معيار التشخيص:
ومن هنا فمن الطبيعي أن نبحث عن معيار لتشخيص الموضوع المحرم المتحايل به عن غيره والمعيار الذي يطرح هنا هو العرف.
والعرف إنما يرجع إليه في ثلاثة مجالات:
الأول: ما يكشف منه الحكم الشرعي الفرعي أو حتى الأصل العام وذلك لو ثبتت هناك سيرة عرفية عامة على إجراء عقد الفضولي مثلًا أو الاستصحاب وكانت هذه السيرة ممتدة إلى عصر المعصوم مما يحقق التقرير والإمضاء له بمقتضى عدم صدور الردع المناسب له.
الثاني: تشخيص المفاهيم التي أوكلت إليه من قبل الشارع من قبيل معرفة المفاهيم التالية وبالتالي مدى انطباقها على مصاديقها:
(الإناء، الصعيد، الفقير، المسكين، الغنى، الإسراف، التبذير..) .
الثالث: ما يرجع إليه لمعرفة مرادات المتكلمين عندما يستعملون الألفاظ سواء كان المتكلم الشارع أو غيره ويرجع إليه ما هو من قبيل الدلالات الالتزامية إذا كان منشأ الدلالة عرفيًا، ويمثل له بحكم الشارع بطهارة الخمر الذي انقلب إلى خل الملازم عرفًا لطهارة الإناء، وكذلك البحث عن القرائن العرفية، وأنواع الجمع العرفي بين الدليلين المتنافيين، ويدخل هنا تشخيص مراد غير الشارع كما في أبواب الأقرارات والوصايا.(9/1420)
نعم هناك بعض المفاهيم التي يرى الشارع أن يتدخل فيها بنفسه لتشخيص بعض مصاديقها لغموضها على العرف أو لخشيته من اتجاه العرف إلى مصاديق أخرى، كما في الفقاع مثلًا أو الربا المعاوضي.
ولو عدنا إلى موضوعنا لرأينا أن اللازم الحصول على تأكد عرفي من عدم صدق الربا مما يستدعي رفض الحالات المشتبهة بملاحظة ما ورد من تأكيد شديد على عدم الاقتراب منه، هذا مع مراعاة أصول أخرى أكدت على مبدأ السماح والتيسير والمنن الإلهية التي لا ينبغي ردها، والتشدد مخالف لهذه المضامين كما في مسألة (التقصير في السفر) .
وحينئذ فيجب اتباع النظر العرفي الدقيق، والعرف لا يرى الفرق بين العملين أو العقدين إذا لم يتمتع أحدهما بشروط وظروف تختلف عن الأخرى.
فالتغيير اللفظي المجرد لا يخرج العقد من مصاديق الربا وصغرياته في نظر العرف أو أن يقال إن العرف يوسع من مفهوم الربا القرضي متجاوزًا به عقد القرض نفسه ليشمل كل مورد مشابه له إذا لم تختلف الشروط والنتائج فيه فتكون التوسعة في (الكبرى) .
فمحاولات من قبيل ما يلي تعد من تطويل المسافة وتعقيد الأمر فقط:
أ - وضع مال بإزاء عملية الإقراض نفسها لا في مقابل المال المقترض.
ب - بيع ثمانية دنانير مثلًا بعشرة مؤجلة.
جـ- بيع العينة مع اشتراط البيع الثاني في البيع الأول.
وقد جاء في الرواية عن علي بن جعفر عن الإمام الكاظم (ع) قال: سألته عن رجل باع ثوبًا بعشرة دراهم ثم اشتراه بخمسة دراهم أيحل؟ قال إذا لم يشترطا ورضيًا فلا بأس.
وهنا محاولات كثيرة أخرى لا يرى العرف خروجها عن الربا رغم تطويل المسافة.
أما بيوع الآجال أو بيوع الوفاء فإن الشرائط والظروف فيها تختلف من حيث الملكية والتلف والنماء وأمثال ذلك مما يضع علامات تغييرية أمام العرف تمنع من الصدق العرفي للربا عليها.
كما أنها قد تكون عقودًا مقصودة في نفسها دونما أي قصد للربا فلا يمكننا إذن إبطالها بالمعيار العرفي ولا نستطيع بعد هذا أن نستند إلى سد الذرائع لتحريمها أو إبطالها بمجرد أنها قد تؤدي إلى نفس النتيجة أو قد تستخدم غطاء لعملية ربوية، ما دامت لا تؤدي بشكل قطعي أو غالبي إلى الحرام.(9/1421)
فتح الذرائع:
ذكرت الموسوعة الكويتية بأن المراد به هو (تيسير السبل إلى مصالح البشر) وقال القرافي المالكي: اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي إلى الجمعة والحج والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة:
ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] ثم ذكر أمثلة من ذلك منها التوسل إلى فداء أسارى المسلمين بدفع المال للكفار - والذي هو محرم عليهم الانتفاع به بناءًا على أنهم - مخاطبون بفروع الشريعة عند المالكية وعند الإمامية أيضًا ومنها دفع المال لرجل يأكله حرامًا حتى لا يزني بامرأة (1) .
__________
(1) الموسوعة ج24 ص 281 ـ 282 ويلاحظ هنا أن الإمامية لا يطبقون على حكم تكليف الكفار بالفروع فليراجع كتاب مستند العروة الوثقى ج5 من كتاب الصلاة ص111 حيث نجد الإمام الخوئي ينكر ذلك تبعًا لصاحب المدارك.(9/1422)
وقد ذكرنا في مطلع البحث أن التعريف الأفضل هو: إيجاب الوسيلة التي يتوقف عليها فعل واجب وإلا فالتعريف المذكور هنا يشمل حتى الأفعال الخارجية ويأتي هنا بحث (مقدمة الواجب) و (التزاحم) المطروح بشكل مفصل في كتب الإمامية وملخصه:
إنه لو توقف واجب على مقدمة ما فإن المقدمة بلا ريب سوف تجب عقلًا لأن نفس وجوب ذي المقدمة يحرك نحو الإتيان بمقدماته ... وإنما وقع الخلاف في وجود وجوب شرعي (مولوي) للمقدمة بالإضافة للوجوب العقلي فيقال بوجود ملازمة بين الحكم الشرعي في ذي المقدمة والحكم الشرعي في المقدمة ويتفرع عليه القول بـ (الوجوب الغيري) أي ما وجب لغيره.
والحقيقة هي أن كل واجب تنظر فيه المصلحة فيمكن أن يكون واجبًا لغيره إلا أن المراد هنا هو أن يكون مصب الجعل الشرعي على شيء ثم يترشح الوجوب الشرعي إلى مقدماته.
وهذا الوجوب الغيري للمقدمات له خصائص منها:
أ - أنه لا يحرك نحو فعل المقدمة بشكل مستقل عن التحريك نحو ذي المقدمة.
ب - وأنه لا يستتبع ثوابًا (إلا باعتباره شروعًا في امتثال ذي المقدمة) .
جـ- وإن مخالفته ليست موضوعًا مستقلًا لاستحقاق العقاب إضافة للعقاب على ذي المقدمة؛ لأن الملاك الذي تم تفويته هو ملاك ذي المقدمة، ولذلك لا عقاب على المقدمات بالإضافة لتفويت أصل الواجب.
د- وأنه لا يتوقف على قصد القربة فهو واجب مقدمي ملاكه المقدمية لا غير إلا أن يكون قصد القربة جزءًا من المقدمة نفسها.
والملاحظ أن العلماء الذين فصلوا كثيرًا في هذا المورد تحيروا في الثمرة العملية الناتجة من القول بالوجوب الغيري للمقدمة وعدمه.(9/1423)
وقد ذكر الشهيد الصدر (رحمه الله تعالى) أن أفضل ما يمكن أن يقال في المورد هو أمران:
الأول: إذا أصبح واجب علة تامة لحرام (أي ذريعة لا تنفك عن النتيجة المحرمة) وكان الواجب أهم ملاكًا من الحرام، فإننا إذا قلنا بعدم وجود ملازمة (بين الحكمين الشرعيين في المقدمة وذيلها) يعود الأمر من حالات ما يسمى لديهم بالتزاحم بين ترك الحرام وفعل الواجب والعمل هنا على تقديم الأهم ملاكًا.
أما إذا قلنا بوجود الملازمة فهذا يعني أن هناك حرمة مولوية تترشح إلى الواجب فينصب حكمان على مورد واحد هو (الحرمة الغيرية المولوية والوجوب النفسي) وهذا يعني أن دليلي الوجوب والحرمة يتكاذبان ويدخل المورد في باب التعارض مما يتطلب تطبيق قواعده لا قواعد باب التزاحم (1)
__________
(1) ويمكن أن يناقش في هذا الاستنتاج بما فرق به المرحوم الشيخ المظفر في (أصوله ج2 ص116) بين أبواب التزاحم والتعارض واجتماع الأمر والنهي حيث أكد أن العنوان المأخوذ في الخطاب الشرعي إذا كان مأخوذًا بنحو الفناء في مطلق الوجود (كما في العموم البدلي في قبال العموم الاستغراقي حيث يسع العنوان جميع مصاديقه) ولم تكن هناك مندوحة، فإنه يدخل في باب التزاحم بين التكليفين الفعليين (لأنه لا معارضة بين الدليلين في مقام الإنشاء بعد أن لم يكن الخطاب متسعًا لمصاديقه) وما نحن فيه من هذا القبيل لأن المأخوذ تكاذب في مقام الجعل والإنشاء بين خطاب (صل) النفسي وخطاب (لا تصل) الغيري الذي افترضنا أنه ترشح من خطاب (لا تغضب) بمقتضى الملازمة بين الحكمين المولويين بين حكم المقدمة وحكم ذيها إلا أنه قد يؤدي ما قاله الشهيد الصدر بأن هناك فرقًا بين التنافي في خطابي (لا تصل) و (ولا تغصب) والتنافي في خطابي (صل ولا تصل) لأنهما متنافيان بالفعل والترك، ولا مجال للتزاحم هنا. والجواب أننا نتصور التزاحم بينهما أيضًا لاختلاف الملاك فيهما فهذا يتبع الملاك النفسي للمقدمة وهذا يتبع الملاك المقدمي لها فيقدم الأهم على المهم. وعليه فالظاهر أن الثمرة العملية لا تظهر في هذا المثال لأن المقام دائمًا هو مقام التزاحم لا غير(9/1424)
الثاني: إذا كان الأمر على العكس فتوقف فعل الواجب كإنقاذ غريق محترم على ارتكاب حرام كتصرف بأرض مغصوبة فإن حرمة الغصب هنا تسقط لتزاحمها مع الواجب الأهم وحينئذ فإن ارتكب الغصب دون أن ينقذ الغريق، فإن لم نقل بالملازمة فقد ارتكب حرامًا، أما إذا قلنا بها فإن الوجوب الغيري يمنع من اتصاف هذه الحركة بالحرمة (1) .
وقد اختار المرحوم الصدر انكار الوجوب الغيري كحكم شرعي للمقدمات وإن سلم بوجود شوق وحب غير ناشيء من التلازم بين حب شيء وحب مقدماته (2) .
ومبنى المتأخرين من علماء الإمامية كالمرحوم السيد محسن الحكيم والمرحوم الإمام الخوئي وغيرهما انكار هذه التبعية أيضًا ـ وهو المذهب الحق.
وعليه، ومع إنكار وجود حكم شرعي للمقدمة فإن الأمر يتحول إلى نوع من التزاحم بين تنفيذ حكم المقدمة في نفسها وحكم ذي المقدمة بعد أن لم يمكن تنفيذهما معًا.
والتزاحم ـ كما هو معلوم ـ إنما يكون في مورد يصدر فيه حكمان من الشارع ولكنهما يتنافيان في مقام الامتثال إما لعدم القدرة على الجمع بينهما كما في المثال السابق أو لقيام الدليل الثالث على عدم إرادة الجمع بينهما:
وفي هذا المجال يرجع إلى مرجحات باب التزاحم.
وأهم معيار هو الأهمية المستقاة من الشريعة.
وهنا تأتي بحوث في بيان علامات ومعايير الأهمية. فيقال إن الحكم المضيق مثلًا مقدم على الحكم الموسع (كما لو تزاحم أداء الدين المستحق مع حكم الصلاة في وقتها الموسع) وإن ما ليس له البدل مقدم على ما له البدل.
(كما لو تزاحم الأمر بالوضوء مع انقاذ نفس ظامية) .
وإن ما كان أمره معينًا يقدم على ما كان مخيرًا.
(كالوفاء بالنذر فإنه يقدم على الكفارة المخيرة) .
وإن ما كان مشروطًا بالقدرة العقلية مقدم على ما كان مشروطًا بالقدرة الشرعية.
(كتقديم الوفاء بالدين على الحج) .
وهكذا.
__________
(1) دروس في علم الأصول ـ الحلقة الثالثة ج1 ص377 ـ 378
(2) دروس في علم الأصول ـ الحلقة الثالثة ص 383(9/1425)
ومن هنا نعرف أن البحث عن سد الذرائع يعود إلى البحث عن التزاحم، ففي الأمثلة التي ذكرها القرافي يتم التزاحم مثلًا بين وجوب فداء أسرى المسلمين وحرمة إعانة الكفار في الانتفاع بمال المسلمين، أو بين حرمة الإعانة على أكل المال بالباطل وحرمة الزنى، وأمثال ذلك حيث يقدم الأهم على المهم، بل يمكن القول بأن التزاحم بين وجوب ذي المقدمة وإباحة المقدمة في مورد السعي إلى الجمعة فيقدم الأهم وهو الوجوب.
أما الحسن الذي ذكره للوسائل وأنها تدخل في زيادة الثواب كما في الآية الكريمة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} [التوبة: 120] فهو في الواقع ناتج من ارتفاع صعوبة الجهاد نفسه و (أفضل الأعمال أحمزها) بلا ريب.
الخلاصة: من خلال ما تقدم نستخلص الأمور التالية:
1- أن هناك اختلافًا حقيقيًا بين العلماء من مختلف المذاهب حول مورد النزاع وهو الذرائع التي لا تستلزم ولو بشكل عرفي تحقق الحرام.
2- أنه قد يشتد اهتمام الشارع بنفي مفسدة ما فيعمل على سد كل الطرق التي تؤدي إليها ولو احتمالًا إلا أن ذلك لا يشكل دائمًا قاعدة عامة.
3- إن لولي الأمر في ظل الظروف التي يشخصها أن يحرم بعض الوسائل المباحة باعتبار استغلالها للإقدام على الحرام ومن أمثلة ذلك تحريم استقبال الباث الخارجي للتلفزة الغربية المعادية للأخلاق.
4- أن الأدلة التي ذكرها القائلون بسد الذرائع وأهمها دليل الاستقراء وأدلة الاحتياط والدليل العقلي لا يمكنها أن تنهض بقضية سد الذرائع لورود مناقشات جادة عليها.
5- إن سد الذرائع حتى لو تمت أدلته ليس أصلًا من أصول الفقه وإن أمكن أن يشكل قاعدة مهمة عامة.
6- إنه قد ينطبق على بعض المقدمات عنوان محرم من قبيل عنوان (الإعانة على الإثم) فتحرم لذلك لا لكونها ذريعة محتملة الإيصال إلى الحرام.
7- إن المعيار في التفريق بين الحيل الشرعية المرفوضة ومحاولات التخلص الحقيقي من الحرام هو العرف الذي أوكل الشارع إليه تشخيص المفاهيم.
8- عند الحديث عن فتح الذرائع هناك مجال لبحث وجوب المقدمة وبحوث التزاحم الذي يأتي عندما يتزاحم واجبان في مقام الامتثال وحينئذ يقدم الأهم على المهم.
والله الهادي إلى سواء السبيل
الشيخ محمد علي التسخيري(9/1426)
سد الذرائع
إعداد
الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بالهند
بسم الله الرحمن الرحيم
سد الذرائع
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وخاتم المرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدي بهديه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد: إن سد الذرائع أصل عظيم تنبني عليه مسائل كثيرة في جميع الأبواب الفقهية وخاصة في القضايا المعاصرة والمشكلات الحاضرة الآن.
المجددون قد تحيلوا لتحليل الحرام بأعمال ظاهرها مباح وفي باطنها نار فعلى الفقهاء التيقظ التام لئلا توصل فتاواهم لتحليل الحرام الصراح، فعلينا أن ندرس هذا الأصل الفقهي العظيم سد الذرائع دراسة عميقة ولا نستعمله للتضييق على الناس فيما رخص فيه الشرع ولا نأذن للإباحيين أن يبيحوا كل حرام.
قد درسنا في هذا البحث سد الذرائع لغة واصطلاحًا وفيما يجب فيه سد الذرائع وما هي العلاقة بين سد الذرائع والحيل وغير ذلك وإليكم التفصيل:
تعريف الذريعة لغة واصطلاحًا:
الذريعة من ذرع وهذه المادة تنبئ عن الامتداد والحركة ومنه الذارع ما بين طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى وذرع الرجل: رفع ذراعيه منذرًا أو مبشرًا قال:
تؤمل انفال الخميس وقد رأت سوابق خيل لم يذرع لديرها
وأذرع في الكلام وتذرع أكثر وأفرط، والذرع الطويل اللسان بالشر وذرع الرجل في سياحته تذريعًا: اتسع ومد ذراعيه والتذريع في المشي تحريك الذراعين(9/1427)
والذريعة: الوسيلة وقد تذرع فلان بذريعة أي توسل والجمع الذرائع، والذريعة مثل الدريئة جمل يختل به الصيد، يمشي الصياد إلى جنبه، فيستتر به، ويرمي الصيد إذا أمكنه، وذاك الجمل يسيب أولا مع الوحش حتى تألفه،
والذريعة السبب إلى الفيء، وأصله من ذلك الجمل يقال: فلان ذريعتي إليك، أي سببي ووصلتي الذي أتسبب إليك ...
قال ابن الأعرابي سمي هذا البعير الدريئة والذريعة ثم جعلت الذريعة مثلًا لكل شيء أدنى من شيء وقرب منه وأنشد،
وللمنية أسباب تقربها كما تقرب للوحشية الدرع
وفي نوادر الأعراب: أنت ذرعت بيننا هذا وأنت سجلته يريد سببته.
وكذلك الذريعة استعملت بمعنى الحلقة، يتعلم عليها الرمي أو الطعن مثل الدريئة (1) .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور 3/ 1698(9/1428)
والحاصل: أن لفظ الذريعة لغة عامة في كل ما يقرب الشيء إلى الشيء ويكون سببًا للحصول على آخر، وفيه الامتداد والتحرك، والمشيء إلى القدام، واستعمالاتها اللغوية عامة في الأشياء المادية وغيرها، وأيضًا الأمر الدقيق فيه الذي يقربها إلى المعنى الاصطلاحي الخاص وهو التستر ونوع من الختل، كان الشخص الذي يجعل شيئًا ذريعة لأن يصل إلى شيء آخر، الذي هو المقصود الأصلي له، فيستر جنب هذا الشيء، الذي جعله ذريعة كما أن الصائد يجعل الجمل للصيد سترًا له، ويريد أن يصل إلى الصيد الوحشي.
فإطلاق لفظ الذريعة تحتاج إلى ثلاثة أمور:
الأول: هو الذي يفضي إلى المقصود.
والثاني: الأمر الذي هو المقصود.
والثالث: علاقة السببية بين الأمرين.
والسد لغة: الجبل الحاجز، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف: 93] .
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 9] قال الزجاج: هؤلاء جماعة من الكفار أرادوا بالنبي صلى الله عليه وسلم سوءًا فحال الله بينهم وبين ذلك وسد عليهم الطريق الذي سلكوه فجعلوا بمنزلة من علت يده وسد طريقة من بين يديه ومن خلفه (1) .
فالحاصل: أن السد هو الإغلاق، وسد الطرق، ومعنى سد الذريعة هو المنع عن أمر يكون سببًا لحصول أمر آخر، ويقابله في فتح الذريعة، ومعناه فتح الطريق لحصول المقصود، فالمراد به إذن عمل يكون سببًا لحصول أمر آخر.
__________
(1) لسان العرب ص 1979 وما بعدها(9/1429)
الذريعة في اصطلاح الأصوليين:
كما ظهر مما مر في المعنى اللغوي للذريعة أن الذريعة هي الوسيلة إلى الشيء قال صاحب تهذيب الفروق.
(الذريعة بالذال المعجمة الوسيلة إلى شيء وأصلها عند العرب ما تألفه الناقة الشاردة من الحيوان، لتضبط به ثم نقلت إلى البيع الجائز صورة المتحيل به على ما لا يجوز، وهو السلف الجار نفعًا، وكذا غير البيع على وجه التحيل به على ما لا يجوز من كل شيء كأنه وسيلة لشيء) (1) .
وقد قال الشاطبي: إن حقيقة الذريعة التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة (2) .
وقال ابن رشد في كتاب المقدمات: إن الذرائع هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة، ويتوصل بها إلى فعل المحظور، ومن ذلك البيوع التي ظاهرها الصحة، ويتوصل بها إلى إباحة الربا) (3) .
وقال ابن القيم الجوزية: لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في صحتها والإذن بها بحسب إفضاؤها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له ومنعًا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم وإغراء للنفوس به.
وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضًا ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء، إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال، ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم، بأن حرمها ونهى عنها. والذريعة: ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء (4) .
__________
(1) تهذيب الفروق 3/274
(2) الموافقات للشاطبي 4/ 199
(3) المقدمات كتاب البيوع 2/ 524
(4) إعلام الموقعين لابن القيم الجوزية 2/ 147(9/1430)
ويبدو بعد إمعان النظر في التعريفات التي ذكرها الأصوليون أن الذريعة لها إطلاقان.
الأول: الإطلاق العام وهو كل ما كان وسيلة من خير أو شر يفضي إلى ما قصد من شر أو خير.
والثاني: كل خير ومباح يكون سببًا ووسيلة للشر وهذه حقيقة عرفية كما قال صاحب تهذيب الفروق.
وبناء على الإطلاق الأول: إذا كانت الذريعة خيرًا يفضي إلى شر فيجب سدها، وإذا كانت شرًا يفضي إلى خير يجب فتحها، وأما بناء على الثاني: فكل خير مباح إذا كان ذريعة لشر أو محرم يجب سدها، وهذا سد الذرائع.
فالحاصل أن الذريعة في اصطلاح علماء الأصول: كل قول أو عمل يكون مباحًا في نفسه، ولكنه يفضي إلى معصية ومحظور شرعي، كالبيع فإنه مباح في نفسه ولكن الاشتغال به عند أذان الجمعة يكون سببًا للمنع عن السعي إلى المسجد وذلك ما أمر به الله تعالى.
والسد معناه: المنع والإغلاق، فمعنى سد الذرائع هو المنع عن كل قول وعمل هو مباح في الأصل، ولكنه يؤدي إلى أمر محرم واعلم: أنه حكى في تهذيب الفروق عن الإمام ابن العربي: قاعدة الذريعة التي يجب سدها شرعًا، هو ما يؤدي من الأفعال المباحة إلى محظور منصوص عليه، لا مطلق محظوراً (1) .
__________
(1) تهذيب الفروق 2/44(9/1431)
أقسام الذرائع:
قسم الإمام الشاطبي: الذرائع إلى أربعة أقسام:
الأول: الذرائع التي تفضي إلى المفسدة قطعًا كحفر البئر على باب أحد أو على طريق في ظلام الليل بحيث يقع فيه الخارج من البيت حتما،
الثاني: الذرائع التي تؤدي إلى المفسدة نادرًا، كحفر البئر في مكان لا يكون طريقًا عامًا، ولا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه ولكن قد يقع فيه من لا يدري ذلك عند المرور به في الظلام.
الثالث: الذرائع التي توصل إلى المفسدة غالبًا بحيث يغلب الظن إفضاؤه إلى الفساد كبيع الأسلحة في أيام الحرب مع الأعداء؛ لأن الظن الغالب أنها ستستعمل ضد المسلمين، أو كبيع العنب لمن يتخذه خمرًا لأن الغالب أنه يصنع منه الخمر.
الرابع: الذرائع التي ربما تسبب المفسدة ولكن لا غالبًا ولا نادرًا نحو بعض أنواع البيوع التي قد تفضي إلى الربا، ولكنها لا تكثر ولا تندر (1) .
__________
(1) انظر الموافقات 2/ 32(9/1432)
حكم الذرائع:
قد أجمع الفقهاء على النوع الأول، وهو الذي يكون إفضاؤه إلى الفساد قطعيًا عادة بأنه ممنوع، وعن هذا القسم قال الإمام القرافي في كتاب الفروق:
(بل الذرائع ثلاثة أقسام: قسم أجمعت الأمة على سده ومنعه وحسمه كحفر الآبار في طرق المسلمين فإنه وسيلة إهلاكهم فيها، وكذلك إلقاء السم في أطعمتهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى عند سبها) (1) .
أما النوع الثاني: وهو الذي يكون أداؤه إلى الفساد نادرًا فلا يحكم بمنعه، يقول القرافي:
وقسم أجمعت الأمة على عدم منعه، وأنه ذريعة لا تسد، ووسيلة لا تحسم، كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر فإنه لم يقل به أحد وكالمجاورة في البيوت خشية الزنا (2) .
أما النوع الثالث: وهو ما يغلب على الظن كونه موجبًا للفساد فقد ذهب العلماء إلى حظره ومنعه كالنوع الأول؛ لأن الشرع يقيم الظن الغالب في محل العلم واليقين في عامة الأحوال، وكثيرًا ما نرى أن ارتكاب مثل تلك الذرائع يوجب ارتكاب الممنوعات، وادعى القرافي الإجماع على منع هذا النوع مثل النوع الأول، فيقول:
(وما يغلب على الظن إفضاؤه إلى المفسدة أن هذا القسم قد أجمع على سده، كالمنع من حفر الآبار في طرق المسلمين إذا علم وقوعهم فيها أو ظن، وإلقاء السم في أطعمتهم إذا علم أو ظن أنهم يأكلونها فيهلكون) (3) .
ولكن العلامة ابن القيم أنكر الإجماع على منع هذا النوع في كتابه إعلام الموقعين، وحكى فيه خلاف العلماء قائلًا: إن بعض الشافعية وابن حزم روي عنهم الخلاف في هذا الصدد (4) .
أما النوع الرابع: وهو الذي لا يؤدي إلى المفسدة لا غالبًا ولا نادرًا، ولكن ربما يفضي إليها واختلف وجهات العلماء في حكم هذا النوع من المنع والجواز، فذهب الإمام أبو حنيفة والشافعي وابن حزم إلى عدم منع هذا القسم، وذلك لأن الفساد ليس غالبًا في هذه الصورة، والاعتبار للغالب ويستنتج من ذلك أن العقود والأعمال التي لا تؤدي إلى الفساد غالبًا لا تكون محظورة.
وأما الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل فإنهما يمنعان الذرائع في تلك الصورة كذلك، ويقولان إن ذلك الفعل ربما لا يبقى على إباحته الأصلية، لكونه موجبًا للفساد في كثير من الأحوال ونجد لذلك نظائر وشواهد كثيرة في الشرع مثلًا: الخلو بالمرأة الأجنبية، وسفر المرأة مع الرجل الأجنبي، فإن خوف الفتنة في هاتين الصورتين ليس غالبًا ولا نادرًا، فربما تقع الفتنة وربما لا تقع، ولكن الشرع الإسلامي قد منع من ذلك أيضًا فعلم من ذلك أنه يجب سد هذا النوع من الذرائع كذلك.
__________
(1) الفروق 2: 32
(2) الفروق 2/ 32
(3) الفروق 3/ 266
(4) إعلام الموقعين 3/ 136(9/1433)
نظائر سد الذرائع في الأحكام الشرعية:
وبعد ما ذكرنا تعريف الذرائع وأنواعها وأحكامها يبدو من المناسب أن نذكر عدة نظائر كذلك، التي روعيت فيها تلك الأصول
1- قال الله تعالى في القرآن الكريم: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
فظاهر أن الآلهة الباطلة باطلة في الواقع، وسبهم ليس من الشر في ذاته، إلا أن سب المشركين الله كرد الفعل لذلك هو أعظم خطيئة ولذلك سد القرآن الكريم هذه الذريعة التي يتوصل بها إلى الشر.
2- قد ورد النهي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، والغرض من ذلك هو المنع من المشابهة مع الكفار، وهذه المشابهة تتحقق بالسجود في تلك الأوقات.
وكذلك ورد النهي في الحديث الشريف عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها في النكاح لأنه يوجب قطع صلة الأرحام.
وكذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدائن عن قبول هدية المدين؛ لأن ذلك ربما يحدث الميل في نفس الدائن إلى الانتفاع بالدين.
3- نهى الخليفة الثاني سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه عن الصلاة عند الشجرة التي انعقدت بيعة الرضوان تحتها، بل إنه قام بقطعها عندما خاف من أن هذا العمل المباح قد يدفع الناس إلى العودة إلى نزعة عبادة الأصنام القديمة، فقال رضي الله عنه حين رأي الناس يأتون إليها، ويصلون عندها، أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى، ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف، كما يقتل المرتد، ثم أمر بقطعها.
4- إيقاع الطلاق يخرج المرأة من النكاح، وإذا خرجت المرأة من النكاح لا ترث زوجها، فإيقاع الطلاق في مرض الموت ينتج حرمان المرأة من الميراث وقام الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بتوريث زوجة عبد الرحمن في مرض وفاته، بالرغم من أن عدتها كانت قد انقضت وقد أجاب عمر رضي الله عنه عندما سأله القاضي شريح عن رجل طلق امرأته ثلاثًا وهو مريض، بأن المرأة تستحق الإرث ما دامت في العدة، ومن الظاهر أن الطلاق الذي جعله الشرع مباحًا يوجب التحريم من الإرث، فالمطلق وإن لم يقصد ذلك، ولكنه يتهم به لإقدامه على الطلاق في تلك الحال ولذلك أزيل أثر هذا الطلاق في باب الوراثة، وذلك سد للذريعة.(9/1434)
الفرق بين الذريعة والسبب:
السبب كل شيء يتوصل به إلى غيره ومعناه الحبل أيضًا قال أبو عبيدة: السبب كل حبل حدرته من فوق وقال خالد بن جنب: السبب من الحبال القوي الطويل قال: ولا يدعى الحبل سببًا حتى يصعد به وينحدر به والسبب يستعمل لكل شيء يتوصل به إلى غيره.
أما عند الأصوليين: فالسبب ما يكون طريقًا إلى الحكم من غير تأثير، أي لا يضاف إليه وجوب ولا وجود، ولا يعقل فيه معاني العلل لكن يتخلل بينه وبين الحكم علة قال في كشف الأسرار.
السبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة.. ومعنى ذلك أن الجميع يرجع إلى معنى واحد، وهو أن السبب ما يكون موصلًا إلى الشيء فإن الباب موصل إلى البيت، والحبل موصل إلى الماء، وهو في الشريعة عبارة عما هو طريق إلى الشيء أي إلى الحكم، يعني هو في عرف الفقهاء مستعمل فيما هو موضوعه لغة أيضًا ... ولهذا قال بعضهم: السبب في اللغة عبارة عما يتوصل به إلى مقصود ما، وفي اصطلاح أهل الشرع عبارة عما هو أخص من المفهوم اللغوي وهو كل وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرفًا لحكم شرعي، وفائدة نصبه سببًا معرفًا للحكم سهولة وقوف المكلفين على خطاب الشارع في كل واقعة من الوقائع، بعد انقطاع الوحي حذرًا من تعطيل الأحكام الشرعية في أكثر الوقائع، فعلى هذا التفسير، يكون السبب اسمًا عامًا متناولًا لكل ما يدل على الحكم، ويوصل إليه من العلل وغيرها، فيكون تسمية الوقت والشهر والبيت والنصاب، وسائر ما مر ذكرها في باب بيان أسباب الشرائع أسبابًا بطريق الحقيقة، وعلى التفسير المذكور لا يتناول العلل بل يكون اسمًا لنوع من المعاني المفضية إلى الحكم، فيكون تسمية تلك الأشياء أسبابًا بطريق المجاز (1) .
__________
(1) كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي ص 17(9/1435)
وقال سعد الدين التفتازاني في شرح التلويح: (أما السبب) .
وهو لغة ما يتوصل به إلى الشيء واصطلاحًا: ما يكون طريقًا إلى الحكم والطريق إليه لا مؤثر فيه، فلا بد للحكم من علة مؤثرة فيه موضوعة له، والسبب إما أن يضاف إليه أو لا، فالأول: السبب: الذي في معنى العلة (1) .
وقال الإمام جلال الدين أبو عمر بن محمد بن عمر الخبازي:
أما السبب فأربعة: حقيقة: وهو ما يكون طريقًا إلى الحكم من غير أن يضاف إليه وجوب ووجود لكنه تخلل بينه وبين الحكم علة لا تضاف إلى السبب مثل دلالة السارق على مال إنسان، وحل قيد العبد، وفتح باب القفص والاصطبل ودفع السكين إلى صبي، ليمسكه فوجأ به نفسه، أو غصبه فمات في يده بمرض، أو قال له إرق هذه الشجرة فانقضها لنأكل أو لتأكل أو حمله على دابة فسيرها وسقط (2) .
قال الآمدي: والسبب في اللغة عبارة عما يمكن التوصل به إلى مقصود ما ومنه سمي الحبل سببًا، والطريق سببًا لامكان التوصل بهما إلى المقصود، وإطلاقه في اصطلاح المتشرعين على بعض مسمياته في اللغة (وهو كل وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرفًا لحكم شرعي) ولا يخفى ما فيه من الاحتراز (3) .
بعدما عرفنا المعنى اللغوي والاصطلاحي للسبب، وصلنا إلى أن الذريعة والسبب متقاربان في اللغة، أما الفرق بينهما في الاصطلاح هو أن الذريعة يراد بها التوصل إلى محظور، والسبب هو ما يترتب عليه الشيء كان مقصودًا أو غير مقصود، فالسبب بهذا المعنى العام عام يصدق على الذريعة إذا أراد العامل بفعل مباح التوصل إلى محظور وإذا كان العمل مفضيًا ولكن لم يقصد به فهو سبب أيضًا؛ لأنه يترتب عليه ذلك الأمر وليس بذريعة، فالسبب مراع فيه ترتيب الغير عليه والإفضاء إليه، أما الذريعة فتكون مفضية ولكن يقصد بها المحظور شرعًا.
__________
(1) شرح التلويح على شرح التوضيح 1/137
(2) المغني في أصول الفقه 337، 338
(3) الأحكام في أصول الأحكام 1/110(9/1436)
الفرق بين الذريعة والوسيلة:
والذريعة باعتبار تعريفها العام: يعم حتى يدخل في زمرتها ما إذا كان المطلوب حلالًا ويشمل السبب والوسيلة جميعًا، وذلك يشبه معناها اللغوي بدون فرق، نعم: يتحقق الفرق بينها وبينهما باعتبار المعنى الخاص، وهو الذي تختلف آراء العلماء الأصوليين في حدها، فلا بد في المعنى الخاص من وجود عدة أمور:
الأول: أن تكون الذريعة نفسها جائزة خارجة عن ماهية المحظور.
الثاني: أن تؤدي إلى فعل محظور شرعًا لا إلى مصلحة.
الثالث: أن يكون إفضاؤها في غالب الظن لا نادرًا.
فبناء على ما بينت من معنى الذريعة الخاص يكون تعريفه أكمل وأمنع.
الذريعة بالمعنى الخاص: عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه قويت التهمة في أدائه إلى فعل محظور (1) .
وأما الوسيلة: فهي تؤدي إلى تحقق مصلحة شرعية ثم هي تكون جائزة حينًا وتكون ممنوعة تارة، وفي هذا المعنى تفترق الذريعة عنها بالمعنى الخاص، قال محمد هشام البرهاني:
ونستطيع أن نقول هنا: إن العلماء متفقون على أن الوسيلة لا تكون ذريعة بالمعنى الخاص إلا إذا كانت مباحة جائزة متضمنة لمصلحة، فالوسيلة المحظورة الممنوعة ليست ذريعة في هذا المعنى ولهذا جرى الخلاف حول سدها ولو كانت ممنوعة لما جرى خلاف حول سدها (2) .
__________
(1) انظر سد الذرائع 74 وما بعدها لمحمد هشام برهاني
(2) انظر سد الذرائع 78 وما بعدها لمحمد هشام برهاني(9/1437)
معنى الحيلة:
الحيلة والاحتيال والتحيل: الحذق وجودة النظر والقدرة على دقة التصرف، ومن معانيها في اللغة والعرف: المكر والخديعة، والكيد وذلك مذموم ومحمود جميعًا، فإن قصد الفاعل خلاف ما يقتضيه ظاهره، وهو مذموم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ((المكر والخداع في النار)) (1) .
وإن كان قصده تحقيق مصلحة شرعية فهو حسن محمود لا قبح فيه ومن ذلك قوله تعالى في وصف من تخلف عن الهجرة لعذر معقول:
{لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98] .
أقسام الحيل:
وقد قسم العلماء الحيل إلى نوعين: الحيل الجائزة والأخرى المحرمة ويشملهما حد مشترك هو التحيل بوجه ما، لإسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط، أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة (2) .
الحيل المحرمة:
كل ما كان من الحيل يهدم ضابطة من الضوابط الشرعية أو يعارض مصلحة من مصالح الشرع الإسلامي المعتبرة سواء كانت الذريعة مشروعة أم غير جائزة، وهذا القسم على أربعة وجوه:
الوجه الأول: الاحتيال لتحليل ما هو حرام كالحيل الربوية بنوعيها، وهما أن يضم العاقدان إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود، أو يضما إلى العقد المحرم عقدًا غير مقصود.
الوجه الثاني: الاحتيال لتحليل ما انعقد سبب تحريمه وهو صائر إلى التحريم، كما إذا طلق أحد امرأته معلقًا ثم خالعها خلع الحيلة لتمنع وقوع الطلاق عند الشرط حتى بانت، ثم تزوجها بعد ذلك على رأي من يرى الخلع فسخ النكاح.
الوجه الثالث: الاحتيال على إسقاط ما هو واجب في الحال كالاحتيال لاسقاط الصلاة من ذمته بعد دخول وقتها ووجوبها بشرب خمر مثلًا ليخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه.
الوجه الرابع: الاحتيال لاسقاط ما انعقد وجوبه ولم يجب لكنه صائر إلى الوجوب، كالاحتيال على إسقاط الزكاة قبيل الحول بتمليكه ماله لبعض أهله ثم استرجاعه له بعد ذلك.
__________
(1) مجمع الزوائد 271
(2) انظر سد الذرائع ص86(9/1438)
الحيل الجائزة: هذا النوع الثاني من الحيل: هو ما لم يهدم أصلًا شرعيًا ولا يناقض مصلحة شرعية، والضابط فيه: أن يقصد به إحياء حق أو دفع ظلم أو فعلم واجب، أو ترك محرم أو إحقاق حق، أو إبطال باطل ونحو ذلك مما يحقق مقصود الشارع الحكيم فهو جائز متى كان الطريق إلى ذلك سائغًا مأذونًا فيه شرعاً (1) .
قال ابن القيم: (والاحتيال هنا: يأخذ أشكالًا ثلاثة: فإما أن يكون لدفع الظلم حتى لا يقع، وإما أن يكون لرفعه بعد وقوعه وإما أن يكون لمقابلته بمثله حيث لا يمكن رفعه، والأولان جائزان، وفي الثالث تفصيل، فإن كانت الحرمة لحق الله لم تجز المقابلة كما لو جرعه الخمر أو زنى بامرأته، وإن كانت الحرمة لكونه ظلمًا في المال فهي مسألة الظفر، أجازها قوم وأفرطوا حتى أجازوا قلع الباب نقب الحائط للمقابلة بأخذ المال، ومنعها قوم بالكلية، وتوسط آخرون) (2) .
__________
(1) سد الذرائع ص90
(2) انظر تفصيل ذلك في إعلام الموقعين 4/26 ـ 27(9/1439)
المقارنة بين الذرائع والحيل:
النوع الأول: الحيل المحرمة تناقض مقصد سد الذرائع تمامًا بالمعنى الخاص؛ لأن سد الذرائع يسد أبواب المحرمات والمفاسد إذ المتحيل يسلك مسلك الذرائع الممكنة التي توصل إليها، وتمهد له طريقًا إلى فتح أبوابها قال ابن تيمية:
واعلم أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع سد الطريق إلى ذلك المحرم بكل طريق، والمحتال يريد أن يتوصل إليه، ولهذا لما اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح شروطًا سد ببعضها التذرع إلى الزنا والربا، وكمل بها مقصود العقود لم يمكن للمحتال الخروج عنها في الظاهر، فإذا أراد الاحتيال ببعض هذه العقود على ما منع منه الشارع، أتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس الشيء الذي سد الشارع ذريعته، فلا يبقى بمنزلة العبث، واللعب وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة (1) .
وهذا هو القسم الذي شن عليه الغارة العلماء، وفي هذا الصدد نقل ابن قدامة عن عبد الله بن عمر: (من يخدع الله يخدعه) (2) .
أما النوع الآخر: الحيل الجائزة فإن ذلك يوافق طبيعة الشريعة الإسلامية النيرة، ويحقق هدف سد الذرائع بالمعنى العام ـ لأنه يكون التحيل في المحرمة لارتكاب محرم، وهذه هي التي تناقض سد الذرائع ـ ويكون التحيل في الجائزة لفعل جائز، أو مطلوب وهذه لا تناقض الذرائع، بل هي في حقيقتها تطبيق لوجه من وجوه العمل به، بمعناه العام وذلك يتمثل في دفع الفساد بأمر جائز، أو لارتكاب أخف الضررين (3) .
كما أباح ابن القيم خلع الحيلة مع حرمته في مذهبه بعد ما قارن بين مفسدتي التحليل والخلع فرأى الأول أنها أرجح من الثانية، والأخرى أخف منها، فاحتال لدرئها بالثانية، وهو يشير إلى ضابط الفرق بين النوعين.
(والحيلة المحرمة الباطلة، هي التي تتضمن تحليل ما حرمه الله أو تحريم ما أحله الله أو إسقاط ما أوجبه الله، وأما حيلة تتضمن الخلاص من الآصار والأغلال، والتخلص من لعنة الكبير المتعال فأهلًا بها من حيلة، وأهلًا بأمثالها والله يعلم المفسد من المصلح والمقصود تنفيذ أمر الله ورسوله بحسب الإمكان والله المستعان (4) .
__________
(1) فتاوى ابن تيمية 3/145، وما بعدها انظر إعلام الموقعين 3/171
(2) انظر التفصيل المغني 5/ 192
(3) انظر سد الذرائع ص94
(4) إعلام الموقعين 4/ 112 وما بعدها مع تصرف يسير.(9/1440)
موقف أئمة الفقه في الأخذ بسد الذرائع:
1- فمنهم من جعله دليلًا واعتبره مصدرًا من مصادر الفقه وأصلًا من الأصول التشريعية، كالأدلة الأربعة الأساسية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ففي تنقيح الفصول يحصر القرافي أدلة المجتهدين بالاستقراء فيجدها تسعة عشر، منها سد الذرائع (1) .
ويبتني مذهب مالك على ستة عشر دليلًا منها أيضًا سد الذرائع (2) .
قال أبو زهرة: هذا أصل من الأصول التي أكثر من الاعتماد عليها في استنباطه الفقهي الإمام مالك وقاربه في ذلك الإمام أحمد بن حنبل (3) .
2- ومنهم من يجعله قاعدة فقهية فحسب، لا مصدرًا كالمصادر الأربعة، يقول الشيخ فرج السنهوري في هذا الصدد عند كلامه حول مصادر الفقه.
وقد اعتاد كثير من الأصوليين أن يذكروا مصادر أخرى على أنها مصادر مختلف فيها، وهي في الواقع لا تعدو أن تكون أنواعًا من المصادر الأربعة السابقة.
يعني الكتاب والسنة والإجماع والقياس ـ أو قواعد كلية فقهية محضة (4) .
ثم قال أيضًا: ويذكرون الاستصحاب والبراءة الأصلية، وسد الذرائع والعلة والعرف وكلها قواعد فقهية وليست دليلًا يستند إليه في استنباط حكم شرعي (5) .
3- ومنهم من لا يسميه بتسمية معينة فتارة يسميه مبدأ، ومرة أصلًا وحينًا قاعدة، وهذا هو الغالب الشائع في استعمال العلماء.
__________
(1) تنقيح الفصول ص 198 الطبعة الأولى
(2) البهجة 2/ 126
(3) مالك لأبي زهرة ص 340
(4) موسوعة جمال عبد الناصر الجزء النموذجي ص16
(5) موسوعة جمال عبد الناصر الجزء النموذجي ص 16(9/1441)
فابن تيمية جعله قاعدة في فتاواه (1) . وأصلًا في موضع منها (2) . والعلامة الشاطبي قرره في الموافقات أصلًا من الأصول القطعية في الشرع (3) .
ويقول في موضع آخر: وقاعدة الذرائع أيضًا مبنية على سبق القصد إلى الممنوع (4) .
وعده أبو زهرة أصلًا مرة (5) . ويسميه مبدأ أخرى وثالثة قاعدة (6) . كذلك نرى مصطفى الزرقاء سماه مبدأ مرة وأصلًا أخرى (7) .
والحق في ذلك أن سد الذرائع قاعدة من القواعد الأصولية، لا أصلًا من أصول الفقه الإسلامي كما رجحها الدكتور محمد هاشم البرهاني بعد استعراض سد الذرائع باعتبار أسمائه مفصلًا في الأخير بقوله:
الحقيقة الثالثة: إن سد الذرائع كقاعدة: هو أقرب الأشياء إلى حقيقته وإنها تدخل في سلك القواعد الأصولية دون الفقهية فهو من مباحث علم الأصول لا من مباحث الفقه (8) .
وعمل الصحابة وتلامذتهم التابعون بسد الذرائع في وقائع كثيرة كقضية جمع القرآن، اجتماع جميع الصحابة على جمعه في نسخة واحدة وإحراق ما عداها، فنرى بعد زمن قليل الصحابة والتابعين تبادروا إلى كتابة العلم والسنن، واستحبوا ذلك سدًا لباب ضياعها.
هكذا نرى بعدهم أن الفقهاء عملوا بسد الذرائع وإن لم يسموه بذلك الاسم، منهم الإمام أبو حنيفة وأتباعه كثيرًا ما يرجعون إلى باب الاستحسان والعمل بالاستحسان، وجه من وجوه العمل بسد الذرائع، كذلك الإمام الشافعي وأصحابه شنوا حملة على رده وإنكاره لكن لا يخفي على المستقرئ المتتبع أنهم أعملوه في فروع كثيرة، وأما الإمام مالك وأحمد وأتباعهما فسارعوا إلى أخذه، واشتهر مذهبهم بإعماله في الفروع الفقهية بل غالت المالكية في تطبيقه على الجزئيات في بعض الأحيان.
__________
(1) فتاوى ابن تيمية 3/ 140
(2) فتاوى ابن تيمية 3/ 145
(3) الموافقات 3/ 61
(4) الموافقات 3/ 189
(5) مالك 340، وابن حنبل ص 327
(6) مالك ص 256
(7) انظر المدخل الفقهي 1/ 73
(8) سد الذرائع ص 174(9/1442)
وأما محل النزاع في سد الذرائع خصوصًا فيما بين الأئمة الأربعة ففي قسم واحد من أقسام الذرائع، وهو ما يفضي إلى المفسدة كثيرًا ولكن كثرته لم تبلغ مبلغ أن تحمل العقل على ظن المفسدة فيه دائمًا كمسائل البيوع الربوية أي التي قد تفضي إلى الربا (1) .
قال أبو زهرة عند كلامه على الموازنة بين الشافعي وأحمد … فقد أجمعوا على أن ما يؤدي إلى إيذاء جمهور ممنوع لا محالة، كحفر الآبار في الطرق العامة.
وقد أجمعوا أيضًا على أن ما يكون سبيلًا للخير والشر ويكون في فعله فوائد للناس، لا يكون ممنوعًا، كغرس العنب فإنه يؤدي إلى عصره وتخميره، ولكنه لم يكن لذلك بأصله، ولأن استخدامه لذلك احتمال والمنفعة في غرسه أكبر من هذه المضرة، والعبرة بالأمر الغالب أو الراجح في الظن وفيما عدا القسمين السابقين كان الخلاف، فالشافعي نظر إلى الأحكام الظاهرة، وإلى الأفعال عند حدوثها ولم ينظر إلى غاياتها ومآلاتها (2) .
بخلاف الإمام أحمد والإمام مالك فإنهما عند اتجاههما إلى الذرائع نظرًا إلى المآلات نظرة مجردة ونظرا إلى البواعث (3) .
وألقى الشيخ أبو زهرة الضوء على محط النزاع في كتابه (مالك) حيث قال: وهنا يتعارض جانبان قويان من النظر أحدهما النظر إلى الإذن، وأصل الإذن كان لمصلحة راجحة للفاعل، ولذا أجازه الشارع منه، والثاني المفسدة التي كثرت وإن لم تكن غالبة، فنظر أبو حنيفة والشافعي إلى أصل الإذن، ولذلك كان التصرف عندهم جائزًا لا مجال لمنعه. وهذا نظر أبي حنيفة والشافعي فرجحا جانب الإذن؛ لأنه الأصل، وأما مالك فقد نظر إلى الجانب الآخر، وهو جانب قوي أيضًا، وهو كثرة الفساد، المرتبة على الفعل وإن لم تكن غالبة (4) .
__________
(1) انظر الموافقات 2/242
(2) ابن حنبل ص 337
(3) ابن حنبل ص 338
(4) مالك لأبي زهرة ص 346 ـ 347(9/1443)
سد الذرائع عند المالكية:
ومن المعروف في أوساط أهل العلم أن سد الذرائع جعله المالكية أصلًا من أصول الاستنباط الفقهي الأساسية المهمة وفي البهجة نقلًا عن راشد: يعد الأدلة التي بني عليها مالك مذهبه ستة عشر دليلًا منها أيضًا سد الذرائع (1) .
هكذا نسبه أبو زهرة إلى المالكية (2) .
وفي الواقع أنهم توسعوا في تطبيقاته على الفروع الفقهية وبالغوا في ذلك حتى نسب إليهم وعد بعض الفقهاء سد الذرائع من خصوصيات مذهب إمام دار الهجرة (3)
ميزتهم في سد الذرائع:
ومن المحقق أن جميع العلماء يأخذون بسد الذرائع وإن لم يسموه بهذا الاسم، نعم: خالفوا المالكية في تطبيقها على بعض الفروع (4) .
قال أبو زهرة:
(ونحن نميل إلى أن العلماء جميعًا يأخذون بأصل الذرائع وإن لم يسموه بذلك الاسم ولكن أكثرهم يعطون الوسيلة حكم الغاية إذا تعينت طريقًا لهذه الغاية فلم تكن طريقًا لغيرها على وجه القطع أو غلبة الظن، أما إذا لم تكن الوسيلة متعينة لا بطرق العلم، ولا بطريق الظن فهذا يختص مالك بالأخذ بأصل الذرائع فيه إذا كثر ترتب الغاية على الوسيلة، كبيوع الآجال فإنها في كثير من الأحوال تكون بقصد التوصل إلى الربا، فتحرم لهذه الكثرة وسدًا لذريعة الربا) .
ويقول أيضًا في نفس الكتاب: فمبدأ سد الذرائع لا ينظر فقط إلى النيات والمقاصد الشخصية، بل يقصد مع ذلك إلى النفع العام أو إلى دفع الفساد العام، فهو ينظر إلى النتيجة مع القصد، أو إلى النتيجة وحدها (5) .
__________
(1) البهجة 2/ 126
(2) مالك ص 340
(3) انظر الفروق للقرافي 3/ 266، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 3/ 275 وتنقيح الفصول ص 200 والمدخل الفقهي 1/73.
(4) مالك ص 342 ـ 351
(5) مالك ص 324ـ 351(9/1444)
شواهد سد الذرائع عند المالكية:
ومن أبرز تطبيقاته عندهم، منعهم للعقود التي تتخذ ذريعة إلى أكل الربا، من ذلك بيوع الآجال وقد منع منها كل صورة تؤدي إلى ممنوع مثل: (أنظرني أزدك) وبيع ما لا يجوز متفاضلًا، وبيع ما لا يجوز نساء، وبيع وسلف، وذهب وعرض بذهب، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل أن يستوفى، وبيع وصرف، وهذه هي أصول الربا (1) . سنعرض بعضًا منها فيما يلي:
1- مثال ما يؤدي إلى بيوع وسلف: من باع سلعتين بدينارين لشهر ثم اشترى إحداهما بدينارين نقدًا، لم يجز لأن السلعة التي خرجت من يد البائع أولًا، ثم عادت إليه، اعتبرت ملغاة، فآل أمره إلى أنه دفع دينارًا وسلعة نقدًا ليأخذ عنها بعد شهر دينارين، الأول منهما: عند الدينار الذي دفعه نقدًا وهذا هو السلف، والثاني: منهما ثمن السلعة التي خرجت من يده ولم تعد وهذا هو البيع (2) .
2- ومثال ما يؤدي إلى ذهب وعرض بذهب: من باع شيئًا بمائة دينار إلى أجل ثم قدم المشتري فسأل البائع الإقالة على أن يعطي البائع عشرة دنانير نقدًا أو إلى أجل أبعد من الأجل الذي وجبت فيه المائة، لم يجز لأن ذلك خديعة إلى بيع الذهب إلى أجل إذا كانت العشرة مؤجلة لما بعد أجل المائة وإلى بيع ذهب وعرض بذهب إذا كانت العشرة نقداً (3) .
3- ومثال ما يؤدي إلى بيع الطعام قبل أن يستوفى: لو أراد أن يجريا المقاصمة بينهما في طعامين مؤجلين، أحدهما من سلم حل أجله والآخر من قرض لم يحل لم تجز لأنها تؤدي إلى بيع الطعام قبل أن يستوفى (4) .
__________
(1) انظر بداية المجتهد 2/140 وتهذيب الفروق 3/375
(2) انظر الدسوقي على الشرح الكبير 3/76
(3) بداية المجتهد 2/141
(4) انظر المدونة 9/142(9/1445)
مغالاتهم بإعمال سد الذرائع:
يظهر ذلك في التطبيقات التالية، يكره صيام ست من شوال عند الإمام مالك (1) . وقد ثبت استحبابها بالحديث الصحيح عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فذلك صيام الدهر)) (2) .
يقول النووي: قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحدًا من أهل العلم يصومها، قالوا فيكره لئلا يظن وجوبه، ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح وإذا ثبتت السنة، فلا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها، وقولهم قد يظن وجوبها ينتقض بصوم يوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب (3) .
هكذا غالوا في قراءة السجدة فجر يوم الجمعة، وثبتت قراءتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجر يوم الجمعة، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة (4) .
ونكتفي بذلك المثالين نموذجًا، والأمثلة سواهما مبسوطة في كتاب سد الذرائع للدكتور محمد هاشم البرهاني (5) .
__________
(1) انظر الاعتصام 1/188 ـ 319، وقواعد الأحكام 2/172 ـ 174
(2) انظر تحفة الأحوذي 3/ 466، وبدائع الصنائع 2/ 783، والفتح 2/780
(3) النووي على مسلم 6/ 168، وتحفة الأحوذي 3/ 56 وخصوصيات الجمعة للسيوطي 31
(4) انظر سد الذرائع 633 وما بعدها
(5) انظر إعلام الموقعين 1/29(9/1446)
سد الذرائع عند الحنابلة:
ومن المعلوم أن الحنابلة لا يقيسون إلا نادرًا، حتى يقدموا الضعيف على القياس، فيأخذ إمامهم أحمد بن حنبل المرسل، ويرجحه عليه فإذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم (1) .
فالأصل عنده: إذا لم يكن في المسألة نص ولا قول صحابي ولا أثر مرسل أو ضعيف لجأ إلى الأصل الخامس وهو القياس فاستعمله للضرورة (2) . ويدخل في جملة القياس الصحيح عند الحنابلة، رعاية المصالح، ومن وجوه العمل بها سد الذرائع وفتحها.
إنما قارب الإمام أحمد بن حنبل الإمام مالكًا في الأخذ بسد الذرائع وإعماله في كثير من الاستنباطات والأحكام الفقهية إلى حد كبير وإن وقع الاختلاف في تطبيقه على الجزئيات الفقهية في بعض الأحيان كما يبدو من دراسة شواهد سد الذرائع في الفقه الحنبلي وجعله أتباعه من بعد أصلًا فقهيًا أيضًا أيضًا واعتمدوا عليه تابعين لإمامهم إذا كان أصلًا من أصول الفتوى عنده (3) .
فنرى مبدأ سد الذرائع عندهم كالمالكية أنهم لا ينظرون فقط إلى النيات والمقاصد الشخصية بل يقصد مع ذلك إلى النفع العام، أو إلى دفع الفساد العام، وهم ينظرون إلى القصد والنتيجة أو إلى النتيجة وحدها (4) .
قال أبو زهرة: وقد قرر أنه إذا كان الباعث الخير والنتيجة كانت شرًا غالبًا أو مؤكدًا منع الفعل مع نية الخير اعتبارًا بالمآل والنتيجة قياسًا على قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (5) . [الأنعام: 108]
__________
(1) انظر إعلام الموقعين 1/ 29
(2) انظر المرجع السابق والمدخل إلى فقه الإمام أحمد للشيخ بدران 41 ـ 43
(3) ابن حنبل 330، مالك 342
(4) ابن حنبل 330، مالك 342
(5) ابن حنبل 336(9/1447)
شواهد سد الذرائع عند الحنابلة:
ومن أبرز تطبيقاتهم على أصل سد الذرائع.
1- ما جاء في المغني: ومن باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقدًا لم يجز، في قول أكثر أهل العلم؛ لأن ذلك ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع الكثير كألف بالقليل كخمسمائة والذرائع معتبرة عندنا ـ وقد نص الإمام أحمد على ذلك (1) .
2- ما نقل عن الإمام أحمد عن كراهيته الشراء ممن يرخص في سلعته ليمنع من الشراء من جاره ويشبهه النهي عن طعام المتباريين وهما الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر ومباهاته في التبرع وقد رأى ابن القيم أن النهي في الأمرين يتضمن سد الذريعة من وجهين.
الأول: أن تسليط النفوس على الشراء منهما، وأكل طعامهما تفريج لهما وتقوية لقلوبهما وإغراء لهما على فعل ما كرهه الله ورسوله.
والثاني: أن ترك الأكل والشراء منهما ذريعة إلى امتناعهما وكفهما عن ذلك (2) .
3- منع الإمام أحمد الأسير والتاجر من الزواج في دار الحرب خشية تعريض ولده للرق أو لأنه قد لا يمكنه منع العدو من مشاركته في زوجته، كما حرم الله نكاح الأمة على القادر على نكاح الحرة، إذا لم يخش العنت؛ لأن ذلك ذريعة إلى إرقاق الولد، حتى ولو كانت من الآيسات من الحبل والولادة سدًا للذريعة وحسمًا للباب (3) .
__________
(1) المغني 4/ 157 ـ 158
(2) إعلام الموقعين 3/ 169، انظر ابن حنبل لأبي زهرة 334
(3) المغني 9/ 281، إعلام الموقعين 3/164.(9/1448)
سد الذرائع وشواهده عند الشافعية:
وإن كان الإمام الشافعي وأصحابه بذلوا محاولاتهم في رد سد الذرائع وإنكاره، لكن أعملوه في جملة فروع مع ذلك، نعم فالشافعي رحمه الله نظر إلى الأحكام الظاهرة لا إلى غاياتها (1) . وقال في ذلك:
(الأحكام على الظاهر والله ولي الغيب من حكم على الناس بالإيمان جعل لنفسه ما حظر الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله عز وجل إنما يتولى الثواب والعقاب على الغيب لأنه لا يعلمه إلا هو جل ثناؤه وكلف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر ولو كان لأحد أن يأخذ بباطن عليه دلالة كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما وصفت من هذا يدخل في جميع العلم (2) .
ننقل بعض الجزئيات الفقهية التي اعتبر فيها الشافعية سد الذرائع فيما يلي:
1- قال الشافعي وأصحابه: ويستحب للمعذورين الجماعة في ظهرهم، حكي أنه لا يستحب لهم، فالجماعة المشروعة في هذا الوقت، هي الجمعة، وبهذا قال الحسن بن صالح وأبو حنيفة والثوري، والمذهب الأول كما لو كانوا في غير البلد، فإن الجماعة تستحب في ظهرهم بالإجماع فعلى هذا قال الشافعي: استحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا في الدين، وينسبوا إلى ترك الجماعة تهاوناً (3) .
2- منع المفطر بعذر عن الأكل عند من لا يعرف عذره سدًا لذريعة التهمة بالفسوق والمعصية (4) .
3- ومن ذلك ما أجازوا قتل الأطفال والنساء والأسرى الذين يتترس بهم الكفار لئلا يكون ترك قتلهم ذريعة إلى ترك الجهاد أو غلبة الكفار على المسلمين وفي هذا الصدد يقول الشيرازي.
(فإن تترسوا أطفالهم ونساءهم فإن كان في حال التحام الحرب جاز رميهم، ويتوفى الأطفال والنساء لأنه لو تركنا رميهم جعل ذلك طريقًا إلى تعطيل الجهاد وذريعة إلى الظفر بالمسلمين) (5) .
__________
(1) انظر ابن حنبل 337
(2) ابن حنبل 337
(3) المجموع 4/ 263
(4) المجموعه والمهذب 1/ 178
(5) المجموع 2/ 334(9/1449)
موازنة بين الأئمة الأربعة في الذرائع:
ويبدو واضحًا فيما تقدم من المباحث أن سد الذرائع قاعدة أو أصل مجمع عليه في نفس الأمر، وإن كان من المعروف لدى أهل العلم أن المالكية يأخذون به أكثر ويقاربهم الحنابلة والشافعية أقل الفقهاء أخذًا به، ويقرب إليهم أبو حنيفة وأصحابه لذلك صرح علماء المالكية وغيرهم: إن سد الذرائع ليس من خواص مذهب الإمام مالك (1) .
ثم نرى إجماعهم في بعض القضايا التي أعملوا فيها سد الذرائع بدون نزاع، ووقوع اختلافهم في بعضها، وذلك بناء على اختلاف أصول ضمنية في صدد (سد الذرائع) كما بينه الإمام أبو زهرة يقول:
(فقد أجمعوا على أن ما يؤدي إلى إيذاء جمهور المسلمين ممنوع لا محالة كحفر الآبار في الطرق العامة.
وقد أجمعوا أيضًا على ما يكون سبيلًا للخير والشر ويكون في فعله فوائد للناس لا يكون ممنوعًا كغرس العنب، فإنه يؤدي إلى عصره وتخميره، ولكن لم يكن لذلك بأصله ولأن استخدامه لذلك احتمال والمنفعة في غرسه أكبر من هذه المضرة والعبرة بالأمر الغالب أو الراجح في الظن.
وفيما عدا القسمين السابقين كان الخلاف: فالشافعي نظر إلى الأحكام الظاهرة ولم ينظر إلى غاياتها ومآلاتها.. وإن هذه النظرة تخالف نظر الإمام أحمد ومالك، فإنهما عند اتجاههما إلى الذرائع نظرًا إلى المآلات نظرة مجردة ونظرا إلى البواعث (2) .
وأما النظر في الفروع فيقف المالكية وحدهم في كثير من المسائل يسدون الذريعة فيها، على حين يكون الأئمة الثلاثة في الطرف الآخر، أو يكون لهم في المسألة قول واحد، على حين يكون للحنابلة قولان مشهوران، وربما يكون المالكية والحنابلة في جانب والشافعية والأحناف في الجانب الآخر.
ومن الأول: كراهة المالكية لأكل الخيل لأن في أكلها تقليل آلة الجهاد وخالفهم جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة (3) .
ومن الثاني: قول المالكية بعدم جواز قبول بعض ما أسلم فيه وبعض رأس ماله لأنه من الذرائع عندهم إلى البيع والسلف وإلى بيع الطعام قبل أن يستوفى، وقد وافقهم الحنابلة في إحدى الروايتين وخالفوهم في الأخرى وهي قول أبي حنيفة والشافعي (4) .
ومن الثالث: أوضح مثال للخلاف بين الفقهين المالكي والحنبلي وبين الفقه الشافعي والحنفي في مسألة الذرائع هو تلك البيوع الربويه فقد توسع مالك وأحمد في تحريمها وإبطالها، وضيق الشافعي باب الإبطال وقاربه في ذلك أبو حنيفة وأصحابه (5) .
__________
(1) انظر الفروق للقرافي 2/33 ـ 34، وتنقيح الفصول 200
(2) ابن حنبل 337 ـ 338
(3) انظر النووي على مسلم 13/ 95 وتحفة الأحوذي 5/ 505، والإشراف 2/256
(4) انظر بدائع الصنائع 5/215، والمغني 4/ 264
(5) ابن حنبل 340 بتغير يسير(9/1450)
سد الذرائع عند الحنفية:
وإن كانت المالكية والحنابلة اشتهروا بأخذ سد الذرائع وما أتى به الحنفية في المصادر والأحكام ولم يفردوه بالذكر في أصول الفقه مستقلًا ولا سموه بتلك التسمية ولكن أعملوه في الفروع الفقهية كالفقهاء الآخرين كما يبدو واضحًا من التأمل في مجتهداتهم واستنباطاتهم، وخصوصًا راعوه في أبواب المعاملات ولا بد لمعرفة نظرة الحنفية في سد الذرائع دراسة ثلاثة أمور:
الأول: ما هي مكانة سد الذريعة عندهم في أصول الفقه؟
الثاني: وما هي الضوابط مبناها وأساسها على ذلك التصور في القواعد الفقهية؟
الثالث: وما هي الشواهد من جزئيات فقههم على العمل بسد الذرائع؟ تدور محادثتي الآن حول سد الذرائع عند الحنفية باعتبار تلك الجوانب الثلاثة في ضوء أصول الفقه:
وعند الأحناف أصل معروف ومهم هو الاستحسان وإن اختلف آراء العلماء الحنفية في حده ولكن ترجع كلها إلى شيء واحد هو ترك القياس بأقوى الدلائل والمصالح يسمى استحسانًا هذا الدليل القوي قد يثبت بالنص من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مصلحة راجحة تلائم مجموع طبيعة الشريعة الإسلامية، والأول يسمى استحسان النص والثاني يدعى باستحسان الضرورة أو العرف.
ويتبين من التأمل أن ضابطة سد الذرائع تأتي تحت القسم الثاني من قسمي الاستحسان؛ لأن مصالح الشريعة خمسة، حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ النسل وحفظ العقل، وحفظ المال، وتحمل تلك المصالح الخمسة ثلاثة مدراج: الضرورة، والحاجة، والتحسين، وما سبق من الأحكام الفقهية في تطبيق سد الذرائع عليها يقصد بها حفظ الدين عمومًا، وهي تنزل بمنزلة الحاجة للاتقاء من ارتكاب قسم من أقسام المحرمات الدينية، والقياس يقتضي أن تكون مباحة لأنه لم تكن بنفسها ممنوعة لكنها توصل الإنسان إلى اقتراف محظور شرعي فصارت ممنوعة سدًا لباب المحرمات وهذا هو سد الذرائع.
وما قسم الفقهاء الحنفية الحرام إلى قسمين حرام لذاته وحرام لغيره فإذا كان ثانيهما مبنيًا على الاجتهاد غير منصوص عليه فلا يختلف مقصده من غرض سد الذرائع بل هو يحقق منشأة في الواقع.
فاتضح فيما تقدم أن الاستحسان عند الحنفية ضابطة جامعة كاملة تشمل عدة مصادر شرعية ضمنية، ولذا لم يشعروا بأي حاجة إلى إتيان بسد الذرائع منفردًا مستقلًا.(9/1451)
القواعد الفقهية الموافقة لسد الذرائع:
ولم نجد في المؤلفات الحنفية حول القواعد الفقهية ذكر ضابطة صريحًا، تحقق هدف سد الذرائع، نعم نرى في طي كتبهم الفقهية بعض الضوابط ضمنًا، تلائم سد الذرائع، يقول ملك العلماء الكاساني في صدد أن خروج النساء الشواب من البيوت إلى جماعات لا يجوز لأنه فيه خوف الفتنة والفتنة حرام قال:
ما أدى إلى الحرام فهو حرام (1) .
وقال الكاساني في شأن الاستمتاع بالحائض إنه لا يجوز فوق الركبة (الاستمتاع به سبب الوقوع في الحرام وسبب الحرام حرام) (2) .
ولا يجوز الوطء بالأمة في زمن الاستبراء فحسب بل لا تباح دواعي الجماع أيضًا قال الكاساني فيه:
لأن الاستمتاع بالدواعي وسيلة إلى القربان، والوسيلة إلى الحرام حرام (3) .
ولا يجوز للحادة أن تتخذ الزينة والطيب في العدة قال برهان الدين المرغيناني في الهداية.
إن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها وهي ممنوعة عن النكاح فتجتنبها كيلًا تصير ذريعة إلى الوقوع في المحرم (4) .
وقال العلامة ابن الهمام فيما منع عقدان: إنما حرمت العقد الأول لأنه وسيلة، وحرمت الثاني؛ لأنه مقصود الفساد (5) .
واستخرجت القواعد التالية مما تقدم من تصريحات الفقهاء،
1- ما أدى إلى الحرام فهو حرام.
2- سبب الحرام حرام.
3- الوسيلة إلى الحرام حرام.
4- ما تكون ذريعة إلى الوقوع في الحرام فهو حرام.
5- العقد الفاسد الذي يتوسل إلى الفساد فهو فاسد.
وبالنظر إلى تلك القواعد وحد سد الذرائع (على قول المالكية) لا نرى فرقًا كبيرًا بين مراديهما جميعًا.
__________
(1) بدائع الصنائع 1/157
(2) بدائع الصنائع 2/ 119
(3) بدائع الصنائع 2/ 120
(4) الهداية 2/42
(5) فتح القدير 5/209(9/1452)
شواهد سد الذرائع عند الحنفية:
وتوجد في الكتب الحنفية كثير من الفروع الفقهية التي تكون روحها سد الذرائع هناك نعرض بعضًا منها فيما يلي:
1- جاء في الدر المختار: فصل: (يراعى شرط الواقف في إجارته فلم يرد القيم بل القاضي لأن له ولاية النظر لفقير وغائب وميت، (فلو أهمل الواقف مدتها قيل تطلق) الزيادة القيم (وقيل تقيد بسنة) مطلقًا (وبها) أي بالسنة (يفتي في الدار، وبثلاث سنين في الأرض) إلا إذا كانت المصلحة بخلاف ذلك وهذا مما يختلف زمانًا وموضعاً) (1) .
وفي رد المحتار: (قوله وقيل تقيد بسنة) لأن المدة إذا طالت تؤدي إلى إبطال الوقف، فإن من رآه يتصرف بها تصرف الملاك على طول الزمان يظنه مالكاً (2) .
2- والكلام منه ما يؤجر به كالتسبيح ونحوه، وقد يأثم به إذا فعله في مجلس الفسق وهو يعلمه، وإن قصد به فيه الاعتبار والإنكار فحسن (3) .
3- ويكره أن يقرض بقالا درهمًا، ليأخذ منه به ما يحتاج إلى أن يستغرقه (4) .
4- والمتاع في يده غير مضمون بالهلاك يعني لا يضمن ما ذكر سواء هلك بسبب يمكن الاحتراز عنه كالسرقة أو بما لا يمكن كالحريق الغالب والفأرة وهذا عند الإمام وقالا: لا يضمن إذا هلك بما يمكن التحرز عنه ...
وقد تقدم أن بقولهما يفتى في هذا الزمان لتغير أحوال الناس وإن شرط الضمان على الأجير، فإن كان فيما لا يمكن التحرز عنه لا يجوز بالإجماع (5) .
5- ومنها: وجوب نقض حائط مملوك مال إلى طريق العامة على مالكها دفعًا للضرر العام.
6- ومنها: جواز الحجر على البالغ العاقل الحر عند أبي حنيفة رحمه الله في ثلاث، المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس دفعًا للضرر العام.
7- ومنها جوازه على السفيه عندهما، وعليه الفتوى دفعًا للضرر العام.
8- ومنها: التسعير عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش.
9- ومنها: بيع طعام المحتكر جبرًا عليه عند الحاجة وامتناعه من البيع دفعًا للضرر العام.
10- ومنها: منع اتخاذ حانوت للطبخ بين البزازين وكذا كل ضرر عام.
11- وفي خلاصة الفتاوى: رجل دعي إلى وليمة، أو طعام فوجد ثمة لعبًا أو غناء لا بأس يقعد ويأكل وهذا إذا لم يكن على المائدة بل في المنزل فإن كان ذلك على المائدة أو يشربون الخمر على المائدة، لا يقعد وهذا إذا كان الرجل خامل الذكر فإن كان ممن يقتدي به لا يقعد إن لم يقدر على النهي في الوجهين.
__________
(1) الدار المختار على هامش رد المحتار 4/ 400 ـ 401
(2) رد المحتار 4/400.
(3) ملقتى الأبحر 2/246
(4) ملتقى الأبحر 2/253
(5) البحر الرائق: باب ضمان الأجير 8/27(9/1453)
وقول أبي حنيفة رحمه الله: ابتليت بهذا مرة كان ذلك قبل أن يصير مقتدى به، وهذا إذا لم يعلم بذلك قبل الدخول في البيت فإن علم إن كان محترمًا يعلم أنه لو دخل عليهم يتركون ذلك إكرامًا له فعليه أن يدخل وإن علم أنهم لا يتركون لا يدخل عليهم (1) .
12- وفي الأشباه: ويتفرع على ذلك لو استقرض ألفًا واستأجر المقرض (لحفظ مرآة أو ملعقة) كل شهر بعشرة وقيمتها لا تزيد على الأجر ففيها ثلاثة أقوال: صحة الإجارة بلا كراهة، اعتبارًا لعرف خواص بخارى، والصحة مع الكراهة للاختلاف والفساد لأن صحة الإجارة بالعرف العام ولم يوجد، وقد أفتى الأكابر بفسادها (2) .
13- قال في جامع الفصولين: القاضي لا يقبل الهدية من رجل لو لم يكن قاضيًا لا يهدي إليه (3) .
14- وفي الدر المختار: (ولم يبع) في الزيلعي يحرم أن يبيع (منهم ما فيه تقويتهم على الحرب) كحديد وعبيد وخيل (ولا نحمله إليهم ولو بعد صلح لأنه عليه السلام نهى عن ذلك) (4) .
15- وفي الأشباه: اليمين على نية الحالف إن كان مظلومًا وعلى نية المستحلف إن كان ظالمًا كما في الخلاصة (5) .
16- وفي الدر المختار: وكذا يضمن لو سعى بغير حق عند محمد أي للساعي وبه يفتي (قوله وبه يفتي) أي دفعًا للفساد وزجرًا وإن كان غير مباشر، فإن السعي سبب محض لإهلاك المال والسلطان يغرمه اختيارًا لا طبعاً (6) .
17- وفي فتاوى النسفي: إنه يكسر دنان الخمر ولا يكون بإلقاء الملح قناعة ولا ضمان على الكاسر في شيء من ذلك (7) .
18- وفي الخلاصة: والخياط إذا استؤجر على خياطة ثوب الفساق ويعطي في ذلك كثير أجر لا يستحب أن يعمل لأنه إعانة على المعصية (8) .
19- وفي نفس الكتاب: ذمي سأل مسلمًا عن طريق البيعة لا ينبغي له أن يدله (9) .
__________
(1) خلاصة الفتاوى وكتاب الكراهية 4/357
(2) الأشباه النظائر لابن نجيم 103
(3) رد المحتار 4/ 432
(4) الدر المختار على هامش رد المحتار 4/ 134
(5) الأشباه مع الغمز 1/186
(6) رد المحتار وعلى هامشه الدر المختار 6/ 213
(7) خلاصة الفتاوى 4/336
(8) خلاصة الفتاوى 4/ 347
(9) خلاصة الفتاوى 4/348(9/1454)
في آية قضايا يكثر إعمال تلك القاعدة؟
وبهذا الخصوص ينبغي الإشارة إلى أن الأحناف أعملوها في أية أبواب وقضايا أكثر ـ فنرى أنهم راعوها في باب الربا أكثر، لذا منع عن بيع العينة، ومنع أكثر المشائخ من البيع بالوفاء باعتبار روحه، ونفذوا عليه أحكام الرهن، كذلك منعوا من اشترى متاعًا بأكثر من قيمته من بيعه على البائع بأقل منها (1) . لأن تلك الصور كلها تتذرع لنيل الربا بالواسطة.
وأنزلت دواعي الجماع بمنزلة الوطء في تحريم المصاهرة والإحرام، وروعيت تلك القاعدة في مسألة الاستمتاع بالحائض إلى حد، وتفسد جميع صور البيع التي تؤدي إلى النزاع بالجهالة بناء عليها، كذلك منعت جميع صور البيع والإجارة التي تعاون على الإثم والمعصية، هذه هي القضايا التي أعملوا فيها تلك الضابطة وأكثروا تطبيقها عليها، ومن ذلك النوع فروع كثيرة مبسوطة في كتب الفقه ومن أراد التفصيل فليرجع إليها.
__________
(1) انظر بدائع الصنائع 5/199(9/1455)
فتح الذرائع:
وقد مرت تفاصيل سد الذرائع وأمثلته، وأما فتح الذرائع فمعناه طلب الخير وفيه مطلبان:
المطلب الأول: رعاية الكتاب الكريم لمصالح الخلق ولا ريب أن الشريعة الإسلامية قد راعت مصالح الخلق تمامًا، ويبنى عليها سعادة الدنيا والآخرة، ولا خير إلا دلت عليه ولا مصلحة إلا أرشدت إليها، وإنها وضعت لرعاية مصالح الخلق ولدفع المفاسد عن الناس يقول ابن القيم:
الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة (1) .
والمطلب الثاني: تحقيق المصالح من الناحية الإيجابية والدليل عليها في واقع التشريع ما أشار إليه الدكتور محمد هاشم البرهاني.
" المقاصد التي تعود تكاليف الشريعة إليها بالحفظ ثلاثة:
الأول: المقاصد الضرورية وهي التي يتوقف عليها قيام مصالح الدارين وبفقدانها تختل الحياة الدنيا، ويفوت النعيم وهي خمسة: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل.
الثاني: المقاصد الحاجية، وهي التي تفتقر إليها للتوسعة ورفع الحرج والضيق عن الخلق كسائر المعاملات من بيع وشراء وإجارة ورهن وما إلى ذلك.
الثالث: المقاصد التحسينية: وهي التي ترجع إلى محاسن العادات ومكارم الأخلاق ولا تبلغ مبلغ المقاصد الحاجية ولا الضرورية كآداب المأكل والملبس والمسكن (2) .
وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية هذه المقاصد، وراعتها كل المراعاة ووضعت قواعدها العامة وبنت أصولها الأساسية وإن فتح الذرائع إلى كل خير وبر معروف؛ لأن الخير وصف يلزم كل أمر تمخض لمصلحة راجحة أو كان يؤدي إلى مصلحة راجحة، فما كان يؤدي إلى المصلحة فهو ذريعة ولا شك بوضوح الإفضاء فيه، وأما ما كان يتمحض بنفسه لمصلحة فضلًا عن الفائدة فنادر الوجود في الواقع (3) .
__________
(1) إعلام الموقعين 3/14
(2) ملخص من سد الذرائع 344 وما بعدها
(3) الموافقات للشاطبي 2/25(9/1456)
شواهد فتح الذرائع:
1- قوله تعالى مخاطبًا نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43] .
ولا بد لتبليغ الرسالة الواجب على موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يذهبا إلى فرعون، والذهاب إليه امتثالًا بأمر الله تعالى هو ذريعة لأداء الرسالة المفروضة عليهما بقوله عز وجل: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] .
2- وإنما أمر سبحانه وتعالى عباده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] والمقصود صلاة الجمعة المفروضة، ولكن السعي وسيلة إلى إقامتها كذلك السعي إلى البيت الحرام ذريعة لأنه يوصل إلى الحج المشروع المشتمل على المصالح والحث على السعي إلى البيت الحرام والعمل به يسمى بفتح باب الذريعة (1) .
3- ومنه قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] فخروج المسلمين لالتقاء الكفار ذريعة لا بد من تحقيقها للجهاد في سبيل الله الذي أمر به الله عز وجل في نفس الآية.
4- ويكون ارتكاب أخف الضررين فتحًا للذريعة حينا كما ثبت من قصة الخضر مع موسى عليه السلام حيث أباح الله تعالى للخضر أن يعيب السفينة تجري في البحر التي ركبها هو وموسى عليه السلام لكيلا يصيبها ضررًا أكبر منه هو أن يغصبها ملك ظالم كان وراءها في الطرف الآخر فقال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] .
هناك تحملت المفسدة فيه للتوصل إلى المطلوب الراجح المصلحة فتحًا للذريعة ودفعًا للضرر الأكبر.
5- ويكون اتخاذ الحيل الجائزة لتحصيل المطلوب داخلًا في زمرة فتح الذريعة كما هو ثابت من قصة يوسف عليه السلام مع إخوته: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) } [يوسف: 69 ـ 76] .
والفقهاء أجازوا اتخاذ الحيل الجائزة لتحقيق مصالح ومقاصد مختلفة كما مر تفصيلها، هذه كلها داخلة في فتح الذرائع.
__________
(1) انظر سد الذرائع 71(9/1457)
فالحاصل:
أنه يتبين من استقراء كتب الفقه أن جميع الفقهاء يراعون أصل سد الذرائع بالرغم من اختلافهم في التعبير، غير أن وجهاتهم تختلف عند المقارنة فيما بين المصلحة والمفسدة، فيحكم بعضهم بالجواز عندما يرى المصلحة راجحة في قضية، والمفسدة مرجوحة وغير قابلة للاعتبار، وعلى العكس من ذلك يرى البعض الآخرون في نفس القضية، المفسدة راجحة والمصلحة مرجوحة ويحكمون بمنعها، وهناك قضايا كثيرة من مثل هذا النوع، تحدث في حياتنا الاجتماعية، فمن واجب الفقهاء أن يرجعوا إلى هذا الأصل للتوصل إلى الحلول الشرعية الملائمة لتلك الحوادث مثلًا. امرأة غاب عنها زوجها ولكنه قد ترك خلفه من المال، ما تعيل به المرأة نفسها، وبعد ما قضت سبعة أو ثمانية أعوام، تنتظر زوجها، ترافع إلى القاضي وتبتغي التفريق من زوجها الغائب فيأمرها القاضي بالتربص إلى أربعة أعوام بعد طلب التفريق، علاوة على ما تربصت، بناء على الفقه المالكي، ولكن القاضي إذا غلب على ظنه بالنظر إلى شباب المرأة وفساد البيئة واختلاط الجنسين في المجتمع أن حكم الانتظار المزيد يدفع المرأة إلى السوء، ويوقعها في الفتنة التي شرع النكاح للوقاية منها، فهل يجوز للقاضي أن يفسخ نكاح المرأة من زوجها الغائب على الفور، سدًا لباب الفتنة وخوفًا من الزنا؟ ويمكننا أن نستخدم هذا الأصل للبحث عن حلول تلك القضايا والمشكلات الاجتماعية، ولكن يجب أن يكون الفقيه عميق النظر، بعيد الغور مطلعًا على دقائق هذا الأصل، خبيرًا بجميع نواحي القضية، لكيلا يكون ذلك موجبًا لهدم أساس الدين ويجعل الفساد صلاحًا وبالعكس، وبدون التمييز الصحيح بين المصلحة والمفسدة.
ولذلك استخدام هذه الأصول بدون الوعي الفقهي الصحيح والنظر الثاقب العميق قد تكون ذريعة إلى مفسدة لا بد من سد بابها كذلك.
الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي(9/1458)
المراجع
1- القرآن الكريم:
2- لسان العرب لابن منظور.
3- تهذيب الفروق للقرافي.
4- الموافقات للشاطبي.
5- المقدمات الممهدات لابن رشد الجد.
6- اعلام الموقعين لابن القيم.
7- كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي.
8- شرح التلويح على شرح التوضيح.
9- المغني في أصول الفقه للخبازي.
10- الإحكام في أصول الأحكام للآمدي.
11- سد الذرائع للبرهاني
12- مجمع الزوائد للهيثمي.
13- تنقيح الفصول للقرافي.
14- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
15- البهجة.
16- مالك لأبي زهرة.
17- موسوعة جمال عبد الناصر.
18- أحمد بن حنبل لأبي زهرة.
19- المدخل الفقهي لمصطفى الزرقاء.
20- الفروق للقرافي.
21- بداية المجتهد، لابن رشد
22- الدسوقي على شرح الكبير.
23- المدونة للإمام مالك.
24- الاعتصام للشاطبي.
25- قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام.
26- تحفة الأحوذي للمبارك فوري.
27- بدائع الصنائع للكاساني.
28- فتح القدير لابن همام.
29- شرح مسلم للنووي.
30- خصوصيات الجمعة للسيوطي.
31- المدخل إلى فقه الإمام أحمد للشيخ بدران.
32- المجموع شرح المهذب للنووي.
33- المهذب للشيرازي.
34- الإشراف.
35- الهداية، للمرغيناني.
36- الدر المختار للحصكفي.
37- ملتقى الأبحر
38- رد المختار لابن عابدين الشامي.
39- البحر الرائق لابن نجيم.
40- خلاصة الفتاوى.
41- الأشباه والنظائر لابن نجيم.
42- غمز عيون البصائر للحموي.(9/1459)
سد الذرائع
إعداد
الدكتور علي داود جفال
دولة الإمارات العربية المتحدة
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله والطيبين الطاهرين، وأصحابه الهداة الراشدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
إن أهمية اختيار موضوع سد الذرائع من موضوعات الدورة التاسعة، هو أن أكثر الدول الإسلامية بعدت في عهد الاستعمار عن التشريع الإسلامي وبخاصة الحدود الشرعية. واستبدلت بهذا التشريع تشريعًا وضعيًا منقولًا من قوانين البلاد الأوربية، فلما زال كابوس الاستعمار بقيت تلك التشريعات الوضعية مدة نظرًا لتمكنها من النفوس ورسوخها في عقول المشرعين لطول ممارستهم إياها، ثم كثرت دعوة أهل الخير والدين إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعل التشريع الإسلامي المصدر الرئيسي لقوانين البلاد، فاستجابت الحكومات الإسلامية إلى هذه الدعوة الصالحة، لهذا رأيت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع فأبين موضوع سد الذرائع كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي التبعية وموقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ به وقد قسمت هذا الموضوع إلى سبعة فصول وأسال الله تعالى الهداية والتوفيق إلى أقوم طريق، إنه نعم المولى ونعم النصير.(9/1460)
الفصل الأول
في تحديد الذرائع وبيان حقيقتها
والفرق بين الذريعة والسبب والذريعة والوسيلة
1-تعريف سد الذرائع:
الوضع المنطقي السليم في كتابة البحوث العلمية، وترتيب الأعمال العقلية، يقتضينا حين نطلب حقيقة معينة، أن نبدأ ببيان حقيقتها. أي عناصرها العامة المكونة لها، قبل أن نأخذ في البحث عن تعيين خصائصها، وتبيين مشخصاتها.
ذلك لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، على حد تعبير علماء المنطق.
وإذا كان هذا هكذا، فينبغي قبل كل شيء أن تعرف معنى (سد الذرائع) في جملتها، فنقول: إن كلمة (سد الذرائع) مركب إضافي، والمركب الإضافي لا يمكن معرفته إلا بعد معرفة أجزائه، وبناء عليه، فدونك تعريف كل جزء على حدة.
أ -تعريف السد:
أصل السد: مصدر سددته، ومنه قوله تعالى: {بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] .
أي: حاجزًا يمنعهم من الوصول إلينا والإفساد في أرضنا. فشبه به الموانع.
ومنه قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} (1) [يس: 9] .
فالسد: المنع. يقال: سد عليه الطريق. أي: منعه من الدخول فيه، وهذا أصل قول علماء الفقه والأصول، في قاعدة (سد الذرائع) : منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز، فقد منع الشارع ما يجوز في نفسه، خشية أن يتوصل به إلى المحرم.
__________
(1) راجع المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (مادة ـ سد) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، في تفسير الآيات المذكورة.(9/1461)
ب -تعريف لفظه ذرائع:
من تأمل فيما ذكره اللغويون من معاني مادة (ذرع) ، متحريًا البحث عما يصلح أن يكون معنى لها، وجد في كتب اللغة المعتبرة، مثل الصحاح للجوهري، ولسان العرب لابن منظور وغيرهما: أن من المعاني التي جرى الأمر على اعتبارها، خاصة مميزة للفظة (ذريعة) : هي وسيلة.
فالذريعة ـ في اللغة ـ هي الوسيلة إلى الشيء يقال: تذرع فلان بذريعة. أي: توسل بوسيلة إلى مقصده. ويقال أيضًا: جعلت ذريعتي لفلان فلانًا. أي: وسيلتي إليه، وجمعها: (ذرائع) (1) .
ثم أطلقت (الذريعة) على كل شيء دنا من شيء، أو قرب منه (2) .
ومعنى هذا المركب الإضافي (سد الذريعة) : هو حسم مادة وسائل الفساد، منعًا منها ودفعًا لها، إذا كان الفعل السالم من المفسدة، وسيلة إلى مفسدة (3) .
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات للنووي (مادة ـ ذرع) .
(2) لسان العرب لابن منظور (مادة ـ ذرع) .
(3) حاشية العطار على جمع الجوامع لابن السبكي (2/ 198(9/1462)
جـ- التعريف الشرعي للذريعة:
لقد جرى عرف العلماء، على تسمية الألفاظ المستعملة في معان وضعها لها الفقهاء وأهل علم الأصول، بالاصطلاحات الشرعية.
ويستفاد من كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) لسيف الدين أبي الحسن الآمدي المتوفى سنة 383 هـ. (ج1 ص48، 61) : أن علماء الإسلام يعتبرون المعاني الشرعية، متفرعة عن المعاني اللغوية، وثيقة الصلة بها.
ولسوف يكون من باب الإطالة، أن نذكر جميع التعريفات الشرعية، التي تقر هذا المبدأ، أو الأصل، ولهذا نجتزئ منها ببعضها، وهي التي تنص على هذا فالأصل في ألفاظ تامة الوضوح.
1- تعريف الإمام الشاطبي:
أوضح الإمام الشاطبي المتوفى سنة 790 هـ في كتابه الموافقات في أصول الأحكام (4/ 198) ، الذريعة الممنوعة في المذهب المالكي، فأفاد أنها: (التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة) .
2- تعريف الإمام القرافي:
ولقد لخص الإمام الفقيه الأصولي (القرافي) ، قاعدة سد الذرائع أبلغ تلخيص، وبين حقيقتها أحسن بيان، فقال: (سد الذرائع) معناه: حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة، منع (مالك) من ذلك الفعل في كثير من الصورة) (1) .
3- تعريف (ابن رشد الجد) :
وقال الفقيه الجليل (ابن رشد الجد) ، قاضي الجماعة في قرطبة، المتوفى سنة 520 هـ في كتابه المقدمات (2) . الممهدات (2/ 198) : (الذرائع: هي الأشباه التي ظاهرها الإباحة، ويتوصل بها إلى فعل محظور) .
4- تعريف الإمام المازري:
وقال الإمام المازري الفقيه المالكي، في كتاب (شرح التلقين (3)) للقاضي عبد الوهاب المالكي البغدادي: (سد الذريعة: منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز) .
وهذه التعريفات وأمثالها، هي على اختلاف ألفاظها كما قال الشاعر
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير
وجماع القول في هذا الأصل (سد الذرائع) : هو أن الذريعة في اللغة: هي الوسيلة التي يتوصل بها إلى شيء آخر مطلقًا.
وفي الاصطلاح الشرعي: هي ما تكون وسيلة وطريقًا إلى الشيء الممنوع شرعًا. وسدها: هو الحيلولة دونها والمنع منها.
__________
(1) الفروق للقرافي (الفرق ـ 58) ج2 ص 32
(2) مطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1325 هـ وهو كتاب نفيس جدًا لمعرفة المذهب على ما جاء في (المدونة) المشهورة، فهو يمهد حقًا لفهمها وبيان أمهات مسائلها
(3) في مطلع باب بيوع الآجال(9/1463)
د- ألفاظ لها تعلق بهذا الأصل:
يرتبط بلفظ (الذريعة) ، لفظان. هما: الوسيلة، والسبب، والواقع أن هذه الألفاظ الثلاثة، يأخذ بعضها بحجز بعض، ويتعلق أحدها بالآخر، ويؤديه ويدعمه، فإذا وجدت اللفظة الأولى، تتابعت الأخريان على أثرها، وإذا اختفت، ذهبنا على الفور في أعقابها.
على أن الترادف في الألفاظ، والاتحاد في المعنى، لا يعني دائمًا الاتفاق في النتائج، ولسوف نحاول من جانبنا، أن نستخلص هذا من الدراسة التالية:
1- الوسيلة:
ونبدأ بالوسيلة: ونتخذ من التعريفات السابقة للذريعة ذاتها، نقطة انطلاقنا لنستخرج منها ما نبغيه، فإن كنت لا تزال على ذكر ما سبق في تحديد معنى (الذريعة) تبين لك في ضوء هذا التحديد، مقدار التعلق القوي بين (الذريعة) ، و (الوسيلة) ولكي يطمئن قلبك، وتتأكد مما نقول، نعيد عليك بعض الذي ذكرناه، ليكون شاهدًا أمام عينيك وبرهانًا بين يديك.
قال أهل اللغة وأهل العلم: الذريعة: هي الوسيلة والذرائع: هي الوسائل. وذكروا أنه يقال: تذرع فلان بذريعة. أي: توسل بوسيلة إلى مقصده، وذكروا أيضًا أنه يقال: جعلت ذريعتي لفلان فلانًا. أي: وسيلتي إليه (1) .
وقال الراغب الأصفهاني ـ علاوة على ذلك: (الوسيلة: هي التوصل إلى الشيء برغبة) . فهي تلتقي مع الذريعة من جهة أن المتوسل أو المتذرع، تميل نفسه ويصبو قلبه لنيل مقصوده، هذا، والوسيلة تجمع على وسائل، ومنه تعبير أهل عصرنا عن الأمور التي تساعد على التعليم من وسائل التعليم، ومنه وسائل الإعلام، كالصحف والإذاعة والتفزيون.
__________
(1) لسان العرب لابن منظور، والصحاح للجوهري (مادة ـ وسل) وتكملة المجموع لابن السبكي (ج10 ص 160) ، والفروق للقرافي (ج2 ص 32) .(9/1464)
2- السبب:
وأمامك الآن اللفظة الثانية، التي لها تعلق بلفظة ذريعة، فخذ (غير مأمور) بيان أصلها وحقيقتها: الأصل الأصيل في السبب: هو الحبل.
وبالمعنى الواسع للكلمة: هو الحبل القوي الطويل. (قالوا) : ولا يسمى الحبل سببًا، حتى يرتقى به وينحذر ثم زادوه بسطة، فقالوا: بل لا يطلق عليه ذلك، حتى يكون طرفه معلقًا بالسقف أو نحوه ومنه سمي الطريق سببًا، تشبيهًا بالحبل الطويل الممتد، ولأنه يمكن سالكه من الوصول إلى الموضع المراد.
ثم استعير (السبب) لكل شيء يتوصل به إلى غيره، ومنه قول الله عز ولج: {وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84] أي: طريقًا موصلًا لكل شيء أراده. وقال العلامة الراغب الأصفهاني في (المفردات) : (معناه: أن الله تعالى آتاه من كل شيء معرفة وذريعة يتوصل بها. فأتبع واحدًا من تلك الأسباب) .
وعلى ذلك قوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36 ـ 37] أي: لعلي أعرف الذرائع والأسباب الحادثة في السماء، فأتوصل بها إلى معرفة ما يدعيه موسى (عليه السلام) (1) .
هذا، ومن العبارات الجارية على الألسنة، قولهم: أنت السبب في كذا، أي: أنت المسبب الأكبر، وقولهم: كان ذلك بسببك. أي: بسبب فعلك، ومن أجلك، ومن الأمثال السائدة: إذا عرف السبب بطل العجب.
__________
(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الصفهاني (سبب) والكليات لأبي البقاء الكعبري (سبب) ولسان العرب لابن منظور (سبب) وتفسير الكشاف للزمخشري في تفسير الآية (84 ـ سورة الكهف) ، وتاج العروس للزبيدي (سبب) .(9/1465)
هذه بعض معاني السبب عند أهل اللغة. وأما معناه في عرف أهل الأصول. فيطلق على بعض مسبباته في اللغة، فقد عرفه الآمدي المتوفى 631 هـ بقوله: السبب كل وصف ظاهر منضبط، دل الدليل السمعي على كونه معرفًا لحكم شرعي.
وعرفه الشاطبي بأنه: " ما وضع شرعًا لحكم، لحكمة يقتضيها ذلك الحكم، كما أن حصول النصاب سببًا في وجوب الزكاة، والسرقة سببًا في وجوب القطع، وما أشبه ذلك".
وعرفه الكعبري بأنه: " عبارة عما يكون طريقًا للوصول إلى الحكم، دون أن يؤثر فيه " (1) . ولك أن نقول: هو كل أمر تسبب عنه أثر شرعي.
ومن ناحية أخرى يمكن القول: بأن (السبب) بمعناه العام، يشمل ـ عند الأصوليين ـ جميع أبواب الفقه، من عبادات ومعاملات ومناكحات وعقوبات....
وبهذا المعنى الواسع، قيل عن الإرشاد، وعن عقود التمليك: إنها من الأسباب الشرعية، التي تجوز أخذ مال الغير.
وبهذا المعنى وردت أيضًا، كلمة (السبب) في القاعدة العامة: " لا يجوز لأحد أن يأخذ مال واحد، بلا سبب شرعي ". المجلة (م/ 97) . فلا بد من سبب شرعي لأخذ مال الغير. (مثال ذلك) : لو اشترى أحد شيئًا، حق له أخذه بسبب الشراء.
وكذلك لو مات وترك مالًا، فورثته بأخذونه بسبب الميراث، وإرث الزوجين: أحدهم من الآخر، بسبب النكاح (الزواج) وهلم جرًا.
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 181) الموافقات للشاطبي (1/ 158) ، والكليات لأبي البقاء الكعبري (مادة ـ سبب) ويراجع المستصفى للغزالي (1/ 93 ـ 94) .(9/1466)
الفصل الثاني
في المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية
ومدى الوفاق أو الخلاف بينهما
معلومات أولية:
أول ما يجب ذكره هنا، هو: بيان معنى الحيلة"، في الوضع اللغوي، والوضع الشرعي (يعني الاصطلاحي) ليتسنى لنا أن نقرر مقدار الائتلاف أو الاختلاف بين الذرائع والحيل.
ولكي يتم لنا هذا، لن يكون لدينا سوى أن نركن إلى الذين سبقونا بالعلم والفقه، فنقتبس من علومهم، ونغترف من بحورهم، والله تعالى من وراء الجميع بعلمه محيط.
قال أهل اللغة: الحيلة: اسم من الاحتيال، وهي: الحذق في تدبير الأمور، وجودة النظر، وهو: تقليب الفكر حتى يهتدي إلى المراد، وتجمع على حيل، وهي أيضًا: ما يتوصل به إلى حالة ما في خفية، وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل فيما فيه حكمة، ولهذا قيل في وصف الله عز وجل: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] أي: الوصول في خفية عن الناس، إلى ما فيه حكمة (1) .
أما أهل العلم من الفقهاء والأصوليين، فقد تولى الإمام الكبير، أبو إسحاق الشاطبي، تعريفها تعريفًا جامعًا مانعًا، ممتعًا مقنعًا، وراح يقول في حقيقتها المشهورة بأنها: (تقديم عمل ظاهر الجواز، لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر) . وذكر أن مآل العمل فيها، خرم قواعد الشريعة في الواقع.
وضرب لها مثلًا بالرجل الغني، الواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة، وشرحة قائلًا: إن أصل الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة، لكان ممنوعًا، فإن كل واحد منهما، ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد، صار مآل الهبة، المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية) (2)
هذا ما عرف به الحيلة (أبو إسحاق الشاطبي) ، من أئمة المالكية، ولعله أفضل التعاريف المأثورة المشهورة للحيلة، وأشملها لأنواعها..
وإذا أردنا أن نزداد علمًا، قلنا: إن (الحيلة) هي: إظهار عمل ممنوع شرعًا، في صورة عمل جائز، يتحول به فاعله من حال يكرهه، إلى حال يحبه.
وقد غلب استعمالها في سلوك الطرق الخفية، التي يتوصل بها إلى حصول لغرض بحيث لا يتفطن لها، إلا بنوع خارق من الذكاء والدهاء، والمهارة والشطارة.
__________
(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (مادة ـ حول) ، والمصباح المنير للفيومي (المادة نفسها) .
(2) الموافقات من أصول الأحكام (ج4 ص 201) بتحقيق الشيخ العلامة عبد الله دراز(9/1467)
أنواع الحيل:
والحيل نوعان: أحدهما: حيل مشروعة مباحة، و (الآخر) : حيل غير مشروعة.
فالمشروعة: هي تدابير لطيفة لا تصطدام مع النصوص، ويقصد منها التخلص من الآصار والأغلال والوصول إلى الحلال، من غير إبطال حق، أو إحقاق باطل، أو الدخول في التمويه والخداع أو هي: التي تتخذ بقصد التوصل إلى إثبات حق أو دفع مظلمة. دون أن تناقض مصلحة شرعية، أو تهدم أصلًا شرعيًا.
وغير المشروعة: هي التي تتضمن تحليل ما حرمه الله، أو تحريم ما أحله، أو إسقاط واجب.
أو هي التي يقصد منها التحيل على قلب الأحكام الشرعية الثابتة، إلى أحكام آخر، بفعل صحيح الظاهر، لغو في الباطن (1) .
أو هي: التي تهدم أصلًا شرعيًا، أو تناقض مصلحة شرعية، وتقوم على التمويه والخداع، والتلبيس والتدليس.
وأصحاب الحيل لما رأوا نفرة الناس، من اسم الحيل، قالوا: إنما نسمي ما يتوصل به إلى ممنوع (وجوه المخارج من المضايق) ، ولا نسميها (الحيل) . وقد نسب القول بجواز الحيل، إلى بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة (النعمان) رضي الله عنه.
وقد أثر عنهم أنهم ألفوا بعض الكتب فيها، ومن أشهرها (كتاب الحيل) للخصاف، المطبوع في مصر سنة 1314 هـ. وكتاب المخارج من الحيل) . المنسوب للإمام محمد، صاحب أبو حنيفة. الذي نشره المستشرق الألماني، يوسف شخت.
__________
(1) راجع الإعلام الموقعين (4/ 113) والموافقات (2/ 380) .(9/1468)
والحق أن كلام أصحاب الحيل هؤلاء، كلام منمق، لا يرجع إلى معنى محقق، فهو يمتع ولكنه لا يقنع.
ذلك لأنه ليس في الشريعة الإسلامية السمحة (1) ، مضايق ومأزق ومحارج، حتى يحتاج إلى الخروج منها، فإن أرادوا بالمضايق، وما نهى عنه الشارع نهي تحريم أو أمر به أمر إيجاب، فالتكاليف التي تتضمن تحريمًا أو إيجابًا كلها مضايق إذا، والله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
والنصوص من الكتاب والسنة على يسر الشريعة، أكثر من رمل عالج، ومن أصناف التمور في العراق.
ثم إن الناظر في كتب الحيل. المنسوبة لأصحاب الإمام أبي حنيفة، قد يروقه ما فيها من نسيج بديع الصنعة، ولكن الذي يغلي سداها (بفتح السين) ولحمتها، يجد في طياتها خيوطًا واهنة وعناصر غريبة واهية، سترتها مهارة الصنعة وحسب السبك، وروعة المخارج من المحارج!!
وإن من العبث، أن نقف لبيان ما لهذه الحيل، من قيمة ضئيلة، فهي تصطدم بحقائق ودقائق، وبينات وبراهين، عقد لها (ابن قيم الجوزية) الفقيه الحنبلي المشهور، فصولًا طويلة وقد ناقش أصحاب الحيل فيها مناقشات دامغة، تمتاز بأسلوبها العملي الدقيق، وإيراد الحيل واحدة واحدة، ونقضها بالدليل النقل والبرهان العقلي في أناة وهدوء وانسجام، ثم فرق بين الحيل المباحة والحيل المحرمة، وضرب الأمثلة، وأقام البراهين واستشهد بالغائب على الحاضر.
وكنت أود أن أعرض بعض النماذج و (العينات) من كلام هذا الإمام الهمام، فهو من أوسع ما كتبه علماء الإسلام، إلا أن ضيق المجال، ومنهاج البحث لا يسمحان بإطالة الشرح والتبسط في ذكر الشواهد وضرب الأمثال، فأضربت عن ذلك كله صفحًا. ومن أراد المزيد من الاطلاع، فعليه بالرجوع في هذا الموضوع، إلى كتاب إعلام الموقعين (الجزء الثالث من صحفة 171 ـ 415) و (الجزء الرابع من صفحة 1ـ 117) من طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد يجد كلامًا تشد إليه الرحال في هذا المجال.
__________
(1) بعض الكاتبين يستعمل في تعبيره لفظة (السمحاء) . وهذه الفظة (أعني: السمحاء لا توجد في الأرض ولا في السماء) .(9/1469)
الموازنة بين الذرائع والحيل، والوفق (1) . والفرق بينها.
إذا نحن تأملنا من قريب، في حقيقة كل من (الذريعة) ، و (الحيلة) . وجدنا أنهما يسيران جنبًا إلى جنب، على الطريق التي تؤدي إلى إهمال أوامر الشريعة، والتهرب منها، أو يؤديان إلى الوقوع في الممنوع، كبيوع الآجال وغيرها من العقود والتصرفات، فالمآل واحد، وهو الوقوع في الفاسد والمحرمات.
فهما في التسابق إلى الشر، كحماري العبادي. قيل له: أي حماريك شر (2) فقال: هذا ثم هذا، غير أن الاتفاق في النتائج، لا يعني دائمًا الاتحاد في القصد (أي: النية) فهما يبتدئان في الافتراق، منذ اللحظة التي يصبح الأمر فيها متعلقًا بالنية.
فالنية: هي الفارق ما بين الذريعة والحيلة. ولكي نقدم للقارئ بيانًا واضحًا يلخص ويستوعب التفرقة بينهما، لا نجد خيرًا من أن نعيد ذكر التعريف الجامع لكل منهما، وهو ما زال نصب أعيننا، وبين أيدينا.
فالذريعة ـ لو تذكرنا ـ هي الوسيلة التي يتوصل بها إلى الشيء الممنوع، المشتمل على مفسدة، ولو عن غير قصد.
فالعبارة في الذريعة ـ كما ترى ـ معيار موضوعي لا شخصي، ينظر فيه إلى المآل، ومصير العمل ونتيجته، ولا دخل فيه لنية الشخص الفاعل وقصده.
فالمنظور إليه في (الذرائع) ليس هو القصد السيئ من الفاعل، بل المنظور إليه هو الفعل الذي يؤدي إلى النتيجة التي لا تطابق الشرع، ولو كان الفاعل حسن النية.
__________
(1) الوفق: المطابقة بين الشيئين. قال تعالى: {جَزَاء وِفَاقًا} [النبأ: 26] .
(2) يقال: يقال هو شر منك، ولا يقال: هو أشر منك، إلا في الشاذ الردئ من الكلام (تاج العروس) للزبيدي ـ 17ـ.؟.(9/1470)
والمثال التالي يرينا بشكل واضح، كيف أن النية الحسنة، مع العمل غير المشروع، لا تكفي وأنه ليس باستطاعتها أن تجعل من الشر خيرًا. وهاك مثالًا:
كلنا نعلم أن كثيرين من الناس، شديدو التأثر والحساسية تجاه مقدساتهم، لدرجة أن أية إساءة إلى آلهتهم الزائفة، التي يعبدونها قد تستدعي من جانبهم، أن يجدفوا في حق الله تعالى المعبود بحق.
ومن ثم نهي القرآن الكريم عن هذه الإثارة (أي: سب أصنامهم) فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
ولكن لو أن مؤمنًا غيورًا دفعته حرارة إيمانه، إلى أن يعبر عن احتقاره للأصنام فيسبها، دون أن يفكر في ردود الفعل المحتملة، أفيكون معذورًا بنزاهة قصده، وحسن نيته، وانتصاره لربه؟! كلا ثم كلا.. إن الشر لا يمكن أن يصبح خيرًا بفضل كيمياء الإرادة، بل إن هذا الخلط والتلون يعتبر عند الإمام الغزالي، إثمًا آخر. قال: إن (قصده الخير بالشر، على خلاف مقتضى الشرع، بشر آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص بجهله (فجهله مزدوج؛ لأن يجهل الشرع ويجهل أنه يجهله، وقد قيل: أشد من الجهل الجهل بالجهل) (إحياء علوم الدين: ج4 ص 257) طبع الحلبي بالقاهرة.
وموجز القول هو: أن الذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة. و (الحيلة) لا بد فيها من القصد. أما (الذريعة) فبصرك فيها حديد، وعهدك بها غير بعيد.(9/1471)
وأما الحيلة، فنوع آخر من الانحراف الذي يتمثل، لا في جهل الصفة الشرعية للعمل في ذاتها، بل على وجه التحديد، في إرادة استعمال هذه الشرعية حرفيًا، لإخفاء عملية أخرى يحرمها الشرع.
وتلك هي (الحيل) التي يستعملها بعض رجال الأعمال، من أجل أن يحللوا الربا والكسب الحرام.
ففي هذه الطريقة، نجد أن الاختلاف لا ينصب على الموضوع المباشر، بل على غاياته.
ولا حاجة بنا إلى مزيد من القول، لإثبات تفوق (الحيلة) ، على (الذريعة) ، في المكر والخديعة، والطرق الملتوية، والتخافت والنية السيئة المبيتة، والخبث والأنانية الجشعة، وغير ذلك من التفنن في ارتكاب الوسائل المفضية إلى الأمور المحرمة.
وإنما نريد إبراز الصورة، التي تتوضح معانيها وملامحها بالتمثيل لها، فإنها من دونه تبقى صورة مبهمة غامضة، غير أن هذا يستغرق كتابًا ضخمًا، وطبيعة البحث تستدعي منا اقتضابًا، لا استيعابًا.
ومع هذا فإني مضطر إلى أن أقول شيئًا، وساقتصر على إبراز الحالات الواضحة، التي ركز عليها الكتاب والسنة، تركيزًا خاصًا.
(وكلمة أخرى) : تمس الحاجة إليها، وهي: أن أي انحراف عن (الطريقة المستقيمة) ، يفضي بالضرورة إلى ما لا نهاية له من الاتجاهات، والمنعطفات، والغوايات، والتخبطات. وهو ما أشار إليه القرآن الكريم، في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] .
ولنشرع الآن في معالجة بعض الانحرافات التي تتمثل في التهرب من الأوامر الشرعية، أو الاحتيال عليها.(9/1472)
الاحتيال على الشرع:
هناك طريقة للتحايل على الشرع، وذلك بإهمال شروط تطبيقه وإضاعتها، وغنى عن البيان، أن الذي يتحايل على الشرع، على هذا النحو، هو يسعى إلى فائدته الخاصة، ومنفعته الشخصية، فهو إنسان أناني ممقوت.
هذه الأنانية الممقونة، التي يفرضها على الناس، حبهم المفرط للأعراض الدنيوية، تتجلى سافرة في صورتين:
(إحداهما) : سلبية محافظة.
(والأخرى) : جشعة محتكرة.
وإن أقل أنواع الأنانية حركة ونشاطًا، تلك التي تحمل صاحبها على الانطواء على نفسه، فتجعله ضنينًا بماله، قليل الإيثار، عديم الإحسان، في حين أن الأنانية الجشعة الجامحة، لا تقنع بالوضع السلبي، وإنما تمعن في جمع المال، بكل وسيلة، مشروعة أو غير مشروعة.
والحيل ـ في جميع صورها وألوانها ـ معروفة مكشوفة، في أبواب الفقه الإسلامي، وإنا لنجدها مستفيضة في باب (فريضة الزكاة) . وليس لدينا مثال أوضح ولا أدق، من الوسيلة للتهرب بالحيلة، من هذه الفريضة المقدسة، ما ذكره أبو إسحاق الشاطبي في كتابه الموافقات (ج4 ص 201) .
فقد مثل (أي: ضرب لها مثلاً) بالواهب ماله، عند اقتراب موعد جباية أموال الزكاة، أو عند رأس الحول، تهربًا من أداء هذه الفريضة.
وغني عن البيان، أن الذي يتحايل على الشريعة، على هذا النحو، فيبطل حكمًا شرعيًا، ويسقط فريضة دينية، بعد مرتكبًا ـ دون ريب ـ لعمل من الأعمال المخلة بالدين والخلق.
وعلى هذا النسق، نجد حيلة أخرى، تتمثل في تجميع رؤوس أموال كثيرة، أو قطعان الغنم تخص أشخاصًا مختلفين.(9/1473)
(وقد تكون الحيلة متمثلة، وفقًا لأفضل المنافع، في فصل رأس مال مشترك) بقصد تجنب كل منهم، إلزامًا فادحًا، وحملًا ثقيلًا.
ولقد حرم الحديث الشريف، صراحة هذه الطريقة في الزيغ عن المحجة، وتنكبها فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، كتب له فريضة الصدقة، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة) (1) .
بقت بعض المنافذ، التي يمكن أن يتصورها، ويتبجح فيها أولئك الأغنياء قساة القلوب، حتى يفروا من العدالة الإنسانية، فهل بوسعهم أن يكونوا مطمئنين إلى الفرار، بهذه الحيل من العدالة الأبدية {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ} [الأحزاب: 16] .
لقد ساق القرآن الكريم لنا في هذا الصدد عبرة في قصة أصحاب الجنة، فإنهم أقسموا عشية الحصاد، أن يذهبوا إلى حديقتهم مبكرين، خفية حتى لا يلفتوا إليهم انتباه المساكين، وبذلك يطرحون عن كاهلهم، عبء اقتطاع جزء من ثروتهم.
ويا لها من مفاجأة مذهلة طالعتهم، حين وصلوا إلى جنتهم، لقد طاف على ثمراتها جميعًا، طائف العذاب الرباني، فدمرها وهم نائمون. (القصة في سورة ن 17 ـ 33) .
قال أبو إسحاق الشاطبي (2) " تضمنت الإخبار بعقابهم على قصد التحيل، لإسقاط حق المساكين، بتحريم المانع في إتيانهم، وهو وقت الصبح، الذي لا يبكر في مثله المساكين عادة":
__________
(1) انظر صحيح البخاري ـ كتاب الحيل ـ باب رقم 3
(2) في الموافقات (1/ 289)(9/1474)
وينبغي أن نوغل في التاريخ، إلى العصر اليهودي، لنجد حالات نموذجية من هذه الحيل الملتوية، التي تذهب في سبيل ضمان انتظام السلوك، إلى أن تبدأ بتحريف القاعدة ذاتها وتشويهها، وطيها بطريقة أو بأخرى، حسب الأهواء والشهوات، وقد أشار القرآن الكريم، إلى بعض هذه الألاعيب التي حاول بنو إسرائيل، أن يعثروا عليها، حتى يستبيحوا الصيد يوم السبت، فحفروا حياضًا تصلها قنوات بالبحر، حتى تدخلها الحيتان يوم السبت، ثم يحبسونها حتى يصيدوها في الأيام الجائز فيها الاصطياد، وهو قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} (شارعة ظاهرة على وجه الماء من كل ناحية، كشوارع الطرق، دانية من الساحل، جمع شارع، من شرع عليه: إذا دنا وأشرف) .
{وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] وقد كان عقابهم بالمسخ، والتحليل واضح في فعلهم.
ويروي لنا الحديث النبوي، قصة حيلة أخرى، هي قصة الشحم، الذي كان محرمًا عليهم.، فامتنعوا عنه قاعدة، وباعوه تجارة. (قال عطاء) : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود، لما حرم الله عليهم شحومها، جملوه ثم باعوه، فأكلوه)) (1) .
وقد لعن الله اليهود بسبب فعلهم هذا وهم إنما فعلوا ذلك بقصد الحصول على المال، الذي ضرب بهم المثل في حبهم له.
قال فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة (أبو حيان التوحيدي) ، في رجل لطيف الحس، هو: أعشق للجمال من اليهودي للمال) ومنه قول حافظ إبراهيم، يصف غادة اليابان:
كنت أهوى في زماني غادة
وهب الله لها ما وهبا
ذات وجه مزج الحسن به
صفرة تنسي اليهود الذهب
ولنا أن نستنتج من ذلك، أنه عندما يحرم الله شيئًا، فإنه يحرم في الوقت نفسه، تملك ثمنه ولذلك ذم الإسلام، كسب السحرة والكهنة، والفواجر، وأجر النائحة والمغنية، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم، عن ثمن الكلب ومهر البغي، وحلوان الكاهن (2) .
وهناك حالات كثيرة، تعاطاها الناس، على رغم الشرع، في المجتمعات الإسلامية، وهي مدونة ومدروسة في المؤلفات الفقهية، تبعًا لمختلف المذاهب.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير سورة الأنعام، باب/رقم6/؛ والموافقات للشاطبي (2/278) .
(2) صحيح البخاري ـ كتاب الإجارة (باب كسب البغي والإماء) .(9/1475)
النتيجة:
يتضح من كل ما تقدم: أن الفرق بين (الذريعة) ، و (الحيلة) ، هو: القصد: وعدم القصد. فالمنظور إليه في (الذريعة) ليس هو النية السيئة من الفاعل، بل هو مجرد إفضاء الفعل إلى النتيجة التي لا يقرها الشرع، ولو كان الفاعل حسن النية، وبعبارة أوجز: إن الذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة.
وأما (الحيلة: فلابد فيها من القصد. هذه واحدة. (والثانية) : يفهم من التعريفات السابقة، لكل منهما، ولا سيما تعريف الشاطبي: أن الذريعة شاملة للحيلة، وأن الحيلة تندرج تحت الذريعة.
فالنسبة بينهما، هي من قبيل العموم والخصوص، فالذريعة أعم من الحيلة، والحيلة أخص، ومن المقرر في علم المنطق: أن الأخص يسلتزم دائمًا معنى الأعم، ولا عكس. وعليه، فكل حيلة ذريعة، وليست كل ذريعة حيلة، وهذا ما يطلقون عليه، العموم والخصوص المطلق بين الشئين.
هذا، وقد ذكر الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور من الفروق بينهما: أن الحيلة يراد منها أعمال يأتيها بعض الناس في خاصة أحواله، للتخلص من حق شرعي عليه بصورة هي معتبرة شرعًا، حتى يظن أنه جار على حكم الشرع.
وأما الذريعة فهي ما يفضي إلى فساد، سواء أقصد الناس به إفضاءه، أم لم يقصدوا، وذلك في الأحوال العامة، فحصل الفرق بين الذرائع والحيل، من جهتين: جهة العموم والخصوص، وجهة القصد وعدمه، ثم أضاف قائلًا: إن الحيل لا تكون إلا مبطلة لمقصد شرعي، والذرائع قد تكون مبطلة لقصد الشارع، من الصلاح وقد لا تكون مبطلة (1) . وذكر الشيخ الجليل العلامة عبد الله دراز في تعليقه على كتاب الموافقات (ج4 ص 199) : أن هناك فرقًا آخر بينهما، وهو: أن الحيلة تجري في العقود، والذريعة أعم.
وأختم هذا الفصل، بكلمة ذهبية للفقيه الحنبلي الجليل، الإمام (ابن قيم الجوزية) ، فقد قال ـ وهو يذكر الاختلاف الصارخ بين الحيل، وسد الذرائع ـ: ( ... وتجويز الحيل: يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسد الطريق إلى المفسدة بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة، فأين من يمنع من الجائز، خشية الوقوع في المحرم، ممن يعمل الحيلة في التوصل إلى المحرم) (2) . وكأني بابن القيم (رحمه الله) ، كان يوشك أن يقول: إن الجمع بينهما كالجمع بين الحركة والسكون أو بين الضب والنون. وأن بين الكلمتين من البعد، مسيرة شهر للراكب المغذ.
__________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية (صفحة/ 116) ، نشر الشركة التونسية للتوزيع.
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج3 ص171) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد(9/1476)
الفصل الثالث
في أقسام الذرائع وأحكامها وشروطها
يرى فقهاء المالكية، الذين يقيمون وزنًا (لقاعدة الذرائع) : أن هذه القاعدة لا تعني أن كل ذريعة يتوصل بها إلى الشيء الممنوع، تعتبر ممنوعة، بل إن في المسألة تفصيلًا، ومفتاح هذا التفصيل، عند فقيه جليل من فقهائهم، هو: الإمام القرافي (1) .
فقد ذكر أن الذرائع ثلاثة أقسام:
(أولها) : ما أجمع العلماء على سده ومنعه، من حيث يفضي كثيرًا إلى ما فيه مفسدة كحفر الآبار في طرق المسلمين، إذا علم وقوعهم فيها في غفلة أو ظلام، وكإلقاء السموم في الأطعمة، فإنه يفضي على وجه القطع أو الظن القريب منه، إلى موت من يتناول الطعام.
وكسب آلهة المشركين في وجوههم، فإنه يؤدي إلى ما فيه المفسدة، وهو سب الإله المعبود بحق، وإن كان سب آلهة المشركين في نفسه، ليس فيه مفسدة.
(وثانيها) : ما أجمعوا على إلغائه، وعدم سده، لقلة ما يفضي إليه من مفسدة، بالنسبة لكثرة ما ينتج عنه من المصلحة: كزراعة العنب، فقد يفضي إلى اتخاذ الخمر منه لشربها، فلم يمنعه الشارع؛ لأن المفسدة قليلة بالنسبة إلى الانتفاع بالعنب، من حيث أنه ثمرة طيبة من جملة الثمرات، فلا تمتد حرمة معاقرة الخمر وشربها، إلى وسيلته التي هي: زرع العنب، بل تبقى منوطة بتعاطي ما يسكر من عصيره.
وكالتجاور في البيوت، خشية الوقوع في الزنى، فهذا وأمثاله، يعد من الذرائع، التي اتفقوا على إلغائها، عدم الالتفات إليها.
__________
(1) في كتابه النفيس الفروق ـ الفرق 85 (الجزء الثاني، صفحة 32) من طبعة عيسى الحلبي بالقاهرة وقد تصرفت بعض التصرف في عبارته(9/1477)
(وثالثها) : ما يتردد بين أن يكون ذريعة إلى مفسدة، وبين أن لا يكون وهذا ما اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال بالمنع من هذا القسم، نظرًا إلى ما قد يفضي إليه من المفسدة، ومنهم من ذهب إلى الإغماض عنه، وعدم عده في الذرائع التي يجب سدها (كبيوع الآجال) : وذلك مثل أن يبيع البائع سلعة بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يشتريها من المشتري بخمسة نقداً (1) .
فالإمام مالك يقول بمنعها؛ لأن البائع خرج منه خمسة دراهم، وأخذ عند حلول الأجل عشرة، والسلعة قد جعلت ذريعة إلى الربا. والإمام الشافعي كان يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد ونيته، وكان يقول: حمل المسلمين على التهم لا يجوز. (وهذا القسم مختلف فيه) ، هو الذي بحث فيه المجتهدون.
وهكذا يقرر الإمام القرافي القول في هذه (القاعدة) ، ويعيده قائلًا: (ليس سد الذرائع من خواص مذهب مالك، بل منها ما أجمع عليه، وإنما الخلاف والنزاع في ذرائع خاصة فرعية، كالصور المعروفة في (بيوع الآجال) ونحوها. أي: من كل مباح أفضى إلى مفسدة غالبًا، وهذه النتيجة التي وصل إليها (القرافي) ، تلقاها كثير من الباحثين بحماسة شديدة، وقبول حسن.
__________
(1) الفروق (ج2 ص32) ، وانظر تقسيم الإمام الشاطبي للذرائع في كتاب (الموافقات 2/ 357) .(9/1478)
(مسألة) ـ بيوع الآجال:
هذا، وإن خطر هذه المسألة، وتنازع الفقهاء فيها، ليبيحان لنا أن نطيل الحديث قليلًا، حتى نعطي للقارئ فكرة واضحة عنها.
فلنأخذ ـ أو: بالحري: لنعد إلى مثال (عقد المخاطرة) أو: بيع العينة، أو: بيع الأجل ... الذي يحاول فيه البائع، إخفاء وجه الربا القبيح، وإظهار وجه البيع الصحيح المليح، والذي نفى الإمام مالك على المالكية، أن يستبيحوه.
ونحن نعلم أن القرآن الكريم، يحرم الربا بالمعنى الأوسع للكلمة (أعني: تحريمًا قاطعًا مطلقاً) ، وهو: كل منفعة تؤخذ ممن يقرضون. ذلك لأن الإقراض ليس متاجرة، بل هو معاونة، والمعاونة يجب أن تكون نزيهة نزاهة مطلقة ومعروف أن القصد من (عقد المخاطرة) ، تقديم النقود المقترضة، في صورة ثمن بيع، وهاكم وصف العملية وتفصيلها: فالمقرض يقدم أولًا للمستقرض، سلعة يبيعه إياها بثمن مؤجل أعلى، ثم هو بعد ذلك، يشتريها منه نقدًا وبثمن أدنى، بحيث تجدنا ـ في نهاية العمليتين، في حالة الربا الصريح.
فالمستقرض يقبض نقودًا الآن، وقد استعمل خروج السلعة ودخولها، لتغطية الوجه الوقح، للكسب غير المشروع.(9/1479)
ما قيمة هذا البيع عند الفقهاء؟
إن الأمور إذا سارت علنية، على نحو ما وصفنا، أعني. إذا كان من المتفق عليه مقدمًا بين الطرفين إعادة بيع ما سبق شراؤه للشخص نفسه، فإن اتفاق الفقهاء إجماعي على إبطال هذا البيع، باعتباره بيعًا ربويًا، ولكن إذا كنا أمام عمليتين متتابعتين، دون أن نلاحظ فيهما تواطؤا، فهل يجب أن نعتبر العمليتين عملية واحدة؟ أليس من الممكن أن تكون هناك سوقان منفصلتان، يجوز أن تكون ثانيتهما مفروضة على إثر رجوع المشتري عن رأيه فجأة، بعد فوات الأوان، ندمًا على إبرامه الأولى؟
إن من الصعب، أن نحكم بيقين على النية الباطنة العميقة لدى الناس، ولكن كيف نحكم على قضية مشكلة من هذا القبيل؟
أما المالكية، فيرون أن هذا الكسب غير مشروع، وهو ربا؛ لأن السلعة قد جعلت ذريعة للربا، وجعل هؤلاء الأئمة من المالكية علة المنع من العقد، كثرة قصد الناس منه الوصول إلى الربا، وجعلوا المنع حكمًا مطردًا، من غير نظر، إلى من يقصد الربا ومن لا يقصده؛ لأن علة الحكم، يكفي فيها أن تكون مظنونة، ولا يشترط فيها أن تكون محققة.
وأما الشافعية: فيبيحونه ويقرونه شرعًا. ويقولون: إن كلا البيعين في ذاته جائز، يمكن أن تحصل المصلحة المقصودة من البيع، وينبغي حمل حال المسلم على الصلاح، وعدم القصد إلى الربا المحرم، وما لم يقم دليل زائد على مجرد العقد، يدل على القصد إلى الممنوع، كان العقد جائزًا، وأما الحنفية، فيرون أن العقد الأول جائز وصحيح، بخلاف العقد الثاني، فإنه فاسد من حيث إنه هو الذي يتحقق به معنى الربا.
والواقع أنه لو كان ممكنًا، أن نكشف ما يجري في فكر المتعاقدين، فلربما لم نشهد هذا الخلاف الواسع، ذلك أن مالكًا من ناحيته، لا يمنع في الأحوال الاعتيادية الطبيعية، أن يبيع المرء مرة أخرى نقدًا، وبسعر أقل مما سبق أن اشتراه غالبًا وبأجل، والشافعي من جانبه، لا يوافق على أن يجعل المرء من هاتين العمليتين، مجموعًا يستهدف به الربح الدنس، قصدًا ونية، فالمشكلة منحصرة في جمع العمليتين، فهو الذي يثير الاهتمام بأن لدى صاحبيها قصدًا غير مشروع.(9/1480)
- (وخاتمة المطاف) : أن الشافعية يرون أنه لا يجوز حمل المسلمين على التهم. ولما كانت البراءة هي الأصل، فيجب التمسك بها، إلى أن يثبت العكس.
وهذا ما أراده المالكية، فقالوا: ليس الأمر هنا أمر تهمة مطلقًا، ولكنه أمر ملاحظة وإدراك للواقع في مدلولها العقلي (1) .
والإمام (ابن قيم الجوزية) ، جعل صورة البيع المذكورة، من أمثلة (الذارئع) . ثم ذكرها في مسألة الحيل بعد ذلك، وقال: (إن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة ... ) .
وذكر الإمام الشافعي بخير فقال: (ومن عرف سيرة الشافعي وفضله ومكانته في الإسلام، علم أنه لم يكن معروفًا بفعل الحيل، ولا بالدلالة عليها، ولا كان يشير على مسلم بها، وكان يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد ونيته، ولو قيل للشافعي إن المتعاقدين، تواطآ على ألف بألف ومائتين، لم يجوز ذلك.) (أعلام الموقعين) .
__________
(1) بداية المجتهد لأبي الوليد (ابن رشد) الحفيد (2/ 153) وراجع في المسألة: الهداية باب البيع الفاسد وشرح فتح القدير القدير لابن الهمام (5/ 207) المطبعة الأميرية.(9/1481)
أقسام الذرائع عند (ابن قيم الجوزية) ، ونقدها
تناول الإمام (ابن قيم الجوزية) ، في كتابة (أعلام الموقعين) ، الذي هو أحد محاسنه على وجه الدهر، بحث (سد الذرائع) وأفاض القول فيه، ووسع العبارة، وزاد في الإسهاب والإطناب، وبالغ في التعمق والتدفق، حتى أورد تسعة وتسعين وجهًا، للدلالة على (سد الذرائع، والمنع منها، ثم قسمها إلى أربعة أقسام.
1- القسم الأول: ما وضع للإفضاء إلى المفسدة، كشرب الخمر المفضي إلى السكر، والزنى المفضي إلى اختلاط الأنساب وفساد الفراش.
2- القسم الثاني: ما وضع للإفضاء إلى مباح، ولكن قصد به التوصل إلى مفسدة، كعقد النكاح المقصود به التحليل، وكعقد البيع الذي قصد به التوصل إلى الربا.
3- القسم الثالث: ما وضع لمباح، لم يقصد به التوصل إلى مفسدة، ولكنه يفضي إليها غالبًا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، وذلك مثل سب آلهة المشركين في وجوههم وبين أظهرهم، وتزين المتوفى عنها زوجها في زمن العدة.
فهذه أفعال مباحة في الأصل، لما يترتب عليها من المصالح، ولم يقصد فاعلها بها مفسدة، ولكن مآلها في الغالب إلى مفسدة نهى الشرع عنها، وهذه المفاسد راجحة على مصلحة العقل.
4- القسم الرابع: ما وضع لمباح، ولكنه قد يفضي إلى مفسدة، ومصلحته أرجح من مفسدته، كالنظر إلى وجه المخطوبة، والمشهود عليها (1) .
وهكذا يأخذ الفقيه الجليل (الذريعة) ، بمعناها الواسع، الشامل للأقسام الأربعة، ويقرر فقه الشريعة في (الذرائع) .
__________
(1) إعلام الموقعين (ج3 ص 119)(9/1482)
وفيما قرره وقسمه هذا الفقيه النبيه، الذي لا ينكر فضله وعلمه، أخذ ورد، وقبول ورفض ولكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة، و (كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه) ، والسبب في هذا كله، هو: تدفقه في القول وإكثاره من الصول والجول، وزيادته في التقسيم والتعميم، فوق اللزوم، والإكثار لا يسلم صاحبه من العثار، والتدفق لا يخلو من الكدورة والتورط.
1- وأولًا: إن القسم الأول من الذرائع، وهو: ما وضع للإفضاء إلى مفسدة، كشرب الخمر، والزنى ليس من (الذرائع) ، في ورد ولا صدر، وإنما هو من باب المقاصد، ذلك لأن الزنى ـ الذي مثل به (ابن قيم الجوزية) لهذا القسم ـ متضمن المفسدة في ذاته، وليس ذريعة إلى مفسدة أخرى أكبر منه، وكذلك بقية الأمثلة.
وليس أدل على ذلك، من أن الإمام القرافي، قد جعل هذا القسم، من باب المقاصد لا الوسائل فقال: (موارد الأحكام على قسمين:
مقاصد: وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها.
ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها" (1) .
(وبالجملة) : فإن الشريعة قد جاءت بالمنع من هذا القسم.
وما تمنعه الشريعة من الأفعال قسمان: قسم يشتمل بنفسه على المفسدة، كالزنى، وشرب الخمر، والقذف، والسرقة، والقتل بغير حق ... وقسم لا يشتمل على المفسدة بنفسه، ولكنه يفضي إلى ما فيه المفسدة، وهذا هو الذي يسمى (ذريعة) ويسمى منعه سدًا.
ومن حكمة الشريعة الإسلامية: أنها لم تقصر النظر على ما يحتوي المفسدة بنفسه، بل وجهت نظرها إلى وسائل ما فيه المفسدة، فمنعتها. والآيات والأحاديث الواردة في الكتاب والسنة، بالنهي عن وسائل ما تقع المفسدة بوقوعه، غير قليلة، ومن شواهد هذا، ما ذكرناه من قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
ويضاهي هذا الشاهد، قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أكبر الكبائر، أن يلعن الرجل والديه)) قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه)) . أخرجه البخاري في صحيحه.
ولباب القول: هو أن (القسم الثاني) : وهو ما وضع للمباح، ولكنه اتخذ وسيلة، إلى مفسدة، هو (بيت القصيدة،) ، وهذا هو السر، في أن كثيرًا من علماء الأصول، يعرفون (الذريعة) ، بما يقصرهم على هذا القسم؛ لأنه هو محل الخلاف، فيقولون: إن الذريعة: هي الأمر المباح، الذي يتخذ وسيلة إلى مفسدة. (والله تعالى أعلم) .
__________
(1) الفروق (ج2 ص 33)(9/1483)
حكم الذريعة:
كان الكلام في فاتحة هذا الفصل، مخصصًا لأقسام الذرائع. وقد لاحظنا أن المتحمسين من الفقهاء لهذه القاعدة، لا يتبعون دائمًا خطًا متوازيًا، فعلى حين يذكر أحدهم أنها ثلاثة أقسام كالقرافي، يعدها الآخر أربعة كابن قيم الجوزية.
وقد قمنا بتشريح الأقسام التي ذكرها هذا الأخير، وأخرجنا منها قسمًا، ليس منها في شيء، وقد استدعى هذا التعديل، انهيارًا جزئيًا، في صرح تقسيم هذا الإمام العظيم.
وعلينا الآن أن نستنبط من مجموع هذه الأقسام، حكم الذريعة، فنقول:
إن الذريعة تعطي حكم الشيء للتوصل بها إليه، وحكم الذريعة: هو حكم المقصود، فإن كان المقصود الذي تفضي إليه الذريعة فرضًا. كالحج المقصود من السعي إلى البيت الحرام، في مكة المكرمة، كانت الذريعة مثله في الفرضية، فيكون السعي فرضًا. وإن كان المقصود، الذي تفضي إليه الذريعة حرامًا، كالزنى، كانت الذريعة، وهي النظر إلى النساء حرامًا، وبهذا تكون الوسيلة إلى المحرم محرمة، والوسيلة إلى الواجب واجبة، وهذا ما نجده في التكاليف الشرعية، التي كلفنا الله بها. فإنه يعطي الوسيلة حكم الغاية، فإذا نهى الله تعالى عن شيء وحرمه، كان مقتضاه: النهي عن كل ما يتوصل به إلى ذلك المنهي عنه، وإذا أمر بشيء فمعناه، أنه أمر بكل ما يوصل إليه.
فمثلًا نهى الله تعالى عن شرب الخمر، لأنها توصل إلى العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله فقال عز وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) } [المائدة: 90: 91] .(9/1484)
ونستنتج من هذا، أن موارد الأحكام على نوعين: مقاصد، ووسائل.
فالمقاصد: هي الغايات التي تشتمل على المفاسد والمصالح.
والوسائل: هي الأمور الموصلة إلى المقاصد وتفضي إليها.
كما نستخرج: أن حكم المقاصد والوسائل متحد؛ لأن الوسيلة (وهي: الذريعة) تابعة لما تفضي إليه، فإن أفضت إلى تحريم كانت محرمة، وإن أفضت إلى تحليل كانت محللة، غير أنها أخف رتبة من المقاصد في حكمها.
ثم إن ههنا نقطة مهمة، وهي: أن الوسيلة إلى الشيء المحرم، قد تكون غير محرمة، إذا أفضت إلى مصلحة راجحة.
وبعبارة أوضح: إن الشريعة تأتي إلى الشيء يكون له وجه من الضرر، فتأمر به حيث يكون ذريعة إلى ما فيه مصلحة أكبر من ذلك الضرر، ومن هذا القبيل:
1- بذل الماء لفداء الأسرى المسلمين:
فالمال المبذول للأعداء يزيدهم قوة، وحرام على المسلمين، أن يمدوا عدوهم ولو بمثقال ذرة من ذهب أو فضة. ولكن هذا البذل ذريعة إلى مصلحة يصغر في جانبها ضرر بذل المال للأعداء، وهذه المصلحة هي إنقاذ الأسرى المسلمين من أيد تسومهم سوء العذاب.
2- دفع مال لرجل يأكله حرامًا، حتى لا يزني بامرأة مسلمة.
فهذا الفعل يعد ذريعة إلى مفسدة، وهي: أكل مال المسلم بالباطل، إذ لا يستحق أحد أجرًا على ترك الفسوق والفجور، ولكن هذا الفعل أجيز لما يؤدي إليه من المصلحة الراجحة، وهي حفظ عرض المسلمة ومنع وقوع الفاحشة، ومصلحة حفظ الأعراض أهم في نظر الشارع، من مفسدة دفع المال إلى أن يأكله باطلًا.
3- دفع المال للمحارب، حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال:
فهذا أيضًا ذريعة إلى مفسدة أكل المال بالباطل، ولكنه لم يمنع منه، نظرًا لأن هذا الدفع، يترتب عليه مصلحة أكبر، وهي: منع القتل.(9/1485)
فهذه الصور الثلاث، كان الدفع من أجلها وسيلة إلى المعصية بأكل المال، ومع ذلك فهو مأمور به، لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة (1) .
هذا بعض ما يستخلص من كلام الإمام القرافي، في حكم الذريعة، وتوفية للبحث وإتمامًا له، أعرض بعض أنواع الذرائع وأحكامها عند الإمام أبي إسحاق الشاطبي، والأنواع التالية، تعطينا فكرة مجملة عن أحكامها.
(وأولها) : الوسيلة (أو: الذريعة) التي تفضي إلى ما فيه مفسدة قطعًا.
وذلك كحفر بئر خلف باب الدار في الظلام، بحيث يقع فيه كل من يدخل إلى الدار، لا محالة، فحكم هذا النوع: المنع إجماعًا.
(وثانيها) : الذريعة التي تفضي إلى ما فيه مفسدة غالبًا.
وذلك كبيع السلاح في زمن الفتن والحروب، وبيع العنب للخمار (الذي يصنع خمراً) وحكم هذا النوع: هو سد هذه الذريعة وتحريمها في مذهب مالك، وأحمد.
(وثالثها) : الذريعة التي تفضي إلى ما فيه المفسدة كثيرًا.
ومعلوم أن الكثير، لا يبلغ درجة (الغالب) . ومثال هذا النوع بيوع الآجال، والعينة وهذا النوع موضع نظر والتباس (وقد بسطنا القول فيه، فيما مضى من هذا الفضل، وذكرنا تنازع العلماء فيه وتدارءهم. فارجع إليه) .
(ورابعها) : الذريعة التي تفضي إلى ما فيه المفسدة نادرًا.
وذلك كحفر بئر في موضع، لا يؤدي في الغالب إلى وقوع أحد فيه، وحكم هذا النوع: هو الإلغاء وعدم الالتفات إليه؛ لأنه نادر (والنادر لا حكم له) كما يقولون: وخلاصة الكلام في هذا المقام، هو: أن الذريعة التي تفضي إلى المفسدة، تمنع إذا كان إفضاؤها إليها قطعيًا أو غالبًا أو كثيرًا، ولا تمنع ولا تعتبر إذا كان الإفضاء للمفسدة نادراً (2) .
__________
(1) راجع في هذا كله الفروق للقرافي ـ الفرق 58 (ج2 ص 32 ـ 33) .
(2) راجع الموافقات في أصول الأحكام للإمام الشاطبي (ج2 ص 357) بتحقيق الشيخ العلامة عبد الله دراز(9/1486)
- (تتمة وفائدة مهمة) :
وأخيرًا أرجو وآمل: أن تحتمل لي هذه التتمة والفائدة المهمة، ولا أزيد وسأجعلها طويلة، ولا أعود.
والذي أعنيه هنا: هو التنبيه على أن شيئًا من الصور والأنواع التي ذكرتها، لم تكن مفسدة في نفسها، أو ما يسمى محرمًا لذاته، بل كل ما في الأمر، أنه كانت ذريعة إلى المفسدة. وهي في الوقت نفسه، تحقق مصلحة أكبر من مفسدتها وأما إذا كان الفعل محرمًا لذاته، فإنه يمنع منعًا باتًا قولًا واحدًا.
ذلك لأن الحرام القطعي لا يمكن أن يأتي بالحلال، وإن الشر لا يمكن أن يصبح خيرًا؛ لأن الله عز وجل، لم يحرم شيئًا لذاته، ثم يرتب عليه مصلحة راجحة، وعليه. فإن الذي يسرق ليبني مسجدًا يرتكب إثمًا يوجب عليه حدًا؛ لأن السرقة فعل محرم لذاته، ويتضمن المفسدة في نفسه.
ومثله: المرأة الفاجرة، التي أرادت أن تتصدق بكسبها الخبيث!! (والقصة مشهورة) .(9/1487)
شروط الذرائع:
قد علمنا مما سبق: أن وسيلة المحرم محرمة، وأن ما يؤدي إلى المفسدة ممنوع غير مشروع، ووضح لنا وضوحًا تامًا، أن قاعدة الذرائع، تعمل عملها، إذا كان الفعل الجائز المشتمل على مصلحة، يؤدي غالبًا إلى مفسدة، تساوي مصلحة هذا الفعل، أو تزيد. ويمكن القول إجمالًا: بأن الفقهاء قد قيدوا تطبيق هذه القاعدة بثلاثة قيود، أو ثلاثة شروط:
الأول: أن يؤدي الفعل المأذون إلى مفسدة.
الثاني: أن تكون تلك المفسدة راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه.
الثالث: أن يكون أداء الفعل المأذون فيه إلى المفسدة كثيرًا.
وهذا بيانها:
الشرط الأول: إن الفعل المأذون فيه، فعل يتضمن مصلحة، ومن هنا، لا يجوز المنع من هذا الفعل، طالما أن هذا الفعل يحقق تلك المصلحة، ولا يؤدي إلى مفسدة، تقطع هذه المصلحة. أما إذا كان هذا الفعل ذريعة إلى المفسدة، فإن الشرع يمنع منه، وذلك لتعارض مصلحة الفعل مع المفسدة التي يؤول إليها.
وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة، قدم درء المفسدة، على جلب المصلحة. تطبيقًا لقاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وفي هذا يقول الشاطبي: " لا مصلحة تتوقع مطلقًا. مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد عليها" (1) .
وهذا الشرط يبدو واضحًا من تعريف الذريعة الممنوعة: بأنها " التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة ". أو: " الذريعة بفعل جائز على عمل غير جائز ". أو: " المنع من الجائز لئلا يتوصل به إلى الممنوع" (2) . هذا هو الشرط الأول للذريعة.
الشرط الثاني: أن تكون المفسدة المتذرع إليها، بالفعل المشروع، مساوية، أو: راجحة على مصلحة ذلك الفعل. (يوضحه) : أن الفعل المشروع إذا كان يحصل مصلحة، ولكنه ذريعة إلى ما فيه مفسدة، فإن هذا الفعل ممنوع، وتلك الذريعة تسد إذا كانت المفسدة التي يتذرع بالفعل المشروع إليها، موازية لمصلحة الفعل وتزيد عليها.
وأما إذا أربت مصلحة الفعل المشروع على مفسدته، فإن الفعل لا يمنع، والذريعة لا تسد. وفي هذا يقول القرافي: " وقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة، إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، كالتوسل إلى فداء الأسرى بدفع المال للكفار الذي هو محرم عليهم الانتفاع به، وكدفع مال لرجل يأكله حرامًا، حتى لا يزني بامرأة مسلمة، إذا عجز عن دفعه عنها إلا بذلك (3) .
الشرط الثالث: أن يكون أداء الفعل المأذون فيه إلى المفسدة كثيرًا. فقاعدة الذرائع: لا تعني أن كل ذريعة إلى ممنوعة. بل إن في المسألة تفصيلًا، فالذرائع على أقسام كما عرفت. (منها) ما أجمعت الأمة والأئمة على سده، (ومنها) ما أجمعوا على إلغائه وعدم سده، و (منها) ما اختلفوا فيه.
وقد أفضت القول فيه فيما مضى، فلا أعيده، تجنبًا للتكرار، وفي هذا القدر كفاية والإشارة تغني عن العبارة، والسلام.
__________
(1) الموافقات (ج4 ص196
(2) الموافقات (ج3 ص 267 و (ج 4 ص 198 ـ 199)
(3) الفروق للقرافي (ج3 ص 33) راجع الموافقات 2/ 352 فقد ضرب على ذلك أمثلة(9/1488)
الفصل الرابع
موقف أئمة الفقه الإسلامي من الاحتجاج
بسد الذرائع وتحرير محل النزاع في ذلك
حقائق أساسية:
لا بد ـ قبل كل شيء ـ من تحرير هذا الموضع، قبل تقريره، ليزول الالتباس فيه. وإنه بوسعنا ـ بتأييد الله وتسديده ـ أن نقدم للقارئ مباشرة، جملة من الحقائق، لا تسبق فيها المقدمات نتائجها، ولا الأحكام مسبباتها. فنقول:
إن من تبصر في مذاهب الأئمة الفقهاء، يجد أنهم لم يختلفوا في أن (سد الذرائع) ، من أصول الشريعة وقواعدها، وإنما نجدهم قد اختلفوا في بعض الفروع، فيذهب بها بعضهم نحو (سد الذرائع) ويرجع بها بعضهم الآخر، إلى أصل غير هذا الأصل.
ولدينا في هذا المقام، كلام أقطع من الحسام، يقدمه لنا الإمام أبو إسحاق الشاطبي، قائلًا: " إن سد الذرائع أصل شرعي قطعي. متفق عليه في الجملة، وإن اختلف العلماء في تفصيله، وقد عمل به السلف، بناء على ما تكرر من التواتر المعنوي، في نوازل متعددة دلت على عموميات معنوية، وإن كانت النوازل خاصة، ولكنها كثيرة" (1) .
ولقد استطاع الشاطبي، في تحليله العميق، لهذه القاعدة، أن يكشف لنا عن قاعدة سد الذرائع، وأنها مشروعة مطلوبة، وأن السلف جروا في تفصيل بعض الأحكام، على أصل سد الذرائع.
ومستندهم في تحقيق هذا الأصل، ما ورد في الكتاب والسنة، من الأحكام العائدة إلى هذا الأصل.
__________
(1) الموافقات (ج3 ص 61)(9/1489)
وهذه الأحكام، وإن كان كل واحد منها، متعلقًا بنازلة (أي: واقعة، أو حادثة) خاصة، فقد بلغت من الكثرة، ما يدل على قصد الشارع، إلى (سد الذرائع) الفساد.
فتكون هذه الأحكام الكثيرة، بمنزلة قول عام يرد في القرآن، أو السنة، مصرحًا ببناء الأحكام على سد الذرائع.
وفي هذا المعنى يقول الشاطبي (1) :
" والعموم إذا ثبت، فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط، بل له طريقان:
(أحدهما) : الصيغ إذا وردت، وهو المشهور في كلام أهل الأصول.
(والآخر) : استقراء مواقع المعنى، حتى يحصل منه في الذهن، أمر كلي عام، فيجري في الحكم مجرى العموم، المستفاد من الصيغ".
ويردف قائلًا:
" إن قاعدة الذرائع، إنما عمل السلف بها، بناء على هذا المعنى، كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها، وكإتمام عثمان الصلاة في حجة بالناس، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به، من (سد الذريعة) .
وقد سلك الإمام (ابن قيم الجوزية) ـ الذي يعتبر بحق حاملًا لواء الدعوة إلى سد الذرائع، ومنع الحيل ـ في الاستدلال على قاعدة سد الذرائع الطريق نفسه، الذي سلكه الشاطبي، فقررـ بعد أن حررـ: أن قاعدة سد الذرائع من القواعد القطعية في الدين، وأن الشارع اعتبرها في التشريع، وسار عليها في تفريع الأحكام، وعرفت ملاءمتها، لجنس تصرفات الشارع، لا من دليل واحد، ولا من نص معين، بل جملة نصوص، ومجموعة أدلة تفوق الحصر، وتفيد في مجموعها القطع، وذكر تسعة وتسعين دليلًا على صحة دعواه واستقرائه (2) .
والذي نستخلصه من كلام هذين الإمامين الجليلين: أن قاعدة سد الذرائع، من القواعد القطعية، التي أجمع الأئمة على اعتبارها والعمل بها، في التشريع والتفريع. وإنما الخلاف بينهم ينحصر في تحقيق مناط هذه القاعدة.
__________
(1) الموافقات (ج3 ص 298) ، و (ج3 ص 304*
(2) انظر في هذه الأدلة والأوجه: إعلام الموقعين (ج3 ص 149 ـ 171)(9/1490)
ولقد فهم كثير من الفقهاء هذه المعاني، وتلقوها بقبول حسن، وطبقوها في كثير من الفروع الفقهية، ما بين مكثر في الأخذ بها، وبين مقل ومتوسط، ولكن الفقيه الشافعي الكبير (ابن السبكي) صاحب كتاب جمع الجوامع في الأصول، قد رفض الأخذ بها بشدة، واستهواه المضي في المراء، وجذب معه بعض الفقهاء إلى بعيد، وراح يقول: (الذرائع: هي الوسائل، وهي مضطربة اضطرابًا شديدًا، فلا يمكن دعوى كلية باعتبارها، ولا بإلغائها " (1) .
فقيل له: إن إمامك الشافعي وقدوتك، قد قال في (إحياء الموات من كتابه الأم) بعد أن ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ومن منع فضل الماء، ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته)) .
قال الشافعي: (فإذا كان هذا هكذا، ففي هذا ما يثبت، أن الذرائع في الحلال والحرام، تشبه معاني الحلال والحرام) (قال ابن السبكي) : هذا كلام الشافعي. وقد تأملته فلم أجد فيه متعلقًا قويًا، لإثبات قول سد الذرائع" (2) .
ولعمري! من ذا الذي لا يرى في كلام الإمام (ابن السبكي) ، سفسطة ومخرقة ومكابرة!!؟ واستمع لما يقوله الإمام القرافي، الذي ولد في بحبوحة (سد الذرائع) منذ كان في المهد صبيًا.
" يحكى عن المذهب المالكي، اختصاصه بسد الذرائع، وليس كذلك، بل منها ما أجمع الناس على سده، ومنها ما أجمعوا على عدم سده، وإنما النزاع في ذرائع خاصة، وهي (بيوع الآجال) ونحوها".
يعني: من كل مباح يتذرع به إلى مفسدة ثم أورد إشكالًا، فقال: " وحينئذ يظهر عدم فائدة استدلال الأصحاب (يعني المالكية) ، على الشافعية، في سد الذرائع بقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] . وبقوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] .
وبقوله عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها)) . الحديث. وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف مفترقين وتحريمهما مجتمعين، لذريعة الربا.
__________
(1) تكملة المجموع (ج10 ص 158 وما بعدها) من الطبعة المنيرية بالقاهرة.
(2) تكملة المجموع (ج10 ص 158 وما بعدها) من الطبعة المنيرية بالقاهرة.(9/1491)
ومنع شهادة الآباء للأبناء وبالعكس فهذه وجوه كثيرة، يستدلون بها وهي لا تفيد فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا مجمع عليه.
وإنما النزاع في ذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال ونحوها، فينبغي أن نذكر أدلة خاصة، لمحل النزاع، وإلا فهذه لا تفيد.
وإن قصدوا (يعني المالكية) القياس على الذرائع المجمع عليها، فينبغي أن يكون حجتهم القياس خاصة، ويتعين حينئذ عليهم إبداء الجامع (يعني بين الأصل والفرع) ، حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق (أي حتى يتمكن الشافعية من إبطاله) ، والمالكية لا يعتقدون أن دليلهم هو القياس وحده، بل يصرحون بأن مدركهم (أي: دليلهم) هو النصوص التي قضت بسد الذرائع جملة، وليس ذلك بصحيح، بل على المالكية أن يذكروا، نصوصًا أخرى خاصة بذرائع بيع الآجال ويقتصرون عليها (1) .
ويعترض الإمام الشاطبي ـ وهو من شيعة الإمام القرافي، ومن أهل مذهبه ـ قائلًا: إن إشكال القرافي، غير وارد ذلك لأن العام الاستقرائي يقوم مقام العام المستفاد من الصيغة، ولأن الذرائع قد ثبت سدها في خصوصيات كثيرة بحيث أعطت في الشريعة، معنى السد مطلقًا عامًا، وخلاف الشافعي هنا غير قادح، ولا خلاف أبي حنيفة.
أما الشافعي: فالظن به أنه تم له الاستقراء في سد الذرائع على العموم، ويدل لذلك قوله بترك الأضحية، إعلامًا بعدم وجوبها، وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة، لكن عارضة في مسألة (بيوع الآجال) دليل آخر رجح على غيره فأعمله، فترك سد الذريعة من أجله، وإذا تركه لعارض راجح، لم يعد مخالفًا.
وأما أبو حنيفة: فإنه ثبت عنه جواز إعمال الحيل، لم يكن من أصله في بيوع الآجال، إلا الجواز، ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع، وهذا واضح، إلا أنه نقل عنه موافقة مالك في سد الذرائع فيها (يعني بيوع الآجال) وإن خالفه في بعض التفاصيل، وإذا كان ذلك كذلك، فلا إشكال (2) .
وبهذه البينات من أبي إسحاق الشاطبي، نختتم هذا الفصل، سائلين الله تعالى، التوفيق لأقوم طريق.
__________
(1) الفروق للقرافي (ج3 ص 226) . وقد تصرفت بعض التصرف في عبارته، بغية الإيضاح.
(2) الموافقات (3/ 305) .(9/1492)
الفصل الخامس
في الكلام على موقف المذاهب الفقهية
من قاعدة الذرائع عمومًا، والمذهب المالكي خصوصاً
إن نظرة سريعة نلقيها على عنوان هذا الفصل، والفصل الذي تقدمه، كافية لنلحظ فيها تماثلًا واضحًا بين الفصلين، فهذا الفصل في حقيقته ومضمونه، ومبناه ومعناه، لا يخرج عن الفصل السابق، وإنما أفرد عنه، وجعل مستقلًا بنفسه، لتفصيل ما أجمل هناك، وتحقيق ما أغفل، ثم لأمر آخر، وهو: معرفة ما إذا كان المذهب المالكي قد اختص بسد الذرائع وحده، وانفرد بها دون غيره، من بين المذاهب الفقهية الأخرى، أم شاركه في الأخذ بها واعتبارها، سائر المذاهب الفقهية المعنية؟!
وينبغي للإجابة عن هذا السؤال، أن نشمر عن ساعد الجد، لعرض موقف المذاهب بإيجاز، باستثناء مذهب الشافعي، فنعني في عرضه بشيء من البسط، توضيحًا لموقفه الحقيقي، وواقع أمره.
مذهب المالكية ـ والحنابلة:
أما المالكية، فلسنا في حاجة إلى إجهاد أنفسنا في البحث كثيرًا من أجل الوقوف على موقفهم من هذه القاعدة، فموقفهم معروف ومكشوف وقد كفانا إياه الإمام الشاطبي، بقوله: " إن قاعدة سد الذرائع، حكّمها مالك في أكثر أبواب الفقه" (1) . فهذه بينة كافية لتأكيد أن هذه القاعدة، قد أخذت حظها من المكانة والوجاهة عند المالكية.
أما الحنابلة قد أغنانا عن موقفهم من هذه القاعدة الأصولية، شيخ الإسلام " ابن تيمية " وتلميذه " ابن القيم " بل قد بلغت الحماسة بهذا الأخير مداها، مثل لها في إعلام الموقعين (2) ، بتسعة وتسعين مثالًا للدلالة عليها وتأييد العمل بها، وقال: (إن سد الذرائع المفضية إلى الحرام، ربع الدين) .
ونقل القرطبي في تفسيره، رواية عن الإمام أحمد، أنه يقول بها. فالحنبلية نحوًا منحى المالكية، في اعتبار سد الذرائع أصلًا يعتمد عليه، في تقرير الأحكام الشرعية.
__________
(1) الموافقات (ج4 ص 195)
(2) (ج3 ص119 وما بعدها)(9/1493)
مذهب الحنفية:
وأما الحنفية، فإن الدارس لأصولهم وقواعدهم، يجدهم لا يعدون هذا الأصل من أصولهم، ولكن إن صح عنهم جواز إعمال (الحيل) لم يكن من أصلهم في (بيوع الآجال) ، إلا الجواز، ولا يلزم من ذلك تركهم لأصل (سد الذرائع) إلا أنه نقل عن أبي حنيفة موافقته مالكًا في سد الذرائع فيها، وإن خالفه في بعض التفاصيل (1) .
ثم إنهم راعوا سد الذرائع، وعملوا بها في كثير من الفروع الفقهية عندهم. وإذا كان هذا هكذا، فمن دينهم ندينهم، ذلك لأن الذي يقر صحة الفروع، يلزمه التسليم بصحة أصولها.
بيد أن أكثر ما يدهش في موقف الحنفية، هو: أنه قليلًا ما يتفق مع نظريتهم العامة الكثيرة الاعتماد على الرأي والعقل. فنحن نعلم كيف كانوا في مواجهة النصوص الشرعية، يمتازون بثاقب الفكر، محاولين دائمًا، أن يدركوا علتها، ومستعملين غالبًا التعليل بالقياس، وربما أفرطوا في استعماله، ولكنهم ـ وا اسفا، حين يتعرضون لتفسير عقد، أو نذر، وبصفة عامة كل ما يقتضي جزءا، أو كفارة، فإنهم يمسكون عن كل تفسير، ويقبلون الوسائل الملتوية، بشرط واحد فقط، وهو: ألا تتعارض هذه الوسائل مع النص الجامد للقاعدة المقررة (2) .
ومن هنا فهم الحدة والقسوة، عند (ابن حزم) حين ذهب إلى حد اتهامهم بأنهم طريقتهم هذه يشجعون على الرذيلة، ويعلمون المجرمين كيف يرتكبون كل ما يريدون، من السرقة، وهتك العرض، وقتل النفس، وهم آمنون من إقامة الحد عليهم، حتى ولو أنهم أخذوا في حالة التلبس.
الواقع أن (ابن حزم) في حدة اعتراضاته، لم يصل إلى حد اتهام الحنفية في تسويغ الحيل، تعمدًا وتعديًا على الشرع، وإنما كل ما يأخذ عليهم هو أنهم، يفوتون بعض الوقائع الإجرامية، بحجة عدم وجود بعض شروط العقوبة، وربما كانت هذه نقطة ضعفهم.
__________
(1) الموافقات للشاطبي (ج3 ص 305) والهداية (باب البيع الفاسد) ، وشرح فتح القدير لابن الهمام (ج5 س 207) المطبعة الأميرية بالقاهرة
(2) راجع المحلي لابن حزم (11/ 302(9/1494)
موقف الإمام الشافعي، من (سد الذرائع) .
وهذا أوان التشمير عن ساعد الجد، والآن (حمي الوطيس) . ولكن ماذا عساي أن أقول، عن موقف إمام همام، من أصل من الأصول، إذا كان هو أول من أصل الأصول في كتابه المدهش (الرسالة) ، وأول من طبق الفروع على هذه الأصول، في كتابه العجب العجاب (الأم) .
حسبي أن أنوه بفضله، وأشيد بعمله، وأذكر النقول المضطربة عنه، من الذين درسوا فقهه، وأفندها، وكفى.
أما تحديد موقفه من هذا الأصل، فقد حدده هو (رضي الله عنه) نفسه، من أول الأمر، وسيأتيك بيانه بعد قليل، بإذن الله وتوفيقه، وإذا قد تمهد لنا هذا، فلنأخذ في بيان ما نحن فيه، فنقول:
إن المسألة واحدة من ثلاث:
1- إما أن يكون الشافعي، لا يسد الذرائع ولا يعتبرها أصلًا يعول عليه، ولا يعطي الوسيلة حكم المقصد كما زعم (ابن قيم الجوزية) في كتابه (أعلام الموقعين: ج3 ص146) .
2- وإما أن يكون من الآخذين بهذا الأصل، في بعض الفروع الفقهية، دون بعض، كما ادعى القرافي في كتابه الفروق (2/ 32) وكتابه الآخر تنقيح الفصول (ص/ 200) .
3- وإما أن يكون من الآخذين بها مطلقًا، كما يرى الشاطبي في كتاب الموافقات (3/ 305) فقد أشار إلى أن دراسته لفقه الشافعي، دلته على أن الشافعي إذا ترك العمل بهذه القاعدة ولم يأخذ بها في بعض الفروع، فإن ذلك يرجع إلى وجود دليل راجح على هذه القاعدة في نظره.(9/1495)
فالمسألة الأولى: غير مقبولة، والثانية غير معقولة، والثالثة فيها كلام.. ودونك البيان.
1- ليس بنا حاجة إلى استنباط رأي الشافعي من بعض الفروع؛ لأن ما تعين أصولًا، تعين تقديمه شروعًا، وإنما يكون ذلك، إذا جعلنا الفرع هو المأموم، والأصل هو الإمام.
وأما أن نجعل الفروع أصلًا، ونرد الآراء المنتشرة حتى تقف بين يديه، فذلك عندنا من أراد الرأي، وأسوأ الطرق. ذلك لأن الشافعي نفسه قد نص صراحة في كتابه الأم، على الأخذ بقاعدة سد الذرائع، واعتبارها أصلًا من أصول الفقه.
2- وأما أنه (رضي الله عنه) ، لم يسد الذرائع في بعض الفروع، فلأن مناطًا لقاعدة غير متحقق في هذه الفروع، وليس لعدم حجية القاعدة فيها، ولا لوجود الدليل الراجح عنده فيها، فقط.
3- وهاك الآن نص الشافعي على اعتباره لهذا الأصل، الذي نحوم حوله ولم نرده، ونصفه دون أن نقطفه.
قال الشافعي في (إحياء الموات، من كتاب: الأم) ـ بعد أن ذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من منع فضل الماء، ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته)) . ففي هذه دلالة على أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله، لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى.(9/1496)
(قال الشافعي) : فإن كان هذا هكذا، ففي هذا ما يثبت: أن الذرائع إلى الحلال، والحرام، تشبه معاني الحلال والحرام. اهـ، كلام الإمام الشافعي. وليس من وراء هذا القول، قول: (ليس وراء عبادان قرية) . وبه يكون آخذًا بسد الذرائع، في كل حادثة يتحقق مناط الأخذ بها.
وقد سار بعض الأئمة من فقهاء الشافعية، على نهج إمامهم. وأكدوا أن هذا الأصل، من الأصول التي يعول عليها، في بيان حكم النوازل والحوادث، التي تجد إذا لم يكن هناك نص دل على حكم فيها بعينها.
ومن هؤلاء الأئمة، سلطان العلماء، العز بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج1 ص 170) ، فقد أفاد:
" الوسيلة إلى أرذل المقاصد، أرذل الوسائل، فالتوسل إلى القتل، أرذل من التوسل إلى الزنى، والتوسل إلى الزنى، أقبح من التوسل إلى أكل الأموال بالباطل، والإعانة على القتل بالإمساك، أقبح من الدلالة عليه. والنظر إلى الأجنبية محرم، لكونه وسيلة إلى الزنى، والخلوة بها أقبح من النظر إليها، وهكذا تختلف رتب الوسائل، باختلاف قوة أدائها إلى المفاسد.
(وقال) : " وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، لا من جهة كونه معصية بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة، وله أمثلة: (منها) : ما يبذل من الأموال، لافتكاك الأسرى، فإنه حرام على آخذه، مباح لباذله.
(ومنها) : أن يكره امرأة على الزنى، ولا يتركها إلا بافتداء من مالها أو مال غيرها، فيلزم ذلك عند الإمكان.(9/1497)
وليس هذا عند التحقيق، معاونة على الإثم والعدوان، والفسوق والعصيان، وإنما هو إعانة على درء المفاسد، فكانت المعاونة على الإثم والعدوان، فيها تبعًا لا مقصود".
فقد تناول (ابن عبد السلام) بهذا الكلام قاعدة الذرائع، أو جوانب منها، وحدد نطاق الأخذ بها كالإمام القرافي.
فابن عبد السلام يقرر أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أشرف الوسائل، وإلى أرذل المقاصد، أرذل الوسال. والقرافي يقول: " الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسط"
وفي المعاونة على الإثم والعدوان، نجد القرافي يقول عن هذا الجانب " وقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، وضرب الأمثلة نفسها التي ضربها العز بن عبد السلام ".
ولباب القول: أن كلام العز بن عبد السلام الفقيه الشافعي، يتفق مع كلام القرافي الفقيه المالكي، فيما يتعلق بقاعدة الذرائع ونطاق الأخذ بها وأن ذلك يتفق أيضًا مع ما نص عليه الشافعي في كتاب الأم من الأخذ بها واعتبارها دليلًا. وأن (سد الذرائع) ، ليس من خواص مذهب مالك، كما يتوهمه كثير من المالكية (وغيرهم) . بل منها ما أجمع على سده ومنها ما أجمع على إلغائه، وإنما النزاع في ذرائع خاصة، وهي: بيوع الآجال ونحوها " (الفروق" ج3 ص 266) .(9/1498)
طائفة مختارة من الأمثلة التطبيقية لهذه القاعدة الأصولية،
من مختلف المذاهب الفقهية
وبعد أن أصبح معلومًا لدينا، موقف الأئمة المجتهدين من هذا الأصل، وأنهم جميعًا قد لجأوا إليه في في أحكامهم وقرروها على أساسه، ما بين مكثر منهم، ومقل ومتوسط، نورد هنا بعض الفروع الفقهية، من مختلف المذاهب، وذلك تأييدًا أو توكيدًا لما اتفقوا عليه، من أن (سد الذرائع) من أصول الشريعة، وأنه لا غنى لأحد من الرجوع إليه والعمل به.
1-ونبدأ بالحنفية:
أ - فمن شواهدهم التي قرورها: أن للزوجة التي طلقها زوجها طلاقًا بائنا، دون رضاها، في مرض موته. حق الإرث من زوجها الذي طلقها، لكيلا يتخذ من حقه في الطلاق، ذريعة إلى حرمان الزوجة ميراثها المشروع، عند يأسه من الحياة، بقصد المضارة (وهذا الطلاق يسمى عندهم: طلاق الفار) .
ب - ومنها أنهم كانوا يكرهون إتباع صوم رمضان، بصوم ستة أيام من شوال؛ مخافة أن يعتقد العامة، أنها في حكم صوم رمضان. (بدائع الصنائع: 2/78) .
ج- ومنها قضاء القاضي لمن يتهم فيه من ذوي رحمه، فقد ذكر السمرقندي: أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي لنفسه، ولا لأبويه وإن علوا، ولا لزوجته، ولا لأولاده وإن سفلوا، ولا لكل من لا تجوز شهادته لهم. وذلك سدًا لذريعة، ومنعا للشبهة. (تحفة الفقهاء: ج3 ص 639) .
د- ومنها شهادة الزوج لزوجته، وبالعكس. فقد ذهب أبو حنيفة إلى عدم قبول شهادة أحد الزوجين للآخر، وذلك سدًا للذرائع وردًا للتهمة؛ لأن النفع بينهما، وكل منهما يرث الآخر ويستفيد من ماله. (الهداية وشرحها فتح القدير: ج6 ص32) .(9/1499)
2-المالكية:
أ- قضاء القاضي بعلمه:
ومثاله: استناد القاضي في الحكم، إلى ما يعلم من حال القضية ترفع إليه، فالمالكية ذهبوا إلى أن القاضي لا يقضي بعلمه مطلقًا وأوجبوا عليه الرجوع إلى البينات والوقوف عندها؛ مخافة أن يتخذ قضاء السوء، الذين لم تشرب قلوبهم التقوى، الاستناد إلى علمهم، ذريعة إلى الجور في القضية، فيفصل فيها اتباعًا للهوى، ويزعم أنه يعلم منها، ما لم تعلمه البينة.
نقل الشوكاني في (نيل الأوطار) ، عن أبي علي الكرابيسي: أنه لا يقضي القاضي، بما علم لوجود التهمة، ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه: أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط، أن يرجمه، ويدعي (القاضي) : أنه رآه يزني، أو يفرق بينه وبين زوجته، ويزعم أنه سمعه يطلقها. فإن هذا الباب لو فتح، لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه. والتفريق بينه وبين زوجته، ومن هنا قال الشافعي: لولا قضاة السوء، لقلت: إن للحاكم أن يحكم بعلمه.
(المهم) : إن استناد القاضي إلى علمه متردد بين أن يكون وسيلة إلى حفظ الحق وأن يكون ذريعة إلى مفسدة الجور في القضاء، والمحققون من الفقهاء على سد الذريعة في مثل هذا الفرع (1) .
__________
(1) راجع بداية المجتهد (ج2 ص458)(9/1500)
ب- بيوع الآجال:
وقد مثلوا له برجل يبيع لآخر سلعة بمائة إلى أجل، ثم يشتريها منه نقدًا بخمسين فالإمام مالك يقول: إن ذلك ممنوع، والبيع فاسد، فإن العقد نفسه يحمل الدليل على قصد الربا، وذلك لأن مآل هذا التعاقد هو بيع خمسين نقدًا بمائة إلى أجل، والسلعة فيما بين ذلك ذريعة إلى الربا. وجعل المالكية علة المنع من هذا العقد قصد الناس منه الوصول إلى الربا، وجعلوا المنع حكمًا مطردًا من غير نظر إلى من يقصد الربا ومن لا يقصده (1) .
ج- بيع العنب للخمار (صانع الخمر) :
فإنه يفضي إلى مفسدة تعاطي شربها، وللحاكم المسلم أن يمنع بمقتضى هذا من زرع المخدرات والاتجار بها، ويضع على ذلك أشد العقاب.
د- ومن هذا (بيع السلاح في زمن الفتن) . وذلك سدًا لذريعة الإعانة على المعصية.
هـ- تضمين الصناع.
يخرجه القرافي على قاعدة الذرائع، فيقول: إن الصناع لا يضمنون في الأصل. ولكن لما كان عدم تضمينهم ذريعة إلى أن يتعدوا ويقصروا ويدعوا التلف والهلاك، ولم يعفوا من الحكم بالضمان.
و النظر إلى المرأة الأجنبية:
فإنه يؤدي إلى الزنى، فيحرم سدًا للذريعة.
__________
(1) راجع بداية المجتهد لابن رشد، وقوانين الأحكام الشرعية (كتاب بيوع الآجال، والبيوع الفاسدة) .(9/1501)
3 - الشافعية:
تطبيقات الشافعية على قاعدة (سد الذرائع) غير قليلة، وهذا بعضها:
1- لو أحاط الكفار المسلمين، ولم يستطيعوا المقاومة، جاز لهم أن يدفعوا المال للكفار المحاصرين لهم.
وكذا استنقاذ الأسرى منهم بالمال، إذا لم يمكن غيره؛ لأن مفسدة بقائهم في أيديهم واصطلامهم للمسلمين، أعظم من بذل المال، (راجع الأشباه والنظائر للسيوطي ـ صفة 78) .
2- ما حرم أخذه، حرم إعطاؤه، كالربا، ومهر البغي، والرشوة، وأجرة النائحة، ويستثنى من ذلك: رشوة الحاكم للوصول إلى الحق، وفك الأسير، الأشباه والنظائر للسيوطي: صفحة 153) فهذه القاعدة تفريع على قاعدة الذرائع حيث كان الأخذ مفسدة محرمة، وكان الإعطاء ذريعة إلى هذه المفسدة المحرمة فحرم.
3- نبش الأموات مفسدة محرمة، لما في ذلك من انتهاك حرماتهم، لكنه واجب إذا دفنوا بغير غسل، أو وجهوا إلى غير القلبة؛ لأن مصلحة غسلهم وتوجيههم إلى القبلة، أعظم من توقيرهم بترك جثثهم وعدم نبشها.
وكذلك شق جوف المرأة على الجنين المرجو حياته؛ لأن حفظ حياته، أعظم مصلحة من مفسدة انتهاك حرمة جثة المرأة (قواعد الأحكام 1/ 87) .
