الأمر التاسع: أخيراً وأعتذر إذا كنت قد أطلت، ما الموقف عند الظروف الطارئة؟ هناك حالات طارئة وربما حرب تحضر وربما كذا ... ما الموقف؟ الأستاذ المصري يقول: يتم الرجوع هنا إلى القضاء وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح.
الأمر العاشر: هذا السؤال مطروح، هل الجهة الداعية للمناقصة ملزمة بإرسائها على أنقص عطاء؟ يرى الباحثان أن تعريف العملية يعني الإلزام، فإذا ما تحول إلى عرف عام شكل تعهداً ولا يبعد الإلزام إلا إذا اشترط المشتري أو الجهة الداعية للمناقصة عدم التزامه بذلك. وهناك تفصيلات أخرى لا نرى ضرورة التعرض إليها وأعتذر إذا كنت قد أطلت. والسلام عليكم.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
هذه المسألة مسألة جديدة حقيقة، ولست كمسائل السلم التي سمعناها، وليست كمسائل التعامل مع الشركات التي تتعامل بالربا. وقد تدعو الحاجة إليها خصوصاً الحكومات أو الجهات المالية الكبيرة. ولذلك فإني أقترح تأجيل النظر فيها للدورة المقبلة حتى تقدم فيها بحوث فقهية كاملة، فإن البحوث التي بين أيدينا لا يمكن البت على أساسها. وشكراً.
الشيخ حسن الجواهري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين.
لدي بعض الملاحظات لم أدرجها في البحث أعرضها بصورة ملخصة.
بالنسبة لما ذكره الدكتور رفيق ناسباً له إلى الفقهاء عن الموسوعة الفقهية الكويتية ذكر تقسيم البيع من حيث تحديد الثمن إلى ثلاثة أقسام "بيع المساومة، وبيع المزايدة، وبيع الأمانة". وجعل بيع المناقصة عكس بيع المزايدة. أقول: إن هذا التقسيم قد لا يكون صحيحاً لعدم التباين التام بين المساومة والمزايدة والمناقصة، بل إن بيع المساومة يشمل بيع المزايدة والمناقصة؛ لأن المساومة معناها: البيع بما يتفقان عليه من غير تعرض للإخبار بالثمن سواء علمه المشتري أم لا. وهذا التعريف يصدق على المتبايعين سواء كان المشتري واحداً أم متعدداً كما في المزايدة، وسواء كان البائع واحداً أم متعدداً كما في المناقصة. وعلى هذا سوف يكون التقسيم الأوفق للبيع من ناحية تحديد الثمن هو تقسيمه إلى قسمين: بيع المساومة، وبيع الأمانة الذي يقسم بدوره إلى ثلاثة أقسام: مرابحة، وتولية، ووضيعة.(9/883)
هناك مشكلة لم أتعرض لها في البحث، فيما إذا كان عقد المناقصة توريداً أو استصناعاً. فهل يجوز فيه تقسيط الثمن كما يجوز تقسيط المثمن؟ ذكر أن المانع هو صدق بيع الدين بالدين، الكالئ بالكالئ؛ لأن المثمن مؤجل إلى أجل فهو دين، فإذا كان الثمن مقسطاً فهو مؤجل أيضاً إلى آجال مختلفة فيشمله النهي عن بيع الدين بالدين ولكن يمكن المناقشة في سند هذا الحديث –أنا لم أتعرض في البحث لهذا- وفي دلالته. أما من ناحية السند فقد ذكر جماعة عدم صحة الحديث سنداً، منهم الإمام أحمد. وقد ورد هذا الحديث في كتب الإمامية ولكن في سنده طلحة بن زيد وهو لم يوثق. هنا قد يقال: إن المشهور قد تلقى هذا الحديث بالقبول فيكون معتبراً. طبعاً الجواب بعد تسليم عمل المشهور، لو فرضنا أن المشهور عمل بهذا بعد تسليم عمل المشهور بهذا الخبر تأتي المناقشة الكبروية القائلة بأن الخبر الضعيف لا يكون حجة وإن عمل به المشهور، كما ذهب إلى ذلك الإمام السيد الخوئي –رحمه الله- حيث أثبت في الأصول ذلك. وطبعاً هذا –أن الخبر الضعيف لا يكون حجة وإن عمل به المشهور- يختلف عما تقدم بالأمس في حديث ((كل قرض جر نفعاً فهو ربا)) هناك الأمة تلقته بالقبول وليس أنه عمل به المشهور. فرق بين أن يكون الخبر الضعيف تلقته الأمة بالقبول فيكون إجماعاً عليه، وبين أن يكون عمل به المشهور. فالإمام الخوئي لا يرى أن العمل الضعيف إذا عمل به المشهور يكون حجة. وأما إذا تلقته الأمة بالقبول فهو حجة بالإجماع. أما من ناحية الدلالة فقد اختلف الأصحاب في دلالته أيضاً، فقسم ذهب إلى صدقه فيما إذا صار الدينان حين العقد، حين العقد تكون الدينان. وبعضهم ذهب إلى لزوم أن يكون هناك دينان قبل العقد ثم يعقد العقد بين الدينين، قضية للباء، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن "بيع الدين بالدين". على هذا التفسير الثاني فلا يكون النهي شاملاً لما صار ديناً في العقد بل المراد منه ما كان ديناً قبل العقد. مثلاً، كبيع مالي في ذمة زيد لشخص آخر بمال آخر للشخص الآخر في ذمة عمرو مما كان ديناً قبل العقد. كما يحتمل أن يكون معنى الحديث –هذا الاحتمال الثالث- في صورة اتحاد الجنس فيلزم الربا. إذن ما دام الحديث يحتمل اختصاصه بصورة معينة فلا يكون شموله لما إذا حدث الدينان في نفس العقد. إذا بطل هذا الحديث يعني لا يمكن الاستدلال به من ناحية السند ومن ناحية الدلالة أو هما معاً، فالمعاملة التي نحن بصددها –التوريد أو الاستصناع - تشملها عمومات الحل كـ (أوفوا بالعقود) من دون مانع، (وأحل الله البيع) ، و (تجارة عن تراض) ، فإنها من أصدق البيوع –بيوع التوريد- والتجارة في هذا الزمان. وأحسب أن هذا خير دليل يستدل به على صحة المناقصة إذا كانت توريدًا أو استصناعًا، أما المناقصة إذا كانت إجارة في الأشغال العامة والمقاولة فهي مبتنية على أن يكون العمل تدريجيًّا أو تدريجًا، والثمن كللك فلا إشكال فيها. إذن لا مانع من أن تكون المناقصة عقد استصناع أو سلم يؤجل فيه الثمن إلى آجال مختلفة أو من الأشغال العامة.(9/884)
بالنسبة لمن يقول بأن بيع السلم بيع غرري. بيع السلم، لمن يقول بأن بيع السلم في المناقصة هو بيع غرري قد أجيز بدليل خاص، وأما تأجيل الثمن والمثمن فهو غرر شديد لم يجز بدليل خاص. طبعاً هذا الكلام باطل حيث إن الغرر لم يكن موجوداً في بيع السلم أما من ناحية الثمن فقد قدم مع معلوميته، وأما من ناحية المثمن فهو كلي موصوف معين أجله في زمن يغلب وجود السلعة فيه، فكذا تأجيل الثمن والمثمن في بيع التوريد والاستصناع، لا يوجد غرر لا من ناحية الثمن ولا من ناحية المثمن. المثمن مقسط على آجال معلومة فلا غرر فيه وكذلك الثمن مقسط على آجال معلومة وهو محدد، فأين يكون الغرر؟ هو أن الغرر المنهي عنه حسب تتبع موارده هو الخطر، وهو تردد المبيع بين وجوده وعدمه. يعني لا يعلم أن المبيع موجود حال الأجل أو لا، فكلما كان المبيع مجهول الوجود فهو بيع غرري، وحينئذ لا يكون غرراً في بيع التوريد؛ لأن المبيع ليس مجهول الوجود، ولا غرر في الثمن؛ لأنه معلوم الوجود بحسب الفرض.
بالنسبة للشرط الجزائي في حالة التأخير في المناقصات. ذكرت الأدلة الوافية على صحة الشرط الجزائي في المقاولات والأعمال ومنها أدلة خاصة في خصوص الإجارة على المال والمشاريع والشرط الجزائي فيها، القائلة بأن الشرط الجزائي نافذ ما لم يحط بجميع الأجرة. أما بالنسبة للتوريد وبيع السلم فقد ذكرنا في بحثنا المقدم لهذه الدورة صحة ذلك ولكن نعلن تراجعنا عن هذا عن صحة الشرط الجزائي في حالة التأخير بالنسبة للتوريد وبيع السلم لما ثبت لدينا من كون الشرط الجزائي في خصوص السلم والتوريد مخالف للسنة، إذ لا فرق بين المثمن إذا كان مؤجلاً والثمن إذا كان نسيئة. والزيادة في أجل الثمن في مقابل المال محرمة؛ لأنها ربا فكذا الزيادة في أجل المثمن في السلم والتوريد في مقابل المال تكون محرمة؛ لأنها من مصاديق (أتقضي أم تربي) . نعم يمكن للمشتري لأجل ضبط البائع عن تخلفه في عقود السلم والتوريد عن العمل بالعقد. يعني أن يشترط شرطاً جزائيًّا فيكون كالعربون الذي أجيز في دورة سابقة في حالة عدم التنجيز لا عدم التأخير. لكن هذا لا يكون بديلاً للشرط الجزائي في صورة التأخير عن تسليم البضاعة السلمية والتوريد.
إذن الخلاصة أن الشرط الجزائي في صورة التأخير في تسليم البضاعة مخالف لسنة فهو باطل. والحمد لله رب العالمين.
الدكتور رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: أحب أن أشكر للشيخ التسخيري حسن عرضه وإيجازه في هذا العرض، والزيادات التي ذكرها، كما أشكر له تواضعه الذي بدا لي منه قبل انعقاد الجلسة. وبرغم اختلاف المذهب بيني وبينه –بين سني وإمامي- إلا أنني أقدر إنصافه.(9/885)
النقطة الأولى: إنني حصرت ورقتي كما هو واضح من عنوانها في العقود الإدارية، ولم أتكلم عن المناقصات بشكل عام؛ ذلك لأن العقود الإدارية لها بعض الخصوصيات عند أهل الفن الذين بحثوا هذه العقود، كما أنه بدا لي أن هذه الخصوصيات قد تكون معتبرة في الحكم الشرعي. لذلك حصرت الكلام في مناقصات العقود الإدارية وهي العقود التي يكون فيها أحد الطرفين مؤسسة عامة (دولة) (إدارة جهة عامة) ؛ لأن للدولة امتيازات ذكرتها في الورقة ولا أحب أن أكررها الآن.
النقطة الثانية: هي نقطة استيضاحية. يرد على لسان إخوتنا من المذهب الإمام لفظ (كلي) ، وأنا لم أفهم ما المقصود به، سمعته بالأمس من الأخ الجواهري كما سمعته هذا اليوم من الشيخ التسخيري، فأرجو أن يعنوا قليلاً بمراعاة الفروق في المذاهب وبيان هذه المصطلحات لنا كتابة أو شفاهة.
النقطة الثالثة: يقول الشيخ الجواهري بأن الضمان ليس هو الضمان المصطلح. أنا أود منه إيضاحاً لهذا الموضوع وإثباتاً؛ لأنه من السهل جدًّا على كل ممن يريد أن يستبيح معاملة ما، فيقول هذه المعاملة مستحدثة أو هذه المعاملة المفهوم فيها مختلف عن المفهوم السائد الموروث في كتب الفقه. ولكنني أشكر الشيخ الجواهري على أنه قد بادرني منذ لقيته بأنه يرجع عن رأيه في الشرط الجزائي المتعلق بالتأخير لا المتعلق بالنقول فهذا من أخلاق العلماء.
النقطة الرابعة: أود أن أعلق قليلاً على ما ذكره شيخنا ابن بيه. نعم هذه البحوث المقدمة في المناقصات هي الأقل عدداً في هذه الدورة، وهي بحثان. وكنت أود أن يشترك عدد أكبر لكي تتعدد الأنظار، وأوافقه، ربما قد يكون هناك حاجة إلى تأجيل الجلسة بعد المناقشات لكن ما يؤخذ على هذا الرأي الكريم أن ورقته هذه قد قدمت إلى المجمع في الموعد المضروب، أرختها والتاريخ موجود على ورقتها الأولى، مقدمة منذ عشرة أشهر، وأنا أعترف بأن المجمع قد وزعها منذ التوزيع الأول بصورة مبكرة، كما وزعها قبل أن نأتي ووزعها بالأمس قبل هذه الجلسة، فلماذا لم تكن هناك تعليقات على الأقل من بعض العلماء الحضور مكتوبة أو شفهية، قد يكون هناك تعليقات سنستمع إليها؟ ولماذا لم يكتب السادة الفقهاء في هذا الموضوع أصلاً موضوع المناقصات؟ لماذا قلت الكتابة فيه على حين أنها زادت وتضخمت في موضوع كسد الذرائع؟
النقطة الخامسة: هذا الموضوع إن أراد السادة أعضاء المجمع ورئيس المجمع مناقشته ولا سيما إذا لم يكن بعض الأعضاء قد تمكنوا من قراءة الورقتين المعروضتين في هذا الموضوع فأنا على استعداد؛ لأن أدخل في النقاش في النقاط العصيبة. وشكراً.(9/886)
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فقط ملاحظة إن الدكتور رفيق قال: إنه لم يكتب في هذا الموضوع أحد. سبق أن سماحة الشيخ السلامي وأخاكم كتبا في موضوع المزايدة، وتضمن البحث أيضًا المناقصة وأحكام المناقصة هي أحكام المزايدة طبق الحافر بالحافر إلا أنها تختلف في الشكل وهذا ما قاله القانونيون الذين كتبوا في العقود الإدارية. ولهذا امتنعت عن الكتابة عن المناقصة؛ لأن ما سأكتبه سيكون تكراراً أو مجرد إسهاب في موضوعات لا تحتاج إلى إسهاب.
لدي بعض الملاحظات على البحثين إذا نظرت إلى بحث سعادة الدكتور رفيق المصري يقول: لا أرى داعياً لتخصيص هذا البيع بالفقراء، أو أصحاب البضاعة الكاسدة، أو بغير ذلك، لا سيما وأن الحكومات تلجأ إليه في عصرنا هذا. هو سماه الفقهاء أو عنونوه بهذا العنوان؛ لأن أبرز صفات هذا العقد في تلك الأيام إنما هو بيع من يزيد، وكذلك المحدثون. فالفقهاء يعنونوه بأبرز صفاته، واليوم لا يوجد فقيه يسميه بيع الفقراء أو بيع من كسدت بضاعته، ولكن إذا ذكروا هذا فهو يذكر للتوضيح ولسبب أساسي.
كذلك ذكر في بحثه وعلق سعادته على قرار المجمع الماضي ونص هذا القرار:
"إن الإجراءات المتبعة في عقد المزايدات من تحرير كتابي وتنظيم وضوابط وشروط إدارية أو قانونية، يجب أن لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية".
هذا قرار المجمع في الدورة الماضية بناء على المناقشات والبحوث التي قدمت، فكان التعليق على هذا: توحي هذه العبارة بأن الضمان لا يرد للمشارك الذي لم يرس عليه العطاء. لا أعتقد أن نص القرار لا منطوقاً ولا مفهوماً يؤدي هذا المعنى، مع أن قوانين المزايدة لوائحها كلها تنص في حدود ما اطلعت عليه على رد الضمان، هذا صحيح، وقررنا وقرر فضيلة الشيخ السلامي وفي البحوث على أن رد الضمان إلى دوافعه صحيح شرعًا بخلاف العربون. العربون على مذهب الحنابلة أن البائع يحتفظ بالعربون، فما جرى في القوانين المعاصرة من رد الضمان إلى صاحبه يتفق مع المذاهب الأربعة ولا يمانع فيه الحنابلة، فهو صحيح، فهذا التعليق لم أر له مجالاً.
كذلك ذكر في بحثه بأن المناقصة لم تعرف سابقاً في الفقه إنما عرفت أختها: المزايدة، وهما متشابهتان في كثير من الإجراءات بل وفي الأحكام أيضاً، حتى إن معظم أحكامهما تنظمها لائحة واحدة مشتركة. وهذا هو السبب الرئيسي في أنني لم أكتب في المناقصة.
كذلك ذكر في موضع آخر من بحثه بأن المناقصة فيها شبه بعقد المسابقة من حيث الاسم فكلاهما مفاعلة، ومن حيث المضمون فالمناقصة مسابقة، أنا لا أرى داعياً لهذا الشبه، كونها تشبه المسابقة ما الذي يترتب على هذا إذا كانت هي ألصق وأكثر التحاماً بأختها المزايدة؟ ما هو الحكم الذي يترتب على تشبيهها بالمسابقة؟ كونها تنقسم أو تتجزأ هذا لا يؤثر ففي الحكم.(9/887)
بعد ذلك –في الحقيقة- الدكتور المصري انتقل إلى موضوع التوريد، وكذلك فضيلة الشيخ الجواهري، وكلاهما نزل عقد التوريد على السلم. وهنا يقول الدكتور رفيق: ومناقصة التوريد تشبه بيع السلم من حيث ضرورة تحديد أوصاف المبيع. هذا الكلام سليم من حيث الشبه لكن فيما بعد وفي الخاتمة نزله على عقد السلم وكلاهما جعله من قبيل ... الشيخ الجواهري يقول: الدخول في المناقصة قد يكون لمن لا يمتلك السلعة وهو يكون من قبيل بيع السلم أو الاستصناع أو البيع الكلي أو الإجارة أو الاستثمار. الكلي في مقابل الشخصي. الشخصي يعني العيني الذي أمامي، هذا ما قصد به من كتب الكلي والشخصي. الشخصي: العيني، الكلي بمعناه وليس وهو موجوداً بين يديه. عقد التوريد –في الحقيقة- له مخرج واسع عند المالكية فهو من قبيل بيع الصفة، وبيع الصفة يشترط المالكية ألا يقدم الثمن، كما أن البضاعة مؤجلة فيجب أن يؤجل الثمن. فعقد التوريد لا إشكال فيه ولا ينزل أو يحاول أن يخضع على أي بيع وإنما هو ما يسميه المالكية بيع الصفة.
المآخذ التي تؤخذ على بيع التوريد، بيع الكالئ بالكالئ، هذا حديث. الواقع الدكتور وفق كل التوفيق في شرع معنى هذا الحديث، قال: بيع الكالئ هو دين بدين، هنا لا يوجد دين، هنا شراء سلعة وثمن. فهو قال: هنا مبادلة سلعة بنقد أو خدمة بنقد. فإذن لا يدخل عقد التوريد.... ليس علي دين وعلى الآخر دين فأنا أقاضيك الدين بالدين أي بدين آخر. إذ وفق في هذا التحليل للحديث وهو الذي ذهب إليه ملا علي قاري وبعض علماء الحديث إلا أنه في صفحة أخرى يقول: نخلص من هذا إلى أن حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ لا يقف حائلا دون جواز مناقصات التوريد والمقاولة. حبذا لو جعل تفسيره للحديث تكأته على هذا الموضوع، ولكن قال بعد ذلك: التي عمت بها البلوى في القوانين والأعراف، ولا بديل لها أفضل منها حتى الآن، وصارت الحاجة إليها عامة، والحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة. وإذا بدا أن فيها مخالفة لبعض القواعد، فإن فيها- والله أعلم - مصلحة يجب تحصيلها ولو خولفت فيها القواعد- أي استحسانا- كما ذكر بعض العلماء المحققين.
أظن لا حاجة لهذا الكلام أبدا ما دام أنك فسرت الحديث بأنه لا يوجد هنا بيع دين بدين، وإنما هنا عملية عقد على سلعة فكأنك تراجعت عن معنى الحديث السابق، وجعلت تكأتك أو تعليلك أو تبريرك لهذا الموضوع بهذه المبررات التي في نظري لا داعي لها أساسا.
بعد ذلك في صفحة أخرى من بحثه قال: جاء في حديث (بيع ما ليس عندك) . الواقع أن تفسير هذا لم يكن واضحا في كلامه، بينما بعض المحدثين وفي مقدمتهم ملا علي قاري والشيخ ابن القيم، فسروا (ما ليس عندك) أي ما لا تقدر على تحصيله، وقالوا: ما ليس عندك، كما ذكر الشيخ الجواهري وهو في ذلك يتفق مع رأي ملا علي قاري والشيخ ابن القيم بأنه ما لم يكن موجودا، ما ليس عندك، إذا كان موجودا أو كان شخصيًّا - كما عبر عنه الشيخ الجواهري حتى تتضح معنى هذه الكلمة- إذا كان عينيا موجودا ولا تملكه، هذا الذي يحظره الحديث، ولكن معنى الحديث بكامله: ما ليس عندك أي ما لا تقدر على تحصيله، والمستورد الذي أبرم عقد التوريد هو لا يبرم هذا العقد إلا بعد أن يكون متأكدا وواثقا بأنه سيحصل على تلك البضاعة. فالاعتراضان وهما حديث (الكالئ بالكالئ) و (ما ليس عندك) وجد لهما تفسيران صحيحان، وعندئذ لا غبار على بيع عقد التوريد على مقتضى أو على صريح مذهب المالكية في بيع الصفة بالصفة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الرئيس:
توضيحاً لكلمة ابن القيم يا شيخ عبد الوهاب، كلمة ابن القيم يقول هي عندية الحكم والتمكن لا عندية الحس والمشاهدة.
الدكتور علي داود الجفال:
بسم الله الرحمن الرحيم،
سيدي الرئيس، اسمحوا لي بأن هذه الملاحظة لا تمس بحث المناقصة بشكل خاص ولكن الحقيقة بأنها تمس جميع البحوث –في اعتقادي- التي تم بحثها وسيتم بحثها في هذا المجمع. وهذه الكلمة القيمة في كتاب (إعلام الموقعين) لابن القيم فإن له في هذا المقام كلاماً نفيساً يعد من مفاخر الأنظار الفقهية، فإنه بعد أن استعرض في كتابه (إعلام الموقعين) بعض نصوص الشريعة وآثار السنة المروية في قاعدة الشروط والروايات الثابتة عن الإمام أحمد في تعليق العقود وتقييدها بشروط يقول ما نصه:
والمقصود أن للشروط عند الشارع شأناً ليس عند كثير من الفقهاء، فإن بعضهم يلغون شروطاً لم يلغها الشارع ويفسدون بها العقد من غير مفسدة تقتضي فساده، وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود وما لا يقبله. فليس لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه دليل، فالصواب الضابط الشرعي الذي دل عليه النص وفيه قضيتان كليتان، أحدهما: أن كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطل كائناً ما كان. الثانية: أن كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه وهو ما يجوز بذله وتركه بدون اشتراط فهو لازم بالشرط. ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيء، وقد دل عليهما كتاب الله وسنة رسوله، واتفاق الصحابة. ولا تعبأ بالنقد بالمسائل المذهبية والأقوال الآرائية فإنها لا تهدم قاعدة من قواعد الشرع.(9/888)
وبمناسبة كلمة ابن القيم هذه، نذكر الجملة الدستورية العظيمة لأستاذه شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:
والأصل في العقود رضا المتعاقدين ونتيجتها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد.
فهذه العبارة الجليلة هي التي يجب أن تعتبر بحق دستور الفقه الإسلامي في مبدأ العقود. ويقول في ذلك الأستاذ الجليل الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (ابن حنبل) بعد عرضه مذهب الإمام أحمد في حرية التعاقد والشروط العقدية ما نصه:
وهكذا ترى ذلك الإمام الذي جعل آثار السلف أستاذه فتخرج عليها واهتدى بهديها انتهى في العقود في كثير من معاملات الناس إلى التوسعة بدل التضييق، والإباحة دون المنع، وبذلك قام الدليل على أن الناس الذي يزعمون أن الرجوع إلى مسالك السلف الصالح فيه تضييق على الناس لم يعرفوا حقيقة هذه الآثار وكيف سلك الصحابة السبيل، وكيف عالجوا المشاكل التي عرضت بروح الدين الذي جاء رحمة للناس ولم يجئ لإعناتهم والتضييق عليهم.
وهذه عقود تقوم عليها الأسواق العالمية اليوم قد كان في فقه أحمد متسع لها، وقد تبين أنه اهتدى في هذا بهدي السلف، رضي الله عنهم، فأرجو أن يكون من هذا الكلام ومن هذه القواعد الأساس الذي يبحث عليه في بحوث هذا المجمع. وشكراً.
الشيخ خليفة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أشكر مقدمي البحثين – الشيخ حسن الجواهري والدكتور رفيق- على جهدهما، كما أشكر العلامة التسخيري على تلخيصه وتقديمه للبحثين، فقد كان بحق تلخيصاً لمس روح البحثين وقدم خلاصتهما مع بعض التعليقات.
وأبدأ حديثي أولاً بتناول قضية التخريج الفقهي لمسائل المعاملات في العصر الحديث. يلاحظ على التخريج الفقهي الآن أنه قائم على الأحكام المباشرة عند الفقهاء، بمعنى محاولة قياس كل مسألة جديدة ترد على آراء الفقهاء السابقين في كل الأحوال، وفي بعض الحالات قد يتنازع المسألة أكثر من حكم نتيجة شبهها بعقد آخر وهكذا. ويا حبذا لو قام المجمع بجهد يبرز فيه روح المعاملات في الشريعة الإسلامية بل ويبرز أيضاً روح المعاملات في كل مذهب من المذاهب. أو الصناعة الفقهية للمعاملات في كل مذهب من المذاهب فإن كل مذهب من المذاهب الفقهية له اتجاه، وله صناعة وله أسلوب فيما يتصل بطريقة التعامل مع قضايا المعاملات. لو كان ذلك مبسوطاً بين يدي الباحث ربما يساعد مع محاولات الإلحاق المباشر على المذاهب الفقهي. هذا لا بأس به، بل هو مطلوب أن نضم الحاضر إلى الماضي لكن لا بد من الإدراك الكلي في مقاصد المعاملات. هذا أمر لا بد أن يكون واضحاً في أذهان الباحثين لكي يساعدهم على التخريج. هذه مسألة.(9/889)
المسألة الثانية: من الأمس بدأ الحديث عن إبعاد مسألة الحاجة، وأظن أن مسألة الحاجة لا يمكن إبعادها لأن الحاجة تعتبر مبدأ من المبادئ التي يتم الاستثناء على أساسها في المعاملات خاصة ويأتي تأسيساً عليها مبدأ الاستحسان في أصول الفقه. وعلماء الأصول يذكرون أيضاً في باب الرخصة أن الرخصة أنواعها هي: إباحة فعل المحرم، وإباحة ترك الواجب، وإباحة بعض العقود. فالحاجة أمر ثابت؛ لأن مبنى المعاملات في الشريعة الإسلامية على المرونة، ولذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نلغي دور الحاجة في بعض الحالات التي تستدعي اللجوء لهذا الدور. فهنالك حالات استثنائية كثيرة – حقيقة – تمر على الناس، ونحن الآن الوضع الذي فيه المسلمون هو وضع استثنائي؛ لأنه هو محاولة وضع تخلص من النظم غير الإسلامية والخلوص إلى نظام إسلامي. في مثل هذه الحالة يواجه الناس بعض الحالات التي تأخذ أوضاعاً استثنائية فيحتاجون كثيراً إلى استخدام مبدأ الحاجة. فاستبعاد هذه المبدأ بإطلاق أمر غير سليم هو مبدأ ثابت في باب الرخصة والعزيمة، " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى غرائمه". وهذا القسم مذكور حتى عند الشافعية والحنابلة والحنفية، كلهم يذكرونه وإن كانت تقسيماتهم مختلفة.
فخلاصة القول عندي: أن قضية الاجتهاد والتخريج في المعاملات ينبغي أن يكون النظر إليها فيه شيء من الرحابة أكثر. وأستشهد على ذلك بأنه بالأمس مثلاً في موضوع الحسابات الجارية هل هي قرض أو وديعة؟ بعض الناس لم يرضوا إطلاق وصف القرض عليها وقالوا في ذلك إن البنك غير محتاج والقرض لا يكون إلا لمحتاج. القرض هنا مسألة تكييف أتت انتهاءً ولم تكن ابتداءً، لم يقل أحد: إن الحسابات الجارية قرض ابتداءً ولكن الناس في دور التكييف وجدوا أن أنسب تكييف للحسابات الجارية أنها تكون قرضاً؛ لأن النقود تستهلك، وبناءً على استهلاكها فإنها لابد من أن تحمل عارية على أنها قرض. وهنا جاء القرض فجاء التفسير بالقرض وجاء الحمل على القرض على سبيل التكييف انتهاءً. ولم يكن ابتداءً بأي حال من الأحوال حتى يأتي الاعتراض بأن القرض لا يكون إلا للمحتاج إليه. هذا أمر لو كانت هذه المبادئ والقواعد الحاكمة للمعاملات واضحة في أذهان الباحثين لما كانت مثل هذه الاعتراضات ولما أخذت وقتاً.(9/890)
أرجع أخيراً إلى مسألة واحدة. الشيخ حسن الجواهري ذكر في بحثه وهو يتناول حديث: (لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ولا يسم على سومه) ، وذكر أن هذا الحديث لا يتنافى مع المناقصة ومما قال في ذلك:
ويمكن توجيه عدم التنافي بشكل آخر وهو أن يقال: إن حديث النهي عن الدخول في السوم ناظر إلى المعاملة الخاصة الجارية بين طرفين خاصين.
يعني اعتبر أن هذا الحديث في مورد المعاملة الواقعة بين فردين (شخص وشخص) ، لكني أرى أن الحديث لفظ (أحدكم) عام أولاً؛ لأنه مضاف الضمير وبالتالي هو عام، كما وأنه أيضاً إذا كانت المعاملة بين شخصين إذا تم البيع إذا حصل الركون لا يجوز للآخر أن يبيع، فمن باب أولى الجماعة هنا؛ لأنه إذا كان فيه ضرر على الفرد يبقى أيضاً هنالك من باب أولى الضرر أظهر بالنسبة للجماعة، ولكن هذا الحديث ليس في هذا المورد؛ لأن موضوع المناقصة ابتداء هو موضوع مقدمه للمعاملة، والمعاملة لم تتم أبداً ولم يحدث فيها ركون، ولهذا يكون الحديث ليس في مورد هذه القضية وهي قضية المناقصات. على أني أخيراً أرى أن مثل هذه القضايا ومنها قضية المناقصات هي قضية إجرائية أكثر منها قضية عميقة يعني من البحث عن حكمها، قد تكون هنالك قضايا أكثر أهمية من هذا القضية وهي قضية إجرائية لو كانت المسائل الفقهية واضحة في أذهان الناس هنالك مسائل احتفوا بها، تبحث هذه المسائل هل هي صحيحة أم لا؟ لكن أصل المسألة أبداً من الناحية الفقهية ليس هنالك ما يمنعه، فالمسألة إجرائية أكثر مناها مسألة فقهية. وشكراً.
الدكتور سعود الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربن العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد،
أضم صوتي إلى صوت من يقول: إن المسائل المبحوثة أو التي طلب بحثها في عقد المناقصة هي المسائل أو أغلبها إن لم تكن كلها الموجودة في عقد المزايدة. وعقد المزايدة بحث واتخذ فيه قرار في الدورة الماضية، فأكثر الصور مكررة بين العقدين. وهناك عدة ملاحظات بسيطة.
أولاها: الموضوع المتعلق بالخيار. هل الخيار موجود وهما لا يملكانه؟ يظهر- والله أعلم – أن الخيار قد أسقطه المناقص حين دخوله في المناقصة كما قال: أبيعك على أن لا خيار لي، وهذا يؤيده حديث النبي صلى الله عليه وسلم ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) أو يخير أحدهما الآخر فإذا خير أحدهما الآخر سقط خيار المخيِّر وبقي خيار المخيَّر.
المسألة الثانية: التي أريد الكلام فيها فيما يتعلق بتأجيل العوض. في الحقيقة عقد المناقصة أو عقد الزائدة فيه عدة صور متشابهة، وهذه الصور المتشابهة ينبغي التمييز فيما بينها. فمن عقود المزايدة والمناقصة بيع العين الموصوفة الموجودة وهذه لا يشترط فيها تسليم الثمن، ما دامت العين موجودة وموصوفة سواء كانت في بلاد المتعاقدين أو في غير بلادهما. وما دامت عيناً موجودة ويملكها البائع فهو بيع موصوف، والعلم بالمبيع يحصل بأحد أمرين: إما بالرؤية أو بالصفة التي تكفي في السلم وترفع الجهالة عن المعقود عليه. فهذه الصورة الأولى لا يشترط فيها تسليم الثمن بل هي من بيع الدين. الصورة الثانية التي يشترط فيها تسليم الثمن هي بيع الموصوف في الذمة أو السلم أو المسلم فيه. بيع المسلم فيه. بيع المسلم فيه أو الموصوف في الذمة هذه هي الصورة التي ينبغي أن يشترط تسليم الثمن في مجلس العقد؛ لأن السلعة غير موجودة وهي متعلقة بالذمة، والثمن لا يصح أن يكون متعلقاً بالذمة؛ لأن هذا من بيع الدين بالدين. وبيع الدين بالدين نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف المشهور من حيث تلقي الأمة له بالقبول وإن كان في سنده بعض الاعتراضات أو على متنه بعض الاعتراضات إلا أن هذا الحديث قد تلقته الأمة بالقبول مثل حديث ((لا وصية لوارث)) وغيره من الأحاديث التي عليها العمل عند علماء الأمة جميعاً ولا يصح التشكيك فيه بعد أن تلقته الأمة بالقبول.(9/891)
المسألة الثالثة: التي ينبغي التمييز فيها هي المستصنعات، فالأمور المستصنعة التي تدخلها الصنعة وغير موجودة والموجود في السوق لا يوفي بغرض العاقدين أو المناقصين أو المزايدين، هذه أفتى فيها المجمع سابقاً بأن أمور الاستصناع إذا لم تكن موجودة لا تشترط فيها تسليم الثمن وإنما يجوز تأجيله أو تقسيطه.
المسألة الرابعة: الإجارة، إن المناقصات في الإجارات لا يشترط فيها تسليم الأجرة كما هو معلوم.
هذا فيما يتعلق بالصور المتشابهة والتي ينبغي التمييز فيها بينها وأرجو أن لجنة الصياغة تجعل لكل صورة وضعها الطبيعي.
أما الضمان، ففي الحقيقة الضمان هو العربون. وبيع العربون قد أفتى المجمع فيما سبق وكما هو الراجح من أقوال أهل العلم أنه تصح مصادرته حين تأخر المناقصة والمزايدة عن الوفاء بما التزم به.
أما الموقف عند حصول طوارئ خارجة عن إرادة المتعاقدين فهذا هو الموقف الموجود عند عجز المسلم إليه أو المستصنع عن الوفاء بما التزمه من تسليم المسلم فيه، أو من تسليم المستصنع عن الوفاء بما التزمه من تسليم المسلم فيه، أو من تسليم المستصنع فيه، إذا حصلت طوارئ يقدرها القضاء فيكون الخيار للمستصنع إما أن يصبر وإما أن يفسخ العقد.
أثير مسألة ((لا يبع بعضكم على بيع أخيه)) ، وأن المناقصة أو المزايدة من هذا الجانب. وفي الحقيقة فيه فرق بين بعد حصول البيع وركون كل من العاقدين إلى الآخر هو تمام العقد وبين حالة المساومة وحالة التهيئة للعقد. حالة التهيئة للعقد لم يحصل فيها بيع على بيع، ولا شراء على شراء، ولا صورة من هذه الصور إنما هي مساومة والمساومة قد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في الحديث الذي عرضه النبي صلى الله عليه وسلم للمزايدة حينما عرضها ((من يشتري بدرهم؟ من يشتري بدرهم؟)) . وهذا قبل حصول البيع وإنما هو في حالة تهيئة الأمر للبيع.
وأكتفي بهذا القدر. وشكراً.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.
في بداية مداخلتي وجدت أن ما جاء في مشروع الموسوعة الفقهية الاقتصادية هو أفضل ما يعبر عن نفسي وعن ما أعتقده في مداخلتي هذه. فقد جاء في المقدمة.
إن المهمة الأساسية التي أنشئ من أجلها مجمع الفقه الإسلامي كما جاء في نظامه الأساسي هي ضرورة حشد طاقات فقهاء الأمة الإسلامية وعلمائها في سبيل مواجهة المعطيات الناجمة عن تطور الحياة المعاصرة ومشكلاتها بالاجتهاد المسترشد بالشريعة الإسلامية السمحة بغية الوصول إلى الإجابة الإسلامية الأصلية عن الأسئلة التي تطرحها الحياة المعاصرة.(9/892)
فهذا مبدأ أساسي نعمل في نطاقه وعلينا جميعاً أن نحققه. كما جاء في الصفحة الرابعة للموسوعة.
إنها تقدم تلخيصاً محكماً للفقه الإسلامي المتعلق بالقضايا المعاصرة ولا تقوم بتكرار الأعمال الموسوعية الأخرى، ولا ترتكز على الفقه السابق ولكنها تعرض منه ما يساعد فقط على الوصول إلى الاجتهاد المتعلق بالقضايا المعاصرة، وتركز على الأعمال والنقول الفقهية التي تسهل الوصول إلى مثل تلك الاجتهادات.
فهذه قضايا تناقش ولكنها المبدأ أو الإطار أو المنهج الذي نعمل فيه, والعروض علينا هذا اليوم وفي الأيام السابقة قضايا وقعت معالجتها في معظم الأحوال بترداد ما هو موجود في كتب الفقه والتعمق فيه دون الوصول في معظم الأحول إلى المشكلة المعاصرة وطرق حلها، فالموضوع اليوم هو المناقصة. والمناقصة حاجة للدولة الإسلامية، وحاجة الشركات الصناعية، وحاجة حتى للأفراد الذين لهم نشاط واسع. فليست القضية هي قضية أمور بسيطة ولكن الدولة لها جيش وتريد أن تكون مناقصة لتجهيز هذا الجيش باللباس، ولأخذ حاجات هذا الجيش من الطعام والشراب، ومن الدواء. هذه قضايا عامة كبرى. كما أنها في حاجة إلى الاستصناع أيضاً في استصناع ما يلزم الجيش من سلاح وغيره. والمصانع الكبرى لابد لتقوم بنشاطها من أن تكون المواد الأولية- التي تقوم بها التي هي في حاجة إليها- معلومة الثمن حتى تقوم هي أيضاً ببيع ما ستعده خلال السنة بعقود أخرى. فالقضية ليست هي قضية عبث بالأسواق ولا مضاربات التي أخذ فيها الشرع الإسلامي كمال الاحتياطات من هذا العبث والذي يقع الذي هو واقع اليوم في البورصات، ولكنها قضايا حقيقية واقعية، فصاحب معمل الحلوى – لا أريد أن أذكر شيئاً كبيراً – هو لا بد له من السكر ولا بد له من الملونات ولا بد له من عدة أمور ما يدخل صناعته من قرطاس ومن آلات – الخ. هذه لا بد له منها، وهو إذا لم يحقق قبل بدايته في عمله السوق الذي يبيع إليها منتجاته لا يستطيع أن يتحرك، وهو ليس له القوة المالية على أن يكون بين يديه كل السلع اللازمة التي لا بد من توفرها ليقوم بصناعته. فلا علينا ألا ننظر إلى المعاملات التي كانت تقع في الماضي قبل أن تدخل الآلة وتعطي طاقة جديدة في الإنتاج؛ لأنه بدخول الآلة في الإنتاج تطورت الحياة تطوراً كبيراً، ثم زاد اليكترونيات اليوم فإذا بالحياة وبالناتج العالمي تضاعف آلاف المرات وأصبحت المعاملات في هذا المفهوم أو في هذا النطاق الكبير من السعة ومن التضخم. ولذلك لما رأيت في عقود المناقصة وجدت إما هي عقود سلم وإما هي عقود استصناع وإما هي عقود خدمات، ذلك أن الذي ليس من بيع الصفة، ذلك أن بيع الصفة لا بد أن يكون المبيع حاضراً. وبيع الصفة يقع على ضربين: إما أن يكون البرنامج بأن تكون أعداده خارج المدينة ويأتي بنوع البضاعة التي هي موجودة عنده وهي تحت سلطته ويعرض البرنامج الذي هو يمثل تمثيلاً حقيقيًّا السلعة الموجودة.. وإما على الصفة للسلعة الموجودة، فيقول: إنه نوع من نوع القمح كذا وعياره كذا الموجود عند المالك، هذا هو بيع الصفة. أما البيع إذا كان لغير الموجود عند الإنسان فهو بيع سلم، وذلك أن الشريعة قسمت المبيع إما أن يكون حاضراً يراه ويشاهده صاحبه (المشتري) ، وإما أن يكون غائباً عن الأنظار، وهذا إما أن يكون موجوداً حال البيع وهو من بيع الصفة أو من بيع البرنامج، وإما أن يكون غير موجود ويوجد في المستقبل وهو بيع السلم. فبيع السلم إذن اشتراط أن يكون رأس المال مدفوعاً كله عند العقد، هذا أمر لا تستطيع أية دولة أن تكون دولة مطبقة لأحكام الإسلام ولا يستطيع أي معمل صناعي أن يكون معملاً مطبقاً لأحكام الإسلام، وعلينا أن نقول إذا وقفنا عند هذا الحد إن المجمع إنما يفتي للأشخاص الفرادى في أعمالهم الصغيرة فقط. وباعتبار أن هذه العقود بما اشترطه الفقهاء في عصرهم ضماناً للقواعد العامة في التشريع فاشتراطهم أن يكون رأس المال مدفوعاً كاملاً، هذا كان متناسباً مع وضعهم.
وشرط رأس المال أن لا في ذاك دفعه وأن يعجل
هذا الشرط أن يكون معجلاً، وهو كان متناسباً مع أوضاعهم، أما اليوم فالدولة بما لها من إمكانيات كبيرة عاجزة عن دفع رأس مال السلم كله؛ لأن الضرائب أو موارد الدولة تأتيها شيئاً فشيئاً، وتنظيمها يقتضي التزاماً كاملاً في كامل المدة.(9/893)
فإذن لابد أن تتجاوز الأوضاع الاقتصادية التي كانت موجودة في عصر من العصور والتي تجاوزناها في الواقع إما في نماء الثروة أو في قدرتها أو في طرق التعامل. ويصبح أخذ كل الاحتياطات لتكون المعاملات معاملات إسلامية لا يوجد فيها ضرر ولا ضرار، وليس فيها عبث بالأسواق، ولكن هي تضمن كل المقاصد الشرعية الأساسية التي تتحكم في المعاملات لأقوال الفقهاء الذين قالوا: نظراً إلى أنهم لما أرادوا تطبيق تلك القواعد الشرعية العامة قرروا تلك الشروط. ولهذا أعود إذن على عقود السلم التي تحدثنا فيها وعقد المناقصة الذي نتحدث فيه اليوم لا بد من النظر فيه على أساس هذا الواقع الذي نحياه.
وما جاء من قول: إن الأمة إذا تلقت الحديث بالقبول فإنه حجة، أنا أعتقد أنما يفهم من كلام الفقهاء غير مفهوم. ليس الحجة في الحديث إذا كان ضعيفاً؛ لأنه في إسناد حديث ضعيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجده قوة تلقي الأمة له لا بقبول، لكن أن العلماء فهموا ذلك المعنى فوجدوه معنى تحققه المقاصد الشرعية اليقينية. فما قالوا: إنه حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي هم لا يتيقنون أنه حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن معنى تلقى الأمة له بالقبول أي أنها قررته كقاعدة من قواعد التشريع. وتقريره كقاعدة من قواعد التشريع. هذه القاعدة كل قاعدة ننظر فيها ونطبقها ونفهمها حسب التطبيقات التي يجب أن وكذلك بيع الدين بالدين وتعمير الذمتين، والعبث، هذه كلها داخلة في قضية العبث بالأسواق.
الخيار الذي وقع التعرض إليه لا أعتقد أن الخيار في عقد المناقصة ضرورة، من ضروراته ولا يقول مالك لا بخيار المجلس، وخيار المجلس عند مالك كما قال عندنا هذا حد معلوم، ولا أمر معروف.
لذا أدعو إلى أن الموضوع يجب أن ينظر فيه على هذا الأساس من أن حاجة الأمة إلى هذه العقود يجب أن تكيف تكييفاً يضمن العدالة ويضمن الحق دون أن يكون مقيداً بما ذهب إليه الفقهاء سابقاً في العقود السابقة إذا كانت لا تتلاءم مع الأوضاع الحاضرة.
وشكراً.(9/894)
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
بخصوص عقد المناقصة أشكر الباحثين شكراً جزيلاً على بحثيهما القيمين كما أشكر أيضاً الشيخ التسخيري على عرضه الطيب وجزاهم الله خيراً.
وبخصوص تكييف عقد المناقصة على أساس أنه عقد، أنا أرى أن المناقصة نفسها ليست عقداً وإنما هي إجراءات للدخول في العقد. ثم هذا العقد المطلوب إما أن يكون توريداً أو مقاولة أو استصناعاً أو غير ذلك من العقود. والشخص المشارك يتقدم بإيجابه والإيجاب عند المالكية – كما لا يخفى عليكم- إذا كان بصيغة الماضي فهو ملزم أو إذا كان موجهاً للجمهور أو لجهة معينة، فهذا الإيجاب يبقى على حالته الإلزامية إلى أن يتلقى القبول من هذه اللجنة وهو بمثابة الإيجاب الملزم أو الإيجاب الموجه لجهة أو لجماعة، ثم بعد ذلك اللجنة تنظر في هذا الموضوع وبعد ذلك يتم العقد، أما قبل ذلك ليس هناك أي عقد بين الموجب أو بين المشارك أو المتقدم وبين هذه اللجنة، ثم اللجنة عند التوافق يكون هناك قبول على إكمال هذا العقد الذي إما أن يكون توريداً وإما سلماً وإما استصناعاً. الذي لفت نظري في بحث الشيخ الجواهري أنه أيضاً أدخل ضمن عقود المناقصة عقد المناقصة لأجل الاستثمار مثل المضاربة. أولاً: مثل ما تفضل فضيلة الشيخ المختار هذا ليس واقعاً، لا يوجد الآن في عقود المناقصة عقد على الاستثمار للمضاربة. وثانياً: تكييفها الشرعي يحتاج إلى نظر. كيف يمكن أن يكون هناك مناقصة على المضاربة بهذه الصورة التي صورها فضيلة الشيخ جزاه الله خيراً؟
أعود لما ذكره الدكتور رفيق المصري الذي ذكر بعض الحاجات في تكييف عقد المناقصات، ثم لما ننظر إلى تعريف عقد المناقصة باعتباره طريقة بمقتضاها تلتزم الإدارة أو الشخص باختيار أفضل، يعني إذا كان هناك تعاقد فهذا التعاقد بين الدولة وبين لجنة المناقصة بحيث تتضمن لجنة المناقصة باختيار أفضل العروض إذا كان هناك عقد، أما ليس هناك عقد بين الشخص المشارك وبين هذه اللجنة.
حقيقة أريد منهم التوضيح إذا كنت قد أخطأت في ذلك.(9/895)
ذكر الدكتور رفيق المصري في بحثه في مسألة الكالئ، أنا أضم صوتي إلى صوت فضيلة الشيخ المختار في أن الحديث الضعيف لا يمكن أن يتقوى بأمور أخرى إلا إذا كان يعني. وينهض حجة ربما ولكن الحجية لا تكون من الحديث وإنما من الإجماع، ولذلك نص الإمام الشافعي بقوله: نحن نقول من الحديث الكالئ بالكالئ إجماعاً من إجماع السلف، لا نعلم في ذلك خلافاً. وكذلك يقول الإمام الشافعي في قضية التغير الفاحش بخصوص الماء ورغم أن الحديث ضعيف، فالإجماع حجة سواء كان وجد حديث أو لم يوجد حديث، ويكون هذا الحديث ربما للاستئناس. فالأحاديث الضعيفة خاصة هذا الحديث ضعيف جداً جداً، يعني كما يقول الإمام ابن تيمية، فهذا الحديث نفسه لا يمكن أن ينهض؛ لأنه ضعيف جدًّا، وهناك مناكير في سنده وانقطاع كبير في سنده، فلذلك الحجية في الإجماع وليس في الحديث ولا يمكن – حقيقة – أن نجعل هذه المسألة أيضاً وسيلة أخرى أو باباً آخر للدخول في موضوع تقوية الحديث من خلال أن الأمة تلقته أو لم تتلقه.
بخصوص غرامات التأخير، أنا مع سعادة الدكتور المصري في أن غرامات التأخير إنما تكون جائزة على العمل وليس على الدين؛ لأنه إذا أصبح الشيء ديناً حينئذ ندخل في قضية الفوائد الربوية، ولذلك إذا أجيزت الغرامات فلا بد أن ينص.. يعني مثل عقد الاستصناع الذي أجاز المجمع الموقر الشرط الجزائي، والشرط الجزائي في عقود المقاولات لا مانع منه. ثم بعد ذلك إذا نظرنا إلى عقد المناقصة نرى أن معظم تطبيقاته على عقد الاستصناع، ولذلك اعتبرت مجلة الأحكام العدلية الاستصناع والمقاولة شيئاً واحداً. والآن ربما يعني كل ما تدخل فيه الصنعة ممكن أن يدخل فيه عقد الاستصناع. يبقى قضايا الإيجار أو التأجير أو التوريد ونحو ذلك، فيمكن أن يدخل في هذا المجال، ولا مانع من استحداث عقود جديدة، كما أنه لا مانع كما هو رأي الحنابلة من اجتماع مجموعة من العقود الجائزة وإنما موجود صفقتين في صفقة واحدة وإنما يكون نسيئة ونقداً، أو وجود عقد تبرعي مع عقد معاوضة، أما مجموعة من عقود المعاوضات فلا مانع من جمعها في عقد واحد. فلذلك أيضاً لا بد أن ينظر إلى عقد المناقصة إلى أنه عقد المقاولة من هذا المنظور الواقعي. وليس من تجزئة هذا العقد واعتبار أن هذا العقد يكون عقد استصناع أو يكون عقد إجارة أو ما أشبه ذلك.
هذه أهم الملاحظات التي كنت أريد أن أذكرها، وأنا أرى أنه لا داعي لتأخير هذا الموضوع فلو شكلت لجنة وتلاحظ ما أقره المجمع الموقر في عقد المزايد، وإذا بقيت جزئيات ... أو أساساً من بداية الموضوع لا يدخل حتى لا ننشغل به ونشغل به يوماً كاملاً أو نصف يوم. وشكراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/896)
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم،
أهم مسألة في الموضوع هي عقد التوريد، هل يجوز أو لا يجوز؟ وعقد التوريد الذي سأتحدث عن حكمه هو ما كان فيه عقدان مؤجلان. وهذا هو الشأن فيه كما قرره الدكتور رفيق؛ لأنه إذا كان المبيع هو المؤجل والثمن مقدم فهذا عقد سلم يدخل حكمه في حكم عقد السلم، أما إذا كان العكس وهذا نادر فهو جائز؛ لأنه من قبيل تأجيل الثمن وتقديمه.
وعقد التوريد هذا يدخل في عقد الغرر، فهو عقد غرر. وعقد الغرر هو العقد المستور العاقبة. وما ذهب إليه الأخوان الفاضلان من أنه ما كان مجهول الوجود، هذا تعريف ناقص، تعريف غير جامع، وقد ذكره ابن القيم في بعض كتبه وذكر في بعض آخر تعريفا يشمل المجهول أيضاً. التعريف الذي اقتصر عليه الأخوان لا يشمل المجهول. والواقع أن عقد الغرر قد يكون الغرر فيه في صيغة العقد كالبيع المضاف، هذا عقد غرر لا شك في ذلك. وقد يكون في محل العقد في المبيع أو الثمن، هذا هو الأغلب. الجهالة في المبيع، الجهالة في الثمن، الجهالة في جنس العقد، الجهالة في النوع، كل هذه تدخل في عقود الغرر. وقد يرجع إلى غير ذلك. قد يكون في بيع العين الغائبة فهي عقد غرر خصوصاً عند الشافعية. عدم القدرة على التسليم، تدخل أيضاً في بيع الغرر. وقد حاول الدكتور رفيق أن ينفي وجود الغرر في عقد التوريد فقد ورد في بحثه: هل في المناقصة غرر؟ فبدأ حديثه وقرر أن فيه غرراً. يقول: لا شك أن البيع الذي يعجل بدلاه يدا بيد هو من أبعد البيوع عن الغرر- كلام سليم – وأن البيع الذي يعجل فيه بدل ويؤجل الآخر لا يخلو من غرر. ومن باب أولى إذا كان تأجل البدلان، يعظم الغرر. وهذا ما علل به بعضهم اشتراط تقديم الثمن، قالوا: ليخف الغرر. فالتبرير الذي ذكره الدكتور رفيق لم أجد فيه ما يقنعني يقول: إن الغرر – في آخر كلامه بعد ما – يبدو أن هؤلاء العلماء نظروا إلى البدلين فرأوا زيادة في الغرر لكنهم لم ينظروا إلى المتعاقدين. ما دام وجدنا غرراً في البدلين فالغرر موجود، هل يؤثر أو لا يؤثر؟ هذا موضوع أخر، لكن الغرر موجود. والغرر في هذا البيع يدخل في جزئيتين من جزئيات الغرر، هما: بيع ما ليس عندك وهذا من بيوع الغرر، وبيع الدين بالدين وهو أيضاً من بيوع الغرر. فعلينا أن نبحث هاتين الجزئيتين. هل يدخل عقد التوريد فيهما أو في واحد منهما، أم لا؟ وقبل أن أدخل في هذا أود أن أبين أن الغرر الذي يفسد العقد هو ما توافرت فيه أربعة شروط.
أولاً: أن يكون كثيراً.
ثانياً: أن يكون في عقد – وهذا محل اتفاق بين الفقهاء – من عقود المعاوضات وهذا الشرط استخلصته من مذهب المالكية فقط؛ لأن الجمهور يجعلون الغرر مؤثراً في عقود المعاوضات والتبرعات. والمالكية وحدهم هم الذين لا يجعلون للغرر تأثيرًا في عقود التبرعات، وقد أخذت برأيهم هذا ووضعت هذا الضابط في كتاب (الغرر) . الغرر كثير في عقد من عقود المعاوضات وفي المعقود عليه أصالة ولم تدع إلى العقد حاجة.(9/897)
ثالثاً: إذا دعت للعقد حاجة فإن الغرر يغتفر، وهذا أيضاً باتفاق الفقهاء.
هذه الشروط الثلاثة محل اتفاق شرط واحد وهو الذي أخذته من مذهب المالكية وعلى هذا الأساس سأطبق الحكم في عقد التوريد هذا. قلت: إن الغرر هنا يدخل في جزئيتين واللتين هما بيع ما ليس عندك، فما هو بيع ما ليس عندك؟ والواقع أن الفقهاء اختلفوا اختلافاً واسعاً في تفسير هذا الحديث. فورد النهي كما نعلم جميعاً – بيع ما ليس في عندك – في حديث حكيم ابن حزام وحديث عمرو بن شعيب، وقد حمل الفقهاء هذا الحديث أكثر من معنى، فاستدل به بعضهم على عدم جواز بيع المعدوم، واستدل به آخرون على عدم جواز بيع العين الغائبة، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد به بيع شيء مباح على أن يستولي عليه فيملكه فيسلمه. وقال بعضهم: المراد به بيع الأعيان، وهذا هو رأي الشافعي. ولعل من المستحسن أن نقرأ عليكم عبارة الشافعي؛ لأنها مهمة في هذا المجال، يقول الإمام الشافعي: والسلف قد يكون بيع ما ليس عند البائع، فلما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيماً عن بيع ما ليس عنده – يريد الشافعي هنا أن يفرق بين جواز السلم والنهي عن بيع ما ليس عند البائع- وأذن في السلم استدللنا على أنه لا ينهى عن ما أمر به، وعلما أنه عندما نهى حكيماً عن بيع ما ليس عنده إذا لم يكن مضموناً عليه وذلك بيع الأعيان. هذه هي وجهة نظر الشافعي يعتبر النهي هو عن بيع الأعيان. وعلى هذا فإن بيع التوريد لا يدخل – حسب تفسير الشافعي لهذا الحديث- في بيع ما ليس عندك؛ لأنه مضمون في الذمة وليس بيع أعيان. وقال بعضهم: المراد به بيع الإنسان ما لا يملك، سواء أكان معيناً أم في الذمة. ويقول ابن القيم: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام ((لا تبع ما ليس عندك)) فيحمل على معنيين:
أحدهما: أن يبيع عيناً معينة، - وهذا رأي الشافعي – وهذا ليست عنده بل ملك للغير فيبيعها ثم يسعى في تحصيلها وتسليمها إلى المشتري.
والثاني: أن يريد بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة، وهذا أشبه فليس عنده حسًّا ولا معنى فيكون قد باعه شيئاً لا يدري هل يحصل له أم لا.
هذا هو تفسير ابن القيم للغرر وهذا يتناول أموراً- ما زال الكلام لابن القيم – بيع عين معينة ليست عنده.
والثاني: السلم الحال- وهذا عكس رأي الشافعي – في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه.
الثالث: السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته، وهذا باتفاق الفقهاء. والراجح عندي أن عبارة (ما ليس عندك) تعني ما ليس مملوكاً للبائع سواء أكان معيناً أم في الذمة إذا باعه على أن يسلمه في الحال، بهذا القيد، ولا يدخل فيها المعدوم ولا المملوك الغائب ولا الأشياء المباحة، وهذا هو ما تدل عليه قصة الحديث، فقد روي أن حكيم بن حزام كان يبيع الناس أشياء لا يملكها ويأخذ الثمن منهم ثم يدخل السوق فيشتري الأشياء ويسلمها لهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تبع ما ليس عندك) هذا منقول عند البائع.
ففي رأيي أن الحديث يعني إذا حصل البيع على أن يسلم في الحال، أما إذا حصل البيع على أن يسلم المبيع بعد مدة فإنه لا يدخل في هذا النهي.(9/898)
تعرض أيضاً الدكتور رفيق لهذه المسألة في بحثه- بيع ما ليس عنده – لكنه لم يحركها بهذه الطريقة، وإنما انتهى: إلى أنه يتحصل من هذا أن الماقصة لا تدخل في النهي عن بيع ما لا يملك، أو ما ليس عنده، وإن كنت أختلف معه في بعض التفاصيل التي ذكرها في هذا الموضوع، مثال من ذلك قوله: بيع السلم جائز بالنص – من أدلته – والإجماع، وجمهور الفقهاء خلافاً للحنفية لا يشترطون أن تكون السلعة في السلم مملوكة للبائع. حتى الحنفية لا يشترطون هذا وليس محل خلاف، لا يشترطون أن تكون السلعة مملوكة للبائع. الخلاف بين الحنفية والجمهور هو في وجود السلعة لكنهم كلهم متفقون على أن السلعة لا يشترط أن تكون مملوكة. عند الحنفية هو من بيع ما لا يملك فقط وليس من بيع المعدوم، وعند الجمهور السلم من بيع ما لا يملك ومن بيع المعدوم أيضاً، ومن بيع الغرر عند بعض الفقهاء. المهم النتيجة من هذا أنه في رأيي أن عقد التوريد لا يدخل في بيع ما ليس عندك وهذا الرأي قلته قبل ثلاثين سنة ولكن لم أفت به. عندما قامت البنوك الإسلامية وكنت في بنك فيصل في هيئة الرقابة الشرعية وطلب منا البنك أن يدخل في مناقصة لتوريد تلفونات فقلنا له: لا تدخل، هذا من بيع ما لا تملك. سألناه: هل تملك التلفونات؟ قال: لا أملكها. فأفتيناه برأي الجمهور ولم أفت برأيي. لكن قدمنا له مخرجاً ليدخل في هذه المناقصة فقلنا له: تقدم لشراء هذه التلفونات واشترط لنفسك الخيار مدة أكثر من المدة التي سيعلن فيها نتيجة المناقصة، فإذا أعلنت النتيجة وكانت في صالحك تم البيع وأنت مالك للتلفونات، وإذا لم تأت في صالحك تستعمل خيارك وتفسخ العقد. لكن إلى الآن لم أفت برأيي هذا في مسألة قدمت لنا وعندما توقفنا وفتاوى هيئة الرقابة في هذه المسائل ماشية على رأي الجمهور. هذا هو ما يتعلق ببيع ما ليس عندك.
النوع الثاني هو بيع الدين بالدين. وواضح أن هذه المسألة تدخل أيضاً في بيع الدين بالدين. وبيع الدين بالدين هذا فيه اختلاف وتعرض إليه أيضاً الدكتور رفيق في بحثه في موضوع تأجيل الدين. وانتهى إلى أنه لا يدخل تأجيل البدلين في بيع الدين بالدين. لكن أيضاً لا أوافقه على المقدمات التي ذكرها وإن كنت قد أتفق معه في الحكم. الدكتور رفيق يقول: ذكر بعض العلماء أن كل معاملة وجدت بين اثنين وكانت نسيئة من الطرفين فلا تجوز بإجماع. هذا صحيح؛ لأنها من الدين بالدين. وذكر في النقطة الثانية: غير أن – رد عليها – حديث الكالئ بالكالئ ليس حديثاً ثابتاً. وأشار إلى تضعيف الإمام أحمد، ذكر في الهامش: قال الإمام أحمد: ليس في هذا حديث يصح. هذا كلام سليم لكنه حذف عبارة بعد هذه العبارة. الإمام أحمد يقول: ليس فيه هذا- بالنسبة لبيع الكالئ بالكالئ- حديث صحيح ولكن إجماع الناس على أنه لا يصح بيع الدين بالدين. حتى الإمام أحمد مع تحفظه في الإجماع قال هذه العبارة بالنص: إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين. هو ذكر هنا- أيضاً – دليلاً آخراً، قال بعض العلماء:
إن عقد السلم إذا انعقد بلفظ السلم أو السلف وجب فيه قبض رأس المال في المجلس، وإذا انعقد بلفظ البيع فلا يشترط فيه قبض رأس المال في المجلس.(9/899)
وهذا الكلام يبدو أنه مأخوذ عن الشافعية لكن لم يقل لنا هل قائل هذا الكلام قال: إن هذا البيع صحيح أم غير صحيح؟ وذكر أيضاً بعد ذلك.
وقال بعضهم: السلم شرعًا بيع موصوف في الذمة.
ووقف عند هذا، ثم قال: من زاد فيه ببدل يعطى عاجلاً، وهؤلاء هم جمهور الفقهاء. وبعض الإخوة في تعليقي على بحثي في السلم قالوا: إن هذا ليس رأي الجمهور. هذا هو رأي الجمهور، في بحثي نقلت ثلاثة نقول عن ثلاثة مذاهب (مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة) ، كلهم ينصون على التعجيل في عقد السلم كونه داخلاً في حقيقة أو خارجاً هذا لا يهم. نعرف أن الفقهاء قد يذكرون الشروط في التعريفات. فهم ذكروه في الشرط وأدخلوه في حقيقة عقد السلم. الشافعية وحدهم هم الذين لا يذكرونه. لكن مع ذلك إن رأيي أيضاً أن عقد التوريد لا يدخل في بيع الدين بالدين الممنوع. هو بيع دين بدين لا يوجد في ذلك شك. وبعض الإخوة الذي علقوا قالوا ليس هذا بيع دين بدين هذا كلام غير صحيح، هو بيع دين بدين والمالكية يسمونه إبداء الدين بالدين. ثبت في ذمة المشتري الثمن وثبت في ذمة البائع المبيع. فهذا بيع دين بدين له أنواع كثيرة خصوصاً عند المالكية. هذا ابتداء الدين بالدين. وهذا هو الذر- فيما أذكر – منعه ابن القيم. ابن القيم أنه يجيز بيع الدين بالدين، ما عدا ابتداء الدين بالدين وعلله بأنه فيه شغل ذمتين من غير فائدة، هذا تعليله له. ورأيي أنا في هذا –في بيع الدين بالدين- ودونته في (كتاب الغرر) أنه جائز إلا إذا أدى إلى ربا، الصورة الممنوعة هي ما تؤدي إلى ربا، لكن بقية الصورة جائزة حتى الصورة التي منعها ابن القيم؛ لأنه قد يكون للمتعاقدين غرض سليم في تأجيل البدلين كما في هذه المسألة. ولذلك فإن رأيي أيضاً لا يدخل في بيع الدين بالدين.
يبقى بعد ذلك أن أقرر أن هذا رأي فيه مخالفة لرأي الجمهور وهذا سبب توقفي فيه، وإذا أصدر المجمع فيه قراراً فإن هذا قد يقويه خصوصاً ما تكلم عنه الشيخ المختار، وهذا قد يدخل في الغرر غير المؤثر. إذا قلنا: إن هناك حاجة إلى هذا العقد وذكرت لكم أن الضابط وهذا محل اتفاق بين الفقهاء أن العقد الذي فيه غرر ولو كان كثيراً حتى ولو كان في عقد من عقود المعاوضات إذا دعت إليه الحاجة فإنه يغتفر. لكنني لا أستطيع أن أجزم وأقرر الآن إنني أجيز عقد التوريد هذا. الأمر إليكم بعد ما سمعتم رأيي في هذا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/900)
الدكتور علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
وغفر الله تعالى للسيد الرئيس فلم يسمح لنا بالكلام بالأمس، كنت أريد أن أتكلم والحمد لله على كل حال أحب أن أقول هنا بأنني مع فضيلة الشيخ ابن بيه في وجوب تأجيل هذا الموضوع ولكن المناقشة مفيدة يستفيد منها من يكتب بعد ذلك.
ونقطة أخرى هي أن ما انتهى إليه المجمع يجب ألا نعود إليه مرة أخرى مثال: تحدث كثيرون عن بيع دين السلم والمجمع له قرار في هذا. المجمع الموقر عندما بحث الأسواق المالية ذكر أنه لا يجوز بيع دين السلم قبل قبضه، مع ذلك أخذنا وقتاً طويلاً من بعض الإخوة الأجلاء في هل يجوز أم لا يجوز؟ ما دام فيه قرار من المجمع فلا يجوز أبداً أن نعيد المناقشة مرة أخرى. وكذلك ما يتصل بهذا الموضوع أو بأي موضوع آخر يجب أن نستحضر ما قرره المجمع الموقر من قبل وأن تكون المناقشة في غير هذه الموضوعات. المناقصة والمزايدة بينهما شبه لكن فيه خلاف، اختلاف بين المناقصة والمزايدة، فإذا قلنا: المناقصة عندما يعرضها المشتري إذا كان بيع وشراء والمزايدة يعرضها البائع. فإن البائع عادة يتسلم الثمن في المزايدات غالباً يتسلم الثمن ويسلم السلعة، أما المناقصات فقد يكون تعهداً بتوريد سلع معينة لمدة عام، فهذا يختلف عن المزايدة. يعني في مدة العام هل الأسعار ستبقى أم لا تبقى؟ وإذا تغيرت الأسعار فما الحكم؟ وجدت في بعض المناقصات أن من دخل في هذه المناقصات اشترط بأن المبلغ الذي يحدده هو كذا ولكن على أساس أن سعر اليوم بالنسبة للحديد والأسمنت مثلاً يكون سعر اليوم كذا، فأي زيادة تفرضها الدولة تضاف إلى هذه الأسعار، هل يمكن أن نخرج برأي مثل هذا للتقليل من الغرر الفاحش؟ لأنه إذا زادت الأسعار إلى درجة كبيرة ولا دخل لمن دخل في المناقصة فيها ماذا يفعل؟ فإذن الأمر هنا يحتاج إلى نظر بالنسبة لطول المدة وتغير الأسعار.
بالنسبة للحديث الذي تفضل الشيخ الصديق في هذا بأن الإمام أحمد كلامه كان يجب أن ينقل بالكامل؛ لأنه ذكر الحديث ولكن ذكر ما عليه العمل. الدكتور رفيق –جزاه الله خيراً- في بحثه القيم.. وقد تحدثت عن العقود الإدارية فقط وليس على كل المناقصات وهل المجمع سوف يكتفي ببحث نوع من المناقصات أم بحث كل المناقصات؟ هذا أمر لا بد منه.
بالنسبة لتفسير (ما ليس عندك) هذا أيضاً فيه قرار سابق في المجمع. فيجب أن يكون هذا القرار أمامنا عندما نتحدث حتى لا ندخل في أمور نعارض فيها قراراً قد سبق. لذلك أقول مرة أخرى بأن هذا الموضوع يحتاج إلى أبحاث كثيرة، ومناقشات مستفيضة ولذلك أرى أن يؤجل لدورة أخرى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/901)
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أولاً, أثني وأثلث وأربع كذلك على ما تفضل به الإخوة من الثناء على البحثين القيمين اللذين قدماهما لنا الأستاذان الفاضلان الدكتور رفيق والشيخ حسن الجواهري، وعلى ما تفضل به العارض الشيخ التسخيري من عرض قيم، فجزاه الله خيراً.
ما يتعلق بما جاء في المناقشات وفي البحوث كذلك بمصادرة الضمان وتكييفه بأنه من نوع العربون. هذا في الواقع غير صحيح؛ لأن العربون لا يكون إلا في بيع تام بإيجاب وقبول وفيه خيار الشرط. وعقود المناقصات والمزايدات إنما سميت عقوداً على سبيل التجاوز وإنما هي إجراءات لعقود، فإذا كان كذلك فما قدم من ضمان ليس عربوناً وإنما هو ممكن أن يسمى هامش لجدية العطاء أو الرغبة. وإذا كان النظر أو مصادرة هذا الضمان فممكن أن يكون تكييفه على سبيل مقابلة الضرر الذي يناله من تضرر بعدم الوفاء بالوعد؛ لأنه وعد بإجراء هذه المناقصة وقدم له الضمان فيمكن أن يكون هذا مصادرة الضمان من هذا القبيل ولكن إذا كان ضماناً كبيراً فينبغي أن يؤخذ من قدر الضرر والباقي يرجع إليه إنفاذاً واتباعاً لما قرره المجمع في اعتبار الوعد الملزم قضاء وديانة، وأن يكون نتيجة الخلف في الوفاء به أحد أمرين إما إلزامه بالوفاء أو أن يقدم الضرر الناتج عن التخلف عن الوفاء.
أما ما يتعلق باقتراح الشيخ عبد الله بن بيه –جزاه الله خيراً- بتأجيل البحث فعلى أي حال لا شك أن في التأني السلامة وفي العجلة الندامة، وكل شيء يجري تأجيله لغرض استكمال ما يجب استكماله من بحوث وتصور وإيضاح فهذا شيء في الواقع وارد ولا ضرر على المجمع في اتخاذه وقد اتخذ الكثير من نوع هذا.
أما ما يتعلق بالشرط الجزائي والنظر فيه ففي الواقع الشرط الجزائي صدر فيه قرار من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية وفيه إجمال، وفي هذا الشرط أو القرار فيه إجمال، وصار محل تفسيرات لهذا الإجمال. كذلك صدر في المجمع قرار شبيه بذلك ولكني أرى أن على المجمع أن يعيد النظر فيما يتعلق بالشروط الجزائية على الديون وعلى كذلك ما يتعلق بالسلم. ففي الواقع وعلى كل حال ظهر لنا من هذه المناقشات مجموعة جزئيات تحتاج إلى نظر في إدخالها في الكليات العامة أو في القرار العام أو عدم ذلك. فأرى من المجمع لو أضافه أو فكر في بحثه مستقبلاً.
ما يتعلق بالقول إن في المناقصات أو المزايدات بيع ما لا يملك. في الواقع أنني أعيد ما قلته بأن ما يسمى بعقود المناقصات أو عقود المزايدات فهو في الواقع تجاوز في التسمية وإلا فهي لم تكن عقوداً وإنما هي إجراءات عقود. وإذا كانت إجراءات عقود فلا يرد عليها القول بأن هناك فيه بيع ما لا يملك. فطالما أنها إجراءات فالقول بأنها من بيوع ما لا يملك قول يحتاج إلى إعادة نظر. كذلك ما يتعلق بالقول بالخيارات، خيار الشرط أو نحوه في هذا الشيء، نفس الشيء يرد على هذا؛ لأن هذا لا يكون إلا في البيوع التامة وهذه في الواقع ليست بيوعاً، وإنما هي إجراءات بيوع تتم بعد إقرار المناقصة أو المزايدة وإرسائها على من يريد، ثم بعد ذلك يجري الإيجاب والقبول وعقد البيع الحقيقي.(9/902)
ما يتعلق القول بأن معنى النهي عن بيع ما ليس عندك، أنه في الغالب أو أن ابن القيم –رحمه الله- يرى أنه ما كان غير موجود في الغالب في الأسواق. أولاً كفاني سماحة الرئيس –جزاه الله خيراً- الإجابة عن ذلك. والأمر الثاني أن قصة حكيم بن حزام ترد على هذا فهو يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أبيع السلعة قبل أن أمتلكها ثم أذهب إلى السوق أشتريها. فهذا يعني أن السلعة موجودة في الأسواق ومع ذلك رسول اله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعها حتى يملكها.
هذه في الواقع هي ما عندي من ملاحظات. وشكراً لكم حسن استماعكم.
والسلام عليكم ورحمة الله.
الدكتور عبد السلام العبادي.
بسم الله الرحمن الرحيم،
حقيقة نحن أمام بحثين جيدين فيهما تحليل واستعراض للموضوع بكافة جوانبه، لكن حقيقة أشعر بأننا وسعنا الموضوع على أنفسنا كثيراً، وأن أخالف التوسع الذي عرضه أخي الدكتور رفيق الذي حصل في هذا الموضوع.
نحن أمام موضوع المناقصة فقط وليس أمام ما يحدث بعد إرساء المناقصة مع عقود والتزامات وتصرفات. نريد أن نبين الحكم في موضوع المناقصة وهذا هو المطروح وبالتالي تثور تحت هذا العنوان جملة من التساؤلات وهي في الواقع إذا ركزنا عليها وسلطنا الأضواء عليها أن نعالجها بقرار مجمعي. المناقصة الهدف منها وحكمتها هو أن الذي يريد أن يحصل على عقد معين سواء كان في إطار البيع أو في إطار الاستصناع أو في إطار السلم أو حتى في إطار الإجارة، إجارة أماكن أو حافلات –وسائط النقل- أو إجارة أشخاص، يريد أن يحصل على أقل الأسعار في هذه العقود. فلذلك هو يعمل المناقصة. السؤال هنا: هل نحن أمام إجراءات الجهة الإدارية حرة فيها تفعل ما تريد، أم أمام عقد تمهيدي لعقود أخرى أو منظومة عقود كما عبر الأخ الدكتور رفيق، بصرف النظر عما سننتهي إليه هل هو عقد ابتدائي أو منظومة عقود؟ نحن حقيقة لسنا أمام إجراءات فقط إنما أمام التزامات متقابلة والعقود الأساس فيها الالتزامات المتقابلة. نعم المناقصة تطلب إيجابات ضمن مواصفات معينة، لكن ضمن أيضا التزامات متقابلة. يعني الجهة الإدارية ليس حرة 100? في هذا العقد الابتدائي ما دام أنها طلبت ضمانات لضمان جدية المشاركة في هذه المناقصة، إذا نحن أمام التزامات متقابلة. صحيح أن بعض الجهات الإدارية تشترط في مناقصتها الحق الكامل بإلغاء المناقصة فيما إذا لم تعجبها العروض لكن قد لا يشترط. إذن يمكن أن تكون المناقصة بدون هذا الشرط وبالتالي لا بد أن نبحث –نحن- هذا الاتفاق الذي فيه تقابل في العرض والقبول ولو في إطار تمهيدي، أن ننظر إليه هو وحده بصرف النظر عما ستؤول إليه الأمور بعد ذلك؛ لأننا إذا أردنا ما ستؤول إليه الأمور بعد ذلك سندخل في عدد كبير من العقود ولا يمكن في الواقع أن نضع أحكاماً في قرار مجمعي تفصيلاً في كل هذه العقود. لذلك موضوع المناقصة هو الذي يحدد طبيعة العد اللاحق؛ لأنه قد أطلب أنا أشياء موجودة في السوق وموجودة عند التجار. فإذن أمامنا عقد بيع وليس هنالك إشكال. قد أطلب عقد توريد وعند ذلك أدخل في قضايا السلم أو الاستصناع أو في مشاكل الجهالة، والجهالة المفضية إلى النزاع والشروط التي تتعلق بضبط هذا الأمر. يمكن لمجمعنا أن يأخذ قراراً في المناقصة ثم يحيل بعد ذلك فيما يتعلق بالأحكام التفصيلة لكل عقد بحسبه، ولا ضرورة أن نخوض فيه تفصيلاً وأن نحدد فيه كل ما يتعلق بعقد مواصفاته الآن في هذه المرحلة، لكن ممكن أن ندرس عقد التوريد وحده يمكن أن ندرس عقد إقامتنا الآن في الفنادق؛ لأنه أيضاً عقد جديد لأن فيه إجارة مكان وفيه بيع لطعام وفيه ... فهي إذن عقود جديدة ليس مطلوب منا أن ندرس نحن في مرحلة ما يسمى بمنظومة عقد المناقصة أو عقد ابتدائي وعقد المناقصة، ليس مطلوب منا أن ندخل في التفاصيل الأخرى. هذا جانب.(9/903)
جانب آخر أهم التفاصيل في هذا الموضوع: تفصيلان في ظني هما: مصادرة الضمان الذي يقدمه الشخص المشارك في المناقصة. هل يمكن أم لا؟ حقيقة قرارنا المجمعي السابق في موضوع العربون لا علاقة له بالموضوع لأنه نحن لسنا أمام عربون؛ لأنه هنا ليس المشتري الذي سيدفع، هذا الذي سوف يبيع ويقدم. فإذن القياس على العربون في الواقع قياس بعيد. السؤال هنا: هل يمكن تخريجه على أساس أنه تعويض عن الضرر؟ لأنه حقيقة الجهة التي تصدر المناقصة تقدر الأضرار التي ستلحق بها فيما إذا كان العارض غير جاد في عرضه فحالت عليه فرفض فحتى تضمن جديته تقدر هذه الأضرار التي ستحلق بها فتضع هذا الجزاء عليه، هل هذا يمكن أن نخرجه على هذا الأساس؟ وبالتالي موضوع العربون لا يدخل هنا في هذا الموضوع.
موضوع آخر يبحث هنا وهو موضوع التواطؤ والذي هو النجش. ما هي انعكاساته على العقد؟ يعني إذا حدث اتفاق لرفع السعر ونحن نريد أن نرسل مناقصتنا من أجل إنزال السعر. ثم أن يقال: إن المناقصة 100? أحكامها كالمزايدة في الواقع فيه تجوز إلى حد ما؛ لأن المزايدة كما أشار أحد الإخوة تتصور في عقود لا تتصور فيها المناقصة، حسب طبيعة العقد وحسب الذي يريد أن يطرح هذا الأمر، وحسب الجهة التعاقدية هل مصلحتها في زيادة البدل أو في إنقاص البدل؟ أين ما يتصور مصلحة في إنقاص البدل تتصور المناقصة، وأين ما يتصور مصلحة في زيادة البدل تتصور المزايدة. وأقترح على المجمع الكريم أن نبحث موضوع المناقصة وحده ولا ندخل في كل المناقشات التي دارت حول طبيعة العقد الذي ينتهي إليه أمر المناقصة بعد إرساء العطاء أو إرساء المناقصة في التعبير المستعمل في مثل هذه العقود.
وهناك تعليق بسيط على القول بأننا تحدثنا فقط عن المناقصة في عقود الإدارة العامة. المناقصة في طبيعتها العامة هي واحدة سواء كانت من جهة الإدارة العامة أو من أي جهة أخرى. فمعالجتنا لهذا العقد وحده في هذا الإطار ليس فيها اجتزاء، ويمكن حقيقة للجنة التي تشكل لهذا الموضوع أن تقدم لنا مشروع قرار يعالج موضوع (عقد المناقصة) دون الدخول في بقية الأمور التي تحتاج إلى بحث طويل مثل موضوع (الشرط الجزائي) وغيره. وشكراً،،(9/904)
الدكتور عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أتقدم بكلمة شرك إلى كل من تقدموا ببحوث قيمة في هذا الاجتماع والاجتماعات التي قبله، وقد يكون تدخلي هذا تعليقاً موجزاً لا على مادة البحوث المقدمة إلى هذا الاجتماع وتفاصيلها؛ لأنها في الحقيقة بحوث قيمة تتضمن مادة علمية غنية ودسمة بتفاصيل، قد تلبي رغبة الباحث الأكاديمي وطالب العلم أكثر مما يلبي طلب وتطلعات الدول الحديثة التي تواجه مشاكل فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية وعلاقاتها مع العالم الخارجي.
أريد أن أعلق بإيجاز على منهجية العمل في اجتماعاتنا هذه، وقد سبقني إليها غيري وأخص بالذكر السيد المفتي محمد مختار السلامي. فالملاحظ أن التركيز أو أن هناك تركيزاً على استنباط الفقه والقياس المنطقي المبني على المصادر الأساسية من القرآن والسنة واجتهاد المجتهدين المقلدين الذين جاءوا من بعدهم. وقد نجح المجمع إلى حد كبير في اختيار موضوعات عملية جيدة واستكتاب الفقهاء لكتابة دراسات مفصلة وطيبة، ولكننا في حاجة إلى تقديم حلول عملية للتعامل مع المشاكل المعاصرة والتي نعيشها وتعاني منها دولنا الشيء الكثير. ولا شك في أننا كلنا يعلم أن الهدف الأساسي في إنشاء هذا المجمع الفقهي الإسلامي هو في الحقيقة إيجاد حلول أو إيجاد جهاز فتوى يقوم بدراسة المشاكل التي تواجه الأمة وهي كثيرة، وتصدر حولها فتاوى عملية تنسجم مع الشريعة الإسلامية ولا تتناقض ولا تتنافى مع متطلبات العصر الحديث.
فطبعاً هذه المسألة أنا على علم بأن كثيراً من الأئمة من الباحثين والفقهاء تناولوها من جانب آخر، لكن الذي يهمني في تدخلي هذا والذي يزعجني إلى حد ما، أننا نلاحظ أننا كثيرا ما نتقدم بإرجاع مسائل سبق وأن اخترنا دراستها. فبالأمس القريب أرجأت موضوعات سبق للمجمع أن أصدر بعض الفتاوى حولها، فمسألة الاستثمار بالأسهم سبق وأن تمت دراسة بعض جوانبه وبالأمس أجلناها؛ لأننا لم نُوَفَّقْ في الوصول إلى حل عملي نستطيع أن نقدمه إلى الأمة. فاليوم أرى أن هناك توجهاً لإرجاء مسألة ممن أهم المسائل وهي المناقصات، أيضاً أجلناها؛ لأننا لم نجعل أنفسنا أمام القضية بأننا لا نستطيع أن نبدي فيها رأياً يمكن أن نطبقه. ويبدو لي وقد أكون مخطئاً في هذا أننا يتوافر لدينا أن العالم الإسلامي غني بالفقهاء ولكننا نحتاج إلى فقهاء اقتصاديين ولعلنا لم نُوَفَّقْ بعدُ؛ لأننا نرى أن هناك بحوثاً جيدة فعلاً واستنباطاً فقهيًّا جيداً وكل المسائل وكل المصادر التي يستشهدون بها لكننا هنا عندما نأتي إلى محل التطبيق نرى أننا نحتاج إلى تأجيلها وإعادة النظر فيها، فهذا قد يكون سببه في أننا في الاستنباط الفقهي نجحنا ولم ننجح في التوفيق بين النظرية الفقهية والنظرية الاقتصادية في التعامل مع هذا، فالدول التي أنشأت هذا المجمع طبعاً ما زالت تنتظر ولها حق في الانتظار أن كل اجتماع اجتمعناه نخرج بحل من الحلول يستطيعون أن يطبقوه لمواجهة الحياة. فالشيخ المفتي محمد المختار السلامي في تدخله اليوم ذكر مسائل حية. مسألة المناقصات والمزايدات أن الدولة في حاجة إلى تزويد جيشها ودولة في حاجة إلى تنمية اقتصادياتها، فمعظم هذه الأشياء تتعلق بمسألة المناقصات والمزايدة، ولكننا مع ذلك وجدنا أنفسنا عاجزين على أن نخرج بشيء نستطيع أن نقدمه لها. فأنا لا أشك أن في الأمة عناصر جيدة تستطيع أن تقوم بهذا العمل.. ولكنني أتوجه مرة ثانية إليكم جميعاً أن نضع نصب أعيننا أن الهدف الأساسي من وجودنا هذا هو تقديم حلول عملية للدول التي أنشأت هذا وقد نكون قد نجحنا في تقديم بعض الحلول لكننا في الحقيقة فيما يتعلق بالتعامل المصرفي فيما يتعلق بالاقتصاد الدولي ... الحكومات الأخرى، أعتقد أننا في حاجة إلى مزيد من العمل لتلبية رغباتهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/905)
الدكتور درويش جستنية:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الواقع مسألة العقود أو إجراءات التوريد والمناقصة مسألة حيوية تحتاج إليها كل الدول لا شك، وهي مسألة قديمة لا بد أن هذه البحوث –وهي جيدة والحمد لله- تطلعت إليها لكن حتى تكون هذه البحوث التي بين أيدينا كاملة يبدو لي أنه لا بد من التعرض إلى نقطتين هامتين:
النقطة الأولى: تتعلق بمسألة التواطؤ في عملية دخول المناقصة؛ لأن كثيراً من المناقصات عند الدخول إليها تجد عدداً من التجار اتفقوا بحيث يحافظون على مستوى معين من الأسعار وبعد ذلك عندما تدخل العملية وترسو على أحد منهم وتبدأ عملية التوزيع من الباطن. ولم تتعرض هذه البحوث إلى الناحية الشرعية، فيما يتعلق بالمسؤوليات القانونية والشرعية فيما يتعلق بتفويض العمل من الباطن، فعلى من تقع المسؤولية؟ وكيف يمكن تحديد هذه المسؤوليات التي تتعلق بأنه من الباطن يمكن أن تكون هذه العقود توزع المسؤوليات. فتتعلق أولاً بعمليات التوريد، فعندما نقول عملية التوريد: توريد الأشياء ليست بالضرورة موجودة لدى المناقص، وإنما هي عبارة عن أشياء يمكن تجميعها من السوق هي ليست حاضرة لديه ويمكن من خلال التعاون مع بقية التجار أو المستوردين أن يحصل على هذه السلعة، وبالتالي ستكون هناك عقود داخلية بين المستورد وبين المناقص الأصلي، ولو حصل عدم وفاء بهذه العقود سيكون هناك تأخير في الدفع وستكون هناك مشكلات بين المناقصين في الداخل وأثرها على العلاقة الأساسية بين المتناقص وبين الجهة التي يتم التعاقد معها. فيبدو لي أن مثل هذه الأمور يجب أن تكون داخلة أيضاً في البحوث بحيث تغطى مثل هذه النقاط. وشكراً لكم،،
الشيخ فرج:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد،
فنشكر أولاً سماحة الرئيس وسيادة الأمين العام، ونثني على ما قاله أصحاب الفضيلة العلماء خاصة ما قدمه أصحاب البحوث من إثراء عظيم لهذه المسألة. وكنت أحب أن أشير إلى بعض الإشارات ولكن –الحمد لله- تقدم بها كثير من الباحثين وأشاروا إليها، في مسألة عقد المناقصة وعقد المزايدة وأنه فعلاً يوجد هناك فرق بينهما، وأن الأفضل أن يكون إجراء شكل هذا الإجراء قبل إبرام العقود. يعني أنا أميل إلى أن الفقهاء ينبغي أن يبحثوا في مسألة ما ينبني على هذه المناقصة والضوابط الشرعية التي تحيط بهذه المسألة، ولكن عندما نبحث في كل ما يجِدُّ في الحياة من أشياء ونضع لها التكييف الشرعي ربما تختلف فيها الأمور وربما تؤدي إلى إعمال النصوص في غير مواضعها. فأنا أرى أن عقد الاستصناع، عقد السلم، عقد البيع، عقد الإجارة، وهكذا. أما المناقصة فنضع لها الحدود والضوابط الشرعية التي تضمن عدم المخالفات الشرعية. هناك أمور كثيرة تكلم فيها أصحاب الفضيلة، بقي أمر دقيق وهو بيع كراسة الشروط. تكلم الدكتور رفيق وأشار بأنه يفضل أن تكون مجانا وأشار فضيلة الشيخ حسن الجواهري بأنه لا مانع من بيعها، وسيادة العلامة الشيخ التسخيري مال إلى هذا الرأي. لا بد أن نضع خطة دقيقة في هذا الأمر ربما أصحاب المناقصات يأخذون هذا الأمر ذريعة للكسب الحرام، يضع ثمناً عالياً ويضع مستوى لهذه الكراسة لا تتناسب مع ثمنها ليكتسب أموالاً كثيرة بحجة أن بعض العلماء وأن المجمع الموقر أباحها. فنحن لا بد أن نضع الضوابط، نقول: أبيحت وكان هذا الأمر على سبيل الجواز الشرعي فينبغي أن تكون كراسة بالثمن الذي يتناسب معها أو بثمن التكلفة. أما ما يقوم به أصحاب المناقصة من الدعاية في وسائل الإعلام فهذا على حسابهم، وأما الذي يدخل في المناقصة فيدفع فقط ثمن الكراسة بما يتناسب معها وبما تتكلفه حقيقة.(9/906)
تبقى مسألة العربون وتكلم فيها الدكتور عبد السلام وغيره كلاماً جيداً لا داعي لإعادته حتى نخلص إلى هذه المسألة.
يبقى أمر أخير وهو أن الفقيه ينبغي عليه أن ينظر إلى الأمور التي ظهرت والأمور التي يقع فيها الناس كثيراً، وهو ما يقال عند الفقهاء بما كثرت به البلوى بأن ينظر إلى الفتوى بالأخف بما يناسب أن يأخذ بيد الناس من ورطتهم حتى لا يقعوا في الحرام، ويبين أن هناك الأحوط وهناك الأروع ولكن يضع دائماً الرأي، يعني إذا كان هناك في الفقهاء من قال برأي ربما يكون فيه مثلاً احتياط أو تشديد ولكن هناك رأي مخفف فنأخذ به في هذه المسألة حتى لا نضيق على الناس من باب التيسير، والفقهاء يقولون بأن المصلحة هي المطلوبة للمؤمن وللفقيه الذي يضع أمام عينيه عندما يجتهد في هذا الأمر وأنا ألاحظ –والحمد لله- أن المجمع الموقر بعلمائه الأجلاء حريصون كل الحرص على أن يكونوا ملتزمين بالنصوص الشرعية وبالاجتهادات الصحيحة المؤيدة من الكتاب والسنة وذلك فضل الله تعالى عليكم، وهذه مسؤولية كبيرة ونحن الآن في أشرف الأعمال وجلستكم من أعظم الجلسات في سبيل الله –سبحانه وتعالى- لنا الأجر العظيم. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الرئيس:
في الواقع من خلال هذه المداولات في موضوع (المناقصات) يتحرر أن هناك بعض من مفرداتها لم تتناوله البحوث ولا المناقشات، لا سيما بعض صور المناقصات المشتهرة مثل: سندات الخزينة، فهذه لم يتعرض لها أحد وهي منتشرة والإعلانات عنها متوالية. وهناك بعض مفرداتها سبق وأن بت فيها المجلس كما في عقد الاستصناع وخطاب الضمان في بعض صوره، وهناك بعض المفردات حصل فيها توقف ولم يحصل فيها بت من عدد من أصحاب الفضيلة الأعضاء، وهناك مفردات أخرى حصل فيها البت إلا أن هذه يرتبط بعضها بعض، ولهذا فإن المأمول من أصحاب الفضيلة الأعضاء والباحثين والخبراء أن يقدم كل واحد ما لديه من قضية أو مفردة تستحق المناقشة وإدخالها في هذا المشروع ليجري إحالتها إلى معالي الأمين. ومعالي الأمين الآن يحب أن يأخذ الكلمة.(9/907)
معالي الأمين العام للمجمع:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
لقد كانت البحوث المقدمة في هذه الجلسة من جهة والمناقشات الطويلة التي استمعنا إليها ثرية ثراءً كبيراً وواسعة، وهذا بحمد الله أعطى صورة كاملة للموضوع بحيث أصبحنا نشعر بأن طائفة من مسائله ربما كان قد وقع بحثها من قبل واتخذ فيها قرار، والبعض الآخر هو جديد يحتاج إلى النظر، وهناك مسائل أخرى أيضاً تحتاج؛ لأن تبحث لتضم لهذا الموضوع لتتكامل الصورة لدينا في بحوث تقدم في الدورة القادمة –بإذن الله- من أجل ذلك فإني أرجو –تثنية على ما تفضل به سيادة الرئيس- أن يكتب الإخوان إلى الأمانة ما يريدونه من المفردات أو الموضوعات التي تضم إلى هذه القضية حتى تبحث في الدورة القادمة، وبودي أن الذين اقترحوا هذه المسائل هم الذين يتولون الكتابة فيها. فأنا في انتظار ما تريدونه وتقدمونه من ملاحظات مكتوبة تتعلق بتلك المفردات راجياً أن يكون الذين يتقدمون بها هم الذين يتولون إعداد شيء للدورة القادمة، بإذن الله.
وشكراً لحضراتكم.
الدكتور عبد السلام العبادي:
في الحقيقة لا بد أن نبت في مجلس المجمع بأمر في غاية الأهمية. هل نريد المناقصة وما تنتهي إليه من عقود؟ أم نريد المناقصة في ذاتها؟ إذا أردتم ما تنتهي إليه من عقود ستدخل السندات التي أشار إليها وستدخل صور كثيرة.
الرئيس:
يا شيخ عبد السلام، لأنه يخشى من صدور قرار مثلاً ... نحن الآن ننبه لكن لو لم أنبه ما نبه؛ لأن البحوث لم تذكرها والمناقشات لم تتداولها، فنحن ما يسعنا على أن من يصدر شيئاً يكون فيه الإجمال ويدخل فيه عشرات القضايا التي هي غائبة عن أذهاننا. إضافة إلى سندات الخزينة بيع الأوراق المالية، فهي أشياء لا تعد. وتعرفون أن الإجمال يدخل تحته أشياء قد تكون تناقض صريح الدليل من الكتاب والسنة، وتناقض ما صدر من هذا المجمع. فالموضوع في الحقيقة في هذه المداولات في هذه الجلسة تجلى تماماً، تجلت جوانبه، وإذا أجل بهذه الصورة بشرط أن في فاتحة الجلسة المسائية يقدم كل واحد من أصحاب الفضيلة الأعضاء والخبراء والباحثين ما لديه للأمانة.
وأرجو أن توافقوا على هذا ويعتبر الموضوع بذلك منتهياً.
وبذلك ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/908)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 93/5/د9
بشأن: " المناقصات "
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415 هـ، الموافق 1-6 أبريل 1995م.
بعد اطلاعه على البحثين الواردين إلى المجمع بخصوص موضوع: "المناقصات"
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وجرياً على خطة المجمع في وجوب إعداد عدد من الدراسات في كل موضوع لاستقصاء التصورات الفنية له، واستيعاب الاتجاهات الفقهية فيه،
قرر ما يلي:
أولاً: تأجيل إصدار القرار الخاص بالنقاط التي درست في هذا الموضوع، نظراً لأهميته، وضرورة استكمال بحث جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته، والتعرف على جميع الآراء فيه، واستيفاء المجالات التي تجري المناقصات من أجلها، ولا سيما ما هو حرام منها كالأوراق المالية الربوية وسندات الخزانة.
ثانياً: أن يقوم أعضاء المجمع وخبراؤه بموافاة الأمانة العامة –قبل انتهاء الدورة إن أمكن أو خلال فترة قريبة بعدها –بما لديهم من نقاط فنية أو شرعية تتعلق بموضوع "المناقصات" سواء تعلقت بالإجراءات أم بالصيغ والعقود التي تقام المناقصة لإبرامها.
ثالثاً: استكتاب أبحاث أخرى في موضوع (المناقصات) يسهم فيها أهل الخبرات الفنية والفقهية والعملية في هذا الموضوع.(9/909)
انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخم
النقدي وأثره بالنسبة للديون السابقة
وفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقاً بالكساد
إعداد
الدكتور مصطفى أحمد الزرقا
المستشار الشرعي بمؤسسة الراجحي المصرفية
بسم الله الرحمن الرحيم
انخفاض قيمة العملة وتأثيره في الديون السابقة
- من أكبر المشكلات المعاصرة من قضايا الساعة مشكلة التضخم النقدي، لما أصبح النقد المتداول في جميع أنحاء العالم ورقاً مطبوعاً وما يترتب على هذا التضخم من هبوط في قيمة العملة الورقية، بحيث تصبح الوحدة النقدية لبلد ما، كالليرة والدينار والدرهم واللير والدولار والفرنك مثلاً، قوتها الشرائية لا تساوي إلا جزءاً من خمسة أو عشرة أو مئة مثلاً من قوتها الشرائية السابقة.
إن الديون المعقودة قبل الهبوط بمدة طويلة كالمهور المؤجلة في عقود النكاح، وكالديون القديمة إذا قضيت بالعملة ذاتها وبالعدد المذكور في العقد القديم قبل الهبوط ينال الدائن بهذا الهبوط في قيمة العملة ضرر كبير بحيث يعتبر معه أنه لم يقبض من دينه إلا واحداً من خمسة أو من عشرة أو من مئة. وهذا بعيد جدًّا عن العدل والإنصاف الذي هو أهم سمة من سمات الشرع الإسلامي.
وفي الوقت نفسه إذا كلف المدين أن يدفع، بعد الهبوط العظيم المروع، دينه من النقود بحسب قيمتها السابقة، فإن ذلك مرهق له إرهاقاً لا يحتمل؛ فكلا الحلين لا ينطوي على عدل، سواء حملنا الفرق في قيمة العملة كله على الدائن، أو على المدين، وهنا تكمن المشكلة.
قبل سنوات من هذا التاريخ، في دورة هذا المجمع الفقهي التي عقدت في الكويت كان من جملة جدول أعمالها موضوع التضخم وهبوط سعر العملة التي عقدت بها عقود قديمة من قروض ومهور أو أثمان مبيعات. فاتخذ المجمع إذ ذاك قراراً بشأنها بين فيه أنه لا تأثير لذلك الهبوط في قيمة العملة مهما فحش، ولا يكلف المدين إلا بالمقدار نفسه من النقود التي عقد بها العقد القديم، دون أي اعتبار لهبوط قيمتها وقوتها الشرائية. ولم أكن أنا حاضراً تلك الدورة المذكورة؛ لأن الجامعة الأردنية التي كنت فيها لم تأذن لي ولم تعطني إجازة لحضور تلك الدورة.(9/910)
وفي نظري أن قرار المجمع إذ ذاك كان فيه شيء من التسرع يجعله في حاجة إلى إعادة النظر في موضوعه. فما ذنب الدائن من مقرض أو بائع أو امرأة عقدت على مهرها المؤجل بالليرات السورية أو اللبنانية ثم استحقت أخذه بوفاة الزوج أو تطليقه إياها أن تأخذ مهرها المؤجل بما يساوي واحداً من المئة أو أقل؟!!!
وإن قلنا بالعكس فما ذنب الرجل أن يدفع المهر مئة ضعف أو أكثر عما تعاقد عليه، ولم يكن في حسبانه مثل هذا الهبوط المروع؟!
إن الموضوع خطير، ويحتاج إلى تروٍّ وتفكير في ضوء مبادئ الشريعة، والقوانين الوضعية ليستنير الفقيه بما عند غيره من رأي، ولا يصح أن يؤخذ فيه قرار مبتسر على عجل كما لو كان الأمر بسيطاً ليس ذا خطورة كبيرة في نتيجته.
والذي بدا لي بعد طول تفكير عقب صدور القرار من المجمع الكريم في دورة الكويت المذكورة أن هذا الموضوع ليس له حل عادل مع الطرفين الدائن والمدين سوى الحل المستوحى من نظرية الظروف الطارئة المعروفة في عالم القانون الوضعي والتي تتقبلها مبادئ الشريعة الإسلامية وفقهها بكل ترحاب.
-نظرية الظروف الطارئة-
ما هو الظرف الطارئ؟
يعرف العلماء القانون الطارئ بأنه ظرف يحصل بعد التعاقد بصورة مفاجئة لم يكن في حسبان العاقدين وقت التعاقد، تختلف فيه قيمة الالتزام الذي التزمه أحدهما تجاه الآخر اختلافاً جسيماً من شأنه أن يجعل الالتزام مرهقاً للملتزم إرهاقاً شديداً.
وأبرز ما يحصل الظرف الطارئ بالمعنى المبين في تعريفه عقود التوريد، وعقود المقاولة التي يعقدها المتعهدون لإقامة المنشآت والمباني.
فقد يتعاقد مقاول متعهد بإقامة بناء ضخ لشركة أو لحكومة في ظرف طبيعي بالعملة السائدة، فتقع حرب مفاجئة تنقطع بها طرق المواصلات، ويتوقف أو يتعسر استيراد مواد البناء فتغلو أسعارها ويندر وجودها، وتصبح تكاليف البناء أضعافاً مضاعفة عما كان محسوباً وقت التعاقد.(9/911)
وكذلك قد يتعاقد متعهد عقد توريد مواد أغذية أو أدوية لمستشفى لمدة معينة، فيحصل زلزال كبير أو إعصار مدمر، أو تندلع حرب، فتقل المواد المتعاقد على توريدها في مدة العقد وترتفع أسعارها أضعافاً كثيرة من شأنها أن ترهق الملتزم إرهاقاً شديداً.
هذا هو معنى الظرف الطارئ عند علماء القانون. ومن شروطه:
1- أن يكون من شأنه أن يرهق الملتزم إرهاقاً شديداً، ولا عبرة لكون هذا الملتزم قويًّا ماليًّا بحيث إنه يستطيع أن يوفي الالتزام رغم إرهاقه الشديد. وهذا ما يفيده تعبير (من شأنه أن يرهق..) ولو كان خصوص هذا الملتزم قادراً على التنفيذ الأصلي.
2- أن يكون الظرف الطارئ غير قائم عند التعاقد، ولا متوقع الوقوع؛ لأنه لو كان كذلك يكون محسوباً له حسب عند التعاقد، فلا يفاجأ الملتزم بما لم يكن في حسبانه.
ماذا توجب النظرية في هذه الحال
إن علماء القانون مجمعون على أن الظرف الطارئ بمعناه المشروح وشروطه إذا وقع فإن نظريتهم فيه أنه يعطي القاضي حقًّا وسلطة في أن ينظر الفرق الذي حصل في الأسعار بسبب الظرف الطارئ فيحمله على الطرفين معاً، أي يقسمه نصفين، فيحمل كلًّا منهما نصف الفرق تحقيقاً للعدل بينهما، إذ ليس من العدل أن يبوء به أحدهما دون الآخر.
ويحق للقاضي أن يمهل الملتزم إذا كان السبب الطارئ مرجو الزوال قريباً.
وللقاضي سلطة أيضاً إذا لم يكن العقد قد بدئ بتنفيذه، أو كان الذي نفذ منه جزءاً يسيراً أن يفسخ العقد ويلغي التزام المتعهد أوالمقاول، كما يحق له أن يفسخه جزئيًّا فيما لم يتم تنفيذه، ويحكم للملتزم له بتعويض عادل عن فسخ العقد، كما له أن ينتقص من التزامات الملتزم تخفيفاً عنه، أو يزيد في حقوق الملتزم له، معتمداً رأي أهل الخبرة في ذلك.
وهذا كما يبدو حل في منتهى المعقولية والعدل، إذ أن تحميل الفرق كله على أحد الطرفين ظلم واضح له، مع أن الظرف الطارئ ليس من صنعه، وتأثيره يشمل المجتمع كله، وكلا الطرفين من أعضاء المجتمع الذي تأثر بالظرف الطارئ فلا مبرر لإعفاء أحد الطرفين المتعاقدين من تأثيره، وتحميل الفرق كله على الآخر.(9/912)
مدى قبول هذا الحل الذي توجبه النظرية القانونية
في قواعد الفقه الإسلامي
كنت قدمت في المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة مذكرة دعوت المجمع فيها إلى تبني حل لمشكلة التضخم نظير الحل الذي تفرضه نظرية الظروف الطارئة القانونية؛ لأنه يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي قوامها العدل الذي قال فيه ابن القيم رحمه الله:
"حيث ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره".
وكون هذا الحل مستوحى من نظرية قانونية لا يضير، إذ ليس كل ما في القانون الوضعي مخالفاً لمبادئ الشريعة الإسلامية وفقهها. بل إن المتفق فيه مع أحكام الشريعة أكثر كثيراً من المختلف. فما كان من المتفق مع أحكام الشريعة يمكن تبنيه وتخريجه تخريجاً جديداً على قواعدها، وتفريعه على مبادئها الحكيمة الثابتة بنصوص عامة أو بشواهد فقهية تؤيده، ونضيفه إلى فقهنا الجليل الذي نشأ كثير من أحكامه بمثل هذه الطريقة التخريجية لحاجات زمنية دعت فقهاؤنا إلى تلبيتها، أصبحت من صلب الفقه.
وبناء على مذكرتي تلك قام المجمع بتكليف أحد أعضائه الدكتور الأستاذ رشيد القباني بتقديم بحث عن نظرية الظروف الطارئة في القانون. ثم في دورة تالية أدخل الموضوع في جدول أعماله، ثم انتهى إلى قرار يعتبر فيه الظروف الطارئة بمعناها المشروح موجبة لتعديل الالتزامات والحقوق في العقود المتراخية التنفيذ كعقد التوريد مثلاً، وذلك بتنصيف فرق العملة الفاحش وتحميله على الطرفين على كل منهما نصفه ... إلخ.
وقد قام المجمع بتخريج ذلك كله على أصول الشريعة وعلى نصوص الفقهاء في عقد الإجارة الذي قرر الفقهاء جواز فسخه بالأعذار وعلى حكم الجوائح الطارئة على الثمار المتعاقد عليها وهي على أشجارها كما استند المجمع إلى قاعدة وجوب العدل في الشريعة، والمبدأ الذي أعلنه ابن القيم رحمه الله في كلامه الذي نقلنا بعضه آنفاً.
وإني أربط صورة كاملة لقرار المجمع الفقهي بمكة المكرمة في هذا الشأن تسهيلاً للاطلاع عليه عند النظر في مذكرتي هذه.(9/913)
ثم بعد صدور هذا القرار من المجمع الفقهي بمكة رأيت في كتاب الدكتور الأستاذ عبد السلام الترمانيني (1) الذي عنوانه: (نظرية الظروف الطارئة – دراسة تاريخية ومقارنة بالشريعة الإسلامية) (2) في الفصل السادس منه الذي عقده للمقارنة بين النظرية الضرورة في الفقه الإسلامي، ونظرية الظروف الطارئة في القانون المدني كلاماً جيداً في تطبيق النظريتين على هبوط سعر النقود الفاحش، ووجوب تنصيف الفرق في السعر وتحميله على الطرفين؛ أربط صورته بنصه أيضاً مع هذه المذكرة دعماً لما بينته فيها.
ثم إن الدكتور نزيه حماد في كتابه المسمى (دراسات في أصول المداينات) في المبحث الرابع منه الذي عنوانه: تغير النقود وأثره على الديون في الفقه الإسلامي – نقل الآراء الفقهية الثلاثة وهي:
1- عدم تأثير صعود قيمة النقود وهبوطها على المداينات السابقة وبه أخذت مجلة الأحكام العدلية.
2- اعتبار قيمتها يوم العقد في البيع، ويوم القبض في القرض، وهو القول الثاني للإمام أبي يوسف والمفتى به في المذهب الحنفي.
3- قول عند المالكية بأن التغير إذا كان يسيراً لا عبرة له ويجب الوفاء بمثل ما وقع عليه العقد دون تأثيره لصعود قيمة النقود أو هبوطها. وأما إذا كان التغير فاحشاً فإن الوفاء يجب بحسب قيمة النقود وقت التعاقد؛ لأنه لو وفى بالمثل فقط حينئذ يصير القابض للنقود بعد هبوطها الفاحش كالقابض لما ليس له كبير منفعة.
__________
(1) هو نقيب سابق للمحامين بحلب، وعميد سابق لكلية الحقوق فيها، ثم رئيس قسم القانون الخاص، وأستاذ القانون المدني في كلية الحقوق بجامعة دمشق سابقاً.
(2) طبعة دار الفكر، سنة 1971م، ص 86-87.(9/914)
وهذا ما رجحه الرهوني من المالكية (ز: الكتاب المذكور، ص 225-226، الفقرة 28) وعقب عليه الدكتور نزيه حماد بقوله ما نصه:
"وبالنظر في هذه الأقوال الثلاثة وتعليلاتها يلوح لي:
أ- أن الاتجاه الفقهي: لإيجاب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة هو الأولى بالاعتبار من رأي الجمهور الذاهبين إلى أن الواجب على المدين أداؤه إنما هو نفس النقد المحدد في العقد والثبات في الذمة دون زيادة أو نقصان، وذلك لاعتبارين:
(أحدهما) – أن هذا الرأي هو الأقرب للعدالة والإنصاف، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، والله يأمر بالقسط.
(والثاني) – أن فيه رفعاً للضرر عن كل من الدائن والمدين، فلو أقرضه مالاً فنقصت قيمته، وأوجبنا عليه قبول المثل عدداً تضرر الدائن؛ لأن المال الذي تقرر له ليس هو المستحق، إذ أصبح بعد نقصان القيمة معيباً بعيب النوع المشابه لعيب العين المعينة (حيث إن عيب العين المعينة هو خروجها عن الكمال بالنقص، وعيب الأنواع نقصان قيمتها) . ولو أقرضه مالاً فزادت قيمته، وأوجبنا عليه أداء المثل عدداً تضرر المدين، لإلزامه بأداء زيادة عما أخذ.. والقاعدة الشرعية الكلية أنه "لا ضرر ولا ضرار".
ب- إن الرأي الذي استظهره الرهوني من المالكية بلزوم المثل عند تغير النقد بزيادة أو نقص إذا كان ذلك التغير يسيراً، ووجوب القيمة إذا كان التغير فاحشاً هو أولى في نظري من رأي أبي يوسف – المفتى به عند الحنفية- بوجوب القيمة مطلقاً، وذلك لاعتبارين:
(أحدهما) –أن التغير اليسير مغتفر قياساً على الغبن اليسير والغرر اليسير المغتفرين شرعاً في عقود المعاوضات المالية من أجل رفع الحرج عن الناس نظراً لعسر نفيهما في المعاملات بالكلية، ولغرض تحقيق أصل تشريعي مهم وهو استقرار التعامل بين الناس، بخلاف الغبن الفاحش والغرر الفاحش فإنهما ممنوعان في أبواب البيوع والمعاملات.
(والثاني) - أن التغير اليسير مغتفر تفريعاً على القاعدة الفقهية الكلية أن: " ما قارب الشيء يعطى حكمه "، (1) بخلاف التغير الفاحش فإن الضرر فيه بين والجور فيه محقق" اهـ.
__________
(1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 70، والمنثور في القواعد للزركشي 3/144.(9/915)
أقول: إن هذا القول الثالث للمالكية الذي أيده الشيخ الرهوني يتفق تمام الاتفاق مع ما هو مقرر في نظرية الظروف الطارئة التي عرضنا خلاصتها في هذه المذكرة، فقد بينا أنها تشترط في الظرف الطارئ أن يؤدي إلى غبن فاحش جدًّا للملتزم بحيث يكون من شأنه أن يرهقه إرهاقاً شديداً، أما إذا أدى إلى فرق غير كبير ولا فاحش، فإنه لا عبرة له.
ملاحظة: يتبين مما أسلفنا أن هبوط العملة الذي يجب أن يؤخذ بالاعتبار، ويتصف به الفرق الناشئ ويوزع على الطرفين الملتزم والملتزم له على كل منهما نصفه إنما هو في حالة الهبوط المفاجئ الذي يحصل عادة بقرار حكومي يتخذ سرًّا ثم يعلن فجأة ويفاجأ به الناس، أو بحدوث طارئ آخر مفاجئ.
أما إذا كانت العملة تهبط قيمتها هبوطاً تدريجيًّا ملحوظاً للعاقدين عند التعاقد فلا عبرة له إلا إذا كان الدين مؤجلاً إلى أجل طويل غير محدد، وأدى الهبوط التدريجي إلى درجة فاحشة بطول الزمن، كما في المهر المؤجل في عقود الزواج، فعندئذ تعتبر القيمة وقت العقد وينصف الفرق بين الزوجين؛ لأنه غير ملحوظ عند التعاقد.
متى يعتبر الهبوط فاحشاً
أما متى يعتبر الهبوط فاحشاً يلحق بكساد النقود ويؤدي إلى تنصيف الفرق؟ فالذي أرى أن الهبوط إذا تجاوز ثلثي قيمة النقد وقوته الشرائية عند العقد في البيع وعند القبض في القرض، وبقي من قيمته أقل من الثلث. فإنه حينئذ يعتبر فاحشاً ويوجب توزيع الفرق على الطرفين، أخذاً من الأدلة الشرعية والآراء الفقهية التي تحدد حد الكثرة بالثلث، والله سبحانه أعلم.
وفي الختام أدعو هذا المجمع الفقهي الكريم إلى أن يعيد النظر في قراره السابق الذي اتخذه في دورة انعقاده في الكويت، وأن يقرر في ضوء ما أوضحته ونقلته آنفاً وجوب تنصيف الفرق الفاحش في سعر العملة في المداينات السابقة، وفي العقود المتراخية التنفيذ، وأن للقاضي سلطة، بناء على رأي الخبراء، في فسخ العقد كليًّا أو جزئيًّا فيما لم يتم تنفيذه، وفقاً لما جاء في قرار المجمع الفقهي بمكة، واستناداً إلى ما استند إليه من الأدلة الشرعية. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
الدكتور مصطفى أحمد الزرقاء(9/916)
قرار
مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي
في دورته الرابعة
المنعقدة في سنة 1402 هـ
بشأن الظروف الطارئة وتأثيرها
في الحقوق والالتزامات العقدية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فقد عرض على مجلس المجمع الفقهي الإسلامي مشكلة ما قد يطرأ بعد إبرام عقود التعهد ونحوها من العقودات ذات التنفيذ المتراخي في مختلف الموضوعات من تبدل مفاجئ في الظروف والأحوال ذات التأثر الكبير في ميزان التعادل الذي بنى عليه الطرفان المتعاقدان حساباتهما فيما يعطيه العقد كلًّا منهما من حقوق وما يحمله إياه من التزامات مما يسمى اليوم في العرف التعاملي بالظروف الطارئة.
وقد عرضت مع المشكلة أمثلة لها من وقع أحوال التعامل وأشكاله توجب التفكير في حل فقهي مناسب عادل يقضي على المشكلة في تلك الأمثلة ونظائرها الكثيرة. فمن صور هذه المشكلة الأمثلة التالية:
1- لو أن عقد مقاولة على إنشاء بناية كبيرة يحتاج إنشاؤها إلى مدة طويلة ثم بين طرفين، وحدد فيه سعر المتر المكعب من البناء وكسوته بمبلغ مئة دينار مثلاً، وكانت كلفة المواد الأولية من حديد وأسمنت وأخشاب وسواها وأجور عمال تبلغ عند العقد للمتر الواحد ثمانين ديناراً فوقعت حرب غير متوقعة أو حادث آخر خلال التنفيذ قطعت الاتصالات والاستيراد وارتفعت بها الأسعار ارتفاعاً كبيراً يجعل تنفيذ الالتزام مرهقاً جدًّا.
2- لو أن متعهداً في عقد توريد أرزاق عينية يوميًّا من لحم وجبن ولبن وبيض وخضراوات وفواكه ونحوها إلى مستشفى أو إلى جامعة فيها أقسام داخلية، أو إلى دار ضيافة حكومية، بأسعار اتفق عليها في كل صنف لمدى عام. فحدثت جائحة في البلاد أو طوفان أو زلزال، أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية، فارتفعت الأسعار إلى أضعاف كثيرة عما كانت عليه عند عقد التوريد، إلى غير ذلك من الأمثلة المتصورة في هذا المجال.(9/917)
فما الحكم الشرعي الذي يوجبه فقه الشريعة في مثل هذه الأحوال التي أصبحت كثيرة الوقوع في العصر الحاضر الذي تميز بالعقود الضخمة بقيمة الملايين، كالتعهد مع الحكومات في شق الطرق الكبيرة وفتح الأنفاق في الجبال، وإنشاء الجسور العظيمة، والمجمعات لدوائر الحكومة أو للسكنى، والمستشفيات العظيمة أو الجامعات. وكذا المقاولات التي تعقد مع مؤسسات أو شركات كبرى لبناء مصانع ضخمة، ونحو ذلك مما لم يكن له وجود في الماضي البعيد.
فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره قبل تبدل الظروف وطروء التغييرات الكبيرة المشار إليها مهما تكبد في ذلك من خسائر ماحقة ساحقة، تمسكاً بمقتضى العقد وحدوده في الأسعار والكميات، أو له مخرج وعلاج من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة يعيد كفتي الميزان إلى التعادل، ويحقق الإنصاف بقدر الإمكان بين الطرفين؟
وقد نظر مجلس المجمع في النظائر الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع من فقه المذاهب واستعراض قواعد الشريعة ذات العلاقة مما يستأنس به ويمكن أن يوصى بالحكم القياسي والاجتهاد الواجب فقهاً في الشأن كما رجع إلى آراء فقهاء المذاهب فوجد ما يلي:
1- إن الإجارة يجوز للمستأجر فسخها بالطوارئ العامة التي يتعذر فيها استيفاء المنفعة كالحرب والطوفان ونحو ذلك، بل الحنفية يسوغون فسخ الإجارة أيضاً بالأعذار الخاصة بالمستأجر، مما يدل على أن جواز فسخها بالطوارئ العامة مقبول لديهم أيضاً بطريق الأولوية فيمكن القول إنه محل اتفاق، وذكر ابن رشد في بداية المجتهد 0ص 192 من طبعة الخانجي الأول بالمطبعة الجمالية بمصر) تحت عنوان: أحكام الطوارئ) أنه: (عند مالك أن أرض المطر – أي البعلية التي تشرب من ماء السماء فقط – إذا كريت فمنع القحط من زراعتها، أو إذا زرعها المكتري فلم ينبت الزرع لمكان القحط –أي بسببه- أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة فلم يتمكن المكتري من زرعها) . انتهى كلام ابن رشد.
2- وذكر ابن قدامة المقدسي في كتاب الإجارة من المغني (المطبوع مع الشرح الكبير 6/30) أنه: (إذا حدث خوف عام يمنع من سكنى ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة، أو تحصر البلد فامتنع الخروج إلى الأرض المستأجرة للزرع أو نحو ذلك، فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ؛ لأنه أمر غالب يمنع المستأجر من استيفاء المنفعة. فأما إذا كان الخوف خاصاً بالمستأجر، من أن يخاف وحده لقرب أعدائه ... لم يملك الفسخ؛ لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية فأشبه مرضه) .
3- وقد نص الإمام النووي رحمه الله في روضة الطالبين (5/239، أنه لا تنفسخ الإيجارة بالأعذار، سواء أكانت إيجارة عين أو ذمة، وذلك كما إذا استأجر دابة للسفر عليها فمرض، أو حانوتاً لحرفة فندم، أو هلكت آلات تلك الحرفة، أو استأجر حماماً فتعذر الوقود. قال النووي وكذا لو كانا لعذر للمؤجر بأن مرض وعجز عن الخروج مع الدابة، أو أكرى داره وكان أهله مسافرين واحتاج إلى الدار أو تأهل قال: فلا فسخ في شيء من ذلك، إذ لا خلل في المعقود عليه) اهـ.
4- ما يذكره العلماء رحمهم الله في الجوائح التي تجتاح الثمار المبيعة على الأشجار بالأساليب العامة كالبرد والجراد وشدة الحر والأمطار والرياح ونحو ذلك مما هو عام؛ حيث يقررون سقوط ما يقابل الهالك بالجوائح من الثمن وهي قضية الجوائح المشهورة في السنة والفقه.(9/918)
5- ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مختصر الفتاوى (ص 376) أن من استأجر ما تكون منفعة أجارته لعامة الناس، مثل الحمام والفندق والقيسارية، فنقضت المنفعة لقلة الزبون أو لخوف أو حر أو تحول سلطان ونحوه فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة.
6- وقال ابن قدامة أيضاً في الصفحة (29) من الجزء السابق الذكر نفسه (ولو استأجر دابة ليركبها أو يحمل عليها إلى مكان معين، فانقطعت الطريق إليه لخوف حادث أو اكترى إلى مكة فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق فلكل واحد منهما فسخ الإجارة وإن أحب إبقاءها إلى حين إمكان استيفاء المنفعة جاز) . وقال الكاساني من فقهاء الحنفية في الإجارة من كتاب بدائع الصنائع (4/197) : (إن الفسخ في الحقيقة امتناع من التزم الضرر، وإن إنكار الفسخ عند تحقق العذر خروج عن العقد والشرع؛ لأنه يقتضي أن من اشتكى ضرسه، فاستأجر رجلاً لقلعها، فسكن الوجع يجبر على القلع، وهذا قبيح عقلاً وشرعاً) .
هذا وقد ذكر فقهاء المذاهب في حكم الأعذار الطارئة في المزارعة والمساقاة والمغارسة شبيه ما ذكروا في الإجارة.
7- قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، وقرر كثير من فقهاء المذاهب في الجوائح التي تجتاح الثمار ببرد أو صقيع، أو جراد، أو دودة، ونحو ذلك من الآفات، إنها تسقط من ثمن الثمار التي بيعت على أشجارها ما يعادل قيمة ما أتلفته الجائحة وإن عمت الثمر كله تسقط الثمن كله.
8- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه: ((لا ضرر ولا ضرار)) وقد اتخذ فقهاء المذاهب من قوله هذا قاعدة فقهية اعتبروها من دعائم الفقه الكبرى الأساسية، وفرعوا عليها أحكاماً لا تحصى في دفع الضرر وإزالته في مختلف الأبواب.
ومما لا شك فيه أن العقد الذي يعقد وفقاً لنظامه الشرعي يكون ملزماً لعاقديه قضاء عملاً بقوله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .(9/919)
ولكن قوة العقد الملزمة ليست أقوى من النص الشرعي الملزم للمخاطبين به كافة، وقد وجد المجمع في مقاييس التكاليف الشرعية، ومعايير حكمة التشريع أن المشقة لا ينفك عنها التكليف عادة بحسب طبيعته، كمشقة القيام في الصلاة، ومشقة الجوع والعطش في الصيام، لا تسقط التكليف، ولا توجب فيه التخفيف، ولكنها إذا جاوزت الحدود الطبيعية للمشقة المعتادة في كل تكليف بحسبه، أسقطته أو خففته، كمشقة المريض في قيامه في الصلاة ومشقته في الصيام وكمشقة الأعمى والأعرج في الجهاد، فإن المشقة المرهقة عندئذ بالسبب الطارئ الاستثنائي توجب تدبيراً استثنائيًّا يدفع الحد المرهق منها، وقد نص على ذلك وأسهب في بيانه، وأتى عليه بكثير من الأمثلة في أحكام الشريعة الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة) .
فيتضح من ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة لا تأثير لها في العقود؛ لأنها من طبيعة التجارة وتقلباتها لا تنفك عنها، ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيراً بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدبيراً استثنائيًّا.
ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) :
(إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض وكل أمر أخرج من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى عكسها فليس من شرع الله في شيء وحيثما ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره) (إعلام الموقعين) وقصر العاقدين إنما تكشف عنه وتحدده ظروف العقد، وهذا القصر لا يمكن تجاهله والأخذ بحرفية العقد مهما كانت النتائج فمن القواعد المقررة في فقه الشريعة أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفاً في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء، ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية، يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:
1- في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلاً غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييراً كبيراً بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لو يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانباً معقولاً من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعاً رأي أهل الخبرة الثقات.(9/920)
2- ويحق للقاضي أيضاً أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيراً بهذا الإمهال.
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقاً للعدل الواجب بين طرفي العقد، ومنعاً تتضرر المرهق لأحد العاقدين بسبب لا يد له فيه، وأن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعي الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها والله ولي التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
[توقيع] [اعتذر لمرضه]
نائب الرئيس رئيس مجلس المجمع الفقهي
محمد علي الحركان عبد الله بن حميد
الأعضاء
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد محمود الصواف صالح بن عثيمين
[توقيع] [تخلف عن الحضور] [توقيع]
محمد بن عبد الله بن السبيل مبروك العوادي محمد الشاذلي النيفر
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
مصطفى أحمد الزرقاء عبد القدوس الهاشمي محمد رشدي
[تخلف عن الحضور] [توقيع] [تخلف عن الحضور]
أبو الحسن علي الحسني الندوي أبو بكر محمود جومي حسنين محمد مخلوف
[توقيع] [تخلف عن الحضور] [توقيع]
محمد رشيد قباني محمود شيت خطاب محمد سالم عدود
مقرر المجمع الفقهي الإسلامي
محمد عبد الرحيم الخالد(9/921)
من كتاب نظرية الظروف الطارئة – د. عبد السلام الترمانيني-
3- وفي النقود يظهر الطارئ غير المتوقع الذي يؤثر في قيمة النقد المتعاقد به هبوطاً وارتفاعاً، وقد عرفت سورية ولبنان مشكلة هبوط النقد في الحرب العالمية الأولى عندما هبطت قيمة الأوراق النقدية العثمانية. وبعد الحرب حين هبط الفرنك الفرنسي، وكان التعامل بين الناس آنئذ يجري بالعملية الذهبية، كما عرفت مصر أيضاً هذه المشكلة بعد تلك الحرب في العقود المعقودة بالفرنك وبالمارك الألماني الذي هبطت قيمته هبوطاً كبيراً. (1)
وقد عالج الفقه الإسلامي مسألة النقد معالجة واسعة على ما فصلناه فيما تقدم، فميز بين العملة الخالصة والمغلوبة الغش، وبين العملة الخالصة والغالبة الغش، أي بين ما يكون نقداً بذاته، وبين ما يكون نقداً بالاعتبار، وهذا النوع الثاني يطابق مفهوم العملة الورقية أجزائها المعدنية التي أصبحت مدار التعامل في كل أنحاء العالم.
ويظهر من قول الإمام أبي يوسف أنه قد اعتبر الذهب أساساً للعملة الاعتبارية، فأوجب الوفاء بما يعادل قيمتها يوم العقد أو القبض من الذهب عند تبدل القيمة والكساد والانقطاع. (2)
ومع أن رأي أبي حنيفة وتلميذه محمد، بالوفاء بالنقد المتعاقد به دون النظر إلى تبدل قيمته، يطابق ما استقر عليه الرأي في زماننا قانوناً وفقهاً واجتهاداً، إلا أن في الأحكام القضائية التي رجعت إلى قيمة النقد يوم العقد في الدعاوى التي أقيمت في مصر على أثر سقوط الفرنك والمارك ما يطابق رأي أبي يوسف. ويبدو من هذه الأحكام أنها قد طبقت نظرية الحوادث الطارئة بطريق غير مباشر استناداً إلى نية المتعاقدين ومبدأ العدالة. (3)
__________
(1) نصيف زكي –اضطراب سعر النقد ونظرية الطارئ المفاجئ- مجلة المحاماة نوفمبر 1932 ص 127.
(2) الأتاسي –شرح المجلة 2/162- علي حيدر- درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/289.
(3) نصيف زكي –المصدر المتقدم- وأحكام القضاء المختلط المشار إليها في هذا المصدر هي حكم محكمة الاستئناف المختلط الصادر في 4 مارس 1925 والمنشور في مجلة المحاكم المختلطة في مايو 1925 وحكمها في 5 سبتمبر 1925 وحكمها في 18 مارس 1926 وحكمت فيها جميعاً بأن يكون السداد طبقاً لسعر المارك يوم التعاقد، واستمر اجتهادها إلى أن حكمت في 25 مارس 1930 بأن السداد يكون بسعر النقد يوم الوفاء.(9/922)
على أن تطبيق نظرية الظروف الطارئة في مسائل النقد في الفقه الإسلامي يظهر واضحاً فيما قرره ابن عابدين في العقود المعقودة بالقروش، إذا هبطت قيم العملات التي كان يحصل بها الوفاء هبوطاً متفاوتاً، فقد رأى أن الضرر الناشئ من هذا الهبوط لا يجوز أن يتحمله أحد العاقدين وحده، وإنما يجب أن يتحمله الاثنان معاً، وذلك بالوفاء من الأوسط من تلك العملات. وقد بنى رأيه على نية المتعاقدين (1) وعلى حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) وهو من قواعد نظرية الضرورة التي قامت على مبدأ العدالة (2) وهذا الرأي يطابق ما أخذ به القانون المصري والسوري من رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول.
وخلاصة ما ننهي به هذا الفصل أن نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي بتطبيقاتها التي عرضنا لها، تتسع الاتساع لنظرية الظروف الطارئة، بل يمكننا القول بأن هذه الأخيرة تعد من جملة تطبيقات نظرية الضرورة، ما دامت النظريتان قائمتين على أساس واحد هو مبدأ العدالة.
__________
(1) ابن عابدين –رسالة النقود- ص 66 و67 وقد جاء في الصفحة 67: "إذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً، ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشاً من الريال أو الذهب مثلاً، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي باع قدره ورضي به ثمناً لسلعته".
(2) ابن عابدين –رسالة النقود- ص 66 و67(9/923)
التضخم والكساد
في ميزان الفقه الإسلامي
إعداد
الدكتور علي أحمد السالوس
أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة
جامعة قطر
التضخم والكساد
في ميزان الفقه الإسلامي
تقديم:
المبحث الأول: الاستقرار النسبي للنقود السلعية.
المبحث الثاني: بيان السنة المطهرة.
المبحث الثالث: أثر انخفاض قيمة النقود والكساد عند الفقهاء:
المطلب الأول: أقوال المالكية.
المطلب الثاني: أقوال الشافعية.
المطلب الثالث: أقوال الحنابلة.
المطلب الرابع: أقوال الحنفية.
المبحث الرابع: التضخم وأنواعه.
المطلب الأول: تعريف التضخم.
المطلب الثاني: أنواع التضخم.
أولاً: التضخم في ظل قاعدة الذهب.
ثانياً: التضخم الدائم.
ثالثاً: التضخم الجامح.
المبحث الخامس: قياس التضخم.
المبحث السادس: التضخم والكساد.
المطلب الأول: مفهوم الكساد.
المطلب الثاني: نوع التضخم الذي يعتبر كساداً.
خاتمة: من المسؤول عن علاج التضخم؟(9/924)
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا برهم يعدلون. والحمد لله الذي لا يؤدي شكر نعمة من نعمه إلا بنعمةٍ منه، توجب على مؤدى ما مضى نعمه بأدائها: نعمة حادثة يجب عليه شكره بها. ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه. أحمده حمداً كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. وأستعينه استعانة من لا حول ولا قوة إلا به. وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه. وأستغفره لما أزلفت وأخرت، استغفار من يقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. (1) أما بعد،
فبخصوص أحكام العملات الورقية انتهى المجمع الموقر في دورته الثالثة إلى أنها نقود اعتبارية، فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة، من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها.
وبشأن تغير قيمة العملة قرر المجمع في دورته الخامسة أن العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة، لأن الديون تقضى بأمثالها. فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة –أياً كان مصدرها- بمستوى الأسعار.
وبعد القرارين، وبحث الموضوع في أكثر من ندوة علمية، خرج منها المشاركون بما يتفق مع القرارين المذكورين، ظننت أن أحكام العملة الورقية لم تعد مجالا للبحث مرة أخرى، فقد حظي هذا الموضوع بالبحث والدراسة والمناقشة بما لم يحظ غيره من جميع الموضوعات. ولكني فوجئت بدعوة كريمة للكتابة عن مفهوم كساد النقود الورقية في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة، وحدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقوداً كاسدة.
__________
(1) نقلت هذا من مقدمة الإمام الشافعي لرسالته في أصول الفقه.(9/925)
ولما كنت قد اعتذرت من قبل عن عدم الكتابة لظروف خاصة، وتكررت الدعوة من أخ نجله ونحبه ونقدره، أمين –ونعم الأمين- لمجمع موقر له أثره في العالم الإسلامي، رأيت ألا مناص من الاستجابة لهذه الدعوة. ومستعيناً مستهدياً بالله عز وجل بدأت الكتابة فقسمت الموضوع إلى ستة مباحث وخاتمة:
في المبحث الأول تحدثت عن الاستقرار النسبي للنقود السلعية لأقارن بينه وبين التضخم في عصرنا.
والمبحث الثاني خصصته لبيان السنة المطهرة، ليكون معلوماً منذ البداية أن الموضوع له أصل في السنة.
والمبحث الثالث كان عن أثر انخفاض قيمة النقود والكساد عند الفقهاء، وذلك لبيان الرأي الفقهي عند مناقشة التضخم.
وانتقلت بعد ذلك لتعريف التضخم وبيان أنواعه في المبحث الرابع. ثم لقياس التضخم في المبحث الخامس وبيان أن هذا ينبني على افتراضات جزافية لا يمكن أن تكون أساساً لحكم شرعي.
وفي المبحث السادس بينت مفهوم الكساد في اللغة وعند الفقهاء، ونوع التضخم الذي يتفق مع هذا المفهوم، وهو التضخم الجامح في مراحله الأخيرة فقط.
وجعلت الخاتمة لبيان أن الدولة هي المسؤولة أولاً عن مرض التضخم، وعليها تبعة العلاج، فلا يجوز أن يتحمل الأفراد مسؤولية غيرهم.
وأسأل الله –عز وجل- أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وهو المستعان، وله الحمد في الأولى والآخرة.(9/926)
المبحث الأول
الاستقرار النسبي للنقود السلعية
في عصر التشريع كان الغالب في سعر الصرف الدينار بعشرة دراهم، ولذا كان نصاب الزكاة عشرين ديناراً أو مئتي درهم. وبالبحث في النصاب، ووزن كل من الدينار والدرهم نجد أن قيمة الذهب كانت سبعة أضعاف قيمة الفضة. ومع أن الذهب والفضة يتميزان بالاستقرار النسبي غير أن العلاقة بينهما لم تظل ثابتة، فيتغير سعر الصرف من وقت لآخر، بل وجدنا –في عصرنا- الفضة تهبط إلى ما يقرب من واحد في المئة (1?) من قيمة الذهب.
كما أن العلاقة بينهما وبين باقي الأشياء لم تظل ثابتة، مثال هذا عندما غلت الإبل في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فزاد مقدار الدية من النقدين.
إن هذه الزيادة تعني أن النقود انخفضت قيمتها بالنسبة للإبل. ولكن الأمر لم يكن قاصراً على الإبل، فغيرها قد يرتفع ثمنه وقد ينخفض، وارتفاع الثمن يعني انخفاض قيمة النقود، وانخفاض ثمن السلع يعني ارتفاع النقود.
غير أن الزيادة أو النقصان لم تكن بالصورة التي شهدها عصرنا، عصر النقود الورقية، وعلى الأخص بعد التخلي عن الغطاء الذهبي، ولجوء بعض الدول أو اضطرارها إلى خفض قيمة ورقها النقدي.
والغلاء الفاحش الذي ساد في عصرنا لم يكن سائداً في الدول الإسلامية من قبل لالتزامها بمنهج الإسلام أو قربها منه. فالاقتصاد الإسلامي يعني زيادة الإنتاج، وعدالة التوزيع، وترشيد الاستهلاك. والإسلام يمنع الوسائل التي تؤدي إلى غلاء الأسعار كما هو معلوم لمن يدرس البيوع المنهي عنها، وينهى عن ظلم المسلمين بكسر سكتهم وإفساد أموالهم.
جاء في البيان والتحصيل (6/474) ما يأتي: قال محمد بن رشد: (الدنانير التي قطعها من الفساد في الأرض هي الدنانير القائمة التي تجوز عدداً بغير وزن، فإذا قطعت فردت ناقصة غش بها الناس فكان ذلك من الفساد في الأرض، وقد جاء في تفسير قوله عز وجل قال: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87] .
إنهم أرادوا بذلك قطع الدنانير والدراهم؛ لأنه كان نهاهم عن ذلك، وقيل: إنهم أرادوا بذلك تراضيهم فيما بينهم بالربا الذي كان نهاهم عنه، وقيل: إنهم أرادوا بذلك منعهم للزكاة وأولى ما قيل في ذلك أنهم أرادوا بذلك جميع ذلك. وأما قطع الدنانير المقطوعة فليس قطعها من الفساد في الأرض، وإنما هو مكروه) .(9/927)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم. ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلاً، بأن يشتري نحاساً فيضربه فيتجر فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم، ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصناع من بيت المال، فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل، فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضاً، وضرب لهم فلوساً أخرى: أفسد ما عندهم من الأموال ينقص أسعارها، فيظلمهم فيها، ولظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها.
وأيضاً فإذا اختلفت مقادير الفلوس: صارت ذريعة إلى أنا الظلمة يأخذون صغاراً فيصرفونها، وينقلونها إلى بلد آخر، ويخرجون صغارها، فتفسد أموال الناس، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم، إلا من بأس" فإذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس، ولم يشتر ولي الأمر النحاس، والفلوس الكاسدة ليضربها فلوساً، ويتجر بذلك: حصل بها المقصود من الثمنية) . (1)
وقال ابن القيم: (فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع، ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم، والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم، ولو جعلت ثمناً واحداً لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس، فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير مثل أن يعطي صحاحاً، ويأخذ مكسرة أو خفافاً ويأخذ ثقالاً أكثر منها، لصارت متجراً. أو جر ذلك ربا النسيئة فيها ولا بد. فالأثمان لا تقصد لأعيانها. بل يقصد التوصل بها إلى السلع. فإذا صارت في أنفسها سلعة تقصد لأعيانها فسد أمر الناس. وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات) . (2)
وفي المعيار المعوب لأبي العباس الونشريسي (6/407) تحت عنوان: (ما يجب على الوالي أن يفعله إزاء مرتكبي التزوير في النقود) نجد ما يأتي:
(ولا يغفل النظر إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة مخلوطة بالنحاس، بأن يشتد فيها ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفر به أناله من شدة العقوبة، وأمر أن يطاف به الأسواق لينكله ويشرد به من خلفه لعلهم يتقون عظيم ما نزل به من العقوبة ويحبسه بعد، على قدر ما يرى، ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق، حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم. فإن هذا أفضل ما يحوط رعيته فيه يعمهم نفعه في دينهم ودنياهم، ويرتجي لهم الزلفى عند ربهم والقربة إليه إن شاء الله، المكيال والميزان الأمداد والأقفزة والأرطال والأواقي) .
__________
(1) الفتاوى: 29/469.
(2) إعلام الموقعين: 2/123.(9/928)
المبحث الثاني
بيان السنة المطهرة
مما يعد أصلاً في موضوعنا ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم (1)
عن ابن عمر –رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) .
وفي لفظ بعضهم: (أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير) .
فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو بالدراهم، وقد يقبض الثمن في الحال، وقد يبيع بيعاً آجلاً، وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم، وقد يجد من اشترى بدراهم ليس معه إلا دنانير، أفيأخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟
مثلاً إذا باع بمئة دينار، وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم، أي أن له ما قيمته ألف درهم، وتغير سعر الصرف يوم الأداء فأصبح الدينار مثلاً بأحد عشر درهما، أفيأخذ الألف ألفاً ومئة؟ وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط، أفيأخذ تسعمئة درهم يمكن صرفها بمئة دينار يوم الأداء، أم يأخذ ألف درهم قيمة مئة دينار يوم البيع؟
بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء ... وابن عمر، الذي عرف الحكم من الرسول الكريم –سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كري لهما، عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير، فقال ابن عمر: أعطوه بسعر السوق.
فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً في أن الدين يؤدى بمثله لا بقيمته، حيث يؤدى عند تعذر المثل بما يقوم مقامه، وهو سعر الصرف يوم الأداء، يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين.
__________
(1) وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي: 2/44. وبين الشيخ أحمد شاكر صحته مرفوعاً وموقوفاً انظر المسند: 7/50 رواية: 4883. والشيخ الألباني ضعفه مرفوعاً وقوّى وقفه (إرواء الغليل: 5/173) ، ولكن تضعيفه ليس بحجة؛ لأنه يعني تضعيف من احتج به الإمام مسلم، ولا يتسع المجال هنا للمزيد. وانظر في فقه الحديث على سبيل المثال: مشكل الآثار للطحاوي: 2/95-97، وفتاوى ابن تيمية: 29/519، وإعلام الموقعين لابن القيم: 4/408.(9/929)
ومن السنة المطهرة ما يبين أن الأموال الربوية ينظر فيها إلى المثل قدراً، ولا عبرة بالقيمة؛ ويوضح هذا حديث تمر خيبر المشهور، حيث قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: إنا نبتاع الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعل)) –وفي رواية-: ((إنه عين الربا بيع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) .
ومما يعد أصلاً في موضوعنا كذلك ما رواه أبو داود في سننه عن المستورد بن شداد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً)) . وما رواه أحمد في مسنده عن المستورد أيضاً فقال: ((من ولي لنا عملاً فلم يكن له زوجة فليتزوج، أو خادم فليتخذ خادماً، أو مسكن فليتخذ مسكناً، أو دابة فليتخذ دابة)) . (1)
قال الخطابي في معالم السنن: هذا يتأول على وجهين:
أحدهما: أنه إنما أباح اكتساب الخادم والمسكن من عمالته التي هي أجرة مثله.
والوجه الآخر: أن للعامل السكنى والخدمة، فإن لم يكن له مسكن ولا خادم استؤجر له من يخدمه فيكفيه مهنة مثله، ويكترى له مسكن يسكنه مدة مقامه في عمله.
وفي عون المعبود (8/161) جاء في شرح الحديث: "يحل له أن يأخذ مما في تصرفه من مال بيت المال قدر مهر زوجة ونفقتها وكسوتها، وكذلك ما لا بد منه من غير إسراف وتنعم". وذكر بعد هذا قول الخطابي.
يؤخذ من هذا الحديث الشريف أن أجر العامل مرتبط بتوفير تمام الكفاية، ومعنى هذا أن الأجر يجب أن يتغير تبعاً لتغير قيمة العملة، وهذا يختلف عن الالتزام بالدين كما بينه حديث ابن عمر.
__________
(1) انظر كتاب الخراج والفيء والإمارة في سننه –باب في أرزاق العمال- وانظر مسند أحمد: 4/229- 230. والحديث سكت عنه هو المنذري، ولكن السيوطي –مع تساهله في التصحيح- ذكره في الجامع الصغير ورمز له بعلامة الضعف! فلم يوافقه المناوي، وذكر في فيض القدير قول الهيثمي: رجاله ثقات أثبات. وراجعت الحديث، ونظرت في كتاب الرجال، فوجدت الحق مع المناوي والهيثمي، فأبو داود يرويه هكذا: "حدثنا موسى بن مروان الرقي، أخبرنا المعافى، أخبرنا الأوزاعي، عن الحارث بن يزيد، عن جبير بن نفير، عن المستورد بن شداد، قال" وهذا الإسناد متصل بغير انقطاع، ورجاله كلهم ثقات غير مجروحين. وفي المسند نجد ثلاث روايات للحديث عن عبد الرحمن بن جبير من أربعة طرق، عن المستورد فالحديث يرويه عن المستورد بن شداد، إذن جبير بن نفير عند أبي داود، وعبد الرحمن بن جبير عند أحمد.(9/930)
المبحث الثالث
أثر انخفاض قيمة النقود والكساد عند الفقهاء
بعد الحديث عن بيان السنة المطهرة نأتي إلى الفقه الإسلامي لنرى ماذا قال السادة الفقهاء. والقول عند الحنفية يطول ذكره، وعلى الأخص بعد رسالة ابن عابدين في النقود ولهذا أبدأ بغيرهم ثم أنتهي إليهم.
المطلب الأول
أقوال المالكية
في المدونة الكبرى: (4/25) يذكر ابن وهب قول الإمام مالك: "كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا ". ويقول بعد هذا: وأخبرني حنظلة بن أبي سفيان، عن طاوس بنحو ذلك، وأخبرني عقبة بن نافع، عن خالد بن يزيد، أن عطاء بن أبي رباح كان يقول بنحو ذلك أيضاً.
وفي البيان والتحصيل: (6/629) لابن رشد (الجد) نجد ما يأتي: عن مالك في رجل قال لرجلك ادفع إلى هذا نصف دينار فدفع إليه به دراهم، قال ابن القاسم: ليس عليه إلا عدة الدراهم التي دفع يومئذ؛ لأنه نصف دينار، وليس عليه أن يخرج ديناراً فيصرفه وإنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام، قال سحنون: قال ابن القاسم يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم، وأما إن كان إنما دفع إليه ديناراً فصرفه فله نصف دينار بالغاً ما بلغ.(9/931)
قال محمد بن رشد: كذا وقع في هذه المسألة، قال ابن القاسم: وليس إلا عدة دراهم التي دفع وصوابه: قال مالك: فإن المسألة في قوله بدليل تفسير ابن القاسم بقوله: يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم: (6/429) .
وفي البيان والتحصيل أيضاً (6/487-488) : وسألته (أي مالكاً) عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوب عليه من صرف عشرين بدينار أو خمسة دراهم من صرف عشرة دراهم دينار، فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك أو أكثر إذا كانت تلك العشرة دراهم أو الخمسة المكتوبة عليه من بيع باعه إياه، فأما إن كانت من سلف أسلفه فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه.
فقيل له: أرايت إن باعه ثوباً بثلاثة دراهم ولا يسمي له –صرف كذا وكذا- والصرف يومئذ تسعة دراهم بدينار.
قال: إذا لم يقل من صرف كذا وكذا أخذ بالدراهم الكبار ثلاثة دراهم، وإنما قال بثلاثة دراهم من صرف كذا وكذا بدينار فذلك جزء من الدينار ارتفع الصرف أو خفض، وقد كان بيع من بيوع أهل مصر يبيعون الثياب بكذا وكذا درهماً من صرف كذا وكذا بدينار، فيسألون عن ذلك كثيراً فهو كذا.
