
(2) هذه فتاوى تقال ولا تكتب، ولكنها تشيع بين المدمنين.
(3) يوسف بن حسن مغربي، رفع الحرج والملام، ص 89 - 90 " فتوى الشيخ ابن عثيمين ".
(4) حسنين مخلوف، فتاوى شرعية وبحوث إسلامية: 1/ 312 - 313؛ وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته: 2/ 65؛ رفعت فوزي، الصوم، ص 84 - 85
(5) أحمد الشرباصي، يسألونك في الدين والحياة: 6/ 101؛ محمد رشيد رضا، فتاوى: 5/ 2123؛ محمد عقلة، الصيام، ص 230 - 231؛ فضل عباس، التبيان والإتحاف، ص 94(10/643)
ثانيا - الأنف:
يختلف الفقهاء في اعتبار ما يدخل من الأنف مفسدا للصوم، نتيجة اختلافهم في قبول حديث لقيط بن صبرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما)) ، واختلافهم في مدى دلالته، وفي جواز القياس عليه. (1)
وبناء على ذلك: أفتى البعض بأن ما يدخل من الأنف إلى بدن الصائم يفسد صومه، يستوي في ذلك أن يكون بخاخ زكام، أو سعوط أو مسحوق عطر، أو ماء الاستنشاق المبالغ فيه. (2)
وأفتى بعض آخر بأن كل ما يدخل من الأنف إلى بدن الصائم لا يفسد صيامه مطلقا. (3)
وهناك من ميز في فتواه بين ما كان له جرم - كالماء والسعوط والعطر المسحوق - فعده من المفطرات إذا وصل إلى الحلق، وما ليس له جرم - كالبخاخ ونحوه - فلا يفسد الصوم. (4)
__________
(1) انظر في ذلك: النووي، المجموع: 6/ 337؛ ابن تيمية، حقيقة الصيام، تخريج الألبا ني، ص 12؛ ابن قدامة، المغني: 3/ 105؛ ابن حزم، المحلى: 6/ 300 وما بعدها.
(2) أبو سريع محمد عبد الهادي، أحكام الصوم والاعتكاف، ص 80 - 81؛ رفعت فوزي، الصوم، ص 77؛ محمد حسن هيتو، فقه الصيام، ص 80 - 81
(3) عرض هذا الرأي النووي في المجموع: 6/ 327, وبه أخذ ابن حزم وابن تيمية والقرضاوي. تيسير الفقه، ص 9
(4) الجبرين، فتاوى الصيام، ص 49؛ يوسف مغربي، رفع الحرج والملام، ص 84؛ " فتوى اللجنة الدائمة "، ص 85 فتوى الشيخ ابن عثيمين "؛ ص 89 " فتوى الشيخ الفوزان ".(10/644)
والذي ينبغي الالتفات إليه في هذا الشأن:
1 - أن الأنف منفذ يشترك مع الفم في الاتصال بالحلق (شكل 2) ، وأن جهاز الشم به يستقبل المواد الطيارة، فيذيبها في طبقة المخاط، ثم ينقلها عن طريق العصب الشمي إلى مركز الشم بالمخ (شكل 3) ، ولعل هذا هو الذي جعل السلف يقول إن ما يؤخذ عن طريق الأنف يصل إلى الدماغ.
2 - قد يستعمل الأنف طريقًا للتغذية في بعض الأحيان، فيكون هو والفم سواء في الحكم. (1)
3 - أثبتت التحاليل الطبية أن بعض المواد العالقة في الهواء تدخل من الأنف، ويكون لها تأثير كبير على الدورة الدموية، ولهذا يطالب المدافعون عن حماية البيئة باستعمال الغاز الطبيعي أو البنزين الخالي من الرصاص في تشغيل الآلات والمركبات، ومنعت بعض الدول التدخين في الأماكن العامة حماية لغير المدخنين من تأثير الدخان على صحتهم.
وبناء على ذلك نقول وبالله التوفيق:
ا - إذا استعمل الأنف طريقا للتغذية - في بعض الحالات - فما يصل منه إلى الحلق يفسد الصيام.
2 - إذا تعمد الصائم التقطير في الأنف، أو استنشاق بخاخ الزكام أو الاستعاط، أو شم ما يشبع رغبة الكيف أو المزاج (كالسموم البيضاء، أو الغراء، أو القطنة المبللة بالبنزين) ، أو تعمد البقاء في أماكن التدخين، وما أشبه ذلك: بطل صومه.
3 - إذا احتاج الصائم لاستعمال قناع الأوكسجين لضيق في تنفسه، أو لوجوده تحت الماء، أو لانخفاض الضغط الجوي في الطائرة، أو نحو ذلك: فلا يبطل صومه، كما لو تنفس الهواء الطبيعي. (2) والله أعلم.
__________
(1) من فتاوى اللجنة الدائمة التي أوردها يوسف مغربي، الموضع السابق.
(2) أحمد الشرباصي، يسألونك في الدين والحياة: 5/ 66؛ محمد عقلة، الصيام، ص 228 - 229(10/645)
ثالثا - العين:
يبدو أن الفتاوى الحديثة في مسألة الكحل والدهن والقطرة في العين
قد تابعت الخلاف الذي جرى بين الفقهاء، وهذا الخلاف بني على أصلين؛ أولهما: مدى صحة وحجية أحاديث الاكتحال، والثاني: مدى اعتبار العين منفذا إلى الجوف. (1)
فقد رأينا أن غالبية الفتاوى في هذا الشأن لا تبطل صيام المكتحل، لمجموع الأحاديث التي يقوي بعضها بعضا، ولأن العين ليست بمنفذ إلى الجوف، وعدى هذا الحكم إلى كل ما يوضع في العين من دواء وقطرة ومراهم ونحوها. (2)
ومع ذلك أفتى البعض بفساد صوم المكتحل وقاس على الكحل كل ما يوضع في العين من قطرة ودهون، إذا وصل إلى الحلق. (3)
ونلاحظ في هذا المقام أن الدموع التي تفرزها الغدة الدمعية لتنظف وترطب قرنية العين تصب في تجويف الأنف عن طريق القناة الدمعية (شكل 4) ، لذا عندما يبكي الإنسان طويلا يتمخط كثيرًا. (4)
فالرأي - عندي - أن الصائم إذا اكتحل أو وضع في عينه الدهن أو الدواء أو قطر فيها، وأحس بأثر ذلك في أنفه فتمخط، فإن صيامه يكون صحيحًا، أما إذا أحس بأثر ذلك وعيَّنه في مخاطه فاقتلعه بنفسه وابتلعه، فإن صيامه يفسد، والله أعلم.
__________
(1) الزيلعي، تبيين الحقائق: 2/ 322؛ الآبي الأزهري، جواهر الإكليل: 1/ 149؛ الشربيني الخطيب، الإقناع: 1/ 204؛ المرداوي، تنقيح الفروع: 2/ 46؛ الترمذي: 3/ 96 - باب ما جاء في الكحل للصائم: " ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الباب شيء " , ومثل هذا المعنى عند: النووي، والبغوي، وأبي داود ... إلخ
(2) رفعت فوزي، الصوم، ص 85 - 86؛ فضل عباس، التبيان والإتحاف، ص 109 - 110؛ محمد عقلة، الصيام، ص 219 - 220؛ محمد هيتو، فقه الصيام، ص 85 -86؛ الجبرين، فتاوى الصيام، ص 52 - 53؛ أبو سريع عبد الهادي، أحكام الصوم، ص 140 -141
(3) يوسف مغربي، رفع الحرج والملام، ص 87 " فتوى الشيخ الفوزان ".
(4) محمود وهانئ البرعي، تشريح ووظائف أعضاء الإنسان، ص 379(10/646)
رابعا - الأذن:
اختلف الفقهاء في حكم الصوم إذا صب الصائم في أذنه ماءً أو قطر فيها دواء، فمن قال منهم بفساد الصوم أجرى قياس الأذن على الأنف بجامع أن كلا منهما منفذ، ومن ثم عدَّى الحكم الوارد في حديث لقيط بن صبرة المتقدم، ومن قال منهم بصحة الصوم طبق الأصل المعتمد لديه؛ والقاضي بأن ما أدخل في الأذن لا يفطر إلا أن يصل إلى حلق الصائم. (1)
وبناء على هذا الاختلاف: اختلفت الفتاوى الحديثة، فأفتى البعض
بفساد صوم من يصب الماء في أذنه أو يقطر فيها الدواء. (2) ، وأفتى آخرون بصحة الصوم في هذه الحالة. (3)
ويبدو لنا أن قياس الأذن على العين أولى من قياسها على الأنف؛ ذلك أن الأنف - كالفم - منفذ طبيعي إلى الحلق والجوف، أما الأذن فالأمر فيها مختلف، لوجود الغشاء الطبلي (طبلة الأذن) الذي يفصل الأذن الخارجية عن الأذن الوسطى (4) ، وتقف عنده السوائل فلا تنفذ إلى ما وراءه، فإذا أزيل هذا الغشاء الطبلي أو السمعي - وأصيب الإنسان بالصمم - صارت الأذن منفذا إلى الجوف، لاتصالها بالبلعوم عن طريق قناة أستاكيوس (شكل هـ) ، وحينئذ فقط يكون قياس الأذن على الأنف صحيحا، لاشتراكهما فيما يسمى " البلعوم - أنفي ".
فمناط الفتوى - إذن - يرجع إلى سلامة الغشاء السمعي، فإن كان سليمًا محكمًا لا يسمح بمرور السوائل إلى الأذن الوسطى، فالصوم صحيح، أما إن تمزق لمرض أو حادث، ودخلت السوائل إلى البلعوم - أنفي، فالصوم يبطل. والله أعلم.
__________
(1) ابن الهمام، فتح القدير وحواشيه: 2/ 342؛ ابن قدامة، المغني: 3/ 108 - 109؛ النووي، المجموع: 6/ 474
(2) هيتو، فقه الصيام، ص 83
(3) أبو سريع عبد الهادي، المرجع السابق، ص 142؛ مغربي، رفع الحرج والملام، ص 86؛ فتوى الشيخ ابن عثيمين، وقد جاء فيها: " وكذلك القطرة في الأذن فإنها لا تفطر الصائم، لأنها ليست منصوصًا عليها، ولا بمعنى المنصوص عليه، والعين ليست منفذا للأكل والشرب، وكذلك الأذن فهي كغيرها من مسام الجلد "؛ فضل عباس، التبيان والإتحاف، ص 110: " وبعد هذا كله، نقرر مطمئنين بأن القطرة في الأذن حَريًّة ألا يفسد بها الصوم، ولا يفطر بها الصائم؛ لأن الأذن ليست منفذًا - كما يقرر ذوو الشأن ".
(4) البرعي، تشريح ووظائف أعضاء جسم الإنسان، ص 365(10/647)
خامسا - الإحليل:
قد يستدعي فحص المسالك البولية لشخص تقطير مواد سائلة أو ملونة عن طريق مجرى البول، تستقر في المثانة، لتوضح الصور التي تلتقطها الأشعة، وقد بحث الفقهاء من قديم حكم الصوم مع إدخال مثل هذه السوائل في الإحليل، فرأى البعض أن ذلك يفطر الصائم، ولو لم يصل إلى المثانة قياسا على حكم الحقنة الشرجية، ورأى آخرون أن التقطير في الإحليل لا يفطر الصائم إلا إذا وصل إلى المثانة، لأنه أدخل شيئًا إلى جوف، والرأي الغالب أن الصيام صحيح إذا قطر في إحليله؛ لأن هناك فرقا بين الإحليل وبين فتحة الشرج، من حيث ضيق الأول واتساع الثانية. (1)
والفتاوى الحديثة: بعضها يكتفي بعرض آراء الفقهاء (2) ، ومنها ما يفتي بعدم فساد الصوم: " لأننا لا نجد علة واضحة نستطيع بواسطتها أن نحكم على فساده وبطلانه، ثم إن هذه من الأمور التي لم يرد فيها نص عن الشارع ". (3)
ونحن مع الرأي الأخير، ونرى علة واضحة لكون الصوم صحيحًا مع التقطير في الإحليل - حتى لو وصل إلى المثانة - وهي أن المثانة عضو طارد، عندما يمتلئ تتمدد ثنيات الطبقة المخاطية به، فتدفع الطبقة العضلية السوائل إلى الخارج. (4) (انظر شكل 6)
__________
(1) المرغيناني، الهد اية: 1/ 25؛ الدردير، الشرح الكبير: 1/ 258؛ النووي، المجموع: 6/ 361؛ ابن قدامة، المغني: 3/ 105
(2) محمد حسن هيتو، فقه الصيام، ص 81
(3) فضل حسن عباس، التبيان والإتحاف، ص 113
(4) محمود البرعي وهانئ البرعي، تشريح ووظائف أعضاء الإنسان، ص 187 - 189(10/648)
سادسًا - الدبر:
تناول الفقهاء حكم إدخال شيء في دبر الصائم، وخاصة " الحقنة الشرجية " فعند جمهورهم أن استعمالها يفطر الصائم، لأنه أدخل مائعا إلى جوفه باختياره، وهم يستندون إلى ما رواه البيهقي من أن ((الفطر مما دخل)) (1) ، وقياسًا على ما يصل إلى الدماغ، مثل ما ورد في حديث لقيط بن صبرة المتقدم، ولأن ما في الحقنة من مائع دخل إلى الجوف من طريق معتادة، كما لو دخل من الفم أو الأنف. (2) ، وذهب البعض إلى أن الحقنة الشرجية لا تفسد الصوم، وهو رأي ابن تيمية (3) وابن حزم (4) ، لأنها لا تغذي بوجه من الوجوه، بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شم شيئًا من المسهلات، كما أنها لا تصل إلى المعدة.
وعلى هذا الأساس تنوعت الفتاوى المعاصرة - فيما يتعلق بحكم استعمال الصائم الحقنة الشرجية - إلى ثلاثة اتجاهات:
1 - يرى الاتجاه الأول أن الحقنة الشرجية تفسد الصوم، سواء كانت للتداوي أو للتغذي أو لغير ذلك؛ لأنها تدخل من منفذ طبيعي، وتصل إلى الجوف. (5)
2 - ويرى اتجاه آخر أن الحقنة الشرجية لا تبطل الصوم مطلقا؛ لأنها لا تصل إلى المعدة. (6)
3 - أما الاتجاه الثالث فإنه يميز بين الحقنة الشرجية التي تدخل مادة غذائية في الجسم، ويعتبرها مفسدة للصوم، وبين الحقنة الشرجية التي تحمل مادة ملينة للأمعاء، كالماء والصابون أو الأشياح، وهذه لا تفسد الصوم، لأنها قد لا تمتص، والهدف منها إخراج الفضلات من الجسم. (7) ونشير إلى أمرين ينبغي الالتفات إليهما قبل الفتوى في موضوع الحقن الشرجية:
1 - أن امتصاص المواد المهضومة، يعني عملية مرور المواد الغذائية البسيطة التركيب الناتجة من الهضم، خلال بطانة القناة الهضمية إلى الدم، وليس للمعدة وظيفة تذكر في عملية الامتصاص، إنما يحدث معظم الامتصاص في الأمعاء الدقيقة، أما الأمعاء الغليظة فإنها تمتص الماء وقليلا من الأملاح والغلوكوز، وقد تمتص الأدوية المختلفة. (8) (انظر شكل 7)
2 - من الطرق المتبعة في تغذية المريض إعطاؤه مواد غذائية مهضومة جزئيًّا عن طريق الشرج، ولو أن القدرة على امتصاصها تكون ضعيفة جدًا؛ لأن دور القولون الأساسي هو الإطراح وليس الامتصاص. (9)
__________
(1) البيهقي، السنن الكبرى: 4/ 261
(2) ابن الهمام، فتح القدير: 2/ 347؛ الشيرازي، المهذب: 1/ 182؛ ابن قدامة المغني: 3/ 105
(3) ابن تيمية، حقيقة الصيام، ص 55
(4) ابن حزم، المحلى: 6/ 300 - 351
(5) أبو سريع عبد الهادي، أحكام الصوم والاعتكاف، ص 82؛ حسن أيوب، فقه العبادات، ص 237؛ محمد حسن هيتو، فقه الصيام؛ ص 81؛ حسنين مخلوف، فتاوى شرعية، ص 268 وما بعدها.
(6) رفعت فوزي، الصوم، ص 81؛ القرضاوي، تيسير الفقه، ص 94؛ عبد اللطيف الفرفور، الصيام على المذاهب الأربعة، ص 162؛ محمود شلتوت، يسألون، ص 132؛ مجلة الأزهر، رمضان 1407هـ، ص 1238
(7) محمد رشيد رضا، نقلا عن: رفعت فوزي، ص 81؛ فضل حسن عباس، التبيان والإتحاف، ص 112؛ محمد عقلة، الصيام، ص 207
(8) محمود البرعي وهانى البرعي، تشريح ووظائف جسم الإنسان، ص 105
(9) هـ. م. شيلتون، التداوي بالصوم، ص 157(10/649)
وبناء على ذلك: فإننا نوصي الصائم بتأخير استعمال الحقنة الشرجية إلى ما بعد الإفطار احتياطا للعبادة , سواء كانت تحمل مواد غذائية أو سوائل أخرى، ما دام العلم قد أثبت أن الأمعاء الغليظة لها قدرة على امتصاص السوائل، وأن الأمعاء الدقيقة هي التي يحدث فيها معظم الامتصاص، ولا نظن أن هناك ضرورة ملحة تقضي باستعمال الحقنة الشرجية أثناء فترة الصوم، لا سيما وأن كثيرا من أساتذة الطب ينصحون بعدم إجراء الحقن الشرجية أثناء الصوم، لأنها تسبب ضعفا في عضلات الأمعاء وغشائها، وتخرش القولون، وتنهك المريض وتستهلك قواه. (1) , والله أعلم.
ومما يلحق بالحقنة الشرجية، ما يستعمله البعض مما يسمى بالتحاميل أو اللبوس أو أقماع البواسير أو المراهم، ونحو ذلك مما يستعمل لتخفيف آلام البواسير، أو خفض درجة الحرارة، أو التقليل من مضاعفات الزكام والبرد، عن طريق إدخالها في دبر الصائم.
ويرى بعض المعاصرين أن ذلك يفسد الصوم. (2) ، بينما يرى آخرون أن لا أثر لذلك على صحة الصوم (3)
ونحن نميل إلى القول بعدم تأثير هذه المواد على صحة الصوم، لأنها تمتص من مكانها بواسطة شبكة كبيرة من الأوردة الدموية للدم مباشرة، ولا تستغرق هذه العملية وقتًا طويلًا، فهي كامتصاص الجلد الخارجي للماء والدواء والدهون، والله أعلم.
__________
(1) هـ. م. شيلتون، التداوي بالصوم، ص 54 - 55، ص 140 - 141.
(2) حسن أيوب، فقه العبادات، ص 337؛ حسنين مخلوف، فتاوى شرعية: 1/ 311 - 312
(3) يوسف مغربي، رفع الحرج والملام، ص 90 - 91 " فتوى الشيخ ابن عثيمين "؛ محمود شلتوت، الفتاوى، ص 136 - 137(10/650)
سابعًا - القبل:
قد تحتاج المرأة إلى إدخال شيء في قبلها، وذلك لمرض يتطلب إدخال مراهم أو أدوية، أو لعمليات التنظيف المهبلي، أو لإجراء فحص عن طريق إدخال أدوات وأجهزة طبية، أو مس المهبل بنترات الفضة، ونحو ذلك.
وقد ذهبت بعض الفتاوى المعاصرة إلى فساد الصوم بذلك؛ لأن المهبل هو القناة التي تبتدئ بالفتحة المعروفة، وتنتهي بفم الرحم، والسائل الذي يمر بهذه القناة يصل إلى الداخل، فالواجب قضاء ما أفطرته المرأة لهذا السبب. (1)
وذهبت فتاوى أخر إلى أن كل هذه الممارسات لا تؤثر على الصوم؛ لأن الصوم لا يفسده إلا ما يصل إلى المعدة، وما ذكر ليس على صورة الطعام والشراب ولا في معناه، وهو لا يصل إلى المعدة محل الطعام والشراب. (2)
ويميز البعض بين الفحص النسائي، ويرى أنه لا يفسد به الصوم، قياسا على إدخال الإصبع في الفم، ولعدم ورود نص في الشرع أو عن الصحابة أو التابعين في مثل هذه الأمور، وبين عمليات التنظيف، ويرى أنها من الأعذار التي تبيح للمرأة الفطر، لأنها تحتاج إلى مخدر، وقد تكون سببا في نزول الدم. (3)
ونحن نفرق بين ثلاث حالات بالنسبة للمرأة (شكل 8) :
1 - مخرج البول: وهو يتصل بالمثانة - مثل إحليل الرجل - وهذا يأخذ الحكم الذي سبق أن أعطيناه للإحليل، وهو صحة الصوم مع إدخال شيء في هذا المكان، لما سبق أن قلناه من أن المثانة عضو طارد وليس مستقبلًا.
2 - مهبل البكر: ويسده غشاء البكارة، الذي يسمح بخروج دم الحيض، ولا يسهل أن يمر منه شيء إلى الداخل، ونرى أن يأخذ نفس الحكم الذي أثبتناه لما يرد مخرج البول.
3 - مهبل الثيب: وهو عبارة عن قناة عضلية لها فتحة خارجية، وتمتد نحو عنق الرحم، وما يصب فيه يمكن أن يصل إلى أعلى الرحم. (4) ، ونرى أن الأدوات والأجهزة الطبية التي تدخل فيه تؤدي إلى إفطار الصائمة؛ لأنها أدخلت إلى مكان مجوف في بدن المرأة، وقد يؤدي ذلك إلى نزول الدم، وكذلك الحكم - بل هو أولى - في حالة ما إذا صب فيه شيء من الماء أو الدواء أو غير ذلك، ونوصي بعدم الفتوى بصحة الصيام في مثل هذه الحالات؛ والله أعلم.
__________
(1) حسنين مخلوف، الفتاوى الإسلامية: 1/ 101
(2) محمود شلتوت، الفتاوى، ص 136 - 137؛ رفعت فوزي، الصوم، ص 82 - 83
(3) فضل عباس، التبيان والإتحاف، ص 114
(4) محمود وهانى البرعي، فضل عباس، التبيان والإتحاف، ص 220(10/651)
المطلب الثاني
ما يدخل البدن عن طريق غير معتاد
الإبر - الجلد - منطقة ما تحت اللسان - الأوكسجين - الأشعة - التخدير
أولا - الإبر:
الإبرة تشبه المخيط أو الخياط، إلا أنها مجوفة، تدفع عبرها السوائل إلى البدن، أو تستخرج بواسطتها السوائل من البدن، وهي من الأمور المستحدثة، ولذلك تضاربت الفتاوى بشأنها:
فمن قائل بأنها تفطر الصائم مطلقا (في الشريان - في الوريد - في العضل - تحمل غذاء - أو دواء - أو غير ذلك) . (1)
ومن قائل بأنها لا تبطل الصوم مطلقا؛ لأن هذه الحقنة لا يصل منها شيء إلى الجوف من المنافذ المعتادة أصلًا، وعلى فرض الوصول فإنما تصل من المسام فقط، وما تصل إليه ليس جوفا، ولا في حكم الجوف. (2)
ومن قائل بالتمييز بين حقن للتغذية، وهذه تبطل الصوم لمنافاتها للحكمة منه، وبين حقن للتداوي ونحوه، وهي لا تبطل الصوم، لعدم دخولها من منفذ معتاد. (3)
__________
(1) في عرض هذا الرأي: محمود وهانئ البرعي، فضل عباس، التبيان والإتحاف، ص 106؛ وانظر: مجلة المعرفة، ص 7؛ عبد الهادي، أحكام الصوم والاعتكاف، ص 131 - 132
(2) رفعت فوزي، الصوم، ص 82؛ محمود شلتوت، الفتاوى، ص 136 - 137؛ هيتو، فقه الصيام، ص 86 - 87؛ أبو سريع عبد الهادي، في عرض الرأي: فضل عباس، محمود وهانى البرعي، فضل عباس، التبيان والإتحاف، ص 106؛ وانظر: مجلة المعرفة، ص 7؛ عبد الهادي، أحكام الصوم والاعتكاف، ص 132؛ محمود السبكي، الدين الخالص: 8/ 457 - 458، وفيه إيراد لفتوى الشيخ محمد بخيت التي تتلخص في قوله: "..... فالحق أن الحقنة بجميع أنواعها المتقدمة لا تفطر " مجلة الإرشاد "، غرة رمضان 1351 هـ، العدد الثاني - السنة الأولى - ص 42 وما بعدها؛ عبد القادر سلامة، الصيام، مجلة المعرفة، عدد 7 - سنة 5 - ص 7؛ حسنين مخلوف، فتاوى شرعية وبحوث إسلامية: 1/ 268 وما بعدها؛ أحمد الشرباصي، يسألونك في الدين والحياة: 5/ 53؛ يوسف مغربي، رفع الحرج والملام، " فتوى اللجنة الدائمة "، ص 95؛ " فتوى الشيخ ابن عثيمين لما، ص 95 -98؛ ومن هذا الرأي: عبد الرحمن تاج ويوسف القرضاوي، انظر: تيسير الفقه، ص 100 - 101
(3) يوسف مغربي، رفع الحرج والملام " فتوى الشيخ ابن جبرين " ص 99، فتوى الشيخ الفوزان ص 99 - 101؛ الزهراني، فتاوى الصيام أجاب عنها الشيخ عبد الله الجبرين، ص 34، ص 43؛ محمد عقلة، الصيام، ص 207؛ فضل عباس، التبيان والإتحاف، ص 109(10/652)
ونحن نستعين الله ونقدم بين يدي رأينا عدة أمور:
1 - يوجد في كل عضو من الأعضاء وداخل كل خلية من خلايا الجسم المدخرات الخاصة بها من الغذاء والفيتامين والمعادن، تعتمد عليها أثناء الصوم، ولهذا فإن الذي يتوقف أثناء فترة الصوم إنما هو عمليات الهضم، وليس عمليات التغذية، ولقد كتب أحد المختصين قائلا: إنه حين لا يكون هناك عمل هضمي ينشغل به الجسم، فإن هذا الجسم يستخدم الوقت المخصص للهضم في عملية تنظيف وتطهير عام، أي أن الصوم يدرب الجسم على استعمال مدخراته بشكل اقتصادي إلى حد بعيد. (1)
2 - هناك فرق بين " الجوع " و " شهوة البطن ": فالجوع الحقيقي هو الحاجة الملحة للغذاء، ومن مظاهره تقلصات المعدة والشعور بالضعف، وقد يسبب آلامًا في الرأس، ويرافق ذلك سيلان اللعاب لدى مشاهدة الأطعمة، وهذه كلها تظاهرة فيزيولوجية لمتطلبات غذائية للجسم، أما شهوة البطن أو ما يطلق عليه " الجوع الاعتيادي " فإنها عبارة عن مسألة عادة، أي التعبير عن عادة تناول الطعام في ساعات معينة، ولا علاقة لها بالجوع الطبيعي. (2)
3 - ذكرنا فيما سبق أن عملية الامتصاص هي مرور المواد الغذائية البسيطة التركيب الناتجة من الهضم خلال بطانة القناة الهضمية إلى الدم، وليس للمعدة وظيفة تذكر في عملية الامتصاص، وإنما يحدث معظم الامتصاص في الأمعاء الدقيقة، وتمتص الأمعاء الغليظة الماء وقليلا من الأملاح والغلوكوز، ثم تنتقل نواتج المواد الغذائية بعد امتصاصها من القناة الهضمية بواسطة الدم إلى أنسجة الجسم المختلفة التي تقوم بدورها في عملية التمثيل الغذائي. (3)
ومجمل القول: أن الدم هو الذي يحمل المواد الغذائية المهضومة من الأمعاء وينقلها إلى خلايا الجسم، لإمدادها بالمواد اللازمة لها، وتعرف الأوعية التي تخرج من القلب بالشرايين، بينما تعرف الأوعية التي تعود بالدم إلى القلب بالأوردة. (شكل 9)
4 - اعتمد كثير من الفقهاء والمحدثين - منهم ابن تيمية - المعنى المادي الظاهر للحديث الشريف: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)) فضيقوا مجاريه بالجوع بالصوم "، وتابعهم على ذلك عدد من العلماء المعاصرين (4)
وبعد ذلك نرى:
أولا: أن الإبر التي توصل أدوية أو مواد مغذية أو مقوية، وتدخلها إلى بدن الصائم عن غير طريق الأوردة والشرايين (كالاحتقان في العضدين أو الفخذين أو رأس الأليتين أو ما شابه ذلك) لا تفسد الصيام، لأنها تصل إلى البدن عن طريق المسام، مثلها في ذلك مثل الاغتسال بالماء البارد، فعلى الأصول المعتمدة في سائر المذاهب الفقهية لا أثر لها على صحة الصوم، وقد نص بعضهم على أن الصائم لو أوصل الدواء إلى داخل لحم الساق، أو غرز فيه سكينا أو غيرها، فوصلت مخه لم يفطر بلا خلاف، لأنه لا يعد عضوا مجوفا. (5)
وثانيا: أن الإبر التي توصل أدوية أو أغذية أو مقويات إلى الدم مباشرة عن طريق الأوردة أو الشرايين، تفسد الصوم، لأنها صارت منفذا - عرفًا - لإمداد الجسم بالغليكوز والصوديوم وأنواع الأحماض المختلفة، مما يؤدي إلى اكتفاء البدن واستغنائه عن المواد المألوفة من أنواع الطعام والشراب، يضاف إلى ذلك أن السوائل التي تصل إلى الأوردة والشرايين توسع مجاري الدم، فتمكن للشيطان من ابن آدم، وقد أمرنا بتضييق هذه المجاري، وغني عن القول إن تناول الأغذية والمقويات عن طريق الدم يتنافى مع الحكمة من الصيام التي تتمثل في أنه حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع.
__________
(1) هـ. م. شيلتون، التداوي بالصوم، ص 25 - 27
(2) هـ. م شيلتون، التداوي بالصوم، ص 99 - 100
(3) محمود وهانئ البرعي التبيان والاتحاف 105-106
(4) يوسف القرضاوي، تيسير الفقه في ضوء القرآن والسنة (فقه الصيام) ، ص 100
(5) محمد حسن هيتو، فقه الصيام، ص 82: نقلا عن الإمام النووي.(10/653)
وثالثًا: أن الفتوى ببطلان صوم من يستعمل الحقن التي تصب في الدم، عن طريق الأوردة أو الشرايين، هي السبيل الأمثل لسد ذريعة المدمنين على الخمر أو المخدرات، فهؤلاء يتناولون عن طريق الإبر خلاصات الكحول أو المواد المخدرة، لتسري في الدم مباشرة، فتشبع لديهم شهوة الكيف أو المزاج، من أجل تهدئة أعصابهم، وقد نص عدد من الأطباء البشريين والنفسيين وبعض الفيزيائيين على أن الصوم هو العلاج الأمثل والأرخص والأيسر للمدمن، وبواسطته يتخلص الجسم من سمومه المتراكمة، وتكون الجملة العصبية قد لبست رداء الصحة، ولذلك فإن الحاجة الملحة لتعاطي الكحول والمخدرات تكون قد اختفت تمامًا، وكتب " ماك فاون " في الموسوعة العامة الفيزيائية: " ليس هناك طريقة نقدمها كنصيحة لمريض الإدمان أفضل من أن ننصحه بالصوم ". (1) ، وإن العلاج الأمثل لحالات الهياج والهذيان والغضب والحمق، التي تعقب الانقطاع عن تناول الكحول أو المخدرات، هو تغطيس جسم المريض بكامله في ماء دافئ لمدة تتراوح بين ساعتين أو ثلاث ساعات حتى يهدأ جهازه العصبي، وفي الوقت ذاته توضع فوق رأسه قطعة من القماش مبللة بماء بارد، وهذه الحركات سوف تتوقف تقريبا كلما تقدم المريض بالصوم، حتى يصل إلى الشفاء، ويتوقف عما كان يدمن عليه من السموم (2)
__________
(1) هـ. م. شيلتون، التداوي بالصوم: 178 - 179
(2) هـ. م. شيلتون، التداوي بالصوم: ص 182 - 183(10/654)
ثانيا - الجلد:
سألني سائل عن حبة تسمى " Nitrates " من مجموعة: " salycitatesASPIRIN " توضع على إبهام الرِجل، أو على أي موضع من الجسم، فيمتصها الجلد، وتقوم بوظيفة علاجية.
وبعد البحث والتدبر ظهر لي: أن هذا النوع من الدواء لا أثر له على صحة الصوم، وذلك لسببين:
1 - أن الجلد لا يمتص الغذاء، وحتى لو امتص شيئا منه، فإن الأعضاء لا يمكنها الاستفادة منه. (1)
2 - أن ما يصل إلى البدن عن طريق المسام لا يفسد الصوم، لعدم منافاته حكمة الصوم، وقياسا على الاغتسال بالماء البارد، ولو وجد أثره بداخله، والله أعلم.
ثالثا - منطقة ما تحت اللسان:
أسرع علاج مؤثر لبعض الأزمات القلبية: حبة تسمى: Nitrates isordil يضعها الصائم تحت اللسان، فتمتص بطريقة مباشرة، ويحملها الدم إلى القلب فتوقف أزماته المفاجئة، وبعد البحث والتقصي: عرفت أن هذا النوع من الدواء لا يدخل إلى الجوف، لسرعة امتصاصه، وأنه يقاس على معجون الأسنان، بحيث إن الصائم إذا لم يزدرد ريقه، بأن تمضمض بعد ذوبان الحبة، كان صيامه صحيحا، والله أعلم.
رابعا - الأوكسجين:
يصر بعض الصائمين على إتمام صيامهم، رغم ما يتعرضون له أحيانا من ضيق في التنفس، بسبب مرض في الجهاز التنفسي، أو وجودهم لمدة من النهار على ارتفاع شاهق أو انخفاض سحيق، حيث يقل الهواء الطبيعي أو ينعدم، وحينئذ يلجؤون إلى تنفس الأوكسجين الصناعي.
وقد أفتى بعض المعاصرين بأن تنفس الطيار للأوكسجين لا يبطل صيامه؛ لأن الأوكسجين ليس بطعام أو شراب (2) ، وهذه الفتوى صحيحة، فاستنشاق الهواء الصناعي لا يفسد الصوم؛ لأنه من جنس الهواء الطبيعي، ولا تضاف إليه مواد أخرى عند تحضيره، وقد أجمع الأولون والآخرون على أن استنشاق الهواء لا أثر له على صحة الصوم.
__________
(1) هـ. م. شيلتون، التداوي بالصوم، ص 157
(2) أحمد الشرباصي، يسألونك في الدين والحياة: 5/ 66؛ محمد عقلة، الصيام، ص 228(10/655)
خامسا - الأشعة:
يتعرض بعض الصائمين لأشعة تدخل بدنه، إما لتصوير بعض الأجهزة الداخلية، وإما لعلاج موضعي، كتفتيت حصوة في الكلية أو الحالب أو المثانة أو المرارة، وإما لرتق فتق داخلي أو خارجي (كشبكة العين) .
في عام 1986: أمكن تصنيع ليزر الأشعة السينية، وكلمة " Laser " تمثل الحروف الأولى للجملة الآتية:
(Light Amplification by Stimulated Emission of Radiation) أي: تضخيم شدة الضوء بواسطة الانبعاث الإشعاعي المستحدث، ونرى أن إدخال هذه الأشعة إلى بدن الصائم لا أثر له على صحة الصوم، لأنها في جميع الحالات عبارة عن تصويب حزمة رفيعة من الضوء موحدة الاتجاه إلى المكان المراد علاجه، كإتمام عملية التحام الشبكية المصابة بالانفصال أو التمزق، أو التحام الأوعية الدموية في الجراحة، أو تفتيت الحصوات داخل البدن ... ، ونحو ذلك. (1) , والله أعلم.
سادسًا - التخدير:
وجهت إلى بعض المفتين أسئلة تطلب حكم الحقن التي تستعمل للتخدير (كالمورفين ونحوه) وأثر ذلك على الصيام، وجاء الجواب متباينًا: فذهب البعض إلى أن جميع أنواع الحقن، بما فيها الحقن المخدرة، وفي أي موضع من البدن - تحت الجلد أو في العروق أو في الشرايين - لا تفطر الصائم، لأنها لا تصل إلى الجوف، وإن وصلت إليه فإنما تصل من منفذ عارض غير خِلقي. (2)
وذهب بعض آخر إلى أن الحقن التي تعطى لغرض التخدير لا تجوز، مع عدم الإفطار، وذلك لما روي عن أم سلمة - رضي الله عنها -: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن كل مسكر ومفتر "، هذا كله إذا لم يحصل قيء عقب الحقن، فإن حصل تقيؤ بسبب الحقنة، وكان ما قاءه طعاما أو ماء أو مُرَّة، وقد ملأ الفم، فسد صومه، وإن لم يملأ الفم، أو كان ما قاءه بلغمًا، فلا يفسد صومه. (3)
__________
(1) سامي طه صالح ومحمد عبد المنعم طحيمر، المثالي في الفيزياء، ص 242 - 252، القاهرة: 1990 م
(2) أحمد الشرباصي، يسألونك في الدين والحياة: 5/ 53 وقد أورد فتوى لمفتي مصر في سنة 1351 هـ، وفتوى لجنة الفتوى في الأزهر سنة 1948 م؛ وانظر: فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا: 3/ 2123 - 2124؛ حسن أيوب، فقه العبادات، ص 237؛ وانظر: مجلة الإرشاد: ص ا - ع 2 - ص 42؛ يوسف مغربي، رفع الحرج والملام، ص 107، " فتوى الشيخ ابن عثيمين ".
(3) محمود السبكي، الدين الخالص: 8/ 457 - 458؛ مجلة الإرشاد: غرة رمضان سنة 1351 هـ، س1 ع 2 - ص 42 وما بعدها؛ والحديث ذكره السيوطي في " الجامع " معزوًّا لأحمد وأبي داود (رقم 9507، فيض القدير: 6/ 338) ؛ فضل عباس، التبيان والإتحاف، ص 106 - 109(10/656)
ولنا أن نقول بعد عدة لقاءات مع أطباء التخدير: إنه ينبغي التمييز بين عدة وسائل تتبع لتخدير المرضى:
أولا: التخدير عن طريق الأنف: وفي هذه الحال يشم المريض مادة غازية - كالهواء - تؤثر في أعصابه، فيحدث التخدير، فإن كان التخدير موضعيًّا بحيث لا يؤثر على المخ ولا يفقد الصائم وعيه، فيكون صومه صحيحا، لطبيعة المادة التي دخلت عن طريق الأنف، وإن كان التخدير كليا أفقد الصائم وعيه، بطل الصوم بسبب خروجه عن الوعي، لا بسبب طبيعة المادة الغازية.
ثانيا: التخدير الجاف: وهو نوع من العلاج الصيني، يعتمد على إدخال إبر مصمتة جافة إلى مراكز الإحساس تحت الجلد، فتستحث نوعا معينا من الغدد داخل البدن على إفراز المورفين الطبيعي الذي يحتوي عليه الجسم، وبذلك يفقد المريض القدرة على الإحساس في الموضع المحدد، وهذا النوع من التخدير لا يؤثر على صحة الصيام؛ لأن الغالب فيه القيام بالتخدير الموضعي الذي لا يغطي العقل، ولأنه لم يدخل معه شيء إلى البدن، بل حدث تفاعل فيزيائي داخلي أدى إلى هذه النتيجة.
ثالثا: التخدير بالحقن: وفي هذه الطريقة يقوم الطبيب بإدخال مادة سائلة مخدرة يحقنها في موضع معين من بدن الصائم:
أ - فإن كان الحقن في مكان آخر غير الأوردة والشرايين (كالحقن في اللثة أو في العضلة أو في رأس الألية أو نحو ذلك) فلا يفسد الصوم؛ لأن السائل يصل إلى البدن عن طريق المسام أو الشعيرات، ولأن التخدير الموضعي يقتصر على المكان المحدد، دون أن يفقد الصائم الوعي.
ب - أما إذا تمَّ الحقن في الأوردة أو الشرايين بالمادة المخدرة، فإن الصوم يبطل لسببين؛ أولهما: أن مائعا أدخل إلى البدن من مكان صار منفذًا عرفًا، والآخر: أن الصائم يفقد الوعي؛ لأن المادة المخدرة التي صبت في الدم قد توزعت على جميع البدن بواسطة الدورة الدموية، واتصلت بالمخ ومراكز الإحساس، وفقدان الوعي سبب لبطلان الصوم, والله أعلم.
* * *(10/657)
المطلب الثالث
ما يستخرج من بدن الصائم
الحجامة - سحب الدم - القيء
أولًا - الحجامة:
الفتاوى المعاصرة في حكم تأثير الحجامة على الصوم تأسست على الخلاف في حكمها عند الفقهاء، نتيجة لمدى صحة وحجية الأحاديث والآثار التي وردت في مسألة الحجامة، فمن هذه الفتاوى ما أبطل الصوم بالحجامة (1) ، وأكثرها لم يجعل للحجامة أثرا على صحة الصوم (2) ، ونحن نؤيد صحة الصوم مع الحجامة؛ لأن أحاديث الترخيص فيها للصائم أصح وأقوى، ولأنها تتوافق مع القياس (3) .
ويقاس على الحجامة الفصد والرعاف والجرح لإزالة غدة أو ورم أو استخراج شوكة أو قلع ضرس، ووضع العلق على الورم في اليد أو الرجل أو غيرهما لامتصاص الدم، ونحو ذلك، ففي هذه الحالات نرى أن الصيام صحيح، والله أعلم.
ثانيا - سحب الدم:
تباينت الفتاوى الحديثة في حكم سحب الدم من الصائم لفحصه أو للتبرع به، فذهب البعض إلى عدم تأثير سحب الدم - قليلًا أو كثيرا - على صحة الصوم (4) ، بينما ذهب البعض الآخر إلى صحة الصوم مع سحب الدم القليل (البرواز) ، وفساده مع سحب الدم الكثير، قياسا على فساده بالحجامة (5)
ولا نرى سببا للتفرقة بين القليل والكثير، كما لا نرى وجها للقياس على الحجامة، لعدم وجود علة ظاهرة، خاصة بالنسبة للحاجم , وقد رجحنا عدم تأثيرها وما ألحق بها على صحة الصوم.
وأخيرا: فإن سحب الدم يضيق من مجاريه التي يسري فيها الشيطان، وقد جاء الحديث يحث على تضييق مجاري الدم، ومع ذلك فإنه يكره إذا أدى إلى الضعف، ولكن الصوم معه صحيح، والله أعلم.
__________
(1) يوسف مغربي، رفع الحرج والملام، ص 102 - 107 " فتوى الشيخ ابن عثيمين "، وص 110 فتوى الشيخ ابن جبرين "؛ فتاوى الصيام للشيخ الجبرين، جمع وترتيب راشد الزهراني، ص 48، ص 54 - 56
(2) هيتو، فقه الصيام، ص 97 - 101، أبو سريع عبد الهادي، يوسف مغربي، رفع الحرج والملام، ص 102 - 107 " فتوى الشيخ ابن عثيمين "، وص 110 فتوى الشيخ ابن جبرين "؛ فتاوى الصيام للشيخ الجبرين، جمع وترتيب راشد الزهراني، ص 48، ص 54 - 56، ص 133 - 136؛ محمد عقلة، الصيام ص 214 - 216؛ فضل عباس، التبيان والإتحاف، ص 121 -122
(3) يوسف القرضاوي، تسير الفقه في ضوء القرآن والسنة ص88 - 90
(4) يوسف القرضاوي، تسير الفقه في ضوء القرآن والسنة ص90
(5) يوسف مغربي، رفع الحرج والملام، ص 108 " فتوى الشيخ ابن باز "، ص 109 " فتوى الشيخ ابن عثيمين "، ص 110 فتوى الشيخ ابن جبرين "؛ فتاوى الصيام " مرجع سابق "، ص 44، سؤال 37(10/658)
ثالثا - القيء:
انفرد الحسن البصري - في إحدى الروايتين عنه - بالقول: " إن من ذرعه القيء فقد أفطر ووجب عليه القضاء ". (1) ، وجمهور أهل العلم من القدامى والمحدثين على أن من غلبه القيء لا يفطر ولا قضاء عليه، وأن من تعمد القيء يبطل صومه، لما أخرجه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه)) . (2) ، ومع ذلك: فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن من تعمد القيء وهو صائم فلا شيء عليه وصيامه صحيح، لعدم أخذه بالأحاديث الواردة في القيء. (3)
ومعظم الفتاوى الحديثة تعتمد رأي الجمهور، فتعتبر أن الصائم لا يفطر إذ غلبه القيء وليس عليه قضاء، وأنه يفطر وعليه القضاء إن تعمد القيء بأية وسيلة (وضع الإصبع في الفم، شم رائحة تسبب القيء) . (4) ويفتي البعض بصحة الصوم مع القيء، سواء كلب القيء الصائم أو تعمد الاستقاءة. (5)
ونحن نميل إلى عدم صحة الصوم إذا تعمد الصائم القيء، لمجموع الأحاديث والآثار التي يقوي بعضها بعضا، ولعدم مخالفة رأي الأكثرية من الفقهاء، ولأن الاستقاءة مظنة رجوع شيء من الخارج إلى الجوف مع التعمد, والله أعلم.
ويقاس على الاستقاءة إدخال آلة في فم الصائم أو أنفه لاستخراج عينة من الصديد أو الإفرازات في اللوزتين، أو من البلغم العالق في البلعوم أو الحلق، أو من المخاط أو إفرازات الجيوب الأنفية، أو نحو ذلك، فالأفضل تأخير ذلك إلى وقت الإفطار، والله أعلم بالصواب.
* * *
__________
(1) محمد حسن هيتو، فقه الصيام، ص 73.
(2) ابن الهمام، فتح القدير: 3/ 334 - 335؛ مالك، الموطأ: 1/ 304؛ النووي، المجموع: 6/ 359؛ ابن قدامة، المغنى: 3/ 137 -138
(3) يوسف القرضاوي، المرجع السابق، ص 91 - 92 وما ذكره في حواشيهما من مراجع ومصادر.
(4) رفعت فوزي، الصوم، ص 95 -97؛ محمد حسن هيتو، فقه الصيام، ص 71 - 74؛ فضل عباس، التييان والإتحاف، ص 94 - 95؛ أبو سريع عبد الهادي، المرجع السابق، ص 79 - 80؛ الزهراني، فتاوى الصيام للجبرين: س 48 ص 47؛ يوسف مغربي، رفع الحرج والملام: ص 128 " فتوى الشيخ ابن باز "، ص 128 - 129؛ " فتوى الشيخ ابن عثيمين " ص 129 " فتوى الشيخ الفوزان ".
(5) القرضاوي، تيسير الفقه (فقه الصيام) ، ص 90 - 92(10/659)
خاتمة
في ختام هذا البحث الذي حاولنا فيه بيان حكم بعض المستجدات في مجال (المفطرات) على ضوء التحليل الفقهي والواقع العلمي، نلخص ما تم عرضه في العناصر الآتية:
ا - بخاخ الربو: يفسد الصوم.
2 - العلك: ينصح بعدم تناوله أثناء الصيام.
3 - التدخين: حرام، ويبطل الصوم.
4 - التغذية عن طريق الفم: تفسد الصوم.
5 - التقطير في الأنف، واستنشاق بخاخ الزكام، والاستعاط، وشم المخدرات والمكيفات: تبطل الصوم.
6 - الاكتحال والتقطير في العين: إذا تجمع بسببه مخاط، وابتلعه الصائم أفطر.
7 - التقطير في الأذن السليمة: لا يفطر الصائم، بعكس منزوعة الطبلة.
8 - التقطير في الإحليل: لا يفسد الصوم.
9 - الحقن الشرجية: يوصى بتأخير استعمالها إلى ما بعد الإفطار.
10 - التحاميل وأقماع البواسير: لا تؤثر على الصوم.
11 - إدخال أجهزة أو أدوية في فرج الثيب يفسد الصوم.
12 - الإبر التي تحقن في العضل ونحوه لا تبطل الصوم.
13 - الإبر التي تحقن في الأوردة والشرايين تفسد الصوم.
14 - الحبوب التي يمتصها الجلد لا تفطر.
15 - الحبة التي توضع تحت اللسان لا تفطر.
16 - استنشاق الأوكسجين لا يفسد الصوم.
17 - التعرض للأشعة لا يبطل الصيام.
18 - التخدير الموضعي لا يفطر الصائم.
19 - التخدير الكلي يفسد الصوم.
20 - الحجامة وما يلحق بها لا تؤثر على صحة الصوم.
21 - سحب الدم الصوم معه صحيح، ويكره إذا أضعف الصائم.
22 - القيء: إن تعمده الصائم بطل صومه، وإن غلبه فلا شيء عليه، ويلحق به استخراج العينات من الفم أو الأنف.
والله ولي التوفيق.
الدكتور محمد جبر الألفي(10/660)
الملاحق
هذه الملاحق نقلت عن كتاب تشريح ووظائف أعضاء جسم الإنسان، تأليف: محمود البرعي وهانئ البرعي، مكتبة الأنجلو المصرية، 1988.
شكل (1) التجويف الفمي، ص (106) .
شكل (2) الأنف، ص (107) .
شكل (3) الشم، ص (108) .
شكل (4) العين، ص (109) .
شكل (5) الأذن، ص (110) .
شكل (6) المثانة، ص (111) .
شكل (7) الجهاز الهضمي، ص (112) .
شكل (8) الأعضاء التناسلية، ص (113) .
شكل (9) الدورة الدموية، ص (114) .
شكل (10) الجهاز التنفسي، ص (115) .(10/661)
__________(10/662)
ضابط المفطرات
في مجال التداوي
الأكل والشرب
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
الأمين العام للمجمع العالمي لأهل البيت
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين
قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . [لبقرة: 183]
سيكون بحثنا في هذا المقال في مجالين:
الأول: ضابط المفطرات في مجال التداوي.
والثاني: ضابط المفطرات في مجال الحالات المرضية
المجال الأول - ضابط المفطرات في مجال التداوي:
قبل الورود في البحث لابد أن نستعرض طريقتنا في البحث، وهي تبتني على ذكر مقدمات:
الأولى: الإشارة إلى بعض النصوص الدالة على مفطرية الأكل والشرب.
الثانية: تعريف حقيقة الأكل والشرب وتحديدهما بالدقة، بحيث نتمكن من تشخيص المصاديق بقدر الإمكان.
الثالثة: تعريف حقيقة الصوم، للتمكن من تشخيص الوظيفة عند الشك.
الرابعة: تعيين المرجع عند الشك، وقد يعبر عن ذلك بتأسيس الأصل.
وبعد بيان هذه الأمور ندخل في صلب الموضوعات المطروحة، فإن وجدنا فيها نصا خاصًا نأخذ به، وإلا نرجع إلى العمومات، وإن لم تشملها العمومات نرجع إلى الأصول المنقحة في المقدمة.(10/663)
فلابد أولًا من ذكر هذه الأمور الأربعة كمقدمة للبحث، فنقول بتوفيق من الله العزيز العلام:
المقدمة الأولى: الإشارة إلى بعض النصوص.
فمن الكتاب العزيز قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]
ودلالة الآية الكريمة على مفطرية الأكل والشرب مما لا ريب فيه، وإنما الذي لابد من التعرض له هو تحقيق كلمتي الأكل والشرب، وإثبات إطلاقهما.
المقدمة الثانية: في تحقيق حقيقة كلمتي الأكل والشرب.
الأكل في اللغة:
قال الراغب في المفردات (1) : " الأكل تناول المطعم ".
وقال الزبيدي في تاج العروس (2) : " أكله أكلًا ومأكلًا، قال ابن الكمال: الأكل إيصال ما يمضغ إلى الجوف ممضوغًا أو لا، فليس اللبن والسويق مأكولًا، قال المناوي: وفي كلام الرماني ما يخالفه حيث قال: الأكل حقيقة بلع الطعام بعد مضغه، قال: فبلع الحصاة ليس بأكل حقيقة ".
وقال أحمد بن فارس في معجم مقاييس اللغة (3) : " أكل: الهمزة والكاف واللام باب تكثر فروعه، والأصل كلمة واحدة ومعناه: التنقص، قال الخليل: الأكل معروف ".
وقال جلال الدين الخزرجي في لسان العرب (4) : " أكلت الطعام أكلًا ومأكلًا، وقال ابن سيده: الطعام يأكله أكلًا ".
وقال الجوهري في الصحاح (5) : " أكل: أكلت الطعام أكلًا ومأكلًا ".
وفي المصباح المنير للفيومي (6) : " الأكل معروف - إلى أن قال - قال الرماني: " والأكل حقيقة بلع الطعام بعد مضغه فبلع الحصاة ليس بأكل حقيقة ".
__________
(1) ص 20
(2) 1/ 19
(3) 1/122
(4) 11 / 19
(5) 4/ 241
(6) 1/ 10(10/664)
الشرب في اللغة:
قال الزبيدي في تاج العروس (1) : " شرب الماء وغيره، كسمع، يشرب شربًا، مضبوط عندنا بالرفع، وضبطه شيخنا بالفتح، وقال: إنه على القياس، وقال أيضاً: إن الفتح أفصح وأقيس، قلت: وسيأتي ما ينافيه ". وفي لسان العرب (2) " ابن سيده: شرب الماء وغيره شَرْباً وشُرْبًا وشِرْبًا ".
وفي القاموس المحيط (3) : " شرب كسمع شربًا، ويثلث ".
وفي معجم مقاييس اللغة (4) : " الشين والراء والباء أصل واحد منقاس مطرد، وهو الشرب المعروف ".
وفي أساس البلاغة للزمخشري (5) : " شرب الماء والعسل والدواء ".
وفي المصباح المنير (6) : " الشراب ما يشرب من المائعات ".
وفي أقرب الموارد (7) : " ولا يشترط فيه توسط الشفة في إيصال المجروع إلى الجوف ".
وفي المفردات للراغب (8) " الشرب تناول كل مائع ماء كان أو غيره ".
هذه كلمات جماعة من أئمة اللغة، والظاهر أن أكثرهم - كما ترى - أوكلوا الأمر إلى وضوحه، سيما في الشرب.
والمتيقن من جميعها اعتبار تحقق أمور أربعة في حقيقة الأكل:
ا - إيصال المأكول أو المشروب إلى الجوف.
2 - كون الإيصال من طريق الحلق.
3 - كون المأكول ممضوغًا (أي مما يمضغ) .
4- تحقق المضغ.
وإذا لم يتحقق أحدها فصدق الأكل حقيقة مختلف فيه.
فهذا هو الرماني قد صرح بعدم صدق الأكل حقيقة على بلع الحصاة، وابن الكمال قد صرح بعدم صدقه على إيصال اللبن والسويق إلى الجوف، لأنه ليس مما يمضغ.
ولأجل هذا الاختلاف - الواقع في كلماتهم - لا يمكن حصول الاطمئنان بحقيقة معنى الأكل والشرب في اللغة.
ولما كانت خطابات الشارع ملقاة إلى العرف، فلابد في تشخيص العناوين المأخوذة فيها من الرجوع إلى العرف.
__________
(1) 1/ 312
(2) 1/ 487
(3) 1/ 267
(4) 3/ 350
(5) ص 324
(6) 1/ 140
(7) 1/ 579
(8) ص 257(10/665)
الأكل والشرب في العرف:
الظاهر اعتبار أمرين في صدق عنواني الأكل والشرب عند العرف وهما:
1- إيصال الشيء إلى الجوف بالبلع.
2 - كون ذلك من طريق الحلق، ومع تحققهما يصدق الأكل عرفا سواء أكان مما يمضغ أم لا، وسواء أتحقق المضغ أم لا، والفرق بين الأكل والشرب في ما يصل إلى الجوف، فإذا كان مائعا يكون شربًا، وإذا لم يكن مائعاً يكون أكلا.
وعليه إذا أوصل الشخص الحصاة إلى جوفه من طريق الحلق يصدق أنه أكل الحصاة، وإذا وصل الطعام إلى جوفه من غير طريق الحلق لا يصدق أنه أكله.
فتحصل مما ذكر في هذه المقدمة: الظاهر أنه لابد من حمل الأكل والشرب في الكتاب الكريم والسنة الشريفة على إيصال الشيء إلى الجوف من طريق الحلق، سواء أكان معتادًا أم غير معتاد، وسواء أكانت كيفية الأكل متعارفة أم غير متعارفة، وسواء أكان الورود من طريق الفم أم الأنف أم غيرهما.(10/666)
المقدمة الثالثة: في تحقيق معنى الصيام.
الصوم في اللغة:
قال الراغب (1) : " الصوم في الأصل الإمساك عن الفعل؛ مَطعمًا كان أو كلامًا أو مشيًا ".
والصوم في الشرع: إمساك المكلف بالنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن ...
وقال أحمد بن فارس (2) " صوم: الصاد والواو والميم أصل يدل على إمساك وركود في مكان ... من ذلك صوم الصائم هو إمساكه عن مطعمه ومشربه وسائر ... ".
وفي الصحاح (3) قال الخليل: " الصوم قيام بلا عمل، والصوم: الإمساك عن الطُّعم ".
وفي العين (4) : " الصوم: ترك الأكل وترك الكلام ... والصوم قيام بلاعمل ".
وفي المصباح المنير (5) : " صام يصوم صومًا وصيامًا، قيل: هو مطلق الإمساك في اللغة، ثم استعمل في الشرع في إمساك مخصوص ".
ومن التقفية في اللغة (6) : " والصوم عن الطعام والشراب، وكل ممسك عن شيء من الأشياء فهو صائم عن الكلام وغيره ".
وفي تاج العروس (7) : " صام صومًا وصيامًا - بالكسر - واصطام إذا أمسك، هذا أصل في اللغة في الصوم، وفي الشرع: عن الطعام والشراب ... - إلى أن قال -: وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سَيْر ... ".
وفي لسان العرب (8) " الصوم: ترك الكلام والشراب والنكاح - إلى أن قال - التهذيب: الصوم الإمساك عن الشيء والترك له - إلى أن قال -: قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم ".
وفي أقرب الموارد (9) : " صام الرجل يصوم صومًا وصيامًا: إمساك عن الطعام والشراب والكلام والسير، وأصله في الإمساك والسكون عن الفعل ".
__________
(1) المفردات، ص 291
(2) معجم مقاييس اللغة: 3/ 323
(3) 5/ 1970
(4) العين للخليل بن أحمد الفراهيدي: 7/ 171
(5) 1/161
(6) لأبي بشر البندينجي، ص 636
(7) تاج العروس، مادة صوم
(8) 12 / 350
(9) 1/ 670(10/667)
الصوم في كلمات الفقهاء رحمهم الله تعالى:
قال المفيد (1) : " والصيام هو الكف عن تناول أشياء ورد الأمر من الله تعالى بالكف عنها في أزمان مخصوصة ".
وقال الطوسي (2) : " وفي الشرع هو إمساك مخصوص على وجه مخصوص ممن هو على صفة مخصوصة.. ".
وقال العلامة (3) : " وفي الشرع عبارة عن إمساك مخصوص ... انتهى ". وقريب منه عبارة السرائر (4) وعبارة المغني لابن قدامة (5) والشرح الكبير لعبد الرحمن بن قدامة، والفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري (6) , وقال المحقق (7) : " الصوم وهو الكف عن المفطرات مع النية ".
وقريب منه عبارة العلامة في القواعد والشهيد الأول في الدروس (8)
ولا نطيل بنقل سائر العبارات التي نراها على ثلاثة أقسام: فقسم عرف بالإمساك، وقسم عرف بالكف، وقسم عرف بتوطين النفس.
ولا نتعرض لتحقيق الحق في حقيقة الصوم، بعد ما كان المطلوب
ترك المفطرات مع النية.
__________
(1) المقنعة، ص 49.
(2) المبسوط: 1/ 265
(3) منتهى المطلب: 2/ 557
(4) السرائر، ص 82
(5) المغني والشرح الكبير: 3/ 2
(6) الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 541
(7) شرائع الإسلام: 1/ 187
(8) الدروس الشرعية، ص 70(10/668)
المقدمة الرابعة: وهي مقدمة أصولية تتحدث عن المرجع عند الشك, الشك الذي يعتري المكلف في حصول المفطر قد يكون على إحدى صور:
الأولى: الشك في مفهوم الأكل والشرب سعة وضيقًًا، ونسميه بالشبهة المفهومية، والتحقيق كما عليه أهله: جريان البراءة بالنسبة إلى الزائد عن المتيقن، فإذا شككنا - مثلًا - في أن الأكل يشمل المأكول غير المتعارف حتى يحرم أم لا يحرم، تجري البراءة عن لزوم الاجتناب عنه.
الثانية: الشك في المصداق (الشبهة المصداقية) ، كما إذا شككنا مثلا في أن الماء وصل من قضاء الفم إلى الجوف أم لا، فالحق أيضا جريان البراءة - كما حقق في محله - بعد عدم شمول أدلة المنع له؛ والوجه في عدم الشمول هو أن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ممنوع قطعا، وإذا لم تشمله نشد في الحكم، فإن كان هناك دليل فوقاني نرجع إليه كالروايات الحاصرة، وإلا نرجع إلى الأصل كما بيناه.
الثالثة: الشك في صحة الصوم، وإذا وقع الشك في صحة الصوم مع تناول ما يشك في كونه أكلًًا فالحق أيضًا الصحة، لاستصحاب بقاء الصوم إذا كان مسبوقًا بتحقق الصوم.
وبعدما عرفت هذه المقدمات نَرِد في صلب الموضوع.
ضابط المفطر (الأكل والشرب) :
لا يخفى أن الأكل والشرب من المفطرات للصوم في الجملة بإجماع المسلمين، بل الضرورة قائمة على ذلك، ويدل عليه قبل الإجماع الكتاب والسنة، ولا كلام في ذلك، إنما الكلام في تحديد هذا الضابط، وأنه هل أن الأكل والشرب مطلقًا من المفطرات، أم تختص المفطرية بما يتعارف أكله وشربه؟ وأيضاً هل المفطر إيصال المأكول والمشروب إلى الجوف من أي طريق كان، أم يعتبر في المفطرية كون الوصول من الطريق المتعارف؟
فيقع الكلام في تعيين الضابط في مقامين:
المقام الأول:
في مفطرية إيصال ما ليس بمتعارف إلى الجوف من طريق الحلق، فقد قيل: إن المسألة ذات أقوال ثلاثة:
الأول: المفطرية وإيجاب الكفارة.
الثاني: عدم المفطرية.
الثالث: المفطرية من غير إيجاب الكفارة.
والأول هو المشهور، بل مورد التسالم.
ونسب الخلاف إلى ابن الجنيد وبعض كتب السيد من الإمامية، وإلى الحسن بن صالح وأبي طلحة الأنصاري من فقهاء أهل السنة.(10/669)
ولنذكر أولًا بعض عبارات الإمامية:
قال الشيخ الطوسي (1) : " الأكل لكل ما يكون به أكلاً، سواء أكان مطعوماً مثل: الخبز واللحم وغير ذلك، أو لا يكون معتاداً مثل: التراب والحجر والفحم والخزف والبرد وغير ذلك.
والشرب بجميع ما يكون به شارباً، سواء أكان معتادًا مثل: الماء والأشربة المعتادة، أو لم يكن معتاداً مثل: ماء الشجر ... " إلخ. اهـ.
وقال أيضًا (2) " إذا أكل ما لا يؤكل باختياره كالخزف والخرق والطين والخشب والجوهر، أو شرب غير مشروب كماء الشجر ... كل هذا يفطر. وهو قول جميع الفقهاء إلا الحسن بن صالح بن حي، فإنه قال: لا يفطر إلا المأكول المعتاد ".
وقال أيضا (3) : " من أكل البرد النازل من السماء أفطر، وبه قال جميع الفقهاء، وحكي عن أبي طلحة الأنصاري أنه كان يقول: لا يفطر ".
وقال الشيخ المفيد (4) : " ومن ازدرد شيئًا مما لا يؤكل كالقطعة والحصاة والخرزة وما أشبه ذلك متعمدًا فقد أفسد صيامه، وعليه القضاء والكفارة ".
وقال السيد المرتضى في الناصريات (5) : " ولا خلاف فيما يصل جوف الصائم من جهة فمه - إذا اعتمد - أنه يفطر مثل: الحصاة والخرزة وما لا يؤكل ولا يشرب. وإنما يخالف في ذلك الحسن بن صالح، وقال: إنه لا يفطر، وروي نحوه عن أبي طلحة، والإجماع متقدم ومتأخر عن هذا الخلاف، فسقط حكمه ".
وقال المحقق (6) : " يجب مع القضاء الكفارة بسبعة أشياء: الأكل والشرب المعتاد وغيره ".
وقال العلامة (7) : " يجب الإمساك عن الأكل والشرب - إلى أن قال: - ولا فرق بين المعتاد وغيره عند علمائنا، سواء تغذى به أم لا، وهو قول عامة أهل العلم ... إلخ ".
واختاره أيضاً في المختلف (8) وقال الشهيد الأول: (9) " كتاب الصوم: وهو توطين النفس على ترك الثمانية: الأكل والشرب المعتاد وغيره ... إلخ ".
واختاره أيضًا الشهيد الثاني في الروضة، والفاضل النراقي في مستند الشيعة، وصاحب الرياض (10) وصاحب الجواهر (11) والمحقق الهمداني، وبالجملة لم نجد مخالفًا من الإمامية إلا ما ينسب إلى السيد المرتضى وابن الجنيد، والنسبة إلى السيد محل تأمل، ومال إليه الشيخ الأنصاري (12) من حيث الدليل، ثم قال: إن مقتضى الاحتياط اللازم وجوب الكف عنه.
__________
(1) المبسوط: 1/ 270
(2) الخلاف: 2/ 213، مسألة 72
(3) الخلاف: 2/ 213، مسألة 72
(4) المقنعة، ص 54, 55
(5) الجوامع الفقهية، ص 206، المسألة 26
(6) الشرائع: 1/ 190، 191
(7) التذكرة: 1/ 257
(8) المختلف: 46/2 المنتهى، ص 563
(9) الدروس، ص 70
(10) الرياض: 1/ 304
(11) الجواهر، ص 16، 218
(12) كتاب الصوم(10/670)
وأما فقهاء السنة:
ففي بداية المجتهد (1) : " وتحصيل مذهب مالك أنه يجب الإمساك عما يصل إلى الحلق، من أي المنافذ وصل، ومغذيا كان أو غير مغذ ".
وفي المغني (2) : " وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب بما يُتغذى به، فأما ما لا يُتغذى به فعامة أهل العلم على أن الفطر يحصل به، وقال الحسن بن صالح: لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب. وحكي عن أبي طلحة الأنصاري أنه كان يأكل البرد في الصوم، ويقول: ليس بطعام ولا شراب ".
وفي الشرح الكبير (3) : " فأما أكل ما لا يتغذى به فيحصل به الفطر في قول عامة أهل العلم، وقال الحسن ... إلخ ".
وغير ذلك كالفتاوي الهندية (4) واللباب (5) والمجموع (6) والأم (7) وكفاية الأخيار. (8)
هذا وقد ذكرت الموسوعة الكويتية الشروط التالية (9)
1- أن يكون الداخل إلى الجوف من المنافذ الواسعة أو المفتوحة كالفم والأذن.
2- أن يكون بالاختيار.
3 - أن يستقر في الجوف، كما هو عند الحنفية والمالكية، ولا يشترط أن يكون مغذياً.
هذه هي فتاوى الفقهاء.
وقد رأينا أن الشهرة العظيمة محققة على القول الأول، بل كاد أن يكون إجماعًا كما ادعِي.
__________
(1) 1/ 300
(2) 3/ 36
(3) 3/ 36
(4) 1/ 202، 205
(5) اللباب في شرح الكتاب: 1/ 166
(6) المجموع: 6/ 317
(7) الأم: 2/ 100
(8) 1/ 126
(9) 28/ 30(10/671)
أدلة القول الأول (المفطرية) :
ويمكن أن يستدل له بأمور:
الدليل الأول:
الإطلاقات من الكتاب والسنة، كالآية الكريمة (1) وتقريب الاستدلال يتوقف على بيان أمرين:
1- أن الضابط في الأكل والشرب - كما أثبتناه - إيصال الشيء المأكول والمشروب إلى الجوف بالبلع من طريق الحلق، وإن لم يكن متعارَفًا. (2)
2- حذف المتعلق يدل على العموم كما ثبت في محله.
وحينئذ نقول: لما كان متعلق الأكل والشرب محذوفًا، نستنتج ممنوعية كل ما يكون متعلقا للأكل والشرب، يعني كل ما يصل إلى الجوف بالإرادة من طريق الحلق سواء أكان متعارفًا أم لا.
ويؤيد ما ذكرنا (3) ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام، أو الإمام الباقر عليه السلام أنه سئل عن المرأة تكتحل وهي صائمة؟ فقال: إذا لم يكن كحلًا تجد له طعما في حلقها فلا بأس.
والرواية معتبرة لوثاقة جميع رواتها، ولا نطيل بالتفصيل، حيث يمكن أن يستفاد منها أن الضابط في الإضرار بالصوم الوصول إلى الحلق، وإن لم يكن مأكولًا (متعارفًا أكله) كما في الكحل غالبًا.
وقد يستشكل عليه بأمور:
الإيراد الأول: الانصراف: بيانه أن الأكل والشرب ينصرفان - من الذهن العرفي - عن غير المتعارف أكله وشربه، فلا تشمله الإطلاقات.
والجواب:
أولاً: أن الانصراف يحتاج إلى منشأ، ولا يمكن أن يكون هذا المنشأ غلبة وجود المتعارف، وإنما يكون منشأ الانصراف أنس الذهن، وهو يحصل بغلبة الاستعمال وغلبة الاستعمال البالغة حدًّا يوجب الانصراف غير محرزة، فلا وجه للانصراف.
وثانياً: أنه لو كان المنصرف إليه ما اعتاده غالب الناس - أي التعارف النوعي - فيلزم اختلاف المفطِّر مع اختلاف عادات الأغلبية باختلاف الأزمنة والأصقاع، وهو فاسد، وإن كان ما اعتاده كل مكلف بشخصه ففساده أظهر، بل يكون ضروريًّا؛ لاستلزامه عدم بطلان صوم من لا يعتاد أكل الخبز مثلا، ومن لا يعتاد شرب الشاي بأكل الخبز وشرب الشاي.
الإيراد الثاني: أن ما ذكرتم من دلالة حذف المتعلق على العموم صحيح مع تحقق عنوان المتعلق، وحذف المتعلق لا يتكفل لصدق عنوان المتعلق، والمشكلة هي عدم صدق عنوان الأكل والشرب، والجواب عنه قد اتضح من تقريب الاستدلال أن صدق العنوان محرز من الخارج.
الإيراد الثالث: لو سلم الإطلاق فلابد من تقييده بالنصوص الدالة على أن المفطِّر ما تعارف أكله وشربه، وهو الطعام والشراب.
والجواب عن هذه النصوص يأتي، إن شاء الله تعالى، عند التعرض لها دليلًًا للقول الثاني.
__________
(1) سورة البقرة: 187
(2) كما استعمل الأكل في غير ما هو المتعارف أكله وشربه في بعض الروايات الشريفة، فراجع، ويستعمل كثيرًا كذلك في الاستعمالات العرفية.
(3) التهذيب: 4/ 259، وص 9؛ الاستبصار: 2/ 90؛ الوسائل (آل البيت) : 10/ 75، وص 5(10/672)
الدليل الثاني:
ما ذكره أحد المحققين وهو: أن حقيقة الصوم إنما هو الإمساك، وهو غير صادق على من تناول غير المعتاد.
ويرد عليه: أن من الظاهر عدم كون حقيقة الإمساك بقول مطلق، بل الإمساك عن أشياء خاصة، والمخالف يقول بأن تناول غير المعتاد ليس من هذه الأشياء الخاصة.
الدليل الثالث:
الشهرة العظيمة المحققة، والإجماع المحكي عن جماعة من المحققين كالسيد المرتضى في الناصريات (1) والشيخ الطوسي في الخلاف (2) وابن زهرة في الغنية، وابن أديس في السرائر (3) والعلامة في المنتهى وغيرها، بل ادعي في الخلاف (4) والناصرية إجماع جميع العلماء إلا النادر من المخالفين، وصرح الشيخ في الخلاف (5) بإجماع المسلمين على مفطرية أكل البرد النازل من السماء، وأن المخالف قد انقرض.
وقد نقلنا سابقًا عبارة المغني لابن قدامة (6) والشرح الكبير، حيث ذكرا اتفاق عامة أهل العلم إلا الحسن بن صالح، حيث قال: لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب. وأبا طلحة الأنصاري حيث يأكل البرد وهو صائم ويقول: ليس بطعام ولا شراب.
نعم يمكن أن يقال بعدم حجيته، لأنه محتمل المدرك بل مقطوعه، والإجماع المدركي ليس حجة لدى الإمامية.
ولكن الإنصاف أن هذه الإجماعات المدعاة بضميمة الشهرة المحققة مما توجب الاطمئنان بالحكم.
أدلة القول الثاني:
ويمكن أن يستدل له - بعد دعوى انصراف إطلاقات مفطرية الأكل والشرب عن غير المعتاد - بالروايات الدالة على عدم مفطرية غير المتعارف من المأكول والمشروب.
فيقيد بها إطلاقات الأكل والشرب على فرض تسليم إطلاقها,
منها ما ورد في حصر المفطرات، كصحيحة محمد بن مسلم، وهي ما رواه محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، وبإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن يعقوب بن يزيد، وبإسناده عن علي بن مهزيار جميعًا، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: " لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال - في رواية محمد بن علي بن محبوب: أربع خصال - (7) الطعام، والشرب، والنساء، والارتماس في الماء ". (8)
وروى الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم مثله. (9)
والرواية صحيحة كما هو واضح، ولا سبيل للخدش في سندها حتى يحتاج إلى البحث، كما هو واضح لمن راجع الأصول الرجالية لدى الإمامية.
__________
(1) الجوامع الفقهية، ص 206، مسألة 26
(2) الخلاف، ص 213
(3) ص 85
(4) ص 212
(5) ص 213
(6) المغني: 1/ 300
(7) والأمر سهل؛ لإمكان عد الطعام أو الشرب أمراً واحداً تارة وأمرين أخرى
(8) التهذيب: 4/ 189، 202، 318؛ الاستبصار: 2/ 80؛ والوسائل الباب 1 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 1
(9) الفقيه: 2/ 67، ح 276(10/673)
تقريب الاستدلال:
إن مقتضى حصر الإمام عليه السلام ما يضر الصائم في هذه الأمور الأربعة أو الثلاثة؛ عدم إضرار غيرها كما هو واضح، ومن المعلوم أن ما ليس بمتعارف أكله وشربه لا يصدق عليه الطعام والشراب، فليس أحدها، فلا يضر الصائم، فلا يكون مفطرًا.
ومنها: ما ورد في دخول الذباب في الحلق وهي:
ما رواه (1) محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام: أن عليًّا عليه السلام سئل عن الذباب يدخل حلق الصائم؛ قال: ليس عليه قضاء، لأنه ليس بطعام. (2)
ورواه الشيخ (3) بإسناده عن جعفر عن أبيه عن آبائهم عليهم السلام مع فرق اختلاف يسير.
والرواية معتبرة سندا لجلالة شأن محمد بن يعقوب وعلي بن إبراهيم كما هو واضح، وأما هارون بن مسلم فقد قال النجاشي في حقه: (4) ثقة وجه. اهـ.
وجاء أيضًا في إسناد كامل الزيارات (5)
وأما مسعدة بن صدقة فقد أورده ابن قولويه في إسناد كامل الزيارات (6) فيشمله توثيقه العام - على المبنى - هذا طريق محمد بن يعقوب.
وأما طريق الشيخ إلى هارون بن مسلم فصحيح أيضًا.
ومنها بعض ما ورد في الاكتحال، وهي:
1- ما رواه محمد بن يعقوب (7) عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سليمان الفراء (سليم الفزاء كما في بعض النسخ وفي الوسائل أيضا) عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام في الصائم يكتحل؛ قال: لا بأس به؛ ليس بطعام ولا شراب.
ورواه الشيخ في التهذيب (8) عن محمد بن يعقوب مع اختلاف يسير.
ورواه أيضًا في الاستبصار (9) عن أحمد بن محمد مع اختلاف يسير.
2- ما رواه الشيخ (10) بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن الحسين بن أبي غندر، عن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الكحل للصائم، فقال: لا بأس به؛ إنه ليس بطعام يؤكل.
والرواية صحيحة بناء على التوثيق العام في كامل الزيارات.
وتقريب الاستدلال يتوقف على بيان مقدمة، وهي:
أنه قد ثبت في محله أنه إذا كان الاستدلال في ظاهر الدليل بالصغرى فتكون الكبرى مفروغًا عنها، كأن يقول الإمام: لا تصلِّ في هذا اللباس فإنه نجس، فيستفاد منه أن كل نجس لا تجوز الصلاة فيه، إذا عرفت هذا فنقول: إن قوله عليه السلام في هذه الروايات: " لأنه ليس بطعام ولا شراب " , " إنه ليس بطعام يؤكل " تعليل لعدم وجوب القضاء وعدم البأس، وهو في الحقيقة الصغرى والكبرى وهي: " كل ما ليس بطعام ولا شراب لا بأس " , " كل ما ليس بطعام يؤكل لا بأس به " لا بد أن تكون مفروغًا عنها.
__________
(1) الكافي: 4/ 115، ح2
(2) الوسائل: ج 10، باب 39 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 2
(3) التهذيب: 4/ 323
(4) رجال النجاشي: 1180
(5) كامل الزيارات: الباب 66، 9
(6) كامل الزيارات: الباب 66، 9
(7) الكافي: 4/ 111، ح 1
(8) 4 / 258، ح 765
(9) 2/ 89
(10) التهذيب: 4/ 258، 259، ح 766؛ والاستبصار: 2/ 89، ح279، مع اختلاف يسير، كتصريحه بصفوان بن يحى؛ الوسائل: ج 10، الباب 25 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.(10/674)
فالمستفاد من هذه الروايات عدم مفطرية غير الطعام والشراب، فتقيد بها الإطلاقات الدالة على مفطرية الأكل والشرب، وإن كان المأكول والمشروب غير متعارف.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام الاستدلال للقول الثاني.
وقد أجيب عنه: أما عن الروايات الحاصرة فبوجوه:
الأول: الظاهر أن الحصر في الصحيحة إنما لوحظ بالقياس إلى سائر الأفعال الخارجية والأمور الصادرة من الصائم، دون ما للطعام والشراب من الخصوصية، وليست الصحيحة بصدد بيان المراد من الطعام والشراب وأنه مطلق المأكول والمشروب أم خصوص المعتاد منهما، فلا تدل على حصر المفطِّر في العادي.
ويشكل عليه: أن الحصر وإن كان إضافيًّا، ولكنه يستفاد منه - على أي حال - أن ما لم يكن من هذه الأمور المذكورة لا يضر الصائم، وحينئذ نقول: إن ما ليس بمتعارف لا يصدق عليه أحد هذه الأمور، يعني لا يصدق عليه الطعام والشراب، فلا يضر الصائم.
وبالجملة لا نريد أن نتمسك بإطلاق الطعام والشراب حتى يَرد عليه ما ذكر.
الثاني: أن كلمتي الطعام والشراب مجملتان؛ لإمكان أن يكون المراد منهما المعنى المصدري، أي الأكل والشرب - كما ذكر في القاموس - لا الذوات الخارجية، أي المطعوم والمشروب، فلا تصلح لتقييد المطلقات.
ويرد هذا بأنه: مضافًا إلى بعد هذا الاحتمال في نفسه، يبعده ما ورد في صحيحة ابن أبي يعفور من قوله عليه السلام: " إنه ليس بطعام يؤكل " حيث وصف الطعام بأنه يؤكل؛ وتوضيحه: أنه لو كان الطعام بمعنى الأكل لا يمكن أن يتصف بأنه يؤكل، فظهور الطعام في المطعوم ثابت.
الثالث: أن عموم الرواية الحاصرة يخصص بالأدلة الدالة على المفطرية.
توضيحه: أن الرواية الحاصرة أعم من أدلة الأكل والشرب مطلقًا؛ لأن مفادها عدم الإضرار وعدم مفطرية شيء في العالم سوى هذه الأربعة فتكون عامة، وأدلة الأكل والشرب خاصة، لاختصاصها بعنوان الأكل والشرب فقط - وإن كان لهذه الأدلة العموم أيضًا بالنسبة إلى أفراد- فيخصص بها.(10/675)
فإذن نستنتج: أن ما لا يكون من هذه الأربعة، ولم يصدق عليه الأكل لا يضر الصائم، فلم تقيد إطلاقات الأكل والشرب بالرواية الحاصرة، بل الأمر بالعكس.
الرابع: أنه لا يمكن العمل بها لمخالفتها للإجماع المحكي والشهرة العظيمة المحققة.
فالحق في الجواب هو الجواب الثالث والرابع.
وأما سائر الروايات (الطائفة الثانية) فقد أجيب عنها:
بأن المراد من الطعام هو الأكل (المعنى المصدري) دون المطعوم، والأكل يشمل المأكول المتعارف وغيره كما أثبتناه سابقًا.
والدليل على إرادة هذا المعنى في رواية الذباب أمر، وفي رواية الاكتحال أمر آخر، أما رواية الذباب؛ فهو أن مرجع الضمير في قوله: " لأنه ليس بطعام " هو الدخول، ولما كان الدخول غير اختياري، والأكل أمر اختياري فيمكن أن نقول: إن الدخول ليس بأكل ولا يصدق عليه الأكل. والشاهد عليه: قضاء الضرورة ببطلان صوم من أكل من الذباب كمية وافرة وبمقدار الشبع.
وفيه: أن قضاء الضرورة ببطلان هذا الصوم أمر، ودلالة الرواية أمر آخر، وعلينا أولًًا أن نلاحظ مفاد الرواية، وظاهرها هو الطعام بمعنى المطعوم، نعم لو كان هذا المفاد مخالفًًا للضرورة والإجماع المحكي المعتضد بالشهرة المحققة، فنرفع اليد عن الرواية.
وبعبارة أخرى: لو رفعنا اليد عن ظاهر الرواية بقضاء الضرورة؛ لم يكن الاستدلال استدلالًا بالسنة فقط.(10/676)
وأما روايات الاكتحال فالدليل على إرادة الأكل من الطعام هو: أنه لو كان الطعام فيها بمعنى المطعوم يلزم بطلان الصوم بالاكتحال بالمطعوم كالعسل وطحين الحنطة، مع وضوح عدم بطلان الصوم.
وفيه: أولًا ما أوردناه على سابقه.
وثانيًا: أن بعض روايات الاكتحال مذيلة بقوله: " إنه ليس بطعام يؤكل " كما نقلناها سابقًا، وقد قلنا: إن قوله: " يؤكل " يمنع عن كون الطعام بمعنى الأكل.
وهذا الأمر يبعد إرادة المعنى المصدري في رواية الذباب أيضًا.
والحق في الجواب هو الجواب الأخير عن الرواية الحاصرة وهو:
سقوط الاستدلال بها، لمخالفتها للإجماع المعتضد بالشهرة العظيمة المحققة، وشذوذ القول بالخلاف جدًّا على تقدير وجوده، وكذا الجواب الثالث وهو تخصيص الكبرى (وهو لا شيء بما ليس بطعام مفطر) بأدلة الأكل كما سبق.
هذا تمام الكلام في المقام الأول.
وخلاصة ما انتهينا إليه في هذا المقام بعون الله تعالى: أن الأكل والشرب يفطران الصائم سواء كان ما يصل الجوف مما يتعارف أكله وشربه أم لا.
وضابط الأكل والشرب: إيصال الشيء إلى الجوف من طريق الحلق بالبلع.(10/677)
المقام الثاني:
في إيصال الشيء - ولو كان متعارفًا - إلى الجوف من غير الطريق المتعارف، كالأنف والعين مثلًا.
والظاهر أن حكمه قد ظهر مما أسلفناه، وملخصه:
أنه إذا كان الإيصال إلى الجوف بالإرادة من طريق الحلق يصدق الأكل والشرب فيكون مفطرًا؛ لعمومية أدلة مفطرية الأكل والشرب وإطلاقها.
ويمكن أن يستدل للمفطرية بأمرين آخرين:
الأول: الصحيحة الحاصرة، وتقريبه: أن الطعام والشراب فيها مطلقان من حيث صدق الأكل والشرب وعدم صدقهما، وهذا يعني استفادة أن عدم الاجتناب عن الطعام والشراب يضر بالصوم سواء صدق الأكل والشرب أم لا.
وبعبارة أخرى: أنه يصدق على من أوصل الطعام إلى جوفه من أنفه مثلًا أنه لم يجتنب الطعام والشراب، فلابد من الاجتناب عنه أيضًا.
وفيه: أن المتفاهم عرفًا من الاجتناب عن الطعام والشراب: الاجتناب عن أكله وشربه، لا الاجتناب عن كل ما له مساس بالطعام والشراب، وهذا واضح؛ ضرورة أنه لو لم يكن كذلك يلزم الاجتناب المطلق عن الطعام والشراب، وعدم التصرف فيهما بأي نحو من أنحاء التصرف حتى البيع والشراء والنقل من مكان إلى مكان آخر، وهو باطل بالضرورة.
الثاني: إلغاء الخصوصية عن روايات الاحتقان، بأن يقال: إن ملاك الحكم بالمفطرية في الاحتقان دخول الشيء إلى الجوف من أي منفذ كان، ولا خصوصية للاحتقان، فيبطل الصوم بالوصول إلى الجوف من أي المنافذ.
وفيه: أنه لا دليل على هذا الإلغاء أصلًا، بل صرح في بعض الروايات بعدم البأس باستدخال الصائم الدواء، كما سيأتي.
هذا كله إذا كان الإيصال من طريق الحلق ولو من غير الفم.
وأما إذا كان من غير طريق الحلق أيضًا، فقد ظهر حكمه أيضًا وملخصه:
عدم صدق الأكل والشرب قطعًا، فلا تشمله أدلة مفطرية الأكل والشرب والطعام والشراب، فيدخل في العام المستفاد من الصحيحة الحاصرة عدم مفطرية جميع الأشياء سوى المحصورات، فلا يضر الصائم غيرها.(10/678)
تنبيه: يمكن أن يستدل هنا أيضًا للمفطرية بالدليلين الأخيرين.
هذا تمام الكلام في ضابط مفطرية الأكل والشراب (السؤال الأول) وملخصه:
1 - مفطرية إيصال الشيء إلى الجوف بالإرادة من طريق الحلق ولو لم يكن متعارفًا.
2 - مفطرية إيصال الشيء إلى الجوف بالإرادة من غير طريق الفم إذا كان من الحلق.
3 - عدم مفطرية ما لم يكن إيصاله من طريق الحلق إلا أن يكون عليه نص خاص.
نعم لما كان احتمال كون ملاك المفطرية في هذا المجال هو التغذي غير بعيد لابد من الاحتياط وجوبًا في ما كان كذلك.
الفرع الأول: ما يدخل من أحد السبيلين (القبل والدبر) كتنظيف الرحم والتحاميل، والحقن الشرجية وما شابه ذلك.(10/679)
هذا الفرع مشتمل على أمور نبحث عن كل منها مستقلًا، لأمر يتضح خلال البحث.
الأول: تنظيف الرحم.
الظاهر الجواز سواء كانت آلة التنظيف مصاحبة لمائع أو لا.
والدليل عليه: أننا لم نجد دليلًا على المنع، لعدم صدق الأكل والشرب عليه، فنرجع إلى مفهوم الحصر في الصحيحة الحاصرة ثم إلى الأصل، ولا تشمله أدلة حرمة الاحتقان، ولا يمكن إلغاء الخصوصية عنها كما سبق.
نعم يمكن أن يتوهم دلالة الرواية الواردة في استنقاع المرأة في الماء على عدم الجواز، إذا كانت هذه العملية مستلزمة لوصول الماء إلى داخل الرحم، توضيحه:
قد تعرض الفقهاء لمسألة جواز استنقاع المرأة في الماء وعدمه، فذهب المشهور إلى الجواز، ونسب إلى أبي الصلاح وجوب القضاء، وعن ابن البراج وجوب الكفارة أيضًا.
واستدل للمنع بموثقة حنان بن سدير التي رواها المشايخ الثلاثة (1) وهي:
ما عن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن حنان بن سدير، أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الصائم يستنقع في الماء؟ قال: لا بأس ولكن لا ينغمس، والمرأة لا تستنقع في الماء لأنها تحمل الماء بقبلها. تقريب الاستدلال: أنه يستفاد من هذا التعليل - كما تقدم – ضابط كلي وهو ممنوعية حمل المرأة الماء بقبلها.
والرواية موثقة سندًا، ويمكن الجواب عنه بأمرين:
الأول: لو كان الاستنقاع للمرأة محرّمًا لبان وشاع.
الثاني: أن التعليل المذكور في الرواية يوجب حمل النهي على التنزيه والكراهة؛ لأن دخول الماء في القبل ليس من قواطع الصوم حتى عند أبي الصلاح وابن البراج، فلابد من حمله على التنزيه والكراهة.
__________
(1) الفقيه: 2/ 71، ح 307؛ وعلل الشرائع، ص 388، ح 1؛ والكافي 4/ 106 ح5؛ والتهذيب: 4/ 263، ح 789 مع اختلاف يسير.(10/680)
الثاني: التحاميل:
إن كان المراد منها تحميلة المهبل - أي فزرجة - فالظاهر الجواز، لعدم صدق العناوين الممنوعة عليه لا الأكل ولا الشرب ولا الاحتقان، فيرجع إلى عموم الحصر والأصل، وإن كان المراد منها تحميلة المستقيم - أي لبوس- فيمكن إدخاله في البحث عن الاحتقان بالجامد، فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى.
الثالث: الحقن الشرجية.
الظاهر أن المراد منها الاحتقان، المبحوث عنه عند الفقهاء.
فلابد من البحث عن الاحتقان، وهنا يقال: إن الحقنة على ضربين:
ا - الحقنة بالمايع.
2 - الحقنة بالجامد.
فيقع الكلام في مقامين:
المقام الأول: الحقنة بالمايع.
ويقع البحث في هذا المقام في جهات ثلاث:
الجهة الأولى: في الحكم التكليفي.
لاخلاف ظاهرًا في حرمتها عند الإمامية، ولم ينقل الخلاف إلا من ابن الجنيد، حيث حكي عنه استحباب الاجتناب عنها، وذهب جماعة من فقهاء أهل السنة أيضًا إلى الحرمة (1)
والدليل عليه الروايات الشريفة:
1 - منها: صحيحة أحمد بن أبي نصر، وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن عليه السلام: أنه سأله عن الرجل يحتقن تكون به العلة في شهر رمضان, فقال: الصائم لا يجوز أن يحتقن.
ورواه أيضًا الكليني والصدوق (2)
والرواية صحيحة، والدلالة أيضًا تامة؛ فإن المتيقن من مفهوم الاحتقان: الاحتقان بالمائع.
2 - ومنها: موثقة الحسن بن فضال، وهي ما رواه محمد بن يعقوب، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحسين (الحسن) ، عن محمد بن الحسين (الحسن) ، عن أبيه، قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام: ما تقول في اللطف يستدخله الإنسان وهو صائم؟ فكتب عليه السلام: لا بأس بالجامد (3)
ورواها محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحسن، عن أبيه إلا أن فيه في التلطف بالأشياف. (4) والرواية معتبرة موثقة وإن كان فيها الحسن بن فضال لأنه ثقة، ودلالتها على عدم جواز الاحتقان بالمايع.
وهاتان الروايتان وإن دلتا على المفطرية كما سيأتي، ولكن تستفاد الحرمة بضميمة ما يدل على حرمة الإفطار واضحة.
إن قلت: هناك رواية تدل على الجواز، فتعارض ما دل على المنع، وهي ما رواه محمد بن يعقوب (5) عن محمد بن يحيى، عن العمركي بن علي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل والمرأة هل يصلح لهما أن يستدخلا الدواء وهما صائمان؟ قال: لا بأس.
ورواه الشيخ بإسناده عن علي بن جعفر عليه السلام (6)
قلت: هذه الرواية مطلقة؛ لأن ترك الاستفصال عن السائل يدل على الشمول، وموثقة الحسن بن فضال مقيدة، فتحمل عليها، فتحصل: أن الاحتقان بالمائع محرم تكليفًا.
__________
(1) المغني: 3/ 39؛ والسراج الوهاج، ص 139؛ والبحر الزخار: 3/ 253؛ وعدة من كتبهم الأخرى.
(2) الوسائل: ج10، الباب 5 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح1؛ عن التهذيب: 4/ 204، ح 589؛ والاستبصار: 2/ 83، 265؛ والكافي: 4/ 110، ح 3؛ والفقيه: 2 / 69
(3) الوسائل: ج 10، الباب 5 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 2؛ عن الكافي: 4 / 110، ح6
(4) التهذيب: 4/ 204، ح 559؛ الاستبصار: 2/ 83، 257
(5) التهذيب: 4/ 204، ح 1؛ الاستبصار: 2/ 83، 257
(6) التهذيب: 4/ 325، ح 1005(10/681)
الجهة الثانية: في الحكم الوضعي، أعني بطلان الصوم بالاحتقان بالمايع وعدمه، وفيه قولان:
الأول: عدم البطلان كما حكي عن جملة من كتب الشيخ، وعن ابن إدريس والمحقق في المعتبر، وقواه صاحب المدارك، وتردد فيه صاحب الشرايع، ويظهر من الموسوعة الكويتية أنه رأي غير مشهور عند المالكية. (1)
الثاني: البطلان كما حكي عن جماعة، وادعي عدم الخلاف فيه، واعتبرته الموسوعة الكويتية مذهب الجمهور، وهو مشهور مذهب المالكية ومنصوص خليل، وهو معلل بأنه يصل به الماء إلى الجوف من منفذ مفتوح، وبأن غير المعتاد كالمعتاد في الواصل، وبأنه أبلغ وأولى بوجوب القضاء من الاستعاط، استدراكًا للفريضة الفاسدة (2)
والحق هو الثاني، لأنه ثبت عدم جوازه مباشرة في الجهة الأولى، وقد ذكر الأصوليون أن النهي في المركبات الخارجية إرشاد إلى الحكم الوضعي، فتثبت مفطرية الاحتقان بالمائع.
فإذن لا مجال للاستدلال على عدم البطلان بالرواية الحاصرة والأصل، لوجود الدليل على البطلان، فيخصص عموم مفهوم الحصر، ولا وجه للرجوع إلى الأصل مع وجود الدليل.
تنبيه: لا يخفى أنه لا فرق في مفطرية الحقنة بين الاختيار والاضطرار لمعالجة المرض لأمرين:
1 - ظاهر الصحيحة.
2 - إطلاق الموثقة.
__________
(1) 28 /38
(2) 28 /38، وقد ذكرت مصادر الأقوال.(10/682)
الجهة الثالثة: في وجوب الكفارة بالاحتقان وعدمه.
الأقوى الوجوب، وحكي عليه الإجماع؛ لإطلاق ما دل على أن من أفطر متعمدًا فعليه كذا؛ فإنه يشمل الإفطار بالأكل والشرب وغيرها، والظاهر أنه لا منشأ لدعوى الانسباق (1) إلى الإفطار بالأكل والشرب فقط؛ كما يتضح بالرجوع إلى اللغة والاستعمالات، كما استعمل في الإفطار بالكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. (2) واستعمل أيضًا كثيرًا في مقابل الصوم.
هذا وذكرت الموسوعة الكويتية أن الكفارة لا تجب لعدم استكمال الجناية على الصوم صورة ومعنى، كما هو سبب الكفارة، واستدل المرغيناني وغيره للإفطار بالاحتقان وغيره كالاستعاط والإفطار بحديث عائشة: " إنما الإفطار مما دخل وليس مما خرج وقول ابن عباس: " الفطر مما دخل وليس مما يخرج ". (3)
والحاصل: أن الحق مفطرية الاحتقان بالمائع وإيجابه الكفارة.
المقام الثاني: في الاحتقان بالجامد.
الحق عدم الحرمة كما نسب إلى المشهور لدى الإمامية.
وخالف جماعة من الإمامية فذهبوا إلى الحرمة، كما حكي التصريح به عن المحقق في المعتبر، والعلامة في المختلف، وصاحب المدارك، وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة يفطر، لأنه واصل إلى الجوف باختياره فأشبه الأكل. (4) وللحنفية تفصيل، وللمالكية أقوال.
والدليل على المختار أمور:
الأول: الروايات الخاصة:
الأولى: موثقة الحسن بن فضال المروية سابقًا (5) حيث صرح فيها بعدم البأس بالجامد.
الثانية: صحيحة علي بن جعفر، وهي: ما رواه محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن العمركي بن علي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل والمرأة، هل يصلح لهما أن يستدخلا الدواء وهما صائمان؟ قال: لا بأس.
ورواه الشيخ بإسناده عن علي بن جعفر (6) والرواية صحيحة بطريقيها، لجلالة شأن محمد بن يعقوب وشيخه محمد بن يحيى، وعلي بن جعفر لا يحتاج إلى التعرض، والعمركي بن علي أيضًا موثق كما وثقه النجاشي، وإسناد الشيخ إلى علي بن جعفر أيضًا صحيح.
__________
(1) كما ادعاه المحقق الهمداني، ولذا قال: فالقول بعدم الكفارة على تقدير عدم كونه إجماعيًّا أيضًا أشبه بالقواعد. انتهى؛ وعن الحنفية والحنابلة أيضًا عدة ما في ما يوجب القضاء دون الكفارة، كما في الفقه على مذاهب الأربعة للجزيري: 1/ 565، 567
(2) الوسائل ج 10 الباب 2 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 1
(3) الموسوعة الكويتية: 28/ 38، 39
(4) المغني: 3/ 37؛ وكشاف القناع: 2/ 318
(5) الوسائل/ ج 10، الباب 5 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 1 عن الكافي: 4 / 110 م 5
(6) التهذيب: 4/ 325، ح 1005(10/683)
تقريب الاستدلال: أنها تدل على جواز الاحتقان بالجامد، إما بترك الاستفصال الدالة على العموم، وإما باختصاصها بالجامد بناء على تقييدها بما دل على عدم جواز الاحتقان بالمائع، كما مر آنفًا.
إن قلت: إنهما معارضتان بصحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر الدالة على عدم جواز الاحتقان للصائم، كما تقدم البحث عنه مفصلًا.
قلت:
أولًا: أن صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر لا تشمل الاحتقان بالجامد؛ لمكان انصراف لفظة الاحتقان عن استدخال الجامد، وعدم صدقه عليه عرفًا.
وثانياً: على تقدير عدم إحراز الانصراف، لا أقل من الشك في صدق الاحتقان في الجامد، فلا تشمله الصحيحة؛ لأن التمسك بالعام والمطلق في الشبهة المصداقية ممنوع قطعًا.
وثالثاً: على تقدير شمول الصحيحة للاحتقان بالجامد، لابد من تقييده بالموثقة الدالة على عدم البأس بالجامد، كما سبق ذكرها.
الثاني: الحصر الوارد في بعض الروايات الدال على عدم البأس بغيرها؛ لأن الاحتقان بالجامد ليس أحدها.
الثالث: الأصل الذي نقحناه في المقدمة الرابعة.
فتحقق مما ذكرنا أن الحق عدم حرمة الاحتقان بالجامد.
ومما ذكر تبين حكم إدخال الرجل الدواء إلى باطنه من منفذ قبله.(10/684)
الفرع الثاني: ما يدخل الجسم عبر الجهاز التنفسي من الأدوية كالبخاخ للربو وكل ما يستنشق، ويتصور لهذا الفرع شقوق متعددة؛ لأن هذه الأدوية إما أن تصل إلى الجوف من طريق الحلق أيضًا أو لا، وأيضاً إما تحمل مواد كثيرة بحيث يصدق معها الأكل أو الشرب أو لا، فالشقوق أربعة.
والظاهر مفطرية الشق الثالث، لصدق الأكل أو الشرب، وأما سائر الشقوق ففيها وجهان:
الأول: عدم المفطرية، وهو الحق.
والدليل عليه أمور:
الأول: أن المفطرات محصورة في أمور ليس التداوي بهذه الصور الثلاث أحدها، لعدم صدق الأكل والشرب، فيدخل في عموم المستفاد من المفهوم، وهو عدم مفطرية غير المذكورات في الصحيحة.
الثاني: ما رواه الشيخ (1) بإسناده عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضَّال، عن عمرو بن سعيد، عن الرضا عليه السلام قال: سألته عن الصائم يتدخن بعود أو بغير ذلك، فتدخل الدخنة في حلقه؟ فقال: جائز لا بأس به. كلام حول السند:
عبر بعض الأعاظم عن الرواية بالموثقة: لأن عمرو بن سعيد ثقة كما وثقه النجاشي، وإن كان فطحيَّ المذهب، وكذا أحمد بن الحسن بن علي بن فضال ثقة، كما وثقه النجاشي والشيخ، وإن كان فطحيًّا على ما قيل، لعدم قدح اختلاف المذهب في قبول رواية الراوي لو كان ثقة. وإسناد الشيخ إلى أحمد بن الحسن بن علي بن فضال صحيح أيضًا.
ولكن الحق، أن صحة إسناد الشيخ إليه لا يجدي في تصحيح هذه الرواية؛ لأن إسناد الشيخ على ما صرح به نفسه إنما هو بالنسبة إلى كتابيه الصلاة والوضوء، ولا نعلم أنه نقل هذه الرواية منهما أم من كتبه الأخرى، فتسقط عن الاعتبار.
تقريب الاستدلال: أن المتفاهم منها عرفًا أن الوجه في الجواز مع فرض الدخول في الحلق هو عدم تحقق عنوان المفطر هنا، وهو الأكل والشرب المأخوذ في بعض الأدلة، والطعام والشراب المأخوذ في بعض آخر، وبهذا يسري الجواز إلى ما يشبه الدخنة إذا دخل الحلق، وبالأولوية يسري إلى ما لا يدخل في الحلق.
الثالث: الأصل.
__________
(1) الوسائل: ج 10، الباب 22 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 2 عن التهذيب: 4/ 324(10/685)
الوجه الثاني: ويمكن أن يستدل له بأمرين:
الأول: ما يستفاد من الأدلة الدالة على مفطرية الغبار من مفطرية كل ما يدخل الجوف غير الهواء الذي لابد منه.
ويرده: أنه حكم تعتدي، فيقتصر على مورده، ومما يدل على عدم كونه مفطرا من جهة كونه مصداقا للأكل ما ورد في بعض رواياتها، فإن ذلك له مفطر مثل الأكل والشرب والنكاح (1)
الثاني: استقرار سيرة المتشرعة على التحزز عن الدخان، فيسري حكمه إلى غيره.
والجواب واضح؛ لأن اتصال هذه السيرة إلى زمان المعصوم عليه السلام غير محرز، بل محرز العدم، هذا أولًا.
وثانياً: لا وجه أصلًا لإسراء حكم المستفاد من السيرة الواجدة للشرائط في مورد إلى غير مورده وإن كان مشابهاً لها.
فتحصل أن الحق في المسألة الجواز.
الفرع الثالث: ما يكون استعماله مقصورًا على الفم من العلاج كالغرغرة وقلع السن.
يستفاد حكم هذا الفرع مما سبق، وأن الحق الجواز، إلا إذا أدخل الماء أو الدواء أو الدم إلى الجوف من طريق الحلق، أو علم بأن الغرغرة وقلع السن وما شابهما تلازم وصول الماء وغيره إلى الحلق، بل يمكن أن يقال بلزوم كفارة الجمع إذا أوصل الدم في قلع السن إلى جوفه من طريق الحلق، لصدق الإفطار بالمحرم.
فالحق أن قلع السن جائز، ولكن هناك رواية موثقة تدل على المنع وهي:
ما رواه محمد بن يعقوب (2) عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار بن موسى، عن أبي عبد الله عليه السلام في الصائم ينزع ضرسه؛ قال: لا، ولا يدمي فاه، ولا يستاك بعود رطب.
ورواه محمد بن علي بن الحسين (3) بإسناده عن عمار بن موسى الساباطي مثله إلى قوله: ولا يدمي فمه.
ودلالتها على عدم جواز نزع الضرس واضحة، ولا دليل على رفع اليد عن هذا الظهور، وإن قام دليل على إرادة الكراهة في الاستياك بالعود الرطب مثلًا، فلا يلزم منه رفع اليد عن ظهورها في الحرمة في نزع الضرس.
والسند أيضًا معتبر، وإن كان فيه الفطحيون لوثاقتهم.
فما العلاج؟ الظاهر أنه لا يمكن الاعتماد للإجماع على خلافها، ولعله لذا أفتى جماعة بالكراهة.
__________
(1) راجع الوسائل، كتاب الصوم، باب 22 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.
(2) الكافي: 4/ 112، ح 4؛ الوسائل: 10 الباب 26 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 3
(3) الفقيه: 2/ 70، ح 294(10/686)
الفرع الرابع: ما يكون محله البطن كإدخال المناظير للجوف، وأخذ عينة من الكبد وغيره، الظاهر أن ما كان منها يدخل المعدة من طريق الحلق إذا كان بحيث يصدق عليه الأكل فهو مفطر، خصوصًا إذا كانت تلك الآلة مستصحبة لشيء من الأدوية جاعلة لها في المعدة، وأما إذا لم يكن بحيث يصدق عليه الأكل فلا دليل على حرمتها، بل يدخل في العموم المستفاد من الحصر، فيحكم بالجواز مضافًا إلى الأصل.
نعم إذا كان إخراجه من المعدة إلى الخارج بإرادة من الصائم، بحيث يصدق عليه القيء فيدخل في عنوان القيء، وحينئذ يكون محكومًا بحكمه. وأما ما كان منها ما يدخل الباطن غير المعدة، أو من غير طريق الحلق فالظاهر الجواز مطلقًا، لعدم صدق الأكل والشرب والطعام والشراب، فيدل مفهوم الحصر ثم الأصل على جوازه.
الفرع الخامس: ما قد يصل إلى الجسم عبر الجلد كالحقن في الجلد والعضل، وأدوية يمتصها الجسم عبر الجلد، وما شاكل ذلك.
الظاهر: أنه لا بأس بها، لعدم صدق عنواني الأكل والشرب، فيدخل في مفهوم الحصر، فيحكم بالجواز مضافًا إلى الأصل.
نعم هناك أمر عام ننبه عليه آخر البحث إن شاء الله تعالى.
الفرع السادس: ما قد يصل إلى الجسم عبر الأوعية الدموية، مثل الأوردة والشرايين، كسحب الدم أو إدخاله (نقله) والفصد والحجامة.
هذا الفرع مشتمل على أمرين:
1- إدخال الدم بالآلات الحديثة.
2 - إخراج الدم.
أما الأول: فالظاهر أنه غير مفطر لعدم صدق الأكل والشرب، فيدخل في مفهوم الحصر الدال على الجواز إلا أن يكون ذلك بحيث يصدق عليه التغذي، فيأتي فيه ما وعدنا ذكره آخر البحث.
وأما الثاني: فلا إشكال في الجواز، سواء أكان بالآلات الحديثة أو بالفصد، نعم يمكن أن يقال بالكراهة في بعضها، كما سيأتي تفصيله في البحث عن الحجامة.(10/687)
وأما الحجامة فالظاهر أنها ليست بمفطرة كما ادعي عليه الإجماع، وإنما ذهب جماعة إلى الكراهة، ولفقهاء السنة فيها أقوال ثلاثة:
1- القول بالمفطرية، ذهب إليه أحمد وداود والأوزاعي وإسحاق بن راهويه.
2- القول بالكراهة، ذهب إليه مالك والشافعي والثوري.
3- الإباحة، ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه. (1)
ولكن الحق عدم المفطرية، وأما الكراهة فيأتي الكلام فيها. والدليل على المختار قبل الإجماع أمور:
الأول: عموم المستفاد من الحصر.
الثاني: النصوص الخاصة:
1 - مثل ما رواه الشيخ (2) بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن عبد الله بن ميمون، عن أبي عبد الله، عن أبيه عليهما السلام قال: ثلاثة لا يفطرن الصائم: القيء، والاحتلام، والحجامة، وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وكان لا يرى بأسًا بالكحل وهو صائم. والرواية معتبرة لصحة إسناد الشيخ إلى الحسين بن سعيد، ووثاقة الحسين نفسه بتوثيق الشيخ، وحماد بن عيسى بتوثيق النجاشي والشيخ، وعبد الله بن ميمون بتوثيق النجاشي.
تنبيه: نقل صاحب الوسائل هذه الرواية في موارد متعددة (3) عن الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، مع أن الموجود في التهذيب والاستبصار المطبوعين هو رواية الشيخ عن محمد بن يعقوب عن حماد بن عيسى، كما هو كذلك في جامع أحاديث الشيعة. (4)
ولكن لا يخفى أنه لا يقدح ذلك في حجية الرواية، لصحة إسناد الشيخ إلى محمد بن يعقوب أيضًا.
2 - وما رواه محمد بن يعقوب (5) عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه جميعًا، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الصائم، أيحتجم؟ فقال: إني أتخوف عليه، أمَا يتخوف على نفسه؟ قلت: ماذا يتخوف عليه؟ قال: الغشيان أو تثور به مرة، قلت: أرأيت إن قوي على ذلك ولم يخش شيئا؟ قال: نعم إن شاء.
ورواه الشيخ (6) بإسناده عن محمد بن يعقوب.
ورواه أيضًا الصدوق بإسناده عن الحلبي (7)
والرواية معتبرة، كما يتضح بالرجوع إلى أصول الرجال.
3 - وما رواه البخاري في الصحيح، قال: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم (8)
والرواية صحيحة على ما ذكره ابن رشد في بداية المجتهد. (9)
__________
(1) بداية المجتهد: 1/ 300
(2) التهذيب: 4/ 260، ح 775؛ الاستبصار: 2/ 90، ح 3
(3) منها: ج 10، الباب 26 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 11
(4) 9/ 238
(5) الكافي: 4/ 109 ح 1
(6) التهذيب: 4/ 261، ح 777؛ والاستبصار: 2/ 91، ح 290
(7) الفقيه: 2/ 68، 287
(8) صحيح البخاري: 1/ 332، باب الحجامة والقيء.
(9) 1/ 300(10/688)
الثالث: الأصل
وأما الكراهة: فقد ذهب إليها جماعة.
والمستند في ذلك الروايات كما يتضح بالرجوع إلى الباب 26 من أبواب ما يمسك عنه الصائم من الوسائل، ولا تحتاج إلى الذكر.
ولكن في النفس بالنسبة إلى الكراهة شيء، للتعليل الوارد في بعض الروايات بخشية الغشيان والخوف على النفس، فإنه ظاهر في الإرشاد إلى المفسدة، وليس حكما تعبديًّا حتى يستفاد منه الكراهة شرعًا.
نعم لا بأس بالقول بالكراهة بناء على تمامية قاعدة التسامح وجريانها في المكروهات.
وأما القول بالحرمة:
فاستدل له بما روي من طريق ثوبان ومن طريق رافع بن خديج أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) .
قال ابن رشد (1) : وحديث ثوبان هذا كان يصححه أحمد.
وفي دلالتها - على تقدير صحة السند - ما لا يخفى، فإنا نعلم بعدم بطلان صوم الحاجم، فلابد من حمل الإفطار على معنى آخر.
كما رواه الصدوق (2) عن أحمد بن الحسن القطان، عن أحمد بن محمد بن يحيى بن زكريا، عن بكر بن عبد الله بن حبيب، عن تيم بن بهلول، عن أبي معاوية، عن سليمان بن مهران، عن عباية بن ربعي - في حديث - قال: سألت ابن عباس عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى من يحتجم في شهر رمضان: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) ، فقال: إنما أفطرا لأنهما تسابا وكذبا في سبهما على النبي صلى الله عليه وسلم، لا للحجامة، هذا أولًا.
وثانياً: أنها معارضة بما يدل على الجواز، فإن رجحنا الروايات الدالة على الجواز بموافقتها لعمومات الكتاب فهو، وإلا فلابد أن نرجع بعد تساقطها إلى العموم المستفاد من الحصر ثم إلى الأصل.
فلا وجه للقول بالحرمة قطعًا.
ولابن قدامة (3) في الدفاع عن القول بالحرمة كلام حول حديث ((أفطر الحاجم والمحجوم)) لا يخلو من مناقشات، فراجع.
__________
(1) 1 /300
(2) عيون أخبار الرضا، ص 319، ح 1؛ الوسائل، الباب 26 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 9
(3) المغني: 3/ 37(10/689)
الفرع السابع: ما يكون استعماله بالتقطير في العين أو الأنف أو الأذن.
والتحقيق: أنه إن وصل الدواء إلى الجوف من طريق الحلق بحيث يصدق الشرب فيكون مفطرًا، سواء أكان وروده من الأنف أم الأذن أم العين، وإن كان قد وصل الدواء إلى الجوف من غير طريق الحلق فهو مشكل.
وذهب إليه الشافعي ومالك (1)
والدليل عليه: أمران:
الأول: إطلاقات مفطرية الأكل والشرب، للضابط الذي أثبتناه سابقًا.
الثاني: مفهوم رواية علي بن جعفر الآتية.
: وإن لم يصل إلى الجوف من طريق الحلق فلا يكون مفطرًا.
ويستفاد من كلام ابن قدامة (2) نقلًا عن الشافعي المفطرية، حيث قال: أو ما يدخل من الآذان إلى الدماغ، أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة، أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه، أو من دواء المأمومة إلى دماغه، فهذا كله يفطره، لأنه واصل إلى جوفه باختياره، فأشبه الأكل، وكذلك لو جرح نفسه أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه، سواء استقر في جوفه أو عاد فخرج منه، وبهذا كفه قال الشافعي.
ويدل على ما اخترناه أمور:
الأول: العموم المستفاد من الحصر كما سبق توضيحه.
الثاني: النصوص الخاصة:
منها: ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الصائم: هل يصلح له أن يصب في أذنه الدهن؟ قال: إذا لم يدخل حلقه فلا بأس. (3)
ومنها: ما رواه محمد بن يعقوب، بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان قال: سأل ابن أبي يعفور أبا عبد الله عليه السلام - أنا أسمع -: عن الصائم يصب الدواء في أذنه؟ قال: نعم.
وهي تدل على الجواز إذا لم يدخل الحلق، إما بالإطلاق المستفاد من ترك الاستفصال، أو باختصاصها بما إذا لم يدخل الحلق بناء على تقييدها بالمفهوم المستفاد من رواية علي بن جعفر (4)
__________
(1) المغني: 3/ 37
(2) المغني: 3/ 37
(3) الوسائل، ط. آل البيت عليهم السلام: 10/ 73، ح 5 عن كتاب مسائل علي بن جعفر، ص 110، ح23
(4) الوسائل، ط. آل البيت عليهم السلام: 10/ 73، ح 5، عن كتاب مسائل علي بن جعفر، ص 110، ح 4(10/690)
الثالث: الأصل:
وأما ما ذهب إليه الإمام الشافعي وما استند إليه فيظهر الخدش فيها مما ذكرناه هنا وما ذكرناه سابقًا، فقد استدل له: بأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل، ولكن ما الدليل على مفطرية ما شابه الأكل؟
الفرعين الثامن والتاسع: التداوي بالحقن (الإبر) في العضل أو الأَلية أو الأوردة وحقن الحقن الغذائية, قد تبين حكمها مما ذكرناه سابقًا وأن التحقيق عدم كونها مفطرة.
لكن هنا كلام وهو:
أنه لما كان من المحتمل كون مفطرية الأكل والشرب من جهة التغذي، وأن التغذي هو المفطر واقعًا، وإن لم يؤخذ في الأدلة موضوعًا، فلابد من الاحتياط وجوبًا في التداوي بما يصدق عليه التغذي كالحقن الغذائية بأقسامها، وضخ الدم إذا صدق عليه عنوان التغذي.
وكذلك لابد من الاحتياط وجوبًا في بلع ما ليس بمأكول ولا مشروب كالحديدة، إذ لا يصدق عليه التغذي وإن كان يصدق عليه أكل الحديدة, وهذا الأمر هو الذي أشرنا إليه في بعض الفروع السابقة، ووعدنا التنبيه عليه.(10/691)
المجال الثاني - ضابط الإفطار في مجال الحالات المرضية:
يقع البحث هنا في مجالات عديدة أهمها:
الأول: في أقسام المرض وما يترتب عليها من أحكام (وجوب الإفطار أو جوازه أو حرمته) والضابط فيها.
الثاني: في ضابط تشخيص المرض، وهل هو اليقين به أو الظن به أو احتماله.
الثالث: في تبعات الإفطار من فدية وقضاء وغيرها.
وسوف لن نتحدث عن البحث الثالث فله مجاله، وإنما سنقصر بحثنا على المجالين (الأول والثاني) لأنهما محل التساؤل هنا.
البحث الأول: حول أقسام المرض وما يترتب عليها من أحكام:
من خلال ملاحظة النصوص وأقوال الفقهاء يتبين لنا أن المعيار في التقسيم هو مدى الضرر والحرج الذي يلحق بالمكلف جراء قيامه بالصوم، والضرر والحرج منفيان بالنصوص إما بعنوانيهما - كما هو واضح - أو بعنوان المرض أو الشيخوخة أو الحمل أو الإرضاع أو العطش أو غيرها، وبطبيعة الحال فإن الأحكام وتبعاتها تتفاوت بتفاوت مقادير الضرر بما ينسجم وقاعدة اليسر في الشريعة الإسلامية، وهذا ما نلحظه فيما يلي:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) } [البقرة: 183- 185]
فالمرض والسفر يعرضان على الإنسان فيسقط عنه الحكم، وعليه أن يقضي في أيام أخر تحقيقًا لليسر الإسلاميّ، ولكن هناك فئة يمكنها أن تفعل ذلك بمشقة، ومع ذلك فقد رخص لها الترك على تفصيل.(10/692)
بعض الروايات الواردة: عن أبي عبد الله الصادق قال: اشتكت أم سلمة رحمها الله عينها في شهر رمضان، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفطر وقال: ((عشا الليل لعينك ردي)) (1)
قال محمد بن مسلم: سمعت أبا جعفر (يعني الباقر عليه السلام) يقول: الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا شهر رمضان، ويتصدق كل واحد منهما في كل يوم بمدٍّ من طعام، ولا قضاء عليهما، وإن لم يقدرا فلا شيء عليهما. (2)
وعن رفاعة عن أبي عبد الله (يعني الصادق عليه السلام) في قوله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير (3)
وعن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يصيبه العطاش حتى يخاف على نفسه, قال: يشرب بقدر ما يمسك رمقه، ولا يشرب حتى يروى. (4)
وعن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان، لأنهما لا تطيقان الصوم، وعليهما أن تصدق كل واحدة منهما في كل يوم تفطر فيه بمد من طعام، وعليهما قضاء كل يوم أفطرتا فيه تقضيانه بعد. (5)
وعن الوليد بن صبيح قال: حممت بالمدينة يومًا من شهر رمضان، فبعث إلي أبو عبد الله بقصعة فيها خل وزيت، وقال: أفطر، وصلِّ وأنت قاعد. (6)
وعن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الصائم إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر (7)
وعن بكر بن محمد الأزدي قال: سأله (يعني الصادق عليه السلام) أي عن حد المرض الذي يترك الإنسان فيه الصوم، قال: إذا لم يستطع أن يتسحر. (8)
وروى الصدوق عنه عليه السلام قوله: كل ما أضر به الصوم فالإفطار له واجب. (9)
وعن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله: ما حد المريض إذا نقه في الصيام؟ فقال: ذلك إليه , هو أعلم بنفسه إذا قوي فليصم. (10)
وعن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: كل شيء من المرض أضر به الصوم فهو يسعه ترك الصوم.
جاء في الموسوعة الكويتية: فالمريض الذي يخاف زيادة مرضه بالصوم أو إبطاء البرء أو فساد عضو؛ له أن يفطر، بل يسن فطره ويكره إتمامه، لأنه قد يفضي إلى الهلاك فيجب الاحتراز عنه. (11)
ونقلت عن الحنفية قولهم: إذا خاف الصحيح المرض بغلبة الظن فله الفطر، فإن خافه بمجرد الوهم فليس له الفطر.
__________
(1) وسائل الشيعة: 7/ 155
(2) وسائل الشيعة: 7/ 155 ص 150
(3) وسائل الشيعة: ص 151
(4) وسائل الشيعة، ص 153
(5) وسائل الشيعة، ص 153
(6) وسائل الشيعة، ص 155
(7) وسائل الشيعة، ص 155
(8) وسائل الشيعة، ص 156
(9) وسائل الشيعة، ص 156
(10) وسائل الشيعة، ص 156
(11) الموسوعة الكويتية: 28/ 45، وأرجعت هذا إلى حاشية القليوبي على شرح المحلى، ص 1 - 83؛ وكشاف القناع، ص 2 - 310؛ ومراقي الفلاح، ص 373؛ ورد المحتار، ص 2-116(10/693)
وعن المالكية: إذا خاف حصول أصل المرض بصومه فإنه لا يجوز له الفطر على المشهور؛ إذ لعله لا ينزل به المرض إذا صام، وقيل: يجوز له الفطر.
فإن خاف كل من المريض والصحيح الهلاك على نفسه بصومه وجب الفطر، ولذا لو خاف أذى شديدًا كتعطيل منفعة من سمع أو بصر أو غيرهما وجب الفطر؛ لأن حفظ النفس والمنافع واجب، وهذا بخلاف الجهد الشديد فإنه يبيح الفطر للمريض، قيل: والصحيح أيضًا.
وقال الشافعية: إن المريض - وإن تعدى بفعل ما أمرضه - يباح له ترك الصوم، إذا وجد به ضررًا شديدًا، لكنهم شرطوا لجواز فطره نية الترخص - كما قال الرملي واعتمد -: وفرقوا بين المرض المطبق، وبين المرض المتقطع (من حيث النية في الليل) ...
ولخص ابن جزي من المالكية أحوال المريض بالنسبة إلى الصوم وقال: للمريض أحوال:
الأولى: أن لا يقدر على الصوم أو يخاف الهلاك من المرض أو الضعف إن صام، فالفطر عليه واجب.
الثانية: أن يقدر على الصوم بمشقة، فالفطر له جائز، وقال ابن العزي: مستحب.
الثالثة: أن يقدر بمشقة ويخاف زيادة المرض، ففي وجوب فطره قولان.
الرابعة: أن لا يشق عليه ولا يخاف زيادة المرض، فلا يفطر عند الجمهور، خلافًا لابن سيرين. (1)
وعن الحامل والمرضعة اتفق الفقهاء على جواز الفطر إن خافتا على أنفسهما أو على ولدهما المرض أو زيادته أو الضرر أو الهلاك.
ولا خلاف بينهم في جواز إفطار من أرهقه جوع مفرط أو عطش شديد، وكذلك من يخاف الضعف عند لقاء العدو.
وتصريحات الإمامية تقرب من هذه الفتاوى.
فقد ذكر الشيخ المفيد من متقدميهم في المقنعة: " والشيخ الكبير والمرأة الكبيرة إذا لم يطيقا الصيام وعجزا عنه فقد سقط عنهما فرضه ووسعهما الإفطار، ولا كفارة عليهما، وإذا أطاقاه بمشقة عظيمة وكان يمرضهما إذا فعلاه أو يضرهما ضررا بينًا وسعهما الإفطار، وعليهما أن يكفرا عن كل يوم بمد من طعام ".
ثم حدَّ المرض قائلاً: " إذا عرض للإنسان مرض فكان الصوم يزيد فيه زيادة بينة وجب عليه الإفطار، فإن كان يزيد عليه يسيرًا أو لا يزيد فيه فعليه التمام ". (2)
__________
(1) الموسوعة الكويتية: 28/ 46
(2) الينابيع الفقهية، ص 73(10/694)
وكذلك نجد السيد المرتضى يحد المرض بأنه " الذي يخشى أن يزيد فيه الصوم زيادة بينة ". (1)
وكذا نجد الشيخ الطوسي يقول في النهاية: " وحد المرض إذا علم الإنسان من نفسه أنه إن صام زاد ذلك في مرضه أو أضر به، وسواء الحكم في الجسم، أو يكون رمدًا أو وجع الأضراس فإنه عند جميع ذلك يجب الإفطار مع الخوف من الضرر ".
وإذا انتقلنا إلى المتأخرين من الإمامية نجد هذه المعايير تتكرر بشيء من التفصيل والاستدلال.
يقول صاحب الجواهر: " لا خلاف ولا إشكال في أنه يصح الصوم من المريض ما لم يستضر به، لإطلاق الأدلة السالم عن معارضة إطلاق ما دل على الإفطار للمريض من الآية والرواية، بعد معلومية كون المراد منه خصوص المتضرر به منه نصًّا وفتوى لا مطلق المرض، وعلى ذلك ينزل خبر عقبة بن خالد عن الصادق عليه السلام: " في رجل صام وهو مريض قال: يتم صومه ولا يعيد، يجزيه , ضرورة عدم جواز الصوم للمريض الذي يتضرر بالصوم بزيادة مرضه أو بطء برئه أو حدوث مرضي آخر أو مشقة لا تتحمل أو نحو ذلك، وأنه إذا تكلفه مع ذلك لم يجزه، بل كان آثمًا بلا خلاف أجده فيه ". (2)
وبعد بحث عن مدى تشخيص الضرر يقول: " وكيف كان فقد ظهر لك أن المدار في الإفطار على خوف الضرر من غير فرق بين المريض والصحيح في ذلك؛ لإطلاق قوله عليه السلام: " كل ما أضر به الصوم فالإفطار له واجب ". ولأنه المناسب لمقتضى سهولة الملة وسماحتها وإرادة الله اليسر بالناس دون العسر، ولظهور النصوص في أن المبيح للفطر في المريض الضرر، فلا يتفاوت بين الصحيح والمريض معه ". (3)
وذكر المرحوم السيد كاظم اليزدي في (العروة الوثقى) أن من شرائط صحة الصوم: عدم المرض أو الرمد الذي يضره الصوم لإيجابه شدته، أو طول برئه، أو شدة ألمه أو نحو ذلك، ثم ذكر أنه لا يكفي الضعف وإن كان مفرطًا ما دام يُتحمل عادة، نعم لو كان مما لا يتحمل عادة جاز الإفطار، وهذا ما أيده المرحوم السيد الحكيم مستدلًا له في (مستمسكه) . (4)
__________
(1) الينابيع الفقهية، ص 93
(2) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 16/ 345
(3) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ص 348
(4) مستمسك العروة الوثقى: 8/ 418 - 420(10/695)
النتيجة:
من كل ما رأيناه نستطيع أن نصل إلى النتيجة التالية:
أن المعيار في الأمر هو الضرر الذي يصيب المكلف من الصوم لا غير، لأنه المستفاد من الآية بالظهور العرفي وهو ما أكدته الروايات، وقد رأينا الإمام الصادق عليه السلام يعطي هذه القاعدة: "كل ما أضر به الصوم فالإفطار له واجب" مستفيدًا ذلك من ظهور الآية الشريفة، كما رأينا الفقهاء يفهمون ذلك أيضًا بملاحظة ما ذكرته الآية من أن الله تعالى يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر.