4- بيع السلاح للحربي، باطل عند الشافعية لأنه ذريعة إلى المفسدة، وإن كان البيع في ذاته مصلحة، إلا أن مفسدة الفعل أرجح من مصلحته، فمنع منه وبطل. (الأشباه والنظائر صفحة 328) .(9/1502)
4- الحنابلة:
حامل راية الحنابلة في سد الذرائع، هو الإمام ابن قيم الجوزية " ولقد أورد تسعة وتسعين وجهًا للدلالة عليها والمنع منها. وسوف أذكر طائفة منها:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالأجنبية، ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين، سدًا للذريعة ما يحذر من الفتنة وغلبة الطباع.
2- أنه صلى الله عليه وسلم، حرم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها؛ لأن ذلك ذريعة قطيعة الحرم.
3- إن القاضي ممنوع من القضاء بعلمه، لئلا يكون ذلك ذريعة، إلى حكمه بالباطل، ويقول: حكمت بعلمي.
4- قال الإمام أحمد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة، ولا ريب أن هذا من باب سد الذريعة؛ لأن في بيعه إعانة له على المعصية، وعلى الإثم والعدوان، وفي معنى هذا كل بيع أو إجارة أو معاوضة تعين على المعصية، وفي معنى هذا عصر العنب لمن يتخذ خمرًا، فإنه ذريعة إلى شربها، والامثلة على ذلك كثيرة ومن أراد المزيد منها، فليرجع إلى إعلام الموقعين (ج3 ص 149 ـ 171) .(9/1503)
الفصل السادس
في الكلام على أثر القول في سد الذرائع
يمكننا الآن ـ بعد كل ما تقدم بيانه ـ أن نقول: إن هذه القاعدة التي ظهرت أهميتها الكبرى، في عصرنا الحاضر، هي من العوامل الداعية إلى إصلاح شؤون الأمة، والأخذ بها إلى الفضيلة، والاستقامة، والنهوض بها على أسس قوية قويمة، من قواعد الشريعة وأحكامها.
وهي توجب على الفقيه أو الحاكم، أن يلجأ إليها في استحداث أحكام جديدة، وتدابير يتوقف عليها تنظيم شؤون المجتمع، فإن ولي الأمر، إذا رأى شيئًا من الأمور المباحة، قد اتخذه الناس، ذريعة أو وسيلة إلى مفسدة. أو: أنه بسبب فساد الزمان، أصبح يفضي إلى مفسدة، أرجح مما قد يفضي إليه من المصلحة، كان له أن يمنعه ويسد بابه، وبكون ذلك من الشريعة، وعملًا بالسياسة الشرعية، التي تعتمد ـ فيما تعتمد ـ على قاعدة سد الذرائع.
وبذلك يحول بهذه السياسة بين الناس وبين كثير من دوافع الفساد، فقاعدة الذرائع، قاعدة محملة، وفيها أكبر شهادة على أن الشرع الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وعلى أن فيه لكل قوم منهاجًا، ولكل داء علاجًا، ولكل مشكلة حلًا.(9/1504)
ولو طبقت مجموع الإجراءات التي تشمل عليها هذه القاعدة، تطبيقًا أمينًا، لأدت ـ دون أي تقصير ـ إلى بناء مجتمع قوي متماسك متضامن، يعمه الأمن والرخاء وتشمله السعادة والاستقرار. ولكننا نعلم من ناحية أخرى، أن أفضل شرائع العالم وقوانينهم، تصبح عاجزة إذا فقدت الإرادة القوية، والعزيمة الصادقة والنية الحسنة، لدى الناس الذين يدعون إلى تطبيقها وتنفيذها والعمل بها.
وإن أعظم طريقة لتخريب أي شريعة أو قانون، لا تتمثل في إهمال العمل، أو التهرب من الواجب فقط، بل إن أسوأ المواقف وأشنعها، وأشدها ضرارًا وفتكًا بشريعة ما، هو: أن نتظاهر في مواجهتها بمظهر الورع، محترمين حروفها بكل عناية ورعاية، وإن كنا نتفق على تغيير اتجاهها، وتحريف هدفها، فنجعلها جامدة مقيتة، بعد أن كانت مرنة سمحة محبوبة ذات فضل على الناس.
فذلك هو ما أطلق عليه القرآن، وهو يتحدث عن بعض الحالات (والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) . باتخاذ آيات الله هزوًا.
ونرجع فنقول: إن من أصول الشريعة ـ سد ذرائع الفساد، وإغلاق منافذ الشر، ومنع الطرق التي تؤدي إلى الاحتيال على أوامر الشريعة، أو تؤدي إلى الوقوع في المحظورات أو إهمال الواجبات.
وكل ذلك هو من اختصاص صاحب السلطة العليا في الدولة، بمقتضى الولاية العامة، فإنه على ولي الأمر وله أن ينظم الأوضاع، ويؤسس المؤسسات، ويسن الأنظمة والتشريعات التي يتوقف عليها تنظيم المصالح العامة ورعايتها، ومن ذلك (مثلاً) :
1- تحديد الأسعار وتقييدها وضبطها، وبخاصة عند الحاجة، وذلك لكيلا يطغي التجار والباعة، ويتحكموا بحاجات الناس.
2- ومن هذا القبيل في عصرنا الحاضر، منع زراعة المخدرات والاتجار فيها، وفرض أقسى العقوبات على الذين يتعاطونها.
3- ومن الأمثلة الواقعية في النظام الاجتماعي، على هذا النوع، منع الطلاب الذين يدرسون في الخارج من الزواج بأجنبية، وفي أثناء الدراسة وكذا منع رجال السلك الدبلوماسي من الزواج بأجنبيات، وذلك سدًا لذريعة المساس بمصلحة الدولة العامة والخاصة، كإفشاء الأسرار وانشغال الطلبة عن العلم.
وقد منع عمر بن الخطاب، بعض الصحابة من التزوج باليهوديات، لما كان ذريعة التزوج بالمومسات؛ لأن أكثر اليهود لا يرون حرجًا في اتخاذ الدعارة حرفة، إذا كان في ذلك مصلحة لبني جنسهم، ولئلا يتخذ ذريعة إلى الزواج من اليهوديات الجميلات، والعزوف عن الزواج من المسلمات، وفي ذلك من الفتنة والفساد ما فيه.
4- ومن هذا القبيل: منع الدولة بعض الأجانب من ممارسة بعض الأعمال التي تتعلق بالمصالح العليا للدولة، ولا يؤتمن عليها إلا المواطن، وذلك سدًا لذريعة الفساد والضرر. وبالجملة: فكل هذه الأمور، إنما هي من قبيل بناء الأحكام على مقتضى قاعدة سد الذرائع.(9/1505)
الفصل السابع
ذكر أمثلة على فتح الذرائع وسدها
يرى الإمام القرافي ـ وهو من المتبحرين في فقه (سد الذرائع) ـ: أن الذريعة، كما يجب سدها، يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة: هي: الوسيلة. فكما أن الوسيلة المحرمة محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة، والحج. (الفروق ـ الفرق 58) .
وكلمات القرافي هذه، كلمات قصار جوامع، صدرت عن علمه الواسع، فكما أن الذريعة المفضية إلى الفساد تسد وتمنع. فكذلك الذريعة المقدور عليها، الموصلة إلى الواجب تفتح.
وقد مثل لفتح الذرائع بالسعي لصلاة الجمعة، والرحلة إلى الحج، لمن كان خارج الحرم، قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وقال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] هذا ما مثل به القرافي لفتح الذرائع.
ونحن نزيد على هذين المثالين، بعض الأمثلة الأخرى، من نوعها، فنقول:
1- ومن هذا النوع: السلاح الذي يقاتل به الأعداء، فالأمر بإعداد السلاح، أمر واجب، لا لذاته، بل لتحقيق واجب هو القتال، (وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
2- وكذلك الرحلة لطلب العلم مأمور بها، لأنها ذريعة إلى طلب العلم اللازم للفرد والأمة قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا} التوبة: 122] .
3- ومن أمثلة هذا النوع: تسعير ما يباع في الأسواق من نحو الأقوات، فإنه ذريعة إلى حماية العامة من أن يغبنوا، ويغلي الباعة عليهم ما يحتاجون إليه في كل يوم. فالإذن بالتسعير، فتح ذريعة إلى مصلحة اقتصادية لا يستهان بها.
4- ومن هذا القبيل: نبش الأموات إذا دفنوا بغير غسل، أو وجهوا إلى غير القبلة؛ لأن مصلحة غسلهم وتوجيههم إلى القبلة أعظم من توقيرهم بترك دفنهم.
وكذلك شق جوف المرأة على الجنين المرجو حياته لأن حفظ حياته أعظم مصلحة من مفسدة انتهاك حرمة أمة ويمكن أن يقاس على ذلك، تشريح جثث الموتى للمصلحة العامة. فهنا نجد أن الفعل الممنوع في الأصل لما فيه من المفسدة، ولكنه ذريعة إلى مصلحة، تزيد على مفسدته، فجاز ذلك (فتحا للذريعة) . فكل ذلك من قبيل فتح الذرائع.
والله سبحانه أعلم.
الدكتور علي داود جفال(9/1506)
أهم مراجع البحث
-تفسير القرطبي
-الفروق للقرافي
-تبصرة الحكام لابن فرحون
-حاشية العطار على جمع الجوامع.
-المقدمات لابن رشد
-إعلام الموقعين لابن القيم
-الموافقات للشاطبي.
-تكملة المجموع للنووي، ابن السبكي
- الإمام الشافعي (كتاب إحياء الموات) .
-لسان العرب لابن منظور
-المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني
-شرح فتح القدير للكمال بن الهمام، بولاق(9/1507)
سد الذرائع
إعداد
الشيخ مصطفى كمال التارزي
عضو المجلس الإسلامي الأعلى بتونس
بسم الله الرحمن الرحيم
الذرائع
مقدمة:
إذا كان من الواجب على المسلم أن يتعرف طريق معرفة حكم الله تعالى في أي أمر من الأمور لاستخراج الأحكام من ينابيعها فإنما يكون ذلك بمعرفة الأدلة التي نصبها الشارع لمعرفة الأحكام، وهذه الأدلة كثيرة بعضها مجمع عليه وبعضها محل خلاف.
أما الأدلة المتفق عليها فهي: 1- الكتاب. 2- السنة. 3- الإجماع.
والجمهور على اعتبار القياس دليلًا رابعًا.
والأدلة التي هي موضع خلاف بين الجمهور هي: 1- مذهب الصحابي. 2- الاستحسان، 3- المصحلة. 4- سد الذرائع. 5- العرف. 6- الاستصحاب 7- شرع من قبلنا.
ولقد تقرر عند جمهور الفقهاء أن العقل ليس له أن يشرع الأحكام ولا يضع التكليفات وأن عمل العقل ينطلق حيث يطلقه الله تعالى، ذلك لأن التكاليف في الشريعة الإسلامية يتعلق بها الثواب والعقاب وهما أمران يتولاهما العليم الحكيم يوم القيامة وما كان الله تعالى ليعذب أحد لم يبين له طلبه فيها. ولذا قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وإذا كانت بعض أحكام الله في أحداث تجد ولا يكون لنا نص صريح في حكمها فيكون عمل الفقيه حينئذ في استخراج النصوص الشرعية وبيان قواعد الشرع العامة التي تعد نبراسًا يهتدي بهديه ويقتبس من نوره وتطبيق تلك المعاني على ما يجد من أحداث.
وبهذا يظهر أن الأصل في أدلة الأحكام هو النصوص وهي الكتاب والسنة وتعتبر بقية المصادر كلها مبنثقة منها وراجعة إليها. ومن ذلك.
الذرائع أو: سد الذرائع وهناك من الفقهاء من يرجع المصادر كلها إلى القرآن والسنة إذ يقول سبحانه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36](9/1508)
الفصل الأول
مفهوم الذرائع وسد الذرائع
أ - معنى الذرائع:
والذريعة معناها في اللغة: الوسيلة. ويقال تذرع فلان بذريعة أي: توسل والجمع: الذرائع ـ والذريعة: الجمل يختل به الصيد يمشي الصياد إلى جنبه فيتستر به ويرمي الصيد إذا أمكنه والذريعة: السبب إلى الشيء يقال: فلان ذريعتي اليك أي سببي ووصولي الذي أتسبب به إليك ثم جعلت الذريعة مثلًا لكل شيء أدنى من شيء وقريب منه. وقد تذرع فلان بذريعة أي توسل (1) .
تعريف ابن تيمية: الذريعة: ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت من ذلك الإفضاء لم يكن لها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعة هي الفعل الذي ظاهره مباح وهو وسيلة إلى فعل محرم (2) .
تعريف الإمام المازري: المشهور عند الفقهاء: أن سد الذريعة هو: منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز (3) .
تعريف الإمام القرافي: سد الذرائع معناه: حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها (4) .
تعريف الإمام الشاطبي: الذريعة الممنوعة: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة (5) .
تعريف ابن رشد الجد: الذرائع هي: الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور (6) .
__________
(1) لسان العرب الجزء الأول ص 1064 مادة ذريعة ـ معجم مقاييس اللغة لابن فارس الجزء الثاني ص 350 ـ تاج اللغة وصحاح العربية الجزء الثالث 1211
(2) الفتاوى الكبرى 3/ 256
(3) أبو عبد الله المازري في شرح التلقين للقاضي عبد الوهاب في طالع باب بيوع الآجال.
(4) الفروق للقرافي الفرق 58 ص32
(5) الموافقات في أصول الأحكام ج4 ص 198
(6) كتاب المقدمات الممهدات ج2 ص 198(9/1509)
وعند علماء الأصول: ما يكون طريقًا لمحرم أو محلل فإنه يأخذ حكمه، فالطريق إلى الحرام حرام والطريق إلى المباح مباح ذلك لأن الشارع إذا كلف العباد أمرًا فكل ما يتعين وسيلة له مطلوب بطلبه.
وإذا نهى الناس عن أمر فكل ما يؤدي إلى الوقوع فيه هو حرام أيضًا وقد ثبت ذلك بالاستقراء للتكليفات الشرعية طلبًا ومنعاً (1) .
فقد وجدنا الشارع ينهي عن الشيء وينهي عن كل ما يوصل إليه ويأمر بالشيء ويأمر بكل ما يوصل إليه، فقد أمر بصلاة الجمعة وأمر بالسعي إليها ونهى عن البيع بعد النداء لأن الامتناع عن البيع في ذلك الوقت سبيل إلى أداء الصلاة في وقتها (2) . وأمر بالمحبة بين الناس وأمر بكل ما يؤدي إلى تحقيقها ونهى عن التباغض والفرقة ونهى عن كل ما يؤدي إليها، وبهذا تقرر عند الفقهاء أن ما لا يؤدي الواجب إلا به فهو واجب، فالزنا حرام والنظر إلى عورة المرأة الذي يفضي إليه حرام أيضًا، والجمعة فرض فترك البيع لأجل أدائها واجب لأنه ذريعة إليها، والحج فرض والسعي إليه فرض مثله عند القدرة عليه (3) .
__________
(1) محمد أبو زهرة، ابن حنبل حياته وعمره ص 314
(2) محمد أبو زهرة، ابن حنبل حياته وعمره ص 314
(3) أبو زهرة الفقه ص 375(9/1510)
ب - معنى سد الذرائع:
تعريف السد: السد هو إغلاق الخلل وردم الثلم. وسدده أصلحه وأوثقه وحكى الزجاج: ما كان مسدودًا خلقه فهو سد، وما كان من عمل الناس فهو سد ـ والسد والسد: الجبل والحاجز ومنه قوله تعالى: {بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] (وسداً) أي حاجزًا يمنعهم من الوصول.
وروي عن أبي عبيدة أنه قال: بين السدين: مضموم إذا جعلوه مخلوقًا من فعل الله، وإن كان من فعل الآدميين فهو سد بالفتح (1) .
فمعنى سد الذرائع: منع الجائز لأنه يؤدي إلى المحظور، أو قولهم: منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز. فقد منع الشارع ما يجوز خشية أن يتوصل به إلى المحرم.
وقد ثبت نهي الشارع عن المفاسد في ذاتها كما ثبت نهيه عن الأمور التي تتضمن منفعه وتفضي إلى المفسدة إفضاء يخرج عن إرادة المكلف وبناء على ذلك فإن فتح الذرائع، ترك الوسيلة لتؤدي نتيجتها المباحة من غير حذر.
وبهذا نعلم أن الذرائع كما يجب سدها إذا كانت مؤدية إلى مفاسد، يجب فتحها إذا كانت مؤدية إلى مصالح فلا يجوز سدها، لا سيما إذا كانت المصالح متوقفة عليها.
وتكره وتندر وتباح تبعًا للأصل فكان سد الذرائع أحد طرفي الذريعة.
__________
(1) لسان العرب ج2 ص 217(9/1511)
فتح الذريعة:
قال القرافي: اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح كما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة (1) .
ولم تراع الشريعة الإسلامية الذرائع من جهة سدها فقط بل راعتها كذلك من جهة الفتح، فأعطت كل وسيلة حكم مقصدها في الغالب.
فوسيلة المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها إنما هو بحسب إفضائها إلى غاياتها، كما قال ابن القيم: إن وسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، ومن وسائل ما فيه ذرائع الصلاح التي فتحها الشارع وأذن فيها: تسعير ما يعرض في الأسواق للبيع من طعام وغيره، فقد أذن فيه الشارع حماية للعامة من الغبن.
فالشارع حينما أذن في التسعير فتح ذريعة إلى مصلحة عامة تعود على الحياة الاقتصادية بالخير.
وقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا رجح فيها جانب المصلحة في المآل: وذلك كالمال الذي يبذل للعدو في فداء الأسرى فإنه يزيد العدو قوة وكل ما من شأنه أن يقوي العدو فهو حرام على المسلمين، ولكن البذل في هذه الحالة ذريعة إلى مصلحة هي إنقاذ أسرى المسلمين، وهذه المصلحة أرجح من فساد المال الذي يناله العدو، ولذلك يفرعون عن قاعدة سد الذريعة قاعدة أخرى وهي التي ذكرها القرافي: كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة (2) .
ومدار هذا كما قال العز بن عبد السلام أن المصالح التي أمر الشارع بتحميلها ضربان: أحدهما مصالح الإيجاب والثاني مصالح الندب، والمفاسد التي أمر الشارع بدرئها ضربان أحدهما مفاسد الكراهة والثاني مفاسد التحريم. والشرع يحتاط لدرء الكراهة والتحريم والتحريم كما يحتاط لجلب مصالح الندب والإيجاب (3) .
وهي مبنية على الظنون فكلما كان الغالب صدق الظنون بنيت عليها مصالح الدنيا والآخرة؛ لأن كذبها نادر، ولا يجوز تعطيل مصالح صدقهما الغالب خوفًا من مفاسد كذبها النادر، ولا شك أن مصالح الدنيا والآخرة مبنية على الظنون كما ذكرناه ولا يجوز العمل بكل ظن.
ويقول علال الفاسي: إن سد ذرائع الفساد وفتح ذرائع الصلاح مما قصدت إليه شريعة الإسلام، ومن وسائل التطور التي أحكمتها، لتبقى صالحة لكل زمان ومكان.
وقال ابن عاشور (4) : ولولا أن لقب سد الذرائع قد جعل لقبا لخصوص سد ذرائع الفساد لقلنا إن الشريعة كما سدت الذرائع فتحت ذرائع أخرى، أما وقد درجنا على أن اصطلاحهم في سد الذرائع لقب خاص بذرائع الفساد فلا يفوتنا التنبيه على أن الشريعة قد عمدت إلى ذرائع المصالح، ففتحتها بأن جعلت لها حكم الوجوب، وإن كان صورتها مقتضية المنع أو الإباحة، وهذه المسألة هي الملقبة في أصول الفقه بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وهي الملقبة في الفقه بالاحتياط.
وفتح الذرائع لم يكن محل خلاف بين العلماء، بل الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء هو سد الذرائع، ولذلك اعتبر من الأدلة عند الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل حتى أشتهر المذهب المالكي به واعتبر أكثر المذاهب اعتمادًا عليه.
__________
(1) الفروق للقرافي الجزء 2 ص33
(2) الفروق ج2 ص 33
(3) قواعد العز بن عبد السلام ج2 ص 14
(4) مقاصد الشريعة ص 125(9/1512)
الفصل الثاني
الفرق بين الذريعة والسبب
وبين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه
أ - الفرق بين الذريعة والسبب:
لقد تقدم تفسير الذريعة لغة وشرعًا وهي التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة أو عكسه، أما السبب فسنيين معناه لغة وشرعًا، وأقوال العلماء في أوجه التشابه والتباين بينه وبين الذريعة.
السبب لغة:
قال الجوهري: هو الحبل وكل شيء يتوصل به إلى غيره وأسباب السماء: نواحيها (1) .
وقال ابن منظور: كل شيء يتوصل به إلى شيء غيره، وجعلت فلانا لي سببًا إلى فلان في حاجتي أي وصلة وذريعة.
وفسر ابن عباس: الأسباب في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] أي تقطعت المودة (2) .
وقال القرطبي: الوصلات التي كانوا يتوصلون بها في الدنيا من رحم وغيره، عن مجاهد وغيره وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه ثم جعل كل ما جر شيئًا سبباً (3) .
ويطلق السبب ويراد به الطريق كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف 89) وفي قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص: 36: 37] .
__________
(1) ناتج اللغة 1 ص 145
(2) لسان العرب ج2 ص 78
(3) جامع أحكام القرآن ج2 ص 206(9/1513)
قال ابن كثير: قال سعيد بن جبير: أبواب السماوات وقيل طريق السماوات وكل ما أدى إلى شيء فهو سببه (1) .
أما معناه عند علماء الأصول: فيطلق على بعض مسبباته في اللغة وعرفه الآمدي بقوله: السبب كل وصف ظاهر منضبط دل الدليل على كونه معرفًا لحكم شرعي (2) .
وقال الشاطبي: السبب ما وضع شرعًا لحكم لحكمة يقتضيها ذلك الحكم كما كان النصاب سببًا في وجوب الزكاة والسرقة سببًا في القطع.
وقسم الشاطبي الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة، إلى قسمين:
أولًا: أفعال خارجة عن حدود المكلف.
ثانيًا: أفعال تقع تحت مقدوره.
أما ما يكون خارجًا عن حدود المكلف فقد يكون سببًا أو يكون شرطًا أو يكون مانعًا، فالسبب مثل كون الاضطرار سببًا في إباحة الميتة وخوف العنت سببًا في إباحة نكاح الإماء والسلس سببا في إسقاط الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج وزوال الشمس أو غروبها سببا في وجوب الصلاة.
وأما ما يكون في مقدور المكلف فهو إما سبب أو شرط أو مانع، أما السبب فمثل كون النكاح سببًا في حصول التوارث بين الزوجين، وتحريم المصاهرة وحلية الاستمتاع والذكاة سببا لحيلة الانتفاع بالأكل، والسفر سببا في إباحة القصر والفطر، والقتل والجرح سببًا للقصاص، والزنا وشرب الخمر والسرقة والقذف أسبابًا لحصول تلك العقوبات فإن هذه الأمور وضعت أسبابا لشرع تلك المسببات (3) .
__________
(1) ابن كثير ج2 ص 244
(2) الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/181
(3) الموافقات للشاطبي ج1 ص 188(9/1514)
وعرفة الإمام الغزالي في المستصفى بقوله: وحده ما يجعل الشيء عنده لا به ثم يقول فإن الوصول بالسير لا بالطريق ولكن لا بد من الطريق ونزح الماء بالاستقاء لا بالحبل ولكن لا بد من الحبل (1) .
أما القرافي فقد قرر عند التنبيه الرابع الذي عقده بعد الفرق الثامن والخمسين أن الأسباب من جملة الوسائل وعرفه الشوكاني في إرشاد الفحول بأنه وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه علامة لحكم شرعي.
وظاهر كلام ابن تيمية أنه إذا كان الإفضاء إلى المفسدة ليس فعلًا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه، أو كان الشيء نفسه فساد كالقتل والظلم، فهذا يعتبر من باب السبب (2) .
وأما إذا كان الفعل في ذاته غير مفسدة وإنما يفضي إلى المفسدة كبيع السلاح في الفتنة، فهذا من باب الذرائع.
ونبه الشاطبي إلى أن مشروعية الأسباب تستلزم مشروعية المسببات وإن صح التلازم بينهما عادة، ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من إباحة أو ندب أو منع أو غيرها من أحكام التكليف فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبباتها فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب، وإذا نهي عنه لم يستلزم النهي عن المسبب، وإذا خير لم تستلزم أن يخير في مسببه.
مثل ذلك: الأمر بالبيع لا يستلزم الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع، والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح؛ لأن المكلف يتعاطي الأسباب والمسببات من فعل الله تعالى وحكمه، لا كسب فيها للمكلف.
ثم جعل إليهم العمل ليجازوا عليه ثم الحكم فيه لله وحده فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات (3) .
وبهذا يظهر أن الذريعة إذا كانت للتوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة أو ما هو ممنوع فإن السبب لا يخالف المسبب ولا يتأثر بنية الفاعل ولا يتبدل والأسباب الممنوعة أسباب للمفسدة دائمًا. والأسباب المشروعة أسباب للمصالح دائمًا.
__________
(1) المستصفى للغزالي ج1 ص 94
(2) الفتاوي الكبرى ج3 ص 139
(3) الشاطبي المسألة الثانية بتصرف ج1/ 189 ـ 190(9/1515)
الفرق بين الذرائع والوسائل
الوسيلة لغة: المنزلة عند الملك والوسيلة: الدرجة والوسيلة القربة.
وسل فلان إلى الله وسيلة: إذا عمل عملًا يقربه إليه، والواسل: الراغب إلى الله.
وتوسل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه بعمل: والوسيلة: الوصلة والقربة. قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] .
وقال الجوهري: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير وفي حديث الأذان:
" اللهم آت محمدًا الوسيلة " وهي منزلة في الجنة أو القرب إلى الله.
وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة (1) .
وقد فسر الرسول في حديث آخر أخرجه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلى الله عليه بها عشرًا ثم سلوا لي الله الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) (2) .
وبهذا يتبين أن الوسيلة تتفق مع الذريعة في معنى الوصول إلى المتوسل إليه ولكن تطلق إطلاقات أخرى وهي: المنزلة في الجنة والشفاعة يوم القيامة
وفي الاصطلاح: الذرائع هي منع الجائز الذي يؤدي إلى فعل محظور، وتحريم الوسائل يؤدي إلى نفس المعنى، فلا فرق بين الاصطلاحين، وهذا هو المعنى المتعارف عند المالكية ويبدو أن المالكية الذين اعتمدوا سد الذرائع واعتبروه قاعدة ودليلًا من أدلة التشريع، لم يفرقوا بين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه، وقالوا بتحريم الوسائل التي تستلزم المتوسل إليه.
ولكن فرق الشافعية بينهما بتقييد الوسيلة بالمقصودة. ويظهر هذا في القسم الثالث من أقسام الذريعة التي ذكره القرافي وهو القسم المختلف فيه كبيوع الآجال، والمالكية اعتبروا هذا القسم مما ينطبق عليه قيد استلزام الوسيلة للمتوسل إليه، بناء على قطعية الإفضاء وهو من باب سد الذرائع.
__________
(1) لسان العرب لابن منظور باب وسل الوسيلة ج3 ص 927
(2) صحيح مسلم الجزء الأول 288(9/1516)
أما الشافعية ففرقوا بين سد الذرائع وتحريم الوسائل وأخرجوا هذه الصورة واعتبروها من باب الوسائل، وبذلك كان الفرق بين سد الذريعة وبين الوسيلة كبيع العينة فهو باطل عند المالكية مطلقًا من باب سد الذرائع، وهو جائز عند الشافعية إذ هو يشتمل على عقدين صحيحين.
ويقول الشافعي: إذا تحقق مقصد التحليل كان ذلك وسيلة إلى المحرم. وصورة هذا العقد كما ذكره القاضي عبد الوهاب في كتاب الإشراف على مسائل الخلاف إذا اشترى سلعة بأجل بمائة لم يجز أن يبيعها من بائعها نقدًا بثمانين.
وكذلك إذا ابتاعها إلى أجل لم يجز له أن يبيعها من باعها إلى أجل بزيادة على المائة التي اشتراها بها، وأجاز الشافعي كل ذلك واعتبر هذه المعاملة مبنية على عقدين منفصلين صحيحين إلا إذا تيقن أنه قصد الربا.(9/1517)
الفصل الثالث
المقارنة بين الذرائع والحيل الشرعية
ومدى الوفاق أو الخلاف بينها
الذريعة: معناها الطريقة التي تكون ذاتها جائزة ولكنها توصل: إلى ممنوع. فليست هي المقصودة في نفسها وإنما المقصود ما توصل إليه (1) .
وفسرها ابن عاشور: بأنها: ما يفضي إلى فساد سواء قصد الناس إفضاءه إلى فساد أم لم يقصدوا ذلك في الأحوال العامة (2) .
أما الحيلة: فهي مشتقة من التحول ومعناها نوع مخصوص من التصرف الذي هو التحول من حال إلى حال، ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية موصلًا إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن إليه إلا بنوع من الذكاء والفطنة.
وصارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قصد بها الحيل التي يستحل بها المحارم، كحيل اليهود، وكل حيلة تضمنت اسقاط حق الله أو الآدمي فهي تندرج فيما يستحل بها المحارم (3) .
وقال ابن عاشور: التحيل يراد منه: أعمال يأتيها بعض الناس في خاصة أحوال للتخلص من حق شرعي عليه، بصورة هي معتبرة شرعًا حتى يظن أنه جار على حكم الشرع (4) .
وقال الشاطبي: الحيلة: حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعًا، فإن كان واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة ولكن بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية (5) .
نفس هذا المعنى أشار إليه ابن تيمية عندما قال: فالحيلة أن يقصد سقوط الواجب أو حل الحرام بفعل لم يقصد به ما جعل ذلك الفعل له أو ما شرع، فهو يريد تغيير الأحكام الشرعية بأسباب لم يقصد بها ما جعلت تلك الأسباب له (6) .
__________
(1) تهذيب الفروق 3/274
(2) مقاصد الشريعة 123
(3) الفتاوى لابن تيمية 1/291، إعلام الموقعين 3/252
(4) مقاصد الشريعة 122
(5) الموافقات ج4/ 201
(6) الفتاوى ج3/ 109(9/1518)
الفرق بين الذرائع والحيل:
يبدوا أن هناك تشابها كبيرًا بين الذرائع والحيل، والكلام فيهما متداخل إذ يلتقيان أحيانًا ويفترقان أحيانًا أخرى، والذين تكلموا على هذا الموضوع وكتبوا فيه كثير، ولكن الفروق لم تكن واضحة إذ كثيرًا ما يستدل لأحداهما بأدلة الأخرى.
وضع الفوارق وحصرها ابن عاشور فجعل لها فوارق ثلاثة:
الفرق الأول: من جهتي العموم والخصوص وعلى هذا الاعتبار فالحيل والذرائع قد يلتقي كل منهما مع الآخر في صور ويفترق عنه في صور أخرى.
أ - فمثال ما كان ذريعة وليس حيلة سب الأوثان، فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى.
ب - مثال ما كان حيلة وليس ذريعة: ما يحتال به من المباحات في الأصل كبيع نصاب الزكاة أثناء الحول، فرارًا من الزكاة.
ج- مثال ما كان ذريعة وحيلة: اشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن.
الفرق الثاني: من جهة القصد وعدمه. لأن الحيل لا بد فيها من قصد والذريعة أعم من ذلك؛ لأن ما يفضي إلى فساد يسد ذريعة سواء قصد الناس به إفضاءه إلى فساد أم لم يقصدوا.
الفرق الثالث: الحيل المبحوث عنها لا تكون إلا مبطلة لمقصد شرعي، والذرائع قد تكون مبطلة لمقصد الشارع من الصلاح وقد لا تكون مبطلة إذا عارضها أمر آخر، كزراعة العنب فإنها تؤدي إلى مفسدة وهي توفير الخمر في السوق، وتستطيع الأمة أن تستغني عنه، فلو طبقت هذه الذريعة لحق الحرج جمهورا من الناس.
وذلك حرمان لا يتناسب مع سماحة الشريعة، فكانت زراعة العنب بهذا الاعتبار أرجح عند بعض العلماء عما تؤول إليه من اعتصار بعض نتائجها خمرًا فأبيحت زراعة العنب بهذا الاعتبار ورجحت على المفسدة المتوقعة من زراعة العنب، بينما عدد كثير من العلماء ومنهم ابن تيمية يرى أن الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم بل خشية إفضائها إلى المحرم (1) .
__________
(1) فتاوى ابن تيمية 3/ 257(9/1519)
وعلى هذا الاعتبار قسمت الذرائع إلى قسمين:
القسم الأول: كونه ذريعة إلى فساد تلازمه ولا تفارقه بحيث يكون مآله إلى فساد مطردًا بحيث يكون الفساد من خاصته. وهو محل اتفاق العلماء في حرمته وسده.
القسم الثاني: قد يختلف مآله إلى فساد تخالفا قليلًا أو كثيرًا فيكون محطًا لاجتهاد العلماء واختلافهم في إباحته أو حرمته بتغليب جانب الحرمة أو الإباحة لاعتبارات أخرى.
أما ابن القيم: فإنه لم يعتبر سد الذرائع من المسائل المستقلة بنفسها، بل اعتبره ضمن قاعدة عامة وهي: العبرة في الشريعة بالمقاصد والنيات، وجعل الحيل تابعة للذرائع، وأطال الحديث في هذه القاعدة وبعد أن قررها وبين بناء الأحكام عليها وشرح أقسامها استدل بأدلة كثيرة من القرآن والسنة على وجوب سد الذرائع أنهاها إلى تسعة وتسعين دليلًا، ولما وصل إلى الحيل اعتبر أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، وقال: فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة (1) .
فأين من يمنع الجائز خشية الوقوع في المحرم ممن يعمل الحيلة في التوصل إليه؟ ثم بين أن الأدلة التي ذكرها من قبل في بيان وجوب سد الذرائع كلها تقوم حجة على تحريم الحيل وزاد أدلة أخرى فقال: ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله، واسقط فرائضه بالحيل.
كقوله ((لعن الله المحلل والمحلل له)) و ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها)) و ((لعن الله الراشي والمرتشي)) و ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده)) (2) واعتبر أن الحيل المحرمة مخادعة لله ومخادعة الله حرام.
وهو وإن اعتبر الحيل تأخذ حكم سد الذرائع لأنها تابعة لها إلا أنه مع ذلك اشترط القصد في التحيل وعبر عن ذلك في كلامه عن تحريم الحيل قائلا: ومدار الخداع على أصلين:
أحدهما إظهار فعل لغير مقصوده الذي جعل له.
والثاني: إظهار قول لغير مقصوده الذي وضع له. وهذا منطبق على الحيل المحرمة (3) . وفي الأصلين ينص على أن القصد هو مدار الحرمة.
__________
(1) إعلام الموقعين ج3 ص 147
(2) إعلام الموقعين ج3 ص172
(3) إعلام الموقعين ج3 ص 174(9/1520)
أما الإمام الشاطبي: فإنه لم يختلف كثيرًا عما قرره ابن تيمية وابن القيم في اعتبار الحيل تابعة للذرائع تأخذ حكها وقيدها كما قيدها من ذكرناه قبله من العلماء، وقال: ولكن هذا بشرط أن يظهر لذلك قصد إلى إبطال الأحكام الشرعية وهو وإن اعتبر أن مالكًا حكم قاعدة الذرائع في أكثر أبواب الفقه ولكنه قال: ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي فإنه اعتبر المآل أيضًا، ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان (1) .
ثم قال من أجاز الحيل كأبي حنيفة فإنه اعتبر المآل أيضًا لأن الواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة قد عاند الشارع لأن الهبة موجبة لإبطال الحكم فكان هذا القصد بخصوصه ممنوعًا لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع عن أداء الزكاة فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحة ممنوع (2) .
أقسام الحيل وأحكامها:
القسم الأول من الحيل: ما كان المقصود منها جائزا غير محظور من إثبات حق أو دفع باطل، وأنواعه باعتبار الطرق الموصلة إليه ثلاثة لأن الطريق إلى المقصود منها:
أ - إما أن تكون محرمة: كالوصول إلى الحق المجحود بشهادة الزور، فتحرم الحيلة لتحريم الوسائل.
ب - إما أن تكون جائزة موضوعة لذلك المقصود شرعًا، ومن أمثلة ذلك ما إذا خافت المرأة أن يغيرها زوجها بالزواج عليها فالحيلة في منع هذا الأذى عنها أن تشترط هي أو وليها في العقد أنه متى تزوج عليها فأمرها بيدها إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته.
ج- أن تكون جائزة ولكنها لم توضع بالقصد الأول لذلك المقصود شرعًا، ومن أمثلة هذا النوع أن ينكح المرأة ليعتز بأهلها وليستعين بمالها أو بجاهها فيما لا يغضب الله فإن المقصود جائز، لكن النكاح لم يوضع لذلك شرعًا على وجه القصد وإنما وضع بالقصد الأول لطلب الولد وعفة الزوجين عما حرم الله والمساكنة والأزدواج وقد يستتبع المعاونة والنصرة، فإذا نكح المرأة لمالها ينتفع به أو لأهلها ينصرونه مثلًا جاز ذلك النكاح لأن هذا المقصود لا يتنافى مع مقاصد النكاح الأصلية بل كان موثقًا لها.
__________
(1) الموافقات للشاطبي ج4 ص 198
(2) الموافقات للشاطبي ج4 ص 202(9/1521)
والدليل على مشروعية الحيل التي كان المقصود منها جائزًا غير محظور من القرآن قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] هذا تعليم لأيوب عليه السلام لإيجاد مخرج عن يمينه التي حلف ليضربن زوجته مائة وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] ومن السنة: حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعمل رجلًا على خيبر فأتاه بتمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله إنما نأخذه الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة. قال: لا تفعل. بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم تمرا.
وبهذا يتبين أن ما يتخلص به الرجل من الحرام، أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل، هو أمر جائز، أما من احتال في حق إنسان حتى يبطله، أو في باطل حتى يحسنه، أو في حق حتى يدخل فيه شبهة، فهو حرام.(9/1522)
وقال ابن القيم: " ولا ريب أن هذه الحيل مخارج مما ضاق على الناس فيكون له بالحيلة مخرج منه، وكذلك الرجل تشتد به الضرورة إلى نفقة ولا يجد من يقرضه فيكون له من هذا الضيق مخرج بالعينة والتورق" (1)
ولو لم يفعل ذلك لهلك وهلكت عياله، والله تعالى لم يشرع ذلك ولا يضيق عليه شرعه الذي وسع خلقه" (2)
القسم الثاني من الحيل: ما كان المقصود منها محرمًا، وهو يتنوع باعتبار الطرق المفضية إليه إلى ثلاثة أنواع أيضًا.
أ - محرمة في نفسها، كالاحتيال على فسخ النكاح بالردة.
ب - إباحة تفضي إلى المقصود المحظور كما تفضي إلى غيره من المقاصد الحسنة.
كالسفر لقطع الطريق، وكالزيادة في ثمن السلعة عند عرضها للبيع من أجنبي عن العقد من غير أن يكون له رغبة في شرائها، فإذا قصد من تلك الزيادة التغرير بالمشتري فهي حرام، وإذا قصد بها دفع الغبن عن البائع أو يشتريها المشتري بقيمتها فهي حلال عند بعض العلماء.
ج- مباحة شرعت لغير هذا المقصود المحظور فيتخذها المحتال وسيلة إليه، ومن أمثلته الفرار من الزكاة ببيع النصاب أو هبته أو استبداله قبيل حولان الحول. وهذا النوع هو موضع الزلل ومحل الانتباه والمقصود الأول من الكلام على الحيل.
وهذا النوع الثالث: وهو ما كان المقصود بها محرمًا والوسيلة مباحة لم تشرع له، حرام من جهتين: من جهة الغاية والمقصود ـ ومن جهة الوسيلة والطريق.
أما من جهة الغاية فلأن المحتال قصد به إباحة ما حرم الله وإسقاط ما أوجبه.
وأما من جهة الوسيلة: فلأنه اتخذ آيات الله هزوا وقصد بالسبب ما لم يشرع لأجله، بل قصد ضده، فقد ضاد الشارع في الغاية والوسيلة والحكمة جميعاً (3) .
__________
(1) انظر ص182 ج3 إعلام الموقعين بين فيها ابن القيم التورق
(2) إعلام الموقعين ج3 ص 207
(3) إعلام الموقعين ج3 ص 286 إبطال الدليل على إبطال التحليل لابن تيمية ص 84(9/1523)
والشاطبي رحمه الله قسم الحيل ثلاثة أقسام بناء على موافقتها للمصالح التي وضعت الشريعة لها أو مخالفتها لها:
أحدها: ما لا خلاف في بطلانه، كحيل المنافقين والمرائين.
الثاني: ما لا خلاف في جوازه، كالنطق بكلمة الكفر إكراهًا عليها، قال الشاطبي، وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع (1) .
الثالث: ما لم يتبين بدليل قاطع موافقته لمقصد الشارع أو مخالفته له، وهذا على خلاف بين العلماء، ومرد اختلافهم اختلاف نظرهم في موافقته لمقصد الشارع أو مخالفته له.
فمن رأى أنه غير مخالف لمقصد الشارع أجاز الحيلة فيه، ومن رآه مخالفًا منع الحيلة؛ لأنه لا أحد من الأئمة يجيز مخالفة قصد الشارع (2) .
وقد مثل الشاطبي لما اختلف نظر المجتهدين فيه بنكاح المحلل فهو حيلة إلى رجوع الزوجة إلى من طلقها طلاقًا بائنًا، فمن أجاز هذه الحيلة نظر إلى موافقة الصور نصوص الشارع ونصوصه مفهمة لمقاصده.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتك)) (3) . ظاهر في أن المراد في النكاح الثاني ذوق العسيلة، وقد حصل ولو كان قصد التحليل معتبرًا في الفساد لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه حيلة لا يفسده وإلا لزم ذلك في كل حيلة، ونظرا إلى ما فيه من المصلحة بقصد الإصلاح بين الزوجين.
وإذا كان الشاطبي قد بني تحريمه للحيل على موافقتها للمصالح التي وضعت الشريعة لها أو مخالفتها لها، وإن ما لم يتبين موافقته لمقصد الشارع أو مخالفته له هو محل النظر، فمن رآه من العلماء موافقًا لمقصد الشارع أجازه ومن رآه مخالفًا منعه، فإن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم استدلا لحرمة الحيل التي جعلها الشاطبي محل نظر، ولذلك كان موقفهما هو التنديد في تحريم التحليل والمنع منه وإنكار أن ينسب لأحد من الأئمة القول به (4) .
كما يرى أن من أفتى بالحيل المحرمة هو غير مقتد بإمام من أئمة الدين، ومن نسب شيئًا من الحيل المحرمة لأحد من الأئمة فهو جاهل بأصولهم؛ لأن أكثر ما نقل من الحيل مناقض لأصول الأئمة (5) .
__________
(1) الموافقات ج3 ص 377
(2) الموافقات ج2 ص 388
(3) رواه الجماعة عن عائشة في قصة امرأة رفاعة (نيل الأوطار ج6 ص 253
(4) الفتاوى لابن تيمية ج3 ص93
(5) إعلام الموقعين ج3 ص 171(9/1524)
الفرق بين المقاصد والوسائل في قوة الحكم:
موارد الشريعة قسمان:
1-مقاصد: وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسها.
2- وسائل: وهي الطرق المفضية إلى المقاصد وحكمها كحكم ما أفضت إليه من تحليل وتحريم غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع بها بحسب إفضاءها إلى غايتها وارتباطها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن بها بحسب إفضائها إلى غايتها فوسيلة المقصود تالية للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغاية وهي مقصود قصد الوسائل (1) .
الفرق بين الغلو في الدين وبين سد الذريعة:
إن سد الذريعة موقعه وجود المفسدة ووجوب سدها، والغلو في الدين موقعه المبالغة في إلحاق مباح بمأمور به ـ أو بمنهي عنه شرعًا، أو في إتيان عمل شرعي بأشد مما أراد به الشارع بدعوى خشية التقصير من مراد الشارع وهو المسمى في السنة بالتعمق والتقطع ـ وفيه مراتب.
1- منها ما يدخل في الورع في خاصة النفس الذي بعضه إحراج لها، والورع يرجع إلى طلب حصول اليقين مما نحن مكلفون فيه بالظن، مثل التحري في رسم القبلة بالقواعد الفلكية التي لم نكلف بها، واستمرار الإمساك في رمضان حصة بعد الغروب لتحقق الغروب، وابتداء الإمساك فيه زمنا قبل الفجر.
2- ومنها الورع في حمل الناس على الحرج، ومنها ما يدخل في معنى الوسوسة المذمومة، يقول الشيخ ابن عاشور ويجب على المستنبطين والمفتين أن يتجنبوا مواقع الغلو والتعمق في حمل الأمة على الشريعة وما يسن لها من ذلك (2) .
__________
(1) الفروق للقرافي ج2 ص32
(2) مقاصد الشريعة ابن عاشور ص 126(9/1525)
الفصل الرابع
أقسام الذرائع بحسب القطع
بتوصيلها للحرام وعدم القطع
أركان الذريعة:
أركان الذريعة ثلاثة:
الركن الأول: الوسيلة:
وهي الأساس الذي تقوم عليه الذريعة لأن وجودها يستتبع بالضرورة وجود الركنين التاليين وهما: الإفضاء، والمتوسل إليه:
والوسيلة يمكن أن نلاحظ فيها الملاحظات الآتية:
أولًا: الوسيلة قد تكون غير مقصودة لذاتها وذلك حين يتجه الفاعل إلى الفعل من غير أن يقصد المتوسل إليه، كمن يسب آهلة المشركين غيرة لله وانتصار للحق سبحانه وإغاظة للكفار، من غير نية إثارتهم ودفعهم لسب الله تعالى، فيسبون الله تعالى عدوًا بغير علم، ومع أن المسلم لا يظن به ذلك فقد منع؛ لأن المعهود فيمن عميت قلوبهم أن يغاروا على ما يظنونه آلهة.
كما نهى الله سبحانه وتعالى أن يقولوا للرسول: راعنًا، يريدون المراعاة والانتظار؛ لأن اليهود كانوا يتخذون مخاطبة المسلمين بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذريعة إلى الهزؤ، ويقصدون من وراء ذلك الرعونة، فعد استعمال المسلمين لها وسيلة إلى فعل خبيث لليهود، ولو كان غرضهم مجرد المخاطبة.
ثانيًا: قد تكون الوسيلة مقصودة لغيرها، أي أنها وسيلة لمقصود، كبيع شيء بمائة إلى أجل ثم يشتريه بثمانين حالة، فقد آل أمره إلى أنه أقرض ثمانين في الحال ليأخذ عند الأجل بدلها مائة؛ لأنه لما عاد الشيء نفسه إليه اعتبر كأن لم يكن موجودًا بيعًا ولا شراء، ولم يجر عليه عقد بالمرة، مع أنه بقيت صورته بينه، فكان عقدًا جر نفعا، وهو عين الربا المحرم، وقد حالت حرمته دون الدخول عليه ابتداء، فكانت صورته صورة عقد البيع ثم الشراء وسيلة مشروعة الظاهر وهي باطلة في الواقع (1) .
ثالثا: إنها الأساس الأول الذي تقوم عليه الذريعة؛ لأن وجوده يستتبع وجود الركنين الآخرين، فمجرد وجوده بالفعل تنتظم معه الأركان وجودًا بالفعل أو تقديرًا.
فلو ضربت المرأة ذات الخلاخيل وقصدت تحصيل الافتتان ثم حصل الافتتان بالفعل فقد توافرت الأركان الثلاثة، ولو ضربت مع قصد إثارة الافتتان ولم يحصل الافتتان أو ضربت من غير قد وحصل الافتتان أو ضربت من غير قصد ولم يحصل الافتتان فإنها تمنع من ذلك في الوجوه الثلاثة الأولى.
ويقدر حصول الافتتان في الأول والقصد في الثاني والقصد مع الافتتان في الثالث، أما لو قصد الافتتان من غير ضرب بالأرجل وبقي ذلك في داخل نفسها فلا ذريعة، وإذا وجد الافتتان ولم يوجد سبب آخر غير الضرب بالأرجل يؤدي إليه، فذلك دليل على أنه إنما حصل بسبب الضرب، ولهذا فإن الركن الأول يعد الأساس.
__________
(1) سد الذريعة محمد البرهاني ص 103(9/1526)
الركن الثاني: الإفضاء:
وهوالذي يصل بين طرفي الذريعة، وهما الوسيلة والمتوسل إليه، وجرى استعمال كلمة الإفضاء للدلالة عليه، ويلاحظ في هذا الركن أمران:
الأمر الأول: الإفضاء أمر معنوي يحكم على وجوده أما بعد الإفضاء فعلا وإما تقديرًا.
1- أما الإفضاء فعلًا: وهو يكون بحصول المتوسل بعد حصول الوسيلة.
-كعصر الخمر بعد زراعة العنب.
-وكحصول الفاحشة بعد النظر إلى الأجنبية أو التحدث معها.
-أو وطء المحرم المحرمة بعد تطيبها بالنظر إلى أن التطيب من دواعي الوطء.
2- الإفضاء تقديرا: وهو على وجوه:
الوجه الأول: أن يقصد فاعل الوسيلة التذرع إلى المتوسل إليه حقيقة، كمن يعقد النكاح على امرأة ليحللها لزوجها الأول، ومن يلجأ إلى صورة بيوع الآجال ليأخذ القليل بالكثير، ومن يحفر بئرًا خلف باب الدار ليقع فيها كل من يدخلها.
الوجه الثاني: ألا يقصد فاعلها التذرع، ولكن كثرة اتخاذها في العادة وسيلة مفضية للمتوسل إليه يجعلنا نحكم عليها بأنها وسيلة مفضية، كأن يبيع سلعتين بدينارين لشهر، ثم يشتري إحداهما بدينار نقدًا، فإننا نتهمه بالقصد إلى جمع بيع وسلف معًا ولو لم يقصد ذلك بالفعل.
الوجه الثالث: ألا يقصد فاعلها التذرع بها ولكنها قابلة من نفسها لأن يتخذها وسيلة للإفضاء بها إلى المتوسل إليه سواء أفضت بالفعل أو لم تفض، كسب آلهة المشركين، فإنها قابلة لأن تحمل المشركين على سب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم. فلذلك نمنع منها ولو لم ينو المسلم إثارتهم لذلك.
الوجه الرابع: ألا يقصد فاعل الوسيلة ولا غيره التذرع بها، ولكنها قابلة من نفسها الإفضاء، فنقدر كذلك الإفضاء بالفعل لنمنع منها كمن يحفر للسقي في طريق المسلمين أو يلقي السم لغرض مباح كإبادة الحشرات في الخضر أو الفواكه والبر والشعير، فغرض الأول منها السقي وغرض الثاني المباح الذي يعينه على إبادة الحشرات وكلاهما جائز لصاحبه فعله، ولكنه منع بتقدير الإفضاء إلى موت الإبرياء بالتردي والتسمم، ولولا هذا التقدير لبقي الحكم في الوسيلة على الجواز.
الأمر الثاني: يلاحظ في الركن الثاني وهو الإفضاء ضرورة بلوغه حدًا معينًا من القوة ليثبت بناء على ذلك المنع، والقوة إنما تكون بالكثرة العددية أو بخطورة المحظور الذي تفضي إليه (1) .
__________
(1) سد الذريعة محمد هشام البرهاني ص 121(9/1527)
الركن الثالث: المتوسل إليه:
ويسمى أيضًا: الممنوع والمتذرع إليه، ويلاحظ فيه الأمور الآتية:
أولا: أن يكون ممنوعًا، فإن لم يكن كذلك بأن كان جائزًا فلا تكون الوسيلة إليه ذريعة بالمعنى الخاص وإن صح كونها ذريعة بالمعنى العام، ولا بد أن يكون فعلًا بمعنى أن يكون مقدورًا للمكلف، فإن لم يكن كذلك فالوسيلة إليه سبب أو مقتضى.
ثانيًا: الذي يلاحظ فيه أيضًا أنه الأساس في تقدير قوة الإفضاء وضعفه، فليست كثرة الإفضاء وحدها هي الأساس بل إن خطورة المتوسل إليه ومقامه بين المفاسد هو الذي يحدد كذلك هذه القوة.
فالمفسدة في الدين أخطر من المفسدة في النفس، والمفسدة في النفس أخطر من المفسدة الواقعة في العقل، والمفسدة في العقل أخطر من المفسدة الواقعة في المال وهكذا.
ومن جهة أخرى تعتبر المفسدة الواقعة في الجمع الغفير أخطر من المفسدة الحالة بعدد معين كما يعتبر المقبل على المفسدة بقصد أخطر من الواقع فيها بغير قصد.
ولهذا نجد العلماء يبالغون في سد الذرائع التي تؤدي إلى محظور في العقيدة وفي الدين وقد كتبوا في ذلك كتبا، وعقدوا له أبوابًا وفصولًا، والمطالع لكتب البدع والحوادث يجد الشواهد الكثيرة على ذلك (1) .
__________
(1) سد الذريعة محمد هشام البرهاني ص122(9/1528)
أقسام الذرائع باعتبار الحكم ورأي العلماء فيها
أ- عند القرافي:
والذرائع: أقسام ثلاثة باعتبار ما تفضي إليه من مصلحة أو مفسدة.
القسم الأول
ما أجمعت الأمة على منعه وسده وحسمه (1) . وهو كل مباح أو واجب أو مندوب أو مكروه يكون طريقًا ووسيلة إلى مفسدة، فيصير حرامًا بالتبع إلى ما يؤدي إليه.
فوسيلة المحرم محرمة: فالفاحشة حرام، والنظر إلى عورة الأجنبية حرام لأنها تؤدي إلى الفاحشة، وذلك لأن الشارع إذا كلف العباد أمرًا فكل ما يتعين وسيلة له مطلوب بطلبه، وإذا نهى الناس عن أمر فكل ما يؤدي إلى الوقوع فيه حرام أيضًا، فقد نهى عن التباغض والفرقة ونهى عن كل ما يؤدي إليها، ونهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، وأن يستام على سوم أخيه، أو يبتاع على بيعه، وما ذلك إلا لأنه ذريعة إلى التباغض المنهي عنه، فإذا حرم الشارع شيئًا وله وسائل تفضي إليه فإنه يحرمها تحقيقًا لتحريمه، ولو كانت في ذاتها مباحة، ومن غير المعقول أن يكون الشيء في ذاته ممنوعًا، وتباح الوسائل الموصلة إليه (2) .
والنوع الأول هو الذي يعنيه الأصوليون عندما يخصصون الحديث على سد الذرائع غالبًا؛ لأن الذي يعنيهم أولًا إنما هو دفع الفساد.
كما أتفق علماء الأصول على أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح. يقول القرافي: إن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج.
والوسيلة أنقص رتبة من المقاصد في حكمها، والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسط، ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] .
فقد أثابهم الله على الظمأ والنصب ولم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو لإعزاز الدين وصون المسلمين فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة.
__________
(1) الفروق الجزء الثاني ص 33
(2) أوصل الأحكام للكبيسي ص 148(9/1529)
القسم الثاني
ما أجمعت الأمة على عدم منعه، وأنه ذريعة لا تسد، ووسيلة لا تحسم، كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر، فإنه لم يقل به أحد وكالمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا.
القسم الثالث:
ما اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا؟ وذلك كبيوع الآجال، كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر، ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر، فمالك يقول إنه أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل، توسلًا بإظهار صورة البيع لذلك، والشافعي ينظر إلى صورة البيع، ويحمل الأمر على ظاهره، فيجوز ذلك، والحكم بالعلم هل يحرم لأنه وسيلة للافضاء إلى الباطل من قضاء السوء أو لا يحرم؟ محل خلاف بين العلماء.
ولكل وجهة، وقد وجدنا الشارع ينهي عن الشيء وينهي عن كل ما يوصل إليه، ويأمر بالشيء ويأمر بكل ما يوصل إليه، وهكذا كان كل مطلوب بالقصد الأول قد طلبت وسائله بالقصد الثاني، وكل منهي عنه بالذات تكون وسائله منهيًا عنها، لأنها تؤدي إليه، وبذلك المنهج أخذ الإمام مالك ومن تبعه، والإمام أحمد ومن تبعه.
والأصل في اعتبار سد الذرائع هو النظر إلى مآلات الأفعال، وما تنتهي في جملتها إليه، فإن كانت تتجه إلى المصالح التي هي المقاصد والغايات من معاملات الناس بعضهم مع بعض كانت مطلوبة بمقدار يناسب طلب هذه المقاصد، وإن كانت مآلاتها تتجه نحو المفاسد فإنها تكون محرمة بما يتناسب مع تحريم هذه المفاسد.
والنظر في هذه المآلات لا يكون إلى مقصد العامل ونيته، بل إلى نتيجة العمل وثمرته، وبحسب النية يثاب الشخص أو يعاقب في الآخرة، وبحسب النتيجة والثمرة يحسن الفعل في الدنيا أو يقبح، ويطلب أو يمنع، وقد يستوجبان النظر إلى النتيجة والثمرة دون النية المحتسبة والقصد الحسن، فمن سب الأوثان مخلصًا العبادة لله فقد احتسب نيته عند الله في زعمه، ولكنه ـ سبحانه وتعالى ـ نهى عن السب إذا أثار ذلك حنق المشركين فسبوا الله تعالى. فقد قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
فهذا النهي كان الملاحظ فيه هو النتيجة الواقعة لا النية المحتسبة.(9/1530)
ب- عند الشاطبي:
واعتبر الشاطبي الذرائع من القواعد المبنية على اعتبار مآلات الأفعال وقال: إن مالكًا حكمها في أكثر أبواب الفقه.
لأن حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة، ثم مثل لها ببيع العينة، وهو ما إذا جعل مآل ذلك البيع مؤديًا إلى بيع خمسة نقدًا بعشرة إلى أجل وقال: ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي فإنه اعتبر المآل أيضًا؛ لأن البيع إذا كان مصلحة جاز وما وقع من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى، فكل عقدة منهما لها مآلها، ومآلها في ظاهر أحكام الإسلام مصلحة، ولكن هذا بشرط أن لا يظهر قصد إلى المآل الممنوع، ويتفق مالك مع الشافعي باعتباره مؤديا إلى مفسدة (1) .
وبهذا يمكن أن نصل إلى الأمور الآتية:
أولًا: أن أصل سد الذرائع قال به أئمة المذاهب وأتباعهم في الجملة، فليس خاصًا بالمالكية كما أثبته القرافي، بل يمكن القول بأن المالكية قالوا به أكثر من غيرهم (2) . والشاطبي نفسه قال: قاعدة الذرائع متفق عليها بين المذاهب في الجملة وإنما الخلاف بينهم في تحقيق المناط فلا يكون سد الذرائع عند الشافعي إلا إذا قصد الممنوع، وابن رشد من المالكية يرى أنه لا إثم على فاعله فيما بينه وبين الله حيث لم يقصد الممنوع والفساد إنما هو لاطراد حكم الحاكم فقط (3) .
ثانيًا: ما كانت مفسدته راجحة على ما فيه من المصلحة، كسب آلهة المشركين، وهذا مما أجمع العلماء على المنع منه أيضًا، والمنع منه واضح من النصوص التي جاءت في الشريعة ونص عليه أنه من سد الذرائع.
ثالثا: ما كانت المفسدة فيه محتملة كزراعة العنب خشية الخمر، والتجاور في البيوت خشية الزنا، وهذا النوع أجمع العلماء على عدم سده، ومن ذلك ما كانت مصلحته راجحة على مفسدته كالنظر إلى المخطوبة، وكلمة حق عند سلطان جائر.
رابعًا: المختلف فيه هو ما تتساوى فيه المصلحة مع المفسدة، أو كان قصد المفسدة فيه غير ظاهر، وقد مثل له القرافي ببيوع الآجال، والنظر إلى المرأة (4) .
__________
(1) الشاطبي ج4 ص 198 ـ 200
(2) الفروق ج3 ص 266، تهذيب الفروق 3/ 274، إرشاد الفحول 246 ـ 247
(3) الموافقات ص 4 ـ 200 ـ 201
(4) أصول مذهب الإمام أحمد ـ لعبد الله التركي ص459(9/1531)
وقد يقصد الشخص الشر بفعل المباح فيكون آثمًا فيما بينه وبين الله، ولكن ليس لأحد عليه سبيل، ولا يحكم على تصرفه بالبطلان الشرعي، كمن يرخص في سلعته ليضر بذلك تاجرًا ينافسه، فإن هذا بلا شك عمل مباح، وهو ذريعة إلى إثم هو الإضرار بغيره، وقد قصده ومع ذلك لا يحكم على عمله بالبطلان، ولا يقع تحت التحريم الظاهر الذي ينفذه القضاء، فإن هذا العمل من ناحية النية ذريعة للشر، ومن ناحية الظاهر قد يكون ذريعة للنفع العام والخاص، فإن البائع ينتفع بلا شك ببيعه ولو بربح قليل، ومن رواج تجارته، ومن كثرة الإقبال عليه، وينتفع العامة من ذلك الرخص، وقد يدفع التجار إلى تنزيل الأسعار (1) .
__________
(1) أصول مذهب الإمام أحمد ـ لعبد الله التركي ص 459(9/1532)
ج- عند ابن القيم:
ولقد قسم ابن القيم الذرائع بالنسبة إلى نتائجها إلى قسمين:
أولًا: أن تكون بحكم وضعها مفضية إلى فساد: كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنى المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد ليس لها ظاهر غيرها.
ثانيًا: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز، أو مستحب فيتخذ وسيلة للمحرم إما بقصده كمن يعقد النكاح قاصدًا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدًا به الربا، أو بغير قصده، كمن يصلي تطوعًا بغير سبب في أوقات النهي، وهو نوعان:
1- أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته، كالنظر إلى المخطوبة، وكلمة حق عند سلطان جائر.
2- أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته، وذلك كسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم، وتزين المتوفى عنها زوجها (1) .
وبهذا تكون الأقسام أربعة عند ابن القيم:
1- وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة.
2- وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوصل إلى المفسدة.
3- وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوصل إلى المفسدة، لكنها مفضية إلى المصلحة غالبًا ومصلحتها راجحة على مفسدتها.
4- وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوصل إلى مفسدة، ولكنها مفضية إليها غالباً، / ومفسدتها راجحة على مصلحتها.
__________
(1) إعلام الموقعين ج3 ص 148(9/1533)
وهذه الأقسام سليمة من حيث الفرض العقلي، ولكن القسم الأول لا يعد من الذرائع بل يعد من المقاصد؛ لأن الخمر والزنا والقذف كالربا وأكل أموال الناس بالباطل والنصب والسرقة مفاسد في ذاتها وليست ذرائع ولا وسائل. والكلام هنا في الذرائع والوسائل التي يؤدي إلى المفاسد فتدفع. ويسمى ذلك سد الذرائع (1) .
ويظهر أن ابن القيم حاول أن يقيم الدليل على المنع في القسمين الثاني والرابع من الأقسام التي هي محل نظر عند الفقهاء، ودلل على المنع بتسعة وتسعين وجهًا من الأمثلة موافقًا لأسماء الله الحسنى تفاؤلًا، وذكر في كل وجه المنع الذي قصده، وهو سد الذريعة، ولنكتف هنا بذكر بعض الأوجه التي ذكرها في كتابه إعلام الموقعين (2) . والأدلة على المنع من فعل ما يؤدي إلى الحرام ولو كان جائزا في نفسه:
الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فحرم الله سب آلهة المشركين مع كون السب غيظًا وحمية لله وإهانة لآلهتهم، لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا آلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز.
الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزًا في نفسه لئلا يكون سببًا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
الثالث: قال الإمام أحمد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة، ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية، ويلزم من لم يسد الذرائع أن يجوز هذا البيع كما صرحوا به، ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان، وفي معنى هذا كل بيع أو إجارة أو معاوضة تعين على معصية الله كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطرق وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤجره لذلك، أو إجارة داره أو حانوته أو خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية، ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه الله ويسخطه، ومن هذا: عصر العنب لمن يتخذه خمرًا، وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والمعتصر معًا، ويلزم من لم يسد الذرائع أن لا يلعن العاصر، وأن يجوز أن يعصر العنب لكل أحد، ويقول: القصد غير معتبر في العقد، والذرائع غير معتبرة. ونحن مطالبون بالظواهر، والله يتولى السرائر، وقد صرحوا بهذا. ولا ريب في التنافي بين هذا وبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) .
الرابع: ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) . قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) متفق عليه، ولفظ البخاري: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) . قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) .
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك، وتوسله إليه وإن لم يقصده (4) . وتبين لنا بصفة واضحة وجلية اعتماد الشريعة الإسلامية على سد الذرائع واعتباره من أدلة التشريع.
هذا وقد أجمع الصحابة على كثير من الأحكام اعتبارًا لسد الذرائع أو فتحها، فقد أجمع السلف الصالح على توريث المطلقة في مرض الوفاة، حتى لا يجعل الطلاق وسيلة إلى الحرمان من الإرث، سدًا للذريعة، ويسمونه: المعاملة بنقيض المقصود، وكذلك أجمعوا على أن القاتل لا يرث. وما ذلك إلا اعتبارا لسد الذرائع، حتى لا يعمد الناس إلى قتل أقاربهم ليستولوا على إرثهم (5) .
__________
(1) أبو زهرة أحمد بن حنبل ص 319
(2) إعلام الموقعين ج3 ص 149
(3) إعلام الموقعين ج3 ص 17
(4) إعلام الموقعين ج3 ص 150
(5) أصول الفقه لعربي اللوة ص 211(9/1534)
الفصل الخامس
موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع
مع تحرير محل النزاع في ذلك
الاحتجاج لسد الذرائع والأخذ به:
لقد تقدم في الفصل الرابع أن بينا قول القرافي الذي يقسم الذرائع إلى أقسام ثلاثة: ما هو معتبر إجماعًا، وما هو ملغي إجماعًا، وما هو مختلف بين العلماء والمذاهب في اعتباره من الذرائع، كبيع الآجال، وأن الأخذ بالذرائع أكثر منه الإمامان مالك وأحمد بن حنبل، ودونهما في الأخذ به الإمامان الشافعي وأبو حنيفة النعمان، ولكنهما لم يرفضاه جملة، ومهما يكن الأمر فإن الأخذ بالذرائع لا تجوز المبالغة والإغراق فيه؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى تعطيل كثير من المصالح، فقد يمتنع بعضهم عن تولي أموال اليتامى أو أموال الأحباس خشية التهمة من الناس، وخوفًا من الوقوع في أكل تلك الأموال، سدا الذريعة مع أن ذلك غير صحيح؛ لأن الله تعالى أذن في مثل هذه المخالطة ووكل المخالطين في ذلك إلى أمانتهم، حيث قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] .
وهكذا وكل الله الأمر إلى أمانة المكلفين في مثل هذه الأمور المخوفة حتى لا يقال إنه قد يؤدي إلى أمور محظورة فيمتنع لأن المضار التي تترتب على سد الذرائع في مثل ذلك أكثر من المضار التي تترتب على فتحها، إذا لو تركت الولاية على اليتيم سدا للذريعة لأدى ذلك إلى ضياع مال اليتامى، ولو ردت الشهادات سدًا لذريعة الكذب لضاعت الحقوق وعليه فلا بد من النظر إلى ما يؤدي إليه الأمر من المصلحة أو المفسدة أو يرجح بينهما إذا اقتضاه الفعل للأخذ بأرجحهما أثرًا، ومن هنا كانت الذرائع أصلًا للاستنباط باعتبار أن أساس الاستنباط وقاعدته النظر في مآل الأفعال وما يترتب عليها من مصلحة أو مفسدة، وأما الذين لا يحتجون بسد الذرائع فيرون أن منعه ليس من هذا الباب بل من باب: ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام، ومن باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (1) .
__________
(1) إرشاد الفحول للشوكاني ص246(9/1535)
موقف أئمة الفقه منه:
أ- الشاطبي:
وقال أبو إسحاق الشاطبي إن سد الذرائع أصل شرعي قطعي متفق عليه في الجملة، وإن اختلف العلماء في تفصيله، وقد عمل به السلف بناء على ما تكرر من التواتر المعنوي في نوازل متعددة دلت على عموميات معنوية، وإن كانت النوازل خاصة ولكنها كثيرة (1) .
ويقول الشاطبي في المسألة السادسة في العموم والخصوص:
العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط بل له طريقان:
أحدهما: الصيغ إذا وردت وهو المشهور في كلام أهل الأصول.
ثانيهما: استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ (2) .
وذلك لأن الأحكام التي قامت على سد الذرائع قد بلغت من الكثرة ما يدل على قصد الشارع إلى سد ذرائع الفساد.
واستنتج بعد ذلك قاعدة على صحة الاعتماد على الاستقراء فقال: إن قاعدة الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى، كعملهم على ترك الأضحية مع القدرة عليها (3) .
وكإتمام عثمان في حجه بالناس (4) . وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة.
__________
(1) الموافقات ج3 ص 61
(2) الموافقات ج3 ص 298
(3) كما أخرجه البيهقي عن أبي بكر وعمر كانا لا يضحيان كراهة أن يظن من رآهما وجوبها.
(4) روي البيهقي عن عثمان أنه أتم بمنى: فقال إن القصر سنة رسول الله وصاحبيه ولكنه حدث طغام فخفت أن يستنوا (وطغام الناس بالفتح أوغادهم) .(9/1536)
ب- ابن القيم:
وابن القيم تلميذ ابن تيمية الذي كان متحمسًا مثله للعمل بسد الذرائع قال: إن قاعدة سد الذرائع من القواعد القطعية في الدين، وإن الشارع اعتبرها في التشريع، وسار عليها في تقويم الأحكام، وعرفت ملاءمتها لجنس تصرفات الشارع، لا من دليل واحد، ولا من نص معين، بل من جملة نصوص، ومجموعة أدلة تفوق الحصر وقد أيد دعواه بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين وما أجمعت عليه الأمة في عهودها المتباينة من اعتماد سد الذرائع، واعتبارها وسائل لسد الفساد (1) .
وإن ما ورد من الشواهد والتطبيقات لسد الذريعة من الصحابة والتابعين قد انتقل بحذافيره إلى الأئمة المجتهدين، واستوعبته المذاهب الاجتهادية وبنت عليه أصولها ولهذا كان علينا أن نلقي نظرة على كل مذهب من المذاهب المشهورة لندرك مدى أخذها بسد الذرائع، وتحرير محل النزاع في ذلك.
إن شهرة المذهب المالكي باعتماده على سد الذرائع لا يقوم حجة على أن المذاهب الأخرى لا تقول بحرمة الوسائل المؤدية إلى الحرام، والمسماة بسد الذرائع، بل تخرجها بتخاريج أخرى تصل بها إلى نفس الحكم والغاية التي وصل إليها كل من المذهب المالكي والحنبلي.
يقول القرافي في الفرق الثامن والخمسين من كتابه الفروق: ليس سد الذرائع من خواص مذهب مالك كما يتوهمه كثير من المالكية، بل من الذرائع ما أجمعت الأمة على سده، ومنها ما أجمعت الأمة على عدم منعه، وقسم اختلف فيه العلماء: هل يسد أو لا؟ (2) ثم قال في الفرق الرابع والتسعين بعد المائة: وإنما النزاع بين المالكية والشافعية في الذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال ونحوها، ثم ذكر الخلاف في بيوع الآجال وما استدل به كل واحد من الفريقين (3) .
__________
(1) إعلام الموقعين ج3 ص 149
(2) الفروق للقرافي ج2 ص 32
(3) الفروق للقرافي ج3 ص 266(9/1537)
الفصل السادس
هل الأخذ بسد الذرائع مما اختص به المذهب المالكي أو أن الأخذ به ثابت في كل المذاهب وإن لم تصرح به؟
شواهد من فقه الأئمة الأربعة على العمل بسد الذرائع
سد الذريعة عند المالكية:
سد الذرائع من الأصول المهمة عند المالكية، وليس هناك من المذاهب من أخذ بسد الذرائع كمذهب مالك، لا سيما وهو أكثر المذاهب اعتمادًا على رعاية مصالح الناس وأعرافهم، ولهذا كان العمل بالمصلحة المرسلة أصلًا مستقلًا من أصول التشريع في مذهب مالك، وليس سد الذرائع إلا تطبيقًا عمليًا من تطبيقات العمل بالمصلحة، ولهذا عد من أصول مذهب مالك، وبالغ في ذلك بعض الفقهاء حتى عد سد الذرائع من أصول مذهب مالك خاصة.
والمتتبع لكتب المالكية في الأصول والفروع يرى أنهم يتجهون في سد الذرائع إلى سد وسائل الفساد، فكل ما يؤدي إلى فساد غالبًا فهو ممنوع، من غير تقييد بكون ذلك الفساد قد ينص عليه بنص خاص، أو كونه داخلًا في النهي العام عن الضرر والضرار وعن كل فساد، وإن الذرائع ينظر فيها إلى نتائجها، فإن كانت فسادًا واجب منعها لأن الفساد ممنوع فيمنع ما يؤدي إليه، وإن كانت مصلحة طلب الأخذ بها لأن المصلحة مطلوبة، ويسمى ذلك باب فتح الذرائع (1) .
وفتح باب الذرائع مأخوذ به عند مالك كسده ولذلك قال القرافي المالكي في فروقه: " اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة " (2) .
ومن هنا جاء وجوب الصناعات باعتبارها ذرائع للمصالح العامة التي يقوم عليها شأن العمران ولا يستغنى عنها الناس، وكان وجوبها على سبيل الكفاية لأن الناس ليسوا جميعًا مطالبين بأن يكونوا صناعًا.
ولقد بين في الفروق بعض التفصيل في القسم الثالث من الأقسام الثلاثة التي قسم إليها الذريعة، وهو الذي جرى فيه الاختلاف بين المجتهدين: أيسد أم لا؟ وذلك كبيوع الآجال، ويسميها الحنابلة والشافعية بيوع العينة.
ففي المذهب المالكي قال الدردير في كلامه على بيوع الآجال: هو بيع ظاهره الجواز لكنه قد أدى إلى ممنوع فيمتنع، ولو لم يقصد التوسل إلى ممنوع، سدًا للذريعة. وقال: ويمنع من البيوع ما أدى لممنوع يكثر قصده، كبيعة سلعة بعشرة لأجل ثم يشتريها بخمسة نقدًا أو لأجل، قال: فقد آل الأمر إلى رجوع السلعة لربها وقد دفع قليلًا وأعاد كثيراً (3) .
فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل بإظهار صورة البيع، لذلك يكون باطلًا.
والشافعي يقول: ينظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره، فيجوز ذلك، وهذه البيوع يقال إنها تصل إلى ألف مسألة اختص بها مالك (4) .
__________
(1) مالك لأبي زهرة ص 415
(2) الموافقات ج2 ص 33
(3) الشرح الصغير ج3 ص116 ـ 117
(4) أصول الفقه أبو زهرة ص 280(9/1538)
شواهد سد الذرائع عند الحنابلة:
وافق الحنابلة المالكية في اعتمادهم على أصل سد الذرائع في كثير من الاستنباطات والأحكام الفقهية، ولكنهم لم يبلغوا في ذلك حد الكثرة التي أشرنا إليها في فقه المالكية (1) . وليس غريبًا على مذهب سلفي كمذهب الإمام أحمد أن يتجه إلى اعتبار سد الذرائع أصلًا صحيحًا في مجال التأصيل، والاعتماد عليه دليلًا في ميدان التطبيق؛ لأنه أصل أثبتت صحته النصوص من الكتاب والسنة وعمل السلف من الصحابة والتابعين (2) .
ومذهب الإمام أحمد يتمسك بالنصوص ويتعلق بالآثار ويبحث عما كان عليه السلف لينهج منهجهم ويقول بقولهم، وإذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى من خالفه، ولا يقدم على النص عملًا ولا رأيا ولا قياسًا ولا قول صحابي، فإذا لم يكن في المسألة نص ولا قول صحابي ولا أثر مرسل أو ضعيف لجأ إلى الأصل الخامس وهو القياس فاستعمله، ويدخل في جملة القياس الصحيح عند الحنابلة: رعاية المصالح، ومن وجوه العمل بها: سد الذرائع وفتحها (3) .
إن أحمد بن حنبل ومثله في ذلك مالك رضي الله عنه كان عند الحكم ينظر إلى المآلات فيقررها، ويمنع كل ما يؤدي في مآله إلى محرم ويقر كل ما يؤدي في مآله إلى مطلوب، وينظر في ذلك نظرًا كليًا وجزئيًا، فيحرم تلقي الركبان لكي لا يؤدي إلى غلاء الأسعار، فكان التحريم لأنه يؤدي إلى ضرر خاص بالبائعين وضرر عام بالمستهلكين، وكان المنع بالنسبة للمآلات منظورًا فيه إلى النتيجة المترتبة سواء أكانت مقصودًا أم غير مقصودًا، أما الإثم الأخروي فإنه ينظر إلى الباعث.
وقد قرر أنه إذا كان الباعث الخير، والنتيجة كانت شرًا غالبا أو مؤكدًا، منع الفعل مع نية الخير، اعتبارًا بالمآل والنتيجة (4) .
__________
(1) فتاوى ابن تيمية ج3 ص 273
(2) أبو زهرة: ابن حنبل 331
(3) سد الذرائع، محمد هشام البرهاني ص 639
(4) أحمد بن حنبل أبو زهرة ص 323(9/1539)
وسنعرض بعض الأمثلة من الفقه الحنبلي توضح أخذ أحمد بالذرائع:
كان الإمام أحمد يكره الشراء ممن يرخص السلع، ليمنع الناس من الشراء من جار له، أو من السوق الذي يؤمه الناس للشراء، وكان ذلك من الذريعة؛ لأن الامتناع عن الشراء منه ذريعة إلى امتناعه عن انزال ذلك الضرر بأخيه، ولأن الشراء منه إغراء له بالسير في طريقة هذا.
ولقد ورد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام المتباريين، وهما الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر في التبرع، والذي يرخص في السعر للإضرار هو من ذلك النوع أو أشد قبحًا؛ لأنه يعتمد الإضرار بغيره، وقد يؤدي فعله في الاحتكار بأن تزول منافسة غيره فيستبد بالأسعار، وقد ذكرنا من قبل أنه قد ينتفع عامة الناس من الرخص، ولكل حال تبدو فيها البواعث يحتاط ولي الأمر للنتائج (1) .
__________
(1) أبو زهرة(9/1540)
موقف الشافعية من سد الذرائع:
كان أكثر الفقهاء أخذًا بالذرائع أحمد ومالك رضي الله عنهما، وأقل الفقهاء أخذ بها الشافعي، وكان أبو حنيفة وأصحابه أقرب إلى الشافعي في القلة، ولم يقاربوا مالكًا وأحمد، وذلك بعد إجماع الجميع على نوع من الذرائع أخذًا، وعلى نوع آخر ردًا، كما أجمعوا على أن ما يؤدي إلى إيذاء جمهور المسلمين ممنوع لا محالة، كحفر الآبار في الطريق، أو إلقاء المواد السامة والمتعفنة في مياه الشراب.
كما أجمعوا أيضًا على أن ما يكون سبيلًا للخير كما يصلح أن يكون سبيلًا للشر لا يكون ممنوعًا، كغرس العنب، فإنه يؤدي إلى عصره وتخميره، ولكن لم يكن ذلك بأصله، ولأن استخدامه لذلك احتمالي، والمنفعة في غرسه أكبر من هذه المضرة، والعبرة بالأمر الغالب أو الراجح في الظن.
فإذا تمخض غرسة لتخميره كأنواع من العنب لا تصلح إلا للخمر أصبح حرامًا وسد الذريعة فيه واجبًا (1) . وقد أبطل الشافعية العمل بسد الذرائع لسببين اثنين:
السبب الأول: أن سد الذرائع مظهر من مظاهر الاجتهاد بالرأي وهم لا يأخذون منه إلا بالقياس؛ لأن العلم عندهم خمس طبقات نص عليها الإمام الشافعي بقوله: " العلم طبقات شتى:
الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت.
الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.
الثالثة: أن يقول أصحاب النبي قولا ولا نعلم له مخالفًا منهم.
الرابعة: اختلاف أصحاب النبي.
الخامسة: القياس على بعض الطبقات. ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم من أعلى" (2) .
__________
(1) أبو زهرة أحمد بن حنبل 324
(2) الأم ج7 ص287 ـ 308(9/1541)
وكلام الشافعي في كتاب إبطال الاستحسان، وفي كتاب جماع العلم، وفي الرسالة كلها تلتقي على قضية واحدة هي أن الاجتهاد بالاستحسان وغيره من الوسائل التي لا تعتمد على نص ثابت، ومنها سد الذرائع، اجتهاد باطل لا يمت إلى الشرع بصلة (1) .
السبب الثاني: أن الشافعي يرى أن الشريعة تبنى على الظاهر، وأنه يجب أن لا نتجاوز في تفسيرها حكم النص الذي حصره في خمسة أشياء، ولهذا نجده يقصر مصادر الأحكام الشرعية على الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة والقياس على النص، ولهذا رفض الاستحسان لأنه لا يعتمد على النص في عبارته ولا إشارته ولا دلالته بل يعتمد على ما ينقدح في نفس الفقيه الفاهم لأصولها وفروعها ومصادرها أو على روح الشريعة.
فيجب أن لا يتجه العلماء في تطبيقها إلى الباطن، وأن من حكم على الناس بالظن جعل لنفسه ما حذر الله تعالى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم لأن الله عز وجل إنما يتولى الثواب والعقاب على المغيب، وكلف العباد أن يأخذوا بالظاهر، ولو كان لأحد أن يأخذ بباطن عليه دلالة، كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الظاهرية هي التي يتمسك بها أشد الاستمساك، وينهي فيها عن تظنن غايات أمور لم تكن قائمة ولا ثابتة وقت الفعل أو التصرف.
لأن الأخذ بذلك بالظن، والشريعة عنده ظاهرية تنظر إلى صورة الأفعال ومادتها لا إلى مآلاتها أو بواعثها، إذا لم يكن هناك دليل ظاهر إلى المآلات والبواعث.
وإن هذه النظرة تخالف نظرة الإمامين أحمد ومالك، فإنهما عند اتجاههما إلى الذرائع نظرًا إلى المآلات نظرة مجردة، ونظرًا إلى البواعث فمن عقد عقدًا قصد به أمرًا محرما واتخذ العقد ذريعة له فإن المآل والباعث يحرمان العقد فيأثم عند الله، ويكون العقد باطلًا؛ لأنه ربا. فيبطل سدا للذريعة (2) .
ولذلك يبطل الشافعي حكم الازكان (الظن) من الذرائع في البيوع وغيرها ويحكم بصحة العقد، فالرجل إذا أراد أن ينكح امرأة ونوى أن لا يحبسها إلا يومًا أو شهرًا إنما أراد أن يقضي منها وطرا بدون أن يعلن عن نيته في العقد فالعقد صحيح لأنهما عقدا النكاح مطلقًا على غير شرط.
__________
(1) سد الذرائع محمد هشام البرهاني ص681، الأم: كتاب إبطال الاستحسان 309
(2) أحمد ابن حنبل أبو زهرة ص 335(9/1542)
يقول الشافعي: " إنه لا يفسد عقد أبدًا إلا بالعقد نفسه لا يفسد بشيء تقدمه ولا تأخره ولا بتوهم ولا بأغلب ظن، وكذلك لا يفسد كل شيء إلا بعقده ولا تفسد البيوع بأن يقول هذه ذريعة وهذه نية سوء.
ولو جاز أن نبطل من البيوع بأن يقال: متى خاف أن تكون ذريعة إلى الذي لا يحل، ألا ترى أن رجلًا لو اشترى سيفًا ونرى بشرائه أن يقتل به كان الشراء حلالا وكانت النية بالقتل غير جائزة ولم يبطل بها البيع؟ وكذا لو باع البائع سيفًا من رجل يراه أنه يقتل به رجلًا كان هكذا" (1) . ومعنى هذا الكلام أنه لا يفسده العقد للمآل الذي يؤدي إليه تنفيذه كما لا يفسده للنية.
ويقول في موضع آخر: " فإذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكم الإسلام على أن العقود إنما يثبت بالظاهر عقدها، لا تفسدها نية المتعاقدين، كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة أولى أن لا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها، ثم إذا كان توهما ضعيفًا والله أعلم" (2) .
وفي هذا ترى الشافعي يستنكر الحكم بأن بيع السلاح في الفتن باطل لأنه لا يصح أن يتوهم على العاقد نية عنده إذا كان البيع صحيحًا عند تأكده نية نفسه، وهذا المعنى لم يقله أحمد ولا مالك رضي الله عنهما لأنهما نظرًا إلى المآل، ويطبق الشافعي نظره في العقد التي يقصد بها الربا أو يظن من عقدها أن المقصد بها الربا فحكم بأن الثمن إذا كان مؤجلًا وقبض المشتري العين كان له أن يبيعها إلى البائع بأقل من الثمن ولو كان نية الربا ثابتة في ذلك العقد بأن تكون النتيجة استدانة المشتري من البائع دينا وأداءه بأكثر منه، وأمارات الربا واضحة، ولكن ما دام لم يقترن بالعقد عند انشائه ما يدل على قصد الربا، فالبيع صحيح، وقد نص على صحته في الأم: " وإذا اشترى طعامًا إلى أجل فقبضه فلا بأس أن يبيعه ممن اشتراه منه ومن غيره بنقد وإلى أجل، وسواء في هذا المعين وغير المعين" (3) ، أي سواء في ذلك ما يعين على الربا أو لا يعين على الربا، وسواء أكان ذريعة إلى محرم أم لم يكن لأن الشافعي نظر إلى الصورة الظاهرة وترك المغيب لله.
__________
(1) الأم الجزء السابع ص270، ابن حنبل لأبي زهرة ص 326
(2) الأم الجزء الثالث ص33
(3) الأم 3: 33(9/1543)
ويستدل الشافعي على ظاهريته بقوله: " قال قائل ما دل على ما وضعت من أنه لا يحكم بالباطل قيل في كتاب الله ثم في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم " وأمر الله تبارك في شأن المنافقين، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) } [المنافقون: 1ـ 3] .
وأقرهم رسول الله يتناكحون ويتوارثون ويقسم لهم إن حضروا القسمة ويحكم لهم بأحكام المسلمين وقد أخبر الله تعالى عن كفرهم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم اتخذوا أيمانهم جنة من القتل بإظهار الإيمان، وقال رسول الله: ((يا أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن محارم الله، فمن أصاب منكم من هذه القذرات شيئًا فليستتر فإنه إن يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)) فأخبرهم أنه لا يكشفهم عما لا يبدو من أنفسهم (1)
وإذا قلنا إن الإمام أحمد يتفق مع الإمام مالك في المآلات ويخالف الشافعي في عدم النظر إلى ذلك، فإن هناك أمرًا قد انفرد بمخالفة الشافعي فيه وهو النظر إلى المقاصد التي يرمي إليها العاقد من عقده، فالشافعي يقرر أن النية ليس لها أثر في الحكم على العقد من حيث الصحة والفساد، ما دامت النية غير مشترطة في إنشاء العقود والعقد يكون صحيحًا مهما كانت نية صاحبه ولو خالفت معنى العقد والمقصد الشرعي بينما الإمام أحمد يقول: إن القصد مقترن بالعقد والعقد يكون الحكم فيه على أساس ذلك القصد فإن كان القصد حرامًا كان العقد على حرام وإن كان فاسدًا لا ينشأ به التزام.
__________
(1) الأم 3/ 33(9/1544)
وقد رد ابن القيم على الشافعي ردًا قويًا مركزًا، فقال: " والمتكلم بالعقود إن قصد منها ما لا يجوز قصده كالمتكم بنكحت وتزوجت فلا يقصد منه عشرة زوجية مؤقتة بل يقصد تحليلها لمطلقها الثلاث، ويقصد ببعت واشتريت الربا، وما شبه ذلك فهذا لا يحصل به مقصوده الذي قصده وجعل اللفظ والفعل وسيلة إليه لأن في تحصيل مقصوده تنفيذًا للمحرم وإسقاطًا للواجب وإعانة على المعصية ومناقضة شرعه، وإعانته على ذلك إعانة على الإثم والعدوان" (1)
وبهذا يظهر أن الشافعي يرى أن كل عقد تؤخذ أحكامه من صيغته ومما لابسه واقترن به، ففساده لا يكون من صيغته، وصحته تكون منها، ولا يفسد من أمور خارجة عنها ولو كانت نيات ومقاصد لها أمارات ومآلات مؤكدة، والإمام أحمد يخالف في ذلك تمام لأن الحكم عنده على أساس ذلك القصد.
ثم إن الأساس الذي يقوم عليه أصل الذرائع يدفعنا حتمًا إلى اعتباره موجودًا عند الشافعية من وجهين.
الوجه الأول: لا يمكن بحال أن نقول إن الشافعي ينكر آثار سد الذرائع في الشريعة الإسلامية، ولكنه يثبتها ضمن المصادر الأصلية الأخرى.
أ - عن طريق الكتاب كما جاء في قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] .
ب - عن طريق السنة كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) الحديث (2) .
ج- عن طريق القياس: كحرمة الصيد الواقع في الشبكة إذا نصبها قبل الإحرام، قياسًا على ما جاء في قصة أصحاب السبت.
د- عن طريق الاستحسان كاستحسان أبي يوسف كراهة السلام على لاعبي الشطرنج وما إليه، تحقيرًا لهم عن ذلك، ولأن في السلام عليهم معنى من معاني الإعانة على الإثم.
__________
(1) إعلام الموقعين بتصرف ج3 ص 106 ـ 107 أحمد بن حنبل، أبو زهرة ص 329
(2) رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر(9/1545)
الوجه الثاني: أن سد الذرائع يقوم على عدة أصول، وترتبط به قواعد معتبرة عند الشافعية كغيرهم مثل:
1- جلب المصالح ودرء المفاسد (1) .
2- المصالح معتبرة في الأحكام وليست هذه في الحقيقة إلا وسائل.
3- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
4- من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه (2) .
5- إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام (3) .
6- اعتبار الأهم ورعاية جانبه.
وبهذا نعلم أن الشاطبي يطبق مفهوم ما أدى إلى الحرام حرام لا بطريقة سد الذرائع وإنما اعتمادًا على قواعد أخرى أدت إلى نتائج مقاربة لنتائج سد الذرائع.
أمثلة لسد الذرائع عند الشافعي:
ومما يدل على أن الشافعي نفسه أخذ بسد الذرائع في بعض الأحيان ما قاله في كتاب الأم:
بعد أن ذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته)) وهذا يدل على أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل واعتبر الشافعي المعذورين عن ترك الجمعة كالمرضى والمسافرين يصلون الظهر مكان صلاة الجمعة جماعة أو فرادى، واستحب الشافعي رحمه الله لهم إخفاء الجماعة سدًا لذريعة التهمة في تركهم لصلاة الجمعة (4) .
والشيرازي يذكر وجها آخر لسد الذريعة في نفس الصورة المتقدمة ويقول: يستحب للمريض والمسافر إذا أفطرا في رمضان أن لا يأكلا عند من يجهل عذرهما سد لذريعة التهمة بالفسوق والعصيان (5) .
__________
(1) الموافقات للشاطبي ج2 ص 7
(2) الأشباه والنظائر 152 ـ 154
(3) الأشباه والنظائر 103 ـ 107
(4) الخطيب الشربيني في مغني المحتاج ج1 ص 279
(5) المهذب 1 ص 278(9/1546)
الحنفية وسد الذرائع:
لا يعني عدم ذكر الحنفية لسد الذرائع ضمن أصولهم عدم اعتبارهم لصحة العمل به لأننا نلمح ذلك عندهم في أمرين:
الأول: قولهم بالاستحسان وهو باب يدخلون منه إلى العمل بالمصلحة وسد الذرائع من وجوه العمل بالمصلحة، بل إن بعض صورة الاستحسان عندهم هي عين صور سد الذرائع عند المالكية، فلا يبدو الفرق بين المذهبين إلا في التسمية.
الثاني: عملهم بسد الذرائع بالفعل في فروع كثيرة، وسنستعرض بعضًا منها فيما يلي:
1- الحداد على البائن المتوفى عنها زوجها.
قال صاحب البداية: وعلى المبتوتة المتوفى عنها زوجها إذا كانت مسلمة الحداد، وهو الامتناع عن الطيب والزينة والدهن والكحل لإظهار التأسف، ولأن المرأة إن كانت متزينة متطيبة تزيد رغبة الرجل فيها وهي ممنوعة عن النكاح ما دامت في عدة الوفاة أو الطلاق فتجتنبهما حتى لا تصير ذريعة إلى الوقوع في المحرم (1) .
2- قضاء القاضي لمن يتهم فيه من ذوي رحمه، فقد ذكر السمرقندي أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي لنفسه ولا لأبويه وإن علوا، ولا لزوجته ولا لأولاده وأن سفلوا ولا لكل من لا تجوز شهادته لهم، وذلك سدا للذريعة ومنعا للشبهة (2) .
3- تحريم مقدمات الوقاع على المعتكف كاللمس والقبلة دون الصائم الذي يأمن على نفسه؛ لأن الوطء محرم على الأول بالنص قصدًا في قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وعلى الثاني ضمنًا من الأمر بالإمساك عن المفطرات فالتحقت المقدمات بالتحريم في الأول ولم تلتحق في الثاني ونص الحنفية على أن الوسيلة إلى الشيء حكمها حكم ذلك الشيء. (3)
4- اتفاق الحنفية مع المالكية والحنابلة في المنع من بعض صور بيوع الآجال، ومن ذلك أنهم نصوا على أن من اشترى سلعة بألف حالة أو نسيئة قبضًا لم يجز له أن يبيعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول كله أو بعضه؛ لأن من الشروط المعتبرة في صحة العقود عندهم الخلو من شبهة الربا؛ لأن الشبهة ملحقة بالحقيقة في باب المحرمات احتياطًا، وأصل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات)) .
__________
(1) الهداية ج3 ص 291 ـ 294
(2) تحفة الفقهاء ج3 ص 699
(3) فتح القدير 2/123(9/1547)
ووجه الشبه هنا كما قال الكاساني: (أن الثمن الثاني يصير قصاصًا بالثمن الأول فبقي من الثمن الأول زيادة لا يقابلها عوض في عقد المعاوضة، وهو تفسير الربا إلا أن الزيادة تثبت بمجموع العقدين فكان الثابت بأحدهما شبهة الربا والشبهة ملحقة بالحقيقة، بخلاف ما إذا نقد الثمن لأن المقاصة لا تتحقق بعد بالثمن فلا تتمكن الشبهة بالعقد، ولو نقد الثمن كله إلا شيئًا قليلًا فهو على الخلاف مع الشافعي ولو اشترى ما باع بمثل ما باع قبل نقد الثمن جاز بالإجماع لانعدام الشبهة، وكذا لو اشتراه بأكثر مما باعه قبل نقد الثمن) (1) .
فقد نص الحنفية في كثير من المواضع أثناء عرضهم لوسائل المحرمات أن ما أدى إلى الحرام هو حرام وأن الوسيلة إلى الشيء حكمها حكم ذلك الشيء، وهذا هو أصل الحكم بسد الذرائع، ومنها ما قاله للكاساني، " ولا يباح للشواب من النساء الخروج إلى الجماعات بدليل ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى الشواب عن الخروج لأن خروجهن إلى الجماعة سبب الفتنة والفتنة حرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام" (2) .
وهذا تصريح واضح لاعتبار سد الذرائع في المذهب الحنفي، وبلسان أحد شيوخ هذا المذاهب.
وكذلك منها ما قاله الكاساني في شأن الاستمتاع بالحائض قال: " الاستمتاع بها بما يقرب الفرج سبب للوقوع في الحرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه)) والمستمتع بالفخذ يحوم حول الحمى ويرتع حوله فيوشك أن يقع فيه فقد دل على أن الاستمتاع بالحرام سبب الوقوع في الحرام وسبب الحرام حرام " (3) .
وبهذا نعلم أنه إذا كان هناك فوارق عميقة بين مذهب الشافعي الذي لا يريد أن يحكم المآل والمقاصد في العقود، وإنما يحكم صيغة العقد، فإن الحنفية وإن لم يقولوا بسد الذرائع إلا أنهم يحكمون المقاصد والمآل، ولا يرون حرجًا في تبني قواعد المالكية والحنابلة في غالب ما يتعلق بسد الذرائع (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 5/199، الهداية 3/47
(2) بدائع الصنائع للكاساني 1/ 157
(3) بدائع الصنائع للكاساني 2/119
(4) بدائع الصنائع ج2 ص 120(9/1548)
رأي ابن حزم في سد الذرائع:
لقد أنكر ابن حزم سد الذرائع بناء على نزعته الظاهرية التي تقف عند حد ظواهر النصوص وتبطل كل أدلة إلى أي من القياس والاستصلاح وما يتصل بهما من استحسان وسد للذرائع، وقد تناول أدلة سد الذرائع التي اعتمدها مالك والإمام أحمد بن حنبل وتعرض لها بالرد والإبطال في كتبه، وعلى الأخص في كتابه: الإحكام في أصول الأحكام، وهو محجوج بالعموم القاطع الثابت بالنقل، وبعمل الصحابة والتابعين الذي لا يدع مجالًا لأي تردد.
وقد اعتمد في رده على العمل بسد الذرائع عدة أمور، منها (1) .
إبطال الاحتجاج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في المنع من الشبهات: ((إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) الحديث. مدعيا:
أ - أن المراد بالحديث: الحض على الورع وليس تحريم الحلال.
ب - أن المراد من الحديث جلي في أن ما حول الحمى ليس من الحمي.
ج- أن المشتبهات ليست بيقين من الحرام، لأنها ليست مما فصل لنا لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] وما لم يفصل لنا أنه من الحرام فهو حلال بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] .
وبقوله عليه السلام: ((أعظم الناس جرمًا في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)) (2) .
ويبدو مما قرره هنا أن الشبهات ليست داخلة في إطار المحرمات، وأنه يستحب تركها فقط، وقد أجاب علماء المذاهب التي تعتمد أصل سد الذرائع بإجابات مطولة عن كل الشبهات التي أثارها ابن حزم حول العمل بأصل سد الذرائع ويمكن أن نشير في هذه العجالة إلى نماذج من هذه الردود.
أولًا: حول قول ابن حزم المشتبهات ليست من الحرام قالوا: هذا غير صحيح لأنها ترجع في الحقيقة إما إلى الحلال أو إلى الحرام وإذا خفيت على بعض الناس أو على أكثرهم فهي ليست كذلك بالنسبة إلى القليل؛ لأن مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: ((وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)) يفيد أنها معلومة من جهة القليل منهم، وحكمها عند هؤلاء لا يخرج من مرتبتي الحلال والحرام وليس في حقيقة الأمر مرتبة ثالثة بين هاتين.
__________
(1) الأحكام ج6 ص 746
(2) سد الذريعة للبرهاني 724(9/1549)
ثانيًا: قول ابن حزم إن النهي عن المباح تكليف بما لا يطاق وأن العمل بسد الذرائع يجعله قاصرًا على تحريم ما يؤدي إلى الحرام فقط والجواب أن العمل بسد الذرائع لم يكن قاصرًا على تحريم ما يؤدي إلى الحرام؛ لأنه يشمل ما هو أعم من ذلك، كمجرد الامتناع والكف من غير تحريم، وقد ثبت هذا بفعله صلى الله عليه وسلم حيث امتنع عن أكل الضب ولم يحرمه وبفعل الصحابة رضي الله عنهم حيث امتنعوا عن كثير من المباحات من غير أن ينقل عنهم القول بتحريمها.
ثالثًا: من الشبه التي أثيرت في هذا الموضوع قول ابن حزم بأن على النبي بيان كل ما ينبغي للمرء أن يتركه مما لا بأس به ليبلغ درجة المتيقن، فمن حديث عطية السعدي قول النبي: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به البأس)) والجواب أنه ليس من العلماء من يلزم النبي ببيان أحكام كل الوقائع لأن هذا من المحال بعينه، فإن الوقائع أكثر من أن تحصر، لأنها تختلف بحسب المكلف وظروفه الواقعة والزمان والمكان ويكفي من المشروع بيان القاعدة، وعلى المكلف أن يقيس عليها الوقائع بحسب ظروفه وأحواله، فلا بد من التفريق بين الحلال المطلق وبين ما لا بأس به، وهو الذي تركه أولى من فعله، وعلى هذا لا يلزم ترك كل حلال (1) . ولا يمكن أن نتناول مذهب ابن حزم في هذا الموضوع بكل تفصيلاته في هذا البحث لأن ابن حزم أثار شبهات كثيرة جدًا في كتابه إحكام الأحكام وحاول بكل جهوده أن يبطل العمل بسد الذرائع؛ لأنه يعتبره تشريعًا زائدًا على ما ورد به النص وذلك انتصارًا لنزعته الظاهرية التي تقف عند حد ظواهر النصوص.
وقد أخذ ابن حزم على المالكية الغلو في بعض المسائل مثل قول أصحاب مالك بأن من طلق إحدى زوجتيه وشك أهند هي أم غيرها طلقتا معا ولا يحتاج في طلاق الثانية إلى استئناف طلاق.
__________
(1) سد الذرائع: البرهاني ص 733(9/1550)
وقولهم بأن من شك بعد تحقيق الطلاق أطلق زوجته طلقة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا لم تحل له إلا بعد زواج (1) .
بل أنكر إنكارًا بالغًا ذلك الغلو حيث قال: " وأصحاب مالك يلزمون الطلاق ثلاثًا من يشك أطلق ثلاثًا أم أقل، ويفرقون بين من طلق إحدى امرأتيه ثم لا يدري أيتهما المطلقة منهما فيطلقون كلتا امرأتيه ويحرمون حلالا كثيرًا خوفًا من مواقعة الحرام، وفي هذا عبرة لمن اعتبر، ليت شعري كما يشفقون في الاستباحة من مواقعة الحرام أما يشفقون في قطعهم بالتحريم وبالتفريق من مواقعة الحرام في تحريمهم ما لم يحرمه الله تعالى؟ وقد علم كل ذي دين أن تحريم المرء ما لم يصح تحريمه عنده حرام عليه " ثم يقول: والعجب كل العجب أنهم يحتاطون بزعمهم على هذا الذي جهل أي امرأتيه طلق خوف أن يواقع التي طلق وهو لا يعلمها فيكون قد أوقع حرامًا يعلمه بعينه، ولا يتقون الله تعالى فيحتاطون على أنفسهم التي أمروا بالاحتياط عليها، وقد قال لهم ربهم تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فيحرمون عليه الثانية التي هي امرأته بلا شك ولم يطلقها قط فيخرجونها عن ملكه بغير إذن من الله تعالى، ويبيحون فرجها لمن لا شك في أنه حرام عليه من سائر من يتزوجها من الناس، وهي غير مطلقة ولا مفسوخ نكاحها ولا متوفى عنها فصاروا محللين للفروج المحرمة بيقين " ثم يقول: " وأيضًا فإنهم حكموا بالطلاق على امرأة لم تطلق من أجل أن غيرها طلقت، والله تعالى يقول: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ} (2) [الأنعام: 164]
__________
(1) انظر الدسوقي على الشرح الكبير ج2
(2) انظر في كل ذلك ـ الأحكام لابن حزم وكتاب سد الذرائع للبرهاني(9/1551)
الغلو في سد الذرائع:
وبعض العلماء اعتبر الإفراط في تطبيق سد الذرائع ربما وصل إلى حد الغلو في كثير من الفروع في مذهب مالك، مما جعلهم يقدمون العمل بما جاء من سد الذرائع على ما اقتضاه النص الصريح ولذلك أمثله كثيرة منها:
1- ما نقل عن الإمام مالك رحمه الله من كراهيته لصيام ست من شوال (1) ، وقد ثبت استحبابه بالحديث الصحيح، عن أبي أيوب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فذلك صيام الدهر)) أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه، وأخرجه الطبراني وأحمد، ولفظه عند ابن ماجه: ((من صام ستة أيام بعد الفطر كان كصيام السنة، من جاء بالحسنة فهل عشر أمثالها)) .
كما أخرجه الطبراني عن عائشة رضي الله عنها ورواه الدارقطنى عن البراء بن عازب رضي الله عنه (2) . وهذا كله يؤدي استحباب صومها، وأنه لا ينبغي تركها لمحذور يمكن استدراكه بالتعليم، بل إن ترك صومها من ذي هيئة مقتدى به ذريعة مقابلة يلزم سدها حتى لا تؤدي إلى اعتقاد حرمة صومها، يقول النووي: " في حديث الباب دلالة صريحة لمذهب الشافعي وأحمد وداود وموافقيهم في استحباب صوم هذه الستة، وقال مالك وأبو حنيفة، يكره ذلك قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحدًا من أهل العلم يصومها. قالوا فيكره، لئلا يظن وجوبه، ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح إذا ثبتت السنة فلا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها، وقولهم قد يظن وجوبها ينتقض بصوم يوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب" (3) .
__________
(1) انظر الاعتصام 2/211، والدسوقي على الشرح الكبير 1/ 488 ـ 489
(2) تحفة الأحوذي 3/ 466
(3) النووي على مسلم 8/56، وانظر المحلي لابن حزم 7/17، وما بعدها(9/1552)
2- تركهم لقراءة السجدة فجر يوم الجمعة: وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر ألم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان)) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (1) .
وأخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما (2) .
وفيه دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في فجر الجمعة، والمداومة عليها لما تشعر به صيغة الحديث من مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك أو على الأقل إكثاره منه، بل قد ورد التصريح بمداومته صلى الله عليه وسلم. أخرجه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه (3) . وما ذكره المالكية من محذور، يدفعونه بترك قراءتها، وهو خشية اعتقاد العامة كون فريضة الفجر يوم الجمعة ثلاث ركعات، وقد استشهد له بعضهم بما شاع عند عامة مصر: أن صبح الجمعة ثلاث ركعات لما يرونه من مواظبة الإمام على قراءة سورة السجدة والسجود لها.
3- حبس المصلي لوضع ثوبه أمامه: روى أبو مصعب صاحب الإمام مالك قال: قدم علينا ابن مهدي يعني المدينة ـ فصلى، ووضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم، ورمقوا مالكًا، وكان قد صلى خلف الإمام، فلما سلم قال ـ الإمام مالك رحمه الله ـ: من ههنا من الحرس؟ فجاءه نفسان، فقال خذ صاحب هذا الثوب فاحبساه، فحبس فقيل له: أنه ابن مهدي، فوجه إليه، وقال له: أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف، وشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئًا ما كنا نعرفه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) . فبكى ابن مهدي وآلي على نفسه ألا يفعل ذلك أبدًا، لا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في غيره (4) ، وهذا غلو لا مبرر له في إعمال سد الذرائع وإلا فماذا يعني وضع الثوب بين يدي المصلي هل يمكن اعتبار ذلك ذريعة إلى اعتقاد الجهال عدم صحة الصلاة إلا بذلك، أو ذريعة إلى عبادة من دون الله، لتستحق التأنيب والحبس، هذا أقصى ما يمكن أن يتصوره المجتهد في سد الذرائع، بل منع الناس من وضع حوائجهم أمامهم وهم يؤدون الصلاة ذريعة في حد ذاته إلى محظور مؤكد من وجه آخر؛ لأن الناس لا يستغنون في كثير من الأحوال عن حمل حوائجهم، فلو حرمنا عليهم وضعها أمامهم في أثناء صلاتهم، لأدى ذلك: إما إلى تركهم الصلاة مع الجماعة في المسجد أو إلى انشغال أفكارهم حولها لو وضعوها خلفهم.
__________
(1) الاعتصام 1/ 211
(2) النووي على مسلم 6/ 168، وتحفة الأحوذي 3/56، وخصوصيات يوم الجمعة للسيوطي ص 31
(3) نفس المراجع السابقة: النووي على مسلم 6/ 167 وتحفة الأحوذي، وخصوصيات الجمعة
(4) الاعتصام 1/116(9/1553)
الفصل السابع
أثر القول بسد الذرائع
اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية
أثر القول بسد الذرائع:
إن القول بسد الذرائع له اعتبار في الفروع الفقهية، ويختلف هذا الأثر بمقدار اعتماد قاعدة سد الذرائع أصلا من أصول الفقه الإسلامي أو عدم اعتبارها.
ولما كان هذا الأصل معتبرا عند المالكية أكثر من غيرهم،قالو إن سد الذرائع من أصول مالك، مع أنه تقدم لنا في الفصل السادس من هذا البحث أن سد الذرائع معتبر في الكثير من الفروع الفقهية عند غالب أئمة الفقه الإسلامي.
ويؤيد هذا ما قاله ابن القيم: إن سد الذرائع أحد أرباب الدين إذا كان مفضيًا إلى الحرام، قال في إعلام الموقعين: " وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي " والأمر نوعان:
أحدهما: مقصود لنفسه.
والثاني: وسيلة إلى المقصود.
والنهي نوعان:
أحدهما: ما يكون النهي عنه مفسدة في نفسه.
والثاني: ما يكون وسيلة إلى مفسدة.
فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين (1) .
والمفضية للحلال قسم من قسمي الذريعة لأن الذرائع كما يجب سدها في النهي يجب فتحها في الأمر، إذا أفضت إلى مصلحة وهي بأقسامها الثلاثة:
على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة، وعلى هذا الاعتبار تكون الذرائع شاملة لنصف الدين.
والخلاف بين المذاهب إنما كان في التوسع في الأخذ بها والتطبيق في اعتبارها، وهذا ينشأ عنه من غير شك خلاف في كثير من الأحكام الشرعية والفروع الفقهية.
فبينما يحكم بعضهم على تصرفات تبدو من المكلف بالفساد والبطلان، ويمنع ترتب أثرها عليها، نجد الفريق الآخر يحكم عليها بالصحة والجواز، ويبني عليها آثارها المعتبرة شرعًا، وقد يوصف العقد بالبطلان والفساد كبيوع الآجال عند مالك وأحمد، ويحكم عليه بالصحة والانعقاد عند المالكية، وقد يكون العقد مكروهًا كما ذكرت الشافعية في بيع العنب لعاصره خمرًا؛ لأنه لا يتعين أن يعصر ليكون خمرًا.
__________
(1) إعلام الموقعين ج3 ص 171(9/1554)
ويكون أثر هذا الاختلاف ظاهرًا في فروع كثيرة من أبواب الفقه الإسلامي.
المثال الأول: نكاح المريض مرض الموت.
فإن الإمام مالكًا رحمه الله يقول: إن النكاح غير صحيح: دليله على ذلك هو سد الذرائع، وذلك أنه يتهم المريض بأنه يقصد من نكاحه إلحاق الضرر بالورثة حيث يدخل وارثًا جديدًا عليهم، فيمنع منه حتى لا يتخذ من نكاحه هذا ذريعة للتشفي من الورثة، وإدخال الضرر عليهم، يقول ابن رشد: " واختلفوا في نكاح المريض. فقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز، وقال مالك في المشهور عنه إنه لا يجوز. وسبب اختلافهم تردد النكاح بين البيع وبين الهبة، وذلك أنه لا يجوز هبة المريض إلا من الثلث ويجوز بيعه، ولاختلافهم أيضًا في سبب آخر وهو: هل يتهم على إضرار الورثة بإدخال وارث زائد أو يتهم؟ وقياس النكاح على الهبة غير صحيح" (1) .
وقد ذهب جمهور الفقهاء، وهم الحنفية والشافعية والحنابلة، إلى صحة نكاح المريض على أن لا يتجاوز صداق المرأة مهر مثلها
أما جمهور الفقهاء فقد استدلوا بعدة أدلة تبيح نكاح المريض:
1- ما رواه نافع مولى ابن عمر أنه قال: كانت ابنة حفص بن المغيرة عند عبد الله بن ربيعة فطلقها ثم تزوجها مرة أخرى وهو مريض لتشارك نساءه في الميراث وأجازوا هذا العقد.
2- القياس على صحة بيعه وشرائه، فكما أن بيعه وشراءه صحيحان فكذلك نكاحه ينبغي أن يكون صحيحًا.
3- إن النكاح من الحوائج وذلك لأن بقاء النسل يتوقف عليه، والمرء غير ممنوع من صرف ماله في حوائجه الأصلية.
المثال الثاني: اختلف الفقهاء فيمن مات وقد وجبت عليه زكاة ولم يؤدها.
ذهب مالك وأبو حنيفة ـ رحمهما الله ـ إلى أنه إن أوصى بها لزم الورثة إخراجها من الثلث، وإن لم يوص بها لم يلزمهم بشيء (2) .
واعتمادًا على سد الذرائع قال مالك بعدم لزوم شيء إذا لم يوص به؛ لأنه لو التزمت الورثة بذلك لأدى إلى أن يترك الإنسان زكاة ماله طول عمره اعتمادًا على أن الورثة سيخرجونها بعد موته، وربما يتخذ ذلك ذريعة للإضرار بهم.
__________
(1) بداية المجتهد ج2 ص 49
(2) العناية على الهداية ج8 ص466(9/1555)
سد الذرائع أداة لوقاية المجتمع من الفساد:
ويبدو من جميع ما ذكرنا من أمثلة وأدلة لكل مذهب في هذه الدراسة أن اعتبار سد الذرائع في الفروع الفقهية هو نوع من الحصانة للشريعة الإسلامية، تسلم به ممن يريد أن يستخدمها لأغراض نفسية، وهي في الآن نفسه ضابطة تقي النفوس البشرية من الانزلاق مع الأهواء والمفسدة.
ويبدو أننا في هذا الزمن، ربما نكون في أشد الحاجة إلى الأخذ بالاستقامة والمثل العليا، وسد ذرائع الفساد والحرام، لنحمي بها مجتمعاتنا من الميل إلى الميوعة والمنكر والإباحية والشر، والسقوط في أحضان الرذيلة، حتى نضمن لأنفسنا بناء مجتمع متضامن ومتماسك.
وإن قاعدة سد الذرائع تقيم الدليل على أن التشريع الإسلامي فيه عوامل إيجابية فعالة تدفع الإنسان دائمًا إلى ضبط النفس وتقوية الإرادة، ومقاومة الشر، وبذلك تكون شريعتنا حاملة في ذاتها لعوامل حصانتها.
وهو في الآن نفسه أصل من الأصول المهمة، يعزز كل التشريعات القائمة على تنظيم المصالح العامة ورعايتها، وبذلك يمكن الاعتماد عليه في جميع أوجه النشاط الاجتماعي والاقتصادي، كتحديد الأسعار ومقاومة الغش ومنع كل ما يدعم انتشار الفتنة والفساد والتحلل الجنسي وانتشار المشروبات الكحولية والمخدرات.
وقاعدة سد الذريعة التي وضعت لتقف سدا أمام كل ما يؤدي إلى الحرام يمكن أن تكون أداة فعالة وناجحة في يد المشرع الذي يسهر على إقامة تشريعات وقوانين تنظيمية تحمي المجتمع من الانهيار، وتقيه من عوامل التدهور والانحطاط.(9/1556)
الفصل الثامن
أمثلة لفتح الذرائع وسدها
أ - أمثلة لفتح الذرائع:
لقد تقدم لنا أثناء هذا البحث أن القرآن الكريم اتجه في تحقيق المصالح ودرء المفاسد ناحيتين:الأولى إيجابية، والثانية سلبية:
والإيجابية: تتمثل في أنها فتح لكل أبواب الخير، وإن شئت فقل: فتح الذرائع لكل خير وبر ومعروف؛ لأن الخير وصف يلزم كل أمر تمحض لمصلحة راجحة.
فما كان يؤدي إلى مصلحة فهو ذريعة، ويتجلى معنى فتح الذرائع في أن الله يوجب أمورًا لا لعينها بل لكونها وسائل وذرائع لأمور أخرى ثبت طلبه لها.
وشواهد فتح الذرائع كثيرة في القرآن والسنة والفروع الفقهية من ذلك:
1- السعي لأداء صلاة الجمعة والجماعة امتثالًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] .
وجه الاستدلال من الآية على فتح الذريعة: هو أن الله تعالى يأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة والسعي ليس وسيلة مقصودة لذاتها وإنما كان الأمر بوسيلة السعي إلى الصلاة لأنها ذريعة إلى إقامة الصلاة المفروضة كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وكذلك الأمر بترك البيع عند النداء لصلاة الجمعة لتحصيل فريضة السعي إلى الصلاة.
2- الأمر بإعداد القوة من السلاح والعتاد فالأمر بإعداد السلاح أمر واجب لا لذاته بل لتحقيق واجب هو القتال امتثالًا لقول الله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] .
3- الأمر بالافاضة من عرفات امتثالًا لقول الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 198 ـ 199] والإفاضة وسيلة لتحقيق مناسك الحج على الوجه المطلوب.
4- جواز بيع رديء التمر بدراهم، وشراء جيده بتلك الدراهم، فقد كان عامل الرسول صلى الله عليه وسلم بخيبر يشتري صاعًا من الجنيب (وهو أجود التمر) بصاعين من الجمع (وهو رديئه) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا، فهذه الذريعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتحها.
5- أباحت الشريعة دفع المال للعدو لتخليص الأسرى مع أن في دفع المال إليه تقوية له، وهي حرام؛ لأنه إضرار بالمسلمين لكن مصلحة الأسارى أعظم نفعًا، لأنها تقوية للمسلمين من ناحية أخرى.
6- تسعير ما يباع في الأسواق من نحو الأقوات فإنه ذريعة إلى حماية العامة أن يغينوا ويغلي الباعة عليهم ما يحتاجون إليه في كل يوم، فالإذن بالتسعير فتح ذريعة إلى مصلحة اقتصادية لا يستهان بها.
7- جواز حفر بئر في مكان لا يتضرر فيه غالبًا؛ لأن الفساد في حفرها يعتبر نادرًا، وبذلك كانت المصلحة في حفرها أرجح من احتمال ما قد يحدث نادرًا من سقوط أحد فيها.(9/1557)
ب -أمثلة لسد الذراع:
لقد قمنا أثناء عرضنا لهذا البحث بذكر أمثلة متعددة لسد الذرائع وفتحها عند مختلف المذاهب، سواء في تعريفنا للذرائع، أو في أقسامها، أو موقف أئمة المذاهب منها، كما بينا أن القرافي يقول: إن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح. والذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة.
واستجابة لما طلب منا في العنوان الثامن فهذه بعض الأمثلة لسد الذرائع:
1- مثال ما يؤدي إلى: أنظرني أزدك: لو اشترى ثوبًا بعشرة إلى شهر ولما حل الأجل جاء البائع يطلب العشرة ولم يكن عند المشتري ما يوفيه، فقال له: بعني سلعة يكون ثمنها عشرة نقدًا بخمسة عشر إلى أجل، لم يجز؛ لأنه يؤول إلى: أنظرني أزدك، وبيان ذلك: أن الزيادة في ثمن السلعة إنما كانت لتأجيل العشرة. وأصل هذه الصورة: قول مالك: في الموطأ: " فالرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل، فإذا حلت قال له الذي حل عليه الدين: بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدًا بمائة وخمسين إلى أجل: هذا بيع لا يصح، ولم يزل أهل العلم ينهون عنه " وقد بين الإمام مالك رحمه الله علة النهي بقوله: " وإنما كره ذلك لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكره آخر مرة، ويزداد عليه خمسين دينارًا في تأخيره عنه. فهذا مكرره ولا يصلح، وهو أيضًا يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية، إنهم كانوا إذا حلت ديونهم قالوا للذي عليه الدين، إما أن تقضي وإما أن تربي، فإذا قضى أخذوا، وإلا زادوهم في حقوقهم وزادوهم في الأجل" (1)
__________
(1) الموطأ: كتاب البيوع، باب: ما جاء في الربا في الدين 1/ 673، وانظر الزرقاني عليه 3/139(9/1558)
2- ومثال ما يؤدي إلى بيع ما لا يجوز متفاضلًا: إذا اشترى ما باعه بعشرة دنانير لأجل، بثمانية، نقدًا أو لدون الأجل، أو بثمانية، أربعة منها نقدًا وأربعة مؤجلة لدون الأجل الأول، لم يجز، لما يؤول إليه العقد من بيع ما لا يجوز متفاضلًا، وبيانه: أنه لما عادت السلعة إلى يد صاحبها اعتبرت ملغاة، وآل أمر العقدين إلى دفع ثمانية دنانير معجلة في عشرة مؤجلة.
3- مثال الحيل: كل أمثلة للذرائع إلى الربا أو إلى الممنوع بوجه عام يمنعه العلماء ولو لم يقصد العاقدان أو أحدهما التوصل إلى المحظور، فلو وجد القصد الفاسد منهما أو من أحدهما كانت الذريعة أولى بالمنع، وتدخل حينئذ في باب الاحتيال، ولما كانت الحيل الفاسدة مناقضة لسد الذرائع كان المنع منها من تطبيقاته المهمة عندهم، وقد فرق الشاطبي بين الحيل المحرمة والأخرى الجائزة، وضبط الأولى بأنها التي تهدف أصلًا شرعيًا، أو تناقض مصلحة شرعية، من إحلال حرام أو تحريم حلال أو إسقاط واجب.
4- منع بيع العنب لمن يتخذه خمرًا لما فيه من المعاونة على الإثم، قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولو وقع البيع فهو باطل إن علم البائع قصد المشتري ذلك، إما بقوله وإما بقرائن مختصة به، تدل على ذلك، وإن كان الأمر محتملًا كأن يشتريه من لا يعلم حاله أو من يصنع الخل والخمر معا ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر، صح.
وهكذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام، كبيع السلاح لأهل الحرب، أو لقطاع الطرق أو في الفتنة، وكذا بيع الأمة أو إجارتها لأجل الغناء، وإجارة داره أو دكانه لبيع الخمر فيها، أو لتتخذ كنيسة أو بيت نار أو أشباه ذلك من العقود التي يحكم عليها بالحرمة والبطلان.
5- منع خلوة الرجل بأجنبية لأنه ذريعة للزنا بها، لحديث: ((إياكم والدخول على النساء)) قال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال ((الحمو: الموت)) (1) . والحمو: أخو الزوج.
والخوف من أخي الزوج أكثر من غيره لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلو بها من غير أن ينكر عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم من عقبة بن عامر البخاري(9/1559)
خلاصة البحث
لما كان من الواجب على المسلم أن يتعرف طريق معرفة حكم الله في أي أمر من الأمور لاستخراج الأحكام من ينابيعها، كذلك وجب أن يتعرف على الأدلة التي نصبها الشارع لمعرفة الأحكام وهذه الأدلة كثيرة منها سد الذرائع.
والأصل في أدلة الأحكام هو النصوص، وهي الكتاب والسنة، وبقية المصادر ومنها سد الذرائع وهي كلها راجعة إليها.
والذرائع جمع ذريعة وهي لغة الوسيلة التي يتوسل بها إلى الشيء، وفي الاصطلاح الشرعي ما تكون وسيلة إلى الممنوع شرعًا، ومعنى سد الذريعة منعها بالنهي عنها، والذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، وكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة.
وقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا رجح فيها جانب المصلحة، وهي مبنية على الظنون، فكلما كان الغالب صدق الظنون بنيت عليه مصالح الدنيا والآخرة.
وفتح الذرائع لم يكن محل خلاف بين العلماء، بل الذي وقع فيه الخلاف هو سد الذريعة وما ورد من أن أصل الذرائع متفق عليه لا يناقض من أن هناك خلافًا في التسمية، وطريق التخريج ومجال التطبيق في الجزئيات، ويؤكده ما ذكره القرافي من تقسيم الذرائع إلى أقسام ثلاثة: ما أجمعت الأمة على سده، وما أجمعت الأمة على عدم منعه، وقسم اختلف فيه العلماء كبيوع الآجال.
والفرق بين السبب والذريعة، أن السبب ما وقع شرعًا لحكم لحكمة يقتضيها ذلك الحكم، كما كان النصاب سببا لوجوب الزكاة، بينما سد الذرائع هو كون الفعل مما يفضي إلى النتيجة الضارة التي يأباها الشارع.
أما الفرق بين الوسيلة والذريعة: فالمالكية لا يرون فرقًا ظاهرًا بين الذريعة والوسيلة فإذا كانت الذريعة من منع الجائز الذي يؤدي إلى فعل محظور وتحريم الوسائل يؤدي إلى نفس المعنى.
والشافعي الذي يقول بجواز بيع العينة لأنه يشتمل على عقدين صحيحين، يحرمه إذا تحقق مقصد التحيل فكان عند ذلك وسيلة إلى المحرم.(9/1560)
أما الفرق بين الحيلة والذريعة: فالحيلة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، وفرق العلماء بين نوعين من الحيل.
النوع الأول: ما يهدم أصلًا من الأصول التي اعتبرها الشارع أو يناقض مصلحة من المصالح التي راعاها الشارع فهذا نوع حرام وممنوع.
النوع الثاني: ما لا يهدم أصلا شرعيًا ولا يناقض مصلحة، وقصد به إحياء حق أو دفع ظلم كالنطق بكلمة الكفر إكراها بقصد إحراز الدم، فهو حلال وقد قسمت الحيلة تقاسيم كثيرة لاعتبارات متعددة.
والفرق بين المقاصد والذرائع: أن المقاصد هي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسها أما الوسائل فهي الطرق المفضية إلى المقاصد، وحكمها كحكم ما أفضت إليه غير أنها أخفض رتبة من المقاصد.
والفرق بين الغلو في الدين وبين الذريعة: أن الغلو في الدين موقعه المبالغة في إلحاق المباح بمأمور به أو بمنهي عنه شرعًا ـ أو إتيان عمل شرعي بأشد مما أراد به الشارع بدعوى خشية التقصير عن مراد الشارع.
وأركان الذريعة ثلاثة:
1- الوسيلة وهي الأساس الذي تقوم عليه الذريعة.
2- الإفضاء وهو الذي يصل بين طرفي الذريعة.
3- المتوسل إليه وهو الممنوع والمتذرع إليه.
أقسام الذرائع باعتبار الحكم هي أقسام ثلاثة عند القرافي: ما أجمعت الأمة على منعه وما أجمعت الأمة على عدم منعه وما هو محل اختلاف العلماء، وأربعة أقسام عند الشاطبي وهو يقول إن قاعدة الذرائع متفق عليها بين المذاهب وإنما الخلاف عنده في تحقيق المناط.
وعند ابن القيم هي أقسام أربعة كذلك بالنسبة إلى نتائجها: وكون مصلحة الفعل أرجح من المفسدة أو تكون المفسدة أرجح من المصلحة.
وإن الأخذ بالذرائع أكثر منه الإمامان مالك وأحمد بن حنبل، ودونهما في الأخذ به الإمامان الشافعي وأبو حنيفة النعمان ولكنهما لم يرفضاه جملة.(9/1561)
مالك وسد الذرائع:
سد الذرائع من الأصول المهمة في مذهب مالك وهو أكثر المذاهب اعتمادًا على رعاية مصالح الناس، وليست الذريعة إلا تطبيقًا عمليًا من تطبيقات العمل بالمصلحة، ويعتبر مالك أن سد الذرائع هو سد وسائل الفساد، فكل ما يؤدي إلى الفساد غالبًا فهو ممنوع من غير تقيد بكون ذلك الفساد قد نص عليه بنص خاص أو كان داخلًا في النهي عن الضرر والضرار، والذرائع ينظر فيها إلى نتائجها فإن كانت فسادًا وجب منعها وإن كانت مصلحة وجب الأخذ بها.
مذهب أحمد بن حنبل في سد الذرائع:
إن الإمام أحمد بن حنبل يعتبر سد الذرائع أصلًا صحيحًا في مجال التأصيل والاعتماد عليه دليلًا عليه في ميدان التطبيق؛ لأنه أصل أثبتت صحته النصوص من الكتاب والسنة وعمل السلف من الصحابة والتابعين ـ وإذا لم يجد نصًا لجأ إلى الأصل الخامس وهو القياس فاستعمله، ويدخل في جملة القياس الصحيح عند الحنابلة رعاية المصالح، ومن وجوه العمل بها سد الذرائع وفتحها ـ فهو ينظر إلى المآلات فيقررها ويمنع كل ما يؤدي في مآله إلى محرم.(9/1562)
مذهب الإمام الشافعي في سد الذرائع:
أبطل الشافعية العمل بسد الذرائع لسببين أثنين:
الأول: أن سد الذرائع مظهر من مظاهر الاجتهاد بالرأي، وهم لا يأخذون منه إلا بالقياس، وإن الاجتهاد بالاستحسان وغيره من الوسائل التي لا تعتمد على نص ثابت ومنها سد الذرائع اجتهاد باطل لا يمت إلى الشرع بصلة؛ لأن الأخذ بسد الذرائع أخذ بالظن، والشريعة عنده ظاهرية تنظر إلى صورة الأفعال ومادتها لا إلى مآلاتها أو بواعثها إذا لم يكن هناك دليل ظاهر على المآلات والبواعث.
مذهب الحنفية وسد الذرائع:
لا يقول الحنفية بسد الذرائع ولا يعني عدم ذكر الحنفية لسد الذرائع ضمن أصولهم عدم اعتبارهم لصحة العمل به. وذلك لأمرين.
1- قولهم بالاستحسان وهو باب يدخلون منه إلى العمل بالمصلحة وسد الذرائع.
2- عملهم بسد الذرائع بالفعل في فروع كثيرة.
مذهب ابن حزم في سد الذرائع:
أنكر ابن حزم سد الذرائع بناء على نزعته الظاهرية التي تقف عند حد ظواهر النصوص، وتبطل كل أدلة إلى أي من القياس والاستصلاح وما يتصل بها من استحسان وسد الذرائع.
هذا وقد ذكرنا في تعرضنا لكل مذهب أدلته والأمثلة التي اعتمدها في بناء مذهبه، كما تعرضنا إلى مقارنة بين كل المذاهب الخمسة التي ذكرناها مع بيان محل الاتفاق ومواطن الاختلاف.
كما ذكرنا أمثلة من الغلو في سد الذرائع التي ظهرت في مذهب مالك وانتقدها بعض العلماء.
ثم تعرضت إلى أمثلة من فتح الذرائع وأمثلة من سد الذرائع بدون تقيد بمذهب من المذاهب. والله أعلم.
مصطفى كمال التارزي(9/1563)
مقارنة بين الذرائع والحيل
ومدى الوفاق والخلاف بينهما
إعداد
حمداتي شبيهنا ماء العينين
مكلف بمهمة بالديوان الملكي المغربي
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
عندما ازدهرت الحضارة الإسلامية، استقطبت كل التطلعات الإنسانية، ثم امتد إشعاعها إلى غير الرقعة الإسلامية فأصبح الفكر الإسلامي إنتاجا حضاريا يتفيأ ظلاله بنو الإنسانية من غير المسلمين، لما قدم إليهم عطاءات تسامت بالإنسان، فاستلت رواسب الجاهلية العمياء، فمكن هذا الازداهار من نهضة علمية، لم تعرف لها الإنسانية مثيلًا قبل فقهاء الإسلام من خلال تعمقهم في الدراسات القرآنية والسنية، قال الله تعالى حاثا على التدبر في معاني القرآن والاستفادة من محتوياته: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] .
وقال عز من قائل {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الفهم والاجتهاد في قصة معاذ بن جبل عندما وجهه إلى اليمن، هذا التوجيه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تمسك به السلف الصالح، فكرسوا مواهبهم ومعارفهم لتقريب بعيد القرآن إلى عقول المسلمين ووضعوا ـ منهج التعامل، ليحاول العالم الاستفادة منه بطرق من المصطلح انفرد بها المسلمون وحدهم من بين جميع أهل الكتاب، وإذا سلكنا اليوم طريقهم وتتبعنا مناهجهم، تمكنا من فهم كثير من الأحكام حسب تطور وقائعها عبر الزمان ـ واستلمنا القيادة الفكرية لعالم حائر ومنفعل لا يدري أين يضع قدميه.(9/1564)
فالأحكام المأخوذة من الكتاب والسنة، أو المستنبطة من تلك النصوص هي: التي أعطت تلك السابقة الحضارية وهي وحدها الكفيلة إعادة الكرة اليوم لأول أمرها بالأمس.
فعلماء الإسلام حاولوا إيجاد الحلول لكل الوقائع التي تقذف بها الحياة إلى حاضر الإنسان، فخلص ذلك الإنسان من كثير من الضيق والحرج، وتبينت له الطريق المستقيم، ولقنته بعض الحيل لتجنبه الحرج في تطبيق حكم متشدد، مثل حيلة أيوب عليه السلام، وحيل يوسف مع إخوته، من خلال هذا المنهج القرآني اجتهد كثير من العلماء، إما ليجد مندوحة يخفف بها على المسلم تطبيق مباح لا تظهر فيه منفعة توازي ما يمكن أن ينجم عنه من مضرة، فنشأ بسبب هذا مبدأ الحيل التي تميز بأكثريتها الفقه الحنفي، ثم وقع الاتفاق على البعض منها ونشأ خلاف كبير حول أكثريتها، كما برز مبدأ آخر وأصل من أصول الفقه أطلق عليه: الذرائع، فوقع الاتفاق على بعض صوره أيضًا، بينما اختلف في كثير من حالاته، وقد تميز به المالكيون، وإن كان بعض فقهاء الحنبلية وافقهم في كثير منها، فلقد وجدت طائفة أن تطبيق بعض النصوص الظنية الدلالات على حالات لا يقطع بحصول المصلحة منها، وتوجد مظنة راجحة لنشوء المفسدة منها، ينبغي العدول عنه سدًا لذريعة ما يمكن أن ينشأ عن تطبيقها من مفسدة، ولمزيد من الإيضاح سأقسم هذه الدراسة إلى المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف موجز بالذرائع وبعض أحكامها العامة
المبحث الثاني: الذرائع في المذهب المالكي وموقف بقية المذاهب منها.
المبحث الثالث: العلاقة بين الحيل والذرائع ومدى التوافق والاختلاف بينهما.
ثم ننهي هذا العرض بخاتمة تكون صالحة للنشر والترجمة بحول الله(9/1565)
المبحث الأول
تعريف موجز بالذرائع وبعض أحكامها
التعريف: الذريعة جمع ذرائع يقال هو ذريعتي عند فلان بمعنى وسيلتي، وتأتي بلفظ (الذرعة) وتذرعت بفلان عند فلان تشفعت به عنده، وهي تؤدي معنى الوسيلة، ولذا يقال الوسيلة فيقصد بها الذريعة، وتقال الذريعة وتقصد بها الوسيلة، لتشابه ما ترميان إليه، (انظر التعريف اللغوي للذريعة في لسان العرب) .
أما عن مكانتها ووصفها ففيه خلاف، والراجح فيه أن الذريعة أصل من الأصول التي ذكرتها الكتب المالكية والكتب الحنبلية، بينما في المذاهب الأخرى لم ترد تحت هذا العنوان، وأيضًا المسميات التي وردت عليها يوجد فيها توافق واختلاف مع الصيغ والأحكام التي وردت عليها في المذهبين المالكي والحنبلي وفي الاصطلاح هي الطريق إلى الحرام، أو الحلال، ولذلك تأخذ حكمها مما أفضت إليه، فإذا كان حرامًا حرمت، وإذا كان مباحًا أبيحت، وإذا كان واجبًا وجبت؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لذا فانتبه.
وقد ثبت الأخذ بالذرائع وإعطاؤها حكم ما تؤول إليه بالكتاب، وهو قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] لأن اليهود اتخذوا من لفظة راعنا ذريعة شتم النبي صلى الله عليه وسلم فنهى الله المسلمين عن ذلك سدا للذريعة، ومن السنة كف النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين حتى لا يقال إن محمدا صلى الله عليه وسلم قتل أصحابه.
ومن ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الدائن عن أخذ هدية من المدين حتى لا يجر ذلك إلى الربا وجعل الهدايا في محل الفوائد.
وقال القرافي: إن السلف الصالح من الصحابة ورثوا المطلقة طلاقا بائنا في مرض الموت لكيلا يكون ذلك الطلاق ذريعة للحرمان من الميراث.
ومنها النهي عن قطع أيدي السارقين في الغزو حتى لا يلتحقوا بالمشركين، ولأجل ذلك قال ابن القيم: يمنع أمير الجند من إقامة الحدود أيام الحرب مع الكفار.
ومنها النهي عن الاحتكار فقال عليه الصلاة والسلام: لا يحتكر إلا خاطئ؛ لأن الاحتكار ذريعة إلى أن يضيق على الناس، ومن ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل عن شراء صدقته ولو وجدها تباع في السوق سداّ لذريعة العود فيها، وحتى لا يعود فيما خرج من يده ولو بعوض، وقد يكون ذلك ذريعة للتحايل على الفقير بأن يدفع إليه صدقة ماله ثم يستردها بطريق الشراء بغبن فاحش!(9/1566)
ولاحظ ابن القيم أن الذرائع اتبع جلها لدفع الفساد، وأيضا يوخذ بها لجلب المنافع، وهذا يؤيده ما قال القرافي من أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتباح وتندب كما سيأتي قريبا عن القرافي في كتابه الفروق، فهي حرام إن كان أداؤها للفساد قطعيًا، ومثل ابن القيم لهذه الحالة بمن يعمد إلى حفر بئر قريب من باب داره في طريق مظلمة، فهذه مظنة قطعية لسقوط المارة فيها فيجب منعه من ذلك سدا لذريعة ما يجره من فساد، فإذا كان أصل الفعل مأذونا فيه ولكن سيجر إلى فساد مقطوع به، فإنه يكون ممنوعا هنا بإجماع فقهاء المسلمين بسبب الضرر الذي سيترتب عليه، فيرجح جانب الضرر على جانب النفع الشخصي الذي يمكن أن يحصل لصاحب البئر أو غيره من أصحاب الأمثلة التي ذكرنا.
القسم الثاني: الذي لم تسد فيه الذريعة هو احتمال ضرر بعيد، يمكن أن تأتي في استخدام وسيلة للحصول على غرض مباشر ومؤكد مثل غرس العنب، فلا تسد الذريعة فيه خشية أن يعصر منه خمر؛ لأن ما يترتب على الفعل من منافع أكثر مما يمكن أن يتولد عنه من مضار فهذا النوع من الأعمال حلال لا شك فيه.
القسم الثالث: أن يكون الغالب على الظن ترتب المفسدة على الفعل لا من باب العلم القطعي ولكن من باب الظن الغالب، ففي هذه الحالة يرى الشاطبي، ونقل عنه أبو زهرة أن الظن الغالب يقدم ويؤخذ به، فيكون سد الذريعة أحوط حتى لا يقع الفساد؛ لأن الاحتياط في الاحكام الظنية أن تجري مجرى الأحكام القطعية، درءا لما يمكن أن يترتب عن الاحتمال من الراجح من وقوع الفعل المحرم (1) .
القسم الرابع: أن يكون أداؤه إلى الفساد كثيرًا، ولكن كثرته لم تبلغ الظن الغالب للمفسدة ولا العلم القطعي كالبيوع التي تتخذ ذريعة للربا، فهذه الحالات تأديتها للفساد كثيرة، فرأى مالك وأحمد أن سد الذريعة فيها واجب، وهذا القسم كما سنشاهد موضوع اختلاف بين العلماء.
فهل يحرم الفعل ترجيحا للفساد، أم لا يحرم ويؤخذ بأصل الإذن بالفعل؟ فالشافعي وأبو حنيفة رجحا جانب الأخذ بالأصل المباح ومالك وأحمد غلبا جانب الفساد المحتمل احتمالا قويا وقالا بسد ذريعته.
هذه التعريفات والتوضيحات يدرك منها أن الذريعة ما كان من قول أو فعل طريقا مؤديا إلى غيره، واصطلاح مفهوم سد الذرائع هو: منع ما يجوز حتى لا يسوق في تطبيقه إلى فعل ما لا يجوز، وكونه أصلا من أصول الشريعة لا خلاف فيه، ولكن التوسعة في تطبيقه نسبت إلى الإمام مالك بسبب تحرياته وحذره ثم توسع المالكية في سدها من بعده في كثير من المعاملات التي خالفهم جل فقهاء الأمصار في موقفهم منها، وإن كانوا لا يخالفونهم في أصل القول بالذرائع في الحدود التي يسوق فيها تطبيق الحالات المباحة إلى أرجحية الوقوع في المفسدة المنهي عنها (2) . ولقد مثلنا في عدة فقرات من هذا البحث بالحالات التي وقع الإجماع عليها وقسمها ابن القيم أربعة أقسام هي:
__________
(1) من كتاب الشاطبي بالمعنى وليس بالحرف.
(2) أخذته بالمعنى من الموافقات للشاطبي ج2 ص 249، وتابعه أبو زهرة في كتاب أصول الفقه ص 191(9/1567)
1- ذريعة تؤدي إلى المفسدة بدون شك وتلك مجمع على وجوب سدها كشرب المسكر والزنا وهذه محرمة بوسيلتها وغايتها.
2- ذريعة مباحة بحسب أصلها، ولم يستعملها المكلف في غير ما وضعت له، لكنها قد تجر إلى مفسدة إلا أن المصلحة فيها أرجح مثل النظر إلى المخطوبة، وكلمة الحق عند الحاكم الجائر فهذا النوع مستحب وقد يجب أحيانًا؛ لأن احتمال المفسدة فيه مرجوح، والاحتمال المرجوح لا يعتد به.
3- ذريعة مباحة بحسب أصلها، ولم يقصد بها المكلف غير ما وضعت له، لكنها تسوق حسب الغالب إلى المفسدة، كسب أصنام المشركين أمامهم خصوصا إذا كان سيدفعهم إلى سب الله عز وجل فابن القيم سجل الإجماع على المنع سدا لذريعة ما يمكن أن يجر إليه من مفسدة راجحة، فمن ذلك قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] الآية، ومن ذلك أيضا ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) قالوا: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) متفق عليه واللفظ للبخاري عن عبد الله بن عمر، ومنها نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشبهات بقوله عليه الصلاة والسلام: ((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.)) .
4- ذريعة مباحة بحسب الأصل ولكن المكلف قصد بها التوسل إلى مفسدة كهبة المال على رأس الحول فرارا من الزكاة، وعقد نكاح المحلل وبيع العينة، فأصل هذه المسائل مباح، ولكن استخدام المكلف لها في هذه الصور والغايات جعلها محرمة، ولا خلاف في وجوب سد ذريعتها بين أئمة الدين لوضوح وجه المفسدة التي تفضي إليه.
ونختم هذا المبحث بملخص لكلام ابن القيم في تعريفه لسد الذرائع فقال: لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت أسبابها وطرقها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والكراهة يجب المنع منها بحسب إفضائها إلى غايتها وارتباطاتها، ووسائل الطاعات والقربات يجب الإذن بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود.(9/1568)
المبحث الثاني
الأحكام العامة للذرائع
إن فتح الذريعة أو سدها يترتب بحسب الأثر الذي ينجم عن استخدام الذريعة فيحكم عليها بحسب الهدف الذي يتحقق إما باستعمال سدها أو تطبيق فتحها، فإذا تمسكنا بسدها ولم نقم بعمل مفيد راجح المنفعة فتخلينا عنه سدا لذريعة ظن بعيد ففاتتنا المصلحة المحققة خشية الوقوع في احتمال بعيد الوقوع لمفسدة، كان هذا السد مذموما لأنه فوت مصلحة محققة خشية الوقوع في مضرة بعيدة الاحتمال، وإذا فتحنا الذريعة بتطبيقها من أجل البلوغ إلى مصلحة ظنية الوقوع بعيدة احتمال التحقق أيضا يكون سدها أفضل من فتحها، ومن هنا يمكننا أن نقول بان سد الذريعة أو فتحها أمور نسبية تستخدم بحسب كل حالة على حدة، فليس لدينا قاسم مشترك يمكننا من فتح الذريعة فيكون فتحها محمودا إذا تحقق أو العكس، بل الدراسات والقواعد والتطبيقات في مختلف المصادر التي بين أيدينا تجعل نسبية الذريعة في الفتح أو السد هي الحكم الأسلم، ولعل مواقف الفقهاء التي سنسوقها تباعا توضح لنا ذلك.
إننا نجد بعض فلاسفة الغرب يتخذ الذريعة الباطلة إلى إدراك المصلحة شيئا مقبولا فهذا الفيلسوف الألماني (نيتشه) قرر أن الباطل إذا كان وسيلة ناجحة لحفظ الحياة، كان خيرا من الحقيقة، وهذا يسير قريبا من المبدأ الذي أباح فك أسرى المسلمين بمال يعطي لسلطان الكفار، فإعطاء المال للكفار حرام، ولكن إذا قصد به إحياء الأرواح المسلمة، كان جائزا على أن المبدأ الفلسفي لا يبقى على إطلاقه في كل الأشياء، إذ توجد بعض الغايات لا يجوز استعمال الوسيلة الباطلة لتحقيقها، فمن شارك في اليانصيب ليبني مسجدًا، أو مدرسة بالمال المتحصل منه، فشرف الغاية ونبل المقصد هنا لا يبرر استخدام تلك الذريعة المحرمة، بل الذي يجوز هو دفع خطر محقق يعرض روح الإنسان أو ماله لخطر لا مفر منه، إذا لم تستخدم تلك الوسيلة شريطة أن لا تكون لمن يستخدمها طريقة غيرها تمكنه من تجنب الخطر.
ولكن الفلاسفة تنزلق نظرياتهم عن الصواب عندما نجد هدفهم هو تحقيق النتيجة ليس شيئا غيرها، ذلك أنهم يطلبون هدفا معينا ولا تهمهم الوسائل أو الذرائع التي يمكن أن تستخدم لتحقيقه، فعندهم أن " أية فكرة أو رأي أو اعتقاد ما دام للإنسان فيه قيمة علمية فهو ذريعة بصرف النظر عن كونه صحيحا أو باطلا أو خطأ حقيقيا أو وهميا " (1) .
إذا كانت الذرائع في هذا المذهب لا تهتم بالأحكام، فإنها تهتم باستخدام الجانب اللغوي للذريعة كوسيلة من وسائل البحث العلمي إما عن الذات أو الأفكار، والآراء وبالتالي يبين أن الذريعة من المسميات، التي استخدمتها جل المعارف الإنسانية.
أما فقهاء الإسلام فإنهم بحثوها كما سلف في المقدمة انطلاقا من الغرض الذي يوصل إليه فتحها، وسدها فبما أن الذريعة هي الوسيلة، فإنها أصبحت ينظر إليها بحسب ما يمكن أن ينشأ عنها من المقاصد، لذلك كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة.
__________
(1) كتاب سد الذرائع في الشريعة الإسلامية تأليف محمد هشام البرهاني "64" الريح(9/1569)
الذريعة عند المالكية:
قال القرافي بالحرف: " تفرع عن هذا الفرق فرق آخر، وهو الفرق بين كون المعاصي أسبابا للرخص، وبين قاعدة مقارنة المعاصي لأسباب الرخص، فإن الأسباب من جملة الوسائل، وقد التبس هاهنا على كثير من الفقهاء، ولذلك العاصي بسفره ليست لديه رخصة الصوم ولا قصر الصلاة، فهذه الأعمال الغير مشروعة يجب فيها سد الذريعة".
ومن الرخص التي قال المالكية بعدم جوازها سدا لذريعة المعاملات الربوية، أنواع من عقود " ضع وتعجل " ومن أمثلة ذلك الخلاف الحاصل في أن من باع شيئا ما، كما إذا اشترى بضاعة بمائة درهم إلى أجل ثم ندم البائع فسأل الإقالة، ودفع مقابلها عشرة دراهم نقدا أو إلى أجل، فالمالكية منعوا ذلك فرارا من سلف جر منفعة، ومن هذه الصور: أن يبيع الإنسان الشيء بثمن ثم يشتريه بأقل من ثمنه الأول نقدًا، ليستقر في ذمته الفرق بين الثمن الأول والثاني دون مقابل، فعند مالك هذا غير جائز، والشافعية قال بعضهم إنه استئناف بيع جديد ولا بأس به، وعند مالك لم يجزه خوفا من أن يكون سلفا جر نفعًا، أو بيع الذهب بالذهب بالتفاضل، أما إن كان البيع ثم بنقد الثمنين ثم وقعت مبايعة أخرى خفض فيها أحدهما ما أخذ سواء بأجل أو بغير أجل، فهذا لا خلاف في جوازه؛ لأنه لا يمكن أن يحسب ذريعة لأحدى المخالفات المنصوص عليها في البيوع.
ومن ذلك أيضا بيع طعام بطعام قبل القبض، منعه مالك وأبو حنيفة، وأجازه الشافعي والثوري والأوزاعي، وحجة من لم يجزه أنه شبيه ببيع الطعام نساء، والذين أجازوا فسروه بغير ذلك الافتراض، إذا قالوا: لا فرق بين أن يشتري الطعام من غير المشتري، وبين أن يشتريه من عنده هو نفسه، واعتبره مالك ذريعة إلى بيع الطعام قبل القبض، وقد ألحقت هذه الوقائع بباب الحيل المحرمة في كتابي الصورية بين الشريعة والقانون، وقد أتيت بها في باب الذريعة اقتفاء بكثير من العلماء الذين درسوها تحت اسم ذلك الباب، وتتجلى الذريعة من افتراض كثير من الصور منها: أن يشتري رجل من آخر طعاما إلى أجل معلوم، فإذا حل الأجل قال الذي عليه الطعام ليس عندي طعام ولكن اشتري منك الطعام الذي وجب لك علي، فقال له الآخر هذا لا يصح شرعًا؛ لأنه بيع الطعام قبل القبض، فيقول له بع طعاما مني وأرده إليك فتتم بذلك وسيلة جائزة في شكلها ولكنها جرت إلى محرم في جوهرها، هذه أيضا من الصور التي حرمها مالك سدا لذريعة المبايعات الربوية، وأجازها الشافعي لأن من قواعده عدم الأخذ بالتهم، فالذريعة في هذه الأشياء هي اتخاذ وسائل ظاهرة الجواز لتمرر بواسطتها تصرفات حرام، وقد أورد أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام صورا كثيرة لذرائع اتخذت، فأباح بعض فقهاء الأمصار بواسطتها تصرفات صريحة حرمتها في نصوص كثير من الآيات والأحاديث ونظريات كتب الأصول والفروع (1) .
__________
(1) انظر 2 ص 153 الفروق للقرافي(9/1570)
وأشار أبو زهرة في كتابة على الأصول بما مضمونة: ومن الذرائع المحرمة ما يكون أداؤه إلى الفساد كثيرا ولكن كثرته لم تبلغ مبلغ الظن الغالب للمفسدة، ولا العلم القطعي، وذلك كالبيوع التي تتخذ ذريعة للربا، كعقد سلم يقصده به عاقداه ربا قد استتر في بيع كأنه يدفع ثمنا قليلا لا يتناسب مع ثمن البيع وقت الأداء قاصدا بذلك الربا فإن هذا تأدية إلى الفساد أم أنه لا يؤخذ به فيفسد العقد ولا يحرم الفعل أخذا بالأصل، وهو الإذن بالفعل، فأبو حنيفة والشافعي رجحا جانب الإذن ولم يحرما الفعل ولم يفسدا التصرف، وذلك لأن الفساد ليس غالبا فلا يرجح جانبه؛ لأن أساس التحريم أو البطلان هو أنه ذريعة إلى باطل فاسد حرام، ومع عدم الغالبية أو القطعية، لا يكون العقد أو الفعل ذريعة للبطلان فلا موجب للتحريم؛ لأن الأصل هو الإذن ولا يعدل عنه إلا بقيام دليل على الضرر فيه، وما دام الأمر ليس غلبة الظن فإن أصل الإذن باق (1) . هذا عن بعض آراء الحنفية والشافعية في الموضوع حيث لم يترددا في قول يسوق إلى ترك المباح خشية أن تجر بعض صور تطبيقه إلى المحرم ودون القطع على ذلك، وهذا الموقف اتسم بواقعية كبيرة في نظري حول ممارسة المسلم لتصرفاته داخل دائرة المباح مع التسلح بسلاح التشبث بأوامر الشرع كرادع عندما تصل الأمور إلى إمكانية الوقوع في الحد الأدنى من الحرام.
__________
(1) تنقيح الفصول ابتداء من صفحة 200، والفروق ج2 ص 32(9/1571)
أما الإمام مالك وأحمد فإنهما نظرا إلى الموضوع من وجهة نظر أخرى، حيث اتبعا قاعدة الراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه واحترازا من إمكانية انتهاك حدود الله، يتعاطى بعض المعاملات المنصوص على حرمتها، فإنهما قالا بمنع التصرفات التي يمكن أن تجر إليها، سد لذريعة انتهاك الحرمة الوارد فيها نص قطعي، فقررا أن الفعل إذا حصل مشوبا ببعض تلك العيوب السالفة فإن العقد يبطل والتصرف يحرم، للاحتياط لأنه مع كثرة الضرر مع أصل الإذن، فإن ذلك ينجم عنه وجود أصلين هما: الإذن الأصلي، والأصل الثاني، ما في الأصل أو العقد من كثرة الإضرار بغيره فيرجح حينئذ جانب الضرر لكثرة المفاسد؛ لأن دفع المضار مقدم على جلب المصالح، ويستشهد لهذا الرأي بآثار صحيحة وردت بشأن تحريم أمور كانت في الأصل مأذونا فيها لأنها تؤدي في كثير من الأحوال إلى مفاسد، إن لم تكن غالبة ولا مقطوعا بها فإن الاحتمال القوي وارد في إمكانية حصولها، مثل الخلوة بالمرأة الأجنبية، وكسفر المرأة من غير مصاحبة زوجها أو ذي محرم منها فأتى التحريم عند أصحاب هذا الرأي نتيجة لما يترتب على ذلك الإجراء من مفاسد، ومع كثرتها ليست مقطوعة ولا غالبة، فأصبح سد الذريعة فيها أولى حتى لا يقع المسلم فيما تؤدي إليه من مفاسد وكذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والسلف حتى لا يجر إلى الربا، وكما قلنا قبل بأن القرافي قال بأن هذه الحالات وصلت إلى أزيد من ألف، وعبر عنها بالذرائع وعزا لمالك سدها جميعا وخالفه الشافعي في ذلك كله.
فمعنى هذه الذرائع في المذهب المالكي: هو حسم مادة الفساد دفعا لها، فمتى كان الفعل السالم وسيلة للمفسدة فمالك حرمه، قال ابن العربي إنه كل عمل ظاهره الجواز يتوصل به إلى المحظور كما فعل اليهود في احتيالهم لصيد الحيتان، ففي بيوع الآجال كما تقدم، مالك خشي أن يكون سلفا جر منفعة توصل إليه الطرفان بحيلة توهم أن الأمر يقتضي مبايعات تمت على الشروط التي يجب توافرها في أي عقد للبيع، أما الشافعي فحمل الأمر على الظاهر وترك ما في نيتهما إليه فالله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.(9/1572)
قال التنوخي في شرحة لكتاب زروق على الرسالة: " قال ابن الحاجب: بيوع الآجال لقب لما يفسد بعض صوره لتطرق التهمة إليه لأنهما قصدا إلى ظاهر جائز ليتوصلا به إلى باطل ممنوع، حسما للذريعة، واعترضه ابن عبد السلام لأنه تدخله كثير من المبايعات التي لا تدخل حتى في بيوع الآجال (1) . لظاهر فسادها مما يسهل على غير المشبعين بالروح الإسلامية أن يتعاطوا من خلالها كثيرا من أشكال عقود الربا، أو سلفا جر منفعة تحت شكل تلك الوقائع التي تبدو في الظاهر غير محرمة"
قال أحمد بابا التنبكتي في شرحه نيل السول على مرتقى الأصول أثناء كلامه على الذريعة: " إذا أوصلتنا إلى أحسن المقاصد تكون محمودة، مثل السعي إلى الجمعة، أو الذهاب إلى الحج، ومثل عطش المجاهدين، وما يكتب لهم من أجر أثناء سيرهم إلى الجهاد بناء على قول الله عز وجل {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] ٍ لقد حصل لهم هذا الثواب بسبب توجههم للجهاد، كما ثبت لأهل الحج أجر بمجرد التوجه إلى الديار المقدسة بنية الحج، وكذلك التوجه إلى المسجد للصلاة يكتب به أجر، وليس الذهاب إلى الجهاد أو الجمعة أو الحج من صميم تلك الفرائض الثلاثة، وإنما هي وسائل لتحقيقها فحمدت بسبب ما تؤدي إليه واكتسب من عملها أجر، ولهذا هذه الذرائع محمودة عكس التي تؤدي إلى محرم، واستدرك صاحب نيل السول استدراكا هو الذي نستشهد به من كلامه إذ قال: ولكن اتباع حكم الوسيلة لحكم ما افضت إليه ليس على إطلاقه، فقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة لأنها أفضت إلى مصلحة راجحة كالتوصل إلى فداء أسارى المسلمين بدفع مال للنصارى، وإن كان حراما عليهم لأنهم مخاطبون عندنا بفروع الشريعة، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقتتل مع صاحب المال ".
__________
(1) أحمد بن أحمد بن عيسى الفاسي المعروف بزروق على الرسالة ج2، 140(9/1573)
أما قسم الذرائع الثالث الذي لا تظهر فيه مصلحة راجحة أو مقطوع بها، فإن مالكا حرمها، لأنها إما أن تسبب فعل الحرام أو إذاية محتملة احتمالا قويًا، وإلى ذلك أشار ابن عاصم في مرتقى الأصول في الضروري من علم الأصول بقوله:
وقسمها الثالث عند مالك
معتبر لديه في المسالك
كمثل دعوى الدم دون الما ل
في رأيه والبيع للآجال
فدعوى الدم التي لا شهود فيها، غيره من العلماء قال بتوجيه اليمين فيها على المدعي عليه " المتهم " بينما مالك لم يوجه إليه فيها اليمين خشية إذاية أعراض الناس بسبب تهم لا حجة عليها، وقد اتبع في المال القاعدة المبنية على الحديث الشريف " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " ففي هذه وافق غيره من فقهاء الأمصار وفي الأولى انفرد بسد الذريعة فيها اعتبارا لما بينا عنه حسب شارح مرتقى الأصول.
وما اتفق عليه من سد الذرائع منع سب الأصنام عند من يعلم أنها إن سبت بمحضره سيسب الله، وإليه أشار ابن عاصم بقوله:
وعندهم سد الذريعة انحتم
في مثل الامتناع عن سب الصنم
وكذلك اتفقوا على منع حفر الآبار في الطريق خشية سقوط المارة فيها فهذه وسائل اتفق العلماء على سدها.
بينما لم يتفقوا في كثير من الحالات التي قال بها مالك.
وأيضا لقائل أن يقول: إن السكنى المشتركة يمكن أن تؤدي للزنى، فهذا الأدعاء لم يقل أحد من الأئمة به وليس داخلا في حكم سد الذرائع خشية أن تجر للمخالفة أو للمضرة لأن احتمال ذلك التصور بعيد جدًا، ولا يوازي ما ينجم عن تلك الإجراءات من مصلحة، ولذلك إذا قربت المصلحة، وبعد شك المخالفة حصل الإجماع على عدم الأخذ بها حتى لا تعطل نظرية المباح الواسعة في الشريعة الإسلامية وإلى ذلك أشار ابن عاصم بقوله:
وبعضها لم يعتبر كالحجر
من اغتراس الكرم خوف الخمر
إن المبالغة في سد الذرائع نسبه العلماء للمالكية ولكتب الحنبلية، ولكن الأحكام التي اشتملت عليها الذرائع في المذهبين المذكورين موجودة في غيرهما من كتب الحنفية والشافعية تحت مسميات أخرى، وإلى ذلك أشار القرافي في كتاب الفروق بما مضمونه، وربما عبر عن الوسائل بالذرائع وهو اصطلاح أصحابنا، وهذا اللفظ المشهور في مذهبنا " يعني مذهب مالك " وعرف سد الذرائع بأنه حسم مادة وسائل الفساد، فإذا كان الفعل مباحا ولكنه سيفضي إلى فساد منع عند المالكية.(9/1574)
ثم قال القرافي: وليس سد الذرائع خاصا بالمذهب المالكي وحده كما توهم البعض، بل الذرائع ثلاثة أقسام: قسم أجمعت الأمة على سده ومنعه، وحسمه كحفر الآبار في طريق المسلمين فإنه وسيلة إلى إهلاكهم ومثل إلقاء السم في أطعمتهم، وكسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه سيسب الله تعالى عندما نسب تلك الأصنام، وقسم أجمع علماء الأمة على عدم سده، وذلك مثل زراعة العنب خشية أن يصنع منها الخمر فهذا لم يقل به أحد من علماء الأمة، وكذلك لم يقل أحد منهم بمنع التجاور خشية تعاطي الزنا هذه الحالات أجمعت الأمة على عدم استخدام الذريعة لسدها إطلاقا أما القسم الثالث فهو الذي اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا؟ كبيوع الآجال، فمالك قال بمنعه، ومثل له القرافي بمن باع سلعة بعشرة إلى آخر الشهر ثم احتاج للدراهم ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر، فقد خرجت من يده خمسة، ثم دفع فيها عشرة، وهذا سلف جر منفعة توسلا بصورة ظاهر البيع، ثم منع مالك هذه الحالة، بينما الشافعي أجازها لحمل الأمر على ظاهره الذي هو بيع سلعة بثمن مرتفع إلى أجل، وقال القرافي: إن هذه المسألة تفرعت عنها ألف مسألة اختص بها مالك، وخالفه الشافعي فيها جميعًا، وكذلك يقول القرافي اختلف في النظر إلى النساء هل يحرم لأنه يؤدي إلى الزنى أو لا يحرم، والمقصود من النظر نظر المرأة في لباسها بحيث لا يظهر من الحرة إلا وجهها ويداها، أما غير ذلك من جسم المرأة فيحرم النظر إليه إذا كان عاريا اتفاقًا.
ومن ذلك الحكم بالعلم هل يحرم لأنه وسيلة للقضاء بالباطل، من طرق لقضاة المنحرفين، أو لا يحرم؟ وكذلك اختلف في تضمين الصناع لأنهم يغيرون أصل السلعة بصناعتهم فلا يعرفها ربها فهل يضمنون سدا للذريعة؟ أم لا يضمنون قياسا على غيرهم من الأمناء؟ فمالك قال بسد هذه الذرائع حسب ما نقله القرافي، ثم قال بأن الشافعي خالف المالكية فيها ولم يقل بسدها.(9/1575)
وقال ابن الشاط: وحول قاعدة الوسائل وقاعدة المقاصد بأن حكم الوسائل يجب أن تنبني على قاعدة ما لا يتم واجب إلا به فهو واجب، قال ابن الشاط في عمدة المحققين هذا ليس على إطلاقه لأن ذلك مبني في الأصح على قاعدة أن ذلك غير لازم فيما لم يصرح الشرع بوجوبه.
وكرر القرافي القول: بأن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتباح وتحرم، وحول كثرة المسائل التي استخدمت فيها الذريعة أورد ابن القيم تسعة وتسعين مثلا لسد الذرائع كلها رفع الحكم بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسجل خلافا في تلك المسائل، والتي منها على سبيل المثال: النهي عن سب الأصنام، عند من سيسب الله وقد تقدم الكلام عليه، ونهي النساء عن ضرب أرجلهن بعضها ببعض ليعلم ما يخفين من زينتهن فمنعن من ذلك لكيلا يكون ذريعة لإغراء الرجال على تعاطي الزنا معهن، وذلك لقول الله عز وجل: {لَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] ومنها إلزام الموالي والأطفال بالإذن من لم يبلغ الحلم منهم في أوقات معينة خشية اطلاعهم على العورات وذلك لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] ومنها عدم تنفير أعداء الله بالقول السيئ حتى لا يكون ذلك ذريعة لتنفيرهم من الإسلام، قال الله {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] وقال الله أيضا {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ومن ذلك نهي الله عن البيع وقت صلاة الجمعة حتى لا يتخذ ذلك ذريعة للتهاون بها فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] ومن ذلك تحريم القليل من المسكر حتى لا يتخذ ذريعة لحسو الكثير، ومن ذلك النهي عن بناء المساجد على القبور لئلا تتخذ تلك القبور أوثانا يسوق الاعتقاد فيها عند من لا يعرف حكمه إلى الإشراك بها ومن تلك الصور أيضا تحريم الجمع بين الأختين والمرأة وخالتها حتى لا يتسبب ذلك في قطع الرحم بينهما.(9/1576)
هذه نماذج من كثير من الوقائع التي كان سد الذريعة فيها محل إجماع عند كل الأئمة أتينا بها أثناء تحليلنا للأحكام العامة للذرائع لنبرهن بها على أن مبدأ الذرائع كأصل من أصول الفقه ليس عليه خلاف، وإن عدم المبالغة فيها أقرب إلى الإجماع، أما أحكام الذرائع عند المالكية والحنابلة فقد ذكرنا بعضها وسنبسط بعض القول فيها في الفقرات القادمة من هذا المبحث، لقد طبق ابن القيم سد الذريعة على كثير من أعمال الإنسان من عبادات ومعاملات، حتى أوصلها إلى ذلك العدد الذي أشرت إليه أعلاه ومن تلك الأمثلة حول سد الذريعة في المعاملات الجائزة حتى لا تسوق إلى تدليس أو غش قال: " الوجه الحادي والستون " أنه لا تتبع السلع حيث تباع حتى تنقل عن مكانها، وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى جحد البائع البيع وعدم إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح بها، فيغيره الطمع وتشح نفسه بالتسليم كما هو الواقع، واكمل هذا المعنى بالنهي عن ربح ما لم يضمن (1) ، وهذا من محاسن الشريعة وألطف باب لسد الذرائع.
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم ج3 ص 149، وتجدر الإشارة إلى أنه يرفع النهي هنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم(9/1577)
أما سد الذرائع عند الأصوليين، فمنهم من جعله دليلا وأدخله في مصادر الفقه، فالقرافي في تنقيح الفصول جعل تلك المصادر تسعة عشر، وعد الذريعة في الرقم الثالث عشر (1) وكذلك عدها صاحب البهجة عند مالك فقال: ولم تزد تلك المصادر على ستة عشر من بينها سد الذريعة، ولا غرابة في هذه الأهمية عند مالك لأنه عرف تشبثه بالذرائع أكثر من غيره وتلك الأصول عند مالك هي: " القرآن الكريم يشتمل على خمسة من تلك المصادر وهي: نصه، وظاهره، وهو العموم، ودليله، وهو مفهوم المخالفة، ومفهومه، وهو باب آخر، ومراد مفهوم الموافقة، وتنبيه، وهو التنبيه على العلة كقوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) [الأنعام: 145] ، ومن السنة مثل هذه الخمسة، والإجماع والقياس، وعمل أهل المدينة، وقول الصحابي، والاستحسان، والحكم بسد الذرائع، ومراعاة الخلاف".
والحقيقة أن مواقف الأصوليين من وصف هذا المبدأ لا يمكن من الحكم بإعطائه اسما معينا ننعته به، فمنهم من جعله مصدرا وهم الذين تقدموا ومنهم طائفة جعلته وصفًا، فابن تيمية جعلها قاعدة، وبين أن الأدلة عليها أكثر من أن تحصي، وذلك يثبته ما رأينا قبل عند تلميذه ابن القيم الذي أورد تسعة وتسعين أثرا جلها مرفوعا للنبي عليه الصلاة والسلام، أورد ابن تيمية ذلك في الجزء الثالث من فتاويه، واستطرد كثيرا من الآيات والأحاديث على أنها قاعدة من قواعد الفقه، فقال بأن شواهد هذه القاعدة أكثر من أن تحصى، أما الشاطبي اقتفاء، بأعمدة المذهب المالكي فقد جعلها أصلًا، والشيخ محمد أبو زهرة جعلها أيضا مصدرًا، هذا كله تأكيد على ما سبق أن قال القرافي بأن القول بسد الذرائع ليس من أصول المذهب المالكي وحده، بل إنها قاعدة، أو أصل، أو وصف متبع عند كل المذاهب، لكن الخلاف الحاصل هو في التوسعة أو عدمها عند كل مذهب على حدة، وهذا ما سنحاول أن نستخلص منه بعد الأمثلة في الفقرات التالية.
__________
(1) تنقيح الفصول ص 200 ط الثانية
(2) كتاب سد الذرائع لمحمد هشام البرهاني ص 127 أخذا عن موسوعة جمال عبد الناصر الجزء النموذجي 16 وهو مثبت فعلا في المكان المذكور(9/1578)
الذرائع عند فقهاء المالكية: قال خليل بن إسحاق في المختصر: " ومنع للتهمة ما كثر قصده، كبيع وسلف، وسلف بمنفعة، لا ما قل: كضمان بجعل أو سلفني واسلفك، فمن باع لأجل ثم اشتراه بجنس ثمنة من عين وطعام وعرض " إلى آخر الفصل.
لقد تضمن صورا كثيرة من المبايعات التي تعقد وفق أحكام بيع جائز في الظاهر، لكنه يمكن أحد الطرفين من منفعة غير جائزة، كأن يحصل على منفعة درها عليه سلف، قال ابن عرفة: ومنع كل بيع جائز في الظاهر مؤد إلى ممنوع في الباطن كثر قصده فيمنع للتهم، كبيع وشرط سلف، وهو جائز في الظاهر لا خلاف في المذهب في منعه، أو سلف بمنفعة لما فيها من الزيادة، والنفوس مجبولة على حبها، ولا فرق بين أن يكون المتبايعان قصدا الممنوع وتحيلا عليه بالجائز في الظاهر أو لم يقصداه، وإنما آل أمرهما إلى ذلك. وفي التوضيح أن المتهم به كالدخول عليه إلا أن الداخل عليه آثم آكل للربا، وعند قول المختصر " لا ما قل " معناه لا يمنع البيع الجائز في الظاهر، خلاف داخل المذهب، ذكره عليش في شرح منح الجليل، وعزا لابن الحاجب بعد سرد ذلك الخلاف، أن ظاهر المذهب جوازه لبعد قصده، وهذا الذي رجحه المختصر بقوله " لا ما قل ".
ثم تعرض لبيوع الآجال فقال: وعن الجواهر أن المعتبر فيها ما خرج من اليد وما عاد إليها، فإن جاز التعامل، عليه مضى وإلا بطل، وبعد ضرب أمثلة كثير من الحالات التي يبدو فيها أنها تجعل العقد الظاهر وسيلة لتمرير النتيجة الفاسدة بين المتعاقدين قال: " إن وجدت في ذلك وجها محرمًا، أو أنهما عقدا عليه فسخت عقدهما، فامنع من هذا البيع لما تقدم من وجوب حماية الذرائع" ومن صور تلك المبيعات إذا باع المشتري السلعة لثالث ثم اشتراها البائع الأول من الثالث فيجوز، ألا يكون الثالث ابتاعه من المشتري الأول بالمجلس بعد القبض ثم ابتاعه الأول منه بعد في موضع واحد فيمنع لاتهمامهما بجعل الثالث محللا لابعاد التهمة عن نفسها، وقد فرع من هذه الصورة عدة تفريعات أجاب عنها بما نسب لابن القاسم: أنه من المكروه عند مالك ومنعه ابن رشد سدا للذرائع، وعن ابن القاسم في قول آخر أنه مكروه عند المالكية ويضرب عليه، وهذه البيوع التي أوصلها، تسعة عشر صورة كره منها خمسة عشر حالة (1) .
__________
(1) منح الجليل على مختصر خليل ج5 ص 81(9/1579)
أما الخرشي فقد صدر شرحه لفصل المختصر المذكور بمنع بيوع الآجال التي عبر عنها المختصر " ومنع للتهم " وأيد العدوي هذا الحكم، ثم قال الخرشي: " كل ما قل القصد إليه لا يمتنع للتهمة إليه وإنما يمتنع صريحة" (1) .
قال ابن رشد في المقدمات تحت عنوان بيوع الآجال: أصل ما بني عليه هذا الكتاب " يعني كتاب بيوع الآجال " الحكم بالذرائع، ومذهب مالك رحمه الله القضاء بها والمنع منها، وهي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور ... إلى أن قال: ومنع الذرائع: الشافعي وأبو حنيفة، واصحابهما، ورجح ما ذهب إليه مالك لأن ما جر إلى الحرام وتطرق به إليه حرام مثله: وقال: " وأبواب الذرائع في الكتاب والسنة يطول ذكرها ولا يمكن حصرها " وأخذ يعدد الآيات والأحاديث التي تعرضت إلى أصل الذرائع ثم قال بالحرف: " والربا أحق ما حميت مراتعه ومنع منها لئلا يستباح الربا بالذرائع" وحصر ما ذكر من صور هذا الباب في ستة وثلاثين قال ابن المالكية منعت منها خمس عشرة مسألة ومن الأمثلة عليها.
1- أن يبتاع منه مثل طعامه وقد ناب عليه بأقل من الثمن نقدًا.