قال محمد بن رشد: هذا كما ذكر، وهو مما لا اختلاف فيه إذا باع كذا وكذا درهماً ولم يقل من صرف كذا فله عدد الدراهم التي سمى ارتفع الصرف أو اتضع، وإذا قال بكذا وكذا درهماً وصرف كذا وكذا فلا تكون له الدراهم التي سمى، إذا لم يسمها إلا ليبين بها الجزء الذي أراد البيع به من لدينار، فله ذلك الجزء، وكذلك إذا قال: أبيعكم بنصف دينار من ضرب عشرين درهماً بدينار، فإنما له عشرة دراهم إذا لم يسم نصف الدينار إلا ليتبين به الدراهم التي أراد البيع بها من الدينار (6/487- 488) .
وقال الدردير: وإن بطلت معاملة من دنانير أو دراهم أو فلوس ترتبت لشخص على غيره من قرض أو بيع وتغير التعامل بها بزيادة أو نقص (فالمثل) أي الواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة (وإن عدمت) في بلد المعاملة وإن وجدت في غيرها (فالقيمة يوم الحكم) أي تعتبر يوم الحكم بأن يدفع له قيمتها عرضاً أو يقوم العرض بعين من المتجددة، ويتصدق بما يغش به الناس، أدباً للغاش فجاز للحاكم كالمكتسب أن يتصدق به على الفقراء. (1)
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك: 2/23.(9/932)
وقال أيضاً: (ورد) المقترض على المقرض (مثله) قدراً وصفة (أو) رد (عينه إن لم يتغير) في ذاته عنده ولا يضر بغير تغير السوق فإن تغير تعين رد مثله (وجاز أفضل) أي رد أفضل مما اقترضه صفة؛ لأنه من قضاء إذا كان بلا شرط، وإلا منع الأفضل، والعادة كالشرط، ويتعين رد مثله. (1)
وقال الصاوي في شرحه لقول الدردير: (قوله: أي فالواجب قضاء المثل) أي لو كان مئة بدرهم ثم صارت ألفاً بدرهم أو بالعكس، وكذا لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صار بمئة وسبعين وبالعكس، وكذا إذا كان المحبوب بمئة وعشرين ثم صار بمئتين أو بالعكس، وهكذا. قوله: (فالقيمة يوم الحكم) وهو متأخر عن يوم انعدامها وعن يوم الاستحقاق، والظاهر أن طلبها بمنزلة التحاكم، وحينئذ فتعتبر القيمة يوم طلبها. وظاهره ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس، وبه قال بعضهم. وقال بعضهم: هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل، وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة أو مما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة عن القديمة، وهذا هو الأظهر لظلم المدين بمطله. قال الأجهوري: كمن عليه طعام امتنع ربه من أخذه حتى غلا فليس لربه إلا قيمته يوم امتناعه وتبين ظلمه. (2)
وفي المعيار المعرب تحت عنوان: (الحكم إذا بدلت سكة التعامل بأخرى) يقول المؤلف: وسئل عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف وكان ذلك على جهة، فبأيهما يقضى له؟ وعن رجل باع بالدراهم المفلسة فتأخر الثمن إلى أن تبدل، فبأيهما يقضى له؟
فأجاب: لا يجب للبائع قبل المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده، فإن وجد المشتري ذلك قضاه إياه. وإن لم يوجد رجع إلى القيمة ذهباً لتعذره.
ومن باع بالدراهم المفلسة الوازنة فليس له غيرها، إلا أن يتطوع المشتري، بدفع وازنة غير مفلسة بعد المفلسة فضلاً منه. (3)
وتحت عنوان: "ما الحكم فيمن أقرض غيره مالاً من سكة ألغي التعامل بها"؟ قال صاحب المعيار: سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟
فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه أشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام، ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء فانقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد سكة أخرى.
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك: 2/106
(2) بلغة السالك: 2/23.
(3) الكتاب المذكور: 6/461-462، والمسؤول هو أبو سعيد بن لب.(9/933)
أفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة. وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك من قيمة السكة المقطوعة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب.
قال: وأرسل إلي ابن عتاب فنهضت إليه فذكر المسألة، وقال لي: الصواب فيها فتواي، فاحكم بها ولا تخالفها، أو نحو هذا من الكلام.
وكان محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض، فله العوض. أخبرني به الشيخ أبو عبد الله بن فرج عنه.
وكان الفقيه أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى داراً أو حماماً بدراهم، موصوفة جارية بين الناس حين العقد، ثم غيرت دراهم تلك البلد إلى أفضل منها، أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء، دون النقد الجاري حين العقد.
وقد نزل هنا ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال، ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال، فالتزم ابن عبد البر السكة الأخيرة. وكانت حجته في ذلك، أن السلطان منع من إجرائها وحرم التعامل بها، وهو خطأ من الفتوى.
وأفتى أبو الوليد الباجي أنه لا يلزمه إلا السكة الجارية حين العقد. (1)
ومن أقوال المالكية السابقة نرى ما يأتي:
1- القرض يرد بمثله في كل شيء، والزيادة على المثل من الربا.
2- تغير السعر لا يؤثر في وجوب رد القرض بمثله قدراً وصفة، وكذلك الدين الناشئ عن البيع، وإن كان التغير فاحشاً، كعشرة أضعاف مثلاً.
3- يجوز الاتفاق وقت عقد البيع على عملة بسعر الصرف حينئذ، ولكن لا يجوز هذا في القرض.
4- إبطال التعامل بالدنانير أو الدراهم أو الفلوس لا يمنع وجوب رد المثل ما دامت موجودة في بلد المعاملة. فإن عدمت يلجأ إلى القيمة يوم المطالبة عند التحاكم، وذلك لتعذر المثل.
وفسر الصاوي هذا بقوله: (وظاهره: ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس، وبه قال بعضهم. وقال بعضهم: هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل، وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة أو مما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة عن القديمة، وهذا هو الأظهر لظلم المدين بمطله) .
وأفتى ابن عتاب بأن صاحب الدين يأخذ قيمة السكة المقطوعة من الذهب، وأفتى ابن عبد البر بأخذ السكة الأخيرة.
5- يمكن أن تكون القيمة مقدرة بغير الذهب والفضة، وقال سحنون: (القيمة لا تكون إلا بالذهب والورق) . (راجع البيان والتحصيل: 7/214) .
__________
(1) المرجع السابق: 6/163-164.(9/934)
المطلب الثاني
أقوال الشافعية
قال الإمام الشافعي في كتاب الأم (3/28) : "ومن سلف فلوساً أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي أسلف أو باع بها. ومن أسلف رجلاً دراهم على أنها بدينار أو بنصف دينار فليس عليه إلا مثل دراهمه وليس له عليه دينار ولا نصف دينار، وإن استسلفه نصف دينار فأعطاه ديناراً فقال: خذ لنفسك نصفه وبع لي نصفه بدراهم ففعل ذلك كان له عليه نصف دينار ذهب، ولو كان قال له: بعه بدراهم ثم خذ لنفسك نصفه ورد علي نصفه كانت له دراهم؛ لأنه حينئذ إنما أسلفه دراهم لا نصف دينار".
وقال الشيرازي في المهذب: ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل؛ لأن مقتضى القرض رد المثل، ولهذا يقال: الدنيا قروض ومكافأة فوجب أن يرد المثل، وفيما لا مثل له وجهان (أحدهما) يجب عليه القيمة؛ لأن ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات. (والثاني) يجب عليه مثله في الخلقة والصورة. (1) وقال أيضاً: ما له مثل إذا عدم وجبت قيمته.
قال الشيخ أبو حامد: إنما وجب عليه دفع القيمة يوم المطالبة. (2)
وقال الصيمري: ولا يجوز قرض الدراهم المزيفة، ولا الزرنيخية، ولا المحمول عليها، ولو تعامل بها الناس، فلو أقرضه دراهم أو دنانير ثم حرمت لم يكن له إلا ما أقرض، وقيل: قيمتها يوم حرمت، ولا يصح القرض إلا في مال معلوم، فإن أقرضه دراهم غير معلومة الوزن أو طعاماً غير معلوم الكيل لم يصح؛ لأنه إذا لم يعلم قدر ذلك لم يمكنه القضاء. (3)
وقال النووي: ولو أقرضه نقداً، فأبطل السلطان المعاملة به، فليس له إلا النقد الذي أقرضه. (4)
وقال ابن حجر الهيثمي: ويرد وجوباً حيث لا استبدال المثل في المثلي، ولو نقداً أبطله السلطان؛ لأنه أقرب إلى حقه، وفي المتقوم، ويأتي ضابطهما في الغصب برد المثل صورة. (5)
وفي شرح الشرواني لما سبق قال: (قوله: ولو نقداً أبطله السلطان) فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زمننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد ثم إبطالها، وإخراج غيرها وإن لم تكن نقداً. (6)
وأقوال الشافعية والإمام واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان.
__________
(1) المجموع شرح المهذب: 12/185.
(2) المجموع شرح المهذب: 12/187
(3) المجموع شرح المهذب: 12/181
(4) روضة الطالبين: 4/37.
(5) تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني: 5/44.
(6) حاشية الشرواني: 5/44.(9/935)
المطلب الثالث
أقوال الحنابلة
قال ابن قدامة في المغني: (4/356-358) : وإن كانت الدراهم يتعامل بها عدداً فاستقرض عدداً رد عدداً وإن استقرض وزناً رد وزناً. وهذا قول الحسن وابن سيرين والأوزاعي، واستقرض أيوب من حماد بن زيد دراهم بمكة عدداً وأعطاه بالبصرة عدداً؛ لأنه وفاه مثل ما اقترض فيما يتعامل به الناس. فأشبه ما لو كانوا يتعاملون بها وزناً فرد وزناً.
ويجب رد المثل في المكيل والموزون، لا نعلم فيه خلافاً، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من أسلف سلفاً مما يجوز أن يسلف فرد عليه مثله أن ذلك جائز، وأن للمسلف أخذ ذلك؛ ولأن المكيل الموزون يضمن في الغصب والإتلاف بمثله فكذا المكيل والموزون ففيه وجهان:
(أحدهما) : يجب رد قيمته يوم القرض؛ لأنه لا مثل له فيضمنه بقيمته كحال الإتلاف والغصب.
(الثاني) : يجب رد مثله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فرد مثله. ويخالف الإتلاف، فإنه لا مسامحة فيه، فوجبت القيمة؛ لأنها أحصر، والقرض أسهل، ولهذا جازت النسيئة فيه فيما فيه الربا. ويعتبر مثل صفاته تقريباً، فإن حقيقة المثل إنما توجد في المكيل الموزون، فإن تعذر المثل فعليه قيمته يوم تعذر المثل؛ لأن القيمة ثبتت في ذمته حينئذ، وإذا قلنا: تجب القيمة وجبت حين القرض؛ لأنها حينئذ ثبتت في ذمته.
وقال في موضع آخر (4/364-365) : ولو أقرضه تسعين ديناراً بمئة عدداً والوزن واحد وكانت لا تنفق في مكان إلا بالوزن جاز، وإن كانت تنفق برؤوسها فلا؛ وذلك لأنها إذا كانت تنفق في مكان برؤوسها كان ذلك زيادة، لأن التسعين من المئة تقوم مقام التسعين التي أقرضه إياها يستفضل عشرة، ولا يجوز اشتراط الزيادة، وإذا كانت لا تنفق إلا بالوزن فلا زيادة فيها وإن كثر عددها.(9/936)
ثم قال: المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا، أو كان بحاله، ولو كان ما أقرضه موجوداً بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله سواء تغير سعره أو لم يتغير، وإن حدث به عيب لم يلزمه قبوله، وإن كان القرض فلوساً سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها؛ لأنها تعيبت في ملكه، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة، وقال: يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه، وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيراً. قال القاضي: هذا إذا اتفق الناس على تركها، فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها، وقال مالك والليث بن سعد، والشافعي: ليس له إلا مثل ما أقرضه؛ لأن ذلك ليس بعيب حدث فجرى مجرى نقص سعرها، ولنا أن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزائها، وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيراً مثل إن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق، أو قليلا؛ لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت. (1)
وما ذكره ابن قدامة يوضح المذهب، ويغني عما جاء في كثير من كتب الحنابلة، وأضيف هنا ثلاث مواد جاءت في مجلة الأحكام الشرعية وهي في الفقه الحنبلي.
مادة (748) : لا يلزم المقترض رد عين مال المقرض ولو كان باقياً، لكن لو رد المثلي بعينه من غير أن يتعيب لزم المقرض قبوله ولو تغير السعر، أما المتقوم إذا رده بعينه لا يلزمه قبوله وإن لم يتغير سعره.
مادة (749) : المكيلات والموزونات يجب رد مثلها، فإن أعوز لزم رد قيمته يوم الإعواز، وكذلك الفلوس والأوراق النقدية. أما غير ذلك فيجب فيه رد القيمة فالجوهر ونحوه مما تختلف قيمته كثيراً تلزم قيمته يوم القبض.
مادة (750) : إذا كان القرض فلوساً أو دراهم مكسرة أو أوراقاً نقدية فغلت أو رخصت أو كسدت ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها، أما إذا حرم السلطان التعامل بها فتجب قيمتها يوم القرض ويلزمه الدفع من غير جنسها إن جرى فيها ربا الفضل، وكذا الحكم في سائر الديون وفي ثمن لم يقبض وفي أجرة وعوض خلع وعتق ومتلف وثمن مقبوض لزم البائع رده.
__________
(1) المغني: 4/365، وانظر الشرح الكبير: 4/358، ومطالب أولي النهى: 3/241-243، المبدع: 4/207.(9/937)
المطلب الرابع
أقوال الحنفية
قال المرغيناني في الهداية: ولو استقرض فلوساً نافقة فكسدت عند أبي حنيفة رحمه الله يجب عليه مثلها؛ لأنه إعارة وموجبه رد العين: معنى، والثمنية فضل فيه، إذ القرض لا يختص به. وعندهما تجب قيمتها؛ لأنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبض فيجب رد قيمتها، كما إذا استقرض مثليًّا فانقطع. لكن عند أبي يوسف رحمه الله يوم القبض، وعند محمد رحمه الله يوم الكساد على ما مر من قبل. وأصل الاختلاف فيمن غصب مثليًّا فانقطع. وقول محمد رحمه الله أنظر للجانبين، وقول أبي يوسف أيسر. (1)
وقال ابن الهمام في فتح القدير شارحاً ما سبق (2) (قوله: ولو استقرض فلوساً فكسدت عند أبي حنيفة رحمه الله يرد مثلها) عدداً، اتفقت الروايات عنه بذلك، وأما إذا استقرض دراهم غالبة الغش فقال أبو يوسف في قياس قول أبي حنيفة عليه مثلها، ولست أروي ذلك عنه، ولكن الرواية في الفلوس إذا أقرضها ثم كسدت. فقال أبو يوسف: عليه قيمتها في آخر وقت نفاقها. وجاء قوله (لأنه) أي القرض (إعارة وموجبة) أي موجب عقد الإعارة (رد العين) إذ لو كان استبدالاً حقيقة موجباً لرد المثل استلزم الربا للنسيئة، فكان موجباً رد العين، إلا أن ما تضمنه هذا العقد لما كان تمليك المنفعة بالاستهلاك لا مع بقاء العين لزم تضمنه لتمليك العين، فبالضرورة اكتفى برد العين معنى وذلك برد المثل، ولذا يجبر المغصوب منه على قبول المثل إذا أتى به الغاصب في غصب المثلي بلا انقطاع، مع أن موجب الغصب رد العين وذلك حاصل بالكاسد (والثمنية فضل في القرض) غير لازم فيه ولذا يجوز استقراضها بعد الكساد، وكذا يجوز استقراض كل مثلي وعددي متقارب ولا ثمنية. (ولهما أنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبضه فيجب رد قيمتها) وهذا لأن القرض وإن لم يقتض وصف الثمنية لا يقتضي سقوط اعتبارها إذا كان المقبوض قرضاً موصوفاً بها؛ لأن الأوصاف معتبرة في الديون لأنها تعرف بها بخلاف الأعيان المشار إليها وصفها لغو؛ لأنها تعرف بذواتها. وتأخير دليلهما بحسب عادة (المصنف) ظاهر في اختياره قولهما. (ثم أصل الاختلاف) في وقت الضمان اختلافهما (فيمن غصب مثليًّا فانقطع وجبت القيمة عند أبي يوسف يوم الغصب وعند محمد يوم القضاء) وقولهما أنظر للمقرض من قول أبي حنيفة؛ لأن في رد المثل إضراراً به، ثم قول أبي يوسف أنظر له أيضاً من قول محمد؛ لأن قيمته يوم القرض أكثر من قيمته يوم الانقطاع. (فكان قول محمد أنظر) للمستقرض من قول أبي يوسف (وقول أبي يوسف أيسر) لأن القيمة يوم القبض معلومة ظاهرة لا يختلف فيها، بخلاف ضبط وقت الانقطاع فإنه عسر، فكان قول أبي يوسف أيسر في ذلك.
__________
(1) انظر الهداية: 6/278-279، معه شروحه: العناية وفتح القدير والكفاية.
(2) الكتاب المذكور: 6/278-280.(9/938)
قال صاحب الكفاية (6/279-280) : قوله: (وأصل الاختلاف) أي أصل الاختلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وإنما قيدنا به؛ لأنه بني هذا الاختلاف في غصب المثلي كالرطب مثلاً، وفيه كان الاختلاف بينهما نظير الاختلاف الذي نحن فيه، كذا في النهاية. وفي فوائد الخبازي: وأصل الاختلاف فيمن غصب مثليًّا فانقطع، إلا أن هناك نعتبر القيمة يوم الخصومة عند أبي حنيفة رحمه الله، وهنا لا يقول به؛ لأن إيجاب قيمتها من الفضة يوم الخصومة لا يفسد؛ لأن قيمتها كاسدة وعينها سواء. بل إيجاب العين كاسدة أعدل من قيمتها كاسدة، فأوجب مثلها كاسدة. وعندهما لما وجب اعتبار قيمتها رائجة إما يوم القبض أو آخر يوم كانت رائجة فيه فكسدت كان إيجاب قيمتها من الفضة أولى من إيجاب عينها كاسدة كما في المبسوط. وقول محمد رحمه الله أنظر في حق المقرض بالنظر إلى قول أبي حنيفة رحمه الله، وكذا في حق المستقرض بالنسبة إلى قول أبي يوسف رحمه الله، وفي فتاوى قاضيخان رحمه الله قال محمد رحمة الله عليه: قيمتها في آخر يوم كانت رائجة، وعليه التفوى. وقول أبي يوسف رحمه الله أيسر أي للمفتي أو القاضي؛ لأن قيمته يوم القبض معلومة، ويوم الانقطاع لا يعرف إلا بحرج.
وقال صاحب العناية: (6/279-280) : ولا شك أن قيمة يوم القبض أكثر من قيمة يوم الانقطاع، وهو ضرر بالمستقرض، فكان قول محمد أنظر للجانبين (وقول أبي يوسف أيسر) ؛ لأن قيمته يوم القبض معلومة للمقرض والمستقرض وسائر الناس، وقيمة يوم الانقطاع تشتبه على الناس ويختلفون فيها فكان قوله أيسر.
هذا ما جاء في الهداية، وشروحه الثلاثة. وهو يتعلق بحالة الكساد والانقطاع. غير أن العلامة ابن عابدين أغنانا عن الرجوع إلى كثير من كتب الحنفية ببحثه القيم (تنبيه الرقود على مسائل النقود) . قال في البداية: هذه الرسالة سميتها تنبيه الرقود على مسائل النقود، من رخص وغلاء وكساد وانقطاع. جمعت فيها ما وقفت عليه من كلام أئمتنا ذوي الارتقاء والارتفاع، ضامناً إلى ذلك ما يستحسنه ذوو الإصغاء والاستماع.. إلخ. ورسالة ابن عابدين تقع في عشر صفحات، والكتب التي جمع منها فيها المتفق عليه والمختلف فيه، وفي بعضها ما يعارض بعضها الآخر. ورأينا من ينقل بعض ما ذكره ابن عابدين منسوباً لأصحابه دون النظر إلى ما ذكره في موضع آخر معارضاً الرأي الأول، بل أخذ أحد الرأيين على أنه المذهب الحنفي. لذلك رأيت أن أبين خلاصة ما جاء في الرسالة كلها.(9/939)
بعد أن انتهى ابن عابدين من التعريف برسالته بدأها بما يأتي: قال في الولواجية في الفصل الخامس من كتاب البيوع: رجل اشترى ثوباً بدراهم نقد البلدة فلم ينقدها حتى تغيرت فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلاً فسد البيع؛ لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد لأنه لم يهلك، وليس إلا ذلك. وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها فعليه قيمتها في آخر يوم انقطع من الذهب والفضة هو المختار. ونظير هذا ما نص في كتاب الصرف: إذا اشترى شيئاً بالفلوس ثم كسدت قبل القبض بطل الشراء يعني فسد، ولو رجعت لا يفسد. اهـ.
وفي جواهر الفتاوى القاضي الإمام الزاهدي أبو نصر الحسين بن علي: إذا باع شيئاً بنقد معلوم ثم كسد النقد قبل قبض الثمن فإنه يفسد البيع، ثم ينتظر إن كان المبيع قائماً في يد المشتري يجب رده عليه وإن كان خرج من ملكه بوجه من الوجوه أو اتصل بزيادة بصنع من المشتري، أو أحدث فيه صنعة متقومة مثل إن كان ثوباً فخاطه، أو دخل في حيز الاستهلاك وتبدل الجنس مثل إن كان حنطة فطحنها أو سمسماً فعصره أو وسمة فضربها نيلاً (1) فإنه يجب عليه رد مثله إن كان من ذوات الأمثال كالمكيل والموزون والعددي الذي لا يتفاوت كالجوز والبيض، وإن كان من ذوات القيم كالثوب والحيوان فإنه يجب قيمة المبيع يوم القبض من نقد كان موجوداً وقت البيع لم يكسد. ولو كان مكان البيع إجارة فإنه تبطل الإجارة ويجب على المستأجر أجر المثل، وإن كان قرضاً أو مهراً يجب رد مثله. هذا كله قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل. وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس. قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف، وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة. (اهـ) . انتهى.
وفي الفصل الخامس من التتارخانية: إذا اشترى شيئاً بدراهم هي نقد البلد ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت فإن كانت تلك الدراهم لا تورج اليوم في السوق فسد البيع، وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع. وقال في الخانية: لم يكن له إلا ذلك. وعن أبي يوسف: أن له أن يفسخ البيع في نقصان القيمة أيضاً، وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد، وعليه الفتوى. وفي عيون المسائل عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان؛ لأنه حينئذ يصير هالكاً ويبقى المبيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط فلا يفسد البيع؛ لأنه لا يهلك ولكنه تعيب، وكان للبائع الخيار إن شاء قال أعطني مثل الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير. انتهى. وتمامه فيها. وكذلك في الفصل الرابع من الذخيرة البرهانية، والحاصل أنها إما أن لا تروج وإما أن تنقطع وإما أن تزيد قيمتها أو تنقص. فإن كانت كاسدة لا تروج يفسد البيع، وإن انقطعت فعليه قيمتها قبل الانقطاع يتخير المشتري كما سيأتي، وكذا إن انتقصت لا يفسد البيع وليس للبائع غيرها. وما ذكرناه من التفرقة بين الكساد والانقطاع هو المفهوم مما قدمناه.
__________
(1) الوسمة: نبات عشبي زراعي للصباغ. النيل: مادة للصباغ مستخرجة من النبات. والصباغ نفسه.(9/940)
وذكر العلامة شيخ الإسلام محمد بن عبد الله الغزي الترمتاشي في رسالة سماها بذل المجهود في مسألة تغير النقود: اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس وكان كل منهما نافقاً حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن ولم يسلمها المشتري للبائع ثم كسدت بطل البيع (و) الانقطاع عن أيدي الناس كالكساد (و) حكم الدراهم كذلك، فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائماً، ومثله إن كان هالكاً وكان مثليًّا، وإلا فقيمته، وإن لم يكن مقبوضاً فلا حكم لهذا البيع أصلاً، وهذا عند الإمام الأعظم، وقالا: لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد وذلك لا يوجب الفاسد لاحتمال الزوال بالرواج كما لو اشترى شيئاً بالرطبة ثم انقطع. وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف يوم البيع وعند محمد يوم الكساد وهو آخر ما تعامل الناس بها. وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف، وفي المحيط والتتمة والحقائق (على قول) محمد يفتى رفقاً بالناس (58-59) .
وبعد هذا الجزء من رسالته ذكر المراد بالكساد والانقطاع فقال: (الكساد لغة –كما في المصباح- من كسد الشيء، يكسد، من باب قتل: لم ينفق لقلة الرغبات، فهو كاسد وكسيد، يتعدى بالهمزة فيقال: أكسده الله وكسدت السوق فهي كاسدة بغير هاء في الصحاح وبالهاء في التهذيب. ويقال أصل الكساد الفساد.
وعند الفقهاء: أن تترك المعاملة بها في جميع البلاد، وإن كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل لكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم فيتخير البائع إن شاء أخذه وإن شاء أخذ قيمته، وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت، وهكذا في الهداية، والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب، لكن قال في المضمرات: فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع هو المختار. ثم قال في الذخيرة: الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت، وقيل: إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع، والأول أصح. انتهى. هذه عبارة الغزي في رسالته (ص59-60) .
وقال بعد هذا: (وفي الذخيرة البرهانية بعد كلام طويل: هذا إذا كسدت الدراهم أو الفلوس قبل القبض، فأما إذا غلت فإن ازدادت قيمتها فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري، وإذا انتقصت قيمتها ورخصت فالبيع على حاله ويطالبه بالدراهم بذلك العيار الذي كان وقت البيع) .(9/941)
وفي المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء، وليس له غيرها، ثم رجع أبو يوسف وقال عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض، والذي ذكرناه من الجواب في الكساد فهو الجواب في الانقطاع انتهى. (قوله) : يوم وقع البيع أي في صورة البيع، (وقوله) : ويوم وقع القبض أي في صورة القبض كما نبه عليه في النهر. وبه علم أن في الانقطاع قولين: الأول فساد البيع كما في صورة الكساد، والثاني أنه يجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع وهو المختار كما مر عن المضمرات، وكذا في الرخص والغلاء قولان أيضاً: الأول ليس له غيرها، والثاني له قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى كما يأتي. قال العلامة الغزي عقب ما قدمناه: عند هذا إذا كسدت أو انقطعت. أما إذا غلت قيمتها أو انقطعت فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع. كذا في فتح القدير. وفي البزازية مغزيا إلى المنتقي: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولاً: ليس عليه غيرها، وقال الثاني ثانياً: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض، وعليه الفتوى، وهكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقي (ص60) .
والدراهم التي ورد ذكرها جاء الحديث عنها بعد ذلك حيث قال: " لم تختلف الرواية عن أبي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها. قال أبو يوسف: عليه قيمتها من الذهب يوم وقع القرض في الدراهم التي ذكرت لك أصنافها، يعني البخارية والطبرية واليزيدية. وقال محمد: قيمتها في آخر نفاقها". قال الدوري: " وإذا ثبت من قول أبي حنيفة في قرض الفلوس ما ذكرنا، فالدراهم البخارية فلوس على صفة مخصوصة، والطبرية واليزيدية هي التي غلب الغش عليها فتجري مجرى الفلوس، فلذلك قاسها أبو يوسف على الفلوس" (ص62) .
وما ذكره ابن عابدين من أن الرخص والغلاء فيه قولان جاء ما يعارضه، حيث نقل عن مجمع الفتاوى قوله: (لو غلت أو رخصت فعليه رد المثل بالاتفاق) (ص61) .
وقال: قال الإمام الإسبيجابي في شرح الطحاوي: (وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد) (ص62) .(9/942)
وأشار إلى مثل هذا في فتاوى قاضيخان. (انظر ص60) . وحاول ابن عابدين أن يزيل هذا التعارض فقال: (فإن قلت) : يشكل علي هذه ما ذكره في مجمع الفتاوى من قوله: ولو غلت أو رخصت فعليه رد المثل بالاتفاق انتهى (قلت) : لا يشكل؛ لأن أبا يوسف كان يقول أولاً بمقالة الإمام، ثم رجع عنها وقال ثانياً: الواجب عليه قيمتها كما نقلناه فيما سبق عن البزازية وصاحب الخلاصة والذخيرة، فحكاية الاتفاق بناء على موافقته للإمام أولا كما لا يخفى والله تعالى أعلم) (ص61) .
وقال في موضع آخر (ص63، 64) : بقي الكلام فيما إذا أنقصت قيمتها فهل للمستقرض رد مثلها وكذا المشتري أو قيمتها؟ لا شك أن عند أبي حنيفة يجب رد مثلها، وأما على قولهما فقياس ما ذكروا في الفلوس أنه يجب قيمتها من الذهب يوم القبض عند أبي يوسف ويوم الكساد عند محمد، والمحل محتاج إلى التحرير. اهـ.
(وفي) حمله الدراهم في كلام البحر على التي لم يغلب غشها نظر ظاهر، إذ ليس المراد إلا الغالبة الغش كما قدمناه وصرح به شراح الهداية وغيرهم (والذي) يغلب على الظن ويميل إليه القلب أن الدراهم المغلوبة الغش أو الخالصة إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعاً، ولا يجب إلا ما وقع عليه العقد من النوع المذكور فيه، فإنها أثمان عرفا وخلقة، والغش المغلوب كالعدم، ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف. على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط، وأما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها (وبهذا) يحصل التوفيق بين حكاية الخلاف تارة والإجماع تارة أخرى، وهذا أحسن مما قدمناه عن الغزي، ويدل عليه عبارتهم بحيث كان الواجب ما وقع عليه العقد في الدراهم التي غلب غشها إجماعاً لما في الخلاصة ونحوها أولى، وهذا ما نقله السيد محمد أبو السعود في حاشية مثلا مسكين عن شيخه، ونص عبارته: قيد بالكساد؛ لأنها لو نقصت قيمتها قبل القبض فالبيع على حاله بالإجماع، ولا يتخير البائع وكذا لو غلت وزدات ولا يتخير المشتري.(9/943)
وفي الخلاصة والبزازية: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولًا ليس عليه غيرها، قال الثاني ثانياً: عليه قيمتها في يوم بيع والقبض وعليه الفتوى- انتهى. أي يوم البيع في البيع ويوم القبض في القرض كذا في النهر (واعلم) أن الضمير في قوله: قيد بالكساد لأنها إلخ للدراهم التي غلب غشها وحينئذ فما ذكره مما يقتضي لزوم المثل بالإجماع بعد الغلاء والرخص حيث قال: فالبيع على حاله بالإجماع ولا يتخير البائع إلخ. لا ينافي حكاية الخلاف عن الخلاصة والبزازية فيما إذا غلت الفلوس أو رخصت هل يلزمه القيمة أو ليس عليه غيرها؟ هذا حاصل ما أشار إليه شيخنا من التوفيق. قال شيخنا: وإذا علم الحكم في الثمن الذي غلب غشه إذا نقصت قيمته قبل القبض كان الحكم معلوما بالأولى في الثمن الذي غلب جيده على غشه إذا نقصت قيمته لا يتخير البائع بالإجماع، فلا يكون له سواه، وكذا لو غلت قيمته لا يتخير المشتري بالإجماع قال: وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة كالشريفي البندقي والمحمدي والكلب والريال، فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع، فإن ذلك الفهم خطأ صريح ناشئ عن عدم التفرقة بين الفلوس والنقود. انتهى ما في الحاشية، وهو كلام حسن وجيه لا يخفى على فقيه نبيه) . اهـ.(9/944)
وبعد هذا أشار ابن عابدين إلى الأخذ بالفتوى عند الاختلاف في الكساد والانقطاع فقال: (وفي الذخيرة الفتوى: على قول أبي يوسف، وفي التتمة والمختار والحقائق: بقول محمد يفتي رفقاً بالناس ... إلخ) . (انظر ص 64) . ثم ذكر تنبيهاً يتعلق بالشراء بنوع مطلق من الأثمان غير مسمى، ثم ختم رسالته بما يلي:
(ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطان بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معيناً، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق، أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعاً والخيار فيه للدافع كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعاً أو قرضاً بناء على ما قدمناه، وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت: فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض فيختار المشتري ما هو أكثر رخصاً وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصاً على حساب ما هو أكثر رخصاً، فقد ينقص نوع من النقود قرشاً، ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين، وإذا دفع ما نقص قرشاً للبائع يحسب عليه قرشاً آخر نظراً إلى نقص النوع الآخر، وهذا مما لا شك في عدم جوازه. وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم جزم بعد تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد، وإن امتنع البائع لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته، أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد إضراره، ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية (مخالف) لما أمر به من اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط خصوصاً والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش كما علمته مما قدمناه، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصاً لا الأقل ولا الأكثر كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري. وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلاً، ولا يخفى أن فهي تخصيص الضرر بالمشتري. لا يقال ما ذكرته من أن الأولى للصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته من حاشية أبي السعود من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة؛ لأنا نقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلاً وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه. وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هناك شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص.(9/945)
ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفاً أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشاً من الريال أو الذهب مثلاً لم يحصل البائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمناً لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضياً وقت العقد بأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان، صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضياً به، وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الإضرار كما قلنا، وفي الحديث: " لا ضرر ولا ضرار"، ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد كأن صار مثلاً ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع، أما إذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به. وإن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به، فينبغي وقوع الصلح إلى الأوسط، والله تعالى أعلم) .
من أقوال الحنفية السابقة نرى ما يأتي:
1- إجماع أئمتهم على أن ما ثبت في الذمة من النقود الذهبية أو الفضية يؤدي بمثله دون نظر إلى تغير القيمة.
2- الخلاف حول الفلوس والدراهم غالبة الغش لا المغلوبة، والخلاف فيما يجب أداؤه في ثلاث حالات هي: الكساد والانقطاع وتغير القيمة:
أ- فيرى الإمام وجوب المثل في جميع الحالات.
ب- ويرى أبو يوسف وجوب القيمة يوم ثبوت الحق في جميع الحالات أيضاً بعد أن كان موافقاً لرأي الإمام في حالة تغير القيمة.
ج- ويرى محمد رأي الإمام عند تغير القيمة، وفي الحالتين الأخريين يرى وجوب القيمة لكن يوم الكساد أو الانقطاع.
3- اختلف الحنفية في الإفتاء.
أ- فمنهم من ذكر رأي الإمام على أنه إجماع المذهب.
ب- ومنهم من أفتى برأي أحد الصاحبين.
ج- ومنهم من فرق بين الكساد والانقطاع.
د- ومنهم من أخذ برأي الإمام في بعض الحقوق، وبرأي غيره في بعضها الآخر.
4- ما حدث في زمان ابن عابدين –المتوفى سنة 1252 هـ- يبين أن اختلاف الإفتاء كان نتيجة لتفاوت الرخص عند ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، ولذا قيل بالصلح لمنع الضرر عن كل من المتبايعين، ويرى ألا مبرر للخلاف لو تساوى الرخص، ولذلك قال: (وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الإضرار كما قلنا، وفي الحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد ... إلخ) .(9/946)
المبحث الرابع
التضخم وأنواعه
المطلب الأول
تعريف التضخم
جاء في المعجم الوسيط: التضخم (في الاقتصاد) : زيادة النقود أو وسائل الدفع الأخرى على حاجة المعاملات (مج) .
والرمز (مج) يعني أن اللفظ أقره مجمع اللغة العربية. وفي كتاب مقدمة في النقود والبنوك (ص91) يقول الدكتور محمد زكي شافعي: هنالك ثلاثة عوامل تزاول تأثيراً مباشراً على مستوى الأسعار، وهي: كمية النقود، وسرعة تداول النقود، والحجم الحقيقي للسلع والخدمات المعروضة للبيع في الأسواق.
وفي الصفحة التالية يعرف التضخم فيقول: التضخم – وصورته الغالبة ارتفاع غير متوقع في الأسعار- إنما يتولد عن زيادة حجم تيار الإنفاق النقدي بنسبة أكبر من الزيادة في عرض السلع والخدمات. فلا الزيادة في في كمية النقود وحدها، ولا الزيادة في تيار الإنفاق النقدي من حيث هي، بمؤدية بالنظام الاقتصادي لا محالة إلى التضخم، فقد يعوض انخفاض سرعة تداول النقود عن الزيادة في كمية النقود بحيث يبقى الحجم الكلي لتيار الإنفاق النقدي على حاله. كما قد تصاحب الزيادة في الإنفاق النقدي زيادة متناسبة في عرض السلع والخدمات بحيث لا تؤدي هذه الزيادة إلى التضخم، وإنما تتوفر للتضخم النقدي أسباب الوجود إذا لم تصادف الزيادة في تيار الإنفاق النقدي زيادة مقابلة في العرض الكلي للسلع والخدمات. ولهذا يعرف بعض الاقتصاديين التضخم بأنه عبارة عن (نقود كثيرة تطارد سلعاً قليلة) .
وفي كتاب مذكرات في النقود والبنوك (ص 197-201) للدكتور إسماعيل محمد هاشم يعرف المؤلف التضخم، ويبين أنواعه.
وفي تعريف التضخم يقول المؤلف: المفهوم البسيط للتضخم هو زيادة كمية النقود بدرجة تنخفض معها قيمة النقود. أي ارتفاع مستوى الأسعار. ولكن لم يعد مجرد ارتفاع أسعار السلع سبباً في التضخم ما لم يرتبط ارتفاع الأسعار بمستوى الدخل، ومن هنا كان تعريف التضخم بأنه الزيادة المستمرة في المستوى العام للأسعار لفترة طويلة نسبيًّا.
ومع ذلك ليس هناك إجماع على تحديد الدرجة التي ترتفع بها الأسعار أو الفترة اللازمة لبقاء هذا المستوى المرتفع لتبرير استخدام هذا الاصطلاح.(9/947)
المطلب الثاني
أنواع التضخم
يقول الدكتور إسماعيل هاشم بعد تعريف التضخم:
أنواع التضخم:
إذا سلمنا بأن التضخم توسع في الدخول النقدية لعوامل الإنتاج بنسبة أكبر من إنتاج هذه العوامل، أو بعبارة أخرى زيادة كمية النقود بنسبة أكبر من زيادة الإنتاج، فإن التضخم يمكن أن يأخذ أحد الأشكال الثلاثة الآتية:
أولاً- التضخم في ظل قاعدة الذهب:
هذا النوع من التضخم يحدث عندما يحدث تدفق في الذهب إلى الداخل، فيحدث توسعاً في الائتمان. ولكن طالما أن هذا الائتمان يحدث على أساس قاعدة الذهب فإنه يكون توسعاً معتدلاً، ويمكن مراقبته. وقد انتهى هذا النوع بانتهاء قاعدة الذهب.
ثانياً- التضخم الدائم:
التضخم الدائم Persistent Inflation يعرف أحياناً بالتضخم المتسلق أو الزاحف Creeping.
ويحدث هذا النوع من التضخم عندما تزداد القوة الشرائية بصفة دائمة بنسبة أكبر من نسبة الزيادة في عرض كل من السلع وعوامل الإنتاج وخاصة خدمات العمل. وتبعاً لذلك يكون هناك اتجاه مستمر لارتفاع الأسعار والأجور. وهو يكون ناشئاً إما بسبب الطلب أو بسبب التكاليف.
1 - التضخم الطلبي (Demand Inflation) :
هو الارتفاع الحلزوني في الأسعار بسبب زيادة الطلب عن العرض. أي أن هذا النوع من التضخم ينشأ بسبب زيادة الدخول النقدية لدى الأفراد دون أن يقابل هذه الزيادة في الدخول زيادة في الإنتاج من الأفراد الذين حصلوا على هذه الدخول مما يترتب عليه ارتفاع الأسعار لقلة الكمية المعروضة. أو بعبارة أخرى ينشأ التضخم الطلبي عندما يزيد الطلب الكلي مع ثبات العرض الكلي. وهذا يعني ضرورة وجود عمالة كاملة في المجتمع مع عدم إمكانية زيادة الإنتاج لمواجهة الزيادة في الطلب. فإذا حدث ارتفاع في الأسعار مع وجود بطالة كبيرة نسبيًّا، أو وجود طاقة إنتاجية عاطلة نسبيًّا، فإن هذا الارتفاع في الأسعار لا يمكن أن يوصف بأنه تضخم طلبي أي تضخم ناشئ بسبب الطلب. وينشأ التضخم الطلبي في حالة السلم كما ينشأ أيضاً في حالة الحرب.(9/948)
ففي حالة السلم ينشأ تفاؤل رجال الأعمال بالمستقبل فيزيدون من الطلب على عوامل الإنتاج. فإذا كانت هذه العوامل محدودة العرض فإن أثمان خدماتها سوف ترتفع، ويكون هذا الارتفاع ناشئاً بسبب الزيادة في الطلب عن العرض.
ومن ناحية أخرى حصول عوامل الإنتاج على دخول مرتفعة يزيد من طلبهم على السلع الاستهلاكية، وطالما أننا افترضنا أن عوامل الإنتاج عرضها محدود وأن أثمان خدماتها لم ترتفع بسبب ارتفاع الكفاية الإنتاجية وإنما بسبب زيادة الطلب عن العرض فإن كمية الناتج القومي لن تزيد، أي أن عرض السلع الاستهلاكية سوف يظل ثابتاً نسبيًّا، ويترتب على زيادة الطلب عن العرض في هذه الحالة ارتفاع أثمان السلع الاستهلاكية.
وهكذا نجد أن موجة التفاؤل الاقتصادي التي سادت النشاط الاقتصادي أدت إلى زيادة طلب كل من رجال الأعمال والمستهلكين مما يؤدي في النهاية إلى ارتفاع الأسعار، ويكون التضخم في هذه الحالة ناشئاً بسبب زيادة الطلب.
كما يحدث ذلك أيضاً في الدول النامية عندما تقوم الحكومة بزيادة الإنفاق على مشروعات التنمية التي تستغرق وقتاً طويلاً نسبيًّا قبل أن تؤتي ثمارها. في هذه الحالة تقوم الدولة بخلق قوة شرائية إضافية دون أن يقابلها زيادة في الإنتاج. هذه القوة الشرائية الإضافية تمثل فائضاً في الطلب. ويطلق على التضخم في هذه الحالة التضخم الناشئ عن فائض الطلب.
أما في حالة الحرب، وبالرغم من أن رجال الأعمال يساهمون في إيجاد هذا التضخم، إلا أنه ينشأ أساساً بسبب زيادة الطلب الحكومي، الذي يتمثل في زيادة الإنفاق الحكومي وتمويل هذا الإنفاق عن طريق زيادة كمية النقود المصدرة. ونظراً لأن العرض الكلي من الناتج القومي محدود نسبيًّا فإن زيادة الطلب الحكومي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بشكل تضخمي.
وفي النهاية يمكن أن نخلص مما تقدم أن التضخم الناشئ بسبب الطلب إنما ينشأ بسبب: (زيادة كمية النقود المصحوبة بزيادة الميل الحدي للاستهلاك مع ثبات العرض) . أو بعبارة أخرى وجود أدوات مالية تعوق رغبات الأفراد في الادخار، وبما أن البنوك التجارية هي المؤسسات التي في إمكانها إقراض الأفراد دون قرارات سابقة بالادخار من أفراد آخرين، فإنها تكون المؤسسات المسؤولة عن هذا النوع من التضخم.(9/949)
2 - التضخم الناشئ عن التكلفة (التضخم التكاليفي Cost INFIATION) .
ينشأ هذا النوع من التضخم عندما يكون السبب في الارتفاع الحلزوني في الأسعار هو زيادة التكاليف، وبصفة خاصة ارتفاع الأجور، والمقصود بزيادة التكاليف في هذه الحالة، هو زيادة أثمان خدمات عوامل الإنتاج بنسبة أكبر من إنتاجيتهم الحدية مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. أو بعبارة أخرى عندما تكون التكلفة الحدية أكبر من الإيراد الحدي للإنتاجية، ونتيجة لثبات العرض يضطر المنتج لاستخدام هذا العنصر، وفي الوقت نفسه نتيجة لثبات العرض من الكمية المنتجة يقوم المنتج برفع الثمن بدرجة كبيرة.
ولكن ليس من الضروري أن تؤدي الزيادة في الأجور بصفة عامة إلى زيادة التكاليف، إذا كانت الزيادة في الأجور تقابلها زيادة في الكفاية الإنتاجية، كما أنه ليس من الضروري أيضاً أن يكون ارتفاع الأجور التي تسبب بدوره في زيادة التكاليف ناشئاً من فائض الطلب إذ يحتمل أن يكون نتيجة قوة نقابات العمال في المساومة الجماعية.
وهكذا نجد أن التضخم الطلبي ينشأ من جانب المشتري في حين ينشأ التضخم بسبب التكاليف من جانب البائعين (أي بائعي خدمات عوامل الإنتاج) .
ثالثاً- التضخم الجامح (Hlyperinflaion) :
هو أخطر أنواع التضخم، وفيه ترتفع الأسعار بمعدل كبير جدًّا بحيث تنخفض قيمة النقود إلى درجة تصبح معها زهيدة جدًّا. وفي المراحل الأخيرة من هذا النوع من التضخم تنخفض قيمة النقود بسرعة من يوم لآخر حتى تصبح عديمة القيمة حينئذ يقتضي الأمر إصدار عملة جديدة لتحل محل العملة القديمة.
ومن أمثلة التضخم الجامح:
أ- قبل الحرب العالمية الأولى: أمريكا، أثناء الحرب الأهلية.
ب- بعد الحرب العالمية الأولى: ألمانيا - استراليا – روسيا - بولندا.
ج- بعد الحرب العالمية الثانية: هنغاريا - رومانيا – اليونان - الصين.
ولكن أشهر هذه الأنواع هو ما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى في عام 1924 إذ ارتفع مستوى الأسعار ألف بليون مرة (أي تريليون مرة Trillion) .
ولكن هذا النوع من التضخم هو احتمال نادر الوقوع. وإذا كان البعض يرى إمكانية تحول التضخم المستمر إلى تضخم جامح إذا لم تحكم مراقبته جيداً، فإنه احتمال ضئيل جدًّا في الوقت الحاضر، لأنه ينشأ أصلاً من:
1- حدوث تفكك اجتماعي وانهيار النشاط الاقتصادي.
2- عدم مقدرة الحكومة على ضبط الأمور، أي فقد سلطتها على الشعب.
3- تعمد الحكومة تخفيض قيمة العملة تخفيضاً كبيراً جدًّا للتخلص من التزاماتها الخارجية وخاصة إذا كانت ناشئة بسبب الحرب. اهـ. (1)
__________
(1) راجع أيضاً موضوع التضخم في كتاب اقتصادات النقد والمصارف للدكتور عبد المنعم السيد علي، الباب الثاني والعشرين 1/413 وما بعدها؛ وكتاب التضخم المالي للدكتور غازي حسين عناية.(9/950)
المبحث الخامس
قياس التضخم
هذا هو التضخم بأنواعه المختلفة، فما الوسائل التي يستخدمها رجال الاقتصاد لمعرفة قدر التضخم؟ وكيف يقيسون نسبة تضخم هذا العام مقارناً بالعام الماضي، أو بعشر سنوات مضت؟ إنهم ينظرون إلى أسعار عدد كبير جدًّا من السلع والخدمات هذا العام، وأسعارها من قبل، وأهمية كل سلعة أو خدمة تقدم، وهو ما يعرفونه باسم الوزن.
فإذا فرضنا أن أسعار هذا العام بالنسبة لأسعار العام الذي يتخذونه كأساس للقياس هي كما يأتي:
القمح 120?، والأرز 150?، والسكر 200?، والزيت 220?.
وإذا فرضنا أيضاً أن السكر أهم من الزيت تسع مرات، وأن الأرز أهم من الزيت 30 مرة، وأن القمح أهم من الزيت 50 مرة، فيكون ما يعرف عندهم باسم الوزن هو ما يأتي:
السكر = 9، والأرز = 30، والقمح = 50، والزيت =1، عندئذ نقوم بضرب نسبة سعر كل سلعة في وزنها، ويجمع حاصل الضرب لمجموع السلع، ويقسم على مجموع وزنها كما يأتي:
القمح 120×50= 6000
الأرز 150×30= 4500
السكر 200×9= 1800
الزيت 220×1= 220
= 12520
مجموع الأوزان = 50 + 30 + 9 + 1 = 90
وبالقسمة 12520 ÷ 90 = 139.1
إذن أسعار هذا العام بالنسبة لعام الأساس هي 139.1? أي أن الأسعار زادت بنسبة 39.1? وزيادة الأسعار تعني انخفاض قيمة النقود، حيث أصبحت هنا تساوي 100 على 139.1.(9/951)
هذا هو بيان طريقة الاقتصاديين لحساب التضخم بإيجاز شديد، أفيمكن لمثل هذه الطريقة أن يبنى عليها حكم شرعي؟ فكيف تختار السلع والخدمات؟ وكيف يقدر ما يعرف بالوزن؟ وكيف ينطبق هذا على كل من يشملهم الحكم الشرعي مع اختلاف طبقاتهم ورغباتهم وميولهم وثرواتهم وعاداتهم ودياناتهم وغيرها؟! لقد وجدنا من الاقتصاديين من يرى أن استعمال الأرقام القياسية لنفقات المعيشة هي أنسب وسيلة لقياس تقلبات القوة الشرائية للنقود، ومع ذلك يذكرون عدم دقتها حيث قالوا:
أولاً: ليست الأرقام القياسية للأسعار سوى متوسط إحصائي لمجموعة مختارة من المفردات، ولذلك يرد عليها ما يرد على تركيب المتوسطات واستعمالها من قيود. ومن المعلوم أن متوسط أية مجموعة إحصائية ليس سوى نموذج للمجموعة محل الاعتبار، يتاح لنا باستعماله أن نستدل برقم واحد على الاتجاه العام لمفردات المجموعة التي استخرج منها. ومن ثم، لا دلالة للأرقام القياسية للأسعار على السلوك الفردي لسعر أية سلعة بالذات –شأنها في ذلك سائر المتوسطات- كما لا يعني ثبات الأرقام القياسية للأسعار ثبات مختلف الأسعار الفردية التي تشتق منها. فقد يعوض الارتفاع النسبي في أسعار بعض السلع عن الانخفاض النسبي في أسعار البعض الآخر بحيث يظل الرقم القياسي ثابتاً في النهاية بالرغم من طروء هذه التغيرات.
ثانياً: لا تدلي الأرقام القياسية للأسعار (أيًّا كانت طريقة تركيبها) بغير نتائج تقريبية عن التغيير النسبي في مستوى الأسعار محل القياس. ولا اعتراض لأحد على هذه الصفة التقريبية بأي حال. فقد رأينا أن جماع ما يتطلبه الباحث في الأرقام القياسية للأسعار هو أن تعبر لنا بعدالة وصدق عن الاتجاه العام لمجموعات الأسعار المتباينة التي تستخدم في تركيبها.(9/952)
ثالثاً: لا يجوز أن ننسى أن الأرقام القياسية لنفقات المعيشة أدق ما تكون في التعبير عن تقلبات نفقات المعيشة بالنسبة لجمهور طبقة معينة من طبقات المستهلكين. إذ يقوم اختيار أصناف السلع والخدمات التي تشتق هذه الأرقام من أسعارها، كما ينبني ترجيح هذه الأصناف طبقاً لأهميتها النسبية في الإنفاق، على أساس ميزانية الأسرة النموذجية (أو الأسرة العادية) في هذه الطبقة المعينة من طبقات المستهلكين. وبناء على هذا، لا تتعدى دلالة الأرقام القياسية لنفقات المعيشة مجرد الإشارة إلى التغيير النسبي في نفقات المعيشة لو أن الأسرة النموذجية من هذه الطبقة المعينة قد استمرت على شراء الكميات النسبية نفسها من السلع والخدمات التي افترضنا شراءها لها في سنة الأساس. لا صعوبة بعد ذلك في أن يفطن القارئ إلى الاعتبارات الآتية:
1- لما كانت الأسر المختلفة –وإن انتمت إلى الطبقة نفسها- تختلف اختلافاً ملحوظاً في عادات الاستهلاك سواء أكان ذلك بالنسبة لأصناف السلع المستهلكة أم بالنسبة لأهميتها النسبية في الإنفاق، فلا دلالة للرقم القياسي لنفقات المعيشة عن تقلبات نفقات المعيشة بالنسبة لكل أسرة ولأية أسرة بالذات. (1) وإنما يستدل بهذا الرقم على تقلبات نفقات المعيشة بالنسبة لجمهور المستهلكين المنتمين إلى هذه الطبقة على العموم.
2- ولما كانت الطبقات المختلفة اختلافاً جوهريًّا في عادات الاستهلاك وفي نسب توزع دخولها على شتى وجوه الإنفاق، فإنه لا استدلال، من باب أولى، بأرقام نفقات المعيشة التي ينظر في تركيبها إلى نماذج الاستهلاك الخاصة بالطبقة العاملة أو بطبقة صغار الموظفين فعلى تقلب نفقات المعيشة بالنسبة لكبار الملاك مثلاً.
3- كما أنه حيث يطول العهد بين سنة الأساس والسنة المقارنة يضعف الاحتجاج بهذه الأرقام على العموم، نظراً لما يدخله الزمن على عادات الاستهلاك وعلى نسب توزيع الدخل على مختلف وجوه الإنفاق من تغيير وتبديل سواء أكان ذلك راجعاً لتغير تكوين الأسرة أم لظهور سلع جديدة أم لالتزام الدولة بتقديم كثير من الخدمات المجانية للأفراد أم لتغير الأذواق والأهواء فضلاً عما يطرأ على مختلف الحاجات عبر الأيام من اختلاف في الجودة لا يدخله الرقم القياسي في الحسبان.
4- وللسبب نفسه يكون من الصعب الاستدلال بالأرقام القياسية لنفقات المعيشة في مقارنة التغيير النسبي في تكاليف المعيشية في عدة بلدان مختلفة نظراً لاختلاف عادات الاستهلاك واختلاف نسب توزيع الدخل على مختلف وجوه الإنفاق من بلد إلى آخر.
__________
(1) د. شافعي: مذكرة في النقود ص 75-77. وانظر في قياس التضخم كتاب الدكتور إسماعيل هاشم ص 214-223.(9/953)
المبحث السادس
التضخم والكساد
المطلب الأول
مفهوم الكساد
التضخم تبعاً للتعريف العام لا يعني الكساد الذي تحدث عنه الفقهاء وإنما يدل فقط على انخفاض قيمة النقود، ولكن إذا نظرنا في أنواع التضخم وجدنا ما يبين حالة الكساد. وننظر في مفهوم الكساد لنرى متى يمكن الربط بينه وبين التضخم.
وجاء في لسان العرب تحت مادة "كسد" قول ابن منظور: الكساد: خلاف النفاق ونقيضه، والفعل يكسد. وسوق كاسدة بائرة. وكسد الشيء كساداً، فهو كاسد وكسيد، وسلعة كاسدة. وكسدت السوق تكسد كساداً: لم تنفق، وسوق كاسد، إلا هاء. (ملحظ: لعل فيه لغتين؛ لأنه ذكر من قبل بإثبات الهاء، وستأتي إشارة إلى هذا) .
وفي مادة نفق قال ابن منظور: نفق البيع نفاقاً: راج. ونفقت السلعة تنفق نفاقاً، بالفتح. غلت ورغب فيها. وفي الحديث: "المنفق سلعته بالحلف الكاذب"، المنفق بالتشديد من النفاق، وهو ضد الكساد. ومنه الحديث "اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للبركة"، أي هي مظنة لنفاقها وموضع له.
وفي الحديث عن ابن عباس: "لا ينفق بعضكم بعضاً"، أي لا يقصد أن ينفق سلعته على جهة النجش، فإنه بزيادة فيها يرغب السامع فيكون قوله شبباً لابتياعها ومنفقا لها، ونفق الدرهم ينفق نفاقاً: كذلك، كأن الدرهم قل فرغب فيه. وفي حديث عمر: من حظ المرء نفاق أيمه، أي من سعادته أن تخطب نساؤه من بناته وأخواته، ولا يكسدن كساد السلع التي لا تنفق.
وبين ابن عابدين في رسالته (ص59-60) مفهوم الكساد في اللغة وعند الفقهاء فقال: (الكساد لغة –كما في المصباح- من كسد الشيء، يكسد، من باب قتل: لم ينفق لقلة الرغبات، فهو كاسد وكسيد، يتعدى بالهمزة فيقال: أكسده الله وكسدت السوق فهي كاسدة بغير هاء في الصحاح وبالهاء في التهذيب. ويقال أصل الكساد الفساد.(9/954)
وعند الفقهاء: أن تترك المعاملة بها في جميع البلاد، وإن كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل لكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم فيتخير البائع إن شاء أخذه وإن شاء أخذ قيمته، وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت، وهكذا في الهداية. والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب، لكن قال في المضمرات: فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع وهو المختار. ثم قال في الذخيرة: الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت، وقيل: إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع، والأول أصح. انتهى. هذه عبارة الغزي في رسالته) اهـ.
فالكساد إذن –عند الفقهاء- أن تترك المعاملة بها في جميع البلاد كما قال ابن عابدين، ولكن متى يترك رد المثل في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة، ويلجأ إلى القيمة؟
من بيان السنة المطهرة لا نجد معنى الكساد في النقدين، ولا خلاف في أن الدين يؤدي بمثله لا بقيمته، غير أن أجر العامل المرتبط بتوفير تمام الكفاية، ومعنى هذا أن الأجر يجب أن يتغير تبعاً لتغير قيمة العملة.(9/955)
ومن أقوال المذاهب الأربعة نجد ما يأتي: اعتبر الحنفية أن النقود لا تكون إلا من الذهب أو الفضة، وفرقوا بينها وبين الفلوس، غير أنهم ألحقوا بالفلوس الدراهم غالبة الغش لا المغلوبة.
وتبعاً لهذه التفرقة أجمع أئمتهم على أن ما ثبت في الذمة من النقود، أي من الذهب أو الفضة، يؤدى بمثله لا بقيمته في جميع الحالات. واختلفوا في الفلوس والدراهم غالبة الغش في حالة الكساد.
فيرى الإمام أبو حنيفة وجوب المثل لا القيمة، ويرى أبو يوسف وجوب القيمة يوم ثبوت الحق، ويرى محمد وجوب القيمة لكن يوم الكساد.
واختلف الحنفية في الإفتاء كما بينت من قبل.
والمذاهب الثلاثة لم تفرق بين النقدين والفلوس: فرأى المالكية والشافعية وجوب رد المثل عند إبطال التعامل بالدنانير أو الدراهم أو الفلوس إن كانت موجودة، فإذا عدم المثل رجع إلى القيمة.
ورأي الحنابلة أن وجودها لا يوجب رد المثل إذا حرمها السلطان، واتفق الناس على تركها، فعندئذ يجب رد القيمة لا المثل وإن كانت موجودة.(9/956)
المطلب الثاني
نوع التضخم الذي يعتبر كساداً
إذا نظرنا في أنواع التضخم التي ذكرناها ومن قبل نجد نوعين لا يدخلان في مفهوم الكساد عند جميع الفقهاء، والنوع الثالث فقط هو الذي يعد كساداً في مراحله الأخيرة.
فالتضخم في ظل قاعدة الذهب يعتبر انخفاضاً في قيمة النقود وليس كساداً. وقول الاقتصاديين هنا: إن التوسع في الائتمان الذي يؤدي إلى هذا التضخم، يكون توسعاً معتدلاً، ويمكن مراقبته، هذا القول يذكرنا بما ذكرناه من قبل في الاستقرار النسبي للنقود السلعية. فالنقود الورقية، وإن كانت نقوداً ائتمانية، غير أنها عندما كانت في ظل قاعدة الذهب كانت أشبه بالنقود السلعية بصفة عامة، والذهبية بصفة خاصة، وهي أعلى مرتبة في النقود.
والنوع الثاني من التضخم وهو الدائم (أو المتسلق أو الزاحف) لا يعد كساداً وإنما هو انخفاض في قيمة نقود لم يبطل التعامل بها، فلم يبطلها السلطان، ولم يترك الناس التعامل بها، ولذلك لا ينطبق عليها مفهوم الكساد عند جميع الفقهاء.
ومفهوم التضخم هنا يختلف عن مفهوم انخفاض قيمة الفلوس والدراهم غالبة الغش عند أبي يوسف الذي قال بوجوب القيمة خلافاً للجمهور: ويظهر الاختلاف واضحاً جليًّا إذا نظرنا إلى قياس التضخم عند الاقتصاديين وتقدير القيمة عند أبي يوسف.
فقد رأينا الطريقة الجزافية التي يتبعها الاقتصاديون لقياس التضخم، ومعرفة مدى انخفاض قيمة النقود بالنسبة للسلع، أما أبو يوسف فهو كباقي الحنفية ينظر إلى انخفاض قيمة الفلوس والدراهم غالبة الغش بالنسبة للنقود من الذهب والفضة وليس بالنسبة للسلع، كأن يكون الدرهم ثلاثين فلساً فأصبح خمسين، دون نظر إلى القوة الشرائية للدرهم نفسه، وهذا يشبه النقود المساعدة في عصرنا، كالقرش بالنسبة للجنيه المصري، والفلس بالنسبة للدينار الكويتي، والهللة بالنسبة للريال السعودي، وهكذا فإذا انخفضت قيمة النقود المساعدة بالنسبة للعملة الرئيسية، وأخذنا برأي أبي يوسف، وجب دفع عملة مساعدة تعادل العملة الرئيسية، فالثلاثون فلساً في المثال السابق تدفع خمسين لتعادل درهماً بعد أن أصبح خمسين، أما رجال الاقتصاد فإنهم ينظرون إلى القوة الشرائية للدرهم نفسه.
أما النوع الثالث، وهو التضخم الجامح فإنه يعتبر كساداً في مراحله الأخيرة عندما تصبح النقود عديمة القيمة، وحينئذ يقتضي الأمر إصدار عملة جديدة لتحل محل العملة القديمة.
ومعنى هذا أن التضخم مهما زادت نسبته فلا يعد كساداً ما دام الناس يقبلون النقود التي انخفضت قيمتها، ولم يتركوا التعامل بها.(9/957)
الخاتمة
من المسؤول عن علاج التضخم؟
التضخم عرض لمرض يجب علاجه، ونتيجة حتمية لمساوئ النظام النقدي في عصرنا، فمن المسؤول عن العلاج؟
لا شك أن الدولة هي المسؤولة أولاً عن هذا العلاج، وعليها أن تتخذ من الوسائل الممكنة ما يحد من خطر هذا المرض:
فالدولة هي المسؤولة عن إصدار النقود، وهي التي تضع السياسة النقدية وهي المسئولة عن أعمال البنوك الربوية، التي أصبح من وظائفها خلق النقود أو خلق الائتمان. وهي المسؤولة عن سياسة الإنتاج، والاستهلاك، والأجور ... إلخ، أي أنها المسؤولة عن أهم الوسائل التي ترتبط بالتضخم سلباً أو إيجاباً، والمسؤولة عن معظم مسببات التضخم.
فكيف اتجه بعض الباحثين الكرام إلى أن المقترض وحده يتحمل مساوئ هذا النظام، وآلام هذا المرض؟!
إن الدعوة إلى إزالة آثار التضخم، وتعويض من يقع عليهم الضرر: كالدائن للأفراد والمصارف والشركات، والبائع بيعاً آجلاً قد يمتد عدة سنوات، والآجر الذي يجبر على استمرار عقد الإجارة، وصاحب رأس المال في عقد المضاربة مع المصارف الإسلامية، والعاملين في الدولة، وأصحاب الدخل النقدي وغيرهم، إن هذه الدعوة يجب أن توجه إلى الدولة مصدرة النقود لا إلى الأفراد، وبقدر تعويض الدولة يعوض الأفراد بعضهم بعضاً. فمن الظلم أن يعاقب الإنسان بجريرة غيره، وبما لم تجن يداه.
هذا ما بدا لي، والله عز وجل هو الأعلم بالصواب، والهادي إلى سواء السبيل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين.
والحمد لله رب العالمين
الدكتور علي أحمد السالوس(9/958)
حكم ربط الحقوق والالتزامات
بمستوى الأسعار
إعداد
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية
والقاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله الأمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد:
فاستجابة لرغبة مجمع الفقه الإسلامي بجدة ممثلة في الخطاب الذي تفضل به علي سماحة أمين المجمع الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة برغبته في أن أكتب في الموضوعين المتعلقين بقضايا العملات الورقية وهما:
1- مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعين الحقوق والالتزامات الآجلة.
2- حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقة نقوداً كاسدة.
وذلك لضمه مع ما يرد إلى المجمع من بحوث في هذا الصدد لعرض ذلك في الدورة المقبلة لمجلس المجمع. فقد قمت بذلك حسب الاستطاعة. أرجو الله تعالى أن يريد لي خيراً فينعم علي بالتفقه في دينه والله المستعان.
معنى الكساد في اللغة وفي الاصطلاح الفقهي:
معنى الكساد في اللغة:
قال في تاج العروس: كسد المتاع وغيره كنصر وكرم –اللغة الأولى هي المتداولة المشهورة- والفعل يكسد كساداً بالفتح وكسوداً الضم: لم ينفق. وفي التهذيب أصل معنى الكساد هو الفساد ثم استعملوه في عدم نفاق السلع والأسواق فهو كاسد. وسلعة كاسدة وكسدت السوق تكسد كساداً أو سوق كاسد بلا هاء. وأكسد القوم كسدت سوقهم كذا في اللسان (1) اهـ.
ولتحديد معنى الكساد نرجع إلى معنى النفاق حيث ذكر في القاموس وفي التاج أن الكساد عدم نفاق السلع والأسواق.
قال في التاج: نفق البيع ينفق نفاقاً كسحاب: راج، وكذلك السلعة تنفق إذا غلت ورغب فيها، ونفق الدرهم نفاقاً كذلك. اهـ.
ومما تقدم يظهر أن الكساد بمعنى رخص السلع وضعف الرغبة في شرائها وبالتالي نقص سعرها.
وقد أخذ بهذا المعنى الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره قوله تعالى: {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} [التوبة: 24] حيث قال:
وتجارة تخشون كسادها – أي رخصها ونقصها وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات من الأثمان والأواني والأسلحة والأمتعة والحبوب والحروث والأنعام وغير ذلك (2) اهـ.
وقال ابن العربي في أحكام القرآن في تفسير الكساد الوارد في الآية الكريمة: والكساد نقصان القيمة (3)
__________
(1) تاج العروس للزبيدي 2/485.
(2) 3/213
(3) 2/896(9/959)
معنى الكساد في الاصطلاح:
الواقع أن المتتبع لأقوال الفقهاء في معنى الكساد يخرج من مطالعاته إلى أن جمهورهم يرى أن المقصود بالكساد انقطاع القيمة فالسكة إذا أبطلها ولي الأمر قالوا عنها بأنها كاسدة، وهذا المعنى لا يتفق مع المعنى اللغوي للكساد بأنه عدم نفاق السلعة أي نقصان قيمتها مع بقاء قيمة لها في الجملة والرضا بتداولها.
قال الكاساني: لو اشترى بفلوس نافقة ثم كسدت قبل القبض انفسخ العقد عند أبي حنيفة رحمه الله.. ولأبي حنيفة أن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمناً؛ لأن ثمنيتها تثبت باصطلاح الناس فإذا ترك الناس التعامل بها عدداً فقد زال عنها صفة الثمن. (1)
وجاء في الدرر السنية سؤال موجه للشيخ عبد الله أبا بطين مفتي الديار النجدية في زمنه: إذا كسدت السلعة بتحريم السلطان لها أو بغيره أو رخصت؟ فأجاب رحمه الله بإجابة مطولة جاء فيها ذكره بعض ما ذكره ناظم المفردات في الكساد ومعناه وحكمه فقال:
والنقد في المبيع حيث عينا وبعد ذا كساده تبينا
نحو الفلوس ثم لا يعامل بها فمنه عندنا لا يقبل بل قيمة الفلوس يوم العقد والقرض أيضاً هكذا في الرد
أي إذا انعقد بنقد معين كدراهم مكسرة أو مغشوشة أو بفلوس ثم حرمها السلطان فمنع المعاملة بها قبل قبض البائع لها لم يلزم البائع قبضها. اهـ المقصود. (2)
هذا النص من الحنابلة: يعني أن الكساد انقطاع القيمة لا نقصها. وهو نص يتفق في مفهومه مع ما ذكره الكاساني من نص يدل على أن الكساد عندهم انقطاع القيمة، وقد فرق بعضهم بين الكساد والانقطاع فوصف الكساد بنقص القيمة إعمالاً لمدلوله اللغوي، قال في الكشاف:
وعلم منه أن الفلوس إن لم يحرمها السلطان وجب رد مثلها غلت أو رخصت أو كسدت (3) اهـ. على أي حال فلا مشاحة في الاصطلاح وإن بعدت العلاقة بين المعنى اللغوي للكساد ومعناه الاصطلاحي عند الفقهاء.
فلدينا في بحث الكساد وأثره في ربط الالتزام بمستوى الأسعار مسألتان:
إحداهما: ما تعلق بالذمة من مال انقطعت ماليته بكساده –على المفهوم الفقهي- وذلك قبل قبضه من المدين.
__________
(1) بدائع الصنائع 5/242.
(2) الدرر السنية 5/108
(3) كشاف القناع 5/258.(9/960)
والثانية: ما تعلق بالذمة من مال لا تزال ماليته قائمة ومعتبرة إلا أن قيمته المالية نقصت قبل قبضه.
أما المسألة الأولى فقد ذكرها الكاساني في بدائع الصنائع فقال: لو اشترى بفلوس نافقة ثم كسدت قبل القبض انفسخ العقد عند أبي حنيفة رحمه الله وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائماً وقيمته أو مثله إن كان هالكاً، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يبطل البيع، والبائع بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ قيمة الفلوس، كما إذا كان الثمن رطباً فانقطع قبل العقد.
ولأبي حنيفة أن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمناً؛ لأن ثمنيتها تثبت باصطلاح الناس، فإذا ترك الناس التعامل بها عدداً فقد زال عنها صفة الثمن ولا بيع بلا ثمن فينفسخ العقد ضرورة (1) اهـ.
ومن هذا يتضح أن الأئمة الثلاثة أبا حنيفة وصاحبيه قد اتفقوا على أن الدائن لا يلزمه قبول المثل، واختلفوا في التطبيق، فأبطل أبو حنيفة البيع لبطلان الثمن، وقال صاحباه بصحة البيع وإعطاء البائع الخيار بين فسخ البيع أو أخذ قيمة الفلوس.
وقد اختلف المالكية رحمهم الله في الثمن المتعلق بالذمة وقد أبطل السلطان التعامل به، هل يرد مثله وقت العقد أو قيمته؟ فالمشهور عندهم رد المثل والقول الآخر رد القيمة. (2)
إلا أنه قد جاء في حاشية قليوبي تقييد الكساد بأن تكون لها قيمة وهذا نص قوله:
ويرد المثل وإن أبطله السلطان إن بقي له قيمة وإلا رد قيمة أقرب وقت إلى الإبطال (3) اهـ.
والشافعية يرون رد المثل ولو أبطل السلطان التعامل بها، قال في الأم:
ومن سلف فلوساً أو درهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي سلف أو باع بها (4) اهـ.
أما الحنابلة فقالوا برد القيمة، قال في زاد المستقنع وشرحه:
وإن كانت الدراهم التي دفع القرض عليها مكسرة أو كان القرض فلوساً فمنع السلطان المعاملة بها أي بالدراهم المكسرة أو الفلوس، فله أي المقرض القيمة وقت القرض؛ لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها وسواء كانت باقية أو استهلكها، وتكون القيمة من غير جنس الدراهم وكذلك المغشوشة إذا حرمها السلطان. (5) اهـ.
__________
(1) 5/242.
(2) انظر حاشية الرهوني 5/221-122؛ والزرقاني على مختصر خليل 5/60.
(3) قليوبي وعميرة 2/259.
(4) الأم 2/33.
(5) الروض المربع وحاشيته للشيخ ابن قاسم 5/42.(9/961)
وقال في كشاف القناع ما نصه:
ولو تغير سعره ولو بنقص ما لم يتعيب ... أو يكن القرض فلوساً أو يكن دراهم مكسورة فيحرمها أي يمنع الناس من المعاملة بها السلطان.. فلا يلزمه قبولها فله أي المقرض القيمة عن الفلوس والمكسرة في هذه الحال وقت القرض سواء كانت باقية أو استهلكها وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيراً، والمغشوشة إذا حرمها السلطان كذلك (1) اهـ.
وذكرها –أعني هذه المسألة- صاحب المفردات على اعتبار أنها من مفردات الإمام أحمد فقال:
والنقد في المبيع حيث عين وبعد ذا كساده تبينا
نحو الفلوس ثم لا يعامل بها فمنه عندنا لا يقبل
بل قيمة الفلوس يوم العقد والقرض أيضاً هكذا في الرد
وقد سبق إيراد النص من الكاساني في البدائع، بأن الإمام أبا حنيفة يبطل العقد ويلزم برد المبيع، وأن صاحبه صححا العقد وأعطيا البائع الخيار بين فسخ البيع أو أخذ قيمة الفلوس، وهذا في جملته من الأئمة الثلاثة أبي حنيفة وصاحبيه يعني أن الدائن لا يلزمه قبول الثمن الكاسد، وكذلك مر بنا أن المشهور في المذهب المالكي أن النقد المتعلق بذمة مدينه وليس له إلا ذلك، ولكن في المذهب قول لبعض فقهائه بلزوم القيمة وقت العقد إذا أبطل السلطان التعامل بذلك النقد، وجرى من الرهوني في حاشيته مناقشة هذا القول (2)
وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله في المغني، المذهب في المسألة والخلاف فيها بين المذاهب الأخرى فقال:
وقال مالك والليث بن سعد والشافعي: ليس له إلا مثل ما أقرضه لأن ذلك ليس بعيب حدث فيها فجرى مجرى نقص سعرها، ولنا أن تحريم السلطان لها منع نفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزائها (3) اهـ.
وبهذا يتضح أن هذه المسألة ليست من مفردات المذهب الحنبلي، وقد ذكر بعض فقهاء المذهب الحنبلي: أن النص عن الإمام أحمد في رد القيمة في حال كساد النقد وارد عنه في القرض، وقد أورد الشيخ عبد الله أبا بطين رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في تعميم الدين على جميع أسبابه وأنه ليس خاصًّا بالقرض فقال صاحب المفردات:
وشيخ الإسلام فتى تيميه قال قياس القرض عن جليه
الطرد في الديون كالصداق وعوض في الخلع والإعتاق
والغصب والصلح عن القصاص ونحو ذا طرًّا بلا اختصاص
قال الشيخ عبد الله أبا بطين: أي قال شيخ الإسلام بحر العلوم أبو العباس تقي الدين ابن تيمية رحمه الله في شرح المحرر: قياس ذلك أي القرض فيما إذا كانت مكسرة أو فلوساً وحرمها السلطان وقلنا برد قيمتها في جميع الديون في بدل التلف والمغصوب مطلقاً، والصداق والفداء والصلح عن القصاص والكتابة انتهى. قال: وجاء في الدين نص حرره الأثرم إذ يحقق يعني قال ابن تيمية: إن الأصحاب إنما ذكروا النص عن أحمد في القرض قال: وكذلك المنصوص عن أحمد في سائر الديون قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل له على رجل دراهم مكسرة أو فلوس فسقطت المكسرة قال يكون له بقيمتها من الذهب (4) اهـ.
__________
(1) كشاف القناع عن متن الإقناع 5/258.
(2) انظر حاشية الرهوني 5/121-122
(3) 6/442 تحقيق الدكتور عبد الله التركي.
(4) الدرر السنية 5/109.(9/962)
وخلاصة القول في هذه المسألة –ما تعلق بالذمة من ثمن كسد- إن المذهبين الحنفي والحنبلي وقولاً في مذهب الإمام مالك يذهبون إلى أن الدائن لا يلزمه قبول الثمن الكاسد، وأن له قيمته وقت العقد، وأبو حنيفة خلافاً لصاحبيه يرى بطلان العقد محل الثمن، وأن المشهور في مذهب الإمام مالك والمذهب الشافعي، أن الدائن يلزمه قبول المثل ولو كسد، ولم نعرف خلافاً في ذلك، ولعل ملحظ الإمام الشافعي رحمه الله وأصحابه، أن الثمن المتعلق بالذمة إن كسد فله قيمة ذاتية في نفسه من ذهب أو فضة أو فلوس فهذه الأثمان من معادن لها قيمة ذاتية في نفسها، وهي تختلف عن العملات الورقية، فالضرر في قبول مثلها يسير، بخلاف العملات الورقية فإبطالها قطع لقيمتها مطلقاً، ولا أظن وجود عالم شافعي ينسب لإمامه الشافعي ومذهبه الشافعي القول ببراءة الذمة في دفع ما تعلق بها مما لا قيمة له كالعملات الورقية بعد إبطالها.
أما المسألة الثانية: وهي ما إذا تعلق في الذمة مال لا تزال ماليته قائمة إلا أنه تعرض لنقص السعر بعد العقد.
هذه المسألة الخلاف فيها بين فقهاء المذاهب قليل حيث اتجه جمهورهم إلى الأخذ بلزوم قبول المثل من المدين وإن رخص سعره، قال الكاساني:
ولو لم تكسد ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجمال وعلى المشتري أن نقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة ههنا؛ لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية (1) اهـ.
وقال أيضاً في باب القرض: ولو لم تكسد ولكنها رخصت أو غلت فعليه رد مثل ما قبض. اهـ.
ونقل ابن عابدين أن الإمام الإسبيجاني في شرح الطحاوي قال:
وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد (2) اهـ.
قلت: "ما ذكره الإسبيجاني من الإجماع غير صحيح، فإن الإمام أبا يوسف له رأي في الفلوس أنها إذا تغير سعرها برخص أو بزيادة فإن المدين بها يرد قيمتها وقت القبض أي قبض الدين. قال ابن عابدين في رسالته تنبيه الرقود على مسائل النقود:
" ... غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولاً: ليس عليه غيرها، وقال الثاني ثانياً: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض وعليه الفتوى" (3) اهـ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5/542.
(2) تنبيه الرقود على مسائل النقود 2/60 من رسائل ابن عابدين.
(3) رسائل ابن عابدين 2/60 و64.(9/963)
وقد ذكر ابن عابدين ما ذكره مثلاً مسكين في حاشيته من التفرقة في رأي أبي يوسف بين الفلوس والنقد من الذهب والفضة، وأن رأيه في لزوم القيمة بالنسبة للفلوس لا يندرج تحت القول بذلك في النقد من الذهب والفضة. واستحسن ابن عابدين هذا التنبيه من صاحب الحاشية. والمتتبع لرأي أبي يوسف لا يجد أنه رحمه الله نص على تخصيص الفلوس دون غيرها من الذهب والفضة.
والعلة التي جعلت الإمام أبا يوسف يقول برد القيمة في الفلوس موجودة في النقد من ذهب أو فضة إذا تغير سعره، حيث إن لكل من نقود الفلوس والذهب والفضة قيمة ذاتية كامنة فيها، والتضرر من نقص سعر الفلوس أو زيادته حاصل في نقص سعر النقد من ذهب أو فضة أو زيادته، فالكل يجتمع في وجود قيمة ذاتية في معدنه، وفي وجود الضرر على الملتزم بها في حال الغلاء، وعلى الدائن بها في حال رخصها، فالتفريق بينها تفريق بين متماثلين، وتقول على صاحب هذا الرأي بما لم يقله. ويصح لنا أن نستعير عبارة جاءت في حاشية الدسوقي على شرح خليل حيث يقول:
ولعله أطلق الفلوس على ما يشمل غيرها نظراً للعرف اهـ. فنقول كذلك لعل أبا يوسف أطلق الفلوس على ما يشمل غيرها نظراً للعرف لا سيما وهو رحمه الله لم يعط غيرها حكماً مغايراً لها، وبهذا يظهر أن المذهب الحنفي المشهور فيه لدى جمهور أهله: أن غلاء السعر ورخصه لا يؤثر على لزوم القبول برد المثل وأن في المذهب قولاً في الفلوس برد القيمة وعليه الفتوى.
أما المالكية فيكادون يجمعون على لزوم قبول الدائن رد المثل في حال غلاء السعر أو رخصه، وقد ورد عن الرهوني في حاشيته استثناء حال الفحش في الغلاء أو الرخص، وفيما يلي نقل شيء من أقوالهم:
جاء في المدونة: قلت: أرأيت لو أن رجلاً قال لرجل أقرضني ديناراً دراهم أو نصف دينار دراهم أو ثلث دينار دراهم فأعطاه الدراهم ما الذي يقضيه في قول مالك؟ قال: يقضيه مثل دراهمه التي أخذ منه رخصت أو غلت فليس عليه إلا مثل الذي أخذ. اهـ.
وجاء فيها أيضاً:
قلت: أرأيت إن أتيت إلى رجل فقلت له: أسلفني درهم فلوس، والفلوس يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم حالت الفلوس ورخصت حتى صارت مائتا فلس بدرهم. قال: إنما يرد مثل ما أخذ ولا يلتفت إلى الزيادة (1) اهـ.
__________
(1) المدونة 8/153.(9/964)
وقال الدردير في شرحه:
إن بطلت فلوس أو دنانير أو دراهم ترتبت لشخص على غيره أي قطع التعامل بها وأولى تغيرها بزيادة أو نقص ولعله أطلق الفلوس على ما يشمله غيرها نظراً للعرف فالمثل، أي فالواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها أو التغير (1) اهـ.
ومثل هذا قال الدسوقي في حاشيته.
وقد جاء في حاشية الرهوني قوله:
قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلة التي علل بها المخالف (2) اهـ.
وهذا الاستثناء الذي نقله الرهوني يعني الأخذ بالقيمة في هذه الحال، وقد ناقش أخونا الكبير الدكتور الصديق الضرير هذه العبارة من الرهوني في بحثه القيم المقدم إلى المجمع، وذكر حفظه الله أن الرهوني يعلق بهذه العبارة على مسألة حكم كساد النقد لا تغير سعره بنقص أو زيادة، ومع احترامنا الكامل فضيلته ودقة نظره إلا أنه يستطيع أن يعيد النظر في العبارة على مسألة حكم كساد النقد لا تغير سعره بنقص أو زيادة، ومع احترامنا الكامل لفضيلته ودقة نظره إلا أنه يستطيع أن يعيد النظر في العبارة وما سبقها ولحقها ليدرك أن الرهوني يذكر قيد القول برد المثل في حال اعتدال التغير أما إذا فحش التغير فيقول بالقيمة، وهذه عبارته رحمه الله: ... وأما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا، وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب. قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه (3) اهـ.
وخلاصة القول في هذا المذهب: أن الدائن ليس له إلا قبول المثل سواء تغير سعر الدين بزيادة أو نقص، وأن الرهوني يقيد ذلك بما إذا لم يكن التغير فاحشاً. والشافعية لا يكادون يختلفون في القول بلزوم قبول الدائن رد المثل ولو زاد السعر أو نقص.. قال السيوطي:
وقد تقرر أن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقاً، فإذا اقترض فيه رطل فلوس فالواجب رد رطل من ذلك الجنس زادت قيمته أو نقصت (4) اهـ.
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشيته 3/40
(2) 5/122
(3) 5/121
(4) قطع المجادلة عند تغير المعاملة 1/97.(9/965)
أما الحنابلة فجمهورهم وهو المذهب لا يعتبرون لنقص السعر أو زيادته أثراً في لزوم قبول رد المثل.. قال ابن قدامة:
قد ذكرنا أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص السعر أو غلا أو كان بحاله، ولو كان ما أقرضه موجودا بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله سواء تغير سعره أو لم يتغير (1) اهـ.
وقال الكشاف:
وإذا كان القرض مثليًّا ورده المقترض بعينه لزم المقرض أخذه ولو تغير سعره ولو بنقص ما لم يتعيب –إلى أن قال- وعلم منه أن الفلوس إن لم يحرمها السلطان وجب رد مثلها غلت أو رخصت أو كسدت (2) اهـ.
تنبيه: يلاحظ أن المصنف عبر هنا عن الكساد بمعناه اللغوي وهو تغير سعر السلعة بنقص خلافا؟ ً لما عليه عامة الفقهاء من التعبير بالكساد عن الانقطاع بتحريم السلطان إياها ولعله يقصد بالكساد هنا الفحش في النقص.
وقال في الروض المربع:
ويرد المقترض المثل أي لأن المثل أقرب شبهاً من القيمة فيجب رد مثل فلوس غلت أو رخصت أو كسدت. اهـ. قال في الحاشية: وهذا مع بقاء المتعامل بها وعدم تحريم السلطان لها عند أكثر الأصحاب؛ لأن علو القيمة ونقصانها لا يسقط المثل عن ذمة المقترض (3) اهـ.
ومما تقدم يتضح أن جمهور الفقهاء يرون لزوم قبول المقرض لمثل قرضه لا سيما في الأثمان إذا لم يبطل السلطان التعامل بها لكن سعرها تغير بزيادة أو نقص.
وأن هناك قولاً بالأخذ بقيمة ما تعلقت به الذمة من ثمن في حال تغير سعره بزيادة أو نقص وإن كان التعامل به باقياً، وهو قول أبي يوسف، وذكر ابن عابدين أنه المفتى به، وذكر الرهوني قولاً لبعض المالكية وقيده بتغير سعره تغيرًّا فاحشاً، وذكر هذا القول الشوكاني في نيل الأوطار فقال:
فائدة: قال في البحر: مسألة الإمام يحيى: لو باع بنقد ثم حرم السلطان التعامل به قبل قبضه فوجهان. يلزم ذلك النقد إذا عقد عليه، والثاني يلزم قيمته إذا صار لكساده كالعرض –انتهى، قال في المنار: وكذلك لو صار كذلك يعني النقد لعارض آخر- اهـ. قلت: قوله لعارض آخر يفهم منه أن النقص الفاحش أو الزيادة الفاحشة موجبة للأخذ بالقيمة قياساً على منع السلطان التعامل بالسكة موضوعة الالتزام. وقد أخذ بهذا القول محققو الحنابلة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ عبد الله أبا بطين والشيخ حسن بن حسين بن علي والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته على الروض المربع ما نصه:
قوله رخصت ... واختار الشيخ –أي شيخ الإسلام ابن تيمية- وابن القيم رد القيمة كما لو حرمها السلطان، وجزم به الشيخ في شرح المحرر فقال: إن أقرضه طعاماً فنقصت قيمته فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصاً فيرجع إلى القيمة وهذا هو العدل، قال عبد الله بن الشيخ محمد هو أقوى –إلى أن قال- وألحق الشيخ سائر الديون بالقرض وتابعه كثير من الأصحاب، وذكره الشيخ منصوص أحمد وأنه سئل عن رجل له على آخر دراهم مكسرة أو فلوس فسقطت المكسرة قال: يكون له قيمتها من الذهب (4) اهـ.
__________
(1) المغني 6/441
(2) كشاف القناع 5/258.
(3) الروض المربع وحاشية ابن قاسم 5/43.
(4) 5/43.(9/966)
وجاء في الدرر السنية:
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا كسدت السكة بتحريم السلطان لها أو تغيره أو رخصت إلخ؟ فأجاب: قد بسط هذه المسألة ناظم المفردات وشارحها فنتحفك بنقل كلامهما ملخصاً –إلى أن قال-:
وقولهم إن الكساد نقصاً فذاك نقص النوع عيب رخصا
قال ونقص النوع ليس يعقل فيما سوى القيمة ذا لا يجهل
وخرج القيمة في المثلي بنقص نوع ليس بالخفي
واختاره وقال عدل ماض خوف انقضاء السعر بالتقاضي
ثم نقل الشارح كلام الشيخ إلى أن قال: إذا أقرضه أو غصبه طعاماً فنقصت قيمته فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصاً فيرجع إلى القيمة وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتمثلان إذا استوت قيمتها وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل.. وذكر رحمه الله أن النقص يوجب العيب ومعناه عيب النوع إذ ليس المراد عيب الشيء المعين فإنه لي هو المستحق وإنما المراد عيب النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا في نقصان قيمتها –إلى أن قال- وأما رخص السعر فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضاً وهو أقوى (1) اهـ. قلت: ويفهم من قول الشيخ عبد الله أبا بطين من قوله وهو أقوى أنه يختار قول الشيخ ابن تيمية.
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين في جواب آخر بعد أن ذكر المذهب في ذلك قال: فالحاصل أن الأصحاب إنما أوجبوا رد قيمة ما ذكرنا في القرض والثمن المعين خاصة فيما إذا منع السلطان التعامل بها فقط، ولم يروا رد القيمة في غير القرض والثمن المعين، وكذا لم يوجبوا رد القيمة والحالة هذه فيما إذا كسدت بغير تحريم السلطان لها ولا فيما إذا غلت أو رخصت، وأما الشيخ تقي الدين فأوجب رد القيمة في القرض والثمن المعين وكذلك سائر الديون فيما إذا كسدت مطلقاً، وكذلك إذا نقصت القيمة فيما ذكروا في جميع المثليات (2) اهـ.
__________
(1) الدرر السنية 5/110
(2) الدرر السنية 5/111(9/967)
وسئل الشيخ حسن بن حسين بن علي آل الشيخ، فاستعرض في إجابته المشهور من المذهب في مسألة نقص السعر وزيادته، وذكر القول الآخر في رد القيمة وأورد في إجابته بعض نظم صاحب المفردات وشرحها ثم قال: وقال الشيخ تقي الدين في شرح المحرر: إذا أقرضه أو غصبه طعاماً فنقصت قيمته فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصاً، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل –إلى أن قال- وكلام الشيخ هذا هو الذي ذكره الناظم عنه تخريجاً له واختياراً فقد عرفت أنه تحصل في المسألة من حيث هي ثلاثة أقوال:
التفريق بين ما إذا حرمها السلطان فبطلت المعاملة بها بالكلية ومثله إن تكسرت أو كسدت فلا يتعامل بها فالقيمة، وبين ما إذا كان غايته الغلاء والرخص مع بقاء المعاملة بحالها فالمثل مطلقاً كما هو المنقول عن مالك والشافعي والليث، وثالثها اختيار أبي العباس وهو المعتمد لدينا في الفتوى (1) اهـ.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله:
قوله: وكذلك المغشوشة، وعندهم أنها مثلية فيكفي ردها لكن فيما إذا وجد نقصاً فإنه يلزمه المثل عندهم وعلى أصل الشيخ –أي شيخ الإسلام ابن تيمية - الظاهر أنه يلزمه القيمة، ثم هذا في القرض ونص عليه أحمد، واختار الشيخ أن هذا يجري في سائر الديون –قال الشيخ أعني الشيخ محمد- وهذا هو الذي ينبغي لما على كل من النقص. اهـ. (2)
وذكر الشيخ عبد الله البسام المسألة والخلاف فيها ثم قال:
واختار الشيخ تقي الدين وشمس الدين ابن القيم وبعض علماء الدعوة النجدية السلفية أن النقد إذا غلا أو رخص أو كسد فإن للدائن القيمة كما لو حرمها ولي الأمر وألحق الشيخ تقي الدين سائر الديون بالقرض وتابعه كثير من الأصحاب. اهـ.
قلت: وقد سألت فضيلة الشيخ عبد الله البسام عن هذا القول فذكر أنه يختاره؛ لأن المثلية لا تتحقق إلا بالقيمة.
__________
(1) الدرر السنية 5/112.
(2) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 7/205(9/968)
وفي ضوء ما تقدم يتضح لنا أن القول بلزوم القيمة في حال الرخص أو الغلاء قول له وجهه من النظر والاعتبار وقد قال به مجموعة من أهل العلم من جميع المذاهب، وذكر ابن عابدين أنه المفتى به في المذهب الحنفي وذكر الشيخ حسن بن حسين آل الشيخ أحد علماء الحنابلة أنه المعتمد لدينا في الفتوى.
وبمزيد من النظر والتأمل والعمق في التصور يتضح لنا أن المثلي لا يتحقق إلا إذا كان مثليًّا من حيث الجوهر والاعتبار، فلا نستطيع أن نعتبر المثلية وقد تخلف عنها بعض عناصر اعتبارها وهو نقص قيمتها، وإن كانت المثلية من حيث الظاهر موجودة فالناس لا يقصدون من تملك الأثمان أعيانها وإنما يقصدون منها قوتها الشرائية، فإذا انخفضت قوتها الشرائية فقد نقصت مثليتها. أرأيت لو أن زيداً من الناس استقر في ذمته لخالد مبلغ من المال ثم بعد ذلك نقصت قيمة هذا المال عند السداد بخمسين في المائة وقد يبلغ النقص أيضاً ألفاً في المائة كما يحصل ذلك في قضايا العملات الورقية المتتابع تدنيها وانخفاضها، كيف نعتبر المثلية في هذا إلا بشيء من النظر الظاهري الموجب للتساؤل والاستغراب ثم الإنكار؟! ولا شك أن القصد الذي حدا بالقائلين بالمثلية دون القيمة هو تلمسهم رحمهم الله البعد عن الظلم، ولكنه مسلك عالج الضرر بضرر مثله فقالوا برفع الظلم عن المدين وسلكوا في تحقيق ذلك ظلم الدائن نفسه وقد يكون العكس في حال الزيادة.. وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن دعوى المثلية فجاء في الدرر السنية ما نصه:
وقال الشيخ تقي الدين في شرح المحرر: إذا أقرضه أو غصبه طعاماً فنقصت قيمته فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصاً فيرجع إلى القيمة وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، فعيب الدين إفلاس المدين وعيب العين المعينة خروجها عن المعتاد (1) اهـ.
وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نتصور في الجانب التطبيقي ثلاث حالات:
إحداها: ما إذا كان تغير السعر بنقص كان في نقد حال الأداء إلا أن المدين به ماطل الدائن في السداد مع القدرة واليسار حتى تغير السعر بنقص قوته الشرائية فهذا المدين يعتبر ظالماً الدائن بمماطلته وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((مطل الغني ظلم)) ، وقوله: ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) فعلى القول بأن المدين يدفع للدائن المثل فإن القائلين بهذا القول قد لا يقولون به في هذه المسألة وإنما يقولون بضمان المدين ما نقص على الدائن على اعتبار أن مطله من باب الغصب.
__________
(1) الدرر السنية 5/110(9/969)
قال في حاشية المدني على كنون:
إذا قبض الناظر ربع الوقف وأخر صرفه عن وقته المشروط صرفه فيه مع إمكانه فتغيرت المعاملة بنقص قال: يضمن النقص في ماله لتعديه بذلك وظلمه والله أعلم. قال عج عقبه: وإذا كان هذا في الناظر مع أنه أمين فأولى المدين قلت ثم رأيت عن المسائل الملقوطة ولله الحمد ما يوجب القطع بما ذكره الوانوغي لكن في حالة خاصة ونصه: مسألة: من عليه طعام فأبى الطالب من قبضه ومكنه المطلوب مراراً حتى إلا الطعام قال مالك: ليس عليه المكيلة وإنما له قيمته (1) اهـ.
وقال في الروض المربع:
وإن نقصت القيمة في المغصوب ضمنها الغاصب لتعديه (2) اهـ.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله:
قال الأصحاب: وما نقص بسعر لم يصمن. أقول: وفي هذا نظر فإن الصحيح أنه يضمن نقص السعر، فكيف يغصب شيئاً يساوي ألفاً وكان مالكه بصدد بيعه بالألف ثم نقص السعر نقصاً فاحشاً فصار يساوي خمسمائة أنه لا يضمن النقص فيرده كما هو! ؟ (3) اهـ.
فالمماطل يعتبر غاصباً بتمنعه ومماطلته السداد، والذي يظهر –والله أعلم- أن أكثر أهل العلم يوجبون على الدائن رد قيمة ما استقر في ذمته من حق حال الأداء ثم تغير السعر بنقص. يستوي في القول بهذا القائلون برد المثل في حال انتفاء التعدي بالمماطلة، والقائلون برد القيمة في حال تغير السعر بنقص مطلقاً، والله أعلم.
الحالة الثانية: ما إذا كان تغير السعر بنقص كان في نقد حال الأداء أو مؤجل السداد إلا أنه لم يكن من المدين به مماطلة في الأداء بعد المطالبة فهذه الحالة وما يندرج تحتها من صور مشمولة بمسألة ما إذا تغير السعر بنقص بعد استقرار الحق في الذمة وقبل السداد وقد تقدم ذكر هذه المسألة والخلاف في الحكم فيها من حيث إلزام الدائن بقبول رد المثل من غير نظر إلى التغير بزيادة أو نقص أو قبول امتناع الدائن من رد المثل ومطالبته بالقيمة.
الحالة الثالثة: ما إذا كان الالتزام بالحق مؤجل السداد ثم بعد حلوله صار من الدائن مماطلة في السداد وقد تغير السعر بنقص قبل حلول الأجل، وبعد حلول الأجل وثبوت المماطلة زاد النقص، فهذه المسألة لها نظران، أحدهما: تغير السعر بنقص قبل حلول الأجل فهذه الصورة من صور الحالة الثانية، والنظر الثاني: زيادة التغير بنقص بعد حلول الأجل وثبوت المماطلة، فهذه الصورة من صور الحالة الأولى فيما يتعلق بزيادة التغير، فعلى القول برد المثل من غير نظر إلى غير السعر بنقص أو زيادة إلا أن يكون ذلك ناتجاً من التعدي في المماطلة فيضمن الدائن مقدار النقص الذي حصل بعد حلول الأجل وثبوت المماطلة.. وأما على القول الآخر برد القيمة فلا فرق بين تغير السعر قبل حلول الأجل أو بعده حيث يلزم المدين أن يدفع للدائن قيمة حقه وقت استقراره في ذمته للدائن.
__________
(1) هامش على حاشية الرهوني 5/121
(2) 5/398.
(3) ج الفتاوي السعدية ص 451.(9/970)
أما حدود التضخم الذي تعتبر به العملات الورقية نقوداً كاسدة فيمكن أن نرجع إلى استذكار ما سبق ذكره في أول البحث من تحديد معنى الكساد. فقد ذكر علماء اللغة في معنى الكساد أنه عدم نفاق السلع في الأسواق، ونفاق السلع في الأسواق غلاؤها والرغبة فيها، وهذا يعني أن الكساد رخص السلع وعدم الرغبة فيها مع بقاء قيمة لها في الجملة، وقد اتجه جمهور الفقهاء إلى الأخذ بأن الكساد انقطاع القيمة، وقال بعضهم بالمفهوم اللغوي للكساد نقص القيمة مع بقائها من حيث الجملة، ويمكن أن نحدد الكساد: بأنه نقص السعر نقصاً فاحشاً بغض النظر عن بقاء التعامل به أو انقطاعه طبقاً للتعبير الذي ذكره الرهوني في حاشيته: حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه.
فهل يعتبر التضخم الاقتصادي من الجوائح المضمونة حيث إن المدين قد انتفع ببدل الدين عليه انتفاعاً سالماً من أثر التضخم ثم حصل النقص الفاحش على الدائن في حال حبس دينه عند المدين وعجزه عن التصرف فيه بما ينقذه تضرره بالتضخم؟ على أي حال فإن اعتبرنا الأضرار الناتجة في التضخم شبيهة بالجوائح فقد ذكر العلماء رحمهم الله في تقدير الجائحة قولين وهما روايتان عن الإمام إحداهما أنه لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها فمتى حصل النقص اعتبر جائحة وقد استدرك على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:
وعلى الرواية الأولى يقال: الفرق مرجعه إلى العادة.
والرواية الثانية: أن الجائحة الثلث فما زاد، كما قدرت به الوصية والنذر ومواضع في الجراح وغير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الثلث والثلث كثير)) . (1)
وخلاصة القول في هذا البحث أن بعض أهل العلم ذهبوا إلى وجوب قبول رد المثل لنقد جرى الالتزام به ثم أبطل السلطان التعامل به قبل قبضه، وذهب محققوهم إلى إلزام المدين برد القيمة، كما ذهب جمهورهم إلى القول بوجوب قبول رد المثل في حال تغير السعر بنقص أو زيادة بعد الالتزام، ولو بقي التعامل به، وذهب محققوهم كذلك إلى القول بإلزام المدين برد القيمة من غير نظر إلى مقدار النقص أو زيادته، وتوسط بعضهم فقال بإلزام المدين برد القيمة في حال تغير السعر بنقص فاحش حيث يكون القابض له كالقابض لما لا كبير منفعة فيه. ثم اختلفوا في تقدير الفحش في النقص فقال بعضهم: إن ذلك راجع إلى العرف والعادة. وقال بعضهم: إن ذلك مقدر بالثلث فما زاد.
وأحب أن أختم بحثي بالوقفات التالية لعل فيها ما يمكن أن يعتبر إكمالاً للبحث.
__________
(1) مجموع الفتاوى الكبرى ج30 ص 279(9/971)
الوقفة الأولى:
لا شك أن فقهاء المذاهب الأقدمين ومتأخريهم لم يكن لهم عهد بالنقود الورقية حيث إن الأثمان عندهم من الذهب والفضة والعملات المعدنية مما يسمونها فلوساً، ولا يخفى ما بين أجناس النقود الورقية وأجناس النقود المعدنية من فرق حيث إن النقد الورقي لا قيمة له في ذاته وإنما قيمته الثمنية في أمر خارج عن ذاته، فمتى بطل التعامل به انعدمت قيمته انعداماً كاملاً بخلاف النقد المعدني فلئن كان له قيمة ثمنية في اعتباره ثمناً فإن في ذاته قيمة معتبرة كجزء من مادة معدنه، ولهذا قال جمهورهم بلزوم قبول رد المثل منه ولو أبطل السلطان التعامل به؛ لأن الضرر بأخذه قد يكون يسيراً لوجود القيمة الذاتية فيه نفسه، ولو كانت النقود الورقية موجودة في عصور فقهائنا الأقدمين لما قال أحد منهم بقبول ردها ولو أبطلها السلطان، كيف وقد كان من بعضهم القول برد القيمة في حال تغير السعر بنقص أو زيادة مع بقاء التعامل بها ووجود قيمة ذاتية فيها؟
ولهذا أرى أن الاحتجاج من فقهائنا المعاصرين على القول بلزوم قبول رد المثل بما عليه فقهاؤنا الأقدمون احتجاج في غير محله وتقويل لهم بما لم يقولوه. والله أعلم.
الوقفة الثانية:
جاء في البحث القيم الذي قدمه فضيلة البروفيسور الصديق الضرير لمجمع الفقه الإسلامي بجدة في الصفحة الرابعة منه أن القول بربط القرض بمستوى الأسعار يؤدي حتماً في حال ارتفاع الأسعار إلى أن يدفع المقترض إلى المقرض أكثر مما أخذ منه وهذا ربا (1)
وتعليقي على هذا القول بأنه ربا، هذا القول غير صحيح. فلئن كان زيادة في الظاهر فهو في حقيقة الأمر وباطنه ليس زيادة وإنما هو التماثل في قدر الالتزام والحق الموجب له، فقد أخذ الدائن وقت الالتزام هذا القدر فلا بد أن يؤديه كما أخذه قدراً. وعليه فإن روح النصوص ومقاصدها لا تنطبق على هذا القول ولا تسعفه بتأييد، والملحظ الذي لحظه فضيلة أخينا الكريم الدكتور الصديق وهو الجانب الشكلي للتقاضي الذي وصفه بالربا، هذا الملحظ لحظه غيره من القائلين برد القيمة وقالوا: وله الطلب بقيمة ذلك يوم القرض وتكون من غير جنس النقد إن أفضى إلى ربا الفضل فإذا كان دراهم أعطى دنانير وبالعكس لئلا يؤدي إلى الربا (2)
__________
(1) البحث ص 4
(2) الدرر السنية 5/108(9/972)
الوقفة الثالثة:
جاء في بحث شيخنا الصديق في معرض رده القول بالقيمة أن المقرض في حال إعطائه حق المطالبة بقيمة قرضه يوم القرض بعد أن تغيرت قوته الشرائية بانخفاض، قال حفظه الله ما معناه: بأن المقترض سيتضرر من هذا التقاضي أكثر من تضرره بالمراباة مع المرابين، وسيجد المقترض من هذا الطريق جانباً استثماريًّا قد لا يجد ربحيته به في طرق الاستثمار المباحة.
هذا القول يحتاج إلى من فضيلته إلى إعادة نظر فهل يعتبر مقرض أقرض أخاه السوداني مثلاً مليون جنيه سوداني في وقت كانت قيمة المليون الجنيه عشرة آلاف دولار ثم كانت قيمة المليون الجنيه وقت السداد ألفي دولار هل يعتبر هذا المقرض حينما نحكم له بقيمة قرضه وقت القرض وهو عشرة آلاف دولار هل يعتبر رابحاً وقد أخذ قدر قرضه من غير زيادة ولا نقصان؟ وما هي ربحيته في هذا الصنيع؟ وإذا قلنا: ليس للمقرض إلا مثل ما أقرضه فأين المثلية في ذلك وقد نقص عليه لتحقيق المثلية خمسمائة في المائة؟ فالمثلية الشكلية لا قيمة لها ولا اعتبار إذا تخلفت عنها المثلية الجوهرية فالنقود لا تقصد لذاتها وإنما يقصد منها ما تحققه من قوة شرائية.
الوقفة الرابعة:
وبعد ففي بحث شيخنا الفاضل الدكتور الصديق العزيز ما يستدعي أكثر من وقفة ولكنها تزول إن شاء الله إذا أعاد شيخنا الكريم نظره في معنى المثلية التي يتمسك بظاهرها دون النظر إلى حقيقتها وباطن أمرها. فالاعتبار بمآل الأمور وحقائقها. ولعل أحداً من الإخوة يعترض على تعرضي لبحث شيخنا دون غيره ومع احترامي لجميع إخوتي الباحثين في هذا الموضوع والمتجهين في بحوثهم إلى ما اتجه إليه الشيخ فإن للشيخ عندي مكانة متميزة من حيث تقاه وورعه ودقة نظره ومراجعته الحق دون الأخذ بأي اعتبار مع احترامي الكامل لإخوتي الأعزاء واعترافي بما يتمتعون به من صلاح وتقى وحب للعلم والحرص على تحصيله وفقني الله وإياهم لما يحبه ويرضاه والله المستعان.
وفي ختام بحثي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع الكلمة على ما يتحقق به العدل والنصف ونفي الضرر عن الدائن والمدين فلا ضرر ولا ضرار. والله من وراء القصد، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع(9/973)
أهم مراجع البحث
1- القرآن الكريم
2- تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي
3- أحكام القرآن لابن العربي
4- نيل الأوطار للشوكاني
5- بدائع الصنائع للكاساني
6- حاشية ابن عابدين
7- تنبيه الرقود في مسائل النقود –رسائل ابن عابدين
8- المدونة الكبرى
9- الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي
10- الزرقاني على مختصر خليل
11- حاشية الرهوني
12- حاشية ابن المدني
13- قطع المجادلة عند تغير المعاملة للسيوطي
14- الأم للشافعي
15- المغني لابن قدامة
16- كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي
17- الروض المربع ومعه حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم
18- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
19- الدرر السنية في الأجوبة النجدية جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم
20- فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم
21- الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن سعدي
22- الاختيارات الجلية في المسائل الخلافية للشيخ عبد الله البسام
23- القاموس المحيط
24- تاج العروس
25- لسان العرب(9/974)
أثر التضخم والكساد
في الحقوق والالتزامات الآجلة
وموقف الفقه الإسلامي منه
إعداد
الدكتور علي محيي الدين القره داغي
الأستاذ بكلية الشريعة
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.. وبعد:
فلا شك أن النقود تعتبر العمود الفقري للاقتصاد العالمي اليوم، فهي الوسيلة للتداول والتقويم، والمعيار للسلع والبضائع، ومن خلالها تعرف قوة الدولة الاقتصادية، أو ضعفها..
وحينما كانت النقود معدنية (ذهباً وفضة) لم تكن هناك المشاكل التي يعاني منها العالم اليوم سواء كانت على مستوى الأفراد، أم على مستوى الحكومات؛ وذلك لأنها كانت تحمل في طياتها قيمتها حتى لو ألغيت قيمتها النقدية لظلت لها قيمتها الذاتية كمعدن نفيس يستعمل في التزيين وغيره، أما نقودنا الورقية لو ألغيت، أو انهارت لم تبق لها أي قيمة تذكر، بل حتى لا يستفاد منها كورق يستعمل للكتابة ونحوها..
وخلال مسيرة النقود الورقية حدثت أزمات اقتصادية عالمية، ومشاكل كبرى كان لها دورها الكبير فيها، وخسر معها الكثيرون، بل تحول الغني فقيراً في كثير من الأحوال، ومن سوء الحظ أن نصيب العالم الإسلامي من التضخم وانهيار النقود كان كبيراً فالليرة اللبنانية كانت في عام 1970م تساوي نصف دولار تقريباً، واليوم يساوي ألف وخمسمائة منها دولاراً واحداً، والليرة التركية نسبة التضخم فيها أكثر من ثلاثين مرة خلال 15 سنة، وكذلك الليرة السورية، والجنيه السوداني، وأما الدينار العراقي فكان سعره الرسمي عام 1990م (قبل الاحتلال) يساوي أكثر من ثلاثة دولارات، حيث الدولار يساوي (310 فلساً) أما اليوم فالدولار الواحد يساوي ألفاً وخمسمائة دينار.(9/975)
فعلى سبيل المثال (حتى تتضح الصورة) كان الشخص الذي يملك 30.000 دينار عراقي عام 1990م كان غنيًّا حيث كان يساوي أكثر من 90.000 دولار، وكان بإمكانه أن يشتري به منزلاً وسيارة، أما اليوم فهو يساوي عشرين دولاراً فقط، وهو لا يكفي لاستضافة شخصين من الأكل العادي.
وأمام هذه الهزات العنيفة للنقود الورقية، والمشاكل الكبرى التي تحدث بين حين وآخر حاول مجمع الفقه الموقر التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي الوصول إلى حلول ناجعة لحماية أصحاب الحقوق منذ فترة مبكرة، ولخطورة الموضوع ظلت هذه المسألة تناقش في المجمع الموقر عدة مرات في دورته الخامسة، ثم السادسة والسابعة والثامنة، وقد كان القرار الصادر الذي صدر من المجمع الموقر في دورته الخامسة والذي ينص على مثلية النقود.. قراراً صدر بالأكثرية، ولم يكن بالإجماع، ولذلك ظل مثار نقاش وعرض وطلب، حيث قدمت مذكرة إلى مجمع الفقه في دورته السادسة، وهكذا..
وفي هذه الدورة التاسعة للمجمع الموقر تناقش قضيتان هما روح المشكلة وجوهرها وأساسها، وأما وجوب الزكاة في النقود، وجريان الربا فيها فمحل إجماع بين جميع العلماء المعتمدين المعاصرين.
وبناء على طلب الأمين العام لمجمع الفقه الموقر سعادة الشيخ الجليل الأستاذ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، وحرصه الشديد على الوصول إلى الحق أو القريب منه (إن شاء الله) استجبت لهذا الطلب لنعرض الموضوع من هذه الزاوية فقط دون الخوض في تفصيلات قد لا تخدم القضية، ولا سيما أنني قد درست في السابق هذا الموضوع في أكثر من بحث وكتاب..
وغرض الجميع هو الوصول إلى الحق، وخدمة الإسلام، والله نسأل أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا من الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل..(9/976)
بسم الله الرحمن الرحيم
التعريف بالتضخم والكساد:
التضخم في اللغة مصدر باب تفعل يعني قبول الشيء للضخامة، وجاء في معظم الوسيط "ضخم-بضم الخاء-ضخامة: عظم وغلظ..، التضخم: (في الاقتصاد) زيادة النقود، أو وسائل الدفع الأخرى على حاجة المعاملات" (مج) . (1)
وفي الاقتصاد الحديث نرى أن أولى النظريات التي حاولت تفسير التضخم وربطه بالنقود هي نظرية البروفيسور (إفنج فشر) في مطلع القرن الحالي، حيث ربطت بين كمية النقود في المجتمع، وسرعة تداول النقود، وحجم الناتج القومي، والمستوى العام للأسعار (2) وذلك بأن تصدر الدولة قدراً زائداً من النقود الورقية لتغطية بعض نفقاتها حينما لا تكفي الموارد العادية لذلك، وهذا يعني وجود عجز بسبب عدم كفاية الموارد الاقتصادية لتغطية النفقات العامة، وهذا المعنى ينشغل به علم المالية العامة، بينما ينشغل علم الاقتصاد السياسي بالتضخم من ناحية ارتفاع متواصل للأسعار بسبب زيادة الطلب فيؤدي إلى إصدار النقود بكميات أكبر (3)
غير أن هذه النظرية قد وجهت إليها عدة انتقادات؛ لأنها تقوم على علاقة ميكانيكية لتأثير التغير في كمية النقود على مستوى الأسعار في الاقتصاد القومي مع أن هذا التلازم بينهما غير مسلم، حيث قد ترتفع الأسعار لأسباب لا دخل لتغير كمية النقود فيها، لذلك لا يمكن أن ينظر فيها على أنها ظاهرة نقدية بحتة (4) فالمشكلة أكبر من أن تكون أحادية الظاهرة والسبب والتفسير، فهي متعددة الأبعاد، وأسبابها تتوزع على الجوانب النقدية والاجتماعية والدولية، وهيكلة النظام الرأسمالي، ولكن آثار هذه المشكلة تظهر مباشرة على النقود من حيث القوة والضعف والقدرة الشرائية، فتزداد الأسعار زيادة كبيرة تستتبعها زيادة مماثلة في الأجور وزيادة نفقات الإنتاج وخفض معدل الربح.
ومن جانب آخر فإنه قد يكون هناك فعلاً تضخم، ولكن الدولة تتدخل فتمنع زيادة الأسعار من خلال الدعم ونحوه، أو يسمى هذا النوع التضخم المكبوت.
__________
(1) المعجم الوسيط، ط. قطر (1/536) ويراجع القاموس المحيط، ولسان العرب، مادة "تضخم".
(2) إفنج فشر: كتابه حول قوة النقود، ط. نيويورك 1911 ص 8 المشار إليه في: د. محمود عبد الفضيل، مشكلة التضخم في الاقتصاد العربي، ط. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص 12.
(3) د. محمود عبد الفضيل: المرجع السابق، ص 12
(4) د. محمد خالد الحريري: قضايا اقتصادية معاصرة، ط. دمشق، ص 28.(9/977)
أسباب التضخم:
ودراستنا هذه وإن لم تكن مخصصة لبيان أسباب التضخم ومعالمه، وكيفية علاجه، ولكننا نوجز القول في هذه المسائل حتى تكون على تصور متكامل للوصول إلى حكم مناسب؛ لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره.
فللتضخم أسباب كثيرة يمكن حصرها في تطبيق النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يعيش منذ عدة عقود أزمة هيكلية حادة أدت إلى تدهور معدلات النمو الاقتصادي، وتعايش البطالة مع التضخم، وتزايد العجز في موازين المدفوعات، وركود التجارة الدولية، وانهيار نظام النقد الدولي، وبروز أزمة الطاقة، وتفاقم مشكلة الديون الخارجية وتقلبات أسعار المواد الاستهلاكية والإنتاجية، وتقلبات الإنتاج نفسه والعجز في ميزان المدفوعات، وارتفاع المديونية الخارجية الأمريكية لتصل على سبيل المثال في عام 1980 م إلى رقم 175 مليار دولار.
كما أن نظام النقد الدولي الحالي يتحمل كثيراً من أسباب هذا التضخم، وذلك لأن النظام النقدي الدولي الحالي قد أرسيت دعائمه في اتفاقية بريتون وودز عام1944 م على أساس المشروع الأمريكي الذي قدمه ريتشارد هوايت مندوب أمريكا بعد أن فشل مشروع اللورد كينز، واستطاعت أمريكا أن تلعب دور القائد في صياغة نظام النقد الدولي الجديد، وتجديد قواعد اللعبة فيه طبقاً لمصالحها الخاصة، نظراً لما كانت عليه حينئذ من قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية حيث كانت الدولة الأولى إضافة إلى أنها كانت تملك 5/4 من حجم الذهب في العالم، لذلك تمكنت من أن تجعل الدولار العملة الدولية في النظام في مقابل التزامها بقابلية تحويله إلى ذهب على أساس 35 دولاراً للأوقية من الذهب الخالص دون أية عوائق، وذلك اكتسب الدولار ميزة لم تتحقق لغيره من العملات حيث أصبح الدولار الورقي يعني الذهب الخالص، حتى حرصت البنوك المركزية في مختلف دول العالم على اقتنائه ضمن احتياطياتها النقدية جنباً إلى جنب مع الذهب، بل إن حيازته تجلب لحائزه دخلاً في صورة فائدة ما كانت تعطى على الذهب، وهكذا غدا الدولار الورقي هو الصورة الرئيسية المجسدة للاحتياطيات الدولية في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. (1)
__________
(1) د. رمزي زكي: ص 74(9/978)
وكانت اتفاقية بريتون وودز تتجه إلى تحقيق هدفين:
1- تحديد قابلية العملات للتحويل على أساس الذهب.
2- عدم لجوء أية دولة عضو إلى تخفيض سعر الصرف إلا بعد موافقة الصندوق.
والخلاصة: أن النظام النقدي الدولي قد صيغ بما يضمن مصالح أمريكا، وأصبح يتوقف استقراره على الطريقة التي تحدد بها أمريكا سياستها النقدية وأحوالها الاقتصادية، أو على حد قول ميلتون فريد مان: " أنه في ظل النظام القائم على الدولار.. تتحدد السياسات النقدية في العالم بالسياسة النقدية التي يرسمها بنك الاحتياط الفيدرالي في واشنطون" (1)
ولذلك لما أصبحت أمريكا عاجزة عن توفير الغطاء الذهبي للدولار أعلن الرئيس الأمريكي نيكسون في أغسطس عام 1971 م إيقاف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، وهكذا، وبقرار منفرد سقطت أهم دعامة كان يقوم عليها نظام بريتون وودز، حيث تلاه تخفيض في الدولار في عام 1971 م نفسه، فتلاه الإفراط في حجم السيولة النقدية، بل ظهرت السوق الأوربية للدولارات التي بلغ حجم الموارد التي استخدمت في هذه السوق عام 1980 م حوالي 575 بليون دولار، حيث أصبحت أحد مصادر التضخم العالمي، وعائقاً ضد السياسات النقدية الداخلية التي تستهدف محاربة التضخم، إضافة إلى العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي.
ثم انعكست آثار هذا التضخم على معظم البلاد الإسلامية (والعالم الثالث) بسبب تبعيتها اقتصاديًّا للنظام الرأسمالي العالمي حتى ولو كانت بعض هذه الدول لها مواردها الكثيرة فإن ظاهرة التضخم تعتبر أحد المحاور الهامة التي يستند إليها الاقتصاد الرأسمالي الغربي في نهب خيرات بلادنا، وزيادة في تخلفها وتعميق تبعيتها (2)
__________
(1) د. رمزي زكي: المرجع السابق، ص 76، ود. إسماعيل صبري عبد الله: بحثه المقدم إلى المؤتمر العلمي السنوي التاسع للاقتصاديين المصريين، القاهرة 1984 م بعنوان: انهيار نظام بريتون وودز والامبريالية النقدية الأمريكية.
(2) د. رمزي زكي: التضخم المستورد، ط. دار المستقبل العربي 1986 ص 7،8؛ ود. هشام مهروسة: بحثه في: الأزمة الراهنة والوجه الآخر المنشور في: دراسات عربية العدد 3 ص 21(9/979)
ويمكن أن نفصل أسباب التضخم في بلادنا حيث إنها تعود إلى ما يأتي:
1- الحروب الطاحنة التي وقعت في العالم الإسلامي التي أكلت الأخضر واليابس، وحطمت البنية الاقتصادية من أساسها، كما في الصومال، ولبنان وأفغانستان وغيرها، بل إن الحرب الخليجية الأولى (بين إيران والعراق لمدة ثماني سنوات) والثانية (الاحتلال العراقي للكويت، وما تبع ذلك) قد كلفت المسلمين تريلون وأربعمائة مليار دولار، كما في بعض الإحصائيات الأخيرة، ولذلك انهارت نقود هذه الدولة انهياراً كاملاً.
2- قلة الإنتاج، أو عدمه في بعض الأحيان، حيث تدهورت معدلات نمو الإنتاجية على مستوى العالم الرأسمالي وغيره، منذ عام 1973 م، وقد نوقش أسباب هذا التدهور أو الانخفاض الحادث في نمو الإنتاجية في الاجتماع الدولي الذي عقده خبراء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في عام 1980 م، وتوصلوا إلى رصد أهم العوامل الكامنة وراء هذه الظاهرة، وهي:
أ- الانخفاض الذي حدث في مجالات أبحاث التطوير.
ب- انخفاض معدلات التكوين الرأسمالي.
ج- التضخم المرتفع، وبالذات بعد ارتفاع أسعار مواد الطاقة.
د- التغيرات التي حدثت في هيكل العمالة.
والإنتاج في عالمنا الإسلامي قد تدهور ولا سيما الإنتاج الزراعي والصناعي حتى أصبح يستورد أكثر من 70? على الرغم من كل هذه المواد الخام التي حبانا الله تعالى بها.
3- تناقص معدل الربح بشكل كبير.
4- تدهور معدلات استغلال الطاقة الإنتاجية، حيث تؤكد البيانات إلى الانخفاض، بل إلى أن الطاقات العاطلة هي ظاهرة ذات حجم كبير حتى وصلت نسبتها في 1983 م إلى أكثر من ربع الطاقات القصوى الممكنة في قطاع الصناعات التحويلية في كل من كندا وفرنسا والنرويج، في حين وصلت إلى حوالي 20? في أمريكا وبريطانيا (1)
__________
(1) د. رمزي زكي: المرجع السابق، صـ26، وقد سرد جداول وبيانات معتمدة.(9/980)
أما في عالمنا الإسلامي فإن معدلات الطاقة الإنتاجية لمصانعه –على الرغم من أن دورها لا يتجاوز التجميع- تكاد تكون منهارة في كثير من البلاد والأحيان.
5- الاستهلاك الحكومي والنفقات الباهظة في عالمنا الإسلامي دون ما يقابله من الإنتاج والنمو الاقتصادي المطلوب.
6- الديون الخارجية وفوائدها وخدماتها الباهظة مع عدم استغلالها الاستغلال المطلوب، فقد بلغت في بعض الدول عشرات المليارات.
7- زيادة إصدار أوراق البنكنوت، وتخفيض سعر الصرف للعملة الوطنية، وتدخل صندوق النقد الدولي في هذا المجال.
8- زيادة العجز في ميزان المدفوعات بسبب اتساع الفجوة بين الموارد المحلية، والاستيراد الخارجي، ويكفي أن نشير إلى أن نسبة العجز قد تصل في بعض الدول إلى 94? في عام 1982م.
9- ارتفاع الاستيراد، وقلة التصدير.
10- قلة الادخارات اللازمة للتوسع المستمر في الأعمال فأصبح التمويل يتم عن طرق التضخم. (1)
11- التضخم المستورد: وعلى الرغم من الأسباب الداخلية للتضخم، فإن للتضخم العالمي وبالأخص الغربي تأثيراً على الاقتصاد القومي في العالم الإسلامي، وبالأخص الدولة المصدرة للبترول، فقد أثبتت الدراسات العلمية أن ظاهرة التضخم بالبلاد الإسلامية المصدرة للبترول يعود الجزء الأكبر منها إلى تأثير العوامل الخارجية، وأن تأثيره في هذه البلاد أكثر من تأثيره على البلاد غير النفطية، فالتضخم المستورد قد ساهم في عام 1979م بحوالي 10? في التضخم في السودان وبين 14 و37? في مصر، وبأقل من 20? في سوريا، في حين ساهم التضخم المستورد بنحو 278? في السعودية، و82? في الكويت و64? في قطر وبنحو 892? في ليبيا (2)
__________
(1) يراجع: د. رمزي زكي، المرجع السابق، صـ 196، ود. محمد الحريري، المرجع السابق، صـ26.
(2) علي توفيق الصادق: العوامل الخارجية في إحداث ظاهرة التضخم في البلاد العربية، بحث مقدم إلى اجتماع خبراء التضخم في العالم العربي الذي عقد بالمعهد العربي للتخطيط بالكويت الذي عقد في الفترة من 16-18 مارس 1985م.(9/981)
آثار التضخم: ثم ومن المتضرر؟!:
لا شك أن المتضرر الأول على مستوى الدول: هي الدول النامية (العالم الثالث) ونحن لا نتحدث عن هذا الجانب، وإنما نتحدث عن آثار التضخم على الأفراد. فالمتضررون هم:
أولاً: أصحاب الدخول الثابتة مثل الموظفين والعمال ومستحقي الإعانات ونحوهم.
وثانياً: مؤجرو الدور والمحلات والعمارات ونحوها.
ثالثاً: أصحاب الديون المؤجلة الذي تتآكل حقوقهم بسبب التضخم، فيخرجون بلا شيء يذكر مع مرور السنوات على ديونهم.
فهؤلاء الأصناف يتضررون أكثر من غيرهم، وإلا فجميع أفراد الشعب متضررون بسبب ارتفاع الأسعار وانتقاص قيمة النقود، وانهيارها وتدهورها (1)
وأن أهم آثار التضخم إضافة إلى ما ذكر تكمن فيما يأتي:
أولاً: يؤدي التضخم إلى إعادة توزيع الدخل فرديًّا وقوميًّا بصورة عشوائية وتنتفي معه أسس العدالة، أو تتضاءل، وفي تقرير لوزارة التخطيط المصرية جاء فيه: " أن التضخم قد أدى إلى امتصاص القوة الشرائية من الطبقات ذات الدخل الثابت وتحويلها في صورة أرباح وفوائد لدى كبار التجار، وذوي الدخل غير الثابت.. وأن أخطر مضاعفات التضخم هو أن القوة الشرائية لدى الجماهير العريضة قد تم امتصاصها بالفعل، وأن توزيع الدخل القومي أصبح لغير صالح هذه الطبقات" (2)
ثانيًّا: يؤدي التضخم إلى تخفيض حجم المدخرات الاختيارية الممكنة في ظل استقرار النقود، كما أنه سيؤدي إلى سوء استخدام المدخرات الإجبارية مما يؤثر في معدل النمو الاقتصادي وبالأخص في ظل أوضاع البلدان النامية.
ثالثاً: يؤدي التضخم إلى التأثير السلبي على الاستثمار وأنماطه، واتجاه المستثمرين إلى الامتناع عن الاستثمار الداخلي، والتوجه نحو الاستثمار في الدول التي تتمتع نقودها بنوع الاستقرار.
وحينئذ يكون الخاسر في هذه المعادلة هو الدول النامية. (3)
__________
(1) يراجع: د. موسى آدم عيسى، آثار التغيرات في قيمة النقود، ط. دلة البركة، صـ 221.
(2) الخطة الخمسية 1978-1982م الجزء الأول: الاستراتيجية العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، إصدار وزارة التخطيط بالقاهرة صـ1-8، ويراجع المتغيرات الاقتصادية الكلية في الاقتصاد القومي 64/65 –1975م، إصدار وزارة التخطيط بالقاهرة عام 1978م، ويراجع أيضاً، د. محمود عبد الفضيل: المرجع السابق صـ 80.
(3) د. موسى آدم: المرجع السابق، صـ241..، والمراجع السابقة.(9/982)
رابعاً: يلعب التضخم دوراً كبيراً في التغيرات الاجتماعية ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب، بل على صعيد الأبعاد الاجتماعية من حيث التمايز الاجتماعي، والتغير في القيم والمثل العليا، وتكوين الطبقات، والتأثير على الشرائح المتوسطة التي هي كانت أكثر عدداً لتقل بسبب التآكل المطرد في مستويات معيشتها، وتلتحق معظمها بالطبقة الفقيرة أو المعدمة، مما يهدد بأزمة حادة تمس جوهر الاستقرار والسلام الاجتماعي.
كما أنه بسبب التضخم (وأسباب أخرى) انتشر في ظله الرشوة والفساد الاجتماعي والإداري، وتدهور قيمة العمل والإنتاج، والنمط الاستهلاكي الترفي والتضخمي (1)
الكساد:
الكساد: فهو مصدر "كسد الشيء كساداً وكسوداً، أي لم يرج، لقلة الرغبة فيه، فهو كاسد، ويقال: كسدت السوق أي لم تنفق فهي كاسد، وكاسدة، ويقال: سلعة كاسدة " (2)
وفي الاصطلاح يقصد بالكساد الانخفاض في مستوى الأسعار بحيث يصل إلى مرحلة خطيرة.
فالكساد هو آخر مرحلة الانكماش الذي يعني انخفاض المستوى العام للأسعار، وارتفاع قيمة النقود، ولقد شهد العالم أسوأ صورة للكساد في الفترة ما بين (1929-1933م) .
وكل من الانكماش والكساد له آثار كبيرة على توزيع الدخل القومي، والثروة القومية، ويتضرر به أرباب الأعمال، والمدينون بديون مؤجلة سابقة بصورة خاصة، كما أنه يؤدي إلى انتشار البطالة وعدم وجود فرص للتوظيف، فمثلاً بلغ عدد العمال العاطلين عام 1933م في أمريكا وحدها ثلاثة عشر مليوناً أي حوالي 25? من حجم القوى العاملة (3)
__________
(1) د. محمود عبد الفضيل: المرجع السابق (16/90000)
(2) د. موسى آدم عيسى: المرجع السابق صـ 257.
(3) وليم جاك، ولسترفونن جاندلر: علم الاقتصاد، العمليات والسياسات الاقتصادية، ترجمة سعيد السامراتي وآخرين، ط. دار المثنى ببغداد 1/119(9/983)
كيف العلاج؟ وما موقف الفقه الإسلامي؟
والخلاصة أن أضرار التضخم والانكماش كبيرة جدًّا على الفرد والمجتمع، والدولة، وأن علاجهما يحتاج إلى خطة طموحة محكمة، واستراتيجية بعيدة المدى تتوافر فيها كل عناصر النجاح من حيث التنظير والعمل والإخلاص.
وإذا كان تطبيق ذلك ليس بأيدينا، بل يحتاج إلى سياسات دولة اقتصادية ناجحة تشترك فيها جميع الدول المؤثرة، وإن كنا نتمناه، فهل يعني ذلك أن نترك علاج الواقع لما بعد عشرات السنين؟ وهل نقول لهؤلاء الذين لهم حقوق والتزامات: عليكم بالصبر إلى ذلك الأجل؟ أو نقول لهم: إن النقود مثلية، فعليكم بأخذ نقودكم التي ثبتت لكم منذ سنوات والتي كانت لها القيمة.. فعليكم أن تأخذوا مثلها من الأوراق التي لم تبق لها قيمة تذكر؟
والذي أراه واجباً على أهل العلم النظر والاجتهاد أن ينظروا في هذه المسألة نظرة واقعية واعية فيجدوا لها حلًّا للأمور اليومية مع الحث على إيجاد حل دائم بعيد المدى.
إن استقرار النظام النقدي شرط أساسي لإقامة نظام اقتصادي إسلامي، وأنه هدف لا غنى عنه، حيث دلت الآيات والأحاديث الكثيرة على ذلك وأكدت بوضوح على وجوب رعاية المكاييل والموازين بكل عدالة وقسط، ومن المعلوم أن هذه الموازين ليست لوزن الأمور المادية فقط، وإنما هي مقاييس للقيمة.
وحينما يوجد التضخم فإنه يعني أن النقود لم تعد قادرة أن تكون مقياساً عادلاً، بل هو مقياس غير عادل يؤدي إلى عدم التوازن.
يقول الدكتور محمد عمر شابرا: "فإن التضخم يتعارض مع الاقتصادي الخالي من الربا، أنه يأكل بالتدريج سبب وجوده المتمثل في تحقيق العدالة الاجتماعية، ومع أن الإسلام يحث على إنصاف المقترض، فإنه لا يوافق على ظلم المقرض، والتضخم بلا شك يظلم المقرض في نطاق النظام الاقتصادي اللاربوي، وذلك من خلال التآكل التدريجي للقيمة الحقيقية للقرض الحسن الذي يقدم دون أي فائدة، أو حصة في الربح" (1)
ونحن نقترح للعلاج الوقتي ما يأتي:
أولاً: بيان معيار التضخم والانكماش: وأرى أن المعيار لذلك هو ربط النقود الورقية بسلة الذهب والفضة، أو السلع الأساسية، أي بمتوسط أسعارها عند نشأة الالتزام إلى قضائه، فإذا كان الفارق هو نسبة 30? فيكون هناك تضخم إذا زادت الأسعار، أو انكماش إذا قلت الأسعار.
__________
(1) د. محمد عمر شابرا: نحو نظام نقدي عادل.(9/984)
ثانياً: الربط القياسي (في مجال الديون والأجور والرواتب) وذلك بأن ترتبط قيمة النقود الورقية بأهم السلع الأساسية (الذهب والفضة) .
معايير لمعرفة الأسعار، والتغيرات في قيمة النقود:
وبما أن القيمة الحقيقية للنقود الورقية تكمن في قوتها الشرائية وقدرتها على أن يتبادل بها مقدار من السلع والخدمات، فإننا نحتاج للوصول إلى الحل السليم إلى معرفة أمرين:
1- مفهوم الأسعار التي ترتبط بها قيمة النقود.
2- معايير لقياس التغييرات في قيمة النقود.
أما الأمر الأول –فهناك نظريات حوله، ولكن الذي عليه معظم الاقتصاديين هو النظر إلى المستوى العام لأسعار أهم السلع المنتشرة في المجتمع، بحيث ينظر إلى قيمة السلعة بالنظر إلى وحدات النقود، فمثلاً لو كان سعر كيلو واحد من الأرز ريالين في عام 1990م في حين بلغ سعره من نفس النوع عام 1991م ثلاثة ريالات، وهكذا الأمر في القمح، ومعظم السلع الأساسية، فإنه حينئذ يقال بوجود التضخم في ذلك النقد بنسبة الثلث مثلاً وهكذا.
وهناك معيار آخر وهو ما يسمى بالقياس النسبي الذي يعتد بنسبة مبادلة سلعة بسلعة أخرى، ثم ينظر إلى علاقاتها التبادلية والفروق بينهما، فمثلاً حينما نبادل كمية معينة من القمح بكمية معينة من الأرز دون أن توسط النقود، فقد عرفنا السعر النسبي للقمح بالنسبة للأرز وبالعكس، وهكذا الأمر في بقية السلع، وحينئذ تكون مجموع القيم، أو العلاقات الناشئة عن المبادلات بين السلع والخدمات المختلفة في فترة معينة، هيكل الأسعار في الاقتصاد القومي غير أن هذا المقياس قد انتقد؛ لأنه يؤدي إلى ما يقترب من نظام المقايضة (1)
وعلى أي حال فإن النظر إلى المستوى العام للأسعار، أو ما يسمى بالأسعار النسبية يتطلب معرفة معايير لقياس التغيرات في قيمة النقود، وهي تعتمد على عدة أسس وقواعد ينبغي مراعاتها عند تكوين هذه المعايير، وهي:
1- اختيار سنة الأساس، وهي الفترة التي نرجع إليها عند المقارنة، حيث يكون الرقم القياسي فيها 100?.
2- اختيار السلع التي يتكون منها الرقم القياسي، وإعطاء كل سلعة داخلة في تركيب الرقم القياسي الوزن الحقيقي لها عند الحساب (2)
__________
(1) د. عبد الرحمن يسري أحمد: اقتصاديات النقود، ط. الإسكندرية 1979م صـ 140؛ ود. مصطفى رشدي: الاقتصادي النقدي والمصرفي، ط. بيروت صـ 448.
(2) يراجع للمزيد من التفصيل في كتب الإحصاء، ود. عبد المنعم ناصر الشافعي: مبادئ الإحصاء، الجزء الأول، القاهرة 1967م صـ 302؛ ويراجع د. موسى آدم: المرجع السابق صـ 71(9/985)
3- ثم استخدام طريقة النسبة والتناسب بين السلع بعضها إلى بعض، وبينها وبين النقود وملاحظاً فيها سنة الأساس، والسنة الحالية، والمستوى العام السنوي والمستوى العام الكلي، كما سبق.
وأما المعايير المستخدمة للتعريف على التغيرات في قيمة النقود فهي:
1- معيار الجملة أي النظر إلى سعر الجملة، باعتبار أنه يمكن حسابه بسهولة، فننظر إلى قيمة البضاعة بالجملة عام 1990م، ثم في عام 1995م فيظهر الفرق.
2- معيار نفقات المعيشة من المأكل والمشرب، والمسكن، وسائر المصروفات العادية، أو حسب تعبيرات فقهاؤنا: الضروريات، والحاجيات، والمحسنات، أي ما يحتاج إليه الفرد من السلع الضرورية لحفظ الضروريات الخمس، والسلع الحاجية من مواصلات، وتعليم، والسلع الكمالية المباحة شرعاً (دون إسراف ولا تبذير ولا تقتير) ، فينظر إلى الفرد العادي في عام 1990م وما يكفيه من النقود ليعيش عيشة متوسطة، فيحسب أنه يكفيه مثلاً ثلاثمائة دينار، ثم ينظر إلى مثل هذا الشخص وكم يكفيه عام 1995م مع ملاحظة نفس المستوى؟ فإذا كان يكفيه الآن خمسمائة فإن نسبة التضخم إذن هي عالية جدًّا أي 60? وهكذا.
3- معيار العمل من خلال سوق العمل حيث ينظر إلى معدل الأجر في عام 1990م –مثلاً- مع ملاحظة معدل الأجر في عام 1995م فيظهر الفرق، والتضخم (1)
فقهاؤنا القدامى فرقوا بين النقود الاصطلاحية، والنقود الذاتية.
فقد بين العلامة ابن عابدين أن الخلاف الجاري بين أبي حنيفة ومحمد وبين أبي يوسف في رد المثل، أو القيمة عند اقتراض النقود إنما هو في النقود الاصطلاحية مثل الفلوس، والدنانير والدراهم اللتين غلب الغش عليهما، أما النقود الذاتية –كالدنانير والدراهم الخالصة- فيكون الرد فيها بالمثل بالإجماع، حيث يقول: "ثم اعلم أن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس، والدراهم التي غلب غشها.. ويدل عليه تعليلهم لقول أبي حنيفة بعد حكايتهم الخلاف بأن الثمنية بطلت بالكساد؛ لأن الدراهم التي غلب غشها إنما جعلت ثمناً بالاصطلاح، فإذا ترك الناس المعاملة بها بطل الاصطلاح فلم تبق ثمناً.. وكذا اختلافهم في أن الواجب رد المثل أو القيمة، فإنه حيث كانت لا غش فيها لم يظهر للاختلاف فيها معنى، بل كان الواجب رد المثل بلا نزاع أصلاً (2)
وقد أشار ابن عابدين إلى ما نحن نسميه اليوم بمعيار تغيير قيمة النقود من خلال تقويم النقود بالسلع، فذكر أن النقود الاصطلاحية "تقوم بغيرها" في حين أن النقود الذاتية يقوم بها غيرها" (3)
وهذا النص الفقهي يستأنس به في عملية التقويم الذي ذكرناه.
__________
(1) انظر: د. سامي خليل: النظريات والسياسات النقدية والمالية، الكويت 1982م (2/33)
(2) تنبيه الرقود على مسائل النقود، ط. استنبول 1321هـ (2/6-62)
(3) تنبيه الرقود (2/62)(9/986)
الآراء الفقهية في تغير قيمة النقود:
منذ اشتغالي بهذا الموضوع في عام 1986م إلى يومنا هذا أجد أن آراء المعاصرين تدور حول نقطتين.
أولاهما: أن نقودنا الورقية هل هي مثلية مثل الذهب والفضة، أم أنها يمكن أن تتحول إلى قيمة عند تغير قيمتها، أو انهيارها؟ وأن الذين يقولون بعدم الاعتناء بتغيرها قالوا: إنها مثلية مثل نقود الذهب والفضة.
ولذلك عالجت في بحثي الذي قدمته للمؤتمر الخامس لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي عام 1988م هذا الموضوع من خلال قاعدة المثلي والقيمي، وأثبت بالأدلة المعتبرة أن نقودنا الورقية ليست مثل النقود الذهبية أو الفضة في كل شيء وأن الذهب نفسه قد تدخل فيه صنعة أو تغيير فيتحول إلى قيمي.
ثانيتهما: أن هؤلاء الذين قالوا بأن نقودنا الورقية يجب الرد فيها بالمثل اعتمدوا على آراء جمهور الفقهاء السابقين في أن تغير قيمة النقود ليس له أثر في الحقوق والالتزامات.
ومع أن في هذه المسألة خلاف أبي يوسف، ولكني أرى أنه لا ينبغي تنزيل آراء فقهائنا القدامى على نقودنا الورقية.
إذن: فالخلاف هنا الآن في فقه التنزيل، ولو نظرنا جميعاً نظرة واقعية لتبين لنا أننا لو قسنا النقود الورقية على النقود الذهبية والفضية في الرد بالمثل مهما تغيرت قيمتها لحكمنا بظلم بين على الدائن، ومن المعروف أن هذه الشريعة خالية عن الظلم، وقائمة على العدل، وأن أي مسألة خرجت من العدل إلى الظلم، فليست من هذه الشريعة، "وحيث ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله، وأمره".
لذلك فالذي نراه راجحاً هو أن الأصل في النقود الورقية أيضاً أنها مثلية، ولا نخرجها عن المثلية إلا إذا زالت عنها هذه المثلية من انهيار قيمتها، أو وقع غبن فاحش فيها، وهذا إنما يظهر في الحقوق الآجلة، لا الحقوق العاجلة.
نظرية الظروف الطارئة تدعم هذا التوجه:
هذه النظرية التي تنبثق من قواعد العدالة والمصالح العامة وقاعدة وحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) تتفق تماماً مع العلاج الذي ذكرناه والذي ذهب إليه بعض المالكية، ورجحوه.
وقد أقر المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة المنعقدة في 1402هـ قواعد ومسائل في غاية من الأهمية انبثقت من نظرية الظروف الطارئة، نذكرها لأهميتها في الملحق.(9/987)
وهذا الربط بين هذه النظرية، وبين تغير قيمة النقود والحكم بقيمتها يوم التعاقد نجده في بعض الأحكام التي صدرت في مصر إثر سقوط الفرنك والمارك في العقد الثاني من هذا القرن، حيث صدر حكم محكمة الاستئناف المختلطة الصادر في 4/3/1925م وحكمها الآخر في 5/9/1925م، وحكمها الثالث في 18/3/1926م حيث حكمت في جميعها بأن يكون السداد طبقاً لسعر المارك يوم التعاقد. (1)
وقد ربط بعض الباحثين بين هذه النظرية وبين تغير قيمة النقود، وأصلها، فقال: "على أن تطبيق نظرية الظروف الطارئة في مسائل النقد في الفقه الإسلامي يظهر واضحاً فيما قرره ابن عابدين في العقود المعقودة بالقروش، إذا هبطت قيم العملات التي كان يحصل بها الوفاء هبوطاً متفاوتاً، فقد رأى أن الضرر الناشئ من هذا الهبوط لا يجوز أن يتحمله أحد العاقدين وحده، وإنما يجب أن يتحمله الاثنان معاً، وذلك بالوفاء من الأوسط من تلك العملات، وقد بنى رأيه على نية المتعاقدين وعلى حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) وهو من قواعد نظرية الضرورة التي قامت على مبدأ العدالة، وهذا الرأي يطابق ما أخذ به القانون المصري والسوري من رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول".
وخلاصة ما ننهي به هذا الفصل أن نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي بتطبيقاتها التي عرضنا لها، تتسع لنظرية الظروف الطارئة، بل يمكننا القول بأن هذه الأخيرة تعد من جملة تطبيقات نظرية الضرورة، ما دامت النظريتان قائمتين على أساس واحد وهو مبدأ العدالة (2)
__________
(1) انظر: مجلة المحاكم المختلطة عام 1925م، 1926م؛ ويراجع د. عبد السلام الترمانيني: نظرية الظروف الطارئة، دراسة تاريخية ومقارنة بالشريعة الإسلامية، ط. دار الفكر 1971م صـ86، 87.
(2) د. عبد السلام الترمانيني: المرجع السابق، صـ 87(9/988)
فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره قبل أن تبدل الظروف وطروء التغييرات الكبيرة المشار إليها مهما تكبد في ذلك من خسائر ماحقة أو ساحقة، تمسكاً بمقتضى العقد وحدوده في الأسعار والكميات، أو له مخرج وعلاج من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة يعيد كفتي الميزان إلى التعادل، ويحقق الإنصاف بقدر الإمكان بين الطرفين؟
وقد نظر مجلس المجمع في النظائر الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع من فقه المذاهب واستعراض قواعد الشريعة ذات العلاقة مما يستأنس به ويمكن أن يوصى بالحكم القياسي والاجتهاد الواجب فقهاً في الشأن كما رجع إلى آراء فقهاء المذاهب فوجد ما يلي:
1- إن الإجارة يجوز للمستأجر فسخها بالطوارئ العامة التي يتعذر فيها استيفاء المنفعة كالحرب والطوفان ونحو ذلك، بل الحنفية يسوغون فسخ الإجارة أيضا بالأعذار الخاصة بالمستأجر مما يدل على أن جواز فسخها بالطوارئ العامة مقبول لديهم أيضاً بطريق الأولوية فيمكن القول أنه محل اتفاق وذكر ابن رشد في بداية المجتهد (ص 192 من طبعة الخانجي الأولى بالمطبعة الجمالية بمصر) تحت عنوان: (أحكام الطوارئ) أنه: (عند مالك أن أرض المطر –أي البعلية التي تشرب من ماء السماء فقط- إذا كريت فمنع القحط من زراعتها، أو إذا زرعها المكتري فلم ينبت الزرع لمكان القحط –أي بسببه- أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة فلم يتمكن المكتري من زرعها) انتهى كلام ابن رشد.