يبقى أن نذكر أن الضرر ينقسم إلى أقسام، فيتفاوت الحكم معها، فهناك:
أولًا: الأثر اليسير الذي يتحمل عادة بل قد لا يعتبر في نظر العرف ضررًا - كالضعف مثلًا - وحينئذ يبقى المكلف معه مشمولا لإطلاقات أدلة التكليف بالصوم، ولا يمكن تخصيصها بهذه الأدلة.
وهناك ثانيًا: الفعل الذي يشكل مجرد مشقة يصعب تحملها عادة، وهذا يبيح الإفطار بمقتضى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] مع جواز الصيام كما تدل عليه الأدلة.
وأخيرًا نجد ثالثًا: الضرر العرفي، وفي هذه الحالة يأثم الإنسان مع الإتيان به، ويتوقف فساد العبادة على نتيجة البحث عن اقتضاء النهي فساد العبادة أم لا، وهو بحث أصولي لا محل له هنا.
البحث الثاني: في ضابط تشخيص المرض أو (الضرر) .
لا ريب في أن تشخيص الضرر باليقين يترك الأثر المطلوب، وكذلك التشخيص بالظن، لأنه المفهوم العرفي من الأدلة، ولكن وقع البحث في مجرد احتمال الضرر الموجب ما للخوف، وهل يبيح الإفطار أو يحرمه أم لا؟
ونقطة التشكيك تنبع من:
التشكيك في صدق الخوف من الضرر (الوارد في الروايات) مع مجرد احتماله، وهو مرفوض على الظاهر، فإن الخوف حاصل بمجرد احتمال الضرر احتمالا عرفيًّا، وعندما يصدق الخوف يمكن التمسك برواياته.
ويمكن أن يقال: إن أدلة نفي الضرر والحرج ورفع التكليف عن المريض باعتبار ضرره إنما تحمل ظاهرًا على الاحتمالات العرفية، والمفروض أنها متوفرة في البين.
ومن هنا يعلم أن الاحتمال إن لم يكن عرفيا لا قيمة له.
وقد رأينا أن الروايات أوكلت الأمر إلى المكلف نفسه وجعلته المعيار في الأمر، بتعبيرات من قبيل: "هو مؤتمن عليه مفوض إليه" أو: "ذلك إليه، هو أعلم بنفسه" فهو يتصرف بذهنه العرفي، ويشخص الموضوع بما يحقق له المجوز للإفطار.
* * *(10/696)
خلاصة البحث
انقسم البحث كما هو مقرر إلى مجالين:
المجال الأول: ضابط المفطرات في مجال التداوي.
وقد ذكرنا مقدمات قبل تحقيق الضابط هذا، وهي:
أ- بعض النصوص الدالة على مفطرية الأكل والشرب، وهي توكل الأمر بطبيعة الحال إلى اللغة والعرف.
ب - حقيقتهما لدى اللغويين والعرف.
ج - تحقيق معنى الصيام في اللغة وأقوال الفقهاء.
د - الحديث عن الأصل الذي نرجع إليه عند الشك.
وبعد ذلك دخلنا في صميم الموضوع وهو تعيين الضابط من خلال البحث في مقامين:
الأول: في مفطرية إيصال ما ليس بمتعارف إلى الجوف من طريق الحلق، وبعد استعراض أقوال العلماء واستدلالاتهم وصلنا إلى النتيجة التالية:
1- أن الأكل والشرب يفطران الصائم سواء كان ما يصل الجوف مما يتعارف أكله وشربه أم لا.
2 - أن ضابط الأكل والشرب هو إيصال الشيء إلى الجوف بالإرادة من طريق الحلق.
الثاني: في مفطرية إيصال الشيء - ولو كان متعارفًا - إلى الجوف من غير الطريق المتعارف كالأنف والعين، وتوصلنا لما يلي:
1 - إذا كان الإيصال إلى الجوف بالإرادة من طريق الحلق يصدق الأكل والشرب، فيكون مفطرًا.
2 - أما إذا كان من غير طريق الحلق فلا يصدق العنوانان عليه، وفرَّعنا على هذه النتائج فروعًا هي:
الأول: ما يدخل من أحد السبيلين (القبل والدبر) . ورأينا أنه لا مانع من عملية تنظيف الرحم، حتى ولو كانت مصاحبة لمائع، وكذلك بالنسبة للتحاميل.
أما الحقن الشرجية فقد رأينا أن الحقنة بالمائع محرمة تكليفًا، أما بطلان الصوم بها، فرغم الاختلاف فيها رجحنا مسألة البطلان ووجوب الكفارة، خلافًا لما ذكرته الموسوعة الكويتية.
وفي حال كون الاحتقان بالجامد فقد رأينا أنه أمر غير محرم.
الثاني: ما يدخل إلى الجسم عبر الجهاز التنفسي من الأدوية، فقد رأينا:
أ- أن هذه الأدوية إن دخلت إلى الجوف عن طريق الحلق وحملت معها مواد يصدق عليها عنوان الأكل والشرب فهي مفطرة.
2 - وفيما عدا ذلك استقر الرأي على الجواز.(10/697)
الثالث: ما يكون استعماله مقصورًا على الفم من العلاج كالغرغرة وقلع السن، وحكمه الجواز ما لم يصل إلى الجوف.
الرابع: ما يكون محله البطن كإدخال المناظير إلى الجوف، والظاهر أنها لا تفطر إلا إذا حملت معها أدوية إلى المعدة، أو أخرجت شيئًا يصدق عليه القيء.
الخامس: عدم المانع من ما يصل إلى الجسم عبر الجلد.
السادس: ما قد يصل إلى الجسم عبر الأوعية الدموية، وفيه صورتان:
إخراص الدم، وإدخال دم إضافي.
أما الإخراج فلم نر أنه مفطر، وأما إدخال الدم أو الحقن بالإبر للمغذي وغيره فلم نر منه مانعًا، إلا أننا أكدنا على الاحتياط وجوبًا إذا كان يصدق عليه عنوان التغذية.
السابع: ما يكون استعماله بالتقطير في العين أو الأنف أو الأذن.
فإذا دخل إلى الجوف عن طريق الحلق كان مفطرًا، أما إذا دخل إلى الجوف من غير طريق الحلق فقد تم التوقف فيه.
هذا كله في المجال الأول.
المجال الثاني - ضابط الإفطار في الحالات المرضية:
وقد تحدثنا فيه عبر مقامين:
الأول: في أقسام المرض وما يترتب عليها من أحكام، ورأينا أن الضابط هو: الضرر الذي يصيب الإنسان من الصوم لا غير، عبر قاعدة ذكرها الإمام الصادق عليه السلام بقوله: " كل ما أضرَّ به الصوم فالإفطار له واجب ". وقسمنا آثار الصوم إلى ثلاثة:
ا - الأثر اليسير الذي يتحمل عادة كالضعف ويجب معه الصوم.
2 - المشقة التي يصعب تحملها عادة، وهي تبيح الإفطار.
3 - الضرر العرفي، وهو يوجب الإفطار ويأثم الإنسان لو ارتكبه، ويتوقف فساد العبادة المنهي عنها على البحث الأصولي هنا.
الثاني: أن ضابط تشخيص المرض هو اليقين والظن وحتى الاحتمال، شريطة أن يكون الاحتمال عرفيًا.
والله أعلم.
محمد علي التسخيري(10/698)
المفطرات
إعداد
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
المستشار بمحكمة التمييز الكويتية سابقًا
بسم الله الرحمن الرحيم
المفطرات
توطئة ومدخل:
فرض الله على المسلمين أن يصوموا شهر رمضان في آيات بينات من كتابه العزيز، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) } . [البقرة: 183-185]
والمتأمل في هذه الآيات الكريمة يخرج بحصيلة نافعة من الفوائد، فقد مهد الله سبحانه وتعالى أن لهذه الفريضة تفضلًا منه وتطييبًا للنفوس وترغيبًا لها، بأن الصوم قد فرض - على جميع الأمم من لدن آدم إلى خاتم النبيين، وقرن ذلك بذكر الحكمة من إيجابه، فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وتقوى القلوب مطلب عزيز، فإنها رأس الحكمة ومشكاة الحياة الفاضلة وينبوع الإشراقات الإلهية، ومطمئن النفوس البشرية، من وصل إليها فقد وصل إلى أصل كل خير، وسبب كل نعمة مادية وأدبية، فإذا كان الصوم من العوامل التي تؤدي إلى هذه الفضيلة السامية وهي التقوى وجب أن يعنى المؤمنون بشأنه، وأن يهتموا بأمره، وأن يقوموا بحقه، ويؤدوه على وجهه. أمَّا أن الصوم كان مفروضًا على جميع الأمم، فقد أظهرته البحوث الاستقرائية للأديان في هذه العصور المتأخرة، وقد كان الناس عند نزول القرآن لا يعرفون من تاريخ العالم إلا ما كان بينهم وبينه اتصال، وكانت أكثر أقطار الأرض مجهولة لديهم، فتصريح القرآن بأن الصيام كان مفروضًا على الأمم السابقة كافة فيه إعجاز علمي ظاهر ليس يخفى على أحد. فالمصريون القدماء والصينيون والهنود يعتبرون من أقدم الأمم وجودًا، كانوا يصومون في جميع أعيادهم، وكان الصينيون يقومون بالصيام تعبدًا ويوجبونه على أنفسهم تحفظًا من شرور الفتن، وقد علم أن البراهمة كانوا ولا يزالون من أشد الأمم مراعاة للصيام.
أما اليونانيون القدماء والرومانيون فقد كانوا كغيرهم يعتدون بأمر الصيام ويأتونه دفعًا للنكبات الاجتماعية.(10/699)
تخفيف الإسلام للشدة المتوقعة من الصوم:
إن من الناس من يتفق أن يكون مريضًا في شهر رمضان أو أن يكون على سفر، والسفر قطعة من العذاب، ومن الناس من يكون شيخا كبيرًا طاعنًا في السن هرمًا يضره الإمساك عن الطعام، ومن النساء من تكون طامثًا أو نفساء، فاقتضت حكمة الله ورحمته أن يخفف وطأة الصيام عن هؤلاء، فقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 184]
أي: من كان مريضًا أو مسافرًا فعليه أن يفطر أيام مرضه أو سفره، ويصوم بدلًا أيامًا أخرى في غير رمضان في حال صحته أو إقامته.
قال العلماء: هذا على سبيل الرخصة، وقال داود الظاهري: بل على سبيل الوجوب، وقد تابع في ذلك رأي أبي هريرة، وقال القرطبي: للمريض حالتان:
إحداهما: ألا يطيق الصوم، فعليه الفطر واجبًا.
والثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل (1)
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/ 276، 280(10/700)
آراء العلماء في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] :
اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة، فقيل: إنها منسوخة وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام؛ لأنه شق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينًا ترك الصوم وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك - وهذا قول الجمهور - حكاه الشوكاني، وقال: وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة.
وكان الناسخ عند من قال بالنسخ قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . [البقرة: 185]
وهذا يتفق مع الحكمة العالية التي اتبعها الإسلام وهي عدم مفاجأة النفوس بالتكاليف، ولكن بالتدرج فيها حتى تألفها.
روى البخاري: وقال ابن نمير حدثنا الأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينًا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك، فنسختها {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . [البقرة: 184] (1)
وروى الطبري في تفسيره، قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: ثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن مرة، قال: حدثنا أصحابنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعا غير فريضة، قال: ثم نزل صيام رمضان، قال: وكانوا قومًا لم يتعودوا الصيام، قال: وكان يشتد عليهم الصوم، قال: فكان من لم يصم أطعم مسكينًا، ثم نزلت هذه الآية {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] فكانت الرخصة للمريض والمسافر، وأمرنا بالصيام. (2)
__________
(1) تفسير الطبري: 2/ 132، ط الحلبي؛ تفسير القرطبي: 2/ 288
(2) تفسير الطبري: 2/ 132، 133(10/701)
المفطرات:
الشريعة الإسلامية مبنية على اليسر والرحمة، ولم يقصد بتكاليفه عنتًا ولا إرهاقًا، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ، وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286]
وعلى سنن من هذين النصين وغيرهما من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الصوم لا يجب إلا على من تكاملت فيه شروط؛ وهو أن يكون مقيمًا سليمًا قادرًا على الصوم دون ضرر يلحقه أو مشقة ترهقه، أما من كان مريضًا أو مسافرًا فإنه قد أبيح له الإفطار مع وجوب القضاء عند الصحة والإقامة، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . [البقرة: 184]
وكذلك من يشق عليه الصوم لسبب لا يرجى زواله، ومنه الشيخوخة والمرض المزمن , والحمل والإرضاع المتواليان إذا خيف على الحامل والمرضع أو الرضيع، فقد أبيح لهؤلاء وأمثالهم الإفطار دون قضاء، واكتفى الشارع منهم أن يطعموا بدلًا عن كل يوم مسكينا كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] فالفدية لا تكون إلا بدلًا عن فائت، والإطاقة لا يعبر بها عن اليسر والسهولة، فلا يقال: فلان يطيق حمل التفاحة، وإنما يقال يطيق حمل هذه الصخرة، وإذن فهي تدل على العسر ومشقة الاحتمال. (1)
معنى المفطرات والمقصود منها:
يقال أفطر الصائم: تناول الطعام بعد صيامه، وفطَّر الصائم: جعله يفطر. (2)
والمعنى الشرعي لها مقارب للمعنى اللغوي ولا يختلف عنه؛ لأن الذي يجرح الصوم هو كل ما يتنافى ومعنى الصيام، سواء جاء من قبل الصائم نفسه وهو المعنى المفهوم من اللفظ (أفطر) أو من قبل الغير كالإكراه ونحوه وهو المعنى المستفاد من لفظة (فطَّر) بالتشديد.
والفقهاء بينوا أن كل ما يتنافى ومعنى الصيام مفسد للصوم، وذلك يرجع الحالات الآتية:
أ- تناول الطعام والشراب عمدًا والقيء عمدًا والحيض والنفاس والاستمناء والجماع، وهذه المفسدات منها ما يوجب القضاء دون الكفارة وهي ما عدا الأخير، ومنها ما يوجب القضاء والكفارة وهو الجماع. (3)
ومما يتعلق بإفساد الصوم الإثم إذا أُفسد بغير عذر؛ لأن إبطال الطاعة من غير عذر حرام لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . [محمد: 33] أما إذا أفسد الصوم بعذر فلا يأثم. (4)
__________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت، ص 111
(2) لسان العرب، مادة (فطر) والمعجم الوجيز مادة (فطر) و (أفطر) .
(3) فقه السنة: 3/ 248؛ وموسوعة الفقه الإسلامي: ج 26، مادة (صوم) .
(4) بدائع الصنائع: 4/ 1016(10/702)
وأما الأعذار المسقطة للإثم والمؤاخذة فهي:
أ- المرض:
وحدُّوه بأنه كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة. (1)
وقال في بدائع الصنائع: هو الذي يخاف أن يزداد بالصوم. (2)
وذكر عن الكرخي: أن المرض الذي يبيح الإفطار هو ما يخاف منه الموت أو زيادة العلة، كائنًا ما كانت العلة. وذكر عن أبي حنيفة أنه إن كان بحال يباح له أداء صلاة الفرض قاعدًا فلا بأس بأنه يفطر. (3)
وقال الكاساني: " والمبيح المطلق بل الموجب هو الذي يخاف منه الهلاك؛ لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة، لا لإقامة حق الله تعالى وهو الوجوب، والوجوب لا يبقى في هذه الحالة وأنه حرام، فكان الإفطار مباحًا بل واجبا ". (4)
ونقل القرافي آراء طائفة من العلماء في بيان حد المرض المبيح للفطر، فنقل عن ابن سيرين قوله: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر، قياسًا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة. (5)
قال طريف بن تمام العطاردي: دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال: إنه وجعت أصبعي هذه.
وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر، قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون. (6)
وقال: وأما لفظ مالك: فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به. وقال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر، فقال مرة: هو خوف التلف في الصيام. وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة. وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر، لأنه لم يخص مرضًا من مرض، فهو مباح في كل مرض إلا ما خصه الدليل من الصداع والحمى والمرض اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام.
وبعد أن سرد أقوال طائفة من العلماء قال: قلت: قول ابن سيرين أعدل شيء في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
__________
(1) المصباح المنير مادة (مرض)
(2) 2/ 1017
(3) بدائع الصنائع 2/ 1017
(4) بدائع الصنائع: 2/ 1017
(5) الجامع لأحكام القرآن: 2/ 276
(6) الجامع لأحكام القرآن: 2/ 276(10/703)
ونقل عن البخاري قال: اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله؟ فقلت: نعم. فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة. قلت: حدثنا عيدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من أي المرض أُفطر؟ قال: من أي مرض كان كما قال الله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} .
قال البخاري: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق. (1)
ويرى الطبري أن المرض الذي أذن الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان من كان الصوم جاهده جهدًا غير محتمل، فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر، وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمر، فإن لم يكن مأذونًا له في الإفطار فقد كلف عسرًا أو منع يسرًا، وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وأما من كان الصوم غير جاهده، فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم فعليه أداء فرضه (2)
وقال الشافعية: شرط إباحة الفطر للمريض العاجز عن الصوم أن يلحقه بالصوم مشقة يشق احتمالها، وأما المرض اليسير الذي لا يلحق به مشقة ظاهرة، لم يجز له الفطر بلا خلاف عندنا، خلافًا لأهل الظاهر.
وقالوا: المرض المجوز للفطر إن كان مطبقًا فله ترك النية بالليل، وإن كان يحم وينقطع ووقت الحمّى لا يقدر على الصوم، وإذا لم تكن حمى يقدر عليه، فإن كان محمومًا وقت الشروع في الصوم فله ترك النية، وإلا فعليه أن ينوي من الليل، ثم إن عاد المرض واحتاج إلى الفطر أفطر. (3) وعند الحنابلة، قالوا: المرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه، وقيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع. قيل: مثل الحمى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى؟ قال: وحكي عن بعض السلف: أنه أباح الفطر بكل مرض حتى من وجع الأصبع والضرس لعموم الآية فيه , (4) وهو ما ذكرناه عن ابن سيرين.
الرأي المختار: إذا كان المرض يشق معه الصوم على المريض أو يحتاج إلى تعاطي الدواء أثناء النهار فالفطر أولى، وإن كان غير ذلك فالصوم أفضل، المرد في ذلك إلى الطبيب المعالج الثقة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/ 277
(2) تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 2/ 150 والحلبي
(3) المجموع: 6/ 258؛ وانظر الموسوعة الفقهية: 28/ 46، مادة (صوم) .
(4) المغني: 2/ 133(10/704)
ويتعلق بالمرض مسألتان:
الأولى: وهي إن صام المريض هل يجزيه صومه عن فرضه أم لا؟
اختلف العلماء على رأيين:
الأول: وهو رأي الجمهور من العلماء؛ قالوا: إن صام المريض وقع صيامه وأجزأه.
الثاني: وهو رأي أهل الظاهر؛ ذهبوا إلى أنه لا يجزيه، وأن فرضه هو أيام أخر.
والسبب في هذا الاختلاف تردد الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] بين أن يحمل على الحقيقة فلا يكون هنالك محذوف أصلًا أو يحمل على المجاز فيكون التقدير، فأفطر فعدة من أيام أخر.
فمن حمل الآية على الحقيقة ولا يحملها على المجاز وهم الظاهرية قالوا: إن فرض المسافر عدة من أيام أخر، ومن قدَّر - فأفطر- قال: إنما فرضه عدة من أيام أخر إذا أفطر.
وكلا الفريقين يرجح تأويله بالآثار الشاهدة لكلا المفهومين , (1) وينسحب كل ما ذكرناه على المسافر أيضًا.
أما المسألة الثانية: وهي هل الصوم أفضل أو الفطر؟
قال ابن رشد: واختلف العلماء في الأفضل من الفطر، إذا قلنا: إنه من أهل الفطر على مذهب الجمهور، فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة مذاهب، فبعضهم رأى أن الصوم أفضل، وممن قال بهذا القول: مالك وأبو حنيفة، وبعضهم رأى أن الفطر أفضل، وممن قال بهذا القول: أحمد وجماعة، وبعضهم رأى أن ذلك على التخيير وليس أحدهما أفضل (2) وعزوه للشافعي.
__________
(1) بداية المجتهد: 1/ 250
(2) بداية المجتهد: 1/ 250؛ وانظر أيضًا المجموع: 6/ 258(10/705)
المفطرات بسبب العلاج:
تناول الفقهاء عددًا من المسائل التي تتصل بأمور العلاج التي كانت معروفة في زمنهم، وقد تباينت أنظارهم بشأنها؛ فمن قائل بأنها تتنافى وحكمة الصيام وأنها تؤثر على سلامة الصوم وصحته وهم الأكثر، ومن قائل: إنها غير جارحة للصوم وهم الأقل، وسنقف على تعليل كل فريق , ثم نستظهر آراء أئمتنا المعاصرين، ونسوق في هذا المقام النصوص الفقهية, قال الإمام النووي في شرحه للمهذب:
أما الأحكام فقال أصحابنا: أجمعت الأمة على تحريم الطعام والشراب على الصائم وهو مقصود الصوم، ودليله الآية الكريمة ويقصد قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، والإجماع، وممن نقل الإجماع فيه ابن المنذر.
قال الرافعي: وضبط الأصحاب الداخل المفطر بالعين الواصلة من الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح عن قصد مع ذكر الصوم.
قال: وفيه قيود:
منها: الباطن الواصل إليه، وفيما يعتبر به وجهان:
أحدهما: أنه ما يقع عليه اسم الجوف.
والثاني: يعتبر معه أن يكون فيه قوة تحيل الواصل إليه من دواء أو غذاء.
قال: والأول هو الموافق لتفريغ الأكثرين كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويدل عليه أنهم جعلوا الحلق كالجوف في إبطال الصوم بوصول الواصل إليه.
وقال إمام الحرمين: إذا جاوز الشيء الحلقوم أفطر وعلى الوجهين جميعًا باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة مما يفطر الوصول إليه بلا خلاف، حتى لو كانت ببطنه أو برأسه مأمومة - وهي الآمة - فوضع عليها دواء فوصل إلى جوفه أو خريطة دماغه أفطر، وإن لم يصل باطن الأمعاء وباطن الخريطة، وسواء كان الدواء رطبًا أو يابسًا عندنا.
وحكى المتولي والرافعي وجهًا أن الوصول إلى المثانة لا يفطر، واختاره القاضي حسين وهو شاذ. (1)
وأما الحقنة فتفطر على المذطب وبه قطع المصنف والجمهور، وفيه وجه قاله القاضي حسين لا تفطر وهو شاذ، وإن كان منقاسًا فعلى المذهب قال أصحابنا: سواء كانت الحقنة قليلة أو كثيرة وسواء وصلت إلى المعدة أم لا فهي مفطرة بكل حال عندنا.
__________
(1) المجموع: 6 / 313(10/706)
وأما السعوط فإن وصل إلى الدماغ أفطر بلا خلاف.
قال أصحابنا: وما جاوز الخيشوم في الاستعاط فقد حصل في حد الباطن وحصل به الفطر.
قال أصحابنا: وداخل الفم والأنف إلى منتهى الغلصمة والخيشوم له حكم الظاهر في بعض الأشياء حتى لو أخرج إليه القيء أو ابتلع منه نخامة أفطر.
وأما إذا قطر في إحليله شيئًا ولم يصل إلى المثانة أو زرق فيه ميلًا ففيه ثلاثة أوجه: أصحها يفطر وبه قطع الأكثرون، والثاني لا، والثالث إن جاوز الحشفة أفطر وإلا فلا.
ثم ذكر فروعًا منها:
لو أوصل الدواء إلى داخل لحم الساق أو غرز فيه سكينًا أو غيرها فوصلت مخه لم يفطر بلا خلاف لأنه لا يعد عضوًا أو جوفًا.
ولو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه فوصلت السكين جوفه أفطر بلا خلاف عندنا، سواء كان بعض السكين خارجًا أم لا.
ولو أدخل الرجل أصبعه أو غيرها دبره أو أدخلت المرأة أصبعها أو غيرها دبرها أو قبلها وبقي البعض خارجًا بطل الصوم باتفاق أصحابنا إلا الوجه الشاذ السابق عن الحناطي. (1)
ولو قطر في أذنه ماء أو دهنًا أو غيرهما فوصل إلى الدماغ فوجهان، أصحهما يفطر وبه قطع المصنف والجمهور. والثاني لا يفطر قاله أبو علي السنجي والقاضي حسين والفوراني وصححه الغزالي كالاكتحال، وادعوا أنه لا منفذ من الأذن إلى الدماغ وإنما يصله بالمسام كالكحل وكما لو دهن بطنه فإن المسام تتشربه ولا يفطر بخلاف الأنف، قال: السعوط يصل منه إلى الدماغ في منفذ مفتوح، ثم تناول مذاهب العلماء في بعض ما ذكرناه عنه وهي:
1- الحقنة: قال ذكرنا أنها مفطرة عندنا ونقله ابن المنذر عن عطاء والثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وحكاه العبدري وسائر أصحابنا أيضًا عن مالك، ونقله المتولي عن عامة العلماء، وقال الحسن بن صالح وداود: لا يفطر.
2 - لو قطر في إحليله شيئًا فالصحيح عندنا أنه يفطر كما سبق وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف، وقال أبو حنيفة والحسن بن صالح وداود: لا يفطر.
3 - السعوط إذا وصل للدماغ أفطر عندنا، وحكاه ابن المنذر عن الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة ومالك وإسحاق وأبي ثور. وقال داود: لا يفطر. وحكاه ابن المنذر عن بعض العلماء.
4- لو صب الماء أو غيره في أذنيه فوصل دماغه أفطر على الأصح عندنا، وبه قال أبو حنيفة وقال مالك والأوزاعي وداود: لا يفطر إلا أن يصل حلقه.
5 - ولو داوى جرحه فوصل الدواء إلى جوفه أو دماغه أفطر عندنا سواء كان الدواء رطبًا أو يابسًا، وحكاه ابن المنذر عن أبي حنيفة، والمشهور عن أبي حنيفة أنه يفطر إن كان دواء رطبًا وإن كان يابسًا فلا، وقال مالك وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وداود: لا يفطر مطلقًا.
6 - ولو طعن نفسه بسكين أو غيرها فوصلت جوفه أو دماغه أو طعنه غيره بأمره فوصلتهما أفطر عندنا. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يفطر. وقال أبو حنيفة: إن نفذت الطعنة إلى الجانب الآخر أفطر وإلا فلا. (2)
__________
(1) انظر المجموع: 6/ 314
(2) المجموع: 6/ 320(10/707)
ويتفق الحنفية مع الشافعية في كثير مما ذكرناه أيضًا، قال الكاساني: وأما ركنه - أي الصوم - فالإمساك عن الأكل والشرب والجماع؛ لأن الله تعالى أباح الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . [البقرة: 187] ، أي حتى يتبين لكم ضوء النهار من ظلمة الليل من الفجر، ثم أمر بالإمساك عن هذه الأشياء في النهار بقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فدل أن ركن الصوم ما قلنا، فلا يوجد الصوم بدونه.
وعلى هذا الأصل يتبين بيان ما يفسد الصوم وينقضه؛ لأن انتقاض الشيء عند فوات ركنه أمر ضروري، وذلك بالأكل والشرب والجماع، سواء كان صورة ومعنى، أو صورة لا معنى، أو معنى لا صورة، وسواء كان بغير عذر أو بعذر، وسواء كان عمدًا أو خطأً، طوعًا أو كرهًا بعد أن كان ذاكرًا لصومه لا ناسيًا ولا في معنى الناسي، والقياس أن يفسد وإن كان ناسيًا وهو قول مالك. (1)
وفي العلاج: قال: وما وصل إلى الجوف أو إلى الدماغ من المخارق الأصلية كالأنف والأذن والدبر بأن استعط أو احتقن أو أقطر في أذنه فوصل إلى الجوف أو إلى الدماغ فَسَدَ صومه، أما إذا وصل إلى الجوف فلا شك فيه لوجود الأكل من حيث الصورة، وكذا إذا وصل إلى الدماغ؛ لأن له منفذًا إلى الجوف، فكان بمنزلة زاوية من زوايا الجوف ...
وأما ما وصل إلى الجوف أو إلى الدماغ من غير المخارق الأصلية بأن داوى الجائفة أو الآمة، فإن داواها بدواء يابس لا يفسد لأنه لم يصل إلى الجوف ولا إلى الدماغ، ولو علم أنه وصل يفسد في قول أبي حنيفة، وإن داواها بدواء رطب يفسد عند أبي حنيفة وعندهما لا يفسد، هما اعتبرا المخارق الأصلية؛ لأن الوصول إلى الجوف من المخارق الأصلية متيقن به، ومن غيرها مشكوك فيه فلا نحكم بالفساد مع الشك.
وأما الإقطار في الإحليل فلا يفسد في قول أبي حنيفة، وعندهما يفسد، وأما الإقطار في قبل المرأة فقد قال مشايخنا: إنه يفسد صومها بالإجماع؛ لأن لمثانتها منفذًا فيصل إلى الجوف كالإقطار في الأذن. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع: 2/ 1006، 1007
(2) بدائع الصنائع: 2/ 1014(10/708)
وفي كتب الحنابلة: أنه يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في جسده كدماغه وحلقه ونحو ذلك مما ينفذ إلى معدته إذا وصل باختياره وكان مما يمكن التحرز منه، سواء وصل من الفم على العادة أو غير العادة كالوجور واللدود أو من الأنف كالسعوط، أو ما يدخل في الأذن إلى الدماغ أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل، أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة، أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه أو من دواء المأمومة إلى دماغه فهذا كله يفطره لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل، وكذلك لو جرح نفسه أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه، سواء استقر في جوفه أو عاد فخرج منه، وبهذا كله قال الشافعي، وقال مالك: لا يفطر بالسعوط إلا أن ينزل إلى حلقه، ولا يفطر إذا داوى المأمومة والجائفة، واختلف عنه في الحقنة واحتج له بأنه لم يصل إلى الحلق منه شيء، أشبه ما لم يصل إلى الدماغ ولا الجوف. (1)
وقال: فإن قطر في إحليله دهنًا لم يفطر به سواء وصل إلى المثانة أو لم يصل، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: يفطر. (2)
وقال: ومن استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه.
وحكي عن ابن مسعود وابن عباس أن القيء لا يفطر، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: ((ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة والقيء والاحتلام)) ولأن الفطر بما يدخل لا بما يخرج.
واستدل القائلون بالفطر بحديث أبي هريرة: ((من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عامدًا فليقض)) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ورواه أبو داود وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وردوا الحديث الأول وقالوا: إنه غير محفوظ يرويه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف في الحديث، قاله الترمذي.
والحديث الثاني الذي استدل به القائلون بالفطر أنكره أحمد والبخاري وأبو داود، وجزموا بأنه غير محفوظ، وقال النسائي: وقفه عطاء على أبي هريرة. (3)
__________
(1) المغني، لابن قدامة: 3/ 96
(2) المغني، لابن قدامة: 3/ 100
(3) انظر المغني: 3/ 157(10/709)
مذاهب العلماء في الحجامة:
ذكر النووي أن مذهب الشافعية: لا يفطر بها لا الحاجم ولا المحجوم، وبه قال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأم سلمة وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشعبي والنخعي ومالك والثوري وأبو حنيفة وداود وغيرهم.
وقال جماعة من العلماء: الحجامة تفطر وهو قول علي بن أبي طالب وأبي هريرة وعائشة والحسن البصري وابن سيرين وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة، قال الخطابي: قال أحمد وإسحاق: يفطر الحاجم والمحجوم وعليهما القضاء دون الكفارة. وقال عطاء: يلزم المحتجم في رمضان القضاء والكفارة. (1)
__________
(1) المجموع: 6/ 349؛ المغني: 3/ 94؛ ويراجع في كل ما تقدم الموسوعة الفقهية مصطلح صوم: ج/ 28(10/710)
آراء الأئمة المعاصرين في مسائل العلاج في حق الصائم:
1- رأي الشيخ محمود شلتوت- رحمه الله-:
" قال رحمه الله في كتابه الفتاوى (1) : الحقن كلها لا تفطر.
وإذا كان من محظور الصوم الأكل والشرب - وحقيقتهما دخول شيء من الحلق إلى المعدة - والمعدة هي محل الطعام والشراب من الإنسان وقالوا: إنها كالحويصلة للطائر والكرش للحيوان, كان المبطل للصوم ما دخل فيها بخصوصها سواء أكان مغذيًا أم غير مغذٍّ، ولا بد من المنفذ المعتاد، ومن أجل هذا فما دخل الجوف، ولكن لم يصل إليها لا يفسد الصوم.
فالحقنة الشرجية يدخل بها الماء إلى الجوف، ولكن لا يصل إليها فلا تفطر، والحقن الجلدية أو العرقية يسري أثرها في العروق ولا تدخل محل الطعام والشراب فلا تفطر، نعم قد يحدث بعضها نشاطًا في الجسم وقوة عامة، ولكن لا تدفع جوعًا ولا عطشًا، ومن هنا لا تأخذ حكم الأكل أو الشرب وإن أدت شيئًا من مهمته، وإذا كان هذا هو الأصل في الإفطار وكانت الحقن بجميع أنواعها لا تفطر الصائم فإن أقماع البواسير أو مراهمها أو الاكتحال أو التقطير في العين، كل ذلك لا تأثير بشيء منه على الصوم، فهو ليس بأكل في صورته ولا في معناه، وهو بعد لا يصل إلى المعدة محل الطعام والشراب ".
__________
(1) الفتاوى، ص 136(10/711)
2- رأي الشيخ سيد سابق:
قال: " الحقنة مطلقا سواء أكانت للتغذية أم لغيرها، وسواء أكانت في العروق أم تحت الجلد فإنها وإن وصلت إلى الجوف، فإنها تصل إليه من غير المنفذ المعتاد ".
وقد سبقهما إلى هذا الرأي ابن تيمية، حيث قال فيما نقله عنه الشيخ سيد سابق في كتابه فقه السنة: أما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لا يفطر بالكحل ولا بالتقطر، ويفطر بما سوى ذلك.
ثم قال مرجحًا الرأي الأول: والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين الإسلام، الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام.
فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلًا، علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك - إلى أن قال: - وكذلك الحقنة لا تغذي بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شم شيئًا من المسهلات أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة.
والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه.
إلى أن قال: فالصائم نهي عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوى , فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان إنما يتولد من الغذاء لا عن حقنة ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر ولا ما يداوى به المأمومة والجائفة. اهـ (1)
__________
(1) فقه السنة: 3/ 244، 247(10/712)
الإغماء وزوال العقل وأثرهما على الصوم:
الإغماء في اللغة فقد الحس والحركة لعارض (1) , وأغمي عليه عرض له ما أفقده الحس والحركة فهو مغمى عليه، ومن زال عقله بسبب غير محرم كمن جن أو أغمي عليه أو زال عقله بمرض أو بشرب دواء لحاجة أو أكره على شرب مسكر فزال عقله ففي هذه الحالات لا يلزمه الصوم، ونقل النووي عن المزني أنه يصح صوم المغمى عليه وإن كان لا يلزمه الصوم على القول الأخير أيضا لأنه غير مكلف. (2) . واختلفوا في وجوب القضاء عليه.
قال النووي: يجب القضاء على المغمى عليه سواء استغرق جميع رمضان أو بعضه.
قال: وحكى الأصحاب وجهًا عن ابن سريج أن الإغماء المستغرق لجميع رمضان لا قضاء فيه كالجنون، وكما لا يجب عليه قضاء الصلاة، قال: هكذا نقل الجمهور عن ابن سريج، ونقل البغوي عنه أنه إذا استغرق الإغماء رمضان أو يوما منه لا قضاء عليه. قال: واختار صاحب الحاوي قول ابن سريج هذا في أنه لا قضاء على المغمى عليه، ثم قال: والمذهب وجوب القضاء عليه. (3)
ثم قال: ومن زال عقله بمرض أو بشرب دواء لحاجة أو بعذر لزمه
قضاء الصوم دون الصلاة، كالمغمى عليه.
وأخيرًا التخدير وإجراء العمليات وأثرهما على الصوم:
التخدير في الطب عملية إفقاد الإحساس بالألم (4) ,عن طريق الحقن، وقد سبق أن بينا مذاهب العلماء في الحقن على اختلافها، وأنها على رأي المتأخرين من محققي العلماء أنها لا تفطر، فينقاس عليها حقن التخدير، ومن ثم فإن العمليات التي لا يحتاج صاحبها إلى تناول الطعام المعتاد بالطرق الاعتيادية طيلة النهار فإن صومه صحيح، وهو رأي المزني، ولا قضاء عليه وهو مذهب ابن سريج وصاحب الحاوي الإمام أبي الحسن الماوردي، وقال النووي:
" قال أصحابنا يجوز شرب الدواء المزيل للعقل للحاجة، وقال: ولو احتيج في قطع يده المتآكلة إلى تعاطي ما يزيل عقله فوجهان: أصحهما جوازه، وقال: وإذا زال عقله والحالة هذه لم يلزمه قضاء الصلوات بعد الإفاقة لأنه زال بسبب غير محرم ". (5)
أما صحة الصوم وقضاؤه فقد سبق بيانه وذكرنا مذاهب العلماء في صحة صومه وحكم القضاء، وأن الأصل الذي ينقاس عليه هو الإغماء , وقد بينا حكم صوم المريض قبل هذا في أول البحث وفي أثنائه، فلا نعيد القول فيه.
__________
(1) الوسيط مادة (غم)
(2) المجموع: 6/ 254؛ والمجموع أيضا: 3/ 6، 7
(3) المجموع 6/ 255
(4) المعجم الوجيز مادة (خدر)
(5) المجموع: 3/ 7(10/713)
خلاصة البحث
أولًا: الصوم عبادة عظيمة شرعها المولى عز وجل لمصلحة الإنسان، حيث تنمي فيه روح المراقبة التي هي مشكاة الحياة الفاضلة وسبب كل نعمة مادية وأدبية.
ثانيًا: كذلك فإن الصوم كان مفروضًا على جميع الأمم، وهو ما أثبته البحث الاستقرائي، فتصريح القرآن الكريم به فيه إعجاز علمي ظاهر.
ثالثًا: لما كان الصوم فيه بعض المشقة، ومن الناس من يتفق أن يكون مريضًا أو أن يكون على سفر، والسفر قطعة من العذاب، ومن الناس من يكون شيخًا كبيرًا طاعنًا في السن هرمًا يضره الإمساك عن الطعام والشراب، ومن النساء من تكون طامثًا أو نفساء؛ فاقتضت حكمة الله ورحمته أن يخفف وطأة الصيام عن هؤلاء، فأباح لهم الفطر في أيام السفر والمرض، ويصومون بدلًا عنه أيامًا أخرى في غير رمضان.
رابعًا: المرض من الأعذار المسقطة للصوم، وعرفوا المرض بأنه ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة، أو هو الذي يخاف أنه يزداد بالصوم أو ما يخاف منه الهلاك، وقال جمهور العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر.
خامسًا: المريض إذا صام صح صومه، وهو الرأي المختار وهو رأي جمهور العلماء.(10/714)
سادسًا: أجمعت الأمة على تحريم الطعام والشراب على الصائم وضبط العلماء الداخل المفطر: بالعين الواصلة من الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح عن قصد مع ذكر الصوم، والباطن الواصل إليه هو: ما يقع عليه اسم الجوف أو ما يعتبر معه أن يكون فيه قوة تحيل الواصل إليه من دواء أو غذاء، وهو باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة في قول جمهور العلماء.
سابعًا: وقد اختلف العلماء في جملة من المسائل كالحقنة والسعوط والتقطير في الإحليل، ودواء الجروح إذا وصل إلى الدماغ أو الجوف والحجامة.
ثامنًا: ذهب المعاصرون من العلماء ومنهم الشيخ شلتوت شيخ الأزهر الأسبق والشيخ سيد سابق، وسبقهما شيخ الإسلام، من ابن تيمية، إلى أن الحقن بجميع أنواعها غير مفطرة، وبه نأخذ.
تاسعًا: الإغماء وزوال العقل بغير تعد، وتناول الأدوية المزيلة للعقل بقصد العلاج مما اختلف العلماء فيه، فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن تناول الأدوية المغيبة للعقل جائز ولا يلزمه الصوم ويلزمه القضاء، وقال المزني: يصح صومه، وقال ابن سريج: لا يلزمه القضاء، وبه نأخذ. وعليه فالتخدير بالحقن وإجراء العمليات التي لا يحتاج صاحبها إلى تناول الطعام بالطرق الاعتيادية عن طريق الفم، ولو تناولها من طريق الحقن ولو مغذية لا يجرح صومه ولا يلزمه القضاء ... والله أعلم.
وهذا ما تيسر لنا جمعه في هذه العجالة.
أسأل الله تعالى أن ينفع به إنه سميع مجيب، وأن يتقبل عملنا ويجعله خالصًا لوجهه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د.. عبد الله محمد عبد الله(10/715)
المفطرات
في مجال التداوي
إعداد
الدكتور محمد علي البار
المستشار بمركز الملك فهد للبحوث الطبية
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
تعريف الصوم وتعريفات الجوف
تثور مشكلات جمة في مفطرات الصوم في مجال التداوي. ويقع العامة في حرج عندما تتضارب الفتاوى وتتناقض ... وقد أحسن مجمع الفقه الإسلامي صنعًا بإدراج هذه القضية للبحث في دورته التاسعة (الموضوع الثامن) .
ويبدو - والله أعلم - أن سبب التباين في فتاوى العلماء الأجلاء هو اختلافهم في بعض التعريفات، ومن أهمها تعريف الجوف، مع غموض بعض الإجراءات الطبية وعدم وضوحها في أذهان بعض العلماء الأجلاء، وعدم معرفة مدى تأثيرها في موضوع الصوم.
لهذا كله لا بد أولًا من مناقشة هذه التعريفات قبل الخوض في مفردات هذه القضية.
تعريف الصوم: الصوم لغة هو الإمساك والكف عن الشيء يقال:
صام عن الكلام، أي أمسك عنه قال تعالى أخبارا عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي صمتًا وإمساكًا عن الكلام. وتقول العرب: صام النهار إذا وقف سير الشمس وسط النهار عند الظهيرة. وقال الشاعر يصف الخيل:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي خيل ساكنة صامتة (خيل صيام) وأخرى تصهل وتتحرك، وكأنها من شدة حركة فمها تعلك اللجم.
والصوم شرعًا: هو الامتناع الفعلي عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس من أهله بنية ... وأهله هو المسلم العاقل غير الحائض أو النفساء. والنية: هي عزم القلب على إيجاد الفعل جزمًا دون تردد، لتمييز العادة عن العبادة.
قال تعالى: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . [البقرة: 187]
فهذه الأشياء الثلاثة (الأكل والشرب والجماع) هي التي منع منها الصائم من الفجر إلى غروب الشمس ... ففي الحديث الصحيح: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي)) (1)
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.(10/716)
تعريف الجوف لغة (1)
يطلق الجوف في اللغة على كل شيء مجوف، وجوف الإنسان بطنه. والأجوفان: البطن والفرج، والجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف. وفي الحديث الشريف ((في الجائفة ثلث الدية)) . أجافه الطعنة وبها: أصاب بها جوفه.
والجوف من كل شيء باطنه الذي يقبل الشغل والفراغ , والجمع أجواف , وجوف الليل ثلثه الأخير، وفي الحديث: ((أي الليل أسمع؛ قال: جوف الليل الأخير)) . وجوف الأرض: باطنها وما اتسع من الأرض وانخفض فصار كالجوف. وجوف الوادي بطنه، والجوف: المطمئن من الأرض، والجوف: اسم لناحية بعمان واليمن والسعودية.
(والجوف) السعة. والجوف: الأسد العظيم الجوف. والجوفاء من الدلاء: الواسعة، ومن القنا والشجر الفارغة. وجوائف النفس ما تقعر من الجوف في مقار الروح. ومجوف (كمخوف) العظيم الجوف. ومن الدواب الذي يصعد البلق (البياض) منه حتى يبلغ البطن. المجوف أيضا من لا قلب له. والجوفي نوع من السمك. وتجوف الشيء دخل جوفه. واستجاف المكان وجده أجوفًا. واجتافه وتجوفه: دخل جوفه.
والجوف الخلاء، وهو مصدر من باب تعب، فهو أجوف، والاسم الجوف. هذا أصله ثم استعمل فيما يقبل الشغل والفراغ، فقيل: جوف الدار لباطنها. وجوَّفته تجويفًا: جعلت له جوفًا. وقيل للجراحة: الجائفة، إذا وصلت الجوف، فلو وصلت إلى جوف العظم لم تكن جائفة لأن العظم لا يعد مجوفًا.
وجَافَهَ الصيد: أي أدخل السهم في جوفه، ولم يظهر من الجانب الآخر. وجَافَهَ الدواء أدخله جوفه.
والجائفة: العيب العظيم، وهي أيضًا الطعنة التي تبلغ الجوف أو التي تخالط الجوف أو التي تنفذ.
__________
(1) القاموس المحيط، للفيروزآبادي: 3/ 129؛ والصحاح للجوهري: 4/ 1339؛المصباح المنير للفيومي؛ القاموس الفقهي؛ كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوني؛ والمعجم الوسيط، للدكاترة إبراهيم أنيس وعبد الحليم منتصر وعطية الصوالحي ومحمد خلف الله (الطبعة الثانية) .(10/717)
وعند المالكية: الجائفة هي التي تصل إلى الجوف وتختص بالبطن والظهر، وهي ما أفضى إلى الجوف ولو بمغرز إبرة.
وعند الأحناف: هي التي بلغت الجوف أو نفذته ... وهي ما بين اللبة (أسفل العنق وأول الصدر) والعانة. ولا تكون الجائفة في العنق والحلق والفخذ والرجل. وهي تختص بجوف البطن أو جوف الرأس.
وعند الشافعية: الجائفة جرح ينفذ لجوف باطن محيل للغذاء أو الدواء (أي الجهاز الهضمي) أو طريق للمحيل كبطن وصدر وثغرة نحر، وجنبين.
وعند الحنابلة والزيدية: الجائفة ما وصل إلى جوف العضو، وظهر وصدر، وورك وعنق وساق وعضد، مما له جوف.
ولا يحدد الظاهرية والجعفرية والإباضية الجوف إلا بالبطن.
والجوف هو من ثغر النحر إلى المثانة. وفي الحديث الشريف ((لا تنسوا الجوف وما وعى)) أي ما يدخل إليه من الطعام والشراب ويجمع فيه. ا. هـ (1)
وجاء في كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوني: " الجوف لغة التقعير. ويطلق في الطب - في زمنه آنذاك - على شيئين: (أحدهما) : وهو الجوف الأعلى، ويحتوي على آلات التنفس وهو الصدر. و (الثاني) : الجوف الأسفل، وهو الحاوي لآلات الغذاء، وقد فصل بينهما بالحجاب الموارب - يسمى الآن الحجاب الحاجز - صيانة لأعضاء التنفس خصوصًا القلب - القلب ليس من أعضاء التنفس - عن مضارات الأبخرة والأدخنة التي لا يخلو عنها طبخ الغذاء. كذا في (بحر الجواهر) , أي كتاب (بحر الجواهر) وهو كلام غير صحيح، وغير مقبول في الطب الحديث.
__________
(1) القاموس الفقهي (باختصار وتصرف)(10/718)
والأجوف عند الصرفيين: لفظ عينه حرف علة، ويسمى معتل العين، كقول وبيع، وباع.
وعند الأطباء: هو اسم عرق نبت من محدب الكبد لجذب الغذاء منه إلى الأعضاء، وإنما سمي به لأن تجويفه أعظم من باقي العروق. وهما أجوفان: الأجوف الصاعد والأجوف النازل، وكل منهما متشعب بشعب مختلفة.
قلت: هذا الكلام غير دقيق، فهناك وريدان: (أحدهما) يعرف باسم الوريد الأجوف السفلي، ويأتي بالدم من البطن بما فيها الكبد، ومن الطرفين السفليين، ويدخل إلى القلب بعد أن يخترق الحجاب الحاجز، ويصل مباشرة إلى الأذين الأيمن ويصب فيه. و (الثاني) هو الوريد الأجوف العلوي وهو يجمع الدم من الرأس والدماغ والطرفين العلويين والصدر، ويصب كذلك في الأذين الأيمن من القلب.
ثم قال التهانوني: " والأجوفان: البطن والفرج، والعصبان المجوفان الكائنان في العينين، وليس في البدن غيرهما عصب مجؤف ثابت من الدماغ ".
قلت: وهذا أيضًا كلام خطأ، إذ أن عصب الإبصار غير مجوف.
ويستمر التهانوني في تعريفاته فيقول: " وقد يطلق الأجوف على معاء مخصوص كما قرر في علم التشريح " وهو كلام غير دقيق. فكل الأمعاء مجوفة، ولعله يقصد المعي الصائم، لأنه خالي من الطعام معظم الوقت، ولذا قيل له " الصائم ".(10/719)
__________(10/720)
الجوف في جسم الإنسان (في الطب الحديث) :
في جسم الإنسان تجاويف عدة، فهي لا تقتصر على التجويف البطني الذي يطلق عليه في العادة لفظ الجوف، فهناك التجويف الصدري، وهو مغطى بالغشاء البلوري ويحوي الرئتين، ولكل رئة غشاء بلوري، وهو غشاء مصلي رقيق محيط بالرئة، وآخر متصل بالقفص الصدري. كما أن في التجويف الصدري: القلب، ويقع في وسط التجويف مائلًا قليلًا إلى جهة اليسار. والقلب مغطى بغشاء يسمى التامور والغشاء الخارجي منه غليظ سميك، أما الداخلي المحيط بعضلة القلب فهو رقيق.
وفي القلب ذاته أربعة تجاويف فهناك الأذينان (الأيمن والأيسر) في أعلى القلب، وفي كل واحد منهما يتجمع فيه الدم، كما أن البطينان (الأيمن والأيسر) وهما أكبر وأغلظ من الأذينان، ومن الأيمن يضخ الدم إلى الرئة، ومن الأيسر يضخ الدم إلى كافة أجزاء الجسم. وقد كان القدماء يعتقدون أن الروح (الحيواني) تتولد في البطن الأيسر من القلب، إلى أن جاء ابن النفيس القرشي وشرح الحيوان والإنسان، وقال: أن الدم يذهب من البطن الأيسر إلى الرئتين، ثم يعود منها بعد أن يخالطه الروح (الهواء) ويتصفى فيعود إلى البطن الأيسر الذي يضخ الدم إلى كافة أجزاء الجسم عبر الشريان الأورطي (الأبهر) . وقد سبق بذلك وليام هارفي بأربعة قرون في وصف الدورة الدموية ... وللأسف فإن الغرب يرجع الفضل في هذا إلى وليام هارفي ويتناسى ابن النفيس.
وفي عظام الوجه تجاويف عدة تعرف بالجيوب الأنفية، وهي ترخم الصوت وتخفف من وزن الرأس، ولها إفرازات هي التي تصل إلى البلعوم
الأنفي nasopharynx ومنه إلى البلعوم الفموي Oropharynx المعروف بالحلق. وهذه الإفرازات هي التي كان القدماء يظنونها تأتي من الدماغ ويقولون: أن البلغم (أي أن هذه الإفرازات) مادة باردة تنزل من الدماغ. وهناك نوع آخر من البلغم يصعد من الشعيبات (القصبات) الرئوية ويصل إلى الحلق. وهي إفرازات مخاطية تدفعها شعيرات دقيقة في القصبات الرئوية إلى أعلى، لكي تطرد المواد الغريبة مثل ذرات الغبار والدخان والميكروبات حتى لا تصل إلى الحويصلات الهوائية (alveoli) والتي يطلق عليها أيضًا الأسناخ الرئوية.(10/721)
وقد تحدث الفقهاء عن هذا البلغم الذي قد يكون ثخينًا فيسمى النخامة. وسواء كان هذا البلغم نازلًا من الجيوب الأنفية (كان القدماء يعتقدون أنها من الدماغ) أو صاعدًا من القصيبات الرئوية، فإن بصقه لا يؤثر على الصيام ... واختلف الفقهاء في بلعه بعد وصوله إلى الحلق؛ فمنهم من قال بأن ذلك يسبب الإفطار ويفسد الصيام ويوجب القضاء، ومنهم من نفى ذلك، ومنهم من فصل: فإن كان البلغم قد وصل إلى الفم وبلعه متعمدًا فيفطر، وإلا فهو معذور.
والريق وهو إفرازات الغدد اللعابية الموجودة على (الفكين الأعلى والأسفل) لا يسبب بلعه الإفطار إلا إذا تجمع في الفم، وأمكن الإنسان بصقه وتعمد بلعه، وهو أيضًا محل خلاف بين الفقهاء.
وفي الجمجمة تجويف يشغله الدماغ وأغشية الدماغ (السحايا) والسائل المخ - شوكي (Cereboro spinal fluid) ويتولد هذا السائل في البطنين الجانبيين (الوحشيين) من الدماغ، ثم يسيل هذا السائل إلى البطن الثالث من الدماغ أو منه إلى البطن الرابع، ثم يخرج عبر فتحة بعد البطن الرابع من الدماغ ليصل إلى أغشية الدماغ الخارجية، فيسير بين الأم الجافة Dura mater وهي الغشاء الغليظ الخارجي للدماغ، والأم الحنونpia mater وهي الغشاء الرقيق الملتصق بالدماغ. وتبدأ من هناك عملية امتصاصه، ليذهب إلى الأوردة والجيوب الوريدية الموجودة في القحفة والجمجمة، كما يسير هذا السائل في الغشاء المحيط بالنخاع الشوكي (الحبل الشوكي) spinal cord ووظيفته حماية الدماغ والنخاع الشوكي من الهزات والارتطامات والصدمات.
ويفرز الدماغ 500 مليلتر (نصف لتر) يوميًا من هذا السائل، ويتم امتصاصه كذلك يوميًا، وفي أي لحظة من اللحظات يوجد 150 مليلتر من هذا السائل الهام جدا في الحفاظ على سلامة الدماغ والنخاع الشوكي، وهو كما أسلفنا محيط بالدماغ، حتى أن الدماغ ليطفو فيه.
ولا يصل شيء من هذا السائل إلى الأنف إلا في حالة كسر في قاع الجمجمة، وهي حالة خطيرة قد تستدعي تدخلًا جراحيًا ... وليس البلغم الموجود في الأنف أو البلعوم الأنفي من الدماغ كما كان يعتقده القدماء.
ولكن هل إذا حدث كسر في قاع الجمجمة ووصل هذا السائل إلى الأنف ومنه إلى البلعوم الأنفي والحلق؛ يفطر الإنسان إذا كان صائما؟ قضية تحتاج إلى بحث وإلى إعادة السؤال عما هو المقصود بالجوف وما هو المقصود بالصيام. وستأتي مناقشة ذلك فيما بعد.
وليس لبطون الدماغ ولا للسائل المخ - شوكي أي علاقة بالجهاز الهضمي، وبالتالي فإن كل ما ذكره الفقهاء من أن ذلك سبب للإفطار لا أساس له من الصحة، فالمأمومة ومداواتها وبطون الدماغ كلها بعيدة كل البعد عن الجوف المقصود في الصيام.(10/722)
وهناك تجاويف كثيرة في الإنسان، ومنها تجويف الفرج (القبل) المعروف طبيًّا باسم المهبلvagina. وهو في الواقع ليس تجويفًا؛ لأن الجدارين (الأمامي والخلفي) ينطبقان على بعضهما، ولا يوجد فراغ ولا تجويف، ولكن هذين الجدارين مرنان جدا فيتسعان عند الجماع والإيلاج بحيث يتقبل إدخال الذكر، كما أنه يتسع لخروج الجنين عند الولادة ونزول الدم عند الحيض أو النفاس.
وفي الرحم تجويف صغير جدًّا لا يتسع في المرأة الخروص التي لم تحمل وتلد إلا لمليلترين فقط، ولكنه يزيد زيادة مهولة في أثناء الحمل ليحمل الجنين والأغشية المخاطية المحيطة به والسائل الأمينوسي (الرهل) الذي يصل إلى ألف مليلتر، كما أن وزن الجنين قبيل الولادة يصل إلى ثلاثة كيلو جرامات أو أكثر، وبالتالي فإن سعة الرحم بما يحمله من جنين وأغشية وسائل الرهل تصل إلى قرابة خمسة آلاف مليلتر (خمسة لترات) .
والبطن كلها تعتبر جوفًا في اللغة العربية كما أسلفنا في التعريف اللغوي، وهي مغطاة من الداخل بالغشاء البيريتوني، وهو غشاء مصلي رقيق له جدار ثخين نسبيًا متصل بجدار البطن وآخر رقيق يحيط بأحشاء (المعدة والأمعاء والكبد والطحال ويغطي السطح الخارجي للبنكرياس وتقع الكلى خلفه) . وهو غشاء معقد التركيب وله ثرب كبير greater omentum. وثرب صغير.LESSER omentumويقع الكبير على المعدة من الأمام ومن أسفل، بينما يقع الصغير خلفها.(10/723)
__________(10/724)
وتجويف البطن (1) هو الجزء الذي ينحصر بين عضلة الحجاب الحاجز من أعلى، وبين الحاجب الحوضي من أسفل، ويحده من الخلف العمود الفقري والعضلات المحيطة به وما يسمى بجدار البطن الأمامية والشراشيف وهي نهايات الأضلاع وغضاريفها.
وينقسم تجويف البطن إلى جزئين رئيسين هما: تجويف البطن الحقيقي وهو الجزء الأكبر، ويقع أعلى الجزء السفلي المعروف بتجويف الحوض. والثاني هو تجويف الحوض.
ويحتوي تجويف البطن على أعضاء مختلفة من الجهاز الهضمي والجهاز البولي وأوعية دموية وغدد صماء وغير صماء وأعصاب وغدد لمفاوية وطحال. وتعتبر الكبد والبنكرياس من امتدادات الجهاز الهضمي، حيث تنمو من الأنبوب (القناة) الهضمي في الجنين.
ويحتوي تجويف الحوض على أجزاء من الجهاز البولي (المثانة، نهاية الحالبين، الإحليل) والبروستاتة (الموثة) بالنسبة للرجل والجهاز التناسلي (تقع الخصيتين خارج البدن في كيس الصفن، لعدم تحملها حرارة الجسم، وتهاجر من البطن في الجنين وتخرج عبر قناة خاصة في الشهر السابع من الحمل) ، بالإضافة إلى المستقيم والقولون السيني والغدد اللمفاوية وأوعيتها، والأوعية الدموية والأعصاب. ويغطي معظم التجويف البطني غشاء مصلي يعرف باسم البريتونpertonium وهو عبارة عن كيس مصلي مقفل من كل نواحيه، ويتوسط بين جدار البطن الأمامية وأحشاء تجويف البطن. ويتكون البريتون من طبقتين (إحداهما) خارجية تبطن جدار البطن الأمامي (والثاني) داخلية غائرة تلتصق بمختلف الأحشاء viscera ولذا فهي تعرف بالطبقة الحشوية visceral layer. وهي تحيط بالأحشاء إما إحاطة تامة مع مساريقا mesentry أو جزئية حسب مقتضيات الحال لكل عضو.
ويعتبر كثير من الفقهاء (الجائفة) وهي الطعنة التي تصل إلى الجوف (التجويف البريتوني) مسببة للإفطار ومفسدة للصيام.
__________
(1) د. شفيق عبد الملك: مبادئ علم التشريح ووظائف الأعضاء، ص 227 وما بعدها.(10/725)
__________(10/726)
الجهاز الهضمي:
والجهاز الهضمي من أوله إلى آخره أنبوب مجوف إلا أنه يضيق في مواضع مثل المريء، ويتسع في مواضع مثل المعدة ... وهو على الحقيقة الجوف المقصود في الصيام، إذ هو موضع الطعام والشراب وكل ما يدخل إلى الجهاز الهضمي متجاوزًا الفم والبلعوم يكون سببًا للإفطار ومفسدًا للصيام وذلك في نهار رمضان (أو نهار الصيام إذا كان من غير رمضان) ولا بد أن يكون الشخص عامدًا فالناسي ليس مفطرًا، وإنما أطعمه الله وسقاه كما جاء في الحديث الشريف (1) ولا يشترط أن يكون ما دخل الجوف (المقصود الجهاز الهضمي) طعامًا أو شرابًا فقط، وإنما يدخل في ذلك الدواء بل والدخان.
وهناك خلاف بين الفقهاء حول الدخان (المقصود أي دخان) ولا بد من إدخاله عمدًا وتجاوزه الفم إلى البلعوم (الحلق) وقد يصل إلى الحلق (المقصود البلعوم) عن طريق الأنف بواسطة صلة البلعوم الأنفي بالبلعوم ... فكل ما دخل إلى الأنف من السوائل وغيرها ووصل إلى الحلق (البلعوم) وابتلعه الإنسان يعتبر مفسدا للصيام عند جمهور الفقهاء.
ومن المعلوم أن هناك قناة ما بين العين والأنف، فإذا وضع الإنسان قطرة في عينه فإنها تصل إلى الأنف، ومن الأنف قد تصل إلى البلعوم، ولذا اعتبرها كثير من الفقهاء مسببة للإفطار ومفسدة للصيام.
وهناك فتحة في الأذن الوسطى وتتصل بقناة أستاكيوس التي تصل إلى البلعوم وتعرف بالقناة البلعومية السمعية، ولكن الأذن الخارجية (وتشمل الصيوان وقناة السمع الخارجية) تفصلها عن الأذن الوسطى الطبلة وهي غشاء جلدي. ولهذا فإن إفرازات الأذن الخارجية أو وضع قطرات من الدواء أو الماء أو أي سائل في الأذن الخارجية لا تصل إلى الأذن الوسطى، وبالتالي لا تصل إلى القناة السمعية البلعومية (قناة أستاكيوس) إلا إذا كانت طبلة الأذن مخروقة.
وفي الحالات العادية فإن وضع عود في الأذن أو وضع قطرة دواء في الأذن أو نقطة من ماء فإنها لا تصل إلى الأذن الوسطى، وبالتالي لا تصل إلى البلعوم إلا عن طريق المسام الموجودة في الطبلة، وبما أن الطبلة تشبه الجلد فتأخذ حكمه ... ولا يوجد من يقول: أن وضع الماء على الجلد يسبب الإفطار.
ولهذا من يقول من الفقهاء بأن إدخال عود أو وضع قطرة من الدواء في الأذن (والطبلة غير مخروقة) مفسد للصيام لا حجة له في ذلك. أما إذا كانت الطبلة مخروقة وبالتالي يمكن وصول قطرات إلى البلعوم، فإن هناك وجه لهذا القول، وإن كان ما يصل إلى البلعوم منها ضئيل جدًّا، وربما كان أقل مما يصل إلى البلعوم بعد المضمضة بغير مبالغة.
__________
(1) عن أبي هريرة يرفعه: (من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) رواه الجماعة. وفي رواية الدارقطني: (إذا أكل الصائم ناسيًا أو شرب ناسيًا فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه) .(10/727)
__________(10/728)
البلعوم (1) هو جزء القناة الهضمية الذي يلي تجويف الفم، وهو عبارة عن قناة عضلية (تجويف) غشائية مخاطية، يبلغ طولها 14 سنتمترا، تمتد أمام الفقرات العنقية الست العليا، وتنشأ أكثر عضلاتها من قاعدة الجمجمة.
وينقسم تجويف البلعوم إلى ثلاثة أجزاء:
(الأول) الجزء العلوي خلف تجويف الأنف، ويعرف بالبلعوم الأنفي Nasopharyax وهو الذي تصل إليه إفرازات الأنف والجيوب الأنفية، وما يوضع في الأنف من دواء أو بخاخ أو دخان، كما يصل إليه عن طريق الأنف إفرازات الدموع من العين والأدوية التي توضع في العين. وتقع فيه فتحتا الأنف الخلفيتين وفتحتا القناة البلعومية.
(الثاني) الجزء المتوسط، وهو خلف الفم مباشرة، ويعرف بالبلعوم الفمي Oropharynx وعن طريقه يتم ازدراد الغذاء والشراب والدواء وكل ما يدخل الفم ويتم بلعه. وفي هذا الجزء تقع اللهاة واللوزتان الحنكيتان، تتوسط اللهاة بين البلعوم الأنفي والبلعوم الفمي.
(الثالث) الجزء السفلي، ويعرف باسم البلعوم الحنجري، ويقع خلف الحنجرة وفيه تقع فتحتها، والحبال الصوتية الحقيقية والكاذبة. ويغطيه لسان المزمار عند البلع حتى لا ينساب الطعام والشراب إلى الحنجرة فيحدث الشرق والغصة.
(2) البلع هو عبارة عن مرور الطعام الممضوغ (أو الشراب) من الفم إلى البلعوم ثم إلى المريء. وتقسم هذه العملية إلى ثلاثة أدوار:
(الأول) وهو مرحلة إرادية وفيها يتم مرور البلعة من برزخ الحلق بواسطة انقباض عضلات الشفتين وعضلات الوجنتين، خصوصًا العضلة البوقية، وانقباض عضلات اللسان في جزئها الأمامي مقابل سقف الحنك، وكذلك انقباض عضلات المضغ التي تعمل على ضم الفكين العلوي والسفلي.
__________
(1) د. شفيق عبد الملك: مبادىء علم التشريح ووظائف الأعضاء. الطبعة السابعة 1972 (الناشر المؤلف) القاهرة، ص 225- 226 و 271 (باختصار وتصرف) .
(2) البلع (الازدراد) د. شفيق عبد الملك: مبادىء علم التشريح ووظائف الأعضاء، ص ا 27 (بتصرف) .(10/729)
__________(10/730)
(الثاني) وهو مرحلة غير إرادية، وتشمل مرور البلعة في البلعوم إلى المريء. وهو دور سريع جدًا، وفي أثنائه ترفع اللهاة لتكون بمثابة حاجز بين البلعوم الفمي والبلعوم الأنفي، وتنقبض عضلات مدخل الحنجرة حتى لا يدخل شيء من الطعام أو الشراب إلى الحنجرة , وإذا حدث ذلك فهو الغصة أو الشرقة.
وإذا كانت البلعة كبيرة وحدث خلل في عملية البلع لأي سبب فإن هذه البلعة قد تسد مجرى الهواء في الحنجرة، وإذا لم يتم إخراجها بسرعة وذلك بالضغط على البطن بقوة، وعادة ما يأتي المسعف من الخلف، ويضع يده حول البطن ويضغط بسرعة وبقوة حتى يرتفع الحجاب الحاجز ويزداد الضغط حتى يتم إخراج البلعة (قد تكون قطعة معدنية أو غيرها) فإذا تعذر ذلك توجب إيجاد فتحة في القصبة الهوائية tracnea، حتى يتم التنفس عبرها وفي تلك الأثناء أو بعد إيجاد الفتحة في القصبة الهوائية يتم إخراج البلعة التي سدت الحنجرة. وقد تحدث وفيات بسبب خطأ في عملية البلع في هذه المرحلة عند عدم وجود مسعفين وأطباء.
(الثالث) وهو دور غير إرادي أيضًا، وتنزح فيه البلعة من البلعوم إلى المريء، ومن المريء إلى المعدة بواسطة حركات المريء الدودية. وتمر البلعة من المريء إلى المعدة عبر الفتحة الفؤادية، والتي تتحكم فيها لا إراديًّا العضلة العاصرة الفؤادية.
ويتفق جمهور الفقهاء، على أن وصول الطعام أو الشراب أو الدواء أو الدخان أو غيرها إلى البلعوم ومنه إلى المريء مفسد للصيام إذا كان الفعل لذلك متعمدًا.(10/731)
بل إذا تجمع الريق (Saliva) في الفم وبلعه الإنسان متعمدا يعتبر قد أفسد صومه (وهو رأي كثير من الفقهاء) , كذلك إذا صعد من المريء سائل (أو من المعدة) وهو القيء، فإذا كانت عملية القيء متعمدة فقد أفطر من استقاء، وأما من ذرعه القيء فليتم صومه؛ للحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة: ((من ذرعه القيء وهو صائم فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقض)) (1) وحديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر (2)
ومن ذرعه القيء أو تجمع في فمه إفرازات صاعدة من المعدة أو المريء water brash أو من الجهاز التنفسي (من القصبات الهوائية أو من الأنف) ثم بلعها متعمدًا فقد أفطر وفسد صومه.
وقد اتفقت المذاهب الأربعة أن من غلبه القيء ولم يرجع منه شيء
لحلقه، وبالتالي لم يبتلعه مرة أخرى: لا شيء عليه، وصيامه صحيح ... أما من تعمد القيء (أي استقاء) فإنه يفطر ويفسد صومه وعليه القضاء. وكذلك من ذرعه القيء ولكنه ابتلع شيئًا من المادة التي وصلت إلى فمه، فإنه بذلك يفسد صومه وعليه القضاء. وفي هذه النقطة الأخيرة خلاف بين الفقهاء ليس ها هنا محل تفصيله.
المثانة: عبارة عن عضو عضلي أجوف، وهي كيس لخزن البول الذي تفرزه الكليتان وينزل منهما عبر الحالبين، وتقع المثانة في الحوض الحقيقي خلف الارتفاق العاني، بحيث تكون قمتها إلى أعلى وأمام، بينما تكون قاعدتها من الخلف وعنق المثانة أسفلها وتتصل بالقناة البولية.
وإذا امتلأت المثانة أخذت شكلًا كرويًّا، وقد ترتفع من الحوض حتى تصل إلى تجويف البطن فيمكن آنذاك فحصها من البطن، واستخراج البول منها مباشرة عن طريق إبرة أو قسطرة عبر جدار البطن.
وتتصل المثانة من أسفل بقناة مجرى البول التي تعرف بالإحليلUrethera وهي تتحكم في التبول بواسطة عضلات عاصرة. والعضلة العاصرة المثانية غير إرادية، ولكن تأتي بعدها عضلة عاصرة إرادية.
__________
(1) رواه الدارمي وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني. واختلف فيه أهل الحديث، وضعفه أكثرهم. انظر كتاب فقه الصيام، للدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، ص 76 -77
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي والطبراني. وقد اختلف في إسناده أيضًا. ولا يدل على أن القيء مفطر بذاته (انظر كتاب فقه الصيام، للقرضاوي) .(10/732)
ويصل البول إلى المثانة من الحالبين بمعدل مليلتر واحد في الدقيقة، فتختزنه المثانة حتى تمتلئ فيزداد الضغط لدرجة ينبه معها الأعصاب الحسية الموجودة بغشائها المخاطي الذي يبطنها، فتنقبض عضلات جدرانها وتنبسط عاصرتها فيخرج البول توًا.
ولا شك أن المثانة جوف، وقد اختلف الفقهاء في إدخال مسبار أو دواء عبر الإحليل إلى المثانة؛ فاعتبره الشافعية سببًا للإفطار ومفسدًا للصيام، ولم يعتبره غيرهم. وستأتي منا قشة الأقوال المختلفة في ذلك. والأوعية الدموية واللمفاوية: كلها مجوفة، ويجري فيها الدم أو اللمف ... واختلف الفقهاء في الحجامة والفصد؛ فقال بعضهم: إنها مفسدة للصيام لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) . ومال آخرون إلى أن الحجامة ليست سببا للإفطار وإفساد الصيام، لأنه احتجم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو صائم.
وأما إدخال الدواء إلى الأوعية الدموية فقد أفتى معظم العلماء في العصر الحديث بأنه ليس سببًا للإفطار وإفساد الصيام، ومن باب أولى الزرق (الحقن) في العضل وتحت الجلد.
وأما إدخال المحاليل والسوائل (مثل محلول الملح ومحلول الغلوكوز - وهو نوع من السكر - والمغذيات الأخرى) فقد كرهها الفقهاء المعاصرون، ورأى كثير منهم أنها تفسد الصيام.
في هذه الجولة والإطلالة السريعة تعرفنا على الجوف في اللغة وعند الأطباء وعند الفقهاء. وفي الفصل التالي سنناقش أقوال الفقهاء في مفسدات الصوم وبالذات ما يسمى المفطرات في مجال التداوي، ونحاول أن نطبق هذه التعريفات على أحكام الفقهاء، وهل تنطبق هذه التعريفات على أحكام الفقهاء أو تختلف؟ وما هو مدى انطباقها أو افتراقها عن ذلك؟ ليمكن الحكم على هذه المواد؛ هل هي مسببة للإفطار مفسدة للصيام أم لا؟
والله يهدي للصواب ولقول الرشاد، عليه نتوكل وبه نستعين.
* * * *(10/733)
الفصل الثاني
مناقشة المفطرات في مجال التداوي
ضابط المفطرات مما يصل إلى الجوف
الصوم شرعًا أو الامتناع الفعلي عن شهوتي البطن والفرج وحرمان النفس من شهواتها والامتناع عن النساء في النهار من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس. قال تعالى: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] وفي الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع الطعام من أجلى، ويدع الشراب من أجلي، ويدع زوجته من أجلي)) . ولم يرد في موضوع الصيام أي ذكر للجوف في القرآن الكريم أو السنة المطهرة
, وقد ناقشنا بتفصيل واف في الفصل الأول تعريفات الجوف في اللغة وعند الفقهاء وعند الأطباء القدماء وعند الأطباء المحدثين.
وبما أن الصيام إنما هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع، فإنه يتبين ذلك أن المقصود هو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج، وعليه فإن الجوف لا يعدو الجهاز الهضمي متى تجاوز الفم ووصل إلى البلعوم (يسميه الفقهاء الحلق) ، وبالتالي فإن وصول الطعام أو الشراب عمدًا إلى البلعوم ومنه إلى المريء فالمعدة سبب مجمع عليه في إفساد الصيام وتسبب الفطر إذا كان ذلك في النهار من الفجر إلى غروب الشمس, ويتفق جمهور الفقهاء على أن تعاطي الدواء أو أي شيء آخر عن طريق الفم متى وصل إلى البلعوم ومن ثم إلى المريء والمعدة عمدًا في النهار يؤدي إلى إفطار الصائم وإفساد صومه.
يقول فضيلة الشيخ القرضاوي (1) : " وحقيقة الصيام المتفق عليها هي حرمان النفس من شهواتها، ومعاناة الجوع والعطش، والامتناع عن النساء تقربًا إلى الله تعالى, وهذا ما بينه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ".
فلم يجئ فيهما منع الصائم من شيء إلا من الأكل والشرب والمباشرة, وكذلك الرفث والصخب والجهل والسب والكذب والزور وسائر المعاصي.
" أي أن الصائم يمنع مما يتنافى مع المعنى المادي للصيام، وهو الأكل والشرب والجماع، وهو الذي نتحدث عنه الآن، ومما يتنافى مع المعنى الأدبي له، وهو الجهل والزور وسائر المعاصي والآثام ". ثم استدل على ذلك بالآية الشريفة والحديث النبوي الكريم المذكورين آنفًا.
__________
(1) القرضاوي: فقه الصيام، دار الصحوة ودار الوفاء، القا هرة 1411 هـ/ 1991 م، ص 73(10/734)
وقد رجح فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله مذهب ابن حزم (1) وترجيح الإمام ابن تيمية في تضييق المفطرات في الأكل والشرب والجماع وقال: " أما تحريم الكتاب للأكل والشرب فمسلم، ولكن من الذي يقول: أن من ابتلع حصاة، أو حبة خردل، أو ما بين أسنانه، أو نخامة، أو بلغم، أو اكتحل فأحس طعم الكحل في حلقه، أو استعمل الحقنة في دبره ... إلخ، أن هذا يدخل في عموم الأكل والشرب المحرم على الصائم؟ وهذا ما لا دليل عليه ".
ومما لا شك فيه أن تعاطي الدواء (وهو ليس طعامًا ولا شرابا) عن طريق الفم وابتلاعه يؤدي قطعًا إلى إفطار الصائم , ثم أن دخول الدواء أو غيره من الفم أو الأنف إلى البلعوم يؤدي إلى وصولى هذه المادة (العين) إلى المريء ثم المعدة , ولا شك أن وصول أي مادة إلى المعدة في أثناء الصيام عمدا تكون سببًا لإفطار الصائم؛ لأن الجوف كما أوضحناه ليس إلا الجهاز الهضمي على الحقيقة.
__________
(1) يرى فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي أن الحجامة لا تفسد الصيام بينما يرى ابن حزم ذلك. وكذلك يرى ابن حزم أن ابتلاع ما بين الأسنان يؤدي إلى الإفطار إذا كان عامدًا، بينما لا يرى ذلك فضيلة الشيخ القرضاوي, ويرى ابن حزم أن الإنزال بالمباشرة للزوجة أو الأمة دون الجماع لا يفسد الصيام، ويأخذ الشيخ القرضاوي برأي الجمهور في هذه المسألة، وهو أن الإنزال يفسد الصيام. ولم يجزم الشيخ القرضاوي بأن المعصية مثل الغيبة سبب للإفطار مثلما فعل ابن حزم. والجمهور على أن المعاصي تذهب بأجر الصيام فقط.(10/735)
وقد خالف ابن حزم والإمام ابن تيمية جمهور الفقهاء في موضوع وصول الدواء إلى الجوف (الجهاز الهضمي) واعتبروا أن الحقنة الشرجية والدخان - لم يكن في زمانهم دخان التمباك المعروف اليوم، والذي يتعاطى على هيئة سجائر أو شيشة أو غيرها- ليس من المفطرات.
وإليك نص ما جاء في (المحلى) لابن حزم حول هذه النقطة وغيرها من النقاط المتعلقة بها:
مذهب ابن حزم:
قال ابن حزم في المحلى (1) " ولا ينقض الصوم حجامة ولا احتلام ولا استمناء ولا مباشرة الرجل امرأته أو أمته المباحة له فيما دون الفرج، تعمد الإمناء أم لم يمن، أمذى أم لم يمذ، ولا قبلة كذلك فيهما، ولا قيء غالب، ولا قلس خارج من الحلق ما لم يتعمد رده بعد حصوله في فمه وقدرته على رميه، ولا دم خارج من الأسنان أو الجوف ما لم يتعمد بلعه، ولا حقنة -المقصود الشرجية -، ولا سعوط ولا تقطير في أذن، أو في إحليل أو في أنف، ولا استنشاق، وإن بلغ الحلق، ولا مضمضة دخلت الحلق من غير تعمد، ولا كحل وإن بلغ إلى الحلق نهارًا أو ليلًا، بعقاقير أو بغيرها، ولا غبار طحن أو غربلة دقيق، أو حناء، أو غير ذلك، أو عطر، أو حنظل، أو أي شيء كان، ولا ذباب دخل الحلق بغلبة، ولا من رفع رأسه فوقع في حلقه نقطة ماء بغير تعمد لذلك منه، ولا مضغ زفت ولا مصطكى أو علك.
ولا من تعمد أن يصبح جنبًا ما لم يترك الصلاة، ولا من تسحر أو وطئ وهو يظن أنه ليل فإذا بالفجر قد طلع، ولا من أفطر بأكل أو وطئ، ويظن أن الشمس قد غربت فإذا بها لم تغرب، ولا من أكل أو شرب أو وطئ ناسيًا أنه صائم، وكذلك من عصى ناسيًا لصومه، ولا سواك برطب أو يابس، ولا مضغ الطعام أو ذوقه، ما لم يتعمد بلعه، ولا مداواة جائفة أو مأمومة بما يؤكل أو يشرب أو بغير ذلك، ولا طعام وجد بين الأسنان أي وقت من النهار وجد، إذا رمى، ولا من أكره على ما ينقض الصوم، ولا دخول حمام، ولا تغطيس في ماء، ولا دهن شارب ".
أما الحجامة قال أبو محمد (وهو ابن حزم) : " صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق ثوبان، وشداد بن أوس، ومعقل بن سنان وأبي هريرة ورافع بن خديج وغيرهم أنه قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) ، فوجب الأخذ به إلا أن يصح نسخه ".
ويرى ابن حزم أن المعصية تسبب الإفطار وتفسد الصيام، بينما يرى أصحاب المذاهب الإسلامية وجمهور الفقهاء أن المعصية لا تفسد الصيام ولا تسبب الإفطار، وإن كانت تذهب بأجر الصيام كله.
وخالف ابن حزم الفقهاء في الاستمناء ومباشرة الرجل امرأته أو أمته المباحة له فيما دون الفرج ولو تعمد الإمناء، فهو يرى أن ذلك كله لا ينقض الصوم ولا يفسده, والفقهاء مجمعون على أن تعمد الإمناء بالمباشرة دون الفرج سبب لإفساد الصيام, وخالف الفقهاء في الاستنشاق وإن بلغ الحلق (البلعوم) متعمدا, كما خالفهم في مواضع كثيرة في باب مفسدات الصوم وغيرها من أبواب الفقه.
__________
(1) ابن حزم: المحلى (دار الفكر الحديث) بيروت، 6/ 203و 204، المسألة رقم 753(10/736)
ترجيح ابن تيمية رحمه الله:
تقترب آراء ابن تيمية فيما يسبب إفساد الصوم مع آراء ابن حزم في نقاط كثيرة، رغم اختلاف منهجيهما اختلافًا كبيرًا , ولا يرى ابن تيمية أن المعصية سبب لإفساد الصيام، وهو في ذلك مع الجمهور. ولكنه لا يرى أن الحقنة (الشرجية) ، وما يقطر في الإحليل، والكحل ومداواة المأمومة والجائفة؛ سبب لإفطار من يفعل ذلك عمدًا في نهار رمضان ... كما لا يرى وصول الدخان إلى الحلق سببًا للإفطار.
وإليك نص ما قاله في الفتاوى (1)
" وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع إلا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع إلا بالتقطير، ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير، ويفطر بما سوى ذلك, والأظهر أنه لا يُفطَّر بشيء من ذلك.
فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلًا؛ علم أنه لم يذكر شيئا من ذلك ... ".
" والذين قالوا أن هذه الأمور تفطر كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس, وأقوى ما احتجوا به: ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)) . قالوا: فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله (2) , وعلى القياس كل ما وصل جوفه بفعله من حقنة وغيرها، سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه ... ".
" وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًا، ولا بد أن تنقله الأمة، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى، كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن, والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجسامًا، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله، ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلمَّا لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطيبه وتبخيره وادهانه، وكذلك اكتحاله ".
" وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم إما في الجهاد أو في غيره مأمومة وجائفة، فلو كان هذا يفطر لبين لهم ذلك، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطرًا ".
__________
(1) فتاوي ابن تيمية: 5/ 233 وما بعدها، طبعة الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله.
(2) في المبالغة في الاستنشاق لا يصل الماء إلى الدماغ إنما يصل إلى البلعوم الأنفي، ومنه يتسرب إلى البلعوم والمريء والمعدة, وهذا هو سبب منعه أي الوصول إلى المعدة والجهاز الهضمي لا الوصول إلى الدماغ كما قرر الفقهاء في ذلك الزمان، بناء على معلوماتهم الطبية الخاطئة.(10/737)
وأوضح الإمام ابن تيمية أن ليس في الأدلة أن ما كان واصلًا إلى الدماغ أو البدن أو ما كان داخلًا من منفذ (غير الفم والحلق) أو واصلًا إلى الجوف (بسبب طعنة أو جرح) ونحو ذلك من المعاني يسبب الإفطار ويفسد الصيام، إذ لا دليل عليه من الكتاب أو السنة أو قياس صحيح , واعتبر من قال أن الحقنة (الشرجية) ، والتقطير في الإحليل، ومداواة الجائفة والمأمومة، واستخدام الكحل وقطرة العين، وشم الدخان (1) واستنشاقه، ومثله البخور والطيب وغيره، وأمثال ذلك أنها كلها مسببة للإفطار مفسدة للصيام؛ قول بدون علم ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح , وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم، وهذا لا يجوز.
" ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك (دليل القياس لديهم) مناط الحكم فهو بمنزلة من اعتقد صحة مذهب لم يكن صحيحًا، أو دلالة لفظ على معنى لم يرده الرسول , وهذا اجتهاد يثابون عليه، ولا يلزم أن يكون قولًا بحجة شرعية يجب على المسلم اتباعها ... ".
" ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض، وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة المأمومة والجائفة، فإن الكحل لا يغذي البتة ولا يدخل أحد كحلًا إلى جوفه لا من أنفه ولا من فمه , وكذلك الحقنة لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن كما لو شم شيئًا من المسهلات، أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة ".
" والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة (والمقصود بهذه المداواة من موضع الجرح، لا أنه يبلغ ذلك بواسطة الفم وإلا كان سببًا واضحًا للإفطار) لا يشبه ما يصل إليها من غذائه. والله سبحانه قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الصوم جنة)) , وقال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع والصوم)) . فالصائم نهي عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوّي, فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري منه الشيطان إنما يتولد من الغذاء لا عن حقنة، ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر، ولأن ما يداوي نجه المأمومة والجائفة وهو متولد عما استنشق من الماء لأن الماء مما يتولد منه الدم، فكان المنع منه تمام الصوم ". (2)
__________
(1) لم يكن دخان السجائر والشيشة والأرجيلة وما شابه ذلك معروفا في زمن ابن تيمية.
(2) يتولد الدم في الجنين في الكبد وفي نخاع العظام. وفي المولود يتولد في نخاع العظام كلها، وبعد النمو يتولد الدم في نخاع العظام المفلطحة لا الطويلة، ويكون التولد في مشاش العظم وما يعرف بالنخاع الأحمر. ويتم تولد الدم حتى في فترة الصيام؛ لأن في الجسم مخازن للحديد وغيره من المواد المطلوبة لتكوين الدم , ولا علاقة مباشرة بالصوم الشرعي وتكوين الدم.(10/738)
ويطيل ابن تيمية رحمه الله، القول في أن الأكل والشرب تطبخه المعدة ويستحيل دمًا, وهو قول ليس صحيحًا، فالغذاء والماء لا يتحولان إلى دم كما كان القدماء يعتقدون مباشرة في المعدة أو في الكبد, وإنما يتم صنع الدم في مواضعه من نقي العظام (في الصغير في العظام جميعها وفي البالغ في العظام المفلطحة والقصيرة) , ولا يعتمد صنعها على الصوم فإن الصائم يصنع في نقي عظامه مثله مثل المفطر ... ولا يؤثر ذلك إلا إذا امتنع عن الطعام فترة طويلة من الزمن، وهي أيام وأسابيع متوالية متواصلة الصيام، بدون أكل على الإطلاق لا ليلًا ولا نهارًا، وهو مخالف للصيام المأمور به.
ويحدث نقص في صنع الدم من العظام لأسباب كثيرة منها نقص الحديد ونقص فيتامين ب 12 ونقص فيتامين حامض الفوليك ... وهذا قد يحدث لغير الصائم ... بل لا علاقة لهذا النص بالصيام الشرعي حيث يأكل الإنسان ويشرب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ... وما ذكره القدماء في هذا الصدد غير صحيح، وأوضح الطب الحديث بطلانه.
ولتوضيح آراء المذاهب الفقهية في مفطرات الصوم سننقل باختصار وتصرف عن مصادرها الهامة مثل كتاب (المغني) لابن قدامة (ومعه الشرح الكبير) فهو يذكر أقوال المذاهب الأخرى في المسألة ويذكر أدلتها.(10/739)
وجاء في المغني، لابن قد امة (1) : " والصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وروي معنى ذلك عن عمر وابن عباس، وبه قال عطاء وعوام أهل العلم ". وتحت باب ما يفسد الصوم قال: " ومن أكل أو شرب أو احتجم أو استعط أو أدخل إلى جوفه شيئًا من أي موضع كان، أو قبل فأمنى أو أمدى أو كرر النظر فأنزل، أي ذلك فعل عامدًا وهو ذاكر لصومه فعليه القضاء بلا كفارة إذا كان صومًا واجبًا ". (2)
وفيما ذكره اتفاق بين العلماء على بعضها، وخلاف شديد على بعضها الآخر. وذكر ابن قدامة الاتفاق والخلاف فقال:
" في هذه المسألة فصول (أحدها) : أنه يفطر بالأكل والشرب بالإجماع وبدلالة الكتاب والسنة. أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} مدَّ الأكل والشرب إلى تبين الفجر، ثم أمر بالصيام عنهما. وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)) . وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب بما يتغذى به، فعامة أهل العلم على أن الفطر يحصل به. وقال الحسن بن صالح: لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب. وحكي عن ابن طلحة الأنصاري أنه كان يأكل البرد في الصوم ويقول: ليس بطعام ولا شراب. ولعل من يذهب إلى ذلك يحتج بأن الكتاب والسنة إنما حرما الأكل والشرب، فما عداهما فيبقى على أصل الإباحة. ولنا دلالة الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب على العموم، فيدخل فيه محل النزاع. ولم يثبت عندنا ما نقل عن أبي طلحة، فلا يعد خلافًا ".
ثم تحدث عن الحجامة والخلاف حولها كما ذكر الأحاديث فيها.
وانتهى إلى أن الحجامة تسبب إفطار الحاجم والمحجوم، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) .
ثم ذكر الجوف فقال ما نصه: " يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في جسده كدماغه وحلقه ونحو ذلك مما ينفذ إلى معدته إذا وصل باختياره، وكان مما يمكن التحرز منه، سواء وصل من الفم على العادة أو غير العادة كالوجور (3) واللدود (4) أو من الأنف كالسعوط (5) أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ، أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل، أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة (المقصود الشرجية) ، أو ما يصل من مداواة الجائفة (6) إلى جوفه، أو من دواء المأمومة (7) إلى دماغه، فهذا كله يفطره لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل.
__________
(1) المغني، لابن قدامة المقدسي، ومثله في الشرح الكبير: 3/ 3
(2) المغني: 3/ 35
(3) الوجور: ما يسقاه المريض من الدواء من وسط الفم.
(4) اللدود: ما يسقاه الإنسان من الدواء من أحد جانبي الفم، أخذ من لديدي الوادي وهما جنباه. وقال الأصمعي: " اللدود ما سقي الإنسان في أحد شقي الفم ". وفي البخاري ومسلم عن عائشة قالت: (لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ) الحديث.
(5) ما يتعاطاه الإنسان من الدواء أوغيره بواسطة الأنف.
(6) الجائفة: الطعنة أو الجرح الذي وصل إلى جوف البطن، وهو المعروف بالغشاء البريتوني.
(7) المأمومة: الإصابة أو الطعنة أو الجرح الذي يصل إلى أم الرأس وهي خريطة الدماغ، والمعروفة في الطب الحديث بالأم الجافة Dura mater وتجاوزتها إلى الأم الحنون من أغشية الدماغ.(10/740)
وكذلك لو جرح نفسه أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه سواء استقر في جوفه أو عاد فخرج منه. وبهذا كله قال الشافعي. وقال مالك: لا يفطر بالسعوط إلا أن ينزل إلى حلقه، ولا إذا داوى المأمومة والجائفة. واختلف عنه في الحقنة (الشرجية) . واحتج بأنه لم يصل إلى الحلق منه شيء، أشبه ما لم يصل إلى الدماغ ولا الجوف. ولنا أنه واصل إلى جوف الصائم باختياره فيفطره، كالواصل إلى الحلق. والدماغ جوف والواصل إليه يغذيه، فيفطره كجوف البدن ". (1)
ثم ذكر ابن قدامة الكحل فقال: " فآما الكحل فما وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطر وإلا لم يفطر ... ". وبنحو ما ذكرناه قال أصحاب مالك، وعن أبي ليلى وابن شبرمة أن الكحل يفطر الصائم، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطره لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتحل في رمضان وهو صائم، ولأن العين ليست منفذًا فلم يفطر بالداخل منها كما لو دهن رأسه , ولنا أنه وصل إلى حلقه ما هو ممنوع من تناوله بفيه، فأفطر به كما لو أوصله من أنفه. وما رووه لم يصح، قال الترمذي: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب الكحل للصائم شيء ".
" وما لا يمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطره لأن ذلك يشق عليه فأشبه غبار الطريق وغربلة الدقيق، فإن جمعه ثم ابتلعه قصدًا لم يفطره , وفيه وجه آخر أنه يفطره لأنه أمكنه التحرز منه، أشبه ما لو قصد ابتلاع غبار الطريق، والأول أصح. فإن خرج ريقه إلى ثوبه أو بين أصابعه أو بين شفتيه ثم عاد فابتلعه أو ابتلع ريق غيره أفطر ".
وهكذا قال أيضًا في النخامة والقلس والقيء إذا ازدرده أفطر وإن كان يسيرًا.
" وإن قطر في إحليله دهنًا لم يفطر، سواء وصل إلى المثانة أو لم يصل ".
وإذا قبل فأمنى أو أمذى فلا يخلو المقبل من ثلاثة أحوال: (أحدها) أن لا ينزل فلا يفسد صومه بذلك. و (الثاني) أن يمني فيفطر بغير خلاف نعلمه ولأنه أنزل مباشرة، فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج. و (الثالث) أن يمذي فيفطر عند إمامنا ومالك. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطر، وروي ذلك عن الحسن والشعبي والأوزاعي، لأنه خارج لا يوجب الغسل فأشبه البول ".
ثم قال: " إن المفسد للصوم من هذا كله ما كان عن عمد وقصد، فأما ما كان منه عن غير عمد وقصد الغبار الذي يدخل الحلق من الطريق ونخل الدقيق، والذبابة التي تدخل حلقه، أو يُرش عليه الماء فيدخل مسامعه أو أنفه أو حلقه، أو يلقى في ماء فيصل إلى جوفه، أو يسبق إلى حلقه من ماء المضمضة، أو يصب في حلقه أو أنفه شيء كرهًا، أو تداوى مأمومته أو جائفته بغير اختياره أو يحجم كرهًا، أو تقبله امرأة بغير اختياره فينزل أو ما أشبه هذا لا يفسد صومه لا نعلم فيه خلافًا ".
ثم قال: " إنه متى أفطر بشيء من ذلك (أي مما تقدم ذكره) فعليه القضاء لا نعلم في ذلك خلافًا؛ لأن الصوم كان ثابتًا في الذمة فلا تبرأ منه إلا بأدائه ولم يؤده، فبقي ما كان عليه، ولا كفارة في شيء مما ذكرناه في ظاهر المذهب. وهو قول سعيد بن جبير والنخعي وابن سيرين وحماد والشافعي. وعن أحمد أن الكفارة تجب على من أنزل بلمس أو قبلة أو تكرار نظر لأنه إنزال عن مباشرة، أشبه الإنزال بالجماع ".
ومن استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه.
ومن ارتد عن الإسلام فقد أفطر. ومن نوى الإفطار فقد أفطر. اهـ.
__________
(1) المغني، لابن قدامة: 3/ 37 - 64 وليس الدماغ داخلًا في تعريف الجوف كما أسلفنا في الفصل الأول، وبالتالي فإن ما وصل إلى الدماغ لا يعتبر مفسدًا للصوم.(10/741)
وقد بحث فضيلة الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه (الفقه الإسلامي وأدلته) بتفصيل واف أقوال الأئمة الأربعة فيما يفسد الصوم وما لا يفسده (1) وما يوجب القضاء بدون كفارة، وما يوجب الكفارة والقضاء , وفي نهاية بحثه الطويل قال: " وخلاصة أقوال المذاهب في أهم المواضع السابقة: أن الجماع في نهار رمضان موجب للقضاء والكفارة والإمساك بقية النهار، وكذلك الأكل والشرب عمدًا عند الحنفية والمالكية خلافًا لغيرهم قياسًا على الجماع، بجامع انتهاك حرمة الشهر ".
" ويفطر الصائم بالاتفاق بالقيء عمدًا أو بتناول أي شيء مادي يصل إلى الجوف عمدًا، سواء أكان مغذيًا أم غير مغذ، ولا يفطر بالفصد اتفاقًا كما لا يفطر بالأكل والشرب ونحوه ناسيًا، ويفطر عند المالكية، ولا يفطر بالأكل مكرهًا عند الشافعية والحنابلة، ويفطر عند المالكية والحنفية. ولا يفطر عند الحنابلة بغلبة ماء المضمضة ويفطر بها عند المالكية، أما عند الشافعية فيفطر في حالة المبالغة أو العبث والتبرد أو الزيادة على ثلاث.
ولا يفطر بالاكتحال عند الشافعية والحنفية، ويفطر به عند المالكية والحنابلة إن وجد طعم الكحل في الحلق. ولا يفطر عند الجمهور بالحقنة في الإحليل، ويفطر بها عند الشافعية. ولا يفطر عند الجمهور بنبش الأذن بعود أو إدخاله فيها، ويفطر به عند الشافعية.
ولا يفطر بالحجامة عند الجمهور وإنما تكره، ويفطر بها عند الحنابلة. ولا يفطر بإنزال المذي عند الحنفية والشافعية، ويفطر به عند المالكية والحنابلة في حال التقبيل أو المباشرة فيما دون الفرج. أما في حال تكرار النظر فلا يفطر به عند الحنابلة، ويفطر به عند المالكية أو بالتفكير عند الاستدامة أو الاعتياد.
وتتداخل الكفارة فلا تجب إلا واحدة بتكرر الإفطار في أيام عند الحنفية، وتتعدد الكفارة بتعدد الإفطار في أيام مختلفة عند الشافعية والحنابلة والمالكية (الجمهور) ". اهـ
* * *
__________
(1) د. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته: 2/ 651-678(10/742)
الفصل الثالث
مناقشة المفطرات في مجال التداوي ضابط
المفطرات مما يصل إلى الجوف
بما أن الصيام إنما هو الإمساك من الطعام والشراب والجماع، فإنه يتبين من ذلك أن المقصود هو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج، وعليه فإن الجوف لا يعدو الجهاز الهضمي متى تجاوز الفم ووصل إلى البلعوم (يسميه الفقهاء الحلق) , وبالتالي فإن وصول الطعام والشراب عمدًا إلى البلعوم، ومنه إلى المريء فالمعدة؛ سبب مجمع عليه في إفساد الصيام وتسبب الفطر، إذا كان ذلك في النهار من الفجر إلى غروب الشمس، ويتفق جمهور الفقهاء على أن تعاطي الدواء أو أي شيء آخر عن طريق الفم متى وصل إلى البلعوم ومن ثَم إلى المريء فالمعدة، عمدًا في نهار الصيام؛ يؤدي إلى إفطار الصائم وإفساد صومه.
ويمكننا أن نقسم قائمة المفطرات في مجال التداوي إلى الأقسام التالية:
(1) ما يدخل الجسم عن طريق الجهاز التنفسي: مثل البخاخ للربو وما يستنشق من الأدوية وتدخين السجائر والشيشة والنشوق (السعوط) وهذه كلها إما سوائل وفيها مواد عالقة، وتدخل إلى الفم أو الأنف وتستنشق ومنها إلى البلعوم (الفمي أو الأنفي) ومن البلعوم إلى المريء فالمعدة. كما يذهب جزء آخر من البلعوم الفموي إلى البلعوم الحنجري، ومنه إلى الرغامى فالشعب الهوائية فالرئتين ... وقد أسلفنا القول في أن هذه المواد تدخل إلى الجوف الذي حددناه بالجهاز الهضمي , ولا شك أن من تعمد إدخال هذه المواد إلى فمه أو أنفه ومنها إلى بلعومه ومعدته يكون مفسدًا لصومه متى فعل ذلك في نهار الصيام.
وأما الأوكسجين الذي يعطى لبعض المرضى فهو هواء وليس فيه مواد عالقة لا مغذية ولا غيرها، ويذهب أغلبه إلى الجهاز التنفسي، وتنفس الهواء - كما هو معلوم - ضروري لحياة الإنسان، ولم يقل أحد قط أن استنشاق الهواء مفطر للصيام.(10/743)
وأما التخدير الكلي فإنه غازات مستنشقة مثل الإيثر وغيره، وعادة ما يبدأ التخدير الكلي بحقنة في الوريد من عقار الباربيتورات السريع المفعول جدًّا، فينام الإنسان في ثوان معدودة، ثم يتم إدخال أنبوب مباشر إلى القصبة الهوائية عبر الأنف فلا يدخل إلى المريء أو المعدة منه شيء.. ويتم إجراء التنفس بواسطة الآلة، وبواسطتها أيضًا يتم إدخال الغازات المؤدية إلى فقدان الوعي فقدانًا تامًا ... وهذه كلها لا علاقة لها بالجهاز الهضمي (الجوف كما حددناه) وبالتالي ليست مفسدة للصيام.
ويبقى في الموضوع مدة الإغماء وفقدان الوعي، وهي في ذاتها قد تكون مسببة للإفطار، ثم يبقى بعدها موضوع إعطاء المريض السوائل (المغذية) بواسطة الزرق في الوريد، وهي كما يرى كثير من الفقهاء مسببة للإفطار، وإن كانت لا تصل إلى الجهاز الهضمي.(10/744)
(2) ما يدخل الجسم عبر الفم والحلق: ومن ذلك الغرغرة وبخاخ تعطير الفم وهذه تشبه المضمضة، فإن بالغ الشخص أو زاد عن الثلاث (عند الشافعية) ووصل الماء إلى الجوف (الحلق والبلعوم والمريء والمعدة) فإنها لا شك تسبب الإفطار. وكذلك السؤال عن قلع السن في نهار رمضان ويستخدم الطبيب البنج (التخدير) الموضعي، فإن كان التخدير بحقنة (إبرة) موضعية فلا بأس، وإن كان بواسطة بخاخ عاد الحكم إلى ما سبق أن ذكرناه من وصول مواده إلى الحلق والبلعوم والمريء والمعدة ... ثم أن الدم أو الإفرازات التي تتجمع في الفم في عملية قلع السن أو أي عملية أخرى في الفم أن ابتلعها المريض عامدًا أفطر، وإن انسابت دون إرادته فلا شيء عليه لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) وفي رواية الدارقطني: ((إذا أكل الصائم ناسيًا أو شرب ناسيًا، فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه)) .(10/745)
(3) ما يدخل إلى الدبر: وهو الحقنة الشرجية ومنظار الشرج وإصبع الطبيب، والفرزجات (اللبوس) , والدبر متصل بالمستقيم، والمستقيم متصل بالقولون وهو المعي الغليظ. يبدأ بالقولون السينيsigmoid Colon ثم القولون النازل Descending Colon ثم القولون المعترض Transverse colon ثم القولون الصاعد Ascending colon ثم الأعور، ومنه إلى الأمعاء الدقيقة. ويمكن امتصاص الدواء أو السوائل منها، وهي جزء من تعريفنا للجوف وهو الجهاز الهضمي، وعليه فيبدو - والله أعلم - أنها سبب لإفساد الصيام وإفطار المريض.
(4) ما يدخل عن طريق الجهاز التناسلي للمرأة: وفيه المهبلVagina وهو الذي يطلق عليه الفرج والقبل، وقد أسلفنا القول إنه ليس بالتجويف على الحقيقة، بل الجداران الأمامي والخلفي ملتصقان، ولكنهما مرنان فيسمحان بدخول الذكر أو نزول الجنين أو الدم أو إدخال منظار أو إصبع أو فرزجة، ويمكن امتصاص الدواء من المهبل، وتستخدم بعض الأدوية لهذا الغرض بواسطة الفرزجات (اللبوس، التحاميل) أو بواسطة ما يسمى دوش مهبلي (غسيل المهبل) ... إلخ، ولولا أن المهبل هو مكان الجماع وإدخال الحشفة فيه مسبب للإفطار بالجماع (إذا كان ذلك عمدًا في نهار الصيام) ، فإنه من اليسير القول بأن المهبل ليس الجوف المراد في موضوع الصيام، ولا علاقة له بالجهاز الهضمي.
أما إدخال المنظار أو اللولب إلى الرحم فإنه لا يعد جوفًا وليس محل للجماع، إذ القضيب لا يدخل الرحم على الإطلاق، وإنما يبقى في المهبل فقط والرحم بعيد عنه , ولا شك إذن أن ذلك ليس من الجوف المقصود به الصيام وهو بعيد كل البعد عنه، فلا يكون إذن سببًا للإفطار وإفساد الصيام.(10/746)
(5) ما يدخل إلى الجهاز البولي: وهو إدخال دواء أو قسطرة في الإحليل - مجرى البول في الذكر أو الأنثى - وإيصاله إلى المثانة، فذلك كله ليس جوفًا بالمعنى الذي حددناه في موضوع الصيام، ولا علاقة له بالجهاز الهضمي الذي حددنا به الجوف المقصود بالصيام، وكذلك لا علاقة له بالمهبل إذ فتحة مجرى البول في المرأة بعيدة عن فتحة المهبل، وبالتالي فإن إدخال قسطرة أو منظار إلى الجهاز البولي أو إدخال سائل أو دواء أو غيره إلى المثانة لا يعتبر مفسدًا للصيام (خلافًا للشافعية الذين يرون أن إدخال الدهن أو الدواء أو السائل إلى الإحليل ومنه إلى المثانة مفسدا للصيام) .
(6) ما يصل عبر الأذن: أوضحنا فيما سبق أن لا صلة مباشرة بين الأذن الخارجية وبين البلعوم (الحلق) وبالتالي فإن نبش الأذن أو إدخال عود فيها أو وضع دواء سائل أو ماء أو غيره لا يصل إلى البلعوم طالما أن الطبلة سليمة , والطبلة مثل الجلد تمامًا في تركيبها، وتشربها الدواء أو السائل مثل تشرب الجلد، وتدخل في حكمه، لذا فإن ما يوضع في الأذن ليس سببًا للإفطار، ولا يصل إلى الجوف (المقصود الجهاز الهضمي) .
أما إذا كانت الطبلة مخروقة فإن السوائل قد يصل منها شيء يسير إلى الأذن الوسطى، ومنها عبر القناة السمعية البلعومية (قناة إستاكيوس) إلى البلعوم الأنفي كما قد مر معنا، ومن البلعوم الأنفي إلى البلعوم الفموي، ومنه إلى المريء فالمعدة , وإن كانت الكمية التي يمكن أن تصل عبر هذا الطريق ضئيلة جدا، فإن ذلك قد يكون سببًا للإفطار وإفساد الصوم.(10/747)
(7) تنظير البطن: من الجدار الخارجي للبطن عبر جهاز التنظير، ويتم ذلك لإجراء التشخيص للأمراض وإجراء العمليات الجراحية، ولسحب البيضات في عملية التلقيح الصناعي (طفل الأنبوب) ، وغيرها من الأغراض, وهذه كلها لا تعتبر الجوف الذي حددناه بالجهاز الهضمي, أما المناظير المختصة بالجهاز الهضمي، سواء كانت من أعلى (أي الفم وتصل إلى المعدة) أو من أسفل (أي من الدبر وتصل إلى الأمعاء) فإنها كلها مواد تدخل إلى الجوف، وإن كانت لا علاقة لها بالغذاء, وفي معظم الأحوال تقتصر على التشخيص فقط، ونادرًا ما يتم عبرها حقن دواء للدوالي أو غيرها.
وعليه فإن حكمها سيأخذ حكم ما تم إدخاله عبر الفم أو عبر الشرج (الدبر) وفي ظني أنها سبب للإفطار، والله أعلم.
(8) أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء: الباطنة مثل الكبد أو الرئة أو الكلى أو أخذ شيء من السائل الموجود في الغشاء البلوري المحيط بالرئة أو الغشاء البريتوني المحيط بأحشاء البطن في حالة الاستسقاء، أو السائل الموجود حول الجنين وهو السائل الأمينوسي (الرهل) فكلها كما يبدو لا علاقة لها بالجهاز الهضمي الذي قلنا إنه المقصود بالجوف في حالة الصيام. وبالتالي فإنها لا تكون في حد ذاتها سببًا في الإفطار ولا مفسدة للصوم.
(9) إجراء غسيل الكلى البريتوني: وفي هذه الحالة يتم إدخال لترات من السوائل إلى الغشاء البريتوني، وإبقائها فترة ثم سحبها مرة أخرى، ثم إعادة العملية ذاتها مرات عديدة , وفي هذه الحالة يتم تبادل المواد الموجودة في الدم عبر البريتون، ويبدو لي - والله أعلم - أن هذا كله لا علاقة له بالجهاز الهضمي، وبالتالي ليس سببًا لإفساد الصوم.(10/748)
(10) ما قد يصل إلى الجسم عبر الجلد: مثل الأدهان والمروخات والطلاءات، ويتم امتصاصها عبر الجلد، كما انتشر في الآونة الأخيرة وضع الدواء على لصقة توضع على الجلد ويتشربها الجلد وتمتص منه. وكذلك الحقن (الزرق) في الجلد وتحت الجلد وفي العضلات، وسواء كانت للعلاج أو التشخيص أو الوقاية مثل التطعيم ضد الأمراض المعدية أو التخدير الموضعي فإنها كلها ليست سببًا للإفطار وإفساد الصيام، لأنها لا علاقة لها بالجهاز الهضمي.
وأما إعطاء الإبر (الزرق، الحقن) تحت الجلد بمادة تعرف باسم الأبومورفين أو غيرها لإحداث القيء (في حالات التسمم) فإنها ربما دخلت في موضوع القيء عمدًا (الاستقاء) وهو كما مر معنا سبب للإفطار لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من ذرعه القيء وهو صائم فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقض)) . (1)
(11) ما قد يصل إلى الجسم عبر الأوعية الدموية مثل الأوردة
والشرايين: ومثالها الزرق (الحقن) الوريدية، وسواء كانت عقاقير للتداوي أو للتشخيص بمواد ملونة، كما يمكن إدخال قسطرة (أنبوب دقيق) عبر الأوردة أو عبر الشرايين، وتصل إلى القلب مباشرة لتصوير شرايين القلب أو مداواتها.
ويمكن نقل الدم أو مشتقاته عبر الأوردة كما يمكن سحبه منها، ويمكن إجراء الغسيل الكلوي الدموي (الإنفاذ الدموي) عبر أوردة متصلة بشريان.
ويمكن كذلك إعطاء سوائل مغذية بواسطة الحقن (الزرق) بالوريد، حيث تسرب هذه المحاليل.
وكل هذه الوسائل أفتى كثير من أصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء بعدم كونها سببًا للإفطار، ما عدا المغذيات التي أفتى أغلبهم بأنها سبب للإفطار.
وهذه الأوردة والشرايين رغم أنها مجوفة إلا أنها لا تدخل في تعريف الجوف المخصوص والمقصود بالصيام، وهو الجهاز الهضمي.
__________
(1) رواه الدارمي وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني.(10/749)
(12) سحب الدم والحجامة والفصد: ذكر أكثر العلماء القدماء والمحدثين بأن ذلك كله لا يسبب الإفطار، وأن في الحجامة كلام مختلف فيه بناء على قوله صلى الله عليه وسلم: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) وهل هذا الحديث منسوخ أو ناسخ لحديث أنه احتجم صلى الله عليه وسلم وهو صائم؟. وقد كره العلماء الحجامة والفصد في نهار رمضان، لأنها تضعف الجسم ... أما سحب كمية قليلة من الدم لفحصه فلا يؤثر.
أرجو أن أكون قد استوفيت الرد على النقاط المذكورة في رسالة الأمانة العامة للمجمع الفقهي الموقر حول المفطرات في مجال التداوي من الناحية الطبية مع بعض الإشارات من الناحية الفقهية المتعلقة بها.
فإن أصبت فبفضل من الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان. وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه من خطأ عمد أو سهو.. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . [البقرة: 286]
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور محمد علي البار(10/750)
التداوي والمفطرات
إعداد
الدكتور حسان شمسي باشا
رئيس قسم العناية المركزة بمستشفى الملك فهد
استشاري أمراض القلب
عضو الكليات الملكية للأطباء الداخليين في بريطانيا
عضو الكليات الملكية للأطباء الداخليين في إيرالندا
بسم الله الرحمن الرحيم
مع إطلالة كل رمضان تكثر الأسئلة حول قضية المفطرات , وتزدحم الصحف والمجلات بالأسئلة حول ما يفطر وما لا يفطر من دواء أو علاج , ولا شك أن هذا الموضوع يمس الكثير من المسلمين، فقد يكون أحدهم مريضًا أو قريبًا لمريض.
وقد كثرت الآراء حول قضية التداوي والمفطرات، وحار كثير من المرضى فيما يأخذون من آراء. ولهذا فقد عقد المجمع الفقهي الإسلامي - جزى الله المسؤولين عنه وأعضاءه العاملين خير الجزاء - العزم على بحث موضوع المفطرات، والخروج منه بتوصيات محددة تزيل كل إشكال والتباس.
وكما يقول فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي: " فلقد توسع الفقهاء رضي الله عنهم في أمر المفطرات توسعًا ما أظنه خطر ببال أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين شاهدوا التنزيل وفهموا عن الله ورسوله، فأحسنوا الفهم والتزموا فأحسنوا الالتزام.
تقرأ في كتب الحنفية فتجد ما يقرب من ستين مفطرًا من المفطرات، ومثل ذلك أو قريبًا منه في المذاهب الأخرى، وملؤوا مساحات واسعة من كتب الفقه، وشغلوا مثلها من تفكير المسلمين واهتماماتهم، وأصبحت معرفة هذه المفطرات الكثيرة الغزيرة الشغل الشاغل للصائمين ولأهل الفتوى في كل رمضان، وازدحمت المجلات والصحب والإذاعات والمساجد بالأسئلة والأجوبة حول المفطرات. وبها بعد الدين عن يسره وفطريته، وأصبح شيئًا معقدًا يحتاج إلى دراسة مطولة لكل عبادة من العبادات حتى يعرف مداخلها ومخارجها وأركانها وشروطها, والواقع أن جل ما يقال في هذا المجال مما لم يدل عليه محكم قرآن ولا صحيح سنة، ولا إجماع أمة، إنما هي اجتهادات يؤخذ منها ويترك، وآراء بشر. ويجب أن تُحاكم وترد إلى النصوص الأصلية والقواعد الشرعية والمقاصد الكلية ". (1)
ولا بد في البداية من تعريف المقصود بالصوم الشرعي، وما هي المفطرات في مجال التشخيص والتداوي والعلاج.
__________
(1) (فقه الصيام) د. يوسف القرضاوي، طبعة مؤسسة الرسالة، 1990 م، ص 93 - 94(10/751)
الصوم الشرعي:
الصوم الشرعي: هو إمساك وامتناع إرادي عن الطعام والشراب ومباشرة النساء وما في حكمها خلال يوم كامل - أي من تبين الفجر إلى غروب الشمس - بنيَّة الامتثال والتقرب إلى الله تبارك وتعالى. والدليل على أن الصيام الشرعي هو الإمساك عن الشهوتين قوله تعالى في بيان أحكام الصيام في سورة البقرة: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] .
يؤكد ذلك من الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((كل عمل ابن آدم له، قال تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي)) . (1)
وفي بعض روايات الحديث: ((يدع طعامه من أجلي، ويدع شرابه من أجلي، ويدع شهوته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي)) . (2)
" ويتضح من هذه النصوص أن هذه الأشياء الثلاثة المحددة هي التي منع منها الصائمون، ويدخل في حكم الأكل والشرب كل ما يتناول قصدًا بالفم، ويصل إلى المعدة وإن لم يكن مشتهى ولا متلذذًا به، مثل الأدوية التي تتناول بالفم شربًا أو امتصاصًا أو ابتلاعًا، وهذا أمر مجمع عليه. وإذا كان المسلم في حاجة حقيقية إلى شيء من هذه الأدوية فهو مريض يسعه أن يفطر بإذن الشارع نفسه، ولا حرج عليه ولا جناح.
والمراد بما في حكم الطعام والشراب: " الشهوات التي اعتادها بعض الناس وإن لم تكن طعامًا أو شرابًا، مثل التدخين الذي يراه المبتلون به أهم من الأكل والشرب، فهو ممنوع في الصوم سواء عن طريق السيجارة أو الشيشة أو المضغ أو النشوق أو غيرها، وهذا بإجماع علماء المسلمين في أقطار الأرض، لأنه من أشد الشهوات التي يجب فطام الأنفس عنها في الصيام. وأشد منه وأبلغ في المنع تناول المخدرات المحرمة أشد التحريم، مثل الحشيش والأفيون والهيروين والكوكايين ونحوه، وإن أخذت بطريق الشم أو الحقن أو أي طريق كان ". (3)
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه ابن خزيمة في صحيحه.
(3) فقه الصيام، للدكتور يوسف القرضاوي.(10/752)
وفي اعتقادي أنه يجب استبعاد التدخين من موضوع التداوي منذ البداية؛ لأن التدخين ليس دواء بل إنه الداء بعينه، ولا ينبغي أن ينطبق عليه أي حكم من أحكام المداواة والمفطرات.
وقال ابن حزم: " لا ينقض الصوم حقنة (1) ولا سعوط (نشوق) ولا تقطير في أذن أو في إحليل أو في أنف، ولا استنشاق وإن بلغ الحلق ولا مضمضة دخلت الحلق من غير تعمد، ولا كحل وإن بلغ إلى الحلق نهارًا أو ليلًا بعقاقير أو غيرها ولا غبار طحن، أو غربلة دقيق أو حناء أو عطر أو حنظل، أو أي شيء كان، ولا ذباب دخل الحلق بغلبة ... إلخ " (2) واستدل ابن حزم لما ذهب إليه فقال: " إنما نهانا الله في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي , وما علمنا أكلًا ولا شرابًا يكون في دبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف، أو من جرح في البطن أو الرأس، وما نهينا قط عن أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب - ما لم يحرم علينا إيصاله ". (3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الكحل والحقنة والتقطير في الإحليل ووصول الدواء إلى الجوف عن طريق الجراحة ... إلخ: " الأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلًا علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك والله أعلم ". (4)
وقد وافق هذا الرأي الشيخ (محمود شلتوت) فقال:
" وإذا كان من محظور الصوم الأكل والشرب - وحقيقتها دخول شيء من الحلق إلى المعدة، والمعدة هي محل الطعام والشراب من الإنسان - كان من المبطل للصوم ما دخل فيها بخصوصها، سواء أكان مغذيًا أم غير مغذ، ولا بد أن يكون من المنفذ المعتاد. ومن أجل هذا فما دخل في الجوف ولكن لم يصل إليها لا يفسد الصوم ". (5)
__________
(1) يعنون بها الحقنة الشرجية، إذ أن الحقن العِرْقِيَّة والجلدية لم تكن معروفة في عهدهم.
(2) المحلى، لابن حزم: 6/ 300، 301
(3) المحلى، لابن حزم: 6/ 318
(4) فقه الصيام، الدكتور يوسف القرضاوي.
(5) الفتاوى، للشيخ محمود شلتوت، ص 136(10/753)
ولا بد أن نبدأ بتعريف الجوف المقصود بأحكام الصيام:
ما هو الجوف؟
الجوف لغة: كل شيء مجوف. جاء في الصحاح: " جوف الإنسان بطنه، والأجوفان: البطن والفرج، والجائفة الطعنة التي تبلغ الجوف، وقد جاء في الحديث الشريف: ((لا تنسوا الجوف وما وعى)) . أي ما يدخل إليه من الطعام والشراب ويجمع فيه ".
والحقيقة أنه لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة أي نص على الجوف في موضوع الصيام.
ولكن المتقدمين من الفقهاء - جزاهم الله خيرًا - وقعوا في التباس عندما فسروا (الجوف) بأنه كل ما يسمى جوفًا، وإن لم يكن مكان الطعام والشراب. فاعتبروا الدماغ جوفًا، وليس هو مكان طعام ولا شراب , وأن من كان برأسه مأمومة (إصابة بالدماغ) فوضع عليها دواء فوصل خريطة الدماغ أفطر ... واعتبروا الإحليل جوفًا وما هو بموضع طعام ولا شراب، ولا علاقة له بالجهاز الهضمي , وكذلك اعتبروا المهبل جوفًا والمثانة جوفًا وهكذا. والفقهاء معذورون في ذلك فربما كان بعض ذلك ناجمًا عن عدم درايتهم بتشريح الجسم في ذلك الحين.
أما الآن فليس هناك أدنى شك في أن الدماغ لا يرتبط بالجهاز الهضمي، وأن المثانة والإحليل لا علاقة لهما بالجهاز الهضمي، وأن المهبل والرحم منفصلان كليًّا عن جهاز الهضم.
وعليه فإن ما ذكره الفقهاء من أن المأمومة ومداواتها أو إدخال شيء في الإحليل أو المثانة يفطر: لا أساس له من الصحة.
والذي أراه هو أن الجهاز الهضمي هو الجوف المقصود في الصيام فهو موضع الطعام والشراب، وكل ما يدخل إلى الجهاز الهضمي متجاوزًا الفم والبلعوم يكون سببًا للإفطار ومفسدًا للصيام.(10/754)
ما هي أجزاء البلعوم؟ :
من المهم تحديد البلعوم (وهو ما يسميه الفقهاء بالحلق) وأجزائه، فهو الطريق الواصل إلى المريء، ومن ثم إلى المعدة والأمعاء. والبلعوم هو جزء من القناة الهضمية يلي تجويف الفم, وهو ينقسم إلى ثلاثة أجزاء:
الجزء العلوي: وهو ما يسمى بالبلعوم الأنفي (Nasopharynx) وفيه تصب إفرازات الأنف والجيوب الأنفية، وما يوضع في الأنف من دواء أو بخاخ، كما تصل إليه الدموع من العين والقطرات التي توضع في العين.
الجزء الأوسط: وهو ما يسمى بالبلعوم الفمي (Oropharynx) وعن طريقه يتم ابتلاع الطعام والشراب والدواء، وفيه تقع اللهاة واللوزتان.
الجزء السفلي: وهو ما يسمى بالبلعوم الحنجري: وفيه تقع فتحة الحنجرة والحبال الصوتية.
ما يدخل الجهاز الهضمي عن طريق الدبر:
ولكن السؤال الذي يطرح الآن: هل يعتبر الجوف هو الجهاز الهضمي كله بعد أن يتجاوز الفم؟ أم هو الجزء المحيل للطعام؟ (الذي يقوم بهضم الطعام) أي يقتصر على البلعوم والمريء والمعدة والأمعاء الدقيقة. فالأمعاء الغليظة (القولون) لا تحيل الطعام ولا تهضمه، ولكنها تقوم بامتصاص الماء فقط مما يتخلف عن الطعام المهضوم.
فهل الحقنة الشرجية أو اللبوسات (التحاميل، الفرزجات) تفطر أم لا؟ فعلى الرغم من إمكانية امتصاص شيء من الماء من الحقنة الشرجية إن مكثت طويلًا في القولون، ولكن ذلك لا يغني عن طعام ولا شراب. أما اللبوسات (التحاميل) الشرجية أو المراهم الشرجية فليس فيها ما يتغذى بها، ولا تدخل من موضع الطعام أو الشراب، وبالتالي فأرى أنها لا تفطر.(10/755)
ما يدخل إلى التجويف البطني:
والجائفة هي الطعنة التي تصل إلى التجويف البطني, فإن وصلت إلى المعدة أو الأمعاء الدقيقة، ونفذ الدواء من موضعها إلى المعدة أو الأمعاء فلا شك أنها تسبب الإفطار؛ لأني وصلت إلى الجهاز الهضمي الذي يهضم الطعام , أما إذا لم تصل إلى المعدة أو الأمعاء الدقيقة فليست سببًا للإفطار, وعليه فإن منظار البطن (LAPROSCOPE) الذي يدخل إلى التجويف البطني عبر فتحة صغيرة في جدار البطن لا يصل إلى المعدة أو الأمعاء، وإنما ينظر في تجويف البطن والأحشاء، والذي تجري حاليًا بواسطته العديد من العمليات الجراحية كاستئصال المرارة والزائدة وغيرها من العمليات، لا يعتبر بذاته سببًا للإفطار إلا إذا ترافق ذلك بإعطاء المريض السوائل المغذية بالوريد. وأما خزعة الكبد أو الكلية أو المبايض وغيرها فلا تكون سببًا للإفطار، إذ لا علاقة لها بمدخل الطعام أو الشراب.
مناظير الجهاز الهضمي:
مناظير الجهاز الهضمي نوعان:
الأول وهو (منظار المعدة) : ويدخل عن طريق الفم فالبلعوم فالمريء فالمعدة. والآخر هو (منظار المستقيم والقولون) ويدخل عن طريق الدبر. وهذان المنظاران يدخلان إلى الجهاز الهضمي للتشخيص كما في أكثر الحالات، وقد تؤخذ فيها خزعات من المعدة أو المستقيم مما قد يسبب نزفًا بسيطًا مكان الخزعة.
وقد يدخل منظار المعدة للعلاج في بعض الحالات، كحقن دوالي المريء بمادة مصلبة لإيقاف النزف منها مثلًا. كما قد يدخل منظار القولون لاستئصال مرجلات (POLYPS) وهي نتوءات لَحْمِيَّة في القولون.
والذي أراه أن منظار المعدة ينطبق عليه ما ينطبق على دخول القسم العلوي من الجهاز الهضمي، وبالتالي فهو سبب للإفطار. أما منظار المستقيم والقولون فينطبق عليه حكم ما يدخل عن طريق الدبر.
ما يجعل في الإحليل أو المثانة من دواء وغيره:
المثانة عضو كيسي يتجمع فيه البول الذي تفرزه الكليتان. وتتصل المثانة من الأسفل بقناة مجرى البول والتي تسمى بالإحليل. ورغم أن المثانة عضو أجوف إلا أنه لا علاقة لها بالجهاز الهضمي، وليست هي مدخلًا للطعام أو الشراب. وعليه فإن إدخال أي دواء أو قسطار أو منظار عبر الإحليل إلى المثانة والتقطير في الإحليل، كل ذلك لا يعتبر من مفسدات الصيام.(10/756)
ما يجعل في المهبل أو الرحم:
ليست هناك أي علاقة بين المهبل والرحم بالجهاز الهضمي، وبالتالي فإن إدخال الأصبع أثناء الفحص الطبي أو المنظار المهبلي أو اللبوسات (التحاميل أو الفرزجات) في المهبل لا علاقة له بجهاز الهضم أو موضع الطعام والشراب. ولكن يبقى القول فيما إذا كان ذلك يقاس على أن المهبل مكان الجماع أم لا، موضع نقاش. كما أن إدخال منظار الرحم أو اللولب إلى الرحم، يتبع الحكم السابق باعتبار أن ذلك يمر عبر المهبل.
ما يدخل الدماغ:
ذكرنا أن الدماغ لا علاقة له بالجهاز الهضمي، وبالتالي فإن ما يدخل إلى الدماغ من جرح (وهو ما يسميه الفقهاء بالمأمومة) لا يصل شيء منه إلى البلعوم أو الأنف مهما وضع فيه دواء أو غيره. وبالتالي فإن المأمومة لا تعتبر سببًا لإفساد الصيام. ولا يصل (السائل الدماغي - الشوكي) الذي يسيل حول النخاع الشوكي إلى الأنف والبلعوم الفمي إلا في حالة وجود كسر في قاعدة الجمجمة. وهذه الحالة بالأصل حالة خطيرة تحتاج إلى دخول المستشفى وغالبًا في قسم العناية المركزة. وقد يحتاج المريض إلى إجراء عملية جراحية. كما يعطى عادة سوائل مغذية بالوريد. وبالتالي فهي حالة تستدعي الإفطار أصلًا كما تعتبر سببًا لإفساد الصيام. أما الإفرازات التي كان القدماء يظنونها آتية من الدماغ؛ فما هي إلا افرازات من الجيوب الأنفية ولا علاقة لها بالدماغ.
ما يجعل في الأذن من دواء ونحوه:
تنقسم الأذن إلى ثلاثة أجزاء: الأذن الخارجية، والوسطى، والداخلية.