2- والثانية أن يبيع له الطعام بثمن ثم يسترده من عنده بشراء مستأنف فيدفع له ثمنا أقل من الثمن الأول إلى آخر تلك الحالات التي أستوفت الذرائع التي يمكن أن يمرر منها البيع لحاضر بثمن، وإرجاعه للبائع بثمن أقل نقدا أو ببعض البضاعة المبتاعة، ويترتب ثمنها كله في ذمة البائع، وفي تلك الصور قال ابن رشد بتحريم المالكية لكلها (2) ثم عدد ثلاث عشرة مسألة أخرى في بيوع الآجال قائلا أيضا أن المالكية منعوها سدا للذرائع، وهي كلها بيوع الآجال (3) .
3- وفي بداية المجتهد أن مالكا منع العوض بأي وجه من الوجوه على الإقالة، وخشي أن يكون ذلك ذريعة إلى قصد بيع الذهب إلى أجل وإلى بيع ذهب وعرض بذهب، وفي هذه الواقعة تسع مسائل اختلف منها في مسألتين، واتفقوا في الباقي، فمثل ما اختلف فيه حديث عائشة مع أم ولد لزيد ابن أرقم عندما باعت له عبدا بثمن إلى أجل ثم احتاج إلى الدراهم فاشترته من عنده بثمن أقل من الثمن الأول نقدًا، فلما أبلغت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه المبايعة قالت لها بئس ما شربت، وبئس ما اشتريت أبلغي زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله، فقالت المرأة أرأيت إن استرجعت ما خرج من يدي فقالت أم المؤمنين لا بأس فالله قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] فهذا الحديث أخذ به مالك وأصحابه، ومنعوا هذا النوع من البيع، أما الشافعي فلم يثبت عنده شىء نم ذلك،وقال لابأس إنما هو بيع مستأنف،وأيضا فإن زيدا خالفها، وإذا اختلف الصحابة فالمبدأ عند الشافعي حينئذ هو القياس، وروي عن ابن عمر ما يؤيد رأي الشافعي (4) . والصور التي يعتبرها مالك في الذرائع في هذه البيوع هي أن يتذرع منها إلى: أنظرني أزدك أو إلى بيع ما لا يجوز متفاضلًا، أو إلى بيع ما لا يجوز نساء أو إلى بيع وسلف، أو إلى ذهب وعرض بذهب أو إلى ضع وتعجل، أو بيع الطعام قبل أن يستوفى، أو بيع وصرف، فإن هذه هي أصول الربا (5) ومن أمثلة الخلاف الحاصل في هذه الصور بيع الطعام بالطعام قبل القبض، فمالك وأبو حنيفة منعاه، وأجازه الشافعي والثوري والأوزاعي وجماعة، فمن كرهه شبهه ببيع الطعام نساء، ومن أجازه لم ير ذلك.
__________
(1) الخراشي ج5 ص 942
(2) مقدمات ابن رشد ص 530
(3) راجع الصفحة 532، من نفس المرجع ط السعادة بمصر.
(4) بداية المجتهد ج2 ص 142
(5) بداية المجتهد ج2 ص 142 لابن رشد الحفيد(9/1580)
والملاحظ في هذه المسألة توافق مالك وأبو حنيفة وقد رأينا موقفيهما متباينين في بيوع الذرائع، إلا في هذه المسألة حيث اتفقا على سد الذريعة فيها، في حين فتحتها الجماعة التي ذكرنا.
هذه نماذج من كتب أصول المذهب وفروعه القديمة ومن المتأخرين الناقلين عن القديم، جدنا الشيخ ماء العينين (1) ناظما كتاب الموافقات:
فواحد يكون غالبا كبيع
من أهل حرب للسلاح يا سميع
ثان كثير ليس غالبا كما
بيوع آجال ترى وتعلما
في الشرح استعرض المباديء العامة التي سبقت إشارات إليها فيما يخص الغرض الذي يتوصل إليه من خلال الذريعة والحكم الذي يعطى لنا بناءً على ما تحقق عن طريقها من مباح أو حرام أو مكروه، وأحيانًا من واجب وهي كلها أصول سد الذرائع.
وقال سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في كتابه فتح الودود على نظمه مراقي السعود عندما تعرض لشرح بيته:
سد الذرائع إلى المحرم
حتم كفتحها إلى المنحتم
الذريعة الوسيلة إلى الشيء ومعنى سدها حسم مادة وسائل الفساد دفعًا له، فمتى كان الفعل السالم من المفسد وسيلة المفسد منع ذلك الفعل وهو مذهب مالك، كما أوجب فتح الذريعة إن كان سدها سيجر إلى مفسد وجب فتحها، وكذلك إذا كان فتحها سيحمل إلى تحقيق واجب، ويكون مندوبًا إذا كان فتحها سيحمل إلى تحقيق مندوب.
__________
(1) من علماء المغرب المشاركين له أزيد من ثلاثمائة مؤلف توفي بمدينة يقال لها تيزنيت بوسط المغرب سنة 1910(9/1581)
بعد هذه النظرة التي تتبعنا فيها بعض أقوال كتب المالكية وغيرهم في التعريف بالذرائع وأحكامها العامة نخلص إلى تحديد حكم الذرائع بالمعنى العام فنقسمه إلى أربعة أقسام حسب الغرض الذي استخدمناه إليه الوسيلة ومدى شرعية أو عدم شرعية هذه الوسيلة، ويمكن أن ننظر إلى ذلك من أوجه أربعة هي:
1- الوسيلة الجائزة المؤدية إلى الجائز وهذه حكمها الإباحة بإجماع كل المذاهب، ثم يرقى هذا المباح من درجة الاختيار إلى درجة الطلب مثل الحث على اتباع أسباب التكسب، والحفاظ على الصحة.
2- أما الوسيلة المحرمة المؤدية إلى المحرم فهي ممنوعة بإجماع كل فقهاء الأمة، ولا تقبل النصوص الواردة مثلًا بتحريم الربا، أو الخمر أو الزنى، أو المس من جسم المسلم أو ماله بغير حق، لا تقبل هذه النصوص أي تأويل يغير فحواها أو يعطل تطبيقها، فإذا اتخذت وسائل غير مشروعة للتحايل على تلك النصوص بقى الحرام حرامًا والوسيلة التي استخدمت إليه حرام هي أيضًا.
ويلحق بالوسيلة المحرمة المؤدية إلى محرم الوسيلة المكروهة، التي ستؤدي إلى مفسدة.
3- الوسيلة الممنوعة لتحقيق الجائز فهي ليست جائزة على العموم؛ لأن علماء الشريعة جلهم خالف مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وعلى هذا تقطع يد السارق إذا سرق من أجل أن يبني مسجدًا، أو من أجل أن ينفق على المساكين، ويحرم الكذب لترويج البضاعة التجارية، فترويج البضاعة في حد ذاته مباح، ولكن استخدام وسيلة الكذب إليه حرام إجماعًا، وقد تستعمل وسيلة غير جائزة كما أسلفنا لتحقيق غرض جائز، لكن بشرط وجود ضرورة ملحة إلى ذلك، وليس بيد المسلم وسيلة غيرها لتخليص نفسه أو ماله أو نفس أو مال أخيه المسلم، قد ضربت لذلك مثلًا بالمال الذي يدفع للكفار لتخليص أسارى المسلمين منهم.
أما الوسيلة الجائزة المؤدية إلى ممنوع فتختلف الأحكام المطبقة عليها بحسب درجة المخالفة التي ستجر إليها، فإذا أدت إلى حرام فهي حرام، وإذا أدت إلى مكروه انقلبت إلى مكروه، وإذا أدت إلى مباح لكن أوقع ذلك المباح في المخالفة كاللهو الذي يجر إلى تأخير الصلاة حتى يخرج الوقت، فإذا تعمد كان حرامًا، وإذا لم يتعمد وجب الاحتياط (1) يؤيد هذا أن التحريم يغلب على الحلال إذا اجتمعا للحديث الشريف "ما اجتمع الحرام، والحلال، إلا غلب الحرام الحلال" أسوق ملاحظة أخيرة على الأحكام التي تعرضنا لها في هذا التخليص لأحكام الذرائع وهي:
في حالة فتح الذرائع، فإذا كانت تؤدي إلى مباح غير مطلوب، فللمرء الخيار في استخدام الذريعة أو تركها على حدٍ سواء أما إذا كان التذرع واردًا لفعل المندوب المطلوب فإن تركه مكروه مثل ترك الوضوء للنوافل (2) .
وإذا كان التذرع يرمي إلى تحقيق واجب كالسفر إلى الحج للمستطيع، فإن تركه من غير عذر مقبول فقهًا يكون حرامًا.
هذه نماذج من الأحكام العامة للذرائع أو جزتها في هذا المبحث لتسهل علينا مقارنة الذرائع مع الحيل ومدى التطابق الحاصل بينهما وهو ما سيكون موضوع المبحث القادم بحول الله.
__________
(1) أُخِذ بالمعنى من كتاب الاعتصام للشاطبي ج 1 ص 228 وعزا إليه أيضًا محمد هشام السيد برهاني في كتاب الذرائع ص 206.
(2) أُخِذ بالمعنى من كتاب الاعتصام للشاطبي ج 1 ص 228 وعزا إليه أيضًا محمد هشام السيد برهاني في كتاب الذرائع ص 206.(9/1582)
المبحث الثالث
المقارنة بين سد الذرائع والحيل الفقهية
ومدى الوفاق أو الخلاف بينهما
هذا المبحث يقتضي منا للإلمام به أن نعطي ولو نظرة موجزة عن الحيل الفقهية ليسهل اكتشاف أوجه الشبه أو الخلاف بينها وبين الذرائع، وهكذا سيتضمن الفقرات الآتية:
1- تعريف بالحيل
2- أنواع الحيل
3- أوجه الاختلاف أو الخلاف بينها وبين الذرائع.
1- تعريف بالحيل:
إن لفظ الحيل مشتق من التحول، وهو النوع أو الحالة، كالجلسة، والعقدة والركبة، ثم غلب استعمال الحيلة في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الإنسان إلى حصول غرضه، بحيث لا يدري قصده إلا بنوعٍ من الفطنة والتبصر، وهذا أخص من مفهوم الحيل في اللغة، ولكنه الغالب عليها في الدراسات الإسلامية. وقد ورد ذكرها بهذا المعنى في القرآن الكريم، عند قول الله عز وجل: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98] والحيلة من ذوات الواو لأنها: من حال يحول وإنما انقلبت الوالو ياء لانكسار ما قبلها.(9/1583)
إننا إذا تتبعنا التعاريف اللغوية والعرفية والفقهية للحيلة سيطول بنا المطاف، ثم إنها أيضا تتسع محتوياتها حتى تشمل كثيرا من أحكام العبادات والمعاملات، فكل مباشرة أسباب واجبة حيلة على حصول المطلوب، أما تطبيقاتها، فقديمة قدم الإنسان؛ لأن وسوسة الشيطان ـ عليه لعنة الله ـ لآدم في الجنة كتبت جميع التفاسير أنها تمت على إثر احتيالات اتبعها مع الملائكة، ثم سيدتنا حواء، ومنهم من قال مع الحية التي دخل في جوفها حتى أدخلته الجنة، بعد أن منعته الملائكة من دخولها، ومن ذلك التاريخ والحيل تتحرك داخل مختلف معاملات البشر، ولقد أشار القرآن الكريم إلى حيل إبليس اللعين مع النبي آدم عليه السلام بقوله عز وجل: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) } [البقرة: 35 ـ 38] .
استعرضت تلك القصة، ثم أتت سورة الأعراف، لتصف حيل إبليس التي اتبعها لغواية آدم عليه السلام فقال الله فيها: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أو تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20 ـ 22](9/1584)
هذه الحيلة من الحيل المذمومة ولكنها أول حيلة سجلها الفكر البشري في هذا الباب، ثم سجل الفكر الإسلامي حيلا أخرى كانت متقدمة جدا من حيث الزمن على ما يعرفه الغرب اليوم من خلال الصورية في الدراسات القانونية وتوجد تلك الحيل في قصة النبي سيدنا يوسف والنبي الكريم سيدنا موسى، والنبي سيدنا أيوب عليهم الصلاة والسلام.
فالحيل إذن والحالة هذه اتبعت في الطاعات والمعاملات، ومنها ما تقره الشريعة إذا لم يهدم نصا محكمًا، ولم يحلل حرامًا، وكان سيتوصل فاعله إلى عمل خير، أو درء مفسدة، لذا فإن كثيرا من أمهات الدراسات الإسلامية تضمنت صورا مختلفة من الحيل، فهذا الإمام البخاري خصص لها عدة أبواب في كتابه الجامع، ومثال ذلك الحديث الشريف ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) الحديث، ثم وردت حيل كثيرة تهم الزكاة والأنكحة والبيوع، والفرار من البلاء، واحتيال العامل ليهدي له، وغيرها كثيرا نصت عليها الأحاديث والآثار ظلت تتحرك في شتى المعاملات والعبادات، حتى أفردت كتب عدة للحيل، وهي مثلما سبق أن قلت حول الذرائع ما استخدم منها لتحقيق غرض مشروع يكون مباحًا، وما استعمل منها لتعطيل أحكام الله يكون مذمومًا.
فقد ثبت اتباع الحيل لتجنب الإنسان عقوبة أصبح لا مفر له منها، وقد عرف هذا المبدأ في قصة سيدنا أيوب مع زوجته عند قول الله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) } [ص: 43 ـ 44] هذه الحيلة لم يرد نص بمنع استعمالها علينا نحن المسلمين.
ومن الحيل المباحة، قصة سيدنا بلال مع التمر الجيد الذي قدم به على النبي صلى الله عليه وسلم، لما قدم له تمرا جيدا فأكل منه واستحسنه، ثم لما قص عليه أنه أبدل مدين بمد نهاه عن ذلك وقال في الحديث الذي اتفق عليه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم (بتمر برني) فقال له صلى الله عليه وسلم: " من أين هذا " أي التمر البرني قال بلال كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع واحد ليطعم النبي فقال النبي عليه الصلاة والسلام عند ذلك " أوه أوه عين الربا عين الربا، لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع بيعا آخر ثم اشتريه " رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.(9/1585)
وفي فتح الباري على صحيح البخاري أن الحيل ينظر إليها بحسب الحامل عليها، فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق، أو إثبات باطل فهي حرام، وإن دفعت إلى إثبات حق، أو دفع باطل فهي واجبة، أو مستحبة، أو مباحة حسب درجة الغرض الذي ستحققه والأمر الوارد فيه، وإن أوصلت إلى ترك مندوب فهي مكروهة.
ووقع خلاف في القسم الأول، هل يصح مطلقا وينفذ ظاهرا، وباطنا؟ أو يبطل مطلقا؟ وقال بأن لكل من الفريقين أدلته واستنتاجاته فللمجوزين الأدلة التالية.
فقصة أيوب دليل على استعمال الحيلة ليتجنب وطأة تنفيذ حكم لا يتحمله جسمه، واستدلوا لذلك بحديث أماضة بن سهل الضعيف الذي زنى، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2ـ 3]
ثم قال ابن حجر: وفي الحيل مخارج من المضايق ومنه مشروعية الاستثناء فإن فيه مندوحة من الحنث.
ثم أورد بعض الأدلة للمانعين منها قصة أصحاب السبت، وحديث حرمت عليها الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها، وحديث لعن الله المحلل والمحلل له.
وأحسن كلمة قيلت في موضوع الحيل المحرمة كلمة رواها النسفي عن محمد بن الحسن، إذ نسب إليه قوله: " ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق ".
ومن الحيل المشابهة لتفح الذرائع بأتفه الأسباب ما نسبه ابن حجر في فتح الباري إلى أبي حنيفة إذ زعم أن رجلا أراد أن يبيع داره لرجل آخر فخشيا من أن يشفع الجار فيها، فافتاه أبو حنيفة حسب ذكر الفتح بأن يبيعه منها قسطا ضئيلا مثلا 100/ 1 فهو شقص لا يثير انتباه الجار ولا الشريم حتى تملكه لذلك الشقص وإذا أصبح شريكا لم تعد الشفعة في حقه جائزة فقلة عدد الأسهم لا تخرج مالكها من جملة الشركاء وأولئك لا يمكن لبعضهم أن يشفع فيما اشتراه البعض (1) . ونحن هنا لا يهمنا من سرد أنواع الحيل إلا القدر الذي يمكننا من مقارنتها مع الذرائع، وفي كلاهما يجب أن تبعد الخديعة وإلا تعرض فاعلها لفعل الحرام فالحديث الشريف قال: " لا تحل الخديعة لمسلم ".
__________
(1) كتاب فتح الباري على إرشاد الساري ج15 ص382(9/1586)
ومن الحيل المشابهة للذريعة احتيال العامل ليهدي له، فهي حيلة لأنه يحتال بالهدية على الرشوة، فيقضي لأصحابها أغراضهم بطرق غير مشروعة لكنها تتم بطرق لا يمكن أن يسائل أمام القانون عليها، وهي تشابه الذريعة لأن الهدية اتخذت ذريعة للتكسب غير الحلال، وأصل تحريم هذه المسألة حديث ابن اللتبية الذي اتفق عليه الشيخان ونصه كما جاء في البخاري قال: عن أبي حميد عبد الرحمن بن المنذر الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على صدقات بني سليم قال صاحب الإرشاد يدعى الرجل " ابن اللتبية " فلما جاء حاسبة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا ما لكم وهذه هدية أهديت لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك، إن كنت صادقاً" ثم خطبنا صلى الله عليه وسلم فحمد الله عز وجل، واثنى عليه بما هو أهله ثم قال: " أما بعد، فإني استعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا ما لكم، وهذه هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حق إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه يقول: " اللهم بلغت ".
نستطيع أن نقول من خلال هذه النماذج أن الذريعة والحيلة بينهما تشابه في كثير من الحالات، وأنها تتطابقان في بعض الأهداف وتتفرقان في كثير منها فتتفقان لأن كل واحدة منهما تستعمل لإدراك غاية تلك التي تبينت من النص الظاهر، فالذرائع المحرمة، والتي أورد ابن قيم منها تسعة وتسعين رأينا نماذج منها في أولى هذا العرض، ما هي إلا صورة من الحيل، فبيوع الآجال، والعينة إذا فتحت فيها الذريعة، ومن هنا تبدو الذريعة مناقضة للحيلة، فإذا ما تمنع الحيلة لحرمتها تدخل الذريعة كسد للطريق أمام ما كانت الحيلة ستجر إليه.(9/1587)
فحسب رأي كثيرين من فقهاء وباحثي الفقه الإسلامي على أن الحيل تناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فالحيلة إجراء يتوصل من خلاله إلى معاملة معينة، وسد الذريعة وسيلة لعدم حصول تلك المعاملات، لهذا فشكلا تجتمعان في أن كليهما وسيلة للوصول إلى هدف، وهذا تطابق أولي بينهما لكن عندما نصل إلى النتائج ندرك أن ما تهدف إليه هذه تسده الأخرى، وخصوصا يقع الاختلاف بينهما في موضوع الحيل المحرمة، فحيلة المحلل في النكاح لا يمكن أن تتفق مع أي نوع من أنواع سد الذرائع، وكذلك حيلة بيع العينة أو الآجال لا تنسجم عند المالكية مع الحياة الإسلامية فتأتي ذريعة سدها لتحول بينها مع التطبيق.
وفي إعلام الموقعين بعد أن حرم كثير من الحيل، أورد بعض الحيل في حدود اثنتي عشرة حالة مباحة لا تثير سد الذريعة فيها أي خلاف، وإذا كان الشارع حرم بعض الوقائع، فإنه يرمي من وراء ذلك إلى درء المفاسد، وما يجري مجراها، من أجل سلامة المجتمع، والمحافظة على طهارة الأبدان والأموال، فحرم أنوعا من الأنكحة.
وتحرم الحيل المفضية إليها، وحرم بعض المعاملات وتحرم الحيل التي تتخذ حتى يتوصل البعض إلى تعاطي تلك المعاملات وفق إجراءات تجعل العقد كوسيلة إلى تلك المعاملات المحرمة، فسلامة الوسيلة تبرر سلامة الغاية، بل الحيلة تستمد الجواز أو عدمه من الغرض الذي ستخدمه، وهذا الشيء نفسه تتسم به الذريعة فلقد رأينا في المبحث الأول أن الذريعة يحدد حكمها بحسب الغرض الذي سيتحقق من سدها، أو فتحها.
ولذا تزعم الفقه المالكي والحنبلي، ومعهما الشافعي في بداية ظهور مذهبه القول بتحريم الحيل، وعدم التسامح في أمرها، فتارة يتصدون إليها عن طريق سد الذرائع، وتارة عن طريق ما أسموه بفساد غرض أصحابها.(9/1588)
فلقد أفسد العلماء بيوعا لمظنة ما يمكن أن ينجم عنها من الوقوع في معاملات ربوية فمنعوها سدا لذريعة الوقوع في تلك النتيجة، ففي تنقيح الفصول: " أما ما يكون أداؤها إلى الفساد ولكن كثرته لم تبلغ مبلغ الظن الغالب للمفسدة، ولا العلم القطعي، وذلك كالبيوع التي تتخذ ذريعة للربا، كعقد سلم يقصد به عاقده ربا قد استتر في بيع كأنه يدفع ثمنا قليلا لا يتناسب مع ثمن البيع وقت الأداء، قاصدا بذلك الربا فهو حرام".
هذا نموذج من المسائل التي وقع فيها الخلاف، فمالك حرمها ذريعة للربا، والشافعي رجح أصل الإذن وعدم نص يعضد الشك بمظنة الفساد، وهي من بين الصور التي توضح أن سد الذريعة يأتي في مواجهة بعض الحيل المباحة، والتي لا تستند على أصل، ويصاحبها شك ظني ـ لا قطعي ـ يبعث على إمكانية الوقوع في الحرام من خلال تطبيقها، إذن فالحيلة طريقة إلى إمكانية فعل الشيء وسد الذريعة وسيلة للحيلولة مع تطبيق ذلك الشيء أما فتحها فقد تطابق في كثير من حالاته مع الحيل على مختلف أحكامها الجائزة وغيرها، وهكذا نستطيع القول بأن الحيل والذرائع تتطابقان، عندما تفتح الذريعة لتكون كل واحدة منهما وسيلة للحصول على غرض معين يحترم ظاهر النص ويتوصل إلى الغرض على شكل يؤدي إلى جوهر يهدمه، أما إذا سدت الذريعة فتكون حينئذ حاجزا يجعل حد لما تسوق إليه الحيلة من مخالفات، فالذرائع متعارضة تماما مع الحيل المحرمة، أو المشتبه فيها، فبينما المتحيل يحاول أن يوجد وسيلة تمكنه من الاستفادة من المنهي عنه بإجراء يجنبه المخالفة ظاهرًا، نجد الفقيه عندما يقول بسد الذريعة يقوم بذلك خشية أن تجر المعاملة إلى شبهة، أما الحيل المشروعة فهي في الواقع تطبيق لوجه من أوجه سد الذرائع، فمن خاف على نفسه أو ماله له الحق شرعا أن يدفع عنه الضرر بأية ذريعة تمكنه من ذلك، وسبق أن أشرنا إلى جواز إعطاء مال لغير مسلم لفك أسرى المسلمين، فكل من تعرض لخطر لم يستطع دفعه بوسيلة مشروعة أباحت له الشريعة أن يوازن بين المفسدة التي يمكن أن تنجم عن استخدام وسيلة غير مشروعة للتخلص من ذلك الضرر، وبين ما ستحققه من مصلحة، وإذا غلب ضرر الهدف وجب التخلي عنه وعن الوسيلة المؤدية إليه ولو كانت مشروعة، في حين إذا كانت مصلحة الهدف نفعها أكثر من ضررها جاز تحقيقه ولو بسلوك ذريعة غير جائزة.(9/1589)
ومن خلال هذه الحالات اتسعت الحالات التي التقت فيها الذرائع بالحيل، وأكثر ما وقع ذلك الاتصال في بيوع الآجال، التي ذكر القرافي في الفروق، وإدرار الشروق لابن الشاط: أنها وصلت ألف حالة، وهي التي اختلف فيها العلماء الخلفاء التي رأينا بعضها في أول هذا العرض.
قال في إدرار الشروق مبينا أن المالكية اعتمدوا في كثير من المسائل على سد الذرائع للحيلولة دون الوقوع في المخالفة التي يمكن أن تنجم عن بعض التصرفات فقال بالحرف: " فاختص مالك ـ رحمه الله تعالى ـ بالقول بسد الذرائع نظرا إلى أنه توسل باظهار صورة البيع (1) . " إلى المنهي عنه، أما الحيل فإن من قال بالذرائع وقف منها موقف التشدد، فبيوع الآجال التي ضبطت حيل كثيرة فيها عن مختلف الأئمة، بينما الذرائع جاهر المالكية بالقول بها وترجيح سدها في المعاملات التي يشك في سلامة محلها، فالشاطبي قال بأن مالكا حكمها في أكثر أبواب الفقه، ثم قال: " بأن حقيقتها التوسل إلى ما هو مصلحة، فإن عقد البيع أولا على سلعة بعشرة إلى أجل ظاهره الجواز من جهة ما يترتب على البيع من مصلحة (2) . فإذا تعاملا على أن يبيع له بضاعة حاضرة بعشرين مؤجلة، ثم اشتراها من عنده بعشرة حاضرة فالعشرة المؤجلة خمسة منها كانت بدون مقابل خرج من يديه وهذه عند المالكية صورة من صور الربا، أو سلف جر منفعة، فتكون حسب قول الشاطبي، المصالح التي لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شيء واشترط الشاطبي لعدم جواز هذه الصورة سد الذريعة ما يمكن أن ينجم عنها من مخالفة" أن يظهر ذلك قصدا أو يكثر في الناس، والشافعي أسقط الذريعة اعتبارا للمآل؛ لأن البيع إذا كان مصلحة جاز، إذ ليس هنا عند الشافعية مآل مفسدة، فالغرض هو البضاعة، وعلة الجواز العقد الصحيح على أصل الإذن لأن البيع الثاني إجراء منفرد يخضع لأصل الإذن في البيع، ثم يسوق الشاطبي قولا مهما جدا إذ قال: "فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر (3) "
__________
(1) إدرار الشروق بحاشية الفروق ج2 ص 32
(2) الموافقات ج3 ص 130
(3) الموافقات ج 3 ص 130(9/1590)
هذه الأوجه التي تناول من خلالها المالكية التفرد بالقول بسد الذرائع فيها، هي التي سجلت فيها أيضا كثير من الحيل مثل نكاح المحلل، وسلف جر منفعة، وبيوع الآجال، فإذا درست الذرائع والحيل من خلال هذا المنظور بدا الخلاف وعدم التطابق واضحا بينهما.
أما إذا وقفنا عند المسميات، فإن كل واحد منهما تستخدم للوصول إلى غرض معين، فيحصل نوع من التطابق الشكلي بين الوسيلة والحيلة بصفة كل منهما طريقة لحصول الغرض، والشاطبي يسوي بين الذريعة والحيلة كقاعدتين منهما طبقت دون قصد المساس بمراد الشارع كانت جائزة، وأي استعمال لأحداهما كسد ذريعة جر إلى مفسدة، أو استخدام حيلة أوقع في محرم، فكلاهما هنا وقع الإجماع على عدم الأخذ بها ثم قال في هذا الصدد.
" وجميع ما مر في حقيقتي المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعًا، ولكن ينهي عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو ممنوعا لكن يترك النهي عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو ممنوعا ولكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، وكذلك الأدلة على سد الذرائع كلها، فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع ".
هنا بدا التطابق واضحا إذ اتحد الهدف في كثير من الحالات، وحتى التعبير بالوسيلة هنا يعطي المعنيين صفة الحيلة والذريعة.
هذا عن أوجه التطابق والاختلال بين الحيلة والذريعة، أما ما يمكن أن نستخلص من أحكام تهم المعنيين وما نميل إليه تجاه السؤال المطروح في عنوان البحث فسنكرس له خاتمة هذا العرض بحول الله.(9/1591)
الخاتمة
تطلق الذريعة على معاني كثيرة منها الامتداد والتحرك، وذرع الرجل تذريعا ذراعيه في المشي وغيره، وحرك يديه، ومن معانيها التحمل والاتساع، ومنه قوله: ضاق بالأمر ذرعا، وضاق به ذرعه وذراعه.
وفي الاصطلاح تأتي بمعنى الوسيلة والسبب، وهي بهذا المعنى تشمل ما يمكن أن يتخذه الإنسان أداة للوصول إلى شيء معين، وبهذا الإطلاق العام، لا يشترط في ذلك الشيء أن يكون واجبا أو مباحا، أو حراما أو مكروها، وإلى ذلك أشار القرافي في كلامه المتقدم بقوله: "إعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتندب وتباح وتحرم" ولقد سبق الاستشهاد بهذا الكلام، فيحكم عليها بحسب ما أفضت إليه، فإذا أوصلت إلى واجب وجبت، وإذا اوصلت إلى حرام حرمت، وكذلك الأمر في المندوب والمكروه والمباح.
هذا عن استعمالات الذريعة العامة، والتي نص عليها الكتاب والسنة، كسب الأصنام عند المشرك الذي يعلم أنه سيرد على ذلك بسب الله، وكنكاح المحلل، والذريعة للوصول إلى الربا، وغير ذلك من الأصول التي عد منها ابن القيم تسعين استشهد عليها بآيات قرآنية وأحاديث نبوية كريمة، ولم يسجل فيها خلافا، أما الحالات التي تعني بالمعنى الخاص للذريعة والتي قال فيها البعض ومنهم القاضي عبد الوهاب في كتابه الإشراف على مسائل الخلاف إذ قال: "الذرائع الأمر الذي ظاهره الجواز، إذا قويت التهمة في التطرق به إلى الممنوع" إن هذا الو صف يجعل الذرائع والحيل تسوقان إلى نتيجة واحدة، وفي كتاب الباجي المسمى الإشارات: " الذرائع هي المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويتوصل بها إلى فعل المحظور" (1) .
وهي كما رأينا تثبت بعض التوافق بين الحيل والذرائع وقد أخرجها ابن رشد في المقدمات من هذا التعريف العام فحصر استعمالها فيما أفضى إلى فعل محرم (2) .
__________
(1) هذه الأصول المالكية أخذناها من مراجعها الأصلية، وقد رجع إليها أيضا محمد هشام البرهاني في كتابه سد الذرائع ص74
(2) المقدمات: ج2 ص198(9/1592)
لقد سبق القول بأن الحيل المحرمة، أو المشكوك في حكم النتائج التي يمكن أن تؤدي إليها تختلف تمام الاختلاف مع الذرائع، التي تتداخل لسد الطريق على نتائج تلك الحيل، لكن هذا الاختلاف ليس على إطلاقه، فالحيل التي يتحقق بسببها غرض مشروع أو تدفع حرجا لم يلزمه الحكم الشرعي، فإن الذريعة أيضا تستخدم للتوصل إليه، وهنا وقع التلاقي بين الحيل والذرائع، وقد سبق أن ضربت أمثلة لذلك منها: اضطراب الاعتراف ببعض الجرائم، وفي كل الحيل المباحة مثل التحيل على إقامة الحد في قصة أيوب عليه السلام، وقصة أم موسى في وضعه داخل التابوت، وقصة يوسف عليه السلام مع إخوته، كلها تمت فيها حيل للتخلص من وطأة واقعة معينة، وكلها أيضا استخدمت فيها ذرائع غير مباحة للوصول إلى أغراض مباحة.
لقد قسم محمد هشام الذرائع إلى أركان ثلاثة وفي تقسيمه هذا سهل دراسة كل جانب من جوانب الذريعة على حدة، فجعل تلك الأركان هي: الوسيلة وقد عرفناها لغة واصطلاحا فالذرائع التي افضت إلى محرم اتخذت إليه معبرا حلالا كصورة البيع في سلف جر منفعة، أو ضع وتعجل، أو عقد نكاح تام الأركان، ولكنه يخفي قصد التحليل للزوج الأول فهذا هو المقصود لغيره.
أما الثاني فهو الاتجاه إلى الفعل دون أن يقصد التوسل إليه فهي أيضا وسيلة حرام، إن الخلاف حصل في هذا الركن من حيث نظر الفقهاء إلى حصول المفسدة بالفعل أو الخوف من حصولها، وما هي درجة ذلك، فالذين رجحوا إمكانية حصول المفسدة حرموا الوسيلة إليها فسدوا الذريعة خوفا من حصولها، والذين لم يساورهم تخوف رجحوا البقاء على أصل الإذن، إن الموقف الأول اعتمده المالكية، والثاني الشافعية وقد تقدمت إشارات إلى أدلتهم ومن أمثلتهم: "النظر إلى الأجنبية، أو التحدث معها، من حيث كونهما ذريعتين للزنى، وكبيوع الآجال فالبعض أجرى حكم الذريعة فمنع من ذلك سدا لها، والبعض الآخر فتح الذريعة ولم يعملها" (1) .
__________
(1) الفروق والموافقات؛ والزرقاني على الموطأ ص5/ 98؛ وقد رجع إليهم محمد هشام البرهاني ص105(9/1593)
وركنها الثاني فهو الرابطة التي تصل الوسيلة بالمتوسل إليه، ويمكننا التعبير عنه بالقصد أو النية، فمن يلجأ إلى صورة بيوع الآجال قصده منها أن يأخذ الكثير ويدفع القليل، والمحلل نيته أن يفسح المجال للمحلل له، ففي هاتين الصورتين الإجماع منعقد على تحريم هذه الرابطة أو الطريقة أو الوسيلة.
أما الركن الثالث فهو المتوسل إليه وهو أثر الفعل أو نتيجة التوسل، كحصول زواج الأول بالمرأة المحللة، أو استلام المبلغ الكثير المؤجل في صورة من صور بيوع الآجال، وهنا تكون الوسيلة محرمة بسبب ما أفضت إليه، والإعداد أو الإفضاء أو الرابط حرام لأنه كان يعلم أنه سيوصلها إلى محرم، والنتيجة حرام بأصلها، فالبضع حرم بطلاق الثلاث، وأخذ الكثير في القليل حرام لأنه صورة من صور الربا، ولأن فيه بيعا وسلفا بتكرار البيع (1) .
بعد اختصار تعاريف الذريعة، وما يتعلق بدراسة تحقيقها نوجز مكانتها من الأدلة، ذلك أن الفقهاء لما اختلفوا في حكم سد الذرائع اختلفوا كذلك في وصفها كدليل فمنهم: من جعلها مصدرا من مصادر الفقه وقد ذكرت أن القرافي جعلها هي الثانية عشر أصلا وفي بعض الكتب المالكية الأخرى حصر تلك المصادر في ستة عشر من بينها الذرئع.
ومنهم من جعلها من القواعد وذلك ما انحازت إليه موسوعة جمال عبد الناصر الفقهية، وكذلك الشاطبي استطرد الذرائع تحت عنوان القواعد فقال: "وهذا الأصل تنبني عليه قواعد منها: قاعدة سد الذرائع". أما حكمها فأحسن ما يقال فيه ما قاله الشاطبي حول موقف مالك والشافعي من الذريعة فقال ما نصه: "وأيضا فلا يصح أن يقول الشافعي: إنه يجوز التذرع إلى الربا بحال، إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع، ومالك يتهم بسبب ظهور فعل اللغو وهو دال على القصد إلى الممنوع، فظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر" ولقد سبق الاستشهاد بهذا المبدأ.
__________
(1) الموافقات ج4 ص140(9/1594)
وأشد من وجه انتقادا للمتمسكين بالذرائع هو محمد بن حزم الظاهري، إذ ادعى أن التحريم بواسطة الاحتياط غير جائز؛ لأنه استدرك على أمر الشارع، قائلا بأن خوفهم أن يتطرق منها إلى الحرام، ثم احتج بحديث البخاري بسنده عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه في الإثم كان لما استبان اترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه)) ، ثم قال: (إن هذا إنما هو مستحب للمرء خاصة فيما أشكل عليه وأن حكم من استبان له الأمر بخلاف ذلك) (1) وادعى أن هذا الحديث على معنى آخر غير ما ادعاه من سد الذرائع لأن حمى المحارم ليس هو المباح.
ثم قال بالحرف: "ومن حرم المشتبه، وأفتى بذلك للناس، فقد زاد في الدين ما لم يأذن به الله تعالى وخالف النبي صلى الله عليه وسلم، واستدرك على ربه بعقله أشياء من الشريعة" (2) ثم استدل بكون الصحابة كانوا يشترون من السوق أشياء لا يسألون عن أصلها ولا يهمهم شيء عن ما فيها حتى يقال إنها حرام، ثم استدل لعدم التخوف من أن يسوق البيع إلى تعاطي محرم بسؤال الصحابة رضي الله عنهم لسيد الوجود عليه الصلاة والسلام من كون الأعراب يأتونهم في سوق المدينة بلحوم ولا يدرون هل سموا الله عليها أم لا؟ فهل نأكلها أم لا؟
فقال عليه الصلاة والسلام ((سموا الله وكلوا)) أو كلام مثل هذا.
وطالب بحث الناس على الورع، وإفتائهم بترك ما حاك في الصدر، ولكن دون إلزام بحكم ولا التقيد بفتيا في هذا الموضوع.
وقال مواجها المالكية بأنهم (يحرمون حلالا كثيرا خوف مواقعة الحرام، وفي هذا عبرة لمن اعتبر، ليت شعري كما تشفقون في الاستباحة من مواقعة الحرام أما تشفقون في القطع بالتحريم) (3) .
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام لمحمد بن حزم الظاهري ج1 ص 180
(2) الإحكام في أصول الأحكام لمحمد بن حزم الظاهري ج1 ص 180
(3) الإحكام في أصول الأحكام لمحمد بن حزم الظاهري ج1 ص 180(9/1595)
يتضح من كل ما سبق أن الذرائع والحيل بينهما تشابه واختلاف، ونظرا لكثرة الحيل المحرمة، فإن المواضيع التي اتفقت فيها الواقعتان أقل من تلك التي اختلفتا فيها.
وكلاهما أتتا نتيجة استمرار البحث العلمي في النصوص الأصلية للشريعة الإسلامية، ففي الحيل استنبط الجائز منها من حيل تعرض لها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مثل حيلة إبليس لآدم حتى أخرجه من الجنة، وحيلة إخوة يوسف عليه حتى ألقوه في غيابات الجب، وحيلته هو على إخوته ليأخذ أخاه، ثم حيلة أم موسى على عيون فرعون، وحيلة أختها على حاشية فرعون نفسه، وحيلة سيدنا أيوب عليه السلام في ضرب زوجته وفاء بنذره، هذه الحيل المباحة، وما استنبط منها يتلقي مع الذرائع التي يخدم فتحها تطبيق واجب أو مندوب أو مباح لتكون الحيلة المباحة ذريعة إلى تحقيق غرض مباح.
إلا أن الذريعة أكثر اعتبارا عند الفقهاء، إذ منهم من جعلها مصدرا من مصادر التشريع ومنهم من جعلها قاعدة، ولم أعثر على أحد منهم أعطى هذه الأهمية للحيل، فالمالكية والاجتهاد الحنبلي يتفقان في اعتبار المصالح أصلا يعتمد عليه في تقرير الأحكام وفي السير في توسيع هذا المبدأ اهتديا إلى جعل سد الذرائع أصلا من أصول "الفقه" لكن تطبيقات الذرائع تتداخل في كثير من الحالات مع صور من صور الحيل.
والله الموفق للصواب.
حمداتي شبيهنا ماء العينين(9/1596)
سد الذرائع
إعداد
الشيخ الدكتور الطيب سلامة
عضو المجلس الإسلامي الأعلى بتونس
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف الذرائع
في اللغة:
الذرائع: صيغة للجمع، مفرده: ذريعة.
والذريعة في اللغة: تطلق بإزاء معان عدة، منها الوسيلة إلى الشيء والطريق إليه.
قال في القاموس: تذرع بذريعة توسل بوسيلة، وكذا في مختار الصحاح.
كما أطلق اسم الذريعة على الدابة التي تشد في موضع ليأوي إليها البعير الشارد؛ لأنه كان يألفها قبل شروده، فإذا رآها اقترب منها، فيسهل إمساكه (1) .
المراد من سد الذرائع:
عمد ابن فرحون إلى بيان المراد من سد الذرائع لدى علماء الشريعة فقال: معنى ذلك حسم وسائل الفساد، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل" (2) .
أما الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات، فقد عني بسد الذرائع واعتبرها قاعدة شرعية، وأرجعها إلى مقصد من مقاصد الشريعة، وهو الحكم على الأفعال بالنظر إلى ما تؤول إليه من خير أو شر. وعلى النظر في مآلات الأفعال يتوقف حكم المجتهد على الأفعال الصادرة عن المكلفين.
__________
(1) عن شيخ الإسلام: الطاهر ابن عاشور، انظر مقاصد الشريعة الإسلامية: 116، (طبعة الشركة التونسية للتوزيع، 1978)
(2) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لقاضي برهان الدين إبراهيم بن فرحون (المطبعة البهية: مصر 1302 هـ) : 275، 2(9/1597)
وبعد الاستدلال بأدلة عقلية وأخرى نقلية، عدد الشاطبي جملة من القواعد الشرعية المنضوية تحت هذا المقصد، فكان في مطلعها قاعدة سد الذرائع، ثم اتبعها
بالقواعد التالية:
- قاعدة الحيل الموسومة عند بعضهم بأنها شرعية.
- وقاعدة مراعاة الخلاف، مثل مراعاته في الأنكحة الفاسدة إذ يقضى بتصحيحها بعد الدخول، وترتيب أحكام النكاح الصحيح عليها، لحديث: ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ... )) الذي جاء فيه: ... ((فإن دخل بها فلها المهر بما استحل منها))
- وقاعدة الاستحسان المعروفة عند مالك بأنه: الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي دفعا لمفسدة، أو اتقاء فوت مصلحة، أو تحاشيا من حرج أو من مشقة.
فالاستحسان عند مالك غير خارج عن الأدلة بيد أنه نظر إلى لوازم هذه الأدلة ومآلاتها.
- قاعدة المصالح إذا اكتنفها من خارج بعض المفاسد، فلا تخرجها عن أصلها، وتبقى مشروعية المصلحة مع التحفظ قدر الاستطاعة من العوارض المكتنفة، فلا يترك الإنسان شهود الجنائز أو طلب العلم بدعوى أن في طريقه مناكر يسمعها أو يراها.(9/1598)
فهذه القواعد راجعة كلها إلى اعتبار مآلات الأعمال باعتبارها مقصدا شرعيا لازما في كل حكم على الإطلاق (1) .
وقد أفاض الشاطبي في بيان مسألة أن النظر في مآلات الأفعال معتبر ومقصود شرعا يشهد لذلك الاستقرار التام للأدلة الشرعية، وكم من عمل مشروع تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه لأنه يؤول إلى مفسدة، فقد أشير عليه صلى الله عليه وسلم بقتل من ظهر نفاقه فأبى وقال: ((أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)) ، كما أشير عليه صلى الله عليه وسلم بإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال: ((لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم)) وكم من عمل غير مشروع ترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، ومن أمثلة ذلك حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، فقد أمر بتركه حتى يتم بوله، وقال: ((لا تزرموه)) ؛ لأنهم لو نهروه وقطعوا عليه بوله لأعطوه صورة سيئة عن الغلظة بالمعاملة، ولحملوه على تلويث ثيابه وجسمه ولتعددت مواضع النجاسة بدل حصرها في موضع واحد.
ويختم الشاطبي المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد بهذه النتيجة فيقول: وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها، فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع، والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها، فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل، لما يؤول إليه من الرفق المشروع، ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها" (2) .
__________
(1) انظر: الشاطبي، الموافقات: 4، 100-106 (ط. أولى تونسية 1302 هـ) .
(2) انظر: الشاطبي، الموافقات: 4، 100(9/1599)
ويختم الشاطبي هذه المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد مستشهدا بكلام ابن العربي –رحمه الله- عل أن الخلاف فيها مزعوم، وأنها محل اتفاق بين العلماء فيقول: قال ابن العربي حين أخذ تقرير هذه المسألة: "اختلف الناس –بزعمهم فيها- وهي متفق عليها بين العلماء، فأفهموها وادخروها" (1)
وتعرض القرافي لمعنى سد الذرائع عند حديثه على قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل في الفرق الثامن والخمسين فقال: معنى سد الذرائع هو حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها، فمتى كان الفعل السالم عند المفسدة وسيلة للمفسدة منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور (2) .
وسمى ابن العربي سد الذرائع –في كتاب الأحكام- بقاعدة الذريعة، واعتبراها قاعدة غير مطردة بل هي مقيدة بتنصيص الشرع حيث قال: وقاعدة الذريعة التي يجب سدها شرعا هو ما يؤدي من الأفعال المباحة إلى محظور منصوص عليه لا مطلق محظور (3) .
__________
(1) انظر: الشاطبي، الموافقات4، 100.
(2) اتفق القرافي في بيان معنى لسد الذرائع مع كلام ابن فرحون المتقدم؛ وخص ذلك بأنه في كثير من الصور لا في جميعها.
(3) ابن حسين: تهذيب الفروق (على هامش الفروق) ؛ انظر التنبيه الأول من التنبهين في آخر الفرق الثامن والخمسين.(9/1600)
ويتجلى عدم اطراد القاعدة فيما قال به مالك وأبو حنيفة من جواز شراء الولي من مال يتيمه على أشهر الأقوال، فلم يلتفت الإمام مالك للتهمة، ولم يعمل بقاعدة سد الذرائع، وإنما اشترط أن يكون في شراء الولي مصلحة وإصلاح ليتيمه مصداقا للحكم في قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] فقد أذنت الآية في مخالطة اليتامى حتى لا يتسبب الخوف من مخالطتهم في تركهم وترك التعامل معهم، وبالتالي في عزلهم عن المجتمع الذي يعيشون فيه. لذا رغم قيام التهمة في هذا الشراء لم تطبق القاعدة في سد الذرائع، وأوكلت الشريعة الأولياء والحاضنين لهؤلاء اليتامى إلى أمانتهم وإلى تقوى نفوسهم، وحذرتهم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] . وكم من أمر مخوف وكلت الشريعة المطهرة أمره إلى أمانة المكلف، وإلى خوفه من الله في الدنيا ومن لقائه يوم يلقاه، فقد جعل الله تعالى النساء مؤتمنات على فروجهن يصدقن في ذلك، ويؤخذ لقولهن، ولو أنهن لا يسلمن من احتمال التهمة، رغم ما يترتب على قولهن من أحكام خطيرة الشأن ترتبط بالحل والحرمة، وترتبط بالأنساب وبالأعراض. فقد وكل الله لهن أمر ما في أرحامهن باعتبارهن مؤتمنات عليها، وأمرهن أن لا يكتمن ما خلق الله فيها، وذلك في قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [البقرة: 228] وفي طالع باب بيع الآجال من شرح التلقين، جاء كلام الإمام المازري رحمه الله، في بيان معنى سد الذرائع، إذ قال: سد الذرائع منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز.(9/1601)
هذا وقد دقق الشيخ محمد طاهر ابن عاشور وأفاد في بيان المراد من سد الذرائع في كتابه " مقاصد الشريعة الإسلامية " حيث قال: هذا المركب (يشير إلى العنوان: سد الذرائع) لقب في اصطلاح الفقهاء لإبطال الأعمال التي تؤول إلى فساد معتبر وهي في ذاتها لا مفسدة فيها.
ثم بين أنه ليس من الغريب أن تفضي الأعمال الصالحة إلى مفاسد، بل ذلك شائع في كثير من الأمور الصالحة.
وأقام الدليل على ذلك فقال: ... بل كان ذلك الإفضاء إلى الفساد غير حاصل إلا عند كمال الأمور الصالحة. مثل النار فإن حالة كمالها، وهو اشتعالها الذي به صلاح الموقدين، هي حالة أفضاء إلى مفسدة الإحراق.
وليس الإبطال في سد الذرائع لاحقا بجميع الأعمال التي تؤول إلى مطلق فساد، بل لا بد من قيد اعتبار الشرع لهذا الفساد، وفي هذا يقول رحمه الله: ... فاعتبار الشريعة بسد الذرائع يحصل عند ظهور غلبة مفسدة المآل على مصلحة الأصل، فهذه هي الذريعة الواجب سدها (1) .
__________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية: 116 (ط. الشركة التونسية للتوزيع. تونس 1978) .(9/1602)
وليست كل الذرائع يجب سدها واعتبارها والاعتداد بها، وإنما يعتد لما اعتبره الشرع دون سواه، وما اعتبره الشرع يرجع في نظره إلى الموازنة بين ما في الفعل الذي هو ذريعة من المصلحة وما في مآله من المفسدة، وتستند هذه الموازنة إلى قاعدة تعارض المصالح والمفاسد التي هي راجعة إلى مقصد عام للشريعة الإسلامية في الإصلاح وإزالة الفساد.
وأخذ الشيخ على شهاب الدين القرافي أنه لم يبحث عن وجوب الاعتداد ببعض هذه الذرائع دون بعض.
ولئن لم يتحدث القرافي في (الفرق الرابع والتسعون والمائة: بين قاعدة ما يسد من الذرائع وقاعدة ما لا يسد منها) في مسألة الاعتداد ببعض هذه الذرائع دون بعض، وفقا لنظرة الموازنة بين ما في الفعل الذي هو ذريعة من مصلحة وما في مآله من مفسدة، فإنه بحث في المسألة من وجهة أخرى، هي وجود التهمة المتمثلة في إظهار ما يجوز لإخفاء ما لا يجوز، ونقل في ذلك ما جاء في الجواهر حيث قال: وضابط هذا الباب أن المتعاقدين إن كانا يقصدان إظهار ما يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز، فيفسخ العقد، إذا كثر القصد إليه اتفاقًا. وختم القرافي الفرق المذكور بهذه الحصيلة التي يراها الشيخ ابن عاشور -رحمه الله- كافية حيث قال القرافي –رحمه الله-: "والأصل أن ينظر: ما خرج من اليد وما خرج إليها، فإن جاز التعامل به صح، وإلا فلا. ولا تعتبر أقوالهما بل أفعالهما فقط. فهذا هو تلخيص الفرق بين الذرائع التي يجب سدها والذرائع التي لا يجب سدها" (1) .
__________
(1) انظر كلام القرافي في آخر الفرق الرابع والتسعين ومائة(9/1603)
والواقع أن ما قرره الشيخ ابن عاشور في مسألة ما يجب سده من الذرائع وما لا يجب، لم أقف عليه لسواه فيما اطلعت عليه، فكان كلامه جديرا بالتأمل والاعتبار، وذلك لأنه أتى بأمرين: الأول: أنه اصل هذه القاعدة باعتبارها مقصدا تشريعيا عظيما استفيد من استقراء تصرفات الشريعة في مجالات ثلاثة:
- وفي تشريع الأحكام.
- وفي سياسة التصرف مع الأمم.
- وفي تنفيذ المقاصد.
وقد حصل هذا التأصيل بإرجاع قاعدة سد الذرائع إلى المقصد الشرعي العام الذي قام عليه الشرع الإسلامي وهو: الإصلاح، وإزالة الفساد: والذي اقتضى النظر إلى أفعال المكلفين والموازنة بين ما فيها من مصلحة وبين ما تؤول إليه من مفسدة.
الثاني: أنه تأمل الذريعة فوجدها على قسمين:
1- قسم لا يفارقه كونه ذريعة إلى الفساد بصورة مطردة بحيث يكون الفساد من خاصة ماهيته. وعلى هذا القسم بنت الشريعة أحكاما صريحة مثل حرمة شرب الخمر. وعد الفقهاء هذه الأحكام من الثوابت في الشريعة نظرا إلى كونها ذريعة إلى الفساد بصورة مطردة كما اقترن شرب الخمر بجملة من المفاسد والمضار الجسمية والمالية والاجتماعية. وهذا القسم هو أصل القياس.
2- قسم قد يتخلف مآله إلى الفساد تخلفا قليلا أو كثيرا. وهذا القسم على
ضربين:
- بعضه قد كان سببا لتشريع منصوص منذ عهد الرسالة مثل بيع الطعام قبل قبضه.
- وبعضه لم يحدث موجبه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأوكل أمره إلى الفقهاء يوم حدث فجاء حكمه محل اتفاق بينهم في الأفعال التي اتضح إفضاؤها إلى المفسدة. وجاء الحكم محل خلاف بينهم، فيما دون ذلك من الأفعال التي لم يتضح إفضاؤها إلى المفسدة اتضاحا بينًا.
وكان ذلك الاختلاف تابعا للاعتبارات التالية:
- مقدار اتضاح إفضاء ذلك الفعل إلى المفسدة وخفائه.
- وكثرة ذلك الإفضاء وقلته.
- وجود المعارض الذي يفضي إلى إلغاء المفسدة وعدم وجوده.
- دوام إفضاء ذلك الفعل إلى المفسدة أو توقيته.
- قرب المقيس من الأصل المقيس عليه وبعده باعتبار أن هذا القسم هو الفرع
المقيس، وأن القسم الأول المتقدم هو الأصل المقيس عليه.
- اعتداد مالك بالتهمة في بيوع الآجال حين اعتبر قصد الناس إليها قد أدى
إلى شيوعها وانتشارها، فأفضى ذلك إلى المفسدة التي لأجلها حرم الربا(9/1604)
ورغم أنه ليس لقصد الناس تأثير في التشريع فإنه إذا فشا صار بمثابة مآل الفعل الذي له اعتبار في الشرع، وخاصة إذا قصد به استحلال الممنوع. فلم يعتد مالك بالتهمة لمجرد كونها تهمة، وإنما من وجهة كونها علامة عل تمالي اناس على إحلال المفسدة الممنوعة.
ولو كان الأمر لمجرد التهمة للزم عليه أن لا يمنع ما صدر من هذه الذرائع عن أهل الدين والاستقامة والفضل، كما جاء في اعتراض القرافي في الفرق الرابع والتسعين والمائة.
الفرق بين الذريعة والسبب وبين الذريعة
والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه
جرى اصطلاح العلماء على تسمية الذرائع بالأسباب والطرق والوسائل، باعتبار أنها أسماء لمسمى واحد مؤداه كل ما يتوصل به أو يفضي إلى مقصد من المقاصد أو غاية من الغايات.
جرى المالكية والحنابلة على هذا:
قال شهاب الدين القرافي في مفتتح الفرق الثامن والخمسين الذي تحدث فيه على قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل: "وربما عبر عن الوسائل بالذرائع وهو اصطلاح أصحابنا وهذا اللفظ المشهور في مذهبنا، ولذلك يقولون سد الذرائع، ومعناه حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها ... ". فدل كلامه هذا على ترادف اللفظين: الوسائل والذرائع عند العلماء المالكية. ويقول في التنبيه الرابع من الفرق الثامن والخمسين نفسه: " ... فإن الأسباب
من جملة الوسائل ... ". فقد أثبت التداخل بين الأسباب والوسائل لأنها مثل الوسائل، فكما أن الوسائل تستلزم متوسلا إليه، فإن الأسباب تفضي إلى مسبباتها وممن سلك مسلك عدم التفريق بين هذه الكلمات: الذرائع، والوسائل، والأسباب، والطرق، شمس الدين ابن القيم الجوزية في كتابه: إعلام الموقعين، حيث عقد فصلا مهما للحديث على الوسائل وكونها تأخذ حكم المقاصد، وعنونه بقوله: "فصل في سد الذرائع".(9/1605)
ويستنتج من كلامه في هذا الفصل أن هذه الكلمات الأربع ذات مسمى واحد، إذ بها يتوصل إلى المقاصد، ولما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بهذه الذرائع، والأسباب، والطرق والوسائل، أخذت حكم مقاصدها وغاياتها، وعلى ذلك جرت القاعدة التي تقول: للوسائل حكم المقاصد، أو التي تقول: وسيلة المقصود تابعة للمقصود، ومعنى ذلك: أن وسائل المحرمات والمعاصي لها حكم الكراهة والمنع بحسب إفضائها إلى غاياتها، وبحسب ارتباطها بها. كما تكون وسائل الطاعات والقربات، في الترغيب فيها والحث عليها بحسب ارتباطها بها أيضًا. وإذا رمنا التدقيق بين الذريعة والسبب من جهة، وبين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه لتحصيل ما بين هذه الكلمات من أوجه التماثل والتباين نجد:
أن السبب في اللغة هو الحبل، ويطلق أيضا على كل ما يتوصل به إلى غيره.
وأنه –في الاصطلاح- وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه علامة على حكم شرعي، بقطع النظر عن وجود علاقة التلازم بينه وبين مسببه عادة، كما هو الشأن بين الحكم وعلته من التلازم الحتمي مثل عقاب الجناة، فإنما وجب لدرء مفسدة الظلم والاعتداء على الغير.(9/1606)
وحكم السبب أنه متى وجد ترتب على وجوده وجود المسبب إذا توفرت الشروط وارتفعت الموانع، فأشبه العلامة الشرعية والتوقيت للحكم مثل: دلوك الشمس فهو علامة على دخول وقت الظهر وتوقيت لوجوبها، ولا علاقة في العادة بين دلوك الشمس ووجوب صلاة الظهر إلا بما نصبه الشارع فجعل هذا الدلوك سببا وتوقيتا وعلامة على وجوب صلاة الظهر، ويتبين أن المسبب بترتيب الشارع وبصنع الله تعالى وإرادته، لا بترتيب الإنسان.
وقد يكون السبب مناسبا لحكمه الذي هو المسبب كالسفر الطويل المبيح للفطر بعلة كونه مظنة المشقة، وكالإسكار المانع من شرب الخمر بعلة الحفاظ على العقل.
أما الذريعة فهي –كما أسلفنا- الوسيلة المشروعة التي تفضي أو تؤول إلى نتيجة غير مشروعة تحقيقا أو تقديرا كما هو مبين في أقسام الذرائع باعتبار قوة إفضائها إلى النتيجة وضعف ذلك.
وتختلف الذريعة عن السبب في كونها يتوصل بها إلى ما فيه مفسدة –إذا كانت من الذرائع المطلوب سدها- دون أن يتوقف عليها وجود تلك المفسدة، كالسفر المباح في الأصل، فإنه ينقلب إلى معصية إذا صار طريقا وذريعة إلى قطع الطريق مثلًا، فلا يفطر صاحبه ولا يقصر الصلاة؛ لأن المعاصي لا تكون أسبابا للرخص، وليس لازما أن يكون المسافر عاصيا بسفره، فقد يعصي المقيم ولا يعصي المسافر، وقد يحصل قطع الطريق وقتل الغير أو غصب أمواله دون توقف على السفر. وليس الأمر في السبب كالذريعة: إذ لا وجود للمسبب دون وجود سببه، وقد يوجد المتذرع إليه دون وجود الذريعة، مثل غصب أموال الغير، فقد يتذرع إليها بالسفر، وقد يتوصل إليها دون سفر.(9/1607)
والمدار في هذا الموضوع: أن لا تكون المعاصي أسبابا للرخص، فلا يكون سفر قاطع الطريق مبيحا لقصر الصلاة ولا للفطر بخلاف ما إذا قارنت المعصية سبب الرخصة كمن اضطر لأكل الميتة وهو في سفر معصية، فإنه أكلها بسبب الاضطرار والخوف من تلف النفس وليس هذا بمعصية، وإن قارن هذا السبب معصية وهي السفر لقطع الطريق مثلًا.
وقد عقد القرافي تنبيهه الأخير من الفرق الثامن والخمسين فقال: تفرع على هذا الفرق فرق آخر وهو: الفرق بين كون المعاصي أسبابا للرخص، وبين كون المعاصي مقارنة لأسباب الرخص فإن الأسباب من جملة الوسائل، وقد التبس الأمر هاهنا على كثير من الفقهاء، فأما المعاصي فلا تكون أسبابا للرخص. ولذلك العاصي بسفره لا يقصر ولا يفطر لأن سبب هذين السفر، وهو في هذه الصورة معصية، فلا يناسب الرخصة؛ لأن الأمر يؤول إلى تكثير تلك المعصية بالتوسعة على المكلف بسببها، وأما مقارنة المعاصي لأسباب الرخص فلا تمتنع إجماعًا، كما يجوز لأفسق الناس وأعصاهم التيمم إذا عدم الماء وهو رخصة، وكذلك الفطر إذا أضر به الصوم، والجلوس إذا أضر به القيام في الصلاة، ويقارض ويساقي ونحو ذلك من الرخص، ولا تمنع المعاصي من ذلك؛ لأن أسباب هذه الأمور غير معصية، بل هي عجزه عن الصوم ونحوه، والعجز ليس معصية، فالمعصية ههنا مقارنة للسبب لا سبب، وبهذا الفرق يبطل قول من قال إن العاصي بسفره لا يأكل الميتة إذا اضطر إليها؛ لأن سبب أكله خوفه على نفسه لا سفره، فالمعصية مقارنة لسبب الرخصة، لا أنها هي السبب. اهـ. مع بعض التصرف.(9/1608)
وأما الوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه فالعلاقة فيها بين السبب والمسبب لا تتخلف تحقيقًا، مثل إبرام عقد البيع المستلزم لإثبات جملة من الأحكام المرتبة عليه: من ثبوت التملك وحق التصرف والانتفاع وغيرها من منافع الملكية وحقوقها، ومن حق البائع في الثمن لا تبرأ منه ذمة المشتري إلا بإذنه للبائع. فالمالكية لا يفرقون بين سد الذرائع وتحريم الوسائل بل هما شيء واحد عندهم.
وفرق الشافعية، فقالوا بتحريم الوسائل المستلزمة للمتوسل إليه، والتي تفضي إلى مفسدة أو مضرة بصورة قطعية لا تحتمل التخلف، ولم يقولوا بسد الذرائع كما قال بها المالكية.
وحاول ابن الرفعة أن يسند للشافعي القول بسد الذرائع، وذلك من خلال ما جاء في باب "إحياء الموات" من كتاب الأم حيث ذكر النهي عن منع الماء المفضي إلى منع الكلأ وأنه يحتمل أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل: وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله.
ورد تقي الدين ابن السبكي كلام ابن الرفعة معتبرا أن ما عده ابن الرفعة من سد الذرائع في مثال منع الماء، إنما أراد الشافعي منه تحريم الوسائل، والوسائل تستلزم المتوسل إليه، وذلك أن منع الماء مستلزم عادة منع الكلإ الذي هو حرام، ويضيف التقي السبكي قائلا: ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل، ولذلك نقول: من حبس شخصا ومنعه الطعام والشراب فهو قاتل له، وما هذا من سد الذرائع في شيء.
ويقول التقي السبكي محددا موقف الشافعي: وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها، والنزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها، ذلك أن الذريعة ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام عندنا وعند المالكية.
والثاني: ما يقطع بأنها لا توصل، ولكن اختلطت بما يوصل، فكان من الاحتياط سد الباب، وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه. يقول ابن السبكي: وهذا غلو في القول بسد الذرائع.
والثالث: ما يحتمل ويحتمل، وفيه مراتب تتفاوت بالقوة والضعف، ويختلف الترجيح عند المالكية بسبب تفاوتها.
ثم قال: ونحن نخالفهم جميعا إلا في القسم الأول، لانضباطه وقيام الدليل عليه.
ثم قال: أما موافقتهم في القسم الأول فواضحة، بل نحن نقول في الواجبات بنظيره، ألا ترانا نقول: ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبطريق الأولى أن نحرم ما يوقع في الحرام.
وأما مخالفتهم في القسم الثاني: فكذلك، وما أظن غير المالكية يذهب إليه، ولا أظنهم يتفقون عليه وأما القسم الثالث: فلعله الذي حاول ابن الرفعة تخريج قول الشافعي فيه بما ذكره من النص، وقد عرف ما فيه (1) . والحاصل أن الشافعية هم الذين يفرقون بين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه، وذلك بناء على ما اختاروه هم ومعهم الحنفية وأصحاب المذهب الظاهري من إنكار أن تكون الذرائع أصلا تشريعيا كما يراه الفريق المقابل الذي يضم المالكية والحنابلة والإمامية.
__________
(1) انظر: التاج السبكي. الأشباه والنظائر: 1، 119-121ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1411هـ، 1991م) .(9/1609)
المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية ومدى الخلاف أو الوفاق بينها
أسلفنا في مطلع هذا البحث ما يتعلق بتعريف الذرائع. أما الحيل فالمفرد حيلة، والفعل تحيل تحيلا فهو متحيل. والتحيل في العرف واللغة فعل مذموم تأنفه الكرامة لما في تعاطيه من كيد ومكر وخديعة، ولما في مضمر فاعله من خبث.
أما التحيل في العرف الشرعي فهو عبارة عن أعمال يأتيها بعض الناس في خاصة أحواله للتخلص من حق شرعي عليه، بصورة هي أيضا معتبرة شرعا حتى يظن أنه جار على حكم الشرع.
وقيل في التحيل أيضًا: هو عمل يتم به إبراز الممنوع شرعا في صورة عمل جائز، أو يتم به إبراز غير معتد به شرعا في صورة معتد به بقصد التفصي من المؤاخذة.
فالتحيل شرعا هو ما كان المنع فيه شرعيا والمانع الشارع.
والتحيل بناء على هذين التعريفين لا يكون إلا محظورا شرعا بيد أنه: تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي.
فليس عند المحققين من العلماء شيء من الحيل يوصف بأنه مشروع بحجة أن كل الحيل إنما يقصد منها تعطيل مقصد شرعي أو إبطال حكم أو إسقاط شرط أو غير ذلك من أحكام الشريعة وحدودها.
وما ليس كذلك من الحيل الموصوفة بأنها مباحة فليس فيها في الواقع شيء من التحيل ولا ينطبق عليها اسم التحيل المقرون بالخبث والمكر والخديعة، وإنما هي أشياء أخرى كان الأجدر أن يطلق عليها اسم: حسن التدبير أو الحرص أو الورع، وليس من هذا القبيل التغرير بل خداع ممقوت. مثال حسن التدبير: من أحب امرأة فسعى لتحقيق زواجه منها لتحل له مخالطتها.(9/1610)
مثال الحرص: ما حصل للصحابي أبي بكرة رضي الله عنه لما دخل المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم راكعًا، وخشي فوات الركعة وأحب أن يكون في الصف الأول تحصيلا لثوابه، فركع ومشى راكعا حتى أدرك الصف الأول. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زادك الله حرصا ولا تعد)) . مثال الورع: اتخاذ الآلة أو أية وسيلة أخرى للتوجه في الصلاة لعين القبلة في حين يكفيه معرفة الجهة على العموم، واتخاذ منبه لئلا يفوت وقت الصبح، وإلزام المريض نفسه بالصوم وهو مرخص له في الإفطار ومثله المسافر.
ومن ورع التخلص من الورطة باستخدام الألفاظ وتطويعها للإيهام كحال الرجل من أهل السنة ضمه مجلس من أهل الشيعة، لما سألوه: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجاب: "الذي كانت ابنته تحته"، فأوهمهم أنه علي في حين يريد أبا بكر رضي الله عنهما، وذلك تبعا لاحتمال معاد الضميرين في الجملة.
وليس التغرير من صنف ما أسلفنا بل هو تحيل على الناس ليوقعهم في الفخ كمن يراود خصمه على الصلح لا بقصد الصلح ولكن بقصد تطمينه والحصول على إقراره.
وقد أشار المحققون من العلماء إلى علاقة التناقض القائمة بين سد الذرائع وتجويز الحيل إذ بسد الذرائع يمنع الجائز خشية الوقوع في المحرم أو في المفاسد، وبتجويز الحيل يفسح الطريق لذلك ومنع الحيل على القول به من طرف الجمهور يؤول إلى سد الذرائع كالذي تقرر شرعا من أن اليمين إذا تعلقت بحق الغير فإنها تكون على نية المستحلف (أي صاحب الحق الطالب لليمين) دفعا لتحيل الحالف، وإبقاء على نجاعة اليمين في فصل النزاعات.
وبهذا الاعتبار يكون بين الذرائع والحيل عموم وخصوص كما أن مجال التطبيق في الحيل: الأحوال الخاصة للتخلص من حق شرعي، أما الذرائع فمجالها الأحوال العامة.
ومن جهة أخرى فإن الحيل تتوقف على قصد المتحيل بخلاف الذرائع فهي تفضي إلى المفسدة سواء قصد الناس أو لم يقصدوا، كما أن الحيل لا تكون إلا مبطلة لمقصد شرعي بخلاف الذرائع فقد لا تكون مبطلة لمقصد شرعي، كما سيأتي بيانه في تقسيم الذرائع.(9/1611)
فالفروق بين الحيل والذرائع ثلاثة:
الأول: ما بينهما من عموم وخصوص.
الثاني: توقف الحيل على القصد دون الذرائع.
الثالث: حتمية إبطال مقصد شرعي في الحيل ولا يكون ذلك في سد الذرائع.
ويبدوا أن الإجماع حاصل حول القول بمنع الحيل التي تؤول إلى إسقاط حكم أو إبطال مقصد شرعي صراحة وبوضوح، وإن أجاز بعض فقهاء الحنفية وبعض الشافعية هذه الحيل التي لم يقصد بها إبطال الأحكام صراحة.
وقال بمنعها مالك والشافعي وأحمد منعا مطلقا بناء على أن الشريعة قائمة أساسا على مصالح مقصودة، وأن كل الوسائل والذرائع التي تفوت هذه المصالح يجب سدها.
ويستند المجيزون للحيل الشرعية (كما يسمونها) على جملة من الأدلة النقلية من الكتاب والسنة، يقول عنها شيخ الإسلام ابن عاشور في مقاصد الشريعة الإسلامية: "من يجعل المكابرة ظهريا يوقن بأن ما يجلب لصحة التحليل الشرعي من الأدلة، إنما هي أدلة غير متبصر بها، ولا يعسر عليه بعد هذا تنزيلها منازلها وإبداء الفروق بينها". من هذه الأدلة: ما روي في الموطأ وصحيح مسلم أنه لما أبطل التبني، وكان سالم مولى أبي حذيفة متبنيا لأبي حذيفة، فجاءت سهلة بنت سهيل زوج أبي حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله إن سالما يدخل علينا وأنا فضل، وليس لنا إلا بيت واحد" فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرضعيه تحرمي عليه)) فقالت: يا رسول الله كيف أرضعه وهو كبير؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((قد علمت أنه رجل كبير)) فقالت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة وامتنعن –رضي الله عنهن- أن يدخل عليهن أحد بمثل هذه الرضاعة. وإذا أضفنا إلى ما قاله الزوجات الطاهرات وفعلنه وما قاله لهن صلى الله عليه وسلم بعد ذلك (في الأظهر) : ((انظرن من يدخل عليكن بالرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة)) لا يبقى لفقيه شك في كون الرضاعة، وفي كون ما حصل لسالم إنما هو رخصة أوجبتها شدة الوقع على نفس المؤمنين من جراء إبطال التبني مع عدم سبق تمهيد له.
فكان التراخيص للرفق مع حصول صورة حكم شرعي ليحصل احترام التشريع الجديد، ولا تقع مخالفته إلا في جزئية خاصة، وقد رخص فيها (1) .
__________
(1) ابن عاشور. المقاصد: 114-115(9/1612)
ويوالي شيخ الإسلام ابن عاشور –رحمه الله- استعراض هذه الأدلة، وينزلها منازلها فيذكر: - الرجل الذي زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة –التي عرضت نفسها عليه والذي ليس معه مهر ولا يجد مهراً- بما معه من القرآن. ويبين أنها خصوصية جعلت لها صورة تشبه الصورة المعروفة إبقاء على حرمة حكم المهر.
- ما ورد في قضية أيوب عليه السلام من قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] عندما حلف أن يضرب امرأته ضربات، ولما ذهب غضبه أشفق عليها، وحصل له توقف كيف يبر يمينه فأمره تعالى بأن يضربها بضغث من عصي، فقد يكون شرعا شرعه له أو رخصة خاصة لنبيه حتى يعينه على الخروج من الأزمة دون استخفاف بحرمة اسم الله تعالى.
- ما ورد في قضية يوسف عليه السلام وهو قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] . فليس من قبيل التحيل على شريعة إلهية، وإنما هو أمر محبوب لا يمنعه شرع إلهي بدليل قوله: {فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] والملك هو فرعون.
وعلى فرض التسليم بأن هذه حيل هل هي صالحة للقياس عليها والنسج على منوالها؟ أو بعبارة أخرى: هل تصلح أصلا للقياس؟.
الجواب واضح، وهو أن ما يجعل أصلا للقياس عليه لا بد أن يشمل على معنى وحكمة تصحح القياس عليها، وقد سبق تقرير أن الحيلة مخالفة للحكم مفوتة للمقصد! فكيف يمكن القياس عليها وجعلها أصلا لحق به الأشباه والنظائر؟ وفي آخر هذا المبحث يحسن التنبيه إلى أن الحلال –في هذا الموضوع- بين والحرام بين، فمن وهب ماله قبل الحول بيوم ليسقط عن مال واجب الزكاة، ثم رجع في هبته بعد ذلك هو متحيل ماكر.(9/1613)
ومن حول ماله إلى شراء عروض التجارة قبل الحول فقد انتقل من حالة مشروعة إلى حالة أخرى مشروعة وليس تحيلا بأي وجه ولم يفر من الزكاة ولم يهرب من الواجب كالأول بل انتقل بماله من زكاة العين إلى زكاة العروض والتجارة، وفي كل حكم وفي كل حكمة والشرع لا يمنع من ذلك ولا يسميه تحيلا بالمرة.
أقسام الذرائع بحسب القطع بتوصيلها للحرام وعدم القطع أحكامها وشروطها
اعتبارا لما ذهب إليه جمهور العلماء من أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، وأن وسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل (1) .
وتبعا لما تقرر لدى الحذاق من العلماء من أن سد الذرائع من أدلة الفقه، وأنه مقصد تشريعي عظيم استفيد من استقراء تصرفات الشريعة في تشاريع أحكامها (2) . تأمل هؤلاء العلماء في الذرائع فأصلوها وقسموها إلى أقسامها بحسب ما تفضي إليه على وجه القطع أو على وجه الاحتمال فقسمها ابن القيم إلى أقسام أربعة هي (3) :
الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى مفسدة، والمفسدة من ماهيتها.
الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة.
الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها.
الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها.
__________
(1) ابن القيم، إعلام الموقعين: 147، 3 (ط. أولى، مطبعة السعادة بمصر، 1374هـ/1995م) .
(2) ابن عاشور. المقاصد: 117
(3) ابن القيم. إعلام الموقعين: 148، 3(9/1614)
مثال القسم الأول: شرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر والضرر بالعقل.
القذف المفضي إلى مفسدة الفرية.
الزنا المفضي إلى مفسدة اختلاط النسل وفساد الفراش.
حكم هذا القسم: المنع المتردد بين الكراهة والحرمة بحسب عظم المفسدة وصغرها.
مثال القسم الثاني: نكاح المحلل للمطلقة ثلاثا لزوجها الأول.
البيع المتخذ صورة لتغطية مفسدة الربا.
حكم هذا القسم: إبطال الوسيلة وسد الذريعة إذا تبين القصد إلى المفسدة سواء بإظهار ذلك في العقد، أو بتمالي الناس على الفعل حتى ظهرت المفسدة.
والمعيار في هذا هو الموازنة بين المصلحة في الغاية المفضي إليها والمآل المتوسل إليه، وفي هذا اختلفت الأنظار لدى العلماء.
مثال القسم الثالث: صلاة التطوع لغير سبب في وقت النهي.
تزين المتوفى عنها في عدتها.
سب أرباب المشركين بمحضرهم.
بيع السلاح في الفتنة.
بيع العنب للخمار ... إلخ من الأمثلة.
حكم هذا القسم: حكمه كسابقه المنع إذا رجحت المفسدة، والجواز إذا رجحت المصلحة, واختلاف الأنظار والآراء فيما عدا ذلك.(9/1615)
مثال القسم الرابع: النظر إلى المخطوبة والمستأمنة (المملوكة عند التقليب) . النظر إلى المشهود عليها والشريكة في المعاملات. فعل ذوات الأسباب (النافلة لسبب) وقت النهي. كلمة حق عند سلطان جائر. حكم هذا القسم: أنه مأذون فيه مأمور به ويتردد حكمه بين الإباحة والندب
والوجوب بحسب درجة المصلحة وأهميتها. وقد عقد ابن القيم –رحمه الله- أوجها هي عبارة عن أمثلة من الكتاب والسنة، للتدليل على منع القسمين الثاني والثالث اللذين جرى فيهما خلاف بين العلماء وتباين في المدارك والأنظار، وأوصلها إلى تسعة وتسعين وجها مع الوقوف عند كل وجه وبيان ما فيه (1) . وقسم شيخ الإسلام ابن عاشور الذرائع بحسب القطع بتوصيلها إلى الحرام إلى قسمين رئيسيين متبعا في ذلك –فيما يبدو- منهجه الخاص على النحو التالي: القسم الأول: لا يفارقه كونه ذريعة إلى فساد بحيث يكون مآله إلى الفاسد مطردًا، أي بحيث يكون الفساد من خاصة ماهيته.
حكم هذا القسم: هو من أصول التشريع في الشريعة وعليه بنيت أحكام كثيرة منصوصة ومعروفة مثل تحريم الخمر وغيره من الأحكام المعلومة. وهذا القسم هو الأصل المقيس عليه في هذا الباب.
القسم الثاني: قد يتخلف مآله إلى الفساد تخلفا قليلا أو كثيرًا، وهذا القسم قد كان سببا للتشريع المنصوص مثل: منع بيع الطعام قبل قبضه، وبعضه لم يحدث موجبه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكانت أنظار الفقهاء فيه من بعده متخالفة، فربما اتفقوا على حكمه وربما اختلفوا، وذلك تابع لمقدار إيضاح الإفضاء إلى المفسدة وخفائه، وكثرته وقلته، ووجود معارض ما يقتضي إلغاء المفسدة وعدم المعارض، وتوقيت ذلك الإفضاء ودوامه (2) .
مثال هذا القسم وحكمه: بيوع الآجال التي لها صور كثيرة والتي اختلفت أنظار أئمة المذاهب إليها:
فقال المالكية والحنابلة بمنعها وتبعهم الإمامية وخالفهم الشافعية والحنفية وتبعهم الظاهرية، ومنعها مالك لتذرع الناس بها كثيرا إلى إحلال معاملات الربا التي هي مفسدة.
وأخذ على مالك أنه يعتد بالتهمة في سد الذرائع، وليست التهمة سوى حكم بالظن أو الوهم.
والواقع أن مالكا لا يعتبر التهمة بذاتها ولا قصد الناس بذاته لولا دلالة ذلك على شيوع الفعل وانتشاره مما حول هذه البيوع إلا الإفضاء إلى مفسدة الربا المحرمة.
فحكم مالك بمنع بيوع الآجال سدا لذريعة الربا لم يستند فيه أساسا لمجرد تهمة أو لقصد الناس، وإنما استند لوجوب درء مفسدة دل عليها دليل من حال الناس وتماليهم على إحلال المفسدة الممنوعة، وليس للمقصد أثر في تغيير الحكم لولا أنه كان دليلا على إقبال الناس على مفسدة وإحلال ممنوع، قالوا: ألا ترى أن من كانت عادته في الجاهلية المعاملة بالربا فأسلم، فحول معاملته إلى السلم وتمعش منه، لم يكن فعله ممنوعا ولو قصد إلى استبدال أرباحه من الربا بأرباحه من السلم، ما دامت قد سلمت معاملاته من مفسدة الربا، واشتملت على المصلحة التي لأجلها أبيح السلم. وليس في الشريعة نكاية بالعباد حتى تحرمهم من ربحهم الجاري على الطريقة المشروعة لأجل مقاصدهم.
ويبدو بجلاء أن في هذا الباب مجالا فسيحا للنظر والتروي وإعمال الفكر لأن لسد الذرائع جانبا آخر لا بد لمن يفتي الناس من مراعاته، زيادة على ما تفضي إليه الذريعة من مصلحة أو مفسدة وهو جانب النفس اللوامة والوازع الديني المعبر عنهما في لغة العامة بالضمير وعلى حسب هذا الوازع ضعفا وقوة يكون التوسع أو التضييق في سد الذرائع.
يقول شيخ الإسلام ابن عاشور 0رحمه الله-: فيظهر لنا أن سد الذرائع قابل للتضييق والتوسع في اعتباره، بحسب ضعف الوازع في الناس وقوته (3) .
__________
(1) ابن القيم. إعلام الموقعين: 3، 149-171
(2) ابن عاشور. مقاصد الشريعة: 117
(3) المرجع السابق: 118.(9/1616)
موقف أئمة الفقه من الاحتجاج بسد الذرائع
سد الذرائع من أدلة الفقه عند المالكية والحنابلة والإمامية، وليس من أدلة الفقه عند الشافعية والأحناف ومثلهم الظاهرية.
أدلة الفريق الأول: يستدل الفريق الأول بجملة من الأدلة منها النقلية ومنها العقلية.
أدلتهم النقلية:
من الكتاب: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] . نهى تعالى عن كلمة (راعنا) لأنها اسم فاعل من الرعونة سدا لاستعمالها من طرف اليهود للإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (1) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه، ومن وقع في المشتبهات كان كالراتع حول الحمى يوشك أن يرتع فيه. وقال: ألا لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه)) (2) . وقوله صلى الله عليه
وسلم: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) (3) .
قال ابن رشد: "إن أبواب الذرائع في الكتاب والسنة يطول ذكرها ولا يمكن حصرها" (4) .
__________
(1) رواه النسائي والترمذي والحاكم وصححاه عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
(2) رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه
(3) رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو، ورواه أيضا أبو داود في سننه.
(4) ابن رشد. المقدمات: 3، 185 (ط. دار الفكر بيروت، 1398هـ/ 1978م) .(9/1617)
أما أدلتهم العقلية فيقولون:
أ- لو تتبعنا مواد التحريم في الكتاب والسنة لتبين لنا أن المحرمات على
قسمين:
منها ما هو محرم تحريم المقاصد مثل تحريم الشرك والزنا وشرب الخمر والقتل عدوانًا، ومنها ما هو محرم تحريم الوسائل والذرائع. وللتدليل على ذلك عدد ابن القيم في إعلام الموقعين تسعة وتسعين مثالا انتقاها من الكتاب والسنة.
ب- إن تحريم الشيء ومنعه يتطلب حتما سد الوسائل والطرق المفضية إليه، ويتم ذلك بتحريم هذه الوسائل ومنعها، ولو لم نفعل وأبحنا الطرق والوسائل الموصلة للحرام لوقعنا في التناقض لأننا نكون قد منعنا الشيء وأغرينا النفوس بفعله في الوقت نفسه، وشريعة الله المطهرة منزهة عن هذا.
أرأيت لو عمد أحد حكام الدنيا إلى منع رعيته من شراء واستهلاك البضاعة والمنتوج غير الوطني، ثم يأذن في توريد هذه البضاعة في المحالات والمتاجر، ألا يعد متناقضاً؟ بل ألا يعد مختلاً؟ لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث.(9/1618)
أدلة الفريق الثاني: وتتلخص فيما يلي:
يقولون: الذرائع هي الوسائل، والوسائل على أنواع مختلفة الحكم، فقد تكون حراما ً، أو واجبة، أو مكروهة، أو مندوبة، أو مباحة، كما أنها تختلف باختلاف مقاصدها حسب قوة الغايات (من مصالح ومفاسد) وضعفها، وحسب الخفاء والظهور. فلا يمكن حينئذ اعتبار هذه الوسائل كلية ولا إلغاؤها كلية ... وإنما الأمر يتوقف على خصوصية تقتضي اعتبارها أو إلغاءها.
ويقولون: إن الشرع مبني على الحكم بالظاهر والله يتولى السرائر أما رأيت أن الله تعالى قد أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقة المنافقين، ولم يأمره أن يحكم عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا.
وجعل الحكم في المتلاعنين بدرء الحد مع وجود علامة الزنى في المولود الذي أتت به المرأة على الوصف المكروه وهذا يدل على ترك العمل بالدلالة.
قال الشافعي: يبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع، فإذا أبطل الأقوى من الدلائل أبطل الأضعف من الذرائع كلها (1) .
وبناء على أمر الشرع بالحكم بالظاهر، وعلى إبطاله حكم الدلالة التي هي أقوى من الذريعة، وإبطال الذرائع بمفهوم الأولى، دل ذلك على أنه لا يفسد عقد أبدا إلا بالعقد نفسه، ولا يفسد بشيء تقدمه أو تأخر عنه، ولا بتوهم ولا بأغلب ظن، وكذلك كل شيء لا يفسده إلا بعقده، ولا تفسد البيوع بأن نقول هذه ذريعة، وهذه نية سوء (2) .
__________
(1) انظر الأم: 4، 312 (ط. دار الفكر، بيروت، 1403هـ/ 1983م) .
(2) انظر الأم: 4، 312 (ط. دار الفكر، بيروت، 1403هـ/ 1983م) .(9/1619)
وإذا تركنا هذا الجدل اللفظي الذي جرى بين الفريقين ونزلنا إلى المجال الفقهي التطبيقي نجد أن الخلاف يكاد ينحصر في مسألة فقهية واحدة ذات صور عديدة وهي مسألة بيع الآجال، ولا تشغل هذه المسألة من أقسام الذرائع الثلاثة (بحسب ما اتفق عليه وما اختلف فيه) إلا حيزا من أحد هذه الأقسام. وقد جاء هذا التقسيم للقرافي –رحمه الله- على النحو التالي:
القسم الأول: ما أجمعت الأمة على سده وحسم ضرره مثل: حفر الآبار دون سياج في ممرات المسلمين، وكوضع السم في طعامهم، وكسب الأصنام عند أهلها الذين يعلم من حالهم أنهم يسبون الله تعالى عند سبها.
القسم الثاني: ما أجمعت الأمة على عدم سده تجاوزا عن مضرتها المحتملة والتي يمكن التصدي لها من وجوه أخرى إلى اعتبار مصلحتها المتأكدة، مثل: التجاور في السكنى الذي هو ذريعة للزنى، ومثل: زراعة العنب باعتبار أنه ذريعة لشرب الخمر.
القسم الثالث: ما اختلف فيه العلماء باعتبار أنه ذريعة إلى مفسدة محتملة، مثل: بيوع الآجال تصير ذريعة إلى التعامل بالربا كمن باع سلعة بعشرة إلى أجل ثم اشتراها من مشتريها نقدا بخمسة قبل الأجل.
فالإجماع حاصل بين الفريقين حول القسم الأول والقسم الثاني وتحدد الخلاف بينهما في القسم الثالث وحده، ويكاد لا يتجاوز مسألة بيوع الآجال مع بعض المسائل الأخرى مثل بيع السلاح في زمن الفتنة، أو لقاطع طريق، وبيع العنب للخمار الذي يعصره خمرًا ... إلخ.(9/1620)
تحرير محل النزاع:
لتحرير محل النزاع نقول:
نظر أصحاب الفريق الأول (من مالكية وحنابلة وإمامية) في الصور الممنوعة من بيوع الآجال فرأوا أنها صار البيع فيها صورة لا مصلحة فيه، بحكم أن المشتري لم يدفع ثمنا عاجلا بل مؤجلا وقبض نقدا أقل مما في ذمته، وما سمي بيعا إذا أمعنا فيه النظر سلف بإعطاء خمسة نقدا ليأخذ عشرة مؤجلًا، والقاعدة تقول: العبرة بالأوصاف والمعاني لا بالأسماء والمباني.
وقال أصحاب الفريق الثاني: هما في الظاهر عقدا بيع تامان، ولا يعنينا أمر الباطن، ولا يفسد العقد إلا من نفسه يعني بخلل فيه لا مما أحاط به أو تقدمه أو تأخر عنه، ولا يفسده توهم أو غلبة ظن أو نية سيئة، فالحاصل في الظاهر هو انعقاد بيع صحيح أول مستقل، ثم بيع ثان مستقل أيضا ولا خلل في هيكل العقدين ولا وجه لإبطالهما أو إبطال أحدهما.
ولو تأملنا فيما يؤول إليه موقف الفريقين لوجدنا أن الفريق الأول في محل النزاع هذا، يعتمد الأصل التشريعي القائل كما عبر عنه الشاطبي: النظر في مآلات الأفعال مقصود شرعا (1) .
في حين أن الفريق الثاني لم ينظر إلى مآلات الأفعال في هذا الموضوع، وإن حصل ذلك في مجالات أخرى منها ما يلي: فقد نظر الشافعية إلى مآل عدم قتل من تترس بهم الأعداء في حرب الكفار من أطفال ونساء وأسرى المسلمين، فقالوا: المآل حينئذ: ترك الجهاد والاستسلام للعدو ليستولي على ديار الإسلام، ولهذا قالوا بقتلهم إن لم يكن من ذلك بد باعتبار ذلك أخف الضررين وللإبقاء على حوزة الإسلام وبيضته.
ونظروا في مآل عمل الوكيل فقالوا: لا يبيع ما وكل له أمر بيعه لنفسه خشية اتهامه بالغبن في الثمن.
وكذلك قالوا: بحرمان القاتل من الميراث نظرا لمآل محتمله لعمله وهو ارتكاب القتل من أجل تعجيل الميراث.
وبإبطال البيع للحربي بضاعة اشتراها منا ويستعين بها على قتالنا، أليس في هذا نظر لمآل الأفعال؟
وبعد هذا هل بقي من شك في أن الكفة راجحة لجانب الفريق الأول الذي يقول بالأصول التشريعية، ويراعيها في التطبيقات على الفروع، وأن الكفة مرجوحة لجانب الفريق الثاني الذين لا يقولون ببعض هذه الأصول التشريعية، ولكنهم في أغلب التطبيقات يراعونها بل ويعللون الأحكام الفرعية بها؟
__________
(1) انظر الموافقات: 4، 98 (ط. الدولة التونسية، 1302هـ) .(9/1621)
هل الأخذ بالذرائع مما اختص به المذهب المالكي أو أخذ بها كل المذاهب وإن لم تصرح؟ شواهد من فقه الأئمة الأربعة
سد الذرائع مقصد تشريعي عظيم استفيد من استقراء تصرفات الشريعة، كما قال شيخ الإسلام ابن عاشور –رحمه الله- (1) .
ويرجع هذا المقصد التشريعي العظيم إلى أصل تشريعي عظيم وهو النظر في مآلات الأفعال، وهذا الأصل وصفه الشاطبي بقوله: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا (2) .
ولأهمية هذا المقصد التشريعي قال القرافي: فليس سد الذرائع خاصا بمالك –رحمه الله- بل قال بها هو أكثر من غيره، وأصل سدها مجمع عليه (3) . ونازع التاج السبكي في كلام القرافي حيث قال: وزعم القرافي أن كل أحد يقول بها ولا خصوصية للمالكية إلا من حيث زيادته فيها.
ثم بعد استعراضه لتقسيم القرافي لسد الذرائع باعتبار ما أجمع عليه وما اختلف فيه التاج السبكي: قلت: وقد أطلق هذه القاعدة على أعم منها، ثم زعم أن كل أحد يقول ببعضها وسنوضح لك أن الشافعي لا يقول بشيء منها (4) .
وملخص ما قاله السبكي في معارضة كلام القرافي: أن ما ادعاه الذين نسبوا للشافعي القول بسد الذرائع يقول بها الشافعي كما يقول بها سواه من الأئمة، مثل النهي عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، ومثل الوصي يبيع شقصا على اليتيم فلا يؤخذ بالشفعة على الأصح عند الرافعي، ومثل المريض يبيع شقصا بدون ثمن المثل، وأن الوارث لا يأخذ بالشفعة كذلك على وجه سد الذرائع، ومثل المسائل المجمع على سد الذرائع فيها والتي ورد التنصيص على المنع فيها من الكتاب والسنة، مثل سب أصنام المشركين –وحفر الآبار دون سياج في طريق المسلمين- ووضع الطعام المسموم لهم. ومثلها مثل حبس الرجل دون إعطائه طعاما ولا شرابًا، وليس هو من سد الذرائع.
__________
(1) انظر المقاصد: 117.
(2) انظر: الموافقات: 98.
(3) انظر: الفروق: 2/33 (ط. دار إحياء الكتب العربية. القاهرة 1344هـ) .
(4) الأشباه والنظائر: 1، 119 (ط. دار الكتب العلمية بيروت 1411هـ/ 1991م) .(9/1622)
ينقل التاج السبكي في هذه المسائل وسواها –مما قال به الشافعي- عن والده التقي السبكي أنها ليست من سد الذرائع، وإنما أراد الشافعي رحمه الله تحريم الوسائل المستلزمة للمتوسل إليه فيقول في سياق الرد على ابن الرفعة الذي حاول تخريج قول الشافعي بسد الذرائع من كلامه في باب إحياء الموات في كتاب الأم: ونازعه الشيخ الإمام الوالد -رحمه الله- وقال: إنما أراد الشافعي –رحمه الله- تحريم الوسائل لا سد الذرائع، والوسائل تستلزم المتوسل إليه، ومن هذا النوع منع الماء، فإنه مستلزم عادة لمنع الكلأ الذي هو حرام، ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل، ولذلك نقول: من حبس شخصا ومنعه الطعام والشراب فهو قاتل له، وما هذا من سد الذرائع في شيء، قال الشيخ الإمام: (يعني والده دائماً) وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها (1) .
ثم حدد التقي السبكي محل الخلاف بين المالكية والشافعية فيقول: والنزاع بيننا وبين المالكية إنما هو سدها. ثم يقسم الذرائع كما يراها، ويحدد موقف الشافعية من كل قسم فقال:
الذريعة ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام عندنا وعند المالكية. الثاني: ما يقطع بأنها لا توصل، ولكن اختلطت بما يوصل، فكان من الاحتياط سد الباب، وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه. قال الشيخ الإمام: وهذا غلو في القول بسد الذرائع.
الثالث: ما يحتمل ويحتمل، وفيه مراتب تتفاوت بالقوة والضعف، ويختلف الترجيح عند المالكية بسبب تفاوتها. وقال: ونحن نخالفهم في جميعها إلا في القسم الأول، لانضباطه وقيام الدليل عليه (2) .
ويعقب التاج السبكي على هذا النقل المنسوب لوالده التقي السبكي بقوله: قلت: أما موافقتهم في القسم الأول فواضحة، بل نحن نقول: في الواجبات بنظيره، ألا ترانا نقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فبطريق الأولى أن نحرم ما يوقع في الحرام. وأما مخالفتهم في القسم الثاني: فكذلك، وما أظن غير المالكية يذهبون إليه، ولا أظنهم يتفقون عليه. وأما القسم الثالث: فلعله الذي حاول ابن الرفعة تخريج قول الشافعي فيه (3) .
__________
(1) الأشباه والنظائر: 1/ 120 (ط. دار الكتب العلمية بيروت 1411هـ/ 1991م) .
(2) الأشباه والنظائر: 1/ 120 (ط. دار الكتب العلمية بيروت 1411هـ/ 1991م) .
(3) الأشباه والنظائر: 1/ 120 (ط. دار الكتب العلمية بيروت 1411هـ/ 1991م) .(9/1623)
وبعد النظر فيما قاله القرافي: "فليس سد الذرائع خاصا بمالك –رحمه الله- بل قال بها هو أكثر من غيره، وأصل سدها مجمع عليه" وقد سبق ذكره في مطلع هذا الفصل. وما قاله التاج السبكي في معارضة كلام القرافي ونصه: قلت: وقد أطلق هذه القاعدة على أعم منها، ثم زعم أن كل أحد يقول ببعضها، وسنوضح لك أن الشافعي لا يقول بشيء منها، وأن ما ذكر أن الأمة أجمعت عليه ليس من مسمى سد الذرائع في شيء.
بعد النظر في هذا كله وفي التقسيم الذي ذكره التقي السبكي للذريعة، يتبين أن الشافعي يقول بالذرائع وبسدها لا كما قال التاج السبكي: إنه لا يقول بشيء منها.
والذرائع هي الذرائع وكذلك سماها التقي السبكي وتسميتها بالوسائل لا يغير من الواقع شيئا وإنما هي اصطلاحات مختلفة لمسمى واحد، ولا مشاحة في الاصطلاح وليس جرما أن يكون ما يسميه البعض وسيلة يسميه آخرون ذريعة، ما دامت اللغة تتسع، والمراد مفهوم. وليس مسمى الوسيلة أو الذريعة –هو واحد- مما يجوز أن ينقلب إلى موضوع اختلاف –وهمي في رأينا- خاصة ومن العلماء من نبه إلى الترادف بين المصطلحين وبين أن الوسائل اصطلح المالكية على تسميتها بالذرائع.
قال القرافي في مطلع كلامه في الفرق الثامن والخمسين بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل ما نصه: "وربما عبر عن الوسائل بالذرائع، وهو اصطلاح أصحابنا، وهذا اللفظ المشهور في مذهبنا، ولذلك يقولون سد الذرائع" فكون الشافعي –رحمه الله- يقول بالوسائل لا يعني هذا أنه لا يقول بالذرائع إلا إذا أثبتنا الفرق بين هذه وتلك، ولم يحصل شيء من هذا فيما رأينا من تفرقة بالقول دون تحديد ملموس.
أما أن المالكية قد توسعوا في الأخذ بسد الذرائع ما لم يتوسع فيها سواهم، فهذا واقع قامت عليه الشواهد من الفروع الفقهية.
وبناء على كل ما أسلفنا نستطيع القول: بأن الأخذ بالذرائع ليس مما اختص به المذهب المالكي بل مما أخذ به كل المذاهب ومن بينها المذهب الشافعي في أخذه بالوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه، وفي أخذه كذلك بغير المستلزمة في بعض الحالات، وإن قلت ولم تبلغ مبلغ ما أخذ به المالكية الذين توسعوا، وإن تمسك بعض الشافعية مثل التقي السبكي وتبعه ابنه التاج السبكي بعدم التصريح مما دعاهما إلى عديد التأويلات.(9/1624)
وقد ركن شيخ الإسلام ابن عاشور إلى تأصيل سد الذرائع –الذي وصفه بأنه مقصد تشريعي عظيم- وذلك بإرجاعه إلى قاعدة تعارض المصالح والمفاسد في الشريعة، وكأنه بهذا الإرجاع إلى هذه القاعدة المجمع عليها يتجاهل الخلاف الوهمي في سد الذرائع ويوافق القرافي إذ قال: وأصل سدها مجمع عليه. يقول –رحمه الله- بعد ذكر التقسيم الذي اعتمده الشهاب القرافي لسد الذرائع: "ولم يبحث عن وجوب الاعتداد ببعض هذه الذرائع دون بعض وما هو عندي إلا التوازن بين ما في الفعل الذي هو ذريعة من المصلحة، وما في مآله من المفسدة. فترجع إلى قاعدة تعارض المصالح والمفاسد ... " ثم يقول رحمه الله: "فما وقع منعه من الذرائع هو ما قد عظم فيه فساد مآله على صلاح أصله، مثل: حفر الآبار في الطرقات، وما لم يقع منعه هو ما قد غلب صلاح أصله على فساد مآله كزراعة العنب. على أن لاحتياج الأمة إلى تلك الذريعة بقطع النظر عن مآلها، وفي إمكان حصول مآلها بوسيلة أخرى وعدم إمكانه، أثرا قويا في سد بعض الذرائع وعدم سد بعضها". ولا يظن أن المراد باحتياج الأمة إلى الذريعة اضطرارها إلى وجودها. بل المراد به أنه لو أبطل ذلك الفعل الذي هو ذريعة للحق جمهورا من الناس حرج، فإن العنب تستطيع الأمة أن تستغني عنه، إلا أن في تكليفها ذلك حرمانا لا يناسب سماحة الشريعة، فكانت إباحة زراعة العنب بهذا الاعتبار أرجح مما تؤول إليه من اعتصار نتائجها خمرًا.
بخلاف التجاور في البيوت، فإنه لو منع لكان منعه حرجا عظيما، يقرب مما لا يطاق، فهو حاجي قوي للأمة، على أن ما يؤول إليه من الزنى مآل بعيد: وإن كانت مفسدته أشد من تناول الخمر (1) . هذا ولو رتبنا المذاهب السنية الأربعة بحسب كثرة الأخذ بسد الذرائع وقلته لوجدناها على النحو التالي: أكثرها توسعا في الأخذ بسد الذرائع المذهب المالكي ويليه الحنبلي.
وأقلها توسعا فيه المذهب الشافعي ويليه الحنفي. وعلى نسق هذا الترتيب نسوق فيما يلي جملة من شواهد العمل بسد الذرائع في هذه المذاهب.
__________
(1) ابن عاشور، المقاصد: 116-117.(9/1625)
شواهد من فقه المذهب المالكي في الأخذ بسد الذرائع:
يقول المالكية بسد الذرائع كلما رجحت مفسدة المآل على مصلحة الذريعة، سواء كان هذا الرجحان مقطوعا به كشرب الخمر المقطوع برجحان مفسدة مآله على مصلحة ذريعته ومآله هو السكر المغيب للعقل، وكلعب الميسر ومآله أخذ أموال الناس بالباطل وفيهما يقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، والمراد بالإثم في الآية الفساد الكبير الذي يترتب عليه إثم كبير فهو من التعبير باللازم مع إرادة الملزوم.
أو كان هذا الرجحان مما يغلب به الظن كبيوع الآجال التي تؤول إلى الربا، ومثلها بعض الصور من السلم الممنوعة ومثلها عامة الصور التي تؤول إلى محظور، وما هذا المحظور إلا أكل الربا، أو أكل أموال الناس بالباطل، أو التحيل على الغير أو التغرير به، مما يطول ذكره وهو مفصل مبسوط في كتب الفرع المالكية. إذ لسنا في حاجة إلى التدليل على توسع المذهب المالكي في مضمار سد الذرائع فهو من المسلمات.(9/1626)
شواهد من فقه المذهب الحنبلي على سد الذرائع:
نحا الحنابلة نحو المالكية تقريبا في مضمار سد الذرائع وربما تفوقوا على المالكية في سد كل ذريعة تفضي إلى بدعة فهم يتفقون مع المالكية في منع الصور التي تفضي إلى الربا في بيوع الآجال. ويمنعون كذلك ضروب الحيل: كمن يقرض آخر مالا ويشترط عليه أن يبيعه سلعة بأرفع من قيمتها أو ثمنها المعتاد، فهي حيلة للتوصل إلى أخذ العوض عن القرض.
ومن مسائلهم في هذا الباب:
- اعتبار طلاق الثلاث بلفظ طلقة واحدة؛ لأنه مخالف للطلاق السني، ولئلا يكون ذريعة لنكاح التحليل.
- منع بيع الثمار قبل بدو صلاحها ولو مع شرط الجذاذ في الحال لأن ذلك قد يكون ذريعة للتحيل وتركها حتى تنضج. وبيع الثمار قبل بدو صلاحها ممنوع للغرر بسبب ما يلحق هذه الثمار من زيادة أو نقصان، وفي تعجيل البيع تبدو رغبة البائع في تحصيل المال قبل أوانه وفي رغبة المشتري في الشراء بثمن بخس.
- منع الوكيل بالبيع من الشراء لنفسه دفعا للتهمة
- الدية على من حرم الجائع من الطعام والشراب ومعه فضل من ذلك حتى مات.
- منع بيع السلاح للمحارب أو لقاطع الطريق وزمن الفتنة.
- منع بيع العنب ممن يعلم أنه يعصره خمرًا.
شواهد من فقه المذهب الحنفي على سد الذرائع:
- قال الحنفية بمنع الآجال التي تؤول إلى الربا مثل المالكية والحنابلة.
- تقدم ديون الصحة على ديون مرض الموت والديون المعلومة السبب على الديون المجهولة السبب سدا لتهمة الإقرار بالدين.
-منع إحداث الغرف والأماكن المعزولة في المساجد دفعا لمفسدة التوسيخ والتلويث.
- منع الاستمتاع بالحائض بما يقرب الفرج منعا من الوقوع في نفس الفرج وهو حرام.
- منع خروج المرأة إلى الجمعة والجماعة سواء في ذلك الصغيرة والكبيرة، وفي الكبيرة يروى عن أبي حنيفة أنه قال: لكل ساقطة لاقطة. (يعني الافتتان بالمرأة حاصل مع الصغيرة للصغار ومع الكبيرة للكبار) .
- كراهة صوم الستة أيام من شوال من غير فصل حتى لا تلحق النافلة بالفريضة.(9/1627)
شواهد من فقه المذهب الشافعي على سد الذرائع:
أخذ الشافعية بسد الذرائع إذا تحقق إفضاؤها إلى المفسدة، بناء على قاعدة: ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام، وما كان كذلك جاء التنصيص عليه في الكتاب والسنة.
ويتحاشى الشافعية تسمية ما أخذوا به باسم الذرائع بل يقولون هو: وسيلة مستلزمة للمتوسل إليه، ويزعمون وجود الفارق بين سد الذرائع وهو لا يقولون به، وبين الوسائل المستلزمة للمتوسل إليه التي يقولون بها، ولا مجال لتوضيح هذا الفارق. وإذا دخلنا على مجال التطبيق على الفروع الفقهية في المذهب يعللون ذلك بأصول اجتهادية أخرى سوى سد الذرائع مثل ما يوصل إلى الحرام فهو حرام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومن فروع المذهب الشافعي المبنية على سد الذرائع:
- منع الوكيل عن بيع الشيء من شرائه لنفسه –مثل الحنفية- درءا لتهمة التنقيص من الثمن.
- حرمان القاتل من الميراث، ولو كان غير متهم بتعجيل الميراث حسما لأمر التهمة بسد الذرائع.
- جواز قتل من تترس به الكفار المحاربون من نساء وأطفال وأسرى المسلمين حتى لا يكون ذلك ذريعة لترك الجهاد وترك الكفار يستولون على ديار المسلمين، وفي هذا سد ذريعة عدم القتل بتجويز القتل حتى لا يفضي الأمر إلى هزيمة المسلمين وخضوعهم لأعدائهم.
- عدم لزوم المحجور عليه بإقراره بدين عليه قبل الحجر حتى لا يكون إقراره ذريعة للتصرف في أموال هذا المحجور بحيلة.
- منع المفطر بعذر من التجاهر بالأكل سدا لتهمة العصيان والفسوق.
- استحباب أداء صلاة الظهر خفية لمن تخلف عن الجمعة لعذر، دفعا لتهمة التقصير وضعف الديانة القادحة في العدالة.
- كراهية بيع العنب لمن يعصره خمرًا، والتمر لمن ينقعه نبيذًا، وبيع السلاح لمن يستعمله في العصيان، دفعا لذريعة الوقوع في الإعانة على الإثم والعدوان.
وغير ذلك من الفروع الداخلة كلها تحت مقصد سد الذرائع.(9/1628)
أثر القول بسد الذرائع، اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية
لسنا في حاجة إلى تكرار ما أسلفنا ذكره، بيد أن فيما ألمحنا إليه ما يكفي لتقرير أن القول بسد الذرائع باعتباره مقصدا تشريعيا عظيما قد أخذت به كل المذاهب دون استثناء، وإن اختلفت التسمية لدى هذه المذاهب: فالمصطلح عليه لدى المالكية والحنابلة هو اسم سد الذرائع، وعند الشافعية والأحناف فهو اسم الوسائل المستلزمة للمتوسل إليه أو هو مؤدى القاعدة: ما أدى إلى الحرام فهو حرام وإذا نعتنا سد الذرائع بكونه وصفا تشريعيا عظيما فذلك لأنه لم يكن من استنباط المذاهب المتوسعة فيه، أو المضيقة، وإنما نتيجة لاستقراء تصرفات الشريعة، فكان سد الذرائع في ثلاثة مظاهر من هذه التصرفات: في تشريع الأحكام –وفي سياسة التصرف والتعامل مع الأمم- وفي تنفيذ المقاصد الشرعية.
وفي اعتبار هذا المقصد التشريعي أثر إيجابي لا يغيب على البصيرة إذ أنه في نطاق تعارض المصالح والمفاسد وبعد الموازنة بين ما في الفعل الذي هو ذريعة من المصلحة، وبين ما في مآله من المفسدة نستطيع أن نجتهد لنتوصل إلى الحكم المناسب، وذلك بمنع وسد الذرائع التي عظم فيها فساد مآلها على صلاح الأصل، وبتجويز وفتح الذرائع التي عظم وغلب فيها صلاح الأصل على فساد المآل. وحسبنا بهذه المصلحة التشريعية لكي يقر بلزوم اعتبار هذا المقصد في الفروع الفقهية.
وقد رأينا في مجال التطبيق على مستوى كل المذاهب وما تفرعه من فروع فقهية، اعتبار هذا المقصد التشريعي على اختلاف في الأسماء والمسمى واحد وعلى تفاوت في التوسع في مجال هذا التطبيق. وهذا لا يمنعنا –في النهاية- من الاعتراف بأن لاختلاف الأنظار الاجتهادية التي تفضي باعتبار السد للذرائع في هذه القضية دون تلك أثرا جليا في اختلاف الحكم بالنسبة للقضية الواحدة من مذهب لآخر، كما كان الشأن في بيوع الآجال وقد بينا هذا الاختلاف.(9/1629)
أمثلة لفتح الذرائع وسدها:
قال شهاب الدين القرافي –رحمه الله-: "اعلم أن الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة (1) جعل سد الذرائع في الشريعة مصطلحا على سد ذرائع الفساد كما أسلفنا تفصيله. وفي مقابل السد لذرائع الشر والفساد، فتحت الشريعة ذرائع المصلحة وأوجبتها وإن كانت في أصل صورتها ممنوعة أو مباحة، وهذه المسألة هي الملقبة في أصول الفقه بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب مثال الذريعة المفتوحة من المنع إلى الوجوب: الجهاد هو في الأصل ممنوع لما فيه من إتلاف النفس والمال، فينقلب واجبا إذا صار وسيلة وذريعة إلى حماية البيضة، وحفظ سلامة الأمة، والإبقاء على مصالحها وأمنها.
مثال الذريعة المفتوحة من الإباحة إلى الوجوب: السعي في الأرض هو في الأصل مباح، وينقلب إلى واجب إذا صار سعيا لصلاة الجمعة، أو سعيا إلى الحج أو في الحج بين الصفا والمروة.
وهكذا فالوسيلة تأخذ دائما حكمها من المتوسل إليه وكذلك الشأن في وسيلة الوسيلة وهي الاستعداد للوسيلة كما جاء في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] . فقد أثابهم على الوسيلة للنيل من أعداء الله وهي الجهاد وأثابهم على ما نالهم من ظمأ ونصب ومخمصة بسبب السعي والتوصل إلى الجهاد، أي على ما نالهم بسبب وسيلة الوسيلة.
أما عن الذرائع المطلوب سدها فقد أسلفنا ما فيه الكفاية، ولنا فيما عدده ابن القيم من الأمثلة للتدليل على أن للوسائل حكم المقاصد، والتي بلغ عددها تسعة وتسعين ما فيه غنية للطالبين، والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على أشرف المرسلين.
__________
(1) انظر الفروق: 2، 33.(9/1630)
خلاصة البحث
بدأنا هذا البحث بالتعريف اللغوي والاصطلاحي للذريعة وبينا مراد العلماء
من سدها، وأن الذرائع لا يسد منها إلا ما ورد التنصيص عليه من قبل الشريعة أو ما غلبت فيه مفسدة المآل على مصلحة الفعل الذي هو وسيلة وذريعة.
ثم نوهنا بتأصيل هذه القاعدة، وكونها تستند إلى استقراء تصرفات الشريعة الإسلامية السمحة في أهم المجالات وهي: مجال تشريع الأحكام، ومجال سياسة التصرف مع الأمم، وفي مجال تنفيذ المقاصد، ثم كونها ترجع إلى مقصد شرعي عام هو تعارض المصالح والمفاسد والموازتة بينهما للتمكن من جلب المصلحة ودرء المفسدة.
وختمنا المبحث الأول بتقسيم الذرائع على ذرائع لا يتخلف مآلها إلى الفساد، وذرائع أخرى قد يتخلف ويتوقف سدها حينئذ على أمور منها: كثرة الإفضاء إلى المفسدة وعدم المعارض الذي يلغي اعتبار تلك المفسدة.
وفي مبحث، الفرق بين الذريعة والسبب، وبين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه، فبينا أن من العلماء من يقول بترادف الأربع كلمات: الذريعة والوسيلة والطريقة والسبب، وهذا لا يمنع من وجود بعض الفوارق كالتي بين الذريعة باعتبارها فعلا يفضي ويؤول إلى نتيجة وبين السبب الذي نصبه الشارع علامة وتأقيتا للحكم الشرعي مثل دلوك الشمس هو سبب وجوب صلاة الظهر، وقد تكون بين السبب والمسبب علاقة عادية وشرعية وقد تكون شرعية فقط، ويتوقف وجود المسبب على وجود سببه، بخلاف النتيجة التي هي مآل الذريعة فإنها لا تتوقف على الذريعة نفسها إذ قد تكون نتيجة لطريق وذريعة أخرى.
أما فيما يتعلق بالفرق بين الذريعة وبين الوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه: فقد بينا أنه لا فرق بينهما عند المالكية والحنابلة، وإنما الفرق عند الشافعية حيث يعرفون الوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه بأنها هي التي تفضي إلى المضرة أو المفسدة بصورة قطعية لا تحتمل التخلف وهذه الوسيلة هي التي يقولون بسدها ولا يقولون بسد الذرائع لأنها لا تفضي إلى المفسدة بنفس الدوام واليقين.
وفي مبحث المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية: عرفنا الحيلة بأنها تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، وحينئذ لا يخفى ما بين سد الذرائع وتجويز الحيل من تناقض إذ نمنع بسد الذرائع الجائز خشية الوقوع في الحرام أو الفساد، وبتجويز الحيل نفسح الطريق لذلك، ويذهب الجمهور إلى أن منع الحيل في الأمور الشرعية يدخل تحت سد الذرائع، وحددنا الفرق بين الذرائع والحيل في أمور: في العموم والخصوص، عموم الذرائع وخصوص الحيل، في إبطال الحيل لمقصد شرعي دون سد الذرائع، في توقف الحيل على القصد دون الذرائع. وما ورد في الكتاب والسنة من حيل لها تنزيلها وتخريجها ولا مجال بعد ذلك للقياس عليها.
في مبحث أقسام الذرائع بحسب القطع بتوصيلها للحرام وعدم القطع: تعرضنا لتقسيمين:
التقسيم الأول: إلى أربعة أقسام وذكرنا أمثلة لكل قسم، وقام هذا التقسيم بحسب الإفضاء إلى الحرام ودرجته، ومن المتفق عليه والمختلف فيه.(9/1631)
والتقسيم الثاني إلى قسمين رئيسين.
القسم الأول: لا يفارقه كونه وسيلة للفساد لأن ذلك من ماهيته وهذا القسم من أصول التشريع وعليه بنيت أحكام كثيرة ومثاله: شرب الخمر وقتل النفس.
القسم الثاني: قد يتخلف مآله للفساد قليلا أو كثيرًا، وهذا القسم منه المنصوص على حكمه، ومنه غير ذلك وبقي الحكم فيه إلى اجتهاد العلماء وانظارهم تبعا لمقدار الإفضاء إلى المفسدة، ومن هذا القسم بيوع الآجال وبينا حقيقة موقف الإمام مالك من أمر إناطة الحكم بالتهمة أو بالقصد أو بقصد الفاعل وإنما يتخذ منه دليلا على التمالي، وتوصلنا في آخر المبحث إلى نتيجة وهي أن سد الذرائع قابل للتضييق والتوسع بحسب المصالح والمفاسد وأيضا بحسب الوازع في الناس قوة وضعفًا.
في مبحث موقف الأئمة من الاحتجاج بسد الذرائع: وجدنا هؤلاء الأئمة على فريقين فريق المالكية والحنابلة يعتمد سد الذرائع كمقصد تشريعي، وفريق الشافعية لا يقول به ومعهم الحنفية بل يقول بالوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه، وذكرنا أدلة كل من الفريقين ثم بالنظر إلى المجال التطبيقي وجدنا كل المذاهب تأخذ بسد الذرائع ويتفاوتون في القلة والكثرة كما يختلفون في العبارة التي يستعملونها عند التعليل. وانتهينا في آخر هذا المبحث إلى ترجيح ما ذهب إليه أصحاب الفريق الأول من مالكية وحنابلة.
وفي مبحث هل اختص المذهب المالكي بالأخذ بسد الذرائع؟ : زدنا توضيحا وبيانا أن جميع المذاهب أخذت بسد الذرائع وإن لم تصرح، غاية ما في الأمر أن المذهب المالكي أكثر المذاهب أخذا وتصريحا بسد الذرائع، ثم ذكرنا جملة من الشواهد بالنسبة لكل مذهب من المذاهب الأربعة.
وفي مبحث أثر القول بسد الذرائع، أي اعتبارها أو عدم اعتبارها في الفروع الفقهية: بينا أنه أثر يؤدي إلى اختلاف في تقدير الحكم كالذي حدث في قضية بيوع الآجال.
وفي خاتمة هذا البحث أتينا بجملة من الأمثلة لفتح الذرائع، واكتفينا بما أسلفنا من أمثلة في سد الذرائع طيلة فصول البحث، وبالله التوفيق.
الطيب سلامة(9/1632)
أهم المصادر
- الأشباه والنظائر، للتاج السبكي (ط. دار الكتب العلمية بيروت 1414هـ/1991م)
- إعلام الموقعين، لابن القيم الجوزية (ط. أولى، مطبعة السعادة بمصر، 1374 / 1955)
- الأم للإمام الشافعي (ط. دار الفكر، بيروت 1403 هـ/ 1983م)
- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، للقاضي برهان الدين إبراهيم ابن فرحون (المطبعة البهية، مصر، 1302هـ)
- مقاصد الشريعة الإسلامية، لشيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور (طبعة الدار التونسية للتوزيع، تونس 1978م)
- المقدمات لابن رشد (ط. دار الفكر، بيروت 1398هـ/ 1978م مطبوع مع كتاب المدونة)
- الموافقات لابن إسحاق الشاطبي (مطبعة الدولة التونسية. ط. أولى، تونس 1302هـ)(9/1633)
سد الذرائع
إعداد
الدكتور أحمد محمد المقري
مدير المجمع الفقهي الإسلامي
برابطة العالم الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على سيدنا محمد
الأمين القائل: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم وسار على منهجهم إلى يوم الدين.
وبعد: فإن الفقه الإسلامي بأصوله وقواعده وفروعه من العلوم الجليلة التي كانت ولا تزال ذخرا ثمينا ومصدرا عظيما ثرًا يرجع إليه العلماء على اختلاف تخصصاتهم فضلا عن الفقهاء أصحاب الشأن فيه ولقد ظل هذا الفن المستنبط من المصادر الرئيسية للتشريع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس معينا يستقي منه الباحثون من طلبة العلم والمعرفة ويجدون بغيتهم فيه طوال القرون الماضية وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولا يخفى أن هذه الأصول الأربعة متفق عليها بين الأئمة الأعلام غير أنهم اختلفوا في بعض الأصول التابعة كقول الصحابي وإجماع أهل المدينة والمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان فمنهم من أخذ بالاستحسان وتوسع فيه وهم الأحناف ومنهم من أخذ بالمصالح المرسلة وسد الذرائع وتوسع فيهما وهم المالكية ومنهم من أخذ من ذلك بحذر وهم الحنابلة ومنهم من أعرض عن الجميع وهم الشافعية عدا قول الصحابي إذا لم يعرف له مخالف.
ولما كان التشريع الإسلامي جاء لتحقيق مقاصد الشريعة الخاصة والعامة وكان الهدف هو رعاية المصالح التي قصدها الشارع ودرء المفاسد التي نهى عنها الشارع كان على الفقيه تلمس المصلحة حيث كانت ثم بيان الأصل المعتمد الذي تتحقق المصلحة بمقتضاه.
ولذا فقد رأى الإمام مالك رحمه الله أن سد الذرائع أصل يعتمد عليه في تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
وعليه فمبدأ سد الذرائع عند المالكية أصبح أصلا يعول عليه في كثير من المسائل لتحقيق المصالح الخاصة أو العامة وتوسعوا في ذلك توسعا كبيرا كما أن الحنابلة أخذوا من هذا الأصل بطرف ولم يوغلوا فيه وخالفهم الشافعية والحنفية فأنكروا عليهم القول بسد الذرائع ولكنهم قالوا بتحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات لأنها مستلزمة للمتوسل إليه وتحريم الوسائل بهذا المعنى قائم على أساس يقرب من اليقين بينما القول بسد الذرائع قائم في أغلب صوره على الظن والتوهم والتخمين.
مثاله: حفر بئر في طريق المسلمين أو إلقاء السم في الأطعمة وسب أصنام المشركين كل هذه وسائل متيقن استلزامها للمتوسل إليه وهو وقوع المارة في البئر وهلاك من أكل من الطعام المسموم وسب المشركين للذات العلية وهذه كلها محرمة بالإجماع.
وحينما طلب مني الكتابة في أحد الموضوعات التي طرحتها الأمانة العامة للمجمع الفقهي الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة اخترت موضوع (سد الذرائع) وكنت أعلم أن المالكية لهم اليد الطولى في تحرير هذا الأصل وتطبيقه على الكثير من المسائل الفقهية كما كنت أعلم أيضا أن الشافعية والحنفية لا يقولون به لذلك أردت الإسهام بهذا البحث المختصر جدا لبيان أوجه الخلاف بين الأئمة حول هذا الموضوع مع بيان الأدلة التي اعتمد عليها القائلون به والمانعون منه.
أرجو الله تعالى التوفيق والسداد وهو حسبي ونعم الوكيل.(9/1634)
سد الذرائع:
التعريف: الذرائع جمع ذريعة، والذريعة لغة: هي كل ما يتخذ وسيلة ويكون طريقا إلى شيء غيره. وسدها معناه: رفعها وحسم مادتها.
وفي الاصطلاح الشرعي: كل ما يتخذ وسيلة لشيء آخر، بصرف النظر عن كون الوسيلة أو المتوسل إليه مقيدا بوصف الجواز أو المنع.
وعرفها القاضي عبد الوهاب بقوله (الذرائع هي الأمر الذي ظاهره الجواز إذا قويت التهمة في التطرق إلى الممنوع) (1) .
وقال الباجي: (الذرائع هي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوسل بها إلى فعل محظور) (2) .
وقال في كتاب الحدود: (الذرائع ما يتوصل به إلى محظور العقود من إبرام عقد أو حله) (3) .
وقال ابن رشد الجد في المقدمات: (الذرائع هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور) (4) .
وقال القرطبي: (الذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع) (5) .
وقال ابن تيمية: (الذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكنها صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم) (6) . وقال الشاطبي: (حقيقة الذرائع: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة) (7) .
وهي بهذا المعنى تشمل المتفق عليه والمختلف فيه ويتصور فيها الفتح كما يتصور فيها السد؛ لأن موارد الأحكام قسمان:
1- مقاصد، وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسها.
2- وسائل: وهي الطرق المفضية إلى المقاصد.
وحكم الوسائل كحكم ما أفضت إليه من المقاصد، فوسيلة الواجب واجبة ووسيلة المحرم محرمة.
__________
(1) الاشراف في مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 1/275
(2) كتاب الإشارات في الأصول المالكية، المطبوع بهامش حاشية السوسي على الورقات ص 113
(3) كتاب الحدود العدد الأول من صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية المجلد 2/29
(4) المقدمات 2/198
(5) الجامع لأحكام القرآن عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} 2/57
(6) الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية جـ 3 /139
(7) الموافقات للإمام الشاطبي جـ 4 /198(9/1635)
في سد الذرائع وفتحها:
قال الإمام القرافي رحمه الله: واعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، ويكره، ويندب. ويباح: فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج. غير أن الوسائل أخفض مرتبة من المقاصد، وهي أيضا تختلف مراتبها باختلاف مراتب المقاصد التي تؤدي إليها.
فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة (1)
. والوسيلة إما أن تكون:
1- توسلا بالخير إلى الخير كالنكاح المتخذ وسيلة للإنجاب، والصدق وسيلة للنجاة.
2- توسلا بالشر إلى الشر كشرب الخمر المتخذ وسيلة لارتكاب جريمة وكإلقاء النار في موضع سريع الاشتعال.
3- توصلا بالخير إلى الشر كالتوسل بالبيع إلى الربا، وبزراعة العنب إلى صنع الخمر.
4- توصلا بالشر إلى الخير كسرقة المال واغتصابه لعمل خيري من مستشفى أو مدرسة.
فيدخل في معنى الذريعة ما يلي:
1- الانتقال من الجائز إلى مثله.
2- الانتقال من المحظور إلى مثله.
3- الانتقال من الجائز إلى المحظور.
4- الانتقال من المحظور إلى الجائز.
ويتصور فيها الفتح والسد. فيقال فتح الذرائع، ومعناه: إجازة الوسائل المؤدية إلى خير وبر ويقال سد الذرائع. ومعناه: منع الوسائل المؤدية إلى كل شر وفساد ومنكر. والقرافي والشاطبي رحمهما الله يقرران هذا المعنى في سد الذرائع وفتحها بإعطاء الوسيلة حكم المقصد.
ويقول ابن القيم رحمه الله: (لما كانت المقاصد، لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها، معتبرة بها، فوسائل المعاصي والمحرمات في كراهتها، والمنع منها، بحسب إفضائها إلى غايتها، وارتباطاتها بها.
ووسائل الطاعات والقربات في محبتها، والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها. فوسائل المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل.
فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها، ويمنع منها، تحقيقا لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم، وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى تأبى ذلك كل الإباء) (2) .
__________
(1) انظر شرح تنقيح الفصول للقرافي: 449؛ سد الذرائع: 40
(2) إعلام الموقعين جـ 3/147(9/1636)
معنى سد الذرائع:
معنى سد الذرائع: سد الطرق والوسائل حتى لا تؤدي إلى آثارها المقصودة سواء أكانت محمودة، أم مذمومة، صالحة أم فاسدة، ضارة أم نافعة.
ومعنى فتح الذرائع: فتح الطرق والوسائل لتؤدي إلى آثارها المقصودة منها من غير تقييد، بكون هذه الآثار محمودة أم مذمومة صالحة أم فاسدة ضارة أم نافعة هذا كله بالمعنى العام للذريعة.
أما المعنى الخاص للذريعة فهو (عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه قويت التهمة في أدائه إلى فعل محظور) .
الشرح:
فكونه (غير ممنوع) يعني أن الوسيلة داخلة ضمن إرادة المكلف لتوصف بالمنع أو الحظر. أما ما يخرج عن قدرة المكلف فإنه يستحيل سده.
وقوله (لنفسه) يفيد ضرورة كونه في أصل وضعه جائزًا متضمنا لمصلحة المكلف فيخرج بذلك ما يكون مفسدة فلا يكون ذريعة.
وشرط (قوة التهمة) لإخراج ما يكون إفضاؤه إلى المفسدة نادرًا لا يغلب على الظن وقوعه. والتقييد (بالفعل في المتوسل إليه) لإخراج الذرائع التي تلزم عنها مفاسد لا سلطان للمكلف على حصولها أو عدم حصولها.
وكون (المتوسل إليه محظوراً) شرط ضروري لإعطاء الذريعة في الاصطلاح الخاص معناها الحقيقي وبذلك تخرج الذرائع التي توصل إلى أمر جائز أو مطلوب.
ومعنى سد الذرائع هنا يعني: حسم وسائل الفساد، ومعنى فتحها يعني: ترك الوسيلة لتؤدي إلى نتيجتها من غير منع.(9/1637)
الفرق بين الذريعة والمقدمة وبين الذريعة والوسيلة، والحيلة:
1- بين الذريعة والمقدمة:
عرفنا فيما مضى تعريف الذريعة في الاصطلاح، أما المقدمة فهي ما يتوقف عليها وجود الواجب مثل الوضوء فإنه يتوقف عليه وجود الصلاة، ويلزم من عدمه عدمها، ولا يلزم من وجوده وجودها ولا عدمها.
إذا الفرق بين المقدمة وبين الذريعة أن المقدمة الظاهر فيما جانب العدم، بمعنى أنه يلزم من عدم وجودها عدم وجود الواجب ولا يلزم من وجودها وجوده.
أما الذريعة: فالظاهر فيها جانب الوجود، بمعنى أنه إذا وجدت وجد المقصود قطعا أو احتمالًا. وبالمثال يتضح المقال: ضرب المرأة برجلها ذات الخلاخيل ذريعة للافتتان بها لأن من شأن الضرب بالأرجل أن يجر إلى ذلك، ولا يكون الضرب بالأرجل مقدمة لأن الافتتان لا يتوقف عليه.
والسفر لارتكاب معصية معينة لا تتم إلا به مقدمة لأن المعصية تتوقف على حصوله في هذه الصورة، فيكون السفر حراما كحرمة المعصية. لأن مقدمة الحرام حرام (1)
__________
(1) انظر سد الذرائع ص 84 بتصرف يسير(9/1638)
2- بين الحيلة وبين سد الذرائع:
الحيلة، والاحتيال، والتحيل: الحذق أو جودة النظر، والقدرة على دقة التصرف. ومن معانيها في اللغة والعرف: المكر، والخديعة، والكيد فتطلق على الفعل الذي يقصد به فاعله إنزال مكروه بغيره. وقد يقصد بها الوجه المحمود ومنه ما وصف الله تعالى بها نفسه بقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50] وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] .
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15-16] فإنه سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص، ومنه استدراج الغير لما فيه مصلحة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة) (1) . والحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب، وترك المحرم، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم، وعقوبة المعتدي (2) .
وتحته أيضا التوصل إلى استحلال الحرام وإبطال الحقوق، وإسقاط الواجبات، وقد غلب استعمال الحيلة في عرف الفقهاء على الممنوع المذموم منها.
وقد أطلق الفقهاء أيضا الحيلة على ما يخرج من المضايق بوجه شرعي ليكون مخلصا شرعيًا. وفرق العلماء بين نوعين من الحيل: النوع الأول:
ما يهدم أصلا من الأصول التي اعتبرها الشارع، أو يناقض مصلحة من المصالح التي راعاها الشرع سواء كانت الوسيلة إلى ذلك مشروعة أم غير مشروعة فهذا النوع حرام وممنوع.. لأن الأحكام الشرعية إنما أقيمت لمصالح معينة اعتبرها الشارع الحكيم. ولأن الأعمال وإن أخذت صورتها المشروعة ظاهرا وسائل لا تقصد لأنفسها بل للمعاني المقصودة منها وهي المصالح التي شرعت لأجلها.
فلو أجيز لفتح أمام كثير من الناس الانطلاق من قيود الشريعة والتحلل من التكاليف ولنضرب مثلا لذلك الزكاة التي شرعها الله لمصالح دينية وخلقية واجتماعية:
امتثالا لأمر الله تعالى، ورفعا لرذيلة الشح، ورفقا بالفقراء والمحتاجين، وتعاونا على البر والتقوى. فمن أخرج أمواله عن ملكه قبل انتهاء الحول بهبة صورية ليسترجعها بعد مرور الحول اسقاطا للحق المفروض عليه للفقراء في هذا المال وهربا من وجوب الزكاة فقد ارتكب إثما كبيرا وظلما عظيما ومكن لرذيلة الشح من نفسه، وأوغر صدور الفقراء ضده. وكخلع الحيلة: وهو أن يعلق الطلاق بشرط محقق تعليقا يقع به، ثم أراد منع وقوع الطلاق عند تحقق الشرط فخالعها حتى بانت ثم تزوجها بعد ذلك.
__________
(1) كتاب الجهاد من صحيح البخاري
(2) انظر إعلام الموقعين(9/1639)
النوع الثاني:
هو ما لا يهدم أصلا شرعيًا، ولا يناقض مصلحة، شهد الشرع لاعتبارها وضابطه أن يقصد به إحياء حق أو دفع ظلم، أو فعل واجب أو ترك محرم.
ونحو ذلك مما يحقق مقصود الشارع، ويسميه البعض بالمخارج فهذا النوع جائز متى كان الطريق إليه سائغا مأذونا فيه شرعًا.
فمن الحيل إحراز النفس مثلًا:
- النطق بكلمة الكفر إكراها بقصد إحراز الدم من غير اعتقاد لمقتضاها قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] . - ومن التخلص من الظلم ما فعله الرجل الذي كان يتعرض لأذية جاره وظلمه فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرح متاعه في الطريق، فجعل كل من يمر به يسأله من شأن المتاع فيخبره بأن جاره يؤذيه، فيسبه المارة ويلعنونه فكف الجار عن الأذية وجاء إلى جاره معتذرا متعهدا أن لا يؤذيه أبدا (1) .
ومن الحيل الجائزة ستر ما لا يحسن إظهاره مثل ما جاء في حديث ((إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف))
والاحتيال في هذا الباب ثلاثة أنواع:
الأول: لرفع الظلم قبل أن يقع.
الثاني: لرفع الظلم بعد وقوعه.
الثالث: لمقابلة السيئة بالسيئة وفيه تفصيل.
إما أن يكون لحق الله فلا يجوز المقابلة بالمثل كمن جرع شخصا خمرًا، أو زنى بامرأته فإنه لا يجوز المقابلة بالمثل، بل يؤخذ للمظلوم حقه عن طريق ولي الأمر وإن كان الظلم في المال. فمن العلماء من أجاز أخذ المال (2) وبالمقابل وجوزوا قلع الباب ونقب الحائط ونحو ذلك ومنهم من منع بالكلية، وتوسط آخرون.
__________
(1) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة وقد أوردته هنا بمعناه ورواه الإمام أحمد في مسنده
(2) إعلام الموقعين جـ 4 /26-27 بتصرف يسير(9/1640)
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله في الحيل:
إن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل فيه خرم قواعد الشريعة في الواقع، كالواهب ماله عند رأس الحول (1) فرارا من الزكاة، فإن أصل الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعًا. فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة، ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية (2) وقال الشيخ عبد الله دراز في تعليقه على الموافقات: جعل المفسدة في الحيل خرم قواعد الشريعة خاصة كإبطال الزكاة وهدمها بالكلية ولا يخفى أن هذا ممنوع، والهبة ذريعة إليه فتكون الحيلة أخص من الذريعة (3) . وبهذا يظهر أن التحيل على الإحكام الشرعية باطل على الجملة نظرا إلى المآل، والخلاف في ذلك إنما وقع في تحقيق المناط.
__________
(1) المراد به قبل نهاية الحول
(2) انظر تعليق دراز على الموافقات جـ 4/201
(3) انظر تعليقه جـ 4/201(9/1641)
الفرق بين سد الذرائع وتحريم الوسائل:
سد الذرائع هو منع الجائز الذي يؤدي إلى فعل محظور ومفاد التحريم والذريعة هي الوسيلة إلى الشيء فسد الذرائع بناء على هذا المعنى يعني تحريم الوسائل وإذا لا فرق بين الاصطلاحين وهذا عند المالكية لأنهم يسوون بين الذرائع والوسائل وبين سد الذرائع وتحريم الوسائل في المعنى.
وفرق الشافعية بينهما لأنهم اعتبروا القسم الأول من سد الذرائع المجمع على منعه وسائل ينطبق عليها قيد استلزام الوسيلة للمتوسل إليه بناء على قطعية الإفضاء فهو من الوسائل المحرمة وتفريقهم هذا كي لا تلزمهم الحجة بأن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع بدليل الأمثلة التالية:
حرمة حفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في أطعمتهم أو سب أصنام المشركين فهذه لصور وأمثالها وسائل عندهم فالمنع منها تحريم للوسائل لا سدا للذرائع لأنها مستلزمة للمتوسل إليه (1) .
فالفرق إذا بين سد الذرائع وتحريم الوسائل لا يستقيم إلا مع إخراج ما يستلزم المتوسل إليه ويفضي إليه بصورة قطعية عن مسمى الذرائع وهو أسلوب المانعين من الأخذ بأصل سد الذرائع لرده، وبغير هذا الإخراج لا يظهر إلا في الاستعمال اللفظي، وهو اصطلاح الآخرين (2) .
إذا فالقول بتحريم الوسائل التي تستلزم المحرم أي المتوسل إليه قائم على أساس يقرب من اليقين بينما القول بسد الذرائع قائم في أغلب صوره على الظن والتوهم والتخمين وشتان ما بينهما (3) .
__________
(1) سد الذرائع ص96 بتصرف
(2) سد الذرائع ص96 بتصرف
(3) انظر الاختلاف في الأدلة ص579 بتصرف يسير(9/1642)
أقسام الذرائع:
تنقسم الذرائع بالمعنى العام إلى قسمين:
القسم الأول: الذرائع التي تفضي إلى المصلحة وهي على نوعين:
أ- أن تكون الذريعة والوسيلة مصلحة بحد ذاتها: وعندها تكون مطلوبة أو مباحة حسب قوة وحال ما تؤدي إليه. فإن كان مباحا فمباحة كالكسب الحلال المؤدي إلى التمتع بالطيبات، وإن كان مندوبا فمندوبة كالكسب الحلال لدفع غائلة الجوع، وإن كان واجبا فواجبة كالوضوء بالنسبة للصلاة.
ب- أن تكون الذريعة المفضية إلى المصلحة مفسدة في حد ذاتها: كالسرقة من أجل الإنفاق على العيال، ففي هذه الحالة تكون الوسيلة ممنوعة وإن كانت تؤدي إلى مصلحة لأن الغاية لا تبرر الوسيلة في الإسلام إلا إذا رافقتها ضرورة ملجئة فتباح بقدر الضرورة عملا بقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها.
وهذا موضع اتفاق لدى العلماء وهو الذي تؤيده الأدلة الشرعية الإجمالية والتفصيلية وتشهد له نصوص الكتاب والسنة ويؤيده العقل وعليه إجماع المسلمين.
القسم الثاني: الذرائع المفضية إلى المفاسد وهذا القسم أيضا على نوعين:
أ- أن تكون الذريعة مفسدة في حد ذاتها وتفضي إلى المفسدة بطبعها كالسعي بالفساد بين الناس المؤدي إلى الفتنة وإيقاد نار الضغائن في النفوس، وترك السلام المؤدي إلى القطيعة غالبًا، والزنا المفضي إلى اختلاط الأنساب وضياع النسل وشرب المسكر المفضي إلى غياب العقل والإضرار بالجسم، ولا خلاف في أن هذا النوع محظور على وجه الكراهة أو الحرمة بحسب مقدار المفسدة فيه.
ب- أن تكون الذريعة المؤدية إلى المفسدة مصلحة في حد ذاتها ومشروعة، وهذا النوع من الذرائع على مراتب حسب نسبة المفسدة التي تفضي إليها واعتبار قصد الفاعل للمفسدة وعدمه وبالتالي يختلف النظر الفقهي إليها سدا وفتحًا، وقد ذكر العلماء مراتب هذا النوع من الذرائع وأقسامه، كما ذكروا حكم كل مرتبة منها ولقد فصل ابن القيم رحمه الله هذه الأقسام وبين حكمها فقال:
الفعل والقول المفضي إلى مفسدة قسمان:
أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفسد الفراش ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها.
والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه.
فالأول: كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل أو يعقد البيع قاصدا الربا أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك.
والثاني: كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر لله ونحو ذلك.(9/1643)
ثم هذا القسم من الذرائع نوعان:
أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.
والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته، فهنا أربعة أقسام:
الأول: وسيلة موضوعة إلى المفسدة.
الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة.
الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها.
الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها.
ثم ذكر رحمه الله أن الشريعة جاءت بإباحة القسم الرابع ومثل له بما يلي:
1- النظر إلى المخطوبة.
2- فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي.
3- كلمة الحق عند ذي سلطان جائر.
وقال: فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المفسدة بقي النظر في القسمين الوسط هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ وجزم بالمنع من عدة وجوه بلغت تسعة وتسعين وجها ونذكر في هذا المبحث مختارات منها:
1- قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وكانت المصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، قال: وهذا كالتنبيه أو التصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز.
2- قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 36] فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
3- نهى الله تعالى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.
4- ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) . فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده.
5- إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه وقولهم إن محمدا يقتل أصحابه.
6- أن الله تعالى أمر بغض البصر سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور.
7- أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المقرض من قبول الهدية وكذلك أصحابه حتى يحسبها من دينه لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا.
8- النهي أن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفار ولهذا لا تقام الحدود في الغزو.
9- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يشهد على اللقطة، وقد علم أنه أمين وما ذاك إلا سدا لذريعة الطمع والكتمان، فإذا بادر وأشهد كان أحسم لمادة الطمع والكتمان، قال: وهذا أيضا من ألطف أنواعها.(9/1644)
وبهذه الأمثلة نكتفي للتدليل على منع الإتيان بفعل يكون وسيلة إلى حرام وإن كان جائزا وتشمل القسمين الثاني والثالث من التقسيمات التي ذكرناها عن ابن القيم رحمه الله (1)
أما الإمام الشاطبي في الموافقات فقد قسم جلب المصلحة أو دفع المفسدة إلى ثمانية أقسام فقال: "جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين:
أحدهما: أن لا يلزم عنه أضرار الغير.
والثاني: أن يلزم عنه ذلك، وهذا الثاني ضربان:
أحدهما: أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه وصحبه قصد الإضرار بالغير.
الثاني: أن لا يقصد إضرارا بأحد، وهو قسمان:
أحدهما: أن يكون الإضرار عاما كتلقي السلع وبيع الحاضر للبادي، والامتناع عن بيع داره أو فدانه وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره.
والثاني: أن يكون خاصا وهو نوعان:
أحدهما: أن يلحق الجالب أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر، فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه ظلمة يعلم أنها تقع بغيره، أو يسبق إلى شراء طعام أو ما يحتاج إليه أو إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره عالما أنه إذا استحازه استضره غيره بعدمه، ولو أخذ من يده استضر هو.
الثاني: أن لا يلحقه بذلك ضرر وهو على ثلاثة أنواع:
أحدها: ما يكون إلى المفسدة قطعيًا، أعني القطع العادي، كحفر البئر خلف الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه لا بد وشبه ذلك.
والثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموقع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه وأكل الأغذية التي غالبها لا تضر أحدا وما أشبه ذلك.
والثالث: ما يكون غالبا كبيع السلاح من أهل الحرب، والعنب من الخمار، وما يغش به ممن شأنه الغش ونحو ذلك.
__________
(1) انظر إعلام الموقعين ج3/176-177-178.(9/1645)
والثاني: أن يكون كثيرا لا غالبا كمسائل بيوع الآجال فهذه ثمانية أقسام (1) .
ثم أسهب رحمه الله في بيان هذه الأقسام من حيث الإذن ببقائها وعدمه، وقد أوجزها صاحب كتاب سد الذرائع حفظه الله فقال وحاصلها:
1- تصرف مأذون فيه، لا يلزم عنه إضرار بالغير.
2- تصرف مأذون فيه، يلزم عنه إضرار بالغير بقصد.
3- تصرف مأذون فيه، يلزم عنه إضرار عام بغير قصد.
4- تصرف مأذون فيه، يلزم عنه إضرار خاص، بغير قصد يلحق صاحبه بمنعه من ضرر.
5- تصرف مأذون فيه، يلزم عنه بغير قصد إضرار خاص مقطوع، لا يلحق صاحبه بمنعه منه ضرر.
6- تصرف مأذون فيه، يلزم عنه بغير قصد إضرار خاص نادر، لا يلحق صاحبه بمنعه فيه ضرر.
7- تصرف مأذون فيه، يلزم عنه بغير قصد إضرار خاص كثير غالبًا، لا يلحق صاحبه بمنعه ضرر.
8- تصرف مأذون فيه، يلزم عنه بغير قصد إضرار خاص كثير لا غالب، لا يلحق صاحبه بمنعه منه ضرر.
وحيث عرفنا أن الذريعة هي الوسيلة إلى الغاية لذا فإن الأصل في اعتبار سدها هو النظر في مآلات الأفعال وما تنتهي في جملتها إليه، وحكمها أن الوسيلة إلى المحرم محرمة ويجب سدها وأن الوسيلة إلى الواجب واجبة ويجب فتحها. فالذريعة مطلوبة إذا حققت مصلحة مشروعة وهي مرفوضة إذا حققت مفسدة والمعتبر في ذلك نتيجة العمل وثمرته لا قصد من أخذ بالذريعة ونيته، فإن سب المؤمن للأصنام التي تعبد من دون الله تعبير عن نية صالحة ومع ذلك نهى الله عنه اعتبارا لما يترتب عليه فكان الملاحظ فيه هو النتيجة الواقعة لا النية الدينية المحتسبة وقد يقصد الشخص الشر بفعل مباح فيكون آثما فيما بينه وبين الله، ولكن ليس لأحد عليه سبيل ولا يحكم على تصرفه بالبطلان الشرعي كمن يرخص في سلعته ليضر بذلك تاجرا منافسًا. فمبدأ سد الذرائع ينظر إلى النية مع النفع العام ودفع الفساد العام والنية معتبرة في موازين الله عز وعلا، والنتائج في واقع الحياة معتبرة في موازين المصالح الدنيوية.
وقد تجد من التصرفات ما يحقق منفعة فردية على حساب منفعة فرد آخر دون أن يكون في الموقف نفع عام ولا فساد عام، فإن أمكن تحقيق المنفعة بأسلوب لا يضر الغير، فلا إشكال في منعه من إيقاع الضرر بالغير؛ لأن قصد الإضرار واضح كمن بنى جدارا يسد به الشمس والنور والهواء عن جاره دون أن تلجئه إلى ذلك حاجة ملحة أما إن اضطر إلى تحقيق منفعة بدون قصد الإضرار فلا بأس (2) .
__________
(1) انظر سد الذرائع ص185
(2) من بحث لفضيلة الشيخ صلاح أبو إسماعيل بتصرف يسير انظر بحوث المؤتمر الرابع للفقه المالكي 699(9/1646)
حجية سد الذرائع:
عرفنا أن الذرائع أصل في الفقه الإسلامي أخذ به أكثر الفقهاء من حيث المبدأ واختلفوا في مقداره، ولم يختلفوا في كونه أصلا ثابتًا. ومن الأمثلة المجمع عليها في سد الذرائع ما جاء من نهي عن سب الأصنام خشية أن تتخذ ذريعة لسب الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] نهوا عن ذلك حتى لا يكون ذريعة لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل يهود ومن المسائل التي يحكم فيها بالإباحة وهي محرمة أصلا من باب الذرائع.
1- دفع مال فداء للأسرى من المسلمين فإن الأصل في ذلك حرام لما فيه من تقوية للعدو المحارب وما فيه من ضرر بالمسلمين، لكنه أجيز لأنه يتحقق من ورائه حرية طائفة من المسلمين وتقوية المسلمين بإطلاق سراحهم، وهذا من باب الأخذ بفتح الذرائع لا بسدها.
2- دفع مال من المسلمين لدولة محاربة لدفع أذاها إذا لم يكن للمسلمين قوة يستطيعون بها حماية أنفسهم.
3- دفع الرشوة لدفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بها على تفصيل لدى الفقهاء وينظر في مظانه.
4- أعطاء المال لمن يقطعون الطريق على الحجاج أو التجار والمسافرين ونحوهم فقد أجاز ذلك بعض المالكية وبعض الحنابلة (1) .
ويدعي بعض الفقهاء أن مبدأ سد الذرائع مما اختص به مالك وتابعه أحمد رحمهما الله.
غير أن القرافي رحمه الله يقول: "أجمع الفقهاء على أن الذرائع ثلاثة أقسام:
أحدها: معتبر إجماعا كسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى.
ثانيها: لا عبرة به إجماعا كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر.
وثالثها: مختلف فيه كبيوع الآجال نحن اعتبرنا الذريعة فيها وخالفنا غيرنا.
فحاصل القضية أننا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا لأنها خاصة بنا (2) .
مثال: من باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر ثم اشتراها بخمسة قبل شهر، فمالك يقول إنه أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل وراء ستار من البيع الصوري، والشافعي ينظر إلى صورة البيع فيجيزها ويحمل الأمر على ظاهره؛ لأن الربا وإن يكن حراما فإن صورة هذا البيع لم تتعين وسيلة للربا وذريعة إليه لا بطريق العلم ولا بطريق الظن وإن كثر ترتب الغاية المحرمة على تلك الصورة من صور البيع.
فمالك يعتبر الكثرة ركيزة التحريم، والشافعي يعتبر أن الأصل في التصرف هو الإذن ولا يلغى هذا الأصل إلا بدليل يوجب العلم أو غلبة الظن على الأقل، ولا يكفي الحدس لإلغاء الأصل في البيع (3) .
__________
(1) انظر أصول الفقه للمرحوم الشيخ محمد أبو زهرة ص 288
(2) انظر تنقيح الفصول ص 429؛ والفروق له ج2 ص32
(3) انظر بحث سماحة المرحوم الشيخ صلاح أبو إسماعيل في كتاب بحوث المؤتمر الرابع للفقه المالكي ص702-703(9/1647)
الأصول التي اعتمد عليها القائلون بسد الذرائع:
لقد عدت الذرائع – بفتحها وسيلة إلى المصلحة أو بسدها سبيلا إلى المضرة – نصف شرائع الإسلام، وكانت قطب الرحى في مذهب الإمام مالك رحمه الله فكان مذهبا فياضا بالعطاء.
والأصل في سد الذرائع هو النظر إلى الصالح العام فيجب اتخاذ الذريعة لتحقيق مصلحة عامة ويمنع اتخاذ الذريعة درءا للمفاسد فالميزان هو جلب المصالح ودفع المفاسد ما أمكن الدفع والجلب، ولا يخالف في ذلك أحد. ولا يجوز لأي شخص أن يستمسك بمصلحة مباحة له إذا أدى الاستمساك بها إلى إحداث ضرر عام، أو منع مصلحة عامة. فتلقى السلع قبل نزولها إلى الأسواق واحتكارها لأجل التحكم في أسعارها ممنوع؛ لأنه وإن كان في أصله جائزا لأنه شراء فإنه يجب منعه لأنه سيوقع الناس في ضيق والإضرار بالناس في مصالحهم العامة لا يجوز. وبيان ذلك أن موارد الأحكام قسمان:
مقاصد: وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسهما أي التي هي في ذاتها مصالح أو مفاسد. ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحليل أو تحريم، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها.
يقول القرافي: الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة (1) .
فالأصل في اعتبار الذرائع هو النظر إلى مآلات الأفعال، فيأخذ الفعل حكما يتفق مع ما يؤول إليه سواء أكان يقصد ذلك الذي آل إليه الفعل أم لا يقصده، فإذا كان الفعل يؤدي إلى مطلوب فهو مطلوب، وإن كان لا يؤدي إلا إلى شر فهو ممنوع.
وبالنظر إلى هذه المآلات نجد أنه لا يلتفت إلى نية الفاعل بل إلى نتيجة العمل وثمرته وبحسب النتيجة يحمد الفعل أو يذم.
وسد الذرائع يقوم على عدة أصول وقواعد معتبرة عند الفقهاء منها:
1- جلب المصالح ودرء المفاسد.
2- اعتبار المآل الذي يؤيده أن المصالح معتبرة في الأحكام وليست هذه في الحقيقة إلا وسائل غايتها تحقيق مصالح معينة.
3- قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كغسل جزء من الرأس لكمال غسل الوجه.
4- أن الشافعية لا يجيزون كغيرهم من العلماء التذرع بأمر ظاهر الجواز لتحقيق أغراض غير مشروعة لما في ذلك من مناقضة للشرع، فهم يحرمون الوسائل المفضية إلى ممنوع، وغيرهم يراها من باب سد الذرائع ولا مشاحة في الاصطلاح.
5- اعتبار الشبهات عند الإمام الشافعي رحمه الله والاحتياط في درء المفاسد فهو يقبل العدل الواحد في رؤية هلال شهر رمضان لأنه إثبات عبادة، ولا يقبل في هلال شوال إلا شاهدين لأنه إسقاط فرض فوجب الاحتياط لذلك.
6- اعتبر التهم ومنه قول الشافعي رحمه الله فيما إذا أخر المعذورون صلاة الظهر حتى فاتت صلاة الجمعة أحب لهم أن يصلوها جماعة، وأن يخفوها لئلا يتهموا في الدين إلى غير ذلك.
7- قاعدة من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه – وزاد الإمام علم الدين البلقيني رحمه الله عليها فقال: " من استعجل الشيء قبل أوانه، ولم تكن المصلحة في ثبوته عوقب بحرمانه ".
__________
(1) انظر تنقيح الفصول ص449؛ والفروق جـ2 ص32(9/1648)
فأنت تلاحظ قوله: ولم تكن المصلحة في ثبوته تشمل كل الاستثناءات من القاعدة مراعاة للمصلحة (1) .
8- إذا اجتمع الحلال والحرام غلب جانب الحرام: مثاله ما نقله الإمام الجويني في السلسلة قال: لم يخرج عنها إلا ما ندر فمن فروعها إذا تعارض دليلان أحدهما يقتضي التحريم، والآخر يقتضي الإباحة قدم التحريم في الأصح. ومن ثم قال عثمان بن عفان رضي الله عنه سئل عن الجمع بين الأختين بملك اليمين، أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أحب إلي.
9- قاعدة "ما حرم استعماله حرم اتخاذه" "وما حرم أخذه حرم إعطاؤه" وعلى هذا الأساس حرم اتخاذ الملاهي وأواني النقدين واقتناء الكلب لا لصيد أو حراسة، إلى غير ذلك من الأشياء كالخنزير والحرير والحلي للرجل وإعطاء الربا وحلوان الكاهن ومهر البغي والرشوة وأجر النائحة.
10- قاعدة "اعتبار الأهم ورعاية جانبه" من ذلك تفويت الأقل حفاظا للأكثر قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: "اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة، ولو وقع مثل قصة الخضر عليه السلام في زمننا هذا لجاز تعييب المال حفاظا لأصله، ولأوجبت الولاية ذلك في حق المولى عليه حفاظا للأكثر بتفويت الأقل فإن الشرع يحصل على الأصح بتفويت المصالح، كما يدرأ الأفسد بارتكاب المفاسد (2) .
ويقول أبو زهرة رحمه الله: الأخذ بالذرائع ثابت في كتب المذاهب الإسلامية وإن لم يصرح به، وقد أكثر الإمامان مالك وأحمد، وكان دونهما في الأخذ به الشافعي وأبو حنيفة –رحمهم الله جميعاً- ولكنهما لم يرفضاه جملة ولم يعتبراه أصلا قائما بذاته، وكان داخلا في الأصول المقررة عندهما كالقياس والاستحسان الحنفي الذي لا يبتعد عما قرره الشافعي إلا في العرف.
__________
(1) انظر الأشباه والنظائر للإمام السيوطي
(2) قواعد الأحكام جـ2 ص75(9/1649)
وإن الأخذ بالذرائع لا تصح المبالغة فيه، فإن المغرق فيه قد يمتنع عن أمر مباح أو مندوب أو واجب خشية الوقوع في ظلم كامتناع بعض العادلين عن تولي أموال اليتامى، أو أموال الأوقاف خشية التهمة من الناس، أو خشية على أنفسهم من أن يقعوا في ظلم، ولأنه لوحظ أن بعض الناس قد يمتنع عن أمور كثيرة خشية الوقوع في الحرام، ولذلك قيد ابن العربي في كتابه أحكام القرآن بأن ما يحرم للذريعة إنما ثبت إذا كان المحرم الذي تسد ذريعته يثبت تحريمه بنص لا لقياس ولا لذريعة، فلا يصح أن يترك تولي مال اليتيم خشية الظلم. ولذا قال القرطبي: فإن قيل يلزم ترك مالك أصله في التهمة وسد الذريعة إذا جوز له الشراء من يتيمة، فالجواب أن ذلك لا يلزم وإنما يكون ذريعة فيما يؤدي من الأفعال المحظورة إلى محظورات منصوص عليها وأما هاهنا فقد أذن الله تعالى في صورة المخالطة ووكل المخالفين في ذلك إلى أمانته يقول تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] . وكل أمر مخوف وكل الله سبحانه المكلف إلى أمانته لا يقال أنه يتذرع إلى محظور فيمتنع، كما جعل الله النساء مؤتمنات في فروجهن، مع عظيم ما يترتب على قولهن ذلك من الأحكام ويرتبط به من الحل والحرمة وإن جاز أن يكذبن.
وبناء على ما تقدم فإنه يتقرر هنا أصلان:
الأول: أن الذرائع يؤخذ بها إذا كانت توصل إلى فساد منصوص عليه، وبالقياس إذا كانت توصل إلى حلال منصوص عليه. فسدها في الأول يكون لمفسدة عرفت بنص، وفتحها في الثاني لمصلحة عرفت بنص. ووجه ذلك أن المصلحة أو المفسدة المعرفة بنص مقطوع بها، فتكون الذرائع لخدمة النص ولكن هذا الأصل لم يتصد لذكره إلا ابن العربي، وكتب الأصول المالكية لم تتصد لذلك وظاهرها أنها لا تشترط هذا الشرط.
الأصل الثاني: إن الأمور التي تتصل في أحكامهم الشرعية بالأمانات لا تمتنع لظهور الخيانة أحيانًا، فإن المضار التي تترتب على سدها أكثر المضار التي تدفع بتركها، فلو تركت الولاية على اليتيم سدا للذريعة لأدى ذلك إلى ضياع اليتامى، ولو ردت الشهادات سدا لذريعة الكذب لضاعت الحقوق (1) .
__________
(1) أصول الفقه لأبي زهرة 295(9/1650)
الأصول التي اعتمد عليها القائلون بسد الذرائع:
استدل القائلون بسد الذرائع بشواهد كثيرة من الكتاب والسنة وعمل الصحابة هذه الشواهد تثبت هذا الأصل وتشهد للعمل به.
وقد أجاد وأفاض في الاستدلال لصحة هذا الأصل ابن قيم الجوزية في كتابه القيم إعلام الموقعين فذكر تسعة وتسعين وجها من الكتاب والسنة وعمل الصحابة تدل على منع الذرائع ثم قال بعد تحرير محل الخلاف فيها، والدلالة على المنع من وجوه فذكرها ثم قال: ولنقتصر على هذا العدد من الأمثلة الموافقة لأسماء الله الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة تفاؤلا بأن من أحصى هذه الوجوه وعلم أنها من الدين وعمل بها دخل الجنة.
ولنذكر فيما يلي عددا من الأمثلة المذكورة:
أولًا: من كتاب الله تعالى: قال تعالى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
1- حرم الله سبحانه سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا لهم وحمية لله وإهانة لأصنامهم لكونه ذريعة لأن يسب المشركون الله تعالى فكانت مصلحة ترك مسبة الله تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا من باب المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز.
2- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] نهى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية المؤمنين من قول هذه الكلمة لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها غير ما يقصده المسلمون يسبون بها النبي صلى الله عليه وسلم.
3- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] . أمر الله تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة.
4- قوله تعالى لنبيه موسى وأخيه هارون عليهما السلام {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] . فأمرهما تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفر وأعتاهم عليه. لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيق به ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى.
5- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . نهى سبحانه وتعالى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.(9/1651)
ثانيًا: من السنة:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: ((من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)) متفق عليه (1) .
جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم سابا لوالديه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده.
2- حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن والسفر بها ولو في الحج سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع (2) .
3- حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وخالتها وقال: ((إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم، حتى لو رضيت المرأة بذلك)) لم يجز لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة.
4- نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع الرجل بين سلف وبيع ولو أفرد أحدهما عن الآخر صح. وإنما ذلك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا. فانظر إلى حمايته الذريعة إلى ذلك بكل طريق.
5- السنة قضت بأنه ليس للقاتل من الميراث شيء لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسد الشارع الذريعة بالمنع.
__________
(1) البخاري ومسلم
(2) إعلام الموقعين جـ3 ص180(9/1652)
ثالثًا: في فقه الصحابة:
1- جمع الصحابة رضي الله عنهم القرآن حتى لا يضيع بموت حامله، ونسخه عثمان رضي الله عنه في مصحف واحد وأحرق ما عداه سدا لذريعة الاختلاف فيه.
2- ترك عمر رضي الله عنه الأراضي المفتوحة عنوة في يد أصحابها وفرض عليهم الخراج وجعلها وقفا على المسلمين وخالفه بعض الصحابة في أول الأمر ثم أجمعوا على رأيه بعد أن استبان لهم وجه الحق وذلك سدا لذريعة التقاعس عن الفتوح وعجز الجند (1) .
3- منع نكاح الكتابيات سدا لذريعة فتنة نساء المؤمنين بميل الرجال إلى نساء أهل الكتاب لجمالهن، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية بالمدائن فكتب إليه "أن خل سبيلها" فكتب إليه حذيفة "أحرام هي يا أمير المؤمنين؟ " فكتب إليه عمر "أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى نخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين" (2) .
4- خفة الصلاة لمدافعة الوسواس: بما أن تطويل الصلاة مستحب إلا أنه قد يكون ذريعة إلى الفتنة والوسواس ولهذا لما سئل الزبير ابن العوام رضي الله عنه عن خفة الصلاة لدى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال "نبادر الوسواس" أي سدا لذريعة الوسواس، وفي الفتنة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفتان أنت يا معاذ" حين كان معاذ يطيل الصلاة بالناس" (3) .
5- قطع شجرة بيعة الرضوان
لما رأى عمر رضي الله عنه الناس يأتون إلى شجرة بيعة الرضوان ويصلون عندها قال: "أراكم رجعتم إلى العزى ألا لا أوتى منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد، وأمر بقطع تلك الشجرة سدا لذريعة التشبه بالمشركين" (4) .
__________
(1) انظر الخراج لأبي يوسف 14-15
(2) انظر كتاب الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني 75؛ وتاريخ الفقه للدكتور محمد يوسف موسى ص86
(3) انظر الموافقات للشاطبي جـ4 ص103
(4) انظر إغاثة اللهفان جـ1 ص205؛ وسد الذرائع ص579(9/1653)
شواهد من فقه الأئمة الأربعة باتفاقهم على سد الذرائع فيها:
1- نكاح الكتابيات الحرائر اتفق الأئمة الأربعة على جوازه عملا بظاهر الكتاب واتفقوا على كراهيته عملا بمذهب الخليفة عمر خشية أن يميل إليها فتفتنه عن الدين أو يتولى أهل دينها. فسد الذريعة هنا واضح.
2- توريث المطلقة ثلاثا في مرض الموت لأنه متهم في قطع إرثها.
3- قبلة الصائم، أجمعوا على كراهيتها لمن لا يأمن أن تثير شهوته.
4- اتفقوا على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثا وهو اجتهاد لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وموافقة الصحابة عليه.
5- اتفقوا على قتل الجماعة بالواحد وهو اتفاق من قبل الصحابة.
6- اتفقوا على ضمان ما أتلفته الدابة كما هو ثابت عن الصحابة أيضا مع اختلافهم في الأحوال التي يترتب فيها الضمان.
سد الذرائع عند المالكية:
هذا أصل من أصول الاستنباط الفقهي عند المالكية، وقد بلغوا فيه مبلغا لم يبلغه أحد من أصحاب المذاهب في أخذه لهذا الأصل؛ لأن المذهب المالكي أوسع المذاهب الاجتهادية اعتمادا على رعاية المصالح بين الناس، ولهذا كان العمل بالمصالح المرسلة أصلا من أصول المذهب المالكي، وسد الذرائع ما هو إلا تطبيق عملي للعمل بالمصلحة، ومن أبرز تطبيقاتهم:
منعهم العقود التي تتخذ ذريعة إلى أكل الربا ومنها:
أ- بيوع الآجال: وهي بيوع ظاهرها الجواز تؤدي إلى ممنوع كأن يبيع شخص لأجل ثم يشتريه منه بنقد أو إلى أجل آخر، ولها عدة أحوال مختلفة تشمل كلا من الأجل والثمن والسلعة والبائع والمشتري، فالنسبة للأصل فإن الشراء الثاني قد يكون نقدا أو إلى أجل الأول أو إلى الأجل نفسه أو إلى أبعد منه.
وأما بالنسبة للثمن فإما أن يكون مثل الأول أو أقل أو أكثر، وإما أن يكون عينا أو طعاما أو عرضا أو حيوانًا.
وأما بالنسبة للسلعة، فقد يشتري البائع نفس السلعة التي باعها أو بعضها أو هي زيادة عليها أو مثلها.
وأما بالنسبة للبائع فقد يشتريها لنفسه أو وكيله أو محجوره. وأما بالنسبة للمشتري فقد يبيعها هو أو وكيله.
ومن أمثلة هذا البيع: ما يؤدي إلى: أنظرني أزدك جاء في الموطأ جـ2 ص173.(9/1654)
قال مالك في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا بمائة وخمسين إلى أجل: "هذا بيع لا يصلح ولم يزل أهل العلم ينهون عنه".
قال مالك: وإنما كره ذلك لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكر له آخر مرة، ويزداد عليه خمسين دينارا في تأخيره عنه، فهذا مكروه لا يصلح.
ولبيوع الآجال أمثلة كثيرة مبسوطة في كتب الفقه المالكي وغيره.
ب- ما يؤدي إلى بيع المال الربوي متفاضلًا، كأن يبيع صنفاًوسطا في الجودة بصنفين أحدهما أجود والثاني أردأ.
قال مالك رحمه الله: لا يصلح مد زبد ومد لبن بمدي زبد وهذا مثل من يبيع صاعين من كبيس من التمر وصاعا من حشف بثلاثةأصوع من عجوة، فهذا لا يصلح (1) .
قال ابن رشد: إن مالكا يرد هذا لأنه يتهمه أن يكون إنما قصد أن يدفع مدين من الوسط في مد من الطيب فجعل الرديء ذريعة إلى تحليل ما لا يجب من ذلك (2) . هكذا في الأصل. ولعله: ما لا يجوز.
ج- القراض بالدين: قال مالك: إذا كان لرجل على رجل دين فسأله أن يقره عنده قراضا أن ذلك يكره حتى يقبض ماله ثم بقارضه بعد أو يمسك وإنما ذلك مخافة أن يكون أعسر بماله، فهو يريد أن بؤخر ذلك على أن يزيد فيه (3) .
د- تأجيل الصداق: قال مالك: والأجل في الصداق أي يكره تأجيله بأجل معلوم ولو إلى سنة لئلا يتذرع الناس إلى النكاح بغير صداق، ويظهرون أن هناك صداقا مؤجلا (4) .
__________
(1) انظر الموطأ جـ2 ص639
(2) بداية المجتهد جـ2 ص121
(3) الموطأ جـ2 ص689
(4) انظر الشرح الكبير جـ2 ص309(9/1655)
في الفقه الحنبلي:
الحنابلة يأتون في الدرجة الثانية بعد المالكية عملا بسد الذرائع ولذلك نجد لديهم عددا كبيرا من المسائل التي اعتمدوا فيها على سد الذرائع منها:
أ- منعهم العقود المؤدية إلى الربا:
كمن اشترى نسيئة ما باعه نقدًا: قال ابن قدامة: "وإن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة: فقال أحمد في رواية حرب "لا يجوز ذلك إلا أن يغيرا السلعة لأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا فأشبه مسألة العينة" (1) .
ومنها ما يؤدي إلى بيع الطعام بالطعام نسيئة قال ابن قدامة: ومن باع طعاما إلى أجل فلما حل الأجل أخذ منه الثمن الذي في ذمته طعاما قبل قبضه لم يجز ووجه ذلك: أنه ذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نسيئة فحرم كمسألة العينة.
وعلى هذا: كل شيئين حرم النسأ فيهما لا يجوز أن يؤخذ أحدهما عوضا عن الآخر قبل قبض ثمنه إذا كان البيع نساء نص أحمد على ما يدل على هذا.
ثم قال ابن قدامة: والذي يقوي عندي جواز ذلك إذا لم يفعله حيلة ولا قصد ذلك في ابتداء العقد (2) .
__________
(1) وهي أن يشتري ما باعه إلى أجل بأقل مما باعه نقدا
(2) انظر المغني جـ4 133-134(9/1656)
ب- الوصية للمخالعة في مرض الموت:
إذا خالع الزوج امرأته في مرض الموت صح خلعه، فإذا أوصى لها بعدما خالعها فإن كان ما أوصى به لها أقل مما كانت تستحقه بالإرث فلا تلزم الوصية إلا بمقداره لأنه يفهم أنه اتخذ الخلع والوصية ذريعة ليوصل إليها أكثر من حقها، ويدخل الضرر على بقية الورثة (1) .
ج- منعهم العقود التي تؤدي إلى الحيل:
قال ابن القيم: وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن والمحتال يفتح الطريق إليها بحيله فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه؟ (2) .
ومثل ذلك عدم قطع الثمرة المشتراة حتى يبدو صلاحها. قال ابن قدامة: اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها، فتركها حتى بدا صلاحها فنقل عنه حنبل وأبو طالب: أن البيع باطل ونقل أحمد بن سعيد أن البيع لا يبطل قال في تعليل البطلان: لأن صحة البيع تجعل ذلك ذريعة إلى شراء الثمرة قبل بدو صلاحها وتركها حتى يبدو صلاحها ووسائل الحرام حرام كبيع العينة.
- وبعد مناقشة الروايتين قال: - وهذا فيما إذا لم يقصد وقت الشراء تأخيره ولم يجعل شراءه بشرط القطع حيلة على المنهى عنه من شراء الثمرة قبل بدو صلاحها وتركها حتى يبدو صلاحها، فأما إن قصد ذلك فالبيع باطل من أصله لأنه حيلة محرمة (3) .
__________
(1) انظر المغني جـ7 ص356
(2) إعلام الموقعين جـ3 ص 171
(3) انظر المغني جـ4 65-67(9/1657)
د- الشراء ممن يرخص في السلع:
نقل عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يكره الشراء ممن يرخص في السلع، ليمنع الناس من الشراء من جاره، وقد ورد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام المتباريين وهما الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر في التبرع والذي يرخص في السعر للإضرار يشبه هذا بل هو أشد قبحا لأنه يعمد إلى الإضرار بغيره.
قال ابن القيم: ونص الإمام أحمد على كراهية الشراء من هؤلاء، وهذا النهي يتضمن سد الذريعة من وجهين: أحدهما: أن تسليط النفوس على الشراء منهما وأكل طعامهما تفريح لهما وتقوية لقلوبهما وإغراء لهما على فعل ما كرهه الله ورسوله.
الثاني: أن ترك الأكل من طعامهما ذريعة إلى امتناعهما وكفهما عن ذلك (1) .
__________
(1) انظر إعلام الموقعين ج3 ص203(9/1658)
في الفقه الحنفي:
كنا قد ذكرنا أن الحنفية والشافعية لا يقولون بسد الذرائع غير أنا نجد في كتب الفقه لديهم ما يفيد بأنهم يقولون بهذا الأصل فمن ذلك:
أ- صوم يوم الشك:
المختار عند الحنفية استحباب صوم المفتي ليوم الشك ويفعله سرا حتى لا يتهم بالعصيان ويفتي الناس بالإفطار حسما لمادة اعتقاد الزيادة. قال ابن الهمام: المختار أن يصوم المفتي بنفسه أخذا بالاحتياط ويفتي العامة بالتلوم إلى وقت الزوال ثم بالإفطار، حسما لمادة اعتقاد الزيادة، ويصوم المفتي سرا لئلا يتهم بالعصيان. فطلب الأسرار بصوم الشك من الإمام وغيره من الخاصة حتى لا يكون ذريعة لاتهامهم بمخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الشك.
وهذا تطبيق عملي لسد الذرائع.
ب- الحداد على البائن والمتوفى عنها زوجها:
قال في الهداية: وعلى المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت بالغة مسلمة الحداد وهو الامتناع عن الطيب والزينة والدهن والكحل لإظهار التأسف، ولأن المرأة إن كانت متزينة متطيبة تزيد رغبة الرجال فيها، وهي ممنوعة النكاح ما دامت في عدة الوفاة أو الطلاق فيجتنبها حتى لا تصير ذريعة إلى الوقوع في المحرم (1) .
__________
(1) انظر الهداية جـ3 ص291-194(9/1659)
ج- إقرار المريض:
إذا أقر المريض بدين – وهو في مرض الموت- فإنه يتهم أنه قصد بهذا الإقرار إبطال حق الغير، ولذلك لا يكون هذا الإقرار ملزما كما لو كان في حال الصحة.
ولهذا إذا أقر بدين في مرضه وعليه دين في الصحة قدم دين الصحة، وكذلك الدين الذي لزمه حال المرض تقدم هذه الديون على ما أقر به من ديون غير معلومة الأسباب لاتهامه بأنه قصد مضايقة الغرماء.
قال صاحب الهداية: وإذا أقر الرجل في مرض موته بديون وعليه ديون في صحته وديون لزمته في مرضه بأسباب معلومة فدين الصحة والدين المعروف الأسباب مقدم.
ويقول صاحب الهداية في البداية: ولنا أن الإقرار لا يعتبر دليلا إذا كان فيه إبطال حق الغير، وفي إقرار المريض ذلك لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال استيفاء، ولهذ منع التبرع والمحاباة إلا بقدر الثلث (1) .
__________
(1) انظر الهداية جـ7 ص2-3(9/1660)
في الفقه الشافعي:
وكما أشرنا سابقا إلى أن الشافعية لا يقولون بسد الذرائع ولكنهم يقولون بتحريم الوسائل ونذكر هنا بعض الأمثلة التي ظاهرها العمل بسد الذرائع منها:
1- إخفاء صلاة الجماعة للمعذورين في ترك الجمعة:
المعذورون في ترك الجمعة –كالمرضى والمسافرين- يصلون الظهر مكانها في جماعة أو فرادى واستحب الشافعي رحمه الله لهم إخفاء الجماعة سدا لذريعة التهمة في تركهم لصلاة الجمعة.