2- وذكر ابن قدامة المقدسي في كتاب الإجارة من المغني (المطبوع مع الشرح الكبير ج6/ص30) إنه: (إذا حدث خوف عام يمنع من سكنى ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة، أو تحصر البلد فامتنع الخروج إلى الأرض المستأجرة للزرع أو نحو ذلك، فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ؛ لأنه أمر غالب يمنع المستأجر من استيفاء المنفعة، فأما إذا كان الخوف خاصًّا بالمستأجر، من أن يخاف وحده لقرب أعدائه ... لم يملك الفسخ؛ لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية فأشبه مرضه) .(9/989)
ومما لا شك فيه أن العقد الذي يعقد وفقاً لنظامه الشرعي يكون ملزماً لعاقديه قضاء عملاً بقوله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
ولكن قوة العقد الملزمة ليست أقوى من النص الشرعي الملزم للمخاطبين به كافة وقد وجد المجمع في مقاييس التكاليف الشرعية، ومعايير حكمة التشريع أن المشقة لا ينفك عنها التكليف عادة بحسب طبيعته، كمشقة القيام في الصلاة، ومشقة الجوع والعطش في الصيام، لا تسقط التكليف، ولا توجب فيه التخفيف، ولكنها إذا جاوزت الحدود الطبيعية للمشقة المعتادة في كل تكليف بحسبه، أسقطته أو خففته، كمشقة المريض في قيامه في الصلاة ومشقته في الصيام وكمشقة الأعمى والأعرج في الجهاد، فإن المشقة المرهقة عندئذ بالسبب الطارئ الاستثنائي توجب تدبيراً استثنائيًّا يدفع الحد المرهق منها، وقد نص على ذلك وأسهب في بيانه، وأتى عليه بكثير من الأمثلة في أحكام الشريعة الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة) .
فيتضح من ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة لا تأثير لها في العقود؛ لأنها من طبيعة التجارة وتقلباتها لا تنفك عنها، ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيرا بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدبيراً استثنائيًّا.
ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) :
(إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض وكل أمر أخرج من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى عكسها فليس من شرع الله في شيء وحيثما ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره) (إعلام الموقعين) وقصر العاقدين إنما تكشف عنه وتحدده ظروف العقد، وهذا القصر لا يمكن تجاهله والأخذ بحرفية العقد مهما كانت النتائج فمن القواعد المقررة في فقه الشريعة أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفاً في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية، يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:
1- في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلاً غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييراً كبيراً بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحالة عند التنازع وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لم يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانباً معقولاً من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعاً رأي أهل الخبرة الثقات.(9/990)
2- ويحق للقاضي أيضاً أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيراً بهذا الإهمال.
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقاً للعدل الواجب بين طرفي العقد، ومنعاً للضرر المرهق لأحد العاقدين بسبب لا يد له فيه، وأن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعي الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها، والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
[توقيع] [اعتذر لمرضه]
نائب الرئيس رئيس مجلس المجمع الفقهي
محمد علي الحركان عبد الله بن حميد
الأعضاء
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد محمود الصواف صالح بن عثيمين
[توقيع] [تخلف عن الحضور] [توقيع]
محمد بن عبد الله بن السبيل مبروك العوادي محمد الشاذلي النيفر
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
مصطفى أحمد الزرقاء عبد القدوس الهاشمي محمد رشيدي
[تخلف عن الحضور] [توقيع] [تخلف عن الحضور]
أبو الحسن علي الحسني الندوي أبو بكر محمود جومي حسنين محمد مخلوف
[توقيع] [تخلف عن الحضور] [توقيع]
محمد رشيد قباني محمود شيت خطاب محمد سالم عدود
مقرر المجمع الفقهي الإسلامي
محمد عبد الرحيم الخالي
[مقرر المجمع الفقهي الإسلامي]
محمد عبد الرحيم الخالد(9/991)
تمهيد
لا شك في أن قضية النقود الورقية، وما يصاحبها من تذبذب في أسعارها لا تزال تشغل بال المهتمين بالقضايا الاقتصادية، حيث إن لها أثراً كبيراً على الالتزامات والحقوق.
ولذلك ارتأيت أن أبحث هذا الموضوع (1) على ضوء قواعد الفقه الإسلامي، ولا سيما قاعدتا المثلي والقيمي، وأن أقدم خلاصة هذا الموضوع على شكل بحث إلى مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة التي انعقدت بالكويت في يناير 1988، ونوقش البحث، ضمن مجموعة من البحوث المقدمة من السادة العلماء، ثم اتخذ قراراً بالأغلبية ضمنه فيه أن "العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملية ما، هي بالمثل، وليس بالقيمة" ولم يرتض بهذا القرار جماعة من الحاضرين حتى قدموا مذكرة إلى الدورة السادسة المنعقدة بجدة وكان المجمع نفسه قد اتخذ قراراً في دورته الثالثة بعمان في أكتوبر 1986 ضمنه فيه: أن العملات الورقية نقود اعتبارية، فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا، والزكاة، والسلم وسائر أحكامهما.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية الموضوع، وحيويته، ولذلك لم يقتنع به مجموعة من أعضاء المؤتمر، فقدموا مذكرة للمجمع في دورته السادسة التي انعقدت بجدة في الفترة من 13-21 مارس 1990 وقام المجمع فعلاً بتشكيل لجنة، فقررت إحالة هذا الموضوع إلى ندوة موسعة، يشترك فيها مجموعة من الفقهاء والاقتصاديين؛ ليصلوا إلى التوصيات المطلوبة بصدده.
وقد اكتنف العملات الورقية منذ ظهورها في أوربا اضطراب شديد وتذبذب في معظم الأوقات، ونالت قسطاً كبيراً من التقلبات: صعوداً ونزولاً، قوة وضعفاً وتضخماً وتدهوراً في قيمتها، بل انهياراً وانخفاضاً حادًّا قد يصل في بعض الأحيان إلى أن تفقد قوتها الشرائية ومعياريتها للسلع، بحيث تصبح السلع لها معياراً، كما حصل في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، والثانية، وقد أصبحت أصابع الاتهام تمتد نحو العملات الورقية بأنها السبب الأهم في التضخم، الذي تعاني منه معظم الدول، ويؤكد ذلك أن مثل هذا التضخم والتذبذب لم يشهد مثلهما العالم حينما كانت النقود الذهبية والفضية سائدة فيه.
__________
(1) وقد أثرت هذا البحث في ندوة بكلية الشريعة بجامعة قطر عام 1987، وتبعها ندوة أخرى، ودارت حولهما مناقشات جادة، وقد أبدى هذه الفكرة معظم الحاضرين منهم فضيلة شيخنا الجليل الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور جمال الدين عطية، وغيرهما، كما نشر هذا البحث في مجلة المسلم المعاصر في عددها 51 وما بعدها(9/992)
وعلى الرغم من كل هذه الآثار الخطيرة التي ترتبت على العملات الورقية، فإنها لم تفقد بعد قيمتها الاقتصادية وأهميتها في عالم الاقتصاد، فلا تزال شريانه العام الذي يتأثر به جميع فروع التعامل المحلي والعالمي، وتتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية عن الاستقرار المالي، أو زعزعته وعدم استقراره.
والذي عقدنا العزم على بحثه هنا ليس إثارة الشك في نقدية هذه العملات الورقية؛ لأن العرف على ذلك قائم، ولا في إيجاب الزكاة فيها؛ لأنها مال (1) ولا في الربا، حيث إن الربا فيها ثابت، وإنما لبحث ما يترتب على تذبذب أسعار النقود من آثار في الحقوق والالتزامات.
فهل هي مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام أم أنها تختلف عنهما في بعض الأحكام؟ –أي تؤدي بعض وظائف النقود دون بعض- وبعبارة أخرى هل هي مثلية حتى يكون الرد فيها بالمثل دون النظر إلى قيمتها أم أنها قيمية يلاحظ فيها القيمة، ولكن مع وضع معايير لها حتى لا تضطرب الأحوال؟
لا شك في أن النتيجة على كلا الافتراضين لا تخلو من مخاطر، وذلك لأن القول بمثليتها مطلقاً تترتب عليه مشاكل تعتبر –في نظرنا- مظالم يجب الابتعاد عنها، وكذلك القول بقيميتها يؤدي إلى خلخلة النظام النقدي وتذبذبه بشكل خطير، وينتج عنه عدم وجود النقد في عالمنا المعاصر، ولكن هل بالإمكان الوصول إلى حل وسط يحفظ للنقد الورقي نقديته، ويلاحظ فيه قيمته على ضوء معايير مرنة لها ضوابطها وشروطها- كما سيأتي؟
حتى تكون الصورة أكثر وضوحاً نضرب هنا مثالين لهذا التذبذب الخطير في أسعار العملات الورقية.
المثال الأول:
أقرض شخص عام 1970م مبلغاً قدره مائة ألف ليرة لبنانية لآخر يريد الآن (أي في أكتوبر 1987) ردها. فما الواجب عليه؟ هل نقول بالمثلية ونقف عند الشك ويكون جوابنا بوجوب رد المبلغ المذكور بالليرة اللبنانية نفسها، أم نقول: نلاحظ القيمة والقوة الشرائية لهذا النقد في وقت القبض، حيث كان المبلغ السابق في وقته يشترى به منزل محترم، أو مطابع، أو عشرات الأطنان من الغذاء، أو عدة آلاف من الذهب، وكان يساوي حوالي خمسين ألف دولار أمريكي، حيث كانت الليرة الواجدة تساوي نصف دولار أمريكي تقريباً، أما الآن فالدولار الواحد يساوي حوالي (400 ليرة) (2) فعلى ضوء ذلك فمائة ألف ليرة تساوي الآن (250) دولاراً فقط، فعلى ضوء ذلك فالدائن لم يسترد في مقابل مبلغه الكبير إلا هذا المبلغ الضئيل، الذي لا يساوي أكثر من أن يطعم به عدد محدود من الناس، ولا يشترى به إلا حوالي ستة عشر جراماً من الذهب الخالص، بل إن الصحف نشرت أن بعض اللبنانيين زينوا بيوتهم بهذه العملات الورقية؛ لأنها أرخص حتى من الورق العادي نفسه.
__________
(1) يراجع: فقه الزكاة لفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي (1/271-281) .
(2) كان ذلك في أكتوبر 1987، ربما بعد أن بلغت قيمته (500) ليرة لبنانية ويكون مبلغ مائة ألف ليرة الآن يساوي (200) دولار فقط بل وصلت أخيراً إلى 1000 ليرة فحينئذ يساوي مائة دولار فقط بدل 50 ألف دولار سابقاً.(9/993)
المثال الثاني:
ما حدث للمارك الألماني بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث انهارت قيمته وأصبحت عشرات الآلاف منه لا يشترى بها إلا رغيف واحد، فلو أخذ شخص من آخر آنذاك ديناً قدره عشرة آلاف مارك، ليشترى بها رغيفاً أو نصف رغيف، ثم مضت السنون، وارتفع المارك الألماني –كما في وقتنا الحاضر- وطالب الدائن بالاسترداد فكم يرد؟ هل يرد المبلغ السابق رعاية للمثل أم تلاحظ فيه قيمته الشرائية في وقته؟ فالمبلغ السابق اشترى به المدين في وقته نصف رغيف، أما الآن فهو يساوي حوالي (5895) دولاراً أي يشتري به عدة أطنان من المواد الغذائية.
ولا يقال: إن هذين المثالين من الأمور النادرة التي تعكس قاعدة عامة، وذلك لأن أغلب العملات قد أصابها تذبذب كبيرة مثل الليرة التركية، والجنيه المصري، والدينار العراقي، والليرة السورية، والروبية، وغيرها من العملات العربية والإسلامية والأجنبية، وإن كانت بنسب متفاوتة، كما أن نسبة الهبوط، أو الارتفاع لم تصل إلى ما بلغته الليرة اللبنانية، والمارك الألماني.
ثم إن الآثار التي نجمت عنها لا تقف عند رد القروض، بل تشمل جميع الحقوق والالتزامات المؤجلة، مثل الإيجارات، والرواتب، والمهور، وبدل الطلاق (الخلع) وغير ذلك.
وبالنسبة لكثير من الدول الغربية –مصدر نشأة النقود الورقية- تفادوا كثيراً من مشاكلها على مستوى الإجارات، والرواتب، حيث إنها تلاحظ نسبة التضخم، وتراعى القوة الشرائية للعملة، ووضعت بعضها سلة للسلع يقيسون بها القوة الشرائية للنقود، كما أن النظام الغربي الرأسمالي قائم على الفوائد الربوية التي تغطي – في نظره غالباً- تذبذب النقود واضطراب أسعارها، في حين أن نظامنا الإسلامي لا يسمح بذلك قطعاً.
وفي الواقع قد بلغت هذه المشكلة ذروتها وترتبت عليها نتائج خطيرة، أدت إلى إعادة النظر في كثير من المسائل المتعلقة بنظام النقد العالمي، لذلك أولاها الاقتصاديون العالميون عناية بالغة، وأدركوا سلبيات نظام الورق النقدي، وما ترتب عليه من صعوبات جمة، ومشاكل خطيرة وقعت في حبائلها الدول والأفراد، فقد عقدت، لأجل وضع الحلول لها، مؤتمرات دولية على مستوى المتخصصين، ورؤساء الدول، والتي كان آخرها مؤتمر صندوق النقد الدولي في شهر سبتمبر 1987 الذي كان المندوب الأمريكي قد اقترح فيه ربط الدولار بالذهب، بأن يوافق المؤتمر على أن يكتب عليه أن الدولار يساوي كذا من الذهب، وحينئذ يرتبط الدولار بالذهب، ويستقر سعره ولكن دون أن تضع أمريكا في مقابله غطاءً حقيقيًّا من الذهب، ولذلك تصدى له المندوب البلجيكي وسفه رأيه، واعتبر ذلك غنماً دون أن يكون عليه غرم، ومعنى ذلك لو قدمت أمريكا غطاءً فعليًّا من الذهب، لرضي به المؤتمرون، كما أنه بجانب ذلك هناك اقتصاديون غربيون يعدون بكل ما لديهم من قوة، إلى إعادة الغطاء الذهبي، لكن صوته خافت نتيجة التعتيم الإعلامي.(9/994)
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن هذه المشاكل جاءت إثر تقرير نظام ورقي ليس لنا –نحن المسلمين- دور في إنشائه، ولا في تطويره وما ترتب عليه من تضخم، حيث ولد هذا النظم الورقي في أحضان الغرب والنظام الرأسمالي، وكانت ولادته بحيلة قانونية –كما نشرحها- ومن هنا فلا بد ألا ننظر إليه نظرة تقديس، بحيث لا يمكن أن يمسها تغيير أو تبديل، أو نعتبره الذي لا يمكن تغييره، أو الاجتهاد فيه، فقد رأينا الاقتراح الأمريكي القائم على ربط الدولار بالذهب مرة أخرى، بعد أن ألغى هذا الربط نتيجة الضغوط الاقتصادية، ولو كان لأمريكا غطاء فعلي من الذهب، لقبله المؤتمرون.
ومن جانب آخر إن الدول الغربية الكبرى تستطيع من خلال ربط نقود كثير من الدول بنقودها أن تتحكم حسب ما يحقق مصالحهم، فأمريكا تستطيع من خلال نقدها، الذي ارتبطت به كثير من نقود العالم والمعاملات الدولية، أن تضرب مصالح كثير من الدول من خلال تخفيض سعر الدولار، كما حصل بالنسبة لليابان، حيث قامت بعدة إجراءات أدت إلى خفض سعر الدولار، وبالتالي ارتفع سعر الين الياباني، وترتب على ذلك ارتفاع أسعار المنتجات اليابانية وخفض أسعار المنتجات الأمريكية، أو ثباتها، وبالتالي إقبال الناس عليها، كما نراه الآن، حيث أقبل الناس على شراء السيارات الأمريكية بدلاً من السيارات اليابانية، وأيضاً يمكن للغرب التحكم في عدم الفاعلية في كثير من المساعدات التي تقدم إلى الدول الفقيرة، حيث إن التضخم يقلل من فاعليتها، فلو كانت نقود الدول مرتبطة بالذهب والفضة فهل كان بإمكان أية دولة أن تتحكم بهذه الصورة في مصير الشعوب والأفراد؟ وهل كانت الحروب تؤثر في دخول الأفراد وأموالهم التي جمعوها بعرق الجبين ثم تصبح بين عشية وضحاها شيئاً لا قيمة له؟
وسنتكلم في هذا البحث عن تعريف النقود، والسياسة النقدية في الإسلام بإيجاز، ثم عن نبذة تاريخية عنها، وكيفية ظهور العملات الورقية، والأساس الذي اعتمدت عليه، وعلاقتها بالذهب والفضة، ثم تناول فيه أحكام الذهب والفضة، وأحكام الفلوس، إذا كانت رائجة، أو كاسدة، أو ملغية، ثم نثير موضوع القيميات والمثليات في الفقه الإسلامي، والمعايير التي وضعها الفقهاء لهما، ثم مدى تطبيقها على النقود الورقية، ثم نصل إلى خلاصة البحث والرأي الذي يرجحه الدليل وتأثيره الفقهي، والمعيار الذي نعتمد عليه عند التقويم، ومتى نلجأ إليه؟ وزمن التقويم ومكانه، وما يدور في هذا الفلك بإذن الله تعالى.(9/995)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
قبل أن نخوض في غمار البحث، أرى من الضروري أن نذكر بعض مبادئ تكون ممهدات له وهي:
المبدأ الأول:
أن ما ورد فيه النص الثابت من الكتاب والسنة، الخالي من المعارض المعتبر، لا يجوز الاجتهاد بخلافه تحت أي غطاء "فلا اجتهاد مع النص" لأنه الأصل وما عداه الفرع، فلا ينبغي أن يعارض الأصل بالفرع، ولكن ذلك لا يمنع من الاجتهاد في النص من حيث الدلالات والمعاني والعلل المعتبرات.
ولما كانت النقود الورقية حديثة العهد، لم تكن موجودة في عصر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا في عصر الصحابة والتابعين والفقهاء، وإنما ظهرت في عصرنا الحاضر، لذلك فباب الاجتهاد فيها مفتوح على ضوء القواعد العامة في فقهنا الإسلامي العظيم، ومن هنا فوجود الآراء السائدة فيها سواء كانت على شكل رأي فردي، أو رأي بعض مجامع فقهية، لا يمنع من طرح هذه القضية مرة أخرى لا سيما إذا صاحبتها ظروف وملابسات جدية لم تكن موجودة، أو لم تظهر بشكلها الحالي من قبل، للوصول إلى تأصيل الرأي المختار من خلال الأطر العامة والقواعد الكلية للشريعة الغراء، مع ملاحظة ما جد فيها من أمور لم تكن موجودة من قبل.
المبدأ الثاني:
إن الاجتهادات المبنية على المصلحة تدور معها وجوداً وعدماً، وقد عقد ابن القيم لها فصلاً في كتابه القيم: إعلام الموقعين، وسرد لذلك أمثلة كثيرة.
المبدأ الثالث:
رعاية المقاصد والمبادئ الأساسية والقواعد الكلية التي انبثقت من الشريعة الغراء مقدمة على رعاية الجزئيات والفروع، ولا سيما إذا كانت اجتهادية، فمن هذه المبادئ: مبدأ العدل وعدم الظلم، الذي جاء لأجله الإسلام قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأصل في العقود جميعها هو العدل، فإنه بعثت به الرسل وأنزلت الكتب.. والشارع نهى عن الربا، لما فيه من الظلم، وعن الميسر، لما فيه من الظلم" (1) والإسلام هو العدل المطلق في كل الاعتبارات والأحوال {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، ولذلك أمر بتحقيق العدالة حتى مع المرابين: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] فكيف لا يطبق هذا المبدأ على الدائنين؟
__________
(1) مجموع الفتاوى (20/510) .(9/996)
ومن هذه المبادئ والقواعد العامة قاعدة ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) التي هي حديث نبوي شريف تلقته الأمة بالقبول، وأصبح من الكليات التي عليها مدار الفقه الإسلامي.
المبدأ الرابع:
مراعاة حقيقة الشيء دون الشكل والاسم فقط، ومن هنا لا بد من رعاية الجانب التاريخي، والمراحل التي مرت بها النقود الورقية، والظروف التي أحاطت بكيفية ظهورها، حيث كانت في البداية بمثابة ورقة توثيق وسند بالذهب المودع عند الصراف، أو البنك ثم تبنتها الدولة بغطاء كامل، ثم بغطاء ناقص، ثم ألغت هذا الغطاء –كما سيتضح فيما بعد- ومن هنا، فما قاله العلماء حولها لا بد من رعاية هذا الجانب التأريخي، فلا نحمل قولهم في فترة زمنية محددة بخصوص النقد الورقي على إطلاقه وعمومه، بل لا بد من ملاحظة هذا البعد التاريخي والظروف التي لابسته.
فعلى ضوء هذه المبادئ العامة، والمقاصد العامة للشريعة، والنصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نسير في إلقاء المزيد من الضوء على هذه المسألة المهمة التي تمس حياتنا المعاصرة، باحثين عن كل مسألة فقهية، تتعلق بها في بطون الكتب الفقهية، مهما كانت متناثرة كي تكون تأصيلاً لها وبمثابة جذور تعتمد عليها.
السياسة النقدية في الإسلام:
عني العلماء المسلمون بالسياسة النقدية وأولوها عناية كبيرة، وناطوها بالإمام ضمن وظائفه السلطانية قال الإمام أحمد: "لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان؛ لأن الناس إن رخص لهم ركبوا العظائم، فقد منع من الضرب بغير إذن السلطان، لما فيه من الافتيات عليه" (2) ولما فيه من المخاطر العظيمة، كما أوجبوا على الدولة الإسلامية أن توفر للنقود جوًّا من الاستقرار والثبات، وتبعد عنها كل الوسائل المؤدية إلى اضطرابها وتذبذبها، ولذلك حرم الغش فيها، وشدد في ذلك أكثر من غيره، باعتبار أن النقود معايير للأشياء، فأضرار الغش فيها أكثر خطورة، وأشد ضرراً وإضراراً، يقول ابن خلدون: "ولفظ السكة كان اسماً للطابع، وهي الحديدة المتخذة لذلك، ثم نقل إلى أثرها، وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم، ثم نقل إلى القيام على ذلك، والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة، فصار علماً عليها في عرف الدول، وهي وظيفة ضرورية للملك، إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات، ويتقون في سلامتها من الغش بختم السلطان" (3)
__________
(1) رواه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية ص (464) ؛ وأحمد في مسنده (5/327) ؛ والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه المطبوع مع المستدرك (2/57) .
(2) الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى، ط. مصطفى الحلبي ص (181) ؛ وراجع المجموع للنووي.
(3) المقدمة، ط/ عبد السلام بن شقرون بمصر ص (229)(9/997)
وقد نهى القرآن الكريم عن الغش، في الكيل والميزان وبخس النقود فقال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 85] ، وقال تعالى على لسان شعيب أيضاً: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] . وقد ذكر المفسرون أن المراد بالبخس هو قطع الدراهم والدنانير والإنقاص منها والغش فيها. يقول القاضي أبو بكر: "قال ابن وهب: قال مالك كانوا –أي قوم شعيب- يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين، وكسر الدنانير والدراهم ذنب عظيم؛ لأنها الواسطة في تقدير قيم الأشياء، والسبيل إلى معرفة كمية الأموال، وتنزيلها في المعاوضات حتى عبر عنها بعض العلماء بأنها القاضي بين الأموال عند اختلاف المقادير أو جهلها، وإن من حبسها ولم يصرفها، فكأنه حبس القاضي وحجبه عن الناس، والدراهم والدنانير إذا كانت صحاحاً قام معناها، وظهرت فائدتها، فإذا كسرت صارت سلعة، وبطلت الفائدة فيها، فأضر ذلك بالناس، فلأجله حرم. وقد قال ابن المسيب: قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض، وكذلك قال زيد بن أسلم في هذه الآية، وفسرها به، ومثلها عن يحيى بن سعيد من رواية مالك عنهم كلهم".
وقد قيل في قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] .
قال زيد بن أسلم: "كانوا يكسرون الدراهم والدنانير" (1) وقد شدد العلماء في عقوبة الغش في النقود، فقد روى عن عمر بن عبد العزيز أنه جعله من الفساد في الأرض (2) ولذلك نرى مجيء النهي عن الإفساد في الأرض بعد قوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85] في الآيتين السابقتين، بل إن بعض العلماء ذهبوا إلى عدم قبول شهادته، قال ابن العربي: "قال أصبغ: قال عبد الرحمن بن القاسم: من كسرها لم تقبل شهادته، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر.." ثم قال القاضي: "إذا كان هذا معصية وفساداً يرد الشهادة، فإنه يعاقب من فعل ذلك"، واختلف في عقوبته على ثلاثة أقوال:
الأول:
قال مالك: يعاقبه السلطان على ذلك هكذا مطلقاً، (أي يناط الأمر في عقوبته باجتهاد الإمام، حسب الظروف والملابسات التي تحيط بكل قضية) .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي ط. دار المعرفة (ذ/1063) .
(2) المصدر السابق نفسه(9/998)
الثاني:
قال ابن المسيب – ونحوه عن سفيان: إنه مر برجل قد جلد، فقال ابن المسيب: ما هذا؟ فقالوا: رجل كان يقطع الدراهم، قال ابن المسيب: هذا من الفساد في الأرض، ولم ينكر جلده.
الثالث:
قال أبو عبد الرحمن التجبيى: كنت عند عمر بن عبد العزيز قاعداً، وهو إذ ذاك أمير المدينة، فأتى برجل يقطع الدراهم، وقد شهد عليه، فضربه وحلقه، فأمر فطيف به.. ثم قال له: إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا إني لم أكن قد تقدمت في ذلك قبل اليوم فقد تقدمت في ذلك فمن شاء فليقطع. قال ابن العربي معلقاً على هذا: "وأما قطع يده، فإنما أخذ ذلك عمر –والله أعلم- من فصل السرقة، وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر إفساد الوصف، والقرض تنقيص القدر، فهو أخذ مال على جهة الاختفاء.. وقد أنفذ ذلك ابن الزبير، وقطع يد رجل في قطع الدراهم والدنانير" ثم قال: "وأرى القطع في قرضها دون كسرها، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم" (1)
وقد اعتبره أحمد أيضاً في رواية من الفساد في الأرض، حيث سئل عن كسر الدراهم؟ فقال: "هو عندي من الفساد في الأرض" (2) وذكر القاضي أبو يعلي، أن مروان بن الحكم قطع يد رجل قطع درهماً من دراهم فارس، وروى ابن منصور أنه قال لأحمد: "إن ابن الزبير قدم مكة فوجد بها رجلاً يقرض الدراهم فقطع يده" (3)
كل ذلك يدل على مدى الأهمية والمخاطر التي تنجم عن التلاعب بالنقود التي يترتب عليه الظلم، وهضم الحقوق، واضطراب الأحوال والأسواق.
قال الشيخ رشيد رضا: "والبخس أعم من نقص المكيل والموزون، فإنه يشمل غيرهما من المبيعات كالمواشي والمعدودات، ويشمل البخس في المساومة، والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق، وكذا بخس الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل" (4)
وإذا تدبرنا في الآيات الخاصة بمنع البخس نرى أنها تضمنت في المكانين النهي عن الإفساد، والتأكيد على أن التوحيد وعدم البخس هو الخير ففي سورة الأعراف: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) } [الأعراف: 85-86] .
__________
(1) أحكام القرآن (3/1065-1066) .
(2) الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلي (ص182-183) .
(3) الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى (ص 182-183)
(4) تفسير المنار. ذ/ الهيئة المصرية العامة للكتاب (8/468)(9/999)
وفي سورة هود: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود: 85- 86] حيث يدلان بوضوح على مدى العلاقة الوثيقة بين الإفساد والبخس وعدم الوفاء بالكيل والميزان بالقسط، ثم التأكيد فيهما على أن التوحيد والالتزام بالعدالة والميزان بالقسط، ثم التأكيد فيهما على أن التوحيد والالتزام بالعدالة وعدم بخس الأشياء والنقود، يعود بالنفع والخير على المجتمع وعلى الإنسانية جميعاً، وما نراه الآن من مشاكل التضخم والديون يؤكد ذلك، ويبرهن على إصلاح المجتمع وسعادته، لا يتمان إلا من خلال العدالة والحفاظ على الاستقرار والتوازن المطلوب، هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى القرآن الكريم أمر بعبادة الله وحده، ثم دعاهم إلى العدالة وعدم الغش، مما يدل على أن القدرة على الإصلاح لا تتأتى إلا إذا كانت قد سبقها الإعداد الروحي الإيماني، يقول الأستاذ رشيد رضا: "فالتحقيق الذي ثبت بالدلائل العقلية والنقلية والتجارب الدقيقة أن ملكات الفضائل لا تطبع في الأنفس إلا بالتربية الدينية" (1)
ويقول ابن رشد: "الدنانير التي قطعها من الفساد في الأرض هي الدنانير الدائمة التي تجوز عدداً بغير وزن، فإذا قطعت، فردت ناقصة، غش بها الناس، فكان ذلك من الفساد في الأرض"، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87] : "أنهم أرادوا بذلك قطع الدنانير والدراهم؛ لأنه كان قد نهاهم عن ذلك.." (2)
وقد حرم الإسلام الغش في كل شيء، ومنه النقود، فقال صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا)) (3) كما دلت السنة المشرفة على حرمة كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم، إلا إذا كان فيها أمر يقتضي ذلك، فقد روى أحمد والحاكم وأبو داود وابن ماجه بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم، إلا من بأس (4) قال الشوكاني: "وفي معنى كسر الدراهم.. كسر الفلوس التي عليهم سكة الإمام، ولا سيما إذا كان التعامل هذا جارياً بين المسلمين كثيراً. والحكمة في النهي: ما في الكسر من الضرر، بإضاعة المال لما يحصل من النقصان في الدراهم ونحوها إذا كسرت، وأبطلت المعاملة بها، ولا يخفى أن الشارع لم يأذن في الكسر إلا إذا كان بها بأس، ومجرد الإبدال، لنفع البعض ربما أفضى إلى الضرر بالكثير من الناس" وقال أبو العباس ابن سريح: "إنهم كانوا يقرضون أطراف الدراهم والدنانير بالمقراض، ويخرجونهما عن السعر الذي يأخذونهما به، ويجمعون من تلك القراضة شيئاً كثيراً بالسبك، كما هو معهود في المملكة الشامية وغيرها، وهذه الفعلة هي التي نهى الله عنها قوم شعيب بقوله: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 85] فقالوا: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا} [هود: 87] يعني الدراهم والدنانير {مَا نَشَاءُ} [هود: 87] من القرض –أي القطع- ولم ينتهوا عن ذلك، فأخذتهم الصيحة ". (5)
__________
(1) تفسير المنار (8/473)
(2) البيان والتحصيل ط. دار إحياء التراث الإسلامي (6/474)
(3) رواه مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه 1/99؛ وأحمد في مسنده (2/50، 242، 417) ؛ وابن ماجه (2/749) ؛ والترمذي – مع التحفة (4/544) ح وأبو داود –مع العون – (32119) ؛ والدرامي (2/164) .
(4) انظر: سنن أبي داود مع عون المعبود 9/318؛ ومسند الإمام أحمد 2/419؛ وسنن ابن ماجه 2/761؛ و"سكة" بكسر السين هي الدراهم والدنانير المضروبة على السكة الحديد المنقوشة. انظر: نيل الأوطار 6/384.
(5) نيل الأوطار 6/384؛ وعون المعبود 9/318، 319.(9/1000)
وقد تكلم الفقهاء عن واجبات الإمام نحو إصدار النقود حيث حصروه عليه، ولم يسمحوا لغيره من المؤسسات الخاصة بإصدارها، وترتب على ذلك أن يكون حجم النقود بالقدر المطلوب، بحيث لا يؤدي إلى تضخم، أو انكماش، بالإضافة إلى أن الطلب على النقود في إطار الإسلام ليس في اكتنازها واختزانها، ولا لاستخدامها في إحداث التلاعب في أسعار السلع، وإما هو ينصرف إلى دافع المعاملات، الأمر الذي يحدث قدراً كبيراً من التوازن بين الكمية المعروضة، والكمية المطلوبة من النقود، ويدل على ذلك تحريم الاكتناز، بل إن فرض الزكاة على النقود، يجعل صاحبها لا يفكر في الاختزان المجرد وإلا فتأكلها الصدقة والنفقة، وذلك؛ لأن مهمة النقود أن تتحرك، وتتداول لا أن تكتنز وتحبس، فتؤدي إلى كساد الأعمال وانتشار البطالة، وركود الأسواق، وانكماش الحركة الاقتصادية، (1) ولذلك اقترح بعض علماء الاقتصاد الغربيين أن يحدد للنقود تاريخ للإصدار والانتهاء بحيث تفقد قيمتها بعد مضي مدتها، فحينئذ لا تكون قابلة للاكتناز والادخار. (2)
ولم يكتف الفقهاء بمجرد إناطة إصدار النقود إلى الإمام بل قالوا: "ينبغي ألا يغفل النظر إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة ومخالطة بالنحاس بأن يشتد فيها، ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفر به أناله من شدة العقوبة، وأمر أن يطاف به الأسواق، لينكله ويشرد به من خلفه، لعلهم يتقون عظيم ما نزل من العقوبة، ويحبسه بعد على قدر ما يرى، ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم، فإن هذا أفضل ما يحط رعيته فيه ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم". (3)
وقد حذر شيخ الإسلام ابن تيمية من المخاطر الناجمة عن شيوع العملات الزائفة ومسئولية الإمام نحوها فقال: "ولهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم، ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلاً.." ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم، ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب قيمته من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، ويعطى أجرة الصناع من بيت المال، فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس، وأكل أمول الناس بالباطل، فإنه إذا حرم المعاملة بها، حتى صارت عرضاً، وضرب لهم فلوساً أخرى، أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها، فيظلمهم فيها، وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها.
وأيضاً فإذا اختلفت مقادير الفلوس، صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغاراً فيصرفونها، وينقلونها إلى بلد آخر، ويخرجون صغارها، فتفسد أموال الناس. (4)
__________
(1) د. شوقي دنيا: تقلبات القوة الشرائية للنقود، بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر العدد 41، ص (55) .
(2) أ. د. يوسف القرضاوي: فقه الزكاة (1/242)
(3) المعيار المعرب (6/407)
(4) مجموع الفتاوى (29/469) .(9/1001)
وقد ذكر فقهاؤنا الأجلاء أن فساد النقود دليل على فساد السياسة، قال القاضي أبو يعلى: "وقد كان الفرس عند فساد أمورهم، فسدت نقودهم"، ولذلك لم يجوز الحنابلة –في الرواية الراجحة- إنفاق المغشوشة، فقال أحمد في رواية محمد بن إبراهيم، وقد سأله عن المزيفة فقال: "لا يحل" قيل له: إنه يراها ويدري أي شيء هي؟ قال: "الغش حرام وإن بين" هذا إذا كان الغش بيناً أما إذا كان الغش لا يظهر، فلا يجوز رواية واحدة. (1)
ويقول السيوطي: يكره للإمام إبطال المعاملة الجارية بين الناس.
وقال الشافعي والأصحاب: يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة، للحديث الصحيح: ((من غشنا فليس منا)) ؛ ولأن فيه إفساداً للنقود وإضراراً بذوي الحقوق وغلاء الأسعار، وغير ذلك من المفاسد، ومن ملك دراهم مغشوشة، كره له إمساكها، بل يسبكها ويصفيها. (2)
وقد اتخذ الفقهاء عدة وسائل عملية، لمنع تداول العملات المغشوشة إضافة إلى تحريمها، وفرض العقوبات على من يقوم بصنعها وتداولها، والترهيب بالعذاب الأخروي عليها.. من هذه الوسائل أن العملات المضروبة الصحيحة السالمة الكاملة، هي التي يقع عليها العقود والحقوق عند ذكرها مطلقة، ومنها امتناع العاملين على الخراج والصدقات والجبايات من أخذ المغشوشة، يقول الماوردي، وأبو يعلى: "وإذا خلص العين والورق من غش كان هو المعتبر في النقود المستحقة، والمطبوع منها بالسكة السلطانية الموثوق بسلامة طبعها، المأمون من تبديلها وتلبيسها، هي المستحقة، ولذلك كان هو الثابت في الذمم فيما يطلق من أثمان المبيعات وقيم المتلفات، فأما مكسور الدراهم والدنانير فلا يلزم آخذه في الخراج، لالتباسه، وجواز اختلاطه، ولذلك نقصت قيمتها عن المضروب الصحيح". (3)
__________
(1) الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى ص (179-180) ؛ ويراجع المغني (4/57) ؛ وراجع: الأحكام السلطانية للماوردي ص (176) ، والروضة (2/258) .
(2) قطع المجادلة عند تغيير المعاملة –مخطوطة- وراجع المجموع (6/10) .
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص (176) ؛ والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص (181) .(9/1002)
ومن مظاهر هذه العناية توحيد المكاييل والموازين:
جاء الإسلام ولم يكن للعرب نقود خاصة بهم، وإنما كانت ترد إليهم الدراهم من الإمبراطورية الفارسية، والدنانير من الإمبراطورية الرومية، قال ابن عبد البر: "كانت الدنانير في الجاهلية، وأول الإسلام بالشام وعند عرب الحجاز كلها ورمية تضرب ببلاد الروم عليها صورة الملك، واسم الذي ضربت في أيامه مكتوب بالرومية، ووزن كل دينار منها مثقال كمثقالنا هذا، وكانت الدراهم بالعراق.. كسروية عليها صورة كسرى واسمه فيها مكتوب بالفارسية ووزن كل درهم منها مثقال.." (1) ويقول الرافعي: "وقد ذكر الشيخ أبو حامد وغيره أن المثقال لم يختلف في جاهلية ولا إسلام، وأما الدراهم فإنها كانت مختلفة الأوزان، والذي استقر الأمر عليه، في الإسلام، أن وزن الدرهم الواحد ستة دوانيق، كل عشرة منها بسبعة مثاقيل من ذهب.." (2) وقال الحافظ ابن حجر: "غالب ما كانوا يتعاملون به من أنواع الدراهم في عصره صلى الله عليه وسلم هو أربعة، فأخذوا واحداً من هذه وقسموها إلى نصفين، وجعلوا كل واحد درهما". (3)
ولكن الصحيح هو أن الدراهم أيضاً كانت معلومة الوزن والمقدار في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك؛ لأنها تعلقت بها أحكام شرعية من زكاة ونحوها، ولا يمكن أن تتعلق الأحكام إلا بشيء معلوم، يقول الإمام النووي: "الصحيح الذي يتعين اعتماده واعتقاده أن الدراهم المطلقة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معلومة الوزن معروفة المقدار، وهي السابقة إلى الأفهام عند الإطلاق وبها تتعلق الزكاة وغيرها من الحقوق، والمقادير الشرعية، ولا يمنع من هذا كونه كأن هناك دراهم أخرى أقل أو أكثر من هذا القدر، وإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم الدراهم محمول على المفهوم عند الإطلاق وهو كل درهم ستة دوانق، وكل عشرة سبعة مثاقيل، وأجمع أهل العصر الأول، فمن بعدهم إلى يومنا على هذا، ولا يجوز أن يجمعوا على خلاف ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين" (4) ثم نقل عن القاضي عياض قوله: "لا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوجب الزكاة في أعداد منها، وتقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.. وقول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان، وأنه جمعها برأي العلماء.. قول باطل.." (5) وبهذا قال ابن خلدون في مقدمته، (6) وأيًّا ما كان فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وحد لأمته الموازين والمكاييل فقال: ((الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة)) (7) وذلك، " لأن أهل مكة كانوا أهل تجارة، فكانوا يتعاملون بالأوزان من المثاقيل والدراهم والأواقي ونحوها، فيكونون فيها أدق وأضبط، أما أهل المدينة فكانوا فيها أدق، وأضبط فأمر بالرجوع في كل معيار إلى من هم أعلم به، وأضبط له، وأحرص على الدقة فيه" (8)
__________
(1) التمهيد لابن عبد البر
(2) فتح العزيز بهامش المجموع 6/5
(3) تلخيص الحبير بهامش المجموع 6/5.
(4) المجموع للنووي 6/141-14/61 فنجد فيه تحقيقاً طيباً.
(5) المصادر السابقة.
(6) المقدمة ص (231) .
(7) رواه الترمذي في سننه –مع التحفة- (4/408) وقال: والصحيح وقفه على ابن عباس. ورواه مرفوعاً الحاكم وصححه.
(8) فقه الزكاة لفضيلة الشيخ القرضاوي 1/254.(9/1003)
وقد ذكر ابن خلدون أن الدرهم والدينار كانا معلومي المقدار، ولكن مقدارهما غير مشخص في الخارج، وإنما كان متعارفاً بينهم بالحكم الشرعي على المقدار في مقدارهما وزنتهما، حتى استفحل الإسلام وعظمت الدولة، ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشرع، ليستريحوا من كلفة التقدير، وكان ذلك في عهد عبد الملك، حيث شخص مقدارهما وعينهما في الخارج، كما هو في الذهن، ثم أبدى ابن خلدون أسفه على ما وقع من الدول الإسلامية من عدم اتباعها سياسة موحدة بهذا الاتجاه، فقال: "فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم، واختلفت في كل الأقطار والآفاق، ورجع الناس إلى تصور مقاديرهما الشرعية ذهناً كما كان في الصدر الأول، وصار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم بمعرفة النسبة التي بينها وبين مقاديرها الشرعية (1) فقد أشار ابن خلدون إلى هذه الحقيقة الناصعة في عالم الاقتصاد وهي توحيد الأمة في مكاييلها وموازينها وربطها في ذلك أيضاً بدينها، وهذا ما التفتت إليها الدول المتحضرة، وغزتنا بها، فلو قام المسلمون على مكاييل أهل المدينة وموازين أهل مكة كما أمرهم وأرشدهم إليهما رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، لما وقع كل هذه الاختلافات فيهما، وما كنا نسمع الرطل البغدادي، والرطل المصري، والرطل الشامي وغيرها، بل كانت الموازين والمكاييل ثابتة مستقرة، لما أخذت كل هذه الجهود التي بذلها الفقهاء في هذه الاختلافات فيهما التابعة للبلدان والأزمان، ولكانت مكايلنا وموازيننا هي السائدة في العالم. قال السندي: ".. وكانت الصيعان مختلفة في البلاد.. والدراهم مختلفة في الأوزان في البلاد وكانت دراهم أهل مكة هي الدراهم المعتبرة في باب الزكاة، فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بهذا الكلام" (2)
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من خطورة الاختلاف في الموازين والمكاييل، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابهما: ((إنكم قد وليتم أمرين هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم)) (3) كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من مغبة التضخية بهذه المكاييل والموازين، حيث جعلها من علامات الساعة فقال: "منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها، ودينارها، ومنعت مصر إردبها وديناراها" (4) فقد تحقق ذلك الآن حيث تركت هذه النقود، والمكاييل والموازين في العالم الإسلامي، وسادت المكاييل والموازين الغربية، وفقدت الأمة هذه الذاتية، إذن فلا بد من العودة إليها ومن هذا المنطلق نفسه دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة بأن يبارك الله تعالى في مكيالهم وصاعهم ومدهم، كما ذكر دعاء إبراهيم لأهل مكة (5)
__________
(1) المقدمة ص (231)
(2) حاشية السندي على سنن النسائي ط. دار البشائر الإسلامية (5/54-55) .
(3) رواه الترمذي في سننه –مع التحفة- (4/408) . وقال: الصحيح وقفه على ابن عباس، ورواه مرفوعاً الحاكم وصححه
(4) صحيح مسلم، كتاب الفتن (4/2220) ، ومسند أحمد (2/262) .
(5) رواه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع (4/345-346) ؛ ومسلم في صحيحه (1/994) .(9/1004)
وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية خطورة البخس في النقود والمكاييل والموازين، فقال: "أما بخس المكيال والميزان فهو من الأعمال التي أهلك الله بها قوم شعيب. وقص علينا قصتهم في غير موضع من القرآن، لنعتبر بذلك، والإصرار على ذلك من أعظم الكبائر، وصحبه مستوجب تغليظ العقوبة، وينبغي أن يؤخذ منه ما بخس من أموال المسلمين على طول الزمان، ويصرف في مصالح المسلمين إذا لم يمكن إعادته إلى أصحابه" (1)
هذا وكانت النسبة بين الدراهم والدينار هي 7: 10 أي كل عشرة دراهم تساوي من حيث الوزن سبعة مثاقيل، في حين أن كل دينار مثقال –كما ذكرنا- والمثقال يساوي (4.25 جرام) والدرهم يساوي (2.975 جرام) (2) أما من حيث القيمة، فكانت النسبة العشر تقريباً، حيث كان الدينار يساوي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم.. فقد روى أبو داود بسنده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني مائة دينار، وثمانية آلاف درهم" (3)
ولكن هذه النسبة لم تظل مستمرة، حيث ارتفعت النسبة فصارت 1/12 أي كل دينار يساوي اثني عشر درهما، حيث روى أبو داود بسنده السابق: "فكان ذلك كذلك، حتى استخلف عمر فقام خطيباً فقال: ألا أن الإبل قد غلت. قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفاً" (4) بل إن هناك بعض الروايات تدل على أن الدية قد بلغت قيمتها في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً اثنى عشر ألف درهم. (5)
كل ذلك يعني أن الإسلام قد أقر نظام المعدنين، وربط بينهما ربطاً محكماً مما ساعد على ثبات الأثمان، وعدم وقوع الناس في الظلم وهضم الحقوق، كما شدد تشديداً منقطع النظير بخصوص الغش في العملات وكسر سكة المسلمين، وبخسها، لما يترتب عليها من مظالم بشعة، واضطرابات، وهذا ما تنبه إليه بعض علماء الاقتصاد الغربيين أخيراً من خلال قانون (جريشام) القائم على منع وجود العملة الرديئة في الدولة؛ لأنها تطرد العملة الجيدة، وبالتالي تصبح أموال الناس بدون مقابل يذكر (6) حتى شبه البعض هذه المسألة بأنه: كما أن شرار الناس يطردون خيارهم، فكذلك تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة. (7)
ومن هذا العرض الموجز يتبين لنا أن السياسة النقدية في الإسلام تقوم على توفير جو الاستقرار للنقود، والنظر إليها، باعتبارها المعايير للأشياء والحاكم على السلع، ومن هنا شدد في تحريم الغش في النقود، وحرم قطعها وكسرها وكل ما يؤدي إلى ظلم الناس وبخس أشيائهم والإضرار بحقوقهم والتزاماتهم، وقد رأينا أن ابن القيم قد ذكر بوضوح أن على الدولة أن تحافظ على الأسعار المستقرة للنقود وألا تجعلها كالسلع، ومن هنا لا يتصور إذا طبقت هذه السياسة أن يحدث تضخم، وذلك أن التضخم –كما يصوره الاقتصاد الحديث- هو بمثابة قطع جزء من النقد، فلو حصل تضخم بنسبة 50? فإن ذلك يعني أن الدولة اقتطعت من هذا النقد 50?.
__________
(1) مجموع الفتاوى (29/474)
(2) فقه الزكاة (1/260) .
(3) سنن أبي داود -مع العون- كتاب الديات (12/284) .
(4) سنن أبي داود -مع العون- كتاب الديات (12/284) .
(5) سنن أبي داود –مع العون- (12/290) ؛ والنسائي، كتاب القسامة (8/44) ؛ والترمذي –مع التحفة- كتاب الديات (4/ 646)
(6) يراجع: د. محمد صالح، أصول الاقتصاد ط. نهضة مصر سنة 1993 ص (315) .
(7) يراجع: د. محمد صالح، أصول الاقتصاد ط. نهضة مصر سنة 1933.(9/1005)
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الفقهاء كما رأينا ذكروا أن إصدار النقود من وظائف الدولة، ولا يجوز لغيرها من الأفراد إصدارها إلا بتخويل منها، كما أن السياسة الإسلامية تقتضي جمع المسلمين على موازين ومكاييل ونقود متحدة، لما في ذلك من أهمية ذاتية واقتصادية وسياسية، وعلاوة على ذلك تحريم الإسلام للفوائد على النقود، حيث إن لها تأثيراً كبيراً في قيمة النقود وتذبذبها.
التعريف بالنقد:
النقد لغة:
خلاف النسيئة، فيقال: نقد الدراهم ينقدها نقداً، وانتقدها، وتنقدها، ونقده إياها نقداً: أي أعطاها نقداً معجلاً، فانتقدها أي قبضها، والنقد تمييز الدراهم، فيقال: نقدت الدراهم وانتقدتها إذا أخرجت منه الزيف، ويطلق النقد على الدراهم والدنانير أيضاً، (1) ولذلك نرى الفقهاء يذكرون في كتاب الزكاة: باب زكاة النقدين كما نراهم يطلقون "النقدين" عليهما. (2)
وفي اصطلاح الفقهاء:
حصر الفقهاء القدامى مفهوم النقدين، أو النقود، أو النقد في الذهب والفضة، لما لهما من مميزات، حتى قال بعضهم: إنهما قد خلقهما الله تعالى، لأداء هذا الدور (3) ثم اختلفوا في أن غيرهما إذا راج بين الناس، ونال رضاهم وثقتهم، فهل يلحق بهما في الأحكام أو لا؟ فذهب جماعة منهم المالكية إلى أن العبرة في ذلك بالرواج عند الناس والقبول، حتى قال الإمام مالك: "لو أن الناس قد أجازوا بينهم الجلود، حتى يكون لها سكة وعين، لكراهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة" (4) قال الخرشي: "حكم الفلوس حكم النقد، هي ليست من جزئيات النقد" (5) وذهب آخرون منهم الشافعي إلى عدم الاعتداد بذلك، ولذلك ظلت الفلوس غير ملحقة بالنقود عنده. (6)
__________
(1) وقد جاء بمعنى التعيب، فيقال: إن نقدت الناس نقدوك.. أي إن عبتهم واغتبتهم قابلوك بمثله، ويقال: نقد الطائر الفخ –أي نقره، ونقد الرجل الشيء بنظره أي اختلس النظر نحوه. يراجع: لسان العرب؛ والقاموس المحيط؛ والمصباح المنير: مادة "النقد".
(2) انظر: البدائع والصنائع والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/455) ؛ والروضة للنووي (2/165) ؛ والمجموع (6/2) ؛ وفتح العزيز (6/2) ؛ والمغنى لابن قدامة (3/3) .
(3) إحياء علوم الدين (4/89) ؛ وفي الهداية للمرغناني (7/22) "لأنها للثمنية خلقة".
(4) المدونة (3/396) .
(5) شرح الخرشي على مختصر خليل (5/30) ؛ والفروق للقرافي (2/358)
(6) الأم (3/98) وسيأتي لذلك تفصيل.(9/1006)
وقد ذكر فقهاؤنا عدة وظائف للنقود منها، "أثمان المبيعات، وقيم المتلفات والديات" (1) وشرح الإمام الغزالي بعضها شرحاً رائعاً حيث قال: "ومن نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير، وبهما قوم الدنيا، وهما حجران، لا منفعة في أعيانهما – (أي من حيث ذاتهما، حيث لا ينفعان للأكل والشرب واللباس، وإنما هما للزينة والجمال) - ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه ولملبسه وسائر حاجاته، وقد يعجز عما يحتاج إليه، ويملك ما يستغنى عنه، كمن يملك الزعفران مثلاً وهو محتاج إلى جمل يركبه، (أو بالعكس) فلا بد بينهما من معاوضة، ولا بد في مقدار العوض من تقدير، إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين بالزعفران والجمل حتى يقال: يعطى منه مثله في الوزن، أو الصورة، وكذا من يشتري داراً بثياب، أو دقيقاً بحمار، فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلا يدرى أن الجمل كم يساويه بالزعفران، فتتعذر المعاملات جدًّا، فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم فيها بحكم عدل، فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل، وترتبت الرتب، علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأحوال، حتى تقدر الأموال بهما، فيقال: هذا الجمل يسوى مائة دينار، وهذا القدر من الزعفران يساوي مائة فهما من حيث إنهما مساويان بشيء واحد، إذن متساويان، وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ولو كان في أعيانهما غرض، ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحاً، ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر، فإذن خلقهما الله تعالى، لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل، ولحكمة أخرى، هي التوسل بهما إلى سائر الأشياء؛ لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكها فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوباً فإنه لم يملك إلا الثوب، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب؛ لأن غرضه في دابة مثلاً، فاحتيج إلى شيء هو في صورته، كأنه ليس بشيء وهو معناه كأنه كل الأشياء، والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات، إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها، كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون، فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض.. فهذه الحكمة الثانية. وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمر خاصة، إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما، فإنهما حجران وإنما خلقا، لتتداولهما الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس، وعلامة معرفة للمقادير مقومة للمراتب. (2)
__________
(1) بداية المجتهد. مصطفى الحلبي (2/130) ؛ وإعلام الموقعين (2/156)
(2) إحياء علوم الدين، ط/ عيسى الحلبي (4/88-89) .(9/1007)
والذي يظهر لي رجحانه هو أن كل ما ناله ثقة الناس في التعامل به وأصبح ثمناً ومعياراً للأموال فهو نقد يجري فيه الربا وتجب فيه الزكاة ولكن ذلك لا يمنع من رعاية القيمة في حالات خاصة –كما سيتضح إن شاء الله- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية، لا الوزن كما قاله جمهور العلماء. والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معياراً للأموال، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها، فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية، واشتراط الحلول والتقابض فيها، هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطالب، فإن ذلك إنما يحصل بقبضها، لا بثبوتها في الذمة مع أنها ثمن من طرفين فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى مؤجل، فإذا صارت الفلوس أثماناً، صار فيها المعنى، فلا يباع ثمن بثمن إلى مؤجل" ثم ذكر بأن العاقل لا يبيع الشيء بمثله إلى أجل، ولكن قد يقرض الشيء، ليأخذ مثله بعد حين أملاً في الأجر والثواب العظيم عند الله تعالى، ولذلك فالقرض هو تبرع من جنس العارية، فهو تبرع من صاحبه، ينتفع آخر منه تلك المدة، والدراهم لا تقصد عينها، ثم أكد على أن المقرض يستحق مثل قرضه في صفته من الثمنية والقوة، فقال: "والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته، كما يستحق مثله في الغصب والإتلاف، ومن هنا لا بد من مراعاة الوزن، حتى لا يرد درهماً خفيفاً بدل درهم ثقيل في الوزن" (1)
وقد أوضح ذلك ابن القيم، فقال: "فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع، ولا ينخفض. إذ لو كان الثمن يرتفع، وينخفض – كالسلع - لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثم يعتبرون به المبيعات، حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر، كما رأيت، من فساد معاملاتهم، والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر، وحصل الظلم، ولو جعلت ثمناً واحداً لا يزداد ولا ينقص، بل تقوم به الأشياء، ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس" (2)
فقد أوضح هؤلاء الفقهاء بكل دقة ووضوح وظيفة النقود في هذا الوقت المبكر، قبل أن تظهر الأفكار الاقتصادية الحديثة، وقاموا بالتأصيل النظري لقضية العقود، حيث بينوا بأن النقود وسيط للتبادل بين السلع، حيث قال الغزالي: "فهذه الأشياء لا تناسب فيها، فافتقرت إلى متوسط بينهما يحكم فيها العدل، فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته، حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب، علم بعد ذلك المساوى من غير المساوى، فخلق الله الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال، حتى تقدر الأموال بهما، فيقال: هذا الجمل يساوي مائة من الدينار". كما دل هذا النص أيضاً على أن النقود مقياس للقيم، وأوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: "فإن المقصود من الأثمان أن تكون معياراً للأموال، يتوسل بهما إلى معرفة مقادير الأموال" وقال ابن القيم في توضيح هذه الوظيفة: "والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال" (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (29/417-474)
(2) إعلام الموقعين (2/156)
(3) إعلام الموقعين (2/156)(9/1008)
ثم إن الإمام الغزالي أوضح لنا وظيفة أخرى للنقود هي: أنها مخزون للثروة، حينما قال: "لأنهما عزيزان في أنفسهما، فيمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء، لا كمن ملك ثوباً، فإنهم يملك إلا الثوب".
وكل من هؤلاء الفقهاء، وغيرهم أشاروا إلى معيارية النقود، وبذلك اتضح لنا أن كل ما قاله علماء الاقتصاد الحديث لم يخرج عما قاله هؤلاء الفقهاء المسلمون قبل عدة قرون.
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن النقود الذهبية والفضة تقوم بكل هذه الأدوار، وهذه الوظائف الأربع، وأما نقودها الورقية اليوم، فهل هي تقوم بجميعها؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا البحث.
وأما علماء الاقتصاد الحديث فقد ذكروا عدة تعريفات للنقد، نختار منها تعريفه باعتبار وظائفه، وهو: النقد: ما يستخدم وسيطاً للتبادل، ومقياساً للقيم، ومخزوناً للثروة، ومعياراً للمدفوعات الآجلة من الديون (1) ولنشرح بإيجاز شديد هذه الوظائف.
فالمراد بكونه وسيطاً للتبادل: أن عملية التبادل بين السلع تتم من خلال النقود بسهولة، وذلك، لأن نظام مقايضة سلعة بغيرها يستلزم تطابقاً مزدوجاً في الحاجات، وهذا قد يتعسر، بل يتعذر –كما شرح ذلك الإمام الغزالي من قبل.
ومعنى كونه مقياساً للقيم: كل سلعة يمكن أن يعبر عنها بالثمن في شكل عدد من الوحدات النقدية المستخدمة، ولا يخفى أن ذلك يسهل كثيراً من مشكلة قياس القيم التبادلية للسلع في السوق، فمثلاً المجتمع القطري يعرف من خلال النقد سعر منزله، وسيارته وهكذا.. فالنقود هي المعيار المشترك بين مختلف السلع التي يمكن قياس قيمتها بعدد من الوحدات النقدية، فهي بمثابة الكيل والوزن للمكيلات والموزونات.
والمراد بكونه مخزوناً للقيم والثروة: أن الإنسان يخزن ثروته، أو جزءاً منها لفترة زمنية قد تكون بعيدة المدى، لمواجهة الطوارئ المحتملة في المستقبل ويتم ذلك من خلال اختزان النقود التي لا يطرأ عليها تغيير، أو تلف في الغالب، ولذلك كانت المجتمعات السابقة تدخر ثرواتها من خلال الذهب والفضة. (2) ومعنى كونه معياراً للمدفوعات الآجلة: أن العادة جارية في أن الناس يتعاقدون في الحقوق والالتزامات الطويلة الآجال عن طريق النقود، وليس عن طريق السلع.
ومن الجدير بالتنبيه عليه هو أن هذه الوظائف الأربع مجتمعة ليست بمثابة الأركان التي لو تخلف واحد منها في نقد ما لفقد نقديته، بل إنها كل وظائفه، (3) ولذلك تكون متكاملة في المجتمع الذي يسوده الاستقرار الاقتصادي، وتكون ناقصة عند الاضطراب والتضخم، بل قد يفقد قيمته بالكامل في بعض الأحيان " فإذا ما عجزت النقود المتعارف عليها عن القيام بإحدى هذه الوظائف، فإنه تفقد خاصيتها، ويلجأ الأفراد إلى وسيلة أخرى، أو وسيط آخر يقوم بهذه الوظائف، ففي حالة الانهيار المفاجئ لقيمة النقود، فإنها تفقد ميزتها، أو وظيفتها كوسيلة للمعاملات الآجلة، ومن ثم تفقد كذلك وظيفتها كوسيلة الاحتفاظ بالثروة، أو لاختزان القيمة" (4) أما الذهب والفضة فلم يحدث أن فقدا قيمتهما نظراً لما يتمتعان به من خصائص لا توجد في النقود الورقية.
__________
(1) يراجع: د. أحمد عبده: الموجز في النقود والبنوك، ط. دار الكتاب الجامعي سنة 1978 ص (19) ؛ ود. محمد يحيى عويس: مبادئ علم الاقتصاد، ط. دار النصر للطباعة سنة 1969 ص (218) ؛ ود. إسماعيل هاشم: مذكرات النقود ص (33) ؛ ود. علي السالوس: استبدال النقود والعملات، ط. مكتبة الفلاح ص (17-21)
(2) المصادر السابقة، يراجع: د. محمد يحيى عويس: المصدر السابق ص (286) .
(3) ويرى بعض الاقتصاديين أن الوظيفتين الأوليين للنقود (وهما وسيط للتبادل ومقياس للقيم) وظائف أصلية، أما الأخيرتان فيمن الوظائف المشتقة منهما، انظر د. أحمد عبده: المصدر السابق ص (19) .
(4) د. محمد يحيى: المصدر السابق ص (287)(9/1009)
أنواع النقود:
ومن هنا نرى أنواعاً كثيرة من النقود في عصرنا لا تؤدي إلا وظيفة واحدة، كما أن منها ما يؤدي الوظائف الأربع، حسب نوعية الاقتصاد وقوته، أو ضعفه، ولذلك ذكروا أنواعاً كثيرة سميت بالنقود؛ لأنها حازت على ثقة الناس وجرى بها العرف منها:
1- النقود السلعية مثل الجلود والأرز، بل السكاير، كما في ألمانيا عام (1945) . (1)
2- النقود المعدنية، مثل الذهب والفضة.
3- النقود المساعدة، مثل الفلوس، والنقود المصنوعة من معادن أخرى.
4- النقود الورقية المستخدمة التي تصدرها البنوك المركزية.
5- النقود المصرفية، فالمجتمعات المتقدمة اقتصاديًّا، تستخدم النقود المصرفية أو الودائع المصرفية في معاملاتها والتزاماتها. (2)
بل إن التطور في إصدار النقود المختلفة يلاحق التطور الاقتصادي وحاجته إلى السرعة والتسهيلات، ولذلك نرى نقوداً تصدر في صورة البلاستيك تسمى نقوداً بلاستيكية تصلح أن تكون وسيطاً للتبادل، لكنها ليست مخزوناً للثروة وغير ذلك.
ومن هنا فنحن أمام أمرين لا ثالث لهما وهما: إما أن نضيق مفهوم النقد، ليصبح خاصًا بالنقود التي تقوم بجميع هذه الوظائف، فحينئذ لا يسمى كثير مما يطلق عليه الآن اسم النقود نقداً، وإما أن نوسع في مفهومه ولا نشترط قيامه بأداء هذه الوظائف الأربع مجتمعة، وإنما نكتفي فيها ببعضها ولا سيما قيامه بدور الوسيط فحينئذ لا بد أن ترتب النتائج على ضوء هذه الوظائف، فما دام الاقتصاد الحديث ومؤسساته يطلق على كل هذه الأنواع اسم النقود، فحينئذ لا يشترط أن يتحد جميعها في أداء هذه الوظائف فلا شك في أن النقود الورقية تختلف عن النقود المصرفية وهكذا.
نبذة تاريخية عن النقود:
لم يكن الإنسان في مجتمعه البدائي بحاجة كبيرة إلى التداول، إذ كان يكتفى ذاتيًّا بما يتوافر له من خيرات الأرض، ثم لما تكونت المجتمعات الزراعية، وتعدد وسائل الكسب، توافر الفائض من الحاصلات وتبلورت الحاجة الماسة إلى التبادل الذي أخذ شكل المقايضة العينية، غير أنه بمرور الزمن بدت مشاكلها المعقدة إذ أنها تقتضي توافر التوافق المزدوج من الطرفين على السلعتين، بالإضافة إلى افتقارها إلى وجود معيار للقيمة، ومن هنا هدى الله تعالى الإنسان إلى استخدام النقود التي اتخذت في أول أمرها شكل "النقود السلعية"، حيث قام كل مجتمع باتخاذ سلعة معينة تلائم بيئته من صوف، وماشية، وجلود، ونحوها.
أ- ظهور النقود الذهبية والفضة:
ثم استخدمت الفضة والذهب كنقود، وكان البابليون هم أول من استخدموا الذهب والفضة لهذا الغرض حوالي (2000) قبل الميلاد، وضرب الليديون –في القرن الثامن قبل الميلاد في آسيا الصغرى - سبائك صغيرة بيضاوية الشكل، وبدأت النقود الذهبية والفضة تنتشر، وتهيمن على غيرهما إلى أن استقر التعامل بهما تماماً في القرن الثالث الميلادي، وكان ظهور النقود قد ساعد على تسهيل عمليات التبادل للسلع والخدمات، والتقليل في الوقت والجهد اللازمين لعملية التجارة، كما ساعد على سهولة التقويم والدفع بالآجل، واختزان المدخرات للأفراد والدولة. (3)
__________
(1) د. أحمد عبده محمود: الموجز في النقود والبنوك، ط. دار الكتاب الجامعي سنة 1978م ص (5-9) ؛ ود. محمد يحيى عويس: مبادئ علم الاقتصاد، ط. دار النصر للطباعة سنة 1969م ص (283-287) ح ود. محمد صالح: أصول الاقتصاد، ط. النهضة 1933 م ص (295)
(2) المراجع السابقة.
(3) د. أحمد عبده: المرجع السابق ص (5-9) ود. محمد يحيى عويس: مبادئ علم الاقتصاد ط. دار النصر سنة 1969 ص (283-278) ؛ ود. محمد صالح: أصول الاقتصاد ص 295.(9/1010)
ثم جاء الإسلام وكان النقد السائد في بلاد الروم هو الدينار الذهبي، والسائد في بلاد الفرس هو الدرهم الفضي، يقول العلامة المقريزي: "وكانت نقود العرب التي تدور بينها: الذهب والفضة لا غير، ترد إليها من الممالك، دنانير الذهب قيصرية من قبل الروم، ودراهم فضة على نوعين: سوداء وافية –أي كل درهم مثقال- وطبرية عتق- أي كل درهم نصف مثقال تقريباً- وكان وزن الدراهم والدنانير في الجاهلية مثل وزنها في الإسلام مرتين.." ولم يكن شيء من ذلك يتعامل به أهل مكة في الجاهلية، وكانوا يتبايعون بأوزان، اصطلحوا عليها فيما بينهم، وهو الرطل الذي هو اثنتا عشرة أوقية، والأوقية هي أربعون درهما.. ولما بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أقر أهل مكة على ذلك كله وقال: ((الوزن وزن أهل مكة)) . (1)
ثم رتب صلى الله عليه وسلم على ذلك أحكام الزكاة وغيرها، ولما جاء أبو بكر الصديق –رضي الله عنه- عمل في ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يغير منه شيئاً، ولما جاء عمر وفتح الله على يديه مصر والشام والعراق، لم يعترض لشيء من النقود، بل أقرها على حالها، ولكن في سنة 18 هـ ضرب الدراهم على نقش الكسروية، غير أنه زاد في بعضها: "الحمد لله" وفي بعضها "محمد رسول الله" وفي بعضها: "لا إله إلا الله وحده"، وفي آخر مدة عمر وزن كل عشرة دراهم ستة مثاقيل، ثم لما وبيع عثمان –رضي الله عنه- ضرب في خلافته دراهم نقشها: "الله أكبر" وفي عهد معاوية، ضرب تلك الدراهم السود الناقصة من ستة دوانق، وضرب منها زيادة؛ وجعل وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، وضرب معاوية أيضاً دنانير عليها تمثال متقلد سيفاً، ثم لما قام عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- بمكة ضرب دراهم مدورة، وهو أول من ضرب الدراهم المستديرة، ونقش على أحد وجهي الدرهم: "محمد رسول الله" وعلى الآخر: "أمر الله بالوفاء والعدل"، ولما استقر الأمر لعبد الملك وضع السكة الإسلامية، وأمر الناس أن يضربوا عليها نقودهم، فكان وزن عشرة دراهم سبعة مثاقيل، والدينار اثنين وعشرين قيراطاً إلا حبة بالشام –أي مثقال- وهكذا وكان العالم الإسلامي لديه الاكتفاء الذاتي من الذهب والفضة، ويكمل بعضه بعضاً، فكان المشرق يهيئ الفضة، والمغرب يأتي بالذهب وفيه أكبر معادن التبر في ذلك العهد. (2)
__________
(1) وتتمة الحديث ".. والمكيال مكيال أهل المدينة" رواه أبو داود، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني وصححاه. انظر: سنن أبي داود –مع العون- كتاب البيوع (9/188) ؛ والنسائي، كتاب البيوع، ط. دار البشائر الإسلامية ببيروت (7/284) ح وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ج 2/1 الحديث رقم 164.
(2) يراجع في تفصيل ذلك كتاب النقود للمقريزي طبعة أستانة؛ ويراجع: النقود والمكاييل والموازين لحافظ عبد الرؤوف المناوي، ط. دار الحرية للطباعة ببغداد، تحقيق: د. رجاء السامرائي، ففيه تفصيل، وتاريخ موسع للنقود، والأحكام السلطانية لأبي يعلي، بتعليق الشيخ حامد الفقي ص (174-179) ؛ والمقدمة لابن خلدون، ط. عبد السلام بن شقرون ص (229- 230)(9/1011)
ب- الفلوس:
وهكذا ظلت النقود الذهبية والفضة هي العملة السائدة في العالم، ولكنها لم تكن هي العملة الوحيدة بل كانت بجنبها نقود مساعدة تسمى بالفلوس.
يقول المقريزي، والمناوي: "ولم تزل ملوك مصر أو الشام والعراقيين: العرب والعجم –وفارس والروم في أول الدهر وآخره يجعلون بإزائها نحاساً يضربون منه القليل والكثير صغاراً تسمى فلوساً، وكان للناس بعد الإسلام وقبله أشياء أخرى يتعاملون بها كالبيض والودع وغير ذلك" (1)
والفلوس وإن كان لا تعني بالضرورة أن تكون مصنوعة من النحاس لكنه جرى العرف قديماً وحديثاً أن تصنعه منه، وكان لها دورها الكبير في الاضطراب والاستقرار الاقتصاديين، يقول المقريزي، والمناوي: "فلما تسلطن الملك الظاهر برقوق، وأقام الأمير محمود بن علي استاداراً –أي المسئول عن منزل الملك- أكثر من ضرب الفلوس، وأبطل ضرب الدراهم فتناقصت حتى صارت عرضاً ينادى عليه في الأسواق بحراج حراج، وغلبت الفلوس إلى أن قدم الملك المؤيد شيخ من دمشق " حيث جلب معه دراهم نوروزية فتعامل الناس بها وحسن موقعها لبعد العهد بالدراهم (2) وظل الأمر بين الفلوس وبين الذهب والفضة هكذا بين المد والجذب، فقد نودي في سنة (724هـ) على الفلوس أن يتعامل بها بالرطل، كل رطل بدرهمين، ورسم بضرب فلوس زنة الفلس منها درهم، وفي سنة (756هـ) رسم السلطان الملك الناصر حسن بضرب فلوس جدد على قدر الدينار ووزنه، وجعل كل أربعة وعشرين فلساً بدرهم، وكان قبله الفلوس العتق كل رطل ونصف بدرهم. (3)
__________
(1) رسالة المقريزي ص (59) ؛ ورسالة المناوي ص (100)
(2) المصادر السابقة
(3) النقود والمكاييل والموازين للمناوي ص (107)(9/1012)
وقد قاس فقهاؤنا الكرام النقود بقوتها الشرائية، فاعتبروا قوة الدرهم والدينار بما يشترى به، وقوه الفلوس بما يقابلها من الذهب أو الفضة، بل جعلوا قيمة الدرهم بما يقابله من الذهب، فقد ذكروا أنه في عصر الحاكم بأمر الله تزايد أمر الدراهم في شهر ربيع الأول سنة (397هـ) فبلغت أربعة وثلاثين درهماً بدينار، ونزل السعر واضطربت أمور الناس فرفعت تلك الدراهم، وأنزل في القصر عشرون صندوقاً فيها دراهم جدد، ومنع الناس من التعامل بالدراهم الأولى فأخطروا، وبلغت أربعة دراهم تساوى درهماً جديداً، وتقرر أمر الدراهم الجدد على ثمانية عشر درهماً بدينار (1) وذكر الذهبي أنه في سنة (622هـ) أمر الخليفة بمصر المستنصر بضرب الدراهم الفضة وسعرت كل عشرة بدينار (2) وذكر الحافظ ابن حجر في أنباء الغمر في سنة (776هـ) أنه قد بيع الأردب القمح بمائة وخمسة وعشرين درهماً نقرة وقيمتها إذ ذاك ستة مثاقيل ذهباً وربع، وبيع إذ ذاك دجاجة واحدة بأربعة دراهم، (3) وقد علق السيوطي على هذه الحوادث السابقة بأن هذا صريح في أن الدراهم كان سعر كل درهم منها ثلثي رطل من الفلوس، وأن سعره بالنسبة للدينار العشر في سنة 632هـ وأما في سنة 776هـ، فكان سعره نصف عشر دينار، "أي أن كل عشرين درهماً مثقال" (4)
وقد بلغ الأمر بالفلوس في القاهرة إلى أن جعلت معياراً يقوم به السلع. وذكر المقريزي والمناوي، نقلاً عن الذهبي، أن الأمير محمود الاستادار أكثر ضرب الفلوس بالقاهرة والإسكندرية، فبطلت الدراهم من مصر وصارت معاملة أهلها بالفلوس، وبها يقوم السلع والمبيعات، "قد أدركنا في كل ليلة، من بعد العصر، تجلس الباعة من باب المدرسة الكاملية في باب الناصرية، فيباع لحم الدجاج والأزر كل رطل بدرهم، والعصافير المقلوة، كل عصفور بفلس من كل أربعة وعشرين بدرهم، وذلك في دولة الناصر محمد بن قلاوون" (5) وفي سنة (794هـ) ضربت بالإسكندرية فلوس ناقصة الوزن عن العادة، طمعاً في الربح فآل الأمر إلى أن كانت أعظم الأشرار في فساد الأسعار وفي نقص الأموال وفي سنة (806هـ) نودي على الفلوس بأن يتعامل بها بالميزان، وسعر كل رطل بستة دراهم، وكانت فسدت إلى الغاية بحيث صار وزن الفلس ربع درهم وبعد أن كان مثقالاً، وفي عام (814هـ) أمر الناصر بأن تكون الفلوس كل رطل باثني عشر درهماً، فغضبت التجار، وأغلقوا حوانيتهم، إظهاراً لغضبتهم، فغضب السلطان لذلك وكاد يضع فيهم السيف، لولا شفاعة الأمراء، ولكنهم ضربوا جماعة منهم، "وشنق رجل بسبب الفلوس، ثم انحل أمر الفلوس بعد الفتنة" (6) وفي سنة (826هـ) عقد مجلس بسبب الفلوس، فاستقر أمرها، ونودي على الفلوس أن الخالصة كل رطلين سبعة دراهم والمخلوطة كل رطل بخمسة دراهم، وحصل بين الباعة، بسبب ذلك، منازعات، ثم في آخر رمضان من السنة السابقة، نودي على الفلوس المنقاة بتسعة، ويمنع المعاملة من الفلوس أصلاً، فسكن الحال ومشى، ونتيجة لذلك رخص فيها سعر القمح، حتى انحط إلى ستين درهماً الأردب، بحيث يتحصل بالدينار المختوم أربعة أرادب. (7)
__________
(1) رسالة المقريزي ص (59) ؛ ورسالة المناوي ص (100) .
(2) نقلاً عن المناوي في رسالته ص (107)
(3) أنباء الغمر في أبناء العمر (1/92)
(4) نقله عنه الحافظ المناوي في رسالته ص (108-109)
(5) أنباء الغمر في أبناء العمر (1/92) ونقله عنه الحافظ المناوي في رسالته ص (108-109)
(6) أنباء الغمر للحافظ ابن حجر (2/487) والنقود والمكاييل للمناوي ص (114) .
(7) أنباء الغمر (3/301) ؛ والنقود والمكاييل ص (117) .(9/1013)
وهذه الأمور كلها دليل على مدى تأثير الفلوس في عدم الاستقرار، وأنه كلما كان الاعتماد على الذهب والفضة، كان استقرار السوق أكثر، ويذكر الحافظ ابن حجر، والمقريزي كثيرا من هذه المشاكل الاقتصادية التي نجمت عن الفلوس فذكر ابن حجر أنه في سنة (832هـ) "نودي على الفلوس أن يباع الرطل النقي منها بثمانية عشر درهماً، ورسم للشهود ألا يكتبوا وثيقة في معاملة، أو غيرها إلا بأحد النقدين (الذهب والفضة) بسبب شدة اختلاف أحوال الناس، واختلاف أحوال الفلوس التي صارت هي النقد عندهم في عرفهم" (1)
ويقول المقريزي: "الفلوس لم يجعلها الله تعالى قط نقداً في قديم الدهر وحديثه إلى أن راجت في أيام أقبح الملوك سيرة، وأرذلهم صريرة، الناصر –البرقوقي- وقد علم كل من رزق فهماً وعلماً أنه حدث في رواجها خراب الأقاليم، وذهاب نعمة أهل مصر، والفضة هي النقد الشرعي لم تزل في العالم" ثم ذكر "أن النقود التي كانت أثماناً وقيماً إنما هي الذهب والفضة فقط، ولا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم، ولا طائفة من الطوائف أنهم اتخذوا أبداً في قديم الزمان ولا حديثه غيرهما إلا أنه لما كانت في المبيعات محقرات تقل أن تباع بدرهم، أو بجزء منه احتيج قديماً وحديثاً إلى شيء سوى النقدين يكون إزاء تلك المحقرات ولم يسم أبداً ذلك الشيء الذي جعل للمحقرات نقداً ولا أقيم قط بمنزله أحد النقدين، واختلفت مذاهب البشر، وآراؤهم فيما يجعلونه إزاء تلك المحقرات" (2)
ج- العملة الورقية في أوربا:
ظهرت العملة الورقية (البنكنوت) في أوربا في أواخر القرن السابع عشر الميلادي، ولكنه دون أن تهيمن على النقود المعدنية حيث ظلت تقوم بدورها في معظم دول العالم مع إعطاء حاملي البنكنوت الحق في تحويله إلى عملات ذهبية، غير أنه بقيام الحرب العالمية الأولى فرض السعر الإلزامي للنقود الورقية وأصبحت العملة السائدة، وبالتالي اختفت النقود المعدنية (3)
__________
(1) أنباء الغمر (3/419) .
(2) رسالة النقود للمقريزي ط. الأستان ص (8) وطبعة الأب الكرملي ص 67) ؛ والنقود والمكاييل ص (125-126) وقد ذكر الكرملي في تعليقه على ما قاله المقريزي، ص (65) : "يظهر من كلام المقريزي أنه لم يكن تام الاطلاع على تاريخ النقود؛ لأننا نعلم أن الأقدمين من الرومان واليونان، كانوا يستعملون نقود النحاس وربما سبقت نقود الفضة والذهب".
(3) د. أحمد عبده المصدر السابق ص (27)(9/1014)
هذا ومن الجدير بالتنبيه عليه أن أهل الصين قد استعملوا النقد الورقي منذ حقب بعيدة، فقد ذكر ابن بطوطة في رحلته العظيمة أن "أهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم، وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعًا، وإنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغذ، كل قطعة منها بقدر الكف مطبوعة بطابع السلطان، وتسمى الخمس والعشرون قطعة منها بالشت، وهي بمعنى الدينار عندنا، وإذا تمزقت تلك الكواغذ في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكة عندنا فأخذ عوضها جدداً، ودفع تلك، ولا يعطى على ذلك أجرة ولا سواها؛ لأن الذين يتولون عملها لهم الأرزاق الجارية من قبل السلطان، وإذا مضى الإنسان إلى السوق بدرهم فضة، أو بدينار يريد شراء شيء لم يؤخذ منه، ولا يلتفت إليه حتى يصرفه بالشت، ويشترى به ما أراد" (1)
وكانت أكثر الدول الأوربية تستعمل النقود الذهبية، وبعضها النقود الفضية كهولندا، وروسيا، وبعضها الأخرى تتعامل بالنقدين على قدم المساواة مثل أمريكا وفرنسا، والبلجيك وسويسرا، وكان الغش أو البخس في العملة في كثير من الأحيان يؤدي إلى أزمات خطيرة منذ العصر الروماني، وكان يلجأ إليه ملوك أوربا في كثير من الأحايين. (2)
وقد يحصل في بعض الأحيان التنافس بين أنصار الذهب، وأنصار الفضة ولا سيما في أمريكا غير أن النتيجة كانت في الآخر لصالح الأول، حيث صدر قانون وحدة النقود على أساس الدولار الذهب مع استيفاء قوة الإبراء غير المحدودة لدولار الفضة إثر الانتخاب الذي جرى لأجله في عام (1900) ولم يبق أيضاً بعد ذلك من الدول التي تسير على نظام المعدن الفضي إلا الصين والهند الصينية، وبعض أنحاء آسيا، وذلك بسبب هبوط قيمة الفضة المستمر أمام الذهب إثر اكتشاف مناجم كبيرة للفضة في أمريكا ونضوب مناجم الذهب في استراليا (3)
وقد أدت الحرب العالمية الأولى ونفقاتها الباهظة إلى اختفاء النقود الذهبية، بل والفضية فقررت فرنسا وبلجيكا وسويسرا، وإيطاليا منذ سنة (1914) التعامل الجبري بالبنكنوت، وعمدت بنوك الإصدار فيها إلى الإكثار من رصيدها المعدني وبذلك استنزفت أكبر كمية من الذهب، واختفت –تقريباً- العملات الذهبية من التداول، غير أن أنصار المعادن النفيسة قد بذلوا عدة محاولات في سبيل إعادتها، اتخذت أشكالاً منها: نظام السبائك الذي أخذت به بريطانيا منذ مايو عام 1925 إلى 1931، ويقتضى هذا النظام أن توقف السلطات النقدية حرية سك العملات، على أن تظل حرية تصدير واستيراد الذهب قائمة، وألا يحول البنكنوت إلى ذهب، إلا في صورة سبائك وبحد أدنى، ومنها نظام الصرف بالذهب الذي يقضى أن ترتبط العملة المحلية بالذهب بشكل غير مباشر عن طريق عملة أجنبية تسير على نظام الذهب مثل مصر التي ارتبطت في (1925-1931) بالجنيه الاسترليني، (4) ولا تزال المحاولات في سبيل هذه الإعادة موجودة إلى وقتنا الحاضر، ولكن أصواتهم خافتة، لمعارضتها لمصالح الدول الكبرى.
__________
(1) رحلة ابن بطوطة، ط. المطبعة الخيرية الأولى ص (196) وذكر المقريزي في رسالتها أن هذه النقود كانت تصنع من لحاء شجر التوت.
(2) د. محمد صالح: المصدر السابق ص (330-335) ؛ ود. أحمد عبده: المصدر السابق ص (29) ح ود. محمد عبد العزيز، وتادرس، النقود والبنوك في التجارة الخارجية طبع سنة 1968م ص (2) ؛ ود. عبد النعيم مبارك: النقود والصيرفة، ط. الدار الجامعية سنة 1985م ص (7) .
(3) د. أحمد عبده: المصدر السابق ص (38-39) .
(4) د. محمد عبد العزيز، ود. مصطفى رشدي شيحة: النقود والبنوك، ط. الدار الجامعية ص (65)(9/1015)
بداية فكرة البنكنوت:
انطلقت هذه الفكرة أساساً من أحضان الصيارفة، ثم تبنتها الحكومات، حيث وجدت فيها بغيتها، ويعود السبب في ذلك إلى أن أوربا في القرن السابع عشر قد سادتها اضطرابات كبيرة وعدم استقرار شديد، دفع بالأغنياء أن يودعوا نقودهم وسبائكهم الذهبية عند التجار الصيارفة يختلف في أوقات الأزمان (1) لما رأينا بخصوص أمريكا في عام 1971، ومنها قاعدة السبائك الذهبية، وقاعدة المعدنين (الناقص والكامل) وقاعدة الفضة.
أهمية الارتباط والغطاء الحقيقي للنقود:
أدى إلغاء ارتباط النقود الورقية بالذهب إلغاء كاملاً، حتى من حيث الاسم –والذي كان آخره في عام 1971 بالنسبة للدولار- إلى تفسخ النظام الاقتصادي الرأسمالي، وعدم الاستقرار المتزايد، والتضخم، والهبوط الحاد في أسعار العملات، فقد هبطت قيمة الدولار هبوطاً كبيراً حيث بلغ 87? من قيمته في مارس 1973، في مقابل أكثر العملات العالمية السائدة.
بل إن بعض الاقتصاديين أرجعوا أحد أسباب هذه الأزمة النقدية والاقتصادية العالمية عام (1929) إلى عدم وجود غطاء حقيقي للنقود الورقية التي أسرفت الدول في إصدارها، حيث كان النظام النقدي آنذاك قد أسس على افتراض غير حقيقي على أساس أن الدولار، أو الاسترليني يعادل الذهب في حجمه ووظائفه، فلما انكشفت الحقيقة من عدم التعادل بينهما وتبينت الفجوة، وقعت الأزمة. (2)
وتدل التجارب المريرة السابقة أن الرجوع إلى النقود المعدنية كان بمثابة صمام الأمان لإعادة الثقة إلى النقود، فقد أصاب فرنسا فشل ذريع إثر إصدارها النقود الورقية بكميات هائلة من خلال تجربة (جون لو) الفاشلة، بالإضافة إلى التضخم الذي لازم الثورة الفرنسية وما بعدها، حيث ارتبط هذا التضخم بالسندات الورقية التي أصدرتها السلطات العامة بضمان أملاك الكنيسة والنبلاء، ثم بضمان الأموال المحلية، فمنحها القانون قوة الإبراء، غير أنها انخفضت قيمتها كثيراً وفشلت، وفقد الناس الثقة بها، بل أحجموا عن التعامل بها، إزاء ذلك كان لا بد من الإصلاح النقدي، فصدر لهذا الغرض قانون 20/3/1803 والذي استمر حتى عام 1914، حيث ألغيت النقود الورقية واعتمدت على النقود المعدنية: الفضة والذهب.
__________
(1) د. مصطفى رشدي: المرجع السابق ص (39) .
(2) د. إبراهيم أحمد إبراهيم: المرجع (42-43) .(9/1016)
وفي إنجلترا انخفضت قيمة النقود الورقية بما لا يقل عن 30?، واجتمعت لجنة أسهم فيها (ريكاردو) ، لبحث أسباب هذا التضخم واقتراح الحلول المناسبة له، فأوصت برفع السعر الإجباري، وإعادة تنظيم النقد على أساس معدني وبالفعل صدر قانون 22/6/1816 قضى بالرجوع إلى قاعدة الذهب أو قاعدة المعدن الفرد، وأصبحت النقود الذهبية وحدها تتمتع بقوة الإبراء القانونية، ثم صدر قانون آخر عام 1844 بإعادة تنظيم بنك إنجلترا، وبذلك أصبح الاقتصاد الإنجليزي –وهو أكبر قوة اقتصادية في العالم آنذاك- قائماً على قاعدة الذهب، حيث اعتبرت وحدات النقد الذهبية نقوداً قانونية ونهائية، فوحدة النقد أصبحت تساوي وزناً معيناً من الذهب، ومن هنا روعيت العلاقة والتكافؤ بين قيمة الذهب كسلعة، وقيمته الاسمية كنقد، تلك الازدواجية، يعتبرها أنصار قاعدة الذهب من مميزاتها الأساسية التي تحقق التوازن المطلوب، وهي لا تعني اقتصار التداول على النقود الذهبية، بل اعتماد النقود الورقية على هذا الأساس. (1)
فكان الإصلاح النقدي الفرنسي (السابق الإشارة إليه) قائماً على أن مؤسسة الإصدار بالخيار بين ضمان إصدار النقود الورقية بغطاء، أو احتياطي معدني (ذهب، أو فضة) ومن هنا فقاعدة ارتباط النقود الورقية بغطاء أو احتياطي معدني (ذهب، أو فضة) ومن هنا فقاعدة ارتباط النقود الورقية بالمعدن النفيس، يعطى لها كفاءة في المحافظة على القوة الشرائية لها، وهي الوظيفة الأساسية للنقود، كما أنها تؤدي إلى نمو اقتصادي، حيث لا يمكن تحقيق النمو، والازدهار، إلا أن يكون هناك استقرار نسبي في الأسعار ودون توافر نقود قوية تكون مصدر ثقة للأفراد.
وقد دافع أنصار قاعدة الذهب، وارتباط النقود به عن هذه النظرية، بأن الذهب يتمتع بصفة العمومية والقبول التام عند جميع الناس، وأنه قد أسهم في تحقيق التوازن بين الاستقرار النقدي، ونمو النشاط الاقتصادي وازدهاره، وأنه قد حال دون التضخم والانهيار، ولم يحدث التضخم في ظله إلا إذا استغلت الدولة ثقة الناس بها، وأصدرت من النقود الورقية أكثر مما لديها من الغطاء الذهبي، كما أنه قد أدى إلى تثبيت أسعار الصرف بين عملات الدول التي تبيع نظامها النقدي قاعدة الذهب، وبالتالي ساهم ثبات سعر الصرف في نمو التجارة العالمية والاستثمار الدولي خلال القرن التاسع عشر، والحقيقة أن قاعدة الذهب في مضمونها النظري والعملي، أفادت كثيراً الاقتصاد الإنجليزي، وحققت له الفاعلية في إدارة النقود في الداخل والسيطرة والسيادة في النظام النقدي الدولي، وتغلبت على جميع قواعد النقد الأخرى، (2) ولم يتخل عنها الإنجليز، إلا تحت ضغوط اقتصادية أدت إلى عدم قدرتهم على الغطاء، بسبب الحرب العالمية الأولى.
__________
(1) المراجع السابقة
(2) المراجع السابقة(9/1017)
استغلال الاستعمار الدول النامية في سياسته النقدية:
وقد استغل الإنجليز لصالح اقتصادهم، كل الموارد الموجودة في الهند، ولم يكتف بذلك، بل ربط نقودها بنقودهم، حيث كان النقد الهندي مرتبطاً بالجنيه الاسترليني، وهو مرتبط بقاعدة الذهب، وهذا يعني توافر الغطاء الذهبي المطلوب للعملة الهندية في البنوك البريطانية، وهذا النظام يسمى بنظام الحوالات المصرفية الذهبية، وطبق لأول مرة عام 1863 في الهند (حيث كانت مستعمرة للإنجليز) ، ثم نادى به الخبراء الإنجليز في مؤتمر جنوة عام 1922، وأخذت به الدول الفقيرة في أوربا الوسطى، والشرقية، والمستعمرات في آسيا وإفريقيا، حيث ربطت عملاتها بأوراق أجنبية مضمونة بالذهب، مثل الجنيه، والدولار، وكانت الدول المستعمرة تودع رصيدها من الذهب، أو عملات أجنبية أخرى، في البنك المركزي لدى الدول المتبوعة، ثم تحصل في مقابلها على عملة هذه الدولة المضمونة بالذهب، ثم تكون قيمة عملتها على أساس سعر الصرف الثابت بين عملتها وعملة الدولة المتبوعة، وهي سياسة ماكرة، في ظاهرها تبريرها، بأن إنتاج الذهب لم يعد يكفي لمواجهة جميع العملات، وفي حقيقتها السعي لاستبدال الذهب بالدولار، أو الجنيه الورقيين، والوصول من خلالها إلى استنزاف أكبر قدر ممكن من ثروة الدول الفقيرة والمستعمرة، فقد كانت مواردها تودع في خزائن الدولة المتبوعة، وتتلقى في مقابلها العملة الورقية على أساس أنها مضمونة بالذهب، ولكنه كان افتراضاً غير حقيقي، "وبهذا فإن قاعدة الحوالات الذهبية قامت بدور تجميع وتعبئة الفائض في الاقتصاد التابع، وتسهيل انتقاله إلى البلد المتبوع" (1) إضافة إلى أن الدولة المتبوعة (لإنجلترا) كانت تأخذ المواد الأولية والسلع من الدول الفقيرة والمستعمرة كديون، تسدد بالذهب، ولكنها كانت تسدد بعملات ورقية خضعت لعدة تخفيضات، كانت الخاسرة الوحيدة فيها هي الدولة التابعة.
ولا غرو في أننا إذا قلنا: إن كثيراً من الدول النامية لا تزال تخدم مصالح الدولة الكبرى في سياستها المالية أيضاً من خلال ربط نقودها بنقود هؤلاء.
__________
(1) د. مصطفى رشدي: المرجع السابق (42-43)(9/1018)
يذكر مدير معهد الاقتصاديات الدولية في واشنطون (فريد بريستون) "أن الدولار مقيم بأعلى 25?، زيادة عن قوته الحقيقية" (1) وذلك بسبب بيع النفط وكثير من المنتوجات به، إضافة إلى الأضرار الناجمة عن هذه التبعة مثل أن يكون اقتصاد الدولة التابعة قويًّا مع أن اقتصاد أمريكا قد يكون مهزوزاً، فتكون النتيجة أن سعر الصرف ثابت على أساس الدولار، فتتضرر الدولة بخصوص العملات الأخرى، ولذلك حينما اهتز الدولار في الأعوام الأخيرة، تضررت الدول التي ربطت نقودها به كثيراً دون وجود الأسباب التي أدت إلى تخفيض سعر الدولار في تلك الدول.
أحكام خاصة بالدنانير والدراهم، لا توجد الفلوس:
يراد بالدينار في عرف الفقهاء الدينار الذهبي، الذي يكون وزنه مثقالاً، وبالدرهم عندهم: الدرهم الفضي الذي كل عشرة منه، يساوي سبعة مثاقيل، يقول ابن خلدون: "اعلم أن الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتابعين أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب، والأوقية منه أربعين درهماً، وهو على هذا سبعة أعشار الدينار، ووزن المثقال من الذهب الخالص اثنتان وسبعون حبة من الشعير، فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة وخمسا حبة، وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع، فإن الدرهم الجاهلي كان بينهم على أنواع" ثم رجح القول –تبعاً للمحققين - بأن وزنه لم يكن مجهولاً، فقال: "وأنكره المحققون من المتأخرين، لما يلزم عليه أن يكون الدينار والدرهم الشرعيان مجهولين في عهد الصحابة ومن بعدهم، مع تعلق الحقوق الشرعية بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها.
والحق أنهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر، لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلق بهما من الحقوق، وكذا مقدارهما وزنتهما حتى استفحل الإسلام، وعظمت الدولة، ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار الوزن، كما هو عند الشرع، ليستريحوا من كلفة التقدير، وقورن ذلك أمام عبد الملك، فشخص مقدارهما وعينهما في الخارج، كما هو في الذهن، ونقش عليهما السكة باسمه وتاريخه، إثر الشهادتين الإيمانيتين، وطرح النقود الجاهلية رأساً.. فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، ومن بعد ذلك وقع اختيار أهله السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم" (2)
ولما أصبحت هذه الأوزان –مثل المثقال ونحوه- غريبة علينا نتيجة الغزو الثقافي والاصطلاحي لا بد من ذكر الأوزان المعهودة لنا حسب موازيننا المعروفة، وقد حقق الأستاذ الدكتور القرضاوي تحقيقاً رائعاً، وصل من خلاله إلى أن الدينار الذهبي –أي المثقال- يساوي 4.25 من الجرامات، وأن الدرهم الفضي يساوي 2.975 من الجرامات. (3)
__________
(1) المشار إليه في د. إبراهيم أحمد إبراهيم: المرجع السابق ص (59)
(2) المقدمة ط/ عبد السلام بن شقرون: المصدر السابق ص (231)
(3) فقه الزكاة، ط/ مؤسسة الرسالة (1/252-260) وقد اعتمد على كتاب الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك وغيره من مصادر معتمدة قديمة وحديثة، فليراجع.(9/1019)
والفلس هو عملة غير الذهب والفضة، تضرب من النحاس أو من غيره، تكون مساعدة للعملة السائدة، فكان الفلس في بعض الأحيان يساوي سدس الدرهم، وقد يزيد، أو ينقص كما ذكرنا.
وبعد ذلك، نذكر بعض أحكام الخاصة بالدنانير والدراهم، لا توجد في الفلوس، حتى يتبين لنا مدى نظرة الفقهاء إلى هذه المسألة.
أولاً: أجمع الفقهاء على أن الدنانير والدراهم هما النقدان الأصليان اللذان يعتبر أن أثماناً للقيم والمتلفات ومعياراً لهما، وترتبت على ذلك أحكام كثيرة في الصرف والربا ونحوهما، لا يتسع المقام لذكرها. (1)
وأما الفلوس فقد جرى الخلاف فيها: فهل تلحق بهما في النقدية إذا أصبحت يتعامل بها الناس ونالت ثقتهم أم لا؟
فذهب المالكية إلى إعطائها حكم النقود في الربا في القول الراجح عندهم، (2) في حين ذهب جماعة آخرون منهم الشافعية إلى منع ذلك، وهذه المسألة في الواقع مرتبطة بأن العلة في الربا في الذهب والفضة هل هي قاصرة أم متعدية؟ ولذلك نذكر أقوالهم. قال المرغيناني: " فالعلة عندما الكيل مع الجنس، والوزن مع الجنس" (3) ويقول صاحب الدر المختار: "وعلته القدر المعهود بكيل أو وزن مع الجنس فإن وجدا حرم الفضل والنساء، وإن عدما حلًّا، وإن وجد أحدهما، حل الفضل وحرم النساء، وحل بيع تفاحة بتفاحتين وفلس بفلسين، أو أكثر بأعيانهما" ولكن جواز بيع فلس بفلسين، عند أبي حنيفة وأبي يوسف خاص بحالة تعيينهما، حيث إن للعاقدين إبطال ثمنية الفلوس، وحينئذ تصير كالعروض التي يجوز فيها التفاضل، أما في حالة عدم التعيين وجعلها أثماناً، فلا يجوز التفاضل. (4)
وقال العدوي: "واختلف في علة الربا في النقود فقيل: غلبة الثمنية، وقيل: مطلق الثمنية، وعلى الأول، تخرج الفلوس الجدد، فلا يدخلها الربا، ويدخلها على الثاني" (5) غير أن ابن رشد أسند إلى حذاق المالكية القول بأن العلة هي الصنف الواحد، مع كون الذهب والفضة رؤوساً للأثمان وقيماً للمتلفات، ثم قال: "وهذه العلة هي التي تعرف عندهم بالقاصرة؛ لأنها ليست موجودة عندهم في غير الذهب والفضة" (6)
__________
(1) فتح القدير (7/4) ؛ وبداية المجتهد (1/130) ؛ والمجموع للنووي (8/395) ؛ والمغني لابن قدامة (4/5-7) وغيرهما
(2) قال القرافي في الفروع (3/259) : "وفيها ثلاثة أقوال: التحريم، والإباحة، والكراهة".
(3) فتح القدير، ط/ مصطفى الحلبي (7/4)
(4) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين ط. بيروت (4/178-179)
(5) حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة أبي زيد (2/130)
(6) بداية المجتهد (1/130)(9/1020)
وذهب الشافعية إلى أن العلة في الذهب والفضة هي الثمنية غالباً –أي جنس الأثمان غالباً- وهذه العلة قاصرة عندهم. وعند الزيدية، (1) لا تتعدى إلى غيرهما، وفائدتها هي معرفة أن الحكم مقصور عليها، حتى لا نطمع في القياس. (2)
يقول الإمام الشافعي: "الذهب والفضة بائنات من كل شيء لا يقاس عليهما غيرهما، لمباينتهما ما قيس عليهما" (3) ويقول النووي: "إذا راجت الفلوس رواج النقود، لم يحرم الربا فيها هذا هو الصحيح المنصوص عليه، وبه قطع المصنف والجمهور (4) ومعنى ذلك أن الفلوس تكون سلعة مثل الحيوان، حيث يجوز بيع حيوان بحيوانين؛ لأنه من القيميات التي تلاحظ فيها القيمة والجودة والرداءة".
وذهب الحنابلة، في المشهور، إلى أن العلة فيهما هي: كونهما موزون جنس. فعلى ضوء ذلك، تدخل الفلوس في الأموال الربوية، قال ابن قدامة: "واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة، فروى عن أحمد في ذلك ثلاث روايات أشهرهن: أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس، والرواية الثانية: أن العلة في الأثمان الثمنية، فيختص بالذهب والفضة" (5)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأظهر أن العلة في الدراهم والدنانير هو الثمنية، لا الوزن كما قاله جمهور العلماء، ولا يحرم التفاضل في سائر الموزونات كالرصاص والحديد. والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معياراً للأموال، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، لا بقصد الانتفاع بعينها".
ثم قال في مكان آخر: "لكن من قال: هي أثمان. فهل يجري فيها الربا من هذه الجهة؟ على وجهين في مذهب أحمد وغيره" (6)
والمالكية، وإن كانوا قد وسعوا في مفهوم الثمنية، وأعطوا حكم النقود للفلوس ونحوها، ولكنهم مع ذلك أبقوا بعض الأحكام خاصة بالذهب والفضة، فمثلاً قالوا بوجوب الزكاة في الدرهم والدينار لذاتهما، إذا بلغا النصاب، ولكنهم مع ذلك قالوا بعدم وجوب الزكاة في الفلوس إلا إذا كانت للتجارة.
__________
(1) البحر الزخار (4/333)
(2) المجموع (9/395)
(3) الأم (3/99)
(4) المجموع (9/393-395)
(5) المغني (4/5-7) ؛ والكافي (2/53)
(6) مجموع الفتاوى (29/471)(9/1021)
يقول الشيخ عليش: " إن الفلوس النحاس المختومة بختم السلطان المتعامل بها، لا زكاة في عينها، لخروجها عن ذلك قال في المدونة: ومن حال الحول على فلوس عنده، قيمتها مئتا درهم، فلا زكاة عليه فيها إلا أن يكون مديراً، فيقومها كالعروض" (1)
وذهب الظاهرية إلى عدم الاعتراف بالقياس، وبالتالي بالعلة، ومن هنا حصروا الأموال الربوية على الأنواع الستة التي ورد بها النص من السنة المشرفة، وهذا مروي عن طاووس ومسروق، والشعبي وقتادة وعثمان البتي. (2) ولا شك أن مبنى قولهم هذا غير مقبول، لا يتفق مع القواعد العامة للشريعة التي جاءت بشمولية وعموم، وراعت الحكم والمصالح، ولذلك قام الجمهور بالرد عليهم في هذا المسلك حتى اعتبر بعضهم خلافهم في هذا الأساس شاذًّا لا يعتد به، ولا يخدش في الإجماع. (3)
وقد عرضت هذه الأقوال لا لأقول: إنه لا يوجد ربا في النقود الورقية، وإنما لأبين الفرق بين الذهب والفضة وبين غيرهما، لنصل إلى الحل الوسط كما سيتضح إن شاء الله.
ثانياً: اتفق الفقهاء أيضاً على أن الذهب والفضة من المثليات، وبالتالي يردان بالمثل في حالة القرض، سواء رخص سعرهما أم غلا، أم كسدا وألغيا.
أما الفلوس ففيها خلاف، فذهب المالكية إلى أنها مثل الذهب والفضة، جاء في الشرح الكبير: "وإن بطلت فلوس، أو دنانير، أو دراهم، فالمثل، أو عدمت بالكلية، فالقيمة، وتعتبر وقت اجتماع الاستحقاق والعدم، أي العبرة بالمتأخرة منهما على قول، والمعتمد: يوم الحكم". (4)
واختلف الحنفية في الأدلة في القرض، فذهب الإمام أبو حنيفة إلى مثل ما ذهب إليه مالك، حيث أوجب رد المثل في حالات الكساد والانقطاع وتغير العملة، وذهب أبو يوسف إلى وجوب القيمة في الفلوس في الحالات الثلاث السابقة، في حين ذهب محمد إلى وجوب المثل، عند تغير القيمة، ووجوب القيمة، في حالتي الكساد والانقطاع (5) قال ابن عابدين: "ثم اعلم أن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها، فإنها حيث كانت لا غش فيها لم يظهر للاختلاف معنى، بل كان الواجب رد المثل بلا نزاع أصلاً. (6)
__________
(1) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك ط. مصطفى الحلبي (1/164-165)
(2) المحلى لابن حزم (9/504)
(3) قال ابن الصلاح في فتاواه ص (67) : ذهب جمهور العلماء إلى أن نفاة القياس لا يبلغون منزلة الاجتهاد. وقال الإمام أبو المعالي الجويني: ما ذهب إليه ذوو التحقيق: أنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة فإنهم أولاً باقون على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواتراً.. وأيضاً فإن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد" ثم قال ابن الصالح: "والذي أختاره أنه يعتبر خلافهم في الفقه لكن لا يعتد بخلافهم في نفي القياس الجلي مثل قولهم بنفي الربا فيما سوى الأشياء الستة".
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (3/45) ؛ شرح الخرشي (5/55)
(5) رسالة النقود لابن عابدين ص (62-63) ح وحاشية ابن عابدين (4/26)
(6) رسالة النقود لابن عابدين ص (62-63) ؛ وحاشية ابن عابدين (4/26)(9/1022)
وقال الشافعية إن الرد في قرض الفلوس يكون بالمثل فقط في جميع الأحوال، ليس ذلك بناءً على أنها نقود، وإنما على أساس أنها من المثليات؛ لأنها من الموزونات (1) أما في حالة كون الفلوس أو المغشوشة ثمناً في البيع ونحوه فألغيت أو كسدت، فإن العقد يبطل عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع، وقال محمد: عليه قيمتها آخر ما تعامل الناس بها. (2)
وقال الحنابلة: "إن المستقرض يرد المثل في المثليات، سواء رخص سعره أو غلا، أو كان بحاله.. وإن كان القرض فلوساً، أو مكسرة، فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها، كان للمقرض قيمتها ولم يلزمه قبولها.. نص عليه أحمد، في الدراهم المكسرة وقال: يقومها كم تساوي يوم أخذها؟ ثم يعطيه. وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيراً" (3)
وثالثاً: الدراهم والدنانير ثمن مطلقاً بالإجماع، في حين أن هناك خلافاً كبيراً في ثمنية الفلوس، فالمالكية –كما سبق- وسعوا مفهوم الثمنية، ليشمل كل شيء يعتبره العرف ثمناً، حتى وإن كان من الجلود (4) على عكس الشافعية والزيدية، وأحمد –في رواية- الذين حصروه في الدراهم والدنانير، (5) وأما الحنفية فقالوا: إن الدراهم والدنانير أثمان على كل حال، وأما الفلوس إنما تكون ثمناً إذا دخلت عليها حرف الباء، ولم تعين فتكون ثمناً، وإلا فلا. (6) وذكر ابن عابدين أنه "يستفاد من البحر: أن الفلوس قسم رابع، حيث قال: وثمن بالاصطلاح، وهو سلعة في الأصل، كالفلوس، فإن كانت رائجة، فهي ثمن، وإلا فسلعة". (7)
رابعاً: أن جمهور الفقهاء لم يشترطوا في الفلوس الرائجة عند صرفها بالذهب والفضة الحلول والتقابض، مع أن ذلك شرط أساسي عند صرف الذهب بالفضة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما بيع الفضة بالفلوس النافقة: هل يشترط فيها الحلول والتقابض، كصرف الدراهم بالدنانير؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد.
__________
(1) الأم (3/28)
(2) رسالة النقود ص (62-63) ؛ وحاشية ابن عابدين (4/24-26)
(3) المغني لابن قدامة (4/360)
(4) المدونة (7/104)
(5) الأم (3/99) ؛ والمجموع (9/393) والبحر الزخار (4/333) ؛ والمغني لابن قدامة (4/6) .
(6) المبسوط (14/3) . ورسالته في النقود ص 62 وما بعدها
(7) حاشية ابن عابدين (4/24-26)(9/1023)
إحداهما: لا بد من الحلول والتقابض، فإن هذا من جنس الصرف، فإن الفلوس النافقة تشبه الأثمان، فيكون بيعها بجنس الأثمان صرفاً.
والثانية: لا يشترط الحلول والتقابض، فإن ذلك معتبر في جنس الذهب والفضة، سواء كان ثمناً أو صرفاً، أو مكسوراً، بخلاف الفلوس؛ لأنها في الأصل من باب "العروض"، والثمنية عارضة لها، ثم نقل القول بالجواز عن مالك والشافعي أيضاً، وذكر هذه الرواية وحدها في الاختيارات. (1) وقد ذكر شيخ الإسلام أحكاماً كثيرة أخرى تتعلق بالفلوس منها أنها هل هي ثمن أم لا؟ وعلى القول بأنها أثمان فهل يجري فيها الربا؟ على وجهين لهم. وكذلك فيها وجهان في وجوب الزكاة، فيها وفي إخراجها عن الزكاة غير ذلك، والوجهان في مذهب أحمد وغيره (2) ومنها أنه سئل عمن اشترى الفلوس: أربعة عشر قرطاساً بدرهم ويصرفها ثلاثة عشر بدرهمٍ هل يجوز؟
فأجاب إذا كان يصرفها للناس بالسعر العام، جاز ذلك، وإن اشتراها رخيصة. وأما من باع سلعة بدراهم، فإنه لا يجب عليه أن يقضي عن شيء منها فلوساً إلا باختياره، وكذلك من اشتراها بدراهم، فعليه أن يوفيها دراهم، فإن تراضيا على التعويض عن الثمن، أو بعضه بفلوس بالسعر الواقع جاز.
وسئل عن الفلوس، وبيع بعضها ببعض متفاضلاً، وصرفها بالدراهم من غير تقابض في الحال ودفع الدرهم وأخذ بعضه فلوساً، وببعضه قطعة من فضة؟ فأجاب بعد تفصيل كبير بأن هذا كله جائز عند جماعة من الفقهاء. (3)
خامساً: أن فريقاً من الفقهاء –منهم الحنفية (4) وأحمد في رواية (5) ذهبوا إلى أن الدراهم والدنانير لا تتعين بالتعيين ولذلك يجوز إبدالها بعد إتمام العقد عليها، ولا يبطل العقد بخروجها مغصوبة، ثم ذهب جمهورهم إلى أن الفلوس تتعين بالتعيين مع اعترافهم بأنها ثمن. (6) في حين ذهب آخرون منهم المالكية والشافعية وأحمد في رواية إلى أن الدراهم والدنانير أيضاً تتعين بالتعيين. (7)
__________
(1) مجموع الفتاوى (29/459-460) . وراجع: الاختيارات الفقهية ص (128)
(2) مجموع الفتاوى (29/460)
(3) المصدر السابق (29/ 456-458)
(4) فتح القدير (7/13)
(5) المغني لابن قدامة (4/50-51) ؛ ومجموع الفتاوى (29/242)
(6) المصادر السابقة، والمبسوط (14/3) ؛ والقوانين الفقهية ص (214) ؛ والروضة للنووي (2/511)
(7) المصادر السابقة(9/1024)
وأخيراً فقد لخص السيوطي الأحكام الخاصة بالذهب والفضة في عدة أحكام منها: أنه لا يكره المشمس –أي الماء الماكث تحت الشمس- في أوانيهما لصفاء جوهرهما. ومنها أنه يحرم استعمال أوانيهما للحديث، والعلة فيه: الخيلاء، أو تضييق النقود؟ قولان: أصحهما الأول: ومنها أنه يحرم الحلي منهما على الرجال ما يستثنى، ومنها اختصاصهما بين المعادن بوجوب الزكاة فيهما –أي نص الشارع عليهما وعلى مقدارهما- ومنها: أن الربا يجري فيهما، دون الفلوس، ولو راجت في الأصح عند الشافعية، ومنها أن المضروب منهما مختص بكونهما قيم الأشياء، فلا تقويم بغيرهما، ولا يبيع القاضي والوكيل والولي مال الغير إلا بهما، ولا يفرض مهر المثل إلا منهما" (1)
هل نقودنا الورقية مثلية عند انهيارها؟
أولاً: رأينا، فيما سبق أن المراد بالمثلي والقيمي يختلف من باب فقهي إلى آخر، فقد رأينا أن معنى المثلي في باب الحج يختلف عن معناه في باب الغصب أو القرض، وهكذا مما يدفعنا التفكير فيه إلى القول بأن الدافع وراء هذا التقسيم هو الوصول إلى معيار مرن، وإلى أقرب شيء يحقق العدالة والتوازن بين الشيء المطلوب، والشيء الذي ينبغي أن يرد بدله، فهذا من باب ميزان الشيء بشبهه ونظيره (فقس الأمور بأشباهها) ولذلك، صرحوا بأن "أقرب الشيء إلى الشيء الذي أتلف، هو مثله إذا كان من المثليات أو قيمته إذا لم يكن له مثل" يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عند كلامه عن عوض المثل: "وهو أمر لا بد منه في العدل الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة، فهو ركن من أركان الشريعة.. ومداره على القياس والاعتبار للشيء بمثله، وهو نفس العدل.. وهو معنى القسط الذي أرسل الله له الرسل" (2)
بل إن ابن القيم جعل الوقوف عند التشابه الظاهري، دون الغوص في الحقائق والعلل والمقاصد من الشبه الذي "لم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين.. الذين لم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة ولا دليل، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع.. والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي، هو قياس فاسد" (3)
ويؤكد ذلك أن الفقهاء –على الرغم من وضع هذه القاعدة- قاموا باستثناءات كثيرة، تكاد تكون قاعدة، تنصب على أن كل ما لا يحقق هذه العدالة لا تطبق عليه هذه القاعدة. قال السيوطي: "اعلم أن الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل، والمتقوم بالقيمة، وخرج عن ذلك صور في باب الغصب".
إحداها: المثلي، الذي خرج مثله عن أن يكون له قيمة كمن غصب، أو أتلف ماء في مفازة، ثم اجتمعا على شط نهر، أو في بلد، أن أتلف عليه الجمد في الصيف واجتمعا في الشتاء، فليس للمتلف بدل المثل، بل عليه قيمة المثل في تلك المفازة أو في الصيف.
__________
(1) الأشباه والنظائر ص (398)
(2) مجموع الفتاوى (29/520-521)
(3) إعلام الموقعين 1/148(9/1025)
ثانيتها: الحلي، أصح الأوجه: أنه يضمن مع صنعته بنقد البلد، وإن كان من جنسه، ولا يلزم من ذلك الربا؛ لأنه يجري في العقود لا من الغرامات.
ثالثتها: الماشية إذا أتلفها المالك كلها، بعد الحول، وقبل إخراج الزكاة، فإن الفقراء شركاؤه، ويلزمه حيوان آخر، لا قيمته –مع أن الحيوان من القيميات - جزم به الرافعي وغيره، بخلاف ما لو أتلفها أجنبي.
رابعتها: طم الأرض، كما جزم به الرافعي.
خامستها: إذا هدم الحائط، لزمه إعادته لا قيمته، كما هو مقتضى كلام الرافعي وأجاب به النووي في فتاواه، ونقله عن النص.
سادستها: اللحم، فإنه يضمن بالقيمة، كما صححه الرافعي وغيره في باب الأضحية مع أنه مثلي.
سابعتها: الفاكهة، فإنها مثلية على ما اقتضاه تصحيحهم في الغصب.
والأصح: أنها تضمن بالقيمة، ثم ذكر السيوطي صوراً أخرى في أبواب أخرى، ففي باب البيع، إذا تحالفا وفسخ العقد، وقد تلف المبيع، أطلق الشيخان وجوب القيمة فيه فشمل المثلي وغيره، وهو وجه صححه المارودي، وادعى الروياني الاتفاق عليه.. وفي باب القرض، استثنى المارودي من القاعدة العامة نحو الجوهر، والحنطة المختلطة بالشعير، إن جوزنا قرضهما، فإنهما يضمنان بالقيمة، وصوبه السبكي، وفي باب العارية: أطلق الشيخان وجوب القيمة فيها، فشمل المتقوم والمثلي، وصرح بذلك الشيخ في المهذب، والمارودي، وكذلك المستعار للرهن، يضمن في وجه حكاه الرافعي عن أكثر الأصحاب، بالقيمة، وفي وجه وصححه جماعة، وصوبه النووي في الروضة بما بيع به وهو ما كان أكثر من القيمة، فيستثنى ذلك من ضمان العارية بالقيمة، وفي باب المصراة، يكون البدل عن لبنها التمر –كما ورد في الحديث الصحيح (1) لا مثله، ولا قيمته (2) كل هذه الاستثناءات وغيرها، لتدل دلالة واضحة على أن محاولات الفقهاء في تحديد المثلي والقيمي ووضع معايير لهما، كل ذلك للوصول إلى تحقيق العدالة، والتوازن بين الحقين، وإذا كان المطلوب في وضع هذه المعايير هو تحقيق العدالة، فلا أعتقد أن من العدالة اعتبار الليرة اللبنانية اليوم –حيث يساوي دولار واحد 274 ليرة في شهر 9/ 87 – مثلاً (3) – لليرة اللبنانية عام 1970 – حيث كانت تساوي اثنتان منها دولاراً – ويدل على ذلك أقوالهم في كثير من الفروع الفقهية التي لها علاقة بالضمان والقيمة، فقد كان رائدهم في ثمن المثل، وأجرة المثل، ومهر المثل، وقيم الأشياء هو تحقيق العدالة بكل الوسائل المتاحة، ولذلك لاحظوا فيها الزمان والمكان والظروف والملابسات المحيطة بالشيء، فعلى سبيل المثال ذكروا ثمن المثل في شراء الماء في التيمم، وشراء الزاد ونحوه في الحج، وفي بيع مال المحجور، وغير ذلك، فقالوا: إنه يختلف باختلاف المواضع، قال السيوطي: "والتحقيق: أنه راجع إلى اختلاف في وقت اعتباره، أو مكانه" (4) ففي باب التيمم ذكرت ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه أجرة نقل الماء إلى الموضع الذي هذا المشترى فيه، ويختلف ذلك ببعد المسافة وقربها.
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 384- 388
(2) المصدر السابق ص 368
(3) في شهر 12/ 1987 م يساوي دولار واحد خمسمائة ليرة لبنانية
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 367 -368(9/1026)
الثاني: أنه قيمة مثله في ذلك الموضع في غالب الأوقات، فإن الشربة الواحدة في وقت عزت الماء يرغب فيها بدنانير، فلو كلفناه شراءه بقيمة في حال، لحقته المشقة والحرج.
الثالث: أنه قيمة مثله في ذلك الموضع في تلك الحالة، فإن ثمن المثل يعتبر حالة التقويم، وهذا هو الصحيح عند جمهور الأصحاب، وبه قطع الدارمي وجماعة من العراقيين، ونقله الإمام عن الأكثرين. والتحقيق: أنه يوجب ذلك على المسافر، ولكن يعتبر الزمان والمكان من غير انتهاء الأمر إلى سد الرمق (1) .
وفي باب الحج: جزم الأصحاب، بأن ثمن المثل للزاد والماء هو القدر اللائق به في ذلك المكان والزمان، وكذلك قالوا في الطعام والشراب، حال المخمصة، وفي باب البيع إذا تخالف المتبايعان، وفسخ، وكان المبيع تالفاً، يرجع إلى قيمته وفي وقت اعتبارها قالوا أقوالاً أصحها يوم التلف، والثاني: يوم القبض؛ لأنه وقت دخول المبيع في ضمانه، وما يعرض بعد ذلك من زيادة، أو نقصان فهو في ملكه. وثالثها: أكثر القيم من القبض إلى التلف؛ لأن يده يد ضمان (2) .
وأما اعتبار القيمة في المغصوب المتقوم، فهو أقصى قيمة من الغصب إلى التلف بنقد البلد الذي تلف فيه (3) .
وقد ذكر الفقهاء كثيراً من الأمثلة للمثليات، راعوا فيها القيمة أيضاً منها:
1- فمثلاً الماء مثلي، ولكنه يستثنى من ضمانه بالمثل، إذا غصبه شخص في المفازة، فإنه يضمن بقيمته (4) .
2- إذا أعوز المثل، رجعنا إلى القيمة.
3- إذا كسر آنية قيمتها عشرون، ووزنها عشرة، قال الغزالي في هذه المسألة: "ففيه وجهان أحدهما: أن الوزن يقابل بمثله، والصفة بقيمتها من غير جنس الآنية، وفيه وجه: ألا يبالي بالمقابلة بجنسه، فيكون البعض في مقابلة الصفة، كما لو أفرد الصفة بالإتلاف، وقد رجح الرافعي هذا الوجه الأخير، ومعنى ذلك يجوز أن يأخذ عشرين مثقالاً في مقابلة ما وزنه عشرة، ما دام فيه صنعه " (5) .
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 369
(2) المرجع السابق ص 371
(3) فتح العزيز 7/ 15؛ ومطالب أولى النهى ط. المكتب الإسلامي (4/ 54)
(4) الأشباه للسيوطي ص (371)
(5) الوسيط مخطوطة طلعت ج 2 ورقة 124(9/1027)
هذا بالنسبة في ضمان المتلفات، وهذا محل اتفاق، أما في البيع فلم يجوزوه، إلا ما نقل عن مالك، وما روي عن معاوية أنه يجوز بيع مضروب بقيمته من جنسه، كحلي وزنه مائة يشتريه بمائة وعشرة، وتكون الزيادة في الصنعة، وهي الصياغة، وقال الأوزاعي كان أهل الشام يجوزون ذلك فنهاهم عمر (1) وكذلك اعتبر ابن تيمية وابن القيم المصوغ كالحلي يراعى فيه القيمة.
4- يقول الشوكاني: " فإذا تلفت كان المالك مخيراً بين أخذ مثلها، أو قيمتها يوم الغصب، على وجه يرضى به من غير فرق بين مثلي وقيمي، ولكن إرجاع المثلي من أعلى أنواع الجنس، وقيمة القيمي على هذا الاصطلاح، أقرب إلى دفع التشاجر، وأقطع لمادة النزاع " (2) .
ولم يغفل الفقهاء حتى في الذهب والفضة الوزن، حتى في حالة كونهما نقدين، فقد روى حرب، قال: قلت لأحمد: دفعت ديناراً كوفيًّا ودرهماً وأخذت ديناراً شاميًّا وزنهما سواء لكن الكوفي أوضع؟ قال: لا يجوز، إلا أن ينقص الدينار، فيعطيه بحسابه فضة (3) فيما يجري فيه الربا، اعتبرت المماثلة فيه في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً (4) ، وقد أخذوا ذلك من الحديث الصحيح الذي رواه مسلم بسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب وزناً بوزن)) (5) .
كما أنهم لم يغفلوا عن القيمة، حتى في بعض صور بيع الدراهم بالدينار، حيث اعتبر بعضهم النقص في القيمة عيباً يمنع الرد، يقول الفقيه الحنبلي الخرقي: "وإذا اشترى ذهباً بورق عيناً بعين، فوجد أحدهما فيما اشتراه عيباً، فله الخيار بين أن يرد، أو يقبل إذا كان بصرف يومه.." وعلق ابن قدامة على قوله " إذا كان بصرف يومه" قائلاً: "يعني: الرد جائز ما لم ينقص قيمة ما أخذه من النقد عن قيمته يوم اصطرفا، فإن نقصت قيمته كأن أخذ عشرة –أي من الدراهم- بدينار، فصارت أحد عشر بدينار، فظاهر كلام أحمد والخرقي: أنه لا يملك الرد؛ لأن المبيع تعيب في يده، لنقص قيمته" ثم إن ابن قدامة سلم بأن نقص القيمة عيب وإن كان لا يمنع ذلك من الرد، لوجود العيب القديم في نظره، ولكنه يجب عليه في حالة الرد أرش العيب الحادث عنده، وأخذ الثمن (6) .
وقد أخذوا ذلك، من حديث ابن عمر، حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (رويدك أسألك: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطى هذه من هذه؟) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها مالم تفترقا وبينكما شيء)) (7) .
__________
(1) تكملة المجموع للسكي (10/ 83) ؛ بداية المجتهد (2/ 196)
(2) السيل الجرار ط/ دار الكتب العلمية (3/ 361)
(3) المغني 4/ 40
(4) الكافي (2/ 54)
(5) صحيح مسلم (3/ 1209) ؛ ومسند أحمد (2/262)
(6) المغنى (2/47، 49)
(7) رواه أحمد في مسنده (2/ 82، 154) وغيره وسيأتي الكلام عليه(9/1028)
وذكر ابن نجيم الحنفي أمثلة كثيرة روعيت فيها القيمة في هذا الباب منها: إذا وجب الرجوع بنقصان العيب عند تعذر رده، كيف يرجع به؟ قال قاضيخان: وطريق معرفة النقصان، أن يقوم صحيحاً لا عيب فيه، ويقوم به العيب".
ومنها: المغصوب المثلى إذا انقطع، قال أبو حنفية (رحمه الله) تعتبر قيمته يوم الخصومة، وقال أبو يوسف (رحمه الله) : يوم الغصب، وقال محمد (رحمه الله) يوم الانقطاع.
ومنها المتلف بلا غصب، تعتبر قيمته يوم التلف، ولا خلاف فيه، ومنها المقبوض بعقد فاسد، تعتبر قيمته يوم القبض.
ومنها الرهن إذا هلك بالأقل من قيمته ومن الدين، فالمعتبر قيمته يوم الهلاك، ومنها قيمة اللقطة إذا تصدق بها، أو انتفع بها بعد التعريف، ولم يجد مالكها، فالمعتبر فيها يوم التصدق (1) .
ويقول ابن القيم: "إن جميع المتلفات تضمن بالجنس بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة، حتى الحيوان فإنه إذا اقترضه رد مثله كما اقترض النبي صلى الله عليه وسلم بكراً ورد خيراً منه.. وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقصة داود وسليمان (عليهما السلام) من هذا الباب، فإن الماشية كانت قد أتلفت حرث القوم، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث كأن ضمنهم بالقيمة، وأما سليمان، فحكم بأن أصحاب الماشية يقومون على الحرث، حتى يعود كما كان، فضمنهم إياه بالمثل، وأعطاهم الماشية، يأخذون منفعتها عوضاً عن المنفعة التي فاتت من غلة الحرث إلى أن يعود، وبذلك أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز، فيمن أتلف له شجر فقال الزهري: يغرسه حتى يعود كما كان، وقال ربيعة وأبو الزناد: عليه القيمة، ثم قال بأن القاعدة في المثلي هي المساواة في الجنس، والصفة، والمالية، والمقصود والانتفاع، ولذلك فما كان أقرب إلى المماثلة، فهو أولى بالصواب (2) ومن هنا لنا الحق أن نتسائل: هل النقود الورقية هذه السنة تشبه النقود الصادرة قبل عشرين سنة؟ ! ويقول ابن حجر عند تعليقه على القول برد المثل في القيمي، عند من يقول به: "ومن لازم اعتبار المثل الصوري: اعتبار ما فيه من المعاني التي تزيد بها القيمة " (3)
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 362 -364
(2) إعلام الموقعين (2/ 45)
(3) تحفة المحتاج (5/ 44)(9/1029)
ثانياً: أن جمهور الفقهاء عرفوا المثلي في أبواب القرض والغصب والإتلاف، بما هو مكيل أو موزون، وجعلوا الكيل، أو الميزان معياراً له، فعلى ضوء ذلك، لا يدخل فيه النقود الورقية، فتكون من القيميات التي يلاحظ فيها عند الحقوق والالتزامات قيمتها.
وأما على ضوء تعريف إمام الحرمين، والغزالي، الذي جعل تساوي الأجزاء من حيث القيمة والمنفعة معياراً للمثلي، فلا تدخل فيه النقود الورقية، فالليرة اللبنانية الآن هل تساوي الليرة اللبنانية قبل خمس عشرة سنة؟ وكذلك الأمر بالنسبة لتعريف الكاساني الذي أضاف إلى المكيل والموزون: المعدود الذي لا اختلاف بين آحاده؛ وذلك لأن النقود الورقية يوجد بينها اختلاف بيِّن بين آحاده؛ وذلك لأن النظر إلى النقد الورقي ليس باعتبار شكله ورسمه، وإنما اعتبار قيمته الشرائية، فالنقود الورقية ليس فيها نفع ذاتي، فلا تؤكل ولا تشرب، ولا تلبس، وإنما باعتبار ما يشترى بها.
وقد رأينا المحققين رجحوا تعريف المثلي بما هو مكيل أو موزون، وشاهدنا دفاع الإمام الجليل الرافعي وغيره عنه، ويقول ابن قدامة: "وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعي، وهو الكيل والوزن" (1) .
ويقول صاحب المطالب: "ويجب على المقترض رد قيمة غير المكيل والموزون يوم القبض" (2) ويقول العلامة البابرتي: "إن المكيلات والموزونات كلها من ذوات الأمثال، دون القيم" (3) .
فعلى ضوء هذا التعريف للمثلي لا تدخل النقود الورقية فيه، فتكون من القيميات التي تلاحظ فيها القيمة كقاعدة عامة.
ومن هذا العرض، يمكن القول بأن للفقهاء في باب القروض والغصب معيارين: معياراً ذاتيًّا، وهو رعاية الكيل، أو الوزن، ومعياراً موضوعيًّا مرناً، وهو تساوي الأجزاء مع رعاية القيمة والمنفعة، وهذا ما اختاره إمام الحرمين والغزالي وغيرهما، وهو الذي يظهر رجحانه، إذ أن الوقوف عند الناحية الشكلية، دون رعاية الجوهر والغاية والمقاصد، لا يتفق مع هذه الشريعة التي نزلت لتحقيق العدالة في كل الأمور، ولذلك جعل الماوردي وغيره تساوي القيم بين شيئين معياراً لتحقيق المثلية فيهما فقال: " فإن التماثل بالقدر، غير أن القيمة يعرف بها تماثل القدر وتفاضله" وقد ذكر ابن الهمام أن المماثلة الحقيقية المطلوبة لا تتحقق إلا باعتبار الصورة والمعنى، والمعيار يسوي الذات، أي الصورة، والجنسية تسوي المعنى (4) .
__________
(1) المغنى ج 4 ص 7
(2) مطالب أولي النهى (3/ 43)
(3) شرح الهداية 7/ 10
(4) شرح الهداية: (7/ 7)(9/1030)
ثالثاً: إن قضية المثلي والقيمي واعتبار ما هو مثلي، أو قيمي ليست من الأمور المنصوص عليها في الشرع، بحيث لا يمكن تجاوزها، وإنما كان الغرض منها هو محاولة التقريب والتبسيط والتقعيد الفقهي، والرائد فيها هو تحقيق العدالة، ولذلك قالوا في تعليلهم لوجوب رد المثلي في المثلي: إن المثل هو أقرب الأشياء إليه، وقالوا في رد القيمي في القيمي: أنه نظراً لتفاوت أفراده يمنع رد المثل فيه، ولذلك تجب قيمته، ومن هنا إذا رد المقرض في القيميات شيئاً أحسن مما أخذه يجوز، استناداً إلى ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث استسلف من رجل جملاً بكراً فأمر أن يعطيه رباعيًّا وقال: ((فإن خياركم أحسنكم قضاء)) (1) .
وقد أكد الإمام الشوكاني ذلك، وبين بأن قاعدة المثلي والقيمي قاعدة مرنة جدًّا، وأنها ليست منصوصة، فقال: "قوله: وفي تالف المثلي مثله إلخ" أقول: "إطلاقهم على الشيء الذي تساوت أجزاؤه، أنه مثلي، وعلى ما اختلفت أجزاؤه أنه قيمي، هو مجرد اصطلاح لهم، ثم وقوع القطع والبت منهم بأن المثلي يضمن بمثله، والقيمي بقيمته، هو أيضاً مجرد رأي عملوا عليه، وإلا فقد ثبت عن الشارع أنه يضمن المثلي بقيمته" (2) .
ولو استقرينا فروع الشريعة وكلياتها ومبادئها ووسائلها، لوجدناها قائمة على العدل قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] ، وقال: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"والأصل في العقود جميعها هو العدل، فإنه بعثت به الرسل، وأنزلت الكتب.. والشارع نهى عن الربا، لما فيه من الظلم، وعن الميسر لما فيه من الظلم" (3) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه –مع فتح الباري (5/ 56- 59) ؛ ومسلم (3/1244) ؛ والترمذي في سننه مع التحفة (4/524) ؛ والنسائي في سننه (7/ 256) ؛ وأبو داود في سننه مع العون (9/ 196) ؛ ومالك في الموطأ ص 442.
(2) السيل الجرار بتحقيق إبراهيم زايد ط. دار الكتب العلمية ببيروت (3/ 360)
(3) مجموع الفتاوى 20/ 510(9/1031)
هل النقود الورقية مثل الدراهم والدنانير في كل الأحكام؟
هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه علينا، والجواب عنه بالسلب، أو بالإيجاب، أو التفصيل، يكون هو الأساس في أي حل يراد. فقد ذهب أكثر العلماء الذين عاصروا مولد النقود الورقية إلى أنها ليست مثل النقود الذهبية والفضية على الإطلاق، بل ذهب بعضهم إلى نفي نقديتها وماليتها، ورتبوا عليها عدم وجوب الزكاة فيها، وعدم جريان الربا فيها، فقد جاء في فتح العلي المالك: ".. ما قولكم في الكاغد، الذي فيه ختم السلطان، ويتعامل به كالدراهم والدنانير.. هل يزكى زكاة العين أو العرض أو لا زكاة فيه؟ "
فأجبت بما نصه: ".. لا زكاة فيه، لانحصارها في النعم وأصناف مخصوصة من الحبوب والثمار، والذهب والفضة، ومنهما قيمة عرض المدير وثمن عرض المحتكر، والمذكور ليس داخلاً في شيء منها، ويقرب لك ذلك أن الفلوس النحاس المختومة بختم السلطان المتعامل بها لا زكاة في عينها لخروجها عن ذلك" (1) يقول الأستاذ الدكتور القرضاوي: "لم تعرف النقود الورقية إلا في العصر الحاضر، فلا نطمع أن يكون لعلماء السلف فيها حكم، وكل ما هنالك أن كثيراً من علماء العصر يحاولون أن يجعلوا فتواهم تخريجاً على أقوال السابقين، فمنهم من نظر إلى هذه النقود نظرة فيها كثير من الحرفية والظاهرية، فلم يرد هذه نقوداً؛ لأن النقود الشرعية إنما هي الذهب والفضة، وإذن لا زكاة فيها.. وبهذا أفتى الشيخ عليش وبعض الشافعية.." (2) .
وقد أسند كتاب الفقه على المذاهب الأربعة إلى الحنابلة عدم وجوب الزكاة في الورق النقدي، إلا إذا صرف ذهباً، أو فضة، ووجدت فيه شروط الزكاة السابقة (3) وهذا الإسناد غير مقبول؛ لأن النقد الورقي لم يكن موجوداً في زمن أحمد ولا أصحابه، وحتى لازم المذهب ليس بمذهب، فكيف تسنى له أن يسند إليهم هذا القول؟ !
وكذلك أفتى كثير من علماء الهند في القرن السابق، بعدم وجوب الزكاة فيها، وعدم أداء الزكاة بها، وعدم جواز شراء الذهب والفضة بها (4) .
وبعكس هذا الاتجاه، ذهب علماء معاصرون كثيرون إلى وجوب الزكاة فيها، منهم العلامة أحمد الساعاتي صاحب ترتيب مسند أحمد وشرحه، حيث قال: "فالذي أراه حقاً، وأدين الله عليه، أن حكم الورق المالي كحكم النقديين في الزكاة سواء بسواء؛ لأنه يتعامل به كالنقدين تماماً" (5) وأفتى بمثله العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي، حيث قال: "فتحصل أن الأوراق المالية يصح أن تزكى باعتبارات أربعة" (6) .
__________
(1) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك (1/ 164- 165)
(2) فقه الزكاة ط. مؤسسة الرسالة (1/ 271)
(3) الفقه على المذاهب الأربعة ط. دار إحياء التراث الإسلامي بقطر (1/ 515)
(4) إمداد الفتاوى للشيخ أشرف علي التهانوي (3/ 2 –3) نقلاً عن الأستاذ محمد تقي العثماني في بحثه: أحكام أوراق النقود ص 8
(5) الفتح الرباني مع شرحه للشيخ الساعاتي حيث ذكر هذه المسألة في كتاب الزكاة باب زكاة الذهب والفضة (8/ 251)
(6) التبيان في زكاة الأثمان ص 33؛ وما بعدها، وفقه الزكاة (1/ 275)(9/1032)
وكذلك أفتى بمثله بعض علماء الهند مثل: مولانا الشيخ فتح محمد اللكنوي صاحب عطر الهداية، وذكر المفتى سعيد أحمد اللكنوي في كتابه أن الإمام عبد الحي اللكنوي كان يوافق تلميذه الشيخ فتح محمد في هذه المسألة (1) .
والراجح أن هذا الخلاف لفظي، وليس خلافاً معنويًّا، ولا خلافاً قائماً على الحجة والبرهان، وإنما هو خلاف عصر وأوان، فالأوائل بنوا أقوالهم في عدم وجوب الزكاة فيها على أساس أنها كانت سندات لديون، والآخرون نظروا إليها باعتبارها أصبحت أثماناً بالعرف وكلا الرأيين صحيح فالأوراق النقدية كانت في بدايتها سندات، فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية: "أن البنكنوت كان ظهوره قبل الشيكات المصرفية، ويمكن اعتباره كسند عند الدائن لدين له على البنك، وأن حقوق هذه الأوراق تنتقل إلى آخر عند تسلمها، فحينئذ يكون حاملها دائناً للبنك بطريقة تلقائية.." (2) .
وأما الآن بل ومنذ فترة ليست وجيزة، لم يعد لها هذا التكييف، بل هي تطورت وأصبحت عملة قانونية، ومنعت الحكومات البنوك الشخصية من إصدارها، وحينئذ تختلف حقيقتها عن السندات المالية الأخرى في أمور كثيرة (3) .
وكذلك في مسألة الربا، حيث لا ينبغي تكييف مسألة النقود الورقية الآن على أنها ما دامت لا تتحقق فيها علة الربا عند بعض العلماء، يجوز فيها الربا قياساً على قول من أجاز الربا في الفلوس، وذلك لأن هؤلاء لما قالوا في الفلوس، قالوا فيها باعتبار كونها سلعة، ولا سيما أنها لم تكن النقد السائد، بل كانت المساعدة، أما لو شاهدوا غلبتها وأصبحت العملة الوحيدة، فلا أعتقد أن أحداً منهم يقول بهذا القول، ولذلك نرى مشايخ ما وراء النهر، حرموا التفاضل في العدالي والغطارفة –نوعان من النقود الفضية التي كانت نسبة النحاس فيهما أكثر من الفضة- مع أن علماء المذهب الحنفي القدامى أجازوا التفاضل وزناً وعدداً في الدراهم والدنانير المغشوشة، قال المرغيناني: "وإن كان الغالب عليهما الغش فليسا في حكم الدراهم والدنانير، وإن بيعت بجنسها متفاضلاً جازا.." ثم قال: "ومشايخنا (رحمهم الله) لم يفتوا بجواز ذلك في العدالي والغطارفة؛ لأنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيه ينفتح باب الربا. ثم إن كانت تروج بالوزن فالتبايع والاستقراض فيها بالوزن وإن كانت تروج بالعد فبالعد.." (4) .
ولكن مع رواج النقود المغشوشة وقبولها وكونها من أعز الأموال، لم يعط الحنفية كل أحكام الدراهم والدنانير الخالصة.
__________
(1) يراجع بحث الأستاذ محمد تقي العثماني ص (11)
(2) دائرة المعارف البريطانية ط (1950) (3/ 44)
(3) يراجع: بحث محمد تقي العثماني ص (11)
(4) الهداية مع فتح التقدير وشرح العناية (7/ 152-153) ؛ وحاشية ابن عابدين(9/1033)
يقول المرغيناني: "ثم هي ما دامت تروج تكون أثماناً، لا تتعين بالتعيين، وإذا كانت لا تروج، فهي سلعة تتعين بالتعيين، وإذا كانت يتقبلها البعض دون البعض، فهي كالزيوف لا يتعلق العقد بعينها، بل بجنسها زيوفاً، إن كان البائع يعلم بحالها، لتحقق الرضا منه، وبجنسها من الجياد، إن كان لا يعلم، لعدم الرضا منه" (1) ، ثم قال موضحاً المزيد من الفرق بينها وبين الجياد: "وإذا اشترى بها سلعة، فكسدت، وترك الناس المعاملة بها، بطل البيع عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع، وقال محمد: قيمتها آخر ما تعامل الناس بها، لهما أن العقد صح، إلا أنه تعذر التسليم بالكساد، وأنه لا يوجب الفساد.. وإذا بقي العقد، وجبت القيمة، لكن عند أبي يوسف وقت البيع؛ لأنه مضمون به، وعند محمد يوم الانقطاع، لأنه أوان الانتقال إلى القيمة.. ولأبي حنيفة أن الثمن يهلك بالكساد؛ لأن الثمنية بالاصطلاح، وما بقي، فيبقى بيعاً بلا ثمن فيبطل، وإذا بطل البيع، يجب رد المبيع، إن كان قائماً، وقيمته، إن كان هالكاً، كما في البيع الفاسد" ونقل ابن الهمام عن أصحاب الذخيرة: أن الفتوى على قول أبي يوسف (2) .
وبعد هذا العرض، يمكننا أن نأتي إلى ذكر الفروق الجوهرية بين النقود الورقية والنقود المعدنية والذاتية بإيجاز.
الفرق الأول:
أن الذهب والفضة نقدان ذاتيان ضامنان للقيمة في حد ذاتهما، في حين أن العملة الورقية نقد حسب العرف والاصطلاح، اكتسبت قوتها في بدايتها من غطائها الذهبي أو الفضي، والآن تكسبها من قوة الدولة وضمانها لها.
ولذلك فليس بوسع أي أحد –فرداً أو دولة- أن يلغي قيمة النقود المعدنية، حتى لو ألغيت نقديتها رسميًّا ستظل قيمتها باقية كسلعة، أما النقود الورقية، فتستطيع كل دولة أن تلغيها، أو تنقص من قيمتها، وإذا ألغيت فلا يبقى لها أية قيمة.
ولا شك في أن قيمة النقود الورقية في قوتها الشرائية، وقدرتها على أن يشترى بها الحاجات الأساسية وغيرها؛ وذلك لأن النقود الورقية ليست مما يؤكل ولا يلبس، ولا يتحلى بها على عكس السلع، والنقود الذهبية والفضية.
__________
(1) الهداية مع فتح التقدير (7/ 153)
(2) الهداية، مع شرحيه: فتح القدير، وشرح العناية (7/ 154- 155)(9/1034)
الفرق الثاني:
أن النقود الذاتية لا ينسى مع نقديتهما وزنهما، باعتبار أن زيادة الوزن تدل بلا شك على زيادة القيمة، وقد أشار إلى ذلك الحديث الصحيح ((وزناً بوزن)) (1) ويترتب على ذلك أمران:
الأمر الأول:
عدم جواز الزيادة بين تبر الذهب ونقده، بل وبين الدنانير بعضها ببعض إذا كان في أحدها زيادة على الآخر، يقول الشافعي: ".. أرأيت الذهب والفضة مصروبين دنانير، أو دراهم.. لا يحل الفضل في واحد منهما على صاحبه لا ذهب بدنانير، ولا فضة بدراهم إلا مثلاً بمثل، وزناً بوزن، وما ضرب منهما، وما لم يضرب سواء لا يختلف". "الربا في مضروبه وغير مضروبه سواء". فقد نظر الشافعي إلى النقود من حيث أصلها، فما دام موزوناً فيراعى فيه الوزن، وهكذا، ولذلك فما كان غير موزون أو مكيل ويصبح ثمناً بالعرف يلاحظ فيه أصله، يقول الشافعي: "وإنما أنظر في التبر إلى أصله، وأصل النحاس لا ربا فيه".
وما دام يلاحظ في النقود الذهبية والفضية أصلها من حيث الوزن، ولذلك يوجد الربا في مضروبه وغير مضروبه، ومن هنا "فكيف يجوز أن يجعل مضروب الفلوس مخالفاً غير مضروبها؟ " (2) وإلى اعتبار الوزنية في الذهب والفضة تبرها ونقدهما، ذهب الحنفية (3) والمالكية (4) والحنابلة (5) وغيرهم.
قال ابن رشد:
"وأجمع الجمهور على أن مسكوكه وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلاً، لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك إلا معاوية، فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصوغ، لمكان زيادة الصياغة، وإلا ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه، فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه، أو دراهمه؟ فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك، فأرجو ألا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه، وأنكر ابن وهب من أصحابه"
(6) قال ابن قدامة: "فإذا باع ديناراً بدينار كذلك وافترقا، فوجد أحدهما ما قبضه ناقصاً، بطل الصرف؛ لأنهما تبايعا ذهباً بذهب متفاضلاً" (7) قال ابن عابدين: "فإذا استقرض مائة دينار من نوع، فلا بد أن يوفى بدلها مائة من نوعها الموافق لها في الوزن، أو يوفى بدلها وزناً لا عدداً" (8) .
__________
(1) جزء من الحديث الصحيح المتفق عليه
(2) الأم (3/ 98)
(3) فتح القدير (7/ 15) ؛ وحاشية ابن عابدين (5/ 177)
(4) بداية المجتهد (2/ 196)
(5) المغني لابن قدامة (4/ 10)
(6) بداية المجتهد (2/ 196)
(7) المغني (4/ 50)
(8) ابن عابدين (5/ 177)(9/1035)
الأمر الثاني:
جواز بيع دينار ذهبي زائد بدينار ناقص، وزيادة بقدر النقصان، وبالعكس فقد روى الحافظ ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندهما، عن الحكم أن في الدينار الشامي بالدينار الكوفي وفضل الشامي فضة قال: لا بأس به، ورويا مثله عن مجاهد، وروى عبد الرازق بسنده عن مجاهد: في الرجل يبيع الفضة بالفضة بينهما فضل؟ قال: "يأخذ بفضله ذهباً، وروى مثله ابن أبي شيبة، عن طاووس والنخعي " (1) .
بل إن جماعة من الفقهاء منهم أبو حنيفة ومحمد ذهبوا إلى اعتبار الوزن في الدراهم والدنانير مطلقاً؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على وزنتيهما حيث قال: ((وزناً بوزن)) والنص أقوى من العرف، فهو لا يعارض النص، وذكر ابن عابدين أن الدراهم والدنانير في عصره كانت مختلفة حيث قال: "فإن النوع الواحد من أنواع الذهب والفضة المضروبين قد يختلف في الوزن كالجهادي والعدلي والغازي من ضرب سلطان زماننا، فإذا استقرض مائة دينار من نوع فلا بد أن يوفى بدلها مائة من نوعها الموافق لها في الوزن أو يوفى بدلها وزناً لا عدداً، أما بدون ذلك، فهو رباً؛ لأنه مجازفة" (2) .
ولا شك في أن النقود الورقية لا يلاحظ فيها الوزن قاطبة حتى تكون مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، ومن هنا قال الشافعي: "الذهب والفضة بائنان من كل شيء لا يقاس عليهما غيرهما" (3) .