ويفصل الأذن الخارجية عن الوسطى غشاء الطبل (طبلة الأذن) . وتتصل الأذن الوسطى بالبلعوم عن طريق قناة ضيقة تسمى (قناة أستاكيوس) وهذه القناة تمرر الهواء عادة لتحافظ على توازن الضغط داخل الأذن. ولا يمكن لأي سائل أو قطرة توضع في الأذن الخارجية الوصول إلى البلعوم ما لم يكن غشاء الطبل مثقوبًا , ولهذا فإن نبس الأذن أو إدخال عود أو وضع قطرة من الدواء أو سائل ما في الأذن وغشاء الطبل غير مثقوب: لا يعتبر مفسدا للصيام , أما إذا كان غشاء الطبل مثقوبًا؛ فيمكن لقطرة الأذن الوصول إلى البلعوم رغم أن الكمية التي ستصل إلى البلعوم ضئيلة جدًّا.(10/757)
ما يدخل إلى العين:
تنفتح القناة الدمعية التي تخرج من جوف العين على الأنف، عبر فتحة فيه , وبالتالي فإن وضع قطرة في العين تصل إلى الأنف ومنه إلى البلعوم , ولا بد هنا من توضيح بعض النقاط: فجوف العين لا يتسع لأكثر من قطرة واحدة فقط، وكل ما زاد عن ذلك تلفظه العين إلى الخارج فيسيل على الخد , ومن المعروف أن أطباء العين يصفون وضع قطرة أو قطرتين في العين كل 4 - 6 ساعات مثلًا.
ولكي نتمثل كمية هذه القطرة الواحدة لا بد أن نذكر بأن الميلي ليتر الواحد يحتوي على 15 قطرة وأن ملعقة الشاي الصغيرة تحتوي على 5 ميلي ليتر من السائل , وعليه فإن القطرة الواحدة التي توضع في العين تبلغ جزءًا من 75 جزءًا مما تحتويه ملعقة الشاي الصغيرة من السائل , وهذه تعتبر كمية ضئيلة جدًّا , وهي بلا شك أقل بكثير مما يتبقى في الفم بعد المضمضة أو مما يدخل في الأنف أثناء الاستنشاق.
وقد أقر الفقهاء المضمضة أثناء الصيام ولو كانت للتبرد , ولا بأس بالاستنشاق ما لم يبالغ , فقد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن المبالغة في الاستنشاق , وينبغي أن نتذكر أيضًا أن المسواك يحتوي على ثمانية مواد كيميائية تقي الأسنان واللثة مما قد يعتريها من أمراض , وهذه المواد تنحل باللعاب وبالتالي تدخل إلى البلعوم , وقد جاء في صحيح البخاري عن عمر بن ربيعة قال: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصي ولا أعد)) . والحقيقة أن كمية قطرة العين التي تعارف عليها الأطباء كمية زهيدة جدًّا، وما يتذوق من طعمها المر فإنما يتذوق في مؤخرة اللسان، حيث أن الحليمات الذوقية موجودة في اللسان فقط , وفي ظني أن قطرة العين لا تفسد الصيام، والله أعلم.
ما يدخل عبر الأنف والمجاري التنفسية:
ذكرنا أن الأنف يتصل في نهايته بالبلعوم الأنفي , وأن ما يدخل عبر الأنف أو الجيوب الأنفية يمكن أن يصل إلى البلعوم الأنفي,(10/758)
فما حكم البخاخ الذي يستعمل في مرض الربو؟
لا بد هنا من إيضاح ما يحتويه هذا البخاخ واستعماله, فبخاخ الربو يحتوي على دواء سائل (فيه ماء ومواد كيميائية عالقة) , ويتم استعماله بأخذ شهيق عميق ويضغط عليه في الوقت ذاته, وعندئذ يتطاير الرذاذ ويدخل عن طريق الفم إلى البلعوم الفمي، ومنه إلى الرغامي فالقصبات الهوائية, ولكن يبقى جزء منه في البلعوم الفمي، وقد تدخل كمية ضئيلة جدًّا إلى المريء , وتحتوي عبوة بخاخ الربو على حوالي 10 ميلي ليتر من السائل بما فيه من المادة الدوائية , وهذه الكمية مصممة على أن تنطلق على 200 بخة (أي أن الـ10 ميلي ليتر تنتج 200 بخة) , وهذا معناه أنه في كل بخة يخرج جزء من 25 جزء من الميلي ليتر الواحد, وبمعنى آخر فإن البخة الواحدة تشكل أقل من قطرة واحدة , وهذه القطرة الواحدة ستقسم إلى أجزاء يدخل الجزء الأكبر منه إلى جهاز التنفس، وجزء آخر يترسب على جدار البلعوم الفمي , فكم يتبقى من تلك القطرة للوصول إلى الجوف (الجهاز الهضمي) ؟ وقد يكون ما يدخل من قطرات عقب الاستنشاق أو المضمضة أكثر من ذلك بكثير.
أما الأوكسجين الذي يعطى لبعض المرضى فهو هواء، ولا يحتوي على مواد عالقة أو مغذية , ويذهب معظمه إلى الجهاز التنفسي، وليس هو سببًا للإفطار.
وأما التخدير العام (التخدير الكلي) : فيشتمل استنشاق غازات مثل الأثير وغيره، كما يتم فيه عادة إعطاء حقنة في الوريد من مادة دوائية سريعة التأثير تنوم المريض بسرعة، ثم يدخل أنبوب خاص مباشرة إلى الرغامي عبر الأنف أو الفم ويوصل هذا الأنبوب إلى جهاز التنفس الاصطناعي، ويتم عن طريقه إعطاء الغازات التي تؤدي إلى تخدير المريض خلال فترة العملية الجراحية , وهذه الغازات لا علاقة لها بالجهاز الهضمي، وبالتالي لا تفسد الصوم بذاتها , ولكن تبقى هناك أربع نقاط:
الأولى: وهي موضوع إعطاء السوائل المغذية بالوريد، والتي يرى كثير من الفقهاء أنها تسبب الإفطار.
الثانية: مدة الإغماء وفقدان الوعي.
والثالثة: أنه قد يدخل أحيانًا أنبوب إلى المعدة لاستخراج السوائل المتراكمة فيها.
والرابعة: أن المريض قد يتقيأ بعد العملية من أثر التخدير.
وعليه فإن التخدير العام قد لا يخلو من أحد الأمور التي تفسد الصوم، وبالتالي أرى أن التخدير العام سبب للإفطار.(10/759)
الغسيل الكلوي:
يتم غسيل الكلى عادة بطريقتين:
الأولى: تتم بواسطة آلة خاصة تسمى (الكلية الاصطناعية) وفيها يسحب الدم إلى هذا الجهاز، حيث تتم تصفيته من البولة الدموية والمواد المؤذية الأخرى، ومن ثم يعاد إلى الجسم عن طريق الوريد. وهناك عدة أنواع من جهاز الكلية الاصطناعية لا مجال لبحثها في هذه الخلاصة , ولكن الأمر الهام هنا هو أن المريض قد يحتاج إلى سوائل مغذية تعطى عن طريق الوريد , وعليه فالذي أراه أن الغسيل الكلوي عن طريق الكلية الاصطناعية مفسد للصوم.
والطريقة الأخرى لغسيل الكلية تتم عن طريق الغشاء البريتواني في البطن، حيث يدخل أنبوب عبر فتحة صغيرة يحدثها الطبيب في جدار البطن فوق السرة , ومن ثم يدخل عادة ليتران من السوائل التي تحتوي على نسبة عالية من سكر الغلوكوز إلى داخل جوف البطن، وتبقى هناك لفترة ثم تسحب مرة أخرى، وتكرر هذه العملية مرات عديدة في اليوم الواحد , ويتم أثناء ذلك تبادل الشوارد والسكر والأملاح الموجودة في الدم عبر البريتوان , ومن الثابت علميًّا أن كمية من سكر الغلوكوز الموجودة في السائل الذي يوضح في داخل جوف البطن تدخل إلى دم الصائم عبر الغشاء البريتواني، وهذه برأيي في حكم السوائل المغذية , وبالتالي أرى أن هذا النوع أيضًا من غسيل الكلى مفسد للصوم.
ما يتعلق بالأوردة والعضلات:
يتفق الفقهاء على أن الفصد لا يفسد الصوم، وبالتالي فإن سحب الدم لإجراء الفحوص المخبرية أو لإسعاف مريض به لا يفسد الصوم , أما إذا سبب الضعف للصائم أصبح مكروهًا. وقد اختلف الفقهاء في موضوع الحجامة.
وأما الحقن العضلية أو تلك التي تعطى تحت الجلد فلا تفسد الصوم سواء كانت للعلاج أو للتطعيم (اللقاحات) , ولكن هناك نوعًا من الإبر تعطى تحت الجلد وتسبب الإقياء وتدعى (أبومورفين) تعطى في حالات التسممات الدوائية، وهذه حكمها حكم من يتعمد الإقياء.
وأما نقل الدم: لإسعاف المريض فلا يفسد صومه، فلا علاقة له بالجهاز الهضمي. وأما الحقن بالوريد فإن كانت للعلاج ولا تحتوي على مغذٍّ فلا تسبب الإفطار , أما تلك التي تحتوي على مغذ (كالسيروم) فيمكن أن تغني عن الطعام والشراب، وبالتالي فهي سبب للإفطار.
وأما ما يدخل الشرايين والأوردة من قسطار لإجراء تصوير شعاعي لتلك الشرايين أو الأوردة، أو لإجراء القسطرة القلبية وما يتضمن ذلك من حقن مادة ملونة فليست سببًا للإفطار.
ما يصل الجسم عن طريق الجلد:
لا شك أن الأدهان الجلدية والمروخات واللصقات الجلدية (مثل لصقة نيترودرم) التي تعطى للمصابين بالذبحة الصدرية؛ كلها تمتص عن طريق الجلد، ولكن ذلك لا علاقة له بالجهاز الهضمي، ولا تسبب إفساد الصوم.
هذا ما رأيته بالنسبة لموضوع التداوي والمفطرات , فإن أصبت فالمنة لله وحده، وإن زللت فمن نفسي، والله الهادي إلى سواء السبيل.
د. حسان شمسي باشا(10/760)
الدليل الطبي
للمريض في شهر الصيام
إعداد
الدكتور حسان شمسي باشا
رئيس قسم العناية المركزة بمستشفى الملك فهد
استشاري أمراض القلب
عضو الكليات الملكية للأطباء الداخليين في بريطانيا
عضو الكليات الملكية للأطباء الداخليين في أيرلندا
بسم الله الرحمن الرحيم
مع إطلالة كل رمضان يتساءل كثير من المرضى فيما إذا كانوا يستطيعون الصوم أم لا، وفيما اذا كان صيام رمضان يزيد من مرضهم سوءًا، أو يفاقم من أعراضهم أم لا.
أسئلة كثيرة تتردد على بال المرضى وأقربائهم، والبعض يقع فريسة الأوهام، أو يفتيه جاهل بالطب فيصوم أو يفطر، دون الرجوع إلى طبيب أخصائي مسلم يقوِّم حالته، ويعطيه النصيحة والإرشاد.
وكثير من المرضى من يريد الصيام، وهو لا يقوى عليه، أو قد يكون في صيامه عبء على مرضه، أو تفاقم في أعراضه، وكثيرا ما كانت الآراء الطبية مبنية على خبرات ذاتية، أو على ما نشر في مقالات متفرقة هنا وهناك، وللأسف الشديد فليس هناك في كلية الطب - على حد علمي - مادة اسمها (الصيام وتأثيراته على الأمراض المختلفة) ، كما أنه ليس هناك مرجع طبي يجمع كل الدراسات العلمية المنشورة في المجلات الطبية الأمريكية والأوروبية والعربية والمتعلقة بالصيام، فحتى سنوات قليلة خلت لم تكن هناك سوى دراسات محددة جدًّا في تلك المجالات.
وقد سرني أن أجد عددًا من الدراسات العلمية الحديثة، وقد نشرت حول الصيام في عدد من المجلات الطبية العالمية، فكانت هناك دراسة في مجلة (B.M.J) البريطانية عن الصيام ومرضى السكري، وأخرى عن تأثير الصيام على الوليد، وثالثة حول تأثير الصيام على مرضى الفشل الكلوي، وهكذا، ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى وضع كتاب شامل لموقف الطب من الصيام في العديد من أمراض القلب والصدر والهضم والكلى ويشمل كافة الدراسات العلمية الحديثة، ووصايا الخبراء في تلك المجالات.
ولهذا قمت بتأليف كتابي (الدليل الطبي والفقهي للمريض في شهر الصيام) وهو الآن في طريقه إلى النور (تحت الطبع) ، وقد رأيت أن أضع أمامكم ملخصًا لما جاء في ذلك الكتاب، ومن شاء المزيد من التفاصيل رجع إلى ذلك المصدر، وينبغي التنويه إلى أن هذه الإرشادات ما هي إلا وصايا عامة، ولا يمكن أن تنطبق بحال من الأحوال على كل المرضى، ويعود تقويم حالة المريض وإرشاده إلى طبيبه المختص المسلم، فهو أدرى بحاله وأعلم بأمره.(10/761)
1- مريض الجهاز الهضمي في شهر الصيام:
يعتبر شهر رمضان بحق شهر إجازة للجهاز الهضمي، ولكن المؤسف حقًّا أن يتخم الكثير منا نفسه عند الإفطار بشتى فنون الطعام والشراب، فيحول سعادة المعدة والأمعاء إلى تخمة وعناء، وسنستعرض أهم أمراض الجهاز الهضمي ذات العلاقة بالصيام ,
أ) قرحة المعدة أو الاثنى عشر: pepticulcer
يشكو المصاب بالقرحة الحادة من آلام في المعدة عند الجوع، أو ألم يوقظه من النوم، ويخف ألم قرحة الإثني عشر بتناول الطعام، ولكن كثيرًا ما يعود الألم بعد عدة ساعات.
وينبغي على مريض القرحة المصاب بإحدى الحالات التالية الإفطار:
1 - القرحة الحادة: وذلك حين يشكو المريض من أعراض القرحة، كالألم عند الجوع، أو ألم يوقظه من النوم.
2 - في حال حدوث انتكاسة حادة في القرحة المزمنة: وينطبق في تلك الحالة ما ينطبق على القرحة الحادة.
وكذلك الأمر عند الذين تستمر عندهم أعراض القرحة رغم تناول العلاج بانتظام.
3 - عند حدوث مضاعفات القرحة، كالنزيف الهضمي، أو عند عدم التئام القرحة رغم الاستمرار بالعلاج الدوائي.
ب) عسر الهضم: Dyspepsia
وهي كلمة شائعة تشمل عددًا من الأعراض التي تعقب تناول الطعام، وتشمل الألم البطني وغازات البطن والتجشؤ والغثيان، وحس عدم الارتياح في أعلى البطن، وخاصة عقب تناول وجبة كبيرة، أو بعد تناولها بسرعة، أو بعد تناول طعام غني بالدسم أو البهارات.
وكثيرًا ما تتحسن أعراض هؤلاء المرضى بصيام رمضان، شريطة ألا تكون لديهم قرحة حادة في المعدة أو الإثني عشر، أو التهاب في المريء أو بسبب عضوي آخر، وشريطة تجنب الإفراط في تناول الطعام عند الإفطار والسحور.(10/762)
ج) فتق المعدة (أو فتق الحجاب الحاجز) : Hiatus Hernia
يحدث فتق المعدة بشكل خاص عند البدينين، وخاصة عند النساء في أواسط العمر، ومعظم المصابين بفتق المعدة لا يشكو من أية أعراض، ولكن قد يشكو البعض من حرقة وحموضة في المعدة، وخاصة عند امتلائها أو الانحناء إلى الأمام أو الاستلقاء، حيث يعود جزء من محتويات المعدة إلى المريء.
وينبغي على البدينين أن يسعوا جاهدين لإنقاص وزنهم، فهو خير علاج لحالتهم، وينصح المريض بتناول وجبات صغيرة عند الإفطار والسحور، مع تناول الأدوية بانتظام وتخفيف الدسم، والتوقف عن التدخين، وترك فترة 4 ساعات بين وجبة الطعام والنوم، أما إذا كانت هناك مشقة على المريض، أو ازدادت الأعراض سوءًا بالصيام فينصح المريض بالإفطار.
د) الإسهال:
ينصح المريض المصاب بالإسهال بالإفطار، وخاصة إذا كان الإسهال شديدًا، فلا يستطيع المريض الصيام، لعدم قدرة الجسم على تعويض ما يفقده من سوائل وأملاح ومعادن بسبب الإسهال.
وإذا صام المصاب بالإسهال فقد يصاب بالجفاف وهبوط في ضغط الدم أو يصاب بالفشل الكلوي.
هـ) أمراض الكبد:
ينصح المصابون بأمراض الكبد المتقدمة كتشمع الكبد وأورام الكبد بالإفطار، كما ينصح بالإفطار أيضًا المصابون بالتهاب الكبد الفيروسي الحاد، أو الاستسقاء في البطن (الحبن) .
و) عمليات قطع المعدة:
هناك بعض المرضى الذين أجريت لهم عملية قطع أو استئصال جزء من المعدة بسبب قرحة في المعدة مثلًا، وهؤلاء المرضى يحتاجون إلى تناول وجبات صغيرة من الطعام وبطريقة منتظمة، وقد لا يستطيعون الصيام.(10/763)
2 - مريض القلب في شهر الصيام:
لا شك أن في الصيام فائدة عظيمة لكثير من مرضى القلب، ولكن هناك حالات معينة قد لا تستطيع الصيام.
أ) ارتفاع ضغط الدم:
يفيد الصيام في علاج ارتفاع ضغط الدم، فإنقاص الوزن الذي يرافق الصيام يخفض ضغط الدم بصورة ملحوظة، كما أن الرياضة البدنية من صلاة تراويح وتهجد وغيرها تفيد في خفض ضغط الدم المرتفع.
وإذا كان ضغط الدم مسيطرًا عليه بالدواء أمكن للمريض الصيام شريطة أن يتناول أدويته بانتظام، فهناك حاليًا أدوية لارتفاع ضغط الدم تعطى مرة واحدة أو اثنتان في اليوم.
ب) فشل القلب (قصور القلب) : Heart Failure
فشل القلب نوعان: فشل القلب الأيسر وفشل القلب الأيمن، ويشكو المريض عادة من ضيق النفس عند القيام بالجهد، وقد يحدث ضيق النفس أثناء الراحة، وينصح المصاب بفشل القلب الحاد (Acute heart failure) بعدم الصيام، حيث يحتاج لتناول مدرات بولية وأدوية أخرى مقوية لعضلة القلب وكثيرًا ما يحتاج إلى علاج في المستشفى.
أما إذا تحسنت حالته واستقر وضعه، وكان لا يتناول سوى جرعات صغيرة من المدرات البولية فقد يمكنه الصيام.
وينبغي استشارة طبيب القلب المسلم فهو الذي يقرر ما إذا كان المريض قادرًا على الصوم أم لا، إذ يعتمد ذلك على شدة المرض وكمية المدرات البولية التي يحتاج إليها.
ج) الذبحة الصدرية: Angina pectoris
تنجم الذبحة الصدرية عادة عن تضيق في الشرايين التاجية المغذية لعضلة القلب.
ِوإذا كانت أعراض المريض مستقرة بتناول العلاج، ولا يشكو المريض من ألم صدري أمكنه الصيام في شهر رمضان، بعد أن يراجع طبيبه للتأكد من إمكانية تغيير مواعيد تعاطي الدواء.
أما مرضى الذبحة الصدرية غير المستقرة، أو الذين يحتاجون لتناول حبوب النيتروغليسرين تحت اللسان أثناء النهار فلا ينصحون بالصوم، وينبغي عليهم مراجعة الطبيب لتحديد خطة العلاج.(10/764)
د) جلطة القلب (احتشاء العضلة القلبية) : Myocardial Infarction
تنجم جلطة القلب عن انسداد في أحد شرايين القلب التاجية، وهذا ما يؤدي إلى أن تموت خلايا المنطقة المصابة من القلب، ولا ينصح مرضى الجلطة الحديثة، وخاصة في الأسابيع الستة الأولى بعد الجلطة بالصيام، أما إذا تماثل المريض للشفاء وعاد إلى حياته الطبيعية، فيمكنه حينئذ الصيام شريطة تناوله الأدوية بانتظام.
هـ) أمراض صمامات (دسامات) القلب:
تنشأ أمراض صمامات القلب عادة عن إصابة هذه الصمامات بالحمى الرئوية (الحمى الروماتيزمية) في فترة الطفولة، فيحدث تضيق أو قلس (قصور) في الصمام نتيجة حدوث تليف في وريقات الصمام.
وإذا كانت حالة المريض مستقرة، ولا يشكو من أعراض تذكر أمكنه الصيام، أما إذا كان المريض يشكو من ضيق النفس ويحتاج إلى تناول المدرات البولية فينصح بعدم الصوم.
و) من هم مرضى القلب الذين ينصحون بعدم الصيام؟
1) المرضى المصابون بفشل القلب (قصور القلب) غير المستقر.
2) مرضى الذبحة الصدرية غير المستقرة، أو غير المستجيبة للعلاج.
3) مرضى الجلطة القلبية الحديثة.
4) حالات التضيق الشديد أو القصور الشديد في صمامات القلب.
5) الحمى الرئوية (الروماتيزمية) النشطة.
6) الاضطرابات الخطيرة في نظم القلب.
7) خلال فترة الأسابيع الستة التي تعقب عمليات جراحة القلب.(10/765)
3 - مريض الكلى في شهر الصيام:
تقوم الكليتان بوظائف عديدة منها تنقية الدم من الفضلات الآزوتية، ومراقبة توازن الماء والشوارد في الدم، والحفاظ على توازن قلوي حامضي ثابت في الجسم، وإذا كانت الكليتان سليمتين فالصوم لهما راحة وعافية، أما عندما تصبح الكلى مريضة، فلا تستطيع القيام بالكفاءة المطلوبة لتركيز البول والتخلص من المواد السامة كالبولة الدموية (urea) وغيرها.
ومن هنا يصبح الصيام عبثًا على المريض المصاب بالفشل الكلوي، وخصوصًا في المناطق الحارة، مما قد يؤدي إلى ارتفاع نسبة البولة الدموية والكرياتنين في الدم، وينبغي على أي مريض مصاب بمرض كلوي استشارة طبيبه قبل البدء بالصيام، فإذا لم يتناول مريض الكلى كمية كافية من الماء فقد يصاب بالفشل الكلوي.
أ) الحالات الحادة من أمراض الكلى:
قد يحتاج المصاب بمرض كلوي حاد دخول المستشفى وتلقي العلاج هناك، وفي هذه الحالة ينبغي عدم الصوم.
ومن هذه الحالات التهاب الحويضة والكلية الحاد، والتهاب المثانة الحاد والقولنج الكلوي، والتهاب الكبد والكلية الحاد.
ب) الحصيات الكلوية:
إذا لم يكن لدى المرء حصيات كلوية من قبل فلا داعي للقلق في شهر رمضان، أما الذين لديهم حصيات كلوية، أو قصة تكرر حدوث حصيات في الكلى، فقد تزداد حالتهم سوءًا بالجفاف إذا لم يشرب المريض السوائل بكميات كافية.
ويستحسن في مرضى الحصيات بالذات الامتناع عن الصيام في الأيام الشديدة الحرارة، حيث تقل كمية البول بدرجة ملحوظة مما قد يساعد على زيادة حجم الحصيات، ويعود تقدير الحالة إلى الطبيب المختص.
وعمومًا ينصح مرضى الحصيات الكلوية بتناول كميات وافرة من السوائل في المساء وعند السحور، مع تجنب التعرض للحر والمجهود المضني أثناء النهار.(10/766)
ج) التهاب الحويضة والكلية المزمن: Chronic pyelonephritis
وقد تؤدي هذه الحالة بعد فترة من الزمن إلى حدوث الفشل الكلوي، ولهذا يستحسن عدم الصوم، فقد يزيد ذلك من احتمال حدوث الفشل الكلوي، ويعود تقرير ذلك إلى الطبيب المعالج.
د) التهاب الكبد والكلى المزمن: chronic Glomerulonephritis
وفيه تصاب الكلى بخلل في وظائفها، وقد يؤدي ذلك إلى حدوث (التناذر الكلوي) وفيه يصاب المريض بوذمة (انتفاخ) في الساقين، وبنقص في ألبومين الدم، وظهور كميات كبيرة من البروتين في البول.
وينصح هؤلاء المرضى بعدم الصوم، وخاصة إذا كان المرض مصحوبًا بالتناذر الكلوي وارتفاع ضغط الدم أو الفشل الكلوي.
هـ) الفشل الكلوي المزمن: Chronic Renal Failure
تمر بعض أمراض الكلى بمراحل قد تنتهي بما يسمى الفشل الكلوي المزمن، وذلك حينما يتخرب قسم كبير من أنسجة الكليتين، ويشكو المريض حينئذ من الإعياء والفواق وكثرة التبول، والتبوال الليلي والعطش , ويرتفع في تلك الحالة مستوى البولة الدموية والكرياتنين، وقد يزداد بوتاسيوم الدم، وينصح مرضى الفشل الكلوي المزمن بعدم الصوم، أما إذا كان المريض يتلقى الغسيل الكلوي فربما يستطيع الصوم في اليوم الذي لا يجري فيه غسيل الكلى، ويفطر في يوم الغسيل الكلوي، ومرة أخرى ينبغي على المريض استشارة طبيبه المختص في ذلك.(10/767)
4 - مريض السكري في شهر الصيام:
يقسم مرضى السكر إلى فئتين، فئة تستطيع الصوم وأخرى تمنع من الصوم.
أ) مريض السكري الذي يستطيع الصوم:
1 - مريض السكري الكهلي (سكري النضوج) الذي يعالج بالحمية الغذائية فقط.
2 - مريض السكري الكهلي الذي يعالج بالحمية الغذائية والأقراص الخافضة لسكر الدم: وهذه الفئة تقسم بدورها إلى قسمين:
1) المريض الذي يتناول حبة واحدة يوميًّا: يستطيع الصيام عادة، على أن يفطر بعد أذان المغرب مباشرة على تمرتين أو ثلاث تمرات مع كأس من الماء، وبعد صلاة المغرب يتناول وجبة الدواء ثم يبدأ بالوجبة الرئيسية للإفطار.
2) الذي يتناول حبتين يوميًّا: يستطيع الصوم عادة، على أن يتناول حبة واحدة قبل الإفطار ونصف حبة قبل السحور بدلًا من الحبة الكاملة التي كان يتناولها قبل شهررمضان، وهكذا لأكثر من حبتين يوميًّا، بحيث يكون المبدأ إنقاص جرعة ما قبل السحور إلى النصف بناءً على توصية طبيبه المعالج.
ب) مريض السكري الذي لا يستطيع الصوم:
1- مريض السكري الشبابي (المريض الذي يصاب بمرض السكري دون الثلاثين عاما من العمر) .
2 - مريض السكري الذي يحقن بكمية كبيرة من الإنسولين (أكثر من 40 وحدة دولية يوميا) ، أو الذين يتعاطون الإنسولين مرتين يوميًّا.
3 - المريض المصاب بالسكري غير المستقر.
4 - المريضة الحامل المصابة بالسكري.
5 - المريض المسن المصاب بالسكري لسنين طويلة، وفي الوقت نفسه يعاني من مضاعفات مرض السكر المتقدمة.
6 - المريض الذي أصيب بحماض ارتفاع السكر قبل شهر رمضان بأيام أو في بدايته.
وينبغي التأكيد على الحقائق التالية:
1 - يجب على المريض الذي يصاب بنوبات نقص السكر أو الارتفاع الشديد في سكر الدم أن يقطع صيامه فورًا، لأنه يضطر إلى علاج فوري.
2 - ينبغي تقسيم الوجبات إلى ثلاثة أجزاء متساوية، الأولى عند الإفطار، والثانية بعد صلاة التراويح، والثالثة عند السحور.
3 - يفضل تأجيل وجبة السحور قدر الإمكان.
4 - الحذر من الإفراط في الطعام، وخاصة الحلويات أو السوائل المحلاة.
وبصفة عامة فإن السماح بالصيام أو عدمه إضافة إلى تنظيم الدواء وأوقات تناولها يعود إلى الطبيب المعالج دون غيره.
5 - مريض الصدر في شهر الصيام:
كثيرا ما تأتي أمراض الصدر فجأة على شكل التهاب في القصبات أو التهاب في الرئة.(10/768)
أ) التهاب القصبات الحاد: Acute Bronchitis
إذا كانت حالة التهاب القصبات الحاد بسيطة، فإن المريض يستطيع تناول علاجه ما بين الإفطار والسحور، أما إذا احتاج الأمر لمضادات حيوية تعطى كل 6 - 8 ساعات، أو إذا كانت الحالة شديدة فينصح بالإفطار حتى يشفى من الالتهاب.
ب) التهاب القصبات المزمن: Chronic Bronchitis
وفيه يشكو المريض من سعال مترافق ببلغم يوميًّا ولمدة ثلاثة أشهر متتابعة ولسنتين متتابعتين على الأقل.
وإذا كانت حالة المريض مستقرة استطاع الصيام دون مشقة تذكر، أما في الحالات الحادة التي تحتاج إلى مضادات حيوية أو موسعات القصبات أو البخاخات الحاوية على مواد موسعة للقصبات فيقدر الطبيب المختص ما إذا كان المريض يستطيع الصوم أم لا.
ج) الربو القصبي: Asthma
قد تكون نوبات الربو خفيفة لا تحتاج إلى تناول أدوية عن طريق الفم، كما يمكن إعطاء المريض الأقراص المديدة التأثير عند الإفطار والسحور، وكثير من مرضى الربو من يحتاج إلى تناول بختين أو أكثر من بخاخ الربو عند الإحساس بضيق في الصدر، ويعود بعدها المريض إلى ممارسة حياته اليومية بشكل طبيعي، ولا ينبغي للمريض عند حدوث الأزمة متابعة الصيام، بل عليه تناول البخاخ فورًا، ومن العلماء الأفاضل من أفتى بأن هذه البخاخات لا تفطر.
ولكن ينبغي الإفطار قطعًا عند حدوث نوبة ربو شديدة حيث كثيرًا مايحتاج المريض إلى دخول المستشفى لتلقي العلاج المكثف لها.
كما ينبغي الإفطار إذا ما أصيب بنوبة ربو لم تستجب للعلاج المعتاد، ويجب التنبيه إلى أن الانقطاع عن الطعام والشراب في تلك الحالات يقلل بشكل واضح من سيولة الإفرازات الصدرية، وبالتالي يصعب إخراجها.
د) السل (التدرن الرئوي) :
يستطيع المريض المصاب بالسل الصيام إذا كانت حالته العامة جيدة وفي غياب أية مضاعفات، شريطة أن يتناول المريض دواءه بانتظام، وتعطى أدوية السل عادة مرة واحدة أو مرتين في اليوم، أما في المرحلة الحادة من المرض فيستحسن عدم الصيام حتى يتحسن وضع المريض العام.(10/769)
6 - أمراض الغدد في شهر الصيام:
الغدد الصماء: هي مجموعة من الأعضاء في جسم الإنسان تختص بإفراز الهرمونات , وأهم هذه الغدد: الغدة النخامية، والغدة الدرقية، والغدة الكظرية، ومجاورات الدرق، والمبيضان والخصيتان والبنكرياس.
أ) أمراض الغدة الدرقية:
1) فرط نشاط الغدة الدرقية: Hyperthroidism
وينجم عن إفراز كميات زائدة من هرمون الثيروكسين، ويشكو المريض عادة من تضخم في الغدة الدرقية (في أسفل الرقبة) ونقص في الوزن ورجفان وخفقان.
وإذا كانت حالة المريض مستقرة أمكنه الصوم، شريطة تناول الأدوية بانتظام.
2) قصور الغدة الدرقية: Hypothroidism
ويشكو المريض في هذه الحالة من الوهن والإعياء الشديد ونقص في النشاط الفكري والعصبي.
ويعطى هرمون الثيروكسين مرة واحدة يوميًا كعلاج لهذه الحالة، وبذلك يمكن للمريض الصيام دون أي تأثير خاص.
3) أورام الغدة الدرقية:
ليس للصوم تأثير يذكر على أورام الغدة الدرقية، ويمكن للمريض الصيام، وعلاج أورام الدرق عادة جراحي.
4) التهابات الغدة الدرقية الحادة: Acute Thyroditis
وتسبب عادة ألمًا في الغدة وقد تحدث الحمى، مما قد يجعل الصوم غير ممكن في المرحلة الحادة، شأنه في ذلك شأن الأمراض الحادة، أما الالتهابات المزمنة للغدة الدرقية فلا تتعارض عادة مع الصوم.
ب) أمراض الغدة الكظرية: Adrenal Diseases
الكظران غدتان تقعان فوق الكليتين وتفرزان عدة هرمونات أهمها الكورتيزول والألدوسترون والهرمونات التناسلية.
وأمراضها عادة غير شائعة وأهمها:
ا - مرض كوشينغ: Cushing Disease
وفيه يحدث وهن في الجسم، وارتفاع ضغط الدم، وبدانة مركزية تتجنب الأطراف وتدور في الوجه، كما قد يحدث فيه مرض السكر، ولا ينصح فيه بالصوم.
2 - مرض أديسون: Addison's Disease
ويحدث فيه قصور في إفراز الكورتيزول، نتيجة تلف في الغدد الكظرية، ويحدث فيه انخفاض في ضغط الدم ووهن شديد وتغير في لون البشرة يميل إلى السواد ... إلخ.
وينبغي فيه تجنب الصوم، خصوصًا وأنه قد يصاحبه هبوط سكر الدَّم.
3 - الورم القتامي: pheochromocytoma
وهو مرض نادر يسبب ارتفاعًا متأرجحًا في ضغط الدم ونوبات من التعرق والخفقان والوهن العام.
وينصح فيه بتجنب الصوم، والاستئصال الجراحي لهذا الورم يتلوه عادة شفاء تام، مما يجعل الصوم ممكنًا.
ج) أمراض الغدة النخامية: pituitary Gland Diseases
وهي أيضًا أمراض نادرة، وأهمها مرض (ضخامة النهايات) وقصور الغدة النخامية، وينصح فيهما بعدم الصوم.(10/770)
7 - الأمراض العصبية والنفسية في شهر الصيام:
أ) الصرع: Epilepsy
يستطيع المصاب بالصرع أو الاختلاجات الصيام، شريطة أن يتناول الأدوية المضادة للاختلاج بانتظام، فهناك حاليًا أدوية تعطى مرة واحدة باليوم للسيطرة على الاختلاجات.
ب) الاكتئاب: Depression
يستطيع مريض الاكتئاب الصيام شريطة أن يتناول الأدوية المضادة للاكتئاب بانتظام، وتعطى هذه الأدوية عادة مرة أو مرتين في اليوم.
ج) مريض الفصام: Schizophrenia
لا يجوز لمريض الفصام الصيام، فإن التوقف عن استعمال أدوية الفصام قد يؤدي إلى نوبات من العنف والضلالات الخاطئة والهلاوس، وقد يؤدي ذلك إلى الاعتداء على الآخرين.
8 - الحامل والمرضع في شهر الصيام:
أوضحت الدراسات العلمية الحديث أن صيام رمضان يؤدي إلى تغيرات فسيولوجية وكيميائية عند الحامل، ولكنها لا تؤثر على الحامل السليمة البدن والتي لا تشكو من أية أمراض عضوية.
ومع ذلك لا يمكن إطلاق قول حاسم على كل الحوامل والمرضعات بحيث نقول أن هناك حامل أو مرضع تستطيع الصيام، وأخرى لا تقدر عليه , وإذا ما شعرت الحامل والمرضع بصداع شديد، أو (زغللة) في العينين، أو هبوط وإجهاد عام، أو عدم القدرة على القيام بأي نشاط فإن ذلك يعني حدوث انخفاض واضح في سكر الدم، أو أن هناك أمرًا غير طبيعي، وعليها استشارة الطبيب المعالج.(10/771)
أ) ما هي الأحوال المرضية التي تجيز للحامل الإفطار؟
1- انخفاض ضغط الدم الانقباضي (الرقم الأعلى) عن 100 ملم زئبقي، حيث قد يسبب هذا الانخفاض إحساسًا بالإغماء إضافة إلى عدم القدرة على التركيز.
2 - القيء المصاحب للحمل، وخاصة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل.
3 - التسمم الحملي: حيث يحدث ارتفاع في ضغط الدم، ويظهر الزلال في البول كما تحدث وذمة في الأطراف.
4 - حدوث انخفاض في سكر الدم.
5 - وجود مرض عضوي، وذلك تحت إشراف الطبيب المعالج.
والخلاصة: فإن موضوع صيام الحامل في شهر رمضان يعتمد على حالة الحامل والجنين قبل دخول شهر رمضان، فإن كانت كافة المؤشرات والفحص السريري تشير إلى تمام صحة الحامل والجنين فإن الطبيب على الأغلب سيشير بالاستمرار في الصيام، ويعود تقرير ذلك إلى الطبيبة أو الطبيب الأخصائي المسلم.(10/772)
9 - الرضاعة والصيام:
يمكن للمرأة المرضع صيام شهر رمضان، شريطة أن يكون هناك تعويض في نوعية الطعام والشراب أثناء شهر رمضان في الفترة المسائية، وشريطة أن لا تتأثر كمية ونوعية الحليب (اللبن) عند الطفل الرضيع.
أما إذا خافت المرضع على نفسها أو رضيعها من جرَّاء الصيام، أو أثر ذلك على الرضاعة، جاز لها أن تفطر.
والخلاصة: فإن تقرير إمكانية الصيام أو عدمه ليس بالأمر السهل، ولا يمكن تقرير قواعد عامة لجميع المرضى، بل ينبغي بحث كل مريض على حدة، ولا يتيسر ذلك الأمر إلا للطبيب المسلم المختص، فهو يملك ما يكفيه من المعطيات التي تمكنه نصح مريضه بإمكانية الصوم أو عدمه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د. حسان شمسي باشا(10/773)
المفطرات
في ضوء الطب الحديث
إعداد
الدكتور محمد هيثم الخياط
عضو مجامع اللغة العربية
بدمشق وبغداد وعمان والقاهرة وعليكرة
وأكاديمية نيويورك للعلوم
نائب المدير الإقليمي
لمنظمة الصحة العالمية للشرق المتوسط
بسم الله الرحمن الرحيم
- ذكر الله سبحانه في القرآن الكريم ما يفطر الصائم، وهو الأكل والشرب والجماع، فقال تعالى: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في ما يرويه عن ربه عز وجل متحدثًا عن الصائم: ((يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)) . (1)
- وقد وردت في كتب الفقه الإشارة إلى (الجوف) فاعتبر المفطر ما يصل إليه.
- ونحن لا نجد في القرآن الكريم أي إشارة إلى الجوف إلا في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] ، وهو جوف لا يمت إلى ذلك الجوف بصلة.
- كذلك وردت لفظة (الجوف) في الحديث الشريف، ولكن دونما صلة بالصيام أو الإفطار، بل قد وردت بما لا يتفق أصلًا مع مفهوم الجوف المشار إليه، ففي حديث ابن ماجه وأحمد عن ما يدخل النار قال: ((الأجوفان الفم والفرج)) . وقل مثل ذلك في جوف الليل , جوف رحله , أجواف بيوتكم. ومثل ذلك: ((لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلى شعرًا)) و: ((إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن)) و: ((مثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه)) و: ((إن الشيطان يضحك من جوفه)) و: ((طوبى لأجواف تحمل هذا)) و: ((لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) .
- ولا يعرف أطباء اليوم شيئًا يقال له (الجوف) هكذا معرفًا بالألف واللام، ولكنهم يعرفون (أجوافا) معرفة بالإضافة؛ كجوف الصدر (الذي يشتمل على الرئتين والقلب والعروق الكبار) ، وجوف البطن (الذي يشتمل على المعدة والأمعاء والكبد والطحال ... ) ، وجوف الأنف، وجوف الفم، وجوف المعدة، إلى غير ذلك من الأجواف.
__________
(1) متفق عليه، من حديث أبي هريرة.(10/774)
- كذلك لم يتحدث أطباء الأمس عن الجوف, اللهم إلا ما ورد في قانون ابن سينا عن الجوف الأعلى والجوف الأسفل، وهما جوف الصدر الذي يشتمل على القلب والرئتين، وجوف البطن الذي يشتمل على المعدة والأمعاء وسائر الأحشاء.
- ولو صح أن لمفهوم (الجوف) أصلًا في الكتاب أو السنة - وهو لا يصح -؛ فإن من المستحسن أن نعرف ما يقابله في عرف أطباء العصر, وهو ليس الجهاز الهضمي بيقين؛ لأن الجهاز الهضمي يبدأ بالفم وينتهي بالشرج، والمضمضة لا تفطر بنص الحديث، حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح قال: هششت فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله , صنعت اليوم أمرًا عظيمًا: قلت وأنا صائم. قال: ((أرأيت لو مضمت من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به! قال: ((فَمَهْ)) )) . قلت: لا بأس به. قال: ((فمه)) .
- فلا يبقى إلا أن يكون الجوف اجتزاء عن (جوف المعدة) . وذلك أقرب الأقوال؛ لأن ما يؤكل ويشرب يصل إلى المعدة، فإذا هضم فيها ثم غادرها فهو كيموس ثم كيلوس، ولا يعود أكلًا ولا شربًا, فإن كان ذلك كذلك فلا مسوغ طبيا لمن يقول بتفطير ما يدخل الشرج من حقنة شرجية أو تحاميل (لبوس أو شياف) أو منظار أو إصبع طبيب فاحص أو ما يدخل المهبل من فرازج أو بيوض دوائية مهبلية، أو منظار مهبلي أو إصبع طبيبة أو قابلة فاحصة، أو ما يدخل الإحليل - إحليل الذكر أو الأنثى - من قثطرة أو منظار أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء أو محلول لغسل المثانة، أو ما يدخل الأذن من قطرة أوغسول ... فكل أولئك لا يبلغ جوف المعدة بيقين.
- ويظهر من النصوص أن ثمة قدرا مَعْفُوًّا عنه. فلا شك في أن من يمضمض يبقى في فمه شيء من الماء الذي مضمض به مختلطًا باللعاب، وهو لا شك مبتلعه، ولكنه لا يفطر بنص الحديث، حديث عمر الذي سبقت الإشارة إليه.
- ولو مضمض المرء بماء موسوم بمادة مشعة، لاكتشفنا المادة المشعة في المعدة بعد قليل، مما يؤكد وجود قدر يسير معفو عنه. وهو يسير يزيد - يقينًا - عما يمكن أن يتسرب إلى المريء من بخاخ الربو - أن تسرب -، أو من بخاخ الأنف أو قطرة الأنف - أن تسربا -، أو من القرص الذي يوضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية - أن تسرب -، أو من قطرة الأذن التي انثقب غشاء طبلتها - أن تسرب - فلا مسوغ طبًّا وشرعًا للقول بتفطير هذه الأشياء، لكون ما يصل منها إلى جوف المعدة - إن وصل - أقل بكثير من القدر اليسير المعفو عنه أن شاء الله.
- وقل مثل ذلك في ما يصل إلى المعدة من الأنف إذا بالغ المرء في الاستنشاق، مما يدل على أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة - في الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح - ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)) ، أنه عفو عن الأمر بالمبالغة في الاستنشاق، لا نهي عن هذه المبالغة، ولا نص على أنها تفطر، لا سيما وهو نهي بعد أمر, فإذا صح ذلك - وهو صحيح أن شاء الله - فإن ما قيس على هذا الحديث من مفطرات يغدو غير ذي موضوع.(10/775)
- كذلك لا يرى كثير من الفقهاء حرجًا في أن يذوق المرء الطعام ولا في أن يمضغ العلك، اعتمادًا على أقوال بعض الصحابة والتابعين، مع أن ذوق الطعام ومضغ العلك يوصل إلى المعدة قدرًا يسيرًا معفوًّا عنه - أن شاء الله - من الطعام أو الشراب.
- وفي كتب الفقه كذلك كلام عن الكحل ووصوله إلى الحلق، وتفطيره إذا ابتلع بكيفية معينة، وهو كلام غير ذي موضوع، للحديث الذي رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((اكتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم)) . وحتى لو صح أن الكحل يصل إلى المعدة، فما يصل منه - إن وصل - أقل بكثير مما يصل من المضمضة أو الطعام المذوق أو العلك.
- وقولهم: ((وجد طعمه في حلقه)) كلام لا معنى له في طب العصر. فالحلق ليس محلًا للذوق وإنما أقصى حليمات الذوق في آخر اللسان، واللسان جزء من الفم، لا يفطر ما أحس به؛ لأن ماء المضمضة يغمر اللسان كله.
- والأصل أن ما يتحصل في الفم جراء حفر السن أو قلع الضرس لا يُبتلع، بل إن طبيب الأسنان يضع في الفم أداة لشفط ما في الفم كله، بما فيه من لعاب، فإن ذرعه منه شيء فهو غير مفطر - والله أعلم - لأنه لم يتعمد ابتلاعه، والله سبحانه يقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]
- ولا مسوغ - والله أعلم - لاعتبار منظار المعدة مفطرًا، لأنه لا يخطر ببال عاقل أن يقول: إن الصائم يأكل المنظار، فهذا مما لا ينطبق عليه لفظ الأكل أو الشرب في لسان العرب , وحتى ما قد يوضع عليه من مزلقات فإنه يخرج معه، ولو بقي فهذا ليس مما تعمده الصائم, وعملية المنظار هذه تستغرق - دخولًا وتنظرًا وخروجًا - دقائق معدودات.(10/776)
- ولا مجال - والله أعلم - للحديث عن المأمومة والجائفة، فالمصاب بهما مشرف على الموت أو يكاد، ومن لغو القول الحديث عن صيام أو إفطار في امرئ من هذا القبيل , هذا مع أن دخول أي شيء إلى جوف الجمجمة أو جوف الدماغ لا ينطبق عليه اسم الأكل أو الشرب.
- وقل مثل ذلك في إعطاء التغذية عن طريق الوريد , فهذه الحقن
لا تعطى عادة إلا لمن بلغ منه المرض كل مبلغ , والغالب بل العادة أن لا يكون صائمًا أصلا، فلا محل للبحث فيه.
- أما الحقن الأخرى التي تعطى بالعضل أو تحت الجلد أو بالوريد، ويحقن فيها دواء أو محلول علاجي أو دم (نقل الدم) ، فليست أكلًا ولا شربًا , وإنما تدخل البدن عن طريق غير معتاد ولا طبيعي، وقد أطبق فقهاء العصر على أنها لا تفطر.
- ومما يستنشق ولا يؤكل أو يشرب غاز الأوكسجين وغازات التخدير، فلا مسوغ للتفكير بكونها مفطرة. وحتى عمليات التخدير العام التي تجرى على من بيت الصيام من الليل، فلا مسوغ لاعتبار غياب الوعي فيها مفطرًا، والله أعلم.(10/777)
- ومن الأدوية ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد، كالدهونات والمروخات واللصقات الجلدية التي تعطى لمرضى الذبحة الصدرية وغير ذلك، فهذه أيضًا ليست بأكل ولا شرب، وقد أجمعوا على أنها لا تفطر.
ومما يلحق بالحقن ما يعالج به مرضى الفشل الكلوي من حقن بعض السوائل التي تنظف البدن مما فيه من سموم , ويتم ذلك إما بحقن السائل في صفاق البطن (الباريطون) من خلال فتحة في جدار البطن، ثم استخراجه بعد مدة , وإما بسحب الدم إلى جهاز الغسل الكلوي الذي قد يقال له الكلية الاصطناعية، ثم إعادته إلى الوريد بعد تصفيته. والظاهر - والله أعلم - أن لا أثر لهذه الحقن في تفطير الصائم.
- ولا حرج - إن شاء الله - في أخذ عينة من الدم للفحص المختبري، ولا في التبرع بالدم، فهذا من باب الفصادة التي لم يقل أحد بتفطيرها , ويحب بعض متفقهة عصرنا أن يلحقها بالحجامة وبينهما فرق، والحجامة لم يعد أحدًا يتعاطاها في هذا العصر، وجمهور الفقهاء على أنها لا تفطر لحديث ابن عباس الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم. والظاهر - والله أعلم - أن النهي كان استبقاء للقوة، كما في الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة والمواصلة، ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه. والحديث الذي رواه الدارقطني بإسناد رجاله كلهم ثقات عن أبي سعيد الخدري: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم. وقد روى الدارقطني أيضًا عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم بعدما قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) .
- ولا حرج - إن شاء الله كذلك - في إدخال قثطار في الشرايين لتصوير أوعية القلب أو غيره من الأعضاء، ولا في إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها، فكل أولئك لا ينطبق عليه وصف الأكل أو الشرب، ولا يدخل البدن من منفذ معتاد.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
د. محمد هيثم الخياط(10/778)
المفطرات
العرض- التعقيب- المناقشة
العرض
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم:
نبدأ، مستعينين بالله تعالى جلسة العمل الأولى في الدورة العاشرة، ونسأله - سبحانه وتعالى - أن يهدينا إلى ما اختُلِف فيه من الحق، وألا يجعله ملتبسًا علينا فنزلت، وأن يوفقنا لصالح الأعمال دائمًا وأبدًا.
موضوع هذه الجلسة الصباحية هو (المفطرات) ، ونستمع الآن إلى بحث سماحة الشيخ محمد المختار السلامي عنها فليتفضل.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه, ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا واليك المصير, ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
السيد الرئيس
حضرات الإخوان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا البحث الذي شرفني المجمع بالكتابة فيه هو يتناول المفطرات، والمفطرات، أَفْطَر وفَطُرَ بمعنى واحد، وإن كان التخطيط الذي ضبط به الموضوع ربطه بالتداوي، فإن الإفطار لا يختلف سواء أكان الذي أفطر في نهار رمضان مريضًا أم صحيحًا إلا في ناحية واحدة وهي ناحية التأثيم وعدم التأثيم , فكل مفطر للصحيح هو مفطر للمريض , وبناء على هذا فالموضوع الذي نريد أن نتناوله هو: من هو المريض الذي يجوز له أن يفطر في رمضان؟ ثم ما يعتبر مفطرًا وما لا يعتبر مفطرًا.(10/779)
ومن يصدق عليه وصف المرض ينقسم إلى سبعة أقسام:
1 - شخص لا يقدر على الصوم أصلًا، غلبه المرض، فهو لا يستطيع أن يصوم أصلًا، ولا أن يستمر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس صائمًا.
2 - من يقدر على الصوم، ولكن الصوم يُلحق به جهدًا ومشقة.
3 - من يقدر عليه من غير جهد ولا مشقة، ولكنه يتوقع أن يضاعف الصوم ألمه وعلته.
4 - المريض الذي يشعر بألم في جزء من أجزاء بدنه ولكن الصوم لا يؤثر عليه، فسواءً أفطر أم صام فالمرض لا يتأثر بالصيام.
5 - هو الصحيح الذي يخشى المرض.
6 - المريض الذي يكون الصيام أعون على شفائه، وهو عكس الآخر الذي يخشى من أن يضاعف الصيام مرضه.
7 - المرضع الصحيحة التي لا علة بها ولكن العلة في رضيعها، فهي تعلم أنها أن تناولت الدواء أثرت على الرضيع، وأنها أن امتنعت من الدواء وصامت فإن الرضيع يتضرر.
وأما حكم كل مرتبة من هذه المراتب:
فأولًا: من لا يقدر على الصوم أصلًا؛ فما جعل الله في الدين من حرج، وهو غير مطالب بالصوم ولا إثم عليه.
وكذلك الثاني الذي يقدر على الصوم ولكن بجهد ومشقة، فهذا وإن كانت عبارات الفقهاء عبرت عن ذلك بالجواز، فإن الجواز نفهمه على أنه جواز الإقدام كيف كان , وجواز الإقدام كيف كان هو قدر مشترك بين الواجب وبين المندوب وبين المباح، فيكون ههنا يفهم الجواز في من لا يقدر على الصوم إلا بجهد ومشقة، على أن الفطر أفضل له.(10/780)
ثالثًا: من يقدر عليه من غير جهد ولا مشقة ولكنه يتوقع أن يضاعف الصيام مرضه , فيقول ابن رشد في هذا: أن الفطر له جائز. وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في العتبية. وقيل: إن ذلك لا يجوز له؛ لأن الصوم عليه واجب لقدرته عليه، وما يخشى من زيادة مرضه أمر لا يستيقنه , فلا يترك فريضة بشك، والأول أصح.
رابعًا: المريض الذي يشعر بالألم ولكن فطره لا يعجل برأه ولا يؤخره , فمن أخذ بظاهر الآية أجاز له الفطر، روي عن طريف بن تمام العطاردي أنه دخل على محمد بن سرين وهو يأكل في رمضان فلم يسأله. فلما فرغ قال له: إنه وجعت إصبعي هذه. وحجته أنه متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر، قياسًا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة.
ويكاد ابن سيرين ينفرد بهذا الرأي، فالقواعد الشرعية لا تساعده، وتسويته بين السفر والمرض تسوية بين المظنة والعلة, فإن السفر مظنة المشقة, ولما كانت المشقة غير منضبطة أقام الشارع المظنة مقام العلة , أما المرض فهو نفس العلة، فما دام المرض لم يبلغ الدرجة المقتضية للتخفيف يلغى من الاعتبار.
خامسًا: الصحيح الذي يخشى المرض.
جاء في الفتاوى الهندية أن الصحيح الذي يخشى المرض هو كالمريض، وهكذا المذهب المالكي في الصحيح الذي يخشى المرض , يقول الزرقاني في شرح قول خليل: (وجاز الفطر بمرض) أي موجود. ثم صرح بمفهوم هذا الوصف فقال: ومفهوم قوله (بمرض) : خوف أصل المرض بصومه , ليس حكمه كذلك. وهو كذلك على أحد قولين، إذ لعله لا ينزل به، والآخر يجوز. والشافعية سووا بين الترخص بالتيمم والترخص بالفطر. وهم في التيمم الأصح الجواز. وعليه فإن حكم حدوث المرض هو كحدوثه فعلًا عند الشافعية.(10/781)
ومذهب أحمد أصرح المذاهب في اعتبار الترخص بخوف حدوث المرض , جاء في المغني: والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادته في إباحة الفطر؛ لأن المريض إنما أبيح له الفطر خوفًا مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله, فالخوف من تجدد المرض في معناه.
وصرح البهوتي بأن الفطر مع خوف المرض سنة، وأن الصوم مكروه.
سادسًا: المريض الذي يكون الصوم أعون على شفائه, لم أجد من صرح بحكم هذا النوع. ولكن القواعد تقتضي أنه يجب عليه الصوم ويحرم عليه الفطر , وأن مذهب ابن سيرين لا ينسحب على هذا النوع.
سابعًا: المرضع التي تتناول الدواء ليصل أثره إلى رضيعها المريض.
فقد ذكر في الظهيرية رضيع مبطون تخشى عليه الموت من هذا الداء , وزعم الأطباء أن الظئر إذا شربت دواء كذا برئ الصغير وتماثل , وتحتاج الظئر إلى أن تشرب ذلك نهارًا في رمضان، قيل لها ذلك إذا قال الأطباء الحذاق. وهو محمول على الطبيب المسلم دون الكافر، قياسًا على من شرع في الصلاة بتيمم فوعد له كافر إعطاء الماء فإنه لا يقطع الصلاة.
أما المرضع في ذاتها فلا يعتبر قيامها بالإرضاع مرضًا مبيحًا للفطر، بخلاف الحامل إذا خافت على حملها.
جاء في المدونة: قلت: ما الفرق بين الحامل والمرضع؟ فقال: لأن الحامل هي مريضة , والمرضع ليست بمريضة.
هل تعتبر المرضع في تناولها الدواء لإبلاغ أثره إلى رضيعها مترخصة؟
أن التحقيق الذي ضبط به أبو إسحاق الشاطبي الرخصة ينفي أن تكون المرضع في هذه الحالة داخلة تحت قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} .(10/782)
يقول الشاطبي: من لا يقدر على القيام رخص له أن يصلي جالسًا. فهذه رخصة محققة , فإن كان المترخص إمامًا، فقد جاء في الحديث: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) ثم قال: ((وإن صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون)) . فصلاتهم جلوسًا وقعت لعذر، إلا أن العذر في حقهم ليس المشقة، بل لطلب الموافقة للإمام وعدم المخالفة عليه، فلا يسمى مثل هذا رخصة.
فإقدام المرضع على تناول الدواء في نهار رمضان ليصل عبر لبنها إلى جسم الرضيع المريض، إقدامها ليس من قبيل الرخصة، وإنما سبيله حفظ الحياة للرضيع المسؤولة عن احترامه. ويفهم هذا على أنه تعينت تلك الطريقة لإنقاذ حياة الرضيع.
والذي أريد أن أؤكد عليه هو أن الرخصة شخصية، أنه لا يوجد ضابط يحدد الرخصة بطريقة تنطبق بها على جميع المكلفين, ذلك أنها تستند إلى المشقة، والمشاق تختلف قوة وضعفًا في ذاتها، وتبعًا للظروف التي يقع فيها العمل، وحسب الأحوال والزمان والمكان، وحسب قدرة التحمل عند الأفراد بعوامل قوة البدن وضعفه والسن، ومضاء العزيمة أو وهنها.
وإذا كان كذلك فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد فيه جميع الناس.
ولذا أقام الشارع في جملة منها السبب مقام العلة، يعني أقام المظنة مقام العلة، فإذن ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي، ولا ضابط مأخوذ باليد، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه , فمن كان من المضطرين معتادًا للصبر على الجوع فلا تختل حاله بسببه - كما كانت العرب - فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك.
اختلاف الفقهاء في حكم الترخص:
بناء على ما قدمناه فإن اختلاف الفقهاء في حكم الترخص بالفطر ليس اختلافًا حقيقيًّا وإنما هو اختلاف في حال؛ لأن حكم الترخص بالفطر شخصي , فقد يكون أخوان مرضهما واحد وفطر أحدهما واجب، والآخر راجح , وهذا ما أغناني عن تتبع الأقوال لارتباطها بهذا الضابط الذي أراه هو الحق الذي لا محيد عنه.(10/783)
الباب الثاني - ما يعتبر مفطرًا للصائم من العلاج:
ينقسم العلاج أولًا إلى قسمين:
أ - البحث عن المرض للتأكد من وصف الاختلال الذي طرأ على الجسم.
ب - الدواء الذي يداوي به المريض داءه بعد التعرف على المرض.
وينقسم ثانيًا:
أ - إلى التداوي بمباشرة الدواء للجسم.
ب - إلى التداوي بفصل شيء عن الجسم.
وتحت هذين التقسيمين الكبيرين أنواع عديدة.
وينقسم ثالثًا:
أ - إلى التداوي النافذ إلى باطن الجسم من منافذه.
ب - إلى التداوي الظاهر الذي لا يتجاوز السطح الخارجي لجسم المريض.
وتحت هذه الأقسام أنواع كثيرة.
التداوي من المنافذ إلى الباطن:
المنفذ الأول - الفم: وهو المنفذ الطبيعي والأهم.
أولًا: دواء الفم
تحديد الفم:
الفم هو ما بين باطن الشفتين، والحلق، هذا هو الظاهر. والحلق ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أعلى الحلق وهو مخرج الغين والخاء المعجمة، ووسط الحلق، وهو ومخرج الحاء والعين المهملتين، وأقصى الحلق من الباطن وهو مخرج الهمز والهاء.
جاء في كلام الحنفية ما يفيد أن الفطر لا يتحقق إلا بمجاوزة الدواء الحلق بأقسامه الثلاثة. يقول في الدر عادًّا لما يفطر: أو خرج الدم من بين أسنانه ودخل حلقه. يعني ولم يصل إلى جوفه.
وعند المالكية قولان؛ أن الحلق كله من الداخل الذي يفطر الصائم بوصول مائع أو متحلل إليه. يقول الزرقاني: ووصول المائع إلى الحلق يوجب الفطر، ولو رده على المشهور , فالقول بأن الواصل من الأعلى يشترط فيه أن يجاوز الحلق قول ضعيف في المذهب. والمذهب أن الفطر يتحقق بوصوله إلى الحلق وإن لم يجاوزه.(10/784)
ومذهب الشافعي أن مخرج الخاء والغين المعجمتين من الظاهر، ومخرج الهمز والهاء من الباطن، والاختلاف في مخرج الحاء والعين المهملتين.
وما يترتب على هذا في باب التداوي:
1) تناول الأدوية التي يغرغر بها المريض , فهي واصلة قطعًا إلى أعلى الحلق , فهي مفطرة على الراجح عند المالكية، غير مفطرة عند الحنفية والشافعية , ولكن ينبغي أن يبصق بعد المج. يقول ابن عابدين: لاختلاط الماء بالبصاق فلا يخرج بمجرد المج , نعم لا يشترط المبالغة في البصق؛ لأن الباقي بعده مجرد بلل ورطوبة لا يمكن التحرز منه.
2) مضغ دواء لا يتحلل منه شيء إلى المعدة؛ ففي التتارخنية: أو إذا مضغ الإهليلج. ولم يدخل منه شيء إلى المعدة إلا أن الريق المتأثر بالمضغ قطعًا وصل إلى معدته: أنه لا يفطر.
وعند المالكية أن من يمضغ العلك الذي لا يتحلل منه شيء ثم يمجه لا يضره , وقيده أبو الحسن الصغير في تعليقه على المدونة أن محل ذلك إذا مضغه مرة واحدة ليداوي به شيئًا , وأما إذا كان يمضغه مرارًا ويبتلع ريقه فلا شك أنه يفطر، لأنه يبتلع بعض أجزائه مع ريقه.
وفي مذهب أحمد قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: الصائم يمضغ العلك؟ قال: لا. وقال أصحابه: ما يتحلل من العلك لا يجوز مضغه إلا أن لا يبلع ريقه، فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شيء أفطر به. وأما ما لا يتحلل منه شيء فهو كالحصاة مضغها في فيه. إلا أنه أن مضغه فوجد طعمه في حلقه دون أجزاء منه فوجهان.
مداواة حفر الأسنان:
يقول خليل: وكره مداواة حفر، زمنه إلا لخوف ضرر.
فمداواة حفر الأسنان في نهار رمضان له أحوال.
أن يخشى الضرر من تأخير الدواء إلى الليل أو إلى ما بعد رمضان.
وهنا أن بلغ خوف هلاك وجب، وإن خشي حدوث مرض أو زيادته أو شدة ألم جاز له الإقدام على المداواة , فإن سلم ولم يبتلع منه شيئًا صح صومه , وإن ابتلع منه غلبة قضى , وإن تعمد الابتلاع فهو كمن أكل في نهار رمضان متعمدًا.
والذي يظهر لي أن المالكية قد اعتمدوا في فتاواهم الأصل الذي توسعوا في تطبيقه والقول بمقتضاه، وهو سد الذرائع؛ وإلا فإنه إذا لم ينزل شيء إلى المعدة مما دخل الفم فهو لا يختلف عن الذي تمضمض بالماء ثم مخه. ومما يوضح ذلك ما علل به الرهوني: أن المتحلل إذا رجع من الحلق لا يسلم غالبًا من أن يبقى في المحل منه ما يصل إلى الجوف مع الريق بخلاف غير المتحلل. وما علل به أيضًا ابن الماجشون بأنه ليست العبرة بالغذاء، وإنما لأن حلق الصائم حمى فلا يجاوزه شيء.(10/785)
الجامد إذا وصل الحلق ولم ينفذ إلى الداخل:
يقول الرهوني: إذا وصل الجامد إلى الحلق ولفظه، فلغو باتفاق، خلافًا لما فهمه البناني ومصطفى.
ثانيًا: الدواء المتجاوز للحلقوم عبر الفم:
الدواء المتجاوز للحلقوم عبر الفم أنواع:
1) مائع، ومثله المتحلل الواصل إلى المعدة.
2) جامد واصل إلى المعدة.
3) المتخلخل النافذ من الفم إلى الداخل.
المائع والمتحلل من الأدوية المجاوز للحلق:
فكل مائع أو قابل للتحلل تجاوز الحلق وبلغ المعدة حالًا أو توقف في المريء عند ازدراده هو مفطر بإجماع.
الجامد المجاوز للحلق:
الجامد غير القابل للتحلل قد يكون جهازًا للكشف ينفذ إلى ما وراء الحلقوم من المريء أو المعدة.
وقد يكون جهازًا مشعًا يؤثر في المرض.
واستقرار الجامد فيما وراء الحلقوم قد اختلف فيه الفقهاء.
الحنفية:
فقد جاء في بدائع الصنائع: لو أكل حصاة أو نواة أو خشبًا أو حشيشًا أو نحو ذلك مما لا يؤكل عادة ولا يحصل به قوام البدن، يفسد صومه لوجود الأكل صورة.
ولكن الحنفية اشترطوا لتحقق الفطر الاستقرار , ويقصدون بالاستقرار الانفصال الكامل من الخارج وحوز ما بعد الحلق له بتمامه. يقول ابن عابدين: أن ما دخل الجوف أن غاب فيه فسد الصوم، وهو المراد بالاستقرار , وإن لم يغب بل بقي طرف منه في الخارج أو كان متصلًا بشيء خارج لا يفسد لعدم الاستقرار.
وبناء على هذا الشرط فإن المسبار النافذ من المريء إلى المعدة والذي بقي طرفه الأعلى خارج الفم لا يؤثر في الصوم , ولا يترتب عليه الفطر، إلا إذا كان إدخاله إلى المريء يتم بطلاء ظاهره بمرهم ميسر لدخوله، فإن الفطر بالطلاء لا بالمسبار ذاته.
أما المالكية:
فقد اختلف قولهم في تأثير وصول ما لا يتحلل إلى ما وراء الحلق.
مذهب مالك وابن القاسم أن تعمُّد إدخال جامد لا يتحلل إلى المعدة مقتض فساد الصوم موجب للقضاء. ونقل ابن شاس عن بعض المتأخرين أن الصوم لا يفسد بذلك.
أما الشافعية:
فقد قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى: إذا ابتلع الصائم ما لا يؤكل في العادة كدرهم ودينار أو تراب أو حصاة أو حشيشًا أو حديدًا أو خيطًا أو غير ذلك أفطر بلا خلاف في مذهبه. وحكي عن أبي طلحة الأنصاري رحمه الله والحسن بن صالح، أنه لا يفطر بذلك. وحكوا عن أبي طلحة أنه كان يتناول البرد وهو صائم ويبتلعه ويقول: ليس هو بطعام ولا شراب. وسند الشافعية ما رواه البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قال: إنما الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل. وإنما الفطر مما دخل وليس مما خرج.
أما الحنابلة:
فقد سووا بين المتحلل وغيره. يقول البهوتي عادًّا لما يترتب عليه الفطر: (أو أدخل إلى جوفه شيئا) من كل محل ينفذ إلى معدته (مطلقا) أي سواء كان ينماع ويغذي أو لا , كحصاة وقطعة حديد ورصاص ونحوها، ولو طرف سكين من فعله أو فعل غيره بإذنه فسد صومه.(10/786)
المتخلخل النافذ إلى ما وراء الحلقوم:
نعني بالمتخلخل النافذ إلى ما وراء الحلقوم ما يشمل:
1) الدخان.
2) الغبار.
3) البخار.
1) الدخان:
الدخان هو تحول كيميائي يحصل في المادة عند الاحتراق, يدخل الدخان من الفم وينفذ إلى ما وراء الحلقوم, وكما يقول الدكتور محمد علي البار وهو يتحدث عن دخان السجائر أو الشيشة: إنه يمر من الفم والبلعوم الفمي ثم ينزل جزء منه إلى البلعوم الحنجري ومنه إلى الرغامي فالرئتين، وينزل الجزء الآخر إلى المريء فالمعدة.
ولا شك أن الدخان يحتوي على مواد عالقة تختزن في الممرات التي تعبرها وتحدث تأثيرها.
الحنفية: يفصل الحنفية بين دخول الدخان بدون قصد وبين إدخاله.
يقول في الدر المختار: " لو أدخل حلقه الدخان أفطر أي دخان كان، ولو عودًا أو عنبرًا , لو ذاكرًا لإمكان التحرز عنه، فلينتبه ". كما ذكره الشرنبلالي، ويعلق ابن عابدين: " ولا يتوهم أنه كشم الورد ومائه والمسك، لوضوح الفرق بين هواء تطيب بريح المسك وشبهه، وبين جوهر دخان وصل إلى جوفه بفعله ".
وبهذا يكون الدواء الذي يقذف به في النار ليجذبه المريض من فمه إلى الداخل مفطرا عند الحنفية.
أما المالكية: فيقول خليل فيما على الصائم تركه: (وبَخور) ويعلق عليه عبد الباقي الزرقاني: أي وبترك إيصال بخور. وبهذا يتفق المالكية مع الحنفية أن الإيصال هو المفطر. وهو ما صرح به العدوي: فلو وصل بغير اختياره لم يفطر.
حكم التداوي بالدخان: كل دواء يؤثر بواسطة إدخال دخانه إلى الباطن مفطر، لأنه يترسب من مادته ما يؤثر في الصائم، فهو والأكل في الحقيقة سواء.
2) البخار:
نص الزرقاني أن إيصال بخار القدر يحصل به غذاء للجوف لأن ريح الطعام يقوي الدماغ. ونقل الحطاب عن الشيخ ابن أبي زيد: واستنشاق قدر الطعام بمثابة البخور؛ لأن ريح الطعام له جسم ويتقوى به الدماغ، فيحصل به ما يحصل بالأكل.
ولما كان البخار تحول في تماسك جزئيات الماء، إذ يتخلخل الماء بالحرارة ثم يتجمع عندما يعود إلى ما كان عليه. وإن كنت لم أجد فيما وصلته يدي من كتب الحنفية والشافعية نصًّا إلا أنه لا شك في إجرائه على حكم الدخان.
حكم التداوي بالبخار: كل دواء محلول مائع ينقلب إلى بخار ويدخله المريض إلى باطنه من منفذ الفم الظاهر: أنه مفطر، سواء كان تحوله إلى بخار بواسطة الحرارة أو بواسطة الأجهزة المخلخلة.(10/787)
3) الغبار:
أما المذهب الحنفي: فظاهر كلام الحنفية أنه لا فارق بين الدخان والغبار , فإذا دخل بنفسه بدون قصد فإنه لا يؤثر، وأن دخل بقصد أثر في الصيام , وصرح بهذا ابن نجيم لمّا قال: وغبار الطاحونة كالدخان.
أما المذهب المالكي: فيقول خليل بأنه لا قضاء في غبار طريق وفى دقيق أو كيل أو جبس لصانعه.
يفهم من كلام شراحه: أن ما دخل غلبة مما لا يمكن التحرز منه، إما لعمومه كغبار الطريق، أو للحاجة كصناعة الطحانين والكيالين وحراس الأندر وصناع الجبس، أنهم لا يفطرون بما نفذ من الفم إلى داخلهم.
وأفتى الشيخ أحمد هريدي لما سئل هل يفطر مريض الربو باستعماله الجهاز المعروف بجهاز البخاخة، أفتى: إذا كان الدواء الذي يستعمله بواسطة البخاخة يصل إلى جوفه عن طريق الفم أو الأنف فإن صومه يفسد , وإذا كان لا يصل منه شيء إلى الجوف فلا يفسد. وليس الأمر في الواقع على الاحتمال فإنه من المؤكد أن جذب الدواء بواسطة البخاخ ينفذ إلى ما وراء الحلق.
وحينئذ يكون حكم التداوي بالغبار ومنه البخاخ: القصد إلى التداوي بمادة مسحوقة سحقًا ناعمًا ينفذ إلى ما وراء الحلق بجذبها بالفم والنفس أو بآلة؛ مفطر وموجب للقضاء إذا كان المرض غير ملازم.(10/788)
المنفذ الثاني - الأنف:
الأنف منفذ إلى الحلق وما وراءه قطعًا، يدرك ذلك حتى غير أهل الاختصاص، فكثير من العمليات الجراحية يدخل الفريق الطبي أنبوبًا طرفه بالمعدة وطرفه بجهاز استقبال يتجمع فيه إفرازات المعدة.
وبالرجوع إلى نظريات الفقهاء نجد:
الحنفية يقولون: أن المتحلل المار من الأنف مفطر إذا بلغ ما وراء الحلق، وهو السعوط.
ويقول ابن عابدين تعليقًا على قول المتن: (أو اسْتَعَطَ) والسعوط الدواء الذي صب في الأنف وأسعطه إياه، موجب للإفطار والقضاء , ويعلل ذلك بأن الإفطار بالسعوط إفطار معنى لا صورة؛ لأن السعوط يقع بدون ابتلاع الذي هو الصورة. ويترجح ما ذهب إليه ابن عابدين خلافًا لمن ذهب إلى أن ذلك يصل إلى الدماغ؛ لأن الدماغ لا مدخل له في السعوط , وأنه مبني على ما يتوهم أن الاستنشاق لما كان تصعيدًا ظن أنه يمر إلى الدماغ، مع أن قنواته تنزل إلى الحلق.
أما المالكية: فيرون أن مرور المائع من الحلق عبر الأنف موجب للفطر.
قال اللخمي: يمنع الاستعاط لأنه منفذ متسع , ولا ينفك المستعط من وصول ذلك إلى حلقه , ولم يختلف في وقوع الفطر.
ولم أجد تفصيلًا في كتب المالكية ولا اختلافًا إلا في اعتبار منفذ الأنف أهو واسع كما نص اللخمي وابن عبد السلام، أو هو ضيق وهو ما تفرد به الخرشي.
أما الحنابلة فيرون أن السعوط مفطر لأنه يصل إلى الدماغ: يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في بدنه كدماغه وحلقه.
فالاتفاق بين المذاهب الأربعة أن السعوط إذا تجاوز الأنف مفطر، إلا أن الحنفية عللوا الفطر بنفاذه إلى المريء، والشافعية والحنابلة بصعوده إلى الدماغ , والعلم التجريبي يؤيد وجهة النظر الأولى , وأن القوة المودعة في جسم الإنسان التي تحيل الداخل ليست في الدماغ قطعًا.
إدخال الدواء عبر الأنف سواء أكان مائعًا أم غبارًا أم دخانًا أم بخارا هو في الظاهر عندي مفطر.
وأما إدخال أنبوب لإخراج المحرازات المعدة، فغير مفطر إلا على رأي الشافعية.(10/789)
المنفذ الثالث - العين:
يرى الحنفية أن الكحل نهارًا لا يفطر, ولا يكره عمله, وفي الدر المختار: أو اكتحل وإن وجد طعمه في حلقه. وفي رد المحتار: وكذا لو بزق فوجد لونه في الأصح. وعلل ذلك بأن الموجود في حلقه داخل من المسام. الذي هو خلل البدن، والمفطر هو الداخل من المنافذ، للاتفاق على أن من اغتسل فوجد برده في باطنه أنه لا يفطر.
فعلى هذا التعليل لا يعتبر الحنفية على الراجح عندهم العين منفذًا , وبهذا يستوي الكحل مع المائع.
ويرى المالكية أن العين منفذ ظاهر كالفم والأنف , فإذا لم يجاوز العين إلى الحلق فلا فطر , وإن تداوى بدواء وجد طعمه أو لونه في حلقه أفطر. يقول الزرقاني: فمن اكتحل نهارًا، فإن تحقق عدم الوصول للحلق فلا قضاء عليه , ومحل وجوب القضاء فيما يصل إذا فعله نهارًا, فإن فعله ليلًا فلا شيءعليه أن وجد طعمه بالنهار.
والحنابلة يرون: أن ما بلغ الحلق من العين كالكحل مفطر. يقول ابن قدامة: فأما الكحل فما وجد طعمه في حلقه، أو علم وصوله إليه فطره، وإلا لم يفطره. نص عليه أحمد.
ورأي المالكية والحنابلة أرجح؛ لأن علماء التشريح يثبتون أن الله خلق العين مشتملة على قناة تصلها بالأنف ثم بالبلعوم , فما بنوا عليه رأيهم في عدم الفطر أنه لا صلة بين العين والحلق إلا من طريق المسام أكد العلم خلافه. فتقطير الدواء في العين في نهار الصيام مفسد للصوم , موجب للقضاء.(10/790)
المنفذ الرابع - الأذن:
مذهب الحنفية: أطلق في الكنز القول بأن التقطير في الأذن مفطر، وتعقبه ابن نجيم قائلًا: المائع الواصل إلى باطن الأذن أن كان دهنًا فكما قال، وأما الماء: فالذي اختاره صاحب الهداية أنه لا يفطر سواء أدخل بنفسه أو أدخله. وبه صرح الولوالجي معللًا بأنه لم يوجد الفطر لا صورة ولا معنى. ونقل عن قاضي خان في فتاواه أنه إن خاض الماء فدخل أذنه لا يفطر، وإن أدخل الماء إلى أذنه أفطر. ورجح هذا التفصيل في فتح القدير.
وحصل ابن عابدين مذهب أبي حنيفة فقال: والحاصل الاتفاق على الفطر بصب الدهن، وعلى عدمه بدخول الماء. واختلاف التصحيح في إدخاله.
مذهب المالكية: سوى المالكية بين منفذ الأنف والعين والأذن.
يقول خليل: أو وصل المتحلل فقط إلى حلق من أنف وأذن وعين. وذكر ابن عبد السلام في شرحه على مختصر ابن الحاجب أن المائع إذا دخل من المنفذ الضيق من الأعالي أو من الأسافل حتى وصل ذلك إلى المعدة: فاختلف فيه على ثلاثة أقوال؛ أحدها وجوب القضاء، والثاني سقوطه، والثالث التفصيل بين العين ونحوها فيجب، وبين الأسافل فلا يجب؛ لأنه ليس ببعيد نزول الغذاء من الأعالي، بخلاف العكس.
مذهب الشافعية: للشافعية وجهان؛ الأول أنه لو قطر ماء أو دهنًا في أذنه فإنه يفطر، وهو الأصح وبه قطع الشيرازي في المهذب. والثاني لايفطر.
ومذهب الحنابلة: أن ما يدخل من الأذن من المائعات ويصل إلى الدماغ فهو مفطر. يقول البهوتي: أو قطر في أذنيه شيئًا وصل إلى دماغه فسد صومه، لأنه واصل إلى جوفه باختياره، أشبه الأكل.
والذي أثبته علماء التشريح بالاعتماد على المشاهدة والتجربة أن الأذن ليس بينها وبين الجوف ولا الدماغ قناة ينفذ منها المائعات إلا إذا تخرمت طبلة الأذن.(10/791)
المنفذ الخامس - الرأس السالم:
إذا دهن رأسه في نهار رمضان بدواء فهل يؤثر في صومه؟
ظاهر قول ابن الحاجب أنه وقع خلاف , فذهب بعضهم إلى أنه يفطر بذلك، وذهب آخرون إلى التفصيل؛ فإن وجد طعمه في حلقه أفطر، وإن لم يجد لم يؤثر ذلك في صحة صيامه، وفرق بعضهم بين النفل فلا يؤثر وبين الفرض فيفطر به.
والذي أكده العلم التجريبي أنه لا منفذ يجمع بين ظاهر البدن والحلق وما وراءه على الخصوص , ولذا لا وجه للقول بأن الإحساس بطعم الدهن موجب للفطر. وللصائم أن يطلي ظاهر جسده بما هو في حاجة إليه من الأدوية وهو صائم دون أن يؤثر ذلك في صومه.
المنفذ السادس - الدبر:
كما يصل الدواء المؤثر من المنافذ العالية: الفم والأنف والعين، فكذلك يصف الأطباء الأدوية من منفذ الشرج , والاعتماد على هذا المنفذ في الطب يشمل:
1 - إدخال جهاز غير متحلل يساعد على أخذ صورة لبعض أجهزة الجسم الواقعة في ذلك المحيط والتي لا تتأتى إلا منه.
2 - الكشف بواسطة إدخال الطبيب أصابعه، لمعرفة إمكان وجود ورم ونحوه في بعض الأجزاء من الجسم.
3 - إدخال سوائل مساعدة على الكشف.
4 - إدخال سوائل محتوية على محلول أدوية أو مساعدة على التغوط.
5 - إدخال فتائل تذوب بحرارة الجسم، ثم تبلغ أعالي المصير وتؤثر في العلاج.
6 - دهن الشرج بمراهم.(10/792)
إدخال غير متحلل:
يشمل هذا الأجهزة والكشف بالجس بواسطة الأصابع.
الذي عليه الحنفية أن إدخال ما لا يستقر من الشرج غير مفطر ,
أما المذهب المالكي: فجاء في المدونة ما ظاهره يفيد أن إدخال غير المتحلل لا يفطر، ولا قضاء. وسئل مالك عن الفتائل تجعل للحقنة قال: أرى ذلك خفيفًا ولا أرى عليه فيه شيئًا. ثم نقل عن ابن وهب قال ابن وهب: قال مالك فيمن يحتقن أو يستدخل شيئًا من وجع قال: أما الحقنة فإني أكرهها للصائم , وأما السبور فإني أرجو أن لا يكون به بأسًا. قال ابن وهب: والسبور: الفتيلة.
وأكد هذا الحطاب وقوله: في الحقنة بالفتائل لا شيء عليه؛ دل على أن كلامه في الفطر إنما هو في الحقنة المائعة، وهي التي فيها الخلاف كما قال اللخمي. ودقق الزرقاني فقال: أن الجامد لا يفطر إذا وصل إلى المعدة إلا أن يتحلل قبل الوصول، والفتائل لا تفطر ولو كان عليها دهن.
المذهب الشافعي: قال النووي: لو أدخل الرجل أصبعه أو غيره دبره أو أدخلت المرأة أصبعها أو غيره دبرها أو قبلها وبقي البعض خارجًا بطل الصوم.
المذهب الحنبلي: يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في جسده.(10/793)
حكم الكشف بإدخال غير المتحلل:
هو عند الشافعية والحنابلة مفطر , وعند الحنفية كذلك؛ لأنه يستعان
على إدخالها بطلاء الجهاز أو الأصابع بمراهم.
وعند المالكية غيرمفطرة ولا قضاء لذلك.
إدخال السوائل داخل الشرج:
إذا دخلت السوائل من الشرج سواء أكانت محتوية على مواد بقصد الكشف أو للمداواة ولتيسير البراز فإن الحكم لا يختلف؛ هي مفطرة عند الحنفية والشافعية والحنابلة وعلى الأرجح من مذهب مالك. واختار اللخمي عدم الفطر بالحقنة قال: واختلف في الاحتقان بالمائعات هل يقع به فطر أو لا يقع؟ وألا يقع به أحسن؛ لأن ذلك مما لا يصل إلى المعدة , ولا إلى موضع يتصرف منه ما يغذي الجسم.
دهن داخل الشرج بمرهم:
دهن داخل الشرج مفطر عند الحنفية والشافعية والحنابلة، غير مفطر عند المالكية. كما يعلم مما قدمناه.(10/794)
المنفذ السابع - إحليل الرجل وفرج المرأة:
المذهب الحنفي: إذا أدخل إحليله مائعًا أو دهنًا , فنقل عن محمد بن الحسن وأبي حنيفة أنه لا يفطر، والمنقول عن أبي يوسف أنه يفطر.
ووجه قول كل منهما، يقول في البحر: هو مبني على أنه هل بين المثانة والجوف منفذ أو لا؟ وهو ليس باختلاف فيه على التحقيق.
وأما قبل المرأة فإذا قطرت فيه مائعًا فهو مفسد لصومها قيل: إجماعا عند الحنفية، وقيل: على الراجح. والأصح أنه مجمع عليه.
أما المذهب المالكي: فقد جاء في المدونة: قلت: أرأيت من قطر في إحليله دهنًا وهو صائم أيكون عليه القضاء في قول مالك؟ قال: لم اسمع من مالك فيه شيئًا، وهو عندي أخف من الحقنة، ولا أرى فيه شيئًا. فابن القاسم لا يرى قضاء على من تعمد إدخال مائع في إحليله فضلًا عن الذي لا يتحلل. ونص خليل: ولا قضاء في حقنة إحليل.
المذهب الشافعي: يقول النووي: وإذا قطر في إحليله شيئًا ولم يصل إلى المثانة أو زرق فيه ميلًا ففيه ثلاثة أوجه؛ أصحها يفطر وبه قطع الأكثرون لأنه منفذ يتعلق الفطر بالخارج منه , فتعلق بالواصل إليه كالفم , والثاني لا يوجب الفطر، والثالث أن جاوز الحشفة أفطر وإلا فلا.
أما المذهب الحنبلي: فيقول ابن قدامة: وإذا قطر في إحليله دهنًا لم يفطر به سواء وصل إلى المثانة أم لم يصل؛ لأنه ليس بين باطن الذكر والجوف منفذ.
وبناء على ما تقدم:
فإن إدخال أنبوب إلى المثانة لتيسير خروج البول إذا احتقن في المثانة وانسد سبيل خروجه فتعسر البول أو تعذر، غير مفطر على ما يراه الحنفية والمالكية والحنابلة وهو وجه عند الشافعية , ويستوي في هذا الرجل والمرأة؛ لأن التشريح كشف أن جهاز البول غير مرتبط بقناة إلى المعدة.(10/795)
المنافذ غير الخِلقية:
قد تنفتح منافذ إلى داخل الجسم، إما لتعرض الجسم لحادث أو بتدخل الفريق الطبي لعلاج المريض، ونحن نتابع هذه المنافذ تبعًا لما جاء في كتب الفقه.
ما يصيب الصائم من جراح، وهي إما أن تكون في رأسه ووصلت إلى أم الدماغ، أو في بطنه أو في بقية جسده , فما يصيب رأسه هو المأمومة، وما يصيب بطنه هي الجائفة، وما سوى ذلك جراح قد تكون سطحية وقد تكون عميقة تصل إلى مخ العظام. ولا غنى للصائم عن العناية بجراحه ومداواتها.
المذهب الحنفي:
قال في البحر: التحقيق أن بين الدماغ والجوف منفذ. فما وصل إلى الدماغ يصل إلى الجوف , ولذا فإنه إذا داوى الآمة أو الجائفة ووصل الدواء إلى دماغه أو جوفه أفطر وقضى.
ثم أن الدواء إما أن يكون يابسًا أو مائعًا , فإذا تحقق وصوله إلى دماغه أو جوفه أفطر, وإن لم يتحقق فإن كان الدواء يابسًا فإنه لا يفطر, وإذا كان مائعًا فهو مفطر عند أبي حنيفة , لأن العادة وصول المائع، وغير مفطر عند محمد وأبي يوسف؛ لأن الوصول مشكوك فيه ولا يحصل الفطر بالشك. وأما المذهب المالكي؛ فقد جاء في المدونة: قلت: أرأيت أن كانت به جائفة فداواها بدواء مائع أو غير مائع ما قول مالك في ذلك؟ قال: لم أسمع منه في ذلك شيئًا ولا أرى عليه قضاء ولا كفارة. قال: لأن ذلك لا يصل إلى مدخل الطعام والشراب, ولو وصل ذلك إلى مدخل الطعام والشراب لمات من ساعته. وهو نص ابن شاس في عقد الجواهر الثمينة.
وقد تقدم وجهة نظر المالكية في دواء الرأس، وأن الدماغ وخريطته لا يوجب وصول مائع أو يابس لهما أو لواحد منهما الفطر.(10/796)
أما المذهب الشافعي:
فقد جاء في المجموع وشرحه ما يفيد أنه أن وصل الدواء من المأمومة أو الجائفة إلى خريطة دماغه أو إلى بطنه أفطر.
وأرى أن البحث في هذه القضية يجب أن ينظر إليه في واقع الأمر حسب سنن الله في الخلق , فإذا كانت المأمومة يصل أثر دوائها إلى الأجهزة القابلة ثم المحيلة فهي مفطرة , وإذا كانت تتشربها المسام الظاهرة فلا وجه للقول بتأثيرها في الفطر. وقد أكد الدكتور البار في بحثه أنه لا صلة بين الدماغ والجوف ما دام الحاوي سليمًا. وأنه إذا انكسر فالوضع أخطر من الصيام والفطر؛ لأن المصاب يكون في وضع يستدعي العلاج المكثف , وإجراء عمليات دقيقة وبقاءه مدة في المراقبة المستمرة , وفي بيت الإنعاش أن كتبت له الحياة، وقلما يقع إذا ما انهدم بناء الجمجمة، فالصورة كلها افتراضية.
وأما الجائفة فإنه قد يمكن أن تبلغ الطعنة إلى جزء من أجزاء المعدة أو ما اتصل بها من فوق أو من أسفل , وهي حالات تستدعي علاجًا سريعًا ومكثفًا , وإذا تمت مداواة داخل ذلك بدواء فلا شك أنه محقق للفطر إذا نفذ يقينًا إلى الجهاز الذي خلقه الله في الإنسان لهضم ما يرد إليه وتحويله إلى أجزاء الجسم حسب التقدير الدقيق في الخلق.
أما إدخال المنظار مع الأجهزة التي تقوم بكشف ما في الداخل للفريق الطبي لاستئصال المرارة أو غيرها أو أخذ عينة فهي لا تعتبر مفطرة عند الحنفية لعدم الاستقرار، والانفصال عن الخارج؛ إذ هذه الأجهزة طرفها في داخل الجسم وطرفها الآخر بيد الفريق الطبي.
وكذلك أخذ عينة لتحليلها من الكبد أو الطحال أو أي جزء من الباطن , وكذلك هي غير مفطرة عند المالكية لعدم وصولها إلى المعدة , وكذلك عند ابن تيمية. وهي مفطرة عند الشافعية والحنابلة. والرأي الأول أولى بالأخذ؛ لليقين بأن من أدخلت في بطنه هذه الأجهزة لم يأكل ولم يشرب ولم يتغذ، ولم يصل شيء إلى الجهاز الهضمي الذي يقوم عليه الصيام.
وأما التغذية من ثقب بالمعدة فلم أجد من تعرض لها من الفقهاء إلا الرهوني , أنهى كلامه على الحقنة بوضع سؤال فقال: وانظر هل مثله (أي الإيصال بحقنة) ما يصل للمعدة من ثقبة تحتها أو فوقها أو كالحقنة بالدبر أو يجري على ما تقدم في الوضوء؟
وما تقدم له في الوضوء: أنه لا يخلو الحال من خروج الخارج من الثقب، أن يكون الثقب في المعدة أو فوق المعدة أو تحت المعدة. والإشكال السابق الذي أورده في باب الصيام، وفرض فيه أن يجري على ما تقدم في الوضوء لا يظهر وجهه، ذلك أن الخارج من الثقب في المعدة يمكن أن يجري فيه القولان , أما في الصيام فلا، لأنه لا رابطة بين التأثير على الصائم وبين انسداد المخرجين.
والذي يظهر لي والله أعلم، أنه إذا كان الثقب في المعدة ذاتها فوصول شيء منه مفطر يقينًا , وإذا كان الثقب فوق المعدة في القناة الرابطة بين المعدة والحلقوم فمفطر قطعًا , وإذا كان الثقب تحت المعدة في المسلك الخارج منها فهو جار مجرى الحقنة , وإن كان الثقب فوق المعدة أو تحتها غير نافذ إلى المسلك الفوقي أو التحتي فلا أثر له في الفطر.(10/797)
التداوي بالإخراج:
كما يتم التداوي بإدخال دواء من منفذ من المنافذ التي تحدثنا عنها فإنه يمكن علاج المريض بالتدخل لإخراج:
أ- الدم بالفصد. 2- الدم بالحجامة. 3- القيء.
إخراج الدم بالفصد والحجامة:
أما الفصد فالاتفاق على أنه غير مفطر , وأما الحجامة فقد انتهى أمرها.
القيء:
وأما الاستقاء فالحنفية قالوا: يتصور باثنتي عشرة صورة , لأنه إما أن يكون ما أخرجه ملء الفم فأكثر أو دون ذلك. وفي كليهما إما أن لا يعود شيء، أو يعيده هو بإرادته بعضه، أو يعود شيء من قيئه غلبة، وفي كل إما أن يكون ذاكرًا لصومه أو ناسيًا له.
وتحصيل المذهب أنه أن كان ناسيًا فلا يفطر, وإن كان ذاكرًا أفطر إذا بلغ الخارج ملء الفم ابتلع منه شيئًا أو لم يبتلع , وإن كان أقل من ملء الفم فإن لم يعد شيء منه إلى حلقه لا غلبة ولا بقصد لم يفطرعند أبي يوسف، وهو الصحيح في المذهب، وأفطر عند محمد.
وأما المالكية فقالوا: إن من استقاء فقد أفطر، رجع إلى حلقه أو لم يرجع، كان ذلك ملء الفم أو أقل.
والشافعية: يرون أن من استقاء فقد أفطر.
والحنابلة: يرون أن من استقاء فقد أفطر، وعليه القضاء بغير تفصيل.
ودليل الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم: " من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض ".
وبناء على ما قدمناه يتقرر:
أولًا: أخذ قدر من دم المريض لتحليله لا يفطر قطعًا؛ لأنه كالفصد.
ثانيًا: أنه إذا رأى الطبيب أن من مصلحة المريض أن يفرغ ما في معدته بالاستقاء فليفعل , وأن من استقاء عليه القضاء؛ لأن حالات التسمم ونحوها تستدعي إفراغ كل ما تحويه المعدة. فلا يظهر أثر لتفصيل أبي يوسف. التخدير:
التخدير يتم بطرق منها استنشاق غازات تؤثر في الشعور بالإحساس، أو بواسطة حقنة عبر الأوردة الدموية أو بهما أو بغير ذلك , وينقسم إلى قسمين:
أ) تخدير جزئي يقتصر مفعوله على جزء من البدن , ويبقى الوعي وإدراك المعالج لما يجري حوله طبيعيًا, وهذا لا يؤثر في الصيام.
2) تخدير كامل للبدن , بحيث يفقد المعالج معه الوعي بما حوله مع الحرص على أن يستمر على هذه الحالة حسب ما يقرره الفريق الطبي , وهي حالة أقرب ما تكون إلى الإغماء، فيقرر لها من الأحكام ما قرر في الإغماء.(10/798)
المذهب الحنفي:
أن المغمى عليه إذا نوى الصيام في الليل فصومه صحيح ولا قضاء عليه , يقول ابن نجيم: ويقضي بإغماء سوى يوم حدث في ليلته، لأنه نوع مرض يضعف القوى ولا يزيل الحجى.
المذهب المالكي:
جاء في المدونة: أنه أن أغمي عليه كل النهار أو جله وجب عليه القضاء , وإن أغمي بعد أن أصبح صائمًا وقد مضى جل النهار وهو صائم لا قضاء عليه , وكذلك إذا نوى الصيام وأصبح معافى ثم أغمي عليه نصف النهار لا قضاء عليه. فإن انقطع صيامه في الشهر ثم أفاق بعد طلوع الفجر عليه القضاء؛ لأنه لم يبيت الصيام من الليل. ويرى ابن القاسم أنه كلما كان وقت الفجر مغمى عليه فعليه قضاء ذلك اليوم.
فالمالكية حسب قول ابن القاسم يربطون القضاء:
أولًا: بدخوله في الفجر وهو مغمى عليه , طال زمن الإغماء بعد ذلك أو قصر.
ثانيًا: بإغمائه أكثر من نصف النهار كان وقت الفجر مغمى عليه أو لا.
المذهب الشافعي:
إذا انسحب الإغماء على كامل اليوم بعد أن نوى الصيام في الليل فعليه القضاء، وذهب المزني إلى أنه لا قضاء عليه.
المذهب الحنبلي:
أن المغمى عليه إذا استغرق الإغماء كامل اليوم عليه القضاء , وإن أفاق في جزء منه أيا كان فصومه صحيح ولا قضاء عليه.
وبناء على ذلك فإن التخدير لا يوجب قضاء اليوم الذي خدر فيه المريض، سواء استغرق كامل اليوم أو لم يستغرق , ما دام قد بيت الصيام من الليل لذلك اليوم أو للشهر ما لم ينقطع الصيام لعذر.(10/799)
التداوي بالحقن:
من وسائل معالجة المريض الحقن، وهو أنواع:
أ) حقن تحت الجلد. 2) حقن في العضلة.
3) حقن عبر الأوردة الدموية. 4) حقن عبر مفاصل العظام.
الحقن تحت الجلد والحقن في العضلة:
يقوم الجسم الحي بامتصاص ما يرد عليه من الأدوية بواسطة الحقن تحت الجلد أو في العضلة ليوزعه على الجسد , فهو تشرب يضاهي تشرب مسام الجلد للمراهم وغيرها.
ولذا فإن الذي يترجح عندي، والله أعلم، أن هذا النوع لا يؤثر في الصيام , ومثل ذلك الحقن بين المفاصل لتغذية المفصل.
الحقن عبر الأوردة الدموية:
الحقن عبر الأوردة الدموية إما أن يكون دواء لا ينتفع منه المريض إلا في التغلب على أسقامه أو تخفيف أوجاعه , وإما أن يكون غذاء يعطي للجسم السعرات الحرارية التي كان يحصل عليها بواسطة الغذاء , وتروي الجسم بما هو بحاجة إليه من الماء.
أما القسم الثاني فإذا اعتمدنا رأي من يرى أن الصيام عبادة غير معقولة المعنى تعبدية خالصة , فإنه يقتصر على ما وصل إلى الجسم عبر القنوات المعتادة , ومن ربط وريده بمحلول (الغلوكوز) - السكريات - لا يقال له إنه أكل أو شرب , والآية نص في منع الأكل والشرب والشهوة الجنسية {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . ولذا فإن الصائم لا يتأثر صومه بذلك ولا قضاء عليه.
ومن رأى أن الصيام معقول المعنى، وأنه تحكيم للإرادة في مغالبة شهوتي البطن والفرج، وأن الصيام يضعف غلمة الإنسان وقوته الغضبية، وهما مجاري الشيطان , فلما كان هذا النوع من الحقن يعطي للجسم كل وحداته الحرارية ويحدث فيه التوازن لمتطلباته من الماء، حتى أن الإنسان إذا التهب كبده ظمأ فحقن بهذه المحلولات ذهب عطشه وروي. من رأى أن الصيام معقول المعنى حصل له ظن قوي بالإفطار، وإن كان هذا الإفطار لا يبلغ في صورته مبلغ التغذي من الفم إلا أنه يقاربه , ولذلك كان العامد الصحيح يجب عليه القضاء فيه مع حرمة إقدامه على ما أقدم عليه.
أما التغذي من المنافذ المعتادة ففيه مع ذلك الكفارة.
ولذا فالقضاء واجب على من ربط وريده بهذه المحلولات.
أما السابور الذي يبعثه الفريق الطبي عبر الوريد الدموي من أحد أمكنة الجسم المناسبة لفتح انسداد في معابر الدم من القلب أو الأوردة فإنه غير مؤثر في الصوم.
ويجري مجرى إدخال السابور تفريغ دم المريض عبر الأجهزة لتصفيته عند وجود قصور في الكليتين للقيام بوظائفهما.
هذا ما حصلته والله أعلم وأحكم، وهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المكول ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *(10/800)
التعقيب
الدكتور حسان شمسي باشا:
بسم الله الرحمن الرحيم
الصوم شرعًا - كما نعلم جميعًا - هو الامتناع الفعلي عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية.
المشكلة في الواقع بالنسبة للصيام هي تحديد معنى الجوف , هل المقصود الجوف هو الجهاز الهضمي، وهو موضع الطعام والشراب، أم أنه غير ذلك؟
هناك بعض الالتباسات التي وردت في بعض كتب الفقه القديمة، بلا شك الفقهاء القدامى معذورون، فلم يكن هناك علم تشريح واضح بمعنى الوضوح مثل الآن , أود أن أطرح أو أن أعرض هذه الالتباسات التي وردت، منها: أن البلغم أو ما يسمى النخامة هي إفرازات تنزل من الجيوب الأنفية , أو تصعد من القصبات الرئوية وليست من الدماغ، هذه حقيقة علمية واضحة.
هنا مقطع يبين الجيوب الأنفية، هذه الجيوب تصب على الأنف من خلال فوهات في الجيب، وهي التي تخرج منها هذه السوائل أو ربما خرج البلغم أو صعد من القصبات الرئوية إلى الأنف ومن ثَم إلى الخارج.
أود أن أشير إلى نقطة هامة وهي أن الدماغ ليست له أي علاقة بالجوف الهضمي لا من قريب أو من بعيد وليس فيه أي اتصال، وهناك في الواقع سائل دماغي شوكي يحيط بالدماغ من كل جانب كما يحيط بالنخاع الشوكي الذي ينزل إلى أسفل الظهر , هذا السائل الدماغي الشوكي يمكن - كما ذكر سابقًا - أن ينزل إلى جوف الأنف فقط في حالة واحدة وهي الكسر في قاعدة الدماغ. لو كسر هذا العظم هنا أو كسر العظم في أسفل، أي من الخلف، أيضًا يمكن أن ينزل هذا السائل إلى الأنف أو ربما خرج إلى الأذن.(10/801)
فالآمة أو المأمومة، الجرح الذي وصل إلى خريطة الدماغ، وهي ما يسمى في الطب الحديث (الأم الجافية) هذه الأم الجافية التي تحيط بالدماغ من كل جانب، فدخول أي طعنة إلى الدماغ ليست واصلة إلى الجهاز الهضمي لا من قريب ولا من بعيد.
النقطة الأخرى هي الجائفة: وهي الطعنة التي تدخل في جوف البرتوان، هذا هو الغشاء البرتواني أو ما يسمى بـ (البرتوان) الذي يغلف الأمعاء الدقيقة، فدخول أي طعنة إلى هذا الجوف إذا لم تصل إلى المعدة أو إلى الأمعاء الدقيقة فلا تعتبر من الناحية الطبية منفذًا إلى الجوف.
أنتقل الآن إلى الإحليل والمثانة , والمثانة - كما تعلمون - جوف كيسي , هذه هي البروستات تنزل عقب الإحليل إلى القضيب، جوف المثانة لا علاقة له - كما تعلمون - بجهاز الهضم. هذا هو القولون النازل ويتصل بفتحة الشرج، فدخول أي شيء عن طريق الإحليل وحتى لو وصل إلى المثانة ليست له أي علاقة بالجهاز الهضمي. فما يدخل إلى الجهاز البولي من دواء أو قثطرة أو منظار أو سائل في الإحليل في الذكر أو الأنثى وإيصاله إلى المثانة لا علاقة له بالجهاز الهضمي.
الأمر نفسه ينطبق على الرحم , هذا مقطع في الرحم وهذا هو المهبل، فدخول أي شيء إلى المهبل أو حتى دخول أي مسبار أو منظار أو أي شيء إلى الرحم لا علاقة له بالجهاز الهضمي. هذا يبين لنا القولون النازل وفتحة الشرج. فإذن ليس هناك أي ارتباط بين المهبل أو جوف الرحم والجهاز الهضمي. فما يدخل عن طريق الجهاز التناسلي للمرأة من تحاميل (لبوسات مهبلية) أو غسيل مهبل أو إدخال منظار أو لولب، كلها من الناحية الطبية، أقول: غير مفطرة، والأمر بالطبع متروك للسادة الفقهاء، فهم الذين يقررون ما هو الصواب.(10/802)
نأتي الآن إلى الجلد , في داخل الجلد هناك أوعية دموية، فما يوضع على الجلد - سطح الجلد - من مروخات أو أدهان أو لصاقة تمتص عن طريق الشعيرات الدموية إلى الدم، ولكن امتصاصها بطيء جدًّا ومع ذلك فهي تدخل إلى الدورة الدموية , وما يصل إلى الجسم عبر الجلد من طلاءات أو لصاقات توضع على الجلد؛ التي توضع على المرضى المصابين بالذبحة الصدرية أو غير ذلك، يتم امتصاصها عبر الجلد، والحقن أيضًا التي تحقن في الجلد أو تحت الجلد، كما في حقن الأنسولين مثلًا أيضًا تدخل عن طريق الدم، لكن ليس لها أية علاقة بالجهاز الهضمي. أما الحقن تحت الجلد التي تحدث القيء مثل حقن (أبومورفين) التي تستعمل في علاج المرضى الذين أدخلوا لتسمم دوائي فهذه الحقن تحت الجلد حكمها في ذلك حكم التقيؤ عمدًا. أما ما يصل إلى الجسم عبر الأوردة والشرايين كالحقن الوريدية للتداوي أو التشخيص، أو إدخال قثطرة أنبوب دقيق عبر الأوردة أو الشرايين للوصول إلى القلب أو لتصوير شرايين القلب أو حجره، فهذه أيضًا لا تدخل في ضمن المفطرات، وينطبق على ذلك أيضًا نقل الدم ومشتقاته عبر الأوردة.
نتكلم الآن عن موضوع الغسيل الكلوي الدموي , فإذا تم الغسيل الكلوي الدموي كما في هذه الحالة دون إعطاء المريض أية سوائل مغذية فليس هناك مدعاة للإفطار، لكن في كثير من الحالات أثناء إجراء الغسيل الكلوي يمكن إعطاء المريض بعض السوائل المغذية من سينومات سكرية.
أما غسيل الكلى البرتواني عن طريق الغشاء البرتواني فتحدث فتحة في داخل البطن، ويدخل عن طريقها لتران من السوائل، ثم تبقى فترة ثم تسحب مرة أخرى وتكرر هذه العملية. هذه العملية يتم عبرها تبادل المواد الموجودة في الدم، وقد يمتص بعض السوائل الداخلة من هذه الفتحة أو من جوف البرتوان إلى الدورة الدموية.(10/803)
نعود إلى موضوع الجهاز الهضمي، فهل الجهاز الهضمي هو كل ما يلي الحلق حتى الشرج، أم أنه مقتصر فقط على البلعوم والمريء والمعدة؟ لا بد هنا من تفصيل أو إيضاح ما نقصده بالبلعوم , فالبلعوم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: البلعوم الأنفي وهو ما يلي الأنف، ثم البلعوم الفموي وهو الذي خلف اللسان مباشرة، ثم البلعوم الحنجري الذي يلي لسان المزمار.
أود أن أنبه إلى نقطة مهمة وهي أن ما نتذوقه من طعام عادة يشعر به عبر الحليمات الذوقية على اللسان , فالطعام الحلو يذاق في مقدمة اللسان والمالح على جانبه , أما الطعام المر أو ذو الطعم المر فيذاق في مؤخرة اللسان.
نعود إلى البلعوم الأنفي - كما ذكرنا - وهو الذي تصل إليه إفرازات الأنف والجيوب الأنفية وما يوضع في الأنف من دواء أو بخاخ، كما يصل إليه عن طريق الأنف إفرازات الدموع والأدوية التي توضع في العين. أما البلعوم الفموي وهو خلف الفم مباشرة وعن طريقه يتم ازدراد الغذاء والشراب والدواء وكل ما يدخل الفم ويتم بلعه.
البلعوم الحنجري يلي لسان المزمار الذي يقف أثناء التنفس فلا يدع الطعام يدخل إلى الجهاز التنفسي.
ما يدخل الجسم عبر الفم والحلق، كالغرغرة وبخاخ تقطير الفم تشبه في حكمها المضمضة.
خلع السن في رمضان: يتم خلع السن في رمضان - كما نعلم - بالتخدير بواسطة حقنة موضعية أو يتم التخدير بواسطة بخاخ في الفم، فإذا لم يبلع الدم أو الإفرازات التي تتجمع في الفم، فيبدو أن ذلك لا يسبب الإفطار، وكما نعلم فإن هناك عادة يقف مساعد إلى جانب طبيب الأسنان يسحب هذه السوائل من جوف الفم حتى لا تمتص إلى الداخل.(10/804)
ننتقل الآن إلى الأذن، فكما تعلمون، فإن الأذن ترتبط عن طريق قناة أستاشيوس أو قناة أستاش بالبلعوم، لكن هناك غشاء الطبل، هذا الغشاء الذي يقف حاجزًا أمام دخول أية سوائل عبر الأذن إلى البلعوم , إذا كان غشاء الطبل غير مثقوب فلا يدخل أي شيء من الأذن إلى البلعوم أو إلى الجهاز الهضمي , فوضع عود في الأذن أو قطرة دواء في الأذن أو نقطة ما لا تصل الأذن الوسطى، وبالتالي لا تصل إلى البلعوم إلا إذا كانت طبلة الأذن مثقوبة، وحتى ما يصل البلعوم منها فهو ضئيل جدًّا، وربما كان أقل مما يصل إلى البلعوم بعد المضمضة بدون مبالغة.
نأتي الآن إلى موضوع قطرة العين , هذه هي الغدد الدمعية التي تصب الدمع في داخل جوف العين , والعين - كما تعلمون - متصلة بقنوات صغيرة تصب في داخل الأنف , فإذا ما يوضع في العين يمكن أن يصل إلى الأنف ويمكن أن يصل إلى البلعوم، ولكن هناك نقطة أساسية فنحن نعلم أن جوف العين لا يتسع لأكثر من قطرة واحدة، وأطباء العين يصفون عادة قطرة توضع في جوف العين، لأنهم يعلمون أنه لا يتسع لأكثر من قطرة واحدة، هذه القطرة لو تخيلنا حجمها فإن الملعقة الواحدة الصغيرة تتسع إلى 5 سم3 من السوائل، وكل سم3 يمثل خمس عشرة قطرة، فإذن القطرة الواحدة تمثل جزءًا من خمسة وسبعين جزءًا مما يوجد في الملعقة الصغيرة.
ننتقل الآن إلى موضوع آخر وهو ما يدخل من الشرج إلى الجهاز الهضمي، فكما نعلم فإن الجهاز الهضمي من أسفله أيضًا يمكن دخول السوائل ويمكن امتصاصها عبر القولون، ولكن لا يبتدأ عادة عن طريق الشرج إلا في حالات نادرة كما في بعض الحالات عند الأطفال، أما في المعتاد عند الكبار فلا يستخدم المستقيم أو الشرج لتغذية الإنسان في الوقت الحاضر.
ما يدخل إلى الدبر إذن من الحقن الشرجية سوائل يمكن أن تمتص من القولون، أما التحاميل الشرجية فهي تحتوي على مادة دوائية وليس فيها سوائل. المنظار الشرجي أو إصبع الطبيب أيضًا حكمها حكم دخول اللبوسات الشرجية.(10/805)
وأود أن أطرح فكرة أساسية، وهي أن اللبوسات الشرجية تستعمل في كثير من الحالات في علاج صداع الشقيقة، والتي تصيب حوالي 10 % من الناس، مسكنات آلام المفاصل (أمراض المفاصل الروماتيزمية) وغيرها، الربو القصبي، واستعمال تحاميل (أمينوف) والتي هي مسكنات المغص البطني، خافضات الحرارة ... إلى آخره.
هناك حوالي أربعمائة مليون مسلم يصومون كل عام، فإذا أخذنا فقط الشقيقة فإنها تصيب حوالي 10 % من المسلمين، أي حوالي أربعين مليونًا مسلمًا صائمًا، هذا إذا قلنا 10 % حتى إذا قلنا إنها ربع هؤلاء يبقى حوالي عشرة ملايين مسلم يمكن أن يصابوا بنوبة شقيقة في أحد أيام رمضان، وقد تحتاج إلى تحميلة شرجية.
التهاب المفاصل التنكسي أيضًا شائع جدًّا عند النساء فوق 65 سنة، 68 % منهن مصابات بالتهاب المفاصل التنكسي.
نأتي الآن إلى موضوع مناظير الجهاز الهضمي، فكما نعلم أن مناظير الجهاز الهضمي إما منظار يدخل عن طريق المعدة أو لتنظير المستقيم، وكلها تدخل إلى الجوف ولكنها ليست بالغذاء.
فمنظار المعدة، يدخل عبر الفم إلى البلعوم ثم إلى المريء ثم المعدة، وهناك إما أن يتم سحب قطعة صغيرة أو ينظر ويعلم ما في المعدة من قرحة أو ما إلى ذلك , هناك أيضًا المناظير التي تدخل البطن، وهذا المنظار الذي يستخدم الآن في إجراء عمليات المرارة والفتق ... إلخ , من عمليات جراحية يتم إجراؤها عن طريق تنظير البطن، هذه أيضا لا علاقة لها بالجوف ولا تصل إلى موضع الطعام والشراب ما لم تدخل إلى المعدة أو إلى الأمعاء الدقيقة.(10/806)
كذلك الأمر نفسه ينطبق على سحب سوائل من الجوف الذي بين الرئة والعضلات (عضلات الظهر) ، حيث إنه قد يتجمع سائل في الرئة ويضطر الطبيب إلى سحب عينة من هذا السائل من هذه المنطقة أيضًا، هذه ليست لها أية علاقة بالجهاز الهضمي.
فأخذ عينات أو خزعات من الأعضاء كالكبد والرئة والكلى أو أخذ شيء من السائل المحيط بالرئة، أو سائل البطن أو السائل الموجود حول الجنين كلها لا علاقة لها بالجهاز الهضمي.
بالنسبة لسحب الدم فسحب كمية قليلة من الدم لفحصه لا يؤثر على الجسم ولا يضعفه.
أما الأوكسجين فهو جهاز ليست فيه أية مواد تدخل إلى الجهاز التنفسي، ولكن في حالة التخدير فإن هناك مواد - كما تعلمون - كالهلوثين وغيره يمكن أن تدخل عن طريق هذا الجهاز إلى الرئتين.
في اعتقادي أنه ينبغي استبعاد موضوع التدخين من موضوع المفطرات كلية لأن التدخين داء وليس بدواء، وليس فيه شيء إطلاقًا من مظاهر التداوي.
في موضوع التخدير الكلي هناك غازات مستنشقة كـ (الإيليثي) و (الهلوثين) ويبدأ التخدير بإعطاء حقنة في الوريد من مادة منومة، ثم يدخل أنبوب إلى القصبة الهوائية وبالتالي تستمر عملية التخدير.
هناك أمران في التخدير الكلي وهما:
- مسألة فقدان الوعي.
- مسألة إعطاء السوائل المغذية بالوريد أثناء العملية الجراحية.
أما موضوع بخاخ الربو فالمريض الصائم قد يصاب فجأة بنوبة ربوية ويحتاج إلى بخة أو بختين من هذا البخاخ، فيأخذ هاتين البختين ثم يعود إلى ممارسة نشاطه العادي. فأود أن أضع بعض الملاحظات هنا:
هذه العبوة هنا تحتوي على 10 سم3 من السائل، ومصممة على إعطاء مئتي بخة عن طريق الفم، فالبخة الواحدة إذن تحتوي على جزء واحد من عشرين جزءًا من السم3، فإذن تحتوي على أقل من قطرة واحدة التي ذكرنا أنها تمثل جزءًا واحدًا من خمسة وسبعين جزءًا مما في ملعقة الشاي، وربما كان أقل مما يتخلف في الفم من المضمضة أو الاستنشاق. والكمية في الواقع بالرغم من أن هذا الرذاذ يدخل إلى الفم أو الأنف ومنها إلى البلعوم الفمي ثم إلى البلعوم الحنجري ومنه إلى الرغامي فالشعب الهوائية، إلا أن جزءًا قليلًا منه قد يتوضع على البلعوم ويدخل إلى المريء، فالكمية الداخلة إلى الجهاز الهضمي كمية قليلة جدًّا جدًّا.(10/807)
وأود أن أشير إلى أن حدوث الربو القصبي يصيب حوالي 4 - 5 % من الناس أي أن هناك ستة عشر إلى عشرين مليون مسلم يمكن أن يحتاجوا إلى بخاخ الربو في رمضان.
والواقع أود أن أشير إلى نقطة وهي أن السواك في رمضان معلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يستاك في رمضان، وهذا ثابت في السنة النبوية الشريفة، والسواك يحتوي على الأقل على ثمان مواد كيماوية، هذه المواد تتحلل في اللعاب وتؤثر على اللثة، أو تؤثر على الأسنان وعلى جوف الفم، فهذه المواد الكيماوية هي في الواقع علاج للأسنان واللثة، وهي مسموح بها - لا شك - في رمضان , فمعظم المرضى في الواقع يصرون على الصيام، والمريض قادر على الصيام إذا ما أخذ الدواء ويعود إلى حياته العادية وإنتاجه، فهل نحرم هؤلاء المرضى من روحانية رمضان؟
لو سمح لي السيد الرئيس في دقيقتين أو ثلاث أشير إلى البحث الآخر الذي وضعته وهو الدليل الطبي للمريض في شهر الصيام، فكما ذكرت فإن كثيرًا من المرضى يستطيع الصيام دون أي تأثير يذكر على حالته الصحية إذا ما تناول علاجه بانتظام، وقد دلت الأبحاث الحديثة على أن عددًا من الأمراض لا يزيدها الصيام سوءًا، بل ربما تتحسن الحالة المرضية بالصيام، وهنا يواجه الطبيب موقفًا حرجًا عندما يسأله المريض فيما إذا كان يستطيع الصيام أم لا؟ هل يقول له: لا تصم فأنت مريض وقد أباح الله لك الإفطار؟ والطبيب في الوقت ذاته يعلم علم اليقين أن ذلك المريض يستطيع الصيام إذا ما تناول بخة في الأنف أو قطرة في العين أو تحميلة في الشرج.
مسؤولية كبيرة يشعر بها الطبيب المسلم حينما يأمر مريضه بعدم الصيام ويحرمه لذة الصوم في رمضان. ولو استعرضنا معًا الحالات المرضية التي ينبغي فيها الإفطار لوجدناها محدودة بالتأكيد، فكثير من مرضى الجهاز الهضمي ومنها القرحة يستطيع الصيام مثلًا ما لم تكن هناك أعراض حادة تمنعه من الصيام، أما المصابون بعسر الهضم فالصيام لهم علاج، ولو انتقلنا إلى أمراض القلب لوجدنا أن أكثر المرضى المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكنهم صيام رمضان، بل أن الصيام يمكن أن يخفف من وزنهم ويخفض ضغط الدم عندهم.
وفي فشل القلب إذا كانت حالة المريض مستقرة أمكنه الصيام، وكذلك الأمر بالنسبة للمصابين بالذبحة الصدرية إذا لم تكن لدى المريض أية أعراض , وهناك حالات معينة من مرض القلب ينصح فيها بالإفطار كالمصابين بجلطة القلب (احتشاء العضلة القلبية) أو الذبحة الصدرية غير المستقرة أو فشل القلب غير المستقر، وهكذا. وحتى المصابين بأمراض الكلى يمكن للكثير منهم الصيام، شريطة متابعة العلاج والتأكد من قبل طبيب الكلى من إمكانية صومهم، وقد أثبتت دراسة حديثة أن مرضى السكر الذين يتناولون الأقراص الخافضة للسكر يمكنهم صيام رمضان مع إجراء بعض التعديلات في علاجهم.(10/808)
وكذلك الأمر بالنسبة للمصابين بأمراض الغدة الدرقية والكظرية والأمراض العصبية كالصرع وغيره، إذا كانت حالة المريض مستقرة وتناول علاجه الذي وصفه له الطبيب.
أما الحامل فإن كانت سليمة البدن وكانت لا تشكو من أية أعراض وكان سير حملها طبيعيًا أمكنها الصيام أيضًا إذا رأى الطبيب ذلك. وكذلك تستطيع كثير من المرضعات الصيام إذا كانت حالاتهن مستقرة وكانت تغذية الرضيع جيدة.
ولهذا نجد الكثير من المرضى يصر - كما ذكرت - على الصيام ويطلب من طبيبه السماح له بذلك، وهذا يقودنا إلى الموضوع الأساسي وهو المفطرات، فكثير من المرضى يستطيع الصيام إذا ما تناول علاجه بانتظام، فقد يحتاج مريض الربو إلى بخة أو بختين من بخاخ الربو، أو مريض الذبحة الصدرية إلى حبة يضعها تحت اللسان، أو مريض الشقيقة أو المصاب بروماتيزم إلى تحميلة شرجية، أو المصاب بالتهاب العين إلى قطرة في العين وهكذا , فهل نطلب من هؤلاء ألا يصوموا كي يتناولوا تلك القطرة أو التحميلة أو البخاخ؟
هذا ما رأيته في هذه العجالة، فإن أصبت فلله الحمد والمنة، وإن أخطأت فمن نفسي، وأستغفر الله العظيم , والأمر متروك أولًا وأخيرًا لسادتنا الفقهاء يقررون ما هو الصواب. والحمد لله رب العالمين.(10/809)
الرئيس:
شكرًا, أستاذ حسان، أحسنتم كل الإحسان حينما ركزتم على مفهوم الجوف؛ لأن أكثر هذه القضايا الطبية ركزتموها على مفهوم الجوف على أنه موضع الجهاز الهضمي، وإلا فإنه يمسح كثيرًا من الأحكام الفقهية. هذا أولًا.
ثانيًا: أحب أن أسأل سؤالًا في قضية النخامة، هل بالإجماع الطبي أنها لا تكون من الرأس؟
الدكتور حسان:
نعم بالإجماع الطبي لا شك في ذلك، وهي مفرزات تأتي من الجيوب أو تأتي من الرئتين , لا يخرج من الدماغ أو يدخل من الدماغ إلى الأنف أي شيء إن كان سائلًا.
الرئيس:
لأن الفقهاء فرقوا بين أن تكون النخامة من الدماغ أو أن تكون من الجوف.
الدكتور حسان:
ليس هناك أي اتصال بين الدماغ والأنف ما لم يكن ثقب.
الرئيس:
قضية إذا كان في الأذن ثقب وقطر فيها ودخل كأنكم قررتم بأنه يفطر, كيف تكون إفطارا وهي لا علاقة لها بالجهاز الهضمي؟
الدكتور حسان:
هي تدخل إلى البلعوم بلا شك.
الرئيس:
يدخل الطعم أو قوة النفوذ. جزاكم الله خيرًا.(10/810)
الدكتور محمد علي البار:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أصحاب الفضيلة والسماحة ,
لقد كفاني أخي وزميلي الدكتور حسان شمسي باشا معاودة تعريف بعض النقاط المتصلة بالجوف، لأنه هو محك الاختلاف في تفسير ما يصل إلى الجوف أو ما لا يصل إلى الجوف، وهذه المشكلات كلها تثير بعض المشاكل للعامة خاصة؛ لأن الفتاوى التي تأتيهم من أصحاب الفضيلة تكون غالبًا مختلفة تمام الاختلاف من فقيه إلى آخر، وقد أحسن المجمع الفقهي صنعًا بإدراج هذه القضية للبحث في هذه الدورة.
تعريف الجوف لغة:
يطلق الجوف في اللغة على كل شيء مجوف، وجوف الإنسان بطنه. والأجوفان: البطن والفرج. والجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف. وفي الحديث الشريف: " في الجائفة ثلث الدية ". أجافه الطعنة وبها: أصاب بها جوفه. والجوف من كل شيء باطنه الذي يقبل الشغل والفراغ.
وتحدث الفقهاء عن الجوف كثيرًا ووسعوا دائرة الجوف، ومنهم من وسعها كثيرًا، ومنهم من ضيقها نسبيًا.
عند الأحناف: الجائفة هي التي بلغت الجوف أو نفذته. ولا تكون الجائفة في العنق والحلق والفخذ والرجل، وهي تختص بجوف البطن أو جوف الرأس.
وعند الشافعية: الجائفة جرح ينفذ لجوف باطن محيل للغذاء أو الدواء (أي الجهاز الهضمي) أو طريق للمحيل.
حقيقة أن كلام الفقهاء في موضوع الجوف فيه اختلاف وفيه عدم دقة.
لأنهم اعتبروا ناحية اللغة، واللغة واسعة فيه، كل شيء مجوف في الإنسان يمكن أن يطلق عليه جوف.
فالجوف في جسم الإنسان تجاويف عدة، فهي لا تقتصر على التجويف البطني الذي يطلق عليه في العادة لفظ الجوف، فهناك التجويف الصدري وهو مغطى بالغشاء البلوري ويحوي الرئتين، وفي القلب ذاته أربعة تجاويف.
وفي عظام الوجه تجاويف عدة تعرف بالجيوب الأنفية، وهي ترخم الصوت وتخفف من وزن الرأس، ولها إفرازات هي التي تصل إلى البلعوم الأنفي. وهو نفس الكلام الذي قاله أخي الدكتور حسان شمسي باشا، هذا الكلام القديم أنه ينزل من الدماغ كان قال به الرازي وابن سينا، ولكنه لا يصح من الناحية الطبية اليوم. وهذه الإفرازات التي يظنونها تأتي من الدماغ هي تأتي من الجيوب الأنفية , وتحدثوا عن الإفرازات التي تأتي من الجهاز التنفسي من الرئتين وغيرهما وهو صواب.
وتحدث الفقهاء بناء على ما ذكره لهم الأطباء في ذلك الزمان، تحدثوا عن النخامة واعتقدوا أنها من الدماغ، فبنوا على ذلك الأحكام، وهذه الأحكام غير صحيحة.(10/811)
وفي الجمجمة تجويف يشغله الدماغ - وقد رأيتم صورته - وسائل المخ - شوكي الذي يدور حوله - قد شرحت هذا السائل - ولا يصل شيء لا من الدماغ ولا من السائل إلى الجهاز الهضمي على الإطلاق إلا إذا انكسر قاع الجمجمة نفسها مثل ما وضح أخي الدكتور حسان، وهي شيء خطير جدًّا يحدث في بعض الحوادث الشديدة، فقد يصل شيء من هذا السائل إلى الأنف وبالتالي يصل إلى البلعوم، ومنه يمكن أن يصل إلى الجهاز الهضمي، وهذه في حد ذاتها حالة خطيرة جدًّا.
أما تجاويف الفرج والقبل وغيرها وتجاويف المثانة فليس لها أي علاقة على الإطلاق بالجهاز الهضمي.
فإذًا نقص الكلام على تجويف البطن , البطن كلها تعتبر جوفًا. وتجويف البطن هو الجزء الذي ينحصر بين عضلة الحجاب الحاجز من أعلى، وبين الحاجب الحوضي من أسفل.
وينقسم تجويف البطن إلى جزئين رئيسيين هما: تجويف البطن الحقيقي , وهو الجزء الأكبر , ويقع أعلى الجزء السفلي المعروف بتجويف الحوض، والثاني هو تجويف الحوض , ويحتوي التجويف البطني على أعضاء مختلفة من الجهاز الهضمي والجهاز البولي وأوعية دموية وغدد صماء وغير صماء، وأعصاب وغدد لمفاوية وطحال , وتعتبر الكبد والبنكرياس من امتدادات الجهاز الهضمي، حيث تنمو من الأنبوب الهضمي في الجنين , يحتوي تجويف الحوض على أجزاء من الجهاز البولي بالنسبة للرجل والمرأة وهو الجهاز التناسلي أيضًا بالنسبة للمرأة بصورة خاصة , وهناك صور توضح هذا.