قال النووي قال الشافعي والأصحاب: ويستحب للمعذورين الجماعة المشروعة هذا الوقت الجمعة: قال النووي: والمذهب الأول كما لو كانوا في غير البلد، فإن الجماعة تستحب في ظهرهم بالإجماع. وقال: فعلى هذا قال الشافعي أستحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا وينسبوا إلى ترك الجمعة تهاونا (1) ولعله أراد الجمعة.
2- المفطر بعذر في رمضان لا يجهر بفطره:
المسافر والمريض إذا أفطرا في رمضان بسبب السفر أو المرض يستحب لهما أن يخفيا فطرهما عند من يجهل أمرهما. سدا لذريعة التهمة بالفسوق والمعصية.
قال الشيرازي في المهذب "فإن قدم المسافر وهو مفطر، أو برئ المريض وهو مفطر استحب لهما إمساك بقية النهر لحرمة الوقت. ولا يجب ذلك لأنهما أفطرا بعذر، ولا يأكلان عند من لا يعرف عذرهما بخوف التهمة والعقوبة (2) .
__________
(1) انظر المجموع جـ4 ص363؛ وسد الذرائع 498
(2) شرح المهذب جـ6 ص262(9/1661)
3- عدم تضمين الأجير المشترك:
الصحيح عند الشافعي رحمه الله تعالى أن الأجير لا يضمن مطلقًا، خاصا كان أو مشتركا ويرى الربيع أنه كان لا يبوح بهذا خوفا من ضياع أموال الناس.
جاء في الأم: قال الربيع: الذي يذهب إليه الشافعي أنه لا ضمان على الصناع إلا ما جنت أيديهم ولم يكن يبوح بذلك خوفا من الضياع (1) .
وظاهرة العمل بسد الذرائع حيث امتنع عن فتوى الناس بما يرى صحته حتى لا يتخذها الفجار ذريعة لتضييع الأموال بالتهاون في حفظها والعناية بها (2) .
4- قضاء القاضي بعلمه:
من المقرر لدى الشافعي رحمه الله: أن القاضي يقضي بعلمه، ولكنه كان يكره الكلام بهذا بعدما فسد القضاة سدا لذريعة الجور على الناس.
قال في الأم: "إذا كان القاضي عدلا فأقر رجل بين يديه بشيء كان الإقرار عنده أثبت من أن يشهد عنده كل من يشهد لأنه قد يمكن أن يشهدوا عنده بزور، والإقرار عنده ليس فيه شك، وأما القضاة اليوم فلا أحسب أن أتكلم بهذا كراهية أن أجعل لهم سبيلا إلى أن يجوروا على الناس والله الموفق (3) .
كما توجد مسائل أخرى في فقه الشافعية ظاهرها العمل بسد الذرائع، من ذلك:
1- إقرار المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر حكموا بعدم لزومه في حقه وهل يلزم في حق الغرماء فيه قولان.
2- حرمان القاتل من الميراث بكل حال حسما للباب وسدا لذريعته.
3- قاعدة من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
__________
(1) انظر الأم جـ3 ص264
(2) انظر أثر الأدلة 590
(3) انظر الأم جـ7 ص44(9/1662)
لكن الشافعي رحمه الله في كتابه الأم نص على عدم الأخذ بسد الذرائع، واتهم القائلين به بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لسببين أساسيين:
الأول: أن سد الذرائع مظهر من مظاهر الاجتهاد بالرأي وهو وأتباعه لا يأخذون من ذلك إلا بالقياس؛ لأن العلم خمس طبقات، نص عليها الإمام الشافعي بقوله: "العلم طبقات شتى: الأول: الكتاب والسنة إذا ثبتت، ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قولا ولا نعلم له مخالفا منهم، الرابعة: اختلاف الصحابة في ذلك،والخامسة:القياس على بعض الطبقات،ولا يصار إلى شىء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى (1) .
الثاني: أن الشافعي رحمه الله كان يرى أن الشريعة تبنى على الظاهر، وأنه يجب ألا نتجاوز في تفسيرها حكم النص، ولهذا قصر مصادر الأحكام الشرعية على الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة، والقياس على النص ورفض الاستحسان وقال: من استحسن فقد شرع لأن الاستحسان لا يعتمد على النص في عبارته ولا إشارته، ولا دلالته، بل يعتمد على ما ينقدح في نفس الفقيه الفاهم لأصولها، وفروعها، ومصادرها، ومواردها، أو على روح الشريعة ومعانيها الكلية (2) .
قال رحمه الله في الأم: "الأحكام على الظاهر والله ولي المغيب، ومن حكم على الناس بالأزكان (3) جعل لنفسه ما حظر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. لأن الله عز وجل إنما يولي الثواب والعقاب على المغيب لأنه لا يعلمه إلا هو جل ثناؤه وكلف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر. ولو كان لأحد أن يأخذ بباطن عليه دلالة كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل ما دل على ما وصفت من أنه لا يحكم بالباطن؟ قيل كتاب الله ثم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ذكر الله تبارك وتعالى المنافقين فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} قرأ إلى {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناكحون ويتوارثون ويسهم لهم إذا حضروا القسمة ويحكم لهم أحكام المسلمين، وقد أخبر الله تعالى ذكره عن كفرهم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم اتخذوا أيمانهم جنة من القتل بإظهار الأيمان على الإيمان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي إليه على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ به، فإنما أقطع له بقطعة من النار)) ، فأخبرهم أنه يقضي بالظاهر، وأن الحلال والحرام عند الله تعالى على الباطن، وأن قضاءه لا يحل للمقضى له ما حرم الله تعالى عليه إذا علمه حراما (4) .
__________
(1) انظر الأم جـ7 ص246
(2) انظر سد الذرائع ص681
(3) هو تفهم الشيء بالظن والتفرس
(4) انظر الأم جـ2 ص41-42(9/1663)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن محارم الله تعالى فمن أصاب منكم من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله)) فأخبرهم أنه لا يكشفهم عما لا يبدو من أنفسهم، وأنهم إذا أبدوا ما فيه الحق عليهم أخذوا بذلك (1) .
وفي كتاب الاستحسان من كتاب الأم قال الشافعي رحمه الله: وفي جميع ما وصفت ومع غيره مما استغنيت بما كتبت عنه عما فرض الله تعالى على الحكام في الدنيا دليل على أن حراما على حاكم أن يقضي أبدا على أحد من عباد الله إلا بأحسن ما يظهر وأخفه على المحكوم عليه، وإن احتمل ما يظهر منه غير أحسنه كانت عليه دلالة بما يحتمل ما يخالف أحسنه وأخفه عليه. أو لم تكن لما حكم الله في الأعراب الذين قالوا آمنا. وعلم الله أن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، وما حكم الله تعالى به في المنافقين الذين أعلم الله أنهم آمنوا ثم كفروا وأنهم كذبة بما أظهروا من الإيمان، وبما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتلاعنين حين وصف قبل أن تلد إن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق، فجاءت به على الوصف الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم لزوجها فلا أراه إلا قد صدق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن أمره لبين)) ، أي لقد زنت وزنى بها شريك الذي رماه زوجها بالزنى، ثم لم يجعل الله إليهما سبيلا إذا لم يقرا، ولم تقم عليهما بينة، وأبطل في حكم الدنيا عليهما استعمال الدلالة التي لا يوجد في الدنيا دلالة بعد دلالة الله على المنافقين والأعراب أقوى مما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مولود امرأة العجلاني قبل أن يكون، ثم كان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: والأغلب على من سمع الفزاري يقول للنبي صلى الله عليه وسلم، "إن امرأتي ولدت غلاما أسود وعرض بالقذف إنه يديد القذف، ثم لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن التعريض ظاهر قذف، فلم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه حكم القاذف. قال: والأغلب على من سمع قول ركانة لامرأته أنت طالق البتة أنه يعقل أنه قد أوقع الطلاق بقوله طالق، وأن البتة إرادة شيء غير الأول أنه أزاد الإبتات بثلاث ولكنه لما كان ظاهرا في قوله واحتمل غيره لم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بظاهر الطلاق وذلك واحدة.
__________
(1) انظر الأم جـ2 ص41-42(9/1664)
ثم قال الشافعي رحمه الله: "فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالا على أن ما أظهروا يحتمل غير ما أظهروا بدلالة منهم، أو غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة وذلك أن يقول قائل من رجع عن الإسلام ممن ولد على الإسلام قتلته. ولم أستتبه، ومن رجع عنه ممن لم يولد على الإسلام استتبته، ولم يحكم الله تعالى على عباده إلا حكما واحدًا، مثل أن يقول: من رجع عن الإسلام ممن أظهر نصرانية أو يهودية أو دينا يظهر كالمجوسية استتبته، فإن أظهر التوبة قبلت منه ومن رجع إلى دين يخفيه لم استتبه قال الشافعي: وكل قد بدل دينه الحق ورجع إلى الكفر فكيف يستتاب بعضهم ولا يستتاب بعض وكل باطل (1) .
وقال الشافعي: العلم من وجهين، اتباع، واستنباط، والاتباع اتباع كتاب فإن لم يكن فسنة وإن لم يكن فقول عامة من سلف، لا نعلم له مخالفاً فإن لم يكن فقياس على كتاب الله عز وجل، فإن لم يكن فقياس على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن فقياس على قول عامة من سلف، لا مخالف له، ولا يجوز القول إلا بالقياس (2) .
وفي الرسالة يقول الشافعي: "ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا من جهة عالم مضى قبله، وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والإجماع والآثار".
وما وصفت من القياس عليها (3) وفي كتاب إبطال الاستحسان أيضا من الأم يقول: (إنه لا يفسد عقد أبدًا، إلا بالعقد نفسه، لا يفسد بشيء تقدمه، ولا تأخره، ولا بتوهم، ولا بأغلب، وذلك كل شيء لا تفسده إلا بقصده، ولا تفسد البيوع بأن نقول: هذه ذريعة، وهذه نية سوء، ولو جاز أن نبطل من البيوع بأن يقال: متى خاف أن يكون ذريعة إلى الذي لا يحل كان أن يكون اليقين من البيوع بعقد ما لا يحل، أولى أن ترد به من الظن. ألا ترى أن رجلا لو اشترى سيفا ونوى بشرائه أن يقتل به، كان شراء حلال، وكانت النية بالقتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع، وكذا لو باع البائع سيفا من رجل يراه أن يقتل به رجلا كان هكذا) ثم يقول: "فإذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكام الإسلام على أن العقود إنما يثبت بالظاهر عقدها، لا يفسدها نية العاقدين، كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة، فأولى ألا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها ثم سيما إذا كان توهما ضعيفا والله تعالى أعلم (4) ".
__________
(1) انظر الأم ج7 و269-270
(2) انظر اختلاف الحديث للشافعي المطبوع على هامش الأم ج7 ص148، 149
(3) انظر الرسالة الفقرة: 1468
(4) انظر الأم ج7/270(9/1665)
وفي جواز بيوع الآجال عند الشافعي يقول رحمه الله: "من باع سلعة من السلع إلى أجل وقبضها المشتري فلا بأس أن يبيعها من الذي اشتراها منه بأقل من الثمن أو أكثر بدين أو نقد، لأنها بيعة غير البيعة الأولى. قال: "وإذا اشترى الرجل طعاما إلى أجل فقبضه فلا بأس أن يبيعه ممن اشتراه منه، ومن غيره بنقد، وإلى أجل، وسواء في هذا المعين وغير المعين (1) فأنت ترى أن الشافعي رحمه الله يشدد على صحة العقود وأنه لا يفسدها ما يأتي بعدها أو قبلها ولا يفسدها غير عاقدها، وأن التهمة لا تصح وسيلة لإبطال العقود.
لكننا نجده في باب إحياء الموات يناقش قضية منع فضل الماء بعد أن أورد حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من منع فضول الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة)) قال الشافعي رحمه الله: وفي منع الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله عام يحتمل معنيين: أحدهما أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى (2) . قال الشافعي: فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام، وهذا تحريم منه للوسائل كما أشار إلى ذلك ابن السبكي رحمه الله حيث قال: قال الشيخ الإمام الوالد: إنما أراد الشافعي رحمه الله تحريم الوسائل لا سد الذرائع، والوسائل تستلزم المتوسل إليه، ومن هذا منع الماء، فإنه يستلزم منع الكلأ والذي هو حرام، ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل، ولذلك نقول: من حبس شخصا ومنعه من الطعام والشراب فهو قاتل له وما هذا من سد الذرائع في شيء.
قال الشيخ الإمام: وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها وأصل النزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها.
وعقب على ذلك صاحب كتاب أثر الأدلة بقوله: وهذا التحقيق سديد ووجيه فالقول بتحريم الوسائل التي تستلزم المحرم المتوسل إليه قائم على أساس يقرب من اليقين، بينما القول بسد الذرائع قائم في أغلب صوره على الظن والتوهم والتخمين، وشتان بينهما، ولأجل ذلك كان مسلك الشافعي رحمه الله تعالى أخذ الناس بالتهم، وإفساد تصرفاتهم بالظن مسلكا سليما وصحيحا يتفق مع ما دلت عليه نصوص الشريعة السمحة من أخذ المكلفين بظواهرهم، وترك سرائرهم إلى الله تعالى –كما أثبت الشافعي بما سقناه لك من كلام وبيناه في جلاء موقفه- وذلك كي تستقر للناس أحوالهم ويطمئنوا إلى تصرفاتهم، طالما أنها لا تصادم الشريعة في ظاهرها (3) والله أعلم.
__________
(1) انظر الأم ج3/33
(2) انظر الأم ج7/272
(3) أثر الأدلة المختلف فيها ص579(9/1666)
الغلو في سد الذرائع:
لا يخفى أن المالكيين غالوا في إعمال سد الذرائع من ذلك:
1- ما نقله الشاطبي صاحب كتاب الاعتصام عن الإمام مالك كراهيته لصيام ست من شوال خوفا أن يعدها الناس من رمضان (1) .
وقد ثبت استحبابها بالحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فذلك صيام الدهر) رواه مسلم.
2- تركهم لقراءة سورة السجدة فجر يوم الجمعة (2) خشية أن يعتقد الناس وجوبها، وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر الم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان (3) .
3- الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات نقل عن الإمام مالك كراهة الدعاء بأثر الصلوات على هيئة الاجتماع وعللوا كراهيته لذلك بأنه سبب لحصول الكبر والخيلاء للإمام حيث يجتمع له أمران التقدم في الصلاة وشرف كونه نصب نفسه واسطة بين الله تعالى وبين عباده في تحصيل مصالحهم على يده (4) .
4- فيمن تزوج امرأة في عدتها ودخل بها قالوا بالتفريق بينهما وبتحريمها عليه إلى الأبد. بينما الإمامان أبو حنيفة والشافعي يقولان بالتفريق فإذا انقضت العدة فلا بأس بتزويجه إياها وهي الرواية المشهورة عن الإمام أحمد (5) .
5- قولهم بكراهة القبلة للصائم ولو كان يأمن أن تثير شهوته. والإمامان أبو حنيفة والشافعي يقولان لا يكره لمن كان يأمن على نفسه وهو رواية عن أحمد (6) .
6- توريث المبتوتة في مرض الموت سواء مات في عدتها أو بعدها تزوجت أم لم تتزوج (7) غير أن الشافعي في القول الجديد وجماعة قالوا بعدم توريثها، وقال بعضهم بتوريثها ما لم تتزوج، ومنهم من قال بتوريثها ما دامت في العدة (8) .
__________
(1) انظر الاعتصام للشاطبي جـ1/211
(2) بداية المجنهد جـ2-47
(3) النووي على مسلم جـ6/168
(4) انظر الاعتصام جـ1-353
(5) انظر بداية المجتهد جـ2-51
(6) انظر تفسير القرطبي جـ2/323
(7) انظر بدايةالمجتهدجـ2-82؛ والمغني جـ6/372
(8) انظر بداية المجتهد جـ2-82؛ والمغني جـ6/372(9/1667)
فأنت ترى أن المالكية اختاروا حكم التغليظ مع إمكان سد الذريعة بما دونه كما في تحريم الزواج أبدا بمن عقد عليها في عدتها.
وقد يكون هذا الاختيار مخالفة لنص ثابت ككراهة الإمام لصوم الست من شوال ونحو ذلك. والحاصل أن إعمال سد الذرائع في هذا الزمان أصبح ضرورة بعد فساد كثير من الناس، وعدم الورع لدى غالبهم، إلا أن الغلو فيه فيما لا مبرر شرعي ولا عقلي له غير مقبول فقد ذكروا مثلا أن مالكا رحمه الله أمر بحبس ابن مهدي لوضعه الرداء بين يديه أثناء الصلاة واعتبر مالك رحمه الله ذلك حدثا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الحنفية فقد وردت شواهد في فقههم عند سد الذرائع ومع أنهم لا يعتبرون سد الذرائع أصلا من أصولهم كالمالكية لعدم اعتبارها لصحة العمل به إلا أننا نجدهم يطبقون هذا الأصل من خلال ما يلي:
1- الاستحسان الذي هو أصل عندهم وهو باب واسع توسع فيه الأحناف أكثر من غيرهم فمن خلاله يلجون إلى العمل بالمصلحة وسد الذرائع إذ إن بعض صور الاستحسان عندهم لا تختلف عن صور سد الذرائع عند المالكية.
2- عملهم بسد الذرائع في فروع كثيرة منها:
1- المنع من بعض صور بيوع الآجال لأن من الشروط المعتبرة في صحة العقود عندهم خلوها من شبهة الربا لأن الشبهة ملحقة بالمحرمات احتياطا (1) .
2- استحباب صوم المفتي ليوم الشك وينبغي أن يفعله سرا حتى لا يتهم بالعصيان ويفتي العامة بالتلوم والانتظار بدون طعام ولا شراب حتى وقت الزوال ثم يأمرهم بالإفطار حسما لمادة اعتقاد الزيادة.
وهذا تطبيق لسد الذرائع يشهد بإعمال الحنفية له (2) .
3- نص علماء الحنفية على تحريم اللمس والقبلة للمعتكف معللين ذلك بأنها من دواعي الوطء المحرم عليه بقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (3) [البقرة: 187] .
4- نصوا على أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام، وأن الوسيلة إلى الشيء حكمها حكم ذلك الشيء وهذا أصل الحكم بسد الذرائع.
مثال: قولهم: (ولا يباح للشواب الخروج إلى الجماعات لنهى عمر عن ذلك. ولأن خروجهن إلى الجماعة سبب الفتنة والفتنة حرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام (4) إلى غير ذلك من المسائل التي لا يتسع المقام في هذا البحث المختصر لذكرها.ومع كون الشواهد واضحة الإستعمال في سد الذرائع إلا أنهم لا يعتبرونه أصلا عندهم بل وينكرون على المالكية القول بسد الذرائع وكأنهم يفسرون ذلك بتحريم الوسائل كما هو الحال عند الشافعية. والله أعلم.
__________
(1) انظر بدائع الصنائع للكاساني جـ5/199
(2) انظر فتح القدير جـ2-57؛ وبدائع الصنائع ج: 2/78
(3) فتح القدير جـ2/113
(4) بدائع الصنائع جـ1/157؛ وانظر سد الذرائع من 651-655(9/1668)
وأما الشافعية فلم يقولوا بسد الذرائع ولم يعتبروه أصلا من أصولهم بل شددوا النكير على القائلين به واعتبر الشافعي رحمه الله القائلين به مخالفين للتنزيل والسنة وذلك لسببين أساسيين:
الأول: أن سد الذرائع مظهر من مظاهر الاجتهاد بالرأي وهم لا يأخذون منها إلا بالقياس لأن العلم عندهم خمس طبقات نص عليها الإمام الشافعي رحمه الله وهي: الكتاب والسنة إذا ثبتت والإجماع وقول الصحابي الذي لا يعلم له مخالف وما اختلف فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم القياس على بعض الطبقات.
أما الاستحسان والمصلحة وما إليها من وجه العمل بالرأي فقد أبطلها جملة.
الثاني: أن الشافعي رحمه الله كان يرى أن الشريعة تبنى على الظاهر، وأنه يجب ألا تتجاوز في تفسيرها حكم النص. ورفض الاستحسان رفضا قاطعا وقال: (من استحسن فقد شرع) لأن الاستحسان لا يعمد على نص ولما كانت الشريعة تبنى على الظاهر فإنها تنفذ كذلك على حسب الظاهر – فليس للحاكم أن يتكشف نيات الناس، وخفايا نفوسهم. وقد نقلنا شيئا من أقواله رحمه الله فيما سبق من البحث. وعلى أساس هذا الظاهر التزم الشافعي في حكمه على العقد بحسب ما تدل عليه ألفاظه وما يستفاد منه في اللغة وعرف العاقدين في الخطاب من حيث الصحة والبطلان. ولا اعتبار للنيات الباطنة في العقود ولذا نجده يقول: (أنه لا يفسد عقد أبدا إلا بالعقد نفسه، لا يفسد بشيء نقدمه ولا تأخره، ولا بتوهم ولا بأغلب، وكذلك كل شيء لا نفسده إلا بقصده ولا تفسد البيوع بأن يقول: هذه الذريعة وهذه نية سوء (1) ... إلخ. وقد نقلنا عنه ذلك في أثناء البحث ولذا أجاز رحمه الله صور بيوع الآجال لأن عقودها صحيحة.
__________
(1) انظر الأم جـ4/92، جـ7/270(9/1669)
غير أنا نجد أن الشافعية أعملوا سد الذرائع في فقههم واعتبروه من باب تحريم الوسائل المستلزمة للمتوسل إليه فمن ذلك:
1- ما يرجع إلى الكتاب كما جاء في قوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
ونظائر ذلك كثير في القرآن الكريم.
2- ما يرجع إلى السنة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه" (1) ونظائر ذلك في السنة كثير.
3- ما يرجع إلى القياس: كحرمة الصيد إذا نصب له الفخ قبل الإحرام قياسا على ما جاء في قصة أصحاب السبت (2) ومثل منع الموصى له القاتل للوصي من حقه في الوصية قياسا على منعه من الإرث وأمثال ذلك كثير.
ثانيًا:
وبما أن سد الذرائع يقوم على عدة أصول ذكرناها في البحث فقد ارتبطت بهذا الأصل قواعد معتبرة عند الشافعية منها: قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد التي لا يخالف فيها أحد، وقاعدة اعتبار المآل فكل مقدمة لنتيجة أو وسيلة تفضى قطعا أو ظنا أو غالبا أو نادرا إلى غاية معينة تأخذ حكمها بحسب قوة إفضائها (3) .
وقاعدة ما لا يتم الواجب إلى به فهو واجب واعتبار الشبهات والاحتياط في درء المفاسد واعتبار التهم ومن ذلك قول الشافعي رحمه الله تعالى فيما إذا أخر المعذورون صلاة الظهر حتى فاتت الجمعة: "أحب لهم أن يصلوها جماعة وأن يخفوها لئلا يتهموا في الدين " (4) .
ومنها: إن قدم المسافر وهو مفطر أو برئ المريض وهو مفطر يستحب لهما الإمساك بقية النهار لحرمة الوقت ولا يأكلان عند من لا يعرف عذرهما لخوف التهمة والعقوبة (5) ونظائر ذلك كثير.
وقاعدة إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام (6) ومن فروع القاعدة إذا تعارض دليلان أحدهما يقتضي التحريم والآخر الإباحة قدم التحريم في الأصح.
__________
(1) انظر رياض الصاحين 161؛ وإعلام الموقعين ج3/150
(2) انظر رياض الصالحين 161؛ وإعلام الموقعين ج3/150
(3) انظر سد الذرائع ص695 بتصرف
(4) المجموع شرح المهذب ج4/363
(5) انظر شرح المهذب ج6/262
(6) انظر سد الذرائع ص704(9/1670)
والشافعي رحمه الله ذكر حديث أبي هريرة في منع الماء ليمنع به الكلأ في كتاب إحياء الموات من الأم الذي نقلناه عنه سابقا في هذا البحث قال: وهو إنما يحتمل أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى. ثم قال: فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام (1) .
قال صاحب سد الذرائع حفظه الله: "ليس في كلام الشافعي رضي الله عنه في اعتبار الذرائع أصرح من هذه العبارة غير أن اتباع الإمام رحمهم الله صرفوها عن ظاهرها بقصر معناها على ما يفضي قطعا إلى المفاسد وهو القسم المجمع على سده من الذرائع ولكن العبارة عامة وليست خاصة فإن الشافعي رحمه الله لم يقل ما كان ذريعة مستلزمة لمنع ما أحل الله لم يحل وكذا ذريعة مستلزمة لإحلال ما حرم الله بل أطلقها.
قلت: ما ذكرناه عنه رحمه الله في بيوع الآجال وما نقلناه عنه في كتاب إبطال الاستحسان من منعه من سد الذرائع يؤكد ما قاله أتباع الإمام من أنه أراد تحريم الوسائل المستلزمة وهذا القول يتفق مع ما دلت عليه نصوص الشريعة من أخذ المكلفين بظواهرهم وترك سرائرهم إلى الله تعالى طالما أن تصرفاتهم لا تصادم الشريعة في ظاهرها والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) انظر الأم ج7/272؛ وانظر سد الذرائع ص704(9/1671)
خلاصة البحث
لقد أشرت في هذا البحث إلى أهمية سد الذرائع وحاجة الناس إليه في هذا العصر، كما بينت اتجاهات الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى ومذاهبهم نحو مسألة سد الذرائع وذكرت أن منهم من أخذ به وتوسع فيه حتى أصبح في مذهبه أصلا يعول عليه وهم المالكية ومنهم من أخذ فيه بحذر وهم الحنابلة ومنهم من أعرض عنه وهم الشافعية والحنفية ولكنهم قالوا بتحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات.
ومعنى سد الذرائع سد الطرق والوسائل حتى لا تؤدى إلى آثارها المقصودة سواء كانت محمودة أم مذمومة صالحة أم فاسدة ضارة أم نافعة.
ثم إن هناك فرقا بين الذريعة والمقدمة وبين الذريعة والوسيلة وبين الذريعة والحيلة وللذرائع قسمان فمنها ما يفضي إلى مفسدة ومنها ما يفضي إلى مصلحة ولكل منهما نوعان.
والذريعة والوسيلة عند المالكية بمعنى واحد. باعتبار أن سد الذريعة هو النظر في مآلات الأفعال وما تنتهي إليه في جملتها.
وحكم الوسيلة إلى المحرم محرمة ويجب سدها وإلى الواجب واجبة ويجب فتحها.
والذريعة مطلوبة إذا حققت مصلحة مشروعة ومرفوضة إذا حققت مفسدة والمعتبر هو النتيجة وثمرة العمل، لا القصد والنية.
وسد الذرائع حجة يحتج به وهو أصل من أصول الفقه الإسلامي أخذ بها معظم العلماء في المبدأ واختلفوا في المقدار.(9/1672)
ومما اتفق على العمل به:
1- الامتناع عن سب الأصنام امتثالا لأمر الله في ذلك خشية أن يسب الله تعالى.
2- دفع مال فداء للأسرى من المسلمين.
3- دفع مال من المسلمين لدولة محاربة ليرفع أذاها عند العجز عن مقاومتها.
4- دفع الرشوة لرفع الظلم إذا لم يدفع إلا بها.
5- إعطاء المال لمن يقطعون الطريق لكف أذاهم عن السابله وذلك عند العجز عن الأخذ على أيديهم.
والأصل في سد الذرائع هو النظر إلى الصالح العم فيجب اتخاذ الذريعة لتحقيق مصلحة عامة ويمنع اتخاذ الذريعة درءا للمفاسد.
والأصول التي اعتمد عليها القائلون بسد الذرائع هي:
1- جلب المصالح ودفع المفاسد ما أمكن إلى ذلك سبيلًا.
2- اعتبار المآل.
3- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
4- تحريم الوسائل المفضية إلى ممنوع عند الشافعية وغيرهم.
5- اعتبار الشبهات.
6- اعتبار التهم.
7- من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه.
8- إذا اجتمع الحلال والحرام غلب جانب الحرام.
9- ما حرم استعماله حرم اتخاذه وما حرم اتخاذه حرم عطاؤه.
10- تفويت الأقل حفاظا على الأكثر.
وقد استدل القائلون بهذا الأصل بشواهد كثيرة من الكتاب والسنة وعمل الصحابة رضي الله عنهم.(9/1673)
أولًا: أدلتهم من كتاب الله تعالى:
1- {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} .
2- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
3- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ}
ثانيًا: من السنة:
1- النهي عن الشتم للآباء والأمهات ((لعن الله من شتم والديه)) بمعنى أن يشتم الرجل أبا الرجل فيشتم أباه ويشتم أمه فيشتم أمه.
2- تحريم الخلوة بالأجنبية.
3- لا يرث القاتل من مال مقتوله شيئًا.
ثالثًا: فقه الصحابة:
1- جمع الصحابة للقرآن الكريم.
2- ترك الأرض المفتوحة عنوة في يد أصحابها وفرض الخراج عليهم.
3- قطع شجرة بيعة الرضوان سدا لذريعة التشبه بالمشركين.
رابعًا: من فقه الأئمة الأربعة مما أجمعوا عليه وهو:
1- توريث المطلقة ثلاثا في مرض الموت.
2- وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثًا.
3- قتل الجماعة بالواحد.
وقد أشرت في هذا البحث إلى بعض المسائل التي أخذ بها كل إمام من أئمة المذاهب الأربعة سدا للذريعة وفيما يلي ذكر نماذج منها.(9/1674)
من فقه المالكية:
منعهم العقود التي تتخذ ذريعة إلى أكل الربا كبيع الآجال وبيع المال الربوي متفاضلا والقراض بالدين وتأجيل الصداق.
ومن فقه الحنابلة:
منعهم العقود المؤدية إلى الربا كمن اشترى نسيئة ما باعه نقدا وبيع الطعام بالطعام نسيئة. ومنعهم الوصية للمخالعة في مرض الموت، ومنع العقود التي تؤدي إلى الحيل. إلى غير ذلك.
ومن فقه الحنفية:
صوم يوم الشك للمفتي سرًا، ووجوب الحداد على البائن والمتوفى عنها زوجها. وعدم إقرار المريض بدين في مرض موته لاتهامه بإبطال حق الغير.
وفي فقه الشافعية:
1- إخفاء صلاة الجماعة للمعذورين في ترك الجمعة خشية أن يتهموا في الدين.
2- المفطر بعذر في رمضان لا يجهر بفطره عند من لا يعلم بحاله.
3- قضاء القاضي بعلمه قال به الشافعي لكنه كرهه بعد ما فسد القضاة سدا لذريعة الجور وإلى غير ذلك من المسائل في هذا الباب.
وهناك غلو في سد الذرائع عند المالكية مثل:
1- كراهية صيام ست من شوال.
2- تركهم لقراءة سورة السجدة في صلاة فجر يوم الجمعة.
3- من تزوج امرأة في عدتها فرق بينهما إلى الأبد.
والحاصل أن إعمال سد الذرائع في هذا الزمان أصبح ضرورة مع فساد كثير من الناس وعدم الورع لدى غالبهم إلا أن الغلو في استعمال سد الذرائع فيما لا مبرر له غير مقبول.
وقد بينت أن الشافعي رحمه الله قال بتحريم الوسائل التي تستلزم المحرم المتوسل إليه. ومنع ما اعتمد على الظن والتخمين والتوهم ولذا كان مسلكه في عدم أخذ الناس بالتهم وإفساد تصرفاتهم بالظن مسلكًا سليمًا وصحيحًا يتفق مع ما دلت عليه نصوص الشريعة السمحة من أخذ المكلفين بظواهرهم وترك سرائرهم إلى الله تعالى. والله سبحانه أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور أحمد محمد المقري(9/1675)
مراجع البحث
القرآن الكريم
1- صحيح الإمام البخاري.
2- صحيح الإمام مسلم.
3- سنن أبي داود.
4- موطأ الإمام مالك.
5- مسند الإمام أحمد.
6- الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني.
7- أثر الأدلة المختلف فيها.
8- أحكام القرآن لابن العربي.
9- اختلاف الحديث للإمام الشافعي.
10- الاختلاف في الأدلة لمصطفى ديب البغا.
11- الإشارات في الأصول المالكية.
12- الأشباه والنظائر للسيوطي.
13- الإشراف في مسائل الخلاف.
14- أصول الفقه لأبي زهرة.
15- إعلام الموقعين لابن القيم.
16- الأم للإمام الشافعي.
17- بحوث المؤتمر الرابع للفقه المالكي.
18- بداية المجتهد لابن رشد.
19- تاريخ الفقه للدكتور محمد يوسف موسى.
20- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
21- الحدود (العدد الأول من صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية) .
22- الخراج لأبي يوسف.
23- الرسالة للإمام الشافعي.
24- سد الذرائع للشيخ محمد هشام البرهاني.
25- الشرح الكبير لأحمد الدردير.
26- شرح تنقيح الفصول للقرافي.
27- الفتاوي لشيخ الإسلام ابن تيمية.
28- قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام.
29- المجموع شرح المهذب للإمام النووي.
30- المغني لابن قدامة.
31- المقدمات لابن رشد.
32- الموافقات للشاطبي.
33- الهداية شرح البداية للمرغيناني.(9/1676)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع هذه الجلسة الصباحية –بإذن الله- هو سد الذرائع، وقدم فيه عدد من البحوث، والعارض هو فضيلة الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي والمقرر هو فضيلة الشيخ خليل بن محيي الدين الميس.
الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد:
هذا الموضوع الذي تقدم فيه عدد من الباحثين تناولوا هذا الجانب، ومن المعلوم أن سد الذرائع ذات شأن خطير كما هو الشأن في المباحث الفقهية. فلذلك هذه البحوث وإن تعددت وبلغ عددها هذا المقدار فإن الخلاف بينها لا يحقق خطورة ولا يتشعب، وهي مستمدة كلها من كتب علم الأصول والمصدر واحد، وكذلك هناك تشابه كبير بين هذه المباحث. فلذلك الكل اتفقوا على تعريف الذرائع وبيان الفرق بين الذريعة والمقدمة أو السبب، واتفقوا أيضا على منع الحيل الشرعية الممنوعة المؤدية إلى تقويض أحكام الشريعة والخروج على سياستها وحكمتها لأن تشريع وإباحة الحيل يناقض القول بسد الذرائع مناقضة ظاهرة، ويؤدي إلى الوقوع في الحرام أو الفساد. كذلك البحوث اتفقت في تقسيمات الذرائع، فعند الأصوليين هناك تقسيم للشاطبي، وتقسيم لابن القيم، وتقسيم للقرافي، وابن عاصم، وهذه التقسيمات وإن اختلفت في توجيهها لكن المبنى فيها واحد، ويمكن الدمج بين هذه التقسيمات والتوصل بها إلى أن الذرائع منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه كما هو واضح.(9/1677)
كذلك أورد السادة الباحثون أمثلة توضيحية من المذاهب على فتح الذرائع وسدها.
كذلك توصلوا إلى نتيجة طيبة وهي أن القول بسد الذرائع متفق عليه في الجملة بين المذاهب وإن كان بعضها يغالي ويكثر الأخذ بالذرائع كالمذهبين المالكي والحنبلي وبعضها يقل من هذا على تفاوت، فالحنفية لا يصرحون بالقول بسد الذرائع لكنهم يقررون العمل به أخذا بمبدأ الاستحسان. كذلك الإمام الشافعي لا يقول بسد الذرائع في الظاهر لكن يصرح في مواطن كثيرة في (الأم) وفي (الرسالة) لهذا التعبير: أن الذرائع المؤدية إلى الحرام ينبغي أن تكون حرامًا. وسبب هذا الاتفاق بين العلماء للأخذ بالذرائع في الجملة أن هناك نصوصا كثيرة في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة على منع الذرائع، لذلك اتفقت هذه المذاهب بالجملة على الأخذ بالذرائع، وأورد السادة الباحثون أمثلة توضيحية متعددة للقول بأن هذه المذاهب تأخذ بالذرائع على تفاوت في مقدار الأخذ فيما بينها. كذلك أورد السادة الباحثون على اعتبار هذه الذرائع في هذه الشريعة. وإذن هناك عمود البحث يكاد يكون متفقا عليه بين هؤلاء السادة الباحثين، ولكن أردت أن أورد بعض النماذج أو بعض العبارات التي انفرد فيها كل باحث عن غيره.
على سبيل الترتيب وإنما حسب الصدفه في البحوث التي وجدتها مرتبة عندي بحث الشيخ الطيب محمد سلامة فإنه أضاف إلى ما بحثه غيره تأصيل العلامة ابن عاشور، سد الذرائع بإرجاعه إلى قاعدة تعارض المصالح والمفاسد في هذه الشريعة موافقا في ذلك القرافي.
فضيلة الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي، قال في خلاصته بعد أن اتفق مع غيره في عمود البحث: يمكننا أن نستخدم هذا الأصل للبحث عن حلول القضايا والمشكلات الاجتماعية بشرط كون الفقيه عميق النظر، بعيد الغور، مطلعا على دقائق هذا الأصل، خبيرا بجميع نواحي القضية حتى لا يكون ذلك موجبا لهدم أساس الدين وجعل الفساد صلاحا وبالعكس، وبدون التمييز بين المصلحة والمفسدة.
الدكتور إبراهيم الدبو ركز على موقف العلماء لسد الذرائع، ثم قال: واعتبار الذرائع سدا وفتحا دليل على مرونة الشريعة الإسلامية وإنها بحق نزلت رحمة للعالمين تساير واقع الناس في كل جديد نافع.
هذه عبارات من حسن الحظ متقاربة في معناها، ودليل على أن أصل الذرائع يصلح أن يكون قاعدة اجتماعية نافعة ومهمة في الحياة الإسلامية المعاصرة.(9/1678)
الدكتور علي الجفال اهتم ببيان أقسام الذرائع وأمثلتها في كل مذهب، وشروط الذرائع –كما ذكرت في بحثي- وقارن بين الذرائع والحيل الفقهية ومواقف أئمة الفقه الإسلامي من الاحتجاج بسد الذرائع، وقال في الفرق بين الذريعة والحيلة:
إن الذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة والحيلة لا بد فيها من القصد، وأما الذريعة فبصرك فيها حديد وعهدك بها غير بعيد. وانتهى إلى تحريم الحيل لاستعمالها في تحليل الربا والكسب الحرام.
وفضيلة الدكتور الشيخ أحمد محمد المقري بعد أن أبان أهمية سد الذرائع وحاجة الناس إليه في هذا العصر –كما قال السادة المتحدثون ممن ذكرتهم في الطليعة- أبان أيضا اتجاهات الأئمة الأربعة ومذاهبهم في مسألة سد الذرائع وقال في النهاية: سد الذرائع حجة يحتج بها، وهو أصل من أصول الفقه الإسلامي أخذ بها معظم العلماء في المبدأ واختلفوا في المقدار. وهذه نتيجة شبه متفق عليها –كما ذكرت في المقدمة- بين الجميع.
أما فضيلة الشيخ خليل الميس فذكر كغيره في بحثه الطويل معنى الذرائع وأقسامها وأمثلتها وقارن بينها وبين الحيل الفقهية، وذكر أوجه الوفاق والخلاف بينهما، وانتهى إلى القول: إن القائلين بسد الذرائع إنما حملهم على القول به خوفهم من التلاعب على أحكام الشريعة، أو الوصول إلى العبث فيها باتخاذ ما هو حلال من حيث الظاهر والأصل وسيلة إلى ما هو ممنوع ومحرم، فقالوا بالسد للذرائع احتياطا في شرع الأمر مع أن الأمر لا يعدو أن يكون في الغالب قيام شبهة في القصد. وكأنه تأثر بكلام ابن حزم في حصر الذرائع بمواضع الاحتياط والشبهة، وهذا لا شك منتقد فالذرائع لا تقتصر على تجنب مواطن الاشتباه وإنما تشمل أمورا أخرى كبيوع الآجال، وتشمل –في الحقيقة- كل ما قويت له التهمة في اتخاذ العقد جسرا للوصول إلى الربا. فهذه النتيجة فيها شيء من القصور عن المطلوب.
الدكتور خليفة بابكر الحسن حرر محل النزاع بين العلماء كما فعلت في بحثي، وذكر موقف أئمة الفقه من الأخذ بسد الذرائع مع شواهد وتطبيقات، الأمثلة التي ذكرها غيره. وارتأى في النهاية –وهذا شيء انفرد به- أن فتح الذرائع يدخل في باب الموازنة بين المصلحة والمفسدة ورجحان المصلحة، وهو ما اتجه إليه الإمام الشاطبي ثم اقترح في آخر بحثه أن فتح الذرائع –كما فعل القرافي- لا يعدو أن يكون إيغالا في استخدام المصطلحات الفنية، وهو إيغال قد يتحمله المعنى لأن فتح الذرائع موجود في كل المسائل ويحسن إدخال بعضها في قاعدة الضرورات، بمعنى أن مسائل فتح الذرائع هي ضرورات أجازت ارتكاب المحظور. كذلك هنا أرى أن قصره قضية فتح الذرائع على الضرورات بالقيد الضيق لمعنى الضرورة، في الحقيقة لا يتفق مع المبدأ المقرر وهو فتح الذرائع، فليس كل الأمور التي تفتح فيها الذرائع تكون من باب الضرورات وإنما قد تكون الذريعة إلى المباح فتكون مباحة وليست ضرورة، وقد تكون الذريعة إلى المندوب وإلى الواجب، وقد لا ينطبق معنى الضرورة عليها.(9/1679)
وأما الشيخ محمد علي التسخيري فقد عني بأدلة القائلين بسد الذرائع ومناقشتها، وأغلب أدلته عقلية. ثم ذكر أدلة فتح الذرائع وركز على منع الحيل الشرعية، واعتمد في تحريم الحيل على العرف وهذا انفرد به. وانتهى إلى القول بأن سد الذرائع حتى لو تمت أدلته ليس أصلا من أصول الفقه وإن أمكن أن يشكل قاعدة مهمة عامة وهذا يتفق مع نهاية كلامي في بحثي عن الذرائع منذ أكثر من أربعين عامًا.
ثم جاء بعد ذلك فضيلة الشيخ محمد الشيباني فقد ذكر معنى الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه مثلما فعل الشيخ الطيب محمد سلامة، يعني المدرسة واحدة –مدرسة المالكية- هم يلتزمون ما عليه أئمتهم وكتبهم، في الغالب لا تكاد تجد مالكيا يخرج عن دائرة الإمام مالك، رحمه الله. فبعد أن ذكر الشيخ الشيباني أقسام الذرائع عند القرافي وابن عاصم والشاطبي وابن القيم، قال: إن الذرائع هي ثلاثة: مجمع عى اعتباره، ومجمع على إلغائه وإباحته، وقسم مختلف فيه. وأفاض كما ذكرت في بيان أمثلة الذرائع وفتحها.
خلاصة الكلام في هذا الموضوع في قضية الذرائع يتجلى فيما يأتي:
الذرائع أصل من أصول هذه الشريعة ومعمول به في الجملة نصا واجتهادا لدى الفقهاء، وسد الذرائع معناه كل ما يتوصل به إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة أو مضرة، وهذا الأصل يراد به تحريم الذريعة الممنوعة وهي الوسيلة غير الممنوعة بذاتها ولكنها متخذة جسرا إلى فعل محظور إذا قويت التهمة في أدائها إلى ذلك المآل أو الغرض أو الغاية عملا بقاعدة: "الأمور بمقاصدها".(9/1680)
ومن المتفق عليه بين العلماء أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان مطلقًا، وأن ما يؤدي إلى إيذاء جماعة المسلمين ممنوع كحفر الآبار في الطرقات العامة من غير ترخيص من الدولة أو الحكومة، ولا توفير الحواجز الواقية من الوقوع في هذه الآبار. كذلك مما يؤذي جماعة المسلمين إلقاء السم في الطعام والماء العام، أو بيع الأغذية الفاسدة المسممة، فهذا أيضا ضرر ينبغي منعه.
كذلك من المتفق عليه ما جاءت به النصوص في القرآن والسنة من الأمثلة الكثيرة على سد الذرائع مثل سب الأديان الأخرى والأصنام أمام أتباعها لأن هذا يحرضهم على سب الإله الحق {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ووضع الله في اليهود {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 163] المد البحري كانت تأتي الأسماك فيه يوم السبت فغاظهم ذلك وهم قوم ماديون بالفطرة فكيف لا يستفيدون من هذه الأسماك التي تأتيهم بدون اصطياد في المد البحري فأقاموا حواجز على الشواطئ ثم إذا انحسر الماء بالجزر فإن الأسماك تبقى في هذه الأحواض فيأتون يوم الأحد ويأخذون الأسماك ولا يتصادمون مع مبدئهم في تحريم العمل على أنفسهم يوم السبت {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] . فهذه في الواقع نصوص –وما أكثر النصوص أيضاً- في السنة النبوية على منع الذرائع، منها: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ في الأوعية ونهى عن خطبة المعتدة، ونهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، ونهى عن الخطبة على الخطبة والبيع على البيع ونهى عن هدية المديان، كل هذه من قبيل سد الذرائع، والأمثلة كثيرة موجودة في البحث.(9/1681)
أيضا يقتضي سد الذرائع منع الحيل الشرعية المحظورة لأن الحيلة نوعان حيلة مباحة وحيلة ممنوعة. الحيلة المباحة مثل ما فعل أهل بخارى الحنفيون الذين لا يجيزون – بحسب قواعد مذهبهم - التجارة الطويلة، فوجدوا أنه في إجارة الأشجار والكروم يحتاجون إلى الإجارة الطويلة فاحتالوا لذلك ببيع الكرم وفاء، وهو البيع الوفائي، فتوصلوا إلى الهدف من طريق هذا البيع فهذه حيلة مقبولة. أما الحيلة الممنوعة التي هاجمها ابن القيم ونحن نهاجمها وكما قلت يعبر عن من يأخذ بالحيل وهم الشافعية والحنفية يقولون: (قال أرباب الحيل) ، ويكررها في كتابه (إعلام الموقعين) ، فمثل حيلة إسقاط الزكاة قبل نهاية الحول الزكوي يأتي شخص وهو صاحب هذا المال ويهب ماله إلى فقير وقد يكون كفيفا في الغالب، فيعطيه هذا المال ثم يقول له يا شيخ فلان أنت مالك ومال هذه الصرة؟ فيقول نعم جزاك الله خيرا، فيقول له تبيعها إلي فيستردها منه في الحال بمائة درهم، فيأخذ هذه المائة درهم ويكون قد حضر له طعاما فيدفأ من هذا الطعام ويرد له المال فيتخلص من الزكاة.
هذا عبث وهذا أمر لا يقبله صغار الناس وصغار العقلاء فما بالنا بالكبار خصوصا وأن شريعتنا شريعة مثالية لا تقبل مثل هذا بحال من الأحوال.
والنهية أن الذرائع أنواع وهي: ذرائع مجمع على منعها وهي المنصوص عليها، لا خلاف في ذلك، أو المؤدية إلى المفسدة قطعًا، أو إلى المفسدة كثيرا غالبا أي بحسب غلبة الظن وتكثر الحالات، أو لأن الظن في الأحكام العملية يجري مجرى العلم أو اليقين سواء أكانت الوسيلة مباحة أو مندوبة أم واجبة. ومن المجمع عليه البيوع التي يظهر فيها القصد إلى الربا بالنص على ذلك في العقد، هذا متفق عليه إذا نص في العقد على أن القصد من هذا البيع الوصول إلى الربا هذا متفق على منعه، لكن الخلاف أن يكون العقد خاليا من هذا النص ويتواطأ خارج العقد على أن يكون هذا البيع جسرا للوصول إلى الربا، هذه كما سأبين موضع الخلاف. وهناك ذرائع مجمع على إباحتها وهي ما يؤدي إلى المفسدة نادرا كحفر البئر في ملك خاص هذا لا يضر ذلك لأن الإنسان حر التصرف في ملكه. وأما الذرائع والتي هي في الحقيقة محل الخلاف ومحط النزاع بين العلماء وهي بيوع الآجال أو بيوع العينة وأشباهها التي يظهر منها القصد إلى الربا أو الممنوع والباعث عليها خبيثًا.(9/1682)
جمهور العلماء لم يفرقوا بين بيوع الآجال وبيوع العينة، أما المالكية ففرقوا بينهما. بيوع الآجال هي بيع شيء بعشرة مثلا إلى أجل ثم شراء البائع ذاته هذا الشيء بثمن أقل، وهذا ممنوع لأنه يؤدي إلى الربا كثيرًا، ممنوع طبعا بتصريح عند المالكية والحنابلة، ويقصد به التوصل إلى الربا باتخاذ العقد المشروع وسيلة إلى الربا. وأما بيوع العينة عند المالكية فهي تكليف شخص بشراء شيء والالتزام بشرائه بثمن أعلى كأن يقول له: اشتر سلعة بعشرة نقدا وأنا آخذها منك باثني عشر لأجل. فبيوع العينة –كما صرح شراح خليل- تصل إلى ألف مسألة عند المالكية، وهم كما ذكر بعض الأخوة المالكية أنه فيها شيء من المغالاة. هذه البيوع ممنوعة لدى المالكية والحنابلة لأنها وسيلة للربا لما فيه من سلف جر نفعًا، وأما الحنفية فيمنعونها لأن العقد الأول لم يتم إذ لم يقبض الثمن، والبيع الثاني مبني على بيع لم يتم فيكون فاسدًا، كذلك بيع في الغالب لشيء قبل القبض فيكون أيضا فاسدا فهو ممنوع، بناء على هذه عند الحنفية استحسانًا. وأما الإمام الشافعي فيقول: العقد من حيث الظاهر جائز وصحيح لأنه اشتمل على أركانه وشرائطه. والنزعة في الفقه الشافعي تميل إلى الحكم على الأشياء هي نزعة ظاهرية، لكن الإمام الشافعي من جانب آخر قال: وأدع القصد المؤثم لله جل جلاله.
إذن من حيث الحرمة يتفق مع بقية الفقهاء على تحريم ما اتخذ جسرا إلى الربا لكن هل يصحح العقد من حيث الظاهر. ومن هنا برزت الحاجة إلى معرفة عقد زواج التحليل وبيع العنب لعاصره خمرا وبيع السلاح في الفتنة، وما شاكل ذلك. هذه العقود صحيحة في الظاهر ولكن القصد الخبيث منها يحكم الإمام الشافعي بتأثيم من كان قصده ذلك.
وأما الذرائع الملغاة إجماعا فهي مثل زراعة كروم العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر. إن أدى إلى المحرم في سوء الاستعمال، ومثل المجاورة في البيوت خشية الفاحشة، أو إطالة المباني كعصرنا الحاضر لسبب الانفجار السكاني وكثرة الناس وضيق الأماكن فوجدت هذه المباني كلها كانت في الأصل ممنوعة ثم زال المنع بسبب الظروف والحاجات الحاضرة.(9/1683)
والخلاصة، ضابط إباحة الذرائع شيئان: أن يكون الوقوع في المفسدة نادرًا، وأن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته. هذان ضابطان لإباحة الذريعة، كون المفسدة نادرة وكون المصلحة أرجح من المفسدة. ولا شك أن ما رجحت المصلحة فيه على المفسدة فإنه ينبغي أن يكون جائزًا. ضوابطه وشروطه ثلاثة، شرطان منها يتفقان مع إباحة الذرائع.
أولًا: أن تكون الذريعة من شأنها الإفضاء إلى المفسدة مؤدية إلى المآل قطعا أو غالبا أو كثيرًا.
ثانيًا: أن تكون المفسدة أرجح مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة، يعني عكس فتح الذرائع، وإن كانت الوسيلة مباحة كعقد البيع المقرر والمشروع وعقد الزواج وما شاكل ذلك.
ثالثًا: أن يقصد بالمباح التوصل إلى مفسدة كعقد الزواج المقصود به التحليل، وبيع العنب لعاصره خمرًا، وعقد البيع الذي قصد به التوصل إلى الربا (بيوع العينة، أو بيوع الآجال) وغير ذلك من المقاصد الخبيثة، وما أجمل ما قاله الشاطبي في هذا الصدد: دائما نحن نحكم على التصرفات باعتبار المآل أو الغاية.
فإذا كان المآل والغاية سليمين ومحققين لمصلحة فتكون الوسيلة جائزة، أما إذا كان المآل والغاية فاسدين فيهما مفسدة ومضرة فينبغي أن يمنع، وقد يلحظ الباعث السيئ والنية الخبيثة، قد يحكم على العقد ببطلانه أو فساده إذا كان هذا الباعث أو هذه النية لا تتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية. فهذه في الحقيقة ضوابط هذا المبدأ، وأكون بهذا قد وفيت بما قلت لكم، يعني لا يكون الخلاف في هذا الموضوع خلافا بعيد الأطراف وإنما هو خلاف قليل لأن المصادر واحدة والكلمات متقاربة.(9/1684)
هناك ثلاثة بحوث لم أتعرض لها وسأقدم ملخصا لها وهي:
بحث الشيخ مصطفى كمال التارزي يتفق مع ما ذكره الباحثون من تعريف الذريعة والوسيلة وأركان وأقسام الذرائع وأمثلة سد الذرائع وفتحها ومنع الحيل الشرعية المحظورة وأوضح الفرق بين الغلو في الدين وبين سد الذرائع وهذا مما انفرد به جزاه الله خيرًا. وأبان كالشيخ الطيب سلامة أن المالكية لا يرون فرقا ظاهرا بين الذريعة والوسيلة. وانتهى إلى أن الإمامين مالكا وأحمد قالا بسد الذريعة، وأن الإمامين الشافعي وأبا حنيفة لا يقولان بها لكن هذين الإمامين اعتبرا الذرائع وصححا العمل بها في الفروع الفقهية، وهو عند الحنفية داخل تحت قولهم بالاستحسان، وذكر أن ابن حزم أنكر سد الذرائع بناء على نزعته الظاهرية المعروفة.
الأخ الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين عرف الذرائع أيضا وذكر أقسامها وعلاقتها بالحيل وقال: إن سد الذرائع أو فتحها أمور نسبية تستخدم بحسب كل حالة على حدة، فليس هناك قاسم مشترك يمكننا من فتح الذريعة أو سدها. وانتهى إلى خاتمة تكون على حد قوله صالحة للنشر والترجمة بحول الله تعالى. وانتهى في هذه الخاتمة أن الذريعة أكثر اعتبارا عند الفقهاء، وأن بعض الفقهاء –يعني المالكية والحنابلة- جعلها مصدرا من مصادر التشريع، وبعضهم –كبقية المذاهب- جعلها قاعدة من القواعد الفقهية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/1685)
الشيخ حسن الجواهري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه الميامين، البحث في هذا الأصل المهم من أصول الفقه الذي يتوقف على ثبوته أو عدم ثبوته أحكام كثيرة يعمل بها العباد، يستدعي من كل مخلص في سبيل الدين التريث والجهد للوصول إلى الحقيقة. وقد رأيت أن أطرح بعض النقاط لعلها تكون مفيدة للوصول إلى النتيجة. هنا أمثلة تسرد لقاعدة سد الذرائع وعليها دليل خاص ورد من الشارع، وهذا لا كلام لنا فيه ويصح لنا نسبته إلى الشارع والتدين به لأنه حكم شرعي دل عليه دليل قطعي من الشريعة. وأما ما كان من أمثلة قد تضرب لسد الذرائع التي تؤدي غالبا إلى الحرام ولكن الشارع لم يحرمها بنص شرعي خاص أو عام، ليكون هذا النص العام قاعدة عامة يشمل كل الذرائع التي قد تؤدي إلى الحرام، وهذا هو موضوع البحث في سد الذرائع. إذن الذي يريد أن يسد الذرائع إلى الحرام فيحرمها لا بد له من اقتناص دليل قوي حتى يتمكن أن ينسل الحرمة من الشارع، ولا يمكن أن يكتفي بالأدلة التي دلت على سد ذريعة معينة خاصة، فإن الشارع يمكنه أن يتكلم بكلام عام فيأتي بصيغة عامة تدل على تحريم كل ذريعة.
... ثم ما دام الفقيه إذا قلنا إذا كان الفقيه شاكا في حرمة الذريعة التي قد تؤدي إلى الحرام أو يظن بحرمتها فما هو الأصل الذي يجب أن يعتمد عليه؟ هذا الذي أريد أن أركز عليه. ما دام الفقيه شاكا في حرمة الذريعة في صورة الشك التي قد تؤدي إلى الحرام أو يظن حرمتها فما هو الأصل الذي يجب أن يعتمد عليه في صورة الشك؟. بعبارة أخرى إذا ظننا بالحرمة هل يمكننا أو يحق لنا أن نسند الحرمة إلى الشارع ونتدين بها ونفتي على أختها، هل يجوز لنا في حالة الظن بالحرمة؟.
طبعا ما أراه هو عدم الجواز، ويكفي كدليل عليه من القرآن الكريم قوله تعالى حيث قال في ذم اليهود: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] ، فقد دلت هذه الآية على أن ما لم يكن إذن من الشارع في التحريم يكون إسناد الحكم إلى الشارع من الافتراء الباطل. ومن السنة أيضا توجد هناك روايات تقول حتى لو قضى الإنسان بالحق وهو لا يعلم فهو في النار. إذن إذا نسبنا حكما إلى الشارع في مورد الشك أو الظن فحتى لو كان حكمنا حقا ولكنه من دون دليل فينطبق علينا الإفتاء بغير العلم والقضاء بالحق مع عدم العلم.
بالنسبة إلى حكم العقل، العقلاء يقبحون من تكلف بالحرمة وأسندها إلى المولى إلى الشارع وهو لا يعلم بالحرمة بل ظن بها ظنًا. طبعا هذا حكم عقلي ضروري، يعني تقبيح.(9/1686)
الإجماع عامة يوجد على عدم جواز إدخال ما لم يعلم من الدين في الدين. إذن نسبة الحكم والحرمة إلى الشارع من دون دليل قوي وقاطع فيها شيء من الإشكال. نعم يجوز لأحد أن يقول أنا أحتاط لديني فلا أعمل، كل وسيلة قد تؤدي إلى الحرام ولرجاء إدراك الواقع، هذا احتياط، هذا شيء آخر غير نسبة الحرمة إلى الدين والتعبد بها، هذا شيء حسن، يحتاط الإنسان لدينه لرجاء إدراك الواقع من دون إدخاله في الدين وأن ينسبه إلى الشارع. طبعا بشرطين، هذا حسن وجيد بشرطين:
الشرط الأول: ألا يكون الاحتياط معارضا لاحتياط آخر. مثلًا، إذا ظن إنسان أن سفر ابنته يوقعها في الحرام فيمنعها احتياطا ولكن بشرط ألا يكون هناك احتياط آخر معارض له وهو أن سفر البنت إلى الخارج لأجل التعليم والحصول على العلم أو من أجل الشفاء من مرض معين، بشرط ألا يعارضه احتياط آخر. هذا هو الشرط الأول.
الشرط الثاني: ألا يثبت دليل على وجوب العمل على إتيان الذريعة. مثلا إذا ظننت أن هذه الذريعة تؤدي إلى الحرام لكن قام الاستصحاب على وجوبها. استصحاب هناك. فالعمل على ترك الذريعة التي قد تؤدي إلى الحرام وعدم العمل بالاستصحاب الذي يدل على الوجوب هذا يكون تجريا، تركنا الدليل وعملنا بالظن بالحرمة، وتركنا الدليل وتصير الحرمة حرمة تجري.
بهذين الشرطين يكون الاحتياط للدين حسنًا. أما إذا لم يوجد الشرط الأول بل وجدت ذريعة إلى الحرام وظننا بحرمتها أو شككنا بها ولكن وجد احتياط آخر كما قلنا في أن هذه البنت التي قد تقع في الحرام إذا سافرت، الذريعة التي تؤدي إلى الحرام يعارضها احتياط آخر وهو أهمية سفرها؛ لأن فيه تحصيل علم أو شفاء من مرض مثلًا، فالاحتياط يقتضي السفر أيضًا. وبما أن أمر هذه البنت دائر بين السفر واللاسفر وكلا الأمرين يمكن فيه الاحتياط فيمكن للولي أو لنفس هذه البنت إجراء احتياط عدم السفر ولكنه ليس بحسن. ففي صورة يكون الاحتياط حسنا وفي صورة إذا كان هناك احتياط آخر يعارض سد الذريعة يكون سد الذريعة جائزا ولكنه ليس بحسن.(9/1687)
إذن العمل بسد الذريعة أو فتح الذريعة إذا كان هناك ظن –طبعا صورة الظن لا في صورة القطع- بها من دون دليل على حجية هذا الظن قد تجتمع فيها جهتان لعدم الجواز. نسنده إلى الشارع، هذا شيء قد لا يكون صحيحًا، وإذا خالف أصلا من الأصول العلمية أو الأدلة الشرعية والحرمة هنا هي عبارة عن تجلي طرح الدليل لأجل الظن بالحرمة أو طرح الحجة لأجل المصير إلى غير الحجة. أما إذا كان سد الذريعة لم يخالف الأصل ولم يخالف الدليل والتزمنا بأنه حكم الله.
طبعا هذا الكلام كله فيه تخصيص. أن هذا الكلام كله مبني على ما هو التحقيق من أن الأصول لفظية كانت أو علمية مثل الاحتياط والاستصحاب والأصول اللفظية غير مقيدة بصورة عدم الظن على خلافها وهي المبنى الصحيح. هل أن هذه الأصول العملية واللفظية هل هي مبنية غير مقيدة بصورة عدم الظن على خلافها أو مقيدة بصورة عدم الظن على خلافها؟ الصحيح أنها غير مقيدة بصورة عدم الظن على خلافها، أما إذا قلنا بحجية هذه الأصول اللفظية والعملية في صورة عدم كون ظن بخلافها فلقائل أن يمنع أصالة حرمة العمل بالظن، ولكن هذا المبنى الثاني خلاف التحقيق.
بالنسبة لفتح الذرائع نفس الكلام المتقدم في فتح الذريعة في صورة الشك في الحكم الشرعي أو ظن الحكم الشرعي. نسبته إلى الشارع والتدين به مشكل لأنه تشريع محرم. وأيضا إذا كان يعارضه أصل عملي ففيه مشكلة ثانية أن العمل به فيه طرح للدليل فيكون العمل بفتح الذريعة مخالفة الأصل العملي من احتياط أو استصحاب، طرح الدليل والركون إلى اللادليل. نعم يجوز العمل بفتح الذريعة على وجه الاحتياط لرجاء إدراك الواقع وهو حسن بالشرطين المتقدمين، لا فتح الذريعة لا يكون في مقابلة احتياط آخر، أو لا يكون في قباله دليل دل على الاستصحاب مثلًا.
وشكرا لكم.(9/1688)
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أولا يجب علي أن أشكر باسمكم جميعا صاحب الفضيلة الدكتور وهبة الزحيلي على عرضه القيم فلقد لخص جميع الأبحاث تلخيصا حسنًا. وإنني ليس لي أي اعتراض على تلخيصه وعرضه الكريم ولكن لي اعتراض على بعض ما ورد في هذه الأبحاث. فما نقل عن ابن القيم في موضوع (أرباب الحيل) لا يقصد به الحنفية والشافعية كما يبدو للذهن أو يتبادر؛ لأن العلامة ابن القيم الزرعي –رحمه الله ورضي عنه- كان كثير التقدير والاحترام للأئمة وللمذاهب، وإنما يعترض بقوله (أرباب الحيل) يعترض على بعض المتفقهة الذين انتسبوا إلى بعض المذاهب الفقهية من المتأخرين وأدخلوا في هذه المذاهب ما ليس منها. فالحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة جميعا المتقدمون –وهذا قاسم مشترك بيننا جميعا فيما يظهر- متفقون على أن الحيل التي تؤدي إلى أمر محرم ممنوعة شرعا مهما قلنا في وصف هذا المنع، هل هو حرام أو مكروه تحريماً؟ هذا اصطلاح، وأن الحيل التي تؤدي إلى المسموح شرعا مسموحة، ودليل ذلك ما ورد في كتب الحنفية من أن رجلا –وهذا الأمر موجود في (فتح القدير) و (العناية شرح الهداية) و (البناية) و (الكفاية) وفي ابن عابدين وغيره من كتب المذهب- جاء إلى الإمام أبي يوسف –رحمه الله- فقال له: يا قاضي القضاة إنني رجل مليء ووجبت علي الزكاة فاستكثرتها فأخذت هذه الزكاة التي أوجبها الله علي وجمعتها إلى مالي كله ووهبته إلى زوجتي فوهبتني إياه، فمر الحول عليهما معا وهما لا يجب عليهما الزكاة لا الزوج باعتبار أنه لم يتم حول قمري ولا الزوجة لأنها ملكته يوما واحدًا، هل سقطت عني الزكاة؟ قال: "سقطتما ولكن إلى النار".
هذا هو موقف الحنفية من الحيل الممنوعة وهذا موقف أئمتهم، يعني الطبقات الأولى من المذهب مثلا إلى الطبقة العشرين، أما إذا جاء بعد ذلك من بعض المتفقهة، جاء مثلا في بعض كتب الحنفية المتأخرة: ولو أن رجلا أحب أن يتخلص من ماء مستعمل ماذا يفعل به؟ قالوا: يعطيه لكلب أو يبيعه لشافعي. هل هذا يمثل المذهب؟ هذا كلام الشرنبلالي، هذا لا يمثل المذهب. وقال بعض الشافعية: ولو أن رجلا دخل في فرج امرأة!! هذا لا يمثل المذهب. يعني هذا كلام فاسد من أساسه فلا يجوز أن نقول قالت الشافعية كذا وقالت الحنفية كذا. هذا كلام يوجد في كل المذاهب الفقهية، كلام سخيف تافه كهذا الكلام مردود لدى العقلاء ولدى الفقهاء. وبالجملة الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة من مذاهب الجمهور فيما أحسب أيضا أن الإمامية الاثني عشرية كذلك مثل مذاهب الجمهور كلها متفقة على أمرين اثنين: أن الحيل التي تؤدي إلى الممنوع ممنوعة مهما كانت درجة المنع، هذا اصطلاح؛ لأن الحنفية، وهذا أقوله لأخي فضيلة الشيخ حسن الجواهري حينما أصر على أن ... فقالوا: لا يجوز أن نقول عما ثبتت حرمته بالاجتهاد –يعني ومعلوم لديكم أن الاجتهاد بأغلبية الظن ليس بالنص- لا يجوز أن نقول عنه إنه حرام بل نقول عنه مكروه تحريما أو مكروه تنزيها مثلا وذلك على حسب درجة الكراهة، ولا يجوز أن نقول حرام –عند الحنفية- إلا إذا جاء النص على ذلك من كتاب أو سنة متواترة أو مشهورة أو إجماع المصلحة يجوز أن ينقض بمثله كما هو معلوم لديكم. حينئذ نرى أن دوائر المذاهب كلها تنصب في دائرة واحدة وهي: أن قضية الحيل أو قضية الذرائع ثلاثة أصناف، صنف ممنوع وصنف مسموح، وصنف مختلف فيه. وهذا القاسم المشترك موجود لدينا جميعًا، فلماذا مثلا يقال إن الحنفية والشافعية هم أرباب الحيل؟ هل رأينا أبا حنيفة على ورعه أو الشافعي أو أبا يوسف أو محمد بن الحسن أو تلامذة الإمام الشافعي كالمزني وغيره قالوا بهذه الحيل، أو سمحوا بها للناس؟ الواقع أن العلامة ابن القيم أكبر وأجل وأكثر ورعا وتحوطا لدينه وأكثر تأدبا مع العلماء الأوائل حينما قال: أرباب الحيل، ولم يقل الحنفية ولا الشافعية.(9/1689)
وباختصار بالنسبة لفضيلة الشيخ حسن الجواهري –حفظه الله- فإنه لم يقرأ قراءة كافية –فيما أرى- أصول المذهب الحنفي، فقضية الكراهة التحريمية أو الكراهة التنزيهية أظن أن ذلك موجود في بقية المذاهب ولكن بصيغة أخرى. الحنفية يقولون عن قضية الذرائع: (مقدمة الواجب) ، وهذا رد على بعض الباحثين من إخواني الذين قالوا إن الحنفية لا يقولون بالذرائع إلا عن طريق الاستحسان.
الواقع وتعلمون أنني من خدام الفقه الإسلامي كله لا سيما المذهب الحنفي، الذي رأيته في المذهب ودراستي المتواضعة أن المذهب الحنفي يقول بالذرائع كما تقول به المالكية تماما وكما تقول به الحنابلة ولكن يضعون له اصطلاحا آخر اسمه (مقدمة الواجب) ومن قرأ مثلا كتاب (التوضيح) لصدر الشريعة و (حاشية التلويح) للتفتازاني و (حواشي التلويح) لأن التلويح عليه حواشٍ، أو (كشف الأسرار الكبير) للبخاري شرح أصول البزدوي، يجد في طيات هذه الكتب اصطلاحا هو (مقدمة الواجب) ، لا يوجد هناك كلمة (سد الذريعة) أو (الذريعة) أو (الذرائع) قد لا يكون هذا الاصطلاح موجودا ولكنه لبه وجوهره ومعناه مقدمة الواجب لديهم.
وأرجو ألا أكون هنا مدرسا ولكن مذكرا لبعض منسياتكم، أن ما أدى إلى الواجب فهو واجب وما أدى إلى الحرام فهو حرام، وما أدى إلى المندوب فهو مندوب، وما أدى إلى المباح فهو مباح، وما أدى إلى المكروه فهو مكروه. لذلك يضعون للذريعة حكم ما توصل إليه، وهذا الفرع لا يدخل تحت قضية المكروه تحريما والحرام، هذا الفرع لا يدخل عندهم بل يبقى على الأصل لأن ما أدى إلى الحرام فهو حرام وليس مكروها تحريمًا، لأنني حين أسير في طريق حرام فإنني –قولا واحداً- أقع في الحرام من أول مرة وإلا فلماذا حرمنا عملية إسقاط الزكاة كما قال أبو يوسف؟ لماذا قال له: سقطتما ولكن إلى النار؟ لماذا؟ هل هذه العملية التي استفتي بها ذلك الرجل قاضي القضاة هذه العملية هل هي جائزة؟ هل نستطيع أن نقول مكروهة تحريما أو مكروهة تنزيهاً؟ إنها حرام، حرام؛ لأن فيها إسقاط الزكاة، ومثل ذلك ما يقوله بعض فقهاء عصرنا من أن أوراق البنكنوت (النقدية) ليست نقودا إنما هي يقولون مرة سلع ومرة إنها حوالة والواقع أنهم يقصدون أو لم يقصدوا يسقطون ركن الزكاة وهو الركن الركين في الإسلام.
فأشكر لسيادتكم صبركم علي في هذا المقال الواسع وأشكر لإخواني حسن إصغائهم وشكرًا.(9/1690)
الشيخ عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الهادي الأمين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، أود هنا أن أشير إلى، أولًا، شكر الباحثين الكرام على أبحاثهم وشكر العارض الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي.
فيه بعض الأمور بودي أن أنبه عليها ثم لي بعض الملاحظات. أولًا: ينبغي أن ننبه إلى أهمية قضية سد الذرائع بالنسبة لبعض القضايا الواقعة في عصرنا هذا، فإن بعض فقهاء هذا العصر وخاصة من ابتلي بالفتوى قد يتساهلون القول بالحرمة في كثير من المسائل استنادا إلى الاحتياط وسد الذريعة، فإذا سئلوا في قضية الأصل أنها جائزة لكن قد يختلط معها شيء من الحرام على وجه احتمال الضعيف أو الموهوم أو الأدرأ، استعجلوا بالحكم بالحرمة استنادا إلى سد الذريعة أو الأخذ بالاحتياط. وبعض من ابتلي بالفتوى أيضا يستند في التحريم إلى اعتبار أنها مفسدة في العرف، وهذه المفسدة قد تكون ملغاة لأن المفسدة المعتبرة بسد الذريعة هي المفسدة التي اعتبرها الشارع ضررا لا ما يراه هذا الفقيه مفسدة للعرف. هذا الاتجاه في الحقيقة نلمسه في كثير من الفتاوى المعاصرة وفي هذا تعسير وتحجير في غير محله قد يلجأ المستفتي أو الناس إلى المحظور. فالاحتياط في غير مكانه وسد الذريعة في غير محلها هو بذاته ذريعة إلى الفساد لما فيه من تعطيل المصالح وهو قاعدة (رفع الحرج) لقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . لهذا نص الشاطبي –كما ورد في بعض الأبحاث- على أن الذريعة تكون جائزة إذا كان أداؤها للفعل المحرم نادرا سواء أكانت الوسيلة مباحة أم مندوبة أو واجبة؛ لأن في منعها حرجا وتعطيلا لمصالح كثيرة.
بالنسبة للملاحظات، الملاحظة الأولى حينما أراد الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي أن يلخص أقسام الذرائع فهما من تقسيم الشاطبي قال: إن الذرائع ثلاثة أقسام، أحدها ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام باتفاق، والثاني ما يقطع بأنها لا توصل ولكن اختلطت بما يوصل، ثم قال: فكان من الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل بالحرام بالغالب منها الموصل إليه.(9/1691)
أعتقد هذه العبارة حسب الشرح الذي سمعناه ليست مقصودة، إلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بما يغلب توصيله إلى الحرام هذا غير صحيح وليس هذا مراد الشاطبي لأن الفقهاء نصوا على أن النادر لا حكم له. وفي هذا قال الشاطبي أيضا وهذا من بحث الدكتور وهبة، يقول: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا –وسمعناه الآن- كحفر بئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه هذا مباح باق على أصله من الإذن فيه. وورد أيضا رد لهذا في بعض الأبحاث نقل عن التاج السبكي، قال: قال الشيخ الإمام يعني والده، وهذا بعد أن ذكر العبارة بأن النادر الذي قطع بأنه لا يصل إلى الحرام بالغالب الموصل إليه –قال: وهذا غلو في القول بسد الذرائع.
الملاحظة الثانية، بالنسبة لتحرير محل النزاع، وهذه القضية التي أعتقد أنها مهمة وكثير من الأبحاث أو تقريبا الأبحاث التي اطلعت عليها لم تحرر محل النزاع تحريرا واضحًا. سأختار ما ذكره الدكتور وهبة في تحرير محل النزاع الذي ورد في بحثه، يقول في تحرير محل النزاع: الترجيح، إن الموضوع المختلف فيه، وهو المباح الذي يتذرع به إلى المفسدة، أرى أنه ينبغي فيه سد الباب أمام المحتالين والمفسدين الذين يحاولون التحلل من قيود الشريعة وأحكامها، فإن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد. هذا النقل الموجود أقول إنه ينبغي أن لا نتقيد بإطلاق هذا اللفظ المباح مطلقًا، المباح الذي يتذرع به إلى المفسدة ينبغي فيه سد الباب إلى آخر العبارة. ثم قال: مذهب المالكية، وهو يريد أن يرجح مذهب المالكية. وبهذا يكون مذهب المالكية والحنابلة ويقاربهم الحنفية في هذه المسألة أسد وأحكم والعمل به أوجب وألزم. أعتقد أن مذهب المالكية في محل النزاع هذا يحتاج إلى شيء من التوضيح. فمذهب المالكية فيما يبدو من العبارات المنقولة أن الجائز أو المباح في محل النزاع ليس على إطلاقه وليس كل مباح يتذرع به إلى المفسدة يسد بابه وإنما المراد الجائز أو المباح إذا كثر قصد الناس إلى التوصل به إلى الممنوع، هذا الذي ينبغي أن يبطل ويسد بابه، وهذا ما قالوه في بيوع الآجال وهي محل النزاع، قالوا إن البيوع إن كانت على بيع جائز في الظاهر إلا أنها لما كثر قصد الناس إلى التوصل إلى ممنوع في الباطن كبيع بسلف أو سلف بمنفعة منعت قياسا على الذرائع المجمع على منعها بجامع أن الأغراض الفاسدة في كل هي الباعثة على عقدها لأنها المحصن لها. ولذلك قال القرافي: إذا لم تكن الأغراض الفاسدة هي الباعثة على العقد فلا يمنع. وأيضا قال: كل مباح أفضى إلى المفسدة غالبا أعتقد أن محل النزاع هو ما حرره الشاطبي في القسم الرابع، قال: كل فعل مأذون فيه بالأصل ولكنه طرأ عليه ما جعله يؤدي إلى المفسدة كثيرا لا غالبًا. هذا محل النزاع. وأيضا حرره بقريب منه ابن القيم حينما قال: بقي الخلاف –أي تحرير محل الخلاف- قائما في الوسيلة الموضوعة للمباح ويقصد بها التوصل إلى المفسدة وكذا بالنسبة للوسيلة الموضوعة للمباح أيضا من غير قصد التوصل بها إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها. وهذا هو المعنى الخاص بالذريعة عند الأصوليين وعند الفقهاء.
وشكراً،(9/1692)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كما تفضل فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي من أن حديثنا اليوم إنما هو حديث في الأصول لا في الفروع، فإني أريد أن أقصد بعض ما يتعلق بهذا المبدأ الذي تحدث به لأرتب عليه ما أريد أن أرتبه.
معلوم أن المدارس الاجتهادية بينها أصول متفق عليها، وهناك أصول مختلف فيها عبر عنها الإمام الغزالي بقوله: الأصول الموهومة. واعتبر سد الذرائع من تلك الأصول الموهومة التي لا يستند إليها، فيصبح أصل بحث موضوع سد الذرائع هو في أصل من الأصول التي يعتمدها المجتهد أو لا يعتمدها المجتهد. فهي ليست في يد كل شخص يتحدث بها ويستند إليها في إسناد الحكم ولكنه لا يجوز لشخص أن يقدم على الاعتماد على سد الذرائع إلا إذا كان مجتهدا في إحدى رتب الاجتهاد لا حافظا من حفاظ المذهب. وهذه النقطة التي أردت أن أثيرها اليوم لأن هناك أصلين قد وقع الاعتماد عليهما من أهلهما ومن غير أهلهما وهما الضرورة وسد الذرائع. فالضرورة اعتمدها كثيرون في إباحة ما حرمه الله، وسد الذرائع اعتمده كثيرون في تحريم ما أحله الله، وذلك لأنه إذا لم يكن للفقيه المشتبه الذي يستطيع به أن يلم بأطراف الشريعة إلماما يجعله مدركا إدراكا واضحا لمقاصد الشارع فإنه لا يجوز له أن يستند لا إلى هذا الأصل ولا إلى الأصل الآخر، ثم إن المنهج في البحث هذا الذي أريد وتحدثت عنه قبل، وأصل كلامي من قبل بكلامي اليوم هو أن حديثنا دائما عن الأمثلة التي أتى بها المجتهدون وأتى بها الفقهاء في كتبهم، فهذه تصلح للتدريس لتلاميذ الجامعة، فقضية الزكاة التي ذكرناها أكثر من مرة وأعدنا فيها الكلام هذه قضية كان لها مكان يوم كانت الدولة هي التي تجمع الزكاة، فكان يريد أحدهم أن يخرج من الزكاة بهذه الحيل ولكنها انتهت اليوم فمن أراد أن يخرج الزكاة أخرجها ومن لم يدفعه دينه وخوفه من الله أن يخرج الزكاة فهو لا يبحث عن أية حيلة من الحيل ولا أية طريقة من الطرق لإبطال الزكاة عليه. فلذلك القضية اليوم نحن أمام حيل كثيرة أو ذرائع كثيرة استخدمت للفساد، فهلا تتبع الباحثون ما يجري في البنوك الإسلامية؟ ما يجري في كثير من البنوك الإسلامية أن كثيرا من العقود ظاهرها صحيحة ولكنها من قبيل الذرائع الفاسدة، فهلا وقع من السادة الباحثين تتبع لبعض هذه القضايا وبيان الذرائع الصحيحة والذرائع الفاسدة، وما يقبل وما لا يقبل؟.
من الذرائع التي كان من الحق أن نذكرها هي الجمع بين العقود فالجمع بين العقود الأصل أن كل عقد على انفراد هو جائز، لكن جمع عقدين في عقد واحد، هذا وقع منعه في كثير من المذاهب وعددت العقود في قول ابن عاصم:
وجمع بيع مع شركة ومع
جعل وقراض امتنع
هذا، جمع العقود هل يعتبر ذريعة للربا والفساد أم لا؟ فهذه قضايا أساسية تعترضنا كفقهاء، والباحث الذي نظر في موضوع سد الذرائع حبذا لو أتانا بهذا
النظر الذي يصل بالأصول إلى الواقع حتى يجلي طريقة استخدام هذا الأصل في التفقه.
وفي بداية كلمتي لابد أن أذكر أنني أثني على ما قاله أخي فضيلة الشيخ عجيل النشمي فأنا معه فيما ذكره.
بقيت قضية دخلت في الواقع في كلام فضيلة الشيخ من أن الاستناد إلى (القطعي والظني) وأن الظن لا ينسب.. يا سيدي لو أردنا أن نبحث عن الأحكام المقطوع بها، بمعنى أنها استندت إلى نص مقطوع به. فإن السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام الأحاديث المقطوع بها هي قليلة، المتواتر منها قليل ثم إن النص القرآني الكريم في فهمه ونفي الاحتمالات العشر هو مما يجعل أن المقطوع به يكاد يكون قليلا جدا في ذات القرآن من حيث فهم الفقيه النص القرآني، ونحن نطلق التحريم والتحليل والجواز والكراهة والإباحة نطلق ذلك على أساس الظنون وما كلفنا إلا بالظن؛ لأن من يستطيع أن يقول إن الله –تعالى- قصد هذا قطعا 100 % هذه جراءة على الله فنحن نعتمد الظن وهذه هي الطاقة التي مكن الله منها المجتهد الذي لا يصل إلى أكثر من الظن. فلهذا أردت أن أبين إلى أن هذه القضية أن قضية الظن غير مقبولة وإلى آخره هو أننا نريد تدقيقا أكثر وأن ما كلفنا به هو الظن. وشكراً،(9/1693)
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أود في البداية أن أؤكد وأؤيد مقالة العلامة فضيلة الشيخ المختار السلامي بأنه كان من الواجب على هذه الأبحاث أن تبحث في القضايا المعاصرة وخاصة البنوك وتكييفها حسب هذا الأصل أو هذه القاعدة، وهو ما خلت منه الأبحاث، وكان هذا المفروض والمطلوب في التطبيقات المعاصرة؛ لأن هذه القاعدة أو هذا الأصل معلوم لدى كل من له ممارسة بعلم الأصول. هذا أولًا. ثانيًا: كما هو معروف أن علماء الأصول يعنونون هذه القاعدة بـ (سد الذرائع) حتى ظن بعض الكاتبين وبعض المؤلفين أن هذا الأصل لا يتضمن إلا السد والمنع لا الفتح، ولكن نبه على هذا الجانب أعلم المفكرين من الأصوليين على أن هذا الأصل كما يتضمن السد فهو يتضمن الفتح، وأن الوسيلة أو الذريعة تعتورها الأحكام الخمسة، تكون محرمة وتكون واجبة وتكون مندوبة وتكون مكروهة. وتكون مباحة فإذا كان الأقدمون يعنونونها بسد الذرائع وهذا العنوان الوضعي لأبرز وأهم هذه القاعدة الأصولية جلب علينا نحن الفقهاء اعتراضا وجدلا كبيرا وهو أننا لا نجيد إلا السد، وأن هذه القاعدة وقفت حائلا بين التطوير أو التحديث ومواكبة العصر، الفقه الإسلامي ومواكبة العصر. وتحدثوا بما شاؤوا حول هذا الأصل وهذه القاعدة وطعنوا فيها، ومن خلالها طعنوا على الفقه الإسلامي.
أود أن أقول: ألا يمكن إذا أردنا أن نعنون لهذه القاعدة حتى لا يلتبس الأمر ولا يظن أن المقصود هو السد والمنع فقط، أن يقال سد الذريعة وفتحها، حتى إن كثيرا من الكاتبين الفقهاء لا يتعرضون إلى هذا الموضوع إلا لسد الذريعة ولكن لا يتعرضون إلى الجانب الآخر وهو فتح الذريعة. وشكراً،(9/1694)
الشيخ محمد علي التسخيري:
قبل كل شيء أود أن أشكر الأستاذ الزحيلي على هذا العرض الشيق وإن اتهمني بالعقلية في المنهج فقط. في الواقع أنا كنت أتحدث عن أصول، وهذه الأصول مستنبطة من نصوص الشريعة. ربما كانت المناقشات فيها شيء من التعقيد، لذلك قد يبدو أن السير عقلي. المهم أننا يجب أن –كما قيل- نحرر محل النزاع ولا أريد أن أطيل.
التركيز كله إنما يكون على الوسيلة التي تؤدي إلى المفسدة كثيرا لكن لا غالبا ولا قطعا بحيث الوسيلة التي لا تنفك عن المفسدة. تلك التي لا تنفك عن المفسدة، أو تلك التي تؤدي بشكل عادي إلى المفسدة كحفر الآبار في الطرق ربما لا يقع فيها إنسان لكنه يؤدي إلى مفسدة بشكل طبيعي. التركيز إنما هو على الوسيلة التي تؤدي إلى المفسدة –إلى الحرام- كثيرا لكن لا غالبًا. هذه الوسيلة هل نحرمها أو تبقى على حكمها الأول من الحرام؟ حفر بئر من الحلية فهو حلال. هذا مهم جدا أن نركز عليه لأنه هو الذي سوف يؤدي إلى النتيجة.
النقطة الثانية: لم أر من الأدلة ما ينهض بقوة إلا كما أشار سماحة الشيخ الجواهري أدلة الاحتياط، (ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه) ، (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) إلى آخره. وأدلة الاحتياط لا تنهض بنفسها أدلة اجتهادية قوية على التحريم وإنما قد ترشد إلى أمور عقلانية عرفية يعمل بها المشرع بشكل جيد (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) و (من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه) .
النقطة الأخرى: المهم في الاستدلال، ما نسميه ما أدري ... نحن هناك أحيانا المصطلحات عندما نقول: الكلي في الذمة أو الكلي في المعين يعني عندما نقول: الكلي في الذمة أو الكلي في المعين يعني الموصوف تارة يكون في الذمة وأخرى يكون في الخارج. هناك صبرة صاع منها أبيعك إياه، هذا الصاع يمكن أن ينطبق على كثيرين، أو عندما يكون في الذمة هذا الذي في الذمة طن من الحنطة يمكن أن ينطبق على هذا الطن وهذا الطن. وما ينطبق على كثيرين نسميه كلي هذه هي صيغتنا، ليس فيه مشكلة. موصوف لكن يقبل الانطباق على كثيرين. هذه هي المصطلحات. نحن عندنا في الأصول في باب التعادل يطرحون مصطلحي التعارض والتزاحم. إذا كان هناك دليلان لا يمكن أن يصدر باعتبارهما يتكاذبان نسميه باب التعارض وله شروطه، وإذا كان هناك أمران يمكن أن يصدرا لكن يتزاحمان في مقام الامتثال (أنقذ غريقًا، لا تغضب) وتوقف إنقاذ الغريق على اجتياز الأرض المغصوبة. هنا تزاحم في مقام الامتثال حل المشكلة كلها في باب التزاحم. هناك تزاحم يحدث بين المفسدة هناك وبين علية هذه الوسيلة. إذا كان هذه حلال فأسلكها. وإذا كان هذه حرام فيجب ألا أسلكها، هذا التزاحم يحل بشكل طبيعي ولدى الجميع عن طريق ملاحظة أهمية الحكمين. فأي الحكمين بنظر الشارع هو الأهم؟ يقدم الأهم على المهم. إنقاذ مؤمن غريق أهم بكثير من اجتياز أرض مغصوبة في نظر الشارع، أو عدم رد سلام مثلًا. فهنا تفتح هذه الوسيلة لتحقيق تلك الغاية. هذا مهم. المهم باب التزاحم يجب أن نلحظه.(9/1695)
المشكلة في كثير من المصاديق تجد مصاديق كثيرة بعضها صحيح وبعضها غير صحيح. المهم والقاعدة هو مسألة التزاحم بين الأهم والمهم. هذه نقطة هامة أيضًا. النقطة الأخرى أحيانا أنا رأيت وهذا أقوله لكم بصراحة نزاع ضخم حول أصل من أصول الفقه. مسألة المصالح المرسلة، الشيعة يرفضونها. سد الذرائع، يرفضونه، ولكن عندما تدخل المسألة تجد أن هؤلاء يرون له مجالا وهؤلاء يرون له مجالا آخر بالنسبة إلى هذا المجال يجب أن نفرق بين عمل الحاكم في سياسته الشرعية وعلم المفتي، أكثر هذه الأمثلة المطروحة في مسألة سد الذرائع هي في الواقع ضوء إرشادي لعمل الحاكم. الحاكم عندما يرى أن هذه الأطباق الصناعية أنها في الأصل محللة، النظر إلى تلفزيونات الآخرين محلل ولكن عندما يرى أنها ذريعة للوصول إلى حرام لتحقيق هجوم ثقافي على عالمنا الإسلامي يحرم كل هذا الشيء، وعندنا الآن في إيران حرمت كل هذه الأمور وجمعت كل الأطباق لأنها صارت ذريعة في نفسها محللة لكنها ذريعة للحرام. هناك فرق إذن بين عمل الحاكم وبين إفتاء المفتي ويجب أن نفرق بينهما بشكل كبير.
شيء آخر في الحيل الشرعية. الحيل الشرعية الإنسان يقع في تضاد من جهة صورة العقد جيدة، صور العمل حسب القواعد جيدة، من جهة أخرى الباطل مقصود منها، وأن المقصود ليس هذه الصورة وإنما هو باطل. ما هو المعيار في التفريق بين الصورة الصحيحة والصورة الباطلة؟ أنا –كما أشار إليه الشيخ الزحيلي- أرى أن الفهم العرفي موكول له هذا التحقيق. عندما أبيعك عشرة معجلة بعشرين مؤجلة، في الواقع العرف يرى أن هذا قرض وليس ربا. أو كما في هذه القضية قضية التخلص من الزكاة.
ولكن أحيانا لا، عمل مقصود كما هو في قضية بيع الوفاء قد يقصد منه طرف الربا ولكن أحيانا قد لا يقصد. فإذا مثلا في أثناء عملية البيع فنت العين فهي تفنى من مال المشتري، فرق بين هذا وبين الربا. الربا إذا أخذت القرض وفنى المبلغ فهو في ذمته. هذا أيضا أؤكد عليه.(9/1696)
النقطة الأخرى مسألة بعض الذرائع قد تحرم لكن لا من باب سد الذرائع. الآن وضع الأموال في البنوك الربوية وأموال جارية، نحرمها لا من باب أدائها إلى شيء وإنما من باب إعانتها على الظلم، في نفسها عمل إعانة على الظلم وإعانة على عمل. ولا ريب أن بعض العناوين تصدق مباشرة على الذرائع فتحرمها. هذا شيء غير سد الذرائع.
هناك بعض التوضيحات، مسألة مقدمة الواجب التي أشار إليه الشيخ الفرفور هي من أهم البحوث الأصولية، والشيخ يقول: لعلك لا تعلم هذا المصطلح، من أهم البحوث الأصولية في المدرسة الإمامية وربما طال البحث إلى ستة أشهر في مقدمة الواجب. أحببت أن أوضح هذا.
النقطة التالية سماحة الشيخ السلامي وهو أستاذنا الجليل، المقصود أن الظن ظنان هناك ظن قام عليه دليل قطعي وهناك ظن لم يقم عليه دليل قطعي. حجية الخبر الواحد قام على اعتبار الخبر الواحد دليلا قطعيا لا ريب فيه، حينئذ الخبر الواحد ينتج لي ظنا ولكن هذا الظن حجة وكل الأصوليين من الشيعة يقولون الحجية معناها ثلاثة أمور: التنجيز، يعني إذا ثبت فأنا محاسب عليه، والتعذير إذا لم أعمل وكان في الواقع غير ذلك فأنا معذور، وصحة الإسناد فصحة الإسناد الشريعة.
أما الظن الذي يرفض هو الظن الذي لم يقم عليه دليل قطعي كالظنون الاستحسانية في كثير من الأحايين، ظنون لم يقم عليها دليل قطعي، يجب أن نفصل. هذه نقطة مهمة أرجو أننا عندما نقول نرفض الظن لا نقول كل أحكامنا قطعية، لا، نقول: كل ظن قام عليه دليل قطعي، كما يقول كل ما بالعرض يجب أن ينتهي إلى هذا الذات أمام عقلي.
الظن الذي قام على اعتباره. إذن القطعي هو المهم.(9/1697)
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
يبدو أن هذا البحث (سد الذرائع) يحتاج كما نقول إلى فتح باب الذرائع كما ونحتاج إلى السد. ما تحصل لدينا من قراءة هذه المصادر الأصولية الصعبة مكرمة خص الله –تعالى- بها الأئمة، كل فتح له كوة لم يستطع أحد من الآخرين سدها. كوة في الاستدلال، باب في الاستدلال أمر عجب ينسجم مع عقليته من البداية إلى النهاية.
فهذا التسلسل المنطقي والمنهجي عند كل إمام يصل إلى ما يصل إليه. والحقيقة الذي تحصل لدينا أنهم اتفقوا في الحكم واختلفوا في العنوان (سد الذرائع) ، يعني ما اتفقوا على منعه اتفقوا على المنع ولكن ما الدليل؟ هذا هو الذي صار فيه خلاف.
أمر آخر: لوحظ موجة من التوافق ما بين الاستحسان وسد الذرائع. ثم ما قيل في الحيل يقال في الذرائع، وإن كانت كلمة الحيلة في الحقيقة غير مستساغة سمعًا، لذلك في عمق كتب الحنفية القديمة يقولون: كل حيلة يحتال بها الرجل لإبطال حق الغير أو لإدخال شبهة فيه فهي مكروهة –أي تحريماً- وكل حيلة يحتال بها الرجل ليتخلص بها من حرام أو يتوصل بها إلى حلال فهي حسنة. وهو معنى ما نقل عن الشعبي: لا بأس في الحيلة فيما يحل. تضرب لذلك مثلا بالزكاة وسمي حيلة. أمير –لا أدري الكوفة أم البصرة - زوج ابنيه وتبين في الصباح أن عروس كل منهما زفت إلى الآخر خطأ –وهذا شيء معروف في الفقه- فدعي الفقهاء ومنهم –كما قال وهذا موجود في كتب التراجم- أبو حنيفة قال: ما نفعل؟ فقال للأول طلق زوجتك غير المدخول بها فطلقها فتركه وقال للثاني: طلق زوجتك غير المدخول بها فطلقها، ثم عقد على كل منهما، وقالوا هذا، وصف من الحيلة. إذن المخرج من المشكلة في بعض الأمور الشفعة ونعرف حق الشفعة، وربما جارك ثقيل الدم تريد أن تسقطه من الشفعة والشفعة حق فقالوا في بعض الصور كيف يمكن أن يسقط الشفعة لا لإبطال حق مستقر ولكن لدفع ضرر؟ ما قيل في سد الذرائع يقال في الحيل تمامًا.
ثم إخواننا نرجو قبل كل شيء نحن أظن جميعا قراء للفقه مع التسليم أن هؤلاء الأئمة الذين كرمهم الله تروننا كل قضية لم يقعدوا لها تقعيدا واضحا تتيه فيها عقول الملايين من فقهاء اليوم. إذن نحن الآن أمام الحكم متفق عليه ولكن العناوين مختلفة، لا يمكن لعاقل ولا لمسلم أن يقول بحيلة لإبطال حق شرعي مستقر أو كما قيل في قضية الزكاة، نحن نتعجب كيف يمكن.. هل يقول فيها فقيه أو يرد فيها فقيه على سائل يحتال؟ لا فقيه يحتال، السائل هو الذي يحتال وليس الفقيه.
وشكرًا، والسلام عليكم.(9/1698)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
فضيلة الرئيس، أريد أن أتحدث عن نقاط بصفة سريعة إن شاء الله. أولًا: مسألة الذرائع اشتهر عند الناس أن الذي يقول بها هو الإمام مالك وأحمد – رحمهما الله تعالى - والحقيقة أن المذاهب كل مذهب اعتاض عن العمل بدليل بدليل آخر، فالشافعية الذين لا يقولون بسد الذرائع بالغوا لا نقول أسرفوا في العمل بالقياس وبظاهر النصوص وأهل الظاهر بالغوا في العمل بالاستصحاب، والأحناف بالغوا في الاستحسان، ولذلك لم يحتاجوا إلى سد الذرائع.
ثانيا: سد الذرائع معروف في المذاهب الأخرى، معروف عند الشافعية والأحناف، وإن كان الشائع أنهم لا يعملون به، إلا أن الخلاف في داخل مذاهبهم يدل على أنهم يعملون به، وأن أصحاب هذه المذاهب في بعض الأحيان يعملون بسد الذرائع كما يعمل به المالكية والحنابلة. مثلا الإمام أبو حنيفة –رحمه الله تعالى- يقول بجواز إيجار الدور في العراق أو في سواد العراق –حسب عبارته- للنصارى لاتخاذها كنائس بينما أصحابه يقولون بأن ذلك لا يجوز. الإمام أبو حنيفة –رحمه الله تعالى- يقول بجواز أجرة حمال الخمر كما ينص عليه الكاساني في (بدائع الصنائع) ، ويقول: لأن الخمر قد يحمل لإراقته، وهذا نظر فقهي، معناه أن الحمل لا يُتَوسّل به فقط إلى الشرب وإنما يُتوسّل به إلى أشياء أخرى، فقال بجواز أخذ الأجرة عليه وصاحباه لا يقولان ذلك؛ لأن صاحباه يقولان بسد الذرائع في هذا وفي تلك، الشافعي –رحمه الله تعالى- يقول بصحة إيجار دار لمن يتخذها مثلا مثابة القمار أو حانة للخمر أو مكانا للربا، ويقول بصحة بيع العنب لمن يتخذه خمرا، بينما أصحابه لا يقولون بذلك، وذكر ابن قدامة عند كلامه على بيع العنب لمن يتخذه خمرًا.
إذن الإطلاق أن هذه المذاهب لا تقول بسد الذرائع، إنما هي تقول به في داخلها، عندما يتسرب الإنسان إلى داخل هذه المذاهب ليطلع عليها يجد أنها تقول بسد الذرائع. فالإطلاق إذن فيه تجاوز.
ثالثًا: مسألة فتح الذرائع، وكما قال بحق فضيلة الدكتور عبد الوهاب، هناك فتح الذرائع مع سدها والعلماء يقرنون بينهما.
سد الذرائع إلى المحرم
حتم كفتحها إلى المنحتم
ويعبر عنه بعض الأحيان: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إذن يوجد سد ويوجد فتح، هذا أمر واضح جدًا.
رابعًا: الذين يقولون بسد الذرائع هم أيضا لا يقولون به إذا ضعفت كما أشار إليه البعض، بل هناك قواعد، عند المالكية قاعدة: (الأمر الجائز لا يترتب عليه شيء.
وكل من فعل ما يجوز له
ونشأ الهلاك مما فعل
وأتلف المال فلا يضمن ما آل له الأمر وفاقا فاعلم) ، هذه القاعدة ذكرها القرافي ونظمها صاحب القوافي ولو أنها صاحب القوام ... الزكاة أولا لإسقاط الحج لا يجب عليه حج ولا زكاة بخلاف من استبدل ماشية بغيرها للهروب من الزكاة فإنه تجب عليه الزكاة. إذن هم يسقطون الذرائع في كثير من الحالات.(9/1699)
خامسًا: مسألة حرمة الوسائل: حرمة الوسائل هذا أمر يجب أن يتوقف عنده الباحثون ولم يتوقفوا عنده كثيرًا. تحريم الوسائل ليس كتحريم المقاصد، ولأجل ذلك ما حرم للوسيلة فإنه يجوز للحاجة. مثال ذلك ما يقوله العز بن عبد السلام –رحمه الله تعالى-: لا يمنعنك من زيارة أخ ما تشاهده من المناكر في الطريق، فإنك إن غيرت هذه المناكر فذلك أجر آخر وإن لم تغيرها فلا شيء عليك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالكعبة وعليها ثلاثمائة وستون صنمًا. فهو يرى أن هذه المناكر يجوز المرور بها ومجاوزتها للحاجة، وكذلك كلام ابن حجر –رحمه الله تعالى- في الفتح عند حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القعود على الطرقات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجازه لما ذكر له الحاجة ولكن وضع شروطا وضوابط، وقال: هذا يدل على أن النهي ما كان عزيمة. فهذا أمر يجب أن نتوقف عنده تحريم الوسائل يجوز للحاجة ولكن أي حاجة؟ هذا أمر يجب أيضا على الفقيه أن يوضحه.
سادسًا: هناك نقطة قد أشار إليها الإخوان، كان يجب على الباحثين أن يبحثوا في المسائل العملية، المسائل المعاصرة التي نعيشها، وهي مسائل كثيرة منها مسألة إيداع الأموال في البنوك الربوية ومنها مسألة طلب الجنسية في بلاد الكفر وهذه المسألة طرحت علينا السنة الماضية في فرنسا. نحن نعرف أن كثيرا من علمائنا كمالك –رحمه الله تعالى- الذي يرى أن السفر إلى هذه الديار التي سماها ديار حرب وإن كانت هي ديار هدنة يرى أنه من مسقطات الشهادة: فهنا الناس يتسألون هل يجوز لنا أن نطلب الجنسية بناء على ضيق أو حرج؟ يعني شخص قد يضيق ذرعا بالمقام في بلاده ولكنه حتما سيصل إلى أشياء لا تحمد عقباها فيما يتعلق بتعليم أولاده وبتربيتهم تربية إسلامية قد يجد صعوبة وحرجا فهل تجوز له الجنسية أو لا تجوز له؟ هذه المسألة من مسائل الوسائل لأننا نمنعها خوفا من ما تؤدي إليه، فيجب أن نطرح مثل هذه القضايا، التعامل مع المصارف الربوية، ووضع الأموال في هذه المصارف، ومسألة الأطباق التي تحدث عنها الشيخ التسخيري، ومسألة طلب الجنسية في بلاد الكفار، وتضمين الطبيب الذي يقوم بعمل قد يؤول إلى هلاك إذا قلنا بمسألة الضمان بالمآل. أخيرا فإن الذرائع قد لا تكون السبب –وهو مهم جداً- الوحيد في الخلاف بين العلماء في بيوع الآجال خلاف في الحقيقة يرجع إلى قاعدة أخرى وهي أن الشافعي –رحمه الله تعالى- لا يرى العمل بقول الصحابي، رأي صحابي عنده ليس حجة كافية في مذهبه الجديد. والحال أن الإمام أحمد ومالكا – رحمهما الله تعالى- يرجعان إلى قول عائشة في حديث العالية بنت أنفع في الغلام الذي باعته لزيد بن أرقم.
فالمسألة هنا ترجع إلى دليل آخر غير سد الذرائع.
وكلمة أخيرة أقول لكم جزاكم الله خيرا على وضع هذه النقطة في جدول الأعمال وأنا أقترح في كل دورة أن نخصص بندا لمسألة من مسائل الأصول، في دليل من أدلة الأصول، وأن نركز في تناولنا لهذا الدليل على المسائل العملية المعاصرة التي نعيشها فهذا أمر مهم جدًا. وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،(9/1700)
الرئيس:
بقي من أصحاب الفضيلة الراغبين في الكلام عدد كثير وتعلمون أننا كنا نجعل استراحة في وسط الجلسة الصباحية وفي هذا اليوم تجاوزناها، فما بقي إلا قليل مما كان يخصص لجلسة الاستراحة فإن رأيتم ولا سيما أنه لا بد من إعداد القرار وطباعته أن ننهي الجلسة. مناسب؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من خلال هذه المداولات يتحرر أن سد الذرائع وفتحها أصل من أصول الشريعة بتقاسيمه المعتبرة لدى علماء الشريعة وإن اختلفوا في تفاصيلها فهم يلتقون في كليتها. وأن فتحها آخية لسدها.
سد الذرائع إلى المحرم
حتم كفتحها إلى المنحتم
وإن سد الذرائع لا يقتصر على مواضع الاشتباه فقط وإنما يشمل كل ما من شأنه الوصول إلى المحرم. وأن سد الذرائع أو فتحها مربوط بشروط وبضوابط كما عرضها فضيلة العارض –جزاه الله خيراً- ولهذا فقد ترون مناسبا أن تؤلف اللجنة من أصحاب الفضيلة: العارض، والمقرر، والشيخ النزيه، والشيخ الشيباني، والشيخ العماري.
مناسب؟ وبها ترفع الجلسة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/1701)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 96 /9/د9 بشأن: "سد الذرائع"
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبي ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415 هـ، الموافق1-6 إبريل 1995م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "سد الذرائع" وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:
1- سد الذرائع أصل من أصول الشريعة الإسلامية، وحقيقته: منع المباحات التي يتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات.
2- سد الذرائع لا يقتصر على مواضع الاشتباه والاحتياط، وإنما يشمل كل ما من شأنه التوصل به إلى الحرام.
3- سد الذرائع يقتضي منع الحيل إلى إتيان المحظورات أو إبطال شيء من المطلوبات الشرعية، غير أن الحيلة تفترق عن الذريعة باشتراط وجود القصد في الأولى دون الثانية.
4- والذرائع أنواع:
(الأولى) مجمع على منعها: وهي المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أو المؤدية إلى المفسدة قطعا أو كثيرا غالبًا، سواء أكانت الوسيلة مباحة أم مندوبة أم واجبة. ومن هذا النوع العقود التي يظهر منها القصد إلى الوقوع في الحرام بالنص عليه في العقد.
(والثانية) مجمع على فتحها: وهي التي ترجح فيها المصلحة على المفسدة (والثالثة) مختلف فيها: وهي التصرفات التي ظاهرها الصحة، لكن تكتنفها تهمة التوصل بها إلى باطن محظور، لكثرة قصد ذلك منها.
وضابط إباحة الذريعة: أن يكون إفضاؤها إلى المفسدة نادرًا، أو أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.
وضابط منع الذريعة: أن تكون من شأنها الإفضاء إلى المفسدة لا محالة (قطعاً) أو كثيرا أو أن تكون مفسدة الفعل أرجح مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة.(9/1702)
مبدأ التحكيم
في الفقه الإسلامي
إعداد
المستشار محمد بدر يوسف المنياوي
عضو مجمع البحوث الإسلامية للأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
1- فقد عرفت البشرية نظام التحكيم في عهودها البدائية، ثم عزفت عنه ردحًا من الزمن، لتعود إليه بخطوات ثابتة سريعة ملتمسة لديه علاج منازعاتها المعقدة، كما سعدت به في علاج منازعاتها البدائية.
فالتاريخ يشهد بتطبيقات عديدة للتحكيم في الأيام الموغلة في القدم، وفي عصر قدماء المصريين وعصر الإغريق والرومان، وأيام العرب في الجاهلية، ثم يروي التاريخ كيف أفل نجم التحكيم مع نشأة الدولة بمفهومها الحديث، وأن ذلك كان تحت زعم أنه يتعارض مع سيادتها، وينتقص من سلطان قضائها الذي له الولاية الكاملة في حسم المنازعات بجميع أنواعها، ثم يعود التاريخ ليروي كيف كشفت المدنيات الحديثة الغطاء عن نظام التحكيم، لتجده أقوى مما كان، متلائمًا مع سيادة الدولة غير متنافر معها، داخلًا تحت عباءة القضاء غير منفلت منها، وأنها بعد أن دفعت به إلى طريق التطبيق من جديد، تصدي ليحمل عن القضاء أثقالًا بعد أثقال، في كفاءة، تحقق للخصوم ما يفتقدونه أمام القضاء من سرعة في الفصل، وخبرة في الحسم، مع الحفاظ على الأسرار والسرعة في التنفيذ.(9/1703)
وما كان القضاء لينمو بنفس النسبة التي تتكاثر بها المنازعات وتتعقد وتتشابك، فهو مقيد في عدد قضاته بقواعد منضبطة، تكفل لهم الدربة الكافية، وهو ملتزم في ضماناته بضوابط شكلية تسعى به إلى العدالة التقليدية في روية وأناة، تسمح بكشف ما يطمسه المتنازعون من معالم الحقيقة، ومن ثم فقد سمحت الفرصة للتحكيم أن يصول في الميدان بما حباه نظامه من قدرة على أن يزيد في عدد الحكام بقدر الحاجة، ومن عدم التقيد بالضوابط الشكلية سعيًا إلى العدالة على أسس تختلف عن المفهوم التقليدي لها أمام محاكم السلطة القضائية في الدولة، هذا إلى جانب أن التسليم بحق الخصوم في اختيار قضاتهم، يسمح لهم بانتقاء محكمين على مستوى عال من الخبرة والتخصص في النزاع المعروض، فيوفر لهم ذلك ما لا يستطيع النظام القضائي العادي توفيره من قضاة متخصصين تخصصًا دقيقًا في جميع المجالات، فإذا أضيف إلى ذلك ما يحققه التحكيم للخصوم من تحديد جلسات نظر المنازعة في الأوقات التي تناسبهم، وفقًا لظروف العمل القضائي في المحاكم، وما يكفله من الانتهاء من الحسم في وقت محدد يعد قصيرًا جدًّا إذا قورن بما يستغرقه الفصل في النزاع أمام محاكم السلطة القضائية، فإنه لذلك يكون قد وضح أن التحكيم جدير بأن يكسف الجولة أمام القضاء في هذا المضمار.
على أنه بجانب ما تقدم فقد كان هناك أمران هامان كان لهما الأثر الفعال في هذا الشأن أولهما: ما يحققه التحكيم من حفاظ على أسرار المتخاصمين بقدر أوفى كثيرًا مما تفضحه علانية الجلسات وسائر تطبيقات مبدأ العلانية في المحاكمات القضائية. وثانيهما: ما يوفره التحكيم من السرعة في تنفيذ الحكم الذي يصدر منه، بما يقطع دابر الأضرار التي تنشأ عن عجز المحكوم لهم عن تنفيذ الأحكام الصادرة لصالحهم بسبب تعدد درجات التقاضي وقابلية الحكم للطعون العادية وغير العادية وإشكالات التنفيذ، وما قد يقع من خطأ في الإجراءات الشكلية فيهدم في لحظة ما بناه القضاء في سنين عديدة، إلى غير ذلك من المعوقات التي يستطيع الخصوم في التحكيم أن يتحاشوها كلها أو معظمها، بقواعد محددة يتفقون عليها قبل صدور الحكم الفاصل في الخصومة.(9/1704)
ومن أجل ذلك وجد خصوم المنازعات الحديثة غايتهم في نظام التحكيم، وتبينت الدول أن ما ظنته عدوانًا على سيادتها أو نيلًا من قضائها لا يمثل الواقع، فسيادة الدولة ما تزال في قمتها، ما دام أن نظام التحكيم نفسه لا يقوم إلا برضائها، وفي حدود ما تسمح به، وقضاؤها لا ينزل عن شموخه إذا سمح للتحكيم أن يشاركه في حسم المنازعات، فالمرجع والمآل إليه، وهو الذي يسبغ على التحكيم من قوته ما يقيله من عثرته إذا ما تعثر في الإجراءات، أو يدفع بالحكم الذي يصدر منه في طريق التنفيذ إذا ما وضعت أمامه العراقيل والعقبات التي تأباها العدالة، وذلك كله دون أن ينتحى القضاء عن أن يكون صمام الأمان في تطبيق العدالة بل وفي احتكار هذا التطبيق وقصره على نفسه في الحالات التي ترى الدولة ألا تتخلى عن تحقيقها العدل بنفسها.
والمتبع للتحكيم في العصر الحاضر يجد أنه في نماء مستمر، فلم يقنع بالمنازعات بين الأفراد، وإنما امتد ليشمل المنازعات بين الأفراد والدول، وبين الدول بعضها والبعض الآخر، ولم يقف عند حد التحكيم الحر الذي يطلق فيه للأفراد العنان في اختيار قواعد التحكيم ومكانه ومدته وأشخاص المتحكم إليهم وإنما شمل كذلك التحكيم الذي يلجأ فيه الخصوم إلى هيئات دائمة انتشرت في أنحاء العالم تحت اسم محاكم التحكيم، أو مراكزه أو غرفه أو جمعياته، وهي هيئات تسعى إلى خدمة أطراف التحكيم وتهيئة الظروف لإجرائه بما توفره من فنيين دائمين (سكرتارية) وما تسنه من لوائح، أو تضعه من قوائم بأسماء المحكمين المؤهلين في مختلف فروع التخصصات (1)
2- وقد رحب الإسلام بالتحكيم كنظام لفض المنازعات بين الأفراد، وبين أمة الإسلام وغيرها، وأقر الأطراف المتنازعة على حقهم في اختيار المحكمين، وفي انتقاء القيود التي تقيد حكومتهم، ولكنه لم يطلق العنان لإرادة الأطراف، وإنما وضعها في إطار محدد، كان من أهم معالمه أنه احتجز بعض الموضوعات للقضاء المولى من جانب ولي الأمر، وألزم المتحاكمين بعدم الخروج على شريعة الله عند تحديد القواعد الموضوعية الواجبة التطبيق على المنازعة.
__________
(1) الدكتور أبو زيد رضوان: الأسس العامة في التحكيم التجاري الدولي، ص 21، دار الفكر العربي(9/1705)
3- وقد اهتمت البلاد الإسلامية والعربية على اختلافها بالتحكيم فأفردت له بابًا خاصًّا في قوانينها المنظمة للتقاضي وهي قوانين المرافعات المدنية والتجارية أو قوانين أصول المحاكمات المدنية، بل إن بعض هذه البلاد أولى التحكيم أهمية خاصة، فخصه بنظام مستقل جمع فيه شتى أحكامه، ومن ذلك ما فعلته المملكة العربية السعودية فيما أصدرته بالمرسوم رقم 26 وتاريخ 12 / 7 / 1403هـ الصادر بناء على قرار مجلس الوزراء رقم 164 وتاريخ 21 / 6 / 1403 هـ والذي ألغى من نظام المحكمة التجارية المواد التي كانت تنظم التحكيم (1) وقد تميز هذا النظام الجديد بمسايرته للتطورات التشريعية الحديثة في مجال التحكيم بصفة عامة مع انفراده في ذات الوقت بقواعد أضفت عليه صبغة التمييز في مجال التحكيم (2) .
على أن اهتمام البلاد الإسلامية والعربية بالتحكيم لم يقف عند حد إسباغ المشروعية عليه وتنظيمه، وإنما امتد – في الكثير منها – ليشمل التصديق على اتفاقيات دولية صدرت بشأنه، منها اتفاقية نيويورك سنة 1958 في شأن الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، وهي التي انضمت إليها دول كثيرة، من بينها مصر في 7 مارس سنة 1959، كما أعلن في بداية عام 1993 عن موافقة الحكومة السعودية على الانضمام لهذه الاتفاقية في إطار سياسة تأمين الاستثمارات المشتركة والأجنبية.
بل إن الاهتمام قد امتد أكثر من ذلك فحفز بعض البلدان على إنشاء مراكز دائمة للتحكيم على إقليمها، فكان من ذلك المركز الإقليمي للتحكيم بالقاهرة (3) وهيئة التحكيم بالمحكمة الكلية بالكويت، وغرفة تجارة وصناعة البحرين، وغرفة صناعة عمان، وغرفة تجارة وصناعة دبي، والأمانة العامة لاتحاد الغرف الخليجية.
__________
(1) الدكتور محمود محمد هاشم: النظرية العامة للتحكيم في المواد المدنية والتجارية، ص 24، دار الفكر العربي، سنة: 1990
(2) الدكتورة آمال أحمد الغزايري: دور قضاء الدولة في تحقيق فاعلية التحكيم، ص 14، منشأة المعارف، سنة 1993.
(3) أنشئ هذا المركز بقرار من اللجنة القانونية الاستشارية لدول آسيا وإفريقيا الصادر في دورتها التي عقدت بالدوحة في يناير سنة 1978، وقد وافق عليه رئيس جمهورية مصر بالقرار رقم 104 لسنة 1984.(9/1706)
ومن الجدير بالذكر أن بعض هذه المراكز المنشأة للتحكيم داخل الدول الإسلامية والعربية قد نص في نظامه صراحة على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية وحدها في حسم المنازعات التي يجري عرضها فيه، ومن ذلك – فضلًا عن نظام التحكيم السعودي – مركز التحكيم الإسلامي بجامعة الأزهر الذي كان صاحب الفضل فيه ودعمه الشيخ صالح كامل وقد بدأ يباشر نشاطه الفعلي من نحو عام، ونصت المادة 23 من لائحته على أن: (تطبق هيئة التحكيم على النزاعات المعروضة أمامها، مبادئ الشريعة الإسلامية، وتختار ما تراه مناسبًا من الآراء وفقا لاجتهادها، إلا إذا ألزمها الطرفان بتطبيق مذهب فقهي معين دون غيره) .
4- وقد تدفعنا تجربة الالتزام بالاحتكام إلى الشريعة الإسلامية فيما يعرض على التحكيم من منازعات إلى التفكير في اتخاذه وسيلة لاستكمال تطبيق هذه الشريعة الغراء في حدود ما يجوز التحكيم فيه وفقًا للنظم الوطنية وفي نطاق ما يمكن أن يقره القضاء الرسمي في الدولة، سواء في ذلك المنازعات الوطنية البحتة أو ذات العنصر الأجنبي أو المنازعات بين الدول الإسلامية أو العربية.
وقد يزكي فينا الأمل ما أقرته القمة الإسلامية الخامسة في الكويت في يناير سنة 1987 من مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية للدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي وما تنتظره الدول العربية من إقرار مشروع محكمة العدل العربية.
فإذا ما تحققت هذه الآمال بشأن المنازعات الدولية، فإن المنازعات الفردية بين الأشخاص الطبيعية أو المعنوية تظل متطلعة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية بشأنها (1) لا عن طريق الحكومات، وإنما عن طريق الأفراد والجماعات وبمحض اختيار من الطرفين المتنازعين، يصرحون به في تعاقداتهم، أو يقبلونه بعد نشوء المنازعات، ويراعون في كل حال تحقيق التوافق بين إرادتهم وبين النظم السارية في البلاد التي يجري فيها التحكيم والبلاد التي سوف تنفذ فيها أحكامه، واضعين نصب أعينهم – في المرحلة الحالية – ألا يفقدوا نصرة القضاء الوطني حين تنشأ الحاجة إليه لدعم حكم التحكيم وتأييده أو لإصدار الأمر بتنفيذه جبرًا.
__________
(1) الدكتور محمد رأفت عثمان: القضاء في الفقه الإسلامي سنة: 1992، ص 35.(9/1707)
ولا ريب أن ذلك كله يتطلب دراسة مستفيضة لا يسعها هذا البحث المحدود، ولكن حسبنا أن الميدان مهيأ لهذه الدراسة بما ساد في العالم كله من إقبال على التحكيم وإيمان به ورغبة ملحة في إعطائه قوة فعالة في حسم المنازعات في حدود ما يريده المتنازعون، وبما لا يخرج على القواعد الآمرة في الدولة، ولا يمس سلطان القضاء فيها.
وبذلك نرد كيد الكائدين للشريعة الإسلامية إلى نحورهم، فلا نسمع مثل ما قيل في بعض التحكيمات الدولية من استبعاد قانون إحدى دول الخليج بزعم أنه قانون متخلف لا يمكن استخدامه لتفسير أو حكم العلاقات التجارية الحديثة (1) ، أو ما قيل في سبب رفض نظام آخر مأخوذ من الشريعة الإسلامية من ادعاء جاهل بأنه: (لا يحتوي أي حل للمشكلة المطروحة) (2) .
5- وقد اشتمل هذا البحث، الذي أتشرف بعرضه فيما يلي على ستة فصول:
- خصص الفصل الأول: للتعريف بالتحكيم والتفرقة بينه وبين ما يشتبه به ودليل مشروعيته.
- وخصص الفصل الثاني: لطبيعة التحكيم وآثاره.
- وخصص الفصل الثالث: للمحتكم إليه.
- وخصص الفصل الرابع: لحكم التحكيم.
- وخصص الفصل الخامس: للتحكيم عند الاختلاف في الدين أو الدار.
- وخصص الفصل السادس: للكلام عن الإسلام ومبدأ التحكيم الدولي.
وقد حاولت جهدي أن لا أبتعد كثيرًا عن دنيا الواقع، فاستعنت بالأفكار القانونية السائدة في محاولة لإثراء البحث، كما استعنت بالتطبيقات الإسلامية الحديثة، وعلى الأخص نظام التحكيم السعودي الجديد، في محاولة لإثبات مرونة الفقه الإسلامي وقدرته على مجابهة مختلف الظروف والأوضاع، والله ولي التوفيق.
المستشار محمد بدر يوسف المنياوي
__________
(1) الدكتور أبو زيد رضوان، المرجع السابق، ص 146 – 147
(2) نفس المصدر، ص 146 – 147(9/1708)
الفصل الأول
التعريف بالتحكيم
والتفرقة بينه وبين ما يشتبه به ودليل مشروعية
6- في تنظيم الإسلام للمجتمع الإيماني، يبرز أمران رئيسيان هما: الاتحاد الإيجابي والرقابة الذاتية.
ويتمثل الاتحاد الإيجابي في الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، وفي التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.
أما الرقابة الذاتية للأفراد، فتقوم على أساس أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأن عليهم أن يتناهوا عن كل ما هو منكر، حتى لا تلحقهم اللعنة كما: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) } [المائدة: 78 – 79] .
على أن الإسلام إذا كان يسعى إلى تأليف القلوب والتناهي عن المنكر، فإنه لا يقر أخذ الشخص حقه بيده عند المنازعة، لما يؤدي إليه ذلك من اضطراب وجاهلية (1) ، بل إنه يدعو – عند ثبوت الحق – إلى السماحة في الاستيفاء؛ لأن العفو أقرب للتقوى، ولأن المسلمين يجب أن لا ينسوا الفضل بينهم، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان.
__________
(1) في تفصيل ذلك: الدكتور محمد نعيم ياسين، نظرية الدعوى بين الشرعية الإسلامية وقانون المرافعات المدنية والتجارية، رسالة دكتوراه مقدمة لجامعة الأزهر سنة 1970، الصفحات من 94 إلى 132.(9/1709)
7- غير أن الدعوة إلى المعروف قد لا يستجاب لها، والعفو عن الحق أو التسامح فيه قد لا يقبل، فيستحكم النزاع، ويتطلب الأمر حسمًا عاجلًا حتى لا تتفاقم الأخطار، وفي ذلك يأمر الإسلام بالسعي إلى الصلح بين الطرفين المتخاصمين، فالله تعالى يقول: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] ، ويقوله سبحانه: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يسعى إلى الإصلاح بين المتخاصمين إذا تنازعا إليه، فقد روي أنه حين تنازع إليه كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، في دين كان على ابن أبي حدرد، أصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بأن استوضع من دين كعب الشطر، وأوجب على غريمه قضاء الشطر الباقي (1) . كما روي أيضًا أنه عندما تنازع عنده صلى الله عليه وسلم رجلان في مواريث لهما، قال عليه الصلاة والسلام: ((اذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه)) . . . . (2)
8- فالمصلح بين المتنازعين هو أول درجات الوفاق بينهم، وهو وإن كان من شأنه أن يحسم الخصومة، إلا أنه قائم على الاتفاق بينهم أنفسهم، أو بين من يمثلونهم، ويتم عن طريق نزول كل منهم عن بعض ما يتمسك به، ولا يقبل التنفيذ بذاته بحسب الأصل، ما لم يرتض الطرفان تنفيذه اختيارًا، وهو غير صالح لحسم بعض الخصومات كالحدود والكفارات ونحوها من حقوق الله تعالى، وذلك كله – من شأنه – ألا يجعل من الصلح أداة طيعة في حسم الخصومات، فضلًا عن أنه إذا وضح الحق أمام الساعين للتوفيق، وكان في جانب أحد المتخاصمين وحده، فإن الصلح لا يكون له محل؛ لأنه لن ينطوي على تنازل كل خصم عن بعض حقه، وإنما سيتمخض في تنازل خصم واحد دون الآخر.
ومن ثم فإنه يجب أن تكون هناك بدائل لها الصلح يستعان بها إذا عز الالتجاء إليه، أو تبين أنه غير صالح لإنهاء الخصومة الناشبة بين الطرفين.
وقد يكون من أوائل هذه البدائل، أن يتم الكشف عن حكم الله في موضوع المنازعة، لعل الباغي أن يرعوي ويعود إلى جادة الصواب، على ضوء حكم الله الذي يبينه له من يثق فيه، فإذا لم يكن مفر من حمل الباغي على التنفيذ جبرًا، فليس هناك سوى الاتفاق على حكم يختاره الطرفان للفصل بينهما بحكم ملزم، أو الالتجاء إلى القاضي المولى من جهة الدولة، ليقضي بينهما فيما اختلفا قضاء يمكن تنفيذه جبرًا.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: ج 10،ص 220؛ سنن النسائي: ج 8، ص 239، سنن ابن ماجه: ص177.
(2) سنن الدارقطني، ج 4، ص 239؛ نيل الأوطار: ج 5، ص 67، 269؛ سنن أبي داود: ج 3، ص238.(9/1710)
فالبدائل – إذن – ثلاثة:
أولها: الكشف عن حكم الله من ثقة، دون حمل لأي من المتنازعين على اتباع هذا الحكم، وهذا طريق الإفتاء.
ثانيهما: الكشف عن حكم الله على يد من يختاره الطرفان للفصل بينهما ويقبلان أن يكون حكمه ملزمًا، وهذا طريق التحكيم.
ثالثها: الكشف عن حكم الله على يد القاضي الذي عينه ولي الأمر، وعهد إليه بالفصل في منازعات الناس التي ترفع إليه، وهذا هو طريق القضاء.
فالإفتاء، والقضاء، والتحكيم، جميعًا وسائل شرعت لإنهاء المنازعات التي لم تنته صلحًا، ويمتاز التحكيم بينها بأنه قائم على الرضا بين الطرفين وأنه – في ذات الوقت – ملزم لهما – فلا يملكان – حسب الأصل – فكاكًا من تنفيذ ما ينتهي إليه، أما الإفتاء فهو غير ملزم، وأما القضاء فإنه وإن كان ملزمًا إلا أنه قائم على ولاية شرعية، يمنحها ولي الأمر، ولا شأن لرضا الطرفين بسلطتها.
9- وللتحكيم من اسمه في اللغة والشرع نصيب:
فهو في اللغة إطلاق اليد في الشيء، أو تفويض الأمر للغير يقال: حكمت فلانًا في مالي تحكيمًا إذا فوضت إليه الحكم فيه، ويقال: حكموه فيما بينهم إذا أمروه أن يحكم في الأمر، أو جعلوه حكمًا بينهم، والمحكم، والحكم، والمحتكم إليه، هو من يفوض إليه الحكم في الشيء (1)
أما معناه في الشرع فيدور حول اتفاق أطراف الخصومة، على تولية من يفصل في منازعة بينهما، بحكم ملزم، يطبق فيه شرع الله (2) .
وبذلك يمتاز التحكيم عن الفتيا وعن القضاء، فيتفق مع كل منهما في أمور، ويختلف عنهما في أمور أخرى.
10- - ومما يتفق فيه التحكيم والفتاوى -: أن كلا منهما يبحث عن حكم الله في المسألة المعروضة، فالمحكم يكيف الواقعة، ثم ينزل عليها حكم الله، ويحكم بمقتضاه بين الخصمين المتحاكمين إليه، والمفتي يستجلي أركان الواقعة التي يستفتى فيها، ثم يبحث عن حكمها في القرآن الكريم والسنة المطهرة وفي الأدلة الشرعية الأخرى، ويخبر من يستفتيه بالحكم الذي ينتهي إليه اجتهاده (3) .
__________
(1) ترتيب القاموس المحيط، جزء أول، ص 685، ومختار الصحاح ص 148؛ وأساس البلاغة للزمخشري ص 190
(2) جرى كثير من الفقهاء الإسلاميين عند الكلام على التحكيم على الاكتفاء بشرح معناه، ومن ذلك ما قاله المغني: (إذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما ورضياه، وكان مما يصلح للقضاء فحكم بينهما جاز) ج 11، ص 483. وقال ابن فرحون: (إن الخصمين إذا حكما بينهما رجلًا من الرعية ليقضي بينهما جاز) تبصرة الحكام ج 1، ص 43، وقال الباجي: (ولو حكم رجلان بينهما رجلًا فقضى بينهما فقضاؤه جائز) المنتقى شرح موطأ الإمام مالك، الجزء الخامس ص 226.
(3) الإفتاء في اللغة الإبانة والإظهار – وفي الاصطلاح – وفق ما اختاره الدكتور – محمد سليمان الأشقر – ونؤيده فيه هو: (الإخبار بحكم الله تعالى باجتهاد عن دليل شرعي لمن سأل عنه، في أمر نازل) . ص 13 من كتابه (الفتيا ومناهج الإفتاء) ، دار النفائس للنشر والتوزيع بالأردن(9/1711)
وقيام عمل كل من المحتكم إليه والمفتي على البحث عن حكم الله تعالى، يجعل لهما منزلة رفيعة عالية مهيبة الجانب، فالعمل عظيم الأجر، خطير الأثر في ذات الوقت؛ وذلك لأن في إدراك الحكم الواجب والإرشاد إليه بالغ المثوبة في الدنيا والآخرة، لما فيه من كشف عن الطريق الحق الذي أوجب الحكيم العليم اتباعه، وعاقب على تجنبه؛ ولأن الخطأ في التعرف على هذا الحكم خطير الأثر، إذ سيدفع المحتكم إليه أو المستفتى إلى غير الطريق القويم، بما قد يؤدي إلى هدم بيوت أذن الله أن ترفع، أو سلب أموال بالباطل أو تعريض الأنفس والأعراض للإيذاء والهتك على غير مقتضى العقل والشرع.
على أنه مادام المستهدف في التحكيم والإفتاء هو حكم الله، فإنه يفترض – إذا ما صدرا في موضوع واحد – أن لا يتعارضا، فإن تعارضا وكانت الفتوى هي التي تبنت الطريق الصحيح فلا مشكلة في الأمر، إذ إنها بطبيعتها غير ملزمة، أما إذا كان العيب في الحكم الصادر عن التحكيم، بأن كان مخالفًا لنص في القرآن الكريم أو السنة النبوية أو لإجماع أو لقياس جلي، فإنه يجب نقضه، وتكون الفتوى الصحيحة هي سند هذا النقض، وينبغي للمفتي – في هذه الحالة – أن يبين لصاحب الشأن أن العبرة بحكم الله لا بما قضى به حكم التحكيم، وذلك على نحو ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم تختصمون إلى رسول الله، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار ويأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة)) . . . . (1) .
أما إذا كان مصدر الخلاف بين حكم التحكيم والفتوى هو الاجتهاد، فإن حكم التحكيم هو الذي ينفذ، إذ لا ينقض الاجتهاد بمثله (2) .
__________
(1) لهذا الحديث روايات متقاربة واللفظ لأبي داود. سنن أبي داود: ج 3 ص 41، البخاري مع فتح الباري: ج 13 ص 134؛ مسند الإمام أحمد: ج 15 ص 214
(2) في تفصيلات الآثار على تغير الحكم – الدكتور محمد سليمان الأشقر – الفتيا ومناهج الإفتاء- ص 137 – 142 – مرجع سابق – الدكتور محمد نعيم ياسين: حجية الحكم القضائي بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، ص 28 – 29 – مرجع سابق – المستصفى من علوم الأصول للإمام أبي حامد الغزالي: المجلد الثاني ص 382، الطبعة الأولى(9/1712)
ويشترك التحكيم والإفتاء – كذلك – في أن كلًّا منهما لا يتطلب ولاية من الإمام؛ لأن التحكيم يستمد قوته من رضاء المحتكمين، كما أن الإفتاء يستند إلى طلب المستفتي، ومن ثم فلا يحتاج أي منهما إلى ولاية عامة، وإن كان ذلك لا يقف دون حق الإمام في مراقبة سير الأمور في الدولة، بما في ذلك تفقد حال من يتصدون للإفتاء أو يحتكم الناس إليهم في منازعاتهم، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود، وتوعده بالعقوبة إن عاد، وطريق الإمام في ذلك أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم: أما أحوال المحتكم إليهم، فإن له عليهم ما له على القضاة الأعلى منهم منزلة، من تفقد حالهم وسؤال أهل الصلاح والفضل عنهم (1)
ويشترك التحكيم مع الفتوى – أيضًا في حق كل من الحكم والمفتي في أن يرد من يطلبه، فالتحكيم لا يثمر التفويض فيه إلا برضاء المحتكم إليه، ولا ضير على المحتكم إليه إن لم يقبل، إذ إن وضعه يختلف عن وضع القاضي المولى، فهذا الأخير لا يستطيع أن يرد طالب القضاء ولا أن يحيله إلى غيره دون مبرر، وإلا عزر لارتكابه إثمًا، وكذلك المفتي لا يجب عليه أن يجيب السائل إلى الفتيا إلا إذا تعين للإفتاء، فإذا كان هناك أكثر من واحد، صارت الفتوى بينهم ندبًا لا وجوبًا (2) .
ومع اتفاق كل من التحكيم والإفتاء فيما سبق، فإن طبيعة كل منهما تختلف عن طبيعة الآخر، فالمحتكم إليه عليه أن يمحص واقعات الدعوى وأن ينقيها بتتبع الحجج التي يلقى بها كل خصم، فإذا ما وضحت لديه حقيقة الواقعة، أنزل عليها الحكم الذي يستقيه من القرآن الكريم أو يأخذه من السنة المطهرة، أو يستنبطه من سائر الأدلة الشرعية، حتى إذا اطمأن وجدانه، قضى بين الخصمين بالحكم الذي يرى أنه تطبيق لشرع الله، أما المفتي فلا شأن له – بحسب الأصل – بالحجج الواقعية، فهو يأخذ الواقعة كما يرويها المستفتي، وينزل عليها حكم الله، دون أن يجهده في ذلك تمحيص تلك الواقعة، أو تنقيتها مما قد يخالطها من زيف أو مغالطة، على نحو ما قد يفعله المتخاصمون في التحكيم من لجج في الخصومة أو دهاء في العرض أو إلباس الحق بالباطل (3) .
__________
(1) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام – لابن فرحون طبعة مصطفى الحلبي - ج1 ص 77 – الدكتور محمد عبد الرحمن البكر – السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي ص 97 – 106 رسالة دكتوراه، الزهراء للإعلام العربي.
(2) الدكتور محمد عبد الرحمن البكر – المرجع السابق – ص 101 – 106 المراجع المشار إليها منه تفصيلًا
(3) الدكتور محمد عبد الرحمن البكر – المرجع السابق ص: 101، 106 – المراجع المشار إليه منه تفصيلًا(9/1713)
ويرتبط بما تقدم أن التحكيم لا يكون إلا في خصومة حقيقية بين أكثر من خصم، فإذا لم تكن هناك خصومة في الواقع، فلا مجال للتحكيم، أما الإفتاء فلا يستلزم توافر مثل هذه الخصومة، فقد يستفتي الشخص في أمر يرى أهمية أن يعرف حكم الله فيه، دون خصومة قائمة أو محتملة، كمن يرى – مثلًا أهمية أن يعرف حكم الله في إيداع النقود في البنوك على هيئة وديعة مصرفية.
وما دام التحكيم لا يكون إلا في خصومة، فإنه من الطبيعي أن يكون ملزمًا، إذ إن المتخاصمين لم يلجأ إليه إلا بقصد حسم ما شجر بينهما من نزاع، وقد ظلّا على تفويضهما للمحتكم إليه حتى صدر منه الحكم، مما ينطوي ضمنًا على إعلان بقبول ما ينتهي إليه الحكم المفوض، وذلك بخلاف الحال في الفتوى، إذ إن المستفتي لم يعلن – صراحة أو ضمنًا – قبوله مقدمًا للفتوى، ولا تعهده بتنفيذها، وليس في مجرد توافر ثقته في قدرة المفتي ما يستتبع حتمًا موافقته على تنفيذ ما يصدر عنه، وإن كان ذلك لا يعني أنه غير مطالب بتنفيذ هذه الفتوى ديانة ما دام قد اطمأن إليها (1) .
ونتيجة لما تقدم جميعه، فإن التحكيم يصبح أضيق دائرة من الفتيا، فلا تحكيم في المكروهات، أو المستحبات؛ لأنه لا إلزام فيهما، وإنما الإلزام في الواجبات والمحرمات والمباحات، أما الإفتاء فإنه يجوز في ذلك كله.
ومن ناحية أخرى فإن التحكيم لا يكون في العبادات ونحوها، فلا تحكيم في صلاة – مثلًا – ليصدر فيها حكم بأنها صحيحة أو باطلة، وتحكيم في المسائل العلمية الكلية، كمعنى آية أو تفسير حديث شريف، وإنما قد تكون الفتوى في ذلك؛ لأن بيان حكم الله يتناوله جميعًا ويتناول غيره، كما أن الشبهات التي قد تسعى الفتيا إلى إزالتها لا تنحصر في أمر دون آخر من العبادات أو المعاملات أو الآداب أو العادات أو الأحكام الاعتقادية أو غيرها من أمور الدين والدنيا، ثم هي لا ينصب أثرها على المستفتي وحده، وإنما يتعلق بالناس كافة، ولا ينطبق حكمها على الواقعة المعروضة وحدها، وإنما ينطبق على كل واقعة مماثلة، ولذلك تردد في الفقه الإسلامي أن الفتوى – في حقيقتها – عامة غير ملزمة أما التحكيم فهو جزئي ملزم.
__________
(1) ومثل التحكيم في ذلك القضاء، وذلك فإن ما يصدر عن القاضي دون أن يسبقه دعوى صحيحة من خصم على خصم لا يعد حكمًا، وإنما هو: (إفتاء كما صرح به البحر وغيره، وتسجيل ذلك بسجل المحكمة لا يغير حقيقة هذا القول الشرعية، وهي أنه إفتاء) فتوى الشيخ حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق المنشورة في المجلد السادس من الفتاوى ص 1997.(9/1714)
11- وإذا كان التحكيم يختلف عن الفتيا على نحو ما سبقت الإشارة إليه، فإنه يختلف – كذلك – عن القضاء وإن اشتبه به في أمور كثيرة.
ومواطن اشتباه التحكيم بالقضاء تجمل في أن كلًّا منهما يطبق شرع الله على خصومة مرفوعة إليه للفصل فيها بحكم ملزم لطرفيها المتناضلين أمامه فيها.
فلا محل في أي منهما للحكم بالهوى والتشهي، فقد أمر الله بالاحتكام إلى شريعته عند التنازع، دون تفرقة بين تحكيم وقضاء، فقال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] .
ويتفرع عن ذلك كلًّا من القاضي والحَكَم لا يتقيد بآراء من اختاره لهذا العمل، فالقاضي يقضي بما يراه حقًّا ولو جانب رأي الوالي الذي عينه، والحكم يحكم بما يعتقد صحته ولو خالف رأي أحد الخصمين أو كليهما.
والتحكيم يشبه القضاء في أنه يفصل في خصومة من نوع الخصومات التي يختص بها القضاء وفق وظيفته الطبيعية، فحكم المحكمة كحكم القاضي، لا يصدر إلا في دعوى صحيحة، وشرط هذه أن تكون في خصومة حقيقية.
وهو كالقضاء لا يتصدى لمنازعات الناس من تلقاء نفسه، وإنما يجب أن ترفع إليه، فليس بتحكيم ولا قضاء ضبط وقائع ولا فصل في خصومة لم ترفع من ذوي الشأن، وإنما قد يكون ذلك من أعمال الولاية العامة التي يمارسها الوالي بحكم إشرافه ورقابته على الرعية، أو من أعمال ناظر المظالم التي ينظرها متى علمها دون أن ينتظر تظلم متظلم، أو من أعمال الحسبة التي تتعلق بمنكر ظاهر، كدعاوى تطفيف الكيل وبخسه، ودعاوى الغش والتدليس في المبيع أو الثمن.
والتحكيم في فصله للخصومة المعروضة يصدر حكمًا ملزمًا لطرفي الخصومة المحتكمين إليه مثله في ذلك مثل القضاء، فحكم كل منهما جزئي خاص لا يتعدى المحكوم عليه ولا يجاوز محله إلى ما يماثله (1) .
__________
(1) الدكتور محمد عبد الرحمن البكر، السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي – المرجع السابق- وقد نقل عن ابن القيم وعن الخرشي بعض النصوص المؤيدة لطبيعة القضاء، كما ذكر مراجع عدة في هذا الشأن (ص 191، 194، 195) وراجع الدكتور محمد نعيم ياسين في نظرية الدعوى بين الشريعة الإسلامية وقانون المرافعات ص 7، 9؛الدكتور حامد محمد أبو طالب – التنظيم القضائي الإسلامي ص 17 وما بعدها.(9/1715)
غير أن التحكيم مع اشتباهه بالقضاء في كل ما تقدم، فإنه يفترق عنه في أمور كثيرة، وسبب الاختلاف بنيهما يرجع إلى أن مصدر السلطة في كل منهما يختلف عن مصدرها في الآخر، فالتحكيم يستمد سلطته – بصفة عامة – من رضاء آحاد من الناس بحسم الخصومة بنيهم على يد حكم يرضونه، أما القضاء فيستند في سلطته إلى ولاية عامة يخلعها عليه من يملك ذلك، حين ينصبه قاضيًا يحكم بين الناس، فيما يرفعه إلى أي منهم، ويكون قضاؤه بحكم، يلزم به من يرى أنه أحق بإلزام، رضي به أم لم يرض، طالما أنه مكن من إبداء ما قد يكون لديه من دفاع.
فاستناد التحكيم إلى رضاء من يلجئون إليه، يضع في يد هؤلاء الحق في رسم نطاق محدد، لايحق للمحتكم إليه أن يتعداه، ويجعل ناصية الأمر بأيديهم كذلك، فيستطيعون – بحسب الأصل – أن يعدلوا عن التحكم أيًّا كان موقعهم من الخصومة، مدعين أو مدعى عليهم، وذلك طالما لم يصدر الحكم أو لم يشرع الحكم في أصدراه، على خلاف في ذلك بين العلماء، أما القضاء فإن استناده إلى الولاية العامة، يحرم المتقاضيين من رسم نطاق التقاضي إلا في حدود محصورة (1) كما يحرم الخصوم من إنهاء الخصومة دون حكم إلا في حالات محددة ولا يقتضي التقاضي ضرورة حضورهم، فيجوز الحكم على الغائب منهم، إذا تخلف عن الحضور دون عذر شرعي مقبول.
ومن ناحية أخرى، فإنه ما دامت سلطة المحتكم إليه تستند إلى رضا المحتكمين به، فإن لهؤلاء الحق في عزله، بحسب الرضاء منه، أما في القضاء فلا محل لتخويل المتقاضين حق عزل القاضي؛ لأنه لا يستمد سلطته منهم، بل إن القاضي نفسه على خلاف المحتكم إليه لا يملك التنحي عن الفصل في الخصومة دون مبرر شرعي؛ لأن قضاءه فيها واجب عليه، وليس حقًّا له يخضع لقبوله ورضاه.
__________
(1) إرادة الخصوم ليست معدومة الأثر أمام القضاء فمن مظاهر هذه الإرادة أمام المحاكم أنه وإن كان أحد طرفي الخصومة هو الذي يقيمها، فالطرف الآخر قد يكون له مصلحة في الإبقاء عليها أما القضاء رغم أنه ليس هو الذي أقامها، وقد يكون من مظهر هذا في بعض النظم الوضعية عدم إجازة النزول عن الخصومة للمدعي، إلا إذا قبل الخصم هذا التنازل، وهي قاعدة مطلقة في بعض هذه النظم ومقيدة بقيام مصلحة فعلية للمدعى عليه في الإبقاء على الخصومة، في نظم أخرى. وقد يتفق الخصمان على إقامة النزاع أمام محكمة ما، دون المحكمة المختصة أصلًا بنظر النزاع، أو أمام محاكم دولة معينة دون محاكم دولة أخرى تكون هي المختصة في الأصل بنظر النزاع، أو قد يتفقان على النزول عن الخصومة. (وتمكن إرادة الخصوم في الاتفاقات، وفي العقود، وعند الإتيان بفعل ضار، أو عند مخالفة القانون على وجه العموم، تكمن هذه الإرادة في الالتجاء إلى القضاء عند الحاجة لحماية الحقوق وإن كانت لا تبدو صريحة في العقود، فإرادة الخصوم التي ترمي إلى إنشاء حقوق أو التزامات تقدر مقدمًا أن جزاء الإخلال بهذه أو تلك هو التجاء إلى القضاء) – الدكتور أحمد أبو الوفا – التحكيم الاختياري والإجباري، ص 17 وهامش: 1 من ذات الصفحة(9/1716)
وإذا كان كل من حكم التحكيم وحكم القضاء يلزم الخصوم، فإن شرط ذلك في التحكيم عند تعدد المحكمين كقاعدة عامة، أن تجتمع كلمتهم على الحكم، ما دام الأطراف لم يأذنوا لهم بالحكم بالأغلبية في الحالات التي يجوز فيها ذلك؛ ذلك لأن الرضا كان رضاء برأيهم لا برأي بعضهم ولو كانوا الأكثرية، أما في القضاء فليس بلازم – عند التعدد – أن يكون الحكم صادرًا بالإجماع ويكفي فيه أن يكون بأغلبية القضاة.
وقد تكشف المقارنة بين حكم المحكمين وحكم القضاء عن ضعف الحكم الأول إذا قيست قوته بالحكم القضائي، كما يتضح ذلك في النقاط التالية عند توحيد مصدر الحكم فيها بالاقتصار على الرأي الراجح في مذهب واحد، ولكن هو المذهب الحنفي:
أ- فحكم المحكم إذا رفع للقاضي في محل مجتهد فيه ولم يوافق رأيه نقضه، أما إذا كان حكمًا قضائيًّا فإنه لا يملك ذلك.
ب- وحكم المحكم بالوقف لا يلزم؛ لأن حكمه لا يرفع الخلاف على الصحيح عند الحنفية، ويلزم بحكم القاضي؛ لأن حكمه يرفع الخلاف.
ج – وحكم المحكم علي وصي الصغير بما هو ضرر على الصغير لا يصح؛ لأن تحكيم الوصي بمنزلة الصلح، أما حكم القاضي بذلك فصحيح إذا استجمع شرائطه.
د- وحكم المحكم إذا أسلم بعد ردته غير صحيح، إلا بتحكيم جديد؛ لأنه ينعزل بالردة، فينتهي أثر الاحتكام السابق عليها، أما القاضي فإنه إذا أسلم بعد ردته لم يحتج إلى تولية جديدة، ولذلك يصح حكمه.
هـ – وحكم المحكوم برد الشهادة للتهمة لا يلزم غيره كما لايلزم القاضي إذا عرض عليه الأمر وشهدت البينة بعدالة الشاهد؛ لأن رد الشهادة عند الحنفية حكم، وحكم المحكم لا ينفذ إلا في مواجهة من رضي به، أما إذا رد الشهادة قاض للتهمة، فإنه لايحق لقاض آخر أن يقبلها؛ لأن القضاء بالرد ينفذ على الكافة. (1) .
__________
(1) البحر الرائق: ج 7 ص 27، فتح القدير للكمال بن الهمام: ج 6 ص 410، الفتاوى الهندية: ج 3 ص400 الدكتور أحمد المليجي، النظام القضائي الإسلامي، ص 65، 66 الدكتور إسماعيل إبراهيم البدوي، نظام القضاء الإسلامي، ص 145،146 الدكتور محمد سلام مدكور، القضاء في الإسلام، ص 135، 136 الدكتور محمد عبد الرحمن البكر، السلطة القضائية، ص 553، 554 مراجع سابقة(9/1717)
وهكذا تكشف النماذج السابقة عن ضعف حكم التحكيم إذا قورن بالحكم القضائي، كما تكشف الطبيعة الرضائية للتحكيم عن أن نطاقه أضيق من نطاق ولاية القضاء، فهو لا يتعدى النازلة التي حكم فيها، ولا الأشخاص الذين ارتضوه، وهو غير لازم قبل الشروع فيه، ولا يستطيل إلى بعض المنازعات والخصومات التي يستأثر القضاء المولى بها وحده.
على أنه ومع ذلك كله، فقد يكون التحكيم مطمعًا، دون القضاء، وذلك كما إذا منع ولي الأمر القضاء من سماع الدعوى في منازعات معينة، كتلك التي تقادم عليها العهد، وقبل الأطراف ذوو الشأن أن يحتكموا في أمرها إلى محكم، كما قد يكون التحكيم بالغ الخطورة إذا صدر الاحتكام ممن له ولاية عامة بصفته في أمور تتصل بالنفع العام، كالتحكيم لإنهاء الحرب، أو التحكيم لإنهاء نزاع يتصل بمصلحة عليا للدولة أو باختيار الخليفة أو الوالي أو نحو ذلك.
هذا إلى جانب أن التحكيم قد يعد مخرجًا من كثير من المشاكل التي تقف في وجه تطبيق الشريعة الإسلامية، إذا ما أحسن وضع القواعد المنظمة له، بما يكفل تطويع القواعد الوضعية للحكم بشريعة الله.
12- ومع ما هو مسلم به من أن التحكيم الرضائي يمكن، يؤدي دورًا هامًّا في المجتمع الإسلامي، فإن قيامه على الرضائية لا يكفي – وحده – لإسباغ المشروعية عليه، ذلك أن هذا التحكيم يصطدم مع واجب الدولة الإسلامية في أن توفر – هي – العدل والأمن لكل الرعايا، ويتعارض مع حقها في أن تنفرد بفرض سيطرتها عليهم في هذا الشأن، دون أن يكون من حق أي منهم أن يتحرر من هذه السيطرة.
فالعدل وظيفة رئيسية للدولة الإسلامية، ألزمها به القرآن الكريم وفق ما تشير إليه آيات عدة، منها قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] وقوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، بل إن الكتاب المحكم أشار إلى أن ذلك من لوازم الرسالات السماوية جمعاء، فقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] .(9/1718)
وإقرار الأمن بين الرعية هو – أيضًا – من أهم واجبات الدولة الإسلامية، وبدونه لا يتحقق التكريم الذي أنعم الله به على بني آدم، ولا يكون هناك جدوى من أن يسخر لهم ما في السموات وما في الأرض؛ ذلك لأن افتقاد الإنسان للشعور بالأمن والأمان ينتقص من تكريمه، ويحرمه من الاستماع الحقيقي بما سخر له.
ولذلك فقد أمر الإسلام بأن لا يؤاخذ أحد دون تثبيت أو تحقيق، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] ، كما أمر الإسلام كذلك بوجوب التعمق في الفهم وتحميص الوقائع التي تعرض، وصولًا إلى الحكم الصحيح عليها، ومن ذلك ما يشير إليه قوله سبحانه: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء 78 – 79] .
وفرض العدالة وإشاعة الأمن، يتطلبان دائمًا الاستناد إلى سلطة الدولة وسيادتها، ويمثلها في هذا الشأن القضاء الذي تقيمه وتختاره قضاته ونظمه الشكلية والموضوعية، ومن ثم فتأمر برفع الخصومات إليه، والالتزام بما يقضي به، وتنفيذه تنفيذًا كاملًا، على نحو مما تشير إليه الآية الكريمة: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، كما تأمر الدولة أيضًا – بوجوب المثول بين يديه والاستجابة لطلب الحضور لإجراء المحاكمة، كما يدل على ذلك قوله سبحانه: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) } [النور 48 – 52] .
ومن ثم فإنه إذا كان التحكيم – في حقيقته – اختصاصًا ببعض المنازعات التي يختص بها القضاء بحسب الأصل، وإبعادًا لها عنه، بالسماح للمتخاصمين بأن يأتمروا بأمر من لا تنبثق سلطته من سلطة القضاء، ولا تتفرع ولايته عن أي ولاية أخرى من ولايات الدولة، فإن ذلك العدوان على القضاء، والانتقاص من سلطانه لا يملك الأفراد بإرادتهم – وحدها – أن يصلوا إليه، حتى ولو كان انتقاصًا غير حاسم، بمعنى أنه إذا لم ينفذ التحكيم، أو لم تتكامل إجراءاته، تعود إلى القضاء سلطة الحكم في المنازعة ويجبر الخصم على المثول أمامه والرضوخ) لأحكامه، أو كان انتقاصًا مؤقتًا، لا يحرم القضاء في النهاية من سيطرته، إذ ستكون له اليد العليا على الحكم الذي يصدره التحكيم فيلغيه، أو يمنع تنفيذه إذا رأى أنه خرج على القواعد الواجبة الاتباع سواء أكانت موضوعية أم إجرائية، فهذا الانتقاص من سلطان القضاء – مهما كان – لا يملكه الأفراد بإرادتهم، وإنما يتعين أن يكون هناك بيان من المشرع الحكيم، يمنح إرادتهم هذا الحق، ويحدد لها مداه، وبالتالي فإن الأخذ بنظام التحكيم الرضائي يستلزم – حتمًا – أن يكون هناك من الأدلة الشرعية ما يسمح بتطبيقه.(9/1719)
13 – ولعل من أبرز الأدلة على مشروعية التحكيم هو ما زخرت به السنة المطهرة من آثار قولية وفعلية تشهد بذلك (1) .
فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد قال: (حدثنا أحمد بن يعقوب، قال: حدثنا يزيد بن المقدام بن شريح بن هانئ الحارثي، عن أبيه المقدام، عن شريح بن هانئ قال: حدثني هانئ بن زيد أنه لما وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه، فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنيت بأبي الحكم، فلم تكنيت بأبي الحكم؟)) . . . . قال: لا، ولكن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين. قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أحسن هذا!)) . . . . ثم قال: ((ما لك من ولد؟)) . . . .قلت: شريح وعبد الله ومسلم وهانئ، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: ((فأنت أبو شريح. ودعا له ولولده)) .
فالحديث واضح الدلالة على أن القوم كانوا يختارون أبا شريح حكمًا بينهم فيما يتنازعون فيه، وكانوا يرضون حكمه فيهم، وبالتالي فإن استحسان النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يحمل معنى مشروعية التحكيم الرضائي (2) .
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري ما مؤداه ((أن يهود بني قريظة طلبوا الاحتكام إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقبل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرسل إليه فحضر، وقضى بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم)) .
وفي الروايات التي نقلت عن هذه الحادثة ما يؤكد أن بني قريظة اقترحت على سعد بن معاذ حكمًا بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن سعدًا حين حضرا استوثق من رضاء الطرفين بحكمه، كما استوثق من قبولهم تنفيذه، وكان مما فعله في هذا الصدد أنه توجه إلى بني قريظة قائلًا: ((عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيكم ما حكمت؟)) فقالوا: نعم، ثم قصد الناحية التي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عنه بوجهه إجلالًا له صلى الله عليه وسلم، وقال: وعلي من ههنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم سعدًا وأمضى حكمه. وأن سعدًا حرص على الاستيثاق – جهارًا – من رضاء الطرفين لتحكيمه بينهم، وقبولهم تنفيذ ما يحكم به (3) .
__________
(1) ورد في بعض الآيات القرآنية إشارة إلى التحكيم، مما قد يستدل به على مشروعيته غير أننا لم نشأ أن نذكرها تفصيلًا، لأننا نرى أن دلالتها على نوع التحكيم الرضائي الذي نتحدث عنه دلالة يتطرق إليها الاحتمال، ومن ذلك قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] .
(2) أخرج الحديث أيضًا النسائي في كتاب آداب القضاة ج 8 ص 199؛ وعون المعبود شرح سنن أبي داود ج 13 ص 296 كتاب الأدب.
(3) وردت هذه الحادثة بروايات متقاربة ثبت بعضها في فتح الباري ج 7 ص 411؛ وفي مسند أحمد ج 3 ص 22؛ وصحيح مسلم بشرح النووي ج 12 ص 92؛ ونيل الأوطار للشوكاني ج 8 ص 62؛ وأشار إليه فتح القدير للكمال بن الهمام ج 5 ص 498؛ والكاساني في بدائع الصنائع ج 7 ص 107.(9/1720)
(وروى ابن شاهين بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني العنبر حين انتهبوا مال الزكاة: ((اجعلوا بيني وبينكم حكمًا)) . . . .، فقالوا: يا رسول الله، الأعور بن بشامة، فقال: ((بل أسيدكم ابن عمرو)) . . . .، فقالوا: يا رسول الله الأعور بن بشامة، فحكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم بأن يفدى شطر ويعتق شطر (1) .
ووجه الدلالة في هذا الحديث أن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم للتحكيم وقبوله من ارتضاه الخصم وأصر عليه، دليل على مشروعية التحكيم الرضائي في فض المنازعات.
14 – وإلى جانب هذه الأحاديث الشريفة التي تشهد بمشروعية نظام التحكيم المبني على التراضي، فإن العمل قد جرى بين الصحابة في صدر الإسلام على الأخذ به.
فقد تحاكم عمر بن الخطاب وأبي بن كعب، إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عمر مع رجل اشترى منه فرسًا إلى شريح، وتحاكم عثمان بن عفان وطلحة إلى جبير بن مطعم، وتحاكم عبد الله بن عمر ووالدة أرملة ابنه إلى زيد بن ثابت (2) ، وكان احتكام هؤلاء الصحابة جميعًا – رضوان الله عليهم – بناء على تراض منهم في خصومات نشبت بينهم، وقد تم اختيارهم للمحتكم إليه برضائهم، كما أن من اختاروه قبل الحكومة، وقضى بينهم فنفذوا ما حكم به، ولم يكن من القضاة الذين خصم ولي الأمر بالحكم بين الناس (3) .
__________
(1) الإصابة لابن حجر العسقلاني ج 1 ص 55 – وفي إسناده جهالة – الموسوعة الفقهية ج 10 ص 235 هامش؟
(2) في تفصيلات الوقائع المشار إليها: كشاف القناع ج 6 ص 303؛ أسنى المطالب ج 4 ص 67؛ تاريخ ابن كثير ج 9 ص 25؛ المبسوط للسرخسي ج 11 ص 53
(3) هناك وقائع أخرى وردت عن الصحابة رضوان الله عليهم، واستدل بها البعض على مشروعية التحكيم، ومن ذلك ما ورد من نزاع بين أعرابي وعثمان بن عفان بسبب عدوان بني عم عثمان علي إبل للأعرابي، وأنهم احتكموا إلى عبد الله بن مسعود، وما أوصى به عمر بن الخطاب من أن يختار الرهط الذين ذكر أسماءهم، خليفته بعد موته، وتحكيمه رضي الله عنه خمسة من الأوس ومثلهم من الخزرج في قسمة سواد العراق، وغير ذلك مما قد لا يكون له دلالة – في نظرنا – على مشروعية نوع التحكيم الرضائي الذي يتناوله البحث(9/1721)
15- على أن من أبرز الوقائع التي تشهد للتحكيم، ولا يماري أحد في وقوعها ولا في طرحها على بساط البحث العلمي بين الصحابة أجمعين، ما جرى من تحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وحزبيهما، فقد اتفقوا على ذلك في خلال عام 37 هجرية، حسمًا للحرب التي دارت رحاها بينهم، وكانت تفاصيل هذا التحكيم من وضوح الدلالة ووضوح الثبوت ما يجعله عظيم الأهمية فيما نحن بصدده، مما يقتضي أن نخصه ببعض التفصيلات التي لا تتجاوز موضوع البحث.
فحين احتدم النزاع بين الحزبين، وبدا لجيش معاوية أنه مقبل على الهزيمة رفع جنوده المصاحف على أسنة الرماح طالبين اللجوء إلى التحكيم، فرفض على كرم الله وجهه الاستجابة لذلك أول الأمر، ثم عاد فنزل على قبوله، فعقدت معاهدة كان طرفاها علي بن أبي طالب وشيعته، الشاهد منهم والغائب، ومعاوية بن أبي سفيان وشيعته، الشاهد منهم والغائب، وتراضى الطرفان على أن يقفا عند حكم القرآن، فيما يحكم به من فاتحته إلى خاتمته، واختار كل منهما حكمًا رضي به، وحددا مكان التحكيم بمنزل وسط بين أهل العراق وأهل الشام (دومة الجندل) ، ووقَّتا أجله بانقضاء شهر رمضان من ذات السنة، ونصَّا في المعاهدة على أنه إذا انتهى الأجل دون أن يحكم الحكمان، فالفريقان على أمرهم الأول في الحرب، وقد أخذ الحكمان على المحتكمين، عهد الله وميثاقه بالرضا بما يحكمان به، وأن ليس لهما نقضه أو مخالفته إلى غيره، ثم أعلنا حكمهما في خلال الأجل المتفق عليه.
وإذا تدارس المسلمون معاهدة التحكيم هذه، انتهوا جميعًا أهل سنة ومعتزلة وشيعة – إلى شرعية ما اتفق عليه المحتكمون من تحكيم، وإلى تصويب علي كرم الله وجهه في قتاله مع معاوية، وفي قبوله التحكيم في خصومته ولم يشذ عن ذلك سوى طائفة محدودة، خرجوا على الإجماع وانتهوا إلى تخطئة علي رضي الله عنه في قبوله للتحكيم، بعد أن كانوا هم الذين دفعوه إلى الموافقة عليه، وكان من أهم ما تساندوا إليه في لجاجهم مع الصحابة ما قالوه من أن تحكيم الرجال يجب أن يقتصر على ما ورد به النص القرآني، كالصيد في الحرم، والشقاق بين الزوجين، ولا يتعداه إلى غيره كدماء المسلمين، وأنه لا مجال للأخذ بالتحكيم في محل النزاع؛ لأن الله قضى في أمر معاوية وحزبه بحكم لا يجب التوقف فيه، فقتالهم كان واجبًا؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وحين جنحوا للسلم كان واجب الخليفة أن يجنح معهم له، إن هم قبلوا أن يدخلوا تحت لوائه، فإن أبوا وجب استئناف قتلاهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، وبالتالي فلم يكن هناك مجال للاحتكام إلى الرجال الذين احتكم إليهم على معاوية.(9/1722)
وقد أجاب فقهاء الصحابة عن شبهة الخوارج هذه بشقيها، فقالوا: إنه لا صحة لدعوى عدم جواز التحكيم في غير ما ورد به النص، كالشقاق بين الزوجين والصيد؛ ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل التحكيم في بني قريظة، وهو من قبيل التحكيم في الدماء، ولم يرد به نص في الكتاب الكريم، وفيما يختص بالإدعاء بأن القرآن حكم في معاوية وحزبه بما لا محل معه للاحتكام للرجال. قالوا: إن كتاب الله الكريم لا يحكم في الوقائع بنفسه، ولكن لابد من الرجال للتحقق من مناط الحكم والتثبت من شروط تطبيق أمر الله (1) .
وأيا ما كان الرأي فيما تساند إليه هؤلاء النفر من الخوارج، فإن الواضح في مناقشاتهم وجدالهم أنهم لا يقرون التحكيم في المحل الذي وقع فيه، أما التحكيم من حيث المبدأ فإنهم يصرحون بشرعيته فيما نزل به القرآن الكريم مثل الشقاق والصيد.
وبذلك تكون واقعة التحكيم بين علي ومعاوية قد كشفت، فيما يشبه الإجماع من الصحابة في العصر الذي وقعت فيه، عن مشروعية التحكيم من حيث المبدأ على أقل القليل (2)
ونتيجة لهذا، ولما تقدم جميعه، فإن جمهور فقهاء المسلمين قد انتهوا إلى مشروعية التحكيم المبني على التراضي، فكان هذه هو مذهب الحنابلة، والأصح لدى الحنفية والشافعية وعند المالكية (3) .
على أن القول بجواز التحكيم لا يحول بين ولي الأمر وبين إيجابه على الناس في بعض الحالات أو تحريمه عليهم في حالات أخرى، طالما بقي أصل التحكيم سائغًا؛ وذلك لأن له أن يجعل المباح واجبًا أو محظورًا (4) ، كما أنه يملك تنظيم القضاء وتخصيصه من حيث الزمان أو المكان أو بالحادثة وبالتالي فهو يملك ذلك بالنسبة للتحكيم الذي هو أدنى مرتبة من القضاء
__________
(1) جاء في مناقشة علي رضي الله عنه للخوارج قوله: نشدتكم الله، أتعلمون حين رفعوا المصاحف قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم فقلتم: لا، بل تقبل، فقلت لكم: احفظوا نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي. وجاء في مناقشة ابن عباس رضي الله عنه لهم أنه قال لهم: ما نقمتم من الحكمين والله سبحانه وتعالى يقول في الشقاق بين الزوجين: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ، فقالوا: أما ما جعله الله حكمه إلى الناس، وأمروا بالنظر فيه والإصلاح له، فهو لهم كما أمر، وأما ما حكم ما معناه فليس للعباد أن ينظروا فيه. في تفصيلات ذلك: تاريخ الطبري ج 5 ص 66 وما بعدها؛ البداية والنهاية لابن كثير ج 7 ص 274.
(2) تناول موضوع التحكيم بين علي ومعاوية عشرات من الكتب منها العواصم من القواصم لابن العربي؛ والفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي، وآثار الحرب للدكتور وهبة الزحيلي؛ والنظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس؛ وفجر الإسلام لأحمد أمين، فضلًا عن كثير من كتب الفقه والحديث والسيرة.
(3) الموسوعة الفقهية – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت – الجزء العاشر، ص 236 والمراجع المشار إليها فيها
(4) الدكتور سلام مدكور، الإباحة عند الأصوليين ص 340(9/1723)
الفصل الثاني
طبيعة التحكيم وآثاره
16 – يقوم التحكيم – كما سلف البيان – على رضائية يقرها الشرع، ويمنحها ولاية شرعية، تسمح لها بترتيب الآثار التي يتغياها الأطراف ما دامت في الحدود التي ترضاها الشريعة الإسلامية، ومن ثم فإنه حتى يتضح النطاق الذي يستهدفه الأطراف فإنه يجب أن تحدد صيغة الاتفاق الأطراف المحتكمين، والخصومة التي يحتكمون بشأنها، وشخصية الحكم الذي يحتكمون إليه، وما قد يكون هناك من قيود تحدد سلطته من حيث الزمان أو المكان أو غيرها، ومدى التزامهم بالحكم الذي يصدره، ومن ناحية أخرى، فإن غايات الأطراف التي ترسمها صيغة اتفاقهم في وضوح، يجب أن تكون في نطاق القواعد الملزمة التي وضعها الفقه الإسلامي.
واشتراط وقوع الصيغة – لفظية كانت أو غير لفظية – في التعبير عن رضاء الطرفين وضوحًا لا يخالطه شك، مصدره أن التحكيم طريق استثنائي لفض الخصومات، قوامه الخروج عن طرق التقاضي العادية وما تكفله من ضمانات، ومن ثم فلا يحق أن يحرم أحد من الطريق الطبيعي للتقاضي إلا إذا كان ذلك بناء على رضاء واضح منه، لا تشوبه شائبة، ولا تضعفه شبهة، وإلا وجب تفسير الصيغة تفسيرًا ضيقًا، إعمالا؛ لأن الأصل هو الالتجاء إلى القضاء (1) .
أما إذا توافر هذا الوضوح في الكشف عن الإرادة، فإن التراضي على التحكيم يكون قد وجد، وحق لذلك إعمال آثاره أيا كان الطريق الذي وضحت به هذه الرغبة، وسواء أكان إبداؤها شفاهة أم بالكتابة أم بالإشارة أم بتبادل الرسائل أم بإيجاب من أحد المتخاصمين وقبول فعلي من الطرف الآخر (كأن يترافع أمام المحكم الذي اختاره الخصم دون أن يحتفظ في ذلك) أم باتخاذ أي مسلك آخر لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على التراضي، وذلك كله وفق ما يراه الجمهور، وعلى الأخص ما صرح به المالكية والحنابلة (2) .
__________
(1) يصرح فقهاء القانون بأن الرضا بالتحكيم لا يفترض، وأن عبارات عقد التحكيم يجب أن تفسر تفسيرًا ضيقًا. (الدكتور أحمد أبو الوفا – التحكيم الاختياري والإجباري – مرجع سابق ص 28) .
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج 3 ص 3. ويقول الحطاب في الاستدلال على مذهب المالكية: (إن الأفعال وإن انتفت فيها الدلالة الوضعية، ففيها دلالة عرفية وهي كافية) (ج 4 ص 228) . ويقول المغني في الاستدلال على رأي الحنابلة: (… ولأن الإيجاب والقبول إنما يرادان للدلالة على التراضي، فإذا وجد ما يدل على المساومة والتعاطي، قام مقامها وأجزأ عنهما، لعدم التعبد فيه) (ج 4 ص 4) .(9/1724)
والمرجع في الوضوح وعدمه إلى اللغة والعرف، فإذا استعمل المتحاكمان اللفظ – مثلًا – بيانًا لإرادتهما، إن كان بصيغة الماضي دل على التراضي باتفاق الأئمة الأربعة؛ ذلك لأن هذه الصيغة وإن كانت للماضي وضعًا، فإنها جعلت إيجابًا في الحال في عرف أهل اللغة والشرع والعرف قاض على الوضع، وإن كان بصيغة الأمر، فإن الحنفية يرون أن هذه الصيغة تفيد طلب الإيجاب والقبول وليست إيجابًا وقبولًا، فلا بد من إيجاب وقبول بلفظ آخر يدل عليهما، أما عند المالكية والشافعية، فإن صيغة الأمر، وإن كانت تدل – لغة – على الطلب، مما يحتمل الرضاء وعدمه، فإنها عرفًا تدل على الرضا، وبذلك تستوي صيغة الأمر في دلالتها مع صيغة الماضي في هذا الشأن.
أما صيغة المضارع فإنها – في رأي الجمهور – تحتمل الحال والاستقبال، وبالتالي فهي لا تكفي – وحدها – للدلالة على التراضي، ويجب أن تساند بدليل آخر، إن أريد الاستدلال بها عليه، ومثل ذلك استعمال صيغة الاستفهام (1) .
أما تعليق قبول التحكيم على شرط أو إضافته للمستقبل، فيرى الإمام محمد من الحنفية جواز ذلك؛ لأن التحكيم – عنده – تولية وتفويض كالوكالة والقضاء، فيجوز فيه التعليق والإضافة كما جاز فيهما، ويرى الإمام أبو يوسف – وهو ما عليه الفتوى – عدم جواز ذلك؛ لأن التحكيم عنده من عقود التمليكات لما فيه من تمليك الولاية، وعقود التمليكات لا يجوز تعليقها أو إضافتها للمستقبل، لما في ذلك من منافاة لما قصده الشارع فيها من ترتيب حكمها فور انعقادها، هذا إلى جانب أن التحكيم وإن كان تولية صورة، فإنه صلح معنى، والصلح لا يصلح معلقًا ولا مضافًا، فكذلك يجب أن يكون التحكيم (2) .
__________
(1) البدائع للكاساني ج 5 ص133، 134؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج 3 ص 3، 4؛ المذهب للشيرازي جزء أول ص 257
(2) الفتاوى الهندية ج 3 ص 217، 570؛ جامع الفصوليين ج 2 ص 2؛ فتح القدير ج 5 ص 502؛ البحر الرائق ج 7 ص 24، 29(9/1725)
17- وإذا كان الرضاء يجب أن يكون واضحًا، فإنه يجب كذلك أن تتطابق فيه الإرادتان على المحل، فيتفق الإيجاب والقبول اتفاقًا كاملًا، أو كما عبر به الكاساني في البدائع بأن يقبل أحدهما ما أوجبه الآخر، وبما أوجبه، فإن خالفه، بأن قيل غير ما أوجبه، أو ببعض ما أوجبه، لا ينعقد، من غير إيجاب مبتدأ موافق (1) .
على أنه فيما يختص بقبول بعض ما أوجبه الخصم الأول فإن شرطه أن يكون ما أوجبه قابلًا للتفرق (أي التجزئة) ، فإذا كان لا يقبل التفرق، سواء بحسب طبيعته، أو وفق ما هو موضح في إيجاب الخصم الأول، فإن قبول البعض دون البعض، يعد رفضًا للإيجاب الأول، قياسًا على ما صرح به الفقهاء في حكم تفرق الصفقة المبيعة (2) .
18- وإذا كان الرضا بالتحكيم لا يشترط أن يتم في شكل معين، وإنما يكفي فيه التقاء الإيجاب مع القبول وتطابق الإرادتين، فإنه لا يشترط فيه – كذلك – أن يكون سابقًا على المنازعة أو لاحقًا عليها، فيجوز أن يتفق على التحكيم بعد أن تنشب الخصومة، كما يجوز أن يتفق عليه مسبقًا، كأن يضمن الطرفان العقد الذي بينهما، اتفاقًا على أنه يتولى التحكيم حسم ما قد ينشأ – مستقبلًا – من منازعات في تنفيذ هذا العقد (3)
وإذا كان الفقه الإسلامي لم يتضمن – بصورة واضحة – تقسيم صور الاتفاق على التحكيم إلى ما يسبق نشوء المنازعة، وما يلحق بها، فإن عباراته تسع ذلك (4) . ولا تتأبى أن يستعمل معها ما اصطلح عليه رجال القانون من إطلاق كلمة (شرط التحكيم) على ما يكون منصوصًا عليه في العقود من قبول الالتجاء إلى التحكيم فيما قد ينشأ مستقبلًا من منازعات في هذه العقود، وإطلاق اسم اتفاق التحكيم (أو مشارطة التحكيم أو وثيقة التحكيم (على الاتفاق اللاحق على نشوء المنازعة (5) .