الفرق الثالث:
أن النقود الذاتية كالدراهم والدنانير، حتى لو ألغيت نقديتها، بقيت مثليتها، على عكس النقود الاصطلاحية كالفلوس عند من يقول بها، حيث لو كسدت تصبح سلعة متقومة عند الكثيرين، أما الدراهم والدنانير، حتى لو كسدتا وألغيت نقديتهما، بقيتا مثليتين.
بل إن الفلوس والدراهم والدنانير المغشوشة أحسن حالاً من النقد الورقي إذ إنها باعتبار أصولها وإمكانية الانتفاع من موادها، كسلعة تحمل قيمة، أما النقود الورقية، فلا تحمل أية قيمة، إذ إنها لم تعد صالحة للانتفاع بها، حتى للكتابة عليها بعد ما كتبت عليها من كتابات خاصة بالدولة التي أصدرتها، ولذلك يقول الاقتصاديون: إن هذه الأوراق جعلتها الدولة أثماناً عرفية، وألزمت الناس بقبولها في اقتضاء ديونهم، ولكن الأثمان المسكوكة سابقاً حتى "النقود الرمزية منها، كانت في أنفسها أموالاً لها قيمة يعتد بها، ولم يكن تقويمها موقوفاً على إعلان الحكومة، ولا بجعلها أثماناً رمزية، فإنها كانت تصنع تارة من الذهب والفضة، ومرة من الصفر، وأخرى من النحاس، أو الحديد مما هي أموال في أنفسها، ولذا لو أبطلت الحكومة ثمنيتها، بقي تقومها من حيث موادها، وأما هذه الأوراق، فليست أموالاً في أنفسها، وإنما جاء فيها التقويم من قبل الحكومة، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بطل تقومها (4) إذن فما المانع إذا قامت الحكومة بخفض قيمتها، أن نلاحظ هذه القيمة بقدرها في الحقوق والالتزامات الآجلة؟ "
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة الحديث رقم (2293، 2297، 2298) ؛ ومصنف عبد الرازق الحديث رقم (14559، 14560)
(2) حاشية ابن عابدين (5/ 177)
(3) الأم (3/ 98، 99)
(4) الأستاذ محمد تقي العثماني: بحثه السابق ومصادره المشار إليها(9/1036)
يقول الأستاذ جيوفري: "إن الورق النقدي الآن ليس إلا قطعة من الكاغذ، ليس لها قيمة ذاتية، ولو قدمت إلى البنك البريطاني لافتكاكها، فإن البنك لا يستطيع الوفاء بوعده إلا بإعطاء عملة رمزية أخرى، أو ورق نقدي آخر" (1) وحاصل ذلك: أن هذا الوعد المكتوب لا يعبر إلا عن ضمان الحكومة لحامله، بأنه مستعد للوفاء بوعده، ولكن ليس بذهب ولا فضة، بل بورق آخر يساويه في القيمة.
وقد أشار ابن عابدين إلى أن العملة الذاتية الخالصة تكتسب قوتها من ذاتيتها، ولذلك لا يتحكم فيها الناس –كقاعدة عامة- على عكس النقود الاصطلاحية حيث يقول:
"فإنه –أي الغلاء والرخص- إنما يظهر إذا كانت –أي الدراهم والدنانير- غالبة الغش تقوم بغيرها" (2) .
وأشار الشافعي إلى فرق لطيف بين الذهب والفضة من جانب، وبين غيرهما، حتى ولو صار نقداً مثل الفلوس، حيث ذكر أن الذهب سواء كان مضروباً كالدينار، أم تبراً لا يجوز بيعه بالذهب مطلقاً إلا مثلاً بمثل، وكذلك الفضة، "وما ضرب منهما وما لم يضرب سواء لا يختلف.. فلا يحل الفضل في مضروبه على غير مضروبه.. فكيف يجوز أن يجعل مضروب الفلوس مخالفاً غير مضروبها؟ " (3) فالنقود الورقية يجوز أن يشترى بها كميات أكثر من وزنها من الأوراق التي صنعت منها.
الفرق الرابع:
أن علماءنا المعاصرين متفقون على أن نقودنا الورقية تقوم بالذهب، أو الفضة، أو غيرهما لمعرفة نصاب الزكاة فيها، ولذلك فنقد كل بلد يقوم فإذا بلغ ما لدى الإنسان مقداراً يصل إلى قيمة عشرين مثقالاً من الذهب، أو مائتي درهم من الفضة تجب الزكاة إذا حال عليه الحول، بل أكثر من ذلك رجح فضيلة الأستاذ القرضاوي ربط نصاب النقود الورقية بالسلع الأساسية التي نص على نصابها فقال: "وبناء على هذا البحث، نستطيع أن نضع معياراً ثابتاً للنصاب النقدي، يلجأ إليه عند تغير القوة الشرائية للنقود تغيراً فاحشاً يجحف بأرباب المال أو بالفقراء، وهذا المعيار هو ما يوازي متوسط نصف قيمة خمس من الإبل، أو أربعين من الغنم في أوسط البلاد وأعدلها" (4) .
__________
(1) الأستاذ محمد تقي العثماني: بحثه السابق ومصادره المشار إليها
(2) رسالة النقود ص (2/ 62)
(3) الأم: 3/ 98
(4) فقه الزكاة (1/ 269)(9/1037)
الفرق الخامس:
أن المعاصرين جميعاً متفقون على أن نقودنا الورقية مختلفة باختلاف الدول التي تصدرها، ولذلك لا يجرى الربا بين ريال قطري وبين ريال سعودي، مع أن كلًّا منهما ريال، وبينهما شبه شكلي، فيجوز بيع ريال سعودي بريال وزيادة كما هو المعهود، ولو رد الدين به بدل الريال القطري تحسب هذه الزيادة فما السبب في ذلك؟
لا جواب على ذلك إلا اعتبار القيمة للريالين، ولذلك فهي ليست ثابتة، فقد يزداد سعر أحدهما دون الآخر وبالعكس، فلا اعتبار للاسم ولا للشكل ولا للوزن والعدد، وإنما للقيمة، في حين لو كانت العملة ذهبية، لما اختلفت باختلاف دولة الإصدار.
الفرق السادس:
أن أكثر العملات –إن لم يكن جميعها- قد كتب عليها عبارة: "ورقة نقدية مضمونة القيمة بموجب القانون " حتى إذا لم يكتب عليها هذه العبارة، فهذا هو واقعها، فقيمتها في وقتها الشرائية، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ننكر هذا الواقع لأجل شكل ما أنزل الله به من سلطان؟ ولا أحد يدعي أن الذهب، أو الفضة حينما يضرب يحتاج إلى هذه العبارة، أو هذا الضمان.
الفرق السابع:
إن النقود الورقية في واقعها الذي ظهرت فيه كانت عبارة عن صكوك، تعبر عن الرصيد الذي كانت تمثله، ثم وضع لها غطاء ذهبي، فكانت قيمتها باعتبار هذا الغطاء، ثم لما ألغي هذا الغطاء، أصبحت موارد الدولة وقوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وقوة ضمانها من قبلها هي الغطاء، ولذلك تتقلب هبوطاً وارتفاعاً حسب التقلبات التي تقع على الدولة المصدرة لها والضامنة لها، فهذا يعني بكل بساطة رعاية قيمتها وقدرتها الشرائية، ولذلك تتغير قيمة الليرة اللبنانية الآن وهي متقلبة ومتغيرة، وأن النقود نفسها تتأثر بها، فلا بد إذن القول بأن الليرة اللبنانية اليوم التي يمثلها غطاء ضعيف مهزوز، غير الليرة التي كان يمثلها غطاء قوي من حيث الواقع والغاية والهدف والنتيجة، فهي مرتبطة بأصل، وهذا الأصل قد تغير جوهره، فما يبنى على الأصل لا بد أن يتغير به.
وهذا بلا شك على عكس النقود الذهبية والفضية، حيث تكتسب قوتها من ذاتها، ولا تحتاج إلى هذه الاعتبارات.(9/1038)
الفرق الثامن:
أن الفقهاء حينما أجمعوا على أن الذهب والفضة، والحنطة والشعير –مثلاً- يجب فيها المثل مطلقاً في حين اختلفوا في النقود المغشوشة والفلوس، حيث لاحظ بعضهم القيمة عند الغلاء والرخص، صرحوا بأن السبب في ذلك أن الذهب والحنطة ونحوهما مما يستفاد بذاتها مع قطع النظر عن قيمتها فعشرة كيلوات من الحنطة سواء رخص سعرها أو غلا، هو غذاء يحقق الغرض المقصود، وينتفع به صاحبها من حيث الطعم والغذاء دون أن يؤثر فيها القيمة ولكن الفلوس والنقود المغشوشة تكمن قيمتها في رواجهما وقبول الناس لهما فإذا لم يتحقق فيهما هذه الشروط، فقد فقدتا مثليتهما، وبالتالي يلاحظ فيهما القيمة والقوة الشرائية.
الفرق التاسع:
لنا أن نتساءل: ما هو المعيار الذي تحدد به قيمة النقود في العالم؟ فمثلاً يكون الريال القطري الآن يساوي كذا، وسابقاً كان يساوي كذا، وكذلك بقية العملات، ثم العلاقة بين عملة أخرى، فالدولار يساوي مثلاً 3.65 ريال قطري 330 قرشاً مصريًّا مثلاً.
فكان المعيار عند نشأة النقود الورقية هو الغطاء الذهبي، إذن كانت مقومة به ومعتبرة به، وتابعة له من حيث الرخص والغلاء، أما بعد أن ألغي هذا الربط فبأي شيء يرتبط؟ لا شك أنها مرتبطة بعدة اعتبارات مختلفة للدولة التي تصدرها.
وأيًّا ما كان، فقد روعي من حيث أساسها القيمة، ولا تزال في دول الغرب يلاحظ فيها قوتها الشرائية، حيث يعرف من خلالها نسبة التضخم، ويكون المعيار في ذلك هو السلع الأساسية باعتبار وقتين مختلفين، وقت إصدار النقد، والوقت الذي حصل فيه الغلاء.
بل أكثر من ذلك لا تزال قيمة النقود الورقية يراعى فيها قيمتها في مقابل الذهب على مستوى الصندوق المالي العالمي.. يقول الأستاذ محمد تقي العثماني: "وفي سنة 1974م اختار (الصندوق المالي العالمي) فكرة (حقوق السحب الخاصة) كبديل لاحتياطي الذهب، وحاصل ذلك أن أعضاء هذا الصندوق يستحقون سحب كمية معينة من عملات شتى الدول، لأداء ديونهم إلى الدول الأجنبية الأخرى، واعتبر 888676 جراماً من الذهب كعيار لتعيين هذه الكمية، وأن حقهم لسحب هذه الكمية اعتبر بديلاً لاحتياطي الذهب" (1) .
وأما النقود الذهبية، أو الفضية فلم يقل أحد بأنها بحاجة إلى التقويم.
__________
(1) في بحثه المقدم إلى المجمع الفقهي الإسلامي بمكة في 7/ 2/ 1406 هـ ص 6.(9/1039)
الفرق العاشر:
أن مشكلة التضخم التي يعاني منها العالم ولدت في أحضان النقود الورقية، بعد ما حلت محل النقود الذاتية بحيلة قانونية –كما ذكرنا- ولا سيما بعد ما أصبحت بلا غطاء حقيقي، ولذلك أصبحت أموال الناس مهددة بهذه التقلبات الكبيرة التي نشاهدها ونعايشها، فكم من غني جمع من النقود الورقية بكده، وعرق جبينه، ثم ظهر التضخم فأكل أمواله النقدية، وأصبحت كل هذه العملات التي يملكها لا تساوي شيئاً يذكر، فكم من تجار مهرة في لبنان جمعوا أموالهم بالليرة اللبنانية وبلغت الملايين، ولكن بعد ما حصل لليرة اللبنانية ما حصل أصبحت مئات الآلاف لا تساوي شيئاً يذكر.
فلو كانت نقودنا ذهبية، أو فضية فهل كان ينجم كل هذه الأضرار؟
إن الحضارة الإسلامية لم تشهد تضخماً إلا حينما شاعت الفلوس والنقود المغشوشة، ولم تشهد النقود الذهبية والفضة الخالصة أي تضخم يذكر.
يقول الأستاذ محمد الحريري: "إن هذا الداء –أي داء التضخم - كان ظاهرة اقتصادية، رافقت الانتقال من النقود السلعية إلى النقود الائتمانية.. فالذهب والفضة تمتعا –كنقود- بثبات نسبي في قيمتها.. وذلك، لأن النقود السلعية –ومنها الذهب والفضة- كانت تتساوى قيمتها الاسمية مع قيمتها التبادلية، بينما نقل كثيراً قيمة النقد الاصطلاحي، عن قيمته الاسمية، وباستعراض تاريخي للأزمات الاقتصادية في العالم، نجدها مصاحبة لتداول النقد الورقي" (1) .
ويذكر المقريزي وغيره أسباب المشاكل النقدية التي وقعت في بعض العصور الإٍسلامية، وأنها تكمن في إصدار الفلوس، يقول المقريزي: "الفلوس لم يجعلها الله تعالى قط نقداً في قديم الدهر وحديثه، إلى أن راجت في أيام أقبح الملوك سيرة وأرذلهم صريرة –الملك الناصر- وقد علم كل من رزق فهماً وعلماً أنه حدث في رواجها خراب الأقاليم، وذهاب نعمة أهل مصر، والفضة هي النقد الشرعي –أي بجانب الذهب- لم تزل في العالم، وأما الفلوس فإنه.. ومنذ كان الملك إلى أن حدثت الحوادث والمحن بمصر سنة ست وثمانمائة في جهات الأرض كلها عند كل أمة من الأمم كالروم والفرس وبني إسرائيل، واليونان والقبط، والنبط والتبابعة، ومن أقيال اليمن والعرب العاربة، والعرب المستعربة، ثم في الدول الإسلامية من حين ظهورها على اختلاف دولها التي قامت بدعوتها كبني أمية بالشام والأندلس، وبني العباس بالعراق، والعلويين بطبرستان وبلاد المغرب، وديار مصر والشام، والحجاز واليمن، ودولة بني بويه، ودولة الترك بني سلجوق، ودولة الأكراد بمصر والشام، ودولة المغول ببلاد المشرق، ودولة الأتراك بمصر والشام.. إن النقود التي كانت أثماناً وقيماً، إنما هي الذهب والفضة فقط، ولا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم، ولا طائفة من الطوائف أنهم اتخذوا أبداً في قديم الزمان ولا حديثه نقداً غيرهما، إلا أنه لما كانت في المبيعات محقرات تقل أن تباع بدرهم أو بجزء منه، أصبح قديماً وحديثاً إلى شيء سوى النقدين يكون إزاء تلك المحقرات، ولم يسم أبداً ذلك الشيء الذي جعل للمحقرات نقداً البتة.. ولا أقيم قط بمنزلة أحد النقدين، ولم تزل ملوك مصر والشام والعراقيون، وفارس والروم في أول الدهر وآخره، يجعلون بإزائها نحاساً يضربون منه القليل والكثير صغاراً تسمى فلوساً، وكان للناس بعد الإسلام وقبله أشياء أخرى يتعاملون بها كالبيض، والودع (2) وغير ذلك (3) ، ويقول الشافعي في الأم بعد أن ذكر أن الفلوس لا يمكن أن تكون أثماناً ونقوداً: "وقد بلغني أن أهل سويقة في بعض البلدان أجازوا بينهم خزفاً مكان الفلوس" (4) .
__________
(1) مقالته في مجلة النور الاقتصادية العدد 42 والعدد 43
(2) الودع: خرز أبيض تخرج من البحر، تتفاوت في الصغر والكبر، القاموس. ومختار الصحاح
(3) النقود للمقريزي، ط. الكرملي ص (65- 66) ؛ والنقود والمكاييل للمناوي ط. العراق ص (123-127)
(4) الأم (3/ 98)(9/1040)
وما قاله المقريزي وغيره في حق الفلوس تحقق منه أكثر في عالم النقود الورقية من مشاكل التضخم، وسرقة أموال الناس من خلالها، والتقلبات الخطيرة التي لم يعد الإنسان يطمئن إلى هذه النقود ولم تصبح مخزناً للثروة، ولا قيماً يقاس بها الأموال، بل أصبحت السلع هي المعيار لها، فهي بدعة أحدثها الغرب، للتحكم في ثروات العالم رخصاً وغلاء، وحسب مصالحهم، ولذلك إذا أرادوا أن يضربوا اقتصاد أية دولة خفضوا نقودهم التي ارتبط بها مصير جميع نقود دول العالم، ومن جانب آخر فإن أهمية الذهب والفضة تكمن في كونهما معدنين نفيسين نادرين ليس من السهل الحصول عليهما إلا عند وجودهما وتحصيلهما، أما النقود الورقية فتستطيع الدولة أن تصدر ما تشاء منها بالمليارات، ومع ذلك لا تصبح بها غنية، يقول (بواجلبرت) : "من المحقق أن النقود ليست ثروة في ذاتها، وأن كميتها لا تؤثر في رخاء الأمة" (1) وقبله قال ابن سينا في رده على المشتغلين بالكيمياء: " وذلك أن حكمة الله في الحجرين وندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس، ومتمولاتهم، فلو حصل عليهما بالصفة، لبطلت حكمة الله في ذلك، وكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء" (2) كما هو الحاصل الآن حيث لا يحصل أحد منا من اقتناء كثير من نقودنا الورقية على ما يحقق رغبته ويشتري بها ما يريده بسبب كثرتها وتضخمها. وقد هاجم ابن خلدون هؤلاء الكيميائيين الذين يغشون الذهب والفضة ويلبسون الحديد أو غيره ثوب أحدهما، لما يترتب على ذلك من مظالم للناس؛ ولأن الغش، أو الصفة لا يزيد من الثروة للإنسان، بل هو عجز وكسل، والغنى إنما يحصل بالأعمال الإنسانية والصناعات، وزيادة الآلات والمكاسب (3) .
ويقول د. محمد صالح: "إن قيمة المعادن النفيسة أقل تعرضاً للتغيرات من بقية السلع؛ وذلك لأن كمية المستخرج سنويًّا منها طفيفة بالنسبة للمقادير العظيمة الموجودة منها، ولهذا السبب يصغر شأن التقلبات التي يحدثها هذا المحصول السنوي في قيمة هذه المعادن" (4) ويقول: " لكن إجماع الناس انعقد منذ القدم على تفضيل الذهب والفضة، ومنذ نصف قرن فضلوا الذهب، وأصبحت الفضة في المقام الثاني، وصار الذهب هو العملة الدولية، ثم ذكر أسباب تفضيلهما على غيرهما بالتفصيل (5) بالإضافة إلى العلاقة الوثيقة بين سعر الذهب والفضة والنقود المصنوعة منها حيث تنخفض، أو ترتفع حسب قيمة أصلها، في حين لا توجد أية علاقة بين سعر النقد الورقي، والورق المصنوع منه، وقد أشار العلامة جعفر الدمشقي إلى المزايا الخاصة التي جعلت الذهب والفضة مرشحين للنقدية وتفضيل الذهب على الفضة" فقال: " وقع إجماع الناس كافة على تفضيل الذهب والفضة لسرعة المواتاة في السبك، والطرق والجمع، والتفرقة، والتشكيل بأي شكل أريد مع حسن الرونق وعدم الروائح والطعوم الرديئة، وبقائهما على الدفن وقبولهما العلامات التي تصونهما وثبات السمات التي تحفظهما من الغش والتدليس، فطبعوهما وثمنوا بهما الأشياء كلها، ورأوا أن الذهب أجل قدراً في حسن الرونق وتلزز الأجزاء والبقاء على طول الدفن وتكرار السبك في النار، فجعلوا كل جزء منه بعدة من أجزاء الفضة، وجعلوها ثمناً لسائر الأشياء " (6) .
__________
(1) نقله عنه د. محمد صالح: أصول علم الاقتصاد. ط. النهضة بمصر سنة 1352 هـ ص 318.
(2) نقله عنه ابن خلدون في المقدمة ص (483)
(3) انظر: المقدمة ص (479 – 485)
(4) د. محمد صالح: المرجع السابق ص (310)
(5) د. محمد صالح: أصول الاقتصاد ط. سنة 1933 م ص (301 – 310)
(6) انظر الإشارة للإمام جعفر بن علي الدمشقي ط. القاهرة 1315، ص (6)(9/1041)
الترجيح.. والتكييف الفقهي
رأينا –فيما سبق- كيفية ظهور النقود الورقية، وكيف أن الخلاق قد ثار بين العلماء عند بداية ظهورها، حيث لم يعترف بها بعضهم، بل لم يجعلوها نقداً ولا مالاً فلم يوجبوا فيها زكاة ولا غيرها من الأحكام التي تترتب على النقود الذاتية من الذهب والفضة.
وهذا القول إذا كان في وقته سائغاً ومقبولاً، للاعتبارات السابقة التي صاحبت نشأتها حيث كانت لا تخلو من كونها سندات في بداية ظهورها، كما أن النقد الذهبي، أو الفضي كان سائداً.. فإن هذا الرأي لم يعد مقبولاً في عصرنا الحاضر بعد أن صارت النقود الورقية هي السائدة لا غير، وأصبحت هي أساس المعاملات، وأثمان الأشياء، ورؤوس الأموال، وبها يتم البيع والشراء وسائر المعاملات، ومنها تصرف الأجور والرواتب والمكافآت، إنها تدفع مهراً فتستباح بها الفروج شرعاً دون أي اعتراض، وتدفع ثمناً في النفائس وغيرها، وأجراً للجهد البشري ودية في القتل، وغير ذلك من الأحكام (1) .
وإذا كان القول السابق لم يعد له مبرر لقبوله، لما فيه من تفريط فإن القول بأن النقود الورقية مثل النقود الذهبية أو الفضية في كل الأحكام قول لا يجد لنفسه مستنداً مقبولاً من نصوص الشريعة الغراء، ولا يدعمه الواقع المعاصر الذي نعايشه، ولا يخفى الغلو والإفراط الذي يصاحبه.
ومن هنا فالعدل دائماً كامن في الوسطية، التي هي سمة ديننا وشرعنا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وهي القول بنقدية هذه الأوراق المالية، وبالتالي وجوب الزكاة فيها باعتبار قيمتها الموازية لنصاب الذهب، أو الفضة –كما سبق- وكونها صالحة للثمنية والحقوق والالتزامات، ولكنها مع ذلك لا تؤدي جميع الوظائف التي تؤديها الذاتية، وبعبارة أخرى إنها نقود، ولكنها لا تؤدي جميع وظائف النقود الذاتية، وإنما تؤدي بعضها، ولذلك يلاحظ فيها المالية والقيمة، كما يلاحظ فيها عدم جواز الربا فيها، وعدم التأجيل إذا بيع بعضها ببعض.
فكما أننا لا نعتبر الريال القطري جنساً شاملاً للريال السعودي أو بالعكس، بل ننظر عند الصرف إلى قيمة كل واحد منهما، فكذلك الأمر عندما تحدث فجوة كبيرة جدًّا بين ما وقع عليه العقد، وما يجب أداؤه بعد فترة زمنية، وذلك لأن غطاء النقود الورقية الآن ليس ثابتاً –كما سبق- وإنما هو تابع لدولتها التي تصدر منها، فإذا كان هذا الغطاء متجدداً متغيراً فلا بد أن تكون النقود التابعة له متغيرة يلاحظ فيها هذه التغيرات، على عكس النقود الذاتية التي تستمد قوتها الشرائية من ذاتها وكونها تصلح للسلعة، حيث إنها معدن نفيس حتى لو بطل التعامل بها نقداً، لبقيت قيمتها المالية وصلاحيتها لكثير من الاستعمالات –كما سبق-.
ثم الاعتراف بأن نقودنا اليوم لا تؤدي جميع الوظائف التي كان النقدان المعدنيان –الذهب والفضة- يؤديانها لا يتعارض مع القواعد العامة في الاقتصاد الحديث، بل يعترف بذلك بوضوح، ولذلك فمفهوم النقد مرن جدًّا يشمل أنواعاً كثيراً، بعضها لا يؤدي إلا وظيفة واحدة، يقول الدكتور محمد يحيى: "وهذه الوظائف الأربع للنقود تعتبر متكاملة في المجتمع الذي يسوده نظام اقتصادي مستقر.. فإذا ما عجزت النقود المتعارف عليها عن القيام بإحدى هذه الوظائف، فإنها تفقد خاصيتها.. ففي حالة الانهيار المفاجئ لقيمة النقود، فإنها تفقد ميزتها، أو وظيفتها كوسيلة للمعاملات الآجلة، ومن ثم تفقد كذلك وظيفتها كوسيلة الاحتفاظ بالثروة أو لاختزان القيمة" (2) .
__________
(1) فضيلة الأستاذ القرضاوي. فقه الزكاة (1/ 273- 276)
(2) د. محمد يحيى عويس: مبادئ في علم الاقتصاد ص (286- 287)(9/1042)
ويقول الدكتور أحمد عبده: "كذلك يعتبر الكثيرون أن الوظيفتين الأوليين للنقود (وهما وسيط للتبادل ومقياس للقيم) وظائف أصلية، أما الوظيفتان الأخيرتان (أي مخزن للقيم ومعيار للمدفوعات الآجلة) ، فتعدان وظائف مشتقة" (1) .
ثم إن مفهوم النقود اليوم واسع جدًّا حيث يشمل النقود السلعية، والمعدنية، والمساعدة، والورقية، والمصرفية، وظهرت الآن في أوربا نقود أخرى مثل نقود البلاستيك، فكلها نقود مع أن أكثرها لا تؤدي جميع الوظائف التي كانت تؤديها النقود المعدنية (2) .
يقول الأستاذ حمدي عبد العظيم: "إن النقود المعدنية (الذهب والفضة) لا تستخدم فقط كوسيلة للتبادل، وإنما تستخدم كذلك كمخزن للقيمة، وكمعيار للمدفوعات الآجلة، وذلك خلافاً لما هو عليه الحال في الاقتصاديات غير الإسلامية التي أدت فيها النتائج السيئة المترتبة على عدم وجود غطاء للعملة، وما يتبعه من حدوث أزمات مختلفة إلى مجرد الاقتصار على وظيفة واحدة للنقود، وهي كونها وسيلة للتبادل" (3) .
وفي نظري أن نظام النقود اليوم –ولا سيما النقود الورقية- نظام خاص لا يمكن إجراء جميع الأحكام الخاصة بالنقود المعدنية: الذهب والفضة، حتى ولا الفلوس- كما ذكرنا- فهو نظام خاص جديد لا بد من أن نتعامل معه على ضوء نشأته، وتطوره وغطائه، وما جرى عليه، ومن هنا فما المانع من أن نقره كوسيط للتبادل التجاري، ولكنه مع ذلك نلاحظ فيه قيمته، ولا سيما عند تذبذبه وانهياره، ونربطه إما بالذهب، أوبسلة السلع –كما نذكر فيما بعد- وبذلك أخذنا بإيجابياته، وطرحنا سلبياته، وهذا الحل الأمثل في نظري إلى أن يعود نظام النقدين: الذهب والفضة، أو يصلح نظام النقد الدولي.
فقد فقدَ النقد الورقي الحالي كثيراً من وظائفه الأساسية، فلم يعد –مثل السابق- مقياساً للقيم، حتى في الغرب الذي نشأ فيه، ولا مخزوناً للثروة، حيث إن الكثيرين يخزنون ثرواتهم بغيره، أو بالعقارات ونحوها، ولذلك حينما تظهر بادرة حرب، أو مشكلة سياسية خطيرة يقدم الناس –ولا سيما في الغرب- على شراء الذهب، فترتفع أسعاره (4) .
فقيمة نقودنا الحالية تكمن قدرتها الشرائية –كما ذكرنا- ولذلك يقول الإمام السرخسي قبل عدة قرون: "إنما المقصود المالية، وهي باعتبار الرواج في الأسواق" (5) .
وقد أكد ذلك بعض الاقتصاديين المعاصرين يقول أحدهم: "النقود حق مالي تتحد قيمتها بالقيمة الاقتصادية لموضوع هذا الحق، وتزيد قيمتها حسب قوتها الشرائية التي تتبع الإنتاج القومي، وهكذا فإن قيمة النقود هي قيمة مشتقة من قوة الاقتصاد وحجم الإنتاج، ولذلك فالنقود هي حقوق على اقتصاد الدولة التي تصدرها، وهي حقوق ومديونية من نوع خاص تتميز بقابليتها للتداول (السيولة) ثم انتهى الباحث إلى أن النقود ليست مثلية، وأن من يسترد نقوده بعد فترة فإنه لا يسترد نفس الشيء وإنما يتعلق حقه باقتصاد وإنتاج جديد" (6) .
__________
(1) . أحمد عبده: الموجز في النقود والبنوك ص (21)
(2) المصادر السابقة
(3) د. حمدي عبد العظيم: السياسات المالية والنقدية الميزان ص (342)
(4) المصادر السابقة
(5) المبسوط (14/ 16
(6) د. حازم البيلاوي في بحثيه حول النقود. ونحن لسنا معه في حكمه العام على النقود بأنها ليست مثلية(9/1043)
والخلاصة:
أن الرأي الذي يطمئن إليه القلب هو رعاية القيمة في نقودنا الورقية في جميع الحقوق الآجلة المتعلقة بالذمة من قرض، أو مهر، أو بيع، أو إجارة أو غيرها، ما دام قد حصل انهيار، وغبن فاحش يبين قيمة النقد الذي تم عليه الاتفاق وقدرته الشرائية في الوقتين –أي وقت العقد، ووقت الوفاء- وسواء كان المتضرر دائناً أو مديناً، والذي نريده هو تحقيق المبدأ الذي أصله القرآن الكريم، وعبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((قيمة عدل لا وكس وشطط)) (1) .
النقود الورقية مثلية كقاعدة عامة ولكن:
ومن هنا فالنقود الورقية مثلية –كقاعدة عامة- فيكون الرد فيها بالمثل دون رعاية فروق طفيفة قد تحدث ولكنها عند الفرق الشاسع بين حالتي القبض والرد أو عند انهيار تفقد مثليتها، وقد ذكرنا لذلك أمثلة تحول فيها المثلي إلى القيمي مثل الماء الذي أتلفه شخص، أو استقرضه في الصحراء عند عزته وندرته، فلا يكفيه الرد بالمثل، وإنما لا بد من قيمته ملاحظاً فيها الوقت والمكان –كما سبق- فكذلك المثلي الذي دخلت فيه الصنعة فجعلته من القيميات، كالحلي ونحوه.
ومن هنا، فالنقود الورقية يلاحظ فيها يوم قبضها ما دام وجد انهيار، أو فرق كبير –أو كما يسميه الفقهاء غبن فاحش - بين الحالتين، فكما يلاحظ بين ريال قطري وريال سعودي قيمتهما عند الصرف، فكذلك لا بد من الفرق بين ليرة لبنانية كان غطاؤها قويًّا، وليرة في وقت ضعفها وضعف غطائها، فما دام المقابل قد تغير، فما يبنى عليه ينبغي أن يلاحظ فيه هذا التغير، وهذا هو في الواقع منطق ظهور النقد الورقي حيث كان بمثابة السند والإثبات في بداية ظهوره، ثم أصبح يغطيه غطاء من الذهب، ثم لما ألغي هذا الغطاء أصبح ينظر إليه باعتبار قوته الشرائية، بل لا يزال ينظر الصندوق المالي العالمي إلى قيمته في مقابل الذهب، وأن هناك محاولات جادة من قبل إقتصاديين لإعادة ربطه مرة أخرى بالذهب، للخروج من هذا المأزق، كما أن مندوب أمريكا –كما ذكرنا- قد طالب في مؤتمر صندوق النقد الدولي بضرورة ربط الدولار الأمريكي بالذهب، بأن يعترف المؤتمرون بأن الدولار يساوي كذا من الذهب، فرفضوا ذلك بناء على أن أمريكا تريد الحصول على هذا المغنم، دون أن يقدم الغطاء الحقيقي.
ومن جانب آخر فعلماؤنا الكرام لاحظوا الوزن في الدينار الذهبي المضروب لدولة واحدة، حيث أجازوا بيع دينار وزنه أكبر بدينار آخر وزنه أقل مع أخذ الزيادة، وما ذلك إلا لملاحظة القيمة الناتجة من القدر.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه (2/ 1140)(9/1044)
ومن هنا، فالعملات الورقية إذا بيع بعضها ببعض نقداً فإذا كانا من جنس واحد مثل الريال القطري، فلا تجوز الزيادة؛ لأنها تكون بلا مقابل، وإذا كانا من جنسين مختلفين مثل الريال القطري والريال السعودي –مثلاً- فتجوز الزيادة بالاتفاق، وما ذلك إلا لملاحظة قيمة كل واحد منهما، أما إذا كان على الإنسان دين بعملة ورقية، سواء كان هذا الدين بسبب القرض، أو البيع، أو الإجارة، أو المهر، أو الضمان أو أي سبب آخر، فحينئذ ننظر إلى قيمة هذا النقد باعتبار الزمنين –هما زمن نشأة الدين وزمن الرد- مع ملاحظة مكان الدين، فإذا وجد فرق شاسع، فلا بد من رعايته وإلا فلا داعي ضماناً للاستقرار، ورعاية للعدالة، وتوازناً بينهما، وهذا الحكم لا يقتصر على القرض، بل يشمل جميع الحقوق والالتزامات الآجلة، يقول العاصمي: "وكثير من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي الدين في إلحاق سائر الديون بالقرض، وأما رخص السعر، فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة، وهو الأقوى" (1) .
فعلى ضوء هذا، فالتساوي والتماثل، والتفاضل، والتعامل والزكاة باعتبار قيمة النقود، إذن فما سعر الريال –مثلاً- في وقت واحد ومكان واحد لا تتصور فيه الزيادة، فلا تحتاج إلى رعاية القيمة، وكذلك في وقتين لم تتغير فيهما قيمته بشكل يؤدي إلى الغبن الفاحش فعلاً، لا تصوراً ولا تخميناً.
وحتى تكون أبعاد هذا الرأي الذي نختاره واضحة المعالم، فلا بد من أن نذكر التأصيل الفقهي له، والمعيار الذي نعتمد عليه عند التقويم، ومتى نلجأ إليه؟ وزمن التقويم ومكانه، وما يدور في هذا الفلك من حلول ممكنة.
التأصيل الفقهي للمسألة:
لا شك في أن مسألة النقود الورقية لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين، بل ولا في عصر الفقهاء المجتهدين، وإنما ظهرت –كما سبق- في حدود القرنين الأخيرين، ومن هنا فلا أمل ولا طمع لنا في أن نحصل على نص خاص يعالج هذه المسألة بخصوصها، ولكن لما كان الإسلام ديناً خالداً تضمن من المبادئ الكلية والقواعد العامة ما يمكن استنباط حكم كل قضية مهما كانت جديدة على ضوئها، إذن فالقضية قضية المبادئ والمقاصد العامة للشريعة، وليست قضية حادثة واقعة نص عليها، ومن هنا نذكر بعض المبادئ العامة التي تندرج تحتها هذه المسألة، ثم نعرج إلى بعض جزئيات ذكرها الفقهاء يمكن الإفادة منها، لتوضيح أبعاد الحل المقترح بإذن الله تعالى.
__________
(1) الدرر السنية (4/ 110)(9/1045)
أولاً: المبادئ العامة القاضية بشكل قاطع على تحقيق العدالة، والمصلحة الحقيقية للإنسان، ورفع الظلم والمفسدة عنه، فيقول الله تعالى بخصوص الربا: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] .
وقد ذكر المفسرون أن بني غيرة كان لهم ربا على بني المغيرة، فطلبوا منهم، فقال بنو المغيرة: لا نعطي شيئاً، فإن الربا قد وضع، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، حيث أمرتهم، وغيرهم أن يرجعوا رؤوس الأموال إلى أصحابها بدون نقص ولا شطط (1) . فإذا كان هذا هو عدل الإسلام مع المرابين، فكيف يقبل أن يتضرر المقرض وبغبن هذا الغبن الفاحش؟ وإذا كان الإسلام قد دعا إلى الإحسان بالدائن، وقال صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس أحسنهم قضاءً)) (2) فكيف يقبل أن يقع عليه ضرر وظلم؟
إن الإسلام هو دين العدالة ودين العرفان بالجميل. والإحسان، وهو قد دعا إلى رد الإحسان بالإحسان، بل الرد بالأحسن: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] .
وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الصالحة والأسوة التي يحتذى بها في رد القرض بالأحسن حيث استقرض جملاً ورد جملاً أحسن منه سنًّا وقال: ((خياركم أحسنكم قضاءً)) (3) فكيف يقبل أن يدفع شخص دم قلبه وادخار عمره وخلاصة جهده وكده في زمن من الأزمان، ثم ترجع إليه نقوده بعد هذه الفترة التي احتسب فيها أجره إلى الله تعالى، وقد فقدت قيمتها الشرائية، وعادت إليه وهي لا يشترى بها شيء يذكر، بعد أن كانت تشترى بها أغلى الأشياء، فقد حدث أن أحد الفلاحين جاء إليه شخص يطلب منه مبلغاً من المال، فلم يجده عنده، فباع – من دماثة خلقه- بقرته بخمسين جنيهاً، وسلمها إليه، ومضت الأيام، حتى أصبح المدين موسراً، فرجع بخمسين جنيهاً إلى دائنه، فوقف الفلاح ينظر إلى هذا المبلغ الزهيد الآن، ماذا يفعل به؟ فنطق من فطرته قائلاً: يا أخي لا أريد هذا المبلغ، وإنما أريد أن تشتري لي بقرة مثل بقرتي، فتخاصما ولجآ إلى عالم المنطقة فأفتى بوجوب رد المثل! فهل خمسون جنيهاً الآن مثل خمسين جنيهاً قبل عشرين سنة؟ أين المثلية؟ وعلى أي معيار؟
__________
(1) انظر المحرر الوجيز لابن عطية (2/488) ؛ والنكت والعيون للماوردي (1/ 292)
(2) حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه –مع فتح الباري- (5/65) ؛ ومسلم في صحيحه (3/ 1224)
(3) حديث صحيح سبق تخريجه(9/1046)
ذكرنا في السابق عند كلامنا عن المثلية والقيمية أن هذه القاعدة العظيمة ما وضعها الفقهاء إلا لتحقيق العدالة، والوصول إلى التعادل والمساواة بين الحقوق المطلوبة والمدفوعة، فهل يحقق العدالة القول بمثلية النقود الورقية في الحقوق والالتزامات الآجلة؟
نرى القرآن الكريم والسنة المشرفة يركزان بشكل منقطع النظير على الميزان المستقيم والعدالة، فقال تعالى: {الرحمن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) } [الرحمن: 1-9] فكأن الحكمة من نزول القرآن هي إقامة الوزن بالقسط وعدم الهوادة والتساهل في الميزان، ولذلك نرى قد كرر الوزن والميزان في هذه الآيات القليلة أربع مرات، بل قد تكررت ألفاظ العدل، والقسط والميزان ومشتقاتها في القرآن الكريم ستًّا وسبعين مرة، بل أشار القرآن الكريم إلى أن قيام الكون كله يكون بالعدل، فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] .
قال الماوردي: "معناه أن قيام ما خلق وقضى بالعدل، أي ثباته".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الربا حرم لما فيه من أخذ الفضل وذلك ظلم يضر المعطي فحرم لما فيه من الضرر" (1) وقال أيضاً: "والأصل في العقود جميعها هو العدل فإنه بعثت به الرسل، وأنزلت الكتل" (2) .
ومن المبادئ العامة في هذا الميدان قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (3) الذي أصبح قاعدة فقهية نالت القبول عند جميع الفقهاء، بل جعله الشاطبي من القطعيات التي تزاحمت عليها أدلة الشرع من الكتاب والسنة (4) ، مثل قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] .
وقوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] ، وقوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] .
__________
(1) مجموع الفتاوى (29)
(2) مجموع الفتاوى (20/ 510)
(3) الحديث الصحيح الإسناد سبق تخريجه
(4) الموافقات (3/ 9-10)(9/1047)
إلى غير ذلك من الآيات التي منعت الضرر إطلاقاً حتى بين الوالد وولده، وأما السنة، فقد أكدت هذا الجانب بما لا يمكن ذكره في هذا المجال، منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أحد الصحابة أن يقلع شجرة شخص؛ لأنها كانت تضره، وعلل ذلك بالضرر حيث روى أبو داود بسنده أن سمرة بن جندب كانت له شجرة نخل في حائط –أي بستان- رجل من الأنصار معه أهله، فكان سمرة يدخل إلى نخله، فيتأذى به الأنصاري ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، قال: ((فهبه له ولك كذا وكذا)) ، فأبى فقال: ((أنت مضار)) فقال صلى الله عليه وسلم للأنصاري: ((اذهب فاقلع نخله)) (1) وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: ((من ضار أضر الله به، ومن شاق شاق الله عليه)) (2) .
ومن هذا المنطلق، فلا يمكن أن تكون الجزئيات مخالفة للقواعد العامة الشرعية، ولا التطبيقات مناقضة للأصول العامة المقررة، يقرر القرافي أن الكليات المقررة في الشريعة هي أصولها، وأن الجزئيات مستمدة من هذه الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات، فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص –مثلاً- في جزئي معرضاً عن كليه فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضاً عن كليه، فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضاً عن جزئيه (3) .
فعلى ضوء ذلك، فالقول بمثلية النقود الورقية واعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، أو حتى في أكثرها ما دام يترتب عليه هذه المظالم لأصحاب الحقوق، وهضم حقوقهم لا يتفق مع هذه المبادئ العامة القاضية برعاية العدل وعدم الظلم، ودفع الضرر والضرار، ولا سيما أن النقود الورقية لم يرد فيها نص خاص في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذن فينبغي أن نطبق عليها القواعد العامة والمبادئ التي تحقق العدالة.
ثانياً: بعض مسائل فقهية سابقة يمكن أن تكون لنا أرضية صالحة للقياس عليها، مثل القضايا التي ذكرها فقهاؤنا السابقون بخصوص الفلوس، والدراهم والدنانير المغشوشة، حيث كانت تقدر قيمتها حسب نسبة التعادل بينها وبين الذهب أو الفضة، أو على أساس رواجها في السوق، وأن القيمة ملاحظة فيها عند إلغائها، أو رخصها، أو غلائها عند بعض الفقهاء، كما نجد أصولاً صالحة في هذه المسألة بخصوص ما ذكرناه في القيمي والمثلي على ضوء ما يأتي:
1- الرد في القيمي يكون بالقيمة عند جمهور من قال بقرض القيمي من الفقهاء –كما سبق- وعلى ضوء المعايير التي ذكرناها وجدنا أن إدخال النقود الورقية في المثلي، ليس من السهل قبوله ولا سيما إذا انهارت قيمتها –كما سبق-.
فإذا لم تدخل النقود الورقية في المثلي عند انهيارها، أو تذبذب كبير لها، فهي من القيميات، فيكون الرد فيها في الحقوق والالتزامات الآجلة بالقيمة، وحينئذ لا يكون هناك أي إشكال في رعاية القيمة، وقد ذهب وجه للشافعية وغيرهم إلى اعتبار النقود المغشوشة والفلوس من القيميات (4) .
__________
(1) رواه أبو داود في سننه –مع العون- كتاب الأقضية (10/64)
(2) رواه أبو داود في سننه –مع العون- كتاب الأقضية (10/64)
(3) الموافقات (3/ 8)
(4) قطع المجادلة ورقة (2)(9/1048)
2- رعاية القيمة عند رخص الفلوس والدراهم المغشوشة:
لا خلاف بين الفقهاء عند إعواز المثلي يرجع إلى قيمته، غير أنهم اختلفوا في الفلوس والنقود المغشوشة هل يجب الرد فيها بالمثل أو بالقيمة عند غلائها، أو رخصها، أو كسادها، أو انقطاعها؟ (1) .
هذا ما ثار فيه الفقهاء:
أ- اتجاه يعتد بالمثلية:
فذهب جماعة منهم المالكية –في المشهور- والشافعية والحنابلة أبو حنيفة إلى رعاية المثلية في هذه الصورة، على التفصيل الآتي: يقول خليل: "وإن بطلت فلوس، فالمثل.. وإن عدمت، فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم" وعلق عليه الخرشي بقوله: "يعني أن الشخص إذا ترتب له على آخر فلوس، أو نقد من قرض، أو غيره، ثم قطع التعامل بها، أو تغيرت من حالة إلى أخرى فإن كانت باقية، فالواجب على من ترتبت عليه المثل في ذمته قبل قطع التعامل بها، أو التغير على المشهور، وإن عدمت، فالواجب عليه قيمتها مما تجدد وظهر.." (2) فعلى ضوء ذلك أن هذه المسألة ليست خاصة بالفلوس، وإنما هي تضم جميع النقود في جميع العقود الآجلة، وقد جاء في المعيار المعرب: تحت عنوان: "ما الحكم فيمن أقرض غيره مالاً من سكة ألغي التعامل بها؟ سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟
أجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام، ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن مهور بدخول ابن عباد سكة أخرى، أفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة، وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك من قيمة السكة المقطوعة من الذهب" (3) .
وقد نص الشافعي على أن: "من سلف فلوساً، أو دراهم، أو باع بها ثم أبطلها السلطان، فليس له إلا مثل فلوسه، أو دراهمه التي أسلف، أو باع بها" (4) .
__________
(1) المراد بكساد النقود هو ترك المعاملة بها في جميع البلاد. وإن كانت تروج في بعض البلاد تكون في حكم العينة إذ تروج في سوق التعاقد. وجد الانقطاع أن لا يوجد في السوق إن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت. انظر رسالة النقود لابن عابدين (2/ 60)
(2) شرح الخرشي على خليل (5/ 55) ؛ وبلغة السالك (2/ 286)
(3) المعيار المعرب (6/ 461- 462)
(4) الأم (3/ 28)(9/1049)
ويقول النووي: "ويرد المثل في المثلي" ثم يعلق عليه شارحه ابن حجر بقوله: "ولو نقداً أبطله السلطان؛ لأنه أقرب إلى حقه" ثم يزيد المحشي في التعليق: "فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زمننا في الديار المصري من إقراض الفلوس الجدد، ثم إبطالها، وإخراج غيرها وإن لم تكن نقداً" (1) ونص الحنابلة أيضاً على أن القرض إذا كان فلوساً، أو مكسرة فحرمها السلطان، وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها، ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده، أو استهلكها؛ لأنها تعيبت في ملكه، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة، أما الغلاء والرخص، فلا يؤثران في المثل، والمسألة تعم جميع العقود الواردة على الذمة (2) .
وذهب أبو حنيفة أيضاً إلى وجوب المثل في جميع الحالات، بالنسبة للقرض، أما البيع فيبطل إذا كسد الثمن قبل القبض، أو انقطع، وعند الصاحبين لا يبطل البيع، بل يلاحظ القيمة، أما في القرض، فيرى محمد وجوب المثل عند تغير القيمة، ووجوب القيمة في حالتي الكساد والانقطاع، وأما أبو يوسف، فيرى اعتبار القيمة في الحالات الثلاث (3) .
ب- اتجاه يعتبر القيمة:
وذهب جماعة –منهم أبو يوسف، ومحمد في بعض الأحوال، وبعض فقهاء المالكية ووجه للشافعية، وبعض الحنابلة- إلى اعتبار القيمة على التفصيل الآتي:
يقول ابن عابدين: "قال في الولوالجية.. رجل اشترى ثوباً بدراهم نقد البلدة، فلم ينقدها حتى تغيرت، فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلاً فسد البيع؛ لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد، لأنه لم يهلك، وليس له إلا ذلك، وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها فعليه قيمتها.." ثم قال: "يجب رد مثله. هذا كله قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل، وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس، قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف، وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة.. انتهى". قال التمرتاشي: اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها، أو بالفلوس وكان كل منهما نافقاً حتى جاز البيع، لقيام الاصطلاح على الثمنية، ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن ولم يسلمها المشتري للبائع، ثم كسدت، بطل البيع، والانقطاع على أيدي الناس كالكساد، وحكم الدراهم كذلك فإذا اشترى بالدراهم، ثم كسدت، أو انقطعت، بطل البيع، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائماً ومثله إن كان هالكاً وإن كان مثليًّا، وإلا فقيمته، وإن لم يكن مقبوضاً، فلا حكم لهذا البيع أصلاً، وهذا عند الإمام الأعظم، وقالا: لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد، لاحتمال الزوال بالرواج، كما لو اشترى شيئاً بالرطبة، ثم انقطع، وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه، وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها، وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف، وفي المحيط والتتمة والحقائق بقول محمد يفتى، رفقاً بالناس، ولأبي حنيفة أن الثمنية بالاصطلاح فيبطل، لزوال الموجب فيبقى البيع بلا ثمن، والعقد إنما يتناول عينها بصفة الثمنية، وقد انعدمت بخلاف انقطاع الرطب، فإنه يعود غالباً في العام القابل، بخلاف النحاس، فإنه بالكساد رجع إلى أصله، وكان الغالب عدم العود (4)
__________
(1) المنهاج مع تحفة المحتاج. مع حاشية الشيرواني (5/ 44)
(2) المغني: (4/ 360) وفي مطالب أولي النهى (3/ 340- 341) أن هذا الحكم ليس خاصًّا بالقرض. بل يشمل أجرة الصداق. وعوض الخلع ونحوهما إذا كانت بفلوس، أو نقود مغشوشة آجلة. ثم حرمها السلطان، فيكون الوفاء بالقيمة
(3) رسالة النقود لابن عابدين (2/ 59- 62) ؛ وفتح القدير (7/ 154)
(4) رسالة النقود (2/ 59)(9/1050)
أما إذا لم يكن كساد بل كانت تروج في بعض البلاد دون بعض، وكان التعاقد في البلد الذي ذهب رواج النقد المعقود عليه فيه، فحينئذ لا يبطل العقد بل يتخير البائع –أو نحوه- إن شاء أخذ قيمته، وإن شاء أخذ مثل النقد الذي وقع عليه العقد، وأما إذا انقطع النقد بحيث لم يبق في السوق، فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع. أما إذا غلت الدراهم، أو الفلوس أو رخصت قبل القبض لا يبطل العقد، ولكن له ما وقع عليه العقد عند أبي حنيفة، وله قيمتها عند أبي يوسف من الدراهم يوم البيع والقبض.. قال العلامة الغزي: وعليه الفتوى. وهكذا في الذخيرة والخلاصة فيجب أن يعول عليه افتاءً وقضاءً، ثم قال: "وقد تتبعت كثيراً من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة، فلم أر من جعل الفتوى على قول أبي حنيفة، بل جعلوا الفتوى على قول أبي يوسف في كثير من المعتبرات، فليكن المعول عليه" (1) ثم علق عليه ابن عابدين بأن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها" (2) غير أنه ذكر أن بعض الأحناف عمموا الحكم في المغشوشة وغيرها (3) ثم ذكر ابن عابدين مسألة مما وقعت في عصره، رجح القول فيها بناءً على العدالة، لا على الشكل والتقليد، فقال: "ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد، لو كان معيناً، كما لو اشترى بمائة ريال إفرنجي، أو مائة ذهب عتيق، أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يتعين المتبايعان نوعاً والخيار فيه للدافع كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعاً، أو قرضاً بناءً على ما قدمناه، وأما الثاني، فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصاً وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصاً على حساب ما هو أكثر رخصاً، فقد ينقص نوع من النقود قرشاً ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين، وإذا دفع ما نقص قرشاً للبائع، يحسب عليه قرشاً آخر نظراً إلى نقص النوع الآخر، وهذا مما لا شك في جوازه". ثم قال: " وكنت قد تكلمت مع شيخي.. فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر، وأنه يفتى بالصلح، حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف بصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد" ثم علل: كيف أن القضية تدور مع علتها فقال: " فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإن امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته، أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه أظهر أنه يمتنع عن قصد إضراره، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به من اختيار الأنفع له فالصلح حينئذ أحوط، خصوصاً والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها.. فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت، ويدفع من أوسطها نقصاً، لا الأقل، ولا الأكثر، كي لا يتناهى الضرر على البائع، أو على المشتري" (4) .
__________
(1) رسالة النقود ص (2/ 59)
(2) رسالة النقود (2/ 60- 61) ؛ والهداية وفتح القدير (7/ 155)
(3) النقود (2/ 62) ؛ وفتح القدير (7/ 154- 158)
(4) النقود (2/ 66) ؛ ويراجع فتح القدير (7/ 154- 158)(9/1051)
وهذا ما نحن نؤكد عليه هنا، وهو أنه ما دامت النقود الورقية غير منصوص عليها إذن فلا بد من رعاية ما يحقق العدالة ويرفع الحيف والضرر والضرار دون النظر إلى الشكل.
ويقول ابن عابدين في حاشيته أيضاً مبيناً أهمية القيمة والمالية: "وحاصله أنه إذا اشترى بدرهم فله دفع درهم كامل، أو دفع درهم مكسر قطعتين أو ثلاثة، حيث يتساوى الكل في المالية والرواج.." ثم قال في حكم القروش: "ومنه يعلم حكم ما تعورف في زماننا من الشراء بالقروش.. بقي هنا شيء وهو أنا قدمنا أنه على قول أبي يوسف المفتى به: لا فرق بين الكساد والانقطاع، والرخص والغلاء في أنه تجب قيمتها يوم وقع البيع، أو القرض إذا كانت فلوساً أو غالبة الغش.. أما إذا اشترى بالقروش.. ثم رخص بعض أنواع العملة أو كلها واختلفت في الرخص كما وقع مراراً في زماننا ففيه اشتباه" ثم وصل إلى وجوب دفع الضرر عن الطرفين، ورعاية ما يحقق العدالة دون التقيد بمثلية العملة (1) .
وفي المذهب المالكي نجد القاضي ابن عتاب، وابن دحون، وغيرهما، يقولون بالقيمة في بعض المسائل، حيث جاء في المعيار المعرب: "سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟ أجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة، أيام نظري فيها في الأحكام – ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن مهور بدخول ابن عباد سكة أخرى وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك من قيمة السكة المقطوعة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب، قال: "وأرسل إلي ابن عتاب، فنهضت إليه فذكر المسألة، وقال لي: والصواب فيها فتواي فاحكم بها.. وكان أبو محمد بن دحون (رحمه الله) يفتي بالقيمة يوم القرض، ويقول: إنما أعطاها على العوض، فله العوض" (2) وقيد الرهوني رد المثل بالمثل بما إذا لم يكن تغيراً لسعر كبير، فقال: "وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف، حيث إن الدائن قد دفع شيئاً منتفعاً به، لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به" (3) .
وقد اعتنى المالكية في باب الزكاة عناية كبيرة بالقيمة، حيث ذهبوا إلى أن عشرين ديناراً من الذهب تجب فيها الزكاة، حتى ولو كان فيها نقص من حيث الوزن مادامت مثل الكاملة في الرواج وعلل ذلك الدسوقي بقوله: " لا يخفى أن القيمة تابعة للجودة والرداءة، فالالتفات لأحدهما التفات إلى الآخر" (4) خلافاً للشافعية وغيرهم في اعتبارهم الوزن (5) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين (4/ 26)
(2) المعيار المعرب (6/ 461- 462)
(3) نقلاً عن د. شوقي أحمد دنيا: بحثه المقدم في مجلة المسلم المعاصر العدد 41 ص (61)
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 455)
(5) انظر: الروضة (2/ 257) ؛ والمجموع (6/ 1904)(9/1052)
ثم إن القاعدة العامة لدى الشافعية هي أن المثلي إذا عدم، أو عز، فلم يحصل إلا بزيادة، لا يجب تحصيله، كما صححه النووي، بل يرجع إلى قيمته (1) وقد فصل السيوطي في رسالته عن الفلوس وتغيراتها (2) هذه المسألة، كما ذكر وجهاً للشافعية يقضي بأن الفلوس، والدراهم والدنانير المغشوشة من المتقومات، فعلى هذا يكون الرد فيها بالقيمة.
والحنابلة –كما ذكرنا- يقولون بوجوب القيمة في حالة إلغاء السلطان الفلوس، أو الدراهم المكسرة (3) ، ولكن هل تجب القيمة عند الغلاء أو الرخص؟ المنصوص عن أحمد وأصحابه هو عدم اعتبارها، وقد بين ابن قدامة السبب في هذه التفرقة بين الحالتين فقال معللاً وجوب القيمة في حالة الكساد دون حالة تغير القيمة: "إن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها، أو تلف أجزائها، وأما رخص السعر، فلا يمنع ردها سواء كان كثيراً.. أو قليلاً؛ لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت، أو غلت" (4) .
ولو دققنا النظر في هذا التعليل، لوجدناه قائماً على أمرين:
الأمر الأول:
الاعتماد على أن الكساد عيب، ولكن الرخص الفاحش ليس بعيب، مع أن ابن قدامة نفسه حينما عرف بالعيوب قال: هي النقائض الموجبة لنقص المالية، ثم ذكر عدة تطبيقات في إثبات الخيار فيها قائلاً: "ولنا أن ذلك ينقص قيمته وماليته" (5) وقال أيضاً في عدم الخيار في مسألة: "ولنا أنه لا ينقص عينها، ولا قيمتها.." (6) .
فعلى ضوء ذلك كان الأجدى رعاية القيمة أيضاً في النقود الاصطلاحية؛ لأن القيمة عنصر أساسي في العيوب كما رأينا.
الأمر الثاني:
الاعتماد على القياس على الحنطة إذا رخصت، ويمكننا أن نقول: إن قياس النقود المغشوشة والفلوس على الحنطة قياس مع الفارق؛ لأن الحنطة ذات قيمة ذاتية لا تختلف باختلاف قيمتها، في حين أن النقود الاصطلاحية قيمتها في رواجها وقيمتها، حتى لو سلمنا هذا القياس في النقود التي ذكروها، فالتسليم بقياس نقودنا الورقية على ما ذكروه لا يمكن قبوله بسهولة.
__________
(1) انظر: الروضة (2/ 257) ؛ والمجموع (6/ 1904)
(2) قطع المجادلة عند تغيير المعاملة ورقة (1)
(3) المغني (4/ 360)
(4) المغني (4/ 360)
(5) المغني (4/ 360)
(6) المغني لابن قدامة (4/ 168)(9/1053)
ولذلك جعل شيخ الإسلام ابن تيمية –كما نقل عنه صاحب الدرر السنية (1) - اختلاف الأسعار مانعاً من التماثل، وقاس مسألة تغير القيمة على كسادها، بناء على أن كون الكساد عيباً يكمن في كونه نقصاً في القيمة؛ لأنه ليس عيباً في ذات النقد من حيث النقص في عينه، حيث إن القدر لم يتغير، وإنما هو باعتبار أن الكساد يترتب عليه نقصان في القيمة لا غير، ثم عقب صاحب الدرر على ذلك بقوله: "إن كثيراً من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي –أي ابن تيمية- في إلحاق سائر الديون بالقرض، وأما رخص السعر، فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضاً وهو الأقوى" (2) .
وهذا الرأي الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية جدير بالقبول وحري بالترجيح، وهو يسعفنا في الموضوع الذي نحن بصدد بحثه، وهو رعاية القيمة.
فعلى ضوء هذا الرأي، والآراء التي سبقته لأبي يوسف وبعض علماء المالكية نكون قد وجدنا أرضية ثابتة ومنطلقاً للرأي الذي نرجحه وهو اعتبار القيمة في نقودنا الورقية بالضوابط السابقة.
الأمر الثالث:
رجوع الفقهاء في كثير من الأمور المثلية إلى القيمة حينما لا يحقق المثل العدالة، كما في حالة اقتراض الماء عند ندرته، وفي حالة الحلي المصوغ من الذهب ولكن داخلته الصنعة، وغير ذلك مما ذكرناه عند كلامنا على المثلي والقيمي.
الأمر الرابع:
وحتى نختم هذا بختام المسك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أهمية القيمة، حيث قال: ((من أعتق عبداً بين اثنين فإن كان موسراً قوم عليه، ثم يعتق)) وفي رواية صحيحة أخرى: ((من أعتق شركاً له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)) وفي رواية لمسلم ((في ماله قيمة عدل، ولا وكس ولا شطط)) (3) .
يقول العلامة ابن القيم: "ومعلوم أن المماثلة مطلوبة بحسب الإمكان" ثم نقل عن جمهور العلماء قولهم: "الدليل على اعتبار القيمة في إتلاف الحيوان دون المثل: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن معتق الشخص إذا كان موسراً بقيمته، ولم يضمنه نصيب شريكه بمثله، فدل على أن الأصل هو القيمة في غير المكيل والموزون" (4) .
__________
(1) يراجع: الدرر السنية في الأجوبة النجدية ط/ دار الإفتاء بالرياض (5/ 110)
(2) يراجع: الدرر السنية في الأجوبة النجدية ط/ دار الإفتاء بالرياض (5/ 110)
(3) صحيح البخاري –مع الفتح- كتاب العتق (5/ 150- 151) ومسلم (2/ 1140) ؛ وسنن أبي داود –مع العون- (10/ 472) ؛ والترمذي- مع تحفة الأحوذي – (4/ 281) ؛ والنسائي (7/ 281) ؛ وابن ماجه (2/ 844)
(4) شرح سنن أبي داود. لابن القيم –مع عون المعبود- (12/ 272- 274)(9/1054)
على أي معيار نعتمد في التقويم؟
سبق أن ذكرنا أننا لا نلجأ إلى القيمة، إلا عند انهيارها، أو وجود الغبن الفاحش جدًّا، وفي حالة رجوعنا إلى القيمة، لا بد من أن نضع موازين دقيقة ومعايير معقولة للتقويم، حتى يتبن لنا الفرق ين قيمتي العملة الورقية في الوقتين: وقت القبض ووقت إرادة الرد، ولنا لمعرفة ذلك معيارات:
المعيار الأول:
الاعتماد على السلع الأساسية مثل الحنطة والشعير واللحم والأرز، بحيث نقوم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد: كم كان يشترى به من هذه السلع الأساسية؟ ثم نأتي عند الرد أو الوفاء، والالتزام إلى القدر الذي يشترى به الآن من هذه السلع، فحينئذ يتضح الفرق. وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع، وهي معتبرة في كثير من الدول الغربية يعرفون من خلالها التضخم ونسبته، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم، ولا سيما في الرواتب والأجور.
ويشهد على هذا الاعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل دية الإنسان –وهو أغلى ما في الوجود- الإبل مع وجود النقدين –الدراهم والدنانير- في عصره.
ويقال: إن السبب في ذلك هو أن الإبل كانت السلعة الغالبة لدى العرب.
وذلك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قومها عليهم بالذهب أو الفضة، كما ذلك العلماء في الإبل قد عزت عندهم، ومع ذلك لم يجعل الذهب، أو الفضة أصلاً في الدية، ومن هنا زاد القدر حسب قيمة الإبل. فقد روى أبو داود وغيره بسندهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني مائة دينار، وثمانية آلاف درهم.." فكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيباً فقال: "ألا إن الإبل قد غلت" قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً. (1)
قال الخطابي: " وإنما قومها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القرى، لكون الإبل قد عزت عندهم فبلغت القيمة في زمانه من الذهب ثماني مائة، ومن الورق ثمانية آلاف درهم فجرى الأمر كذلك إلى أن كان عمر، وعزت الإبل في زمانه، فبلع بقيمتها من الذهب ألف دينار، ومن الورق اثني عشر ألفاً" (2)
والواقع أن هناك روايات أخرى تدل على أن قيمة الإبل حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مستقرة استقراراً تامًّا، وإنما كانت تابعة لغلاء الإبل ورخصها، فقد روى أبو داود، والنسائي والترمذي بسندهم "أن رجلاً من بني عدي قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً" (3)
كما روى الدارمي أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض على أهل الذهب ألف دينار (4)
__________
(1) سنن أبي داود –مع العون- كتاب الديات (12/284) ؛ ورواه مالك بلاغا في الموطأ (2/530) .
(2) عون المعبود (12/285)
(3) سنن أبي داود –مع العون- كتاب الديات (12/290) ح والترمذي –مع التحفة- كتاب الديات (4/646) ؛ قال الشوكاني في النيل (8/271) : وكثرة طرقه تشهد بصحته.
(4) سنن الدارمي كتاب الديات (2/113) ؛ وراجع نيل الأوطار (8/271)(9/1055)
وروى النسائي: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها، وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان، فبلع قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار. أو عدلها من الورق" (1) وروى البخاري بسنده في قصة شراء النبي صلى الله عليه وسلم ناقة جابر قال ابن جريج عن عطاء وغيره، عن جابر: "أخذته بأربعة دنانير". وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة دراهم. (2)
كل ما ذكرناه يدل بوضوح على أهمية اعتبار السلع الأساسية وجعلها معياراً يرجع إليها عند التقويم، ومن هذا المنطلق يمكن أن نضع سلة لهذه السلع ونقيس من خلالها قيمة النقود –كما ذكرنا- ولذلك نرى الأستاذ القرضاوي يثير تساؤلاً حول ما إذا هبطت قيمة الذهب أيضاً: فهل من سبيل إلى وضع معيار ثابت للغنى الشرعي؟ فيقول: "وهنا قد نجد من يتجه إلى تقدير نصاب النقود بالأنصبة الأخرى الثابتة بالنص" ثم ذكر عدة خيارات داخل السلع الأساسية، مثل الإبل، والغنم، والزروع والثمار، ثم رجح كون الإبل والغنم المعيار الثابت، حيث إن لهما قيمة ذاتية لا ينازع فيها أحد.
المعيار الثاني:
الاعتماد على الذهب باعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية، وفي حالة القيام بالرد، وأداء هذا الالتزام، بحيث ننظر إلى المبلغ المذكور في العقد كم كان يشترى به من الذهب؟ فعند هبوط سعر النقد الورقي الحاد أو ارتفاعه الحاد يلاحظ في الرد –وفي جميع الحقوق والالتزامات - قوته الشرائية بالنسبة للذهب، فمثلاً لو كان المبلغ المتفق عليه كان عشرة آلاف ريال ويشترى به عشرون جراماً من الذهب، فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشترى به هذا القدر من الذهب. وذلك؛ لأن الذهب في الغالب قيمته أكثر ثباتاً واستقراراً. وأنه لم يصبه التذبذب والاضطراب مثل ما أصاب غيره حتى الفضة (3) ولذلك رجح مجمع البحوث الإسلامية الاقتصار –في التقويم بخصوص النصاب في عروض التجارة والنقود الورقية- على معيار الذهب فقط، لتميزه بدرجة ملحوظة من الثبات (4) ويشهد لاعتبار الذهب دون الفضة في التقويم أن الذهب لم يقوم بغيره في حين أن الفضة قد قومت به في مسألة نصاب السرقة، يقول السيوطي:
"الذهب والفضة قيم الأشياء إلا في باب السرقة، فإن الذهب أصل، والفضة عروض بالنسبة إليه" نص عليه الشافعي في الأم، وقال: "لا أعرف موضعاً تنزل فيه الدراهم منزلة العروض إلا في السرقة" (5)
ثم إذا حصل توافق وتراض بين الطرفين على القيمة فبها ونعمت، وإلا فيرجع الأمر إلى القضاء، أو إلى التحكيم، وتنطبق على هذه المسألة حينئذ جميع القواعد العامة في الدعوى والبينات والقضاء.
__________
(1) سنن النسائي. كتاب القسامة (8/43)
(2) صحيح البخاري مع فتح الباري كتاب الشروط (5/314)
(3) فقه الزكاة (1/265- 269) .
(4) مقررات مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني سنة 1965، القرار (2) 2ص (204) ، ويراجع فقه الزكاة (1/264) وذكر أن الاعتبار بالذهب في الزكاة هو ما اختاره الشيوخ الأجلاء أبو زهرة، وخلاف، وحسن رحمهم الله.
(5) الأشباه والنظائر ص (398)(9/1056)
الجمع بين المعيارين:
ويمكن لقاضي الموضوع، أو المحكم أن يجمع بين المعيارين بأن يأخذ في اعتباره متوسط قيمة النقد بالنسبة للذهب والسلع الأساسية يوم إنشاء العقد.
متى نلجأ إلى التقويم؟
لا شك أننا لا نلجأ إلى التقويم في كل الأحوال، ولا عند وجود التراضي بين الأطراف، وإنما نلجأ إليه عند وجود الغبن الفاحش الذي يلحق بأحد العاقدين سواء كان في عقد القرض. أم البيع بالأجل. أم المهر. أو غير ذلك من العقود التي تتعلق بالذمة ويكون محلها نقداً آجلًا ثم تتغير قيمته من خلال الفترتين –فترة الإنشاء وفترة الرد والوفاء- تغييراً فاحشاً، وبعبارة أخرى نلجأ إلى القيمة عند الانهيار النقد كما حدث لليرة اللبنانية والدينار العراقي والدينار الكويتي فترة الاحتلال، حيث لم تبق لهما قيمة تذكر فأصبحت –كما قال البهوتي- أشياء لا ينتفع بها الانتفاع المطلوب، وكذلك عند وجود الارتفاع الحاد كما حدث للمارك الألماني بعد الحرب العالمية الثانية. ويستأنس لذلك بما ذهب إليه جماعة من الفقهاء من اعتبار الغبن الفاحش حتى في البيوع التي مبناها على المساومة، (1) كما ذكر بعض العلماء مثل الرهوني أن التغيير الكثير لا بد من ملاحظته حتى في المثليات، فيجعلها من القيميات، وكذلك قال الرافعي وغيره في مسائل كثيرة –كما سبق-.
معيار التغير الفاحش أو الانهيار:
قبل أن نذكر هذا المعيار، نرى فقهاءنا الكرام قد وضعوا عدة معايير لمقدار الغبن الفاحش الذي يعطي الخيار في الفسخ عندما يقع في البيع ونحوه.
يقول القاضي ابن العربي، والقرطبي وغيرهما: "استدل علماؤنا بقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] على أنه لا يجوز الغبن في معاملة الدنيا؛ لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة.. وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث، واختاره البغداديون.. وأن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع، إذ هو من باب الخداع المحرم شرعاً في كل ملة، لكن اليسير لا يمكن الاحتراز عنه لأحد، فمضى في البيوع. (2)
ثم إن العلماء قد ثار الخلاف بينهم في تحديد الغبن الفاحش فبعضهم حدده بما زاد على قيمة الشيء بالثلث، وبعضهم بنصف العشر، وبعضهم بالسدس، وذهب جمهورهم إلى معيار مرن قائم على ما يعد عرف التجار غبناً، وهذا الأخير هو الذي رجحناه. (3) ونرجحه هنا أيضاً في باب تقويم النقود الورقية، فما يعده التجار في عرفهم غبناً فاحشاً فهو غبن فاحش هنا أيضاً، وإذا اختلفوا فالقاضي يحكم بما يرتاح إليه حسب الأدلة والظروف والملابسات التي تحيط بالقضية بعينها.
__________
(1) يراجع في تفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود، ط. دار البشائر الإسلامية، بيروت (1/735) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي (4/1816)
(3) مبدأ الرضا في العقود المعتمدة (1/735)(9/1057)
وفي بعض القوانين الحديثة نرى أن مجرد التذبذب الخفيف في أسعار العملات الورقية لا يؤثر إلا إذا تجاوز 5?، ومن هنا وضعوا معياراً لأدنى ما يعتبر فيه التضخم مؤثراً في الإيجارات ونحوها. (1)
وأما الانهيار فهو ألا تبقى قيمة تذكر للنقد لأي سبب كان.
زمن التقويم ومكانه:
إذا كنا قد رجحنا اعتبار القيمة في النقود الورقية حينما يكون هناك فرق شاسع بين القوة الشرائية لها عند إنشاء العقد وثبوتها في ذمة المدين، وبين إرادة ردها، فأي وقت نعتبر؟ هل نعتبر قيمة النقد يوم إنشاء العقد؟ وهل نعتبر مكان العقد؟ أم مكان الرد؟
والذي نرجحه هو رعاية القيمة يوم إنشاء العقد وقبض المعقود عليه، ومكانه، أي تقوم النقود الورقية يومئذ كم كانت تساوي من الذهب، أو كم يشترى بها من السلع الأساسية، ثم على أساسها يرجع الدين، أو يوفى بما يلتزم به من مهر، أو ثمن البيع الآجل أو غير ذلك، فلو دفع رجل قبل عشر سنوات (أي في 1977) لآخر مائة جنيه، أو باع له أرضاً بها، أو كان مهر زوجته مثل هذا المبلغ، فالآن يقوم بالمبلغ المذكور على أساس عام (1977) كم يشترى به من الذهب؟ أو من السلع الأساسية على ضوء أحد المعيارين السابقين؟ أو متوسط ما يشترى به من الذهب والسلع الأساسية؟ فلو كان هذا المبلغ المذكور في وقته كان يشترى به بقرة مثلاً، فيجب عليه أن يرد مبلغاً يشترى به بقرة، أو كان يشترى به عشرون جراماً من الذهب عيار (21) فيجب عليه أن يرد ما يشترى به هذا القدر –وهكذا- إلا إذا تراضيا بالمعروف.
والذي يشهد لذلك هو أن جمهوراً من ذهب إلى اعتبار القيمة في الفلوس، والنقود المغشوشة، بل حتى النقود الخالصة عند كسادها، أو انقطاعها، ذهبوا إلى أن المعتبر هو يوم إنشاء العقد والقبض، ومكانه قال المرغيناني "وإذا اشترى بها -أي بالدراهم المغشوشة- سلعة وترك الناس التعامل بها قال أبو يوسف عليه قيمتها يوم البيع وقال محمد قيمتها آخر ما تعامل الناس بها" ثم علل أبو يوسف ذلك بأن الضمان إنما تم بالبيع، وهو سببه فلا بد إذن من اعتباره، (2) وقد رجح الكثيرون من الأحناف رأي أبي يوسف. قال المرغيناني: "وقول أبي يوسف أيسر" فعلق عليه ابن الهمام، والبابرتي فقالا: " لأن القيمة يوم القبض معلومة ظاهرة لا يختلف فيها بخلاف ضبط الانقطاع، فإنه عسر، فكان قول أبي يوسف أيسر في ذلك" (3) قال ابن عابدين: "وفي المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض، أو رخصت، قال أبو يوسف: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع، ويوم وقع القبض، وعليه الفتوى، وهكذا في الذخيرة والخلاصة، فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء" (4)
__________
(1) من قانون لوكسمبورج
(2) الهداية مع فتح القدير (7/154)
(3) فتح القدير، مع شرح الغاية على الهداية (7/154-159)
(4) رسالة النقود (2/60-61)(9/1058)
وكذلك الأمر عند القائلين بالقيمة من المالكية مثل ابن عتاب وابن دحون، حيث أفتيا برعاية القيمة –في مسألة إلغاء السكة- يوم القرض. (1)
بل إن كثيراً من العلماء ذهبوا إلى اعتبار القيمة يقوم العقد، ونشأة سبب الضمان في مسائل كثيرة، فقد ذكر لنا ابن نجيم منها: المقبوض على يوم الشراء. فالاعتبار لقيمته يوم القبض، أو التلف، ومنها المغصوب القيمي إذا هلك، فالمعتبر قيمته يوم غصبه اتفاقاً، وكذلك المغصوب المثلي إذا انقطع عند أبي يوسف، ومنها المقبوض بعقد فاسد تعتبر قيمته يوما القبض؛ لأنه به دخل في ضمانه، ومنها العبد المجني عليه، تعتبر قيمته يوم الجناية، ومنها: ما لو أخذ من الأرز والعدس، ونحوهما وكان قد دفع إليه ديناراً مثلاً، لينفق عليه، ثم اختصما بعد ذلك في قيمة المأخوذ.. قال في اليتيمة: تعتبر قيمته يوم الأخذ. (2)
وذكر السيوطي أمثلة كثيرة جدًّا، روعيت فيها القيمة يوم القبض، منها مسألة ماء التيمم، في موضع عز فيه الماء حيث تراعى قيمته في ذلك الموضع في تلك الحالة على الصحيح عند جمهور الأصحاب، وكذلك الطعام والشراب حالة المخمصة، ومنها مسألة المبيع إذا تخالفا، وفسخ وكان تالفاً يرجع إلى قيمته يوم التلف على رأي لأنه مورد الفسخ، ويوم القبض على رأي آخر؛ لأنه وقت دخول المبيع في ضمانه، وما يعرف بعد ذلك من زيادة أو نقصان فهو ملكه، ومنها المستعار إذا تلف تعتبر قيمته يوم القبض على وجه، وكذلك المقبوض على جهة السوء، إذا تلف. (3)
قال النووي، في مسألة رد القيمي في القرض بالقيمة: "يرد القيمة يوم القبض، إن قلنا يملك به" (4)
وقال السيوطي: "وإذا قلنا: إنه يرد في المتقوم القيمة، فالمعتبر قيمة يوم القبض إن قلنا يملك به، وكذا إن قلنا: يملك بالتصرف في وجه" (5)
وقد نص الإمام أحمد في الدراهم المكسورة بعد كسادها على أنه يقومها: كم تساوي يوم أخذها (6) قال صاحب المطالب: "ويجب على المقترض رد قيمة غير المكيل والموزون يوم القبض" (7) وقال ابن قدامة: " تجب القيمة حين القرض "؛ لأنها حينئذ ثبتت في ذمته (8) وقد نص إمام الحرمين والغزالي، وغيرهما من فقهاء المذهب الشافعي على أن العبرة في حالة تغير النقد، هو النقد الذي كان سائداً يوم العقد، ولا ينظر لنقد يوم الحلول. وكذلك الثمن المؤجل إذا حل (9) وقال مالك:
"لا بأس أن يضع الرجل عند الرجل درهماً، ثم يأخذ منه بربع، أو ثلث، أو بكسر معلوم: سلعة معلومة، فإذا لم يكن في ذلك سعر معلوم، وقال الرجل: آخذ منك بسعر كل يوم، فهذا لا يحل؛ لأنه غرر يقل مرة، ويكثر مرة. ولم يفترقا على بيع معلوم" (10) وهذا الكلام يدل على اعتبار سعر معلوم عند بداية التصرف.
__________
(1) المعيار المعرب (6/461-462)
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 362-364)
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص (368-377)
(4) الروضة (4/37) .
(5) الأشباه والنظائر ص (371)
(6) المغني لابن قدامة (4/360)
(7) مطالب أولي النهى (3/243)
(8) المغني (4/353)
(9) النهاية لإمام الحرمين –مخطوطة (7/288) نقلاً عن الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب في كتابه القيم: فقه إمام الحرمين ص (420) ؛ وراجع الوسيط للغزالي مخطوطة طلعت (جـ 2/148)
(10) الموطأ ص (403)(9/1059)
وبعد هذا العرض والتأصيل، يظهر لنا رجحان ما ذهبنا إليه، وهو اعتبار القيمة يوم العقد والقبض، وهو أدنى إلى تحقيق العدالة وأقرب إلى القسط، وأيسر؛ وذلك لأن المقرض، أو البائع قد خرج المال من عهدته في ذلك الوقت، ودخل في ذمة المدين والمشتري، وحينئذ يكون له الحق في أن يشتري به شيئاً آخر، ولذلك قال أحد الفلاحين المصريين بفطرته: "دفعت لك ثمن جاموسة، فرجِّع إلي ما أشتري به مثلها ويكفي أنك استفدت به كل هذا الوقت" قال ذلك عندما جاء إليه شخص من أقربائه وطلب منه ديناً، فباع الفلاح جاموسته بمبلغ ودفع إليه بالكامل، ثم بعد عشر سنوات جاء الرجل، ورد عليه المبلغ الذي ما كان يشتري به الآن ربع جاموسة. فأنطقته فطرته السليمة هذا القول. (1)
حل آخر:
بالإضافة إلى هذا الحل الذي ذكرناه، فإنه يمكن للمتعاقد، الذي تثبت له نقود في ذمة الآخر آجلاً أن يشترط أن يكون الرد بما يساويه من أية بضاعة، مثل أن يدفع أحمد مثلاً عشرة آلاف جنيه قرضاً لخالد، أو أن يبيع له أرضاً بها، ثم يقدروها بما يساويها من سلع أساسية، ليعرفوا القيمة الشرائية للدين حتى يرجعوا إليها عند التنازع، فيأخذ الدائن حقه بدون وكس ولا شطط، أو أن يتفقا على تثبيت قيمة الدين عند التعاقد، وذلك بأن يتفقا على أن يكون المعول عليه عند الأداء هو القوة الشرائية الحالية للنقد الذي تم به العقد سواء كان قرضاً، أو غيره، فإذا كانت قيمة النقد هي 880 وحدة شرائية، فعند السداد يدفع المدين نفس هذه القيمة بغض النظر عما إذا كان مبلغ الدين عند السداد له هذه القيمة، أو أقل أو أكثر. (2)
وهذا الشرط ليس فيه –حسب نظري- أي مخالفة للشريعة الغراء، وذلك ليس شرطاً جر منفعة للدائن، بل هو يحقق العدالة للطرفين، وليس ممنوعاً في حد ذاته، بل كل ما يقتضيه هو رد المثلي بالقيمة –إذا قلنا: إن نقودنا الورقية مثلية، وإذا قلنا: إنها قيمية، فيكون هذا الشرط من الشروط الموافقة لمقتضى العقد.
وهذا الشرط مهما دققنا النظر فيه لن يتجاوز اشتراط ما يضمن رد حقه بدون شطط ولا وكس، فهو مثل من يشترط رد قرضه في بلد آخر ضماناً له من مخاطر الطريق، وهو ما يسمى بالسفتجة، وهو جائز عند جمهور الفقهاء، يقول شيخ الإسلام: "والصحيح الجواز؛ لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق إلى نقل دراهم المقترض، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم، ويحتاجون إليه، وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم" (3) والشرط الذي معنا ليس فيه غرر، لا يؤدي إلى جهالة، ولا ربا، ولا منازعة، بل يؤدي إلى أداء الحقوق كاملة إلى أصحابها، في وقت أصبحت التقلبات الكبيرة سمة عصرنا، فحينئذ يكون كل واحد يعرف ما له وما عليه، بالإضافة إلى أن الأصل في الشروط هو الإباحة عند الجمهور الفقهاء. (4)
__________
(1) حكى لنا هذه القصة أستاذنا الدكتور القرضاوي (حفظه الله) .
(2) د. شوقي دنيا: بحثه السابق ص (70) وما بعدها.
(3) مجموع الفتاوى (29/455-456)
(4) يراجع: مبدأ الرضا في العقود، ومصادره (2/1186)(9/1060)
باب التراضي مفتوح:
كل ما قلناه إذا كان هناك عناد من أحد الطرفين، أما عند سداد الدين، أو الوفاء بالثمن، أو المهر، أو نحو ذلك تراضيا بالمعروف على الزيادة أو النقصان، فإن أحداً من الفقهاء لم يمنع ذلك، بل هذا ما دعا إليه الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة في ذلك، فقد روى البخاري، ومسلم، وغيرهما بسندهم: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيراً، فقال: ((أعطوه)) فقالوا: لا نجد إلا سنًّا أفضل من سنه، فقال ((أعطوه، فإن خياركم أحسنكم قضاءً)) (1)
فعلى هذا إذا حل الأجل وجاء المدين ورأى أن المبلغ الذي يرده الآن لا يساوي شيئاً بالنسبة لقيمة المبلغ الذي أخذه، وقدرته الشرائية، فطيب خاطر الدائن ونفسه بالزيادة في المقدار، أو بسلعة أخرى ففقد فعل الحسن وطبق السنة، بل إنني أعتقد أنه لا تبرأ ذمته في حالات التغير الفاحش لقيمة العملة محل العقد إلا بإرضاء صاحب الحق؛ لأن مبنى الأموال وانتقالها في الإسلام على التراضي، وطيب النفس بنص القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . (2)
فكيف تطيب نفسه عندما يقع الظلم عليه، ويرجع إليه ماله وقد اقتطع منه أجزاء، وأفرغ من كثير من محتواه؟ صحيح أن مبنى القرض على التطوع والتبرع، ولكنه تطوع وتبرع بالوقت الذي أمهله دون مقابل محتسباً أجره عند الله تعالى، أما أن ينقص ماليته فلا، ولذلك نرى الفقهاء يجيزون رد العين المستقرضة إلى المقرض، ما دامت لم تتعيب بعيب ينقص من ماليته، أما إذا تعيبت فلا يصح ردها. (3) فكذلك الأمر هنا:
وقد ذكر الإمام ابن السبكي جواز أخذ القيمة في المثلي، إذا رضي الطرفان، فقال: "لو تراضيا على أخذ قيمة المثلي مع وجوده، وجهان أصحهما: عند الوالد (رحمه الله) الجواز" ثم ذكر أنه يعلل الجواز بأنه اعتياض عما يثبت في الذمة من المثلي. (4)
فلا شك في أن مسألة التراضي تحل كثيراً من مشاكل مجتمع قائم على العدل والإحسان والإيثار، مثل المجتمع الإسلامي الذي يقوم على معيار دقيق، وهو "أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتكره لأخيك ما تكره لأخيك ما تكره لنفسك" (5) فهل يرضى الإنسان أن يعود إليه دينه، أو يعطى لها مهرها، وقد أصبح لا قيمة له بعد أن كان ذا قيمة جيدة. فهل يرضى أحد أن يعود إليه ليراته اللبنانية، أو السورية، أو التركية الآن مع أنها حينما خرجت من يديه كانت لها قيمة وقدرة شرائية ممتازة؟ هذا السؤال موجه إلى كل مؤمن، وذلك لأن الإسلام لا يعتني بالجانب الظاهري القانوني فقط، بل يعتني أيضاً بالجانب السلوكي، ولذلك فالعذاب فيه ليس دنيويًّا فقط بل هو في الدنيا والآخرة، والأحكام لا تقتصر على الصحة والبطلان الظاهرين، بل هناك الحل والحرمة، والذي يراقب الله تعالى يخاف من عذاب الله في الآخرة أكثر من العذاب الدنيوي.
__________
(1) صحيح البخاري –مع الفتح- (5/56-59) ؛ ومسلم (3/1224)
(2) وراجع مبدأ الرضا في العقود، وراجع للأستاذ الدكتور شوقي دنيا بحثه السابق ص (68) .
(3) انظر الروضة (4/35) ؛ والمغني لابن قدامة (4/360)
(4) القواعد والأشباه والنظائر لابن السبكي مخطوط الإسكندرية ورقة (80)
(5) فقد روى البخاري بسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه "، ورواه غيره بألفاظ وطرق كثيرة، يراجع صحيح البخاري مع الفتح - كتاب الإيمان (1/57) وأحمد (2: 31، 3: 473، 4/70) ؛ وسنن ابن ماجه (2: 1410)(9/1061)
اعتراضات ودفعها:
الاعتراض الأول:
إن هذا القول يؤدي إلى زيادة في بعض الأموال، وهي ربا، وهو حرام بنص القرآن، مثل أن يقرض شخص قبل عشر سنوات عشرة آلاف ليرة، فلو قدرنا القيمة يكون يساوي مائة ألف ليرة، وهذا عين الربا؟
الجواب عن ذلك، أن ذلك ليس زيادة ولا ربا لما يأتي:
أولاً: أن الربا هو الزيادة دون مقابل، والزيادات الموجودة هنا ليست في الواقع إلا زيادة من حيث الشكل والعدد وهذا ليس له أثر، فالزيادة التي وقعت عند التقويم وهي ليست زيادة وإنما المبلغ المذكور أخيراً هو قيمة المبلغ السابق، وبالتالي فالمبلغان متساويان من حيث الواقع والحقيقة والقيمة.
ثانيًا: أن الربا هو الزيادة المشروطة، وهنا لم يشترط الدائن مثلاً أية زيادة، وإنما اشترط قيمة ماله الذي دفعه، ولذلك قد تنقص في حالة ما إذا ارتفع سعر النقد الذي أقرضه –مثلاً- وأصبحت قوته الشرائية أكثر من وقت العقد والقبض.
ثالثاً: أنه يمكن أن نشترط أن يكون الرد بغير العملة التي تم بها العقد في حالة الزيادة وهذا هو الراجح، فمثلاً لو كان محل العقد ليرة لبنانية، فليكن الرد عند الزيادة، أو النقص بالريال، أو بالدولار، أو الجنيه وهكذا، فاستيفاء الدراهم بدلاً من الدنانير، وبالعكس أمر معترف به عند جمهور الفقهاء –منهم الحنفية والمالكية والشافعية، والحنابلة- واستدلوا على جوازه بأدلة، منها حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) حيث قال: "كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت حفصة، فقلت يا رسول الله: رويدك أسألك: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (1) قال الخطابي: "ذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه، ومنع من ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وكان ابن أبي ليلى يكره ذلك إلا بسعر يومه، ولم يعتبر غيره السعر، ولم يبالوا ذلك بأغلى، أو أرخص من سعر اليوم.." (2) قال الحافظ السندي: "والتقيد بسعر اليوم على طريق الاستحباب " (3) وقد روى النسائي عن بعض التابعين أنهم لا يرون بأساً في قبض الدراهم مكان الدنانير، وبالعكس، في جميع العقود الآجلة بما فيها القرض. (4)
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (2/82، 154) ؛ وأبو داود في سننه –مع العون- كتاب البيع (9/203) ؛ وابن ماجه في سننه بدون "سعر يومها" كتاب التجارات (2/760) ؛ والدارمي في سننه (2/174) ح والنسائي في سننه، كتاب البيوع (7/282) وقد ضعف هذا الحديث؛ لأن سماك بن حرب قد انفرد به، وقد قال فيه سفيان: إنه ضعيف، وقال أحمد: هو مضطرب الحديث، قال الحافظ في التقريب (1/332) : "صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخره، فكان ربما يلقن" –وراجع ميزان الاعتدال (2/232)
(2) عون المعبود (9/204)
(3) حاشية السندي على النسائي (7/282)
(4) سنن النسائي (7/282- 283)(9/1062)
قال ابن قدامة معلقاً على حديث ابن عمر "ولأن هذا جرى مجرى القضاء، فقيد بالمثل كما لو قضاه من الجنس، والتماثيل ههنا من حيث القيمة لتعذر التماثل من حيث الصورة" (1)
ثم إن هذه المسألة ليست بدعاً في الأمر، ولا هي من المسائل التي لا نجد فيها نصًّا لفقهائنا السابقين في أشباهها، بل نجد لها مثيلات كثيرة في فقهنا الإسلامي نذكر بعضها هنا:
يقول الإمام الرافعي: "وإذا أتلف حلياً وزنه عشرة، وقيمته عشرون، فقد نقل أصحابنا وجهين فيما يلزمه:
أحدهما: أنه يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بقيمتها من غير جنسها سواء كان ذلك نقد البلد، أو لم يكن؛ لأنه لو ضمنا الكل بالجنس لقابلنا عشرة بعشرين وذلك ربا.
وأصحهما عندهم: أنه يضمن الجميع بنقد البلد، وإن كان من جنسه" (2)
ونجد أمثلة كثيرة في كل المذاهب الفقهية في باب ضمان المتلفات –كما سبق- ونجد كذلك في باب العقود عند مالك، حيث أجاز أن يعطى الإنسان مثقالاً وزيادة في مقابل دينار مضروب، وكذلك أجاز بدل الدينار الناقص بالوزن، أو بالدينارين، وروى مثل ذلك عن معاوية (رضي الله عنه) يقول ابن رشد: "وأجمع الجمهور على أن مسكوكه وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلاً، لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك إلا ومعاوية، فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر، والمصوغ لمكان زيادة الصياغة، وإلا ما روى عن مالك أنه سأل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب، ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه، أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك، فأرجو ألا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه" (3)
والمقصود بهذا النص أن الزيادة ما دام لها مقابل، لا تعتبر ربا، لأن الربا هو: "الفضل المستحق لأحد العاقدين في المعاوضة الخالي عن عوض شرط فيه" (4)
الاعتراض الثاني:
إن القول برعاية القيمة يؤدي إلى تحطيم النقود كنقد، وبالتالي تترتب عليه مشاكل لا عد لها ولا حصر؟
الجواب عن ذلك: أننا لا نسلم أن ذلك لا يؤدي إلى تحطيم النقود، وإنما يؤدي إلى أن يكون دورها محصوراً بحيث لا تؤدي جميع وظائفها الأربع المعروفة وهذا لا يضر، حيث اعترف كثير من الاقتصاديين بأن نقودنا لا تؤدي هذه الوظائف جميعها، أو لا تؤديها على شكل مقبول، كما أنهم الآن وسعوا مفهوم النقد، ليشمل أنواعاً كثيرة لا يؤدي بعضها إلا وظيفة واحدة –كما سبق- مع أن ذلك لا يتعارض مع نقديتها، وسبق أن الفقهاء الذين قالوا بأن الفلوس ثمن، ومع ذلك لم يثبتوا لها جميع الأحكام الخاصة بالذهب، أو الفضة.
__________
(1) المغني (4/55)
(2) فتح العزيز (11/279-280) ؛ والروضة (5/23)
(3) بداية المجتهد (2/196)
(4) فتح القدير (7/8)(9/1063)
ومن جانب آخر أن ذلك إنما يحصل إذا لم توضع معايير دقيقة، ولكنا ما دمنا نعترف بالنقود الورقية بأنها نقود –وإن كانت لا تؤدي جميع الوظائف- وتربط إما بمعيار الذهب، أو معيار السلعة، فإنه في الحقيقة لا تحدث أية مشكلة تذكر، بل هي تحقق العدالة، بالإضافة إلى أننا لا نلجأ إلى عملية التقويم دائماً، فلا نلجأ إليه في جميع العقود التي يتم فيها قبض الثمن مباشرة، وكذلك لا نلجأ إلى التقويم في العقود التي كون الثمن مؤجلاً إلا في حالة الغبن الفاحش أو انهيار قيمة النقد، كما سبق.
الاعتراض الثالث:
لماذا لا نعتد بالرخص والغلاء في الذهب والفضة، والحنطة والشعير ونحوهما في الوقت الذي نعتد بهما في النقود الورقية؟
الجواب عن ذلك: أن هذه القضية تتعلق بالمثلي والقيمي، حيث لا ينظر في المثلي إلى القيمة، وأما القيمي، فيلاحظ فيه القيمة –كما سبق- ونحن قلنا: إن النقود الورقية لا يمكن اعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، ولا إلغاء نقديتها، وإنما الحل الوسط هو ما ذكرناه.
ومن هنا فهي وإن كانت مثلية –كقاعدة عامة- لكنها عند وجود الفرق الشاسع يلاحظ فيها القيمة، كالماء الذي أخذه الإنسان في الصحراء، فلا يرجع له الماء، وإنما عليه قيمته في ذلك المكان.
وهذا الحل ليس خاصًّا برد القرض، بل هو عام في جميع الحقوق التي تؤدى بالعملات الورقية، فنرى ضرورة ملاحظة القيمة في الإجارات والرواتب والأجور ونحوها، وهذا ما تلاحظه الدول المتقدمة عندما يكون التضخم كبيراً، فليس من العدالة أنك لو استأجرت بيتاً بألف ليرة لبنانية أو نحوها – عام سبعين أن تدفع نفس المبلغ اليوم، فألف في 1970 كان يساوي 500 دولار تقريباً وألف اليوم يساوي دولارين فقط، وكذلك الرواتب والأجور. والله أعلم.
وفي الختام هذا ما اطمأنت إليه نفسي، وأدى إليه اجتهادي المتواضع فإن كنت قد أصبت فمن الله، وإلا فعذري أنني بذلت كل ما في وسعي ولم أرد به إلا وجه الله تعالى.
ومع ذلك فما أقوله عرض لوجهة نظري، أرجو أن تنال من الباحثين الكرام النقد والتحليل، للوصول إلى حل جذري أمام هذه المشكلة.
وكلمة أخيرة أكررها هي أنه ليس هناك من محيص للخروج من هذه الأزمات الجادة إلا بالرجوع إلى النقدين الذاتيين، أو على الأقل ربط نقود الورقية بالغطاء الذهبي، وهذا ما يدعو إليه كثير من الاقتصاديين، بل بعض المؤتمرات –كما سبق- فلا شك في أن ربط النقد الورقي بالذهب إنما هو إعادة إلى أصله الذي تأصل عليه، فإلى أن نعود إلى هذا النظام فلا بد من أن نلاحظ القيمة في نقودنا عندما تقتضيه الضرورة والحاجة، حتى تتحقق العدالة "دون وكس ولا شطط".
والله الموفق وهو من وراء القصد، والهادي إلى سواء السبيل.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي(9/1064)
أهم مراجع البحث
كتب تفسير القرآن الكريم:
* أحكام القرآن للإمام الشافعي: ط. دار الكتب العلمية: بيروت 1395 هـ-1975م.
* أحكام القرآن لأبي بكر أحمد بن الرازي الجصاص: ط. دار الفكر بيروت.
* أحكام القرآن لأبي محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي تحقيق علي محمد البجاوي: ط. دار المعرفة بيروت.
* تفسير ابن عطية المسمى: المحرر الوجيز: ط. مؤسسة دار العلوم بقطر.
* تفسير الشوكاني –المسمى فتح القدير: ط. عالم الكتب بيروت.
* التفسير الكبير للرازي –المسمى: مفاتيح الغيب: ط. دار إحياء التراث العربي –بيروت.
* تفسير الماوردي –المسمى: النكت والعيون: ط. أوقاف الكويت.
* تفسير المنار للإمام محمد عبده –جمع الشيخ رشيد رضا: ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1972 م.
* جامع البيان في تفسير القرآن لأبي جعفر محمد بن جعفر الطبري: ط. المطبعة الكبرى ببولاق – القاهرة 1328هـ.
* الجامع لأحكام القرآن –لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي: ط. دار الكتب المصرية سنة 1387هـ.
كتب الحديث وشروحه:
* تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي للحافظ أبي يعلى محمد بن عبد الرحمن: طبعة ثانية 1385 هـ –مطبعة الفجالة- القاهرة.
* تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني –تصحيح السيد: عبد الله هاشم اليماني المدني –شركة الطباعة الفنية- القاهرة، ومطبوع مع المجموع للنووي في المطبعة العربية– مصر.
س* سنن ابن ماجه: للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني – ت. 273هـ طبعة عيسى البابي الحلبي –بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، وطبعة العلمية سنة 1313هـ.
* سنن أبي داود: للحافظ الحجة سليمان بن الأشعث السلجستاني ت: 275هـ طبعة المكتبة السلفية- المدينة المنورة مع شرحه عون المعبود وطبعة مصطفى محمد سنة 1354 هـ.
* سنن الترمذي: للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى السلمي ت: 279 هـ ط: بولاق سنة 1292 هـ، وطبعة الفجالة القاهرة- مع شرحه: تحفة الأحوذي.
* سنن الدارقطني: للحافظ أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني ت 385 هـ تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني –ط. شركة الطباعة الفنية- القاهرة سنة 1386 هـ.
* سنن الدارمي: للحافظ أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ت 255 هـ تحقيق عبد الله هاشم اليماني – ط: دار المحاسن للطباعة – القاهرة سنة 1386هـ.
* السنن الكبرى: للحافظ الفقيه أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ت: 458 هـ ط. دار المعارف – حيدر آباد بالهند.
* سنن النسائي: للحافظ أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي ت: 303 هـ ومعه زهر الربى على المجتبى للحافظ السيوطي مع تعليقات مقتبسة من حاشية السندي. ط: شركة مصطفى البابي الحلبي –مصر سنة 1383 هـ، وكذلك طبعة دار البشائر الإسلامية – بيروت – لبنان.
* شرح الزرقاني على الموطأ – ط: الفكر –بيروت – لبنان.
* صحيح البخاري: للحافظ الحجة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ت: 256 هـ ط –المطبعة السلفية –القاهرة. مع فتح الباري.
* صحيح مسلم: للإمام الحافظ أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ت: 261 هـ. ط: دار الإحياء. عيسى البابي الحلبي –تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
* عون المعبود – شرح أبي داود: للعالم أبي طيب محمد بن شمس الحق العظيم آبادي –ط: المكتبة السلفية – المدينة المنورة سنة 1388 هـ.
* فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. ت: 852 هـ إشراف الشيخ عبد العزيز بن باز وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. ط: المطبعة السلفية – القاهرة.(9/1065)
* المستدرك: للحافظ محمد بن عبد الله النيسابوري المشهور بالحاكم ت: 405 هـ ط: حيدر آباد سنة 1340 هـ.
* مسند الإمام أحمد بن حنبل. ط: المكتب، الإسلامي – بيروت.
* مسند الشافعي. ط: دار الشعب. بهامش الجزء السادس من الأم.
* مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني. ت: 211 هـ مطابع دار القلم – بيروت – لبنان طبعة أولى سنة 1390 هـ.
* الموطأ للإمام مالك ت: 179 هـ. ط: الشعب، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
* موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: للعلامة نور الدين علي بن أبي بكر ط. دار الكتب العلمية – بيروت.
* نصب الراية بتخريج أحاديث الهداية: للعلامة جمال الدين عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي ت: 762 هـ. مع حاشية النفيسة: بغية الألمعي في تخريج الزيلعي. نشر المكتبة الإسلامية.
* نيل الأوطار: للعلامة محمد بن علي الشوكاني ت: 1250 هـ. ط: الكليات الأزهرية – القاهرة 1398 هـ.
كتب الفقه والأصول والقواعد واللغة:
* الإجماع: للعلامة ابن المنذر – تحقيق د. عبد القادر شن أر. ط. أنقرة – تركيا. وط. قطر.
* الأحكام السلطانية للعلامة أبي الحسن الماوردي ط. التوفيقية – القاهرة.
* الأحكام السلطانية للعلامة القاضي أبي يعلي. ط. مصطفى الحلبي – عام 1966 – القاهرة.
* إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي. ط. عيسى الحلبي – القاهرة.
* اختلاف المذاهب: للوزير ابن هبيرة، مخطوط الإسكندرية. بمكتبة البلدية.
* إدرار الشروق على أنواء الفروق لسراج الدين قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط. ط – دار المعرفة، بيروت.
* الأشباه والنظائر للعلامة جلال الدين السيوطي. ط. عيسى الحلبي – القاهرة.
* الأشباه والنظائر للعلامة زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم الحنفي، ط. مؤسسة الحلبي – القاهرة.
* الأشباه والنظائر للعلامة ابن السبكي، مخطوطة البلدية بالإسكندرية.
* إعلام الموقعين للعلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية. ط. شركة الطباعة الفنية بالقاهرة عام 1388 هـ.
* إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للإمام أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي. تحقيق أحمد أبو طاهر الخطابي، ط. المغرب.
* البحر الرائق للعلامة ابن نجيم. ط. دار المعرفة – بيروت.
* البحر الزخار للعلامة أحمد بن يحيى بن المرتضى. ط. مؤسسة الرسالة عام 1366 هـ.
* البحر المحيط للعلامة بدر الدين الزركشي، مخطوطة دار الكتب المصرية رقم 101 أصول تيمور.
* بدائع الصنائع للإمام الكاساني. ط. مطبعة الإمام – القاهرة.
* بداية المجتهد – للعلامة ابن رشد الحفيد. ط. مصطفى الحلبي عام 1395 – القاهرة.
* البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين. تحقيق أ. د عبد العظيم الديب. ط. دولة قطر – طبعة أولى.
* بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب مالك. للعلامة أحمد الصاوي – ط. عيسى الحلبي – القاهرة.
* البيان والتحصيل للعلامة ابن رشد. ط. دار الغرب الإسلامي – مع دار إحياء التراث بقطر.
* تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق. للعلامة فخر الدين الزيلعي. ط. الخشاب بالقاهرة عام 1313 هـ.
* التحرير لابن الهمام مع شرحه: التقرير والتحبير. ط. الأميرية سنة 1936 هـ.
* التعريفات. للعلامة أبي الحسن علي الجرجاني. المعروف بالسيد الشريف. ط. الدار التونسية.
* التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإمام الأسنوي. ط. مكة 1353 هـ.
* حاشية الدسوقي على الشرح الكبير. ط. الاستقامة بالقاهرة.
* حاشيتا عميرة، والقليوبي على شرح المحلى على المنهاج، ط. عيسى الحلبي. القاهرة.
* الخراج. للإمام أبي يوسف. تحقيق د. محمد إبراهيم البنا ط. دار الاعتصام.
* خزانة الفقه، وعيون المسائل للفقيه أبي الليث السمرقندي تحقيق د. صلاح الدين الناهي. ط. شركة الطبع والنشر الأهلية ببغداد.
* رحمة الأمة في اختلاف الأئمة. للعلامة أبي عبد الله الدمشقي ط. مصطفى الحلبي سنة 1386 هـ – القاهرة.
* رد المحتار على الدر المختار للعلامة ابن عابدين. ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت 1407 هـ.
* الرسالة للإمام الشافعي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر. ط. مصطفى الحلبي 1358 هـ.
* روضة الطالبين للإمام النووي. ط. المكتبة الإسلامية للطباعة.(9/1066)
* شرح الخرشي على مختصر خليل. للعلامة أبي عبد الله محمد الخرشي. طبعة ثانية بالمطبعة الأميرية – بولاق – مصر.
* شرح العناية على الهداية، للعلامة محمد بن محمود البابرتي ط. الأميرية.
* الطرق الحكمية في السياسة الشرعية. للعلامة ابن القيم ط. المدني.
* الغاية القصوى. للإمام البيضاوي. تحقيق على محيي الدين القره داغي. ط. دار الإصلاح.
* فتح العزيز شرح الوجيز. للإمام عبد الكريم بن محمد الرافعي ط. شركة العلماء بمصر.
* فتح القدير. للعلامة ابن الهمام الحنفي ط. أولى بالمطبعة الأميرية عام 1316 هـ.
* الفروق. للإمام القرافي. ط. دار المعرفة ببيروت.
* القاموس المحيط. للعلامة الفيروز آبادي. ط. مؤسسة الرسالة بيروت.
* القواعد. للعلامة ابن رجب. ط. الكليات الأزهرية.
* قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية. للعلامة محمد بن أحمد بن الغرناطي المالكي. ط. دار العلم للملايين، بيروت 1974.
* كشف الأسرار. للعالمة البزدوي.
* لسان العرب لابن منظور. ط. دار المعارف.
* مباحث العلة، تأليف الدكتور عبد الحكيم السعدي. ط. دار البشائر الإسلامية. بيروت.
* المبسوط. للعلامة شمس الدين السرخسي. ط. السعادة بمصر سنة 1324.
* المجموع. للإمام النووي. ط. شركة العلماء بمصر.
* مجموع الفتاوى. للعلامة ابن تيمية. ط. دار الإفتاء بالسعودية.
* المحلى لابن حزم. ط. المنيرية 1352.
* المدونة الكبرى للإمام مالك. رواية سحنون بن سعيد التنوخي في 240 هـ عن عبد الرحمن بن قاسم العنقي ت 191 هـ، طبعة مطبعة السعادة بمصر عام 1323 هـ.
* المعجم الوسيط. ط. قطر.
* المعيار المعرب.
* مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج. للعلامة محمد الشربيني الخطيب. ط. مصطفى الحلبي عام 1377 هـ.
* المغني. للعلامة ابن قدامة المقدسي الحنبلي ط. الرياض.
* المقدمات والممهدات. للعلامة ابن رشد. ط. دار الغرب الإسلامي.
* المنثور في القواعد. للعلامة بدر الدين الزركشي. ط. أوقاف الكويت.
* مواهب الجليل. للعلامة أبي عبد الله الخطاب. ط. قطر.
* موجبات الأحكام. لابن قطلو بغا الحنفي. ط. دار الإرشاد بغداد عام 1983 م.
* الوجيز للإمام الغزالي. تحقيق د. علي محيي الدين القره داغي. ط. دار الاعتصام، ومخطوطة دار الكتب رقم 312 فقه شافعي، ومخطوطة طلعت أيضاً.
أهم الكتب الفقهية المعاصرة وكتب الاقتصاد:
* أحكام النقود للأستاذ محمد تقي الدين العثماني، بحث مقدم إلى مجمع الفقه بمكة عام 1406 هـ.
* استبدال النقود والعملات للدكتور علي السالوس. ط. مكتبة الفلاح بالكويت.
* أصول الاقتصاد، دكتور محمد صالح. ط. نهضة مصر 1933.
* تقلبات القوة الشرائية للنقود للأستاذ شوقي دنيا، بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر، العدد 41.
* جناية القتل العمد للأستاذ نظام الدين عبد الحميد. ط. بغداد 1975.
* الدين والعين في الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور محمد زكي عبد البر. بحث منشور بمجلة القانون والاقتصاد، العدد الخاص بالعيد المئوي لحقوق القاهرة.
* عقد التحكيم للدكتور قحطان الدوري. ط. وزارة الأوقاف العراقية.
* فقه الزكاة للأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي.
* مبادئ علم الاقتصاد للدكتور محمد عويس. ط. دار النصر – القاهرة.
* الملكية ونظرية العقد. للشيخ الجليل محمد أبو زهرة (رحمه الله) ط. دار الفكر العربي بالقاهرة.
* الملكية في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد السلام العبادي. ط. الأقصى بعمان.
* الموجز في النقود والبنوك للأستاذ أحمد عبده. ط. دار الكتاب الجامعي 1978.
* النقود للعلامة المقريزي. طبعة. أستانة.
* النقود والمكاييل والموازين. للحافظ عبد الرؤوف المناوي. ط. دار الحرية للطباعة ببغداد. تحقيق رجاء السامرائي.
* تلك هي أهم المصادر والمراجع، وتركنا الكثير حيث أشرنا إليها بالكامل في الهوامش.(9/1067)
مفهوم كساد النقود الورقية
وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة
حدود التضخم
التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدة
إعداد
الدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم
أستاذ الدراسات الإسلامية
بجامعة الملك عبد العزيز بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد
إن مشكلة التضخم النقدي، أو تدهور القوة الشرائية للعملات الورقية تدهورًا خطيرًا في بعض الأحيان أو الدول أدى إلى مشاكل في علاقات الالتزامات الآجلة، وضياع الحقوق، مما أورث النزعات والضغائن بين الخصوم. ولا يخفى أثر هذا في إضعاف الثقة في العقود الآجلة، وانعكاسه في شلل واضطراب اقتصاد المجتمع، وذلك لوجود الخلل السلوكي في بعض الأنظمة، نتيجة ضعف القيم، والقواعد التي يرتكن إليها في التعامل الاقتصادي.
ومها يكن فإن المشكلة قائمة وتفرض نفسها، ولا بد من وضع ضوابط التغير في قيمة النقود الورقية المؤثر في الحقوق، ثم وضع الحلول الشرعية.
ولقد كتب إخوان كرام في أثر تغير قيمة العملة كما سيأتي، أثروا المكتبة الإسلامية، فجزاهم الله تعالى خيرًا، لكن مفهوم كساد العملة وما يلحق به وحكمه الشرعي يحتاج إلى بحث وتوضيح، فاستعنت الله تعالى. وأرجو أن أكون قد وفقت لما يحبه الله ويرضاه. ونظرًا لتداخل موضوعي:
1- مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة.
2- حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية "نقودًا كاسدة".
دمجتهما في بعضهما، وسيكون البحث وفق الخطة التالية:
1- مقدمة في النقود الورقية.
2- بعض إيجابيات الورق النقدي.
3- موقف الشريعة من الأوراق النقدية.
4- التضخم ومشاكل وأخطاء تدهور قيمة النقود وآثاره.
5- مفهوم كساد النقود الورقية، وضوابطه، وما يلحق به.
6- آثار كساد النقود الورقية في تحديد أو تعيين قيمة الحقوق والالتزامات الآجلة والأدلة الشرعية.
7- خاتمة وخلاصة البحث.(9/1068)
مقدمة في النقود الورقية
الأموال: نقود، وعروض، ومنافع، وحقوق. وكانت النقود في السابق إما دنانير ذهبية أو دراهم فضية، والنقدان هما الذهب والفضة، ولا زال للنقدين الاعتبار في الثروات والمدخرات حتى في التثمين للسلع والخدمات.
ثم تطورت النقود شكلًا ووظيفة؛ من نقود سلعية أو معدنية إلى نقود ائتمانية ورقية كتابية نائبة وثيقية، وهي نقود اصطلاحية اعتبارية اسمية قانونية، وكانت النقود الورقية قابلة للتبديل بالذهب، وكانت تغطيتها كاملة، ثم أصبحت إلزامية وتغطيتها نسبية، ولا تعتبر حوالة لأن مصدرها لا يقبل بتسديد قيمتها كسائر الحوالات، فهي أشبه بالفلوس الرائجة التي ثمنيتها بالاصطلاح، لا بالدنانير والدراهم التي ثمنيتها بالخلقة؛ لأن النقود الورقية لا تكاد قيمتها الذاتية تذكر، مقابل قيمته النقدية.
وصارت النقود الورقية تقوم بكافة وظائف النقود المعدنية، من كونها مقياسًا للقيم، ووسيطًا للمبادلة والدفع، وخزانًا للقوة الشرائية، فضلًا عن كونها وحدة حساب.
لكن هذا التطور في النقود من سلعية ذات قيمة ذاتية، إلى ائتمانية ذات قيمة اسمية اصطلاحية، منح الجهة المصدرة (الدورة) حرية ومرونة في سياستها النقدية، وهذا قد يؤدي إلى التضخم النقدي المؤدي إلى زيادة الأسعار، وبالتالي ضعف القوة الشرائية للورق النقدي، أو تغير قيمة العملة بالنسبة للأموال العينية والخدمات، فإذا كنت تملك مثلًا مبلغًا قوته الشرائية (100) ، بعد التدهور تشتري فيه نصف ما كنت تشتريه من قبل أو أقل، فهو ضريبة مباشرة تقتطع من أموال الأفراد دون رضاهم.
وفي كل الأحوال تتوقف قيمة رواج الأوراق النقدية على القدرة الإنتاجية للدولة المصرية لها، وإنتاجها هو السلعة الحقيقية والتي يقابلها النقد.
ومهما يكن فالنقود الورقية فكرتها قديمة، ففي صدر الإسلام روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل، فقيل له: إذن لا بعير فأمسك ذلك؛ لأن الطلب النقدي على الجلود يأخذ حجمًا كبيرًا يصعب معه إشباع الطلب السلعي وربما أدى ذلك إلى اختفاء البعير نفسه، وحاجتهم إليه ماسة" (1)
__________
(1) موسوعة فقه عمر بن الخطاب للدكتور محمد رواس قلعجي ص 643 نقلًا من كتاب الإسلام والنقود للدكتور رفيق المصري، الطبعة الثانية 1410/ 1990، مركز النشر العلمي جامعة الملك عبد العزيز بجدة ص 10.(9/1069)
وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب أو الفضة نظيرة؛ أي أن الجلود إذا صارت نقودًا، أخذت حكم النقود في الربا فمبادلة نقد بنقد لا يجوز فيه النساء (التأخير أو التأجيل9. (1)
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن كل شيء اصطلحوا عليه فيما بينهم مثل الفلوس التي اصطلح الناس عليها، أرجو أن لا يكون به بأس، وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: أما الدرهم والدينار فلا يعرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذكر بعضهم: أن النقد ما تم الاتفاق على اعتباره حتى ولو كان قطعة من حجر أو خشب. (2)
وما زالت الفكرة تتطور حتى بدأ العالم يتخلى عن نظام الذهب والفضة والفلوس المعدنية كوسيط، وما انتصف القرن الذي نحن فيه حتى تبنى العالم نظام الأوراق النقدية غير القابلة للتحويل.
بعض إيجابيات الورق النقدي
لا يخفى أن اعتماد الأوراق النقدية بدل المعادن الوسيط فيه تسهيل للتبادل. وتقليل لنفقاته، ورفع كفاءة الأداء الاقتصادي، وسهولة التخزين أو الادخار، والتحويل، والصرف، والحمل، (النقل) ، فلو أراد شخص شراء عقار (عمارة، أرض، مصنع) أو أي سلعة كثيرة الثمن لاحتاج إلى حمالين لنقل الثمن بالنقود المعدنية، ولا يحتاج لمثل هذا في الأوراق النقدية، ثم ظهرت السندات (شيك تحويلي لقبض الثمن من المصرف) ثم ظهرت بطاقة الائتمان أسهل من دفتر الشيكات بموجبها توقع حوالة بقبض الثمن من المصرف ... ثم ... ثم. إلخ.
__________
(1) المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس: 3/90؛ المصدر السابق ص 10
(2) المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس: 3/90؛ المصدر السابق ص 10(9/1070)
موقف الشريعة من الأوراق النقدية
سبق ذكر أقوال بعض السلف من قول عمر بن الخطاب والإمام مالك والإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمهم الله تعالى- من أن النقد ما تم الاتفاق على اعتباره ولو كان قطعة حجر أو خشب أو الجلود، ووجوب الزكاة فيها وحرمة الربا. وفي هذا جاءت القرارات:
أ- قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم 10 بتاريخ 1/4/1393 هـ و7/4/1393:
أولًا: جريان الربا بنوعيه فيها (الأوراق النقدية) كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيره من الأثمان كالفلوس.
ثانيًا: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة، إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
ثالثًا: جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات. (1)
ب- القرار التاسع لمجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في الدورة الثالثة في عمان الأردن 8-13 صفر 1407:
... أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها.
وفي نفس المعاني والأحكام أيضًا جاء قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في دورته الأولى 1405 القرار السادس حول القيمة الورقية.
وجزاهم الله تعالى خيرًا فقد حسموا اللغط، وسدوا الأبواب على بعض المتأولين.
__________
(1) نقلًا من كتاب الورق النقدي للشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، الطبعة الثانية، 1404/ 1984: ص 135-136(9/1071)
التضخم ومشاكل وأخطار تدهور قيمة النقود
أ- بعض أسباب التضخم:
بسبب الجوائح من حروب وزلازل وبراكين وقحط واضطرابات داخلية: عرقية طائفية، وضعف المواد، وهدر الطاقات، والسرف في الإنفاق في غير البنية الاقتصادية للدولة، وغير ذلك، بدأت تظهر مشاكل التضخم النقدي، وبالتالي ضعفت القوة الشرائية للعملة الورقية، مما أدى إلى رخصها تجاه السلع والمنافع والخدمات التي تبذل عوضًا عنها، وصارت مشكلة التضخم من أبرز المشكلات الاقتصادية المعاصرة التي تمس الفرد والجماعة في دول العالم الثالث خاصة وبقية العالم عامة، ويمكن تلخيص أسباب التضخم بالتالي:
1- تخفيض الدولة لقيمة عملتها بالنسبة لبعض العملات الأخرى.
2- الإفراط في الإصدار النقدي.
3- توسع المصارف في منح الائتمان النقدي من أجل الربح السريع.
4- التعامل بالربا.
5- إلغاء العملة الرائجة والاستبدال بنقد آخر يصلح على التعامل به.
6- تدهور الوضع الأمني في البلد المصدر للنقد مما يجعل الناس يسارعون بالتخلص من العملة خوفًا من كسادها فينخفض السعر جدًّا.
ب- بعض الآثار السيئة للتضخم والتغير في قيمة العملة أو الكساد: (1)
1- إحداث الفوضى والنزاع في العلاقات بين الدائنين والمدينين.
2- تدهور المدخرات للخزانة.
3- اختلاف سبل الاستثمار للأفراد والجماعات وغير ذلك كثير.
وعليه فهذا التضخم الكبير للنقد أو التغير الفاحش في انخفاض القيمة؛ القريب من الكساد، أدى إلى خلل ونزاع خطير في مجال المعاملات الفردية، فقد يقرض المرء أخاه المحتاج رفقا به ومعونة له وتفريجًا لكربته، وعند حلول أجل الوفاء يجد المقرض أن المبلغ رجع إليه أقل بكثير مما دفع من حيث الورقة الشرائية أو قيمته بالنسبة للذهب والعملات الأخرى. وكذلك في بدل إيجارات المباني والأراضي ومحلات التجارة طويلة الأجل تنخفض قوة بدل الإيجار، وإن كان الكم لم يتغير، وكذلك في البيوع الآجلة (النسيئة والسلم) فيبيع التاجر البضاعة بنقد محدد مؤجل الوفاء إلى وقت معين، وعندما يحل الأجل يجد التاجر أن المبلغ المتفق عليه، قد اختلف حاله من حيث القوة الشرائية أو بالنسبة للذهب والعملات الأخرى. وكذلك المهر المؤجل يجعل التغيير الفاحش انخفاضًا في قيمته.
__________
(1) عرف الدكتور حسين عمر في كتابه موسوعة المصطلحات الاقتصادية ص 68، 69 التضخم: وضع يكون فيه الطلب الكلي متجاوزًا العرض (الكلي) وعادة ما تكون هناك زيادة كبيرة في كمية النقود في الدولة – أو أوراق البنكنوت المصرفية- دون أن تصاحب ذلك زيادة مناظرة في حجم الناتج من مختلف السلع. وهنا فإن الزيادة في القوة الشرائية والطلب الفعال تؤدي في "الاقتصاد الحر" إلى ارتفاع في الأسعار والأجور، مما يفضي في النهاية إلى "دورة مفرغة" من الزيادات المتلاحقة في الأجور والأسعار.(9/1072)
وكذلك المقادير الشرعية للديات والحدود (نصاب السرقة) نصاب الزكاة، الدخول الدائمة مدى الحياة؛ المعاشات والإعانات الاجتماعية.
هذا وقد كتبت أبحاث وكتب من إخوة كرام في أحكام تغير النقود ككتاب "آثار التغيرات في قيمة النقود وكيفية معالجتها في الاقتصاد الإسلامي " للدكتور موسى آدم عيسى، وكتاب "دراسات في أصول المداينات "؛ فيه بحث عن تغير النقود وأثره على الديون للدكتور نزيه حماد، وكتاب "الإسلام والنقود" للدكتور رفيق المصري، وكتاب "الورق النقدي" للشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع.
وأبحاث علمية كثيرة فيه قدمت إلى أمانة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي
بدأت من نحو عشر سنين وكذلك أبحاث مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي كذلك منذ أكثر من عشر سنين وورقات عمل وأبحاث إلى ندوات اقتصادية وحلقات فقهية تبناها بنك التنمية الإسلامية ومجموعة دالة البركة.
ومما اتخذ من القرارات الصادرة عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي القرار رقم 4 الصادر عن الدورة الخامسة المنعقدة في الكويت "العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًّا كان مصدرها بمستوى الأسعار".(9/1073)
والتوسع في هذا ليس هو الغرض الأساسي لهذا البحث، هذا إذا تغيرت قيمة العملة وانخفضت قيمتها قليلًا فيجب وفاء الحقوق الثابتة في الذمة بنفس المقدار من حيث الكم، وكل زيادة في الكم هي ربا فضل وربا نسيئة.
أما إذا كسدت العملة أو انقطعت أو ألغي التعامل بها، أو انخفضت انخفاضًا فاحشًا ونزلت إلى 1 على 1000 من قيمتها السابقة أو أكثر كما هو الحال في الليرة التركية، واللبنانية وغيرهما من العملات هل يبقى كما هو؟
نعم الفقهاء اختلفوا في وفاء الحقوق الثابتة عند تغير العملة وخاصة عند نقص قيمتها، فهذا أبو يوسف صاحب أبي حنيفة –رحمهما الله تعالى- ومعه آخرون يقول: "يجب على المدين أن يؤدي قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج في البيع تجب القيمة يوم العقد، وفي القرض يوم القبض" (1)
ومثل هذه الفتوى عنه وعن غيره في حاشية ابن عابدين بعنوان "مطلب مهم في أحكام النقود إذا كسدت أو انقطعت أو غلت أو رخصت ... وعند أبي يوسف تجب قيمته يوم البيع ... ثم يقول وحاصل ما مر: أنه على قول أبي يوسف المفتى به لا فرق بين الكساد والانقطاع والرخص والغلاء في أنه تجب قيمتها يوم وقوع البيع أو القرض لا مثلها ... " (2)
وآخرون من العلماء يؤدى: المثل لا القيمة. وذكرنا أن المجمع تبنى فتوى وجوب المثل لا القيمة. ولكن الخلاف بين الفقهاء قليل في حال كساد العملة أو انقطاعها كما سنعلم.
__________
(1) تنبيه الرقود على مسائل النقود من رخص وغلاء: 2/60، 63. رسالة مطبوعة ضمن رسائل ابن عابدين دون ناشر ودون تاريخ.
(2) حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار المعروفة بحاشية ابن عابدين 4/533، 534. شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، 1386/1966.(9/1074)
مفهوم كساد النقود الورقية وضوابطه وما يلحق به
جاء في المعجم الوسيط: "كسد كسادًا وكسودًا لم يرج لقلة الرغبة فيه" (1)
وفي القاموس المحيط: كسد: لم ينفق. وفي تنبيه الرقود في اصطلاح الفقهاء: أن تترك المعاملة بها (العملة) في جميع البلاد وإن كانت تروج في بعض البلاد، لا يبطل لكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم (2) ويقول الأزهري: الكساد: خلاف النفاق ونقيضه، وسوق كاسدة: بائرة (3)
وفي تنبيه الرقود: عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان. (4)
فإذا ترك التعامل بالعملة الورقية في جميع البلاد فذلك ما يسميه الفقهاء بكساد النقد.
أما الانقطاع: أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يدل الصيارفة والبيوت.
وألحق بعض الفقهاء التغير الفاحش لقيمة العملة انخفاضًا بالكساد.
جاء في حاشية محمد المدني في حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل "وهو أن التغير إذا كان فاحشًا فيجب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء، أو الرخص، أما إذا لم يكن فاحشًا فالمثل". يقول الرهوني معلقًا على قول المالكية المشهور بلزوم المثل ولو تغير النقد بزيادة أو نقص "قلت ونبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلة التي علل بها المخالف، ويقصد العلة التي استدل بها أصحاب القول المقابل المشهور في مسألة كساد النقد وهي أن الدائن دفع شيئًا منتفعًا به لأخذ منتفع به فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به" (5)
وينبغي أن نضع ضابطًا للتغير الفاحش في قيمة العملة الملحق بالكساد. جاء في المعجم الوسيط: فحش القول أو الفعل اشتد قبحه، وفحش الأمر: جاوز حده، فهو فاحش، ومؤنثه فاحشة، وجمعها فواحش. (6)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] ، ويقول تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] والنهي يقتضي التحريم.
__________
(1) المعجم الوسيط: ص 786.
(2) تنبيه الرقود: 2/60
(3) تهذيب اللغة للأزهري، تحقيق عبد السلام هارون، ومحمد علي النجار: 10/44.
(4) تنبيه الرقود: 2/59
(5) حاشية الرهوني: 5/120، 121؛ وحاشية المدني: 5/118 نقلًا عن كتاب دراسات في أصول المداينات للدكتور نزيه حماد ص 266
(6) المعجم الوسيط: 674.(9/1075)
والفحش ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال. (1)
الفحشاء: ما ينفر عنه الطبع السليم، ويستنقصه العقل المستقيم. (2)
الفحش: كل شيء جاوز حده وقدره، فهو فاحش، وكل أمر لا يكون موافقًا للحق فهو فاحشة. (3)
يقول تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 19] قيل: خروجها من بيتها بغير إذن زوجها.
وفي القاموس المحيط: الفاحش: كل ما نهى الله عنه، والفاحش: الكثير الغالب والكثير عكس القليل.
يقول أبو الفرج البغدادي: الكثير: الغزير، والقليل: اليسير الزهيد. (4)
وفي القاموس: الكثرة: نقيض القلة، ومعظم الشيء.
وفي مفردات القرآن: الكثرة والقلة يستعملان في الكمية المنفصلة كالأعداد. (5)
يقول الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة: 249] .
ويقول الأزهري: الكثرة: نماء العدد. يقول الله تعالى {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] التفاخر بكثرة العدد والمال. (6)
وعليه لا شك أن أقصى ضابط للقلة والكثرة النصف (50?) فما هو أكثر من النصف كثير، وأقل من النصف قليل، وكثير من الفقهاء اعتبر استثناء الكثير كالاستثناء المستغرق المغلي وهو استثناء الكل، كقول المقر: له علي عشرة دراهم إلا عشرة يلغي الاستثناء ويثبت على المقر عشرة دراهم، ويلزمه القاضي بها؛ لأن المستثنى مستغرق (شامل) للمستثنى منه. وكذلك استثناء الكثير في قوله: له علي عشرة إلا سبعة فيلغو الاستثناء ويثبت المستثنى منه ويلزمه القاضي بالعشرة أيضًا.
يقول القرافي: إن الاستثناء إنما وضعته العرب لإخراج ما عساه يذهل عنه المتكلم فيحتاج إلى إخراجه بعد اندراجه في اللفظ. ويعذر في القليل؛ لأن مثله يجوز الذهول عنه أما أن ينطق بما نصفه باطل (كقوله عشرة إلا خمسة) فهذا يعد مشتغلًا بالهذيان (7)
__________
(1) المفردات للراغب الأصفهاني ص 226، تحقيق صفوان عدنان داوودي.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) تهذيب اللغة للأزهري: 4/188
(4) جواهر الألفاظ لأبي الفرج البغدادي، تحقيق محيي الدين عبد الحميد ص 123، 124
(5) المفردات للراغب الأصفهاني ص 703.
(6) تهذيب اللغة للأزهري: 10/176، 177
(7) الاستغناء في أحكام الاستثناء لشهاب الدين القرافي المتوفى 682 هـ، تحقيق الدكتور طه محسن، مطبعة الإرشاد، بغداد 1402/1982: ص 540.(9/1076)
ويشهد لهذا قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83] {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 246] ، {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249] ، {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82] ، {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] . وهكذا جاء في القرآن الكريم آيات كثيرة فيها استثناء القليل وإبقاء الكثير.
فالأصل في الاستثناء إخراج القليل من حكم الكثير، وأما العكس أي: إخراج الكثير وإبقاء القليل في الحكم فقد عده كثير من أهل اللغة والفقه في حكم الاستثناء المستغرق الملغى كما تقدم.
وهذه بعض الفتاوى الفقهية في عدم اعتبار استثناء الأكثر: يقول الفقيه تقي الدين الفتوحي الحنبلي الشهير بابن النجار في كتابه منتهى الإرادات في باب الاستثناء: "ويصح في نصف فأقل من مطلقات وطلقات". (1)
أي إذا قال الزوج لزوجته: أنت طالق ثلاثًا إلا واحد. تقع طلقتان؛ لأنه استثنى أقل من النصف. وإن قال: أنت طالق ثلاثًا إلا ثنتين يقع ثلاثا، فيلغو الاستثناء ويبقى المستثنى منه كقوله: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثًا. هذا هو الاستثناء المستغرق الملغى فيقع ثلاث طلقات. هذا الاستثناء في الطلقات.
والاستثناء في عدد الزوجات المطلقات كذلك، فلو كان عند الزوج أربع نساء وقال: نسائي طوالق إلا واحدة، يقع الطلاق على ثلاث من زوجاته ويبقى له واحدة، وعليه بيان اسمها، وإذا قال: نسائي طوالق إلا ثنتين يقع الطلاق على زوجتين، ويبقى زوجتان في عصمته وعليه بيان اسمهما. أما إذا قال: نسائي طوالق إلا ثلاثا طلقن جميعا لأنه استثنى أكثر من النصف، كقوله: نسائي طوالق إلا أربعًا، طلقن جميعًا وهذا هو الاستثناء الملغى.
ويقول القرافي في كتاب الاستغناء "وقال الزيدي في شرح الجزولية مذهب البصريين: لا بد أن يكون المستثنى أقل مما بقي، وقال الكوفيون وبعض البصريين يجوز النصف، وأكثر الكوفيين وكثير من الفقهاء لا يجيزون الأكثر، وقد حكى أبو يعلى الحنبلي أن مذهب أحمد لا يصحح استثناء الأكثر، وحكاه الخرقي في كتاب الإقرار ونقله المازري عن عبد الملك بن الماجشون من المالكية" (2)
وعند الحنفية اعتبروا أن ترك القليل من عدد أشواط طواف الزيارة (الإفاضة) لا يلغي هذا الركن عن الحاج وإنما يجبر النقص بدم ويتم حجه. يقول الميداني في اللباب شرح الكتاب (للقدوري) : ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها، ولم يطف بعده غيره، فعليه شاة؛ لأن النقصان بترك الأقل يسير، وإن ترك أربعة أشواط بقي محرمًا أبدًا في حق النساء حتى يطوفها. (3)
__________
(1) منتهى الإرادات لتقي الدين الفتوحي: 2/271؛ تحقيق عبد الغني عبد الخالق، نشر عالم الكتب 1381/1962.
(2) الاستغناء مرجع سابق ص 546؛ وأبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء شيخ الحنابلة في وقته (380-458) ؛ معجم المؤلفين: 9/254. الخرقي: أبو القاسم عمر بن حسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي الفقيه الحنبلي المتوفى 334. معجم المؤلفين: 7/282. وابن الماجشون: عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون المدني فقيه مالكي متوفى 212. معجم المؤلفين: 6/184
(3) اللباب شرح الكتاب. عبد الغني الميداني، تحقيق محيي الدين عبد الحميد: 2/204.(9/1077)
ومثله في الاعتبار للعدد الأكثر في السعي بين الصفا والمروة، وعدد الحصيات في رمي الجمار.
ثم إن الفقهاء يفرقون بين الغبن (النقص والخداع) اليسير والغبن الفاحش الكثير.
ويثبت بعضهم خيار الفسخ في البيع للغبن كالحنابلة، جاء في المغني "يثبت الخيار في البيع للغبن في مواضع أحدها: تلقي الركبان إذا تلقاهم فاشترى منهم وباعهم وغبنهم.
الثاني: بيع النجش،
الثالث: المسترسل إذا غبن غبنًا يخرج عن العادة فله الخيار بين الفسخ والإمضاء وبهذا قال مالك ... ولا تحديد للغبن في المنصوص عن أحمد، وحدد أبو بكر في التنبيه وابن أبي موسى في الإرشاد في الثلث، وهو قول مالك؛ لأن الثلث كثير بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم ((الثلث والثلث كثير)) (في الوصية) . وقيل بالسدس، وقيل بما لا يتغابن به الناس في العادة؛ لأن ما لا يرد الشرع بتحديده يرجع فيه إلى العرف. (1)
كما أن بعض الفقهاء ومنهم الحنابلة يعتبرون دية المرأة نصف دية الرجل، وكذلك في دية الأعضاء ومنافعها إلا إذا كانت الدية أقل من الثلث فتجب لها الدية كاملة.
يقول ابن النجار: "دية الحر المسلم مائة بعير ... ودية أنثى بصفته نصف ديته ويستويان في موجب دون ثلث الدية". (2)
ويورد الدكتور الزحيلي عن الحنابلة (3) "يؤثر الغبن الفاحش في العقد فيجعله غير لازم سواء كان بتغرير أم بغير تغرير ويعطى للمغبون حق فسخ العقد في حالات ثلاث:
أ- تلقي الركبان: وهو أن يتلقى شخص طائفة من الناس يحملون متاعًا إلى بلد فيشتريه منهم قبل قدومهم البلد ومعرفتهم بالسعر وهو حرام ومعصية ويثبت لهم حق الفسخ إذا غبنوا غبنًا فاحشًا لقوله صلى الله عليه وسلم ((لا تلقوا الركبان)) (4) وهذا رأي الشافعية لثبوت الخيار فيه بنص الحديث (5)
__________
(1) المغني والشرح الكبير على متن المقنع لابن قدامة، ط 1404: 4/92، 94.
(2) منتهى الإرادات لابن النجار، مرجع سابق: 2/428، 429.
(3) غاية المنتهى: 2/33؛ والمغني: 4/212، 218
(4) عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد) . قلت لابن عباس: ما قوله: لا يبيع حاضر لباد؟ قال: (لا يكون سمسارًا له) متفق عليه واللفظ عليه واللفظ للبخاري، وسبل السلام: 3/20 وما بعدها
(5) مغني المحتاج: 2/36؛ والمهذب: 1/292(9/1078)
ب- النجش: وهو زيادة في سعر السلعة المعروضة للبيع لا لرغبة في شرائها بل ليخدع غيره فيثبت الخيار للمشتري إذا لم يعلم بأن الذي يزيد لا يريد الشراء.
ج- المسترسل: وهو الشخص الجاهل بقيمة الأشياء ولا يحسن المساومة والفصال، ويشتري مطمئنًا إلى أمانة البائع ثم يتبين أنه غبن غبنًا فاحشًا فيثبت له الخيار بفسخ البيع". (1)
وعليه؛ الغبن نوعان: يسير وفاحش. والغبن اليسير: ما يدخل تحت تقويم المقومين، والغبن الفاحش: ما لا يدخل تحت تقويم المقومين.
وقدر نصر بن يحيى الغبن الفاحش بنصف العشر في العروض أي 5? التجارية، والعشر في الحيوانات، والخمس في العقار أو زيادة.
وبعد هذا الاستعراض لبعض أقوال العلماء لمعنى الكساد والتغير الفاحش الكثير لقيمة العملة، وأقصى بيان للمراد من الكثير أنه ما زاد على النصف. فإني أرى أن هبوط قيمة العملة الورقية إلى ما دون النصف ملحق بحكم كسادها، يوجب القيمة للحقوق وقت العقد، وإن تجاهل التدهور النقدي الفاحش فيه ظلم لأصحاب الحقوق، فالقرض صدقة باستخدام المال لزمن معين، وليس صدقة بأكثر المال.
وممكن أن تقوم هذه الحقوق الثابتة في هذه الحال بكمية من الورق النقدي بما يعادلها من الذهب وقت ثبوتها.
جاء في المعيار المعرب: "ما الحكم فيمن أقرض غيره مالًا من سكة ألغي التعامل بها؟ ... أفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب ... وكان أبو محمد بن دحون يفتي بالقيمة يوم القرض، ويقول: إنما أعطاها على العوض فله العوض" (2)
ويقول الرهوني من علماء المالكية: "إذا أبطلت تلك العملة واستبدلت بغيرها فيرجع إلى قيمة العملة الملغاة من الذهب ويأخذ صاحب القيمة ذهبًا" (3)
ويقول ابن النجار في كتابه منتهى الإرادات وشرحه للبهوتي في باب القرض: "ما لم يكن القرض فلوسًا أو دراهم مكسرة فيحرمها السلطان أي يمنع التعامل بها، ولو لم يتفق الناس على ترك التعامل بها، فإن كان كذلك فله أي المقرض قيمته أي القرض المذكور وقت قرض نصًّا؛ لأنها تعيبت، وسواء نقصت قيمتها قليلًا أو كثيرًا، وتكون القيمة من غير جنسه أي القرض، إن جرى فيه أي أخذ القيمة من جنسه ربا فضل بأن اقترض دراهم مكسرة وحرمت، وقيمتها يوم القرض أنقص من وزنها فإنه يعطيه بقيمتها ذهبًا" (4)
وبالقيمة من الذهب يقول أبو يوسف: "وعليه قيمتها من الذهب يوم وقع القرض" (5)
يقول الدكتور رفيق المصري: " ... إن قرض هذه النقود الورقية ولا سيما في بعض البلدان التي تتدهور فيها قيمة النقود تدهورًا مخيفًا لا بد من اتخاذ إجراءات لحمايته والمحافظة على استمراريته، أما ما ذهب إليه بعض العلماء من تجاهل هذه الحقيقة فهذا يعني ضمنًا أنهم موافقون على الظلم الذي يلحق بالمقرض أو أنهم غير مبالين بالقرض منح أو منع، أو أنهم متجاهلون للخلل الكبير الذي أصاب تلك النقود في أدائها لوظيفة الدفع المؤجل، فكيف يقال: إن هذه النقود الورقية تقوم مقام النقدين في كل شيء؟ هل تقوم مقامها في وظيفة الدفع المؤجل. (6)
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبه الزحيلي، طبع دار الفكر: 4/223
(2) المعيار المعرب لأحمد بن يحيى الونشريسي المتوفى 914 هـ، 6/163، 164، طبع دار الغرب الإسلامي.
(3) حاشية الرهوني: 5/199 نقلًا عن كتاب دراسات في أصول المداينات، مرجع سابق ص 209
(4) شرح منتهى الإرادات لمنصور البهوتي. 2/226؛ ومنتهى الإرادات لابن النجار: 1/298. مرجع سابق
(5) تنبيه الرقود ص 62. مرجع سابق.
(6) الإسلام والنقود ص 58. مرجع سابق.(9/1079)
آثار كساد النقود الورقية وما يلحق به في تعيين قيمة
الحقوق والالتزامات الآجلة والأدلة الشرعية
بعد أن عرفنا أن المراد من الكساد في الأصل ترك التعامل بالعملة الورقية في جميع البلاد، وأن التغير الفاحش في انخفاض قيمة العملة ألحقه بعض العلماء في الكساد، وضبطنا ذلك أنه إذا انخفضت العملة الورقية إلى أقل من نصف ما كانت عليه وقت ثبوت الحق أو الالتزام الآجل، وبينت أدلة اختياري لهذا المستوى من الانخفاض في الإلحاق بالعملة الكاسدة.
وبعد أن بينت أن بعض العلماء كأبي يوسف صاحب أبي حنيفة والرهوني من المالكية أفتى بثبوت قيمة العملة المتغيرة وقت العقد. وأفتى بعض علماء المالكية والحنابلة والحنفية بالقيمة يوم القرض بالذهب؛ وبعد هذا أسوق بعض الأدلة الشرعية على الحكم بثبوت القيمة يوم العقد أو وقت ثبوت الحق للحقوق والالتزامات الآجلة إذا كان التغير أو الانخفاض كثيرًا أو فاحشًا إلى أقل من نصف قيمتها وقت ثبوت الحق مقارنة بالذهب، هذه الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال بعض علماء هذه الأمة.
أ- من الكتاب:
يقول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] وصاحب الحق سواء أكان دائنًا أو مقرضًا أو أجيرًا (موظفًا) قائما بعمله أو متقاعدًا أو ملتزما بمقاولة إنشائية أو غيرها كعقد توريد (طعام مثلًا للمدارس أو المستشفيات) مقابل حق آجل؛ حينما يستلم أقل من نصف حقه وقت ثبوته بسبب الغلاء أما يكون الطرف الثاني قد أكل حقه بالباطل (حرام) ؟
إذا كانت هذه الآية في أول مرادها حرمت على المرء أن يأكل مال نفسه بالباطل وذلك إذا أنفق المال على وجه البطر والإسراف؛ لأن هذا من الباطل الحرام وليس من الحق، فمن باب أولى يحرم التعدي على حق غيره وأكله بالباطل ولو بثبوت العقد! يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي يرحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية في تفسيره: ولا تأخذوا أموالكم أي أموال غيركم إضافة إليهم؛ لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويحترم ماله، كما يحترم ماله؛ ولأن أكله لمال غيره، يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة، ولما كان أكلها نوعين: نوعًا بحق ونوعًا بباطل، وكان المحرم إنما أكلها بالباطل قيده الله تعالى بذلك". (1) وكذلك في قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] وتفسير العلماء للفاحشة بمجاوزة الحد وقدره وكل أمر لا يكون موافقًا للحق فهو فاحشة (2) واستلام صاحب الحق أقل من نصف حقه لا شك فيه مجاوزة للحق. ونقلنا أن صاحب القاموس المحيط يقول عن الفاحش: الكثير الغالب وتدهور قيمة العملة إلى أقل من نصف قيمتها سابقًا وقت ثبوت الحق لا شك أنه كثير غالب وأنه ظلم؛ والظلم يزال.
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي المتوفى 1376 هـ طبع مطبعة المدني 1408 هـ 1988م: 1/148 و149.
(2) تهذيب اللغة للأزهري 4/188(9/1080)
ب- من السنة:
1- عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، (1) وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) (2) وفي رواية الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه)) قال عنه الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الشوكاني عنه: إنه قاعدة من قواعد الدين تشهد له كليات وجزئيات. (3) وضرر صاحب الحق الآجل بفوات أكثر حقه واضح، وهو حرام، والضرر يزال، وإزالة الضرر بتقويم الحق وقت ثبوته بنقد يقل التحكم والتأثير فيه نسبيًّا ألا وهو الذهب أمام العملات الورقية.
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ((وضع الجوائح)) قال الخطابي: قال مالك: يوضع في الثلث فصاعدًا ولا يوضع فيما أقل من الثلث (4) ويقول أبو البركات أحمد بن محمد الدردير من علماء المالكية في تعريف الجائحة: كل شيء لا يستطاع دفعه عادة من أمر سماوي كبرد وثلج وغبار وسموم – أي ريح حار- وجارد وفأر ونار ونحو ذلك أو جيش ... " (5) ويقول ابن تيمية: فالجائحة هي: الآفة السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد مثل الريح والبرد والحر والمطر والجليد والصاعقة ونحو ذلك (6) فالجائحة كل ما لا يستطاع دفعه ولا تضمين أحد فيه إذا أتلف أو أنقص أحد العوضين قبل قبضه (7) ويقول ابن تيمية: وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤجرات مما تمس الحاجة إليه، وذلك داخل في قاعدة المقصود والمعقود عليه قبل التمكن من قبضه. (8)
__________
(1) سنن ابن ماجه تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2/784 رقم 2340، 2341؛ وفي سنن أبي داود 2/283.
(2) سنن ابن ماجه تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2/784 رقم 2340، 2341؛ وفي سنن أبي داود 2/283.
(3) نيل الأوطار للشوكاني توزيع دار الباز 5/385-387.
(4) سنن أبي داود 3/670 و671 رقم 3374 ومعه كتاب معالم السنن للخطابي دار الحديث 1391 هـ
(5) الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك لأبي البركات أحمد بن محمد الدردير: 3/244 دار المعارف بمصر 1393هـ
(6) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية 30/278.
(7) الجوائح وأحكامها د. سليمان بن إبراهيم الثنيان دار عالم الكتب 1413هـ –1992م صـ6
(8) مجموع الفتاوى 30/253 نقلًا عن كتاب الجوائح مرجع سابق ص 95.(9/1081)
3- روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا بم تأخذ مال أخيك بغير حق)) ؟ (1)
وبهذا تبدو لنا حكمة وضع النبي صلى الله عليه وسلم الجوائح فإنها تمنع المنازعات بين الناس وتزيل الأحقاد من قلوبهم، وتدرأ عنهم المفاسد وتجلب المصالح، ولو لم توضع لوقع الناس في حرج في معاملاتهم. وإني أرى التضخم النقدي الخطير من هذه الجوائح كالبرد والصواعق والزلازل والبراكين التي هي ليست بسبب من صاحب العقد ولا يمكن دفعها.