والجهاز الهضمي من أوله إلى آخره أنبوب مجوف إلا أنه يضيق في مواضع مثل المريء ويتسع في مواضع مثل المعدة، وهو على الحقيقة الجوف المقصود في الصيام، إذ هو موضع الطعام والشراب، وعليه كل ما يدخل إلى الجهاز الهضمي متجاوزًا الفم والبلعوم يكون سببًا للإفطار ومفسدًا للصيام وذلك في نهار رمضان (أو نهار الصيام إذا كان من غير رمضان) ولا بد أن يكون الشخص عامدًا، فالناسي ليس مفطرًا , وإنما أطعمه الله وسقاه كما جاء في الحديث الشريف. ولا يشترط أن يكون ما دخل الجوف طعامًا أو شرابًا فقط وإنما يدخل في ذلك الدواء بل والدخان.(10/812)
وهناك خلاف بين الفقهاء حول الدخان (المقصود أي دخان) ولا بد من إدخاله عمدًا وتجاوزه الفم إلى البلعوم (الحلق) وقد يصل إلى الحلق (أي البلعوم) عن طريق الأنف بواسطة صلة البلعوم الأنفي بالبلعوم، فكل ما دخل إلى الأنف من السوائل وغيرها ووصل إلى الحلق (البلعوم) وابتلعه الإنسان يعتبر مفسدًا للصيام عند جمهور الفقهاء. ومن المعلوم أن هناك قناة ما بين العين والأنف، فإذا وضع الإنسان قطرة في عينيه فإنها تصل إلى الأنف، ومن الأنف قد تصل إلى البلعوم، ولذا اعتبرها كثير من الفقهاء مسببة للإفطار ومفسدة للصيام.
طبعًا الكمية التي تصل هي كمية ضئيلة كما ذكر الدكتور حسان، ولكن قد يواصل الإنسان وضع القطرات فتتجمع هذه القطرات على مدى اليوم إذا سمحنا له بذلك، وهناك فتحة في الأذن الوسطى وتتصل بقناة إستاكيوس التي تصل إلى البلعوم، وتعرف بالقناة البلعومية السمعية، ولكن الأذن الخارجية (وتشمل الصيوان وقناة السمع الخارجية) تفصلها عن الأذن الوسطى الطبلة وهي غشاء جلدي , ولهذا فإن إفرازات الأذن الخارجية أو وضع قطرات من الدواء , أو الماء أو أي سائل في الأذن الخارجية لا تصل إلى الأذن الوسطى، وبالتالي لا تصل إلى القناة السمعية البلعومية إلا إذا كانت طبلة الأذن مخروقة.
وفي الحالات العادية فإن وضع عود في الأذن أو وضع قطرة دواء في الأذن أو نقطة من ماء فإنها لا تصل إلى الأذن الوسطى، وبالتالي لا تصل إلى البلعوم إلا عن طريق المسام الموجودة في الطبلة، وبما أن الطبلة تشبه الجلد فتأخذ حكمه.
البلعوم: هو جزء القناة الهضمية الذي يلي تجويف الفم وهو عبارة عن قناة عضلية (تجويف) غشائية مخاطية، يبلغ طولها 14 سنتمترًا، تمتد أمام الفقرات العنقية الست العليا، وتنشأ أكثرعضلاتها من قاعدة الجمجمة.(10/813)
وينقسم تجويف البلعوم إلى ثلاثة أجزاء:
(الأول) الجزء العلوي: خلف تجويف الأنف، ويعرف بالبلعوم الأنفي وهو الذي تصل إليه إفرازات الأنف والجيوب الأنفية، وما يوضع في الأنف من دواء أو بخاخ أو دخان، كما يصل إليه عن طريق الأنف إفرازات الدموع من العين والأدوية التي توضع في العين , وتقع فيه فتحتا الأنف الخلفيتين وفتحتا القناة البلعومية.
(الثاني) الجزء المتوسط: وهو خلف الفم مباشرة، ويعرف بالبلعوم الفمي، وعن طريقه يتم ازدراد الغذاء والشراب والدواء وكل ما يدخل الفم ويتم بلعه , وفي هذا الجزء تقع اللهاة واللوزتان الحنكيتان، وتتوسط اللهاة بين البلعوم الأنفي والبلعوم الفمي.
(الثالث) الجزء السفلي: ويعرف باسم البلعوم الحنجري، ويقع خلف الحنجرة وفيه تقع فتحتها، والحبال الصوتية الحقيقية والكاذبة. ويغطيه لسان المزمار عند البلع؛ حتى لا ينساب الطعام والشراب إلى الحنجرة فيحدث الشرق والغصة.
وهناك تفصيل للبلع والازدراد وكيف يمر الطعام، وفيه الصور واضحة كما ترونها في البحث حتى لا نأخذ الوقت , فإذا ازدرد الإنسان الطعام أو بلع شيئًا وصل إلى البلعوم الفمي ومنه يصل إلى المريء.
أما المثانة فهي عبارة عن عضو عضلي أجوف، وهي كيس لخزن البول الذي تفرزه الكليتان , وينزل منها عبر الحالبين، وتقع المثانة في الحوض الحقيقي، ولاعلاقة لها بالجهاز الهضمي على الإطلاق.
والأوعية الدموية واللمفاوية: كلها مجوفة ويجري فيها الدم أو اللمف. واختلف الفقهاء في الحجامة والفصد، فقال بعضهم أنها مفسدة للصيام لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) , ومال آخرون إلى أن الحجامة ليست سببًا للإفطار وإفساد الصيام، لأنه احتجم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو صائم.
وأما إدخال الدواء إلى الأوعية الدموية فقد أفتى معظم العلماء في العصر الحديث بأنه ليس سببًا للإفطار وإفساد الصيام، ومن باب أولى الزرق (الحقن) في العضل وتحت الجلد.
وأما إدخال المحاليل والسوائل (مثل محلول الملح ومحلول الغلوكوز وهو نوع من السكر والمغذيات الأخرى) فقد كرهها الفقهاء المعاصرون، ورأى كثير منهم أنها تفسد الصيام.
فإذا ناقشنا هذه النقاط الأساسية لا داعي للدخولى في محاولاتي أنا؛ في محاولة فهم أقوال الفقهاء لأنها طبعًا مذكورة للعامة وليس للفقهاء، فالفقهاء يعرفون أكثر من ذلك.(10/814)
مناقشة المفطرات في مجال التداوي:
ضابط المفطرات مما يصل إلى الجوف
بما أن الصيام إنما هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع، فإنه يتبين من ذلك أن المقصود هو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج، وعليه فإن الجوف لا يعدو الجهاز الهضمي متى تجاوز الفم ووصل إلى البلعوم (يسميه الفقهاء الحلق) وبالتالي فإن وصول الطعام والشراب عمدًا إلى البلعوم ومنه إلى المريء فالمعدة سبب مجمع عليه في إفساد الصيام وتسبب الفطر، إذا كان ذلك في النهار من الفجر إلى غروب الشمس، ويتفق الفقهاء على أن تعاطي الدواء أو أي شيء آخر عن طريق الفم متى وصل إلى البلعوم ومن ثم إلى المريء فالمعدة عمدًا في نهار الصيام يؤدي إلى إفطار الصائم وإفساد صومه.
ويمكننا أن نقسم قائمة المفطر ات في مجال التداوي إلى الأقسام التالية:
1 - ما يدخل الجسم عن طريق الجهاز التنفسي: مثل البخاخ للربو وما يستنشق من الأدوية، وتدخين بعض المواد ويؤخذ بخارها مثل صبغة الجاوي وغيرها، توضع في ماء مغلي فيختلط بخار الماء مع الدواء ويستنشقه الإنسان، أو غيره من الأدوية، وتدخين السجائر والشيشة والنشوق (السعوط) , وهذه كلها إما سوائل وفيها مواد عالقة وتدخل إلى الفم أو الأنف وتستنشق، ومنها إلى البلعوم (الفمي أو الأنفي) ومن البلعوم إلى المريء فالمعدة. كما يذهب جزء آخر من البلعوم الفموي إلى البلعوم الحنجري، ومنه إلى الرغامي فالشعب الهوائية فالرئتين , وقد أسلفنا القول في أن هذه المواد تدخل إلى الجوف الذي حددناه بالجهاز الهضمي.
ولا شك أن من تعقد إدخال هذه المواد إلى فمه أو أنفه ومنها إلى بلعومه ومعدته يكون مفسدًا لصومه متى فعل ذلك في نهار الصيام.
وإن كنت أتفق مع أخي الدكتور حسان شمسي باشا في أن الكمية التي يستخدمها مريض الربو تكون كمية ضئيلة، لكنها لا شك أنها تصل، وهناك وسائل أخرى قد تكون أيضًا سوائل توضع في قربة صغيرة ليستنشق منها المريض يعني أنها أكثر من البخاخ، وتكون فيها كمية من السوائل وكمية من الدواء أكثر مما هو في البخاخ لوحده. تحديد الكمية لا أدري إن كان له دور في هذا، أو أن العمدة في ذلك أنه يصل إلى الجوف.
وأما الأوكسجين الذي يعطى لبعض المرضى فهو هواء، وليس فيه مواد عالقة لا مغذية ولا غيرها، ويذهب أغلبه إلى الجهاز التنفسي، وتنفس الهواء كما هو معلوم ضروري لحياة الإنسان، ولم يقل أحد قط أن استنشاق الهواء مفطر للصيام.
وأما التخدير الكلي فإنه غازات مستنشقة مثل الأثير وغيره، وعادة ما يبدأ التخدير الكلي بحقنة في الوريد من عقار الباربيتورات السريع المفعول جدًّا، فينام الإنسان في ثوان معدودة، ثم يتم إدخال أنبوب مباشر إلى القصبة الهوائية عبر الأنف ويتم إجراء التنفس بواسطة الآلة، وبواسطتها أيضًا يتم إدخال الغازات المؤدية إلى فقدان الوعي فقدانًا تامًا , وهذه كلها لا علاقة لها بالجهاز الهضمي وبالتالي ليست مفسدة للصيام , ويبقى في الموضوع مدة الإغماء وفقدان الوعي، وهي في ذاتها قد تكون مسببة للإفطار، ثم يبقى بعدها موضوع إعطاء المريض السوائل (المغذية) بواسطة الزرق في الوريد , وهي كما يرى كثير من الفقهاء مسببة للإفطار.(10/815)
2 - ما يدخل الجسم عبر الفم والحلق: ومن ذلك الغرغرة وبخاخ تعطير الفم، وهذه تشبه المضمضة فإن بالغ الشخص أو زاد عن الثلاث ووصل الماء إلى الجوف فإنها لا شك تسبب الإفطار.
وكذلك السؤال عن قلع السن في نهار رمضان، ويستخدم الطبيب البنج (التخدير) الموضعي، فإن كان التخدير بحقنة (إبرة) موضعية فلا بأس، وإن كان بواسطة بخاخ عاد الحكم إلى ما سبق أن ذكرناه من وصول مواده إلى الحلق والبلعوم والمريء والمعدة. ثم إن الدم أو الإفرازات التي تتجمع في الفم في عملية قلع السن أو أي عملية أخرى في الفم إن ابتلعها المريض عامدًا أفطر، وإن انسابت دون إرادته فلا شيء عليه، لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه , فإنما أطعمه الله وسقاه)) وفي رواية الدارقطني: ((إذا أكل الصائم ناسيًا أو شرب ناسيًا فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه)) .
3 - ما يدخل إلى الدبر: وهو الحقنة الشرجية ومنظار الشرج وإصبع الطبيب والفرزجات (اللبوس) ، والدبر متصل بالمستقيم، والمستقيم متصل بالقولون وهو المعي الغليظ، يبدأ بالقولون السيني ثم القولون النازل ثم القولون المعترض ثم القولون الصاعد ثم الأعور، ومنه إلى الأمعاء الدقيقة , ويمكن امتصاص الدواء أو السوائل منها، وهي جزء من تعريفنا للجوف وهو الجهاز الهضمي، وعليه فيبدو - والله أعلم - أنها سبب لإفساد الصيام وإفطار المريض.
4- ما يدخل عن طريق الجهاز التناسلي للمرأة: وفيه المهبل وهو الذي يطلق عليه الفرج والقبل، وقد أسلفنا القول أنه ليس بالتجويف على الحقيقة بل الجداران الأمامي والخلفي ملتصقان، ولكنهما مرنان فيسمحان بدخول الذكر أو نزول الجنين أو الدم، أو إدخال منظار أو إصبع أو فرزجة، ويمكن امتصاص الدواء من المهبل، وتستخدم بعض الأدوية لهذا الغرض بواسطة الفرزجات (اللبوس، التحاميل) أو بواسطة ما يسمى دوش مهبلي (غسيل المهبل) ... إلخ. ولولا أن المهبل هو مكان الجماع، وإدخال الحشفة فيه مسبب للإفطار بالجماع (إذا كان ذلك عمدًا في نهار الصيام) ، فإنه من اليسير القول بأن المهبل ليس الجوف المراد في موضوع الصيام ولا علاقة له بالجهاز الهضمي.(10/816)
5 - وكذلك ما يدخل إلى الجهاز البولي، وهو بعيد كل البعد عن الجهاز الهضمي.
6 - وما يصل عبر الأذن إذا كانت الأذن ليست مخرومة الطبلة فإنه لا يصل إلى الجوف.
7 - تنظير البطن: من الجدار الخارجي للبطن عبر جهاز التنظير، ويتم ذلك لإجراء التشخيص للأمراض وإجراء العمليات الجراحية، ولسحب البييضات في عملية التلقيح الصناعي (طفل الأنبوب) ، وغيرها من الأغراض. وهذه كلها لا تعتبر الجوف الذي حددناه بالجهاز الهضمي.
أما المناظير المختصة بالجهاز الهضمي سواء كانت من أعلى (أي الفم وتصل إلى المعدة) أو من أسفل (أي من الدبر وتصل إلى الأمعاء) فإنها كلها مواد تدخل إلى الجوف، وإن كانت لا علاقة لها بالغذاء. طبعًا تغطى بمادة دهنية ويلصق منها جزء في الجهاز الهضمي , وفي معظم الأحوال تقتصرعلى التشخيص فقط، ونادرًا ما يتم عبرها حقن دواء للدوالي وغيرها.
وعليه فإن حكمها سيأخذ حكم ما تم إدخاله عبر الفم أو عبر الشرج (الدبر) وفي ظني أنها سبب للإفطار، والله أعلم.
8 - أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء: الباطنة مثل الكبد أو الرئة أو الكلى أو أخذ شيء من السائل الموجود في الغشاء البلوري المحيط بالرئة، أو الغشاء البريتوني المحيط بأحشاء البطن في حالة الاستسقاء، أو السائل الموجود حول الجنين وهو السائل الأمنوسي (الرهل) فكلها كما يبدو لا علاقة لها بالجهاز الهضمي الذي قلنا إنه المقصود بالجوف في حالة الصيام.
9 - إجراء غسيل الكلى البريتوني: وفي هذه الحالة يتم إدخال لترات من السوائل إلى الغشاء البريتوني وإبقاؤها فترة ثم سحبها مرة أخرى، ثم إعادة العملية ذاتها مرات عديدة , وفي هذه الحالة يتم تبادل المواد الموجودة في الدم عبر البريتون، ويبدو لي (والله أعلم) أن هذا كله لا علاقة له بالجهاز الهضمي، ولكن يتم بها امتصاص بعض المواد الموجودة في الغلوكوز وغيره.(10/817)
10 - ما قد يصل إلى الجسم عبر الجلد: مثل الأدهان والمروخات والطلاءات، ويتم امتصاصها عبر الجلد، كما انتشر في الآونة الأخيرة وضع الدواء على لصقة توضع على الجلد ويتشربها الجلد وتمتص منه. وكذلك الحقن (الزرق) في الجلد وتحت الجلد وفي العضلات.
وسواء كانت للعلاج أو التشخيص أو الوقاية مثل التطعيم ضد الأمراض المعدية أو التخدير الموضعي فإنها كلها ليست سببًا للإفطار وإفساد الصيام لأنها لا علاقة لها بالجهاز الهضمي.
وأما إعطاء الإبر (الزرق، الحقن) تحت الجلد بمادة تعرف باسم الأبومورفين أو غيرها لإحداث القيء (في حالات التسمم) فإنها ربما دخلت في موضوع القيء عمدًا (الاستقاء) وهو كما مر معنا سبب للإفطار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من ذرعه القيء وهو صائم فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقض)) .
11 - ما قد يصل إلى الجسم عبر الأوعية الدموية، مثل الأوردة والشرايين: ومثالها الزرق (الحقن) الوريدية وسواء كانت عقاقير للتداوي أو للتشخيص بمواد ملونة كما يمكن إدخال قثطرة (أنبوب دقيق) عبر الأوردة أو عبر الشرايين وتصل إلى القلب مباشرة لتصوير شرايين القلب أو مداواتها. ويمكن نقل الدم أو مشتقاته عبر الأوردة، كما يمكن سحبه منها، ويمكن إجراء الغسيل الكلوي الدموي (الإنفاذ الدموي) عبر أوردة متصلة بالشرايين.
ويمكن كذلك إعطاء سوائل مغذية بواسطة الحقن (الزرق) بالوريد حيث تسرب هذه المحاليل.
وكل هذه الوسائل يبدو أن لا علاقة لها بالجهاز الهضمي، وأفتى كثير من أصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء بعدم كونها سببًا للإفطار ما عدا المغذيات التي أفتى أغلبهم بأنها سبب للإفطار.
وهذه الأوردة والشرايين رغم أنها مجوفة إلا أنها لا تدخل في تعريف الجوف المخصوص والمقصود بالصيام وهو الجهاز الهضمي.
12 - سحب الدم والحجامة والفصد: لا يزال طبعًا يتم سحب الدم وهو شبيه بالفصد , ذكر أكثر العلماء القدماء والمحدثين بأن ذلك كله لا يسبب الإفطار، وأن في الحجامة كلام مختلف فيه بناء على قوله صلى الله عليه وسلم: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) , وهل هذا الحديث منسوخ أو ناسخ لحديث أنه احتجم صلى الله عليه وسلم وهو صائم ... وقد كره العلماء الحجامة والفصد في نهار رمضان لأنها تضعف الجسم , أما سحب كمية قليلة من الدم لفحصه فلا يؤثر على ذلك.
أرجو أن أكون قد استوفيت الرد على النقاط المذكورة في رسالة الأمانة العامة للمجمع الفقهي الموقر حول المفطرات في مجال التداوي من الناحية الطبية، مع بعض الإشارات من الناحية الفقهية المتعلقة بها، فإن أصبت فبفضل من الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان , وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه من خطأ عمد أو سهو. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(10/818)
الرئيس:
شكرًا، كم كان بودي يا أستاذ محمد لو أعرف هل هناك مفارقات بين ما قررتموه وقرره الأستاذ حسان؟
الدكتور محمد علي البار: لا يوجد اختلاف حقيقي.
الرئيس:
أنا بودي لو تفضلتم حتى إذا كان نسخة مما قبله - يعني ملتقية - فالحمد لله، يعني إلى الآن بالنسبة لي لم أدرك اختلافات نحتاج إلى تتبعها نقطة نقطة. فلو سجلت المفارقات حتى تحرر طبيًّا.
الدكتور محمد علي البار:
الخلاف بسيط , أولًا: البخاخ أو ما يستخدم من الأنف، نحن متفقون على أن هناك فتحة موجودة من الأنف، ومن البلعوم الأنفي تصل إلى ما بعد ذلك إلى البلعوم الفموي ثم يصل جزء منها إلى المريء، وهو متصل بالجهاز الهضمي، لكننا نختلف في أن هذه الكمية ضئيلة وهي مما يعفى عنه مثل المضمضة؛ لأن المضمضة يتمضمض الإنسان ويبتلع ما بقي منها، أو السواك لأنه يبقى في السواك مواد عالقة موجودة، أو استخدام العلك يبقى مهما كان مواد متحللة موجودة , فهل إذا بلع هذه المواد هل هو من المعفو عنه؟ أخي الدكتور حسان يقول: إنها لا شك أن هذا البخاخ معفو عنه لأن الكمية ضئيلة جدًّا، أما أنا فأتركها للسادة الفقهاء وأقرر الحقيقة الطبية التي نحن متفقون عليها وهي أن هناك فتحة موجودة، قد تكون الكمية في هذا البخاخ ضئيلة، وقد تكون في جهاز آخر تكون الكمية أكبر، قد تتكرر أثناء النهار.
الرئيس:
المهم المنفذ موجود.
الدكتور محمد علي البار:
المنفذ موجود ومتفقون عليه. فيه نقاط، إذا أردتم النقاط التي نختلف فيها.
الرئيس:
حفظكم الله، النقاط التي تختلفون فيها أنها تكتب وتوزع.(10/819)
الدكتور البار:
الاتفاق من الناحية العلمية واحد، وهي ثلاث أو أربع نقاط.
نحن أيضًا متفقون على الأذن، أن ما فيها فتحة مباشرة إذا كانت الطبلة موجودة أما إذا كانت الطبلة قد انخرمت ففيه فتحة من داخل الأذن الوسطى وقد تصل قطرات ضئيلة جدًّا.
وأخي الدكتور حسان يقول: إنها ضئيلة جدًّا لا يمكن أن تؤثر ولعلها من المعفو عنها.
ثالثًا: نقطة الشرج وهي عندي نقطة مهمة جدًّا؛ لأن الشرج متصل بالجهاز الهضمي , الذي نتحدث عنه ويتم منه الامتصاص، يمكن عن طريقه يتم امتصاص الدواء والسوائل، وحتى تغذية الأطفال يمكن أن تتم عن طريقه , فما دام هو الجهاز الهضمي وهو الامتصاص منه، فهذه نقطة في رأيي تدخل في الجهاز الهضمي ولا يمكن فصلها عن الجهاز الهضمي , أخي الدكتور حسان يرى أن الفرزجات وغيرها مسألتها بسيطة جدًّا والدواء الذي يتم امتصاصه كمية ضئيلة، وبالتالي لعله يكون من المعفو عنه.
هذه هي نقاط الاختلاف فقط , وكذلك قطرة العين.
الرئيس:
ولهذا أنا اقول لو كتبت يكون أفضل.
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
طبعًا مسألة التعقيب هذا العام شيء يبدو أنه جديد، فلا أعلم ماذا تقصدون بالتعقيب؟ هل المراد مجرد تعليقات بسيطة أم أن المراد إعطاء تصور ولكنه مختصر؟ وأرجو أن توضحوا ذلك لي حتى يفهم الآخرون أيضًا ذلك فيتبعوه.(10/820)
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لآية الله الحق فيما قدم، وإنما أريد أن أوضح الوضع؛ في هذه السنة وفي المستقبل بإذن الله سنستمر على هذه الطريقة الجديدة , ما هي هذه الطريقة؟ هي أن نستكتب أشخاصًا بأعيانهم، علماء بأعيانهم في الموضوعات المطروحة، ولا نزيد عن اثنين أو ثلاثة بالنسبة لكل موضوع، ثم نختار معقبين على تلك البحوث بعد أن يطلعوا على ما كتب من طرف المستكتبين، فيأتي العمل متناسقًا، والذي حملنا على هذا:
أولًا: أن كثيرًا من المؤسسات والمنظمات العلمية تجري على هذا النسق، فلا داعي إلى مخالفتهم.
ثانيًا: لأننا حين كنا نطلب من الإخوان أن يكتبوا فيما يرون من الموضوعات كانت تأتينا أحيانًا بالنسبة للموضوع دراسة واحدة أو لا تأتي أصلًا، وبالنسبة لبقية الموضوعات يأتي عدد كبير من الدراسات لا نستطيع الوفاء به , ولذلك اخترنا أن يكون هناك عارض وهناك معقب.
الوضع الآن؛ بما أن فضيلتكم قد كتبتم في الموضوع ولم تستكتبوا فيه فأنتم استمعتم إلى ما أعد، ولكم المعلومات التي جمعتموها بالنسبة لموضوعكم، فيتأتي لكم بغاية السهولة أن تعقبوا على ما سبق، وأن تضيفوا إليه ما شئتم من آراء , وشكرًا.(10/821)
الشيخ محمد علي التسخيري:
شكرًا لسيادة الأمين العام.
أعتقد أننا نستطيع من خلال ما استمعنا له من بحوث قيمة ومن خلال مطالعاتنا لآراء الفقهاء أن نركز على ضوابط ثلاثة، هذه الضوابط تنفعنا في معرفة أحكام الجزئيات بشكل منسجم.
الضابط الأول: أن المعيار في المفطرات أو المفطرات التي نحن بصددها هو مسألة صدق مفهوم الأكل والشرب أو صدق مفهوم الطعام والشراب، باعتباره ما تنتجه هذه العملية أو كما يقول البعض: صدق عملية التغذية.
المراجعة اللغوية لأقوال اللغويين ربما لا تحقق الكثير من الجديد. مراجعة أقوال الفقهاء أيضًا تنفعنا في الوصول إلى نتيجة، والتي أركز على أن هذه النتيجة هي نتيجة عرفية. يعني العرف - كما تحدثنا عنه في بحثنا عن العرف - يشخص لنا مصاديق المفاهيم , المفهوم تعطى والعرف يحقق لنا تحقق هذا المصداق.
المعيار إذن هو تحقق الأكل والشرب أو تحقق عنصر دخول الطعام والشراب إلى الجوف , والجوف كما رأينا يركز على الجهاز الهضمي.
أعتقد أنا لو أخذنا عنصر التغذية في البين لَأمكننا أن نتوسع منه إلى الأوردة باعتبار أن الجهاز الهضمي هو الذي يغذي هذه الشرايين بالطعام، فهي نتيجة طعام أو شراب أو نتيجة أكل أو شرب وهذا يؤثر أيضًا، يعني نحن عندما نستطيع أن نزرق غذاء أو نصل مغذي للدم فقد حققنا نفس ما يحققه الطعام والغذاء، وحققنا نفس التركيز في هذا المعنى.
ما أشار إليه الدكتور البار من أن مسألة الشرج أيضًا عندما يدخل إلى القولون , القولون يستطيع أيضًا أن يجذب بعض هذه المواد فيحقق نفس ما تحققه المعدة والأمعاء الدقيق في هذا المعنى.
إذا ركزنا على هذا كضابطة الأكل والشرب أو الطعام والشراب، يبدو أننا نستطيع أن نمشي مع الفروع فرعًا فرعًا، فندخل في الفرع هل يشمل الطعام متعارف الأكل فقط، يعني يقتصر على متعارف الأكل أو يشمل غير متعارف؟ يمكن الحديث على أنه إطلاق مسألة الطعام والشراب تشمل غير المتعارف أيضًا. هو أكل لغير المتعارف.
هل نقتصر على ما يصل إلى المعدة من الفم؟ الظاهر لا يشترط ذلك كما هو الواضح في أقوال الفقهاء: أي شيء يدخل إلى المعدة عن طريق البلعوم، سواء كان من الأنف أو الفم يعتبر تغذية وطعامًا أو شرابًا.
لو وصل إلى الجوف شيء يقوم بمهمة الطعام، يعني كما قلنا: دخل إلى الشرايين وغذى الدم، فهل يتم الإفطار؟ الظاهر أن هذا يتبع كيفية استفادتنا من الطعام والشراب، هل المراد به عنصر التغذية؟ وأنا أرى أن الاحتياط الوجوبي يقتضي ذلك، يعني إذا غذينا الشرايين بالمصل المغذي فمعنى ذلك قمنا بنفس العملية.(10/822)
مسألة تنظيف الرحم والتحاميل والاحتقان بالجامد الذي لا يتجزأ، يعني يجب أن نشترط بأنه جامد لا دليل على مفطريتها، أما الاحتقان بالمائع فهذا أمر له نصوصه الخاصة لا يدخل في عنصر الطعام والشراب.
مسألة البخاخ أيضًا تتركز على ما يحمله هذا البخاخ من طعام أو شراب حتى ولو كان قليلًا. يعني نحن نعلم أن إدخال قطرة من الماء إلى المعدة تفطر. المناظير التي تمتد ويكون لها ما يصحبها بعد ذلك هذه لا تدخل في هذا المعنى.
هذه الضابطة الأولى، أنا أركز على أنه نحتاج إلى أن نعين ضابطة، هذه الضابطة نمشي معها إلى فروعنا، ومشى معها الفقهاء، المهم أن نركز على هذه الضابطة.
الضابطة الثانية: التي أشير إليها هي ضابطة أصولية.
على أي حال نحن في مقام الشك، ما هو الموقف عند الشك؟ بشكل مختصر جدًّا، الشك تارة يكون في المفهوم، يعني لا نفهما أن مفهوم الطعام والشراب مثلًا هل يقتصر على خصوص أكل المعتاد أو يشمل غير المعتاد؟ هذه شبهة المفهومية الأصل فيها كما يقول الأصوليون: البراءة من التكليف الإضافي. كل تكليف إضافي الأصل فيه مشكوك والأصل فيه البراءة.
هناك شبهة موضوعية. أعرف الطعام والشراب جيدًا وأشك في أنه نفذ أم لا , شك في تحقق الموضوع، أيضًا الأصل البراءة. هناك أيضًا أصل في أنه الصوم أعلم أنه كان صحيحًا، حدث مني عمل أشك في أنه أبطل الصوم أم لا؟ أستصحب بقاء الصوم على ما هو عليه , هذه ضابطة أصولية الأصل فيها عمومًا في كل شقوقها متى ما شككنا في التحقق الأصل هنا هو البراءة وعدم الإفطار.
الضابط الثالث والذي أركز عليه وهو ختام حديثي هو عنصر المرض، معياره الضرر والحرج. الضرر والمشقة التي يعرفها العرف بأنها حرج وما يعبر عنه القرآن الكريم (يطيقونه) حرج يمكن أن يتحمله الإنسان ولكنه شديد. هذا الضرر أو الحرج أقول أن كان يسيرًا يتحمل عادة فقد لا يعده العرف ضررًا أصلًا كضعف البدن، أحيانًا الصوم يوجد الضعف، هذا لا يبيح الإفطار مطلقًا وإن كان شاقًّا لكن يمكن تحمله، هنا الإفطار له رخصة، وإن كان ضررًا عرفيًّا واضحًا كحصول مرض أو إدامة مرض وما إلى ذلك فهنا يصبح هذا العمل عملًا محرمًا. ويتوقف الأمر على المسألة الأصولية أن النهي عن العبادة هل يفسدها أو يبقى نهيا تكليفيًّا؟ والأصح أن النهي عن العبادة هو نهي تكليفي يعبر عن بطلان وضعه.(10/823)
الضابط في تشخيص الضرر العرف أيضًا. العرف هنا يشخص كما قررنا، العرف تارة يتيقن فهذا واضح، وأخرى يظن، هذا أيضًا يدخل في الضرر، لكن ماذا لو احتمل العرف الضرر؟ أعتقد أن لسان النصوص أيضًا يركز على عنصر احتمال الضرر أو خوف الضرر , الخوف يقرب من الاحتمال، والظن هو شيء فوق الخوف. إذا كان إذن يخاف الضرر فلا ريب في أنه ينطبق عليه الأمر. وأركز هنا على أن النظر شخصي , صحيح الطبيب هو الذي له الرأي، ولكن إذا استطاع أن يؤثر في إيجاد هذا الخوف في شخص المريض حينئذ يفطر، وإلا فلا يباح له هذا الإفطار , المعيار في خوف الضرر هو العامل الشخصي.
هذا هو خلاصة ما أريد أن أتحدث به، وأركز على أن علينا أن نلاحظ القوانين في هذه المجموعة، فالقوانين هي ليست في الواقع السر في ما ذهب إليه هذا الفقيه أو ذاك في هذا المجال، وأوكد على أن الشرايين الدموية هي في الواقع نتيجة وامتداد للجهاز الهضمي الذي تمده المعدة بالقوة، فإذا غذيت هذه الشرايين بما يغذيها بقوة، شرابًا أو طعامًا، ففي الواقع لها حكمها، أو على الأقل هناك الاحتياط الوجوبي، يعني الاحتياط اللازم في تحقيق آثار الإفطار. وشكرًا جزيلًا.(10/824)
الشيخ محمد جبر الألفي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
بناء على هذا التوضيح الذي أوضحه سماحة الأستاذ الشيخ ابن الخوجة فأنا لم أستكتب، ولكنني أعقب على ما سمعت الآن.
فعندنا أولًا بحث الشيخ محمد المختار السلامي، وقد تعرض فيه لآراء الفقهاء، واختار الرأي الراجح في كثير من المسائل وهو الرأي الذي يتفق عليه أكثر فقهاء العصر.
أستاذنا الشيخ محمد المختار السلامي عرض لاختلاف الفقهاء، وقد رأينا أيضًا اختلافًا بين الأطباء في هذا الموضوع، رأينا على الأقل في البحثين اللذين عرضا أمامنا اليوم اختلافًا في أربع نقاط بين الأخ الدكتور حسان شمسي باشا والأخ الدكتور محمد علي البار.
في الواقع أنني أحاول التعقيب على هذه المسائل في ثلاث نقاط:
1 - حكم ما يدخل البدن عن طريق المنافذ المعتادة.
2 - حكم ما يدخل البدن عن طريق غير معتاد.
3 - حكم ما يستخرج من البدن.
أولًا: أحاول أن أبين أنني فهمت من كلمة الدماغ عند الفقهاء في غير مسألة المأمومة: حتى لو كان في داخل الفم ولكنه في أعلى الفم مما يتصل بالدماغ، فليس المقصود أبدًا هو الجمجمة، وإذا كان هناك فاصل طبيعي بين هذه الجمجمة وبين الفم فإن الفقهاء لا يقصدون أبدًا أن السعوط أو الدخان الذي يدخل عن طريق الفم أو يستنشق إنما يذهب إلى المخ، وإنما يعلمون أنه يتصل بهذه المناطق المفتوحة، وغالبها يدخل عن طريق البلعوم الفمي أو البلعوم الأنفي كما يقول الأطباء.(10/825)
ثانيًا: أضع في اعتباري دائمًا أن الصوم ركن من أركان الإسلام: ((بني الإسلام على خمس)) ، فإذا كان هناك أركان فإنه ينبغي الاحتياط في العبادة. ينبغي الاحتياط، والتيسير مطلوب ولكن إذا كان هناك شك فالاحتياط أفضل في هذه الأمور كلها.
وبناء على ذلك فأنا ضايقني كثيرًا أن كثيرًا من الكاتبين في مسائل الصيام يستشهدون بآراء ابن حزم في هذه المسألة، على الرغم من أنهم يرفضون آراءه جملة وتفصيلًا في كثير من المسائل , إذا أردنا أن نأخذ ابن حزم فلنأخذه جملة وتفصيلًا. فإذا كان ابن حزم يعلم تماما كما نعلم جميعًا أن الله - تعالى - كتب علينا الصيام، والعلة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فكيف نقبل أن يكون الاستمناء غير مفسد للصيام؟ يعني أن الإنسان ينظر إلى صور فاضحة ويستمني وصيامه صحيح يعني أن الإنسان يستطيع أن يباشر فيما دون الفرج بالنسبة لامرأته أو أمته وينزل ولو عمدًا ثم يكون ذلك غير مفسد للصيام!! هذه ليس من السهل أن يقبل العوام قبل الفقهاء مثل هذه الآراء. هذه ناحية.(10/826)
ثالثًا: فيما يتعلق بما يدخل البدن عن طريق المنافذ وأهمها مسألة البخاخ، سواء كان بخاخ الربو أو كان بخاخًا لأسباب أخرى. وقد اتصلت بعدد كبير من الأطباء وأكدوا لي أن - وهذا ما قاله زميلنا الدكتور محمد علي البار - البخاخ مهما كان نوعه لا يمكن أن يؤثر إلا إذا وصل إلى الأنف، وكثيرًا ما يصل إلى الحلقوم. وبناء على ذلك فهذه المسألة ينبغي النظر إليها باحتياط أكبر.
رابعًا: الناحية الأخرى وقد عرضت قبل أسبوعين في الدار البيضاء، وهي ما أثاره أحد زملائنا وقد يكون الدكتور هيثم الخياط فيما أذكر من أن هناك أنواعًا من الأوكسجين تخلط بأنواع أخرى من الأدوية، إما من الأدوية وإما من المخدرات - الأمور التي تخدر الجسم - فإذا كان الأمر كذلك فينبغي أيضًا الاحتياط في مثل هذه المسائل، وخاصة أن كثيرًا من الشباب يستعمل الآن هذه الوسائل للتخدير في البلاد التي تمنع إدخال المخدرات.
خامسًا: فيما يتعلق بمسألة التدخين , كان الحكم الفقهي في هذه المسألة ينظر إلى الدخان الطبيعي: الدخان الذي يخرج عن طريق الشواء، الدخان الذي يتصاعد عن طريق الاحتراق ... إلخ. احتراق البخور أو غيره. الآن مسألة التدخين لا شك أننا جميعًا نرى أن مسألة التدخين عن طريق السيجارة أو الشيشة أو غير ذلك فإنه يفسد الصوم.
أنا في هذه الحالة وجدت أن هناك خلافا بين عدد من المفتين في العصر الراهن، البعض يعتبر أنه طعام أو شراب ويقول: ولذلك يستعملون كلمة شرب الدخان، فلان يشرب الدخان. الواقع أنني أرى أن هناك إضافة إلى شهوة البطن وشهوة الفرج أرى أن هناك شهوة أخرى ثالثة وهي شهوة الكيف أو المزاج، وقد وجدت مثل هذا الكلام عند الشيخ الدردير في الشرح الصغير، فإنه يتكلم عن شهوة المزاج أو شهوة الكيف. وبناء على ذلك فإن كل أنواع التدخين يجب أن تكون ممنوعة منعًا قاطعًا، وعدم تردد المفتين في هذا العصر في هذا الأمر.
سادسًا: الناحية الأخرى وهي أن هناك من التدخين ما يسمونه الآن التدخين السلبي. والتدخين السلبي قد منع في كثير من الدول في الطائرات والأماكن الضيقة وأماكن العمل، ومنع في وسائل المواصلات الأخرى، وبناء على ذلك فقد وجدت أن عددًا من المدمنين على التدخين يذهبون في نهار رمضان وهم صائمون إلى أماكن التدخين، ويجلسون فيها ويستنشقون هذا الدخان ويعتدل مزاجهم. وبناء على ذلك فإننا نرى أيضًا أن التدخين السلبي في هذه المسألة يجب أن يكون ممنوعًا وأن يكون مفسدًا للصوم.
والواقع أن الدخان بجميع أنواعه: لفائف التبغ والسجائر والسيجار وما يحرق في الأنبوب المسمى بـ (البايب) وما يدخل في النارجيل، كل هذه مواد عضوية تحتوي على القطران وتحتوي على النيكوتين، ولها جرم يظهر في الفلتر وعلى الرئتين وتصبغ الطبقة المخاطية التي تغطي جدار البلعوم بلون داكن, وبناء على ذلك فإننا نرى أن هذا التدخين بجميع أنواعه يجب أن يمنع.(10/827)
سابعًا: فيما يتعلق بمسألة الأنف , نعود مرة أخرى إلى ما قاله ابن حزم: " وما علمنا طعامًا أو شرابًا يكون على أنف أو دبر ". نحن نعلم الآن أنه يوجد الطعام والشراب عن طريق الأنف وعن طريق الدبر أيضًا فيما يتعلق بالحقنة الشرجية أو المواد التي يمكن أن تغذي عن طريق الشرج. وبناء على ذلك فإن مثل هذه المسائل يجب أن تؤخذ بعين الاحتياط.
ثامنًا: فيما يتعلق بالعين , يعني قد أخذت في هذه المسألة وقتا طويلًا في البحث عن مسألة الأنبوب الذي يصل بين العين والأنف , نحن لا نفرق بين القليل والكثير ففقهاؤنا قالوا فيما سبق: " وإن قل كسمسمة ". وبناء على ذلك فأنا أقول في مسألة العين: إن الصائم إذا وضع في عينه دهنًا أو دواء أو قطر فيها وأحس بأثر ذلك في أنفه فتمخط فإن صيامه يكون صحيحًا، أما إذا أحس بأثر ذلك وعينه في مخاطه فاقتلعه بنفسه وابتعله فإن صيامه يفسد، والله أعلم.
تاسعًا: فيما يتعلق بالأذن, لا خلاف في هذه المسألة بعد أن أخذت رأي عدد كبير من الأطباء في هذا الأمر فإن الأذن إذا كانت الطبلة سليمة فلا ينفذ منها شيء إلى داخل البلعوم الأنفي أو الفموي وبناء على ذلك فهي المسألة فقط التي تختص بمن نزع غشاء الطبلة منه.(10/828)
عاشرًا: فيما يتعلق بمسألة القبل بالنسبة للمرأة , فقد رأينا كثيرًا من الفقهاء يفتون بأن ما دخل عن طريق القبل يعتبر مفطرًا , في هذه المسألة وجدنا أن هناك ثلاثة منافذ:
المنفذ الأول: هو مخرج البول وهذا يقاس على الإحليل، وبناء على ذلك فالمثانة - كما سبق لإخواننا الأطباء - تعتبر عضوًا طاردًا وليس مستقبلًا، ولذلك فإن ما يدخل عن طريق مخرج البول فإنه لا يفطر.
المنفذ الثاني: عن طريق المهبل , فإننا نفرق بين البكر والثيب، أما البكر فهناك غشاء البكارة الذي يسد هذا المهبل ولا فرق عندي بينه وبين طبلة الأذن، فلا ينفذ عن طريقه شيء إلى الداخل، وبناء على ذلك يأخذ نفس الحكم والصيام معه صحيح , أما مهبل الثيب فإنه عبارة عن قناة عضلية ولها فتحة خارجة تمتد نحو عنق الرحم، ما يصب فيه يمكن أن يصل إلى أعلى الرحم. الأدوات والأجهزة الطبية التي تدخل فيه اختلف الفقهاء فيها، بعضهم يقول إنها تفسد الصوم والبعض الآخر يقول إنها لا تفسد الصوم، ويبدو لي - والله أعلم - أنه يفسد الصوم لأنه يؤدي إلى نزول الدم، وقد يؤدي إلى أمر آخر وهو تلذذ المرأة في هذه الحالة؛ لأن هذا هو المدخل الطبيعي لمسائل الجماع، ولذلك فنوصي بعدم الفتوى بصحة الصيام مع ذلك.
ما يدخل من طريق غير معتاد أهم شيء فيه ما يتعلق بمسألة الإبر.
أولًا نحن نفرق بين ما يدخل عن طريق العضل أو عن طريق مسام الجلد، وهذه مسائل نقول أن الاتفاق قد تم على أنها لا تفسد الصوم. أما فيما يتعلق بالإبرة فهو أمر جديد لم يكن موجودًا من قبل. هي إبرة مجوفة يدخل عن طريقها الغذاء والدواء والمخدرات وتركيز المسكرات، فالمدمن يتناول عن طريق الدم الحقن التي يكون فيها السوائل مركزة تعدل مزاجه، كذلك بالنسبة لمدمن المخدرات وهذا شائع وكثير ومتوافر الآن، وقد سألت عنه أولًا بعض الأطباء، وثانيًا سألت عنه أعضاء جهاز المباحث الذين يقبضون على هؤلاء وهم متلبسون في سياراتهم يضعون المخدر عن طريق الدم، سألت في هذه المسائل كلها ويبدو لي - والله أعلم - بعد ما رأيته لو أن شخصًا الآن ذهب في حالة خطيرة إلى مريض وكان يحتاج إلى نوع من الغذاء أو الدواء العاجل، الطبيب لا يعطيه شيئًا عن طريق الفم حتى يستطيع أن يدخل ثم يتحلل ثم يخرج، وإنما يبادر بإعطائه حقنة، الإبر بهذه الطريقة، ولذلك فإنني أسميه منفذ غير معتاد، ولكنني أسميه منفذ عرفي أصبح الآن شبه طبيعي، لأنه هو الذي يتناول عن طريقه الدواء ويتناول عن طريقه الغذاء ويتناول عن طريقه وسائل تسكين الإدمان، وبناء على ذلك فلا فرق عندي بين ما يدخل عن هذا الطريق غير المعتاد، ولكنه يعتبر منفذًا طبيًّا، ليس عندي فرق بين ما يدخل إليه أن كان مغذيًا أو كان على هيئة دواء أو غير ذلك، والله أعلم.
بقي بعد ذلك الحبة التي توضع تحت اللسان وقد دققت كثيرًا في هذه المسألة فوجدت أن كل الأطباء الذين التقيت بهم يقولون أن الحبة التي توضع تحت اللسان لا يدخل منها شيء مع الريق إلى الحلق، وبناء على ذلك فإنه يتحلل مثل العلك وغيره، مثل الجلد بالضبط لأن هناك أنواعًا من التغذية تكون عن طريق الجلد أيضًا فهذه كلها لا تفسد الصوم. المهم في هذه المسألة أن نتأكد من أنه ليس هناك شيء وصل مع الريق إلى الحلقوم. هذا ما أردت أن أقوله في هذه المسألة، فإن أصبت فمن الله، وإن كان غير ذلك فإني أستغفر الله، والسلام عليكم ورحمة الله.
الرئيس:
وبهذا ترفع الجلسة ونعود في الخامسة عصرًا بإذن الله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(10/829)
المناقشة
الشيخ عكرمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
... الدكتور البار حكم بأن المواد من الدم وغيره إذا انسابت داخل الجوف دون إرادة المريض فلا شيء عليه، يعتبر هذا الكلام حكمًا شرعيًّا , وأرى أن الحكم الشرعي منوط بالعلماء الفقهاء وليس منوطًا بالطبيب. فالطبيب مهمته أن يصف لنا الواقع، لا أن يعطي حكمًا. مثلًا حول طفل الأنابيب. نعم أن موضوع طفل الأنابيب لا علاقة له بالجهاز الهضمي، هذا أمر مسلم به، ولكن له علاقة في موضوع الناحية الجنسية وفي موضوع الجماع، وعليه فإن هذا أمر أيضًا بحاجة إلى الإخوة الأفاضل العلماء ليبحثوا بأن سحب المواد المنوية - الحيوانات المنوية أو البييضات - هل هذا يفسد الصوم أو لا يفسد من خلال موضوع الناحية الجنسية؟ أي له ارتباط في موضوع الجماع , وحبذا لو كان الدكتور البار موجودًا، ولكن البركة في الإخوة الأطباء الآخرين ليجيبوا على استفسار مني هو: ما علاقة الأوردة الدموية بالتجويف؟ هل - كما قالوا - أن التجويف - حسب شرحهم - يمتد من الفم إلى المعدة، فهل الأوردة الدموية مرتبطة بالتجويف أم غير مرتبطة؟ وعلى ضوء الإجابة نستطيع القول هل الإبر الوريدية تفطر أم لا تفطر؟ فأنتظر إجابة من أحد الإخوان الأطباء الموجودين. وشكرًا لكم.(10/830)
الشيخ محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن موضوع (المفطرات) موضوع ذو شجون، وهو يتعلق بالنظر الفقهي كما أنه يتعلق بالنظر الطبي.
الواقع أنه ينبغي أن نفرق بين الناحيتين، فهناك نواح في هذه المسألة مبنية على النظر الفقهي البحت، ولا مدخل فيها للاكتشافات الجديدة في موضوع الطب , وهناك نواح مبنية على النظر الطبي فيمكن أن يتغير فيها الحكم بتغير التحقيقات الطبية.
الذي تنبني عليه مسائل الإفطار هو وصول الشيء إلى الجوف، والجوف وإن كان يطلق في اللغة على كل شيء مجوف ولكن الفقهاء اختلفوا في تعيين معنى الجوف الذي يؤثر في إفطار الصوم , وقد تتبعت كتب المذاهب في هذا الموضوع فوجدت أن الحنفية والمالكية متفقون على أن المراد بالجوف هو الحلق والمعدة والأمعاء فقط. ويظهر من كتب الشافعية أنهم يعتبرون كل جوف في باطن جسم الإنسان جوفًا معتبرًا يؤثر في إفطار الصوم. وأما الحنابلة فقد وجدت في كتبهم عبارات مختلفة ولم أبت بالنظر في هذه الروايات ولم يتمخض لي المذهب المفتى به والمأخوذ به عندهم , فالروايات تدل على أنهم ينحون منحى الحنفية والمالكية في أن الجوف المعتبر هو الحلق والمعدة والأمعاء فقط، وتدل بعض العبارات على أنهم ينحون منحى الشافعية في اعتبار كل باطن الجسم من الجوف المعتبر.(10/831)
فهذا موضوع فقهي بحت وليس فيه مدخل للرأي الطبي , ثم هناك ناحية أخرى وهي قضية نفوذ الشيء إلى الجوف, فهذه قضية طبية ولها علاقة بالتحقيق الطبي , فبنى كثير من الفقهاء بعض المسائل على اعتبار أن هناك منفذًا للجوف فلذلك أفتوا بالإفطار، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه ليس هناك منفذ إلى الجوف فذهبوا إلى عدم الإفطار، وهذا في مسألة الأذن - مثلًا - وفي مسألة الدماغ، وفي مسألة القبل , ففي مسألة الدماغ - مثلًا - ذهب الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - إلى أنه إذا داوى آمة في الرأس فإنه يفسد به الصوم، لأنه رأى أن هناك منفذًا من الدماغ إلى الجوف، يعني إلى المعدة وإلى البطن. وهذا موضوع يتعلق بالطب، فإذا ظهر هناك تحقيق جديد أو اكتشاف جديد في علم الطب بأنه ليس هناك منفذ واتفق الأطباء على أنه ليس هناك منفذ فيما بين الدماغ والبطن فحينئذ القول بفساد الصوم بمداواة آمة الرأس هذا القول ينبغي أن يرجع عنه، ويؤخذ بهذا الرأي الطبي الحديث، لأنه مبني على واقع قد تحقق خلافه.
وكذلك مسألة الأذن، فمن قال بإفساد الصوم بإدخال الدواء في الأذن فإنه قال ذلك اعتمادا على أن هناك منفذًا فيما بين الأذن والحلق، وإذا تحقق طبيًّا وثبت طبيًّا باتفاق أهل الطب بأنه ليس هناك منفذ فينبغي أن يتغير هذا الرأي؛ لأن هذا ليس مسألة فقهية وإنما هي مسألة واقعية وطبية.
وعلى هذا الأساس الموضوعات التي تهمنا في هذه الجلسة هي موضوع (الأذن) وموضوع (الرأس والآمة) وموضوع (القبل) ، وكذلك القبل قد تحقق أنه ليس هناك منفذ فيما بين القبل والبطن. فلذلك ينبغي أن نقول بعدم فساد الصوم إذا أدخل شيء من القبل.
وقضية (البخاخة) فهذه البخاخة إنما تدخل هواء من الفم إلى الحلق، فهذا يدخل الجوف، ولكن حكم هذه المسألة ينبني على أنه هل يكون في ذلك الهواء شيء من الدواء الجوهري أو لا يكون؟ فما سمعته من السادة الأطباء الموجودين هنا أنه يشتمل على نسبة ضئيلة من الدواء ويصل إلى الجوف، وبما أن الفقهاء لم يفرقوا بين القليل والكثير ما دام الشيء يدخل إلى الجوف، فلو كان قليلًا فإنه يفسد الصوم ومثلوا لذلك بالسمسمة.
فهذا ما أراه أن تبحث هذه المسائل من هذا المنظور الفقهي والطبي، فلا ينبغي أن نقول: أن جميع المسائل الواردة في هذا الموضوع كلها تتعلق بالطب بل فيها أنواع فقهية بحتة.
وشيء آخر وهو موضوع يتعلق بالعين، وإن كان قد ثبت طبيًّا أن هناك منفذًا بين العين والحلقوم فقد ورد في ذلك نص: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد وهو صائم. وقد تأيد هذا الحديث بآثار عدة من الصحابة والتابعين فهذا أيضًا شيء منصوص، وقد ذكر الفقهاء أن هذا المنفذ ليس منفذًا في الواقع وإنما ألحق بالمسام، والمسام لا تعتبر منفذًا معتبرًا لإفساد الصوم. فالقول الذي أذهب إليه هو أن إقطار الدواء في العين لا يفسد به الصوم، أما الإقطار في الأذن فينبغي أن نقول بعدم فساد الصوم لأنه لا منفذ بين الأذن والحلق كما تحقق طبيًّا.
هذا ما أراه، والله سبحانه وتعالى أعلم، وعلمه أتم وأحكم.(10/832)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
وبعد:
قبل شروعي في تعليقي في هذه المناقشة الكريمة - إن شاء الله تعالى - أحب أن أشيد بالبحث القيم الذي قدمه سماحة الشيخ محمد المختار السلامي، وبالتصوير الجيد الذي جاءنا من الدكتورين الكريمين، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيهما خيرًا وأن يجعل الجميع مباركين أين ما كانوا.
في الواقع أننا بتوسعنا في التعرف على المداخل إلى الجهاز الهضمي من المواد التي يمكن القول بتفطيرها والقول بعدم تفطيرها قد لا نسلم من المداخل والتجاوزات، ولو أننا أخذنا بضوابط في القول بالتفطير وعدمه لكان لنا المزيد من السلامة من الأخطاء وأرى أن من الضوابط ما يلي:
أولًا: النظر فيما يصل إلى الجوف من أي منفذ من منافذ الجسد (الفم، الأنف، العين، الأذن، القبلان) وغير ذلك مما يمكن أن يكون منفذًا كالمأمومة والجائفة، سواء أكان الواصل إلى الجوف جامدًا أم سائلًا، وسواء أكان ذلك علاجًا كالإبر العلاجية أم كان غذاء كالإبر الغذائية , هل يعتبر ذلك مفطرًا أو لا يعتبر ذلك مفطرًا؟ هذا ضابط.
ثانيًا: النظر فيما يصل إلى الجوف عن طريق الاضطرار أو النسيان كالغبار والدخان والأبخرة، وماذا يمكن التحرز منه كالحشرات، وما كان عن طريق المضمضة أو الاستنشاق في الوضوء، وكالأكل والشرب على سبيل النسيان، فهل ذلك مما يعفى عنه ويصح معه الصوم أو لا؟ هذا كذلك ينبغي أن يكون من الضوابط.(10/833)
ثالثًا: ما خرج من الجسد على سبيل الاختيار كالتقيؤ والاستمناء والدم (الحجامة، الفصد، التحليل) هل هو من المفطرات أو لا؟ أو ما يخرج من الجسد على سبيل الاضطرار كالقيء والاحتلام والرعاف، هل لهذا أثر على صحة الصوم؟
رابعًا: من حكم الصوم تضييق مجاري الدم بالجوع لإضعاف وازع الشيطان، فهل يستفيد الصائم من تعاطيه في جسده دخولًا أو خروجًا قوة ونشاطًا؟ فهو في محل نظر في إفساده الصوم سواء أكان محله الجهاز الهضمي أم كان خارجًا عنه إلا أن له أثرًا في القوة والنشاط. فهذا مما يجب النظر إليه في الاعتبار وإصدار القرار في ضوئه.
أرجو أن يكون النظر فيما يفطر وما لا يفطر في ضوء الضوابط التي من شأنها أن تهدينا إلى الطريق المستقيم وإلى الصواب في القول.(10/834)
وقبل أن أنتهي من تعليقي أحب من سماحة الشيخ السلامي أن يقيد ما أجمله في بحثه من أن من مبررات الفطر خشية المرض، فهذا القول المطلق يمكن أن يأخذ به كل من يريد الإفطار في نهار رمضان من غير عذر ويلتمس مثل هذا العذر , فهذا في الواقع مدخل صعب يجب إعادة النظر فيه , وتقييده بنصح الأطباء الموثوقين بأن مثل هذا المرض، أو بأن الصوم يؤثر على هذا المريض فيمكن أن يؤخذ بهذا الاتجاه , ثم القول بأن الحجامة قد انتهى أمر المص فيها، قول غير صحيح، فالحجامة موجودة ومعالجتها بالطريقة التقليدية موجودة أيضًا في بعض المجتمعات، وإن كانت في الطريق إلى التلاشي، وما دام لدينا نص نبوي كريم: " أفطر الحاجم والمحجوم " فهذا النص قائم لا يقضي عليه ما عليه أكثر الناس من البعد عن مزاولته فهو حكم باقي، فإذا وجد حاجم يحجم بالمص قلنا بفطره، وقلنا بفطر المحجوم الممصوص دمه، فليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصوص يقال بانتهاء وقتها إلا أن يكون ذلك على سبيل النسخ في زمن تنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا ما أحببت ذكره، حفظكم الله، والسلام عليكم.(10/835)
الدكتور أحمد رجائي الجندي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحقيقة سوف أقصر حديثي على بعض الملاحظات في موضوع نقط العين , فكما ذكر زملائي من قبل: الدكتور حسان والدكتور محمد علي البار، يوجد قناة دمعية توصل فعلًا إلى البلعوم وهي متصلة، ويستطيع لو تم حقن كمية كبيرة من السوائل أن تصل فعلًا إلى الجهاز الهضمي، لكن قطرة العين الكمية المأخوذ هي نقطة واحدة وحجمها (0.06) من السم3 أي أنها أقل بكثير جدًّا من محتوى أي شيء يمكن أن يتعرض إليه الإنسان. هذه نقطة.
النقطة الثانية: في أثناء مرورها عندما تدخل إلى القناة الدمعية تمتص جميعًا ولا تصل إطلاقًا إلى البلعوم، وهذه نقطة هامة، سوف يطرح البعض سؤالًا على أن طعم هذه القطرة يظهر في الفم. هذا حقيقي، هو يظهر في الفم ليس لمرور هذه القطرة داخل البلعوم، ولكن لأنها تمتص والمكان الوحيد للتذوق هو اللسان، ولا يوجد أي مكان آخر يمكن التذوق به سوى اللسان، يوجد على اللسان مناطق مختلفة لتذوق طعم الحلو وطعم المر، وهكذا , ففورًا أول ما تمتص تذهب إلى هذا المكان وتصبح طعمًا ويشعر بها المريض الذي يتعاطاها , وبالتالي فإنها لا تصل إلى هذا المكان.
النقطة الثالثة: إذا أخذنا بموضوع التدخين السلبي فهناك شيء خطير إذا كان إنسان منا ... هو الدكتور جبر الألفي قال: أن هناك المزاج. نفترض أن شخصًا آخر لا يدخن وذهب إلى أحد المكاتب وبها من يدخنون هل هنا هذا الدخان الذي سوف يتنفسه هل هو سيفسد هذا الصوم أم لا؟ إذا كان هذا الموضوع سيفسد الصوم فمن باب أولى أن تكون المسقاة التي تستخدم الآن لعلاج إدمان التدخين تؤدي إلى إفساد الصيام، وقد قيل في هذه الجلسة أن كل شيء يدخل عن طريق الجلد لا يسبب إفسادًا للصوم ولا إفطارًا. لذلك يجب أن يفرق تمامًا بين هذه المواضيع الحساسة البسيطة.
النقطة الرابعة: فضيلة الشيخ تقي العثماني أشار إلى نقطة الأذن.
الأذن هي فعلًا لا يوجد لها مخرج إلا إذا كانت الطبلة مثقوبة وهذا الثقب لا بد وأن يسد فورًا وإلا فإن الدواء سيصل إلى البلعوم.
النقطة الخامسة: فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري أشار إلى موضوع الأوردة والأوعية الدموية بأنها تتصل بالجوف، وأنها تأخذ مأخذ هذه العملية، تغذي وتكون مخرجًا في هذه العملية. لكن ما هو الموقف إذا كان هناك مريض أصيب في يوم من أيام رمضان بمغص كلوي ويحتاج إلى مسكن قدره 1سم3 ويأخذه في الوريد وليس في العضل؟ هل هذا يؤدي إلى إفطاره أم لا؟ وشكرًا.(10/836)
الشيخ ساتريا أفندي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي
السيد رئيس الجلسة
أصحاب الفضيلة العلماء والأساتذة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أستأذن السيد الرئيس أن أقول بعض الكلمات حول الموضوع الذي نتحدث عنه.
بعد أن قرأت هذه البحوث وبعض الكتب الفقهية المتعلقة بهذا الموضوع والاستماع إلى كلام الباحثين في هذا الموضوع أجد أن خلاف العلماء في المفطرات بين توسيعها وتضييقها يرجع إلى ما قال له العلامة ابن رشد في كتابه (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ، بعد أن نقل إجماع العلماء على أنه يجب على الصائم الإمساك عن الجماع والطعام والشراب في نهار رمضان، وقال:
" اختلفوا من ذلك في مسائل منها مسكوت عنها ومنها منطوق بها، وأما المسكوت عنها إحداها فيما يرد الجوف مما ليس بمنفذ، وفيما يرد الجوف من غير منفذ الطعام والشراب مثل الحقنة، وفيما يرد باطن سائر الأعضاء ولا يرد الجوف مثل أن يرد الدماغ ولا يرد المعدة. وسبب اختلافهم في هذا هو قياس المغذي على غير المغذي، وذلك أن المنطوق به إنما هو المغذي. فمن رأى أن المقصود بالصوم معنى معقول لم يلحق المغذي بغير المغذي، ومن رأى أنه عبادة غير معقول وأن المقصود منها إنما هو الإمساك فقط عن ما يرد الجوف سوى بين المغذي وغير المغذي ". هذا ما قاله ابن رشد لذلك يكون أمامنا مذهبان في ذلك، مذهب التوسيع في مفطرات الصوم ومذهب التضييق، وموقفنا أمام هذين المذهبين أن نختار أحد المسلكين.
المسلك الأول: مراعاة المذاهب التي تمسك بها أهالي البلدان الإسلامية المختلفة. كل بلد أهله يتمذهب بمذهب فقهي معين. وإذا اخترنا هذا المسلك فوظيفتنا هنا ليست للترجيح بل لتوضيح المفطرات عند كل المذاهب.
المسلك الثاني: هو مسلك الترجيح لأحد هذه الأقوال. فهذا يحتاج إلى الدقة لعمقه، ويحتاج إلى معرفة أدلة كل مذهب من المذاهب ووجه الاستدلال منها.
وجدير بالذكر أن بعض السلف من الفقهاء - على حسب ظني - لم يقع في الخطأ ولم يسئ فهم الجوف عندما قال بأن إدخال عود أو وضع قطرة من الدواء في الأذن والطبلة غير مخروقة مفسد للصيام. بل إنني أرى أن التمسك بهذا الرأي يدل على الاحتياط في باب العبادة، وليس بسبب فهم العلماء الأذن أو الجوف بشكل عام.(10/837)
ثم أستأذن السيد الرئيس أن أقذم أمام حضراتكم سؤالًا واحدًا هامًّا- على حسب ظني - يتعلق بمفطرات الصوم التي تخص وضع المرأة في أداء هذا الركن من أركان الإسلام، وهو تناول المرأة حبوب منع الحيض في رمضان؛ ومن المعلوم أن من موانع الصوم ومفسداته خروج دم حيض المرأة فإذا نوت المرأة الصوم من الليل ثم حاضت في النهار ينتقض صومها، ولكن بتطور التكنولوجيا الطبية الحديثة تستطيع المرأة حبس دم حيضها بتناول حبوب منع الحيض ليلًا حتى تتمكن من إكمال الصوم شهرًا كاملًا مثل الرجل.
السؤال هنا هل تناول حبوب منع الحيض له أثر في صحة الصوم؟ وكيف يكون إذا أحست المرأة بالسحور بانتقال دم الحيض من رحمها وتهيئته للخروج بسبب مجيء دورته المعتادة فتناولت حبوب منع الحيض وتحبس الدم وظنت أن الدم قد رجع إلى رحمها مرة أخرى. فهل له أثر في صحة الصوم؟ وإذا كان له أثر في ذلك فما هو حكمه الشرعي؟ وهل هذا يؤدي إلى المرض؟ فإذا كان استخدام أدوية يتسبب في مرض المرأة , فهل يعتبر تناول حبوب منع الحيض أمرًا محظورًا أو مباحا؟
والرد على مثل هذه التساؤلات هام جدًّا، لماذا؟ لأن بعض النساء في بعض الدول الإسلامية لا سيما في بلدي أندونيسيا قد اعتدن أن يتناولن حبوب منع الحيض في شهر رمضان المبارك، كما جرت العادة في موسم الحج. وشكرًا.(10/838)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا شك أننا استمتعنا في صبيحة هذا اليوم بالبحوث الثلاثة المعمقة، أولها البحث الفقهي من فضيلة مفتي تونس الشيخ محمد السلامي، والبحثان الآخران من الطبيبين الكريمين، وكل منهما بحسب تخصصه قد أفاد وأجاد. فبحث فضيلة الشيخ السلامي تميز بالتصور الشامل للموضوع والدقة والبيان الكلي البليغ كشأنه دائمًا، والبيان الفقهي والأصولي بضوابطه الفقهية.
وقبل أن أتحدث عن وجهة نظري في تأييد أو مخالفة كل من الأساتذة الثلاثة أقول: ينبغي أن نتخذ هذه القواعد التي ارتأيتها وهي: الحفاظ على نظرية المنافذ المفتوحة التي قررها الفقهاء، والتي يكون إدخال شيء منها مفطرا للصوم ما عدا الأذن، أخذًا بمذهب المالكية الذين لا يقولون بإفطار إدخال شيء من الأذن، فهذا التصور يتفق مع الطب الحديث ويكون في قرارنا شيء من الحكمة إلا إذا كانت الطبلة مثقوبة. وكذلك ما عدا إدخال شيء إلى الجسد يقصد به التغذية أو الاستمتاع بشهوة المزاج، فإذا كان القصد من إعطاء الحقن أو الإبر التغذية فينبغي أن يكون الشيء مفطرًا، وكذلك إذا كان قضية المخدرات وغيرها قصد به مراعاة هذا الشخص أيضًا يكون مفطرًا، وينبغي أن نفرق بين القصد وعدم القصد , فما أثاره الدكتور رجائي فيمن يشم الغبار أو الدخان أو البخور , فإذا تعمد الإنسان شم هذه الأشياء فالقصد والنية معتبرة ((إنما الأعمال بالنيات)) ، إذا تعمد شمها أو فتح فاه ليستقبل الغبار فينبغي أن يكون الشيء مفطرًا، أما إذا وجد في مكان لا قصد له فشم الروائح وشم الدخان أو الغبار فهذا لا يكون مفطرًا، والفقهاء راعوا قاعدة أخرى غير قاعدة المفطرات وهي أن (المشقة تجلب التيسير) وأن كل ما يشق الاحتراز عنه ينبغي أن يكون معفوا عنه، فالقضية في المفطرات ليست مجرد إدخال شيء إلى الجوف أو عدم إدخاله.(10/839)
كذلك قياس شيء على المضمضة والاستنشاق، حكما لا بد أن يرشح شيء أثناء المضمضة والاستنشاق إلى الجوف، ولكن الفقهاء لم يحكموا بالفطر لأنهم إذا حكموا بذلك أفسدنا التكليف الشرعي، وهو كون المضمضة والاستنشاق سنة في أغلب المذاهب، وواجبة في المذهب الحنبلي، فحينئذ أيضًا ينبغي أن نراعي معنى التكليف، وبالتالي لا يصح أن نقيس على المضمضة والاستنشاق بعض ما يدخل إلى الجوف حتى ولو كان قليلًا سواء كان مغذيًا أو غير مغذ، ولو كان كالسمسمة والبحصة وما شاكل ذلك.
هذا هو المبدأ الأول في موضوع الحفاظ على نظرية المنافذ المفتوحة التي قررها ما عدا الاستثنائين، الاستثناء الذي ذكرته.
وأما ما يرشح إلى جوف العين فهنا نجد أن المذهب المالكي يعتبر القطرة في العين مفطرة، وهذا غير منفذ، ليس منفذًا مفتوحًا، وبقية الفقهاء قرروا أن القطرة في العين حتى لو وجد طعمها في الجوف لا يفطر. فإذن مرة نوافق المالكية في هذا الموضوع ومرة نخالفهم؛ لأن العين - أخذًا بنظرية المنافذ المفتوحة - ينبغي ألا يكون الداخل إليها بالكحل أو القطرة مفطرًا.
أما بقية المنافذ المفتوحة وهي الداخل إلى القبل والدبر والإحليل والمهبل فهذه ينبغي أن تكون مفطرة، وسأذكر أن بعض الإخوة الأطباء قالوا: مفطرة , وبعضهم قالوا: غير مفطرة. وفضيلة الشيخ السلامي اعتبر أنها مفطر. كذلك أنا أخالف الأطباء في قضية إدخال شيء إلى الجسد مثل القثطرة التي هي الأنبوب الدقيق وما في حكمها، لأخذ خزعة من الكلية أو من الكبد أو تنظير المعدة بالوسائل الحديثة، أو إدخال الطبيب أو القابلة أصابعه بالقفازات إلى مهبل المرأة أو عند الولادة، وسألني كثير من الناس أن الأطباء المولِّدين يدخلون أصابعهم أثناء الولادة لإخراج الولد فهل يمكن أن نقول أن هذه الأشياء لا تفطر؟ فالواقع هنا خرق لمعنى الإمساك الذي يتنافى لغة مع الصيام. القضية ليست قضية الجوف وأنه مغذي أو غير مغذي، وهل يصل إلى الجهاز الهضمي أو لا يصل؟ الواقع هنا خرق لدائرة الإمساك التي ينبغي أن تصان عنها نفس الصائم في حالة الصيام. فينبغي القول بأن هذه الأشياء مفطرة حينما ندخل هذه الأجهزة إلى المهبل والإحليل والدبر ومن المريء إلى المعدة (التنظير الشعاعي) ، كل هذه ينبغي أن تكون مفطرة.(10/840)
كذلك موضوع انفرد به الشافعية وهو قضية قياس الخطأ على النسيان. الحنفية فرقوا بينهما قالوا: النسيان لا يفطر لأنه مغلوب عليه وأما الخطأ فيمكن تفاديه. أما الشافعية فقاسوا الخطأ على النسيان، وعملوا بظاهر الحديث ((إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان)) .
وبالمناسبة ما أثير حول حديث الإفطار بالحجامة، نص صاحب كتاب (سبل السلام) أن حديث ((أفطر الحاجم والمحجوم)) منسوخ، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. بهذا النص في (سبل السلام) وأن الحديث لم يعد له وجود لأنه منسوخ. ولذلك أرجو أن يقتلع هذا من أذهان الفقهاء والأطباء أن هذا الحديث له وجود , هو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.
بعد هذه الملاحظات المختلفة ما أشار إليه فضيلة الشيخ السلامي أن مضغ العلك الذي لا يتحلل منه شيء غير مفطر مطلقًا, هذا في الواقع ليس مذهب الحنفية أو المالكية إنما هو أيضًا مذهب الشافعية والحنابلة على الراجح أنه غير مفطر مضغ العلك اللبان الطبيعي وليس العلك الحالي المشوب بالحلويات فهذا مفطر بالاتفاق، أما اللبان الطبيعى، هذا ما قالوا: إنه غير مفطر.
أيضًا قلت أن الأجهزة الداخلة إلى المعدة كالمسبار الكاشف لصورة المعدة، في الواقع هي مفطرة، وهو رأي الجمهور غير الحنفية ولو لم يكن عليها دواء، سواء كان وجد دواء، مجرد خرق حاجز الإمساك يعد مفطرًا. كذلك قطرة العين قلت إنها لا تفطر خلافا للمالكية، لا عند الحنابلة فقط، فإنها لا تفطر، لكن الحنابلة ومعهم الجمهور لا تفطر قطرة العين.
قول الشيخ السلامي: " إن الحق ما قاله الغزالي والسبكي والقاضي حسين أنه لا منفذ بين الأذن والباطن "، هذا في الحقيقة وافق الطب، لكن مذهب الشافعية على خلاف هذا التقرير، لأنهم اعتبروا - وهذا تشدد - نبش الأذن بالعود مفطرًا وكذلك صب الدهن وغيره، وهو الراجح عندهم. فإذن قوله: (الحق) الحق يظهر من ترجيح فضيلة الشيخ السلامي.(10/841)
كذلك إدخال شيء في الدبر مفطر، هذا هو مذهب الجمهور، وهو الرأي الراجح، وبالتالي قياسًا على هذا يشمل إدخال الطبيب أصابعه في المنافذ المفتوحة مثل المهبل وغيره، فينبغي أن يؤخذ القول بالإفطار.
وبناء على ذلك أخالف فضيلة الشيخ السلامي بأن الفحص النسائي للقابلة يكون من المهبل وغيره غير مفطر، وأؤكد أن هذا ينبغي أن يكون مفطرًا.
كذلك أخالفه في أن التخدير الكلي الشامل كل اليوم يفسد الصيام لأنه كالإغماء، لأنه ذهب العقل بالإغماء، كذلك التخدير حكمه حكم الإغماء ينبغي أن يكون مفطرًا. فهنا أيضا لا أوافقه في ذلك.
طبعًا أؤيده في أن جميع الحقن في العضل والوريد لا تفطر إلا إذا قصد بها التغذية. وأؤيد ما قاله فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع في عبارته: " إن الخوف من المرض عند الشافعية والحنابلة يعد عذرًا مبيحًا للإفطار ". الواقع هذا ينبغي ضبطه وهو ما عبر عنه فضيلة الشيخ ابن منيع (خشية المرض) ، الواقع هذا عند غلبة الظن وليس مجرد احتمالات أو مجرد الأوهام (الخوف من المرض) هذا لا يكون عذرًا إطلاقًا.
هذه ملاحظات حول بحث فضيلة المفتي.
ما يتعلق بالملاحظات حول بحث الدكتور البار؛ أنا أؤيده في أن ما يدخل الجسم عن طريق الجهاز التنفسي كالدخان والبخاخ وبخاخ الربو هذا يفسد الصوم، وأن التخدير الموضعي في علاج الأسنان لا يفطر، لأنه لا يؤدي إلى غياب العقل أو الذهن وإنما هو لا يدخل منه شيء إلى الجوف، وبالتالي كل علاجات الأسنان بشرط ألا يصل من آثار هذا العلاج إلى الحلق - فإنه لا يكون مفطرًا.(10/842)
أما ما يدخل الجسم عبر الفم والحلق متعمدًا يعني عنصر القصد ينبغي أن نراعيه , وكذلك ما يدخل الدبر وما يدخل المهبل وما يدخل إلى الإحليل، كل هذه مفطرات عملًا بمذهب الشافعية خلافًا لما قاله الدكتور البار.
أيضًا ما يدخل عبر الأذن، الأطباء أشاروا إلى أنه لا يوجد منفذ مفتوح إلى الأذن، وهذه قضية خلافية أنا قلت لا مانع من أن نأخذ بمذهب المالكية في الموضع، وبالتالي نلتقي مع الطب الحديث في هذه القضية. أخالف الدكتور البار في أن أخذ الخزعة من الكبد أو غيره أو غسيل الكلية لا يفطر، هذا في الحقيقة أمر ليس من السهل تقريره أو الاقتناع به.
كذلك الأدهان عبر الجلد هذا أؤيده فيما قال إنها لا تفطر, ونقل الدم وسحبه من الأوردة لا يفطر هذا سليم، وكذلك سحب الدم والحجامة والفصد لا يفطر، هذا كله أؤيده فيه وهو فهم يلتقي فيه الطب مع الفقه.
أما ما يتعلق ببحث الدكتور حسان شمسي باشا؛ في الواقع استرسل الدكتور حسان - حفظه الله - في الاعتبارات الطبية، وبالتالي قرر، أو أنه كان يتجه إلى أن العبرة بالتغذية وعدم التغذية، وهذا منفذ مفتوح أو غير مفتوح، وبالتالي كأنه اعتبر أن أغلب هذه الأشياء لا تفطر، فاعتبر التحاميل واللبوسات والحقنة الشرجية والتنظير الطبي لا تفطر , في الواقع هي تفطر حتى لو لم يكن عليها مرهم، أما هو يعتبر أنها إذا كان وجد مرهم عندئذ تفطر فقط.
أؤيده في الواقع في بعض الأمور أن نبش الأذن لا يفطر، وأن قطرة العين لا تفطر، ولكن أخالفه في أن البخاخ والتخدير العام وغسيل الكلى، كل هذا لا يفطر، الواقع هو من المفطرات.
كذلك أؤيده في أن كل أنواع الحقن حتى ولو أخذت في الوريد هي في الواقع لا تفطر إلا إذا قصد بها التغذية كالسيروم، هذا صار غذاء في حالة العمليات الجراحية يقصد به التغذي كبديل مؤكد، بدل الفم أو الأنف يعطى من طريق السيروم. وكثير من الناس يأخذ مقويات عن طريق هذه الإبر الوريدية، هل من المعقول نقول إنه لا يفطر؟! ويقصد بذلك الغذاء.
فإذن خلاصة كلامي أن هناك عدة قواعد واعتبارات شرعية ينبغي ملاحظتها في هذا الموضوع وليست مقصورة على مجرد الكلام من بعض الزوايا دون البعض الآخر. وشكرًا.(10/843)
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أحاول بعون الله في تدخلي هذا أن أقدم ضابطًا عامًّا لما يفطر، أخذته مما قرأته من بحوث وتعقيبات مفصلة وجيدة، معتمدًا فيه على ما ورد من النصوص القرآنية والسنة.
أولًا النصوص التي وردت في القرآن بشأن هذا الموضوع هي قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ، وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . فالآية الأولى يؤخذ منها: أن كل ما يصدق عليه الرفث لغة أو عرفًا فهو محرم في نهار رمضان ومفسد للصوم , وعلى هذا فالجماع ومقدماته مفسدة للصوم مع استثناء القبلة - لحديث عمر - " إذا لم تؤد إلى غيرها ". ولولا الحديث ما استثنيتها. والآية الثانية، يؤخذ منها أن كل ما يصدق عليه الأكل والشرب لغة أو عرفًا أو حكمًا فهو ممنوع في نهار رمضان ومفسد للصوم. وأعني بـ (حكمًا) تناول المغذيات التي تؤدي وظيفة الأكل أو الشرب. ويستثنى من هذا الضابط أيضًا تعمد القيء لورود الحديث بأنه مفسد للصوم، ولولا ورود الحديث ما استثنيته، لأنه ليس أكلًا ولا شربًا وإنما هو إخراج للأكل. والحجامة إذا صح ما يقوله الشيخ عبد الله بن منيع، ولم يثبت النسخ ولا التأويل الذي ذكره الذي تحدث من قبل فالمسألة مسألة خلافية، لكن الثابت هو موضوع القيء، فهو مستثنى يقينًا.
وجاء الحديث في السنة الصحيحة بما يؤكد هذا ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي)) وفي بعض الروايات ((يدع طعامه من أجلي ويدع شرابه من أجلي ويدع شهوته من أجلي ويدع زوجته من أجلي)) .(10/844)
وقد أورد الشيخ محمد مختار السلامي في ملخص بحثه ضابطًا للمفطر أو المفطر كما يرى هو، في كل مذهب من المذاهب الأربعة، يصعب فهم أي واحد منها مع ما أخذته من القرآن والسنة. قد يقترب ضابطي هذا من بعضها ويبتعد من البعض الآخر.
وذكر الدكتور حسان ضابطًا لما يفسد الصوم، هو كل ما يدخل إلى الجهاز الهضمي متجاوزًا الفم والبلعوم يكون سببًا للإفطار ومفسدًا للصيام، هذه هي عبارته التي وردت في بحثه.
ووافقه الدكتور محمد علي البار على هذا الضابط، وأضاف أن يكون الشخص عامدًا، ولا يشترط أن يكون ما دخل الجوف ووضع بين قوسين: (المقصود الجهاز الهضمي) طعامًا أو شرابًا، وإنما يدخل في ذلك الدواء والدخان. ولا أوافقهما على جعلهما فساد الصوم معلقًا أو مرتبطًا أو منوطًا بما يدخل في الجوف وهو الجهاز الهضمي؛ لأن هذا لا دليل عليه من قرآن ولا سنة. السنة لم تذكر إلا الأكل والشرب، والقرآن لم يذكر إلا هذا. فدخول حصاة إلى الجوف لا تفسد الصوم والدخان لا يفسده والدواء لا يفسده إلا إذا كان طعامًا أو شرابًا فيصدق عليه أنه شراب، يقال: شربت الدواء، فهذا يفسد. أو أدى الدواء، ولو لم يكن طعامًا ولا شرابًا أدى إلى وظيفة الطعام والشراب لأنه يكون في حكمهما. ولا أوافق الدكتورين أيضًا على أن منظار المعدة مفطر لأنه ليس طعامًا ولا شرابًا لا لغة ولا عرفًا، ولا سيما أن الدكتور البار قرر أنه لا علاقة له بالغذاء , لو كان هذا المنظار مغذ لكان هناك وجه في القول بأنه مفطر.(10/845)
وكذلك لا أوافق الدكتور البار على أن ما يدخل إلى الدبر (الحقنة الشرجية) وما يصل عبر الأذن مفسدًا للصوم إلا إذا كان ما وصل إلى الجوف مغذيًا فإنه يفسد الصوم.
وقال متحدث قبلي: أن موضوع التغذية هذا لا محل له ولا دليل عليه.
هذا هو الأصل في الطعام والشراب في أنه مغذ، ولذلك أخذنا هذه العلة، فكل ما غذى فهو كالطعام والشراب. وهذا دليل قوي، وقد أورد هذا أحد الإخوة، ذكر وقرأ لكم عبارة ابن رشد وورد فيها التفرقة بين المغذي وغير المغذي. فهذه معروفة منذ القدم عرفها الفقهاء. وأخيرًا قد أورد الشيخ محمد المختار السلامي في ملخص بحثه أربعًا وثلاثين مسألة أوافقه في كل ما رجح فيه صحة الصوم وهي ثماني عشرة مسألة، لأنها متفقة مع الضابط الذي ذكرته. وأخالفه في كل ما رجح فيه فساد الصوم وهي تسع مسائل ما عدا مسألتين أوافقه فيهما، وهما: تعمد القيء والحقن المغذية، ولكم الشكر.(10/846)
الشيخ عمر بن عبد العزيز:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معالي رئيس مجمع الفقه الإسلامي
معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي
أيها الأساتذة الفضلاء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في بداية الكلام أشكر سماحة الشيخ محمد المختار السلامي على إتحافه إيانا بهذا البحث العلمي القيم الدقيق، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناته وأن يوفقه وإيانا لما فيه رضاه.
تعليقي على هذا البحث بين أن ابن سيرين - رحمه الله تعالى - قاس المرض على السفر، أو أنه عبر بأنه سوى بين المرض والسفر، وهذا مفاده قياس المرض على السفر في إباحة الفطر في رمضان، والذي يظهر لي أن ابن سيرين - رحمه الله تعالى - دليله هو النص وهو قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، والذي يدل على ذلك أنه عندما سئل قال: وجعت إصبعي. فالإجابة هو بيان لعلة الحكم، وأن العلة هو المرض. فإذا كان قد استدل بالنص بغض النظر عن قياسه هذا، وأما إذا كان قد استدل بالقياس بغض النظر عن النص الدال على الحكم في موضوعه فإن قياسه يرد عليه.
أتفق مع سماحة الشيخ السلامي في أن هذا القياس مردود، ولكن الذي يظهر لي أو الذي قد أختلف معه في رد هذا القياس: ما الذي يرد هذا القياس؟ هل يرده أن القياس مع الفارق، وأن هناك فرقًا بين المرض والسفر، أم أن الذي يرده هو أن القياس في مقابلة النص؟ فالذي يظهر لي- والله أعلم - أن الرد ينبغي أن يكون من منطلق كون هذا القياس قياسًا في مقابلة النص إن كان قد قاس. وأما إذا غض النظر عن النص الدال على حكم إفطاره بسبب ألم إصبعه فإن القياس - الذي يظهر لي والله أعلم - أن القياس قياس الأولى، لأنه أن كان قد قاس المرض على السفر، والسفر اعتبر مبيحًا للفطر نظرًا إلى أنه مظنة وجود العلة وهي المشقة فيه. وأما المرض - كما ذكر سماحة الشيخ السلامي - فهو العلة نفسها. ولا شك أن إفضاء العلة الحقيقية إلى الحكم أولى من إفضاء مظنتها إلى ذلك الحكم.(10/847)
التعليق الثاني يتعلق بما ذكره سماحة الشيخ في أن الصوم عندما يكون أعون على شفاء المريض فهو لا يبيح الفطر بل يجب على المريض الصوم. وقد أحسن وبين أنه لم ير لأحد قولًا في هذا، ولكن القواعد تقتضي وجوب الصوم عليه , وهذا صحيح دقيق وسليم، إن شاء الله، ولكنه بين أن هذا لا ينسحب على مذهب ابن سيرين الذي جعل مجرد وجع الأصبع مبيحًا للفطر.
والذي أريد أن أقوله: أن الانسحاب على المذهب يستلزم دخول المذهب في هذا الذي ذكره. أي أن توهم انسحاب كون المرض الذي يكون أعون على شفاء المريض إلى وجوب الإفطار لا ينسحب على مذهب ابن سيرين , فيما إذا اعتقدنا أن مذهب ابن سيرين يدخل في هذا، ولكن مذهب ابن سيرين لا يدخل أو لا علاقة له بالمرض الذي يكون أعون على شفاء المريض؛ لأن جوابه بأن (ألمًا في أصبعه) هو الذي أدى إلى إفطاره يدل على أنه يرى المرض المؤلم هو المبيح للإفطار وليس كل مرض، بل وليس المرض الذي يكون فيه الصوم أعون على شفاء المريض. ولذلك لا خوف على انسحاب هذا الذي تفضل بذكره سماحة الشيخ على مذهب ابن سيرين؛ لأن مذهب ابن سيرين لا علاقة له بهذا نظرًا لجوابه.(10/848)
النقطة الثالثة تتعلق بتعريف الشاطبي - رحمه الله تعالى - الرخصة، فهو قد عرف الرخصة وقال: لعذر شاق. وانتقد الشاطبي - رحمه الله تعالى - الأصوليين أو العلماء بأنهم عرفوا وبينوا وقالوا: هو ما أبيح لعذر. واكتفوا بكلمة (عذر) ، ولذلك جعل الشاطبي - رحمه الله تعالى - هذا التعريف غير مانع لدخول المساقاة والقرض والسلم، رغم أن هذه العقود لا تسمى رخصة. والذي أريد أن أقوله: هو أن تعريف الشاطبي - رحمه الله تعالى - قد تناول كلمة (شاق) ووصف العذر بأنه شاق، وهو نفسه - رحمه الله تعالى - قد بين أن المشقة مضطربة، وكما ذكر أيضًا سماحة الشيخ السلامي أن المشقة مضطربة، ولذلك لما كانت المشقة مضطربة أقام الشارع السفر مقامها. والتعريف ينبغي أن يخلو من المضطربات نظرًا لأن التعريف الغرض منه الوصول إلى المعرف وتمييز المعرف عن غيره، والتمييز لا يتأتى إلا بالمحدد. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى نقده لتعريف العلماء إنما عرفوه: (هو ما أبيح لعذر) فقط، وما وصفوا العذر بالشاق. بين أن التعريف غير مانع نظرًا لعدم وجود قيد (الشاق) فيه. والذي أريد أن أقوله: هو أن كلمة (عذر) في هذا التعريف مطلقة، والمطلق - كما هو القاعدة الأصولية - ينصرف إلى الفرد الكامل، وبما أن الشارع شرع الرخص للتخفيف، وإزالة المشقة فالمقام يقتضي أدن يكون الفرد الكامل، فإن العذر يكون موصوفًا بالشاق وإن لم يذكر، بل كلمة (العذر) في هذا المقام تغني عن ذكر (الشاق) .
فإذا كان الذي روعي هو مطلق العذر فدخول المساقاة والقرض وما إلى ذلك، نعم يدخل ولكن إذا قيدنا العذر بالشاق فإن هذه العقود لا تدخل. ولكن هل ينظر إلى العذر بالنسبة لفرد خاص أم أنه ينظر إليه بالنسبة للكل (للأمة) ، يعني المشقة بالنسبة للأمة؟ وأعتقد أنه من المعروف أن هذه العقود لو لم تكن شرعت للحق الضيق والحرج الأمة باعتبارها مجتمعًا متكاملًا، وعندئذ ينبغي إذن أن تدخل هذه العقود في تعريف الرخصة إذا نظر إلى المجتمع باعتباره كلًّا، وإذا كان ينظر إلى الفرد فإن العذر نظرًا إلى انصرافه إلى الفرد الكامل فإنه لا يدخل.
هذا وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير، وأن يلهمنا الصواب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/849)
الشيخ عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا الهادي الأمين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
تعليقي على قضية جزئية أعتقد أنها تستحق النظر لأنها خلافية. بالنسبة للقليل من الأدوية التي تجاوز الحلق إلى الجوف مما ليس للغذاء كقطرة الأذن مخروقة الطبلة، وقطرة العين؟ وقطرة الأنف، وبخاخ الأنف، وبخاخ الربو كما ذكره الأطباء. أعتقد أن هذه غير مفطرة فإن القليل من هذه القطرات أو أثر البخاخ ليس له اعتبار في إفساد الصوم، نظيرًا بالمعنى الدقيق للقليل المتحلل من السواك، ولا يفطر قطعا للنص وهو قول ربيعة - رضي الله عنه -: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائما ما لا أحصي ولا أعد. فالسواك لا يفطر والأطباء ذكروا أن في السواك ثماني مواد كما سمعنا من العرض، ونظير القليل من هذه الأدوية ما يتسرب إلى الجوف من أثر المضمضة والاستنشاق وهو معفو عنه أيضًا. فما كان يسيرًا من هذه الأدوية لا بأس به ولا يفطر من جانبين؛ لأنه ليس أكلًا أو شربًا، ونظائره شواهد من مثل آثار السواك والمضمضة والاستنشاق أما ما كان أكلًا أو شربًا فيفطر قليله وكثيره لورود النص قطعًا في الأكل والشرب وهو نص مطلق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(10/850)
الشيخ إبراهيم السلقيني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث هدى ورحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه.
أولًا: أشكر الإخوة الأفاضل الباحثين الذين أجادوا وأفادوا بما بذلوا من جهد، ولكن لا بد أن نقف عند بعض النشاط التي يجدر بنا أن نذكر ما يدور حولها من ملاحظات.
سماحة الشيخ محمد المختار السلامي - حفظه الله- فيما يتعلق بالمرض يبدو لي - والله أعلم - أن العلة هي المرض كما أن العلة السفر، وذكر المشقة في كل ذلك إنما هو حكمة وليس علة. لأن الحكمة غير منضبطة، والعلة - كما يعلم الجميع - هي الوصف الظاهر المنضبط. ولكن أي مرض؟ هل مجرد الألم في الإصبع علة مؤثرة في إباحة الفطر، أم أن المقصود من المرض هو المرض الذي يتفاعل مع الصوم تأثيرًا ووجودًا وعدمًا، أي المرض الذي يحدث بسبب الصوم أو المرض الذي يزداد، أو المرض المراد به تأخر الشفاء , وليس أي مرض يعتبر مؤثرًا في وجوب الفطر أو في إباحة الفطر. في وجوب الفطر عند تحقق الهلاك، وفي إباحة الفطر عند غلبة الظن بوجود الضرر.
أما فيما يتعلق ببحث الأخ الدكتور البار، فلم يذكر لنا في مجال المناقشة للمفطرات ما يتعلق بقطرة العين، لم يبين لنا رأيه الطبي فيما يتعلق بقطرة العين. أما ما يتعلق بقطرة الأذن فأحب أن أضيف - والرأي في هذا للأطباء - أنني سألت عددًا من الأطباء المختصين في أمراض الأذن , فقالوا لي: أن نسبة لابأس بها من الناس مصابون بثقب في غشاء الطبل وهم لا يشعرون، يعني لو يشعر فهناك انضباط، لما يكون مثلًا هناك مرض في ثقب فأقول: أفطر، وعندما لا يكون هناك ثقب لا أفطر. إذن المهم في الأمر أن المريض لا يعلم ولا يشعر بأنه قد ثقب غشاء الطبلة. بمعنى أنه قد يكون هناك التهاب يؤثر في ثقب الغشاء ثم المرض يزول والغشاء يبقى مثقوبًا. فأعتقد هنا إذا كان الأمر كذلك , وأمر العبادة يبنى على الأحوط لا على الأيسر خلافًا للمعاملات فيكون الرأي - والله أعلم - بالفطر بقطرة الأذن فيما يبدو لي.(10/851)
أيضًا أوكد ما ذكره أخي فضيلة الشيخ عكرمة وقد سبقني في ذلك بأن ما ذكره الأخ الدكتور البار من أن ما يدخل الجسم عبر الفم والحلق أنزله منزلة النسيان، سواء كان بسبب قلع الضرس أو عملية جراحية في الفم، فهذا في غير موضعه ولا ينسجم أبدًا مع النسيان فيما يبدو لي؛ لأن إجراء القلع أو العملية من الممكن أن تؤخر إلى المساء أو إلى ما بعد الإفطار إلا إذا وجدت ضرورة وحينئذ الضرورة لها حكمها.
فيما يتعلق بالتفريق بين حقن الوريد وحقن الجلد والعضل , فيما يبدو والله أعلم، أن حقن الوريد تختلف اختلافًا كليًّا عن حقن العضل، فحقن العضل مقيسة على امتصاص الجلد، وهو بالإجماع لا يفطر. أما الحقن الوريدية فهي مفطرة لأنها تستعمل لإيصال الغذاء والدواء وبشكل أسرع بكثير مما لو أخذ الغذاء أو الدواء عن طريق الفم. وهنا أخالف من تفضل وذكر بأن الأكل والشرب فقط. نعم الأكل والشرب شكلًا وأيضًا الأكل والشرب موضوعًا وحقيقة، فحينما أخذ حقنة للتغذية فهي في معنى الأكل والشرب حكمًا وحقيقة، وان لم يكن أكلًا ولا شربًا في الصورة. ومن هنا فأقول بأن حقنة الوريد إما أن تؤخر إلى وقت الإفطار، وإن كان هناك ضرورة فتؤخذ وعليه القضاء.
فيما يتعلق بما أثاره الأخ الفاضل حول حبوب تأخير الحيض، فأقول: هذا مبني على قول الأطباء , إن كان ليس هناك ضرر للمرأة - كما هو في أمر الحج سواء بسواء - فيجوز لها أن تأخذها. وموضوع حبس الدم وعدم حبس الدم في الحقيقة أنا ما أتصور مثل هذا، يعني إما أن يكون عامل تأخير أو لا يكون عامل تأخير. فإن لم يكن عامل تأخير فهي تفطر والوضع طبيعي، وإن كان عامل تأخير فالأمر يعود إلى ضرر الدواء أو عدم ضرره، فإن لم يكن هناك ضرر، وأنا كنت سألت عددًا من الأطباء المختصين بأمراض النساء، قال أن لم يكن مداومة أو إكثار من هذا لمرة أو لمرتين فلا يضر. فالأمر علاقته بالطب، والحكم الشرعي مبني على الحكم الطبي. والله أعلم.(10/852)
الشيخ خليفة أبا بكر:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر الإخوة المحاضرين الذين غطوا موضوع المفطرات، سواء كان ذلك على الصعيد الفقهي، أو كان على الصعيد الطبيّ. وأقف هنا لأذكر أن المصطلحات الفقهية والطبية قد لا تتفق في كل الأحوال. فما ذكره الفقهاء من مصطلحات وعبارات هي مصطلحات وعبارات تقريبية. فمرادهم بـ (الدماغ) ما يقابل فعلًا المعدة بمعنى أنه الجزء الأعلى، وهذا أمر يتفق مع السياق الذي جاء فيه حديثهم عن هذا المصطلح.
فيما وراء ذلك أعجبني في البحوث أنها اتجهت إلى التأصيل ومحاولة وضع المعايير والضوابط، وهذا هو الذي يحتاجه الناس في يومنا هذا للفتوى، لأننا نحتاج إلى استخلاص ضوابط ومعايير سواء كانت هذه الضوابط والمعايير ابتداء بالطبيعة من القرآن والسنة، وهما الأصل، ثم بعد ذلك يأتي الاستئناس بالفقه الإسلامي في مذاهبه المختلفة في أن نفصل هذه الضوابط والمذاهب بالنسبة لكل مذهب من المذاهب حتى نستطيع وعلى هديها أن نطرق الأحكام فيما يستجد من حوادث.
ولعله واضح من خلال العروض التي قدمت لنا أن هناك نقصًا كبيرًا فيما يتصل بهذا الجانب وهو جانب العلة في هذه الآراء وهذه الأحكام، وتعليل الاختلاف الذي وقع بين الفقهاء. هل العلة في الإفطار هي الغذاء أم العلة الشهوة، أم العلة هي مجرد دخول شيء إلى البطن ... إلخ؟ هذه المسائل فعلًا وضح من خلال الحديث الذي دار، سواء كان ذلك في البحوث أو كان ذلك في المناقشات دل ذلك على أن هذا الجانب كان يحتاج إلى كشف، وهذا ما يدعو إليه الناس بضرورة الحديث عن المقاصد الخاصة بكل علم من العلوم أو مبحث من المباحث، يعني يسبقه حديث عن المقاصد المتصلة بهذا الجانب، لو تم ذلك لسهل علينا كثيرًا، ولكنا اليوم نتجه مباشرة إلى أن نعطي آراء في المسائل المعروضة علينا، ذلك أن هنالك جانبا كبيرا يكون قد غطي , وانطلاقًا منه يمكننا أن نعطي آراء في المسائل التي عرضت علينا.(10/853)
على كل حال هذه البداية تعتبر - في نظري - بداية جميلة، لكنني أرى أن المسائل التي نص عليها الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ينبغي ألا نتناقش فيها لأن الاختلاف رحمة، وهنالك السعة في المذاهب المختلفة، وأن ندع الناس يأخذون بما يشاؤون بحسب ما يحق مصالحهم، ولأن هذه المسائل خاصة بالعبادات وهي مسائل ذات حساسية خاصة، ليست كالمعاملات التي يتبع فيها وجه المصلحة، ولهذا يترك في المسائل التي تحدث عنها الفقهاء من المسائل السابقة تترك كما هي. فقط نأخذ من آراء الفقهاء هذه الموجهات - كما ذكرنا - والضوابط والمعايير والهوادي كي ننظر في المسائل الحديثة. هذا هو الذي ينبغي أن نتجه إليه.
بعد ذلك أحب أن أعلق بأن كلام الإمام الشاطبي عن الترخيص في العقود لا يعتبر أنه من باب الرخصة بناء على التعريف الذي أورده الأصوليون للرخصة. حقيقة الأصوليون يذكرون أن كذا داخل في باب المستثنيات (العقود، العرايا، المزارعة، المساقاة) استثناؤها من الأصل العام يعتبر من باب المستثنيات للتخفيف، وهي داخلة حقيقة في باب الرخصة. المشقة دائمًا يأتي التعبير بها في باب العبادات، ولا ترتبط هذه الأشياء بالحديث عن المشقة؛ لأن المشقة غالبًا تأتي في باب العبادات، لكن هذه العقود مربوطة بالرخصة من حيث هي رخصة، وتأتي في باب الحديث عن الرخص كقسم من الأقسام التي جاء فيها الترخيص في الشريعة الإسلامية، وبني الاستثناء على أسباب استدعت ذلك.(10/854)
بعد ذلك أيضًا أحب أن أنبه أو أناقش فضيلة الشيخ محمد مختار السلامي في بحثه القيم في أنه ذكر أن الرخصة شخصية , أنا في نظري الرخصة في الشريعة ليست شخصية، الرخصة في الشريعة موضوعية، معيارها موضوعي، ذلك أن الشريعة لم تربط الرخصة بالحكمة وهي المشقة، وقد عدل الفقهاء عن ذلك كما ذكروا؛ لأن الحكمة غير منضبطة، فما يكون مشقة في زمن هو ليس مشقة في زمن آخر، وما يكون مشقة عند شخص ليس هو مشقة عند شخص آخر وهكذا , لهذا السبب عدلوا عن ربط الأحكام بالحكم، وربطوها بالعفة وهي الوصف الظاهر المنضبط، والعلة هي السفر والمرض {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} والمرض موضوعي، هذا مريض فهو مريض أيا كان المرض، السفر أيا كان بطائرة أو بقطار أو براحلة هو سفر. على كل حال المعيار العام صار معيارًا موضوعيًّا. الحديث عن أن الرخصة شخصية هذا يتأتى في إطار الحديث عن الحكمة. صحيح أن الحكمة هي العلة الأساسية وهي الباعث على الأحكام، لكن الفقهاء جعلوا بيننا وبينها حاجزًا، ذلك الحاجز هو الوصف الظاهر المنضبط وهو العلة.
بعد ذلك الحديث عن حالات إجراء الغسيل - مثلًا - بالنسبة للكلى وكونه لا يفسد الصوم أو لا يبطل الصوم، أظن أن هذا لا محل له؛ لأن من هو مصاب بمرض الكلى أساسًا، يباح له أن يفطر، فكيف نبحث عن أنه يصوم؟ هذه المسائل أعتقد أنها ربما تكون إيغالًا في الترف؛ لأن هذا الشخص أساسًا التركيبة والحالة التي هو عليها لا تبيح الصوم له , فلا يصوم أساسًا وهو معفو عنه، فليس هنالك داع لأن نجث ما يترتب عن ذلك من نقل الدم له، وأن نقله لا يترتب عليه إفسادًا للصوم.
هذا ما أردت قوله. وشكرًا.(10/855)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
شكرًا لكل من تحدث قبلي وللأخوة الثلاثة الباحثين ولإدارة المجمع، وأحب أن أوجه شكري لإدارة المجمع للمنهج الجديد الذي سلكته في البحث والتعقيب , وأرجو أيضًا في الأبحاث القادمة أن يضاف شيء آخر وهو مراعاة التخصص للبحوث المشتركة، فهنا الفقيه تعرض للجانب الطبي، والطبيب تعرض للجانب الفقهي، فلو أننا نظرنا في البحوث القادمة - أن شاء الله - أن يكون هناك اشتراك في البحث الواحد، فنكلف الفقيه والمتخصص ببحث واحد لعل هذا يكون فيه النفع أن شاء الله. نحن هنا أمام عبادة، والعبادة يجب فيها الاحتياط، ولكن أيضًا يجب فيها رفع الحرج. وهنا بالنسبة للأكل والشرب صورة ومعنى والجهاز الهضمي والتغذية أرى أن هذا يجب أن يراعى ما هو في معنى الأكل والشرب، وأن يراعى أيضًا الجهاز الهضمي.
ما ذكره الأطباء حول الجهاز الهضمي كلام علمي دقيق يتصل بالأكل والشرب , ولذلك ما لا يدخل إلى الجهاز الهضمي وليس فيه معنى الأكل والشرب ولا يتنافى مع مقصود الصيام والهدف من الصيام والغاية من الصيام ربما كان هذا لا يفسد الصيام، فمثلًا أخذ شيء من الكلية - عينة من الكلية - هذا لا يتنافى مع الهدف من الصيام، وفي الوقت نفسه ليس فيه معنى الأكل والشرب لا صورة ولا معنى. كذلك بالنسبة للجامد الذي يدخل إلى الجسم، الحنفية هنا لهم كلام لعله يفيدنا وهو اشتراط الاستقرار حتى يكون الجامد مفطرًا يستقر في داخل الجسم. الأخذ بكلام الحنفية هنا يفيدنا في المناظير وغيرها من الأشياء التي لا تستقر في الجسم، فهي ليست في معنى الأكل والشرب، وفي الوقت نفسه المريض في حاجة إلى هذه الأشياء، ثم أن هذا أيضًا له ما يؤيده من سادتنا الفقهاء.(10/856)
بالنسبة لحديث (الحاجم والمحجوم) في القول بالنسخ نعم ورد في أقوال كثيرين والتأويل أيضًا، التأويل بأن الحاجم يمكن أن يفطر لأن الدم يمكن أن يدخل في جوفه , وأن المحجوم يمكن أن يفطر لأن الحجامة تضعفه فيضطر إلى الفطر، هذا بالتفصيل موجود في كثير من الكتب.
أما موضوع القليل والكثير , مع ضم الضرورة والحاجة فلو أنه ثبت فعلا أن قطرة العين - كما تحدث الأطباء - لا يصل منها إلى الجسم إلا هذا القدر الذي يمتص ولا يدخل إلى البلعوم؛ إذن معنى هذا أنه لايؤثر على الصوم. بالنسبة لمرضى الربو، العدد الذي ذكره الإخوة الأطباء والحاجة إلى هذا، أنا أقول هنا ليس إفتاء فلست مفتيًا وإنما أقول من باب التساؤل فقط للبحث، الأفضل هنا النظر إلى أن هذا المريض ما يدخل في جوفه بعد أن يدخل في الجهاز التنفسي والجزء المتبقي الذي لا يكاد أن يرى هل هنا مقاصد الصوم تدفعنا إلى القول بأن هذا يفطر، وأن نقول له أيضًا أفطر وأعد؟ وكيف يعيد وهو مريض؟ هذا مرض مزمن، أم أن مثل هذا يمكن أن يكون معفوا عنه لأنه لم يتعمد الإفطار، لم يتغذ، لم يجترئ على شهر الصيام. هنا علاج والشيء هنا قليل إلى هذا الحد هو أقل من السمسمة كما وصف الأطباء. التخدير، إذا ثبت أن التخدير لا يصل منه شيء إلى الجهاز الهضمي كما قال الأطباء، فإذن هو ليس طعامًا لا صورة ولا معنى، ولم يصل إلى الجهاز الهضمي.
غسيل الكلية، إذا ثبت، أيضًا أن غسيل الكلية لا يؤدي إلى شيء يدخل إلى الجهاز الهضمي.
هذه أشياء يجب أن نتحقق منها طبيًّا أولًا, هل يدخل منها شيء إلى الجهاز الهضمي أم لا يدخل؟
بالنسبة للحديث عن وظيفة المجمع، أعتقد أن وظيفة المجمع ليست
فقط بيان المذاهب، فالمذاهب مبينة في كتبها، وهذه وظيفة تكون ميسرة لا تحتاج إلى هذا المجمع، إنما أعتقد أن وظيفة المجمع الأساسية أو الرئيسية الاجتهاد في ضوء الكتاب والسنة، وهذا هو الاجتهاد الجماعي الذي نحتاج إليه في عصرنا.
أكرر شكري وتقديري والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا وسول الله , والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/857)
الشيخ عمر بن عبد العزيز:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا ذكرت بالنسبة لقياس ابن سيرين - رحمه الله - أنه قياس في مقابلة النص فيرد , والقياس في مقابلة النص هو أن يفضي القياس إلى حكم مخالف للحكم الذي أدى إليه النص , أي أن يدل القياس على خلاف ما دل عليه النص، وقياس ابن سيرين ليس من هذا القبيل، وكان قصدي أن أقول: أن النص موجود وهو يقيس. وكان منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى أنهم يرجعون إلى الكتاب ثم السنة ثم إلى القياس , أما عمل ابن سيرين فهو أيد النص بالقياس , ولم يقس في مقابلة النص.
أحببت أن أوضح هذا لأن إطلاق القياس في مقابلة النص على هذا ليس صحيحًا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(10/858)
الشيخ علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع هذه وقفات سريعة مع السادة الذين تحدثوا.
هناك وقفة مع الدكتور الألفي حفظه الله عندما طرح لنا مسألة جديدة وهي مسألة المزاج , شيء بالإضافة إلى الغذاء ومسألة اللذة الجنسية.
أنا في الواقع لم أجد ما يدل على ذلك، وأنا أطلب منه أن يتفضل بذكر الدليل , وإلا لكان هذا الأمر لأبطلنا كل شيء يؤثر في اعتدال المزاج للصائم , فلو فرضنا: يجلس في ماء بارد مثلًا أو يمر في حديقة غناء، هذه أشياء تؤثر في المزاج. المزاج لا أرى ما يدل على لزوم تضييق مزاج هذا الإنسان الصائم المسكين.
الشيء الآخر، ذكر أن إدخال الناظور إلى الرحم قد يلذذ هذه المرأة. أنا لا أعتقد أن ذلك يحدث أولًا، لا أعلم كيف يلذذ وهو يقتلها بهذا الأسلوب؟ وإذا كان هناك تلذذ من هذا القبيل أنا لا أؤيد سماحة الشيخ الضرير في أن الرفث يفسر بالجماع ومقدماته. لا أدري هل هناك من أفتى بتحريم كل مقدمات الجماع على الصائم معناه أنه ليس له أن يقبل؟ ويقال أن القبلة هي أهم المقدمات , ولا أعلم أيضًا ليس له أن ينظر إلى زوجته المتزينة، ليس له أن يلمسها!! هذه كلها مقدمات للجماع , أنا لا أفهم من الرفث إلا أنه تعبير قرآني مهذب عن مسألة الإدخال ومسألة الإنزال، وليس مسائل أخرى وهي التي كادت تراود أذهان البعض.
ثم مسألة إدخال الدواء إلى الشريان، قال: إنه يفطر. أيضًا لا دليل عليه , يعني إدخال الدواء أو المسكن - كما سأل الأخ - إلى الوريد لا دليل على أنه يفطر، لأنه ليس فيه لا ملاك التغذية وليس فيه أي ملاك آخر أو أي عنوان آخر يصدق عليه. ومن هنا أجيب الدكتور الذي سأل من مسألة المسكن: لا مانع مطلقًا من دخول الدواء ودخول المسكن إلى الأوردة، ولا يشمله أي دليل مانع.(10/859)
سماحة الشيخ عكرمة سأل وأشار إلى علاقة الأوردة بالجوف , أنا أوافق أن الجوف لم يرد فيه نص، وإنما هو ما نفهمه عرفًا من عنصري الأكل والشرب، هذا الذي نفهمه، وإذا لم يكن ورد بلفظه فنحن لا نتقيد بلفظ الجوف , وإنما نلتزم بحقيقة الطعام والشراب. ولذلك أنا أخالف سماحة الشيخ في أنه التغذية غير المنظورة , التغذية هي روح الطعام، وهي حضور الطعام والشراب في البدن، هي كل شيء في الطعام والشراب , وحينئذ فأعتقد أن الأوردة أن كان هناك من يقول بأن الأوردة تدخل في إطار استمرار الجوف وتأثير الجوف في البدن، وبالتالي فتغذيتها مضرة، هذا الأمر أنا قلت أنا أحتاط فيه وجوبًا فأنا لا أستغرب من يقول ذلك , وأنا شخصيًا أحتاط بذلك. سماحة الشيخ ابن منيع اعترض على الشيخ السلامي بأن هذا الحديث موجود ((أفطر الحاجم والمحجوم)) . الشيخ السلامي لم يرد أن ينفي هذا الحديث. هو يقول: إن موضوع هذا الحديث قد انتفى.
وانتفاء الموضوع لا يعني اعتراضه على أصل الحكم، لنفرض أن الخمر انتفت كلها من الأرض يبقى حكم الخمر على ما هو عليه قائمًا , الموضوع إذا انتفى لا يؤثر على نفي الحكم.
ومن هنا أشير إلى ما قاله الأستاذ ساتريا من أن المرأة هل لها أن تشرب دواء يؤخر حيضها؟ ما المانع في ذلك؟ إذا شربت فقد انتفى موضوع الإفطار بذهاب الحيض , أقول حتى ولو كان ذلك مضرًّا، فإن العمل نفسه إذا كان مضرًّا فهو محرم، ولكن إذا ارتكبت هذا المحرم على فرض أنه يضر فقد انتفى الموضوع ولا أثر لذلك على صومها في الأيام التي كانت تحيض فيها في الأشهر الأخرى , إذن الموضوع هنا انتفى.
مسألة القطرة في العين والقطرة في الأذن والإصرار على أنهما مفطرتان، رأينا أن الطبيبين الفاضلين أشارا إلى أنه قد يصل جزء منهما إلى الجوف. ما دام قد يصل إذا نحن نشك في الوصول حتى ولو احسسنا بطعم في الفم. ما دام شككنا في الوصول إلى الجوف مسألة الإفطار غير متحققة. يعني بمجرد أن نشك قلنا: أن الأصل هو البراءة في هذا المعنى.
الشيخ وهبة أشار إلى أن إدخال شيء في القبل أو الدبر مثل الأصبع مفطر لا من باب الطعام والشراب بل من أنه خرق لمبدأ الإمساك. الإمساك ليس مطلقًا يا سماحة الشيخ، الإمساك له متعلق، الإمساك عن ماذا؟ عندما نقول: الإمساك عن الطعام والشراب سوف لن يشمل مثل هذا المورد كإدخال أصبع مثلًا في القبل، هذا لا يخرق مبدأ الإمساك. الإمساك هنا له متعلق، ومتعلقه الطعام والشراب والشهوة الجنسية بمعناها الأصيل، خلافًا لسماحة الشيخ الضرير، يعني الإمساك عن مسألة إدخال الحشفة أو الإنزال أو هما معًا، هذا هو الذي يتعلق بالإمساك. مسألة الرفث إذن أنا أؤكد أنها لا تعني مقدمات الجماع، وإنما العلماء كلهم فهموا الجماع فقط. ليس هناك من يفتي بأن مقدمات الجماع كلها مرفوضة، والرفث هو تعبير قرآني - كما قلت - مهذب عن مسألة الجماع.(10/860)
مسألة دخول الحصاة إلى الجوف , سماحة الشيخ قال إنها لا تضر لأنها ليست أكلًا. لا، هي أكل لكنه أكل غير متعارف , لو أكل ترابًا، لو أكل رمادًا، هذا أكل لكنه أكل غير متعارف فقد دخل شيء خارجي واستقر في معدته، وما أكثر ما يأكل الإنسان مع الطعام الجيد بعض الذرات المحرمة، هو داخل جزء من أكله. ولذلك أعتقد أنها مفطرة.
سماحة الشيخ عجيل قاس القليل من الدواء على ما يبقى من المضمضة والسواك , أعتقد أن القياس ربما في غير محله , ما دمنا نحتمل أن مسألة المضمضة والسواك لهما عنوان معين لأن الشارع يركز عليهما , فلعله جعلها استثناء من هذه المسألة، ولعله تصور أنها تنحل لعابًا فتصبح لعابًا، وبلع اللعاب بعد ذلك، بعد استحالة اللعاب لا مانع منه.
لا يمكن قياس القليل من الأدوية على هذه الأمور، لذلك يجب الاحتياط، ولا أقول بل يجب الفتوى، لأنه يدخل في باب شرب الدواء وإن كان قليلًا.
بقيت كلمة واحدة من سماحة الشيخ السالوس فهو يعتبر من الضرورة، والحاجة ربما تبيح لنا التسامح في مثل هذا الشيء القليل، وهو يقول: كيف يقضي بعد ذلك والمرض مزمن؟ أقول: إذا كانت هناك حاجة، وإذا كانت هناك ضرورة فحينئذ يفطر؛ لأن الحاجة تبيح له الإفطار ما دام هذا شربًا، أما أن نخرجها من عملية الشرب، أما إذا كانت شربًا قليلًا فالحاجة تبيح له أن يفطر، وليس علينا أن نطالبه بالقضاء، ما دام مريضًا فلا قضاء عليه , والشرع - والحمد لله - رحب وواسع. وشكرًا.(10/861)
الشيخ هيثم الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
لدي عدد من الملاحظات التي تتصل بتحرير الجانب الطبي لعلها تساعد على تحقيق مناط الشرعيين، إن شاء الله.
ملاحظة تتعلق بتحديد المناط بالجوف , فهذه اللفظة لا نرى تعريفًا لها في الكتاب والسنة , بل لقد استعملت فيهما لغير ما تستعمل له في كتب الفقه {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} مثلًا، ولا نجد لها تعريفًا محددًا في كتب اللغة، ولا يعرف أطباء الأمس ولا أطباء اليوم شيئًا يقال له الجوف هكذا معرفًا بالألف واللام، ولكنهم يعرفون أجوافًا معرفة بالإضافة كجوف الصدر الذي يشتمل على الرئتين والقلب والعروق الكبار، وجوف البطن الذي يشتمل على المعدة والأمعاء والكبد والطحال، وجوف الأنف، وجوف الفم، وجوف المعدة، إلى غير ذلك من الأجواف. فكان على أطباء اليوم أن يجتهدوا في معرفة المراد من الجوف.
والظاهر- والله أعلم - أن فقهاءنا أرادوا بالجوف ما نسميه اليوم جوف المعدة فقط، وأنا أخالف من يرى من الأطباء أن المراد بالجوف الجهاز الهضمي، فالجهاز الهضمي له تعريف محدد عند أطباء اليوم يبدأ بالفم وينتهي بالشرج. والمضمضة لا تفطر بيقين النص، فصح أن الجوف والجهاز الهضمي غير متطابقين. وإذ الأمر كذلك فقد وجب أن نبحث عن الجوف الذي يطلق على دخول الطعام والشراب إليه اسم الأكل والشرب في لسان العرب الذي نزل به القرآن الكريم، وهذا لا ينطبق إلا على جوف المعدة، وما يدخل من السوائل والجوامد في الدبر لا يصل إلى جوف المعدة بحال، يستحيل أن يصل إلى جوف المعدة أصلًا.(10/862)
النقطة الثانية تتعلق بالامتصاص والمذاق , الامتصاص لا يعني الأكل والشرب , أطباء العصر يعرفون أن الماء والأدهان وكثيرًا من الأدوية تمتص من داخل الجلد ومن باطن الفم، ولم يرد نص بتفصيلها , فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو صائم، وأمر بالإدهان دون تمييز بين صائم ومفطر، وعد المضمضة غير مفطرة , فما يمتص من سائر الأماكن - سائر الأعضاء - ينبغي في رأيي أن ينظر إليه بالنظرة نفسها.
موضوع الذوق , الحلق ليس محلًّا للذوق، وإنما محل الذوق الحليمات الذوقية التي توجد على أواخر اللسان أو على جوانب اللسان. فقولهم: (وجد طعمه في حلقه) غير مفهوم بالنسبة لطب اليوم، وإنما الذوق في هذه الحليمات. لكن هناك قضية بسيطة تتعلق بالامتصاص , الدواء الذي يمتص قد يكون له طعم قوي جدًّا، هذا يمتص إلى الدورة الدموية فيدور ويصل بعد ذلك إلى اللسان فيحس المرء بطعمه، هذا ليس معناه أنه قد وصل إلى الجوف بالمعنى الذي ذكرناه، ولكن معناه أنه قد دار في الدورة الدموية ووصل إلى حليمات الذوق التي هي في اللسان , هذا أمر أعتقد أننا لو أبقيناه في ذكرنا لساهم في تحرير المناط.
ما يمتص من جوف الفم شيء مهم , كان الناس يظنون قديمًا أنه لا يمتص شيء، وأن كل شيء ينبغي أن يصل إلى جوف المعدة حتى يمتص , الحقيقة أن كثيرًا من المواد تمتص في جوف الفم، وهذا ينطبق - والله أعلم - على كل هذه القطرات الصغار التي تحدثنا عنها أنها توجد بمقادير صغيرة جدًّا كالذي يأتي من قطرة العين ومن قطرة الأنف ومن قطرة الأذن ومن البخاخ وما شابه ذلك، هذه كلها إن وصل منها شيء إلى جوف الفم فإنها تمتص من باطن غشاء الفم ولا يصل منها إلى المعدة شيء , هذا شيء نستطيع أن نتحقق منه بالتجارب التي نَسِمُ بها بعض هذه المواد بمواد مشعة فما يصل إلى المعدة من المضمضة لو وسمنا ماء المضمضة بمادة مشعة ثم بحثنا عن هذه المادة المشعة في المعدة لوجدنا منها شيئًا أكبر بكثير مما يمكن أن يوجد من مادة وسمناها وقطرناها في العين أو الأنف أو الأذن، وما نقطره في الأذن لا يصل بحال إلى جوف الأنف أو جوف الفم.(10/863)
النقطة الأخيرة هي دخول الدخان أو البخار أو أي غازات من الغازات إلى المريء فالمعدة، فهذا لا يكون، فقد منع الخالق الخبير - جل وعلا - أي اختلاط بين ما يدخل إلى المريء وما يدخل إلى قصبة الهواء، وذلك بفضل غضيريف يسد الحنجرة ويقال له: لسان المزمار. فإما أن ينفتح لسان المزمار فيدخل الغاز إلى الحنجرة فالقصبة الهوائية استنشاقًا ولا يدخل إلى المريء، وإما أن ينغلق لسان المزمار فيدخل الجامد أو المائع إلى المريء ابتلاعًا، ولو حدث كلاهما في وقت واحد لشرق الإنسان وأصابه كرب عظيم، وربما هلك. فلا مجال للقول طبًّا إذا باستنشاق الدخان أو البخار أو أي غاز إلى جوف المعدة، وأنا لم أقل كما ذكر أخي الدكتور الألفي: أن المرء يخلط الأوكسجين بالمخدرات، ولكني تحدثت قبل أسبوعين في الدار البيضاء عما يستنشق ولا يؤكل أو يشرب فذكرت غاز الأوكسجين وغازات التخدير، أي غازات البنج لا المخدرات.
الدم لا ينحبس إذا أعطيت حبوب منع الحمل، فهو ليس دمًّا كان ينبغي أن يخرج ولم يخرج وإنما الدم الذي يخرج إنما هو ذلك الغشاء الرحمي - غشاء باطن الرحم - الذي أعد لاستقبال البييضة المخصبة، فإذا لم تصل البييضة المخصبة فإن بطانة الرحم أجمع تنسلخ وينزف معها شيء من الدم لأنها انسلخت. هذا هو الدم الذي يحدث حينما يحدث الطمث، فمن أجل ذلك لا يوجد دم ينحبس. وقد أحببت أن أبين هذه النقطة التي ذكرت في مناقشة أحد الأخوة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/864)
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله الكريم.
اسمحوا لي في البداية أن أتقدم بالشكر للمجمع على التصدي لهذا
الموضوع، وبخاصة في القضايا الحادثة نظرًا لما نعلمه من اضطراب للفتوى في هذا المجال على صعيد العالم الإسلامي، حيث يسأل كثير من الناس، والناس متشتتون بين من يقول: إن هذا الأمر يفطر أو لا يفطر.
حقيقة المنهج الذي اعتمده المجمع في هذه الدورة في موضوع التعقيب يستوجب الشكر والتقدير مع رجائي أن يكون التعقيب في المستقبل - إن شاء الله - تعقيبًا مكتوبًا بحيث ترسل الأبحاث إلى المعقبين مسبقًا، إذا أذن لي معالي الأمين العام لي رجاء، وهو صاحب الفضل في هذا التطوير لآلية العمل في المجمع، بحيث يتصدى المعقب لكل القضايا المطروحة في البحث بهدف إثراء العملية وبهدف الوصول لصياغة لمشروع القرار، الذي نتوجه جميعًا في نهاية بحثنا وحوارنا ونقاشنا حول أي موضوع مطروح، للوصول إليه. القول في هذا الموضوع كمدخل أساسي للبحث وكمحور هام من محاوره، هو محاولة الوصول الى ضابط واضح يستهدي بالنصوص الشرعية، ولا يغفل ما وصل إليه البحث الطبي القطعي في هذا المجال , لاحظت أن عددًا كبيرا من الحوارات التي دارت بين الإخوة العلماء دارت حول هذا الموضوع، ولكنني كنت أتمنى أن ننطلق مما وضعه الفقهاء من ضوابط في هذا المجال لنرى دقة هذه الضوابط واطرادها على ضوء ما قرروا من فهم للنصوص الشرعية، وعلى ضوء ما وصل إليه البحث الطبي.(10/865)
لدينا مجموعة الضوابط التي اختصرها أستاذنا السلامي في بحثه القيم حول هذا الموضوع معزوة للمذاهب الأربعة. إذا دققنا النظر فيها فإننا نجد مدارها على موضوع النصوص، ولكن نتيجة أن المعرفة الطبية لم تكن مستكملة في بعض الجوانب حدث هذا الاختلاف بين مجموع المذاهب وبين أئمة كل مذهب أو فقهاء كل مذهب على حدة. نحن أمام عبادة، والعبادة مع التأكيد أنها قائمة على الاحتياط والتحري والفهم، لكن يجب أيضًا ألا يغيب عن بالنا أن العبادات الأصل الالتزام فيها بالنص الشرعي، فالعبادات لا تعلل، وبالتالي الدخول في قضايا القياس، وهل هنا العلة قائمة أو ليست قائمة. ما دام أننا أمام نص جاء في الكتاب الكريم وفي السنة النبوية الشريفة فلا بد في الواقع من أن نقف عنده ولا نذهب بعيدًا، إلا في إطار فهم هذا النص وتحديد مشتملاته بدقة، وإلا أصبحنا نجتهد في قضايا العبادات وهذا لم يقل به الفقهاء لا من قريب ولا من بعيد.
أشار بعض الإخوة الكرام إلى موضوع أن العملية منوطة بالأكل والشرب، وطرح بعضهم أن الأكل والشرب لا بد أن يكون له منافذ، ولكن انشغلنا في بعض الأبحاث الفقهية وفي بعض الأقوال الفقهية. هذا الأصل إلى البدائل التي اقترحت كترجمة إلى هذا المعنى مثل - كما تفضل بعض إخوتنا - ما سمي بطريقة أو بنظرية المنافذ المفتوحة الموصلة إلى الجسم. الواقع أنه لما بحث الفقهاء هذه القضايا كان مدارهم على بحث تحقق ما أرادته النصوص من حيث معنى الأكل والشرب، وهذا فيما يتعلق بالطعام والشراب، وفيما يتعلق بقضايا العلاقة بين الرجل والمرأة كان مدار العملية على محددات واضحة، مدارها موضوع ما هو مستقر فقهًا في هذا المجال من أمور لا بد أن تكون في الواقع واضحة في الذهن، هنا أحب أن أشير إلى أنه إذا كان مدار الأكل والشرب موضوع التغذية وتقوية الجسم فإننا سنذهب مذهبًا بعيدًا ونقول: إن كل ما يصل إلى الدم، وأنتم تعلمون، وأظن السادة الأطباء يمكن أن يوضحوا هذه القضية أكثر، أن مدار عملية التغذية هي فيما يحمله الدم من عناصر يوصلها إلى خلايا الجسم فتنمو هذه الخلايا وتتكون، فهل نقصد من ذلك كل ما يصل إلى الدم؟(10/866)
إذا كنا نقصد من ذلك كل ما يصل إلى الدم فإننا في الواقع سنضيف منافذ جديدة سنقف حتى عند قضية الامتصاص بالنسبة للجلد، لأنه من المعلوم أن بعض الأدوية المتقدمة باتت تلاحظ عملية الامتصاص هذه وتوصل إلى الدم عن طريق الامتصاص في الجلد استفادة من هذه الخاصية كثير من أنواع العلاج، وبالتالي لا أظن أن المدار فقط على موضوع الوصول إلى الدم. لذلك عنصر التغذية في الواقع بذاته يجب ألا يسيطر على البحث. يجب أن يسيطر على البحث موضوع تحقق الأكل والشرب بمعناه العرفي المستقر. ومن هنا عندما قال أئمة الحنافية: إن الفطر يتحقق بالأكل والشرب سواء أكان صورة أم معنى، أم معنى فقط، أم صورة فقط، حقيقة يقدم لنا ضابطًا يمكن في الواقع أن نطور في تطبيقات هذا الضابط على ضوء التقدم العلمي في كشف أين يكون تحقق الأكل والشرب بالمعنى المعروف.
هذا يدفعنا إلى إثارة نقطة تتعلق بموضوع الإبر في الأوردة واستثناء موضوع التغذية إذا كانت بمصل مغذ عند بعض الفقهاء، وقالوا بأنها لا تفطر إلا إذا كانت للتغذية. الواقع الأكل والشرب ليس قضية التغذية فقط، فيه قضية الإحساس بانقطاع الطعام والشراب بل هو مكتوب أو مقرر الامتناع عن الأكل والشرب. أنا عندما أتغذى عن طريق الوريد يظل إحساسي بالامتناع عن الأكل والشرب قائمًا، ولذلك نرى هؤلاء الذين يعالجون ويعطون الأمصال يتمنى أن توضع في فمه شربة ماء لأن إحساسه بالجوع والعطش مازال موجودًا، وخاصة أن الأحاديث النبوية قد أشارت إلى ذلك: ((كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)) . فإذن واضح أن هذا يجب أن ندخله في فهمنا، وليس قصرًا للموضوع على جانب معين بالإضافة إلى موضوع القصد والنية.(10/867)
والآن اسمحوا لي في موضع الشهوة، والنقاش الذي دار قبل قليل. الحديث النبوي أشار إلى ((يدع شهوته)) . فقضية الشهوة قد تتحقق بأكثر من معنى مما يتطلب وقفة حتى عند بعض الصيغ التي قد نتحفظ عليها لأول وهلة، لأننا يجب أن ننتبه إلى ما يحدث في الواقع الاجتماعي من ممارسات في هذا المجال دون دخول في التفاصيل.