__________
(1) البدائع للكاساني ج 5 ص 136
(2) فتح القدير ج 5 ص 77، ص 82؛ البدائع ج 5 ص 136
(3) البحر الرائق ج 7 ص 25؛ فتح القدير ج 5 ص 499 وما بعدها.
(4) . جرى نص المادة الأولى من نظام التحكيم السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم م / 46 وتاريخ 12 / 7 / 1403 هـ على أنه: (يجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين قائم، كما يجوز الاتفاق مسبقًا على التحكيم في أي نزاع يقوم نتيجة لتنفيذ عقد معين) . وفي إمارة أبو ظبي نص قانون إجراءات المحاكم المدنية رقم 3 لسنة 1970 على صورة ثالثة، قوامها أن تكون الدعوى مرفوعة فعلًا أمام المحكمة، ويطلب الخصوم – كتابة – إحالة النزاع، كليًّا أو جزئيًّا، على التحكيم (المادتان 82، 94) .
(5) اختار نظام التحكيم السعودي اصطلاح (وثيقة التحكيم واختار القانون الكويتي اصطلاح) (اتفاق التحكيم) وهو الاصطلاح الذي انتهى إليه المجمع اللغوي المصري (الدكتور محمد محمود هاشم، النظرية العامة للتحكيم) ، الجزء الأول ص 72 إلى 76.(9/1726)
19- على أنه أيا كان وقت التراضي على التحكيم، فإنه يجب أن يكون في خصومة بالمعنى الشرعي؛ لأن حكم المحكم كحكم القاضي المولى يشترط لصحته سبق الدعوى الصحيحة، وهذه يشترط لصحتها أن تكون في خصومة حقيقية، فإذا لم يكن هناك تخاصم حقيقي فلا تحكيم كما إذا ملك شخص تجارة في مكانين مختلفين، وأقام الدعوى من نفسه، بوصفه صاحب أحد المحلين، على عامله في المحل الآخر، بغية إثبات مدينوية معينة، فذلك غير مقبول، لا سيما والفقه الإسلامي لا يعرف الشخصية الاعتبارية في مثل هذه الحالة، وإن أقر بها ضمنًا لبعض الشركات التجارية في حالات أخرى.
كما أنه لا تحكيم كذلك إذا افتعلت خصومة صورية بين شخصين ابتغاء الحصول على حكم من المحكم، توصلًا لأمر خارج، عن موضوع الدعوى، كما في دعوى ملكية العقار ملكا مطلقًا، إذا كان المدعى عليه ليس هو واضع اليد، وتواضع الطرفان على الاحتكام إلى المحكم، على أن يصادق المدعى عليه – بغير حق – على وضع يده ليقيم البينة على الملك، فيحكم به الحكم، تمهيدًا لنزع العين من يد صاحبها، فالتحكيم في مثل هذه الحالة غير سائغ ولا مقبول؛ لأن المدعى عليه ليس خصمًا حقيقيًّا في المنازعة، والحكم عليه – في حقيقة الأمر – ليس إلا ضربًا من العبث؛ لأنه لا يلزم في وقاع الأمر بشيء، لانعدام صلته بالمدعى به، وفي اتخاذ التحكيم وسيلة للإضرار بالخصم الحقيقي انحراف به عما شرع من أجله (1) .
__________
(1) الشيخ علي قراعة، الأصول القضائية في المرافعات الشرعية ص 10، ص 13، بند 6، 7، 16؛ والدكتور أحمد أبو الوفا، التحكيم الاختياري والإجباري ص 48، ص 75، ص 76، وقد أشار إلى أن القانونيين – كالفقه الإسلامي – يرون وجوب أن تكون هناك خصومة حتى يكون تحكيم رضائي، كما يرون كذلك ضرورة توافر الصفة للمحتكمين.(9/1727)
20 – وبجانب اشتراط الخصومة الحقيقية وتوافر الصفة في خصوم دعوى التحكيم، فإنه يجب أن تتوافر للمحتكمين أهلية التعاقد على التحكيم، وهي أهلية التصرف في الحقوق، وليست أهلية الإدارة أو أهلية التبرع (1) ، فإذا كان الراضي بالاحتكام صغيرًا مميزًا مأذونًا له بالتجارة، فإن له أن يقبل في أعمال الإدارة دون أعمال التصرف، فإذا كان من شأن التحكيم أن يمس رأس المال أو يرتب حقًّا عينيًّا على مال الصغير، فإنه لا يحق له أن يقبل، ولابد له من إذن وليه في ذلك (2) فإذا لم يعلن الولي إذنه أو إجازته حتى بلغ الصبي وأصبح عاقلًا، فإنه يجوز له أن يجيز الاتفاق على التحكيم؛ لأنه لما بلغ، ملك الإنشاء، فأولى أن يملك الإجازة (3) .
وإذا كان التصرف الذي يحتكم فيه يعد ضررًا محضًا للصغير، فإنه لا يملك هو ولا وليه الرضا بالتحكيم فيه، وإذا قضى المحتكم إليه بما يضر الصغير فلا يصح حكمه. (4) .
وفي تطبيقات الوكالة، لا يجوز للوكيل أن يتعاقد على التحكيم من غير إذن موكله؛ لأن سلطة الوكيل في الوكالة العامة مقصورة – بحسب الأصل – على الإدارة، ولأن الوكيل – في الوكالة الخاصة – لا صفة له إلا في مباشرة ما وكل فيه، وبالتالي فإنه – حتى يحق له الاتفاق على التحكيم – إيجابًا أو قبولًا يجب أن يكون الموكل قد صرح له بذلك.
__________
(1) الشيخ علي قراعة، الأصول القضائية في المرافعات الشرعية ص 10، ص 13، بند 6، 7، 16؛ والدكتور أحمد أبو الوفا، التحكيم الاختياري والإجباري ص 48، ص 75، ص 76، وقد أشار إلى أن القانونيين – كالفقه الإسلامي – يرون وجوب أن تكون هناك خصومة حتى يكون تحكيم رضائي، كما يرون كذلك ضرورة توافر الصفة للمحتكمين
(2) ويرى الشيخ علي قراعة أن الصبي المأذون له بالتجارة يصلح للخصومة وحده في كل حق يتعلق بالتجارة سواء أكان مدعيًا أو مدعى عليه بلا حاجة إلى حضور وصيه أو وليه الذي له التصرف في ماله (الأصول القضائية في المرافعات الشرعية – المرجع السابق – ص 48)
(3) البدائع ج 5 ص 149، 150
(4) الفتاوى الهندية ج 3 ص 271؛ ابن عابدين ج 5 ص 430؛ مغني المحتاج ج 4 ص 379 ح نهاية المحتاج ج 8 ص 230؛ الموسوعة الفقهية (الكويت) ص 237(9/1728)
وترتيبًا على ما سبق إيضاحه بشأن رضائية التحكيم، فإن الاتفاق على التحكيم في منازعة معينة لا يتعدى إلى منازعة أخرى، والاتفاق على المنازعات الناشئة عن تنفيذ عقد معين، لا يستطيل إلى المنازعات الناشئة عن تنفيذ عقد آخر، والاتفاق على الاحتكام في تفسير عقد بعينه، لا ينصرف إلى ما ينشأ عن تنفيذ هذا العقد من منازعات؛ ذلك لأنه يجب أن يكون التحكيم مقصورًا على ما انصرفت إرادة المحتكمين إلى عرضه على المحتكم إليه، فإذا طرأت على النزاع الأصلي منازعات أخرى لم يتضمنها الاتفاق على التحكيم بصورة مباشرة أو ضمنية، فإنه لا يجوز للمحكم أن يحكم فيها، إلا إذا صدرت له بشأنها موافقة جديدة من الخصمين، حتى ولو كانت هذه المسائل الأولولية التي يتعين حلها قبل الفصل في النزاع، فالاتفاق على التحكيم بين الورثة في قسمة المال الموروث فمثلًا لا يمنح المحكم الحق في الفصل في نزاع ينشأ بين بعض الورثة المتحاكمين على ملكية بعض هذه الأموال، ولا يعطيه الحق في الحكم باعتبار هذه الأموال من المال الموروث أو عدم اعتبارها كذلك (1) .
ومن ناحية أخرى، فإن الرضا بالتحكيم لا ينتج أثره إلا في مواجهة من رضي به، أما غيره فلا أثر له عليه؛ لأنه لم يرض، ولأن من رضي لا ولاية له عليه، وذلك فإنه – على مذهب الحنفية – لا يحق للحكم أن يحكم على العاقلة بالدية (2) ، وإذا تراضى على التحكيم دائن للمورث مع أحد الورثة، فلا أثر لذلك الرضا على باقي الورثة، ,إذا توفي أحد المحتكمين – قبل الشروع في التحكيم – فلا يلزم التحكيم الورثة إلا برضائهم، أما إذا حدثت الوفاة بعد الحكم، فإنه ينفذ في مواجهة الورثة في حدود تركة من كان قد رضي به، وإذا وجد عيب في المبيع الذي بيع عدة مرات، فتحاكم البائع الأخير والمشتري منه، وحكم المحتكم إليه بالرد، فلا أثر لذلك على البائع الأول الذي لم يرتض التحكيم، وإذا غاب أحد الخصمين، فلا يتعدى الحكم إليه، ولو كان ما يدعي به عليه سببًا لما يدعي به على الحاضر، فإذا تحاكم الكفيل والدائن، فلا أثر لاحتكامها على الأصيل الذي لم يحضر ولم يرض بالتحكيم، وذلك ما لم يشهد العرف بأن الغائب يعد راضيًا بالتحكيم، إذ يجوز في هذه الحالة الحكم عليه، وذلك على نحو ما طبقه فقهاء الأحناف على الشريك الغائب عند احتكام شريكه مع غريمهما؛ فقد قالوا: إن العرف بين التجار جرى على جعل التحكيم من أحد الشركاء كأنه تحكيم من سائرهم (3) .
__________
(1) البحر الرائق ج 7 ص 27 – الدكتور شوكت عليان – السلطة القضائية في الإسلام ص 398
(2) فتح القدير ج 5 ص 499؛ حاشية ابن عابدين ج 5 ص431 ويرى الشافعية في الراجح من مذهبهم أن الدية لا تجب على العاقلة لعدم حصول الرضا فيها بالتحكيم، يقول الإمام محمد الخطيب الشربيني: (فلا يكفي رضا قاتل بحكمه على ضرب دية على عاقلته، بل لابد من رضا العاقلة؛ لأنهم لا يؤاخذون بإقرار الجاني، فكيف يؤاخذون برضاه) (مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ج 4 ص 379) .
(3) نفس المصادر(9/1729)
تلك هي الرضائية، وهذا أثرها في بناء حدود التحكيم ورسم نطاقه، وهي كما هو واضح، سلطة مطلقة اليد فيما سبقت الإشارة إليه، تتحكم في رسم النطاق كما يبدو لها، ما دامت لا تصطدم بقواعد الشريعة الغراء وأحكامها الملزمة، أما إذا اصطدمت بها فالغلبة للشريعة، تلوي عنقها، لتظل إرادة الطرفين على بر الأمان فلا تقترب من حدود الله، ولا تتعداها {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] .
ولعل من أبرز النقاط التي تتدخل فيها الشريعة لتحدد مسار إرادة الطرفين في التحكيم، ما يتصل بموضوع التحكيم، أو أهلية المحتكم إليه (1) ، أو القانون الواجب التطبيق.
21- فموضوع التحكيم لا يسمح المشرع لإرادة الطرفين أن تصول وتجول فيه على النحو الذي يتراءى لها، فهناك من الموضوعات ما لا يحق للتحكيم أن يلج ميدانها؛ لأنه يجب أن يتولاها القاضي الذي يعينه ولي الأمر، وذلك إما استجابة لطبيعة هذه الموضوعات التي لا ترقى إرادة الطرفين إلى المساس بها، أو لتعلق حق غيرهما بها مما يحول بينهما وبين الانفراد بالنيل منها، أو لأن ولي الأمر رأى أن من الصالح العام أن لا يحكم فيها غير من يرى فيه – هو – الأهلية الخاصة لذلك.
فبإرادة الطرفين – وفق مشيئة المشرع – لا تقوى في الحالات السابقة جميعها على تعيين حكم يفصل في هذه المنازعات؛ لأنها لا تملك ترك الحق فيها، ولا يصح تراضي الأفراد بشأنها، والتحكيم – كما يقول الفقيه المالكي ابن عرفة – هو ما يصح لأحدهما ترك حقه فيه (2) .
__________
(1) آثرنا أن يكون الكلام عن تدخل الشريعة الإسلامية في اختيار المحتكم إليه، مع الكلام عن المحتكم إليه الذي أفردنا له فصلًا خاصًّا.
(2) التاج والإكليل لمختصر خليل – للمواق – ج 6 ص 112(9/1730)
وتطبيقًا لذلك، فإن حقوق الله تعالى لا يصح فيها التحكيم سواء أكانت حقوقًا خالصة كالحد في السرقة أو الزنى أو الشرب، أما كانت تجمع بين الحقين، وحق الله غالب كحد القذف؛ وذلك لأن هذه الحقوق ليس لها مطالب معين من الأفراد، ولا مدخل للصلح فيها بينهم، وهي لا تسقط بإسقاطهم ولا تقبل المعاوضة عليها بالمال (1) ومن ثم فإن المتعين لاستيفائها هو الإمام أو نائبه ممن له ولاية عامة، وإذا كان الأفراد محرومين من هذه الولاية، فإنهم لا يملكون تفويض المحتكم إليه فيها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
ومثل حقوق الله في ذلك، حقوق المحتكمين إذا تعلق بها حق لغيرهم، كاللعان فإنه يتعلق به حق الولد في نفي النسب، وهو غير المحتكمين، ولا ولاية للحكم عليه.
وكذلك الحكم إذا حضر ولي الأمر التحكيم في شأن من الشؤون، فإنه لا يصح التحكيم فيه؛ لأن حظر ولي الأمر داخل في سلطته، إذ هو نوع من تنظيم التحكيم،الذي يملكه ما دام لم يحظر نظر المنازعة حظرًا مطلقًا، وإنما حظرها على التحكيم لينظرها القضاء بما يتمتع به من ضمانات أوفى (2) .
هذا ما تمليه القواعد الكلية في تحديد ما يصح أن يكون موضوعًا للتحكيم الرضائي، وهو لا يكاد يختلف كثيرًا عما خلص إليه رأي جمهور العلماء في الفقه الإسلامي: فهؤلاء يمنعون التحكيم في الحدود والقصاص واللعان.
يقول السرخسي من الحنفية: (وليس ينبغي للمحكم أن يقضي في إقامة حد أو تلاعن بين زوجين؛ لأن اصطلاح الخصمين على ذلك غير معتبر، وما يحكم به بمنزلة اصطلاح الخصمين عليه. (3) .
ويقول ابن نجيم (وهو من الحنفية أيضًا) عن القصاص: (وما في الكتاب من منعه هو قول الخصاف وهو الصحيح كما في فتح القدير) (4) .
ويقول الإمام الدردير من المالكية: (وجاز للخصمين تحكيم رجل عدل … لا في حد من الحدود كقصاص أو جلد أو رجم … ولا في لعان …) (5) .
__________
(1) الدكتور سلام مدكور، نظرية الإباحة، نظرية الإباحة عند الأصوليين ص 337
(2) الدكتور سلام مدكور، نظرية الإباحة عند الأصوليين ص 337
(3) المبسوط للسرخسي ج 16 ص 111
(4) البحر الرائق شرح كنز الدقائق ج 7 ص 26
(5) الشرح الصغير للدردير ج 4 ص 198 / 199(9/1731)
ويقول ابن قدامة – من الحنابلة – في المغني: (قال القاضي (أبو يعلى) ينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا في أربعة أشياء: النكاح واللعان وحد القذف والقصاص؛ لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها، ونائبه يقوم مقامه) (1) .
وقد لخص الماوردي رأي الشافعية في موضوع التحكيم فقسم آراءهم إلى ثلاثة أقسام قسم يجوز فيه التحكيم وهو حقوق الأموال وعقود المعاوضات وما يصح فيه العفو والإبراء، وقسم لا يجوز فيه التحكيم، وهو ما اختص القضاء بالإجبار عليه من حقوق الله تعالى، والولايات على الأيتام، وإيقاع الحجر على مستحقيه. وقسم مختلف فيه وهي أربعة أحكام هي: النكاح، واللعان، والقذف، والقصاص، وذكر أن في هذه الأحكام الأربعة وجهين، أحدهما: جواز التحكيم لوقوفها على رضا المختصمين، والثاني: عدم جوازه فيها؛ لأنها حقوق وحدود يختص بها الولاة. (2) .
هذا مجمل ما انتهى إليه جمهور العلماء، وقد زاد عليهم المالكية أمورًا لا يجوز عندهم أن تكون موضوعًا للتحكيم، وهي القتل، إذا كان عقوبة للارتداد ولقطع الطريق (وذلك بجانب القتل قصاصًا) والولاء، والنسب والحبس (الوقف) المعقب، والطلاق والعتق، كما زاد بعضهم أيضًا فسخ الزواج، وإثبات الرشد وضده (السفه) وأمر الغائب، أما الحنابلة فقد صرح منهم صاحب كشاف القناع بأن حكم التحكيم ينفذ في كل الأمور من مال أو قصاص أو حد أو زواج أو لعان أو غيرها، ونقل بعضهم عن الإمام أحمد أنه يرى جواز التحكيم في كل ما يجوز للقاضي المولى أن يحكم فيه (3) ، ورجح هذا الرأي بعض علماء الشافعية، ومنهم الشربيني الخطيب إذ قال في مغنى المحتاج: (والصحيح عدم الاختصاص؛ لأن من صح حكمه في مال صح في غيره، كالمولى من جهة الإمام) (4) .
وقد نخلص مما تقدم أن ما رآه الجمهور من منع التحكيم في الحدود جميعها وفي القصاص واللعان قد قام على أسس قوية، وأن ما قاله المالكية من معيار المنع جدير بالتبني لمنطقه العقلي، ولعدم معارضة الكثير من الفقهاء الآخرين له صراحة، وهو يحمل في منع التحكيم في كل ما هو حق لله تعالى، وما استلزم الحكم فيه إثبات حكم أو نفيه من غير المتحاكمين ممن لا ولاية للحكم عليهم، أو ما اقتضى عظم قدره وخطره أن يعهد به إلى القضاء المولى دون غيره (5) .
__________
(1) المغني لابن قدامة ج 10 ص 95
(2) أدب القاضي للماوردي ج 2 ص 381
(3) كشاف القناع للبهوتي ج 3 ص 303 ح الكافي في الفقه ج 3 ص 446
(4) مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ج 4 ص 379
(5) الشرح الصغير للدردير ج 4 ص 148 وما بعدها؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج 4 ص 136؛ المنتقى شرح موطأ مالك للباجي ج 5 ص 229؛ مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب ج 6 ص 113.(9/1732)
22- على أنه إذا طرق الحكم والمحتكمون موضوعًا لا يجوز التحكيم فيه، فقضى الحكم فيما ليس من شأنه، فإن حكمه لا ينفذ في رأي الجمهور، بينما يرى المالكية أنه إذا قضى فيما لا يجوز له الحكم فيه، فإن حكمه يمضي إن كان صوابًا، وليس لأحد الخصمين أو الحاكم نقضه، وإن خالف رأيه؛ لأن حكم المحتكم إليه يرفع الخلاف عندهم، وإن كان حكمه خطأ وترتب عليه إتلاف عضو فالدية على عاقلته، وإن ترتب على إتلاف مال كان الضمان عليه في ماله (1) ، وفي ذلك يقول ابن فرحون في التبصرة: (وحيث قلنا لا يحكم في هذه المسائل، فلو حكم فيها بغير الجور نفذ حكمه، وينهى عن العود لمثله، ولو أقام ذلك بنفسه فقتل أو اقتص أو ضرب الحد، أدب وزجر، ومضى ما كان صوابًا من حكمه، وصار المحدود بالقذف محدودًا، والتلاعن ماضيًا) (2) .
ولا ريب أن رأي الجمهور في عدم نفاذ الحكم الصادر في موضوع محظور على التحكيم هو الرأي الأولى بالاتباع لقوة سنده، وهو ما اختارته أغلب نظم التحكيم الإسلامية، أما عن معيار المنع، فقد اختار كثير منها في أنظمتها الحديثة أن يجعل هذا المعيار هو: أن يكون الموضوع من المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، ومن ذلك نظام التحكيم الكويتي (المادة 173 / 3 من قانون المرافعات الكويتي) ونظام التحكيم السعودي (المادة الثانية) ، وقد مثلت المادة الأولى من اللائحة التنفيذية لهذا النظام الأخير لما لا يجوز فيه الصلح بالحدود واللعان بين الزوجين وكل ما هو متعلق بالنظام العام.
وهناك بلاد إسلامية أخرى آثرت أن تعدد صراحة ما هو محظور على التحكيم من موضوعات ومن ذلك ما جنحت إليه بعض نظم التحكيم في دول المغرب العربي، مثل تونس والمغرب والجزائر (3) .
__________
(1) مغنى المحتاج ج 4 ص 379؛ أدب القضاء لابن أبي الدم ج 1 ص 428 ح الفتاوى الكبرى لابن حجر ج 4 ص 290؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج 4 ص 136.
(2) التبصرة ج 1 ص 44.
(3) راجع المادة (260) من مجلة الأحكام المدنية والتجارية (التونسية) عدد 130 لسنة 1959 في 5 / 10 / 1959، والمادة (308) من قانون المسطرة المدنية (المغربي 9 ظهير شريف بمثابة قانون – م 447 – 74 – 1 بتاريخ 18 / 9 / 1974، والمادة (442) من قانون الإجراءات المدنية (الجزائري) رقم 66 – 154 في 8 يونيو سنة 1966(9/1733)
23 – أما فيما يتعلق بتدخل الشريعة في تحديد القانون الواجب التطبيق على التحكيم فمرجعه إلى أن الرضاء لا أثر له في ذلك – بحسب الأصل – فالقانون هنا هو شرع الله، رضي المتحاكمان أم لم يرضيا، طلبا ذلك أم لم يطلباه، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية: (فإذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما، فصل بينهما كما أمر الله ورسوله، وألزم المحكوم عليه بما حكم به، وليس له أن يقول: أنت حكمت علي بالقول الذي لا أختاره) (1) .
وليس في ذلك مجال للخلاف بين العلماء، فقد وردت بحكمه آيات كثيرة من كتاب الله الكريم منها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) } [النساء: 60 – 61] ، وقوله سبحانه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26] .
غير أنه، ومع ذلك، وفي نطاق أحكام الشريعة الإسلامية – أيضًا – فإنه يجوز للمحتكمين أن يشترطا على الحكم أن يحكم بينهما على مقتضى مذهب معين، وذلك بشرط أن لا يكون المحتكم إليه – في ذاته – مجتهدًا اجتهادًا مطلقًا إذ لو كان كذلك، فإنه لا يجوز إلزامه بأن يحكم على خلاف ما يراه، أما إذا كان مجتهدًا في نطاق مذهب المالكية واشتراطا عليه ألا يخرج عن مذهب المالكية فإنه يجب عليه أن يتقيد بهذا الشرط فإن خرج لم يلزم حكمه، هذا وقد غلب على الزمن المتأخر الإلزام بمذهب معين – حتى للقاضي المولى – وذلك علاجًا لكثرة الخلاف وفساد الزمان، فضلًا عما فيه من توحيد الأحكام (2) .
ولا يقتصر وجوب الاحتكام لشرع الله على الالتزام بالقواعد الموضوعية، بل إنه يتناول – كذلك – قواعد الإثبات التي يفرضها الفقه الإسلامي من بينة، وإقرار، ونكول عند حلف اليمين، فالخروج على هذا أو ذاك، يضم حكم المحكم بالبطلان، كما يضم حكم القاضي المولى بذلك إن هو خرج عليه (3) .
__________
(1) الفتاوى لابن تيمية ج 35 ص 360
(2) البحر الرائق ج 7 ص 27، التبصرة لابن فرحون ج 1 ص 22 وما بعدها، وفي تفصيل ذلك الدكتور محمد نعيم ياسين، حجية الحكم القضائي بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية ص 66 وما بعدها، والمراجع المشار إليها فيه.
(3) الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، الجزء العاشر ص 243 والمراجع المشار إليها فيه.(9/1734)
24- فإذا تم الاتفاق على التحكيم اتفاقا واضحًا حدد نطاقه وأوضح شروطه، بما يتفق مع شريعة الله , ولا يخرج عليها، فإنه يرتب آثاره المنشودة، التي تتركز في أثرين رئيسيين، أحدهما سلبي والآخر إيجابي.
25- فأما الأثر السلبي فيتمثل في تنازل الخصمين عن الالتجاء إلى القضاء العادي للفصل في المنازعة وذلك هو مقتضى اتفاقهما على حل منازعتهما عن طريق التحكيم، ولكن هل يشترط لتحقق هذا الأثر أن يكون تنفيذ التحكيم ممكنًا؟ على نحو ما هو مطبق فعلًا في أغلب نظم التحكيم دون نص، كما إذا توفي المحتكم إليه أو زالت صفته قبل إتمام مهمته، ولم يتفق الخصوم على غيره , ولا يسمح النظام للقضاء بأن يعين حكمًا بالنيابة عن الخصوم (1) .
الواقع أن هذا الشرط جدير بالتطبيق في النظام الإسلامي لأنه نابع من طبيعة نظام التحكيم ذاته، فالخصوم إنما منعوا أنفسهم عن القضاء رغبة في سلوك طريق آخر، فإذا انغلق باب هذا الطريق رجعت الأمور إلى نصابها، وعاد للقضاء حقه في الفصل في المنازعة، بصفته صاحب الولاية العامة والأصلية في هذا الشأن.
26 – ومن ناحية أخرى فإن الاتفاق على التحكيم نفسه اتفاق غير لازم؛ لأنه يرتبط بإرادة الطرفين التي قام عليها، وهي معتبرة في لزومه كما هي معتبرة في أصله، ومن ثم فإن الإرادة التي أنشأته تملك – بصفة عامة – أن تعدل عنه.
وليس في تطبيق هذه القاعدة خلاف يذكر بين الفقهاء في حالة رجوع الطرفين عن التحكيم قبل الشروع فيه؛ لأن المحتكم إليه مقلد من قبلهما، فأشبه الوكيل الذي يجوز للموكل أن يرجع عن توكيله، ما دام لم يشرع في مباشرة التصرف الموكول إليه.
أما إذا كان الرجوع منها بعد صدور الحكم، فإن الجمهور لا يعتد به، إذ الحكم قد صدر من المحكم عن ولاية شرعية كاملة، فأشبه الصلح الذي لا يجوز الرجوع فيه بعد تمامه، كما أشبه حكم القاضي الذي لا يتأثر بمجرد عزله بعد إصداره.
فإذا كان الحكم قد شرع في التحكيم، ولما يصدر حكمه بعد، فقد قال المالكية وفريق من الحنابلة: لا يجوز للمتحاكمين الرجوع في التحكيم؛ لأن الرضا لا يشترط دوامه حتى الحكم، فإذا أقاما البينة عند الحكم، ثم بدا لهما الرجوع عن التحكيم فلا يقبل منهما ذلك وإلا بطل المقصود من التحكيم.
__________
(1) الدكتور أحمد أبو الوفا، التحكيم الاختياري والإجباري ص 129 مرجع سابق، وأحكام النقض المصرية المشار إليها فيه(9/1735)
وقالت الشافعية - فيما صح من مذهبهم – وبعض الحنفية والحنابلة: يجوز الرجوع ولو بعد إقامة البينة، ذلك أن الرضا هو المثبت للولاية، فإذا زال زالت الولاية، كالقاضي إذا عزله الوالي، امتنع عليه الحكم لعدم الولاية.
هذا كله عن رجوع الخصمين، كليهما عن التحكيم، أما رجوع أحدهما وحده مع بقاء الثاني على الاحتكام للحكم الذي اختاره من قبل، فيرى فريق من العلماء، منهم العلامة ابن الماجشون من المالكية، أنه لا يجوز؛ لأن التحكيم من باب الولاية، وهي تختص بالحكم على الخصمين بخلاف ما يرضيانه، هذا إلى جانب ما قاله بعض المالكية من أن الخصم أوجب لخصمه – في قبوله التحكيم – حقًّا في الفصل في المنازعة عن هذا الطريق، وبالتالي لا يجوز له الرجوع إلا برضا هذا الخصم (1)
27- ذلك عن الأثر السلبي للاتفاق على التحكيم أما الأثر الإيجابي فيتمثل في فض الخصومة على يد المحكم الذي اختاره الطرفان، وفي النطاق الذي اتفقا عليه، وفي حدود ما أوجبته الشريعة الإسلامية من قواعد موضوعية وإجرائية، فإذا ما انحرف التحكيم عن هذا الاتجاه، بعناصره السابقة، فإن القضاء يكون له بالمرصاد، إذا ما ترافع إليه أي من الطرفين للنقض أو التنفيذ.
أما إذا التزم التحكيم جادة الطريق، فإنه لا ينقض حتى يؤتي ثمرته وهي الحكم الفاصل في الخصومة، وذلك ما لم تنقض المدة المحددة دون حكم، أو يتفق الخصوم على العدول عنه في الحالات التي يجوز فيها ذلك، أو يعزل المحتكم إليه نفسه، بإعلان رغبته في عدم المضي في التحكيم، أو يفقد أهلية.
__________
(1) حاشية الرهوني علي الزرقاني ج 7 ص 301؛ والبحر الرائق ج 7 ص 26؛ وفتح القدير ج 5 ص 500 ومما قاله المالكية: (قال ابن القاسم في المجموعة: إذا حكماه وأقاما البينة عنده ثم بدا لأحدهما، قبل أن يحكم، قال: أرى أن يقضى بينهما، ويجوز حكمه. قال مطرف: له النزوع قبل نظر الحاكم بينهما في شيء، فأما بعد أن ينشبا في الخصومة عنده، ونظره في شيء من أمرهما، فلا نزوع لواحد منهما ويلزمهما التمادي. وقال ابن الماجشون: ليس لأحدهما أن يبدو له، كان ذلك قبل أن يفاتحه صاحبه أو بعد ما ناشبه الخصومة، وحكمه لازم. وقال سحنون في المجموعة وكتاب ابنه: لكل واحد فيهما أن يرجع في ذلك ما لم يمض الحكم فيه، فإذا أمضاه بينهما فليس لأحدهما أن يرجع فيه) (المنتقى شرح موطأ الإمام مالك، الجزء الخامس ص 227) . ومما قاله الحنابلة: ولكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم؛ لأنه لا يلزم حكمه إلا برضا الخصمين، أشبه رجوع الموكل عن التوكيل قبل التصرف فيما وكل فيه، ولا يصح رجوع أحدهما بعد الشروع في الحكم وقبل تمامه، كرجوع الموكل بعد صدور ما وكل فيه من وكيله (كشاف القناع عن متن الإقناع، ج 6 ص 309) ومما قال الشافعية: (وإن رجع أحدهما قبل الحكم ولو بعد استيفاء شروط البينة، امتنع الحكم لعدم استمرار الرضا) (نهاية المحتاج شرح المنهاج الجزء الثامن ص 243)(9/1736)
الفصل الثالث
المحتكم إليه
28- تعتبر شخصية المحتكم إليه عنصرًا رئيسيًّا في التحكيم، فقد قبل المحتكمون حكمه من قبل أن يصدره، ثقة منهم في حسن تقديره وعدالته، ولذلك فإنه يجب أن يكون اختياره بإرادتهما، أو على الأقل بناء على هذه الإرادة، وأن يقبل هو أداء المهمة الموكولة إليه، إذ لا يملك المحتكمون ولاية إجباره على القيام بما عهدوا إليه به، وأن يكون – هو – أهلًا لذلك، حتى يمكن أن يكون لحكمه من الاحترام ما يسمح للقضاء بأن يقره ولا ينقضه، أن ينفذه ولا يهدره، في الحالات التي تسهم فيها سلطة الدولة في تنفيذ حكم صدر عن شخص لم تختره، وليست له ولاية عامة تساند ما قضى به.
وإذا كانت نقاط البحث التي تدور حول المحتكم إليه من أهميتها، تلتقي في كثير من عناصرها ما أفاض فيه علماؤنا الأفاضل بشأن القاضي المولى، فإنه قد يحسن الاقتصار – في هذا البحث – علي أهم ما يتميز به المحتكم إليه، وعلى الأخص ما يترتب على تغلغل الرضائية في توليته، وانعكاس ذلك على أهليته وعلى سلطته من ناحية، ومدى تدخل الشريعة الإسلامية – من ناحية أخرى – لتصحيح مسار الإرادة في هذا الشأن.
29 – ومن أبرز الآثار المترتبة على الرضائية والمتصلة بشخصية المحتكم إليه، أنه يجب أن يكون معينًا، إذ إن المتحكمين – كما سبق القول – إنما يحتكمان إلى من يثقان في تقديره وعدالته، ومن ثم فلو كان مجهولًا فإنه لا يتصور تحقق هذه الثقة، كما إذا اتفقا على شخص معين، ثم تبين أنه غير الذي قصداه.
وإذا كان الأصل أن يكون تعيين المحتكم إليه بالاسم، فإن تحديده بالصفة لا يحول دون صحة التحكيم، طالما أنه يكشف عن اختيار المحتكمين لشخص محدد لا تنطبق أوصافه على غيره، كما لو اختارا إمام المسجد أو مفتي المدينة، وكان الإمام أو المفتي واحدًا، بل إنه يجوز لهما أن يختارا قاضي البلدة حَكَمًا، وفي هذه الحالة يستمد ولايته منهما، لا من الإمام، فلو عزله الإمام عن القضاء لا يؤثر ذلك على سلطته في التحكيم (1)
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي ج 4 ص 194(9/1737)
وليس للاتفاق على الشخص المحتكم إليه شكل معين، فيجوز أن يكون بالكتابة أو غيرها، وينطبق على ذلك القواعد التي سبق إيرادها بشأن الاتفاق على التحكيم ذاته، فإذا ترافع الطرفان – مثلًا – لمحتكم معين فإن ذلك يعد تعيينًا له، كما إذا ارتضيا التحكيم، واختارا أحدهما محكمًا، فترافع أمامه الثاني دون تحفظ، أو اتفقا على اثنين، ليفصل أحدهما في المنازعة ولم يحدداه في الاتفاق، وترافعا لأحدهما فعلًا.
فإذا لم يتفق الطرفان على شخصية الحكم، مع اتفاقهما على التحكيم، فإنه يجوز لأي منهما أن يرفع الأمر إلى القاضي ليختار شخصية المحتكم إليه، إذ ذلك لا يعدو أن يكون منازعة من المنازعات التي يختص بها القاضي بحكم ولايته العامة، وهو يملك وضعه الحل المناسب لها ما بقى الطرفان مصرين على التحكيم، وذلك بتعيين الحكم الذي يتفق مع إرادتهما المشتركة، وفق ما يكشف عنه اتفاقهما صراحة أو ضمنًا وطالما أن هذا الاتفاق لا يدل على أن الطرفين لم يجعلا من تحديد شخصية المحتكم إليه بأنفسهما شرطًا لصحة التحكيم.
ولا يقال: إن تدخل القضاء في هذه الحالة ينزع عن التحكيم طابعه الرضائي ويتعارض مع الفكرة الأساسية في نظام التحكيم ذاته، وهي تحقيق ثقة الخصوم في المحكمين (1) ، بفرض شخصية المحتكم إليه فرضًا من القضاء، لا يقل تعقيبًا؛ ذلك لأن في استطاعة المحتكمين – إذا لم يريدا ذلك – أن يجعلا من تعيين المحكمين في شرط التحكيم أو في مشارطته، شرطًا لصحته بحيث يبطل إذا انتقى هذا الشرط، أما وقد سكتا، وظلا على رغبتهما في التحكيم، فإنه لا مفر من تدخل القضاء إذا ترافع إليه أحدهما، فذلك واجبه، وتلك وظيفته (2) ، وهو هنا يسعى إلى تدعيم التحكيم برفع عقبه، وأثبت العمل أنها تؤدي إلى فشله في أحيان كثيرة، وليس في عمله اعتداء على إرادة الطرفين أو كليهما، إلا بالقدر الذي يعتبر وفاء بالتحكيم الذي تعاقدا عليه، لا سيما إذا كان النظام الذي يستظلان به ينص على حق القضاء في ذلك، كما يفعل نظام التحكيم السعودي حين ينص في المادة العاشرة منه على أنه: (إذا لم يعين الخصوم المحكمين أو امتنع أحد الطرفين عن تعيين المحكم أو المحكمين الذين ينفردون باختيارهم أو امتنع واحد أو أكثر من المحكمين عن العمل، أو اعتزله أو قام به مانع من مباشرة التحكيم أو عزل عنه، ولم يكن من بين الخصوم شرط خاص، عينت الجهة المختصة أصلًا بنظر النزاع من يلزم من المحكمين، وذلك بناء على طلب من يهمه التعجيل من الخصوم …) .
__________
(1) يرى بعض الشافعية أن تعيين القاضي للحكم يدخل في باب الإنابة ولا يأخذ حكم المحتكم إليه المختار مباشرة من الطرفين (روضة الطالبين ج 11 ص 121)
(2) الدكتور محمود محمد هاشم، النظرية العامة للتحكيم في المواد المدنية والتجارية، مرجع سابق ص 171 – 172، والدكتورة آمال أحمد العزايري، دور قضاء الدولة في تحقيق فاعلية التحكيم،، منشأة المعارف سنة 1993 ص 218 وما بعدها(9/1738)
30- ولا بأس من تعدد الحكام، استرشادًا بما نص عليه الكتاب الكريم في شأن النزاع بين الزوجين أو صيد الحرم، غير أنه لا يشترط في هذه الحالة ما تشترطه أغلب النظم الوضعية من أن يكون العدد وترًا، فيجوز أن يكون شفعًا، كأن يختار كل من الخصمين حكمًا أو اثنين أو أربعة، أو يختار كل منهما واحدًا، ويعين المختاران ثالثًا (وهو ما يطلق عليه اسم: الحكم المرجح في النظم الوضعية) ، على أنه في حالة التعدد، فإنه يجب أن يكون الحكم صادرًا بالإجماع؛ لأن المحتكمين إنما رضوا بحكم المحكمين لا بحكم واحد منهم أو بعضهم، وذلك ما لم يأذنوا للحكام بأن يقضوا بالأغلبية، أو كان النظام الذي يحتكمون في ظله يجيز ذلك، وفي هذه الحالة يتطلب النظام عادة أن يكون العدد وترًا حتى يتسنى صدور الحكم دون حاجة إلى وجود حكم مرجح. (1) .
31- على أن الحكم، فردًا كان أو متعددًا، لا يجبر على قبول التحكيم، إذ لا يملك الأفراد إجباره عليه، وإنما مصدر التزامه به هو التقاء إرادته مع إرادة الطرفين المتخاصمين، بكل ما حوته هذه الإرادة الأخيرة من تفصيلات تتصل بموضوع التحكيم أو زمانه أو مكانه، أو ما قد يكون عليه من قيود أخرى لا تتعارض مع القواعد الواجبة التطبيق في الشريعة الإسلامية.
وإذا كان التحكيم عقدًا غير لازم بالنسبة لطرفيه، في الحدود التي سبق إيضاحها فإنه – أيضًا – غير لازم بالنسبة للمحتكم إليه، فيستطيع أن يعزل نفسه عنه في أي وقت، طالما لم يصدر حكمه بعد، ولا يستطيع المحتكم – بحسب الأصل – أن يحول بينه وبين ذلك بدعوى أن له حقًّا مكتسبًا تولد بقبوله التحكيم؛ وذلك لأن انعزال الحكم – كقاعدة عامة – لا يضر بالمحتكم، إذ هو يرده إلى الطريق العادي لفض الخصومات، وهو طريق القضاء، وذلك إذا لم يتراض الخصمان على حكم آخر، غير أن الانعزال – مع ذلك – لا يؤتي ثماره إلا بعلم المحتكم، مثله في ذلك مثل عزل الوكيل نفسه، فإنه لا ينعزل حتى يعلم الموكل بالعزل.
__________
(1) ينص عجز المادة الرابعة من نظام التحكيم السعودي على أنه: (إذا تعدد المحكمون وجب أن يكون عددهم وترًا) ، كما تنص المادة 16 منه على أن: (يصدر حكم المحكمين بأغلبية الآراء، وإذا كانوا مفوضين بالصلح وجب صدور الحكم بالإجماع) .(9/1739)
ولا يعد تراخي الحكم في أداء المهمة المعهود بها إليه عزلًا لنفسه، بعد قبوله، ما دام في حدود المهلة المحددة له، إذا كانت هناك مدة لذلك يحددها الاتفاق أو العرف أو النظام الذي يستظل به التحكيم، ولا يعد مجرد سفر المحتكم إليه، أو حبسه أو غيابه عن البلدة، عدولًا ضمنيًّا، عن قبوله التحكيم فإذا عاد من سفره أو خرج من حبسه أو آب من غيبته، فإنه يكون على حكومته
ولا يجوز للمحتكم إليه، يستخلف غيره في نظر النزاع؛ لأن رضاء المحتكمين إنما انصب عليه دون غيره، فإذا استخلف – على خلاف ذلك – وحكم الحكم المستخلف، لا ينفذ حكمه إلا إذا أجازه الطرفان؛ لأن الإجازة بمنزلة الإنشاء، فتصح حكومة المستخلف، ما لم يعتورها عيب آخر، كأن يكون غريمًا للصبي الذي احتكم وليه، فإن حكمه لا ينفذ في هذه الحالة حفاظًا على مصلحة الصغير.
32- وإذا كان من المقرر في الفقه الإسلامي أن الأصل العام أنه يشترط في المحتكم إليه ما يشترط في القاضي المولى (1) إلا أن اختيار المحتكم إليه بإرادة الطرفين، وبناء على ثقتهما فيه، وذلك ليحكم في أمور حدداها سلفًا، ولا يكون لحكمه أثر يتعدى إلى غيرهما، كل ذلك من شأنه أن يترك بصماته على الشروط التي يجب توافرها في المحتكم إليه، فيخفف من بعضها، إعلاء لعوامل الثقة على عوامل الكفاءة، فيجبر رضاء الطرفين عن المحتكم إليه بعض ما قد يلحقه من نقص، وتصبح حكومته مع ما يعتورها من مثالب لو تحققت في القاضي المولى لم يصح معها قضاؤه.
هذا إلى جانب أن بعض الفقهاء الإسلاميين – بالقياس إلى ما يراه غيرهم – يترخصون في شروط القاضي، وبالتالي فإنهم من باب أولى –يترخصون في شروط المحتكم إليه؛ لأنه أدنى منه درجة، وقد حاز رضا الطرفين وثقتهم كما أن بعضًا من هؤلاء الأفاضل يغلبون جانب المصلحة على جانب الشكل في بعض الحالات، فيرون إمضاء حكم المحتكم إليه، الذي يفتقد بعض الشروط، ما دام قد حكم فعلًا، استجابة لرضا الطرفين به، وهو غير صالح – في الأصل – للحكومة.
__________
(1) يقول في روضة الطالب – مثلًا -: (فإذا جوزنا التحكيم اشترط في المحكم صفات القاضي) ج 11 ص 122.(9/1740)
ولا ريب أن ما سبقت الإشارة إليه لا يتناول إلا بعضًا من شروط المحتكم إليه؛ ذلك لأن هناك من الشروط ما لا يقبل الخلاف، وذلك كشرط الإسلام في الحكومة بين المسلمين، فلم يقل أحد يعتد برأيه بأنه يجوز تحكيم غير المسلم في المنازعات بين المسلمين، أما ما عدا ذلك من الشروط فإن معظمها قد اختلف فيه العلماء، بما يبسط أمام الطرفين مجال التطبيق، ويمنح ولي الأمر سعة في اختيار الرأي الذي يستلزمه المصلحة، ما دام قد ارتاح إلى دليله، وذلك إذا تبنى ما تطبقه أغلب البلاد الإسلامية - حاليًا – من عدم الالتزام – التزامًا مطلقًا – بمذهب معين من مذاهب الفقه الإسلامي.
وعلى هدي ما تقدم، فإنه يمكن – على الرأي السائد في الفقه الحنفي – أن يرتضي الطرفان تحكيم الفاسق أو الجاهل أو تحكيم المرأة؛ لأن كلًّا من هؤلاء تجوز توليته القضاء، فيصبح – من باب أولى – أن يكون حكمًا، فإذا حاز الفاسق ثقة المتحاكمين، وهما يعلمان سبب فسقه، فإن حكومته صحيحة؛ لأنه أهل للشهادة من ناحية، ولأن العدالة شرط كمال، وليست شرط تولية (1) ، مثلها في ذلك مثل العلم بفقه المسألة، فالجاهل إذا تولى التحكيم واسترشد بالعلماء صحت حكومته.
وإذا احتكم المحتكمان إلى امرأة فيما تجوز شهادتها فيه كغير الحدود والقصاص، وحكمت، نفذ حكمها؛ لأن قضاءها في ذلك ينفذ، مع خلاف في جواز توليتها – في الأصل – أو عدم جواز ذلك (2)
ومن زاوية أخرى فإنه على الرأي السائد في مذهب المالكية، فإنه لا يشترط لصحة تولية المحتكم أن يكون سليم الحواس، فتصح حكومة الأعمى، والأخرس، والأصم وينفذ قضاؤه (3) .
__________
(1) تنص المادة 11 من نظام التحكيم السعودي في عجزها على أنه لا يجوز رد المحكم إلا لأسباب تحدث أو تظهر بعد إيداع وثيقة التحكيم، ومعنى ذلك أنه لا يصلح سببًا للرد، الأسباب التي تكون قد حدثت وظهرت لذوي الشأن قبل إيداع وثيقة التحكيم. (في تفصيل ذلك: بحث الأستاذ عبد العزيز المحيمد، المقدم إلى مجمع تحكيم الشرق الأوسط والبحر المتوسط، عن تطوير التحكيم في المملكة العربية السعودية، في الندوة المقدمة في القاهرة في الفترة من 7 – 12 يناير سنة 1989، والمنشور ضمن أبحاث هذه الندوة)
(2) في تحكيم الفاسق والجاهل والمرأة في المذهب الحنفي، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج 5 ص 440؛ فتح القدير لكمال بن الهمام ج 7 ص 224 وما بعدها؛ بدائع الصنائع ج 7 ص 3، وقد تولى الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان شرح ذلك باستفاضة في كتابه القضاء في الفقه الإسلامي ص 46 وما بعدها، وقد استدل فضيلته بأدلة قوية على ما رآه من أن الحنفية لا يجيزون تولية المرأة القضاء، فإذا وليت، مع إثم من ولاها، فحكمت في الأمور التي تصح فيها شهادتها، وهي ما عدا الحدود والدماء، فإنه ينفذ حكمها إذا وافق كتاب الله وسنة رسوله، ص 46 وما بعدها.
(3) الشرح الصغير للدردير ج 4 ص 191؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج 4. ص 130؛ المنتقى للباجي ج 5 ص 228(9/1741)
ويرى المالكية – كذلك – أنه لو حكم أحد الخصمين خصمه فحكم لنفسه أو عليها مضى حكمه، ما لم يكن جورًا، وذلك على خلاف الحكم بالنسبة للقاضي المولى الذي يقوم التحاكم إليه على نوع من الإجبار، فلا تزول التهمة، وبالتالي لا يصح حكمه لنفسه (1) .
ففي الحالات السابقة وأمثالها يسوغ احترام إرادة المتحاكمين؛ لأنها لا تصطدم بالنص ولا بالعقل، في رأي من سمح بهذا من الفقهاء، أما حين تصطدم بالنص كافتقاد المحتكم إليه شرط الإسلام في حكومة من المسلمين فإنه لا يصح تحكيمه لمخالفة هذا لقوله تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وكذلك حين تصطدم بالعقل، كما إذا حكما مجنونًا أو صبيًا غير مميز؛ لأن كلا منهما لا ولاية له على نفسه، حتى تكون له ولاية على غيره، فتحكيمهما نوع من العبث لعدم استطاعتهما فهم خطاب الشارع الذي يتعين عليهما تطبيقه على المنازعة المعروضة.
33 – ذلك هو جانب من أثر الرضائية على شروط المتحكم إليه، أما أثره على سلطته، فإنه وإن كان من المسلم به أن رضاء الطرفين بالتحكيم وبالمحتكم إليه هو مصدر سلطة هذا الأخير، بصفة رئيسية، إلا أنه كما سبق القول، ليس هو مصدرها وحده، فالشرع هو الذي سمح لهذه الإرادة بأعمال أثرها، بما جاء فيه من أدلة على مشروعية التحكيم، وهو في الوقت نفسه الذي حدد أثر هذه الإرادة، فلم يسمح لها أن تستطيل إلى تحديد حكم الله، أو تتعدى في تطبيقه على الواقعة المعروضة، وفي ذلك ينبه القرآن الكريم من يحكم في منازعات الناس بقوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } [المائدة 49 – 50] .
__________
(1) التبصرة لابن فرحون ج 1 ص 44؛ الدسوقي على الشرح الكبير ج 4 ص 135(9/1742)
فالمحتكم إليه يبحث عن حكم الله دون النظر إلى صالح الطرفين ولا إرادتهما،؛ لأن عمله في هذا الشأن هو عمل القاضي، فكما أن القاضي لا يتقيد في حكمه برأي من ولاه فكذلك المحتكم إليه لا يسعى إلى إرضاء الطرفين بتتبع إرادتهما والحكم على مقتضاها، والقول بغير هذا، ينأى بالتحكيم عن غرضه، وهو الحكم بما أنزل الله، ويجعله وسيلة لاتباع الهوى غير جدير بالاعتبار ويجرده مما اقتضى أن تتدخل الدولة، فتلزم المحكوم عليه بالتنفيذ جبرًا، كما تلزم المحكوم عليه بقضاء القاضي وفي الحدود التي يحق فيها ذلك.
ولا يطعن على ذلك بأن إرادة الطرفين هي أساس التحكيم وأساس ولاية المحتكم إليه، فقد فسر ذلك الحنفية بما قالوه من أن تحكيم الحكم في الخصومة يشبه الوكالة من وجه، ويشبه حكم القاضي من وجه آخر، في المرحلة السابقة على إصدار الحكم، يكون المحتكم إليه في موقف الوكيل، فهو لا ينظر إلا النزاع الذي قبل المحتكمان نظره، وفي النطاق الذي حدداه، ولهما حق عزله، كما أن الوكيل لا يباشر من العمل إلا ما وكله فيه الموكل، وفي حدود ما وكله، وطالما لم يعزله قبل مباشرة العمل الموكول إليه.
فإذا تجاوز المحتكم إليه هذه المرحلة إلى مرحلة إصدار الحكم، اختلف وضعه، فلم يصبح في موقف الوكيل، وإلا ما جاز له أن يحكم بحكم ملزم للطرفين؛ لأن التوكيل لا يجوز إلا فيما يملكه الموكل، والخصم لا يملك إلزام خصمه بما يراه فيما يتنازعان فيه، فكذلك لا يملك تفويض غيره في ذلك وإنما موقف المتحكم إليه في هذه المرحلة هو موقف القاضي الذي ينزل حكم الله على الواقعة، ولا يكاد يختلف عنه إلا في الحدود التي يحق للطرفين تفويض المحتكم إليه فيها بشأن من الشؤون التي يملكان التنازل عنه، كتفويضه في الصلح فيما يجوز فيه، إذ مقتضى ذلك أنه يجوز للمحتكم إليه أن يلزم كلًّا من الخصمين بالتنازل عن بعض حقه، تنسيقًا لحقوقهما والتزاماتهما المتقابلة التي فوضاه في الصلح بشأنها (1)
__________
(1) في الفرق بين التحكيم بالصلح والتحكيم بالقانون: الدكتور أحمد أبو الوفا، التحكيم بالقضاء وبالصلح، منشأة المعارف سنة: 1965 ص 162 وما بعدها(9/1743)
الفصل الرابع
حكم التحكيم
34 – حكم التحكيم هو النتيجة المستهدفة من نظامه وفق المجريات العادية للأمور، فإذا اتفق الخصمان على التحكيم، وارتضيا محكمًا تتوافر فيه الأهلية المطلوبة، وكانت منازعتهما من الموضوعات التي يجوز فيها التحكيم، وأنزل عليه الحكم شرع الله، فقد أشرف التحكيم على غايته، بل وانقضى بصدور الحكم الذي كانت تلك الإجراءات من أجله، فانتهت بذلك مهمة الحكم وأصبح كآحاد الناس لا ولاية له على الموضوع، وبالتالي فلا يملك الرجوع عما قضى به، بإلغائه أو بحكم للخصم الآخر؛ لأن الحكومة قد تمت بالقضاء الأول، فكان قضاؤه الثاني باطلًا (1)
على أن انقضاء التحكيم بصدور الحكم، لا يمنع ولي الأمر – في تنظيمه للتحكيم – أن يمنح المحتكم إليه حق تصحيح ما وقع في حكمه من أخطاء مادية بحتة، كتابية أو حسابية، أو يقر له بسلطة إصدار تفسير لما وقع في منطوق حكمه من غموض أو إبهام، وذلك على نحو ما انتهجه نظام التحكيم السعودي الجديد ونص عليه في المادتين 42،43 من اللائحة التنفيذية.
وما دام التحكيم قد اتخذ وسيلة لإنهاء النزاع الذي عجز الطرفان عن حسمه رضاء بأنفسهما، فإن صدور الحكم يستتبع التزام الطرفين به، وإلا ففيم كانت هذه المعاناة؟ وقد كان في وسع الطرفين لو أرادا معرفة حكم الله دون التزام بالتنفيذ، أن يلجأ إلى طريق الفتوى، فالمستفتي إذا لم يعمل بما أفتي به، وسعه أن يستفتي مفتيًا آخر ويعمل بما يفتيه (2) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت ج 10 ص 244 والمراجع المشار إليها فيها
(2) فتوى المرحوم الشيخ محمد حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق المنشورة في المجلد السادس من الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية ص 1997 والمرجع المشار إليه فيها.(9/1744)
وعلى ذلك استقر جمهور الفقهاء (1) ، فقالوا بلزوم حكم التحكيم دون حاجة إلى رضاء جديد ممن حكم عليه، وذلك استنادًا إلى أن الحكم صدر عن ولاية شرعية، ولم يخرج عن نطاقها، ومن ثم فقد تعين الالتزام به؛ لأن من جاز حكمه لزم حكمه كالقاضي المولى (2) ؛ ولأن المحتكم إليه كالوكيل، إذا تضرر في حدود وكالته، فإن تصرفه يلزم الموكل دون حاجة إلى رضاء جديد منه، هذا إلى جانب أن القول بغير هذا، يفرغ التحكيم من مضمونه، ويؤدي إلى فوات الحكمة من مشروعيته، فلن يكون وسيلة لسرعة الحسم، وإنما طريقًا إلى المماطلة بالحق، وإطالة أمد الخصومات دون مبرر، إذ سيكون على الطرفين – بعد أن حسم التحكيم نزاعهما – أن يترافعا إلى القاضي المولى – ويطرحا عليه منازعتهما ويتجادلا أمامه فيها، وكأن شيئًا لم يكن، وهذا بالإضافة إلى أن عدم الالتزام بحكم التحكيم لم يكن طريق السلف، فقد روى الشعبي أن امرأة نشزت على زوجها، فاختصما إلى شريح، فقال: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فنظر الحكمان في أمرهما، فرأيا أن يفرقا بينهما، فكره الرجل ذلك، فقال شريح: ففيم كان اليوم وأقر رأي الحكمين بالتفريق دون أن يجعل لعدم رضا الزوج أثرًا على لزوم حكم المحكمين (3)
35- فحكم التحكيم – إذن – ملزم وفقًا لرأي الجمهور – المدعم بأسانيدهم العقلية القوية، فإذا قبل المحكوم عليه تنفيذه باختياره فقد أوفى بعهده ونفذ عقده، امتثالًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وإن لم يقبل تنفيذ ما قضى به عليه، فلا وسيلة لإجباره غير الالتجاء إلى القضاء؛ ذلك لأن المحتكم إليه لا يملك الأمر بالتنفيذ لخروجه عن نطاق التحكيم، ولأن الإجبار على التنفيذ لابد وأن يستند إلى ولاية عامة، وذلك ما يفتقده المحتكم إليه.
واختصاص القاضي المولى بمنازعة حكم التحكيم نابع من اختصاص بجميع المنازعات دون استثناء، ما دام ولي الأمر لم يخصصه بزمان أو مكان أو بحادثة محددة، فإن خصصه وأدى هذا التخصيص إلى خروج منازعة التنفيذ هذه من اختصاصه، كان علي ولي الأمر أن يولي قاضيًا آخر لهذه المنازعة، إذ لا يعرف الفقه الإسلامي منازعة لا قاضي لها.
__________
(1) يرى بعض الشافعية أنه لابد من رضاء المحكوم عليه بعد الحكم؛ لأن حكمه إنما يلزم بالرضا، فلا يكون الرضا إلا بعد المعرفة بحكمه، ولكن هذا الرأي ليس هو الأظهر في مذهبهم، يقول النووي صاحب متن المنهاج: (ولا يشترط الرضا بعد الحكم على الأظهر) مغني المحتاج على متن المنهاج الجزء الرابع ص 379
(2) الكافي في فقه الإمام أحمد ج 3 ص 446
(3) جامع البيان في أحكام القرآن للطبري ج 5 ص 74.(9/1745)
وإذا كان القاضي المولى ليس له أن ينظر أي دعوى إلا إذا حضر إليه خصم فيها يستعديه، ويطلب منه الحكم في قضيته، فإنه لذلك يجب أن يلجأ إليه أحد الخصوم في دعوى التحكيم يستعديه على خصمه، ويطلب من القاضي أن يقضي له بتنفيذ حكم التحكيم، إذا كان قد صدر الحكم لصالحه، أو يطلب منه الحكم بعدم صحة هذا الحكم إذا كان قد صدر ضده، وذلك حتى لا يظل سيفًا مصلتا على رقبته، والقاضي في كلا الحالتين، عليه أن يتحقق من صحة حكم التحكيم، في إجراءاته وموضوعه، فيثبت من رضا الطرفين بالتحكيم، وبالحكم، ومن أن المحتكم إليه يتمتع بالأهلية الواجبة، ولم يخرج عما فوض إليه الحكم فيه، كما لم يخالف شرع الله فيما حكم فيه.
وليست هناك شكلية محددة تلزم القاضي لكي يتحقق من تراضي الطرفين على التحكيم، ومن صدور الحكم، ومن تفصيلات ما قضي به، فليست الكتابة مطلوبة لشيء مما ذكره، كما أن الإشهاد ليس واجبًا، غير أن الإثبات قد يعز في بعض الحالات، فينكر أحد الطرفين أنه كان قد رضي بالتحكيم أو بالحكم، أو ينكر صدور الحكم كله أو جزئية من جزئياته، ولذلك فقد يكون الإشهاد مفيدًا في إثبات التحكيم وإثبات الحكم، لا سيما وقول المحتكم إليه لا يقبل في إثبات رضاء الطرفين من تحكيمه بينهما؛ لأن قوله في هذه الحالة ينطوي على إدعاء ولاية لنفسه على المحتكمين، فإذا أنكراها أو أنكرها أحدهما، فلا يكفي قول المحتكم إليه في إثباتها، أما إجراءات التحكيم، أو ما ثبت لديه قبل إصداره الحكم، أو صدور الحكم ذاته، فإنه وإن كان قول المحتكم إليه مصدقًا في ذلك، إلا أن شرطه يصدر عنه هذا القول قبل انتهاء ولايته بإصدار الحكم، فإن انقضى التحكيم فلا ولاية له، ولا بد من الإثبات بالطرق المقررة شرعًا، ولا يكفي مجرد إجباره؛ لأنه لا يملك إنشاء ما يقربه بعد انتهاء ولايته، فلا يملك الإقرار به، وإخباره يعتبر شهادة على فعل نفسه لا يبرأ من التهمة. (1)
__________
(1) المبسوط للسرخسي ج 11 ص 63 وحاشية السدوقي على الشرح الكبير ج 3 ص 135(9/1746)
36 – والأصل أن سلطة القاضي على حكم التحكيم من الناحية الموضوعية لا تختلف عن سلطته على قضاء القاضي المولى إذا رفع إليه، وذلك على رأي الجمهور، فالحكم إذا خالف نصًّا من الكتاب أو السنة، أو إجماعًا، أو قاعدة واجبة الإعمال فإنه ينقض، سواء أكان حكمًا صادرًا من قاض مولى أو من محتكم إليه، إذ لا حجية في مخالفة الشرع، ولا اجتهاد فيما لا يجوز الاجتهاد فيه (1)
أما إذا كان الحكم صادرًا فيما يجوز فيه الاجتهاد، ففي رأي الجمهور لا يجوز نقضه، سواء أكان حكمًا لقاض أم لمحتكم إليه، وسواء أوافق اجتهاد القاضي الذي ينظره أم خالفه (2) ؛ ذلك لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله وإلا لتوالى نقض الأحكام وعز الاستقرار وغلبت الفوضى، على نحو ما يشرحه الإمام الغزالي في كتابه (المستصفى) (3)
ويرى الحنفية أن حكم المحتكم إليه يختلف في حجيته عن حكم القاضي إذا صدر في المواضع التي يجوز فيه الاجتهاد؛ ذلك لأن حكم التحكيم إذا صدر في ذلك ورفع أمره إلى القاضي، فإن وافق اجتهاده أمضاه، لا لأنه واجب الإمضاء لذاته وإنما لأنه لا فائدة من نقضه، ثم إبرامه على نفس الوجه، أما إذا كان يخالف رأي القاضي فإن له أن يفسخه فلا ينفذ، وقالوا في تعليل ذلك، إن حكم التحكيم بمثابة العقد الموقوف على إجازة القاضي، فيملك القاضي فسخه، كما أن التحكيم لا ينفذ إلا في مواجهة من رضي به، ولذلك صح تنفيذه بين الخصوم، أما القاضي فلأنه لم يرض به، فإنه لا يلزمه ورضاهما بحكمه لا يكون حجة الإلزام في حق القاضي (4) ، وهذا كله لا يتحقق في قضاء القاضي المولى، فإن الرضا به ليس شرطًا لتنفيذه، لاستناده إلى ولاية عامة تشمل القاضي الذي عرض عليه الحكم، فلا ينقض إلا إذا خالف النص أو الإجماع أو كان قولًا لم يقل، من يعتد به من المجتهدين.
__________
(1) الدكتور محمد نعيم ياسين، حجية الحكم القضائي بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، الطبعة الأولى ص 57 وما بعدها والمراجع المشار إليها فيه، والدكتور عبد الحكم أحمد شرف، بحث في حجية الأحكام في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية الطبعة الأولى ص 87 ما بعدها والمراجع المشار إليها فيه.
(2) المنتقى شرح موطأ مالك، الجزء الخامس ص 226 (دار الفكر العربي)
(3) يقول الإمام الغزالي في المستصفى: (المجتهد إذا أداه اجتهاد إلى أن الخلع فسخ، فنكح امرأة خالعها ثلاثًا، ثم تغير اجتهادًا، لزمه تسريحها، ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده، ولو حكم بصحة النكاح حاكم بعد أن خالع الزوج ثلاثًا، ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين ولم ينقض اجتهاده السابق بصحة النكاح لمصلحة الحكم فإنه لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد، لنقض النقض أيضًا ولتسلسل، فاضطربت الأحكام ولم يوثق بها) (المستصفى، الجزء الثاني، ص 382 الطبعة الأولى) ويعلل الإمام القرافي لعدم النقض بتعليل آخر فيقول ما مضمنونه: إن الله سبحانه وتعالى جعل للحكام أن يحكموا في مسائل الاجتهاد بأحد القولين، فإذا حكموا بأحدهما كان ذلك من الله حكما في تلك الواقعة. وإخبار الحاكم بأنه حكم فيها كنص من الله خاص بتلك الواقعة، معارض للدليل المخالف لما حكم به الحاكم في تلك الواقعة، أي أن القرافي يرى أنه عند الاجتهاد يوجد عام وخاص، فأما الخاص فهو الحكم الذي صدر عن القاضي أولا، وأما العام فهو الدليل الذي يستند إليه القاضي الذي رفع إليه الحكم، وأداه اجتهاده المبني على هذا الدليل إلى رأي مخالف للحكم القضائي المرفوع إليه، وإذا كان الخاص يقدم على العام عن التعارض فإنه يجب تقديم المال الذي صدر أولا (في تفصيل رأي الإمام القرافي، كتاب الفروق ج2 ص105، وكتاب الأحكام ص15)
(4) المبسوط للسرخسي ج 16 ص 111(9/1747)
ولا ريب أن ما يسند إليه الحنفية لا يحمل رأيهم المناقض لرأي الجمهور؛ ذلك لأن اعتبار الحكم بمثابة العقد الموقوف على إجازة القاضي، يوجب رفعه إليه دائمًا، ولا يستساغ القول بأنه نافذ في علاقة الطرفين دون حاجة إلى عرضه على القاضي لإجازته، أما اشتراط رضاء القاضي بالتحكيم حتى يجب عليه أن ينفذ الحكم، فغير مقبول؛ لأن الرضا مطلوب من أطراف الخصومة، والقاضي ليس طرفًا فيها.
على أنه إذا كان الأصل – لدى الجمهور – أن سلطة القاضي المولى على حكم المحكمين لا تختلف عن سلطته على حكم قاض آخر، فإن الأمر في التحكيم قد يتطلب بعض التأمل؛ ذلك لأنه – خروج على الأصل العام – فإن للطرفين أن يختارا للتحكيم في منازعتهما من يفتقد بعض الشروط التي يراها جمهور الفقهاء ضرورية للقاضي المولى، كالمحكم الفاسق أو الجاهل الذي يستشير، أو غير سليم الحواس، وعلى التفصيل السابق بيانه في الكلام عن المحتكم إليه، هذا السماح – إن أخذ به كليًّا أو جزئيًّا – يقتضي – في نظرنا – أن يخول القاضي حق تصفح أحكام المحكمين للتحقق من أنه لا يشوبها خطأ مؤثر، ولو لم يبلغ درجة الجور البين، وذلك بجانب ما هو مطالب به من التحقق من أنها لا تخالف نصًّا قطعيًّا في الكتاب أو السنة، كما لا تخالف إجماعًا ولا قياسًا جليًّا، وليس في هذا افتئات على إرادة الطرفين، فهي على احترامها وتقديرها، ما دام الأمر لا يتعدى أمر التنفيذ الاختياري، أما إذا أريد استعمال سلطة الدولة في التنفيذ جبرًا، فإن من حق الدولة أن تتحقق من أنها لا تجبر أحد على تنفيذ أمر مشوب بخطأ بين إذ الإعانة على الظلم، ظلم.
غير أن ذلك لا يجوز أن يخرج قضاء التنفيذ عن ظاهر الأمور، فالأصل حمل القضاء على المصلحة ما لم يثبت الجور (1) . ومقتضى هذا أنه يفترض – بحسب الأصل – أن المحتكم إليه قد استوفى الشروط المطلوبة، فإذا ادعى أحد طرفي التحكيم أن المحتكم إليه يشوبه فسق لم يكن يعلمه، أو أنه موصوم بجهل لم يتداركه بمشاورة أهل العلم، وفق ما كان متفقًا عليه واكتفى بالحدس والتخمين، فإن على من يدعي ذلك أن يقدم الدليل عليه، وإلا حق الالتفات عن مطاعنه إذا لم تظاهرها ظروف الدعوى وملابساتها.
__________
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون ج 1 ص 74؛ والدكتور محمد نعيم ياسين، المرجع السابق ص 11(9/1748)
وإذا كان تصفح أحكام القاضي المولى في نظر شق غير قليل من رجالات الفقه الإسلامي واجبًا، إذا كان جاهلًا أو فاسقًا أو نحو ذلك (1) ، فإن الأخذ بهذا – في شأن التحكيم – أولى عند إضفاء ولاية الإجبار على الحكم.
37- وفيما عدا ما سلفت الإشارة إليه، فإن حجية حكم التحكيم – لدى الجمهور – هي كحجية حكم القاضي، لا تكاد تختلف عنها إلا في أمرين اثنين:
أولهما: أن جمهور الفقهاء يرون أن حكم القاضي المولى يسري على الكافة في بعض الدعاوى وهي دعاوى الحرية والنسب والنكاح والولاء، على خلاف في تفصيلات ذلك، وهذا لا ينطبق على حكم التحكيم لقصور ولايته على من رضي به، ولعدم استناده إلى ولاية عامة تسمح بتعدية الحكم إلى غير الخصوم في الحالات التي تقتضي ذلك، هذا إلى جانب أن معظم الفروع التي تنبثق عن الدعاوى الأربع السابقة لا تصلح أن تكون موضوعًا للتحكيم وفقًا لرأي الغالبية العظمى من فقهاء الشريعة الإسلامية.
ثانيهما: أنه إذا اشتمل حكم القاضي المولى على قضاء ضمني، فإنه يحوز الحجية كالقضاء القصدي، فالقضاء على الكفيل بالدين هو – بصفة عامة- قضاء على الأصل به – والقضاء بالدية على القاتل – هو قضاء على العاقلة عند من يرى وجوب القضاء بالدية أولًا على القائل ثم تتحملها العاقلة.
أما بالنسبة لحكم التحكيم فإن حجية القضاء الضمني فيه مقصورة على الخصوم الماثلين في الدعوى، ولا تتعدى إلا غائب – بحسب الأصل – فإذا لم يرض المدين الأصيل بالتحكيم، فالحكم الذي يصدر على الكفيل لا حجية له عليه، وإذا صدر حكم التحكيم على القاتل فلا حجية له على العاقلة التي غابت عن التحكيم ولم تختصم فيه، حتى في الحالات التي يجب فيها الحكم على القاتل أولًا.
__________
(1) الدكتور محمد نعيم ياسين، المرجع السابق، ص 42 وما بعدها؛ والدكتور عبد الحكيم أحمد شرف، المرجع السابق، ص 59 وما بعدها(9/1749)
الفصل الخامس
التحكيم عند اختلاف الدين أو الدار
أ- التحكيم في منازعات غير المسلمين في الدولة الإسلامية:
38- في داخل الدولة الإسلامي، ينشر الإسلام سلامه على أفراد الدولة جميعهم، من آمن منهم ومن كفر، لا يفرق بين أحد منهم، فالجميع متساوون في الحقوق وفي الواجبات سواء أكانوا من المؤمنين الذين آمنوا بالله وبرسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أم كانوا من الذميين الذين سمح لهم بممارسة شعائر دينهم تحت حماية الدولة، وكان لهم حقوق المسلمين وعليهم واجباتهم، أم كانوا من المستأمنين الذين يقيمون في الدولة بصفة مؤقتة ويستظلون بأمانها، فيكونون بمنزلة أهل الذمة في ديارنا طوال فترة إقامتهم (1) .
غير أن هذه المساواة تهدر الآثار التي قد تنشأ عن طبيعة الطائفة التي ينتمي إليها الرعية، فمن ينتسب إلى المسلمين مكلف – وحده – بالزكاة مثلًا، ومن يتمني إلى الذميين مطالب دون غيره بالجزية، ومن هم من المستأمنين يجب عليه تنفيذ ما التزمه في عقد الأمان، ولا شأن لغيره في ذلك.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه المساواة لا تتعارض مع ما قد تتطلبه بعض الوظائف أو الأعمال من اشتراطات خاصة، فإذا استلزمت بعض هذه أو تلك، شروطًا معينة لا تتوافر إلا في طائفة من هذه الطوائف أو في بعض من الطائفة، فإن تخصيصها بذلك لا يعد إهدارًا للمساواة أو افتئاتًا على حقوق الآخرين.
فوظيفة القضاء مثلًا، تستلزم فيمن يعهد به إليه صفات خاصة تحمل على الثقة به، إلى القدر الذي يجعل له ولاية على غيره، فينفذ قوله على رقاب العباد وأموالهم.
__________
(1) شرح السير الكبير للسرخسي ج 12 ص 226(9/1750)
والتحكيم صنو القضاء، أو هو فرع منه ذلك لأنه إذا كان عقدًا في البداية فهو حكم في النهاية، وكذلك فإنه يشترط في المحتكم إليه – بحسب الأصل ما يشترط في القاضي المولى، ومن ذلك شرط الإسلام، فغير المسلم لا يصح تقليده القضاء على المسلمين؛ لأنه ممنوع من القيام على شؤون المسلمين بمثل قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 41] ، ولأن في توليه عزة له على المسلمين ونفوذًا عليهم والله سبحانه يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ، وليس في هذا تمييز لطائفة المسلمين، بدليل أن الفاسق منهم ممنوع من توليه القضاء مع أنه أحسن حالًا من الكافر، إذ تجري عليه أحكام الإسلام (1) .
39 – وعلى هذا الرأي استقر جمهور فقهاء المسلمين من شافعية ومالكية وحنابلة فقالوا بعدم جواز تولية غير المسلم للفصل في منازعات المسلمين مع بعضهم البعض، أو في منازعاتهم مع غيرهم، فإذا ألجأت الضرورة المسلم إلى الترافع لقاض غير مسلم، فإن قضاء هذا القاضي ينفذ حتى لا تتعطل مصالح الناس (2)
ويرى الحنفية أن الإسلام ليس شرطًا في القاضي الذي يفصل في المنازعة التي تنشب بين غير المسلمين، وإنما الشرط أن لا يكون الحاكم أدنى درجة من الذين يحكم بينهم، فإذا كانوا من المستأمنين جاز أن يفصل في خصومتهم قاض مستأمن يتحد معهم في الدار، أو قاض ذمي، وإذا كانوا ذميين، أو كان بعضهم ذميًّا والآخرون مستأمنين، جاز أن يحكم بينهم قاض ذمي؛ وذلك لأن مناط أهلية الحكم – عند الحنفية – هو أهلية الشهادة، فمن صلح شاهدًا صح أن يكن قاضيًا على من يشهد عليه، وأهل الذمة تصح شهادتهم على بعض وإن اختلفت مللهم، والمستأمنون تقبل شهادتهم على بعض إذا كانوا أهل دار واحدة وإلا انقطعت الولاية عليهم، والذمي تقبل شهادته على المستأمن؛ لأنه بعقد الذمة صار أقرب منهم إلى الإسلام. (3)
__________
(1) أدب القاضي للماوردي ج 1 ص 632
(2) الدكتور إسماعيل إبراهيم البدوي، نظام القضاء الإسلامي، الطبعة الأولى، ص 176، 177.
(3) جاء في بعض الكتب الحنفية أنه يجوز أن يقلد الذمي القضاء في المنازعات بين المسلمين وغيرهم، على أن لا ينفذ حكمه إلا إذا قضى ضد غير المسلم، وقد كان هذا الرأي محل اعتراض كثير من الفقهاء، لمخالفته للأدلة العديدة التي تمنع ولاية غير المسلم على المسلم؛ ولأن الأمر يوقع في اضطراب، إذ كيف يكون الحكم نافذا وغير نافذ في وقت واحد، (المستشار جمال المرصفاوي، نظام القضاء في الإسلام، القسم الأول من البحوث المقدمة لمؤتمر الققه الإسلامي الذي عقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في سنة 1396هـ، طبعة إدارة الثقافة والنشر بالجامعة، رد المحتار على الدر المختار، الطبعة الثانية ج5 ص 355؛ تبيين الحقائق للزيلعي ج 4 ص 193؛ الفتاوى الهندية ج 3 ص397، 398، والدكتور بدران أبو العينين بدران، العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين، طبعة 1984 ص 211 إلى ص 229) .(9/1751)
ويستشهد الحنفية على صحة رأيهم – فيما يشهدون به – بأن معاملات غير المسلمين لا يحضرها المسلمون عادة، فإذا لم يكن لبعضهم شهادة على بعض، تعرضت حقوقهم للضياع عند الجحود والإنكار؛ ولأن القرآن الكريم أثبت ولاية الكفار بعضهم لبعض، كما جاء في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] ؛ ولأن غير المسلمين من ذميين ومستأمنين لهم ما لنا وعليهما علينا، وبالتالي فكما أن للمسلمين الشهادة بعضهم على بعض فكذلك يجب أن يكون لغيرهم من رعايا الدول الإسلامية (1)
40- ومع أن جمهور الفقهاء قد ردوا على النصوص التي استشهد بها الحنفية ردودًا مقنعة، فإن منطق الأدلة العقلية التي استشهدوا بها وارتباطها بالمصلحة التي يقرها الشرع، وما جرى عليه العمل في عهد الخلفاء الراشدين من عدم انتزاع سلطة الفصل في منازعات غير المسلمين من أيديهم، كل ذلك جعل بعض علماء العصر الحاضر يؤيدون وجهة نظر الأحناف بجواز تولية غير المسلمين القضاء في المنازعات التي تنشب بين أمثالهم، مع إطلاق ذلك الحكم حتى يشمل قضاء الكفار بعضهم على بعض، دون تفرقة بين ذميين ومستأمنين، فالكفر كله ملة واحدة، وبغير اشتراط أن يكون المستأمنون متحدي الدار (2) .
على أن الأمر الجدير بأن يعطى حقه في الترجيح بين رأي الحنفية ورأي الجمهور، هو تحديد الشريعة التي سيحكم بها القاضي غير المسلم فيما يفصل فيه من منازعات غير المسلمين؛ ذلك لأن الجمهور لا يترددون في القول بوجوب الحكم بالشريعة الإسلامية في هذه المنازعات، ولا يكاد يختلف معهم الحنفية إلا في بعض تفصيلات قليلة استثنوها من الحكم بالشريعة الإسلامية تصل بالأنكحة والمهر والخمر والخنزير، وفيها يطبقون شريعتهم، وإن كان ذلك في حقيقته تطبيق لما أمرت به شريعة الإسلام.
__________
(1) جاء في بعض الكتب الحنفية أنه يجوز أن يقلد الذمي القضاء في المنازعات بين المسلمين وغيرهم، على أن لا ينفذ حكمه إلا إذا قضى ضد غير المسلم، وقد كان هذا الرأي محل اعتراض كثير من الفقهاء، لمخالفته للأدلة العديدة التي تمنع ولاية غير المسلم على المسلم؛ ولأن الأمر يوقع في اضطراب، إذ كيف يكون الحكم نافذا وغير نافذ في وقت واحد، (المستشار جمال المرصفاوي، نظام القضاء في الإسلام، القسم الأول من البحوث المقدمة لمؤتمر الققه الإسلامي الذي عقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في سنة 1396هـ، طبعة إدارة الثقافة والنشر بالجامعة، رد المحتار على الدر المختار، الطبعة الثانية ج5 ص 355؛ تبيين الحقائق للزيلعي ج 4 ص 193؛ الفتاوى الهندية ج 3 ص397، 398، والدكتور بدران أبو العينين بدران، العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين، طبعة 1984 ص 211 إلى ص 229) .
(2) من ذلك المرحوم الدكتور محمد سلام مدكور في كتابه (المدخل للفقه الإسلامي والنهضة العربية) الطبعة الثامنة ص 357، وكتابه (القضاء في الإسلام) المطبعة العالمية ص 125(9/1752)
وفيما عدا الاستثناءات المشار إليها، فإن الفقهاء يتفقون جميعًا – بما في ذلك الأحناف – على وجوب الرجوع إلى الشريعة الإسلامية، تطبيق أحكامها على هذه المنازعات فإذا قيل: إن القاضي سيكون غير مسلس فكيف يستساغ أن يطلب منه أن يحكم بما لا يؤمن به؟ ولا يقال: إن ذلك سوف ينطبق على الحالة التي يحكم فيها القاضي المسلم بين غير المسلمين في المسائل المستثناة؛ ذلك لأن فقهاء المسلمين عالجوا قضايا الذميين والمستأمنين التي يختلفون فيها مع المسلمين، بوضع قواعد موضوعية مستمدة من الشريعة الإسلامية، تحكم هذه القضايا، ولم يضعوا قواعد إسناد تحيل إلى قانون آخر غير الشريعة الإسلامية (1) ، كما أنه لا يغير من ذلك ما هو مسلم به من وجوب أن نتركهم وما يدينون؛ لأن معنى ذلك أن لا نتعرض لهم فيما يدينون، لا أن نحكم بينهم بما يدينون، إن خالفوا الإسلام (2) .
41- على أن التحكيم قد يقتضي نظرة خاصة تتفق مع طبيعته، وما يحكمه من قواعد شرعية، تختلف عن القضاء من عدة وجوه:
أولها: أن غير المسلمين إذا تحاكموا إلى حكام من أهل دينهم، فإنه يلتزمون بما يحكمون به، لالتزامهم له، وليس لأنه لازم لهم من الأصل (3) .
وثانيها: أن حكم التحكيم مرجعه إلى القضاء حين يراد التنفيذ به جبرًا، وعلى القضاء أن يتحقق من مطابقة الحكم لأحكام الشريعة الغراء، فإذا لم يلتق هذا الحكم مع النصوص أو الإجماع وخرج على مجموع ما استنبطه المجتهدون – في نطاق صلاحيتهم – كان على القاضي أن يهدر هذا الحكم ولا يأمر بتنفيذه.
__________
(1) الدكتور عبد الكريم زيدان، أحكام الذميين والمستأمنين ص 489
(2) حكم محكمة مصر الابتدائية الشرعية في 20 يناير سنة 1942 المنشور في مجلة المحاماة الشرعية سنة 15 ص 49 وما بعدها.
(3) الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي ص 65.(9/1753)
ثالثها: أنها طبقًا لرأي المالكية ومن سار في اتجاههم، فإن القاضي المولى له أن يعرض عن غير المسلمين إذا لجئوا إليه للفصل في خصوماتهم، وذلك أخذًا بقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} [المائدة: 42] ، وأنه طبقًا لرأي الشافعية، فإن له أن يعرض عنهم إذا كانوا من المعاهدين، أما الذميون فإنه يجب عليه الحكم في خصوماتهم عملًا بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، وأنه طبقًا لرأي أبي حنيفة، فإن القاضي المسلم لا يجب عليه القضاء في أنكحة غير المسلمين إلا إذا ترافع إليه الخصمان كلاهما، ففي هذه الحالات وأمثالها، كيف يتسنى الفصل في خصومات غير المسلمين التي أعرض عنها القاضي المولى؟ ألا يكون في إلقاء عبئها على المتنازعين أنفسهم ليختاروا هم من يرضى بالحكم بينهم ممن يثقون به، ولو كان غير مسلم، ألا يكون في ذلك جمع بين عدم إجبار القاضي المولى على حكومة لا يرضاها، وبين الفصل في المنازعة، مع الاطمئنان إلى أنها سوف تمر في صمام الشريعة الإسلامية في الوقت المناسب؟ وبذلك يكون قد وضح سرًّا آخر لاحتفاظ الشريعة الإسلامية – بجانب قضاء الدولة الرسمي – بنظام التحكيم القائم على التراضي بين الخصوم، وعلى قبول المحتكم إليه – بمحض اختياره – الفصل في المنازعة التي رشحه الأفراد لها (1) .
إن منح غير المسلمين في دار الإسلام الحق في الالتجاء إلى التحكيم بينهم – في الأمور التي أمرها فيها بتركهم وما يدينون - تطبيق لمبادئ الإسلام نصًّا وروحًا، كما هو تطبيق لقاعدة عدم وجود خصومة بلا قاض في الدولة الإسلامية.
__________
(1) يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري في الصحيفة 17 من بحث قدمه، وصية غير المسلم طبع في سنة 1942: (إن القضاء بمعناه الصحيح لا يليه في الشرع إلا مسلم، فلا يجوز تقليد الذمي القضاء حتى على ذمي مثله، وإذا حكم الذمي في أقضية الذميين، فإنما يكون هذا تحكيمًا) (نقلًا عن الدكتور عبد الكريم زيدان، المرجع السابق ص 482(9/1754)
ب- التحكيم في منازعات المسلمين خارج الدولة الإسلامية:
42 – ذلك كله عن الاحتكام داخل الدولة الإسلامية (في دار الإسلام) ، أما الاحتكام خارجها (في دار الحرب) حيث لا سيطرة للمسلمين على الإقليم، ولا تظهر فيه أحكام الإسلام، فإن الأمر يحتاج إلى تفصيل آخر.
ذلك لأنه من المقرر – كقاعدة عامة – أن اغتراب المسلم عن دار الإسلام وإقامته في دولة غير إسلامية، لا يمنحه مبررًا لعدم الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، فإن كان وجوده في غير الدولة الإسلامية مما يخشى معه الفتنة في دينه له أو لأسرته، فإن عليه أن يهاجر منها تطبيقًا لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 – 99] .
أما إذا كان بقاء المسلم في دار الحرب لا يشكل خشية على نفسه أو دينه أو دين أسرته، فلا محل لإلزامه بالهجرة، بل قد يكون في بقائه حيث هو فائدة ترجى، إذا ما حرص على أن يكون نموذجًا للمسلم الصالح، إذ سيكون آنذاك داعية للإسلام، حتى قال الإمام الماوردي: أنه إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفار، فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها، لما يترجى من دخول غيره في الإسلام، وبمثل ذلك أفتى الإمام محمد عبده بالنسبة للمسلمين المقيمين في بعض البلاد الأوروبية (1) .
فإذا أقام أحد رعايا الدولة الإسلامية في دار الحرب، وتعامل مع غيره مدنيًّا أو جنائيًّا، فالأصل عند الحنفية أن ما يقع في دار الحرب لا ولاية لنا عليه ولا شأن للقضاء الإسلامي به، أما عند الحنابلة والشافعية ومن جرى مجراهما، فإن معاملات دار الحرب معتبرة، ويقضى بموجبها في دار الإسلام، سواء أكانت بين حربيين أو حربي ومسلم أو كانت بين من هم من أهل دار الإسلام من مسلمين أو ذميين، دخلوا دار الحرب بأمان، وذلك لأن وجوب الوفاء بالعهد الذي أمر به الله سبحانه وتعالى هو عام لا يقتصر على ما يقع في دار الإسلام وحدها بل يتعداها إلى غيرها مما يقع في دار الحرب (2) .
__________
(1) الدكتور إسماعيل لطفي قطاني، اختلاف الدارين وأثره في أحكام المناكحات والمعاملات – رسالة دكتوراه – مطبعة دار السلام ص 96 إلى ص 107 والمراجع المشار إليها فيها
(2) الدكتور عبد الكريم زيدان، المرجع السابق ص 453 وما بعدها والمراجع المشار إليها فيه، وقارن الدكتور أحمد محمد مليجي، النظام القضائي في الإسلام، مكتبة وهبة ص 115.(9/1755)
43 – على أن اختصاص المحاكم الإسلامية في دار الإسلام، بما يقع في دار الحرب لا يحجب اختصاص المحاكم الأجنبية بذات الوقائع، وقد يجد الرعية الإسلامية ضرورة تلجئه إلى تلك المحاكم كمدع أو مدعى عليه، فيكون في هذه الحالة في وضع أشبه بالخضوع إلى قاضي الضرورة في دار الإسلام، فإذا قضى القاضي نفذ حكمه، وإن كان هذا لا يبيح للمحكوم له أن يقتضي ما ليس حقًّا له، أو يأخذ ما يستند إلى قاعدة تتعارض مع أحكام الشريعة الغراء.
غير أن الأمر قد لا يكون بهذه البساطة، فقد يؤدي تطبيق القانون الأجنبي على موضوع الدعوى إلى نتائج وخيمة، كما إذا اتصلت هذه الدعوى بمسألة من مسائل الأحوال الشخصية وكان الطرفان المسلمان يتمتعان بجنسية دولة لا تطبق الشريعة أو تأخذ بأحكام تختلف معها، كنظام التبني، أو نظام توريث مختلف، أو لا تجيز الطلاق، وكانت قواعد الإسناد الواجبة التطبيق لا تسمح بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية، ففي هذه الحالات وأمثالها قد لا يستطاع إصلاح الآثار التي تترتب على أحكام القضاء الأجنبي.
44- ولعل أفضل طريق لتفادي هذه الآثار السيئة، هو الالتجاء إلى نظام التحكيم الإسلامي، باختيار محكم مسلم، والاتفاق على تطبيق الشريعة الإسلامية على موضوع النزاع.
وقد يرشح لذلك أن أغلب دول العالم – حاليًّا – تسمح بقيام التحكيم فيها، وتمنح أحكامه قوة تنفيذية، سواء أكان تحكيمًا حرًّا (وهو ما يسمى بتحكيم الحالات الخاصة) أو كان تحكيم مؤسسات وهيئات، كما هو النوع الشائع الذي يحظى بتسهيلات أكثر، وفيه يلجأ المحتكمون إلى هيئة أو جمعية أو مركز، ليعاونهم في إجراءات التحكيم، ويقدم لهم – إذا أرادوا – محكمين متخصصين يختارون من بنيهم من يحوز ثقتهم، وهي وسيلة تسمح للجاليات الإسلامية أن تنشئ جمعية أو نحوها، تيسر على المسلمين إجراءات التحكيم، وتضع أمامهم قائمة بمن تفقهوا في الدين، ودرسوا الفقه الإسلامي، والتزموا بأن يحكموا بين الناس بحكم الله الذي حملته النصوص أو كشف عنه بالإجماع أو استنبطه المجتهدون.(9/1756)
45- على أن إنشاء مثل هذه الجمعية التحكيمية يقتضي الإلمام بنظام البلد الذي ستقوم فيه، والبلد الذي يحتمل أن ينفذ فيه الحكم، وذلك حتى يمكن الاستعانة بقضاء هذين البلدين، أو أحدهما لتنفيذ الأحكام التي تصدر عن التحكيم في الدولة غير الإسلامية، وسوف يجد القائمون على إنشاء هذه الجمعية في الفقه الإسلامي، من المرونة ما يسمح بأن تتوافق مع أحكامه كثير من الأوضاع التي تستلزمها نظم التحكيم في العالم، وذلك كالتزام المحتكم إليه بالضمانات الأساسية للتقاضي، ووجوب أن يكون عدد الحكام وترا، وجواز تدخل القاضي لاختيار المحكم إذا قامت صعوبات دون ذلك، ووجوب عرض مشارطة التحكيم على القضاء لاعتمادها، إلى غير ذلك من القواعد والأحكام التي أثبت نظام التحكيم السعودي الإسلامي – مثلًا، مرونة الفقه الإسلامي – إثباتًا عمليًّا – بتضمينها نظامه الإسلامي الجديد.
ومن ناحية أخرى فإنه يمكن تحاشي الاصطدام ببعض الأنظمة العنصرية التي لا تقبل اشتراط أن يكون المحكم مسلمًا، وذلك بعدم النص على ذلك في النظام الأساسي، مع مراعاة أن لا تحوي قائمة المحكمين إلا من هو على علم بالفقه الإسلامي، ويملك القدرة على حسن التطبيق والأمر – بعد ذلك كله – للمحتكمين الذين يستطيعون اختيار الحكم المسلم من القائمة التي تجمعه مع غيره.
كما يمكن تحاشي ما قد تثيره بعض الاتجاهات الحقودة من اعتراض على النص على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، وذلك باختيار نظام التحكيم بالصلح، إذ فيه لا يتقيد المحكمون بصورة عامة بقواعد القانون الموضوعي، على أن أهم الأمور التي يجب على مثل هذه الجمعية أن تراعيها، هو عدم الاصطدام بالنظام العام في البلد الذي سوف تنشأ فيه أو التي يحتمل أن تنفيذ أحكامها على أرضه، وليس ذلك بالأمر العسير، إذ إن قواعد النظام العام، التي تحقق المصلحة الأعلى للمجتمع وتعود على مصالح الأفراد، هي قواعد مرنة تضيق وتتسع حسبما يعتبر – في حضارة معينة – مصلحة عامة لا يجوز للأفراد أن يناهضوها باتفاقات بينهم، حتى لو حققت هذه الاتفاقات لهم مصالح فردية، ولا توجد قاعدة ثابتة تحدد النظام العام تحديدًا مطلقًا، يتمشى مع كل زمان ومكان. (1) .
__________
(1) الوسيط للدكتور عبد الرزاق السنهوري، الجزء الأول ص 399 بند 228، من الطبعة الأولى.(9/1757)
وقد جرت أغلب بلاد العالم على إجازة التحكيم فيما يجوز فيه الصلح، ففي مسائل الأحوال الشخصية – مثلًا – لا يجوز التحكيم في خصومة تتصل بالأحوال الشخصية البحتة، ويجوز فيما يتصل بالمصالح المالية المتعلقة بها، وبذلك لا يجوز التحكيم في خصومة تتصل بما إذا كان الولد شرعيًّا أو بالتبني، وما إذا كان عقد الزواج صحيحًا أو باطلًا، وما إذا كان الشخص وارثًا أو غير وارث، أو في خصومة تتعلق بالحجر على الأشخاص، ويجوز التحكيم في منازعة على التعويض عن الأضرار التي نتجت عن فسخ الخطبة، أو فيما يترتب على عقد الزواج الباطل، أو في تحديد مقدار النفقة الواجبة للزوج أو لأحد الأقارب أو للصغير أو الزوجة، أو في الخصومة المتعلقة بقسمة التركة أو إدارتها قبل التقسيم، وكذلك لا يجوز التحكيم في مسائل الأحوال الشخصية التي لا يقبل نظرها أمام قضاء الدولة لسبب يتعلق بالنظام العام، كما إذا كان الزواج في غير الشكل الواجب أو كان أحد الزوجين لم يبلغ السن القانونية (1) .
وإذا أمكن تنفيذ ما يتطلبه نظام البلاد المتصلة بالتحكيم – مكانًا أو تنفيذًا – فإننا بذلك نطبق نظامًا مؤتمنًا في دار الحرب، يحرص على إنزال حكم الله، على يد من يوثق في دينه وعلمه، وبما لا يتعارض مع أنظمة الدول غير الإسلامية، ويسمح باستمرار إقامة المسلم في غير البلاد الإسلامية، ناشرًا على العالم المحايد نظامًا سماويًّا فريدًا، شرعه أحكم الحاكمين.
أما إذا قامت العقبات أمام إنشاء مؤسسة التحكيم، فإن في التحكيم الحر سعة للمسلمين، يختارون فيه عناصر التحكيم كاملة، ويراعون أن يكون التنفيذ بالاستعانة ببلد إسلامي، يسمح نظامه بهذه المعاونة بالنسبة للتحكيم الأجنبي، وسوف تيسر لهم الأمور، موافقة دول إسلامية كثيرة على معظم اتفاقيات التحكيم الدولية، وهي في تزايد مستمر، ومن هذا القبيل ما أعلنته المملكة العربية السعودية عام 1993 عقب انتهاء الدورة الرابعة عشرة لقادة دول مجلس التعاون الخليجي من موافقتها على الانضمام إلى اتفاقية الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية التي أقرها مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في نيويورك في الفترة من 20 مايو إلى 10 يونيو سنة 1958.
__________
(1) الدكتور أحمد أبو الوفا، التحكيم الاختياري والإجباري، الطبعة الرابعة ص 70، 75.(9/1758)
الفصل السادس
الإسلام ومبدأ التحكيم الدولي
46 – قالت المادة (27) من اتفاق لاهاي رقم 1 لسنة 1907 الخاص بالحل السلمي للمنازعات الدولية، تعريفًا بالتحكيم الدولي، أنه يهدف إلى حل المنازعات بين الدول، بوساطة قضاة يختارونهم على أساس احترام القانون (1) .
ويشير هذا التعريف إلى أن التحكيم الدولي هو كالتحكيم في المنازعات الخاصة بين الأفراد يقوم على الرضا الذي يحدد – بحسب الأصل – موضوع التحكيم، وزمانه، ومكانه، وشخصية المحكمين، والقواعد التي يجب تطبيقها، أو يعلن الموافقة على التحكيم في موضوع محدد، أمام جهة معينة، يخضع التحكيم فيها لإجراءات وقواعد معلومة سلفًا، وقد يجري بواسطة أشخاص يختارون من بين أسماء يتضمنها جدول معلن من قبل.
وما يميز التحكيم الدولي الذي نحن بصدد عن غيره، هو أنه تحكيم بين الدول لا بين الأفراد، فلا يجوز لغير الدول – بحسب الأصل – أن يكونوا أطرافًا فيه، إلا إذا نص على ذلك في الاتفاق الخاص، كما حدث في معاهدة فرساي حين تضمنت المادتان 304، 305 منها، ما يسمح بإنشاء محاكم تحكيم مختلطة يتقاضى أمامها الدول والأفراد (2) .
ومن ناحية أخرى، فإن التحكيم الدولي لا ينال – في ظاهره – من سلطان القضاء في الدول فحسب، وإنما هو قد يمس سيادة الدولة كاملة، وذلك لخطورة الموضوع المعروض فيه، واتصاله في كثير من الأحوال بمصالح الدولة العليا، مما قد يقتضي التريث قبل الإقدام عليه حتى لا تجد الدولة نفسها ملزمة بما لا يمكنها التحلل منه مستقبلًا بعد صدور حكم التحكيم فيه.
__________
(1) الدكتور عبد العزيز محمد سرحان، القانون الدولي العام، القاهرة سنة 1991 ص 90
(2) الدكتور عبد العزيز محمد سرحان، نفس المصدر ص 93(9/1759)
47 – وعلى ضوء ما سبقت الإشارة إليه من أن التحكيم الدولي يتفق مع ما سواه من أنواع التحكيم الأخرى التي أثبتنا فيما مضى من البحث، أن الشريعة الإسلامية تقرها؛ ولأن ما يتميز به عنها ليس من شأنه أن يغير من مشروعيته، وإن اقتضى حرصًا أكبر في تطبيقه، فإنه لذلك يمكن القول بأن الشريعة الغراء لا تأبى هذا النوع من التحكيم أيضًا، طالما أن الإقدام عليه سيكون محكومًا بمصلحة الدولة الإسلامية، وفي نطاق أحكام الشريعة ومبادئها السمحة.
48 – وقد حمل لنا التاريخ الإسلامي نماذج مما ارتضته الدول الإسلامية من تحكيمات تتناول علاقتها كأمة، بغيرها من الأمم الأخرى.
(ومن ذلك ما رواه مسلم عن بريدة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: ((إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزل على حكم الله، فلا تنزل لهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا)) . . . . وفي رواية أخرى: ((وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله)) . . . . (1) .
ومن ذلك أيضًا، ما تشير إليه المعاهدة التي أبرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين كأمة وبين اليهود كأمة، غداة الهجرة إلى المدينة، وفي بداية تنظيم علاقات المسلمين بالأمم حولهم، وقد تضمنت هذه المعاهدة الإشارة إلى قبول الطرفين للتحكيم فيما قد يحدث من منازعات، وإلى اتفاقهما على اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمًا بينهما فيما سيقع، وكان من العبارات التي وردت في هذا الشأن قول المعاهدة: (وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما فيه هذه الصحيفة وأبره. . . .) (2)
__________
(1) روى الحديث بروايات متقاربة في أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي، راجع صحيح مسلم بشرح النووي ج12 ص 39؛ ونيل الأوطار ج 7 ص 261.
(2) سيرة ابن هشام ج 2 ص 121؛ عيون الأثر لابن سيد الناس ج 1 ص 239 ح مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي الخلافة الراشدة، محمد حميد الله ص 12، دكتور جعفر عبد السلام؛ وثيقة إنشاء الدولة الإسلامية، مقالة في المجلة المصرية للقانون الدولي، المجلد الواحد والأربعون سنة 1985 ص 43 وما بعدها وعلى الأخص ص 49 بند 42.(9/1760)
49 – وانطلاقًا من الطبيعة الرضائية للتحكيم الدولي، فإن أمة الإسلام لا تجبر على تحكيم لا ترتضيه، ولا على حكم لم تختره، كما أن الحكم نفسه لا يجوز له أن يقضي في المنازعة المعروضة إلا إذا استوثق من رضاء الطرفين به وقبولهما – مقدمًا – تنفيذ ما يقضي به، وذلك على نحو ما فعله سعد بن معاذ رضي الله عنه، في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تحقق من رضاء المسلمين ورضاء يهود بني قريظة قبل أن يحكم فيما حكم فيه.
فإذا حاصر المسلمون قلعة أو حصنًا من حصون الكفار ونزل هؤلاء على حكم رجل منا حكموه فيهم، فإن عينوه فقد قال الجمهور جاز حكمه، وفي ذلك قول الشافعية أنه لو حاصرنا قلعة فنزل أهلها على حكم الإمام أو حكم رجل عدل في الشهادة عارف بمصالح الحرب قد اختاروه، جاز (1) .
ويقول المالكية: إن المشركين إذا نزلوا على حكم رجل مسلم عدل قد عرف المصلحة للمسلمين فإن العدو يجبر على حكمه، فإن لم يكن هذا المؤمن عدلًا، ولو عرف المصلحة، أو لم يعرف المصلحة ولو كان عدلًا، أو انتفيا جميعًا، فإن أمير المؤمنين ينظر فيما أمن فيه فإن كان صوابًا أبقاه، وما كان غير صواب رده (2) .
أما إذا لم يعين الكفار الحكم الذي يرضونه من جيش المسلمين، فإن الأمير يعين من يصلح، إذا قبلوه مضى وإلا فليس لنا أن نجبرهم على حكم رجل لم يرضوه.
والمروي عن الجمهور أن الحكم الذي يحق له أن يحكم بين المسلمين وأعدائهم يجب أن يكون مسلمًا؛ لأن أحد الطرفين المتحاكمين مسلم، والحكم نوع من الولاية، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم.
ومع ذلك فقد أجاز بعض المالكية كالإمام الخرشي – اشتراط الكفار – في عقد المهادنة أن يحكموا بين المسلم وغير المسلم إذا دعت لذلك ضرورة فيقول في شرحه لمتن خليل عند استعراضه لشروط المهادنة: ويجب أن يخلو عقدها من شرط فاسد، وإلا لم يجز، كشرط بقاء مسلم أسيرًا بأيديهم، أو بقاء قرية للمسلمين خالية منهم، وأن يحكموا بين مسلم وكافر، وأن يأخذوا منا مالًا، إلا لخوف، فيجوز كل ما منع (3) .
__________
(1) روضة الطالبين ج 10 ص 93.
(2) حاشية المواق، هامش مواهب الجليل للحطاب ج 3 ص 360.
(3) الخرشي على متن خليل ج 2 ص 448، 449(9/1761)
وإعمالًا لما يراه الحنفية من جواز شهادة غير المسلم على غير المسلم، فإنهم قالوا: إنه يصح إشراك غير المسلم مع المسلم في الحكم بين المسلمين وغيرهم، وينفذ ما يحكم به على غير المسلمين وحدهم (1) . وقد يشير مجموع ما تقدم إلى أن الأصل أنه لا يجوز قبول اشتراك غير المسلمين في التحكيم بين المسلمين وقومهم من غير المسلمين، فإذا دعت لذلك مصلحة شرعية، أو دفع إلى ذلك خوف، جاز إشراكهم، فإذا قضى الحكم بما جرى به الشرع فليس للإمام أن يخالف حكمه، وإن كان يجوز له أن يخفف الحكم أو يعفو إذا رأي في ذلك مصلحة (2) .
وقد يدعو إلى ذلك أن حكم الحظر الذي هو الأصل، لا يستند إلى النص وحده وإنما يلابس سنده المصلحة، وتبرر تفرده الظروف التي كانت سائدة في العصر الأول للإسلام، حيث كانت تتوافر القوة الإسلامية ماديًّا ومعنويًّا – إلا فيما استثني – وكانت علاقة المسلمين بغيرهم من الدول تنحصر في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عن الدولة الإسلامية بالحق، وبالسيف إن اقتضى الأمر.
فإذا ما تغيرت الظروف وتعقدت العلاقات، وأصبح النزاع بين الدول الإسلامية وغيرها لا يأخذ دائمًا شكل الحرب، وقد يتطلب جهادًا كبيرًا من التفاوض أو الجدال في الحق بأساليب وطرق مختلفة، وقد لا تكون الدولة الإسلامية دائمًا هي الطرف الأقوى الذي يستطيع أن يملي إرادته على خصومه، وقد تحتم الظروف المحيطة سرعة حسم المنازعة حتى لا يتسلل إليها أطراف آخرون يشدون من عضد خصوم الإسلام، كل هذه العوامل وأمثالها قد تجعل من صالح المسلمين قبول تحكيم يشارك فيه غير المسلم مع المسلم، دون أن تخشى مغبة ذلك، ما دام قد اشترط المسلمون أن لا يجبروا على ما يخالف شريعتهم بوصفها النظام العام الذي لا يملكون مخالفته.
__________
(1) الفتاوى الهندية ج 2 ص 201
(2) حاشية محمد بن بطال ج 4 ص 254؛ سيرة ابن هشام ج 2 ص 542؛ المغني ج 9 ص 313 وما بعدها.(9/1762)
وقد يحمل قول الجمهور من فقهائنا الأفاضل في منع المسلم أن يكون حكمًا على حالة ما إذا كانت الغلبة للمسلمين حقيقة أو ظاهرًا، أو حالة ما إذا أريد جعل غير المسلم حكمًا بمفرده، أما إذا كانت الغلبة لغير المسلمين حقيقة أو كان البادئ أن الغلبة سوف تكون لهم، فإن النفع الذي يجلبه التحكيم – في هذه الحالة أو تلك – قد يدعو إلى الاستجابة إليه، رعاية صالح المسلمين والحفاظ على دولتهم وإسلامهم، أما المخاطر التي قد يجلبها التحكيم، فليست أكثر سوءًا من إلزام المسلمين بدفع مال للكفار مقابل الصلح معهم، وهو ما نص الفقهاء على جوازه للضرورة (1) .
ومن ثم فقد نادى بعض من علمائنا المعاصرين بأن المصلحة قد تكون في أن يقبل المسلمون مبدأ التحكيم لإيقاف القتال لأسباب أخرى كالمحافظة على السلم ونشر الإسلام بالطرق السليمة أو لدفع ضرر عام، وأن اشتراك غير المسلم في هيئة التحكيم أصبح اليوم أمرًا لا بد منه، أن ذلك هو طبيعة التحكيم بالمعنى الصحيح، وذلك حتى يتبين كل فريق وجهات نظر الطرف الآخر، ويدافع عن قومه بكل ما أوتي من قوة وسعة عرفان، وبذلك نضمن قبول قرار التحكيم. (2) .
ومن ناحية أخرى، فإنه إذا كان من الجائز في شريعة الإسلام أن تتصالح الدولة الإسلامية مع غيرها، وتضع يدها في يد غير المسلم، وتبرم معه معاهدة تلتزم بالوفاء بها، بما ينطوي عليه ذلك من تنازل عن بعض الحقوق استجابة لطبيعة الصلح، فإن الالتجاء إلى التحكيم مع إشراف غير المسلم فيه مقيد للطرف الآخر، لا يجوز أن يمنع منعًا باتًّا، وإنما يترك أمر تقديره لولي الأمر – أو من ينيبه – يقبله أو يرفضه على ضوء مصلحة المسلمين ووضعهم الحربي والاجتماعي في العالم، ومدى ما لهم من قوة تمكنهم من فرض القيود التي تكبح جماح التحكيم حتى لا يأتي بما يضر المسلمين أو يتناقض مع الأحكام الآمرة في شريعتهم السماوية الغراء.
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني ج 9 رقم 2325؛ المبسوط للسرخسي ج 10 ص 87 ح الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج 2 ص 206؛ مواهب الجليل ج 3 ص 286؛ المهذب ج 2 ص 277
(2) الدكتور وهبة الزحيلي، آثار الحرب، ص 744(9/1763)
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية كيف نتعامل مع أعدائنا، فحين اعترض المشركون في كتابة عقد الصلح على وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إنك تعلم أني رسولك، اكتب يا علي: محمد بن عبد الله) . . . ومثل ذلك فعل علي كرم الله وجهه في عقد التحكيم مع معاوية فجعل التحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية ولم يصف نفسه بما ينازعه فيه خصومه من أنه أمير المؤمنين.
51 – ثم إن اختلاف صور المنازعات الدولية، وتباين مظاهر الصراعات بين الدول في العصر الحديث، مع تعقد المصالح وتشابكها، يقتضي أن تكون الدولة واثقة كل الثقة في شخص ممثلها، وبالتالي فلا يتصور إلزامها بأن تختاره من أعدائها المسلمين، لا سيما وأن مجابهة الأحداث الدولية تستلزم خوض معارك شتى، قد تكون حربية أو سياسية دبلوماسية أو قانونية، ولكل معركة أساليبها، ومتطلباتها وفرسانها، والدول وإن كانت تنأى عادة عن الأساليب الحربية لعظم مخاطرها، وتفضل الوسائل السياسية والدبلوماسية، لمرونتها وإمكان السيطرة عليها وعلى نتائجها، فإنها كثيرًا ما تجد أن المخرج المناسب ينحصر في المجابهة القانونية التي تكون عادة عن طريق التحكيم الدولي أو القضاء الدولي، وهي تختار بينهما وفق ما تكشف عنه الموازنة – لديها – بين نتائجهما المحتملة في كل قضية، فحكم التحكيم الدولي أو حكم القضاء الدولي كلاهما ملزم لأطراف الخصومة، وكلاهما نهائي بحسب الأصل، ولكن حكم التحكيم لا وسيلة لتنفيذه إلا برضاء الدولة المحكوم عليها، وهي عادة تفعل ذلك، غير أنها إذا لم تفعل، فلا وسيلة لتنفيذ الحكم جبرًا لعدم وجود سلطة عليا تملك الاختصاص بتنفيذ الحكم بالقوة، وذلك بخلاف حكم القضاء الدولي الذي يوضع له – عن طريق المجتمع الدولي وتنظيماته التي ينتمي إليها فرع القضاء – من الجزاءات والضغوط ما يحمل الدول على تنفيذه.
52 – ومع ذلك فقد يكون للتحكيم فوائده التي تدفع إلى الالتجاء إليه دون القضاء الدولي؛ وذلك لأن التحكيم قد يلعب دورًا رئيسيًّا في حل المنازعات الدولية التي يكون من المناسب تسويتها بقرار تحكيم، يضع في اعتباره عناصر الواقع ولا يستند إلى الاعتبارات القانونية البحتة (1) .
__________
(1) الدكتور مفيد محمود شهاب، المنظمات الدولية، الطبعة التاسعة سنة 1989، ص 339، 340.(9/1764)
ولذلك فإن المجتمع الدولي – حاليًا – مع أخذه بنظام القضاء الدولي، فإنه يصر على بقاء التحكيم الدولي كوسيلة لإنهاء النزاع سلميًّا، وقد يبدو هنا المعنى جليًّا في إبقائه على اتفاقية التحكيم الدولي التي أبرمت عام 1899 وأنشأت ما أطلق عليه اسم (المحكمة الدائمة للتحكيم) والتي يمثلها مكتب في لاهاي به قلم كتاب وقائمة بأسماء عدد من الأعضاء الذين يمكن أن يختار من بينهم المحكمون الذين يعهد إليهم بالفصل في المنازعات التي يطلب من هذه الهيئة الإسهام في حسمها.
وقد سنحت فرصة التعرف على آراء المجتمع الدولي في أهمية التحكيم الدولي بصورة أكثر وضوحًا، حين اقترحت دولة الأرجنتين (1) عند إنشاء محكمة العدل الدولية أن تلغي محكمة التحكيم الدولية اكتفاء بمحكمة العدل، فقد أبى المجتمع الموافقة على هذا الاقتراح وتمسك ببقاء نظام التحكيم ونظام القضاء معًا، لتختار كل دولة ما تراه موائمًا للمنازعة الناشبة، دون أن تجبر على سلوك طريق منهما بعينه.
ذلك لأن السمة البارزة في المجتمع الدولي المعاصر هو عدم إلزام الدولة بطريق محدد تحسم به منازعاتها مع الآخرين سلميًّا، فهي حتى لو اختارت القضاء الدولي فإن اختيارها يجب أن ينبع من إراداتها، فليس في القضاء الدولي – في واقع الأمر – إجبار للدول على الالتجاء إليه، وما قد يقال في هذا الشأن من أن الالتجاء إلى القضاء الدولي قد يتصف بالإلزام، هو في حقيقته قائم على أساس قاعدة خلقها اتفاق سابق مؤسس على تقابل إرادة أطرافه، أعلنت به الدولة قبولها حسم المنازعات المحتملة أو القائمة قضاء، وبذلك يتميز القضاء الدولي عن القضاء الداخلي؛ إذ إن هذا القضاء الأخير لا يقوم فيه الاختصاص على الاتفاق، فالدولة هي التي تنظم العدالة وتفرض سلطة قضائية دائمة وملزمة، تتولى ترتيبها ووضع القواعد الكفيلة بتنفيذ ما تصدره من أحكام (2) .
__________
(1) الدكتور مفيد محمود شهاب، المنظمات الدولية، الطبعة التاسعة سنة 1989 ص 339 – 340
(2) الدكتور مفيد محمود شهاب، المنظمات الدولية، الطبعة التاسعة سنة 1989، ص 339، 340(9/1765)
53- وقد نتج الفرق بين القضاءين الداخلي والدولي في هذا الشأن بسبب التطورات العديدة التي لاحقت النظام القضائي الداخلي، بينما النظام القضائي الدولي ظل جامدًا في مكانه، ولم يتح له الوقت الكافي للتطور، فهو لم يظهر إلى الوجود بشكل واضح إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تنفيذها للمادة 14 من عهد عصبة الأمم، التي تضمنت النص على تكليف مجلس العصبة بإعداد مشروع محكمة دائمة للعدل الدولي، أعده، وعرضه على الجمعية العامة في 13 ديسمبر 1920 فوافقت عليه، وظل مطبقًا إلى أن تعثر إبان الحرب العالمية الثانية، حتى إذا ما انتهت هذه الحب بويلاتها وأوزارها، واجتمعت الدولة تحت علم الأمم المتحدة، استقر رأيها على وجوب استمرار القضاء الدولي، على أن تنشأ له محكمة جديدة تخلف المحكمة الدولية الدائمة للعدل، وتسمى محكمة العدل الدولية، ويكون نظامها الأساسي ملحقًا بميثاق الأمم المتحدة، وجزءًا لا يتجزأ منه، حتى تمتاز المحكمة الجديدة عن سابقتها التي لم تكن فرعًا من عصبة الأمم، وكان نظامها مستقلًا عن العصبة، وقد تم ذلك فعلًا في 19 إبريل سنة 1945.
وقد حافظ ميثاق الأمم المتحدة، كما حرص النظام الأساسي للمحكمة على بقاء الخصائص الرئيسية للقضاء الدولي – وفق ما كان يراه المجتمع الدولي وقتذاك – وهي الخصائص المتمثلة في أنه – بحسب الأصل – قضاء بين الدول، ذو ولاية اختيارية، وأحكامه ملزمة، يجوز تنفيذها جبرًا، بالطرق التي تتفق مع طبيعة العلاقات الدولية، وأن وجود هذه المحكمة الدولية لا يحول دون إنشاء محاكم دولية أخرى (المواد 93، 94، 95 من ميثاق الأمم المتحدة، والمادة 35 من النظام الأساسي)(9/1766)
54 – وعند إنشاء جامعة الدول العربية كان المأمول أن يتضمن ميثاقها النص على إنشاء محكمة دولية عربية، تسهم في حل المنازعات التي تنشأ بين الدول العربية؛ ذلك لأنه وإن كان هذا الميثاق قد أعلن في 22 مارس سنة 1945، أي قبل ميثاق الأمم المتحدة، إلا أن المجتمع الدولي كان مستقرًّا وقتذاك على الترحيب بالقضاء الدولي، والقضاء الإقليمي لحل المنازعات الدولية.
ومع ذلك فقد اكتفى ميثاق الجامعة بأن عهد إلى مجلسها – في المادة الخامسة منه – بحل المنازعات سلميًّا، عن طريق الوساطة أو طريق التحكيم الذي يمكن أن ينتهي بحكم ملزم للطرفين إذا تم بناء على طلبهما، أما المحكمة العربية الدولية، فقد قنع الميثاق بالنص في المادة 19 منه علي أن قيام محكمة عدل عربية مسألة لها الأولوية عند بحث تعديل الميثاق.
وقد شرعت جامعة الدول العربية منذ الخمسينيات في دراسة أمر إنشاء محكمة دولية عربية، وأعدت مشروعًا بهذا الشأن ما زال يتردد بين أروقتها حتى الآن، وإن أعلن في شهر يناير من هذه السنة أن المنتظر أن يعرض المشروع في الاجتماع المقرر عقده في شهر مارس من هذا العام – (سنة 1994) – وقد عقد هذا الاجتماع وانفض ولم يقر المشروع.
55- على أن الخطى إذا كان قد تعثرت في أروقة جامعة الدول العربية، فلم تصل إلى إنشاء محكمة دولية عربية، فإن الله سبحانه وتعالى بفضله، قد وفق منظمة المؤتمر الإسلامي في أن تدفع إلى الوجود بمشروع محكمة العدل الإسلامية الدولية، وكان ذلك ثقة من المؤتمر في أن وجود هيئة إسلامية قضائية في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي، من شأنه أن يعزز دور المنظمة ومكانتها، ويسهم في تحقيق أهدافها، وإيمانًا منه بأن تنقية الأجواء بين الدول الأعضاء في المنظمة هو ضرورة ملحة من أجل تمكينها من المواجهة المشتركة لكافة الأخطار والتحديات التي يواجهها العالم الإسلامي. (1) .
وقد حملت دولة الكويت مشكورة أمانة الدعوة إلى إنشاء هذه المحكمة الإسلامية، فاقترحت ذلك في القمة الإسلامية الثالثة التي انعقدت في مكة المكرمة والطائف عام 1981، حتى إذا كانت القمة الخامسة التي انعقدت في الكويت في يناير عام 1987، كان مشروع النظام الأساسي للمحكمة قد اكتمل إعداده، فوافق عليه المؤتمر، وعدل في المادة الثالثة من الميثاق بما يقضي باعتبار محكمة العدل الإسلامية الدولية من بين أجهزة منظمة المؤتمر الإسلامي وأن نظامها جزء لا يتجزأ من ميثاق هذه المنظمة.
__________
(1) من ديباجة القرار الصادر عن القمة الثالثة رقم 11 / 2 – س (ق أ) بمناسبة اقتراح دولة الكويت إنشاء المحكمة.(9/1767)
56 – وقد احتفظ النظام الأساسي للمحكمة بالأصول التي استقر عليها المجتمع الدولي في تنظيم المحاكم الدولية، وإن كان ذلك لم يمنعه من تبني بعض القواعد التي تضفي على المحكمة الإسلامية طابعها الخاص.
فالمحكمة الإسلامية لا يتقاضى فيها غير الدول، وولايتها اختيارية، وأحكامها ملزمة لأطرافها، ويجوز تنفيذها جبرًا، مثلها في ذلك كله مثل محكمة العدل الدولية، لا تكاد تختلف عنها إلا في بعض التفصيلات، فهي مثلًا، لا تسمح لغير أعضاء المؤتمر بالتقاضي أو التدخل، إلا وفق شروط معينة، ينص النظام الأساسي على بعضها، ويكل فرض بعضها الآخر إلى مؤتمر وزراء الخارجية، ويجعل تطبيق ذلك وفق تقدير المحكمة (المادتان 21 / 23 من النظام الأساسي) ، وهذا بخلاف الأمر أمام محكمة العدل الدولية التي أجيز فيها لبعض الدول أن تكون أطرافًا في نظام المحكمة دون أن يكونوا أعضاء في الأمم المتحدة، هذا إلى جانب السماح لغير أعضاء الأمم المتحدة وأعضاء النظام الأساسي للمحكمة بأن يتقاضوا وفق شروط معينة (المادة 93، 94 من ميثاق الأمم المتحدة، والمادة 35 من النظام الأساسي للمحكمة) (1) . ومن ناحية أخرى فإن ولاية التنفيذ جبرًا عهد بها إلى مؤتمر وزراء الخارجية بدلًا من مجلس الأمن الذي يتولى ذلك بالنسبة لمحكمة العدل الدولية (المادة 38 / ج من النظام الأساسي للمحكمة الإسلامية، والمادة 94 / 2 من ميثاق الأمم المتحدة) .
أما عن الأمور التي تكشف عن الطابع المميز للمحكمة الإسلامية فيمكن إجمال أهمها فيما يأتي:
أولًا: إن المحكمة تقوم على أساس الشريعة الإسلامية (م1) ، وبذلك تختلف عن محكمة العدل الدولية التي تفصل في منازعاتها وفقًا لأحكام القانون الدولي (م 38 من النظام الأساسي) ، وإن أوجب نظامها هذا تمثيل المدنيات الكبرى والنظم القانونية الرئيسية، بما في ذلك الشريعة الإسلامية، كما تختلف عما ورد في مشروع المحكمة العربية من وجوب الحكم وفقًا لمبادئ ميثاق الجامعة العربية والقانون الدولي، وإن كان المشروع يعتمد أحكام الشريعة الإسلامية، ضمن ما يعتمده من قواعد (م 17) .
ثم إن المحكمة الإسلامية تشترط في قاضيها أن يكون مسلمًا، وهو شطر تنفرد به عن المحكمة الدولية والمحكمة العربية كلتيهما.
__________
(1) في مشروع محكمة العدل العربية يقتصر حق التقاضي على الدول الأطراف في النظام الأساسي، ولا يسمح المشروع لغير أعضاء الجامعة بالتدخل (م 26 من المشروع) . راجع الدكتور عبد الله الأشعل، محكمة العدل الإسلامية الدولية، دار المعارف، ص 76 وما بعدها. وقد تضمن الكتاب دراسة ممتعة وإن كانت موجزة عن محكمة العدل الإسلامية الدولية مقارنة بأحكام مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية(9/1768)
ولا تكفي المحكمة الإسلامية بأن يكون القاضي مسلمًا، وإنما تشترط أيضًا أن يكون ذا خبرة في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، فلا يجزئ عن خبرته في الشريعة أن يكون من الحائزين على المؤهلات المطلوبة للتعيين في أعلى المناصب القضائية، أو من المشهود لهم بالكفاءة في القانون الدولي، كما قنع بذلك نظام محكمة العدل الدولية (م 2) ومشروع محكمة العدل العربية (م 2 / 1) .
بل لقد بلغ حرص نظام المحكمة الإسلامية على تطبيق الشريعة الإسلامية، أن جعل قسم القاضي متضمنًا ذلك، فنص على أن القسم هو: (أقسم بالله العظيم أن أتقي الله وحده في أداء واجباتي، وأن أعمل بما تقتضي الشريعة الإسلامية وقواعد الدين الإسلامي الحنيف، دون محاباة، وأن التزم بأحكام هذا النظام وأحكام ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي) (م 9) بينما مشروع المحكمة العربية يقنع بأن يكون القسم هو: (أقسم بالله العظيم أن أؤدي واجبات وظيفتي بصدق وأمانة ونزاهة) (م7) .
ثانيًا: إن اللغة العربية – لغة القرآن المبين (كما أطلق عليها النظام الأساسي) - هي لغة المحكمة الأولى، وتشكل مع اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية اللغات الرسمية المعتمدة (م 28) ، على أن تعتبر هي المرجع عند الخلاف قياسًا على المادة الخمسين من نظام المحكمة.
ثالثًا: إن نظام المحكمة الإسلامية وإن كان قد منحها الحق في الإفتاء وإبداء الرأي الاستشاري بما لا يكاد يختلف عن نظام محكمة العدل الدولية (1) ، فإنه يلاحظ أن النظام الإسلامي منح محكمته الحق في ممارسة الوظائف الدبلوماسية والتحكيمية بصورة أكثر وضوحًا، فأجاز أن تقوم عن طريق لجنة من الشخصيات المرموقة أو عن طريق كبار المسؤولين في جهازها، بالوساطة أو التوفيق أو التحكيم في الخلافات التي تنشب بين عضوين أو أكثر من أعضاء المؤتمر الإسلامي، إذا أبدت الأطراف المتنازعة رغبتها في ذلك، أو طلب ذلك مؤتمر القمة الإسلامي أو المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية بتوافق الآراء (م 46) .
__________
(1) من ديباجة القرار الصادر عن القمة الثالثة رقم 11 / 3 – س (ق أ) بمناسبة اقتراح الكويت إنشاء المحكمة(9/1769)
57 – هذه هي أهم العناصر التي تشكل الطابع المميز لمحكمة العدل الإسلامية الدولية، وهي وإن كانت تحتاج إلى تعزيز وتدعيم وتعميق، حتى تؤتي ثمارها المرجوة، فإنها – حتى بحالتها هذه – تمثل حافزًا قويًّا للدول الإسلامية يدفعها إلى الاستعانة بالمحكمة في حل المنازعات التي تثور بينهم، فهي بلا ريب تحقق – لدولتنا الإسلامية - طمأنينة أكبر مما تحققه محكمة العدل الدولية، لما يعتور تكوين هذه المحكمة الأخيرة من عيب عدم تمثيل مصالح دول العالم الثالث، ولما ران على بعض أحكامها من مناصرة للاتجاهات الاستعمارية، على نحو ما كشفت عنه بعض مراحل قضية جنوب غرب أفريقيا (1) .
هذا إلى جانب أن من يحمل راية العدل في المحكمة الإسلامية هم من شيوخ الأمة الإسلامية الذين تفقهوا في الشريعة، وعركوا قواعد القانون الدولي، ويتم انتقاؤهم، كما يتم عملهم، تحت بصر وزراء خارجية الدول أعضاء المنظمة جميعًا، سواء منهم من شارك في المحكمة أم لم يشارك فيها، ولهم من الضمانات ما يكفل لهم الاستقلال الكامل، والحيدة الخالصة، وما يوفر لهم من عناصر القوة والمنعة ما يجعلهم في المرتبة التي أرادها المؤتمر للمحكمة: (حكمًا وقاضيًا وفيصلًا فيما ينشأ بين الدول الإسلامية من خلافات) (2) .
ولا ريب أن ما توافر للمحكمة الإسلامية من عوامل، جدير بأن يسهم في دفعها إلى الطريق السوي، وأن يوفر مناخًا ملائمًا لازدهارها والإقبال عليها، بما لم يتوافر لمحكمة العدل الدولية، وكان لعدم توافره أثره في انصراف بعض الدول عنها، أو عزوفها عن قبول الاختصاص الإلزامي، أو ترددها في طلب رأيها الاستشاري، ولعل من أهم هذه العوامل ما يأتي:
أولًا: إن الأحكام الدولية في الشريعة الإسلامية تمتاز بالمرونة التي تسمح للاجتهاد أن يستنبط منها ما يوائم الأعراف الدولية الحالية، أو يقوم اعوجاجها على هدي قواعد المصالح المرسلة، أو العرف، وبذلك لا تتقيد يد المحكمة الإسلامية بالإسار الذي قيد محكمة العدل الدولية، بسبب جمود نظامها الذي نقل حرفيًّا من النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدل الذي وضع عام 1920، والذي كان قد نقل – بدوره – من مشروع إنشاء محكمة تحكيم قضائية، قدم إلى مؤتمر لاهاي الثاني عام 1907، مما كان له أثره في تجاهل التطورات العديدة التي لحقت بالمجتمع الدولي منذ أوائل القرن الحالي (3) .
__________
(1) الدكتور جعفر عبد السلام، المنظمات الدولية، الطبعة السادسة، الصفحات من 455 إلى 462
(2) من ديباجة القرار الصادر عن القمة الثالث رقم 11 / 3 – س (ق أ) بمناسبة اقتراح الكويت إنشاء المحكمة
(3) من ديباجة القرار الصادر عن القمة الثالث رقم 11 / 3 – س (ق أ) بمناسبة اقتراح الكويت إنشاء المحكمة(9/1770)
ثانيًا: إن وجود الرابطة الوثيقة التي تربط دول وشعوب المؤتمر الإسلامي الذي شمل أهم الدول الإسلامية إن لم يكن الغالب الأعم منها، يدفع عن المحكمة الإسلامية ما حاق بمحكمة العدل الدولية، بسبب عدم تمثيل كثير من الدول في محكمتها، مما أدى – بالتالي – إلى نزوع هذه الدول إلى عدم عرض منازعاتها على المحكمة الدولية أو قبول الاختصاص الإلزامي لها (1) .
ثالثًا: إن تدعيم نظام المحكمة الإسلامية لوظائفها المتصلة بإنهاء المنازعات عن طريق التحكيم أو الوساطة، من شأنه أن يشجع الأطراف على الالتجاء إلى المحكمة، لما تتمتع به القرارات السياسية من مرونة، ولما قد تسمح به قرارات التحكيم من وقت أطول قبل التنفيذ، كل ذلك مع الاطمئنان إلى عدالة القرار بوصفه مستنبطًا من الشريعة الإسلامية التي تسيطر على المحكمة كلها، وتلتزم بها حتى ولو لم يوجد نص صريح يلزمها بذلك في التحكيم أو الوساطة.
رابعًا: إن لدى الشعوب غصة تنتابها عند التجاء دولها الإسلامية إلى محاكم دولية خشية تستغل الدول الأقوى نفوذها، أو تقضي المحكمة بما يخالف الشريعة الإسلامية.
58 – وإذا كان الالتجاء إلى المحاكم الدولية قد تدفع إلى الظروف القاسية، أو يجد من يبرره إذا كان النزاع بين المسلمين وغيرهم، فإن النزاع بين المسلمين بعضهم البعض لا يجد أي مبرر مقبول للاحتكام إلى غير المسلمين في المحاكم الدولية، وليس فيما قرأنا من الفقه الإسلامي ما يعصم مثل هذا التقاضي من البطلان، ولا فيما يضعه في وصف الأحكام الواجبة الاحترام.
ومن ثم فإن إنشاء محكمة إسلامية يتوافر لها القضاة المسلمون الثقات العدول الخبراء بالشريعة، والخبراء كذلك بالقانون الدولي، من شأنه أن يرضى عنه الله العلي القدير، وأن تسعد به الشعوب المسلمة، دون أن يفتأت على أحد، حتى من غير المسلمين حين يرضون بالاحتكام إليها؛ ذلك لأن شريعة الله ليس فيها ما يخالف قواعد العدالة والإنصاف التي نص نظام محكمة العدل الدولية على جواز الفصل في النزاع على هديها، بما يتيح لهذه المحكمة أن تستبعد قاعدة قانونية وضعية لتطبق – بدلًا منها – ما تقضي به الأصول المنطقية التي تتفق مع العدالة (2) .
__________
(1) من ديباجة القرار الصادر عن القمة الثالث رقم 11 / 3 – س (ق أ) بمناسبة اقتراح الكويت إنشاء المحكمة
(2) من ديباجة القرار الصادر عن القمة الثالث رقم 11 / 3 – س (ق أ) بمناسبة اقتراح الكويت إنشاء المحكمة(9/1771)
ولذلك فإنه لم يكن غريبًا أن ينص النظام الأساسي للمحكمة الإسلامية – بجانب الاعتراف للشريعة الإسلامية بأنها هي المصدر الأساسي الذي تستند إليه المحكمة في أحكامها، على أن تسترشد المحكمة – مع ذلك – بالقانون الدولي والاتفاقات الدولية الثنائية أو متعددة الأطراف أو العرف الدولي المعمول به أو المبادئ العامة للقانون أو الأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية أو مذاهب كبار فقهاء القانون الدولي في مختلف الدول (م21) .
فدخول هذه المصادر القانونية بوتقة المصدر الأساسي – وهو الشريعة – سوف يفرز قواعد عادلة ملائمة تتطور مع تطور الحياة الدولية وتتمشى مع محدثات العلاقات الدولية المتجددة.
59- على أن إنصاف الشريعة الإسلامية لتأخذ مكانها المرموق على قمة القواعد الدولية التي تحكم القضاء والتحكيم الدوليين، يقتضي من الدول الإسلامية، ومن منظمة المؤتمر الإسلامي – على وجه الخصوص – أن تسعى إلى بلورة قواعد الشريعة الغراء لتكشف عن جوهرها، وتبين قدرتها على تنظيم المجتمعات على اختلاف ظروفها وتنوع تطورها.
وقد يدفعنا هذا إلى أن نناشد مجمع الفقه الإسلامي، أن يضع في خططه القريبة الاهتمام بصورة أوسع بأسلمة قواعد القانون الدولي، بدراسات فقهية متخصصة، تضبط هذه القواعد على الوجهة الشرعية، وتنزل حكم الله على ما أحدثته المجتمعات الدولية من علاقات، وما نشأ بينها من منازعات لم تعرض لفقهائنا الأوائل، وتحتاج إلى اجتهاد جماعي، يعززه العلم، بمختلف فروعه، وتظلله التقوى، ويحيط به الإيمان بأن الخالق أدرى بصالح خلقه، وأقدر على بيان ما ينفعه، وصدق الله العلي القدير حيث يقول: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] .
والله من وراء القصد وهو نعم المولى ونعم النصير
والحمد لله رب العالمين(9/1772)
خلاصة البحث
يرجع تزايد الاهتمام البالغ بالتحكيم، إلى أنه يحقق ما لا يستطيع القضاء الرسمي أن يحققه، من حسم سريع، وخبرة متخصصة، مع الحفاظ على أسرار المتخاصمين، والعمل على سرعة تنفيذ ما يحكم به.
وقد رحب الإسلام بالتحكيم ونظمه، بما يعتبر بحق تنظيمًا رائدًا للبشرية، كما اهتمت به الدول الإسلامية في العصر الحديث وأولته عناية خاصة , وأفردته بتنظيم مستقل، وصدقت على معظم المعاهدات والاتفاقيات الدولية المتعلقة به، فضلًا عن إنشاء مراكز إقليمية دائمة على أرضها، اشترط – في بعضها – أن تكون الشريعة الإسلامية – وحدها – هي القانون الواجب التطبيق.
وللتحكيم من اسمه نصيب في معناه شرعًا، فهو في الاصطلاح: اتفاق بين أطراف الخصومة، على تولية من يفصل في منازعة بينهما، بحكم ملزم، يطبق شرع الله، ومن ثم فهو يختلف عن الصلح الذي يتولاه الخصوم بأنفسهم أو بمن يمثلونهم، ويتم عن طريق نزول كل منهم عن بعض ما يتمسك به، كما يختلف عن الفتيا في أنه يقوم على تمحيص الواقعة، ولا يكون إلا في خصومة وأنه ملزم للطرفين، ويختلف عن القضاء في أن المصدر المباشر للسلطة فيه هو رضاء الطرفين لا تولية ولي الأمر، وإن هذا الرضاء هو الذي يمنح الأطراف الحق في تحديد نطاق الخصومة، وفي تقييدها بما يشاؤون من حيث الزمان أو المكان أو غير ذلك، كما يمنحهم الحق في عزل المتحكم إليه، ومنعه من مباشرة التحكيم، إذا كان لم يشرع فيه بعد.
والاعتراف لإرادة الطرفين بالسلطة المشار إليها في نطاق التحكيم، يجب أن يستند إلى دليل شرعي، إذ أن هذه السلطة – في حقيقة الأمر – تنتقص من ولاية القضاء، بعزل بعض لخصومات عن اختصاصه، وإلزام الدولة بالإسهام في التنفيذ جبرًا لأحكام صادرة عمن لا تنبثق سلطته من سلطتها، ولا تتفرع ولايته من أي ولاية عامة من ولاياتها.(9/1773)
وما سبق في الفقه الإسلامي من أدلة على مشروعية التحكيم كثير، إلا أن بعضه يتطرق الاحتمال إلى دلالته، وبعضه الآخر قد يتصرف إلى نوع من التحكيم غير التحكيم الرضائي الذي نعنيه بالدراسة، ومع ذلك فهناك من الأحاديث الشريفة، القولية والفعلية ما يكفي للبرهنة على هذه المشروعية، ومن ذلك حديث أبي شريح الذي استحسن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم نظام التحكيم الرضائي، وحديث تحكيم سعد بن معاذ في يهود بني قريظة، وحديث تحكيم الأعور بن بشامة في بني العنبر حين انتهبوا مال الزكاة، ففي كلتا الواقعتين قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم النزول على التحكيم، ونفذ ما قضى به المتحكم إليه، هذا إلى جانب الوقائع العديدة التي نقلت إلينا بطرق موثوقة، وتقطع بتطبيق الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، لنظام التحكيم الرضائي في عهد الخلفاء الراشدين، ومن ذلك واقعة التحكيم بين شيعة علي وشيعة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، والتي حملت إلينا ما يشبه إجماع الصحابة في العصر الذي وقعت فيه على مشروعية التحكيم من حيث المبدأ على أقل القليل.
وقيام التحكيم على الرضائية يستلزم أن تكون إرادة الطرفين واضحة الدلالة عليه طبقًا للقواعد العامة في الفقه الإسلامي التي تحكم الإيجاب والقبول وتطابق الإرادتين، وليس- بعد ذلك- بذي أثر أن يكون الاتفاق سابقًا على قيام المنازعة أو لاحقًا عليه، فالفقه يسع هذا وذلك، ولا يتجافى مع التسميات التي يطلقها رجال القانون على كل منها، وإنما يجب أن يكون التحكيم في خصومة شرعية لا صورية، وأن يتوافر للمحتكمين أهلية التعاقد على التحكيم، وهي أهلية التصرف، وذلك كله حتى يجري التحكيم في النطاق الذي حدداه، فلا يتجاوزه، ولو إلى مسألة أولية لازمة للفصل، ويجري في مواجهة من رضي به، فلا يسري على غائب لم يرض به، ولو كان ما يدعى به عليه سببًا لما يدعى به على الحاضر، وهذا ما لم يشهد العرف بأن الغائب يعد راضيًا بالتحكيم وذلك في النطاق الضيق الذي طبقه الأحناف على الشريك الغائب عن احتكام شريكه مع غريمهما.(9/1774)
وقد وضع المشرع حدودًا لإرادة الطرفين، فلم يجز لها- مثلًا- أن تتدخل في تحديد القانون الواجب التطبيق، وإن أجاز لها في حدود معينة – أن تلزم المحتكم إليه بأن يقضي بينهما على مقتضى مذهب معين يحددانه.
وفيما يختص بموضوع التحكيم، فلم يجز المشرع- في رأي الجمهور- التحكيم في الحدود والقصاص واللعان، أما فيما عدا ذلك فقد اختلف فيه الفقهاء، ووضع له المالكية معيارًا مقبولًا قوامه منع التحكيم في كل ما هو حق الله تعالى، وما استلزم الحكم فيه إثبات حكم أو نفيه من غير المتحاكمين ممن لا ولاية للحكم عليهم، وما اقتضى عظم قدره وخطره أن يعهد به إلى القضاء المولى دون غيره.
وقد اختار بنظام التحكيم السعودي- في هذا الشأن – أن يمنع التحكيم فيما لا يجوز الصلح فيه، كالحدود واللعان وكل ما يتعلق بالنظام العام، بينما اختارت النظم في بعض البلاد الإسلامية الأخرى (كالمغرب، والجزائر، وتونس) أن تنص على الموضوعات المحظورة على سبيل الحصر.
فإذا قضى المحتكم إليه في موضوع لا يجوز التحكيم فيه، فالجمهور يرون عدم تنفيذ حكمه، بينما يرى المالكية أن حكمه يمضي إن كان صوابًا، أما إذا كان خطأ وترتب عليها إتلاف عضو، فالدية على عاقلته، وإن ترتب عليه إتلاف مال كان الضمان عليه في ماله.
وفيما عدا ما أقامه المشرع من حدود لإرادة المتحاكمين، فإن التحكيم يولد آثاره على النحو الذي ارتضياه، ومن ذلك أثره السلبي المتمثل في قبول عدم الاحتكام إلى القضاء، وذلك من وجهة نظرنا إذا كان التحكيم ممكنًا وأثره الإيجابي في فض الخصومة على يد المحتكم إليه بما يصدره من حكم ملزم لهما، وذلك ما لم يرجع المحتكمون عن التحكيم، فذلك حق لهما اتفق الأئمة على جوازه ما دام المحتكم إليه لم يشرع في التحكيم بعد، واختلفوا فيما عدا ذلك، ورأي الجمهور أنه لا يجوز لهما الرجوع إذا شرع في التحكيم أو أصدر حكمه فعلًا.(9/1775)
ولتحديد شخصية المحتكم إليه أهمية كبرى في التحكيم الرضائي، إذ ذلك هو مبنى الثقة فيه وفي قدرته، ولذلك فإنه يجب أن يعينه أطراف الخصومة باسمه أو بصفته، فإذا لم يعيناه وأصرا على التحكيم، جاز لأيهما رفع الأمر إلى القاضي المولى، ليقوم بهذا التعيين على ضوء ما اتفاق عليه أو على هدي ما ينص عليه نظام التحكيم الذي يستظلان به، وليس في هذا افتئات على إرادة الطرفين، وإنما هو من باب الوفاء بالعقود، وإعمال لوظيفة القضاء في حسم ما ينشأ بين الناس من منازعات دون تقييد بأنواع معينة منها، وقد أخذ بهذا نظام التحكيم السعودي في المادة العاشرة منه.
وليس في الفقه الإسلامي ما يوجب أن يكون الحكم فردًا، أو متعددًا، ولا ما يوجب في حالة التعدد أن يكون العدد وترًا، وإنما الأصل فيه أن يكون الحكم – في حالة التعدد – بالإجماع؛ لأن المتحكمين إنما رضوا برأي الحكام جميعهم، لا برأي أغلبهم، فإذا أريد اعتماد رأي الأغلبية فلا بد من إذنهم بذلك، أو وجود نص في نظام التحكيم الذي يظلهم على نحو ما جنح إليه التحكيم السعودي.
واختيار المحتكم إليه بإرادة الطرفين وبناء على ثقتهما فيه ليحكم بينهما، من شأنه أن يعلي عوامل الثقة على عوامل الكفاءة، فيؤدي ذلك إلى الترخص في شروطه بالمقارنة بشروط القاضي المولى، وذلك ما لم يصطدم هذا الترخص بالنص كشرط الإسلام، أو يتعارض مع العقل كشرط العقل والتمييز، إذ لا ولاية للمجنون ولا للصبي غير المميز على أنفسهما، حتى تكون لهما ولاية على غيرهما، أما ما عدا ذلك من الشروط التي تشترط في القاضي المولى، فإن في خلاف الفقهاء سعة في التطبيق، فيجوز مثلًا اعتماد حكومة الفاسق، أو الجاهل الذي يستشير، أو المرأة، أو الأعمى، ونحو ذلك، ما دام الطرفان يعلمان هذا العوار ويرضيان بالتحكيم مع وجوده، وتطبيقًا لهذا فقد اختار النظام السعودي عدم جواز رد المحكم إلا لأسباب تحدث أو تظهر بعد إيداع وثيقة التحكيم.(9/1776)
وإذا كان التحكيم عقدًا غير لازم بالنسبة لطرفيه فإنه – أيضًا – غير لازم بالنسبة للمحتكم إليه، فيجوز له أن لا يقبله، وإذا قبله يجوز له أن يعزل نفسه عنه، ولكن لا يجوز له أن يستخلف غيره إلا إذا أذن له بذلك؛ لأن الرضاء منصب على شخصه.
ذلكم هو التحكيم في الفقه الإسلامي، بإطلاقاته وقيوده، وعلينا أن نتأمل فيه، وأن نتدبر فيما وراءه، فقد علمنا الإسلام ذلك وعاب على من يمر بآياته مرور الكرام فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] .
فالتحكيم – في نظرنا – ليس مجرد وسيلة لحل المنازعات سلميًّا، وإنما هو منفذ هائل للاستجابة إلى حاجات غير المسلمين في دار السلام، وحاجات المسلمين خارجها، وحاجات الدولة ذاتها في علاقاتها مع الأمم والشعوب، وذلك كله بما لا يخرج على أحكام الشريعة الإسلامية، بل وبما يسهم – بجدية فريدة – في تطبيق شرع الله حين تقف العقبات المصطنعة في طريقه.
فأولًا: بالنسبة لغير المسلمين في داخل الدولة الإسلامية، فإن نظام التحكيم يسمح لهم بالاحتكام إلى غير المسلمين في الأمور التي أمرنا أن نتركهم وما يدينون، ويؤيد ذلك ما يراه الأحناف في هذا الشأن، وما استدلوا به من أدلة عقلية مقبولة، وما تمليه طبيعة التحكيم من خصائص أهمها: أن غير المسلمين إذ تحاكموا إلى حكام من أهل دينهم، فإنهم يلتزمون بما يحكمون به لالتزامهم له، وليس لأنه لازم من الأصل، ولأن القضاء المولى يمثل صمام الأمان الذي يحول دون الإجبار على تنفيذ حكم تحكيم لا يتفق مع الشرع؛ ولأن في السماح لمحكم غير مسلم بمن يتولى منازعات غير المسلمين، جمع بين مقتضى قاعدة عدم ترك خصومة بلا قاض في الإسلام، وبين حق القاضي في الإعراض عن خصومة غير المسلمين في الحالات التي يراها المالكية وغيرهم من فقهاء المذاهب.(9/1777)
وثانيًا: بالنسبة لمنازعات المسلمين خارج دولة الإسلام، فإن أغلب دول العالم تسمح حاليًا بقيام التحكيم في مثلها، فإذا تنبه المسلمون إلى الاستفادة من ذلك، فإنهم قد يتجنبون مغبة تطبيق القانون الوطني عليهم فيما يتعارض مع أحكام الشريعة الغراء، كالإلزام بنتائج الأخذ بنظام التبني، أو بعض القواعد المتصلة بالزواج والطلاق التي تخالف شرع الله.
وليس في الأمر صعوبة تستعصي، فأغلب بلاد العالم لا يتطلب سوى احترام النظام العام – في بلدها – والتقيد بالنسبة للتحكيم ببعض الشروط، كاشتراط الكتابة للانعقاد أو للإثبات، وضرورة اعتماد شرط التحكيم أو مشارطته، ووجوب أن يكون الموضوع هو ما يجوز فيه الصلح، وألا يكون مما احتجره القانون الوطني ليحكم فيه القضاء الرسمي دون غيره، ونحو ذلك من الشروط التي تسمح مرونة الشريعة بكثير منها.
فإذا كانت الدول من تلك الأنظمة العنصرية التي لا تقبل اشتراط أن يكون المحتكم إليه مسلمًا، فيمكن – مثلًا – الاستغناء عن النص على ذلك في النظام الأساسي للمؤسسة التحكيمية التي تنشأ، بالاكتفاء بمراعاة أن لا تحوي قائمة المحكمين إلا من هو عالم بالفقه الإسلامي، فإذا اضطر القائمون على هذه المؤسسة إلى عدم التقيد بذلك، فإن في استطاعة المحتكمين – وهم مسلمون – أن يختاروا من يصلح لتطبيق دينهم من أفراد القائمة التي تحوي مسلمين وغير مسلمين، كما أنه قد يكون في اختيار نظام (التحكيم بالصلح) مهرب في البلاد التي تحقد على المسلمين وعلى شريعتهم، وتأبى أن ينص في النظام الأساسي لمؤسسة التحكيم الخاصة بهم على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية دون غيرها، فإذا ضاقت الأمور أكثر، فقد يتاح للمسلمين الالتجاء إلى نظام التحكيم الحر، واختيار بلد إسلامي يسمح النظام المطبق فيه باعتماد التحكيم الأجنبي الذي يجري على غير إقليمه، وقد يساعد في ذلك أن أغلب الدول الإسلامية قد صادقت على الاتفاقيات والمواثيق الدولية الخاصة بالتحكيم الأجنبي، ومنها اتفاقية الاعتراف بأحكام المحكمين الأجنبية وتنفيذها التي أقرتها الأمم المتحدة في سنة 1958.(9/1778)
وثالثًا: بالنسبة للمنازعات الدولية، فإنه مع ترحيب الإسلام بالتحكيم الرضائي فيها، فإنه قد يسهم في تدعيم هذا الترحيب واستثماره، أن نأخذ برأي من يسمح بأن يمثل الجانب غير المسلم، ممثل غير المسلم، تقديرًا للمصالح التي تقتضي ذلك، والتي يقرها الشرع في مواضع أخرى، وتلابس الحكم على هذا التحكيم، وذلك كله على نحو ما ينادي به بعض فقهائنا المعاصرين من أن اشتراك غير المسلم في هيئة التحكيم بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول أصبح أمرًا لا مفر منه، حتى يطمئن كل طرف إلى أن ممثله سوف ينقل وجهة نظره ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة في البيان والبرهان.
وجدير بالذكر أنه لا يقلل من الأهمية الدولية لنظام التحكيم الدولي، ما نشأ خلال القرن الحالي من نظام للقضاء الدولي تمثل – أساسًا – في (المحكمة الدائمة للعدل الدولي) إبان عصبة الأمم، (ومحكمة العدل الدولية) في عصر الأمم المتحدة، فكلا النظامين له دوره بما لا يغني عن الآخر، وقد تشبث بهما – معًا – المجتمع الدولي في مناسبات متعددة.
وقد حاولت جامعة الدول العربية أن تنشئ محكمة دولية عربية ووضعت لذلك مشروعًا تداولته في أروقتها، إلا أن لم يكتب له الاعتماد حتى الآن، أما المؤتمر الإسلامي فقد حالفه توفيق الله، وأنشأ محكمة عدل إسلامية دولية، حملت دولة الكويت مشكورة أمانة الدعوة إليها، فاقترحت ذلك في القمة الإسلامية الثالثة التي انعقدت في مكة المكرمة والطائف عام 1981، حتى إذا كانت القمة الخامسة التي انعقدت في الكويت في يناير سنة 1987، كان مشروع النظام الأساسي للمحكمة قد اكتمل إعداده، فوافق عليه المؤتمر، وعدل المادة الثالثة من الميثاق بما يقتضي اعتبار (محكمة العدل الإسلامية الدولية) من أجهزة منظمة المؤتمر، ونظامها جزء لا يتجزأ من ميثاقه.(9/1779)
ومع احتفاظ النظام الأساسي للمحكمة بالأصول التي استقر عليها المجتمع الدولي في تنظيم المحاكم الدولية، فإنه خص المحكمة الإسلامية – في الوقت ذاته – بأمور تكشف عن طابعها المميز، كقيامها على الشريعة الإسلامية نصًّا وروحًا، واعتبارها اللغة العربية هي اللغة الأولى، وتعزيز سلطتها في الوظيفة الدبلوماسية والتحكيمية؛ ليجوز لها أن تقوم – عن طريق لجنة من الشخصيات المرموقة أو عن طريق كبار المسؤولين في جهازها – بالوساطة أو التوفيق أو التحكيم في الخلافات التي تنشب بين عضوين أو أكثر من أعضاء المؤتمر الإسلامي، إذا أبدت الأطراف المتنازعة رغبتها في ذلك أو طلب ذلك مؤتمر القمة الإسلامي أو المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية بتوافق الآراء.
ولا ريب أن ما توافر للمحكمة الإسلامية الدولية وما سوف يتوافر لها بعون الله من عوامل، جدير بأن يسهم في دفعها إلى الطريق السوي، وأن يوفر لها مناخًا ملائمًا لازدهارها والإقبال عليها، بما لم يتوافر لمحكمة العدل الدولية، وبما يقطع كل الحجج التي تساق لتبرير الاحتكام إلى محاكم غير إسلامية في منازعات الدول الإسلامية، لا سيما ونظام هذه المحكمة يستلزم انتقاء شيوخ ثقات خبراء في الشريعة وفي القانون الدولي، لهم من صفاتهم الشخصية والعلمية والإيمانية ما يسمح للطمأنينة أن تسكن جنباتنا، وقد طالبهم النظام أن يضعوا في بوقتة الشريعة الإسلامية، أحكام القانون الدولي، والاتفاقيات الدولية الثنائية والمتعددة الأطراف والعرف الدولي المعمول به والمبادئ العامة للقانون والأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية ومذاهب كبار فقهاء القانون الدولي في مختلف الدول.
على أن إنصاف الشريعة الإسلامية لتأخذ مكانها على قمة القواعد الدولية التي تحكم القضاء والتحكيم الدوليين، يقتضي من الدول الإسلامية ومن منظمة المؤتمر الإسلامي - على وجه الخصوص – أن تسعى إلى بلورة قواعد الشريعة الغراء لتكشف عن جوهرها الأصيل، وتجلو قدرتها على تنظيم المجتمعات على اختلاف ظروفها وتنوع تطورها.
وقد يدفعنا هذا إلى أن نناشد مجمع الفقه الإسلامي أن يضع في خططه القريبة الاهتمام – بصورة أوسع – بأسلمة قواعد القانون الدولي، بدراسات فقهية متخصصة تضبط هذه القواعد على الوجهة الشرعية، وتنزل حكم الله على ما أحدثته المجتمعات الدولية من علاقات وما نشأ بينها من منازعات لم تعرض لفقهائنا الأوائل ويحتاج إلى اجتهاد جماعي يعززه العلم وتظلله التقوى ويحيط به الإيمان، كسائر عهدنا بما يقوم به هذا المجمع، وما يقدمه من ثراء فقهي مرموق.
والله ولي التوفيق
المستشار محمد بدر يوسف المنياوي(9/1780)
مبدأ التحيكم
في الفقه الإسلامي
إعداد الدكتور عبد الله محمد عبد الله
المستشار بوزارة العدل – الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم أجمعين، وبعد
فإن موضوع التحكيم في الفقه الإسلامي موضوع جدير بالدراسة إن الكتابة فيه قليلة وإن الباحثين من الفقهاء الشرعيين لم يولوه الاهتمام الذي يستحقه مع شدة الحاجة إليه، فقد صار التحكيم اليوم هو السبيل الفعال والقوي الذي يلجأ إليه المتعاقدون كلما حزبهم أمر في شأن تفسير نصوص العقود التي يعقدونها بينهم أو في تنفيذ هذه العقود، بحيث لا يكاد يخلو عقد من اتفاق ينص عليه، ولم يقف الأمر عند الاتفاقات التي يعقدها مواطنون من بلد واحد، بل أخذ الاهتمام به يتزايد في مجال العلاقات التجارية الدولية، فقد تشابكت المصالح وبات العالم يشكل كيانًا واحدًا متصلًا بعضه ببعض، وأمام التقدم الكبير في عناصر الإنتاج ووسائل النقل والاتصال وارتباط المصالح والمعاملات، فقد اهتمت المنظمات الدولية بشأن التجارة الدولية ورأوا وضع قانون شامل أو ميثاق لأصول التجارة الدولية يحقق احترام مبدأ الحرية التجارية.
ويقود العلاقات الاقتصادية الدولية الآن تيار قوي يدعو إلى جعل التحكيم الوسيلة المثلى في حل المنازعات التي تنجم عن روابطها وعقودها، خاصة تلك التي تتعلق ببيع البضائع وتسليمها، وعقود الترخيص بصنع منتجات واستغلال براءات الاختراع ومقاولات وإنشاء المصانع في بلاد أخرى، ومقاولات الأشغال الكبرى كإقامة الموانئ والمطارات والطرق وغيرها – ولهذا نادرًا ما يخلو عقد من هذه العقود على شرط التحكيم – ولهذا يقولون: إن التحكيم أضحى الطريق المعتاد لنظر منازعات التجارة الدولية (1)
ولا أدل على أهمية التحكيم من هذه القضايا التي رفعتها بعض الدول العربية والإسلامية التي ارتبطت بعقود مع بعض الدول الأجنبية ولجوئها إلى التحكيم في حل نزاعاتها معها وهذا غيض من فيض من هذه النزاعات:
1- قضية الهيئة العربية للتصنيع، وأطرافها: بريطانيا – مصر، السعودية، الإمارات، قطر.
2 – قضية بين فرنسا وتونس وموضوعها: اتفقت شركة تونسية مع شركة فرنسية على إقامة مصنع للطوب في تونس بمعدات توردها الشركة الفرنسية وقد أدخلت عدة تعديلات إلى أن اتفق على شرط التحكيم ينص على تسوية ودية في المنازعات بين الطرفين.
__________
(1) دراسة في قانون التجارة الدولية د. ثروت حبيب؛ منصة التحكيم التجارية الدولية د. محيي الدين؛ علم الدين أحكام المحكمين وتنفيذها. يعقوب صرخوة.(9/1781)
3- صفقات من السجاد الشرقي بين بلجيكا وباكستان.
4- عقد تشييد وإدارة مصنع بين إنجلترا وسلطنة عمان.
5- قضية بين نيجيريا وسويسرا بشأن أسس تحديد أتعاب المحاماة.
6- توقيع عقد بين فرنسا والمملكة العربية السعودية بشأن وكيل لتوزيع منتجات الشركات الفرنسية في السعودية.
7- إنشاء محطة أرضية للأقمار الصناعية بين الكاميرون والولايات المتحدة الأمريكية.
8- تحكيم بين ألمانيا واليمن حول تحريم الفوائد في الشريعة الإسلامية وقد تم اتفاق في صنعاء بين إحدى الجهات الحكومية في اليمن وبين شركة ألمانية غربية لإدارة وتقديم خدمات مشروع لتربية الماشية.
9- إنشاء مستشفى تعليمي للطب بين ألمانيا وبلجيكا ودولة خليجية (1) .
هذا قليل من كثير من الروابط والعلاقات التجارية وعقود المعاملات التي تم عرضها على التحكيم والتي أحد أطراف النزاع فيها دولة عربية أو إسلامية مع دولة أو دول أجنبية غير إسلامية.
ولعلنا ندرك من ذلك أهمية موضوع التحكيم، وقد أحسن المجمع الفقهي صنعًا بطرحه هذا الموضوع للكتابة والمناقشة توصلًا إلى قرار بشأنه.
ولا شك أن الموضوع المطروح من القائمين على أمر المجمع أوسع من هذا الذي تكلمنا عنه، بل يعتبر هذا جزءًا من الموضوع يتعلق بشقه الخاص بالمعاملات، أما الشق الآخر والذي يمس جوهر العلاقات الدولية على مستوى السلم والحرب فإن بحثه من أهم ما ينبغي أن توجه نحوه الجهود والبحوث.
وقد حاولت استيفاء الكلام على العناصر التي طلب الكلام عليها، وبذلت جهدي في استنباط الحل من الوقائع والحوادث التي قد تعين على استجلاء حكم منها يمكن تطبيقه على مستجدات العصر، حيث تتشابه عناصرها ولا تتباين إلا فيما لا يمس جوهر المسألة، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب وتلك محاولتي فإذا كنت قد أصبت فذلك الفضل من الله وإن كانت الأخرى فإنما هي نفسي القاصرة وأستغفر الله.
__________
(1) منصة التحكيم التجاري الدولي(9/1782)
أولًا – معنى التحكيم
التعريف:
مادة حكم وردت في القرآن الحكيم بمعنى: يقضي ويفصل في الأمر قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] ضمنت معنى يفعل (1) .
وقد تكررت هذه اللفظة بصيغ مختلفة ووردت بصيغة يحكموك في قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] .
وجاء في سبب نزولها ما ذكره القرطبي عن مجاهد وغيره أن المراد من هذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60] ، قال القرطبي:روي يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة ودعا المنافق اليهودي إلى حاكمهم؛ لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم، فلما اختلفا اجتمعا على أن يحكما كاهنًا في جهينة فأنزل الله الآية، وذهبت جماعة إلى أنها نزلت في الزبير مع الأنصاري وكانت الخصومة في سقي بستان والقصة ذكرها القرطبي بطولها وسندها حديث ثابت صحيح رواه البخاري (2) كما وردت بصيغة يحكمونك في قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43] .
وجاء في أساس البلاغة: حكموه جعلوه حكمًا، وفي الحديث (إن الجنة للمحكمين) وهم الذين حكموا في القتل والإسلام فاختاروا الثبات على الإسلام (3) .
وحاكمته إلى القاضي رافعته، وتحاكمتا إليه واحتكمتا.
وهو يتولى الحكومات والخصومات.
__________
(1) معجم ألفاظ القرآن الكريم المجلد الأول مادة حكم، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ط 2 1390 هـ 1970 م.
(2) الجامع لأحكام القرآن ج 5 / 262.
(3) الحديث في النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ج 1 / 418، 419(9/1783)
والحكم والحكيم هما بمعنى الحاكم وهو القاضي، والحكيم فعيل بمعنى فاعل أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها فهو بمعنى مفعل.
ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم (1) .
ومن المجاز: حكمت السفيه تحكيمًا وأحكمته إحكامًا إذا أخذت على يده، وبه سمى الحاكم؛ لأنه يمنع الظالم.
وعن النخعي: حكم اليتيم كما تحكم ولدك أي: امنعه من الفساد كما تمنع ولدك، أو بمعنى: حكمه في ماله إذا صلح كما تحكم ولدك (2) .
قال الماوردي: وفيما أخذ منه الحكم وجهان: أحدهما أنه مأخوذ من الحكمة التي توجب وضع الشيء في موضعه. والثاني: أنه مأخوذ من إحكام الشيء لما فيه من الإلزام (3) .
وأما في الاصطلاح: فهو لا يخرج عن المعنى اللغوي.
قال ابن نجيم الحنفي: التحكيم له معنيان لغوي واصطلاحي.
أما الأول يقال: حكمت الرجل تحكيمًا إذا منعته مما أراد. ويقال أيضًا: حكمته في مالي إذا جعلت إليه الحكم فيه فاحتكم على ذلك.
واحتكموا إلى الحاكم وتحاكموا بمعنى والمحاكمة المخاصمة إلى الحاكم والمراد الثاني.
فهو في اللغة جعل الحكم في مالك إلى غيرك، وفي المحيط تخير التحكيم تصير غيره حاكمًا.
وعرفه غيره بأنه تولية الخصمين حاكمًا يحكم بينهما (4) .
وقال ابن فرحون: التحكيم ومعناه: أن الخصمين إذا حكما رجلًا وارتضياه لأن يحكم بينهما فإن ذلك جائز (5) .
وعرفته مجلة الأحكام العدلية في المادة / 1790 ونصها: (التحكيم هو عبارة عن اتخاذ الخصمين آخر حاكمًا برضاهما لفصل خصومتهما ودعواهما) .
__________
(1) الحديث في النهاية في غريب الحدث والأثر لابن الأثير ج 1 / 418، 419
(2) الحديث في النهاية في غريب الحدث والأثر لابن الأثير ج 1 / 418، 419
(3) أدب القاضي للماوردي ج ـ 1 / 118.
(4) البحر الرائق شرح كنز الدقائق ج 7 / 24؛ حاشية رد المحتار ج 4 / 428
(5) تبصرة الحكام بحاشية فتح العلي المالك ج 1 / 55(9/1784)
الفرق بين التحكيم والقضاء والإفتاء
أولًا – الفرق بين القضاء والتحكيم:
يشترك الاثنان في أن كلا منهما وسيلة لفض النزاع بين الناس وتحقيق العدل ورفع الحيف والظلم ولهذا كانت الشروط المطلوبة في المحكم هي ذات الشروط المطلوبة تحققها في القاضي. قال في معين الحكام: وأما ولاية التحكيم بين الخصمين فهي ولاية مستفادة من آحاد الناس وهي شعبة من القضاء متعلقة بالأموال دون الحدود والقصاص (1) . إلا أن ذلك لا يمنع أن تكون ثمة فروقًا بينهما وقد وصلها ابن نجيم إلى سبعة عشر فرقًا (2) ، ومعظم ما ذكره من مسائل الخلاف ولهذا نقتصر على أهم هذه الفروق التي يقول بها جمهور الفقهاء أيضًا؛ لأن مسائل الخلاف سيأتي الكلام عليها في ثنايا البحث.
وأهم هذه الفروق:
إن القاضي صاحب ولاية عامة بمعنى أن حكم القاضي يتعدى إلى غير المتخاصمين كما في صورة القتل الخطأ وليس كذلك المحكم فإن حكمه لا يتعدى إلى العاقلة؛ لأن العاقلة لأن العاقلة لم ترض بحكمه (3) .
كذلك لا يتعدى حكمه على وارث إلى الباقي فإن حكم بدين على ميت في مواجهة أحد الورثة لم يتعد حكمه إلى بقية الورثة ولا على الميت لعدم رضاهم بحكمه وانطلاقًا من هذا المبدأ قالوا: إن المحكم لا يقيم حدًا ولا يلاعن بين الزوجين ولا يحكم في قصاص أو قذف أو طلاق أو نسب أو ولاء وإنما استثنيت هذه المسائل لاستلزامها إثبات حكم أو نفيه من غير المتحاكمين فاللعان يتعلق به حق الولد في نفي نسبه من أبيه وكذلك النسب والولاء يسري ذلك إلى غير المحكمين ومن يسري ذلك إليه لم يرض بحكم المحكم وكذلك الطلاق فإن فيه حق الله تعالى إذ لا يجوز أن تبقى المطلقة البائن في العصمة (4) .
__________
(1) معين الحكام للنابلسي ص 11
(2) البحر الرائق جـ 7 / 27؛ شرح مجلة الأحكام للشيخ خالد الأتاسي جـ 6 / 24
(3) شرح أدب القاضي للخصاف جـ 4 / 64؛ البحر الرائق جـ 7 / 27 وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 179. واختلف فقهاء الشافعية في وجوب الدية على العاقلة الراجح لا تجب الدية على العاقلة بحكمه لعدم رضاها بحكمه والثاني تجب ومبنى الخلاف عندهم هو أن الدية تجب ابتداء على القاتل ثم تتحملها العاقلة أو تجب على العاقلة ابتداء وعلى الاحتمال الأول تجب على العاقلة هنا، وعلى الثاني لا يتعدى حكم المحكم لعدم رضا العاقلة بحكمه
(4) تبصرة الحاكم لابن فرحون جـ 2/ 55(9/1785)
وهذه المسائل هي محل خلاف بين الفقهاء فقد قال الحنفية: إنه وإن جاز التحكيم في هذه الأمور إلا أنه لا يفتى به دفعًا لتجاسر العوام (1)
واختلفت أقوال الشافعية في هذه المسائل والراجح عدم جواز التحكيم فيها (2) .
وأنه لا بد من تراضي المحكمين على تعيين المحكم لفض النزاع بينهما بخلاف القاضي ولا تجوز كتابة المحكمة إلى القاضي ولا العكس وإن المحكم إذا رد شهادة الشاهد بتهمة ثم اختصما إلى آخر أو إلى قاض فزكيت البينة يقضي لها؛ لأن المحكم لم يكن قاضيًا في حق غير الخصمين ولم يتصل بهذه الشهادة رد قاض.
ثانيًا – الفرق بين المحكم والمفتي:
بينا في الفرق بين التحكيم والقضاء أن كلًّا من المحكم والقاضي فيما يتعلق بالنظر في المنازعات المالية يقتربان من بعضهما حتى تكاد تتلاشى الفروق بينهما إلا ما كان متصلًا بطبيعة الولاية فإن القاضي يتلقى ولايته من السلطان أما المحكم فإنه يتلقى ولايته من المتخاصمين، ولما كانت ثمة فروق جوهرية بين طبيعة عمل القاضي والمفتي فإننا نستطيع القول بأن التحكيم وإن كان ذا طبيعة قضائية فهو يتفق مع مهمة الإفتاء في جوانب ولهذا من المناسب أن نذكر الفروق التي ذكرها القرافي بين القاضي والمفتي؛ لأن هذه الفروق تنسحب أيضًا على عمل المحكم.
فقد ذكر القرافي في الفرق الرابع والعشرين والمائتين من كتاب الفروق الفرق بين قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم، فقال: إن العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم بل الفتيا فقط إلى أن قال: إن الأحكام الشرعية قسمان:
منها ما يقبل حكم الحاكم من الفتاوى فيجتمع الحكمان، ومنها ما لا يقبل إلا الفتوى. وذكر جملة مسائل قال: إنها من قبيل الفتوى وبعضها من قبيل الحكم والفتوى فمن الأول إخبار الحاكم عن نصاب اختلف فيه إنه يوجب الزكاة ومن الثاني أخذه الزكاة في مواطن الخلاف (3)
__________
(1) شرح فتح القدير ج 7 / 318.
(2) أدب القاضي للماوردي ج 1 / 381
(3) الفروق جـ 4 / 52.(9/1786)
وقال: إن حكمه بنجاسة ماء أو طعام أو تحريم بيع أو نكاح أو إجارة فهو فتوى. وليس حكمًا ومع هذه الفوارق بين الفتوى والحكم إلا أن الجامع بينهما أن الحكم والفتوى كلاهما إخبار عن حكم الله تعالى ويجب على السامع اعتقادهما وكلاهما يلزم المكلف من حيث الجملة لكن الفتوى إخبار عن الله تعالى فيه إلزام أو إباحة والحكم معناه الإنشاء والإلزام من قبل الله تعالى (1) .
وقال ابن فرحون: لا فرق بين المفتي والحاكم إلا أن المفتي مخبر والحاكم ملزم (2) . وقال في مغني المحتاج: الحكم الذي يستفيده القاضي بالولاية هو إظهار حكم الشرع في الواقعة فيمن يجب عليه إمضاؤه فيه بخلاف المفتي فإنه لا يجب عليه إمضاؤه (3) . ويتفق المحكم مع المفتي في هذا فالمحكم لا يقوم بتنفيذ ما يحكم به وليس له أن يحبس بل غايته الإثبات والحكم ونقل عن الرافعي نقلًا عن الغزالي وإذا حكم بشيء من العقوبات كالقصاص وحد القذف لم يستوفه؛ لأن ذلك يحرم أبهة الولاية. وإذا ثبت الحق عنده وحكم به أو لم يحكم فله أن يشهد على نفسه في المجلس خاصة إذ لا يقبل قوله بعد الافتراق كالقاضي بعد العزل (4) .
وقال الخطيب البغدادي إن المفتي كالحاكم لا يأخذه أجرة من أعيان من يفتيه كما أن الحاكم لا يجوز له أن يأخذ الرزق من أعيان من يحكم له وعليه وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف والتكسب ويجعل ذلك في بيت مال المسلمين فإن لم يكن هناك بيت مال أو لم يفرض الإمام للمفتي شيئًا واجتمع أهل محلة على أن يجعلوا له من أموالهم رزقًا ليتفرغ لفتاويهم وكتابات نوازلهم ساغ ذلك. وذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى والي حمص: انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا فأعط كل رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي فإن الخير أعجله والسلام عليك. قال: فكان عمرو بن قيس وأسد بن وداعة فيمن أخذها.
__________
(1) الفروق جـ 4 / 52.
(2) التبصرة جـ 1 / 65
(3) مغني المحتاج ج 4 / 372
(4) مغني المحتاج جـ 4 / 372(9/1787)
ونقل عن ابن أبي غيلان: قال بعث عمر بن عبد العزيز يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس من البدو وأجرى عليهما رزقًا فأما يزيد فقبل وأما الحارث فأبى أن يقبل فكتب إلى عمر بن عبد العزيز بذلك فكتب عمر: أنا لا نعلم بما صنع يزيد بأسًا وأكثر الله فينا مثل الحارث بن يمجد (1) ومنع الحاكم في أخذ الأجرة من المتخاصمين محله إذا كان له رزق من بيت المال أما إذا لم يكن له رزق من بيت المال وكان ذلك الحكم مما يصح الاستئجار عليه كان له طلب أجرة مثل عمله (2) .
وإنه بتطبيق تلك القواعد على المحكم فإن المحكم لا يشغل وظيفة عامة حتى يكون له رزق من بيت المال وليس لحكمه إلزام فيجوز له أخذ الأجرة على عمله ويكون حكمه حكم القاضي، والمفتي إذا لم يكن لهما رزق من بيت المال (3) فيجوز للمحكم أن يأخذ أجرًا على عمله من المتخاصمين.
ثالثًا – قواعد وشروط التحكيم في الخلاف:
يمكن استخلاص مجموعة من القواعد والضوابط من خلال ما كتبه الفقهاء في مباحث التحكيم وهذه طائفة منها:
القاعدة الأولى: يشترط اتفاق الطرفين المتخاصمين على التحكيم بلفظ يدل على التحكيم فليس المراد خصوص لفظ التحكيم فلو قال: احكم بيننا أو جعلناك حكمًا أو حكمناك في كذا انعقد (4)
__________
(1) كتاب الفقيه والمتفقه جـ 2 / 164، 165، دار بيروت، دار الكتب العلمية.
(2) نهاية المحتاج جـ 8 / 243
(3) ذات المصدر
(4) حاشية رد المحتار جـ 5 / 428.(9/1788)
القاعدة الثانية: لا يحكم لأبويه وولده وزوجته ولا على عدوه للتهمة كالقاضي (1) ، قال الماوردي: وإن كان التحكيم من المتنازعين لمن لا يجوز أن يشهد لهما ولا عليهما والذي لا يجوز له أن يشهد لهما هو والد وولد والذي لا يجوز أن يشهد عليه عدو فينظر فإن حكم على من لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد ولمن يجوز أن يشهد له من الأجانب جاز، وإن حكم لمن لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد وعلى من يجوز أن يشهد له من الأجانب ففي جوازه وجهان:
أحدهما: لا يجوز حكمه له كما لا يجوز أن يحكم له بولاية القضاء.
الثاني: يجوز أن يحكم له بولاية التحكيم وإن لم يجز أن يحكم له بولاية القضاء؛ لأن ولاية التحكيم منعقدة باختيارهما فصار المحكوم عليه راضيًا بحكمه.
وإن حكم لعدوه نفذ حكمه وإن حكم على عدوه ففي نفوذ حكمه عليه ثلاثة أوجه:
أحدهما: لا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء ولا بولاية التحكيم كما لا يجوز أن يشهد عليه.
والوجه الثاني: يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء وولاية التحكيم بخلاف الشهادة لوقوع الفرق بينهما، بأن أسباب الشهادة خافية وأسباب الحكم ظاهرة.
والوجه الثالث: أنه يجوز أن يحكم عليه بولاية التحكيم لانعقادها عن اختياره ولا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء لانعقادها بغير اختياره (2) .