هذا وقد اعتبر مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي أن التضخم من الجوائح وتعويض المتضرر بتغير الأسعار وسماها الظروف الطارئة في دورته الخامسة من 8-16 ربيع الآخر عام 1402هـ وأنقل نص القرار بكماله لما فيه من الأدلة التي تنفي شبهة الربا، وتثبت إنصاف صاحب الحق الآجل المتضرر بسبب التدهور النقدي.
__________
(1) صحيح مسلم تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رقم 921 ثم يعرف الجائحة: هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وكل مصيبة عظيمة وفتنة كبيرة.(9/1082)
القرار السابع بشأن الظروف الطارئة
وتأثيرها في الحقوق والالتزامات العقدية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
أما بعد،
فقد عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي مشكلة ما قد يطرأ بعد إبرام عقود التعهد ونحوها من العقود ذات التنفيذ المتراخي في مختلف الموضوعات من تبدل مفاجئ في الظروف والأحوال ذات التأثير الكبير في ميزان التعادل الذي بنى عليه الطرفان المتعاقدان حساباتهما فيما يعطيه العقد كلًّا منهما من حقوق، وما يحمله إياه من التزامات مما يسمى اليوم في العرف التعاملي بالظروف الطارئة.
وقد عرضت مع المشكلة أمثلة لها من واقع أحوال التعامل وأشكاله توجب التفكير في حل فقهي مناسب عادل يقضي على المشكلة في تلك الأمثلة ونظائرها كثيرة.
فمن صور هذه المشكلة الأمثلة التالية:
1- لو أن عقد مقاولة على إنشاء بناية كبيرة يحتاج إنشاؤها إلى مدة طويلة تم بين طرفين، وحدد فيه سعر المتر المكعب من البناء وكسوته بمبلغ مائة دينار مثلًا، وكانت كلفة المواد الأولية من حديد وأسمنت وأخشاب وسواها وأجور عمال تبلغ عند العقد للمتر الواحد ثمانين دينارًا فوقعت حرب غير متوقعة، أو حادث آخر خلال التنفيذ قطعت الاتصالات والاستيراد وارتفعت بها الأسعار ارتفاعًا كبيرًا يجعل تنفيذ الالتزام مرهقًا جدًّا.
2- لو أن متعهدًا في عقد توريد أرزاق عينية يوميًّا من لحم وجبن ولبن وبيض وخضروات وفواكه ونحوها إلى مستشفى أو إلى جامعة فيها أقسام داخلية، أوالى دار ضيافة حكومية، بأسعار اتفق عليها في كل صنف لمدى عام، فحدثت جائحة في البلاد أو طوفان أو فيضان أو زلزال، أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية، فارتفعت الأسعار إلى أضعاف كثيرة عما كانت عليه عند عقد التوريد، إلى غير ذلك من الأمثلة المتصورة في هذا المجال.
فما الحكم الشرعي الذي يوجبه فقه الشريعة في مثل هذه الأحوال التي أصبحت كثيرة الوقوع في العصر الحاضر الذي تميز بالعقود الضخمة بقيمة الملايين، كالتعهد مع الحكومات في شق الطرق الكبيرة، وفتح الأنفاق في الجبال، وإنشاء الجسور العظيمة، والمجمعات لدوائر الحكومة أو للسكنى، والمستشفيات العظيمة أو الجامعات، وكذا المقاولات التي تعقد مع مؤسسات أو شركات كبرى لبناء مصانع ضخمة، ونحو ذلك مما لم يكن له وجود في الماضي البعيد. فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره قبل تبدل الظروف وطروء التغييرات الكبيرة المشار إليها مهما تكبد في ذلك من خسائر ماحقة أو ساحقة؟ تمسكًا بمقتضى العقد وحدوده في الأسعار والكميات؟ أو له مخرج وعلاج من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة، يعيد كفتي الميزان إلى التعادل ويحقق الإنصاف بقدر الإمكان بين الطرفين؟(9/1083)
وقد نظر مجلس المجمع في النظائر الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع من فقه المذاهب واستعرض قواعد الشريعة ذات العلاقة مما يستأنس به ويمكن أن يوصى بالحكم القياسي والاجتهاد الواجب فقهًا في هذا الشأن كما رجع إلى آراء فقهاء المذاهب فوجد ما يلي:
1- إن الإجارة يجوز للمستأجر فسخها بالطوارئ العامة التي يتعذر فيها استيفاء المنفعة كالحرب والطوفان ونحو ذلك، بل الحنفية يسوغون فسخ الإجارة أيضًا بالأعذار الخاصة بالمستأجر مما يدل على جواز فسخها بالطوارئ العامة مقبول لديهم أيضًا بطريق الأولوية فيمكن القول: إنه محل اتفاق، وذكر ابن رشد في بداية المجتهد (ج 2 ص/192 من طبعة الخانجي الأولى بالمطبعة الجمالية في مصر) تحت عنوان: (أحكام الطوارئ) أنه: (عند مالك أن أرض المطر (أي البعلية التي تشرب من ماء السماء فقط) إذا كريت فمنع القحط من زراعتها، أو إذا زرعها المكتري فلم ينبت الزرع لمكان القحط (أي بسببه) أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة فلم يتمكن المكتري من زرعها) انتهى كلام ابن رشد.
2- وذكر ابن قدامة المقدسي في كتاب الإجارة من المغني (المطبوع مع الشرح الكبير ج 6 ص/30) أنه: (إذا حدث خوف عام يمنع ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة، أو تحصر البلد فامتنع الخروج إلى العين المستأجرة لزرع أو نحو ذك، فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ لأنه أمر غالب يمنع المستأجر من استيفاء المنفعة، فأما إذا كان الخوف خاصًّا بالمستأجر مثل أن يخاف وحده لقرب أعدائه ... لم يملك الفسخ، لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية فأشبه مرضه.
3- وقد نص الإمام النووي -رحمه الله- في روضة الطالبين (ج 5 ص/239) أنه لا تنفسخ الإجارة بالأعذار سواء كانت إجارة عين أو ذمة، وذلك كما إذا استأجر دابة للسفر عليها فمرض، أو حانوتًا لحرفة فندم، أو هلكت آلات تلك الحرفة، أو استأجر حمامًا فتعذر الوقود. قال النووي: وكذا لو كان العذر للمؤجر بأن مرض وعجز عن الخروج مع الدابة، أو أكرى داره وكان أهله مسافرين فعادوا واحتاج إلى الدار أو تأهل قال: فلا فسخ في شيء من ذلك إذ لا خلل في المعقود عليه.
4- ما يذكره العلماء رحمهم الله في الجوائح تجتاح الثمار المبيعة على الأشجار بالأسباب العامة كالبرد والجراد وشدة الحر والأمطار والرياح ونحو ذلك، مما هو عام حيث يقرون سقوط ما يقابل الهالك بالجوائح من الثمن وهي قضية الجوائح المشهورة في السنة والفقه.(9/1084)
5- ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مختصر الفتاوى ص/376 أن من استأجر ما تكون منفعة إدارته لعامة الناس، مثل الحمام والفندق والقياسية، فنقصت المنفعة المعروفة لقلة الزبون أو لخوف أو حرب أو تحول سلطان ونحوه فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة.
6- وقال ابن قدامة أيضًا في الصفحة 29 من الجزء السابق الذكر نفسه (لو استأجر دابة ليركبها أو يحمل عليها إلى مكان معين، فانقطعت الطريق إليه لخوف حادث أو اكترى إلى مكة فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق فلكل واحد منهما فسخ الإجارة وإن أحب إبقاءها إلى حين إمكان الاستيفاء جاز) . وقال الكاساني من فقهاء الحنفية في الإجارة من كتاب بدائع الصنائع (ج 4 ص/197) : (إن الفسخ في الحقيقة امتناع من التزام الضرر، وأن انكسار الفسخ عند تحقق العذر خروج عن العقد والشرع، لأنه يقتضي أن من اشتكى ضرسه، فاستأجر رجلًا لقلعها، فسكن الوجع يجبر على القلع وهذا قبيح عقلًا وشرعًا) .
هذا وقد ذكر فقهاء المذاهب في حكم الأعذار الطارئة في المزارعة والمساقاة والمغارسة شبيه ما ذكروا في الإجارة.
7- قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده وقرر كثير من فقهاء المذاهب في الجوائح التي تجتاح الثمار ببرد أو صقيع، أو جراد، أو دودة، ونحو ذلك من الآفات، أنها تسقط من ثمن الثمار التي بيعت على أشجارها ما يعادل قيمة ما أتلفته الجائحة وإن عمت الثمر كله تسقط الثمن كله.
8- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه ((لا ضرر ولا ضرار)) وقد اتخذ فقهاء المذاهب من قوله هذا قاعدة فقهية اعتبروها من دعائم الفقه الأساسية، وفرعوا عليها أحكامًا لا تحصى في دفع الضرر وإزالته في مختلف الأبواب.
ومما لا شك فيه أن العقد الذي عقد وفقًا لنظامه الشرعي يكون ملزمًا لعاقديه قضاءً عملًا بقوله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] .
ولكن قوة العقد الملزمة ليست أقوى من النص الشرعي الملزم للمخاطبين به كافة، وقد وجد المجمع في مقاييس التكاليف الشرعية، ومعايير حكمة التشريع، أن المشقة لا ينفك عنها التكليف عادة بحسب طبيعته، كمشقة القيام في الصلاة، ومشقة الجوع والعطش في الصيام، لا تسقط التكليف ولا توجب فيه التخفيف، ولكنها إذا جاوزت الحدود الطبيعية للمشقة المعتادة في كل تكليف بحسبه، أسقطته أو خففته، كمشقة المريض في قيامه للصلاة ومشقته في الصيام، وكمشقة الأعمى والأعرج في الجهاد، فإن المشقة المرهقة عندئذ بالسبب الطارئ الاستثنائي، توجب تدبيرًا استثنائيًّا يدفع الحد المرهق منه، وقد نص على ذلك وأسهب في بيانه، وأتى عليه بكثير من الأمثلة في أحكام الشريعة الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه (لموافقات في أصول الشريعة) .(9/1085)
فيتضح من ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة لا تأثير لها في العقود لأنها من طبيعة التجارة، وتقلباتها التي لا تنفك عنها ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيرًا بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدبيرًا استثنائيًّا.
ويقول ابن القيم – رحمه الله - في كتابه (إعلام الموقعين) : "إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض وكل أمر خرج من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى عكسها فليس من شرع الله في شيء، وحيثما ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره" وقصر العاقدين إنما تكشف عنه وتحدده ظروف العقد وهذا القصر لا يمكن تجاهله والأخذ بحرفية هذا العقد مهما كانت النتائج، فمن القواعد المقررة في فقه الشريعة، أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفًا في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء، ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:
أ- في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلًا غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييرًا كبيرًا بأسباب طارئة عما لم تكن متوقعة حين التعاقد فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع وبناء على الطلب، تعديل الحقوق والالتزامات العقدية، بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لم يتم تنفيذه منه إذا رأى فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ يجبر له جانبًا معقولًا من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم، ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعًا أهل الخبرة الثقات.
ب- ويحق للقاضي أيضًا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيرًا بهذا الإمهال.
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقًا للعدل الواجب بين طرفي العقد، ومنعًا للضرر المرهق لأحد العاقدين بسبب لا يد له فيه، وإن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعي الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها، والله ولي التوفيق، (1) وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
وهكذا يقرر هذا المجمع الموقر مبدأ التعويض للمتضرر صاحب الحق الآجل بسبب الجوائح، وإن تدهور قيمة الورق النقدي إلى ما دون منصف قيمته وقت العقد، ليس هذا من تقصير صاحب الحق حتى يتحمل الخسارة، إنما هو من الجوائح أو الظروف الطارئة القاهرة، فالعدل يقتضي أن يستوفى من الطرف الآخر للعقد الرابح من انخفاض العملة وارتفاع الأسعار ما يعادل الحق الثابت وقت العقد، هذا إذا كان تدهور قيمة العملة كثيرًا فاحشًا كما سبق ضبطه بالنصف؛ وإلا فلا، لأن التجارات لا تخلو من مخاطرات وما دون النصف يسير.
__________
(1) قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي من الدورة الأولى 1398هـ حتى الدورة الثامنة 1405هـ ص/99 - 104(9/1086)
وفي مثل هذا الاتجاه يقول الدكتور نزيه حماد معللًا لتحقيق العدل في المعاملات المالية لإيجاد أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة هو الأولى بالاعتبار من رأي الجمهور الذاهبين أن الواجب على المدين أداؤه إنما هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت في الذمة دون زيادة أو نقصان، وذلك لاعتبارين:
(أحدهما) : أن هذا الرأي هو الأقرب للعدالة والإنصاف فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، والله يأمر بالقسط.
(والثاني) : أن فيه رفعًا للضرر عن كل من الدائن والمدين فلو أقرضه مالًا فنقصت قيمته، وأوجبنا عليه قبول المثل عددًا تضرر الدائن لأن المال الذي تقرر ليس هو المستحق، إذ أصبح بعد نقصان القيمة معيبًا بعيب النوع المشابه لعيب العين المعينة (حيث إن عيب العين المعينة، هو خروجها عن الكمال بالنقص، وعيب الأنواع نقصان قيمتها) ولو أقرضه مالًا فزادت قيمته، وأوجبنا عليه أداء المثل عددًا تضرر المدين، لإلزامه بأداء زيادة عما أخذ.. والقاعدة الشرعية الكلية أنه لا ضرر ولا ضرار.
إن الرأي الذي استظهره الرهوني من المالكية بلزوم المثل عند تغير النقد بزيادة أو نقص إذا كان ذلك التغير يسيرًا، ووجوب القيمة إذا كان التغير فاحشًا أولى في نظري من رأي أبي يوسف المفتى به عند الحنفية بوجوب القيمة مطلقًا وذلك لاعتبارين:
أحدهما: أن التغير اليسير مغتفر قياسًا على الغبن اليسير والضرر اليسير المغتفرين شرعًا في عقود المعاوضات المالية، من أجل رفع الحرج عن الناس، نظرًا لعسر نفيهما في المعاملات بالكلية، ولغرض تحقيق أصل تشريعي مهم، وهو استقرار التعامل بين الناس بخلاف الغبن الفاحش. والغرر الفاحش فإنهما ممنوعان في أبواب البيوع والمعاملات.
والثاني: أن التغير اليسير مغتفر تفريعًا على القاعدة الفقهية الكلية (أن ما قارب الشيء يعطى حكمه) بخلاف التغير الفاحش، فإن الضرر فيه بين والجور فيه محقق. (1)
__________
(1) دراسات في أصول المداينات مرجع سابق ص 226 و227(9/1087)
خاتمة وخلاصة للبحث
1- رأينا أن النقود الورقية ائتمانية اعتبارية وقيمتها اصطلاحية اسمية وليست ثمنيتها ذاتية بالخلقة كالذهب والفضة (النقدين) .
2- أنها تقوم بوظائف النقدين تمامًا في وساطة التبادل وتقويم الأموال.
3- فتاوى السلف والخلف على أنها أثمان تجب الزكاة فيها ويجري فيها الربا.
4- أنها قابلة لتدهور القيمة أكثر من الذهب والفضة، وأن كثيرا من الدول تعاني من مشاكل التضخم النقدي وانخفاض قيمة عملتها، وظهور النزاع بين الناس.
5- بينت المراد من كساد العملة الورقية أي انعدام أو إلغاء القيمة المالية لها، وإن انخفاض القيمة لها لأقل من نصف قيمتها وقت ثبوت الأجل (التدهور الفاحش) في معنى الكساد، وسقت الأدلة الشرعية على ذلك.
6- وأنه في حالة الكساد والتدهور الفاحش تجب قيمة الحق الآجل وقت ثبوته بالذهب والأدلة على ذلك.
7- وهذا لا علاقة له بالربا لأن الربا زيادة مشروطة وقت ثبوت الحق واعتبار قيمة النقد المنخفض لأقل من نصفه غير مشروط بل له علاقة بالضمان.
يقول الدكتور المصري: "وتغير قيمة النقود الورقية تغيرًا كبيرًا يعتبر من العيوب الموجبة للضمان، والضمان غير الربا، فهو متعلق بما يثبت في ذمة المدين بنقود ورقية، هل القيمة الاسمية (العدد) أو القيمة الحقيقة (القوة الشرائية لنقود أو سلع معينة والنقود يرد مثلها في القرض ولكن هل المثل مثل الصورة أم مثل المعنى؟) ". (1)
وبالختام:
أرى قبل الفصل بين المتنازعين في التعويض عن ضرر صاحب الحق الآجل أن يصطلحا لأن الله تعالى يقول {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 114] ، والرد إلى الصلح رد إلى الخير، ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ردوا الخصوم كي يصطلحوا فإن فصل الخصومة بالقضاء يورث الضغائن" (2) فالصلح يحصل به مقصود رفع الضرر مع التراضي من غير ضغينة. والله أسأل أن يرفع كل الجوائح ما ظهر منها وما بطن عن أمة نبيه وحبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه سميع مجيب.
الدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم
__________
(1) الإسلام والنقود مرجع سابق ص/90
(2) بدائع الصنائع مرجع سابق 7/13(9/1088)
أهم مراجع البحث:
1- مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني.
2- تيسير الكريم الرحمن من تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.
3- سنن ابن ماجه، محمد فؤاد عبد الباقي.
4- سنن أبي داود ومعه كتاب معالم السنن للخطابي.
5- نيل الأوطار للشوكاني.
6- صحيح مسلم تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
7- موسوعة فقه عمر بن الخطاب د. محمد روس قلعجي.
8- تنبيه الرقود على مسائل النقود (ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين) .
9- حاشية الرد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين.
10- منتهى الإرادات لابن النجار.
11- اللباب شرح الكتاب عبد الغني الميداني.
12- المغني لابن قدامة المقدسي.
13- الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبة الزحيلي.
14- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين الكاساني.
15- المعيار المعرب لأحمد بن يحيى الونشريسي.
16- الشرح الصغير على أقرب المسالك للإمام مالك، أحمد الدردير.
17- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
18- المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية.
19- تهذيب اللغة للأزهري.
20- القاموس المحيط للفيروز أبادي.
21- جواهر الألفاظ لأبي الفرج البغدادي.
22- الاستغناء في أحكام الاستثناء لشهاب الدين القرافي.
23- الإسلام والنقود د. رفيق المصري.
24- دراسات في أصول المداينات د. نزيه حماد.
25- الجوائح وأحكامها د. سليمان الثنيان.(9/1089)
مفهوم كساد النقود الورقية
وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة
حدود التضخم
التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدة
إعداد
الشيخ محمد المختار السلامي
مفتي الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
طلب مني سماحة الأمين العام للمجمع أن أتناول بالبحث: مفهوم كساد النقود الورقية في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة، وحدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدة.
إن هذا الموضوع قد نظر فيه مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة، وقدم فيه تسعة من الباحثين الجلة دراسات قيمة بلغت في المجلة مع ما تبعها من مناقشة وقرار خمس عشرة وثلاثمائة صفحة، ثم عرض الموضوع في الدورة الخامسة وقدم فيه اثنا عشر بحثًا موسعة موثقة، دونت مع المناقشة والقرار في خمسين وستمائة صفحة من المجلة.
ورغم الجهد المبذول، جزى الله كل من أسهم فيه عن عمله وحسن قصده الجزاء الأوفى رغم ذلك فإن المسألة ما تزال مطروحة، وما زال الاقتناع العام بقرارات المجمع لم ينفذ نفاذ القبول العام.
وقد عدت للبحوث والمناقشات، وتأملت في البحوث وعشت من جديد جو المناقشات وانتهيت إلى مزيد تقدير للعلماء الجلة الذين قاموا بالدراسات المعمقة.
وأردت في كلمتي هذه أولًا أن أقصر بحثي على مذهب الإمام مالك، لأن العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة، وهم أدرى مني بمذاهب أئمتهم وكتبهم قد توسعوا ما شاء لهم التوسع، واستخرجوا من بطون كتبهم ما لا أستطيع أن أزيد عليه.
ثم ثانيًا: أن أخلص من تتبع مذهب مالك عبر العصور إلى عرض تغير قيمة العملة الورقية في العصر الحاضر وما يترجح عندي بعد ذلك.
فهذا هو البحث الذي أقدمه والله أسأل أن يعصمني وإياكم من الزلل والخطأ، في تقرير الحكم الذي يرضيه، وكلكم راد ومردود عليه إلا من عصمه الله، فجعله مبلغ وحيه ومقرر شرعه، صلى الله عليه وسلم كما قال مالك.(9/1090)
المذهب المالكي:
الرأي الأول: أن الدين يقضى بمثل ما وجب به تغيرت السِكة أو لم تتغير انقطعت أو لم تنقطع، جاء في المدونة في باب الرهن:
قلت أرأيت إن أسلفت رجلًا فلوسًا، وأخذت بها رهنًا ففسدت الفلوس قال: قال مالك: ليس لك إلا فلوس مثل فلوسك، فإذا جاء بها أخذ رهنه لأن مالكًا قال: من أسلف فلوسًا أو اشترى بفلوس إلى أجل فإنما له نقد الفلوس يوم اشترى ولا يلتفت إلى فسادها ولا إلى غير ذلك.
قلت أرأيت إن أتيت إلى رجل فقلت: أسلفني درهم فلوس ففعل، والفلوس يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم حالت الفلوس ورخصت حتى صارت مائتا فلس بدرهم؟ قال: إنما يرد ما أخذ ولا يلتفت إلى الزيادة، قال: قال مالك: والشرط باطل وإنما عليه مثل ما أخذ (1) .
هذا النص من المدونة وقع فيه تدقيق بصورتين:
1- التصوير الأول: الذي صور به سحنون سؤاله، دقق فيه: إذ أضاف إلى عدد الفلوس أن الدائن ضبطها بالرهن، لأن شأن الرهن أن تكون قيمته قريبة من قيمة الدين، فكأن المقرض أو البائع يشعر بأن يرغب في التحصيل على قيمة ما أقرضه أو ما باع به لا دونه، فكان الجواب واضحًا = من أسلف فلوسًا أو اشترى بفلوس إلى أجل فإنما له نقد الفلوس يوم اشترى، ولا يلتفت إلى فسادها.
2- أما التصوير الثاني: فإن التدقيق جاء من أن الآخذ " المدين " طلب من الدائن درهم فلوس، فالمدين هنا هو الذي يرى منه أنه يرغب في الاحتفاظ بالموازنة بين الدرهم الفضي والفلوس، مع أنه لم يقبض إلا فلوسًا، وقد يكون غرضه إما أن يطمئن الدائن، وإما أن يتوثق لنفسه بأن يكون دينه مائة فلس صرفها درهم وإن غلت، فكان الجواب واضحًا أنه لا يرد إلا مثل ما أخذ، والشرط الذي ربط به باطل لا أثر له إذا غلت الفلوس أو رخصت، وهنا يأتي السؤال على الملحظ الذي لحظه مالك.. وعلى ماذا بنى رأيه؟ هذا ما نجد الإجابة عنه في باب السلم.
قال سحنون: ما قول مالك فيمن أسلم دراهم في فلوس؟ قال مالك: لا يصلح ذلك، قلت: وكذلك الدنانير إذا أسلمها في الفلوس؟ قال: نعم لا يصلح ذلك. قلت: وكذلك لو باع فلوسًا بدراهم إلى أجل أو بدنانير إلى أجل لم يصلح ذلك؟ قال: نعم. قلت: لم؟ قال: لأن الفلوس عين وهذا صرف (2) .
__________
(1) المدونة ج 4 ص165
(2) المدونة ج 3 ص128(9/1091)
فهذا النص من المدونة يبرز رأي مالك أنه يسوي بين الفلوس والذهب والفضة في أحكام الصرف ويطلق عليها لفظ العين، والعين كما جاء في الصحاح يطلق على الدينار ويطلق على المال الناض (1) وهو مرادف للنقد، كما يؤخذ من لسان العرب (2) فالفلوس عند مالك نوع من أنواع النقود يجري عليها أحكام النقود في باب الصرف ولا يجوز صرفها بفلوس ولا بدنانير ولا بدراهم إلا يدًا بيد.
ويزيد هذا المعنى تأكيدًا فيقول سحنون: قلت: أرأيت إن اشتريت فلوسًا بدراهم فافترقنا قبل أن نتقابض؟ قال: لا يصلح هذا في قول مالك وهذا فاسد. قال لي مالك: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق (3) .
ففي المواطن الثلاثة لا يختلف قول مالك في اعتبار الفلوس نقدًا لها أحكام الذهب والفضة.
ما هي الفلوس؟
الفلوس عند مالك كل سكة يتعامل بها الناس، وكونها في زمنه من نحاس لا تؤثر مادتها في الحكم، إذ المدار على رواجها في التعامل، يقول: ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة (4) .
وصورة الجلود التي فرضها مالك هي صورة النقود عندنا اليوم لأن الجلد في عهد مالك كان هو المادة التي تؤدي وظيفة الورق في عصرنا، وهو يشير بهذا إلى أن المادة وإن كانت لا قيمة لها فإن برواجها كنقد تأخذ أحكام النقدين، لأنه عندما تكون من نحاس لها قيمة ذاتية لمادتها، وأما إذا كانت من قطع جلود فإنه لا قيمة لمادتها إذ لا قيمة للجلد إذا قطع قطعًا صغيرة.
انضاف إلى هذا التأكيد في مواطن مختلفة من المدونة التنصيص على أن مالكًا في هذا الرأي يتفق مع شيوخه كما جاء في المدونة: "قال الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد وربيعة أنهما كرها الفلوس بالفلوس بينهما فضل أو نظرة، قالا: لأنها صارت سكة مثل سكة الدنانير والدراهم، كما روى الليث عن يزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر قالا: وشيوخنا كلهم أنهم كانوا يكرهون صرف الفلوس بالدنانير والدراهم إلا يدًا بيد" (5)
وجاء في المدونة أيضًا في مسألة تسليف الحديد والصوف والكتان، قال ابن وهب: قال الليث: كتب إلى ربيعة: الصفر بالصفر عرض ما لم يضرب فلوسًا. فإذا ضرب فلوسًا فهو بيع الذهب بالذهب والفضة يجري مجراهما. فيما يحل ويحرم.
قال يونس عن ربيعة أن قال: كل تبر خلقه الله فهو بمنزلة عرض من العروض. يحل منه ما يحل من العروض ويحرم منه ما يحرم من العروض إلا تبر الذهب والورق وإذا ضربت الفلوس دخلت مع ذلك.
__________
(1) تاج العروس ج 6 ص2170
(2) لسان العرب ج 2 ص947
(3) المدونة ج 3 ص90
(4) المدونة ج 3 ص91
(5) المدونة ج 3ص91(9/1092)
ولما كانت المسألة واردة بمثل هذا الوضوح والتأكيد كان قول علماء المالكية في أمهات كتب المذهب أن الفلوس تأخذ حكم الذهب والفضة. وأنه إذا عمرت بها ذمة فالواجب عند الأداء نفس العدد من الفلوس، كما هو الشأن في الدراهم والدنانير لا ينظر فيها إلى حوالة الأسواق، فقد جاء في التلقين للقاضي عبد الوهاب: ومن باع بنقد أو اقترض، ثم بطل التعامل به لم يكن عليه غيره إن وجد، وإلا فقيمته إن فقد (1) فصاحب التلقين أضاف صورة لم تأت في المدونة وهي: إذا ما انقطعت السكة وعدمت فهنا يجعل القيمة هي المرجع، ولم يوضح هل المراد قيمة النقود يوم تعمير الذمة أي عند عقد البيع والسلف أو عند حلول الأجل الذي هو يوم وجوب إبراء الذمة. أو هو يوم الانقطاع للسكة. أو هما معًا؟ وذكر ابن الجلاب الفصل 771 تبديل السكة: ومن اقترض دراهم، أو دنانير، أو فلوسًا أو باع بها وهي سكة معروفة، ثم غير السلطان السكة، وأبدلها بغيرها، فإنما عليه مثل السكة التي قبضها ولزمته يوم العقد. (2)
وجاء في فتاوى أبي الوليد ابن رشد:
وسئل رضي الله عنه عن الدراهم والدنانير إذا قطعت السكة فيها. وأبدلت بسكة غيرها. ما الواجب في الديون والمعاملات المتقدمة وأشباه ذلك؟
فقال رضي الله عنه: المنصوص لأصحابنا ولغيرهم من أهل العلم رحمهم الله أنه لا يجب عليه إلا ما وقعت به المعاملة.
فقال له السائل: فإن بعض الفقهاء يقول: إنه لا يجب عليه إلا سكة متأخرة، لأن السلطان قطع تلك السكة وأبطلها فصارت كلا شيء، فقال وفقه الله: لا يلتفت إلى هذا القول، فليس بقول لأحد من أهل العلم، وهذا نقص لأحكام الإسلام، ومخالفة لكتاب الله تعالى وسنة النبي عليه السلام في النهي عن أكل المال بالباطل.
ويلزم هذا القائل:
1- أن يقول: إن بيع عرض بعرض أنه لا يجوز لمتبايعيه أن يتفاسخا العقد فيه بعد ثبوته.
2- وأن يقول: إن من كانت عليه فلوس فقطعها السلطان وأجرى الذهب والفضة فقط أن عليه أحد النوعين وتبطل عنه الفلوس.
3- وأن يقول: إن السلطان إذا أبطل المكايل بأصغر أو أكبر، والموازين بأنقص أو أوفى وقد وقعت المعاملة بينهما بالمكيال الأول أو الميزان الأول أنه ليس للمبتاع إلا بالكيل الآخر وإن كان أصغر، وأن على البائع الدفع بالثاني وإن كان أكبر وهذا مما لا خفاء ببطلانه. (3)
نتبين من هذه الفتوى أن قضية الوفاء بما في الذمة من دين بسكة منقطعة قد أصبح يمثل إشكالًا، وأن هذا الواقع قد فرض نفسه على الناس لمعاودة النظر، وأن هذا النظر قد أدى إلى أن بعضهم – ولم يسم - قد نظر إلى هذا الواقع من جانب آخر واعتبر معطى أغفله من قبله هو أن السكة من خصائص السلطان، وأن السلطان مسئوليته هي العدل بين الناس، وأن لا يحدث من الترتيبات والتنظيمات والقوانين إلا ما يحقق العدل بينهم، فلا يظلم فريقًا ليؤثر فريقًا آخر.
__________
(1) التلقين ص112
(2) التفريع ج 2 ص158
(3) الفتاوى ج1 ص540/542(9/1093)
فإبطال السكة كان في وقت السكة: ليست في يد صاحبها: لأنها إما عند المقترض أو المشتري لأجل، وله أن يقول لو كان المال بيدي لتحوطت ولعرفت كيف أواجه الواقع الجديد.
لكن القاضي كان شديدًا في الرد على صاحب هذا النظر:
1- أنه قول ساقط لا يستحق أن يلتفت إليه الفقهاء ولا أن يعتبروه وجهة نظر أصلًا.
2- لأنه يتناقض مع قواعد الإسلام في خط مخالف لنصوص الكتاب وللسنة – إذ هو من باب فتح باب لأكل أموال الناس بالباطل - فالتعليل هو أكل المال بالباطل الذي ورد النص الواضح فيه قرآنًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] . ثم أخذ يلزم قائل هذا القول بإلزامات ثلاثة وسنزيد هذا بيانًا فيما بعد إن شاء الله.
3- أنه يلزم هذا القائل أن يكون الواجب إذا قطع السلطان التعامل بالفلوس أنه يجب أداء الدين من الذهب والفضة، فكأن هذه الحالة عنده من الوضوح في الحرمة أنه مما لا يقول به أحد.
والعجب من القاضي أبي الوليد كيف يحتد على قائل هذا القول مع أنه منقول عن ابن سحنون، وهو الذي فهمه ابن محرز من كلام أشهب، قال ابن عرفة: ابن بشير حكى الأشياخ عن كتاب ابن سحنون إن انقطعت الفلوس قضى بقيمتها وذكر ابن ناجي في شرحه على قول التفريع المتقدم: "ومن اقترض دراهم أو دنانير أو فلوسًا إلخ" (1)
وفي كتاب ابن سحنون إن انقطعت الفلوس قضى قيمتها. ونحوه وقع لأشهب على ما فهمه ابن محرز (2)
الرأي الثاني في المذهب المالكي هو الرجوع إلى القيمة
فقد ذكر ابن ناجي في شرحه لكلام صاحب التفريع المتقدم: "وفي كتاب ابن سحنون إن انقطعت فلوس قضى قيمتها، ونحوه وقع لأشهب على ما فهمه ابن محرز" (3)
وظاهر كلام ابن ناجي أن ابن سحنون نص على أنه يجب عند انقطاع السكة دفع قيمة السكة المنقطعة. وأن هذا المذهب لم ينص عليه أشهب وإنما فهمه ابن محرز من كلامه.
إلا أن حمل كلام ابن سحنون على أن القيمة قيمة الفلوس هو ما فهمه بعض من نظر في كلامه، وذكر الحطاب وقبله خليل في شرحه لكلام ابن الحاجب: ولو قطعت فلوس فالمشهور المثل: قال خليل: ذكر ابن بشير أن الأشياخ حكوا عن كتاب ابن سحنون أنه يقضي بقيمتها، وظاهره أنه يقضي بقيمة الفلوس، لكن حكى بعضهم عن كتاب ابن سحنون أنه يتبعه بقيمة السلعة اهـ.
__________
(1) الرهوني ج 6 ص 120
(2) شرح ابن ناجي على التفريع مخطوط المكتبة الوطنية ورقة 118
(3) مخطوط التفريع ورقة 118 المكتبة الوطنية - تونس(9/1094)
وهذا ما حكاه أيضًا أبو الحسن الصغير في كتاب الصرف. حيث قال: وحكى عن ابن شاس أنه قال: إذا كانت الفلوس من بيع، على المبتاع قيمة السلعة (1)
كل من نقل قول ابن سحنون اعتبر أن هذا الرأي رأي شاذ لا يعتمد.
إلا أنه في القرن الخامس أخذ هذا القول الشاذ يجد تأييدًا. ويفتى به في بعض الأمصار.
فقد ذكر الونشريسي أن ابن الحاج سئل عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه أشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام – ومحمد بن عتاب حي ومن معه.. فانقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد - فأفتى الفقهاء: أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة، وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب، قال وأرسل إلي ابن عتاب. فنهضت إليه فذكر المسألة. وقال لي: الصواب فيها فتواي فاحكم بها ولا تخالفها أو نحو هذا الكلام. (2)
إن ما نقله ابن الحاج عن ابن عتاب يتفق فيه ابن عتاب مع ما نقل عن ابن سحنون حسب الفهم الأول: أن القيمة هي المرجع وأنها قيمة السكة المنقطعة لا قيمة السلعة.
وأنه يعمم في هذا سواء أكان الدين ترتب عن بيع أو عن قرض، بل إن ابن دحون رحمه الله كان يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض فله العوض (3) فابن دحون يوجه ما أفتى به: أن المقرض والمقترض قد عقدا قرض المعروف بينهما على أن المقترض ينتفع بما اقترضه، ثم يرد عوض ما اقترضه مساويًا له، ولا يظلم المقترض بمطالبته بأكثر مما أخذ، ولا يظلم المقرض باسترجاعه أقل مما أعطى والعوض المساوي لا تظهر المساواة عنده في العدد فقط ولكن تظهر المساواة أن يكون لما يأخذه قيمة مساوية لما أعطاه، فلو أعطاه نفس العدد وقد انحطت قيمة السكة فقد ظلمه. كما نقل عن أبي عمر بن عبد البر أنه يتوسع في اعتبار الوضع يوم القضاء لا يوم العقد قال: وكان الفقيه أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى دارًا أو حمامًا بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد، ثم غيرت دراهم ذلك البلد إلى أفضل منها أن يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء، دون النقد الجاري عند العقد.
ويعلق الونشريسي. وقد نزلت هنا ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال، ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال، فالتزم ابن عبد البر السكة الأخيرة وكانت حجته في ذلك: أن السلطان منع من إجرائها وحرم التعامل بها.
__________
(1) حاشية الرهوني ج 5 ص 120/121
(2) المعيار ج 6 ص163.
(3) المعاير ج 6 ص163(9/1095)
ويعلق على هذه الفتوى فيقول: وهو خطأ من الفتوى. (1)
إن ابن عبد البر قد بنى فتواه في نظري على أمرين:
1- أن المكتري يستوفي المنفعة شيئًا فشيئًا فيستحق المالك ما يقابل المنفعة التي مكن منها المكتري بالسكة التي يتعامل بها الناس وقت الانتفاع، ولما تغيرت السكة وجب أن يتسلم ما يقابل المنفعة مما يتداوله الناس بينهم. وهذا مراعاة لجانب العدالة.
2- أن التنظيمات التي يحدثها ولي الأمر والتي لا تتعارض مع نصوص الشارع يجب على المسلم أن يحترمها ويعمل بها، ولما منع الحاكم من تداول نقد من النقود فإنه يجب على كل فرد أن يطيعه وهذا يوجب أن يكون إبراء الذمة لا يتم إلا بالنقد الذي أذن فيه.
وهذه النظرة التي أخذت تظهر بقوة في بلاد الأندلس نجد في نفس الفترة من يذهب إليها من اعتبار الواقع في حقيقته لا في ظاهره.
فقد ذكر الإمام المازري في شرحه للتلقين في باب الصرف أن شيخه عبد الحميد الصائغ يعدل عن المذهب المذكور من المدونة، ويعتل بأنه أعطى منتفعًا به ليأخذ منتفعًا به فلا يظلم بأن يعطي ما لا منفعة له فيه – ولا يحصل هذا الغرض إلا بأن يأخذ قيمتها، قال: وإذا لم توجد بعد انقطاعها كان عليه قيمة السلعة، كمن أسلم في فاكهة فانقطع إبانهما. إن السلم ينفسخ ويرد رأس المال إلى دافعه، وإن كانت قرضًا فانقطعت ولم توجد كانت عليه قيمتها يوم انقطاعها إذا كان الأجل قد حل، وإن لم يحل الأجل فإنه قبل الأجل لا يستحق المطالبة به، فلا يقوم له ما لا يستحق المطالبة به. (2)
فالشيخ عبد الحميد الصائغ مع تلميذه المازري لاحظا:
1- أن الدائن عمر ذمة المدين بشيء منتفع به، أي له قيمة وقت العقد، ومعنى هذا أن ملكه بعد أن كان في ضمانه وينتفع بخراجه، قد انتقل إلى المدين وهو الذي ينتفع بخراجه فيكون من العدل أن يعود للدائن نظير ما سلمه لا في العدد الظاهري ولكن في القيمة النفعية التي كانت وقت العقد، فإذا بقيت السكة رائجة على حالها كان العدل أن يأخذ نفس السكة، وإذا انقطعت وحولت أخذ قيمتها من السكة الجديدة حتى تكون هذه السكة المحدثة التي يتقاضاها عن دينه تمكنه مما كان يتمكن منه من السكة القديمة لو لم تحول.
__________
(1) المعايير ج 6 ص 163
(2) شرح التلقين: مخطوط مكتبة القرويين بفاس ص129.(9/1096)
2- أنه يقاس انقطاع السكة التي في الذمة على انقطاع المسلم فيه عند حلول الأجل فكلاهما في الذمة وكلاهما منقطع، فالحكم في الأصل أي السلم أن يعود رأس المال إلى دافعه. فكذلك إذا انقطعت السكة عاد رأس المال إلى دافعه.
3- أنه بالتحول عن نفس السكة التي عمرت بها الذمة إلى السكة الجديدة ووجوب إبراء الذمة بإعطاء قيمة الدين يثور إشكال هو: ما هي القيمة؟ لأن القيمة قد تختلف بين وقت انبرام العقد، ووقت حلول أجل الدين الذي هو يوم الوفاء بما في الذمة. ووقت انقطاع السكة. فعلى أيهما يقوم الدين؟
ذهب بعضهم إلى أن القيمة هي قيمة الدين يوم عمرت به الذمة. وقت عقد القرض أو البيع الآجل.
وذهب بعضهم إلى أن الذمة بقيت مشغولة إلى يوم الوفاء بالدين فعندها ينظر في قيمة الدين ليتساوى الإبراء مع الدين، ذلك أنه قبل حلول الأجل ليس للدائن الحق في مطالبة المدين، وإذا لم يكن له حق المطالبة فلا يمكن أن يتصور تقويم ما لا حق له في المطالبة به.
ورأي ثالث: أنه ينظر في القيمة يوم التحول للسكة، فذلك هو اليوم الذي انتقل فيه ما عمرت به الذمة من السكة القديمة إلى السكة الجديدة، وإذا كان الشيخ عبد الحميد الصائغ يعود بانقطاع السكة إلى القيمة مطلقًا فإن معاصره في البلاد الإفريقية الشيخ أبا الحسن اللخمي يناقشه فيما ذهب إليه: ويلزم الدائن بقبول السكة المقطوعة، يقول المازري: ولما جرت هذه المسألة في مجلس شيخي الشيخ أبي الحسن اللخمي – رحمه الله - أخذت أنتصر لما قاله شيخي أبو محمد عبد الحميد فقال لي الشيخ أبو الحسن: إني كنت ناظرته على المسألة وألزمته أن يجعل مقالًا لمن أسلم في طعام فصار الطعام لا يساوي شيئًا له قدر، أن يبطل السلم لأنه إنما دفع ما ينتفع به ليأخذ ما ينتفع به، فحاولت الانتصار لشيخنا أبي محمد عبد الحميد لما أفهمني شيخنا أبو الحسن أنه لم ينفصل له عن هذا بأن قلت له: السلم الأصل فيه أن لا يجوز لأنه بيع ما ليس عندك، لكن رخص فيه لأجل الرفق والحاجة والارتفاق الذي هو سبب الرخصة إنما هو اختلاف الأسواق، ولهذا لم يجز مالك السلم الحال.
واشترط في صحة السلم أجلًا تختلف الأسواق فيه، فلو آثر اختلاف الأسواق فسخه، وهو السبب في جوازه وصحته لكان كالمتناقض، بخلاف الدنانير والدراهم التي يجوز البيع بها في الذمة حالًا وإلى أجل قريب أو بعيد فإذا كانت مما بين فيها جواز المعاملة على اختلاف الأسواق فإن اختلافها اختلاف يتفاوت تفاوتًا كثيرًا يؤثر في العقد، فلم يجبني عن هذا بشيء أنقله عنه. (1)
ثم إنه بعد المازري جاء ابن الحاجب في مختصره فقال: لو قطعت الفلوس فالمشهور المثل، ولو عدمت فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم، فهما صورتان: الانقطاع والعدم (شرح ابن عبد السلام كلام ابن الحاجب) فصور المسألة الأولى بقوله: يعني لو باعه بفلوس أو سلفه إياها فقطع التعامل بها لقضي عليه بمثلها لأن ذلك لكسادها فهو مصيبة ممن له الفلوس.
__________
(1) شرح المازري على التلقين ص129.(9/1097)
ويقابل هذا المشهور فيما يعطيه كلام المؤلف أن الشاذ القضاء بقيمتها، ولا أدري كيف يتصور القضاء بقيمتها مع وجودها، إلا أن يريد بقيمتها يوم تعلقت بالذمة لا يوم حلول الأجل، وهو مع ذلك مشكل لأنه إلزام لمن هو في ذمته أكثر مما التزم به وإنما حكى هذا عن ابن سحنون إذا انقطعت أي عدمت.
وصور المسألة الثانية بقوله: ولو عدمت فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم يعني إذا لم ينقطع التعامل بها، ولكنها لم توجد وقت اجتماع الاستحقاق والعدم فإنه يجب فيها القيمة يوم حلول الأجل لأنه حينئذ أعني – يوم حلول الأجل - وجب قضاؤها فلم توجد.
وإن تأخر طلبها بعد حلول الأجل بشهر مثلًا فقطعت في نصف ذلك الشهر فإنه يجب قيمتها في نصف ذلك الشهر لا في أوله وهو وقت حلول أجل الدين، ولا في آخره يوم التحاكم لأنها لم تزل في ذمته يوم الانقطاع وهذا معنى قول المؤلف: فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم وهذا القول هو اختيار الشيخ أبي الحسن اللخمي.
وقال بعض الشيوخ: عليه قيمتها يوم تحكمهما قال: لأنها لم تزل في ذمته إلى يوم التحاكم فيها والأول أقرب إلى التحقيق.
وإن كان قول ابن سحنون جاريًا في هذه الصورة فتكون فيها ثلاثة أقوال. (1)
فابن عبد السلام يؤكد أن مشهور المذهب أن الفلوس إذا كانت موجودة بأيدي الناس، ولكن انقطع التعامل بها فقضاء الدين من سلف أو بيع يكون بتلك الفلوس ولو كانت لا تساوي شيئًا يذكر معتبرًا ذلك مصيبة حلت بالدائن.
وإن القول الشاذ: هو استحقاق الدائن للقيمة ويتوقف في المراد بالقيمة، فإن كان المراد بالقيمة، قيمتها يوم السداد فإنه يعكر عليه أنها موجودة فكيف تقوم؟ وإن كان المراد قيمتها يوم تعلقها بالذمة أي يوم عقد البيع أو القرض فإنه يشكل عليه أن المدين التزم بأداء ما عليه يوم حلول الأجل مضبوط الصفة والعدد، فإلزامه بقيمة الدين يوم العقد لا يوم الوفاء إلزام بما لم يلتزم به.
وناقشه تلميذه ابن عرفة: بأن الفلوس إذا عدمت فإننا نقدر وجودها ونقومها على حسب ذلك التقدير فكذلك إذا كانت موجودة وانقطع التعامل بها فإنا نقدرها على اعتبار ثبوت التعامل بها.
والذي يظهر لي أن مناقشة ابن عرفة غير منزلة على كلام ابن عبد السلام، لأن كلام ابن عبد السلام مبناه أن الفلوس من المثليات وهي موجودة فكيف تخرج من دائرة المثلي إلى دائرة التقويم.
وأما إذا لم يبطل التعامل بها ولكنها فقدت في السوق، ففيها ثلاثة أقوال:
1- إن الواجب القيمة للدين يوم الاستحقاق وانعدامها فإذا حل أجل الدين يوم غرة المحرم وكانت يومها موجودة ولكنه لم يتقاض دينه فانقطعت في نصف المحرم وتمكن من اقتضاء دينه في نهاية المحرم فإن القيمة هي قيمتها في نصف المحرم.
2- إن الواجب القيمة يوم التحاكم نهاية المحرم.
__________
(1) شرح ابن عبد السلام على مختصر ابن الحاجب ج 5 ص 412/413 مخطوط توبكابي.(9/1098)
3- إن الواجب القيمة يوم ثبوت الدين في الذمة يوم القرض أو البيع.
وجاء الشيخ خليل بن اسحق، وكان لفظه في مختصره هو لفظ ابن الحاجب إذ قال: "وإن بطلت فلوس فالمثل أو عدمت فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم". (1)
يشرح الزرقاني كلام خليل مسويًّا بين أمرين:
1- قطع التعامل بها بالكلية.
2- تغيرها بزيادة أو نقص على أنه من باب أولى- ويعلل الزرقاني ذلك بأنه المنصوص في المدونة ولأن الفلوس من المثليات، والمثليات تقضى بأمثالها لا بقيمتها.
ويضيف الزرقاني صورة أخرى: وهي أنه إذا ماطل المدين دائنه حتى بطل التعامل فيقول: إن ظاهر المدونة الإطلاق أي التسوية بين حالة المماطلة وعدمها، وينقل عن الوانوغي أنه قيد المدونة بما إذا لم يكن هناك مطل، وأقر تقييد الوانوغي المشذالي وابن غازي في تكميل التقييد قائلًا: هو تقييد حسن غريب، وقال صاحب تكميل المنهاج: وهو ظاهر إذا آل الأمر إلى ما هو أرفع وأحسن. وأما إن آل إلى ما هو أقبح وأردأ فإنه يعطيه ما ترتب في ذمته. (2)
فالمماطل على هذا لا يخول له أن ينتفع من مطله، فإذا سقطت قيمة الفلوس فالواجب الأصل الأعلى، وإن زادت وارتفعت فالواجب الفلوس الرفيعة.
وعلق البناني على هذا التقييد بما يدفعه ويوجب السكة الواجبة في الذمة لا غير، موجهًا اعتراضه بأن الدائن قد دخل في معاملته على احتمالات إما أن يقضيه دينه في الأجل وإما أن يماطله فمفزعه إلى الحاكم، وإما أن يفلس فيذهب الدين كله أو بعضه.
ولذا فإن هذه حالة مدخول عليها لا توجب أية زيادة على المدين
مما ذكرناه من النقول عن كتب المذهب المالكي نتبين أمورًا:
أولًا: إن حكم الفلوس هو حكم الذهب والفضة في التعامل، وبناء على ذلك فبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والفلوس بالفلوس، يشترط في كل واحد من هذه الثلاثة التماثل والتناجز.
وإن بيع أحد الأصناف الثلاثة بالآخر هو من باب الصرف لا بد أن يكون يدًا بيد وأن الفلوس المختلفة المصدر والقيمة يحكم التبادل بينها قاعدة الصرف كما تشير إليه القرارات المجمعية "9 – د – 3" و"4- د – 5" و"6 – د- 8" وخاصة الفقرة الرابعة منه.
__________
(1) شرح الزرقاني ج 5 ص60.
(2) شرح الزرقاني ج 5 ص60(9/1099)
ثانيًا: إن الفلوس إذا بقيت ثابتة القيمة فالأمر واضح تقضى الديون بأثمانها كما يجوز الاتفاق على اقتضاء القيمة من نقد آخر بسعر اليوم.
ثالثًا: إن النقود إذا بطل التعامل بها. أو تغيرت بزيادة أو نقص فقد اختلف فيها الفقهاء:
1- إن العبرة في الأداء هو بعملة يوم التعاقد، ولا ينظر لقوتها الشرائية ويعللون ذلك بما يلي:
أ- أن النقود من المثليات، والمثليات تقضى بالمثل لا بالقيمة، وهو التعليل الذي علل به القرار المجمعي رقم "4- د- 5"
ب- أن النقود لا ثمن لها، وهذا ما علل به البرزلي (1) على معنى أنها وضعت معيارًا لغيرها فلو رجعنا إلى القيمة انقلبت أوضاع التعامل واختلطت، وفقد الناس في تعاملهم المعيار الذي يرجعون إليه.
ج– أن النقود إذا كسدت أو انحطت قيمتها فهي مصيبة حلت بمستحقها تقاس على من اشترى دابة فماتت أو على من أسلم في بضاعة فانحط ثمنها يوم القبض وهذا القياس هو الذي وجه به اللخمي.
د- ألزم ابن رشد من يقول بالرجوع للقيمة بإلزامات ثلاثة:
أولًا: أنه لا يجوز للمتبايعين فسخ العقد إذا كان الثمن والمثمن عروضًا، يعني - والله أعلم - إذا تغيرت القيمة، فإذا تغيرت القيمة كان العائد لأحدهما أكثر مما أعطي وهو ممنوع حسبما ضبط في بيوع الآجال.
ثانيًا: أنه إذا أبطل السلطان التعامل بالفلوس وأجرى الذهب والفضة فقط أن على من كان عليه دين بالفلوس أن يجب عليه أن يقضي دينه من الذهب والفضة، معنى هذا أن يكون المدين ملزمًا بدفع دينه بعملة لم يلتزم بها.
ثالثًا: أن السلطان إذا أبدل الميزان أو المكيال بأوفى أو أقل إنه يجب على من تعلق بذمته عروض مقدرة بمكيال أو ميزان أو يقضي دينه بالمكيال الجديد. أي أن اعتماد التحول الأخير في العملة يوجب أن يلتزم المدين المكيال الأخير سواء أكان أكبر أم أقل.
__________
(1) الرهوني ج 5 ص 120(9/1100)
2- أن العبرة إذا أبطل التعامل بالفلوس فإن القضاء يكون في القيمة.
والقيمة قد اختلف فيها هؤلاء:
1- قيمة الفلوس يوم انعقاد البيع أو القرض.
2- قيمتها يوم انقطاعها ويوم استحقاقها باعتبار أقصى الأجلين.
3- قيمتها يوم التحاكم وتتنزل منزلته المطالبة إذا قضاه بعد مطالبته.
ومن البين أن القيمة يوم الانقطاع لا يعني بها قيمتها عنده ولا بعده ولكن في آخر فترة للتعامل بها.
وإذا كان الدين من بيع، رأي رابع: أن القيمة هي قيمة السلعة يوم عقد البيع ويعللون ذلك بما يلي:
1- أن المقرض أو البائع إلى أجل أخرج من يده ماله قيمة وما هو مرغوب فيه ليعود له عند الأجل ما يوازي ما خرج من يديه في العرف العام، وإذا كان الأصل والغالب أن يعود له ما اتفقا عليه صفة ومقدارًا فإنه إذا فرغ هذا العوض من القيمة التي كانت له كان للدائن أن يتقاضى حقه بالقيمة التي لدينه لا بالصورة الفارغة.
2- أن السلطان إذا أبطل التعامل بالفلوس فقضاء الدين بالفلوس الممنوع التعامل بها فيه خروج عن طاعته وتعريض المتعامل بها نفسه للتأديب.
3- أن يقاس إبطال التعامل بالفلوس على انعدام المسلم فيه عند الأجل، ولما كان في هذه الحالة يعود للمسلم رأس ماله فكذلك عند إبطال الفلوس يعود للدائن رأس ماله لا السكة المنقطعة.
الموازنة بين الاتجاهين:
مناقشة أدلة الفريق الأول:
1– أن النقود من المثليات: لا شك أن النقود من المثليات باعتبار أن المثلي هو ما يكال أو يوزن أو يعد، على معنى أن المتعاملين ينظرون إلى الكمية باعتبار أنها تحقق مصالحهم ويتساوى تحقق المصالح بتحقق المقدار، فقفيز من القمح يساويه قفيز من القمح فيما جعل القمح له من الغذاء، غلت قيمته أو رخصت، وقنطار من السكر يساويه قنطار من السكر كذلك ومائة بيضة تساويها مائة بيضة.(9/1101)
أما في الفلوس فإنها إذا عدم التعامل بها ذهبت المثلية كمائة حاوية من التفاح مملوءة يقابلها مائة حاوية من التفاح مملوءة، ولا يساويها مائة حاوية فارغة أو نصف مملوءة، والفلوس نظر الناس إليها لا باعتبار ذاتها وإنما باعتبار ما تحويه من قيمة، فإذا بطل التعامل بها ذهبت المثلية، إذ ألف فلس رائجة لا يماثلها ألف فلس لا تروج لا في وقت التعامل ولا عند حلول أجل الدين، فإذ كانت لا تساويها وقت التعامل فكيف تساويها وقت الأداء؟!
2- أن النقود لا قيمة لها هو نفس السابق معبر عنه بصورة مختلفة إذ الحق النقود لها قيمة وقيمتها هي وظيفتها في تحقيق رغبات مالكيها.
3- قياس كساد النقود على وضع المشتري لدابة فماتت أنها مصيبة نزلت به، وهذا قياس مع وجود الفارق، ذلك أن مشتري الدابة قد وضع عليها يده ودخلت في حوزه وانقطعت علاقة البائع بالمشتري بتمام الصفقة، وملك المشتري خراج ما اشتراه، فله غُنمه وعليه غُرمه شأن المالك، أما في الدين فإن العلاقة بين الدائن والمدين ثابتة وذمة المدين عامرة، نعم لو كسدت الفلوس بعد قبضها لصح القياس وما يكون أقرب في القياس هو أن يقاس هذا الوضع على مشتري الثمرة على رؤوس الأشجار على التبقية، فإذا أجيحت رجع المشتري على البائع بقيمة ما أجيح إن بلغ الثلث يوم الجائحة كما هو مذهب مالك (1) .
4- ما ألزم به ابن رشد: من يقول بالرجوع للقيمة أنه يلزمه أن لا يجيز فسخ عقد بيع عوضاه عروض، وهذا غير لازم، وذلك لأن فسخ العقد إذا كان عوضاه عروضًا هو من باب الإقالة، والإقالة على الاختيار، فإذا اتفقا على الإقالة بأن يعود لكل ما دفعه ورضي بذلك فلا وجه للمنع منه، وأما في الوفاء بما في الذمة من النقود التي بطل التعامل بها فهو إلزام لأحد الطرفين في مقاطع الحقوق بقبول ما لا قيمة له.
وأما الإلزام الثاني: فالقائلون بالنظر إلى القيمة يلتزمونه، بل هم يقولون به ولا مانع منه، وإلزام المدين بأداء ما لم يلتزم به كلمة استعملت في غير حقيقتها، ذلك أن النقود لا تتعين بالتعيين، معنى هذا أن ذات النقد لا أثر له وإنما النظر للوظيفة التي يقوم بها النقد، فإذا بطلت وظيفته كان المساوي له في القيمة هو الذي تبرأ به الذمة.
وأما الإلزام الثالث: أنه إذا تغير المكيال والميزان يلزم منه أن يكون الوفاء بالمكيال الجديد، هذا الإلزام غير لازم أصلًا لأن إيجاد مكيال غير المكيال الأول لا ينعدم به المكيال الأول في التقدير ولا في المماثلة، بل يكون المكيال الجديد أو الميزان الجديد يحول الالتزام إلى ما هو أكثر أو أقل، بخلاف الاعتماد على العملة القديمة يفرغ المدين من دينه بشيء لا قيمة له، فالمكيال الجديد والميزان الجديد ظلم، والعدل هو الميزان والمكيال السابق، وذلك عكس الفلوس التي بطل التعامل بها، فالعدل قيمتها أو العملة المساوية لها التي حلت محلها، وهذا لا جور فيه على الدائن ولا على المدين لأنه دفع ما يساوي القيمة المتخلدة بذمته والتي استفاد منها.
__________
(1) الزرقاني ج 9 ص193؛ والموسوعة الفقهية ج 15 ص70/71(9/1102)
مناقشة أدلة الفريق الثاني:
1- الدليل الأول: يعتمد العدالة التي جاء بها الإسلام، ويعتمد نفي أكل المال بالباطل الذي ظن أصحاب الفريق أنهم اعتمدوه كما جاء في كلام ابن رشد.
والعدالة أن يأخذ كل طرف حقه لا أكثر ولا أقل، فإلزام الدائن بأخذ السكة التي بطل التعامل بها فيه ظلم له، لأنه دفع ما له قيمة وأخذ عند الأجل ما لا قيمة له، ولأن المدين لو فرضنا أنه تخلد بذمته ألف فلس وكانت الفلوس يوم التعامل عشرة بدرهم.
فيكون ما أخذه مساويًا لمائة درهم لا فارق بين من يملك ألف فلس ومن يملك مائة درهم عندما يدخلان السوق، إذ يتحصل كل منهما على مقدار مساوٍ من البضاعة التي يريد كل منهما أن يتملكها، فإذا بطل التعامل بالفلوس فإن قيمة الفلوس التي بطل التعامل بها لا تتجاوز وزنها من النحاس أو الحديد فتكون المائة فلس تساوي درهمًا.
فالمدين يدفع ما قيمته عشرة دراهم فيما قبضه وقيمته مائة درهم، لا يقال هذا هو الأمر لو تسلف قفيزًا من القمح ورخص ثمنه وذلك لأن قفيز القمح يتملك للانتفاع به ومنفعته باقية لم ينقص منها – فيما تراد له عادة وهو التغذية - شيء، إذ هو يعطي وحدات حرارية متساوية، فقيمته الغذائية لا تختلف وحاجة الناس إليه ولا تنقص.
بخلاف الفلوس التي بطل التعامل بها فهي كالقمح الذي نخره السوس ولم يبق من وحداته الحرارية إلا الشيء القليل.
2- الدليل الثاني: قياس إبطال الفلوس على انعدام المسلم فيه أنه يعود للمسلم ما دفعه.
وفي هذا الدليل نظر إذ ظاهره أنه لا يثبت المدعى وذلك لأن الذي عاد إلى المسلم عين ما دفعه دون نظر إلى حوالة الأسواق.
تغير الفلوس بضعف قدرتها الشرائية:
إن التأمل في الاتجاهين الذين سبق ذكرهما يستخلص بواسطته التسوية بين انقطاع الفلوس وبين انخفاض قيمتها الشرائية.
1- فبالنسبة للرأي الأول القائل بأن الديون تقضى بنفس السكة وإن انقطع التعامل بها. نجد:
أ- نص مالك في المدونة: أنه إذا رخصت الفلوس حتى على النصف من القيمة أن المدين يدفع نفس السكة التي تسلمها أو تخلدت بذمته ولا يلتفت إلى الزيادة ولا ينفذ الشرط كحكمها عند الانقطاع.
ب- الحدة التي ظهرت من ابن رشد على المفتي الذي أفتى بأنه يرجع إلى القيمة عند انقطاعها: فهو يلغي النظر إلى القيمة مطلقًا، فلا فرق بين انخفاضها أو زوال الفلوس من التعامل.(9/1103)
2- وبالنسبة للرأي الثاني القائل بالرجوع إلى القيمة عند الانقطاع.
أ- رأي ابن سحنون وما فهمه ابن محرز من كلام أشهب وما حكاه أبو الحسن الصغير عن ابن شاس ورأي ابن عتاب. وابن دحون معللًا بأنه أخذ على العوض فله العوض = أي في باب القرض: المقترض استهلك الفلوس التي أخذها ليعوض له بدلها، وبدلها هو ما يساويها، يدل على أنه إذا انخفضت انخفاضًا بينًا أنه يرد القيمة.
2- تعليل الشيخ عبد الحميد الصائغ: أنه أعطاه منتفعًا به ليأخذ بدله منتفعًا به فلا يظلم بأن يعطى ما لا منفعة له فيه ولا يحصل هذا إلا بأن يأخذ قيمتها، وهذا التعليل يقتضي طبعًا أنه إن نقصت نقصانًا بينًا كان عليه رد القيمة.
وأوضح من ذلك توجيه المازري لرأي شيخه عبد الحميد في مناقشته للشيخ أبي الحسن اللخمي: أن السكة لما كانت مما بين فيها جواز المعاملة على اختلاف الأسواق فإن اختلافها اختلافًا يتفاوت تفاوتًا كثيرًا يؤثر في العقد، على معنى أنه إذا تركنا المتخلد في الذمة تنهار قيمته انهيارًا كبيرًا يتضرر منه الدائن، فقد انتهى العقد سواء أكان عقد بيع أو قرض إلى جهالة في العوض عند حلول أجل القبض، جهالة فيها غرر كبير، وهو مما يفسد العقد.
3- أن أشهب سوى في فوات الفلوس بين حوالة السوق وبطلانها (1) .
4- أن الرهوني وهو يتابع الأقوال وتوجيهها أحسن بهذا المعنى فقال: وينبغي أن يقيد رأي المالكية: بما إذا لم يكثر جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف (2) .
وبهذا يظهر أن جريان التشريع لى منهج واحد يقتضي عدم التفرقة بين كساد الفلوس وانقطاعها، وبين وهن قدرتها الشرائية وهنًا يتضرر منه الدائن، فمن منع في هذا من الرجوع إلى القيمة في الكساد منع أيضًا في نقصان القيمة، ومن اعتبر القيمة في الكساد وجب أن يعتبرها في النقص البين.
أما تحديد النقص البين في هذا المقام فإني لم أجد فيه نصًّا فإما أن تلحق بالجائحة وهو الأقرب فيجري فيها الخلاف الوارد في الجائحة، وإما أن يعتبر ما يتضرر منه الدائن، وهنا يختلف التقدير، ففي الديون الكبرى كعشرة ملايين ريال مثلًا، فحتى عشرة في المائة تعتبر خسارة كبيرة للدائن، وفي مائة ريال يتسامح في 10? عادة ولهذا يرجع في تقدير ذلك إلى القضاء الذي يعطي لكل حالة ما يناسبها من الحكم وهو من باب تحقيق المناط حسبما بينه الإمام الغزالي.
العملة الورقية:
العملة الورقية هي كالفلوس تقاس عليها وتأخذ أحكامها، وذلك أنها بعيدة عن الذهب والفضة إذ الذهب والفضة لهما قيمة في أعيانهما، ولا يزيد الدينار المضروب أو الدرهم على مادتها إلا قيمة الضرب إذا لم تقم بالضرب الدولة من بيت المال، وقد تحدث الفقهاء عن أحكام من يأتي بذهبه أو فضته إلى دار الضرب، وإذا أبطل الحاكم التعامل بنقد منهما فإن الناس لا يتضررون من ذلك ضررًا كبيرًا، وقد كان المتعاملون يتعاملون بالوزن إذا اختل عيار النقد بالعد.
__________
(1) حاشية الرهوني ج 5 ص 121
(2) حاشية الرهوني ج 5 ص121(9/1104)
والفلوس قيمتها في التعامل أكثر من قيمتها المادية إذا كانت سكة رائجة ولذا فإذا أبطل العمل بها تهاوت قيمتها، وتعود إلى أصلها من قيمة مادتها المصنوعة منها ولذا فهي أقرب إلى الورق النقدي وإن كانت أفضل منه، فقد كانت وحدة التعامل في بلدي قبل الحرب العالمية الثانية هي الفرنك الموازي الفرنك الفرسي، وكانت السكة الرائجة في مضاعفات الفرنك الورق النقدي – 5/ 10/ 20/ 50/ 100/ - وكانت وحدة الفرنك من معدن هو خليط من النحاس وغيره، وينقسم الفرنك إلى عشرين وحدة، وكل وحدة منها هي "الصوردي" والصوردي له مضاعفات هي –2 –5 –10 – وكانت قطع الصوردي من خليط من النحاس أقل جودة من مادة الفرنك – فلما اشتعلت الحرب واحتل المحور البلاد التونسية عمدوا إلى طبع الأوراق النقدية لمجابهة نفقات الجيش، فأخذت ظاهرة التضخم تتسارع وانقطع التوريد أو كاد فكانت المسابك تشترى "الصوردي ومضاعفاته" بثمن أرفع من قيمته الرائجة وانقطع من الوجود في التعامل إذ من كان بيده شيء منه باعه للمسابك.
فالأوراق النقدية تتحد مع الفلوس في أن قيمتها أرفع من مادتها، وأنه يمكن للإنسان بواسطتهما إبراء الذمة أو تقديمها كأثمان أو أجور ونحو ذلك، وتختلف عنها، ذلك أن مادة الفلوس لها قيمة بخلاف الأوراق النقدية لا قيمة لها إذا بطل العمل بها، ولكن هذا الفارق قد نص مالك على عدم اعتباره لقوله إن الناس لو أجازوا بينهما لجلود حتى تكون لها سكة وعين لكراهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة، فهو قد سوى بين الفلوس التي مادتها معدن والتي مادتها جلد، وليس معنى ذلك أن الفلوس تكون من جلود كاملة، ولكنه يعني أنها تقطع قطعًا صغيرة فيطبع عليها كما يطبع على سكة الفلوس، إذ الجلد يغوص فيه النقش المقلوب المحفور أو البارز على الطابع – كما يشاهد ذلك في تجليد الكتب القديمة.(9/1105)
وبهذا يظهر صحة إلحاق الأوراق النقدية بالفلوس في أحكام التعامل بها، ولما انتهينا إلى أن الفلوس إذا بطل التعامل بها للفقهاء فيها طريقتان، فكذلك الأوراق النقدية، ولما كان القرن الخامس زمن اهتزازات كبرى في المشرق والمغرب، وقيام دول وسقوط أخرى وانقسام الدولة إلى دول مستقلة متعادية، الأمر الذي عمت به الاضطرابات والفتن وتأثر بذلك الاقتصاد طبعًا، وعمد بعض المتغلبين على التدخل في النقود تدخلًا اختلفت صوره، وخاصة في إبطال الفلوس والأمر بقطعها من التعامل واستبدالها بغيرها إبرازًا للانفصال بين الطور الجديد والطور القديم في هذه الظروف رأينا أن العلماء في الأندلس وإفريقية أحسوا بالمشكلة إحساس من يعيش الأزمة ويتأثر بملابساتها، فذهب من ذهب منهم إلى اعتماد القول بالقيمة في الوفاء بالديون سواء أكانت من قرض أو بيع، وإظهار هذا القول الضعيف والإفتاء به تبعًا لحالة عدم الاستقرار، وإن اختلفوا في الأصل الذي يرجع إليه كمعيار للقيمة هل هو سلعة أو سكة وفي أي ظرف تعتبر القيمة؟
قد يكون هذا الوضع المهتز في تلكم العصور أقرب إلى الاستقرار من الوضع الاقتصادي للعالم في هذا العصر، إذ أن الهيكل الاقتصادي العظيم بفروعه وشعبه وبضخامة الكتلة النقدية التي بلغت حدًّا ما عرفته البشرية في تاريخها الطويل، بما دخل في الدورة الاقتصادية من طاقة وفن وتقنية وعلم، أن هذا الهيكل رغم ذلك قد وقع إفراغ أساسه فنخرته المصالح الفردية والدولية والنظرة القصيرة إلى الغنم العاجل، والأنانية المفرطة، إنه بين الفينة والأخرى تنفجر أزمة انهيار مالي كعاصفة مفاجئة تتكتل الجهود لتجاوزها، ولكنها إن مرت بسلام دون أن ينهار الاقتصاد فإنها تضعف الثقة بالمستقبل، ويهتز الاطمئنان- ذلك:
1- إن الكتلة النقدية اليوم لم تعد مرتبطة لا بالذهب ولا بالناتج القومي وحدهما، ولا هي تعبير عن الأوراق البنكية، بل يدخل فيها زيادة على ذلك الادخار إلى أجل، حساب الدفاتر، مستندات الخزينة، الادخار السكني الذي تقوم عليه الدولة أو البنوك أو المؤسسات.... ثم إن هذه الروافد أصبحت تتضخم يومًا فيومًا حتى تحققت لها الغلبة فبالرجوع إلى تقرير البنك المركزي الفرنسي الصادر سنة 1979 نتبين ما يلي:
إن نسبة أوراق العملة من الكتلة النقدية في فرنسا كانت تمثل سنة 1970 - 23.3? وانخفضت سنة فسنة حتى وصلت سنة 1979- 31.3?.
كما أن الموجودات من الذهب ومن الديون على الخارج كانت تمثل بالنسبة للكتلة النقدية 6.20? سنة 1970 وانحدرت شيئًا فشيئًا حتى وصلت سنة 1979 إلى 4.8?.
2- إن الدور الذي فرضته الولايات المتحدة على العالم تبعًا لتفردها بالانتصار الحقيقي في الحرب العالمية الثانية، وتبعا لقوتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية بلغ أن أصبحت الولايات المتحدة لها امتياز البنك المركزي للعالم، إذ هي تتحكم حسب مصالحها في قيمة العملة في كل بلد من البلدان، فإذا فرضت مصالحها ارتفاع قيمة الدولار زادت في نسبة الفائدة، وأوقفت التدفقات الكبرى منه في الأسواق المالية، حتى إذا ما تحولت مصلحتها إلى العكس من ذلك خفضت من نسبة الفائدة وضخت بكتل كبيرة منه في الأسواق لتشتري العملة التي ترغب في التأثر عليها تأثيرًا يرفع من قيمتها تبعًا للخطة التي تبغي الوصول إليها من غزو الأسواق وانتعاش صادراتها وضرب المزاحمين لها.(9/1106)
وإذا كانت الدول ذات الاقتصاد المزدهر غير آمنة من الاهتزازات التي تسببها الاختيارات الأميركية، فإن دول العالم الثالث أشد إحساسًا وأكثر تأثرًا بالعوامل الخارجية زيادة عن تأثرها بأوضاعها الداخلية، فالاقتصاد فيها معلق بأرجوحة تتحرك حركة لا يتحكم فيها راكبها!
وأقرب مثال على هذا الدور الأميركي الخطير على استقرار أوضاع الاقتصاد، ما حدث في شهر مارس في هذه السنة 1995 لما انخفض سعر الدولار في الأسواق، كل المعلقين الاقتصاديين الذين استمعت إليهم يثبتون في تحليلهم أن هذا الانخفاض ليس نتيجة واقع فرض نفسه على الدولار لتنخفض قيمته، وإنما هو إرادة لخفض قيمته.
جاء في خاتمة تعليق الفيقارو (le Figaro) عدد 11-12 مارس 1995 على انهيار سعر الدولار في الأسواق: إن العالم لا يمكنه أن يعيش إلى الأبد في الفوضى النقدية وتحت تهديد الانهيار الاقتصادي، المؤسسات غير الأميركية وأجراؤها والمساهمون فيها ليس من المعقول أن يتحملوا التقلبات المفاجئة لمزاج الورقة الخضراء، عندما ينخفض الدولار فإن المصدر الفرنسي أو الإيطالي لا يمكنه أن يضيف بذلك المقدار قيمة مبيعاته في السوق الأميركية، وأيضًا فإن الذين يبيعون المواد الأولية "وهي بصفة عامة الدول في طريق النماء" خاسرون لأن مبيعاتهم مقدرة دائمًا بالدولار وحده، ما فائدة هذه المفاوضات التي لا نهاية لها؟ وهذا التمثيل النفساني (psycho drame) للتجارة العالمية، إذا كان بين ساعة وأخرى يمكن لبلد أن يغير لفائدته ميزان المعيار.... في هذا العالم الذي يكتنفه الخطر، الدول غنية والدول فقيرة عليها أن تواجه نفس الأزمات النقدية هي في غالب الأحيان نفس الأزمات النقدية، وهي في الغالب مكلفة للدول الغنية وهي دائمًا مؤلمة بالنسبة للدول السائرة في طريق النمو.
3- إنه بجانب هذه الهيمنة الأميركية المعلنة هناك هيمنة أخرى أشد مكرًا ودهاء هي القوة الخفية التي لا يهمها إلا أن تحقق لنهمها في الثراء ما يتجاوز كل حد، هي لا يهمها مصلحة الدولة التي تنتسب إليها، ولا مصالح البشرية، إنهم بعبثهم بالأسواق يحققون لأنفسهم أرباحًا خيالية تزيد في سيطرتهم على الأسواق فتخضع التحركات المالية علوًّا وانخفاضًا لشرههم المالي، وبذلك يكون تأرجح العملات قنوات تحول لجيوبهم ملايين الدولارات في اليوم الواحد!
4- القرارات التي يتخذها مجلس الأمن وخاصة الدول الكبار الخمس. في فرض عقوبات اقتصادية على بلد من البلدان، فإذا بعملته تنهار ويحدث التضخم الكبير الحلزوني، كما وقع في ليبيا والعراق.(9/1107)
إنه بجانب هذه العوامل الخارجية قد تحدث عوامل داخلية فتؤثر في البلد الذي حدثت فيه انهيارًا اقتصاديًّا كبيرًا، وذلك ما يحدث من فتن داخل الحدود القومية يصحبها عجز الحكومة القائمة عن ضمان أمن المواطنين على أنفسهم وأموالهم ويتبع ضعف سلطة الدولة عن القيام بواجباتها ضعف الثقة بالنقد فتهبط قوى الإنتاج وتفتح أسواق الظلام لتزيد الحالة سوءًا أو الأزمة استفحالًا كما حدث في لبنان، أو ما يحدث من تحول سريع من اقتصاد مسير إلى اقتصاد حر، فتتسارع إلى السوق قوى يحمل أصحابها الخوف من فوات الفرصة بما ترسب في نفوسهم من اقتصاد مسير فهم لا يبنون نشاطهم على نظرة بعيدة المدى خوفًا من الارتداد إلى الوراء والحالة التي كانوا عليها، يحملهم ذلك على استعجال الربح وتهتز البنى الاقتصادية وتحدث زيادة سريعة في تكليف الإنتاج، فيحدث التضخم المتسارع.
العدالة أساس سلامة المعاملات:
لم تسلم الدول ذات الاقتصاد المزدهر من آفة تقلبات العملة، فإذا كانت العملة الألمانية واليابانية آخذة في الصعود المتواصل في هذه الأيام فإن العملة الإيطالية والأسبانية والدنماركية قد هبطت والجنيه الإسترليني عرف هو أيضًا اهتزازات فماذا صنعت هذه الدول؟
لحد الآن لم تربط هذه الدول أداء الديون والالتزامات الآجلة بما طرأ على النقود من انخفاض أو ارتفاع، رغم أن أثره الأصلي أو التراكمي يبلغ نسبًا كبيرة. وهذا ما جعل الاقتصاديين يلفتون النظر إلى وجوب القيام بالإصلاح.
يقول الأستاذ موريس إليي في محاضرته الشروط النقدية لاقتصاد الأسواق من دروس الأمس إلى إصلاحات الغد:
"إن عمل اقتصاد الأسواق يعتمد على عدد كبير من الالتزامات المؤجلة، فهذا المشروع يلتزم بتقديم إنتاج معين بثمن معين، وهذا المشروع هو يشغل عاملًا يؤمن له مستوى معينًا من الأجر والقائم عليه يقترض الأموال اللازمة له لتنفيذه مع التزامه بسداد القروض وفوائدها، إن كفاءة الاقتصاد كالعدالة تستلزم الوفاء بهذه الالتزامات. كما تستلزم أن لا ينهب الدائنون ولا المدينون، فمن المناسب إذن أن نحمي المتعاقدين جميعًا من تغيرات القوة الشرائية للنقود ".
إن تقلبات القيمة الحقيقية للنقود باعتبارها لا تمكن من أي حساب اقتصادي صحيح إنما تشكل مصدرًا كبيرًا لعدم الكفاءة، وتؤدي في النهاية إلى إضعاف مركز الضعفاء، وإلى استحالة تطبيق أي سياسة اجتماعية فتلك التقلبات إذ تحقق الثراء لبعض الفئات الاجتماعية على حساب الفئات الأخرى، إنما تجلب مظالم تصير مع الزمن غير محتملة ولا مغتفرة أخلاقيًّا، إن متطلبات الكفاءة هنا تلحق بمتطلبات العدالة.(9/1108)
الواقع إن هذه التقلبات تتطلب ربطًا قياسيًّا إلزاميًّا بالقيمة الحقيقية لكل الالتزامات المؤجلة، وبصورة خاصة لكل القروض والافتراضات وعقود العمل المحدودة المدة، وهذا ما يؤمن للاقتصاد سيرًا كفئًا عادلًا (1) .
فالأستاذ يربط بين العدالة وكفاءة الاقتصاد، ويؤكد أن الاندفاع في المجهول الذي لا يتحكم فيه الإنسان ولا يستطيع أن يعد له حساب مضر بالاقتصاد ومثبط لتطوره.
كما أن العدالة تقتضي أن يكون هناك مقياس متفق عليه في الالتزامات الآجلة لا ينتفع أحد الطرفين انتفاعًا غير مشروع على حساب الطرف الآخر.
والناظرون في قضية انخفاض القدرة الشرائية نظرهم مشدود إلى الأمثلة الطافية على السطح، وهي أمثلة بلغت من التشوه حدًّا صارخًا هي ما وصلت إليه العملة اللبنانية والتركية والمكسيكية مما ينطق كل لسان بأن أداء الديون بأمثالها ظلم لا يقبله عقل راشد ولا يمكن أن تقره شريعة نزلت بالميزان القسط، وكيف تلزم من له دين تساوي قيمته عمارة أن يقبض ما لا يكفي لكراء شقة. وهذه الصورة هي كقميص سيدنا عثمان رضي الله عنه تثير المشاعر أو تعجل بالحكم ولا تتعمق في أبعاد المشكلة.
ما يقتضيه الربط القياسي:
لما كانت القاعدة التي استندت إليها الدعوة للربط القياسي هي العدالة، فإن العدالة لا تفرق بين دين ودين، ولا بين وضع ووضع، ولذلك لا بد من التفصيل في الالتزامات الآجلة حتى نتصور ما يترتب على هذا الأساس.
1- الديون التي منشؤها القرض بلا ربا: وهو عمل خير قصد به وجه الله، ثم حدث أن ضعفت القوة الشرائية للنقود التي تم بها القرض: فاعتمادًا على قاعدة العدالة يجب أن يضاف إلى الدين نسبة النقص، فإذا فرضنا أن التآكل للقيمة هو 8? في السنة، ومضى على الدين خمس سنوات مما يفرض على المدين أن يضيف حوالي 50? والمدين قد يكون نشاطه يوفر له التعويض عن التآكل، وقد لا يوفر له ذلك.
فالأجراء والموظفون في معظم بلاد العالم لا يوجد ربط قياسي ينطبق بصفة آلية على أجورهم ورواتبهم، بل إن الزيادات التي تتحقق بعد مفاوضات طويلة مقصودة غالبًا لا يقبضها أصحابها إلا بعد أن يكون مفعول التضخم قد تجاوزها، فهذه الشريحة من المجتمع وهي الأكثر نكون قد ظلمناها لو طبقنا مبدأ الربط القياسي، لنضمن للجهة الأقوى الدائن كامل حقوقه، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإنه إذا تم هذا بين مسلمين من ألمانيا وارتفعت قيمة المارك الألماني فإن تطبيق مبدأ العدالة يقتضي أن لا يطلب الدائن عدد الماركات التي أقرضها وإنما يتقاضى أقل منها على نسبة القوة الشرائية التي حصل عليها المارك.
__________
(1) سلسلة محاضرات العلماء البارزين (1) ص31 البنك الإسلامي للتنمية(9/1109)
2- الديون الناشئة عن بيع آجل: هذا البيع الأصل أن يتكايس فيه المتبايعان، ويحسب كل طرف ما يرضاه لنفسه في هذا العقد، ويحصل بينهما الرضا بشروط العقد وطريقة الخلاص، ويكون البائع قد قدر في حسابه من جملة المعطيات عامل التضخم، فإذا ألزمنا المشتري بدفع زائد التضخم نكون قد ظلمناه بدفعه للفارق مرتين – مرة تقديريًّا حسبما ظنه البائع - ومرة واقعيًّا حسبما أثبته المعيار الذي قد يكون مساويًا لتقديرات البائع أو أرفع أو أخفض.
3- الودائع في البنوك: الحساب تحت الطلب، هذه الودائع لا يختم عليها وإنما يتصرف فيها البنك في مشاريعه الاستثمارية تبعًا للضوابط التي يلزم بها البنك المركزي جميع البنوك، فهي إذن قروض مستحقة الأداء عند طلب المقرض، فلو ألزمنا المقرض بأن يضيف إلى المال المقرض ما تآكل من قيمة القرض أو أن ينقص من القرض ما زاد من القيمة يحدث اختلال في المصارف كبير.
4- القراض: قد يكون نشاط عمل القراض يطول سنوات يحدث فيها التضخم أو العكس، فعند التنضيض، القاعدة أن ما زاد على رأس المال هو ربح، فهل نعتبر رأس المال هو العدد الذي قبضه العامل يوم عقد القراض؟ أو أن رأس المال هو باعتبار ما طرأ على قيمة رأس المال من تآكل أو قوة؟ معنى هذا أنه لو كان القراض بمائة ألف جنيه واستمر خمس سنوات، وكان التضخم يساوي 8? وبعد التنضيض وجد العامل بين يديه 200 ألف جنيه وقسطه من الربح هو 50? حسب العقد فهل يستحق 50 ألف جنيه؟ ويرد على صاحب المال المائة التي هي رأس المال والخمسين الربح؟ أو هو ملزم بأن يرد عليه قيمة ما أخذ فيكون حظه من الربح حوالي 26 ألف ويعطي لرب المال 174 ألفًا، والعكس فلو حدث في رأس المال قوة شرائية زائدة فهل يرد عليه رأس ماله عدًّا أو ينقص له بمقدار ما قويت به العملة ويعتبر ذلك ربحًا له حظه منه؟
5- أن قضايا النزاع في الديون كثيرًا ما يطول أمد التقاضي فيها، فلو فرضنا أن المالك قام مدَّعيًا أن المكتري ماطله سنتين ولم يدفع له كراء الباخرة، وادعى المكتري أنه قام بأداء ما عليه إلا أن وثائقه قد احترقت في الحريق الذي أتى على مكتبه، واستعان كل منهما بما يرجح وجهة نظره، فهذه القضية محل اشتباه، ثم إن الحاكم حكم بعد نشر القضية بأن على المكتري أن يدفع للمالك ما تخلد بذمته، وطال أمد التقاضي 3 سنوات: فهل يحكم الحاكم بمائتي ألف جنيه حسبما جاء في العقد أو يضيف إلى تلكم القيمة ما دخل من تآكل أو ينقص ما طرأ من قوة؟(9/1110)
6- الدولة لها حقوق على المواطنين وللمواطنين حقوق عليها، فهل تقضى هذه الحقوق بأمثالها أو يراعى فيها ضعف القدرة الشرائية أو قوتها؟
فإذا عقدت الدولة مع مقاول عقدًا بمائة مليون دولار، ووجدت نفسها غير قادرة على دفع ما تخلد بذمتها حالًا حسب بنود العقد، إما لأن الأموال المخصصة في الميزان قد نفذت لطوارئ اقتضت المصلحة العامة مواجهتها أو لأنها عقدت قرضًا مع ممول خارجي فحصل من الطوارئ ما عطل تنفيذ العقد في أمده، ثم إنها بعد سنة دعت المقاول لتسلمه حقوقه، فهل تدفع له ما قدمه في بياناته أو هي ملزمة بأن تضيف إليه نسبة التضخم أو تنقص منه نسبة القوة عند الأجل؟
7- الشراءات المؤجلة على أقساط: كشراء سيارة مقسط ثمنها على خمس سنوات فهل يطبق على هذا الدين مقياس الربط الآلي قوة وضعفًا؟
8- تحدث كثير من الباحثين عن الكالئ من الصداق، والذي يترجح عندي أن الكالئ من الصداق يبقى على ما حدد في العقد لأن النكاح مبني على المكارمة، ويجوز فيه ما لا يجوز في البيع من الجهالة.
هذه ما حضرني الآن من الصور التي لو أخذنا فيها مبدأ العدالة لحصل اضطراب قوي تبعًا لتعقد المشاكل تعقدًا بلغ حد استعصائها عن الحل، وأعتقد أن منشأ ذلك هو أن النظام العالمي لا يقوم على أسس منطقية ولا عادلة، وأن ترقيع ما تهرأ لا يعطي نتيجة، إذ كلما جذبت الخيط الجامع تمزق الأصل واتسع الخرق على الراقع، إن العالم الإسلامي كما هو تابع للحضارات الغربية في منجزاتها العلمية والتقنية هو واقع تحت سيطرتها الاقتصادية وآليات العمل في هذا الاقتصاد، فهو لا يستطيع تبعًا لذلك أن يحدث نظرة استقلالية في ناحية من النواحي في الوقت الذي هو مشدود إلى عربة القيادة يسير في سكتها مستقيمًا إن سارت على ذلك النحو أو ينعطف يمنة أو يسرة إذا هي انعطفت، ولذا فإن الوضع الاقتصادي يعالج بالعناية للقضاء على أصل الداء لا محاولة تغطية بعض أعراضه، هوهو ما يفرض أن ترتبط العقيدة والاقتصاد والاجتماع والتربية والسلوك كلها فتسير في موكب واحد مستقل ومترابط.(9/1111)
اشتراط الربط القياسي:
إذا كنت قد وصلت إلى أنه لا بد من حل جذري يقوم على أساس استقلالية المنهج الإسلامي نظريًّا تطبيقيًّا، فإن هذا الحل البعيد المنال لا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها، ولكن علينا أن ندعو إليه وأن نذكر به وأن نحييه في القلوب والعقول.
وأن سنن الله في الكون جرت على قاعدة التغير لا الثبات التي من مقتضياتها التطور من القوة إلى الفعل، ومن الكمون إلى الظهور ومن التبعية إلى الاستقلال.
وسؤال يقوم: هل نجد ما يلطف من شراسة هذا الوضع الاقتصادي الجائر ويقيم أوضاعه المختلفة في هذه الناحية؟ أعني الربط القياسي للالتزامات المؤجلة؟
الجواب عن هذا في نظري: إما أن يكون ربطًا آليًّا في جميع القضايا فقد لمسنا ما يترتب عليه من اضطراب، وإما أن يكون هذا الربط ربطًا بالشرط، بأن يشترط المتعاقدان في الالتزامات الآجلة بمقياس هو معيار ثابت أو أقرب إلى الثبات.
رأينا في طالعة البحث أن مالكًا يرى هذا الشرط شرطًا باطلًا لا يصح؛ وهذا لأنه أجرى الفلوس مجرى الذهب والفضة في باب التعامل اعتمادًا على القياس بعلة أن دورها في التعامل واحد، ورأينا بعض فقهاء المالكية يجيزون أن تعتبر القيمة للفلوس إذا ما تغيرت فإذا جاز عندهم الرجوع إلى القيمة بدون شرط فلأن يجوز بالشرط من باب أولى.
ولذا فإن الذي اطمأننت إليه أنه يجوز للمتعاقدين في الالتزامات الآجلة أن يضبطا قيمة الالتزام بمعيار هو المرجع عند الأداء، وبهذا يكون كل منهما على بينة من أمره، وعليه أن يأخذ من الاحتياطات للوفاء بالتزامه ما لا يدخل منه عليه ضرر كبير، أما إذا تعاقدا دون شرط فإن الالتزامات الآجلة تقضى بما وقع عليه الاتفاق من العملة في العقد.
أما المعيار الذي يرجع إليه المتعاقدان، فهو ما يتفقان عليه: سواء أجعلوا المعيار الذهب أو عملة بلد اقتصادها سليم يصمد على الاهتزازات أو سلة عملات، فعلى أية طريقة واضحة ومحددة من البداية يكون الاعتماد.
والله أعلم وأحكم وهو حسبي ونعم الوكيل.
كتبه فقير ربه محمد المختار السلامي(9/1112)
ملخص البحث
ضعف القدرة الشرائية للنقود الورقية
هذا البحث قد درس في الدورة الثالثة والخامسة لمجمع الفقه الإسلامي، وكانت جملة البحوث وما لحقها من مناقشات وقرارين دونت في المجلة فبلغت خمسًا وستين وتسعمائة صفحة واقتصرت في بحثي على مذهب مالك.
للمالكية رأيان في كساد النقود:
الرأي الأول: أن الديون تقضى بأمثالها ولا ينظر للقيمة لا عند الانقطاع ولا عند الرخص والغلاء بناء على أن المثلي يقضى بمثله؛ ولأن النقود أثمان فلو جعلناها مقومة لاختل الميزان، وأنها إن انحطت قيمتها فهي مصيبة نزلت بالدائن.
الرأي الثاني: أنه ينظر إلى القيمة إما يوم تعلق الدين بالذمة أو يوم انقطاع السكة أو يوم الأداء، أو هما معًا، ولكل من حدد المرجع وجهة، اعتمادًا على العدالة وأن النقود لا تراد لذاتها ولكن لما يمكن حاملها من التحصيل عليه.
ولم يوجد نص من علماء المالكية يتحدث في صراحة عن حكم انهيار القدرة الشرائية للفلوس، لكن يفهم من كلامهم التسوية بين انقطاع الفلوس ورخصها صراحة في كلام مالك في المدونة ومن تابعه، وتأملًا في تعليل أهل الرأي الثاني وما صرح به الرهوني في فهمه لكلام أصحاب هذا الرأي.
إلا أن ضبط الرخص الذي يكون معتبرًا عند أهل الرأي الثاني لم تنجد لهم تصريحًا به، ولكن يؤخذ إما قياسًا على الجائحة في الثمار أو يعتمد فيه رأي القضاء الذي ينظر في الواقع وملابساتها تبعًا لمقدار الدين وتأثر صاحبه بما طرأ من نقض هل هو مما مدخول عليه حسب العرف ويتسامح فيه أو هو مؤثر؟
العملة الورقية:
العملة الورقية حادثة فليس للفقهاء السابقين فيها رأي تبعًا لذلك، ولكن الاتجاه العام للفقهاء المعاصرين أنها تجري عليها أحكام التعامل المقررة في النقود؛ لأنها قامت مقامها وحظيت بالقبول العام اختزانًا للعمل ولتقديمها أثمانًا ومهرًا ونحو ذلك.
ويلاحظ أنه تأخذ شبهًا بالنقدين الذهب والفضة في أنها تقضى بها الديون قليلة كانت أو كثيرة، وتختلف عنها في أن مادتها لا قيمة لها بخلاف الذهب والفضة فإن مادة النقود تبقى على قيمة ما تحويه من وزن، وجودة في المعدن المكونة منه.
وتأخذ شبهًا بالفلوس في أن الفارق بين مادتها وبين قيمتها كبيرًا جدًّا، ومن ناحية أخرى تختلف عنها، ذلك أن الفلوس الشأن فيها ألا تدخل في التعامل إلا في الأشياء البسيطة التي لا كبير قيمة لها، ولذا جاء في القانون الفرنسي أن قضاء الديون بالنقود المعدنية لا يقبل إلا في حدود تافهة.(9/1113)
اهتزاز العملة الورقية والارتباط بمعيار:
بلغ اهتزاز العملة الورقية في عصرنا الحاضر ما غطى على ما وقع في الفلوس قديمًا وتجاوزه، ذلك:
1- أن الارتباط بينها وبين الذهب قد تم إلغاؤه.
2- أن الولايات المتحدة تبعًا لقوتها الاقتصادية والعلمية والتقنية فرضت الدولار على العالم كعملة للمبادلات، وامتازت بإصداره، فأخذت دور البنوك المركزية، ونتج عن هذا أنها تتحكم في التقلبات للقيمة النقدية حسب مصالحها.
3- أنه بجانب الهيمنة الأميركية تقوم هيمنة أخرى، هذه التي تعبث بقيم النقود وتدخل في مبادلات وهمية في سوق البورصة وتزعزع الاقتصاد العالمي؛ لأنها مفرغة من القيم الخلقية، ومن الشعور بالانتساب إلى أوطانها أو إلى العائلة الإنسانية ويقتصر همها على الاستحواذ بشتى الطرق على المال.
4- ما يمكن أن يحدث داخل حدود البلد الواحد من حروب أو فتن، أو تحول من انتهاج طريق اقتصادي إلى منهج آخر يختلف عنه.
هذه العوامل مجتمعة أو مفترقة ما تزال تهدد سلامة الاقتصاد العالمي ولم تسلم الدول العظمى من آثاره، فكيف بالدول السائرة في طريق النمو؟!
وترتب على ذلك أن الالتزامات الآجلة سيطر عليها عاملان مخربان: فقدان العدالة. وقلة الكفاءة.
إن الناظرين إلى اهتزاز قيمة العملة يطغى عليهم ما حدث في لبنان والعراق وتركيا والمكسيك ولا شك أنها مظاهر مفزعة.
ولكنا إذا قلنا باعتماد الارتباط القياسي فإن العدالة تفرض أن يكون ذلك شاملًا لجميع الالتزامات، ولو عممنا لدخل على التعامل اضطرابات أشد من تلك التي حدثت، ولا بد أن يشمل القوة كما يشمل الضعف.
الديون لو ربطناها بمعيار، فإنها يجب أن تشمل كل الديون، حتى الحسابات التي تحت الطلب؛ لأنها قروض في الحقيقة، وأن ينقص منها إذا حصل غلاء في القيمة النقدية، ولا يقتصر ذلك على النسب المرتفعة فإنه حتى النسب الضعيفة في الديون الطويلة الأمد تعظم بسبب التضخم التراكمي، وكذلك القراض، ما هو رأس المال؟ هل هو الكمية التي قبضها العامل أو يراعى فيه التضخم فيقسم الربح الزائد على رأس المال بعد إضافة نسبة التضخم لرأس المال؟ الديون التي للدولة على المواطنين وللمواطنين على الدولة الديون التي دخلت ميدان التقاضي كيف تحسب؟ الشراءات المؤجلة على أقساط تطول!!
الاقتراح:
أن يكون الربط القياسي لا ينطبق آليًّا على جميع المعاملات الآجل ولكن للطرفين أن يشترطا عند العقد الربط، وإذا شرطاه عمل به ويكون المعيار بناء على ذلك هو ما يتفقان عليه سواء أكان الذهب أو مجموعة سلع معينة أو سلة عملات، والله أعلم.
كتبه فقير ربه محمد المختار السلامي(9/1114)
كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلاؤها ورخصها
وأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزامات
إعداد
الدكتور محمد علي القري بن عيد
الأستاذ المشارك في جامعة الملك عبد العزيز بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهديه.
اللهم ألهمنا الصواب وآتنا الحكمة وفصل الخطاب.
1 - مقدمة: في طبيعة النقود المعاصرة ونظم الإصدار النقدي:
تنقسم النقود عند الاقتصاديين بحسب نظام الإصدار إلى نوعين:
نقود سلعية ونقود ائتمانية.
* وللنقود عندهم قيمتان ملازمتان للنقود دائمًا: الأولى: تلك المستمدة من منافع الاستعمال، والثانية: من منافع التبادل؛ وتكون النقود سلعية إذا كانت الأولى (القيمة الاستعمالية) كبيرة حتى لو كانت غير غالبة على الثانية، أما إذا كانت قيمة الاستعمال ضئيلة لا تكاد توجد أضحت النقود في تعريفهم ائتمانية، ولتوضيح ذلك نعرض ما يلي:
الذهب والفضة نقود سلعية (1) لسببين:
الأول: أنها وإن استخدمت كوسيط للتبادل بالوزن (المراطلة) أو بالعد (السكة مثل الدرهم والدينار) ، فليس لها استقلال عن أصلها المعدني، فمثلًا دينار من الذهب وزنه مثقال وسعر صرفه عشرة دراهم، لا يختلف في قيمته، عن مثقال من الذهب على شكل سبيكة، فهو وإن كان نقودًا فهو يبقى سلعة كسائر السلع.
والثاني: أن لها منافع استعمالية كبيرة، فالذهب والفضة تكون حليًّا وتتزين بهما النساء وترصع بهما السيوف ... إلخ.
قيمة هذا النوع من النقود مستمدة في أعين الناس من مصدرين الأول: هو قيمتها الاستعمالية، والثاني: قبولها العام عند الناس وتبني الحكومة لها كنقد، فإذا أبطلها السلطان فلم تعد وسيطًا للتبادل لم تتأثر كثيرًا؛ لأنها تبقى سلعة نافعة تباع وتشترى لأغراضها الأخرى مثل الذهب والفضة (2) .
__________
(1) النقود السلعية – وإن كان أشهر الذهب والفضة – فهي كثيرة، منها الملح والقمح والماعز والبرونز ... إلخ
(2) فعلى سبيل المثال دولار مارياتريزا امبراطورة النمسا والمجر (الذي كان يسمى في الجزيرة العربية الريال الفرنسي) سك من الفضة في القرن الثامن عشر، واستمر مكتسبًا ثقة الناس حتى الستينات من هذا القرن عندما أوقفت في أوائل القرن العشرين وكانت النمسا قد خرجت من النظام المعدني قبل ذلك بسنين كثيرة(9/1115)
أما النقود الورقية والفلوس (لا سيما ما كان منها من معادن خسيسة) فهي نقود ائتمانية، ومعنى ذلك أن تلك ليس لها أصل تنسب إليه أو تتصل به، فإن كانت مصنوعة من الورق، فإن رقعة تساوي في حجمها وألوانها الدولار ليس لها قيمته التبادلية أو قوته الشرائية، وكذلك الفلوس، فالفلس المصنوع من "النيكل" له قيمة تبادلية مستقلة عن معدنه فلا تكون قيمة وزنه من النيكل كقيمة ذلك الفلس، ثم إن هذا النوع من النقود (الائتمانية) ليس له قيمة استعمالية فالورق النقدي لا يؤكل ولا يتزين به ولا يستخدم لأي غرض نافع في الاستهلاك المباشر (1) .
وتستمد النقود الائتمانية قيمتها من مصدرين:
الأول: ختم السلطان؛ لأنها صادرة من المصرف المركزي في الدولة التي تلزم قوانينها المواطنين باستخدام تلك العملة وسيطًا للتبادل وأداة للمدفوعات الآجلة (2) .
الثاني: ثقة الناس بها، فربما يكون عليها ختم السلطان إلا أن الناس لا يثقون بأن تلك العملة ستحافظ على قوتها الشرائية في المستقبل فيحجمون بقدر الطاقة (لأن في ذلك مخالفة للقانون) عن التعامل بها، وعكس ذلك صحيح، وقد سجل المؤرخون أن البلشفيك عندما استولوا على الحكم في روسيا ألغوا عملة القياصرة وأصدروا نقودًا خاصة بالحكومة الثورية، لكنهم أسرفوا في طباعة النقود حتى فقدت قوتها الشرائية لارتفاع معدلات التضخم، فصار الناس يعودون إلى استخدام عملة القياصرة رغم علمهم بأن الحكومة المخلوعة لن تعود أبدًا إلى الحكم، لكنهم ارتضوا تلك لعلمهم بأن الكمية الكلية منها لن تزيد ومن ثم ستحافظ نسبيًّا على قيمتها في التبادل مستقبلًا.
بعد هذا نقول: إن النقود التي نتعامل بها في يوم الناس هذا في كل أنحاء العالم (بلا استثناء) هي نقود ائتمانية تتميز بما يلي:
1- أن قيمتها مستمدة من قبول الناس لها وثقتهم أنها ستحافظ على قيمتها في المستقبل، ومن ختم السلطان عليها.
2- ليس لها قيمة استعمالية البته، لا سيما عندما تكون على صفة حسابات في المصارف وأرقام في دفاتر البنوك.
3- ليس لها معدن أو أصل تنسب إليه، فهي معنوية حتى لو طبعت على الورق أو على رقائق معدنية، ولم يعد لمفهوم "غطاء العملة" أي معنى أو فائدة عملية.
4- أنها غير مرتبطة بالذهب أو الفضة، وإن نصت تعليمات صندوق النقد الدولي على أن أعضاءه يعرفون عملاتهم بوزن من المعدن النفيس (3) .
5- أن هناك جهة حكومية محددة (هي المصرف المركزي) تصدر العملة وتعلن لها سعر صرف تحرص على استقراره وعلى الدفاع عنه وتتبنى السياسات التي تدعمه، ولم يكن هذا معروفًا أو معهودًا أبدًا فيما مضى، فهو من سمات نظم الإصدار النقدي الحديثة ولهذا التطور آثار بالغة الأهمية كما سيظهر فيما بعد.
__________
(1) ورب قائل: إن النقود المغشوشة هي نوع ثالث من النقود والجواب أنها تتبع ما غلب عليها أي الغش أو السلامة منه
(2) Legal Tender
(3) ومعلوم أنه لم يعد لصندوق النقد الدولي نفسه أثر في النظام النقدي العالمي إذ تحول (عمليًّا) منذ منتصف الثمانينات إلى مؤسسة للإقراض(9/1116)
2- انقطاع النقد وكساده وغلاؤه ورخصه:
أما وقد ظهر أن النقود السلعية ومنها الدرهم والدينار لم تعد موجودة في زمننا الحاضر، وإنما الناس يتعاملون بالورق النقدي (الائتماني) . فكيف تكون حالات النقود التي تحدث عنها الفقهاء مثل الانقطاع والكساد والغلاء والرخص؟
أ- انقطاع النقود:
وقد عرفه الفقهاء بمثل التعريف التالي أو قريبًا منه: "عدم وجود مثل الشيء في الأسواق ولو وجد ذلك المثل في البيوت فإنه ما لم يوجد في الأسواق فيعد منقطعًا" (1) .
وقد كان هذا يحدث كثيرًا في الأزمنة القديمة عندما كان الناس يتعاملون بأنواع من النقود، في نفس الوقت، مثل أنواع الدراهم والدنانير والفلوس المختلفة، وقبل ما لا يزيد عن خمسين سنة كانت أكثر مجتمعات الإسلام، لا سيما في الشرق الأوسط، لا تزال تتعامل بما لا يقل عن خمس أو ست عملات في نفس الوقت (2) . ولذلك يحدث في كثير من الأحيان أن يتعاقد الناس، وتترتب لبعضهم على بعض الحقوق والديون بعملة محددة ثم تنقطع تلك العملة لأسباب كثيرة، منها: توقف سكها في بلد المصدر، ارتفاع قيمة معدنها مقابل العملات الأخرى (إذا ارتفع الطلب على الذهب اختفى من الأسواق) ... إلخ فهي تختفي من الأسواق ولكنها تبقى لدى بعض الأفراد في البيوت.
وقد عرفت البلدان التي كانت تتبنى نظام المعدنين (الذهب والفضة) في إصدارها النقدي هذه الظاهرة في العصور الحديثة.
فالمملكة العربية السعودية قبل سنة 1954 م كانت تعاني من مثل ذلك إذ كانت نقودها الريال (الفضي) والجنيه (الذهبي) فكان ارتفاع أسعار الذهب في خارج المملكة يؤدي إلى اختفائه من الأسواق لاتجاه الناس لتصديره فيختفي من الأسواق وما بقي منه يحتفظ به الناس في منازلهم، ومثل ذلك يحدث عند ارتفاع سعر الفضة، تلك هي حالات الانقطاع التي تحدث عنها الفقهاء.
وقد كانت ملاحظة الفقهاء في هذا الموضوع دقيقة، إذ كانت النقود تختفي من الأسواق (أي في التبادل) ولكنها تبقى في البيوت؛ لأن ارتفاع قيمتها يدفع الناس إلى الاحتفاظ بها وادخارها، وهذا شبيه بما يسمى عند الاقتصاديين بقانون قريشام (3) وواضح أن هذه الظاهرة مردها أن للنقود من ذاتها قيمة لذلك يميل الناس إلى سحبها من التبادل مطمئنين إلى بقاء تلك القيمة فيها؛ لأنها مستمدة من محتواها من المعدن.
__________
(1) درر الحكام لعلي حيدر 1/ 108
(2) وقد تعامل المسلمون بأجناس من الدراهم والدنانير في نفس الوقت، وتزخر كتب التاريخ بأسمائها مثل البغلية والطبرية واليزيدية والشريفي والبندقي والمحمدي والكلب والأنموري والناصري.. إلخ. وتعامل أهل الحجاز قبل سنة 1954 م في نفس الوقت بالريال المجيدي (نسبة إلى السلطان عبد المجيد) والريال الفرنسي (دولار ماريا تريزا) والريال السعودي (من الفضة) والجنيه الإنجليزي (الذهب المسمى جورج) والجنيه السعودي (ذهبي) والروبية الهندية (من الفضة) والريال الحميدي (نسبة إلى السلطان عبد الحميد) والريال الهاشمي (من الفضة) والجنيه الهاشمي (أبو خيلين) إضافة إلى القرش (نيكل) والبيزة والآنه وغيره من أنواع الفلوس
(3) وهو القانون الذي يقول: إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من الأسواق أي أن الناس يحتفظون بها ويتعاملون في الشراء والبيع بالعملة الرديئة ليتخلصوا منها(9/1117)
وقد ذكرنا آنفًا طبيعة النظام النقدي المعاصر وأنه يقوم على النقود الائتمانية. فهذا الانقطاع عندئذٍ لا يتصور في ظل النقود الائتمانية.
والنتيجة: أن كل ما ذكره الفقهاء من أحكام في موضوع الانقطاع ليس له مناط في زمننا الحاضر. والله أعلم.
ب- كساد النقود (1) :
وقد عرفه الفقهاء بأنه إبطال التداول بنوع من العملة وسقوط رواجها في البلاد كافة، من ذلك إيقاف حكومة ما إصدار النقد الذي كان متداولًا في البلاد، يحدث هذا في الوقت الحاضر في حالات كثيرة لا سيما في البلاد النامية التي تحدث فيها الانقلابات العسكرية، أو عند تغير السياسة النقدية أو المالية للحكومة ... إلخ، كما كان يحدث قديمًا عند تغير السلاطين والملوك والحكومات.
وقد اعتادت الدول في العصر الحديث على خلاف ما كان في الماضي، أن تضرب للناس عندما تقدم على تغير العملة، أجلًا تسمح لهم فيه أن يستبدلوا العملة الجديدة بالقديمة، ثم هي – دائمًا - تحدد لهم سعر الصرف بين العملتين، مثل أن تقول: كل جنيه جديد يساوي في الصرف خمسة قديمة..إلخ، ولا نعرف دولة حديثة أقدمت على إلغاء عملتها القديمة وإصدار عملة جديدة بدون أن تفعل ما ذكر من الاستبدال وتحديد سعر الصرف، وقد أشرنا آنفًا أن تحديد الحكومات لسعر صرف لعملاتها تسعى إلى استقراره، وتدافع عنه وتحرص على استمراره وهو أمر حديث ما كان معروفًا إلا في أنظمة الإصدار النقدية القديمة.
إذن فإن الحقوق والالتزامات والديون والقروض لن تتأثر كثيرًا بإبطال النقود، ولما كان سعر الصرف بين العلميتين قد حدد بمرسوم فلا خلاف –في نظر الكتاب- بين حالة الكساد هذه وبين أن يقترض الرجل من أخيه ألفًا من الريالات فيقبض منه ورقتين من فئة 500 ريال، ثم إذا حان الأجل وجد أن الحكومة قد ألغت فئة الـ 500 ريال، فقضاه عشر ورقات من فئة 100 ريال، لا فرق بين الحالتين، والله أعلم. (2) .
__________
(1) وقد يسميه بعض الفقهاء الإبطال أو قطع التعامل أو ترك المعاملة
(2) على أننا يجب أن ننتبه أننا نفترض هنا أن كلا العملتين القديمة والجديدة هي من أنواع النقود الائتمانية لا السلعية، أما الانتقال من النقود السلعية إلى الائتمانية فالأمر فيها مختلف: فمثلًا عندما خرجت المملكة العربية السعودية من نظام الإصدار السلعي (ممثلًا بالريال الفضي والجنيه الذهبي) إلى النقود الورقية أفتى علماء المملكة باستحقاق الدائنين الذين سبقت عقودهم النظام الورقي ما ثبت في ذمة المدينين من عملة مثل الريال الفرنسي أو الريال الفضي وهذا عين الصواب. والله أعلم. انظر ص 205 في مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي المملكة ورئيس القضاء والشئون الإسلامية، جمع وترتيب محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة 1300 هـ(9/1118)
يمكن القول إذن أن مسألة كساد النقود غير متصورة في العصر الحاضر وإن تغيرت العملات وحل الحديد منها محل القديم.
ويستثنى من ذلك الحالات التالية:
1- احتلال جيش بلد ما لقطر آخر وإسقاط نظامه السياسي وإلغاء عملته وفرض عملة الغازي على الناس في البلد المحتل (1) .
2- انهيارالنظام السياسي بسبب الحرب الأهلية وذهاب سلطة الحكومة ووجودها المؤثر في البلاد، فعندئذٍ يحل بنقودها الكساد وتصبح عملتها غير ذات قيمة (2) .
وحتى في الحالتين المذكورتين آنفًا فإن الحكومة التي سيستتب لها الأمر ستعلن عند إصدارها لعملة جديدة (3) سعر الصرف بين عملتها الجديدة وعملة البلد القديمة.
وفي الحالتين المذكورتين فقط نرى أن كلام الفقهاء في موضوع كساد النقود له اتصال بالنقود المعاصرة.
ويرى الكاتب أن الحالة الأولى –فقط- تقتضي فيها العدالة وتحقيق مقاصد الشرع العمل على الربط بالقيمة لاحتمال أن المحتل سوف يحدد لعملة البلد القديمة سعرًا مجحفًا لا يراعي فيه مصالح أهل البلد المحتل.
والنتيجة: أن الكساد وإن كان مما يصيب النقود في الحاضر كما كان يصيبها في الماضي إلا أن ما يترتب عليه من مشكلات شديدة الاختلاف عبر الزمان القديم، بل إن فتاوى الفقهاء القدامى إنما تعالج مشاكل غير موجودة في عالم اليوم فليس لها (أي تلك الفتاوى) عندئذٍ –في نظر الكاتب- مناط في عالمنا المعاصر، والله اعلم.
ج- الغلاء والرخص:
إذا كان الانقطاع والكساد لم يعد –في نظر الكاتب- من التغيرات التي تصيب النقود المعاصرة، فإن الغلاء والرخص هو مما تتعرض له النقود في الزمن الحاضر كثيرًا، وتتولد عن ذلك مشكلات متعددة تدخل ضمن ما تعارف الاقتصاديون على تسميته بالتضخم.
__________
(1) مثل ما حدث في الكويت إبان الاحتلال العراقي
(2) مثل الذي حدث في يوغسلافيا السابقة أو الاتحاد السوفيتي المنحل
(3) مثل الجمهوريات التي ظهرت بعد سقوط يوغسلافيا أو الاتحاد السوفيتي(9/1119)
وقد تحدث الفقهاء القدامى عن الغلاء والرخص وما يترتب على ذلك من أثر على الديون والمهور المؤجلة والقروض..إلخ، والغلاء والرخص عندهم إنما هو مسألة تتعلق بالديون المعقودة بالفلوس أو الدراهم والدنانير المغشوشة وليس بالذهب والفضة، ذلك أنهم قد أجمعوا على أن الديون بالدرهم والدينار لا تتأثر بالغلاء والرخص، فليس للدائن إلا ما ثبت في ذمة المدين ولم يشذ عن ذلك أحد بمن فيهم أبو يوسف –رحمه الله- (1) هذا مع أنهم كانوا يعرفون التضخم كما سيأتي تفصيله.
وانقسموا في موضوع الديون والالتزامات المعقودة بالفلوس أو الدراهم المغشوشة في حالات الغلاء والرخص إلى أقوال ثلاثة:
أ- فمنهم من قال: ليس للدائن إلا ما ثبت في ذمة المدين كالحنابلة، جاء في المغني "قد ذكرنا أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله، ولو كان ما أقرضه موجودًا بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله سواء تغير سعره أو لم يتغير.." (2) والشافعية، قال في الأم: "ومن سلف فلوسًا أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي سلف أو باع بها" (3) .
والمالكية: جاء في المدونة "قلت: أرأيت إن أتيت إلى رجل فقلت له أسلفني درهم فلوس، ففعل، والفلوس يومئذٍ مائة فلس بدرهم ثم حالت الفلوس ورخصت حتى صارت مائتا فلس بدرهم، قال: إنما يرد ما أخذ لا يلتفت إلى الزيادة" (4) .
ب- ومنهم من قال: يجب على المدين أن يؤدي قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في ذمة المدين يؤديه دراهم أو دنانير، وهذا رأي أبي يوسف (5) .
__________
(1) فقد نقل ابن عابدين قي تنبيه الرقود (ص 61- 62) : وإن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط.. وقال: "وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جارٍ في الذهب والفضة.. فإنه لا يلزم من وجب له نوع منها سواه بالإجماع"
(2) المغني 2/ 365
(3) الأم: 3/ 33
(4) المدونة 8/ 135
(5) انظر رسائل ابن عابدين 2/ 60 و64(9/1120)
ج- ومنهم من قال: يقيد رد القيمة بأن يكون التغير فاحشًا وإلا فالمثل، وهذا ما ذكره الرهوني في حاشيته على شرح الزرقاني لمختصر خليل (1) .
وهنا يجب ملاحظة النقاط التالية:
إن الفقهاء عندما يتحدثون عن الغلاء والرخص في النقود، فإنهم يشيرون إلى علاقة النقود الرائجة بالذهب والفضة؛ لأنها هي عندهم النقود بالخلقة، وهي الأثمان التي إليها تنسب النقود وتقاس عليها، ولم يتحدثوا أبدًا عن علاقة بين النقود (التي أصابها الغلاء والرخص) والمستوى العام للأسعار، أي أثمان جميع الأشياء.
أما الغلاء والرخص للنقود في زمننا الحاضر فمفهومها مختلف عما سبق، وهي لا تخلو أن تكون أحد أمرين بينهما اتصال كبير:
أ- أنها تشير إلى علاقة العملة المحلية بسلة من العملات الدولية أو بعملة خارجية، مثل أن يتغير سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار أو المارك.. إلخ، أو علاقتها بحقوق السحب الخاصة، فيقال كانت الليرة تساوي دولارًا واحدًا في سنة كذا وهي اليوم ألف ليرة بدولار.. إلخ.
ب- أنها تشير إلى التغيرات التي تطرأ على ما يسمى بمؤشر تكاليف المعيشة (CPI) والذي يفترض أنه يقيس التغير في القوة الشرائية للنقود أو المستوى العام للأسعار فيقال: كان يكفي المواطن في سنة كذا راتب مقداره مائة ليرة في الشهر واليوم لا يكفيه عشر آلاف.
__________
(1) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لخليل 5/122 ومن المعلوم أن الرهوني ليس ممن يعول على قوله كثيرًا عند المالكية فلا يعد من كبار المجتهدين كما أن الشيخ الصديق الضرير قد نفى الخلاف في المذهب المالكي وأن القول واحد فيه هو أن الرد إنما يكون بالمثل في كل حال، انظر بحثه الذي قدمه إلى ندوة: "موقف الشريعة من ربط الحقوق والالتزامات الآجلة لمستوى الأسعار وأحكام تطبيق ذلك في إطار الاقتصاد الإسلامي" التي نظمها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب في جدة سنة 1987 م(9/1121)
عليه نقول: إن كلام الفقهاء القدامى في مسالة غلاء ورخص النقود لا يتعلق أبدًا بالمستوى العام للأسعار بل بعلاقة الفلوس والدراهم المغشوشة بالذهب والفضة.
إذن فإن بين مفهوم الفقهاء القدامى للغلاء والرخص والمفهوم المعاصر للتغيرات في القوة الشرائية للنقود فروقًا كبيرة تؤثر في نظرنا في الحكم، منها:
1- أن التغيرات التي تطرأ على الذهب أو الفضة ليست تحت سيطرة أو إرادة الحكومة أو أي فرد من أفراد المجتمع، فلا يمكن والحال هذه أن توجه المصلحة جهة بعينها، فمن المعلوم أن سعر هذين المعدنين (حتى يوم الناس هذا) معتمد
على تفاعل قوى العرض والطلب في السوق العالمية والتي –وإن تأثرت مؤقتًا بقرارات من حكومات معينة- فهي مستقلة عن أي جهة، ومن ثم فإن الارتفاع أو الانخفاض فيها لا يحدث بطريقة منتظمة (Systimatic) يمكن توقعها أو التنبؤ بها بدقة، وإنما هي تغيرات أشبه ما تكون بالأنواء والأحوال الجوية فهي كضرب عشواء (1) هذا على خلاف مؤشر تكاليف المعيشة الذي يقيس القوة الشرائية للنقود، والنقود في يد الحكومة يصدرها مصرفها المركزي وتؤثر عليها وعلى قوتها الشرائية سياساتها النقدية والمالية.
فربما زادت الحكومة من عرض النقود حتى ترخص، فإذا رخصت وأصبحت السلع والخدمات أغلى مما سبق ارتفع مؤشر تكاليف المعيشة والمذكور فلا تستطيع الحكومة عندئذٍ دفع ما عليها إلا بمزيد من النقود، فتصدر مزيدًا منها، فإذا أصدرت المزيد زادت النقود رخصًا.. وهكذا يدور الاقتصاد في حلقة مفرغة، ويصبح تغير النقود بالرخص جزءًا من نظام نقدي معتمد من الحكومة، ويضحي الانخفاض في القوة الشرائية للنقود معروفًا للجميع (2) .ويشهد على ذلك أن العالم برمته لم يشهد منذ نحو 50 عامًا إلا الارتفاع في الأسعار، وربما اختلفت نسبة الارتفاع من سنة إلى أخرى ومن بلد إلى ثانية وربما شذ عن ذلك آحاد السلع، ولكن الظاهرة العامة هي الارتفاع المستمر في تكاليف المعيشة، أليست هذه الظاهرة أبين وأثبت وأرسى وأشد تأثيرًا من العرف الذي إذا ساد لم تصح معه الزيادة في القروض؟ فإذا سمح بأن تقتضي الديون بالقيمة لا بالمثل فإن ما في ذمة المدين "سيزيد" (وليس له اتجاه إلا الزيادة) بنسبة كذا في السنة، لا فرق عندي بين هذا الربط وبين المتعارف أو التشارط على زيادة في القرض (أو الدين الذي ثبت في الذمة) كنسبة من الفائدة المتغيرة، ذلك هو عين ربا بالنسيئة؛ لأن الزيادة لا تختلف في حقيقتها وأثرها وحكمها الشرعي عن ذلك العرف والشرط والله أعلم.
__________
(1) فمثلًا عندما اشتعلت أزمة الخليج في سنة 1990م كانت جميع النظريات والتوقعات تقول بضرورة ارتفاع سعر الذهب ارتفاعات شاهقة، ولكن الذي حدث أنه لم يتغير، هذا مصداق لما ذكرناه
(2) معلوم أن كل الدول تتبنى خطة وسياسة محددة لإصدار النقود تتضمن معدلًا للنمو السنوي فيها (أي مزيد من الإصدار) بل أن بعض الدول تلزم مصرفه المركزي بسد جزء محدد كنسبة مئوية من العجز في ميزانيتها –سنويًّا- بمزيد من الإصدار للنقد الورقي(9/1122)
3 - التضخم وارتفاع الأسعار ليس جديدًا على العالم بل كان معروفًا عند القدماء:
يعرف التضخم بأنه الارتفاع الملموس للمستوى العام للأسعار في بلد خلال فترة زمنية معينة، وهو يعني انخفاض القوة الشرائية للنقود، وهي المشكلة التي يعاني منها كل مجتمعات اليوم تقريبًا، هذا التضخم ليس جديدًا على العالم بل عرف حتى في الأزمنة القديمة، وقد حدثت كثيرًا في بلاد المسلمين في الماضي، وحاصرها أكثر الفقهاء القدامى، وقد سجلت كتب التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة على ذلك منها على سبيل المثال لا الحصر ما ذكرت بعض كتب التاريخ:
"ودخلت سنة ست ومائتين.. قيل وكان فيها رخص حتى بلغ الطعام ثمنًا خسيسًا فأخبرني سعيد ... قال: جاء رجل من أهل المرج.. ليطحن في رحاها وكان السعر رخيصًا جدًّا، فلم يطحن له من كثرة الطعام وهوانه فجاع وقال لطحان: خذ مني الحنطة، وأعطني دقيقًا فلم يفعل، قال: فأعطني رغيفين آكلهما وخذ من الحنطة ما تريد قال: ما بي حاجة إلى ذلك وكلم غيره في مثل ذلك فلم يفعل ... " (1) .
"ودخلت سنة سبع ومائتين ارتفع السعر وغلا بالموصل وسائر بلاد الجزيرة والبصرة والكوفة حتى بلغ الكر (40 أردب) نيفًا وثلاثة آلاف درهم ... " (2) .
وخلال القرن السادس عشر الميلادي شهد العالم كله ارتفاعًا ملموسًا في مستويات الأسار جاء بسبب تدفق الذهب على أوربا بعد اكتشاف العالم الجديد ثم انتقل الذهب حاملًا معه التضخم إلى أنحاء العالم المختلفة بعد ذلك.
ومنتفٍ أن يكون الفقهاء القدامى على غير علم بهذا الغلاء ولم يعرفوا بحدوث التضخم، كيف يكون ذلك وأشهر الرسائل التي ألفت في مسألة الغلاء والرخص إنما جاءت في نحو هذه الفترة (أي في القرن السادس عشر الميلادي، العاشر الهجري وما بعده) (3) ، ومع هذا فقد وجدنا أنهم كانوا دائمًا يتحدثون عن القيمة لتعني الذهب والفضة ولم يعبأوا أبدًا بمسألة انخفاض أو ارتفاع القوة الرائية لهذين المعدنين، ولم يروا أن لها تأثيرا على الديون الثابتة في الذمة بالدرهم والدينار، مع أنك ترى أن القوة الشرائية للدرهم والدينار تتغير وكانوا يدركون ذلك تمامًا.
__________
(1) أبو زكريا محمد الأزدي، تاريخ الموصل تحقيق د. علي حبيبه – القاهرة، لجنة إحياء التراث الإسلامي 1387هـ
(2) أبو زكريا محمد الأزدي، تاريخ الموصل تحقيق د. علي حبيبه – القاهرة، لجنة إحياء التراث الإسلامي، 1387هـ
(3) مثل السيوطي في رسالته "قطع المجادلة عند تغيير المعاملة" (القرن العاشر) ، والخطيب التمرتاشي "بذل المجهول في مسألة تغير النقود (القرن العاشر) ، عبد القادر الحسيني "رسالة في تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني" (القرن الثاني عشر) ، ابن عابدين "تنبيه الرقود إلى أحكام النقود" (القرن الثالث عشر)(9/1123)
ورب قائل: إن السبب في ذلك إنما يعود إلى أنهم لم يطوروا مقياسًا يمكن من خلاله التعرف على القوة الشرائية للنقود (CPI) ولو كانوا عرفوه، لما وسعهم إلا الفتوى بجواز تبينه والقول بملاءمته في حالات الغلاء والرخص.
والجواب عن هذا:
أ- أنهم لم يكونوا بحاجة إلى مثله لإدراك أن التضخم يجتاح البلاد، ذلك أن السلع والخدمات في زمنهم كانت قليلة محدودة ومستويات المعيشة متقاربة والحاجات الأساسية للناس معروفة: هي القمح والزيت واللحم والتمر وما إلى ذلك، فإذا ارتفع سعر حتى واحد منها لمس ذلك بشكل واضح لدى جميع الناس، وهي أدق في قياس المستوى العام للأسعار من المؤشر لأن الأخير يعتمد على عينات قليلة من مجموعة كبيرة جدًّا من السلع والخدمات ثم يعمم النتيجة على تكاليف المعيشة، وإنما احتاج الناس إلى المؤشر لما تعددت الحاجات وكثرت السلع وأنواعها وأشكالها حتى صارت تعد بآلاف، وظهرت الخدمات جزء مهم في النشاط الاقتصادي وتوسعت المناطق وكثر سكان البلاد، والأهم من هذا كله هو أن هذه المؤشرات إنما ظهرت عند ظهور نموذج الدولة الحديثة التي تتبنى سياسة نقدية تهدف إلى تحقيق استقرار في الأسعار، وثبات لصرف العملة، وتحتاج إلى طريقة لاتخاذ القرارات المتناسقة.
ب - إن مؤشر تكاليف المعيشة لا يصلح إن يكون مقياسًا للعدل أو الظلم أو أداء لحفظ الحقوق فهو لا يعول عليه، كيف وهو مقياس تقريبي جدًّا تؤثر عليه الأهوال وتتحكم فيه السياسة – وقد بسطنا جوانب أخرى من أسباب القول بعدم صلاحيته في الملحق رقم (1) .
4 - الفروق الأساسية بين الربط بالذهب والربط بمؤشر تكاليف المعيشة:
سبق أن ذكرنا أن بعض الكتاب المعاصرين قد فهم –خطأً- كلام الفقهاء عن "الرد بالقيمة" (وهو كثير) أنه مرادف للقول بالربط بالمستوى العام للأسعار، وقد رأينا أن ذلك غير صحيح إذ إن القيمة عند الفقهاء هي الذهب والفضة، ونحن الآن نزيد في إيضاح أن الربط بالذهب مختلف في حقيقته وفي آثاره عن الربط بمؤشر تكاليف المعيشة، فالقول بجواز الربط بالذهب يختلف في مآلاته وفي حقيقته عن القول بجواز الربط بالمؤشر.
أ- منها، أن مؤشر تكاليف المعيشة هو مقياس تقريبي (جدًّا) يقيس بطريقة مبسطة ظاهرة بالغة التعقيد سريعة التغير عظيمة الخطورة، وهو لا يعتمد على عناصر موضوعية فقط بل تؤثر فيه الأهواء وتوجهه الأغراض السياسية وتصدره وتشرف عليه الجهة الوحيدة التي تستفيد دائمًا من التضخم وهي الحكومة، فلذلك نجد أن لها – أبدًا - مصلحة في زيادة (التضخم بإصدارها النقود بلا حدود) ثم إخفاء الآثار السيئة لهذه الفعلة المشينة بالتلاعب بمؤشر تكاليف المعيشة، ولذلك لا غرابة أن نجد أن هذا المؤشر في جميع الدول النامية تقريبًا لا قيمة له ولا يعول عليه ولا يستمد منه أية منفعة عملية، أما الربط بالذهب فهو يعيد النقود إلى أصلها الصحيح وهي الارتباط بالمعدن النفيس.(9/1124)
ب- إن الربط بمؤشر تكاليف المعيشة سياسة ثبت فشلها عمليًّا في دول أميركا اللاتينية وهي لا تعالج التضخم بل تؤدي إلى تفاقمه وتسارعه كما ثبت من التجربة، ذلك لأن مستوى الأسعار إذا زاد ارتفع مؤشر تكاليف المعيشة، الأمر الذي يعني أن جميع القروض والديون والالتزامات المالية المؤجلة المربوطة ستزيد بنفس النسبة مما يزيد من تكاليف الإنتاج، الأمر الذي سينعكس على زيادة في معدلات الأسعار فيرتفع المؤشر مرة أخرى وهكذا يدور الاقتصاد في حلقة مفرغة، أما الربط بالذهب فلا يؤدي مثل ذلك لأن ارتفاع سعره ربما تبعه ارتفاع في القيمة النقدية للديون والالتزامات ومن ثم ارتفاع التكاليف مثل المؤشر ولكن ذلك لن يؤدي بحال إلى ارتفاع سعر الذهب مرة أخرى لأنه مستقل عن كل بلد.
ج- إن أكثر المطالبين بإيجاد صيغة "شرعية" للربط بمؤشر تكاليف المعيشة هي الحكومات الإسلامية التي تقترض من مواطنيها بإصدار السندات بالفائدة وتلاقي الضغوط الكثيرة من جهات متعددة في بلادها تنادي بالامتناع عن التعامل بالربا، وأنه لا سبيل إلى اجتثاث داء الربا من معاملات الأفراد إذا كانت الحكومة هي أكبر المتعاملين به، وهذه الحكومات لا ترى سبيلًا لتمويل عملياتها إلا بالاقتراض وتراكم الدين، والاقتراض في زمننا الحاضر غير متصور بدون اشتراط الزيادة للمقرض، فكان الربط القياسي المخرج الذي يريدون من خلاله الوصول إلى ما يريدون وما أيسر ذلك إذا كانت الحكومة التي تقترض بإصدار سندات مربوطة هي ذاتها التي تصدر النقود وتولد التضخم، وهي عينها التي تصدر الإحصاءات التي يحسب المؤشر بناء عليها، وما على تلك الحكومات إذن إلا أن تتأكد أن جميع ذلك يتجه دائمًا إلى الارتفاع المستمر.
ولكن لو قيل لهذه الحكومات: فلتربط تلك السندات بالذهب وليس المؤشر (ولا يعني هذا أني أنادي بذلك) لوجدت أن الأمر قد اختلف لأنها عندئذٍ سوف تضطر إلى إصلاح أمورها المالية وإلا فستجد نفسها في يوم من الأيام غير قادرة على الاقتراض، وسوف ترى أنه ليس من مصلحتها أن تتوسع بدون حدود في إصدار النقود الورقية والاستدانة من الجمهور بلاد حدود.
5 - ليس صحيحًا أن "النقدية" قد زالت عن الذهب:
يعتقد كثير من الناس أن معدن الذهب ليس – الآن - أكثر من سلعة كسائر السلع ليس لها خصوصية، ومن ثم فإن ارتباط النقود بها ليس له مبرر إلا كمبرر ارتباطها بالبترول أو القمح أو أية سلعة من السلع المتداولة في الأسواق العالمية، وأن الزمن الذي كان الذهب فيه نقودًا قد مضى وانقضى، وأن التعلق بالذهب في هذا المجال ليس أكثر من شعور "عاطفي" لا مبرر له.(9/1125)
وهذا غير صحيح (على إطلاقه) إذ لا يزال الذهب هو أصل النقود ومنه استمدت أكثر العملات رواجًا في العالم قيمتها (في الأصل) وإن انتهت صلتها المباشرة به في الوقت الحاضر.
واليوم، لا يزال للذهب مكانته الخاصة وطبيعته المتميزة التي يختلف فيها عن أي معدن آخر، وهو ينتسب إلى النقود والمالية أكثر من انتمائه إلى السلع الاستهلاكية والصناعية، خذ على سبيل المثال:
أ- استعمل الناس الذهب كوسيط للتبادل قبل أكثر من 3000 سنة.
وبقي بصورة أو بأخرى، هو عملة العالم حتى سنة 1971 عندما ألغت الولايات المتحدة قابلية تحويل الدولار إلى الذهب، لكن مع ذلك يبقى الذهب كأفضل مقياس للقيمة وإن كان مقياسًا غير مباشر في المعاملات المعاصرة.
وبقدر ما يتعلق الأمر بقياس القيمة فإننا في واقع الأمر لم نخرج عن نظام الذهب حتى اليوم فمن ذلك:
- أن سعر أوقية الذهب عندما خرجت الولايات المتحدة عن نظام الذهب سنة 1971 كان 35 دولارًا، واليوم تضاعف هذا السعر عشر مرات ليصبح 350 دولارًا تقريبًا، ولكن الملفت للنظر أن كثيرًا من المؤشرات النقدية قد تضاعفت أيضا عشر مرات، فمثلًا تضاعف الدين العام في الولايات المتحدة عشرة أضعاف، وزادت تكاليف الدين العام عشر مرات، وارتفعت أسعار الفائدة الحقيقية عشرة أضعاف ... إلخ، كل ذلك دليل على أن الذهب لا يزال في الحقيقة هو "النقود بالخلقة".
- أقوى العملات في العالم اليوم هي تلك التي حافظت على علاقة مستقرة مع الذهب (1) فعلى الرغم من عدم وجود ربط رسمي فإن اليابان تحرص دائمًا على استقرار علاقة الين بالذهب، لذلك فقد تضاعفت قيمة الذهب بالين ثلاث مرات منذ سنة 1971، بل إن سياسة اليابان النقدية معتمدة على تحديد أهداف تتعلق بالمحافظة على علاقة مستقرة للين بالذهب (2) .
- لا يزال الذهب هو أفضل المؤشرات الدالة على اتجاه الأسعار في المستقبل، وبينما تمتلئ كتب الاقتصاد بالتحليلات الاقتصادية المعقدة عن علاقة مستوى الأسعار في المستقبل بالكمية النقدية إلا أن الواقع يدل على أن الذهب هو أفضل المؤشرات، ولقد نجحت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة في تحقيق الاستقرار في مستوى الأسعار بعد أن تبنى بنكها المركزي (نظام الاحتياط الفدرالي) الذهب كأساس لسياسته النقدية.
__________
(1) Wall Street Jaurnal P.6/8 -15-94
(2) Wall Street Jaurnal P.9/May 15-94(9/1126)
ب- يعتقد كثير من الخبراء النقديين لاسيما بعض أعضاء مجلس المصرف المركزي الأمريكي (نظام الاحتياطي الفدرالي) أنه لا سبيل إلى إيجاد نظام نقدي دولي مستقر إلا بارتباط العملات الدولية الرئيسية بطريقة أو بأخرى بالذهب، وقد انضم حاكم المصرف المركزي الأمريكي مؤخرًا إلى مثل هذا الرأي.
كل ذلك دليل على أن الذهب لا يزال هو النقود الطبيعية.
ج- تمنع القوانين المصرفية في أكثر دول العالم البنوك من التجارة في السلع مثل القمح أو البترول أو الفوسفات أو النحاس أو الألمونيوم ... إلخ إذ تحصر نشاطها في النقود بأنواعها، وتدخل هذه القوانين الذهب في معية النقود لا السلع ولذلك فهي تجيز للبنوك المتاجرة به والاستثمار فيه.
د- يتميز الذهب –بخلاف سائر المؤشرات وجميع السلع- باستقلاله عن القوى المؤثرة من دول وبنوك وشركات استثمار وأفراد، وسبب ذلك أن السلع الأخرى مثل البترول أو القمح وما شاكلها تهلك بالاستعمال، ولذلك فإن العرض الكلي لها هو العرض المعد للبيع لغرض الاستهلاك اليوم أما إنتاج الأمس فقد انتهى، لكن أمر الذهب مختلف، فهو لا يتعرض لمثل هذا.
لذلك فإن العرض الكلي للذهب اليوم هو جميع الذهب الموجود في كل أنحاء العالم منذ أن اكتشف الإنسان الذهب، ولا يستبعد الخبراء أن ذهب الفراعنة وذلك الذي استخرج في زمن حامورابي جميعها تتداول في أيدي الناس اليوم بعد أن تغيرت في أشكالها مرات كثيرة، ولما كان الذهب في تزايد من جهة الإنتاج وجدت أنه كلما مر الوقت أدى ذلك إلى زيادة "استقلال" الذهب عن سيطرة جهة بعينها.
هب أن دولة ما قررت تخفيض قيمة الذهب (مع أننا لا نتصور مصلحة أو قدرة لأية دولة في مثل هذا العمل) بزيادة المعروض منه، يجب على مثل تلك الدولة أن تنتج كميات كبيرة جدًّا تؤثر على المعروض الكلي منه وهذا أمر عسير على أية دولة لاسيما إذا علمت أن ذلك يعني أنها ستمنى بخسارة لأن إنتاجها من الذهب –إن كانت منتجة- سيكون ذا قيمة أقل بقدر ما تزيد من البيع وتنجح في خفض الأسعار، ولا نعرف دولة اليوم عندها مثل هذه القدرة، افترض أن دولة رغبت في رفع أسعار الذهب (ولا نتصور مصلحة لأية دولة في أن تقوم بمثل ذلك) . عليها عندئذٍ أن تشتري منه كميات كبيرة، وهي عندما تفعل ذلك ستدفع الثمن بعملتها الورقية مما يؤدي إلى تدهور قيمة الأخيرة وهو أمر لا ترغب في حصوله الدول. وغير متوقع أن دولة ما لديها من الذهب ما يؤدي إلى مثل ذلك. وحتى على افتراض حصول ذلك، فإن الدولة التي تفعل مثل هذا ستفعله مرة واحدة فلا تستطيع الاستمرار فيه بطريقة منتظمة كالنقد الورقي الذي لا يكلف إلا الحبر والورق.(9/1127)
هـ- والإنتاج العالمي من الذهب لا يضيف إلى الكمية الكلية الموجودة منه أكثر من 2? سنويًّا، الأمر الذي يعني استقرار العرض الكلي منه ومن ثم استقرار النقود المعتمدة عليه، بخلاف النقود الورقية التي يمكن للحكومة والبنوك أن تولد منها كميات لا تكاد تكون محدودة.
6 - الذهب أفضل الوسائل لاستقرار الأسعار:
قد حدث في الماضي كما ذكرنا أعلاه أن ارتفعت الأسعار وانخفضت حتى في ظل النظام الذهبي، لكن الثابت أن التقلبات في الأسعار في ظل الذهب إنما هي في المدى القصير فحسب، أما على المدى الطويل فإن الذهب هو أفضل وسيلة لتحقيق الاستقرار في الأسعار لأجيال بل لقرون، فمثلًا في الفترة التي اعتمدت فيها بريطانيا نظام قاعدة الذهب وهي من 1717م حتى 1934م كان المستوى العام للأسعار ثابتًا تقريبًا، وكذلك الحال في الولايات المتحدة فقد استقرت الأسعار بدون تغير يذكر منذ سنة 1791 م عندما تبنت الحكومة نظام الذهب حتى الحرب العالمية الثانية (1) .
7 - المآلات الشرعية والاقتصادية للقول بجواز الربط بالمؤشر:
الأمور بمآلاتها، وما أدى إلى الحرام فهو حرام.. هذه جميعًا قواعد معروفة، ولذلك وجب علينا عند الاختلاف حول مسألة الربط أن نسترشد بمآلات إذا خفي علينا الدليل وعسر القياس، ومآل القول بجواز الربط هو أولًا: استباحة الفائدة الربوية بحيلة مشينة، بل إني أقول إنه لا معنى للقول بحرمة الفائدة إذا قلنا بجواز الربط القياسي، لأن تحريمها لا يعدو عندئذٍ أن يكون لغوًا، ذلك أن المحصلة واحدة والنتيجة واحدة بين القول بجواز الربط بمؤشر تكاليف المعيشة والقول بجواز الفوائد المصرفية للأسباب التالية:
- معلوم أن مؤشر تكاليف المعيشة هو في اتجاه مستمر إلى الارتفاع لا إلى الانخفاض (إلا في النادر جدًّا) ، هو ربما ارتفع قليلًا وربما زاد كثيرًا ولكن اتجاهه معروف، يترتب على القول بجواز الربط إذًا:
أولًا: أن رأس المال في جميع القروض والديون سوف يكون مضمونًا لأنه لا يتصور انخفاض الأسعار بطريقة تأتي على جزء منه.
ثانيًا: إن الزيادة حاصلة بشكل مؤكد (بسبب ما ذكرنا) وإن كانت غير معروفة بالنسبة عند التعاقد بين الأفراد لأنها لا تعلن إلا في نهاية العام، (ولكنها معروفة بصفة شبه مؤكدة عند الحكومة) .
فلا اختلاف بين الربط إذن وبين الفائدة المتغيرة، فالقول بجواز الربط مآله التعامل بالربا واستباحته بأدنى الحيل.
__________
(1) انظر في تفصيل ذلك كتاب: The Golden Constant لمؤلفه الأستاذ في جامعة كاليفورنيا Roy Jastram صدر سنة 1978م(9/1128)
-ومنها، أن الربط يؤدي إلى مزيد من الظلم وليس إلى استتباب أركان العدل في المجتمع، ذلك أن الربط إنما يحمي الدائنين على حساب المدينين الذين هم أبرياء من اقتراف "جريمة" التضخم، والدائنون هم الأثرياء الموسرون والمدينون هم في غالب الأحوال المستثمرون الذين ينفعون المجتمع بتوليد الثروة وإيجاد فرص العمل للناس، وهم الأفراد ذوو الدخول المتدنية الذين يشترون حاجاتهم الأساسية بالتقسيط والدفع الآجل، يؤدي الربط عندئذ إلى إعادة توزيع الدخل في المجتمع لصالح تلك الفئة الغنية فيضحى الحال كما حذرت منه الآية الكريمة {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] .
-والربا إنما حرم لما فيه من الظلم كما قال تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] فهذا الربط لما ثبت فيه من الظلم آل إلى ما يؤول إليه الربا فاستحق ما أوجب الله عليه من حكم، فالظلم صفة مشتركة بين الربا والربط.
-ومنها، أن ربط ديون لحكومة بمؤشر تكاليف المعيشة يزيد من تكلفة الدين الحكومي، ذلك أن الفائدة التي تدفع على السندات الحكومية تقل (في كل دول العالم تقريبًا) عن معدل التضخم نظرًا إلى تدني مستوى المخاطرة في تلك السندات، فإذا ربطت هذه الأسناد بمؤشر تكاليف المعيشة زاد ما تدفعه الحكومة من ربا على هذه الديون، فمن أين ستأتي الحكومة بمثل تكل الزيادة؟ لا مصدر لذلك إلا:
أ- زيادة الضرائب على الناس، وهذا مؤداه اقتطاع مزيد من دخول الأفراد يحول إلى دائني الحكومة وهم الأثرياء وجلي ما في ذلك من الظلم أو:
ب- التوسع في الإصدار النقدي بطريقة تؤدي إلى تفاقم مشكلة التضخم وتدهور القوة الشرائية للنقود وواضح ما في ذلك من ظلم أو:
ج- توجيه ما كان من الممكن أن يستخدم في بناء المدارس والمستشفيات التي يستفيد منها جميع الناس، توجيهًا إلى دائني الحكومة من حملة الأسناد وهو ظلم لأولئك الذين لا يحملون سندات الدين، وهذا في الحالات التي يكون للحكومة موارد غير الضرائب.(9/1129)
-ومنها، أن انتشار العمل بالربط في القطاع المصرفي يعني أن الودائع بكل أنواعها (حتى الحسابات الجارية) ستزيد بمقدار ارتفاع الأسعار، هذه الزيادة النقدية من أين ستأتي بها البنوك؟
أ- أما بالنسبة للبنوك التقليدية فهي ستضطر إلى رفع سعر الفائدة على القروض بأنواعها. وهذا يعني:
* بالنسبة للمستثمرين أن تكاليف الإنتاج ستزيد مما يدفعهم إلى زيادة الأسعار على جميع الناس.
* ويعني بالنسبة للمستهلكين أن فائدة القروض سترتفع فلا يستطيع الاقتراض من البنك إلا ذوو اليسار، كما أن أولئك الذين سيقترضون سيدفعون جزءًا أكبر من دخولهم لحماية المودعين المربوطة ودائعهم بالمبشر، (الذين ستتصل بهم تلك الزيادة) من آثار التضخم.
ب- وبالنسبة للبنوك الإسلامية. فإنها ستضطر إلى رفع هامش المرابحة الأمر الذي يعني أن عددًا أقل من الأفراد سيستفيد من هذه الخدمة، ومن استفاد منها فإنه سيدفع مبلغًا إضافيًّا لحماية المودعين في البنك وأصحابه من آثار التضخم، ثم كما أن ذلك سيدفع في البنوك الإسلامية إلى اختصاص نفسها بنصيب أكبر من الربح في المشاركات والمضاربات، الأمر الذي يجعلها غير مجدية لكثير من رجال الأعمال وسيرجح عندهم في الميزان صيغة الديون والتمويل بالقرض والمرابحة على أنواع المشاركات وجلي ما في ذلك من المفاسد على الاقتصاد الإسلامي.
8 - سوابق المسلمين في الربط بالذهب:
فكرة الربط بالذهب ليست مما تعارف عليه الناس في البلاد الغربية، بل هي لا تكاد توجد، والذي ينتشر عندهم هو الربط بمؤشر تكاليف المعيشة.
أما المسلمون فالأمر عندهم يختلف، فرغم أن مسألة الربط لا تزال من الأمور التي هي محل نظر عند الفقهاء المعاصرين، إلا أن المسلمين قد عرفوا قديمًا وفي العصر الحديث نماذج للربط يعملون بها ويمارسونها وقد أجمع الفقهاء على قبولها وتبنيها، منها:
أ- ربط نصاب زكاة النقود بالذهب: معلوم أن كثيرًا من أحكام الإسلام فيما يتعلق بالمال مثل الزكاة والدية والربا والصرف..إلخ جاءت مفصلة بالدرهم والدينار، فلما انتشر العمل بالنقود الورقية أخذت هذه النقود أحكام الدرهم والدينار من حيث ربا الفضل وأحكام الصرف..إلخ، أما الزكاة: نصاب زكاة النقود فقد بقي محسوبًا بما يقابل النصاب من الذهب من العملة الورقية – وهو نوع من الربط.(9/1130)
ب- نصاب القطع في السرقة: يشترط لإقامة حد السرقة أن يكون المال المسروق متقومًا وأن يكون محرزًا وأن يبلغ النصاب، وقد ذهب الحنفية إلى أن النصاب الذي يجب القطع بسرقته هو عشرة دراهم مضروبة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم)) (1) وعند المالكية والحنابلة أن النصاب ربع دينار أو ثلاثة دراهم خالصة من الغش لما روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم)) .