على ضوء هذا الكلام أرجو في الواقع أن تنصب لجنة الصياغة على محاولة وضع هذا الضابط ضمن هذه المعايير، لأنه عندما نسمع من بعض الفقهاء عندما يقولون مثلًا: (العين أو الأذن) ، تجدهم يقولون في معرض الاختلاف الفقهي القائم: (إنها ليست منفذًا إلى الجوف) ، ويأتي البحث الطبي ليثبت أنها منفذ أو ليست منفذًا. إذن في الواقع واضح أن المعرفة بناها الفقيه على ضوء معرفته للمعطيات العلمية التي بين يديه عن تركيبة الجسم البشري، فإذا جاء قطع طبي يمنع أن يكون منفذًا إذن لا بد أن يرتفع الخلاف؛ لأن أصل الخلاف، قام على تصور أنها هل هي منفذ أو ليست منفذًا. وبالتالي الخلاف يرتفع إذا تم التوضيح بأنها ليست منفذًا.
لا أريد أن أطيل لكن حقيقة يتطلب الأمر التركيز على الضابط لنقدم لمجتمعنا إجابة شافية عن هذه الموضوعات الملحة والتي تتطلب موقفًا واضحًا بينًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/868)
الشيخ صالح بن حميد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فلا شك أن هذا الموضوع من أهم المواضيع التي تبحث وبخاصة فيما تجلى من بحوث مقدمة ومن مداخلات مفيدة ومن تعليقات كذلك أيضًا من المعلقين وفقهم الله. وحاولت أن أسجل بعض النقاط التي- لعلها - تعين أو تفيد في إعطاء تصور موحد.
منها مثلًا اتفق الطب فيما سمعنا على أن تجاويف الدماغ والمثانة والرحم لا تتصل بالجهاز الهضمي. كذلك أيضًا اتفقوا على أن الأدوية التي يتعرض لها الجسم بجميع أنواع مداخلها سواء أكان عن طريق ظاهر الجلد أم تحت الجلد أم الوريد، كلها تصل إلى المراد عن طريق الدم لشعيراته وأوردته. كذلك أيضًا قالوا: إن الجهاز الهضمي قسمان: قسم أعلى وهو قسم إدخال، وقسم أسفل وهو قسم إخراج. فهل حكمهما في الإفطار واحد؟
كذلك أيضًا هل المؤثر في الإفطار هو الإدخال وحده من الأكل والشرب والدواء، أو الإخراج أيضًا من القيء وسحب السوائل بأنواعها؟ كذلك أيضًا ربط الإفطار بالجوف، ما مستنده؟
وكذلك أيضًا قبل أن آتي إلى بعض القضايا هل يفترق الحال بين الغذاء والدواء في تحقيق مناط الفطر؟(10/869)
كذلك أيضًا من باب زيادة التصوير، الجماع مثلًا له جانبان، جانب طبيعته الخاصة وقد ورد الشرع - بلا شك - بالنص بأنه من المفطرات، لكن هناك أيضًا أمور في قضية الجماع من حيث إدخال وإخراج وإفرازات وأشياء أخرى، وهذه كلها هل لها أثر في تلمس التعليل في المفطرات؟ ومن هنا أحب أن يتركز النظر إذا أردنا أن نتوصل الى شيء مشترك، إلى ما يسميه العلماء بتحقيق المناط وتنقيح المناط حقيقة في هذه القضايا.
فتحقيق المناط مثلًا لا شك أن النص جاء بالأكل والشرب والجماع، فما الذي يسمى أكلًا؟ وما الذي يسمى شربًا؟ وبم يصدق الجماع؟ وهل الرفث يعني الجماع فقط كما يقال: العملية الجنسية، أو غير ذلك؟ ولا شك أن هذا يستدعينا إلى نظر واسع. فمثلًا موارد لفظة الجماع والنكاح والمس والملامسة في الشرع، كل هذه قضايا قبل أن نتعجل لنقول شيئا يحتاج إلى أن ننظر في موارد الشرع، فالمس مثلًا يأتي بمعنى الجماع قطعًا أو حتى اللمس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} قطعًا هو مراده الجماع، وفي قوله تعالى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} هل هو الجماع أم غيره؟ خلاف ظاهر. النكاح يأتي بمعنى العقد ويأتي بمعنى الوطء، في قوله تعالى {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} والمقطوع به أن المقصود به الوطء. كذلك الرفث مثلًا هل هو متحتم أم متعين أن المراد به ذات الجماع وحده، أم أن المراد أيضًا أمور أخرى؟ فهذا ما يسمى بتحقيق المناط بمعنى أنه ورد الشرع بالأكل والشرب والجماع فما المراد بذلك؟(10/870)
تنقيح المناط وهو هل غير الأكل والشرب داخل؟ وهنا نأتي إلى ما قاله الدكتور عبد السلام: غاية التعليل في هذا الباب هل يدخله التعليل؟ ولا شك أن الملحوظ في مسارب فقهائنا رحمهم الله أنهم أجروا التعليل والأمر في هذا ظاهر. فإذا جئنا للإمساك، قضية الصيام هل هو إمساك؟ كل الفقهاء لم يقولوا الإمساك عن الأكل والشرب وإنما قالوا الإمساك عن أشياء مخصوصة، فكأنهم لم يريدوا أن يقصروه على الأكل والشرب، وإنما قالوا أشياء مخصوصة في وقت مخصوص.
قضية الجوف، حقيقة هل هي في الوقت الحاضر وفي البحوث المعاصرة وفي التقدم العلمي الجلي هل من الممكن أن نتمسك بها، وإن كانت من حيث اللغة ومن حيث موارد الشرع كقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} ، فما يقع فيه القلب سماه جوفًا، والفقهاء قالوا: جوف. فهل مرادهم الجوف القناة الهضمية فقط أم أنهم يعون ما يقولون، ويريدون ما كان أوسع من ذلك؟ فاللغة تخدمهم وبعض موارد الشرع تخدمهم في ذلك.(10/871)
قضية الإدخال والإخراج، من أي جزء كان الإدخال ومن أي جزء كان الإخراج. الأدوية بجميع أنواعها لا شك أنها إدخال، وإن سميناها أكلًا أو شربًا من حيث إذا قلنا: إن الأكل كل ما دخل الجوف من القناة الهضمية أمر يحتاج إلى تحقيق.
الإخراج، الدكتور الضرير قال: " إن حديث القيء استثناء ". معلوم قطعًا أن النصوص الشرعية ليست هي الاستثناء ولا يمكن النص الشرعي أن يسمى استثناء. النص الشرعي أصل بذاته، ولهذا القيء يمكن أن يكون مستندا لمن قالوا بأن الإخراج هو من المفطرات؛ لأن القيء والحديث فيه صحيح كما هو معلوم، فإذا حديث القيء أصل في إثبات أن ما كان إخراجًا أنه يكون مفطرًا أو من المفطرات. أنا طبعًا لا أقول شيئًا باتًا إنما أثير قضايا أمام هذا المجمع الكريم. طبعًا قضية القصد وعدم القصد ودخول القياس وعدم دخوله هذه من الأشياء التي يبدو لي أنها تستحق النظر.
قضية النظر في التقوية والتغذية وأن مراد القوة هو الغذاء، بعض الزملاء والإخوة الحاضرين أثاروا شيئًا من هذا، فقوله عليه الصلاة والسلام مثلًا: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) دل على أن ما كان مقويًا قد يفهم منه أن ما كان له أثر في القوة أنه قد يؤثر في الإفطار في قضايا الأدوية وغيرها وكل ما كان من هذا الباب.
فالمقصود هو النظر في هذه القضايا وفي هذه الضوابط من حيث تحقيق المناط ومن حيث تنقيحه، ومن حيث مفهوم الصيام هل هو إمساك عن أشياء مخصوصة؟ وما هي هذه الأشياء؟ يبدو أن الفقهاء - رحمهم الله - يرون أنها أوسع من قضية الأكل والشرب، أو أن نحدد مفهوم الأكل والشرب سواء بالعرف أو باللغة. وكذلك الجوف أيضًا هل نسلم به أو لا نسلم؟ والأكل والشرب والتغذية أيضًا، والتداوي وهل نفرق بين التداوي وبين التغذية؟ أنا لاحظت أن بعضًا وبخاصة فيما قدمه المجمع مشكورًا وأراد البحث فيه كأنه يريد أن يفرق بين ما كان دواء وبين ما كان غذاء. هذا أمر يحتاج إلى نظر كبير، ولا أظن في مثل هذه الوقفات أن نستطيع أن نتخذ رأيًا جازمًا إلا بعد مزيد من الفحص علميًا ولغويًا وعرفًا، وقبل ذلك وبعده النظر في نصوص الشرع. وشكرًا.(10/872)
الشيخ ناجي عجم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين.
أرى أن المفطرات في الصيام ينبغي أن تكون معقولة المعنى ولا تكون تعبدية فقط، وأما إذا كانت تعبدية فقط فكان يقتصر على تفسير النصوص المفطرة. ونحن اجتمعنا هنا لنبحث في الوسائل والأساليب والمتناولات المستجدة، والسلف - رحمهم الله تعالى - فرعوا وقاسوا على النصوص المفطرة بالمتناولات التي وجدت في عهدهم كالسعوط والدخان، فلا بد من وضع ضابط - كما تفضل بعض الأخوة - للمفطرات. فأرى أن هذا الضابط - الذي تفضل بعض الأخوة به - المقوي والمغذي والمتلذذ به، هذا ينبغي أن يكون هو ضابط المفطرات.
وكلمة (الجوف) ما أرى إلا أن الجهاز الهضمي هو الجوف، فكل ما يؤخذ ليتناول بالقصد في إدخاله إلى الجهاز الهضمي سواء كان من منفذ طبيعي أو غير طبيعي كالحقن تحت الجلد إذا كان يقوي أو يغذي فهذا هو من المفطرات، وكذلك كل ما يتلذذ به، فهذه المخدرات كثيرًا من الناس يتلذذون بها فلا بد أنها تكون من المفطرات.
أما موضوع القطرة في العين فقد سألت طبيب العيون أن هذه القطرة تصل إلى الحلق؟ قال: هي تمتص في مجراها وأثرها وطعمها يصل إلى الحلق. وأما ذاتها فقال: لا تصل إلى الحلق وإنما هي تمتص. فما أرى أن القطرة هي من المفطرات. وكذلك في منفذ الأذن الأصل فيه الانسداد، وأما ما تفضل به بعض الأخوة أنه قد يكون بعض الناس مخروقة عندهم طبلة الأذن فهذا احتمال، فما أرى أن قطرة الأذن مفطرة، فلا تعتبر الأذن من المنافذ الطبيعية، ما دام الأصل في الإنسان السليم هو الانسداد في طبلة الأذن.
هناك أمور أخرى , كذلك قضية البخاخ، هذا لا يقصد به لا التلذذ ولا التقوي ولا التغذي وما يدخل شيء منه إلى الجوف أي ما يصل إلى الجوف، والشرع جاء بالتخفيف والتيسير ومراعاة الحاجة، فما أرى أن هذا البخاخ من المفطرات التي ينبغي أن ينص عليها.
وأما موضوع المنافذ التي لا تصل إلى الجوف كالإحليل والمهبل فما أرى أن ما يؤخذ عن طريق الإحليل أو عن طريق المهبل من المفطرات، اللهم إلا إذا كان شيء يقصد به التلذذ. التلذذ.. الشرع جاء لتضييق مجاري الشيطان وفطم النفس من الشهوات , " يدع طعامه وشرابه وشهوته.. ". فكل ما يؤخذ بقصد التشهي والتلذذ من أي منفذ طبيعي أو غير طبيعي، كما هو الحقن تحت الجلد في الآخذين للمخدرات فهذا يكون من المفطرات.
أما قي الإخراج من البدن فأرى أن يقتصر على النصوص: الاستقاء، الاستمناء، وأما الحجامة أو الفصد أو أخذ عينة للدم فهذه لا يكون فيها تقوٍ ولا تغذٍ ولا تلذذٍ. أخذ الدم هو عكس ضابط المفطرات، وخاصة أنه هناك أقوال كثيرة للثقات بأن الإفطار بالحجامة منسوخ، فما أرى أن يبحث هذا الموضوع.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(10/873)
الشيخ محمد سليمان الأشقر:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أتكلم في نقطتين بسيطتين , إن شاء الله.
المسألة الأولى: أنه يلاحظ في هذا الموضوع الفقهي وفي كثير من المواضيع في الشريعة أن العلماء في الغالب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام - الاتجاهات في الغالب ثلاثة -:
الاتجاه الأول: الأخذ بحرفية النص، وهذه طريقة الظاهرية ومن سار مسيرهم، ولا يخرجرن عن حدود النص.
الاتجاهان الثاني والثالث: وهما طريقتان يرجعان إلى طريقة واحدة وهي طريقة الموسعين الذين يأخذون بالقياس بمعنى هذا الشيء الذي ورد فيه النص، فهؤلاء أهل القياس، وهي على طريقتين فتتم الطرق ثلاثة.
القياس القريب الذي بمعنى الأصل هذا يأخذ به عامة العلماء غير الظاهرية ومن سلك مسلكهم، وهو في مجال بحثنا، مثلًا إدخال شيء إلى المعدة من غير الفم، بمعنى إنسان أصيب في حلقه برصاصة أو بقطع أو بأي شيء آخر، يفتح له إلى معدته ويدخل فيها أنبوب وتدخل منه الحليب أو الغذاء حتى يتغذى، وأنا رأيت حالات حصل فيها هذا الشيء ويعيش الإنسان بذلك , لا شك أن هذا في معنى الأكل وإن لم يدخل من الفم أي من مجراه الأصلي. هذا هو القياس الجلي والذي هو بالمعنى القريب من الأصل.
القياسات الخفية في الغالب تكون مجال خلاف طويل وعريض، وهي في نفس الوقت تضيق على الناس؛ لأنها تدخل في معنى النص ما هو بعيد. مثلًا الدهن على الجلد وإن كان يمتصه الجلد هذا قياس بعيد عن الطعام والشراب , مثل ما سمعنا اليوم المزاج وغير ذلك هذا أيضًا بعيد عن النص. أرى الاقتصار بقدر الإمكان - فيمن سيضعون التوصيات، إن شاء الله - على الأقيسة الجلية والقريبة من الأصل، وأما الأشياء البعيدة فهذه تبين كما تبين من كلام الإخوة الأطباء الكثير منها بعيدًا عن أن يكون طعامًا وشرابًا، وأنا اقتنعت بما قاله الإخوة الأطباء وإن كنت قد عارضت في الأول، وذلك بالنسبة للقطرة والبخاخ وفي غير ذلك، هذه هي الحقيقة أعتقد أنها بعيدة كل البعد عن أن تكون شبيهة بالطعام والشراب.(10/874)
النقطة الثانية لغوية وهي كان المفروض أن نفتتح بها، وهي ما افتتح بها جلسات اليوم الأخ فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي، وهي كلمة (أفطر) و (فطَّر) . فطَّر: لا شك أنها متعذية، تقول: فطرت الصائم، وورد في الحديث عن النبي في أنه قال: ((من فطر صائمًا فله مثل أجره)) ، أما (أفطر) فهي في الأصل فعل لازم هذا هو المشروع والذي نعرفه، فأنا منذ خمس وأربعين سنة وأنا في العلم الشرعي لم أسمع (أفطر) متعديًا. (أفطر) لازم، يعني أصبح مُفْطِرًا أكل أو شرب فهو أصبح مفطرًا. أما أن أقول: أَفْطَرْتُ فلانًا، بمعنى جعلته يفطر، فهذا لم أره في حديث نبوي ولا في كلام الفقهاء ولا في كلام الناس إلا في كلمة فضيلة الشيخ السلامي، وإن كان هو عندي ثقة وحجة في اللغة أيضًا، لكن يحق لي أن أتشكك، خمسة وأربعون سنة وأنا في العلم لم أسمع مثل هذا فيحق لي أن أطالبه بكلمة من أهل اللغة، من قاموس، من معجم، من استعمال فقيه من الفقهاء، إن ورد ذلك فنحن نسلم، وإلا فيحق لنا أن نتشكك وهو عندنا محل ثقة. على كل حال المرجع كتب اللغة وكلام اللغويين.
والحمد لله رب العالمين.(10/875)
الشيخ عبد اللطيف الفرفور
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا فضيلة الرئيس. يحق لي أن أتساءل بعد هذه المناقشة الطيبة والأبحاث الكريمة عن قضية الضوابط , ترى هل نستطيع أن نوحد هذه الضوابط كلها التي أسسها الفقهاء في ضابط واحد؟ وهل نحن حينئذ نربح في ذلك؟ الذي أراه أن هذا الضابط الذي تكلم عنه إخوتنا وأحباؤنا العلماء وزملاؤنا ليس ضابطًا , وإنما هو قاسم مشترك أعظم، فلكل مذهب ضابطه، والذي ينبغي أن يصار إليه - والله أعلم - أن تترك هذه الضوابط في المذاهب إلى ما كانت عليه دون أن نوحدها في ضابط واحد فيصير في الناس حرج، والأمر متروك إلى السعة , ولعلكم تعلمون جميعًا قول سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: والله ما أحب أن تتفق كلمة علماء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على حكم في واقعة فيصير في الناس حرج. فلو أخذ كلٌّ بقولٍ كان سنةً، فلذلك لا مانع من أن تبقى الضوابط , وهنالك النصوص يرجع إليها في كل ما ليس فيه ضابط.
ثم ذهب إخوتنا الزملاء إلى قضية العبادات هل الأصل فيها أنها تخضع لتفسير النصوص والاجتهاد أم التعبد؟ طبعًا اتفقت كلمة العلماء على أن الأصل في العبادات التعبد، ولكن هناك قدر مادي من العبادات وهو قضية الإفطار أو التفطير -على كل من الروايتين- فهذا قدر مادي، وهذا يمكن أن يخضع لكل من تفسير النصوص أو للاجتهاد معًا إذا رأى علماء المجمع ذلك وهو ما يمكن أن يصار إليه.
هناك قضية المرض، المرض المتلف للنفس أو المتلف للعضو أو الذي يجعل هنالك مشقة، ما هو ضابطه؟ الخوف من المرض أي غلبة الظن، وذلك إما أن نكون بتجربة سابقة أو بقول طبيب مسلم حاذق. وهذا الموضوع ينبغي أن يكون على ذكر منه أنه ينبغي أن نصير إلى الأطباء في قضية الخبرات، وأن نأخذ معاييرهم الطبية في هذا الموضوع بالذات دون أن نحكم معاييرهم - مع احترامنا لها واحترامنا لأشخاصهم الكريمة - الطبية في معاييرنا الشرعية.(10/876)
فالتصور الشرعي للتفطير غير التصور الطبي، ومعايير الفقهاء غير معايير الأطباء، ونحن نحترم طبعًا معايير الأطباء ونحترم آراءهم واجتهاداتهم، ولكن لا يجوز أن نحكمها في معاييرنا، بل نصير إليها عند الأخذ بالخبرة، بقضية الخبرة، فمثلًا؛ هل هذا الرجل يستطيع أن يصوم أو لا يستطيع؟ فإذا قال الطبيب المسلم الحاذق أنه يستطيع أن يصوم يجب عليه أن يصوم، وإذا أفتى بأنه لا يصوم فإنه لا يصوم، بل ربما إذا صام أثم لأنه خالف الطبيب في قضية الخبرة. هذا هو مجال قضية الأطباء في قضية الخبرات كما هو الشأن في كل مسائل الفقه الإسلامي في قضية الخبرة والمهارة، فنصير إلى أصحاب الخبرات عند اللزوم دون أن نحكم معاييرهم المادية في معاييرنا الشرعية.
فالتصور الشرعي والتصور المادي الحرفي أو المهني بما فيه الطب شيء آخر، يستعان بهذا في ذاك، ولكن لا يحكم هذا على ذاك. يمكن أن نحكم المعايير الشرعية في المعايير الطبية أما أن نحكم المعايير الطبية في المعايير الشرعية فيمكن أن يكون ذلك مخالفًا لروح الشريعة الإسلامية. مع كل تقديرنا واحترامنا وحبنا وتعظيمنا لإخوتنا الأطباء الأجلاء الذين أفدنا من علمهم وخبرتهم الكثير وجزاهم الله عنا خير الجزاء، وجزاء الخير كفاء ما قاموا به، ونحن محتاجون إليهم في كل شيء في أمور ديننا ودنيانا ولا نستغني عنهم ولا عن خبراتهم.
أما ما تفضل به بعض الإخوة من قضية الاستئناس بالفقه الإسلامي فأرجو أن تشطب هذه الكلمة من محاضر الجلسات؛ لأن الفقه الإسلامي لا يستأنس به وإنما يحكم {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ثم قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} .
أشكر لكم حسن إصغائكم وأن أَتَحْتُمُ الفرصة لي للكلام، والسلام عليكم ورحمة الله.(10/877)
الشيخ عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع ونحن نشرف على انتهاء الجلسة لا أريد أن أطيل، وأقصر كلامي على جملة أمور باختصار شديد.
أولًا: الملاحظ في الفقه الإسلامي فيما يتعلق بالإفطار أو المفطرات أن هناك اتجاهات ثلاثة أساسية قد يمكن تقسيمها إلى أربعة اتجاهات باعتبار المذاهب، فإذا نظرنا إلى فقه الشافعية نجد أنهم وضعوا هذا بعد الاتفاق على أن الطعام والشراب والجماع مفطر، هذا لا محل للنزاع فيه وليس محل خلاف، ولا نتكلم فيه لأن هذا أمر مجمع عليه ومفروغ منه. ويبقى شيء في العلاج بالنسبة للمفطرات والتداوي لأمر العلاج. هناك ثلاثة اتجاهات أساسية في الفقه الإسلامي، بالنسبة لفقه الشافعية يظهر من تعريفهم بأن المفطر: هو ما وصل من الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح عن قصد مع ذكر الصوم. هذا هو التعريف العام، ولكن بعضهم يميد هذا التعريف بأن " الجوف يكون فيه قوة تحيل الواصل إليه من دواء أو غذاء "، وهنا نجد فقهاء الشافعية فيما بينهم يختلفون فيما يعد مفطرا وما لا يعد مفطرا من هذه الزاوية، ولهذا نجدهم اختلفوا في الحقنة، واختلفوا في السعوط، وفي بعض المسائل الطبية التي حصلت في زمنهم. بينما نجد الحنفية يذكرون في هذا المجال الواصل إلى الجوف أو إلى الدماغ من المخارق الأصلية كالأنف والأذن والدبر، ويفرقون بين الواصل من غير هذه المخارق كالجائفة والآمة وما إلى ذلك. فإذن الخلاف بين الحنفية وبين أئمة الحنفية يدور أيضًا من مراعاة هذه الزاوية.(10/878)
هنالك اتجاه ثالث وهو الاتجاه الأرحب والأوسع، وعندي هو الأحسن، وهو الذي أخذ به طائفة من أئمتنا المعاصرين، وهو ما ذهب إليه الإمام ابن تيمية. فالإمام ابن تيمية يقول في كلمات موجزة: " فالصائم نهي عن الأكل والشرب لأن ذلك سبب التقوِّي، فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير ويجري فيه الشيطان إنما يتولد من الغذاء، لا عن حقنة ولا كحل ولا ما يقطر في الذكر ولا ما يداوي به المأمومة أو الجائفة ". وهذا أصل ينسحب على كل ما استجد من أنواع العلاجات الآن، ولهذا نجد بعض فقهائنا المعاصرين أخذوا بهذا الاتجاه الواسع، وأذكر منهم على سبيل المثال الشيخ محمود شلتوت رحمه الله , والشيخ سيد سابق في كتابه (فقه السنة) ، والشيخ عبد العزيز بن باز قرأت له فتوى بهذا المعنى حديثا في بعض صحفنا في الكويت فهذا هو الاتجاه الأرحب والأوسع، والذي يسع الأمة وعدم التضييق عليها في أمور أصبحت ملحة؛ لأن الذي يرى الحوادث التي تقع الآن أو الأمراض التي استجدت في زمننا هذا، لم تكن موجودة في الزمن الماضي، ولهذا تطور العلاج أيضًا، ولا بد أن نأخذ الموقف الذي فيه سعة والذي يحقق الطمأنينة في النفوس، ولا تتضارب الفتاوى بعضها مع بعض، ولا يخرج المجمع بما لا يألفه الناس , وأكتفي بهذا القدر وشكرًا.(10/879)
االشيخ علي محي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
الشكر للمجمع الكريم إدارة وأمانة على إتاحة الفرصة لنا لنستفيد ونلتقي بهذه الوجوه المباركة إن شاء الله , والشكر موصول للسادة الباحثين من الأساتذة الكرام على بحوثهم القيمة وعروضهم الشيقة، فجزاهم الله عنا خيرًا، حيث استفدنا من هذه البحوث الفقهية والطبية الكثير والكثير.
بعد هذه المناقشات الطيبة والمداخلات أعتقد أن هناك عدة معايير وموازين مختلف فيها بين الفقهاء تحتاج إلى تحرير محل النزاع - وكما تفضل الشيخ صالح - وتحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه. على سبيل المثال الخلاف لا يزال يدور حول معيار الجوف أو المجوف، هل هو المعدة أو الجهاز الهضمي أو كل ما هو مجوف داخل الجسم؟ فجمهور الفقهاء لم يعقلوا الإفطار بدخول الشيء في المعدة، هذا حسب علمي، وإنما هو بالجوف، والجوف مختلف فيه كما رأينا وكما دلت البحوث. فالشافعية عمموا الجوف ليشمل المعدة وخريطة الدماغ والمثانة وعن طريق أي منفذ من المنافذ، وكذلك المالكية والآراء موجودة عند حضراتكم، حتى الأطباء في الأخير رأيناهم قد اختلفوا في معنى الجوف، هل هو المعدة أم الجهاز الهضمي؟ وبالتأكيد فالمعيار أو العِلِّية لو اعتبرناه الجوف فهو محل خلاف بين الفقهاء المعاصرين والقدامى وحتى نوعًا ما بين الأطباء. هذا من جانب.
والجانب الآخر أن الصوم كما قال الإخوة الكرام يدخل في باب العبادات، وباب العبادات مبناه على التوقف، وهل نجعل باب الصوم أيضًا مثل العادات التي يكون مبناها على المعقولية والعلية، وحينئذ يكون لنا مجال في مسائل الصيام، أم أننا لا نتعامل مع الصوم معاملة العبادات أو العادات في الاعتماد على العلية والقياس؟ ومن جانب آخر أن النص الشرعي حقيقة في القرآن الكريم لم يحدد بصورة قاطعة أن المراد بالمحل الذي يحل فيه الداخل، فالقرآن الكريم يأمر بالأكل والشرب والمباشرة في الليل، فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، ولكن عندما يتحدث القرآن الكريم عن بيان الصوم لا يقول: لا تأكلوا ولا تشربوا , وإنما يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} , فهذا التغيير في الأسلوب في القرآن الكريم لا أعتقد يأتي دون فائدة أو حكمة، فلو كان المقصود - والله أعلم - أي عبارة يريدها الله سبحانه وتعالى، لكن قال {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} . وكذلك بالنسبة للفظ الصيام الذي ورد في الآية الكريمة محلى بـ (ال) ، وهو كما يعرفه الأصوليون إما للعموم أو هو مطلق أو للعهد، وحينئذ إذا قلنا للعهد يعني الإمساك عما ذكر، وهذا ربما - والله أعلم - يكون بعيدًا، وغالبًا أما للعموم وإما للإطلاق.(10/880)
والصيام لغة هو الإمساك مطلقًا، فهل المقصود به الإمساك عن الأكل والشرب فقط، أو عن أشياء مذكورة كما ذكر بعض الإخوة، أو عن كل شيء؟ المسألة أيضًا تحتاج إلى تحرير , وكل ذلك في اعتقادي يحتاج إلى تحرير من خلال النصوص الشرعية. لذلك كنت أتصور على الرغم من إعجابي الكبير للبحوث الفقهية في هذا الموضوع كنت أتوقع وكنت أتمنى أن تهتم هذه البحوث بالنصوص الشرعية، وبالأخص في مجال السنة النبوية.
فلو استعرضت النصوص الشرعية وبالأخص الأحاديث النبوية كنا وصلنا إلى جانب، لأنه حتى لو قلنا بأن الصيام غير معقول المعنى كان حينئذ يصل من خلال مجموع هذه النصوص إلى تصور شامل عن الصوم، لأنه لا يمكن أن يكون الصيام الركن الرابع من أركان الإسلام ويكون مجهولًا بهذه الطريقة. فكان بودي أن تبحث كل الأحاديث الواردة في هذا المجال، ثم يؤخذ منها هذه النتيجة. ولكن مع الأسف الشديد أن البحوث اقتصرت على ذكر آراء الفقهاء ونحن ماذا نفعل الآن؟ لا نستطيع أن نغير آراءهم؛ لأن الآراء مملوكة لأصحابها ولهذه المذاهب، وإنما كان بودنا أن نرجع إلى المعين الذي لا ينضب وهو الكتاب والسنة، مع احترامنا الكبير واعتمادنا الكبير طبعًا على الآراء الفقهية , وإذا وصلنا إلى الاعتماد على الميزان من خلال النصوص الشرعية حينئذ يكون الأمر علينا سهلًا. هل العبرة بالصيام يكون الميزان فيه الدخول إلى الجهاز الهضمي أو المعدة؟ لو قررنا ذلك انتهت المسألة، ولو عممنا حينئذ تكون المسألة تحتاج إلى بحث.
فإذن ولذلك؛ أنا أقول نحتاج من الآن أن نعرف اتجاه المجمع أو الأكثرية حول هذه الاتجاهات، أو هل يريد الإخوة الكرام والأساتذة الفضلاء يريدون أن يكون الاتجاه نحو التوسع أو التضييق أو التوسط؟ لذلك أنا اعتقد أن يجمع كما قال فضيلة الدكتور الفرفور، قال: ولا أعتقد أن تجمع الضوابط المذهبية في ضابط واحد، ولازم المذهب ليس بمذهب، وإنما نحن الآن نتحدث في المجمع عن ضابط عام لقرار للمجمع، فلو أخذنا على سبيل المثال بضابط التوسع وهو أن كل ما يدخل في المعدة عن طريق الفم فهو مفطر يكون يترتب على ذلك نقيس ونستفيد من كلام الأطباء، وإذا أريد التضييق يكون بشكل آخر. فحقيقة أنا أعتقد أنه رغم وضوح هذه البحوث والمداخلات لكن لا تزال المسألة تحتاج إلى تحرير وتنقيح. وشكرًا لحضراتكم وجزاكم الله خيرًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/881)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أولا - سأبدأ بالعنوان. كنت أود أن يكون العنوان موجبات الإفطار، لأننا في مجمع فقه ويجب أن نحترم اللغة.
الحقيقة أن المُفْطِرات والمُفَطِّرات كلها لا تؤدي هذا المعنى، حتى الحديث الذي يقول: ((من فطَّر صائمًا)) أي أعطاه ما يفطر به. فاللفظ المعروف عند الفقهاء موجبات الإفطار، وكان ينبغي أن يكون عنوانه. هذه هي الملاحظة الأولى.
الملاحظة الثانية: هي ان الأمر واسع؛ لأن أي قول نعتمده سنجد أنه قد قيل به , فإن الافتراضات التي افترضها الفقهاء كثيرة، ولأجل ذلك حيث ما أذهب ألقى سعدًا كما يقول المثل، حيث ما نذهب نجد قولًا لفقيه.
الملاحظة الثالثة: أن هذا الأمر ليس من باب الضرورات لأن المريض يستطيع أن يترك الصوم ليفطر، هذا يجوز له، ليس مضطرًا لأن يأخذ العلاج ويبقى صائمًا، بل له خيار آخر وهو أن يفطر - وأفطر لازم طبعًا - أن يفطر وبالتالي لا يضطر إلى ذلك.
الملاحظة الرابعة: أقول إني متفق في الجملة مع فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي في أكثر ما قاله، بل أكاد أقول في جميع ملاحظاته والضوابط التي وصل إليها.(10/882)
الملاحظة الخامسة: وهي ملاحظة على بعض الأقوال التي وردت من الإخوة فيما يتعلق بمقدمات الجماع , أعتقد أن الأمر لا يحتاج إلى توضيح , الرفث هنا هو كناية عن الجماع، وهذا كلام ابن عباس - رضي الله عنه - لما قال وهو محرم: إن تصدق الطير ... إلخ، هذا قاله ابن عباس، قالوا له: الرفث؟ قال: هذا ليس برفث، إنما الرفث هو الجماع. وهو كناية عن الجماع هنا أو الإنزال، ولا أقول أحد المقدمات الأخرى التي ليست إنزالًا ولا جماعًا: إنها تؤدي إلى الإفطار، هو موجب للإفطار.
الملاحظة السادسة: الرخصة , أعتقد أن الرخصة معرفة هي حكم غير إلى سهولة لعذر مع قيام العلة الأصلية. هذا التعريف ذكره ابن السبكي وغيره من علماء الأصول، وهو التعريف المانع الجامع للرخصة - حكم مغير إلى سهولة لعذر مع قيام العلة الأصلية -، وهي وردت في الحديث في صحيح مسلم ((ورخص في العرايا)) ، معناه يدل على أنها استثناء وأنها ترخيص. إذن الرخصة وردت في الشرع وفسرها العلماء وعرفوها.
الملاحظة السابعة: المرض الذي توقف عنده بعض الإخوان، المرض جاء مطلقًا في القرآن الكريم، فالأمر راجع إلى قاعدة هي: هل نأخذ بأقل ما يدل عليه الاسم؟ - وهذا ما يعرف بالأخذ بأول الأسماء أو بآخرها - أو نأخذ بآخر الأسماء، والأمر راجع إلى قاعدة معروفة بمعنى أن أي مرض كما يكون أي سفر يعتبر موجبًا للإفطار كذلك المرض هنا.
الملاحظة الثامنة: تحدث الإخوان عن القياس هل يؤخذ به أم لا يؤخذ به؟ المشهور عند العلماء أن القياس يؤخذ به في الكفارات التي هي مرجع الإفطار في الصوم، والحد والكفارة تقديره جوازه فيها هو المشهور. هو أصح أقوال علماء الأصول كما يقول في (مراقي السعود) .(10/883)
هناك مجالان أو هناك معياران يجب أن نعتمد عليهما في رأيي: كل ما يصل إلى الجوف موجب للإفطار ما لم يكن جامدا غير مستقر، أما الجامد المستقر فإنه يؤدي إلى الإفطار وفاقًا لأبي حنيفة. هنا نرجع إلى الأطباء لنعرف منهم الذي يصل إلى الجوف، وهذا ما يسمى بتحقيق المناط، هو تطبيق القاعدة على جزئياتها, وتحقيق المناط هنا وارد يمكننا أن نخالف المالكية في القول بأن قطرة الأذن أنها مؤدية إلى الإفطار، وبعض الإخوان قال: إن المالكية قالوا: إن قطرة الأذن لا تؤدي إلى الإفطار، وهذا أصل خليل، المالكية الأذن عندهم تؤدي الى الإفطار، إذا قال الأطباء: الأذن لا يصل منها شيء نوافقهم، وهذا هو تحقيق المناط. ووقع للمالكية؛ كان التين في الحجاز عند المالكية ليس ربويًا، فلما ذهبوا إلى الأندلس وجدوا أنه مقتات مدخر فأعلنوا ربويته وفاقًا لقاعدة المذهب. فتحقيق المناط هنا وارد.(10/884)
الضابط الثاني: كل ما يقوي، أي يؤدي الى تقوية الجسم أي إلى تغذية فإنه موجب للإفطار. وهنا يجب أن نتفق مع الأطباء مرة أخرى، هنا نعمل بتنقيح المناط من باب إلغاء الفارق بمعنى أننا نلغي الفارق بين الأكل والشرب وبين ما يؤدي إلى التغذية، لننيط الحكم بأصل عام كما ألغى المالكية الفارق بين الجماع وبين الأكل والشرب في كون كل منهما يؤدي إلى انتهاك حرمة رمضان، وهو الذي يؤدي إلى الكفارة، هذا ما يسمى بتنقيح المناط من باب إلغاء الفارق. إذا اتفقنا على هذه المنطلقات يمكن أن نصوغ بسهولة القرارات التي يتوصل اليها المجمع انطلاقًا من التقارير التي وردت والتي هي تقارير جيدة، وبخاصة تقرير فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي.
حديث ((أفطر الحاجم والمحجوم)) كما قال الإخوة هو حديث مؤول بمعنى فعل ما يؤدي إلى الإفطار، وهو ورد بصيغة الخبر ولم يرد بصيغة الأمر، فأفطر بصيغة الخبر، ولأجل ذلك قالوا: إنه مؤول، والتأويل أولى من النسخ؛ لأن القول أولى بالاعتماد من الفعل كما نص عليه علماء الأصول: إذا تعارض القول والفعل فإن القول يقدم لأن له صيغة، ولأن صيغته هي صيغة واضحة.
هذا ما يحضرني الآن، أو ما لاحظته الآن على هذه الأقوال.
خلاصة القول: إننا بحاجة إلى تقرير المعايير على ضوء ما ذكرنا أن نضع قائمة من العمليات موصوفة من الطبيب ومحكومًا عليها من الفقيه، فإذا وجدت العلة أو ظهر انتفاؤها أمكن أن نحقق المناط، مثلًا أن نقول: إن الأذن لا توصل أو أن الوريد يوصل، الطبيب هو الذي يصف ذلك ويقرره، والفقيه هو الذي يحكم على ذلك من الناحية الشرعية، وبذلك نكون قد انتهينا من الموضوع وشكرًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/885)
الشيخ محمد الحاج الناصر:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
بعض ما كنت أحب أن أقول قيل بالأمس أوزاعًا من هذا وذاك من الإخوة الأعزاء، لكنه لم يُقَلْ كما كنت أزور في نفسي أن أقول، وأحسب أني أيضًا قد نسيت شيئًا مما كنت زورت في نفسي من قبل. مهما يكن فإني أستأذن أستاذنا الجليل صاحب السماحة الشيخ محمد المختار السلامي في أن أبدي له وللإخوة الأعزاء ما عن لي أنه ينبغي تحريره، ولسماحته الفضل الأكبر في أن يبين لي ما إذا كنت مصيبًا أو مخطئًا.
أشار إلى الأثر المنقول عن ابن سيرين - رحمه الله - من إفطاره لوجع في أصبعه، ومزج هذه الإشارة بذكر قياس لم يقله ابن سيرين. فابن سيرين لم يكن من أهل القياس، إنه من أتباع التابعين أو من الطبقات الأخيرة من التابعين ربما السادسة أو السابعة الذين لم يكونوا يعتمدون شيئًا اسمه القياس، وانما كانوا يعتمدون الفهم لنصوص القرآن والسنة. كان أصل عمله القرآن والسنة لم يحكموا القياس في دين الله، إفطار ابن سيرين - رحمه الله - من وجع أصبعه لا يمكن أن نأخذه على أنه ترخص مبالغ فيه، فقد يكون ابن سيرين يشرب شيئًا من الأدوية للتخفيف من وجع أصبعه، وقد يكون له سبب ما غير مجرد الترخص بالإفطار لمرض بسيط، فهو رحمه الله أجل من ذلك وأعلى. على أنه إن فعل فما خرج من مضمون قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} .(10/886)
وهنا نصير إلى نقطة أخرى مما أحب أن أقف عنده. فالتنكير في (مريضًا) وتغيير الصياغة بين (مريضًا) أو (على سفر) بين حكم السفر الذي هو على سفر وبين المريض، ليس عبثًا وليس عملًا فنيًا، فالعمل الفني ليس في القرآن أساسًا، أنه كلام الله القديم. هذا التنكير له معناه، معنى العموم لكل مرض ما لم يخصص ببيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من قياس ولا من اجتهاد فقيه أو متفقه، فلا اجتهاد مع وجود النص، ولو قد اعتبرنا هذا واعتبرنا أن كلمة (مريضًا) وردت في القرآن بهذه الصيغة في الحج {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ، ووردت في الصوم مرتين {كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . لو أننا تدبرنا هذا وتدبرنا قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، وردت مرتين مرة في سورة النساء ومرة في سورة المائدة، لتبينا أشياء تغنينا عن التهويم مع تهاويم المتفقهة والفقهاء حول المرض المبيح للإفطار، والمرض غير المبيح، والعلاج للمريض الصائم.(10/887)
لو تدبرنا كل هذا لتبينا أن المريض الذي يحتاج إلى العلاج أبيح له الإفطار، وأن المريض الذي يستطيع الصيام ولكنه يحتاج إلى العلاج يدخل في قوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} لا كما يزعم جمهرة المفسرين من أن (لا) النافية حذفت، وما لهم من قرينة ولا دليل. فمادة (أطاق) في اللغة العربية تعني: استطاع مع مشقة، تماما كما حدد معنى الرخصة الشاطبي - رحمه الله - وهو مَنْ هو في فهم حقائق القرآن. لو تدبرنا كل ذلك لأغنانا عن هذا التهويم في البحث عن ما يفطر وما لا يفطر من الحقن والبخاخات وما إلى ذلك
فالله - سبحانه وتعالى - أرحم بعباده وأرأف من أن يحرجهم {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (مِنْ) التبعيضية. فنحن لسنا بمحرجين، لنا أن نفطر كلما اضطرنا مرض ما أيًّا كان إلى هذا الإفطار، ومنه الضعف الذي يخشى من الصيام معه ازدياد المرض وهو نوع من المرض، لا كما وهم بعض الناس من أن الضعف شيء غير المرض، فهو لا يمكن أن ينتج إلا عن مرض، ووجوده مرض لأن المرض معناه انعدام حالة الاعتدال الطبيعي في الإنسان، فكلما وجد هذا الانعدام كان المرض، ولذلك قال تعالى: {مَرِيضًا} ولم يحدد مرضًا معينًا، أطلقه بالتنكير. ولا أعلم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانًا يخصص هذا المرض.
وشيء آخر أود أن أعرض له قبل أن أختم هذه الكلمة التي أخشى أن يكون الرئيس العزيز يوشك أن ينبهني إلى ضرورة ختامها وهو التدخين. التدخين بصرف النظر عما إذا كان مغذيًا أو غير مغذٍّ، ينسرب إلى الجوف أو لا ينسرب، التدخين حرام واقترافه في رمضان مفطر ناقض للصيام؛ لأنه إسراف وتبذير وإضرار بالجسم وخبيث، وإنما أحل الله للمسلمين الطيبات وحرم عليهم الخبائث. فلسنا بحاجة إلى البحث عما إذا كان هذا التدخين ينسرب إلى الجوف أم لا ينسرب، يغذي أم لا يغذي، كل ذلك لا معنى له. فالتدخين اقتراف لمحرم ناقض للصيام؛ لأن الكبيرة تنقض الصيام في حقيقة الأمر، وإن خالف بعض الناس. والله الموفق.(10/888)
الشيخ أحمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد كنت حريصًا على أن أستمع لا أن أتكلم في هذه المداخلات التي حصلت، ولكن المداخلات نفسها هي التي فتحت آفاقًا جعلتني أتحدث بعض الشيء.
أولًا: أرى بأن بحث قضايا وقع الاتفاق عليها أو ما يشبه الاتفاق على أحكامها أمر لا داعي إليه في هذا المجمع، فإن المجمع إنما يبحث قضايا مستجدة ويعطي فيها فتوى جديدة. ولئن كان هنالك أيضًا خلاف بين علماء المسلمين لم يتوصل فيه عند الجمهور إلى الترجيح في بعض القضايا التي سبق بحثها من قبل يعطي أيضًا المجمع الرأي الراجح فيها. أما القضايا التي استقر فيها عمل الناس على شيء وقبله علماؤهم وعامتهم فلا داعي إلى البحث فيها. فالتدخين لا داعي للبحث فيه، هل هو ناقض أو غير ناقض؟ لأننا لو جئنا إلى المدخنين أنفسهم لا نكاد نجد أحدًا منهم من الذين يصومون يجرؤ على التدخين في نهار رمضان، ولا نكاد نجد أحدًا حتى من عوام الناس الذين لا نصيب لهما في الفقه والمعرفة يقر التدخين في نهار رمضان. فجميع العلماء وجميع العامة استقر عملهم على هذا وإن وجد خلاف، فإنما هو خلاف في بطون الكتب، ولكنه لم ينتقل إلى عمل الناس.
وكذلك قضية الاستمناء. هل الاستمناء ناقض للصوم أو غير ناقض بعدما استقر عمل الناس على رأي معين وقبله خاصتهم وعامتهم؟ لا أرى داعيًا لبحث هذه القضية، فالقضية قد أميتت بحثًا من قبل، ومعظم المسلمين بل لو قلنا بأنه استقر الإجماع العملي على أن الاستمناء ناقض لما أخطأنا، فإننا لم نعرف في المتقدمين من خالف في ذلك إلا ابن حزم.
والمجمع له هيبته وله مكانته، ولو صدر من هذا المجمع بيان يعطي فتوى بخلاف ما استقر عليه العمل في القضايا السابقة فإن مكانته تتزعزع وهيبته تتلاشى. أما التوسيع والتضييق في مجال المفطرات فهما أمران ينبغي النظر فيهما؛ لأن الإسلام يدعونا إلى الاعتدال (لا إفراط ولا تفريط) فلا نستطيع أن نوسع أحكام المفطرات؛ لأن هذه التوسعة تؤدي بنا إلى الكثير الكثير مما قد نحذر، فلو قلنا بأن إدخال الطبيب أصبعه في فرج امرأة مثلًا لأجل ضرورة لا محيص عنها مؤدٍ إلى النقض فما الفارق بين ذلك وبين إدخال الصائم أصبعه في فيه؟ فهل إدخال الصائم أصبعه في فيه يختلف عن هذا الإدخال؟ نعم يختلف من حيث الجواز وعدمه، ولكن الجواز جاء هنا بسبب الضرورة، ولم يقصد بذلك تلذذ من أحد الجانبين.(10/889)
كذلك التضييق في المفطرات واعتبار بأن ما يصل إلى الجوف أو ما يمكن أن يكون غير متغذًّى به عند الناس في عرفهم غير ناقض، أو ما استعمل للدواء غير ناقض، هذا أمر أيضًا يفتح الكثير الكثير من أبواب المشكلات.
موضوع شهوة المزاج أيضًا لي فيه نظر، لأننا لو قلنا بأن المزاج عندما يرضي الإنسان أو يشبع رغبته بوجه من الوجوه المباحة يؤدي ذلك إلى نقض الصيام، لربما أدى ذلك إلى القول بأن من استمع إلى القرآن وكان سماعه للقرآن بصوت شجيٍّ يرضي مزاجه يؤدي ذلك إلى انتقاض الصوم أيضًا فضلًا عن بقية الأشياء.
أما موضوع الحيض ومنع دورته باستعمال الحبوب المانعة، فلا ريب أن حكم الفطر مترتب على خروج الدم، وعندما يكون الدم غير خارج لا يترتب على ذلك حكم الفطر ولو حضرت الدورة، أي حضر ميقاتها، ولكن هل هذا التصرف لا تترتب عليه آثار سلبية من الناحية الصحية أو من الناحية الدينية؟ حسب ما علمت هناك آثار سلبية من الناحية الدينية فضلًا عن الناحية الصحية، وكثير من النساء اللاتي استعملن هذه الموانع اتصلن بي يسألن عن حكم ما يرينه من الدم بعدما اختفت الدورة الدموية عن مدارها المعتاد. فالدورة الدموية تصبح غير منتظمة، ولا تعرف المرأة بسبب استعمالها لهذه الحبوب أو هذه الموانع التفرقة بين دم الحيض ودم الاستحاضة، يختلط عليها الحابل بالنابل، أما كون ذلك ضارًّا بالجسم أو غير ضار فأمر لا نتدخل فيه، وإنما نتركه للأطباء أنفسهم. فالأطباء هم الذين يقررون الضرر أو عدم الضرر.
وقد يتسامح في الحج بسبب أن بقاء المرأة متخلفة عن رفقتها في الحج فترة طويلة وحتى لو كانت فترة قصيرة، تخلف المرأة عن رفقتها أمر فيه ضرر بها. على أن الحج لا يتكرر كما يتكرر الصيام، فلا مانع إن تسومح في الحج، أما التسامح في الصيام فلا داعي إليه؛ لأن الله - تبارك وتعالى - جعل لها مخرجًا وهو القضاء، فعليها أن تقضي بعدما تفطر امتثالًا لأمر الله، ولا داعي إلى استعمال ما يؤدي إلى الضرر بالجسم، أو ما يؤدي إلى الضرر بالدين من حيث إن المرأة تختل عندها الدورة الشهرية، ولا تستطيع أن تفرق بين الحيض وبين الاستحاضة.(10/890)
وأعود إلى موضوع النواقض فأقول بأن الكلمات تأتي في اللغة العربية مشتركة لها أكثر من معنى، فكلمة الرفث قد تستعمل أحيانًا بمعنى رفث اللسان، وتستعمل بمعنى الوقاع، ومن مجيء الرفث بمعنى رفث القول قول الشاعر:
ورب أسراب حجيج كُظَّمٌ عن اللغى ورفث التكلم
المقصود بالرفث هنا القول الذي يصدر من اللسان.
ويأتي الرفث بمعنى الوقاع نفسه بدليل قول الشاعر أيضًا:
ويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفار
فالمراد بالرفث هنا هو الوقاع.
ولا ريب أن الرفث الذي خرم في الصوم ليس هو كل ما يتعلق بالجماع حتى النظر من الرجل إلى امرأته النظرة بشهوة إلى غير ذلك؛ لأن هذا مما لم نعرفه من قبل ولو أطلقنا ذلك لترتب على ذلك ضرر كبير، والله تبارك وتعالى ما جعل علينا في الدين من حرج.(10/891)
ونقطة أخيرة ليست هي متعلقة بالجانب الفقهي، وإنما هي تتعلق بجانب النظام تدور حول ما قدمه أخونا الدكتور العبادي من اقتراح بأن تكون التعقيبات مدونة وأن تكون متناولة لكل ما في البحوث التي تتعقب. لي بعض الملاحظة على ذلك، أما تدوينها فذلك أمر لا مانع منه لأجل الضبط لأنه يضبط بالكتابة ما لا يضبط بالقول، وأما كون على كل معقب أن يتعقب البحث من أوله وآخره، فذلك يفضي إلى أن تكون وراء البحوث بحوث متسلسلة وهذا أمر قد يكون فيه شيء من الحرج، بل ربما الإنسان لا يريد أن يتحدث في مواضع من البحث لأنه اقتنع بما في البحث، وكما يقال: (السعيد من اكتفى بغيره) فلا داعي إلى إثارتها. فالأولى أن يكون لكل أحد التعقيب بحسب ما يريد من التعقيب على الموضوعات المطروحة من غير أن يتناول البحث من أوله إلى آخره، وأسأل الله التوفيق للجميع، وشكرًا لكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/892)
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم،
في الحقيقة نحن نريد أن ننعش الذاكرة بما انتهى إليه الخليلي وبدأ به الخليل, أمران عجيبان، الرفث ذكر في مقامين في حرمين، مع حرمة الصوم وإحرام النسكين. وهذا فيه إشارة الى أننا ما دمنا في إحرام فحرمة الكلمة أيضًا ربما تؤثر في هذا الإحرام. هذا هو فقط للإشارة. إذن {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} ، {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ، وهذا توجيه إليه ينبغي أن يتوقف أمامه.
أمر آخر، أثيرت - في الحقيقة - قضية رائعة في هذا المجلس الكريم في جلسة البارحة وهي شهوة المزاج. نعم يا قوم هنالك شهوة مزاج , هو اصطلاح جديد ولكنه معنى قديم , أذكر إخواننا , أظن والشافعية على ما أذكر بالذات ما حكم شم الروائح العطرة للصائم واستعمال العطورات للصائم؟ هل يرون فيها كراهة؟ نعم. إذن من شهوة المزاج ننتقل إلى مزاج آخر، ألم يقل بعض الفقهاء - وهذا شيء معروف - بمزاج الغيبة ومزاج النميمة قولًا أو سماعًا للصائم؟ بلى، تكلموا في هذا. هو ليس أكلًا ولا شربًا، ولكنه من قبيل المزاج.
أمر آخر، نحن والأطباء في الحقيقة كلنا يعرف أن هنالك اصطلاحًا قد يتفق المفهوم الطبي مع الاصطلاح الشرعي وقد يفترقان , مثلًا تعرفون جميعًا الفم هو عضو خارج بالنسبة للمضمضة وعضو داخل بالنسبة لابتلاع الريق، له اعتباران، هنا الاعتبار الشرعي والاعتبار الطبي هو جوف، هو من الجوف، إذن ما دام له اعتباران ينبغي أن نأخذ بالحسبان هذين لاعتبارين.(10/893)
قضية ما أشير إليه - وفعلًا - أخذ المرأة علاج منع الدورة الدموية، أذكر أليس هذا يصل بنا إلى صلاة الحاقن؟ الدم موجود وهي حبسته وكان من شأنه أن يخرج، أليس له نظير في الفقه، صلاة الحاقن وهو دافع أحد الأخبثين وعليه الإعادة في الوقت وإن كانت صلاته صحيحة؟ هذا أيضًا نثيره للمذاكرة.
أمر عجيب وهو غسيل الكلية نتمنى ألا يتعرض إليه لأن الذي يغسل الدم في الكلى هل هو قادر على الصوم أصلًا أم لا؟ بل إنه ممنوع رأسًا. أمر آخر نصل إليه وهو ذوق الطعام. على ما أذكر في كتب الأحناف عندهم نص أنه: " ويرخص للزوجة أن تذوق الطعام بطرف لسانها إذا كان الزوج سيئ الخلق "، هكذا قالوا مع الكراهة، صح صومها مع الكراهة. إذن من هذه العناوين نحن نأخذ شيئًا وهو أن هذا الذوق - سبحان الله - لم يعتبروه مفسدًا للصوم وهذا يصل بنا إلى القطرة في الأذن أو العين.
أمر آخر بالنسبة لأخينا الدكتور السلقيني عندما ذكر السفر والمرض , نذكر أن العلة طبعًا المشقة وقال الفقهاء: " تناط الأحكام الشرعية بأسباب مادية " فالمرض مرض والسفر مظنة المشقة والمرض هو المشقة بذاتها".
أمر آخر، نحن في حل مع المرض، من قال: إن المريض يجب أن يفطر، وأن المسافر يجب أن يفطر؟!
وأمر آخر وهو آخر آية الصوم تردنا إلى أولها وهو قوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إذن ما دمنا نحن في حرم التقوى إذن لتكن كل نظراتنا ضمن هذا الإطار. وشكرًا لكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/894)
الشيخ علي الجفال:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
الحقيقة ما أريد أن أقوله سبقني الزملاء إليه، ولكن هناك تساؤلات هي التي أدت في اعتقادي إلى اختلاف الفقهاء في المسألة الواحدة، وأحيانًا نجد خلافًا في إطار المذهب الواحد، فلا بد من تحديد مفاهيم هذه المصطلحات، منها:
أولًا: الاتفاق على مفهوم الجوف، وربما يكون المعنى اللغوي الذي يدل على كل مجوف وهو كل باطن، هو المعنى الذي رجحه الفقهاء وبناء عليه اعتبروا كل ما وصل إلى الباطن مفسدًا للصوم سواء كان هذا الباطن موصلًا للجهاز الهضمي أو لم يكن كذلك. وإذا أريد بالجوف ما يؤدي إلى الجهاز الهضمي فإن من الطبيعي أن تكون جميع المواد التي لا تصل في نظر الطب إلى الجهاز الهضمي غير مفسدة للصوم. وبناء عليه فإن الأدوية التي تعالج خللًا في الأبدان، في الدماغ أو في الأعضاء المنفصلة عن الجهاز الهضمي، لا تعتبر مفسدة للصوم؛ لأنها لا تصل إلى الجهاز الهضمي، ولا تخل بقاعدة الإمساك التي تعتبر ركن الصيام.(10/895)
ثانيًا: التفريق بين الغذاء والدواء , فالغذاء يمكن الإمساك عنه، والصوم هو إمساك عن الطعام والشراب وفيه فائدة للبدن، أما الدواء فيختلف عن الغذاء وهو ضروري للبدن، لأنه أداة علاج، والإمساك عنه يؤدي إلى ضرر عاجل وآجل، وعلى الأقل فالامتناع عن تناول الدواء في مواعيده يؤدي إلى مضاعفة الألم. كما يشترط في الدواء الذي لا يؤدي إلى إفساد الصوم:
- أن لا يصل ذلك الدواء إلى الجهاز الهضمي.
- أن لا يكون في ذلك الدواء ما يفيد معنى التغذية.
- أن تكون الغاية من تناول ذلك الدواء العلاج.
ومع هذا فإن أمر المفطرات يحتاج إلى اجتهاد جماعي يقود إليه حوار علمي مبني على دراسة الأدلة الشرعية، تراعى فيه المقاصد الشرعية التي فُرض الصوم لتحقيقها.
وهذا اللقاء العلمي هو المكان الطبيعي المؤهل لدراسة هذا الموضوع الفقهي، ووضع المعايير الشرعية والضوابط السليمة التي توضح هذا الأمر. وشكرًا.(10/896)
الشيخ عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله، سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين، الشاهد البشير الداعي للحق بإذنه والسراج المنير، وعلى آله وصحبه وسلم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشكر لفضيلة رئيس المجمع على إتاحته الفرصة لي للتدخل والتعليق على الموضوع الذي طرح للبحث. الموضوع الذي قدم لنا فيه الباحثون في جلسة صباح الأمس بحوثًا قيمة تناولت الموضوع المطروح بأسلوب عملي وعلمي جيد وطريقة مبسطة، جزاهم الله عنا أحسن الجزاء.
ومما ينبغي أن نحمد الله ونشكره عليه هو أن وجدنا في إطار هذا المجمع الفقهي الموقر مناخًا فكريًا وجوًا علميًّا، يجد فيه الفقهاء والأطباء معًا مجالًا واسعًا يستطيع كل منهم أن يعبر عن استنباطاته الفقهية واكتشافاته العلمية عن ركن من أركان ديننا الحنيف، وخاصة ما يتعلق بموضوع مفطرات الصيام أو مفطرات الصيام التي كثر فيها الكلام، واختلف حولها آراء الفقهاء من مذهب إلى مذهب. لعل المسلم العادي أن يستهدي فيه إلى رأي ترتاح إليه نفسه ويرضى به ضميره.(10/897)
أريد أن أنتهز هذه الفرصة وأهنئ الأمين العام للمجمع على الأسلوب الجديد الذي تبناه في هذا الاجتماع في اختيار المواضيع والكتابة إلى أهل الاختصاص، وطريقة تقديم البحوث والتعقيب عليها، فجزاه الله عنا أحسن الجزاء.
فالذي اطلع بالأمس على هذه البحوث القيمة، واستمع إلى الشرح الواضح الوافي الذي تفضل به الباحثون وإمعان النظر إلى تعليقات المعقبين لهذه البحوث يدرك أهمية التعاون الفقهي والطبي على معالجة مثل هذه المسائل التي تهم المسلمين في حياتهم العادية. وعلى هذا أرجو الاستمرار في معالجة القضايا المطروحة أمام هذا المجلس بنفس الطريقة التي تمت فيها معالجة القضايا الفقهية المعاصرة بالأمس. فمن المعلوم أن هذا المجمع أنشئ من أجل النظر إلى القضايا المستجدة التي تواجه المسلم المعاصر، وهذا لا يكتمل إذا كان لا يوجد تعاون كامل وتنسيق بين المتخصصين في العلوم التطبيقية والفقهاء.
ومما يشرح الصدر وأعتقد أنكم كلكم تتفقون معي أن ما سمعناه بالأمس من الأطباء المتخصصين في العلوم التطبيقية في تحديد المداخل إلى الجوف بالاستنتاجات العلمية وواقعية جيدة وضعوها أمام الفقهاء لإصدار الحكم الشرعي على قضية تهم المسلم المعاصر. وعلى هذا أرجو أن يستمر هذا المنهج وهذا الأسلوب. ومن هنا أثني على ما جاء من بعض المعلقين بالأمس - وأعتقد أنه الدكتور السالوس - على أن يكون منهج استكتاب وكتابة الموضوع مستقبلًا مشتركًا بين الفقيه وبين المتخصص في العلوم التطبيقية، سواء كان هذا موضوعًا طبيًا أو موضوعًا اقتصاديًا أو موضوعًا يتعلق بحياة المسلم العادي.
وعلى هذا أريد أن أنهي هذا التدخل بشكر جزيل إلى رئيس مجلس المجمع وإلى كل من تدخل بكلمة أو تعليق خلال هذا الموضوع الهام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/898)
الشيخ محمد المختار السلامي:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
أريد أن أنتقل إلى التعقيب على المداخلات العلمية، فأريد أن أذكر أولًا أن الموضوع الذي كتبت فيه ليس ما يفطر في رمضان وما لا يفطر، ولم يكن الموضوع المعروض عليه للكتابة فيه أن أتحدث عن المفطرات في رمضان، ولكن المفطرات في مجال التداوي، وفرق كبير بينهما، إذ أنه لو كان البحث المفطرات في رمضان لكان بحثي ناقصًا منقوصًا لم أقم فيه بأمانة البحث إلى نهايته. فكثير من المداخلات انبنت على هذا التخليط بين مطلق الفطر وما يفطر وما لا يفطر. وبهذه المناسبة قبل أن أزيد فأقول: هل يقال مُفْطِرَات أو مُفَطِّرات؟ وأخونا الشيخ سليمان الأشقر - جزاه الله خيرًا - وهو من كبار العلماء وتقديرنا له هو تقدير أخوي لما يجمعنا به في باب العلم، والعلم رحم بين أهله، ولكن الحق أحق. أما (أفطر) و (مُفْطِرات) و (مُفْطِر) فهو المنقول لغة، ولم ينقل لغة استعمال (مُفَطِّر) على الشيء الذي يفطر، ولكن حين اعتمدنا المدرسة الكوفية في الاشتقاق من أن الاشتقاق كما يكون بالسماع يكون قياسًا فمُفَطِّر مقبول. وهذا ما يقوله صاحب القاموس. ومُفْطِر من مفاطير، وكصَبُورٍ: ما يُفْطَرُ عليه. ولم يأت به مُفَطِّر.
فإذن حصرت نظري وكلامي بالمفطرات المرتبطة بالتداوي والعلاج.
واليوم والذي دعا المجمع فيما أظن لبحث هذا الموضوع هو أنه قد جدت طرق ما عرفها الفقهاء من قبل؛ لأنها لم تكن في وقتهم. فهذه الطرق في العلاج هي التي دعت - جزى الله خيرًا من اقترح الموضوع للنظر فيه - المجمع لأن يعقد له هذه الجلسة للنظر في هذه المفطرات التي حدثت أو في هذه الأشياء التي تدخل على بدن الصائم فنبتغي أن نعرف لها حكمًا، هل هي تؤثر في صيامه أو لا تؤثر في صيامه؟(10/899)
ولهذا ارتبط الموضوع ارتباطًا جذريًّا بإخواننا الأطباء - جزاهم الله خيرًا - ليساعدونا على التعرف على هذه الطرق الجديدة في التداوي، وكيف تسلك مسالكها في الجسم الإنساني؟ ولما كتبت موضوعي اتصلت بالسادة الأطباء من إخوان وأهل وعشيرة، وسهرت معهم الليالي أضبط معهم ضبطًا دقيقًا كل ما سألتهم عنه وأجابوني به، ثم بعد أن تحصل عندي الواقع والحالة التي يؤثر بها العلاج في المريض كتبت موضوعي لا استنادًا إلى اختياراتي الخاصة بالنظر المجرد فما طلب مني أن أبين وجهة نظري كفلان، ولكنه طلب مني أن أبين الحكم الشرعي , ولذلك عدت إلى الثروة الفقهية، هذه الثروة التي ساعدتني على الوصول الى ما وصلت إليه، فأنا آتي بالنظائر الفقهية التي تحدث فيها الفقهاء في مواضيع تتصل بالموضوع الذي هو في المسألة الخاصة التي نظرت فيها، حتى آخذ من ذلك سندًا لما أرجحه في الموضوع الذي أبحث فيه في مجال التداوي.
ولذلك تجدون في بحثي أول ما أبحث آتي بنظر الفقهاء في الموضوع، ثم أعقب عليه تطبيقيًا لذلكم النظر على اختلاف وجهة نظر الفقهاء في الموضوع الخاص الذي هو موضوع التداوي.
ثم إن منطقة البحث كما تعتمد التأمل في النصوص التشريعية وهو اجتهاد، كذلك تعتمد التخريج على أقوال الأئمة وهو أيضًا رتبة من رتب الاجتهاد، التي وإن كانت هي الباقية وهي التي منتشرة إلا أن الفقهاء يخشون من تسلط عليهم فيقولون لسنا من ذلك، ولكن النظر في كتب الفقهاء يفيدنا يقينًا أنهم من أهل التخريج، وإن قراءة الفقه الإسلامي واستمراره وثراءه أحد أسبابه التخريج.(10/900)
والإخوان تعقبوا على الموضوع الذي كتبت في جزئياته. فضيلة الشيخ علي ربط الإفطار بعنصر التنمية، وعنصر التنمية إن كان أحد العناصر فهو مقبول وإن كان هو الكل فلا، ذلك أن ما يفطر الإنسان قد يكون مُنَمِّيًا وقد يكون مصلحًا ولا ينمي. فضبط ذلك بالتنمية فقط هو أمر لا يساعد عليه لا الفقه ولا النصوص. ثم جعل الارتباط بالعرف، والعرف في نظري أولًا لا بد أن أتساءل ما هو هذا العرف؟ أهو العرف في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم هو العرف حسب ما فهمته هو عرفنا نحن؟ فإذا كان معنى هذا العرف هو عرفنا نحن وهو متبدل، فإن القضية تنقلب إلى قضية كبرى وهو أنه يصبح لكل زمان تشريع. ولذلك لا أستطيع أن أربط قضية الصيام. هناك قضايا فعلًا في المعاملات المالية هي مرتبطة بالعرف، وفي الالتزامات كذلك هي مرتبطة بالعرف. وفي تفهم النصوص المكتوبة بين الناس في وثائقهم مرتبط ذلك بالعرف، وفي ألفاظ الطلاق وغيره مرتبط بالعرف، وكذلك في اليمين مرتبطة بالعرف، وفي غير ذلك من أبواب الفقه. أما أن يرتبط ذلك في الصيام في نصوص جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نصوص القرآن فهو مرتبط بالعرف، فيصبح ذلك في نظري لا يمكن قبوله.
كما أنني سمعت الاحتياط الوجوبي , والاحتياط الوجوبي لم أفهم معناه , ما معنى احتياط الوجوب؟ فالاحتياط هو كمبدأ في التشريع هو أمر مطلوب، ولكن هذا يقتضي التسوية بكل ما يرد على الجسم كما سمعت ما أظنه صحيح، لأننا نحتاط لكن لا نسوي؛ لأن الأشياء تختلف، والاحتياط ألا يقع التسوية بينها بل لا بد من النظر في المتفرقات وفيما بين الأشياء من تفريق.
ثم جاء في كلامه النهي , يصبح به الفعلى محرمًا وهو أتون العبادة.
وهنا نأتي إلى قضية أصولية كبرى أثيرت وهي: هل إن النهي يقضي بالفساد دائما؟ ثم إنه وإن ورد النهي عن الصيام بالنسبة للمريض، ما جاءت الآية بالنهي، ولمَّا لم يُردِ النهي فلا أدري من أين يأخذ هذا الكلام من أن النهي يصبح الفعل محرمًا وهو أتون العبادة.(10/901)
ثم ننتقل إلى معالي الدكتور الألفي فهو أَوَّلَ - وشكرًا له - أن الدماغ مقصود به عند الفقهاء حد البلعوم. وأنا حسب علمي وحسب تتبعي للفقه الإسلامي ما وجدت أن الفقهاء يطلقون الدماغ على كامل الرأس، ولكنهم يقولون: دماغ، وهو الجمجمة وما حولها، ويطلقون الرأس على العنق فما فوق. فهما أمران مختلفان فلذلك ما وجدت بتتبعي وفيما علمته إطلاق الدماغ على الرأس كله. ثم أتى بأن الاستشهاد بكلام ابن حزم، وقال: إما أن نأخذ بكل ما قال أو نترك كل ما قال. هذه قاعدة لا أستطيع قبولها لأن الالتزام أو الأخذ برأي مجتهد في قضية لا يقتضي ذلك الأخذ بكل ما قال، لكن ابن حزم إذا كان بنى آراءه على قاعدة أساسية نحن لا نؤمن بها فلا يصح لنا أن نأخذ بأي قول من أقواله، ذلك أن ابن حزم عندما بنى أقواله على نفي القياس ونحن نقول بالقياس فمعنى ذلك أننا نوافقه تفريعًا ونخالفه تأصيلًا، وهذا كمنهج علمي غير مقبول، فنحن فيما اعتمد فيه ابن حزم النظر في النص وما أخذه من النص نأخذ منه ونرد، وأما ما اعتمد فيه في نفي القياس وأجراه على الإباحة الأصلية فهذا ما نخالفه فيه تأصيلًا فنخالفه فيه تفريعًا.
ثم قضية التدخين السلبي ومعنى التدخين السلبي أي هو وجوده في مكان فيه تدخين، هذا ما أظن أن الفقهاء كلهم قد اتفقوا على أن الداخل من هذا النوع سواء كان غبارًا أو دخانًا أو غيره هو لا يضر الصائم.
فضيلة الشيخ تقي العثماني - جزاه الله خيرًا - قسم الموضوع إلى قسمين، إلى أن هناك نزاع لا يدخل ولا أثر للنظر الطبي فيها، وهناك نواح للنظر الطبي أثر فيها. وكلامه حسب ما ينبغي أن أفهمه منه لمكانته العلمية هو أنه ما كان من تحقيق بيان الحرمة وبيان الحل هذا ليس هو مجال الأطباء إلا إذا كان بعضهم من الفقهاء، وعندنا بحمد الله في تاريخ الفقه الإسلامي من جمع بين الفقه والطب وما يزال يوجد إلى الآن، والحمد لله، ولا يضيق على أحد أنه يقال إنه ليس من أهل هذا الفن , كما أننا نحن ننظر في الطب ولكن ليس لنا قول فيه , فإذا كقاعدة أنه لا أثر للنظر الطبي إن كان من حيث الحكم الشرعي، وبيان الحكم الشرعي بالاستنباط، فالاستنباط إنما هو لأهله , وأما إذا كان لبيان الواقع - وهو ما أفهمه من كلامه - فإنه لا شك أن بيان الواقع هو للأطباء وعلى كلام الأطباء , وبناء على نصوص الشارع نأخذ ونحكم.
ورجح فضيلته أن ما يدخل العين أو هو يتسرب من المسام - الفتحات الصغيرة - ولا يصل. في الحقيقة هذا هو من باب تحقيق المناط، هل فعلًا أنه لا يصل؟ أظن أنه بإجماع الأطباء أن الذوق خلق الله له مكانًا خاصًّا في اللسان إذا لم يصل إليه فلا يتذوق الإنسان. فدعوى أن قطرة العين لا تصل إلى الحلق كلام غير صحيح بناء على كلام الأطباء، لأنهم قالوا: إنه نجد فعلًا أن الإنسان يقطر في عينه فيجد طعم القطرة في لسانه، وهو طرف اللسان من الداخل، وما يمنعها من الدخول فيما بعد؟ فلذلك كون تتشربها المسام من باب تحقيق المناط فهو غير صحيح.(10/902)
فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع - جزاه الله خيرًا - وهو يتحوط، وللإنسان أن يتحوط، وقال: إن قضية الخشية من المرض يجب ألا نقول بها، وأن هذا يفتح بابًا يحسن سده. أنا في عرضي للمذاهب عادة أتابع فيها التاريخ الزمني فأبدأ بأبي حنيفة وهو أقدمهم ثم مالك ثم الشافعي ثم أحمد بن حنبل، لكن سأخالف هنا في هذا الموضوع فأقول:
ومذهب أحمد - وهذا ما كتبته - أصرح المذاهب في اعتبار الترخص بخوف حدوث المرض، جاء في المغني: " والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادته في إباحة الفطر؛ لأن المريضى إنما أبيح له الفطر خوفًا مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله، فالخوف من تجدد المرض في معناه ". وصرح البهوتي بأن الفطر مع خوف المرض سنة، وأن الصوم مكروه.
أما في بقية المذاهب فقد جاء في الفتاوى الهندية أن الصحيح الذي يخشى المرض هو كالمريض. وجاء في المذهب المالكي فقال العدوي في حاشيته على الخرشي: " واعلم أن الصحيح إذا خاف بصومه الهلاك أو شدة الأذى يجب عليه الفطر، ويرجع في ذلك إلى أهل المعرفة، والجهد يبيح الفطر ولو للصحيح كما هو ظاهر الخطاب ". والشافعية سووا بين الترخص بالتيمم والترخص بالفطر، وجاء في الترخص بالتيمم جاء في المجموع: " إذا خاف حدوث مرض يخاف منه تلف النفس أو عضو أو فوات منفعة عضو، أنه يجوز له التيمم بلا خلاف بين أهل المذهب، إلا صاحب الحاوي فإنه حكى في خوف الشلل طريقين ". وعليه فإن حكم خوف حدوث المرض هو كحدوثه فعلًا. هذه هي المذاهب الأربعة، فإذا كانوا هم لم يتحوطوا لدينهم، وإذا كانوا قصروا فما أظن أني أكون أحرص منهم. وإذا كان الشيخ أحرص منهم فله ذلك.(10/903)
الحجامة، تحدث فضيلته عن الحجامة. الحجامة تحدثت عنها كوسيلة من وسائل الدواء وقلت: إنها انتهت كوسيلة من وسائل الدواء والعلاج اليوم. واليوم في كافة أقطار العالم الإسلامي لا يسمح لأحد أن يذهب إلى شخص ليتطبب عنده إلا إذا كان طبيبًا مأذونًا له، والسادة الأطباء أمامي فأسألهم هل عندهم الحجامة بشرط خلف العنق وامتصاص الدم بالفم؟ هل بقي هذا عندهم في الطب، أو توجد مدرسة طبية في العالم تقول بأن الحجامة اليوم وسيلة من وسائل العلاج؟ فأنا لا أتحدث ولم أتحدث أصلًا عن الحجامة إلا كأَخْذِ آخذٍ منها قضية، ثم بينت ولا أستطيع في بحثي هذا أن أتعرض إلى كل موضوع بالتفصيل، لأنني أخاطب علماء، فقد بينت الأحاديث التي وردت في الحجامة وأشرت إليها وإلى مراجعها وأنها كلها مضطربة.
ورد موضوع من أخينا ممثل أندونيسيا - جزاه الله خيرًا - وهو حكم تناول المرأة الحبوب لتأخير أمد الحيض. هذه قضية ذكرها الفقهاء قديمًا وتحدثوا فيها؛ أولًا تحدثوا فيها هل هي بالجواز أو بالمنع؟ وأنه إذا كانت لا تضر بالمرأة فهي جائزة.. وكونها تضر أو لا تضر ليس لنا نحن الفقهاء ولكنه للأطباء. ثم تحدثوا عما تجده المرأة إذا جاء وقت طمثها فأحسست بأشياء دون أن يخرج منها الدم، فذهب بعضهم - وهم قلة - إلى أنها في تلك المدة تعتبر طامثًا. والصحيح الذي ذكره غير واحد من فقهاء المالكية في هذه القضية أن الأحكام هي مرتبطة بخروج الدم فعلًا لا بالإحساس به. والقضية إذن بحثت منذ قرون وبت فيها.
فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي - جزاه الله خيرًا - ربط الفطر بالقصد إلى التغذية , والقصد إلى التغذية الفطر يتحقق سواء قصد أو لم يقصد، بقي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه الحديث الذي عفا فيه عما أخذه الإنسان ناسيًا، وفي تأويل هذا الحديث معروف اختلاف الفقهاء، فالفطر تحقق إلا أنه عفي عنه؛ لأن الفطر هو أمر مادي ومن ثم ينبني على هذا الأمر حكم شرعي، ففرق بينهما , فالفطر هو وصول شيء من الإنسان إلى معدته، قاصده أو لم يقصده , بقي هل يترتب على هذا حكم الفطر والقضاء أم لا؟ هو أمر آخر شرعي.(10/904)
والفقهاء لم يروا أن المضمضة مفطرة؛ لأنها سنة , هذا فعلًا تخريج ولكن التخريج الذي أرتضيه والذي بنيت عليه لأني لم أتحدث عن هذا لقصده، وإنما بنيت عليه أمرًا جديدًا وهو الغرغرة، وما يؤخذ تحت اللسان من الحبوب التي تذوب في اللسان، هذا الذي من أجله أتيت ببحث المضمضة أو غيرها. فالمضمضة أقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أحكام ربه بطريقتين، الطريقة الأولى وهي إبلاغ الوحي. الطريقة الثانية وهي المشاهدة لقيامه صلى الله عليه وسلم بما أمر به على النحو الذي أمره الله به، وهي طريقة جيدة وهي التي اعتمدها مالك، والتي لم يفهمها كثير من الناس من الأخذ بقول أهل المدينة. فهو لا يعني بقول أهل المدينة أنه قولهم في الاجتهادات، ولكنهم أخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريقة التطبيقية العملية للتشريع الإلهي ونقلوها جيلًا عن جيل , فقال مالك إنها تلك الطريقة المقصودة بالنص. وذكر أنه سئل من أطراف الأطباء: هل إدخال الأصابع لإخراج الولد مفطر أم لا؟ المرأة هي في حالة الولادة، هي أفطرت فعلًا، أدخل أصابعه أو يده أو آلاته.
مضغ العلك ذكر فضيلته أنه غير مفطر مطلقًا، وهو مذهب الشافعية والحنابلة لا الحنفية. أنا في بحثي لم أتحدث عن العلك إلا بما يتصل به، وقد جاء في بحثي: أن الحنفية يقولون: إنه إذا مص الإهليلج ولم يصل إلى حلقه فإنه غير مفطر. فأخذت هذا النص فقط من الحنفية، وأخذت مضغ العلك من الحنابلة ومن الشافعية ومن المالكية، وبينت آراءهم لأرتب على ذلك ما يمتصه أو ما يدخل في الفم ولا يصل إلى الداخل من الأدوية التي يصفها الأطباء. فالقضية كلها مرتبطة لا بالعلك ولا أريد أن أبحث في العلك لذاته ولا في المفطرات لذاتها ولكن لارتباطها بالدواء.
أما التخدير فبينت أن حكمه حكم الإغماء، باعتبار أنه زوال للإحساس بما حول الإنسان إحساسًا نميز به العاقل. وهذا الإحساس عند الحنفية رأي وهو مرتبط بتبييت النية من الليل. ففي اليوم الذي وقع فيه التخدير إذا بيت النية من الليل فإنه لا يقضي ذلك اليوم، وإذا لم يبيت النية بأن وقعت له العملية الجراحية قبل طلوع الفجر فصيامه غير معتبر، لارتباطه بالنية لا الإغماء. هذا في المذهب الحنفي. أما في بقية المذاهب الأخرى فهم يفصلون بين أن يكون الإغماء منسحبًا على كامل اليوم أو منسحبًا على بعضه أو منسحبًا على شطره، وبينت هذا. وبذلك تتخرج هذه القضية بالنظر إلى اختلاف الفقهاء في هذا، ونأخذ قولًا ونرجحه ونسير عليه إن شاء الله.(10/905)
فضيلة الشيخ الضرير وهو الفقيه النابه جعل الفطر مبنيًا على ضابط واحد استخرجه من القرآن أولًا مع مراعاة السنة، وأنه مراعاة الاستثناءات التي استثنتها السنة النبوية الشريفة وأن هذا هو المرجع. قبل أن أناقشه أقول قاعدة عندنا من الحرية ومن التكريم لرأي الغير في الفقه الإسلامي، هذه القاعدة التي أخذ بها جميع الفقهاء وهي: أن ما أقوله صح وحق وصواب يحتمل الخطأ، وما يقوله غيري - ولو الشيخ الضرير - هو خطأ يحتمل الصواب. فهذه قاعدة معروفة. وعلى هذه القاعدة أسير. فبناء على هذا جعل الجماع مفطرًا وكذلك مقدماته اعتمادًا على الرفث. ورأيت لحذاق المفسرين - فيما أذكر - أنهم قالوا: إن الآية هنا عديت بـ (إلى) ، وتعديتها بـ (إلى) للدلالة على أنه الإبضاع، لم يقل رفث نسائكم، ولكن {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ولم ينه عن مطلق الرفث، وكل حرف في القرآن الكريم هو يدل على معنى، فلا يكون الرفث موجبًا للفطر إلا إذا بلغ النهاية وهو الجماع، وأما ما عدا ذلك فينسحب على القبلة , وإنما الكل سواء.
ثم في هذا البحث أنه سوى بين المقدمات والجماع , شأن الشريعة أنها تفرق بين المختلفات. وإذا نظرنا إلى موارد الشريعة في هذا فإننا نجد أن الشريعة فرقت بين الجماع وبين مقدماته، فأوجبت على الجماع الحد بينما على مقدمات الجماع، إذا لم تكن في الوجه الشرعي جعل صلى الله عليه وسلم من أخبره من صحابته فقال له: " هل صليت معنا ". فجعل ذلك مكفِّرًا لقوله: نلت منها ما عدا الجماع. هذا في الكبيرة. ثمّ إن الجماع كبيرة وإن المقدمات صغيرة، ثم إن المرأة تتحلل بالطلاق الثلاثي بالجماع، ولا تتحلل بمقدمة الجماع، ثم يجب على الإنسان الغسل بالجماع، ولا يجب عليه بمقدمة الجماع. فهما طريقان مختلفان تمام الاختلاف.
ذكر أنه نظر في ملخص بحثي فوجد ضابطًا لكل مذهب. كان مستعصِيًا عن الفهم لم يحلِّل. أعتقد قد أكون لم أوفق عندما كتبت التلخيص ولكن التلخيص مرتبط بالأصل، ولو يتكرم سيادته بعد مجلسنا هذا أن ينظر في البحث بتمامه وأن يجد من الوقت ما يسعه للنظر في بحثي لرأى توضيحًا لكل ما استعصى فهمه. أما ضابطه الذي ذكره فأنا لم أره في أي كتابة من كتاباته، ولو رأيته قد أكون أنظر فيه وأبين ما له وما عليه.(10/906)
بعد هذا، قياس المرض على السفر عند ابن سيرين، وأن ابن سيرين إنما قال بالنص. مرد هذا أن كلمة قياس لم تفهم , من نظر في كتب الفقهاء قديمهم وحديثهم يقولون هذا: ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. وخصص ابن قيم الجوزية رضي الله تعالى عنه في كتابه ما جاء في الشريعة على خلاف القياس، وبين أنه لا يوجد في الشريعة شيء على خلاف القياس. فعندما قلت: قياسًا، فأنا أقصد هذا المعنى: أن الشريعة تسير على نمط واحد، فابن سيرين جعل السفر وجعل الفطر لوجع الأصبع هما نمط واحد، فبينت له الخلاف بينهما، وأن النمطية الواحدة تقتضي ألا يكون وجع الأصبع كالسفر، وبينت أن السفر ربط بأصل السفر وجدت مشقة أو لا، لأنه هو الأمر الذي جعله الشارع مناطًا، أما بالنسبة للمرض فإنما هي المشقة التي دعت إلى ذلك.
هو لم يرض فيما ذهب إليه الشاطبي في تحديد الرخصة، وذكر أن التعاريف يجب أن تكون محددة. أنا ذكرت في بحثي أن أحد كبار العلماء وأحد أذكيائهم ومعروف بذكائه ونباهته وإدراكه لتفاريع الشريعة ثم ضبطها الضبط المحكم هو الإمام القرافي، ولا يوجد فيما أظن فقيه لا يعود إليه سواء أكان تابعًا لمذهبه أم غير تابع، والرجل - كما تعلمون - هو رجل جمع إلى ذكائه العلمي إتقانه البعيد في علوم الحيل وفي إخراج أشياء عجيبة جدًّا ذكرها في شرحه على المحصول، ولولا الإطالة لدخلت في ذلك. فالإمام القرافي قال: " إنني عجزت عن إعطاء حد للرخصة جامع مانع، وبحثت فلم أجد في كل كلام من تقدمني أنه وفق لذلك ". وأن الشاطبي باعتماده مقاصد الشريعة حاول هذه المحاولة وأتيت بكلامه وأنا أرتضيه. ثم أذكر بأمر وهو أن التعاريف عند الفقهاء وعند الأصوليين هناك حد وهناك رسم، ومعظم ماجاء في كلام الفقهاء وما جاء في كلام الأصوليين إنما هي رسوم لاحدود، ويكتفون بذلك باعتبار أنها مقربة.(10/907)
ثم جاء في كلامه أن المطلق يجب أن ينصرف إلى الفرد الكامل. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، فإذا أراد الله تعالى بالأضاحي فعلينا أن نأخذ شاة يتحقق فيها معنى بلوغ السنة، ولم يطلب منا أن نأخذ أكبر من ذلك، وحاول بنو إسرائيل أن يأخذوا بهذا المعنى - أي بالفرد الكامل - فوقعوا في الجهد والمشقة، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم بل طلبوا الكمال)) . فالمطلق لا ينصرف إلى الأكمل وإلى الفرد الكامل، وإنما ينصرف إلى ما تنطبق عليه الحقيقة.
عارضني الشيخ خليل في أن الرخصة ليست شخصية. يا سيدي أنا أؤمن بأن الرخصة تشريع لكل فرد حسب وضعه، وربطت ذلك بالزمان والمكان، وقد يكون الشخص ذاته في نفس حدود هو مرخص له في وقت غير مرخص له في وقت آخر؛ لأن وضعه البدني أو الجسمي أو إلى آخره هو يختلف. فالرخصة شخصية وليست تشريعًا لكل فرد من المسلمين في وقت واحد، وإنما هي تنسحب على الشخص وتطبق عليه في ظروف خاصة، وهذا ما فهمته بعد تتبعي لكلام الفقهاء ولمناط الرخصة ولمواضع الرخصة في الفقه الإسلامي.
فضيلة الشيخ علي السالوس جعل أن المهم هو اشتراط الاستقرار، وهذا رأي الحنفية، ونحن نقدر باقي المذاهب ولكن ليس معنى أن صاحب المذهب هو الحق، فإن الاستقرار في نظرنا لا يؤثر، فلو أخذ قطعة من اللحم وازدردها وربطها بخيط وجعل الخيط خارج فمه، فهذا لا يفطر عند الحنفية باعتبار أنه غير مستقر لأنه خارج منه جزء. فقوله: الاستقرار هو المهم. قلت: إن هذه وجهة نظر الحنفية واطلعت عليها ورأيتها، وإذا كنت لم أرتضها فليس معنى ذلك أن معي الحق، قد أكون على خطأ وقد يكون من قال بالاستقرار على خطأ. لكن أرى أنه بناء على هذا أنه إذا اتصل بشيء بالخارج فهو غير مفطر ولو كان طعامًا.(10/908)
صاحب المعالي الدكتور عبد السلام العبادي تحدث سيادته عن المعرفة الطبية وهي غير مكتملة، ولكن نأخذ بالوضع الذي نحن فيه. نحن لا نطالب بأشياء لم يصل بعد إليها العلم، لذلك يجب العودة دائمًا وأبدًا إلى ما نصل إليه، فقد نصل اليوم إلى شيء اعتمادًا على التقدم العلمي وما وصل إليه، ثم إذا أتى العلم بخلاف ذلك رجعنا، وهو ما قاله عمر رضي الله تعالى عنه: " تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي ". وهي قاعدة شرعية أخذها عمر رضي الله عنه من أدب التشريع الذي أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
البحث عن الضابط الذي نرجع إليه ويكون هو المرجع النهائي.
ما أظن أننا وصلنا إلا في أمور قليلة جدًّا التي هي من ضروريات التشريع، فإذا خرجنا عن ذلك فالمقام مقام اجتهاد، وهذا مما انبنت الشريعة الإسلامية عليه.
فلا يمكن أن نجد ضابطًا يجعلنا نتفق جميعًا على حكم في قضية من القضايا، هذه الجزئية المتجددة، فهي ما جلى الأنظار، والإنسان عندما ينظر إلى الفقهاء وكيف خرجوا نجده تارة مترددًا، وأنا كثيرًا ما أقول لما كنت في بواكير شبابي كنت لا أرغب في رأي الواقفية، وأقول: إنهم جماعة لا يفهمون، فلما تقدمت فهمت أن الواقفية لهم حق بمعنى أنهم نظروا في كثير ووجدوا لكل شخص وجهة نظر، واستوت عندهم الأمور فتوقفوا. ولذلك لما قرأنا الأصول في أول الأمر: وقال الواقفية. بعض شيوخنا رحمة الله عليهم لم يبينوا لنا ما هو رأي الواقفية , ولماذا كانوا واقفية، ولكن الواقفية لهم رأي ولهم وجهة نظر، بمعنى أنهم نظروا في الأدلة ونظروا في المرجحات ووجدوها قد تساوت، وهكذا شأن التشريع الإسلامي. إن استمعت إلى مالكي واستمعت إلى وجهة نظره قلت: والله معه حق، وإن استمعت إلى الحنفي كذلك، وإن استمعت إلى الشافعي، وإن استمعت إلى الحنبلي، فكلهم لهم وجهة نظر بنوها على أساس معقول ومن الشريعة.(10/909)
فضيلة الشيخ محمد سليمان الأشقر يقول: " القياس الذي - طبعًا بمعنى النص - يأخذ به الفقهاء إلا الظاهرية ". هذا تدقيق علمي معه وهو من كبار العلماء ودقيق جدًّا في علمه. عندنا الظاهرية هم اتباع داود الظاهري وهو يقول بالقياس الجلي , عندنا بعده ابن حزم تجاوز شيخه، ورأى أن القياس الجلي لا يؤخذ به , فتدقيقًا للعلم فقط هو أن الظاهرية تقول بالقياس الجلي الذي مع النص. ثم إن القياسات الخفية تضييق على الناس، يا سيدي القياسات الخفية تارة تكون فيها التوسعة وتارة يكون فيها التضييق، فليست قاعدة أن كل قياس خفي هو تضييق على الناس، ولكنه بحث عن الحق سواء يترتب على الحق تضييق أو ترتب عليه توسعة.
الشيخ عبد الله محمد قال: " ويجب أن نأخذ بالسعة، لأنها قضايا جديدة ". أنا ما أعرف في قواعد التشريع أن القضايا الجديدة من قواعدها أنه يؤخذ فيها بالسعة، بل هي قواعد النظر تنسحب على ما مضى وعلى ما جد وعلى ما سيأتي، وعليها الأمر.
أخونا فضيلة الشيخ الحاج الناصر بكل أسف لم أستمع إلا إلى نهاية كلامه لما تحدث عن التدخين بأنه حرام ولذا فهو مفطر , التدخين حرام هذا رأي، والتدخين مكروه رأي، ولا صلة بين الحرمة وبين الإفطار؛ لأن الإفطار في الحقيقة هو أمر مادي، والحرمة أمر يتعلق بالتكليف، وقد يكون الشيء حلالًا ويفطر كما يفطر المريض، وقد يكون الشيء حرامًا ولا يفطر كقتل النفس وقبلة الأجنبية وغيره، هذا كله حرام.(10/910)
فضيلة الشيخ خليل الميس تحدث عن المزاج وتأثيره، وهذا أمر جديد دخل في هذا البحث, أعتقد أن القضية ليست قضية مزاج، والتدخين دخل في هذا؛ لأن التدخين مرتبط بشيء آخر وهو الإدمان. فليست القضية مرتبطة لما قيل: إن التدخين حرام، ليس لأنه يؤثر على المزاج، لكن هو عبودية للإنسان لأمر يفسد عليه بدنه ويفسد عليه ماله , فهذا الإدمان هو القضية التي أوجبت خلاف النظر في حرمته وفي حله، ونحن لا نبحث في الإفطار , ولكن قلت: إن بعض الأدوية، وفعلًا ابني كان مريضًا بالربو ووصف له علاج هو عبارة عن أوراق اشتريتها من إسبانيا وهي تبخر ويستنشقها، فهو دواء يؤخذ بالبخور أي بالحرق وبذلك التحول الذي يحدث في المادة، فأنا نظرت في الموضوع من هذه الناحية، وليس التبغ لأن التبغ ليس دواء بل هو داء، ولكن نظرت فيما يأخذه المريض من الأدوية بواسطة الدخان يستنشقه أيفطر أم لا يفطر؟ فبحثنا في الفطر في الدخان وغيره هو أمر خارج عن الموضوع.
أظن أنني تحدثت عن بعض ما جاء في التعاليق فمعذرة إن قصرت، وشكرًا لكم، وأستغفر الله العظيم فيما قلته من خطأ، وأشكره إذا أعانني على قول الصواب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/911)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.
ما يتعلق بالمُفْطِّرات أو المُفْطِرات هو النظر في المستجدات والنوازل والقضايا الفقهية، وهي نحو خمس وعشرين نقطة، وهذه المسائل أو النقاط منها ما أشبع بحثًا ومناقشة ويكاد يتفق المجمع عليها، ومنها ما هو محل بحث ونظر واختلاف في الآراء ووجهات النظر فيه.
وهناك نوع ثالث وهو أن البحوث التي قدمت في هذا الموضوع لم يتعرض له إلا بحث الشيخ السلامي مختصرًا في موضوع الفطر بالحجامة وما يتخرج عليها من نقل الدم. وتعلمون أن هذا الموضوع اختلفت فيه وجهات نظر العلماء السابقين بين كون الحجامة مفطرة أو غير مفطرة. وبناء على هذا يكون نقل الدم وتحليله هل يكون مفطرًا أو غير مفطر؟ وليس أمامنا دراسة حديثية لما ورد في الباب من الأحاديث التي ظاهرها التعارض، فقد ورد عن النبي ((أفطر الحاجم والمحجوم)) عن تسعة عشر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الأحاديث تكلم العلماء على أسانيدها، وهي مروية في السنن الأربع وفي مسند الإمام أحمد وفي غيرها , والطرف الثاني وهو القول بنسخ الحجامة هو حديث أنس رضي الله تعالى عنه الذي انفرد بروايته الدارقطني، وصححه جمع من العلماء، ومن العجيب أن القصة التي وردت فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جعفر بن أبي طالب وفي لفظ " في البقيع " وهو يحتجم، ثم جاء في آخر الحديث ((ثم لم ينه بعد)) . المهم في موضوع الحجامة أنه لم يرد ذكر لمعرفة ما عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الفتوى والعمل وأقوالهم في ذلك. والمأثور عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم له دخل كبير في الترجيح ومعرفة الراجح من الأقوال.
ولهذا فقد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة لإعداد قرار فيما توصل إليه المجمع، وإرجاء ما لم يتوصل إليه وإعداد بحوث مستقبلية فيه، وترون مناسبًا أن تكون اللجنة من أصحاب الفضيلة: الشيخ محمد المختار السلامي، الشيخ صالح بن حميد، الشيخ تقي العثماني، الشيخ سعود الثبيتي، الشيخ وهبة الزحيلي، الشيخ محمد جبر الألفي، والأطباء أحمد رجائي، محمد علي البار، حسان شمسي باشا، محمد هيثم. موافقون. وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(10/912)
االقرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 99/ 1/ د 10
بشأن
المفطرات في مجال التداوي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية، خلال الفترة من23 إلى 28 صفر 1418 هـ (الموافق 28 يونيو -3 يوليو 1997 م) .
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع المفطرات في مجال التداوي، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية، في الفترة من 9 إلى 12 صفر 1418هـ (الموافق 14 - 17 يونيو 1997 م) ، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، والنظر في الأدلة من الكتاب والسنة، وفي كلام الفقهاء.
قرر ما يلي:
أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات:
1 - قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
2 - الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
3 - ما يدخل المهبل من تحاميل (لبوس) ، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع للفحص الطبي.
4 - إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم.
5 - ما يدخل الإحليل - أي مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى - من قثطرة (أنبوب دقيق) أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.
6 - حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
7 - المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
8 - الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية.
9 - غاز الأوكسجين.
10 - غازات التخدير (البنج) ما لم يعط المريض سوائل (محاليل) مغذية.
11 - ما يدخل الجسم امتصاصاً من الجلد؛ كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية.(10/913)
12 - إدخال قثطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء.
13 - إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها.
14 - أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء، ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل.
15 - منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى.
16 - دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي.
17 - القيء غير المتعمد، بخلاف المتعمد (الاستقاءة) .
ثانياً: ينبغي على الطبيب المسلم نصح المريض بتأجيل ما لا يضر تأجيله إلى ما بعد الإفطار من صور المعالجات المذكورة فيما سبق.
ثالثا: تأجيل إصدار قرار في الصور التالية، للحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة في أثرها على الصوم، مع التركيز على ما ورد في حكمها من أحاديث نبوية وآثار عن الصحابة:
أ- بخاخ الربو، واستنشاق أبخرة المواد.
ب - الفصد، والحجامة.
ج - أخذ عينة من الدم المخبري للفحص، أو نقل دم من المتبرع به، أو تلقي الدم المنقول.
د - الحقن المستعملة في علاج الفشل الكلوي حقناً في الصفاق (البريتون) أو في الكلية الاصطناعية.
هـ - ما يدخل الشرج من حقنة شرجية أو تحاميل البوس) أو منظار أو إصبع للفحص الطبي.
و العمليات الجراحية بالتخدير العام إذا كان المريض قد بيت الصيام من الليل، ولم يعط شيئا من السوائل (المحاليل) المغذية.
والله أعلم
* * *(10/914)
العقود المستجدة
ضوابطها ونماذج منها
إعداد
الدكتور نزيه كماد حماد
أستاذ الشريعة الإسلامية بكندا
بسم الله الرحمن الرحيم
العقود المستجدة
ضوابطها ونماذج منها
(1) العقود التي يدخل في تكييفها أكثر من عقد
تعريف العقود المجتمعة في اتفاقية واحدة:
هي أن يتراضى الطرفان على إبرام اتفاقية تشتمل على عقدين أو أكثر - كالبيع، والإجارة، والقرض، والزواج، والشركة، والصرف، والمضاربة ... إلخ - على سبيل الجمع أو التقابل، بحيث تعتبر سائر موجبات تلك العقود المجتمعة أو المتقابلة، وجميع الحقوق والالتزامات المترتبة عليها جملة واحدة بمثابة آثار العقد الواحد.
ومن أمثلة ذلك:
- اجتماع القرض مع الشركة، أو المضاربة، أو النكاح.
- اجتماع القرض مع البيع، أو الإجارة أو السلم أو الصرف.
- اجتماع الشركة مع الكفالة والوكالة.
- اجتماع البيع مع إجارة الأعيان أو إجارة الأعمال أو كليهما.
- اجتماع البيع مع الصرف.(10/915)
تحرير المقصود من منع صفقتين في صفقة وبيعتين في بيعة، واقتران العقود بالشروط بأنواعها:
(أ) البيعتان في بيعة:
روى الترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة ومالك في الموطأ بلاغًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن بيعتين في بيعة)) . (1) أي في صفقة واحدة وعقد واحد. (2) قال الترمذي: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، وفي رواية أخرى لأبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) . (3)
وقد اتفق الفقهاء على عدم مشروعية البيعتين في بيعة عمومًا، ولكنهم اختلفوا في تفسير محل النهي، أي تفصيل الصور التي ينطلق عليها هذا الاسم من التي لا ينطلق عليها، وذلك على تفاسير:
أحدها: أن يقول البائع للمشتري: بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم نقدًا أو بعشرين نسيئة إلى سنة، فيقبل المشتري من غير أن يعيق بأي الثمنين اشترى، هكذا فسره مالك وأبو حنيفة والثوري وإسحاق والشافعي - في أحد قوليه - وغيرهم. (4)
قال ابن رشد: (وعلة امتناع هذا الوجه عند الشافعي وأبي حنيفة من جهة جهل الثمن، فهو عندهما من بيوع الغرر التي نهي عنها، وعلة امتناعه عند مالك سد الذريعة الموجبة للربا، لإمكان أن يكون الذي له الخيار قد اختار أولًا إنفاذ العقد بأحد الثمنين المؤجل أو المعجل، ثم بدله، ولم يظهر ذلك، فيكون قد ترك أحد الثمنين للثمن الثاني، فكأنه باع أحد الثمنين بالثاني، فيدخله ثمن بثمن نسيئة، أو نسيئة ومتفاضلا) . (5)
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: " والعلة في تحريمه عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين ". (6) وقال في السيل الجرار: " ووجه كون ذلك لا يحل ما يستلزمه من عدم استقرار البيع، والتردد بين الطرفين ". (7)
__________
(1) قال القاضي ابن العربي: وهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح، (القبس شرح الموطأ: 2/ 842) ؛ وانظر الموطأ: 2/ 663؛ سنن النسائي: 7/ 295؛ سنن الترمذي مع عارضة الأحوذي: 5/ 239؛ مختصر سنن أبي داود، للمنذري: 5/ 98؛ شرح السنة، للبغوي: 8/ 142؛ نيل الأوطار للشوكاني: 5/ 152
(2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 2/ 323
(3) مختصر سنن أبي داود، للمنذري: 5/ 97
(4) شرح السنة، للبغوي: 8/ 143؛ عارضة الأحوذي: 5/ 240؛ المغني، لابن قدامة: 6/ 333؛ نيل الأوطار: 5/ 152؛ معالم السنن، للخطابي: 5/ 98؛ مرقاة المفاتيح: 2/ 323؛ المنتقى للباجي: 5/ 39؛ المدونة: 9/ 191.
(5) بداية المجتهد: 2/ 154؛ وانظر معالم السنن: 5/ 98؛ المهذب، للشيرازي: 1/ 266
(6) نيل الأوطار: 5/ 153
(7) السيل الجرار، للشوكاني: 3/ 58(10/916)
ولا خلاف بين أهل العلم في حظر هذه المعاقدة إذا كان البيع واجبًا، أي قد لزم المشتري بأحد الثمنين على الإبهام، وافترقا على ذلك، لكن إذا افترقا على إحدى البيعتين: النقد أو النسيئة، فهو صحيح مشروع. (1) أما إذا لم يكن البيع لازما في أحد الثمنين، وافترقا على أنهما بالخيار، أو على أن أحدهما بالخيار، فقد أجازه الإمام مالك، وجعله من باب الخيار، لأنه إذا كان كذلك لم يتصور فيه ندم يوجب تحويل أحد الثمنين في الآخر. (2)
هذا، وقد انتقد الإمام ابن القيم هذا التفسير للبيعتين في بيعة، ووصفه بالضعف، وذلك لعدم دخول الربا في هذه الصورة - مع أن الرواية الأخرى للحديث نصت صراحة على دخوله ((من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا)) - ولأنه ليس فيها بيعتان، وإنما هي بيعة واحدة بأحد الثمنين. (3)
وقال أيضًا: " أَبْعَدَ كل البعد من حَمَلَ الحديث على البيع بمائة مؤجلة أو خمسين حالة، فليس ههنا ربًا ولا جهالة ولا غرر ولا قمار، ولا شيء من المفاسد، فإنه خيره بين أي الثمنين شاء، وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والإمضاء ثلاثة أيام ". (4)
والثاني: أن يقول: بعني سلعتك هذه بدينار نقدًا أو بشاة موصوفة إلى أجل كذا، ويفترقان على أنه قد لزمه البيع بأحد الثمنين من غير تعيين، وهذا التفسير للإمام مالك في الموطأ (5)
__________
(1) معالم السنن: 5/ 98؛ شرح السنة: 8/ 143؛المغني: 6/ 333؛ عارضة الأحوذي: 5 / 240
(2) بداية المجتهد: 2/ 154؛ المنتقى 5/ 39، 40؛الزرقاني على الموطأ: 3/ 312؛ التفريع، لابن الجلاب: 2/ 166
(3) تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم: 5/ 106
(4) إعلام الموقعين: 3/ 162
(5) الموطأ مع المنتقى: 5/ 40؛ الزرقاني على الموطأ: 3/ 312(10/917)
وعلة النهي عن هذه الصورة كما قال القاضي ابن العربي: " دخول الغرر في البيع باتفاق، إذ لا يدري البائع الثمن الذي انعقد عليه البيع: دينارًا معجلًا أم شاة موصوفة مؤجلة ". (1)
والثالث: أن يقول الرجل لآخر: بعتك بستاني هذا بكذا على إن تبيعني دارك بكذا، أي فإذا وجب لك عندي، وجب لي عندك، وهو تفسيرالحنابلة والحنفية والشافعي في قول آخر له. (2)
وعلة امتناع هذه الصورة كما قال الترمذي: التفارق عن بيع بثمن مجهول، إذ لا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته. (3) أي أن الثمن في كل من البيعتين مجهول، لأنه لو أفرد كل مبيع في عقد بيع مستقل، لم يتفقا في ثمنه على ما اتفقا عليه في المبيعين في عقد واحد. (4)
قال الخطابي: " الوجه الثاني أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرين دينارًا على أن تبيعني جاريتك بعشرة دنانير، فهذا أيضًا فاسد، لأنه جعل ثمن العبد عشرين دينارًا، وشرط عليه أن يبيعه جارية بعشرة دنانير، وذلك لا يلزمه، وإذا لم يلزمه سقط بعض الثمن، وإذا سقط بعضه صار الباقي مجهولًا ". (5)
وقال الشوكاني: علة تحريمًا بيعتين في بيعة في هذه الصورة التعليق بالشرط المستقبل (6)
غير أن فقهاء المالكية - وكذا ابن تيمية الحنابلة - لم يسلموا بصحة هذا التفسير للبيعتين في بيعة، ولا بتحريم الصورة التي ذكرها أربابه. (7)
قال القاضي ابن العربي: " إذا قال له: أبيعك عبدي هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف، فهذا جائز ولا دخل فيه ولو باعه عبده على أن يبيعه المشتري عبدًا آخر بثمنه. قال أبو حنيفة: لايجوز ولا شيء أجوز منه، فإنه حصل من إحدى الجهتين عبد، والجهة الأخرى عبد آخر معلوم، وهذا مما لا دخل فيه ". (8)
__________
(1) عارضة الأحوذي: 5/ 240
(2) المغني: 6/ 332؛ الأم: 3/ 67؛ معالم السنن: 5/ 98؛ نيل الأوطار: 5/ 152؛ المبسوط: 13/ 16؛ شرح السنة: 8/ 143؛ عارضة الأحوذي: 5/ 239، 240؛ الروضة الندية: 2/ 105
(3) سنن الترمذي مع عارضة الأحوذي: 5/ 239
(4) بداية المجتهد: 2/ 153
(5) معالم السنن: 5/ 98
(6) نيل الأوطار: 5/ 153
(7) انظر المغني، لابن قدامة: 6/ 333
(8) عارضة الأحوذي: 5/ 241(10/918)
وجاء في المدونة: " قلت: أرأيت ان اشتريت عبدًا من رجل بعشرة دنانير على أن أبيعه عبدي بعشرة دنانير؟ قال: قال مالك: ذلك جائز ". (1) " قلت: فلو بعته عبدي بعشرة دنانير على أن يبيعني عبده بعشرين دينارًا؟ قال: قال مالك: لا بأس بذلك، إنما هو عبد بعبد وزيادة عشرة دراهم ". (2)
وقال ابن تيمية: " وقول القائل: بعتك ثوبي بمائة على أن تبيعني ثوبك بمائة، إن أرادا أن يبيع كل واحد منهما ثوبه، انعقد بهذا الكلام، فهذا نظير نكاح الشغار! ولكن ما الدليل على فساد هذا , وهو كما لو قال: أجرتك داري بمائة على أن تصير دارك مؤجرة لي بمائة؟ فعوض كل من الإجارتين مائة واستئجار الأخرى، كما أنه في البيع عوض كل منهما مائة وبيع الآخر، وتحريم هذا نحتاج فيه إلى نص أو إجماع ليصح القياس عليه ". (3)
أما إذا باعه شيئين بثمن واحد، كدار وثوب، أو عبد وثوب، فهذا جائز في قول جماهير أهل العلم من الشافعية والمالكية والحنابلة، وليس من باب البيعتين في البيعة الواحدة، وإنما هي صفقة واحدة جمعت شيئين بثمن معلوم. (4)
والرابع: أن يبيع الرجل من الرجل سلعتين بثمنين مختلفين، على أنه قد لزمته إحدى البيعتين، فلينظر أيها يلتزم، وقد نسبه القاضي ابن العربي للمالكية. (5)
__________
(1) المدونة: 9/ 126.
(2) المدونة: 9/ 126
(3) نظرية العقد لابن تيمية، ص 189
(4) معالم السنن: 5/ 98؛ شرح السنة: 8/ 143؛ الروضة الندية: 2/ 105؛ المغني: 6/ 335؛ الفروق، للقرافي: 3/ 142؛ الموافقات، للشاطبي: 3/ 201
(5) القبس شرح الموطأ للقاضي ابن العربي: 2/ 842(10/919)
وقال الباجي: " قال الفقهاء في معنى بيعتين في بيعة: أن يتناول عقد البيع بيعتين على أن لا تتم منهما إلا واحدة مع لزوم العقد، مثل أن يتبايعا هذا الثوب بدينار، وهذا الآخر بدينارين على أن يختار المشتري أحدهما، أي ذلك شاء، وقد لزمهما ذلك أو لزم أحدهما، فهذا يوصف بأنه بيعتان، لأنه قد عقد بيعة في الثوب الذي بالدينارين وبيعة أخرى في الثوب الذي بالدينار، ولم تجمعهما صفقة لأنه لا يتم البيع فيهما، ويوصف بأنه بيعيتين في بيعة؛ لأنه إحدى البيعتين. فمثل هذا لا يجوز، سواء كان ذلك بنقد واحد أو بنقدين، خلافًا لعبد العزيز بن أبي سلمة في تجويزه ذلك بالنقد الواحد ". (1)
وعلة حظر تلك الصورة عند المالكية سد الذريعة الموجبة للربا، حيث إنه يقدر على المشتري أنه قد أخذ الثوب بالدينار، ثم تركه وأخذ الثوب الآخر ودفع دينارين، فصار إلى أن باع ثوبًا ودينارًا بثوب ودينارين، وذلك لا يجوز على أصل مالك. (2)
والخامس: أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالَّة، وهي نفس بيع العينة، وهو تفسير ابن تيمية وابن القيم للبيعتين في بيعة. (3)
__________
(1) المنتقى: 5/ 36
(2) انظر الغرر وأثره في العقود، للدكتور محمد الصديق الضرير، ص 87؛ بداية المجتهد: 2/ 154
(3) مختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية، ص 327، تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم: 5/ 100 إعلام الموقعين: 3/ 161، 162(10/920)
قال ابن القيم: " وهذا هو معنى الحديث الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فله أوكسهما أو الربا)) ، فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي، أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما ".
فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها ولا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر فقد أخذ الربا، ومما يشهد لهذا التفسير ما روى الإمام أحمد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وبيع)) ، فجمعه بين هذين العقدين في النهي لأن كلًا منهما يؤول إلى الربا، لأنهما في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا ". (1)
والسادس: أن يقول رجل لآخر: اشتر لي، أو اشتر السلعة الفلانية نقدًا بكذا، أو بما اشتريتها به، وبعها مني بكذا إلى أجل، وذلك داخل تحت بيع ما ليس عندك. (2)
قال القاضي ابن العربي: " ولا يمكن تفسيره به على التصريح إلا إذا شارطه عليه والتزم له ما يشتري، وأما إذا فاوضه فيه وأوعده عليه، فليس يكون ذلك حرامًا محضًا، ولكنه من باب شبهة الحرام والذريعة إليه، وقد بوب مالك النهي عن بيعتين في بيعة، ثم أدخل فيه بيع ما ليس عندك للمعنى الذي أشرنا إليه ". (3)
والسابع: أن يقول له: بعتك هذا بعشرة دنانير على أن تعطيني بها صرفها كذا دراهم، فقال أكثر الفقهاء، الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور: هذا من باب بيعتين في بيعة (4)
__________
(1) تهذيب مختصر سنن أبي داود: 5/ 106
(2) المنتقى، للباجي: 5/ 40؛ عارضة الأحوذي: 5/ 240
(3) عارضة الأحوذي: 5/ 240
(4) عارضة الأحوذي: 5/ 240؛ المغني: 6/ 332(10/921)
وقد حكى القاضي ابن العربي هذا التفسير للبيعتين في بيعة، ونسبه إلى من ذكرنا من أهل العلم، ثم عقب على ذلك بأن البيع بهذه الصورة جائز عند الإمام مالك، فقال: " فجوزه مالك تعويلًا على ما يؤول إليه الكلام، والشافعي والفقهاء أصحابه نظروا إلى أنه باعه وصرفه، ولم يكن ذلك، إنما ذكر دينارًا، ثم ذكر الدراهم، فانتفى الذهب، ورجع الأمر إلى الفضة، كما لو قال: أبيعك عبدي بعبدك على أن تعطيني في عبدك دارًا، فهذا كمن اشترى داره بعبده، وذلك جائز ". (1)
وجاء في المدونة: " قلت: أرأيت إن باع سلعة بعشرة دنانير إلى أجل على أن يأخذ بها مائة درهم، أيكون هذا البيع فاسدًا أم لا؟ قال: لا يكون فاسدًا، ولابأس بهذا عند مالك، قلت: لم؟ قال: لأن اللفظ ههنا لا ينظر إليه؛ لأن فعلهما يؤوب إلى صلاح وأمر جائز، قلت: وكيف يؤوب إلى صلاح، وهو إنما شرط الثمن عشرة دنانير يأخذ بها مائة درهم؟ قال: لأنه لا يأخذ دنانير أبدًا، إنما يأخذ دراهم، فقوله عشرة دنانير لغو ". (2)
ثم إن أشهب من المالكية يرى جواز جمع البيع مع الصرف في عقدة واحدة مطلقا (3)
والثامن: هو أن يسلفه دينارًا في قفيز حنطة إلى شهر، فإذا حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك عليَّ إلى شهرين بقفيزين. فصار ذلك بيعتين في بيعة؛ لأن البيع الثاني قد دخل على الأول، فيرد إليه أوكسهما، وهو الأول، كذا في شرح السنن، لابن رسلان. (4)
__________
(1) عارضة الأحوذي: 5/ 241
(2) المدونة: 9/ 127
(3) البهجة شرح التحفة، للتسولي: 2/ 9؛ ميارة على التحفة: 1/ 283
(4) نيل الأوطار: 5/ 152(10/922)
التفسير المختار:
يلاحظ على هذه التفسيرات المختلفة للبيعتين في بيعة التي صح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها أن بعضها مما اتفق على منعه الفقهاء، وإن كان بينهم بعض التباين في التفصيلات، وبعضها الآخر مما اختلفت فيه أنظارهم واجتهاداتهم، وبالنظر والتأمل في أقاويل أهل العلم السالفة، وما عرضوا من أدلة وحجج على تفسيرهم لمحل النهي في الحديث، يترجح عندي أن المراد بالبيعتين في بيعة:
1 - أن يتضمن العقد الواحد بيعتين، على أن تتتم إحداهما قبل تفرق العاقدين، ولكن دون تعيينها، كما في: بعتك هذه السلعة بألف درهم نقدًا أو بألفين إلى أجل كذا، أو: بعتكها بألف درهم نقدًا أو بشاة موصوفة إلى أجل كذا، ويتفرق العاقدان على لزوم إحداهما من غير تحديدها، وذلك للغرر الناشئ عن الجهل بمقدار الثمن.
2 - أن يبيعه السلعة بمائة مؤجلة إلى سنة على أن يشتريها منه بثمانين حالة , حيث إن الجمع بين البيعتين في هذه الصورة يؤول إلى الربا، فهما في الظاهر بيعتان، وفي الحقيقة ربًا.
أما بقية التفسيرات، فمنها ما ينضوي تحت نصوص شرعية أخرى كالنهي عن بيع ما ليس عندك، أو ربا الجاهلية، وإدراجه تحت البيعتين في بيعة بعيد، ومنها ما الحظر فيه محل خلاف أهل العلم، ولا يترجح عندي فيها جانب الحرمة على الحل.(10/923)
(ب) الصفقتان في صفقة:
روى أحمد والبزار والطبراني عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)) . قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات. (1)
* وقد فسر راوي الحديث سماك الصفقتين في صفقة بأن يبيع الرجل البيع، فيقول: هو بنساء بكذا وكذا، وهو بنقد بكذا وبكذا. (2) أي ويفترقان على ذلك، وقد وافق سماك على هذا التفسير أحمد والشافعي وأبو عبيد القاسم بن سلام (3) ، وقال الشوكاني: إن معنى الصفقتين في صفقة بيعتان في بيعة. (4)
وأساس ذلك أن الصفقة لغة اسم المرة من الصفق، وهو الضرب باليد على يد أخرى، أو على يد شخص آخر عند البيع، وقد كان عادة العرب إذا وجب البيع ضرب أحد المتبايعين يده على يد صاحبه (5) ثم استعملت الصفقة بمعنى عقد البيع نفسه (6) أي إذا كان لازمًا لا خيار فيه.
ومنه قول عمر رضي الله عنه: " إن البيع صفقة أو خيار "، قال النسفي:
" أي بيع تام لازم، أو بيع فيه خيار ". (7) وقال السرخسي: " الصفقة هي اللازمة النافذة، يقال: هذه صفقة لم يشهدها خاطب، إذا أنفذ أمر دون رأي رجل ". (8)
* وذكر الإمام ابن القيم أن تفسير الصفقتين في صفقة مطابق للبيعتين في بيعة، وهو أن يبيعه السلعة بمائة إلى سنة على أن يشتريها منه بثمانين حالة، ثم قال: " فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة وبيع واحد، هو قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها، ولا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى ابي الأكثر كان قد أخذ الربا ". (9) ويؤيد هذا التفسير رواية ابن حبان للحديث موقوفًا " الصفقة في الصفقتين ربا ". (10)
* وذهب الكمال بن الهمام إلى أن الصفقتين في صفقة أعم مطلقًا من البيعتين في بيعة، لخصوص في نوع من الصفقات، وهو البيع , وذلك كما لو باع عبدًا على أن يستخدمه البائع شهرًا أو دارًا على أن يسكنها كذلك، لأنه لو كانت الخدمة والسكن يقابلهما شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، فيتناول كلًّا من الاعتبارين المذكورين (11)
والخلاصة: أن الفقهاء مختلفون في المراد بالصفقتين في صفقة، هل هو نفس البيعتين في بيعة، أم بينهما عموم وخصوص مطلق؟ فذهب أكثرهم إلى أنهما مترادفتان، وذهب الحنفية إلى أنّ الأولى أعم مطلقًا، فتشمل اجتماع السلف مع البيع، والإجارة مع البيع، والإعارة مع البيع، وغير ذلك. وسنأتي على تفصيل ذلك عند كلامنا على حكم اجتماع العقود المتعددة في عقد واحد.
__________
(1) نيل الأوطار: 5/ 152؛ مجمع الزوائد: 4/ 84؛ مسند أحمد: 1/ 198؛ فتح القدير: 6/ 81
(2) تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم: 5/ 106؛ نيل الأوطار: 5/ 152
(3) فتح القدير: 6/ 81؛ السيل الجرار: 3/ 61
(4) نيل الأوطار: 5/ 153؛السيل الجرار: 3/ 61
(5) المصباح المنير: 1/ 455؛ المغرب: 1/ 476
(6) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 2/ 323
(7) طلبة الطلبة، ص 65، 128.
(8) المبسوط: 16/ 2
(9) تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم: 5/106
(10) انظر فتح القدير: 6/ 81
(11) فتح القدير: 6/ 80، 81(10/924)
(ج) البيع والشرط:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط.
وهذا الحديث غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال كثير من أهل العلم كالإمام أحمد والقاضي ابن العربي وابن قدامة وابن تيمية وغيرهم. (1) ولا يصح الاحتجاج به لمعارضته للأحاديث الصحيحة والإجماع.
قال ابن تيمية: " يروى في حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء، وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه. وأجمع الفقهاء المعروفون - من غير خلاف أعلمه عن غيرهم - أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه، كاشتراط كون العبد كاتبًا أو صانعًا، أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك شرط صحيح ". (2)
وجاء في أعلام الموقعين: (حديث النهي عن بيع وشرط لا يعلم له إسناد يصح، وهو مخالف للسنة الصحيحة والقياس، وقد انعقد الإجماع على خلافه. أما مخالفته للسنة الصحيحة، فإن جابر أباع بعيره وشرط ركوبه إلى المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)) ، فجعله للمشتري بالشرط الزائد على عقد البيع. وقال: ((من باع ثمرة قد أُبِّرت فهي للبائع إلا أن يشترطها المبتاع)) ، فهذا بيع وشرط ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة، وأما مخالفته للإجماع، فالأمة مجمعة على جواز اشتراط الرهن والكفيل والضمين والتأجيل والخيار ثلاثة أيام ونقد غير نقد البلد، فهذا بيع وشرط متفق عليه) . (3)
__________
(1) عارضة الأحوذي: 5/ 250؛ المغني: 6/ 166؛ الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 5/ 145، وقد جاء فيه: " قولهم: نهى عن بيع وشرط. فإن هذا حديث باطل، وليس في شيء من كتب المسلمين، وانما يروى في حكايات منقطعة ".
(2) القواعد النورانية الفقهية، ص 188
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين: 2/ 328(10/925)
(د) اقتران العقود بالشروط:
لقد وردت نصوص كثيرة في القرآن والسنة تثبت للعقود المسماة التي أقرها الشرع آثارًا وأحكامًا والتزامات تربط الطرفين في كل عقد بحسب موضوعه. فعقد النكاح مثلًا يترتب عليه جل الاستمتاع بين الزوجين، ووجوب متابعة المرأة للرجل، ووجوب النفقة للمرأة على الرجل، وثبوت النسب، وحقوق الحضانة، وحرمة المصاهرة، والإرث بين الزوجين، ثم بينهما وبين الأولاد. وكذلك عقد البيع والإجارة والرهن والكفالة وغيرها، كل منها قد ثبتت في الشرع له أحكام، منها ما بينه الكتاب والسنة القولية أو العملية مباشرة، ومنها ما أضافه الاجتهاد استنباطًا.
أما سلطة العاقدين على تعديل تلك الآثار للعقود، إما بالنقص منها، وإما بإضافة التزامات على أحد الطرفين لا يستلزمها أصل العقد، وذلك بشروط يشترطانها في التعاقد، ومدى هذه السلطة، فقد اختلفت في ذلك اجتهادات الفقهاء وأنظارهم.
1- فذهب الحنفية إلى أن الأصل الشرعي في حرية الشروط العقدية هو التقييد، وذلك لأن لكل عقد في الشريعة أحكامًا أساسية تسمى (مقتضى العقد) نص عليها الكتاب أو السنة، أو استنبطها الاجتهاد وأثبتها حفظًا للتوازن بين العاقدين في الحقوق، فليس للعاقدين أن يشترطا من الشروط ما يخالف هذا المقتضى، فإن اشترطا شرطًا مخالفًا له فسد العقد في الجملة.(10/926)
وقد اعتبر الفقه الحنفي كل شرط متضمن لمنفعة زائدة على أصل
العقد مخالفًا ومفسدًا للمعاوضة المالية، كما لو اشترط في أصل البيع حمل المبيع إلى بيت المشتري على حساب البائع، أو إقراض أحد المتبايعين للآخر قرضًا ونحو ذلك. أما إذا كان ذلك الشرط في غير عقود المعاوضات المالية كالزواج، فيلغو الشرط ويصح العقد. ولكنه استثنى من المنع في عقود المبادلات المالية ثلاثة أنواع من الشروط، فاعتبرها صحيحة لازمة، وهي:
أ) الشرط الذي ورد الشرع بجوازه، كاشتراط تأجيل ثمن المبيع، واشتراط الخيار لأحد المتبايعين.
ب) الشرط الذي يلائم العقد، كاشتراط البائع على المشتري تقديم كفيل أو رهن بالثمن المؤجل، لأنه توثيق له.
جـ) الشرط الذي يجري به العرف المعتبر شرعًا، حيث إن العرف يصحح الشروط التي تعتبر في الأصل مفسدة للعقد. (1)
2 - واتجه الشافعية وأكثر المالكية إلى نحو ما ذهب الحنفية من لزوم التمسك بمقتضيات العقود إجمالًا، وعدا جواز اشتراط ما يخالفها، ولكنهم اختلفوا معهم في التفصيلات، نظرًا لتشعب أنظارهم واجتهاداتهم فيما هو مقتضى كل عقد، وفيما هو مخالف له من الشروط، ودرجة المخالفة، ومدى إخلالها بما يلزم مراعاته في العقود. (2)
قال البغوي: " وجملة ذلك أن كل شرط هو من مقتضى البيع أو من مصلحة البيع فهو جائز، أما مقتضاه: فهو مثل أن يبيعه عبدًا على أن يحسن إليه، أو دارًا على أن يسكنها إن شاء أو يسكنها غيره، وأما مصلحة العقد: فمثل أن يبيع بثمن ضرب له أجلًا معلوما، أو شرط أن يرهن بالثمن داره، أو يقيم فلانًا كفيلًا بالثمن.
__________
(1) المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى الزرقا: 1/ 468 - 479 بتصرف؛ القواعد النورانية الفقهية، لابن تيمية، ص 184 وما بعدها؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 126 وما بعدها
(2) انظر المدخل الفقهي للزرقا: 1/ 476؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 127، 128؛ المجموع: 9/ 363 وما بعدها(10/927)
فأما ما لا يقتضيه مطلق البيع من الشروط، ولا هو من مصلحة البيع، فإنه يفسد البيع إلا شرط العتق، وذلك مثل أن يشتري سلعة على أن يحملها البائع إلى بيته، أو ثوبًا على أن يخيطه، أو دابة على أن يسلمها في بلد كذا أو في وقت كذا، أو على أن لا خسارة عليه في ثمن المبيع، فالعقد فاسد، لأنه شرط يصير به الثمن مجهولًا، وكذلك لو باع داره وشرط فيه رضا الجيران أو رضا فلان، ففاسد لما فيه من الغرر، لأنه لا يدري هل يرضى فلان أو لا، وكذا لو باعه على أن البائع متى رد الثمن عاد المبيع إليه أو يرده المشتري إليه، ففاسد. وكذلك لو باعه على أن لا يبيعه المشتري، أو على أن يبيعه، أو على أن يهبه، فلا يصح، لأنه حجر عليه فيما هو مقصود الملك من إطلاق التصرف ". (1)
وجاء في (الأشباه والنظائر) ، لابن السبكي: " تنبيه: قد يتردد في أن الشيء مقتضى العقد أو لا، فيورث ذلك ترددًا في أنه شرطه هل يبطل أو لا؟ " (2)
__________
(1) شرح السنة للبغوي: 8/ 147، 148
(2) الأشباه والنظائر، لابن السبكي: 1/ 274(10/928)
وقال في (بداية المجتهد) : " وأما مالك؛ فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام: شروط تبطل هي والبيع معًا، وشروط تجوز هي والبيع معًا، وشروط تبطل ويثبت البيع , وقد يظن أن عنده قسمًا رابعًا، وهو أن من الشروط ما إن تمسك المشترط بشرطه بطل البيع، وإن تركه جاز البيع، وإعطاء فروق بينة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما تتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع، وهما الربا والغرر، وإلى ما قلته، وإلى التوسط بين ذلك، أو إلى ما يفيد نقصًا في الملك، فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرًا من قبل الشرط أبطله وأبطل الشرط، وما كان قليلًا أجازه وأجاز الشرط فيها، وما كان متوسطًا أبطل الشرط وأجاز البيع. ويرى أصحابه أن مذهبه هو أولى المذاهب، إذ بمذهبه تجتمع الأحاديث كلها، والجمع عندهم أحسن من الترجيح. وللمتأخرين من أصحاب مالك في ذلك تفصيلات متقاربة ". (1)
3- ويتجه الفقه الحنبلي إلى أن الأصل الشرعي بمقتضى دلائل نصوص الشريعة هو حرية العقود أنواعًا وشروطًا، ووجوب الوفاء بكل ما يلتزمه المتعاقدان ويشترطانه، ما لم يكن هناك نص أو قياس يمنع من عقد معين أو شرط محدد، فعندئذ يمتنع بخصوصه على خلاف القاعدة، ويعتبر الاتفاق عليه باطلًا، كالتعاقد على الربا أو القمار أو الغرر ونحو ذلك. ومستندهم على ذلك عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون على شروطهم)) (2) وقد استفيد القيد الاستثنائي المانع من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)) . (3) والمراد به ما أحل حرامًا أو حرم حلالًا.