وقال ابن فرحون: فإذا حكم أحد الخصمين صاحبه فحكم لنفسه أو عليها جاز ومضى ما لم يكن جورًا بينًا وليس تحكيم الخصم خصيمه كتحكيم خصم القاضي. قال أصبغ: لا أحب ذلك فإن وقع مضى وليذكر في حكمه رضاه بالتحاكم إليه، وقيل: لا يجوز حكم القاضي لنفسه وقيل: يجوز (3) .
__________
(1) كشف الحقائق ج 2 / 69.
(2) أدب القاضي ج 2 / 385، 386
(3) تبصرة الحكام ج 1 / 56(9/1789)
القاعدة الثالثة: لو حكم بين متخاصمين قبل أن يحكماه ثم رضيا بحكمه فإنه جائز؛ لأن الإجازة اللاحقة هي في حكم الوكالة السابقة (1) .
وذهب الشافعية إلى ضرورة تحقق الرضا قبل الحكم؛ لأن رضا الخصمين هو المثبت للولاية فلا بد من تقدمه (2) .
القاعدة الرابعة: إذا حكم المحكم بغير القانون أو المذهب المتبع في البلد ولم يكن فيه مخالفة لأحكام الشريعة فهو لازم لهما (3) .
وقال الأحناف: إذا لم يوافق حكم المحكم مذهب المجتهد الذي يقلده قاضي البلد ينقضه القاضي (4) .
القاعدة الخامسة: إذا حكم المحكم في مسائل منع من التحكيم فيها استحق التأديب لافتياته على الإمام (5) .
القاعدة السادسة: إذا كان المحكمون مأذونين بالتحكيم جاز لهم تحكيم آخر أما إذا لم يكونوا مأذونين فليس لهم أن يحكموا غيرهم (6) .
القاعدة السابعة: يجوز نصب حكمين أو ثلاثة أو أكثر بحسب الحاجة، ولكن يتعين في هذه الحالة اتفاق رأيهم كلهم. (7) .
وقال الأتاسي: إلا يكون المحكمون مأذونين من قبل من حكمهم أن يحكموا بكثرة الآراء فالظاهر أنه يجوز (8) .
__________
(1) المادة 1851 من مجلة الأحكام العدلية؛ وحاشية رد المحتار جـ 5 / 429
(2) مغنى المحتاج جـ 4 / 379.
(3) مواهب الجليل جـ 6 / 113
(4) حاشية رد المحتار جـ 5 / 431
(5) مواهب الجليل جـ 6 / 113.
(6) المادة 1845 من مجلة الأحكام العدلية
(7) المادة 1844 من مجلة الأحكام العدلية.
(8) شرح الأتاسي على المجلة جـ 6 / 178(9/1790)
ثانيًا – شروط التحكيم
تتنوع شروط التحكيم إلى عدة أنواع، الأول: شروط من جهة المحكم بكسر الكاف، والثاني: شروط من جهة المحكم بفتح الكاف، والثالث: شروط من جهة المحكوم به، الرابع: شروط من جهة الحكم.
أولًا – شروط المحكم:
أن يكون لهما ولاية على أنفسهم وذلك يتحقق بالبلوغ والعمل فلا يجوز تحكيم الصبي أو المجنون (1) ولا يشترط في المحكم غير ذلك، فلا يشترط إسلام المحكم ولا كونه حرًّا فيجوز من كل من تحققت فيه أهلية الخصومة.
ثانيًا – شروط المحكم:
أما شروط المحكم فقد ذهب جمهور الفقهاء على أنه يشترط فيه صلاحيته للقضاء ويشترط هذه الصلاحية وقت التحكيم ووقت الحكم (2) لأن المحكم بمنزلة القاضي فيما بين الطرفين (3) لكن خفف بعض الحنابلة من بعض تلك الشروط، جاء في كشاف القناع: العشر صفات التي ذكرها في المحرر في القاضي لا تشترط فيمن يحكمه الخصمان (4) ونقل الباجي عن أشهب في كتاب ابن إسحاق إن حكما بينهما امرأة فحكمها ماض أما إذا كان مما يختلف الناس فيه وكذلك العبد والمسخوط.
كما نقل أيضًا عن عدد من أئمة المالكية جواز تحكيم بعض من لا يصلح للقضاء فنقل ابن الماجشون من رواية ابن حبيب إن كان العبد والمرأة بصيرين عارفين مأمونين فإن تحكيمهما وحكمهما جائز إلا في خطأ بين وقاله أصبغ وأشهب. قال ابن حبيب: وبه آخذ وقد ولى عمر الشفاء وهي أم سليمان ابن أبي حثمة سوق المدينة، ولابد لوالي السوق من الحكم بين الناس ولو في صغار الأمور ونقل عن أصبغ قوله: إن حكما مسخوطًا فحكم فأصاب جاز وكذلك المحدود والصبي إذا كان عقل وعرف وعلم، فرب غلام لم يبلغ له علم بالسنة والقضاء، ثم عقب الباجي بعد ذلك على تلك الأقوال فقال: وأصلها على أن من جعل التحكيم من باب الوكالة لم يراع شيئًا من ذلك إذا لم يكن ذاهب العقل ومن جعله من باب الولاية في حكم خاص لم يجز فيه إلا من قدمنا وصفه ممن اجتمعت فيه صفات الحكم (5) ، وقال الخرشي: إن الصبي المميز والعبد والمرأة والفاسق إذا حكموا في المال والجرح ففي ذلك أربعة أقوال: الصحة مطلقًا لأصبغ وعدم الصحة مطلقا لمطرف والثالث الصحة إلا في تحكيم الصبي؛ لأنه غير مكلف ولا إثم عليه إن جار وهو لأشهب والرابع الصحة إلا في تحكيم الصبي والفاسق وهو لعبد الملك (6) .
__________
(1) شرح فتح القدير جـ 7 / 316؛ شرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي جـ 6 / 172؛ وشرح مجلة الأحكام المسمى درر الحكام لعلي حيدر جـ 4 / 640.
(2) حاشية رد المحتار جـ 5 / 428.
(3) شرح فتح القدير جـ 7 / 316؛ مواهب الجليل ج ـ 6 / 112؛ مغنى المحتاج جـ 4 / 378؛ المغنى لابن قدامة جـ 10 / 190
(4) كشاف القناع جـ 6 / 309
(5) المنتقى للباجي ج 5 / 228
(6) شرح الخرشي على خليل ج 7 / 146(9/1791)
ولما كان بعض شروط القضاء محل خلاف بين الأئمة ككون من يولى القضاء ذكرًا فقد انسحب هذا الخلاف على المحكم؛ لأن المحكم فرع عن القضاء كما أسلفنا فنخص هذه الشروط التي ورد فيها الخلاف بموجز من القول، وأول هذه الشروط اختلافهم في كون من يولى القضاء ذكرًا فقد اشترط الجمهور هذا الشرط.
وقال ابن جرير: إنه لا يشترط الذكورية؛ لأن المرأة يجوز أن تكون فقيهة فيجوز أن تكون قاضية.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود؛ لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه (1) ولهذا أجاز الأحناف تحكيم المرأة لصلاحيتها للقضاء (2) .
وثاني هذه الشروط العدالة فقد أجاز الحنفية تولي الفاسق القضاء وبالتالي قالوا بجواز كونه حكمًا (3) ومع تولية الفاسق القضاء والحنابلة (4) .
وقد بينا موقف المالكية فلا نعيده.
وثالث هذه الشروط الاجتهاد وقال صاحب المغني: الشرط الثالث أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك والشافعية وبعض الحنفية، وقال بعضهم: يجوز أن يكون عامِّيًّا فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرض منه فصل الخصائم؛ فإذا أمكنه بالتقليد جاز كما يحكم بقول المقدمين (5) .
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ 10 / 127
(2) حاشية رد المحتار جـ 5 / 408
(3) حاشية رد المحتار جـ 5 / 408
(4) كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم ص 78؛ المغني لابن قدامة ج 10 / 127
(5) المغني جـ 7 / 128(9/1792)
النوع الثالث في الشروط من جهة المحكوم به
المحكوم به لا يخلو الأمر إما أن يكون في مسائل الأحوال الشخصية أو في مسائل المعاملات المالية أو في مسائل الحدود والقصاص أو في مسائل أحكام السياسات الشرعية.
أ- التحكيم في مسائل الشقاق بين الزوجين
أما عن الأمر الأول وهو التحكيم في مسائل الأحوال الشخصية فقد جاء في كتاب الله قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] .
قال ابن العربي في أحكامه: هي من الآيات الأصول في الشريعة (1) ، وقال: هذا نص من الله سبحانه وتعالى في إنهما قاضيان لا وكيلان … وينظران فيما عند الزوجين بالتثبت فإن رأيا للجمع وجها جمعا وإن وجداهما قد أثابا تركاهما وهذا مذهب مالك، وقال أبو حنيفة وأحمد: إنهما وكيلان عنهما فلا يفرقان بينهما إلا برضاهما وهو الأصح من قولي الشافعي (2) والقول الثاني يتفق وقول مالك.
وعلى هذا فالتحكيم في هذه الشعبة من شعب الفقه متفق عليه وإن كان ثمة خلاف فإنما هو في مدى اختصاص الحكمين بالتفريق وهل تشترط موافقة الزوجين أم ينفردان دونهما بالتفريق، كما اختلفوا في المخاطبين بهذا الخطاب (فابعثوا) ، قال سعيد بن جبير: إنه السلطان الذي يترافعان إليه. السدي: الرجل والمرأة، وقال مالك: قد يكون السلطان وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين (3) .
اختلف في بعض مسائل الأحوال الشخصية هل يجوز فيها التحكيم أم لا؟ ومن هذه المسائل: اللعان والنسب والطلاق وفسخ النكاح والرشد والسفه وكذلك بالنسبة للغائب مما يتعلق بماله وزوجته وحياته وموته، فقد نص المالكية على عدم جواز التحكيم في هذه المسائل؛ لأن هذه الأمور إنما يحكم فيها القضاة، ولأن الحق فيها يتعلق بغير الخصمين إما لله كالطلاق وإما لآدمي كاللعان والولاء والنسب، ففي اللعان حق الولد بقطع نسبه وفي الولاء والنسب ترتيب أحكامها من نكاح وعدمه وإرث وعدمه وغير ذلك على الذرية التي ستوجد (4) . وقال الشافعية لا يجوز التحكيم في الولاية على الأيتام وإيقاع الحجر على مستحقيه (5) وهناك مسائل هي محل خلاف بين الفقهاء كمسألة اللعان فقد نقل الماوردي فيها وجهين (6) وقال الحنابلة يجوز التحكيم في اللعان.
بل الحنابلة أطلقوا الجواز جاء في كشاف القناع: نفذ حكمه في المال والقصاص والحد والنكاح واللعان وغيرها حتى مع وجود قاض فهو كحاكم الإمام (7) .
__________
(1) أحكام القرآن جـ 1 / 421
(2) أحكام القرآن للكيا الهراسي جـ 2 / 368؛ وأحكام القرآن للجصاص جـ 3 / 152
(3) أحكام القرآن للكيا الهراسي جـ 2 / 368؛ وأحكام القرآن الجصاص جـ 3 / 152
(4) الشرح الصغير جـ 4 / 199
(5) أدب القاضي للماوردي جـ 2 / 381
(6) أدب القاضي للماوردي جـ 2 / 381
(7) كشاف القناع جـ 6 / 308(9/1793)
ب- التحكيم في المعاملات المالية
التحكيم في المنازعات المالية هو الأصل (1) ولهذا كان أول تقنين لمسائل التحكيم طبقًا لأحكام الشريعة الإسلامية النصوص التي اشتملت عليها مجلة الأحكام العدلية مأخوذة من المذهب الحنفي.
فقد نصت المادة 1841: (يجوز التحكيم في دعاوى المال المتعلقة بحقوق الناس) وجاءت بقية المواد لتنظيم أحكامه التفصيلية ثم أخذت التشريعات الوضعية تخصص للتحكيم نصوصًا خاصة في قوانين المرافعات وبات التحكيم يأخذ مكانة مرموقة على مستوى دول العالم ومختلف نظمه وهيئاته فالتحكيم في مسائل المعاملات كالكفالة بالنفس والمال والشفعة والديون والبيوع صحيحة وجائزة (2) وقال في التبصرة: إن الخصمين إذا حكما بينهما رجلًا وارتضياه لأن يحكم بينهما فإن ذلك جائز في الأموال وما في معناها (3) وجاء في الشرح الصغير: وجاز تحكيم … في مال من دين وبيع وشراء فله الحكم بثبوت ما ذكر أو عدم ثبوته ولزومه وعدم لزومه وجوازه وعدمه (4) .
وقد ورد قول ضعيف لبعض الفقهاء أنه لا يجوز لما فيه من الافتيات على الإمام ونوابه وقد رد هذا القول على قائله بأنه ليس للمحاكم حبس ولا استيفاء عقوبته فلا افتيات ولا خرق لهيبة السلطان (5) وشرط بعضهم لجواز التحكيم أن لا يكون قاض بالبلد وهذا القول أيضًا مردود (6) بأن الحكم بين الناس إنما هو حق للناس لا حق الحاكم ولكن لما كان الاسترسال على التحكيم خرقًا لقاعدة الولاية ومؤديا إلى تهارج الناس فأمر الشارع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج وأذن في التحكيم تخفيفًا عنه وعنهم في مشقة الترافع؛ لتتم المصلحتان، وتحصل الفائدتان (7) .
__________
(1) أدب القاضي للماوردي جـ 2 / 381؛ مغني المحتاج جـ 4 / 378
(2) حاشية رد المحتار جـ 5 / 430؛ وشرح فتح القدير جـ 7 / 318
(3) تبصرة الحكام لابن فرحون جـ 2 / 55
(4) الشرح الصغير جـ 4 / 198.
(5) نهاية المحتاج جـ 8 / 220
(6) مغني المحتاج جـ 4 / 309
(7) أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 / 619.(9/1794)
ج. التحكيم في مسائل الحدود والقصاص:
اختلف الفقهاء في جواز التحكيم في الحدود والقصاص فذهب الحنابلة وطائفة من الشافعية إلى جواز التحكيم في الحدود والقصاص بل إن الحنابلة توسعوا في الأخذ بالتحكيم فلم يقيدوه بشيء مما قيده به غيرهم فينفذ عندهم التحكيم في المال والقصاص والحد والنكاح واللعان وغيرها (1) ، وقال في المهذب: واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم فمنهم من قال: يجوز في كل ما تحاكم فيه الخصمان كما يجوز حكم من ولاه الإمام (2) .
وذهب فريق إلى أنه لا يجوز التحكيم في الحدود التي لله تعالى حق فيها هو قول الحنفية والشافعية (3) جاء في بداية المبتدي: ولا يجوز التحكيم في الحدود والقصاص، قال البابرتي في شرحه على الهداية: لا يجوز التحكيم في الحدود الواجبة حقًّا لله تعالى باتفاق الروايات؛ لأن الإمام هو المتعين لاستيفائها وأما في حد القذف والقصاص فقد اختلف المشايخ، قال شمس الأئمة من أصحابنا من قال بالتحكيم في حد القذف والقصاص جائز (4) .
وقال الخصاف: ولو أن رجلين حكما بينهما رجلًا في حد أو قصاص فحكم بينهما لم يجز ذلك، ومن أصحابنا من قال: إنما لا يجوز هذا في الحدود الواجبة لله تعالى أما في القذف والقصاص فإنه يجوز (5) .
وقال الماوردي: والأحكام تنقسم في التحكيم إلى ثلاثة أقسام: قسم يجوز فيه التحكيم وهو حقوق الأموال وعقود المعاوضات وما يصح فيه العقد والإبراء.
وقسم لا يجوز فيه التحكيم وهو ما اختص القضاة بالإجبار عليه من حقوق الله تعالى والولايات على الأيتام وإيقاع الحجر على مستحقيه، وقسم مختلف فيه وهو أربعة أحكام: النكاح، واللعان، والقذف، والقصاص (6) وكذلك منع المالكية جريان التحكيم في الحدود والقصاص.
قال الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك: والحاصل أنه يحكم في الأموال والجراحات عمدها وخطئها لا في الحدود ومنها قطع اليد في السرقة ولا في النفوس؛ لأن الحدود المقصود منها الزجر وهو حق الله وكذلك القتل؛ لأنه إما لردة أو حرابة، وكله حق لله لتعدي حرماته (7) .
__________
(1) كشاف القناع جـ 6 / 308.
(2) المهذب جـ 2 / 291
(3) المهذب جـ 2 / 291
(4) شرح العناية على الهداية – فتح القدير جـ 7 / 38.
(5) شرح أدب القاضي للخصاف جـ 4 / 62.
(6) أدب القاضي جـ 2 / 380، 381.
(7) الشرح الصغير جـ 4 / 199(9/1795)
د- التحكيم في مسائل السياسة الشرعية:
1- التحكيم في وقف الحرب:
توصلت دول العالم أخيرًا إلى فكرة فض المنازعات بالطرق الودية كوسيلة لمنع الحروب فقررت عرض كل نزاع يقوم بين الدول على التحكيم أو القضاء وحظرت الالتجاء إلى الحرب قبل استنفاذ هذه الوسائل العلمية هذا ما نص عليه قانون عصبة الأمم ثم ميثاق الأمم المتحدة (1) ، وقد عالج الفقه الإسلامي هذا الجانب فنص على أنه لا يقاتل المسلمون غيرهم إلا بعد، يدعوهم إلى الله ورسوله ويبينوا لهم أحكام الإسلام وشرائعه (2) .
قال الماوردي: والقسم الثاني من أحكام هذه الإمارة في تدبير الحرب. والمشركون في دار الحرب صنفان: … الصنف الثاني: لم تبلغهم دعوة الإسلام … فيحرم علينا الإقدام على قتالهم غرة وبياتًا أو أن نبدأهم بالقتل قبل إظهار دعوة الإسلام لهم وإعلامهم من معجزات النبوة وإظهار الحجة بما يقودهم إلى الإجابة (3) مستدلًا بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
وإذا عرضوا الصلح أو التحكيم أجيبوا إليه.
وقال أبو يوسف: وإذا حاصر المسلمون حصنًا لأهل الحرب فصالحوهم على أن ينزلوا على حكم سموه فحكم فقد يكون الحكم بالقتل أو بوضع الجزية أو بغير ذلك فكل ذلك جائز.
وكان أول تحكيم في الإسلام هو التحكيم الذي جرى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال أبو يوسف: حدثني محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فنزلوا على أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، وكان جريحًا من سهم أصابه يوم الخندق وكان في خيمة رفيدة، فأتاه قومه فحملوه على حماره ثم قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك الحكم في بني قريظة وهم حلفاؤك.
__________
(1) القانون الدولي العام لعلي أبي هيف ص 625، 650
(2) مفتاح الرتاج المرصد على خزانة كتاب الخراج، أو فقه الملوك جـ 2 / 472
(3) الأحكام السلطانية ص 37(9/1796)
فقال: قد آن لسعد أن لا يخاف في الله لومة لائم، فخرج ومن كان معه ممن سمع مقالته إلى دار قومه يبغي رجال بني قريظة، فلما وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم قباله من ذلك المكان قال: (عليكم العهد والميثاق: أن الحكم فيهم ما حكمت؟) . . . . وهو غاض طرفه عن موضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون: نعم: فقال: حكمت فيهم أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات)) (1) .
ومن المسائل التي تناولها الفقهاء في هذا الجانب لو نزل العدو على حكم رجل ثم تبين بعد الحكم أنه لم يكن مستجمعًا لشروط الحكم نص المالكية على أن الإمام ينظر في حكمه؛ فما كان صوابًا أمضاه، وما كان غير صواب رده، وتولى الحكم بنفسه فيما يراه مصلحة (2) .
وذهب آخرون إلى أن لا يعمل بهذا الحكم ويبقون على ما كانوا عليه قبل الحكم فإن كانوا في حصن ونزلوا منه ردوا إليه. (3) .
2- التحكيم في المسائل الدستورية:
يذكر الماوردي في معرض الاستدلال على جواز التحكيم تحكيم الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الإمامة، وتحكيم أهل الشورى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في اختيار الخليفة من بين أهل الشورى الذين اختارهم عمر رضي الله عنه قبل موته (4) .
__________
(1) المصدر السابق وينظر فتح الباري جـ 7 / 411 كتاب المغازي باب يرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب؛ وصحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب جواز قتال من نقض العهد شرح النووي جـ 12 / 92؛ والخرشي على خليل وحاشية العدوي عليه جـ 3 / 122.
(2) شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه جـ 3 / 122.
(3) الرتاج شرح أحكام الخراج جـ 2 / 485؛ المذهب جـ 2 / 238، 239
(4) أدب القاضي جـ 2 / 379، 380.(9/1797)
والتحكيم في المسألة الأولى تغني شهرتها في كتب السير والتاريخ عن ذكرها، أما تحكيم أهل الشورى عبد الرحمن بن عوف فقد أخرجه العلامة علاء الدين البرهان فوري من حديث عمرو بن ميمون وغيره (1) .
وأورد الخبر بطوله ابن سعد في الطبقات عند الكلام على ترجمة عمر رضي الله عنه وخبر مقتله واستخلافه عليًّا وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن: وسعدًا، قال: فلما اجتمعوا قال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة نفر منكم فجعل الزبير أمره إلى علي، وجعل طلحة أمره إلى عثمان وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن فاتمروا أولئك الثلاثة حين جعل الأمر إليهم، فقال عبد الرحمن: أيكم يبرأ من الأمر ويجعل الأمر إلي على ألا آلوكم عن أفضلكم وخيركم للمسلمين فسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: تجعلانه إلي وأنا أخرج منها، فوالله لا آلوكم عن أفضلكم وخيركم للمسلمين قالوا: نعم إلى آخر القصة (2) .
ومن المسائل المتعلقة بالإمامة والتي تصدى لها فريق من الباحثين المعاصرين الاختلاف بين الإمام ومجلس الشورى.
وهذا الموضوع يحتاج إلى تأصيل وبيان هل مجلس الشورى هذا هو عين المجالس النيابية أو غيرها؟ فإذا كان مجلس الشورى هو المجلس النيابي أو السلطة التشريعية كما يقولون فإن الحلول المطروحة طبقًا للدساتير المتعارف عليها، وهي قيام رئيس الدولة بحل المجلس التشريعي وإجراء انتخابات جديدة أو قيام السلطة التشريعية بنزع ثقتها من الوزارة وإرغامها على الاستقالة (3)
هي الحلول العملية لمثل هذا النزاع.
__________
(1) كنز العمال جـ 5 / 727، 731
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 / 245.
(3) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي رسالة دكتوراه في الحقوق جامعة القاهرة للدكتور فتحي عبد الكريم ص 385.(9/1798)
ويرى الدكتور محمد عبد الله العربي إنشاء محكمة عليا تختص بالفصل في قضايا النزاع بين رئيس الدولة والسلطة التشريعية والتي تحال إليها من أي من الطرفين لتفصل فيها ويكون لحكم هذه المحكمة السلطة في إبطال أي قانون وضعي أقره المجلس أو أي قرار إداري أصدره رئيس الدولة إذا رأت في أي منهما مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنة (1) .
ويرى الدكتور فتحي عبد الكريم أنه مجلس الشورى هذا غير المجلس النيابي المتعارف عليه فإن المجالس النيابية تختص بوضع التشريعات والقوانين أما مجلس الشورى فيتعلق بالمجال التنفيذي فالخليفة أو رئيس الدولة له اختصاصات تنفيذية وفي نطاق هذه الاختصاصات التنفيذية فإنه يتعين عليه إذا عرضت مسألة هامة تتعلق بمصلحة عامة للأمة أن يستشير الأمة فيها مثل إعلان الحرب ويستدل على هذا الفرق بين المجلسين بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالاستشارة وكان يستشير فعلًا ولا يمكن أن يكون ذلك بقصد التشريع؛ لأن في عهده كان هو المشرع وإن الفقهاء يختلفون في نطاق الشورى كما اختلفوا في حكم الشورى هل الأمر به للوجوب أو الندب (2) .
ويتساءل الدكتور قحطان الدوري في كتابه التحكيم إذا بقي الاختلاف بين مجلس الشورى والإمام هل يؤخذ برأي الأغلبية أو يؤخذ بالتحكيم أو يؤخذ برأي الإمام ويلتقى مع الرأي السابق وهو إنشاء محكمة عليا تكون مهمتها الفصل في الخلاف بين الإمام ومجلس الشورى ويكون رأيها ملزمًا (3) .
ونرى أن مجال التحكيم واسع في الفقه الإسلامي فهو يتسع لكل المسائل والوقائع سواء ما كان متعلقًا منها بفروع القانون الداخلي أو الدولي وبعبارة أخرى بأحكام السياسة الشرعية أو فروع الفقه الأخرى إلا ما اتفق على عدم خضوعه للتحكيم.
__________
(1) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي رسالة دكتوراه في الحقوق جامعة القاهرة للدكتور فتحي عبد الكريم ص 358
(2) المرجع السابق ص 366 – 368.
(3) عقد التحكيم ص 588، 589(9/1799)
الرابع: شروط الحكم وهل يملك الحكم
أو من حكمه الرجوع عن الحكم؟
إذا تحققت الشروط المعتبرة في التحكيم وهي التي سبق بيانها فإن الحكم الصادر فيه يكون لازمًا لطرفيه واجب النفاذ.
قال الماوردي: وإذا جاز التحكيم في الأحكام فنفاذ حكمه مقيد بأربعة شروط (1) ، وقال: فيما يصير الحكم به لازمًا لها وفيه قولان للشافعي:
أحدهما: أنه لا يلزمهما الحكم إلا بالتزامه بعد الحكم كالفتيا؛ لأنه لما وقف على خيارهما في الابتداء وجب أني يقف على خيارهما في الانتهاء وهو قول المزني.
والقول الثاني: وهو قول الكوفيين وأكثر أصحابنا أنه يكون بحكم المحكم لازمًا لهما ولا يقف بعد الحكم على خيارهما لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: ((من حكم بين اثنين تراضيًا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله)) (2) فكان الوعيد دليلًا على لزوم حكمه كما قال في الشهادة: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ولحديث: ((إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحدًا)) (3) فصار بتأميرهم له نافذ الحكم عليهم كنفوذه لو كان واليًا عليهم، وذلك انعقدت الإمامة للإمام باختيار أهل الاختيار (4) .
وذكر في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار: فإن حكم لزمهما ولا يبطل حكمه بعزلهما لصدوره عن ولاية شرعية (5) وكذلك نص المالكية فقد جاء في التبصرة: ولا يشترط دوام الرضا إلى حين نفوذ الحكم بل لو أقاما البينة عنده ثم بدا لأحدهما قبل أن يحكم فليقض بينهما ويجوز حكمه، وقال أصبغ: لكل واحد منهما الرجوع ما لم ينشبا في الخصومة عنده فيلزمهما التمادي فيها كما ليس لأحدهما إذا ترافعا الخصومة عند القاضي أن يوكل وكيلًا أو بعزله.
وقال سحنون في كتاب ابنه: لكل واحد منهما الرجوع ما لم يفصل الحكم بينهما وقال ابن الماجشون: ليس لأحدهما الرجوع كان ذلك قبل أن يتقاعد صاحبه أو بعده ما ناشبه الخصومة وحكم لازم لهما (6) .
__________
(1) أدب القاضي جـ 2 / 380
(2) الحديث
(3) كشف الخفاء ومزيل الإلباس جـ 1 / والحديث برقم 267
(4) أدب القاضي جـ 2 / 382، 383
(5) حاشية رد المحتار جـ 5 / 429.
(6) تبصرة الحكام لابن فرحون جـ 2 / 55، 56.(9/1800)
ليس للمحكم كذلك أن يرجع عن الحكم:
وليس للحكم أن يرجع عن حكمه، وليس له بعد أن حكم لأحدهما أن يرجع ويقضي للآخر؛ لأن الحكومة قد تمت بالقضاء الأول فكان القضاء الثاني باطلًا (1) .
عزل المحكمين:
التحكيم من العقود الجائزة فلكل واحد من المحكمين الرجوع عنه، ولكن هذا الرجوع مقيد بأن يتم قبل الحكم قال في البحر الرائق: ولكل واحد من المحكمين، أن يرجع قبل حكمه؛ لأنه تقلد من جهتهما فكان لكل منهما عزله وهو من الأمور الجائزة فينفرد أحدهما بنقضه كالمضاربة والشركة الوكالة (2) .
وقال ابن أبي الدم: ومهما رضيا به ثم رجع أحدهما قبل أن يحكم لم ينفذ حكمه وفاقًا، وإنما الخلاف فيه إذا استمر على الرضا حتى حكم ولم يجددا رضا (3) وذكر وجها بعيدًا أن رجوع أحدهما بعد الخوض في التحكيم لم يؤثر الرجوع وينفذ الحكم (4) وقد سبق بيان أقوال المالكية في الرجوع عن التحكيم بعد شروع الحكم في نظر النزاع فلا نعيده.
انتهاء مهمة الحكم:
ونص الفقهاء على أن مهمة الحكم تنتهي بأحد أمور ثلاثة:
بالعزل أو بانتهاء الحكومة نهائيًّا بأن كان مؤقتًا فمضى الوقت أو بخروجه من أن يكون صالحًا لنظرها وبفقده شرطًا من الشروط المؤثرة على سلامة الحكم أو سيره في نظر التحكيم وكذلك بالفصل في الدعوى موضوع التحكيم. (5) .
__________
(1) البحر الرائق جـ 7 / 27
(2) المصدر السابق ص 26
(3) أدب القضاء ص 177
(4) أدب القضاء ص 177
(5) البحر الرائق جـ 7 / 28؛ مجلة الأحكام العدلية المواد 1846 – 1847 – الموسوعة الفقهية مادة التحكيم(9/1801)
تنفيذ حكم المحكمين أو باتصاله بالقضاء:
الأصل أن يتم تنفيذ حكم المحكمين طواعية واختيارًا؛ لأن التحكيم كان بإرادة المحكمين واختيارهم وطوعهم، ولكن لما كان حكم المحكم عرضة للخطأ والصواب وقد يبدو للطرفين فيه أو لأحدهما التأكد والاستيثاق منه من حيث صدوره موافقة لأحكام الشريعة ونظم البلاد أو ربما يتم تنفيذه في بلد آخر أو لدى قاض قد يختلف نظره في هذا الحكم لاختلاف مذهبه أو نظم البلد الذي يحكم فيه فقد عالجت مجلة الأحكام العدلية ذلك في مادتين متتاليتين نصت المادة 1848 من مجلة الأحكام العدلية على أنه (كما أن حكم القضاة لازم الإجراء في حق جميع الأهالي الذين في داخل قضائهم كذلك حكم المحكمين لازم الإجراء على الوجه المذكور في حق من حكمهم وفي الخصوص الذي حكموا به، فلذلك ليس لأي واحد من الطرفين الامتناع عن قبول حكم المحكمين بعد حكم المحكمين حكمًا موافقًا لأصوله المشروعة) .
ونصت المادة 1849 منها على أنه (إذا عرض حكم للمحكم على القاضي المنصوب من قبل السلطان فإذا كان موافقًا للأصول صدقه وإلا نقضه) .
وجاء في شرح هذه المادة أن فائدة تصديق حكم المحكم من قبل القاضي هو أنه لو عرض هذا الحكم على أنه قاض آخر يخالف رأيه واجتهاده رأى المحكم فليس له نقضه؛ لأن إمضاءه وقبول القاضي لحكم المحكم هو بمنزلة الحكم ابتداء من القاضي، أما إذا لم يصدق القاضي على حكم المحكم فيكون من الممكن للقاضي الآخر أن ينقض حكم المحكم، فإذا حكم المحكم حكمًا غير موافق للأصول بنقضه القاضي والمحكم الثاني (1)
وقالوا: إن عدم موافقة حكم المحكم للأصول يكون لوجهين.
الأول: أن يكون حكم المحكم خطأ لا يوافق أي مذهب من المذاهب، وبما أن الحكم على هذا الوجه خطأ بين واجب رفعه ويقضي القاضي في النزاع على وجه الحق.
الثاني: أن يكون حكم المحكم موافقًا لمذهب أحد المجتهدين إلا أن يكون غير موافق لمذهب المجتهد الذي يقلده القاضي الذي عرض عليه حكم المحكم. قالوا: لأن حكم المحكم لا يرفع المسائل الخلافية فالحكم لازم لطرفي التحكيم، ولكن لا يلزم القاضي بخلاف الحكم الصادر عن القضاء (2) .
ونصوص المالكية تتفق على ما سبق فقد قال الباجي: ولو حكم رجلان بينهما رجلًا فقضى بينهما فقضاؤه جائز قاله مالك في المجموعة قال ابن القاسم: وإن قضى بما يختلف فيه ويرى القاضي خلافه فحكمه ماض إلا في جَوْرٍ بَيِّنٍ (3) .
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر ج ـ 4 / 645، 646
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر جـ 4 / 645، 646
(3) المنتقى جـ 5 / 226(9/1802)
نظرات سريعة في قواعد التحكيم في التشريعات الوضعية:
هذه القواعد التي أسلفنا الكلام عليها في التحكيم أخذت به التشريعات والنظم القانونية الحديثة ولما كانت هذه النظم لا خلاف بينها سيما في المسائل الجوهرية فنكتفي بعرض أهم هذه الأحكام العامة مستشهدين ببعض نصوص القانون الكويتي.
أولًا – الاتفاق على التحكيم:
لا يعرض النزاع على المحكمين إلا باتفاق ذوي الشأن وهذا الاتفاق يتخذ إحدى صورتين (254) فهو قد يرد في نفس العقد سواء كان عقدًا مدنيًّا أو عقدًا تجاريًّا بأن يتفق الطرفان على شراء وتوريد أو بناء منزل أو شراء عمارة مثلا فينصان في عقد الشراء أو عقد البناء أو عقد التوريد على أنه في حال نشوب أي نزاع بينهما بشأن تغير هذه العقد أو تنفيذه يعرض على محكمين وقد لا ينصان في العقد الأصلي ولكن بعد نشوب النزاع يتفقان على عرضه على محكمين ويطلق عليه في هذه الحالة وثيقة التحكيم أو مشاركة التحكيم.
ثانيًا – شروط التحكيم:
وأهم هذه الشروط:
أ- توافر الأهلية (255مرافعات) وتطبيقا لهذه الشروط لا يجوز للمحجور عليه إبرام عقد التحكيم.
ب- أن يصلح الحق المتنازع عليه كمحل للتحكيم ولا يكون المحل صالحًا للتحكيم إذا كان مما لا تجوز المصالحة عليه إن كان متعلقا بالحالة الشخصية أو بالنظام العام فلا يجوز التحكيم على حق الزوج في الطلاق.
ج- تحديد محل النزاع ويترتب على الاتفاق على التحكيم أنه لا يجوز عرض النزاع على القضاء، فإذا رفعت أمام القضاء كان للمدعى عليه الحق في رفعها بعدم القبول.(9/1803)
ثالثًا- يجوز أن يكون المحكم واحدا ويمكن أن يكونوا متعددين (256) ولكن بشرط أن يكون العدد فردا ثلاثة أو خمسة وإلا كان باطلا. وإذا كان المحكمون مفوضين بالصلح يجب تعيين أسمائهم أما إذا لم يكونوا مفوضين بالصلح فلا يشترط التعيين بالاسم.
رابعًا – شروط المحكمين:
يشترط القانون فيمن يكون محكما أن يكون له الأهلية المدنية الكاملة وإلا يكون ممنوعا من التحكيم (كتعيين رجال القضاء بدون موافقة مجلس القضاء الأعلى) وألا تكون له مصلحة في النزاع.
خامسًا – رد المحكم وتنحيته وعزله؛ لأن المحكم في حكم القاضي.
سادسًا – حكم المحكمين إذا كانوا متعددين يصدر بأغلبية الآراء ويجب كتابة حكم المحكمين (المادة 267مرافعات) .
ويكون لحكم المحكمين حجية الآراء المقضى بمجرد صدوره يكون هذا الحكم ورقة رسمية وحتى تكون له القوة التنفيذية فإنه لا بد من عرضه على القضاء لإعطائه القوة وهو صدور أمر تنفيذه المادة (263مرافعات) ويجوز الطعن عليه بالاستئناف إلا إذا كان المحكمون مخولين بالصلح أو تنازل المحكوم عليه عن حقه في الطعن صراحة أو كانت قيمة الدعوة غير قابلة للطعن عليه بالاستئناف. (1)
هذه أهم القواعد التي تنص عليها القوانين الوضعية في التحكيم وهي بمجملها تتفق مع الأحكام التي سبق بيانها في الفقه الإسلامي وأن بعض الأحكام التي فيها مخالفة لأحكام الفقه ككون الحكم صادرًا من الأغلبية في حالة تعدد المحكمين تقتضيها مصلحة الخصوم في إنهاء الخصومة فيما بينهم وغالبًا ما تكون في مسائل جانبية لا تمس جوهر القانون.
__________
(1) قانون القضاء المدني الكويتي د. فتحي والي ص:444، 458؛ التحكيم أحكامه ومصادره د. عبد الحميد الأحدب في أربع مجلدات استعرض فيه قوانين التحكيم في فرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي والبلاد العربية.(9/1804)
احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية في دولة إسلامية
للعلماء في هذه المسألة خلاف بين وأصله قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] .
الكلام في الآية في موضعين:
الأول: في بقاء التخيير وعدمه.
والثاني: في موضع الحقوق.
أما عن الأمر الأول:
فقد تباينت الآراء في بقاء التخيير بين الفصل في أنزعتهم إذا لجئوا إلى قضاتنا أو عدم الفصل فيها وتركها وشأنهم في اللجوء إلى رؤسائهم ومحاكمهم الخاصة بهم فذهب فريق إلى بقاء التخيير وذهب آخرون إلى أن التخيير قد نسخ وأنه يجب الفصل إذا لجئوا إلينا وذهب فريق ثالث إلى بقاء التخيير في المعاهدين والمستأمنين ولزوم الفصل في حق أهل الذمة ويفرق ابن العربي بين جرائم القتل والغصب فيلزم الحكم في هذه الجرائم يخير فيما سواهما، وهذه تفاصيل أقوالهم:
قال الجصاص: ظاهر ذلك يقتضي معنيين:
أحدهما: تخليتهم وأحكامهم من غير اعتراض عليهم.
الثاني: التخيير بين الحكم والإعراض إذا ارتفعوا إلينا.
وقد اختلف السلف في بقاء هذا الحكم:
فقال قائلون: إذا ارتفعوا إلينا فإن شاء الحاكم حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم. وقال آخرون: التخيير منسوخ فمتى ارتفعوا إلينا حكمنا بينهم من غير تخيير.
وقد قال بالتخيير الحسن والشعبي وإبراهيم وذهب ابن عباس إلى أن آية التخيير منسوخة بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] .(9/1805)
وروى النسخ سعيد بن جبير عن الحكم عن مجاهد وروى سفيان عن السعدي عن عكرمة مثله.
ورجح الجصاص النسخ وعلق عليه بقوله: ومعلوم أن ذلك لا يقال عن طريق الرأي؛ لأن العلم بتواريخ نزول الآية لا يدرك من طريق الرأي والاجتهاد وإنما طريقه التوقيف ولم يقل من أثبت التخيير أن آية التخيير نزلت بعد قوله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وأن التخيير نسخه، وإنما حكى عن مذاهبهم في التخيير من غير النسخ فثبت نسخ التخيير بقوله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] كرواية من ذكر نسخ التخيير، ويدل على نسخ التخيير قوله {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] الآيات (1) .
وذكر القرطبي أن القول بالنسخ هو قول عمر بن عبد العزيز وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه.
ونقل عن النحاس في (الناسخ والمنسوخ) له قوله تعالى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] منسوخ؛ لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي.
ثم رجح قول القائلين بالنسخ فقال: فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس. ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة؛ لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة وإلا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركًا فرضًا فاعلًا ما لا يحل له ولا يسعه (2) .
ووفق فريق بين الرأيين السابقين فقال: إن التخيير في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يجر عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم، وإيجاب الحكم بما أنزل الله في أهل الذمة الذين يجري عليهم أحكام المسلمين.
قال الجصاص: وقد روى ابن عباس ما يدل على ذلك روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قوله الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبين بني النضير وذلك أن بني النضير كان لهم شرف بدون دية كاملة وأن بني قريظة بدون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء ومعلوم أن بني قريظة وبني النضير لم تكن لهم ذمة قط وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير وقتل بني قريظة ولو كان لهم ذمة لما أجلاهم ولا قتلهم، وإنما كان بينهم وبينه عهد وهدنة فنقضوها.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص جـ 4 / 87، 88
(2) الجامع لأحكام القرآن جـ 6 / 185، 186(9/1806)
فجائز أن يكون حكمها باقيًا في أهل الحرب من أهل العهد وحكم الآية الأخرى في وجوب الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى ثابتًا في أهل الذمة فلا يكون فيها نسخ وهذا تأويل سائغ (1) ويستدل لهذا الرأي بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] نقل القرطبي عن النحاس قوله: وهذا من أصح الاحتجاجات؛ لأنه إذا كان معنى قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] أن تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردا إلى أحكامهم، فإذا وجب هذا فالآية منسوخة (2) .
ولابن العربي وجهة أخرى، ولعله قول رابع في المسألة فهو يفرق بني جرائم القتل والغصب التي لا تحل في شريعة من الشرائع فيوجب الحكم فيها وبين ما تختلف فيه الشرائع فيكون التخيير، فهو يقول: وجملة الأمر أن أهل الكتاب مصالحون، وعمدة الصلح ألا يعرض لهم بشيء وإن تعرضوا لنا ورفعوا أمرهم إلينا فلا يخلو أن يكون ما رفعوه ظلمًا لا يجوز في شريعة أو مما تختلف فيه الشريعة، فإن كان مما لا تختلف فيه الشرائع كالغصب والقتل وشبهه لم يمكن بعضهم من بعض فيه.
وإذا كان مما تختلف فيه الشرائع ويحكموننا فيه وتراضوا بحكمنا عليهم فيه فإن الإمام مخير إن شاء أن يحكم بينهم حكم وإن شاء أن يعرض عنهم أعرض قال ابن القاسم: والأفضل أن يعرض عنهم (3) .
والتفريق بين أهل العهد وأهل الذمة هو مذهب الشافعية قال في المهذب:
وإن تحاكم مشركان إلى حاكم المسلمين نظرت فإن كانا معاهدين فهو بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين ألا يحكم لقوله عز وجل {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] ولا يختلف أهل العلم أن هذه الآية نزلت فيمن وادعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة قبل فرض الجزية.
وإن كان ذميين نظرت فإن كانا على دين واحد ففيه قولان:
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص جـ 4 / 88
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ 6 / 186.
(3) أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 / 617(9/1807)
أحدهما: أنه بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين ألا يحكم؛ لأنهما كافران فلا يلزمه الحكم بينهما كالمعاهدين.
والقول الثاني: أنه يلزمه الحكم بينهما وهو اختيار المزني لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولأنه يلزمه دفع ما قصد كل واحد منهما بغير حق فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين.
وإن كانا على دينين كاليهودي والنصراني ففيه طريقان:
أحدهما: أنه على القولين كالقسم قبله؛ لأنهما كافران فصارا كما لو كانا على دين واحد.
والثاني: قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه يجب الحكم بينهما قولًا واحدًا؛ لأنهما إذا كانا على دين واحد فلم يحكم بينهما تحاكما إلى رئيسهما فيحكم بينهما، وإذا كانا على دينين لم يرض كل واحد منهما برئيس الآخر فيضيع الحق (1) .
وإذا تحاكم ذمي ومعاهد ففيه قولان كالذميين، وإن تحاكم إليه مسلم وذمي أو مسلم ومعاهد لزمه الحكم بينهما قولًا واحدًا؛ لأنه يلزمه دفع كل واحد منهما على ظلم الآخر فلزمه الحكم بينهما، ولا يحكم بينهما إلا بحكم الإسلام لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولقوله تعالى {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (2) [المائدة: 42] .
وأما عن الأمر الثاني وهو موضوع الحقوق فيقول صاحب المهذب في بيان موضع القولين موضحًا أقوال أئمة المذهب، قال: فمنهم من قال القولان في حقوق الآدميين وفي حقوق الله تعالى، ومنهم من قال القولان في حقوق الآدميين وأما حقوق الله تعالى فإنه يجب الحكم بينهما قولًا واحدًا؛ لأنه إذا لم يحكم بينهما ضاعت.
ومنهم من قال القولان في حقوق الله تعالى؛ فأما حقوق الآدميين فإنه يجب الحكم بينهما قولًا واحدًا؛ لأنه إذا لم يحكم بينهما في حقوق الآدميين ضاع حقه واستضر ولا يوجد ذلك في حقوق الله تعالى (3) .
__________
(1) المهذب للشيرازي جـ 2 / 256
(2) المهذب للشيرازي جـ 2 / 256.
(3) المهذب للشيرازي جـ 2 / 256(9/1808)
وقال القرطبي: فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام، فإن كان ما رفعوه ظلمًا كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم ومنعهم منه بلا خلاف، وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي غير أن مالكًا رأى الإعراض عنهم أولى، فإن حكم حكم بينهم بحكم الإسلام (1) ، وقال الجصاص: وقال أصحابنا أهل الذمة محمولون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإسلام كالمسلمين إلا في بيع الخمر والخنزير فإن ذلك جائز فيما بينهم؛ لأنهم مقرون على أن تكون مالًا لهم ولو لم يجز مبايعتهم وتصرفهم فيها والانتفاع بها لخرجت من أن تكون مالًا لهم ولما وجب على مستهلكها عليهم ضمان ولا نعلم خلافًا بين الفقهاء فيمن استهلك لذمي خمرًا أن عليه قيمتها. وقد روى أنهم كانوا يأخذون الخمر من أهل الذمة في العشور فكتب إليهم عمر أن ولوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها فهذان مال لهم يجوز تصرفهم فيها وما عدا ذلك فهو محمول على أحكامنا لقول الله تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كتب إلى أهل نجران: ((إما إذا تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله)) فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في خطر الربا ومنعهم منه كالمسلمين إلى أن قال: فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات وحدود أهل الذمة والمسلمون فيها سواء (2) .
احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة:
يجيز الإسلام للمسلم الانتقال إلى البلاد غير الإسلامية للتجارة والعمل وغيره (3) ولا شك أن البيع والشراء والإجارة ونحوها مظنة لوقوع الخلاف بين المتعاملين ومظنة لوقوع التباعد والتناكر بينهما فلا بد من سبيل إلى دفع الظلم الحيف ورفع التجاحد والتناكر بين الناس والسبيل إلى ذلك إما أن يعمد كل إنسان إلى تخليص حقه بيده فيكون الأقوى بدنًا أو عشيرة هو المستفيد وإما أن يلجأ إلى هيئة تضعها الجماعة أو السلطة المتواضع عليها تنظر في مظالم الناس وتعطي كل ذي حق حقه، والعدل والظلم لا يخضعان دائمًا لقوة الدين وسلطانه فكم من دولة كافرة تنشر العدل بين رعاياها وتنصف المظلوم من الظالم فينفعها ذلك في استتاب الأمن فيها وبقائها، يقول ابن تيمية: وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة إن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام (4) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن جـ 6 / 179
(2) أحكام القرآن لجصاص جـ 2 / 89.
(3) المدونة الكبرى من رواية الإمام سحنون عن عبد الرحمن بن القاسم جـ 4 / 270؛ حاشية رد المحتارجـ 4 / 166 وما بعدها.
(4) الحسبة في الإسلام لابن تيمية تحقيق عبد العزيز رباح ص 94.(9/1809)
ويقول: إن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصحابها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة (1) .
ولهذا لما اشتد البلاء على المسلمين في صدر الإسلام قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكًا لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم مخرجًا مما أنتم فيه)) وكان الذين خرجوا اثنى عشر رجلًا وأربع نسوة قالوا: قدمنا أرض الحبشة فجاورنا بها خير جار، أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذي ولا نسمع شيئًا نكرهه (2) ومفاد قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يظلم أحد عنده)) . . . .، أنه لو تعرض لهم أحد من رعاياه أو غيرهم ورفعوا أمره إليه لرفع عنهم الظلم بل هذا ما حدث بالفعل فإن قريشًا أرسلت وفدًا منها إلى الحبشة في طلب رد المهاجرين إليها، جاء في سيرة ابن هشام، وشرحه للسهيلي فيما يرويه عن ابن إسحاق وقصة المهاجرين متواترة عند العلماء قال ابن تيمية في الجواب الصحيح جـ 1 / 81 ط المدني – وقد ذكر قصتهم جماعة من العلماء كأحمد بن حنبل في المسند وابن سعد في الطبقات وأبي نعيم في الحلية وغيرهم وذكرها أهل التفسير والحديث والفقه.
__________
(1) الحسبة في الإسلام لابن تيمية تحقيق عبد العزيز رباح ص 94
(2) كتاب محمد صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد رضا ص 97، 98 ط بيروت 1395 هـ، 1975(9/1810)
قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي فيردهم عليهم ليفتنوهم في دينهم ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته ثم بعثوهما إليه فيهم، وتحدث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم - قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار: النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى، لا تؤذي ولا نسمع شيئًا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع كله وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدمًا كثيرًا ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ثم قدما إلى النجاشي هداياه ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم قالت: فخرجا حتى قدما النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهم نعم … قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبى ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي … إلا أن النجاشي لما سمع ذلك منهم ومن بطارقته غضب ثم قال: لاها الله، إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسالهم عما يقول هذان في أمرهم – قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله وسألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتهم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل قالت: فكان كلمة جعفر بن أبي طالب (1) .
__________
(1) الروض الأنف جـ 3 / 242 / 246.(9/1811)
والقصة كلها في روض الأنف ولم يكن النجاشي قد أسلم يومئذ وقد تكررت المقابلة في اليوم التالي بعد أن عزم عمرو بن العاص على أن يوقع بهم قال عمرو: والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به حُظراءهم … قال والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه، قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فهي ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائنًا في ذلك ما هو كائن ….
وتعليقنا على هذا نقول: إنها قضية كأقوى ما تكون عليه قضية في عصرنا، ومرافعة لم يشهد التاريخ لها مثيلًا ودفاع لم يأت بمثله غير جعفر بن أبي طالب ثم كان الحكم العدل. قالت: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودًا ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال، فقال: وإن نخرتم والله: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي – والشيوم: الآمنون – من سبكم غرم، ثم قال: من سبكم غرم, ثم قال: من سبكم غرم، ما أحب أن لي ديرًا من ذهب وإني آذيت رجلًا منكم (1) .
ونجد في السير الكبير لمحمد بن حسن الشيباني يذكر صورًا للمسلم يدخل دار الحرب فيتعرض للغصب من مسلم أو غيره فيرفع الأمر إلى سلطان تلك البلاد الكافرة فيقضي بينهما فيترتب على حكمه كما لو قضى به حاكم مسلم في دار الإسلام.
يقول في المسألة 2679 – ولو أن رجلين أسلما في دار الحرب ثم غصب أحدهما صاحبه شيئًا وجحده فاختصما إلى سلطان تلك البلاد فسلمه للغاصب لكونه في يده ثم أسلم أهل الدار والرجلان مسلمان على حالهما فالمغصوب مردود على المغصوب منه.
قال في الشرح: لأن رد العين مستحق على الغاصب بحكم اعتقاده بسلام أهل الدار لا يزيده إلا وكادة وبقوة سلطان أهل الحرب.
المسلم لا يصير محرزًا مال المسلم ولا متملكًا؛ لأنهما في دار الإسلام لمن يكن هو متملكًا بحكم سلطان المسلمين فكيف يصير متملكًا بحكم سلطان أهل الحرب.
__________
(1) الروض الأنف جـ 3 / 247 / 248(9/1812)
ويفهم من هذه المسألة أن الاحتكام إلى سلطان أهل الحرب غير ممنوع منه وأنه لو قضى برد المغصوب لكان حكمه صائبًا أما أنه قضى بإبقاء المغصوب في يد الغاصب فهو كما لو حكم قاض مسلم في دار الإسلام بذلك لا يصير الغاصب مالكًا للمغصوب بل يتعين عليه رده.
ويذكر في المسألة 2675 – ولو استودع مسلم مسلمًا شيئًا وأذن له إن غاب أن يخرجه معه فارتد المودع ولحق بدار الحرب، فلحقه صاحب وطلبه منه فمنعه، واختصما إلى سلطان تلك البلاد فقصر يد المسلم عنه ثم أسلم أهل الدار فالوديعة للمودع لا سبيل لصاحبها عليها.
قال في الشرح: لأنه ما كان ضامنًا لها في دار الإسلام، وحين منعها في دار الحرب كان هو حربيًّا لو استهلكها لم يضمن فكذلك إذا منعها؛ ولأنه بهذا المنع يصير في حكم الغاصب فكأنه غصبه منه ابتداء، فيتم إحرازه بقوة السلطان.
ويذكر في المسألة 2677 – وإن كان حين طلبه في دار الحرب من الغاصب أعطاه إياه ثم وثب فأخذ منه ثانية وقصر السلطان يد المغصوب معه عن الاسترداد ثم أسلم أهل الدار فهو سالم للغاصب.
ويظهر من هذه المسائل أن المسلم لما لم يمنع من رفع خصومته إلى السلطان الكافر في بلاد الكفر فدل على جواز ذلك، وعندي أن المسألة لها وجه آخر وهي تدخل في باب الاستعانة بالكافر على تحصيل الحق ورفع الظلم سواء في ذلك الفرد والدولة وسيأتي ذلك مفصلًا في المبحث المخصص لاحتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية.
ويدخل في هذه مسألة ما لو حكم الزوجان المسلمان حكمين مسلمين ثم يرفعان ما انتهى إليه الحكمان إلى المحاكم الأجنبية لوضع الصيغة التنفيذية فإن ذلك من قبيل تحصيل الحقوق والاستعانة على تحصيلها وليس من قبيل فصل القضاء في أمور دينية بين المسلمين.
وقريب مما ذكرنا لو تغلب الكفار على المسلمين واضطر ولي أمر المسلمين إلى مهادنتهم على شرط فيها حط من شأن المسلمين كبقاء أسرى مسلمين بأيديهم أو سكانهم في قرية للمسلمين أو فصلهم في خصومة بين كافر ومسلم أو دفع مال إليهم فيجوز إذا كان في كل ما تقدم يحقق مصلحة (1) لأن الهدنة تعتريها الأحكام الخمسة (2) .
__________
(1) شرح الخرشي على خليل جـ 3 / 150، 151
(2) حاشية العدوي على الخرشي جـ 3 / 150، 151(9/1813)
مبدأ التحكيم في الخلاف وموقف الفرق الإسلامية في مشروعيته
بينا فيما سبق مذاهب الفقهاء من أهل السنة والجماعة في التحكيم وذكرنا استدلال الماوردي على صحة التحكيم بجملة أمور منها قوله: إن علي بن أبي طالب لما حكم في الإمامة كان التحكيم فيما عداها أولى واستدل أيضًا بتحكيم أهل الشورى فيها عبد الرحمن بن عوف وذكرنا تفصيلات هذه الواقعة ولهذا اتفق أهل الفقه والدين من أئمة المسلمين على جواز التحكيم مستدلين بقوله تعالى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42] .
- وحكوا في سبب نزولها ثلاثة أقوال -:
الأول: أنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فخانه.
الثاني: نزلت في شأن بني قريظة والنضير، وذلك أنهم شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إن النضير يجعلون خراجنا على النصف من خراجهم ويقتلون منا من قتل منهم، وإن قتل أحد منهم أحدًا منا ودوه أربعين وسقا من تمر.
الثالث: أنها نزلت في اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إن رجلًا منا وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون.))
قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة، فأتوا بها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يديك فرفع يده فإذا آية الرجم تلوح فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما (1)
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 / 616.(9/1814)
وعلق ابن العربي على هذه الأقوال فضعف الأول وقال: لا أصل له, وقال عن الثاني: وأما من قال: إنها نزلت في شأن بني قريظة والنضير، ما تشكوه من التفضيل بينهم فضعيف؛ لأن الله تعالى أخبر أنه كان تحكيمًا منهم للنبي صلى الله عليه وسلم لا شكوى والصحيح ما رواه الجماعة عن عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله كلاهما في وصف القصة كما تقدم أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحكموه، فكان ما ذكره في الأمر (1) ، ثم قال: وجملة الأمر أن أهل الكتاب مصالحون، وعمدة الصلح ألا يعرض لهم في شيء وإن تعرضوا لنا ورفعوا أمرهم إلينا فلا يخلو أن يكون ما رفعوه ظلمًا لا يجوز في شريعة أو مما تختلف فيه الشريعة فإن كان مما لا يختلف فيه الشرائع كالغصب والقتل وشبهه لم يمكن بعضهم من بعض فيه، وإذا كان ما تختلف فيه الشرائع ويحكموننا فيه بحكمنا عليهم فيه فإن الإمام مخير إن شاء أن يحكم بينهم حكم، وإن شاء أن يعرض عنهم أعرض (2) .
وقال في المسألة السادسة من مسائل الآية السابقة – لما حكموا النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ عليهم الحكم ولم يكن لهم الرجوع. وكل من حكم رجلًا في الدين فأصله هذه الآية، قال مالك: إذا حكم رجل رجلًا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه إلا أن يكون جورًا بينًا وقال سحنون: يمضيه إن رآه (3) .
وقد سبق بيان مذاهب العلماء هذا تفصيلًا فلا نعيده.
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 / 616
(2) أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 / 616
(3) أحكام القرآن لابن العربي جـ 2 / 616(9/1815)
لكن ذهبت الخوارج إلى عدم جواز التحكيم وأنكروا على علي التحكيم، وقالوا: أخطأ علي في التحكيم إذ حكم الرجال لا حكم إلا لله تعالى (1) .
وذكر الطبري في تاريخ واقعة التحكيم هذه ومحاجة ابن عباس رضي الله عنهما لهم (2) ثم ما كان من علي رضي الله عنه في بيان زيفهم وزيغهم وأخذ علي رضي الله عنه يبين لهم في أكثر من موقف خطأهم وقام يخطبهم ذات يوم فقال رجل من جانب المسجد: لا حَكَمَ إلا الله، فقام آخر فقال مثل ذلك، ثم توالى عدة رجال يحكمون، فقال علي: الله أكبر، كلمة حق يلتمس بها باطل، أما إن لكم عندنا ثلاثًا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا، ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه من خطبته (3) ، ومن هنا كانت واقعة التحكيم التي حصلت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من أخطر قضايا التحكيم في التاريخ الإسلامي وكانت آثارها سلبية على المسلمين إلى أن إلتأم شملهم من جديد عام الجماعة بتنازل الحسن لمعاوية وقال قولته المشهورة: يا أهل العراق، إنه سخّى بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي (4) والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والذي نميل إليه هو قول جمهور العلماء من أن التحكيم جائز على النحو الذي أسلفنا الكلام عليه.
الإسلام ومبدأ التحكيم الدولي:
الإسلام يرجح السلام على الحرب ويجنح إليه ما وجد إلى ذلك سبيلًا ولا يميل إلى الحرب إلا إذا فرضت عليه دفاعًا عن العقيدة وعن النفس والوطن وقد جاءت آيات القرآن الواردة في القتال صريحة في تحديد سبب الحرب قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) } [الحج: 39 – 41] .
__________
(1) الملل والنحل للشهرستاني جـ 2 / 26، 27؛ مقالات الإسلاميين للأشعري جـ 1 / 191 تحقيق محيي الدين عبد الحميد؛ الفرق بين الفرق للبغدادي ص 74 تحقيق الشيخ محيي الدين عبد الحميد
(2) تاريخ الطبري جـ 5 / 64 / 65
(3) تاريخ الطبري جـ 5 / 64 / 65
(4) تاريخ الطبري جـ 5 / 159(9/1816)
يقول الشيخ شلتوت: جاء الإذن في الآية الكريمة ولم تعلله بنشر الإسلام أو إلجاء الناس إليه، وإنما عللته بما وقع على المسلمين من ظلم، وما أكرهوا عليه من الهجرة والخروج من ديارهم من غير حق إلا أن يقولوا كلمة الحق (1) ويؤكد هذا المعنى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (إن الإسلام بدئ بدعوة رجل أرسله الله تعالى بالدين فدعا الناس إليه فآمن به أول الأمر خديجة وأبو بكر وعلي وسعد بن أبي وقاص قال سعد: لقد مكثت سبعة أيام وأنا ثلث الإسلام فاستخف بهم المشركون، فلما أخذ المسلمون يكثرون تنمر لهم المشركون وناصبوهم العداء فصار المسلمون عرضة لأذى المشركين بمختلف الأذى على نسبة استضعافهم من يؤذونه حتى اضطر جمع من المسلمين إلى الهجرة إلى الحبشة ثم هاجر بقية المسلمين إلى المدينة ولم يبق بمكة إلا المستضعفون من الرجال والنساء والصبيان، فنزل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} [الحج: 39 – 40] وقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (2) [النساء: 75] .
بل إن السلام هو من سمات الإسلام البارزة وصفة من صفات أهل الإيمان لذلك يدعوهم ربهم جل وعلا إلى ذلك في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] ويبين لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أعداءه وإن كانوا غير صادقين في دعوتهم له بالسلم وإن كانوا يضمرون كيدًا وخداعًا فعليه أن يقبل منهم السلام إذا طلبوه منه وليفوض أمره إلى الله ولا يخاف من كيدهم ومكرهم وتوسلهم بالصلح إلى الغدر، فقال {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] .
والإسلام يؤكد على عقد المعاهدات والوفاء بها فيقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ويقول {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72] .
__________
(1) تفسير القرآن الكريم ص 528
(2) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ص 216(9/1817)
وقد تتنوع المعاهدات إلى أنواع فمنها ما يمكن إطلاق معاهدات حسن الجوار عليها كالمعاهدات التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هجرته إلى المدينة مع اليهود وقد جاء في بنود هذه المعاهدة ((… وأن من تبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم)) ومنها ما يصح أن يطلق عليها معاهدات وعقود الأمان وهناك الصلح وهو غالبًا ما يكون عند نشوب الحروب وهذه المعاهدة تخضع لظروف الدول وتلبية حاجاتها ومتطلباتها والإسلام يؤكد على احترام المعاهدات بمختلف أنواعها.
وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه على التعاون في سبيل القضاء على الخصومات وإزالة أسبابها فيقول: ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدْعَى به في الإسلام لأحببت)) (1) .
ويذكر السهيلي عن حلف المطيبين أن سببه ما حدث من خلاف بشأن الحجابة والساقية والرفادة وكاد أن تنشب بينهم حرب بسببها فيقول: (فبينا الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذا تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة. وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لنبي عبد الدار كما كانت ففعلوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك، وتحاجز الناس عن الحرب وثبت كل قوم مع من حالفوا فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الله بالإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا قوة)) (2) .
ومن هذا المنطلق الأساسي التي نهجته الشريعة الإسلامية والمواقف الثابتة للمسلمين منذ صدر الإسلام نستطيع القول بأن التعاون الدولي في سبيل القضاء على أسباب الخلافات التي تنشب بين الدول أمر يقره الإسلام ويحث عليه ولهذا وجدناه الدول الإسلامي من أوائل الدول التي سارعت إلى إقرار ميثاق الأمم المتحدة والتعاون في مختلف نشاطاتها وهيئاتها بما في ذلك محكمة العدل الدولية وكان الدافع لإنشاء هذه المحكمة هي حرص الدول على حل منازعاتها بعيدًا عن قعقعة السلاح وما تخلفه من دمار شامل وإهلاك للحرث والنسل فأخذ المشتغلون بالقانون الدولي أفرادًا وهيئات على تهيئة الظروف وتوجيه الرأي العام نحو فكرة إنشاء محكمة قضائية دولية تفصل في المنازعات القانونية التي تنشأ بين الدول وكان هناك وسائل مختلفة وهذه فكرة موجزة عن تطور ومراحل هيئات التوفيق والتحكيم إلى إنشاء محكمة العدل الدولية وكان أولى هذه الوسائل هي إنشاء لجان التحقيق الدولي وقد تناولت اتفاقية لاهاي (1899 – 1907) موضوع التحقيق ضمن الوسائل السلمية التي ذكرتها لتسوية المنازعات الدولية والقواعد والإجراءات المتصلة بها.
__________
(1) الروض الأنف جـ 2 / 63
(2) الروض الأنف جـ 2 / 63(9/1818)
وثانيها: إنشاء لجان التوفيق وهي نوع من أنواع الوساطة نبهت إليه عصبة الأمم في بدء تكوينها ولاقت رواجًا لدى الدول ونصت عليه في كثير من المعاهدات الثنائية كما أبرمت بشأنها بعض المعاهدات العامة وتتولى التوفيق لجان خاصة أطلق عليها اسم لجان التوفيق وتناولت ميثاق التحكيم العام الذي وضعته عصبة الأمم في 26 سبتمبر 1928 والمعروف باسم ميثاق جنيف العام موضوع التوفيق في الفصل الأول منه ونص على الإجراءات والأحكام المتصلة به وتشبه قرارات هذه اللجنة ومهمتها هيئات التحكيم أو القضاء وتختلف عنها من حيث إنه ليس لقراراتها صفة إلزامية بخلاف قرار التحكيم أو حكم القضاء التي له صفة إلزامية في حق الدول.
ثالثها – التحكيم والقضاء:
أولًا: التحكيم هو النظر في نزاع بمعرفة شخص أو هيئة يلجأ إليه المتنازعون مع التزامهم بتنفيذ القرار الصادر في النزاع. وبهذا الالتزام بتميز التحكيم عن الوساطة والتوفيق وقد كان التحكيم في مقدمة المسائل التي اهتمت بها مؤتمرات لاهاي سنتي (1899 و 1907) وتضمنت الاتفاقية الخاصة بتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية ووضعت الأحكام العامة للتحكيم وإجراءاته كما تقرر فيها تكوين هيئة دائمة للتحكيم يمكن للدول إذا شاءت أن تستعين بها بدلًا من هيئات التحكيم الخاصة التي تختارها بمناسبة كل نزاع وأطلق على هذه الهيئة اسم محكمة التحكيم الدولي الدائمة.
ثانيًا: محكمة العدل الدولي وقد أنشئت في ظل عصبة الأمم وفي شهر ديسمبر 1920 أقرت مشروع هذه المحكمة وأبرم بذلك بروتكول خاص تضمن النظام الأساسي للمحكمة وبلغ عدد الدول التي وقعت عليه وانضمت إليه إحدى وخمسين دولة.(9/1819)
وأخيرًا – وبعد أن صفيت أعمال عصبة الأمم بعد الحرب الأخيرة وأنشئت الأمم المتحدة أعيد تكوين المحكمة باسم محكمة العدل الدولية وقد نصت المادة 92 من ميثاق الأمم المتحدة على إنشاء هذه المحكمة ونصها – محكمة العدل الدولية هي الأداء القضائية الرئيسية للأمم المتحدة وتقوم بعملها وفق نظامها الأساسي الملحق بهذا الميثاق، وهو مبني على النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدل الدولي وجزء لا يتجزأ من هذا الميثاق.
وهذه خلاصة عن النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.
اشتمل النظام الأساسي لهذه المحكمة على أربعة فصول في سبعين مادة تضمن الفصل الأول تنظيم المحكمة من حيث تكوينها – الشروط المطلوب توفرها فيمن يعين قاضيًا بها وعددهم، وأن الجمعية العامة ومجلس الأمن ينتخبونهم من قائمة الأسماء الذين رشحتهم الشعب الأهلية في محكمة التحكيم كما يبين واجبات القضاة وبعض نظم العمل بالمحكمة.
ويتضمن الفصل الثاني اختصاص المحكمة وولايتها ويتضمن الفصل الثالث في الإجراءات وتنص على أن اللغة الفرنسية والإنجليزية هما اللغة الرسمية وطريقة رفع الدعوى أمامها، ويتضمن الفصل الرابع مجالًا آخر للمحكمة وهو الإفتاء في المسائل القانونية ويتضمن الفصل الخامس إجراءات التعديل على النظام الأساسي (1) .
أما مشروع محكمة العدل الإسلامية فهي تتفق في مجملها مع المبادئ التي نص عليها النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وأهدافها قريبة من أهداف المحكمة الدولية كما أن نظام ميثاق الأمم المتحدة تشجع مثل هذه الهيئات الإقليمية للتغلب على المشاكل التي تقوم بين دول المنطقة وهي من قبل ومن بعد تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية الغراء في قوله تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ويقول ابن العربي: هذه الآية هي الأصل في قتال المسلمين والعمدة في حرب المتأولين وعليها عول الصحابة وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((يقتل عمارًا الفئة الباغية)) وقوله في شأن الخوارج ((: ((يخرجون على خير فرقة من الناس)) )) (2) .
__________
(1) القانون الدولي العام لعلي صادق أبو هيف، بتلخيص وتصرف ص 736 وما بعدها إلى 767 و 924 وما بعدها.
(2) أحكام القرآن لابن العربي جـ 4 / 1705.(9/1820)
احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعاتهم فيما بينهم،
وحكم ما إذا كان النزاع فيما بينهم المسلمين وغيرهم
النزاعات التي تقوم بين الدول أما أن تكون بشأن مسائل تجارية ومعاملات مالية وإما أن تكون بشأن خلافات تتطور إلى صدام مسلح كالنزاعات بشأن الحدود وما شابهها وفي كلتا الصورتين قد تكون هذه الخلافات بين دول إسلامية أو بين دولة إسلامية وأخرى غير إسلامية وإن كان الاستقراء العقلي يقتضي صورة أخرى وهي الصدامات والخلافات التي تقوم بين دول غير إسلامية بعضها مع بعض ولكن هذه الصورة ليست متعلقة بموضوعنا فنقصر الكلام على الصور السابقة: فتكون الصور والحالة هذه هي:
أولًا – خلاف مالي بين دولتين إسلاميتين.
ثانيًا – خلاف ذو طابع حربي بين دولتين إسلاميتين.
ثالثًا – خلاف مالي بين دولة إسلامية وأخرى غير إسلامية.
رابعًا – خلاف ذو طابع حربي بين دولة إسلامية وأخرى غير إسلامية.
وقبل أن نخوض في تفصيلات المسائل وجزئياتها لا بد من الإشارة إلى جملة أمور تصلح أن تكون أصولًا لتلك المسائل:
أولها: أن دول العالم بأسرها ترتبط مع بعضها اليوم بمعاهدات صداقة وتعاون وحسن جوار فليست هناك دول حربية بالمفهوم السابق اللهم إلا في فترات محددة سرعان ما تنتهي وتعود إلى حالتها السلمية ولا أدل على ذلك من الديباجة الرائعة التي افتتحت بها ميثاق الأمم المتحدة وهي:
نحن شعوب الأمم المتحدة
وقد آلينا على أنفسنا
أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانًا يعجز عنها الوصف.(9/1821)
وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية.
وأن نبين الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي.
وأن نرفع بالرقي الاجتماعي قدمًا، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح.
وفي سبيل هذه الغايات: أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معًا في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي، وأن نكفل بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة، وأن نستخدم الدولية في ترقية الشئون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها.
قد قررنا
أن نوحد جهودنا لتحقيق هذه الأعراض، ولهذا فإن حكوماتنا المختلفة على يد مندوبيها المجتمعين في مدينة سان فرانسيسكو الذين قدموا وثائق التفويض المستوفية للشرائط، وقد ارتضت ميثاق الأمم المتحدة هذا وأنشأت بمقتضاها هيئة دولية تسمى (الأمم المتحدة) .
ثانيها: إن هذا التعاهد الدولي على التعاون أمر يقره الإسلام ويتبناه بل سبق العالم إلى وضعه موضع التنفيذ قولًا وعملًا، ولا أدل على ذلك من الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة بين المهاجرين والأنصار وبين اليهود أيضًا وقد افتتح بديباجة ((بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم:
بأنهم أمة واحدة من دون الناس.
وبعد ما بين ما ينبغي أن يكون عليه التعاون بين قبائل العرب من المهاجرين والأنصار،)) قال في شأن اليهود:
((وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، ثم بين: أن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم والمسلمين دينه من مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوقع إلا نفسه وأهل بيته)) .(9/1822)
وينظم هذه العلاقة فيقول:
((وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأن من فتك فبنفسه فتك وبأهل بيته إلا من ظلم، وأن الله على أيد هذا (أي على الرضا به) وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم)) .
((وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لا يأثم أمره بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين)) .
((وأن يثرب حرام صد لأهل هذه الصحيفة)) (1)
وتمضى هذه الصحيفة على هذا النحو إلى نهايتها.
إن من يقارن من جاء في صحيفة النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما جاء في ميثاق الأمم المتحدة لا بد أن ينتهي إلى أن هذا الميثاق متفرع عن ذلك الأصل وأنه حذا حذوه واهتدى بمبادئه واسترشد بنور النبوة ومشكاة الهداية {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] .
ثالثها: أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم بارك أي عمل يحفظ للإنسانية كرامتها وصون أمنها وسلامتها من غير نظر إلى من قام به ولهذا أبدى رضاه عن الأحلاف التي تعاقدها العرب في جاهليتهم قبل الإسلام؛ لأن فيها خيرًا لبني البشر ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأحببت)) .
وقوله (ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا قوة) ، وكذلك ما قاله لأصحابه حين هاجروا إلى الحبشة: إن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد. فمن هذه المبادئ المسلمة في الإسلام نقول: إن ما اتفقت عليه الأمم بمحض اختيارها في منع الحروب ونشوب الخصومات والاتفاق على إيجاد حلول لها أمر لا يأباه الإسلام بل يحث عليه ويجعله من مبادئه ومسلماته.
__________
(1) خاتم النبيين للشيخ أبو زهرة جـ 2 / 33، 34(9/1823)
ومع هذه المنارات الشامخة من عمل الرسول وهديه لا بد من النظر فيما كتبه الفقهاء في هذا الشأن في مسألة الاحتكام إلى المحكمة الدولية:
أولًا: إذا كان النزاع خاصًّا بالمسلمين فإن كانت بشأن معاملات مالية وخلافات على عقود تجارية فهذا النوع أمره هين ولا يثير معضلة؛ لأن أثره وإن كان سلبيًّا فهو محدود، وأما إن كان بشأن خلافات ذات طابع حربي كتلك الخلافات التي تنشب بين دولتين متجاورتين على الحدود أو بعض المقاطعات (كالخلاف الحاصل بين البحرين وقطر) فإن طرحها على المحكمة الدولية باعتبارهما عضوين في الأمم المتحدة مما لا تأباه الشريعة ولا يصطدم مع مبدأ من مبادئها باعتباره أحد بنود العقد وإن كان الأولى حلها عن طريق جماعة المسلمين والمنظمات الإقليمية كمنظمة المؤتمر الإسلامي أو جامعة الدول العربية أو مجلس التعاون، لأن هذه الأمور تلتقي مع أهداف المنظمة الدولية في إنشاء منظمات إقليمية تسهم في إقرار السلام والمحافظة على الأمن في المناطق التي توجد فيها وقد أفرد ميثاق الأمم المتحدة (الفصل الثامن) لهذه المنظمات جاء فيه (ليس في هذا الميثاق ما يحول دون قيام منظمات أو وكالات إقليمية تعالج من الأمور المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدولي ما يكون العمل الإقليمي صالحًا فيها ومناسبًا ما دامت هذه المنظمات أو الوكالات الإقليمية ونشاطها متلائمة مع مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها (1) ومن المنظمات الإقليمية القائمة الآن: اتحاد الدول الأمريكية – جامعة الدول العربية، منظمة الوحدة الأفريقية (2) منظمة المؤتمر الإسلامي.
أما إذا استعصى على الحل أو عجزت هذه المنظمات عن إيجاد حلول يقبل بها الطرفان المتنازعان فلا حرج في هذه الحالة إن هي التجأت إلى المنظمات الدولية الأعلى شأنًا مثل المحكمة الدولية؛ لأن هذا إضافة إلى ما سبق بشأن جواز التعاقد فإنه أيضًا من قبيل الاستعانة بغير المسلم.
والاستعانة بغير المسلم إما تكون على مسلمين ظالمين باغين أو على غير مسلمين.
أما الانتصار بهم على الباغين الظالمين ففيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز، وهو قول جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة (3) .
__________
(1) القانون الدولي العام لعلي أبو هيف ص 700
(2) القانون الدولي العام لعلي أبو هيف ص 700
(3) قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص 393؛ نهاية المحتاج جـ 7 / 387؛ المغني ج ـ 10 / 57، 58.(9/1824)
القول الثاني: جواز الاستعانة بشرط ألا يكون حكم أهل الشرك هو الظاهر (1) قال في المبسوط: (وإن ظهر أهل البغي على أهل العدل حتى ألجئوهم إلى دار الشرك فلا يحل لهم أن يقاتلوا مع المشركين أهل البغي؛ لأن حكم أهل الشرك ظاهر عليهم ولا يحل لهم أن يستعينوا بأهل الشرك على أهل البغي من المسلمين إذا كان حكم أهل الشرك هو الظاهر) .
ثم قال: (ولا بأس أن يستعين أهل العدل بقوم من أهل البغي وأهل الذمة على الخوارج إذا كان حكم أهل العدل ظاهرًا) .
ومفاد هذا النص أن يتعين لجواز الاستعانة ظهور حكم أهل العدل.
القول الثالث: وهو لطائفة من الزيدية جاء في شرح الأزهار (مما يجوز للإمام فعله هو الاستعانة بالكفار والفساق على جهاد البغاة من المسلمين) (2) .
ثانيًا – وإن كان النزاع مع دول غير إسلامية فإن الاستعانة بغير المسلمين على غير المسلمين جائزة ومن الفقهاء من يقيده بقيود واستدلوا على جواز الاستعانة بالكفار بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فقد استعان بيهود بني قينقاع على بني قريظة (3) ، وقال الطحاوي: لا بأس بالاستعانة بأهل الكتاب في قتال من سواهم إذا كان حكمنا هو الغالب ويكرهون ذلك إذا كانت أحكامنا بخلاف ذلك (4) .
وجاء عن الإمام الشافعي رضي الله عنه في الأم (ثم استعان أي الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بدر بسنتين في غزاة خيبر بعدد من يهود بني قينقاع كانوا أشداء، واستعان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك. ويرى أن رد بعض المشركين إما أن له الخيار في الاستعانة وعدمها أو يرده لمعنى يخافه منه كما يكون له رد مسلم، أو أنه كان ممنوعًا من الاستعانة ثم نسخ فاستعان بعده بمشركين ثم قال: فلا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعًا ويرضخ لهم) (5) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي جـ 10 / 133، 134
(2) شرح الأزهار جـ 4 / 532، 533
(3) المبسوط جـ 10 / 23، 24
(4) مشكل الآثار جـ 3 / 236
(5) الأم جـ 4 / 261(9/1825)
ووفق النووي بين حديث عائشة بعدم الاستعانة بمشرك في غزوة بدر والحديث الآخر الذي استعان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية قبل إسلامه كما قال الشافعي وآخرون بأن الكافر إذا كان حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به وإلا فيكره وحمل الحديثين على هذين الحالين (1) .
وقيد المالكية الاستعانة بهم لخدمة كنوتيٍّ أو خياط أو هدم حصن (2) ويقيده بعض الشافعية بأن تؤمن خيانتهم ويكونون بحيث لو انضمت فرقتا الكفر قدروا على مقاومتهم (3) .
وللحنابلة رايتان: الجواز وعدمها، قال في المغني: (ولا يستعان بمشرك، وبهذا قال ابن المنذر والجورجاني وجماعة من أهل العلم وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به وكلام الخرقي يدل عليه أيضًا عند الحاجة وهو مذهب الشافعي لحديث الزهري الذي ذكرناه وخبر صفوان بن أمية ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به، لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى) (4)
وبعد فإن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية ليس فيها استعانة بالمعنى السابق وهو استعداء الكفار على المسلمين ومقاتلتهم بالسلاح فإن قضاء المحكمة إنما هو استجلاء للحقيقة ومعرفة من هو صاحب الحق ومن هو المعتدى عليه فإن امتنع عن رد الحق إلى صاحبه بعد ذلك كان في حكم الباغي من كل وجه ومن ثم تكون الاستعانة هي الخيار الحقيقي للمبغي عليه والسبيل الوحيد للظفر بحقه.
والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
__________
(1) شرح النووي جـ 2 /
(2) الشرح الكبيرجـ 2 / 178.
(3) منهاج الطالبين جـ 4 / 221
(4) المغنى جـ 9 / 243(9/1826)
التحكيم في الفقه الإسلامي
إعداد
الدكتور محمد جبر الألفي
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة العين
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
ترتبط فكرة العدل والفصل في الخصومات ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة الدينية {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] ، ومقتضى ذلك أن يكون للمؤمن وازع من دينه يدعوه إلى الخير ويحجزه عن الشر، وقد أفرد الإمام مسلم في صحيحه كتابًا جمع فيه الأحاديث التي تحرم الظلم وتتوعد الظالمين (1) ، بدأها بالحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا)) (2) . وأورد في باب القصاص وأداء الحقوق يوم القيامة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((المفلس من أمتي: من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) (3) .
من أجل ذلك جاءت تعاليم الإسلام تأمر بالعدل والإحسان (4) والوفاء بالعقود (5) وترغب في العفو عن المسيء (6) ، وتنهى عن قربان ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء والسعي في الأرض بالفساد (7) . ومن شأن هذا كله أن يستتب الأمن بين المسلمين، ويسود السلام علاقاتهم بغيرهم.
ومع ذلك فقد وجدت ظروف وملابسات خفي فيها وجه الصواب، أو التبس الحق بالباطل، أو تعذرت إقامة الأحكام فظهرت الحاجة ماسة إلى النصح والإفتاء، أو إصلاح ذات البين، أو إقامة حكم عدل، أو نصب قاض يفصل بين المتنازعين، وهذه كلها وسائل مترابطة يسلم بعضها إلى بعض، وتنحو نحو هدف واحد.
وموضوع هذه الورقة يتناول إحدى هذه الوسائل، (التحكيم في الفقه الإسلامي) على الترتيب الذي أعده مجمع الفقه الإسلامي، ليشمل العناصر الجوهرية التي تؤدي إلى إماطة اللثام عن أحكامه، وليجيب عن التساؤلات التي تدور اليوم في أذهان المسلمين أفرادًا وجماعات.
فنخصص مبحثًا للحديث عن عموميات التحكيم، وآخر لبيان أركانه وشروطه، ونوضح في مبحث ثالث طبيعة عقد التحكيم، وستعرض في مبحث رابع أنواعًا خاصة من التحكيم يتطلبها الوضع الراهن، أما المبحث الخامس والأخير فنلقي فيه بعض الضوء على موقف الإسلام من مبدأ التحكيم الدولي.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري، مطبعة الكويت: 1399 – 1979، ج2 ص 243 – 245، كتاب الظلم
(2) المرجع السابق: حديث رقم 1828
(3) نفس المرجع السابق: حديث رقم 1836
(4) سورة النحل: 90
(5) سورة المائدة: 1، وسورة الإسراء: 34
(6) سورة النحل: 126 – 128، سورة الشورى: 40
(7) على سبيل المثال: سورة البقرة: 188، 278 – 183، سورة النساء: 2 - 35، سورة الإسراء: 23 – 38، سورة الحجرات: 6 - 12(9/1827)
المبحث الأول
عموميات التحكيم
معنى التحكيم – الفرق بين التحكيم والإفتاء والقضاء – مشروعية التحكيم – أهمية التحكيم.
1- معنى التحكيم
التحكيم في اللغة:
حكم بالأمر يحكم حكمًا: قضى، يقال: حكم له، وحكم عليه، وحكم بينهم، وحكم فلانًا في الشيء أو الأمر: جعله حكمًا، ومنه قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] ، واحتكم الخصمان إلى الحاكم: رفعا خصومتها إليه، والحكم: من يختار للفصل بين المتنازعين، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] . وحكمه في الأمر تحكيمًا: أمره أن يحكم. وحكمت الرجل: فوضت الحكم إليه. فالتحكيم في اللغة: اختيار شخص للفصل في نزاع. وقد يطلب التحكيم لغة على إجازة الحكم، فيقال: حكمنا فلانًا، أي أجزنا حكمه (1)
التحكيم في اصطلاح الفقهاء:
لا يضع كثير من الفقهاء تعريفًا للتحكيم اكتفاء بما وقر في الأذهان في معناه اللغوي وبما تواضع عليه العرف والعمل، وإنما يبينون حكمه بعبارات يمكن أن يستخلص منها تعريف للتحكيم، ومن ذلك قولهم: (لو أن رجلين حكما بينهما رجلًا، فحكم بينهما، أمضاه القاضي …) (2) . (وإذا حكما رجلًا ورضيا بحكمه، لزمهما حكمه …) (3) ، (إذا اختصم رجلان في حق من الحقوق المالية، فحكما رجلًا، هل ينفذ حكمه؟ قولان) (4) ، (ولو حكم خصمان رجلًا في غير حد الله تعالى، جاز مطلقًا …) (5) ، (وإن تحاكم شخصان إلى رجل للقضاء بينهما فحكم، نفذ حكمه …) (6) ،، (… إلا في قاضي التحكيم، وهو الذي تراضى به الخصمان ليحكم بينهما مع وجود قاض منصوب من قبل الإمام) (7) ، (وجاز للخصمين تحكيم رجل عدل ….) (8) .
__________
(1) أساس البلاغة؛ تاج العروس؛ الزاهر: 972؛ الصحاح؛ القاموس المحيط؛ لسان العرب؛ المصبح المنير؛ المعجم الوسيط.
(2) الحطاب، مواهب الجليل وبهامشه: التاج والإكليل للمواق، ط 2 / 1978، ج 6 ص 112
(3) نفس المرجع السابق، ج 6 ص 113
(4) ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء، بغداد: 1984، ج 1 ص 428
(5) النووي، منهاج الطالبين مع مغني المحتاج للشربيني الخطيب، القاهرة: 1958، ج 4 ص 378
(6) البهوتي، كشاف القناع عن متن الإقناع، بيروت، 1983، ج 6 ص 308
(7) العاملي، الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية، القاهرة: 1378 هـ، ج 1 ص 238
(8) الدردير، الشرح الصغير على أقرب المسالك، القاهرة: 1974، ج 4 ص 198(9/1828)
ومع ذلك، نجد في كتابات بعض الفقهاء تعريفًا للتحكيم لا يخرج عن هذه المعاني، من ذلك قول صاحب الدر: (وعرفًا: تولية الخصمين حاكمًا يحكم بينهما) (1) . وبهذا المعنى جاء في المجلة: (التحكيم: هو اتخاذ الخصمين برضاهما حاكمًا يفصل خصومتهما ودعواهما …) (2) .
الفرق بين التحكيم والإفتاء والقضاء
الإفتاء:
يقال: أفتى في المسألة، إذا بين حكمها، واستفتى: سأل عن الحكم (3) ، قال تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127] ، والإفتاء عند علماء الفقه والأصول: إظهار الحكم الشرعي المتعلق بأمر من الأمور (4) .
وهكذا يتفق التحكيم والإفتاء في أن كلًّا منهما إخبار عن الحكم الشرعي في الواقعة، ولكنها يختلفان في كثير من الأمور:
1- فالتحكيم يستلزم وجود نزاع بين طرفين، أما الإفتاء فقد يكون نتيجة طلب شخص يريد أن يعرف الحكم ليعمل به في خاصة نفسه.
2- والتحكيم يجري في مسائل حددتها كتب الفقه واختلف في تعدادها الفقهاء. أما الإفتاء فمحله يتناول جميع المسائل والأحكام.
3- والتحكيم – في رأي أكثرية الفقهاء – عقد ملزم لأطرافه وينبغي عليهم الالتزام بنتيجته. أما الإفتاء فليس عقدًا ولا تكون نتيجته ملزمة للمستفتي.
4- وقد اشترط كثير من الفقهاء أن تتوافر في المحتكم إليه شروط القاضي. أما المفتي فلا يشترط فيه ذلك.
5- والتحكيم يتطلب من المحتكم إليه تمحيص الوقائع التي تقدم إليه قبل أن يصدر حكمه فيها، أما المفتي فإنه يسلم بالواقعة التي طلب منه إظهار الحكم فيها دون مناقشتها.
__________
(1) الحصكفي، الدر المختار شرح تنوير الأبصار، مع حاشية ابن عابدين، ط 2، القاهرة: 1966، ج 5 ص 428
(2) مجلة الأحكام العدلية، المادة 1790
(3) تاج العروس؛ لسان العرب؛ معجم مقاييس اللغة؛ المعجم الوسيط
(4) ابن عبد الشكور، مسلم الثبوت مع المستصفى للغزالي، بولاق مصر: 1322 هـ، ج2 ص 403؛ السبكي، جمع الجوامع، الحلبي: 1356هـ 1937م، ج 2 ص 392، 395، 397؛ القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى في تمييز الفتاوى عن الأحكام، المكتب الثقافي: 1989، ص 25، 26؛ مصطفى السيوطي الرحيباني، مطالب أولى النهى، دمشق: 1961، ج 6 ص 437.(9/1829)
القضاء:
يقال: قضى يقضي قضيًا وقضاء وقضية: حكم وفصل، وقضى الله: أمر، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . والقضاء الحكم، أو الأداء، أو عمل القاضي (1) .
وفي الاصطلاح: إظهار حكم الشرع في الواقعة فيمن يجب عليه إمضاؤه (2) . فلئن كان التحكيم والقضاء يشتركان في إظهار حكم الشرع في أمر من الأمور، إلا أن هما يختلفان من عدة وجوه:
1- فالقاضي يستمد ولايته من عقد التولية، ولذلك يكون القضاء هو الأصل في فض المنازعات. أما المحكم فإنه يستمد ولايته من عقد التحكيم، فيكون التحكيم فرعًا عن القضاء.
2- وبناء على ما سبق اشترط الفقهاء فيمن يتولى القضاء شروطًا لا تلزم فيمن يقوم بالتحكيم.
3- وتطبيقًا لذلك جاز أن تكون ولاية القاضي عامة، أما المحكم فإنه يقتصر على الفصل في النزاع المطروح أمامه دون أن يتعداه إلى غيره، وخاصة ما يمتنع عليه أن ينظر فيه.
4- وأهم ما يفترق فيه القضاء عن التحكيم: أن الأول لا يحتاج إلى اتفاق المتنازعين حتى ترفع الواقعة إليه – كما في التحكيم – وإنما لكل من المتنازعين أن يرفع الدعوى إلى القضاء، بإرادته المنفردة ودون الحاجة إلى رضاء خصمه.
5- فإذا رفع الأمر إلى القضاء، التزم كِلَا الخصمين بالسير في الدعوى إلى حين صدور الحكم، أما في التحكيم فالعقد غير ملزم لأطرافه – عند البعض- ولا يصير ملزمًا إلا بعد صدور الحكم – عند البعض الآخر -.
__________
(1) تاج العروس؛ لسان العرب؛ المصباح المنير، المعجم الوسيط
(2) الشربيني الخطيب؛ مغني المحتاج: 4 / 372. وانظر في نفس المعنى: الكاساني؛ بدائع الصنائع: 7 / 2؛ مطالب أولي النهى: 6 / 437؛ الشرح الصغير للدردير: 4 / 186(9/1830)
3- مشروعية التحكيم
ثبتت مشروعية التحكيم بالكتاب والسنة والإجماع
الكتاب:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] . أمر الله من يحكم بين الناس أن يحكم بالعدل والحكم بين الناس له طرق: منها الولاية العامة والقضاء، ومنها تحكيم المتخاصمين لشخص في قضية خاصة (1) .
وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ، وهذه الآية دليل على إثبات التحكيم ومشروعيته (2) . .
السنة:
ورد في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل تحكيم سعد بن معاذ فيما بين المسلمين وبني قريظة، وأنه أنفذ حكم سعد، وقال له: ((لقد حكمت فيهم بحكم الملك)) (3)
وفي الحديث الشريف: ((من حكم بين اثنين تحاكما إليه وارتضيا به فلم يعدل بينهما بالحق، فعليه لعنة الله)) رواه أبو بكر. ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم (4)
الإجماع:
العمل بالتحكيم (وقع لجمع من كبار الصحابة، ولم ينكره أحد. قال الموردي: فكان إجماعًا) (5) . من ذلك:
كان بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب منازعة في نخل، فحكما بينهما زيد بن ثابت، ولم يكن قاضيًا (6) .
__________
(1) تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب: 1973، ج 5 ص 139
(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 5 / 179؛ تفسير المنار: 5 / 63 – 66.
(3) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، جمعه محمد فؤاد عبد الباقي، الكويت: 197، ص 451، حديث رقم 1155
(4) كشاف القناع، ج 6 ص 309
(5) مغني المحتاج، ج 6 ص 309
(6) ابن الهمام، شرح فتح القدير: 5 / 498(9/1831)
اشترى طلحة بن عبيد الله مالًا من عثمان بن عفان، فقيل لعثمان: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار، فحكم بينهما جبير بن مطعم (1) .
حين اشتد القتال في موقعة (صفين) بين جيش علي بن أبي طالب وجيش معاوية بن أبي سفيان، تم التراضي على تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص، وكتب عقد التحكيم، وأعلنت الهدنة (2) .
اعتراض على التحكيم:
كان قبول علي التحكيم سببًا في انفصال عدد كبير من جيشه، لا يجيز العدول عن حكم الله إلى حكم الرجال، ولا يجيز مبدأ التحكيم في الدماء (3) ، وهؤلاء هم الذين أطلق عليهم: (المحكمة الأولى) .
وبعدم جواز التحكيم قال بعض الشافعية، لما فيه من الافتئات على الإمام، وأجازه بعضهم بشرط عدم قاض بالبلد، ولوجود الضرورة حينئذ (4) . ومن المالكية من لم يجزه ابتداء (5) .
وقد أفتى بعض الحنفية بمنع التحكيم لكيلا يتجاسر العوام على تحكيم أمثالهم فيحكموا بغير ما شرع الله من الأحكام، وفي ذلك مفسدة عظيمة.
__________
(1) الزيلعي، نصب الراية: 4 /10؛ النووي، المجموع: 9 / 316
(2) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الحلبي: 1303 هـ، ج 3 ص 134.
(3) ابن الأثير، نفس الموضع السابق. وهم يقصدون بحكم الله ما جاء في سورة الحجرات: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ} .
(4) مغني المحتاج: 4 / 379
(5) الحطاب، مواهب الجليل: 6 / 112(9/1832)
4- أهمية التحكيم
كان التحكيم في بادئ الأمر هو الوسيلة الوحيدة لحسم المنازعات إلى أن تكونت الوحدة السياسية ذات السيادة والسلطان، فنشأ نظام القضاء ليطبق شريعة هذه الوحدة السياسية، ومع ذلك ظل التحكيم قائمًا إلى جانب القضاء يؤدي دورًا هامًّا في المجتمع الإنساني:
1- فهو يجنب الخصوم كثيرًا من النفقات التي تتمثل في رسوم التقاضي وأتعاب المحامين وما شابه ذلك.
2- وهو يختصر الوقت الذي يستغرقه ببطء التقاضي، والتنقل بين درجاته، وإجراءات تنفيذ الأحكام.
3- والتحكيم يتناسب وظروف أطراف النزاع، الذين يحددون بالاتفاق مع المحتكم إليهم ما يلائمهم من أوقات لا تتعارض من أعمالهم وارتباطاتهم.
4- وقد يلجأ أطراف النزاع إلى التحكيم حفاظًا على الخصوصية التي تسود علاقاتهم، ولا يرغبون في عرضها علنًا أمام القضاء.
5- ومما يشجع على تفضيل التحكيم، حرية أطراف النزاع في اختيار محكمين على درجة كبيرة من الخبرة الفنية التي لا بد منها في فهم طبيعة النزاع ودقة الحكم فيه.
6- ويحتمل التحكيم مكانة مهمة في القانون الدولي العام، حيث التنظيم القضائي لا يزال قاصرًا.
7- وللتحكيم دور بارز في حسم المنازعات التي تظهر في أوساط الأقليات الدينية أو العربية أو المذهبية، التي لا تقبل أحكام القانون السائد في البلد الذي تعيش فيه، فيجدون في التحكيم مخرجًا من تطبيق هذا القانون الذي قد يتعارض مع شرائعهم ومعتقداتهم وأعرافهم.(9/1833)
المبحث الثاني
أركان التحكيم وشروطه
أطراف التحكيم – صيغة التحكيم – محل التحكيم.
1- أطراف التحكيم
يقوم التحكيم على اتفاقين متكاملين: الأول بين الخصمين، وبمقتضاه يتراضيان على شخص يفصل في النزاع القائم بينهما. والآخر فيما بينهما وبين هذا الشخص الذي ارتضياه، وبمقتضاه: يقبل أن يفصل في هذا النزاع. وقد يكون الخصمان اثنين أو أكثر، وقد يكون المحتكم إليه واحد أو أكثر. وسوف نبدأ باستعراض الشروط الواجب توافرها في طرفي النزاع، ثم شروط المحتكم إليه.
شروط طرفي النزاع:
لا يعرض الفقهاء لشروط كل واحد من أطراف النزاع، اكتفاء بأحكام الأهلية والولاية والتراضي، إلا قليلًا منهم ذكر هذه الشروط بإيجاز مجمل، مثل: (وشرط التحكيم أن يكن الخصمان عاقلين) (1) .
وقد وردت إشارات في كتب الفقه يفهم منها أن التحكيم وإن كان التولية في الصورة إلا أنه صلح في المعنى (2) ، وأن تحكيم الحكم في الخصومة يشبه الوكالة من وجه ويشبه حكم القاضي من وجه آخر (3) وبناء على ذلك، يمكن القول بأنه: يشترط في الخصم أن يكون أهلًا لرفع الدعوى وإبرام عقد الصلح ولما كان كل منهما تصرفًا يحتمل النفع والضرر، فإن جمهور الفقهاء يتشرطون فيمن يباشرهما أن يكون عاقلًا بالغًا غير محجور عليه، ويكفي عند الحنفية أن يكون عاقلًا مميزًا.
__________
(1) سليم رستم باز، شرح المجلة، نسخة مصورة عن الطبعة الثالثة: الآستانة: 1305 هـ ج 2 ص 1194، نقلًا عن رد المحتار؛ ابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق: 7 / 24.
(2) ابن نجيم البحر الرائق: 7 24 – 25؛ سليم رستم باز، شرح المجلة، ج 2 ص 1194، نقلًا عن الفتاوى الهندية.
(3) سليم رستم باز، شرح المجلة: 2/ 1196 (حيدر أفندي عن الزيلعي) .(9/1834)
وقد تعرض بعض الفقهاء عدة فروع، من ذلك ما جاء في مغنى المحتاج: (واستثنى البلقيني من جواز التحكيم: الوكيلين، فلا يكفي تحكيمهما، بل المعتبر تحكيم الموكلين والوليين، فلا يكفي تحكيمهما إذا كان مذهب المحكم يضر بأحدهما.
والمحجور عليه بالفلس لا يكفي رضاه إذا كان مذهب المحكم يضر بغرمائه، والمأذون له في التجارة وعامل القراض لا يكفي تحكيمهما، بل لا بد من رضاء المالك.
والمحجور عليه بالسفه لا أثر لتحكيمه. قال: ولم أر من تعرض لذلك (1) .
شروط المحتكم إليه:
الأصل عند جمهور الفقهاء: أن يكن المحتكم إليه أهلًا لولاية القضاء (2) ، وهذه الأهلية تختلف باختلاف المذاهب. ومع ذلك يتسامح الفقهاء في غياب بعض شروطها لدى المحتكم إليه، مراعاة لإرادة المتنازعين الذين وقع اختيارهما عليه لصفات قد لا تتوافر في القاضي؛ ولأن ولايته قاصرة على نزاع بعينه، ويمكنه التنحي قبل إصدار حكمه، فنستعرض فيما يلي أهم هذه الشروط:
1- يشترط أن يكون المحتكم إليه معلومًا ومعينًا بالاسم أو بالصفة، فلو اتفق الخصمان على تحكيم أول من يدخل المسجد – مثلًا – لم يجز بالإجماع، لما فيه من الجهالة (3) .
2- يشترط أن يكون المحتكم إليه مكلفًا، بأن يكون بالغًا عاقلًا، وذلك لنقص كل من الصبي والمجنون (4) . ولا يكتفى فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية حتى يكون صحيح التمييز جيد الفطنة بعيدًا عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل (5) .
3- يتشرط أن يكون المحتكم إليه ذكرًا. وقال أبو حنيفة: يجوز أن تقضي المرأة فيما تصح فيه شهادتها، وشذ ابن جرير الطبري فجوز قضاءها في جميع الأحكام (6) .
__________
(1) الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 / 379؛ وانظر كذلك: ابن عابدين: 5 /430؛ الفتاوى الهندية: 3 / 271. وقد نصت المادة (203 / 4) من القانون الاتحادي رقم (11) لسنة 1992 في شأن الإجراءات المدنية على أنه لا يصح الاتفاق على التحكيم إلا ممن له أهلية التصرف في الحق محل النزاع
(2) الكاساني، بدائع الصنائع: 7 /3؛ الحطاب مواهب الجليل: 6 / 112؛ الشربيني الخطيب، مغنى المحتاج: 4/ 378؛ مصطفى السيوطي الرحيباني، مطالب أولي النهى: 6 / 471؛ العاملي، الروضة البهية: 1 / 238.
(3) ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 26، الزيلعي، تبيين الحقائق: 4 / 194
(4) الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 / 375، وقارن: حاشية الدسوقي: 4/ 136 – 137.
(5) الموردي، الأحكام السلطانية، القاهرة: 1386 – 1966، ص 65
(6) الأحكام السلطانية: 65؛ حاشية الدسوقي: 4 / 136 – 137؛ الشوكاني، نيل الأوطار: 8 / 274؛ ابن قدامة؛ المغني مع الشرح الكبير، ج 11، ص 380؛ وانظر: العاملي، الروضة البهية: 1 / 238، حيث يقول: وأما الذكورية فلم ينقل أحد فيها خلافًا، ويبعد اختصاص قاضي التحكيم بعد اشتراطها وإن كان محتملًا، ولا ضرورة هنا إلى استثنائها(9/1835)
4- يشترط أن يكون المحتكم إليه مسلمًا، وأجاز الحنفية تقليد غير المسلم القضاء على غير المسلمين (1) .
5- يشترط في المحتكم إليه العدالة، أي: (أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفًا عن المحارم، متوقيًا المآثم، بعيدًا من الريب مأمونًا في الرضا والغضب، مستعملًا المروءة مثله في دينه ودنياه، فإذا تكاملت فيه فهي العدالة التي تجوز بها شهادته، وتصح معها ولايته) (2) . وعند الحنفية: العدالة ليست شرطًا لجواز التقليد، ولكنها شرط كمال: فيجوز تقليد الفاسق، وتنفيذ قضاياه إذا لم يتجاوز فيها حد الشرع، وبذلك قال بعض المالكية (3) .
6- كمال الخلقة، بأن يكون سميعًا بصيرًا ناطقًا، وقد جوز بعض أصحاب الشافعي قضاء الأعمى (4) ، فيصح الاحتكام إليه، وعند المالكية، يجب أن يكون الحاكم سميعًا بصيرًا متكلمًا، واتصافه بذلك واجب غير شرط، فينفذ حكم الأعمى والأصم الأبكم إن وقع صوابًا (5) .
7- يشترط أن يكون المحتكم إليه من أهل الاجتهاد، وقال بعض الحنفية: يجوز أن يكون عامِّيًّا، فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرض منه فصل الخصائم، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز، كما يحكم بقول المقومين (6) . وبمثل ذلك قال ابن فرحون المالكي (7) .
وقد نقل الكمال بن الهمام عن الغزالي: (أن اجتماع هذه الشروط، من العدالة والاجتهاد وغيرهما، متعذر في عصرنا، لخلو العصر عن المجتهد والعدل. فالوجه: تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة، وإن كان جاهلًا وفاسقًا) (8) . وإذا كان هذا القول ينصب على القاضي، فإنه – من باب أولى –يصدق بالنسبة للمحتكم إليه.
8- ويشترط في المحتكم إليه ألا تكون بينه وبين أحد الخصمين قرابة تمنع من الشهادة، ويجوز أن يحكم الخصم خصمه، ويمضي حكمه إن لم يكن جورًا بينًا، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، وهو المعتمد عند المالكية، وبه قال بعض الشافعية (9) .
__________
(1) ابن عابدين:4 /429؛ قال في مغنى المحتاج: 4 / 375: (وأما جريان العادة بنصب حاكم من أهل الذمة عليهم، فقال الماوردي والروياني: إنما هي رياسة وزعامة، لا تقليد حكم وقضاء، ولا يلزمهم حكمه ولا يلزم حكمه بإلزامه، بل بالتزامهم)
(2) الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 66
(3) الكاساني، بدائع الصنائع: 7 / 3؛ حاشية الدسوقي: 4 / 136 – 137؛ الفتاوى الهندية: 3 / 307
(4) ابن قدامة، المغنى: 11 / 380 – 381
(5) الدردير، الشرح الصغير: 4 / 191
(6) ابن قدامة، المغني: 11 / 382؛ الموردي، الأحكام السلطانية، ص 66
(7) ابن فرحون، تبصرة الحكام: 1 / 44
(8) ابن الهمام، فتح القدير: 7 / 454؛ ابن عابدين: 4 /330، ويلاحظ أن الغزالي الذي نسب إليه هذا القول توفى سنة 505 هـ.
(9) ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 28؛ البهوتي، كشاف القناع: 6 / 303؛ الدسوقي، حاشية على الشرح الكبير: 4 / 135؛ الماوردي، أدب القاضي: 2 / 385؛ ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء، بغداد: 1984، ج 1، ص 431(9/1836)
2- صيغة التحكيم
سبق أن ذكرنا أن التحكيم ينتج عن عقدين رضائيين، يتم أولهما بين طالبي التحكيم أن أنفسهم، ويتم الآخر بينهم وبين المحتكم إليه.
وكما هو الشأن في العقود، لا بد من صيغة تعبر عن الإرادة بما يدل على مقصود العاقدين دلالة واضحة، من قول أو فعل أو غيرهما.
وقد اشترط بعض الفقهاء أن يتقدم التراضي على عقد التحكيم، ولم يشترط البعض الآخر ذلك، بحيث (إذا فصل واحد الدعوى الواقعة بين اثنين، ولم يكونا قد حكماه، صح حكمه ونفذ إذا رضيا به أجازاه) بشرط أن يكون الحكم موافقًا للأصول المشروعة (1) .
ولأطراف التحكيم تقييد الصيغة بشرط مشروع يتعلق بالزمان أو المكان أو اتباع مذهب معين أو استشارة شخص بذاته أو صفاته، أو غير ذلك مما يتعلق به غرضهم.
والغالب أن يتم تراضي أطراف التحكيم بمناسبة قيام النزاع ويطلق عليه القانون (مشارطة التحكيم) . وهذا لا يمنع من أن يدرج المتعاقدان في العقد شرطًا يتم بموجبه اللجوء إلى التحكيم في حالة وقوع نزاع حول تنفيذ هذا العقد، وهو ما يطلق عليه (شرط التحكيم) وقد اتفق الفقه على صحة التحكيم بمناسبة قيام نزاع وخصومة حول حق من الحقوق، ولم يتعرض البعض على صحة التحكيم مع عدم وجود خصومة، فقد جاء في مغنى المحتاج – تعليقًا على النووي (ولو حكم خصمان رجلًا: قوله خصمان، يوهم اعتبار الخصومة، وليس مرادًا، فإن التحكيم يجري في النكاح، فلو قال: اثنان، كان أولى (2) .
ولم يشترط الفقهاء الإشهاد أو الكتابة على اتفاق التحكيم، ومع ذلك: فإنهم يستحسنون الإشهاد خشية الجحود (3) . إلا أنهم يشترطون – لقبول قول الحكم برضاء الخصمين بحكمه – أن يشهد عليهما في مجلس الحكم (4)
__________
(1) سليم رستم باز، شرح المجلة:2 / 1199 ح ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 25
(2) الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 /378
(3) السرخسي، المبسوط: 21 / 63؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير:4 / 135، مصطفى السيوطي الرحيباني، مطالب أولي النهى: 6 / 472) ينبغي أن يشهد المتحكم على الخصمين بالرضا بحكمه قبل أن يحكم بينهما (؛ العاملي، الروضة البهية: 1 / 238) … ومن أراد منهما ضبط ما يحتاج إليه أشهد عليه
(4) البابرتي، العناية الهداية: 5 / 502؛ ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء:1 / 432؛ أحمد بن عبد الله القاري، مجلة الأحكام الشرعية، م: 2095 مع هـ 5.(9/1837)
3- محل التحكيم
بعد استقراء الآراء المتنوعة في الفقه الإسلامية، يمكن القول بأن (ما يجري فيه التحكيم) يخضع لاتجاهين مختلفين:
1- الاتجاه الأول: يغلب في التحكيم جانبه الرضائي المستند على إرادة أطرافه، فلا يجيز التحكيم فيما لا تملكه هذه الإرادة (1) ؛ لأن التحكيم بمنزلة الصلح (2) ويمثل هذا الاتجاه: الحنفية (3) ، وظاهر الروايات في مذهب مالك (4) ، وهو وجه من طريق في مذهب الشافعي (5) ، وبه أخذ القاضي من الحنابلة (6) .
وبناء على ذلك: لا يصح التحكيم، عن الحنفية، في الحدود أو القصاص أو فيما يجب من الدية على العاقلة، وكذلك لا يصح التحكيم في اللعان؛ لأنه يقوم مقام الحد (7) .
وعند المالكية: يجوز التحكيم في الأموال والجراحات، ويمتنع في الحدود والقصاص والولاء والنسب والرشد والسفه وأمر الغائب والحبس والطلاق واللعان والعتق والفسخ لنكاح ونحوه وما يتعلق بصحة العقد وفساده، (فلا يجوز التحكيم فيها لتعلق الحق فيها بغير الخصمين) (8) .
ولا يأتي التحكيم، عند الشافعية في حدود الله تعالى: إذ ليس لها طالب معين، (وفي وجه من طريق: يختص جواز التحكيم بمال؛ لأنه أخف دون قصاص ونكاح ونحوهما كلعان وحد قذف، لخطر أمرها، فتناط بنظر القاضي ومنصبه) (9) .
__________
(1) علاء الدين الطرابلسي، معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، بولاق مصر: 1300 هـ، ص 27: (يصح التحكيم فيما يملكان فعل ذلك بأنفسهما
(2) نفس المرجع السابق، ص 28 نقلًا عن الخصاف: (… لأن حكم المحكم بمنزلة الصلح، فكل ما يجوز استحقاقه بالصلح يجوز التحكيم فيه، وما لا فلا)
(3) ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 26؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 7 / 3
(4) ابن فرحون، تبصرة الحكام: 1 / 2 – 44؛ الدردير: الشرح الصغير: 4 / 198 – 199. قال ابن عرفة: ظاهر الروايات أنه يجوز التحكيم فيما يصح لأحدهما ترك حقه فيه.
(5) الشربيني الطيب، مغني المحتاج: 4 / 379
(6) ابن مفلح، كتاب الفروع: 6 / 440؛ ابن قدامة، المغني: 11 /484
(7) ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 26؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 7 / 3
(8) الدردير، الشرح الصغير: 4 / 198 – 199. وقارن: تبصرة الحكام: 1 / 43 – 44
(9) الشربيني الخطيب، مغني المحتاج، 4 /379(9/1838)
وفي الفقه الحنبلي: (قال القاضي: وينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء: النكاح واللعان والقذف والقصاص؛ لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها، فاختص الإمام بالنظر فيها، ونائبه يقوم مقامه) (1) .
2- والاتجاه الآخر: يغلب في التحكيم جانب السلطة التي يستمدها المحتكم إليه من اتفاق التحكيم وصلاحيته للقضاء، فيجيز التحكيم في جميع الأمور.
ويظهر هذا الاتجاه بوضوح في الفقه الحنبلي، حيث يعتبر أن المحتكم إليه حاكم نافذ الأحكام، فإن حكم (نفذ حكمه في كل ما ينفذ فيه حكم من ولاه إمام أو نائبه، حتى في الدماء والحدود والنكاح واللعان وغيرها، حتى مع وجود قاض) (2) .
وعند المالكية: إن حكم المحتكم إليه في الأمور التي لا يجوز له الحكم فيها – بأن جعل فيه حكمًا – فحكم صوابًا مضى حكمه ولا ينقض؛ لأن حكم المحكم يرفع الخلاف (3) .
والصحيح – عند الشافعية – جواز التحكيم في المال والقصاص والنكاح واللعان وحد القذف؛ (لأن من صح حكمه في مال صح في غيره، كالمولى من جهة الإمام) (4) .
وفي شرائع الإسلام: (لو تراضى خصمان بواحد من الرعية، وترافعا إليه، فحكم بينهما، لزمهما الحكم … ويعم الجواز كل الأحكام) (5) .
__________
(1) ابن قدامة، المغني: 11 / 484
(2) الرحيباني، مطالب أولي النهى: 6 / 471 – 472؛ ابن قدامة، المغني: 11 / 484
(3) الدردير، الشرح الصغير: 4 / 199 – 200
(4) الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 / 379
(5) الحلي، شرائع الإسلام، تحقيق عبد الحسين محمد علي، النجف: 1389هـ، 1969 م، ق4 ص 68(9/1839)
المبحث الثالث
طبيعة اتفاق التحكيم
مدى لزوم التحكيم – إلزامية الحكم – تنفيذ الحكم
1- مدى لزوم التحكيم
المراد بمدى لزوم عقد التحكيم: مدى حرية أحد أطرافه في نقضه، وبعبارة أخرى: يجب أن يستمر الاتفاق على التحكيم بين الخصمين، وأن يستمر اتفاقهما مع المحتكم إلى حين انتهائه من المهمة التي أسندت إليه بإصداره الحكم؟
يبدو أن الفقهاء قاسوا عقد التحكيم على عقد الوكالة، وهو عقد غير لازم، فذهبوا إلى أن الأصل في التحكيم عدم اللزوم، بمعنى: أن كل واحد من المتنازعين يجوز له نقض التحكيم، وأن المتنازعين يمكنهما عزل المحتكم إليه وأن المحتكم إليه يستطيع عزل نفسه، وفي كل حالة من هذه الحالات ينتقض العقد ولا يكون للتحكيم أثر.
غير أن هؤلاء الفقهاء قد وضعوا لذلك ضوابط تضمن استقرار التعامل وتؤدي إلى احترام العقود.
فعند الحنفية: يجوز لكل واحد من الخصمين الرجوع عن التحكيم، كما يجوز لهما ذلك مجتمعين، وفي هذا عزل للمحتكم إليه، بشرط أن يكون الرجوع قبل صدور الحكم، وبعد صدور الحكم لا يكون لهذا الرجوع أثر، ويظل الحكم قائمًا؛ لأنه صدر عن ولاية شرعية للمحكم، كالقاضي الذي يصدر حكمه، ثم يعزله من ولاه (1) .
وتشعبت الآراء في مذهب مالك، فبينما يرى سحنون ضرورة دوام الرضاء بالتحكيم إلى حين صدور الحكم، يرى ابن القاسم ومطرف وأصبغ أن جواز الرجوع مشروط بعدم البدء في الخصومة وإقامة البينة أمام محتكم إليه، وقال ابن الماجشون: ليس لأحدهما أن يرجع مطلقًا في اتفاق التحكيم (2) .
والمذهب عند الشافعية – أن رضا الخصمين هو المثبت للولاية، (واشترط استدامة الرضا إلى تمام الحكم، وحينئذ، إن رجع أحدهما قبل تمام الحكم، ولو بعد إقامة البينة والشروع فيه، امتنع الحكم، لعدم استمرار الرضا) (3) .
__________
(1) ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 26؛ ابن الهمام، فتح القدير: 5 / 500
(2) ابن فرحون، تبصرة الحكام: 1 /43؛ الحطاب، مواهب الجليل: 6 / 112.
(3) الشريبني الخطيب، مغني المحتاج: 4 /379؛ ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء: 1 /429.(9/1840)
(وفيه وجه بعيد: أنهما إذا رضيا أولًا، فلما خاض رجع أحدهما، لم يؤثر رجوعه ونفذ الحكم، وهذا الوجه حكاه الإمام واستبعد، وحكاه الماوردي عن أبي سعيد الإصطخري ولم يستبعده) (1) .
وعند الحنابلة: (لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم؛ لأنه لا يثبت إلا برضاه، فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف، وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن الحكم لم يتم، أشبه قبل الشروع. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع، فبطل المقصود به) (2) .
إلزامية الحكم
يكاد يتفق الفقهاء على أن حكم المحتكم إليه يلزم الخصمين بدون حاجة إلى رضاء جديد، مثله في ذلك مثل حكم القاضي (3) . (واختيار المزني: أنه لا يلزم حكمه ما لم يتراضيا بعد الحكم، لضعفه) (4) .
وإلزامية الحكم تقتصر على الخصمين فلا تتعداهما إلى غيرهما؛ لأن مصدر الحكم اتفاقهما على التحكيم، وهو اتفاق لا يمتد أثره إلى الغير (5) .
3- تنفيذ الحكم
أثر التحكيم يظهر في لزوم الحكم ونفاذه، نتيجة للولاية التي نشأت من اتفاق التحكيم، فإذا رضي الخصمان بالحكم فإنهما يقومان بتنفيذه، وإذا سخطه أحدهما أو كلاهما فيكون مرد الأمر إلى القضاء، الذي يختص – بما له من الولاية العامة – بتنفيذ الأحكام.
وقد اختلف الفقهاء في مدى سلطة القضاء إذا رفع إليه حكم المحتكم إليه:
فعند الحنفية: لا يجيز القاضي على أن يأمر بتنفيذ هذا الحكم، بل ينظر فيه، فإن وجده يوافق مذهبه أخذ به وأمضاه، ويكون إمضاؤه بمنزلة الحكم – ابتداء – في هذا النزاع، وإن وجده يخالف مذهبه، كان له الخيار: إن شاء أمضاه وأمر بتنفيذه، وإن شاء أبطله (6) .
__________
(1) ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء: 1 / 430.
(2) ابن قدامة، المغني: 11 / 84، وفي نفس المعنى: مطالب أولي النهى: 6 / 472
(3) ابن نجيم البحر الرائق: 7 / 26 – 27؛ ابن فرحون، تبصرة الحكام: 1 /3؛ الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 / 379؛ ابن قدامة، المغني: 11 /484
(4) ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء: 1 / 329
(5) ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 26؛ الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 /379؛ البهوتي، كشاف القناع: 6 /303.
(6) ابن عابدين، حاشية: 5 /431؛ ابن نجيم، البحر الرائق: 7 / 27(9/1841)
وعند المالكية: لا يجوز للقاضي أن ينظر في حكم المحتكم إليه، بل يمضي حكمه ويأمر بتنفيذه، ولا ينقضه إلا إذا كان جورًا بينًا، وسواء في ذلك أكان هذا الحكم يوافق مذهبه أم كان مخالفًا له؛ (لأن حكم المحكم يرفع الخلاف) (1)
وعند الشافعية والحنابلة: لا يجوز للقاضي أن ينقض حكم المحتكم إليه إلا بما ينقض به قضاء غيره من القضاة (2) .
التحكيم بين الزوجين:
إذا تضرر أحد الزوجين أو كلاهما، وتكررت الشكوى، مع العجز عن إثبات الضرر، فينبغي بعث حكمين، استنادًا إلى قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] .
وقد اختلف الفقهاء في تحديد طبيعة هذا النوع من التحكيم ومدى السلطة المخولة للحكمين، على رأيين:
الرأي الأول: أن الحكمين وكيلان عن الزوجين، فلا يجوز لهما التفريق إلا بإذن الزوجين، وهذا رأي الحنفية (3) ، وقول في مذهب مالك (4) ، والأظهر عند الشافعية (5) ، والصحيح من المذهب عند الحنابلة (6) ، وهو رأي القاضي من الجعفرية (7) خلافًا للمشهور عندهم من أن (بعثهما يكون تحكيمًا، لا توكيلًا) (8) ، وإن كانت النتيجة واحدة؛ لأن الحكمين (إن اتفقا على التفريق لم يصح إلا بإذن الزوج في الطلاق، وإذن الزوجة في البدل إن كان خلعًا؛ لأن ذلك هو مقتضى التحكيم) (9) .
والرأي الآخر: أن الحكمين طريقهما الحكم، لا الوكالة ولا الشهادة، ولو كانا من جهة الزوجين، ويلزم من ذلك: أنهما إذا حكما بالتفريق، نفذ حكمهما بدون حاجة إلى رضاء الزوجين أو مراجعة القاضي. وهذا هو المشهور من مذهب مالك (10) ، والقول الآخر للشافعي (11) ، والرواية الثانية عند الحنابلة (12) .
__________
(1) الدردير، الشرح الصغير: 4 / 199 – 200؛ الحطاب، مواهب الجليل: 6 / 112.
(2) الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 4 / 379: (… ويمضي حكم المحكم كالقاضي، ولا ينقض حكمه إلا بما ينقض به قضاء غيره) ؛ ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء: 1 / 429: (… ولو رفع رحكمه إلى حاكم أجراه على وفق الشرع، كغيره من القضاة) ؛ الرحيباني، مطالب أولي النهى: 6 / 471: (… ولا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض فيه حكم من له ولاية، كنائب إمام) ؛ ابن قدامة، المغني: 11 /484 (إذا كتب هذا القاضي (المحتكم إليه) بما حكم به كتابًا إلى قاض من قضاة المسلمين، لزمه قبوله وتنفيذه كتابه؛ لأنه حاكم نافذ الأحكام، فلزم قبول كتابه كحاكم الإمام) .
(3) ابن الهمام، فتح القدير: 3 /223.
(4) الدسوقي، حاشية على الشرح الكبير: 2 /346
(5) الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 3 / 261
(6) المرداوي، الإنصاف: 8 / 280
(7) العاملي، الروضة البهية: 2 / 134
(8) العاملي، الروضة البهية: 2 / 134
(9) العاملي، المرجع الساق: نفس الموضع
(10) الدسوقي، حاشية على الشرح الكبير: 2 / 346 - 347
(11) الشربيني للخطيب، مغنى المحتاج: 3 / 261؛ الشيرازي، المهذب: / 74.
(12) ابن قدامة، المغنس: 8 / 168 (والثانية: أنهما حاكمان، ولهما أن يفعلا ما يريان من جمع وتفريق، بعوض وغير عوض، ولا يحتاجان إلى توكيل الزوجين ولا رضاهما(9/1842)
المبحث الرابع
أنواع خاصة من التحكيم
احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية – احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية – التحكيم في قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين في غير البلاد الإسلامية.
1- احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية
يقتضي بحث هذا الموضوع التطرق إلى أمرين، الأول: هل تمتد ولاية القاضي المسلم لتشمل قضايا غير المسلمين؟ والآخر: إذا امتدت ولاية القاضي المسلم لهذه القضايا، فبأي شرع يحكم؟
أولًا: ولاية القاضي المسلم على غير المسلمين:
تحكم ولاية القاضي المسلم على غير المسلمين قاعدتان جوهريتان: إحداهما عامة، تتمثل في قول الفقهاء: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ، والأخرى خاصة، تتمثل في قولهم: (أمرنا بتركهم وما يدينون) .
ومقتضى القاعدة الأولى: أن يلتزم غير المسلم بأحكام وقوانين وتقاليد البلد الذي يوجد فيه، وبالتالي يخضع لقضاء هذا البلد: جنائيًّا كان أم مدنيًّا، مثله في ذلك مثل المسلم سواء بسواء (1) . وعلى هذا جرى العمل في صدر الإسلام، ففي كتاب عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر: (وبالله الذي لا يحلف بأعظم منه، إني لأقيم الحدود في صحن داري، على المسلم والذمي) (2) . وجاء في كتب التاريخ: (وفي عام 120هـ، ولي قضاء مصر: خير بن نعيم، فكان يقضي في المسجد بين المسلمين، ثم يجلس علي باب المسجد بعد العصر، فيقضي بين النصارى، ثم خصص القضاة للنصارى يومًا يحضرون فيه إلى منازل القضاة ليحكموا بينهم حتى جاء القاضي محمد بن مسروق الذي ولي قضاء مصر عام 177 هـ فكان أول من أدخل النصارى في المسجد ليحكم بينهم) (3) .
__________
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 7 / 134؛ الحطاب، مواهب الجليل: 3 / 355؛ الشيرازي، المهذب: 2 / 358؛ ابن قدامة، المغني: 10 / 4390
(2) محمد عطية خميس، الشريعة الإسلامية والأجانب في دار الإسلام، القاهرة: 1978، ص 14 نقلًا عن: الرياض النضرة في مناقب العشرة، للإمام الطبري.
(3) الكندي، كتاب الولاة والقضاء، ص 351، 390؛ ابن حجر، رفع الإصر عن تاريخ قضاة مصر: 1 /132(9/1843)
ومقتضى القاعدة الثانية: ألا يكلف غير المسلمين بما له صبغة تعبدية أو دينية في نظر الإسلام، مثل الجهاد والزكاة، وليس للحاكم المسلم أن يمنعهم مما أحله لهم دينهم – وقد حرمه الإسلام – مثل شرب الخمر وأكل الخنزير، ولا يتدخل القاضي المسلم فيما يعتقدون حله من أمور الزواج والطلاق والميراث والوصية وغير ذلك من الأحوال الشخصية. وفي ذلك: أرسل عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري،يسأله: لماذا نترك النصارى يأكلون الخنزير ويشربون الخمر، ونترك المجوس يتزوجون بناتهم؟ فرد عليه الحسن: على هذا دفعوا الجزية، وعلى هذا أقرهم السلف، وإنما أنت متبع لا مبتدع (1)
وفي هذه الأحوال الشخصية، كان الذميون يلجئون إلى رؤساتهم الروحيين، يحتكمون إليهم فيما شجر بينهم، فكان هؤلاء الرؤساء يقومون بدور القضاة، وقد ألفوا كثيرًا من كتب القانون تتضمن الأحكام التي تتناسب ومعتقداتهم في مسائل الزواج والميراث وفي بعض المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم ولا تمس الدولة أو النظام العام، وفي الأندلس: كان النصارى يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، ولا يلجئون للقاضي المسلم إلا في مسائل القتل (2) .
ويبدو أن هذه الأحكام الكنسية لم يكن لها قوة الإلزام إلا من الناحية الدينية، نلحظ ذلك في تحليل عبارات الفقهاء: (ولا يجوز أن يقلد الكافر القضاء على المسلمين ولا على الكفار، وقال أبو حنيفة: يجوز تقليده القضاء بين أهل دينه. هذا وإن كان عرف الولاة بتقليده جاريًا، فهو تقليد زعامة ورئاسة، وليس بتقليد حكم وقضاء، وإنما يلزمهم حكمه لالتزامهم له، لا للزومه لهم. ولا يقبل الإمام قوله فيما حكم به بينهم، وإذا امتنعوا من تحاكمهم إليه لم يجبروا عليه، وكان حكم الإسلام عليهم أنفذ) (3) .
ولنا أن نفهم من قوله: (وإنما يلزمهم حكمه لالتزامهم له، لا للزومه لهم) أن هذا يكون نوعًا من التحكيم، فيخضع للأحكام التي سبق إيرادها في المبحث الثالث.
يبقى بعد ذلك أن نعرض لحكم ما إذا ترافع غير المسلمين إلى محاكم إسلامية في الأمور التي يختصون بها. وقد ميز الفقهاء في هذه المسألة بين الذميين (رعايا الدولة الإسلامية) ، وبين المعاهدين (الأجانب الذين سمح لهم بالدخول مدة محددة) .
__________
(1) محمد عطية خميس، المرجع السابق، ص 52 والمراجع التي أشار إليها
(2) يوسف القرضاوي، غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، مكتبة وهبة، القاهرة، ص 40 – 42 مع هـ، نقلًا عن: آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري.
(3) الموردي، الأحكام السلطانية: 65 / 66(9/1844)
ففيما يتعلق بالمعاهدين: يكاد يتفق الفقهاء على ضرورة اتفاق المتنازعين ورضاهما بحكم القاضي المسلم، وفي هذه الحالة يكون للقاضي الخيار بين قبول الدعوى والحكم بيها، وبين رفض الدعوى فيرجعون إلى قضاء بلدهم، وحجتهم في ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] . حيث نزلت هذه الآية لبيان حكم المعاهدين (1) . ولا يشترط أبو يوسف ومحمد وزفر رضا الخصمين، فإذا رفع أحدهما الدعوى أمام القاضي المسلم وجب عليه أن يفصل فيها (2) .
وفيما يتعلق بالذميين: يشترط أبو حنيفة رضاء الخصمين برفع الدعوى أمام القاضي المسلم، أما أصحابه: أبو يوسف ومحمد وزفر فلا يشترطون هذا التراضي، كما هو الأمر بالنسبة للمعاهدين (3) . عند المالكية: لا بد من رضاء الخصمين باللجوء إلى القاضي المسلم، وحينئذ يكون له الخيار أن يحكم بينهما أو أن يعرض عنهما (4) . عند الشافعية: يرى البعض اعتبار رضاء الخصمين، (ولكن عامة كلام الأصحاب على اعتبار رضا واحد إذا استعدى على خصمه) . فإن كان الذميان متفقين في الملة – كنصرانيين – وجب علينا الحكم بينهما – في الأظهر – لأنه يجب على الإمام منع الظلم عن أهل الذمة، ومقابل الأظهر: لا يجب، بل يتخير.
أما إذا اختلفت ملتهما – كيهودي ونصراني – فإن الحكم يجب بينهما جزمًا (5) .
وفي الفقه الحنبلي: (إن تحاكم بعضهم مع بعض، أو استعدى بعض على بعض: خير الحاكم بين الحكم بينهم والإعراض عنهم) (6) . وفي الفروع: (وإن تحاكم إلينا ذميان، فعنه: يلزم الحكم … وعنه: إن اختلفت الملة. وعنه: يخير إلا في حق آدمي. والأشهر وفيه كمستأمنين، فيحكم ويعدي بطلب أحدهما. وعنه: باتفاقهما كمستأمنين. وفي الروضة – في إرث المجوس – يخير إذا تحاكموا إلينا، واحتج بآية التخيير (7) . وظاهر ما تقدم: أنهم على الخلاف؛ لأنهم ذمة) (8) . فنخلص من ذلك إلى أن الصحيح عند الحنابلة: أن الحاكم مخير سواء رضي الخصمان به أو استعدى أحدهما على خصمه، وسواء اتفقت ملتهما أو اختلفت (9) .
__________
(1) ابن العربي، أحكام القرآن: 2 / 619؛ البيهقي، أحكام القرآن للإمام الشافعي: 2 / 73؛ الفخر الرازي، التفسير الكبير: 11 / 235؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 6 / 184؛ محمد عبده، تفسير المنار: 3 / 325؛ وانظر: مالك، المدونة الكبرى: 4 / 161؛ الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 3 / 195؛ منصور بن إدريس، كشاف القناع: 1 / 731
(2) ابن الهمام، فتح القدير: 2/ 504؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 2 / 312
(3) الرازي الجصاص، أحكام القرآن: 2 / 435 – 436؛ ابن الهمام، فتح القدير: 2 / 504 – 505
(4) القرطبي، الجامع القرآن: 6 / 184 – 185؛ مالك، المدونة الكبرى: 4: 161
(5) الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 3 / 195
(6) ابن قدامة، المغني: 10 / 623 – 624؛ والشرح الكبير: 10 / 631
(7) المائدة:42
(8) ابن مفلح، كتاب الفروع، القاهرة: 1388 هـ 1967 م، ج 6، ص 281
(9) المرداوي، تصحيح الفروع، أسفل كتاب الفروع السابق: 6 / 282 (الرواية الرابعة: يخير في حق آدمي وغيره، قال المصنف: وهو الأشهر، وكذا قال في المحرر. قال الزركشي: هو المشهور: وجزم به في المذهب والخلاصة والمقنع والوجيز وغيرهم. وقدمه في المغني والشرح والرعايتين والحاويين وغيرهم. قلت: وهذا هو الصحيح من المذهب(9/1845)
ثانيًا: القانون الواجب تطبيقه على غير المسلمين:
لا خلاف بين علماء المسلمين – من أهل التفسير أو الفقه – على أن القاضي المسلم لا يجوز له أن يحكم بغير الشريعة الإسلامية – سواء أكان ذلك بين المسلمين أم كان بين غير المسلمين، وذلك لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] ، وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] ؛ ولأن الأصل في الشرائع هو العموم في حق الناس كافة، إلا أنه تعذر تنفيذها في دار الحرب لعدم الولاية، وأمكن في دار الإسلام فلزم التنفيذ فيها (1) .
ولكن القاضي في تطبيقه لأحكام الشريعة الإسلامية على غير المسلمين، يراعي القواعد والأحكام التي نص عليها الفقهاء، تطبيقًا لقاعدة (أمرنا بتركهم وما يدينون) ، باعتبارها قواعد موضوعية في الشريعة الإسلامية وليست قواعد إسناد تحيل إلى شريعتهم أو إلى قانون آخر غير الشريعة الإسلامية (2) .
وعلى ذلك: ذهب الحنفية إلى أن أحكام الإسلام تجري على غير المسلمين – كما تجري على المسلمين – فيما عدا الأنكحة ونفي المهر وتمليك الخمر والخنزير وتملكهما، فقد وضعوا لها قواعد موضوعية تفصيلية، يمكن الرجوع إليها في مظانها (3) . وعند المالكية: أنهم يقرون على أنكحتهم، وإن كانت فاسدة في ذاتها، ولا يمنعون من الزواج بالبنات والأمهات، على تفصيل في كتبهم (4) .
وقد فصل الشافعية أحكام أهل الذمة في عدة مواضع من كتبهم، بما لا يخرج في الجملة عما سبق إيراده (5) . ولا يختلف الأمر كثيرًا عند الحنابلة (6) .
__________
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 2 / 311 نقلًا عن أبي يوسف يعقوب؛ وانظر: ابن العربي، أحكام القرآن: 2 / 619؛ البيهقي، أحكام القرآن للإمام الشافعي: 2 / 73؛ الطبري، جامع البيان: 6 / 268؛ الفخر الرازي، التفسير الكبير: 12 / 11؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 6 / 186؛ مالك، المدونة الكبرى: 4 / 162؛ الشافعي، الأم، 4 / 130؛ ابن قدامة، المغني: 10 / 624
(2) عبد الكريم زيدان، نظام القضاء في الشريعة الإسلامية، بغداد: 1984، ص 28 فقرة 31، وص 254
(3) ابن الهمام، فتح القدير: 2 / 483 – 504؛ السرخسي، المبسوط: 5 / 38؛ الفتاوى الهندية: 1 / 337؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 2 / 311
(4) الإمام مالك، المدونة الكبرى: 4 / 162؛ الخرشي، شرح على مختصر خليل وحاشية العدوي عليه: 3 / 149؛ الدردير، الشرح الصغير: 2 / 422، 374، 4 / 103، 140، 331، 582؛ الزرقاني، شرح على مختصر خليل، وحاشية البناني عليه: 3 / 146، 8 / 178، 200
(5) الشافعي، الأم: 4 /130 –133؛ الشربيني الخطيب، مغني المحتاج: 3 / 195 – 196؛ قليوبي وعميرة على المحلى على المنهاج: 3 / 32،43، 88، 100، 159، 256
(6) ابن قدامة، المغني: 10 / 624؛ والشرح الكبير: 10 / 631؛ ابن مفلح، كتاب الفروع، وتصحيح الفروع للمرداوي: 6 / 269 – 289(9/1846)
2- احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية
احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية – في الوقت الراهن – من الأمور التي عمت بها البلوى، فأغلب البلاد الإسلامية واقعة تحت تأثير خارجي شرس يمنعها من تطبيق الشريعة الإسلامية، فالقضاة الذين يحكمون على المسلمين منهم المسلم وغير المسلم، والقانون الذي يحكم به على المسلمين خليط من قواعد إسلامية وغير إسلامية، وهذه الدول الإسلامية ترتبط بمواثيق ومعاهدات دولية، وتسري عليها أحكام ومبادئ القانون الدولي وقرارات المنظمات الدولية. وتقدر بعض المصادر الإسلامية عدد المسلمين الذين يعيشون في دول غير إسلامية – سواء كانوا ينتمون بجنسيتهم إلى تلك الدول أو إلى دول أخرى أو كانوا من رعايا الدول الإسلامية – بنحو 230 مليون مسلم، ويعتقد بعض الباحثين أن هذا العدد قد يصل إلى حوالي ثلث مليار نسمة (1) .
وإزاء هذا الوضع، لا يسهل الأخذ بالحلول التقليدية التي وضعها الفقهاء إبان وحدة العالم الإسلامي وعزته، من نحو وجوب الهجرة على من يقدر عليها، وإقامة الحدود أو التعامل بالربا في دار الحرب … ونحو ذلك (2) . وإنما ينبغي مساندة الهيئات والمنظمات الإسلامية والإنسانية التي تهتم بأوضاع الشعوب الإسلامية التي لم تستقل بعد، والتي تعمل على تمتع الأقليات المسلمة بحقوقها السياسية والدينية الاجتماعية، وقد نص الشافعية على أن: من يقدر على إظهار دينه في دار الحرب، ويقدر على الاعتزال في مكان خاص، والامتناع من الكفار، فهذا تحرم عليه الهجرة؛ لأن مكان اعتزاله صار دار إسلام بامتناعه، فيعود بهجرته إلى حوزة الكفار، وهو أمر لا يجوز (3) .
إذا تقرر ذلك، فإن احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية يدخل في باب الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، وحينئذ يرخص للمسلم في الاحتكام إلى محاكم غير إسلامية، باعتباره نوعًا من التحكيم الفاسد، الذي ينفذ لموافقة الحكم قواعد القانون الطبيعي، ومبادئ العدالة (4) .
التحكيم في قضايا الأحوال الشخصية
للمسلمين في غير البلاد الإسلامية
والحديث موصول بالمسألة السابقة، ولكن خصوصية قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين تتطلب وقفة متأنية، ذلك أن أحكام الزواج والطلاق والنسب والمحرمات من النساء، وعدة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها وتوزيع التركات ونحو ذلك، قد ثبتت بنصوص من الكتاب والسنة، ومجال اجتهاد الفقهاء فيها محدود، فهي أقرب اتصالًا بالعقيدة، والفصل فيما ينشأ عنها من نزاع يقتضي الكثير من الخشية والاحتياط.
__________
(1) عبد الله الأشعل، أصول التنظيم الإسلامي الدولي، القاهرة: 1988، ص 329 – 330، والمراجع التي أشار إليها في هامش 3
(2) الكاساني، بدائع الصنائع: 7 / 30 – 31 ح الخرشي علي خليل: 3 / 226؛ الرملي؛ نهاية المحتاج: 8 / 82؛ المرداوي، الإنصاف: 4 / 121
(3) الرملي، نهاية المحتاج: 8 / 82؛ النووي، روضة الطالبين: 10 / 6
(4) قرب: فتوى الشيخ محمد رشيد رضا عن مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند، التي أثبتها في تفسير المنار: 6 / 335 – 338؛ وقد قرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني – ط دار الكتب المصرية – ج 8 ص 303 بمناسبة ترجمة الشاعر النصراني (الأخطل) تحت عنوان (كان حكم بكر بن وائل) ما يلي: أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا الخراز عن المدائني، قال: قال أبو عبد الملك: كانت بكر بن وائل إذا تشاجرت في شيء رضيت بالأخطل، وكان يدخل المسجد فيقدمون إليه. (كذلك قرأت في كتاب) مصر في العصور الوسطى من الفتح العربي إلى الفتح العثماني (لعلي إبراهيم حسن، الطبعة الثانية: 1949 م، ص 303، أنه: إذا حدث نزاع بين مسلم وقطبي، تقدم المتقاضون إلى مجلس مؤلف من قضاة يمثلون الفريقين المتنازعين.(9/1847)
والمسلمون الذين يعيشون في بلاد غير إسلامية على ضربين:
1- أقليات إسلامية تتمتع بقدر من الاستقلال الداخلي أو الحكم الذاتي، إما بنص أو معاهدة، وإما بحكم الأمر الواقع: وهؤلاء ينبغي عليهم إقامة نظام قضائي شرعي، ويكون تعيين قضاتهم إما بتولية من كبيرهم (شيخ الإسلام – أمير الجماعة – الحاكم) ، وإما بتولية مباشرة من رئيس الدولة أو نائبه (غير المسلم) ، وإما باتفاق من الجالية الإسلامية على شخص تتوافر فيه صفات القاضي ليحكم بينهم، وأما بأي طريق آخر يتناسب وأوضاعهم.
وقد نص الفقهاء على صحة هذه التولية، ومن ذلك ما جاء في فتح القدير: (إذا لم يكن سلطان ولا من يجوز التقلد منه – كما هو في بعض بلاد المسلمين غلب عليهم الكفار، أقروا المسلمين عندهم -.. يجب عليهم أن يتفقوا على واحد منهم يجعلونه واليًا، فيولي قاضيًا ليقضي بينهم، أو يكون هو الذي يقضي بينهم) (1) . وفي قواعد الأحكام: (لو استولى الكفار على إقليم عظيم، فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر: إنفاذ ذلك كله؛ جلبًا للمصالح العامة ودفعًا للمفاسد السابقة) (2) . وفي تبصرة الحكام: (القضاء ينعقد بأحد وجهين: أحدهما عقد أمير المؤمنين …. والثاني: عقد ذوي الرأي وأهل العلم والمعرفة والعدالة لرجل منهم، كملت فيه شروط القضاء للضرورة الداعية إلى ذلك) (3) . وفي الأحكام السلطانية: (لو اتفق أهل بلد – قد خلا من قاض – على أن قلدوا عليهم قاضيًا – فإن كان إمام الوقت موجودًا بطل التقليد، وإن كان مفقودًا صح التقليد، ونفذت أحكامه عليهم) (4) .
2- أقليات إسلامية في بلاد لا يسمح نظامها بغير قضاء الدولة: وهؤلاء ليس أمامهم إلا الالتجاء إلى التحكيم، فيختارون مسلمًا عدلًا عالمًا بالشرع يفصل في قضاياهم المتعلقة بالأحوال الشخصية، وغالبًا ما تتولى هذه المهمة اتحاداتهم أو روابطهم أو جمعياتهم أو المراكز الثقافية الإسلامية لديهم. وبعد صدور حكم المحتكم إليه، إما أن ينفذ الأطراف من تلقاء أنفسهم، بدافع من الإيمان أو بتأثير من الجماعة، وإما أن يرفع الحكم إلى القضاء ليأخذ صبغة تنفيذية.
والواقع أن نظام التحكيم – في كثير – من صوره – أصبح الآن معترفًا به في معظم الدول، ولا يتعرض عليه القضاء إلا إذا خالف النظام العام أو حسن الآداب.
__________
(1) ابن الهمام، فتح القدير: /461.
(2) عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1 / 81
(3) ابن فرحون، تبصرة الحكام: 1 / 15
(4) الماوردي، الأحكام السلطانية 76. ابن أبي يعلى، الأحكام السلطانية: 73(9/1848)
المبحث الخامس
التحكيم الدولي
محكمة العدل الدولية – احتكام المسلمين في نزاعاتهم مع غيرهم إلى المحكمة الدولية – احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعاتهم مع بعضهم - محكمة العدل العربية - محكمة العدل الإسلامية.
1- محكمة العدل الدولية
لا يتسع المقام في هذه العجالة لحديث شامل عن محكمة العدل الدولية فمحل ذلك في الدراسات الخاصة بالقانون الدولي العام (1) ، وقد أرفقنا بهذا البحث النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. كل ما يعنينا – هنا – هو استعراض بعض العناصر الأساسية المكونة لهذه المحكمة حتى نقف على مدى مشروعية الالتجاء إليها من وجهة النظر الإسلامية.
أولًا – مبدأ التحكيم الدولي:
اتفاق دولتين أو وحدتين سياسيتين على اختيار من يفصل في نزاعهما وبيان إجراءات التحكيم، أمر عرفه الإسلام وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما عرف بوثيقة المدينة المنورة، وبين المسلمين كأمة، واليهود كطائفة لها ذاتيتها، وقد جاء في هذه الوثيقة (2) : (وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حديث، أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله) . كذلك تم تطبيقه فيما بين المؤمنين كأمة وبين نصارى نجران كوحدة مستقلة (3) . وقبل النبي صلى الله عليه وسلم تحكيم سعد بن معاذ بينه والمسلمين – من جهة – وبين يهود بين قريظة – من جهة أخرى (4) .
__________
(1) إبراهيم محمد العناني، اللجوء إلى التحكيم الدولي، القاهرة: 1973؛ حامد سلطان، القانون الدولي العام في وقت السلم، ط 6، القاهرة: 1976؛ الشافعي محمد بشير، القانون الدولي العام في السلم والحرب، ط 3، القاهرة: 1979؛ عبد العزيز سرحان، مبادئ القانون الدولي العام، القاهرة: 1975؛ علي صادق أبو هيف، القانون الدولي العام، ط 11، الإسكندرية: 1975؛ محمس الشيشكلي، الوسيط في القانون الدولي العام، بنغازي: 1973؛ محمد منصور الصاوي، أحكام القانون الدولي، الإسكندرية: 1984
(2) محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ط 4، بيروت: 1983، نقلًا عن كتب الحديث والسنن والمسانيد والسير
(3) ابن قيم الجوزية، أحكام أهل الذمة، ط 2، بيروت: 1981: 1 / 3 وما بعدها
(4) محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، الكويت: 1977، ص 451(9/1849)
ثانيًا – تشكيل المحكمة:
تتكون محكمة العدل الدولية من خمسة عشر قاضيًا، تختارهم الجمعية العامة ومجلس الأمن – بغض النظر عن جنسيتهم – من القائمة التي تتضمن أسماء من ترشحهم الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، من بين الأشخاص ذوي الخلق الرفيع، المؤهلين في بلادهم لتولي أسمى درجات القضاء، أو من كبار فقهاء القانون الدولي، على أن يراعى تمثيلهم المدنيات الكبرى والنظم القانونية الرئيسية في العالم (1) . وتنعقد المحكمة بكامل هيئتها، ويجوز لها تشكيل دائرة تختص بنظر قضية بعينها، وفي هذه الحالة يتحدد عدد القضاة برضاء الطرفين المتنازعين (2) . وإذا كان أحد القضاة يتمتع بجنسية دولة طرف في النزاع المعروض أمام المحكمة فإن للطرف الآخر – إذا لم يكن من بين أعضاء هيئة المحكمة من يتمتع بهذه الجنسية – أن يختار قاضيًا وطنيًّا، تتوافر فيه الشروط، ليمثله في هيئة المحكمة (3) .
ونحن لا نرى ما يمنع من اعتماد محكمة العدل الدولية كأداة لفض المنازعات بين الدول، فقد ضم (حلف الفضول) قبائل من قريش تحالفت في دار عبد الله بن جدعان، لشرفه وسنه، وكانوا: بني هاشم، وبني المطلب، وبني أسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتميم بن مرة، وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى ترد مظلمته، وقد قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم - بعد بعثته -: ((لقد شهدت مع عمومتي حلفًا في دار عبد الله بن جدعان، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت)) (4) .
ثالثا – اختصاص المحكمة:
يفهم من نص المادة 36 / 1: أن ولاية المحكمة يكون اختياريًّا، أي أنها لا تنظر إلا فيما يتفق أطراف النزاع على رفعه إليها، وتستثني الفقرة الثانية من نفس المادة أربع حالات تكون ولاية المحكمة فيها إجبارية، وهي:
أ- المنازعات القانونية الخاصة بتفسير معاهدة.
ب- أي سؤال يتعلق بالقانون الدولي.
ج- التحقيق في وقائع النزاع إذا كانت تخالف التزامًا دوليًّا.
د- طبيعة أو مقدار التعويض الناجم عن مخالفة التزام دولي.
__________
(1) المواد: 2 /4 من نظام المحكمة
(2) المادة: 52
(3) المادة: 31
(4) ابن الأثير، الكامل: 2 /41 – 42؛ ابن كثير، البداية: 2 / 290 – 293؛ والحديث أخرجه البيهقي في السنن: 6 / 367 من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف مرسلًا. وأورده الهيثمي في المجمع: 8 / 172 وقال: رجاله رجال الصحيح(9/1850)
ويتضح من ذلك أن اختصاص المحكمة لا يتعارض مع سيادة الدول؛ لأنه يتعلق بمنازعات مادية – كتعيين الحدود – أو مالية – كالتعويضات المختلفة – أو فنية – كتفسير المعاهدات وتطبيق القواعد القانونية -.
رابعًا – القانون الواجب التطبيق:
نصت المادة (38) على القواعد الواجب تطبيقها فيما يعرض عليها من منازعات وذلك على الترتيب الآتي:
أ- الاتفاقات الدولية، سواء كانت عامة أو خاصة، التي تقرر قواعد تعترف بها صراحة الدول المتنازعة.
ب- العادات الدولية المتواترة، المقبولة بمثابة قانون.
ج- المبادئ القانونية العامة التي اعترفت بها الأمم المتمدنة.
د- أحكام القضاء وآراء جهابذة القانونيين في مختلف الأمم، على أن يكون الاعتماد عليها بصفة تبعية.
وهذه القواعد إما أن تكون معترفًا بها صراحة من أطراف النزاع، وإما أن تمثل المبادئ العامة للقانون وقواعد العدالة، ولا نرى في ذلك ما يمنع من قبول الحكم الصادر تطبيقًا لها، وخاصة أن هذا الحكم يجب أن يصدر بأغلبية الآراء، بعد مداولة سرية، متضمنًا أسماء القضاة الذين أصدروه، ومذكرة برأي الأقلية، كما يجب ان يكون الحكم مسببًا وعلنيًّا.
2- احتكام المسلمين في نزاعاتهم مع غيرهم إلى المحكمة الدولية
من التعليق السابق على بعض العناصر الأساسية المكونة لنظام محكمة العدل الدولية، لا نجد ما يمنع من احتكام المسلمين إليها – بعد دراسة شاملة لموضوع النزاع وأنه لا يتعلق بالسيادة الإسلامية – إذا كان الطرف الآخر في النزاع من غير المسلمين، وقد سبق أن أشرنا إلى ما ذكره المؤرخين من أنه: كان إذا حدث نزاع بين مسلم وقطبي، تقدم المتقاضون إلى مجلس مؤلف من قضاة يمثلون الفريقين المتنازعين.(9/1851)
3- احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعهم مع بعضهم
جماع الحكم في هذه المسألة جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) } [الحجرات: 9 – 10] . فالإسلام لا يعترف بتقطع المسلمين شراذم أممًا، تدعي كل شرذمة منها استقلالًا سياسيًّا في دولة لها حدود مصطنعة، وتختار داخل هذه الدولة نظامًا خاصًّا بها يجعل من المسلمين الآخرين أجانب عنها، تطبق عليهم من القواعد مثل ما تفرضه على غير المسلمين أو أدنى.
ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز أن تتعدد الدول الإسلامية، بل لا بد من دولة للمسلمين واحدة، لها إمام واحد؛ لأن في تعدد الدول الإسلامية مظنة للنزاع والفرقة، وهذا منهي عنه بقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ، وقال أبو عبيد: المراد بالريح في الآية الكريمة هو الدولة (1) . ومقتضى ذلك: أن مسألة احتكام المسلمين في نزاعاتهم الداخلية إلى جهة أجنبية عنهم لا يتصور وقوعها.
ومع ذلك: فقد لاحظ بعض الفقهاء والمفكرين الإسلاميين الضرورة العملية لوجود أكثر من دولة إسلامية، لكل منها إمام مستقل. فقد قال البغدادي: (لا يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان، واجبي الطاعة … إلا أن يكون بين البلدين بحر مانع من وصول نصرة أهل كل واحد منهما إلى الآخرين، فيجوز حينئذ لأهل كل واحد منهما عقد الإمامة لواحد من أهل ناحيته) (2) . وقال إمام الحرمين: (عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخالف غير جائز، وقد حصل إجماع عليه. وأما إذا بعد المدى، وتخلل بين الإمامين شسوع النوى، فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع) (3) . وقال ابن حزم: (اتفق من ذكرنا على أنه: لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم … إلا محمد بن كرام السجستاني وأبا الصباح السمرقندي وأصحابهما: فإنهم أجازوا كون إمامين وأكثر في وقت واحد) (4) . ولما رأى أن أهل الأندلس أجازوا العقد لخلفاء متعددين، علق على ذلك قائلًا: (اجتمع عندنا بالأندلس في صقع واحد خلفاء أربعة، كل واحد منهم يخطب له بالخلافة بموضعه، وتلك فضيحة لم ير مثلها) وقال مثل ذلك عبد الواحد المراكشي: (وصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة: أربعة كلهم يتسمى بأمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخًا في مثلها) (5) .
__________
(1) الماوردي، الأحكام السلطانية: 7، 37
(2) البغدادي، أصول الدين، بيروت: 1981، ص 274
(3) الجويني، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، القاهرة: 1950، ص 425؛ وانظر جواهر الإكليل: 1 / 251؛ مغني المحتاج: 4 / 132
(4) ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، القاهرة: 1317 – 1321 هـ، ج 4، ص 88
(5) أحمد مختار العبادي، في تاريخ المغرب والأندلس، مكتبة الأنجلو المصرية، ط 2: 1986،ص 279(9/1852)
فإذا أجيز تعدد الدول الإسلامية المستقلة، وثار نزاع بين بعضها البعض، فلا يجوز الحكم والفصل في هذا النزاع إلا على أساس من الشريعة الإسلامية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] .
وقد لاحظ الحكماء – بعد سقوط الخلافة – أن المسلمين قد انفرط عقدهم فانقسموا إلى دول متعددة، يخضع بعضها للنفوذ الأجنبي، وانشغل بعضها الآخر بمشكلاته الداخلية، وكثر بينها النزاع والشقاق، واعتدى بعضها على البعض الآخر، أو تدخل في شؤونه الخاصة، وتحالف كثير منها مع أعداء الإسلام والمسلمين، مستعينًا بهم على إخوته في العقيدة، فقامت عدة دعوات تناشد المسلمين العودة إلى وحدتهم التي نادى بها كتابهم الكريم: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] . ولكن المسلمين كانوا في شغل عن هذه الدعوات إلى (الجامعة الإسلامية) أو (المؤتمر الإسلامي) أو (الجمعية الإسلامية) ، فانعقدت المؤتمرات في القاهرة وفي مكة وفي القدس وفي باكستان وفي المغرب وفي ماليزيا، حتى تم الاتفاق – أخيرًا – على ميثاق ط منظمة المؤتمر الإسلامي (في جدة، بتاريخ 18 / محرم 1392 هـ 4 مارس 1972م (1) .
وفي ظل هذا التفكك، لجأ المسلمون – في نزاعاتهم مع بعضهم – إلى محكمة العدل الدولية أو إلى مجلس الأمن؛ لأن الدول الإسلامية تشكل ما يقرب من ثلث أعضاء هيئة الأمم المتحدة، وقد قبلت ميثاقها، وانضمت إلى المنظمات المنبثقة عنها، ونحن نرى أن التجاء الدول الإسلامية إلى القضاء أو التحكيم الدولي يدخل في باب الضرورة، حتى تضمن الحفاظ على مصالح شعوبها، وتؤمن تنفيذ العدالة بما لهيئة الأمم من سلطات أدبية أو مادية، حتى إذا ما قام البديل الإسلامي الفعال، فإن هذه الضرورة تنتفي بانتفاء أسبابها.
__________
(1) صلاح عبد البديع شلبي، التضامن ومنظمة المؤتمر الإسلامي، القاهرة: 1987؛ عبد الله الأشعل، أصول التنظيم الإسلامي الدولي، القاهرة: 1988؛ محمد ضياء الدين الريس، الإسلام والخلافة في العصر الحديث، القاهرة: 1976(9/1853)
4- محكمة العدل العربية
كنت الدول العربية تعي جيدًا أهمية إنشاء محكمة عدل عربية، لحل المنازعات التي تنشأ فيما بينها. ولكن ميثاق جامعة الدول العربية – الذي أعلن في مارس 1945 – لاحظ أن كثيرًا من الدول العربية لا يزال يرضخ لضغوط خارجية، لا تمكنه من حرية اتخاذ القرار، فاكتفى بتخويل مجلس الجامعة أن يقوم بحل المنازعات التي تنشأ بين أعضائه، عن طريق الوساطة أو التحكيم الذي قد يصدر عنه حكم يلزم أطراف النزاع، إذا تم بناء على طلبهم، وقد جاء في المادة (19) من الميثاق: (يجوز بموافقة ثلثي دول الجامعة تعديل هذا الميثاق، وعلى الخصوص لجعل الروابط بينها أمتن وأوثق، ولإنشاء محكمة عدل عربية.
وقد وجدت دول الجامعة أن الحاجة ماسة لإنشاء هذه المحكمة، وخاصة بعد أن لاحظ أن كثيرًا من المحكمين الأجانب ينظرون إلى قوانين الدول العربية نظرة ازدراء، ويطبقون قوانينهم تحت مسميات مختلفة.
1- ففي قرار التحكم الذي أصدره اللورد Asquih of Bishoptone في النزاع بين إمارة أبو ظبي وشركة التنمية البترولية المحدودة (سنة 1951) طبق المحكم القانون الإنجليزي، بدعوى أنه يمثل المبادئ العامة في الدول المتحضرة، واستبعد قانون أبو ظبي) باعتباره قانونًا متخلفًا لا يمكن استخدامه لتفسير أو لحكم المعاملات التجارية الحديثة) إلى آخر ما زعمه (1)
2- في سنة 1958: رفض المحكم G.Sauser Hall تطبيق القانون السعودي المستمد من الفقه الإسلامي، في النزاع بين شركة أرامكو والمملكة العربية السعودية، بدعوى (عدم احتوائه لأي حل للمشكلة المطروحة) وطبق على النزاع ما سمي بالمبادئ العامة للقانون (2) .
3- وكذلك فعل قرار التحكيم الصادر في سنة 1977، بشأن النزاع بين الحكومة الليبية وبين شركتي Texaco Galasiatic، حيث تم استبعاد القانون الليبي بدعوى تعارضه أو مناقضته لبعض المبادئ العامة في القانون الدولي (3)
__________
(1) أبو زيد رضوان، الأسس العامة في التحكم التجارية، القاهرة:1981، ص 146 مع هامش 59
(2) نفس المرجع السابق، ص 146 / 147 مع هامش 60
(3) نفس المرجع السابق، ص 147 مع هامش 61(9/1854)
وهكذا برزت الدعوى إلى إنشاء محكمة العدل العربية كضرورة يفرضها الواقع وتحتمها الظروف، حتى يتسنى حل أهم المنازعات بين الدول العربية في ظل القانون الذي يجمع بينها، وتم تشكيل لجنة (سنة 1982) من كبار الخبراء العرب في القانون الدولي، وفي السياسة، ومنهم من تولى منصب القضاء في محكمة العدل الدولية، فاستلهموا مبادئ الجامعة والواقع العربي، واستأنسوا بأنظمة المحاكم الدولية، وأعيد تشكيل هذه اللجنة في سنة 1985، ثم في سنة 1991، وأعد مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية، وعرض على مجلس الجامعة في عدة دورات، وينتظر إقراراه في الدورة الرابعة بعد المائة.
وأبرز ما جاء في المشروع:
1- لا يقتصر حق التقاضي أمام هذه المحكمة على الدول الأعضاء، بل تمنح الدول غير الأعضاء حق اللجوء إلى المحكمة إذا كانت تربطها بالدول الأعضاء اتفاقيات أو معاهدات وقبلت بولاية المحكمة.
2- لمحكمة العدل العربية ولاية إلزامية في حالات محددة، من أهمها: النزاعات التي تهدد الأمن القومي العربي.
3- تطبق المحكمة على النزاعات التي ترفع إليها أحكام الشريعة الإسلامية، والعرف العربي، والمبادئ العامة للقانون التي استقرت في الدول العربية بالإضافة إلى مبادئ وقواعد ميثاق الجامعة وأحكام القانون الدولي.
4- تتألف المحكمة من سبعة قضاة، ينتخبهم مجلس الجامعة بأغلبية الثلثين، من بين مواطني الدول الأعضاء الحائزين على المؤهلات القانونية المطلوبة للتعيين في أعلى المناصب القضائية، ومن المشهود لهم بالكفاءة في الشريعة أو القانون الدولي.
5- تكون اللغة العربية اللغة الرسمية للمحكمة، ويؤدي القضاة قبل أداء وظائفهم اليمين التالية: (أقسم بالله العظيم أن أؤدي واجبات وظيفتي بصدق وأمانة ونزاهة) .
5- محكمة العدل الإسلامية
أقر مؤتمر القمة الإسلامي الخامس (الكويت 1407 هـ / 1987 م) مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية، لتكون حكمًا وقاضيًا وفيصلًا فيما ينشأ بين الدول الإسلامية من خلافات، بعد ما لاحظ – ببالغ الأسف – ما انتهت إليه الإنسانية المعاصرة، رغم مظاهر التقدم المادي واتساع المكاسب العلمية والتقنية، من الفقر الروحي ومن الانحلال في العقائد والأخلاق، وبعد ما لاحظ ما اعترى المجتمعات الإسلامية من الوهن في الذاتية، والضعف في الفاعلية الحضارية، وخضوع العديد منها للهيمنة الأجنبية، وتعرضها لشتى وجوه الظلم والعدوان، رغم ما تهيأ لها من مقومات الوحدة، وعوامل التقدم والنهضة، ودواعي العزة والرفاهية.
وقد أفردت لدراسة نظام محكمة العدل الإسلامية بحوث قيمة (1) ، يعنينا منها في هذا المقام استعراض بعض العناصر الأساسية التي تميز هذه المحكمة عن غيرها من التنظيمات القضائية الدولية.
أولًا – تشكيل المحكمة:
تشكل هيئة محكمة العدل الإسلامية من سبعة قضاة ينتخبون من قبل المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية لمدة أربع سنوات، قابلة للتجديد مرة واحدة. ويجري الانتخاب بالاقتراع السري من قائمة بأسماء الأشخاص الذين تشرحهم الدول الأعضاء في المنظمة، ويراعي في الانتخاب التوزيع الإقليمي والتمثيل اللغوي للدول الأعضاء. ويشترط لانتخاب عضو في المحكمة: أن يكون مسلمًا، عدلًا، من ذوي الصفات الخلقية العالية، ومن رعايا إحدى الدول الأعضاء في المنظمة، على ألا يقل عمره عن أربعين عامًا، وأن يكون من فقهاء الشريعة المشهود لهم، وله خبرة في القانون الدولي، ومؤهلًا للتعيين في أرفع مناصب الإفتاء أو القضاء في بلاده، ويحلف كل عضو من أعضاء المحكمة في أول جلسة علنية اليمين التالية: (أقسم بالله العظيم أن أتقي الله وحده في أداء واجباتي، وأن أعمل بما تقتضيه الشريعة الإسلامية وقواعد الدين الإسلامي الحنيف دون محاباة، وأن التزم بأحكام هذا النظام وأحكام ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي) .
__________
(1) يمكن الرجوع إلى الكتابات الخاصة بمحكمة العدل الإسلامية، والتي تناولت كل جوانب النظام الأساسي لهذه المحكمة ومراحل تطوره، ونخص بالذكر من بينها: توفيق بوعشبة: منظمة المؤتمر الإسلامي؛ الحولية الفرنسية للقانون الدولي، باريس: 1982، ص284 وما بعدها (مرجع بالفرنسية) ؛ صلاح عبد البديع شلبي، التضامن ومنظمة المؤتمر الإسلامي، القاهرة: 1987، ص 89 وما بعدها؛ عبد الله الأشعل، أصول التنظيم الإسلامي الدولي، القاهرة: 1988، ص 185 وما بعدها.(9/1855)
ثانيًا: اختصاص المحكمة:
لمحكمة العدل الإسلامية ثلاثة اختصاصات:
1- اختصاص قضائي: يجعل لها ولاية الفصل – بحكم قطعي غير قابل للطعن – في القضايا التي تتفق الدول المعنية الأعضاء في المنظمة على إحالتها إليها، أو الدول الأعضاء التي لها مصلحة ذات طابع قانوني قد تتأثر بالحكم في قضية معروضة على المحكمة، وكذلك الدول غير الأعضاء في المنظمة بشرط أن تعلن مسبقًا التزامها بأحكام المحكمة وألا يمانع أطراف النزاع في تدخلها.
2- اختصاص إفتائي: يجوز للمحكمة أن تفتي في مسألة قانونية، غير متعلقة بنزاع مطروح أمامها، وذلك بناء على طلب من أي هيئة مخولة بذلك من قبل مؤتمر وزارة الخارجية.
3- اختصاص بالوساطة والتوفيق والتحكيم: يمكن لمحكمة العدل الإسلامية أن تقوم بالوساطة أو بالتوفيق أو بالتحكيم، عن طريق لجنة من الشخصيات المرموقة، أو على عن طريق كبار المسؤولين في جهازها، لحل الخلافات التي قد تنشب بين عضوين أو أكثر من أعضاء المنظمة، إذا أبدت الأطراف المتنازعة رغبتها في ذلك، أو إذا طلبه منها مؤتمر القمة أو المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية بتوافق الآراء.
ثالثا- القانون الواجب التطبيق:
نصت على ذلك المادة (27) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية، بقولها:
أ- الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي الذي تستند إليه المحكمة في أحكامها.
ب- تسترشد المحكمة بالقانون الدولي، والاتفاقات الدولية الثنائية أو متعددة الأطراف، أو العرف الدولي المعمول به، أو المبادئ العامة للقانون، أو الأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية، أو مذاهب كبار فقهاء القانون الدولي في مختلف الدول.(9/1856)
وقد نصت المادة (28) على أن:
أ- العربية – لسان القرآن المبين – لغة المحكمة الأولى، وهي – مع الإنجليزية والفرنسية – اللغات الرسمية المعتمدة.
ب- للمحكمة – بناء على طلب أي من أطراف النزاع – أن تجيز استعمال لغة أخرى غير رسمية، شريطة أن يتحمل هذا الطرف الأعباء المالية المترتبة على الترجمة إلى إحدى اللغات الرسمية.
ج- تصدر المحكمة أحكامها باللغات الرسمية الثلاث.
كما نصت المادة (50) على ما يلي: حرر هذا النظام باللغات الرسمية الثلاث للمنظمة، وكلها متساوية في حجيتها، وعند الخلاف حول تفسيره أو تطبيقه تكون اللغة العربية هي المرجع.
إن إقرار النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامي يعتبر – بكل المعايير – إنجازًا هامًّا وقرارًا تاريخيًّا وطريقًا مستقيمًا يصل الدول الإسلامية بتراثها الخالد، ويجنبها استجداء العدالة ممن يجهلون شريعتها، أو يحتقرون تقاليدها، أو يتربصون بأهلها.
وسوف يتحقق هذا المعنى حين يكون قضاة المحكمة على قدر من فقه النفس، يؤهلهم لتطبيق روح الإسلام وسياسته الشرعية، ويبعد بهم عن أن يكونوا مضغة في الأفواه.
وسوف يتأكد هذا المعنى حين يكون الجهاز التنفيذي للمحكمة مؤثرًا فعالًا، يفرض على الجميع - ودون استثناء – احترام الحق والعدل، والخضوع لإرادة المجتمع الإسلامي.
وسوف يستقر هذا المعنى حين تتكون لدى المسلمين إرادة سياسية جماعية، واقتناع بالقيم الأخلاقية والروحية، وإيمان بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] .
والله من وراء القصد
الدكتور محمد جبر الألفي(9/1857)
التحكيم في الفقه الإسلامي
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
الأمين العام للمجمع العالمي لأهل البيت بإيران
والشيخ علي عندليب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين، وبعد:
فقد يمكن القول بأن التحكيم يشكل ظاهرة بشرية عامة لا تختص بها أمة دون أمة، ومن هنا فقد كان التحكيم شائعا بين قبائل العرب في الجاهلية بل ربما اعتبر الشكل الرئيسي السائد للعدالة والقضاء بين الأفراد في مجتمع كان الحق فيه متوقفًا على القوة في غالب الأحيان (1) .
(والمنافرة) هي إحدى عادات العرب القديمة والتي تتم بعد تنازع رجلين في الشرف ولجوئهما إلى حكماء يحكمون بتفضيل الأشرف منهما، ومن أشهر المنافرات منافرة عامر بن الطفيل مع علقمة بن علاثة على رئاسة القبيلة إذ حكما هرم بن قطبة الفزاري (2) .
وقد جوز الشرع الإسلامي ذلك على تفصيلات سنذكرها فيما يلي بعد تقديم التوضيحات:
معنى التحكيم
معنى التحكيم في اللغة:
قال الخليل (3) : وحكمنا فلانا أمرنا؛ أي يحكم بيننا.
قال ابن دريد (4) : يقال حكمت فلانا في كذا وكذا تحكيمًا، إذ جعلت أمره إليه.
قال الجوهري (5) : حكمت الرجل تحكيما إذا منعته مما أراد، ويقال أيضًا: حكمته في مالي، إذ جعلت إليه الحكم فيه.
قال ابن فارس (6) : يقال: حكمت فلانًا تحكيمًا، منعته عما يريد، وحكم فلانا في كذا، إذا جعل أمره إليه.
قال ابن منظور (7) : وحكموه بينهم، أمروه أن يحكم، ويقال: حكمنا فلانًا فيما بيننا أي أجزنا حكمه بيننا.
قال الفيروزآبادي (8) : وحكمت الرجل (بالتشديد) فوضت الحكم إليه.
فالتحكيم في اللغة هو تفويض الأمر وجعله إلى الغير ليحكم، وهذا المعنى بعينه هو معنى التحكيم اصطلاحا مع زيادة، وإليك نصوص الفقهاء:
قال الشيخ (9) : إذا تراضى نفسان برجل من الرعية يحكم بينهما وسألاه الحكم بينهما ….
__________
(1) الأوضاع التشريعية في الدول العربية ص 212 وما بعدها
(2) بلوغ الأرب للألوسي ج 1 ص 287 وما بعدها
(3) العين، ج 3، ص 67
(4) جمهرة اللغة ج 2، ص 186
(5) الصحاح، ج 5، ص 1902
(6) مقاييس اللغة، ج 2، ص 91.
(7) لسان العرب، ج 12، ص 142
(8) القاموس، ص 537.
(9) الخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 40(9/1858)
قال المحقق (1) : لو تراضى خصمان بواحد من الرعية وترافعا إليه فحكم بينهما ….
قال العلامة (2) : لو تراضى خصمان بواحد من الرعية وترافعا إليه وحكم ...
قال الشهيد الثاني (3) : قاضي التحكيم وهو الذي تراضى به الخصمان للحكم بينهما مع وجود قاض منصوب.
وقال في كتابه الآخر (4) : التحكيم هو أن يحكم الخصمان واحدا من الناس …
فالتحكيم في اصطلاح الفقهاء هو تراضي الخصمان بواحد من الرعية والترافع إليه ليحكم بينهما، فلا فرق بين المعنى اللغوية والاصطلاحي إلا في كون الحكم من الرعية، إذ اللغويون لم يقيدوه بهذا بخلاف الفقهاء، فإنهم قيدوه.
الفرق بين التحكيم والقضاء والإفتاء
أما التحكيم فقد توضح معناه مما تقدم، فلا بد من بيان معنى القضاء والإفتاء حتى يظهر الفرق فيما بينها:
معنى القضاء في اللغة:
القضاء في اللغة: الحكم (5) كما أن له معاني أخر كالإتقان والإنفاذ والإنهاء.
وفي اصطلاح الفقهاء إما الحكم وفصل الخصومة بين المتنازعين كما عن بعضهم (6) وإما ولاية الحكم شرعا كما عن بعضهم الآخر (7) .
والتحقيق أن القضاء هو الحكم وفصل الخصومة، والولاية خارجة عن تعريفه، فلا فرق بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، نعم إن القضاء منصب من المناصب وشأن من شؤون الوالي، ويحتاج إلى نصب الإمام في مشروعيته؛ لأنه من شؤونه بالأصالة.
__________
(1) الشرائع، ص 314
(2) التحريرج2،ص: 180
(3) الروضة، ج 1، ص 278
(4) المسالك، ج 2، ص 351
(5) العين، ج 5، ص 185؛ الصحاح، ج 6، ص 2463؛ النهاية، ص 78؛ مقاييس اللغة، ج 5، ص99
(6) الجواهر، 40 / 9؛ والروضة للشهيد الثاني 1 / 276
(7) الدروس، 2 / 65؛ كشف اللثام 2 / 140(9/1859)
معنى الإفتاء في اللغة:
الإفتاء تبيين الحكم عما يشكل من الأحكام (1) .
وفي الاصطلاح هو الإخبار عن الله تعالى بحكم شرعي متعلق بكلي (2) .
أما الفرق بين الإفتاء والتحكيم والقضاء ففي الإخبار والإنشاء إذ الإفتاء إخبار، والقضاء والتحكيم إنشاء وإلزام، مع أن الإفتاء إخبار عن الحكم الشرعي الكلي، والقضاء والتحكيم إنشاء الحكم الجزئي في شيء مخصوص، ولحكم القاضي آثار كوجوب التنفيذ وعدم جواز رده ونفوذه للغير، سواء كان مقلدا أو مجتهدًا، بخلاف الفتوى فإن المجتهد الآخر لا يجوز له العمل على طبق فتوى هذا الفقيه مثلًا.