وعند الشافعية أن النصاب ربع دينار من الذهب، لأن الأصل عندهم تقويم الأشياء بالذهب لما أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: ((لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا)) .
وفي البلاد التي لا تزال تقيم الحدود ومنها قطع يد السارق، فإنها تعتمد النصاب الذهب أو الفضة بحسب الرأي الفقهي السائد، ثم تنظر إلى ما يقابل ذلك من النقود الورقية المعاصرة لتحديد نصاب القطع، وهذا نوع من الربط بالذهب.
ج- تحديد مقدار الدية: الدية هي المال الذي يدفع في الجناية على النفس أو ما دونها كما قال تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وما ثبت في السنة عنه صلى الله عليه وسلم (( ... وأن في النفس الدية مائة من الإبل)) وقوله صلى الله عليه وسلم (( ... وعلى أهل الذهب ألف دينار)) (2) .
واختلف الفقهاء في مقدار الذهب والفضة، ولكنهم اتفقوا جميعًا على أن الدية في الذكر الحر المسلم هي مائة من الإبل، فإذا لم توجد كانت الدية ما تساويه من الدينار أو الدرهم أو النقود التي يتعامل بها الناس.
وهذا أيضًا نوع من الربط القياسي.
رأي الكاتب في مسألة كساد النقود الورقية وانقطاعها وغلائها ورخصها:
بعد كل ما ذكر فإننا رأينا في هذا الموضوع:
أ- أن كلام الفقهاء حول كساد النقود وانقطاعها وغلائها ورخصها لا ينطبق على النظام النقدي المعتمد على النقود الورقية غير المرتبطة بالذهب.
ب- أن تدهور القوة الشرائية للنقود يؤدي إلى تظالم الناس وإلى بخس المدين لمال الدائن.
ج- أن الحل الجذري هو إصلاح الأنظمة النقدية في بلاد المسلمين.
د- ولكن حتى يتحقق ذلك – وهو بعيد - فإن حفظ الحقوق في حالات غلاء النقد يجب أن يكون بالربط بالذهب.
هـ- وأن علينا أن نسعى إلى تصميم الوسائل والأدوات المقبولة من الناحية الشرعية لتحقيق هذا الغرض.
الدكتور محمد علي القري بن عيد
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق
(2) أخرجه النسائي(9/1131)
كساد النقود وانقطاعها
بين الفقه والاقتصاد
إعداد
الدكتور منذر قحف
المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
البنك الإسلامي للتنمية
بسم الله الرحمن الرحيم
كساد النقود وانقطاعها بين الفقه والاقتصاد
يقصد من ورقة العمل هذه، الإجابة على تساؤلات السادة العلماء المتعلقة بكساد النقود وانقطاعها، ومن وجهة النظر الاقتصادية، ومقارنة هذه المفاهيم مع ما ورد في تراثنا الفقهي، لعل ذلك يعين –بحول الله وعونه - على فهم آثار تغير أسعار العملة نتيجة للتضخم الاقتصادي.
وتأتي ورقة العمل هذه، بناء على طلب كريم، من أستاذ مكرم هو فضيلة الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، بجدة. وقد خص في طلبه البحث في مسألتين:
1- مفهوم كساد النقود الورقية، وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة.
2- حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية "نقودًا كاسدة". وهاتان المسألتان هما جزءان من أربعة أجزاء رغب المجمع الموقر تفصيلًا وتعمقًا في دراستها.
وستتألف ورقة العمل هذه من ثلاثة أقسام، أعرض في القسم الأول المفهوم الفقهي للكساد والانقطاع في العملة وصورهما، وأخصص القسم الثاني لعرض سريع للنقود المعاصرة والتضخم، أما القسم الثالث فيسعى لبيان صور كساد النقود المعاصرة، وانقطاعها وما لذلك من آثار على الحقوق والالتزامات الآجلة.(9/1132)
القسم الأول
صور كساد العملة وانقطاعها عند الفقهاء
تعريف الكساد والانقطاع عند الفقهاء:
يعرف الأحناف كساد العملة بأنه ترك المعاملة بها في جميع البلاد، أما انقطاع العملة فإنه عدم وجودها في السوق وإن وجدت عند الصيارفة وفي البيوت (1) .
فالكساد، إذن، ترك الناس التعامل بالنقد سواءً كان النقد قائما موجودًا في أيدي الناس أو لا. وقد تنقطع العملة دون أن تكون كاسدة، وذلك بأن لا توجد في الأسواق، رغم أن الناس لم يتركوا التعامل بها برغبتهم، ولكن واقعة عدم وجودها تفرض عدم التعامل بها (2) . وكذلك، قد تكسد العملة، دون أن تنقطع، بأن يرغب الناس عن التعامل بها، زهدًا بها من أنفسهم، أو تنفيذًا لنهي السلطان عنها.
ويشترك الكساد والانقطاع، إذن، بأن كليهما يعني، أن المعاملات بين الناس تعترضها مشكلات إذا أريد أن يتم تنفيذها بالنقد، إما لعدم توفره في السوق، أو لعدم رغبة الناس به عزوفًا منهم عنه، أو لمنع السلطان التعامل به، رغم وجوده في السوق في الحالتين الأخيرتين.
ولم أجد عند غير الأحناف تعريفًا للكساد أو الانقطاع وإن كان كل منهما مذكورًا ومعروفًا عند الفقهاء كلهم.
فالرهوني مثلًا يتحدث في حاشيته عن "بطلان الفلوس"، "وعن قطع السكة في الدراهم والدنانير" و"إبدالها بسكة غيرها" و"إهمالها جملة" و"السكة المقطوعة" وقد فرق بين "ما إذا عدمت السكة" وما إذا "قطع التعامل بها مع وجودها" (3) مما يدل على أن "عدم التعامل بالسكة رغم وجودها" عند الرهوني هو ما يقابل صورة الكساد المتميزة عن صورة الانقطاع عند الأحناف، ولكن الرهوني يشير أيضًا إلى "قطع السكة وإبدالها بغيرها" وهي أيضًا صورة للكساد عند الأحناف. كما أن "تبديل السكة بأخرى وإهمال الأولى جملة" قد يكون بعزوف الناس عن القديمة وليس بمنعها من قبل السلطان. الأمر الذي يجعل تعابير الرهوني تغطي حالتي الكساد عند الأحناف وكذلك حالة الانقطاع أيضًا، لأنه يضمن في صور فساد الفلوس أو قطعها (وقد استعمل اللفظتين في جملة واحدة) حالتي وجود الفلوس رغم انقطاعها، وانعدامها كلية (4) .
ويلاحظ عند الرهوني استعمال كلمات الفساد، والكساد، والبطلان، والانقطاع دون تمييز لمعانيها عن بعضها البعض، ولا يخرج عن ذلك ما جاء في المعيار المعرب للونشريسي (5) .
__________
(1) رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود ضمن رسائل ابن عابدين، ج 2 ص58؛ وحاشية رد المحتار له أيضًا، ج 4 ص118؛ ودرر الحكام لعلي حيدر ج 1 ص125
(2) ومع ذلك قد تبقى عملة في تعامل الناس رغم عدم وجودها سواء في الأسواق أو في غيرها. وعندئذ تصبح بمثابة وحدة حسابية فقط، كما أشرنا إلى ذلك
(3) حاشية الرهوني ج 5 ص 118-123
(4) الرهوني ج 5 ص120 وص122
(5) المعيار المعرب ج 6 ص163-164(9/1133)
أما صاحب المغني، فيتحدث عن تحريم السلطان للفلوس والدراهم المكسرة، وترك المعاملة بها، واتفاق الناس على تركها. وتعامل الناس بها رغم تحريم السلطان لها، أو عدمه (1) ويذكر بعض هذه المصطلحات صاحب مجلة الأحكام الشرعية على المذهب الحنلبي (2) .
أما المرداوي فقد ذكر أيضًا تحريم السلطان للفلوس، أو الدراهم المكسرة، سواءً تعامل الناس بها رغم التحريم، أو لم يتعاملوا، وقد سمى ذلك بطلانًا للعملة بأمر السلطان أو كسادًا فيها (3) . ومن الواضح أنه لم يشر إلى حالة عدم وجود العملة في الأسواق.
ويفهم من مناقشة النووي أن حالة إبطال السلطان المعاملة بالعملة لا تقتضي عدم وجودها في السوق، فهو يذكر أن المعقود عليه (أي النقد المبطل) باق مقدور على تسليمه (4) ، وهذه هي إحدى صورتي الكساد عند الأحناف، ثم يستعمل كلمة الانقطاع بمعنى عدم وجود النقد مطلقًا فيقول ببطلان العقد إذا جرى بنقد قد انقطع من أيدي الناس "لعدم القدرة على التسليم" أما إذا توفرت القدرة على التسليم – ولو بنقل النقد من بلد آخر- فالعقد صحيح مما يدل على أن النووي لا يعتبر عدم توفر العملة في بلد العقد انقطاعًا إذا وجدت في البيوت أو عند الصيارفة، لأن وجودها هذا أولى من وجودها في بلد آخر (5) .
وكذلك نجده يتحدث أيضًا عن صحة العقد إذا كان النقد عزيزًا على قول من يجيز الاستبدال على الثمن لإمكان سداد بدل الثمن مما هو رائج، ولا يصح البيع على القول بعدم الاستبدال (6) .
ونخلص من كل ما مضى إلى أن هنالك تداخلًا كبيرًا في معاني مصطلحي الكساد والانقطاع في العملة عند الفقهاء وأن كثيرًا منهم قد استعمل ألفاظًا أخرى، كالبطلان، والفساد، وغيرها، لبعض هذه المعاني، وبذلك فإننا نرى أنه للخروج من مأزق المصطلحات هذا لابد لنا من النظر في الصور نفسها التي ذكرها الفقهاء في باب الكساد والانقطاع، وأن تصنف اجتهادات العلماء في أحكامها، ونوقعها على تلك الصور، لأن ذلك – في نظري - هو أفضل السبل للتوصل إلى فهم كيفية معالجة النقود المعاصرة، على ضوء ما عولجت به مشكلات النقود التي تحدث عنها الفقهاء.
صور الكساد والانقطاع:
ويمكن حصر صور الكساد والانقطاع التي تحدث عنها الفقهاء بحالتين كليتين، يتفرع عن كل منهما عدد من الصور كما يلي:
أ- الحالة الأولى: منع السلطان التعامل بالنقد:
ويتأسس على هذه الحالة الصور التالية:
1- منع التعامل بالنقد واستبداله بنقد جديد، بنفس القيمة مع عدم وجود القديم في جميع البلاد، وعدمه عند الصيارفة.
__________
(1) ابن قدامة ج 4 ص365
(2) أحمد بن عبد الله القاري ص128
(3) الإنصاف ج 5 ص127 - 128
(4) المجموع ج 9 ص 309
(5) المجموع ج 9 ص364
(6) المجموع ج 9 ص164(9/1134)
2- منع التعامل بالنقد، واستبداله بنقد جديد بقيمة مختلفة، مع عدم وجود القديم في جميع البلدان، وعدمه عند الصيارفة.
3- منع التعامل بالنقد، مع وجوده في بلدان أخرى وعدمه عند الصيارفة.
4- منع التعامل بالنقد، مع وجوده في بلدان أخرى، وفي البيوت، وعند الصيارفة.
5- منع التعامل بالنقد مع عدم وجوده، في البلدان الأخرى، ولا في البيوت، ولا عند الصيارفة، ولا في الأسواق.
6- فرض السلطان لنقد جديد مع بقاء القديم في أيدي الناس.
ويلحق بهذه الحالة صورة سابعة، وهي:
7- تغيير السلطان قيمة النقد.
ب- الحالة الثانية: ترك الناس التعامل بالنقد من أنفسهم دون أمر من السلطان:
ويتأسس عليها:
8- رغبة الناس عن التعامل به، مع وجوده في الأسواق.
9- ترك الناس التعامل به، مع عدم وجوده في الأسواق.
وسندرس هذه الصورة، وأسبابها. وسنحاول وضع أقوال العلماء وفتاواهم فيما يناسبها من هذه الحالات، ثم ننتقل في القسم الثاني للكلام عن النقود المعاصرة، ودراسة ما ينطبق عليها من صور الكساد والانقطاع، وعلاقة ذلك بالتضخم النقدي.
1 - الصورة الأولى:
منع السلطان التعامل بالنقد، واستبداله بنقد جديد، بنفس القيمة، مع عدم وجود النقد القديم في جميع البلدان، وعدمه عند الصيارفة.
ويمكن أن يحصل ذلك عندما ترغب الحكومة – لسبب من الأسباب غير الاقتصادية عادة - في محو آثار الحكومة السابقة على النقود، دون أن تغير من قيمتها. ولكنها – للأسباب غير الاقتصادية نفسها - تتشدد في منع الناس من التعامل بالعملة القديمة.
ويمكن أن يحدث ذلك بالنسبة لكل أنواع العملات، سواء كانت من الفلوس، أو الدراهم، أو الدنانير، وسواء كانت مغشوشة، أو غير مغشوشة. وقد تغير الحكومة اسم العملة أيضًا، فتكون محمدية وتصبح مجيدية، أو تكون ريالًا فتصبح درهمًا.(9/1135)
وأما عدم تغيير قيمة العملة، فيكون بالأمر السلطان نفسه، بحيث يجعل الدرهم الجديد مثلًا مساويًا للدرهم القديم وعندئذٍ، سيقبل الناس في معاملاتهم على الدرهم الجديد، مثل إقبالهم على القديم عندما كان هو الرائج، ولن يؤثر تغيير الدرهم على المستوى العام للأسعار، ولا على سعر أي من السلع والخدمات في السوق.
ولكننا ينبغي أن نلاحظ هنا أنه بالنسبة للعملات المعدنية، فإن أي اختلاف في قيمتها كمعدن سيؤثر على سلوك الناس نحوها، قبولًا، أو رفضًا، وسيظهر معنى القبول أو الرفض هذين في شكل فروق في الأسعار، بين النقد الجديد والقديم. فلو احتوى الدرهم الجديد على كمية من المعدن تنقص (أو تزيد) عن الدرهم القديم، فما أن يعلم الناس بذلك، حتى ينقصوا (أو يزيدوا) من سعر الجديد في مبادلتهم له بالقديم (1) وسينعكس ذلك تبعًا على المستوى العام للأسعار.
أما آراء الفقهاء في الديون التي التزم بها الناس بالنقد القديم، التي تنطبق على هذه الصورة (في نظر الكاتب) ، فيبدو لي – والله أعلم - أنه يصح فيها ما تحدث عنه الفقهاء عند اعتبارهم أن النقد لو أطلق فهو نقد البلد (2) ، لأن النقد إذا أطلق لا يقصد به أعيانه، "وإن النقد لا يتعين في المعاوضات" (3) .
2 - الصورة الثانية:
منع التعامل بالنقد، واستبداله بنقد جديد، بقيمة مختلفة، مع عدم وجود القديم في جميع البلدان، وعدمه عند الصيارفة.
ويحصل ذلك لأسباب تشبه الأسباب التي تحصل فيها الصورة الأولى، ويضاف إليها سبب آخر، وهو رخص (أو غلاء) العملة القديمة، فتصدر الجديدة عن السلطان بسعر أكبر (أو أقل) من العملة القديمة، ويحدد الأمر السلطاني سعر العملة الجديدة بالنسبة للقديمة، وقد تحمل العملة الجديدة نفس اسم العملة القديمة، فيقال القرش القديم والقرش الجديد، أو اسمًا آخر كالريال والليرة، ويلاحظ أن اختلاف القيمة بين العملتين هنا هو اختلاف محدد معروف، كأن يكون القرش الجديد مساويًا للقرشين من القديم مثلًا.
__________
(1) وينطبق ذلك على أي نقود سلعية، حتى لو كانت جلد بعير، وليس على المعادن فقط. وهذه، في الواقع، حالة خاصة لما لاحظه غريشام منذ عدة قرون من أن النقد، الذي تكون قيمته الاصطلاحية أقل من قيمة المعدن الذي فيه، يطرد من السوق، لأن الناس سيذيبونه، ويبيعونه معدنًا
(2) حاشية رد المحتار ج 4 ص 53؛ والمجموع ج 9 ص 309
(3) رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود ص 63(9/1136)
وإقبال الناس على التعامل بالعملة الجديدة هنا، هو مثل إقبالهم في الصورة الأولى مع ملاحظة أن جميع الأسعار، وكذا المستوى العام للأسعار، ستتغير بنسبة في سعر الصرف بين العملتين، وفي مثالنا (قرش جديد بقرشين من القديم) ، سيصبح سعر كل شيء نصف ما كان عليه بالعملة القديمة، وكذا يصبح المستوى العام للأسعار نصف ما كان عليه.
وإذا كانت العملة سلعية، فإن تسعيرها من قبل الحكومة، بأقل من قيمتها في السوق كسلعة، يجعل الناس يعدلون عن استعمالها النقدي، إلى استعمالها السلعي، فإذا لم يكن هنالك نقد غيرها - كما هي الفرضية في هذه الصورة - فإن أسعار السلع والخدمات سترتفع بالنسبة للعملة السلعية، إلى أن تصبح قيمتها السلعية مساوية لقيمتها الاصطلاحية، المفروضة من السلطان.
ويبدو – والله أعلم - أن ما ثبت في الذمة من ديون والتزامات، ثم حصلت له هذه الصورة من التغير في النقد، هو ما ينطبق عليه ما نقله الرهوني عن ابن رشد الجد، من أن الواجب هو المثل من العملة القديمة التي ثبتت في الذمة، وأن القول بغير ذلك لا يلتفت إليه لأنه "نقض لأحكام الإسلام، ومخالفة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في النهي عن أكل المال بالباطل، ويلزم هذا القائل أن يقول ... إن السلطان إذا أبدل المكاييل، بأصغر أو أكبر، والموازين، بأنقص أو أوفى، وقد وقعت المعادلة بينهما بالمكيال الأول، أو بالميزان الأول، أنه ليس للمبتاع إلا بالكيل الأخير، وإن كان أصغر، وأن على البائع الدفع بالثاني أيضًا، وإن كان أكبر، وهذا مما لا خفاء في بطلانه، وبالله التوفيق" (1) .
ويتضح من ذلك، أن سداد الديون والالتزامات السابقة سيتم بالعملة الجديدة، لعدم وجود القديمة، ولكن بنسبتها من القديمة، فلو كان الدين في مثالنا بألف من القروش القديمة، لزم المدين خمسمائة من الجديدة، لأن القرش القديم يعدل نصف قرش جديد، وذكر ابن عابدين نحو ذلك على أنه من العرف الذي يعتبر كالمشروط.. وهكذا شاع في عرفهم، ولا يفهم أحد منه، أنه إذا اشترى بالقروش "أن الواجب عليه دفع عينها.. فيدفع مصاري، كل قرش بأربعين".. وكذا "يشترون سلعة بدينار ثم ينقدون ثلثي دينار محمودية أو ثلثي دينار وطسوج نيسابورية، قال يجري على المواضعة، ولا يبقى الزيادة دينًا عليهم" (2) .
3 - الصورة الثالثة:
منع السلطان التعامل بالنقد، مع وجوده في بلدان أخرى، وعدمه في البيوت وعند الصيارفة.
وتحصل هذه الصورة، بأن تكون عملة بلد معين رائجة، بين الناس، في بلد آخر، ثم يعمد سلطان البلد الآخر إلى منعها في بلده، وإصدار عملة خاصة به، أو الاكتفاء بعملة أخرى سابقة موجودة في التداول في ذلك البلد، مع شمول المنع للصيارفة والناس في بيوتهم، ولكن استمرار وجود العملة في بلدان أخرى يبقي على وجود قيمة سوقية لها، مما يجعل بعض الناس يتعاملون بها سرًا، رغم منع السلطان ذلك.
وهنا نلاحظ عدم وجود العملة، في التعامل بين الناس، رغم أنها ما تزال قائمة ومقبولة في بلد منشئها، وربما في بلدان أخرى أيضًا.
__________
(1) الرهوني ج 5 ص119
(2) تنبيه الرقود ص 63(9/1137)
وهذا ما اعتبره فقهاء الأحناف عيبًا في المعاملة. فقد قال ابن عابدين: "فلو في بعضها (أي الكساد في بعض البلدان) لا يبطل (البيع) ، لكنه يتعيب إذا لم ترج في بلدهم، فيتخير البائع، إن شاء أخذه، وإن شاء أخذ قيمته" (1) ويبدو أن إعطاء الخيار للبائع هو على فرض أن سعر العملة الممنوعة قد رخص، ولكنه يمكن أن يحصل العكس أيضًا، فترتفع قيمة العملة الممنوعة لندرتها في البيوت وعند الصيارفة، أو لضخامة العقوبة التي يفرضها السلطان على من يحوزونها، فتكون المخاطرة بذلك كبيرة، فيرتفع السعر على قدر المخاطرة.
وفي هذه الحالة، فإن المسألة تحتاج إلى نظر فقهي، لبيان إمكان القول بتخيير البائع في حال رخص العملة المعقود عليها، أو تخيير المشتري في حال غلائها، وفي الحالتين، كلتيهما، فإن البدائل المخير بينهما هما: أخذ العملة، أو أخذ قيمتها يوم منعها، أو يوم الدفع، أو الشيء المبيع، أو قيمته، فسواء كان التخيير للبائع، أو للمشتري، فإن بديل القيمة يبقى أحد البدائل المطروحة للنظر.
4 - الصورة الرابعة:
منع السلطان التعامل بالنقد مع وجوده في البيوت، وعند الصيارفة، وفي بلدان أخرى.
وهذه تشبه الصورة الثالثة، مع فارق السماح بالتعامل بالعملة الممنوعة عند الصيارفة، وهي ما ينطبق عليه – حرفيًّا - تعريف الأحناف للانقطاع، كما نقله ابن عابدين في حاشيته (2) وهذه الصورة طبق عليها ابن عابدين نفس حكم الكساد، بالنسبة للفلوس، والدراهم التي غلب عليها الغش، فقال ببطلان العقد على رأي أبي حنيفة، ووجوب رد المبيع، لانعدام الثمن، وبوجوب القيمة (أي قيمة النقد، لا قيمة المبيع) ، من الذهب والفضة مع عدم بطلان البيع، عند محمد وأبي يوسف، ومع تحديد زمن القيمة بيوم الانقطاع عند محمد، وبيوم البيع، أو القبض في حالة القرض، عند أبي يوسف (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين ج 4 ص 533
(2) ولكنه ينبغي أن يذكر، أن تعريف ابن عابدين للانقطاع، يشمل عدة صور أخرى، لأنه في تعريف الانقطاع لم يشترط عدم وجود النقد في البيوت وعند الصيارفة، كما أنه لم يتعرض لوجوده أو عدمه في بلدان أخرى
(3) حاشية ابن عابدين ج 4 ص533، وتنبيه الرقود ص 58-63(9/1138)
أما حجة محمد بن الحسن، فلأن المشتري لو دفع الثمن يوم الانقطاع لأجزأه، فوجب عليه قيمته يوم الانقطاع، قال ابن عابدين، نقلًا عن أصحاب المضمرات، والبحر، والحقائق "إنه هو المختار " في المذهب، لأنه أرفق بالناس (1) .
ولم يبين وجه الرفق هذا، وهو في نظري مهم لفهم تأثير التضخم.
وأرى وجه الرفق، أن المتعاملين، قد لحظا ما طرأ من تغير على قيمة الثمن، وتابعا ذلك يومًا فيوم، من زمن العقد، حتى يوم الانقطاع، وكان كل منهما يتوقع أن يتم الدفع، بالنقود المعقود عليها نفسها، أي يوم من هذه الأيام، فكان البائع يعرف أن حقه متعلق بالثمن بالنقد المعقود عليه، مهما كان سعره في السوق، إلى أن انقطع، ويوم الانقطاع توقفت توقعاته هذه، فكان الرفق بالمتعاملين أن تكون قيمة النقد الواجبة هي آخر ما علماه من السوق، وليكن المترتب في الذمة ثمن مبيع، فلا يخفى على العاقدين أن قيمة النقد قد ترتفع أو تهبط، لأن ذلك أمر يعرفه كل من في السوق، ومع ذلك فقد اتفقا على أجل محدد، وحددا الثمن –عددًا من الفلوس- على ما يرضيهما (2) . ولكن معنى الإرفاق بالناس، قد لا يكون بهذا الوضوح، في حالة حدوث أمر طارئ، غير متوقع، مثل منع السلطان لنقد معين، كان رائجًا قبل ذلك التحريم
وثمة وجه آخر للإرفاق بالناس، فقد يكون عدم وجود العملة في الأسواق، مع وجودها عند الصيارفة مما يجعلها عزيزة، غالية الثمن، لا لقيمتها كعملة، وإنما لقيمتها كقطعة أثرية، نادرة. مما يجعل دفع المثل شاقًّاعلى المشتري، فاقتضى الرفق به، اعتبار سعرها في آخر يوم كانت فيه نقدًا يتداول في السوق، تجنبًا للارتفاع في سعرها الناتج عن أسباب غير نقدية.
ومن جهة أخرى، فإن وجود العملة الممنوعة عند الصيارفة، وفي البيوت، وفي بلدان أخرى، يعني أن منع السلطان التعامل بها ليس صارمًا، فقد منع التعامل بها في العقود، والمبايعات في الأسواق دون أن يمنع الصيارفة من التعامل بها، مما جعل للناس حرية الاحتفاظ بها في بيوتهم، الأمر الذي يعني أن لهذه العملة سعرًا في سوق الصيرفة، كما أنها موجودة، بحيث يمكن لمن يريدها أن يحصل عليها، فما هو إذن مقتضى منع السلطان للتعامل بها في هذه الصورة؟ إن التأمل في هذا السؤال يوحي بأن الإجابة عليه ليست بالمسألة الصعبة. فانعدامها من الأسواق – مع وجودها عند الصيارفة وفي البيوت - يدل على أن الثمن غير معدوم، إذ يمكن للمشتري، أن يشتريها من الصيارفة – وهو أمر غير مخالف لأمر السلطان - وينقدها للبائع، فما هو إذن أثر منعها من الأسواق؟ إن منعها من الأسواق سيؤدي إلى واحد من أمرين: إما أن يرتفع سعرها، لأنها تصبح بالمنع عزيزة، وبخاصة إذا كانت العملة قوية في البلدان الأخرى، وإما أن ينخفض سعرها لكثرة المعروض منها عند الصيارفة، مع زهد الناس بها بسبب عزوف التعامل عنها، الناتج عن المنع، ويحدث هذا بخاصة، إذا لم تكن قوية في بلدان أخرى.
__________
(1) الحاشية ج 4 ص533، وتنبيه الرقود ص58-63
(2) أما القرض، فإذا اعتبرنا ما يقوله الجمهور، من أن القرض حال، ليس له أجل، فإن الرفق بالناس، أن تعتبر القيمة يوم قبض القرض، أي على قول أبي يوسف لأن القرض حال متوقع سداده منذ إقراضه، هذا على التفسير المذكور لوجه الرفق، ومثله دين المماطل، لأنه دين حال، الأصل فيه أنه يتوقع سداده يوم حلوله(9/1139)
وبمعنى آخر، فإن منع السلطان للتعامل بالنقد، مع وجوده عند الصيارفة، وفي البيوت، يؤدي إلى رخص أو غلاء العملة، وليس إلى انعدام الثمن، ومع ذلك فلنلاحظ أن الأحناف، قد فرقوا في الفتوى بين هذا النوع من الرخص أو الغلاء، باعتباره انقطاعًا تجري فيه أحكام الكساد، وبين نوع آخر من الرخص والغلاء توجد فيه العملة عند الصيارفة، وفي البيوت، وفي الأسواق أيضًا! ولا أجد ما يبرر مثل هذا التمييز، فيما اطلعت عليه من أقوالهم، إلا أن يقال: سببه هو تدخل السلطان بالمنع، وهو مما يناقض قولهم بأن تدخله بالإرخاص لا يوجب إلا المثل، كما سنرى في الصورة السابعة.
ولعل الصورة الرابعة هذه، هي التي كانت في أذهان الشافعية وجمهور المالكية، الذين يصرون على وجوب المثل – لا القيمة - عند انقطاع الفلوس والدراهم المغشوشة (1) .
5- الصورة الخامسة:
منع السلطان التعامل بالنقد، مع عدم وجوده مطلقًا، لا في البلدان الأخرى، ولا عند الصيارفة، ولا في البيوت.
ويحصل هذا عندما توجد عدة أنواع من النقود، في بلد، ولا توجد في غيره، فيبطل السلطان واحدًا منها.
ومن الواضح أن هذه الصورة ينعدم فيها الثمن، فلا يوجد في مكان، ولا ينشأ للنقد الممنوع سعر في السوق، أي سوق، وبالتالي، فلا مناص من العدول عن القول بسداد المثل إلى أي قول آخر، يتسم بأي نوع من الإمكان والواقعية. ولعل هذه الصورة، هي التي استدعت قول أبي حنيفة ببطلان البيع، وضرورة رد المبيع لعدم الثمن، وفي القرض باستحقاق المثل فقط (2) ولا شك أن استحقاق المثل في القرض – في هذه الصورة - غير عادل البتة (3) لأن النقد الذي قبض عند القرض كانت له قيمة، وكان ينتفع به، أما بعد أمر السلطان، فلم تعد له أية قيمة في أي مكان، وصار لا ينتفع به بالكلية، ولابد من معالجة هذا الوضع، بنظر فقهي جديد، لعدم العدل الظاهر فيه، وإذا كان لابن عابدين رأي في الصورة السابعة – وهي تخفيض القيمة، بأمر سلطاني - كما سنشير إليه بعد قليل – وهو رأي يقوم على العدل، وعدم تحميل واحد من طرفي العقد كل الضرر الحاصل نتيجة لظروف خارجة عن إرادتهما، وتوقعاتهما، فإنه من باب أولى أن يقال هنا بقول ينصف المقرض، وهو محسن، {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .
__________
(1) ولنلاحظ هنا التشابه الكبير بين الصورة الرابعة والصورة الثامنة، التي تختلف عن الرابعة فقط بترك الناس للعملة. وزهدهم بها، من أنفسهم، دون أمر من السلطان
(2) تنبيه الرقود ص60
(3) وينبغي أن نلاحظ هنا أن القول الفقهي برد المثل في هذه الصورة جاء وقت كانت فيه النقود كلها معدنية بما فيها الفلوس والدراهم المغشوشة، وللمعدن ثمن في أي وقت، والتعامل في الأسواق يقرب دائمًا بين قيمة السلعة في النقد وقيمته الاصطلاحية، لذلك فالمثل، ضمن هذه المعطيات، يمكن أن يكون قريبًا من العدل حتى ولو بطل الاستعمال النقدي للمعدن(9/1140)
6 - الصورة السادسة:
فرض السلطان لنقد جديد، مع بقاء القديم في أيدي الناس.
وهذه الصورة كانت كثيرة الحدوث فعلًا، فكثيرًا ما كان السلطان يفرض نقدًا جديدًا، من الذهب، أو الفضة، أو الفلوس، مغشوشة، أو خالصة، ويترك، في الوقت نفسه، العملات السابقة في السوق، وبين أيدي الناس، ولقد أدى ذلك في كثير من الأوقات، إلى وجود عملات كثيرة في السوق، إذ يكاد كل واحد من الفقهاء، يذكر أمثلة، وأسماء لعملات، على أنها موجودة بوقت واحد مع بعضها.
ولاشك أن قاعدة غريشام (هروب كل عملة تزيد قيمتها كسلعة عن قيمتها الاصطلاحية من السوق) تنطبق في هذه الحالة، إذ كلما ارتفعت القيمة السوقية للسلعة التي تتركب منها عملة من العملات، عن قيمة العملة المرسومة، كلما عمد الناس إلى إذابة معدنها، وبيعه بدلًا من إمساكها عملة.
ومن الواضح أيضًا أن هذه الصورة ينطبق عليها حكم "المثل" إذا كان النقد معينًا في العقد، كأن يقول بمائة درهم مملوكي مثلًا، أما إذا لم يكن معينًا في العقد فينصرف إلى ما كان متعارفًا زمن العقد، يقول ابن عابدين: "وأما إذا أطلق، كأن قال بمائة ريال أو مائة ذهبًا، فإن لم يكن إلا نوع واحد من هذا الجنس، ينصرف إليه، وصار المسمى، فإن كان منه أنواع، إن كان أحدها أروج من الآخر، وغلب تعاملًا، ينصرف إليه، لأنه المتعارف، فينصرف المطلق إليه، وصار كالمسمى أيضًا (سواء اتفقت ماليتها أو اختلفت) . وإن اتفقت رواجًا، فإن اختلفت مالية، فسد البيع، ما لم يبين في المجلس ويرضى الآخر (1) وإذا استوت في المالية والرواج، كان الخيار للدافع ولا يؤبه لتعنت البائع".
7 - الصورة السابعة:
تغيير السلطان قيمة النقد.
وقد أشار ابن عابدين إلى هذه الصورة بقوله: "ثم اعلم، أنه تعدد في زماننا، ورود الأمر السلطاني، بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة، بالنقص، واختلف الإفتاء فيه" (2) فمن الواضح إذن أن متأخري الأحناف قد عرفوا ما نسميه اليوم بتخفيض القيمة الرسمية للنقد، الذي يحصل بقرار من الحكومة، ويتابع ابن عابدين فيذكر أن الفتوى قد استقرت، في زمانه، على أمرين:
1- إذا كان العقد قد عين عملة بذاتها، فإن سداد الدين يكون بها رغم رخصها، ويبدو أنه بذلك يعتبر الانخفاض في قيمة النقد مصيبة أصابت صاحبها، كما يبتلى المرء بماله، رخصًا، أو هلاكًا، أو ضياعًا.
__________
(1) تنبيه الرقود ص62
(2) تنبيه الرقود ص64(9/1141)
2- إذا لم يعين العقد نقدًا معينًا، فالخيار للمشتري في دفع أي نوع بالقيمة التي كانت وقت العقد.
ويعترض ابن عابدين على الجزء الثاني من الفتوى، ويقول: إنه يؤدي إلى الظلم، لأن المشتري سيختار "ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع" وهو يجزم في هذه الصورة، أنه لا يصح تخيير المشتري، وأنه يفتى بالصلح لأنه أحوط "كي لا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري" (1) .
ووقوع هذه الصورة في زمانه يفترض خلفية مهمة، وهي أن الناس تعارفوا على التعامل بعملة، لم يقصدوها إلا لبيان مقدار الثمن، وقصدوا أن يكون الدفع بغيرها، وهو بذلك يفترض استعمال نوع من الوحدة الحسابية، جرى العرف على أن لا ينفذ الدفع بها، يشرح ذلك ابن عابدين، فيقول: "وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروض ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا شيء معين، حتى نلزمه به، سواء غلا أو رخص ... [و] القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن، لا لبيان نوعه، ولا جنسه.. " (2) ويشرح ذلك بمثال، شخص باع سلعة بمائة قرش، رضي بها لأنها تعادل مقدارًا معلومًا من كل من العملات الرائجة، فكان الريال بمائة قرش مثلًا، ثم رخصت – بالنسبة للقروش - عملة معينة منها، أو رخصت كلها ولكن بنسب متفاوتة، بأمر من السلطان، فإن البائع يتضرر لو ترك الخيار للمشتري ليدفع بالعملة التي رخصت، أو بأكثر العملات رخصًا "فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين [أي الريال حسب سعره الجديد] بمائة [وهي السعر القديم للريال] ، فقد اختص به الضرر، وإن ألزمنا المشتري بدفعه [أي الريال الجديد] بتسعين، اختص به الضرر". لأنه سيدفع عندئذٍ ريالًا وتسع ريال سدادًا لدينه. "فينبغي وقوع الصلح على الأوسط، والله تعالى أعلم" (3) .
أما إذا تساوت كل العملات في الإرخاص من قبل السلطان (ويبدو أن مثلها لو كانت هناك عملة واحدة فأرخصت) فإن ابن عابدين يقول: "لما قلنا إلا بلزوم العيار، الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلًا ما كان قيمته مائة قرش من الريال، يساوي تسعين قرشًا" (4) ويلاحظ هنا أن تخفيض أسعار جميع العملات الرائجة يجعل هذه الصورة مثل الصورة الثانية، فهي إذن مثل مسألة تغيير الموازين والمكاييل، يجب فيها ما تم التعاقد عليه، وهو العيار الذي كان وقت العقد، ويعتبر غير ذلك أكلًا لأموال الناس بالباطل.
__________
(1) تنبيه الرقود ص64
(2) تنبيه الرقود ص64- 65
(3) تنبيه الرقود ص64-65
(4) تنبيه الرقود ص64- 65(9/1142)
8 - الصورة الثامنة:
رغبة الناس عن التعامل بالنقد، مع وجوده في الأسواق.
وهنا يعرض الناس عن النقد، دون أمر من السلطان ودون فقدانه من الأسواق ولا أجد سببًا لإعراضهم، إلا أن يصبح النقد رخيصًا جدًّا (1) ، أو يتعرض النقد لفقدان ثقة الناس بثباته، ولعدم اطمئنانهم لمستقبل قيمته، مع توقعهم لانخفاض كبير، غير معلوم المعيار، ولكنهم يقيسون على تجاربهم الماضية في التعامل بالنقد، وهي تجارب تنبئ بالتوقع المذكور، وهنا يحرص المتعاملون على التخلص منه بأكبر سرعة ممكنة، فهم يقبلونه بالتعامل، ولكنهم لا يرغبون بقاءه في أيديهم، أي أن النقد لم يفقد وظيفته كمعيار للقيم الحالية، ولكنه فقد وظيفة استيداعه للقيمة، فهو لا يصلح مخزنًا للقيمة، كل ذلك يجعل النقد قليل الأهمية في المعاملات الآجلة، فهو متروك في كل البلدان فيما يتعلق بوظيفته كمخزن للقيمة وكمعيار للمعاملات الآجلة، ومع ذلك، فإن لهذه العملة، المعزوف عنها، سعرًا في السوق، كل يوم، لأن الناس يتعاملون بها ويبادلونها بعملة أخرى، رائجة فيما بينهم، فهي موجودة في الأسواق، ولكنها مرغوب عنها، يسعى الناس إلى التخلص منها، كلما وقعت في أيديهم.
والمشكلة لا تنشأ عن إحجام الناس عن إجراء المعاملات الآجلة بهذه العملة المعزوف عنها (2) ، ولكن المسألة موضع البحث هي كيفية معالجة التزامات سابقة تعاقد عليها الناس، يوم أن كانت تلك العملة رائجة، وقد تركها الناس الآن في المعاملات المهمة، وبخاصة الآجلة منها، أو ذات العلاقة بوظيفة النقد كمخزن للقيمة.
وإذا كان النقد سلعيًّا، فإنه يصعب تصور عزوف الناس عنه، إلا إذا كان الفارق كبيرًا بين قيمته كسلعة تباع في الأسواق وتشترى، وبين قيمته النقدية في الاصطلاح الرسمي الذي يفرضه السلطان، لأن رغبة الناس عن هذا النقد، تؤدي إلى هبوط قيمته الاصطلاحية إلى أن تصل هذه القيمة إلى مستوى قيمته السلعية، عندئذ لا معنى لأي هبوط في القيمة الاصطلاحية دون ذلك المستوى، لأن هذا سيخرجه من الأسواق كنقد إلى إذابته واستعماله سلعة، أو مادة أولية خام، وبالتالي، فإن النقود السلعية تضع حدًّا أدنى لهبوط القيمة – الذي تبقى معه العملة في التعامل - هو القيمة السلعية للنقد.
__________
(1) يقال إن العملة الألمانية قبل الحرب العالمية الثانية بلغت من الرخص، أن اللصوص، كانوا يفضلون سرقة السلال، والأكياس، التي توضع فيها الكميات الكبيرة من النقود، عن سرقة النقود نفسها
(2) لأنهم - بعد اهتزز الثقة بالعملة وعزوفهم عنها- لا يجرون عقودهم الآجلة بها بداهة(9/1143)
ويمكن للمرء أن يتساءل، عما إذا كان من الممكن تصور نقود سلعية، تهبط فيها قيمتها الاصطلاحية، بغير أمر السلطان، ففي ظل نظام نقدي، توجد فيه عملات سلعية متعددة – ولتكن من الذهب والفضة والنحاس مثلًا - يمكن للعملة المكونة من سلعة رخيصة أن تهبط قيمتها الاصطلاحية، إذا كثر العرض منها، ولم يدعمها السلطان، بأن يفرض لها قوة إبرائية تعادل قيمتها الاصطلاحية، أو بقبول مبادلتها بالعملة المكونة من المعدن الثمين، حسب سعر الصرف الاصطلاحي، أو الرسمي، الذي يفرضه السلطان نفسه، فإذا حصل هبوط في القيمة الاصطلاحية لنقد سلعي، مكون من معدن رخيص، في ظل الظروف المذكورة، فإن رغبة الناس عن التعامل بها، سيؤدي إلى انعدامها من الأسواق، إلى أن يصل سعرها الاصطلاحي إلى ما يعادل سعرها النقدي وعندئذ ستعود إلى الرواج بالسعر الجديد ولعل هذا هو ما يفسر قول بعض الفقهاء باحتمال عودتها إلى الرواج (1) .
9 - الصورة التاسعة:
ترك الناس التعامل بالعملة، مع عدم وجودها في الأسواق.
وهذه الصورة هي أشبه بحالة منع السلطان التعامل بالعملة، ولكنها تحصل لعزوف الناس عن العملة، بسبب ضعفها، أو بسبب توقع رخصها في المستقبل، وبخاصة إذا كان مع الرخص عدم اطمئنان إلى مقدار الرخص المتوقع (2) . والعملة التي يتركها الناس، تنعدم من الأسواق، وقد تبقى عند الصيارفة وفي البيوت وفي بلدان أخرى، ووجودها في البلدان الأخرى يبقي لها على سعر نقدي، إذ يمكن بواسطتها شراء سلع وخدمات من بلدان رواجها.
أما إذا انعدمت من جميع البلدان، وبقيت عند الصيارفة وفي البيوت، فإن سعرها كنقد ينعدم أيضًا، فيتكون لها سعر سلعي يرتبط بعوامل عديدة، منها الندرة، والقيمة الأثرية التاريخية، ومقدار ما فيها من معدن، وسعره في السوق.. إلخ. وهذه الصورة تمثل حالة الكساد النموذجية كما وصفها ابن عابدين. وتستدعي المعالجة الفقهية المعروفة، كما هي مفصلة في بطلان العقد على قول الإمام، أو استحقاق قيمة النقد الكاسد عند كساده، أو عند العقد أو القبض، على قولي الصاحبين.
__________
(1) تنبيه الرقود ص56
(2) يلاحظ أننا نتحدث عن ترك للتعامل بعد رواج سابق، لأنه إذا لم تشترط الرواج السابق، فإن الأصل عدم تعامل الناس بعملات بلدان بعيدة لا يعرفون عملاتها، أو بعملات لهم عنها غنى في بدائلها الرائجة(9/1144)
القسم الثاني
النقود المعاصرة والتضخم
استعرضنا في القسم الأول صور الكساد والانقطاع، وبعض أقوال الفقهاء، في الوفاء بالالتزامات، التي ترتبت في الذمة بالنقد القديم، قبل كساده، أو انقطاعه. وقبل البدء بعرض ما يتحقق في النقود المعاصرة، من هذه الصور، أو من صور أخرى، قريبة منها، في القسم الثالث من البحث، لا بد لنا من مقدمات في تعريف النقود المعاصرة، وفي التضخم وقياسه، وما يلحق به من مسائل، وذلك حتى تتضح الخلفية، التي تتأسس عليها صور الكساد، والانقطاع، والرخص، والغلاء، التي تطرأ على النقود المعاصرة. لذلك سيتكون القسم الثاني هذا من خمس نقاط هي:
1- ماهية النقود المعاصرة.
2- التضخم ومقياسه.
3- أنواع التضخم وأسبابه.
4- السلطة النقدية والنظم النقدية.
5- تعامل الناس والحكومات مع التضخم.
أولًا: ماهية النقود المعاصرة.
بدأت النقود المعاصرة بوثائق، أو شهادات، تثبت إيداع القطع الذهبية، والفضية، لدى الصرافين، فصارت هذه الشهادات تتداول بين الناس، كوسيلة دفع، وقد يحتفظ بها الواحد منهم، لحين الحاجة إلى الدفع، فتكون في تلك الفترة مستودعًا للقيمة، ثم بدأت الحكومات تصدر شهادات أو أوراق مماثلة، تتعهد فيها بتسليم مقدار محدد من الذهب أو الفضة مقابل الشهادة عند إبرازها، ثم أصدرت أوراقًا ذات قوة إبرائية في الدفوع، ألزمت الناس باستعمالها في تعاملهم، مع الإبقاء على الالتزام، باستبدال الورقة بالمقدار المحدد عليها، من المعدن الثمين، ثم ألغت ذلك التعهد، فكانت لدينا النقود الورقية الإلزامية دون المقابل، وهي ما نراه شائعًا اليوم في جميع البلدان.
وقد رافق هذا التطور، نمو في الودائع الجارية لدى البنوك، ونمو مماثل في الودائع ذات الأجل، والودائع بالعملات الأجنبية، والودائع ذات القيود على السحب (وهي قيود من أشكال متعددة) ، وصار الدفع في كثير من المعاملات يتم بتحويل حسابي، من حساب إلى آخر، في سجلات المصارف، وصارت البنوك تقرض الناس فائض السيولة لديها، ثم تعود المبالغ المقرضة إلى المصارف من قبل من تصل إلى أيديهم على شكل ودائع جديدة في الحسابات الجارية الدائنة، وذلك دون زيادة في كمية النقود الورقية نفسها، وهكذا تتزايد الحسابات الجارية الدائنة من عدم، بسبب الإقراض المصرفي (عملية إيجاد أو خلق النقود) ، كل ذلك جعل الودائع الجارية تؤدي نفس الوظائف التي تقوم بها النقود الورقية، فاعتبرت الودائع الجارية نقودًا أيضًا، وهي بنوعيها –الناشئ عن عملية إيداع من المتعامل مع البنك والناشئ عن إقراض من البنك- ليست أكثر من قيود في سجلات المصارف، وتعتبر اليوم الجزء الأكبر من الكتلة النقدية في المجتمع، وبما أن الودائع الأخرى، سواء كانت آجلة، أو ذات حق مقيد في السحب، أو بعملات أجنبية، تقوم ببعض وظائف النقود، فقد صارت تسمى "شبه النقود" (1) .
__________
(1) هذه الوظيفة النقدية للمصارف، يجب التأكيد عليها، نظرًا لأهميتها البالغة في الحياة الاقتصادية المعاصرة. وهي قلما تلاحظ، خصوصًا عندما ينحصر الكلام عن الودائع الجارية، بأنها قروض من الأفراد للمصارف، لأن هذا التبسيط المتناهي للمسألة يفرغ الدور النقدي للمصارف من مضمونه ومحتواه(9/1145)
ثم بدأت بطاقات الائتمان، فصار الناس يدفعون بواسطتها، بحيث توجد وسيلة الدفع – من عدم - عند لحظة تقديم البطاقة الائتمانية، والتوقيع على صك الأمر بالدفع بواسطتها، أي أن ما يسمى بعملية إيجاد النقود (وكثيرًا ما يستعمل تعبير خلق النقود) صار يقوم بها المشتري، عند استعماله لبطاقة الائتمان في سداد ثمن مشترياته. فظهر بذلك نوع جديد من النقود، يوجد عند التوقيع على صك الأمر بالدفع ثم يتحول إلى قيد في سجلات المصارف، شأنه شأن قيود الودائع الجارية.
ويمكننا أن نتخيل مستقبلًا تنعدم فيه الأوراق النقدية تمامًا، وتوجد فيه مصارف، تقوم بوظيفتين: حفظ الحسابات، وإصدار الائتمان، أو ما يسمى بخلق النقود، ولدى هذه المصارف أجهزة كمبيوتر، تقوم بإجراء القيود في الحسابات الجارية للناس، وتوجد أيضًا بطاقات إلكترونية تصدر باستعماله الأوامر، لأجهزة الكمبيوتر، بإجراء هذه القيود الحسابية، وهي أوامر من نوعين، تحويلي بين الحسابات، لا يولد نقودًا، وإيداعي يوجد وسيلة الدفع من عدم (1) عندئذ يكون النقد كله إلكترونيًّا، موجودًا فقط في ضمائر الكمبيوترات، فتصبح النقود وحدات حسابية فقط، ليس لها أي وجود مادي، ولا توجد في واقع الحياة خارج ديسكات وذاكرات الكمبيوترات.
وتقوم هذه النقود المعنوية، بجميع الوظائف المعروفة للنقود، حيث تكون مقياسًا للقيمة، ووسيلة للدفع في المبادلات، ومستودعًا للقيمة، ومعيارًا للدفوع الآجلة، تمامًا كما يقوم بها النقد الورقي، والنقود المعدنية قبله.
وبما أن للنقود أهمية كبيرة في الحياة الاقتصادية، فقد حرصت الحكومات على احتكار إدارتها، ومراقبة المصارف، وتوجيه نشاطاتها النقدية بشكل دقيقة وصارم.
ولدى معظم البلدان نقد وطني خاص بها، لا يمنح القانون لغيره القوة الإبرائية التي تمنح له، وتوجد بين الدول أنظمة معقدة للصرف، فمن الدول من يضع سعرًا رسميًا لنقدها بالعملات الأجنبية، ومنها من يترك سعر نقده الوطني بالعمات الأجنبية عائمًا، تحدده عوامل السوق، ومنها ما هو بين بين، كما أن بعض الدول تسمح بالتعامل غير المقيد بالعملات الأجنبية، فتنشأ لدى هذه الدول سوق محلية للصرف، ومنها من يضع قيودًا على ذلك من أنواع متفاوتة.
__________
(1) وعند سداد مجموع الأوامر الإيداعية إلى الجهة المصدرة للبطاقة الائتمانية من قبل حامل البطاقة، بأمر تحويلي، تنطفئ (أو تموت) هذه النقود التي أوجدتها هذه الأوامر(9/1146)
ثانيًا: التضخم ومقياسه:
يعرف التضخم بأنه ارتفاع في المستوى العام للأسعار، ومعنى ذلك أننا لو تصورنا أن المجتمع، أو البلد، كله ينتج سلعة واحدة فإن معنى التضخم، هو ارتفاع سعر هذه السلعة، دون أي تحسن – مقابل زيادة السعر - في كمية أو نوعية السلعة، فمعنى التضخم إذن، أن وحدة النقود نفسها لم تعد تقوى على شراء ما كانت تستطيع شراءه قبل التضخم، فهو إذن انخفاض في القوة الشرائية للنقود.
وبما أن المجتمع ينتج كثيرًا من السلع والخدمات، وليس سلعة واحدة فريدة، فإنه لا بد من تعريف معنى كلمة "المستوى العام للأسعار". لذلك نقول: لو أمكن حصر جميع السلع والخدمات، التي يتم تداولها، في المجتمع كله، ومعرفة الكميات التي تباع من كل منها، والأسعار التي تباع بها، ثم حسبنا مجموع أثمان كل الكميات المتداولة، من جميع السلع والخدمات، وقسمنا مجموع الأثمان على مجموع الكميات المباعة، فالرقم الذي نحصل عليه هو المستوى العام للأسعار، وإذا كررنا هذه العملية كل سنة مثلًا، ثم قسمنا مستوى أسعار سنة ما على التي سبقتها، لعرفنا نسبة التغير السنوي، فلو كان المستوى العام لأسعار سنة 1985 مثلًا، سبعين، ومستوى أسعار سنة 1986 أربعًا وثمانين، فإن نسبة التضخم، من عام 1985 إلى عام 1986م، هي (84-70/70) = 0.20 أو 20 %.
ومن الواضح، أن صعوبة هذه العملية في أي مجتمع يقوم على اقتصاد السوق، بالغة جدًّا، إذ لا يمكن حصر جميع السلع والخدمات، التي تباع في الاقتصاد كله، خلال العام كله، كما أن السلعة الواحدة قد تباع مرات عدة، حتى تصل إلى يد مستهلكها، أو مشتريها الأخير، لذلك لم يكن بد من الاعتماد على أسلوب العينات Sampling، ثم التمييز بين مجموعات من السلع والخدمات، كل ذلك من أجل إيجاد أسلوب حسابي عملي للتعبير عن فكرة المستوى العام للأسعار، بشكل مقبول ومفيد. فنجمع عينة من عدد من السلع والخدمات الاستهلاكية، ونطلق على الرقم الذي نصل إليه اسم مقياس الأسعار الاستهلاكية، ونجمع عينة من أسعار الأسهم، ونطلق عليه اسم: مقياس أسعار الأسهم، ونجمع عينة من أسعار السلع والخدمات الوسيطة، التي يشتريها الصناع والتجار، لا المستهلكون، ونطلق على ما نصل إليه اسم "مقياس الأسعار الصناعية". ومثل ذلك لما يسمى "مقياس أسعار الجملة للسلع الاستهلاكية" (1) وغيره.
وبما أنه لا يمكن حصر جميع السلع، والخدمات، في أي من هذه الزمر أيضًا، لأسباب عديدة – معروفة لدى أهل الاختصاص - فإنه لا بد من اختيار عدد معين من السلع والخدمات في كل زمرة، وتحديد موقع جغرافي، وفترة زمنية للأسعار والكميات. فنختار مثلًا مائتي صنف، مما نعتقد أنه يشمل أهم ما يشتريه المستهلكون، من سلع وخدمات، في مدينة فاس في شهر يناير، من عام 1995م، ونرسل الباحثين في المدينة ليسجلوا الكميات والأسعار خلال ذلك الشهر، وبتكرار ذلك، كل شهر يناير نحصل على مقياس الأسعار الاستهلاكية لمدينة فاس محسوبًا في يناير من كل عام، (مع ملاحظة تطوير المائتي صنف بإدخال الجديد، وإلغاء القديم) وكثيرًا ما يؤخذ طريق السهولة في تسجيل الأسعار، فتجرى دراسات تحدد وزن كل صنف في مجموع ما يشتريه المستهلك في المدينة، وتؤخذ أسعار يوم واحد من الشهر، أو متوسط السعر لكل صنف خلال أيام الشهر كلها، ثم تضرب هذه الأسعار بالأوزان المحددة لكل صنف، لنصل إلى رقم هو "مقياس الأسعار الاستهلاكية" (2)
ونطلق على السنة التي نعتبرها سنة أولى في حسابات المقياس اسم سنة الأساس، ونعتبر رقمها مائة، ثم تنسب إليها السنوات الأخرى. فنصل مثلًا إلى قائمة تشبه التالية:
__________
(1) إن عملية إنشاء، وتطوير مقاييس الأسعار عملية معقدة، لا بد فيها من أخذ عوامل متعددة بعين الاعتبار، أهمها: 1- دخول سلع وخروج أخرى في سلة الاستهلاك. 2- التغير في النوعيات، 3- تأثير الأسعار الفردية للسلع (الأسعار النسبية) على سلة الاستهلاك، 4- تأثير التغير في الأذواق والثقافة، 5- التأثيرات السياسية والاجتماعية، 6- تغير تركيب الأعمار للسكان، وغيرها من العوامل.
(2) ومما هو جدير بالذكر أن مقياس الأسعار الواحد قد تحسبه جهات متعددة، فتصل إلى نتائج متفاوتة. فنجد مثلًا مقياس أسعار الاستهلاك بحساب اتحاد نقابات العمال، أو بحساب الغرفة التجارية الصناعية، أو بحساب وزارة التجارة. أو بحساب إحدى الصحف أو المجلات المتخصصة.(9/1147)
مقياس الأسعار الاستهلاكية لمدينة معينة محسوبة
في يناير من كل عام (سنة الأساس 1985م)
(الأرقام جميعًا افتراضية)
السنة مقياس الأسعار الاستهلاكية نسبة التضخم بالنسبة لسنة الأساس نسبة التضخم من سنة إلى أخرى
1985 100 - -
1986 108 8 % 8 %
1987 117 17 % 8 %
1988 122 22 % 3 %
1989 132 32 % 8 %
1990 144 44 % 9 %
1991 159 59 % 10 %
1992 175 75 % 10 %
1993 189 89 % 6 %
1994 205 105 % 8 %
ولنلاحظ من هذه الأرقام الافتراضية، أنه على الرغم من أن معدل التضخم السنوي لم يتجاوز 10 % في أية سنة، فإن معدل التضخم في الأسعار الاستهلاكية قد بلغ 105 % خلال تسع سنوات، بمعنى أن قيمة وحدة النقود قد انخفضت إلى أقل من نصف قيمتها، أي أن القوة الشرائية للنقود هبطت إلى ما دون النصف.
ولنأخذ الآن أرقامًا واقعية لإحدى البلدان الإسلامية، تركيا.(9/1148)
السنة مقياس الأسعار الاستهلاكية لكل مناطق المدن معًا نسبة التضخم بالنسبة لسنة الأساس نسبة التضخم من سنة إلى أخرى
1987 100 - -
1988 173.7 73.7 % 73.7 %
1989 283.6 183.6 % 63 %
1990 454.6 354.6 % 60 %
1991 754.4 654.4 % 66 %
1992 1283.1 1183.1 % 70 %
1993 2131.2 2031.2 % 66 %
المصدر: كتاب المؤشرات الاقتصادية الرئيسية، هيئة تخطيط الدولة، في رئاسة الوزراء تركيا – شهر أغسطس 1994م.
وهنا نلاحظ أيضًا، أن معلد التضخم كان يترواح سنويًّا بين 63 % و73 %، في حين أن معدل التضخم بالنسبة لسنة الأساس، وهو ما نسميه بالمعدل التراكمي، قد بلغ 2031 % مما يعني أن قيمة الوحدة من النقود هبطت خلال ست سنوات إلى أقل من 5 % مما كانت عليه عام 1987م.
وأخيرًا، فإنه لا بد من ذكر ملحوظة على غاية من الأهمية، بالنسبة لفهم التضخم. وهي أن التضخم لا يعني ارتفاع سعر كل سلعة. فإذا قلنا إن مقياس أسعار سلع الاستهلاك قد ارتفع بنسبة 20 %، فإن ذلك ينبغي أن يفهم على أنه معيار وسطي مرجح weighted Average، وقد ترتفع أسعار بعض السلع بنسبة 40 %، وقد لا يرتفع بعضها، وقد يرتفع بعضها الآخر بنسبة 5 %، كما قد ينخفض فعلًا بعض الأسعار.(9/1149)
وإن أهم أضرار التضخم، يأتي من هذا التفاوت في نسبة ارتفاع أسعار السلع والخدمات المتعددة، سواء ضمن الأصناف المعتبرة في حساب المقياس، أو خارجها. وكثيرًا ما يشاهد، في فترات التضخم أن الأجور لا تزيد إلا أقل من معدل التضخم، في حين أن أسعار الأراضي والعقارات، قد تزيد أضعاف معدل التضخم، ويلاحظ أيضًا أن أسعار المواد الغذائية قد تزيد بأكثر، بقليل من زيادة المعدل العام للأسعار، وأن أسعار بعض الخدمات العامة، كالكهرباء المائية مثلًا، قد تزيد بأقل من زيادة المعدل العام للأسعار. وهذا التفاوت في زيادات الأسعار الفردية للسلع المختلفة، هو الذي يؤدي إلى الظلم، أو عدم العدالة.
ويلاحظ أيضًا أن جميع الديون النقدية، وجميع القيم الأخرى التي يعبر عنها بعدد محدد من الوحدات النقدية، تنقص قيمتها الحقيقية بسبب نقص القوة الشرائية للنقود، ولكن هذا النقص نفسه يتأثر به الأشخاص بحسب تركيب مشترياتهم من السلع والخدمات، فلو كانت معظم مشتريات، شخص ما هي من السلع، التي لم ترتفع أسعارها إلا قليلًا، فإن تأثر ذلك الشخص بالتضخم أقل من آخر، معظم مشترياته يتألف من سلع زادت أسعارها أكثر من معدل التضخم.
ثالثًا: أنواع التضخم وأسبابه:
لن يكون بالإمكان دراسة كل أسباب التضخم، وبخاصة في عجالة سريعة، فهي تتعلق بمسائل اقتصادية معقدة جدًّا، وهي متداخلة مع بعضها، فكثيرًا ما يصعب عزو التضخم إلى سبب واحد منها دون غيره، ولكن المصطلحات والتعابير التالية تفيد معرفتها.
أ- التضخم بسبب ارتفاع التكاليف: وهو ينشأ بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، وبخاصة الأجور، حيث تتمكن نقابات العمال من فرض زيادات في الأجور، لا تبررها الزيادة في مستوى الإنتاجية. وقد ينشأ أيضًا عن زيادة قيمة بعض المواد الأولية، وبخاصة المستوردة، كالبترول مثلًا.(9/1150)
ب- التضخم بسبب زيادة الطلب: وهو ينشأ عن زيادة الطلب على الإنتاج المحلي، مع عدم وجود طاقة إنتاجية تمكن من زيادة الإنتاج بالسرعة المناسبة، وقد ينشأ هذا عند زيادة الاستثمار، أو ارتفاع معدلات الاستهلاك الخاص، أو زيادة الطلب الخارجي، أو زيادة الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد المحلي، أو زيادة الاستهلاك العام (الحكومي) ، وبخاصة العسكري وغير ذلك من الأسباب.
ج- التضخم بسبب التمويل بالعجز: وهو ينشأ عن طبع الأوراق النقدية من قبل السلطة الحكومية، واستعمالها في الاستهلاك العام للسلع والخدمات، أو في سداد الدين العام. ويتزايد تأثير كمية النقود الورقية التي تضخها الدولة في التضخم بسبب قدرة البنوك، على استعمالها كاحتياطي، تزيد بالاستناد إليه، الحسابات الجارية الدائنة، أي عملية إصدار الائتمان المصرفي، مما يعني تصارعًا في زيادة كمية النقود في المجتمع.
د- التضخم بسبب فائض التصدير: قد يرتفع المعدل العام للأسعار بسبب وجود فائض تصدير كبير، يزيد عما يستوعبه الاقتصاد المحلي، فتشكل قيمة الفائض إيداعات نقدية لدى المصارف. ويزداد، استنادًا إليها، إصدار الائتمان من قبل المصارف.
هـ- التضخم المستورد: ويحصل في البلدان التي تعتمد كثيرًا على الاستيراد، بحيث تكون نسبة الاستيراد إلى مجموع الدخل القومي عالية فيها، ويقع كثير من البلدان الإسلامية في هذه الزمرة.
فإذا حصلت زيادات في أسعار السلع المستوردة (في بلدانها الأصلية) فإن هذه الزيادات تنعكس بشكل ارتفاع في الأسعار داخل البلد، مما يدفع المعدل العام للأسعار إلى الارتفاع.
ومن جهة أخرى يتحدث الاقتصاديون عن تصنيف التضخم إلى نوعين، من وجهة نظر معدله، وسرعة ازدياد الأسعار، وإلى نوعين آخرين، من وجهة نظر توقعات الناس لمستقبل الأسعار.
فمن حيث معدل التضخم وسرعته، يمكن التفريق بين التضخم البطيء أو الزاحف Creeping Inflation والتضخم العالي أو الحلزوني Hiper Or Spiraling Inflation. فالتضخم البطيء هو الذي لا تزيد نسبته عن بضعة نقاط مئوية. فإذا كان معدل التضخم بين الصفر و 3 % أو 4 % مثلًا، فهو من النوع البطيء، هذا وعلى الرغم من الاتفاق على أن التضخم كله ضار مهما كان معدله ضئيلًا، إلا أن بعض الاقتصاديين يتساهلون مع حالات التضخم البطيء، بل إن منهم من يرى فيه شيئًا مفيدًا؛ لأنه يوهم رجال الأعمال بارتفاع أسعار بضائعهم، مما يجعلهم يقبلون على زيادة إنتاجهم، ولعل لهذه الإيهام النقدي Money Illusion ما يبرره؛ لأننا قلنا: إن التضخم لا يصيب جميع الناس بالتساوي، ولا شك أن مالكي البضائع، والمصانع، وغيرها من العروض، هم أقل الناس تضررًا منه؛ لأن معنى التضخم زيادة أسعار ما يملكون، ولكن التضخم سيؤثر –في واقع الأمر- على تكلفة الإنتاج، وسيدركون بعد حين أن الزيادة في الأرباح ليست ناشئة إلا عن ذلك السراب، أو الوهم النقدي.(9/1151)
أما التضخم العالي، ويسمى بالحلزوني لتزايد سرعته، بحيث تكون كل حلقة فيه أكبر بكثير من سابقتها، فهو الذي ترتفع فيه النسبة السنوية زيادة الأسعار، كما لاحظنا ذلك في مثال تركيا، ويحذر الاقتصاديون من كل تضخم تبلغ نسبته الرقم الثنائي، أي العشرة بالمائة فما فوق، ويؤكدون أضراره الكثيرة على الإنتاج، والتوزيع والتصدير، والتنمية. كما يخافون أيضًا من التضخم الذي يقل عن العشرة بالمائة إذا أصبح مزمنًا ومستمرًّا، فتضخم بنسبة 7.2 % سنويًّا يعني مضاعفة المعدل العام للأسعار، أو نقص القوة الشرائية للنقود إلى النصف، خلال عشر سنوات، وهو أمر لا يمكن اعتباره يسيرًا، أو متحملًا.
وفي نفس الوقت نجد بلدانًا كثيرة تتعايش مع تضخم عال أو حلزوني، قد تصل نسبته إلى أكثر من 100 % سنويًّا في بعضها، وسنعرض لكيفية التعامل مع هذا النوع من التضخم، في بعض البلدان، في الفقرة التالية، من هذا القسم.
ومن حيث توقعات الناس حول التضخم، يميز الاقتصاديون، في أبحاثهم بين التضخم المتوقع، والتضخم غير المتوقع، ومن الواضح أن التضخم المتوقع هو ما يعتقد الناس أنه سيحصل في المستقبل، وبالتالي، فإنهم يبنون تصرفاتهم المستقبلية على أساس من هذه التوقعات، ولا شك أن هذه التوقعات، قد تتحقق بنسبة كبيرة، كما أنها قد تفشل في التحقق، في عالم الواقع، ومن البدهي أنه لا يوجد –في هذا المجال- توقع صادق تمامًا، يقع كفلق الصبح.
رابعًا- السلطة النقدية والنظم النقدية:
إذا أنعمنا النظر في النقود المعاصرة، وكيفية إصدارها، وأسباب ارتفاع، وهبوط قيمتها، تكشف لنا مجموعة مسائل جدير بالملاحظة والتأمل.
1- فالنقود المعاصرة، قليلة الكلفة، من حيث إنتاجها، ونقلها، وتخزينها، فإنتاج المقادير الكبيرة من النقود الورقية، لا يكلف أكثر من طباعة أرقام، وصور على قطع صغيرة من الأوراق، أما الحسابات الدائنة لدى المصارف، فإنها أيضًا قليلة التكاليف جدًّا، وكذا إصدار النقود من قبل المستهلكين، أو حاملي بطاقات الائتمان، وكذلك فإن كلفة نقل وتخزين النقود المعاصرة قليلة جدًّا، وبخاصة خلال التحويلات الإلكترونية، كل ذلك يجعل افتراض أنها تكاد تكون معدومة الكلفة افتراضًا معقولًا، ومقبولًا من الناحية التحليلية، وهذا يختلف اختلافًا كثيرًا جدًّا عن النقود المعدنية التي هي مكلفة في كل من إنتاجها، ونقلها، وتخزينها.(9/1152)
2- إن سهولة إصدار النقود المعاصرة، والدور الكبير للمصارف في ذلك جعل الحكومات ترغب بلعب دور كبير فيما يتعلق بالنقود، إصدار، وإدارة، ورقابة، وتنظيمًا. فالحكومات التي كان دورها في الماضي ينحصر بتقديم الخدمات العامة، الإدارية والأمنية، وكانت تراقب دار السكة فقط، صارت تصدر النقود الورقية، وتغير قيمتها، وتزيد في كمياتها أو تنقص، وتراقب الإصدار المصرفي للنقود، وتفرض القيود والقواعد، مما يقيد قدرة المصارف في الزيادة والإنقاص من كمية النقود، ونشأت عن ذلك إجراءات وسياسات طويلة، عريضة، هي ما نسمه بالسياسات النقدية، وهي عبارة عن إجراءات وأعمال تستند كلها إلى السلطة على كمية النقود، واستعمالاتها، بحيث صارت الدولة تملك القدرة عن طريق الفعل، أو الامتناع عن الفعل، على التأثير على كمية النقود في المجتمع، وعلى الكثير من مناحي استعمالاتها.
3- نلاحظ من النظر في أنواع التضخم، وأسبابه، أن بعض هذه الأسباب ترجع إلى أوضاع وأحوال اقتصادية من نوع عناصر العرض والطلب، وهذه قد تؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة داخل البلد (أي قوتها الشرائية) ، عند زيادة الطلب عليها أكثر من عرضها، أو إلى انخفاض قوتها الشرائية (أي التضخم) ، عند زيادة عرضها، وهذه القوى الاقتصادية الحقيقية تتمثل في الزيادة والنقص في الطلب على السلع والخدمات من قبل القطاعين الخاص والعام، أو الزيادة والنقص في عرض السلع والخدمات. وهذا النوع من الأسباب هو ما يتضح في الفقرات: أ، وب، وهـ (وهو في هـ زيادة أسعار سلع خارجية وليس زيادة طلب) .
ومن جهة أخرى، فإن التضخم الناشئ عن إصدار النقود من قبل الحكومة، ومن قبل القطاع المصرفي، وهو ما ذكرته الفقرتان: ج، ود من أنواع التضخم، يرتبط بالسلطة، بشكل من الأشكال، وليس بالعوامل السوقية المعروفة، فهو ينشأ عن ممارسة الدولة لسلطتها في إصدار النقود، بشكل يزيد عن الحاجة، من أجل تمويل عجز الميزانية، أو ممارسة البنوك لسلطة إصدار النقود، بسبب طبيعة النظام المصرفي، الذي يمنح البنوك مثل هذه السلطة، مع عدم منع الدولة للمصارف من فعل ذلك.
ونلاحظ أخيرًا، أن ارتفاع وانخفاض قيمة النقد الناشئين عن عوامل السوق، هما من نوع الرخص والغلاء في قيمة الذهب والفضة اللذين كانا يحصلان في ظل النقود السلعية. فكان سعر المعدن الثمين يرتفع، أو ينخفض، بسبب تغيرات في تكلفة إنتاجه، ونقله، أو بسبب تغيرات في الطلب على النقود، وفي عرضها، وهذه بدورها تعكس تغيرات في عرض السلع والخدمات، والطلب عليها، وسائر التغيرات في الظروف المحيطة بذلك، مما يزيد، أو ينقص الرغبة في الاحتفاظ بالنقود (أو بالقيمة) إلى المستقبل، كالحروب، وتوقعات التغيرات في السياسية والاقتصادية، وغير ذلك.(9/1153)
أما الأسباب السلطوية، وهي الناشئة عن ممارسة السلطة، بفعل شيء، أو بعدم فعل شيء، فلم يكن لها وجود في ظل النقود القائم على المعادن الثمينة، فهي أسباب ترجع إلى طبيعة النظام النقدي الجديد، وتتعلق بخصائص النقود المعاصرة، وهذا أمر لم يكن موجودًا في الماضي، ويختلف اختلافًا جوهريًّا عن الرخص والغلاء في الذهب والفضة. مما يجعله يحتاج إلى نظر فقهي جديد، وحكم شرعي جديد، قد يختلف، أو لا يختلف، عن حكم الرخص والغلاء، الذي نجده في تراثنا الفقهي. (1)
4- بعد الانتهاء من التزام الدولة بمقدار معين من الذهب، لقاء وحدة النقود التي تصدرها، ظهر في العالم نظامان رئيسيان، لتحديد علاقة النقد الوطني بالنقود الأخرى، نظام يقوم على حرية التحويل بين النقد الوطني والنقود الأجنبية، مع تدخل الدولة بشكل مباشر، أو غير مباشر، للاتجاه نحو سعر للصرف، تراه مناسبًا، ونظام يقوم على فرض سعر صرف رسمي، وعدم السماح بحرية التحويل، حيث تقوم السلطات النقدية بإدارة العلاقات النقدية الخارجية مباشرة.
ونجد أشكالًا متعددة من المواقف الحكومية في ظل كل من النظامين. ففي ظل حرية التحويل، قد تضع الحكومة سعرًا رسميًّا للصرف، بواحدة، أو أكثر من العملات الأجنبية، ثم تعمد إلى دعم هذا السعر، الذي قد تغيره من زمن لآخر، من خلال بيع وشراء العملة الأجنبية التي ربط بها النقد الوطني، وقد لا تضع الحكومة سعرًا رسميًّا على الإطلاق، فتترك لعوامل السوق وحدها تحديد السعر، وتعمد كثير من الحكومات أيضًا إلى وضع حدين، أعلى وأدنى، لأسعار الصرف وتسعى إلى المحافظة على هذه الأسعار، ضمن هذين الحدين، من خلال سياستها النقدية الخارجية.
أما عوامل السوق، التي تؤثر في تحديد سعر صرف نقد ما بآخر، فهي الاستيراد والتصدير لسلع، والخدمات، ورؤوس الأموال، إضافة إلى مدى استعمال النقد الوطني كعملة احتياطيات نقدية عالمية، كما هو الشأن بالنسبة للدولار الأمريكي.
__________
(1) على الرغم من أن غش الفلوس، وفرض سعر صرف لها يزيد عن ثمن معدنها، وكذا غش الدراهم والدنانير، كان معروفًا وقد يكون ذلك بممارسة سلطوية من الحاكم، إلا أنه لم يكن الأصل، بل كان الاستثناء، وكان وجود الأنواع المتعددة من النقود يمنع استشراءه. وفضلًا عن ذلك، فالغش نفسه، لا يلغي كلفة إصدار النقود –كما هو في النقود المعاصرة، بل يقللها وبنسبة غير كبيرة بطبيعة الحال.(9/1154)
خامسًا: تعامل الناس والحكومات مع التضخم البطيء والعالي:
وهنا أيضًا يصعب التعميم، ولا يتسع المجال للتفصيل؛ لأن سياسات التعامل مع التضخم تختلف اختلافًا كبيرًا جدًّا، حسب أسبابه، والظروف الاقتصادية، الداخلية والخارجية، والأوضاع السياسية، والاجتماعية، والأمنية، والأوضاع النقدية، وغير ذلك من عوامل تؤثر على كل بلد.
أما بالنسبة للتضخم البطيء، فإن الحكومات تتعامل معه، من خلال السياسات الاقتصادية عامة، والمالية والنقدية خاصة، حتى تزيل أسباب التضخم، أو تحدث تغييرات اقتصادية تقابلها. فمثلًا، قد تضغط على نقابات العمال للتخفيف من مطالبها بزيادات الأجور، أو قد ترفع الحد الإلزامي للاحتياطات، والحد الأدنى للسيولة لدى البنوك، أو تخفف، أو تمنع الحكومة من التمويل بالعجز (طبع أوراق نقدية) ، أو تضع القيود على الاستيراد، أو على التصدير، أو على صناعة البناء، أو ترفع معدلات الفائدة، أو تحد من المضاربات في الأسواق المالية، أو تزيد الضرائب، أو تسحب كميات من النقود من السوق ببيع سندات خزينة، أو تقيد استعمال الأرصدة المصرفية بالعملات الأجنبية، أو غير ذلك من لائحة طويلة من السياسات، والأغلب من مجموعة من الإجراءات المتعددة الاتجاهات.
أما تعامل الناس مع التضخم البطيء، فقلما يكون واضحًا إلا من خلال ردود فعلهم لملاحظة تدهور القوة الشرائية في أيديهم، وتتسم ردود الفعل هذه –في العادة- بسمة التأخر الزمني. فنرى العمال يطالبون بزيادة الأجور، وأصحاب البضائع يرفعون أسعار بضائعهم، وبائعي خدماتهم المباشرة يزيدون أسعار هذه الخدمات وغير ذلك من ردود الأفعال.
فإذا كان التضخم البطيء متوقعًا، فإن الناس – بدافع من الرشد الاقتصادي، وهو فرضية لا تتسم بالواقعية الكاملة- يضعون برامجهم المستقبلية حسبما يتوقعون. فنجد نسبة الربح ترتفع مثلًا في المرابحات الآجلة، كلما طال زمن استحقاق الدين، ونجد الناس يزيدون من مقدار الالتزامات الآجلة، كلما طال زمن استحقاق الدين، ونجد الناس يزيدون من مقدار الالتزامات الآجلة كالمهور ونحوها، ويرفعون الأجور في عقود الإجارة، وبخاصة الطويلة الأجل منها، وغير ذلك.(9/1155)
وأما بالنسبة للتضخم العالي، فإن جميع الإجراءات السابقة يلجأ إليها أيضًا إضافة إلى أربعة أنواع محددة من الممارسات هي:
1 - الربط بمستوى الأسعار Indexation: ويعني أن تتزايد الالتزامات الآجلة بصورة آنية مع ارتفاع المستوى العام للأسعار، ويمكن أن يكون الربط شرطًا من شروط العقد، فيحدد أجر العامل مثلًا بمقدار معين مضروبًا بمقياس مستوى الأسعار الذي يتم اختياره بالاتفاق، وليكن مقياس أسعار السلع والخدمات الاستهلاكية، وذلك بصورة دورية كل شهر مثلًا. وتحدد الودائع المصرفية، وغيرها من الديون الآجلة بشرط مماثل في العقد.
كما يمكن أن يكون الربط الآني هذا سياسة عامة تفرضها الدولة. علمًا بأنه لم تلجأ دولة ما في العالم إلى الربط الكامل، لكل ما هو آجل، من عقود والتزامات، وإن لجأت كثير من الدول إلى نوع من أنواع الربط، كربط الأجور مثلًا، أو ربط شرائح الضريبة التصاعدية، وقد وصل هذا الربط في بعض الدول إلى معظم – وليس كل- أنواع المعاملات.
2 - رفع قيم الالتزامات والعقود الآجلة، بقرار حكومي، بصورة دورية، أو غير دورية، وهنا تعمد الدولة إلى زيادة الأجور، ورفع سعر الفائدة على الودائع، والقروض المصرفية، والفائدة التي تفرضها المحاكم على المداينات وغير ذلك كل ثلاثة شهور، أو كل ستة شهور مثلًا، ولا تلتزم الدولة عادة بأن تكون الزيادة معادلة لمعدل التضخم. فكثيرًا ما نجد أن سعر الفائدة على الودائع المصرفية يصبح سالبًا إذا طرحنا منه معدل التضخم، وكثيرًا ما نجد القوة الشرائية لأجور العمال مثلًا تتناقص فعلًا على الرغم من الزيادات الدورية التي فرضتها الدولة؛ لأن نسبة الزيادة المفروضة تقل عن معدل التضخم، وقد تقصد الدولة من وراء ذلك تحقيق أهداف اقتصادية، واجتماعية، وسياسية معينة.
3 - التعامل بعملة أجنبية: حيث يعمد الأفراد، وأحيانًا الحكومة نفسها، إلى استعمال عملة أجنبية أكثر استقرارًا، في معاملاتهم وعقودهم، وهذا لا يخلص المعاملات الآجلة من كل التضخم؛ لأنه يبقي على التضخم الذي يقع في بلد تلك العملة نفسها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه يدخل أيضًا التغيرات الناشئة عن مضاربات الأسواق العالمية للعملات في الالتزامات الآجلة. يضاف إلى ذلك، أن الاحتفاظ بكميات كبيرة من النقود الأجنبية في البلد، يعني أن البلد يصدر إلى الخارج سلعًا حقيقية مقابل وسائل الدفع هذه، وأن كل تزايد في الكميات التي يحتفظ بها داخليًّا منها، هو إنضاب لموارد داخلية مقابل هذه الأرصدة.
4 - التسوية القضائية لآثار التضخم: حيث يترك للمحاكم أمر الحكم في معالجة سداد الديون والالتزامات، عند سدادها، فتقوم المحاكم بتحديد الواجب سداده لقاء الالتزام، في كل حالة على حدة.(9/1156)
القسم الثالث
صور الكساد والانقطاع في النقود المعاصرة
من استعراض الصور التي ذكرناها، في القسم الأول من ورقة العمل هذه، وبعد وضوح واقع النقود المعاصرة، وما يطرأ عليها من تضخم، يمكننا الآن التفكير فيما قد تقع فيه النقود المعاصرة من صور الكساد والانقطاع المذكورة.
1 - فالصورة الأولى: وهي منع الحكومة التعامل بنقد معين واستبداله بنقد جديد، بنفس القيمة، مع عدم وجود القديم في جميع البلدان، ولا عند الصيارفة أو في البيوت، قد حصلت في بلدان كثيرة، وبخاصة عندما يتغير نظام الحكومة بكامله، كأن تكون ملكية فتصبح جمهورية، فتصدر الحكومة عملة جديدة، وتعطي الحكومة –في العادة- مهلة لتبديل النقد القديم، أما النقود المتمثلة في الحسابات المصرفية، فتتقمص الاسم الجديد، أو النقد الجديد بصورة تلقائية.
ولا شك أن جميع الالتزامات السابقة تتحول إلى النقد الجديد، حتى ولو تغير اسمه، طالما أن القيمة للوحدة النقدية هي نفسها، ولا مجال هنا للقول بالسداد بالعملة القديمة، لانعدام وجودها، وانعدام ثمنيتها، ولا يستطيع شخص، لم يبدل عملته بالجديدة، خلال الوقت المضروب، أن يحاول إلقاء خسارته على دائنه، بالوفاء بالعملة القديمة، فإن الدين لم يكن متمثلًا بأعيان أوراق، أو أشكالها، أو أسمائها، وإنما ثمنيتها، والتي انتقلت تلقائيًّا إلى الوحدات النقدية الجديدة. (1)
2 - والصورة الثانية: وهي مثل الصورة الأولى، مع اختلاف واحد، هو أن قيمة العملة الجديدة وتختلف عن القيمة القديمة، مثال ذلك إلغاء الفرنك الفرنسي القديم، وإصدار فرنك جديد يعادل مائة فرنك قديم، وحكم هذه الصورة هو حكم الصورة الأولى أيضًا، حيث تنتقل الالتزامات الآجلة إلى العملة الجديدة بنفس نسبة مائة من القديم إلى واحد من الجديد.
__________
(1) أما حالة إلغاء طبعة معينة من العملة على نحو إلغاء طبعة عام 1960 مثلًا، أو إلغاء الورقة ذات المائة دينار، فإنها لا تؤثر على الالتزامات والعقود من باب أولى؛ لأن الالتزامات الآجلة لم تتعلق بطبعة، أو بفئة معينة من العملة.(9/1157)
وقد يقال: إنما قامت الحكومة بهذا الاستبدال بسبب التضخم الشديد، الذي انهارت معه القيمة الشرائية للعملة القديمة إلى واحدة بالمائة مما كانت عليه. وهذا هو –في العادة- السبب الأهم لهذا النوع من تغيير النقود، ولكن يمكن الإجابة على ذلك، بأن التغيير نفسه لم يلحق أي هبوط في الورقة الشرائية؛ لأنه عند لحظة التغيير كان الهبوط قائمًا موجودًا، وعلى فرض أن سعر المبادلة بين العملتين الذي اختارته الحكومة يعكس ذلك التغير تمامًا، فإن تبديل العملة لا يعدو كونه إجراء لفظيًّا بحتًا لحظة إجرائه، بمعنى أنه، بنفسه، لم يحدث أي إنقاص في قيمة العملة، فكل ما كان عند التغيير مثمنًا بمائة فرنك قديم، صار ثمنه فرنكًا جديدًا واحدًا، فاستبدال العملة هذا لا يعدو في الواقع إلغاء فئة الفرنك القديم، وتغيير اسم المائة فرنك قديم إلى اسم جديد هو فرنك جديد، فلا يؤثر إذن على الالتزامات القديمة. فتتحول إلى العملة الجديدة بنفس النسبة، ولا يستطيع دائن بمائة فرنك قديم مطالبة مدينه بأكثر من فرنك واحد جديد.
3 - والصورة الثالثة: منع التعامل بالنقد القديم، مع وجوده في بلدان أخرى، وعدمه عند الصيارفة، وقد حصل هذا في الجزائر مثلًا. فبعد الاستقلال أصدرت الحكومة الدينار الجزائري ومنعت التعامل بالفرنك الفرنسي الذي ما زال يتداول في فرنسا، ومنعت الدولة الصيارفة من عرضه للناس إلا بقيود وإجراءات مشددة، كما منعت الناس من حيازته في البيوت؛ لأن الجزائر تبنت –في ذلك الوقت- نظامًا متشددًا في إدارة العملات الأجنبية. وأعلنت الحكومة سعرًا رسميًّا للمعادلة بين الدينار والفرنك، وفترة معينة لتبديل العملة.
فأما الجزء من الكتلة النقدية، المتمثل في الحسابات الجارية الدائنة لدى المصارف، فقد تم تغييره –تلقائيًّا- إلى العملة الجديدة، وأما الالتزامات والديون الآجلة بين الناس، فإن المحاكم لا تحكم إلا بالعملة الجديدة.
إن هذا النوع من إبطال نقد، وإصدار نقد جديد، يطرح مسألتين هما:
1- هل تدفع الالتزامات التي انعقدت بالنقد القديم بنفس ذلك النقد، أم بالنقد الجديد، وبأي سعر صرف: وهل يلزم المدين ديانة بدفع النقد الذي منعت الحكومة التعامل به؟
2- هل يجوز الدخول في عقود جديدة –بعد تغيير النقد-بالنقد الذي منعت الحكومة التعامل به؟ ولو دخل الناس بعقود جديدة بالنقد الأجنبي، فهل يجب السداد بالنقد الأجنبي ديانة، على الرغم من منع السلطان، وتعذره قضاء؟
وقد تساعد ملاحظة النقاط التالية في الإجابة على هذين السؤالين:
أ- جواز البيع بنقد والدفع بنقد آخر، بسعر يوم الدفع، شريطة أن لا يبقى مما صرف شيء في الذمة، وبالتالي، فهل يجوز العقد بالعملة الأجنبية (الممنوعة) ، ثم الدفع بالعملة الوطنية بسعر يومه؟(9/1158)
ب- إن الالتزامات الناشئة قبل المنع، لم يكن مقصودًا بها عين النقد القديم، وهي إنما حصلت به؛ لأنه كان النقد الجاري بين الناس، والتبديل الذي فرضته الحكومة، بسعر حددته، لم يكن يقصد إلى تغيير قيم الالتزامات والمعاملات بين الناس، فهو أشبه بتغيير النقد في الصورة الثانية، وبخاصة أن أي تغير حصل في سعر الصرف بين النقدين بعد فترة التبديل، التي فرضتها الحكومة، يمكن أن يكون في أي اتجاه، أي أنه لم يكن من مقاصد المعاملة أن يحمي طرف نفسه من مخاطر تغير سعر النقد، كل ذلك يرجح أن سعر التعادل الذي فرضته الحكومة هو الذي ينطبق على جميع الحقوق والالتزامات القائمة عند التبديل.
ج- إن تقييد الحاكم لحرية تصرف المالك بملكه دون وجه مصلحة عامة واضحة بينة أمر لا تقره أصول الشريعة وأحكامها، وإن تعسف الحاكم بتقييد حريات الناس يبقى على قدر ضئيل جدًّا من المبررات العقلية والشرعية لطاعته، وبالتالي، فهل يلزم معرفة وجه مصلحة الأمة في تصرف ولي الأمر، أم أن المصلحة مفترضة حكمًا في هذا التصرف؟ وبالتالي فهل تجب طاعته بعدم استخدام النقد الأجنبي، حتى في حالة عدم وضوح مصلحة الأمة في ذلك؟
د- يتحدث الفقهاء عن بطلان البيع إذا كان الثمن غير مقدور على تسليمه، وكذلك في القرض، فيشترطون فيه أن يكون في المثليات المقدور على الوفاء بها، فهل تدخل هذه الصورة تحت أي من هاتين الحالتين؟
هـ- هل تعتبر شريعتنا الغراء إصدار النقد من مسائل السيادة للدولة الإسلامية، بحيث لا يجوز لها السماح بالتعامل بنقود أجنبية، في بلاد الإسلام؟ أم أن القضية ت دور حسب المصلحة، فيتصرف ولي الأمر في إصدار النقد الوطني، أو عدمه، حسبما يرى مصلحة الأمة؟
4 - والصورة الرابعة: من الحكومة التعامل بالنقد، مع وجوده في بلدان أخرى، وعند الصيارفة، وفي البيوت. ويحصل ذلك عند فرض نقود وطنية، بدل الأجنبية، في المعاملات داخل البلد، دون فرض رقابة على العملات الأجنبية، بما فيها النقد الذي كانت تجري به المعاملات قبل ذلك، بحيث يتوفر ذلك النقد عند الصيارفة.
وعلى الرغم من أن هذه هي صورة من صور الانقطاع التي تحدث عنها الأحناف، فإن تأثيرها على الحقوق والالتزامات غير ظاهر؛ لأن النقد القديم لم يبطل، ولم يفقد قيمته، وما زال موجودًا، كما أن تأثر قيمته بهذه التغيير قليل، إن لم يكن معدومًا، وبالتالي، فالذي يظهر هنا أنه لا وجه للقول بغير المثل في القروض، والبيوع، والديون، وسائر الالتزامات، والحقوق.(9/1159)
5- والصورة الخامسة: وهي منع الحكومة التعامل بنقد، مع انعدامه مطلقًا.
وقد تحصل هذه الصورة، بأن يكون نقد قديم –بطل في بلده ولكنه بقي مستعملًا في بلد آخر. فيصدر البلد الآخر أمرًا يمنعه في التعامل.
وعند ذلك، يفقد هذا النقد كل ثمنية له، ويصبح القول ببطلان البيع، واستحقاق المبيع للبائع، لانعدام الثمن بالكلية، أمرًا معقولًا، ولكن حالات القرض، واستهلاك المبيع، أو زواله من يد المشتري، والمهر المؤجل مثلًا، لا يمكن فيها تطبيق ذلك. فلا مناص، إذن، من القول بالقيمة.
6 - والصورة السادسة: وهي تشبه الصورة الرابعة؛ لأن النقد القديم لم ينعدم من التداول في الأسواق، فهي إذن أولى من الرابعة بالقول بالمثل في الحقوق والالتزامات الآجلة.
7 - والصورة السابعة: وهي تغيير الحكومة لقيمة النقد، بالنسبة لعملة، أو عملات أجنبية، وهذا أمر كثيرًا ما تفعله الحكومات التي تتبنى سياسة تحديد سعر صرف لنقدها بنقد أجنبي واحد، أو أكثر وأكثر ما يحصل هو تخفيض لقيمة النقد الوطني، وقد يحصل أحيانًا رفع لهذه القيمة. ويهدف هذا الإجراء إلى تشجيع (أو تثبيط) التصدير ودخول رؤوس الأموال، وتثبيط (أو تشجيع) الاستيراد وخروج رؤوس الأموال. وهو يؤثر على المستوى العام للأسعار في البلد من خلال المكونات الخارجية للمستوى العام للأسعار. ولا يرتفع المستوى العام للأسعار –عادة- إلا بمقدار جزء فقط، كبير أو صغير، من التخفيض في سعر صرف النقد الوطني.
وهذه الصورة تحتاج إلى دقيق نظر؛ لأنها تغيير في القوة الشرائية ناشئ عن ممارسة سلطة نقدية، تتيحها النقود المعاصرة للحكومة، وقد تحدث ابن عابدين عن إرهاصاتها الأولى بتمييزه بين تغيير الحاكم لسعر نقد واحد من عدة نقود، وبين تساوي الرخص لجميع النقود المستعملة. (1) ولا شك أن تساوي الرخص، لجميع النقود، بالأمر السلطاني، يشبه تخفيض سعر صرف النقد الوطني بالنسبة للنقود الأجنبية، ولكن يختفي هنا "قصد الإضرار" عند دفع المدين بالنقد الذي رخص صرفه، وهو ما ذكره ابن عابدين كمبرر للصلح بينهما؛ لأنه لا اختبار للمدين لنوع نقد الوفاء.
8 - والصورة الثامنة: وهي عزوف الناس عن التعامل بالنقد، وهو موجود في الأسواق. ويحصل ذلك في حالات التضخم المرتفع، ولا شك أنه لا توجد نقطة محددة يمكن عندها القول بأن الناس يتركون كلية التعامل بالنقد الذي هبطت قوته الشرائية؛ لأن طبيعة ذلك أن يكون تدريجيًّا، وأن يتفاوت مع إحساس الناس بالتضخم، وتوفر المعلومات لديهم.
__________
(1) رسالة تنبيه الرقود ص 64-65(9/1160)
ففي أحوال التضخم، تنشط توقعات الناس حول المستقبل، ودرجة التضخم فيه، فيبدأ الناس يعرفون عدد الوحدات النقدية المستحقة في المستقبل مقابل قيمة حاضرة، فيرتفع الفارق، أو الزيادة في السعر المقابلة للزمن، في عقود البيع الآجل، وسائر عقود الديون الآجلة، مثل مؤخر المهر، ثم يعرضون عن استخدام النقد الخاضع للتضخم في عقودهم الآجلة، فيستعملون الذهب، أو عملة أجنبية يشعرون أنها أكثر استقرارًا، أو سلعة من السلع، أو مجموعة سلع، ثم تزداد هذه الممارسات، وتكثر، وتستعمل هذه المقاييس للقيمة في العقود القصيرة الأجل، حتى يصل الأمر إلى استعمال العملة الأجنبية في البيوع والعقود اليومية، وإلى عدم استعمال النقد الوطني كمستودع للقيمة، فيدخر الناس العملات الأجنبية، والذهب، والسلع العينية. كما يشاهد فعلًا في بعض البلدان الإسلامية وغير الإسلامية.
ولا شك أن دقة وسرعة ردود الأفعال هذه تقومان على فرضية ضمنية، هي فرضية الرشد الاقتصادي، وهي فرضية ليست سهلة الحصول في الواقع، بجميع متطلباتها، وبخاصة توفر المعلومات الكاملة، وآنية ردة الفعل، وهي كذلك صعبة التعميم، بدرجة واحدة، على جميع الناس. فيبقى الكثير من "المخدوعين اقتصاديًّا" قليلي الإحساس بالخسارة الناجمة عن التضخم، فلا يعزفون عن استعمال النقد ذي القوة الشرائية المتدهورة، كما أن هناك أحوال التضخم غير المتوقع، الذي يقع كالجائحة تعم الجميع في بلد معين، كما يحصل في بعض الدولة نتيجة لحرب، أو حصار اقتصادي، أو غليان اجتماعي، أو اضطراب سياسي.
وفي هذه الصورة الثامنة، ينبغي لنا أن نميز بين أنواع التضخم. فالتضخم الناشئ عن عوامل السوق بتفاعلها الطبيعي، دون أن يكون متأثرًا بتدخل من الحكومة، يمكن أن يعامل معاملة التغير في أسعار الذهب والفضة، ومثل هذا التضخم لا يحتمل أن يكون كبيرًا ولا عاليًا، وكثيرًا ما يكون لردود فعل العوامل السوقية نفسها دور كبير في كبح جماحه، والتقليل من نسبته.
أم التضخم الناشئ عن ممارسة السلطة الحكومية على النقد، سواء بطباعة الورق النقدي، أو بترك البنوك تصدر النقد الائتماني، أو بغير ذلك من الأعمال السلطوية فشيء آخر، قد يختلف اختلافًا كثيرًا عن النوع الأول، في ارتفاع معدلاته، وتسارع تأثيره على القيم، والحقوق، والالتزامات الآجلة، وبخاصة مع النظر إلى المعدل التراكمي لهذا النوع من التضخم، وهذا مما يستدعي نظرًا فقهيًّا جديدًا، للكشف عن موقف الشريعة منه. ولعل في إثارة النقاط التالية ما يعين على هذا النظر:
1- هل نميز بين البيوع، أو المعاوضات عمومًا، وغيرها من المعاملات كالقروض مثلًا؟
ذلك لأن البيع بثمن آجل، يمكن فيه قبول فرضية الرشد، إذا كان التضخم متوقعًا، يمكن الافتراض بأن البائع قد أدخل عنصر التضخم المتوقع، ضمن ربحه، عند تحديد الثمن الآجل، وهذه أمر مشاهد ملحوظ، في البلاد التي يعم فيها التضخم، وقد يقال مثل ذلك، عن مؤجل المهر، والإجارة الطويلة، وغيرهما من المعاوضات (على التجوز بقول المالكية: إن عقد الزواج من المعاوضات) . ويمكن عندئذ التجاوز عن الفرق بين المعدل المتوقع للتضخم عند العقد، والمعدل الفعلي عند السداد، باعتبار ذلك من المخاطر، التي يتحملها المتعاملون في المعاوضات.(9/1161)
أما إذا كانت التضخم غير متوقع، بحيث حصل مثل الجائحة، نتيجة لحرب مثلًا، فيصعب الزعم، بأن الرشد الاقتصادي، قد أخذه في الاعتبار، عند تحديد الثمن الآجل. وفي هذه الحالة، لا بد من تدخل الفقيه، ليجد الحل الذي يرفع الظلم.
ومن جهة أخرى، فإن القرض إرفاق بحت، وإن القول بالمثل فيه ظلم واضح، لا تقبله الشريعة، ففي القرض، لا بد من نظر فقهي يقرر العدل بين الناس، وبخاصة، أن الإرفاق في القرض هو في إتاحة المال للمقترض، ليستعمله، وينتفع به، وليس في القول بنقصانه بالتضخم. ولو كان التضخم متوقعًا، لامتنع الناس عن الإقراض بالنقد المتوقع تضخمه، ولاستعملوا غيره من المثليات في عروضهم، نقودًا أو غير نقود، أما إذا كان التضخم غير متوقع، فلا بد من نظر فقهي يقيم العدل. (1)
2- إن وسائل استثمار المال وتنميته، التي تقرها الشريعة الإسلامية، تعالج مسألة آثار التضخم، إذا ما طبقت بالطريقة الصحيحة، التي رسمتها الشريعة الغراء، فوسائل الاستثمار الإسلامية تقوم على مبدأ تملك العين، وأن الربح يستحق بالملك بالنسبة للمال. وبالتالي فإن التضخم يرفع ثمن الأعيان بالنسبة للنقد، فيحمي ذلك المالك من خلال ارتفاع معدل الربح، ينطبق ذلك سواء أكان التضخم متوقعًا، أم غير متوقع.
ولكن هنالك حالتين، تستثنيان من ذلك، إذا كان التضخم غير متوقع:
الحالة الأولى، إذا وقع التضخم غير المتوقع بعد العقد في البيع الآجل، أي بعد ترتب الدين في ذمة المشتري.
والثانية، إذا وقع بعد الاتفاق على نسبة توزيع الأرباح في المضاربة؛ لأنه قد لا تسلم القيمة الحقيقية لرأس المال، عند اقتسام الربح، مع وجود تضخم غير متوقع، فتكبر حصة المضارب؛ لأن أثر التضخم على ثمن الأعيان، قد دخل ضمن مقدار الربح.
__________
(1) وإذا أخذنا بقول الجمهور، بأن القرض حال. فإن المقرض يستطيع طلب السداد، إذا لاحظ بدء التضخم فإذا لم يدفع المقترض يصبح مماطلًا، كما سنشير إليه، بعد قليل، في النقطة رقم 5.(9/1162)
وبالتالي، فإذا تعاملت كل المصارف بالوسائل الإسلامية، فإن مسألة تأثير التضخم تكون غير مطروحة، إلا في هاتين الحالتين فقط. (1) وهما مما يستدعي نظر الفقيه، بقصد تقرير العدل، الذي لا ترضى غيره الشريعة.
3- قد يمكن التجاوز عن كثير من أحوال التضخم القليل أو البطيء؛ لأنه مما يتغابن الناس بمثله، وبخاصة في الآجال القصيرة، حتى في القروض، ولكن التضخم العالي يصعب غض النظر عنه. وبخاصة، أننا في مسألة الحقوق والالتزامات الآجلة، لا بد لنا من النظر إلى المعدل التراكمي للتضخم بين نقطتين زمنيتين، هما: تاريخ العقد، وتاريخ السداد، وبالتالي، ففي كل حالة تحتاج إلى نظر فقهي، قد يمكن التجاوز عن المعدل التراكمي القليل، والتركيز فقط على المعدلات التراكمية العالية.
أما ما هو المعدل الذي يتسامح فيه، فهو أمر ينبغي أن يحدد على ضوء ما يمكن القياس عليه، من حالات الغبن الفاحش، والربح الفاحش، وما شابههما.
4- إن طول المدة بين العقد والسداد، لا تؤثر فقط في ارتفاع المعدل التراكمي للتضخم، وإنما تؤثر أيضًا على التوقعات. لأنه، حتى مع فرضية الرشد الاقتصادي، فإن توقعات المتعاملين تكون أكثر جزافية، كلما بعد الأفق الزمني للتوقع، وبالتالي فإن طول المدة، يصعب معها اعتبار التوقع في التضخم. ففي آجل المهر، إذا استحق بعد وقت طويل من العقد، يصعب افتراض رشد التوقع في التضخم في تحديد مقدار الجزء المؤجل من المهر.
ويضاف إلى ذلك بأن أنواع المعاملات، تختلف درجة مرونتها، بالنسبة للتضخم المتوقع، بسبب وجود عوامل اجتماعية كثيرة فيها. فالزواج أقل مرونة من البيع بثمن آجل، بالنسبة للتضخم المتوقع. وبالتالي، ففي حين يمكن الافتراض بأن الثمن الآجل يتحدد، مع اعتبار التضخم المتوقع عند العقد، في كل آن، نجد أن المهور تتزايد بأسلوب القفزات، وليس بشكل تدريجي، أي أن الناس يحتاجون لفترات زمنية طويلة حتى يعدلوا من المهر الذي يرغبون بالتعاقد عليه.
ويضاف إلى ذلك أيضًا المصاعب، المتضمنة في فرضية الرشد الاقتصادي نفسها، مما أشير إليه سابقًا.
__________
(1) وبخاصة أنه يمكن القول: إن الرشد الاقتصادي يفترض تحديد نسبة اقتسام الأرباح، في حالة التضخم المتوقع، بحيث تسلم القيمة الحقيقية المتوقعة لرأس المال، قبل ظهور الربح، وإن كل الفوارق بين التوقع الواقع، بعد الحدث، هو مما يتحمله المتعاملون من مخاطر.(9/1163)
5- التمييز بين حالتي الدين والمطل، ففي حالة الدين، قد يمكن القول بأن الثمن الآجل قد تضمن فعلًا التضخم المتوقع، ولكن حالة المطل تختلف عن ذلك فالمطل في الدين أو في القرض يضيف مدة زمنية لم تؤخذ في الحسبان عند العقد. وبالتالي فإن المطل يثير مشكلة حقيقية تتعلق بالعدل بين الطرفين إذا وجد التضخم المتوقع أو غير المتوقع. مما يستدعي النظر الفقهي.
6- بما أن التضخم، بطبيعته، يعني أن السلع والخدمات ترتفع أسعارها بنسب متفاوتة، فإن تأثيره على أصحاب الأموال، والحقوق والالتزامات متفاوت أيضًا. ويعني ذلك أنه لا يمكن أن يتساوى تأثير التضخم على شخصين أبدًا، مهما كان ما يتشابهان فيه كثيرًا، طالما بقيت فروق بينهما، في أنواع ما يملكان، أو يشتريان، أو يبيعان، أو يدخلان طرفًا في عقود أخرى، كالزواج، والقرض، والصلح، والمخارجة، وغير ذلك.
مؤدى ذلك، أن أي قاعدة عامة للربط، ستؤدي إلى بعض العدل، وبعض الظلم معًا. فلو ربطنا رأس مال القرض، بتغير المعدل العام للأسعار مثلًا، وكان المقرض ممن يحتفظ بماله نقدًا، فإن الربط سيعطي هذا الأخير أكثر مما يستحق؛ لأن البديل لديه –وهو الاحتفاظ بالمال نقدًا- سيعرضه لهبوط قيمته بسبب التضخم حتى دون الإقراض، فلم نحمل غيره خسارته؟ ولو كان المقترض صاحب دخل نقدي، مما لا يزداد مع التضخم، وهو يدفع دينه منه، لكان في ذلك ظلم عليه، ولتجاوز مقدار دينه جميع قدرته على الوفاء بأضعاف.. ولو أردنا احتساب المهر المؤجل، بالقيمة الحقيقية، أي مع احتساب عنصر التضخم، لبعض الزيجات، لتجاوز مقدار الواجب أضعاف طاقة الزواج على الدفع، وأضعاف مهر المثل، في وقت استحقاق دفع مؤجل المهر. ومن جهة أخرى، فلو لم ندخل عنصر التضخم في حسباننا، في أوضاع أخرى، لما كفى مؤجل المهر أجرة سيارة إلى المحكمة للمطالبة به..
ومثل ذلك يقال عن استعمال عملة أجنبية، أقل تضخمًا، أو وحدات حسابية ذات قيمة حسابية ثابتة، طالما أن المشكلة الحقيقية هي أن أسعار السلع والخدمات لا تتغير بنفس النسبة تمامًا.(9/1164)
كل ذلك يؤدي بنا إلى القول: إنه لا توجد قاعدة ذهبية تطبق مسبقًا –منذ العقد- في جميع الحالات، وتحقق العدل، دون ظلم أو إجحاف، على واحد من الطرفين. لذلك فإنما اقترحه ابن عابدين، من ضرورة الصلح، بعد الحدث، وبعد معرفة تأثيره، قد يكون هو الحل الأمثل لتأثير التضخم السلطوي، وربما غير السلطوي أيضًا، على الحقوق والالتزامات الآجلة وهذا الحل يقرره القاضي، أو الطرفان باتفاقهما عند السداد، مع أخذ عدة عوامل بعين الاعتبار، وأهم هذه العوامل ما يلي:
أ- السلة الشخصية لاستعمالات أموال، أو دخول، كل من طرفي العلاقة، ويشمل ذلك عناصر تركيب الثروة، وعناصر سلة المشتريات لكل منهما، وتأثر كل منها بذلك التضخم.
ب- دخل كل من الطرفين، ومصادره، ومدى تأثره التضخم.
ج- الفئة الاجتماعية الاقتصادية لكل منهما، وتأثرها بالتضخم.
د- معدل التضخم التراكمي.
هـ- أسعار المثل، عند السداد، ويدخل في ذلك مهر المثل، وغيره.
9 - والصورة التاسعة: وهي ترك الناس التعامل بالنقد، مع عدم وجوده في الأسواق. وهي حالة لا تتعلق –في نظري- بمسألة التضخم. إذ هي تحصل في حالة زوال نقد من الوجود، لبعد الزمن عنه كما حصل مثلًا للدرهم المجيدي في الشام، حيث هرب من أيدي الناس لعومل سياسية واقتصادية متعددة.
وإن وجود حقوق والتزامات آجلة بذلك النقد يتطلب –دون شك- حلًّا فقهيًّا اجتهاديًّا عند استحقاقها. وهو حل قضائي، أو صلحي، لا يعدو في أساسه الخيارات، أو البدائل التي ذكرها الفقهاء، من بطلان العقد، واستحقاق المبيع أو قيمته، أو استحقاق قيمة الثمن يوم العقد (وهو في الواقع مثل استحقاق قيمة المبيع؛ لأن قيمة المبيع هي خير تعبير رضائي عن قيمة ثمنه) ، أو استحقاق قيمة الثمن في آخر يوم رواجه، أو الصلح على قيمة ينظر فيها إلى عوامل متعددة بآن واحد، ويمكن أن يضاف إلى ذلك أيضًا بديل آخر هو ثمن المثل يوم الوفاء وهذا قد يكون الأكثر عدلًا في المهور المؤجلة، وفي الإجارة الطويلة، التي تستوفى فيها المنفعة قريبًا من زمن الدفع.(9/1165)
الخاتمة
إن النقود المعاصرة تقوم بجميع وظائف النقود التي عرفها عهد التشريع الإسلامي الأول، والتي تحدث عنها الفقهاء حديثًا مفصلًا، فيما بعد، فهي ثمن تجري فيه أحكام الذهب والفضة، فتجب فيها زكاة الذهب والفضة، وتجري فيها أحكام الربا.
ولكنها في الوقت نفسه تختلف عن المعدنين الثمينين، اختلافًا كبيرًا، حاولت بيانه في هذه الورقة. وهو اختلاف لم يره حتى متأخرو الفقهاء مثل ابن عابدين، وهي وإن كانت اصطلاحية مثل الفلوس، والدراهم المغشوشة، إلا أنها تفترق عنها، افتراقًا جوهريًّا أيضًا. فالنقود المعاصرة يمكن اعتبارها عديمة الكلفة من حيث إصدارها، ونقلها، وخزنها، وللسلطة فيها دور كبير لم تكن للحاكم، فيما يتعلق بالفلوس، ولا بالدراهم المغشوشة.
كل ذلك يترتب عليه أن التضخم النقدي المعاصر يختلف اختلافًا جوهريًّا عن رخص الفلوس والدراهم، وكسادها، وانقطاعها الذي تحدث عنه الفقهاء، سلفهم وخلفهم على حد سواء، وإذا كانت بعض صور الرخص والغلاء، في النقود المعاصرة، تشبه في أسبابها، وأغراضها بعض الصور التي حصلت في الماضي، فإن هنالك صورًا جديدة للتضخم، لم تعرف في الماضي، لا من حيث نسبة ارتفاع المستوى العام للأسعار، ولا من حيث الأسباب الراجعة إلى السلطة الحكومية، فعلًا وامتناعًا، ولا من حيث تشعب وتعقد الظاهرة التضخمية، وآثارها الاجتماعية والاقتصادية.
وإذا كان ابن عابدين يعتبر من الضرر، الذي لا يقبل، إلزام المشتري بدفع فرق 30 % في سعر صرف، بين نقد كاسد ورائج، (1) فإن معدلات التضخم صارت اليوم كبيرة جدًّا.
والأهم من ذلك أننا، عندما نتحدث عن ارتفاع الأسعار، فإن الاقتصاديين كثيرًا ما يذكرون المعدل السنوي للتضخم، في حين أن ما يتعلق بالالتزامات والحقوق الآجلة، هو المعدل التراكمي بين تاريخ العقد أو القبض وتاريخ السداد. وقد لاحظنا الفرق الكبير بين هذين المعدلين.
وإذا رأينا بعض الفقهاء يمنعون القرض بالدراهم المزيفة، أو الزرنيخية، ولو تعامل الناس بها، باعتبارها مالًا غير معلوم، لا يمكن المقترض من القضاء، (2) فإن النقود الورقية، في حالة التضخم العالي، متوقعًا أو غير متوقع، أقل معلومية من الدراهم المزيفة بكثير.
__________
(1) حاشية ابن عابدين ج 4 ص 35
(2) من ورقة علي أحمد السالوس المقدمة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة، 1409 هـ، مجلة المجمع، العدد الخامس، الجزء الثالث، ص 1735، نقلًا عن الصيمري.(9/1166)
وإذا منع ابن تيمية السلطان من الاتجار بالفلوس، (1) والاتجار بها هو تقليل ما فيها من معدن، عن قيمتها الاصطلاحية، فإن النقود المعاصرة واقعة بكاملها تحت رحمة، أو قل: تحت عسف أو قسوة، السلطة النقدية، والمصارف أيضًا. والتغييرات السلطوية التي تجري في النقود المعاصرة، أكبر، وأبعد أثرًا من الاتجار بالفلوس، الذي كان يقع في الماضي، من قبل بعض السلاطين.
وإذا افترضنا أن الفلوس التي تحدث عنها الفقهاء كان فيها من المعدن ما يساوي قيمتها الاصطلاحية، عند صكها، فإن استمرار وجود الفلوس في السوق، وتعامل الناس بها، وهو ما سماه الفقهاء بالرواج، يعني أن قيمتها السلعية بقيت تتراوح حول قيمتها الاصطلاحية، إذ لو زادت قيمتها السلعية عن قيمتها النقدية، لأذابها الناس، واستعملوها سلعة، ولو نقصت لتهرب الناس من التعامل بها إلى أن يتغير سعر الصرف، فتعود المعادلة، أو المقارنة بين سعرها النقدي وسعرها السلعي، يحصل ذلك بسبب وجود نقود أخرى إلى جانبها، وعلى ضوء ذلك، أرى أن عبارات بعض الفقهاء ينبغي أن تفهم ضمن هذه الأوضاع والفرضيات التي كانت هي السائدة في عصرهم، ومن هذه العبارات أن الفلوس كانت من أفضل النقود، وأكثرها رواجًا في بعض البلدان، كما أن منها وجوب المثل رغم عدم وجود النقد، وانعدامه؛ لأن للمثل قيمة سلعية، وإن انعدمت قيمته النقدية، وما طرأ من رخص أو غلاء بين العقد أو القبض، والسداد، هو من المخاطر العادية التي يتعرض لها الناس دائمًا، حتى لو كانت سلعته ليست نقدًا (ومن هنا نجد المقارنة مع دين السلم الذي هو سلعة بالتعريف) . ومن دون هذه الفرضيات، كيف يعقل أن يفتي الفقيه بمثل لا وجود له مطلقًا؟
وتؤكد هنا أن هذه الفرضيات، لا توجد في النقود المعاصرة.
إذ ليس لهذه النقود أية قيمة البتة، إذا فقدت ثمنيتها، فهي ليست ثمنًا بالخلقة كالذهب والفضة، وليست سلعة بالخلقة كالفلوس، والزيوف.
وأخيرًا، أرجو الله العلي القدير، أن أكون قد أجبت على أهم التساؤلات المتعلقة بما طلب إلي من بحث، وأن أكون قد قدمت ما يوضح الموضوع، ويسهل مهمة الوصول إلى الفتوى الشرعية الواعية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الدكتور منذر قحف
__________
(1) من ورقة علي أحمد السالوس المقدمة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة، 1409 هـ، مجلة المجمع، العدد الخامس، الجزء الثالث، 1725 نقلًا عن الصيمري.(9/1167)
مراجع استفدت منها في ورقة العمل
1- البهوتي، كشاف القناع مكتبة النصر الحديثة، الرياض ج 3.
2- داماد أفندي، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، دار إحياء التراث العربي، بيروت ج 2.
3- الشيخ محمد عرفة الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار الفكر، ج 1 و2.
4- علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، دار الجيل، بيروت ج 3.
5- الخرشي، حاشية الخرشي على مختصر خليل، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ج 5.
6- الرهوني، حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل، دار الفكر، ج 5.
7- الكاساني، بدائع الصنائع، دار الكتاب العربي، بيروت ج 5 و6.
8- ابن عابدين، حاشية رد المحتار، ج 4 طبعة دار الفكر بيروت 1979 م.
9- ابن عابدين "رسالة تنبيه الرقود في مسائل النقود" ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
10- أحمد القاري، مجلة الأحكام الشرعية على المذهب الحنبلي، تهامة، جدة، 1981م.
11- ابن قدامة، المغني ومعه الشرح الكبير، دار الكتاب العربي، ج 4.
12- المرداوي، الإنصاف، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 5.
13- مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الخامس.
14- موسى آدم عيسى، آثار التغيرات في قيمة النقود، دلة البركة 1993م.
15- الشيخ نظام وجماعة في علماء الهند، الفتاوى العالمكيرية، طبعة باكستان، 1403 هـ.
16- النووي، روضة الطالبين، المكتب الإسلامي، بيروت، ج 4.
17- النووي، المجموع، مطبعة الإمام، ج 9.
18- ابن الهمام، شرح فتح القدير، مع شرح العناية للبايرني، دار الفكر، بيروت، ج 5.
19- الهيثمي، تحفة المنهاج، مع حواشي ابن قاسم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 5.
20- الونشريسي، المعيار المعرب، دار الغرب الإسلامي، بيروت ج 6.(9/1168)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
قضايا العملة المناقشة
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قضايا العملة، هي موضوع هذه الجلسة المسائية والعارض هو فضيلة الشيخ علي محيي الدين القره داغي والمقرر هو الأستاذ محمد علي القري بن عيد.
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم،
نقطة نظام يا سيادة الرئيس. هذا الموضوع لم يكن في جدول الأعمال الذي أرسل إلينا وطلب منا الكتابة في موضوعاته، وهذا الموضوع بحث في ندوات سابقة وأصدر فيه المجمع قرارًا، والبحوث التي قدمت فيه عشرة، ولا أدري كيف تمت الكتابة فيه؟! وكلها وزعت علينا هذا الصباح وقد اطلعت على بحث واحد منها وجاء فيه بالنص: (وفي نظري أن قرار المجمع إذ ذاك كان فيه شيء من التسرع يجعله في حاجة إلى إعادة النظر في موضوعه) ، فهل المطلوب من المجلس الآن إعادة النظر في هذا الموضوع؟ وشكرًا.
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما الاستكتاب فقد كان في عدة موضوعات من بينها هذا الموضوع، وإذا كانت قد وصلت أوراق أخرى قبل هذا فإنها لا بد أن تكون قد أتبعت بأوراق أخرى ثانية. ذلك أن شعبة التخطيط اجتمعت بجدة وراجعت القرار الذي صدر عن الدورة الماضية ووجدته يوصي ببحث الموضوع من جانبين. جانب التضخم وجانب الكساد وأثرهما على أداء ما في الذمة من الالتزامات. ولهذا استكتبنا عددًا كبيرًا من الناس ووصل إلينا ما وصل من البحوث. وشكرًا.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم،
رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعل يومنا هذا خيرًا من أمسنا، وغدنا خيرًا من يومنا، واقبلنا في عبادك المخلصين يا رب العالمين.
أيها الأساتذة الأجلاء، وأيها الإخوة الكرام،
موضوعنا اليوم هو موضوع " التضخم والكساد " وعلاقتهما بالكساد والانقطاع، وأثر ذلك على الحقوق والالتزامات. والبحوث الواردة فيه تسعة بحوث للأساتذة الأجلاء: فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى الزرقا، والدكتور حسن الشاذلي، ولشيخنا محمد المختار السلامي، ولفضيلة الدكتور علي السالوس، ولفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، ولأخي الدكتور محمد علي القري، وأخي الأستاذ الدكتور منذر قحف ولأخي الدكتور ناجي محمد شفيق. ونحن –إن شاء الله – أو أنا –بإذن الله تعالى- أحاول تلخيصها بإيجاز على ضوء النقاط التي طلبتها أمانة المجمع الموقر، وأحاول الإيجاز بقدر الإمكان حتى نعطي المجال للمناقشة:
بناء على توصية من الدورة الثامنة للمجمع الفقهي الموقر طلبت الأمانة العامة للمجمع الموقر من الباحثين أن يكتبوا حول موضوعين هما: مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة، وحدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدة. وعلى ضوء ذلك لم تخرج الأمانة الموقرة كعادتها من إطار القرار السابق لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة الذي نقدره –أي نقدر هذا القرار وغيره من القرارات- ونحترمه. وإنما يكون الحديث حول جعل القرار السابق القاضي بمثلية النقود قاعدة عامة وأصلًا عامًّا في النقود بحث يكون رد الالتزامات والحقوق بالمثل إلا في حالات التضخم الخطير والكساد الكبير.(9/1169)
ثم إن بحث المجمع الموقر قضية لا يعني أن باب الاجتهاد قد أغلق تمامًا وبالأخص في القضايا الاجتهادية التي تتجدد صورها يومًا بعد يوم وتتضح أبعادها يومًا بعد يوم، وإنما علينا أن نحترم قرار المجمع ثم نناقشه في المجمع نفسه لنصل إلى رأي آخر إن كانت الاجتهادات الجديدة تفضي إلى ذلك ونقول كما قال الخليفة الثاني عمر –رضي الله عنه وأرضاه- ذلك على ما علمنا وهذا على ما نعلم.
يقول سماحة الشيخ الجليل محمد المختار السلامي: إن هذا الموضوع قد نظر فيه المجمع في دورته الثلاثة وقدم فيه تسعة من الباحثين الجلة دراسات قيمة، ثم عرض الموضوع في الدورة الخامسة وقدم فيه اثنا عشر بحثًا، ورغم الجهد المبذول فإن المسألة –الكلام لفضيلة الشيخ- ما تزال مطروحة وما زال الاقتناع العام بقرارات المجمع لم ينفذ نفاذ القبول العام. انتهى.
بعض البحوث أولت عنايتها بتعريف التضخم والكساد وفصلت فيه، ولكن الخلاصة هي أن التضخم هو أن تقل قيمة النقود فتزداد الأسعار بسبب زيادة النقود أو غيرها. وأما الكساد فيقصد به الانخفاض في مستوى الأسعار وتزداد قيمة النقود زيادة خطيرة، والكساد يأتي من الناحية الاقتصادية كآخر مرحلة للانكماش الذي يعني انخفاض المستوى العام للأسعار وارتفاع قيمة النقود. لا نخوض فيها في الفكر الاقتصادي المعاصر، والبحوث أمامكم فيها هذه التفاصيل. وأما في الفقه الإسلامي فلدينا مصطلحات خاصة قد يختلف معناها عن ما هو اليوم، حيث نجد أمامنا هذه المصطلحات الآتية: رواج العملة، كسادها وانقطاعها. كما نجد عند ابن عابدين مصطلح النقود الذاتية والنقود الاصطلاحية. والتذكير بمعاني هذه المصطلحات هنا على الرغم من يقيني بأن أصحاب الفضيلة والسعادة لديهم العلم الكامل بهذه الأمور ولكني من باب التذكير أذكر بعض هذه المعاني، فرواج العملة في الفقه الإسلامي يعني أن العملة لها قيمتها المرسومة بصك السلطان وأن الناس يتعاملون بها. وأما المراد بكساد العملة في كتب الفقه الإسلامي القديمة ولا سيما عند الحنفية هو أن تترك المعاملة بهذا النقد في جميع البلاد. فالمراد بكساد العملة هو ترك المعاملة بها في جميع البلاد. وأما انقطاع العملة فهو عدم وجوها في السوق وإن وجدت عند الصيارفة وفي البيوت هذان المصطلحان يستعملان عند الحنفية بكثرة، في حين أن العلامة المالكي الرهوني يستعمل بطلان الفلوس أو فسادها، وكلمة الكساد والانقطاع دون ذكر تعريفات محددة لها. والإمام النووي الشافعي يستعمل كلمة الانقطاع بمعنى عدم وجود النقد مطلقًا، كما يذكر حالة إبطال السلطان المعاملة بالعملة حيث إنها لا تقتضي عدم وجودها في السوق.(9/1170)
والعلامة ابن قدامة يستعمل تحريم السلطان للفلوس وللدراهم المكسرة. وللكساد والانقطاع حالات كثيرة وصور كثيرة تناولتها بعض البحوث وهي في متناول الأيدي لمن يريد الاطلاع عليها. ومقصدنا من ذلك أن المراد في دراستنا هنا التضخم والكساد بمعناهما اليوم، أي بمعناهما الاقتصادي المعاصر وليس بمعناهما في السابق، إذ كلام علمائنا السابقين –رحمهم الله- معظمه على نقودهم المعدنية ولا سيما الفلوس والنقود المغشوشة. ونحن اليوم نعيش عصر النقود الورقية بما لها من آثار سلبية. وكذلك ذكرت بعض البحوث أسباب التضخم والكساد وآرثارهما على الفرد والمجتمع، وكيفية العلاج الحكومية لهما. لا نذكر هذه المسائل في هذا الملخص وإنما يكون كلامنا في النقاط التالية:
أولًا: لا خلاف بين جميع الباحثين أن النقود تجب فيها الزكاة ويجري فيها الربا ويكون ثمنًا ومهرًا وبدلًا عن الحقوق، كما لا خلاف في أن النقود الورقية يكون الرد فيها بالمثل كقاعدة عامة وكأصل عام. وإنما الخلاف بينهم في أنه هل يراعى التضخم والكساد في جميع الحقوق والالتزامات الآجلة من رد الديون ونحوها، ومن الأجور والرواتب ونحوها، أو لا؟ وبالنظر في آراء الباحثين التسعة نجدهم على رأيين:
يرى فضيلة الدكتور علي السالوس وحده من بين الباحثين أن الرد في الديون لا بد أن يكون بالمثل، وقد سمعته الآن حينما ناقشت فضيلته أن التضخم ليس له أي تأثير حتى وإن بلغت أكثر من ثلاثة آلاف مرة، وحينما قلت إن الدينار العراقي قد ازداد التضخم فيه بنسبة أربعة آلاف وخمسمائة مرة أصر على قوله بأن النقد ما دام مستعملًا فلا بد أن يرد بالمثل، وله أدلة سوف نذكرها، ولأدلته وجاهتها وقوتها لا شك في ذلك.
وكذلك يرى الفريق الثاني وهم فضيلة الشيخ الجليل مصطفى الزرقا، والشيخ محمد المختار، والشيخ عبد الله بن سليمان، والدكتور ناجي محمد شفيق، والدكتور محمد علي القري، والدكتور منذر قحف، والفقير إلى الله وحده، ذهب هؤلاء إلى أن رد الحقوق الآجلة من دين ونحوه يرد –كقاعدة عامة- بالمثل، ولكنه في حالة التضخم الكبير أو الانكماش والكساد فيكون رده ملاحظًا فيه القيمة يوم العقد. ولأهمية الموضوع نذكر بإيجاز أهم أدلة الفريقين دون مناقشة وترجيح، وإنما أكون عارضًا فقط دون أي إضافة.(9/1171)
استدل فضيلة أخي الحبيب الأستاذ الدكتور علي السالوس بما يأتي:
أولًا: بما ورد في السنة المطهرة حيث أورد حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- حين قال ابن عمر –رضي الله عنهما- إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال: "لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء". والحديث هذا خرجه بأنه رواه الحاكم وأحمد، وذكر بأن الشيخ الألباني ضعفه مرفوعًا وقوى وقفه، ولكن فضيلة الدكتور السالوس رد على هذا التضعيف بقوله: (ولكن تضعيفه ليس بحجة) . ووجه الاستدلال به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر بسعر الصرف يوم الأداء فيكون الأصل هو أن الدين يؤدي بمثله لا بقيمته. وأورد كذلك الحديث الوارد في خيبر المشهور في ضرورة الصاع بالصاع في قضية التمر دون زيادة، ولكن هذا الحديث في باب الربا.
ثانيًا: استدل فضيلته بنصوص الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، والحنفية، حيث أطال النفس في ذكر هذه النصوص الدالة على وجوب رد المدين بمثله عند تغير القيمة ونحوها. ولا داعي لذكر هذه النصوص؛ لأنها موجودة في البحث. وختم فضيلته بحثه بقوله: من المسؤول عن علاج التضخم؟ فقال: إن المسؤول عن علاج التضخم هي الدولة. إن الدولة هي المسؤولة عن ذلك، ولذلك لا ينبغي لنا أن نحمل المدين آثار هذا التضخم. فلا شك أن الدولة هي المسؤولة أولًا عن هذا العلاج وعليها أن تتخذ من الوسائل الممكنة ما يحد من خطر هذا المرض، فالدولة هي المسؤولة عن إصدار النقود وهي التي تضع السياسة النقدية.. إلخ.
واستدل الآخرون أيضًا بما يأتي:
أولًا: بالنصوص والمبادئ العامة التي تقتضي العدالة وعدم الظلم، وأن هذه الشريعة خالية من الظلم فهي عدل كلها، ورحمة كلها، وخير كلها، ومصلحة كلها، وأنه حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله، كما أنه حينما تكن الشريعة فثم المصلحة الحقيقية. وإذا كان الله –سبحانه وتعالى- يقول في حق المرابين {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] فكيف بالمدين المسكين الذي دفع قبل ست سنوات –مثلًا- عشرة آلاف دينار عراقي لشخص اشترى به بيتًا " أو سيارة وهي كانت تساوي آنذاك أكثر من ثلاثين ألف دولار، واليوم عشرة آلاف دينار تساوي سبعة دولارات فقط؟(9/1172)
ثانيًا: بنصوص الفقهاء عند كساد النقود أو انقطاعها حيث توجد نصوص لجماعة من الفقهاء تدل على اعتبار القيمة يوم العقد، ولا سيما النصوص عند أبي يوسف وبعض المالكية وبعض الحنابلة وشيخ الإسلام ابن تيمية. والنصوص موجودة في أغلب البحوث التي في متناول الأيدي خاصة بحوث فضيلة أستاذنا الدكتور حسن الشاذلي حيث أورد نصوص الطرفين وكذلك بحث فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، وكذلك البحوث الأخرى حقيقة.
ثالثًا: إن معظم البحوث وبالأخص بحوث إخوتي الكرام الدكتور محمد علي القري والدكتور منذر قحف وبحثي، قد ركزت هذه البحوث على نقطة في غاية الأهمية وهي أن نصوص الفقهاء السابقين التي استشهد بها الطرفان إنما هي في النقود المعدنية، أو في الفلوس والذهب والفضة المغشوشة أو نحوهما، وليست في النقود الورقية التي لم تكن موجودة في عصرهم. إذن فالخلاف –في نظري- في فقه التنزيل، أي تنزيل هذه النصوص الفقهية على واقعنا، حيث إن نقودنا الورقية نسيج عصرها لم تعرف من قبل بهذه الصورة وإن قيمته الحقيقية في سعرها، وفي ثقة الناس بها، وحتى ابن عابدين –رحمه الله- فرق بين النقود الذاتية التي قال في حقها: إنها يقوم بها غيرها. أما النقود الاصطلاحية كالفلوس فهي تقوم بغيرها.
وقد ذكرت في حثي –أيضًا- نقطة أخرى وهي قاعدة المثلي والقيمي، وذلك لأنني وجدت تركيز الجميع على مثلية النقود. ولذلك لا بد أن تذكر هذه القاعدة بتفاصيلها، فذكرت هذه القاعدة بتفاصيلها ولا سيما في كتاب مستقل في جميع أبواب الفقه، فوجدت أن المعيار لقضية المثلية هي العدالة. ولذلك يختلف لفظ المثلية من باب إلى باب حسبما يحقق العدالة. وأن الذهب نفسه في بعض الأحيان حينما يدخل فيها تغيير وحينما تدخل فيها أمور أخرى قد تتحول من مثلية إلى قيمية. وهناك تفاصيل لا أريد أن أذكرها هنا.
رابعًا: استدل فضيلة الشيخ الزرقا بنظرية الظروف الطارئة وأفاض فيها وهي في بحثه الموجود بين أيديكم.
هذان هما أيها الأساتذة الأجلاء الاتجاهان، فعلى ضوء اتجاه بحث الأستاذ الدكتور علي السالوس لا حاجة لنا بذكر مقدار التضخم وكيفيته مع أنه حقيقة قد ذكر ذلك في بحثه لأنه لا يعطي له دورًا في رد الديون. ولكن على ضوء البحوث الأخرى لا بد من ذكر ذلك وهي النقطة الثانية التي نذكرها ونختم بها عرضنا.
مسألة التضخم أو المعيار للتضخم والكساد بعض البحوث ذكرت أن هناك التضخم العائد البطيء فهذا لا يلاحظ. البطيء بحيث يكون في السنة نسبة 4 % أو 5 % أو 6 % مثلًا، يعني هذه الأمور أو الفروق البسيطة لا قيمة لها. أما بعض البحوث فبنى على قضية التضخم نظرية الغبن الفاحش واعتبر 30 % بداية للتضخم أو للكساد. فإذا انتقصت قيمة النقود بنسبة 30 % فإن هناك تضخمًا يجب مراعاته وكذلك بالنسبة للكساد. أما كيف نعرف أن هذه النقود الورقية قد انخفضت قيمتها، هناك عدة معايير ذكرتها الأبحاث، وهناك معايير لمعرفة التضخم ذكرها معظم البحوث مثل معيار الربط القياسي، ومعيار الربط بمؤشر تكاليف المعيشة، ومعيار الربط بالذهب، ومعيار الربط بسلة السلع ومعيار الربط بسلة العملات، كل ذلك وسائل لمعرفة نسبة التضخم والكساد. ومن البحوث من رجح الربط بين النقود وسعر الذهب من حيث ملاحظة وقت نشوء الالتزام ووقت الأداء والقضاء. فالفرق بينهما ينظر فيهما، فلو كان قبل عشر سنوات إلى يومنا هذا انتقصت قيمتها بنسبة 30 % أو أي نسبة من المعايير حينئذ تلاحظ وإلا فلا. وأعتقد أن نظام الوحدة النقدية في البنك الإسلامي للتنمية –وهو قائم على سلة العملات وتسمى بالدينار الإسلامي- يمكن أن يكون أحد الحلول الجيدة.(9/1173)
والخلاصة أيها الأساتذة الأجلاء، أن أصحاب البحوث القائلين بمراعاة التضخم والكساد يفهم من كلامهم أنه لا بد من إبقاء القاعدة العامة في النقود وهي المثلية ما دام لم يحدث تغيير كبير يذكر، أو ما يسمى بالتضخم البطيء، أما عند التضخم الكبير أو الغبن الفاحش أو انهيار العملة فلا بد من مراعاة القيمة.
وأخيرًا فجميع البحوث ركزت على أن جميع مشاكلنا النقدية تعود إلى تغير النظام الاقتصادي الإسلامي القائم على العدالة، وأنه لا بد من إصلاح الأنظمة النقدية وجعل النقود معايير حقيقية وعدم البخس فيها من خلال العودة إما إلى قاعدة الذهب أو تغطية النقود به أو نحو ذلك من القواعد التي تحقق العدالة. كما يوصي أصحاب البحوث حكومات الدول الإسلامية برعاية التضخم في جميع الحقوق الآجلة من الرواتب والأجور ونحوها، وكذلك يطالبون هذه الحكومات بالتخطيط الدقيق للخروج من هذه الأزمة النقدية الخطيرة.
هذا ما أردت أن أذكره بإيجاز، أشكركم على حسن الاستماع،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أولًا: أريد أن أقدم بمقدمة عامة.
إن البحث في هذه الموضوعات المتجددة منهجية صاحبه أن يبحث في النصوص، إذا كانت المسألة منصوصة، فهذا ما يبحث عنه وكفى الله المؤمنين القتال وإذا لم تكن منصوصة فإنه يبحث عن دخولها في عمومه أو نحوه ليرى هل هذا العموم مخصوص أو ليس مخصوصًا. ثم إن لم يكن الأمر كذلك لجئ إلى القياس. معناه أنه يبحث هل توجد مسألة في السابق تماثل هذه المسألة لتقاس عليها. فإذا لم يجد ذلك فإنه حينئذ يبحث في الاستدلال –ما يسمى بالاستدلال- وهو المصالح المرسلة، فتح الذرائع؛ لأن الذرائع كما تسد تفتح، والاستحسان. هذا هو المنهج الذي يجب أن يتبع. أعتقد أن الباحثين حينما يقدمون التشخيص الاقتصادي ويبرزون الحاجة إلى تقديم رأي جديد ولا يتبعون هذا المنهج، حينئذ نكون أمام مقدمات لا نتائج؛ لأننا نخرج من ضبط الشرع كما هي عبارة القاضي أبي بكر الباقلاني، هو يتحدث عن الاستدلال، قال: (إنه لا بد من المحافظة على ضبط الشرع) ، فإذا لم نحافظ على ضبط الشرع صار الفيلسوف نبيًّا. هذا أمر مهم جدًّا بين يدي البحوث التي يقدمها أصحابها للمجمع، أن يحرص على ما سميناه بضبط الشرع. أن يضع الضوابط ويبقى في حدود هذه الضوابط.(9/1174)
بعد هذه المقدمة أذكر بأن هذه المسألة قد بحثناها كما قيل وكنت الوحيد الذي قدم ذلك البحث الذي لم يصادق عليه المجمع في ذلك الوقت، والحمد لله الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل وأن المجمع اليوم وأولئك الذين كانوا خالفوني في ذلك الوقت هم الذين يقدمون اليوم هذه البحوث ليؤيدوا ما ذكرته في ذلك الوقت.
هذه المسألة هي مسألة نقود ورقية، ليست ذهبًا ولا فضة، هذا أمر واضح جدًّا. وبالرجوع أو اللجوء إلى التعليل بالذهب والفضة كنا لجأنا إلى الثمنية وهي علة عند قوم قاصرة وواقفة –كما يسميها الباجي- وعلة عند قوم متعدية. هؤلاء الذين قالوا بالثمنية. أما الذين لم يقولوا بالثمنية فقالوا: إن العلة الوزن؛ لأن هذه الأشياء تباع وزنًا لكنها علل ظنية، إذا تخلفت الثمنية لم يعد للذهب أو الفضة ثمن الأشياء معناه أن العلة كانت باطلة؛ لأن العلة لا تخرم محلها، قد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم، لا يمكن أن تكر على أصلها بالبطلان. فالذي نناقشه اليوم ليس ذهبًا ولا فضة والعلة في الذهب والفضة هي علة أيضًا مظنونة، هذا أمر واضح جدًّا ويجب أن نقتنع به. إذا كان الأمر كذلك فإننا أمام نقود مطبوعة وأمام حقوق ثبتت في الذمم. فنحن سنبحث عن شيء لنستأنس به، وفي وقتها كنت أثرت مسألة الجائحة في الثمار التي يقول بها مالك –رحمه الله تعالى- وهي رواية عن أحمد، وهذه الجائحة ورد فيها حديث في صحيح مسلم. النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فهذه جائحة وكنا في وقتها نتحدث عن الوضع في لبنان.النقود إذا كان التضخم سريعًا بهذا الشكل وأصبح كأنه يرد عليه شيئًا لا فائدة فيه كبيرة، كما هو قريب من عبارة الرهوني في هذا، فإنه يجب أن ننظر في ذلك على ضوء الجائحة التي تعتبر في الثلث وقلت وقتها: إن الثلث هو فقط موضوع للمناقشة يجب أن نحاول أن نجد حلًّا على ضوء الأوضاع الحالية وألا يرد عليه شيء لا كبير فائدة منه كما هي عبارة الرهوني، وأن نقدر بالثلث، والثلث قد يكون كثيرًا وقد يكون نزرًا كما هي عبارة المالكية، في بعض المسائل الثلث، وبعض المسائل فيها الثلث نزرًا. فيجب إذن أن نقرر ذلك وأن نتراجع عن القرار وهذا التضخم لا غضاضة فيه وأن نعتبر أن هذه النقود ليست ذهبًا ولا فضة وأن أوضاع التضخم إذا كانت كبيرة هي كالجائحة والكارثة، والتي لا يمكن للحكومات في بعض الأحيان –كأوضاع الحروب- أن تتلافى هذه الجائحة، بل علينا أن نجد ما يسمى بالصلح الواجب بين الطرفين وهو صلح نص عليه فقهاء المالكية والذي يعطي لكل واحد منهما نصيبًا من الحق. وشكرًا،(9/1175)
الدكتور عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم،
هذا الموضوع موضوع في غاية الأهمية ولاقى قرار المجمع السابق في دورته الرابعة نقدًا كبيرًا في كثير من الأوساط العلمية، وهو الذي دفع المجمع أن يعيد النظر في هذا الموضوع وأن يستكتب العديد من الاستكتابات العلمية في هذا الموضوع على ضوء ما جرى في الدورة السابقة. وهذه قضية أظن يجب أن ننتهي منها، ليس في هذا الموضوع إنما في أي موضوع آخر تحدث فيه مستجدات جديدة. فإعادة النظر في موضوع أخذنا فيه قرارًا أمر لا حجر علينا فيه ما دام أن الذي يتخذ القرار هو المجمع نفسه، وهذا شأن علمائنا على مستوى الاجتهاد الفردي فيجب أن يكون هذا شأن علمائنا على مستوى الاجتهاد الجماعي، بل هذا أدعى لذاك؛ لأن الذي يتخذ القرار هو المجمع ولا يجوز لأحد أن يغلق باب الاجتهاد في قضية بحجة أننا قد اجتهدنا فيها سابقًا، ولعل في الأمر جديدًا، فلذلك لا بد في الواقع من ألا نصادر أمرًا نملكه نحن.
المجمع ليس ملزمًا من جهة أخرى للبحث، المجمع هو الذي يتخذ قراره وهو سيد نفسه ولذلك لا يمكن في الواقع أن يحتج علينا بأن هذا الأمر أمر نظام.
لكن معالجة هذا الأمر له نظام، يعني يقدم اقتراح للمجمع وهنالك أدوات لتقديم الاقتراح للمجمع وينظر فيه فإذا أخذ قرارًا بإعادة النظر كان هذا حقه ولا يصح لأحد أن يعترض على استخدامه لحقه. هذا أمر من حيث الشكل.
الموضوع أيها الإخوة موضوع في غاية الأهمية وقد تقع فيه بعض الإشكالات التي تدفع إلى نوع من التوجه في المعالجة ويخفي قضايا أساسية. نحن أمام وضع جديد. هذه العملة نقودنا الورقية اليوم لها وضع جديد لا نستطيع أن نقول: إنها تشبه عملاتنا الورقية قبل إلغاء غطاء الذهب، ولا نستطيع أن نقول: إنها تشبه عملاتنا السابقة من ذهب وفضة وفلوس رائجة أو غير رائجة. تفضل الإخوة الباحثون ولا أريد أن أكرر ما قالوه في هذا المجال لكن أريد أن أتكلم في الخطوط العامة، لا بد في الواقع أن نتوجه إلى أن نقرر العدل في هذا الأمر وأن نقرر ما عليه نصوص الشريعة، ويدفعنا لهذا القرار أن هذا أمر حادث لم يعرفه فقهاؤنا. فلا تعالجه عملية قياس ولا عملية استدلال بنص فقهي سابق ولا يمكن في الواقع أن نقول: إن ما نحن فيه الآن فيما يتعلق بموضوع النقود الورقية وما فيها من تضخم أنه أمر قد سبق في العصور التي عايشها فقهاؤنا وعالجوها في السابق. لكن كيف نعالج: أنا لا أنكر أن هذا الأمر ليس سهلًا ويجب أن نضع له من الضوابط ما يمنع أن يكون ذريعة لأمر منعته الشريعة أو حرمته وهذا شأن الفقيه الواعي يضع من الضوابط لما يخرج به من آراء وما يصون هذه الآراء من أن تستخدم ذريعة لفساد أو ذريعة لحرام. القضية هي: أنا لي حق لديك، وضعت هذا المعيار لتقديره، هذا المعيار لتقديره يجب أن أنظر لدوره في تلك الفترة عندما قررته كأداة لتقدير هذا الحق. إذن الذي ثبت في الذمة ليست هذه الأوراق المطبوعة باسم معين أو بشكل معين. الذي ثبت في الذمة هو التزام مالي معين كانت الأوراق النقدية مؤشرًا عليها وأداة للتعريف به. فالأصل هو ذاك، الالتزام المالي الذي ثبت في الذمة؛ لأن الأوراق هذه ما هي إلا معايير ومقاييس لتحديد الالتزامات. فكيف نترك الأصل ونتمسك بالفرع أو بالصورة أو بالمعبرة عن الأصل؟ هذا الأمر ليس سهلًا. كيف نريد أن نحدد قيمة هذه الالتزامات؛ لأن هذا النقد الدينار الفلاني أو الليرة الفلانية أو الجنيه الفلاني كان تقديره بتلك الأداة، الأداة الآن فقدت اعتبارها أو فقدت جزءًا كبيرًا من اعتبارها، كيف نستطيع أن نقدر قيمة الالتزام حقيقة في ذلك الوقت؟ هذا الذي نريد أن نجتهد في البحث عن أدوات له.(9/1176)
اقترح الإخوة مجموعة من الضوابط منها: الربط بالذهب، والربط بسلة العملات، أو الربط بمجموعة من السلع، أو الربط بتكاليف المعيشة، هذا لا نريد أن نقوم به نحن كفقهاء. يعني يجوز أن يندفع بعض الناس إلى استشكال المسألة عندما يدخل في حسابات هذه القضية، هذا ليس دورنا كفقهاء لتحديد بالضبط قيم الالتزامات في تاريخ ترتبها في الذمم، هذا دور الاقتصاديين الخبراء الأتقياء الواعين الذين لديهم من الدراسات في هذا المجال ما يمكنهم أن يقدموا للأمة نوعًا من التحديد الدقيق لهذه الالتزامات على ضوء تطور قيم الأشياء. وتحرك حركة السلع وموضوع التضخم والكساد وغير ذلك. وهذا أيضًا ليس دور الاقتصاديين بارتجال وسطحية منهم، هم هكذا، إنما لا بد أن تقوم عليه أجهزة مسؤولة من بنوك مركزية أو من وزارات للمالية أو من مجالس متخصصة تمثل فيها كل القطاعات المعنية بهذا الأمر، وبالتالي تضع من الجدولة الدقيقة لهذا الأمر. دورنا نحن كمجمع أن ندعو إلى هذا وأن نتبنى هذا، لكن لا يمكن لنا أن نقوم بهذا؛ لأننا لسنا أصحاب الخبرة والاختصاص. نحن ندعو إلى تقعيد أو نقعد مجموعة من القواعد والضوابط العامة ثم ننيط عملية تطبيقها ونطالب بتطبيقها من الحكومات والجهات المسؤولة في العالم الإسلامي، ودورنا نحن في الواقع أن نصحح وأن نوجه في هذا الأمر. نحن حتى إذا أصدرنا قرارًا فإذا لم يأخذ هذا القرار طريقه إلى التطبيق والالتزام على مستوى الجهات المالية والاقتصادية المسؤولة في الأمة لن يكون له أثر؛ لأنه كيف سنحدد هذه الالتزامات. أنا لا أكتم الإخوة في مجلس المجمع أننا في لقاءاتنا عندما يذكر قرارنا السابق في الواقع نتهم بأننا ليس فقط تسرعنا إذا كان أخذ أستاذنا الصديق على عبارة التسرع، أنا غفلنا في الواقع عن حقائق هذا الموضوع وأساسياته. فلذلك يجب أن نواجه الأمور، ونحن مجلس من حقنا أن ننظر في هذا الأمر، ثم إذا اختلفنا هنالك أدوات للترجيح وننتهي في الواقع لمعاجلة هذا الأمر وفق القواعد لاتخاذ القرارات في هذا المجمع.