__________
(1) بداية المجتهد: 2/ 160
(2) رواه أبو داود وابن حبان وابن الجارود والدارقطني والبيهقي والحاكم، وهو حديث صحيح، (إرواء الغليل: 5/ 142)
(3) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك في الموطأ، (انظر صحيح البخاري: 3/ 199؛ صحيح مسلم: 2/ 1141؛ سنن أبي داود: 2/ 346؛ عارضة الأحوذي: 8/ 280؛ سنن النسائي: 7/ 268؛ الموطأ: 2/ 780)(10/929)
وعلى ذلك فإن الفقه الحنبلي - في الجملة - لم يعتبر للعقود مقتضيات ضيقة بحدود ثابتة تتحكم في إرادة المتعاقدين، بل إن الشارع قد فوض إلى إرادة المتعاقدين تحديد هذه المقتضيات في نطاق حقوقهما في كل ما لا يصادم نصًّا من نصوص الشريعة ولا ينقض أصلًا من أصولها، وفقهاء الحنابلة لا يعتبرون - كغيرهم - أن كل مصلحة يشترطها أحد العاقدين لنفسه مما لا يوجبه العقد بذاته تكون منافية لمقتضاه، بل يعتبرون مصلحة العاقد من مصلحة العقد نفسه ما دامت مشروعة، أي غير محظورة شرعًا. (1)
__________
(1) انظر المدخل الفقهي، للزرقا: 1/ 479 - 499؛ إعلام الموقعين: 3/ 381؛ القواعد النورانية الفقهية، ص 188؛ السيل الجرار: 3/ 59(10/930)
جاء في مجموع فتاوى ابن تيمية: " الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم منها ولا يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًّا أو قياسًا عند من يقول به وأصول أحمد المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحًا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحًا للشروط منه.
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعًا من الصحة، ولا تعارض ذلك بكونه شرطًا يخالف مقتضى العقد أو لم يرد به نص، وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا تجده عند غيره من الأئمة، فقال بذلك وبما في معناه قياسًا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعفه أويضعف دلالته، وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس.. " (1) والذي انتهى إليه الإمام ابن القيم - من أجلة محققي الحنابلة - في المسألة قوله: " الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح ". (2) وقال: " فكل ما لم يبين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تحريمه من العقود والشروط فلا يجوز تحريمها، فإن الله سبحانه قد فصل لنا ما حرم علينا، فما كان من هذه الأشياء حرامًا فلابد أن يكون تحريمه مفصلًا، وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرمه الله، فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرمه ". (3)
ثم قال: " والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنًا ليس عند كثير من الفقهاء، فإنهم يلغون شروطًا لم يلغها الشارع، ويفسدون بها العقد من غير مفسدة تقتضي فساده، وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود وما لا يقبله، فليس لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه دليل، فالصواب الضابط الشرعي الذي دل عليه النص أن كل شرط يخالف حكم الله فهو باطل، وما لم يخالف حكمه فهو لازم " (4) " وههنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع التي بعث الله بها رسوله: إحداهما: أن كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطل، كائنًا ما كان. والثانية: أن كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه، وهو ما يجوز تركه وفعله بدون الشرط، فهو لازم بالشرط. ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيء، وقد دل عليهما كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الصحابة، ولا تعبأ بالنقض بالمسائل المذهبية والأقوال الآرائية، فإنها لا تهدم قاعدة من قواعد الشرع ". (5)
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 132، 133؛ القواعد النورانية الفقهية، لابن تيمية، ص 188
(2) إعلام الموقعين: 1/ 344
(3) إعلام الموقعين: 1/ 383
(4) إعلام الموقعين: 3/ 401
(5) إعلام الموقعين: 3/ 402(10/931)
القول المختار:
والذي يترجح عندي الأخذ به والتعويل عليه مما سبق بيانه من أقاويل أهل العلم هو ما اتجه إليه ابن تيمية وابن القيم من أن الأصل في الشروط العقدية الجواز والصحة إلا ما أبطله الشرع أو نهى عنه، فكل شرط لا يخالف نصًّا أو قياسًا صحيحًا فهو صحيح معتبر، وكل ما خالف نصا أو عارض قياسًا صحيحًا فهو غير سائغ شرعًا، والله أعلم.
حكم العقود المجتمعة وأثر المواعدة السابقة عليها:
(أ) حكم العقود المجتمعة في اتفاقية واحدة:
أجمع الفقهاء على حرمة اجتماع القررض مع البيع في صفقة واحدة (1) لما روى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده ومالك في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وسلف، قال الترمذي: حديث حسن صحيح (2)
قال البغوي: " وذلك مثل أن يقول: أبيعك هذا الثوب بعشرة دراهم على أن تقرضني عشرة دراهم، فهذا فاسد، لأنه جعل العشرة ورفق القرض ثمنًا للثوب، فإذا بطل الشرط سقط بعض الثمن، فيكون ما بقي من المبيع بمقابلة الباقي مجهولًا ". (3)
وقال القاضي ابن العربي: " وأما بيع وسلف، فإنما نهي عنه لتضادِّ الهدفين، فإن البيع مبني على المشاحة والمغابنة، والسلف مبني على المعروف والمكارمة، وكل عقدين يتضادان وصفًا لا يجوز أن يجتمعا شرعًا، فاتخذوا هذا أصلًا " (4)
وقال ابن القيم: " وحرم الجمع بين السلف والبيع لما فيه من الذريعة إلى الربا في السلف بأخذ أكثر مما أعطى، والتوسل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة كما هو الواقع ". (5) وقال أيضًا: " وأما السلف والبيع، فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة، فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك ". (6)
__________
(1) بداية المجتهد: 2/ 162؛ المغني: 6/ 334؛ المبسوط: 14/ 40؛ فتح القدير: 6/ 80؛ القبس شرح الموطأ: 2/ 843؛ الروضة الندية: 2/ 104
(2) الموطأ: 2/ 657؛ مختصر سنن أبي داود، للمنذري؛ ومعالم السنن، للخطابي: 5/ 144؛ مرقاة المفاتيح: 2/ 323؛ عارضة الأحوذي: 5/ 241؛ نيل الأوطار: 5/ 179؛ الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 4/ 39
(3) شرح السنة: 8/ 145؛وانظر فتح العزيز: 9/ 383، 384
(4) القبس: 2/ 798
(5) إغاثة اللهفان: 1/ 363
(6) تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم: 5/ 149(10/932)
ولا خلاف بين الفقهاء في أن الحكم بحرمة ذلك وفساده منسحب على الجمع بين القرض والسلم، وبين القرض والصرف، وبين القرض والإجارة، لأنها كلها بيوع. وأما الجمع بين ما سوى ذلك من العقود فهو محل نظر الفقهاء، وقد اختلفت اجتهاداتهم فيه، وتباينت تفصيلاتهم وآراؤهم في كثير من صوره وضوابطه، وذلك على النحو التالي:
1 - فقال الحنفية: لو باع عبدا على أن يستخدمه البائع شهرًا أو دارأ على أن يسكنها كذلك، أو على أن يقرضه المشتري درهمًا، أو على أن يهدي له هدية، فالبيع بهذه الشروط كلها فاسد؛ لأنها شروط لا يقتضيها العقد، وفيها منفعة لأحد المتعاقدين، ولأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف، ولأنه لو كان الخدمة والسكن يقابلهما شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، فيتناول كلا من الاعتبارين المذكورين (1)
أما لو قال: بعتك هذه الدار بألف على أن يقرضني فلان الأجنبي عشرة دراهم، فقبل المشتري ذلك البيع، صح؛ لأن الإقراض لا يلزم الأجنبي (2)
ولو دفع ألف درهم إلى رجل على أن يكون نصفها قرضًا عليه، ويعمل في النصف الآخر بشركته، فإنه يجوز ذلك. (3) وذلك يعني مشروعية الجمع بين القرض والشركة عندهم.
كذلك أجاز الحنفية شركة المفاوضة على أساس تضمنها الوكالة والكفالة (4)
__________
(1) المبسوط: 13/ 16؛ فتح القدير: 6/ 80
(2) فتح القدير: 6/ 81؛ العناية على الهداية: 6/ 80
(3) المبسوط: 12/ 64، وانظر المبسوط أيضًا: 30/ 238
(4) المبسوط: 11/ 177(10/933)
2 - وجاء المالكية في المسألة بفقه نفيس، فقال القاضي ابن العربي: " يتركب على حديث النهي عن بيع وسلف أصل بديع من أصول المالكية، وهو أن كل عقدين يتضادان وصفًا ويتناقضان حكمًا، فإنه لا يجوز اجتماعهما، أصله البيع والسلف، فركبه عليه في جميع مسائل الفقه، ومنه البيع والنكاح، وذلك أن البيع مبني على المغابنة والمكايسة، خارج عن باب العرف (1) والعبادات، والسلف مكارمة وقربة، ومن هذا الباب الجمع بين العقد الواجب والجائز (2) ومثله بيع وجعالة، ويزيده على ذلك أن أحد العوضين في الجعالة مجهول، ولا يجوز أن يكون معلومًا، فإنه إن كان معلوما خرج عن باب الجعل، والتحق بباب الإجارة، وأمثال ذلك لا تحصى " (3)
وجاء في (الفروق) للقرافي: " الفرق السادس والخمسون والمائة بين قاعدة ما يجوز اجتماعه مع البيع وقاعدة ما لا يجوز اجتماعه معه: اعلم أن الفقهاء جمعوا أسماء العقود التي لا يجوز اجتماعها مع البيع في قولك " جص مشنق "، فالجيم للجعالة والصاد للصرف، والميم للمساقاة، والشين للشركة، والنون للنكاح، والقاف للقراض.
والسر في الفرق أن العقود أسباب، لاشتمالها على تحصيل حكمتها في مسبباتها بطريق المناسبة، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين، فكل عقدين بينهما تضاد لا يجمعهما عقد واحد، فلذلك اختصت العقود التي يجوز اجتماعها مع البيع كالإجارة، بخلاف الجعالة للزوم الجهالة في عمل الجعالة، وذلك ينافي البيع، والإجارة مبنية على نفي الغرر والجهالة، وذلك موافق للبيع.
ولا يجتمع النكاح والبيع لتضادهما في المكايسة في العوض والمعوض، بالمسامحة في النكاح والمشاحة في البيع، فحصل التضاد. والصرف مبني على التشديد وامتناع الخيار والتأخير وأمور كثيرة لا تشترط في البيع، فضاد البيع الصرف، والمساقاة والقراض فيهما الغرر والجهالة كالجعالة وذلك مضاد للبيع. والشركة فيها صرف أحد النقدين بالآخر من غير قبض، فهو صرف غير ناجز، وفي الشركة مخالفة للأصول، والبيع على وفق الأصول، فهما متضادان. وما لا تضاد فيه يجوز جمعا مع البيع، فهذا وجه الفرق " (4)
وجاء في (تهذيب الفروق والقواعد السنية) : " وأما نحو الإجارة والهبة مما يماثل البيع في الأحكام والشروط ولا يضاده، فإنه يجوز اجتماعه مع البيع، كما يجوز اجتماع أحدهما مع الآخر في عقد واحد لعدم التنافي ". (5)
__________
(1) أي المعروف
(2) أي غير اللازم
(3) القبس شرح الموطأ: 2/ 843
(4) الفروق: 3/ 142
(5) تهذيب الفروق: 3/ 178(10/934)
وقال ابن رشد الحفيد: " واختلفوا إذا اقترن بالمهر بيع، مثل أن تدفع إليه عبدًا، ويدفع ألف درهم عن الصداق وعن ثمن العبد، ولا يسمى الثمن من الصداق، فمنعه مالك وابن قاسم، وبه قال أبو ثور، وأجازه أشهب، وهو قول أبي حنيفة، وفرق عبد الله فقال: إن كان الباقي بعد البيع ربع دينار فصاعدًا بأمر لا يشك فيه جاز , واختلف فيه قول الشافعي، فمرة قال: ذلك جائز، ومرة قال: فيه مهر المثل، وسبب اختلافهم: هل النكاح في ذلك شبيه بالبيع أم ليس بشبيه؟ فمن شبهه في ذلك بالبيع منعه، ومن جوز في النكاح من الجهل ما لا يجوز في البيع قال: يجوز ". (1)
وذكر ميارة في شرحه على التحفة أنه كما لا يجتمع البيع مع واحد من العقود السبعة: القرض والشركة والصرف والجعل والنكاح والمساقاة والقراض، فكذلك لا يجتمع اثنان منها في عقد واحد، لافتراق أحكامها. (2) واستثنى القاضي عبد الوهاب من منع اجتماع الصرف مع البيع ما إذا كان البيع يسيرًا وجاء على وجه التبع، فقال: " ولا يجوز أن ينضم إلى الصرف عقد بيع إلا أن يكون يسيرًا على وجه التبع؛ لأن الصرف ضيق بابه وغلظ فيه واختص بأحكام لا توجد في غيره، فإذا انضم إليه غيره، احتيج إلى اعتباره به، وذلك غير جائز. فإن كان يسيرًا جاز؛ لأن الضرورة تدعو إليه، مثل أن يصرف دينارًا بعشرة دراهم، فيعجز الدرهم أو النصف، فيدفع إليه عرضًا بقيمته، أو يزيد الدينار والدرهم وكسره غير جائز، فهنا يجوز للضرورة، لأنه يعلم أن البيع غير مقصود ". (3)
__________
(1) بداية المجتهد: 2/ 28
(2) ميارة على التحفة: 1/ 283؛ وانظر البهجة: 2/ 9، 10
(3) المعونة، للقاضي عبد الوهاب: 2/ 1027(10/935)
وللشاطبي في الموافقات كلام نفيس حول هذه القضية، جاء فيه: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والسلف؛ لأن باب البيع يقتضي المغابنة والمكايسة، وباب السلف يقتضي المكارمة والسماح والإحسان، فإذا اجتمعا داخل السلف المعنى الذي في البيع، فخرج السلف عن أصله ... ولأجل هذا منع مالك مِن جَمْع عقود بعضها إلى بعض، وإن كان في بعضها خلاف، فالجواز ينبني على الشهادة بعدم المنافاة بين الأحكام، اعتبارًا بمعنى الانفراد حالة الاجتماع، فمنع من اجتماع الصرف والبيع، والنكاح والبيع، والقراض والبيع، والمساقاة والبيع، والشركة والبيع، والجعل والبيع - والإجارة في الاجتماع مع هذه الأشياء كالبيع - ومنع من اجتماع الجزاف والمكيل، واختلف العلماء في اجتماع الإجارة والبيع.
وهذا كله لأجل اجتماع الأحكام المختلفة في العقد الواحد، فالصرف
مبني على غاية التضييق، حتى شرط فيه التماثل الحقيقي في الجنس، والتقابض الذي لا تردد فيه ولا تأخير ولا بقاء علقة، وليس البيع كذلك، والنكاح مبني على المكارمة والمسامحة وعدم المشاحة، ولذلك سمى الله الصداق نحلة، وهي العطية لا في مقابلة عوض، وأجيز فيه نكاح التفويض، بخلاف البيع، والقراض والمساقاة مبنيان على التوسعة، إذ هما مستثنيان من أصل ممنوع، وهو الإجارة المجهولة، فصارا كالرخصة، بخلاف البيع، فإنه مبني على رفع الجهالة في الثمن والمثمون والأجل وغير ذلك، فأحكامه تنافي أحكامهما، والشركة مبناها على المعروف والتعاون على إقامة المعاش للجانبين بالنسبة إلى كل واحد من الشريكين، والبيع يضاد ذلك.
والجُعل مبني على الجهالة بالعمل، وعلى أن العامل بالخيار، والبيع يأبى هذين، واعتبار الكيل في المكيل قَصْد إلى غاية الممكن في العلم بالمكيل، والجزاف مبني على المسامحة في العلم بالمبيع، للاجتزاء فيه بالتخمين الذي لا يوصل إلى علم. والإجارة عقد على منافع لم توجد، فهو على أصل الجهالة، وإنما جازت لحاجة التعاون كالشركة، والبيع ليس كذلك. وقد اختلفوا أيضًا في عقد على بت في سلعة وخيار في أخرى، والمنع بناء على تضاد البت والخيار ". (1)
__________
(1) الموافقات، للشاطبي: 3/ 193، 195، 196، 198 - 03 2 (بتصرف)(10/936)
3 - ونص الشافعية على أنه إذا جمع في التعاقد بين بيع وإجارة، أو بيع وسلم، أو إجارة وسلم، أو صرف وغيره، أو جمع في العقد بين مبيعين مختلفي الحكم كثوبين شُرِط الخيار في أحدهما دون الآخر، فأصح القولين في المذهب صحة العقد فيهما، ويسقط العوض عليهما بالقيمة، لأنه ليس في ذلك أكثر من اختلاف حكم العقدين، وهذا لا يمنع صحة العقد، كما لو جمع في البيع بين ما فيه شفعة وبين ما لا شفعة فيه.
قالوا: وصورة البيع والإجارة: بعتك عبدي وأجرتك داري سنة بألف، وصورة البيع والسلم: بعتك ثوبي ومائة صاع حنطة سَلَمًا بدينار، وصورة الإجارة والسَّلَم: أجرتك داري سنة وبعت مائة صاع حنطة سلمًا بمائة درهم.
ومثل ذلك ما لو جمع بيعًا ونكاحًا، فقال: زوجتك جاريتي هذه وبعتك عبدي هذا بمائة، وهو ممن تحل له الأمة، أو قال: زوجتك بنتي وبعتك عبدها، وهي في حجره، أو رشيدة وكلته في بيعه، صح النكاح بلا خلاف في المذهب، وصح البيع والصداق في أصح القولين، ويوزع المسمى على قيمة المبيع ومهرالمثل. (1)
__________
(1) المجموع شرح المهذب: 9/ 388(10/937)
4 - وفرق الحنابلة في المذهب بين نوعين من الجمع:
(أحدهما) الجمع بين عقدين مختلفي الحكم بعوضين متميزين، مثل: بعتك داري هذه بكذا على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو على أن أؤجرك أو على أن تؤجرني كذا بكذا، أو على أن تزوجني ابنتك، أو على أن أزوجك ابنتي، ونحو ذلك، فهذا كله باطل لا يصح؛ لأنه من بيعتين في بيعة، أو صفقتين في صفقة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
(والثاني) الجمع بين عقدين لشيئين مختلفي القيمة بعوض واحد، كالصرف وبيع ما يجوز التفرق فيه قبل القبض، والبيع والنكاح، والبيع والإجارة، نحو أن يقول: بعتك هذا الدينار وهذا الثوب بعشرين درهمًا، أو: بعتك هذا الدار وأجرتك الأخرى بألف، أو باعه سيفًا محلى بالذهب بفضة، أو: زوجتك ابنتي وبعتك عبدها بألف، صح العقد فيهما، لأنهما عينان يجوز أخذ العوض عن كل واحدة منهما منفردة، فجاز أخذ العوض عنهما مجتمعين. (1)
وقد جاء في إعلام الموقعين: " لا محذور في الجمع بين عقدين، كل منهما جائز بمفرده، كما لو باعه سلعة وأجره داره شهرًا بمائة درهم ". (2)
ثم إن الحنابلة قاسوا على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلفٍ الجمع بين البيع (ومثله الصرف والسلم والإجارة باعتبارها بيوعا) وبين أي تبرع مثل الهبة والعارية والعرية والمحاباة في المساقاة والمزارعة، فمنعوا من ذلك كله، قال ابن تيمية: " فجماع معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع؛ لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة، لا تبرعًا مطلقًا، فيصير جزءًا من العوض، فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض، فقد جمعا بين أمرين متباينين ". (3)
وعندي أن منع الجمع بين البيع وأي تبرع قياسًا على حظر الجمع نصًّا بين البيع والسلف فيه نظر؛ لأن الهبة المقارِنة للبيع إنما هي مجرد تسمية، فإذا قال شخص لآخر: بعني دارك بمائة على أن تهبني ثوبك، ففعل، فالدار والثوب مبيعان معًا بمائة. وإذا قال شخص لآخر: أبيعك داري بمائة على أن تهبني ثوبك، فالدار مبيعة بالمائة والثوب معًا، والتسمية لا أثر لها ,فليتأمل (4)
__________
(1) المغني، لابن قدامة: 6/ 332, 333؛ وانظر الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية، ص 122، 155
(2) إعلام الموقعين: 3/ 354
(3) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 4/ 39؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 62؛ القواعد النورانية الفقهية، لابن تيمية، ص 142
(4) انظر تهذيب الفروق والقواعد السنية: 3/ 179(10/938)
الرأي المختار:
بالنظر في آراء الفقهاء وتفصيلاتهم وأدلتهم في القضية، يترجح عندي:
(أ) حظر الجمع بين كل عقدين يترتب على الجمع بينهما توسل بما هو مشروع إلى ما هو محظور، وإن كان كل واحد منهما جائزًا بمفرده، وذلك لأنه قد نشأ في الجمع بينهما معنى زائد لأجله وقع النهي الشرعي. ومن أمثلة ذلك: الجمع بين البيع والقرض، فإن من أقرض رجلًا ألف درهم، وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف، لم يرض بالإقراض إلا بالثمن الزائد للسلعة، والمشتري كذلك لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها، فلا هذا باع بيعًا بألف، ولا هذا أقرض قرضًا محضًا، بل الحقيقة أنه أعطاه الألف والسلعة التي تساوي خمسمائة بألفين. (1)
ومن أمثلته أيضًا: أن يبيعه السلعة بمائة مؤجلة على أن يشتريها منه بثمانين حالَّة، حيث إن الجمع بين العقدين ههنا (العينة) يؤول إلى الربا، فهما في الظاهر بيعتان، وفي الحقيقة ربًا، إذ السلعة لغو لا معنى لها في هذا العمل؛ لأن المصالح التي شرع البيع من أجلها لم يوجد منها في هذه المعاقدة شيء. (2)
وأساس ذلك كما قال الإمام الشاطبي: إن الاستقراء من الشرع عرف أن للاجتماع تأثيرًا في أحكام لا تكون في حالة الانفراد فقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف، وكل واحد منهما لو انفرد لجاز، ونهى الله تعالى عن الجمع بين الأختين في النكاح، مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، وقال: ((إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)) ، فدل ذلك على أن للجمع حكمًا ليس للانفراد، فكان الاجتماع مؤثرًا، وهو دليل، وكان تأثيره في قطع الأرحام هو رفع حل الاجتماع , وذلك يقتضي أن يكون للاجتماع في بعض الأحوال تأثير ليس للانفراد، وأن يكون للانفراد حكم ليس للاجتماع، وللاجتماع حكم ليس للانفراد. (3)
__________
(1) انظر الموافقات، للشاطبي: 3/ 196، مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 62، القواعد النورانية الفقهية ص 142، الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 4/ 39
(2) مختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية، ص 327؛ تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم: 5/ 100، 106؛ إعلام الموقعين: 3/ 161، 162؛ الموافقات: 4/ 199
(3) الموافقات: 3/ 192(10/939)
(ب) كل عقدين يتضادان وصفًا ويتناقضان حكمًا، فإنه لا يجوز الجمع بينهما شرعًا، وذلك لأن العقود أسباب، وإنما تفضي إلى تحصيل حكمها في مسبباتها بطريق المناسبة، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين، ثم نظرًا لما يترتب على الجمع بينهما من الجهالة أو الغرر اللذين يفضيان إلى الخصومة والمنازعة، وانتفاء ذلك مطلوب شرعًا في كل معاقدة.
هذا، وقد تبين لنا مما سبق بيانه في القضية أن أنظار الفقهاء واجتهاداتهم متباينة ومختلفة فيما يصدق عليه التنافي والتضاد من العقود المجتمعة، وإن كانوا متفقين في الجملة على أصل حظر الجمع بين كل عقدين متضادين وصفًا وحكمًا ... مما يوجب على فقهاء العصر الفهم العميق والنظر الفسيح والاجتهاد الدقيق في سائر العقود المجتمعة التي يجري فيها التعامل أو يحتاج إليه في هذا العصر.. ذلك للتأكد من انطباق هذا الأصل عليها أو عدمه قبل الإفتاء فيها بالجواز أو المنع شرعًا، والله تعالى أعلم.(10/940)
أثر المواعدة السابقة (التفاهم) على العقود المجتمعة:
تعتبر المواعدة السابقة (التفاهم) على العقود المجتمعة - في النظر الفقهي - مرتبطة بالاتفاقية الجامعة لتلك العقود في سلك واحد وشطرًا منها من حيث الحكم التكليفي والآثار المترتبة عليها. وهذا الأصل الفقهي الكفي مستنبط من:
1 - اشتراط الفقهاء المجيزين لـ (ضع وتعجل) - أي الاتفاق بين الدائن والمدين على تعجيل المدين دينه مقابل حط جزء منه عنه - لحل وصحة هذه المعاقدة أن تقع بدون مواطأة (أي مفاهمة) سابقة بين الطرفين وقت ثبوت الحق في الذمة، وإلا اعتبر صلح الحطيطة هذا حيلة ربوية غير مشروعة، وذلك اعتبارًا لقيام الارتباط بين المواطأة السابقة والمعاقدة اللاحقة بالوضع والتعجيل.
2 - من نصوص بعض الفقهاء على إناطة حرمة بيع العينة بالتواطؤ على البيعتين مسبقًا، وفي ذلك يقول ابن تيمية: (مسألة العينة: وهي أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يشتريها منه بثمن حال أقل منه، فهذا مع التواطؤ يبطل البيعتين، لأنهما حيلة) . (1) وقال ابن القيم: " وكذلك إنما شرع البيع لمن له غرض صحيح في تملك الثمن وتمليك السلعة، ولم يشرعه قط لمن قصد به ربا الفضل أو النَّساء، ولا غرض له في الثمن ولا في المثمن ولا في السلعة، وإنما غرضهما الربا ". (2)
3 - النصوص الفقهية التي أناطت حظر نكاح التحليل بالاشتراط أو المفاهمة السابقة عليه، فإن تم ذلك بدون أي اشتراط أو مواطأة سابقة لم يكن فيه بأس. (3)
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 30
(2) إعلام الموقعين: 3/ 250
(3) المبسوط للسرخسي: 30/ 28(10/941)
4 - تقييد بعض محققي الفقهاء العمل بمقتضى حديث " بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا ". بأن يقع ذلك بدون مواطأة سابقة (1) قال ابن القيم: " يوضحه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا)) ، وهذا يقتضي بيعًا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول، ومتى واطأه في أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك، فقد اتفقا على العقدين معًا، فلا يكون الثاني عقدًا مستقلًا مبتدأ، بل هو من تتمة العقد الأول عندهما وفي اتفاقهما، وظاهر الحديث أنه أمر بعقدين لا يرتبط أحدهما بالآخر ولا ينبني عليه ". (2)
5 - نص كثير من الفقهاء على التسوية بين الشروط المشروطة في صلب العقد والشروط المتفق عليها قبل العقد، ولو لم يصرح بها في حال التعاقد، ما دام العقد قد اعتمد عليها، اعتبارا للشرط الملحوظ كالشرط الملفوظ في الحكم. (3) وقد حكى العلامة ابن القيم عن جمهور أهل العلم أنه لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن، إذ مفسدة الشرط المتقدم لم تزل بتقدمه وإسلافه، ومفسدته مقارنًا كمفسدته متقدما ولا فرق. (4)
بناء على ما تقدم، فإنه يترجح عندي القول بأن المواعدة السابقة (التفاهم) على العقود المجتمعة تعتبر ملحقة بالاتفاقية المبرمة عليها أو جزء منها، كما أنه يعد في حكم المواطأة اللفظية المواطأة العرفية (5) وينبني على هذا الأساس أن الاتفاقية على العقود المجتمعة مضافًا إليها التفاهم المسبق وما في حكمه من المواطأة العرفية إذا ترتب على ما اجتمع فيها من عقود ووعود وشروط أمر محظور كالربا والجهالة الفاحشة والغرر، أو كانت متناقضة متنافرة في أوصافها أو أحكامها فإنها تعد محظورة شرعًا، ولو أن كل عقد أو وعد أو شرط فيها مشروع بمفرده، إذ قد دل الاستقراء من الشرع على أن للاجتماع تأثيرًا في أحكام لا تكون في حالة الانفراد، مما يجعل للانفراد حكمًا ليس للاجتماع، وللاجتماع حكمًا ليس للانفراد (6) والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر إعلام الموقعين: 3/ 240، 242، 243
(2) إعلام الموقعين: 3/ 238
(3) المدخل الفقهي العام، للأستاذ الزرقا: 1/ 487
(4) إعلام الموقعين: 3/ 145، ملاحظة: وللحنفية في المسألة خلاف معروف، مفاده أن المواضعة وكذا المواعدة المتقدمة على العقد لا عبرة فيهما، ولا يلتحقان بأصل العقد، وأن الشرط المتقدم لا تأثير له على العقد، ولا يعتبر كالمقارن، (انظر جامع الفصولين: 2/ 237)
(5) إعلام الموقعين: 3/ 241، 242
(6) انظر الموافقات، للشاطبي: 3/ 161، 162(10/942)
(2) أنموذج للتطبيقات المعاصرة في العقود المركبة
عقود التوريد:
عقد التوريد هو عقد بين جهتين، تلتزم فيه إحداهما بتوريد أصناف (سلع - مواد) محددة الأوصاف والمقادير، في تواريخ معينة، مقابل ثمن محدد، يدفع منجمًا على أقساط (1)
والذي يبدو لي أن عقد التوريد ليس من قبيل العقود المركبة (2) - كما جاء في الخطة التي وضعها المجمع الموقر لهذا الموضوع - وإنما هو أشبه ببيع السلم أو عقد الاستصناع، الذي يتفق فيه العاقدان على تأجيل البدلين: المبيع والثمن، إلى آجال معلومة.
وعلى ذلك فيجب أن يحدد في عقود التوريد مقدار المبيع وأوصافه، وآجال التسليم، وأن يكون المعقود عليه مقدور التسليم عند حلول أجله.
غير أن في عقود التوريد - أن جرى تكييفها الفقهي سلمًا - إشكالًا من ناحية أخرى، وهي أن كلا البدلين (المبيع والثمن) مؤجلان، مما يجعلها داخلة تحت بيع الكالئ بالكالئ، وهو ممنوع شرعًا في قول سائر أهل العلم، ولكن يستثنى من ذلك الحظر ما إذا كانت هناك حاجة عامة أو خاصة إليه، إذ الحاجة تُنزَّل منزلة الضرورة، عامة كانت أم خاصة كما جاء في القواعد الفقهية، ولا يبعد أن يقال في هذا المقام بتحقق تلك الحاجة إلى عقود التوريد، وعلى ذلك يكون الغرر فيها مغتفرًا، وتعتبر سائغة في النظر الفقهي. (3)
__________
(1) انظر مناقصات العقود الإدارية، ورقة عمل مقدمة إلى الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي، ص 29، 51
(2) حتى ولو كان عقد التوريد واردًا على عدد من السلع أو المواد، إذ المعقود عليه في هذه الحالة يعتبر بمثابة مبيع واحد، وإن اختلفت مكوناته أو أجزاؤه، بثمن واحد. وقد سبق أن بينا قول جماهير الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة بجواز بيع شيئين أو أكثر بثمن واحد وأنه لا حرج شرعًا في إبرام صفقة واحدة جمعت بين شيئين بثمن معلوم.
(3) انظر بيع الكالئ بالكالئ، للدكتور نزيه حماد، ص 28 - 29(10/943)
أما إذا جرى تكييفها الفقهي على أنها من قبيل الاستصناع، لكون السلعة أو السلع أو المواد التي يجري توريدها من المنتجات الصناعية للمورد مثلًا، فالأمر أيسر، إذ أجاز الحنفية في الاستصناع - إلى جانب تأجيل المبيع - عدم تعجيل الثمن، وكذا تأجيله إلى أجل معلوم، وقد اعتمد ذلك المجمع الموقر في قراره رقم 67/ 3/ 7 في دورته السابعة بجدة (ذو القعدة 1412 هـ/ مايو 992 م) حيث جاء فيه:
*يشترط في عقد الاستصناع ما يلي:
أ- بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة.
ب - أن يحدد فيه الأجل.
*يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله أو تقسيطه إلى أقساط معلومة الآجال محددة.
وعلى ذلك فلا يكون هناك حرج شرعًا في إبرام عقود التوريد التي تكيف فقهيًّا على أنها من قبيل الاستصناع، وإن اتفق فيها على تأخير البدلين.(10/944)
(3) أنموذج للتطبيقات المعاصرة للعقود المجتمعة
المشاركة المتناقصة:
تعتبر المشاركة المتناقصة لونًا من الأساليب الجديدة التي استحدثتها المصارف الإسلامية لاستثمار أموالها، ولحلولها محل البنوك التقليدية في تلبية حاجات العملاء التمويلية بمنأى عن القروض الربوية , حيث يقدم المصرف الإسلامي جزءا من رأس المال المطلوب للمشروع بصفته مشاركًا للعميل الذي يقدم الجزء الباقي من رأس مال المشروع، ويتفق المصرف مع ذلك الشريك على طريقة معينة لبيع حصته في المشروع تدريجيًّا إليه.
ويتمتع المصرف في هذا الأسلوب بكامل حقوق الشريك العادي في الشركات المسماة، وعليه جميع التزاماته وتبعاته وضماناته، غير أنه لا يقصد - كما هو مفهوم منذ بداية المراوضة والمواعدة ثم الاتفاقية مع العميل - البقاء والاستمرار في الشركة، ولهذا فهو يعطي الحق للشريك (العميل) في أن يحل محله في ملكية العقار أو المشروع، ويعرض موافقته على التنزل عن حصته الشائعة في أعيان الشركة وموجوداتها دفعة واحدة أوعلى دفعات، حسبما تقتضي الشروط المتفق عليها. (1)
هذا، وتوجد صور وتطبيقات متعددة للشركة المتناقصة في الواقع العملي، ولعل أكثرها انتشارا تلك التي يتم بموجبها اتفاق الطرفين على تنزُّل المصرف عن حصته تدريجيًّا للشريك (العميل) مقابل سداده ثمنها دوريًّا (من العائد الذي يؤول إليه، أو من أية موارد خارجية أخرى) وذلك خلال فترة مناسبة يُتَّفَق عليها، وعند انتهاء عملية السداد يتم انتقال ملكية حصة البنك بالكلية إلى ذلك العميل (الشريك) .
أما عن مجالات تطبيق المشاركة المتناقصة، فإنها تصلح أسلوبًا لتمويل المنشآت الصناعية والمزارع والمستشفيات، وكل ما من شأنه أن يكون مشروعًا منتجًا للدخل المنتظم، كما أنها تصلح طريقة للتمويل العقاري في البيوت السكنية وغيرها كبديل عن القروض الربوية والرهون المرتبطة بها.
أما عن مزاياها، فإنها بالنسبة للمصرف: تحقق له أرباحًا دورية على مدار السنة، وبالنسبة للشريك: تشجعه على الاستثمار الحلال والتملك المشروع، وتحقق طموحاته المتمثلة في انفراده بتملك العقار أو المنشأة أو المشروع على المدى المتوسط، وذلك بتخارج المصرف تدريجيًّا من الشركة.
__________
(1) انظر أدوات الاستثمار الإسلامية، لعز الدين محمد خوجة، ص 105- 106(10/945)
أما عن أحكامها، فبالإضافة إلى تعلق جميع الأحكام العامة المتعلقة بالشركات في الفقه الإسلامي بالشركة المتناقصة، فإنه يلزم فيها مراعاة الأمور التالية:
1- يشترط في المشاركة المتناقصة أن لا تكون حيلة للإقراض بفائدة، ولذلك فلابد من وجود الإرادة الحقيقية للمشاركة، وأن يتحمل جميع الشركاء الخسارة مقابل استحقاقهم للأرباح والعوائد خلال فترة المشاركة.
2 - يشترط فيها أن يمتلك المصرف حصته في المشروع أو العقار، وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف، وفي حالة توكيل الشريك بالعمل يحق للبنك مراقبة ومتابعة الأداء.
3 - يجوز للبنك أن يقدم وعدًا لشريكه بأن يبيع له حصته في الشركة إذا قام بتسديد قيمتها، ويجب أن يتم البيع بعد ذلك باعتباره عملًّا مستقلًا لا صلة له بعقد الشركة (1)
__________
(1) انظر أدوات الاستثمار الإسلامية، لعز الدين خوجة، ص 110 - 111(10/946)
هذا، وقد بحث المؤتمرون في مؤتمر المصرف الإسلامي الأول بدبي موضوع المشاركات المتناقصة وانتهوا إلى أن هذا الأسلوب يمكن أن يكون على إحدى الصور التالية:
الصورة الأولى:
يتفق البنك مع متعامله على تحديد حصة كل منهما في رأس مال المشاركة وشرطها.. وقد رأى المؤتمر أن يكون بيع حصص البنك إلى المتعامل بعد إتمام المشاركة بعقد مستقل، بحيث يكون له الحق في بيعها للبنك أو لغيره، وكذلك الأمر بالنسبة للبنك بأن تكون له حرية بيع حصصه للمتعامل شريكه أو لغيره.
الصورة الثانية:
يتفق البنك مع متعامله على المشاركة في التمويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس اتفاق البنك مع الشريك الآخر لحصول البنك على حصة نسبية من صافي الدخل المحقق فعلًا، مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي من الإيراد أو أي قدر منه يتفق عليه، ليكون ذلك الجزء مخصص لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل.
الصورة الثالثة:
يحدد نصيب كل من البنك وشريكه في الشركة في صورة أسهم تمثل مجموع قيمة الشيء موضوع المشاركة (عقار مثلًا) ، ويحصل كل من الشريكين (البنك والشريك) على نصيبه من الإيراد المتحقق من العقار.. وللشريك إذا شاء أن يقتني من هذه الأسهم المملوكة للبنك عددًا معينًا كل سنة، بحيث تكون الأسهم الموجودة في حيازة البنك متناقصة، إلى أن يتم تمليك شريك البنك الأسهم بكاملها، فتصبح له الملكية المنفردة للعقار دون شريك آخر.(10/947)
رأينا في المسألة:
* لقد اتضح لنا مما سبق أن المشاركة المتناقصة هي اتفاقية تتركب من عقدين رئيسيين: (أولهما) إحداث شركة المِلك بين الطرفين بشراء المشروع أو العقار محلها بمالهما. (والآخر) بيع الممول حصته في المال المشترك تدريجيًّا إلى شريكه، حتى يخلص للعميل (الشريك) ملكية جميعه، وأنه قد يتخلل هذين العقدين إجارة الممول حصته في المِلك المشترك للعميل، أو إجارة المِلْك المشترك بكامله لشخص ثالث، بحيث يأخذ كل واحد من الشريكين مقابل حصته في الملك من بدل الإجارة.. أو عقد تشغيل أو استثمار المشروع المشترك لحسابهما، بحيث يقسم عائد الأرباح بينهما على وفق ما يشترطانه، وتكون الخسارة بينهما - أن وجدت - بنسبة حصصهما فيما اشتركا في ملكيته.
* وتجري المراوضة والتفاهم المسبق عادة على كل هذه الأمور ونحوها مما يقصد أنه قبل إبرام الاتفاقية، ثم يقع الاتفاق على الأساس التالي:
1- الاشتراك في شراء مشروع أو عقار ذي ريع أو غير ذلك.
2 - يتواعد الطرفان على الاشتراك في تأجير ما اشتريا لطرف ثالث، بحيث يستحق كل واحد منهما ما يقابل حصته من بدل الإجارة، أو تأجير الممول حصته للعميل (الشريك) ببدل معلوم.
3 - يتواعد الطرفان على أن يقوم العميل (الشريك) بشراء حصة شريكه الممول تدريجيًّا بما قام عليه من الثمن وفق جدول زمني يتفقان عليه. وكلما زادت حصة العميل في المشروع أو العقار نقصت حصة الممول، ونقص معها نسبة نصيبه في بدل الإجارة إلى أن يتم تخارج الممول وحلول العميل محله بالكامل في ذلك الملك المشترك.(10/948)
* وهذه المواعدات التي تسبق عقد شراء المشروع أو العقار محل المشاركة تعتبر ملزمة، بناء على ما ذهب إليه الإمام السبكي من الشافعية من أن إنجاز الوعد واجب شرعًا، وهو وجه في مذهب أحمد، اختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقول في مذهب المالكية صححه ابن الشاط في حاشيته على الفروق، وهو محكي عن ابن شبرمة، وقال القاضي ابن العربي: " وأجلُّ من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز ". (1)
*ثم بعد شراء محل المشاركة المتناقصة يشترك الطرفان في تأجيره أو تشغيله أو استثماره لحسابهما أو غير ذلك بمعاقدة جديدة يبرمانها، كما تبرم بينهما عقود بيع متوالية لحصص الممول، بحيث يشتريها العميل في الآجال المتفاهم عليها مسبقًا، حتى يتم انتقال ملكية محل المشاركة من الممول إلى العميل بكاملها , وبذلك تتم العقود المتعددة كلها، متعاقبة مستقلة، بحيث يكون كل واحد منها منفصلًا عن الآخر في زمانه وميقاته، وفي إنشائه وتنفيذه.
*وإننا لو نظرنا إلى كل عقد بمفرده مما تراوضا وتواعدا على إنشائه لاحقًا، الواحد تلو الآخر، لم يظهر لنا في واحد منها مانع شرعى، كما أنه لا يبدو في اجتماعها في اتفاقية واحدة على النحو الذي عرضناه حرج شرعًا، وذلك لعدم إفضاء اجتماعها إلى التناقض والتضاد في الصفات والأحكام، أو إلى الربا أو الغرر أو غير ذلك من المحظورات التي تترتب على اجتماع وتركُّب بعض المعاقدات من عقود متعددة، كل واحد منها صحيح مشروع بمفرده، كما هو الحال في العِينَة واجتماع البيع والسلف وغير ذلك من الذرائع الربوية مما سلف بيانه عند الكلام عن اجتماع العقود في اتفاقية واحدة.
والله تعالى أعلم.
* * *
__________
(1) انظر أحكام القرآن، لابن العربي: 4/ 1800؛ الأذكار، للنووي مع الفتوحات الربانية: 6/ 260؛ فتح الباري: 5/ 290؛ المبدع شرح المقنع: 9/ 345؛ المحلى، لابن حزم: 8/ 28؛ طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي: 10/ 232؛ الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية، للبعلي، ص 331؛ حاشية ابن الشاط على الفروق، للقرافي: 4/ 24(10/949)
الخاتمة
لقد تبين لنا بعد دراسة مسائل هذا البحث وقضاياه ما يلي:
1 - أن المراد بالعقود المجتمعة في اتفاقية واحدة: أن يتراضى الطرفان على إبرام اتفاقية تشتمل على عقدين أو أكثر - على سبيل الجمع أو التقابل - بحيث تعتبر سائر موجبات تلك العقود المجتمعة أو المتقابلة، وجميع الحقوق والالتزامات المترتبة عليها جملة واحدة، بمثابة آثار العقد الواحد.
2 - لقد ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، فاتفق الفقهاء على خظرها في الجملة، لكنهم اختلفوا في تفسير محل النهي على أقوال كثيرة، والذي ترجح عندي أن المراد بالبيعتين في بيعة:
أ - أن يتضمن العقد الواحد بيعتين، على أن تتم إحداهما قبل تفرق العاقدين، ولكن دون تعيينها، كما في: بعتك هذه السلعة بألف درهم نقدًا أو بألفين نسيئة، ويتفرق العاقدان على لزوم إحداهما من غير تحديدها، وعلة النهي ههنا الغرر الناشى عن الجهل بمقدار الثمن.
ب - أن يبيعه السلعة بمائة مؤجلة إلى سنة على أن يشتريها منه بثمانين حالَّة، وعلة النهي ههنا أن الجمع بين البيعتين يؤول إلى الربا.
أما بقية التفسيرات، فمنها ما ينضوي تحت نصوص شرعية أخرى، كالنهي عن بيع ما ليس عندك، أو ربا النسيئة، وإدراجه تحت البيعتين في بيعةٍ بعيد متكلف.. ومنها ما الحظر فيه محل خلاف أهل العلم، ولم يترجح عندي فيها جانب الحظر على الإباحة.
3 - كذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، والمراد بهما عند جماهير الفقهاء نفس معنى البيعتين في بيعة، وخالفهم في ذلك الحنفية حيث رأوا أن الأولى أعمُّ مطلقًا، فتشمل مدلول البيعتين في بيعة، وكذا اجتماع السلف مع البيع، والإجارة مع البيع، والإعارة مع البيع وغير ذلك.(10/950)
4 - أما ما ذكر في بعض مدونات الفقه من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط،
فإن هذا الحديث غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يصح الاحتجاج به لمعارضته للأحاديث الصحيحة والإجماع.
5 - أما عن حكم اقتران العقود بالشروط (بأنواعها) ، فقد اختلف
الفقهاء في ذلك اختلافا كثيرًا، والذي يظهر لي رجحانه في المسألة هو ما اتجه إليه ابن تيمية وابن القيم من أن الأصل في الشروط العقدية الجواز والصحة إلا ما أبطله الشرع أو نهى عنه، وعلى ذلك: فكل شرط لا يخالف نصًّا أو قياسًا صحيحًا فهو جائز مشروع، وما خالف نصًّا أو عارض قياسًا صحيحًا، فهو غير سائغ شرعًا.
6 - كذلك تباينت أنظار الفقهاء واجتهاداتهم في حكم العقود المجتمعة في اتفاقية واحدة، والذي يظهر لي رجحانه في القضية:
أ) حظر الجمع بين كل عقدين يترتب على الجمع بينهما توسل بما هو مشروع إلى ما هو ممنوع، وإن كان كل واحد منهما جائزا بمفرده، مثل بيع العينة، والجمع بين القرض والبيع في صفقة واحدة.
ب) كل عقدين يتضاذان وصفًا، ويتناقضان حكمًا، فإنه لا يجوز
الجمع بينهما في اتفاقية واحدة، وذلك لأن العقود أسباب، وإنما تفضي إلى تحصيل حكمها في مسبباتها بطريق المناسبة، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين.
7 - تعتبر المراوضة السابقة والمواعدة المتقدمة على العقود المجتمعة مرتبطة بالاتفاقية الجامعة لتلك العقود في سلك واحد وشطرًا منها من حيث الحكم التكليفي والآثار المترتبة عليها.(10/951)
8 - أما عقد التوريد، فهو عقد بين جهتين، تلتزم فيه إحداهما بتوريد أصناف (سلع، مواد) محددة الأوصاف والمقادير، في تواريخ معينة، مقابل ثمن محدد تدفعه الجهة الثانية منجمًا على أقساط.
وهو جائز في النظر الفقهي رغم اشتماله على بيع الكالئ بالكالئ، لأنه إما أن يكون من قبيل الاستصناع، وذلك مغتفر فيه على الراجح من أقوال أهل العلم، وإما أن يكون من قبيل السلم، وذلك مغتفر فيه لداعي الحاجة العامة أو الخاصة، وهي متحققة فيه.
9 - تعتبر المشاركة المتناقصة أحد الأساليب الجديدة التي استحدثتها بعض المصارف الإسلامية، حيث يقدم المصرف جزءًا من رأس المال المطلوب للمشروع أو من ثمن العقار بصفته مشاركا للعميل الذي يقدم الجزء الباقي، ويتفق المصرف مع ذلك العميل (الشريك) على طريقة معينة لبيع حصته تدريجيًّا إليه.
ويجب لصحة هذه المشاركة أن لا تكون حيلة للإقراض بفائدة،
ولذلك فلابد من وجود الإرادة الحقيقية للمشاركة، وأن يتحمل المتشاركان الخسارة مقابل استحقاقهم للأرباح والعوائد خلال فترة المشاركة ... وأن يمتلك المصرف حصته من المشروع أو العقار، وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف.
ويحق للمصرف بعد اشتراكه مع العميل في شراء العقار أو المشروع (محل الشركة) الاشتراك في تأجيره أو تشغيله أو استثماره لحسابهما، أو غير ذلك مما يتراضيان عليه بعقد جديد مستقل ومنفصل عن العقد الذي حدثت بسببه شركة الملك بينهما، ولهما إبرام عقود بيع متوالية بينهما لحصص المصرف (الممول) بحيث يشتريها العميل (الشريك) في الآجال المتواعد عليها مسبقًا، وبذلك تتم العقود المتعددة مستقلة، منفردة، متتابعة، حتى يتم انتقال ملكية المصرف بكاملها تدريجيًّا إلى العميل (الشريك) .
* * *(10/952)
مخطط البحث
1 - المراد بالعقود المجتمعة في اتفاقية واحدة: أن يتراضى الطرفان على إبرام اتفاقية تشتمل على عقدين أو أكثر، على سبيل الجمع أو التقابل، بحيث تعتبر سائر موجبات تلك العقود المجموعة، وجميع الالتزامات المترتبة عليها جملة واحدة بمثابة آثار العقد الواحد.
2 - وتعتبر المراوضة السابقة والمواعدة المتقدمة على العقود المجتمعة مرتبطة بالاتفاقية الجامعة لتلك المعاقدات في سلك واحد وشطرًا منها، من حيث الحكم التكليفي والآثار المترتبة عليها، وذلك سدًّا لذريعة التوسل بما هو مشروع إلى ما هو ممنوع بواسطتها.
3 - الأصل في العقود المجتمعة في اتفاقية واحدة الجواز والصحة إذا كان كل عقد منها بمفرده سائغا شرعًا، وذلك بشرطين:
أحدهما: أن لا يترتب على اجتماع عقدين فأكثر معنى جديد دل
النص أو القياس الصحيح على حظره، كما في بيع العِينة واجتماع البيع والسلف.. ونظرًا لثبوت حرمة ذلك نصًّا، ولأن الاستقراء من الشرع دل على أن للجمع في بعض الأحيان حكما ليس للانفراد، للانفراد حكما ليس للاجتماع.
والثاني: أن لا يكون العقدان المجتمعان في اتفاقية واحدة متضادين
وضعًا أو متناقضين حكمًا؛ لأن العقود أسباب شرعية، وإنما تفضي إلى تحصيل أحكامها في مسبباتها بطريق المناسبة، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين.. ثم نظرًا لما قد يترتب على الجمع بينهما عندئذ من الجهالة الفاحشة أو الغرر.(10/953)
4 - لقد صح عن النبي أنه نهى عن بيعتين في بيعة، وعن صفقتين
في صفقة، ومعناهما واحد في قول جمهور الفقهاء، وهو:
أ - أن يتضمن العقد الواحد بيعتين، على أن تتم إحداهما قبل تفرق العاقدين، ولكن دون تعيينها، كما في هذه السلعة بألف درهم نقدًا أو بألفين نسيئة، ويتفرق العاقدان على لزوم إحداهما من غير تحديدها، وعلة الحظر في هذه الصورة: الغرر الناشئ عن الجهل بمقدار الثمن عند التفرق.
ب - أن يبيعه السلعة بمائة مؤجلة إلى سنة، على أن يشتريها منه بثمانين حالّة، وعلة النهي في هذه الصورة: أن الجمع بين البيعتين فيها ذريعة إلى الربا، وهو من العِينة المحظورة نصًّا.
5 - الأصل في الشروط المقترنة بالعقود الجواز والصحة إلا ما أبطلها الشرع أو نهى عنه، وعلى ذلك: فكل شرط لا يخالف نصًّا صريحًا أو قياسًا صحيحًا فهو صحيح مشروع، وما خالف نصًّا صريحًا أو عارض قياسًا صحيحًا فهو غير سائغ شرعًا، وأساس ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)) ، المراد به الشرط الذي يناقض حكم الله تعالى ويخالف شرعه.
6 - عقد التوريد: هو عقد يبرم بين جهتين، تلتزم فيه إحداهما بتوريد أصناف (سلع، مواد) محددة الأوصاف والمقادير، في تواريخ معينة إلى الجهة الثانية مقابل ثمن محدد يدفع منجما على أقساط.
وهو جائز في النظر الفقهي، وإن قيل فيه إنه مندرج تحت بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه، وذلك لأن تكييفه الفقهي إما أن يكون استصناعًا - وتأجيل البدلين مغتفر فيه استثناء على الراجح من أقاويل العلماء - وإما أن يكون سلمًا، وذلك مغتفر فيه أيضًا على سبيل الاستثناء لداعي الحاجة العامة أو الخاصة، وهي متحققة فيه.
7 - المشاركة المتناقصة: هي عبارة عن اتفاقية بين طرفين، أحدهما المصرف، والثاني العميل، يتم بموجبها إنشاء شركة ملك بينهما، وذلك بشرائهما مشروعًا أو عقارًا أو غير ذلك، بحيث يدفع كل طرف منهما جزءًا من رأس ماله (ثمنه) ، ويتفق الطرفان على طريقة معينة لبيع المصرف حصته تدريجيا لشريكه (العميل) بما قامت عليه من الثمن.(10/954)
ويحق للطرفين بعد اشتراكهما في شراء (محل الشركة) الاشتراك في تأجيره أو تشغيله أو استثماره أو غير ذلك مما يتراضيان عليه، عن طريق عقد جديد مستقل ومنفصل عن العقد الذي حدثت بسببه شركة الملك بينهما، على أن يكون الربح بينهما بحسب ما يتفقان عليه، والخسارة بنسبة حصة كل منهما في رأس المال.
كما أن لهما إبرام عقود بيع متوالية بينهما لحصص المصرف، بحيث يشتريها العميل (الشريك) في الآجال المتواعد عليها مقدمًا، وبذلك تتم العقود المتعددة المركبة، مستقلًا بعضها عن بعض، متتابعة في مواعيدها، إلى أن يتم انتقال كامل ملكية المصرف تدريجيًّا إلى العميل.
وهذه المشاركة المتناقصة سائغة في النظر الفقهي بشرط أن لا تكون
حيلة للإقراض بفائدة، ولذلك فلا بد من تحقق المشاركة الفعلية وآثارها، بأن يتحمل الطرفان تبعة الخسارة مقابل استحقاقهما للأرباح والعوائد خلال فترة المشاركة، وأن يمتلك المصرف حصته من المشروع أو العقار (محل المشاركة) ، وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف، وأن تتم تلك العقود المتعاقبة بناء على المواعدة المتقدمة التي تعتبر ملزمة - بناء على اجتهاد جماعة من الفقهاء - مستقلة، منفصلًا كل واحد منها عن غيره في زمانه وميعاده، وفي إنشائه وتنفيذه.
وإنما حكم بجواز المشاركة المتناقصة بالشروط المنوه بها؛ لأن كل
عقد منها بمفرده جائز شرعًا، كما أنه لا يترتب على اجتماعها وتركيبها بالصورة المشروحة أي محظور شرعي من ربا أو ذريعة إليه أو غرر أو جهالة فاحشة أو غير ذلك، والله تعالى أعلم.
الدكتور نزيه كمال حماد(10/955)
العقود المستجدة
ضوابطها ونماذج منها
إعداد
د. محمد بن علي القري
مركز أبحاث الاقتصاد الاسلامي
جامعة الملك عبد العزيز- جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، والصلاة والسلام على نبي الرحمة محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
1 - مقدمة:
لا تزال حياة الناس تتبدل وتتغير، وظروف عيشهم تتنوع وتختلف،
وتنوع حاجتهم إلى أنواع متجددة من المعاملات قائم على الدوام، وشريعة الإسلام صالحة لكل مكان وزمان، ولأن الدين عند الله الإسلام، ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام، هي للبشر كافة، جاءت هذه الشريعة مجهزة بقدرات فريدة على الوفاء بحاجات الناس المتجددة، ولذلك فاقت نظرية العقد في الشريعة الإسلامية كل نظرية عرفها الإنسان، مما أهَّلها - بحمد الله - لأن تكون أساسًا صالحًا على الدوام لتحقيق العدل بين المتعاقدين واستقرار المعاملات في المجتمع، وأول معالم ذلك موقف الشريعة الإسلامية من مبدأ سلطان الإرادة العقدية.
لم يكن مبدأ سلطان الإرادة العقدية معترفًا به في القانون الروماني ولا في غيره من الشرائع البائدة، إذ كان لابد لكل عمل قانوني من إجراءات ومراسم وألفاظ تتم طبقًا لأوضاع معينة، ومتى تمت وجد العمل القانوني ثم ترتبت عليه آثار يحددها القانون، أما الإرادة المجردة فليست في ذاتها كافية لتكوين العمل القانوني، وليس دور، حتى لو اقترنت بالإجراءات المقننة،
في تحديد آثار ذلك التصرف، ولذلك سارت القوانين القديمة على أن الأعمال التعاقدية شكلية في تكوينها محددة في آثارها، فلم يعترف
القانون الروماني إلا بالعقود المسماة التي خصصها ذلك القانون بأسماء معينة، وتولى تنظيمها وتحديد الآثار المترتبة عليها.
وفي الجهة المقابلة فقد غالت القوانين الوضعية المعاصرة، متأثرة بالمذهب الفردي، في إطلاق سلطان الإرادة، فقررت أن إرادة الإنسان هي التي تلزمه وهي التي تحدد مدى التزامه، وأن تدخل القانون في حرية الإرادة يجب أن يكون عند الحد الأدنى، كما أن كافة الحقوق والالتزامات إنما تستند في الأصل إلى سلطان الإرادة، فأضحى للفرد حرية التعاقد فيلتزم بما يبرم من عقود أو يمتنع عن إبرام عقد معين، والأهم من ذلك أن لطرفي العقد حرية تحديد الآثار القانونية التي تترتب على تعاقدهما وشروط ذلك التعاقد، فيجوز لهما أن يتفقا على أحكام تغاير نصوص القانون (غير الآمرة) ، فلا يحدث اتفاقهما عندئذ إلا الآثار التي اتجهت إليها إرادتهما، فالعقد عندهم شريعة المتعاقدين، ومجرد اتجاه الإرادة لإحداث أثر قانوني كافي لإحداث ذلك الأثر.(10/956)
أما الشريعة الإسلامية فقد جاءت وسطًا، بعيدة عن الغلو وعن التطرف، فهي لم تقتصر على عقود محصورة العدد لا يجوز للمكلفين الاتفاق خارج نطاقها، كما لم تشترط إجراءات شكلية أو مراسيم أو إشارات معينة لإتمام العقود، إذ أن أنواع العلاقات التعاقدية بين أفراد المجتمع يمكن أن تكون بصيغ مستجدة لا تندرج تحت أي من العقود المسماة في كتب الفقه، ذلك لأن العقود التي وردت في كتب الفقه إنما هي العقود التي غلب وقوع التعامل بها في زمن أولئك الفقهاء، ومن ثم سجلت تلك الكتب آراءهم واجتهاداتهم فيها، ولم تكن على سبيل الحصر من جهة التشريع، كما كان الحال في القانون الروماني. يقول ابن تيمية - رحمه الله - في القواعد النورانية:
" ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدًا لا في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا نقل عن أحد من أصحابه والتابعين أنه عين للعقود صفة معينة الألفاظ أو غيرها أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة، بل قد قيل: إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم وأنه من البدع ... فإذا لم يكن (للبيع) حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سقوه بيعًا فهو بيع، وما سقوه هبة فهو هبة ". (1)
وجعل التشريع الإسلامي لسلطان الإرادة العقدية المكانة المناسبة بلا إفراط ولا تفريط، ويظهر ذلك جلي في عناية الفقه الإسلامي بجانبين مهمين من جوانب سلطان الإرادة:
الأول: هو الرضا وما له من أهمية بالغة في العلاقات التعاقدية، كما جاء في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وما أخرج ابن حبان وابن ماجه والبيهقي عنه صلى الله عليه وسلم: ((إنما البيع عن تراض)) .
يقول ابن تيمية رحمه الله في فتاواه: " والأصل في العقود رضا المتعاقدين ونتيجتها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد ".
علق عليها الأستاذ مصطفى الزرقا في المدخل الفقهي بقوله: " فهذه العبارة الجليلة هي التي يجب أن تعتبر بحق دستور الفقه الإسلامي في مبدأ سلطان الإرادة العقدية ". (2) ، بل استخدام كلمة (الرضا) هو بحد ذاته بالغ التعبير في مسألة سلطان الإرادة العقدية لأنها أدل من أي كلمة أخرى على كمال الإرادة وبلوغ الاختيار نهايته. (3)
__________
(1) القواعد النورانية الفقهية، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق محمد حامد الفقي، ص 133- 134
(2) بل أن الشيخ محمد زكي عبد البر بعد استعراض كلام المفسرين في قوله تعالى: {إِلاَّ أن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ} والآيات التي وردت فيها كلمة (تراض) ، يصل إلى اجتهاد مفاده أن التراضي هو العلة، وليس مجرد شرط وصفة. ويترتب على ذلك أن يقاس على التجارة، كما قال: " كل أخذ وعطاء للمال بتراض فيحل، وأن يخرج من حكم التجارة هنا - وهو الحل - كل أخذ وعطاء للمال من غير تراض، وإلحاق كل تعامل مالي فيه تراض بالتجارة في الحل، ص 98، الربا وأكل المال بالباطل، الكويت، دار القلم 1986
(3) نشأت الدريني، الرضا، ص 57(10/957)
والثاني: هو مسألة الشروط، وما صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم)) ، قال في بدائع الصنائع: " فظاهره يقتضي لزوم الوفاء بكل شرط إلا ما خُصَّ بدليل، لأنه يقتضي أن يكون كل مسلم عند شرطه وإنما يكون كذلك إذا لزمه الوفاء به.. وهذا لأن الأصل أن تصرف الإنسان يقع على الوجه الذي أوقعه إذا كان أهلًا للتصرف والمحل قابلًا , وله ولاية عليه ". (1)
فسلطان الإرادة العقدية موجود وله مكانته السامية في الفقه الإسلامي
إلا أنه منضبط بالنظام العام الذي يمثل أحكام الشريعة الإسلامية بجملتها، إذ لا يجوز لسلطان الإرادة العقدية أن يخترق هذا النطاق، بحيث ينافي المقاصد العامة أو يناقضها، يقول الشاطبي في (الموافقات) بعد الكلام عن مقاصد الشريعة: " لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه ولحيل بينه وبين اختياره، ومن هنا صار فيها مسلوب الحظ محكومًا عليه في نفسه ". (2)
ولذلك فإن للمسلمين أن ينشئوا من العقود ما يحقق لهم مصالحهم في
مجال المعاملات، غير مقيدين بصيغ بذاتها أو ألفاظ بعينها، ومن ثم فمنهاج النظر في العقود المستجدة والعقود المركبة والعقود المجمعة ... إلخ هو انضباطها داخل حدود ذلك النظام العام، أي خلوها من الربا والغرر وبيع ما ليس عند الإنسان، وأكل أموال الناس بالباطل، وغير ذلك من مفسدات العقود، فإن كانت خالية مما ذكر فلا يؤثر في الحكم عليها كون أنها مستحدثة لم تكن معروفة عند القدماء.
__________
(1) بدائع الصنائع: 5/ 259
(2) الموافقات، للشاطبي: 2/ 137(10/958)
2 - العقود المستحدثة:
يقصد بالعقود المستحدثة (أو المحدثة) تلك التي تنظم أنواعًا من العلاقات المستجدة بين الناس، والتي لا أصل لها تقاس عليه؛ لأن محلها لم يكن أمرا معهودًا في القديم، أو لأنها جاءت وليدة التطورات في التقنية والاتصالات والمعلومات التي هي من سمات هذا العصر الحديث، مثال ذلك عقد الاشتراك في المجلات والجرائد، فهو عقد يتقدم فيه دفع الثمن ويتأجل قبض المبيع، ولكنه ليسر سلما لأنه غير موصوف في الذمة ولا سلعة مثلية، إذ العقد يتعلق بمجلة بعينها، كما أنه ليس استصناعًا لأن الصفات في هذا المصنوع (المجلة) يحددها الصانع لا المستصنع، فهو الذي يتولى التحرير وإعداد المحتويات لكل عدد، فعقد الاشتراك في المجلات من العقود المستجدة التي لم يعرفها القدماء، لأنها محلها (الصحف السيارة) هو أمر محدث.
وليست العقود المستجدة وليدة العصر الحديث فحسب، بل هي
تظهر في كل عصر استجابة للتغيرات التي تحدث في حياة الناس، فتولد أنواعًا جديدة من العلاقات والمعاملات بينهم، كما تستجد في كل عصر ظروف وأوضاع للناس لم تكن معروفة عند سابقيهم، فتظهر لهذا السبب أنواع من العلاقات والعقود التي تنهض بحاجاتهم إلى تلك المعاملات المختلفة.
من ذلك ما ذكر صاحب المغني في السفينة أو الدابة يعطيها مالكها لآخر يعمل عليها بجزء من الدخل المتولد منها، وهي معاملة احتاج الناس إليها في ذلك الوقت، فإذا قيست على الإجارة، كانت النتيجة عدم الجواز؛ لأن الأجر فيها مجهول، وإذا قيست على المضاربة لم تجز أيضًا؛ لأن رأس المال فيها ليس نقودًا وهو شرط صحة المضاربة، فهي إذن عقد مستجد للناس فيه مصلحة، وليس فيه الربا ولا الغرر، ولا أكل أموال الناس بالباطل.. كما أن له ما يشبهه من العقود الجائزة وهي المزارعة والمساقاة، لذلك قال فيه ابن قدامة: " إنها عين تنمّى بالعمل عليها، فصح العقد عليها ببعض نمائها ". (1)
__________
(1) المغني: 117/5(10/959)
3 - العقود المجتمعة:
يقصد بالعقود المجتمعة تلك الاتفاقيات التي تولد حقوقًا والتزامات مستمدة من أكثر من علاقة تعاقدية مستمدة، كأن يجتمع فيها البيع والإجارة والوكالة ... إلخ، ولكل واحد من هذه العقود معالمه الواضحة وأركانه وشروطه المكتملة، لكنها تقع جميعًا في داخل تلك الاتفاقية، وقد اتجهت إرادة العاقدين إلى جمع تلك العقود في اتفاقية واحدة لمصلحة تتحقق لكليهما، بحيث إنها لو انفصلت عن بعضها البعض أو استقلت، لم تتحقق تلك المصلحة، أو ربما لم تتحقق بالصورة التي يرغبان فيها.
مثال ذلك الاتفاقية المتعلقة بسكن المسافر في أحد الفنادق، إذ يجتمع فيها عدة عقود، منها عقد إجارة الغرفة التي يسكن فيها، وعقد بيع الطعام الذي يحصل عليه في غرفته أو في مطعم الفندق، وعقد وديعة للأموال التي يضعها في صندوق حفظ الأمانات ... إلخ، وقد جعلت تلك العقود جميعًا في عقد واحد لمصلحة يراها الطرفان، فالنزيل سيفضل أن يحل في سفره على فندق يتوفر على كافة الخدمات، فلا يحتاج إلى الخروج منه لطلب الطعام وغسل الملابس ... إلخ، وصاحب الفندق له مصلحة في جعل كل تلك الخدمات في اتفاقية واحدة، لأنه عندئذ ربما قبل الربح القليل في الطعام في سبيل أن يزيد من ربحه في تأجير الغرف ... إلخ، كما أن جميع تلك العقود في اتفاقية واحدة يقلل تكاليف التعاقد، وهو أمر مهم في حياة الناس المعاصرة.
ولا تثير العقود المجتمعة مشكلة كبيرة من الناحية التعاقدية، إذ أن تلك العقود وإن اجتمعت في اتفاقية واحدة إلا أنها تحتفظ باستقلالها العقدي فلا تمتزج مع بعضها البعض، ففي المثال السابق ليس النزيل في الفندق ملزمًا بأكل طعام ذلك الفندق، ولذلك يستطيع إذا رغب أن يقصر الاتفاقية المذكورة على السكن فحسب، فتصبح عقد إجارة عادي، لكن وجوده ساكنًا في الفندق يمكنه من طلب الطعام في الغرفة، ويكون له عندئذ ثمنه الخاص وإن كان جزءًا من الاتفاقية، والعوض في كل عقد من هذه العقود معلوم ومحسوب بطريقة واضحة مستقلة عما سواه، فثمن الطعام مستقل عن أجرة السكن أو رسوم الهاتف ... إلخ.
وربما تكون العقود المجتمعة هي تكرار لعقد واحد فيلتزم الطرفان أو أحدهما في اتفاقية بإمضاء عقد من العقود بصفة متكررة خلال فترة معينة. مثال ذلك الاتفاقية التي يوقعها تاجر مع المصرف الإسلامي، يكون له خلال مدتها أن يشتري سلعًا بالمرابحة إلى حد معين يذكر في تلك الاتفاقية (5 ملايين أو أكثر أو أقل) ، ويلتزم المصرف خلال مدة الاتفاقية أن يقدم له التمويل متى طلب، وأن لا يزيد ربحه (الزيادة من أجل الأجل) في كل بيع عن نسبة كذا المتفق عليها، عندئذ فقد اجتمعت في تلك الاتفاقية عدة عقود للمرابحة وجد الطرفان مصلحة في جمعها، فالمصرف يستفيد منها في تقليل الإجراءات وتخفيض تكاليف دراسة الطلب ومتطلبات الموافقة عليه، والتاجر يطمئن إلى أن المصرف قد ألزم نفسه بتقديم تلك الخدمات خلال الفترة المتفق عليها.(10/960)
3 – 1 هل يكون التجميع بحد ذاته عقدًا؟
هذا التجميع الذي يتفق عليه الطرفان لمصلحة يريانها هل يكون هو
في حد ذاته عقدًا من نوع ما؟ وما طبيعة الالتزام الذي يتولد عن مثل هذه الاتفاقيات؟ وهل يجوز فيه المعاوضة؟
لا ريب أن هذه الاتفاقية التي تم من خلالها تجميع تلك العقود يمكن
النظر إليها كعقد، إذ هي تولد التزامًا على الطرفين (وأحيانًا على طرف واحد فقط) ، فإذا نظرنا إلى اتفاقية المرابحة آنفة الذكر وجدنا أنه قد ترتب عليها التزام من المصرف بتقديم المرابحة بربح محدد في خلال فترة الاتفاقية، وقد حدث ذلك كقبول لإيجاب من عميل المصرف، طلب فيه الشراء بالمرابحة، وهي اتفاقية مستقلة عن عقود المرابحة اللاحقة، إذ أن كل بيع بالمرابحة سينعقد في حينه بإجراءات متفق عليها، بل أن الاتفاقية قائمة خلال مدتها وهي موجودة ويتولد عنها الالتزام المذكور، حتى لو مر جميع وقتها ولم يشتر العميل بالمرابحة؛ فهي مواعدة ملزمة يمكن أن تكون بحد ذاتها نوعًا من أنواع العقود المستجدة، لأنها عقد يلتزم فيه طرف (أو طرفان) بالدخول في عقود معينة في المستقبل، فإذا أخذنا بعين النظر إمكانية أن يكون لهذه الاتفاقية ثمن (على صفة رسوم مدفوعة ما) رجح عندنا أنها هي بذاتها عقد مستجد، فيه إيجاب وقبول وصيغة ومحل، والثمن فيه يسمى (رسوم الارتباط) ، ففي الحالة المذكورة أعلاه من بيع المرابحة يحصل على تلك الرسوم لمجرد أنه يقف مستعدًا خلال فترة الاتفاقية على إمضاء العقود المتفق عليها، وهذا هو الالتزام الذي يولده ذلك العقد.(10/961)
4 - العقود المركبة:
يقصد بالعقود المركبة تلك الاتفاقيات التي تجتمع فيها عناصر
مستمدة من أكثر من عقد من العقود المسماة، مع ترابط في تلك العناصر بطريقة لا يتحقق مقصود الطرفين من الاتفاقية المذكورة إلا بوجودها جميعًا. ولعل أهم اختلاف بين العقود المجمعة والعقود المركبة أن عناصر العقود في العقد المركب لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، بل إن أي محاولة لفصل بعضها عن بعض ربما أدى إلى انتفاء المقصود منها، وهي (أي تلك العناصر) ربما حدثت في نفس الوقت، وبطريقة لا يكاد يظهر أي واحد منها هو المقصود بعينه في تلك اللحظة.
مثال ذلك الاعتمادات المستندية لغرض الاستيراد، فإن فيها عنصر الوكالة وعنصر الكفالة (أو الضمان) وعنصر القرض، وليس أي واحد منهما مقصودًا بصفة مستقلة عن الآخر، ولا يكفي لتحقق الغرض توفر واحد منهما فحسب، كما أن العوض المدفوع مرتبط بالاتفاقية بكل عناصرها بحيث لا يعرف ما هو الثمن المقابل لكل عنصر فيها.
ولذلك يمكن القول أن الحكم على العقود المركبة معتمد على العناصر المكونة لها، فإذا جمعت بين عقود معاوضة فحسب، فالنظر إليها مختلف عن الجمع فيها بين عقود المعاوضة وعقود التبرع، فمثلًًا قد ورد النهي عن بيع وسلف؛ لأن الزيادة المشروطة في القرض والزيادة فيه ربا من الربا المحرم، فإذا جمع البيع والزيادة فيه هي ربح مباح مع القرض في عقد واحد لم يعرف ما إذا كانت الزيادة هي في حقيقتها ربح أو ربا؟ فوقع المحظور , أو الجمع بين عقد معاوضة وضمان، فالإجماع على أن الأجر على الضمان لا يجوز، أما الجمع بين البيع والإجارة فهو أقل إشكالًا؛ لأن كليهما عقد معاوضة فلا يكون الجمع بينهما مظنة الذريعة إلى المحظور من جهة الربا، وربما قيل: أن العقود المركبة بهذا التعريف إنما هي عقود مستحدثة ليس لها أصل تقاس عليه وحتى اشتمالها على عناصر من عقود ليس مبرِّرًا كافيًا لربط الحكم عليها بالحكم على تلك العقود لسبب مهم، هو أن الجمع بين العقود كمثل بيع وسلف ليس فيه إنشاء عقد جديد، وإنما هو إدخال عقد في آخر، بيد أن العقود المركبة بالوصف المذكور لا تستغني عناصرها عن بعضها البعض ولا تفي بحاجة المتعاقدين لو حدثت، ومن ثَمّ لزم القول أن العقود المركبة هي معاملات جديدة يُرجع فيها إلى أصل الشريعة في الإباحة فيما سكت عنه الشارع.(10/962)
4 - 1 الباعث على ظهور العقود المركبة والعقود المجمَّعة واستحداث العقود الجديدة في النشاط الاقتصادي:
قامت حياة المسلمين الاقتصادية على أنواع من المعاملات التي نظمتها عقود مشهورة في فقه المعاملات، مثل البيع والسلم والشركة والمضاربة ... إلخ، وكانت تلك العقود كافية للوفاء بحاجات الناس وتنظيم المعاملات بينهم وضبط الحقوق والالتزامات المترتبة في النشاط الاقتصادي بصيغها المعروفة، إلا أن هذه الصيغ وتلك الصور لم تعد كافية فاحتاج الناس إلى أنواع جديدة من المعاملات التي تتضمن عقودًا مركبة وصيغًا مطورة، فما الباعث على مثل ذلك؟ وما هي المستجدات في حياة المسلمين التي ولدت مثل تلك الحاجة؟
إن تطور الحياة المعاصرة هو بلا شك أساس تلك الحاجة ومبعثها،
لكن النظر إلى هذه المسألة في إطار العلاقات التعاقدية تحديدًا يكشف لنا عناصر مهمة في الإجابة عن السؤال.
الأول: انفصال وظيفة التمويل عن وظيفة البيع في المعاملات المعاصرة وظهور ما يسمى بالائتمان:
يعد استقلال عملية التمويل من البيع وغيره من عقود المعاوضات وتميزها بعقود خاصة بها ومؤسسات يقتصر عملها عليها يعد بلا ريب أحد سمات الحياة المعاصرة لمجتمعات الإسلام.
لم يعرف المسلمون قديمًا وظيفة تسمى التمويل، بل عرفوا أنواع البياعات التي تحدث حاضرة (مثل المساومة والمرابحة) ومستقبلية (مثل السلم والاستصناع) ، وعقود المعاوضات الأخرى كالإجارة، وعرفوا الشركة المضاربة ... إلخ، وإلا يعني ذلك أن لم تكن للناس حاجة إلى التمويل، لكن المسألة أن وظيفة التمويل لم تكن منفصلة عن تلك المعاملات.
خذ على سبيل المثال عقد السلم، فهو عقد يعجل فيه الثمن ويؤجل فيه قبض المبيع، فهو في ظاهره بيع، إلا أن ذلك لا يخفي حقيقة أن الباعث عليه عند البائع هو الحاجة إلى تمويل نشاطه الزراعي أو التجاري فهو يستعجل قبض الثمن فيشتري به البذور وحاجات الزرع ... إلخ، فيزرع ثم يحصد ثم يسلم ما باع إلى المشتري، وبدون ذلك لم يكن ممكنًا له أن ينهض بالعملية الزراعية التي تنتج القمح والشعير ... إلخ.
وكذا حال المضاربة فهي عقد شركة في الربح، لكنها تنهض ببعض حاجات التمويل أيضًا، فهذا التاجر ذو الخبرة في شؤون الأسواق يحتاج إلى مال لتوسيع عملياته التجارية فيحصل على مدخرات رب المال ويوجهها نحو شراء السلع ثم بيعها ... إلخ.(10/963)
لكن الجديد في عالم اليوم هو استقلال عمليات التمويل بمؤسسات متخصصة، مما احتاج إلى تجلية العناصر التمويلية في بعض العقود، وتركيب عقود جديدة تسلخ منها العناصر التي هي من صميم عمل التجار وأمثالهم، ويقتصر على ما كان متعلقًا بوظيفة التمويل. من ذلك بيع المرابحة (مع تأجيل الثمن) ، فيه جوانب تمويلية منها تمكين غير القادر على الشراء نقدًا من الحصول على السلعة ودفع ثمنها منجمًا، وفيه جوانب تجارية (تبادلية) مثل " نطح الأسواق " والتربص بالسلع لتعظيم الربح، وإنشاء المستودعات والمعارض والترويج للمبيعات وما إلى ذلك. عندئذ اقتصرت المؤسسة المصرفية على الجانب الأول فقط لرغبتها التخصص في التمويل، وتركت الجانب الثاني إلى التجار، فاحتاجت لهذا السبب إلى تطوير واستنباط صور جديدة للشروط في العقود التي هي في أصلها جائزة كالبيع والإجارة وغيرها. والائتمان من المصطلحات الجديدة التي تصف أمرًا قديمًا معهودًا عند كل المجتمعات في القديم والحديث.
والائتمان يختلف في مفهومهم من القرض فهو يشير إلى " تمكين مقدم الائتمان المستفيد منه من استخدام القوة الشرائية التي يتوفر عليها الأول للحصول على السلم والخدمات والنقود بمقابل نقدي مرتبط بالزمن " فجاءت المرابحة للآمر بالشراء مع الوعد الملزم ... إلخ، والذي يظهر لنا أن الجزء الأكبر من الباعث على العقود المركبة والمجمعة إنما مرده هذه الظاهرة التي ما كانت معروفة في القديم، وهي انفصال وظيفة التمويل عن التجارة والنشاطات الاقتصادية الأخرى وظهور ما ليس بالائتمان.(10/964)
الثاني: اكتشاف قانون الأعداد الكبيرة:
يعد قانون الأعداد الكبيرة، والذي يسمى أحيانًا قانون الاحتمالات، واحدًا من أهم الاكتشافات في علم الإحصاء، ويمكن تلخيص الفكرة الأساسية في هذا القانون كما يلي: " كلما زاد عدد الملاحظات الإحصائية كلما اقتربت النتائج الحقيقية (أي التي ستقع في المستقبل) مع تلك المتوقعة نظريًّا (أي المحتملة الآن) بحيث يتطابقان في اللانهاية ".
ويعود اكتشاف هذا القانون إلى القرن السابع عشر الميلادي عندما قام مجموعة من علماء الرياضيات بدراسة أرقام الوفيات في أوروبا، إذ اكتشفوا أنه بقدر ما يزيد عدد الوفيات والمواليد التي يدخلونها في تلك الإحصاءات بقدر ما يتجه عدد الإناث والذكور إلى التساوي، ثم جاء عالم الإحصاء المشهور (سيمون بواسان) الذي طور هذه الفكرة في القرن التاسع عشر وأسماها قانون الأعداد الكبيرة. ويعتمد هذا القانون في فكرته الأساسية على اتجاه الاستنتاجات إلى الاستقرار كلما زاد عدد الملاحظات الإحصائية، فما يبدو وكأنه عشوائي من الحوادث الفردية، يظهر متصفًا بالاستقرار قابلًًا للتوقع الدقيق إذا كبر حجم العينة، فمثلًا عندما أقذف قطعة نقدية بيدي لمرة واحدة فإنه من المستحيل تقريبًا أن أعرف نتيجة ذلك، أي هل ستستقر القطعة النقدية على وجهها أم على قفاها، ولكني لو فعلت ذلك عددًا كبير كافيًا من المرات فالنتيجة ستكون، بشكل شبه يقيني، نصف عدد المرات على الوجه ونصفها على القفا، ولذلك سيكون نوعًا من الخطر أو المقامرة أن أراهن على أن القطعة النقدية ستستقر على قفاها في رمية واحدة، ولكنه سيكون معلومًا وأبعد ما يكون عن الخطر أن أراهن أن 50 % من المرات ستستقر القطعة النقدية على قفاها عندما ترمى 1000 مرة.
وهكذا فإن كثيرا من الحوادث التي تبدو عشوائية بصفة فردية تُظهر
قدرًا كبيرًا من الانتظام إذا زاد عددها في مجموعة واحدة، فنحن لا نستطيع أن نعرف ما إذا كانت سيارة عمرو ستتعرض لحادث اليوم، ولكننا نستطيع أن نعرف بشكل يكاد لا يخطئ عدد السيارات التي ستتعرض للحوادث اليوم في مدينة كبيرة كجدة. لا يوجد طريقة يمكن أن نعرف بها ما إذا كان زيد سيموت هذه السنة، لكنا نستطيع أن نعرف أنه من كل 100.000 شخص هناك مثلًا 50-60 شخصًا سيموتون هذه السنة، وليس لذلك علاقة البتة بعلم الغيب، بل كل ذلك مستمد من قانون الأعداد الكبيرة. وهكذا صار بأيدينا أداة نستطيع أن نتوقع من خلالها ما سوف يحدث في المستقبل بشكل دقيق، الذي يهمنا هنا هو تأثير اكتشاف قانون الأعداد الكبيرة على العلاقات التعاقدية بين الناس.(10/965)
إن المؤسستين الماليتين الأكثر أهمية في حياة الناس المعاصرة، وهي:
البنوك وشركات التأمين هما (هبة) قانون الأعداد الكبيرة، فلقد أصبح ممكنًا بعد اكتشاف الإمكانيات التي يتيحها هذا القانون تصميم مؤسسة الوساطة المالية بطريقة مكنتها من أن تقوم بجمع مدخرات الأفراد وتقف أمامهم مستعدة - على الدوام - لردِّها إليهم بمجرد الطلب أو في وقت قصير جدًّا، حتى يكاد يبدو أن نقودهم محفوظة لديها في صناديق، ولكنها في نفس الوقت تستخدم نفس تلك المدخرات لتمويل عمليات متوسطة وطويلة الأجل كالتجارة والصناعة والإنشاءات العمرانية ... إلخ.
لقد أصبح ذلك ممكنا لإعمال قانون الأعداد الكبيرة على المدخرين،
لأنهم يعدون بالآلاف، فأصبح ممكنًا أن نعرف، بشكل شبه يقيني، كم منهم سوف يسحب نقوده، وكم منهم سيبقيها، ولأي مدة، فإذا عرفنا مثلًا أن ثلثي هذه المدخرات سيبقى في المصرف لمدة تزيد عن سنتين، أمكننا الدخول في عقود تمويلية مدتها سنتين بتلك المبالغ ... وهكذا، وكذا في عمل شركات التأمين، فإن فكرة التأمين بكافة صورها وأنماطها سواء منها ما كان تجاريًّا أو تعاونيًّا إنما هي معتمدة على قانون الأعداد الكبيرة، إذ أمكن من خلال الإمكانيات التي يوفرها هذا القانون توقع ما سوف يقع في المستقبل؛ أضرار من نوع من الحوادث، ثم معرفة حجم الأموال الذي سنحتاج إليه لتعويض المتضررين من ذلك النوع من الحوادث مثل حوادث السيارات، ثم بناء على ذلك تحديد رسوم الاشتراك بطريقة تغطي تلك التعويضات وتكاليف إدارة المشروع التأميني.
إن ما يهمنا في هذه المسألة هو أن ظهور هاتين المؤسستين بنشاطهما المعتمد على فكرة قانون الأعداد الكبيرة اقتضى ترتيبات تعاقدية جديدة لم تكن معروفة من قبل، وولد أنواعًا من الالتزامات والحقوق ليس لها سوابق تقاس عليها، فلم يكن ممكنًا ممارستها لأنشطتها إلا بعقود جديدة بعضها مستجد وبعضها مركب.
فمثلًا قام نشاط شركة التأمين على نوع عقد معاوضة، إذا نظر إليه من منظار العلاقة الفردية بين المستأمن وشركة التأمين فإن فيه غررًا فاحشَا لا يشبهه إلا عقود الحظ والقمار، لكنه على خلاف الأخيرة يحقق منافع واضحة وفوائد محببة إلى النفوس لطرفي العقد، بحيث لا يشعر أي منهما بالغبن كما هو الحال بالعقود ذات الغرر الفاحش، وإذا نظر إليه من منظور قانون الأعداد الكبيرة وجد أنه أبعد ما يكون عن الخطر والقمار، ولا يكاد يوجد فيه الغرر، وكذلك الحال في البنوك فقد قام جمعها للمدخرات في الودائع الجارية المعتمدة على عقد القرض (في البنوك الربوية والإسلامية) ولكنه قرض ذو طبيعة مختلفة، فظاهر أن غرضه ليس الإرفاق ولا القربة ولا تتجه إرادة طرفيه إلى ذلك أبدًا، وهو قرض يجر منافع واضحة للدائن فيه على صفة معاملات متميزة ودفتر شيكات ... إلخ، فهذا بلا شك وإن كان ينطبق عليه تعريف القرض إلا أن له جوانب مستجدة ليس لها أصل تقاس عليه، ومرد هذا الاختلاف هو قانون الأعداد الكبيرة، وغير ذلك كثير.(10/966)
الثالث: انتشار العمل بصيغة الشخصية الاعتبارية ذات المسؤولية المحدودة:
الشخصية الاعتبارية اختراع قانوني يتولد عنه إضفاء بعض صفات الآدمي على كيان اعتباري، ولاسيما ما يتعلق بالذمة المالية، فأضحى لتلك الشخصية القانونية المستقلة عن أصحابها القدرة على التعاقد مع غيرها من الشخصيات الطبيعية والاعتبارية، وأن تكون وعاء للحقوق والالتزامات وأن تنشغل ذمتها بالديون ... إلخ، وليست فكرة الشخصية الاعتبارية بجديدة إذ قد عرفت في القديم، وتضمنها التشريع الإسلامي ممثلة في الوقف وبيت المال، إذ لكل واحد منها شخصية اعتبارية بها أوصاف معتبرة، إلا أن المهم في المسألة ليس فكرة الشخصية الاعتبارية بذاتها بل فكرة المسؤولية المحدودة.
ذلك أن فكرة المسؤولية المحدودة لم يعرفها المسلمون قديمًا،
وإنما هي مستوردة في عند غير المسلمين. (1)
ويقوم النشاط الاقتصادي في الوقت الحاضر على العمل (المؤسسي) ، إذ لم يعد لأفراد التجار أثر يذكر أو حضور مهم إلا من خلال مؤسساتهم التجارية وشركاتهم المسجلة والتي تتمتع بشخصيات اعتبارية، كما أن النشاط المالي والمصرفي والمشاريع الاقتصادية ذات الحجم الكبير في الصناعة والزراعة وغيرها إنما تنهض به شركات مساهمة، وهي المثال الحي في يوم الناس هذا على (محدودية المسؤولية) .
لقد أدى ذلك كله إلى بروز الحاجة إلى أنواع جديدة من العلاقات التعاقدية التي تأخذ باعتبارها الطبيعة الخاصة لهذه الشركات، لا سيما عندما ترتبط تلك الشخصيات الاعتبارية مع بعضها البعض بعلاقات تعاقدية، فمعلوم أن الشركة ذات المسؤولية المحدودة مستقلة عن ملاكها وعن العاملين فيها، فإذا كانت طرفًا في عقد فإن مديرها يوقع عنها بالنيابة ولا يتحمل بنفسه - ولو كان مالكا لها - الالتزامات التي يولدها ذلك العقد. ولكن الشخصية الاعتبارية تختلف عن الإنسان، فهي لا تموت ولا تمرض ولا يمكن الحكم عليها بكفر أو إسلام، كما لا معنى لوصفها بالأمانة أو الخيانة، وفوق ذلك لا يمكن أن تكون عرضة للعقوبات الجنائية أو التعزير بالحبس أو الجلد ... إلخ؛ فاحتاج الأمر إلى أنواع متميزة من العلاقات التعاقدية وإلى شروط في العقود، الغرض منها أن تأخذ بالاعتبار هذه الفروق المهمة، فالمماطلة في تسديد الديون مع الملاءة عقابها في الشريعة التعزير بالجلد أو الحبس دون المال، ولكن إذا حصلت المماطلة من الشخصية الاعتبارية ذات المسؤولية المحدودة، كيف يكون علاج ذلك؟
__________
(1) وليس صحيحًا أن شركة المضاربة ذات مسؤولية محدودة، أو أن العبد غير المأذون بالتجارة يمثل سابقة للفقه الإسلامي في مسألة محدودية المسؤولية؛ انظر التفصيل في بحثنا في الشخصية الاعتبارية ذات المسؤولية المحدودة.(10/967)
الرابع: هيمنة حضارة الغرب على العالم:
لا خلاف بأن حضارة الغرب قد هيمنت على عالم اليوم، وأثرت
بشكل قوي على ثقافات الشعوب وقيم المجتمعات وطرائق التعامل بين الأفراد في كل مجالات الحياة، ومن ذلك بلاد المسلمين لعظم اتصالها بالغرب وتشابك مصالحها - ولا سيما الاقتصادية - مع دوله ومجتمعاته، والحضارة الغربية حضارة مادية علمانية، وهي مع رقي أنظمتها القانونية وانضباطها إلا أنها تفتقد أمرًا أساسيًّا يعد أحد أهم أركان التشريع الإسلامي، وهي المقاصد المتعلقة بحقوق الخالق وعلاقة العبد بربه، فجاءت عقودهم وأنظمتهم القانونية منفلتة أي ضابط (أخروي) واقتصرت على الجوانب المادية والمصالح الدنيوية، فانتشرت هذه الروح في العالم أجمع.
ولقد شكل ذلك ضغطًا نفسيًّا وماديًّا على المسلمين الذين يتنافسون
مع الغرب ومن لف لفه من أمم الأرض في مضمار النشاط الاقتصادي والتجارة والمال، فتولدت لدى المسلمين الحاجة إلى أنواع جديدة من العقود. فمثلًا معلوم أن المضاربة عقد أمانة؛ لأن المضارب مؤتمن على رأس المال وعلى حسن الأداء والعمل وعلى الإفصاح عن الربح الحقيقي المتولد من النشاط التجاري، والأمانة صفة من صفات المؤمن، إذ يقول رسولنا الكريم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) ، فهي مرتبطة بعلاقة العبد بربه.
فإذا قامت العلاقات التعاقدية بين الناس على استيعاب العلاقات المادية بين الأفراد فحسب، دون العناية بالجوانب الخاصة بعلاقة العبد بربه رأينا أن المضاربة لا تصلح كصيغة شركة، ولم تعد تنهض بحاجات الناس؛ لأن العلاقات التعاقدية في مجال المال والأعمال قامت على أساس أن الإنسان لا يخون لأنه لا يستطيع أن يخون وليس لأنه يتعفف عن الخيانة، وهذا ما عليه أمر الناس اليوم، ولذلك وجدنا شعور الكثيرين بالحاجة إلى تصميم صيغ مطورة للمضاربة، وإدخال شروط جديدة، الغرض منها إبعاد عنصر الأمانة عن دائرة التأثير في العقد.. وهكذا.(10/968)
5 - ضوابط العقود المستجدة:
لقد ذكرنا آنفًا حاجة الناس إلى عقود جديدة، ورأينا أن الشريعة الإسلامية قادرة على النهوض بتلك الحاجة ضمن حدود المباح من قواعد المعاملات، ولذلك فللمسلمين أن يستحدثوا العقود التي يحتاجون إليها ما دامت منضبطة بالاعتبارات التالية:
1 - أن يكون العقد المستجد غرضه سد حاجة مشروعة وتحقيق مصلحة معتبرة لأطرافه.
2 - أن يخلو العقد المستجد من الربا وشبهته، ومن الغرر الفاحش، ومن الغش والتدليس، ومن أكل أموال الناس بالباطل، وأن لا يؤدي إلى ضرر بالآخرين، أو إلى حرمان ذي حق من حقه المشروع.
3 - أن لا يخالف هذا العقد نصًّا أو إجماعًا صريحًا في موضوعه.
4 - والعقود المستجدة إما أن تكون:
أ - عقودًا جديدة مستحدثة بحيث لا تشبه في أركانها وغرض العاقدين منها عقدا من العقود المعروفة في الشريعة، وكانت سالمة مما ذكر أعلاه، عندئذ فإن الحكم عليها مرده إلى أصل أن ما سكت عنه الشارع وهو الإباحة.
ب - عقودًا جديدة مستحدثة لكنها شبيهة في أركانها وغرضها ومقصود عاقديها لعقد من العقود المعروفة في الفقه، ولكنها تختلف عنها في بعض الشروط، فعندئذ ينظر هل افتقد شروطًا أم زاد شروطًا جديدة.
1 - فإن كان مفتقرًا لشرط وكان شرطًا منصوصًا فالحكم هو الحرمة؛ مثال ذلك البيوع الآجلة في أسواق السلع الدولية فإنها تشبه السلم تمامًا، وإنما تختلف في افتقادها لشرط تسليم رأس المال في مجلس العقد، وهو شرط منصوص في قوله في: " من أسلم فليسلم في شيء معلوم ... "إلخ الحديث.
2 - وإن كان الشرط أو الشروط التي افتقدها العقد المستحدث اجتهادية قال بها الفقهاء قديمًا فينظر أن كان لذلك الاجتهاد علة، فالحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا (فمن اشترط إسلام المضارب إنما قال بذلك لأن غير المسلم لا يتورع عن أكل الربا والعمل في المحرمات، أما وقد انضبطت النشاطات التجارية بمحاسبات ودفاتر ومراجعات حسابية، لم يعد لهذا التخوف وجه، فإذا افتقد العقد المستحدث هنا لشرط لم يؤثر عليه) ، أو أن يكون مرجعه إلى عرف كان في زمانهم (مثل كون الشعير والقمح والملح مكيلات بينما هي اليوم موزونات) ، أو بسبب تغير الظروف والأحوال المعيشية والاقتصادية (فمن أخرج الفلوس من أحكام الصرف وأجاز فيها السلم إنما فعل ذلك يوم كانت نقود الناس الدرهم والدينار، وليس للفلوس أهمية تذكر فلم تكن أثمانًا) .(10/969)
3 - وإن كان الاختلاف مرده شروط جديدة لم تعرف في الصيغة القديمة، فالشروط بعضها جائز وهو ما كان فيه مصلحة للعاقدين أو أحدهما ولا ينافي مقتضى العقد، وبعضها فاسد ومفسد للعقد وهو كل ما كان منافيًا لمقتضاه أو أدى إلى الحرام.
ب - وإما أن تكون عقودًا مستحدثة ولكنها على صفة اتفاقيات جُمعت فيها عدة عقود، فهذا مرده إلى ما تقرر في الشريعة من الجمع بين العقود، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، وروى أحمد في مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفقتين في صفقة، وروى أبو داود مرفوعًا عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) . (1) ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف، ولذلك فاجتماع العقود هو مظنة الحظر، فيجب أن يعرف أن كانت تجمع بين معاوضة وتبرع كالبيع الذي غرضه الربح وطريقه المساومة، والسلف الذي غرضه الإرفاق والقربة , فهي غير جائزة، فلزم أن تستقل عن بعضها البعض استقلالًا يعلم منه أن القرض غير جارٍّ نفعا مشروطًا للدائن، وإن جمعت بين عقود معاوضة كالبيع والإجارة لم يؤثر الاجتماع على صحتها (مثل الإيجار المنتهي بالتمليك الذي يتعاقد فيه الطرفان على البيع المضاف بسعر محدد، فإنه عقد مستحدث جمع بين البيع والرهن وسمي إيجارًا تجاوزًا) .
د - وإما أن تكون عقودًا مستحدثة وكذا مركبة، عندئذ أن كان التركيب فيها حيلة للتوصل إلى ما لا يجوز فالأمور بمآلاتها، وإن كان الغرض من التركيب فيه مصلحة معتبرة وسداد حاجة للمتعاملين، وقد سلم من المحظورات المذكورة أعلاه؛ فلا مناص من النظر إليه كعقد جديد ليس له أصل يقاس عليه، فيرجع في الحكم عليه إلى الأصل وهو الإباحة. ذكر ابن تيمية رحمه الله: " ... أن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًّا أو قياسًا.... " (2)
__________
(1) وقد اختلف الفقهاء في معنى بيعتين في بيعة، إلا أن أشهر صور هذه المعاملة هي: أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقدًا بعشرة ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على إحدى البيعتين، أو يقول: بعتك هذين الثوبين بعشرة على أن البيع قد لزم في أحدهما، أو يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك هذا بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري.
(2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى: 26/ 123(10/970)
6 - أمثلة ونماذج للعقود المستجدة:
6 - الإيجار المنتهي بالتمليك:
تعد صيغة الإيجار المنتهي بالتمليك إحدى صيغ التمويل التي انتشر العمل بها لدى البنوك الإسلامية في السنوات الأخيرة؛ لما تقدمه من مرونة تفوقت بها في حالات محددة على الصيغ الأخرى المتاحة للعمل المصرفي الإسلامي، وبخلاف المرابحة التي جاءت تطويرًا لعقد البيع المعروف في كتب الفقه، فإن صيغة الإيجار المنتهي بالتمليك إنما هي صيغة معروفة عند الغربيين، ولا سيما في الولايات المتحدة، وقد جرى تهذيبها بعض الشيء لتكون ملائمة لظروف ومتطلبات العمل المصرفي الإسلامي والقيود الشرعية عليه، وإن كانت الصيغة نفسها التي تعمل بها البنوك الإسلامية (أي تلك التي يفترض انضباطها شرعيًّا) معروفة ومستخدمة في بلاد الغرب. وليس لصيغة الإيجار المنتهي بالتمليك نموذج واحد فحسب، بل تختلف تطبيقات البنوك الإسلامية له اختلافًا مؤثرا من الناحية الشرعية، وإن كان يسيرًا من الناحية العملية، وشأن هذا العقد شأن عقد المرابحة للآمر بالشراء، ذلك أن تلك الصيغة تطبق أحيانًا مع الإلزام بالشراء، وتطبق تارة أخرى بدون الإلزام، وهو أمر ربما بدا يسيرًا من الناحية التطبيقية، لكن له أبعاده الشرعية التي لا تخفى.
ولا تتوقف الاختلافات عند الإجراءات وصفة العقد، بل تصل إلى التسمية، فربما سمي هذا العقد " الإجارة والاقتناء " وربما سمي " البيع الإيجاري " ويسميه آخرون " البيع المستور بالإيجار " أو " الإيجار مع الوعد بالبيع " أو " الإيجار الذي ينتهي بالبيع " أو " الإيجار المنتهي بالتمليك " كما هي التسمية الأكثر شيوعًا ... وهكذا، ونحن سنعنى بالمعنى لا بالمبنى، إذ لا مشاحة في الاصطلاح، مع عدم إنكارنا أن التسمية تكشف طرفًا من تصور المتعاملين لحقيقة العقد.(10/971)
6 - 1 - 1 الباعث على استخدام هذا العقد:
الباعث على استخدام الإيجار المنتهي بالتمليك عند الغربيين هو الميزات التي يقدمها النظام الضريبي في بعض الدول الغربية لمن يستثمر في الأصول الحقيقية، إذ يمكن له أن يخصم ذلك من الوعاء الضريبي فتصبح أموال الشركة الخاضعة للضريبة أقل، فيدفع مبلغًا أدنى من الضرائب للحكومة، عندئذ وجدت الشركات التي تتوقع أن يتحقق لها فائض مرتفع من عملياتها أن من الأفضل لها استثمار جزء منه في شراء الأصول (كالمعدات والطائرات والآلات الصناعية ... إلخ) ثم تأجيرها للآخرين، بدلًا من الإفصاح لمصلحة الضرائب عن معدل ربح عال في نهاية العام، ولما كانت تلك الأصول مملوكة للشركة فإنها سوف تدرج في ميزانيتها فتستفيد منها ضريبيًّا، وهي لأنها قد حققت المنفعة من هذا الإجراء في تخفيض نسبة ما تدفعه على شكل ضريبة، تكون مستعدة - في الغالب - لتوفير الأصول المؤجرة بسعر مناسب لا يزيد عن تكلفة شرائها بالأجل، ولا يزيد عن تكلفة الاقتراض من المصرف بالفائدة، فولد ذلك طلبًا على عمليات التأجير في البلاد الغربية ولا سيما في الولايات المتحدة.
أما الباعث على استخدامه عندنا (وإن كان أمر الضريبة لا يستبعد) فهو على الأرجح:
أ - تميز عقد الإيجار المنتهي بالتمليك على عقد المرابحة الذي يعد الصيغة الرئيسة للتمويل في المصارف الإسلامية، ويتميز التأجير على المرابحة من أوجه:
1 - أن ملكية الأصل المؤجر تبقى لدى البنك، فلا حاجة به عند مماطلة العميل إلى استصدار حكم من المحكمة للتنفيذ على الضمانات كما في المرابحة، بل يستطيع مباشرة أن يسترد ذلك الأصل.
2 - لا يحتاج العميل في عقد الإيجار المنتهي بالتمليك إلى تقديم ضمانات ورهون تساوي كامل (أو ما يزيد عن) قيمة الأصل، بل يكتفي البنك بضمان يقابل قسطًا واحدًا، أو يقابل تكاليف الصيانة أو ما إلى ذلك مما يسهل على العملاء الحصول على التمويل اللازم، إذ من المعلوم أن كثيرًا منهم يحجم عن طلب التمويل لعجزه عن تقديم الضمانات.
3 - إمكانية تغير الثمن على صفة مراجعة الأقساط الإيجارية (مما سيأتي بيانه) وتعذر - مثل ذلك في بيع المرابحة لأن الثمن فيها يصبح دينًا ثابتًا مستحق الأداء بمبلغه بلا زيادة.(10/972)
ب - استخدامه بديلًا عن البيع بالتقسيط عند تعذر الرهن، ففي بعض البلدان التي لا يوجد فيها إجراءات معتمدة لتسجيل الرهون وضبطها من قبل جهات رسمية، يعمد التجار الذين يبيعون بالأجل إلى استخدام سجل الملكية كوسيلة للاحتفاظ بالأصل حتى يكمل المشتري سداد جميع الأقساط، عندئذ لا يمكن تسمية العقد بيعًا؛ لأن البيع يقتضي انتقال الملك إلى المشتري، فيسمونه إيجارًا ويسمون ما يدفعه المشتري أقساطًا إيجارية، إلا أن شروطه والالتزامات المترتبة على أطرافه تدل على أنه بيع، فلو توقف العميل (المشتري) عن الدفع يقوم المؤجر باسترداد الأصل، ثم بيعه واقتطاع ما بقي من ثمنه في ذمة العميل (أي الأقساط التي لم تسدد بعد) .
وردُّ ما زاد عن ذلك إلى المستأجر، وإذا لم يف ذلك الثمن بما بقي من دَين (أي الأقساط التي لم تسدد) رجع على المستأجر ببقية الثمن، كما يتحمل المستأجر كافة تكاليف الصيانة بأنواعها وتبعات هلاك الأصل، وكل ذلك دليل على أن حقيقة العقد هي البيع والرهن، وليس الإيجار.(10/973)
6 - 1 - 2 صيغة هذا العقد وإجراءاته المعتادة:
سوف نعرض أدناه الصورة الأكثر انتشارًا في مجال العمل المصرفي الإسلامي لعقد الإيجار المنتهي بالتمليك، ثم ننتقل إلى صور أخرى موجودة وذلك لاستكمال جوانب الموضوع.
صيغة عقد الإيجار المنتهي بالتمليك (والذي سنسميه من الآن فصاعدًا " عقد الإيجار " لغرض الاختصار) هي صيغة تمويل، ذلك أنه ينهض بحاجة المستثمرين وأرباب الأعمال إلى الحصول على الأموال التي يشترون بها الآلات والمعدات والأصول الرأسمالية المختلفة، أو التي يستخدمونها لأغراض غير إنتاجية كما سيأتي بيانه فيما بعد.
يتقدم هذا العميل المصرفي بطلبه إلى البنك، وبعد الموافقة على
طلبه من الناحية الائتمانية (أي التأكد من ملاءة العميل وحسن وفائه بالتزاماته ... إلخ) يطلب إليه أن يوقع على وعد بأنه سوف يستأجر هذا الأصل من المصرف عندما يصبح الأصل المطلوب في ملك الأخير وحوزته، بالشروط المتفق عليها، هذه الشروط تتضمن عادة:
أ - تحديد الأقساط الإيجارية، أي مدفوعات الإيجار الشهرية أو الفصلية، وعدد هذه الأقساط.
ب - تحديد سعر البيع في نهاية عقد الإيجار، ذلك أن الأصل يباع على ذلك العميل إذا أكمل تسديد جميع تلك الأقساط في أوقاتها، ويكون البيع بثمن متفق عليه عند التعاقد.
تحديد مقدار ربح المصرف، والذي يتمثل في الفرق بين الثمن
الذي دفعه المصرف لشراء الأصل ومجموع مبالغ الأقساط وثمن البيع.
وجلي أن الأقساط وثمن البيع تحسب جميعًا بحيث يحقق المصرف
ربحًا صافيًا من هذه العملية، أي أن يحقق المصرف إيرادًا يزيد على ثمن شراء الأصل بنسبة متفق عليها تحسب مقابل الزمن وبناء على طول المدة. ومن الواضح أيضًا أن الأقساط الإيجارية لا يكون لها علاقة - إلا فيما ندر وفي حالات خاصة - بالمعدل السوقي للإيجار (أي إيجار المثل) فهي تكون أعلى من ذلك بكثير، ذلك لأن المبالغ المدفوعة كإيجار وتلك المدفوعة كثمن للبيع في نهاية العقد يجب أن تغطي كامل ثمن شراء الأصل وربح البنك خلال مدة تقل ربما كثيرا، عن العمر الافتراضي للأصل الذي هو محل المعاملة؛ لأن العميل يرغب في إكمال دفع الأقساط وامتلاك الأصل، ولما يزل له منافع استعمالية.(10/974)
وإذا كانت مدة الإيجار طويلة (كخمس أو عشر سنوات) ، خشيت
البنوك أن تتغير معدلات الربح في القطاع المصرفي أو يرتفع سعر الفائدة في السوق المالية خلال هذه المدة، فيضحي العائد من هذا التمويل (الإيجار) أقل من العوائد في العمليات المماثلة، فاتجهوا لمعالجة هذه المشكلة إلى جعل العقد يتضمن شرطًا ينص على أن الأقساط الإيجارية قابلة للمراجعة كل ستة أشهر (مثلًا) ويشار إلى ذلك بأنه تجديد للعقد (مع ملاحظة أن التزام العميل بالاستئجار هو لكامل المدة، ولا خيار له في الفسخ عند مراجعة تلك الأقساط) فتكون تلك طريقة لتغير سعر الإيجار، وتحسب هذه الزيادة على مبلغ الأقساط الباقية ليتحقق منها العائد المناسب مع الظروف الجديدة، فمثلًا حسبت الأقساط الإيجارية بحيث تحقق عائدًا سنويًا للمصرف قدره (9 %) وهو سعر الفائدة السائد عند التوقيع على العقد، ثم عند المراجعة الأولى (بعد ستة أشهر) وجد أن سعر الفائدة قد زاد فأصبح (11 %) ، عندئذ سيحسب مبلغ الأقساط الباقية التي لم تسدد بعد بحيث يحقق دخلًا سنويا قدره (11 %) ، وتعدل مبالغ تلك الأقساط الإيجارية تبعًا لذلك.
وقد يجد بعض العملاء في مثل تلك المراجعة مصلحة، إذ ربما انخفضت أسعار الفائدة (وهي المقياس المعتمد لعدم وجود البديل) خلال مدة العقد، بدون تلك المراجعة سيكون مضطرًا لأن السعر ثابت والأقساط تحددت في وقت كان سعر الفائدة فيه أعلى من الآن) إلى دفع أقساط أعلى من اللازم، ولو حصلت المراجعة لانخفضت تلك الأقساط فأصبحت مماثلة للسعر السائد في السوق لعمليات التمويل الممائلة، ويشيرون إلى ذلك في العقود بأنه إجارة المثل.(10/975)
وإذا واظب هذا العميل في دفع كامل الأقساط حتى نهاية المدة، فما
عليه عندئذ إلا أن يدفع المبلغ المتفق عليه كثمن للأصل فيمتلكه، أي تنتقل ملكيته إليه، وهذا سبب تسمية العقد بأنه ينتهي بالتمليك، ونظرًا إلى أن رغبة العميل هي " تمويل امتلاكه لذلك الأصل " وليس شراء المنافع كما هو مقصود عقد الإيجار، فإن توزيع المدفوعات بين أقساط إيجارية وثمن للأصل في نهاية العقد لا يحكمه - في غالب الحالات - إلا الوضع المالي لذلك العميل، فيمكن أن تكون هذه الأقساط الإيجارية كبيرة متسارعة حتى إذا انتهى عقد الإيجار لم يبق إلا مبلغ بسيط يعد عندئذ ثمن للبيع، وقد يصل الأمر إلى جعل ثمن البيع لطائرة في نهاية العقد دولارًا واحدًا، وقد تصمم المدفوعات الإيجارية بحيث تكون كبيرة في بداية العقد ثم صغيرة في الفترات اللاحقة أو العكس من ذلك ... إلخ ذلك.
وقد أدركت بعض البنوك الإسلامية التي تطبق عقود الإيجار أن على
هذه الصيغة عددًا من الملاحظات الشرعية، فسعت إلى تعديلها بطريقة تتفادى تلك النواقص وتحقق قدرًا أكبر من الانضباط الشرعي فيه، من ذلك:
أ- أنها وجدت أن بيع الأصل عند التعاقد على الإيجار بحيث يقع البيع في المستقبل غير جائز لأنه من البيوع المضافة حيث يتأجل فيه البدلان، ولذلك استبدلته بوعد من المؤجر - أي المصرف - بالبيع بثمن محدد لا يقابله التزام من المستأجر بأنه سوف يشتري، وإنما يكون مخيرًا في هذه المسألة إن شاء أمضى البيع ودفع الثمن وإن شاء أرجع الأصل إلى المؤجر، عندئذ يكون ذلك شرط في عقد الإيجار لا عقد بيع في عقد إيجار فيصير إلى بيعته أو إلى بيع مضاف، وإذا أخذنا برأي الموسعين في مسألة الشروط قبلنا ذلك كشرط، على أن هذا التغيير وإن كان جوهريًّا من الناحية التعاقدية، إلا أن تأثيره محدود من الناحية العملية، ذلك أن المستأجر الذي يدفع أقساطًا إيجارية تزيد كثيرًا على إيجار المثل فإنه يعلم أن تلك الزيادة هي مدفوعات تقابل ثمن ذلك الأصل، أي أن الأقساط التي يدفعها مقسومة إلى جزءين: جزء هو ثمن للمنافع، وجزء ثمن للرقبة، ومن ثم فإنه عندما يصل إلى نهاية عقد الإيجار يكون قد دفع من ثمنه ما يجعل اختياره للشراء أمرا مسلّمًا حتى لو لم يرغب في امتلاكه، إذ يمكن له شراؤه بالثمن الضئيل وبيعه بثمن المثل في السوق، والذي سيكون أعلى من ذلك قطعًا.(10/976)
ب - ثم إنها وجدت أن تغير المدفوعات الإيجارية بصفة دورية في عقد يغلب على طبيعته البيع لا الإيجار يترتب عليه وجود جهالة في الثمن، وعقود الإيجار المنتهي بالتمليك هي في طبيعتها عقود متوسطة إلى طويلة الأجل (خمس سنوات وأكثر) لا تصلح لعمل البنوك إلا أن تكون متغيرة، ولذلك فالبنوك تواجه في مثل تلك العقود مخاطرة تقلب أسعار الفائدة.
ورب قائل: ما علاقة سعر الفائدة وهو ربا بعمل البنوك الإسلامية؟
من المعلوم أن مؤسسات الوساطة المالية بشكل عام وفيها البنوك الإسلامية تعتمد على موارد مالية قصيرة الأجل (فالودائع الجارية والاستثمارية يسمح لأصحابها سحبها خلال مدة قصيرة) لتمويل استخدامات طويلة الأجل (مثل عقد الإيجار الذي يمتد لسبع سنوات مثلًا) ، فإذا ارتفعت أسعار الفائدة في السنة الثانية مثلًا، فسوف يجد المصرف أن عددًا (ربما يكون كبيرًا) من المودعين سوف يسحبون أموالهم إذا لم يحصلوا على عائد مساو للعائد من الفرص الأخرى المتاحة، فيقع المصرف في أزمة سيولة، لذلك هو يضطر إلى إدخال عنصر التغير في عائدات تمويلية حتى تتغير العائدات التي يدفعها للمستثمرين لديه.
وقد اعتادت البنوك التقليدية على معالجة هذه المشكلة بربط المدفوعات الإيجارية بسعر الفائدة، ذلك أنها تعتبر عقد الإيجار هذا نوعًا من أنواع الائتمان، ولذلك لا بد لهذا العميل من دفع الفائدة على المبالغ المتعلقة في ذمته والتي تعد دينًا عليه، هذه المبالغ هي عبارة عن مدفوعات الإيجار إلى نهاية العقد وثمن البيع إلى ذلك العميل.
فإذا كان القسط الشهري الذي يدفعه هو 1000 ريال، فإن هذا المبلغ سيزيد في كل شهر بمقدار الفائدة السنوية على الأقساط الباقية وثمن البيع في نهاية العقد، وهذه الفائدة السنوية متغيرة ومربوطة بأحد مؤشرات سعر الفائدة المشهورة (مثل ليبور) ، وحتى لو كانت رسوم الإيجار في العقد ثابتة غير متغيرة فإنه بإمكان المصرف التقليدي بيع تلك العقود أو لوجود أسواق منظمة لتبادل الديون وتصكيكها، فيظهر أثر تغير سعر الفائدة على صفة تقلب في سعر بيع تلك الديون.(10/977)
وترى البنوك الإسلامية مشكلة مماثلة في عقود الإيجار ذات الأجل الطويل، ولذلك فهي للتوصل إلى حل لهذه المشكلة، أدخلت في عقودها شرط (تجديد) العقد كل ستة أشهر، وعندئذ تتم مراجعة القسط الإيجاري آخذة في الاعتبار زيادته بمقدار التغير في المؤشر المعتمد، إلا أن هذا التجديد المذكور ليس إلا مراجعة لمبلغ القسط، إذ لا يسمح العقد لأي من الطرفين بالفسخ، كما أن مدة العقد تبقى كما هي (أي خمس سنوات، لا ستة أشهر) ، وظاهر أن هذا وإن حقق غرض إدخال عنصر التغير في عائدات المصرف إلا أن النواحي الشرعية فيه غير منضبطة.
وقد حاولت بعض البنوك الإسلامية معالجة هذه المشكلة بطريقة أخرى، إذ لا مناص عندها من مراجعة القسط الإيجاري كل ستة أشهر، ولكنها لتفادي الحرج الشرعي جعلت هذه المراجعة حقيقية، بأن أعطت الطرفين حق الفسخ إذا لم يتفقا على المبلغ الجديد للقسط، وهذا حسن إلا أن ذلك عسير التطبيق من الناحية العملية، إذ لا يقبل البنك ولا العميل مثل ذلك الخيار لو كان حقيقيًّا؛ لأنه يدخل في العملية مخاطرة لا طاقة لهم بها، فأدخلت في العقد شروطًا جزائية صارمة تجعل ذلك العميل لا يجرؤ على الفسخ.
وقد تصل تلك الشروط الجزائية إلى حد الإلزام بالتعويض عن الفرق بين ذلك المبلغ الذي رفضه الفاسخ ومبلغ القسط الإيجاري الذي يتفق عليه عندما تتم إعادة التأجير لطرف ثالث بعد الفسخ، مما يجعل الفسخ خيارًا مكلّفًا للغاية بل يكاد يكون لا معنى له، فمثلًا إذا كان الإيجار 100، ثم عند المراجعة قال البنك: أريد أن أرفع الإيجار إلى 120، فقال العميل: لا يعجبني وأريد أن أفسخ العقد، كان له ذلك، عندئذ يقوم البنك بتأجير الأصل إلى طرف ثالث، فإذا لم يحصل على الإيجار المطلوب بل أقل منه مثل أن يؤجره بـ 110 عندئذ التزم ذلك العميل بحكم الشرط الجزائي بدفع 10 وهي الفرق في السعرين إلى البنك تعويضًا له عن الخسارة.(10/978)
ج- وليس عسيرًا على أرباب البنوك الإسلامية التي تعمل بالإيجار
ملاحظة أن دفع هذا العميل لقسط إيجاري يساوي أضعاف أجرة المثل هو علامة تدل على أن العقد في حقيقته ليس عقد إيجار بل هو بيع، ومن ثم كان على أطرافه الالتزام بشروط البيع لا الإيجار، ومنها أن الثمن يضحي دينًا متعلقًا في ذمة العميل منذ تاريخ التعاقد، وأن الأصل المؤجر هو ملك لذلك العميل منذ لحظة قبضه إياه من البنك، ومثل ذلك يلغي الميزات الأساسية لعقد الإيجار المنتهي بالتمليك، وهي قدرة المصرف على استرداد ذلك الأصل إذا ماطل العميل أو تأخر في السداد، ولذلك حاولت مواجهة هذه المشكلة بجعل الأقساط الإيجارية مساوية لأجرة المثل، إلا أن تأجيره بأجرة المثل يترتب عليه نتيجتان:
الأولى: أن البنك لا يضحي ملتزما ببيع هذا الأصل إلى العميل (الذي ما دخل في هذا العقد إلا لرغبته في التملك) لأن ما دفع في هذه الحالة لا يتعدى أن يكون ثمنًا للمنافع التي حصل عليها، وهذا أمر لا يقبله عملاء البنوك، وكذلك في الجهة المقابلة فإن دفع العميل لثمن المنافع فقط لا يولد الحافز المناسب عنده للتمليك والرغبة في الشراء، فعندئذ ربما قرر العميل في نهاية العقد أو قبل ذلك عدم رغبته في الشراء بعد مرور وقت وتغير الظروف وتحول الأسواق، بحيث تضحي قيمة الأصل لو باعه البنك بعد رد العميل له أقل كثيرًا من المبلغ المطلوب الذي يحقق الربح له، إن مجرد وجود مثل ذلك الاحتمال يترتب عليه خطر لا يقبله المصرف ابتداء.(10/979)
الثانية: أنه حتى لو التزم العميل بالشراء في نهاية العقد، فإن التأجير بأجرة المثل يجعل مبلغ الثمن المتبقي كبيرًا جدًّا لا يستطيع ذلك العميل دفعه، فالأصل في العمر الافتراضي الذي يصل إلى 20 سنة (مثل الطائرة) والذي يريد المصرف تمويل امتلاك العميل له في خمس سنوات، إذا وقع تأجيره بأجرة المثل بقي من ثمنه في نهاية الفترة المذكورة قريبًا من 80 % وهذا يجعل شراءه أمرًا عسيرًا على المستأجر، عندئذ، وكحل لهذه المشكلة حاولت البنوك إيجاد طريقة يجمع فيها بين أجر المثل ودفع ثمن الشراء، فطلبت تلك البنوك من ذلك العميل المستأجر أن يدفع أجر المثل وأن يودع شهريًّا (أو بحسب دورية الأقساط) مبلغًا إضافيًّا في حساب استثماري (يحجزه البنك بحيث لا يستطيع هذا العميل السحب منه، والأرباح المتولدة منه تكون لذلك العميل) ، والمدفوعات في هذا الحساب مساوية للفرق بين أجرة المثل والمبلغ المطلوب أصلًا كمدفوعات شهرية في عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، وفي نهاية العقد يكون المبلغ المودع في الحساب الاستثماري (قريبًا من 80 % في مثالنا السابق) كافيًا لدفع ثمن الأصل إلى المصرف، فيستلمه ويبيع الأصل إليه بالثمن المنصوص في أصل الاتفاق.(10/980)
د - وكذلك فقد أدركت بعض البنوك الإسلامية أن جعل ثمن البيع في نهاية العقد مبلغًا ضئيلًا جدًّا - مثل دولار واحد - لا يوحي بقدر كبير من الثقة في حقيقة هذا العقد ولا يظهر معنى الإيجار فيه، فاتجهت في ذلك عدة اتجاهات لتفادي هذا الوضع:
* فمنها من تبنى طريقة " الهبة " فيذكر في العقد أن العميل المستأجر إذا دفع كامل الأقساط الإيجارية وواظب على ذلك بدون تأخير أو مماطلة، فإن المصرف (المالك) سوف يهب هذا الأصل المؤجر إليه بدون ثمن، ولا بأس من اقتران الإيجار بالهبة؛ لأن الهبة ليست من عقود المعاوضات فخرجت عن بيعتين في بيعة (إذا وافقنا على أن حقيقتها الهبة لا المعاوضة) . ولا تتبنى هذه الطريقة إلا العدد القليل من الشركات والبنوك المشتغلة
في التأجير، وفي الولايات المتحدة يثير هذا الترتيب مشكلة قانونية، ذلك أن الهبة عقد غير لازم عندهم، والمالك حتى لو ألزم نفسه به فإن الموهوب له (أي المستأجر) غير ملزم بالقبول، فيتولد عن ذلك مخاطرة للمصرف، فإذا رفض العميل قبول الهبة في نهاية العقد (وهو ربما فعل ذلك إذا تحولت الأسواق وتغيرت الأسعار، وصار الأصل المؤجر عالي الكلفة في التشغيل) ، وقع المصرف في ورطة لا سيما إذا كان الأصل المؤجر طائرة أو سفينة، أو آلة معقدة مركبة في داخل مصنع العميل، مثل هذه الأصول تحتاج إلى تكاليف باهظة في تشغيلها وإلى مصاريف عالية حتى لمجرد إيقافها في المطارات أو الموانئ وضرائب مرتفعة ورسوم تأمين ... إلخ مما لا ترغب المصارف في التعرض له حتى ليوم واحد، وإن مجرد مثل هذه النتيجة كاحتمال يعني مخاطرة في العقد لا ترغب البنوك في ركوبها.
*ومنها من تبنى البيع بثمن المثل في السوق عند نهاية العقد، فإن شاء المستأجر شراءه اشتراه بذلك الثمن وإلا بيع إلى طرف ثالث، وهي طريقة غير محببة إلى المتعاملين في هذه العقود، لأنها تدخل في العقود مخاطرة تغير الظروف وتبدل الأثمان، ومن ثم لا تأتي نتائج العملية كما خطط لها.(10/981)
6 - ا - 3 هل الإيجار المنتهي بالتمليك بالتمليك من العقود المستجدة؟
هل يكون هذا العقد من العقود المجمعة، أم العقود المركبة أم العقود المستجدة؟ الذي يظهر لنا أنه عقد من العقود المستجدة، لكن له أصلًا يقاس عليه، ذلك أن مقصود العاقدين فيه هو البيع الآجل، وإن أركانه تشبه عقد البيع، وشروطه وقع الاختلاف فيها عن عقود البيع المعتادة في جانبين، الأول: هو تغير مبلغ الأقساط، والثاني: هو دخول الرهن كجزء من العقد، وتغير مبلغ الأقساط الإيجارية يولد جهالة في الثمن، أما تعاقب عقد البيع والرهن على محل واحد في أن واحد فربما يتسامح فيه إذا افترضنا أن الرهن معلق بانعقاد الإيجار (البيع) وأنه وسيلة توثيق من نوع ما، وليس رهنًا مقبوضة، وعلى ذلك يمكن القول أن عقود الإيجار المنتهي بالتمليك ذات الأقساط المتغيرة غير جائزة نسبب جهالة الثمن.
6 - 2 المشاركة المصرفية:
المشاركة لفظ غلب استعماله لوصف صيغ تمويل تجريها البنوك الإسلامية مستمدة من عقد الشركة المعروف في الفقه الإسلامي، والشركة مشروعة في الكتاب والسنة، وقد أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على جواز الشركة، سواء تلك التي يجد الناس أنفسهم أطرافًا فيها وتسمى شركة الملك أو المال (مثل اشتراك الورثة في تركة الميت أو في الغنية أو الوصية) ، أو تلك التي يتفقون على إنشائها وتسمى شركة العقد.