وأما الفرق بين التحكيم والقضاء، ففي النصب وعدمه؛ لأن القضاء من المناصب، ويحتاج القاضي في كونه قاضيًا إلى نصب الإمام، بخلاف قاضي التحكيم فإنه يصير حكما بتراضي الخصمين وترافعهما إليه من دون نصب من الإمام، وإن شئت قلت: إن القاضي منصوب من قبل الإمام، والحكم منصوب من قبل المترافعين، فبهذا يفرق بينهما، وأما الفرق بينهما من حيث شرائط القاضي والحكم من الاجتهاد والذكورة وغيرها فسيأتي.
مشروعية التحكيم:
المشهور جواز التحكيم، بل ادعى الشيخ الطوسي أنه لا خلاف في جوازه حيث قال: (إذا تراضى نفسان برجل من الرعية يحكم بينهما وسألاه الحكم بينهما كان جائزا بلا خلاف) (3) . وكذلك في المسالك للشهيد الثاني (4) ، بل ظاهر كلام كشف اللثام (5) الإجماع عليه حيث قال: (لو تراضى الخصمان بحكم بعض الرعية فحكم بينهما جاز عندنا) وبه قال أبو حنيفة (6) والشافعي (7) وأحمد (8) .
__________
(1) القاموس، ص 654 العين، ج 8، ص 137؛ لسان العرب، ج 10، ص 183؛ المفردات، ص 373؛ المصباح المنير، ص 631؛ مجمع البحرين، ج 1، ص 326.
(2) الجواهر، ج 40، ص 100؛ المستند للتراقي، ج 2، ص 515؛ كتاب القضاء للكنى، ص 201؛ مجمع البحرين، ج 1، ص 343
(3) الخلاف، ج 2، كتاب القضاء، المسألة 40، ص 602
(4) المسالك، ج 2، ص 351
(5) كشف اللثام، ج 2، ص 140
(6) المغني، ج 10، ص 137
(7) المغني، ج 10، ص 137
(8) المغني، ج 10، ص 137(9/1860)
واستدل على جواز التحكيم بوجوده:
1- محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيًا لتحاكموا إليه. ورواه الكليني عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الحسين بن علي عن أبي خديجة مثله إلا أنه قال: شيئا من قضائنا. ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن محمد مثله (1) .
تقريب الدلالة: إن المعتبرة ناظرة إلى قاضي التحكيم، إذ قوله عليه السلام: (فإني قد جعلته قاضيًا، متفرع على قوله عليه السلام: (فاجعلوه بينكم) وهو قاضي التحكيم.
2- محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقًّا ثابتا له؛ لأن أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60] ، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكمًا، فإني قد جعلته عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكمنا قلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله … قلت: فإن كان واحد اختيار رجلًا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلف في حكم وكلاهما اختلافا في حديثكم؟ فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما. ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر …..
ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن عيسى نحوه.
ورواه الصدوق بإسناده عن داود بن الحصين (2)
__________
(1) الوسائل، ج 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ج 5، ص 4
(2) الوسائل، ج 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ج 1،ص 99، والباب 9، ج 1، ص 75(9/1861)
تقريب الدلالة: أن هذه المعتبرة المعروفة بمقبولة عمر بن حنظلة كالمعتبرة السابقة ناظرة إلى قاضي التحكيم؛ لأن قوله عليه السلام: (فإني قد جعلته عليكم حاكمًا) متفرع على قوله عليه السلام: (فليرضوا به حكمًا) فجعله حاكمًا موقوف على تراضي الخصمين بتحكيمه، وهذا قاضي التحكيم، بل قول السائل: (فإن كان كل واحد اختار رجلًا ….) مع تقرير الصادق عليه السلام يدل على جواز التحاكم إلى اثنين ويأتي في الكلام فيه.
3- محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه السلام في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيهما يمضي الحكم؟ قال: ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر.
ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن الحسن بن موسى الخشاب عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن داود بن الحصين مثله (1) .
تقريب الدلالة: هذه المعتبرة تدل على جواز التحكيم إلى رجلين، فدلالتهما على مشروعية أصل التحكيم واضحة.
4- محمد بن الحسن بإسناده عن الحسن بن سعيد عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منا ليس هو ذاك، إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط (2)
تقريب الدلالة: هذه الصحيحة تدل على جواز التحكيم بقوله عليه السلام: (ليس هو ذاك) .
5- محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن يزيد بن إسحاق عن هارون بن حمزة الغنوي عن حريز عن أبي بصير عن أبى عبد الله عليه السلام قال في رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء: كان بمنزلة الذين قال الله عز وجل فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدً} [النساء: 60] .
ورواه الصدوق بإسناده عن محمد بن يحيى مثله (3) .
__________
(1) الوسائل، ج 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ج 20، ص 80
(2) الوسائل، ج 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ج 8، ص 5.
(3) الوسائل، ج 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ج 2، ص 3(9/1862)
تقريب الدلالة: هذه الرواية تدل على جواز التحكيم، بل على وجوبه فيما لم يكن قاض منصوب لو اضطر المتخاصمان إلى التحاكم، وأنه لا يجوز التحاكم إلى أهل الجور، ولكن في سندها تأمل لتردد أبي بصير بين الثقة والمجهول.
6- روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله)) (1) .
تقريب الدلالة: لولا أن حكمه بينهما جائز لما تواعده باللعن، وكان التهديد على أصل حكمه أولى عن التهديد على عدم عدالته فيه، وبالجملة مفهومه عدم اللعن على من حكم وعدل.
وأورد عليه (2) بأن ظاهره الورود في مورد حكم آخر وهو حرمة الحكم بغير العدل لا في بيان صحة القضاء من كل من يشمله لفظ الخبر، مع أنه لم يثبت صحة سنده.
أقول: الظاهر أن دلالته على جواز التحكيم تامة؛ لأنه لو كان في مقام بيان حرمة بغير العدل فقط من دون بيان أصل التحكيم كان قوله صلى الله عليه وسلم: ((تراضيا به)) زائدًا، وذكره دليل على كونه واردًا في مورد جواز التحكيم والحكم بالعدل معًا، نعم لم يثبت صحة سنده.
7- ما وري في تحاكم النبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي إلى بعض الصحابة، وأمير المؤمنين علي عليه السلام.
__________
(1) الخلاف، ج 2، كتاب آداب القضاء، المسألة 40، ص 602؛ والمغني، ج 10، ص 137، فيه: فهو ملعون.
(2) القضاء للكني، ص 24(9/1863)
1- محمد بن علي بن الحسين، قال عليه السلام (1) : وفي رواية محمد بن بحر (يحيى – خ) الشيباني عن أحمد بن الحرث قال: حدثنا أبو أيوب الكوفي، قال: حدثنا إسحاق بن وهب العلاف، قال: حدثنا أبو عاصم النبال عن ابن جريج، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة فاستقبله أعرابي ومعه ناقة، فقال: يا محمد تشتري هذه الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم، بكم تبيعها يا أعرابي؟)) فقال: بمائتي درهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل ناقتك خير من هذا)) قال: فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يزيد حتى اشترى الناقة بأربعمائة درهم قال: فلما دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأعرابي الدراهم ضرب الأعرابي يده إلى زمام الناقة، فقال: الناقة ناقتي والدراهم دراهمي، فإن كان لمحمد شيء فليقم البينة، قال: فأقبل رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترضى بالشيخ المقبل؟ فقال: نعم، يا محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تقضي فيما بيني وبين هذا الأعرابي؟)) فقال: تكلم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الناقة ناقتي والدراهم دارهم الأعرابي)) فقال الأعرابي: بل الدراهم دراهمي والناقة ناقتي، إن كان لمحمد شيء فليقم البينة، فقال الرجل: القضية فيها واضحة يا رسول الله؛ لأن الأعرابي طلب البينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجلس)) فجلس، ثم أقبل رجل آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أترضى يا أعرابي بالشيخ المقبل؟)) قال: نعم، يا محمد فلما دنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اقض فيما بيني وبين الأعرابي)) قال: تكلم يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الناقة ناقتي والدراهم دارهم الأعرابي)) فقال الأعرابي: بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي، وإن كان لمحمد شيء فليقم البينة، فقال الرجل: ((القضية فيها واضحة يا رسول الله؛ لأن الأعرابي طلب البينة)) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أترضى بالشاب المقبل؟)) قال: نعم، فلما دنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا الحسن اقض فيما بيني وبين الأعرابي)) فقال تكلم يا رسول الله، فقال: ((الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي)) فقال الأعرابي: لا، بل الناقة ناقتي والدرهم دراهمي، وأن كان لمحمد شيء فليقم البينة، فقال علي عليه السلام: خل بين الناقة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الأعرابي، ما كنت بالذي أفعل أو تقيم البينة، قال: فضربه علي عليه السلام ضربة (فاجتمع أهل الحجاز على أنه رمى برأسه، وقال بعض أهل العراق: بل قطع منه عضوًا) ، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما حملك على هذا يا علي؟)) فقال: يا رسول الله نصدقك على الوحي من السماء، ولا نصدقك على أربعمائة درهم.
__________
(1) من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 61، 62(9/1864)
2- قال محمد بن علي بن الحسين (1) : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فادعى عليه سبعين درهمًا ثمن ناقة باعها منه، فقال: قد أوفيتك، فقال: ((اجعل بيني وبينك رجلًا يحكم بيننا)) فأقبل رجل من قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((احكم بيننا)) فقال للأعرابي: ما تدعي علي رسول الله؟ قال: سبعين درهمًا ثمن ناقة بعتها منه، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: ((قد أوفيته)) فقال للأعرابي: ما تقول؟ قال: لم يوفني، فقال لرسول الله: ألك بينة على أنك قد أوفيته؟ قال: لا، قال للأعرابي: أتحلف أنك لم تستوف حقك وتأخذه؟ فقال: نعم، فقال رسول الله ((لأتحاكمن مع هذا إلى رجل يحكم بيننا بحكم الله عز وجل)) فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام ومعه الأعرابي، فقال علي عليه السلام: ما لك يا رسول الله؟ قال: ((يا أبا الحسن احكم بيني وبين هذا الأعرابي)) فقال علي عليه السلام: يا أعرابي ما تدعي على رسول الله؟ قال: سبعين درهمًا ثمن ناقة بعتها منه، قال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: ((قد أوفيته ثمنها)) فقال: يا أعرابي أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال؟ قال: لا، ما أوفاني شيئًا، فأخرج علي عليه السلام سيفه فضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم فعلت يا علي ذلك؟)) فقال: يا رسول الله نحن نصدقك على أمر الله ونهيه وعلى أمر الجنة والنار والثواب والعقاب ووحي الله عز وجل ولا نصدقك في ثمن ناقة هذا الأعرابي وإني قتلته؛ لأنه كذبك لما قلت له: أصدق رسول الله فيما قال؟ فقال: لا، ما أوفاني شيئًا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أصبت يا علي، فلا تعد إلى مثلها)) ، ثم التفت إلى القرشي وكان قد تبعه، فقال: ((هذا حكم الله لا ما حكمت به)) .
__________
(1) من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 60؛ الوسائل، ج 18، الباب 18 من أبواب كيفية الحكم، ج 1، ص 200(9/1865)
تقريب الدلالة: تحاكم النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي إلى رجال من أصحابه مع أنهم لم يكونوا قضاة يدل على جواز التحكيم ومشروعيته، إلا أنه لم يثبت صحة سند الأول اللهم إلا أن يقال: إنهما مشهوران ورواهما الإمامية في كتبها كما قال السيد المرتضى (1) : (قد روت الشيعة أيضًا عن ابن جريح عن الضحاك عن ابن عباس قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة …)) ، فعلى هذا تكون الروايتان معتبرتين، مع أنه يكفي صحة سند الثاني، إذ طريق الصدوق إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام معتبر إن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رد الحكم إلى رجل صار قاضيًا منصوبًا.
قلنا – ما ورد في الروايتين هو التحاكم إلى رجال، والرضا بتحكيمهم، وبهذا لا يصير المحكم قاضيًا.
8- تحاكم الصحابة:
قال في المسالك (2) : وقد وقع في زمن الصحابة ولم ينكر أحد منهم ذلك..
قال ابن قدامة (3) : ولأن عمر وأبيًّا التحاكم إلى زيد (4) ، وحاكم عمر أعرابيًّا إلى شريح قبل أن يوليه، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكونوا قضاة.
9- قال النسائي (5) : أخبرنا قتيبة قال: حدثنا يزيد - وهو ابن المقدام بن شريح - عن شريح بن هانئ عن أبيه، أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه وهم يكنون هانئًا أبا الحكم، فدعاه رسول الله فقال له: ((إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟)) فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، قال: ((ما أحسن من هذا، فما لك من الولد؟)) قال: لي شريح وعبد الله ومسلم. قال: ((فمن أكبرهم؟)) قال: شريح، قال: ((فأنت أبو شريح)) ، فدعا له ولولده، هذا وإنما يكون عمل الصحابي حجة إذا كشف عن رأي المعصوم (ع) .
10 – عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
استدل في كشف اللثام (6) على مشروعيته بما دل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويرده أن الحكم والقضاء غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الحكم والقضاء إنشاء الحكم الجزئي على شيء مخصوص، وهذا يغاير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ ليس في الأمر والنهي وإنشاء الحكم.
__________
(1) الانتصار، ص 238، 239
(2) المسالك، ج 2، ص 351
(3) المغني، ج 1، ص 137
(4) السنن الكبرى للبيهقي، ج 10، ص 145
(5) سنن النسائي، ج 8، ص 226، ورواه أيضًا في السنن الكبرى، ج 10، ص 145
(6) كشف اللثام، ج 2، ص 140(9/1866)
11- الآيات الواردة في النهي عن الحكم بغير ما أنزل الله، والأمر بالحكم بالعدل:
منها قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] ، ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] ..
ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النساء:58] .
فإن المستفاد منها صحة الحكم بالعدل والحق من كل مؤمن ولو لم يكن قاضيًا، وإنما الذم على الحكم بغير ما أنزل الله.
أقول: وإن استدل بها في كشف اللثام (1) ، ولكن الظاهر منها الورود في مورد حرمة الحكم بغير العدل والحق لا في بيان صحة الحكم والقضاء من كل أحد، فصحة الحكم تتوقف على دليل آخر.
وقيل بعدم جواز التحكيم وعدم نفوذ الحكم المحكم:
قال العلامة في التحرير (2) : ولو تراضى خصمان بواحد من الرعية وترافعا إليه فحكم لم يلزمهما الحكم، ولكن قال بلزومه في القواعد (3) والإرشاد (4) .
قال في الروضة على ما حكي عنها في الجواهر (5) : هل يجوز أن يحكم الخصمان رجلًا غير القاضي؟ وهل لحكمه بينها اعتبار؟ قولان، أظهرهما عند الجمهور نعم، وخالفهم الإمام والغزالي فرجحا المنع.
واستدل على المنع بوجهين:
1- لو جاز التحكيم يلزم توفيت الولاية على القاضي المنصوب، وتفويت رأيه ونظره (6) ويرده أنه لا ملازمة بين جواز التحكيم وتفويت الولاية والرأي، إذ القاضي منصوب على القضاة والحكومة، وله ولاية على الحكم ولو لم يراجعه أحد، وأما تفويت الرأي فهو أيضًا لا يلزم؛ إذ التفويت في حكم ولم يعمل به، وأما فيما لم يحكم ولم ينظر فليست تفويت، وإلا يلزم من نصب قاض تفويت رأي القاضي المنصوب قبله، وهو كما ترى.
2- أن جواز التحكيم على خلاف الأصل، إذ الأصل عدم نفوذ حكم أحد إلا ما خرج بالدليل (7) ، ويرده أن الدليل قام على جوازه، فخرج من الأصل بالدليل.
__________
(1) كشف اللثام، ج 2، ص 140
(2) التحرير، ج 2، ص 180
(3) القواعد، (الينابيع الفقهية) ، ج 11، ص 393.
(4) الإرشاد، ج 2، ص 138
(5) الجواهر، ج 4، ص 24
(6) المسالك، ج 2، ص 315
(7) المسالك، ج 2، ص 351.(9/1867)
شرائط قاضي التحكيم
القول في شرائط قاضي التحكيم:
1- البلوغ:
قال الشهيد الثاني: واعلم أن الاتفاق واقع على أن قاضي التحكيم يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب من الشرائط (1) .
وقال في الروضة: فإن استجماعه لشرائط الفتوى شرط إجماعًا، وكذا بلوغه وعقله وطهارة مولده وغلبة حفظته وعدالته (2) .
قال المحقق: ويشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب (3) .
وقال الشهيد الأول في الدروس: ويشترط استجماع الشرائط (4) .
ولكن قال في اللمعة: ولا بد من الكمال والعدالة وأهلية الإفتاء والذكورة والكتابة والبصر إلا في قاضي التحكيم (5) .
قال في الجواهر: نعم يتجه اعتبار ما كان دليله عامًّا لمثله من الشرائط كالبلوغ والإسلام ونحوهما (6) .
والدليل على اشتراط البلوغ في قاضي التحكيم، مضافًا إلى الإجماع المنقول (وإن كان فيه تأمل) أن ما يدل على جواز التحكيم يختص بالبالغ، ولا إطلاق فيه بحيث يشمل الصبي، فالأصل عدم نفوذ حكم الصبي.
2- العقل:
ظهر مما تقدم في البلوغ أن اشتراط العقل إجماعي كما في المسالك والروضة.
والدليل على ذلك انصراف أدلة جواز التحكيم عن المجنون، وهذا لا الإشكال فيه، وعن السفيه أيضًا.
3- العدالة:
والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] ، والفاسق ظالم، والاحتكام إليه ركون إلى الظالم وهو منهي عنه، مع أنه ادعي عليه الإجماع.
4- الذكورة:
قال الشهيد الثاني: وأما الذكورية فلم ينقل أحد فيها خلافًا، ويبعد اختصاص قاضي التحكيم بعدم اشتراطها وإن كان محتملًا (7) .
والدليل على اشتراطها اختصاص الأدلة بها، إذ ورد فيها (فيتراضيان برجل منا) ، فلا إطلاق فيها حتى تشمل الأنثى، فمقتضى الأصل عدم نفوذ حكم الأنثى، اللهم إلا أن يقال: إن ذكر الرجل هنا إنما هو باعتباره عنوانًا مشيرًا.
__________
(1) المسالك، ج 2، ص 352
(2) الروضة، ج 1، ص 279
(3) الشرائع، ص 314
(4) الدروس، ج 2، ص 68
(5) الروضة، ج 1، ص 278
(6) الجواهر، ج 40، ص 28
(7) الروضة: ج 1،ص 279(9/1868)
5- طهارة المولد:
ادعي الإجماع على اعتبارها في قاضي التحكيم كما تقدم.
واستدل على ذلك بأن قوله: (فيتراضيان برجل منا) ينصرف إلى غير ولد الزنا، وليس هنا ما يدل على نفوذ حكمه (1)
وفيه أنه لا وجه للانصراف، إذ ولد الزنا الذي يكون مؤمنًا يصدق عليه أنه رجل منا بلا إشكال، فيشمله الدليل، فحكمه نافذ، فالأقوى أنه لا يشترط طهارة المولد في قاضي التحكيم.
وأما الإجماع فيحتمل كونه مدركيًّا فلا حجة.
6- غلبة الحفظ والضبط:
والدليل على انصراف الأدلة عن غير الضابط.
وفيه: أن التحكيم في واقعة لا يحتاج إلى غلبة الحفظ والضبط، إلا أن يكون غير ضابط ولو في قضية واحدة.
7- الكتابة:
والدليل على ذلك الإجماع، ولكنه يحتمل كونه مدركيًّا، وإطلاق الأدلة يردها.
8 - البصر:
الكلام فيه كالكلام في الكتابة.
9 - الاجتهاد:
المشهور هو اشتراط الاجتهاد في قاضي التحكيم بل ادعي عليه الإجماع.
وقيل بعدم اعتبار الاجتهاد فيه (2) ، وهو الأقوى.
واستدل بعدم اعتباره بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، فإن المستفاد منه صحة الحكم بالعدل من كل مؤمن ولو لم يكن مجتهدًا.
وبإطلاق الروايات الدالة على جواز التحكيم (كصحيحة الحلبي وغيرها) فتدل على صحة حكم قاضي التحكيم ولو لم يكن مجتهدًا.
__________
(1) تكملة المنهاج، ج 1، ص 11
(2) تكملة المنهاج، ج 1،ص 9(9/1869)
شرائط التحكيم
هل يشترط في جواز التحكيم عدم وجود الإمام أو القاضي المنصوب من قبله في البلد أم لا؟
المشهور عدم الاشتراط، بل لا أجد فيه خلافًا إلا ما حكي في الجواهر (1) عن بعض الفقهاء.
قال في االدروس (2) : قضاء التحكيم وهو سائغ وإن كان في البلد قاض.
وقال في القواعد (3) : والتحكيم سائغ وإن كان في البلد قاض.
وقال في الروضة (4) : قاضي التحكيم وهو الذي تراضى به الخصمان للحكم بينهما مع وجود قاض منصوب من قبل الإمام.
وقال في كشف اللثام (5) : لو تراضى الخصمان بحكم بعض الرعية فحكم بينهما جاز عندنا وإن كان الإمام حاضرًا أو هناك قاض منصوب منه.
والدليل على عدم الاشتراط إطلاق الأدلة الدالة على جواز التحكيم إلا أن يقال: إن الروايات صدرت في زمن عدم وجود قاض منصوب من قبل الإمام، وعدم بسط يده فلا إطلاق في البين، فالقدر المتيقن من جواز التحكيم هو عدم وجود قاض منصوب، فتأمل.
هل يشترط في نفوذ حكمه تراضي الخصمين بالحكم بعده أم لا؟ فيه قولان:
1- عدم الاشتراط، قال به الشيخ (6) ، والمحقق (7) ، والشهيد الأول (8) ، والثاني (9) ، والعلامة (10) ، بل لم أجد خلافًا فيه عندنا، وبه قال أيضًا أبو حنيفة (11) ، وابن قدامة (12) ، وهو أحد قولي الشافعي (13) .
أدلة القول الأول:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حكم بين اثنين تراضيًا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله)) (14)
__________
(1) الجواهر، ج 40، ص 24
(2) الدروس، ج 2، ص 67
(3) الينابيع الفقهية، ج 11، ص 394
(4) الروضة، ج 1،ص 9، 278
(5) كشف اللثام، ج 2، ص 140
(6) الخلاف، ج 2، كتاب آداب القضاء، المسألة،40، ص 602
(7) الشرائع، ص 314
(8) الدروس، ج 2، ص 68
(9) الروضة، ج 1، ص 279؛ والمسالك، ج 2، ص 351
(10) القواعد (الينابيع الفقهية، ج 11، ص 393)
(11) المغني، ج 10، ص 137
(12) المغني، ج 10، ص 137
(13) الخلاف، ج 2، كتاب آداب القضاء، المسألة 40، ص 602، ج10، ص 137.
(14) الخلاف، ج 2، كتاب آداب القضاء، المسألة 40، ص 602 ح والمغني، ج 10، ص 137، فيه ((فهو ملعون))(9/1870)
تقريب الدلالة: لولا أن حكمه بينهما لازم لما تواعده باللعن (1) .
أقول: لا دلالة فيه على لزوم الحكم من دون رضا الخصمين، إذ يمكن أن يكون اللعن لأجل الحكم بغير العدل ولو لم يكن حكمه نافذًا بدون رضاهما، فالموجب للعن هو الحكم بغير العدل سواء كان لازمًا أو غير لازم.
لو كان الحكم لا يلزم بنفس الإلزام لما كان للترافع إليه معنى (2) .
قد يقال: تقييد لزوم الحكم برضا الخصمين به لا يوجب اللغوية، إذ يكفي فيه لزومه بعد رضاهما به إلا أنه جواب غير تام.
علي بن الحسين بإسناده عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع) : انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئًا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيًا، فتحاكموا إليه (3) ..
تقريب الدلالة: أن الرواية ناظرة إلى قاضي التحكيم؛ لأن قوله: (فإني قد جعلته قاضيًا) متفرع على قوله: (فاجعلوه بينكم) وهو القاضي المجعول من قبل المتخاصمين، فإذا تحاكما إليه فهو قاض، لقوله (ع) : (قد جعلته قاضيًا) وحكم القاضي لازم ونافذ، فلا يشترط فيه رضا الخصمين.
والرواية معتبرة من حيث السند، فهذه المعتبرة تدل على عدم اشتراط تراضي الخصمين بالحكم في لزوم حكم قاضي التحكيم بعد حكمه.
ويدل على عدم اعتبار رضا الخصمين في لزوم الحكم مقبولة عمر بن حنظلة الآتية في أدلة مشروعية التحكيم، فإن قوله (ع) : (فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله) ظاهر في لزوم الحكم من دون رضا الخصمين، بل ولا يجوز للخصمين رده فإنه استخفاف بحكم الله.
دليل القول الثاني: لا يلزم الخصمين حكم قاضي التحكيم إلا بتراضيهما؛ لأن حكمه إنما يلزم بالرضا به، ولا يكون الرضا إلا بعد المعرفة بالحكم (4) .
ويرده أنه مصادرة على المطلوب؛ إذ قوله: (لأن حكمه إنما يلزم بالرضا به) عين المدعى، وهو أول الكلام، وما الدليل على ذلك؟ فالدليل عين المدعى، ولا يثبت المطلوب.
__________
(1) الخلاف، ج 2، كتاب آداب القضاء 7، المسألة 40، ص 602؛ المغني، ج 10، ص 137.
(2) الخلاف، ج 2، كتاب آداب القضاء، المسألة 40، ص 602
(3) الوسائل، ج 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ج 5، ص 4
(4) المغني، ج 10، ص 137(9/1871)
ما يجري فيه التحكيم
اختلف الفقهاء فيما يجري فيه التحكيم على أقوال:
1- جواز التحكيم في كل الأحكام:
قال به المحقق (1) ، والعلامة (2) والشهيد الأول (3) ، وكاشف اللثام (4) ، وهو المحكي عن ظاهر كلام أحمد (5) ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي (6) ، واختاره صاحب الجواهر (7) ، على القول بالمشروعية.
2- جواز التحكيم في جميع ما يقع فيه التداعي، وعدم جوازه في حقوق الله المحضة التي ليس لها خصم معين، ولا يقع التداعي فيها..
اختاره الشهيد الثاني (8) .
3- جواز التحكيم في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء: النكاح: واللعان والقذف والقصاص. وهو المحكي عن القاضي (9) وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي (10) .
4- جواز التحكيم في الأموال فقط.
نقله صاحب الجواهر (11) عن الروضة عن بعض الفقهاء.
والمختار من هذه الأقوال هو القول الثاني والدليل على ذلك إطلاق الأدلة، إذ قوله صلى الله عليه وسلم: ((فتحاكموا إليه)) مطلق يشمل جميع ما يقع فيه التحاكم والتداعي، نعم يختص بما يقع فيه التحاكم والتداعي، وأما ما لا تداعي فيه ولا تحاكم كحقوق الله تعالى فلا دليل على نفوذ حكمه فيه.
أما ما يمكن أن يستدل على القول الأول بأنه داخل في عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيرده أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يغاير الحكم والقضاء، ولو سلم فلا دليل على جواز التحكيم فما ليس له خصم معين من قبل المحكمين حتى يقال بجواز حكم من باب النهي عن المنكر.
وأما سائر الأدلة فلا عموم لها بالنسبة إلا ما لا يقع فيه التداعي.
واستدل على القول الثالث بأن لهذه الأحكام (النكاح واللعان والقذف والقصاص) مزية على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ونائبه يقوم مقامه ((12) .
ويرده: أولًا: لو قلنا باشتراط جواز التحكيم بعدم وجود الإمام أو القاضي المنصوب من قبله يلزم أن تعطل هذه الأحكام.
وثانيًا: ورود الدليل على جواز التحكيم يكشف عن الإذن العام في النظر في هذه الأحكام لقاضي التحكيم.
وثالثًا: نحن ننكر وجود مزية فيها على غيرها، بل يمكن أن يقال: إن في بعض الأحكام غير هذه الأربعة مزية على هذه الأربعة كالطلاق، والسرقة.
والقول الرابع: قول بلا دليل، ويرده عمومات الأدلة.
__________
(1) الشرائع، ص 314
(2) القواعد (الينابيع الفقهية، ج 11، ص 393
(3) الدروس، ج 2، ص 68
(4) كشف اللثام، ج 2، ص 140
(5) المغني، ج 10، ص 137
(6) المغني، ج 10، ص 137
(7) الجواهر، ج 40، ص 37
(8) المسالك، ج 2، ص 352
(9) المغني، ج 10، ص 137
(10) المغني، ج 10، ص 137
(11) الجواهر، ج 40، ص 24
(12) المغني، ج 10، 3 137(9/1872)
الرجوع عن التحكيم
هل يجوز للخصمين الرجوع عن التحكيم قبل الحكم أم لا؟
لم أجد خلافًا بين الفقهاء في جواز رجوع كل واحد من الخصمين عن تحكيمه قبل شروع الحكم في حكمه. واستدل بأنه لا يثبت إلا برضاه فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف (1) .
ويرده بأن الرضا بأصل التحكيم موجود، وأما استمرار رضاهما فهو أول الكلام، والدليل عين المدعي، وأما القياس بالتوكيل فباطل؛ لأنه يغاير التوكيل..
والذي يقوى في النفس وإن لم نجد موافقًا هو أنه لا يجوز الرجوع عن التحكيم ولو قبل شروع الحكم، والدليل على ذلك قوله: (فاجعلوه بينكم فإني جعلته قاضيًا) فبمجرد التحكيم صار المحكم قاضيًا، وعزله عن التحكيم يحتاج إلى دليل، وهو مفقود، نعم للخصمين، أن ينصرفا عن التنازع والتداعي، وأما عزل الحكم فلا.
رجوع الحكم عن حكمه
إذا حكم القاضي بعد تحكيمه لا يجوز له الرجوع عن حكمه الذي حكم بالحق والعدل؛ لأنه بعد التحكيم يطلق عليه القاضي، وحكم القاضي لا يجوز نقضه سواء كان النقض من قبله أو من قبل آخر، ويدل عليه مقبولة عمر بن حنظلة حيث قال: (فإنما استخف بحكم الله) ، فإن هذا التعليل يجري في رجوعه عن حكم أيضًا، وأما إذا عم ببطلان حكمه، وأنه حكم بغير الحق فيجب عليها الرجوع عن حكمه، إذ ورد النهي عن الحكم بغير الحق.
رجوع الحكم عن الحكم لأحدهما بمحل النزاع والحكم الآخر:
ظهر في المسألة السابقة حكم هذه المسألة، بأنه لو حكم بالحق فلا يجوز الرجوع، ولو رجع وحكم للآخر صار ممن حكم بغير الحق والعدل وبغير ما أنزل الله، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون، وأما لو تبين له أن حكمه الأول حكم بغير الحق فيجب عليه الرجوع والحكم الآخر بالحق والعدل وإلا فهو ممن لم يحكم بما أنزل الله، وحكمه الأول كلا حكم، ويدل عليه ما ورد في تحاكم النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي.
__________
(1) المغني، ج 10، ص 137(9/1873)
تنفيذ حكم المحكمة مباشرة أو باتصال القضاء به:
يستفاد من الأدلة الدالة على جواز التحكيم أن قاضي التحكيم يجوز له تنفيذ الحكم وإجراؤه بالمباشرة سيما ما ورد في تحاكم النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي، ولا يحتاج إلى تنفيذ القاضي المنصوب، نعم للقاضي المنصوب تنفيذه وإجراؤه لو لم يكن لقاضي التحكيم سلطة عليه؛ لأنه حكم صدر من أهله، ولا يجوز تعطيله، إذ يلزم الاستخفاف بحكم الله، ومع ذلك كله قال العلامة (1) : (وهل له الحبس واستيفاء العقوبة إشكال) والظاهر أن التنفيذ إذا كان يعني تدخلًا في شأن حكومي لزم اتصال القضاء به.
مشروعية التحاكم إلى الاثنين
هل يجوز التحاكم إلى اثنين من الرعية ليكونا ناظرين معًا في قضية واحدة أم لا؟
لم أجد من تعرض لهذه المسألة من الفقهاء، إلا أن مقتضى مقبولة عمر بن حنظلة، ومعتبرة داود بن الحصين المتقدمتين في مشروعية التحكيم جوازه، فعلى هذا يجتمعان وينظران في القضية وإذا اتفقا حكما معًا، وحكمهما لازم ونافذ على المتخاصمين.
ثم إن التحاكم إلى الاثنين يتصور تارة بأن يختار الخصمان معًا كلاهما، وأخرى أن يختار كل واحد من الخصمين رجلًا ليكونا ناظرين في حقهما، وما ورد في المقبولة هو الثاني، وفي معتبرة داود بن الحصين هو الأول.
إذا حكم الخصمان رجلين في واقعة، واختلف في الحكم حكم أيهما يمضي؟
مقتضى مقبولة عمر بن حنظلة ومعتبرة داود بن الحصين صحة حكم أعدلهما وافقههما وأصدقهما وأورعهما وعدم نفوذ حكم الآخر.
__________
(1) القواعد (الينابيع الفقهية، ج 11، ص 394) .(9/1874)
احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية
احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية في دولة إسلامية:
المسألة ذات صور:
1- لو تحاكم ذميان من أهل ملة واحدة كأهل التوراة مثلًا إلى محاكم إسلامية من دون التحاكم إلى حكام أهل ملتهما: لا خلاف عندنا كما في الجواهر (1) ، بل عليه الإجماع كما في السرائر (2) بأن الحاكم بالخيار في ذلك: إن شاء حكم، وإن شاء ترك، وحكي عن الشافعي في أحد قوليه (3) وبه قال ابن قدامة (4)
وحكي عن الشافعي (5) ، وأبي حنيفة (6) ، والمزني (7) وجوب الحكم على الحاكم، وقال به البيضاوي (8) .
استدل على القول الأول بوجهين:
أولًا: قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] .
وأورد عليه البيضاوي (9) بأن الآية ليست في أهل الذمة.
أقول: وإن لم تكن الآية في أهل الذمة فليست مختصة بغيرهم، بل هي مطلقة تشمل أهل التوراة سواء كانوا ذميين أم لا.
نعم يرد عليه أولًا: أن الآية مختصة ظاهرًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإسراء حكمها إلى سائر الحكام يحتاج إلى دليل.
وثانيًا: مختصة بأهل التوراة، فلا تشمل سائر أهل الكتاب، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ} [المائدة: 43] .
وحكي عن الحسن (10) أنه قال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] فنسخ الاختيار، وأوجب الحكم بينهم..
ويرد عليه على أن النسخ يحتاج إلى دليل، وهو مفقود، والجمع بين الآيتين ممكن عرفًا بأن الآية الأولى وردت في مورد أصل الحكم بينهم، وهذه الآية وردت في مورد أنه يجب الحكم بما أنزل الله لا في مورد أصل الحكم أي إذا أردت أن تحكم فاحكم بينهم بما أنزل الله.
__________
(1) الجواهر، ج 21، ص 318
(2) السرائر، ج 2، ص 197
(3) تفسير البيضاوي، ج 1، ص 267
(4) المغني، ج 9، ص 289
(5) الجواهر، ج 21، ص 319؛ تفسير الفخر الرازي، ج 11، ص 242
(6) تفسير البيضاوي، ج 1، ص 267
(7) الجواهر، ج 21، ص 319
(8) تفسير البيضاوي، ج 1، ص 267.
(9) تفسير البيضاوي، ج 1، ص 267
(10) فقه القرآن للراوندي (الينابيع الفقهية، ج11، ص: 152)(9/1875)
ب- ما رواه محمد بن الحسن بإسناده عن سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن سويد بن سعيد القلا عن أيوب عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) : (أن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة وأهل الإنجيل تحاكمون إليه كان ذلك إليه: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء تركهم) (1) .
تقريب الدلالة: قوله (ع) : (إذا أتاه أهل التوراة وأهل الإنجيل …) مطلق سواء كانوا ذميين أم لا، وقوله (ع) : (كان ذلك إليه …) يدل على التخيير.
قال ابن إدريس (2) : هذا الخبر صحيح.
ولكن لم يثبت لنا صحة سنده، لتردد أبي بصير بين الثقة والمجهول اللهم إلا أن يقال بجبره لعمل الأصحاب، ومشهورية الحكم عنده.
ج- الأصل: مقتضى الأصل عدم وجوب الحكم على الحاكم، إذن فيتخير بين الحكم والترك وهذا على المناقشة في الوجهين، ,وإلا لم تصل النوبة؛ لأنه في مقام الشك في الحكم، على أننا لو تصورنا المسألة في دولة إسلامية يلتزم فيها أهل الذمة بشروطها أمكننا القول بالوجوب من باب الحسبة.
واستدل على القول الثاني بوجهين:
أ- قال البيضاوي (3) : والأصح وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميًّا؛ لأنا التزمنا الذب عنهم، ودفع الظلم منهم.
ب- حكي عن الشافعي (4) أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه؛ لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارًا لهم.
يرد عليه أنه ليس كل صغار مما يجب أن يجري عليهم، بل إما الصغار الذي يحصل من إعطاء الجزية، وإما الصغار الذي يرى الإمام إجراءاه عليهم، والصغار الحال من الحكم عليه بحكم الإسلام لا دليل على وجوب إجرائه عليهم، هذا أولًا.
__________
(1) الوسائل، ج 18، الباب 27 من أبواب كيفية الحكم، ج 1، ص 218.
(2) السرائر، ج 2، ص 197
(3) تفسير البيضاوي، ج 1، ص 267
(4) تفسير الفخر الرازي، ج 11، ص 242(9/1876)
وثانيًا: أنه يتوقف على وجوب الحكم بمقتضى شريعة الإسلام، والكلام فيه يأتي.
وثالثًا: وإن كان الحكم بمقتضى الشريعة صغارًا على المحكوم عليه، ولكنه ليس كذلك بالنسبة إلى المحكوم له، بل عزة له.
ورابعًا: لو كان إجراء الصغار واجبًا عليهم مطلقًا فلم كان رسول الله صلى الله علبه وسلم مخيرًا في الحكم بينهم.
هذا كله في أصل الحكم بينهم من التخيير أو الوجوب والثاني هو الظاهر في حالة قيام دولة إسلامية.
وأما إذا حكم الحاكم بينهم إما وجوبًا وإما تخييرًا فبمقتضى أي شريعة يحكم بينهم؟
الظاهر أنه لا خلاف بيننا في أنه إن حكم فلا يجوز له أن يحكم إلا بما تقتضه شريعة الإسلام وعدله، ولا يجوز له أن يحكم إلا بالحق.
قال العلامة (1) : ولو ترافعوا إلينا في خصوماتهم تخير الحاكم بين الحكم بشرع الإسلام وردهم إلى أهل نحلتهم ليحكموا بمقتضى شرعهم.
قال صاحب الجواهر (2) : لو تحاكم إلينا ذميان مثلًا كان الحاكم مخيرًا بين الحكم عليهما بحكم الإسلام، وبين الإعراض عنهم بلا خلاف أجده فيه بيننا.
وحكي ذلك عن أبي حنيفة (3) ، وبه قال الماوردي (4) وأبو يعلى (5) ، وابن قدامة (6) .
واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] .
ولكن لا دلالة فيها على وجوب الحكم بمقتضى شريعة الإسلام، إذ ليست في مقام بيان مستند الحكم، بل وردت في مورد لزوم الحكم بالعدل، فلو دل دليل على جواز الحكم بمقتضى شريعتهم فلا ينافي كونه حكمًا بالقسط.
وبقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] .
وهذه أيضا لاتدل على المدعى إذ الحكم بمقتضى شريعة التوراة والإنجيل حكم بما أنزل الله وليس في الآية ما يعين المراد مما أنزل الله بأنه ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم فالآية مطلقة.
وبقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] .
هي كالآية التي قبلها في الدلالة فلا نعيدها.
__________
(1) القواعد (جامع المقاصد، ج 3، ص 459) .
(2) الجواهر، ج 21، ص 318.
(3) تفسير الكشاف، ج 1، ص 614
(4) الأحكام السلطانية، ص 145 – 146.
(5) الأحكام السلطانية
(6) المغني، ج9، ص 289(9/1877)
إن قيل: إن قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] ، وقوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]
قرينتان على حمل ما أنزل الله على ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
قلنا: لا قرينة فيهما؛ إذ يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] أي: لا تتبع أهواءهم في الحكم بغير ما أنزل الله عما جاءك من الحق أي من الحكم بما أنزل الله، ومن قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] أي ما أنزل الله إليك من الحكم بما أنزل الله فالآيتان مطلقتان.
نعم يمكن أن يقال: إنهما محفوفتان بما يتحمل القرينة، فتكونان مجملتين، والقدر المتيقن هو الحكم بمقتضى شريعة الإسلام.
2- لو تحاكم ذميان من أهل ملة واحدة إلى محاكم إسلامية بعد أن تحاكما إلى حكامهم فقضوا عليهما بالجور أو بالعدل في مذهبهم.
قال محمد بن إدريس (1) : إن كان قد قضى عليه بما هو صحيح مذهبهم فقد أمرنا أن نقرهم على أحكامهم، فلا يجوز لنا أن نفسخ حكمهم عليهم، ولا نرده عليهم، ولا نجيبه إلى ما دفعه عن نفسه، وإن كان قد قضى عليه بجور على مذهبهم فنرده؛ لأنا أمرنا أن نقرهم على أحكامهم وما يجوز عندهم دون ما لا يجوز.
قال المحقق الثاني (2) : لو تحاكموا إلى حكامهم فقضوا عليهم بالجور فترافعوا إلينا وجب الحكم بشرع الإسلام.
وقال صاحب الجواهر (3) : الظاهر أنه يجوز له أيضًا نقض حكمهم الباطل إذا استعداه أحد الخصمين.
يدل على ذلك ما رواه محمد بن الحسن بإسناده عن ابن قولويه عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن أبيه عن محمد بن الحسين عن يزيد بن إسحاق عن هارون بن حمزة عن أبي عبد الله (ع) قالت: قلت: رجلان من أهل الكتاب نصرانيان أو يهوديان كان بينهما خصومة، فقضى بينهما حاكم من حكامهما بجور فأبى الذي قضى عليه أن يقبل وسأل أن يرد إلى حكم المسلمين، قال: يرد إلى حكم المسلمين (4) .
__________
(1) السرائر، ج 2، ص198
(2) جامع المقاصد، ج 3، ص 459
(3) الجواهر، ج 21، ص319
(4) الوسائل، ج 18، الباب 47 من أبواب كيفية الحكم، ج 2، ص 218(9/1878)
تقريب الدلالة: قوله: (ع) : (يرد إلى حكم المسلمين) يدل على جواز نقض حكم حاكمهم إذا حكم بالجور لو ترافعوا إلى حكام المسلمين إلا أنه لم يثبت صحة سنده لأجل يزيد بن إسحاق.
واستدل أيضًا (1) بعمومات جواز نقض الحكم بتقريب أنه لما كان هذا الحكم حكم جور فيجوز نقضه، بل هو باطل من أصله، فكأنه تحاكم ابتدائي، فيشمله ما دل على جواز الحكم بينهم.
3- لو تحاكم ذميان من أهل ملتين كاليهودي والنصراني:
حكم هذه المسألة ظهر مما ذكرنا في المسألة الأولى، وقد قال المحقق الثاني (2) : لو كان المتحاكمان من أهل ملتين ولم يتراضيا بحاكم من إحدى الملتين (وجب الحكم) حذرًا من وقوع الفتنة، فإن الدفاع عنهم واجب علينا.
4- لو تحاكم مستأمنان حربيان من غير أهل الذمة سواء كانا من أهل الكتاب أم من غير أهل الكتاب إلى محاكم إسلامية:
قال العلامة على ما حكي عنه (3) : لا يجب على الحاكم الحكم بينهما إجماعًا؛ لأنه لا يجب على الإمام دفع بعضهم عن بعض بخلاف أهل الذمة؛ ولأن أهل الذمة فإنهم يسكنون دار الإسلام على التأبيد.
5- لو تحاكم ذمي ومستأمن حربي إلى محاكم إسلامية:
قال البيضاوي (4) الأصح وجوب الحكم إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميًّا؛ لأنا التزمنا الذب عنهم ودفع الظلم منهم.
6- لو تحاكم مسلم مع ذمي أو مستأمن إلى محاكم إسلامية:
قال صاحب الجواهر (5) : وجب على الحاكم أن يحكم بينهم بما أنزل الله.
وقال المحقق الثاني (6) الأول (من مواضع وجوب الحكم) إذا كان أحد الخصمين مسلمًا، فإنه لا يجوز إجراء حكم الكافر على المسلم.
أقول: والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وغير ذلك من أدلة حرمة التحاكم إلى الكفار إذا كان المتحاكم مسلمًا، فيتعين التحاكم إلى محاكم إسلامية، فيجب على الحاكم الحكم بينهما بحكم الإسلام.
__________
(1) الجواهر، ج 21، ص 319
(2) جامع المقاصد، ج 3، ص 460
(3) الجواهر، ج 21، ص 319
(4) تفسير البيضاوي، ج 1، ص 276
(5) الجواهر، ج21، ص 319
(6) جامع المقاصد، ج 3، ص 459(9/1879)
احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة
هل يجوز للمسلم أن يتحاكم إلى محاكم غير إسلامية أم لا؟
الظاهر عدم جواز التحاكم للمسلم إلى محاكم غير إسلامية، بل يمكن أن يعد من الضروريات، وتدل على الآيات والروايات:
1- قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] .
تقريب الدلالة: الاحتكام ركون، والكافر ظالم، فالاحتكام إلى الظالم، وهو منهي عنه.
2- قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]
تقريب الدلالة: الاحتكام إلى الكافر وحكمه على المسلم سبيل للكافر على المسلم، ولم يجعل الله للكافر على المؤمن سبيلًا، فالاحتكام إليه حرام.
3- قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60] .
تقريب الدلالة: قال في المفردات (1) : والطاغوت عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] فعبارة عن كل متعد.
فالاحتكام إلى الكافر تحاكم إلى الطاغوت وقد أمرنا أن نكفر به فلا يجوز الاحتكام إلى محاكم غير إسلامية.
4- قوله (ع) : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه (2) .
تقريب الدلالة: إن الاحتكام إلى الكافر يوجب علو الكفر على الإسلام، مع أنه قال (ع) : ((لا يعلى عليه)) ، هذا كله لو لم يلزم من عدم الاحتكام إلى محاكم غير إسلامية حرج أو ضرر، وإلا فيدل على جواز الاحتكام مع الحرج أو الضرر:
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
حيث تدل على أن كل حكم يلزم منه الحرج فليس بمجعول، فإطلاق عدم جواز الاحتكام إلى محاكم غير إسلامية بالنسبة إلى حالة الحرج يقيد بالآية، بل الآية حاكمة على أدلة عدم الجواز فتضيق دائرتها.
وما رواه محمد بن يعقوب عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان فكان يمر به إلى نخله ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة، فلما تأبى، جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للأنصاري: ((اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار)) (3) .
__________
(1) المفردات، ص 305
(2) الوسائل، ج 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، ج 11، ص 376
(3) الوسائل، ج 17، الباب 12 من أبواب إحياء الموات، ج3، ص341.(9/1880)
وروي هذا الخبر بطرق مختلفة وعبارات متفاوتة، وروي قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) بدون صدر الحديث أيضًا، وتفصيله موكول إلى محله.
هذا الخبر وأمثاله تعطي قاعدة كلية وهي قاعدة (لا ضرر) ، وهذه القاعدة حاكمة على أحكام الإسلام، فكلما لزم من حكم ضرر فهو مرتفع، فعلى هذا إذا لزم من عدم الاحتكام إلى الكفار ضرر نفسي أو مالي أو نحوهما فبحكم هذه القاعدة يجوز الاحتكام.
وما رواه محمد بن علي بن الحسين عن محمد بن أحمد بن يحيى العطار عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: ((رفع عن أمته تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الخلق ما لم ينطق بشفة)) (1) .
تقريب الدلالة: هذه الصحيحة تدل على جواز الاحتكام في حال الاضطرار والضرورة، إذ كل حكم من الوجوب والحرمة مرفوع عند الاضطرار.
__________
(1) الخصال للصدوق، باب التسعة، ج 9، ص 417(9/1881)
احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية
هل يجوز احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعاتهم أو فيما بين المسلمين وغيرهم أم لا؟ ظهر مما قدمنا في المسألة السابقة بأن احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية لا يجوز سواء كان بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم والأدلة على حرمة الاحتكام في المسألة السابقة تجري هنا.
نعم كما يجوز للمسلم أن يحتكم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة عند الحرج أو الضرر، أو الاضطرار فكذلك يجوز للمسلمين أن يحتكموا إلى المحكمة الدولية عند الحرج أو الضرر أو الاضطرار، فلا نعيدها.
هل يجوز أن يحكم المسلمون في غير البلاد الإسلامية رجلًا منهم، ثم يرفعون نتيجة ذلك إلى المحاكم المحلية غير إسلامية لتكتسي صبغة التنفيذ أم لا؟
حكم هذه المسألة أيضًا ظهر مما تقدم بأنه وإن لم يكن تحاكمًا إلى محاكم غير إسلامية إلا أنه ركون إلى الظالم، وأنه مما يوجب السبيل للكافر على المؤمن، وعلو الكفر على الإسلام، فلا يجوز.
نعم ولو لزم من عدم الرفع حرج أو ضرر جاز رفع النتيجة للتنفيذ.
الإسلام ومبدأ التحكيم الدولي
نبذة عن تأسيس المحكمتين الدولية والإسلامية:
قلنا في مطلع البحث: إن التحكيم قد يشكل ظاهرة بشرية عامة فعرفت الوساطة والتحكيم منذ كانت الأمم وكانت الحروب وقد وضعتا كطريقتين سلميتين لأجل تسوية المنازعات الدولية في اتفاقات مؤتمري لاهاي سنة 1899 م وسنة 1907 م، وقد أنشئت محكمة التحكيم الدائمة، ومحكمة العدل الدولية بعدها حيث نظمت مجددًا بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة عبر ميثاق خاص بها تمت المصادقة عليه في مؤتمر الأمم المتحدة في سان فرانسيكسو بتاريخ 26 حزيران 1945 م وهي تشكل الهيئة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة وتتألف من خمسة عشر قاضيًا تنتخبهم الجمعية العمومية ومجلس الأمن من لائحة مرشحين لمدة تسع سنوات على أن يتغير ثلثهم كل ثلاث سنوات، وقد عينت مدينة لاهاي (هولندا) مركز للمحكمة ولها حق الاختصاص بإعطاء الفتاوى الاستشارية حسب شروط نظامها، والاختصاص للحكم في بعض القضايا المحالة إليها بصورة قضائية لكن اختصاصها القضائي اختياري مبدئيًّا؛ لأن بعض الدول الكبرى رفضت الاختصاص الإلزامي محافظة على حريتها في العمل (1) .
__________
(1) القانون والعلاقات الدولية في الإسلام للدكتور محمصاني ص 160 ما بعدها(9/1882)
هذا وقد عملت منظمة المؤتمر الإسلامي على إنشاء محكمة العدل الإسلامية عبر اجتماعات متكررة (1) وقد أعلنت الكويت مقرًّا لها إلا أنها – ومع الأسف – لم ترق إلى مستوى الموافقة المطلوبة من قبل الدول الإسلامية، فإننا لا نستطيع التقويم هنا.
إلا أن الملاحظ في المحكمة الدولية أنها قامت على أسس غير قوية خصوصًا بعد ما لاحظناه من فقدان الاختصاص الإلزامي نتيجة سعي الدول الكبرى المؤثرة في الأمم المتحدة كيلا يتم تقييد حريتها في العمل على تحقيق مصالحها الاستعمارية والسلطوية.
وهناك بعض النداءات التي تدعو لإعادة بنائها على أسس حقوقية دولية أكثر متانة وأقرب إلزامًا.
والذي يبدو لنا أيضًا أن النظام الأساسي للمحكمة الإسلامية فيه بعض الثغرات التي لا مجال لاستعراضها هنا والتي لا تمكنها من القيام بدورها التحكيمي المطلوب.
أما بالنسبة للنظرة الإسلامية للموضوع:
فقد رأينا – من قبل – أن النصوص الإسلامية – تمنع – مبدئيًّا – من التحاكم إلى غير المسلمين باعتبار ذلك ركونًا إلى الظلم، إلا إذا اقتضت الضرورة ولتكن هنا ضرورة دولية تعاونية باعتبار أنه لا يمكن أن تنفرد دولة إسلامية ما بمسيرة خاصة بها في مجال العلاقات الدولية.
إلا أنه يجب أن يبقى عند حد الضرورة والحرج.
والله العالم.
الشيخ محمد علي التسخيري
__________
(1) كان لنا شرف الاشتراك في بعضها(9/1883)
التحكيم في الفقه الإسلامي
مبدؤه وفلسفته
إعداد
الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
يهتم الإسلام بتربية الفرد المسلم تربية صالحة مناسبة لفطرته وقدراته البشرية، وهدفية وجوده في الحياة ـ تسمو بنفسه، وتزكي أخلاقه، وتجعل منه بشرًا سويًّا، متوازن التفكير والسلوك.
وبما أن الإنسان مدني بالطبع، فإن حياته في مجتمعه الإنساني تقتضي تبادل المصالح، وهذا التبادل قد يفضي أحيانًا إلى الخلافات مما يعرض العلاقات البشرية لأنماط من التنازع والتضاد التي تتعارض مع مقاصد الشريعة الهادفة لحفظ نظام التعايش والتساكن الذي لا يستقر إلا بحفظ الدين والعقل والنفس والنسل والمال.
لهذا سعت التربية الإسلامية إلى تركيز فعاليتها في وجدان الإنسان قبل اعتمادها على قوة السلطان؛ إذ أن التنظيمات القضائية ليست في نظر الشريعة إلا وسائل تنظيمية تتعلق باهتماماتها بشؤون المجتمع أكثر مما تتعلق بحكم الناس، فالشريعة تهدف إلى إسعاد البشر بما توفره من ضوابط لمعاملاتهم وعلاقاتهم في إطار الأخوة الإسلامية والعدل الإلهي.
ولذلك يلاحظ أن العقوبات التي شرعها الإسلام قليلة بالنسبة لعموم الجرائم، وهي في نظر الفقهاء كفارات عما ارتكبه الإنسان من آثام أو زواجر، لإصلاح المجتمع كله. والكفارات من خصوصيات الشريعة؛ لأنها تربية ذاتية، واقتناع بالرجوع إلى الجادة. وهذا ما يركز في طبيعة الإنسان وفطرته فكرة العدل والإنصاف سواء له أو عليه، من غير حاجة اللجوء إلى القضاء.(9/1884)
والشريعة الإسلامية مبنية على مراعاة المصلحة في جمع المعاملات الإنسانية؛ لأن غايتها تحقيق السعادة الدينوية والأخروية للجميع، ولذلك فالمصلحة لا تعني النفع الذي يناله الإنسان الفرد، أو تناله الجماعة عن عمل مناقض للدين، أو مضر بمصلحة أخرى، بل كلما كانت المصلحة أعم وأشمل كان الإقرار بها أهم، ولذلك اعتبر علماء الأصول سد الذرائع ودرء المفاسد، أصلًا من أصول الشريعة التي وضعها الإسلام لمعرفة المصلحة الحقيقية من المصلحة المتوهمة، ولا مجال لتعارض المصالح في الإسلام حيث يوجد معيار وصفي دقيق يراعي الأولوليات بين المصالح العامة بحسب تدرجها من حيث الأهمية.
ويذكر الشاطبي في الموافقات أن بالاستقراء للأحكام العامة والجزئيات في الشريعة الإسلامية، يلاحظ المتتبع لذلك مراعاة الخالق جل علاه لمصالح عباده، فهي بارزة في أحكام الشريعة كلها، كما يلاحظ المتتبع لمنهاج القرآن والسنة في عرض الأحكام الشرعية أن الشريعة الإسلامية استدراجية للوصول إلى هدفها الأسمى في تحقيق العدل، تتوخى طرقًا متعددة للوصول إليه. فهي تنهج طريق محاسبة النفس ومساءلتها، قبل أن ترقى إلى الاستفتاء الشرعي، ثم التحكيم؛ لتجعل القضاء آخر المطاف، فهي المحاسبة والتبصر في الأمر والتبين له، والإرشاد إلى وجوب تجنب لحظات الغضب والانفعال؛ لئلا يخطئ الإنسان في تقدير القضية. وقد نص الفقهاء على أن تفاهة الموضوع ولحظات الغضب والانفعال والاندهاش، تعتبر من مبررات سقوط الدعوى أو تأجيل النظر فيها، بل إن الشارع حفاظًا على العلاقات الاجتماعية لا يلجأ إلى قسوة الحكم لدى تنفيذه، فهو يتجاوز عن بعضه مع الإرشاد إلى استكماله، لو بدت أسباب لاستكماله الشرعية فيما بعد. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرأ الحدود بالشبهات، وعليه عمل الصحابة ورأي جمهور الفقهاء (1) .
__________
(1) رويت أحاديث من عدة طرق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ما معناه: (ادرءوا الحدود بالشبهات) راجع فقه عمر بن الخطاب، رويعي بن راجح الرحيلي، 1 / 438 ط. دار الغرب الإسلامي. بيروت 1403 هـ راجع أيضًا الفتح الرباني شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل، للساعاتي: أحمد البنا. ط. بيروت باب الحدود تدرأ بالشبهات 16 / 65(9/1885)
وبما أن الإسلام دين سمح له قدرة فائقة على سبر أغوار النفس البشرية ومعرفة حاجاتها ورغباتها وحدود إرضائها، فهو يسعى دومًا إلى إقامة الترابط بين أفراد المجتمع الواحد، بما يقتضيه التسامح والعفو، يضمن استمرارية الانسجام الجماعي. إذ لو بالغ كل فرد في إشباع مطالبه أو ما يحسبه حقًّا من حقوقه لتعرض المجتمع للتفتت والانهيار وزعزعة الانسجام والاستقرار، ولهذا فهو يلجأ في طلب الحق إلى مراحل لتحقيق العدل:
أولًا: إلى مراجعة النفس وذلك بالأخذ بالعفو، والأمر بالمعروف والإعراض عن الجاهلين بقدر الإمكان.
ثانيًا: إلى طلب الفتوى، لاستجلاء وجهة نظر الشرع في الأمر.
ثالثًا: إلى الصلح، وهو خير.
رابعًا: إلى طلب الفصل في النزاع بحكم، وذلك بأحد الطريقين:
أ- التحكيم الحر، بتراضي الأطراف على اختيار محكم والالتزام بحكمه، وذلك في القضايا المسموح شرعًا بفضها عن طريق التحكيم، ومجاله يكون في العدالة التوزيعية لا العقابية.
ب- القضاء: وهو الولاية الرسمية لفض جميع الخصومات أيا كانت طبيعتها، بما فيها تلك التي لم يتوصل الأطراف إلى فضها بالوسائل السابق بيانها، أو تلك التي لجئوا فيها إلى مثل تلك الوسائل ولكنها أسفرت عن ظلم بين، أو مساس بالشرع والسيادة.
وهذه المراحل أساسية في فلسفة الحكم في الإسلام فهي سلم متدرج الخطى في سبيل تربية أخلاقية دينية وخلق متسامح، متعال، وتقوى لله وابتعاد عن الفجور والظلم، وعدم التهافت على المنافع والشهوات؛ إذ ما عند الله خير وأبقى، ثم الصلح خير، وفي التجاوز مصلحة عامة.(9/1886)
أولًا: التحكيم قبل الإسلام:
إن عادة التحكيم معروفة في الجاهلية، فقد حكمت قريش، في نزاعها مع القبائل العربية الأخرى حول من يضع الحجر الأسود في مكانه بعد إعادة بناء الكعبة، أول داخل إلى البيت العتيق، فكان الرسول عليه الصلاة والسلام.
كما أن من عادة القبائل العربية أن تلجأ إلى شيوخ القبائل لتحكمهم فيما يعن لهم من خلافات، وكان ذلك هو القضاء في المجتمع القبلي.
وجاء الإسلام، فهذب التحكيم وسما به، وجعله مرحلة يستأنس بها القاضي أو يركن إليها الخصوم لفض المنازعات. ووضع له نظامًا يضبطه، فاشترط في المحكمين ما يضمن خبرتهم وعدلهم، وحدد القضايا التي يقبل فيها التحكيم، بل إن القرآن الكريم أعطى لكلمة التحكيم معنى القضاء، إذا كان الحكم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى في الآية 65 من سورة البقرة: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [البقرة: 65] . لأن حكم النبي قضاء.
وتطور التحكيم في مختلف البلاد الإسلامية، إلى ما يسمى بالسديد، وظهرت وظيفة قاضي السداد، وفي تاريخ القضاء بالأندلس والمغرب نجد مراتب للقضاة حسب النظام الذي حكموا وقضوا في ظله.
ثانيًا: التحكيم والإفتاء:
يختلف التحكيم عن الإفتاء في أن الفتوى هي رأي استشاري ليست له قوة الإلزام، فقد كان المفتي في الأندلس والمغرب يقدم للخصوم فتوى في موضوع النازلة ليستأنس القاضي بمضمونها المبني على حكم الشرع، بينما كانت الفتوى في بعض البلاد الإسلامية تنحصر حدودها في المسائل المتعلقة بالدين فقط.(9/1887)
ثالثًا: التحكيم في الفقه:
يكاد يتفق الفقهاء على أن التحكيم هو تولية الخصمين حاكما بينهما، أو انتداب القاضي لحكم يحسم الخلاف، فهو سيلة لفض النزاع بين المتحاكمين، حتى يحدد الحق يعرف صاحبه (1) . وهذا التعريف يظهر تقارب معنى التحكيم من معنى القضاء، مع الفرق بينهما؛ لأن التحكيم هو تولية الخصمين حاكما بينهما باقتراحهما أو بأمر القاضي. أما القضاء فهو تبيين الحكم الشرعي الإلزام به وفصل الخصومة عن طريق السلطة الرسمية، فالقضاء هو الأصل والتحكيم فرع؛ لأن القاضي له الولاية العامة لا يخرج أحد عن سلطته ولا يستثنى من اختصاصه موضوع؛ لأنه ممثل للسيادة، فهو السلطة الرسمية لفض المنازعات. أما المحكم فإن توليته تكون من القاضي إذا اقتضى نظره ذلك، أو من الخصمين إذا لجأ إليه لفض الخلاف بينهما.
وإذا كان القاضي لا يستثنى من اختصاصه موضوع؛ فإن الحال ليس كذلك في التحكيم حيث توجد أمور وقضايا لا يمكن التحكيم فيها؛ لأنها من اختصاصات القضاء وحده نظرا لتعلقها بالنظام العام وبمفهوم السيادة.
كما أن حكم القاضي لا خلاف حول قوته الإلزامية في فض الخصومة. أما حكم المحكم فهو ملزم للأطراف عند أغلب الفقهاء (2) ، غير أن جانبا من الفقه يراه للصلح بين المتحاكمين وإصلاح ذات بينهما أو إزالة الخصومة فلا يكون ملزما إلا برضا الطرفين (3) .
إن التحكيم مثبت شرعا بنص القرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع الأئمة. أما في القرآن الكريم، فقد جاء في سورة النساء الآية 35، قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ، فإذا كان مرغوبًا من الله في العلاقة الزوجية، فمن باب أولى أن يكون كذلك في المعاملات الدنيوية الأخرى، لدنوها في الأهمية من العلاقات الأسرية.
أما السنة المطهرة، ففيها ما هو صحيح ومتعلق بالتحكيم، فقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتحكيم سعد بن معاذ، رضي الله عنه، في أمر اليهود من بني قريظة، حين جنحوا إلى ذلك ورضوا بالنزول على حكمه، وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي بتحكيم الأعور بن بشامة في أمر بني العنبر حين انتهبوا أموال الزكاة، وفي الحديث، الذي أخرجه أبو داود، أن أبا شريح هانئ بن يزيد،رضي الله عنه، لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع قومه وسمعهم يكنونه بأبي الحكم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟)) فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟)) فقال له: شريح ومسلم وعبد الله فقال: ((فمن أكبرهم؟)) قال شريح: فقال صلى الله عليه وسلم: ((أنت أبو شريح ودعا له ولولده)) .
__________
(1) راجع في الفقه الحنفي: معين الحكام، للطرابلسي، وبحاشيته لسان الحكام، لابن الشحنة، القاهرة 1393 هـ / 1973 م، 24، 25؛ وشرح فتح القدير، لابن الهمام، القاهرة 1316هـ 5 / 498؛ وأدب القاضي، للحصاف، تحقيق أبي بكر الرازي، القاهرة 1980 م، 391. وفي الفقه المالكي: تبصرة الحكام، لابن فرحون، حاشية على فتح العلي الملاك، لعيش، القاهرة 1378هـ / 1958 م، 1 / 55؛ ومواهب الجليل، للحطاب، وبحاشيته التاج والإكليل، للمواق، القاهرة 1329 هـ 6 / 112 وفي الفقه الشافعي: أدب القاضي للماوردي، تحقيق يحيى هلال سرحان، بغداد 1392 هـ 2/ 379؛ والمبسوط للسرخسي، القاهرة 1331 هـ 21 / 62. وفي الفقه الحنبلي: المغني، لابن قدامة، القاهرة 1367 هـ 9 / 107
(2) مواهب الجليل 6 / 112؛ أدب القاضي، للحصاف 192
(3) قول منسوب إلى الشافعي، أخذ به قليل من الفقهاء، ذكره الماوردي في أدب القاضي 2 / 381(9/1888)
أما عن إجماع الصحابة بالعمل به، فقد كان بين عمر وأبي بن كعب، رضي الله عنهما، منازعة في نخل، فحكما بينهما زيد بن ثابت، رضي الله عنه، وكثيرًا ما كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يحكمون أحدهم في أقضية من أقضيتهم.
وقد لاحظ بعض الفقهاء المتأخرين أن التحكيم كان في عصر الصحابة والتابعين لمعرفتهم بالدين ولتقواهم، فلا يجوز العمل به بعد ذلك؛ إذ قد يتجاسر العوام فيحكمون بغير ما أوجبته الشريعة، لا شك أن هذا الرأي وإن كان له ما يبرره، إلا أنه لم يراع ما يشترط في الحكم من شروط تحافظ على حكم الشرع، وتحقق ما ترمي إليه الشريعة الغراء من إشاعة التواصل الاجتماعي وتحقيق الصلح والمصالحة، وبعض الشافعية أجازوه بشرط عدم وجود قاض في البلد، ومنهم من أجازه في المال فقط، وقد أجاز الحنابلة التحكيم، وهو الأظهر عند الشافعية، وقال بعض المالكية بنفاذه بعد الوقوع.
1- من يجوز له أن يكون محكمًا؟
اشترط الفقهاء في المحكم أن يكون مسلمًا أهلًا لولاية القضاء أهلية مطلقة لا في خصوص موضوع النزاع فقط، أما تحكيم غير المسلم فلا يجوز بين المسلمين ولا يتعلق ذلك بعدم الثقة في غير المسلمين، فالإسلام يبيح التعامل الحر والثقة بين الناس على اختلاف مللهم، وإنما شرط إسلام الحكم أمر يتعلق بحسن تطبيق الشريعة الإسلامية، إذ جرت العادة على أن غير المسلم لا يكون على إلمام عميق بعلوم الشريعة، نظرًا لطبيعتها الإيمانية، لذلك قاس الفقهاء المحكم على القاضي في شرط إسلامه لو كان أطراف الخصومة أو أحدهم من المسلمين (1) – واستغنى بعض الشافعية عن شرط الأهلية عندما لا يتوفر، ومنهم من حصر التحكيم في الأموال فقط كما اشترطوا في المحكم أن لا تربطه بأحد الخصمين قرابة تمنع الشهادة.
كما يشترط فيه تراضي طرفي الخصومة على قبول حكمه، إلا إذا عينه القاضي؛ لأنه نائب عنه، وليس للخصمين أن يتفقا على محكم ليس أهلًا للتحكيم، كما يجب أن يستمر الاتفاق على التحكيم حتى صدور الحكم، فلو رجع أحد الخصمين عن التحكيم قبل صدور الحكم يلغى التحكيم.
__________
(1) عمر القاضي، التحكيم الدولي بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي الفرنسي والمصري، أطروحة دولة، باريس 1984. ص 346 وما بعدها.(9/1889)
2- موضوعات التحكيم:
إن الأقضية إذا كانت متعلقة بحق الله كالحدود، أو كان حق الله فيها غالب كالقصاص، أو تعلقت بحقوق غير المتخاصمين كالنسب، لا يجوز فيها التحكيم، لذلك أجاز المالكية التحكيم إلا في ثلاثة عشر موضوعًا وهي: الرشد، والسفه، والوصية، والحبس، وأمر الغائب، والنسب، والولاء، والحد، والقصاص، ومال اليتميم، والطلاق، والعتق، واللعان. وجعلوا هذه الأمور من اختصاص القضاء (1) .
ويظهر من فقه الحنابلة جواز التحكيم في كل ما يعرض على القاضي عامة، إلا أن أغلب فقهاء المذهب خصوا التحكيم في الأموال أما باقي الأقضية فيجب فيها الاحتياط، ولذلك يجب أن تعرض على القضاة. (2)
وعلى هذا فالتحكيم لا يجوز في الحدود الواجبة لله؛ لأن عقوبتها مما يستقل به ولي الأمر، كما لا يجوز التحكيم في القصاص، إذ الإنسان لا يملك دمه حتى يجعله موضعًا للصلح، كما لا يجوز التحكيم فيما يجب في الدية، ولا يجوز للمحكم الحبس والسجن إذ لا سلطة له تمتد إلى ذلك.
3- الرجوع عن التحكيم:
اعتبر الفقهاء التحكيم كالقضاء، لهذا فقد يرجع الخصمان عن التحكيم قبل صدور الحكم، أما بعد صدور الحكم فليس لأحد حق الرجوع عن التحكيم؛ لأنه صدر عن ولاية شرعية فالمحكم كالقاضي لا يرجع في حكمه، ولا يشترط المالكية دوام رضا الخصمين إلى صدور الحكم بل لو أقاما البينة عند الحكم، ثم بدا لأحدهما أن يرجع عن التحكيم قبل الحكم تعين على الحكم أن يقضي وجاز حكمه (3) .
4- ما يترتب على التحكيم من آثار:
يترتب على التحكيم لزوم الحكم ونفاذه، على أنه يجوز نقضه من قبل القضاء، إذا حمل ظلمًا بينًا. لذلك فإن المبدأ هو نفاذ الحكم بمجرد صدوره ودون توقف على رضا الخصمين. وليس للحكم أن يرجع عن حكمه (4) .
__________
(1) مواهب الجليل، للحطاب، 6 / 112، 113
(2) راجع المغني، لابن قدامة 9/107.
(3) راجع تبصرة الحكام، لابن فرحون، 1 / 55؛ ومواهب الجليل، للحطاب 6/ 112
(4) جميع الفقهاء على هذا المعنى، وكذلك المشهور عن الشافعي، إلا ما نسب إليه من قول بعكس ذلك وأخذ به القليل من الفقهاء، فأوجبوا عدم نفاذ حكم المحكم إلا برضا جميع أطراف الخصومة. راجع ذلك في مواهب الجليل، للحطاب، 6 / 112؛ وأدب القاضي، للحصاف، 192(9/1890)
5- هل يجوز للقاضي نقض الحكم؟ :
إذا رضي الخصمان بالحكم يعملان على تنفيذه، أما إذا أراد أحد الخصمين الطعن فيه أمام القضاء لحجة يراها فله ذلك، ويرى المالكية أن القاضي لا ينقض حكم المحكم إلا إذا كان جورًا بينًا، فإن لم يكن فلا ينقضه سواء كان موافقًا لرأي القاضي أو مخالفًا له (1) . والشافعية والحنابلة يرون أن القاضي، إذا رجع إليه حكم المحكم، لا ينقضه إلا بما ينقض به قضاء غيره من القضاة (2) .
6- المحكم الذي يعينه القاضي في أمر الطلاق:
جاء في الذكر الحكيم {إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] .
لهذا أباح الشارع لكل من الزوجين طلب التفريق من القاضي، وعليه أن يعين حكمين من أسرة الزوجين، فإن استطاعا الإصلاح وفقا بين الزوجين، وإلا رفعا تقريرهما إلى القاضي فيحكم بالتفريق بينهما بطلقة بائنة، فالقاضي يؤجل حكمه إلى ما بعد حكم الحكمين من أسرة الزوجين، فإن لم يجد عين غيرهما ممن يرى فيهما القدرة على الإصلاح بينهما، وقد يحلفهما يمينًا على أن يقوما بمهمتهما بعدل وأمانة، ويكون على الحكمين أن يتعرفا على أسباب الشقاق بين الزوجين بحضورهما معًا وبمن يقرر دعوته الحكمان، وإذا اختلف الحكمان حكم القاضي غيرهما أو ضم إليهما حكمًا ثالثا مرجحًا وحلفه اليمين.
7- عزل المحكم:
ينعزل المحكم إذا عزله أحد الخصمين أو كلاهما قبل الحكم، إذ لكل من الطرفين عزل المحكم قبل الحكم (3) أما إذا كان المحكم معينًا من طرف القاضي فليس لأحد عزله، بل يطلب ذلك من القاضي. وكذلك ينعزل المحكم إذا انتهى الوقت المحدد للتحكيم قبل صدور الحكم، أو فقد المحكم أهليته للتحكيم.
__________
(1) تبصرة الحكام، لابن فرحون، 73 – 75
(2) أدب القاضي، للماوردي، 2 / 381 ما بعدها؛ المغني، لابن قدامة، 9 / 108 وما بعدها.
(3) إلا أن أبا سعيد الإصطخري يرى أنه لا يحق لأحد الأطراف منفردًا عزل المحكم منذ لحظة بدئه في نظر الخصومة وحتى يصدر الحكم. ذكره الماوردي في أدب القاضي بند رقم 3612 – 3616.(9/1891)
8- التحكيم في الجزاء على قتل الصيد في الحرم:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] .
لقد أحال الله تعالى الحكم بالجزاء، على مقترف ذلك الإثم، إلى حكمين ممن تحققت فيهما صفة العدالة والمعرفة ويتعين على الحكمين تحديد المثل، ويخيرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام. ويقدران له قدر الطعام إن اختار تقديمه.
وقد حكم من الصحابة، في جزاء الصيد، عمر مع عبد الرحمن بن عوف، كذلك مع كعب بن مالك، وحكم سعد بن أبي وقاص مع عبد الرحمن بن عوف، وحكم عبد الله بن عمر مع ابن صفوان.
وقد اشترط في الحكمين أن يكونا من المسلمين بقوله تعالى: (منكم) تحذيرًا من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم، فلعلهم يدعون معرفة خاصة بالجزاء، على غير ما بينه الله عز وجل.
رابعًا: التحكيم في القانون:
لا تخلو القوانين الوضعية من اعتماد (التحكيم) مادة قضائية، تخصص في دراستها رجال الحقوق والقانون، ويعتمد القضاء الوضعي على الخبراء ورأيهم في الموضوع المتنازع فيها، استئناسًا يطمئن إليه القضاة في أحكمهم. لذلك تخصص بعض الجماعات شعبًا لدراسة (التحكيم) وقوانينه وتختلف نظم التحكيم في دول العالم حسب تطور الطرق المتبعة في تحديد موضوعاته.
خامسًا: التحكيم السياسي الداخلي:
إن أول تحكيم سياسي في الإسلام، كان في معركة صفين عندما رفع أصحاب معاوية القرآن على رماحهم مطالبين بالتحكيم والرجوع إلى كتاب الله.
وقد انتهى ذلك التحكيم – الذي مثل فيه عليًّا، رضي الله عنه، أبو موسى الأشعري، ومثل معاوية، رضي الله عنه، عمرو بن العاص – إلا خلافات كبيرة أدت إلى انشقاق طائفة من أصحاب علي رضي الله عنه، محاربتهم له.
ومن خلال التحليل لما كتبه (الطبري) عن عقد التحكيم، ومن نقد المؤرخ المسعودي للتحكيم، ومن تعليق الكامل لابن الأثير، يظهر أن التحكيم لم يستوف الشروط الشرعية.(9/1892)
لقد علق على ذلك محقق كتاب الكامل لابن الأثير بقوله: (إن هذه النتيجة كانت سيئة لازمة لحكمين قد حكما بكتاب لم تبين به المعالم التي ينتهيان إليها، ولا الحدود التي ليس لهما أن يتجاوزاها، بل إن الكتاب كله كلام مفكك العرى، غير ظاهر الحدود والمعالم، وأحد الحكمين رجل فهي غفلة وعدم تقدير للأمور، وهو حاقد على علي منذ عزله عن الإمرة، مخذل عنه من قبل ذلك، وقد قعد عن نصرته ورآه سائرًا في فتنة أرثت النار بين المسلمين، فهو لأمر علي كاره، ومن خلافته نافر، فما كان لأصحاب علي أن يشيروا باختياره لهذا الأمر الذي هو فوق إدراكه، ولا قدرة له على حمله. وكان خيرًا لعلي أن يجعل أمره بيد معاوية من أن يجعله في يد رجل لا يقدر الأمور، فما كان حكم معاوية إذا جار على علي بأكثر ضررا ولا أشد إيلاما من حكم أبي موسى، وهل يوجد أكثر غفلة من رجل يريد ابن عمر للخلافة مع أن عمر منعه إياها؟ ولم يكن بينهما كتاب على ما اتفاق عليه جورًا كان أو عدلًا، وهل كان عزل علي في كتاب الله الذي أخذ عليهما العهد أن يعملا به؟) .
وكان من أثر التحكيم اضطراب حزب علي، وتقوية حزب معاوية مما كان السبب في ظهور حزب ثالث هو حزب الخوارج. فقد جاء زرعة بن البرج الطانب، وحرفوص بن زهير المعدي فقالا لعلي: (لا حكم إلا لله فرد على: لا حكم إلا الله) . وطالبا عليًّا أن يثوب عن خطيئته، ويخرج للقتال. فقال علي: (أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابًا، وشطرنا شروطًا، وأعطينا عليها عهودًا، والله يقول: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] . وخطب الإمام على ذات يوم عن دعوى الخوارج فقال: (الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! إن سكتوا غممناهم، وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم) .
على أن المؤرخين بالغوا في تقديم صورة أبي موسى الأشعري في أمر التحكيم، فوصفوه بالغفلة وقصور الرأي، ويظهر أن الرجل قد اختير من أهل العراق فنصح لهم بإنهاء الفتنة، وكان يمثل رأي طائفة من معاصريه. ولم يكن أمر التحكيم وحده مصدر هزيمة علي، رضي الله عنه، فقد كانت دواعي أخرى للهزيمة، منها اضطراب جيشه أمام جيش معاوية، كما أن التحكيم لم يكن قائمًا على أساس، إذا لم يكن من ورائه قوة من المسلمين تستطيع تنفيذ الحكم.
إن الحكمين اتفقا على خلع علي ومعاوية، وأن يستقبل المسلمون أمرهم من جديد فيولون عليهم من يختارونه للخلافة، مع أنهما كان عليهما أن يفصلا في الموضوع، ودون الأخذ برأي حكم واحد من الحكمين، وهو ما لم يقل به الفقهاء الذين اشترطوا وحدة الحكم، ولعل الفقه السياسي لم يكن من الحيوية والتطور اللذين عرف بهما الفقه الاجتماعي. لذلك كان التحكيم ضعيفًا ولم ينته إلى نتيجة حاسمة.(9/1893)
سادسًا: التحكيم السياسي الدولي:
كان إنشاء هيئة الأمم المتحدة، بعد الحرب العالمية، مرحلة لتحقيق الترابط مما نمَّى الإحساس بوحدة مستقبل البشرية والبحث عن وسائل قانونية لفك المنازعات والخلافات بين الدول، بدلًا عن اللجوء إلى الحرب والمعاناة وما يتركه ذلك من أثر سيء على البشرية جمعاء.
لقد جاءت هيئة الأمم لتعبر عن تضامن دولي لمواجهة الصعوبات والمشاكل التي تهدد أمن الشعوب، ولذلك اهتمت بإيجاد آليات ونظم قانونية قادرة على منع الحرب وإحلال السلام في العالم، ولهذا لجأت إلى تطوير القانون الدولي الذي يحكم علاقات الدول بعضها ببعض. وتأسست لذلك لجنة القانون، يراعى في انتخاب أعضائها تمثيلهم لأكبر الحضارات الإنسانية والأنظمة القانونية الرئيسية في العالم، حتى تستطيع أن تستقطب المفاهيم العامة التي تربط العلاقات بين الدول، وتراعي في إصدار أحكامها واقتراحاتها المصالح والقيم والمثل العليا لمختلف الشعوب.
ومحكمة العدل الدولية تقوم بتطوير القانون الدولي نتيجة لآرائها الاستشارية أو لأحكامها التي تصدرها بناء على طلب الجمعية العامة أو تلبية لطلب أحد أجهزتها أو وكالاتها. وتعتبر أحكام وفتاوى محكمة العدل مصدرًا أساسًا لقواعد القانون الدولي، والأصل في أحكامها ألا يترتب الحكم القاضي أو الرأي الاستشاري آثارًا إلا بالنسبة لأطراف النزاع، ولكن يمكن لخبراء لجنة القانون والقضاء الدوليين الاستئناس بأحكام وفتاوى المحكمة، فهي أقرب ما تكون إلى التحكيم.
إن استقلال معظم الشعوب في العالم ووجود محكمة دولية أعطيا للقانون الدولي بعدًا جغرافيًّا جديدًا يختلف عن البعد الجغرافي الدولي في العصور القديمة، الذي كان مرتبطًا بأوروبا المسيحية الرأسمالية، أو الاشتراكية. كما أن الاستقلال شعوب العالم الثالث بعد الحكم الاستعماري جعلها تعيش في أوضاع مختلفة، متناقضة أوجبت رفع المنازعات إلى محكمة العدل الدولية، وهذا ما جعل المحكمة حكمًا بين الشعوب في البحث عن وسائل قانونية لفض خلافاتها.
وإذا عرفنا أن دخول العالم الثالث في المجتمع الدولي وضع صعوبات جمة أمام محكمة العدل لاختلاف مفاهيم الحضارات والثقافات التي تؤمن بها هذه الدول، عن مفاهيم القانون الدولي الأوروبي، تبين لنا مدى ضرورة إنشاء محكمة عدل دولية إسلامية لتبحث المنازعات بين الدول الإسلامية على أسس تجد حلولها في مختلف المذاهب الفقهية الإسلامية الغنية بالدراسات في هذا الموضوع. مع إضافة الموضوعات جديدة، لم تكن مألوفة في الفقه الإسلامي، كالخلافات والمنازعات المتعلقة بالفضاء الخارجي وبأعماق البحار والتلوث.
ولعل محكمة العدل أشبه بحكم المحكمين منه بالقضاء لعدم وجود سلطة العقاب والردع، فهي من اختصاص القضاء. حتى إذا لجأت بواسطة مجلس الأمن إلى العقاب ظهر ما يلاحظ من عجز في التنفيذ إلا على الضعفاء والمستضعفين.(9/1894)
التحكيم
إعداد
الأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط
عضو المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وفقنا إلى القول الصالح والعمل الصالح، وأصلي وأسلم على نبي الهدى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد اخترت أن أكتب لمجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة في بحث من الموضوع الثاني وهو مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي في الفقرات الأولى – الرابعة والثانية عشرة والثالثة عشرة وهي:
1- معنى التحكيم ودليله وما يجري فيه.
2- الإسلام ومبدأ التحكيم الدولي. نبذة مختصرة عن نشأة محكمة العدل الدولية.
3- احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعاتهم فيما بينهم وحكم ذلك إذا كان النزاع فيما بين المسلمين وغيرهم.
والله ولي التوفيق
الأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط
عضو المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن(9/1895)
التحكيم
التحكيم لغة: جعل الحكم فيما لك لغيرك، يقال: حكمته في مالي إذا جعلت الحكم إليه فيه فاحتكم علي في ذلك (1) ، وحكّمت (بالتشديد) الرجل: فوضت الحكم إليه (2)
وحكمه في الأمر تحكيمًا أمره أن يحكم فاحتكم (3) ، ويقال (حكم فلانًا عما يريد، وفلانًا في الشيء جعله حكمًا، وفي التنزيل العزيز {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] ، والمحكمة هيئة تتولى الفصل في القضاء، أو مكان انعقاد هيئة الحكم (4) .
وهناك علاقة بين المعنى اللغوي والعرفي في تسمية (المحكمة) وهي هيئة تتولى الفصل في القضاء، وفي اللجوء إلى الحكمين للفصل في الخصومة، فالتحكيم عرفًا: تولية الخصمين حاكمًا يحكم بينهما أي الفريقين المتخاصمين (5) ، أو التحكيم: أن يحكم المتخاصمان شخصًا آخر لفض النزاع القائم بينهما على هدى من الشرع (6) وقد أدخل كل من التعريفيين المعرف في التعريف.
والتحكم بين الدول: عرفته المادة (37) من اتفاقية جنيف الأولى المعقودة بتاريخ 18 تشرين أول سنة 1907 بنصها. يرمي التحكيم الدولي إلى تسوية النزاعات الناشئة بين الدول، بواسطة قضاة تختارهم على أساس الحق (7) ، ويعرفه آخرون بأنه) لجوء الطرفين المتنازعين إلى من يحكمانه في البت في النزاع القائم بينهما. ((8) .
وركن التحكيم: اللفظ الدال عليه مع قبول الآخر مثل احكم بيننا، أو جعلناك حكمًا في كذا.
ويشترط في المحكم (بفتح الكاف) أن يكون عاقلًا، وأهلًا للتحكيم كأهلية الشهادة، فصح تحكيم الذمي بين أهل الذمة؛ لأنه أهل للشهادة، وتقليد الذي يحكم بين أهل الذمة صحيح، ولا يجوز أن يكون حكمًا بين المسلمين ويجوز أن يكون المحكم امرأة أو فاسقًا، وإن كان كره بعض العلماء تحكيم الفاسق (9) ، كما يشترط صلاحيته للقضاء وقت التحكيم ووقت الحكم معًا، فلو حكمًا صبيًا لا يجوز ولو حكمت صبيًا ثم بلغ عند الحكم لا يجوز، لأنه لم يكن وقت التحكيم أهلًا فلابد من أن يكون في الوقتين معًا أهلًا للتحكيم.
__________
(1) الصحاح للجوهري 2 / 277
(2) المصباح المنير / 100 طبعة بولاق.
(3) القاموس المحيط 4 / 98 ط 1281 هـ
(4) المعجم الوسيط 1 / 190
(5) رد المحتار لابن عابدين 4 /381؛ وشرح مجلة الأحكام العدلية 2 / 538
(6) الفقه الإسلامي وأدلته للشيخ الزحيلي 6 / 756
(7) القانون الدولي العام لشارل روسو، ترجمة شكر الله خليفة وعبد المحسن سعد /301
(8) الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام لعلي منصور / 205.
(9) رد المحتار 4 / 383(9/1896)
دليل جواز التحكيم:
أولًا: الكتاب:
قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ، فدلت الآية على جواز التحكيم قال ابن عباس: وإن خفتم الآية، هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلًا صالحًا من أهل الرجل، ورجلًا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروها على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة وقسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرها جائز (1) .
وقوله سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، أي: لا يؤمنون حتى يجعلوك حكمًا يتحاكمون إليك ويترافعون (2) .
ثانيًا: السنة:
1- عن أبي شريح قال: يا رسول الله، إن قومي إذا اختلفوا في شيء فأتوني فحكمت بينهم فرضي عني الفريقان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحسن هذا)) (3) !!.
2- قبل النبي صلى الله عليه وسلم بتحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة وقبل حكمه فيهم، لما اتفقت اليهود على الرضا بحكمه روى ابن هشام قال: فلما كلمته الأوس (أي في أمر يهودي بني قريظة) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا ترضون ما معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟)) قالوا: بلى! قال: ((فذاك إلى سعد بن معاذ)) فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلى سيدكم)) … فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليكم لتحكم فيهم: فقال سعد بن معاذ: (عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم وقال: على من ههنا؟ في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالًا له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نعم)) . فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء (4) .
__________
(1) تفسير الألوسي 3 / 120
(2) تفسير الألوسي 3 / 120
(3) رواه النسائي
(4) سيرة ابن هشام 3 / 190؛ تاريخ الطبري 2 / 587(9/1897)
3- روي أنه كان بين عمر وأبي بن كعب منازعة على نخل فحكما بينهما زيد بن ثابت، فأتياه، فخرج زيد وقال لعمر: (هلا بعثت إلى فآتيك يا أمير المؤمنين) ، فقال عمر: (في بيته يؤتى الحكم) ، فدخلا بيته فألقى لعمر وسادة، فقال عمر: (هذا أول جورك) فكانت اليمين على عمر، فقال زيد لأبي: (لو عفيت أمير المؤمنين) ، فقال عمر: (يمين لزمتني) ، فقال أبي: (نعفي أمير المؤمنين ونصدقه) يقول الكمال بن الهمام: وليعمل أنه لا يظن بأحد منهما في هذه الخصومة التلبيس وإنما هي لاشتباه الحادثة عليهما فتقدما إلى الحكم لتبيين لا للتلبيس، وفي الحديث جواز التحكيم (1) .
4- وتحاكم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله إلى جبير بن مطعم، وروى الشافعي في الأم والبيهقي في السنن عن عبيدة السلماني قال: جاء رجل وامرأة إلى علي كرم الله وجهه ومع كل واحد منهما قائم من الناس، فأمرهم علي أن يبعثوا رجلًا حكمًا من أهله ورجلًا حكمًا من أهلها ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إذا رأيتما تجمعًا أن تجمعا وإن رأيتما تفرقًا أن تفرقا، قالت: رضيت كتاب الله بما علي به ومالي وقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به.
ثالثًا: الإجماع:
وقد أجمع الصحابة على جواز التحكيم (2) . وقد حكم علي بن أبي طالب ومعاوية في الإمامة أبا موسى الأشعري (3) .
رابعًا: المعقول:
وذلك أن الناس يحتاجون إلى فض الخصومة فيما بينهم دون الرجوع إلى القضاء والخوض في إحضار البينات والمرافعة وغيرها، ولا سيما في أيمانا هذه لتعقيدات القضاء في الخصومات، وامتداد الزمن في تأجيل البت في القضايا، مما يؤدي إلى ضياع كثير من الحقوق وملل المتخاصمين فيلجأ إلى التحكيم لسرعة البت في الموضوع ومساعدة القاضي في الحكم.
والتحكيم نوع من القضاء في فض الخصومات
ويشترط في المحكم أن يكون قادرًا على التحكيم، ويرى الحنفية أن كل من تقبل شهادته في أمر جاز ان يكون حكمًا فيه، وعلى هذا يجوز تحكيم المرأة؛ لأنها تصلح للشهادة (4) ، واشترط غيرهم في المحكم أن يكون حرًّا بالغًا عاقلًا عادلًا مقبول الفتوى عالمًا بالشريعة (5) ، ورأي الحنفية أولى في زمننا هذا.
__________
(1) فتح القدير 6 / 406
(2) فتح القدير 6 /406
(3) شرح العناية على الهداية للبابرتي 6 / 406؛ المبسوط للسرخسي 21 / 63
(4) كتاب أدب القضاء للقاضي شهاب الدين أبي إسحاق / 146، ومعين الأحكام /24؛ وشرح أدب القاضي للخصاف 4 / 61
(5) كتاب أدب القضاء / 431(9/1898)
ما يجري فيه التحكيم:
ويجوز التحكيم في الأمور المالية والأحوال الشخصية والأمور السياسية المتعلقة بين الحكام والمحكومين أو بين الدول المسلمة بعضها مع بعض، وقد منع بعض الفقهاء أن يكون التحكيم في عقوبة الله تعالى (1) أي في الحدود والقصاص لأنه لا ولاية للمحكمين على دمهما أي هي من حقوق الله تعالى والإمام هو المتعين لاستيفائهما (2) ، وقال شمس الأئمة والكمال بن الهمام من الحنفية: يجوز التحكيم في حد القذف والقصاص، قال المرغياني (وتخصيص الحدود والقصاص يدل على جواز التحكيم في سائر المجتهدات (3) . وعبر عبد الله الموصلي عن عدم جواز التحكيم في الحدود والقصاص؛ لأنه لا ولاية لهما على دمهما حتى لا يباح بإباحتهما) (4) .
والفرق بين القضاء والتحكيم أن المحكم قد يولي من القاضي، من جهة المتخاصمين الذين احتكموا إليه، القاضي يولي من الإمام أو نائبه أو من الدولة، وولاية القضاء واسعة، وولاية التحكيم قاصرة على المتحاكمين فقط، ويمكن للقاضي أن يفسخ حكم المحكمين، والقضاء لا يشترط فيه موافقة المتخاصمين على القاضي، ويشترط في التحكيم، وشروط القاضي أشد من شروط المحكم.
مبدأ التحكيم الدولي:
يختلف التحكيم عن القضاء وإن كان المحكم هو بمثابة القاضي، وأوجه الاختلاف أن القاضي يعين من الدولة في أي محكمة من محاكمها سواء أكانت محكمة صلح أو ابتدائية أو استئنافية أو محكمة التمييز العليا، بينما المحكم يختاره الطرفان المتنازعان برضاهما، ويتفقان على قبول حكمه.
والإسلام أول دين أقر التحكيم – كما ذكرنا الأدلة على ذلك – وتطور في الأمم بعد ذلك ولا سيما في الدول الغربية إذا نشأ التحكيم بواسطة رئيس الدولة (الملك أو مندوب عنه) وذلك عندما نشأ التنازع بين البابا والإمبراطور، أي بين السلطتين الدينية والدنيوية، ثم زال هذا النوع من التحكيم في عهد الإصلاح الديني، وظهور الدول القومية في القرن السادس عشر في أوروبا، وبدأ التحكيم بواسطة لجنة مختصة، وأول تطبيق لها كان بين إنجلترا والولايات المتحدة في منازعات الحدود بينها كحالة تحديد نهر الصليب المقدس (Sainte Croixe) .
__________
(1) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 264
(2) مشروع الهداية 6 / 408
(3) الهداية للمرغيناني 3 / 79
(4) الاختيار لتعليل المختار 2 / 93(9/1899)
ثم تطورت لجان التحكيم إلى تكوين (لجنة مختلطة) من الأطراف المتنازعة وذلك بمعاهدة جاي (Jay) في 19 تشرين الثاني سنة 1794 م وفي 8 أيار سنة 1971 م لجأت الدولتان بريطانيا والولايات المتحدة إلى تحكيم بواسطة (محكمة تحكيمية) عهد بها إلى أشخاص يتمتعون بالاستقلال والتجرد ويتصفون بكفاءة علمية عليا، حسب معاهدة واشنطن المؤرخة في 8 أيار سنة 1971 م وفي سنة 1907 م عقدت اتفاقية لاهاي الأولى بين الدول المشتركة بشأن تسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية تقرر فيه إنشاء هيئة تحكيم دائمة، وعزز هذه الاتفاقيات الميثاق العام الصادر في جنيف في 26 سبتمبر سنة 1928 م ونص فيه على إنشاء هيئة التحكيم الدائمة (يكون لكل دولة وقعت على الاتفاقية الحق في اختيار أربعة على الأكثر، من كبار رجال القانون محكمين لمدة ست سنوات، ويكون مركز هذه المحكمة (لاهاي) . ويدير رئيس هيئة المحكمين جلسة التحكيم وفق الإجراءات المتفق عليها بين الدولتين المتنازعتين) .
ثم تطورت هذه الهيئة فأصبحت (محكمة التحكيم) المحدثة التي أنشئت بواسطة الاتفاقيات والمعاهدات المختلفة، ما بين سنة 1919 – 1955م، وظلت (محكمة التحكيم) ناقصة على الرغم من إصدارها القرارات المختلفة.
محكمة العدل الدولية:
اضطرت الدول الغربية إلى إنشاء محكمة العدل الدولية الدائمة تطبيقًا المادة 14 من عهد عصبة الأمم الذي أقر بتاريخ الأول من أيلول سنة 1939م، وقعته 59 دولة.
وقد أقر نظام المحكمة طريقة إنشاء المحكمة بتعيين خمسة عشر قاضيًا أصيلًا من مجلس العصبة والجمعية العامة، وتعيين أربعة قضاة احتياطيين، كما يعين قاض وطني لكل من الدولتين المتنازعتين حسب المادة (31) من نظام المحكمة. وتكون مدة المحكمة تسع سنوات ويجوز إعادة انتخابهم، وتجدد ولاية خمسة منهم بعد مضي ثلاث سنوات، وخمسة آخرين بعد ست سنوات، وهي مدة طويلة لتمكين المحكمة من الاستقرار وعدم الخضوع السريع لدولهم.
وتعقد المحكمة دورة سنوية عادية في قصر السلام بلاهاي كما يحق أن تعقد دورات استثنائية.
وللمحكمة مكتب مكون من موظف ومساعده يتولى إدارة شؤون المحكمة المالية والإدارية.
واختصاص المحكمة حل المنازعات الناشئة بين الدول في القضايا المتعلقة بالقانون الدولي، أو تفسير المعاهدات أو فرض الالتزامات الدولية أو التعويضات.(9/1900)
وولاية المحكمة ولاية اختيارية إذ لا تنظر في أي قضية إلا بموجب اتفاق بعقده الطرفان المتنازعان لهذه الغاية على أساس شرط التحكيم، وقد تكون الولاية إجبارية لمدة محددة من 5 – 10 سنوات في حالات أربع:
أ- تسوية المنازعات المتعلقة بالبلاد الموضوعة تحت الانتداب.
ب- تسوية الخلافات المتعلقة بحماية الأقليات.
- - تسوية الخلافات المتعلقة بالمواصلات الترانزيت
د- تسوية الخلافات المتعلقة بمنظمة العمل الدولي.
كما أنها قد تكون إلزامية إجبارية إذا اتفق الطرفان على ذلك. ويجوز للمحكمة أن تقدم الآراء الاستشارية لعصبة الأمم.
كما أنها قد كون إلزامية إجبارية إذا اتفق الطرفان على ذلك أو اتفق أعضاء الأمم المتحدة بالنزول على حكم المحكمة في أي قضية يكونون أطرافًا فيها، وإذا امتنع الطرف عن التنفيذ فللطرف الآخر أن يلجأ إلى مجلس الأمن، وللمجلس أن يصدر توصياته أو أن يصدر قرارات بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ الحكم كما نصت على ذلك المادة (94) من ميثاق الأمم المتحدة.
ومحكمة العدل الدولية جهاز رئيسي كما نصت المادة (7) من ميثاق الأمم المتحدة، ونصت المادة (92) منه على أن محكمة العدل الدولية هي الأداء القضائية الرئيسية للأمم المتحدة. كما حددت وظيفتها بالفصل في المنازعات التي ترفع إليها وفقًا لأحكام القانون الدولي وهي تطبق في هذا الشأن حسب المادة (38) .
1- الاتفاقات الدولية العامة التي تضع قواعد معترفًا بها بصراحة من جانب الدولة المتنازعة.
2- العادات الدولية المرعية المعتبرة بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال.
3- مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتحدة المتمدنة.
4- أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم، ويعتبر هذا أو ذاك مصدرًا احتياطيًّا لقواعد القانون وذلك مع مراعاة أحكام المادة (59 التي تنص على أن الحكم لا يكون له قوة الإلزام إلا بالنسبة لمن يصدر بينهم وفي خصوص النزاع الذي فصل فيه.
5- يجوز للمحكمة أن تتبع قواعد العدل والإنصاف إذا اتفق الطرفان على ذلك.(9/1901)
مشروعية الاحتكام إلى محكمة العدل الدولية:
ذكرنا أن اختصاص محكمة العدل الدولية في القضاء والإفتاء والقواعد التي تعتمد عليها، ونريد أن نتبين الحكم الشرعي في الاحتكام إليها بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول غير الإسلامية، وبين الدول الإسلامية نفسها، وذلك يرجع إلى أمور ثلاثة:
أولًا: قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] فإن من الأئمة من قال: إن الآية عامة تشمل الدنيا والآخرة، وهي وإن تبعها قوله تعالى {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 113] لكن عمومها يفيد أنها في الدنيا كما هي في الآخرة، والتحكيم والقضاء فيه سبيل على الآخرين، فلا يجوز التحكيم أو القضاء لغير المسلم، والمحكمون أو أعضاء محكمة العدل الدولية قد يكونون من المسلمين ومن غير المسلمين فلا يجوز للدولة أن تلجأ في التحكيم ولا في طلب الحكم إليهم للآية الكريمة (1) .
ثانيًا: هل يصح أن يكون المحكم (وهو كالقاضي) غير مسلم، وهل يصح أن يلجأ إلى محكمة العدل الدولية وقضاتها غير مسلمين لتفصل في النزاع بين الدول الإسلامية.
لقد نص الفقهاء على أن القاضي يجب أن يكون مسلمًا فقالوا: لا يجوز لكافر أن يتولى منصب القضاء بين المسلمين باتفاق الفقهاء لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] أي طريقًا للحكم عليهم، والقضاء من أعظم السبل وأقواها.
وأعضاء محكمة العدل الدولية بحسب اختصاصها إما أن يكون قضاة أو محكمين:
فإن اعتبرناهم قضاة، فإن كانوا مسلمين فليست هناك مشكلة في اللجوء إلى محكمة العدل، وإن كانوا غير ذلك فالنص على عدم جواز قضائهم في المسلمين (2) ، ومنهم الدولة الإسلامية، ولا يصح أن تفض النزاع فيما بينهم بل لا بد من قضاة مسلمين.
وإن اعتبرناهم محكمين فالخلاف بين الفقهاء في اشتراط الإسلام للمحكمة، فمنهم من اشترط أن يكن مسلمًا كالقاضي ومنهم من لم يشترط الإسلام بل اكتفى بأن يكون المحكم حرًّا بالغًا عاقلًا عادلًا مقبول الفتوى، عالمًا بالشريعة، يجوز الاحتكام إلى محكمين دوليين غير مسلمين، وأيضًا لا يجوز الاحتكام لمحكمة العدل العليا ما دام المحكمون غير مسلمين. وقد نص الفقهاء على أنه إذا كان الطرفان المتنازعان مسلمين جازت المفاوضة بينهما في هذا الأمر أو اللجوء إلى تكوين لجان تحقيق منهما أو لجان توفيق للإصلاح فيما بينهم. ويلتزم المحكمان بقرار المحكم عند الحنابلة والحنفية (3) ولكل منهما الرجوع عن التحكيم قبل إصدار الحكم عند الحنفية وسحنون من المالكيين أما ابن ماجشون فلا يجوز رجوع أحدهما.
__________
(1) كتاب القضاء لعبد الله الشيرازي / 18؛ وتفسير الألوسي 3 / 78
(2) الأحكام السلطانية للماوردي / 65؛ ورد المحتار 5 / 335
(3) فتح القدير 5 / 498؛ والمبسوط 21 / 63؛ وحاشية الدسوقي 4 / 140(9/1902)
وعلى القول الثاني جاز أن يلجأ إلى التحكيم على أساس ما أقره الإسلام من قواعد قال عليه السلام في العهد الذي كتبه لأهل المدينة: ((أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله (1) ، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] )) .
وقد ذكر ابن هشام أن تحكيمًا جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نصارى نجران دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة فقال له أحدهم: أحكمك اليوم والليلة فمهما حكمت فهو جائز (2)
وإذا كانت المادة (33) من ميثاق الأمم المتحدة تحدد طرق الوسائل السلمية لحل الخلافات وفض النزاعات والتحقق والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية والالتجاء إلى المنظمات الإقليمية وغيرها من الوسائل السلمية التي يرضاها الطرفان، فالنص على رضا الطرفين أساسي في اختيار القانون الذي يحكمان به، ولذلك فإن الالتجاء إلى التحكيم الدولي أو إلى محكمة العدل الدولية يقتضي من الدول الإسلامية أن تختار اللجوء إلى الأحكام الشرعية وذلك لقوله تعالى {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] ، وقوله سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 105] ، ولقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] ، وما دامت القواعد العامة التي يلجأ إليها هي العدل وعلى أساس احترام الحق (كما جاء في المادة (37) من اتفاقية لاهاي) فإن العدل والحق يتمثلان في القواعد والأحكام التي جاءت بها الشرائع السماوية ومنها الإسلام. قال سبحانه {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] ، وقال {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، ويرى الشيخ وهبة الزحيلي أنه (لا مانع من تطبيق القانون الدولي (قواعد الحق والعدالة) في التحكيم لأن الرسول حدد مقدمًا لسعد بن معاذ في قضية التمكين في يهود بني قريظة القواعد التي قضي بها.
__________
(1) سيرة ابن هشام 2 / 145
(2) رواه البيهقي عن ابن مسعود بإسناد صحيح(9/1903)
وقواعد التمكين في محكمة العدل الدولية لا تخرج عن كونها إما اتفاقًا دوليًّا أو عرفًا عامًّا سارت الدول على مقتضاه، أو قاعدة من قواعد العدل والإنصاف، فإذا اضطرت قاعدة ما بالمسلمين كانوا بالخيار كما هو المقرر دوليًّا في عدم عرض النزاع على محكمة العدل المذكورة (العلاقات الدولية في ظلال الإسلام) / 77
وهذا الكلام لا يقبل على إطلاقه من الدكتور الزحيلي للأسباب التالية:
1- التحكيم إنما يكون لشرع الله سبحانه، وقواعد التحكيم أو الحكم في محكمة العدل الدولية لا ترجع إلى الشريعة الإسلامية بل ترجع إلى الاتفاقات الدولية أو العادات الدولية المرعية أو مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدنة، فهل هذه متطابقة مع شرع الله أو مستمدة منه، وقد بلونا الأمرين من الاتفاقات الدولية التي ما وضع أكثر أحكامها إلا لتمكين الدول الكبرى المتحكمة من الاستمرار في السيطرة على الشعوب والأمم وابتزاز خيراتها.
2- الأعراف الدولية منها ما هو عرف صحيح ومنها ما هو عرف فاسد فكيف نلجأ إلى تحكيمهم في رقابنا والله يقول {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] .
3- قواعد (الحق والعدالة) أو قواعد العدل والإنصاف) قواعد مبهمة تختلف باختلاف وجهات نظر الدول والقضاة، فلا يصح الرجوع إلى أمر مبهم غامض أو فيه اختلاف وجهات النظر.
والفرق بين الرأيين: أن الرأي الأول لا يجيز اللجوء إلى التحكيم الدولي أو محكمة العدل الدولية إلا إذا كان المحكمون مسلمين، أما الرأي الثاني فيشترط الحكم بالقواعد والتعاليم الشرعية ولو لم يكن المحكمون مسلمين.(9/1904)
والرأي الذي أراه أن اللجوء إلى المحكمين يقتضي أن يكون بينهم مسلمون، وأن يلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية في التحكيم أو أن لا يكون القانون أو القواعد التي يلجأ إليها المحكمون متعارضة مع نص الشريعة الإسلامية أو مقاصدها الشرعية، لا سيما وأن فيها من البنود ما يجعل وضع قواعد التحكيم متروكًا للدولتين المتنازعتين (1) .
وأما اللجوء إلى المحاكم الدولية مما لم يكن القانون الذي يحكم به موافقًا لما جاء به الإسلام، وما لم تكن مواد القانون قد وضعت باشتراك الدول الإسلامية وأقرتها طبقًا لفلسفتها ودستورها، فلا يجوز اللجوء إليها لما ذكرنا من النصوص القرآنية الصريحة؛ لأن ذلك اعتراف بسيادة قانون غير إسلامي ليحكم به في خلافات المسلمين.
وقد نص الفقهاء على أن شرط التحكيم من جهة المحكم العقل والإسلام، وأن شرط المحكم أن يكون فهيمًا وأمينًا وقادرًا على التمييز وصلاحيته للقضاء وقت التحكيم.
ونحن من الرأي القائل بأن التحكيم إنما يكون في سائر الأمور المالية والاجتهادات، كما نص على ذلك صاحب الهداية والدر المختار والبحر الرائق والفتاوى الهندية.
وينفذ حكم المحكم أو محكمة العدل الدولية في حق المتنازعين فقط الذين حكماه به أو لجأ إلى المحكمة فيه، ولا يتجاوزه إلى غيره من سائر الخصومات، وينفذ على من رضي به من المحكمين (2) .
والله سبحانه وتعالى أعلم وبالله التوفيق.
25 / شوال / 1414 هـ
الدكتور عبد العزيز الخياط
__________
(1) الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام / 205
(2) المادة 1842 من مجلة الأحكام العدلية(9/1905)
التحكيم في الفقه الإسلامي
إعداد الأستاذ محمود شمام
الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين الحكيم الذي له الحكم وهو أحكم الحاكمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد بن عبد الله وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليمًا.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] .
صدق الله العظيم
التحكيم
إن الإنسان مدني بالطبع وهو في حاجة أكيدة وشديدة إلى التعامل مع أفراد مجتمعه للتحصيل على ضروريات قوته ومعاشه وتحقيق متطلبات حياته.
وهذه الحاجة يتبادلها الأفراد كما تتبادلها الجماعات بحكم الضرورة الملحة والمصلحة الدافعة.
ويحدث الخلاف والنزاع والشقاق وتباين وجهة النظر والرأي ثم إسناد المنافع وتبنيها واقتنصاها.
وقد شرع الله سبحانه وتعالى وسائل لسد الذرائع وحماية المجتمع وأفراده في تعاملهم وفي حياتهم المدنية والاجتماعية والشخصية الفردية.
وجاءت وسائل الإثبات وإقامة الحجج ورسم الخطط لدفع هذا النزاع ورده وصده.
ولكن مع كل ما يحاط به الموضوع من حماية ورعاية فالخلافات تتوجد وتتكون والنفوس تتقاذفها الأهواء وتتجاذبها المنافع فتدفعها دفعًا إلى إهدار الواجبات والارتماء خلف الادعاءات الكاذبة الباطلة توصلًا لأغراض زائلة وأعراض فانية وأرباح تافهة.(9/1906)
واحتيج إلى التقاضي والالتجاء إلى الحكم بين الناس واحتيج إلى من ترفع إليه القضايا ليحسم الخلافات ويقضي على النزاعات ويحافظ على سلامة المجتمعات ويحمي أفرادها من تنطع بعضهم وتعمده دوس الحقوق واجتياز الحدود والاستيلاء باطلًا على أموال الناس.
والحكم هو العلم والفقه والتفقه والقضاء بالعدل بين الناس وهو مصدر حكم يحكم وجمعه أحكام والتحكيم إسناد الفعل يقال: حكمت فلانًا أي أطلقت يده ورأيه وأوكلت الله تنفيذه.
جاء في لسان العرب: مادة حكم الحكم هو القضاء وجمعه أحكام وهو مصدر قولك: حكم فيهم يحكم أي قضى وحكم له وحكم عليه.
وحكموه بينهم انتخبوه للحكم وأجازوا ما يقضي به.
وفي مختار الصحاح في نفس المادة:
حكمه في ماله تحكيمًا إذا جعل إليه الحكم فيه.
وجاء في نفس المادة من كتاب المصباح المنير:
الحكم هو القضاء حكمت الرجل بالتشديد فوضت إليه الحكم
وجاء التشريع الإسلامي قاضيًا بأن من دعي إلى حاكم لفض خلاف ونزاع فعليه الإجابة والامتثال. ودليل ذلك قوله سبحانه وتعالى:
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] .
يقول الماوردي (1) : الآية دليل على وجوب الاستجابة لدعوة القضاء، ويقول: إنه ورد عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قوله: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((من دعي إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم لا حق له)) . . . . .
__________
(1) الماوردي هو القاضي أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي، ففيه شافعي المذهب تولى القضاء حتى بلغ رتبة قاضي القضاة، له عدة مؤلفات قيمة هي مرجع من أهم المراجع منها كتاب الأحكام السلطانية وكتاب الحاوي وكتاب أدب القاضي وغيرها توفي سنة 450 / 1036(9/1907)
والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] .
وعرف الإمام ابن عرفة القضاء بقوله (1) :
(صفة حكمية توجب لموصوفها النفوذ الشرعي ولو بتعديل تجريح لا في عموم مصالح المسلمين) .
شرع الرصاع على حدود ابن عرفة والقضاء حددت معالمه وحددت مفاهيمه في الحديث النبوي الشريف عن أبي ذر:
قلت: يا رسول الله ألا استعملتني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها.
ولقد كان رسول الله ومصطفاه محمد بن عبد الله أول قاض في الإسلام.
فالله سبحانه وتعالى يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
والله سبحانه يخاطب نبيه الأمين عليه الصلاة والتسليم {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 48] .
وهو يخاطبه جل شأنه قائلًا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } [المائدة: 49 – 50] .
__________
(1) الإمام ابن عرفة هو محمد بن محمد بن عرفة التونسي الورغمي ولد بتونس العاصمة سنة 716هـ وتوفي بها سنة 803 هـ فقيه أديب نحوي كان حافظًا للمذهب المالكي ضابطًا لقواعده مجيدًا في العربية والفرائض والحساب والمنطق له تآليف مفيدة منها تفسيره الكبير في المذهب في نحو عشرة أسفار وله تأليف الأصول والتفسير وكان شخصية علمية بارزة في أفريقيا. انظر ما كتب عنه الأستاذ سعد الغراب في مجلة الهواية عدد 3 – 4 سنة 1981 وانظر دراسة عنه معمقة لفضيلة الشيخ محمد شمام نشرتها الهداية بعدد 6 سنة 9 شوال جويلية1402 / 1982(9/1908)
وفي الحديث الصحيح المتفق عليه الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أم سلمة عن زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت:
جاء رجلان يختصمان في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار)) .
فالقاضي إذا أصدر حكمه وأصبح نهائيًّا غير قابل للطعن اعتبر هذا الحكم عنوان الحقيقة ووجب احترامه والخضوع له وأصبح لا مفر من تنفيذه إذا طلب المحكوم له ذلك.
أما ما يصدر عن رجل العلم والفتوى فهو محل للمناقشة ويصح الأخذ به أو العدول عنه.
القاضي يعتمد فيما يصدره من أحكام على الدليل والحجة والراجح من الأقوال في مذهبه كما يعتمد البينة أي يبين الحق ويظهره ويثبته ويرد الباطل ويدحضه ويقضي على ألاعيب الخصوم وحيلهم.
وقد يكون رأي هذا القاضي مخالفًا حين ينتصب للفتوى فيفحص الموضوع من زاوية أخرى ويأخذ بالمرجوح من الأقوال ليطبقه على الموضوع المطروح عليه مراعيًا في ذلك المصلحة العامة المرسلة مجتهدًا في التيسير سالكًا سبل الوصول إلى الحق من أيسر الطرق ((ومن يشاد هذا الدين يغلبه)) .
فالنص الشرعي الثابت المسند إليه يمكن أن يعتمد ويستدل به على صرح ما يفهم من عبارته أو إشارته أو دلالته أو اقتضائه، وهذه طرق متفاوتة في قوة دلالتها وعند التوقف والتعارض يرجح المفهوم بالعبارة على المفهوم بالإشارة ويجرح المفهوم بأحدهما على المفهوم بالدلالة وطبعًا مع الإسناد فيما أبداه من الرأي وأدى إليه اجتهاده فيما صرح به.
قال بعضهم: الفرق بين القضاء وفقه القضاء فرق بين الأخص والأعم، ففقه القضاء أعم؛ لأنه الفقه بالأحكام الكلية وعلم القضاء هو العلم بتلك الأحكام الكلية مع العلم بكيفية تنزيلها على النوازل الواقعة والقاضي بمعزل عن الإفتاء وإبداء الرأي في القضايا التي من المفروض أن تنشر لديه.(9/1909)
يقول ابن عاصم: ومنع الإفتاء للحكام، في كل ما يرجع للخصام.
وهذا هو الفرق بين علم الفتيا وفقه الفتيا. ففقه الفتيا هو العلم بالأحكام الكلية أما علم الفتيا فهو معرفة تلك الأحكام مع معرفة تنزيلها على أهم النوازل.
فالمقلد قد يحفظ مذهب إمامه وهو عاجز عن الغوص في أعماقه ومعرفة غوامضه وهو قاصر عن تقدير أدلته ومرجحات آرائه.
وقد تجد الرجل يحفظ كثيرًا من الفقه ويفهمه ويدرسه ويعلمه للناس فإذا سئل عن واقعة وقعت أو نازلة نزلت فهو لا يحسن الجواب بل ولا يفهم المراد ضرورة أنه لا يجدها فيما حفظه ووعاه.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعمل بها)) .
وما العمل بها إلا إرشاد الناس وتوجيههم والسعي إلى حل مشاكلهم في نطاق مبادئ الشريعة السمحة وما جاءت به من أحكام شاملة.
يقول شيخنا شيخ الإسلام محمد العزيز جعيط:
الحكم يلزم أن يكون فيما يتناوله الخصم والتداعي وإلا كان فتوى لا حكمًا، وهذا كأن يدعي الاستحقاق أبناء أخ في وقف سبله واقفه على أولاده وأولادهم والطبقة السفلي لا تشارك الطبقة العليا، ثم مات الواقف عن ولدين ومات بعده أحدهما عن أولاده وأخيه، فنازعهم العم في استحقاقهم بدعوى أن كل فرد من أفراد الطبقة العليا يحجب الطبقة السفلي عن الاستحقاق فحكم القاضي المالكي باستحقاق أولاد الأخ مع العم وبأن الطبقة العليا إنما تحجب فرعها لا فرع غيرها.
فالمعتبر حكمًا هو استحقاق هؤلاء الأفراد مع عمهم أما حكمه بأن الطبقة العليا إنما تحجب فرعها لا فرع غيرها فخارج مخرج الفتوى لا يمنع حاكمًا آخر يرى خلاف هذا المذهب أن يحكم فيما سيحدث في هذا الوقف من النزاع بحرمان فرد من أهل الطبقة السفلى (من غير المحكوم عليهم أولًا) من الاستحقاق لوجود فرد من أهل الطبقة العليا وإن لم يكن أصلًا للمحكوم بحرمانه، ولا يصده عن الحكم حكم الأول بأن الطبقة العليا إنما تحجب فرعها لا فرع غيرها لخروج هذا الحكم مخرج الفتوى.
وفتوى المفتي بشيء لا تمنع فتوى غيره بخلاف فتواه ولا حكم غيره بخلاف ما ارتآه؛ لأن الغرض من الحكم سد باب الخصومات وحسم النزاعات ودرء الظلامات وتمكين أهل الحقوق من حقوقهم فيجب أن يقتصر فيه على ما يفي بهذا الغرض. اهـ (1) .
وشيخنا رحمه الله يشير إلى أن فقه القضاء وتعليل الأحكام وإيضاح الأحكام وإيضاح أسانيد الرأي فيها لا يعني اتصال القضاء في ذلك ولا يمنع من حرية الاجتهاد لاحقًا في القضاء والفتوى.
__________
(1) كتاب الطريقة المرضية صفحة 241(9/1910)
مبدأ التحكيم
في الفقه الإسلامي
وإذا كان القضاء هو مكان التقاضي ترفع إليه الخصومات والنزاعات لفصلها والبت في شأنها فما هو دخل غير القضاة في فصل النزاعات وحلها؟
لقد سمح بهذا التحكيم نفاذًا لإرادة المتخاصمين وإطلاقًا لحريتهم وتخفيفًا من حدة التقاضي أمام القضاة.
وهو تحكيم في عموم قضايا الأموال وجملة حقوق المتنازعين وتحكيم يتعلق بالخصام بين الزوجين والخلافات بينهما التي قد يتعذر إثباتها ونسبة أضرارها لفاعلها.
والأصل في ذلك أي في إثبات تحكيم القرآن الكريم
قال الله سبحانه وتعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 64] .
والآية بعدها 65: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
قال النسيابوري: اختلف المفسرون في المراد من الطاغوت على أقوال متعددة ترجع كلها إلى معنى واحد وهو التحاكم لغير كتاب الله وسنة رسوله والتحاكم إلى الطاغوت هو كفر بالله والكفر بالطاغوت إيمان بالله ورسوله.
قال سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] .
جاء في سبب نزول تلكم الآية عدة أقوال منها أنها نزلت في رجل منافق يقال له بشر تخاصم مع يهودي في أمر بينهما تنازعاه واختلفا عليه والتجآ إلى التحاكم فطلب بشر من اليهودي أن يحكم بينهما كعب بن الأشرف وطلب اليهودي أن يتحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حكم لفائدة اليهودي، فلما خرجا من عنده قال بشر: لا أرضى بهذا الحكم فاجعل بيني وبينك أبا بكر الذي نظر في الموضوع ثم حكى لليهودي فلما خرجا قال بشر لا أرضى بهذا الحكم، بيني وبينك عمر بن الخطاب، فقصداه وقص عليه اليهودي القصة من أولها وأخبره بما حكم به الرسول عليه الصلاة والسلام وكذلك ما حكم به أبو بكر.
فسأل عمر بشرا هل هذا حقًا؟ فقال له نعم!
فأخذ عمر بسيفه وضرب عنقه وقال هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله ورسوله وبلغ الأمر إلى النبي عليه أفضل الصلاة والسلام فقال لعمر: ((أنت الذي يفرّق الله به بين الحق والباطل، أنت الفاروق)) .(9/1911)
قال أبو بكر الجصاص: إن من رد أوامر الله أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم.
والظاهر أن المراد بكفر الشرك الجحود لأن جحود حكم الله أو الحكم بغيره من الإخبار بأنه حكم الله هو كفر، وفاعله مرتد إن كان قبل ذلك مسلمًا به هـ.
والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51] .
واجتهاد سيدنا عمر بقتل المنافق الذي لم يرض بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل القرآن موافقًا له فيما قضى به.
قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
يقول ابن العربي: إذا كان النزاع بين معاهد ومسلم فالنظر لقضاء المسلمين ولا يقع التقاضي لدى أهل الذمة.
أما بين أهل الذمة فأمرهم إليهم فإذا جاء إلى قاضي المسلمين فإن شاء حكم وإن شاء أعرض هـ.
والله سبحانه وتعالى لا يجبر على مقاضاة غير المسلمين أمام القضاء الإسلامي ويقرر أنهم إذا رغبوا في التقاضي أمام المسلمين فعلى هؤلاء أن يحكموا بينهم بالقسط طبق الشرع الإسلامي. وهذا صريح قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] .
وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] .
وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] .
ويروي مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن جابر بن عبد الله: ((رجم زانيين من اليهود بقضاء الرسول عليه الصلاة والسلام بعد الإطلاع على حكم التوراة واستشارة من يعرف أحكامها)) .(9/1912)
وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: مر على النبي عليه الصلاة والسلام بيهودي محمم (أي طلي وجهه بالفحم) مجلودًا فدعاهم وقال لهم: ((هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟)) . . . .
قالوا: نعم، فدعى رجلًا من علمائهم وقال له: ((أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى؛ أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟.)) قال لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك فحده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه)) وأمر به فرجم وقال: ((إني أحكم بما في التوراة)) .
والرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الخمسة عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها:
((أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) .
يقول القرطبي: إن اليهود حكمت النبي عليه الصلاة والسلام فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة.
والتحكيم جائز بصورة عامة في كل حق اختصم به الخصوم، وينفذ حكم المحكم وذلك في الأموال والحقوق التي تخص الطرفين ضرورة أن التحكيم حق للطرفين ولم يكن من حق القاضي.
ويؤيد هذا ما يقوله الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه (إذا حكم رجل رجلًا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه) .
ويقول سحنون معلقًا: يمضيه إن رآه صوابًا.
وقد أخرج الحاكم في المستدرك وأبو داود والدارقطني أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان من الأنصار في مواريث متقادمة فقضى عليه الصلاة والسلام بينهما في بيتي)) .(9/1913)
وجاء في سنن النسائي كتاب آداب القضاة باب إذا حكموا رجلًا فقضى بينهم (1) .
قال أخبرنا قتيبة قال حدثنا يزيد وهو ابن المقدام بن شريح عن شريح بن هاني عن أبيه هاني أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه وهم يكنون هانئًا أبا الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ((إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم؟)) فقال له: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين قال: ((ما أحسن هذا؟ … فمالك من الولد؟)) قال لي: شريح وعبد الله ومسلم: قال: ((فمن أكبرهم؟)) قال: شريح. قال: ((فأنت أبو شريح)) ودعا له ولولده.
يقول جلال الدين السيوطي في شرح هذا الحديث والتعليق عليه: ما أحسن هذا أي الذي ذكرت من الحكم على وجه يرضي المتخاصمين فإنه لا يكون دائمًا على هذا الوجه إلا بكونه عدلًا.
وقد جرى عمل الصحابة بالتحكيم فقد روي البيهقي (سنن البيهقي ج 10، ص 144) عن الشعبي أن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب تقاضيا إلى زيد بن ثابت رضي الله عنهم فقال زيد لعمر: لو أرسلت إلي لجئتك فقال عمر: في بيته يؤتى الحكم (2) .
فأخذ زيد وسادته ليجلس عليها عمر الذي قال له: هذا أول جورك سو بيننا في المجلس، فجلسا بين يديه ونظر في شأنهما فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد لأبي لو عفوت أمير المؤمنين عن اليمين فقال عمر: ما يدري زيد ما القضاء.
قال في كتاب العناية على الهداية (بهامش فتح القدير جزء 5 صفحة 498) : الصحابة رضي الله عليهم مجمعون على جواز التحكيم وهو فرع من فروع القضاء والتحكيم له جذور بعيدة تحدث عنه القرآن الكريم، وقص أخباره.
ولا مراء ولا خلاف أن المصدر الأول والمرجع الأساسي للتشريع الإسلامي هو كتاب الله القرآن الذي أحكمت آياته، هذا الكتاب الذي لا يتطرق الشك إلى صحة نصه خلافًا لكل الكتب الأخرى.
__________
(1) سنن النسائي ج 8، ص 226
(2) تم المثل في بيته يؤدي الحكم مثل قديم جاهلي حكاية الأرنب التي التقطت ثمرة فاختلسها منها الثعلب وأكلها فحكما الضب بينهما وذهبا إليه وسمع منهما وطلبا منه أن يخرج إليهما فقال: في بيته يؤتي الحكم (مجمع الأمثال للميداني ج 1، صفحة 183) .(9/1914)
وروى ابن جرير عن عامر قال:
جاء رجلان إلى القاضي شريح فقال أحدهما إن شاة هذا قطعت غزلًا لي فقال شريح: نهارًا أم ليلًا؟ إن كان نهارًا فقد برئ صاحب الشاة وإن كان ليلًا ضمن. ثم تلا قوله سبحانه وتعالى {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] .
وهكذا قضى شريح بما جاء في الحديث السابق مطبقًا الآية الكريمة باعتبار أن أصل الضمان محمول على كاهل رب الغنم التي تنهمل ليلًا بدون راع وتفسد أشياء الآخرين.
وقد اختلف الفقهاء فيما أفسدته المواشي والدواب على أربعة أقوال:
الأول: إن كان دابة مرسلة غير محفوظة فصاحبها ضامن لما أفسدته.
الثاني: أن لا ضمان على صاحب الدابة.
الثالث: إن أرباب الدواب يضمنون ليلًا لا نهارًا.
الرابع: وجود الضمان في غير المنفلت دون المنفلت.
وقد ذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه إلى الضمان ليلًا لا نهارًا؛ إذ العادة الغالبة حفظ الزرع نهارًا والدابة ليلًا، ولذا فإن كل واحد يتحمل مسؤولية حفظه لما يملك، ويؤيد ذلك ما ذهب إليه الإمامان الشافعي والحنبلي رضي الله عنهما.
أما الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه فإنه يرى أن لا ضمان إطلاقًا وأن البهائم إذا أفسدت زرعًا ليلًا أو نهارًا فإن صاحبها لا يغرم وإن حديث البراء منسوخ بحديث آخر وقوله عليه الصلاة والسلام ((جرح العجماء جبار)) . . . . أي هدر.
وعمدة مالك والشافعي وابن حنبل آية {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] . وحديث ناقة البراء المتقدم، ويقولون إن حديث جرح العجماء جبار. لم يكن ناسخًا بل هو عام وخص منه الزرع بحديث البراء، هذا وقد استفاد التقنين الوضعي من هذا الاختلاف الفقهي واعتمد واضعوه تلكم المبادئ في مسؤولية صاحب الحيوان عما أتلفه حيوانه من الزرع وإن اختلفت الفروع فقد اتحد الأصل (يراجع في ذلك الأحكام المتعلقة بالفصل 94 من المدونة المدنية التونسية والمادة 176 من القانون المدني المصري الفصل 177 من القانون المدني السوري والمادة 243 من القانون الكويتي كما يراجع ما كتبه السنهوري في هذا الموضوع (1)
__________
(1) راجع السنهوري: 1 / 1192(9/1915)
والآية الكريمة تضمنت موضوع الاجتهاد القضائي وأن المجتهد إذا اخطأ في حكمه فلا إثم عليه لأن الله أثنى على سليمان بصوابه وعذر داود باجتهاده ولم يذمه بل قال: {وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] .
وقد روى مسلم وغيره عن عمرو بن العاص (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) .
قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته (1) .
والحديث رواه مسلم في الأقضية إذا حكم فاجتهد، بدأ بالحكم قبل الاجتهاد مع أن الاجتهاد مقدم على الحكم والمعنى – والله أعلم – إذا أراد أن يحكم كما في قوله سبحانه وتعالى.
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] .
والمجتهد المصيب في اجتهاده وفي قضائه له أجر من أجل إعمال الفكر والتدبر والاجتهاد وله أجر آخر من أجل الإصابة.
أما الآخر فله أجر واحد من أجل الاجتهاد وإعمال الفكر وتحريض على السير حتى يصل إلى الصواب دون تحجر.
قال علي بن الجعد، أنبأنا شعبة عن سيار عن الشعبي قال:
أخذ عمر فرسا من رجل على سوم فحمل عليه فعطب فخاصمه الرجل.
فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلًا: أي حكما
فقال صاحب الفرس إني أرضى بشريح العراقي ولم يكن وقتها قاضيا
فقال شريح: أخذته صحيحا سليما فأنت له ضامن حتى ترده صحيحا سليما فأعجب به عمر وقال في شأن اجتهاد القاضي كلمته الخالدة:
(ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه فإن لم يستبن من كتاب الله فمن سنة رسوله فإن لم تجد في السنة فاجتهد رأيك) .
وطبعي أن القاضي المجتهد الذي له أجر واحد هو القاضي العالم الباحث عن وجه الحق والصواب، والدارس للأحكام وفقه القضاء السابق، والذي أداه نظره إلى الحكم بما رآه صوابا وعدلا أو ظنه صوابا وحقا وعدلًا، لأن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يقول:
((القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاض يجهل فهو في النار، وقاض عرف الحق فجار فهو في النار)) .
__________
(1) ج10 صفحة 115(9/1916)
والآية الكريمة: (وداود وسليمان) التي أوردناها كأصل ثابت في شأن التحكيم قد تضمنت عدة مبادئ قضائية منها: مبدأ رجوع القاضي عن اجتهاده ورأيه الأول إلى اجتهاد أرجح، وقضاء أفضل في إصابة الحق ونشر العدل، فإن سيدنا داود عليه السلام وهو النبي قد رجع إلى رأي ابنه وقضى بتنفيذه.
كما تضمنت الآية الكريمة موضوع تعقب الأحكام بالمراجعة والمناقشة وإمكانية نقضها وإبرامها من جديد متى اتضح الصواب، وألهم الله القاضي طريق الحق في القضية المعروضة عليه وقد أطنب الماوردي رحمه الله وبسط القول في هذه النظرية في كتاب أدب القاضي ج1 صفحة 685 وما بعدها.
فالتحكيم هو الالتجاء إلى محكمين لا سلطة قضائية لهم ويقع الفزع إليهم مع وجود سلطة القضاء الرسمي.
والتحكيم عمل قضائي صرف لا محالة، وما يصدر عن المحكمين لا يمكن أن يوصف بأنه الصلح الذي يشترط فيه حصول اتفاق ورضا كافة الأطراف، وكذلك لا يمكن أن يقال إن المحكمين وكلوا من طرف من انتبدهم، لأن الوكيل ملزم باتباع مصلحة من وكله، لا اتباع طريق العدل والإنصاف والحق، ومن هنا فإن العمل الذي كان يقوم به شيخ القبيلة وزعيمها هو أقرب للقضاء لا للتحكيم، ونحن نجزم بأنه لم يوجد تحكيم قبلي قبل الإسلام يحمل تلكم المواصفات التي أشرنا إليها سابقًا، وكما علمنا فإن القضاء مختلف عن التحكيم مهما كان النظام القضائي القائم والمعمول به.
وقد رأينا بعض من كتب في الموضوع يشير إلى وجود تحكيم سابق عن الإسلام له أساس ومد قبلي، فالأستاذ محمد مصطفى حسن نائب رئيس هيئة التحكيم الدولية لغرفة التجارة ومقرها باريس يكتب في نشرية التحكيم التجارية الدولي في مايو سنة 1992 فيقول:
(وقد كان هناك نوع من التحكيم في الإسلام وحتى في العصر السابق على ظهور الإسلام غير أن هذا التحكيم ذا الأساس والمد القبلي أو الذي ينصب على مسائل من الأحوال الشخصية كالزواج أو الذي تكون أهدافه أقرب إلى الناحية السياسية ليس هو بالتأكيد التحكيم التجاري الدولي الذي اكتسب منذ عهد ليس بالقريب ولا يزال يكتسب بسرعة فائقة خصوصيات حية حتى بالنسبة للتحكيم التجاري الداخلي) .
وقد اختلطت في نظره الأمور فهو يجعل تصرف القادة والزعماء القبليين تحكيما ثم لا يعترف بفضل الأسبق الذي بنى الأسس، لأن من جاء بعده سعى إلى الزيادة والتحسين وهو أمر طبعي لا ينفي الأصل بل يقره مع الاعتراف بفضله ولا يمكن جحوده ونكرانه.(9/1917)
الاحتكام إلى المحاكم الأجنبية
هذا موضوع جدير بالدرس والعناية والمراجعة وأخذ القرار.
فالمسلم الخاضع لجنسية بلاده والذي يتمتع بحقوقه المدنية ويلتزم بما سنته له دساتير وطنه وحددته قوانينه قد يجد نفسه في يوم ما فريسة ضياع وضحية حيرة بسبب عمل ما قام به وساقه إلى هذا الضياع وتلك الحيرة.
فالهجرة إلى البلاد الأجنبية والإقامة بها والاستقرار هناك والالتحام مع شعوب لا تدين بدين الإسلام، وتخضع لقوانين وضعية تجافي المبادئ الإسلامية، مع وفرة المهاجرين من بلدان إسلامية إلى بلاد أوربا، كون مشكلة عويصة الحل اختلفت فيها الآراء وتطورت مع الزمن، حتى آلت إلى مكانة من الخطورة تستحق المراجعة السريعة والاحتكام إلى مبادئ الشريعة الإسلامية ورح الحضارات المنبثقة عنها.
فأبناؤنا المهاجرون للعمل في البلاد الأوروبية والآسيوية والأمريكية قد يجدون أرباحا مادية تغريهم بالإقامة هناك، والتزوج من الأجنبيات لاكتساب الجنسيات، ثم النزوح النهائي عن البلاد التي خرجوا منها، والبعد عن تعاليم دينهم وثوابت ومبادئ وقيم أوطانهم، والالتجاء عند التقاضي إلى الاحتكام إلى محاكم تقضي حتى في أحوالهم الشخصية، التي لها التصاق تام بدينهم وماضيهم، تقضي فيها بأحكام وقوانين وضعية تتعارض مع ذلكم الدين وذلكم الماضي وتتجافى مع المثل العليا التي وضعها لهم تشريعهم الإسلامي.
والعمل المضمون في بلاد الكفر وإن كان حلالا إلا أن البعض قد يندفع بإغراء المنافع والمصالح المادية إلى طلب التجنس بجنسية البلاد التي يقيم فيها، وهكذا تنقطع كل صلة له بوطنه وقومه وبلاده، ويصبح أبناؤه في انبتات وضياع حتى التلاشي التام، وتونس في نهضتها الحديث سعت إلى تلافي بعض تلكم المضار، فربطت الصلات وكونت الإذاعات المسموعة والمنظورة المشاهدة وكثفت من البعثات، وحرضت على تعلم العربية للبراعم الصغار، وجلبت الأنظار إلى الأوطان، وحببت الأبناء الصغار في أوطانهم ومدنهم وقراهم، وكونت رحلات تربط الحاضر بالماضي، وتشهد المجد التالد بهذه الحياة الجديدة المتقلبة الغربية في صورها وألوانها.
وقد ينفع هذا ويجنبنا الكارثة ويبعدنا عن الهاوية وهو عمل مشكور وجهد مبارك وسعي حميد يصد ويرد ويقي.(9/1918)
أما ما يهمنا هنا: فهو ما حكم احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة؟ ثم الخضوع إلى أحكام الأحوال الشخصية بالأخص والتحكم فيها؟ والنزاعات التي تحدث بين المتخاصمين وموضوع اكتساب الجنسية الأجنبية والرضوخ لقوانينها والالتزام بالعمل بها؟ واخترنا لإيضاح هذا الموضوع فتاوى صدرت عن علماء جلة من أكابر علماء المسلمين قديما وحديثًا. وفي عرض هذه الفتاوى بيان يمهد الطريق وينير السبيل.
وأولى هذه الفتاوى فتوى صدرت حوالي 1290 / 1873 عن قاضي تونس وعالمها المرحوم محمد الطاهر النيفر المتوفى 1311 / 1893 في شأن قبول شهادة المقيم ببلاد الكفر عن اختيار وطواعية أو عدم قبول شهادته (نشر هذه الفتوى حفيده من جهة الأم المرحوم الأستاذ الطيب العنابي بمجلة القضاء والتشريع) .
يقول فيها: (إن من احتمى حماية دينية حتى يخلص بذلك من أحكام قضاة المسلمين هو كافر لا تقبل شهادته ولو كان متزيئا ًبزي المسلمين) .
وقد علق على هذه الفتوى الصديق العالم الأستاذ أحمد حماني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر بقوله: إن الذين تخلوا عن جنسيتهم ورفضوا الشريعة الإسلامية قد ارتدوا عن الإسلام وقد أفتى بذلك علماء الجزائر سنة 1938.
هذا وقد أفتى شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع – رحمه الله – بكفر من ينبذ الأحكام الشرعية ويلتزم أحكام الكفار، وكان ذلك جوابا عن رسالة وجهها إليه ملك البلاد أحمد باشا الأول في جمادى الأولى سنة 1260 في شأن شهادة الشهود المقيمين بديار للكفر.
وهو يقول فيها: إذا كان حال الخروج عن ربقة الأحكام الشرعية ونبذها والتزام أحكام الكفار فذلك موجب للكفر.(9/1919)
والفتوى الثالثة: صدرت عن عالم من متأخري علماء تونس الشيخ محمد المختار بن محمود المفتي الحنفي – رحمه الله – وكان مدرسا بالكلية الزيتونية ويرأس تحرير المجلة الزيتونية العلمية وقد نشر بها دراسة قيمة تحت عنوان:
(حكم الله في المتجنس) بتاريخ 1356 / 1957 المجلد الأول ج 10 نقتطف منها بعض الفقرات:
… من المصائب التي ابتلي بها المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا فتنة التجنيس، لأنها ترجع إلى المساس بروح الدين الذي يضحي في سبيله المسلمون بكل عزيز ونفيس، وقد كان التجنيس مثار فتن كبرى واضطرابات متنوعة وسببا في تشتيت شمل بعض العائلات وإحداث الإحن والأحقاد بين الأخوة والأقارب.
يقوم شيخنا ابن محمود برد الله ثراه وجعل الجنة مأواه:
(وينبغي أن نضبط الموضوع بذكر صورة عقدة التجنيس لنبني عليها الأحكام) .
يكون الإنسان مسلما يعمل بالإسلام ويهتدي بهديه ويأتمر بما جاء به، فيتعلق غرضه بالانسلاخ عن الجنسية الإسلامية والعياذ بالله – لغرض أدبي سافل أو مادي زائل، فيعتنق جنسية دولة من الدول الأجنبية التي تدين بالمسيحية، ويصير كفرد من أفرادها، ويلتزم في عقدة التجنيس بالانسلاخ عن أحكام الشريعة الإسلامية، وعن العمل بمقتضاها، ويلتزم بالعمل بقوانين الدولة التي تجنس بجنسيتها، سواء في أحواله الشخصية أو في المعاملات أو في العقود والالتزامات، أو في جميع الجزئيات، فيكون بذلك قد نبذ الإسلام وانسلخ عنه، ودخل في الكفر راضيا مختارًا، ويترتب عن ذلك تغيير في أحواله من جميع النواحي، يطلق امرأته فيكون طلاقه غير نافذ، ويجبر على البقاء معها والإنفاق عليها، ويموت فتقسم تركته على غير الفريضة الشرعية ويصير مجبورا على التحاكم إلى غير قضاة الشرع.
وقبل أن يمضي على عقد التجنيس يكون عالما بجميع ذلك مطلعا عليه، فهذه هي عقدة التجنيس، ولا شك أن انتقال الإنسان من جنسيته الأصلية إلى جنسية أخرى هو اعتراف باحتقار جنسيته، وازدرائه بها، فهو كمن ينكر أباه لحقارته أو ينكر نسبه لوضاعته، أو بلاده لانحطاطها، والمتجنس يجني على وطنه بعمله الشنيع وانتحاله لجنسية أخرى.(9/1920)
ومن الناحية الشرعية فإن حكم الله في المتجنس (إنه مرتد يعامل معاملة المرتدين وتنطبق عليه جميع أحكامهم) .
وقد نقل الشيخ ابن محمود كلام الفقهاء في هذا الموضوع مستندا لما جاء في الخيرية والفتاوى الهندية وغيرها من كتب التفسير والحديث.
ودراسة الشيخ ابن محمود جديرة بالنشر والاهتمام لأنها تحقيق من رجل عالم فقيه كاتب نحرير.
هذا وقد كانت البلاد التونسية لها كلمة الفصل في هذا الموضوع منذ القديم فقد كان وزير المعارف بها المرحوم حسين استصدر فتوى في الموضوع من علماء تونس، في شأن تونسي يهودي سرق أموال الدولة التونسية وذهب لإيطاليا وتجنس بجنسيتها.
فأفتى شيخ الإسلام المنعم أحمد ابن الخوجة بعدم تجنسه، ووافقه على ذلك عدة علماء: منهم الشيخ مصطفى رضوان والشيخ الشاذلي ابن القاضي والشيخ محمود بيرم وهذه الفتوى مؤرخة في جمادى الأولى سنة 1294 الملاقي سنة 1877 وقد نشر هذه الفتوى بنصها المرحوم الجيلاني الفلاح سنة 1342 / 1924 في كتابه الشعب التونسي والتجنيس.
ثم إن تونس كانت استصدرت فتاوى من عدة علماء وفقهاء قصد إيضاح الموضوع.
فقد نشر من علماء الهند الشيخ عبد العزيز الحيدر أبادي فتوى نشرت بجريدة الخلافة في بمباي عدد 2 ج 3 يوم 11 جمادى الآخرة جانفي سنة 1342 / 1924 نصت على ردة المتجنس.
كما أفتى بذلك عدة علماء منهم الشيخ محمد أمين الحسيني مفتي بيت المقدس، والشيخ محمد شاكر وكيل شيخ الأزهر، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ علي محفوظ، والشيخ محمد عبد الباقي الزرقاني، والشيخ محمد رشيد رضا.
وهكذا تضافرت الفتاوى متحدة شارحة حكم الله في المتجنس الذي اختار عن طواعية جنسية الكفار وارتضى أحكامهم.
واليوم تصدر اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتواها في الموضوع بإمضاء العلماء الفقهاء المشائخ السادة: عبد الله قعود وعبد الرحمن عفيفي وعبد العزيز بن عبد الله بن باز جاء فيها:
(لا يجوز لمسلم أن يتجنس بجنسية بلاد حكومتها كافرة لأن ذلك وسيلة إلى موالاتهم والموافقة على ما هم عليه. وقد أجمع المسلمون على وجوب الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام مع الاستطاعة) .
(الفتوى رقم 2393 صفحة 69) .(9/1921)
وبمثل ذلك صدرت الفتوى رقم 6582 بإمضاء السادة العلماء المشائخ عبد الله قعود وعبد الله بن غذيان وعبد الرزاق عفيفي وعبد العزيز بن عبد الله بن باز ونشرت بصفحة 72 من المصدر. تقول هذه الفتوى:
انتقال المسلم من جنسية دولته المسلمة إلى جنسية دولة أخرى كافرة لا يجوز.
وبمثل ذلك جاءت فتوى رقم 8073 صفحة 73 من نفس المصدر: يجري ذلك على المسلم المتجنس بالجنسية الكافرة لكن مع جواز العمل في الدولة الكافرة إذا أمن على نفسه من الفتنة في دينه. نفس المصدر صفحة 75.
وقد كتب بعضهم يتلمس طرق الجواز ويسوغ انتحال الجنسيات بدافع المنافع والعمل والقضاء على البطالة واستفادة البلاد من هذا الصنيع المادي.
والمشكلة لازالت مطروحة على بساط الحل خاصة وأن المجمع الفقهي المتفرع عن رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة صانها الله كان أصدر توصية رقم 7 سنة 1403 / 1983 لم ينته فيها إلى رأي بات إذ قال في هذه التوصية:
إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة المنعقدة بمقر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قد اطلع في جلسته السابعة صباح يوم الأحد 16 من ربيع الآخر سنة 1403 المصادف 23 جانفي سنة 1983 على البحوث والتقارير المقدمة إليه من بعض أعضائه وسواهم بشأن الحكم الشرعي فيمن يتجنس بجنسية دولة أجنبية غير إسلامية أو يقيم فيها بأسرته ويعيش هناك في ظل نظام غير إسلامي.
وتدارس المجلس هذا الأمر فوجدت فيه ملابسات كثيرة مختلفة وظروف متفاوتة جدا بين الأفراد والجماعات الإسلامية التي تؤلف أقلية في بلد أجنبي هو بلدهم الأصلي أو هم طارئون عليه لأسباب معاشية أو للقيام بالدعوة الإسلامية أو لتلبية حاجات تلك الأقليات في الإفتاء وتعلم الدين الإسلامي واللغة العربية أو لأسباب أخرى.
وتدارس أيضا ما ينتج عن التجنس من التزامات بقوانين تلك الدول غير الإسلامية في سائر ما تفرضه تلك القوانين على مواطنيها ورعاياها.
وقد رأى المجلس أن الموضوع تحف به الاعتبارات المختلفة من سلبية وإيجابية ومصالح ومفاسد وضرورات وعدمها مما يجعل من غير الممكن إصدار رأي عام وإنما يجب فيه رعاية وضع كل فئة وواقعة وظروفها بحسبها.(9/1922)
لذلك رأى المجلس أن يترك ذلك للفتوى بحسب ظروف الجهة المستفتية في الجواز الشرعي والله ولي التوفيق وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الإمضاء: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس المجمع ومحمد أحمد قمر مقرره – 1هـ.
فهل يمكن اعتبار هذا القرار حاسما أم أنه إجراء للنظر إلى فرصة أخرى وهل حلت المشكلة إذا على مستوى الفتوى أم بقيت على حالها؟
والمجمع الفقهي الإسلامي كان ناقش هذا الموضوع نقاشا عميقا صريحا واضحا شارك فيه أفذاذ من علماء الإسلام وذلك في دورته المنعقدة بعمان عاصمة المملكة العربية الأردنية الهاشمية من 8 صفر إلى 13 من سنة 1407 الملاقي 11 – 16 أكتوبر سنة 1986.
وقد كلف المجمع ثلة من أعضائه ومستشاريه بدرس الموضوع والإجابة عنه فأدى هؤلاء الأمانة وقدموا تقاريرهم ودراساتهم واتحدت كلمتهم على نبذ كل متجنس أراد نبذ أحكام دينه والتجأ إلى أحكام البلاد الكافرة التي لبس جنسيتها.
وانتهى بعضهم إلى أن التجنيس بجنسية دولة غير إسلامية معصية لا تبلغ درجة الكفر إذا كان إقدام المتجنس على ذلك الفعل لتسوية أوضاعه المادية مع اقتناعه وإيمانه بأن الإسلام هو الدين الوحيد، وأنه يغضب لله من كل من يحاول النيل من الإسلام أو التطاول عليه، أما إذا كان أمر الدين عنده لا يوازي مصالحه، وأنه متهاون به لا يشعر برابطة بينه وبين دينه إلا برابطة تاريخية ضعيفة فلا شك حينئذ في ردته.
والمطالع للمناقشات بين أعضاء المجمع في جلساته يستنتج مدى الأهمية التي تخضع لها الحلول المعروضة لحل هذه المشكلة ومدى أهمية الدراسات المقدمة في الموضوع.
لكن المجمع أرجأ اتخاذ القرار في الموضوع إلى دورة أخرى لاحقة ولم يقع البت بصفة نهائية.
(انظروا مجلة المجمع الفقهي الإسلامي – الدورة الثالثة الجزء الثاني سنة 1408 ففيها بسطة مفيدة جدا) .
التحكيم في الفقه الإسلامي
سوف نحاول هنا بإيجاز واقتضاب إعطاء صورة عن التحكيم الفقهي الإسلامي في كلياته ومحاوره الكبرى، ضاربين صفحا عن الجزئيات والشرح لأن ذلك له مراجع ومصادر يمكن الرجوع إليها، وقد أشرنا إلى بعضها لمن يريد التبسط والضبط والتدقيق. ونرغب هنا في بيان الأسس الموضوعة لهذا التحكيم حتى يتمكن الدارس من إجراء المقارنة بين هذا الأساس القويم وبين ما قنن وصنع بعد ذلك في العصور الحديثة مما وضعه الإنسان ونشير إليه في فصل آخر من هذه الدراسة.
يقول الإمام مالك رضي الله عنه: (إذا حكم رجل رجلا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه إلا أن يكون جورا) .
ويقول سحنون: يمضيه إذا رآه صوابا وهو يشير بذلك إلى التنفيذ كيف يكون؟ وهل القاضي مجبر على تنفيذ ما صدر به حكم المحكم دون مراجعة منه أو نظر؟. ويقول ابن فرحون المالكي:
إذا حكم الخصمان بينهما رجلا وارتضياه لأن يقضي ويحكم بينهما فذلك جائز في الأموال وما في معناها (التبصرة لابن فرحون)
ويقول الونشريسي المالكي في المعيار: من لم يكن مقدما من إمام للقضاء فلا يحق له الحكم في شيء إلا ما تراضى عليه الخصمان بين يديه، وحكماه فيه، ولم يرجعا قبل نفاذ حكمه على خلاف هذا.
وجاء في كتاب التفريع لأبي القاسم عبيد الله بن الجلاب البصري المالكي المتوفى سنة 278 هـ في تحكيم غير القاضي:
(إذا حكم الرجلان رجلا فحكم بينهما فرضى أحدهما بحكمه وسخط الآخر لزمه حكمه – إذا كان من أهل العلم – وحكم بما يجوز بين المسلمين سواء وافق قاضي البلد أو خالفه ما لم يخرج بحكمه عن إجماع أهل العلم) .(9/1923)
ويقول الماوردي الشافعي في كتابه: أدب القاضي:
إذا حكم خصمان رجلا من الرعية ليقضي بينهما فيما تنازعاه في بلد به قاض أو ليس فيه قاض جاز.
وفي المغني لابن قدامة: إذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء جاز ذلك ونفذ حكمه ولا ينقض.
ويقول ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد (1) : واختلفوا في نفوذ حكم من رضيه المدعيان ممن ليس بوال على الأحكام فقال مالك يجوز، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يجوز، وقال أبو حنيفة: يجوز إذا وافق حكمه حكم قاضي البلد
ونقل في العناية على الهداية إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز التحكيم (2) .
فالتحكيم حينئذ جائز شرعا متفق على شرعيته وجوازه. والأصل في ذلك القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35] .
يقول القرطبي في تفسيره (3) : وآية {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} دليل على إثبات التحكيم وليس كما جاء على لسان الخوارج أن ليس التحكيم لأحد سوى الله سبحانه وتعالى لأن هذه كلمة حق يريدون بها الباطل.
ويقول الكاساني في البدائع (4) : إن التحكيم جائز ومشروع لقوله سبحانه وتعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} – الآية فكأن الحكم من الحكمين بمنزلة القاضي المقلد.
موضوع التحكيم:
التحكيم يكون في حقوق يملك التصرف فيها الخصمان المتنازعان حقوق ترجع لهما، ولهما حق التصرف والتفويت فيها.
يقول القرطبي في تفسيره (5) : الضابط في موضوع التحكيم أن كل حق اختص به الخصمان يجوز التحكيم فيه.
ويقول ابن فرحون (6) : التحكيم جائز في الأموال وما في معناها والمحكم لا يقيم حدًا ولا لعانًا ولا يحكم في قصاص أو قذف أو طلاق أو نسب.
الونشريسي في المعيار يضيف أنه لا يجوز له النظر في الوصايا والأحباس والمواريث.
__________
(1) بداية المجتهد جـ 2 ص 382
(2) العناية هامش فتح القدير جـ 5 ص 498
(3) جـ 5 ص 179
(4) جـ 7 ص 3
(5) تفسير القرطبي: جـ 6 / 180
(6) التبصرة: 1 / 43(9/1924)
والماوردي يقول في كتابه أدب القاضي (1) : التحكيم يكون في أحكام مخصوصة فهو جائز في الأموال والمعاوضات وما يصح فيه العفو والإبراء.
ولا يجوز فيما اختص به القضاة من حقوق الله تعالى والولايات على الأيتام وإيقاع الحجر على مستحقيه واختلف في النكاح واللعان والقذف والقصاص.
وقال القاضي ابن عبد الرفيع في كتابه معين الحكام (2) : (ولا يجبر على الأيتام إلا القاضي وكذلك على كل سفيه مستوجب الولاية. وهذه إحدى المسائل الأربع التي لا يحكم فيها إلا القضاء والثانية الغائب والثالثة إقامة الحدود والرابعة القسم بين الصغار والكبار) .
وجاء في الشرح الصغير للدردير بحاشية الصاوي: إن التحكيم جائز في الأموال والجراح وكل حقوق العباد لا يجوز في الحدود كجلد أو رجم ولا قتل في ردة أو حرابة أو قصاص أو لعان أو نسب أو طلاق أو فسخ نكاح، لأن هذه الأمور إنما يحكم فيها القضاة فلا يجوز التحكيم فيها لتعلق حق الغير فيها بغير الخصمين إما لله تعالى كالحدود والطلاق وإما لآدمي كاللعان الذي يقطع نسب الابن (3) .
وقد جاء في حاشية رد المحتار لابن عابدين: (التحكيم في مالك لغيرك وتولية الخصمين حاكمًا يحكم بينهما) (4) .
وقالت مجلة الأحكام العدلية: إن التحكيم عبارة عن اتخاذ الخصمين واحدًا أهلًا للحكم حاكمًا برضاهما لفصل خصوماتهما ودعواهما – المادة 1790.
وجاء في شرح المجلة على هذه المادة لعلي حيدر: (إن ركن التحكيم هو إيجاب المتخاصمين بقولهما للمحكم: احكم بيننا وإننا نصبناك حكمًا ثم قبول المحكم ذلك) (5) .
أما الموضوع فقد نصت المادة 1841 من مجلة الأحكام العدلية على أنه يجوز التحكيم في دعاوى المال المتعلقة بحقوق الناس.
والخلاصة أن التحكيم يمكن أن يكون في الحقوق المدنية المالية وما إليها وكذلك في الحقوق الشخصية في اختلاف الوجهين حسبما يأتي شرحه. أما ما هو راجع للحق العام فلا.
__________
(1) أدب القاضي: 2 / 380
(2) معين الحكام: 2 / 610
(3) حاشية الصاوي: 4 / 198
(4) حاشية رد المحتار: 5 / 428
(5) جـ 4 ص 640(9/1925)
رضا الخصوم والرجوع في التحكيم:
المحكمون لا صفة رسمية لهم فهم أشخاص اختارهم الخصوم لفصل نزاعاتهم في أمور معينة محددة يمكن تجاوزها، ولذا فإنه لا يمكن تصور وجود تحكيم دون موافقة ورضا الخصوم من البداية ودون الاتفاق على المحكم والعمل بما يقضي به.
ومن هنا فإن الخصوم تشترط فيهم أهلية الرضا بشروطها وحدودها المعروفة ذلك لأن التحكيم قد يكون فيه تفريط في حقوق أو تنازل عنها وضياع وهدر لها.
يقول ابن فرحون المالكي في كتاب التبصرة: ولا يتشرط دوام الرضا إلى حين نفوذ الحكم، ويرى أصبغ وسحنون أنه إذا ترافع عنده فليس لهما الرجوع ويرى ابن الماجشون أنه ليس لأحدهما العدول عن التحكيم قبل أن يقاعد صاحبه ويطارحه الخصومة (1) .
وجاء في المغني لابن قدامة – معجم الفقه الحنبلي: (إذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما ولا يجوز نقض حكمه لكن لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان) (2) .
من هو المحكم:
يشترط فيه أن يكون ثقة، اشتهر بالنزاهة لم يعرف عنه سوء، عالمًا أو مسترشدًا يطلب المعرفة ويستعين بمشاورة أهل العلم، فطنًا عارفًا بعرف وعادات الناس وأقضيتهم ومعاملاتهم وشؤون حياتهم.
وإذا عين له الخصمان مذهبًا فإنه يتقيد به حسب الأرجح من الأقوال لأن اتفاق الخصمين من شأنه أن يحدد له خطى سيره.
ويلاحظ الإمام المازري في هذا الشأن:
إذا كان المحكم من أهل الاجتهاد مالكيًا ولم يخرج باجتهاده عن مذهب مالك لزم حكمه، وإن خرج عن ذلك لم يلزم إذا كان الخصام بين مالكيين، لأنهما لم يحكماه على أن يخرج عن قول مالك وأصحابه، وكذلك إن كانا شافعيين أو حنفيين وحكماه على مثل ذلك لم يلزم حكمه إن حكم بينهما بغير ذلك.
والمالكية والشافعية والحنابلة يشترطون العدالة، خلافًا للحنفية الذين يسوغون قضاء الفاسق عند الحاجة لذلك.
جاء في الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني: (يشترط في المحكم أن يكون أهلًا للقضاء أي أهلًا لتحمل الشهادة) (3) .
واشترط الشيخ الدردير في الشرح الصغير بحاشية الصاوي أن يكون غير خصم وعالمًا بموضوع الخلاف (4) .
التحكيم بين الزوجين
إذا ظهر الشقاق بين الزوجين دون معرفة المتسبب في ذلك أو إذا خيف الشقاق بينهما قبل حدوثه وقبل وقوعه بتشكك أحد الزوجين فالقرآن الكريم يرشد إلى علاج ذلك في آية صريحة واضحة يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35] .
والشقاق هو المنازعة والمجادلة والمخالفة، أصله من الشق وهو الجانب فكان كل واحد من شق غير شق صاحبه.
قال الشاعر:
وإلا فاعملوا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
وقيل إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه.
قال الله سبحانه وتعالى:
{فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] .
والمخاطب بقوله سبحانه: فإن خفتم هو القاضي الذي رفع إليه النزاع حسب المشهور الراجح.
من هما الحكمان وما هي شروطهما؟
يشترط في الحكمين هنا أن يكونا من أهل الزوجين إلا إذا تعذر ذلك فيقع الالتجاء إلى بعث الأجانب عنهما.
والله سبحانه يشير إلى بعث حكمين من الأهل لأنهم أعرف الناس ببواطن الأمور، والنفوس ترتاح لمن كان قريبًا صديقًا فيقع البوح له من الزوج أو الزوجة بالسر وحقيقة ما يشكو منه، ويفضي إليه بما قدم يخفيه عن غيره من الناس، وعلى كل فالقاضي يحاول الكشف عن أسباب الخلاف والشقاق، ويسعى لإزالتها وقطع دابر الخلاف لإرجاع العلاقة الحسنة إلى سالف عهدها، وعودة الصفاء والود إلى عمدتي الأسرة، فهو لذلك يختار من يرسله ويرى فيه صلاحية القيامة بالمهمة.
يقول القرطبي: الحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة إذ هما أقعد بأحوال الزوجين، بشرط كونهما من أهل العدالة وحسن النظر والتبصر بالفقه فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل غيرهما من أهل الثقة والعدل، كل ذلك إذا أشكل الأمر، فإن علم القاضي من الظالم من الزوجين فإنه يأخذ منه الحق ويجبره على إزالة الضرر) (5) .
__________
(1) التبصرة: 1 /43
(2) المغني: 2 / 810.
(3) جـ 3 ص 108
(4) انظر الشرح الصغير: 4 / 198
(5) الجامع لأحكام القرآن الكريم: 5 / 174.(9/1926)
ويقول شيخ الإسلام المرحوم محمد الصالح ابن المراد: الحكمان اللذان أمر الله بإرسالهما لإصلاح ذات البين بين الزوجين، هما اللذان تتوفر فيهما شروط الكفاءة من الصلاح والإقناع والعدل والمعرفة، مع كونهما حسني السياسة والنظر في حصول المصلحة ليهتديا إلى المقصود من البعث ويرجى نجاحهما.
وكون الحكمين من الأقارب ليس شرطًا لزوميًا في نظر الشارع كما هو مقتضى إطلاق الآية، إذ قد تفوت الكفاءة ولا تتوفر الشروط اللازمة فيهما، فيفوت المعنى المقصود من إرسالهما ولا يقدران على إنهاء القضية وإزالة الخلاف، فلم يجعل سبحانه القرابة شرطًا، نعم إن إرسالهما مع كونهما قريبين متوافرة فيهما الشروط أمر مستحب شرعًا، لأنهما أعرف ببواطن أحوال الزوجين، وإليهما تسكن نفوسهما فيبرزان لهما ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة وموجبات كل من الأمرين. انتهى (1) .
وقد اقتبس التقنين هذا المبادي وأدرجها في بنود أحكامه، فقانون الأحوال الشخصية المصري رقم 44 لسنة 1979 جاء في مادته السابعة: يشترط في الحكمين أن يكونا عدلين من أهل الزوجين إن أمكن وإلا فمن غيرهم ممن لهم خبرة وقدرة على الإصلاح.
وبينت بقية المواد طرق عمل الحكمين وما يقدمانه من تقارير للمحكمة.
وجاءت المادة الخامسة عشرة من القانون السوداني الصادر سنة 1915 قائلة: إذا تشاق الزوجان وتعددت شكوى الزوجة من ضرر الزوج إياها بدون حق شرعي، ولم تستطع إثبات ذلك، بعث القاضي حكمين واحدًا من أهله وواحدًا من أهلها إن أمكن، والأفضل أن يكونا جارين فإن لم يكن ذلك بعث أجنبيين، ويشترط أن يكون الحكمان عدلين عالمين بأحكام النشوز فإن لم يكونا عالمين علمهما القاضي ذلك.
أما مجلة الأحوال الشخصية التونسية فقد جاء الفصل الخامس والعشرون منها قائلًا: (إذا اشتكى أحد الزوجين من الإضرار به ولا بينة له، وأشكل على الحاكم تعيين الضرر بصاحبه، يعين حكمين، وعلى الحكمين أن ينظرا فإن قدرا على الإصلاح أصلحا ويرفعان الأمر إلى الحاكم في كل الأحوال.
__________
(1) الشيخ ابن مراد: كتاب الحداد: 71(9/1927)
وجاء الفصل السادس والخمسون من مدوّنة الأحوال الشخصية المغربية قائلًا:
(إذا ادعت الزوجة على زوجها إضراره بها بأي نوع من أنواع الضرر الذي لا يستطاع معه دوام العشرة بين أمثالها وثبت ما ادعته وعجز القاضي عن الإصلاح بينهما طلقها عليه.
وإذا رفض طلب التطليق وتكررت الشكوى ولم يثبت الضرر بعث القاضي حكمين للسداد بينهما، وعلى الحكمين أن يتفهما أسباب الشقاق بين الزوجين ويبذلا جهدهما في الإصلاح، فإن أمكن على طريقة معينة قرراها، وإذا عجزا عن الإصلاح رفعًا الأمر إلى القاضي لينظر في القضية على ضوء تقريرهما) .
ونصت المادة 56 من قانون الأسرة الجزائري على ما يلي:
(إذا اشتد الخصام بين الزوجين ولم يثبت الضرر، وجب تعيين حكمين للتوفيق بينهما، ويعين القاضي حكمًا من أهل الزوج وحكمًا من أهل الزوجة، وعلى هذين الحكمين أن يقدما تقريرًا عن مهمتهما في أجل شهرين) .
وجاءت لائحة القانون العربي الموحدة للأحوال الشخصية الصادرة عن وزراء العدل العرب ناصة: (لكل من الزوجين طلب التطليق للضرر الذي يتعذر معهد دوام العشرة بينهما.)
وإذا لم يثبت الضرر واستمر الشقاق بين الزوجين وتعذر الإصلاح، يعين القاضي حكمين من أهلهما إن أمكن. وإلا فممن يوسم فيه القدرة على الإصلاح ويحلفهما على أن يقوما بمهمتهما بعدل وأمانة ويحدد لهما مدة التحكيم.
ومما سبق بسطه نشاهد أن مبدأ التحكيم بين الزوجين قد أسسه القرآن الكريم وعبد به الطريق لإصلاح ذات البين بين الزوجين وسن بذلك فكرة التحكيم في عموم مفهومها ومع اتساع دائرتها.
التحكيم في الحج
اعتماد التحكيم في أمور العبادات من أول الأنظمة الشرعية الحكيمة التي أرشد القرآن ودل على اعتمادها عند مخالفة المحرم بالحج أو العمرة بالإقدام على قتل الصيد مع أنه منهي عنه.
وقد سن الله سبحانه وتعالى كفارة لذلك تمحي الذنوب، وترد الفاعل إلى طريق الحق والصواب وترشده إلى الخير وتفتح في وجهه أبواب رحمة الله وعفوه.(9/1928)
وهذا الضرب من التحكيم له قواعده وشروطه وحاجياته وسوف نشرحها باختصار في الأسطر التالية:
جاء في تحريم الصيد على من كان محرمًا بالحج أو بالعمرة بقول الله سبحانه وتعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] .
وقوله حرم بضمتين جمع حرام أي المحرم بالحج أو بالعمرة، وإن كان في الحل واحتيج لمعرفة جزاء وعقاب من يعمد إلى قتل الصيد وهو محرم وكيف يحصل الجزاء وبماذا يحصل ومن يحكم به؟
وافترع الإسلام الحكيم في هذا الموضوع الذي يخص عبادة هي من أركان الإسلام وهي الحج والإحرام له أو لقربة وعبادة العمرة والإحرام لها.
قال الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة الآية 95: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95] .
قال المفسرون: لأن المحرم جاء راجيًا متذللًا عابدًا والقتل يتنافى مع ذلك وقد استثنى من ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب (وفي رواية الحية) والفأرة والكلب العقور)) .
وقد أوكل أمر تقدير – المثل – في هذه المخالفة إلى رأي مجتهدين عدلين لهما فطنة ونباهة.
وقد انتدب لهذه المهمة في مناسبات حدثت خيرة من الصحابة كابن عباس وعمر وعلي وأبي عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم وعينوا المثل من النعم حسب المخالفة وأهميتها.(9/1929)
جاء في الأثر: اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن قبيصة بن جابر قال: حججنا زمن عمر فرأينا ظبيًا فقال أحدنا أتراني أبلغه فرمى حجرا فما أخطأ حشاه فقتله، فأتينا عمر بن الخطاب فسألنا عن ذلك وإذا إلى جنبه رجل (هو عبد الرحمن بن عوف) فالتفت إليه فكلمة، ثم أقبل على صاحبي فقال: أعمدًا قتلته أو خطأ؟ قال الرجل: تعمدت رميه وما أردت قتله، قال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واسق إهابها – يعني ادفعه إلى مسكين يجعله سقاء، فقمنا من عنده فقلت لصحابي: أيها الرجل أعظم شعائر الله، والله ما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى شاور صاحبه اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذلك.
قال قبيصة: وما أذكر الآية في سورة المائدة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] .
قال: فبلغ عمر مقالتي فلم يفاجئنا إلا ومعه الدرة: فعلا صاحبي ضربًا بها وهو يقول:
أقتلت الصيد في الحرم وسفهت الفتيا؟
ثم أقبل علي يضربني قلت:
يا أمير المؤمنين، لا أحل لك مني شيئًا مما حرم الله عليك، قال: يا قبيصة إني أراك شابًا حديث السن فصيح اللسان فسيح الصدر، وإنه قد يكون في الرجل تسعة أخلاق صالحة، وخلق سيء، فيغلب خلقه السيء أخلاقه الصالحة، وإياك وعثرات الشباب (1) .
ونقل السيوطي تفسيرًا لذلك قال:
عن ابن جرير عن بكر بن عبد الله المزني قال:
كان رجلان من الأعراب محرمين فأجاش أحدهما ظبيًا فقتله الآخر فأتيا عمر وعنده عبد الرحمن بن عوف فقال له عمر: ما ترى؟
قال: شاة. قال عمر وأنا أرى كذلك. أذهبا فأهديا شاة، فلما مضيا قال أحدهما لصاحبه: ما دري أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه، فسمعهما عمر فردهما وأقبل على القائل بالدرة ضربًا وقال: تقتل الصيد وأنت محرم وتغمض الفتيا، إن الله يقول {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ثم قال: إن الله لم يرض بعمر وحده فاستعنت بصاحبي هذا.
__________
(1) الدر المنثور للسيوطي: 2 / 329.(9/1930)
ونقل القرطبي في تفسيره:
روى مالك عن عبد الملك بن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين لنستبق إلى ثغرة ثنية (1) . فأصبنا ظبيًا ونحن محرمان فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل كان جالسًا إلى جنبه: تعال نحكم أنا وأنت. فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلًا يحكم معه، فسمع عمر قول الرجل فدعاه وسأله هل تقرأ سورة المائدة؟
فقال: لا، قال هل تعرف الرجل الذي حكم معي؟ فقال لا، فقال عمر رضي الله عنه لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربًا ثم قال: إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ,وهذا الذي معي هو عبد الرحمن بن عوف، ومن هنا نستروح أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه طبق أحكام القرآن في هذا التحكيم، فانتخب الحكمين وتشاورا وحكما وهو بذلك يكون فقهًا قضائيًا يشرح وينير الطريق أمام المجتهدين.
ومثل هذا الأثر تقريبًا ما جاء في تفسير ابن جرير:
وقد أطنب المفسرون في بيان جزاء هذه المخالفة والحاجة فيها إلى حكم الحكمين لأن المماثلة بين النعم من إبل وبقر وغنم وبين الصيد الوحشي وله عدة أنواع أمر قد يخفى على أكثر الناس (2) .
قال ابن جرير: ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول أن ينظرًا إلى المقتول وإن كان قد فقداه يستوصفاه فإن ذكر أنه أصاب ظبيًا صغيرًا حكمًا عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله سنًا وجسمًا وإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرًا حكما عليه من الضأن بكبير.
أما إذا أصاب حمار وحش فالحكم عليه يكون ببقرة، وإن كان المقتول ذكرًا فمثله من ذكر البقر، ,إن كان أنثى فمثله من إناث البقر.
وقال ابن حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن نعيم الفضل بن دكين حدثنا جعفر بن نرقان عن ميمون بن مهران أن أعرابيًا أتى أبا بكر فقال: قتلت صيدًا وأنا محرم فما ترى علي من الجزاء؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيما قال الأعرابي؟
فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك وأنت تسأل غيرك!
فقال أبو بكر: وما تنكر من ذلك والله سبحانه يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] فشاورت صاحبي إذا اتفقنا على أمر أمرناك به.
فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه جاهلًا بهذا الأمر ناسيًا ما انزل في شأنه في حكم القرآن.
وفي هذه القصة، وفي قضاء عمر رضي الله عنه بيان لهذا التحكيم الذي لم يكن معروفًا سابقًا، وبيان لكيفية تطبيق إجراءاته، وهو إنشاء وسن تطبيقي لأمر صار الآن محط الأنظار في مختلف الأقطار والأمصار بعد أن تطور واتسعت رقعته وشمل عدة ميادين.