على أي حال لا أريد أن أطيل وأدعو الإخوة الكرام إلى أن يولوا هذا الموضوع غاية الاهتمام لما يترتب عليه من مشكلات رأيناها بأم عيننا، كيف أن هذه الآراء التي تبنيناها في السابق كانت سببًا لسخط وظلم بالغ على الناس في معاملاتهم ووقائع حياتهم؟. وشكرًا،،
الدكتور عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
موضوع التضخم من المواضيع الهامة التي أستعين بها بالاستدلال على تقصير أتباع محمد صلى الله عليه وسلم في نشر تعاليم دينهم الحنيف، فلو كانت هذه الأمة ظلت خير أمة أخرجت للناس تطبق شرع الله وتنشره في الأرض لانتشر فكرهم الاقتصادي المتميز بالعدالة والاستطراق والاستقرار.(9/1177)
ويجب النظر في سبب التضخم، هل هو أمر لا مفر منه أم أن طبيعة النظام الاقتصادي العالمي المطبق حاليًّا هو الذي يخلق التضخم؟ وهل جميع عوامل التضخم التي ذكرت لها نفس التأثير أم تأثيراتها تتمايز وتتغير سلبًا وإيجابًا؟
لقد تطرق الإخوان إلى عوامل عدة من عوامل التضخم منها: زيادة الأجور، الزيادة في عرض النقود الحقيقية، الزيادة في عرض النقود الائتمانية، ولم أجد التركيز في الواقع على سعر الفائدة في التضخم وهو الذي وجد في الأساس –كما يقول البعض- لجبر الانخفاض في القوة الشرائية، ولكن كان سعر الفائدة هذا وبالًا بحيث أصبح ذا أثر فعال في زيادة التضخم. والشرح قد يطول في هذا المقام لإظهار سلبيات النظام الاقتصادي العالمي واعتماده إلى حد كبير على سعر الفائدة ككابح لجماح التضخم. ولكن يجب أن نعلم أن دولة مثل أمريكا عندما حاولت في الفترة ما بين 72-79 للحد من التضخم تمكنت في ضبط كثير من عناصر التضخم ولم تتمكن بنفس القدر من السيطرة على النقود الائتمانية، وذلك لكون هذه النقود الأكثر تأثرًا بالربا. وإذا قال قائل: إنه من الظلم أن يكون لإنسان دين في ذمة إنسان قبل خمسة عشر سنة ولنقل مليون ليرة لبنانية وكانت المليون ليرة لبنانية تأتي في ذلك الوقت بأربع سيارات فاخرة والمليون ليرة لبنانية اليوم لا تأتي بأكثر من أربع علب الكلينكس الذي أمامنا. الرد هنا يكون ما هو الحال إذا كان له في ذمة أخ ياباني، مائة ين ياباني قبل خمس سنوات واليوم زاد سعر الين الياباني خمس مرات، فهل يأخذ إذا كان له الحق أن يأخذ أكثر في العدد من الليرات اللبنانية اليوم؟ هل يعطي أخاه الحق –الياباني- أن يدفع له خمس المبلغ؟ هل يعطيه هذا الحق؟
إن العلة أيها الإخوة في النظام النقدي العالمي. لا يوجد في العالم نظام نقدي عادل يمنع انخفاض العملة المستخدمة، ولا يوجد في النظام العالمي معيار عادل للتقابل بين هذه العملات. إذن يجب أن نعود لديننا حيث إن الإسلام دين عالمي ونظامه نظام عالمي، ويجب أن يطبق عالميًّا، وهو ينشر وضع نظام اقتصادي عالمي عادل، فإن أردنا المحافظة على حقوقنا المالية وحفظها من أن يأكلها التضخم فعلينا أن نطبّق النظام الاقتصادي العالمي ونجري عليه تطويرًا ضمن إطار الشريعة الغراء، حيث من سماتها العدالة وحفظ حقوق البشر. ونعمل على نشر هذا الاقتصادي عالميًّا، لا أن نلوي عنق الشريعة حتى نطوعه للنظام الاقتصادي القائم. وشكرًا لكم.(9/1178)
الدكتور ناجي عجم:
بسم الله الرحمن الرحيم،
أولًا- لا أرى مناقشة موضوع الكساد للعملة الورقية أو التضخم فيه تكرار أو إعادة من كل وجه. نعم، سابقًا كان القرار في تغير قيمة العملة وأما الآن الموضوع في مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة وحدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدة، فهذه –في نظري- موضوعات جديدة ولذلك الدورة السابقة أوصت بالاستكتاب في هذين الموضوعين، فهما أمر جديد. أما التغير، نعم اتخذ فيه قرار. ثم إذا كان السلف الصالح راعى التغير وحكم بعض العلماء بالقيمة في التغير ونحن الآن في هذا التضخم الكبير الذي هو في معنى الكساد، ما ينبغي أن يراعى، يعني القيمة، ويزال الظلم على الدائن المتضرر. هذه واحدة. فهذا الظلم لأحد العاقدين في حالة التدهور الفاحش، نعم مع التسليم بثمنية الأوراق النقدية ولكنها اختلاف كبير عن النقدين السابقين (الذهب والفضة) . فالذهب والفضة ماليتهما في ذاتهما، وأما هذه ماليتها اصطلاحية (اسمية) ، ثم الظروف التي تعتري الدول تؤثر في قيمتها. فلا بد من أن نكون منصفين مع المتضرر، والنبي صلى الله عليه وسلم وضع الجوائح، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) . ونهى رب العالمين عن أكل الأموال بالباطل فأرى في هذا التضخم أن فيه أكلًا للمال بالباطل من قبل المدين للدائن. ثم إن كان فيه شبهة الربا فما أرى فيه شبهة الربا. فالربا هو زيادة مشروطة وأما هنا الزيادة غير مشروطة، وإنما قد يكون المدين هو المتضرر فيما إذا ارتفع سعر العملة كما أشار الأخ الدكتور عبد اللطيف، فلا بد من إنصاف المظلوم. ثم العلماء اعتبروا الغبن الفاحش وأعطوا للمغبون ... أما يكون هذا التضخم فيه غبن فاحش للدائن؟ والفقهاء اختلفوا في تقدير الغبن الفاحش، هل يكون في الثلث أو في أقل من الثلث أو أكثر من الثلث؟ فأرى أن على هذا المجمع أن ينظر في مقدار الغبن الفاحش ويضع حدًّا للتضخم الذي يحكم فيه ... تصالحًا وتراضيًا فيها ونعمة وهذا أفضل، وإلا فيخول القضاء بأن يعطى حد للتضخم ليحكم القضاء بالقيمة. وهذا في قناعتي فيه رفع للظلم. والله أعلم.(9/1179)
الدكتور محمد علي القري بن عيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن حياة الناس المعاصرة لم تختلف في شيء كاختلافها عن القديم في مجال التجارة والتمويل والنقود وما إلى ذلك من أمور الاقتصاد. وقد كان الناس قديمًا يعيشون في مجتمعات تكاد تكون مفتوحة على بعضها البعض فتتدفق الأموال والنقود من بلد إلى آخر، وكان الناس يتعاملون في البلد الواحد بأجناس من النقود. وهذا كان معروفًا حتى عهد قريب في الجزيرة العربية. ولذلك عندما يدخل الناس في عقود البيع وتترتب الديون والالتزامات ربما تكون بعملة ثم إن هذه العملة إذا حان وقت سداد هذا الالتزام لا تكون موجودة، ولكن لا يعني ذلك أنه لا يكون هناك نقود، فالناس لا يمكن أن يكونوا بدون نقود، وهنا جاء مفهوم الكساد. فالكساد الذي تحدث عنه الفقهاء قديمًا ليس له تعلق بواقعنا المعاصر؛ لأنه في الوقت الحاضر كل بلد له عملة واحدة فقط والقانون لا يعترف إلا بهذه العملة، ولا يتعامل الناس إلا بها، وأي معاملة أخرى بعملة أخرى لا تكون محترمة من قبل القانون. فمن هذا المنطلق فإن مفهوم الكساد كما ورد عند الفقهاء القدامى لا يمكن أن يستمد منه في وقتنا الحاضر، حكم يتعلق بالأوراق النقدية. هذا فيما يتعلق بالانقطاع. فإذا جئنا إلى موضوع كساد النقود وهو إبطال التداول بأنواع منها وجدنا أن هذا ربما يحدث في وقتنا الحاضر، فتأتي الحكومة فتبطل التعامل بعملة معينة ولكن بين ما يحصل في وقتنا وما كان يحصل في القديم اختلاف كبير، فالحكومة عندما تبطل المعاملة بعملة في هذا الزمان فإنها تقوم بإعلان العلاقة بين العملة الجديدة والقديمة، وفي كثير من الأحيان تعطي الناس وقتًا يقومون باستبدال ما عندهم من القديم بالجديد، بل إنه حتى في البلدان التي انهارت كمثل يوغسلافيا –على سبيل المثال- أو الاتحاد السوفيتي عندما ظهرت العملة الجديدة تساوي كذا من العملة القديمة. فجعلت للناس مقياسًا للديون والالتزامات عليهم. فما يحصل في الوقت الحاضر مختلف تمام الاختلاف فيما يتعلق بهذه المسألة عن ما كان يحصل في القديم. فكساد النقود الذي تحدث عنه الفقهاء قديمًا يختلف عن كسادها في الوقت الحاضر.(9/1180)
أما الغلاء والرخص فإنهما –أيضًا- قد حدثا في القديم وهما يحدثان في الوقت الحاضر. ولكنها مسألة تتعلق عند الفقهاء القدامى بالديون المعقودة بالفلوس أو الدراهم المغشوشة فقط؛ لأن الغلاء أو الرخص عندهم مرتبط بعلاقة تلك النقود بالذهب والفضة وليس بالمستوى العام للأسعار ولا بأي معيار آخر يتعلق بالقوة الشرائية، فإنهم لم يعرفوا ذلك. وقد أجمعوا على أن الديون إذا انعقدت بالدرهم أو الدينار إنما يرد المدين مثلها غلت أو رخصت، واختلفوا في الفلوس والدراهم المغشوشة، فقال أكثرهم ترد بالمثل. ولكنهم لا يوجد عندهم مفهوم للقوة الشرائية للنقود. ومن ثم فإن من يريد أن يبني على كلام الفقهاء القديم المتعلق بالرد بالقيمة حكمًا يتعلق بالنقود الورقية وربطها بالقوة الشرائية فهما أمران مختلفان لا علاقة بينهما.
إن التضخم يؤدي إلى التظالم بين الناس، ولا ريب أن هذه مسألة تحتاج إلى نظر ولكن المشكلة أنها تحتاج إلى اجتهاد جديد؛ لأن كلام الفقهاء القدامى يتعلق بنظام نقدي مختلف تمام الاختلاف عن النظام النقدي المعاصر.
وإن الربط بالقوة الشرائية أو بمؤشر القوة الشرائية المسمى مؤسسة ارتفاع السلع.. كما يسمونه باللغة الإنجليزية، أو أنواع المؤشرات الأخرى فيه مشكلات كثيرة تجعله لا يعول عليه في تحقيق العدالة، ذلك أنه أولًا مؤشر تصدره جهة رسمية في كثير من الأحيان يكون لها توجهات سياسة وأغراض، وهذه الجهة الرسمية التي هي الحكومة هي أكبر مستفيد من التضخم ولذلك فإنها تتحكم فيه بما يؤدي إلى انتفاعها باتجاه الأسعار. والأمر الثاني أن الأسعار في العصر الحديث لا تتجه إلا إلى الارتفاع. لم نعهد حالة منذ خمسين سنة اتجهت فيها الأسعار إلى الانخفاض. نعم، أنا أتحدث عن المستوى العام للأسعار وليس أسعار أفراد السلع، ربما يحدث أحيانًا أن يكون الارتفاع كبيرًا فاحشًا وريما يكون ارتفاعًا معقولًا وقليلًا، ولكن الاتجاه العام هو إلى الارتفاع. فإذا ربطنا الديون والالتزامات بمؤشر تكاليف المعيشة فنحن نعلم من الآن أن هذه الديون سوف ترتفع ولا تنخفض، وسوف تزيد ولا تنقص. فإذن ما الفرق بين هذه والقول بجواز الفائدة؟ لا فرق أبدًا. إن القول بالربط القياسي وربط الديون بمؤشر تكاليف المعيشة لا يختلف في مآلاته البتة عن القول بجواز التعامل بالفائدة الربوية، بل إنه أسوأ من ذلك؛ لأن الفائدة الربوية في كثير من الأحيان هي أقل في معدلها عن معدل التضخم. فإذن يجب أن نكون على أقصى درجات الحذر؛ لأن هذا مزلق يمكن أن يؤدي إلى القول بجواز الربا، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك، لكن هذه المسألة تحتاج إلى نظر.(9/1181)
ولقد اقترحت في ورقتي اقتراحًا يتعلق بالتفكير ولا أقول القول بجواز الربط بالذهب؛ لأن الذهب لا يزال –وقد أوردت أمثلة وأدلة على ذلك- حتى وقتنا الحاضر رغم أن العملات الورقية غير مربوطة به مباشرة إلا أنه دائمًا هو الثقل الذي تعتمد عليه عملات العالم والتمويل الدولي. وهذا الربط بالذهب طبعًا يثير مشكلات تتعلق بالقبض؛ لأن ما يتعلق بذمم الناس من الديون يكون بالنقود الورقية فلا يثبت في ذممهم إلا هذا الذي قبضوه كدين، فإذن هذا يحتاج إلى نظر ودراسة ولكن الذهب مستقل عن كل الحكومات ولا يستطيع أحد أن يؤثر عليه؛ ولذلك فإن الربط به لا يؤدي بالضرورة إلى الارتفاع ولكنه يؤدي إلى الاستقرار في القوة الشرائية لهذا الدين. وشكرًا لكم.
الدكتور علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
الحقيقة عندما تلقيت الدعوة الكريمة ما ظننت أننا بصدد إعادة النظر في قرار المجمع الموقر وإنما ما فهمته هو أن التضخم متى يأخذ حكم الكساد في الفقه الإسلامي؟ كساد النقود؛ لأن هذا الموضوع ذكر من قبل ولم نتعرض له في القرار الذي صدر، فكأن هنا تكملة للقرار السابق. يعني لسنا بصدد بحث الارتفاع والانخفاض وإنما متى يصبح التضخم مثل الكساد في الفقه الإسلامي؟ وهذا فعلًا ما انتهيت إليه في البحث حيث بينت أنواع التضخم إلى أن وصلت إلى التضخم الجامح، وبينت أن هذا التضخم الجامح هو الذي يمكن أن ينطبق عليه حكم الكساد في النقود بالنسبة للفقه الإسلامي كما نرى في كتب الأئمة السابقين. فإذن الأمر لم يكن عن الارتفاع والانخفاض؛ لأن هذا كما تفضلتم سبق فيه البحث.
أحب أولًا قبل أن أتحدث أن أبين أن الحديث الذي ذكره فضيلة أخي الدكتور علي القره داغي وقال بأنني قلت على قول الشيخ الألباني –حفظه الله- بأن القول ليس بحجة، أرجو أن ينظر هنا إلى ما قلته. الحديث رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وبين الشيخ أحمد شاكر صحته مرفوعًا وموقوفًا. والشيخ الألباني ضعفه مرفوعًا وقواه موقوفًا، ولكن تضعيفه ليس بحجة؛ لأنه يعني تضعيف من احتج به الإمام مسلم. فإذن هنا ليس بحجة؛ لأني قارنت بين الشيخ الألباني والإمام مسلم.فالشيخ الألباني على العين والرأس وهو أعلم منا ولكن الإمام مسلم أعلم من علماء العصر مجتمعين بالنسبة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(9/1182)
إذن هنا التضخم في حالة التضخم الجامح هو الذي يأخذ حكم الكساد، ولكن المجمع الموقر إذا أراد أن يتخذ قرارًا جديدًا أو قرارًا في هذا الموضوع فقط ليمنع الظلم الذي يقع على الناس. الملاحظ في المناقشات كما ذكرنا من قبل في المؤتمرات السابقة أن النقاش منصب على الدائن والمدين كأفراد، وأن الظلم للدائن إذا قيمة النقود قلت، ولم ينظر إلى قيمة النقود عندما ترتفع كما تفضل الأستاذ عبد اللطيف الجناحي –حفظه الله- وبين لو أن النقود ارتفعت هل يقبل المقرض أن يأخذ أقل من قيمته؟ ثم هناك الأمور التي تترتب على هذا، يعني المجمع هنا يمثل العالم الإسلامي، ولذلك هنا إذا اتخذ قرارًا كهذا لا بد أن يبين لنا. الحسابات الجارية عقد قرض كما اتفقنا، فهل معنى ذلك أن البنوك سترد القيمة أم المثل؟ في رأس مال المضاربة الربح لا يتحقق إلا بعد سلامة رأس المال، فرأس المال سلامته المثل أم القيمة؟ بالنسبة للإيجار، عقد الإيجار والذي قد يستمر إلى عشرات السنين، الأجرة تكون بالمثل أم بالقيمة؟ البيع بالتقسيط، القسط المدفوع ويتأجل إلى سنوات هل يكون بالمثل أم بالقيمة؟ لا بد من بحث هذه الموضوعات ليمنع الظلم، أما أن نحدد ونركز على الأفراد –الدائن والمدين- وأن النظام النقدي السيئ وأن مساوئ هذا النظام؛ لأن التضخم عرض لمرض، وهذا المرض ليس المدين هو المسؤول عنه. فإذا كنا سنجعل المدين هو الذي يتحمل فروق التضخم معناه هو الذي يتحمل آلام هذا المرض ولا دخل له فيه. ولذلك إذا رأينا أن نتخذ قرارًا فليكن القرار موجهًا إلى الحكومات لا إلى الأفراد؛ لأن الدول هي المسؤولة عن هذا التضخم. على الدول أن تعطي للدائن فرق التضخم وليس المدين الذي يعطي. على الدول أن تعطي البائع بالتقسيط فرق التضخم. على الدول أن تودع في البنوك فرق التضخم ليأخذه من أودع. على الدول أن تجعل في نظام المضاربة في المصارف الإسلامية تعطي فرق التضخم حتى يأخذ المصرف الإسلامي نصيبه من الربح، فالدول هي المتسببة في التضخم، وبمقدار التضخم وما تعطيه الدولة يمكن هنا أن يعطي الناس بعضهم بعضًا. أما أن نجعل المسألة خاصة بالمدين فقط فهذا هو عين الظلم وتحميل المقترض ما لا يحتمل، وتحميله مسؤولية نظام عالمي فاسد. إذن أرجو أن نتنبه لكل هذه الأمور قبل أن نسرع في اتخاذ قرار آخر بعد أن أخذنا قرارًا نتيجة جلسات كثيرة وأكثر من دورة متخصصة في هذا الموضوع. وشكرًا،،(9/1183)
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم.
في الحقيقة أنا أحتار من أين أبدأ، ولكن هنالك نقاط كثيرة لا بد من أن أذكرها فقد لا تكون متسلسلة التسلسل الأمثل.
أولًا: أنا في الحقيقة لا أتفق مع أخي الدكتور محمد علي القري بأن صور الكساد والانقطاع التي تحدث عنها الفقهاء لا ينطبق شيء منها على النقود الورقية. أنا أقول: إن بعض هذه الصور تنطبق على بعض أحوالنا. هذه نقطة وسآتي إليها بشيء من التفصيل. كما أنني لا أتفق معه أن أي معاملة بعملة أخرى تكون غير محترمة عند القانون. بلدان كثيرة تحترم معاملات بعملة غير عملاتها. كل البلدان التي تسمح بالقطع الحر بمعاملة العملة الأجنبية معاملة حرة دون قيود يحترم فيها القانون المعاملات بالعملات الأجنبية، فقد توجد عملات بآن واحد في بلد واحد يمكن أن يتعامل بها الناس فعلًا –وقد ذكرت ذلك بورقتي- ويحترمها القانون. يعني القول: إن القانون يحترمها ويمكن أن ترفع قضية للمحكمة بتلك العملة ويقبلها القانون ويحكم بها. من وقت حديث، مصر قبلت بذلك بعد أن لم تكن تقبل. لذلك أنا أرى أنه يمكن بناء عدد من الأحكام الفقهية الجديدة على الأوراق النقدية من مقتضى ما قاله الفقهاء في كتبهم رغم أنني أشاركه 100? الرأي بالفوارق المهمة جدًّا بين العملات الحديثة التي لا ترتبط ولا تقوم على الذهب والفضة وبين الثمنين اللذين تحدث عنهما الفقهاء وكذلك بينها وبين الزيوف والفلوس.
أيضًا نقطة أخرى في ذلك يعني واضح أن الذهب أكثر استقرارًا من كثير من العملات ولكن الذهب أيضًا كثير التأرجح، ليس قليل التأرجح أبدًا، وقد لاحظنا خلال السنوات الماضية كيف أنه تأرجح تأرجحًا غير قليل خاصة لو أخذنا بعين الاعتبار ما يقوله ابن عابدين مثلًا بأنه يعتبر 10? من فارق بالسعر فارقًا لا يقبل، حيث إنه يعتبره كثيرًا، بحيث لا يقبل. أنا أنقل تقريبًا نص كلامه. أنه يعتبر الضرر الذي لا يقبل أن يلزم المشتري بدفع فرق 10? في السعر (في صفحة 35 من تنبيه الرقود لا من الحاشية) .(9/1184)
فنعود إذن إلى المسألة الأساسية وهي الكساد والانقطاع. ما فهمته من تعاريف الفقهاء على كثرتها وتنوع المذاهب فيها أننا يمكن أن نستخلص منها صورًا، وسعيت أن أطبق هذه الصور على النقود المعاصرة. أنا سأذكر الصور المهمة فقط التي تؤثر على موضوعنا. الصورة الثالثة –مثلًا- من صور الكساد والانقطاع. أنا صنفتها ضمن صنفين. الصنف الأول: هو الكساد القائم بحالات منع السلطان التعامل بالنقد (منع الحكومة التعامل بالنقد) . والحالة الثانية: عزوف الناس عن النقد. أن الناس من أنفسهم دون أمر من السلطان يبتعدون عن التعامل بذلك النقد. الصور المهمة منها في نظري هي أن يمنع السلطان التعامل النقد مع وجود ذلك النقد في بلدان أخرى وعند الصيارفة، وقلت: إن هذه الصورة تنطبق على الواقع المعاصر، وأعطيت مثالًا منها، إلا أن حلها سهل؛ لأن السلطان في هذه الحالة يعطي دائمًا –في الحقيقة وليس في العادة- سعرًا للتعادل لا بد منه. فيحل الأمر بسعر التعادل. ومع ذلك هنالك أنواع من الحالات التي لا يمكن فيها أن يبت بسعر التعادل، فالتزام قديم، استحق بعد وقت طويل من مضي سعر التعادل ومن انتهاء الفرصة التي أعطاها الحاكم للمعادلة بين العملتين، القيمة التي ألغاها والجديدة، ماذا يفعل بهذا؟ مثل المهر (مؤجل المهر) . اقترحت أنه ينبغي أن تعالج هذه الأمور بفتوى جديدة وذكرت –في نظري- الأسس التي ينبغي أن تلحظ في ورقتي.
شيء أريد أن أؤكد عليه بصورة أرجو أن تتضح. إن التضخم بطبيعته وبفطرته لا يعني أبدًا ارتفاع جميع الأسعار بنفس النسبة، ولو كان كذلك لكان الأمر سهلًا جدًّا، وهي صورة من صور الانقطاع –في الحقيقة- في العملة كما حصل بالفرنك الفرنسي عندما ألغي الفرنك القديم ووضع بدلًا منه فرنك جديد. كل المعاملات تنتقل إلى العملة الجديدة بنفس النسبة ولا يؤثر ذلك على شيء قديمه وحديثه، مستحقة أم غير مستحقة. المشكلة هي أن التضخم يؤثر على العملات والسلع والديون بأشكال مختلفة، فيترك بعضها لا يؤثر عليه كالدين الذي لا يستحق الآن ويستحق بعد وقت، أو أنه يؤثر على بعضها بنسبة قليلة فتزداد 10 أو 20? بينما تزداد أخرى بثمانين أو مائة أو مائتين أو خمسمائة بالمائة.
فالسلع والخدمات والأسعار المتعددة لا ترتفع بحالة التضخم بشكل واحد. نحن نقول: التضخم هو ارتفاع عام في الأسعار ولكنه لا يعني أن كل سعر يرتفع. بل قد تنخفض بعض الأسعار فعلًا ونقول هناك تضخم مع ذلك. فإذن إذا كان التضخم كذلك ففي نظري كل محاولة لا، نضع قاعدة عامة نقول: إذا حصل تضخم كذا فينبغي أن نفع كذا على جميع المعاملات. هذه القاعدة العامة لا بد لها من بعض الظلم وبعض العدل. لا يمكن أن تعدل في كل الأحوال؛ لأن التضخم ليس واحدًا على جميع السلع. هذه نقطة مهمة أرجو أن نلحظها دائمًا. أقول: إن أي قاعدة عامة للربط ستؤدي إلى بعض العدل وبعض الظلم معًا، فلو ربطنا رأس مال القرض بتغير المعدل العام للأسعار مثلًا وكان المقرض ممن يحتفظ بماله نقدًا في عادته فإن الربط سيعطي المقرض أكثر مما يستحق؛ لأن البديل لديه هو الاحتفاظ بماله نقدًا، وهذا سيعرضه لهبوط قيمة ماله بسبب التضخم حتى دون أن يقرض، فلم نحمل غيره خسارته؟ ولو كان المقترض صاحب دخل نقدي مما لا يزداد مع التضخم أو بنسبته وهو يدفع دينه منه لكان في الربط ظلم عليه ولتجاوز مقدار دينه جميع قدرته على الوفاء بأضعاف، وهنا يكون الربط أسوأ بكثير وبشكل غير معقول من أي نسبة للفائدة مهما كبرت.(9/1185)
هنالك حالة أرجو أن ننتبه إليها بشكل واضح وهي من الحالات التي تندرج تحت تعريف الكساد والانقطاع أو كليهما. هل التفاوت الذي –يعني- نعرفه بين تعريفهما وهي حالة أن يعزف الناس عن التعامل بالنقد رغبة منهم عنه لماذا يعزفون؟ أهم حالة يعزف الناس بها عن التعامل بالنقد رغم وجوده في الأسواق هو حالة التضخم، والمثال الذي نراه هو مثال تركيا. الناس يعزفون عن التعامل بالنقد فمعظم معاملاتهم أصبحت في واقع الحال –وعندنا بعض الإخوة من تركيا قد يفيدونا في هذا- داخل تركيا رغم أنا لليرة التركية موجودة ويتعامل بها إلا أن المعاملات المهمة أو ذات الأجل صارت إما بالدولار، أو بالمارك هذا واقع الآن وقد وقع مثله وهو واقع حاليًّا أيضًا في لبنان وفي غيرها من الدول التي حصل بها نسبة عالية من التضخم. فإذن من حالات الانقطاع في العملة كما عرفها الفقهاء مما يندرج تحتها هذه الصورة وهي عزوف الناس عن التعامل بذلك النقد مع وجوده بالأسواق وأن يكون سبب عزوفهم عنه هو التضخم (هبوط سعر العملة) ، هذا عزوف وهو يندرج –في نظري- تحت الانقطاع، وينبغي أن نعالجه من هذه الروح وتحت هذه المظلة.
أقول في هذه الحالة: ويحصل ذلك في حالات التضخم المرتفع. هنا نقطة مهمة ولعل الدكتور السالوس يلاحظ ذلك لو تكرم. في الحقيقة يصعب جدًّا من الناحية العلمية –فيما أعلم- أن يقال هذا حد التضخم الذي يعزف فيه الناس: لا يوجد أحد يقول بذلك. هل هو 10? أو 20? أو 50? أو 100?، أو 200?؟ لا أحد يقول بذلك. أنا بالأمس رأيت في التليفزيون –لو سمحتم لي بهذا بالمحطة الإنجليزية (B.B.C) – مقابلة عن هبوط سعر الدولار، وسعر الدولار هبط 13? خلال أسبوعين. فبالأمس كانت مقابلة مع بائع للكاميرات في نيويورك والكاميرات مستوردة من اليابان وأكثر الهبوط كان بالنسبة للين، فهو يقول: هذا لا يؤثر علينا أبدًا ونحن لا نتأثر به ولم تتأثر به مبيعاتي ولا أظن أنها ستتأثر، رغم أن المعلق الذي عمل معه المقابلة وعلق على ذلك قال قبل ذلك: أما السلع الأخرى فإن المضمون المستورد من السلع في معظم السلع الاستهلاكية في أمريكا قليل جدًّا بحيث لا تؤثر نسبة 13? خلال أسبوعين لا تؤثر على المستهلك. هذا واقع سمعته بالأمس. فهي قضية إذن لا يمكننا أن نقول: الاقتصاديون لا يضعون حدًّا بين التضخم البطيء أو الزاحف وبين التضخم الحلزوني أو الكبير. لا نضع هذا الحد، لا يوجد هذا الحد. كثيرًا ما يتحدث الاقتصاديون عن تضخم ذي رقمين يعني فوق العشرة والذي له درجتان من الأرقام، يقولون هذا تضخم يمكن القول عنه إنه كثير. التضخم أيضًا عليه بين الاقتصاديين إنه 2 و3 و4? من نسبة التضخم ليس تضخمًا كبيرًا.
أنا سأختصر لو أذن لي قد أنتهي بدقيقة الآن.(9/1186)
أقول في هذه الحالات في حالات التضخم الكبير والتضخم الذي يتجاوز العشرة، في هذه الحالة أما وأنه لا يمكن أن نضع قاعدة عامة تقوم على الربط بأي معيار فضلًا عن أن المعايير متعددة ويصعب اختيار واحد منها، أقول: لا بد من طرح مسألة الصلح في كل حالة على حدة. سعدت أن سمعت الشيخ ابن بيه يقول: إن المالكية قد طرحوا ذلك وأنا لم أقرأ ذلك، إلا أن ابن عابدين طرح ذلك أيضًا وهو يقول: لا بد من الصلح. وهو يعتبر في المثال الذي ضربه 10? مهمة. وقد أشرت في بحثي إلى النقاط الأساسية التي في نظري ينبغي أن يلحظها المصالح بينهما (الحكم) ، أو الطرفين في الصلح، أو أن يلحظها القاضي عندما يفرض سعرًا بينهما في كل حالة وحدها. هذه العوامل عوامل كثيرة وهي تختلف بين شخص وآخر.
والحمد لله رب العالمين.
الدكتور عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
شكرًا السيد الرئيس، لا يفوتني أن أنوه بجهود إخواني وزملائي الذين كتبوا والذين ناقشوا، ولكن هذا الذي نقوم به اليوم إنما هو تتمة وتكملة للقرار المجمعي الذي اتخذ في الدورة الخامسة في الكويت الشقيقة، وكان المفروض أن يتخذ مثل هذا أو أن تدرس مثل هذه الدراسات والمناقشات وأن يتخذ قرار يشبه القرار الذي سنصل إليه –إن شاء الله- من تلك الدورة لولا أن الله –سبحانه وتعالى- شاء ولا راد لمشيئته، ومشى القرار على الأعم الأغلب من العملات وهي العملات شبه الثابتة. ونحن اليوم أمام عملات متذبذبة القيمة وأكثرها شرق أوسطي. وهذه العملات تحتاج اليوم إلى نظر جديد وفتوى جديدة من اجتهاد جماعي يستند إلى الوضع الذي كانت عليه العملات قديمًا تخريجًا وليس حذو القذة بالقذة وإنما من باب وجود بعض وجوه الشبة بين الحالة التي كان عليها النقد آنئذ وما نحن فيه اليوم. فنقدنا هذا الذي نتداوله اليوم له ... وذهب إخواني إلى كثير من الوجوه وكلها طيبة ولكنني أرى –والله تعالى أعلم- أن المسألة يجب أن تعقد لها ندوة وأن يشارك في هذه الندوة خبراء من الاقتصاد الإسلامي وخبراء من علماء النقد؛ لأن النقد ذاته صارت فيه خبرات، وفقهاء من مجمعنا الموقر، وما يردف هؤلاء وهؤلاء من مقررين حتى نخرج بالصيغة الفقهية الصحيحة لمثل هذه الواقعة التي لم تنزل بالمسلمين من قبل، فهذه واقعة ونازلة جديدة.(9/1187)
صحيح كان هنالك غلاء ورخص، وكان هنالك كساد وانقطاع ولكن هذا الذي نحن فيه اليوم هو كساد وانقطاع ولكنه أيضًا ليس كسادًا وانقطاعًا. غلاء ورخص ولكن ليس غلاء ورخصًا أيضًا وفيه وجوه شبه منها وليس فيه وجوه شبه من هناك، ولكنها في حقيقة الأمر نازلة. وما من واقعة كما تعلمون إلا ولله –سبحانه وتعالى- فيها حكم شرعي، وعلينا أن نكتشف هذا الحكم الشرعي ونظهره للناس لا أن نوجده. وإذا انتهى العلامة ابن عابدين في حاشيته (رد المحتار) ورسالته (تنبيه الرقود) إلى الصلح وهو ما تفضل به أخي الدكتور منذر قحف، فهذا كلام وجيه ولكن هذه فتيا، والفتيا –كما تعلمون- إخبار عن الله وليست ملزمة، فإذا قال أحد المتضررين أو المتضرر مثلًا أو الذي لم يتضرر يعني أحد الطرفين: أنا لا أقبل بالصلح، فماذا نقول؟ لو قال مثلًا أحد منا بالقضاء أننا نقضي عليه بالصلح فأقول: ليست كل البلاد –العربية والإسلامية- فيها قانون إسلامي بل كثير من البلدان العربية والإسلامية تعاني من القانون المدني، والقانون المدني لا علاقة له بما نحن فيه لا من قريب ولا من بعيد، فكيف نفرض على قاض مدني أن يقضي بصلح وهو أصلًا يحكم بقانون نابليون وليس بالفقه الإسلامي؟ إذن قضية القضاء غير واردة، وقضية الفتيا غير ملزمة. الصلح رأي وجيه لو أننا نلزم به الآخرين ولكن كيف؟ ما هي الطريقة إلى الإلزام؟ مثلًا في الجمهورية العربية السورية –إن شاء الله- أمل أن نحكم الفقه الإسلامي وهذا طريق سلكناه ولكن لم نصل إليه، لا يزال القانون المدني عندنا هو الذي يحكم، وكذلك في لبنان، وأظن كذلك في تركيا، في مصر. فماذا نقول؟ إذن لدينا مخلص واحد وهو أن نلحق هذه المسألة بالجوائح وإما أن نلحقها بنظرية الظروف الطارئة. وقد ألحقتها من قبل في رسالتي المتواضعة التي قدمتها في الكويت إلى المجمع الموقر ألحقت المسألة بالجوائح وقلت: إن هذه المسألة ينبغي أن تكون ألصق ما تكون بالجوائح. ثم لما وصلت إلى رسالة أستاذنا العلامة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا، عافاه الله وشافاه، وجميع المسلمين ولا سيما العلماء العاملين، ورأيت فيها توجهًا جيدًا موفقًا نحو الأخذ بنظرية الظروف الطارئة واستعادتها إلى فقهنا الإسلامي، ثم راجعت ذاكرتي فرأيت من كتب في نظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي فالدكتور عبد السلام التمامي مثلًا والدكتور فتحي الدريني كتب كل واحد منهما بحثًا قيمًا في نظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي. فإذا أحببنا أن نأخذ ريثما تعقد لذلك ندوة إذا أردنا أن نعقد ندوة بالمرضي الذي نحدد الندوة له. نقول: هذه الندوة ينبغي أن تبحث في نظرية الظروف الطارئة. نحدد المبدأ للندوة ولا نترك المنتدين ضائعين في الحلول هنا وهناك، يتيهون في متاهة الحلول الفقهية وكل منهم يأتي بشيء ويناقضه الآخر، ثم ينفضون ولا يتفقون على شيء كما حل في الندوات السابقة التي نظمها المجمع الموقر مشكورًا ولا سيما الأمانة العامة والرئاسة مشكورين في قضية العملات وأظن أنها أكثر من ندوة، ومع ذلك لم يصل المجمع إلى شيء.(9/1188)
أخي الدكتور منذر –مثلًا- يقول: إن للصلح شروطًا وأبحاثًا، وقلت له: شيء جميل. فلنعقد ندوة للصلح أو لنعد ندوة مثلًا للظروف الطارئة، ولنعقد ندوة للجوائح. ثلاث ندوات، لا مانع من ذلك. وكل اجتماع يغذي ويثري الاجتماع الذي قبله حتى نخرج بنتيجة –إن شاء الله- ترضي الله ورسوله، وتظهر حكم الله –سبحانه وتعالى- في هذه الواقعة. والله –سبحانه وتعالى أعلم وشكرًا..
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أفتتح كلمتي بالتنويه بفضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي الذي استطاع في وقت وجيز على أن يأتي على هذه البحوث التسعة، وأن يلخصها، وأن يقسم التوجه العام إلى توجهين، توجه تفرد به فضيلة الدكتور العلامة علي السالوس، وثمانية آخرون تفردوا بتوجه آخر.
وبمقدار ما أشكره أعذره لضيق الوقت، فأنا لست مع الدكتور علي السالوس فيما ذهب إليه، ولا مع إخواني السبعة فيما ذهبوا إليه. ذلك أردت أن أبين وجهة نظري في هذه القضية التي هي بحث لم أجد طيلة حياتي قضية شغلتني وراجعت فيها رأيي ونظرت ثم عاودت النظر بهذه القضية التي بين أيدينا اليوم، وذلك أنني وجدت أن هذه القضية تقوم على قطبين. القطب الأول هو العدالة، بمعنى نفي الظلم عن كل متعامل، وما جاءت الشريعة في تقريراتها وفي أحكامها العملية إلا لرفع الظلم عن الناس، وكانت الشريعة هي التي تلجم كل من يريد الظلم أو يقع منه الظلم فتلجمه عن ظلمه. وهذا الذي أقرض أو له على شخص يساوي ما يمكن له في حياته أمورًا فإذا سقطت هذه القيمة وأصبح ما يتقاضاه لا يساوي شيئًا يختل ميزان العدالة. ثم قطب آخر وهو أن الالتزام لما دخل في الذمة دخل بشيء معلوم وهذا باق إلى الآن، فكيف نستطيع أن نوفق بين عدالة لا ظلم فيها وبين الغرام الذي عليه دين آجل في المؤجلات، كيف نلزمه بغير ما التزم به؟ وتتبعت فقط المذهب المالكي في أصوله وفي كتبه وفي أمهاته، ووصلت يدي إلى المخطوط وانتهيت إلى أنه إذا قلنا بالربط القياسي، فالربط القياسي الذي وصلنا إليه بمقتضى العدالة يجب أن تكون العدالة شاملة لكل العقود التي تقع بين المتعاملين، وهذه العدالة لو طبقناها لاختل النظام العالمي اختلالًا لا يمكن أن ندرك مداه. فضربت أمثلة لهذا، فنأخذ القرض الذي تحدث الناس عنه كثيرًا فإذا أقرضت شخصًا ألف ليرة أو مليون ليرة لبنانية فكيف أتقاضى منه مليون ليرة لبنانية بعد أن تكون قيمتها قد هبطت الهبوط المعروف؟ هذا المقترض هو من؟ عندنا المقترضون منهم أجراء منهم موظفون، فموارد رزقهم إنما هي من أجرتهم، أو من رواتبهم مع الدولة، وهذه الرواتب أو هذه الأجور لا تسير سيرًا متوازنًا مع التضخم، بل إننا نجد الأجزاء والموظفين يسعون إلى تحقيق هذا التوازن، فعندما يضاف إليهم إضافة تكون الحياة قد غلت قبل ذلك بكثير، وهو توازن مختل عندهم. فمعنى هذا أنه إذا ألزمنا المدين بأن يدفع للدائن حساب التضخم الذي وقع ذلك أننا ظلمناه وأخذناه من قوته وقوت عياله وأننا ضغطنا عليه ضغطًا فيه ظلم إذا لم نعوضه من التضخم. الديون الآجلة، فالدين الآجل الناشئ عن بيع، البائع عندما باع دينًا آجلًا هو في حسابه حسب الزمن وحسب التضخم وبنى على ذلك العقد، فإذا أضفنا للذي اشترى مقدار التضخم الجديد فمعنى ذلك قد حملنا من اشترى التضخم مرتين، مرة حسب تقدير البائع، ومرة أخرى حسب الواقع الذي حدث، وفي هذا ظلم للمدين. البنوك التي لها حسابات تحت الطلب والتي تقرر قطعًا أنها قرض فمعنى هذا ومعنى العدالة أنه عندما يتقاضى قرضه أو يتقاضى من الحساب أن يتقاضاه مع ما أضيف إلى ذلك أن كل البنوك إسلامية أو غير إسلامية فهي تأخذ هذه الودائع الائتمانية وتعمل بها، فلو حملنا البنوك الإسلامية أو غير الإسلامية على دفع نسبة التضخم فمعنى ذلك أنها قد أفلست تمامًا؛ لأنه كثيرًا ما يكون تسارع التضخم أكثر من الأرباح التي تحققها هذه البنوك.(9/1189)
القراض، ما هو رأس مال القراض؟ فإذا انتهينا بعد سنتين أو خمس سنوات ووقعت تصفية، الربح على ماذا يحسب؟ أيحسب على أصل المال المقبوض، أو يضاف إلى ذلك التضخم؟ فلو فرضنا أن رأس المال هو مليون دينار وجاء الربح خمسمائة دينار ولن التضخم هو كان بستمائة دينار، فمعناه أن العامل لا يقبض شيئًا؛ لأن صاحب رأس المال يريد أن يأخذ رأس ماله حسب المقاييس.
قضايا النزاع في الديون، كثيرًا ما تتأخر وتكون قضايا معقدة ويحصل التضخم في هذا الأثناء أو كل واحد منهما محق، وأضرب لذلك مثلًا أو قد يكون أحدهما مبطلًا. مثلًا، شخص أخذ من البنك أو من شخص آخر ثمن باخرة ثم دفع له دينه ولكن احترقت وثائقه فقام عليه الدائن بالمطالبة بحقه، واستمرت القضية أربع أو خمس سنوات ولما لم يجد المدين الوثائق حكم الحاكم ضده، فمعنى هذا أنه يحكم ضده بالدين الأصلي وبالتضخم الذي قد يصل إلى 100? والدولة لها حقوق على المواطنين، فهل تتقاضى حقوقها التي هي تقوم بها بواجباتها حسب التضخم تتقاضاها حسب التضخم أم حسب ما صدر به الميزان في أول السنة؟ فلو فرضنا أنه في آخر السنة تزاد بـ 15? فمعنى هذا أن مبلغ الدين ... أن الدولة إذا كان لها دين على شخص فإنها تطالبه بنسبة التضخم. فالقضايا بالربط بالقياس ... وذلك لأن نظام النقد العالمي هو نظام قد تهرى، وإذا كان قد تهرى فمعنى ذلك أنه كلما حاولت أن ترقعه اخترق من ناحية أخرى كما يقال في المثل العربي (اتسع الخرق على الراقع) ؛ لأن النظام النقدي العالمي ليس كما سمعت اليوم أنه يعود فقط إلى الدولة، والدولة هي التي تصدر النقود. الدولة لها مقام ضعيف في التضخم. التضخم ناشئ من هؤلاء المضاربين وهؤلاء الجماعة الذين هم في الظل والذين لا ضمير لهم ولا وطن لهم ولا دين لهم، وإنما همهم فقط هو تحصيل أكثر ما يمكن من المال. وقد سمعت أن أحد اليهود في هذه الأيام، في ظرف الأسبوع، ربح من هذا العبث الذي وقع في الدولار مليار دولار؛ لأنه أخذ يبيع في الدولارات ويشتري في العملات الأخرى، وهو أمريكي. فهو لا يهمه أن يزيد سوق الدولار، أو أن تخسر دولته، أو أن تنتهي. هؤلاء هم الذين دخلوا في القضية. ثم إن هذا اللعب في البورصات واستخدام أشياء وهمية هي دخلت في الكتلة النقدية وأصبحت الأوراق النقدية لا تمثل في بعض الدول والدول الكبرى كفرنسا إلا 25? الكتلة النقدية هي أعظم وأفخم من الأوراق النقدية الموجودة. فإذن ليست الدولة هي التي تحدث التضخم ولكن هي عوامل كثيرة نشأت أول ما بدأت من مفهوم الحرية التي أعطيت للفرد في الغرب على أنه يفعل ما يشاء. ولذا فإني عندما قدرت الموضوع من جميع جوانبه لم أستطع أن أقول بأن هذه قاعدة تطبق على كل الالتزامات الآجلة ولكن للمتداينين أن يشترطا فيما بينهما شرطًا أن يكون قضاء الدين حسب مقياس معين يتفقان عليه، فإذا اشترطا ذلك فهذا شرط يمكن تنفيذه؛ لأن كل واحد منهما قد دخل عليه، وكل واحد منهما يريد أن يحصن نفسه، ومن لا يرغب في هذا الشرط لا يقوم به. فالحل الوحيد الذي وجدته هو أن يرجع المتعاقدان إلى ما يتفقان عليه سواء جعلا المعيار الذهب أو عملة بلد اقتصادها سليم يصمد ... أو سلة عملات، فعلى أية طريقة واضحة ومحددة من البداية يكون الاعتماد. وقيمة الكساد، تعرضت في كلمتي إلى أن قيمة الكساد لا يمكن أن نربطها لا بالثلث ولا بالعشر ولكن هي مرتبطة بالدين؛ لأن الدين في ذاته تارة تكون قيمته كبيرة. فإذا كنا أخذنا دينًا بخمسمائة مليون لشراء طائرة مثلًا فإن التضخم بـ 6? يعطينا مقدارًا كبيرًا، بينما 10? في مائة دينار هي مما يتسامح بها. فتصبح القضايا، قضية التضخم هي مرتبطة لا فقط بالنسبة للتضخم ولكن بكمية النقود مع نسبة التضخم معًا. والقضية فيها من المشاكل كما حاولت أن أبسطه لكم باختصار وهو موجود في بحثي. وأشكركم على حسن الاستماع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/1190)
الدكتور رفيق المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أولًا: أحب أن أبين أن أستاذنا المعلق الأول ابن بيه وإنني أشهد بأنني كلما جالسته استفدت منه ولا أقول هذا مجاملة ولكن في الذي أبداه أخالفه فيه. فالرأي الذي أبداه حسبما أذكر مختلف تمامًا عن الآراء المعروضة في هذه الدورة. فالنقود الورقية –كما أذكر- أعتبرها فلوسًا وعنده الرأي المختار أن الفلوس عروض، وسأعود إلى هذا الموضوع بعد قليل.
النقطة الثانية: كيف نستطيع معالجة هبوط قيمة النقد؟ أنا أرى أن هناك أربعة بدائل مما قد استفدناه من الطروحات المختلفة سواء في هذه الجلسة أو في ندوات أو مؤتمرات سابقة.
البديل الأول: العدول عن النقود الورقية وأمثالها، ولكن هذا البديل في الواقع صعب جدًّا على كل بلد بذاته؛ لأن الأمر يتعلق بالنظام العالمي كله.
البديل الثاني: وهو البديل الذي تزعمه شيخنا ابن بيه، العدول في النقود الورقية، هجر هذه النقود وأمثالها. اسمحوا لي أنا أقول بدائل ولا أقول حلولًا، لم أختر بعد الحل المناسب ولم أرجح. البديل الثاني هو بديل شيخنا ابن بيه أن النقود الورقية فلوس، والفلوس في بعض المذاهب عروض. والعروض سيأتي بعد ذلك بقليل الأثر المترتب على هذا الرأي أو هذا البديل.
البديل الثالث: النقود الورقية توفر بقيمتها بعد الوقوع. هذا ليس من الـ Indecsation بالفرنسية، وقد سبق أن بينت هذا سابقًا في بعض الأوراق وهي الآراء التي طرحها الفقهاء كالحنفية وسواهم، ولا سيما في حاشية ابن عابدين أو في رسالة ابن عابدين الشهيرة والمهمة جدًّا.
البديل الرابع: وهو الذي غالبًا ما يأتي ذكره على ألسنة الاقتصاديين وفي كثير من الأوراق المطروحة، أن توفى النقود بقيمتها شرطًا قبل الوقوع منذ البداية، منذ العقد.
بعد ذكر هذه البدائل الأربعة أود أن أذكر لكم، يعني بين يدي اقتراح سأقدمه بعد قليل بدون أن أطيل عليكم، أذكر بعض الحجج التي هي في صالح الربط، الربط القياسي.. أو.. وبعض الحجج التي تناهض هذا الربط، وسنرى بعد ذلك ماذا سيكون يعني الرأي الذي أميل إليه حتى الآن.(9/1191)
أقول:
الحجة الأولى: وهذه فيها إشارة في الواقع إلى رأي شيخنا ابن بيه، أقول فيها: لا ريب أن ربط القروض ... أفضل شرعًا من اعتبار النقود الورقية عروضًا لا نقودًا، بحيث يجوز –بحسب هذا الرأي المطروح- بيع نقد ورقي بنقد ورقي مجانس له أو مختلفًا عنه بالتفاضل والنساء، أي التأخير. فبعض الفقهاء المعاصرين أجاز ذلك معتبرًا أن النقود الورقية ليست من الأموال الربوية، فرأيهم هذا يفتح باب ربا النسيئة في قرض هذه النقود، فتباع هذه النقود بنقود أكثر منها نساء وهذا ربا نسيئة بلا ريب –لأن عندي كما أختار وأرجح وهو الذي عليه جمهور العلماء المعاصرين أيضًا- لأن البدلين متجانسان في اعتبار الشرع، ومتفاضلان مع النساء –مع التأخير- أو تباع النقود الورقية بنقود ورقية أخرى أو بذهب أو بفضة –أيضًا- مع التفاضل والنساء، فتعقد العقود الربوية في صورة بيع سلم، عروض في بيوع سلم، وحقيقتها أنها ربا نسيئة أو صرف مؤخر أو مؤجل، وكلاهما لا يجوز. وهذا الرأي لا ينفرد ربما به شيخنا ابن بيه كما فهمت من عرضه السابق، وإنما يقول به أيضًا بعض الأساتذة من المصريين. فربط القروض أفضل من مثل هذه الفتاوى والمقترحات؛ لأن الربط إذا كان ثمة تدهور في قيمة النقود فإنه محدود، محدد؛ لأن الزيادة في المبلغ النقدي مضبوطة بحد معين، وهو فرق القوتين الشرائيتين زمنيًّا. القوة الشرائية عند العقد والقوة الشرائية عند الوفاء، وهي زيادة صورية وليست زيادة حقيقية باعتبار السلع التي اتخذت قاعدة للتثبيت هنا مقياسًا كالقمح مثلًا.
الحجة الثانية: المتعاقدان إما أن يرفضا النقود الورقية، وإما أن يرفضا المعاملة أصلًا كالقرض مثلًا، يمنع القرض إذا كان التدهور مخيفًا إلا من يتحمل هذا الفرق الفاحش. إذن المتعاقدان إما أن يرفضا النقود الورقية، وإما أن يرفضا المعاملة أصلًا، وإما أن يتعاملا بنقود أو سلعة أخرى، وإما أن يلجآ إلى الربط القياسي. فأما رفض النقود فهذا ليس في مكنتهم؛ لأن إصدار النقود من اختصاص السلطان، ولكن إذا لم يقع أمر في مكنتهم فهناك أمور أخرى تقع فيها، ولا ينبغي لهم أن يقفوا مكتوفي الأيدي حتى حيال الممكن لهم. وأما رفض المعاملة فهذا غير مرغوب فيه لما فيه من تعطيل لمصالح الناس وحاجاتهم وضروراتهم. وأما التعامل بنقود أو سلعة أخرى فقد رأينا ما فيه من كلفة ومشقة في بحوث سابقة. فلم يبق إذن إلا الربط ويكون هذا حلًّا مؤقتًا –أصلًا سياسيًّا من باب السياسة الشرعية مثلًا- بين المتعاقدين فيما يستطيعانه بأنفسهما مادامت هذه النقود لا تصلح للمدفوعات المؤجلة، وربما يكون هذا بمثابة ضغط من أجل الإصلاح النقدي إذا ما رأت السلطة النقدية إعراض الناس عن الاعتراف بهذه النقود في ميدان مهم من ميادين الوظائف النقدية وهو ميدان المبادلات المؤجلة.(9/1192)
الحجة الثالثة: حجة أخرى في صالح الربط، طبعًا هذا لا يمنع من أن يتسامح بعض المقرضين في القروض القليلة المبالغ أو الممنوحة للفقراء فلا يلجئون إلى الربط ويعتبرون هذه من باب الإرفاق بالمقترضين. إرفاق فوق إرفاق، إرفاق بالقرض أصلًا وإرفاق أيضًا نتيجة هبوط القوة الشرائية هبوطًا فاحشًا.
الحجة الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأصناف الستة ((الذهب بالذهب.. إلى آخر الحديث)) يفيد أن التساوي مطلوب أيضًا في القروض وقد تحقق لا باعتبار العدد بل باعتبار القيمة أي القوة الشرائية كي لا يهضم المقرض والأصل في رد القرض هو الوزن، فأمنحك وزنًا من الذهب أو من الفضة أو من القمح فترد إلى مثله سواء بسواء. وقد يلجأ إلى العدد إذا كان معبرًا عن الوزن وإلا فلا. والعدد في النقود الورقية لا يصلح؛ لأن العدد قوته في زمن مختلفةٌ عن قوته في زمن لاحق، والوزن والعيار لا يمكن إرجاء المبادلة به؛ لأن النقود الورقية لا اعتبار لوزنها في المالية، أي في القوة الشرائية، وإنما الاعتبار لقيمتها الاسمية والفعلية فلم يبق إذن من أساس لوفاء القرض إلا اعتبار القيمة. لا أزال أذكر الحجج في صالحه وهناك حجج أخرى.
الحجة الخامسة: ما يدعو إلى الربط هو طبيعة العملات الحديثة وأهمية مبلغ الدين، وطول مدة الدين، ومدى حدة التضخم. وهناك قروض يمكن أن تتحول إلى عمليات قراض إذا استخدم المال في عمليات إنتاجية، لكن تبقى ثمة قروض يحتاج إليها ولا يمكن أن تتحول إلى إقراض كما في الإقراض إلى الاستهلاك أو إلى الحكومة فلا بد فيها من صيغة مناسبة لا تلحق الأذى والظلم بالمقرضين.
الحجة السادسة: الربط ليس إلا قرضًا من النقود مقومًا بسلعة معينة، وهو نظير تقديم حصة من العروض في شركة مقومة بالنقود، فكما نحتاج أحيانًا إلى تقويم العروض بالنقود قد نحتاج إلى العكس أي تقويم النقود بالعروض حفظًا للحقوق من ضياعها على أصحابها.
الحجة السابعة: إذا أراد المقرض أن يحدد إحسانه ومعروفه فلم يرد أكثر من القرض مع رده بمثل مساو لقيمته فلماذا لا نقبل هذا الإحسان منه؟ بل نصر عليه أن يقدم إحسانًا فيه مخاطرة بمبلغ مجهول، إنه يريد التبرع بقرض محدد لمدة محددة مع المحافظة على قيمة قرضه، فلماذا نطلب إليه أن يتبرع بهبوط قيمة قرضه إلى مدى غير محسوب وغير محدد مسبقًا ولا معلومًا؟ ولا بد من القول بأن منح قروض مربوطة أو مثبتة أولى من عدم أي قروض خوفًا من تدهور قيمتها.
الحجة الثامنة: إذا جاز الربط القياسي –أي بمقياس معين كالقمح أو سواه- في القرض فجوازه في غير القرض أولى كالمهر المؤخر أو الأجور أو الإيجارات أو ما مشاكلها من معاوضات مؤجلة. ففي القرض كانت الخشية من الوقوع في ربا النسيئة، أما في هذه المعاوضات فلا خوف؛ لأن ربا النسيئة أو النساء لا يقع فيها. فأين الربا فيما لو تعاقد العامل مع رب عمله على أن ينال أجرته الشهرية مبلغًا معلومًا من النقود بقيمة ألف كيلو غرام من قمح معين بسعر التجزئة أو تعاقد الزوجان على مهر مؤخر بهذه الصورة؟ ولموضوع الربط أهمية حتى في الشركات وذلك في حالة شركة مضاربة عندما يقدم رب المال نقوده الورقية إلى العامل فإذا أعاد إليه العامل رأس ماله عددًا وكانت العملة قد تدهورت فإن العامل يكون قد اشترك مع رب المال في أرباح رأس ماله وهو ما يسمى بالأرباح الرأسمالية –مع أن حقه متعلق فقط بالأرباح الإيرادية التي اشترك فيها العالم ورأس المال - المقصود بالأرباح الإيرادية التي تنشأ من جهد العامل برأس المال ولا حق له بالأرباح التي تلحق برأس المال بدون جهد منه. وكذلك في شركات الأموال إذا قدم الشركاء حصصًا مالية بعملات مختلفة ثم تغيرت أسعارها عند القسمة تغيرًا متباينًا –أي في اتجاهات متخالفة- وبنسب مختلفة، فإذا رد لكل شريك رأس ماله المدفوع عددًا ظلم الشريك الذي هبطت نقوده وربح الشريك الذي ارتفعت نقوده، والعدل يتحقق لو قدم الشركاء أموالهم بنقود موحدة وكانوا كلهم شركاء بالمال ولم يكن بينهم شركاء بالعمل. هذه بعض الحجج التي يمكن أن تذكر في صالح الربط القياسي بصورة خاصة لمسألة القروض، لكن هناك حجتان أخريان في غير صالح هذا الربط، وليس الأمر أن أقول لكم سلفًا ليس الأمر بكثرة عدد الحجج. أحيانًا يكون بنوعية هذه الحجج. من الحجج التي تذكر لعدم الربط ولعدم الأخذ بالفتوى بالربط، مثلًا:
هناك حجة مضادة لجميع هذه الحجج التي تقدمت، مفادها أن ربط القروض قد يؤدي إلى فائدة اسمية مقدارها 20? مثلًا، إذا افترضنا أن معدل التضخم في بلد من بلدان العالم الثالث مثلًا بلغ هذا المقدار، هذا في حين أن الأرباح التي يحققها رأس المال المستثمر قد لا تبلغ هذا المقدار برغم أن الاشتراك في الربح فيه مخاطرة يخلو منها ربط القرض، ذكر لي هذه الحجة الشيخ الضرير في عام 1408 هـ ويذكرها عدد من الاقتصاديين والخبراء في الاقتصاد الوضعي.(9/1193)
حجة أخرى: ربما يؤدي فتح باب الربط إلى أن يستغل فيكون هناك تحكم فيدخله الربا بشكل أو بآخر.
هذه هي بعض الحجج في صالح الربط أو عدمه، وأنتقل منها إلى شيء آخر.
عندنا الآن في قرار المجمع –طبعًا هذا الموضوع عرض مرات متعددة وأجل مرتين- في دورة الكويت عام 1409 هـ يقول التالي باختصار:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في كذا، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تغير قيمة العملة واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم 9 في الدورة الثالثة قرر بأن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما.
أنا في الواقع لا أخالف هذا القرار إلا في عبارة واحدة لو شاء العلماء أن يأخذوا بمثل هذا القرار أو ألا يعدلوا فيه أي تعديل لكن أنا أرى أن هذه العبارة (فيها صفة الثمنية كاملة) عبارة عليها مأخذ. أنا لا أستطيع أن أقول: إن الفلوس ولا النقود الورقية من باب أولى لها صفة الثمنية كاملة فإن هذه النقود الحديثة عاجزة عن أداء وظائف النقود جميعًا حتى لو أخذتم بالرأي القائل بأن الديون توفى بأثمانها. فيجب أن تكون الصياغة دقيقة؛ لأن هذه الصياغة معرضة للترجمة ولأن يقرأها علماء وخبراء عالميون.
الرئيس: يعني تحذف كلمة (كاملة) ؟
الدكتور رفيق المصري:
أنا ممكن أن أقترح بعد الجلسة هذه عبارة لائقة بدون أن نغير الحكم، لكن يجب أن تكون كلماتنا دقيقة؛ لأن هذه المسألة.. لا أقول: إنه صفة الثمنية هي لها صفة الأثمان من حيث بعض الوظائف، أما من حيث إنها مستودع للقيمة أو أنها صالحة للمدفوعات المؤجلة فلا يصح هذا الكلام. فليست لها صفة الثمنية كاملة كأثمان الذهب والفضة. هذه نقطة. هذا حول قرار المجمع.
أنا لي اقتراح حتى لا يكون هناك تكرار من جهة، ومن الجهة الأخرى من الطرف الآخر حتى لا يكون هناك أيضًا قرارات تؤخذ في صالح الربط وهي مسألة في غاية الحساسية من الناحية الفنية ومن الناحية العالمية والوطنية أيضًا، حتى لا نتسرع أقول: يمكن للمجمع مثلًا كنوع من الاقتراح أن يخضع للنقاش، أقول: إنه قد يكون هناك مجال لإباحة الربط القياسي من حيث المبدأ إذ أقترح أن يباح الربط القياسي من حيث المبدأ بشرط أنه في المستقبل أي صورة محددة للربط القياسي تتخذها جهة معينة دولة أو غيرها، أن توصف هذه الصورة لمجمع وصفًا دقيقًا وتعرض على المجمع. هذه نقطة.
النقطة الأخرى: الربط القياسي موجود في العالم ولكن بصفة جزئية يمكن أن يطلب من الخبراء في دورات لاحقة أن يقدموا دراسات دقيقة حول صور عملية واقعة من بعض النظم الاقتصادية ومن مختلف البلدان تعرض على المجمع للدراسة وتقر صورة بصورة، وأنا لا أرى أن يوافق على الربط القياسي بصورة إجمالية؛ لأن الفتوى بالتفصيل. وشكرًا لكم.(9/1194)
الدكتور عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، إمام المتقين ورسول رب العالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فضيلة الرئيس، أتقدم بكلمة شكر إليكم وسوف أكون موجزًا في هذا التدخل. وتدخلي يتلخص بنقطتين أساسيتين:
النقطة الأولى: تتعلق بالموضوع الذي دار النقاش حوله بالأمس وهي قضية جوهرية أساسية تمس مستقبل الأمة بدولها وشعوبها. وأريد أن أذهب إلى مثل ما ذهب إليه كثير من أصحاب الفضيلة. وأخص بالذكر منهم الدكتور عبد السلام وفضيلة الشيخ المختار السلامي، والدكتور السالوس. ومن المؤكد أن من قواعد الشريعة في التعامل بين الناس مسلمين وغير مسلمين هو إقامة العدالة ورفع الظلم، والمحافظة على حقوق الخلق مسلمين وغير مسلمين، سواء كانت هذه الحقوق حقوقًا جماعية أو حقوقًا فردية. وهدف المجتهد خصوصًا المجتهدين من المسلمين الذين سبقونا ومهدوا لنا طريق الاجتهاد كان استنباط الأحكام الفقهية فيه استنباط وتحقيق هذه المقاصد. فالذين ذهبوا إلى القول فيما يخص كساد النقود في رد المثل أو رد القيمة كلهم يهدفون إلى تحقيق مقاصد الشريعة، لا أشك في هذا أبدًا، لكن المسألة ليست مسألة فقهية بحتة. هي مسألة اقتصادية في المقام الأول. فمسألة الكساد والتضخم أريد أن أصنفها إلى ثلاثة مستويات.
فمثلًا فيه كساد يؤدي إلى انهيار النقود انهيارًا تامًّا أو التعامل بهذه النقود. وهناك كساد يتعلق بانخفاض القيمة أو هناك تذبذب يؤدي إلى ارتفاع القيمة، وفي كل الحالات الثلاث ينبغي فيما أرى التعامل مع هذه القضية؛ لأنها قضية ملحة وقضية اقتصادية، فالمسألة اقتصادية أكثر من أن تكون مسألة فقهية. فالمطلوب إذن كما أشار إليه كثير من العلماء وخصوصًا الدكتور عبد السلام والشيخ المختار السلامي هو ضرورة التوجه إلى إيجاد هيئة متخصصة خصوصًا وهذا يتمشى مع ما اقترح به فضيلة الشيخ الفرفور بالأمس فيكون في شكل اجتماع للخبراء أو مؤتمر أو أي شكل آخر، ويكون البحث فيه بحثًا اقتصاديًّا حول هذه المشكلة من جميع جوانبها. فالقيام بهذا ضرورة للأسباب التالية وهي أن هناك جزءًا كبيرًا من العالم الإسلامي تعرض لمشكلة الانخفاض أو تخفيض قيمة العملة في الأشهر الماضية وأخص بالذكر دولًا من أعضاء هذا المجمع من الدول الإفريقية الناطقة باللغة الفرنسية، وقد حدث خفض قيمة العملة فيها بنسبة 50?، وهناك مشاكل متعددة تتعلق بهذه القضية، ولا شك أن هذه الدول تقوم الآن بترتيبات وبإجراءات لمواجهة هذه المشكلة، لكن الإجراءات الاقتصادية التي تتخذ حاليًا تحتاج إلى تكييف فقهي يتمشى مع الشريعة، وهذا هو دورنا وهذا هو واجبنا هنا.(9/1195)
فأرجو مرة ثانية كما سبق وأن أشرت إليه إن هذا المجمع وأنا على علم بأننا ملمون بهذه القضية وأنا على علم بأن رئيس الجلسة والأمين العام يهتمان بهذه القضية أكثر مما اهتم بها، لكني وأنا أمثل إحدى هذه الدول وأنا أقرأ إليكم الانطباعات التي جئت بها منها. إن هذه الدول تتطلب أو تحتاج إلى حل فقهي سريع تستطيع به أن تبرر المواقف التي تتخذها الآن تجاه اقتصاد العالم والتعامل مع الدول الأخرى. فالمسألة في حاجة إلى مزيد من الاهتمام ومزيد من العمل الجدي. ولا يعني هذا أننا لا نعمل جديًّا ولكننا نحتاج إلى دفع كثير.
والملاحظة الثانية: هي ملاحظة إجرائية وهي تتعلق بأسلوب العمل في هذا المجمع. ففضيلة الرئيس بحزمه وبحنكته استطاع أن يدير هذه الجلسات بجدارة لكنني ألاحظ –وهذه ملاحظة شخصية وقد أكون مخطئًا فيها- أن هناك اهتمامًا كبيرًا بالجدل الفقهي أو التعليق على سلبيات بعض البحوث أكثر من الاهتمام بتقديم حل يمكن التعامل معه، وإذا كان هناك من يريد أن يعلق ويحتاج إلى وقت أكثر من عشر دقائق أرجو من الرئيس أن يوجه وأنا أوافقه على هذا أن هذا الشخص يكتب ما في جعبته من الأفكار ويقدمه إلى الرئاسة ويكتفي بمدة لا تزيد عن عشر دقائق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد،
فإني أشكر العارض على عرضه القيم الذي حرص فيه على أن يكون العرض شاملًا لجميع البحوث التي قدمت في هذا الموضوع. كما أشكر جميع الباحثين على بحوثهم القيمة.
أما ملاحظتي فهي أن هذه المسألة لم تكن جديدة بل وقعت بالمسلمين منذ مئات السنين، وذكر الفقهاء فيها الحكم بوضوح وجلاء. وأحب أن أقول ما قال فيها الفقهاء.
قال الزرقاني في شرحه لمختصر خليل: وإن بطلت فلوس ترتبت لشخص على آخر، أي قطع التعامل بها بالكلية وأولى تغيرها بزيادة أو نقص مع بقاء عينها، فالمثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها أو التغير. ولو كانت حين العقد بمائة درهم ثم صارت ألفًا به كما في المدونة أي عكسه؛ لأنها من المثليات، أما إن عدم جملة في بلد تعامل المتعاقدين وإن وجدت في غيره فالقيمة واجبة على من ترتبت عليه مما تجدد ووضح. هذا كلام الزرقاني وسلمه البناني بالسكوت، وقال الرهوني في تسليمه له: هذا مذهب المدونة. ذكره في موضعين، في كتاب الصرف وفي كتاب الرهون، وعليه عول القاضي عبد الوهاب في تلقينه، وابن الحاجب في تفريعه، واللخمي في تبصرته، وابن يونس في ديوانه، وابن رشد في أجوبته، وابن عساكر في إرشاده، ولم يذكروا فيه خلافًا، بل صرح ابن رشد أنه المنصوص لأصحابنا من أهل العلم. ثم قال: وذكره جماعة خلافًا، ورجحوا ما اقتصر عليه هؤلاء الذين ذكرنا كابن شاس، وابن الحاجب، وأبي الحسن، والمصنف في التوضيح، وابن ناجي في شرح المدونة، مصرحين بأنه المشهور، وابن عرفة وصاحب الشامل وأبي سعيد وابن لبد في تكملته وغيرهم ممن يطول بنا ذكرهم. انتهى.(9/1196)
ثم ذكر عن نوازل بن الحاج، ونزول المعيار أن ابن عتاب أفتى في ذلك إلى قيمة السكة مقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب، وزاد صاحب المعيار: أن ابن عتاب أمر قاضي قرطبة أن يحكم فتواه ولا يخالفها. ومع أن المازري لم يحك إلا قول المدونة الذي مشى عليه جماهير الفقهاء، فإنه قال: وكان شيخنا عبد الحميد يعول على مذهب المدونة فأوجب قيمة الفلوس؛ لأنه أعطى شيئًا منتفعًا به لأخذ منتفع به فلا يظلم بأن يعطى مالًا ينتفع به فلا يظلم بأن يعطى مالًا ينتفع به. ثم إن الرهوني قال نقلًا عن ابن ناجي في شرحه للمدونة: وحاصل ما ذكر في الكتاب أنه يتعين أخذها إن كانت موجودة وهذا هو المشهور، والشاذ يقضي بقيمتها. وعليه فإننا أمام قولين أحدهما راجح مشهور والآخر شاذ أفتى به ابن عتاب الأندلسي وعبد الحميد التونسي، فهل تفتي بالراجح والمشهور وهذا هو رأيي أم نفتي الشاذ؟ فالمسألة مطروحة أمام المجمع الموقر. نعم، هناك قول لا بأس به وأيده الأجهوري أنه يفرق بين أن يكون المدين مماطلًا وغير مماطل. قال الصاوي: وظاهر لو حصلت مماطلة من المدين حتى غلبت الفلوس وبه قال بعضهم، وقال بعضهم: هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة أو من ما آل إليه أمر الجديدة الزائدة على القيمة. قال: وهذا هو الأظهر لظلم المدين (هذا كلام الأجهوري) وقاسه على ما ذكر المواق، قال: كمن امتنع كمن عليه طعام فامتنع ربه من أخذه. وما أشار إليه ذكره المواق فقال: من عليه طعام فأبى الطالب من أخذه ومكنه المطلوب مرارًا حتى غلا الطعام قال مالك: ليس عليه المكيلة وإنما عليه قيمته. انتهى الكلام.
إذن معناه أن المسألة لا تحتاج إلى اجتهاد، وأمامنا قولان وهذا كلام جماعة الأئمة مع أن الأئمة الآخرين غير الإمام مالك كان ... في هذا الموضوع حسبما شاهدتم. معنى ذلك أن قوله: إذا بطلت الفلوس وأصبحت لا تعمل، هذا يعتبر أعلى حد من التضخم؛ لأن هناك زيادة أو نقصًا، أما أن يكون هناك.. فيقال: إنها لا تعطى إلا هي!! المسألة مصيبة، والله –تبارك وتعالى- ذكر المصيبة {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]
إذن لنكن أرحم من الجماعة التي قبلنا أو نكون مثلهم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،(9/1197)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. وبعد،
أشكر الله –سبحانه وتعالى- ثم أشكر رئاسة هذا المجمع وأمانته الأمينة على إتاحة الفرصة لإعادة النظر في هذا الموضوع، فهو في الواقع موضوع له أهميته وله خطورته، وما أحصى من يستغرب صدور هذا القرار مع أني –وأحمد الله- ومثلي عليه جميعًا في أن المجمع وفق في كل قراراته إلى ما فيه تيسير أمور المسلمين، والتوفيق فيما بينهم، إلا هذا القرار فهو في الواقع محل نظر ومحل استغراب لدى مجموعة كبيرة ممن يتحدثون في هذا الموضوع.
الحقيقة أن الأمر –إعادة النظر فيه، جزاكم الله خيرًا- في الواقع في محله، والخليفة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه وأرضاه- يقول وأنتم تعرفون مقالته: ألا لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وأهديت إلى الرشد أن تعيد النظر في الحق، فمراجعة الحق فضيلة، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. ولا نقول: إنه باطل، ولكن نقول: إنه يحتاج إلى إعادة نظر، ونرجو الله –سبحانه وتعالى- أن يوفق الجميع إلى ما فيه إحقاق الحق وبيانه والأخذ به.
الأمر الثاني: -حفظكم الله- القول بأن جمهور العلماء ذهبوا إلى الأخذ برد المثل وأنه ينبغي لنا ألا نتجاوز هذا القول. في الواقع أننا حينما نقول بالقيمة فأعتقد أننا لم نخرج عن قول جمهور العلماء فضلًا عن القول الآخر. فجمهور العلماء –رحمهم الله- لم يقولوا بهذا القول إلا حفاظًا على ألا يكون هناك ضرر على الدائن ولا على المدين، ولكن إذا ترتب على ذلك ضرر وانتفت المثلية من حيث الواقع ومن حيث المعنى، لا قيمة للمثلية الشكلية، ما قيمتها؟ لو الآن أبطل السلطان الأوراق النقدية وكان في ذمتك لأخيك مبلغ من هذه الأوراق النقدية فوافيته بهذه الأوراق المبطلة وهي في الواقع مثلية، أخذت مثل أو لك مثل هذه الأوراق، هل نقول هذه المثلية؟ فالعبرة –حفظكم الله- بالواقع، والعبرة بالمعنى، والشكلية لا قيمة لها إلا إذا كانت متفقة مع الواقع. فنحن حينما نقول بأننا خالفنا جمهور فقهائنا السابقين حينما نقول بالقيمة، نحن في الواقع نتقول عليهم ونقول لهم ما لم يقولوه هم، -رحمهم الله رحمة واسعة- لم يقولوا هذا القول إلا لأنهم يتحدثون عن عمل معدنية من ذهب وفضة وغيرها، لها قيم ذاتية، فإذا نقصت فنقصها لا يتجاوز العشر أو لا يتجاوز الثلث على وجه الأكثر. فنحن الآن أمام نقص ونقص كبير قد يصل إلى ما سمعنا قرابة 4000? وهذا في الواقع يعتبر ضررًا بالغًا وضررًا كبيرًا، وقولنا بأننا نأخذ بالمثلية، في الواقع ليست هذه مثلية وإنما هي مثلية شكلية لا قيمة لها بجانب مخالفتها المخالفة الحقيقية للواقع نفسه، فما قيمة أوراق تعطيني إياها وليس لها من القيمة المعنوية أو القيمة المادية إلا واحد في أربعة آلاف مثلًا؟ هذه ناحية.(9/1198)
مسألة أخرى، ذكر بعض الإخوان –حفظهم الله- أنه ينبغي أن تكون مناهج بحوثنا مرتبطة بما ذكره جمهور فقهائنا، وهذا في الواقع عليه ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن ما كان محكومًا بنص من كتاب الله، أو من سنة رسول الله، أو من إجماع الأمة، فهذا في الواقع محل اعتبار ومحل إجماع ولا يجوز لنا أن نشكك في ذلك أو أن نتردد في الأخذ به، فلا اجتهاد مع نص. أما إذا كانت المسألة محل اجتهاد ومحل نظر، فمحل الاجتهاد ومحل النظر الباب فيه واسع، ونحن لو تتبعنا ما عليه علماؤنا وفقهاؤنا السابقين –رحمهم الله- ونذكر منهم الإمام الشافعي –رحمه الله- فله قولان، قول في القديم وقول في الحديث حينما كان في العراق كان له رأي، وحينما ذهب إلى مصر ورأى تحول الأحوال والظروف صار له رأي آخر. الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- يكون له في المسألة ثلاثة أقوال وأربعة أقوال وخمسة أقوال، وغيرهم، وغيرهم. فالمسائل الاجتهادية لا يجوز لنا أن نربط أنفسنا بالقول بأن هذا ما عليه الجمهور وهو محل اجتهاد، والاجتهاد ينبغي أن يكون كذلك منا أنفسنا نحن على ضوء القواعد الفقهية.
نقطة أخرى، فقهاؤنا –رحمهم الله- كانوا يعيشون منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، وهذه القرون متشابهة في ظروفها وفي أحوالها وفي مناهج حياتها، لكن في عصرنا هذا تغيرت الأحوال تغيرًا بالغًا، وصار هنالك تغير مقاييس وتغير نظر، وتغير ظروف وأحوال، فينبغي لنا ألا نحمل فقهاءنا السابقين ما لم يتحملوه، فلو عاشوا لكان لهم من النظر غير ما قالوه. ولا أقول هذا إنهم سيخالفون نصوصًا شرعية ولكنهم سيخالفون اجتهاداتهم التي كانوا يجتهدون فيها. فينبغي أن يكون هذا الاعتبار، حفظكم الله.
الأمر الثاني: القول بأن الدولة هي المسؤولة عن التضخم. هذا القول محل استغراب! سبحان الله العظيم!! هل حكومة السودان ترضى بأن يكون الدولار يساوي ستمائة أو سبعمائة جنيه؟ والله إنها لا ترضى، والله إنها تتمنى أن يكون الجنيه كالدولار أو أكثر من هذا، ولكنها كيف تعمل؟ وكذلك الأمر في تركيا أو العراق أو في لبنان أو في غيرها من البلدان التي لعملتها قلق وتردد وتردٍّ. فالقول بأن الدولة هي المسؤولة عن التضخم، هذا قول يحتاج إلى إعادة نظر، ولكن مصدر التضخم هو في الواقع مجموعة أسباب وممكن أن يكون خبراؤنا الاقتصاديون يعطونا أو أن ينظروا من أسباب هذا التضخم وهل يمكن أن يكون للمعالجات الشرعية أثر في هذا الشيء؟ نأمل ذلك.(9/1199)
بعض الإخوان يتساءل ويقول: هل نقول بالقيمة في حال ارتفاع القيمة النقدية؟ نقول نعم، لأن الغرض ليس أننا نقول ينبغي أن نعطف على الدائن ولا نعطف على المدين نحن نقول ينبغي لنا أن ننظر الضرر ونزيله فلا ضرر ولا ضرار. فإذا كان المتضرر المدين فينبغي أن يرفع عنه الضرر، وإذا كان المتضرر الدائن فينبغي أن يرفع عنه الضرر، والأمر موكول إلى العدل والإنصاف لا إلى ملاحظة أحد الطرفين دون الآخر.
الأمر الثالث: القول بأن التغير أو بأن ضرر التغير موجود عند من يخزن نقوده في صندوقه أو عند من يجعلها في حساب جار، فماذا نقول في هذا الضرر؟ نقول: هو الذي تسبب في ضرر نفسه. لماذا خزنها؟ لماذا لم يصرفها؟ أو إذا كان عنده حساب جار في بنك، الحساب الجاري يعني أنك تودعه الصباح ويكون لك الحق في أن تسحبه قبل ساعة أو قبل أقل من ذلك أو أن تسحبه في المساء وهو في الواقع حساب جار تحت السحب متى أردت فإذن هو في حكم ما هو تحت يدك وفي صندوقك، فأنت المتسبب في التضرر وأنت المتحمل لهذه المسؤولية.
القول –وهو في الواقع قول آلمني جدًّا- بأن الأوراق النقدية لها حكم الفلوس أو لها حكم العروض كذلك، أو الفلوس على من يقول بأن الفلوس عروض تجارة. هذا قول في الواقع خطير أيها الإخوة معنى خطورته أنه لا ربا في الأوراق النقدية، عندنا أثمان غير الأوراق النقدية؟ إذن لا ربا مطلقًا، ومجمعكم توكلوا على الله ليس له حاجة هذا المجمع؛ لأن الغرض من المجمع معالجة المسائل الاقتصادية والبعد عن الربا وعن المعاملات التي تفضي إليه. فإذا قلنا بأن الأوراق النقدية عروض تجارة فمن عنده من الأوراق النقدية ملايين من هذا النوع أو ملايين الملايين ولكنه يخزنها ولا يريد أن تكون عروض تجارة فلا زكاة فيها ولا ربا فيها، فلا حول ولا قوة إلا بالله!! كيف نقول بذلك؟!. الأوراق النقدية هي الأثمان حقيقية، وتجاهل هذا الشيء تجاهل من يتجاهل الشمس في رابعة النهار.
فأحببت أن أدلي بدلوي في هذا الشيء، وشكرًا لكم، والسلام عليكم.
الرئيس:
بالمناسبة يا شيخ عبد الله في كلمتكم قبل الأمس على أن الحساب الجاري هو قرض.
الشيخ عبد الله بن منيع:
نعم، هو قرض لكنه قرض تحت الطلب.
الرئيس:
المهم أنكم أشرتم إلى أنه قرض، ففي حال كساد العملة المقرضة أو المودعة نقول المقرضة والتي في الحساب الجاري المثل أم القيمة؟
الشيخ عبد الله بن منيع:
بل المثل في هذا الشيء؛ لأنه يستطيع أن يأخذه في أي وقت يراه.
الرئيس:
يعني تخرج من التقعيد الذي ذكرت؟
الشيخ ابن منيع: نعم تخرج من التقعيد.
الرئيس: وكيف نحكم على أنها قرض وتخرج؟
الشيخ ابن منيع: هي قرض.. على كل حال هي مسألة قرض..
الرئيس: لا؛ لأنه في الحقيقة هو إشكال ورد عندي وهو وارد ولا إشكال فيه. يعني يظهر لي أنه وارد. فكون أننا نحن نكيفه (الحساب الجاري) على أنه قرض ثم نأتي في رد العملة في حال الكساد أو التضخم على أنه لا يرد المثل، كذلك ينبغي إلزام البنوك التي تجعل عندها هذه الحسابات الجارية أن ينسحب عليها هذا الرأي، وهذا مستحيل أن البنوك أن ترد إلا ما أعطاه صاحب الحساب.(9/1200)
الدكتور حسن الشاذلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن نهج نهجهم بإحسان إلى يوم الدين.
أشكر فضيلة الدكتور رئيس الجلسة وفضيلة الدكتور الأمين العام، كما أشكر فضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي فيما قدمه من تلخيص لهذه الأبحاث وكان تلخيصًا جيدًا ممتازًا، معبرًا عن فكرة هذه الأبحاث. ولا أعيد ما ذكره الأخ من تلخيص لهذه الأبحاث وبيان ما فيها؛ لأن ذلك كله مدون في هذه الأبحاث، ولكن أريد أن أضع بعض النقاط التي يمكن أن يتكون محل دراسة حتى نصل إلى القرار المطلوب. وهذه نستطيع أن نقسمها إلى نقطتين:
الأولى: حول الصعوبات التي تكشف الانتقال من المثل إلى القيمة.
الثانية: حول الحلول المعروضة على بساط البحث.
أما النقطة الأولى وهي الصعوبات فتتلخص في أننا أولًا أمام عقد، والعقد له قوة أعطاها له الشرع وصانها وحفظها وأمر بالوفاء بها. وفتح كل الأبواب لكي تتحقق العدالة بين المعاملين بأن جعل لهما حق الخيار في عدة ظروف (خيار الرجوع، خيار القبول، خيار المجلس، خيار الشرط، خيار الغبن) ، الخيارات كلها وضعها لتأمين العدالة بين الاثنين ولكي لا يقدم الإنسان على عمل أو على معاوضة إلا وهو واثق من أنها قد حققت هدفها ولم يتعورها أي ظلم أو غبن لدى الجانبين. فقد راعى المشرع الحكيم العدل بالنسبة للدائن، وقد راعى العدل بالنسبة للمدين في صورة المداينات. كما أنه جعل الأصل طريقًا وفتح بابه ولا نقول: إنه استثناء، ولكنه فتحه الشرع لكي ينال من يريد عن هذا الطريق ما يناله، وقد فهمنا أو علمنا أن الأجل دائمًا يقدم عليها الإنسان من مصلحته هو كصاحب سلعة من ناحية، ثم من ناحية أخرى قد يكون قد وضع في مقابلها ما يعادل ما يعوضه عن هذا الأجل وبخاصة أنه كان يعتقد أو كان يظن أو أنه من الاحتمال أن تكون هناك مماطلة، وأن يكون هناك تأخير، أو ما إلى ذلك من الظروف المصاحبة لأداء هذه الحقوق.(9/1201)
إذن أقول: إن المسألة الآن مسألة العقد وما صانه الشرع به وما أحاطه من ضمانات كيف نخترق هذا الحصار ونصل إلى هذه المعاملة بعد أن استقرت لنفتح فيها بابًا لكي نتدخل بتدخل من التدخلات؟ هذه هي الصعوبة الأولى التي نستطيع أن نقول: إن فقهاءنا –رضوان الله عليهم- حينما قضوا بالمثل فيها إنما قضوا من منطلق القواعد الشرعية المتمثلة في وجوب أن تؤدى الحقوق بأمثالها أولًا، أو بالصورة والمعنى وهو المثل، وذلك مستقر –كما تعلمون- سواء كان ذلك في دائرة المعاملات (الذهب بالذهب) أم كان في دائرة الضمانات {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، في طعام بطعام وقصعة بقصعة، إلى آخر ذلك مما ذلك مما لا مجال للبحث فيه.
الانتقال من المثل عند الفقهاء قد يلحظ ويستشف من خلال ما أوجبه الشرع من خيارات فإنه لا ينتقل من واجب إلى واجب إلا إذا قال (فمن لم يجد) ، (فمن لم يستطع) ، يعني جعل الاستطاعة وجعل عدم الوجود وسيلة إلى الانتقال إلى القيمة، أو بعبارة أخرى عندما تتعذر القيمة أو تتأثر –وذلك عندما يتعذر المثل- حينئذ يفتح باب القيمة كي يؤدى الحق معنى لا صورة، وهذا هو الذي جعل جمهور الفقهاء يتجهون إلى القيمة في مثل ذلك ويصرون عليها –كما رأينا- سوى بعض فقهاؤنا الأجلاء حينما فتحوا هذا الطريق أمام الحقيقة التي تواجهنا اليوم. هذه النقطة الأولى.
النقطة الثانية: وهي أن الزيادة والنقص في سعر العملات أو النقود. الواقع أننا نحن نلحظ أنه أمر متغلب، وأمر لا يستقر على حال. ومن هنا فهو يعلو وينخفض أو يستمر في الارتفاع لا نعرف ما مداه ولا ضبطه، وقد يقال لنا: إن ربط الأحكام الشرعية إنما يكون بالعلل الظاهرة المنضبطة، أو بالأمور الظاهرة المنضبطة التي يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا، ومن ثم فالأمر المتقلب الأمر الذي قد يحدث أو لا يحدث أو يحدث في آن ولا يحدث في آخر قد يكون ربط الحكم به صعبًا أمامنا.
النقطة الثالثة: كما سمعنا وعلمنا أن موضوع التضخم وضبطه –وهو يرتبط بما تقدم- صعب. يعني كيف نكيفه؟ أو كيف نحدده؟ ومتى نقول: إنه ننتقل من المثل إلى القيمة؟ وكما رأينا بالأمس بعض الإخوان قالوا الثلث. قد يكون كما قال بعض الفقهاء بالنسبة للغبن وغيره، قد يقال الثلث والثلث كثير، لكن هذا في التبرعات، وحينما يتبرع الإنسان فالتبرع عادة إنما يقول لأجل لا يؤثر على حقوق الآخرين، يعني مراعى فيه اليسير وليس هو صالح لما معنا. هذا أيضًا يعني ضبط التضخم محتاج إلى اجتهاد، ولكي نستطيع أن نصل إلى حقيقة مستقرة ثابتة يربط بها الحكم.
النقطة الرابعة: حق العدالة الذي نتكلم عنه دائمًا ونتحدث في دائرته هو الواقع أن العدالة يجب أن تكون مراعاة في كلا الاثنين، الدائن والمدين. يعني حينما ننظر إلى التضخم أو ننظر إلى انخفاض سعر العملة ونراعيها ونرعى في هذا الدائن أيضًا أن ينطلق إلى المدين حينما تعز النقود كما تحدث فقهاؤنا –رضوان الله عليهم- في ذلك، كما تناولوا هذه القضية، تناولوا عزة النقود وغلوها وتحدثوا فيها حديثًا، نجد من المنطلق الموجود في حالة النقصان نجده هو نفسه في داخل حالة زيادة السعر. فلا بد إذن أننا إذا انطلقنا أن نراعي الاثنين كما رعاهما الشرع أولًا، يجب أن نراعيهما هما أيضًا في حقوقنا ثانيًا حتى لا نميل إلى جانب ونترك الجانب الآخر.(9/1202)
أيضًا فكرة الربا هي تظهر لنا واضحة؛ لأنه حينما يكون مبلغًا من النقود في ذمة إنسان ثم بعد ذلك يختلف ما نأخذه منه عما وجب في ذمته، حينئذ نكون أمام قضية ما، هو اختراق هذه الدائرة حتى يمكن ألا ندخل في دائرة الربا.
هذه هي بعض الصعوبات التي جالت في ذهني في أثناء سماعي أو قراءتي أو كتابتي في هذا البحث.
أما من حيث العلاج –وهي النقطة الثانية- قد عرضت علينا بعض الأمور:
الأول: فكرة الجائحة وآثارها. والجائحة –طبعًا- سبق للمجمع كما علمت أن تناول هذه القضية وهي أيضًا محتاجة إلى إعادة نظر من حيث إن الجائحة كما نعلم وما هو اختلاف الفقهاء فيها، إنما جاءت إذا كانت سماوية، وبعض الفقهاء عمم فجعل أنه إذا كان هناك جيش أو حرب أو ما إلى ذلك يكون في هذه الحالة يمكن أن تقاس على الجائحة السماوية ويظهر أثرها عند بعض الفقهاء في الواجب أداؤه على المدين. إذن نبحث لكي نتخطى هذه الدائرة ونصبح أمام قضيتنا المعروضة الآن؛ لأنه قد يكون التضخم لا إثر آفة سماوية ولا إثر جائحة وإنما قد يكون في غير ذلك.
الحل الثاني: وهو الشرط المذكور في العقد، وقد تفضل فضيلة الأخ الكريم سماحة الشيخ المختار بذكر هذا الموضوع وهو طبعًا أشار إلى صعوبة مثل هذا الشرط وموقف الفقهاء منه، وهو أن يربط –كما فهمت- العملة الواجبة في الذمة معها عملة أخرى بأن يكون الأداء بكذا في كذا، وقد يستدل له –يعني بمثل ذلك- بما ورد وفي نفس الخلاف حينما ورد فيه عند بعض العلماء ومنهم ابن عابدين حينما اشترط إنسان دانق فلوس، ربط الدانق وهو جزء من الدرهم بفلوس ثم بعد ذلك تغير سعر الفلوس وهل يجب عليه حينئذ ما يساوي هذا الدانق –يعني الفلوس التي كانت موجودة في هذا الوقت- أم من الفلوس التي بعد ذلك؟ قال: نجعل إن هذا ليس شرطًا، ولكنه ربط بين نوع من العملة بنوع آخر عن طريق الإضافة كما رأينا وإن كانت العملتان هنا هما في مكان واحد معترف بهما ومقران. وهذا الطريق الثاني يكون حينئذ عرفنا أن الشرط في العقد يحتاج إلى تخريج دقيق حتى يمكن أن نخلص من أنه يجعل الثمن مترددًا بين أمرين، ونحن نريد في العقد دائمًا أن يكون محددًا كما أن المبيع محدد، فكذلك لا بد أن يكون الثمن محددًا لا يعتوره احتمال، أو لا يعتوره شك، ولذلك نكون قد خلصنا من ذلك إلى صحة هذا الشرط إذا كان الأمر كذلك.(9/1203)
الثالث: ما ورد عن الصلح، وقد ورد الصلح هذا أيضًا عند الحنفية فيما أورده ابن عابدين في (تنبيه الرقود) وكذلك في حاشيته، وورد عند بعض علماء الحنابلة أيضًا فكرة الصلح. والصلح نعلم أنه عقد اختياري بين اثنين ينهي خصومة بينهما. فإذا كان عقدًا إراديًّا فسمعت أنه قد نجعله جبريًّا. تحوله من عقد إرادي إلى عقد جبري نلزم به المتعاقدين أيضًا يحتاج إلى تخريج وإلا ما كان صلحًا، يكون حينئذ قرارًا من الحاكم أو من القاضي بإجبارهما، وتدخل الحاكم في هذه الحالة يكون محتاجًا إلى تخريج في هذه الحالة.
الرابع: أقول إن تدخل الدولة بتقويم عملتها حينما تنخفض القيمة أو يحدث فيها انهيار قد يكون ذلك بمثابة حل من الحلول. حينما ترى أن القيمة انحدرت تبدأ الدولة تتدخل، وقد أورد ابن عابدين بعض الأشياء التي حدث فيها مثل ذلك. فأقول: إن تدخل الدولة بتقويم عملتها أو تخفيض القيمة إذا حدث فيها انهيار أو ما إلى ذلك، وثم بعد ذلك يكون الوفاء بهذه الحقوق عن هذا الطريق، كل ذلك يضع أمامنا عدة أفكار للخلاص من هذه الظروف التي تحيط بموضوعنا الذي نبحثه. وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
في الواقع أنا عندما تقدمت في أول الجلسة بنقطة النظام ما كنت أعني مطلقًا معارضة إعادة النظر في أي موضوع، هذا أمر بدهي، لكن إعادة النظر يجب أن تبنى على أسباب وعلى جديد يقدم. في أي لجنة أو مجمع إذا اتخذ قرارًا وطلب إعادة النظر فيه فلا بد أن يبنى على أسباب وجيهة وإلا أصبح الأمر فوضى. فاعتراضي كان على الطريقة وقد ذكر الأمين العام أن هذه البحوث وأن الموضوع لم يكن في جدول الأعمال الأول ولكنه أحلق به ولعله لم يصلني، فقبلنا منه هذا التفسير، لكن لا يزال باقيًا.
الأمين العام:
نقطة نظام من فضلك. الموضوع هذا طرحناه بالأمس وذكرت ما ذكرت وأجبناك عنه وكثير من الإخوة تحدثوا فيه وقد وصلتهم هذه الورقة، ثم ذكرت بأن شعبة التخطيط هي التي قررت أن نتناول الموضوع من الجهتين اللتين عرفت بهما وهي قضية الكساد وقضية التضخم، فحينئذ إن كان لكم حديث في نفس الموضوع فلتتفضلوا مشكورين وإن كان لإثارة هذه القضية التنظيمية فلا حق لكم فيها؛ لأن الأمر قد بت فيه.(9/1204)
الشيخ الصديق الضرير:
يا سيد الأمين العام أنا قلت: قبلت ما قاله وليس في نيتي أن أستمر في هذا الموضوع فلا أظن أن هناك محلًا لنقطة النظام. أنا قبلت قولك.
الذي أريد أن أتحدث فيه هو أن بعض الباحثين ذكر من الأسباب وهذا مما قلته من قبل وأود أن أقوله مرة أخرى أن قرار المجمع كان فيه شيء من التسرع يجعله في حاجة إلى إعادة النظر، فهل يقبل الأمين العام وتقبل الرئاسة أن يكون هذا سببًا لإعادة النظر؟ إن هذا الموضوع قد بحثناه وذكر الإخوة أنه قد بحث في أكثر من ندوة وبحث في المجمع فلم يكن هناك تسرع وإذا كان فيما اتخذناه من قرار سابق تسرع فكيف نقول بالقرار الذي إذا اتخذناه في هذه الجلسة مع أننا لم نطلع على هذه البحوث إلا في هذا الاجتماع؟ كيف أحكم على إعادة نظر في موضوع بناء على بحوث لم أقرأها؟ هذه هي وجهة نظري في الموضوع، ومع ذلك فإن في هذه المداولات لعلها يكون فيها خير ولكن أنا أرى أنه لو اتخذ قرار مخالف للقرار الأول في هذه الجلسة فإنه يكون هو القرار المتسرع.
أعود إلى الكلام في الموضوع. العارض ذكر أدلة الطرفين ولكنه لم يذكر من أدلة المانعين ... ذكرت أدلة نقلية، وأدلة عقلية، وذكرت البديل لهذه المصيبة. ثم إن العارض كان يقول لنا في كل مرة البحوث في أيديكم، صحيح البحوث كانت في أيدينا لكننا لم نقرأها!!
أريد أن أركز على الأدلة التي ذكرها العارض ولم أقرأها في البحوث لأنني اعتمدت على ما قاله. ذكر ثلاثة أدلة: العدالة، نصوص الفقهاء، نظرية الظروف الطارئة. فيما يتعلق بالعدالة تكلم عدد من الإخوة في هذا الموضوع، وفندوا هذا الدليل تفنيدًا واضحًا لا مجال للحديث فيه. وهي ليست عدالة وإنما هي ظلم للمدين الذي سيلزم بدفع أضعاف أضعاف ما اقترضه. ثم إن هذه العدالة تقتضي أن يطبق هذا الحكم على جميع الدائنين والمدينين. ومن المدينين البنوك وقد أشار السيد الرئيس إلى هذا وأؤكد لكم أننا لو طبقناه على البنوك لا يستطيع أي بنك أن يستمر أسبوعًا.
ما يتعلق بنصوص الفقهاء. في بحثي ذكرت نصوصًا كثيرة وتعرضت للنصوص التي يشير إليها أصحاب البحوث التي قدمت هنا وبعضها قدم من قبل، وبينت ما فيها من خطأ. ومن هذه البحوث بحث للشيخ ابن بيه، تعلق فيه هو ومن وافقه وكانوا ثلاثة بكلام الرهوني، وقد تحادثت مع الشيخ ابن بيه في هذا الموضوع ورجع عن رأيه الذي تبعه فيه اثنان من الإخوة الأعضاء لم أسمع منهم رجوعًا، وإنما رجع الشيخ ابن بيه عما أخذوه من كلام الرهوني وفي الجلسة التالية اتصل بي تلفونيًّا وقال لي: أرجو أن تخبر الأعضاء بأني رجعت عن رأيي وهو موجود أمامكم. فكلامهم الذي أخذوه من المالكية غير صحيح، وتمسكوا أيضًا برأي أبي يوسف وهو رأي خطأ، التمسك به خطأ؛ لأن أبا يوسف يتكلم عن الفلوس وليس عن النقود. وقد نقلت لهم عبارة ابن عابدين: إياك أن تظن أن كلام أبي يوسف في الدراهم والدنانير هو في الفلوس فقط.(9/1205)
وبينت في بحثي أن المذاهب الأربعة أجمعت على أن القروض ترد بأمثالها، لم يشذ أحد منهم، وليس في ذلك خلاف إلا ما أشار إليه بعض الإخوة من أن بعضهم فرق بين ما إذا كان مماطلًا – المدين مماطلًا- أو غير مماطل وهذا تفريق وجيه. فهناك إجماع –فيما ظهر لي- بين الفقهاء المتقدمين على أنه لا عبرة بغلاء النقود أو رخصها مهما كان، حتى لو وصل إلى درجة الكساد الجامح كما يعبر إخواننا الاقتصاديون، بل ولو زاد عليه. وقد سمعنا عبارة أنه لو كان بمائة وصار بألف لا يؤثر هذا ما دام النقد موجودًا ومتعاملًا به يرد المثل مهما بلغ. هذه هي نصوص الفقهاء –في رأيي- لا لبس فيها.
نظرية الظروف الطارئة، وهذا الدليل الثالث وهو دليل عجيب في رأيي؛ لأن الظروف الطارئة كما يعرفها صاحب هذا البحث، يعرف علماء القانون الظروف الطارئة بأنه ظرف يحصل بعد التعاقد بصورة مفاجئة لم تكن في حسبان العاقدين، فهل التضخم الجامح يحصل بصورة مفاجئة لم تكن في حسبان العاقدين؟ التضخم يبدأ بـ 1? ويسير إلى أن يصل 30? فيصبح تضخمًا جامحًا. وإذا قالوا: إن التضخم الجامح هذا قد ينطبق على صورة فقط فيما إذا كانت الدولة هي التي خفضت سعر العملة مفاجأة وكان هناك دائن ومدين، ماذا نفعل؟ هل نحمل المدين قرار الحكومة هذا، ونطالبه بأن يدفع ما استدانه أضعافًا مضاعفة؟ لنفرض أنني استدنت اليوم مائة ألف من شخص من عملة ما، وأصدرت الدولة غدًا قرارًا بتخفيض هذه العملة، والمبلغ الذي استدنته موجود عندي وكان من الممكن لو انتظرت إلى الغد أن يكون موجودًا عند الدائن فكيف أحمل أنا هذه المصيبة؟ أليس هذا هو الظلم بنفسه؟ يقول أحد الإخوة عن التضخم وعن حكومة السودان وهل ترضى بهذا التضخم؟ نعم حكومة السودان لا ترضى بالتضخم ولكنها تفعله وقد اعترفوا بهذا، إن لم يكونوا يفعلون كل التضخم، فالسبب الأساسي والرئيسي يرجع إلى الحكومات وليس حكومة السودان وحدها. وقد طلب من هيئة الرقابة الشرعية في بنك السودان معاجلة هذه المسألة. اتضح أن هناك عزوفًا عن الإيداع في البنوك فأرادت الدولة أن تشجع الناس على وضع أموالهم في البنوك فاتضح أن نسبة كبيرة جدًّا في أيدي أصحابها فتقدموا باستفتاء للهيئة، هو في موضوعنا، بأن تضمن الدولة فرق التضخم كله أو جزءًا منه للمودعين في البنوك، وأن تضمن أيضًا فرق التضخم لمن يودعون ودائع واستثمار، فأفتت الهيئة بأنه لا يجوز أن تضمن ما يتعلق بالقرض؛ لأن هذا ربا. ولكن بالنسبة لودائع الاستثمار وافقت الهيئة على أن تضمن فرق التضخم أو جزءًا منه من غير أن تضمن رأس مال المضاربة ولا أن تضمن ربحًا. المضاربة بين رب المال وبين البنك، هو الذي يضارب قد تربح هذه أو تخسر بحسب رأس المال الذي دفعه، لكن عمل الدولة (ضمانة) لا يكون لرأس المال هذا ولا لربحه، وإنما إذا ربح رأس المال فأصبحت المائة مائة وعشرة تضمن فرق التضخم لهذه المائة وعشرة، أو إذا خسر البنك وأصبحت المائة تسعين تضمن فرق التضخم لهذه التسعين، فوافقت الهيئة على هذا على أن تكون تجربة وإلى الآن لم تظهر نتيجتها؛ لأنه كان بعض الاقتصاديين يعتقد أنه قد يكون في هذا علاج للتضخم. ثم قلنا للذين قدموا هذا: إذا كنتم تعترفون بأنكم سبب في هذا التضخم وتريدون أن تضمنوه لهاتين الفئتين والتضخم يصيب عامة الناس فلم لا تضمنونه للجميع؟ فلم يكن عندهم رد سوى أن هذا لا يمكن وأن عمليتنا هذه قد تؤدي إلى انخفاض التضخم فينتفع به الناس عامة.(9/1206)
ثانيًا: إنني قدمت في بحثي بدائل. بالنسبة للقرض، المقرض الذي يريد ألا يقع في هذه الخاسرة ينبغي أن يطلب قرضًا بعملة مستقرة. يطلب من المقرض أن يقرضه دولارات أو أي عملة أخرى ويتجنب هذه المشاكل. وهذا معمول به الآن، كثير من الناس في السودان لا يقرضون بالجنيهات السودانية. والبديل بالنسبة للدين في حالة البيع هو أن البائع يقدر نسبة التضخم التي ستحصل، وهذا أمر مشاهد وواقع، فهو لا يتضرر؛ لأنه إذا كان الثمن الحال مائة يبيع بمائتين ولا حرج في هذا، فيتفادى ضرر التضخم أما المدين لا يستطيع مطلقًا أن يتفادى ضرر التضخم لو ألزمناه به.
الشيخ السلامي قدم حلًّا وهو اتفاق بين المتعاملين على القضاء بعملة. الواقع أنه إذا كان المراد بهذا الحل أنه إذا كان القرض مثلًا بالجنيهات السودانية يتفق الدائن والمدين على أن يقضي بدولارات بقيمة الجنيهات السودانية يوم القرض، فهذا في رأيي لا يجوز؛ لأن هذا سيكون صرفًا مؤجلًا، لكن الذي يجوز هو أنه إذا أقرض بهذه الجنيهات ثم حل الأجل وأراد أن يقضيه دولارات يجب أن يقضيه بسعر يومه كما جاء في الحديث، لكن المثال الذي ذكرته إذا كان هذا المراد وهذا قد عرضه بعض الإخوة في السودان أنه يقترض عملة سودانية ويتم تقديرها بأنها تساوي كذا دولار ويقول له هذا هو.. مع أنه اقترض بعملة سودانية ولم يقترض بالدولار، يقول: إنه كذا سوداني هذه تعادل كذا دولارًا، وسأدفع لك كذا دولار عند حلول الأجل، فرضنا هذا لأن هذا صرف مؤجل.
أكتفي بهذا، وشكرًا جزيلًا.
الشيخ العماري:
بسم الله الرحمن الرحيم:
لا أريد أن أطيل في هذه المداخلة ولكن أريد أن أقول: إن مسألة التضخم أيضًا، وهو أن الفجور في هذا العالم، فجور المستغلين. وعندنا في التراث تحدث للناس أقضية بمقدار ما يحدث من فجور، فلا بد أن يفكر المسلمون في الحلول التي تنقذهم من هذه الأوضاع السيئة في بلدانهم؛ لأنه هناك أناس آخرون هم الذين يتحكمون فيهم. ماذا نعمل نحن؟ والفتوى كما هو معروف لا ينكر تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان. ونحن نعرف أن فقهاءنا –رضوان الله عليهم- أفتوا في بيئة وأوضاع لم تكن موجودة الآن، ولذلك اختلفت وجهات النظر. أنا أرى باختصار أن على المجمع الفقهي أن يحاول دراسة القضية مع الخبراء ومع كل المختصين حتى يطلع بقرار ناضج ولا مانع أن يرجع ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي كما يقول سيدنا عمر. لا يمكن أن نتمسك ونعتبر كل قرار كأنه منزل من السماء كما يرى بعض الإخوة. لا بد أننا نبحث أكثر ونتطلع إلى الصواب وإلى ما هو أقرب إلى الصواب حتى نصدر القرار المناسب في حياتنا.(9/1207)
كانت العملة الرائجة في ذلك الوقت الذهب والفضة وهي عملة لها قيمة ذاتية كما قال الإخوة، والفلوس التي كانت من الناس ما كان يستدان بها في مبالغ ضخمة وكان لها معيار هو الذهب والفضة، وهنا الآن نحن في ورق، الحكومة تضرب ولا ندري ما وراء ذلك. ولا بد أن نفكر، ولا أقول: إن عندي رأيًا معينًا في موضوع التضخم وكيف نعالجه. بل علينا نحن أن نترك أولًا الصناعة الفقهية البحتة حتى ننزل كل الأمور عليها، هذه يجب أن نتركها ونفكر في مقاصد الشريعة العامة، هذا إذا أردنا أن نحل مشاكلنا حسب ما هي واقعة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وبعد،
هذا الموضوع الذي أثير في الكويت وكنت في ذلك الوقت قد تقدمت ببحث وافٍ وجلي وهو مطبوع في مجلتكم المتداولة فيما بينكم، ومنذ ذلك الوقت كان رأيي هو الأخذ بما عليه بعض الفقهاء نم مراعاة قضية الكساد أو التضخم والانتقال من المثلية إلى القيمة للاعتبارات التالية:
أولًا: من ناحية التكييف الفقهي لقضية الربا ومعناه.
ثانيًا: قضية سك أو طبع النقود الورقية في الوقت الحاضر.
ثالثًا: ما يتعلق بأقوال الفقهاء.
ثم أعرض خلاصة لما يمكن أن نعالج به هذا الموضوع.
أما ما يتعلق بالتكييف الفقهي. مما لا شك فيه أن الإسلام دين العدل، ودين الرحمة، ودين يحارب الجور والظلم بمختلف أشكاله، وما تحريمه للربا إلا من أجل هذا، وهو إحقاق الحق ومحاربة الباطل، وإنصاف الناس، وسد كل الذرائع المؤدية إلى التلاعب بالأسعار، والادعاءات التي تعصف بأصل النظرة إلى معنى التعامل والمبادلات فيما بين الناس.(9/1208)
فمن المعروف أن قضايا العقود ينبغي أن تكون قائمة على مبدأ التعادل في التبادل ومبدأ الموازاة في العوضين، ومبدأ الأخذ بمعيار المماثلة والمساواة. وهذا صحيح، ولذلك كان الشرع في هذا حكيمًا في تقرير المثلية (الذهب بالذهب، إلى أن قال: مثلًا بمثل ويدًا بيد) ويريد من فرض معنى المثلية هو تحقيق الحق وسد كل أوجه التلاعب والادعاءات حتى لا يفتح مجالًا للناس في منافذ يصلون بها إلى الربا بنواحٍ مختلفة أو مفتعلة أو لها بصيص من الأمل في السوق الحاضرة. فلذلك المثلية في الحقيقة هي يراد بها إحقاق الحق وإلزام الناس بالعدل. والمثلية ذات معنى وليست مجرد شكل أجوف، والعبرة دائمًا في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. ومن هنا أنا أصر على أن معنى المثلية التي يجب فيها أداء المقترض للمقرض إنما هو من أجل تحقيق العدل ومنع الجور، ومنع الاستغلال. وإذا كان هذا هو المعنى الذي يقوم عليه تحريم الربا، وهذا هو المعنى الذي –أيضًا- ورد النص في الربا على هذا النحو، لذلك فإن الفقهاء –في الحقيقة- وجمهورهم لا شك، أن المذاهب الأربعة تقرر ضرورة أداء المقترض للمقرض أن يؤدي ما أخذه جنسًا ونوعًا مقدارًا وصفة. هذا لا اعتراض لنا عليه، وإنما هناك أيضًا جانب آخر من القضايا وهي أن الفقهاء في الواقع اختلفوا حول هذه المسألة، ونحن صدرت لنا قرارات في هذا المجمع وأخذنا برأي بعض الفقهاء وتركنا الجمهور. فإذا الغضاضة في احتمال أن نخالف رأي الجمهور؛ لأنه لم يكن سائرًا على وتيرة واحدة في منهج قرارات هذا المجمع، وأخيرًا منها مثلًا قضية العربون في بروني. الذي يقر هذا المبدأ هم الحنابلة وأخذ بذلك وترك مذهب جمهور العلماء. كذلك قضية (ضع وتعجل) أخذ برأي الحنابلة وترك ما عليه أغلب العلماء من أن هذا يعد منفذًا للربا. فإذن نحن لا ضير علينا ولا نغض من شأن الفقهاء واعتباراتهم ولا نحاول أن ننقلها بشكل متعسف، فالفقهاء قرروا هذا وهم الأغلبية إلا أن هناك أيضًا بعض الفقهاء في المذاهب المعتمدة، في مذهب المالكية وفي مذهب الحنابلة وفي –أيضًا- رأي أبي يوسف في الكساد فيها واضح وإن لم ير بعض إخواننا أن هذا ينطبق على النقود الورقية، في الحقيقة هذا نخالف فيه والواقع أن هذا المعنى الذي يراه أبو حنيفة وهو كان قاضي القضاة في عصره ويرعى ويعرف ما عليه حال المسلمين وحال الناس، هذا كان بحثي في الماضي وليس جديدًا الآن، هو ضرورة الأخذ بهذا الاتجاه الثاني. وإن لم يكن رأي الأغلبية.
المسألة الثانية: ما معنى النقود الورقية في الوقت الحاضر؟ النقود الورقية في الوقت الحاضر ما هي إلا قيام هذه الدولة بطبع أوراق مراعية في ذلك في الماضي ما كان عندها من رصيد ذهبي والآن سحب الرصيد الذهبي في أن يكون غطاء للأوراق النقدية وأصبح جملة الإنتاج في الدولة وصادراتها وإنتاجها هو المقوم لعملة هذه الدولة. فهذا معنى النقود الورقية. وحينئذ ما دام هذا هو المعنى فالواقع نحن مع معالجة قضية التضخم ولكن بالاعتماد على ما تقوم به البنوك المركزية من تسعير هذه العملة الورقية المحلية في هذه الدولة. هذا التسعير في الواقع هو ملزم. فالقضية اعتبارية وليست قضية ذاتية في قضية النقود الورقية ونقيسها على الذهب والفضة.(9/1209)
فالنقود الورقية هي اعتبارية. الدولة تقول الآن: عملتي تساوي خمسين بالمائة –مثلًا- من ما يوازيها من الدولار أو غير ذلك، وهذا ما تصرح به البنوك المركزية. فحينئذ إذا كان هذا هو شأن النقود الورقية فلم لا نسير مع قرار الدولة، طبعًا نسد الباب أمام ما يجري في السوق السوداء من التلاعب بالأسعار ومحاولة تخفيضها بافتعالات يقوم بها الصرافون، هذا نحن ينبغي ألا نتأثر بهذا الاتجاه وهو ما عليه السوق السوداء، إنما نلتزم بما عليه التسعير الرسمي الذي تصدره البنوك المركزية لعملتها بين فترة وأخرى. وما دام هذا هو الذي ينبغي أن نفهمه عن النقود الورقية وأظن أن إخواننا الاقتصاديين وقد درسنا الاقتصاد أيضًا يقرون هذا المعنى وبالتالي يكون علاج التضخم في تقديري ينبني على هذه الأسس الثلاثة.
الأساس الأول: ينبغي إذا اعتبرنا مسألة معالجة التضخم أن يكون ذلك في ضوء التسعير الرسمي للعملة المحلية دون أن نترك مجالًا لما عليه حال الناس في السوق السوداء.
الأساس الثاني: ينبغي أن نكون أيضًا محققين لمبدأ العدالة فنراعي هذا المبدأ في جانبيه الإيجابي والسلبي وهي حالة الارتفاع والانخفاض في آن واحد حتى يكون قرارنا سليمًا.
الأساس الثالث: ينبغي –أيضًا- ألا نتأثر بما هو معروف لدى فقهاؤنا من أن الغبن اليسير لا يعول عليه في المبادلات، وإنما المعول على الغبن الفاحش هو الذي لا يدخل تحت تقويم المقومين وقدره المالكية بالثلث، وقدره –أيضًا- الحنفية بثلاثة من عشرة يعني الثلث أو أزيد قليلًا. فكل هذا معيار يجعلنا نعالج هذه المسألة إذا كان ارتفاع أو انخفاض العملة يعادل الثلث فأكثر فهذا ضابط سليم. وحينئذ نرفع الضرر في هذه الضوابط عن كل من الدائن والمدين.
وأخيرًا ينبغي ألا نتأثر بما يقال ويفتي بعض إخواننا من العلماء من أن قضية الفائدة الربوية وسمعنا هذه الفتوى أخيرًا، أن هذه الفائدة الربوية ما هي إلا تجسيد لنزول وهبوط العملة، يعني التضخم فالسبعة بالمائة التي تدفعها الدولة أو تعطي أربعة بالمائة يقول: هذا حلال، لماذا لأن العملة انخفضت فيكون لي حق أصيل في أن آخذ هذه الفائدة لتغطية انهيار العملة المحلية. الحقيقة هذا منفذ خطير؛ لأننا إذا لجأنا إليه يؤدي إلى مشكلات كثيرة واضطرابات في موازين الناس وتصرفاتهم، مثل هذا في الحقيقة لا يصح أن نعول عليه.(9/1210)
أخيرًا قضية قياس هذا الموضوع على الجائحة. سمعنا أن الجائحة سماوية، وهل هناك تعبير أرقى من هذا التعبير الذي ذكره فقهاؤنا؟ الأزمة الاقتصادية التي تحل بالدولة هي أشد عتوًّا وتأثيرًا وتهديدًا لاقتصاد الدولة من الجائحة السماوية. الجائحة السماوية تصيب جانبًا –مثلًا- من المزارع، في بعض البساتين دون البعض الآخر، أما هذا فهو بلاء عام هو يسري أثره على كل وضع الدولة وقد تهدد بالإفلاس في أزمتها الاقتصادية الخانقة. فإذن هو أخطر من الجائحة السماوية، والماليكة والحنابلة صرحوا بأن الجائحة السماوية إذا كانت في مقدار الثلث –وهو الضابط الذي ذكرته- يعد مفتاحًا لحل المشكلة وإن كان الشافعية –مثلًا- لا يأخذون بهذا الاتجاه. فالقضية قضية اختيار لأحد رأيين، لنمنع السخرية التي وجهت والهزء لقرارنا السابق والتهكم الذي لقيه هذا القرار السابق من الناس قاطبة وهو أن مجمع الفقه في الحقيقة ما هم إلا جماعة مخلدون للنصوص القديمة وليس عندهم تفتح، واتهمونا في عقولنا وفي أفكارنا وفي جملنا وفي تقديراتنا. فإذن الحقيقة نحن ينبغي أن نكون واعين لحل هذه المشكلة ولا مانع عندي من أن توضع هذه الضوابط وغيرها وتحل هذه القضية على نحو سليم لنخرج بقرارات تتفق مع ما يتقبله الناس، نحن لا نصادم الشريعة كما قلت وإنما علينا أن نوازي ونحقق معنى العدل.
الرئيس:
نقطة بسيطة يا شيخ وهبة. قضية سخرية الناس واستهزائهم، المبطلون ما يزالون يسخرون بالحق فليست هذه حجة ولا أود أن تثار في مثل هذه الموضوعات؛ لأنه قرار صدر عن قناعة شرعية ولا نعتقد في جميع الإخوان إلا أنهم مقتنعون به حسبما يريدون به الله شرعًا. صار خطأ، صار صوابًا، ما زال يخطئون ويصيبون، وما زال الناس يستمرون على قرار أو يؤثرون على قرار بالنقض أو بنقض جزئية منه وما إلى ذلك، أما الذين يسخرون ويستهزئون فهم بين أحد رجلين، إما رجل مغرض أو أنه لا يفقه ولا يعرف حتى ولو كان ذا شأن؛ لأنه لا يجوز أن يسخر بقرار إلا إذا بناه على سوء الظن، وهذا أرجو أن يكون –إن شاء الله- مرفوعًا عن أهل العلم وأهل الرأي ومن يقصد الحق فيما يقرره. وشكرًا.(9/1211)
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم
أبدأ أولًا بأن أقول كل الثقة والاحترام والتقدير لقرارات المجمع فهذه كلها نتيجة ثلاث فضائل: اجتهاد ويؤجر المرء عليه.
الموضوع في ذاته أن الاتفاق شامل في النظر إلى المثلية، ولكن الاختلاف بين الباحثين في حقيقة المثلية المقصودة، هل هو الشكل أم الأصل في تماثل الأشياء بمعنى قيمتها؟ فلو نظرنا إلى.... تجنبنا النقود وأخذنا قياسًا على القمح، أخذت صاع قمح وأريد أن أرده، صاع القمح الذي أخذته نقي، هل يكون المثل صحيحًا إذا رددته بصاع من القمح الذي ينخره السوس؟ فإذا انتقلنا إلى النقود من هذه النظرة نلاحظ أن النقود عندما كانت ذهبًا وفضة كانت لها قيمتان، قيمة ذاتية لكونها معدنًا نفيسًا، وقيمة اصطلاحية باعتبارها سكة. فإذا سقطت من التداول كعملة بقيت القيمة كمعدن له ثمنه، أما النقود الورقية فرغم أنها تقاس على الذهب والفضة كوسيط للتبادل ومقياس للأثمان إلا أن هذا القياس لا يصل إلى درجة اعتبارها قيمة ذاتية. فالمستفاد من الأبحاث المقدمة أن المطلوب ليس أن يبتعد النظر عن قاعدة المثلية بل أن يتجه النظر إلى إظهار حقيقة التماثل، ومتى يكفي العدد؟ ومتى يصار إلى القيمة عندما يختل التماثل؟ وبناءً على ذلك فإن الأبحاث المقدمة يكمل بعضها بعضًا رغم ما قد يتبين أنه تناقض في الآراء ويمكن الاستعانة بما قدمه الباحثون في النقاط التالية:
أولًا: ملاحظة أن النقود الورقية ليست ثمنًا بالخلقة كالذهب والفضة كما أوضح ذلك في بحثه الأخ الدكتور منذر والدكتور ناجي عجم.
ثانيًا: الإفادة من التأصيل الفقهي الذي حفل به بحث فضيلة الشيخ ابن منيع.
ثالثًا: عدم إخضاع التغيرات المعتبرة للقرارات الاقتصادية الموجهة غالبًا، بل الاعتماد في ذلك إلى توجه النظر لاعتبار القيمة على أساس أقوى ثباتًا مثل قاعدة سعر الذهب حسب ما يتضمنه بحث الدكتور القري.
رابعًا: ألا يكون الربط في التغير ربطًا آليًّا، وإنما يكون ذلك مسموحًا به إذا اتفق عليه أطرافه عند التعاقد، وأن يكون هذا الاتفاق مسموحًا به حيث إنهم يتراضون وهم يرون الحال ويركنون إلى وسيط يرجع إليه بالزيادة والنقصان في جانبيهما، كما تضمن ذلك بحث فضيلة الشيخ السلامي.(9/1212)
خامسًا: النظر إلى اعتبار تنصيف الفرق الفاحش في الأسعار إذا لم يكن هناك اتفاق مسبق وذلك حسب ما ورد في بحث فضيلة الشيخ الزرقا.
سادسًا: أن تكون المعالجة شاملة لكل حالات الالتزام وعدم الاقتصار على أداء المدينين للدائنين، كما بحث ذلك الأخ الدكتور السالوس وفضيلة الدكتور الشاذلي.
النقطة الأخيرة هنا، من واقع المناقشات أن التفرقة يجب أن تكون منظورًا لها بين القرض الحال الذي يملك فيه المقرض أن يأخذ أو يسترد أمواله كالحساب الجاري وبين القرض المرتبط بزمن. ففي القرض الحال هناك تراخ من صاحب الحق في أنه لا يسترد ماله ويعيده إلى القيمة أو يحافظ على قيمته أما القرض الزمني فهو مرتبط بأن يستوفى بعد مرور مدة من الزمن. وشكرًا لكم.
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
أشكر لكم الإخوة الذين تقدموا بعروضهم في هذا الموضوع وإن كان للمرة الثالثة بالإضافة إلى الندوات التي عقدناها في هذا الغرض ولم تنته إلى نتيجة، وسوف يكون هذا الموضوع مستمرًا معنا ما دام التضخم قائمًا. والذي أريد أن أشير إليه أن كل إخواننا من الذين تفضلوا بالمناقشة على حق، ولا أقول لأحد منهم بأنه قد أخطأ، هذا لا يجوز لا فقهًا ولا عقلًا ولا تدبيرًا، ولكني ألاحظ أن أكثر الأوراق أشارت إلى منهجين في حل هذه القضية، المنهج الأول هو الرأي الذي يقول برد المثل من غير التفات إلى ما حصل من انقطاع العملة أو كسادها، وهذا الرأي لا يمكن القياس عليه بحسب ما استمعنا من الملاحظات والمناقشات إلى آخره، لا يمكن أن يقاس عليه حكم النقود الورقية لاختلافها عن النقود الذاتية من وجوه كثيرة وقع شرحها والتنويه بها. وأما الرأي الثاني فقد وقفنا في هذه الأوراق المقدمة إلينا على أن طائفة من العلماء ومن الفقهاء في مختلف المذاهب أخذت به، فأقل هؤلاء في الاتجاه الذي مالوا إليه: إن انقطعت فلوس قضى قيمتها. وهذا كلام سحنون وكلام أشهب، وقال ابن شاس: إذا كانت الفلوس من بيع فعلى المبتاع قيمة السلعة. وهذا الرأي اشتهر في القرن الخامس كما جاء في ورقة فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي، اشتهر في القرن الخامس وكانت به الفتوى في بعض الأمصار، ذلك أن الدائن عمر ذمة المدين بشيء منتفع به –أي له قيمة- وقت العقد، فإذا تلفت قيمته فإنه يكون من العدل أن يعيد للدائن نظير ما أخذه منه، ولا يتحقق ذلك بالعدد الظاهر ولكن بالقيمة النفعية التي كانت وقت العقد، فإذا بقيت السكة رائجة على حالها بمعنى على قيمتها كان العدل أن يأخذ بنفس السكة، وإذا انقطعت وحولت أو تحولت أخذ قيمتها من السكة الجديدة حتى تكون هذه السكة المحدثة التي يتقاضاها عن دينه تمكنه مما كان يتمكن منه من السكة القديمة.
ثم وجدنا أن الأوراق التي عرضت علينا تناولت من طرف الاقتصاديين والفقهاء جميعًا اعتبار النقود الورقية التي أصابها تغيير فاحش محمولة في اعتقادهم وفيما قرروه بما يلحق النقود من الكساد، ونبهوا على مواقف كثير من علماء المذاهب من هذه المسألة، فقالوا بالقيمة وبمراعاتها في المتماثلات؛ لأن المثلية لا تتحقق على الوجه الصحيح إلا بالتساوي فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، وأوردوا في هذا المجال كلام الرهوني من المالكية وكلام ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة، وأقوال أبي يوسف ومحمد من الحنفية، وتبين من مجموع ذلك أن القول بوجوب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة هو الأولى بالاعتبار؛ لأنه الأقرب للعدالة والإنصاف، ولأن فيه رفع ضرر عن كل من الدائن والمدين ولاحظ هؤلاء الإخوان بأن هذا الحكم أو هذا الاتجاه يرجع بنا إلى تحكيم القاعدة العامة الشرعية التي تقول: " لا ضرر ولا ضرار " ورغم جموح غالب الدراسات إلى هذا الرأي والاتجاه الذي لاحظنا فإن بعض الإخوان خلطوا هذا الموضوع بقضايا أخرى تتصل بأسباب التضخم وأرادوا أن يبحثوها ولكن الوقت لا يتسع لذلك، وأنا أعلم وأتأكد بأن الحكم لا يكون حكمًا نهائيًّا إلا بربطها بهذه الأسباب ومعرفة طريق الخروج من هذه النتائج السلبية التي حصلت للتضخم، وقد طرحت بعد ذلك أوجه كثيرة في التقويم. إذا نحن ملنا إلى القيمة فما هو طريق تقويم هذا الفارق إذا كان كبيرًا، إذا كان فاحشًا؟ فعرضت علينا صور متعددة، وهذه الصور المتعددة تناولت بغير شك في المحل الأول الرجوع إلى الذهب باعتباره هو الأكثر استقرارا وثباتا، والرجوع إلى سلة السلعة وهذا معتمد في كثير من الدول، وبعضهم يقول: ينبغي الاتفاق على طريقة في البيوعات أو المعاملات المستقبلية حتى لا يكون الطرفان على رضا بما يريدان أن يصلا إليه عند الحكم في هذه القضايا. ثم جاءتنا الورقة التي وقع التنويه بها كثيرًا والتي أشار إليها أكثر من واحد وهي قضية الطوارئ العارضة التي تقتضي في نظرهم أن الأمر ينبغي أن يكون مناصفة بين الدائن والمدين حتى لا يتضرر أحدهما. وهذه الفتوى التي صدرت في الظروف الطارئة التي أخذ بها مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة في دورته الرابعة، وذلك من نحو ثلاثة عشر عامًا اعتمادًا على ما استند إليه من الأدلة الشرعية في ذلك الوقت.(9/1213)
قلت: هذا وأريد أن أضيف إليه شيئًا واحدًا هو أن هذا الحديث أفادنا فوائد كثيرة من أهمها وجوب التفكير –كما قال فضيلة الشيخ الفرفور- في عقد ندوة تبحث هذه القضايا، هذا ما فكر فيه المجمع من أيام عديدة منذ أكثر من شهرين ونحن نتابع هذه القضية، ووقع الاتفاق بين مجمع الفقه الإسلامي وبين مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين على عقد ندوة بل ندوات حول هذا الموضوع وأكثركم من الإخوان الفقهاء والاقتصاديين مدعوون للمشاركة فيها، وترتيب هذه الندوات بحسب الموضوعات: ندوة أولى في التضخم، تعريفه وأسبابه وطرق قياسه. الندوة الثانية في الآثار الاقتصادية والاجتماعية للتضخم. والندوة الثالثة في الحل الإسلامي لمعالجة الآثار السلبية للتضخم.
لهذا أردت أن أحيط حضراتكم به لنكون على بينة من أن الأمر يحتاج دائمًا إلى زيادة التفكير والتروي في إصدار القرارات والأحكام، ولهذا لا سبيل إلى اللجوء إلى طريق الحكم إلا باعتبار القيمة لا باعتبار المثلية؛ لأن المثلية لا تكون متحققة تمام التحقق إلا إذا تساوى المثل مع المثل الآخر في قيمته الحقيقية لا في صورته الشكلية.
وشكرًا لكم.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نعتذر عن بقية كلمات أصحاب الفضيلة والأساتذة لانتهاء الوقت ونختم هذه الجلسة بما يلي: وهو أنه يستخلص من المداولات أن هناك أربعة اتجاهات:
الأول: الرد إلى المثل كما صدر به القرار في الدورة الخامسة بالأكثرية من أعضاء هذا المجمع.
الثاني: الرد إلى المثل لكن في حال التضخم والكساد الجامح يكون التقدير بالقيمة.
الثالث: اللجوء إلى الصلح الواجب.
الرابع: جعل حد أعلى للغبن ... على القول بالمثل والآثار السلبية على القول بالقيمة أو على كل قول من هذه الأقوال، ثم بعد التحرير الكامل من الاقتصاديين والفقهاء تحال إلى هذا المجمع في دورة لاحقة. وعلى كل يتبين كذلك أنه ليس هناك أكثرية إلى رأي من هذه الآراء، لكن ممكن أنكم ترون أن تؤلف لجنة من وجهات النظر بعد سماع هذه الخلاصة إثر المداولات من أصحاب الفضيلة والأساتذة: العارض، المقرر، الشيخ تقي، الشيخ ابن بيه، الشيخ ابن منيع، الشيخ علي السالوس، مناسب.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(9/1214)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
قرار رقم: 93/6/د9
بشأن: "قضايا العملة"
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415 هـ، الموافق 1-6 أبريل 1995 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "قضايا العملة"
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دلت على أن هناك اتجاهات عديدة بشأن معالجة حالات التضخم الجامح الذي يؤدي إلى الانهيار الكبير للقوة الشرائية لبعض العملات منها:
أ- أن تكون هذه الحالات الاستثنائية مشمولة أيضاً بتطبيق قرار المجمع الصادر في الدورة الخامسة، ونصه "العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًّا كان مصدرها بمستوى الأسعار".
ب- أن يطبق في تلك الأحوال الاستثنائية مبدأ الربط بمؤشر تكاليف المعيشة (مراعاة القوة الشرائية للنقود) .
ج- أن يطبق مبدأ ربط النقود الورقية بالذهب (مراعاة قيمة هذه النقود بالذهب عند نشوء الالتزام) .
د- أن يؤخذ في مثل هذه الحالات بمبدأ الصلح الواجب، بعد تقرير إضرار الطرفين (الدائن والمدين) .
هـ- التفرقة بين انخفاض قيمة العملة عن طريق العرض والطلب في السوق، وبين تخفيض الدولة عملتها بإصدار قرار صريح في ذلك بما قد يؤدي إلى تغير اعتبار قيمة العملات الورقية التي أخذت قوتها بالاعتبار والاصطلاح.(9/1215)
و التفرقة بين انخفاض القوة الشرائية للنقود الذي يكون ناتجاً عن سياسات تتبناها الحكومات وبين الانخفاض الذي يكون بعوامل خارجية.
ز- الأخذ في هذه الأحوال الاستثنائية بمبدأ (وضع الجوائح) الذي هو من قبيل مراعاة الظروف الطارئة.
وفي ضوء هذه الاتجاهات المتباينة المحتاجة للبحث والتمحيص.
قرر ما يلي:
أولاً: أن تعقد الأمانة العامة للمجمع –بالتعاون مع إحدى المؤسسات المالية الإسلامية - ندوة متخصصة يشارك فيها عدد من ذوي الاختصاص في الاقتصاد والفقه، وتضم بعض أعضاء وخبراء المجمع، وذلك للنظر في الطريق الأقوم والأصلح الذي يقع الاتفاق عليه للوفاء بما في الذمة من الديون والالتزامات في الأحوال الاستثنائية المشار إليها أعلاه.
ثانياً: أن يشتمل جدول الندوة على:
أ- دراسة ماهية التضخم وأنواعه، وجميع التصورات الفنية المتعلقة به.
ب- دراسة آثار التضخم الاقتصادية والاجتماعية وكيفية معالجتها اقتصاديًّا.
ج- طرح الحلول الفقهية لمعالجة التضخم من مثل ما سبقت الإشارة إليه في ديباجة القرار.
ثالثاً: ترفع نتائج الندوة –مع أوراقها ومناقشتها- إلى مجلس المجمع في الدورة القادمة.(9/1216)
سد الذرائع
إعداد
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
الأستاذ بجامعة العلوم التطبيقية بالأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
سد الذرائع
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:
بطلب من أمانة مجمع الفقه الإسلامي الموقر، أقدم بحثي هذا المتواضع الموسوم بـ (سد الذرائع) ، سائلا المولى عز وجل أن أكون قد وفقت فيما كتبته. إنه حسبي وعليه التكلان.
الذرائع: جمع ذريعة، والذريعة في اللغة تستعمل لعدة معان، منها كل ما يتخذ وسيلة يتوصل بها إلى الشيء سواء كان حسيًّا أو معنويًّا، خيرًا كان أو شرًّا (1) .
الذرائع وأما الاصطلاح الشرعي، فقد استعملت اللفظة بمعنيين، عام وخاص.
المعنى العام للذريعة:
يراد بالذريعة ـ على هذا المعنى ـ كل مسلك أو طريق اتخذ للتوصل إلى شيء آخر، بصرف النظر عن كون الوسيلة أو المتوسل إليه مقيدًا بوصف الجواز أو المنع (2) وهي بهذا المعنى تشمل ما اتفق عليه وما اختلف فيه، ويتصور فيها الفتح كما يتصور فيها السد، وذلك أن موارد الأحكام قسمان: مقاصد، وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسهم، أي التي هي مصالح أو مفاسد في ذاتها. ووسائل، وهي الطرق المفضية إلى المقاصد.
وحكم الوسائل كحكم ما أفضت إليه من المقاصد، فوسيلة الواجب واجبة، كما أن وسيلة المحرم محرمة. وإلى هذا المعنى أشار ابن القيم حيث قال: " لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات، والمعاصي ـ في كراهتها والمنع منها ـ بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطها بها، ووسائل الطاعات والقربات ـ في محبتها والإذن فيها، بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل (3) ".
__________
(1) جاء في لسان العرب: " الذريعة، وقد تذرع فلان بذريعة، أي توسل، والجمع الذرائع، والذريعة مثل الدريئة، جمل يختتل به الصيد يمشي الصياد إلى جنبه فيستتر به ويرمي الصيد إذا أمكنه، وذلك الجمل يسيب أولًا مع الوحش حتى تألفه". انظر مادة ذرع
(2) الأستاذ مصطفى ديب البغا في مؤلفه (أثر الأدلة المختلفة فيها مصادر التشريع التبعية) ص 566.
(3) انظر إعلام الموقعين 4/147(9/1217)
ما المقصود بسد الذرائع؟
يراد بسد الذرائع، منع الطرق التي تؤدي إلى إهمال أوامر الشريعة أو الاحتيال عليها، أو تؤدي إلى الوقوع في محاذير شرعية ولو عن غير قصد (1) .
الذريعة والسبب:
قد تأتي الذريعة بمعنى السبب في اللغة، من ذلك ما قاله ابن منظور: " والذريعة السبب إلى الشيء، يقال فلان ذريعتي إليك، أي سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك" وفي نوادر الإعراب، يقال: أنت ذرعت هذا بيننا وأنت سجلته، بمعنى سببته (2) . إلا أن الذريعة تختلف عن السبب في الاصطلاح؛ لأن السبب اصطلاحًا هو ما جعله الشارع علامة على وجود الحكم الشرعي بحيث يوجد هذا الحكم عند وجوده وينعدم عند عدمه (3) .
فالزنى مثلًا: سبب لإقامة الحد على الزاني، والسرقة لقطع يد السارق، فالسبب لا يعدو عن كونه أمارة لوجود الحكم وعلامة لظهوره، وقد يكون بفعل المكلف وفي قدرته كالسفر لإباحة الفطر، وقد يكون خارجًا عن إرادته ومقدوره كدلوك الشمس لوجوب الصلاة. في حين أن المقصود بالذرائع هنا، هي الوسائل التي يسلكها المكلف باختياره، أي نفس الفعل، والوسيلة غير العلامة والأمارة، ومن هنا كان الفرق بين الذريعة والسبب.
ولا فرق بين أن تكون هذه الوسيلة مستلزمة للمتوسل إليه أو غير مستلزمة.
__________
(1) الأستاذ مصطفى الزرقاء المدخل الفقهي العام ـ الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 1/97
(2) لسان العرب مادة ذرع
(3) أستاذنا عبد الكريم زيدان في الوجيز في أصول الفقه ص49(9/1218)
أقسام الذرائع بمعناها العام:
يمكن تقسيم الذرائع بالمعنى العام إلى قسمين:
القسم الأول: الذرائع التي تفضي إلى المصلحة، وهي على نوعين:
1- أن تكون الذريعة والوسيلة مصلحة أيضًا بحد ذاتها، وعندما تكون مباحة أو واجبة حسب قوة وحال ما تؤدي إليه، وقد قال ابن القيم عن هذا النوع: (فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة) . (1) فالمباحة كالكسب الحلال المؤدي إلى التمتع بالطيبات، والمندوبة كالكسب لدفع الهلاك من الجوع، والواجبة كستر العورة بالنسبة للصلاة.
2- أن تكون الذريعة المفضية إلى المصلحة مفسدة في حد ذاتها، كالسرقة من أجل الإنفاق على العيال، هنا محظورة شرعًا وإن كانت تفضي إلى المصلحة، إلا إذا رافقتها ضرورة ملجئة، فعندئذ تباح بقدر الضرورة عملًا بما قاله الفقهاء رحمهم الله تعالى: " الضرورات تبيح المحظورات، والضرورات تقدر بقدرها " والنوعان المذكوران محل اتفاق عند علماء المسلمين؛ للنصوص الواردة بهذا الخصوص من الكتاب والسنة والإجماع.
القسم الثاني: الذرائع المفضية إلى المفاسد: وهذا القسم يتضمن نوعين أيضًا:
1- أن تكون الذريعة مفسدة في ذاتها وتفضي إلى المفسدة بطبعها، وذلك كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر، والقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنى المفضي إلى اختلاط الأنساب، ونحو ذلك. فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها.
ولا خلاف بين العلماء في حرمة هذا النوع أو كراهته، بحسب مقدار المفسدة منه، وقد قال ابن القيم عن هذا القسم: إن الشريعة جاءت بالمنع من هذا القسم من الوسائل كراهة أو تحريمًا بحسب درجاته فيما يؤدي إليه من المفسدة (2) .
__________
(1) إعلام الموقعين 3/136
(2) الأستاذ مصطفى ديب البغا في مؤلفه: أثر الأدلة المختلف فيها ص 568.(9/1219)
2- أن تكون الذريعة المؤدية إلى المفسدة مصلحة في حد ذاتها ومشروعة.
وهذا النوع من الذرائع على مراتب بقدر المفسدة التي قد تفضي إليها، واعتبار قصد الفاعل للمفسدة وعدمه، وبالتالي يختلف بالنظر الفقهي إليها سدًا وفتحًا، وقد فصل ابن القيم مراتب هذا النوع من الذرائع وأقسامه وذكر حكم كل مرتبة منها، فهو بعد أن ذكر حكم الوسائل التي تفضي إلى المفاسد وحكمها، تكلم عن النوع الثاني من الذرائع، والتي تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب، فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصد من الفاعل أو غير قصد منه، ورتبها كما يلي:
1- ما كان موضوعًا للإفضاء إلى أمر جائز فيتخذه الفاعل وسيلة للمحرم، وذلك كمن يعقد النكاح قصدًا به التحليل أو بعقد البيع قاصدًا به الربا أو يخالع قاصدًا به الحنث ونحو ذلك.
2- ما كان موضوعًا للإفضاء إلى أمر مستحب فيؤدي إلى محرم، كمن يصلي تطوعًا بغير سبب في أوقات النهي أويسَبِّ أرباب المشركين بين أظهرهم، ونحو ذلك.
وهذا النوع من الذرائع يتفرع إلى فرعين: أحدهما أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته. والثاني أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته.
ثم يمضي ابن القيم قائلًا: إن الشريعة قد منعت كل وسيلة مفضية إلى مفسدة سواء كانت بحد ذاتها مفسدة أو مباحة، وأجازت الوسيلة المباحة وإن كانت تفضي إلى المفسدة أحيانًا إلا أن مصلحتها أرجح من مفسدتها، وذلك كالنظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها، فإن النظر وإن كان يؤدي إلى محرم أحيانًا بأن تصاحبه الفتنة، إلا أن مصلحة الخاطب والمشتري والشاهد تستدعي النظر إلى المرأة فمصلحة النظر هنا أرجح من مفسدته، ثم بقي النظر والخلاف قائمًا في الوسيلة الموضوعة للمباح ويقصد بها التوصل إلى المفسدة، وكذا بالنسبة للوسيلة الموضوعة للمباح أيضًا من غير قصد التوصل بها إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين 3/138 وما بعدها(9/1220)
سد الذرائع ومن وجهة نظر الشاطبي:
تناول الشاطبي سد الذرائع من خلال كلامه عن مقاصد المكلف والفعل الذي يكون مصلحة للنفس وفيه مضرة بالغير، نستخلص مما ذكره ما يلي:
1- الوسائل التي تفضي إلى المفسدة على وجه القطع، وذلك كحفر الرجل بئرًا في مدخل داره وهو يعلم أن شخصًا يزوره في ظلام الليل، وهذا النوع من الذرائع ممنوع قطعًا؛ لأنه يؤدي إلى المحظور شرعًا.
2- أن يكون الفعل يؤدي إلى المفسدة في أغلب الظن، كبيع السلاح في وقت الفتن أو من أهل الحرب، وبيع العنب لمن يعصره خمرًا، ونحو ذلك مما يقع في غالب الظن أداؤه إلى المفسدة لا على سبيل القطع، وهذا النوع ممنوع أيضا؛ لوجوب الأخذ بالاحتياط عند غلبة الظن.
3- أن يندر أداء الوسيلة إلى المفسدة، كالمنع من زراعة العنب لمن يعصره خمرًا، ونحو ذلك مما يقع في غالب الظن أداؤه إلى المفسدة لا على سبيل القطع، وهذا النوع ممنوع أيضًا؛ لوجوب الأخذ بالاحتياط عند غلبة الظن.
4- أن يكون الفعل مؤديًا إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا، بحيث إن هذه الكثرة لا تبلغ مبلغًا يحمل العقل على ظن المفسدة فيه دائمًا، وذلك مثل بيوع الآجال والبيوع الربوية، وهذا النوع من الذرائع كما يقول الشاطبي: هو موضع نظر والتباس (1) .
__________
(1) الموافقات 2/357 ـ361(9/1221)
المعنى الخاص للذريعة:
لقد تبين لنا من خلال ما حكيناه عن ابن القيم والشاطبي رحمهما الله تعالى، أن الذرائع التي هي محل خلاف عند العلماء في الوسائل التي ظاهرها الجواز إذا قويت التهمة في التطرق بها إلى الممنوع، وهو ما أشار إليه الشاطبي في القسم الرابع، وهو كل فعل مأذون فيه بالأصل ولكنه طرأ عليه ما جعله يؤدي إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا، ويدخل في هذا ما أشار إليه ابن القيم بالقسم الوسط بين ما جاءت الشريعة بطلبه وما جاءت بمنعه، وملخصها: كل وسيلة مباحة قصد التوصل بها إلى المفسدة أو لم يقصد بها التوصل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها.
وهذا المعنى الخاص للذريعة هو المراد عند الأصوليين والفقهاء عند بحثهم في الذرائع وسدها، ولقد عبر الشاطبي عن هذا المعنى بقوله: إن حقيقتها التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة (1) .
__________
(1) الموافقات 4/ 198(9/1222)
المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية:
قلنا فيما مضى إن الذريعة بالمعنى الخاص، تعني التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة.
أما الحيلة فكما عرفها ابن القيم هي (نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال إلى حال) (1) . وقد غلب استعمالها عرفا في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرضه، بحيث لا يفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة. كما أن الغالب على الحيلة في عرف الناس هو استعمالها في التوصل إلى الغرض الممنوع منه شرعاَ أو عقلًا أو عادة، وهذا في استعمال المطلق في بعض أنواعه كالدابة والحيوان وغيرها (2) .
وحقيقة الحيلة عند الشاطبي هي: " تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر (3) " ويضيف قائلًا: " إن مآل العمل في الحيلة خرم قواعد الشريعة في الواقع".
ولدى النظر في تعريف ابن القيم للحيلة وتعريف الشاطبي لها، يتضح لنا أن الحيلة بالمعنى العام لها تلتقي مع الذريعة من حيث إنه يتوصل بكل منهما إلى غرض معين، دون أن يحدد نوع هذا الغرض، ويختلفان عند ما تخص الحيلة في استعمالها العرفي على نوع خاص التصرف وهو استعمالها في التوصل إلى الغرض الممنوع منه شرعًا أو عقلًا أو عادة. فاختصاص الحيل بخرم قواعد الشريعة خاصة، تكون أخص من الذريعة على هذا الاعتبار، كما يظهر الفرق بين الاثنين، أن الذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة، والحيلة لا بد من قصدها للتخلص من المحرم. والحيلة تجري في العقود خاصة، والذريعة أعم، على أن المتتبع لما ذكره ابن القيم، يجد أن هناك تداخلًا بين الاثنين، فهو عند ضربه مثلًا لنوع معين من بيوع العينة يذكره أحيانًا في باب سد الذرائع ويذكره في باب الحيل مرة أخرى، والحيل منها ما هو جائز شرعًا، كالنطق بكلمة الكفر إكراهًا عليها.
ومنها ما هو المحرم شرعًا، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة، وهذا هو المعنى الخاص للحيلة الذي تفترق به عن الذريعة.
__________
(1) إعلام الموقعين 3/ 240
(2) إعلام الموقعين 3/ 240
(3) الموافقات 2/201(9/1223)
موقف العلماء من سد الذرائع:
لا خلاف بين العلماء، أن ما جاء به نص من قرآن أو سنة أو ثبت فيه إجماع من هذا الأصل، فلا كلام فيه لثبوته بدليل صحيح، وعلى كل فقيه أن يعمل به. من ذلك قول الله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
فقد نهى الله المؤمنين أن يسبوا أصنام المشركين، وهو في ذاته أمر جائز، بل مطلوب لأنه تحقير لشأن المشركين وإذلال لهم بتهوين ما عظموا، نهاهم عن ذلك لئلا يكون ذريعة إلى سب المولى سبحانه وهو من أكبر المفاسد.