وقد تكون الشركة بالأموال كأن يتفق مجموعة من الأفراد على المساهمة في مال لتأسيس شركة، والربح بينهم بحسب حصة كل منهم في رأس المال، وتسمى شركة العنان، وربما اجتمعوا للاشتراك في العمل كمجموعة من الصناع أو التجار، وما تحقق لهم من أجرة فهي بينهم، وتسمى شركة الأبدان أو شركة العمل، أو ربما اشتركوا بوجاهتهم وسمعتهم بدون رأس مال ولا صنعة، فيشترون السلع بالثمن الآجل ويبيعون والربح بينهم وتسمى شركة الوجوه.(10/982)
وقد تختلف أسماء الشركات بين المذاهب، وقد تتباين بعض أحكامها وأقسامها، ولكن صيغتها الأصلية مجمع على جوازها، والشركة عقد ولذلك لزم لصحتها ما يشترط لصحة العقود ويضاف إليها مسائل لها خصوصية في عقد الشركة، مثل اشتراط أن تكون الخسارة بقدر حصة كل من الشركاء في المال، وأجاز بعض الفقهاء التفاوت في الربح إذا كان لبعض الشركاء تميز أو أثر يفيد الشركة، وأن يكون رأسمالها نقودًا أو مقوّمًا بالنقود، والمشاركة التي تجريها البنوك تشبه عقد الشركة في أن رأس المال الذي يتولد منه الربح يكون مملوكًا لطرفي العقد (أو أطرافه) أي البنك والعميل، وتستخدم بعض القوانين الوضعية لفظ المشاركة ليشير إلى أنواع الشركة التي لا تنشئ عملًا ذا شخصية اعتبارية، إذ أنه يكون مؤقتا لمدة معينة فهي أشبه بالصفقات التجارية، وقد جرى إدخال عدد من الشروط في هذا العقد لكي يتناسب مع عمل البنوك، وطبيعة النشاط الاستثماري المعاصر والضوابط المحاسبية والقيود على العمل المصرفي التي تفرضها الأنظمة الحكومية والدولية.
ولعقد المشاركة المذكور أشكال، بعضها يكون مماثلًا لعقد شركة العنان المعروف، لا حاجة لنا في الحديث عنه هنا، وبعضها لا يكاد يحمل من صيغة الشركة إلا جانب الاشتراك في رأس المال أو في الربح، ولذلك فإنه يعد من العقود المستجدة، وأحيانًا من العقود المركبة، وسوف نعرض في هذه الورقة لبعض أشكال هذا النوع من المشاركة، وأهم صوره.(10/983)
6 - 2 - االمشاركة المتناقصة:
المشاركة المتناقصة صيغة تمويل تعتمد على اشتراك المصرف مع
أحد عملائه في شراء أصل من الأصول المنتجة كطائرة أو عقار أو شركة قائمة.. إلخ، والغرض من صيغة المشاركة المتناقصة هو أن تكون بديلًا عن القرض الربوي، حيث يقدم المصرف الائتمان لعملائه على غير أساس الفائدة، ومن المعلوم أنه عندما يحتاج أحد عملاء المصرف إلى التمويل لشراء أصل من الأصول الكبيرة (مثل العقار أو الطائرة أو السفينة أو البضائع ... إلخ) ، فإنه يمكن له أن يقترض الثمن من البنك التقليدي الذي يعمل بالفائدة ثم يشتري ما يريد بذلك المبلغ نقدًا، ويسدد إلى المصرف الدائن القرض وفوائده، كما يمكنه أن يحصل على التمويل من المصرف الإسلامي للغرض ذاته، ولكن على أساس المشاركة المتناقصة وليس القرض، وصفة ذلك أن ينشئ المصرف والعميل شركة ذات طبيعة خاصة وغرض محدد هو شراء ذلك الأصل المطلوب وتسمى (مشاركة) ، ويشتركان في رأس مالها فيدفع العميل نسبة ضئيلة لأنه لا يتوفر على السيولة الكافية) مثل 5 % أو أكثر أو أقل، ويدفع المصرف النسبة الباقية، عندئذ يصبح هذا الأصل بعد الشراء، مِلكًا للطرفين بنسبة مساهمة كل منهما في رأس المال، ولما كان غرض العملية هو امتلاك ذلك العميل للأصل، وليس للمصرف رغبة في الإبقاء عليه في ملكه، يتفق الطرفان على قيامه (أي العميل) بشراء نصيب المصرف في المشاركة المذكورة (والمتمثلة في حصة مشاعة في ذلك الأصل) بصفة متدرجة، فإذا كان العميل يرغب في دفع الثمن على مدى عشر سنين مثلًا جعلت حصة المصرف عشر شرائح كل شريحة تمثل 10 %، ويتفق الطرفان على شراء ذلك العميل لعُشر حصة المصرف، أي لشريحة واحدة، في كل سنة، واستئجار النسبة الباقية المملوكة للمصرف إذا كان العميل يقطن في العقار وإذا لم يكن جرى تأجيره واقتسم إيجاره بين الطرفين.
وقد تباينت التطبيقات لهذه الصيغة بين المصارف الإسلامية، فمنها
من يجعل رسوم الإيجار السنوي لحصة البنك معلومة محددة ومتفق عليها عند توقيع العقد، وكذلك ثمن البيع لكل شريحة من حصة البنك، ومنها من يعمد إلى تقويم سنوي لقيمة الأصل في السوق في تاريخ محدد من كل سنة، ثم يحدد بناء عليه ثمن الشريحة من حصة المصرف التي التزم العميل بشرائها كجزء من تلك القيمة. كذلك يتحدد الإيجار السنوي لما بقي من حصة البنك بنفس الطريقة، ولعل الاتجاه الثاني مرده إلى التوجيه في أن البيوع المضافة إلى المستقبل لا تجوز.
إلا أن التطبيق العملي له لم يكن ناجحًا، ذلك أن الأثمان ربما تغيرت بالارتفاع أو الانخفاض خلال مدة التسديد , عندئذ ربما وجد العميل نفسه بعد دفع مبلغ كبير لازال عاجزًا عن امتلاك الأصل؛ لأن قيمة حصة البنك ترتفع باستمرار تزايد الأسعار في الأسواق، وفي الجهة المقابلة ربما وجد المصرف نفسه يحقق خسارة لانخفاض سعر ذلك الأصل عند التثمين السنوي عما كان متوقعا عند التعاقد.(10/984)
6 - 2 - ا - اهل المشاركة المتناقصة من العقود المستجدة؟
لا شك أن عقد المشاركة المتناقصة هو من العقود المستجدة، وهو
عقد مركب من شركة وبيع، وقلنا: إنه مركب لعدم إمكانية فصل العقدين واستقلالهما عن بعضهما البعض، إذ لا تحقق المصلحة المستهدفة من التعاقد بين الطرفين، ولا شك أن الجمع بين الشركة والبيع جائز، إلا أن مشكلة هذا العقد أن عقد البيع فيه مضاف يتأجل فيه البدلان، وهو ليس على سبيل الوعد، بل هو مولد للالتزام بالبيع والشراء، ولذلك فالصيغة التي تترك تحديد الثمن إلى وقت إجراء البيع جيدة، لأنها تخرج الصيغة من حرج البيع المضاف إلى المستقبل.
6 - 2 - 2 المشاركة المتتالية:
يقصد بالمشاركة المتتالية (وربما سميت بغير ذلك أحيانًا) استبدال المصرف مستثمرًا مكان آخر في تمويل يعتمد صيغة الدَين، وربما يجد القارئ بعد التفصيل أن ليس لهذه المشاركة من اسمها نصيب، وهي على أية حال صيغة معقدة نبسطها بقدر ما يسمح مطلب عدم الإخلال.
صفتها أن يقوم المصرف مثلًا بتمويل زيد لشراء طائرة بالمرابحة بمبلغ 100 مليون دولار مثلًا، ثم يصبح ذلك الثمن (وربح البنك) دينًا يسدده العميل، على أقساط خلال سبع سنوات، ولأن المصرف وسيط مالي فإن مبلغ المائة مليون المذكور إنما جمعه من المستثمرين الذين يودعون أموالهم لديه في الحسابات الاستثمارية، لنفترض أن هذه الأموال جاءت من عشرين مستثمرًا، عندئذ هم شركاء في هذه العملية، والربح لهم (وللمصرف نصيبه
من الربح كمضارب أو له الحصول على رسوم إدارة إذا كان وكيلًا بأجر ... إلخ) ومن هنا جاء وصفها بالمشاركة، ولكن نحن نعلم أن هؤلاء المستثمرين لا يرغبون في بقاء أموالهم لدى المصرف سبع سنين، لا سيما أن الحسابات الاستثمارية التي تحظى بتفضيل المدخرين هي تلك التي يكون أجلها قصيرًا (ستة أشهر) ، فكيف السبيل إلى تمويل عملية طويلة الأجل باستخدام ودائع استثمارية قصيرة الأجل؟(10/985)
لا تثير هذه المسألة إشكالًا كبيرا عند المصارف التقليدية؛ لأن العائد من القرض الذي سيدفعه زيد للمصرف محسوب على شكل فائدة مرتبطة بالزمن، وكذلك الحال في الجهة المقابلة للأموال التي يدفعها البنك لأصحاب الودائع، فإذا أراد مودع قديم أن يسحب أمواله تم إحلال مودع جديد مكانه فقبض الأول وديعته وهي المبلغ الذي قدمه الثاني، وصار الثاني يقبض الفوائد حتى ينتهي الأجل، فيقبض المال المسترد من المقترض والذي كان في أصله وديعة من المدخر الأول وحل هو محله وهكذا، فتتحقق عندئذ للمصرف القدرة على المواءمة بين مصادر قصيرة الأجل للأموال واستخدامات طويلة الأجل، ذلك أن الودائع قروض بالفائدة على المصرف فليست مرتبطة بعملياته التجارية، فالمودع ليس شريكًا في شراء الطائرة ولا يرتبط مع الجهة التي اشترت الطائرة بأي علاقة كانت، وحتى لو خسرت عملية تمويل الطائرة فإن ودائعه مضمونة بأموال البنك.
هل يمكن أن تنهض صيغة للمشاركة بنفس الغرض؟ هذا ما تقوم به المشاركة المتتالية، وصفة ذلك تحديد أجل قصير لذلك المستثمر الذي استخدمت مدخراته في تمويل العملية ابتداء (ستة أشهر مثلًا) ، وعندما يأتي وقت استرداده لماله يكون له أن يقبض الربح الذي يغطي الفترة المذكورة (ستة أشهر) لاستحقاقه ذلك بحكم مشاركته، وله أن يسترد وديعته، ولكن من أين يأتي المصرف بالأموال، والمدين لم يسدد بعدُ دَينَه؟ يمكن للمصرف أن يرد إليه أمواله بالسماح لمستثمر جديد أن يحل محله، أو يقوم المصرف بدفع مبالغ الأقساط التي سددها المدين (والتي هي حق على سبيل الشيوع لجميع المشاركين في التمويل من المستثمرين) دفعها لأولئك الذين يريدون استرداد أموالهم، وتأجيل الباقين حتى يتم التسديد النهائي، ولا فرق بين الطريقتين؛ لأن الأخيرة تؤول أيضًا إلى حلول بعض الشركاء (الباقين) محل الآخرين (الذين خرجوا) .(10/986)
وفي كلا الحالين فإن في العملية معنى الحوالة، ذلك أن الخارج المسترد لأمواله قبل الأجل يحيل المشاركين الجدد (أو شركاءه الذين لم يخرجوا كما في الحالة الثانية) بالدين الذي له على عميل المصرف ويستعجل هو قبض دينه منهم، لكن المشكلة أنه يحيل بكامل الدين ويقبض مبلغا يقل عن قيمته الاسمية، فإذا كانت حصته 1200 دولار تستحق بعد ثلاث سنوات، وتتكون من أصل وديعته وهي 1000 دولار، نصيبه من ربح المرابحة للفترة الباقية وهي 200 دولار فإنه سيحيل هذا الداخل الجديد بمبلغ 1200 دولار، ويقبض هو أصل وديعته فحسب (وهو أصل وديعة الداخل الجديد) وهي 1000 دولار، على افتراض أن الربح لن يتحقق إلا في نهاية العقد.
ولا يتصور قبول الداخل الجديد دفع 1200 دولار اليوم والانتظار
ثلاث سنوات لقبض نفس المبلغ، وهنا مكمن الإشكال فيما يسمى بالمشاركة المتتالية، فهي حوالة تتضمن زيادة من أجل الأجل في دين، فهي مماثلة لحسم (خصم) الأوراق التجارية (الكمبيالات) ، فحقيقتها والحال هذه بيع الدين على غير من هو عليه بأقل من قيمته الاسمية، والعمل بهذه الطريقة واسع منتشر في نشاط المصارف الإسلامية، وهي صيغة معقدة كما أسلفنا لاختلاف المبالغ والمدد بين المستثمرين والمتمولين، وما ذكرنا من مثال أعلاه هو صورة مبسطة، الغرض منها التوضيح، فلا ندعي أنها بصفتها المذكورة موجودة.(10/987)
6 - 2 - 2 - اهل المشاركة المتتالية من العقود المستجدة؟
لا ريب أن المشاركة المتتالية هي عقد من العقود المستجدة، ووجه
الجدة فيه تطبيقاته وعرضه ومقصود أطرافه منه، إلا أنه كثير الشبه بأمر معروف معهود في القديم هو بيع الدين لغير من هو عليه بأقل من مبلغه، وهو من العقود غير الجائزة التي تعد من الربا.
6 - 2 - 3 المشاركة بنظام النقاط:
يعد التمويل بكشف الحساب (وهو ما يسمى أحيانًا الحساب الجاري المدين) أحد أهم صيغ الائتمان في البنوك التقليدية.
ولا يكاد يسلم من الحاجة إليه أحد من التجار أو أرباب الأعمال،
وهي حاجة حقيقية؛ لأن الشركات وأمثالها يكون لها إيرادات ومصروفات مالية يومية وهي قلما تتساوى في كل يوم، فتزيد الإيرادات من النفقات في يوم ثم ربما حصل عكس ذلك في يوم آخر، فكيف تفعل عندما تحتاج اليوم إلى دفع مبالغ تقل عن إيراداتها اليوم؟
لما كان للشركة حساب مع المصرف فما عليها إذن إلا أن تتفق مع ذلك المصرف بأنه إذا كانت السحوبات من حساب الشركة في المصرف أكثر مما أودع فيه من أموال في ذلك اليوم سمح بانكشافه، وذلك بإقراض المصرف الشركة ما يحقق التساوي بين السحب والإيداع بفائدة تقوم بالحساب اليومي، وهو معاملة تتضمن الربا، لذلك احتاجت المصارف الإسلامية إلى بديل ينهض بالحاجة المذكورة ويكون خاليًا من المحرم، ومن الصيغ التي استخدمت لهذا الغرض في بعض البلدان ما يسمى بالمشاركة بنظام النقاط. وتبدأ العملية بتقويم المركز المالي للشركة ودراسة ميزانياتها وتحديد قيمة صافية لها توافق عليها إدارة الشركة ويوافق عليها البنك المعني، ولنفترض أنها خمسون مليونًا من الريالات، تقوم المعاملة على افتراض أن هذه القيمة الصافية ثابتة لا تتغير خلال فترة العقد، وهي سنة، لارتباطها بميزانية الشركة، ويتضمن الاتفاق شروطًا محددة تتعلق بإعلان الأرباح وتوزيعها، الهدف منها حفظ حقوق البنك، وكذلك قيودًا على قدرة الإدارة على الاقتراض حتى لا تتحمل المؤسسة الديون، فلا تصبح قادرة على تحقيق الأرباح، وعلى محددات تضبط أي إجراء يمكن أن يؤدي إلى زيادة النفقات مثل تغير سلم الرواتب والأجور ... إلخ.
يقوم المصرف بفتح حساب جار معتاد، يمكن تلك الشركة من أن
تودع فيه وأن تسحب منه على المكشوف (أي بمبلغ يزيد على ما أودع فيه) ، وعندما تسحب منه على المكشوف (مبلغ مليون ريال مثلًا) يصبح البنك عندئذ شريكًا في المؤسسة المذكورة بمقدار ما يمثل هذا المليون إلى جملة القيمة الصافية لها (أي 5/1 في هذه الحالة) ويستمر شريكًا حتى يقوم البنك بإيداع مبلغ في الحساب يغطي ما انكشف منه. لنفترض لغرض التسهيل أن الحساب استمر مكشوفًا لمدة خمسة أيام فقط، ولم ينكشف بعد ذلك لنهاية العام، عندئذ سيشارك البنك في أرباح المؤسسة مقابل هذه المدة فقط، فعند إعلان الأرباح في نهاية العام سوف تقسم تلك الأرباح على عدد أيام السنة فتحدد ربح اليوم الواحد، ثم تقسم الأرباح على رأس المال لتحديد ربح كل ريال، فيكون نصيب البنك من الربح الكلي للمؤسسة هوجزء يمثل حصته في رأس المال لمدة خمسة أيام [أي (الربح / 50) ×5] ، ولذلك سمي بنظام النقاط. إن التطبيق العملي لهذا النوع من المشاركات أكثر تعقيدًا؛ لأن الحساب ينكشف ثم يغطى مرات كثيرة خلال العام.(10/988)
6 - 2 - 3 - اهل المشاركة بنظام النقاط من العقود المستجدة؟
لا شك أن هذا العقد هو نوع شركة، ولكنه عقد مستجد يختلف
اختلافًا كبيرًا عن عقود الشركة المعروفة، فهو يقوم على فرضية التصفية الحكمية اليومية، كما يقوم على افتراض أن ما تحقق من ربح في آخر العام كان في واقع الأمر يتحقق بصفة يومية متدرجة طوال السنة، يظهر حصة كل يوم من الربح، ويعتمد على افتراض أن القيمة التي تحددت لموجودات الشركة في أول عقد باقية لا تتغير طوال مدته، ولذلك فإذا اشترى المصرف حصة تساوي قيمتها مبلغ مليون ريال، فإن دفع مبلغ مليون ريال بعد عدة أيام أو عدة شهور سيساوي قيمتها، إذ لا يحدث التغير في تلك القيمة، وهو أمر غير معتاد في طبيعة عمل الشركات، وقد يبدو أن في الصيغة بيع العينة، لكن ذلك غير صحيح لأن شراء الحصة ثم بيعها لا يكون إلا نقدا وليس بالأجل ولا زيادة فيه تخرج من بيع العينة، وظاهر أن هذه صيغة معقدة وجديدة.(10/989)
6 - 3 اتفاقيات التمويل:
لعل من أهم سمات عمليات التمويل في العمل المصرفي المعاصر
حاجة البنك إلى إنجاز سلسلة من الإجراءات المطولة قبل منح العميل الموافقة على التمويل، من تلك الإجراءات دراسة الوضع المالي للعميل المتقدم بطلب التمويل، والتدقيق في سجله لدى البنك والبنوك الأخرى، والتحليل الائتماني للطلب الذي تقدم به ... إلخ، كل ذلك يستغرق وقتا ويحتاج إلى جهود مختصين في المحاسبة والائتمان والاقتصاد ... إلخ. ولما وجدت المصارف أن مجموعة من الحاجات التمويلية للتجار والمؤسسات هي حاجات متكررة ومتشابهة لا تختلف إلا من حيث حجم التمويل وتوقيته، اتجهت إلى عقد ما يسمى باتفاقيات التمويل مع ذلك العميل، والتي تخوله للحصول على التمويل بصفة متكررة خلال فترة محددة وبحجم حدد له سقف (حد أعلى) دون الحاجة إلى المرور في كل مرة بسلسلة الإجراءات المذكورة.
على سبيل المثال، تاجر يستورد من خارج البلاد شحنات من البضائع بصفة دورية (كل شهر مثلًا) وفي كل مرة هو يحتاج إلى تمويل من المصرف، يمكنه عندئذ توقيع اتفاقية تمكنه من الحصول في كل مرة على تمويل ضمن السقف المتفق عليه بطريقة ميسرة لا تحتاج إلا إلى الحد الأدنى من الإجراءات، وكل عملية يدخل فيها العميل مع المصرف ضمن هذه الاتفاقية تكون عقدًا منفصلًا.
وهذا العميل عندما يحصل على موافقة المصرف على هذه الاتفاقية
لا يلزمه بالضرورة أن يستخدمها (أي يستفيد من فرص التمويل المتاحة) ولكنها تكون جاهزة للتنفيذ حينما يرغب في ذلك، وتشترط أكثر البنوك دفع ذلك العميل الرسوم في هذه الاتفاقية، إذ يفرض بعضها رسمًا لمجرد الموافقة على طلبه، وأخرى في حالة عدم استفادته من الاتفاقية، واتفاقيات التمويل يعمل بها في البنوك الإسلامية، إذ تخول العميل الحصول على التمويل بطريقة المرابحة بصفة متكررة خلال مدة معينة، يلتزم خلالها البنك بالبيع مرابحة على ذلك العميل بضائع لا تزيد قيمتها عن مبلغ متفق عليه. ربما نظرنا إلى هذه الاتفاقية أنها نوع مواعدة بين الطرفين، أي أنهما يتواعدان على الدخول في عقد في المستقبل، لكن وجود الرسوم المذكورة تدخل فيها عنصر المعاوضة.(10/990)
6 - 3 - اهل تكون اتفاقيات التمويل من العقود المستجدة؟
يمكن أن تصور اتفاقيات تمويل على أساس أنها التزام من المصرف بأن يبيع إلى عميل بضائع لا تزيد قيمتها عن مبلغ معين متى رغب العميل ذلك، فلا يكون للمصرف في ظل هذه الاتفاقية الامتناع عن البيع إذا التزم العميل بشروط الاتفاقية، وهي عقد معاوضة لأن ذلك العميل يدفع رسمًا لمجرد الموافقة على قيد الاتفاقية، وهو من العقود المستجدة التي ليس لها شبه تقاس عليه من العقود المألوفة، هي بلا شك عقد معاوضة، لكن الثمن المدفوع لا يقابله إلا التزام بالبيع؛ لأن عقد البيع والثمن فيه يأتي لاحقًا ويكون مستقلًا من الثمن المدفوع للاتفاقية، ورب قائل: إن هذا من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن البنك لا يقدم شيئًا مقابل ذلك الثمن، وهو في النهاية بائع , فلماذا يفرض رسمًا على من أراد الشراء منه؟ والواقع أن الأمر ليس كذلك؟ لأنه يعني ضرورة تأكيده من توفر الأموال لديه بطريقة تمكنه من الوفاء بالتزامه، والمصرف محتاج إلى فرز العملاء واستبعاد أولئك الذين يحبون إلزام البنك وعدم الالتزام من جانبهم، وليس أنجع من دفع ثمن يجعل غير ذوي الجدية لا يقدمون على توقيع مثل تلك الاتفاقيات.
د. محمد علي القري(10/991)
بطاقات المعاملات المالية
The Financial Transacation Cards
دراسة فقهية تحليلية مقابلة
إعداد
أ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان
مكة المكرمة – المملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن أهم ما أبدعه العصر الحديث في الخمسين عامًا الماضية في المجال الاقتصادي نظام بطاقة المعاملات المالية الذي ظهر أول ما ظهر في أمريكا، ثم البلاد الأوروبية، ثم أخذ في الانتشار بشكل واسع وسريع في البلاد الإسلامية، وغير الإسلامية.
أثبت هذا النظام في مجال الاقتصاد والتجارة فعاليته وربحيته العالية، فاستخدمت المؤسسات المالية والاقتصادية خبراتها الطويلة، ومعرفتها بنفسية المجتمعات لإغراء الأفراد على المستويات كافة وبخاصة الغنية والمتوسطة للاشتراك فيه، والانضمام إليه، تركز الإعلان عنه على الجوانب الإيجابية فيه من النواحي الأمنية، والمظهر الاجتماعي، وإشباع الرغبات والطموحات المادية، وتتكتم على الجوانب السلبية والمضرة بالإفراد: دينيًّا، واجتماعيًّا، واقتصاديًّا؛ كالمديونية، والزيادات الربوية التي لا يدركها الفرد العادي، وإذا ذكرت فإنما تذكر في إجمال وإبهام، وبأسلوب رقيق لا يلفت النظر، كالفوائد المفروضة على كل عملية شراء، والزيادة المفروضة على القرض النقدي، وصرف العملات الأجنبية، والفوائد الربوية على تأخير التسديد التي قد تجتمع كلها في عملية واحدة فتمثل نسبة كبيرة إلى أصل القرض، وتشكل جميعها مديونية تثقل كاهل حامل البطاقة بما لا طاقة له به مستقبلًا، وبخاصة أصحاب الدخل المتوسط، والمحدود.(10/992)
كل هذه لا تكشف عنها الاتفاقية بين مصدر البطاقة وحاملها،
ولا ينوه عنها إلا بإشارات غامضة غير صريحة، كأنه لا وجود لها في حساب التعامل بينهما، في حين أنها التي يعتمد عليها البنك في معظم أرباحه في الوقت الحاضر، يحقق منها أمجاده المالية، وربحيته العالية منها أكثر من الفوائد على الديون الأخرى التقليدية.
نشأ نظام البطاقات، وتطورت أنظمته ولوائحه في البلاد الغربية على أساس الاقتصاد الرأسمالي، بفلسفته وأساليبه، وبلغ من الإحكام بحيث لم يترك منفذًا إلا سلكه، أو طريقًا للربح من حامل البطاقة إلا قننه ونفذ إليه.
ولما أن للمجتمع الإسلامي مبادئه الاقتصادية الخاصة، وأساليبه المتميزة في المعاملات قام علماء الاقتصاد بعرض نظام البطاقات وشرحه بلغة الاقتصاد ومصطلحاته المفهومة لديهم، المتداولة في مجالهم، مثلهم في هذا مثل المتخصصين في المجالات العلمية الأخرى، فلكل علم مصطلحاته وتعبيراته، ربما لا يدركها غيرهم، وإن أدركوها فربما أدركوها ناقصة مبتورة.
عنونت البحوث المقدمة من أساتذة الاقتصاد الإسلامي، والاقتصاد الوضعي، ورجال المال والأعمال بـ (بطاقات الائتمان) .
تظل كلمة (الائتمان) تتردد في ثنايا البحوث الاقتصادية والإعلانات الصحفية، وعلى ألسنة المتحدثين، وهي بالنسبة للشخص غير المتخصص في الاقتصاد لا يتجاوز مفهومها لديه معناها اللغوي: (الثقة والأمانة) ، هذا إن أحسن فهمها؛ إذ ليس في هذا العنوان ما يدل على حقيقة النظام المالي الذي تقوم عليه البطاقة، ولا على مدلولها ومسماها في القاموس الاقتصادي، فمن ثم اهتم هذا البحث أول ما اهتم به هو تصحيح عنوان هذا النظام (نظام البطاقات) .(10/993)
اكتفت البحوث الاقتصادية المقدمة للفقهاء في الغالب بعرض
الواقع لهذا النظام، وتسليط الأضواء على الجوانب الظاهرة فيه في حدود الاقتصاد، دون تحليل داخلي أو خارجي لطبيعته، وإظهار أبعاده ونتائجه، فلم يسهم في إيجاد تصور كامل صحيح، وبالطبع لم يساعد في توحيد رأي الفقهاء، أو على الأقل رأي واحد تتبناه الأغلبية؟ إذ لا يزال الفقهاء الشرعيون في اختلاف وتباين في الرأي بين مجيز ومحرم، حسب التكييف الفقهي الذي يراه بناء على فهمه للطرح الاقتصادي الذي بين يديه، وتحت ناظريه.
إن الحل الصحيح الموفق رهين بالدراسة الموضوعية، والتحليل العلمي، والتكييف الفقهي السليم، ولا يكون هذا إلا بالتتبع والوصول إلى جذور العقد، أو العقود في أساسات هذا النظام.
إن التصور لنظام البطاقات يكتمل تماما، وتجتمع له أسباب الصحة وشروطها، ومن ثم يمكن دراسته دراسة فقهية شرعية، إذا توافرت له الدراسات القانونية في البلاد التي تأسس فيها، وتطورت لوائحه وأنظمته في مؤسساتها التشريعية والقضائية.
إن هذه الدراسة تمثل حجر الزاوية، وهي الطرف الثاني في
المعادلة، فأصحابه أدرى بمداخله ومخارجه، وأعرف بحقيقته. الدراستان: الاقتصادية والقانونية شرط أساس لاكتمال التصور الفقهي؛ إذ أن كليهما يشترك في إعطاء التصور التام الصحيح، ومن ثم يهيئان لدراسة شرعية سليمة إن شاء الله.
لا يعني العرض القانوني التسليم بمسلماته وتوجهاته، ولكنه الإسهام في صحة التصور، فقد يكون التطابق في التكييف والتصوير فيستأنس به، وليس في هذا ما يضير الفقه، أو الفقيه، حيث ينفرد الفقه الإسلامي عن غيره في المبادئ والأحكام. أن التكييف والتصوير فكر إنساني مشترك، والمهم هو الأحكام والأصول والمبادئ التي يتميز بها فكر عن فكر، وفقه عن فقه.
وضع البحث في اهتمامه الأول عرض الدراسة القانونية من مصادرها الأجنبية في البلاد التي تأسس وتطور فيها بلغته ومصطلحاته. كما لم يهمل العرض والدراسة في هذا القسم الاستعانة بالعرض الاقتصادي وتحليلاته متى استدعت الحاجة إليه، تمثل كل هذا في القسم الأول من البحث بعنوان: " الدراسة القانونية لبطاقة المعاملات المالية ". يشتمل هذا القسم على فصلين وعدة مباحث.(10/994)
الفصل الأول بعنوان: " التحليل والأقسام ".
يتضمن المباحث التالية:
المبحث الأول: بطا قات المعاملات المالية: التعريف والمصطلحات.
المبحث الثاني: عقود بطاقات المعاملات المالية: الإجراءات والأركان.
المبحث الثالث: بطاقات المعاملات المالية المتداولة: الأقسام،
والأنواع، والأرباح
المبحث الرابع: المصدرون للبطاقات عالميًّا.
المبحث الخامس: الحماية القانونية لحاملي بطاقات المعاملات المالية.
الفصل الثاني بعنوان: " العلاقات والمسؤوليات في البطاقات البنكية ". يتضمن المباحث التالية:
المبحث الأول: العقود التي تتضمنها البطاقات البنكية.
المبحث الثاني: علاقة مصدر البطاقة (المقرض) بحامل البطاقة
(المقترض) ومسؤولياته.
المبحث الثالث: مسؤوليات حامل البطاقة (المقترض) .
المبحث الرابع: إنهاء اتفاقية البطاقة بين مصدرها وحاملها وآثار ذلك.
المبحث الخامس: العلاقات والمسؤوليات بين مصدر البطاقة
والتاجر.
ما من شك أننا معنيون هنا بالناحية الفقهية الشرعية أصالة، فهي المقصود ومحط المطاف، فكل ما أوصل إليها، ودل عليها يكون مطلوبًا لها.
لا جرم أن يعتمد هذا البحث في التوصل إلى هذه الغاية على الناحيتين الاقتصادية والقانونية فهما جناحا الموضوع.
التحليل الاقتصادي مطلوب؛ لأنه يفسر الواقعة الاقتصادية ويبين
أبعادها.
التحليل القانوني مطلوب، لأنه يدل على حقيقتها، ويساعد في فهمها وتكييفها.(10/995)
العنصر الثالث - للتمهيد للدراسة الفقهية الشرعية - الدراسة الميدانية، وهي مهمة للإحاطة بالجوانب النظرية وتفسيرها على أرض الواقع، والمزاولة اليومية، يضاف إلى كل ذلك دراسة اتفاقات البنوك وشروطها لمنح البطاقة.
أسهمت العناصر الثلاثة المتقدمة: الاقتصادية، والقانونية، والميدانية في إيجاد تصور واضح لحقيقة بطاقات المعاملات المالية المتداولة عالميًّا ومحليًّا، ومن ثم التوصل إلى الحكم الشرعي لتلك العقود: الربوي المحرم، والمباح الخالي من الربا.
الدراسة الفقهية الشرعية هي نتاج ذلك التصور، وهي التي تمثل
القسم الثاني والأخير من البحث، تعتمد التأمل في القسم السابق القانوني والدراسات الاقتصادية ونصوص الاتفاقات وشروطها، بمنطق الشريعة الإسلامية وأصولها في ضوء تفهم الواقع، واستقلالية التصور والتكييف، مع التركيز على مزاولة البنوك المحلية في المملكة العربية السعودية ذات الصلاحية لإصدار البطاقات بعنوان: " عقود بطاقات المعاملات المالية في الفقه الإسلامي ".
يشتمل هذا القسم على فصلين:
الفصل الأول بعنوان: بطاقات المعاملات المالية وعقد الإقراض في الفقه الإسلامي.
الفصل الثاني بعنوان: العلاقة الشرعية بين أطراف عقود البطاقات بالنسبة للتسديد والخصم.
يتكفل البحث بدراسة هذا الموضوع، والتعبير عن مصطلحاته بلغة وتعبيرات مفهومة للمتخصصين والعامة، مع الحرص على استعمال المصطلحات الفقهية في الفقه الإسلامي التي ترسخت معانيها ومدلولاتها وأحكامها في أذهان عامة المسلمين، كذلك بالنسبة للقانون الوضعي المترجم، دون تجاوز في المعاني والمدلولات، حتى تتم المقابلة عرضًا بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، فيخلص البحث إلى تصور سليم، وأحكام شرعية صحيحة إن شاء الله.
تنتهي الدراستان بخاتمة تضم أهم النتائج وبعض الملاحظات والتوصيات وبعض المقترحات، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحابته الطاهرين أجمعين.
أ. د. عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان(10/996)
المدخل: تصحيح العنوان
(بطاقات الائتمان) عنوان غير صحيح
جرت عادة الاقتصاديين والمصرفيين تقديم هذا النوع من البطاقات بعنوان (البطاقات الائتمانية) سواء في هذه البحوث العلمية، والإعلانات المصرفية، وهي في نظر هؤلاء ترجمة لكلمة: (Credit Cards) في اللغة الإنجليزية.
لدى الرجوع إلى معنى هذه الكلمة (Credit) في المعجم الإنجليزي
نجد أن لها عدة معان:
تطلق غالبًا على شرف الشخص، واعتزازه، وانتمائه.
الاعتراف بكفاءته.
سمعته الطيبة.
المبدأ والثقة.
ملاءته ورصيده في البنك مما هو تحت تصرفه.
قدرته على الحصول على حاجياته قبل دفع الثمن بناء على الثقة
بوفائه بالدفع.
الاعتراف بإسهاماته.
الدرجة العلمية مرتفعة النسبة على درجة النجاح في الامتحان.
السمعة والشرف في الأعمال التجارية) (1)
__________
(1) The concise oxford Dictionary English Edition (Printed in U.S.A, 1990) (Credit) & (Card) , p.272.(10/997)
هذا ما يخص معنى الكلمة الأولى وهي محور البحث، أما كلمة
(Card) فلها معان عديدة، ومنها المعنى المعروف المتداول " البطاقة تكون من ورق سميك مسطح، أو بلاستيكي يصدرها بنك، أو غيره لحاملها، وعليها بعض البيانات الخاصة بحاملها، فإذا كانت من قبيل (Credit) فإنها تصدر بقصد الحصول على نقد، أو دين " (1)
كما ورد معناها المركب (Credit Card) في قاموس أكسفورد كالتالي:
(البطاقة الصادرة من بنك أو غيره تخول حاملها الحصول على حاجياته من البضائع دينًا (On Card) (2)
لم يهمل قانون الحكومة الأمريكية الفدرالية والبريطانية توضيح المقصود من كلمة (Credit) في المجالين الاقتصادي والتجاري.
جاء في قانون الحكومة الأمريكية الفدرالية توضيح معنى كلمة (e) (103 Credit truth in lending act) .
" كردت: تعني منح دائن لشخص قرضًا مؤجل التسديد. أو إحداث دين مؤجل الدفع ذي علاقة ببيع البضائع والسلع، وتقديم الخدمات ". (3)
وفي القانون البريطاني لإقراض المستهلك الصادر عام 1979:
تطلق كلمة (Credit) لدى خصوص دفع النقود، ولكن ليس في حالة دفع قيمة البضاعة مقدمًا.
كما ورد تحديد معنى الإقراض (Credit) في الفصل التاسع منه:
" تعني هذه الكلمة (Credit) الدين النقدي، وأي نوع آخر له صيغة مالية.
إنما جاء التعبير بـ (أي نوع آخر له صيغة مالية) ليدخل ضمن مدلوله الصيغ والأساليب المالية الجديدة التي لما تظهر بعد، وليس فقط الموجودة المعروفة في الوقت الحاضر " (4)
مما سبق يتضح أن كلمة (Credit) في المصطلح الاقتصادي والتجاري والقانوني الإنجليزي والأمريكي في مجال البطاقات المالية تعني صراحة (الإقراض) .
هذا هو حقيقة مصطلح هذه الكلمة لديهم، ومدلولها حيثما استعملت في المجالات الاقتصادية والتجارية والقانونية المشار إليها، الذي يفترض أن يترجم معناها إليه في اللغة العربية. (5)
كما أن أطراف عقد هذا النوع من البطاقات يسمى مقرضًا (Creditor) ومقترضًا (Borrowar) .
__________
(1) The concise oxford Dictionary, (Credit Card) P. 272
(2) The concise oxford Dictionary, (Credit Card) P. 272
(3) , Al- Melhem A.AHMED the legal Regime of payment cards, Acomparative study between American, British and Kuwaite laws with particular refrence to credit cards, thesis for the degree Ph.D. in the Faculty of Law, uni. of Exeter, 1990, P.5
(4) Jones, Sally A. the law relating to credit cards (London, Bsp Professional Books, 1989) P.76
(5) انظر: Jones, Saly, P.80(10/998)
العنوان السليم المناسب لهذا النوع من البطاقات هو: (بطاقات الإقراض) ؛ إذ هو الوصف المناسب الدال على حقيقتها وماهيتها، المميز لها عن نظيراتها من البطاقات الأخرى في الشروط وتسديد الديون، الذي ينبني عليه أحكام شرعية، متفقة ترجمة مع الأصل المنقول عنه. يضاف إلى هذا أن المصطلح الشرعي للقرض ينطبق على هذه الحالة نصًّا، يقول العلامة ناصر المطرزي: (المقروض: مال يقطعه الرجل من أمواله فيعطيه عينًا، فأما الحق الذي يثبت له دينًا فليس بقرض ... . (1) هنا يخول مصدر البطاقة حامل البطاقة قدرًا معينًا من النقود يتصرف فيه، أما كلمة (الدين) فهي بلا شك أعم من القرض، إذ جاء تعريفه: " الدين: ما وجب في الذمة بعقد أو استهلاك، وما صار في ذمته دينًا باستقراضه فهو أعم من القرض ". (2) فمن ثَمّ يتضح أن استعمال كلمة (إقراض) في هذا الخصوص وفي هذه العلاقة هي الأدق تعبيرًا.
أما كلمة (ائتمان) فليس عنوانًا صحيحًا، ولا وصفًا مناسبًا؛ إذ أنه لا أثر له أصلًا، أو وضعًا في صحة تكييف العقد فيبنى عليه حكم، ولا يشير أصالة إلى حقيقته، ولا يتفق مع الأصل المترجم عنه.
من اللبس أيضًا في البحوث العلمية والاقتصادية أن تعنون جميع
أنواع البطاقات بـ (بطاقات الائتمان) بالمعنى السابق في المصطلح الاقتصادي، في حين أن (الإقراض) لا يتحقق في بعض أنواع البطاقات مثل بطاقة السحب المباشر من الرصيد. (3) (Debit card) .
المصطلح الاقتصادي العربي في تسمية القرض بـ (الائتمان) تسمية لا تدل على حقيقة الوصف الذي ينبغي أن تعنون به هذه البطاقة وأمثالها، ولعل تسمية القرض (ائتمان) من قبيل افتراض ثقة المقرض في أمانة المقترض وصدقه، الأمر لم تكن إليه إشارة في التعريف بكلمة ائتمان (Credit) اقتصاديًّا؛ ذلك أن هذا الاصطلاح يعني بوجه عام:
" منح دائن لمدين مهلة من الوقت، يلتزم المدين بانتهائها دفع الدين ...
__________
(1) المغرب في ترتيب المعرب - بيروت، دار الكتاب العربي، مادة (القرض) ، ص 378
(2) ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار: 4/ 169.
(3) انظر عناوين هذا الموضوع في بحث مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي من مجلة المجمع، الدورة السابعة، العدد السابع، الجزء الأول(10/999)
وفي الشؤون المالية يعنى (الائتمان) عادة قرضًا، أو حسابًا على المكشوف يمنحه البنك لشخص ما، كما يعني (حجم الائتمان) المقدار الكلي للقروض والسلف التي يمنحها النظام المصرفي ". (1)
ورد أيضًا تعريف (بطاقة الائتمان) اقتصاديًّا بما ينم عن حقيقتها وخصوصية معناها بأنها:
" بطاقة خاصة يصدرها المصرف لعميله، تمكنه من الحصول على السلع والخدمات من محلات وأماكن معينة عند تقديمه لهذه البطاقة، ويقوم بائع السلع، أو الخدمات بالتالي بتقديم الفاتورة الموقعة من العميل إلى المصرف مصدر الائتمان، فيسدد قيمتها له، ويقدم المصرف للعميل كشفًا شهريًّا بإجمالي القيمة لتسديدها، أو لخصمها من حسابه الجاري لطرفه ". (2)
هذان التعريفان صريحان في الوصف وحقيقة معنى هذا النوع من البطاقات، له لفظ موضوع في اللغة العربية هو (القرض) ، وما اشتق منه، لا يوجد سبب واضح للعدول عنه إلى ألفاظ أقل ما فيها أن المراد منها غامض على أهل العربية أنفسهم.
بيد أن المصطلح الاقتصادي العربي يتفادى استعمال كلمة (قرض) التي هي أدل على المعنى والحقيقة إلى عنوان أقل ما يقال فيه التباس معناه، وعدم إدراك المقصود منه في الاستعمال اليومي. لا يعلم السبب في هذا العدول؟! ولكن قد يجاب: بأن لكل علم مصطلحاته، ولا مشاحة في الاصطلاح. لكن لا ينبغي أن يخرج المصطلح عن معاني اللغة وطرائقها، وإذا أضفنا إلى هذا أن لهذه الكلمة (القرض) العنوان المنطوق والمفهوم دلالتها وأحكامها الشرعية التي ينبغي أن يحافظ عليها تفاديًا للبس واختلاط المفاهيم.
عندما يذكر (القرض) باسمه وعنوانه الصريح المألوف؛ فإن أحكامه معلومة لدى المسلم من الدِّين بالضرورة، فينبغي الالتزام به، وبخاصة من فئة علماء الاقتصاد الإسلامي.
__________
(1) عمر حسين، موسوعة المصطلحات الاقتصادية، الطبعة الثالثة - جدة، دار الشروق، عام 1399 هـ/ 1979 م، ص 7
(2) بدوي، أحمد زكي، معجم المصطلحات التجارية والتعاونية: عربي، إنجليزي، فرنسي - بيروت، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، عام 1404 هـ/ 1984 م، كلمة (بطاقة ائتمان CREDIT) ، ص 62(10/1000)
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: " الاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة ". (1)
تحقق المفسدة هنا جلي واضح في صرف أنظار الأمة عن أحكام الإقراض، وآثاره الشرعية، وأضراره الاجتماعية والاقتصادية بما يترتب عليه من زيادات وعمولات ربوية محرمة، أقل ما يقال فيه أنه " يزيل لقبًا شرعيًّا اصطلح عليه ". (2) ، ويكون من قبيل تسمية الأشياء بغير أسمائها حتى لا يلتفت إلى حكمها الشرعي.
وردت كلمة (استئمان) في المصطلح الشرعي الفقهي بما يدل على حقيقة الوصف: " هو أن يشتري منه ولا يسأله كيف يبيع ". وكذلك " بيع الأمانة والاسترسال: هو أن يقول الرجل اشتر مني سلعة كما تشتري من الناس فإني لا أعلم القيمة، فيشتري منه بما يعطيه من الثمن ". (3)
أما أصل هذه الكلمة؛ الائتمان في اللغة فإنه مأخوذ من كلمة (أمانة) , ومن مشتقاتها (استئمان) ، وهو " لفظ مستعمل شائع لدى الفقهاء في أبواب المعاملات المالية بمعنى: جعل يد الغير على ماله يد أمانة. يترتب على هذا أحكام فقهية عديدة من أهمها:
أن من وضع هذا الموضع يسمى (أمينًا) فلا يضمن ما هو في عهدته أمانة إلا بتعد أو تفريط، كيد الوديع، والشريك، والمضارب، والوكيل بالبيع.
الاستئمان في اللغة: طلب الأمان، وتستعمل بمعنى خاص فيما يتصل بالمعاهدات والاتفاقات مع غير المسلمين، وضمان الإقامة لهم بين ظهراني المسلمين في أمان واطمئنان ". (4)
جاء التعريف بما يسمى (عقد الاستئمان) في الفقه الإسلامي: بأنه
" عقد الاسترسال والاستسلام. وصورته: أن يكشف طالب البيع أو الشراء، أو نحوهما للعاقد الآخر أنه لا دراية له فيما هو مقدم عليه، وأنه واضع ثقته به، ومستنصحه، فيطلب منه أن يبيع منه، أو يشتري بما تبيع به الناس، أو تشتري، ويتم العقد بينهما على هذا الأساس ".
__________
(1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: ج 3، ص 306، تحقيق: محمد حامد الفقي، (بيروت، دار الفكر)
(2) أبو زيد، بكر بن عبد الله، فقه النوازل، قضايا فقهية معاصرة: 1/ 141، الطبعة الأولى (بيروت: مؤسسة الرسالة، عام 416 اهـ/ 1996 م) ، وله في هذا الكتاب بحث قيم بعنوان: (المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعة وأفصح اللغة، دراسة ونقد) : ص 101، 105
(3) القباب، أبو العباس أحمد بن قاسم الخزامي، شرح المسايل التي وضعها ابن جماعة في البيوع، مخطوط - مكة المكرمة: مكتبة مكة المكرمة، فقه حنفي رقم 31، ص 64
(4) انظر: حماد، نزيه، معجم المصطلحات الاقتصادية، في لغة الفقهاء، الطبعة الأولى (أمريكا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عام 1414 هـ/ 1993 م) ، مادة (استئمان) ، ص 56(10/1001)
قال الحطاب: " وأما بيع الاستئمان والاسترسال فهو أن يقول الرجل: اشتر مني سلعتي كما تشتري من الناس، فإني لا أعلم القيمة، فيشتري منه بما يعطيه من الثمن ". (1)
بهذا يتبين أن القرض في الفقه الإسلامي لا يدخل ضمن عقود الاستئمان، وأن الأولى أن تعنون هذه البطاقات بوصفها الظاهر الملائم الذي يشير إلى حقيقتها، وأهم خصائصها، وبما ينسجم مع المصطلح الشرعي الشائع.
يضاف إلى ما تقدم أن نسبة كبيرة ممن يحمل هذه البطاقة ويستخدمها في معاملاته المالية لا يعرف معنى كلمة (ائتمان) حتى يدرك أحكامها الشرعية، ومسؤولياتها.
دليل هذا أن جريدة عكاظ التي تصدر بجدة في المملكة العربية السعودية، العدد 10960 من السنة الثامنة والثلاثين، يوم الخميس، الأول من شهر ربيع الآخر عام 1417 هـ، الموافق 15 أغسطس عام 1996 م، قامت بتحقيق صحفي وإحصائي واسع عن بطاقة الائتمان في استبيان عام، أجريت الدراسة على عينة لثلاثمائة شخص يحملون هذه البطاقة، رصدت فيه كثيرًا من الحقائق عنها، ورد ضمن أسئلة الاستبيان:
هل تفهم كلمة (ائتمان) ؟
وحددت لهم ثلاث إجابات هي: هدية، وديعة، اقتراض.
وقد رأى 6 أفراد بنسبة 2 % أن معناها هدية. رأى 108 بنسبة 36 % أن معناها وديعة، بينما أجاب 62 % بمعناها الصحيح ". (2) الراجح أن هؤلاء معظمهم من رجال الأعمال الذين لا يقدمون على عقد حتى يدركوا أبعاده.
العنوان الصحيح الذي يشمل جميع أقسام البطاقة وأنواعها كما هو
في اللغة الإنجليزية واحد من اثنين:
الأول: بطاقات المعاملات المالية (The Financial Transcation Cards)
الثاني: بطاقات الدفع، أو الشراء (The Payment Cards) .
إن الالتزام بذكر المصطلحات الشرعية الفقهية المألوفة، وتبسيط موضوعات البحث ليكون سهل الفهم، سريع الهضم للقارئ العربي المسلم يستوجب أن يكون عنوان البحث:
(البطاقات البنكية الإقراضية والسحب المباشر من الرصيد) ليكون أبلغ في الكشف عن حقيقتها وأقسامها المتداولة، يدركه المثقف والعامي، التاجر والمستهلك، من يحملها، ومن تقدم له، مصطلح ترسخ معناه في أذهان الجميع، يعرفون آثاره ومسؤولياته، الحلال منه والحرام، معلومة أحكامه من الدين بالضرورة، مسلم المبادئ والأحكام. وليس من سبب يدعو لهجره والعدول عنه.
* * *
__________
(1) حماد نزيه، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء. مادة (استئمان) ، ص 56
(2) العامود5، ص 4(10/1002)
القسم الأول
الدراسة القانونية لبطاقات الائتمان البنكية
الفصل الأول
التحليل والأقسام
الفصل الثاني
العلاقات والمسؤوليات في البطاقات البنكية
الهيكل التنظيمي لإصدار البطاقة البنكية
الراعي لإصدار البطاقة
فيزا أمريكان اكسبرس
البنوك المحلية المخولة بإصدار البطاقة من قبل (فيزا)
حامل البطاقة التاجر وفيما يلي شرح وتحليل لكل طرف في هيكل نظام البطاقة السابق.
الفصل الأول
التحليل والأقسام
المبحث الأول: المصدرون للبطاقات عالميًّا.
المبحث الثاني: التعريف والمصطلحات للبطاقات البنكية.
المبحث الثالث: الإجراءات والأركان لعقود البطاقات.
المبحث الرابع: البطاقات البنكية المتداولة.
المبحث الخامس: الحماية القانونية لحاملي البطاقات البنكية.(10/1003)
المبحث الأول:
المصدرون للبطاقات عالميًّا
يتولى إصدار البطاقات العالمية على اختلاف أنواعها جهتان
رئيستان:
" أمريكان إكسبرس " و " فيزا " العالميتان: يطلق عليهما البنكيون اسم (راعي البطاقة) .
فيما يلي نبذة مختصرة عنهما، وآلية إصدار البطاقات باسمهما:
أولًا- بطاقة: " الأمريكان إكسبرس " American Express Card.
من المعروف أن (الأمريكان إكسبريس) بنك ومؤسسة مالية كبيرة
تزاول الأنشطة المصرفية فضلًا عن أنها المصدرة لبطاقات (أمريكان إكسبرس) (Amex) تشرف هذه المؤسسة المصرفية مباشرة على عملية إصدار البطاقات دون أن تمنح تراخيص إصدار البطاقات لأي بنك أو مؤسسة مصرفية أخرى، وهي التي ترتب موضوع استيفاء حقوق التجار والمؤسسات التي تقبل البطاقة لحقوقهم منها مباشرة نيابة عن حملة البطاقة، ولا تلزم حملة بطاقتها فتح حسابات مصرفية لديها، أو في فروعها، ويكفيها أن تتعرف على مقدار الملاءة المالية للعميل لكي تقوم وفق معايير ائتمانية (قرضية) تناسب سياستها بإصدار البطاقة لمن تقبلهم من المتقدمين للحصول عليها.
لا تقبل (الأمريكان إكسبرس) وضع اسم لأي بنك آخر على بطاقاتها إلا في حالة نوع واحد من بطاقاتها هو (الأمريكان إكسبرس الذهبي) وعلى شرط أن يكون لدى البنك المصدر لهذه البطاقة حساب العميل المطلوبة له البطاقة، وأن يكون هذا البنك ضامنًا للعميل.
وتصدر الأمريكان إكسبرس ثلاثة أنواع من البطاقات، تناسب كل
منها نوع العميل، وحجم التسهيلات المقدمة له، وهذه الأنواع هي:
1 - بطاقة الأمريكان إكسبرس الخضراء.
2 - بطاقة الأمريكان إكسبرس الذهبية: وتمنح للعملاء الذين يتمتعون بكفاءة مالية عالية، وتتميز بكون تسهيلاتها الممنوحة للعميل غير محدودة بسقف ائتماني (قرضي) معين.
3 - بطاقة الأمريكان الماسية.(10/1004)
ثانيًا: بطاقة (الفيزا) (Visa Card) :
منظمة (الفيزا) (Visa) ، هي صاحبة الترخيص (الامتياز) للبطاقات المصرفية التي تحمل اسم (Visa) ، وهي لا تقوم بإصدار هذه البطاقات وهي ليست مؤسسة مصرفية، بل هي مثل ناد يساعد البنوك الأعضاء على إدارة خدماتهم، وتكون إدارتها من ممثلي البنوك الأعضاء.
ترخص للبنوك الراغبة في إصدار البطاقة (فيزا) حسب الاتفاق المبرم بينها وبينهم، وتتميز بمرونة كافية بحيث تخضع البطاقات الصادرة من أعضاء منظمة (فيزا) للأنظمة التي يضعها البنك المصدر لها، ووفقًا لما يتناسب مع تطلبات عملائه وأنظمته الداخلية، دون تدخل من منظمة (الفيزا) ، وفي ضوء هذه المرونة يمكن أن تكون البطاقة المصدرة بطاقة خصم فوري من الرصيد (الحساب الجاري) ، أو بطاقة خصم شهري، أو بطاقة ائتمان (إقراض) ، كل ذلك اعتمادا على سياسة البنك المصدر.
تمنح منظمة الفيزا العالمية تراخيص إصدار ثلاثة أنواع من بطاقاتها , وهي:
1 - بطاقة الفيزا الفضية: وهي ذات حدود ائتمانية (إقراض) منخفضة نسبيًا، وتمنح لأغلب العملاء، عند انطباق الحد الأدنى من المتطلبات عليهم، وتوفر هذه البطاقة جميع أنواع الخدمات المتوافرة من قبل منظمة الفيزا كالسحب النقدي من البنوك، أو أجهزة الصرف الآلي، أو الشراء من التجار.. إلخ.
2 - بطاقة الفيزا الذهبية: وهي ذات حدود ائتمانية (إقراض) عالية وتمنح للعملاء ذوي الكفاءة المالية العالية، وتمنح العملاء إضافة إلى الخدمات المتوافرة للبطاقة السابقة: تأمينًا على الحياة، وخدمات أخرى دولية فريدة: كأولوية الحجز في مكاتب السفر، والفنادق، والتأمين الصحي، والخدمات القانونية.
3 - بطاقة فيزا إلكترون: وتستخدم في أجهزة الصرف الآلي الدولية أو في الأجهزة القارئة للشريط المغناطيسي.(10/1005)
أطراف التعاون مع بطاقة (فيزا التمويل) في حالة الشراء من التجار
منظمة (الفيزا) (لندن)
(راعية البطاقة) :
البنك المصدر (المحلي) بنك التاجر
حامل البطاقة التاجر
1- يصدر بطاقة للعميل (حامل البطاقة) وفق حدود استخدام شهرية محددة.
2 - حامل البطاقة يستخدم بطاقته في الشراء لدى التاجر، يحصل على قسيمة بيع بمبلغ العملية الفعلي.
3 - يقوم التاجر بإيداع قسيمة البيع في حساب لدى بنك التاجر،
ويتم دفع المبلغ إليه مباشرة، مخصومًا منه عمولة بنك التاجر المتفق عليها فيما بينهما.
4 - ترسل إلى (فيزا) من خلال النظام الإلكتروني المتبع جميع الحركات المالية التي تم احتسابها لصالح التجار من خلال العمليات التبادلية (Interchange) ويتم التقابض خلال نفس اليوم.
5 - يتم تحصيل قيمة القسيمة من البنك المصدر لصالح بنك التاجر من خلال النظام (|| Base) حيث يخصم المبلغ من حساب البنك المصدر ويودع في حساب بنك التاجر، وعند استلام الحركات المالية للبنك المصدر بالتفصيل تخصم المبالغ من حسابات العملاء مع احتساب عمولة على مبلغ مشترياتهم، وذلك لصالح البنك لتسوية مدفوعاته) . (1)
__________
(1) هذه نصوص مختارة مقتبسة من: مركز تطوير الخدمة المصرفية ببيت التمويل الكويتي، (بحث عن بطاقات الائتمان المصرفية والتكييف الشرعي المعمول به في بيت التمويل الكويتي) ، جدة: مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، الدورة السابعة، العدد السابع، عام 1412 هـ/ 1992 م، ج 1، ص 452 - 455(10/1006)
بالنسبة لبريطانيا:
البنوك هي المقرض الرئيس في المملكة المتحدة، تتمثل في جهتين بنكيتين عالميتين:
1 - شركة بطاقة القرض المتحدة المحدودة (Access) ، هي ملك لأربعة بنوك بريطانية هي: لويدس، ميدلاند، نات وست، والبنك الملكي الاسكتلندي.
2 - بطاقة باركليز: يصدرها قسم في بنك باركليز.
كلا هذين المصدرين للبطاقة ببريطانيا أقاما من أجل رواج البطاقات الصادرة عنهما اتصالات عالمية، ولذا فإن البطاقات الصادرة مقبولة عالميًّا، وبموجب الاتفاق بين البنوك (Access) مع هيئة (ماستركارد) أضحت تستخدم في جميع المحلات التجارية التي تقبل فيها بطاقة (ماستركارد) .
شركة فيزا (Visa) لها اتفاقية مع بنك باركليز، وحاملي بطاقاته يمكن استخدامهم لها في المحلات التجارية التي تقبل بطاقة (فيزا) .
منذ عام 1980 بطاقة (Access) لها النصيب الأوفر في أسواق بريطانيا، في حين أن بطاقة فيزا هي الأكثر رواجًا في العالم، والمنافسة قائمة، والأسواق الأوروبية مفتوحة وقابلة للتوسع والزيادة في استخدام البطاقات المالية.(10/1007)
المصدر الرئيس الآخر لبطاقة إقراض شراء التجزئة (Redial card)
هي المحلات التجارية الكبيرة، وأكبرها على الأرجح في الوقت الحاضر محلات (ماركس وسبنسر) إذ تصدر بما يزيد على مليون ونصف مليون بطاقة من هذا النوع من البطاقات.
بطاقات المحلات التجارية (Retail Card) أو (STORE CARD) أو تأخذwاصيغًا مختلفة.
السبب في نمو هذا النوع من البطاقات هو أن أصحاب المحلات التجارية لاحظوا مضاعفة أرباح البنوك المصدرة للبطاقة، فهم يقبلون بطاقة باركليز وبطاقة أكسس (Access) وهم بهذا يزيدون من أرباح هؤلاء المصدرين لهذه البطاقات بقبولهم التعويض لبضائعهم بقيمة أقل ربحًا. بالإضافة إلى أن المصدرين للبطاقات يفرضون عمولة وزيادات ربوية على المقترض على المبالغ المتبقية في ذمته، ولهذا فإن مصادر دخلهم تكون من الجهتين: التاجر الممول، والمقترض حامل البطاقة لاحظ التجار بادئ ذي بدء فائدة بطاقات الإقراض بأنها سبب لزيادة المبيعات في إطار المحلات التجارية، لكن لم يدم الأمر طويلًا حتى أصبح واضحًا أن إصدار البطاقات وطرحها للتداول هو نفسه مصدر من مصادر الربح النشطة.
سجل عام 1980 نموًا كبيرًا لهذا النوع من بطاقات الإقراض، بل
كان من بينها الأكثر نموًا.
لم يكن بين مصدري البطاقات منافسات تذكر بخصوص نسبة الزيادات، وإنما تركزت المنافسة على تقديم تخفيضات خاصة ... ) (1) يركز البحث في الصفحات التالية على العلاقات والمسؤوليات للبنك المباشر لإصدار البطاقة وحاملها من جهة، وبينه وبين التاجر المنضم إلى نظام البطاقة من جهة أخرى، الأمر الذي يهم جمهور المتعاملين بها.
أما العلاقة بين الراعي للبطاقة (فيزا) والبنك المحلي المصدر للبطاقة فتحكمها اتفاقات يتم بموجبها تنظيم العمل وتقسيم الأرباح بينهم، من الصعب التوصل إليها.
* * *
__________
(1) انظر: 104 - 103 Jones, Sally A., P(10/1008)
المبحث الثاني:
التعريف والمصطلحات للبطاقات البنكية
العنوان العام للبطاقات المستعملة في المبادلات المالية تسمى في
اللغة الإنجليزية والقانون بـ (بطاقات المعاملات المالية) تارة، و (بطاقة الدفع) تارة أخرى (Financial Transactions Cards) or (Payment Cards)
أما ما يسميه الاقتصاديون العرب (بطاقات ائتمان) فهي في حقيقتها بطاقات (إقراض) ، وأولى أن تعنون بهذا العنوان، وهي تمثل قسمًا كبيرًا من بطاقات المعاملات المالية كما يتضح هذا من العرض والدراسة.
البطاقة البنكية: تتم تعريفها بأنها:
"الأداة تكون باسم: بطاقة إقراض، أو بطاقة خدمات بنكية، أو بطاقة بنكية، أو بطاقة شيك مضمون، أو بطاقة سحب مباشر، أو أي اسم أو عنوان آخر، صدر برسم أو بغير رسم من مصدره، لاستعمال حاملها للأغراض التالية:
أ- الحصول على النقود، السلع، الخدمات، أو أي شيء آخر له قيمة على أساس القرض.
ب - شهادة، أو ضمان لشخص أو مؤسسة، ليتمكن صاحبها من الحصول على قرض تحت الطلب، يكون مساويًا أو أكثر من المقدار الضروري لتسديد سندات شراء حاملها أو شيكاته، فردا كان أو مؤسسة.(10/1009)
ج - ما يمكن حامل البطاقة من صلاحية الحصول على ما يبغيه من فتح حساب قرض، أو قرض مؤقت من أجل:
1 - استدانة مبلغ من المال، أو كتابة شيك.
2 - السحب نقدًا أو كتابة أمر بنقد، أو شيكات سياحية.
3 - تحويل من حساب إلى حساب آخر، أو حساب آخر مؤقت.
4 - تحويل الحسابات من حساب قرض، أو حساب قرض مؤقت إلى حساب بطاقة قرض يظهر عجز واضح في سدادها، أو حساب دين آخر كله أو بعضه، للمحافظة على توازن الديون.
5 - لشراء سلع، أو دفع لخدمات، أو أي شيء ذي قيمة مالية.
6 - للحصول على أي معلومة ذات علاقة بحسابات القروض، أو القرض المؤقت (1)
تركز الدراسة الراهنة على البطاقات المتداولة في الشراء والحصول
على الخدمات بكافة أنواعها، وبيان خصائصها المالية، وكيفية التعامل بها، وعلاقات أطرافها.
__________
(1) Sloan, Irving J. the Law & regulation of credit card use, & Misuse, (London: o. publicans, 1987. (P.119- 120(10/1010)
أطراف اتفاقيات البطاقات البنكية:
يتكون عقد بطاقات المعاملات غالبًا من ثلاثة أطراف رئيسين:
1 - مصدر البطاقة: هو بالنسبة لبطاقات الإقراض يسمى (مقرضًا) .
2 - حامل البطاقة: هو في بطاقات الإقراض يسمى (مقترضا) .
3 - التاجر: الممول للسلع والخدمات.
4 - البنك الوسيط: قد يزداد عدد أطراف العقد إلى أربعة؛ مثل
البنك الوسيط بين المصدر الرئيس للبطاقة وحاملها، فيصدر هذا البطاقة بحكم الوكالة عنه، وقد ينحسر عدد أطراف العقد إلى اثنين، كما هو الأمر في البطاقات الخاصة بالمحلات التجارية الكبيرة، وفيما يلي تعريف بالأطراف الرئيسين لهذه البطاقات:
الطرف الأول: مصدر البطاقة (Issuing Bank) هو المخول قانونًا بإصدار البطاقة لحاملها، ويقوم وكالة عنه بتسديد قيمة المشتريات للتاجر.
الطرف الثاني: حامل البطاقة (Card Holder) هو الشخص الذي صدرت البطاقة باسمه، أو خول باستخدامها، وأخذ على نفسه الالتزام أمام مصدر البطاقة الوفاء بكل الواجبات التي تنشأ عن استعمال البطاقة.
الطرف الثالث: التاجر: (Merchant or Supplier) هو الذي يبرم عقدًا مع مصدر البطاقة بتقديم السلع والخدمات المتوافرة لديه، المطلوبة من قبل العملاء حاملي بطاقة البنك الذي تتم الاتفاق معه (1)
__________
(1) انظر: Al- Melhem A. Ahmed, P. 399 ,208: Sloan irving, P.21(10/1011)
مدلول هذه الكلمة (Supplier) الممون، أو الممول واسع جدًّا،
تعني الشخص الذي يمول سلعا أو يقدم خدمات، أو نقدًا لشخص آخر، سواء عن طريق البيع أو غير ذلك؛ كتسليم السلع، أو تأجيرها، وقد جرى تحديده والتعريف به بطرق عدة، نظرًا لعلاقته بقانون إقراض المستهلك الصادر عام 1974 م في الصور الآتية:
أ- الشخص الذي يمول معاملة تجارية حسب اتفاقية قرض عادية بين مصدر البطاقة وحاملها، ليس هو واحد منهما.
أو:
ب - الشخص الذي يبرم اتفاقية قرض غير مشروط مع مصدر البطاقة حسب إعداد وتنظيم مسبق معه، بشرط أن يكون هذا الشخص ليس هو المقترض، علمًا بأن القرض سيستخدم لتمويل معاملة تجارية بينه وبين المقترض حامل البطاقة، طبقًا للمادة 189 و 12.
ج - الإشارة إلى المقرض في الاتفاقيات ذات الأطراف الثلاثة والاستعمال المشروط للقرض لتمويل معاملة تجارية بين المقترض ومصدر البطاقة هي إشارة أيضًا إلى التاجر الذي يقدم السلع والخدمات.
أو
د - الشخص الذي عليه واجبات التمويل، وله حقوق أيضًا يصادق
عليه القانون، أو ذو علاقة باتفاقية متوقعة ليكون الممول المتوقع.
أو
هـ - الشخص الذي تمت اتفاقية تمويل السلع والخدمات بينه وبين
مصدر البطاقة (المقرض) بإعداد مسبق طبقًا للمادة 189 و 13 (2) من القانون الصادر عام 1974 م.
هذا التحديد لمعنى التاجر الممول (Supplier) مهم إذ ينبغي تحديد الحقوق والواجبات والمسؤوليات لأطراف اتفاقية إقراض المستهلك، لكن ليس لها تأثير على العقود والعلاقة بينه وبين المقترض، حيث أن هذه العلاقة يحكمها القانون العام للمعاملات التجارية. (1)
(رقم البطاقة الشخصية في مصطلحات البطاقة Personal)
(Identification NumBer) يرمز إليه بـ (PIN) ويقصد به الرقم، أو الحرف الهجائي المخصص لحامل البطاقة) . (2)
__________
(1) Jones, Sally A, P.107
(2) Al-melhem A. Ahmed , p. 399(10/1012)
المفوض في استخدام البطاقة: (Card User)
هذه العبارة (المفوض في استخدام البطاقة) ، أو بترجمة حرفية (مستعمل البطاقة) تشير إلى الشخص الذي يستخدم بطاقة القرض، وسواء كان هو حامل البطاقة أم غيره، وفي كلتا الحالتين تترتب آثار قانونية ومسؤوليات مالية، حيث أن هذه اللفظة عامة تعني مدلولات عدة:
1 - موظف شركة أصدرت البطاقة باسمها، تفوضه الشركة التي
ينتمي إليها في استعمالها لأغراضها، قد تحدده الشركة وتسميه، وقد لا يكون هذا.
2 - قد يكون مستعمل البطاقة صاحبها الذي يكون له حساب بالبنك المصدر للبطاقة. هذا هو الأمر المعتاد، حيث تصدر البطاقة باسم شخص معين لاستخدامه الخاص، حينئذ يكون مسؤولًا عن تعويض المقرض مصدر البطاقة عن جميع مشترياته ونفقاته عن طريق استخدام البطاقة حسب الاتفاقية بينهما.
3 - الشخص المخول باستخدامها وليس صاحب الحساب بالبنك الذي أصدرت البطاقة باسمه، ولكنه منح صلاحية استخدامها من قبل التاجر صاحب الحساب في رقمي 1، 2 حسب اتفاق بينه وبين المقرض مصدر البطاقة.
يعد هذا الشخص وكيلًا لحامل البطاقة في أي اتفاقية أو عقد بينه وبين الذي يمول السلع والخدمات، كما لو أبرم هذا بين التاجر وحامل البطاقة نفسه، فمن ثم يندرج هذا ضمن النوعين السابقين: 1 و 2، لكن إذا عقد هذا الشخص المستخدم للبطاقة بالوكالة مع التاجر عقدًا لنفسه ومصلحته فإنه لا يعد طرفًا في الاتفاق بين صاحب الحساب (حامل البطاقة) وبين المقرض مصدر البطاقة، كما لا يعد تبعًا لهذا مقترضًا طبقًا للقانون، إذ أنه لا يتوجب عليه بحال أن يدفع القيمة لذلك العقد للمقرض مصدر البطاقة؛ حيث لا علاقة بينهما أساسًا. (1)
__________
(1) Jones Sally A. P,108(10/1013)
تعريف الدين:
ورد في القاموس القانوني تعريف الدين (Credit) بأنه: قيمة السلع
التي تم الاتفاق على دفع المشتري لها مؤجلًا في وقت معلوم يحدده له البائع.
هذه العبارة تغطي كل أنواع الدين وأشكاله المعروفة الموجودة،
وما يمكن أن يستجد منها، بصرف النظر عن الطريقة التي يتم بها (1)
اتفاقية القرض:
ورد تحديد معنى اتفاقية صيغة القرض (Credit- Taken Agrwwment)
في المادة الأولى من الفصل الرابع عشر، من القانون البريطاني الصادر عام 1974 م بأنها: اتفاقية عادية بقصد اشتراط قرض، بصيغة من صيغ القرض، في حدود الاتفاقيات العادية ضمن قانون قرض المستهلك الصادر عام 1974 م , ومما ينبغي ملاحظته أن معظم بطاقات الإقراض الصادرة للأفراد هي من قبيل البطاقات العادية، بالنظر إلى أن أعلى حد للقرض حسب القانون هو خمسة عشر ألف جنيه استرليني، لا يتجاوزه، برغم أن مثل هذا القرض بهذا المبلغ المحدد يعد قرضًا غير عادي (2)
" بهذا يقدم قانون إقراض المستهلك المذكور معنى واسعًا للقرض بحيث يشمل:
القرض النقدي، أو أي أداة مالية أخرى من شأنها تقديم تسهيلات مالية.
من هذا المعنى الواسع الشامل للأدوات المالية في مجال القرض تم تحديد معنى طرفي القرض بالنسبة للبطاقة: المقرض، المقترض " (3)
أقسام القرض:
" يقسم قانون إقراض المستهلكين البريطاني الصادر عام 1974 م، القرض قسمين:
القرض الجاري: (Running- account)
هو الذي يسحب منه المقترض كلما طرأت له حاجة من وقت لآخر حتى يبلغ المقدار المحدد. (4)
القرض الثابت أو المحدد:Fixed- sum credit) .)
مقدار من النقود يتسلمه المقترض دفعة واحدة، أو على دفعات.
__________
(1) (CurzonL.B dictionary of Law, thirdedition, (kuala- Lampur, 1989) , (Credit) P. 111
(2) Jones, Sally A, P.102- 103
(3) Jones, Sally A., P. 106
(4) يعبر عن هذا في " الفقه الإسلامي بـ (الاستدانة بالاستجرار) ؛ انظر: ابن عابدين، محمد أمين، حاشية رد المحتار على الدر المختار، (بيروت، دار التراث العربي) ج 4، ص 12. ذكر ما يسمى بـ (البيع بالاستجرار) .(10/1014)
الفرق بين هذين القسمين من القرض:
أن القرض الثابت يتم بتنفيذ كامل الاتفاقية بين المقترض والمقرض.
في حين أن القرض الجاري يظل قائمًا مستمرًا حتى ولو لم يستفد المقترض منه فعلًا حتى يتخذ أحد الطوفين موقفًا بإنهائه.
تعد بطاقة الإقراض من هذا النوع الجاري من القروض، إذ يتفق الطرفان: المقرض والمقترض على الحد الأعلى للقرض، يستفيد منه المقترض بطريق البطاقة بقصد الحصول على احتياجاته من السلع والخدمات، والسحب النقدي من المقرض، أو التاجر (الطرف الثاني) في حدود المبلغ المقرر ". (1)
حقيقة ما يسمى بالحد الأعلى للقرض:
الحد الأعلى للقرض الجاري العادي هـ, خمسة عشر ألف جنيه استرليني.
ليس هذا الرقم وما شابهه هو حقيقة القرض الذي يتصرف المقترض حامل البطاقة في حد, ده، بل هذا الرقم يشمل نسبة الزيادات الربوية الموضوعة على القرض. مثلًا إذا حدد القرض بمبلغ 15 ألف جنيه استرليني، فالقرض واقعًا هو اثنا عشر ألف جنيه استرليني، والثلاثة الآلاف الباقية هي الزيادة الربوية في مقابل القرض؟ ذلك أن ما يذكر حدًّا أعلى للقرض ليس هو مقدار القرض الحقيقي المقدم للعميل حامل البطاقة، لكن هو المبلغ الكامل المطالب به بما فيه تكاليف القرض، والعمولات الأخرى تأمينًا للتسديد.
على سبيل المثال: اتفاقية تتضمن قرضًا محدودًا مثل ثمانية عشر ألف جنيه، يعد هذا في قسم القرض غير العادي برغم أن القرض الحقيقي هو خمسة عشر ألف جنيه، والثلاثة الآلاف الأخرى هي عمولة القرض، والزيادة الربوية التي يجنيها البنك.
كذلك الأمر بالنسبة للقرض الثابت حيث تكون تكاليف السلع خمسة عشر ألف جنيه، فإن المقدار الذي دفع حسب الاتفاق هو ثمانية عشر ألف جنيه، الثلاثة الآلاف هي عمولة الدين 000 (2)
__________
(1) انظر: Jones SALLY A., P.81- 82
(2) Jones, Sally A., P.83(10/1015)
المقرض: (Creditor) .
" هو الشخص الذي يوافق على تقديم قرض طبقًا لقانون إقراض المستهلك ".
وبعبارة أخرى: " هو الشخص الذي أصبحت له حقوق وواجبات إزاء شخص آخر طبقًا لاتفاقية قانونية ذات علاقة باتفاقية قرض استهلاكي، متضمنة ذكر القرض المتوقع ". (1)
المقترض: Debtor.
بين قانون إقراض المستهلك الصادر عام 1974 المقصود من كلمة (المقترض) في عقد بطاقة الإقراض بأنه:
(الشخص الذي تسلم قرضًا طبقًا لقانون إقراض المستهلك.
أو
هو الشخص الذي تبقى عليه مبلغ يدفعه من مبلغ كلي وجب الوفاء به، طبقًا للاتفاق في وقت معلوم.
أو
هو شخص تمثلت له حقوق وواجبات، بمقتضى اتفاقية قانونية ذات علاقة باتفاقية قرض استهلاكي متوقع، تتضمن مقترضًا في المستقبل ". (2)
بمقتضى الاتفاقية القانونية بين المقرض (مصدر البطاقة) ، والمقترض حامل البطاقة، للأخير الخيار في تسديد كامل المبلغ المطلوب منه للمقرض (مصدر البطاقة) ، أو يدفعه منجمًا على أقساط، أو يؤجل دفع المبلغ المتبقي عليه، معلنًا ومحددًا رغبته في طريقة الدفع بواحد من تلك الطرق، أو أي طريقة أخرى يقترحها لتسديد المتبقي عليه.
المقترض الذي يستخدم بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة الربوية ابتداءً: (Charqecard) .
في حالة استخدام هذا النوع من البطاقات (Charqe Card) يدفع حامل البطاقة كامل المبلغ المطلوب منه في مدة معينة. لكن - والأمر كذلك - هل يعني هذا أن مصدر البطاقة (المقرض) قدم لحاملها قرضًا؟ هذا موضوع نقاش.
لكن من المحتمل أن يحصل صاحب هذه البطاقة على قرض، وحينئذ يصنف في جملة المقترضين حسب القانون. علاوة على هذا فإنه متوقع بل مؤكد أنه مخول أن يحصل على قرض بمقتضى اتفاقيات أدوات الإقراض.
لهذا فإن هذه البطاقة، بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة الربوية ابتداء تندرج تحت الشروط العامة لقانون إقراض المستهلك الصادر عام 1974، وتدخل ضمن اتفاقيات البطاقة العادية سواء استخدمها صاحبها، أو لم يستخدمها للحصول على قرض، وبصرف النظر عن استخدامها لأي غرض ". (3)
__________
(1) Jones, Sally A., P.104
(2) Jones, Sally A., P.105
(3) 0Jones, Sally A., P. 105(10/1016)
المبحث الثالث:
الإجراءات والأركان في عقود البطاقات البنكية
إن مصدر البطاقة يتعامل مع مئات الألوف بل الملايين من العملاء حاملي البطاقة والتجار، وهم في زيادة كل يوم، يستحيل معه والحال كذلك، أن يفرد كل واحد باتفاقية تخصه وتناسب حجمه المالي إن كان عميلًا حامل بطاقة، أو تاجرًا حسب اتساع أو ضيق تجارته، فمن ثم استدعى هذا أن يوجد صيغة موحدة لكل راغب في التعاون معه من الأفراد، أو التجار.
تمثل الاستمارة المقدمة من البنك المصدر للعميل الراغب في الحصول على البطاقة، أو التاجر الذي يرغب الانضمام إلى نظام البطاقة عرضًا مجردًا.
تملأ البيانات من قبل الراغبين، والموافقة على المواد المدونة بالصيغة الموحدة.
يتطلب استخدام بطاقة المعاملات المالية بطريقة قانونية سليمة، ومن أجل تأدية وظيفتها بشكل كامل أن تبرم ثلاثة عقود مالية: عقدان يمثلان مرحلة تمهيدية إجرائية لتحديد مسؤولية الأطراف فيها.(10/1017)
أما العقد الثالث فهو لتبيين مصداقيتها، وإثبات فعاليتها. يتم هذا حسب الخطوات التالية:
الخطوة الأولى:
إبرام عقد بين البنك مصدر البطاقة والعميل المرتقب حامل البطاقة، حيث يتفق الطرفان على الأسس والشروط، والحد الأقصى للقرض الممنوح لحامل البطاقة.
إذا استكمل الراغب في الحصول على البطاقة كتابة كافة البيانات والتوقيع على الطلب فإنه يعد هذا (إيجابا) من قبله. أما (القبول) فهو متروك للبنك المصدر للبطاقة، حيث يدرس الطلب ليأخذ القرار بالمنح أو الحجب لإصدار البطاقة، إذا اقتنع البنك بسلامة الطلب، وأهلية مقدمها فإنه يصدر البطاقة باسمه، ثم يبعثها له بريديًّا، وبهذا يتم العقد بين الطرفين بالنسبة لبطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة الربوية ابتداء: (1) (Charge Card) .
العقد بين مصدر البطاقة (البنك) وحاملها هو أساس العلاقة القانونية في عقود البطاقة.
أركان عقد البطاقة في القانون الوضعي
لابد من التأكد من توافر أركان العقد في القانونين الإنجليزي
والأمريكي وهي:
الإيجاب، والقبول، والعوض.
الاتفاقية التي يتمها البنك المصدر للبطاقة تعد عقدًا كاملًا، فهو يعد صيغة الطلب يوضح فيها بعض البيانات التي يراد تعبئتها من قبل الأشخاص الراغبين في الحصول على البطاقة.
يقدم هذا الطلب مناولة، أو بريديًّا للراغبين في الحصول على البطاقة.
تعد هذه الخطوة مجرد عرض ودعوة من البنك للعميل لا غير.
أما بالنسبة لبطاقة الإقراض بزيادة ربوية، والتسديد (Credit Card) فالمعروف أن الطرف الراغب في الحصول على البطاقة (Offeree) له الحق في قبول الطلب المرسل له بريديًا بإرسال خطاب يفيد القبول، يصبح هذا القبول معتبرًا حين وضعه وإرساله بالبريد، إذ ينص قانون الولايات المتحدة للحكومة الفيدرالية، المادة رقم 1602 على ما يعد قبولًا بالنسبة لبطاقة الإقراض المؤجل:
" يعد قبولًا استلام البطاقة، أو توقيعها، أو استعمالها، أو تخويل غيره صلاحية استعمالها بقصد الحصول على نقد أو عين من الأعيان أو عمل أو خدمة؛ دَيْنًا ".
__________
(1) انظر Al-melhem A.Ahmed, P.104:(10/1018)
على العكس من هذا القانون الإنجليزي، حيث يرى أن مجرد استلام البطاقة من قبل طالبها هو دعوة من مصدرها للتعامل بها، لا تعني قبولًا من قبله حسب القانون الخاص بديون المستهلكين، الذي تم العمل به عام 1985، واعتد القبول الوارد في نص المادة (66) في الفقرتين التاليتين:
" 1- لا يكون المقترض مسؤولًا عن نتيجة أوراق ومستندات الاتفاق على القرض باستعمالها من قبل شخص آخر حتى تتم موافقة المقترض على القبول مسبقًا على ذلك السند، أو استخدامه حيث يعد هذا قبولًا.
2 - يعد قبولًا من قبل المقترض لسند الإقراض الحالات التالية:
أ) التوقيع.
ب) استلامه للتوقيع عليه.
ج) استخدامه منذ المرة الأولى، سواء من نفس المقترض، أو أي طرف آخر قد خوله صلاحية استخدامه.
لا يكون ثمة عقد بين الطرفين بالنسبة للبطاقة ما لم يتفق هذا العقد مع شروط القانون العام (Common Law) ، حيث يشترط إعلان القبول من قبل طالب البطاقة، إما بالاتصال بمصدرها وإعلان القبول، أو بما يشير إلى قبوله لها بشكل عام مثل استعمالها.
مجرد إرسال القبول بريديًّا ليس له تأثير قانوني ضد المستهلك المقترض حتى يتم استلامه وتوقيعه من حامله صاحب الطلب ... " (1)
الركن الثالث - العوض:
طبقًا للقانون العام: لا بد أن يتوافر في العقد العوض مع ركني الإيجاب والقبول السابقين. ليس لازمًا أن يكون العوض نقدًا بل يتحقق العوض في القانون بأحد الأشياء التالية:
العمولة، الزيادة، النفع، المنفعة لأحد أطراف العقد، إعطاء بعض الحقوق، أو التنازل عنها، الامتناع عن إقامة دعوى دين مثلًا، الوعد بالتعويض عن إصابة أو ضرر أو فقد، أو مسؤولية.
__________
(1) Al-Melhem, Ahmed A., P. 120- 121(10/1019)
السؤال المطروح هنا هو:
أين هو العوض بالنسبة لعقود بطاقات المعاملات المالية بعامة وبطاقة الإقراض بخاصة؟ هل هو تقديم البطاقة وتوقيع السند من حاملها؟ أو هو قيمة المشتريات التي يدفعها حامل البطاقة لمصدر البطاقة في النهاية؟
رفض القضاء الإنجليزي أن تكون البطاقة والتوقيع على سند البيع هما العوض في العقد، وإنما تعد مصدرًا للحصول على العوض فقط. كما رفض أن يكون عقدًا واحدًا مكونًا من ثلاثة أطراف حيث يكون طبقًا للاتفاق: أن يدفع مصدر البطاقة للتاجر قيمة مشتريات حامل البطاقة.
جاء هذا صريحًا في حكم مسترملليت Mr. Millett في قضية Re-charge Card Services حيث وضح الآتي: في نظري: حقيقة العوض في العقد هو الثمن المتحقق أخيرًا من قبل حامل البطاقة؟ إذ أنه يرغب في دفع القيمة عن طريق البطاقة.
وفي جميع الحالات فإن سندات البيع تحتوي على الإعلان من قبل حامل البطاقة: أن المصدر لها يقر بدفع كامل القيمة الإجمالية المدونة بالسند بالشكل والطرق الصحيحة، وأن حامل البطاقة يتعهد بدفع كامل المبلغ لمصدر البطاقة طبقًا للاتفاقية التي تحكم استعمال البطاقة (1)
أما بالنسبة للقانون في الولايات المتحدة الأمريكية فإن:
العوض:
هو ما ينتج عن استعمال البطاقة وتوقيع سند البيع.
أو
ضمان مصدر البطاقة دفع قيمة مشتريات حامل البطاقة للتاجر، إلا إذا اشترط التاجر أن يحصل عليها من مصدر البطاقة وموافقته على ذلك (2) " يعد القانون الأمريكي كل معاملة مالية بالبطاقة عملية مستقلة عن الأخرى، فكل واحدة منها تمثل عقدًا جديدًا: إيجابًا من قبل البنك مصدر البطاقة، وقبولًا من قبل حاملها، وهو ما أكدته المحكمة العليا بنيويورك، حيث نصت على التالي: " إصدار بطاقة الإقراض تمثل ركن الإيجاب في عقد القرض، حيث يمكن سحبها من قبل مصدرها في أي وقت قبل قبول الطرف الثاني المتمثل في استعمال البطاقة من حاملها ".
هذه النتيجة وهي اعتبار كل شراء أو سحب من حامل البطاقة تمثل عقدًا جديدًا، وعملية مستقلة وجدت قبولًا بين كبار الباحثين الاقتصاديين في بريطانيا، يقول مستر دوبسن (Dobsen) : اتفاقية أو عقد بطاقة الإقراض (Credit Card) توجد عرضًا قائمًا من قبل مصدر البطاقة، وهو عرض لتقديم قرض على أساس اتفاق بطاقة الإقراض.
__________
(1) Al-melhem A. Ahmed, P. 123
(2) Al-Melhem A. Ahmed , P. 363- 364(10/1020)
استخدام البطاقة:
ليس واجبًا على حامل البطاقة تحت أي ظرف أن يقترض بها.
كل وقت يستعملها يعد قبولًا لذلك العرض (Protanto) ؛ لهذا فإن استعماله لها هو عقد منفصل عن الآخر، ولمصدر البطاقة الحق بسحب العرض من قبله.
أكد هذا الاتجاه بروفسور (Goode) بقوله: " في حالة تأسيس اتفاقية عقد إقراض مستمر يكون القبول منفصلًا في كل عملية يستفيد منها حامل البطاقة، من أجل هذا تعد كل عملية يستعمل فيها المقترض البطاقة عقدًا جديدًا ".
لم يأخذ القانون الإنجليزي بهذا الاتجاه حتى الوقت الحاضر، حيث يعد كل عملية مالية بالبطاقة استمرارًا لالتزام مصدر البطاقة للعقد الأول الذي نتج عنه إصدار البطاقة، وبموجبه يلتزم تقديم القرض لحامل البطاقة حسب المقدار والزمان المعينين في العقد " (1)
النتائج والآثار:
نتيجة لإبرام هذا العقد يصبح المصدر للبطاقة مسؤولًا عن الوفاء بسداد قرض العميل حامل البطاقة، عندما يبدأ حامل البطاقة استخدامها في شراء احتياجاته من السلع، أو الخدمات، أو سحب نقد عيني.
__________
(1) Al-Melhem A., Ahmed, P. 121- 122(10/1021)
الخطوة الثانية:
إبرام عقد بين البنك المصدر للبطاقة والتاجر الذي يرغب الانضمام إلى نظام البطاقة يلتزم التاجر بموجبه تقديم السلع والخدمات لحامل البطاقة حسب الشروط التي تنص عليها الاتفاقية.
هذان العقدان ضروريان لإبرام عقد بطاقة الإقراض (Credit Card) .
يظل هذان العقدان متوقفين أو معلقين حتى يبدأ حامل البطاقة في استخدامها في الحصول على رغباته من السلع والخدمات، حيث يمثل هذا الإجراء العقد الثالث في هذا النظام، حينئذ تكون قد اكتملت جوانب العقد، وحقق الغرض المطلوب.
طبقًا للاتفاقية المبرمة بين البنك المصدر للبطاقة والتاجر يلتزم التاجر بقبول كافة البطاقات الصادرة عن ذلك البنك في أي وقت تقدم له في مقابل الدفع للمشتريات من السلع أو الخدمات المتوافرة لديه.
يضاف إلى هذا أن البنك المصدر للبطاقة قد يدخل في اتفاقات مع التجار العملاء بغرض التوسع في خطة معينة، مثل ما لو أجرى اتفاقًا على أن يقبل التاجر أيَّ بطاقة صادرة عن أي عضو في المنظمة الدولية للبطاقات، حينئذ يتوجب عليه قبولها. (1)
يصبح عقد البطاقة نافذًا قانونًا منذ اللحظة التي يُتم بها مصدر البطاقة إجراءاته، ويتم استلامها من قبل صاحبها الصادرة باسمه حتى ولو لم يستعملها؛ إذ أنه مخول أن يستعملها ويستفيد منها.
كذلك الأمر بالنسبة للبطاقة التي يصدرها تاجر، أو مؤسسة تجارية لمحلاتهم خاصة، حيث إنه لا يوجد قرض بالفعل، ولكن أعطي حامل هذا النوع من البطاقات فرصة الدفع المؤجل، وهو ما يندرج في معنى القرض حسب الفصل التاسع من قانون إقراض المستهلكين البريطاني. (2) ذلك أن التأجيل في الدفع هو معيار ما يسمى (قرضًا) .
الملاحظ في عقود بطاقات المعاملات المالية على اختلاف أنواعها أن مواد الاتفاقية وبنودها جاهزة، ولا يملك حامل البطاقة أن يغير منها، أو يستثني لنفسه بعضًا من شروطها، وكذلك بالنسبة للاتفاقية بين مصدر البطاقة والتاجر إلا في حالات استثنائية جدًّا.
__________
(1) Al-Melhem A. Ahmed, P.99- 100 , 262- 263
(2) Jones Sally A., P. 80(10/1022)
الطرف القوي في اتفاقيات البطاقة:
الطرف القوي في جميع هذه الاتفاقيات هو مصدر البطاقة، وهو ما لا تتم الاتفاقيات إلا به، فهو الذي يمسك بجميع الأطراف، وهو الذي يحقق لهم من الفوائد ما لا يمكن تحقيقه بدون اشتراكه مع كافة الأطراف بصورة قانونية مستقلة في كل اتفاقية وعقد.
أثار هذا الوضع جدلًا في المؤسسات القانونية، حيث أن العقد بهذا الأسلوب لا يخلو من عنصر الإكراه، فمن ثم جرى النقاش حول صحته والاعتداد به.
يقول لورد بلوك: " هذا العقد جديد بالمقارنة إلى غيره، وهو نتيجة التركيز على نوع معين من الأعمال في أيد قليلة.
إن هذه الصيغة العامة في العقد لم تكن محل مناقشة بين أطراف العقد، أو موافقة جمعية تمثل مصلحة الطرف الضعيف، بل فرضت من قبل الطرف الذي يملك زمام القوة فيه، وهو يمارسها وحده، أو بالانضمام مع آخرين يقدمون نفس السلع، أو الخدمات.
هذا هو الذي جرأهم أن يقولوا للعميل: إما أن تقبل هذه البضاعة، أو الخدمات كما هي، وألا فاتركها. هذا الموقف المتخذ من أحد طرفي العقد نحو رغبة الطرف الآخر الضعيف يعيد للذاكرة المساومة القديمة القوية.
هذه الحالة ستجعل المحكمة مستعدة لأن تحكم بأن أي شرط يقيد إرادة الطرف الضعيف في العقد وعدم استمرار نشاطه التجاري؛ بالبطلان وعدم المعقولية ... " (1)
__________
(1) Al-Melhem A. Ahmed, P. 369(10/1023)
المواد التي يجب أن يتعرف عليها حامل بطاقة الإقراض
ثمة أمور يجب أن تذكر بدقة وتفصيل في وثيقة اتفاقية بطاقة الإقراض، ليكون المقترض على علم تام بها قبل التوقيع عليها، من أهم هذه المواد العناصر التالية:
1 - أن يُذكر المقدار الذي يجب أن يدفعه مقدمًا من رسوم أو غيرها.
2 - الحقوق والواجبات التي تفرضها الاتفاقية، والأخرى التي يجب أن يؤديها.
3 - تحديد مقدار القرض الذي يخوله مصدر البطاقة للسحب نقدًا، وتزويد المقترض بتقارير دورية عنه.
4 - تحديد طريقة احتساب القرض، والعمولات والزيادات التي تؤخذ عليه.
5 - مقدار نسب الزيادة الربوية على قرض البطاقة، وإجمالي المبالغ لأي قرض آخر، وما لا يمكن حصره يجب أن تذكر نسبة الزيادة عليه.(10/1024)
6 - الطريقة التي يتم بها تسديد القروض، والحد الأدنى الذي ينبغي أن يدفعه.
7 - الشروط التي يرغب المقرض فرضها على المقترض حامل البطاقة في حالة إخفاق الأخير (المقترض) الالتزام بالاتفاقية وعدم الوفاء بتحقيق موادها.
8 - حق المقرض في إنهاء الاتفاقية، واحتساب جميع الديون، والمطالبة بتسديدها مباشرة، ولكن ليس من المعتاد إضافة أي مبلغ على المقترض بسبب إخفاقه في الالتزام ببعض الشروط زيادة على المدون بالوثيقة.
9 - الحماية القانونية، والتعويضات المقررة للمقترض حسب القانون.
10 - أي أمر آخر ترى الجهة المختصة تعريف المقترض به.
هذه بعض أهم العناصر التي ينبغي أن تتضمنها وثيقة الاتفاقية، وأن يكون المقترض على علم تام بها، حتى تصبح الاتفاقية ملزمة قانونًا، علمًا بأن البرنامج رقم (1) من قانون إقراض المستهلك الصادر عام 1983 قد تناول ما يتصل بالاتفاقية، وما يجب أن تحتوي عليه، وما ينبغي أن يعرفه المقترض عن الأمور المالية لدى انضمامه إلى نظام بطاقة الإقراض، فقد تناول كل هذا بالتفصيل.
كما أن البرنامج رقم (2) من القانون نفسه قصد به تزويد المدين بالمعلومات التي تحميه، والتعويضات التي يستحقها، مما يجب أن تتضمنه الاتفاقية. (1)
__________
(1) Jones Sally , A., P. 113- 117 , 118(10/1025)
مواد الاتفاقية بين مصدر البطاقة وحاملها
تحتوي الاتفاقية بين مصدر البطاقة وحاملها على المواد التالية:
" 1 - يلتزم المصدر للبطاقة بقبول سندات مشتريات حامل البطاقة، ومدفوعات خدماته، وسحبه النقدي.
2 - يلتزم حامل البطاقة أن يوفي بتسديد المبالغ التي اقترضها، مضافًا إليها المنصرفات المالية الأخرى التي ينص عليها العقد.
3 - تحديد مسؤولية حامل البطاقة لدى استعمالها بطريقة غير قانونية من قبل الأشخاص الآخرين.
4 - يقدم مصدر البطاقة بيانًا شهريًا لمصروفات حامل البطاقة، ملخصًا فيه كافة المعاملات المالية لحامل البطاقة من خلال استعماله لها، ومطالبته بالدفع في تاريخ محدد، يكون غالبًا خلال خمسة وعشرين يومًا تبدأ بيوم الإرسال.
5 - يشعر حامل البطاقة البنك كتابيًا مباشرة إذا تعرضت البطاقة لفقد أو سرقة.
6 - يكون حامل البطاقة مسؤولًا في حدود مبلغ معين، مثل خمسين دولارًا في حالة استعمال البطاقة بطريقة غير قانونية في الفترة قبل إشعار البنك شفهيًا أو كتابيًا.
7 - للبنك المصدر للبطاقة الحق في إلغاء البطاقة من دون إشعار سابق.
8 - لحامل البطاقة الحق في إقامة دعوى ضد البنك المصدر لها، ويدافع عن نفسه، كما قد يكون هذا ضد التاجر.
9 - للبنك المصدر للبطاقة الحق في تغيير أي شرط في العقد بعد إشعار حامل البطاقة بذلك التغيير، حسب الطريقة المعروفة قانونًا.
15 - قد ينص العقد على تعيين القانون الذي يحكم اتفاقية العقد عند حدوث نزاع بين الطرفين ". (1)
__________
(1) Al-Melhem A., Ahmed, P. 140- 141(10/1026)
مواد الاتفاقية بين مصدر البطاقة والتاجر
من الواضح أن عددًا من المواد ذو صيغة مشتركة في كل العقود بين مصدر البطاقة والتجار، سواء في الولايات المتحدة وبريطانيا.
هذه المواد هي كالتالي:
" 1- يوافق التاجر على تقديم البضاعة أو الخدمات بسعر عادي لكل حامل بطاقة يرغب الشراء بها، أو الحصول على خدمات في حدود القرض المحدد لحاملها.
2 - لا بد أن يثبت التاجر بيع البضاعة لحامل البطاقة، وذلك بإحضاره سند البيع الذي زود به من قبل مصدر البطاقة، والتقيد بإجراءات ملء البيانات المدونة على سند البيع.
3 - على التاجر أن يكون له حساب في بنك تجاري، ليتسلم من خلاله كل حقوقه، والديون التي نشأت عن قبوله البطاقة.
4 - على التاجر أن يودع سندات البيع في البنك التجاري خلال مدة محدودة، وعلى البنك تعويضه مباشرة عن المبالغ المدونة في سندات البيع، مخصومًا منها نسبة التخفيض المحددة، بشرط أن تكون تلك السندات متطابقة مع الشروط التي حددها مصدر البطاقة.
5 - يوافق التاجر أنه في حالة رد البضاعة من قبل مشتريها حامل البطاقة أن لا يدفع له قيمتها نقدًا، ولكن يعد سند دين بالصيغة المعدة، ويرفقها مع السندات الأخرى التي سيودعها لتسحب من حسابه.(10/1027)
6 - يوافق البنك على قبول سندات البيع ودفع قيمتها للتاجر، طبقًا للاتفاقية دون تراجع فيما عدا بعض حالات معينة.
7 - يوافق التاجر على أن يعرض في مكان بارز من محله التجاري لوحة الإعلان عن البطاقة المقدمة من مصدر البطاقة.
8 - على التاجر أن يمتنع من قبول بطاقات معينة يحددها مصدر البطاقة مثل: البطاقات الباطلة، أو المنتهية المدة، أو المفسوخة، ومن أجل التحقق من هذا لابد أن يعرض البطاقة المقدمة له على القائمة التي ترسل له من قبل المصدر.
9 - على التاجر أن لا يقبل البيع بالبطاقة في مبيع تتجاوز قيمته الحد الأقصى المحدد من قبل مصدرها حتى يستأذنه فيخوله صلاحية قبولها.
10 - على مصدر البطاقة أن يزود التاجر ببعض المواد المكتبية مثل:
آلة الضغط على السندات، سندات البيع، سندات إرجاع البضاعة، وبطاقة الشراء بالقطاعي (التجزئة) ؛ لاستعمالها من قبل التاجر.
المواد المكتبية القرطاسية ملك لمصدر البطاقة يسترجعها لدى انتهاء العقد.
11 - يتحمل التاجر المسؤولية فيما يتصل بأي دعوى، أو فقد، أو ضمان ينشأ عن أي معاملة تجارية بينه وبين حامل البطاقة، دون أن يكون لمصدر البطاقة أي مسؤولية في ذلك.
12 - يوافق التاجر على دفع رسم العضوية، وعمولة الخدمات على إجمالي مبالغ سندات البيع.
13 - يوافق التاجر على ما قد يحدثه مصدر البطاقة من تغييرات في الاتفاقية من وقت لآخر، وأن تكون موضع التنفيذ منذ إشعار التاجر من قبل مصدر البطاقة، بالإضافة إلى أن لمصدر البطاقة الحق في إنهاء العقد أي وقت شاء، أو لدى حدوث حدث معين ". (1)
__________
(1) Al-Melhem, A. Ahmed, P.359(10/1028)
المبحث الرابع:
الأقسام والأنواع والأرباح
للبطاقات البنكية المتداولة
تقديم:
البطاقات البنكية المتداولة في المعاملات التجارية في الوقت الحاضر أقسام عديدة، وأنواع مختلفة، منها ما يجري به التعامل محليًّا، ومنها ما يجري التعامل به دوليًّا، كما تقسمها البنوك والمؤسسات الاقتصادية إلى بطاقات ائتمانية، وبطاقات غير ائتمانية. (1) (بطاقات القيد) .
يتصدى هذا البحث لمعرفة حقيقة كل بطاقة وطبيعتها، وشروطها، وعلاقات أطرافها ومسؤولياتهم، يتحرى في تسمية كل بطاقة وعنونتها أمرين:
أولا: تمام المطابقة للترجمة في لغتها الأصلية واستعمالاتها فيها بقدر ما تمكن الترجمة.
ثانيا: أن يكون الاسم والعنوان لها يتناسب مع حقيقتها، ووصفها، وشروطها في حالة استحالة الترجمة الحرفية ذات المعنى الصحيح، بحيث يدل للوهلة الأولى على الزمرة التي تنتمي إليها في عقود المعاملات بقصد بناء الأحكام الشرعية عليها، دون لبس أو تكلف.
يمكن تقسيم البطاقات البنكية المتداولة بين الناس في الوقت الحاضر بحسب طبيعتها وأوصافها المناسبة المميزة قسمين:
القسم الأول: بطاقات الإقراض، وهي أنواع:
1- بطاقة الإقراض بزيادة ربوية والتسديد على أقساط (credit card) .
2 - بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة الربوية ابتداء. (charge card)
3 - بطاقات شراء التجزئة (الداخلية) (in house retailer card)
القسم الثاني: بطاقة السحب المباشر من الرصيد (Debit card)
__________
(1) سبق توضيح خطأ هذا المصطلح، يستبدل بها كلمة (إقراض)(10/1029)
وفيما يلي التعريف بالتوصيف لكل واحد منها حسب هذا التقسيم (1)
القسم الأول من البطاقات البنكية - وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: بطاقة الإقراض بزيادة ربوية والتسديد على أقساط (Credit card) .
النوع الثاني: بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة الربوية ابتداء (charge card) .
النوع الثالث: بطاقات التجزئة (الداخلية) (Retailer Card)
النوع الأول
بطاقة الإقراض (2) بزيادة ربوية والتسديد على أقساط: (Credit card) :
- تمنح البنوك المصدرة للبطاقة الراغبين من العملاء في هذا النوع من البطاقات صلاحية الشراء والسحب نقدًا في حدود مبلغ معين لا يتجاوزه.
- بالنسبة للتسديد: يقدم مصدر البطاقة لحاملها تسهيلات في دفع قرضه مؤجلًا على أقساط، حسب المبلغ الإجمالي المطلوب منه، في صيغة قرض ممتد متجدد على فترات (3) بعمولة وفائدة محددة تمثل الزيادة الربوية.
وهي نوعان:
1- بطاقة إقراض عادية أو فضية: لا يتجاوز القرض الممنوح لحامل البطاقة من قبل مصدر البطاقة حدًّا أعلى مثل عشرة آلاف ريال سعودي.
2 - بطاقة ممتازة أو ذهبية: يتجاوز فيها القرض لحاملها تلك الحدود، على سبيل المثال البطاقة الذهبية: لأمريكان اكسبرس لا تحد مبلغًا معينًا لهذه البطاقة، كما ينص على هذا:
" فإنك لست مقيدًا بأي حد مسبق للإنفاق، بل يمكنك أنت رسم هذا الحد بنفسك عن طريق أسلوب صرفك المعتاد، يمكنك الإنفاق قدر ما تشاء، وإلى الحد الذي أثبت لنا فيه قدرتك على الوفاء به ... ". (4)
بطاقة الإقراض (Credit card) بنوعيها: العادية، أو ما تسمى بالفضية، والأخرى الممتازة، أو ما تسمى بالذهبية هما في حقيقتهما اتفاقية بين مقرض ومقترض، يبلغ بها حاملها الحصول على ما يريده من المشتريات والخدمات في حدود المبلغ المقرر له، وإن لم يقبضه بيده (الإقراض) هو عنوانها في لغتها الأصلية (credit) ، وهو الوصف البارز فيها، ومن ثم يسمى الطرفان فيها (Creditor) مقرض، وهو البنك المصدر للبطاقة طرفًا أولًا في العقد، والطرف الثاني (Boorowar) مقترض.
__________
(1) انظر: ابن عيد، محمد علي القري، بطاقات الائتمان - جدة، مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: 10/ 375- 404، الدورة السابعة، العدد السابع، عام 1412 هـ/ 1992 م
(2) (الإقراض) (مصدر أقرض، فهو أولى من القرض؛ لأن المعنى على الإعطاء، عميرة، شهاب الدين أحمد البرلسي، حاشية على شرح المحلى: 2/ 257، الطبعة الرابعة - بيروت، دار الفكر
(3) Al-Melhem Ahmed , A. p. 12-13
(4) دليلك لعضوية البطاقة الذهبية، ص 3(10/1030)
مميزات بطاقة الإقراض الذهبية أو الممتازة:
هذه إحدى بطاقات الإقراض المخصصة للأثرياء وذوي الدخول العالية، القادرين على دفع رسوم باهظة.
بعض البنوك المصدرة لبطاقة الإقراض يقدمون بطاقات خاصة تدعى البطاقة الذهبية (Gold Card) ، أو البطاقة الممتازة (Premium card) . هذا النوع من البطاقات يجمع بين خصائص بطاقة الإقراض العادية وخصائص بطاقة الإقراض الكبير، بالإضافة إلى مجموعة من الخدمات التي يكون بينها:
التأمين على الحوادث، التعويض مجانًا عن فقدان البطاقة، تخفيضات في الفنادق، استئجار السيارات، تقديم شيكات سياحية من دون عمولة.
رسوم هذا النوع من بطاقات الإقراض غالبًا ما تكون أعلى من رسوم بطاقات الإقراض العادية، ولكن عادة يكون المقصود من هذا النوع من البطاقات هو المظهر الاجتماعي المتميز لحاملها، حيث يتناسب مع دخله العالي، ومتطلباته التي تتميز عن أصحاب الدخول العادية.
أن حاملها يكون أقل تعرضًا للسؤال من قبل المحلات التجارية التي يتعرض لها حامل البطاقة العادية) (1)
الزيادات المضافة إلى قروض بطاقة الإقراض والتسديد على أقساط (Credit card) :
القاعدة الأساس في قروض البطاقة هو أن هناك مبالغ تفرض على القرض تمثل مبالغ إضافية علاوة عليه، لم يكن المقترض حامل البطاقة ليدفعها لو أنه اشترى نفس السلع بالنقد.
المثال الواضح في هذا والظاهر لكل أحد أن الزيادات الربوية على القرض، لا تعد داخلة في جملة القرض في حسابات البنوك المصدرة للبطاقة.
__________
(1) ٍٍٍSlozn , lrving j. 10-11(10/1031)
هذا واضح وجلي في الفقرة الرابعة من قانون حماية المستهلك تحت عنوان (إجمالي المبالغ المطلوبة للقرض) الصادر عام 1980
(51,S1) إذ تنص على ما يلحق القرض وليست منه وهي:
(أ) الزيادة الربوية، وهي النسبة المحددة باسم (فوائد) .
(ب) المبالغ الأخرى الناشئة عن المعاملات المالية التي يعقدها حامل البطاقة، أو من ينوب عنه.
ج) ما يكون داخلًا ضمن الاتفاقية المبرمة بين مصدر البطاقة وحاملها، وليس ناشئًا عن معاملة مالية، ويكون قابلًا للدفع في أي وقت ... (1)
(على أن ما تتقاضاه الجهات المصدرة لها من عمولات يعد عاديًّا إذا لم يتجاوز النسب التالية:
ا - إضافة 1 % إلى أعلى نسبة تأخذها البنوك.
2 - أن لا تزيد على نسبة 13 % من القرض. بالإضافة إلى أن لا تتضمن الاتفاقية مطالبة المقترض أي مبلغ آخر زائد على ما تقدم ... ) (2) وبذلك تصبح الفائدة في الحدود العادية دون تجاوز (3)
__________
(1) Jones ,Sally A.,p.88
(2) Jones , Sally A.p.91
(3) انظر موضوع (أرباح البنوك من إصدار بطاقات المعاملات المالية) في هذ البحث، لما يترتب على القرض الزائد على الحدود والقرض المفتوح، (ص 643) ؛ وانظر أيضًا في هذا البحث، (ص 602) بعنوان: (حقيقة ما يسمى بالحد الأعلى للقرض) ، و (ص 647) (المبحث الخامس: الحماية القانونية لحاملي بطاقة المعاملات المالية)(10/1032)
خصائص بطاقة الإقراض:
تتميز هذه البطاقة (Credit card) من جهة نظر قانونية بخصائص عديدة أهمها:
أنها تحتوي على عقدين: عقد معاملة مالية، وعقد إقراض، ومن ثم
يقول مستر د. مث (Ms.De.Muth) : (التعريف الذي ينم عن شخصية البطاقة الحديثة لبطاقة الإقراض (Credit card) هو الذي يجمع في تعريفه بين صفات عقود المعاملات مع صفات المديونية) .
أما بالنسبة لعقود المعاملات فقد أصبحت مقبولة على نطاق واسع في البيع والشراء العادي، سواء في شراء الأعيان، أو الخدمات، كذلك فإنها أصبحت أداة تحمل موافقة مسبقة على السماح بإقراض حاملها بكل ما يريد أن يقترضه، ويسدده في الوقت المناسب له. (1)
هذا النوع من البطاقات (Credit card) هو الأكثر رواجًا في المجتمع المعاصر، لما تحتوي عليه هذه البطاقة من خصائص ومميزات تنفرد بها عما سواها من البطاقات، وأهم هذه الخصائص ما يلي:
1- أنها تعد أداة حقيقية للإقراض، وهو محل اعتبار أساس بين مصدر البطاقة والعميل (حامل البطاقة) ، وعليه تأسيس العقد، والغالب في نظرهما.
2 - لا يشترط لمن يطلب الحصول عليها أن يكون له رصيد في البنك.
3 - أن حاملها غير مطالب بسداد القرض فورًا، بل خلال أجل وفترة متفق عليها بينه وبين مصدر البطاقة.
4 - أن التسديد فيها يكون على شكل دفعات.
5 - بعض البنوك يمنح هذه البطاقة للعملاء من دون اعتبار لدخولهم المالية. (2)
__________
(1) انظر: Al-Melhem , A.Ahmed , p.10
(2) انظر: Al-Melhem A.,Ahmed. p. 13- 14(10/1033)
بعض البنوك المصدرة للبطاقة لا يأخذ رسومًا سنوية على إصدارها وبخاصة في بريطانيا، أو يأخذ رسومًا اسمية متدنية، كما هو الأمر في أمريكا، حيث يعتمدون في إيراداتهم على ما يحصلونه من النسبة المحسومة من استحقاقات التاجر لدى تسديده ودفع أثمان مشتريات العملاء.
كذلك ما يحصلونه من زيادة نسبة الديون المؤجلة، فكلما تكون شروط الدفع المؤجل مرنة فإنها تكون أكثر إغراء لحاملي البطاقة على الرغم من ارتفاع نسبة الزيادة عليها. (1) من الطبيعي أن يجمع بعضها بل الكثير منها مع الزيادة الربوية الرسوم السنوية، يؤكد هذا ما جاء في بحث مركز تطوير الخدمة المصرفية ببيت التمويل الكويتي قائلًا:
"وتعتمد الجهات المصدرة لهذه البطاقة في إيراداتها - بالإضافة إلى رسوم العضوية والتجديد - على الزيادات الربوية المحتسبة على الرصيد المدين، ويرسل كشف حساب لحامل البطاقة، ويعطى مهلة محددة للتسديد، وفي بعض الحالات تحتسب الفائدة (الزيادة) على العميل من يوم إصدار كشف الحساب له.
كما أن بعض البنوك ترتب عملية السداد مع العميل، بحيث تكون على فترة زمنية منتظمة، فالعميل يستخدم البطاقة ضمن حدود الائتمان (القرض) الممنوح له، وهو يعلم أن البنك يخصم منه قسطا ثابتًا شهريًا، ويحتسب الزيادة الربوية على هذا الأساس.
ومن أمثلة هذه البطاقات:
الفيزا (Visa Card)
الماستركارد (Mastar card)
الداينرزكارد (Dinars card)
الأمريكان إكسبرس (American Card)
__________
(1) انظر: Al-Melhem , Ahmed ,p.13- 14(10/1034)
ونلاحظ هنا أن هذه البطاقات يمكن أن تكون بطاقات خصم شهري، أو بطاقات قرض (ائتمان) ، وذلك تبعًا لسياسة البنك المصدر للبطاقة ورغبته، وفقًا لما يحقق مصالحه، ويتوافق مع احتياجات عملائه) . (1)
أطراف عقد (الإقراض) في هذه البطاقة: (Credit card)
يتكون العقد في هذا النوع من البطاقات من ثلاثة أطراف رئيسة:
مصدر البطاقة: مقرض. حسب القانون المدني البريطاني لاستهلاك المدنيين الصادر عام 1974.
حامل البطاقة: مقترض (Borrowar)
التاجر: مقدم السلع، أو الخدمات (Supplier)
__________
(1) بحث عن بطاقات الائتمان المصرفية والتكييف الشرعي المعمول به في بيت التمويل الكويتي، (جدة: مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السابعة، عام 1412هـ/ 1992 م) ، ج1، ص 451(10/1035)
كيفية التعامل بالبطاقة:
يسير التعامل بالبطاقة على النحو التالي:
" يصدر البنك البطاقة للعميل المقترض (Boroowar) ، فإذا رغب هذا في شراء شيء ذي قيمة مالية من تاجر يكون قد انضم إلى مجموعة تجار البيع بالبطاقة المرتبطين بالبنك المصدر لها. يبرز حامل البطاقة بطاقته، ويقدمها للبائع ليدون بعض المعلومات منها على سند خاص، له صورتان طبعت عليه بيانات لتعبئتها حسب الطريقة المطلوبة للبنك المصدر.
بعد أن يفرغ التاجر من تعبئة تلك البيانات يضع ذلك السند في مكينة ضغط بسيطة مقدمة من البنك يختم بها ذلك السند، ومن ثم يظهر عليها كافة المعلومات التي على الأصل والصورتين، موقعًا عليها من قبل حامل البطاقة (المقترض) .
يعيد التاجر البطاقة لصاحبها مع صورة من ذلك السند، والنسخة الثانية يحتفظ بها لديه، أما النسخة الثالثة فإنه يبعثها إلى البنك المقرض مصدر البطاقة ليدفع له القيمة ويضمها إلى حسابه ". (1)
يفضل رجال البنوك الاكتتاب في هذا النوع من البطاقات، ويشجعون عليه، حيث يجنون من وراء هذه القروض عمولات وزيادات ربحية ربوية عالية، يذكر في مقدمة مميزات هذه البطاقة: " بما ينطوي عليه من حق لحامل البطاقة في اعتماد حقيقي (دين حقيقي) لدى الجهة المصدرة لها، وهو ما تنتهجه - بل تشجع عليه - لما تتقاضاه في ظله من فوائد ... " (2)
* * *
__________
(1) انظر: Al-Melhem A.Ahmed, p.12- 13
(2) أبادير، رفعت، بطاقات الائتمان من الوجهة القانونية، الكويت: مجلة إدارة الفتوى والتشريع، السنة الرابعة، العدد الرابع، عام 1984 م، ص 27(10/1036)
النوع الثاني:
بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة الربوية ابتداء (Chrge Card) : تسمى أيضًا (بطاقة الوفاء المؤجل) ، وهي التي تسمى أيضًا (بطاقة الخصم الشهري) :
تخول البنوك المصدرة لهذه البطاقات حامل هذه البطاقة قرضًا في حدود معينة حسب درجة البطاقة: فضية، أو ذهبية، ولزمن معين، يلزم تسديده كاملًا في وقت محدد متفق عليه مسبقًا، يفرض مصدرها عقوبة مالية وزيادة ربوية لدى التأخير في التسديد.
إن هذا النوع من البطاقات لا يقدم تسهيلات، أي لا يقسط المبلغ المستحق، ولكنه طريقة ميسرة للحصول على قرض مفتوح لحد أقصى يسدد كل شهر.(10/1037)
خصائص (بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من زيادة ربوية ابتداء: (Charge Card)
تخول هذه البطاقة حاملها الشراء والسحب النقدي في حدود مبلغ معين ولفترة محدودة، دون تقسيط في دفع المبلغ المستحق عليه، فإذا تأخر العميل في تسديده فرضت عليه زيادة ربوية حسبما تنص عليها الاتفاقية بين المصدر وحامل البطاقة.
هذا النوع من البطاقات يمثل طريقة ميسرة للحصول على قرض مفتوح لحد أقصى يسدد كل شهر من دون فرض زيادة إلا عند تأخير التسديد في الموعد المحدد. (1) إن دورها ينحصر في كونها أداة للوفاء بثمن السلع والخدمات التي يحصل عليها حاملها من بعض التجار (المقبولين لدى الجهة المصدرة للبطاقة) .
يلاحظ على نظام هذا النوع من البطاقات أنه لا يتضمن أية تسهيلات قرض لحاملها، حيث يتعين على حامل البطاقة أن يبادر فور تسلمه الكشف المرسل إليه، أو خلال ميعاد قصير يختلف باختلاف البطاقات، بل قد تقوم الجهة المصدرة للبطاقة إذا كان لحاملها حساب لديها بقيد المبلغ في حسابه مباشرة.
إلا أن الحاصل عملًا أن حامل البطاقة يتمتع في ظل هذا النظام بأجل فعلي في الوفاء بثمن ما يحصل عليه من سلع وخدمات، مما حدا بالبعض إلى تسمية هذا النوع من البطاقات ببطاقات (الوفاء المؤجل) ؛ ذلك أن الجهة المصدرة للبطاقة لا تطالب حاملها بثمن مشترياته فورًا أولًا بأول، وإنما تقوم بجمع الفواتير الموقعة من قبل حامل البطاقة ومطالبته بها دوريًّا مرة كل شهر، في تاريخ معين، أو تقييدها في حسابه في هذا التاريخ، وهذا ما يمنح حامل البطاقة أجلًا فعليًّا في الوفاء، يتمثل في الفترة المنصرمة ما بين وقوع الشراء وحصول الوفاء فعلًا، وهي فترة تصل في بعض الأحيان إلى خمسة وخمسين، أو ستين يومًا.
ومع ذلك فإن هذه البطاقات لا تعدو أن تكون في جوهرها أداة للوفاء، ذلك أنه وإن تمتع حاملها بأجل فعلي في الوفاء فإن هذه الميزة ليست محل اعتبار أساس لدى مصدر البطاقة، أو حاملها، ولا تعدو أن تكون عنصرًا ثانويًّا، أو عَرَضيًّا لم يقصده الطرفان لذاته، وإنما ترتب على طبيعة التعامل بهذه البطاقات وضرورة نظمها العملية (2)
__________
(1) انظر: Al- Melhem A.Ahmed , p.14
(2) أبادير، رفعت، بطاقات الائتمان من الوجهة القانونية، ص 24، 25، 26(10/1038)
الفرق بين بطاقة الإقراض بزيادة ربوية والتسديد على أقساط (Credit Card) ، وبطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة: (charge Card)
توجد عدة فروق بين هذين النوعين من بطاقات الشراء من أهمها ما يأتي:
أولًا: لا تتقاضى البنوك عادة رسومًا سنوية، ورسومًا على التجديد بالنسبة لبطاقة الإقراض بزيادة ربوية (Credit Card) ، وعلى عكس ذلك الأمر بالنسبة لبطاقة الإقراض المؤقت (Charge Card) فإنها تفرض رسومًا على الحصول على البطاقة؛ لينتظم حاملها ضمن المتعاملين بها، ورسومًا أخرى على التجديد.
ثانيًا: بطاقة الإقراض بزيادة ربوية (Credit Card) تقدم قرضًا حقيقيًّا، ولحامل البطاقة حق الاختيار في طريقة الدفع، في حين أن عملاء بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة (Charge Card) مطالبون بدفع المطلوب منهم كاملًا في نهاية الشهر.
ثالثا: عدم وجود حد أعلى للمديونية في بطاقة الإقراض (Credit card) أحيانًا، هذا الاعتبار مهم جدًا في نظر العملاء حاملي البطاقة، وله الأفضلية في نظرهم على التعجيل بالدفع في نهاية الشهر، كما عليه الحال في بطاقة الإقراض المؤقت. (1)
__________
(1) انظر: Al-Melhem A.Ahmed , p. 63- 64(10/1039)
النوع الثالث - بطاقة التجزئة (Retailar , or in House cards) :
هذا نوع آخر من البطاقات يخدم المستهلكين، يعرف بأسماء عديدة:
1- بطاقة شراء التجزئة (Retailar Card) .
2 - بطاقة شراء داخلية (In House Card) .
3 - بطاقة الشراء باسم محل تجاري خاص (Store Card) .
4 - بطاقة اتفاقية دين ذي طرفين (دائن، مدين) (Two Parties credit card Agreement)
مصدر هذا النوع من البطاقات مؤسسة أو محل تجاري، يقدم أنواعًا مختلفة من البضائع والخدمات.
يقصد من هذه البطاقة جلب العميل والاحتفاظ به، ولذا فإنها تعد في أقسام البطاقات الداخلية المحلية، وليست الدولية (1)
المقصود الأساس بهذا النوع من البطاقات هو الدين، حيث يمثل المحل التجاري الطرف الأول (دائن) ، وحامل البطاقة العميل (مدين) الطرف الثاني، يخول صاحب البطاقة حاملها الشراء دينًا من المحل التجاري المصدر لها، سواء استخدمها أو لم يستخدمها.
الطرف الأول يمثل: الدائن (مصدر البطاقة) ، التاجر.
الطرف الثاني هو: المدين (حامل البطاقة) .
الاتفاقية: اتفاقية دين.
العقد: عقد بيع بين حامل البطاقة والمحل التجاري (التاجر) لدى استخدام حامل البطاقة للحصول على رغباته من السلع إن كان بيعًا، أو عقد إجارة إن كان على منافع وخدمات.
استخدام البطاقة للشراء في كل مرة يمثل عقدًا مستقلًا عن غيره، بعض المحلات التجارية تقدم قروضًا نقدية لحامل البطاقة، حينئذ يستطيع حامل البطاقة العميل أن يحصل على احتياجاته من السلع والخدمات كما يحصل على النقد عينًا.
في مثل هذه الحالة يصبح عقد البطاقة من العقود ذات الأطراف الثلاثة:
مقرض، مقترض، تاجر (2)
يتخذ تسديد قيمة مشتريات السلع لدى استعمال بطاقة التجزئة أنماطًا مختلفة:
1- التسديد الشهري: حيث تقدم المؤسسة التجارية فواتير الشراء نهاية كل شهر لحامل البطاقة لتسديدها كاملة. هذا أشبه ما يكون بطريقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة (Charge Card) . العقد هنا يتم بين طرفين: مصدر البطاقة (المحل التجاري) ، وحامل البطاقة (المستهلك) ؛ في حين أن العقد في بطاقة الإقراض المؤقت يتكون من ثلاثة أطراف.
2 - طريقة اختيارية: وذلك بالمرونة في دفع الدين الشهري بتحديد حد أدنى في نهاية كل شهر، حينئذ فإنها تماثل تمامًا بطاقة الإقراض بزيادة ربوية، والتسديد على أقساط (Credit Card) عندما يختار حامل البطاقة دفع الدين على أقساط متعددة على فترات طويلة، أو قصيرة.
__________
(1) oJones , SallyA.,p.94
(2) jones , Sally A., p.94- 95(10/1040)
التكييف القانوني لهذا النوع من البطاقات:
إن عقود البطاقات ذات الطرفين كما في بطاقة شراء التجزئة (Retailar) ، أو ذات أطراف ثلاثة كما هو الحال في سواها من البطاقات، جميعها يندرج تحت مسمى الديون طبقًا لقانون الاستهلاك الإنجليزي الصادر عام 1974، حيث ورد تحديدها والتعريف بها ضمن ما يطلق عليه، ومن جملة ذلك:
البطاقة التي تصدر عن شخص على أساس دين تجاري يتكفل لدى إصدارها أن يمنح الطرف الآخر صلاحية السحب نقدًا أو شراء سلعة، أو القيام ببعض الخدمات دينًا لحاملها. سواء كان العقد من طرفين أو ثلاثة أطراف.
في حالة العقد المكون من طرفين فإن البطاقة تعرّف المدين على أنه: (الشخص الذي يفتح حسابا مع الدائن) .
ولهذا فإن مديونيته معروفة لدى الدائن، فلا يحتاج دائنه إلى بحث كفاءته وقدراته المالية (1) .
على من يتولى البيع من الموظفين في المحل التجاري الذي يصدر البطاقة التأكد من:
أن قيمة مشتريات حامل البطاقة في حدود القرض الذي اعتمده المحل لحامل البطاقة.
__________
(1) Al-Melhem A.Ahmed , p. 16(10/1041)
الشراء بالبطاقة تلفونيًّا:
كما يمكن الشعراء لحامل البطاقة بطريق المكالمة التلفونية بعد التأكد من صحة كافة المعلومات المتعلقة بحامل البطاقة عن طريق الحاسب الآلي (الكمبيوتر) ، إذ أصبح بجانب كل محاسب جهاز الحاسب الآلي، لإعطاء تلك المعلومات خلال ثوان والتأكد من صحتها (1)
من هذا النوع: البطاقات التي تصدرها أيضًا محطات البنزين، حيث يقدمون برنامجًا لبطاقات الدين، يتم التسديد شهريًا لمشتريات العميل كل شهر، دون تحديد لفترة الدفع لأكثر من ذلك.
بعض هذه المحطات يقدمون عرضًا اختياريًا لحامل البطاقة للتسديد لفترة أطول لدى شراء بعض الأدوات الغالية مثل إطارات السيارات والبطاريات، أو الإصلاح.
من الطبيعي أن الحد الأعلى للقرض لهذا النوع من البطاقات يكون أقل من بطاقة الإقراض التي تصدرها البنوك، وأقل شروطًا من البطاقات ذات الأطراف الثلاثة:
البنك، العميل (حامل البطاقة) ، التاجر
يقدم أصحاب هذا النوع من البطاقات للعملاء عادة حق الاختيار في دفع المستحقات خلال فترة طويلة، ولهذا فإن ثلاثة أخماس العملاء من حاملي هذه البطاقة يسددون كافة المستحقات دفعة واحدة (2)
القسم الثاني من أقسام البطاقات
بطاقة السحب المباشر من الرصيد: (Debit Card)
يتضمن بحث الموضوعات التالية:
التعريف.
فائدة بطاقة السحب المباشر من الرصيد.
خصائص بطاقة السحب المباشر من الرصيد.
الفرق بين بطاقة الإقراض وبطاقة السحب المباشر.
__________
(1) Sloan , lrving J.p.7
(2) انظر: Sloan , Irving j.,p.8- 12- 11(10/1042)
التعريف ببطاقة السحب المباشر من الرصيد: (Debit Card)
عنوان هذا النوع من البطاقات يحمل معناها، يقتضي إصدار هذا النوع من البطاقات أن يكون لحاملها رصيد بالبنك، ومن ثم إعطاء صلاحية للبنك المصدر للبطاقة أن يسحب من رصيد حامل البطاقة مباشرة قيمة مشترياته، وأجور الخدمات التي حصل عليها عن طريق استعمال البطاقة في ضوء السندات الموقعة من قبله.