__________
(1) الثنية: كل عقبة مسلوكة في الجيل
(2) تفسير ابن جرير: 7 / 29.(9/1931)
- منظمات التحكيم -
محكمة العدل الدولية بلاهاي
حسب ميثاق الأمم المتحدة المؤرخ في 26 جوان سنة 1945 حددت مهمة محكمة العدل في الفصل الأول من نظامها ونص هذا الفصل: محكمة العدل الدولية تأسست بموجب وثيقة هيئة الأمم المتحدة كأداة قضائية أساسية لهذه الهيئة تتكون وتعمل بموجب هذا النظام، ومحكمة العدل هي الأداء القضائية الرئيسية للأمم المتحدة حلت محل محكمة العدل الدولية الدائمة التي أنشئت عقب الحرب العالمية الأولى، وتباشر محكمة العدل الدولية وظائفها وفقًا لأحكام نظامها الأساسي وهو جزء من ميثاق الأمم المتحدة، وجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أطراف في القانون الأساسي للمحكمة، ويجوز لدولة ليست عضوًا في الأمم المتحدة الانضمام للنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية بشروط تحددها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتتألف المحكمة من خمسة عشر قاضيًا، ينتخبون بغض النظر عن جنسيتهم، من الأشخاص ذوي الصفات الخلقية العالية والحائزين في بلادهم لأرفع المناصب القضائية أو من المشهود لهم بالكفاءة في القانون الدولي، ولا يجوز أن يكون بالمحكمة أكثر من قاض واحد من دولة واحدة، وقضاة محكمة العدل الدولية تنتخبهم الجمعية العامة ومجلس الأمن من الأشخاص الذين رشحتهم الشعب الأهلية في لجنة التحكيم الدائمة، ويراعى في انتخاب قضاة محكمة العدل الدلوية تمثيل الدول الكبرى والنظم القانونية الرئيسية في العالم، وينتخب القضاة لمدة تسع سنوات، ويجوز إعادة انتخابهم: وللدول وحدها الحق في أن تكون أطرافًا في النزاعات التي ترفع للمحكمة، ويشمل نظر المحكمة جميع القضايا التي يعرضها الأطراف عليها، وكذلك جميع المسائل المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، أو في المعاهدات والاتفاقات المعمول بها، والدول ليست ملزمة بعرض قضاياها على المحكمة لأن ولاية محكمة العدل الدولية ولاية اختيارية أصلًا، غير أن للدول الأطراف في نظام المحكمة أن تصرح بأنها تقر الولاية الإجبارية للمحكمة على النظر في جميع المنازعات القانونية التي تقوم بينها وبين دولة تقبل نفس الالتزام، وذلك وفقًا للشروط الواردة في هذا الإقرار، وتفصل المحكمة في المنازعات التي ترفع إليها وفقًا لأحكام القانون الدولي ويجوز لها أن تفصل في القضية وفقًا لمبادئ العدل والإنصاف متى وافق الأطراف، وللمحكمة وظيفة أخرى هي الإفتاء في أية مسألة قانونية، بناء على طلب الجمعية العامة أو مجلس الأمن، ويجوز للفروع الأخرى للأمم المتحدة وللدول إذا أذنت لها الجمعية العامة في ذلك أن تطلب من المحكمة إفتاءها فيما يعرض لها من المسائل القانونية الداخلة في نطاق أعمالها.(9/1932)
محكمة العدل الإسلامية الدولية
في جانفي سنة 1981 انعقدت بالمملكة العربية السعودية القمة الإسلامية الثالثة، وفيها تقدمت دولة الكويت باقتراح يقضي بإنشاء محكمة عدل دولية إسلامية مهمتها فصل وتسوية ما ينشب من نزاع وخلاف بين منخرطيها من الدول الإسلامية.
وتشكل لجنة أنهت وضع مشروع لذلك قدمته سنة 1986 تبنى وصاية القمة ووضع الخطط الأساسية لنظام هذه المحكمة.
والأستاذ عبد الله الأشعل المستشار القانوني لمنظمة المؤتمر الإسلامي يتفضل فيحدثنا عن مكونات هذه اللائحة ومحاورها ومشمولاتها فيقول مشكورًا:
أ- إن ما يصدر من قرارات عن هذه المحكمة أساسه الشريعة الإسلامية.
ب- تشكل المحكمة من سبعة قضاة مسلمين ينتمون إلى الدول الأعضاء في المنظمة لهم خبرة فقهية وقانونية يقع انتخابهم من طرف مؤتمر وزراء الخارجية لمدة اربع سنوات ولا يقال القضاة إلا برغبة منهم.
ج- المحكمة لها اختصاص قضائي وآخر إفتائي، ولها اختصاص يمكن أن يطلق عليه الاختصاص الدبلوماسي والتحكيمي.
فالمحكمة تقوم بمساعي الوساطة والتوفيق.
والتحكيم يكون إما بطلب مباشر من الأطراف المتنازعة أو بقرار من المؤتمر الإسلامي غير مفروض بل صادر عن تراضي كل الأطراف.
وإذا أبت تنفيذ ما صدر عن المحكمة فالدولة الأخرى تفزع إما إلى مؤتمر وزراء الخارجية للدول الإسلامية أو إلى مؤتمر القمة نفسه.
د- تستخدم المحكمة اللغات الرسمية الثلاث في منظمة المؤتمر الإسلامي وهي العربية والإنجليزية والفرنسية. وعند الاختلاف يقع الاعتماد على النص العربي.(9/1933)
منظمة التحكيم الدولية التابعة لغرفة التجارة الدولية
غرفة التجارة الدولية هي: (منظمة دولية لرجال الأعمال)
أنشئت سنة 1919 تهدف إلى تأمين عمل ناجع ومتواصل في الميادين الاقتصادية والقانونية من أجل الإسهام في الإنماء المتناسق للمبادلات الدولية وحريتها ومن أجل تقديم الخدمات العملية والمتخصصة لعالم الأعمال الدولي.
هذه المنظمة أوجدت بعد سنة واحدة من إنشائها مركزًا للتحكيم من أجل حل المنازعات التجارية، وهذا المركز له نظام مستقل عن تلكم المنظمة الأم، ومقر الجميع الآن بباريس، وتصدر هيئة التحكيم الدولية التابعة لغرفة التجارة الدولية نشرة مرتين في السنة وعن النشرة الصادرة في مايو سنة 1992 نقلنا بعض المعلومات عن هذه المؤسسة ويمكن الرجوع إلى نشراتها لمزيد التعمق في معرفة أعمالها وتصرف حكامها.
مركز دولي للتحكيم بتونس
تطمح تونس إلى بعث مركز دولي للتحكيم بها، وقد بدأت هذه الفكرة تتبلور أثر صدور مجلة التحكيم التونسية في 26 أبريل سنة 1993 وسوف نتحدث عنها فيما بعد.
تقول جريدة الصباح الغراء عن هذا الموضوع:
منذ فترة قصيرة طرحت فكرة بعث مركز دولي للتحكيم بتونس والواقع أن هناك نخبة كبيرة من رجال القانون التونسيين وحتى الأجانب إلى جانب عدد هام من رجال المال والأعمال قد تحمسوا لهذا المشروع واعتبروا أن إقامة هذا الفضاء القانوني الجديد قد حان وقته في ظل المنافسة الدولية، وكل عوامل نجاحه متوفرة، فموقع بلادنا التونسية الجغرافي والاستقرار السياسي الذي تتمتع به إلى جانب وجود الضمانات العديدة للاستثمار التجاري بكل أنواعه يدعم جدوى بعث مركز دولي للتحكيم في تونس.
والتحكيم يشكل إطارًا استثماريًا متميزًا اقتصاديًا، وتونس أقدمت على خوض تجربة التحرر الاقتصادي، ووفرت من أجل ذلك ضمانات في مقدمتها جملة الاستثمارات الموحدة ومحكمة التحكيم، وتدفق الاستثمارات وازدهار المعاملات لا يخلو من عوامل تستوجب الفزع إلى طريقة حضارية هي التحكيم.(9/1934)
وقد وقع ملتقى دولي بتونس نظمه مركز الدراسات القانونية والقضائية بوزارة العدل خلال يومي 26 – 27 نوفمبر سنة 1993 حضرته وجوه عالمية في مجال التحكيم تتمتع بخبرة واسعة في هذا الميدان، أمثال الدكتور نبيل انتاكي المقيم بكندا والمشرف على مركز التحكيم الدولي هناك، وهو سوري الأصل، والدكتور محمد نادر جابر من المملكة العربية السعودية، متخصص في ميدان التحكيم ويشرف على مراكزه في جده والقاهرة ولندن، وكذلك الدكتور حسين عبد الغفار من الإمارات العربية المتحدة وهو محكم دولي له نشاطات في أوروبا وأمريكا.
وحضر هذا الملتقى من تونس الدكتور الأستاذ نور الدين الغزواني الأستاذ الجامعي والمحامي رئيس جمعية الإجراءات القضائية والتحكيم، والأستاذ توفيق بو عشبة الأستاذ الجامعي المتخصص في تدريس موضوع التحكيم، وكذلك الدكتورة أليفة فاروق المديرة بوزارة التعاون الدولي والاستثمار الخارجي.
وقد طرحت في هذا الملتقى عدة قضايا وأبدى الحاضرون آراءهم حول موضوع التحكيم الذي هو هام جدًا.
التحكيم في القانون
عالجنا فيما مضى التحكيم في التشريع الإسلامي وفي الفقه المنبثق عنه. وعرفنا باختصار معالمه وتاريخ وآثاره وأحكامه، وشاهدنا أن الإسلام حدد أركانه وأوضح شروطه وعالج كلياته وجزئياته وذلك منذ قرون خالية.
ولابد أن نوضح هنا ولو في حدود ضيقة معاني التحكيم في القانون وبالأخص في القانون التونسي الذي قنن أحكام التحكيم منذ فترة بعيدة. ثم عالج الموضوع من جديد في مجلة التحكيم حديثة العهد والوضع.
يقوم التحكيم في القانون على عنصرين اثنين:
- الإرادة الثابتة للخصوم أطراف النزاع
- موافقة القانون على هذه الرغبة والإرادة.
فالتحكيم إذا: هو اتفاق يحصل بين أطراف الخصومة على انتخاب أشخاص معينين بأسمائهم وصفاتهم ليتولوا فصل النزاع والتحقيق فيه، دون الالتجاء إلى المحاكم القضائية ذات النظر وذات الاختصاص حسب القوانين المعمول بها تراضيًا.(9/1935)
فإرادة الخصوم ورغبتهم هي التي تكون هيئة التحكيم وتنتخب أفرادها للفصل في النزاع، وهذه الإرادة هي التي تحرك النظام القانوني للتحكيم وتوضح معالمه وتحدد خطواته وعلى أساس هذه الإرادة وذلك الاتفاق يقع التحكيم وتنفذ قراراته، ولكن كل ذلك بشرط إعطاء الضوء الأخضر من القانون، ولا بد من وجود نص يجيز هذا التحكيم ويباركه ويسمح به في نطاق الشكل الذي تسمح به الإجراءات بصورة عامة.
وحكم المحكمين الذي توفرت أركانه وإجراءاته يعد حكمًا قانونيًا نافذًا رغم أنه صادر من أشخاص لم تكن لهم ولاية قضائية ذلك أن المقنن أراد ذلك احترامًا لإرادة الخصوم.
يقول أحد شراح القانون:
(التحكيم قضاء حقيقي يسعى إليه الأطراف بمحض إراداتهم ويطرحون نزاعهم على مجرد أشخاص عاديين ليفصلوا فيه.) .
وقد شرحت مجلة الأحكام العدلية في مادتها 1842 موضوع التحكيم بقولها:
(هو عقد بين طرفين متنازعين يجعلان فيه برضائهما شخصًا آخر حاكمًا بينهما لفصل خصومتهما، وقد يكون بين أكثر من اثنين وقد يكون معينًا من قبل الخصوم أو من طرف القاضي، فكل من الطرفين المتنازعين محتكم والشخص الذي اختارا تحكيمه حكم (بفتحتين) أو محكم بضم الميم.
وسوف نشرح هنا المعطيات التي حددها القانون في هذا النطاق وبذلك نوضح السبل الموصلة إلى تحقيق هذا النظام الاستثنائي الذي سمحت به الإجراءات المدنية في نطاق مخصوص وتحت قيود وشروط خاصة.
التحكيم في الإجراءات المدنية
جاءت أحكام في مجلة المرافعات المدنية والتجارية والتونسية سابقًا قبل صدور مجلة التحكيم من الفصل 258 حتى الفصل 284 ثم صدرت مجلة التحكيم حسب القانون عدد 42 في 26 أبريل سنة 1993 ونشرت بالرائد عدد 33 لنفس العام.
وجاءت إجراءات التحكيم بقانون المرافعات المصري المادة 818 وما بعدها.
وكذلك بقانون المرافعات المدنية والتجارية الكويتي المادة 173 وما بعدها.
وسوف نتعرض بإيجاز تام إلى التحكيم في بعض هذه القوانين لنوضح أحكامه وشروطه وآثاره.
موضوعه:
يجوز الاتفاق على التحكيم في كل نزاع معين موجود كما يجوز اشتراط التحكيم فيما قد ينشأ من النزاعات المتعلقة بالالتزامات والمبادلات التجارية، والنزاعات بين الشركاء في شأن الشركة – المادة 258 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية، ومن هنا نفهم أن التحكيم نوعان: عقد التحكيم، واشتراط التحكيم في عقود الشركة.
أما العقد فهو الذي ينبرم عند حدوث المنازعة والخلاف فعلًا.
فإذا حدث الخلاف وصعب الوفاق فقد يعمد طرفا الخلاف إلى إبرام اتفاق بينهما يقتضي إقامة محكمين للنظر في هذا الخلاف وفضه بإصدار قرار ينهي الشقاق والنزاع ويلتزم الطرفان بتنفيذه.
أما القسم الآخر اشتراط التحكيم في صلب عقود الشركات: فإنه يقع ويتقرر عند التعاقد قبل نشوب أي خلاف بين أطراف العقد، فهم يسعون إلى فصل ما قد يحدث من خلافات بأسهل طريق وأيسره، وذلك بالالتجاء إلى نظام التحكيم الذي من شأنه أن يسرع بفصل النزاع وإنهاء الخصام ويحد من المصاريف والخسائر، وهو أخصر من التقاضي الاعتيادي حسب درجاته خاصة وأن التحكيم معين له أجل لإنهاء الخصومة.
وهذا التقسيم الذي تحدثنا عنه هو الذي تحدثت عنه المادة 818 من قانون المرافعات المصري:
يجوز للمتعاقدين أن يشترطوا بصفة عامة عرض ما قد ينشأ بينهم من النزاع في تنفيذ عقد معين على محكمين.
(ويجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين) .
هذا التقسيم نجده في بقية قوانين المرافعات. فالمادة 173 من قانون المرافعات الكويتي تنص:
(يجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين كما يجوز الاتفاق على التحكيم في جميع المنازعات التي تنشأ عن تنفيذ عقد معين) .
وما دمنا نتحدث عن موضوع التحكيم بعد تعريفه نذكر أن بعض القوانين تحجر وتمنع التحكيم في بعض مواضيع منصوص عليها بالذات، فقد جاءت المادة 259 من مجلة الإجراءات المدنية التونسية ناصة على منع التحكيم في الأمور المتعلقة بالنظام العام والجنسية وبالمسائل التي لا يجوز فيها الصلح.
وهذا ما أشارت إليه المادة 819 مرافعات مصرية.(9/1936)
وفي خصوص من له حق التحكيم اتفقت الكلمة على أنه لا يصح التحكيم إلا ممن له أهلية التصرف في حقوقه، ولا يصح تحكيم القاصر أو المحجور عليه أو المفلس أو المحروم من حقوقه المدنية، المادة 259 مرافعات مدنية تونسية والمادة 819 مصرية والفقرة الثالثة من المادة 173 كويتية.
وكيف يثبت التحكيم؟ جاءت المادة 261 مرافعات تونسية قديمة تنص على أن التحكيم لا يثبت إلا بكتاب سواء كان رسميًا أو بخط اليد أو بتحرير محضر جلسة ممضى من كافة الأطراف. وتقول المادة 821 مرافعات مصرية أن التحكيم لا يثبت إلا بالكتابة.
وفسر فقه القضاء المصري بأنه لا صيغة خاصة أو شكلًا خاصًا لهذا الكتاب الذي هو وسيلة إثبات فقط لا لإيجاد العقد وتكونه.
هذا وقد نصت القوانين على وجوب تعيين موضوع النزاع وعلى أسماء المحكمين في كتب الاتفاق على التحكيم.
ومن هم المحكمون وكيف يقع اختيارهم وما هي واجباتهم وشروطهم وكيف يقع عزلهم , كيف يتخلون عن مهمة التحكيم؟
كل ذلك عالجته مجلة المرافعات المدنية التونسية سابقًا وبينت واجبات المحكمين وإمكانية تخليهم أو موت أحدهم، وبينت كيفية التجريح فيهم وآجال عملهم وكيفية المناقشة والمفاوضة وما يشتمل عليه الحكم الذي يصدر؟ وكيف ينفذ؟ ووسائل الطعن وإمكانية طلب إبطال أحكام المحكمين النهائية حتى مع شرط الخصوم خلاف ذلك في أحوال خاصة مثل إذا اشتمل الحكم على أمور لم يقع طلبها.
كل ذلك تعرضت له المواد من 262 حتى 284 مرافعات تونسية، والمواد المصرية من 823 حتى 850. ويقال ذلك المواد 178 حتى 188 مرافعات كويتية.
مجلة التحكيم التونسية
هذه المجلة عوضت أحكام هذا الموضوع بصفة عامة وشاملة وجامعة
وقد أصدرها القانون عدد 42 لسنة 1993 المؤرخ في 26 أبريل سنة 1993 ونشر هذا القانون بالرائد عدد 33 لنفس السنة وتضمن أمر الإصدار أربعة فصول.
يقول الفصل الأول:
تصدر بمقتضى هذا القانون: مجلة التحكيم المنظمة لإجراءات التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي، وينص الفصل الثاني على أن أحكام هذه المجلة لا تمس بالقوانين الخاصة التي يتضح أنها تحجر تسوية منازعات معينة عن طريق التحكيم، أو تفرض إجراءات خاصة للاتجاء إليه، وألغى البند الثالث من هذا القانون أحكام الفصول من 258 حتى 284 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية الصادرة سنة 1959 وقد كنا تعرضنا لها سابقًا.(9/1937)
ونص الفصل الرابع الأخير منه على أن بداية العمل بمجلة التحكيم يكون بعد ستة أشهر من صدور أمر إدراجها أي أواخر أكتوبر سنة 1993.
وقد عرف الفصل الأول والثاني من مجلة التحكيم التونسية: موضوع التحكيم بأنه: طريقة خاصة لفصل بعض أصناف النزاعات من قبل هيئة تحكيم يسند إليها الأطراف مهمة البت فيها بموجب اتفاقية تحكيم، وهي التزام أطراف على أن يفضوا بواسطة التحكيم كل أو بعض النزاعات القائمة أو التي قد تقوم بينهم بشأن علاقة قانونية معينة تعاقدية كانت أو غير تعاقدية وتكتسي الاتفاقية صيغة الشرط التحكيمي أو صيغة الاتفاق على التحكيم.
وعرف الفصل الثالث والرابع ذلك التقسيم بقوله:
الشرط التحكيمي هو التزام أطراف عقد بإخضاع النزاع التي قد تتولد عن ذلك العقد للتحكيم.
أما الاتفاق على التحكيم فهو التزام يتولى بمقتضاه أطراف نزاع قائم عرض هذا النزاع على هيئة تحكيم.
وقانون مجلة التحكيم يحتوي على 82 فصلًا تشمل ثلاثة أبواب الأول: في أحكام مشتركة وبه خمسة عشر فصلًا، والباب الثاني: في التحكيم الداخلي وبه 30 فصلًا، والثالث: يتعلق بالتحكيم الدولي ويشتمل على 36 فصلًا.
وتعرضت المجلة إلى كليات وجزئيات التحكيم التي تعرضنا إليها سابقًا وألمت إلمامًا كاملًا بالموضوعي من كافة أطرافه.
ونظرًا لحداثة صدور هذه المجلة وجدة التطبيق وعدم وجود فقه قضائي يشرح النصوص ويبين غموضها: فإن الباحث يعسر عليه إلقاء الأضواء الكافية ولابد من الانتظار فترة أو , فترات لإعادة الشرح والتعليق.
ولكن نلاحظ من الآن عناية التقنين التونسي ورغبته في تركيز عمليات التحكيم على أساس متين، فقد صدر القانون عدد 56 المؤرخ في 16 مايو سنة 1994 المنشور بالرائد عدد 40 لسنة 1994 بإعفاء عمليات التحكيم من إجراء التسجيل وذلك بإضافة فقرة لمجلة معالم التسجيل والطابع الجبائي تقتضي أن اتفاقات وقرارات التحكيم والأحكام والقرارات الصادرة لتنفيذها أو للطعن فيها معفية من إجراء التسجيل.(9/1938)
ملاحق
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على رسوله الآمين وعلى آله وأصحابه والتابعين.
تقديم
اعتاد المجمع الفقهي الإسلامي دراسة مواضيع معينة في كل دورة من دوراته ينتهي فيها إلى حل المشاكل المعروضة عليه وإبداء الرأي الفقهي في شأن هذه الحلول وعرضها على المجتمع لتطبيقها.
ولقد وفق المجمع بجهود أمينة العام إعانة أعضائه ومستشاريه إلى بناء صرح عتيد أصبح من المراجع المعتمدة بما وضعه من تحارير قيمة ودراسات معمقة نشرها في دورياته التي أضافت الكثير إلى المكتبة الإسلامية وأثرتها وغذت الباحثين الدارسين.
وفي هذه الدورة التاسعة طرح المجمع على أعضائه ومستشاريه الكتابة في عدة مواضيع قيمة منها (مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي) .
ونظرًا لأهمية هذا الموضوع الذي أعتني به أخيرًا من عدة دول وعقدت في شأنه لقاءات ومؤتمرات ونظرًا لصلتي الوثيقة بالقضاء الذي مارست مهامه مدة أربعين عامًا زيادة عن تدريس مواده في الكليات فقد اخترت هذا الموضوع وحررت فيه الدراسة المصاحبة.
وقد مهدت لنا الطريق وعبدت السبيل إدارة المعهد بأن وضعت محاور الموضوع وعينت المنهج الذي ينبغي اتباعه في البحث واشترطت الاختصار وعدم الإطالة.
وهذه هي المحاور المعروضة والمعينة:
1- معنى التحكيم
2- الفرق بين التحكيم والقضاء والإفتاء.
3- بيان قواعد وشروط التحكيم في الخلاف.
4- ما يجري فيه التحكيم.
5- عزل المحكمين.
6- الرجوع عن التحكيم، هل يجوز للحكم أن يرجع عن حكمه؟ وهل له أن يرجع عن الحكم لأحدهما بمحل النزاع ويقضي للآخر؟
7- تنفيذ حكم المحكمة مباشرة أو باتصال القضاء به.
8- احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية في دولة إسلامية.
9- احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة.
10- قضايا الأحوال الشخصية بين المسلمين في غير البلاد الإسلامية، التحكيم فيها ورفع نتائج ذلك إلى المحاكم المحلية لتكتسي صبغة التنفيذ.
11- مبدأ التحكيم في الخلاف وموقف الفرق الإسلامية من مشروعيته، ذكر بعض الوقائع والقضايا التي حصل فيها التحكيم في عهد الصحابة، رضوان الله عليهم.
12- الإسلام ومبدأ التحكيم الدولي، نبذة مختصرة عن نشأة محكمة العدل الدولية، ومشروع محكمة العدل الإسلامية – الكويت.
13- احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعاتهم فيما بينهم، وحكم ذلك إذا كان النزاع فيما بين المسلمين وغيرهم.(9/1939)
وقد حاولت في هذه الدراسة الإحاطة بقدر الإمكان بكل تلكم العناصر والإلمام بكلياتها وجزئياتها واعتنيت بإجراء المقارنة بين الفقه الإسلامي وما وضع لموضوع التحكيم أخيرًا.
مع الملاحظة أن كل عنصر من عناصر الموضوع حسب الجدول السابق يصلح أن يكون موضوع دراسة كاملة فكل العناصر لها أهمية قصوى وهي تستدعي المزيد من العناية والبحث ولا يمكن غمط حقها وأهدراه.
تعرضت في بحثي المعروض على جنابكم إلى عدة نقط هامة لا زال الغموض يغمرها والظلام يعم جوانبها وسعيت في غضون العرض والتحليل إلى الإشارة إلى الحل.
1- عرفت بالتحكيم لغة واستعمالًا وأبنت أن العرب مارسوا التحكيم في استعمالهم اليومي وأن رسول الرحمن الأمين عليه الصلاة والسلام حكمه العرب وارتضوه وأثنوا على خلاله وصفاته فوضع الحجر الأسود عند بناء الكعبة بيديه الشريفتين.
2- تعرضت إلى موضوع التفرقة بين القضاء والإفتاء والتحكيم.
3- شرحت مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي والأصل فيه القرآن الكريم والسنة النبوية وعمل الصحابة وبينت حوادث وقعت وقضايا نزلت وأسماء المحكمين ثم شرحت آية – {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} .
4- الاحتكام إلى المحاكم الأجنبية. أثرت هنا مشكلة عويصة صعب حلها وعم ضررها هي احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة وأثرت موضوع اكتساب الجنسية الأجنبية وذكرت الفتاوى الصادرة في شأنها من علماء جلة من بلاد إسلامية مختلفة.
وذكرت بمناقشة المجمع لهذا الموضوع في دورته المنعقدة بعمان في 8 صفر سنة 1407 الملاقي 11 أكتوبر سنة 1986.
5- التحكيم في الفقه الإسلامي. بسطت آراء المذاهب وبينت وجوب رضا الخصوم وشرحت أوصاف المحكم.
6- ثم شرحت ما سنه القرآن الكريم من التحكيم بين الزوجين وهو تحكيم معمول به واقتبست أحكامه كل القوانين بالبلاد الإسلامية وبينت بنود هذه القوانين في بعض البلاد الإسلامية مثل تونس والسودان والمغرب والجزائر ولائحة القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية.(9/1940)
7- وشرحت نوعًا من التحكيم سنة القرآن الكريم في شأن المحرم بالحج أو بالعمرة الذي يقتل صيدًا مع النهي عن ذلك.
8- ثم تعرضت لمنظمات التحكيم وأولها محكمة العدل الدولية بلاهاي.
وتعرضت إلى الاقتراح بإنشاء محكمة عدل دولية إسلامية من طرف القمة الإسلامية وبينت عناصر المشروع ومحاوره.
ثم تعرضت لمنظمة التحكيم الدولية التابعة لغرفة التجارة الدولية وتاريخ إحداثها ومناطق عملها ومقرها ونشرياتها.
9- وتحدثت باختصار عن طموح تونس لإنشاء مركز دولي للتحكيم بها وما قيل في شأن ذلك.
10 – وأخيرًا وإكمالًا للفائدة عرضنا باختصار شديد موضوع التحكيم في القانون لأن المقارنة مفيدة جدًا وكذلك الاطلاع على أفكار الآخرين ثم بيان الاقتباسات عن الفقه الإسلامي.
11-وأخيرًا كتبنا هذه المقدمة وأضفنا جدولًا في المراجع والمصادر حتى يتمكن الباحث الدارس من الرجوع بسهولة إلى مصادر البحث.
وترجمنا تراجم مختصرة لبعض العلماء الذين جاء ذكرهم في هذه الدراسة اعترافًا بفضلهم وتنويهًا بشأنهم.
* * *
المصادر والمراجع
- تفسير البيضاوي
- تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
- تفسير الفخر الرازي طبع المطبعة العامرة الشرقية.
- تفسير الألوسي
- تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا.
- أحكام المنار للشيخ محمد رشيد رضا.
- أحكام القرآن للجصاص.
- الدر المنثور للسيوطي.
- الفروق للقرافي.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري.(9/1941)
- مسند الإمام أحمد.
- شرح السنة للبغوي
- سنن النسائي
- سنن البيهقي
- المدارك للقاضي عياض تحقيق أحمد باكير ج 2.
- الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحيان لمحمد عزت دروزه.
- لسان العرب لابن منظور.
- المدونة ج 2 طبع بيروت.
- مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب المالكي.
- التحفة لابن عاصم.
- التبصرة لابن فرحون.
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد.
- الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك (باب القضاء)
- كتاب المعيار للونشريسي أحمد بن يحيى.
- كتاب معين الحكيم للقاضي إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرفيع.
- كتاب حدود الإمام ابن عرفة وشرح الرصاع عليها.
- كتاب أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء لمصطفى سعيد الخن.
- كتاب الصلح لمحمود محجوب عبد النور.
- الموسوعة الفقهية الكويتية الجزء العاشر صفحة 233
- الفقه الإسلامي وأدلته وهبة الزحيلي.
- البديع من شرح التفريع لعبد الله بن عبد الرحمن (مخطوط)
- كتاب التفريع لأبي القاسم عبيد الله بن الجلاب تحقيق حسين الدهماني.
- البدائع للكاساني.
- الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني.
- شرح فتح القدير لابن همام.
- حاشية رد المحتار لابن عابدين على الدر المحتار.
- فتح القدير للكمال بن الهمام وبهامشه العناية على الهداية ج 5 باب التحكيم.(9/1942)
- الفتاوى الهندية طبعة بولاق الثانية.
- البحر الرائق
- فقه السيرة لمحمد سعيد رمضان البوطي
- تحفة المحتاج لابن حجر.
- نيل الأوطار للشوكاني محمد بن علي بن محمد.
- المغني لابن قدامة ج 1 المكتبة السلفية بالمدينة المنورة
- اللباب شرح الكتاب للميداني.
- معجم الفقه الحنبلي ج 2 والتحكيم في الحرب ج 1 منه صفحة 213
- كتاب الحداد للشيخ محمد الصالح بن مراد
- كتاب الطريقة المرضية للشيخ عبد العزيز جعيط.
- أدب القاضي للقاضي أبي الحسن علي بن حبيب الماوردي الشافعي.
- أدب القاضي للقاضي شهاب الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن أبي الدم الحموي الشافعي.
- شرح قانون الأحوال الشخصية السوري لعبد الرحمن الصابوني.
- أدب القاضي للخصاف.
- الأحكام السلطانية للماوردي.
- القضاء في الإسلام لمحمد سلام مدكور.
- تاريخ القضاء في الإسلام لعرنوس.
- تاريخ قضاة الأندلس للنبهاني المالقي الأندلسي وهو كتاب المراقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا.
- كتاب قضاة قرطبة لمحمد بن الحارث الخشني.
- كتاب الولاة وكتاب القضاة لمحمد بن يوسف الكندي.
- تاريخ قضاة الأندلس للنبهاني.
رسالة عمر رضي الله عنه في القضاء التبصرة ج 1 صفحة 20 وصفحة 28.
- مبحث التحكيم في التبصرة ج 1 صفحة 43.
- التحكيم في الفقه الإسلامي للمستشار السيد محمد جيل آق بيق.
- دراسة نشرت بمجلة القضاء والتشريع عدد 6 في رمضان جوان سنة 1405 / 1985.
- المجلة الزيتونية مجلد أول ج 10 سنة 1356 / 1937.(9/1943)
- سبل السلام لمحمد بن إسماعيل الصنعاني.
- مجلة المجمع الفقهي الإسلامي عدد 3 ج2 سنة 1408 / 1987
- حاشية محمد المهدي الوزاني على شرح التاودي على التحفة لابن عاصم في الفقه المالكي.
- جامع الأصول للجزري مجد الدين بن محمد بن الأثير.
- مجلة الأحكام العدلية العثمانية شرح علي حيدر.
- مجلة الأحوال الشخصية التونسية.
- قانون الأحوال الشخصية المصري.
- القانون السوداني للأحوال الشخصية.
- مدونة الأحوال الشخصية المغربية.
- قانون الأسرة الجزائري.
- لائحة القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية.
- محاضرات عن نظام الأحوال الشخصية بالسودان الصديق محمد الأمين الضرير.
- كتاب التنظيم القضائي بالسعودية – سعود الدريب.
-كتاب الخلافة باللسان الهندي تصدر في بومباي عدد 12 ج 3 سنة 1342 / 1924.
- جريدة الفتح المصرية محي الدين الخطيب في ربيع الآخر سنة 1352 / 1934.
- كتاب تاريخ حكماء الإسلام لظهير الدين البيهقي.
- كتاب الشعب التونسي والتجنيس للمرحوم الجيلاني الفلاح طبع مطبعة العرب سنة 1342 / 1924.
- جريدة الإرادة التونسية في 29 ربيع الأنوار = الملاقي 9 جوان سنة 1356 / 1937.
- مجلة المنار سنة 1352 / 1934 وسنة 1356 / 1937.
- كتاب فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء جمع وترتيب الشيخ أحمد بن عبد الرزاق الدويشي طبعة أولى سنة 1411 هـ.
- كتاب السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي لمحمد عبد الرحمن البكر.
- بحوث ودراسات بالعربية القانون الدولي الخاص الباشا البحار مجلة القضاء التونسية في ديسمبر 1976.(9/1944)
- العالم العربي في تحكيم غرفة التجارة محمد بجاوي.
- المبادي العامة في الشريعة الإسلامية في التحكيم التجاري الدولي حسان محاسني.
- شرط التحكيم في الشريعة الإسلامية وفي القانون الوضعي العربي بقلم خالد الكاديكي.
- استقلالية المحكم، حميدة الأندلسي.
- دور محاكم الدول في إجراءات التحكيم في دول مجلس التعاون الخليجي لحسن علي رضا.
- التحكيم التجاري الدولي في التشريعات العربية بقلم فوزي سامي أستاذ بجامعة بغداد وعضو مجلس تحكيم الغرفة التجارية العربية الإيطالية.
- التحكيم في العالم العربي حسن البحارنة عضو لجنة القانون الدولي للأمم المتحدة.
- التحكيم في العالم العربي والاتفاقيات العربية المتعلقة بالتحكيم = لحمزة أحمد حداد المحامي مركز القانون والتحكيم عمان وعضو مجلس تحكيم الغرفة التجارية العربية السويسرية هذه الدراسة منشورة أيضًا بالفرنسية.
- كتاب صبح الأعشى للقلقشندي.
- بحوث ودراسات بالفرنسية.
- دراسة إبراهيم فضل الله، نوعية التحكيم التجاري الدولي أستاذ بباريس.
- دراسة الأستاذ محسن شفيق أستاذ شرفي بكلية القاهرة لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي في 24 10 – 1989.
- دراسة المحامي بباريس عبد الحي السفريوي في الموضوع.
- دراسة عن العلاقات بين المحاكم العدلية والتحكيم في البلدان العربية بقلم سمير صالح مستشار قانوني – لندرة.
- مقال ايريك سافر: إجراءات التحكيم = المأمورية بالأمس واليوم.
- مقال صلاح الدين سلمي تيكناي موضوعه: انضمام تركيا لاتفاقية جينيف ونيورك.
- مقال سارج لازاراف الدليل التطبيقي واستعماله بالنسبة للعقد.(9/1945)
تراجم
ألحقت بهذه الدراسة تراجم لبعض من استندت إليهم أو نقلت عنهم حتى يزن القاري بميزان المعرفة بين القائل ومقاله وعمله ومن ثم يكون الأثر عن عالم معروف معرف به موثوق بنقله ورأيه.
شيخ الإسلام محمد العزيز جعيط:
ولد سنة 1303 /1886 تعلم بجامع الزيتونة ثم يتولى التدريس به وبالمدرسة الصادقية وتقلد الخطة الشرعية حتى أصبح رئيسًا لها وسمي في خطة شيخ الإسلام المالكي سنة 1364 / 1945.
وباشر خطة وزارة العدل من مشيخة الإسلام وكان لها بها نشاط كبير إذ وضع مجلة الإجراءات الشرعية.
وإثر استقلال البلاد التونسية وقع انتخابه لخطة الإفتاء بها فباشرها حتى سنة 1381 / 1962 وله عدة مؤلفات علمية فقهية قيمة منها كتاب مجالس العرفان ومواهب الرحمن، توفي رحمه الله رحمة واسعة في 27 شوال سنة 1381 هـ الملاقي 5 جانفي سنة 1961
أبو بكر الجصاص
هو أبو بكر الجصاص أحمد بن علي بن حسين الرازي الجصاص إمام حافظ محدث فقيه من أئمة الحنفية ببغداد له عدة مؤلفات
اختلف في تاريخ وفاته. والراجح أنه توفي سنة 370 / 980.
القاضي محمد الطاهر النيفر:
ولد سنة 1246 هـ، تخرج من جامع الزيتونة وتولى خطة الإشهاد والتدريس بجامع الزيتونة وأسندت إليه الإمامة والخطابة بجامع النفافتة ثم بجامع باب البحر. وتولى خطة القضاء سنة 1290هـ / 1893. كان عالمًا جليلًا قاضيًا نزيهًا.
توفي سنة 1311 هـ رحمه الله.(9/1946)
القاضي شريح:
أبو أمية شريح بن الحارث بن قيس بن الجهيم ابن معاوية بن عمر الكندي.
اختاره عمر بن الخطاب رضي الله عنه للقضاء واستمر عليه مدة طويلة جدًا أربت على السبعين عامًا حتى استقال منه في عهد عبد الملك بن مروان بالكوفة توفي عن مائة وعشرين عامًا بالكوفة سنة 78 هـ / 697 م.
شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع:
هو محمد أو محمد بالفتح الرابع ابن محمد بيرم الثالث ابن محمد بيرم الثاني ابن بيرم الأول بن حسين بن أحمد – بن حسن بيرام – أي عيد –
ولد سنة 1220 هـ / 1805 م وهو أول من حمل لقب شيخ إسلام بتونس.
كان عالمًا فقهيًا كاتبًا نحريرًا يعد من رجال الإصلاح بتونس وينسب إليه إدخال إصلاحات عميقة على المحاكم الشرعية – وهو الحامل على وضع قانون عهد الأمان.
توفي رحمه الله في الرابع من جمادى الأولى سنة 1278 الملاقي 5 نوفمبر سنة 1861. ورثاه صديقه شاعر تونس أبو الثناء محمود قباد بقصيد رائع طالعه.
(وقد كان طودًا للأنام وموردًا
واليوم عاد ذخيرة تستودع)
محمد المختار بن محمود:
عالم أديب كاتب نحرير له نشاط كبير في حقل التدريس والمحاضرات والكتابة والمشاركات العلمية والثقافية. له جرأة في قول الحق والإصداع به والدفاع عنه، أسس مع نخبة من زملائه مجلة علمية ذات مستوى علمي رفيع هي المجلة الزيتونية وأشرف على تحريرها وساهم في الكتابة فيها بدراسات قيمة وبقلم بليغ.
باشر التدريس بجامع الزيتونة والمدرسة الصادقية.
وأسندت إليه خطة الإفتاء على المذهب الحنفي. رحمه الله.(9/1947)
شيخ الإسلام أحمد بن الخوجة:
قال عنه الشيخ العلامة البحر محمد الفاضل ابن عاشور عندما ترجم له في كتابه تراجم الأعلام:
(لقد كان اسم الشيخ أحمد ابن الخوجة عنوانًا شهيرا عن معنى العلم الصحيح والعقل الراجح والمنزلة السامية في النبوغ العلمي) .
وهو نسيج وحده في فقه الفتوى بما أوتى من الذكاء وما اكتسب من الضلاعة في علم أصول الفقه. تولى مشيخة الإسلام سنة 1294 هـ.
وتوفي سنة 1313هـ. رحمه الله.
عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي الملقب سحنون:
ولد سنة 160هـ / 777 م بالقيروان.
وهو فقيه عالم جليل تولى القضاء فأحسن إداراته وانصف الناس ووقف في وجه الظلم وله مواقف مشهورة سجلها له تاريخ القضاء بالقيروان توفي بالقيروان سنة 240 – 854 رحمه الله.
محمد المهدي الوزاني:
أبو عيسى محمد المهدي بن محمد الخضر بن قاسم بن موسى العمراني الوزاني الشريف الفاسي ولد بوزان بفاس سنة 1266 – 1850 هـ وتوفي سنة 1342 – 1923 مفتي فاس – فقيه مشارك في كثير من العلوم له مؤلفات علمية قيمة منها حاشية على التاودي على تحفة ابن عاصم في الفقه المالكي.
وله كتاب المنح السامية من النوازل الفقهية في أربعة أجزاء يعرف بنوازل الوزاني.
وله كتاب المعيار الجديد ويعرف بالنوازل الجديدة الكبرى في أحد عشر جزءًا.
وله حاشية على شرح المكودي لألفية ابن مالك.
كما له كتاب الكواكب السيارة مطبوع وله عدة تآليف ورسائل أخرى.(9/1948)
القاضي ابن عبد الرفيع:
أبو إسحاق إبراهيم بن حسن بن عبد الرفيع الربعي التونسي قاضي القضاة بتونس.
كان علامة وقته ونادرة زمانه علمًا وفقهًا ألف كتابه معين الحكام على القضايا والأحكام في مجلدات وهو كتاب غزير العلم نحا فيه إلى اختصار المتيطة حققه وعلق عليه محمد بن عياد وطبعه، وتولى إمامة جامع الزيتونة.
توفي رحمه الله سنة 733 – 1332 وقيل 734 – 1333 م.
الحطاب محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المعروف بالحطاب:
ولد سنة 902 هـ – 1497م ومات سنة 954 هـ – 1547 م فقيه مالكي له عدة كتب فقهية منها كتابه مواهب الجليل في شرح مختصر خليل مطبوع في ست مجلدات.
ابن رشد:
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن رشد الشهير بالحفيد ولد ونشأ بقرطبة وهو قاضي الجماعة بها كأبيه وجده،
ولد على الأرجح سنة 520 – 1126 وتوفي في 9 صفر سنة 595 – 1198 م بمراكش ثم نقل إلى قرطبة حيث دفن بروضة أسلافه بمقبرة ابن عباس.
كان فقيهًا فيلسوفًا أربت مؤلفاته على السبعين وأشهرها كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد وهو أفضل مرجع فقهي مالكي مختصر يرجع له المبتدي ولا يستغني عنه المنتهي.
الكاساني:
علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني أو الكاشاني فقيه حنفي جليل من أهل حلب وكتابه بدائع الصنائع في ترتيب الشرايع مرجع من أهم المراجع في الفقه الحنفي يقع في 7 مجلدات مطبوع أضيف لها مجلد آخر في الفهارس توفي رحمه الله بحلب سنة 587 هـ – 1191 م.
ابن فرحون:
هو أبو الوفاء برهان الدين إبراهيم بن الإمام شمس الدين بن محمد فرحون اليعمري المغربي المالكي.
فقيه مالكي محقق له كتب مطبوعة منها كتاب تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومنهاج الأحكام وكتاب الديباج المذهب في تراجم أعيان المذهب.
توفي بالمدينة المنورة سنة 799 – 1397.(9/1949)
الدردير:
هو أحمد بن محمد بن أحمد العدوي ولد سنة 1127 هـ 1715 م وتوفي بالقاهرة سنة 1201 – 1786، فقيه مالكي له كتاب أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك مطبوع وله كتاب آخر مطبوع أيضًا تحفة الإخوان في علم البيان.
الدسوقي:
محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي ولد ببلدة دسوق من قرى مصر.
قال عنه المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي:
(كان فريدًا في تسهيل المعاني وتبيين المباني يفك كل مشكل بواضح تقريره، ويفتح كل مغلق برائق تحريره)
من مؤلفاته حاشية على مختصر السعد على التلخيص وحاشية على شرح الشيخ الدردير على مختصر خليل في الفقه المالكي.
توفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 1230 – 1815 ورثاه الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر المتوفى سنة 1250 – 1835 بقصيد مؤثر طالعه:
أحاديث دهر قد ألم فأوجعا وحل بنادي جمعنا فتصدعا
يمينا لقد جل المصاب بشيخنا دسوقي وعاد القلب بالهم مترعًا
سيدي خليل:
هو سيدي خليل بن إسحاق بن موسى ضياء الدين الجندي، كان مفتيًا على المذهب المالكي بالقاهرة وكتابه المختصر في الفقه مشهور متداول وقد ترجم إلى الفرنسية توفي رحمه الله سنة 776 هـ – 1374م.
ابن عابدين:
هو محمد بن عمر بن عبد العزيز ابن عابدين ولد بدمشق سنة 1198 هـ – 1784 م وتوفي سنة 1252 هـ – 1836 م.
ألف كتابه (رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار) في خمسة أجزاء وقد شرحه محمد علاء الدين الحصكفي في كتاب سماه (الدر المختار شرح تنوير الأبصار) .
ولابن عابدين عدة مؤلفات أخرى منها كتابه (العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية) وهو مطبوع وكتابه رد المحتار أكمله ابنه محمد علاء الدين بكتاب آخر هو (قرة عيون الأخبار لتكملة رد المحتار) مطبوع في جزءين. والابن محمد علاء الدين كان عضوًا في اللجنة التي باشرت وضع مجلة الأحكام العدلية برئاسة أحمد جودة وتوفي في 1306هـ – 1889 م.
الرصاع:
هو أبو عبد الله محمد بن قاسم الرصاع التونسي.
فقيه مالكي من عائلة علم وفقه كان قاضي الجماعة بحاضرة تونس وتولي الإمامة بجامع الزيتونة توفي سنة 894 – 1489 له عدة مؤلفات قيمة منها شرحه على حدود ابن عرفة.
شيخ الإسلام محمد الصالح ابن مراد:
هو محمد الصالح بن أحمد بن محمد ابن مراد ولد سنة 1298 – 1881 في بيت علم لوالده مفتي تونس الشيخ أحمد ابن مراد فقيه حنفي وكاتب نحرير أسس مجلة سماها: شمس الإسلام كانت منارًا تنير السبل.
تولى مشيخة الإسلام وألف كتابه الحداد في انتقاد بعض المؤلفين سنة 1399 امتحن في آخر حياته بسبب مواقفه الوطنية وتوفي سنة 1979.(9/1950)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع هذه الجلسة هو (مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي) ، والعارض هو الشيخ محمد بدر يوسف المنياوي والمقرر هو الشيخ محمد جبر.
الشيخ محمد بدر المنياوي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد النبي الأمي الكريم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الجمع الكريم، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
يسعدني أن أبدأ كلمتي بشكر مجمع الفقه الإسلامي في رئاسته الحكيمة وأمانته المبجلة على اختيار موضوع التحكيم، وذلك لأنه موضوع يجمع بين الأصالة والحداثة في وقت واحد، وبقدر ما كانت تلجأ إليه المجتمعات البدائية فإن المجتمعات الحديثة تدعو إليه وتحرص على نشره كما يحقق لها من سرعة في الحسم وتخصص في الخبرة مع الحفاظ على أسرار المتخاصمين والعمل على سرعة تنفيذه ما يحكم به وذلك إلى جانب ترحيب الإسلام بنظام التحكيم، واهتمام الفقه الإسلامي ببيان مشروعيته، وحرص الدول الإسلامية على الأخذ به، والتصديق على المعاهدات والاتفاقات الدولية الصادرة بشأنه بل وإنشاء مراكز تحكيمية في ربوعها اشترط في بعضها أن تكون الشريعة الإسلامية وحدها هي القانون الواجب التطبيق.
وقد حرصت في بحثي على استخلاص أحكام التحكيم من الفقه الإسلامي مشيرًا إلى الأفكار السائدة في الفقه المقارن وموضحًا ما تبنته الأنظمة في الدول الإسلامية من قواعد في هذا الشأن مهتمًا بشكل خاص بأحدث النظم المطبقة في الدول الإسلامية والعربية ومنها نظام التحكيم السعودي الصادر به المرسوم رقم 26 وتاريخ 21 / 6 / 1403 هـ والذي امتاز بأخذه بكثير من التطورات والأفكار الحديثة مع حافظه على المبادئ الشرعية الأصلية المستقاة من الفقه الإسلامي.(9/1951)
والأبحاث التي أتشرف بعرضها على الجمع الكريم هي سبعة أبحاث، موضحة أسماء من قاموا بها بجدول الأعمال الموزع علينا وحضراتهم، وهم: فضيلة الدكتور عبد العزيز الخياط، الباحث العارض، سعادة الدكتور عبد العزيز التويجري، فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري، فضيلة الدكتور محمد جبر الألفي، فضيلة الدكتور عبد الله محمد عبد الله.
وهذه الأبحاث جميعها تمتاز بالعمق والتأصيل، وتكشف عن الجهد الكريم الذي بذل في إعدادها مما يستلزم أن أبادر إلى شكر الباحثين العشرة على ما قدموه سائلًا المولي – عز وجل – أن يثيبهم عنا خير الجزاء.
وقد ترون حضراتكم معي أن تسهيل العرض يقتضي أن نقسم الدراسة في البحوث والأحد عشر إلى ثلاثة محاور، ويتطلب كل منها طريقًا للعرض يختلف عما يتطلبه الآخر.
المحور الأول: التعريف بالتحكيم وأحكامه:
المحور الثاني: وسائل تطبيق التحكيم داخل المجتمع الإسلامي وطرق الاستفادة منه خارجه.
المحور الثالث: محاكم العدل الدولية القائمة والمرتقبة.
وأستأذن جمعكم الكريم في أن أكتفي في المحور الأول باستخلاص المبادئ التي تستنبط من الفقه الإسلامي على ضوء ما تكشف عنه البحوث مكتفيا ًبالإشارة إلى المصدر الهام منها، وقد يكون شفيعي في ذلك أن الأمر لا يعدو أن يكون استخلاصًا من الفقه الإسلامي لم يعتوره خلاف ذو شأن بين الباحثين الكرام.
أما بالنسبة للمحور الثاني فقد يشاركني الجمع الكريم الرأي في أنه يستأهل شيئًا من الإيضاح لأنه يتناول الاستفادة العلمية المرتجاة من البحوث والتطبيقات المستحدثة في التحكيم على ضوء التطورات الاجتماعية والقانونية الدولية.(9/1952)
وبالنسبة للمحور الثالث فإن الأمر قد لا يسمح بأكثر من استعراض رؤوس موضوعات لأنه ميدان تترامى أطرافه وتستعصي قواعده على الجمع بوريقات قليلة أو دقائق معدودة. أما عن المحور الأول الخاص بالمبادئ المستخلصة فيمكن إيجازها فيما يلي:
أولًا: التعريف بالتحكيم أو معنى التحكيم وحكمه:
اختلفت الأمانة في العناصر التي عرضتها للبحث – الكلام عن التعريف بالتحكيم – ولم تطلب تعريف التحكيم وهذا يكشف عن دراسة الأمانة مسبقًا لما تطلبه، فالشائع في كتب الفقه الإسلامي التعريف بالتحكيم وليس تعريفه، وليس له تعريف جامع مانع وعلى هدي ذلك يمكن أن يقال: إن التحكيم اتفاق بين طرفي خصومة معينة على تولية من يفصل في منازعة بينهما بحكم ملزم يطبق شرع الله. وقد نص الفقه الإسلامي على مشروعيته سواء كان بين الأفراد أم كان في المنازعات الدولية … وواضح من هذا التعريف أن التحكيم يختلف عن الصلح الذي يتم عن طريق نزول كل من المتصالحين عن بعض ما يتمسك به، كما يختلف عن الفتيا في أنه لا يكون إلا في خصومة وأنه ملزم للطرفين، ويختلف عن القضاء في أن المصدر المباشر الذي استصدر فيه هو رضا الطرفين لا تولية ولي الأمر، وقد أصدر على الإطلاق لفظ (خصومة) في التعريف، أن تشمل الخصومة الحالة والمستقبلة، وذلك لأن الفقه الإسلامي وإن كان لا يتضمن بصورة واضحة تقسيم صورة الاتفاق على التحكيم إلا ما يسبق نشوء المنازعة وما يلحق بها فإن عباراته تسع ذلك ولا تتأبى أن يستعمل معها ما اصطلح عليه رجال القانون من إطلاق شرط التحكيم على ما يكون منصوصًا عليه في العقود من قبول الالتجاء إلى التحكيم فيما قد ينشأ مستقبلًا في المنازعات في هذه العقود , من إطلاق اسم اتفاق التحكيم أو مشارطة التحكيم أو وثيقة التحكيم عن الاتفاق اللاحق على شئون المنازعات. وإصباغ وصف المشروعية على التحكيم قصد به أن التحكيم لا ينبغي أن يستقى حكمه من الأحكام والقواعد العامة التي تبيح الأفعال أو تسمح بالعقود طالما أنها لا تخالف نصًا أو تصادر إجماعًا فالأمر يستلزم أن يكون هناك دليل على المشروعية، وذلك لأن التحكيم ينتقص من ولاية القضاء بعزل بعض الخصومات عن اختصاصه ويلزم الدولة بأن تسهم في التنفيذ جبرًا لحكم صدر عما لا تنبثق سلطته من سلطتها ولا تتفرع ولايته من أي ولاية من ولاياته، وقد ترون حضراتكم أن توافقوا على ما انتهجه بحث العارض وبعض البحوث الأخرى من حصر الأدلة الشرعية فيما ينصب منها على التحكيم الرضائي الذي تحدث عنه ونتحدث عنه وأن نستبعد الأدلة التي تداور التحكيم في الشقاق بين الزوجين أو التحكيم عند قتل الصيد. فالتحكيم الأول الخطاب فيه قوله تعالى: {فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] ، إنما هو للحكام العائد إليهم أيضًا ضمير {وَإِنْ خِفْتُمْ} ، وهذا رأي كثير من المفسرين وقد صرح به في (البحر الرائق) كما صرح أيضًا به في (فتح القدير) ، وقالوا صراحة إن هذا لا يصلح دليلًا على التحكيم الرضائي. والأمر الثاني والذي هو الاستدلال بالتحكيم عند قتل الصيد ليس في حقيقته خصومة لأحد وإنما هو جزاء قد يكون مثل ما قتل من النعم أو إطعام مساكين أو صيام. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] .(9/1953)
ثانيًا: الموضوع الثاني أو الأمر الثاني المستخلص من القواعد الفقهية: حكم العقد يستخلص من البحوث أن التحكيم عقد غير لازم بالنسبة للطرفين وبالنسبة للحكم، فيجوز لهم الرجوع فيه ما لم يشرع الحكم في التحكيم ويجوز للحكم أن يعزل نفسه ولو بعد قبوله ما دام لم يصدر حكمه، ولا يجوز له أن يستخلف غيره دون إذن لأن الرضاء ينصب على شخصه. وهذا الاستخلاص يتناول حالات ثلاث من الرجوع: الرجوع قبل التحكيم، الرجوع بعد صدور الحكم، والرجوع بعد الشروع في التحكيم وقبل الحكم.
ورجوع المتحكمين قبل التحكيم مبني على أن الإرادة معتبرة في أصله وتعتبر في لزومه، وهو قول الأئمة الأربعة ولم يخرج عنه إلا نفر قليل كابن الماجشون من المالكية. أما عدم جواز الرجوع بعد الحكم فلم يخرج عليه إلا بعض الشافعية بمقولة: (إن حكم المحكم إنما يلزم بالرضا وهو لا يكون إلا بعد معرفة حكمه) . أما عدم جواز الرجوع بعد الشروع في التحكيم فهو الرأي الراجح لدى المالكية والمشهور عند الحنابلة، والقول بغيره يجرد التحكيم من المقصود منه لأنه كما يقولون يؤدي إلى أن كل واحد من المتحاكمين إذا رأى من الحكم ما يوافقه رجع فبطل المقصود منه. أما عزل المحكم نفسه فجائز طالمًا لم يصدر حكمًا ولا يستطيع المحتكمون أن يحولوا بينه وبين هذا الانعزال بدعوى أن له حقًا مكتسبًا تولد بقبوله التحكيم ذلك أن انعزال الحكم كقاعدة عامة لا يضر بهم إذ هو يردهم إلى الطريق العادي لفض الخصومات والقضاء.
ثالثًا: من القواعد المستخلصة أيضًا ما يجري فيه التحكيم. والقاعدة المستخلصة من مجموعة البحوث هي أنه لا يجري التحكيم في كل ما هو حق لله تعالى كالحدود، ولا استلزم الحكم فيه إثبات حكم أو نفيه من غير المتحاكمين ممن لا ولاية للحاكم عليهم كاللعان، ولا ما اقتضى عظم قدره وخطره أن يعهد به إلى القضاء المولي دون غيره. فإذا قضى الحكم فيما لا يجوز فيه التحكيم فحكمه باطل ولا ينفذ.(9/1954)
ويتناول هذا الاستخلاص في شقه الأول تحديد نطاق التحكيم وهو يجنح في هذا الشأن نحو المالكية الذي يضعون معيارًا يمتاز بالمرونة ويتجاور مع متطلبات العصر الحاضر وهو معيار يلتقي – ولا أقول يتفق – مع ما أخذ به نظام التحكيم السعودي ونظام التحكيم الكويتي، كما أنه قريب من معايير النظام العام الذي تأخذ به أغلب الدول في العالم المعاصر. ثم هو من ناحية أخرى يدور داخل النطاق الذي يراه الغالبية العظمى من الفقهاء الإسلاميين بما في ذلك من يجيزون التحكيم في كل شيء كبعض الحنابلة فيما يرويه صاحب (كشاف القناع) أو بعض الشافعية فيما ينقله الشربيني الخطيب في (مغنى المحتاج) . أما الشق الثاني من الاستخلاص فيأخذ برأي الجمهور فيبطلان التحكيم إذا جرى فيما لا يجوز له أن يجري فيه، فهذا الرأي أقوى حجة من رأي المالكية الذين يقولون بإمضاء الحكم في هذه الحالة إن كان صوابًا فإن كان خطأ يترتب عليه إتلاف عضو فالدية على عاقلته، وإن ترتب عليه إتلاف مال كان … للطرفين من شأنه أن يعلي عوامل الثقة على عوامل الكفاءة فيجيز الترخص في شروط الحكم مقارنة بشروط القاضي المولي، وذلك ما لم يصطدم هذا الترخص بالنص كشرط الإسلام في الحكومة بين المسلمين، أو بالعقل كشرط أن يكون المحكم عاقلًا مميزًا.
وشروط الحكم التي يشير إليها هذا الاستخلاص هي بحسب الأصل العام كشروط القاضي المولى غير أنه يترخص في بعض منها وفق ما يراه كثير من فقهاء المسلمين وذلك باعتبار أن الحكم يتم اختياره بإرادة الطرفين وبناء على ثقتهما فيه ليحكم في أمور حدداها له سلفًا، ولا يكون لحكمه أثر يتعدى إلى غيرهما، مما من شأن ذلك كله أن يعلي عوامل الثقة على عوامل الكفاءة يجبر رضاء الطرفين بعض ما قد يلحقه من نقص وتصح حكومته مع ما يعتورها من مثالب لو تحققت في القاضي المولى لم يصح قضاؤه. وتطبيقًا لذلك فإنه يجوز في المذهب الحنفي تحكيم الفاسق أو الجاهل الذي يستشير أو المرأة، وينفذ – على مذهب المالكية – تحكيم الأعمى أو الأخرس أو الأصم.(9/1955)
رابعًا: الإشراف القضائي على التحكيم:
وهذا الموضوع هو الذي أشارت إليه عناصر الأمانة بقولها: تنفيذ حكم المحكمة مباشرة أو باتصال القضاء به. وفي بحث هذا العنصر نجد البحوث قد تناثرت في المواضع التي ذكرتها فيه، وقد رأيت أن أجمع شتاته مقام العرض على مسامعكم الكريمة، والقاعدة المستخلصة بشأنه تجمل في الآتي:
للقضاء على التحكيم حق الإشراف والرقابة فيجوز أن يخول القاضي الموالى الحق في تعيين الحكم إذا لم يختره الطرفان، أو حالت ظروف دون مباشرة مهمته وتشمل رقابة القضاء التحقق من رضاء الطرفين، وأهليتهما، وأهلية الحكم وعدم خروجه عما فوض إليه الحكم فيه، وعدم مخالفته شرع الله فيما حكم، ونقض حكمه إذا خالف فيما ليس فيه اجتهاد.
ويستند حق القضاء في الإشراف والرقابة على التحكيم – المشار إليه في هذا الاستخلاص – إلى عمادين أساسيين وذكرتهما البحوث، وهما:
أولهما: أن تنفيذ حكم التحكيم جبرًا لابد له من ولاية عامة، وهو ما يفتقده التحكيم بينما يوفره القضاء.
ثانيهما: أن منازعة التنفيذ لا تعدو أن تكون منازعة كسائر المنازعات التي يختص القضاء بالفصل فيها.
ويقتضي الإشراف أن يكون من حق القضاء إزالة العقاب التي تقوم سبيل تحكيم يصر أطرافه عليه، وذلك مثلًا بتعيين الحكم إذا لم يختره المحكمان، أو اختاراه وحالت ظروف دون مباشرته المهمة التي أوكلت إليه.
أما الرقابة القضائية فتتمثل في وجوب التحقق من سلامة الإجراءات وصحة الحكم قبل الأمر بالتنفيذ. فعلى القاضي أن يتحقق من رضاء الطرفين ومن أهليتهما، وأن يتحقق من قبول الحكم وأهليته، وأنه لم يخرج عما فوض إليه الحكم فيه، وأنه لم يخالف شرع الله فيما حكم، فإنه خالفه فيما ليس فيه اجتهاد وجب نقض الحكم أو الأمر بعدم تنفيذه إذ لا حجية في مخالفة الشرع ولا اجتهاد فيما لا يجوز الاجتهاد فيه. أما إذا كانت المخالفة فيما يجوز الاجتهاد فيه فالجمهور يرى أنه لا يجوز نقض الحكم ولو خالف اجتهاد القاضي، وذلك لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله وإلا تتوالى نقض الأحكام وعز الاستقرار وغلبت الفوضى على نحو ما عبر به الإمام الغزالي في كتابه (المستصفى) .(9/1956)
هذا هو المحور الأول وهي القواعد المستخلصة من الفقه الإسلامي وقد جمعتها من مجموعة البحوث جميعًا، واكتفيت بتعليل أو بتأصيل ما احتاج إليه تأصيل – في نظري – من هذه القواعد:
المحور الثاني: وهذا عرضه يقتضي اختلافًا في العرض عن الأول – المحور الثاني: وسائل تطبيق التحكيم الإداري داخل المجتمع الإسلامي وطرق الاستفادة منه خارج هذا المجتمع.
وهذا الموضوع يتناول ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: احتكام غير المسلم داخل الدول الإسلامية.
النقطة الثانية: احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة.
النقطة الثالثة: التحكيم الدولي بين الدول والمؤسسات الدولية.
أما عن النقطة الأولى وهي احتكام غير المسلم في داخل الدولة الإسلامية، فقد ورد في عناصر الموضوع كما وضعتها الأمانة العامة للمجمع تحت بند ثامنًا:
احتكام غير المسلم إلى محاكم إسلامية في دول إسلامية، وقد فهم بعض الباحثين الأفاضل أن المقصود هو التساؤل عن حكم التجاء غير المسلم للقاضي المولى أو إلى الإمام، فاستعرضوا رأي المفسرين في تفسير قوله تعالى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] وأما إذا كانت منسوخة بقوله تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] أو أن التخيير ما زال قائمًا. كما استعرضوا أيضًا آراء الفقهاء في ذلك. وممن نهج هذا النهج الأستاذ الدكتور عبد الله محمد عبد الله، الذي فصل الأقوال في المسألة تفصيلًا جميلًا، وأيضًا حجة الإسلام الشيخ التسخيري الذي اختار وجوب الحكم بينهم إذا ترافعوا للقاضي المسلم أو كانوا مختلفين في الملة، أو كان أحدهما حربيًا والآخر ذميا، كما اختار فضيلته أيضًا إقرار حكمهم إذا لجأوا إلى محكم منهم ثم رفع الأمر إلى القاضي فوجد أن الحكم عدلًا صحيحًا، أما إذا كان جورًا فلا يجوز إقرارهم عليه. وفصل الدكتور محمد جبر الألفي آراء المذاهب الأربعة في جواز الإعراض أو الحكم إذا ترافعوا إلى القاضي أو ترافع أحدهما فقط. وقد رأى جانب آخر من الباحثين ومنهم الباحث العارض ألا يخرج عن أحكام التحكيم إلى الأحكام الخاصة بالقضاء وآثر أن يهتم في هذا الصدد باحتكام غير المسلم إلى حكم غير مسلم داخل الدولة الإسلامية، وهو الأمر الذي يرى الأحناف جوازه بشرط ألا يكون الحَكَم أدنى درجة من المحتكم. وتأصيل هذا الحَكْم لدى هذا المذهب يمتاز بقوة الدليل العقلي الذي يخلص في:
1- إن غير المسلمين إذا تحاكموا إلى حكام من أهل دينهم فإنهم يلتزمون بما يحكمون به لالتزامهم له وليس لأنه لازم من الأصل.
2- ولأن القضاء المولي يمثل صمام الأمان الذي يحول دون الإجبار على تنفيذ حكم ولا يتفق مع الشرع.
3- ولأن السماح لمحكم غير مسلم بأن يتولى منازعات غير المسلمين جمع بين مقتضى قاعدة عدم ترك خصومة بها قاض في الإسلام، والقاعدة التي تمنح القاضي الحق في الإعراض عن خصومة غير المسلمين في الحالات التي يراها المالكية وغيرهم من فقهاء المذاهب الأخرى.(9/1957)
وقد خلص أصحاب هذه الدراسة من الباحثين إلى أنه في داخل الدولة الإسلامية يجوز أن يحتكم غير المسلمين إلى حكم غير مسلم فيما أمرنا أن نتركهم وما يدينون، وذلك اعتمادًا على أن القضاء يمثل في ذلك صمامًا يحول دون الإجبار على حكم يخالف شرع الله.
الموضوع الثاني: احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة.
ممن تكلم في هذا الموضوع بإسهاب جميل الأستاذ عبد الله محمد عبد الله فقد رجع إلى كتاب (السير الكبير) لمحمد بن حسن الشيباني وخلص إلى نقاط أهمها: أن المسلم لم يمنع من رفع خصومته إلى السلطان الكافر في بلاد الكفر بدليل ما وقع للمسلمين الأوائل عند الهجرة إلى الحبشة، وأنه لو تغلب الكفار على المسلمين واضطر ولي الأمر إلى مهادنتهم على شروط فيها حط من شأن المسلمين كحق الفصل في الخصومات بين الكفار والمسلمين فإن ذلك جائز.
أما سائر البحوث بما في ذلك بحث العارض فقد تناولوا من محاور ثلاثة:
المحور الأول:
أنه لا يجوز التجاء المسلمين إلى محاكم غير إسلامية خارج الدولة الإسلامية إلا في حالة الضرورة وبقدر ما تمليه هذه الضرورة، وذلك أخذًا بما يراه جمهور الفقهاء. وقد سمى الباحث الدكتور محمد جبر الألفي ذلك نوعًا من التحكم الفاسد الذي ينفذ رغم فساده. وأشار الباحث العارض في هذا الشأن إلى عدم الاعتداد بما نسب إلى بعض فقهاء الأحناف من قبول حكم الذمي بين مسلم وذمي إذا كان الحكم لمصلحة الذمي بدعوى أن الذمي يصلح شاهدًا على غير المسلم ولا يصلح شاهدًا على المسلم، وذلك لأن هذا الحكم المنسوب إلى الحنفية محل اعتراض من سائر الفقهاء ولمخالفته الأدلة العديدة التي تمنع ولاية غير المسلم على المسلم، فضلًا على أن هذا الرأي يؤدي إلى حكم قلق غاية القلق إذ سينفذ أو لا ينفذ حسب درجة الخصم المحكوم ضده، فإن قضى على غير مسلم نفذ حكمه وإن قضى على مسلم لم ينفذ هذا الحكم ويعلل الدكتور عبد العزيز عثمان التويجري في بحثه عدم الجواز أن يكون الحكم غير مسلم في منازعات المسلمين بقوله: إن اشتراط أن يكون الحكم مسلمًا في المنازعات بين المسلمين لا يتعلق بعدم الثقة في غير المسلمين، فالإسلام يبيح التعامل الحر والثقة بين الناس على اختلاف مللهم، وإنما شرط إسلام الحكم تتعلق بحسن تطبيق الشريعة، إذ جرت العادة على ألا يكون غير المسلم على إلمام عميق بعلوم الشريعة نظرًا لطبيعتها الإيمانية.(9/1958)
المحور الثاني:
هو مدى جواز الالتجاء إلى المحاكم غير الإسلامية لإضفاء الصيغة التنفيذية على حكم التحكيم.
وفي هذا الصدد يرى بعض السادة الباحثين أن ذلك لا يجوز أن نلجأ إليه إلا للضرورة، بينما يرى آخرون وهم كثرة ومنهم الباحث العارض، وحجة الإسلام التسخيري، والدكتور عبد الله محمد عبد الله، والدكتور الألفي، يرون أنه لا شيء في الالتجاء إلى المحاكم غير الإسلامية لهذا الغرض، بل ويضيف الباحث العارض أن ذلك يجب أن يوضع في الاعتبار منذ أول الأمر حتى يرعى الحكم والمحتكمون القيود التي يفرضها البلد الذي يحتكمون فيه أو يجري التنفيذ على أرضه. ويعرض الباحث الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي في هذا الصدد نموذجًا من واقع تجربة الهند في فترة الاحتلال الإنجليزي يتلخص في قيام أهل الحل والعقد في الولاية المحتلة باختيار شخص ينصب قاضيًا ليحكم في القضايا العائلية والمالية وغيرها، وأن هذا وإن أخذ مظهر القضاء الشرعي إلا أنه في حقيقته نوع من التحكيم الجماعي، وقال الباحث الشيخ: إن هذا الحكم كان ينفذ بالضغط الاجتماعي اعتمادًا على الجذوة الإيمانية، فضلًا على أنه يرى أن التنفيذ أمر خارج عن الحكم في ذاته للأدلة العديدة التي ساقها فضيلته في بحث ممتاز عن صلة التنفيذ بالحكم ذاته.(9/1959)
المحور الثالث:
الذي تناوله الباحثون في هذه المسألة فيقوم على وجوب أن يكون مصدر الحكم في هذا التحكيم هو الشريعة الإسلامية.
ثالثًا: اتفق الباحثون على أن الإسلام يرحب بالتحكيم الدولي الرضائي كوسيلة لحل المنازعات بين الدول أو المؤسسات. أما التحاكم في هذا الشأن إلى غير المسلمين فإنه وإن كانت غالبية البحوث ترى ما يراه حجة الإسلام التسخيري – حفظه الله – من أنه لايجوز إلا إذا كانت تمليه ضرورة دولية تعاونية، باعتبار أنه لا يمكن أن تنفرد دولة إسلامية بمسيرة خاصة بها في العلاقات الدولية إلا أنه مع ذلك قد يكون من المفيد أن أشير إلى ما جاء في بعض البحوث الأخرى في هذا الشأن. فبحث العارض يقترح بأن يؤخذ برأي من يسمح بأن يمثل الجانب غير المسلم ممثل غير مسلم تقديرًا للمصالح التي تقتضي ذلك والتي يقرها الشرع في مواضع كثيرة وذلك على نحو ما ينادي به بعض فقهائنا المعاصرين كالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي – حفظه الله – من أن إشراك غير المسلم في هيئة التحكيم بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول أصبح أمرًا لا مفر منه حتى يطمئن كل طرف إلى أن ممثله سوف ينقل وجهة نظره ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة في البيان والبرهان.
أما الأستاذ الدكتور عبد العزيز خياط فقد أشار في بحثه إلى رأي للدكتور وهبة الزحيلي في كتاب في موضع آخر من كتب فضيلته يتكلم فيها عن تطبيق المادة (37) من اتفاقية لاهاي، فيقول: إنه طبقًا لنص المادة (37) من اتفاقية لاهاي: فإن القانون واجب التطبيق في محكمة العدل الدولية هو قواعد العدل والحق، وأن ذلك لا يتنافى مع الشريعة الإسلامية. وقد أورد ذلك الدكتور الخياط ثم عقب عليه بأن اللجوء إلى المحكمين يقتضي أن يكون منهم مسلمون، وأن يلتزموا بأحكام الشريعة الإسلامية في التحكيم وأنه لا يكفي في هذا الصدد الاستناد إلى قواعد العدل والإنصاف فهي قواعد مبهمة، ولا الاستناد إلى الأعراف الدولية، إذا أن منها ما هو صحيح ومنها ما هو فاسد. أما الأستاذ الدكتور عبد الله محمد عبد الله فقد ناقش في بحثه حكم الاستعانة بغير المسلمين واستعرض آراء الفقهاء في هذا الشأن، ثم انتهى إلى أن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية ليس فيه استعانة بالمعنى الدقيق فقضاء المحكمة هو استجلاء للحقيقة ومعرفة من هو صاحب الحق ومن هو المعتدى عليه، فإن امتنع هذا عن رد الحق إلى صاحبه كان في حكم الباغي من كل وجه، ومن ثم تكون الاستعانة هي الخيار الحقيقي المبني عليه والسبيل الوحيد للظفر بحقه.(9/1960)
المحور الثالث في البحوث وهو الكلام عن محكمة العدل الدولية القائمة المرتقبة. استعرضت البحوث المحاكم الدولية إبان قيام عصبة الأمم المتحدة وبعد العمل بميثاق الأمم المتحدة، وأشار بعضها إلى النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وبعض البحوث قد أشار إلى ذلك بإيجاز وبعضها أسهب كثيرًا في استعراض النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. كما أشار بعضها إلى مشروع محكمة العدل العربية المنتظرة، وإلى مشروع محكمة العدل الإسلامية الدولية الذي أقره مؤتمركم الموقر بناء على اقتراح دولة الكويت. وقد ركز بحث العارض في هذه النقطة على إيضاح الأصول التي تجمع هذه المحكمة الإسلامية بسائر المحاكم الدولية، وكشف عن الطابع الذي يميزها عن غيرها. كما عدد العوامل التي سوف توفر مناخًا ملائمًا لازدهارها والإقبال عليها، إن شاء الله، وهي أمور رغم أهميتها القصوى فإني مضطر لضيق الوقت في أن أحيل إلى البحث الذي بين أيدي حضراتكم.
وقد جرى مؤتمركم الموقر أن يدعو مجددًا الدول الإسلامية المشاركة في منظمة المؤتمر الإسلامي إلى المبادرة بالتصديق على نظام محكمة العدل الإسلامية الدولية تحقيقًا للأهداف التي أشار إليها المؤتمر في ديباجة قراراه الذي أصدره بإنشاء هذه المحكمة والتي منها تعزيز دور المنظمة ومكانتها والإسهام في تحقيق أهدافها وتنقية الأجواء بين الدول الأعضاء في المنظمة كضرورة ملحة في المواجهة المشتركة لكافة الأقطار والتحديات التي يواجهها العالم الإسلامي.
ولله الأمر من قبل ومن بعد، وشكرًا للرئاسة الكريمة والأمانة الرائدة على إتاحة هذه الفرصة، وشكرًا لكم على حسن الاستماع واعتذارًا بالغًا للسادة الباحثين الذين لم يسع الوقت لاستعراض أقوالهم بالتفصيل. وشكرًا لكم،،(9/1961)
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم،
قبل كل شيء أود أن أشكر الأستاذ الكريم المنياوي على هذا العرض العلمي الشيق الطيب، والجامع بملاحظة الوقت المخصص.
لا أرى بحاجة للحديث إلا في نقطتين بسيطتين وسوف أختمه بسرعة.
جاء في التقرير أن شروط قاضي التحكيم هي نفس شروط القاضي المعين تقريبًا. أنا أعتقد أن الكثير من شروط القاضي – والتي ربما نتفق عليها – المعين، أو قد نختلف في شيء من جزئياتها غير المشترطة، يعني لا دليل على اشتراطها في قاضي التحكيم، إنه رجل أو حتى امرأة تم التوافق على رأيها في قضية تحل بشكل طبيعي. فلذلك شروط الذكورة وشرط طهارة المولد، وشرط حتى غلبة الحفظ وبالخصوص شرط الاجتهاد الذي يرى الأكثر أنه ضروري في القاضي، هذه الشروط كلها لا أراها ضرورية وإن كانت محسنات لقاضي التحكيم. لم أجد دليلًا يفرض علينا في هذا المجال هذه إشارة.
الإشارة الثانية: مسألة رقابة القضاء من قبل الدولة على قضاة التحكيم شيء ضروري جدًا، ولا يحق لقاضي التحكيم أن يخدش شيئًا من سلطة الدولة الإسلامية. فالرقابة شيء جيد، ولكن إذا كانت القضية لا تحد من سلطة الدولة، قضية تحل بشكل طبيعي جدًا، هذه القضية لا داعي لأن نفترض لزوم إرجاعها إلى القضاء، نعم إذا احتاجت إلى أمر تنفيذي وإلى عمل – كما قلت – يزاحم سلطة القضاء ومظلته فينبغي أن تكون تحت المظلة.
السماح لمحكمة غير مسلمة أو لقاضي تحكيم غير مسلم في دولة إسلامية يرتضيه ذميان إما من ملة ومن ملتين، لا مانع منه إذا تم تحت إشراف القضاء العام، شيء آخر، مسألة الاحتكام للمحاكم الدولية. يجب أن نلاحظ تمامًا أنه خلاف القاعدة وخلاف ما أمرنا به، وفي الواقع ركون إلى قوانين غير إسلامية وركون إلى أفهام وعقول غير إسلامية وقضاة تشبعوا بالقضاء المادي. فالأصل فيه أنه يجب ألا يتم، ويجب أن يحل المسلمون قضاياهم فيما بينهم، ولكن لا يعني هذا أننا نغلق الباب بشكل كامل. إذا توقف الأمر والإصلاح ورضي الطرفان، يعني المحكمة الدولية محكمة تصالح وليست محكمة مفوضة من ولي الأمر، محكمة تصالح إذا رضي الطرفان وكانت هناك ضرورة وحرج، وأمثال ذلك بشكل استثنائي يجب أن ينعكس هذا المعنى، لا مانع لكن كما قلت في مرحلة الضرورة والحرج. والأصل أننا يجب أن نعيش في إطارانا وتحكمنا الأخوة الإسلامية.
هناك نقطة أخرى وهي أن سيادة الدكتور أشار إلى أن محكمة العدل الإسلامية أقرها هذا المؤتمر، أتصور أن هناك خطأ، الذي أقر محكمة العدل الإسلامية منظمة المؤتمر الإسلامي أقرت النظام الأساسي. وأنا أضم صوتي لسيادته في دعوة الدول الإسلامية جميعًا لتطبيق نفسها بالشكل الذي يجعلها تنسجم مع هذا القرار ولننجو من مسائل اللجوء إلى المحاكم الكافرة. ولذلك هذه الدعوى في محلها، وحبذا لو تمت توصية في مسألة الإسراع في قضية المحكمة الإسلامية وهي محكمة تحكيم أيضًا، يعني محكمة صلح يتصالح عليها الطرفان، وشكرًا جزيلًا.(9/1962)
الدكتور عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نشكر فضيلة المستشار العارض على حسن عرضه واستيفائه في البحوث وببيان. وأشكر أيضًا المجمع الفقهي على جعله هذا الموضوع ضمن الموضوعات التي تناولتها هذه الدورة لأهمية هذا الموضوع واتصاله بمصالح كثيرة خصوصًا في عصرنا الحاضر لا سيما إذا نظرنا إلى كثرة قضايا التحكيم التي تعرض على المحكمين الدوليين والتي أحد أطرافها دولة مسلمة. ولهذا كان المجمع موفقًا في طرحه هذا الموضوع. وكذلك موفقًا في بيان العناصر – عناصر الموضوع – بتفصيل. وقد حاولت أن أوفي الكلام على جميع العناصر، ثم عملت ملخصا لهذا البحث في صفحتين ببيان أهم العناصر في كل نقطة من النقاط.
والذي يهمني الآن أن أركز عليه بعض النقاط البسيطة.
أولًا موضوع التحكيم يمكن تقسيمه إلى قسمين أو تشعيبه إلى شعبتين:
الشعبة الأولى: تختص في التحكم بين المسلمين في الدول الإسلامية أفرادًا وجماعات.
الشعبة الثانية: التحكيم الدولي الذي أحد عناصر أو أطرافه دول إسلامية مع دولة غير إسلامية أو شركة إسلامية مع شركة غير إسلامية. وهذا الرأي يعالجه القانون بجعل التحكيم الدولي أو التجارة الدولية … التجارة الدولية الآن تخضع معظمها لحل مشاكلها عن طريق التحكيم الدولي. وهناك هيئات دولية تختص في حل هذه المشاكل. وقد استعرضت في المقدمة جملة من القضايا المرفوعة أمام المحكمين الدوليين والتي أحد أطرافها دولة إسلامية. ولهذا أنا فرقت بين الشعبة الأولى والشعبة الثانية. فالقسم الأول هذا الذي تحدث عنه الفقهاء والذي تناوله الفقهاء في كتبهم، والشروط التي يشترطونها في المحكم، وهل المحكم قريب من القضايا فيتقاربان من حيث حفظ الشروط أم لا؟.(9/1963)
أما الشعبة الأخرى فتخضع إلى مسألة أخرى. بالنسبة للفرد المسلم الذي يذهب إلى بلاد غير إسلامية. فالفقه الإسلامي أجاز للمسلم أن يعمل بالتجارة في بلاد غير إسلامية أن يذهب بعقد أمان، كما يدخل المستأمن الكافر في بلاد المسلمين بعقد أمان. فهنا مسألة الولاية غير واردة (وَلَنْ يَجْعَلَ الْلَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) ، غير وارد في هذا المكان لأن هذه بلاد كافرة ولا سلطة للمسلم فيها وليست له عزة الاحتكام ولا قوة يلجأ إليها، فهو يتعامل مع الناس ومن خلال هذه المعاملات تحدث مشاكل في العقود، في البيع والشراء، وفي الإجارة، في العقود التي قد يبرمها مع هؤلاء ومع الشركات الأجنبية، فهو معرض لهذه الأمور ولابد من سبيل للوصول إلى حقه، فإما أن نقول خذ حقك بيدك وهو أضعف من الضعيف، وأما أن نقول له ألجأ إلى الجهات التي تجعلها هذه الدول لوصول الإنسان إلى حقه. وهناك كلمات ذكرتها طيبة جدًا للإمام ابن تيمية يقارن بين الدولة الكافرة إذا كانت عادلة والدولة المسلمة إذا كانت جائزة، وأن العدل والظلم لا يرتبطان دائمًا بالإسلام والكفر، فقد تكون هناك دولة كافرة ولكن يستطيع الإنسان أن يصل إلى حقه أو تمنع عنه المظالم وقد يعيش الإنسان في دولة إسلامية وهو مهدد في حياته وفي ماله وفي عرضه. فذكرت هذه الكلمات في بحثي. واستشهدت لهذه الواقعة بالمهاجرين الأولين الذين هاجروا إلى الحبشة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكًا لا يُظلم عنده أحد)) ، وقد تعقبتهم قريش وأرسلت عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وهناك محاولة طويلة عريضة ذكرها صاحب (الروض الأنف شرح السيرة لابن هشام) وذكرت كثيرًا من هذه الوقائع، واتفقوا مع القساوسة أو مع الرهبان أن يحولوا بين النجاشي وبين الاجتماع بالمسلمين، ولكن أصر على استدعاء المسلمين لسماع أقوالهم. فهناك لكلمات رائعة لجعفر بن أبي طالب وهو يعرض وضع المسلمين بعد الرسالة وكيف وقف ضدهم المشركون وآذوهم حتى اضطروا إلى الهجرة إلى بلاده وأنهم ينشدون العدل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأنه ملك عادل لا يظلم عنده أحد، فلما سمع منهم أصدر حكمه العادل بأن منعهم من القرشيين وقال لهم: امكثوا ولن تتعرضوا لأي أذى وأن من يتعرض لكم بسوء يُغَرَّم وكرر هذه الجملة ثلاث مرات، وكلام طويل في هذا. فاستشهدت بهذه الواقعة عند المسلمين هنا … حضروا إلى مجلس النجاشي وكان كافرا؟ في ذلك الوقت، والكل يذكر على أنه كان يعبد المسيح وما كان يقول بأنه عبد الله وحتى أراد عمرو بن العاص أن يستغل هذه الحالة فقال له: والله لأوقعن بهم، أو كذا، إنهم يقولون على المسيح إنه عبد، فلما أتى بهم سمع منهم النجاشي وقالوا: والله لن نقول إلا كما قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرنا الله أن المسيح عبد الله ورسوله، قال: والله ما زاد … فأخذنا من هذه الواقعة أنه يجوز للمسلم أن يحتكم إلى الكفار في بلادهم.(9/1964)
وهناك مسائل كثيرة ذكرها محمد بن الحسن الشيباني في كتابه (السير الكبير) عن المسلم يذهب إلى بلاد الكفار فيغتصب منه ماله أو تغتصب منه وديعته فيلجأ إلى السلطان الكافر فيحكم له أو عليه. ولكن هنا مسألة بسيطة لابد أن نقف عندها وننبه لها. وهناك فرق بين المسائل الدينية والمسائل الدنيوية (الخلافات المالية) ، فإذا كان المسلم يفتتن في دنيه فلا يجوز أن يبقى في بلاد الكفر وهذا معروف، المسائل الدنيوية الخاصة كمسائل الزواج وغيرها فلا يجوز أن يحتكم فيها إذا كانت زوجته مسلمة قد يلجأ إلى الكفار في هذه الأمور، ولهذا إذا وضع للكفار مسلم يحكم بين المسلمين في هذه الأمور فهذا أمر طيب، أما إذا كان يفتن لا يترك لهم الفصل في هذه الأمور فهناك تعتبر فتنة في الدين ولا يجوز لهم البقاء في بلاد الكفر.
المسألة الأخرى، احتكام المسلمين كدول إلى المحاكم الدولية أو المحافل الدولية، أيضًا ذكرت هذه المسألة للعهود والمواثيق. هناك الآن ميثاق الأمم المتحدة، هذا الميثاق وافق عليه جميع دول العالم، العربية والإسلامية وغير الإسلامية، فهناك معاهدات على حسن الجوار، وعلى التعاون، وعلى عدم الاعتداء على بعض أنا شبهت هذا الميثاق بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وكيف آخى بين المهاجرين والأنصار ثم كتب كتابين وهو بين اليهود على أن يتناصروا ويدفعوا الظلم عن المظلوم يهودًا كانوا أم غير يهود. وأخذت من هذا دليلًا على أن ميثاق الأمم المتحدة بالتعاون على حل المشاكل وحلها سلميًا دون اللجوء إلى الحرب تدخل في هذا الباب.
وأصلت أيضا باب الاستعانة بالكافر، فهنا الاستعانة قد يكون الخلاف بين دولة إسلامية ودولة غير إسلامية، وفي هذه الحالة الاستعانة بدولة إسلامية على دولة غير إسلامية أمر ميسر والخلاف فيه بسيط أيسر من لو كان الخلاف بين دولتين إسلاميتين وكان الأمر يستدعي الانتصار بالحرب. فهنا ذكرت مذاهب العلماء في هذه المسألة، طبيعي الجمهور يمنع وفريق يذهب إلى الاشتراط بالا يكونوا أقوى منا، وفريق يطلق بهذا وهم طائفة من الزيدية. وذكرت هذه النصوص وأخضعت اللجوء إلى المحاكم الدولية لهذا. وأشرت إلى إنشاء محكمة العدل الإسلامية وهذا هو الأساس للتصدي لمشاكل المسلمين وبينت أن الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة لا يعارض في إنشاء كيانات أو هيئات تتصدى لحل المشاكل الإقليمية. وهناك عدة هيئات لهذا الخصوص ومحكمة العدل الدولية ليست بدعًا من هذه الهيئات الموجودة. وشكرًا لكم،،(9/1965)
الدكتور عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم،
أشكر لأخي المستشار المنياوي عرضه القيم ولكن تفضل سيادته فقال: إن المذهب الحنفي يجيز – فيما أذكر – أن يكون الحكم ذميًا في قضية فيها ذمي ومسلم، ونسب ذلك إلى الحنفية. وأخذ ذلك من كتاب السير الكبير للإمام محمد، أو شرحه للسرخسي، لا أذكر بالضبط، ولكن هنا أقل عند كلمة (مذهب الحنفي) . الواقع كما تعلمون أيها السادة العلماء الأجلاء أن مذهب الحنفية إذا قلنا مذهب الحنفية يعني فتوى والفتوى عند الحنفية تقررت على رد المحتار لابن عابدين في الأعم والأغلب، وتقريراتها. وكلام الإمام محمد بن حسن على جلالته وجلالة صاحبه أحيانًا قد يترك في المذهب، فكم من الفروع أخذ فيها بقول الشيخين، أبي حنفية وأبي يوسف وترك قول الإمام محمد؟ وربما أخذ بقول الإمام محمد وترك قول الشيخين، أو أخذ بقول الصاحبين وترك قول الإمام. هذه مسائل ينبغي الرجوع فيها إلى كتب الفتيا. فتوقفت في قضية مذهب الحنفية. أنا لا أذكر، لا أقول ليس هناك أو أنفي وجود الفرع في المذهب، لا، لأنه ليس لدي الآن حاشية حتى أراجعها، والذي أذكره في مذهب الحنفية – والله أعلم – وقد راجعت في ذلك أخي وزميلي الأستاذ الشيخ خليل الميس وهو حنفي أنه لا يوجد هذه الفرع في مذهبنا على أساس الفتيا، يعني أنه لا يفتي به في دار الإسلام، وأن يكون الذمي له ولاية التحكيم في قضية فيها مسلم ولو أن فيها ذميا آخر أيضًا وبالنسبة للقضايا الفردية لا القضايا الدولية، وفي دار الإسلام لا في دار الحرب ولا في دار العهد. أما الأمر يختلف تمامًا في دار العهد أو في دار الحرب، فكما تفضل سلفي الخير – حفظه الله – فهذا كلامه صحيح لكن نتكلم عن الخلافات الفردية لأنه كما تقرر في جمهرة المذاهب الإسلامية أنه لا ولاية لكافر على مسلم، والتحكيم نوع ولاية لأنه هو جزء من القضاء، ولذلك فإنني أطالب أخي وصديقي بمراجعة هذا الفرع في حاشية رد المحتار على الدر وتكملتها، وتقريراتها الرافعي، حتى نتوثق من أن هذا الكلام هو مذهب الحنفية أو كلام الإمام محمد. أما قوله من كلام الإمام محمد فمسلم أنه نقل عنه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. فأنا أسلم أن هذا الكلام كلام الإمام محمد بن حسن، ولكن لا أسلم أبدًا أن هذا هو مذهب الحنفية، حتى يرجع سيادته مشكورًا إلى حاشية ابن عابدين ويوافينا بالنص. هذه نقطة.(9/1966)
والنقطة الثانية، هي أن التحكيم بالنسبة للأفراد في دار الإسلام أمور موجودة في كتب الفقه ولا حاجة لأن نعيد صياغة الفقه من جديد في مؤتمرنا الموقر هذا. نحن نريد أن نبحث في أمور مستجدة، والأمور الجديدة هي التحكيم الدولي. يعني الذي أراه أو الذي يظهر لي أن جهودنا يجب ألا تكون مهدورة، وألا نتكلم فيما يتكلم فيه أسلافنا العلماء القدامى – رضي الله تعالى عنهم – وأشبعوه بحثًا. هنالك اليوم تحكيم دولي مثلًا بين دولة عربية ودولة عربية، وبين دولة عربية ودولة إسلامية، بين دولة إسلامية ودولة إسلامية، بين دولة – مثلًا – إسلامية ودولة غير إسلامية (كافرة) . فمثلًا التحكيم في دار الحرب ينبغي أن نعطيه حقه، التحكيم في دار العهد، لقد سمعنا من أخينا وحبيبنا الذي تفضل قبل قليل ودخلت الجلسة الموقرة فسمعته يتكلم عن دار الحرب ولكن دار العهد لم نسمع كلامًا عن ذلك، ودار العهد لها قيمة في الفقه الإسلامي لأنه ليست الكرة الأرضية دارين، دار حرب ودار إسلام. هنالك دار إسلام ودار حرب ودار عهد – فمثلًا – وسويسرًا دار عهد، السويد دار عهد، النرويج وذلك على سبيل المثال، أما بالنسبة لإسرائيل دار حرب. فما الحكم في دار العهد؟ هل تجوز ولاية الذمي أم لا تجوز؟ لأن في دار العهد الأمر يختلف، للإنسان المسلم قيمته فيه. دار الحرب لا، المسلم لا قيمة له أبدًا لأنه خصم، بينما نجد مثلًا في دولة اسكندنافية (السويد، النرويج، الدنمارك، سويسرا) أكثر المعاهد الإسلامية والمراكزالإسلامية الموجودة هناك ويعترفون بنا وبفقهنا وبجمعياتنا الإسلامية ومراكزنا، فهناك أكبر مركز إسلامي موجود في جنيف. إذن ما هو الحكم في دار العهد؟ هذا المهم.(9/1967)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
في الحقيقة أعتقد أن هذه البحوث تدور حول كثير من القضايا المعروفة فيما يتعلق بالتحكيم بين المسلمين وفي أرض المسلمين ولكن الذي يجب أن نتوقف عنده هو ثلاث قضايا:
القضية الأولى:
تتعلق بالجالية الإسلامية في بلاد الكفر، هذه الجالية التي قد تلجأ إليها أحكام غير مسلمين وتلجؤها الضرورة إلا هؤلاء الحكام. وهذه ينبغي أن نوجه إليها كلمة.
القضية الثانية:
الجهات الإسلامية التي قد تكون في خصومة أو طرفًا في قضية مع شركات غير إسلامية وفي الغالب في هذه القضية الكبيرة ينص في عقد الاتفاق على جهة تعتبر حكمًا بين الخصمين في حال نشوب نزاع بينهما. وهذا أيضًا تحتاج إلى كلمة.
القضية الثالثة:
هي النزاع الذي قد ينشأ بين الحكومات الإسلامية، وهذا النزاع قد لا يوجد له حل إذا لم يلجأ إلى تحكيم أجنبي.
هذه المسائل كلها هي تحت باب الضرورات. يجب أن نجعلها تحت هذا العنوان لأن البحث عن أحكام تفصيلية تجيزها الأصل أنها غير جائزة ويجب أن نعترف بها الأصل. الأصل أن المسلم لا يجوز له أن يتحكم أو أن يحكم غير المسلم ولكن الضرورات لها أحكامها، فإذا خيف ضياع مال كثير فإنه يجوز للمسلم في هذه الحالة وفي دار يتعذر فيها وجود مسلم ليكون حكمًا أن يلجأ إلى هذه الجهات لإنقاذ ماله.
والكلمة الثانية في هذا نطلب من هذه الجاليات أن تعين مجموعة من الحكماء إذا لم نقل من الحكام ليتولوا هذا الأمر لأنه مع الوقت والنزاع يكون بين مسلمين قد يطمئن الناس إلى هؤلاء الحكام أو إلى هؤلاء الحكماء من المسلمين في هذه الجاليات. في بعض المناطق وفي بعض الدول توجد جاليات كبيرة تعدادها بالملايين في أمريكا، فرنسا، في كثير من البلاد، هذه الجاليات يجب أن نعوّدها وأن يفتي لها مجمعنا لأنها تهتم كثيرًا بفتاوى المجمع، وكنت السنة الماضية في فرنسا وكنا في لقاء إسلامي فهم يهتمون كثيرًا بهذه القضايا. هذا بالنسبة للجاليات. بالنسبة للشركات يجب أن نطلب منها أن تعتمد جهات إسلامية في التحكيم. هذه الجهات الإسلامية يجب أن تكون على مستوى عال لمعرفة قوانين التجارة والأنظمة الإدارية التي تحكم العالم حتى تجتذب وتنتزع الثقة ولتكون حكمًا ومرجعًا في خصوماتها.
بالنسبة للحكومات الإسلامية يجب أن نطلب منها أن تنشئ منها محكمة عدل إسلامية في أسرع وقت ممكن، وإذا لم تنشأ هذه المحكمة فإن الاحتكام إلى تلك الجهات أولى من الدخول في حروب ومنازعات. وشكرًا،،،
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قد ترون مناسبًا أن تتألف اللجنة من أصحاب الفضيلة: العارض والمقرر، الشيخ عبد الله محمد، الشيخ عجيل، الشيخ وهبة.
وبهذا ترفع الجلسة وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(9/1968)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 95 / 8 / د9
بشأن مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبي ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415 هـ، الموافق 1 – 6 أبريل 1995 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله:
قرر ما يلي:
أولًا: التحكيم اتفاق بين طرفي خصومة معينة، على تولية من يفصل في منازعة بينهما، بحكم ملزم، يطبق الشريعة الإسلامية.
وهو مشروع سواء أكان بين الأفراد أم في مجال المنازعات الدولية.
ثانيًا: التحكيم عقد غير لازم لكل من الطرفين المحتكمين والحكم، فيجوز لكل من الطرفين الرجوع فيه ما لم يشرع الحكم في التحكيم، ويجوز للحكم أن يعزل نفسه – ولو بعد قبوله – ما دام لم يصدر حكمه، ولا يجوز له أن يستخلف غيره دون إذن الطرفين لأن الرضا مرتبط بشخصه.
ثالثًا: لا يجوز التحكيم في كل ما هو حق لله تعالى كالحدود، ولا فيما استلزم الحكم فيه إثبات حكم أو نفيه بالنسبة لغير المتحاكمين ممن لا ولاية للحكم عليه، كاللعان لتعلق حق الولد به، ولا فيما ينفرد القضاء دون غيره بالنظر فيه.
فإذا قضى الحكم فيما لا يجوز فيه التحكيم فحكمه باطل ولا ينفذ.
رابعًا: يشترط في الحكم بحسب الأصل توافر شروط القضاء.
خامسًا: الأصل أن يتم تنفيذ حكم المحكم طواعية، فإن أبى أحد المحتكمين، عرض الأمر على القضاء لتنفيذه، وليس للقضاء نقضه ما لم يكن جورًا بينًا أو مخالفًا لحكم الشرع.
سادسًا: إذا لم تكن هناك محاكم دولية إسلامية يجوز احتكام الدول أو المؤسسات الإسلامية إلى محاكم دولية غير إسلامية توصلًا لما هو جائز شرعًا.
سابعًا: دعوة الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي إلى استكمال الإجراءات اللازمة لإقامة محكمة العدل الإسلامية الدولية وتمكينها من أداء مهامها المنصوص عليها في نظامها.(9/1969)
نقص المناعة المكتسبة
(الإيدز)
أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعية
إعداد
الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي
الأستاذ المساعد بقسم الشريعة
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة أم القرى – مكة المكرمة المملكة العربية السعودية
مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له من يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولا ند ولا نظير له … وبعد:
فما كان مرض الإيدز وباء عرف هذا العصر وأول ما عرف عام 1981 م، وسمي مرض نقص المناعة المكتسبة (1) ، وهو مرض فيروسي يصيب الخلايا اللمفاوية المناعية فيعطل وظيفتها ونشاطها المقاوم لشتى الأمراض الميكروبية والفيروسية الأخرى (2) .
وحيث إن هذا المرض لم يكتشف له علاج إلى يومنا هذا وهو من الأمراض المعدية التي لا تعرف الحدود الزمانية ولا المكانية فهو ينتقل من الآباء إلى الأبناء عن طريق الحمل والولادة، كما أنه ينتقل من قطر إلى آخر حتى لقد وجدت حالات في جميع أنحاء العالم.
فالتنقل من بلد إلى آخر للدراسة أو العلاج أو التجارة أو السياحة كان سببًا في انتقاله وانتشاره فهو مرض له وطأته العالمية، ومن آخر ما نشر في تقرير لليونسيف أن المصابين به حوالي أثنى عشر مليونًا بينهم ستة ملايين ونصف مليون أفريقي (3) ، وله آثاره النفسية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية وقد أصبح الشغل الشاغل لأجهزة الإعلام في الدول الغربية، وأصبح اسم الإيدز يمثل الرعب الذي كان يمثله اسم الطاعون في القرون السابقة حينما كان يقضي على عشرات الملايين من البشر (4) .
__________
(1) فقد المناعة قد يكون وراثيًا، وهذا غير داخل في موضوع البحث، ولذلك أضيفت المكتسبة، محمد علي البار، محمد صافي، الإيدز، ص 75؛ رفعت كمال، قصة الإيدز، ص 13.
(2) محمد علي البار، محمد صافي، الإيدز، ص 75؛ رفعت كمال، قصة الإيدز، ص 13.
(3) صحيفة المدينة، عدد 9399، في 16 / 8 /1413 هـ
(4) محمد البار، محمد صافي، الإيدز. ص 134(9/1970)
ولما كان لابد من بحث الأحكام المتعلقة بالمريض وأسرته وأفراد المجتمع الذي يعيش فيه ويتعامل معهم واخترت أن يكون مجالًا لبحثي المتواضع لعلي أسهم في معرفة أحكامه وطرق الوقاية منه بعد معرفة وسائل انتقاله ولهذا قمت بقراءة بعض الكتب الطبية المتخصصة فيه، والاتصال بكثير من الأطباء الذين لهم اهتمام خاص أو مؤلفات مكتوبة وبجهات رسمية مختصة في الطب الوقائي وحماية المجتمع من انتشار الأمراض السارية (1) .
فتكونت عندي فكرة جعلتني أقدم على الكتابة في أحكامه التي تعتبر نتيجة لوضوح رأي الأطباء خصوصًا في الوسائل التي ينتقل بها. وحيث إن الأمراض المعدية منها ما ينتقل عن طريق المعاشرة الجنسية ومنها ما ينتقل عن طريق الملامسة ومنها ما ينتقل عن طريق المعايشة ومنها ما ينتقل عن طريق الحشرات … إلخ، حرصت كل الحرص على معرفة طرق انتقاله.
وفرعت على ضوء ما ظهر لي وذكرت عند الاختلاف في بعض وسائل انتقاله احتمالات لكون الرأي الطبي فيها غير حاسم حتى الآن. وقد اقتضت طبيعة البحث أن أكتب تمهيدًا في القضاء والقدر وارتباط الأسباب بالمسببات ودفع توهم التعارض بين الأدلة المثبتة للعدوي والنافية لها ثم كتبت في حكم علاقة الزوج المريض مع السليم وهل يحق له فسخ النكاح أو لا؟ ثم تعرضت لأحكام جنايته وتسببه في نقل المرض إلى الأصحاء، وتقصير الأطباء المسبب لنقل المرض، وما يترتب على ذلك من أحكام، وذكرت حكم حمل المرأة المصابة وإجهاضها وحضانتها ورضاعاتها لطفلها الذي لم تظهر عليه أعراض المرض، كما عقدت مبحثًا بينت فيه حكم عزله عن المجتمع ومنعه من مشاركة غيره من التعليم والعمل وذكرت فيه الحكم على احتمالين كما جرت به عادة علمائنا الأفاضل من ذكر الاحتمالات في الأمور المشتبهة كما أنني لم أنس الإجابة على طرق الوقاية في الحج حين الحلق، وقبل الخاتمة عقدت مبحثًا في حكم اعتبار الإيدز مرض موت. والله أسأل أن يكون هذا العمل لله خالصًا وللإسلام والمسلمين نافعًا.
__________
(1) مقابلة أجريتها مع عدد من المختصين في الطب الوقائي، كما زودني سعادة الدكتور عبد الرؤوف الديب، أستاذ مشارك طب القلب والأمراض الباطنية بجامعة أم القرى، وسعادة الدكتور يوسف حلمي بإجابات مفصلة عن كثير من الأمور التي أشكل علىّ معرفتها عند الأطباء.(9/1971)
تمهيد
ويمكن تقسيم التمهيد إلى قسمين:
أولًا: في الإيمان بالقضاء والقدر والأخذ بالأسباب
ثانيًا: دفع التعارض بين الأحاديث الواردة في العدوى.
أولًا: في الإيمان بالقضاء والقدر والأخذ بالأسباب:
الإيمان بالقضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستة التي يجب على المؤمن الإيمان بها. وهو قاعدة عقيدته، فلا يصح إيمانه إلا إذا آمن أن ما أصابه من خير أو شر فبإذن الله وقضائه وقدره. وإن الإنس والجنس لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه.
قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11] .
وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] .
وفي الحديث: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، لكن قدر الله وما شاء فعل)) . . . . (1) .
فالمؤمن مطمئن النفس هادئ البال قرير العين بإيمانه، والكافر الذي لا يؤمن بقضاء الله وقدره يخشى المستقبل، ويتوقع الخطر، ويحيطه الخوف الغامض ويحدث عنده الترقب، ولذلك كثرت نسبة المصابين بالقلق والتواتر النفسي في الدول الغربية فكثرت حوادث الانتحار مع كثرة العيادات النفسية وما تقدمه من مسكنات ومهدئات. هذا هو الفارق الواضح بين المؤمن والكافر في الدنيا.
إلا أن مما ينبغي فهمه واعتباره في هذا المقام ما هو معلوم في عقيدة أهل السنة والجماعة ومرتبط أوثق الارتباط وأشده بالقضاء والقدر، من أن الأخذ بالأسباب مطلب من مطالب الشارع الحكيم وأنه لا ينافي التوكل. فالإنسان مخلوق وهبه الله العقل والإرادة الحرة والقدرة المستعدة للتنفيذ في حدود الإمكان الموهوب ولكن عمل قدرة الإنسان في آثارها إنما هو عمل الأسباب في مسبباتها لا عمل المؤثرات الحقيقية إذ إن المؤثر الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى الذي علم ما سيصيبنا من خير أو شر فقدره علينا وأمرنا بسلوك طريق النجاة والبعد عن المهلكات فمن أخذ بالأسباب وآمن بالقضاء والقدر اطمأن قلبه لكل ما يجري في الكون مما لا كسب له فيه ورضي بمراد الله مهما كان الأمر محزنًا أو سارًا.
__________
(1) ابن ماجة، السنن 1 /31(9/1972)
ثانيًا: دفع التعارض بين الأحاديث الواردة في العدوى:
قد يظن بعض من يطلع على الأحاديث الدالة على إثبات العدوى والأحاديث النافية لها أن بينها تعارضًا ولكن سرعان ما يزول هذا الظن ويندفع ذلك الإشكال المتوهم بعد الإطلاع على أقوال أهل العلم الذين جمعوا بين هذه الأحاديث والآثار.
1- ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى ولا طيرة)) (1) كما ثبت أنه قال لا يورد ممرض على مصح (2) .
وقد جمع علماء السلف بينهما بما يزيل الإشكال ويدفع التوهم، وكان من أبينهم كلامًا في هذا الشأن الشيخ الإمام محيي الدين النووي في شرحه علي صحيح مسلم، والعلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى.
قال ابن القيم: (الحديثان صحيحان ولا نسخ ولا تعارض بحمد الله بل كل منهما له وجه … ولكل واحد معنى في وقت وموضع فإذا وضع موضعه زال الاختلاف … وعندي في الحديثين مسلك يتضمن إثبات الأسباب والحكم ونفي ما كانوا عليه من الشرك واعتقاد الباطل ووقع النفي والإثبات على وجهه) (3) .
وقال النووي: (قال جمهور العلماء يجب الجمع بين هذين الحديثين وهما صحيحان قالوا: وطريق الجمع أن حديث لا عدوى المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى وأما حديث ((لا يورد ممرض على مصح)) فأرشد إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره) (4) .
وأما حديث ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) . . . . (5) ، وحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم في قصعة واحدة، وقال له: ((كل ثقة بالله وتوكلًا عليه)) . . . . (6) .
__________
(1) البخاري، الجامع مع فتح الباري: 10/241ومسلم الجامع الصحيح مع شرح النووي 14/215-216.
(2) البخاري، الجامع مع فتح الباري: 10/241ومسلم الجامع الصحيح مع شرح النووي 14/215-216. 10 / 215 ح ومسلم: 14 / 213
(3) ابن القيم، مفتاح دار السعادة: 2 / 264
(4) النووي، شرح صحيح مسلم: 4 / 213 – 214
(5) البخاري، الجامع الصحيح: 10 / 215؛ ومسلم الجامع الصحيح مع شرح النووي: 14 / 213
(6) النووي شرح صحيح مسلم: 14 / 228(9/1973)
فقد وضح ابن القيم وجه الجمع بينهما قوله: (غاية ذلك أن مخالطة المجذوم من أسباب العدوى وهذا السبب يعارضه أسباب أخر تمنع اقتضاءه فمن أقواها التوكل على الله والثقة به فإنه يمنع تأثير ذلك السبب المكروه ولكن لا يقدر كل واحد من الأمة على هذا فأرشدهم إلى مجانبة سبب المكروه والفرار من ذلك ولذلك أرسل إلى ذلك المجذوم الآخر بالبيعة تشريعًا منه للفرار من أسباب الأذى والمكروه وأن لا يتعرض العبد لأسباب البلاء، ثم وضع يده معه في القصعة، فإنما هو سبب التوكل على الله والثقة به الذي هو أعظم الأسباب التي يدفع بها المكروه والمحذور تعليمًا منه للأمة دفع الأسباب المكروهة بما هو أقوى منها وإعلامًا بأن الضرر والنفع بيد الله عز وجل فإن شاء أن يضر عبده ضره وإن شاء أن يصرف عنه الضر صرفه بل إن شاء أن ينفعه بما هو من أسباب الضرر ويضره بما هو من أسباب النفع فعل، ليبين للعباد أنه وحده الضار النافع وأن أسباب النفع والضرر بيديه وهو الذي جعلها أسبابًا وإن شاء خلع منها سببيتها وإن شاء جعل ما تقتضيه بخلاف المعهود منها يعلم أنه الفاعل المختار وأنه لا يضر شيء ولا ينفع إلا بإذنه وأن التوكل عليه والثقة به تحيل الأسباب المكروهة إلى خلاف موجباتها) (1) .
فالعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء والنار مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم والقدوم على بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف … وأما إذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضاء الله وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادًا على الله ورجاء منه أن لا يحصل منه ضرر ففي مثل هذه تجوز مباشرة ذلك لاسيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة … وعليه فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش والحر والبرد باضدادها (2) .
__________
(1) ابن القيم، مفتاح دار السعادة: 2 / 272
(2) عبد الرحمن بن حسن، فتح المجيد: ص 264 – 265(9/1974)
المبحث الأول
في علاقة المريض مع أسرته
يمكن تقسيم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في إخبار أحد الزوجين بمرض الآخر.
المطلب الثاني: في التفريق بين الزوجين لمرض الآخر.
المطلب الثالث: في إجهاض الجنين وإرضاع وحضانة الطفل السليم من أم مصابة.
المطلب الأول
في إعلام أحد الزوجين بإصابة الآخر
المعاشرة الجنسية إحدى وسائل انتقال المرض المتفق عليها بين الأطباء، والمرض كما هو معلوم عند الأطباء يمر بثلاث مراحل هي:
-1 مرحلة وجود الفيروس.
2- مرحلة سكون قد تمتد إلى عدة سنوات (1)
3- مرحلة ظهور المرض بصورته الكاملة حيث تتدهور حالة المريض الصحية بسرعة تنتهي بالوفاة.
وهو معد في مراحله الثلاث بل إن من أخطر مراحل انتقاله مرحلة السكون. ومعرفة مراحل المرض من أهم الأسباب التي ينبغي تفريغ الأحكام عليها ومن أهم الأحكام التي يجب مراعاتها واتخاذ كافة الاحتياطات للحد منه وعدم انتشاره. إذ إن الوقاية هي الوسيلة الوحيدة للحد منه حتى الآن، ولذا يجب إبلاغ الزوج الآخر بطريقة هادئة غير مروعة حتى يتخذ التدابير اللازمة ووسائل الوقاية التي يراها الأطباء أو المفارقة، ولو تتبعنا نصوص الشارع لوجدنا فيها ما يمكن أن نستدل به على وجوب الإخبار ولا سيما إذا علمت الإصابة قبل حصول معاشرة زوجة (2) ، أما إذا حصلت المعاشرة فطريقة الإخبار تختلف عند الأطباء ولا تنافي تلك الطرق أدلة الشارع ومقاصده العامة وكما يقال: (كل مقام فله مقال) .
__________
(1) ذكر بعض الأطباء أنه تم اختراع جهاز في اليابان يظهر المرض في جميع مراحله.
(2) كما في إصابات نقل الدم أو الإصابات التي تنكشف قبل الدخول أو يظهر الفحص المخبري بعد العمليات الجراحية أو الرجوع من السفر، أما إذا حصلت الإصابة ولم يعلم هل حصلت معاشرة أو لا فلذلك احتياطات في حق الزوجين ومتابعة خاصة معلومة عند الأطباء.(9/1975)
وإليك عدة نصوص يمكن الاستدلال بها على وجوب الإعلام والإخبار منهما:
1- ما روي ((أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل ووضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها)) (1) بياضًا (2) فانحاز عن الفراش ثم قال: ((خذي عليك ثيابك ولم يأخذ مما آتاها شيئًا)) . . . . (3) .
وفي رواية: ((الحقي بأهلك)) . . . .، زاد البيهقي: فلما أدخلت رأى بكشحها وضحًا فردها إلى أهلها وقال: ((دلستم علي)) . . . . (4) .
والتدليس هو إخفاء العيب وكتمه (5) . وقد قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم منكرًا عليهم عدم إخباره بما فيها من عيب وأمر ببيان العيوب في المبيعات فكيف يكون الحال في مرض هو مقدمة لهلاك محقق وقد ينتقل إلى غير الزوجين، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر والإضرار، ونفاهما ونهى عن الغش والتدليس.
- عن ابن سيرين قال: (بعث عمر بن الخطاب رجلًا على السعاية فأتاه فقال: تزوجت، فقال أخبرتها أنك عقيم لا يولد لك؟ قال: لا. قال: فأخبرها وخيرها) . . . . (6)
فهذا أمر من أحد الخلفاء الراشدين لرجل عقيم لا يولد له فكيف والحالة يخشى تعديها إلى الزوج الآخر بل تتعدى بظن غالب إلى الأبناء أما إذا حصلت الإصابة وشك في إصابة الآخر فيجب إخبار الزوج الآخر وتنبيهه بأن المرض معد ويجب عليه متابعة حالته، وعدم التسرع في الزواج من آخر حتى يغلب على الظن تجاوز مرحلة العدوى وأخذ الاحتياطات التي يراها الأطباء من لبس العازل الذي يقلل من انتقال العدوى إلى حد كبير إذا رغبا في استمرار الحياة الزوجية.
__________
(1) ما بين الخاصرة إلى الضلع من الخلف، القاموس المحيط (الكشح) .
(2) برصًا
(3) الشوكاني، نيل الأوطار: 6 / 176 – 177
(4) البيهقي، السنن الكبرى: 7 / 214
(5) الفيومي، المصباح المنير.
(6) الصنعاني، المصنف: 6 / 253 – 254(9/1976)
المطلب الثاني
التفريق بين الزوجين المصاب أحدهما بالإيدز
مرض الإيدز وباء عصري لا نجد له ذكرًا في نصوص الفقهاء، والذي يمكننا عند إرادة معرفة أحكامه هو النظر في نصوص الفقهاء وأحكامهم في الأمراض المعدية كالجذام والبرص والسل وغيرها بجامع العدوى وإن اختلفت طرق العدوى، فالنظير يعطى حكم نظيره والمثيل يعطى حكم مثيله، وحيث إنه مرض ليس له علاج الآن ولا حدود له زمانية ولا مكانية فهو ينتقل إلى الزوجين عن طريق المعاشرة الجنسية كما قرر الأطبال فقالوا: (أصيب عدد كبير من زوجات المصابين بالإيدز وقد يكون المصاب متزوجًا ويمارس الشذوذ الجنسي أو يكون متزوجًا ويتناول المخدرات أو يكون متزوجًا ويمارس الزنا أو يكون – وهذا نادر – أحد ضحايا نقل الدم أو محتوياته. وبما أن الفيروس المسبب للمرض ينتقل عن طريق الاتصال الجنسي فإن زوجات المصابين تظهر عليهن في الغالب أعراض المرض) (1) . فالمعاشرة الجنسية بين سليم ومريض وسيلة من وسائل نقل المرض المتفق عليها بين الأطباء، وحيث إن الأمر كما ذكر فما هو حكم الشريعة الإسلامية في زوجين أصيب أحدهما بهذا المرض الخطير؟ هل يحكم ببقاء السليم مع المريض مهما كانت الحياة صعبة والنفرة موجودة والخوف والترقب والقلق يسود حياة الأسرة، أو أن في الأحكام الشرعية ما يجعل للسليم مخرجًا من هذه الحرج والمشقة؟ التي تصبح الحياة معها جحيمًا لا يطاق، وسجنًا الموت العاجل فيه أيسر من الحياة؟.
الجواب على هذا السؤال سيكون باستعراض ما ذكره العلماء من اختلاف في حكم التفريق للأمراض المعدية والمنفرة التي عرفت في زمانهم وهل يمكن تخريج موضوع البحث على ما ذكروه أولا؟
يوجد اختلاف واضح في التفريق بسبب الأمراض المعدية التي يعتبر الإيدز أخطرها على الإطلاق، فالجذام والسل والبرص، أمراض لها علاج أو بطيئة الانتقال أو خطورتها وحدتها أسهل مما نحن فيه.
__________
(1) محمد البار ومحمد صافي، الإيدز، ص 70، وانظر كمال رفعت، قصة الإيدز: ص 22، ومقابلات أجريتها مع كثير من الأطباء في جامعة أم القرى وقسم الطب الوقائي بوزارة الصحة.(9/1977)
وبعد استعراض أقوال الفقهاء في الأمراض المعروفة عندهم وجدت أنها تنقسم إلى ثلاثة مذاهب في الجملة (1) .
فمنهم من يرى عدم جواز التفريق مهما كانت الأسباب والموانع.
ومنهم من يعطي حق طلب التفريق للمرأة دون الزواج.
ومنهم من يعطي حق طلب التفريق بسبب المرض الموجود قبل العقد دون الحادث بعده.
ومنهم من يرى أن لكل من الزوجين حق التفريق مطلقًا سواء في ذلك الأمراض الموجودة قبل العقد أو الحادثة بعده وإليك مذاهبهم على النحو الآتي:
المذهب الأول:
ذهب الظاهرية إلى أن النكاح إذا صح لا يجوز فسخه مطلقًا سواء كان المرض موجودًا قبل العقد والدخول أم حدث بعد العقد وقبل الدخول أو بعدهما ولا فرق في ذلك بين وجود المرض في الرجل أو المرأة إذ لا يجوز للقاضي ولا لغيره أن يفرق بين زوجين صح عقد نكاحهما بحال.
جاء في المحلى: [لا يفسخ النكاح بعد صحته بجذام حادث ولا ببرص كذلك ولا بجنون كذلك ولا بأن يجد بها شيئًا من هذه العيوب ولا بأن تجده هي كذلك] (2) .
وقد شنع ابن حزم على القائلين بالتفريق بين الزوجين لمرض معد أو غير معد وأنكر عليهم أشد الإنكار حيث قال: [هذا هو الباطل الذي لم يصح قط عن أحد من الصحابة – رضي الله عنهم – ولا جاء قط في قرآن ولا سنة ولا في رواية فاسدة ولا أوجبه قياس ولا معقول] (3) .
والظاهر أن الشوكاني يتفق مع الظاهري في ذلك حيث قال: [من أمعن النظر لم يجد في الباب ما يصلح للاستدلال به على الفسخ بالمعنى المذكور عند الفقهاء] (4) .
__________
(1) هذا المطلب ملخص من رسالتي – التفريق بين الزوجين بحكم القاضي – قد خرجت موضوع البحث – مرض الإيدز – على ما كتبته سابقًا
(2) ابن حزم المحلى: 11 / 357
(3) ابن حزم، المحلى: 11 / 357
(4) الشوكاني، نيل الأوطار: 6 / 178(9/1978)
أدلة الظاهرية:
1- كل نكاح صح بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حرم الله تعالى بشرتها وفرجها على كل من سواه فمن فرق بينهما بغير قرآن أو سنة ثابتة فقد دخل في صفة الذين ذمهم الله تعالى بقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] .
2- ما روى إبراهيم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه – قال: (لا ترد الحرة من عيب) . . . . (1) ، ثم قال: إنما هو النكاح كما أمر الله عز وجل إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان إلا أن يأتي نص صحيح فيوقف عنده (2) .
المذهب الثاني:
يرى الحنفية يوجد فرق في إعطاء حق الفرقة بين الزوجين للأمراض المعدية حيث لا يحق للزوج طلب التفريق ويكتفي بما في يده من ملك العصمة فإن شاء طلق وإن شاء أمسك، جاء في العناية [وإذا كان بالزوجة عيب – أي عيب كان – فلا خيار للزوج في فسخ النكاح] (3) .
وعللوا ما ذهبوا إليه بأن الزوج يملك العصمة، أم المرأة فلما لم تملك الطلاق جعلوا لها حق طلب التفريق من القاضي ويجيبها إليه (4) .
جاء في فتح القدير [وعند محمد لا خيار للزوج بعيب في المرأة ولها هي الخيار بعيب فيه من الثلاثة الجنون والجذام والبرص] (5) .
وقد اختلف فقهاء الحنفية في حصر العيوب والأمراض التي يحق للمرأة طلب الفرقة لأجلها.
فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى حصرها في عدد معين (6) لا يتجاوزه إلى غيره، وذهب محمد إلى عدم الحصر جاء في تبين الحقائق.
[وقال محمد رحمه الله: ترد المرأة إذا كان بالرجل عيب فاحش بحيث لا تطيق المقام معه لأنها تعذر عليها الوصول إلى حقها لمعنى فيه فسار كالجب والعنة] (7) .
__________
(1) ابن أبي شيبة، المصنف: 5 / 176
(2) ابن حزم، المحلى: 11 / 367
(3) البابرتي، العناية: 3 / 267
(4) انظر السرخسي، المبسوط: 5 / 97؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 3 / 1536
(5) ابن الهمام: 3 / 267، وانظر ابن عابدين حاشية رد المحتار: 3 / 501
(6) الكاساني، بدائع الصنائع: 3 / 1536؛ وابن الهمام، فتح القدير: 3 / 266
(7) الزيلعي، تبيين الحقائق: 3 / 35(9/1979)
وذكر [أن الخيار في العيوب الخمسة إنما ثبت لدفع الضرر عن المرأة وهذه العيوب في إلحاق الضرر بها فوق تلك لأنها من الأمراض المعدية عادة، فلما ثبت الخيار بتلك فلأن يثبت بهذه أولى] (1)
وحيث إن بعض نصوص الحنفية يظهر بينها تعارض في إثبات الخيار للمرأة ومن ذلك ما جاء في فتح القدير (الحاصل أنه ليس لواحد من الزوجين خيار فسخ النكاح بعيب في الآخر كائنًا من كان عند أبي حنيفة وأبي يوسف) (2) . فقد وضح السرخسي أن المراد بإثبات الفرقة للمرأة هو إزالة الضرر بالطلاق، لأنه يلزم الزوج بالإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان والتسريح طلاق (3) .
أدلة الحنفية:
1- عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) . . . . (4) وفي إمساكها مع خشية تعدي المرض إليها أضرار نفسية وخوف وقلق قد تصبح الحياة معه جحيمًا لا يطاق كما أن فيه ضررًا إذا أصيبت بالمرض.
2- قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .
وإمساكها مع خوفها من انتقال المرض إليها وترقبها لهذا الخطر إمساك بدون معروف فوجب التسريح بالإحسان.
3- فوات المقصود بالعقد يثبت للعاقد حق رفع العقد من أصله وهنا قد فات المقصد من عقد النكاح وأنسد عليها الباب من غيره فوجب ثبوت الفرقة (5) ولا شك أن إمساكها مع الخوف من انتقال العدوى إذا أصيب أحد الزوجين يؤدي إلى فوات أهم المقاصد التي شرع لها النكاح وهي الألفة والرحمة والإحصان فوجب التسريح بإحسان.
المذهب الثالث:
العيوب والأمراض التي يفسخ النكاح بسببها بعد صحته إما أن تكون موجودة قبل العقد والدخول أو حادثة بعدهما. فالموجودة قبل العقد قد اتفق جمهور الحنابلة والشافعية والمالكية والزيدية على الرد بها وإن اختلفوا في بعضها إلا أن الجذام وهو المرض الذي يمكن نقل وتخريج مرض الإيدز عليه متفق على التفريق به عند الجمهور.
__________
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 3 / 1537
(2) ابن الهمام، فتح القدير: 3 / 267، وانظر ابن عابدين حاشية رد المحتار: 3 / 501
(3) السرخسي، المبسوط: 5 / 97
(4) الصنعاني: سبل السلام: 3 / 84
(5) السرخسي، المبسوط: 5 / 101(9/1980)
ولا يخفى ما ورد عن بعض الشافعية والمالكية الذين حصروا العيوب التي يفرق بسببها في سبعة عيوب حيث قال الشربيني: (جملة العيوب سبعة عيوب وأنه يمكن في حق كل من الزوجين خمسة واقتصار المصنف على ما ذكر من العيوب يقتضي أنه لا خيار فيما عداها، قال في الروضة: وهو الصحيح الذي قطع به الجمهور. والثاني له الخيار بذلك لنفرة الطبع عنه) . . . . (1) .
فعلى القول الثاني كل مرض وجدت فيه النفرة يفرق لأجله وعليه يكون الإيدز من أولى الأمراض التي يفرق لأجلها.
وجاء عن الخرشي (وحاصل العيوب في الرجل والمرأة ثلاثة عشر، أربعة يشترك فيها الرجل والمرأة وهي الجنون والجذام والبرص …) (2) .
ويظهر جليًا أن الحنابلة قد اتفقوا مع غيرهم من الجمهور على أن الجذام من الأسباب المشتركة التي يرد بها كل من الزوجين الآخر جاء في منتهى الإرادات [وقسم مشترك وهو الجنون والجذام والبرص لا بغير ما ذكر] (3) . ويعتبر مذهب الحنابلة من أوسع المذاهب في عدد الأمراض والعيوب وإن وجدنا في نصوصهم ما يفيد الحصر فيما ذكروا في زمانهم، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وبعض الشافعية أكثر توسعًا حيث أجروا القياس في كل ما وجدت فيه علة التفريق ولم يحصروا العيوب والأمراض بعدد معين. جاء في زاد المعاد [وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى رد المرأة بكل عيب ترد به الجارية في البيع. وهذا القول هو القياس وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها ومساو لها فلا وجه له فالعمى، والخرس، والطرش، وكونها مقطوعة اليدين … من أعظم المنفرات والسكوت عنها من أقبح التدليس والغش وهو مناف للدين. والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو كالمشروط عرفًا وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له أخبرها أنك عقيم وخيرها فماذا يقول – رضي الله عنه – في العيوب التي هذا عندها كمال بلا نقص وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا يمكنه منه بالجرب المستحكم المتمكن وهو أشد من ذلك البرص اليسير وكذلك غيره من أنواع الداء العضال (4) .
__________
(1) الشربيني، مغنى المحتاج: 3 / 203
(2) الخرشي على مختصر خليل: 2 / 236
(3) الفتوحي: 2 / 188
(4) ابن القيم، زاد المعاد: 4 / 30 – 31؛ وانظر ابن تيمية، القواعد النورانية: ص 216.(9/1981)
ولم يفرق الحنابلة والشافعية – رضي الله عنهم – بين العيوب والأمراض الموجودة قبل العقد والحادثة بعده. أما المالكية والأمامية فقد خالفوا في العيوب الحادثة بعد العقد فجعلوا للمرأة طلب الفرقة لأنها لا تملك الطلاق أما الرجل فقالوا: إنه قادر على التخلص منها بالطلاق فإن شاء طلق وإن شاء أمسك (1) .
جاء في حاشية الدسوقي (العيوب المشتركة إذا كانت قبل العقد كان لكل من الزوجين رد صاحبه به وإن وجدت بعد العقد كان للزوجة أن ترد به الزوج دون الزوج فليس له أن يرد الزوجة، لأنه قادر على مفارقتها بالطلاق إن تضرر؛ لأن الطلاق بيده بخلاف المرأة فلذا ثبت لها الخيار) (2) .
وفرق الأمامية بين العيوب والأمراض الموجودة قبل العقد والحادثة بعد العقد وقبل الدخول فالراجح عدم الفسخ وأما الحادثة بعد الدخول فلا رد.
جاء في شرائع الإسلام (العيوب الحادثة للمرأة قبل العقد مبيحة للفسخ وما يتجدد بعد العقد والوطء لا يفسخ به، وفي المتجدد بعد العقد وقبل الدخول تردد أظهره أنه لا يبيح الفسخ تمسكًا بمقتضى العقد السليم عن معارض) (3)
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور بعدة أدلة من القرآن والسنة والآثار:
1- قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .
وإمساكها مع خوفها وترقبها وقلقها من المرض بعيد كل البعد عن الإمساك بالمعروف فوجب التسريح بإحسان.
2- عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)) . . . . (4) .
فالحديث يدل على الفرار من المجذوم وفرار أحد الزوجين منه لا يكون إلا بالتفريق.
__________
(1) انظر البهوتي: كشاف القناع: 5 / 111؛ والشربيني، مغني المحتاج: 3 / 203
(2) الدسوقي، حاشية علي الشرح الكبير: 2 / 248
(3) الحلي، شرائع الإسلام، 2 / 320
(4) البخاري، الصحيح: 7 / 164(9/1982)
فالجذام منصوص عليه لأنه معد فما كان أكثر في العدوى وأسرع في الانتقال أولى في الحكم فالنبي صلى الله عليه وسلم لما علم أن في وفد ثقيف رجلًا مجذومًا، أرسل إليه: ((إنا قد بايعناك فارجع)) . . . . (1) .
فكيف لم يسمح الرسول صلى الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بدخوله على الناس ويجبر أحد الزوجين بالبقاء معه، وهكذا كل مرض معد لا علاج منه في مدة يتضرر الزوج الآخر بسبب انتظاره تضررًا يفوق مصلحة المريض أو يخشى تعديه إلى السليم.
3- عن عمر – رضي الله عنه – قال: (أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها مهرها بما أصاب منها وصداق الرجل على من غره) . . . . وفي لفظ قضى عمر في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها فرق بينهما والصداق لها بمسيسه إياها وهو له على وليها قال الشوكاني: قال الحافظ في حديث عمر: (رجاله ثقات) (2)
4- عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: (أربع لايجزن في بيع ولا نكاح: المجنونة والمجذومة والبرصاء والعفلاء) . . . . (3) .
5- روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: قضى أيما امرأة نكحت وبها شيء من هذا الداء فلم يعلم حتى مسها فلها مهرها بما استحل من فرجها ويغرم وليها لزوجها مثل مهرها (4) .
6- الأمراض التي يخشى تعدي أذاها كالجذام والسل والإيدز وغيرها سبب للشقاء وللنفرة بين الزوجين حتى إن الحياة لتصبح جحيمًا لا يطاق وفي بقاء أحد الزوجين مع 0الآخر تكليف ما لا يطاق وذلك من الأمور المنفية شرعًا.
مناقشة أدلة الظاهرية:
1- قولهم: كل نكاح صح بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حرم الله تعالى بشرتها وفرجها على كل من سواه ما دامت زوجته ولم يفرق بينهما إلا بنص يجيز ذلك.
يناقش بأن التفريق بهذه العيوب دفع لضرر وإزالة لظلم وحد ومنع من انتشار الأمراض المعدية وإذا فرق بينهما جازت لمن سواه.
__________
(1) مسلم، الصحيح: 4 / 1752
(2) الشوكاني، نيل الأوطار: 6 / 177
(3) البيهقي، السنن الكبرى: 7 / 215
(4) البيهقي، السنن الكبرى: 7 / 215(9/1983)
وأما قولهم إن من فرق بينهما بغير قرآن وسنة ثابتة فقد دخل في صفة الذين ذمهم الله بقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] .
فيرد بأن الآية نزلت في السحرة وما يفرقون به بين الزوجين من السحر والشعوذة لعداوة أو غير ذلك، وليس المراد منها التفريق لسبب يوجبه دفعا ًلضرر أصاب أحد الزوجين، والقرآن والسنة قد دلا بعموم نصوصهما على رفع الضرر والظلم. والسنة قد دلت على مفارقة المريض والمعيب ومن يخشى ضرره وتعدى أذاه كما ورد في حديث الأمر بالفرار من المجذوم، وكما في منعه صلى الله عليه وسلم الممرض أن يورد على المصح والعكس لما في ذلك من خشية انتشار المرض، وكما نهى من كان في بلد فيه طاعون عن الخروج منه أو كان خارجًا عنه عن الدخول إليه. ولا شك أنه لا يمكن الفرار من المجذوم ومن مرض معد كالإيدز إلا بالتفريق.
فإن قالوا: نحن نمكنه من الفرار بالطلاق، قيل كيف تمكنونه من الفرار بالطلاق ولا تمكنونها لأنها لا تملك الطلاق، والحديث وغيره لم يفرق في طلب الفرار بين الزوجين وغيرهما بل أمر بالفرار جميع أفراد المجتمع.
2- وأما قول ابن مسعود لا ترد حرة بعيب فهو قول خالف فيه أقوال غيره من الصحابة وقضاءهم فقد روي عنهم: أربع لا يجزن في بيع ولا نكاح إلخ …. وأما قول ابن حزم: إنما هو النكاح كما أمر الله به سبحانه {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فيناقش ويرد عليه بأن الإمساك مع وجود الأذى والضرر على الزوج الآخر من الأمراض المعدية والمنفرة ليس من الإمساك بمعروف فيتعين التسريح بإحسان.
ومرض الإيدز أخطر الأمراض المعدية فلا علاج له كما أن انتقاله أسرع من مرض الجذام وغيره فلذلك وجب إعطاء حق التفريق بسببه.(9/1984)
مناقشة أدلة الحنفية:
أعطى الحنفية حق الرد بعيب للمرأة دون الرجل وهذا وجهه ضعيف، فمع أن الزوج يملك الطلاق كما قالوا إلا أن تفريق القاضي يترتب عليه آثار أخر فيرد المهر إن كان قبل الدخول وللمرأة المهر بعد الدخول ويعود به الزوج على من غره بمريضة معيبة وإذا أعطيت المرأة الحق دون الرجل كان ذلك سببا لضياع ماله فيجتمع على الزوج ضياع ماله وفوات زوجته والشريعة كما جاءت بحفظ الدين والنفس جاءت آمرة بحفظ المال حتى كان حفظ المال من الضروريات التي اتفقت الأديان على حفظها فكيف يقال إن الزوج لما ملك الطلاق لا حق له في طلب التفريق وينسى ماله الذي أنفقه على هذه المرأة المعيبة المريضة بمرض خشي تعديه إليه.
وحيث أن هذا المرض لم يكتشف له علاج بعد كما أخبر الأطباء الثقات والمنظمات الدولية للصحة العالمية بجميع هيئاتها ومؤسساتها فلا بد من إعطاء حق الفرقة للزوجين منعًا وحدًا لانتشار هذا الوباء الذي لم تشهد له البشرية مثيلًا في طرق انتقاله.
وأما قول الحنفية إن المرأة ترد الرجل بعيوب محصورة، فيقال بأن الأدلة التي ذكروها معقولة المعنى يجب تعميمها إذا وجدت المعاني التي شرعت لأجلها في أمر آخر أخذًا بقياس المعنى وقياس الأولى اللذين يعتبر الحنفية من أوسع المذاهب قولًا بهما، ولذا لزمهم إعطاء حق الفرقة بسبب كل مرض وجد فيه المعنى الذي نصوا على الفرقة لأجله أو كان أولى منه كما في موضوع البحث – مرض الإيدز – أو غيره من الأمراض المعدية الأخرى.
مناقشة أدلة الجمهور:
ورد على أدلة الجمهور عدة اعتراضات نوجزها فيما يلي:
1- قيل في حديث ((فر من المجذوم)) . . . . (1) ، نحن نمكنه من الفرار ولكن بالطلاق لا بالفسخ وليس في الحديث تعيين طريق الاجتناب والفرار.
ويمكن أن يجاب عن هذا بأنهم حصروا الفرار حيث جعلوه حقًا للرجل بالطلاق وفي ذلك أضرار مادية تترتب على الطلاق غير التي تترتب على فسخ القاضي، فالمهر إذا طلق الرجل ذهب عليه والشريعة لا تقر الضرر في المال كما أنها لا تقره على النفس والعرض والدين.
2- قالوا: إن في الرواية الواردة عن عمر: ((أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جذام …)) . . . .،لا يصح في ذلك شيء عن أحد من الصحابة فالرواية عن عمر وعلى منقطعة (2) .
ويرد هذا الاعتراض بأن ما روي عن عمر ورد من طرق كثيرة غير الطريق الذي ذكروه.
__________
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 3/ 1538
(2) ابن حزم، المحلى: 11 / 366(9/1985)
فالطرق يقوي بعضها بعضًا علمًا بأنه لم يكن في أحدها ما يوجب الضعف، قال الشوكاني، قال الحافظ في حديث عمر: (ورجاله ثقات) (1) .
وأما قولهم: لو صح لكان لا حجة فيه؛ لأنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرد عليه بأن هذا قول أحد الخلفاء الراشدين المهديين وأقوالهم سنة يجب العمل بها كما أن التفريق من القاضي تتعلق به حقوق الآدميين وعمر – رضي الله عنه – قال ذلك في محضر من الصحابة ولم ينكر عليه فصار إجماعًا.
الترجيح:
الناظر المتأمل في مقاصد الإسلام الكلية وقواعده العامة وما اشتملت عليه الأدلة من جلب للمصالح ودفع للمفاسد يترجح عنده أن إعطاء حق الفراق يعطي لكل من الزوجين؛ لأن الأدلة آمرة بحفظ المال ناهية عن ضياعه محرمة لأكل أموال الناس بالباطل ولا شك أن من لم يعط كلا الزوجين حق الرد بالعيب أو الفراق إذا حدث بعد العقد كان متسببًا في إضاعة ماله وقد خالف القواعد الكلية التي تمنع الضرر كقاعدة (الضرر يزال) (2) .
فإن قيل إن في إعطاء السليم حق الفرقة ضرر على الآخر وقاعدة: (الضرر لا يزال بالضرر) شاهد على ذلك قيل بوجود قاعدة أخرى تخصص هذه القاعدة وهي: (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) (3) . وقاعدة: (إذا تعارض مفسدتان روعي دفع أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما) (4)
وقاعدة: (يحتمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام) (5) .
وفي بقاء السليم مع المريض ضرر عليهما وعلى الأبناء والأسرة وذلك ينتقل إلى المجتمع ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح (6)
فمع تسليمنا بأن لأحد الزوجين مصلحة ولكن على الآخر مفسدة ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، والله سبحانه وتعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
وفي بقاء السليم مع المريض بالأمراض المعدية عسر وحرج ومشقة لا تطاق.
__________
(1) نيل الأوطار: 6 /177.
(2) السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 92 – 97؛ وابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 85 – 90.
(3) نيل الأوطار: 6 /177،السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 92 – 97؛ وابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 85 – 90
(4) السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 96.
(5) السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 92 – 97 ح وابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 85 – 90
(6) السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 96، السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 92 – 97 ح وابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 85 – 90(9/1986)
فإعطاء السليم حق الفرقة والفرار من أوجب الواجبات حماية له وللأسرة وللمجتمع وليس ذلك عقوبة للمريض ولا جزاء له بل حماية للمجتمع وحصرا للضرر ودرء للمفسدة. فالإحساس يتزايد بأن وباء العصر ليس كغيره من الأمراض بل إنه يعتبر كارثة ليست كغيرها من الكوارث، إذ الكارثة طبيعية كانت أو اصطناعية تكون محدودة ذاتيًا في الزمان طال أو قصر، وفي المكان ضاق أو اتسع ولكن جائحة الإيدز تنتقل عبر الزمان رأسيًا من جيل إلى جيل، وتنتشر في المكان أفقيًا بغير حدود، والإيدز بخصائصه هذه التي لم يسبق لها مثيل يتطلب من الجميع عملًا متناسقًا. عملًا يبدأ من الأسرة حماية وتوعية ويمضي إلى المدرسة تعليمًا وتربية وينتقل إلى مواقع التوجيه العامة والتربية الدينية والمعسكرات ومواقع العمل وسائر مواقع الأنشطة اليومية (1) .
هل للولي منع المرأة من الزواج بمصاب الإيدز؟
تقدم الكلام ونصوص الفقهاء – رحمهم الله – في إعطاء حق المفارقة للسليم من الزوجين وقد ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فجعل للولي الحق في منعها من التزويج بمرض يخشى تعدي مرضه إليها أو إلى الولد، قال في شرح المنتهى: وإن اختارت مكلفة أن تتزوج مجنونًا أو مذمومًا أو أبرص فلوليها العاقد منعها منه، لأن فيه عارًا عليها وعلى أهلها ضررًا يخشى تعديه إلى الولد كمنعها من تزويجها بغير كفؤ (2) .
ولا شك أن مرض الإيدز يخشى تعديه إليها أو إلى الولد فلو منع الولي أو السلطان التزويج لكان أمرًا متجهًا.
وما قيل في منع المرأة لا يبعد القول به في منع الرجل إذا اختار مصابه درءًا للمفاسد الخاصة والعامة المؤدية إلى الهلاك الذي نهى الله عنه بقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
وقد يكون من الواجب على الزوجين إجراء فحص للتأكد من خلوهما من الإيدز، والله أعلم.
__________
(1) د. رفعت كمال، قصة الإيدز: ص 144.
(2) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3 / 54(9/1987)
المطلب الثالث
في إجهاض الجنين وإرضاع وحضانة الطفل السليم
إذا كانت الأم مصابة
وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول
إجهاض الجنين المصابة أمه بالإيدز
عند الأطباء عدة نظريات وأقوال في كيفية انتقال فيروس الإيدز إلى الأجنة منها:
1- إن الإصابة تحدث للأطفال نتيجة انتقال الفيروس من المصاب من الأبوين إلى الطفل عن طريق المني، حيث ثبت أن الفيروس قد فصل من المني فتحصل الإصابة للجنين في مرحلة مبكرة ويعزى حدوث بعض حالات الإجهاض إلى هذا السبب.
2- إن الإصابة بانتقال الفيروس من دم الأم إلى دم الجنين عبر المشيمة ومنه إلى الحبل السري ثم إلى الجنين حيث إنه يتغذى بذلك.
3- إن الإصابة قد تحصل أثناء عملية الولادة ونزوله من الرحم والمهبل المصاب (1) .
وبعد استعراض كيفية انتقال المرض إلى الأجنة مما يشكل خطورة عليهم، وعلى الأم الحامل حيث يساعد الحمل على تدهور صحتها العامة وظهور آثار المرض يظهر أن أقوال الأطباء في منع الحمل وجيهة وقوية حيث جاء في قصة الإيدز: (وعلى الأم المصابة بالمرض أو العدوى أن تتجنب الحمل والولادة حفاظًا على حالتها الصحية من التدهور وحماية للجنين أو الوليد من الإصابة بالعدوى) (2) . وهذا القول يتفق مع ما ورد عن الصحابة – رضي الله عنهم – أنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل فلم ينههم صلى الله عليه وسلم، ومنع الحمل هنا خشية على صحة الأم، وخشية من انتقال المرض إلى الجنين وذلك أمر متجه تؤيده قواعد الإسلام الكلية وما اشتملت عليه من أن دفع المضار مقدم على جلب المصالح إذا تساوت فكيف إذا رجحت المفاسد على المصالح.
أما بعد حصول الحمل وقبل نفخ الروح في الجنين ففي الأمر تفصيل. فإن كان الخوف على الجنين فمجال نظر حيث إن نسبة الأطفال المصابين بالعدوى ليست عالية جدًا حيث لا يتجاوز 45 % (3) حسب استقراء المختصين حتى الآن، أما بعد نفخ الروح فلا يجوز الإجهاض بحال حيث إن إجهاضه قتل له واحتمال سلامته من المرض نسبته عالية عند الأطباء.
أما إذا كان الخوف على الأم من الهلاك وغلب على الظن بقول أطباء موثوقين فيجوز الإجهاض قبل نفخ الروح دفعًا لأعلى الضررين بارتكاب أخفهما. أما بعد نفخ الروح فلا يجوز الإجهاض بحال حيث إن الأم مصابة واحتمال إصابة الجنين قليل.
__________
(1) محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز: ص 72 – 73. ومقابلة أجريتها مع مجموعة من الأطباء
(2) كمال رفعت، قصة الإيدز: ص 19، وانظر محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز: ص305
(3) مقابلة أجريتها مع مجموعة من الأطباء(9/1988)
الفرع الثاني
إرضاع الطفل المصابة أمه
تأكد عند الأطباء أن الفيروس موجود في لبن الأم وذلك مؤشر قوي على أن الإصابة التي تحصل للأطفال عن طريق الرضاعة من الأم (1) .
وقال البهوتي: (إذا كان بالأم برص أو جذام سقط حقها من الحضانة كما أفتى به المجد ابن تيمية وصرح بذلك العلائي الشافعي في قواعده وقال: لأنه يخشى على الولد من لبنها … وقال في الإنصاف: وقال غير واحد وهو واضح في كل عيب متعد ضرره إلى غيره) (2) .
وحيث أن الأمر كما ذكر فلنستعرض آراء الفقهاء في حكم رضاعة الطفل من الأم المصابة بمرض معد أقل خطورة من الإيدز كالبرص والجذام حيث إن البرص غير قاتل والجذام قد وجد له علاج يوقفه عند حد معين بخلاف وباء العصر – الإيدز – الذي لم يوجد له علاج ولا مصل واق، فمما ما جاء في هذا المجال ما ذكره العلائي في قواعد حيث قال: [ذكر المستفتي أن الولد رضيع وأن من يقبل قوله من الأطباء ذكر أن ارتضاعه لبنها يورث ذلك المرض فيه فيتعين الجواب حينئذ بسقوط حضانتها وذلك قدر زائد على الإعداء، لأنه من جنس أكل السموم] (3) .
وقال البهوتي إذا كان بالأم برص أو جذام سقط حقها من الحضانة، كما أفتى به المجد بن تيمية وصرح بذلك العلائي الشافعي في قواعده وقال: لأنه يخشى على الولد من لبنها … وقال في الإنصاف: وقال غير واحد [وهو واضح في كل عيب متعد ضرره إلى غيره] (4)
فقد ظهر من أقوال الأطباء الموثوقين أنه يخشى تعدي المرض عن طريق الرضاعة وإن كانت نسبة إصابة الأطفال ليست عالية جدًا، ولذلك وجب الامتناع عن إرضاع الأطفال من لبن المصابات بالمرض محافظة على حياتهم وعدم تعريضهم إلى الخطر، فإن الله نهى عن التعرض للمهالك، والأمر بحفظ النفس مما اجتمعت الشرائع على وجوبه إلا أنه ينبغي تقييد هذا الحكم بأن لا يخشى على الطفل الهلاك جوعًا لا سيمًا فيبعض البلدان التي لا يوجد فيها بدليل للرضاعة الطبيعية من امرأة أخرى سليمة أو رضاعة بديلة من الألبان المجففة فيجب حينئذ إرضاعه من أمة وعدم تركه للهلاك العاجل جوعًا إذ أن ترك إرضاعه من أم مصابة لا بديل للرضاعة عنها هلاك محقق وعند رضاعته منها وهي مصابة احتمال السلام عال حيث إن الأسباب المؤدية إلى العدوى قد يبطل الله مفعولها وقد يحدث من الأسباب الأخرى ما يعارضها وقد يسهل الله اكتشاف علاج له أو مصل واق في القريب العاجل وما ذلك على الله بعزيز، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون … والله أعلم.
__________
(1) محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز
(2) البهوتي، كشاف القناع: 3 / 499
(3) العلائي، المجموع المذهب في قواعد المذهب: 2 / 158 ب، وانظر ابن خطيب الدهشة. مختصر قواعد العلائي: 2 / 542 – 543
(4) البهوتي، كشاف القناع 3 / 499.(9/1989)
الفرع الثالث
حضانة المصابة بالإيدز للطفل السليم
إعطاء حكم في هذه المسألة عن اتضاح وسائل انتقال المرض فإن ظهر أن المعايشة والالتصاق سبب في انتقال العدوى منعت الحضانة حينئذ والأطباء لم يجزموا بعدم انتقاله بالمعايشة بل ورد من نظرياتهم أن الإصابة قد تكون بسبب الالتصاق، جاء في كتاب الإيدز وباء العصر تفسير لبعض إصابات الأطفال: (تحدث الإصابة بعد الولادة نتيجة الالتصاق والصلة الحميمة بينه وبين الأم أو الأب المصاب) (1)
ولكن الذي أميل إليه والحالة هذه من عدم وضوح وسائل انتقاله: أنه يأخذ حكم الجذام والبرص حتى يقطع بعدم الانتقال بالمعايشة إن وجد من يقوم بحضانته غير المصاب وإلا وجب بقاؤه مع المريض وتخلف الأسباب وعدم تأثيرها إذا كانت واضحة أمر معلوم في شريعتنا السمحة فكيف إذا كان السبب محل خلاف؟
أما إذا وجد من يقوم بحضانته كالأب السليم فتسقط حضانة الأم المصابة أو توقف حتى يتضح الأمر ويحسم طبيًا ومن تتبع نصوص الفقهاء وأقوالهم في ذلك اتضح له بعد نظرهم وسعة اطلاعهم. جاء في كشاف القناع: [وإذا كان بالأم برص أو جذام سقط حقها من الحضانة …. قال في الإنصاف: وقال غير واحد وهو واضح في كل عيب متعد ضرره إلى غيره] (2) .
وقال العلائي: [لو كانت الأم مجذومة والولد غير رضيع فينبغي القول بسقوط حضانتها] (3) .
وعليه فإن القول بإيقاف حضانتها حتى يتضح الأمر (4) قول وجيه فإن امتنع الولي وأصر فسق، وعليه فإن الجذماء والبرصاء حيث ثبت أن الجذام ينتقل بالمعايشة والمجالسة تسقط حضانتهما ويجب عزلهما فإن شارك هذا المرض – الإيدز – الجذام وكانت ينتقل بالمعايشة (5) أخذ حكمه في الحضانة والعزل. جاء في كشاف القناع: [ولا يجوز للجذماء مخالطة الأصحاء عمومًا … وعلى ولاة الأمور منعهم من مخالطة الأصحاء بأن يسكنوا في مكان مفرد لهم] (6) .
__________
(1) محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز: ص 73. ومقابلة أجريتها مع مجموعة من الأطباء.
(2) البهوتي، كشاف القناع: 3 / 499
(3) العلائي، المجموع المذهب: 2 / 258 ب
(4) إن وجد بديلا يقبل حضانته مع الخوف والرعب الذي ينتشر بين الناس إذا علم أن في الأسرة مصابًا فقد يجتنب الناس الأسرة كلها.
(5) يميل كثير من الأطباء إلى عدم انتقاله بالمعايشة.
(6) البهوتي، كشاف القناع: 6 / 126؛ وانظر شرح منتهى الإرادات: 3 / 267(9/1990)
المبحث الثاني
في عقوبة مرض الإيدز
إذا تسبب في إصابة غيره بهذا المرض يمكن تقسيم هذا المبحث إلى أربعة مطالب:
المطلب الأول: الجواسيس والشاذون ومن في حكمهم من المفسدين.
المطلب الثاني: جرح المريض السليم جرحًا بسيطً.
المطلب الثالث: المعاشرة المصاب من الزوجين للسليم.
المطلب الرابع: الإصابة بالمرض نتيجة تقصير الأطباء والفنيين في المختبرات أثناء نقل الدم ومشتقاته أو زراعة الأعضاء.
ومن المبادئ المستقرة عند المسلمين التي لا تقبل التشكيك أن الشريعة الإسلامية متصفة بالكمال، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
فكل ما قد يطرأ على البشرية من حوادث ونوازل لابد من وجود حكم لها منصوص أو مقيس أو منقول أو مخرج على القواعد الكلية، فشمولية الشريعة أمر مستقر واضح في مبادئها وقواعدها العامة وذلك مصداقًا لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] .
ومما نجده واضحًا أشد الوضوح أحكام الجنايات والحدود والديات، ولا شك أن موضوع البحث وهو عقوبة مريض الإيدز إذا تسبب في إصابة غيره قد اشتملت عليه أحكام الشريعة الإسلامية وإن لم ينص عليه باسمه لكن عموم النصوص والقواعد الكلية ومقاصد الشارع العامة مشتملة على حكمه، فحفظ النفس أحد المقاصد التي اجتمعت عليها الشرائع السماوية وسوف يكون في هذا المبحث بيان وتخريج ونقل لما قاله الفقهاء في صور الجنايات التي نصوا عليها وتخريج موضوع البحث على ما ذكروه من صور. ويمكن تقسيم جنايته وتسببه في إصابة غيره إلى أربعة مطالب:
المطلب الأول
الجواسيس والشاذون ومن في حكمهم من المفسدين
يشير خبراء التحاليل الطبية أن مريض الإيدز عبارة عن مزرعة متحركة للميكروبات والجراثيم ولا يستطيع أحد تمييزه عن غيره، لأن أعراض الإصابة لا تظهر إلا بعد فترة طويلة حيث إنه يمارس حياته بشكل طبيعي وينشر المرض فيمن حوله خاصة في حالة علمه بإصابته حيث يشعر باقتراب نهايته ولذلك أكد خبراء الرأي العام أن خطورة مرض الإيدز لا تكمن فقط في صعوبة الشفاء منه ولكن الخطورة تنبع من سوء استغلال بعض الجهات للمرض في أغراض حقيرة لتحقيق أهداف غير إنسانية (1) .
__________
(1) جريدة المدينة، العدد 9399، في 16 / 8 / 1413 هـ.(9/1991)
وحيث إن الأمة الإسلامية عامة والعربية خاصة أمة مستهدفة في عقيدتها واقتصادها، وشبابها أعظم ثروة لديها، لذلك نلاحظ الهجمة الشرسة من الصهيونية والنصرانية الصليبية التي اتخذت عدة أساليب للنيل من الأمة بوسائل وأهداف لم تعهد من قبل، ويعتبر مرض الإيدز أكثر فاعلية من الأساليب المألوفة وهو أسلوب له تأثيره في الحرب النفسية، وقد ذكر خبراء الرأي العام أن المخابرات المعادية كثيرًا ما تلجأ إليه لضرب البلدان المستهدفة في أعز ما تملك وهو الشباب (1) .
فالجواسيس يحملون المرض وينقلونه إلى غيرهم عن طريق الممارسات الجنسية التي تعتبر إحدى الوسائل الناقلة المتفق عليها عند الأطباء، فقد توفر قصد الجناية بطريقة غير مشروعة، وحيث إن الزنا واللواط والمخدرات طرق لنقل المرض المؤدية إلى الهلاك فما الحكم والحالة هذه؟
هذه الصورة تعتبر من صورة الفساد في الأرض والحرابة التي ذكر الله سبحانه وتعالى حكمها في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] .
فالجواسيس والشاذون جنسيًا الذي يحصل منهم الاعتداء على الأعراض يستدرجون الغلمان والفتيات الصغيرات والضعفاء والفقراء ويغرونهم بالمال أو يغتصبونهم، يجب قطع شرهم ولو لم يكونوا مصابين بهذا الوباء الخطير الذي ينتقل إلى الأصحاء عن طريق المعاشرة الجنسية، فكيف إذا حصل به انتقال المرض فينبغي قتلهم حدًا لا قصاصًا فلا تشترط المكافأة ولا يرد الأمر إلى الأولياء.
فقد ثبت في الصحيحين: أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها أو حلى فأخذ واعترف فأمر رسول الله صلى أن يرض رأسه بين حجرين (2) .
ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إلى أولياء الجارية ولو كان قصاصًا لرد الأمر إليهم؛ لأنهم أهل الحق. وكل حق يتعلق به حق الله وحق الله هو الغالب فلا عفو فيه كحد السرقة وغيرها.
__________
(1) الهدف: 1285، في 16 / 7 / 1413
(2) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 5 / 371؛ ومسلم، الجامع الصحيح: 11 / 158(9/1992)
المطلب الثاني
جرح المريض السليم جرحًا بسيطًا
من المعلوم أن الفيروس إذا دخل عن طريق الدم أصيب الصحيح بالمرض ولذلك ينصح الأطباء عمومًا بتجنب أي إجراء من شأنه اختراق الجلد (1) .
وقد استفاض عند الناس أن الفيروس ينتقل إلى الصحيح عن طريق الجروح، ولجأ بعض مرضى الإيدز إلى الاعتداء على رجال الأمن وجرحهم بجروح بسيطة أو عضهم انتقامًا منهم أو تخلصًا منهم، وقد علمت أن ممرضة تخاصمت مع مريض في المستشفى فأرادت الانتقام فعمدت إلى استخدام إبرة مع هذا المريض الذي خاصمته كانت قد استعملت في حقن المريض بالوباء الكبدي فما حكم هذه الحالة ومثيلاتها؟
بعد أن استعرضت صور القتل العمد رأيت أن هذه الصورة تشابه القتل بالسم والسحر وغيرها من صور القتل الخفية وقد وجدت أقوال الفقهاء في القتل بالسم على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول:
ذهب جمهور فقهاء الحنفية فيمن وضع سمًا في أكل أو شرب وهو عالم به والآكل أو الشارب غير عالم إلى عدم وجوب القصاص أو الدية عليه وأنه لا يجب عليه إلا التعزير. جاء في الدر المحتار: [سقاه سما حتى مات، إن دفعه إليه حتى أكله ولم يعلم به فمات لا قصاص ولا دية لكنه يحبس ويعزر ولو أوجره السم إيجارًا تجب الدية على عاقلته] (2) .
المذهب الثاني:
الأظهر عند الشافعية أن القتل بالسم شبه عمد تجب فيه دية شبه العمد، جاء في نهاية المحتاج: [ولو دس سمًا … في طعام شخص مميز أو بالغ على ما مر والغالب أكله منه فأكله جاهلًا بالحال فعلى الأقوال دية شبه العمد على الأظهر] (3) .
__________
(1) رفعت كمال، قصة الإيدز: ص 19
(2) الموصلي، الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 6 / 542؛ وانظر الكاساني بدائع الصنائع: 10 / 4919
(3) الرملي، نهاية المحتاج: 7 / 242؛ وانظر المحلى شرح المنهاج: 4 / 99؛ والنووي، روضة الطالبين: 9 / 126(9/1993)
المذهب الثالث:
قال المالكية وهو المذهب عند الحنابلة والظاهر عند الشافعية وقول عند الأمامية وبعض الحنفية إن تقديم السم مثل القتل بالمحدد والمثقل يوجب القود بشرطه، جاء في الشرح الكبير: [وتقديم مسموم لغير عالم فتناوله ومات فيقتص من المقدم إن علم أنه مسموم] (1)
وجاء في شرح منتهى الإرادات: [السابعة أن يسقيه سمًا يقتل غالبا لا يعلم به شاربه أو يخلطه بطعام أو يطعمه لمن لا يعلم به أو يخلطه بطعام أكل فيأكله جاهلًا به فيموت فيقاد به كما لو قتله بمحدد] (2) .
وجاء في روضة الطالبين: [لو سقاه دواء أو سمًا لا يقتل غالبًا لكنه يقتل كثيرًا فهو كغرز في غير مقتل وفي إلحاقه بالمثقل احتمال] (3) .
وجاء في البحر الزخار: [وأما السبب فمنه ما يشبه المباشرة فيوجب القصاص وذلك كالإكراه …وتقديم الطعام المسموم في قول] (4) .
وجاء في حاشية ابن عابدين: (وذكر السائحاني أن شيخه أبا السعود ذكر في باب قطع الطريق أنه لو قتل بالسم قيل يجب القصاص لأنه يعمل عمل النار) (5) .
أدلة القائلين بعدم قتل مقدم السم وما شابهه:
1- ما روى أنس بن مالك: ((أن يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتلها)) (6) .
2- إن أكل السم آكله مختارًا، فأشبه ما لو قدم إليه سكينًا فطعن بها نفسه فيكون قاتلًا نفسه (7) .
أدلة الجمهور على وجوب القصاص على القاتل بالسم وما شابهه:
الضابط الذي ذكره جمهور الفقهاء في قتل العمد العدوان، أنه القتل بما يغلب على الظن موته به مطرد على عمومه لا يستثنى منه شيء (8)
وهذا سبب يسري إلى البدن غالبًا فيؤدي إلى القتل فيستدل له بما يلي:
1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] .
2- قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] .
__________
(1) الدردير، الشرح الكبير: 4 / 217؛ وانظر الشرح الصغير: 4 / 342؛ والصاوي على الشرح الصغير: 4 / 342؛ والدسوقي، حاشيته: 4 / 217.
(2) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3 / 270؛ وانظر المرداوي الإنصاف: 9 / 440؛ وكشاف القناع: 5 / 509؛ وابن قدامة المغني: 7 /643
(3) النووي، روضة الطالبين: 9 / 126؛ وانظر المحلى، شرح المنهاج: 4 / 99؛ وقليوبي حاشية: 4 / 99؛ وابن القاسم العبادي، حاشية: 8 / 384
(4) المرتضى، البحر الزخار: 6/ 216
(5) ابن عابدين حاشية رد المحتار: 6 / 542.
(6) البخاري، الجامع الصحيح: 7 / 497؛ ومسلم، الجامع الصحيح: 14 / 178 – 179
(7) السرخسي، المبسوط: 26 / 153.
(8) عبد الله البسام، نيل المآرب: 4 / 434.(9/1994)
3- وقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]
4- ما ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات بشر بن البراء بن معرور أرسل إلى اليهودية فقال: ((ماحملك على ما صنعت؟)) . . . . فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت (1)
5- هذا سبب يقتل غالبًا ويتخذ طريقًا إلى القتل كثيرًا فأوجب القصاص كما لو أكرهه على شربه (2) .
6- لو كان القتل بالأسباب الخفية لا يوجب القصاص لعدل شرار الخلق عن الأسباب الظاهرة الموجبة للقصاص إلى الأسباب الخفية كالسم والسحر والجراثيم والفيروسات ونشر الأمراض الفتاكة التي تعتبر أشد فتكًا وأكثر قتلًا من المحدد والمثقل فالأولى أن تأخذ حكم الأسباب الظاهرة. والله أعلم.
وقد نوقشت أدلة القائلين بعدم قتل مقدم السم بمناقشات بينت ضعفها، فخبر اليهودية ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلها قبل أن يموت بشر بن البراء فلما مات أمر بقلتها فقتلت، وأنس نقل صدر القصة دون آخرها فيتعين حمله عليه جمعًا بين الخبرين (3) .
أما تقديم السكين ففرق بينه وبين دس السم إذ السكين لا تقدم إلى الإنسان ليقتل بها نفسه إنما تقدم إليه لينتفع بها وهو عالم بمضرتها ونفعها فأشبه ما لو قدم إليه السم وهو عالم به فأكله (4) .
الراجح:
كانت العرب في الجاهلية تقول القتل أنفى للقتل وبسفك الدماء تحقن الدماء، والمقصود من القصاص الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة ولو لم يجب القصاص بهذه الأسباب الخفية لعدل شرار الخلق عن القتل بالظاهر إلى الخفي ما يستحدثونه كل حين مما هو أشد فتكًا بالأنفس وإزهاقًا للأرواح من الأسباب الظاهرة فيعود ذلك على مقصد الشارع بالنقض والإبطال فيشيع القتل وتزهق الأنفس وتسفك الدماء والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] فإذا جرح مريض الإيدز وغيره أو عضه فأصابه المرض قتلناه بعد موت المجني عليه لأن سراية الجناية مضمونة وموته بالسراية إذ الغالب أنه بعد دخول الفيروس في بدن السليم يبقى مصابًا حتى يموت من سرايته.
__________
(1) أبو داود، السنن: 4 / 175
(2) ابن قدامة، المغني: 7 / 643
(3) ابن قدامة، المغنى: 7 / 643، 644
(4) ابن قدامة، المغنى: 7 / 643 – 644(9/1995)
جاء في شرح منتهى الإرادات: [وتضمن سراية جناية ولو بعد أن أندمل جرح أو اقتص من جان ثم انتقض الجرح فسرى لحصول التلف بفعل الجاني أشبه ما لو باشره بقود ودية] (1) فعلى القتل بالسم يخرج جرح مريض الإيدز لغيره، ولإمكان اختيار القول الذي ذهب إليه كثير من الفهقاء أن الجرح ولو كان صغيرًا في غير مقتل موجب للقصاص لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل بل يعلل وجوب القصاص عليه بأنه مات بمحدد.
قال في كشاف القناع: [ولو صغيرًا كشرطة حجام فمات المجروح ولو طالت علته منه ولا علة به غيره – أي الجرح – ولو كانت في غير مقتل كالأطراف لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل بدليل ما لو قطع شحمة أذنه أو أنملة فمات] (2)
فالجرح على هذا القول سبب لزهوق النفس والجرح بما له نفوذ في البدن كسكين وحربة ونحوهما، وإن قال لم أقصد قتله لم يقبل منه ولم يصدق في دعواه؛ لأنه خلاف الظاهر (3) .
وعليه، فإن التسبب في إدخال الفيروس إلى الدم قد استفاض عند الأطباء وكذا سائر الناس أنه سبب للإصابة ثم السراية والموت فلا يقبل قول الجاني أنه لم يقصد قتله لأن ذلك خلاف الظاهر. والله أعلم.
__________
(1) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3 / 297 – 298
(2) البهوتي، كشاف القناع: 5 / 505.
(3) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3 / 269؛ وانظر المرداوي، الإنصاف: 9 / 441(9/1996)
المطلب الثالث
معاشرة المصاب من الزوجين للسليم
من المعلوم عند الأطباء أن المني يحمل الفيروس فإذا عاشر أحد الزوجين الآخر، وهو مصاب أصيب الآخر غالبًا، فزوجات المصابين أصيب عدد كبير منهن (1) ولذلك ينصح الأطباء إذا كان أحد الزوجين مصابًا بالابتعاد عن الاتصال الجنسي (2) ما أمكن. فإن لم يمكن فعن طريق استعمال العازل الذكري – الكبوت – الذي يؤدي إلى منع ملامسة الإفرازات الجنسية لكل من الطرفين وبالتالي لا تنتقل العدوى إلى السليم (3) . ولكن السؤال المطروح الذي تجب الإجابة عليه: ما هو حكم الشرع إذا علم المريض بمرضه ومارس مع السليم الجاهل فأصابه المرض؟ وهل يختلف الحكم إذا لم يعلم أنه مصاب فمارس الجنس وأصاب الآخر؟.
يقسم الفقهاء القتل الخطأ إلى قسمين:
أحدهما: أن يفعل ما له فعله فيقتل إنسانًا.
وعلى ذلك هل لمريض الإيدز أن يعاشر السليم المعاشرة الجنسية التي ثبتت أنها ناقلة للمرض بما لا يدع مجالًا للشك؟
من القواعد الكلية المعلومة والمستقرة عند العلماء: (لا ضرر ولا ضرار) .... فكل فعل فيه ضرر أو ضرار بأحد فهو ممنوع شرعًا ومن خالف أثم فيما بينه وبين الله تعالى ولزمته تبعات عمله بل لقد ذهب كثير من علماء الحنابلة إلى أن من فعل ما ليس له فعله فهو عمد محض.
جاء في الإنصاف: (تنبيه: مفهوم قوله أن يفعل ما له فعله أنه إذا فعل ما ليس له فعله كأن يقصد رمي آدميا معصوما، أو بهيمة محترمة، فيصيب غيره، أن ذلك لا يكون خطأ بل عمدًا وهو منصوص الإمام أحمد – رحمه الله -. قال القاضي في روايته: وهو في ظاهر كلام الخرقي) (4) .
وعليه فمريض الإيدز إذا علم بمرضه فليس له المعاشرة حينئذ فيكون جانيا، يجب عليه تبعات جناياته من دية وكفارة وفي القود تردد إذ قد يكون حقه في المعاشرة الزوجية التي لا يعلم بمنعها، وذلك – متوقع – شبهة في درء حد القصاص.
__________
(1) محمد البار ومحمد صافي، الإيدز: ص 70
(2) رفعت كمال قصة الإيدز: ص 23
(3) رفعت كمال قصة الإيدز: ص 23
(4) المرداوي، الإنصاف: 9 / 446؛ وانظر البهوتي شرح منتهى الإرادات: 3 / 272؛ وكشاف القناع: 5 / 513(9/1997)
وأما إذا كان المريض لا يعلم بمرضه فعاشر السليم وأصابه فما الحكم؟
من المعلوم المستقر أن الجهل والخطأ والنسيان رافع للإثم مطلقًا فيما بين المكلف وربه كما وعد بذلك رب العزة والجلال بقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) . . . . (1) .
وأما الحكم فإن الدية والكفارة واجبتان عليه إذ الخطأ لا يسقط حقوق الآخرين المالية، كما أنه لا يسقط الواجبات، فمن نام عن صلاة أو نسيها يجب أداؤها إذا ذكرها وما أحسن تفصيل السيوطي – رحمه الله – في هذا المقام حيث يقول: (اعلم أن قاعدة الفقه أن النسيان والجهل مسقط للإثم مطلقًا. وأما الحكم فإن وقعا في ترك مأمور لم يسقط بل يجب تداركه ولا يحصل الثواب المترتب عليه لعدم الائتمار، أو فعل منهي ليس من باب الإتلاف فلا شيء فيه أو فيه إتلاف لم يسقط الضمان. فإن كان يوجب عقوبة كان شبهة في إسقاطها) (2)
فالضمان واجب على من تسبب في إصابة غيره والجهل والخطأ والنسيان لا تسقط حقوق الآخرين، وعليه تجب دية السليم إذا أصابه المرض نتيجة للمعاشرة الجنسية … والله أعلم.
المطلب الرابع
الإصابة بالمرض نتيجة تقصير الأطباء والفنيين في
المختبرات أثناء نقل الدم ومشتقاته وزراعة الأعضاء
من المؤكد والمتفق عليه بين الأطباء أن نقل الدم ومحتوياته وزراعة الأعضاء من مصاب إلى سليم سبب لانتقال العدوى، وقد علمت وقائع متعددة نقل فيها الدم من مصابين فأصيب المنقول إليه بالعدوى لا سيما في مراحل اكتشاف المرض الأولى قبل أن تعرف وسائل انتقاله وتتخذ الاحتياطات اللازمة والتأكد من سلامة المنقول منه من المرض (3) .
__________
(1) ابن ماجة، السنن: 1 / 659
(2) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 207
(3) محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز: ص 93 – 102؛ رفعت كمال، قصة الإيدز: ص 19(9/1998)
وحيث إن الإصابة بسبب تقصير الأطباء وفني المختبرات أحد الموضوعات اللازم بحثها في نوازل العصر ومستجداته فما هو حكم الشارع في ذلك؟
غاية العمل الطبي والمقصود منه هو حصول مصلحة حفظ الإنسان المرجوة ودفع مضرة الأمراض النازلة به، والشريعة الإسلامية عندما أباحت العمل الطبي بإباحته رجاء تحصيل هذه المصالح المرجوة، وتحصيلها لا يتم إلا بمطابقة العمل لأصول مهنة الطب، وحيث لم يطابق العمل الذي يقوم به الطبيب أصول مهنة الطب، فإنه لا يكون محققًا لتلك المصالح ومن ثم يبقى على أصله فعلًا محرمًا لا يجوز للطبيب ولا لغيره الإقدام عليه؛ لأن الأصل المقرر أن كل عمل قاصر عن تحصيل مقصوده لا يشرع (1) فكيف إذا كان يحقق نقيض المقصود؟ وحيث إن الأطباء بشر قد يتسببون في إتلاف الأنفس فقد شرع الله الزواجر لحماية الناس وهذه الزواجر تتمثل في الوعيد الشديد الذي يلحق بسبب تقصيرهم وإهمالهم واستخفافهم بأجساد الناس وأرواحهم، وذلك يتمثل بعقاب الله لهم في الآخرة كما يتمثل في الدنيا بما يترتب على أفعالهم من قصاص إن كان عمدًا، أو ضمان يلزمهم به القاضي إن كان خطأ (2) .
قال الدكتور قيس بن المبارك: [لا يكون العمل الطبي مستوفيًا هذا الشرط بأن يحقق تلك المصلحة المرجوة وبدفع تلك المفسدة عن المريض إلا إذا كان موافقًا للأصول والقواعد العلمية المعتبرة عند أصحاب هذا الفن ذلك أن إقدام الطبيب على معالجة الناس والتصدي لجراحة أبدانهم على غير الأصول العلمية المعتبرة في علم الطب يحيل عمله من عمل مشروع ومندوب إليه إلى عمل محرم يعاقب عليه؛ لأنه أصبح عملًا عدوانيًا فهو أشبه بالجناية الصادرة من غير الطبيب] . ثم قال: وقد ذكر الدكتور أسامة فايد تعريفًا حسنًا لهذه الأصول فقال: [هي الأصول الثابتة والقواعد المتعارف عليها نظريًا وعمليا بين الأطباء والتي يجب أن يلم بها كل طبيب وقت قيامه بالعمل الطبي] (3) .
وقد نص الفقهاء قديمًا على تقصير الأطباء ومن في حكمهم والأحكام المترتبة عليه، ومن ذلك ما قاله الشيخ خليل: [كطبيب جهل أو قصّر] . (4) .. فجعل عليه الضمان بتقصيره وأي تقصير يساوي هذا التقصير الذي لا يحتاط فيه الطبيب والفني من وجود الفيروس المؤدي إلى هذا المرض القاتل.
__________
(1) قيس مبارك، التداوي، والمسؤولية الطبية: ص 175
(2) قيس بن مبارك، التداوي والمسؤولية الطبية: ص 133
(3) قيس بن مبارك، التداوي والمسؤولية الطبية: ص 168
(4) انظر الدردير، الشرح الكبير مع الحاشية الدسوقي: 4 /316(9/1999)