لهذه البطاقة نفس الوظيفة والاستخدامات التي تستعمل لها بطاقة الإقراض بزيادة ربوية (Credit Card) في الحصول على الاحتياجات من السلع والخدمات، والحصول على النقد. وتختلف عنها في أن قيمة الأشياء التي يحصل عليها حامل البطاقة من خلال استعمالها تخصم رأسًا من رصيده بالبنك لحساب التاجر، أو المؤسسة التي قد حصل منها على احتياجاته.
خصت هذه البطاقة السحب المباشر من الرصيد (Debit Card) بمادة في قانون إقراض المستهلكين الصادر عام 1974 ببريطانيا، في الفصل 89، المادة (3A) 187، إذ تقضي إخراجها من بطاقات الإقراض؛ لأنها لا تعدو أن تكون مجرد أداة لاستخراج البنك قيمة مشتريات حاملها من رصيده (الوديعة) في البنك، ولا تقدم لحاملها قرضًا، والعلاقة بين مصدر البطاقة والتاجر في حالة استعمال هذا النوع من البطاقة ليست متضمنة أي ترتيبات بخصوص المبلغ المطلوب كما هو الشأن بالنسبة للبطاقات الأخرى (1)
لذا فإنه في حالة استعمال البطاقة الإلكترونية تحول قيمة تلك المشتريات من حساب حاملها إلى حساب التاجر في نفس وقت الشراء مباشرة.
أما إذا لم تكن البطاقة إلكترونية فإن القيمة تخصم من حسابه بعد فترة من الزمن، لأخذ طريقها ومجراها النظامي.
__________
(1) انظر: Jones , Sally A.p.26(10/1043)
كيفية التعامل بهذا النوع من البطاقات:
تتم إجراءات التوقيع على سندات البيع بمثل ما تتم به إجراءات السندات في بطاقة الإقراض (Credit Card) ، وفي النهاية تسجل القيمة عليه في رصيده (مدين) وتخصم من حسابه بشرط أن لا تتجاوز رصيده من النقود.
"سعت بعض البنوك الإنجليزية الكبيرة إلى إصدار بطاقة من هذا النوع باسم (Switch Card , Barclays Card) ، للتخلص من ضمان أي مقدار من مدفوعات حامل هذه البطاقة، وأنها لا تتحمل أكثر من 50 جنيهًا كما هو الأمر بالنسبة للشيك المضمون ". (1)
طريقة استعمال بطاقة السحب المباشر من الرصيد وإجراءاتها متفقة تمامًا مع بطاقة الإقراض الربوية (Crebit Card) .
فائدة بطاقة السحب المباشر من الرصيد: (Credit Card) .
الفائدة من الحصول على هذا النوع من البطاقات (Debit Card) أنها تمكن صاحبها من الحصول على النقد، والسلع، والخدمات وغير ذلك بيسر وسهولة، دون تحمل مشاكل اصطحاب النقود، ولكن لا تخوله أن يحصل على هذه الأشياء بالدين، إذ أنه ليس مخولًا أن يستخدمها إلى الحد الذي يجعله مدينًا، أو حين يكون مدينًا بالفعل.
قد تتم اتفاقية بين مصدر البطاقة وحاملها أن يحصل بها على قرض، ولكن هذا لا يخرجها عن حقيقتها الأصلية حسب المادة (187) ، (3A) من إقراض المستهلك الصادر عام 1974 حيث نص على التالي: إذا كانت بطاقة السحب المباشر من الرصيد في خانة (مدين) فإنها لا تعد ضمن بطاقة الإقراض، والاتفاق الذي تم بين مصدر البطاقة وحاملها غير معترف به قانونًا حسب الفقرة (ب) من المادة الثانية عشرة.
لكن ربما تعد من قبيل اتفاقية إقراض لا سند قرض إذا وجدت موافقة سابقة بين مصدر البطاقة وحاملها، بحيث تخول الأخير باستخدام البطاقة بأكثر من رصيده.
معظم بطاقات السحب المباشر من الرصيد متصلة اتصالًا مباشرًا بحسابات حاملها (الوديعة) . غير أنه إذا استخدمت البطاقة للغرضين: السحب المباشر من الرصيد، والدين في آن واحد فإنها تعد حينئذ من أدوات الإقراض حسب المادة 14، ولها الشروط ذات العلاقة بأدوات الإقراض) (2)
خصائص بطاقة السحب المباشر من الرصيد (Debit Card) :
"تتصف هذه البطاقة بالأتي:
- تصدر للعملاء الذين لديهم حساب دائن لدى البنك المصدر لهذه البطاقة.
- تمنح مجانًا (في الغالب) .
- تستخدم في إطار جغرافية الدولة غالبًا، أو مناطق وجود فروع البنك المتصلة بجهاز حاسب آلي، متصل بقاعدة معلومات عن حساب العميل ورصيده.
- يتم الخصم من حساب العميل فور استخدامه للبطاقة، وعند تعطل أنظمة الحاسب الآلي، فهناك حد أعلى (بمبلغ صغير) يمكن للعميل استخدام هذه البطاقة ضمن الحد المقرر لحين إعادة الاتصالات بنظام الحاسب الآلي.
- تستخدم في الغالب للسحب النقدي من أجهزة الصرف الآلي، أو للاستفسار عن بعض المعلومات الخاص بالعميل، أو الحصول على بعض الخدمات التي يقدمها البنك كأسعار العملات، أو شراء الشيكات السياحية، إضافة إلى التعرف على الرصيد، أو طلب كشف حساب مختصر، أو تفصيلي، أو التحويل فيما بين حسابات العميل ". (3) من هذا النوع من البطاقات (بطاقة إلكترون العربي الدولية) التي يصدرها البنك العربي الوطني بالمملكة العربية السعودية، حيث تستخدم محليًّا ودوليًّا. (4)
__________
(1) انظر: Al- melhem A.Hmed p.17-18
(2) jones ,Sally A.,p.101-102
(3) بيت التمويل الكويتي، بحث عن بطاقات الائتمان المصرفية، والتكييف الشرعي المعمول به في بيت التمويل الكويتي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، العدد السابع، ج1، ص 448
(4) انظر: نشرة (البنك العربي الوطني) بالمملكة العربية السعودية، لمعرفة حقيقة هذه البطاقة ومزاياها.(10/1044)
الفرق بين بطاقات الإقراض الربوية (Credit Card)
وبطاقة السحب المباشر من الرصيد (Debit Card)
توجد فروق أهمها: أن البنك ملزم بدفع المبالغ الموضحة بالسندات المقدمة له من قبل التاجر العميل بالنسبة لبطاقة الإقراض بزيادة (Credit Card) ، أما بالنسبة لبطاقة السحب المباشر من الرصيد (Debit Card) فإنه لا علاقة للبنك بالنسبة للدين، بل يحول مباشرة قيمة البضائع المشتراة من قبل حامل البطاقة، ويخصمها من رصيده إلى حساب التاجر دون اتخاذ إجراءات أخرى (1)
أنواع أخرى من البطاقات (بطاقات خاصة) :
توجد بطاقات أخرى متخصصة غير ما تقدم، لكنها تنتشر ببطء.
بعض هذه البطاقات تصدرها شركات الطيران , الأكثر اتساعًا في هذا شركات تأجير السيارات؛ لا تفرض رسومًا على البطاقة، ولكنها تشترط التسديد مباشرة لدى وصول سندات الدفع للعميل.
" بعض هذه المؤسسات تصدر هذا النوع من البطاقات لرجال الأعمال فقط.
كثير من شركات الطيران العالمية تصدر بطاقات خاصة لأفراد مخصوصين، وتسديد المستحقات في مدة طويلة، ومن دون رسوم سنوية، أو دورية. بالإضافة إلى أن كثيرًا من بطاقات شركات الطيران العالمية الخاصة برجال الأعمال، تشترط التسديد بالكامل في نهاية المدة المقررة المتفق عليها ". (2)
* * *
__________
(1) انظر: Al-melhem A.Ahmed , p. 17-18
(2) انظر: Sloanj.p.13(10/1045)
أرباح البنوك من إصدار بطاقات المعاملات المالية وأسباب انتشارها
تحقق الشركات والمنظمات التي تصدر بطاقات المعاملات المالية على اختلاف أنواعها أرباحًا عالية من خلال استحداث نظام تسديد المشتريات بالبطاقة بدلا عن النقد، والإقبال الشديد من جمهور الناس الذين يتضاعف عددهم كل يوم، طلبًا للحصول عليها، إذ يقدرون بعشرات الملايين.
تستفيد هذه الشركات والمنظمات أرباحها من جهتين رئيستين: من حامل البطاقة (العميل) ، والتاجر صاحب السلع أو الخدمات التي يقدمها لحامل البطاقة عن طريق الوسائل التالية:
أولًا: رسوم الاشتراك السنوي والعضوية.
ثانيًا: الزيادات الربوية على تسديد الدفع للعمليات المالية النقدية؛ إذ تحسب على حامل البطاقة من يوم الشراء.
ثالثًا: المعاملات التجارية الأخرى للسلع والخدمات حين يسجل المبلغ في حساب حامل البطاقة (مدين) ، إلا في حالة الاتفاق على التسديد للمبلغ كاملًا في وقت معين.
رابعًا: العمولات التي تتقاضاها من التجار على العمليات التجارية التي تتم من خلال استعمال البطاقة. تتراوح هذه النسبة عادة بين 1 % و5 % بمتوسط 2.8 % (1)
خامسًا: فرض رسوم دورية على كل معاملة مالية تسدد عن طريق بطاقة الإقراض تحسب على العميل.
سادسًا: فرض نسبة معينة عقوبة على تأخير التسديد.
سابعًا: دفع مبلغ معين عوضًا عن فقدان البطاقة.
ثامنًا: فرض نسبة معينة على حامل البطاقة لدى الشراء بأزيد من المبلغ المسموح به دينًا (2)
قد لا يكون القرض محددًا برقم، بل يترك مفتوحًا باتفاق الطرفين، ولكن تفرض على حامل البطاقة نسبة معينة بمقدار 10 % لكل خمسة آلاف إذا تجاوز القرض حدًا معينًا، حسب النموذج التالي فيما لو كان حد القرض خمسة عشر ألف ريال:
25 % على الخمسة الآلاف الأولى.
35 % على الخمسة الآلاف الثانية.
45 % على الخمسة الآلاف الثالثة.
مثال آخر: يتفق الطرفان على حد أعلى للقرض هو عشرون ألف جنيه، أو دون تحديد، بل على قرض مفتوح، ولكن لمثل هذا يشترط في العقد: طلب حامل البطاقة (المقترض) موافقة مصدر البطاقة (المقرض) لأي قرض فوق خمسة آلاف (3)
__________
(1) انظر: jones , Sally A.,P.14
(2) انظر: Sloan , Irving j., p. 10.12
(3) انظر: Jones , Sally A.,p.84(10/1046)
يكشف مستر إرك ن. كومبتون ERIC N.Comptonprcsident the Chase Manhattan Bank عن مصادر الربح التي تجنيها البنوك من استخدام بطاقة الإقراض بزيادات ربوية والتسديد على أقساط قائلًا:
" البطاقة المعروفة بـ (Credit Card) تقدم أرباحًا متوقعة مغرية متمثلة في:
- مضاعفة نشاطات الودائع الناتجة عن سندات البيع التي تحال إلى البنوك من قبل التجار.
- دفع نسبة ربوية عالية من قبل حامل البطاقة عن قرضه.
- خصم نسبة معينة من قيمة المشتريات المدفوعة للبائع تضاف إلى دخل البنوك مباشرة.
- تضاف زيادة مبلغ مباشرة على حامل البطاقة لدى السحب النقدي.
وفي صدد ذكر أسباب نجاح البنوك في إصدار بطاقة الإقراض السالفة الذكر يقول:
" من أسباب انتشار البطاقة بين صفوف المستهلكين أنها تقدم لهم بديلًا مفيدًا مغريًا مختلفًا عن الطريقة التقليدية لدفع أثمان الأشياء، وطريقة حديثة للإقراض، وذلك بإيجاد مصدر جاهز وسريع للطلب النقدي في الحالات الطارئة الملحة لحامل البطاقة، ذلك هو فتح باب، وإيجاد وسيلة للدخول إلى عالم البنوك الجديد، ومفتاح للتسهيلات الأتوماتيكية؟ ذلك أن البطاقة البنكية تمثل أهمية أساسية في تجارة التجزئة في البنوك، فقد سجلت الإحصائيات نسبة كبيرة من النجاح للدور الذي تؤديه البطاقة البنكية في هذا المجال.
كما أسهمت في تقليص نفقات البنوك، حيث يتم تنفيذ آلات الصرف الأتوماتيكية في مواضع متعددة ومختلفة، يقوم العميل باستخدامها، فتزوده بما يحتاج إليه من نقود، أو بيانات عن رصيده ومعاملاته التجارية حسب تاريخ عقدها وإنجازه لها , بالإضافة إلى كثير من الخدمات الأخرى ... إنه برنامج مربح للغاية ". (1)
__________
(1) Inside Commercial Banking , New York (c) . John Wiled ons , p. 98- 99 , 101(10/1047)
المشاكل التي تواجه البنوك بسبب البطاقة:
تواجه هذه الشركات بعض المشاكل خصوصًا فيما يتصل باستعمال البطاقة من قبل حاملها بتجاوزه بعض بنود الاتفاقية المبرمة معه.
لكن أكثر ما تعاني خطورته هو استعمالها بطريقة غير قانونية من قبل آخرين غير أصحابها، تزويرًا، أو سرقة لها أو غير ذلك، ولهذا فإن هذه الشركات والمنظمات تبحث جاهدة وبشكل دائم عن الوسائل والطرق التي من شأنها أن تقلل أو تحد من تزوير استعمالها، وبرغم هذا فإنها تظل قادرة على تغطية الخسائر الناجمة عن دعاوى المحلات التجارية والمقترضين نظرًا للأرباح الطائلة التي تحصل عليها.
الملاحظ تقلص أرباح الشركات الكبيرة المصدرة للبطاقات مع زيادة إصدار بطاقات الإقراض الخاصة التي تصدرها بعض المحلات التجارية لعملائها؛ إذ نشطت المحلات التجارية بإصدار بطاقات خاصة بها، فقد ثبت لها أنها تجلب لها ربحًا مضاعفًا من جهتين:
أولًا: الأرباح الأصلية الموضوعة على نفس السلع.
ثانيًا: الزيادات الربوية التي تفرضها على ديون العملاء حاملي بطاقتها (1)
__________
(1) انظر Jones , Sally A.,P.14(10/1048)
المبحث الخامس:
الحماية القانونية لحاملي البطاقات البنكية
محور عملية نظام البطاقات البنكية ومرتكزها هو العميل حامل البطاقة.
إن استعماله للبطاقة هو الذي يحرك عملية عقد البطاقة في جميع اتجاهاتها، وهو المصدر الأساس لربح الطرفين الآخرين في العقد: مصدر البطاقة، والتاجر.
يمثل البنك مصدر البطاقة الطرف الأقوى، واليد العليا بين كافة الأطراف الأخرى، يفرض شروطا قاسية استغلالًا لحاجة المقترض المستهلك حامل البطاقة، من أجل هذا تصدر الدول قوانين لحماية هذا الطرف الضعيف في هذا العقد، من هذا ما تضمنه قانون حماية المستهلكين في بريطانيا، الصادر عام 1974؛ إذ اتخذ لحماية المقترضين المستهلكين أسلوبين:
1- فرض أنظمة وقوانين معينة على الشركات والمنظمات المالية والمحلات التجارية المخولة صلاحية إقراض المستهلكين.
2 - وضع ضوابط للاتفاقيات التي تبرم بين المقرضين والمقترضين.
في ظل هذه القوانين والأساليب يجري تطوير قوانين البطاقات وأنظمتها في بريطانيا (1)
الهدف من وضع قانون حماية المقترض المستهلك هو تعريفه وتوعيته بأعباء القرض وتكاليفه، كما أنه يستهدف حمايته من الاستغلال السيء الذي قد يتعرض له من قبل مصدر البطاقة (المقرض) ، والتاجر، حيث إنهما يتفقان على تحقيق نتائج ربحية معينة؛ إذ البيع قرضًا من وجهة نظرهما لا بد أن يحقق ربحًا من جهتين: من جهة بيع السلعة، ومن الإقراض لقيمتها من خلال الاتفاقية.
__________
(1) انظر: Jones , Sally A.,p.20(10/1049)
إن المشتري بالبطاقة يدفع ربحًا مضاعفًا على السلع التي يحصل عليها بالدفع بالبطاقة، ربح على السلعة نفسها، وربح على القرض (1) أعطى القانون حماية إضافية للمقترض، وهي أن مصدر البطاقة (المقرض) مسؤول عن تصرفات التاجر نحو المقترض، ولكن لا يعني هذا أن لحامل البطاقة (المقترض) الحق في التعويض - إذا أصابه ضرر - من الجهتين، ومرتين لموضوع واحد (2)
قانون حماية المقترض المستهلك يمتد إلى كل من يسمى (مقترضًا مستهلكًا) في عقد اتفاقية إقراض بأي شكل أو أداة من الأدوات، لهذا فإن تحديد معنى (مقترض) مهم جدًّا، لكي يندرج ضمن هذا القانون.
هذه الحماية تتعلق بكل الجوانب التي ينص عليها القانون.
حمايته قبل العقد تكون بالنسبة للإعلانات والحملات الدعائية، والمعلومات المعلن عنها، وصيغة الاتفاقيات ومضمونها، ونظمها، وتنفيذها.
إلى جانب أنه توجد ميزتان تمنحان المقترض حماية في ضوء اتفاقية قرض المستهلك في المادتين 56 و 57 من الفصل 56 رقم 2 مما ليس متوافرًا في المقترض غير المستهلك في اتفاقيات بطاقة القرض، ولا الأشخاص الذين يتعاملون بالنقد في مشترياتهم، حيث تقضي هذه المادة أن:
" المفاوض في المعاملات التجارية يعد وكيلًا يمثل الأصيل صاحب المصلحة، كما يمثل نفسه أصالة حسب وضعه القانوني.
__________
(1) انظر: jones , Sally A.,p.199- 200
(2) انظر: jones , Sally A.,215(10/1050)
هذا المبدأ، أو المادة القانونية تعني بالنسبة لنظام بطاقة الإقراض أن التاجر الذي يجري مفاوضات ومساومات مع المقترض صاحب البطاقة يعمل لمصلحة نفسه، وفي نفس الوقت هو وكيل المقرض مصدر البطاقة، نتيجة لهذه المادة 56 يصبح المقرض مصدر البطاقة مسؤولًا عن أي غش يحدثه التاجر الذي أقنع المقترض حامل البطاقة بأن يتم العقد، ولا يستطيع مصدر البطاقة (المقرض) تفادي هذه المسؤولية بطريق مباشر، أو غير مباشر.
تظل مسؤولية التاجر قائمة بهذا الاعتبار، فهو يعد قانونًا طرفًا رئيسًا في العقد، ووكيلًا عن المقرض (مصدر البطاقة) في الوقت نفسه.
المادة 56 من القانون واسعة جدًّا، حيث تجعل المقرض (مصدر البطاقة) مسؤولًا عن تصرفات التاجر إذا أقدم على غش صاحب البطاقة (المقترض) .
حسب هذه المادة يصبح التاجر مسؤولًا بالأصالة عن تزويد حامل البطاقة بما يحتاجه من السلع التي يعرضها، كما أن المقرض (مصدر البطاقة) مسؤول مسؤولية متساوية مع التاجر عن تقديم السلع في وضع سليم ". (1) المادة (57) أيضًا تجعل المقرض (مصدر البطاقة) مسؤولًا مسؤولية قانونية متساوية مع التاجر فيما يتعلق بمعاملات إقراض المستهلك فيما يتعلق بفسخ العقد، وغش السلع.
هذا فيما يخص العقد ذا الأطراف الثلاثة، أما العقد ذو الطرفين- كما في بطاقة دين بيع التجزئة - فإنه لا يندرج ضمن ما تقدم، وبرغم هذا فإنه لا يستلزم دائمًا أن يكون الدائن والتاجر واحدًا فيخضعان للقانون العام.
" قانون حماية المقترض المستهلك يختص فقط بمعاملات المقترض نفسه في اتفاقية بطاقة الإقراض وما شابهها من أدوات دون الذين يخولهم صاحب البطاقة صلاحية استخدامها.
الحماية المذكورة في القانون تظل نافذة بالنسبة لحامل البطاقة المقترض ذاته، أما الشخص المتوكل في استخدامها فإنه ليس جزءًا في العملية التجارية ... ". (2)
* * *
__________
(1) انظر: Jones , Sally A., p.198
(2) انظر: Jones , Sally A.,P.105- 106(10/1051)
1 لفصل الثالث
العلاقات والمسؤوليات في البطاقات البنكية
المبحث الأول: العقود التي تتضمنها البطاقات البنكية
المبحث الثاني: علاقة مصدر البطاقة (المقرض) بحامل البطاقة (المقترض) ومسؤولياته.
المبحث الثالث: مسؤوليات حامل البطاقة (المقترض) .
المبحث الرابع: إنهاء اتفاقية البطاقة بين مصدرها وحاملها وآثار ذلك المبحث الخامس: العلاقات والمسؤوليات بين مصدر البطاقة والتاجر.
المبحث الأول:
العقود التي تتضمنها البطاقات البنكية
تقديم:
بطاقات البنوك بقسميها: الإقراضية، وبطاقات السحب المباشر من الرصيد يرتبط أطرافها بعضهم ببعض بعلاقات ومسؤوليات ثنائية حينًا، وثلاثية حينًا آخر.
العلاقات والمسؤوليات الثنائية تظهر في التالي:
1 - العلاقة بين مصدر البطاقة وحامل البطاقة.
2 - العلاقة بين مصدر البطاقة والتاجر.
3 - العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر.
هذه العلاقة بين كل طرف وآخر مستقلة في تكييفها، متميزة في مسؤولياتها.
كما تكون العلاقة ثلاثية بين الأطراف الثلاثة الرئيسين: مصدر البطاقة، وحامل البطاقة والتاجر جميعًا في عقد واحد بعلاقات ومسؤوليات مختلفة، هذا ما سيتناوله البحث في هذا الفصل بالتحليل والتفصيلة. بطاقات البنوك الإقراضية وغير الإقراضية تتطلب في الغالب ثلاثة أطراف رئيسة، تكتمل بها العملية التجارية وتستوفي الغرض منها: مصدر البطاقة، وحاملها، والتاجر، بحيث يتم العقد كالتالي:
1- عقد بين مصدر البطاقة مع حامل البطاقة (العميل) .
2- عقد بين مصدر البطاقة مع التاجر.
3 - يظل هذان العقدان معلقين حتى يبدأ حامل البطاقة الشراء من التاجر.(10/1052)
الشراء بالبطاقة هو العقد الثالث، والجزء التنفيذي الذي يبث فيه الحياة، ولكن هل تمثل هذه الاتفاقات عقودًا ثلاثة، أو عقدًا واحدًا؟
بالنسبة للقانون الإنجليزي نص على هذا في القانون الخاص بإقراض المستهلك، بأن عقود اتفاقية أدوات الإقراض ليست اتفاقية واحدة، ولكنها تتضمن اتفاقيات مختلفة فهي:
" اتفاقية بين مقرض ومقترض.
اتفاقية بين مقرض ومقترض، وتاجر.
اتفاقية بين مقرض وتاجر.
لا بد أن ينظر إلى كل اتفاقية على حدة منفصلة عن أخرى، والالتزام في كل بكافة الشروط والالتزامات. تعد اتفاقية الإقراض مطلقة غير مقيدة إذا تضمنت قرضًا نقديًا، وليست مرتبطة بشراء سلعة معينة " (1)
يقرر هذه القاعدة القانونية مستر ملت ج. (Millet J.) بقوله: " تنشأ ثلاثة عقود منفصلة لدى استعمال البطاقة، تظهر في ساحة العمل:
الأول: عقد البيع بين التاجر وحامل البطاقة.
الثاني: عقد بين التاجر والشركة مصدرة البطاقة التي توفي بالتزامها نحو ما تستوجبه البطاقة من تسديد للمبالغ المستحقة للتاجر الممثلة في السندات الموقعة من حامل البطاقة.
الثالث: عقد بين الشركة المصدرة للبطاقة وحاملها (العميل) .
فهنا ثلاثة عقود منفصلة من ثلاثة أطراف منفصلين، كل واحد منهم طرف في عقدين من العقود الثلاثة، ولكن ليس واحد منهم طرفًا في العقد الثالث " (2)
" في حين أن القانون الأمريكي يعده عقدًا مكونًا من ثلاثة أطراف:
مصدر البطاقة، وحامل البطاقة العميل، والتاجر. هذه هي النتيجة المستفادة من الأحكام المتكررة الصادرة من المحاكم حسب التصوير التالي: إصدار البطاقة من قبل البنك لحاملها هو عرض مجرد بتقديم قرض من قبله لحامل البطاقة.
يعد هذا العرض قبولًا من قبل حامل البطاقة عندما يستخدمه لدفع مشترياته من التاجر ". (3)
من جهة أخرى:
إن الاتفاقية العادية لبطاقة الإقراض قد تتضمن الواحدة منها عدة اتفاقيات حسب المادة (18) ، إذ يمكن بموجبها أن يستعملها حاملها للسحب النقدي، والحصول على السلع.
السحب النقدي عبارة عن اتفاقية بين مصدر البطاقة وحاملها حسب المادة (13) .
شراء السلع أو الخدمات عقد آخر ذو أطراف ثلاثة هم: صاحب البطاقة، مصدر البطاقة، التاجر.
عندما يكون مصدر البطاقة هو التاجر أيضًا فإنه يصبح مسؤولًا مسؤولية التاجر من جهة نقض الاتفاق، وعدم سلامة السلعة بصفة أنه أصبح التاجر الممول.
__________
(1) انظر: Jones , Sally A.,p.113
(2) انظر: Al- Melhem A.Ahmed. p 356
(3) انظر: Al- melhem A.Ahmed , p. 356(10/1053)
المادة (75) تعطي المقترض صاحب البطاقة الحق في إقامة الدعوى على الطرفين ما دام مرتبطين ببعضهما. غير أنه إذا كان التاجر هو مصدر البطاقة فليس أمامه إلا مداعاة شخص واحد (1)
هذا النوع من الاتفاقات المكونة من ثلاثة أطراف رئيسة عادة ما يعمل كل واحد منهم باستقلالية تامة ولمصلحته الخاصة في كل معاملة تجارية. لكن قد تكون علاقته بالأطراف الأخرى علاقة وكالة في الوقت نفسه، مثلًا:
التاجر في عقد بطاقة الإقراض قد يكون وكيلًا عن مصدر البطاقة بالنسبة للمعاملات المالية التي يعقدها مع حامل البطاقة المقترض، وهذا لا يكون غالبًا, ولكنه ممكن غير مستحيل.
قد يكون الشخص طرفًا رئيسًا في معاملة مالية، في حين أنه وكيل لطرف آخر في نفس تلك المعاملة، مثال ذلك:
الشخص الذي أعطي صلاحية استخدام البطاقة هو وكيل لحاملها الرئيس في إبرام العقد الذي يعد لازمًا بين حاملها وبين مصدر البطاقة، وقد يكون طرفًا رئيسًا في إبرام عقد لصالح نفسه مع نفس التاجر الذي تعامل معه بالوكالة عن صاحب البطاقة. (2)
* * *
__________
(1) انظر:Jones. Sally A.,p.202
(2) انظر: jones , Sally A., P.195(10/1054)
المبحث الثاني:
علاقة مصدر البطاقة (المقرض)
بحامل البطاقة (المقترض) ومسؤولياته
أولًا: العلاقة القانونية: العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها علاقة بين مقرض ومقترض في بطاقة الإقراض (Credit Card)
ثانيا: المسؤوليات: مسؤولية مصدر البطاقة تجاه حاملها هو الوفاء بالتزاماته المالية، وتسديد ديونه في الحدود المتفق عليها التي تنشأ عن استخدام البطاقة.
كما أن المسؤولية الأساس بالنسبة لحامل البطاقة هو الالتزام بالاتفاقية بينه وبين مصدر البطاقة، ومن أهمها الوفاء بالتزاماته المالية، وتسديد القرض حسب المتفق عليه.
" تقتضي هذه العلاقة بين هذين الطرفين: مصدر البطاقة وحاملها، أن مصدر البطاقة (المقرض) لا يكون مسؤولًا ولا ضامنًا للبضاعة المعيبة التي يشتريها حامل البطاقة من التاجر، ولا يكون مطالبًا بحال من الأحوال من قبل المقترض بإعادة دفع القيمة إليه " (1)
غير أن المادة 75 من قانون القرض الاستهلاكي أكدت مسؤولية مصدر البطاقة عن أي نقص، أو مخالفة تحدث من قبل التاجر، ذلك أنه توجد علاقة تجارية قوية بين مصدر البطاقة والتاجر الذي قبل البيع ببطاقة الإقراض، وأن حامل البطاقة يتعامل مع مصدر البطاقة ذي السمعة الطيبة والشهرة الجيدة، فقد عقد عليه الثقة، وأنه لا يتعامل ولا يضع في قائمته إلا التاجر ذا السمعة الطيبة. (2)
" فإذا اشترى حامل البطاقة بضاعته ولم يرتح لنوعيتها أو مستوى جودتها، أو حصل على خدمة معينة بطريق البطاقة ولم يكن راضيًا عنها؛ فإن لحامل البطاقة الحق في إقامة دعوى على التاجر الذي اشترى منه تلك البضاعة، والشخص الذي حصل منه على الخدمة غير المرضي عنها، وكذلك له الحق في إقامة الدعوى على المقرض مصدر البطاقة، وعليهما أعني التاجر ومصدر البطاقة معًا ". (3)
__________
(1) انظر: AlMelhem. A.hmed. p. 253
(2) انظر: Almelhem , A.Ahmed p. 253
(3) Jones , Sally A., p. 118(10/1055)
إبرام عقد بطاقة الإقراض يفرض بعض المسؤوليات على مصدرها تجاه حامل البطاقة وهي:
أنه يكون مسؤولًا عن إصدار بطاقة للمقترض، يخوله بموجبها الحصول على السلع والخدمات، أو النقد.
لا ينص على هذا عادة في الاتفاق بينهما، ولكنه معلوم للطرفين.
يظل الإقراض مستمرًا لحامل البطاقة (المقترض) يسحب منه بالقدر المحدد له في الاتفاقية، وهو قابل للفسخ حتى يتم الإذن من قبل مصدر البطاقة.
القبول حسب الاتفاقية بين الطرفين يتحقق بإتمام حامل البطاقة المعاملة المالية مع التاجر بمبلغ أقل من القدر المحدد في الاتفاقية (1) وما زاد عليه فإن حامل البطاقة بحاجة إلى موافقة مصدر البطاقة لتلك المعاملة، فإذا حصل على موافقته فإنه لا يستطيع أن يفسخ ذلك العقد، ولا يملك رفضه بعد ذلك.
ليس من مسؤوليات مصدر البطاقة أن تتناول صلاحية إقراضه كل البضائع التي يعرضها التجار المنضمون لنظام بطاقة الإقراض الذين يقبلون بالبطاقة لتسديد قيمة مبيعاتهم , برغم أنه يعد نقضًا للاتفاقية إذا رفض التاجر أن يقبل البطاقة في بيعه للسلعة التي يرغبها حامل البطاقة وهي متوافرة لديه.
قد يكون لاتفاقية بطاقة الإقراض بعض الملحقات التي تحدد فيها بعض المسؤوليات، وذلك عندما يكون مصدر البطاقة هو البنك الذي يتعامل معه حامل البطاقة.
تعد هذه مسؤوليات إضافية نتيجة لهذه العلاقة الخاصة، وليست العلاقة السابقة بين مقرض ومقترض.
يوجد القليل جدًا من الوعود التي يستطيع مصدر البطاقة أن يقدمها لحامل البطاقة بموجب الاتفاقية، ولكن في جميع الحالات ليس مطالبًا بزيادة القرض، وإن كان هذا يحقق له أرباحًا.
لمصدر البطاقة الحق في إنهاء العقد أي وقت شاء، وحق ملكية البطاقة، وإعادتها في أي وقت يريد. (2)
__________
(1) وبهذا يكون مصدر البطاقة قد ضمن لنفسه أن يكون المبلغ المطلوب من صاحب البطاقة في الحدود المتفق عليها لدى ضم الزيادات والعمولات المختلفة.
(2) انظر: Jones , Sally A.,P.198(10/1056)
مسؤولية مصدر البطاقة عن أعمال وكيله بالنسبة لاتفاقية عقد بطاقة الإقراض
معلوم أن عمل شخص ما يدخل ضمنه أعمال وكيله إلا إذا ذكر نص على خلاف ذلك.
هذه هي الحالة بالنسبة لمصدر البطاقة المقرض، فهو إما أن يعمل بنفسه، أو عن طريق وكيله، أي معاملة تجارية تبرم عن طريق وكيله باسمه فإنها تعامل كما لو أنجزها هو بنفسه (1)
__________
(1) انظر: Jones , Sally A.,P.195(10/1057)
المبحث الثالث:
مسؤوليات حامل البطاقة (المقترض)
(Debtors Liability Under a Credit Card Agreement)
تقديم:
المسؤولية الرئيسة للمقترض حامل البطاقة أن يسدد القدر المتفق عليه من القرض مع مصدر البطاقة في الوقت المحدد.
الالتزام بتسديد القرض حسب المتفق عليه يمثل مصداقية حامل البطاقة، ويبرئ ذمته.
إخفاق حامل البطاقة في الوفاء بهذه الالتزامات يعد نقضًا للاتفاقية يخول مصدر البطاقة إنهاء الاتفاقية بينه وبين حامل البطاقة في بعض الحالات.
لكن هل يحق له أن يختار بين إمضاء الاتفاقية أو إنهائها؟
الجواب: أن هذا الموضوع يخضع لقواعد القانون العام وأصوله.
المهم هنا هو: تحديد مسؤولية حامل البطاقة (المقترض) عن استخدام البطاقة؟
المسؤولية متشعبة ومتعددة تعدد المستخدمين للبطاقة، إذ قد يكون استخدامها من قبل صاحبها بنفسه، أو وكيله، أو شخص غير مخول أن يستعملها، ولهذا لا بد من التعرض للنقاط التالية:
1 - مسؤولية حامل البطاقة عن المعاملات التجارية التي يعقدها بنفسه.
2 - مسؤولية حامل البطاقة عن استخدام وكيله لها في المعاملات التجارية التي لم يخوله صلاحية عقدها.
3 - مسؤولية حامل البطاقة عن استخدام البطاقة من شخص غير مخول استخدامها (1)
4 - مسؤولية حامل البطاقة أمام التاجر.
أولًا - مسؤولية حامل البطاقة (المقترض) عن استعماله الشخصي:
تنص الاتفاقات في مثل عقود بطاقة الإقراض والمعاملات المالية الأخرى على مسؤولية حامل البطاقة عن كل معاملة تنشأ نتيجة استخدامها حيث تكون العلاقة مباشرة بينه وبين مصدرها.
قد وافق حامل البطاقة منذ البداية أنه مسؤول عن تسديد كل ما هو مدون في حسابه.
__________
(1) انظر: Jones,Sally A.177(10/1058)
تبدأ مسؤولية المقترض حامل البطاقة حسب نصوص الاتفاقية بمجرد استخدام البطاقة من قبل صاحبها، أو وكيله.
حامل البطاقة مسؤول عن تنفيذ كافة الشروط والمواد التي تضمنها العقد، وهو غير مسؤول عما هو خارج عنها، فقد تتضمن فرض بعض أعباء مالية: كأنْ يكون مسؤولا عن كل ما يدون في حسابه الجاري بينه وبين مصدر البطاقة، كما قد تتضمن الاتفاقية حماية مصدر البطاقة عن الخسارة التي تلحقه الناشئة عن استخدام البطاقة أو حساباتها.
يستطيع حامل البطاقة أن ينهي العقد بصورة رسمية إذا لم يكن راضيا عن خدمات المقرض (مصدر البطاقة) وذلك بإشعاره بإنهاء العقد بينهما، أو بصورة غير رسمية، وذلك بعدم استخدام البطاقة، ولكن الإجراء الأخير لا يعفيه عن مسؤولية البطاقة، بل تظل قائمة.
ما من شك أن حامل البطاقة يعتمد في صحة تدوينها على كفاءة مصدر البطاقة في صحة الحسابات ودقته وأمانته، وبرغم هذا فإنه ينصح لحامل البطاقة أن يحافظ على صور السندات والفواتير، ليراجعها مراجعة دقيقة؟ إذ ربما يلاحظ وجود بعض الأمور غير القانونية بفاتورة الحساب.
مصدر البطاقة هو المسؤول عن تسجيل حساب كافة العمليات والمعاملات التجارية التي عقدها حامل البطاقة.(10/1059)
ثانيًا: مسؤولية حامل البطاقة عن وكيله في استخدام البطاقة:
حامل البطاقة (الأصلي) مسؤول عن استخدام وكيله للبطاقة إذا استخدمها بحكم وكالته عنه فيما هو مخول فيه من قبله.
ليس التاجر مطالبًا بالسؤال عن مستخدم البطاقة, أهو الأصلي أو الوكيل؟ لأن القاعدة العامة: أن بطاقة الإقراض لا يفرق في استخدامها بين الموكل الأصلي والوكيل.
يعد وكيل صاحب البطاقة المخول صلاحية استخدامها بمثابة صاحبها في جميع التزامات اتفاقية بطاقة الإقراض.
قد يخول حامل البطاقة شخصًا استعمال بطاقته، والسحب من رصيده، أو يعطي الشخص المخول باستخدامها أمره لآخر لأن يستعمل بطاقة الموكل الأصلي.
لا يستطيع حامل البطاقة في الحالتين السابقتين منع البنك أن يخصم ذلك من حسابه؛ ذلك أن مستخدم البطاقة قد حصل على صلاحية استخدامها من قبل صاحبها، وقد علم البنك (مصدر البطاقة) بذلك، ولا يستطيع حامل البطاقة في هذه الحالة أن يدعي على البنك بأنه استخدام غير قانوني.
يمثل لهذا قياسًا قضية Greenwood V.Martins Bank (جرين وود ضد بنك مارتينس) عندما لم تقبل المحكمة إنكار الزوج صلاحية البنك أن يخصم من حسابه الشيكات الموقعة باسمه من قبل زوجته عندما اكتشف تزويرها لتوقيعه، حيث إنه خول البنك صلاحية الخصم من حسابه (1)
" تتمثل مسؤولية حامل البطاقة عن استخدام البطاقة من قبل وكيله في حدود الصلاحيات التي خوله فيها.
يعامل الموكِّل الأصلي والوكيل معاملة واحدة، كما لو كانا شخصا واحدًا.
تبدو المشكلة واضحة عندما يستخدم الموظف المخول صلاحية استخدام البطاقة لأغراضه الخاصة، أو الاجتماعية، أو تستخدم الزوجة المخولة استخدام بطاقة زوجها لأغراضها الشخصية.
__________
(1) انظر: jones , Sally A.,P.179-180(10/1060)
يعد حامل البطاقة مسؤولًا عن تلك التصرفات في نظر مُصْدِر البطاقة (المقرض) ، برغم أن هذا نقض صريح للاتفاقية بين حامل البطاقة ووكيله، أو بينه وبين زوجته، ولكن هذا لا يؤثر على مسؤوليته أمام مصدر البطاقة، أو التاجر.
مسؤولية إثبات تجاوز الصلاحية تقع على حامل البطاقة، وأن يثبت أن مصدر البطاقة على علم بتجاوز الحد المقرر له، المخول به إذا أراد كسب القضية.
إذا عرف التاجر أن الوكيل (مستخدم البطاقة) يتجاوز الحدود المقررة له في نص الوكالة لا يكون العقد لازمًا لحامل البطاقة (الموكل الأصلي) ، بل لا يكون ثَمّ عقد أصلًا بين التاجر ومستخدم البطاقة.
لا علاقة بين التاجر ووكيل حامل البطاقة حتى يصبح لديه علم بوكالته، وأن العقد في الحقيقة بينه وبين الموكل الأصلي حامل البطاقة. والسؤال هو:
هل للتاجر الحق في مطالبة مصدر البطاقة بالنسبة للحالة السابقة؟
يعتمد الجواب على نصوص الاتفاقية بينهما، ومن غير المحتمل أن تفرق الاتفاقية بين معاملة مالية أنجزها الموكل الأصلي، أو الوكيل، بل قد يعتمد هذا على حقائق ووقائع أخرى مثل: هل لاحظ التاجر شروطًا معينة لدى تعاقده مع مصدر البطاقة: كالسماح له بإتمام العقد عندما تتجاوز قيمة البضاعة السعر المحدد في قسم معين من إحدى المحلات التجارية؟
تنتهي مسؤولية حامل البطاقة بالنسبة لتصرفات وكيله بمجرد إخطار مصدر البطاقة وإشعاره بالمطلوب منه في مثل هذه الحالات ". (1)
__________
(1) Jones , Sally , A. , P. 180- 181 , 186(10/1061)
ثالثًا - مسؤولية حامل البطاقة عن الاستعمال غير القانوني للبطاقة:
نجم عن استعمال بطاقة الشراء بالقرض وانتشارها بدلًا عن النقود مشاكل متعددة من ذلك:
قد يخول حامل البطاقة زوجه، أو زوجته، أو ابنه، أو أحد أقاربه، أو أصدقائه منح بطاقة أخرى، تابعة لحسابه وتحت اسمه، فيستعملها في شراء حاجياته، فيتجاوز في الشراء حدود صلاحية البطاقة لحاملها الأصلي، أو حدود المبلغ الذي حدده له حامل البطاقة الأصلي.
قد يشترك الزوجان في الحساب ببطاقتين صادرتين لكل واحد منهما، ثم تنفصم عرى الزوجية بينهما، ويتجاوز أحدهما في استعمال البطاقة بأكثر مما هو مخول به.
قد تتعرض البطاقة لفقدان، أو ضياع، أو سرقة، ويتم استعمالها من قبل غير أصحابها.
هذه جملة مشاكل نشأت نتيجة هذا الأسلوب الجديد في المعاملات المالية، وفي جميع هذه الحالات من هو المسؤول عن ذلك التصرف؟
هل هو البنك المصدر للبطاقة؟
هل هو العميل حامل البطاقة؟
هل هو التاجر؟
هل هو الشخص الذي استعمل البطاقة قانونيًّا بتخويله صلاحية محدودة، أو أولئك الذين استعملوها استعمالًا لم يخولوه البتة؟
لا بد أولًا من تحديد معنى (استعمال البطاقة استعمالًا غير قانوني) ثم بيان الحالات التي تقع فيها المسؤولية على حامل البطاقة وضوابط ذلك:
الاستعمال لبطاقة الإقراض وغيرها من البطاقات استعمالًا غير قانوني يكون فقط عندما لا يوجد إذن باستعمالها صراحة، أو ضمنًا من صاحبها.
ورد التحديد بهذا في قانون الإقراض الأمريكي (Tila) صراحة في العبارة التالية: الاستعمال غير القانوني هو: استعمال شخص ليس حاصلًا على إذن من صاحب البطاقة باستعمالها صراحة أو ضمنًا، لم يخول ذلك بحال، ولم تكن لصاحبها أي فائدة من ذلك ". (1)
لهذا (يظل حامل البطاقة مسؤولا عن تصرفات أي شخص يسمح له باستعمالها، إذا تعدى هذا الشخص الصلاحية لأكثر مما هو مسموح له مسؤولية حامل البطاقة (المقترض) عن استخدامها من شخص غير مخول صلاحية استخدامها، تعتمد أولًا وبالذات على ما تنص عليه الاتفاقية بينه وبين مصدر البطاقة (المقرض) .
إذا نصت الاتفاقية على مسؤوليته عن كل المعاملات التجارية التي تستخدم فيها بطاقته، وموافقته على ذلك، فمن الصعب جدًا أن يتخلص من تلك المسؤولية حتى بالنسبة للمعاملات التجارية غير المسموح بها بموجب الاتفاقية، لكن يسهل في حالة عدم النص على هذه المسؤولية أن يعني هذا حدود مسؤوليته في إطار المعاملات التجارية المسموح بها، أما في حالة النص على هذه المسؤولية فيحكم هذا شروط الاتفاقية.
__________
(1) انظر: Solan , lrving J,p.20,24(10/1062)
نص قانون الإقراض في الولايات المتحدة الأمريكية (Truth in Lending Act Tila) أن "حامل بطاقة الإقراض مسؤول عن التصرفات غير القانونية بالبطاقة بشرط أن تكون البطاقة مقبولة قانونًا في حدود خمسين دولارًا. زيادة على هذا: أن يعلم مصدر البطاقة حامل البطاقة إعلامًا كافيًا بالمسؤوليات المحتملة، ويزوده بعنوانه الكامل ليتمكن من إشعاره بالبريد المدفوع الأجرة مسبقًا في حالة فقدان البطاقة، أو سرقتها.
أن يكون حدوث الاستعمال غير القانوني قبل إشعار حاملها مصدر البطاقة بذلك. مصدر البطاقة مطالب أيضًا أن يتخذ الوسائل التي تبين بوضوح شخص حامل البطاقة القانوني المخول باستعمالها.
يتخذ حامل البطاقة الخطوات المطلوبة منه لتزويد مصدر البطاقة بالمعلومات المهمة، ثم التأكد من استلامه لتلك المعلومات بطريقة عادية معقولة.
كل هذا للتأكد من وصول المعلومات المطلوبة إلى مصدر البطاقة، وتحديد وقت وصولها إليه في الوقت المناسب.
تقع مسؤولية الإثبات على مصدر البطاقة في جميع الحالات سواء كان استعمال البطاقة قانونيًّا، أو غير قانوني فيما يريد مصدر البطاقة وضع مسؤوليته على العميل حامل البطاقة.
هذه الشروط لا تفرض على العميل أكثر من مسؤوليته في حالة استعمال البطاقة استعمالًا غير قانوني، تحت أي قانون أو اتفاقية مع مصدر البطاقة. ينبغي أن يعلم أن دفع خمسين دولارًا حسب قانون الإقراض (Tila) لدى استعمال بطاقة الإقراض استعمالًا غير قانوني عام لجميع حاملي البطاقات سواء في هذا الأفراد أو الشركات.
الشروط السابقة لا يدخل ضمنها حالة استعمال البطاقة استعمالًا غير قانوني بعلم صاحبها، أو السماح لشخص آخر باستعمالها (1)
رابعًا: مسؤولية حامل البطاقة أمام التاجر:
تنتهي مسؤولية حامل البطاقة (المقترض) لدفع قيمة مشترياته بالبطاقة من التاجر بقبولى التاجر للبطاقة ثمنًا لمبيعاته؟ إذ أنها تقوم مقام قيمة تلك المشتريات، كما لو كان الدفع نقدًا، وقد قبل التاجر بهذا بموافقته على الاتفاقية التي وقعها مع مصدر البطاقة، وحينئذ فليس للتاجر الحق بأن يرجع على حامل البطاقة المقترض إلا إذا اشترط هذا في نص العقد: أن له الرجوع على مصدر البطاقة في استيفاء مستحقاته الواجبة له في ذمة حامل البطاقة، وفي حالة إخفاق مصدر البطاقة في تسديد الدين يعود على صاحب البطاقة نفسه.
هذا ما تم الحكم على أساسه في قضية (Re- Charge Card Service Ltd, 1988) حيث قضت المحكمة: أن مسؤولية حامل البطاقة (المقترض) في تسديد قيمة مشترياته للتاجر تكون منتهية بتقديمه البطاقة للتاجر، وتدوين المعلومات المطلوبة عنها، حيث وافق التاجر على هذا منذ قبل البطاقة صيغة وأسلوبًا في تسديد قيمة مبيعاته لأصحاب البطاقات، وأن الواجب عليه التوجه إلى مصدر البطاقة الذي أبرم معه اتفاقية التسديد للمطالبة بحقوقه المالية.
__________
(1) انظر: Solan. lrving j. p. 19(10/1063)
لكن ثمّت استثناء: وهو أنه إذا نصت الاتفاقية على المسؤولية المشتركة بين مصدر البطاقة وحاملها، أو أنه إذا أخفق مصدر البطاقة في إنهاء اتفاقية البطاقة في التسديد، يكون حامل البطاقة مسؤولا عن ذلك فحينئذ يصبح حامل البطاقة مسؤولا مسؤولية متساوية مع مصدر البطاقة، وطبقًا لهذا فإن التاجر لم يستلم فعلًا قيمة مبيعاته، يعني هذا أن التعامل بالبطاقة تسديدًا لقيمة المبيعات هو من قبيل التسديد المشروط (Conditional payment) .ليس مثل التسديد بالشيكات حيث يكون التسديد بها حقيقيًّا إذا صودق عليها (1)
__________
(1) انظر: jones , Sally A.278(10/1064)
المبحث الرابع
إنهاء اتفاقية البطاقة بين مصدرها وحاملها وآثار ذلك
يوجد عادة طريقان لإنهاء العقود والاتفاقات:
1 - التنفيذ الكامل لبنود الاتفاقية والوفاء بجميع الالتزامات من قبل كافة الأطراف في الفترة المحددة. وهي النهاية الطبيعية بالنسبة لجميع العقود، فإذا تبقى شيء لم ينفذ من الاتفاقية في الوقت المحدد فإن هذا يعد نقضًا للاتفاقية.
2 - نقض الاتفاقية من قبل أحد الأطراف.
يضاف إلى ما تقدم: أن ينص في الاتفاقية على طريقة معينة ينتهي بها العقد غير الطريقتين السابقتين، مثلًا: ينص في الاتفاق على جواز إنهاء العقد من قبل أحد الأطراف بإشعار سابق.
أحيانًا ينتهي العقد بسبب قانوني يتعلق بأحد أطراف العقد خارج عن إرادته، فلا يستطيع أن يوفي بالتزاماته القانونية حسب الاتفاقية برغم أنه ليس له الحق أن ينهي العقد، كما لو تعاقد شخص مع آخر على أداء خدمة معينة فإن موته يعد سببًا قانونيًّا لعدم الوفاء بالعقد، ومع هذا لا يعد نقضًا للاتفاقيّة، نظرًا لأن هذا يتعلق بحضوره شخصيًّا فقط، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للقرض، فإن موت المقترض لا يعفيه من دفع القرض، فالمنظور هو حالته وليس حضوره.
مما يعد أيضًا من الأسباب القانونية لعدم الوفاء بإتمام العقد وبطلانه: أن يكون التنفيذ مستحيلًا قانونًا ليس لأطراف العقد يد في ذلك، أو يقع تحت طائلة الإكراه، إذ هو سبب قانوني كاف لإبطال الاتفاقية (1)
__________
(1) انظر: Jones Sally A.,p.218- 219(10/1065)
قسم قانون إقراض المستهلك الصادر عام 1974 إنهاء العقد قسمين رئيسين:
القسم الأول: أسباب ليس لها تعلق بالوفاء باتفاقية العقد.
القسم الثاني: أسباب تعود إلى عدم الوفاء بالتزامات الاتفاقية.
يحصر القانون ما له علاقة بالقسم الأول، حيث يجعل لمصدر البطاقة (المقرض) حق مزاولة إنهاء العقد بالطرق التالية:
1 - إشعار حامل البطاقة: يوضح فيه عزمه على إنهاء العقد، معتمدًا في ذلك على مواد الاتفاقية.
2 - إمهال حامل البطاقة مدة لا تقل عن سبعة أيام من خلال إشعار يرسل إليه بإنهاء العقد.
3 - موت حامل البطاقة (المقترض) .
4 - إبطال مواد الاتفاقية بما لا يتطابق مع شروط قانون حماية المستهلك، أو فرض مسؤوليات أكبر على حامل البطاقة (المقترض) مما لا يسمح بها القانون.
أما بالنسبة لأسباب القسم الثاني فالقيود الأساسية لإنهاء العقد بسببها هي كالتالي:
1 - أن يشعر مصدر البطاقة (المقرض) حامل البطاقة (المقترض) بعدم الوفاء بالتزاماته، وأن يعطيه فرصة لتلافي النقص إذا كان ممكنًا.
2 - إبطال أي شرط يفرض نسبة من الفوائد (الزيادات الربوية) تتجاوز النسبة المعتادة في العقود بسبب عدم وفاء صاحب البطاقة بتسديد الزيادات الربوية المترتبة على قرضه.
تحديد وقت تسديد القرض يمثل أحد العناصر الرئيسة في عقد بطاقة الإقراض، كما هو الأمر بالنسبة لبقية العقود.
قد يصرح به، وقد يفهم من إجراءات الاتفاقية، أما بالنسبة لبطاقة الإقراض بالزيادة الربوية فإنه يصرح به.
تتضمن الاتفاقية عادة المقدار الذي يجب أن يدفعه المقترض دوريًا، سواء كان التحديد بالحد الأدنى، أو مقدارًا معينًا في وقت معين.
عدم الالتزام بما تم تحديده في العقد يعد نقضًا له، لكنه لا يكون سببًا كافيًا لإنهائه من قبل المقرض (مصدر البطاقة) ذلك أن وقت الدفع لا يعد سببًا جوهريًّا لإنهائه.
يفترض أن يزاول حامل البطاقة (المقترض) حق الخيار لدفع القرض كاملًا، أو على أقساط بما في ذلك الزيادة الربوية المترتبة على القرض، وللفترة القادمة على الأقل، وللمقرض مصدر البطاقة حق فرض زيادة ربوية على حامل البطاقة بكامل القرض، ابتداء من اليوم الذي جرى الاتفاق على تسديد القرض من حين استلام فاتورة الحساب.
حامل البطاقة (المقترض) مسؤول أن يدفع زيادة ربوية شهرية على القرض، سواء كان الدفع بعد يوم، أو بعد تسعة وعشرين يومًا من حين استلام فاتورة الحساب.
إذا لم يتم تسديد الفاتورة السابقة فإنها تضم للشهر الذي يليه مضافا إليها زيادة المبلغ الذي لم يتم تسديده، وتكون مساوية لتلك التي تحسب شهريًّا على القرض، سواء دفع المقترض الحد الأدنى المطالب به أو لا.(10/1066)
لا يستطيع مصدر البطاقة (المقرض) أن يرفع نسبة الزيادة الربوية بتاتًا ما دام أن الاتفاقية من النوع العادي حسب قانون حماية المستهلك الصادر عام 1974 حتى ولو لم يوف المقترض بالتزاماته.
غير أن هذا لا يمنع المقرض مصدر البطاقة من مزاولة حقوق أخرى، مثل المطالبة بدفع القرض كاملًا مباشرة، أو سحب البطاقة من حاملها، كما أن له الحق أن يبعث له إشعارًا يطالبه فيه بالدفع عند عدم التسديد، وإعطائه مدة كافية لذلك، فإذا انتهت المدة ولم يقم حامل البطاقة (المقترض) بالتسديد حينئذ يحق لمصدر البطاقة (المقرض) أن يعد هذا نقضًا للشروط المتفق عليها، وينهي بذلك العقد بينهما.
في جميع الحالات لا يسمح للمقرض أن يطالب بأكثر من نسبة الزيادة المذكورة في العقد، حتى ولو لم يوف المقترض بالتزاماته.
يحق للمقرض مصدر البطاقة أن يطالب بالتسديد للقرض مع الزيادة الربوية حامل البطاقة (المقترض) قبل الموعد المحدد، كما لو كان مقرضًا في نفس الوقت إذا حدث نقض للاتفاقية من قبل حامل البطاقة (المقترض) (1)
قد أصبح من المعلوم قانونًا: " أن تأجيل الدفع يمثل نقضا للاتفاقية، وليس على المقرض مصدر البطاقة أن يصبر على ذلك، بل أن مزاولة حقوقه المشروعة في ذلك لا يعد تغييرًا للاتفاقية حسب قانون إقراض المستهلك الصادر عام 1974، إذ لا بد من تطبيق الاتفاقية بحذافيرها ". (2)
يضاف إلى ما تقدم: أن مصدر البطاقة يحتفظ لنفسه غالبًا بحق فسخ العقد وإنهائه في أي وقت يريد.
من الطبيعي حينئذ أن يستعيد البطاقة، وأن يحرم حاملها من حق الاستفادة من التسهيلات التي منحها إياه (3)
اتفاقية بطاقة الإقراض تقدم قرضًا مستمرًا عادة تكون نهايته مفتوحة (Open Card) فلا يأتي إنهاء اتفاقيتها حسب الطريق الأول وهو التنفيذ الكامل لبنود الاتفاقية (4) ولكن معظم اتفاقياتها يتضمن شرطًا لإنهاء العقد، وذلك بطريق إشعار سابق بذلك من أحد أطراف العقد، وإذا لم يشترط هذا فينص عليه في العقد، كل طرف يشترط هذا لنفسه يزاول حقه في ذلك، ولا يعد نقضًا له، كما يخول القانون العام إنهاء هذا العقد من دون إشعار سابق باعتباره حقًّا للطرفين.
لحامل البطاقة الحق في إنهاء العقد بعدم استخدامها، مثلما أن لمصدر البطاقة الحق في عدم تقديم قرض له لم يتم الاتفاق عليه سابقًا (5)
أخيرًا: "إن أي إنهاء للعقد ليس مذكورًا في مواد اتفاقية العقد يعد نقضًا للعقد، وهذا بدوره يخول الطرف المتضرر المطالبة بالعوض المعتاد ". (6)
آثار انتهاء عقد البطاقة:
إذا زاول أحد الطرفين: مصدر البطاقة، أو حامل البطاقة حقه في فسخ العقد وإنهائه فإن هذا يثبت القرض كاملًا في ذمة حامل البطاقة، وعليه أن يسدد مصدرها بما توجب عليه من مبالغ من خلال استخدامه البطاقة، فإن أخفق في التسديد فلمصدر البطاقة إقامة دعوى عليه، ومطالبته بذلك. ومعلوم أن حامل البطاقة هو الشخص المسؤول عن استخدام أي شخص آخر للبطاقة في شراء احتياجاته من السلع والخدمات أو السحب النقدي. (7)
__________
(1) انظر: Jones , Sally A., p.226 , 230
(2) انظر: Jones , Sally A.,p.169
(3) انظر: Jones. Sally A., p. 82
(4) انظر: Jones , Sally A., p. 218- 219
(5) انظر: Jones , Sally A.,p.220-221
(6) انظر: Jones , Sally A.,P.221
(7) انظر: Jones. Sally A., p. 290- 293(10/1067)
المبحث الخامس:
العلاقات والمسؤوليات بين مصدر البطاقة والتاجر
علاقة مصدر البطاقة بالتاجر:
العلاقة بين هذين الطرفين علاقة تجارية محضة، يعمل كل واحد منهما بطريقة مستقلة، ولمصلحته الخاصة (1)
من الجوانب المهمة في عقود بطاقات المعاملات المالية تكييف
علاقة التاجر الذي التزم التعامل بالبطاقة مقابل النقد حسب الاتفاق بينه وبين مصدر البطاقة (البنك) ، إذ أنه لا يقبض الثمن من المشتري (حامل البطاقة) لكن يسجله على مصدر البطاقة.
يبدو في ظاهر الأمر أن العلاقة بين التاجر ومصدر البطاقة علاقة دائن (التاجر) بمدين هو (البنك مصدر البطاقة) ، حيث يتوقع أن يحصل التاجر على قيمة مبيعاته مباشرة، وهو ما لم يحدث حسب موافقته على منح وقت لمصدر البطاقة يتم فيه التسديد.
لكن من جهة أخرى يمكن القول:
أن التاجر لم يمنح مصدر البطاقة تأجيل التسديد، ذلك أن الفترة بين إتمام الإجراءات المطلوبة لاكتمال سندات البيع وإرسالها إلى مصدر البطاقة لفحصها ضرورية لتسديد حقوقه، وليست مهلة يتيحها لمصدر البطاقة، ولذا فإنه لا يوجد حقيقة دين.
كما أنه ليس من شروط العقد وأركانه تأجيل الدفع بالمعنى المعروف في عقود الدين، فإن إجراءات العقد وشروطه بين التاجر ومصدر البطاقة تختلف تمامًا عن ذلك الذي يتم بين حامل البطاقة ومصدرها. متى تمت الإجراءات المطلوبة لإرسال وثائق البيع وسنداته حسب الطريقة المتفق عليها صحيحة سليمة، فإن البنك مصدر البطاقة يقوم بتسديدها لحسابه مباشرة دون تأخير.
__________
(1) انظر: Jones , Sally A.,p.279(10/1068)
نتيجة لهذا فإن مثل هذا لا يدخل فيما يسمى دَيْنًا، ولو اعتبرناه قرضًا فإنه ليس قابلًا للدفع حتى تكتمل تلك الإجراءات، وتتوافر لسندات البيع كافة الشروط المطلوبة لدفع قيمتها، ولدى اكتمالها يكون الدفع مباشرة دون تأجيل، إذ أن التأجيل هو معيار ما يسمى قرضًا (1)
أما إذا تم عقد بين التاجر ومصدر البطاقة، بحيث يكون الأول (التاجر) دائنًا للثاني (مصدر البطاقة) بما لا يدخل تحت عقد البطاقة، وهو ما يكون غالبًا بين الشركات والبنوك، فإن مثل هذا لا ينطوي تحت قانون إقراض المستهلكين البريطاني الصادر عام 1974، بل هو خارج عن إطارها مستقل عنها. (2)
إن القانونين الإنجليزي والأمريكي لم يحددا علاقة مصدر البطاقة بالتاجر في عقد البطاقة، وإنما جعلا حرية التعاقد هي التي تحكم قضاياهما بموجب الاتفاق المبرم بينهما. (3)
من جهة أخرى: غالبًا ما يعطي التاجر توكيلًا للبنك يخوله صلاحية السحب من حسابه الخاص للمبالغ المطالب بها مثل استرجاع قيمة السندات غير الصحيحة، أو قيمة البضائع المعادة إليه، يعطي التاجر فرصة النظر في البيانات المقدمة له، وابقائها لديه للتأكد من صحتها مدة ثلاثة أشهر، وهي القاعدة العامة المتبعة في كل من أمريكا وبريطانيا. (4)
قد يكون التاجر وكيلًا لمصدر البطاقة، وقد يكون العكس. يعتمد هذا في المقام الأول على نصوص الاتفاقية بينهما.
إذا أصبحت العلاقة بين التاجر ومصدر البطاقة علاقة وكالة، بمعنى أن التاجر أصبح وكيلًا لمصدر البطاقة فأي معاملة تجارية يتمها التاجر بهذه الصفة مع حامل البطاقة المقترض يصبح العقد مكونًا من طرفين هما: مصدر البطاقة (المقرض) وحامل البطاقة (المقترض) .
كذلك قد يكون مصدر البطاقة وكيلًا للتاجر، حينئذ فأي اتفاقية قرض تتم بين مصدر البطاقة بهذه الهيئة، وحامل البطاقة (المقترض) تصبح في الحقيقة عقدًا بين التاجر وحامل البطاقة (المقترض) . (5)
__________
(1) انظر: Jones , Sally A.,p.78
(2) انظر: Jones , A.,Sally A., p79- 357
(3) انظر: Jones ,A., Sally A., P79- 357
(4) انظر: Al- Melhem. Ahmed A,p.396
(5) انظر: Jones. Sally A.,279(10/1069)
الإجراءات المطلوبة من التاجر للبيع بالبطاقة:
يزود مصدر البطاقة التاجر وبصورة دقيقة بالتعليمات والإجراءات المطلوب إتباعها منه عندما يتقدم حامل البطاقة لشراء بضاعة منه، أو الحصول على خدمة معينة.
كما يزوده بسندات البيع ذات البيانات المهمة الخاصة، وآلة الختم المائي (الضغط) وبعض الأدوات القرطاسية.
ينبغي للتاجر في البداية التأكد من صلاحية البطاقة وأنها ليست ضمن قائمة المحظور التعامل بها، إذ يزود التجار عادة وبصورة مستمرة بأرقام مثل هذه البطاقات، وقائمة يذكر فيها اسم حامل البطاقة وشخصيته طبقًا للمعلومات المدونة على البطاقة، فإذا كان مقدم البطاقة امرأة في حين أن البطاقة نفسها تبين أنه رجل حقيقة، فعلى التاجر أن يرفضها ولا يجوز له أن يتعامل بها.
بعد التأكد من حقيقة حاملها تتم إجراءات البيع وفق الخطوات التالية:
أولًا: يضع التاجر البطاقة فوق الآلة المخصصة للطبع على السند
في المكان الصحيح.
ثانيًا: يستعمل الآلة لطبع المعلومات المدونة على البطاقة على سند البيع.
ثالثًا: يخرج التاجر السند من الآلة، ويملأ البيانات المدونة عليه بكتابة واضحة.
رابعًا: يطلب التاجر من حامل البطاقة التوقيع على السند في المكان المخصص.
خامسًا: يفحص التاجر التوقيع، ويتحرى مطابقته بتوقيعه الموجود على البطاقة.
سادسًا: أخيرًا على التاجر أن يتأكد أن المعلومات المدونة على سند البيع واضحة وكاملة على الصور الأربع، ثم إعطاء حامل البطاقة الصورة العليا من صور السندات، ورد البطاقة لصاحبها، وتسليم البضاعة المباعة له.
في حالات خاصة يطلب التاجر من مصدر البطاقة إعطاءه صلاحية الإذن بالبيع بها إذا تجاوزت قيمة المبيع المبلغ المحدد للاقتراض، فإذا أعطي الصلاحية بالبيع يزود برقم خاص، يدونه على السند في الفراغ المخصص لذلك، وفي حالة رفض الطلب يزود التاجر ببعض التعليمات والنصائح التي ينبغي له العمل بها (1)
__________
(1) انظر: Al-Melhem , Ahmed , A. p.381- 383(10/1070)
إجراءات تصفية سندات المبيعات:
بعد تمام هذه الإجراءات واكتمالها يبعث التاجر بمجموع سندات المبيعات في الوقت المحدد له إلى المنظمة الخاصة بالبنوك المصدرة للبطاقات، المؤسسة لغرض تصفية حسابات التجار ومعاملاتهم من خلال البطاقة، حيث أن هذه المنظمة، أو الجمعية هي المسؤولة عن ذلك بالنسبة لبطاقات الإقراض المؤجل الدفع، باتفاق من مصدري البطاقة والبنوك المتعاملة معهم، حيث تقوم بنفس العمل الذي يقوم به قسم تصفية حساب الشيكات.
تسجل هذه الجمعية لحساب التاجر الذي أودع لديها سندات البيع بالبطاقة قيمة المشتريات مباشرة بعد خصم عمولة البنك، وربما أجلت الخصم حتى تقديم بيان الحساب الشهري لحامل البطاقة للتأكد من عدم الاعتراض عليها من قبله.
وفي كلتا الحالتين فإن هذه الجمعية ستصفي حساب سندات البيع مع البنك المصدر للبطاقة ليخصم من حساب حاملها. (1)
" يزود التاجر شهريًّا ببيان من قبل البنك المصدر للبطاقة يوضح فيه حسابه الشهري، يحتوي هذا البيان على التالي:
المجموع الكلي ملخصًا لكافة ما أودعه من سندات مبيعاته، وما تمثله من مبالغ، والخدمات المحسومة لحساب البنك، وحساب المكالمات التلفونية لمصدر البطاقة لطلب السماح بالبيع بالنسبة للبطاقات التي تجاوزت الحد الأعلى للقرض المحدد له ". (2)
__________
(1) انظر: Al-Melhem, Ahmed , A.p.100-101
(2) Al-Melhem, Ahmed A.,p.396(10/1071)
السندات المقبولة والأخرى المرفوضة:
سندات البيع الكاملة التي استوفت كافة الإجراءات المرسومة المطلوبة من التاجر تصبح واجبة التسديد من قبل مصدر البطاقة مباشرة، ومن دون مراجعة التاجر والرجوع عليه إذا لم يدفع قيمتها حامل البطاقة، إلا في حالات استثنائية معينة يحددها العقد بين البنك المصدر والتاجر، التي غالبًا ما توضع في صيغة غامضة، وأسلوب غير واضح بغرض حماية مصدر البطاقة في النهاية. ولكن يمكن أن يقال بشكل عام:
يحق للبنك المصدر للبطاقة أن يجعل التاجر هو المسؤول في الحالات التالية:
1 - إذا تم عقد البيع مع حامل بطاقة يثبت عدم قانونيتها.
2 - إذا كانت البطاقة ضمن قائمة البطاقات الممنوع اعتمادها، والقائمة الأخرى المنتهية المدة، ولم تجدد.
3 - عندما يكون السند غير موقع من حامل البطاقة نفسه، الذي اشترى البضاعة، أو من خوله صلاحية استعمالها.
4 - في الحالة التي لا يوفي فيها البائع بتسليم البضاعة لمشتريها حامل البطاقة.
5 - في حالة عدم وفائه بالضمان أو مطابقة المواصفات المطلوبة، أو حالات الغش.
6 - بيع بضاعة يزيد ثمنها على القرض المقرر من قبل البنك المصدر لحامل البطاقة من دون أخذ إذن سابق بذلك.
يعد التاجر مسؤولًا أمام البنك في جميع الحالات السابقة، ويحتفظ البنك نتيجة ذلك بحق رفض سندات المبيعات للتاجر.
يضاف إلى ما تقدم من إجراءات أن البنك يجمع كافة السندات المتعلقة بحامل البطاقة، ونسبة الزيادة الربوية على الدَّين المتفق عليها بين حامل البطاقة والبنك المُصْدِر، ليحصل مصدر البطاقة على التعويض عن هذه الخدمات بالخصم من المبالغ التي تمثلها سندات البيع المسلمة من قبل التاجر. (1)
__________
(1) انظر: Sloan , Irvings.j,P.7;Jones Sally A.,p.275(10/1072)
عمولة مصدر البطاقة من التاجر: (Creditors Commission)
من أهم ما تحتوي عليه الاتفاقية بين مصدر البطاقة والتاجر عنصران مهمان:
الأول: الاتفاق على نسبة العمولة التي يخصمها مصدر البطاقة من قيمة مبيعات التاجر لدى تسديده.
الثاني: الحد الأعلى للقيمة التي يبيع بها التاجر لحامل البطاقة لدى استخدامها.
أما بالنسبة للعنصر الأول فإن مصدر البطاقة يفرض لصالحه نسبة معينة موحدة لجميع المعاملات التجارية التي يستلم التاجر قيمتها منه لدى تسليم سندات مبيعاته، ويستلم قيمتها، أو تحول على حسابه، مخصومًا منها العمولة التي تم الاتفاق عليها.
تختلف نسبة العمولة المفروضة على التجار من قبل مصدري البطاقات، كما تختلف بين مصدر البطاقة الواحدة وعملائه التجار أحيانًا، تتراوح النسبة بين 1 % إلى 5 %.
قد تنخفض نسبة العمولة التي يتقاضاها مصدر البطاقة من المحلات التجارية الكبيرة، حيث تكون أرقام المبيعات مرتفعة جدًا، والتوقعات كبيرة.
من السياسات الاقتصادية التي ينتهجها مصدرو البطاقات فرض نسبة متفاوتة على قيمة المبيعات، بحيث يراعى ما يدر منها ربحًا عاليًا على التاجر، فترتفع نسبة العمولة عليه، وما كان منها محدد السعر والربح رسميًّا فتنخفض النسبة عليه، مثل البترول ومشتقاته.
برغم أن التاجر يستحق كامل قيمة مبيعاته التي باعها على حامل البطاقة، لكن هذا لا يعد خرقًا للقانون، أن يدفع مصدر البطاقة للتاجر مقدارًا أقل من المبلغ الذي يستحقه لكن أصبح هذا معترفًا به، ومقبولًا قانونًا من مدة طويلة.
إن الدفع من طرف ثالث أقل من القيمة المستحقة بالعقد مقبول وكافي في تسديد الدين، خصوصًا في بطاقات الإقراض تبعًا للاتفاق بين مصدر البطاقة والتاجر، حيث يكون مسؤولًا وملزمًا بالتسديد. (1)
أما العنصر الثاني فهو ما ينبغي أن يتحراه التاجر، ولا يسمح بتجاوزه إلا بعد الإذن من مصدر البطاقة كما تنص عليه الاتفاقية، وهو الأمر الذي يجب أن لا يفرط أو يتهاون فيه، وهو يتحمل مسؤوليته إذا ثبت تجاوزه له بدون إذن.
__________
(1) انظر: Jones , Sally A., p.276(10/1073)
فوائد المحلات التجارية من الانضمام إلى منظومة البطاقات البنكية:
أصبح ضروريًّا للتاجر في الوقت الحاضر أن يشترك في منظومة الشركات والمؤسسات التي تصدر البطاقات البنكية للمعاملات التجارية، ولو في واحدة منها فقط، ليظهر على قدم المساواة أمام زملائه من التجار، وعليه أن يقبل بالبطاقة في مبادلاته المالية والتجارية، وإن كان هذا صعبًا بالنسبة لأصحاب المحلات التجارية الصغيرة الذين لا يستطيعون الحصول على تخفيض نسبة العمولة التي يخصمها المصدر للبطاقة على قيمة مبيعاتهم. يحصل التاجر على فوائد عديدة من خلال اشتراكه في نظام البطاقة بكونه بائعًا يوفر السلع والخدمات لحاملي البطاقة، منها المأمول ومنها المتحقق، وهي:
1 - زيادة مبيعاته، ونمو تجارته.
2 - تفاديه للمشاكل الأمنية الناجمة عن توافر النقد في محله، فهو يتعامل بأقل مقدار من النقد العيني، وفي مستوى قليل جدًّا، إذ أن توافرها مغر بالسطو من قبل السراق والعصابات.
3 - ضمان الحصول على حقوقه وقيمة مبيعاته كاملة إذا تم البيع ببطاقة صحيحة وإجراءات سليمة. في حين أن التسديد بالشيك مضمون بنكيًّا في حدود خمسين جنيهًا فقط، بينما حدود قرض البطاقة أعلى كثيرًا.
4 - حصوله على قائمة كاملة، وإحصائية وافية للمبيعات، والمعاملات التي أنجزها خلال كل فترة، الأمر الذي يجعله قادرًا على تقدير أرباحه وخسائره. (1)
__________
(1) انظر: Jones , Sally A., p.15(10/1074)
5 - تمنح التاجر فرصة تقديم دين لأشخاص لو لم يكونوا من حاملي البطاقة لما قدم لهم تلك التسهيلات، نظرًا لأن حقوقه مضمونة (1)
أسباب نقض الاتفاقية من قبل التاجر وآثاره:
من الأسباب التي تعد نقضًا للاتفاقية من قبل التاجر:
أولًا: رفض التاجر قبول بطاقة الإقراض، لتحصيل قيمة البضاعة المشتراة من قبل حامل البطاقة، من دون سبب قانوني، إذ أن القضاء الإنجليزي في قضية: (Re- Charge Card Services Ltd 1988) حكم بأن الدفع ببطاقة الإقراض مساو تمامًا للتسديد النقدي.
لذا فحين يكون للتاجر استحقاق نقدًا لدى حامل البطاقة يصبح استخدامها لهذا الغرض مساويًا ومماثلًا له، برغم أنه يأخذ استحقاقه من مصدر البطاقة بمقدار أقل من السعر الذي باع به، إذ يخصم مصدر البطاقة عمولته من كامل القيمة ...
ثانيًا: التمييز بين البيع بالنقد، والبيع ببطاقة الإقراض. (2) بمعنى أن يكون سعر البيع بالبطاقة أعلى من سعر البيع نقدًا.
نقض الاتفاقية من قبل أحد الأطراف يمنح الآخر الخيار في إنهاء العقد، ولا يمثل اختياره هذا نقضًا للاتفاق من قبله. (3)
* * *
__________
(1) انظر: Al-melhem , Ahmed , A.p.60-61- 64
(2) انظر: Jones , Sally A.,p.160 , 220-221-
(3) انظر: Jones , Sally A.,p.160 , 220-221(10/1075)
القسم الثاني
عقود البطاقات البنكية في الفقه الإسلامي
التكييف والعلاقات
الفصل الأول
عقد الإقراض في الفقه الإسلامي
والبطاقات البنكية
الفصل الثاني
العلاقات بين أطراف عقد البطاقات البنكية
بالنسبة للتسديد والخصم
الفصل الأول
عقد الإقراض في الفقه الإسلامي
والبطاقات البنكية
المبحث الأول: عقد الإقراض في الفقه الإسلامي، وتطبيقه على بطاقات الإقراض.
المبحث الثاني: الشروط في عقود البطاقات البنكية.
المبحث الثالث: آثار الشروط الباطلة على صحة عقود البطاقات البنكية.(10/1076)
المبحث الأول:
عقد الإقراض في الفقه الإسلامي وتطبيقه على بطاقات الإقراض (Credit Card)
التكييف الفقهي:
عقد البطاقات البنكية، بأقسامه وأنواعه وإجراءاته وأهدافه عقد جديد على الفقه الإسلامي، لا يندرج في صورته الكلية تحت عقد واحد من عقود المعاملات الشرعية المعروفة في المدونات الفقهية، حيث تتعدد الأطراف، وتتنوع العلاقات والالتزامات، وتتباين الأقسام والأنواع.
من الصعب تكييفه في صورته الكلية بعقد واحد: حوالة، أو جعالة، أو ضمان، أو وكالة. أو عقدين معًا: كالوكالة والكفالة، الوكالة والجعالة.. إلى آخر ما ذهب إليه خبراء مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة (1)
إذا صح تصوير عقد بطاقة الإقراض وتكييفها بواحد من تلك العقود من جانب، فإنه يختل من طرف وجانب آخر لا يسلم لصاحبه، إذ من غير الممكن تنزيل صورة كلية مركبة متشعبة متعددة الأطراف والاتفاقات والأغراض على عقد واحد له تكوين معين، وشكل لا يختلف، وما يقال عن عقد بطاقة الإقراض (Credit Card) يقال بالمثل عن غيره من عقود البطاقات الأخرى.
__________
(1) انظر البحوث والمناقشات حول هذا الموضوع في: مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، الدورة السابعة، العدد السابع، عام 1412 هـ/ 1992 م، جـ1، ص 359 - 382(10/1077)
أصبح من الضروري تصنيف أقسامه حسب تنوع مضامين كل قسمٍ ونوعٍ فيه، ثم تحليل كل واحد منها وتركيبه، واتفاقاته المتعددة في داخله، فمن ثم تتكشف جوانب كل عقد، وتتضح رؤيته، فيسلم تكييفه.
عقد البطاقة البنكية في جميع أقسامه وأنواعه باستثناء بطاقة شراء التجزئة (Retailer Or In House Cards) يتضمن ابتداء عدة عقود، كل واحد منها عقد مستقل في أطرافه ومسؤولياته، والتزاماته المالية والشرعية عن العقد الآخر، وإن كانت لا تظهر آثاره كاملة إلا بإكمال كل عقد وتفصيله في إطاره الخاص، لتتفاعل معه الأطراف الأخرى حسب موقعها من العقد الأساس، فتؤدي وظيفتها في صورة كاملة.
هذا ما تم عرضه والتعرف عليه في حقل الدراسة القانونية السابقة.
خلاصة ذلك أن العقود التي تضمنها عقد البطاقة هي:
1 - عقد بين مصدر البطاقة وحاملها.
2 - عقد بين مصدر البطاقة والتاجر.
3 - عقد بين التاجر وحامل البطاقة.
4 - عقدان منفصلان بين طرفين، يكون مصدر البطاقة مشتركًا في كل عقد.
لكل طرف من هذه العقود المتضمنة في عقد البطاقة شخصيته الفقهية المستقلة فيه بحسب تكييف ذلك العقد وموقعه منه، إذ لا يوجد ما يمنع فقهًا تعدده، وتنوعه في الشخص الواحد بحسب تنوع الجهة ونسبته إليها، وانفكاكها عن الجهات الأخرى، من هذا على سبيل المثال: مصدر البطاقة له علاقة فقهية مستقلة بحامل البطاقة، كونه مقرضًا من جهة، إذا اعتبر العقد عقد إقراض، وضامنًا من جهة ثانية إذا ضمن حق البائع من مقرضه، ووكيلًا من جهة ثالثة إذا وكله المقترض في دفع ما توجب عليه بالبيع دون تعارض أو تضارب، فلكل عقد شرعي مسؤوليته وآثاره.(10/1078)
حامل البطاقة علاقته الفقهية القانونية بمصدر البطاقة تختلف عن علاقته مع التاجر، ومسؤولياته متنوعة ومتعددة.
علاقة التاجر لها وضع شرعي قانوني مع حامل البطاقة، وعلاقة شرعية قانونية مع مصدر البطاقة مختلفتان ومتباينتان.
يتعدد التكييف الشرعي للطرف الواحد مع طرف معين في العقد لأكثر من علاقة شرعية واحدة باعتبارات مختلفة، ولكل واحد من هذا التكييف وتلك العلاقة آثاره الشرعية المختصة به دون تداخل أو تضارب.
هذا التعدد في التكييف الفقهي للطرف الواحد في العقد الواحد من حيث اختلاف الجهة وانفكاكها أمر مسلم في الفقه الإسلامي، بل من بدهياته، يقرر هذا الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري في القاعدة (306) : " قاعدة: أصل مالك اعتبار جهتي الواحد فيقدر اثنين. فلذلك يتولى طرفي العقد في النكاح والبيع، ويرث الأب مع البنت بالفرض والتعصيب، ويشفع من نفسه ... وعلى هذا القياس: يؤخذ من الشخص الواحد باعتبار غناه، ويرد عليه باعتبار فقره، أو يترك له، ويقدر الأخذ والرد كالمقاصَّة ... ". (1)
بهذه الدراسة التحليلية يمكن التوصل إلى النتيجة، أو النتائج المطلوبة إن شاء الله.
يتناول البحث فيما يلي تكييف هذه العقود تكييفًا شرعيًّا، ثم بيان علاقة أطرافه ببعضهم في كل اتفاقية بصورة مستقلة.
سبق في الدراسة القانونية تقسيم بطاقات المعاملات المالية إلى قسمين، بطاقات إقراض، وبطاقات غير إقراض، تقتصر الدراسة هنا على بطاقات الإقراض الثلاثة:
1- بطاقة الإقراض بزيادة ربوية والتسديد على أقساط (Credit Card)
2 - بطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة (Charge Card) .
3 - بطاقة شراء التجزئة أو الداخلية (Retailar Card) .
__________
(1) القواعد، الطبعة الأولى، تحقيق ودراسة أحمد بن عبد الله بن حميد (مكة المكرمة: معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى) ، ج 2، ص 538؛انظر بعض النصوص الفقهية في هذا الموضوع، ص 654 - 655 من هذا البحث(10/1079)
تنتمي هذه البطاقات الثلاث إلى عقد الإقراض، حيث أن العقد في كل منها يتم بين مصدر البطاقة وحاملها على أساس تقديم الأول للثاني قرضًا ماليًّا من النقد، حسب اتفاقية وشروط يوافق عليها الطرفان.
العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها في أنواع هذا القسم هي علاقة مقرض يتمثل في مُصدر البطاقة، ومقترض هو حامل البطاقة.
هذا التكييف لعقد بطاقة الإقراض والعلاقة بين طرفيه المُصدِر لها وحاملها هو الذي يشهد به الواقع، وتعترف به الهيئات الرسمية القانونية، والمالية، والاقتصادية المؤسسة لنظام البطاقات. القائمين على تطويره وانتشاره، والمزاولين لحقوقه وقضاياه عقودًا عديدة من السنين، تجري به أحكامهم، وتفض على أساسه منازعاتهم.
ينزل هذا التكييف على عقد الإقراض في الفقه الإسلامي، فمن ثم يفحص واقع هذا القسم من البطاقات على أساس أحكامه وقواعده، ومقاصده.(10/1080)
التعريف والأركان:
قد تقرر أن العقد في هذا القسم من البطاقة هو عقد إقراض، لهذا العقد في الفقه الإسلامي خصوصياته، يتعرض البحث هنا لبعض الجوانب المهمة فيه للتعريف به أولًا.
القرض في اللغة مصدر وهو: " ما تعطيه الإنسان من مالك لتتقاضاه، وكأنه شيء قد قطعته من مالك ". (1) وشرعًا: " دفع المال على جهة القربة لينتفع به آخذه، ثم يتخير في رده مثله أو عينه على ما كان على صفته ". (2)
ورد في تعريف الإقراض السابق بأنه " دفع مال " في عقد الإقراض هو موضوع هذا العقد، وهو الأساس في عقد بطاقة الإقراض. تعني كلمة " المال " في التعريف الشرعي: " كل ما يملكه الفرد، أو تملكه الجماعة من متاع، أو عروض تجارة، أو عقار، أو نقود، أو حيوان. (3) برغم إيجاز التعريف الشرعي لعقد الإقراض فقد شمل كافة المواد العينية التي جاءت في التعريف القانوني لبطاقة الإقراض وأغراضها في فقرتي (أ، ج) (4)
القرض بمعنى المال المدفوع للمقترض يشترط لصحته أن يكون مما يصح بيعه من الأعيان التي يضبط قدرها وصفتها بالطرق المعتادة بين الناس، وكذلك المنافع فإن "ما جاز قرضه جاز قرض منفعته ". (5)
بهذا يتضح أن التعريف الشرعي للقرض عام شامل لكل ما ذكر مما يسمى (مالًا) في التعريف بـ (البطاقة البنكية) من هذا البحث (6)
" الاقتراض: أخذ المال على جهة القرض.
المقرض: الدافع للمال.
المقترض: (المستقرض) الآخذ المال.
بدل القرض: هو المال الذي يرده المقترض إلى المقرض عوضًا عن القرض. (7)
" الدين: ما وجب في الذمة بعقد أو استهلاك، وما صار في ذمته دينًا باستقراضه " (8)
__________
(1) ابن فارس، أبو الحسين، أحمد، معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون (بيروت: دار الفكر) ، مادة (قرض) : ج 5، ص 71
(2) ابن شاس، جلال الدين عبد الله، عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، الطبعة الأولى، تحقيق: محمد أبو الأجفان، وعبد الحفيظ منصور، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1415 هـ/ 1995 م) ، ج 2، ص 565، تعريفات المذاهب الثلاثة الأخرى للإقراض وإن اختلفت في الألفاظ فإنها متفقة في المعنى , التعريف هنا هو أحد التعريفات المختارة من المذهب المالكي، في المذهب الحنفي: "عقد مخصوص يرد على دفع مال مثلي، لآخر ليرد مثله ". ابن عابدين، محمد أمين، حاشية رد المحتار على الدر المختار، (ببروت: دار الكتب العلمية) ، جـ4، ص 671.، في المذهب الشافعي: (تمليك الشيء برد بدله، الهيتمي، شهاب الدين أحمد بن حجر، تحفة المحتاج، (بيروت: دار الفكر) ، ج 5، ص 36، في المذهب الحنبلي: "دفع مال إرفاقًا لمن ينتفع به ويرد بدله ". البهوتي، منصور بن يونس، شرح منتهى الإرادات، (المدينة المنورة: المكتبة السلفية) ، ج 2، ص 224.
(3) أبو حبيب، سعدي، القاموس الفقهي لغة واصطلاحًا، الطبعة الأولى، (بيروت: دار الفكر عام 1452هـ/ 1982 م) ، مادة (المال) ، ص 344
(4) انظر في هذا البحث: قسم الدراسة القانونية (بطاقات المعاملات المالية (التعريف والمصطلحات للبطاقات البنكية) ، ص 595 - 596
(5) الشرواني، عبد الحميد، حاشية على تحفة المحتاج، (بيروت: دار الفكر) ، ج 5، ص 42 لا يرى الحنابلة قرض المنافع، وعللوا هذا بأنه لم تكن عادة جارية بذلك، وقد أجاز هذا شيخ الإسلام ابن تيمية؛ انظر: البهوتي، كشف القناع: 3/ 314؛ القاري، مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد، الطبعة الأولى، تحقيق: عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، ومحمد إبراهيم علي، (جدة: تهامة، عام 1401هـ/ 1981 م) ، التعليق رقم (4) ص 270
(6) ص 595
(7) القاري، أحمد بن عبد الله، كتاب الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، المادة (723، 724، 725) ، ص 268
(8) ابن عابدين، محمد أمين، حاشية رد المحتار على الدر المختار: ج 4، ص 671(10/1081)
أركان عقد الإقراض في بطاقات الإقراض:
العاقدان - الإيجاب والقبول - العوض.
العاقدان: في عقد بطاقة الإقراض هما: المقرض (مصدر البطاقة) ، والمقترض (حامل البطاقة) ، يشترط فيهما ما يشترط في العاقدين في باب البيع من الأهلية والرشد، يضاف إلى هذا بالنسبة لكل واحد منهما بعض صفات وخصائص تختص بالإقراض.
بالنسبة للمقرض: أهلية التبرع؛ " لأن في الإقراض تبرعًا فلا يصح إقراض الولي مال المحجور عليه من غير ضرورة ". (1)
أما المقترض (حامل البطاقة) فـ " ينبغي له أن يعلم المقرض بحاله، ولا يغره من نفسه، ولا يستقرض إلا ما يقدر أن يؤديه، إلا الشيء اليسير الذي لا يتعذر مثله عادة لئلا يضر بالمُقرض ". (2)
هذا ما يحاول مصدر البطاقة تحريه وتتبعه من طالب الحصول على بطاقة الإقراض (Credit Card) .
الإيجاب والقبول: متحققان في عقد بطاقة الإقراض من خلال اتفاقية العقد بموافقة البنك المصدر للبطاقة إيجابًا منه، والقبول باستخدام حامل البطاقة لها، أو توقيعه عليها أو غير ذلك مما يدل على قبوله.
ذلك أن الإيجاب والقبول في الشريعة الإسلامية يتحقق بكل قول، أو فعل، أو قرينة تدل على معنى القرض والسلف، وتؤدي معناه.
العوض في عقد بطاقة الإقراض: هو (القرض) .
القرض: المال المدفوع لحامل البطاقة، متحقق في المبلغ الذي يخول مصدر البطاقة حاملها استخدامه في الحصول على احتياجاته، هذه الصلاحية الناشئة عن الاتفاقية وتوقيع العقد من قبل الطرفين هي تمليك لحامل البطاقة للقدر المعين من القرض، وهو الثابت فقهًا في المذهب المالكي: " يملكه المقترض بالعقد، وإن لم يقبضه المقترض ". ذلك " لأنه لا يتوقف على الحوز ". (3)
الإقراض في عقد البطاقة تخلية مصدر البطاقة بين المقترض (حامل البطاقة) ومقدار القرض، يستفيد منه في الوقت الذي يشاء، ضمن الفترة المقررة لصلاحية البطاقة، وهو قرض مفتوح مستمر حتى يبلغ نهايته، فإذا تم تسديده كاملًا، أو تسديد بعضه خلال فترة صلاحية البطاقة تجدد القرض حسب الاتفاقية الأساس كما يسمى بـ (القرض الدائر) .
بهذا تكتمل الجوانب الشرعية في عقد بطاقة الإقراض، وقد أثبتت الدراسة الفقهية المقابلة أن العقد بين مصدر البطاقة وحاملها هو عقد إقراض شكلًا وموضوعًا، فمن ثم تخضع شروط عقد البطاقة بين مصدرها وحاملها لأحكام عقد الإقراض في الفقه الإسلامي.
__________
(1) القليوبي، شهاب الدين أحمد، حاشية علي منهاج الطالبين، (بيروت، دار الفكر) ، جـ2، ص 258
(2) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: ج 2، ص 313
(3) الدردير، أبو البركات أحمد، الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، الطبعة الأولى، أخرجه مصطفى كمال وصفي، (مصر: دار المعارف عام 1393 هـ) ، ج 3، ص 295، المذهب الحنبلي على خلاف المذهب المالكي؛ إذ أن المقترض: " يملك القرض بقبضه، ويلزم بقبضه؛ لأنه عقد يقف التصرف فيه على القبض "؛ البهوتي، كشاف القناع، ج3، ص 314(10/1082)
مقاصد الإقراض وأحكامه في الشريعة الإسلامية:
حثت الشريعة الإسلامية ذوي اليسار على تخصيص جزء من أموالهم لدفعه إلى المعوزين والمحتاجين من أفراد المجتمع لفك ضائقتهم، وردت في ذلك أحاديث عديدة توضح الثواب العظيم، والدرجة الكبيرة لمن يدفع ماله إقراضًا، في الحديث النبوي الشريف يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا ((ما من مسلم يقرض مرتين إلا كان كصدقة مرة)) رواه ابن ماجه. (1)
والحديث الآخر عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبًا: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر. فقلت يا جبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمقترض لا يستقرض إلا من حاجة)) رواه ابن ماجه. (2) الأحاديث والآثار في هذا كثيرة استنبط منها الفقهاء أن المقصد الشرعي من عقد الإقراض في الإسلام هو: الإرفاق ومراعاة حاجات أفراد المجتمع الذين لا يجدون ما يسد حاجاتهم، ويرتفعون عن أن يمدوا أيديهم بالسؤال.
نص الفقهاء على هذا في عبارة موجزة بقولهم:
الإقراض: " عقد إرفاق وقربة ". (3)
فمن ثم جاءت الأحكام والتشريعات في هذا الباب متحرية هذه المعاني والمفاهيم الشرعية، تدور في فلكها، وتنتهي إليها، تحمي الجانب الضعيف، وتمنع استغلال حاجته من قبل الأغنياء والموسرين , كما تعمل في نفس الوقت على المحافظة على أموال هؤلاء من الضياع، فخولت أصحابها أن يشترطوا من الشروط ما يضمن حفظ أموالهم كاشتراط رهن، وكفيل، وإقرار لدى الحاكم، وإشهاد على ذلك؛ لأن " صون القرض غرض شرعي مقصود ". (4) " وهي توثيقات لا منافع زائدة للمقرض " (5)
__________
(1) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 2/ 225، الحديث رواه ابن ماجه في (باب القرض) بلفظ: " ما من مسلم يقرض مسلمًا قرضًا مرتين إلا كان كصدقتها مرة ". رقم الحديث (2430) : ج2، ص 812
(2) البهوتي، كشاف القناع، ج 3، ص 312 الحديث في ابن ماجه (باب القرض) بلفظ: والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة , رقم الحديث (2431) ، جـ2، ص 812
(3) البهوتي، كشاف القناع: جـ3، ص317
(4) المقري، شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر، إخلاص الناوي، الطبعة الأولى، تحقيق: عبد العزيز عطية زلط، (مصر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف، عام 1410 هـ/ 1990 م) ، ج2، ص 15
(5) المحلى، جلال الدين محمد بن أحمد، شرح على منهاج الطالبين، الطبعة الرابعة، (بيروت: دار الفكر) ، ج 2، ص 260(10/1083)
جاءت الأحكام الشرعية لعقد الإقراض منسجمة متوائمة مع هذه المقاصد الشرعية، وأصبحت من الناحية الحكمية تعتمد في صحتها على مدى قربها أو بعدها عنها، ولذا قال الفقهاء رحمهم الله: إن عقد الإقراض يكون مندوبًا إليه إن كان المقترض في حاجة لا تصل إلى الاضطرار.
واجبًا: في حالة الاضطرار كوقت المجاعة ونحوه، ولا ينفقه المضطر في معصية.
حرامًا: إذا علم أن المقترض سينفقه في حرام، أو معصية.
مكروهًا: إذا عرف من المقترض أنه ينفق القرض في أعمال مكروهة.
مباحًا: إذا دفع القرض إلى غني بسؤال من الدافع، مع عدم احتياج الغني إليه. (1)
يتضح من العرض السابق لمقاصد الشريعة الإسلامية من مشروعية عقد القرض أن الشريعة لا تسمح باستخدام هذا العقد أداة استثمار، وتنمية للأموال بحال؛ استغلالًا لحاجة الضعفاء، على عكس الأمر بالنسبة للقوانين الوضعية والاقتصادية، فإنها تعد عقد الإقراض في صوره التقليدية والحديثة أداة استثمار ناجحة، تدر على من لديهم الأموال أرباحًا طائلة، استغلالًا لحاجات المحتاجين أبناء المجتمع على كافة المستويات.
سيظهر العرض والدراسة التاليتان موقف الفقه الإسلامي بوضوح من عقد بطاقات الإقراض (Credit Cards) ، وبخاصة الشروط الصحيحة والباطلة، وآثار هذه على صحة العقد فيها.
__________
(1) انظر: الهيتمي، ابن حجر، تحفة المحتاج، ج 5، 36 ص؛ الشرواني، عبد الحميد، حاشية على تحفة المحتاج، ج 5، ص 36(10/1084)
المبحث الثاني:
الشروط في عقود البطاقات البنكية
تشتمل اتفاقيات عقد البطاقات على شروط عديدة، يتم العرض والدراسة لأهمها في إطار عقد الإقراض في الفقه الإسلامي.
أولًا - الشروط الصحيحة:
يشترط مصدر البطاقة شروطًا عديدة لصالحه في مواد الاتفاقية ونصوصها، منها الصحيح الذي يتمشى مع مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها في عقد الإقراض، ومنها ما يتنافى وتلك المقاصد والأهداف، الشروط الصحيحة بشكل عام تتلخص في الآتي:
1 - اشتراط الالتزام بالمسؤوليات والوفاء في التسديد:
أ) اشتراطه على نفسه الالتزام بمسؤولياته المالية من جهة، واشتراطه على حامل البطاقة الالتزام بالوفاء بتسديد القرض حسب المتفق عليه.
ب) إصدار بطاقة للمقترض تخوله الحصول على السلع والخدمات.
جـ) استمرار الإقراض في القدر المحدد بالاتفاقية.
د) أحقيته في ملك البطاقة.
هـ) مسؤولية مصدر البطاقة عن أعمال وكيله.
هذه المواد والشروط في حقيقتها تفعيل للعقد، وترسيخ لأدائه وأهدافه , كلها من مقتضى العقد ومصلحته، لا تتنافى معه.
2 - اشتراط فتح حساب بالبنك المصدر للبطاقة:
تشترط بعض البنوك فتح حساب، أو تأمين رصيد معين لدى البنك لمن يرغب في الحصول على البطاقة من أي نوع، ليكون بمثابة توثقة لحقوقها، وأمان لها من ضياع مدفوعاتها لمشتريات حامل البطاقة، وهو اشتراط مشروع من قبيل (الرهن) في الفقه الإسلامي، حيث إنه تتطابق حالة هذا الاشتراط لمصدر البطاقة مع ما يعرّف به الرهن بأنه: " توثقة دَين بِعَينٍ يمكن أخذه، أي الدين كله (و) أخذ (بعضه) إن لم يف به (منها، أو من ثمنها) (والمرهون عين معلومة جعلت وثيقة بحق يمكن استيفاؤه) أي الحق، (أو) استيفاء بعضه منها، أومن ثمنها. . .
و) يصح (رهن) كل (ما يصح بيعه) من الأعيان؟ لأن المقصود منه الاستيثاق الموصل للدين، (ولو) كان الرهن (نقدًا، أو معارًا) ولو لرب الدَّين، لأنه يصح بيعه، فصح رهنه. . . " (1) .
__________
(1) البهوتي، شرح منتهى الإرادات، ج 2، صر 228 - 229؛انظر أيضًا من هذا البحث، ص 699 -700.(10/1085)
3 - اشتراط دفع رسوم الاكتتاب في نظام البطاقة:
تفرض البنوك المصدرة للبطاقة على كافة أنواعها ومسؤولياتها قدرًا من المال على الانضمام إليها، والحصول على البطاقة، تعد هذه الرسوم من حامل البطاقة والتاجر شرطًا أساسًا في الحصول على البطاقة والانضمام إلى منظومتها لما تحتاجه من أعمال إدارية وأدوات مكتبية وغالبًاما يكون الرسم بالنسبة للبطاقة الذهبية أعلى من البطاقة الفضية ورسم بطاقة السحب المباشر من الرصيد أعلى من بطاقة الإقراض بزيادة ربوية والتسديد على أقساط.
هذا النوع من الرسوم لا صلة له بالقرض لا كمًّا، ولا كيفًا، وإنما هي أجور خدمات.
هذا الصنف من الرسوم متعدد ومتنوع:
أ) رسم العضوية: " يحصل هذا الرسم مرة واحدة فقط، وذلك لدى الموافقة على طلب العميل للحصول على البطاقة أول مرة ".
ب) رسم التجديد: رسم يحصل من العميل سنويًّا عند تجديد صلاحية البطاقة، أو إصدار أخرى بدلًا منها، حيث تصدر البطاقة بصلاحية لمدة سنة واحدة من تاريخ الإصدار، وتجدد سنويًّا بناءً على رغبة العميل.
ج) رسم الاستبدال: يحدث أحيانًا أن يفقد العميل بطاقته، أو تسرق منه، أو تتلف، وفي هذه الحالات يتقدم العميل للإبلاغ عن ذلك، ولإعادة إصدار بطاقة جديدة.
د) رسم التجديد المبكر: رسم يدفعه العميل عندما يطلب تجديد بطاقته قبل موعد انتهاء صلاحيتها بسبب سفره، أو وجوده بالخارج عند حلول تاريخ التجديد، أو لأي سبب آخر، ويعد هذا بمثابة رسم تجديد البطاقة.
تستقطع منظمة (الفيزا) الرسوم التالية في حالة (الاستبدال) :
أ) مائة دولار أمريكي: أجور للتعميم عن البطاقة في كتاب (البطاقات المطلوب حجزها) في الإقليم الواحد لمدة أسبوعين، علمًا بأن العالم مقسم إلى خمسة أقاليم حسب التقسيمات لعمليات (الفيزا) .
ب) 5 دولار أمريكي كحد أدنى، 150 دولار كحد أقصى: مكافأة التقاط البطاقة المطلوب حجزها، وتدفع للتاجر، أو البنك الذي يقوم بحجزها.
ج) 15 دولار أمريكي: أجور مناولة، أو تسليم تدفع أيضًا للتاجر، أو للبنك الذي قام بإرسال البطاقة للبنك المصدر ". (1)
__________
(1) مركز تطوير الخدمة المصرفية، بيت التمويل الكويتي، بحث عن بطاقات الائتمان المصرفية والتكييف الشرعي المعمول به في بيت التمويل الكويتي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، ج 1، ص 467 - 468(10/1086)
هذا بالنسبة للشركة المصدرة الأساس، أما محليًّا فإن البنوك السعودية والسعودية الأجنبية تتقاضى الرسوم السنوية التالية للاكتتاب:
اسم البنك
بطاقة ذهبية
بطاقة فضية
البنك الأهلي التجاري (NCB)
250 ريالًا
150 ريالًا
البنك العربي الوطني (ANB)
500 ريالًا
300 ريالًا
بنك الرياض (RB)
475 ريالا
225 ريالًا
البنك السعودي البريطاني (SABB) 350 ريالًا
225 ريالًا
البنك السعودي الفرنسي (SFB)
450 ريالًا
225 ريالًا
البنك السعودي الفرنسي بطاقة سحب من الرصيد (Debit) 600 ريالًا
300 ريالا
بنك الراجحي (Rajhi)
450 ريالًا
225 ريالًا
البنك السعودي الأمريكي (Samba) 485 ريالًا
225 ريالًا
بنك القاهرة السعودي (SCB)
350 ريالًا
مجاني
(1)
__________
(1) أخذت هذه البيانات من: Saudi Commerce & Economic Review , No. 27 July 1996 (Dammam: Saudi Arabia) , Cover Story 24 , p. 29(10/1087)
يتضح من هذا البيان ومن سابقه أن الرسوم مبالغ محددة يتم تقديرها على حسب مستوى خدمات كل نوع من أنواع البطاقات، وهي في عمومها في مقابل " الخدمة المصرفية المربوطة بالبطاقة لقاء فتح ملف للعميل، وتعريف الجهات التي سيحتاج التعامل معها، وبيان حدود الاستخدام، وما يتعلق بذلك، وينطبق ذلك على رسم التجديد، حيث إن الخدمة انتهت بانتهاء المدة، ويحتاج إلى إجراءات أخرى بتحديد فترة تقديم الخدمة للعميل ". (1) وفي بعضها الآخر خدمات وأجور ومكافآت للحصول عليها.
أصبح فرض أمثال هذه الرسوم عرفًا في معظم المرافق العلمية والاجتماعية؛ إذ المقصود منها تغطية نفقات الأعمال الإدارية، والأدوات المكتبية في المقام الأول، وقد كان هذا التفهم لطبيعة هذه الرسوم واضحًا في إصدار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة القرار رقم (1) في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر عام 1407/ 11- 16أكتوبر 1986، الذي انتهى إلى القرار التالي: " بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية:
1 - جواز أخذ أجور عن خدمات القروض.
2 - أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية.
3 - كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة؛ لأنها من الربا المحرم شرعًا ". (2)
يعد هذا القرار سابقة في الفقه الإسلامي، تخرج هذه الرسوم وأمثالها عليه بنفس الحدود والشروط، كما أن لهذا نظيرًا في تفريعات الفقهاء في المسألة التالية:
(لو قال: اقترض لي مئة ولك عشرة، لزمته العشرة لأنها جعالة، كذا قالوه، ولعله إن كان في الاقتراض كلفة تقابل المال ". (3)
__________
(1) مركز تطوير الخدمة المصرفية، بيت التمويل الكويتي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، ج 1، ص 476
(2) منظمة المؤتمر الإسلامي، مجمع الفقه الإسلامي، قرارات وتوصيات، 27
(3) عميرة، شهاب الدين البرسلي، حاشية على شرح المحلي للمنهاج، الطبعة الرابعة، (بيروت: دار الفكر) ، ج 2 / ص 258(10/1088)
4 - اشتراط البنك المصدر للبطاقة الخصم على قيمة مبيعات التاجر:
تعد هذه العمولة التي يأخذها البنك المصدر والتي تتراوح ما بين 2 إلى 5 % من قيمة الفاتورة حسب الاتفاق بينه وبين التاجر من أهم مصادر الربح للبنوك في نظام البطاقات، فمن ثم يأتي النص عليها واشتراطها في بداية مواد الاتفاقية بين البنك والتاجر. (1) فهي معظم ما يهم البنك من التاجر.
النظرة التحليلية الموضوعية لهذه النسبة تثبت أن المبلغ الذي يتقاضاه البنك من التاجر هو خصم وليس زيادة، فليس فيه ما يلحقه بالربا.
ليس هذا فحسب بل إنه لا يندرج في مسألة (الوضع على التعجيل) وهو ما يعرف بـ (ضع وتعجل) ؛ إذ صفة هذا أن يكون على رجل دين لم يحل، فيقول لصاحبه: تأخذ بعضه معجلًا وتبرئني من الباقي. (2)
ذلك أن التأجيل في دفع ثمن مبيعات التاجر لحامل البطاقة من قبل مصدرها غير وارد أساسًا، فمتى اكتملت سندات البيع وأرسلت لمصدر البطاقة فإنه يقوم بدفع القيمة حالًا، يحولها إلى رصيد التاجر في البنك الذي يتعامل معه، هذه القاعدة الأساس في تسديد مبيعات التجار وعقودهم مع مصدري البطاقات، كما لا يكون في العقد شرط من هذا النوع (الوضع والتعجيل) بحال، فالأصل هو التعجيل والدفع المباشر.
لما انتفى العنصران السابقان، فلا بد من البحث عن موجب آخر لخصم هذه العمولة من قيمة مبيعات التاجر. قد سبق التصريح بأنها: " عمولة الخدمات على إجمالي مبالغ سندات البيع ". (3)
يؤكد هذا الواقع ما يذكره مركز تطوير الخدمة المصرفية ببيت التمويل الكويتي للسبب الموجب لهذا الخصم: بـ " أن العمولة التي تؤخذ من التاجر على كل عملية شراء سلعة، أو خدمة يقوم بها العميل في الخارج هي عبارة عن أجرة وكالة وساطة بينه وبين حامل البطاقة من ترويج التعامل معه، ودعاية له، وتأمين زبائن، وتسهيل تحصيل قيمة بضائعه ". (4)
تصبح هذه العمولة بالمنطوق والمفهوم السابقين أجرة على الخدمات التي يقوم بها البنك وكالة عن التاجر، وهذا معقول ومنطقي حسب الواقع المعاصر الذي لا يمكن تجاهله أو التغاضي عنه؛ إذ أن:
" الدعاية والترويج، وتأمين الزبائن وتحصيل قيمة البضائع بحاجة إلى الإنفاق الكبير، الإعلان اليوم في الإذاعة، والصحافة، والتلفاز تعد من أعلى قنوات الإنفاق على الدعاية، بالإضافة إلى تخصيص موظفين مقيمين ومتجولين لتحصيل قيمة المبيعات من قبل حاملي البطاقات، وهو جهد وخدمة يحتاجان إلى المال والقوى البشرية.
__________
(1) انظر: (عمولة مصدر البطاقة من التاجر) من هذا البحث، ص 683
(2) البغدادي، القاضي عبد الوهاب، المعونة على مذهب عالم المدينة الإمام مالك بن أنس، الطبعة الأولى، تحقيق: حميش عبد الحق، (مكة المكرمة: المكتبة التجارية، عام 1415هـ) ، جـ2، ص 1038
(3) انظر رقم (12) من (مواد الاتفاقية بين مصدر البطاقة والتاجر) من هذا البحث، ص 619
(4) بحث عن بطاقات الائتمان المصرفية والتكييف الشرعي المعمول به في بيت التمويل الكويتي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، ج 1، ص 476(10/1089)
إن ثقة مصدر البطاقة بقدراته وكفاءته في القيام بأعمال تحصيل قيمة المبيعات، وما يتبعها من أعمال وإجراءات إدارية هي أعمال توكل عادة إلى أكفاء يتقاضون أجورًا عالية على مثل هذه الأعمال التي تحتاج إلى الكثير من التعب والتكلفة والمعاناة، ومن غير المعقول أن يقدم مصدر البطاقة مثل هذه الخدمات نيابة عن التاجر مجانًا.
سواء تقررت هذه العمولة في صورة مبلغ مقطوع، أو حسب نسبة قيمة المبيعات فهذا لا يؤثر شرعًا على صحتها، فقد أصبح الأسلوبان معمولًا بهما في العرف المحلي الخاص، والعالمي العام. (1)
وما دام الاتفاق بين التاجر والبنك المصدر للبطاقة خال من العنصرين السابقين: الربا، والنقص في مقابل التعجيل، ولا يتعارض مع مبدأ أو قاعدة شرعية فإنه يكون داخلًا تحت قاعدة " مطلق العقود الشرعية محمولة على الصحة ". (2) وحملها على أنها " أجرة وكالة " له وجه من الصحة ينسجم مع القاعدة الفقهية القائلة: " أن مهما أمكن تصحيح تصرف المسلم العاقل يرتكب ". (3)
__________
(1) انظر: مجلة الفقه الإسلامي، الدورة السابعة، مناقشات: فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي، ج1، ص665، القاضي محمد تقي العثماني، وقد اعتبرها أجرة سمسرة: ج1، ص676
(2) السرخسي، شمس الدين أبو بكر، المبسوط، الطبعة الأولى - مصر، مطبعة السعادة، ج 2، ص 72
(3) ابن الهمام، كمال الدين محمد بن عبد الواحد، فتح القدير، (مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده) ، ج 7، ص 146(10/1090)
5 - التأمين والجوائز لحاملي بطاقة الإقراض الذهبية:
يلحق بما تقدم مما ينبغي بحثه هنا في مجال بطاقات الإقراض ما تتسابق عليه الشركات المصدرة لبطاقات المعاملات المالية بكافة أنواعها لاجتذاب الطبقة المتوسطة والغنية في المجتمع، وكسبهم بشتى الطرق، مستخدمة الوسائل التي تشبع تطلعاتهم الاجتماعية، تركز أكثر ما تركز على من تسميهم بـ (صفوة الأعضاء ذوي المركز الحسن) أو من تسميهم (النخبة المختارة) ، فأوجدت لهؤلاء البطاقة الذهبية ذات الميزات التي تفوق البطاقة الفضية العادية في كثير من الأمور المالية المهمة.
يختص البحث هنا بما تقدمه هذه الشركات من ميزات وخصوصيات ذات أهمية كبيرة منها: " تغطية تأمين مجانية، وتأمين ضد حوادث السفر ". ورد في الإعلان عن بعض ميزات هذه البطاقات في أوراق الدعاية للبطاقة الذهبية لبطاقة الإقراض المؤقت الخالي من الزيادة الربوية ابتداء لأمريكان إكسبرس: " عند شرائك لتذاكر السفر بموجب البطاقة الذهبية فستحصل تلقائيًّا على تأمين مجاني ضد حوادث السفر تصل قيمته إلى 350000 دولار أمريكي لأعضاء البطاقة الذهبية فقط، تذاكر سفرية مجانية؛ إقامة مجانية في الفنادق، تسوق مجاني أكثر.
في برنامج جوائز العضوية (Membership. Rewards) ستحصل على نقطة واحدة عن كل دولار أمريكي تصرفه باستخدام البطاقة الذهبية، النقاط تتزايد، وبالتالي يمكن تحويلها إلى أحد برامج المسافرين المتميزين لشركائنا، أو قسائم للإقامة المجانية في الفنادق، وخصومات في المطاعم، وقسائم تسوق. . . ". (1)
مثل هذه الدعاية أيضًا تتخذها شركة فيزا عن طريق البنوك الأخرى الوكيلة. جاء في إحدى نشرات البنك العربي الوطني تحت عنوان (فرصة ذهبية من البنك العربي الوطني) :
" إن بطاقتي فيزا وماستركارد الذهبيتين الصادرتين عن البنك العربي الوطني تمكنكم من شراء تذاكر السفر، والتمتع بتأمين مجاني ضد مخاطر السفر بغطاء يصل لغاية 150000 دولار أمريكي، كما أنكم ستحصلون على تأمين مجاني أيضًا ضد أخطار فقدان الأمتعة والنقود، وإلغاء أو تأخر الرحلات الجوية، وفي بعض الحالات يمكنكم أيضًا الحصول على مساعدات طبية وقانونية ".
__________
(1) انظر: American Express Cards , An Exclusive Opportunity for a select Few.(10/1091)
الموضوع الرئيس هنا التأمين، وليس هنا مجال بحث مشروعيته فللحديث عن صحته أو بطلانه مقام ومجال آخر. (1) ، غير أن التأمين هنا متبرع به لا يقدّم المؤمَّن عليه (حامل البطاقة) شيئًا من المال، فهو يدخل ضمن الجوائز التشجيعية من هذا الوجه.
إن البحث هنا يتناول العروض والمميزات المباحة المشروعة في أصلها، والهدايا والجوائز التي يقدمها مصدر بطاقة الإقراض إلى هذه الفئة من العملاء التي تتضمن في ظاهرها نفعًا خاصًّا للمقترض حامل البطاقة، وليس للمقرض مصدر البطاقة، لا يبدو وجود سبب لتحريم هذه ظاهرًا. لكن النظر بتأمل في الواقع ومآلات الأمور لا يسع المرء أن يتجاهل أن نتيجتها تصب في ربحية مصدر البطاقة حيث الإغراء في الاكتتاب في هذا النوع من البطاقات لذوي الدخل والإنفاق العاليين، الأمر الذي يتحقق من خلاله للبنك المصدر للبطاقة (المقرض) نسبة عالية من الأرباح، وهو المقصود الأساس من تلك العروض السخية لحملة هذا النوع من البطاقات وغيرها.
ولقائل أن يرى غير هذا. فيرى في الاكتتاب فيها عونًا لأرباب البنوك الربوية، وتكثيرًا لماليتهم وربحهم، وأن الحكم في هذه الهدايا والجوائز المباحة يختلف حكمها لو كانت صادرة من بنوك إسلامية تتحرى التعامل وفق الشريعة الإسلامية، حيث ينبغي تشجيعها والإسهام فيها.
هذه المميزات في صالح المقترض حامل البطاقة ظاهرًا، لكنها في الحقيقة تخفي مصالح عديدة يخفيها مصدر البطاقة بأساليب الدعاية والإعلان التي تخبئها عن أنظار حامل البطاقة وملاحظته لتزيد من أرباح الشركات المصدرة لها.
على أي حال ما دامت الجوائز والهدايا والمميزات مشروعة في أصلها، فليس في هذا ما يمس صحة العقد، ما دامت المنفعة في ظاهرها موجهة إلى حامل البطاقة المقترض، وفقًا للقواعد الشرعية المتفق عليها، خصوصًا لدى الفقهاء الذين لا يقولون بسد الذرائع كالشافعية، وعدم الجواز بالنسبة لمن يقول بقاعدة سد الذرائع كالمالكية وغيرهم.
__________
(1) انظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي، قرار رقم 9 في المؤتمر الثاني المنعقد بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني عام 1406 هـ/ 22 -28 ديسمبر عام 1985 م، قرر: 1 - أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد، ولذا فهو حرام شرعًا. 2 - أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون، وكذلك بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني. 3 - دعوة الدول الإسلامية إلى إقامة مؤسسات التأمين التعاوني، وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال، ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة، والله أعلم. (مجمع الفقه الإسلامي، قرارات وتوصيات) 1406- 1409هـ/ 1985- 1988م، ص 18(10/1092)
6 - اشتراط إنهاء العقد وفق إرادة مصدر البطاقة:
يقع ضمن الشروط التي يشترطها مصدر البطاقة لمصلحته:
" الحق في إنهاء العقد وفسخه في الوقت الذي يشاء ".
هذا الشرط يتنافى ظاهرًا مع لزوم عقد الإقراض من طرف المقرض مصدر البطاقة، إذ من المعروف أن الإقراض " عقد لازم في حق المقرض بالقبض، جائز في حق المقترض ". (1)
معنى اللزوم في حقه أنه " لو أراد الرجوع في عينه لم يكن له ذلك إلا بعد انتهاء المدة المحددة للانتفاع بالشرط أو العادة , وكذلك لو طلب العوض عنه ". (2)
إن يكن سبب فسخ العقد هو إخفاق حامل البطاقة الالتزام بشروط العقد فهذا لا يتنافى مع موجبات العقد ومقتضياته، ولا يعد شرطًا خارجًا عنه، وإذا اشترط مصدر البطاقة هذا الشرط أثناء العقد للأسباب السابقة، أو لغيرها فله شرطه، حيث ورد النص صراحة على صحته في المذهب المالكي في العبارة التالية: " ولا يلزم المقترض أن يرد القرض لمقرضه إن طلبه قبل أن ينتفع به عادة أمثاله، ما لم يشترط المقرض عليه رده متى طلبه منه، أو جرت العادة بذلك، وإلا لزمه رده ولو قبل انتفاعه به عادة أمثاله ". (3)
وفي المذهب الحنبلي أنه: " لا يملك المقرض استرجاعه - أي القرض - للزومه من جهته بالقبض ما لم يفلس القابض، ويحجر عليه للفلس قبل أخذ شيء من بدله فله الرجوع به " (4)
غير أن اشتراط مصدر البطاقة (المقرض) فسخ العقد وإنهاءه إذا أخفق حامل البطاقة المقترض الالتزام بالشروط لا يتعارض مع العقد ولا يناقضه، فقد جاء في (باب الشروط في البيع) :
" ويلزم الشرط الصحيح (فإن وفى به) أي حصل للمشتري شرطه فلا فسخ، (وإلا) يوف به (فله الفسخ) لفقد الشرط؛ لحديث (المؤمنون عند شروطهم) " (5)
هذه قاعدة عامة في كافة العقود، فكما تحكم عقد البيع فإنها تحكم جميع العقود، ومنها عقد الإقراض.
__________
(1) البهوتي، كشاف القناع، ج 3، ص 312
(2) ابن شاس، عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، ج 2، ص 568
(3) الدسوقي، محمد بن عرفة، حاشية على الشرح الكبير، (بيروت: دار الفكر) ، ج 3، ص 226
(4) البهوتي، كشاف القناع، ج 3، ص 314
(5) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: ج 2، ص 161(10/1093)
ثانيًا - الشروط الباطلة:
التسهيلات النبيلة:
تحث البنوك المصدرة للبطاقات، وكذلك البنوك الأخرى المرخص لها بإصدارها جمهور الناس على استخدام بطاقات الإقراض بزيادة ربوية والتسديد على أقساط (Credit Card) ومثيلاتها، وتغريهم بشتى الوسائل التي تملكها أن يقتنعوا بحوزها واستخدامها، ومن أهم هذه المغريات هو عدم مطالبة حاملي البطاقات بالتسديد الفوري العاجل، وإنما هو تسديد القرض والديون على فترات طويلة، وبأقساط مريحة لا ترهق ميزانية حامل البطاقة ودخله مهما بلغ القرض، وهو المقصود من العبارة التي ترددها في الإعلان عنها (التسهيلات النبيلة) في هذه المجال، بهذا
تتحقق الأرباح الطائلة؛ إذ كلما طالت الفترة وتضاءل قدر القسط ارتفعت نسبة الزيادة وتضاعفت أرباح البنوك، المبدأ الذي تلتزمه البنوك والذي يقوم عليها كيانها هو " أن لكل تسهيل ائتماني (قرض) ثمنًا، ليست البنوك جمعيات خيرية ". (1)
تشترط البنوك المصدرة لبطاقات الإقراض، والبنوك المرخص لها
من قبلها الزيادات الربوية التالية:
1 - زيادة ربوية على كل معاملة مالية تسدد عن طريق البطاقة تحسب على العميل تتراوح ما بين (1 %) إلى (2.5 %) على قيمة البضاعة.
2 - فرض نسبة معينة عقوبة على تأخير السداد.
3 - دفع نسبة معينة على الشراء بالبطاقة بأزيد من المبلغ المسموح به قرضًا حسب الاتفاقية.
4 - إذا كان القرض مفتوحًا دون حد أعلى تفرض نسبة (10 %) لسحب كل خمسة آلاف ريال، ثم تتضاعف النسبة حسب مقدار القرض. (2)
5 - فرض نسبة معينة على تحويل العملات الأجنبية. (3)
6 - فرض نسبة معينة على تسديد الدفع للعمليات النقدية، تحسب من يوم الشراء. (4)
كما توجد شروط أخرى من هذا القبيل تضاف إلى قرض حامل البطاقة تحسب تلقائيًّا ومن دون الرجوع إليه، وأحيانًا من دون علم بها، على أساس أنها أمور محسومة لا تقبل المناقشة، ولا حاجة لحامل البطاقة في الإطلاع عليها.
هذه الإضافات والزيادات المعلنة وغير المعلنة في اتفاقية بطاقات الإقراض تمثل مصدرًا مهمًّا لأرباح البنوك المصدرة للبطاقة من قروض البطاقات.
__________
(1) تفاوت شروط إصدار بطاقات الدفع في المملكة , لماذا؟) تحقيق صحفي أجرته جريدة عكاظ (المال والاقتصاد) - جدة، عكاظ، السنة الثلاثون، العدد 8734، الأحد في 24 ذي القعدة 410 اهـ، الموافق 17 يونيو 1990 م، ص 23
(2) انظر بالتفصيل من هذا البحث: (أرباح البنوك من إصدار بطاقات المعاملات المالية) ، ص 643
(3) انظر: Al- Melhem , A. Ahmed , p. 364 - 365
(4) انظر: ص 632 من هذا البحث (الزيادات المضافة إلى قروض بطاقة الإقراض بفوائد والتسديد على أقساط) .(10/1094)
أما حكم هذه الزيادات المشروطة على القرض من قبل مصدر البطاقة فإنها محرمة من الناحية الشرعية لسببين رئيسين.
السبب الأول: أن هذه الزيادات المفروضة على مقدار القرض بخاصة مقابل التأجيل تمثل حقيقة (ربا النسيئة) التي أجمعت الأمة الإسلامية على تحريمه دون خلاف، وهو ما يسمى (ربا الجاهلية) ، حيث تضاف زيادة إلى مقدار القرض من أجل تأجيل الدفع، فهو المعني بالآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) } . [آل عمران: 130 - 131]
قال أبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي في تفسيرها: " الربا هو الزيادة، وهو مأخوذ من رَبا يربو إذا نما وزاد على ما كان، وغالبه ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم: أتقضي، أم تربي؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه ". (1)
كما يذكر الإمام مجاهد رحمه الله في سبب نزول هذه الآية: " كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حل زادوا في الثمن على أن يؤخروا، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} .
قلت: وإنما خص الربا من بين سائر المعاصي، لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} والحرب يؤذن بالقتل، فكأنه يقول: إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم، فأمرهم بترك الربا، لأنه كان معمولًا به عندهم ". (2)
أما موقف علماء الأمة وفقهائها من هذا النوع من الربا فيعبر عنه الإمام أبو الحسن الماوردي بقوله: " قد أجمع المسلمون على تحريم الربا، وإن اختلفوا في فروعه، وكيفية تحريمه، حتى قيل: إن الله تعالى ما أحل الزنا والربا في شريعة قطّ، وهو معنى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [النساء: 161] . يعني في الكتب السالفة. إن تحريم الربا من كتاب الله تعالى إنما يتناول معهود الجاهلية من الربا في النَّساء، وطلب الفضل بزيادة الأجل، ثم وردت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيادة الربا في النقد، فاقترنت بما تضمنه التنزيل ". (3)
السبب الثاني: أنها تدخل في عموم الحديث الشريف الذي رواه الإمام علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل قرض جر نفعًا فهو ربا " (4)
تواترت الأحاديث والآثار على هذا المعنى، فأصبح تحريم اشتراط المنفعة للمقرض في أي شكل وصورة من المسلمات في الفقه الإسلامي، و " أن السلف إذا جر منفعة لغير المقترض فإنه لا يجوز، سواء جر نفعًا للمقرض، أو غيره ". (5)
إن اشتراط أي نفع لصالح المقرض يُخرج عقد القرض أن يكون (عقد إرفاق وقربة) " فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه، ولا فرق بين الزيادة في القدر أو الصفة ". (6)
__________
(1) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، الطبعة الأولى، تحقيق: الرحالي الفاروق وآخرين، (قطر. على نفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، عام 1398 هـ/ 1977) ، ج 2، ص 478
(2) القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، (بيروت: دار إحياء التراث العربي) ، ج2، ص 202
(3) الحاوي الكبير، الطبعة الأولى، تحقيق ياسين ناصر محمود الخطيب وآخرين، (مكة المكرمة: المكتبة التجارية، عام 1414 هـ/ 1994 م) ، ج 6، ص 84
(4) العسقلاني، ابن حجر، بلوغ المرام مع شرحه سبل السلام، (مصر: مطبعة الاستقامة) ، ج 3، ص 30؛ رُوي هذا الحديث مرفوعًا بهذا اللفظ عند ابن حجر، لكن في إسناده سوار بن مصعب وهو متروك، قال عمر بن زيد في المغني الم يصح فيه شيء) ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله ابن سلام وابن عباس موقوفا عليهم ". الشوكاني، محمد، نيل الأوطار، الطبعة الأولى، ضبط محمد سالم هاشم، (بيروت: دار الكتب العلمية، عام 1415 هـ) ، ج 5، ص 274
(5) الحطاب، أبو عبد الله محمد بن محمد، مواهب الجليل لشرح مختصر أبي الضياء سيدي خليل، الطبعة الأولى، (مصر: مطبعة السعادة، عام 1329 هـ) ، ج 4، ص 546. ينظر هذا الموضوع بتفصيل في كتاب (عقد القرض في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة مع القانون الوضعي) للقاضي الأستاذ الدكتور علاء الدين خروفة، الطبعة الأولى، (بيروت: مؤسسة نوفل، عام 1982 م) ، ص 247
(6) البهوتي، كشاف القناع، ج 3، ص 317(10/1095)