وقوله تعالى {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] . فقد نهى الله عز وجل النساء أن يضربن بأرجلهن في مشيتهن ليسمع الرجال صوت خلخالهن؛ لأن هذا ذريعة للفت نظر الرجال إليهن, فيكون ذلك مدعاة لإثارة الشهوة. ويقاس عليه كل فعل يثير الفتنة كالتزين الفاضح وترقيق الصوت والتعطر عند الخروج من المنزل.
وفي ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة أم المؤمنين: ((لولا حداثة قومك بالكفر، لنقضت البيت ثم بنيته على أساس إبراهيم)) ، فقد امتنع عن هدم البيت وبنائه على قواعد إبراهيم الأولى التي رسمت له بطريق الوحي مع ما فيه من المصلحة؛ لما يترتب عليه من نفرة العرب في هذا العمل لقرب عهدهم بالجاهلية.
ولما طلب من رسول الله قتل بعض المنافقين وقد بدا منهم ما يوجب القتل، قال: " أكره أن يتحدث العرب عنا أن محمدًا قاتل بقوم حتى أظهره الله تعالى بهم ثم أقبل عليهم بقتلهم" وفي رواية " أخشى أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه ". فقد امتنع رسول الله عن قتلهم مع أنه مباح وفيه خلاص الأمة من جماعة طالما آذت المسلمين، ولكنه تركه لما يترتب عليه من مفسدة أكبر، وهي أن قتلهم ينفر الناس من الإسلام إذا سمعوا أن رسول الله يقتل أصحابه، وقد عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بهذا الأصل فأجمعوا على قتل الجماعة بالواحد، وقد حكموا بتوريث المطلقة بائنا في مرض الموت (1) .
فما كان من هذا القبيل من الذرائع فلا نزاع فيه بين العلماء، ولكن هل نقف عند هذا الحد ونبقي الباب مفتوحًا للمجتهدين ليعملوا به فيما استجد من مسائل؟.
__________
(1) الأستاذ الشلبي في المصدر السابق 315، 316(9/1224)
أقول: لا خلاف في أن الظاهرية الذين يقفون عند ظواهر النصوص ومن سلك مسلكهم لا يعملون به؛ لأنهم رفضوا قبل ذلك العمل بالقياس والمصلحة، وما عداهم من الأئمة، فالمشهور أن مالكًا وأحمد رحمهما الله تعالى هما اللذان يقولان بسد الذرائع، بينما يخالفهما أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى.
يقول الشاطبي وهو يقرر أن النظر في مآلات الأفعال معتبر ومقصود شرعًا: وهذا الأصل ينبني عليه قواعد، ومنها الذرائع التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه (1) .
وقال القرافي في معرض كلامه عن الوسائل التي منعها الشرع لإفضائها إلى شبهة: إن مالكًا لم ينفرد بذلك، بل كل أحد يقول بها، ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها (2) . وذكر ابن القيم وهو حنبلي المذهب: " وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين (3) " وهكذا يتضح لنا أن القول بسد الذرائع أصل معتمد في الفقه المالكي والفقه الحنبلي.
وأما أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى فلم تذكر كتب أصول مذهبهما شيئًا عن رأيهما في هذا، وذلك أن الباحث في هذا الموضوع يجد أن كتب أصول الحنفية والشافعية لا تتعرض للبحث في هذا الأصل، إلا أن المتتبع لأقوالهما يجد أنهما يقولان بسد الذرائع في كثير من المسائل، كما سنذكر ذلك عنهما فيما بعد.
__________
(1) الموافقات 2/ 361
(2) تنقيح الفصول ص 448، إرشاد الفحول ص 246
(3) إعلام الموقعين 3/ 136(9/1225)
ويبدو أن أبا حنيفة والشافعي لا يعتبران سد الذرائع أصلًا قائمًا بذاته، بل هو داخل في الأصول المقررة كالقياس والاستحسان، يدل على ذلك ما قاله القرافي رحمه الله تعالى: " وأما الذرائع فقد أجمع العلماء على أنها ثلاثة أقسام، أحدها معتبر إجماعًا كحفر الآبار في طرق المسلمين وإلقاء السم في أطعمتهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى. وثانيها ملغي إجماعًا كزراعة العنب فإنه لا يمنع خشية الخمر. وثالثها مختلف فيه كبيوع الآجال، اعتبرنا نحن الذريعة فيها، وخالفنا غيرنا، فحاصل القضية أننا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا " (1) .
ومما يدل على ذلك أيضًا ما قاله الشاطبي: " أما الشافعي فالظن به أنه تم له الاستقرار في سد الذرائع على العموم، ويدل عليه قوله بترك الأضحية إعلامًا بعدم وجوبها وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة وإنما فيه عمل جملة من الصحابة، وذلك عند الشافعي ليس بحجة، وأما أبو حنيفة فإنه ثبت عنه جواز إعمال الحيل، لم يكن من أصله في بيوع الآجال إلا الجواز، ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع، وهذا واضح، إلا أنه نقل عنه موافقة مالك في سد الذرائع فيها وإن خالفه في بعض التفاصيل.. " (2) .
ومن هنا نستطيع القول كما يقول المرحوم أبو زهرة: " إن العلماء جميعًا يأخذون بأصل الذرائع وإن لم يسموه بذلك الاسم" (3) .
__________
(1) تنقيح الفصول للقرافي ص 200
(2) الموافقات 3/305، 306
(3) الإمام مالك تأليف المرحوم أبو زهرة ص 416(9/1226)
أمثلة على سد الذرائع:
قلنا فيما مضى: إن الفقهاء متفقون على القول بسد الذرائع، إلا أنهم متفاوتون في الأخذ بها قلة وكثرة وبين اعتبارها أحد المصادر التبعية في الشريعة الإسلامية أو عدم اعتبارها، يجدر بنا أن نذكر شواهد في إعمال سد الذرائع عند الفقهاء رحمهم الله تعالى.
الفقه المالكي:
شواهد إعمال سد الذرائع عند المالكية أكثر من أن تحصى، حيث إنهم أعملوه في استنباطاتهم وتخريجاتهم في جميع أبواب الفقه، وبالغوا في ذلك حتى عد سد الذرائع من خصوصيات هذا المذهب، ومن أبرز تطبيقات سد الذرائع عند المالكية منعهم للعقود التي تتخذ ذريعة إلى أكل الربا، وهو ما يعرف عندهم ببيوع الآجال، من ذلك ما إذا باع رجل سلعة لآخر إلى أجل، ثم اشتراها منه قبل الأجل نقدًا بأقل من الثمن أو إلى أبعد من ذلك الأجل بأكثر من ذلك الثمن، فعند مالك وجمهور أهل المدينة أن ذلك لا يجوز، وجه منعه اعتبار البيع الثاني بالبيع الأول، فيتهم المتعاقدان من أن يكونا قد قصدًا بذلك دنانير في أكثر منها إلى أجل، وهو الربا المنهي عنه فزورًا لذلك هذه الصورة ليتوصلًا بها إلى الحرام، وصار العقد بمثابة ما لو قال رجل لآخر: أسلفني عشرة دنانير إلى شهر وأرد إليك عشرين دينارًا، فكما أن الصيغة هنا صيغة ربا، كذلك الحال في الصيغة الأولى (1) .
ومن ذلك منعهم بيع مدّين من تمر وسط بمُدّين من تمر أحدهما أعلى من الوسط والآخر أدون منه، فإن الإمام مالكًا يمنع مثل هذا البيع؛ لأنه يتهم البائع أن يكون قد قصد من ذلك أن يدفع مُدّين من الوسط في مدّ من التمر الجيد، فجعل معه الرديء ذريعة إلى تحليل ما لا يجب من ذلك (2) .
__________
(1) ابن رشد في بداية المجتهد 2/145
(2) ابن رشد في بداية المجتهد 2/ 143(9/1227)
الفقه الحنبلي:
ومن الشواهد التي اعتمد فيها الحنابلة على القول بسد الذرائع عندهم، ما قاله ابن قدامة: من أنه لو باع شخص سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة، فقال أحمد في رواية حرب: إن ذلك غير جائز، إلا أن يغير السلعة؛ لأن ذلك يتخذه وسيلة إلى الربا، فأشبه مسألة العينة (1) .
ومن ذلك أيضًا ما حكاه ابن القيم عن الإمام أحمد أنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة)) ، ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية، ويلزم من لم يسد الذرائع أن يجوز هذا البيع كما صرحوا به. ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان (2) .
__________
(1) المغني 4/195
(2) إعلام الموقعين 3/158(9/1228)
الفقه الشافعي:
ومما يدل على أن الشافعي رحمه الله أخذ بالذرائع ما قاله في كتاب الأم: وفي منع الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله عام يحتمل معنيين: أحدهما أن ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى تحريم ما أحل الله، ثم أضاف قائلًا: " فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام" (1) .
ومن ذلك أيضًا ما قاله الشافعية من أن المعذورين في ترك الجمعة كالمرضى والمسافرين، يصلون الظهر مكانها جماعة أو فرادى، واستحب الشافعي رحمه الله لهم إخفاء الجماعة سدًا لذريعة التهمة في تركهم لصلاة الجمعة (2) .
ويدل على أخذ الشافعية بالذرائع أيضًا ما قاله الشيرازي من أن المسافر والمريض إذا أفطرا في رمضان بسبب السفر والمرض، يستحب لهما أن لا يأكلا عند من يجهل عذرهما سدًا لذريعة التهمة بالفسوق والمعصية (3) .
__________
(1) الأم 3/ 272
(2) الخطيب الشربيني في مغني المحتاج
(3) المهذب 1/ 287(9/1229)
الفقه الحنفي:
ومما يدل على أخذ الحنفية بالذرائع ما ذهبوا إليه من توريث مطلقة المريض مرض الموت منه؛ لئلا يكون الطلاق ذريعة إلى حرمانها من الميراث وهو مذهب الجمهور أيضًا، وأساسه ما أفتى به بعض مجتهدي الصحابة. وعمدة هؤلاء الفقهاء رحمهم الله هو أصل سد الذرائع المشهود له بالصحة بنصوص القرآن والسنة (1) .
وكذلك ما قالوه: إن المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت بالغة مسلمة، عليها الحداد، وهو ترك الطيب والزينة والكحل والدهن المطيب وغير المطيب إلا من عذر. وقد عللوا الوجوب بسببين:
أحدهما: إظهار التأسف على فقدان زوجها.
والثاني: أن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها؛ لأن المرأة إن كانت متزينة متطيبة تزيد رغبة الرجل فيها، وهي ممنوعة عن النكاح ما دامت في عدة الوفاة أو الطلاق، فتجتنبها كي لا تصير ذريعة، أي وسيلة إلى الوقوع في المحرم وهو النكاح (2) .
__________
(1) أستاذنا زيدان في الوجيز في أصول الفقه ص 250
(2) الهداية وشروحها 3/ 291 ـ 294(9/1230)
أثر القول بسد الذرائع:
لقد انبنى على الخلاف في اعتبار الذرائع والقول بسدها وعدم اعتبارها، وعلى التوسع بالأخذ بها والتضييق في اعتبارها، خلاف بين الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية، إذ يحكم بعضهم على تصرفات بدرت من المكلف بالبطلان والفساد، ويمنع ترتب آثارها عليها، نجد البعض الآخر يحكم عليها بالصحة والجواز، ويبني عليها آثارها المعتبرة شرعًا.
وهكذا نجد أثر هذا الدليل والاختلاف فيه ظاهرًا في كثير من أبواب الفقه الإسلامي، وها أنا أضرب بعض الأمثلة على خلاف الفقهاء في القول باعتبار هذا الدليل أو عدم اعتباره.
1 -من ذلك اختلاف الفقهاء ـ رحمهم الله تعالى ـ فيمن اشترى طعامًا بثمن إلى أجل معلوم، فلما حل الأجل لم يكن لدى البائع طعام يدفعه إلى المشتري، فاشترى من المشتري طعامًا بثمن يدفعه إليه مكان طعامه الذي وجب له.
أجاز ذلك الشافعي وقال: لا فرق بين أن يشتري الطعام من غير المشتري الذي وجب عليه أو من المشتري نفسه، وجهة نظره رحمه الله مبنية على أصل من أصول مذهبه، وهو أنه ينظر إلى الصيغة التي تم بها العقد دون النظر إلى نية المتعاقدين، ولما كانت الصيغة سليمة من الشروط الفاسدة، فلا عبرة بالنية كما قلنا.
ولم يجز الإمام مالك صورة البيع هذه واعتبرها من الذريعة إلى بيع الطعام قبل قبضه؛ لأن البائع قد رد إلى المشتري الطعام الذي كان قد ترتب في ذمته، فيكون قد باعه منه قبل أن يستوفيه، وصورة الذريعة في ذلك ما ذكرها ابن رشد " أن يشتري رجل من آخر طعامًا إلى أجل معلوم، فإذا حل الأجل قال الذي عليه الطعام: ليس عندي طعام، ولكن أشتري منك الطعام الذي وجب لك علي، فقال: هذا لا يصح؛ لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى " (1) .
2- بيع الحيوان بالحيوان: اتفق الأئمة على جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلًا إذا كان يدا بيد، واختلفوا في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، أي إلى أجل، وذلك على النحو التالي:
أ- ذهب مالك رحمه الله إلى أنه لا يجوز النساء فيما اتفقت منافعه وتشابه مع التفاضل، ويجوز فيما عدا هذا، قال ابن رشد: " وأما الأشياء التي ليس يحرم التفاضل فيها عند مالك، فإنها صنفان: إما مطعومة وإما غير مطعومة، فأما المطعومة فالنساء عنده لا يجوز فيها، وعلة المنع الطعم، وأما غير المطعومة فإنه لا يجوز عنده شاة واحدًا بشاتين إلى أجل إلا أن تكون إحداهما حلوبة والأخرى أكولة، هذا هو المشهور عنه" (2) .
__________
(1) بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/ 146
(2) انظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/ 137(9/1231)
وعمدة مالك رحمه الله في منع النساء فيما اتفقت فيه الأغراض مع التفاضل، سد الذريعة، وذلك أنه ما دامت المنافع والأغراض متفقة فلا فائدة من بيعه متفاضلًا إلى أجل، إلا أن يكون من باب سلف يجر نفعًا، وهو محرم، فكذلك ما يؤدي إليه، فأما إذا اختلفت المنافع، فالتفاضل والنسيئة عنده جائزان، وإن كان الصنف واحدًا، مستدلًا " بما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلائص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة)) " (1) .
فحمل الإمام مالك الحديث هذا على ما اختلفت أغراضه ومنافعه.
ب - وعند الشافعي رحمه الله يجوز ذلك كله، فلا مانع عنده من أن يبيع الرجل البعير بالبعيرين، مثله أو أكثر، يدًا بيد وإلى أجل (2) . مستشهدًا بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره من الروايات التي تشير إلى جواز ذلك.
جـ- وهذه أصح الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله، حكى ذلك ابن قدامة عنه حيث قال: " اختلفت الرواية في تحريم النساء في غير المكيل والموزونات على أربع روايات. إحداهن لا يحرم النساء في شيء من ذلك، سواء بيع بجنسه أو بغيره متساويًا أو متفاضلاً" (3) .
ثم أضاف قائلًا: وهذه هي أصح الروايات.
__________
(1) سنن أبي داود 2/ 225
(2) الأم 3/103 ـ 104
(3) المغني 4/ 14(9/1232)
د- وذهب الحنفية إلى القول: بمنع بيع الحيوان بالحيوان نسيئة مطلقاً (1) .
وعمدتهم في منع النساء مطلقا، أن العلة في تحريم الزيادة في الربا هي وصفان، الجنس والقدر من كيل أو وزن، فإذا وجدا حرم التفاضل والنساء، وإذا فقدا التفاضل والنساء، وإذا وجد أحدهما وعدم الآخر، حل التفاضل وحرم النساء.
وبيع الحيوان بالحيوان إذا اتفق الجنس، فقد وجد فيه أحد وصفي العلة، فحل التفاضل وحرم النساء مطلقًا.
وقد عززوا رأيهم هذا ببعض الآثار، منها ما أخرجه أبو داود من حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)) . فقد قام الدليل على أن وجود أحد وصفي علة الربا، علة لتحريم النساء.
3- ومن أثر خلاف الفقهاء في اعتبار الذرائع كدليل يؤخذ به أو عدم اعتبارها: نكاح المريض مرض الموت!
فقد اختلف الفقهاء على قولين:
أ- ذهب الإمام مالك رحمه الله في المشهور عنه إلى أن النكاح غير صحيح. ودليله في ذلك هو سد الذرائع، وذلك أنه يتهم المريض هنا بالقصد في إلحاق الضرر بالورثة، حيث يدخل وارثًا جديدًا عليهم، فيمنع منه، حتى لا يتخذ ذريعة للتشفي من الورثة وإدخال الضرر عليهم" (2) .
ب- في حين ذهب جمهور الفقهاء وهم الحنفية والشافعية والحنابلة إلى صحة نكاح المريض على أن يتجاوز صداق المرأة المنكوحة مهر مثلها.
__________
(1) العناية على الهداية 5/279
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/45(9/1233)
دليل الجمهور:
استدل جمهور الفقهاء على صحة نكاح المريض بأدلة من المنقول وبالقياس والمعقول:
من المنقول ما رواه نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " كانت ابنة حفص بن المغيرة عند عبد الله بن أبي ربيعة، فطلقها تطليقة، ثم إن عمر بن الخطاب تزوجها بعده، فحدث أنها عاقر لا تلد، فطلقها قبل أن يجامعها، فمكثت حياة عمر وبعض خلافة عثمان بن عفان، ثم تزوجها عبد الله بن أبي ربيعة وهو مريض؛ لتشرك نساءه في الميراث، وكان بينها وبينه قرابة".
واحتج القائلون بصحته، بقياسه على البيع والشراء، فكما أن بيعه وشراءه صحيح فكذلك نكاحه، بجامع أن كلا منهما عقد معاوضة وبقياسه أيضًا على حال الصحة، فكما يصح هنا يصح نكاحه في مرضه مرض الموت، وإنما منعت الزيادة على مهر المثل، لأنها في حكم الوصية، ولا وصية لوارث، ومن استدلالهم بالمعقول قولهم: إن النكاح من الحوائج الأصلية؛ لأن بقاء النسل البشري يتوقف على النكاح، والمرء غير ممنوع عن صرف ماله إلى حوائجه الأصلية (1) .
وهكذا تبين لنا من الأمثلة السابقة أثر القول بالأخذ بالذرائع أو عدم الأخذ بها في كثير من الفروع الفقهية التي من العسير حصرها والإحاطة بجميعها.
__________
(1) ابن قدامة في المغني 6/ 392، الأم 4/31 وما بعدها، ابن الهمام في فتح القدير 7/403(9/1234)
أمثلة فتح الذرائع:
المقصود بفتح الذرائع، هو الأخذ بالذرائع إذا كانت النتيجة مصلحة؛ لأن المصحلة مطلوبة (1) .
وكما يقول القرافي: "اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج" (2) .
أ -أباحت الشريعة دفع المال للعدو لتخليص الأسري مع أن في دفع المال إليه تقوية له، وهو حرام لأنه إضرار بالمسلمين، لكن مصلحة الأسارى أعظم نفعًا لأنه تقوية للمسلمين من ناحية أخرى.
ب -أجاز كثير من فقهاء المالكية والحنابلة دفع المال لشخص على سبيل الرشوة مع أنه حرام؛ ليتقي به معصية يريد المرتشي إيقاعها به، وضررها أشد من دفع المال إليه، وذلك إذا عجز الرجل المعطي للرشوة عن دفع المرتشي إلا عن طريق الرشوة.
جـ- إذا خشي المسلمون من دولة محاربة أذاها وخطرها، وليس عند جماعة المسلمين قوة يستطيعون بها دفع خطر العدو، فلهم الحق في بذل المال لاتقاء شر العدو وإن كان فيه معصية، إلا أنه أجيز منعًا لضرر أكبر وجلبًا لمصلحة أعظم.
وهذه الأمثلة وغيرها لا تخرج في الواقع عما قرره الفقهاء في قواعدهم من أن " الضرورات تبيح المحظورات " ثم زادوا ذلك فقالوا: " الحاجة تنزل منزلة الضرورة ".
__________
(1) أصول الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي 2/874
(2) الفروق 2/33(9/1235)
أمثلة على سد الذرائع:
ضرب علماء الأصول أمثلة كثيرة على سد الذرائع منها (1) .
أ - ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع الرجل بين سلف وبيع)) ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر، صح، وإنما جاء النهي؛ لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة لأن يقرضه ألفًا ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا، فخوفًا من التحايل على أكل الربا أمر الشارع بسد الذريعة هنا.
ب -منع النبي صلى الله عليه وسلم المقرض من قبول الهدية وكذلك ورد النهي على لسان صحابته صلى الله عليه وسلم حتى تحسب من الدين وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا، فإنه يعود إليه ماله ويأخذ الفضل الذي استفاده بسبب القرض.
جـ- قال الإمام أحمد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة، ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية.
ومن هذا القبيل عصر العنب لمن يتخذه خمرًا وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والمعتصر معا.
د- تحريم قضاء القاضي بعلمه؛ لأنه وسيلة للقضاء من طريق قضاة السوء.
فهذه الأحكام ونحوها روعي فيها قصد الفاعل من اتخاذ الذريعة لتحقيق مطلبه، فحرم الشارع عليه الوسيلة ليفوت عليه قصده السيئ، وهذا ما عناه العلماء بقولهم " سد الذرائع".
__________
(1) ابن القيم في إعلام الموقعين 3/ 141 ـ 158(9/1236)
خلاصة البحث
الذرائع جمع ذريعة وهي لغة الوسيلة التي يتوصل بها إلى شيء آخر مطلقًا، وفي الاصطلاح الشرعي هي ما تكون وسيلة وطريقًا إلى الشيء الممنوع شرعًا، وهذا هو الغالب المشهور في استعمالها، ومعنى سدها منعها بالنهي عنها، وقد تطلق على ما هو أعم من ذلك، فنعرف بأنها تكون وسيلة وطريقًا إلى شيء آخر حلالا كان أو حرامًا، وهي بهذا المعنى قد تسد إذا كانت طريقًا إلى مفسدة، وقد تفتح إذا كانت طريقًا إلى مصلحة، ولكنها أكثر ما تستعمل في الأول، ومن هنا جاء عنوان الدليل (سد الذرائع) .
موقف العلماء من سد الذرائع:
ما ورد في كتب المالكية أن أصل الذرائع متفق عليه، وإنما الخلاف في التسمية ومجال التطبيق في الجزئيات، يؤكد هذا ما ذكره القرافي: أن الذرائع ثلاثة أقسام: قسم أجمعت الأمة على سده ومنعه، كحفر الآبار في طرق المسلمين فإنه وسيلة إلى إهلاكهم فيها، وقسم أجمعت الأمة على عدم منعه، وأنه ذريعة لا تسد ووسيلة لا تمنع، كالمنع من زراعة العنب خشية اتخاذه خمرا، فإنه لم يقل به أحد، وقسم اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا، كبيوع الآجال عندنا، اعتبرنا نحن الذريعة فيها وخالفنا غيرنا، وحاصل القضية: أننا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا (1) .
واعتبار الذرائع سدًا وفتحا دليل على مرونة الشريعة الإسلامية، وأنها بحق نزلت رحمة للعالمين تساير واقع الناس في كل جديد نافع.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
__________
(1) شرح تنقيح الفصول ص200(9/1237)
مصادر البحث
القرآن الكريم:
1- أصول التشريع الإسلامي ـ أثر الأدلة المختلف فيها مصادر التشريع التبعية في الفقه الإسلامي ـ للدكتور مصطفى ديب البغا. دار الإمام البخاري ـ دمشق
2- أصول الفقه الإسلامي ـ الجزء الأول ـ المقدمة التعريفية بالأصول وأدلة الأحكام وقواعد الاستنباط ـ للدكتور محمد مصطفى شلبي ـ الطبعة الرابعة 1403 هـ ـ 1983 م الدار الجامعية للطباعة والنشر ـ بيروت.
3- أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي ـ الجزء الثاني الطبعة الأولى 1406 هـ ـ 1986 م دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر بدمشق.
4-المغني لابن قدامة المقدسي على مختصر أبي القاسم الخرقي ـ الناشر ـ مكتبة الكليات الأزهرية.
5-بداية المجتهد ونهاية المقتصد ـ لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي ـ الطبعة الأولى 1408 هـ 1988 م، دار القلم ـ بيروت.
6-الوجيز في أصول الفقه الإسلامي ـ للدكتور عبد الكريم زيدان الطبعة السادسة 1397 م الدار العربية للطباعة ـ بغداد.
7-الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ـ المدخل الفقهي العام ـ للأستاذ مصطفى الزرقا ـ دار الفكر بيروت.
8-الفروق ـ للعلامة شهاب الدين أبي العابس الصنهاجي المشهور بالقرافي ـ دار المعرفة والنشر بيروت.
9-الموافقات في أصول الشريعة ـ لأبي إسحاق الشاطبي ـ المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة
10-إعلام الموقعين عن رب العالمين ـ للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن القيم الجوزية إدارة الطباعة المنيرية بالقاهرة.
11-الإحكام في أصول الأحكام ـ لابن حزم الظاهري الطبعة الأولى 1347 هـ مطبعة السعادة بمصر.
12-الهداية شرح بداية المبتدي ـ برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني والمطبوع مع فتح القدير ـ الطبعة الأولى ـ المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق. والمأخوذ بالأوفسيت.
13-شرح العناية على الهداية ـ للإمام أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي والمطبوع مع الهداية.
14-تنقيح الفصول ـ للقرافي.
15-إرشاد الفحول ـ للشوكاني.
16-كتاب الأم ـ للإمام الشافعي برواية الربيع بن سليمان المرادي الناشر دار الشعب المصرية 1388 هـ 1986 م.
17-لسان العرب ـ لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي ـ دار صادر في بيروت.(9/1238)
سد الذرائع
إعداد
الشيخ خليل محي الدين الميس
مفتي البقاع ومدير أزهر لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
إن سد الذرائع من مظاهر الاجتهاد بالرأي في الشريعة الإسلامية، حيث لا نص من كتاب أو سنة أو إجماع، وهو من المصادر المختلف فيها ... وتراوح وصفه ما بين القاعدة ... والأصل والمبدأ، وعلى أي حال فهو دليل من الأدلة الشرعية ... وأصل من الأصول عند فقهاء المالكية بالذات؛ لذلك أسهب الشاطبي في موافقاته في الحديث عنها، وكذلك الشأن عند متأخري فقهاء الحنابلة وبوجه خاص كل من شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ... وأورده القرافي في تنقيحه وفروقه، وكتب الفروع حافلة بالمسائل التي اعتبر الدليل فيها (سد الذرائع) .
والله تعالى نسأل أن يلهمنا الصواب في القول والعمل للكتابة في هذا الموضوع الذي وقع الاختيار عليه ضمن موضوعات الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي.
والله ولي التوفيق.(9/1239)
المبحث الأول
تعريف سد الذرائع وبيان معنى سدها
تعريفه: الذرائع جمع ذريعة، والذريعة لها استعمالات كثيرة ويدل أصلها على الامتداد والتحرك.
والذريعة في اللغة: من ذرع وهو أصل يدل على الامتداد والتحرك إلى الأمام وكل ما تفرع عن هذا الأصل يرجع إليه (1) .
فالذرائع: العضو الممتد من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى، وذرع الرجل في سباحته تذريعًا: اتسع ومد ذراعيه.
والذرع والذراع: الطاقة والوسع، ومنه قولهم ضاق بالأمر ذرعه وذراعه وضاق به ذرعاَ وذراعًا ضعفت طاقته ولم يجد من المكروه فيه مخلصًا (2) .
وأصل الذرع كما يقول الجوهري: إنما يرجع إلى بسط اليد فكأنك تريد أن تقول: مددت يدي إلى الشيء فلم أنله ... فقلت: ضقت ذرعًا.
واستعملت الذريعة بمعنى السبب تقول: فلان ذريعتي إليك ... بمعنى سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك.
وأصل السبب في اللغة يدل على الطول والامتداد.
واستعملت الذريعة بمعنى الوسيلة إلى الشيء فمن تذرع بذريعة أو توسل بوسيلة والجمع ذرائع.
ومعنى الوسيلة في اللغة: الدرجة والقربة وما يتوصل به إلى الشيء.
تقول: توسل إليه بوسيلة، إذا تقرب إليه بعمل. وتوسل إليه بكذا: إذا تقرب إليه بحرمة آصرة تعطفه عليه.
واستعملت الذريعة بمعنى الناقة التي يستتر بها رامي الصيد ليظفر بصيده عن قرب.
وبالتأمل في هذه التعريفات يتبين أنه، لا تطلق الذريعة إلا بعد أن تتوافر عناصر ثلاثة.
العنصر الأول: أمر ماـ من فعل أو شيء أو حالة، أي ما يتخذ وسيلة وهو غير ممنوع لنفسه.
العنصر الثاني: تحرك، وامتداد، وانتقال ولكن قويت التهمة في التطرق به.
العنصر الثالث: أمر آخر غير الأول ـ مقصود إليه أو ما يتوسل إليه وهو ما يفضي إلى الممنوع.
وبناء على ما تقدم نخلص إلى القول: بأن الذريعة كل ما يتخذ وسيلة إلى غيره.
وبقيد الاتخاذ: يخرج ما يؤدي عفويًا إلى أمر، فلا يكون ذريعة إليه في عرف اللغة (3)
__________
(1) لسان العرب: مادة (ذرع) ، وتهذيب لسان العرب ج 1/ 443
(2) الكفوي: الكليات 463
(3) البرهاني: سد الذرائع ص 560.(9/1240)
سد الذرائع ومرتبته التشريعية:
تتفاوت عبارات العلماء القائلين بسد الذرائع.. هل هو أصل ودليل؟ أم قاعدة ومبدأ؟ فمنهم من جعله دليلًا وأدخله في عدد مصادر الفقه وأصوله التشريعية.
ومنهم الإمام القرافي المالكي، حيث يقول: أدلة المجتهدين بالاستقراء تسعة عشر وهي: الكتاب والسنة والإجماع ... وسد الذرائع.
وفي البهجة نقلًا عن راشد يعد الأدلة التي بني عليها مالك مذهبه، ستة عشر دليلًا، عد منها سد الذرائع (1) .
لكن ابن تيمية اعتبرها: قاعدة حيث قال: أما شواهد هذه القاعدة ـ يعني سد الذرائع ـ فأكثر من أن تحصر. فنذكر منها ما حضر (2) .
وكذلك الشاطبي في الموافقات، حيث قال: وجميع ما مر في (تحقيق المناط) الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعًا لكن ينهي عنه لما يؤول إليه من المفسدة ممنوعًا، لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة إلى أن قال: وهذا الأصل ينبني عليه قواعد منها: قاعدة الذرائع، التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه ... ومنها قاعدة الحيل.
__________
(1) القرافي: تنقيح الفصول ص 198
(2) ابن تيمية: الفتاوى ج3 ص 140(9/1241)
أما المرحوم الشيخ أبو زهرة سماه (أصلاً) حيث قال: الذرائع أصل من الأصول التي ذكرتها كتب المالكية وكتب الحنبلية (1) .
كما سماه (مبدأ) حيث قال فمبدأ سد الذرائع لا ينظر فقط إلى النيات والمقاصد الشخصية (2) .
ويقول: ولقد أخذ المذهب الحنبلي بمبدأ سد الذرائع (3) .
وكذلك الشأن عند الشيخ على حسب الله، في أصول التشريع، والشيخ مصطفى الزرقا في المدخل الفقهي العام.
وبإمعان النظر: نجد: أن سد الذرائع أصل يعني الدليل لأن بعض الصور الداخلة ضمن نطاق سد الذرائع، إنما ثبت حكمها بالمنع بالنظر إلى المصلحة وحماية للذريعة، وليس لهذا المنع دليل غير ذلك.
كما حكموا على الصانع المشترك بالضمان، سواء عمل بأجر أو بغير أجر، وليس لمن ذهب إلى هذا إلا النظر إلى المصلحة.
وسد الذرائع: أصل يعني القاعدة المستمرة؛ لأنه يعني حسم وسائل الفساد وهذا هو الأصل والقاعدة المستمرة في الشريعة القائمة، مع جلب المصالح ودرء المفاسد.
وسد الذرائع أصل: بمعنى أنه الراجح حين نقطع بوجوب المنع سدًا للذريعة.
أما سد الذرائع بمعنى الدليل: فإنه دليل يتضمن الدلالة والإرشاد.
يستعين بها الناظر فيه للتوصل إلى المطلوب.
__________
(1) أبو زهرة: أصول الفقه ص 287
(2) أبو زهرة: أصول الفقه ص 287
(3) ابن تيمية ص 501(9/1242)
والوجه في اعتبار سد الذرائع، قاعدة أصولية.
يمكن وصف سد الذرائع قاعدة أصولية لأمور:
1- أنها قاعدة كلية مطردة ولا تخلو قاعدة فقهية من الاستثناءات.
2- أن القواعد الأصولية ليست كلها ناشئة من الألفاظ ومما يعرض لها، بل من أفرادها ما لم يرجع إلى اللفظ.
ولا يعني كونها لم ترجع إلى اللفظ أنها خارجة عن إطار القواعد الأصولية.
3- أن جميع الذين تكلموا عن سد الذرائع، رتبوا الكتابة فيه ضمن مباحث الأصول.
هذا والذين اعتبروا سد الذرائع دليلًا، تكلموا عنه ضمن الكلام عن الأدلة الشرعية، أو عند الكلام على الاستدلال على أنه نوع منه.
أما الذين أنكروه وردوه، تكلموا عنه على أنه واحد من الأدلة الفاسدة أو المختلف فيها (1) .
أما أن سد الذرائع دليل باصطلاح الفقهاء والأصوليين فيرجع للأسباب التالية:
1- لأن سد الذرائع علامة معروفة للدلالة يتمكن الناظر فيها من التوصل إلى المطلوب.
2- لأن سد الذرائع لا يقتضي مدلوله، ولا يوجبه بنفسه، بل لا بد فيه من نظر المجتهد ليحكم بالمنع.
3- لأنه إن كان يؤدي إلى حكم قطعي، فقد دخل في مفهوم الدليل عند الجميع، وإن كان يؤدي إلى حكم ظني، فقد دخل في مفهوم الدليل عند الجمهور؛ لأن الدليل مما يؤدي إلى حكم قطعي أو ظني.
وجملة القول: إن سد الذرائع من الأدلة الشرعية التبعية؛ لأنه لم يرد في نصوص الشرع اعتباره صراحة، وإنما جرى الحكم على وفقه في كثير من القضايا، فقرره العلماء دليلًا على هذه الجهة.
معنى سد الذرائع:
المراد بسد الذريعة، منعها على المكلف حتى لا يتوصل بسببها إلى المحرم فهي وإن كانت جائزة بحد ذاتها، لكنها تحرم لما تفضي إليه، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء، لبقيت على جوازها ولما منع المكلف منها (2) .
__________
(1) البرهاني: سد الذرائع ص 169
(2) التركي: أصول مذهب الإمام أحمد ص 451(9/1243)
المبحث الثاني
الفرق بين الذريعة والسبب
والفرق بين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه
الوسيلة:
قال الكفوي: الوسيلة: التوسل إلى الشيء برغبة أخص من الوسيلة لتضمنها معنى الرغبة (1) .
قال تعالى {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] .
قال صاحب اللسان نقلًا عن الجوهري: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير.
والوسيلة كالوصلة والقربى وجمعها الوسائل قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء 57] .
والتوسيل والتوسل واحد، وفي حديث الآذان: اللهم آت محمدًا الوسيلة، وهي في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به (2) .
وحقيقة الوسيلة إلى الله: مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحري مكارم الشريعة وهي كالقربة.
قال صاحب العباب: الوسيلة والواسلة: المنزلة عند الملك والدرجة والقربى.
ووسل إلى الله وسيلة: عمل عملًا تقرب به إليه كتوسل، والواسل: الواجب والراغب (3) .
وتنبني المعاني لعبارة الوسيلة بأنها القرب وبمثابة الوصل ما بين البداية والنهاية، كما تشعر بأنها المرحلة ما بين المرحلتين المباشرة والغاية، المتوسل والمتوسل إليه من مباشرة الفعل.
__________
(1) الكليات ص 9946
(2) ابن منظور لسان العرب ج 14 ص 250 فصل الواو مع اللام
(3) الفيروز أبادي: البصائر ج5 ص 217(9/1244)
أما الذريعة:
قلنا إن الذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه قويت التهمة في التطرق به إلى الممنوع، فالأمر غير الممنوع لنفسه هو الوسيلة.
وما قويت التهمة في التطرق به هو الإفضاء، وكون الأمر غير الممنوع يفضي إلى الممنوع يسمى التوسل إليه (1) .
والذرائع: إما أن تكون منصوصا عليها بالكتاب أو السنة، أما مجمعًا على منعها لقطعية الإفضاء فيها أو لغلبة ذلك على الظن غلبة تقارب اليقين.
أو يكثر الإفضاء فيها بحيث يقوم مقام الدليل الظاهر على قصد الإفضاء.
أو تتعلق الذريعة ولو لم يكن إفضاؤها كثيرًا بمحظور خطير يقتضي الاحتياط درءًا لمفسدة فيه (2) .
ونخلص من ذلك القول إلى أن الذريعة تنبئ عن تهمة مباشرة بغير ما وضعت له.
بينما الوسيلة هي الوصلة والمرحلة المتوسطة ما بين المباشرة والغاية من الفعل هذا، والوسيلة هي الركن الأول من أركان الذريعة وعنصر من عناصرها.
ويلاحظ في هذا الركن:
أولًا: أنه قد يكون مقصودًا لغيره بمعنى أنه وسيلة لمقصود ... وهذا هو الأصل كمن يبيع شيئًا بمائة إلى أجل ثم يشتريه بثمانين حالًا.
فقد آل الأمر من ذلك إلى أنه أقرض ثمانين في الحال ليأخذ عند الأجل بدلها مائة.
لأنه لما عاد الشيء نفسه إليه اعتبر كأن لم يكن موجودًا ولم يجر عليه عقد بالمرة على حين بقيت صورة بينهم لقرض جر نفعًا وهو عين الربا المحرم، فكانت ضمرة عقد البيع ثم الشراء وسيلة مشروعة الظاهر للدخول عليه.
ثانيًا: أنه قد يكون مقصودًا لذاته وذلك حين يتجه الفاعل إليه بالفعل من غير أن يقصد المتوسل إليه فيعد كأنه وسيلة ويأخذ بذلك حكم المقصود بالمنع.
مثاله: من يسب آلهة المشركين غيرة لله وانتصارًا له فيسبون الله تعالى عدوا بغير علم فإنه يمنع من ذلك.
ثالثًا: أنه الأساس الأول الذي تقوم عليه الذريعة لأن وجوده يستتبع بالضرورة وجود الأركان التالية فبمجرد وجوده بالفعل تنتظم معه الأركان التالية وجودًا بالفعل أو تقديرًا.
كالمرأة التي تضرب برجليها ذات الخلاخيل مع قصد الافتتان ثم حصل الافتتان فقد توافرت الأركان الثلاثة. فالضرب وهو الفعل هو الركن الأول والأساس من الأركان الثلاثة ... ومن هنا يكون سابقًا في الوجود على الركنين، قصد الافتتان، وحصول الافتتان وهو الإفضاء، وقصد الإفضاء غير الإفضاء نفسه إذ لا يعدو أن يكون باعثًا على التذرع (3) .
__________
(1) البرهاني سد الذرائع ص 102
(2) البرهاني سد الذرائع ص 117
(3) سد الذرائع ص 104(9/1245)
الفرق بين الذريعة والسبب:
سبق وذكرنا الذريعة: كل ما يتخذ وسيلة إلى غيره، وأنها عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه قويت التهمة في التطرق به إلى ممنوع.
أما السبب:
في اللغة: بفتح السين والموحدة له عدة إطلاقات:
1- عبارة عن الطريق: قال تعالى {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 89 ـ 92] أي الطريق، فالمعنى آتاه الله من كل شيء معرفة وذريعة يتوصل بها، فاتبع واحدة من تلك الأسباب.
2- عبارة عن الباب: قال تعالى خبرًا عن فرعون {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36 ـ 37] أي أبوابها. والذرائع الحادثة في السماء، فأتوصل بها إلى معرفة ما يدعيه موسى.
3- ويطلق ويراد به الحبل؛ لأنه طريق يتوصل به إلى الماء.
ويسمى الطريق سببًا أيضا؛ لأنه يتوصل به إلى الموضع المقصود.
في عرف الفقهاء:
وأما في عرف الفقهاء، فهو مستعمل فيما هو موضوع في اللغة، وهو: ما يتوصل به إلى الحكم من غير أن يثبت به.
وبتعبير آخر: عبارة عما يكون طريقًا للوصول إلى الحكم غير مؤثر فيه.
كالحبل الذي هو سبب يتوصل به إلى الماء، وإن كان يحسن الوصول بالاستقاء.
وكذلك الطريق: يتوصل به إلى المقصود، وإن كان الوصول يحصل بالمشي لا به.(9/1246)
أقسام السبب: قسم الأصوليون السبب إلى أربعة أقسام:
1- سبب اسمًا وحقيقة ومعنى، وهو: السبب المحض، وهو ما يتوصل به إلى الحكم من غير أن يثبت به ... كدلالة السارق على سرقة مال الإنسان فسرق، فإن الدلالة سبب محض لأنه اعترض عليه فعل فعل مختار (1) .
2- ما هو سبب اسمًا وصورة، لا معنى وحقيقة: نحو الطلاق المعلق، واليمين في حق وجوب الكفارة.
فإن التعليق سبب لوقوع الطلاق عند الشرط، وكذلك اليمين سبب لصيرورته علة عند الحنث، ولكن من حيث الصورة دون المعنى، فإنه ليس فيه الإفضاء والتوصل، بل هو المانع عن الحكم للحال (2) .
3- السبب الذي هو علة العلة: وهو في الحقيقة موجب للحكم، إلا أنه إنما يوجب بواسطة العلة الأخيرة، والحكم وجب بالأخيرة فصارت العلة الأخيرة مع حكمها حكمين للعلة الأولى:
أ- فمن حيث إن العلة الأخيرة، مع حكمها حصلت بالأولى كانت هي العلة الموجبة حقيقة.
ب- ومن حيث أنها لا تعمل في ثبوت الحكم لا بواسطة العلة الأخيرة سميت سببًا.
نظيره: الرمي إذا اتصل به الموت، فإن الموت يضاف إلى الرمي بوسائط (3) .
4- السبب الذي هو علة معنى: وهو الذي يوجب الحكم بنفسه بلا واسطة علة، لكن الحكم في حال وجوده، لم يثبت لعدم تمامه بانعدام وصفه، لا يعدم بعضه، كعلة ذات أوصاف فإذا وجد الوصف ـ والوصف لا يقوم بنفسه فيقوم بالعلة ـ فيجب الحكم عند وجود وصفه مستندًا إلى العلة بوصفه ويكون هو الموجب دون وصفه.
فيكون علة من حيث هو الموجب.
ويكون سببًا من حيث أنه لم يوجب للحال ما لم يوجد وصفه، وهو كالنصاب علة الوجوب للزكاة، لكن لا يوجب بدون صفة النماء.
فمتى وجد وصف النماء، صار علة للحكم من الأصل، لاستناد الوصف إلى الأصل (4) .
__________
(1) السمرقندي ميزان الأصول ص 610 والكفوي: الكليات ص 395
(2) الزركشي: البحر المحيط ج5 ص 115 والفيروز أبادي: البصائر ج 3 ص 169
(3) الزركشي: البحر المحيط ج5 ص 116
(4) السمرقندي: ميزان الأصول ص 613، والبخاري على البزدوي ج4 ص 293، 305(9/1247)
هذا من وجه آخر:
إن ما يترتب عليه الحكم إن كان شيئًا لا يدرك العقل تأثيره، ولا يكون بصنع المكلف، كالوقت للصلاة، يخص باسم السبب.
وإن كان بصنعه، فإن كان الفرض من وضعه ذلك الحكم كالبيع للملك فهو علة ويطلق عليه اسم السبب مجازًا.
وأن لم يكن هو الفرض كالشراء لملك المتعة، فإن العقل لا يدرك تأثير (لفظ اشتريت) في هذا الحكم، وهو بصنع المكلف، وليس الغرض من الشراء ملك المتعة بل ملك الرقبة، فهو سبب.
وإن أدرك العقل تأثيره، يخص باسم العلة (1) .
وقال الإمام الشاطبي: الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان:
1- خارج عن مقدور المكلف.
2- ما يصح دخوله تحت مقدوره.
فما يكون خارجًا عن مقدور المكلف: قد يكون سببًا ويكون شرطًا ويكون مانعًا.
فالسبب: مثل كون الاضطرار سببًا في إباحة الميتة.
- وخوف العنت سببًا في إباحة نكاح الإماء.
- والسلس سببًا في إسقاط وجوب الوضوء لكل صلاة، مع وجود الخارج.
- وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سببًا في إيجاب تلك الصلوات وما أشبه ذلك (2) .
سؤال: هل مشروعية الأسباب تستلزم مشروعية المسببات؟؟
- ويجيب الشاطبي قائلًا: مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات، وإن صح التلازم بينهما عادة.
ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من إباحة أو ندب أو منع أو غيرها من أحكام التكليف، فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبباتها.
فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب.
وإذا نهى عن السبب، لم يستلزم النهي عن المسبب.
وإذا خير فيه، لم يلزم أن يخير في مسببه.
والأمر بالنكاح لا يستلزم الأمر بحلية البضع.. والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح ... والنهي عن القتل العدوان، لا يسلتزم النهي عن الإزهاق ...
إلى أن قال: فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات.
فإذا لا يتعلق التكليف وخطابه إلا بمكتسب ... فخرجت المسببات عن خطاب التكليف، لأنها ليست بمقدورهم، ولو تعلق بها لكان تكليفًا بما لا يطاق وهو غير واقع كما تبين في الأصول (3) .
__________
(1) التهاني: الكشاف ج 3 ص 638
(2) الشاطبي: الموافقات ج1 ص 187 ـ 189
(3) الشاطبي: الموافقات ج1 ص 191(9/1248)
مسألة: لا يلزم من تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها: بل المقصود من تعاطي الأسباب الجريان تحت الأحكام الموضوعة لا غير ـ أسبابا كانت أو غير أسباب معللة كانت أو غير معللة (1) .
وجاء في (المسألة الثامنة) : قوله: إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب قصد بذلك المسبب أولًا؛ لأنه لما جعل مسببًا عنه في مجرى العادات، وعد كأنه فاعل له مباشرة، ويشهد لهذا قاعدة مجاري العادات، إذا أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها، كنسبة الشبع إلى الطعام والإرواء إلى الماء ... وسائر المسببات إلى أسبابها، فكذلك الأفعال التي تتسبب عن كسبنا منسوبة إلينا، وإن لم تكن من كسبنا، وإن كان هذا معهودًا معلومًا، جرى عرف الشرع في الأسباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزن.
- فإذا كان كذلك، فالداخل في السبب، إنما يدخل فيه مقتضيًا لمسببه، لكن تارة يكون مقتضيًا له على الجملة والتفصيل، وإن كان غير محيط بجميع التفاصيل.
وتارة يدخل فيه مقتضيًا له على الجملة لا على التفصيل، وذلك أن أمر الله به، فإنما أمر به لمصلحة يقتضيها فعله، وما نهى عنه فإنما نهى عنه لمفسدة يقتضيها فعله، فإذا فعل فقد دخل على شرط أنه يتسبب فيما تحت المسبب من المصالح والمفاسد (2)
__________
(1) الشاطبي: الموافقات ج1 ص 191
(2) الشاطبي: الموافقات ج1 ص 191(9/1249)
الفرق بين الذريعة والسبب:
يتحصل لدينا مما سبق والحقائق والفروق التالية:
أولًا: أن الأسباب الممنوعة، أسباب للمقاصد لا للمصالح.
ثانيًا: أن الأسباب المشروعة، أسباب للمصالح لا للمفاسد.
ثالثًا: أن الأسباب المشروعة، لا تكون أسبابًا للمفاسد.
رابعًا: أن الأسباب الممنوعة، لا تكون أسبابًا للمصالح.
خامسًا: أن السبب ما وضع شرعًا لحكم لحكمة يقتضيها ذلك السبب.
كما كان حول النصاب سببا لوجوب الزكاة.
والزوال سببًا في وجوب الصلاة.
والسرقة سببا في وجوب القطع.
والعقود أسباب في إباحة الامتناع أو انتقال الأملاك وما أشبه ذلك.
أما الذريعة: كما سبق كل ما يتخذ وسيلة إلى غيره، وإنها عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه قويت التهمة في التطرق به إلى ممنوع.
بينما الذريعة تحكم من المباشر في الوصول إلى ما هو وراء السبب من المباشرة.
والله أعلم.(9/1250)
المبحث الثالث
المقارنة بين الذرائع الحيل الفقهية
ومدى الوفاق أو الخلاق بينهما
تعريف الحيل:
الحيل جميع حيلة، وهي إظهار أمر جائز ليتوصل به إلى محرم يبطله.
قال ابن تيمية: والحيلة مشتقة من التحول، وهو النوع من الحول، كالجلسة والقعدة من الجلوس والقعود، وكالأكلة والشربة، من الأكل والشرب (1) .
وقال الشاطبي: وحقيقتها المشهورة، تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر (2) .
وقال ابن تيمية: هي نوع مخصوص من التصرف والفعل الذي هو التحول من حال إلى حال، هذا مقتضاه من اللغة.
ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية موصلًا إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فإذا كان المقصود أمرًا حسنًا، كانت حيلة حسنة، وإن كان قبيحًا كانت قبيحة، إلى أن قال: وصارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قصد بها الحيل التي يستحل بها المحارم كحيل اليهود، كما أطلقت الحيل على: ما يخرج من المضائق بوجه شرعي لتكون مخلصًا شرعيًا لمن ابتلي بحادثة دينية، على اعتباره نوعا من الحذق وجودة النظر وكل حيلة تضمنت إسقاط حق الله تعالى أو الآدمي، تندرج فيما يستحل بما المحارم (3) .
الحيلة: أن يقصد فاعلها سقوط الواجب أو حل الحرام، بفعل لم يقصد به جعل ذلك الفعل له أو ما شرع، فهو يريد تغيير الأحكام الشرعية، لأسباب لم يقصد بها ما جعلت تلك الأسباب له (4) .
وقال ابن القيم: المخادعة هي الاحتيال والمرواغة لإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم يبطله (5) .
ونخلص من ذلك كله إلى القول بأن الحيلة، وإن كانت في اللغة التحول من حال إلى حال، لقد غلب استعمالها على ما يكون من الطرق الخفية موصلا إلى حصول الغرض، بحيث لا يفطن له إلا بنوع ذكاء سواء أكان الغرض حسنا أو قبيحًا ... ثم صارت في عرف الفقهاء يقصد بها الطرق التي يستحل بها المحارم (6) .
ونقول: أطلق الفقهاء الحيل على ما يخرج من المضائق بوجه شرعي لتكون مخلصًا شرعيًا لمن ابتلي بحادثة دينية على اعتباره نوعًا من الحذق وجودة النظر.
__________
(1) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى ج6 ص19
(2) الموافقات ج4 210
(3) الفتوى الكبرى ج3 ص 291، ابن القيم: الإعلام ج3 ص 252
(4) الفتوى الكبرى ج3 ص 291، ابن القيم: الإعلام ج3 ص109
(5) إعلام الموقعين ج3 ص 172
(6) د. عبد المحسن التركي: أصول مذهب الإمام أحمد ص 48(9/1251)
الحيل الشرعية الممنوعة:
وهي التي يقصد منها التحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعًا إلى أحكام أخر، بفعل صحيح الظاهر، لغو في الباطن.
مثل الحيل الموضوعة لإسقاط الشفعة، وتخصيص بعض الورثة بالوصية لإسقاط حق الورثة (1) .
قال الشاطبي: فإن حقيقتها تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل خرم قواعد الشرعية في الواقع، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة.
فإن أصل الهبة الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعا، فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإن جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة ـ لكن هذا بشرط القصد لإبطال الأحكام الشرعية (2) .
ويمكن تقسيم الحيل المحرمة إلى ثلاثة أنواع:
1- أن تكون الحيلة محرمة، ويقصد بها محرم: مثاله من طلق زوجته ثلاثًا وأراد التخلص من عار التحليل، فإنه يحتال لذلك بالقدح في صحة النكاح بفسق الولي، أو الشهود، فلا يصح الطلاق في النكاح الفاسد.
2- أن تكون الحيلة مباحة في نفسها ويقصد بها محرم، مثاله: كمن يسافر لقطع الطريق أو قتل النفس المعصومة.
3- أن تكون الحيلة لم توضع وسيلة إلى المحرم بل إلى المشروع، فيتخذها المحتال وسيلة إلى المحرم.
مثاله: كمن يريد أن يوصي لورثته، فيحتال لذلك بأن يقر له ـ فيتخذ الإقرار وسيلة للوصية للوارث- (3) .
__________
(1) ابن نجيم الأشياء ص 415، الاختيار (باب الشفعة)
(2) الموافقات ج4 ص201
(3) الإعلام ج3 ص335(9/1252)
حكم الحيلة: وأما حكم الحيلة، فهو إن قصد بها الوصول إلى المحرم فهي حرام وإلا فالحيلة قسمان:
حيلة شرعية مباحة: وهي التحيل على قلب طريقة مشروعة وضعت لأمر معين، واستعمالها في حالة أخرى بقصد التوصل إلى إثبات حق أو دفع مظلمة، أو إلى التيسير بسبب الحاجة.
حكمه: فهذا النوع من الحيل لا يهدم مصلحة شرعية، فهو إذًا جائز شرعًا.
وجه هذا القول: لأنه ليس المقصود بهذا التحيل إبطال الحق، وإنما هو تخريج فقهي للخروج من مأزق، ولا يقصد به إبطال أحكام الشرع أو التعدي على أحد في ماله أو نفسه.
مثاله: إن أهالي بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة، وبما أن هذه الإجارة لا تجوز عند الحنفية في الأشجار، اضطروا إلى وضع حيلة بيع الكرم وفاء (1) .
فالبيع الوفائي: حيلة شرعية، اتخذت بسبب حاجة الناس، وبسب التخلص من قاعدة منع الإجارة الطويلة في الأشجار.
ومثال آخر: الرجل الذي: يحلف ليقربن امرأته نهارًا في رمضان، فيفتيه أبو حنيفة أن يسافر فيفطر ويقربها نهارًا في رمضان (2) .
__________
(1) ابن نجيم: الأشياء ج1 ص41
(2) ابن نجيم: الأشياء ج1 ص41(9/1253)
حكم الحيل
الدليل على مشروعية الحيل:
أولًا: من الكتاب: قوله تعالى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] هذا تعليم المخرج أيوب عليه السلام عن يمينه التي حلف ليضربن زوجته مائة، فإنه حين قالت له: لو ذبحت عناقًا باسم الشيطان ... في قصة طويلة أوردها أهل التفسير رحمهم الله تعالى.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] إلى قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] وذلك منه حيلة لإمساك أخيه عنده حينئذ، ليوقف إخوته على قصده.
قال الرازي الجصاص: وفيما حكى الله تعالى من أمر يوسف وما عامل به إخوته في قوله {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} [يوسف: 70] إلى قوله {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] دلالة على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح واستخراج الحقوق لأن الله تعالى رضي ذلك من فعله ولم ينكره، وقال في آخر القصة {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] .
ومن نحو ذلك قوله تعالى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] وكان حلف أن يضربها عددًا، فأمره تعالى بأخذ الضغث، وضربها به ليبر في يمينه من غير إيصال ألم كبير إليها.
ومن نحوه: النهي عن التصريح بالخطبة وإباحة التوصل إلى إعلامها رغبته بالتعويض (1) .
وقال تعالى حكاية عن موسي عليه السلام: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] ولم يقل (على ذلك) ... لأنه قيد سلامته بالاستثناء وهو مخرج صحيح، قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 ـ 24] .
__________
(1) الجصاص: أحكام القرآن ج3 ص 176 تفسير سورة يوسف(9/1254)
ثانيًا: من السنة: فما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب لعروة بن مسعود في شأن بني قريظة: (فلعلنا أمرناهم بذلك) فلما قال له عمر رضي الله عنه في ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (الحرب خدعة) . وكان ذلك من اكتساب حيلة ومخرج من الإثم بتقييد الكلام (بلعل) (1) . ولما أتاه رجل وأخبره بأنه حلف بطلاق امرأته ثلاثًا أن لا يكلم أخاه قال له: طلقها واحدة ... فإذا انقضت عدتها، فكلم أخاك ثم تزوجها وهذا تعليم الحيلة والآثار فيه كثيرة.
ومنها:
حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعمل رجلًا على خيبر، فأتاه بتمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله، إنما نأخذ الصاع بالصاعين، والصاعين بثلاثة، قال: لا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم تمرًا)) .
كذا روي ذلك مالك بن أنس عن عبد المجيد بن سهيل عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد وأبي هريرة
وجه الاستدلال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حظر على الرجل التفاضل في التمر، وعلمه كيف يحتال في التوصل لأن يأخذ هذا التمر.
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف)) .
وجه الاستدلال: أنه أمرها بالتوصل إلى أخذ حقها وحق ولدها (2) .
والحاصل: أن ما يتخلص به الرجل من الحرام أو يتوصل إلى الحلال من الحيل فهو حسن.
__________
(1) أحكام القرآن ج3 ص 177 تفسير سورة يوسف
(2) الجصاص: أحكام القرآن ج3 ص 176(9/1255)
وإنما يكره ذلك أن يحتال في حق لرجل حتى يبطله، أو في باطل حتى يموهه، أو في حق حتى يدخل فيه شبهه، فما كان على هذا السبيل فهو مكروه، وما كان على السبيل الذي قلنا أولًا فلا بأس به؛ لأن الله تعالى قال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
ففي النوع الأول معنى التعاون على البر والتقوى.
وفي النوع الثاني معنى التعاون على الإثم والعدوان (1) .
وذكر عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: من معاريض الكلام ما يغني المسلم عن الكذب.
وفيه دليل: على أنه لا بأس في استعمال المعاريض للتحرز عن الكذب، فإن الكذب حرام لا رخصة فيه.
وقال ابن عباس: ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم.
فإنما يريد به أن بمعاريض الكلام يتخلص المرء من الإثم ويحصل مقصوده فهو خير من حمر النعم (2) .
والأصل في جواز المعاريض قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] فقد جوز الله المعاريض ونهى عن التصريح بالخطبة بقوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235] وقال إبراهيم عليه السلام للملك حين سأله عن سارة، فقال من هي منك؟ قال:
هي أختي لئلا يأخذها. وإنما أراد أختي في الدين،وقال للكفار إني سقيم حين تخلف ليكسر آلهتهم، معناه إني سأسقم، يعني أموت (3) .
ثم بيان استعمال المعاريض من أوجه:
__________
(1) السرخسي: المبسوط ج3 ص 17
(2) الجصاص: أحكام القرآن ج3 ص 177
(3) الجصاص: أحكام القرآن ج3 ص177(9/1256)
1- أن يقيد المتكلم كلامه بلعل وعسى، كما قال عليه السلام: (فلعلنا أمرناهم بذلك) ولم يكن أمر به، ولم يكن ذلك كذبًا منه لتقييد كلامه بلعل.
2- أنه يضمر في لفظه معنى سوى ما يظهر ويفهمه السامع من كلامه، وبيانه: في ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لتلك العجوز: ((إن الجنة لا يدخلها العجائز)) فجعلت تبكي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أهل الجنة مرد مكملون)) ، أخبرها بلفظ أضمر فيه سوى ما فهمت من كلامه، فدل أن ذلك لا بأس به.
ومما ورد عن السلف من المعاريض: ما روي عن عبيدة السلماني رضي الله عنه قال: خطب علي رضي الله عنه فقال: والله ما قتلت عثمان ولا كرهت قتله وما أمرت وما نهيت، فدخل عليه بعض من ـ الله أعلم بحاله ـ فقال له في ذلك قولًا. فلما كان في موضع آخر قال: من سائلي عن قتل عثمان رضي الله عنه، فالله قتله وأنا معه؟
فقال ابن سيرين: هذه كلمة قرشية ذات وجوه:
أما قوله: ما قتلت عثمان رضي الله عنه، فهو صدق حقيقة.
وقوله: ولا كرهت قتله، أي قتله بقضاء الله تعالى، ونال الشهادة فما كرهت له هذه الدرجة، وما كرهت قضاء الله وقدره.
وأما قوله: فالله قتله وأنا معه مقتول أقتل كما قتل عثمان رضي الله عنه.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبر أنه يستشهد بقوله: ((إن أشقى الأولين والآخرين من خضب بدمك)) وهذه من هذه وأشار إلى عنقه ولحيته، وقد كان علي رضي الله عنه، ابتلى بصحبة قوم على همم متفرقة، فقد كان يحتاج إلى أن يتكلم بمثل هذا الكلام الموجه.(9/1257)
فدل بذلك أن كبار الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يستعملون معاريض الكلام في حوائجهم. وكذلك من بعدهم من التابعين رحمهم الله.
يحكى عن رجل قال: كنت عند إبراهيم رحمه الله وامرأته تعاتبه في جاريته وبيده مروحة فقال أشهدكم أنها لها. فلما خرجنا قال علي: على ما أشهدتكم؟
قلنا شهدنا أنك جعلت الجارية لها. فقال: أما رأيتموني أشير إلى المروحة إنما قلت لكم اشهدوا أنها لها وأنا أعني المروحة التي كنت أشير بها.
وكان التابعون يعلمون غيرهم ذلك ـ الحيل الجائزة ـ أيضًا، على ما ذكره في الكتاب عن إبراهيم رحمه الله في رجل أخذه رجل فقال: إن لي معك حق قال: لا فقال احلف لي بالمشي إلى بيت الله تعالى، فقال: احلف وأعني مسجد حيك (1) وإنما يحمل هذا على أن إبراهيم رحمه الله، علم أن المدعي مبطل ... وإنما المدعي عليه بريء، وهو أن يحلف بالمشي إلى بيت الله تعالى يعني مسجد حيه فإن المساجد كلها بيوت الله تعالى، أذن الله أن يذكر فيها اسمه.
قال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} . [الجن: 18] .
__________
(1) إعلام الموقعين ج3 ص305(9/1258)
وذكر عن ابن سيرين رحمه الله أنه قال: كان رجل من باهلة عيونًا، فرأى بغلة لشريح رحمه الله، فأعجبته فقال له شريح: أما إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام ـ أي أن الله عز وجل هو الذي يقيمها بقدرته ـ فقال الرجل أف أف.
وفي هذا الحديث زيادة، فإن الرجل لما أبصر البغلة أعجبته، ربضت من ساعتها فقال شريح ما قال، فلما قال الرجل أف أف قامت.
وفي هذا دليل أن العين حق، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين السوء ... فأراد شريح أن يرد عينه بأن يحقرها في عينه، وقال ما قال، وأضمر فيه معنى صحيحًا وهو: أن الله تعالى يقيمها بقدرته.
وعن عقبة بن غرار رحمه الله قال: كنا نأتي إبراهيم رحمه الله وهو خائف من الحجاج، فكنا إذا خرجنا من عنده يقول لنا: إن سئلتم عني وحلفتم، فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا ولا لكم علم بمكاني ولا في أي موضع أنا، واعنوا أنكم لا تدرون في موضع قاعد أو قائم، فتكونون قد صدقتم (1) .
هذا: وجملة القول ما صرح به صاحب أحكام القرآن قال الرازي الجصاص: فمن أنكر التوصل إلى استباحة ما كان محظورًا من الجهة التي أباحته الشريعة، فإنما يرد أصول الدين وما قد ثبتت به الشريعة (2) .
__________
(1) المبسوط ج3 ص 214
(2) أحكام القرآن ج 3 ص 177 والإعلام ج3 ص 206(9/1259)
وجاء في الحموي على الأشباه ما نصه:
قال في التتار خانية: مذهب علمائنا، أن كل حيلة يحتال بها الرجل لإبطال حق الغير أو لإدخال شبهة فيه فهي مكروهة ـ يعني تحريمًا.
وفي العيون وجامع الفتاوي: لا يسعه ذلك، وكل حيلة يحتال بها الرجل ليتخلص بها عن حرام أو يتوصل بها إلى حلال فهي حسنة. وهي معنى ما نقل عن الشعبي: لا بأس في الحيلة فيما يحل (1) .
وقال محمد بن الحسن عن عمرو بن دينار عن الشعبي: لا بأس في الحيل فيما يحل ويجوز، وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام ويخرج به إلى الحلال فما كان من هذا فلا بأس.
وإنما يكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق الرجل حتى يبطله أو يحتال في باطل حتى يتوهم أنه حق.
أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة.
وأما ما كان على سبيل الذي قلنا فلا بأس في ذلك، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قال غير واحد من المفسرين: إن هذه الحيل مخارج لما ضاق على الناس وقواعد الفقه لا تحرم مثل ذلك (2) .
__________
(1) الحموي على الأشباه ص 611
(2) الإعلام ج3 ص 207(9/1260)
المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية
ومدى الوفاق والخلاف بينهم
الذرائع والحيل قاعدتان متشابهتان، والكلام فيهما متداخل، وهما يلتقيان أحيانًا ويفترقان أحيانًا ... لذلك يستدل لأحدهما بأدلة الأخرى، وأوفى من تكلم فيهما فقهاء ثلاثة، ابن تيمية، ابن القيم، والشاطبي.
فابن تيمية، وهو يتكلم عن الحيل ... وهو مقصود بحثه تكلم عن الذرائع بالتبع، واعتبر الذريعة إذا كان إفضاؤها إلى المحرم بقصد فاعلها من باب الحيل وبناء على تقسيمه تحصل الآتي:
1- توجد ذريعة ليست حيلة.
2- توجد حيلة ليست ذريعة.
3- توجد ذريعة هي حيلة.
فالحيلة تجتمع مع الذرائع عند القصد ... وكل منهما تفترق عن الأخرى بما عدا ذلك. وعليه فعنده باب الذرائع واسع من باب الحيل، بل الكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط.
وقال: والغرض هنا أن الذرائع حرمها الشارع، وإن لم يقصد بها محرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع (1) .
أما ابن القيم: فجعل الحيل تابعة للذرائع ... وقدر أن العبرة في الشرائع بالمقاصد والنيات ... تكلم عن سد الذرائع وقرر أن اعتبارها بناء الأحكام عليها.
__________
(1) الفتاوى الكبرى ج 3 ص 257(9/1261)
وبعد أن استدل على وجوب سد الذرائع بـ 99 دليلًا قال: (وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة تامة، فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن والمحتال يفتح الطريق إليها بكل حيلة) . ثم بين أن الأدلة التي تذكر في وجوب سد الذرائع هي نفسها تدل على تحريم الحيل، بل وزاد أدلة أخرى، هذا وإن اعتبر الحيل تابعة للذرائع فقد اشترط القصد في الحيل ... قال: ومدار الخداع على أصلين:
1- إظهار فعل لغير مقصوده الذي جعل له.
2- إظهار قول لغير مقصوده الذي وضع له.
ففي الأصلين ينص على إظهار الفعل والقول غير المقصود وهو معنى القصد (1) .
أما الشاطبي: ففي بحثه تداخل بين الذرائع والحيل، فحيث يتكلم عن الذرائع يذكر الحيل، وفي كلامه عن الحيل يذكر الذرائع، حتى الأمثلة يسوقها أحيانًا للقاعدتين. فمرة يعتبر الحيلة نوعًا من الذرائع (2) . وذلك في المسألة الخامسة، أما في المسألة العاشرة من مقاصد المكلف تكلم عن الحيل ومثل بمسائل بيوع الآجال وقال: إنها من الذرائع (3) .
__________
(1) إعلام الموقعين: ج3 ـ 171 ـ 415، وج4 1 ـ 117
(2) الشاطبي: الموافقات ج2 ص 360
(3) الشاطبي: الموافقات ج2 ص 389و 360(9/1262)
الفرق بين الحيل والذارئع عند الشاطبي:
عرف الشاطبي الحيل: أنها تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر.
يفهم من هذا التعريف أن الحيل يشترط فيها القصد من المكلف، وقد نص فيما بعد على ذلك حيث قال: ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية (1) . وعليه: أن الفرق واضح عن الشاطبي بين الحيل والذرائع، إذا اشترط القصد في الحيل، كما اعتبر الشاطبي الذرائع أوسع دائرة من الحيل وأعم وذلك بإدراجه الحيل في الذرائع (2) . وهناك فرقان آخران بين الحيلة والذريعة:
فالذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة والحيلة لا بد من قصدها للتخلص من المحرم.
والحيلة تجري في العقود خاصة ـ والذريعة أعم.
ونخلص من ذلك كله إلى النتيجة التالية:
فحيث يشترط القصد في الحيل، أي أن يقصد المكلف المحرم ابتداء، ومع ذلك الحيل والذرائع، يلتقي كل منهما مع الآخر في صورة ... ويفترق في صور.
1- فمثال ما كان ذريعة وليس حيلة: سب الأوثان فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى وكذلك سب الرجل والد غيره، فإنه ذريعة إلى أن يسب والده.
2- ومثال ما كان حيلة وليس ذريعة ما يحتال من المباحات في الأصل كبيع النصاب في أثناء الحول فراره من الزكاة.
3- ومثال ما كان ذريعة وحيلة: اشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نساء.
هذا: والمراد بسد الذريعة: منعها على المكلف حتى لا يتوصل بسببها إلى المحرم، فهي وإن كانت جائزة بحد ذاتها لكنها تحرم لما تفضي إليه، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء، لبقيت على جوازها، ولما منع المكلف منها.
والمراد بإبطال الحيل: إلغاؤها وعدم الاعتداد بها، فإذا عرف أن المكلف محتال فتصرفه لاغ، ويعامل بنقيض قصده، فهو حينما سلك مسلك الحيل، أراد أن تكون مخرجًا له ومفرًا من حكم المسألة الشرعي الذي يريد أن يهرب منه، فهذا التصرف لا يخرجه عن الحكم الشرعي بل تبطل حيلته، ولا يكون لها الأثر الذي يريد (3) .
__________
(1) الشاطبي: الموافقات ج4 ص 201
(2) الشاطبي: الموافقات ج4 ص 201
(3) التركي أصول مذهب الإمام أحمد(9/1263)
المبحث الرابع
أقسام الذرائع بحسب القطع بتوصيلها إلى الحرام
وعدم القطع ومدى الوفاق أو الخلاف بينها
أحكامها وشروطها:
لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها مقيدة بها.
فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ... وسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود.. لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل.
هذا والفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان:
أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر. وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية. والزنى المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ونحو ذلك. فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها.
والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب فيتخذ وسيلة إلى المحرم وإما بقصده أو بغير قصد منه.
فالأول: كمن يعقد النكاح قاصدًا به التحليل.
والثاني: كمن يصلي تطوعًا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم ... ونحو ذلك. إلى أن قال فهاهنا أربعة:
الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة.
الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة.
الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها. كالصلاة في أوقات النهي ومسبة آلهة المشركين بين أظهرهم.
الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها. ومثاله النظر إلى المخطوبة، والمستامة والمشهود عليها وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي (1) .
حكم هذا القسم: إن الشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة. وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريمًا بحسب درجاته في المفسدة.
__________
(1) ابن القيم: الإعلام ج3 ص147 ـ 148(9/1264)
ونخلص من ذلك إلى القول: بأن الذرائع المفضية إلى المفاسد أربعة أقسام:
الأول: ما يفضي إلى المحرم غالبًا.
الثاني: ما يحتمل الإفضاء وعدمه ولكن الطبع يميل إليه.
الثالث: ما يفضي أحيانًا ومصلحته راجحة على مفسدته.
الرابع: ما يفضي أحيانًا وليس فيه مصلحة راجحة على مفسدته.
وهنالك تقسيم للشوكاني نقلًا عن ابن الرفعة قال: الذريعة ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام عند المالكية والشافعية.
والثاني: ما يقطع بأنه لا يوصل ولكنه اختلط بما يوصل فكان من الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة ـ التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام ـ بالغالب منها الموصل إليه وهذا غلو في القول بسد الذرائع.(9/1265)
والثالث: ما يحتمل ويحتمل وفيه مراتب ويختلف الترجيح عندهم بحسب تفاوتها (1) . لكن الإمام الشاطبي تناول هذا الموضوع بالتفصيل تحت عنوان:
فيما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف.
حيث قال: إن الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات (2) .
ثم قال: إن قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع.. والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع ولأن المكلف خلق لعبادة الله وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة.
إلى أن قال: كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل.
ووصل به الكلام إلى القسم الخامس فقال: وهو أن لا يلحق الجالب أو الدافع ـ لكن أداءه إلى المفسدة قطعي عادة فله نظران: نظر من حيث كونه قاصدًا لما يجوز أن يقصد شرعًا من غير إضرار بأحد فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه ونظر من حيث كونه عالمًا بلزوم مضرة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه ـ فإنه من هذه الوجه مظنة لقصد الإضرار.
ثم قال: أما السادس: وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا فهو على أصله من الإذن.
وجهه لأن المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالنذور في انخرامها إذ لا توجد في العادة مصلحة عارية عن المفسدة جملة، كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج ... مع إمكان الوهم والغلط.
ثم قال: والسابع: هو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيًا فيحتمل الخلاف، أما أن الأصل: الإباحة والإذن فظاهر.
__________
(1) الشوكاني: إرشاد الفحول ص 247
(2) الشاطبي: الموافقات ج2 ص 324(9/1266)
وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنيًا.
وقال: لكن اعتبار الظن هو الأرجح لأن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم.
ولأن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم ولأنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه.
ثم وصل به القول إلى بيان حكم الفعل الذي يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا ولا نادرًا فهو موضوع نظر والتباس، والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي وغيره.
وجه هذا القول: أن احتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه (1) .
وحاصله:
أن التصرف المأذون فيه بالنظر لما يلزم عنه من إضرار أربعة أقسام:
الأول: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر في موضع لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه، وبيع الأغذية التي غالبًا لا تضر أحدًا.
الثالث: ما يكون داؤه إلى المفسدة كثيرًا بحيث يغلب على الظن الراجح أنه يؤدي إليها كبيع السلاح في وقت الفتن وبيع العنب ممن يتخذه خمرًا ونحو ذلك مما يقع في غالبًا الظن لا على سبيل القطع أداؤه إلى المفسدة.
الرابع: أن يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لكن كثرته لم تبلغ مبلغ أن تحمل العقل على ظن المفسدة فيه دائمًا كمسائل البيوع الربوية التي تفضي إلى الربا (2) .
__________
(1) الشاطبي: الموافقات ج2 ص 316
(2) البرهاني: سد الذرائع ص 187(9/1267)
المبحث الخامس
موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع
مع تحرير محل النزاع في ذلك
يذكر الأصوليون أن الإمام مالكا هو الذي يمنع من الذرائع وأن أبا حنيفة والشافعي لا يجيزان منعها.
فهل هذا على إطلاقه بالنسبة لجميع الذرائع أو لا؟
قال الإمام الباجي: ذهب مالك رحمه الله إلى المنع من الذرائع، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز المنع من الذرائع (1) .
لكن الإمام الشاطبي اعتبرها من القواعد المبنية على أصل اعتبار مآلات الأفعال ودلل على صحته، ثم تكلم على ما ينبني عليها من قواعد ومنها: سد الذرائع.
وقال: إن مالكًا حكمها في أكثر أبواب الفقه لأن حقيقتها التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة.
وقال: إن من أسقط الذرائع كالشافعي فإنه اعتبر المآل أيضًا.
__________
(1) الباجي: أحكام الفصول ص 689(9/1268)
وقال القرافي: مالك لم ينفرد بذلك بل كل أحد يقول بها ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها.
فإن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في طعامهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى.
ومنها ما هو ملغي إجماعا كزرع العنب خشية الخمر وإن كانت وسيلة إلى المحرم ومنها ما هو مختلف فيه كبيوع الآجال فنحن لا نغتفر الذريعة فيها.
وخالفنا غيرنا في أصل القضية إنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا. وبهذا تعلم بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية في هذه المسألة بقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام 108] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة 65] .
فقد ذمهم بكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم لحبس الصيد يوم الجمعة (1) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين)) (2) .
قال: وإنما قلنا إن هذه الأدلة لا تفيد محل النزاع لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة وهذا أمر مجمع عليه، وإنما النزاع في ذريعة خاصة وهو: بيع الآجال ونحوها.
فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس.
ويقول الإمام القرطبي بسد الذرائع: ذهب إليه مالك وأصحابه وخالفه أكثر الناس تأصيلًا، وعملوا عليه في أكثر من فروعه تفصيلًا (3) .
__________
(1) القرافي: الفروق ج3 ص 226 ـ 267
(2) رواه أبو داود في المراسيل، نيل الأوطار ج8 ص291
(3) الموافقات: ج4 ص 194(9/1269)
وإذا ألقينا نظرة على ما تقدم نخلص إلى النتيجة التالية: أن أصل سد الذرائع قال به العلماء بالجملة وليس خاصًا بالملكية فقط كما تقدم عن القرافي إلا أن المالكية قالوا به أكثر من غيرهم (1) .
وقال الشاطبي: فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة وإنما الخلاف في أمر آخر. قال المرحوم عبد الله دراز معلقًا: وهو في الحقيقة اختلاف في المناط (2) .
وجاء في مختصر الروضة: إن أصل سد الذرائع قال به العلماء بالجملة وليس خاصا بالمالكية فقط، إلا أن المالكية قالوا به أكثر من غيرهم (3) .
وهكذا يتقرر لدينا أن القول بسد الذرائع أصل معتمد في الفقه المالكي والفقه الحنبلي.
قال أبو زهرة: هذا أصل من الأصول التي أكثر من الاعتماد عليها في استنباطه الفقهي الإمام مالك رضي الله عنه وقاربه في ذلك الإمام أحمد ابن حنبل رضي الله عنه (4) .
__________
(1) الزركشي: البحر ج6 ـ ص13، الفروق ج3 ص 266، إرشاد الفحول ص246 ـ 247
(2) الموافقات ج2 ص 201
(3) شرح مختصر الروضة: ورقة 203
(4) مالك: 340(9/1270)
وأما أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى فلم تذكر كتب أصول مذهبهما شيئًا عن رأيهما في ذلك ... وكتب أصول الحنفية والشافعية لا تتعرض للبحث في هذا الأصل.
وقال ابن رشد: ووافقنا أبو حنيفة وأحمد ابن حنبل في سد الذرائع (بيوع الآجال) التي هي صورة النزاع وإن خالفنا في تفصيل بعضها.
قال أبو حنيفة: يمتنع بيع السلعة من أبي البائع بما تمتنع به من البائع، وخالفنا الشافعي رضي الله عنه (1) .
ويقرر أبو زهرة رحمه الله قائلًا:
ونحن نميل إلى أن العلماء جميعًا يأخذون بأصل الذرائع وإن لم يسموه بذلك الاسم. ولكن أكثرهم يعطون الوسيلة حكم الغاية إذا تعينت طريقًا لهذه الغاية، فلم تكن طريقًا لغيرها على وجه القطع أو غلبة الظن.
وأما إذا لم تكن الوسيلة متعينة لا بطريق العلم ولا بطريق الظن فهذا يختص مالك بالأخذ بأصل الذرائع فيه، إذا كثر ترتب الغاية على الوسيلة كبيوع الآجال (2) .
__________
(1) القرافي: الفروق ج3 ص 268، الزركشي ج6 ص84
(2) مالك: ص351(9/1271)
المعنى الخاص للذريعة ـ تحرير محل النزاع:
قال القرطبي في تحرير موضع الخلاف: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع قطعًا أو لا.
والأول: ليس من هذا الباب بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والذي لا يلزم: إما أن يفضي إلى المحظور غالبًا أو ينفك عنه غالبًا أو يتساوى الأمران وهو المسمى بالذرائع عندنا.
فالأول لا بد من مراعاته والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه. فمنهم من يراعيه، ومنهم من لا يراعيه وربما يسميه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة، وقريب من هذا التقرير قول القرافي: ـ آنف الذكر ـ إن مالكًا لم ينفرد بذلك، فإن الذرائع ما هو معتبر إجماعًا ومنها ما هو ملغي إجماعًا ومنها ما هو مختلف فيه.
إلى أن قال: إن من أدلة محل النزاع حديث زيد بن أرقم أن أمه قالت لعائشة: إني بعت منه عبدًا بثمانمائة إلى العطاء واشتريته نقدًا بستمائة فقالت عائشة: بئس ما اشتريت وأخبري زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب (1) .
موقف الإمام الشافعي رضي الله عنه من الذرائع:
أنكر الشافعية صحة أصل سد الذرائع وأبطلوا العمل به لسببين:
أولاهما: أن سد الذرائع مظهر من مظاهر الاجتهاد بالرأي وهم لا يأخذون منها إلا بالقياس، حيث جاء في الأم: ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم عن أعلى (2) .
وجاء عنه قوله: ولا يجوز القول إلا بالقياس (3) .
وقال: ولا يجوز أن يفتي بالاستحسان (4) .
ويستفاد من مجمل قوله في كتبه أن الاجتهاد بالاستحسان وغيره من الوسائل كسد الذرائع اجتهاد باطل.
والثاني: أن الشريعة تبنى على الظاهر لقوله: الأحكام على الظاهر والله ولي الغيب ... وكلف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر (5) .
__________
(1) الزركشي: البحر ج2 ص 846
(2) الأم: 7ص 246
(3) اختلاف الحديث بهامش الأم ج7 ص 148
(4) الأم: ج7 ص 270
(5) الرسالة: فقرة 1456 ـ 1464(9/1272)
ولما كانت الشريعة تبنى على الظاهر وجب ألا تناط أحكامها بأسباب قد تخفى ولذلك يحكم على العقود بحسب ما تدل عليه ألفاظها وما يستفاد منها في اللغة وعرف العاقدين في الخطاب.
ويقول: لا يفسد العقود نية العاقدين: لذلك إذا اشترى الرجل طعامًا فقبضه فلا بأس أن يبيعه ممن اشتراه منه ومن غيره بنقد وإلى أجل وسواء في المعين وغير المعين (1) .
هذا ولعل ما نسب إلى الشافعي من القول بسد الذرائع إنما هو من باب تحريم الوسائل التي تستلزم المتوسل إليه لا من باب الذرائع.
وقال السبكي: إن ما ذكر أن الأمة أجمعت عليه ليس من مسمى الذرائع في شيء نعم حاول ابن الرفعة تخريج قول الشافعي في باب: إحياء الموات من الأم: عند النهي عن منع الماء ليمنع الكلأ: إن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل.
وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله. فقال: في هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحرام والحلال تشبه معاني الحرام والحلال.
قال السبكي: نقلًا عن والده إنما أراد الشافعي تحريم الوسائل لا سد الذرائع.
والوسائل تستلزم المتوسل إليه ومن هذا منع الماء فإنه يستلزم منع الكلأ الذي هو حرام ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل ولذلك نقول: من حبس شخصًا ومنعه من الطعام والشراب فهو قاتل له وما هذا من سد الذرائع في شيء.
وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها، وأصل النزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها.
__________
(1) النووي: المجموع ج10 ص 136(9/1273)
هذا والقول بتحريم الوسائل التي تستلزم المتوسل إليه قائم في أغلب صوره في الظن والتوهم والتخمين وشتان بينهما.
ولذلك كان مسلك الشافعي رحمه الله في عدم أخذ الناس بالتهم وإفساد تصرفاتهم بالظن مسلكًا صحيحًا وسليمًا يتفق مع ما دلت عليه نصوص الشريعة السمحة من أخذ المكلفين بظواهرهم وترك سرائرهم إلى الله تعالى (1) . لكن الإمام الشاطبي له وجهة نظر أخرى حيث يقول:
إن الشافعي يأخذ بمبدأ سد الذرائع إذا ظهر القصد إلى المآل الممنوع حيث يقول عند كلامه على مذهب الشافعي: ولكن هذا بشرط ألا يظهر قصد إلى المآل الممنوع ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان بإطلاقه.
وقال: لا يصح أن يقول الشافعي: إنه يجوز التذرع إلى الربا بحال، إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد الممنوع (2) .
يتحرر لدينا مما تقدم: أن الذرائع التي هي محل الخلاف إنما هي الوسائل التي ظاهرها الجواز إذا قويت التهمة في التطرق بها إلى الممنوع، وهذا ما أشار إليه الشاطبي في القسم الرابع المستخلص من تقسيماته وهو:
كل فعل مأذون فيه بالأصل ولكنه طرأ عليه ما جعله يؤدي إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا.
ويدخل في ذلك ما عده ابن القيم قسمًا وسطًا بين ما جاءت الشريعة في طلبه وما جاءت بمنعه، وهي: كل وسيلة مباحة قصد التوصل بها إلى المفسدة، أو لم يقصد التوصل إلى المفسدة لكنها تفضي إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها.
وهذا المعنى الخاص للذريعة هو المراد لدى الأصوليين والفقهاء عند بحثهم في الذرائع وسدها، ولقد عبر الشاطبي عن هذا المعنى بقوله: إن حقيقتها التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة. وسد الذرائع على هذا المعنى هو حسم مادة أو وسائل الفساد بمنع هذه الوسائل ودفعها (3) .
__________
(1) د. مصطفى البغا. أثر الأدلة المختلف فيها ج2 ص 579
(2) الشاطبي: الموافقات: ج4 ص 200
(3) الموافقات: ج4 ص 198 ـ 200 تبصرة الحكام: ج2 ص 376، أثر الأدلة المختلف فيها ص 573(9/1274)
المبحث السادس
هل الأخذ بالذرائع مما اختص به المذهب المالكي؟
إن المذاهب الأربعة استندت في ميدان التطبيق إلى الأخذ بسد الذرائع في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل وهذا مما يؤكد ما صرح به علماء المالكية وغيرهم من أن سد الذرائع ليس من خواص مذهب الإمام مالك رضي الله عنه (1) .
وأن أصل سد الذرائع مجمع عليه لكن الخلاف فيما يرجع إليه من الجزئيات (2) .
فقد تلتقي الأنظار على إعمال حكم الذرائع فمنعها كسب آلهة المشركين وإلقاء السم في أطعمة المسلمين وغير ذلك.
وقد تلتقي على إهمال حكمها كإباحة التجاور في البيوت ولو احتمل وقوع الزنى وإباحة النظر إلى المخطوبة.
وقد تختلف الأنظار فيعمل البعض حكم الذرائع فتلتحق عنده بالذرائع الممنوعة ويهملها الآخر فتلتحق عنده بالذرائع المتفق على إهمالها.
ولا يعني الاتفاق بين المذاهب على الأخذ بها في ميدان التطبيق أن تكون على درجة واحدة من حيث الأخذ به. بل هي على مستويات مختلفة.
فعلى حين نجد المالكية يحكمون هذا الأصل في آلاف المسائل نجد الشافعية على النقيض من ذلك، كما أننا نجد الحنابلة أقرب في هذا المجال إلى المالكية وفقهاء الأحناف أقرب إلى الشافعية.
__________
(1) الفروق: ج2 ص32، تنقيح الفصول ص 200
(2) الموافقات ج3 ص 30 ـ 328(9/1275)
أما النظر في الأصول فيشهد لتقدم المالكية والحنابلة حيث ذكروا سد الذرائع ضمن أصولهم خلافًا للحنفية والشافعية.
أما الحنفية فقد ولجوا من باب الاستحسان إلى ساحة المصالح التي يعد سد الذرائع أحد وجوه العمل بها.
على حين يصرح الشافعية برد كل من سد الذرائع والاستحسان بل ولا يأخذون من المصالح إلا ما كان قطعيًّا عامًّا ولهذا جاء دورهم في هذا الميدان آخِرًا (1) .
وأما النظر في الفروع: فيشهد فعلًا لتقدم المالكية في هذا الميدان أيضًا إنهم يقفون في كثير من المسائل وحدهم يسدون الذريعة فيها على حين يقف الأئمة الثلاثة على الطرف الآخر أيضًا.
وإنما كان الإمام مالك رضي الله عنه اعتمد الذرائع أصلًا أصيلًا في مذهبه لأن مذهبه أوسع المذاهب الاجتهادية اعتمادًا على رعاية مصالح الناس وأعرافهم، ولهذا كان العمل بالمصلحة المرسلة أصلًا مستقلًا من أصول التشريع عندهم، وما سد الذرائع إلا تطبيقًا عمليًا من تطبيقات العمل بالمصلحة، ولذلك عدوه ضمن أصولهم وأعملوه في استنباطاتهم وتخريجاتهم في جميع أبواب الفقه وفي كثير من المسائل العملية، وبالغوا في ذلك حتى عد بعض الفقهاء سد الذرائع من خصوصيات إمام دار الهجرة (2) .
__________
(1) البرهاني: سد الذرائع ص 666
(2) تنقيح الفصول من 200، الفروق ج3 ص 266(9/1276)
تطبيقات المالكية لهذا الأصل: من أبرز تطبيقات المالكية لسد الذرائع منعهم للعقود أن تتخذ ذريعة إلى أكل الربا ومن ذلك:
-بيوع الآجال: وهي بيوع ظاهرة الجواز لكنها تؤدي إلى ممنوع كاجتماع بيع وسلف أو أنظرني أزدك، أو إلى بيع ما لا يجوز متفاضلًا.
-ومثال ما يؤدي إلى اجتماع بيع وسلف أن يبيع سلعتين بدينارين لشهرين ثم يشتري إحداهما بدينار نقدًا فقد خرجت السلعة من يد البائع أولًا ثم عادت إليه فاعتبرت ملغاة وآل أمره إلى أنه دفع دينارًا أو سلعة ونقدًا ليأخذ عنهما بعد شهر دينارين.
الأول منهما: عن الدينار الذي دفعه نقدًا وهذه صورة.
والثاني منهما: ثمن السلعة التي خرجت من يده ولم تعد وهذه صورة البيع (1) .
-ومثال ما يؤدي إلى سلف بمنفعة: أن يبيع سلعة بعشرة دراهم لشهر ثم يشتريها بخمسة نقدًا فقد عادت السلعة إلى بائعها الأول فاعتبرت ملغاة وآل أمر العقدين إلى عقد واحد هو: دفع خمسة دراهم نقدًا ليأخذ عنها بعد شهر عشرة دراهم نسيئة.
وقالوا: إن فروع بيوع الآجال تصل إلى ألف مسألة متولدة من الأحوال المختلفة لكل من الآجل والثمن والسلعة والبائع والمشتري.
__________
(1) البرهاني: سد الذرائع ص112 ـ 306(9/1277)
حكم بيوع الآجال: اتفق علماء المالكية على أن حكم بيوع الآجال الفسخ ولتحديد محله: أهو العقد الثاني أو الأول أو العقدان معًا، فرقوا بين حالتين:
الأولى: حال قيام السلعة وبقاءها بعد البيع الثاني.
والثانية: حال فواتها.
أما في حال قيام السلعة فقد اختلفوا في بيان محل الفسخ إلى قولين:
1- قول بإمضاء العقد الأول على الصحة بالثمن المؤجل وفسخ الثاني وهو الأصح في المذهب.
2- وقول بفسخ العقدين جميعًا.
-ومن مسائلهم: عقد البيع أثناء السعي إلى الجمعة:
ورد النهي بنص الكتاب {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] في أثناء السعي إلى صلاة الجمعة، ألحق المالكية عقود الإجارة والتولية والشركة والإقالة والشفعة وكذا النكاح حتى الصدقة والكتابة والخلع كل ملحقة بحكم البيع في النهي لأن الانشغال بها ذريعة إلى ترك السعي الواجب (1) .
وجاء في بداية المجتهد: جمهور فقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة ... وبعد أن ذكر أقوال المذاهب في المسألة قال: وسبب الخلاف: هل الحكم الذي جعله الشرع من البينونة للطلقة الثالثة يقع بإلزام المكلف نفسه هذا الحكم في طلقة واحدة أم ليس يقع؟ ولا يلزم من ذلك إلا ما ألزم الشرع، فمن شبه الطلاق بالأفعال التي يشترط في صحة وقوعها كون الشروط الشرعية فيها والبيوع قال: لا يلزم. ومن شبهه بالنذور والأيمان التي ما التزم العبد منها ما لزمه على أي صفة كان ألزم طلاق كيفما ألزمه المطلق نفسه.
ثم قال وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدًا للذريعة.
ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود في ذلك المعنى في قوله تعالى {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2) . [الطلاق: 1] .
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي عليه ج1 ص 338
(2) ابن رشد البداية ج2 ص6777(9/1278)
وجاء في تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44] .
قال ابن العربي: هذه الآية أصل من أصول إثبات الذرائع التي انفرد بها مالك وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته. وخفيت على الشافعي وأبي حنيفة مع تبحرهما في الشريعة.
ثم عرف بقوله: وسد الذرائع: كل عمل ظاهره الجواز يتوصل به إلى محظور.
ثم مثل له قائلًا: كما فعل اليهود حين حرم عليهم صيد السبت فسكروا الأنهار وربطوا الحيتان فيه إلى يوم الأحد، وقد بينا أدلة المسألة في كتب الخلاف وبسطناها قرآنًا وسنة ودلالة من الأصول في الشريعة ثم ساق إعراضًا محتملًا والرد عليه فقال: فإن قيل: هذا الذي فعلت اليهود لم يكن توسلًا إلى الصيد بل كان الصيد نفسه؟
قلنا: إنما حقيقة الصيد إخراج الحوت من الماء وتحصيله عند الصائد، فأما التحيل عليه إلى حين الصيد فهو سبب الصيد لا نفس الصيد، وسبب الشيء غير الشيء إنما هو الذي يتوصل به إليه ويتوسل به في تحصيله، وهذا الذي فعله أصحاب السبت (1) .
ومن مسائلهم: إسقاط الزكاة ببيع النصاب أو هبته أو إنقاصه.
من كانت عنده ماشية فباعها قبل الحول بدراهم، أو كان عنده نصاب فأتلف جزءًا منه أو كان عنده مال فوهبه قبل الحول لولده. سقطت عنه الزكاة في قول أبي حنيفة والشافعي ولم تسقط في قول مالك وأحمد رحمهما الله إذا فعله قرب الوجوب فرارًا منها وتؤخذ منه في آخر الحول، وهو مذهب الأوزاعي وابن الماجشون وإسحاق وأبي عبيد.
وجهه: لأنه لما قصد قصدًا فاسدًا اقتضت الحكمة معاقبته بنقيض قصده كمن قتل مورثه لاستعجال ميراثه عاقبه الشرع بالحرمان ولهذا لو فعل ذلك في أول الحول لم تجب لأن ذلك ليس بمظنة للفرار كما لو أتلف النصاب لحاجته من غير قصد الفرار وحرمان الفقراء من حقوقهم في ماله (2) .
__________
(1) أحكام القرآن: ج2 ص287
(2) إغاثة اللهفان ج2 ص83، المغني ج2 ص564(9/1279)
-ومن مسائلهم: قراءة السجدة في فجر يوم الجمعة:
أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر: {الم (1) تَنْزِيلُ} ... السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} .
والحديث دليل على استحباب قراءتهما في صبح يوم الجمعة وهو مذهب الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث.
لكن المالكية كرهوا تعمد تلاوة السجدة في الفرض والمداومة عليها في فجر الجمعة حتى لا يؤدي التزامها إلى اعتقاد الجاهل ركنيتها وقد حكى القرافي عن العجم اعتقاد كون صلاة الصبح يوم الجمعة ثلاث ركعات لأن قراءة السجدة لما التزمت فيها وحوفظ عليها اعتقدوا فيها الركنية فعدوها ركعة ثالثة (1) .
__________
(1) الشاطبي: الاعتصام ج2 ص 277 الشرح الكبير ج1 ص 310(9/1280)
شواهد سد الذرائع عند فقهاء الحنفية:
إن كتب أصول الفقه عند فقهاء الحنفية لم تتعرض لذكر سد الذرائع واحدًا من مصادر التشريع، ولكن يلحظ أن قولهم بالاستحسان مدخل إلى العمل بالمصلحة وسد الذرائع من وجوه العمل بالمصلحة.
وما يصدق على الاستحسان في بعض صوره ووجوهه يصدق على سد الذرائع وكأن الوفاق على المضمون والخلاف على الاسم ولا مشاحة في الاصطلاح.
هذا: ومن تتبع أحوال فقهاء المذهب في أحكام بعض الفروع يجد أنهم يوافقون فقهاء المالكية في الأحكام وإن خالفوهم في التعليل. من ذلك:
1- اتفاقهم مع المالكية والحنابلة في المنع من بعض صور بيوع الآجال، فمن اشترى سلعة بألف حالة أو نسيئة فقبضها لم يجز له أن يبيعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول كله أو بعضه.
قال الكاساني: إن الثمن عقد المعاوضة وهو تفسير الربا إلا أن الزيادة ثبتت بمجموع العقدين فكان الثابت بأحدهما شبهة الربا، والشبهة في هذا الكتاب ملحقة بالحقيقة (1) .
2- صوم يوم الشك: والمختار عند الحنفية استحباب صوم المفتي ليوم الشك ويفعله سرًا حتى لا يتهم بالعصيان ويفتي الناس بالإفطار حسمًا لمادة اعتقاد الزيادة.
قال ابن الهمام: المختار أن يصوم المفتي بنفسه أخذًا بالاحتياط ويفتي العامة بالتلوم إلى وقت الزوال ثم بالإفطار حسمًا لمادة الزيادة، ويصوم فيه المفتى سرًا لئلًا يتهم بالعصيان فإنه أفتاهم بالإفطار بعد التلوم بحديث العصيان وهو ما ذكر من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم)) (2) .
وهو مشتهر بين العوام فإذا خالف في الصوم اتهموه بالعصيان (3) .
__________
(1) الكاساني: ج5 ص 199
(2) ذكره البخاري تعليقًا: ج3 ص34
(3) ابن الهمام: فتح القدير ج2 ص54(9/1281)
ودليل الاستحباب على ما ذكره ابن الهمام ما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ((هل صمت من سرر شعبان؟)) قال لا. قال: ((فإذا أفطرت فصم يومًا مكانه)) (1) . والإسرار آخر ليلة من شعبان لأنه يستسر فيها الهلال بنور الشمس.
وجه الاستدلال: أنه أمر العامة بالإفطار بعد الزوال حتى لا يكون الصوم ذريعة لاعتقادهم الزيادة وأن يلحقوا بالفريضة ما ليس منها.
وأما طلب الإسرار بصومه من الإمام وغيره من الخاصة: حتى لا يكون ذريعة لاتهامهم بمخالفة النهي عن صوم يوم الشك، وهذا تطبيق عملي لسد الذرائع اختاره علماء المذهب وفعله أئمتهم (2) .
3- الحداد على البائن والمتوفى عنها زوجها: جاء في بداية المبتدي: وعلى المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت بالغة مسلمة الحداد. وقال: الحداد أن تترك الطيب والزينة والكحل والدهن المطيب وغير المطيب إلا من عذر.
قال صاحب العناية: والمعنى في إيجاب ترك الطيب والزينة وجهان:
1- ما ذكرناه من إظهار التأسف.
2- أن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها؛ لأن المرأة إن كانت متزينة متطيبة تزيد رغبة الرجل فيها، وهي ممنوعة عن النكاح ما دامت في عدة الوفاة أو الطلاق، فتجنبها كي لا تصير ذريعة ـ أي وسيلة ـ إلى الوقوع في المحرم وهو النكاح (3) .
4- إقرار المريض مرض الموت: إذا أقر المريض مرض الموت بدين فإنه يتهم أنه قصد بهذا الإقرار إبطال حق الورثة، ولذلك لا يكون هذا الإقرار ملزمًا كما لو كان في حال الصحة.
ولذلك: إذا أقر بدين في مرضه وعليه دين في الصحة قدم دين الصحة، وكذلك الدين الذي لزمه حال المرض لأسباب معلومة كبدل مال استهلكه، ومثل مهر امرأة تزوجها، تقدم هذه الديون على ما أقر به من ديون غير معلومة الأسباب.
وذلك لأنه يتهم إذا قصد بإقراره مضايقة الغرماء.
قال في بداية المبتدئ: وإذا أقر الرجل في مرض موته بدين وعليه ديون في صحته وديون لزمته في مرضه بأسباب معلومة، فدين الصحة والدين المعروف الأسباب مقدم.
وجه هذا القول: أن الإقرار لا يعتبر دليلًا إذا كان فيه إبطال حق الغير، وفي إقرار المريض ذلك لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال استيفاء، ولهذا منع من التبرع والمحاباة إلا بقدر الثلث (4) .
وقال ابن عابدين: تصادق ـ أي المريض مرض الموت والزوجة ـ على ثلاث، في الصحة وعلى مضي المدة ثم أقر لها بدين أو عين أوصى لها بشيء، فلها الأقل منه ـ أي مما أقر أو أوصى ـ ومن الميراث للتهمة (5) .
__________
(1) رواه البخاري ج3 ص 254
(2) فتح القدير ج2 ص255 ـ 257، / سد الذرائع ص493
(3) فتح القدير ج2 ص 255 ـ 257، سد الذرائع ص 493
(4) الهداية وشروحها ج7 ص 2ـ3
(5) الحاشية ج2 ص392(9/1282)
شواهد سد الذرائع عند الحنابلة:
قال ابن بدران في كتابه: المدخل إلى مذهب أحمد:
سد الذرائع هو مذهب مالك وأصحابه.
قال الطوفي في شرحه على مختصر الروضة قلت: إن مذهبنا أيضًا سد الذرائع وهو قول أصحابنا بإبطال الحيل، ولذلك أنكر المتأخرون منهم على أبي الحطاب ومن تابعه ـ عقد باب في كتاب الطلاق يتضمن الحيلة على تخليص الحالف من يمينه في بعض الصور وجعلوه من بعض الحيل الباطلة (1) .
وهي: التوصل إلى المحرم بسبب مباح، وقد صنف شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله كتابا بناه على بطلان نكاح المحلل وأدرج فيه جميع قواعد الحيل وبين بطلانها على وجه لا مزيد عليه (2) .
وسبق أن أكثرنا من النقل عن ابن القيم في كتابه الإعلام والذي أفاض في ذكر الأمثلة على سد الذرائع، وانتهى إلى القول: فإذا حرم الرب تبارك وتعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له ومنعًا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء (3) .
واستدل على ذلك بتسعة وتسعين دليلًا
كما أن ابن تيمية رحمه الله: ذكر من الوجوه على إبطال الحيل أن الله سبحانه سد الذرائع المفضية إلى المحرم بأن حرمها ونهى عنها ثم قال: والغرض هنا أن الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع (4) .
والخلاصة: أن الحنابلة يرون وجوب سد الذرائع ويطبقون هذا على بيع الآجال وإن لم يقصد البائع الربا؛ لأن هذا النوع من المعاملة يغلب فيه قصد الربا فيصير ذريعة، فيجب سده والمنع منه لئلًا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ويقولون لم نقصد به ذلك (5)
__________
(1) المدخل: ص296
(2) مختصر الروضة: ورقة 204 مخطوط؛ المدخل ص 296
(3) الإعلام: ج3 ص 147 ـ 171
(4) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى ج3 ص257
(5) التركي: أصول الإمام أحمد ص 461(9/1283)
شواهد سدد الذرائع عند المالكية:
مقدمة: إن سد الذرائع من أصول الاستنباط الفقهي عند المالكية، أعملوه في استنباطاتهم وتخريجاتهم في جميع أبواب الفقه، وفي كثير من المسائل الفقهية العملية.... وبالغوا في ذلك حتى عد بعض الفقهاء سد الذرائع من خصوصيات مذهب إمام دار الهجرة (1) .
هذا ومن أبرز تطبيقات سد الذرائع عند المالكية:
أولًا: منعهم للعقود أن تتخذ ذريعة إلى أكل الربا ومن ذلك:
-بيوع الآجال: وهي بيوع ظاهرها الجواز لكنها تؤدي إلى ممنوع.
قال صاحب الشرح الكبيرة: ومنع عند مالك ومن تبعه للتهمة ـ أي لأجل ظن قصد ما منع شرعًا سدا للذريعة ما ـ أي بيع جائز في الظاهر كثر قصده أي قصد الناس له للتوصل إلى الربا الممنوع (2) .
ومثله فعل ابن رشد في كتابه بداية المجتهد: ج2 ص 140 ـ 203.
ومن أمثلة هذا البيع ما يؤدي إلى: أنظرني أزدك، جاء في الموطأ ج2 ص 673 قال مالك في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين: بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدًا بمائة وخمسين إلى أجل؟
الجواب: هذا بيع لا يصلح ولم يزل أهل العلم ينهون عنه.
ثانيًا: منعهم لكل ما هو ذريعة إلى الإثم من باب التعاون عليه ومن ذلك:
1- منع بيع العصير لمن يتخذه خمرًا لما فيه من المعاونة على الإثم، قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولو وقع البيع فهو باطل إن علم البائع قصد المشتري ذلك إما بقوله وإما بقرائن مختصة به تدل على ذلك.
وإن كان الأمر محتملًا كأن يشتريها من لا يعلم حاله أو من يصنع الخل والخمر معا ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر. صح.
__________
(1) القرافي: تنقيح الفصول ص 200 الفروق ج3 ص 266
(2) الشرح الكبير ج3 ص 76(9/1284)
وهذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطرق أو في الفتنة وإجارة داره أو دكانه لبيع الخمر فيها أو لتتخذ كنيسة أو بيت نار وأشباه ذلك من العقود التي يحكم عليها بالحرمة والبطلان (1) .
2- ما نقل عن الإمام أحمد رحمه الله من كراهية الشراء ممن يرخص في سلعته ليمنع الناس من الشراء من جاره، ويشبهه: النهي عن طعام المتباربين، وهما: الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر ومباهاته في التبرع.
وقد رأى ابن القيم أن النهي في الأمرين يتضمن سد الذريعة من وجهين:
الأول: أن تسليط النفوس على الشراء منهما وأكل طعامهما إغراء لهما وتقوية لقلوبهما على فعل ما كرهه الله ورسوله.
والثاني: أن ترك الأكل والشراء منهما ذريعة إلى امتناعهما وكفهما عن ذلك (2) .
ثالثًا: تحريمهم للحيل لمناقضتها لسد الذرائع:
ولذلك منعوا كل فعل قصد به صاحبه أمرًا محظورًا، والشواهد على ذلك في كتبهم تفوق الحصر، وجاء في الفتاوي: واعلم أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع سد الطرق إلى ذلك المحرم بكل طريق والمحتال يريد أن يتوسل إليه ولهذا لما اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح شروطًا سد ببعضها التذرع إلى الزنى والربا وكمل بها مقصود العقود لم يتمكن المحتال الخروج عنها في الظاهر، فإذا أراد الاحتيال ببعض هذه العقود على ما منع الشارع منه أتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سد الشارع ذريعته فلا يبقى لتلك الشروط التي يأتي بها فائدة ولا حقيقة بل يبقى بمنزلة العبث (3) .
رابعًا: ومن تطبيقاتهم كذلك موافقتهم للمالكية في سد الذرائع منعا للابتداع في الدين فيما يكون مشروعًا في أصله لكنه يؤدي مع الجهل وطول الزمن إلى تغيير المشروعات وقلب الأحكام وهذا الاتجاه أكثر وضوحًا في مذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وصولًا إلى محمد بن عبد الوهاب الذي تنتسب إليه الحركة الوهابية وإعلانه النكير على زيارة الأضرحة وقبور الصالحين حتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم (4) .
__________
(1) المغني: ج4 ص199 ـ 200، الإعلام ج3 ص 170
(2) الإعلام: ج3 ص169
(3) ابن تيمية: الفتاوى ج3 ص145ـ 129
(4) أبو زهرة: ابن تيمية ص529(9/1285)
شواهد سد الذرائع عند الشافعية:
من الأمثلة على العمل بمبدأ سد الذرائع عند فقهاء الشافعية:
1- إخفاء الجماعة للمعذورين في ترك الجمعة:
قال النووي: قال الشافعي والأصحاب: يستحب للمعذورين الجماعة في ظهرهم.
وحكى الرافعي أنه لا يستحب لهم الجماعة لأن الجماعة المشروعة هذا الوقت: الجمعة.
قال النووي: والمذهب الأول كما لو كانوا في غير البلد، فإن الجماعة تستحب في ظهره بالإجماع، وقال: فعلى هذا قال الشافعي: أستحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا في الدين وينسبوا إلى ترك الجماعة تهاونًا (1) .
2- المفطر بعذر في رمضان لا يجهر بفطره:
قال في المهذب: فإن قدم المسافر وهو مفطر، أو برئ المريض وهو مفطر أستحب لهما إمساك بقية النهار لحرمة الوقت ولا يجب ذلك لأنهما أفطرا بعذر، ولا يأكلان عند من لا يعرف عذرهما لخوف التهمة والعقوبة (2) .
3- تضمين الأجير المشترك: جاء في الأم: قال الربيع: الذي يذهب إليه الشافعي فيما رأيت أنه لا ضمان على الصناع إلا ما جنت أيديهم ولم يكن يبوح بذلك خوفًا من الضياع.
وهذا من الشافعي رحمه الله ظاهره العمل بسد الذرائع حيث امتنع عن فتوى الناس بما يرى صحته، حتى لا يتخذها الفجار ذريعة لتضييع الأموال بالتهاون في حفظها والعناية بها (3) .
4- إقرار المحجور عليه بالدين: مما يصدق عليه العمل بسد الذرائع عند فقهاء الشافعية حكمهم بعدم لزوم إقرار المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر في حق الغرماء لأنه قد يتخذه ذريعة إلى التصرف بأمواله عن مواطأة وحيلة.
قال الشيرازي في المهذب: وإن أقر ـ يعني المحجور عليه ـ بدين لزمه قبل الحجر لزوم الإقرار في حقه. وهل يلزم في حق الغرماء؟ فيه قولان.
أحدهما: لا يلزم لأنه متهم؛ لأنه ربما واطأ المقر له ليأخذ ما أقر به ويرد عليه.
والثاني: أنه يلزمه وهو الصحيح (4) .
والملاحظ هنا أن الذريعة والتهمة علل بها على القول المقابل الصحيح.
5- قضاء القاضي بعلمه: قال في الأم: إذا كان القاضي عدلًا فأقر بين يديه بشيء كان الإقرار عنده أثبت من أن يشهد عنده كل من يشهد.
وجهه: لأنه قد يمكن أن يشهدوا عنده بزور، والإقرار عنده ليس فيه شك.
وأما القضاء اليوم فلا أحب أن أتكلم بهذا كراهية أن أجعل لهم تسهيلًا إلى أن يجوروا على الناس (5) .
6- حرمان القاتل من الميراث:
قال في المذهب: ج15 ص216 ـ اختلف أصحابنا فيمن قتل مورثه:
فمنهم من قال: إن كان القتل مضمونًا لم يرثه؛ لأنه قتل بغير حق، وإن لم يكن مضمونًا ورثه؛ لأنه قتل بحق، فلا يحرم به الإرث.
ومنهم من قال: إن كان متهما كالمخطئ، أو حاكمًا فقتله في الزنى بالبينة لم يرثه؛ لأنه متهم في قتله لاستعجال الميراث. وإن كان غير متهم ـ بأن قتله بإقراره بالزنى ـ ورثه. لأنه غير متهم لاستعجال الميراث.
ومنهم من قال لا يرث القاتل بحال ـ وهو الصحيح، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يرث القاتل شيئًا)) (6) .
ولأن القاتل حرم الإرث حتى لا يجعل ذريعة إلى استعجال الميراث، فوجب أن يحرم بكل حال سدا للباب.
والذي يظهر من هذه الأمثلة وسواها أن الشافعية إذا ذكروا التهمة والذريعة فإنما يذكرونها من باب الاستئناس لا من باب الاستدلال، وعلى سبيل الاستحباب أو الحيطة، لا على سبيل المنع أو الالتزام، حيث أننا نجد لهم في كل مسألة ذكروا فيها الذرائع، دليلًا آخر هو عمدتهم فيه (7) .
__________
(1) المجموع: ج4 ص 363
(2) المجموع: ج6 ص 287
(3) الأم: ج3 ص264
(4) المهذب: ج13 ص285
(5) الأم: ج7 ص44
(6) الترمذي ج3 ص288؛ وابن ماجة ج2 ص883 وأبو داود ج2 ص496
(7) البغا: أثر الأدلة المختلف فيها ص 592(9/1286)
المبحث السابع
أثر القول بسد الذرائع
اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية
لقد انبنى على الخلاف في اعتبار الذرائع والقول بسدها وعدم سدها وعلى التوسع بالأخذ بها والتضييق في اعتبارها، خلاف بين الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية، فبينما بعضهم يحكم على تصرفات تبدر من المكلف بالبطلان والفساد ويمنع ترتب آثارها عليها، نجد الفريق الآخر يحكم عليها بالصحة والجواز ويبني عليها آثارها المعتبرة شرعًا.
بل ونجد أثر هذا الدليل والاختلاف فيه ظاهرًا في كثير من أبواب الفقه الإسلامي وسنعرض لبعض المسائل الفقهية الفرعية التي تبرز هذا الأثر:
-مات ولم يؤد زكاة ماله:
اختلف الفقهاء فيمن مات وقد وجب عليه زكاة ولم يؤدها: المذاهب:
1- ذهب مالك وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى إلى أنه إن أوصى بها لزم الورثة إخراجها من الثلث، وإن لم يوص بها لم يلزمهم شيء.
جاء في بداية المجتهد: قال مالك: إذا لم يوص بها لم يلزم الورثة إخراجها وإذا أوصى بها فعند مالك يلزم الورثة إخراجها وهي عندهم من الثلث (1) .
وقال البابرتي في العناية على الهداية: اعلم أن من مات وعليه حقوق الله تعالى من صلاة أو صيام أو زكاة أو حج أو كفارة فإما أن يوصي أو لا.
فإن كان الثاني لم تؤخذ من تركته، ولم تجبر الورثة على إخراجها لكن لهم أن يتبرعوا بذلك.
وإن كان الأول ـ أوصى بها ـ ينفذ من ثلث ماله عندنا (2) .
2- لكن الشافعي وأحمد ـ رحمهما الله تعالى ـ قالا: يلزم الورثة إخراجها من جميع التركة أوصى بها أو لم يوص.
جاء في الأم: وإذا مات الرجل وقد وجبت في ماله زكاة وعليه دين وقد أوصى بوصاياه أخذت الزكاة من ماله قبل الدين والميراث والوصايا (3) .
وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني: ولا تسقط الزكاة بموت رب المال وتخرج من ماله وإن لم يوص بها (4) .
__________
(1) بداية المجتهد ج2 ص 333
(2) العناية على الهداية ج8 ص466
(3) الأم ج2 ص13
(4) المغني ج2 ص509(9/1287)
-الأدلة:
الظاهر أن عمدة الإمام مالك رحمه الله تعالى في عدم لزوم شيء إذا لم يوص بها سد الذريعة. الوجه في ذلك: أنه إذا لزمت الورثة أدى ذلك إلى أن يترك الإنسان زكاة ماله طول عمره ربما ... اعتمادًا على أن الورثة سيخرجونها بعد موته، وربما يتخذ ذلك ذريعة للإضرار بهم. وكذلك الأمر إذا أوصى بها فإنه أيضًا يتهم الورثة في توصيته إخراجها.
ولذلك تجعل من جنس الوصايا فتخرج من الثلث.
وأيضًا لو أجيز هذا لجاز للإنسان أن يؤخر جميع زكاته طول عمره حتى إذا دنا من الموت وصى بها (1) .
-حجة فقهاء الحنفية:
أن الزكاة عبادة ومن شرطها النية، فسقطت بموت من هي عليه، فإذا وصى بها كانت من الثلث كغيرها من الوصايا.
وكذلك قالوا: الزكاة وجبت بطريقة الصلة، إذ لا يقابلها عوض مالي، والصلات تسقط بالموت (2) .
-وحجة الإمام الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى: قياسهما على دين الآدمي والحج، إذ إن الزكاة حق مالي واجب تصح الوصية به، فلا تسقط بموت من هي عليه كالدين، وكما أن الدين يخرج من جميع المال فكذلك الزكاة.
قال النووي في المجموع: دليلنا قوله: فدين الله أحق أن يقضي، وهو ثابت في الصحيحين. (البخاري 3ـ 246، مسلم 2ـ 804) .
وفي رواية البخاري: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيتيه؟ اقضوا الله، فالله أحق في الوفاء.
وهذا وارد في الحج فالاستدلال به معناه قياس الزكاة على الحج (3) .
وقال ابن قدامة من الحنابلة: إذا مات من عليه الزكاة أخذت من تركته ولم تسقط بموته، هذا قول عطاء والحسن والزهري وقتادة ومالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، إلى أن قال: ولنا أنه حق واجب تصح الوصية به فلم تسقط بالموت كدين الآدمي، ويفارق الصوم والصلاة فإنهما عبادتان بدنيتان لا تصح الوصية بهما. فعلى هذا إذا كان عليه دين وضاق ماله عن الدين والزكاة اقتسموا ماله بالحصص كديون الآدميين إذا ضاق عنها المال، بل ويحتمل أن تقدم الزكاة إذا قلنا إنها تتعلق بالعين كما تقدم حق المرتهن عن سائر الغرماء بثمن الرهن لتعلقه به (4) .
__________
(1) ابن رشد: بداية المجتهد ج2 ص 332
(2) بدائع الصنائع ج2 ص 924
(3) المجموع ج5 ص305
(4) المغني: ج2 ص 466 ـ 467(9/1288)
المبحث الثامن
أمثلة لفتح الذرائع وسدها
فتح الوسائل وسدها: المراد بفتح الوسائل في الاصطلاح الشرعي يعني الحكم بجواز كل وسيلة ثبت جوازها شرعًا ولو أدت إلى مفسدة في بعض الصور.
أما سدها: فمعناه بالجملة حسم وسائل الفساد بمنع الوسيلة الجائزة إذا أدت إلى محظور.
الشواهد والأمثلة لفتح الذرائع:
من الشواهد والوقائع لفتح الذرائع في كتاب الله تعالى:
1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] .
وجه الاستدلال من الآية على فتح الذريعة: أن الله تعالى يأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة والسعي ليس وسيلة مقصودة لذاتها لأنها مجرد المشي أو الركوب في السيارة وغيرها من آلات النقل، وإنما كان الأمر بوسيلة السعي إلى الصلاة لأنها ذريعة إلى إقامة الصلاة المفروضة بقوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وكذلك الأمر بترك البيع عند النداء لصلاة الجمعة والنهي عنه ليس مقصودًا لذات البيع الثابت جوازه بقوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] بل لتحصيل فريضة السعي إلى الصلاة.
2- قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] يأمر تعالى عباده المؤمنين بالخروج لملاقاة الكفار وهو وسيلة لا بد منها للجهاد في سبيل الله الذي ثبت الأمر به بنفس الآية ... ونظائرها في كتاب الله تعالى كثير.
ومنها تعليم المرأة وبخاصة في مجالات تربية الأطفال وكل ما يتعلق بشؤون النساء من الطب النسائي والولادة وغيرها نظرًا للضرورة، إضافة إلى تعليمهن ما خوطبن به شرعًا من تلاوة القرآن الكريم والتفقه في الأحكام لأنها صنو الرجل في التكاليف الشرعية بل لهن من الخصوصيات ما كتب فيه المصنفات. ومنها: حسن الأسوة في معاملة النسوة.
ومن باب فتح الذرائع: ما يعرف بتشريع الضرائب والرسوم على المعاملات والتجارات وما يعرف بالاستيراد والتصدير لتوفير المال اللازم للدولة من القيام بالمهام المطلوبة إليها في الميادين الثقافية والعمرانية والدفاع وما إلى ذلك.(9/1289)
من الأمثلة لسد الذرائع.
1- الاجتهاد لاستنباط أحكام الوقائع والنوازل: وهو أمر مقرر ومشروع لا ينبغي إغلاقه وسده حتى لا تبقى الشريعة بمعزل عن الحياة.
ولكن إباحته بلا قيود ولا حدود مفسدة عظيمة تؤدي إلى الفوضى.
وعليه فإن الاجتهاد الفردي في هذه الأيام مفسدة ينبغي التحرز عنها وسد أبوابها وبفتح باب الاجتهاد الجماعي كما هو الشأن في هذا المجمع الفقهي وأمثاله في العالم الإسلامي وكل ذلك منعًا للفوضى وتأكيدًا للثقة في اجتهادات العلماء المعاصرين.
2- ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية: مع ما في ظاهرها من مصلحة تعريف الناس بكتاب الله تعالى ووقوفهم على ما فيه من أحكام ومواعظ وآداب لا يجوز سدًا للذريعة التبديل والتعبير فيه، ويمكن استدراك المصالح المقصودة بالترجمة عند توفير النية الحسنة عن طريق التعريف بأحكام الإسلام وقد أثير جدل كبير حول هذا الموضوع (1) .
3- من الأمور المستحدثة ما يجري عليه الناس اليوم من مناسبات يحتفلون بها في كل عام ويسمونها أعيادًا.... كعيد الأم وعيد الطفل وعيد الزواج ... وأخيرًا عيد الحب وما إلى ذلك. مع أن الأعياد في الإسلام محدودة في الشرع في مناسبتين خاصتين: هما مناسبة الانتهاء من أداء شعيرة الصوم ومناسبة الانتهاء من شعيرة الحج، لا يجوز إحداث أعياد أخرى تضاهي أعياد الإسلام (2) .
مع تسليمنا مسبقًا بتعظيم الأمهات ورعاية الطفولة وأهمية الزواج وتكريم المعلم والعلم. ولنقف عند قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138] .
4- وضع التماثيل والأنصاب في الشوارع والميادين: إنها عبادة غربية تسللت إلى مجتمعنا لا يقرها الدين الحنيف لأنه من الذرائع إلى تعظيم غير الله تعالى والانحراف عن الجادة نحو الوثنية، والتي عانى الرسول صلى الله عليه وسلم أشد المعاناة في اجتذاذ جذورها من المجتمع إبان الدعوة الإسلامية.
ومن ذلك حكم التجنيس بجنسية أخرى للفرار من واجب الجندية.
وتغيير المذهب الديني للإفلات من الحقوق الثابتة عليه بموجبه. ومن ذلك تسجيل بيع العقار حتى لا يبيعه صاحبه لأكثر من واحد.
ومنها تسجيل عقود المحلات والبيوت حتى لا يحتال أصحابها على أكل أموال الناس بالباطل بتأجيرها لأكثر من واحد.
وأخيرًا تسجيل عقود الزواج بل وعدد الطلقات حتى نمنع التدليس على القضاة بهذا الشأن.
ومن التطبيقات التي تطالعنا اليوم: امتناع إخواننا أهل فلسطين من الهجرة من أراضيهم بعد أن تغلب عليها أعداء الله ... بل ومنع بيع أي منها سدًا لذريعة بسط العدو سيطرته على البلاد والعباد.
__________
(1) مجلة الرسالة السنة الرابعة 661 ـ 717 ـ 882
(2) البرهاني سد الذرائع ص 771 ـ 779، بتصرف(9/1290)
خلاصة البحث
إن الشريعة الإسلامية وضعت لمصالح الخلق في العاجل والآجل فما من مصلحة أو خير إلا وأرشدت إليه ودلت عليه، بل والمتأمل في موارد الشريعة يجد أنها وضعت لرعاية مصالح الخلق ولدرء المفاسد عنهم.
وكذلك إن الشريعة مبناها الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، كما يقول ابن القيم (1) .
هذا وإن سد الذرائع من الأصول الصحيحة التي أكدتها الشريعة بنصوصها الآمرة والناهية، وسلكتها الشريعة في جميع الأمور وفي مختلف نواحي الحياة الدينية والمدنية سواء منها ما يتصل بحياة الفرد أو حياة الجماعة، وسواء ما يتصل بسلطان الدولة أو ما يدخل في حرية الأفراد واختيارهم (2) .
إن الأساس المنظور إليه في سد الذرائع هو كون الفعل مما يفضي إلى النتيجة الضارة التي يأباها الشارع ولو كان الفاعل حسن النية، ولذلك فإن الوسيلة لا ينظر إليها في ذاتها بل تأخذ حكم ما أفضت إليه.
إن سد الذرائع مما يدخل في باب السياسة الشرعية ويمد ولي الأمر في محيطه الواسع بسلطة يتدارك بها كل ما يمكن أن يجد من مضار اجتماعية ومشاكل عامة وخاصة بهدف تحقيق العدالة. إن الأصل في سد الذرائع ألا يؤدي تطبيقه إلى مفاسد أخرى أربى من المفاسد المتوقعة من إهماله، وإن سد الذرائع منهج في الاستنباط الفقهي للوقوف على أحكام الوقائع والنوازل، لا ينبغي إغلاقه ولا سده كما أن إباحته بلا قيود ولا حدود مفسدة عظيمة ... لذلك لا بد من تقييده وعدم اعتباره إلا إذا توفر للمجتهد نصيب معين من العلم والتقي (3) .
__________
(1) إعلام الموقعين: ج3 ص14
(2) الزرقا: المدخل ج1 ص 73
(3) البرهاني: سد الذرائع ص772(9/1291)
إن سد الذرائع معتبر في الشرع بالنقل والعقل من الكتاب والسنة وقد عمل به كل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أئمة المذاهب.
وأخيرًا: وإن هذا الأصل والمستند الشرعي من خصائص ومآثر الإمام مالك ومما فتح الله به عليه وخصه به دون سائر الأئمة، كما أن المولى تعالى قد فتح على كل من الأئمة منافذ من المعرفة ... فقد يجهد هذا الفقيه أو ذلك في الرد على الآخر في ما استقل به من مصدر أو دليل ومع ذلك يبقى البنيان شامخًا والمذهب راجحًا.
فهذا الإمام أبو حنيفة وقوله بالاستحسان.
والحنابلة والمالكية القائلون باستصحاب الحال، فلكل منهجه في التفكير وأسلوبه الذي يتميز به عن أقرانه أو سابقيه ولاحقيه. وتلك حكمة الله في خلقه {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) } [البقرة: 269] .(9/1292)
خاتمة القول
إن القائلين بسد الذرائع إنما حملهم على القول به خوفهم من التلاعب على أحكام الشريعة أو الوصول إلى العبث فيها باتخاذ ما هو حلال من حيث الظاهر والأصل وسيلة إلى ما هو ممنوع ومحرم، فقالوا بسد الذرائع احتياطًا في شرع الله مع أن الأمر لا يعدو في الغالب قيام شبهة في القصد فما الشأن إذا كان القصد صريحًا والتحريم لما أحل والتحليل لما حرم الله مقصودًا وجريئاً؟.
ويدعي أنه المصلحة وحاجة الزمن ... فلا شك أنه مرفوض ومردود.
والحق أن لا مصلحة في مخالفة الشرع وإنما هي المفسدة والأهواء والضلال.
وإن هذه الشريعة ـ خاتمة الشرائع ـ قضت حكمته تعالى أن يحفظها ويصونها فقيض لها في كل حين زمان علماء مخلصين ومجتهدين عاملين وطائفة بالحق ظاهرين. يدفعون عن شرع الله تعالى ويكافحون لتبقى الشريعة صافية نقية، مصونة كما أرادها الله تعالى {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } [فصلت: 41 ـ 42] صدق الله العظيم.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ خليل محي الدين الميس(9/1293)
سد الذرائع
إعداد
أ. د وهبة مصطفى الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
بكلية الشريعة ـ جامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
سد الذرائع
الحمد لله رب العالمين ثم الصلاة والسلام على أفضل الأنبياء وأكرم المرسلين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد؛
هذا بحث عن سد الذرائع له أهمية واضحة في علم أصول الفقه وفي الوقائع الفقهية والعقود والحيل الشرعية، كما أن له دورًا واضحًا في غرس عوامل الخشية لله تعالى، وتربية الوازع الديني، والوجدان المسلكي النقي القائم على أساس متين من مراقبة الله عز وجل في السر والعلن، وفي المطامح والمطامع.
وسيظهر من خلال البحث أن فقهاءنا متفقون على ضرورة الأخذ بمبدأ الذرائع سدًا وفتحًا، على وفق ما هو مقرر في صرائح النصوص الشرعية، وهم إن اختلفوا في بعض تطبيقاته تأثرًا بما ينازعهم من أصول اجتهادية أخرى له صفة العموم في منهجهم الاستنباطي، فإنهم في بقية الحالات يعلنون صراحة الأخذ بالذرائع، وبخاصة ما جاء به النص القرآني أو النبوي، وسيتبين ذلك صراحة من خلال إيراد عبارات أئمة المذاهب حول اعتماد الذرائع أصلًا من أصول الشريعة.
وسيكون بحث هذا الموضوع بحسب الخطة التالية:
1- تعريف الذرائع، بيان معنى سدها.
2- الفرق بين الذريعة والسبب، والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه.
3- المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية ومدى الوفاق أو الخلاف بينها.
4- أقسام الذرائع بحسب القطع بتوصيلها للحرام وعدم القطع، أحكامها وشروطها.
5- موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع، مع تحرير محل النزاع في ذلك.
6- هل الأخذ بالذرائع مما اختص به المذهب المالكي، أو أن الأخذ بها ثابت في كل المذاهب وإن لم تصرح به؟ شواهد من فقه الأئمة الأربعة على العمل بسد الذرائع.
7- أثر القول بسد الذرائع، اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية.
8- أمثلة لفتح الذرائع وسدها.(9/1294)
1-تعريف الذرائع، بيان معنى سدها:
الذريعة في اللغة: هي الوسيلة التي يتوصل بها إلى الشيء، وهذا المعنى يشمل كل ما له صلة تؤدي إلى غيره، بغض النظر عن صفة الجواز أو المنع؛ لأن ذلك من خصائص الأحكام الشرعية.
وهي في اصطلاح علماء الأصول لها معنى عام ومعنى خاص، أما المعنى العام: فهو ما ذكره ابن القيم، وهو أن الذريعة: ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء (1) . والمراد بالشيء هنا الأحكام الشرعية من طاعة أو معصية. فكل ما كان انتقالًا من الجائز إلى المحظور أو بالعكس فهو ذريعة. وأما المعنى الخاص: فهو ما ذكره الشاطبي وهو أنها: ما يتوصل به إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة (2) . وهذا يقصر الذريعة على الذريعة المحرمة، أي الوسيلة غير الممنوعة بذاتها المتخذة جسرًا إلى فعل محظور، وذلك إذا قويت التهمة في أدائها.
ويترتب على المعنى العام أن الذريعة تسد وتفتح، وتأخذ حكم المقصد أو الغاية، ويكون تعبير الذرائع في مجال الأحكام الشرعية ذا حدين: سد الذرائع: ومعناه الحيلولة دون الوصول إلى المفسدة إذا كانت النتيجة فسادًا؛ لأن الفساد أو الحظر ممنوع، وفتح الذرائع: ومعناه الأخذ بالذرائع إذا كانت النتيجة مصلحة؛ لأن المصلحة مطلوبة شرعًا، قال القرافي (3) . " اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره، وتندب، وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج.
__________
(1) إعلام الموقعين 38/ 147.
(2) الموافقات 4/ 198 وما بعدها
(3) الفروق 2/ 33(9/1295)
وموارد الأحكام على قسمين:
مقاصد: وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها.
ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها. والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة. ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] فأثابهم الله على الظمأ والنصب، وإن لم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين، فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة ".
يتضح من هذا البيان الدقيق أن وسيلة المحرم محرمة، ووسيلة الواجب واجبة، لكن هذا مبني على قاعدة مقررة عند جمهور العلماء في مباحث الحكم الشرعي: وهي " ما لا يتم الواجب به فهو الواجب " فالفاحشة حرام، والنظر إلى عورة الأجنبية حرام، لأنها تؤدي إلى الفاحشة، والجمعة فرض فالسعي إليها فرض وترك البيع لأجل السعي فرض أيضًا، والحج فرض، والسعي إلى البيت الحرام وسائر مناسك الحج فرض لأجله؛ لأن الشارع إذا كلف العباد أمرًا، فكل ما يتعين وسيلة له مطلوب بطلبه، وإذا نهى الناس عن أمر، فكل ما يؤدي إلى الوقوع فيه حرام أيضًا.(9/1296)
وقد ثبت هذا بالاستقراء للتكاليف الشرعية طلبًا ومنعاً (1) . فقد وجدنا الشارع ينهي عن الشيء، وينهى عن كل ما يوصل إليه، ويأمر بالشيء، ويأمر بكل ما يوصل إليه، فقد أمر بالمحبة بين الناس، ونهى عن التباغض والفرقة، ونهى عن كل ما يؤدي إليها (2) . فنهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، وأن يستام (يسوم) على سوم أخيه أو يبتاع على بيعه (3) . وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى التباغض المنهي عنه ونحوه. وقد أسهب ابن القيم في بيان هذا الأصل وتقريره وإثباته بالأدلة الشرعية (4) .
ويترتب على المعنى الخاص للذريعة: حسم وسائل الفساد، أي قطعها نهائيًا، ومنه الجائز المؤدي إلى المحظور؛ لأن الشرع نهي عن المفاسد ذاتها، ونهى أيضًا عن كل أمر يتضمن منفعة، لكنه يفضي إلى المفسدة، ولو من غير إرادة المكلف، كشرب الخمر المؤدي إلى السكر، فإنه أمر منهي عنه لذاته؛ لأن الخمر حرمت لعينها، ولو لم تسكر بسبب تناول القليل منها، ونهى الشرع أيضًا عن الأمور المباحة في ذاتها، الموضوعة لمصلحة، لكنها اتخذت وسيلة للمفاسد، كبيع العينة، ونكاح المحلل، وبيع العنب لعاصره خمرًا، وهو المراد بسد الذرائع، ويترتب أيضًا على هذا المعنى في مجال فتح الذرائع إباحة الوسيلة المؤدية لمصلحة مقصودة شرعًا.
والخلاصة: معنى الذرائع ـ كما ذكر القرافي ـ حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة، منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور.
__________
(1) ابن حنبل لأستاذنا المغفور له الشيخ محمد أبو زهرة: ص 314
(2) أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) .
(3) حديث متفق عليه بين أحمد والشيخين عن أبي هريرة: (ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه) . ولمسلم: (ولا يسوم المسلم على سوم المسلم) (سبل السلام 3/ 22 ـ 23، ط الحلبي) .
(4) إعلام الموقعين 3/ 147.(9/1297)
2-الفرق بين الذريعة والسبب، وبين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه:
الأسباب من جملة الوسائل كما قال القرافي (1) . ويتضح الفرق بين الذريعة والسبب من خلال بيان معنى كل منهما، أما السبب في اللغة فهو الحبل وما يتوصل به إلى غيره، وفي الاصطلاح الأصولي: هو وصف ظاهر منضبط، دل الدليل السمعي على كونه علامة لحكم شرعي (2) . وقد يكون السبب مناسبًا للحكم فيسمى أيضًا علة كالسفر سبب لجواز الفطر في رمضان، وهو مناسب ظاهر، لتضمنه معنى المشقة التي تقتضي الترخيص، والإسكار سبب لتحريم الخمر، وهو وصف مناسب؛ لأنه يذهب العقول ويضيعها، وقد يكون غير مناسب، كدلوك الشمس، هو سبب لوجوب صلاة الظهر، في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وعقولنا لا تدرك وجه المناسبة الظاهرة بين السبب والحكم، ومثل ذلك شهود شهر رمضان لوجوب الصوم، وأشهر الحج لفرضيته.
وحكم السبب: أنه إذا وجد ترتب عليه مسببه حتما سواء أكان مسببه حكما تكليفيا، كإباحة الفطر في رمضان بسبب السفر، أم إثبات ملك أو حل أو إزالتهما، كالبيع لتملك المبيع، وكالزواج يثبت حل الاستمتاع بين الرجل والمرأة، ويوجب المهر والنفقة، والطلاق يثبت حق المراجعة ـ ولو قال الرجل لا رجعة لي ـ لأن المسبب بترتيب الشارع، لا من الإنسان، وتم الربط بين السبب والمسبب بصنع الله وإرادته، إلا أن السبب (أو المقدمة) قد يتحقق من غير أن يكون فيه معنى الإفضاء أو الذريعة المفضية إلى المفسدة أو النتيجة مطلقا، كالسفر لمعصية، فإنه سبب ويتوقف ارتكاب المعصية على قطع المسافة وتجاوز الوطن، إلا أن السفر ليس من شأنه أن يفضي إلى تلك المعصية.
__________
(1) الفروق: 2/ 33
(2) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 2/ 7؛ إرشاد الفحول للشوكاني: ص6(9/1298)
كذلك لا يلزم في الذريعة التي يتوصل بها إلى ما فيه مفسدة أن يتوقف عليها وجود تلك المفسدة، فقد يعصي المقيم وقد لا يعصي المسافر، وهناك فرق بين العاصي بسفره والعاصي في السفر، فالأول لا يقصر ولا يفطر؛ لأن سبب هذين السفر، وهو في هذه الصورة معصية، فلا يناسب الرخصة: وأما مقارنة المعاصي لأسباب الرخص فلا تمتنع إجماعًا. يتبين من هذا أن أركان الذريعة ثلاثة: الوسيلة، والإفضاء، والمتوسل إليه أو المتذرع إليه، وهو الممنوع، والأساس في تقدير قوة الإفضاء، كاجتماع البيع والسلف، فإن البيع من الوسائل وهو مقصود بالمنع؛ لأنه وسيلة إلى السلف بمنفعة، فيمنع (1) .
ويتبين أيضًا أن الذريعة التي من أركانها الإفضاء للنتيجة: وهو الذي يصل بين طرفي الذريعة: الوسيلة والمتوسل إليه، لا تستلزم وجود المتوسل إليه، فإما أن يتم الإفضاء فعلًا، كعصر الخمر من العنب المبيع للخمار، وإما أن يقدر وجود الإفضاء تقديرًا، من غير أن يفضي بالفعل، وهذا يتحدد في عنصر القصد، فقد يقصد فاعل الوسيلة التذرع بها إلى المتوسل إليه، كمن يعقد النكاح على امرأة ليحلها لزوجها الأول، وقد لا يقصد فاعلها التذرع بها، ولكن كثرة اتخاذها وسيلة في العادة يدل على أنها وسيلة مفضية، كأن يبيع سلعتين بدينارين لشهر، ثم يشتري إحداهما بدينار نقدًا، فإنه متهم بالقصد إلى الجمع بين بيع وسلف معًا، ولو لم يقصد ذلك بالفعل، وقد لا يقصد فاعل الذريعة التذرع بها، ولكنها قابلة في نفسها لاتخاذها وسيلة للإفضاء بها إلى المتوسل إليه، كسب آلهة المشركين، فإنه قابل لحمل المشركين على سب الإسلام أو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم فيمنع منها (2) .
__________
(1) سد الذرائع في الشريعة الإسلامية للأستاذ محمد هشام البرهاني: ص 101 وما بعدها
(2) المرجع السابق: ص118 وما بعدها.(9/1299)
أما الوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه، فهي تظهر بالعلاقة أو الرابطة القائمة بين السبب والمسبب، فإن تعاطي السبب مستلزم لوجود المسبب كإبرام عقد المبيع المؤدي لإثبات حكمه أو أثره، وهو تملك المشتري المبيع، واستحقاق البائع الثمن في ذمه المشتري.
وفي غير دائرة السبب المحض لم يفرق المالكية بين سد الذرائع وتحريم الوسائل، فهما في المعنى سواء، وفرق بعض الشافعية (1) . بينهما، وقالوا بتحريم الوسائل التي تستلزم المتوسل إليه، أي تفضي إليه بصورة قطعية، فهي وحدها الوسائل المحرمة، وهي المعتبرة بالإجماع، كحفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السم في أطعمتهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى، ومنع الماء الذي يستلزم منع الكلأ، الذي هو حرام، فكل هذا من تحريم الوسائل، لا من سد الذرائع، أما المالكية فلا يشترطون هذا القيد الذي ذكره الشافعية، وقالوا بتحريم الوسائل أو الذرائع المختلف فيها غير المجمع عليها، كبيوع الآجال، والنظر إلى الأجنبية، وهي كالمجمع عليها.
__________
(1) حاشية حسن العطار من علماء القرن الثالث عشر على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/399، البحر المحيط للزركشي 6/ 85(9/1300)
3-المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية ومدى الوفاق أو الخلاف بينها:
رتب العلماء على أصل سد الذرائع منع الحيل في الشريعة، وبخاصة الإمامان ابن تيمية وابن القيم، وأفاض الأخير في بيان وجوه بطلان الحيل إفاضة واسعة، وحمل حملة شديدة على من سماهم " أرباب الحيل " في الجزء الثالث من إعلام الموقعين.
والحيلة في اللغة والعرف: المكر والخديعة والكيد، وأكثر ما تستعمل الحيلة في الفعل المذموم أو فيما في تعاطيه خبث.
والحيلة عند الفقهاء نوعان: مباحة ومحظورة. فإن قصد بها الوصول إلى الحرام فهي حرام، وإلا فلا.
والحيلة الشرعية المباحة: هي التحيل على قلب طريقة مشروعة وضعت لأمر معين، واستعمالها في حال أخرى، بقصد التوصل إلى إثبات حق أو دفع مظلمة، أو إلى التيسير بسبب الحاجة، وبما أن هذا النوع من الحيل لا يهدم مصلحة شرعية، فهو جائز شرعًا، مثاله: أن أهالي بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة، وبما أن هذه الإجارة لا تجوز عند الحنفية في الأشجار، اضطروا إلى وضع حيلة بيع الكرام وفاء (1) . فالبيع الوفائي حيلة شرعية اتخذت بسبب حاجة الناس، ولأجل التخلص من قاعدة منع الإجارة الطويلة في الأشجار.
والحيلة الشرعية المحظورة: هي تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر (2) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم المصري 1/41
(2) الموافقات للشاطبي 4/ 201(9/1301)
يظهر من هذا التعريف: أن الحيلة هي للتخلص من قواعد الشريعة، فهي أخص من الذريعة، وهناك فرقان آخران بين الحيلة والذريعة، فالذريعة: لا يلزم فيها أن تكون مقصودة، والحيلة: لا بد من قصدها للتخلص من المحرم.
والحيلة تجري في العقود خاصة، والذريعة أعم. وكل من الحيلة والذريعة وسيلة لشيء.
أجاز فقهاء الحنفية وبعض الشافعية هذه الحيل إذا لم يقصد بها إبطال الأحكام صراحة، وإنما ضمنا، ومنعها مالك والشافعي وأحمد، للقاعدة الأصولية: " الأمور بمقاصدها ". وأن " العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني " وأن " التشريع مبني على مصالح مقصودة" وأنه يجب سد الذرائع أو الوسائل التي تفوت هذه المصالح، فلو وضع الشارع حكمًا مبنيًا على مصلحة، ثم أجاز الحيلة للتخلص من هذا الحكم، لكان الجواز نقضًا له، وهو تناقض لا يجوز وقوعه.
مثاله: الزكاة شرعت لسد حاجة الفقراء، فلو أجيزت هبة المال قبيل آخر الحول، فرارًا من الزكاة، لكان معناه إبطال مقصود الشريعة وإلحاق الضرر بالفقراء.
والشفعة شرعت لدفع الضرر، فلو شرع التحيل لإبطالها، لكان عودًا على مقصود الشريعة بالإبطال، وللحق الضرر الذي قصد إبطاله (1) . وأبطل ابن تيمية كل الحيل التي تؤدي إلى إسقاط شرط حرمه الشارع؛ لأن هذه مطلوبات، وإهمالها محرم، وكل ما يؤدي إلى المحرم يكون محرمًا، ولو كان في أصل ذاته مباحًا، وكذلك إذا كان غرضه أن يصل إلى أمر محلل، ولكنه لم يستطع الوصول إليه إلا بأمر محرم، فإنه في هذه الحال لا يكون التحايل سائغًا لأن المحرم الذي اتخذ وسيلة إلى الحلال حرام لذاته، كمن يتخذ الخيانة سبيلًا للوصول إلى حقه، أو شهادة الزور سبيلًا لإثبات حق مجحود، فإنه لا يسوغ؛ لأن الخيانة حرام لذاتها، وشهادة الزور حرام لذاتها، والمفسدة التي تترتب على فساد الشهادات وضياع الأمانات أشر من المفسدة التي تقع بضياع حق مفرد لواحد من الناس، فإنه إذا ساغ الاستشهاد بالزور لإثبات حق، فيستشهد بالزور لإثبات الباطل، وإذا ساغت الخيانة للوصول إلى الحق، فيسوغها لنفسه من يريدها لذاتها، وبذلك يكون أمر الناس فرضي، والحرام لذاته لا يباح مطلقا، ولا في أي حال إلا للضرورة (2) . وقال في المغني: والحيل كلها محرمة لا تجوز في شيء من الدين، وهو أن يظهرا عقدًا مباحًا يريدان به محرمًا، مخادعة وتوسلًا إلى فعل ما حرم الله تعالى، واستباحة محظوراته، أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك (3) .
__________
(1) الموافقات 2/201 إعلام الموقعين 3/124، 346 فتاوى ابن تيمية 3/ 146
(2) ابن تيمية للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ص 449
(3) شرح الكوكب المنير لابن النجار 4/ 434 ـ 435(9/1302)
4-أقسام الذرائع بحسب القطع بتوصلها للحرام وعدم القطع، أحكامها وشروطها:
تنقسم الذريعة بالمعنى الخاص بحسب أحوال إفضاء الوسيلة الجائزة إلى المتوسل إليه الممنوع، ويختلف كل نوع بحسب قوة الإفضاء الذي يتردد بين أن يكون قطعيًا، أو كثيرًا غالبًا أو كثير غير غالب، أو نادرًا.
وكان الشاطبي رحمه الله أول من قسم الذرائع باعتبار مآلها وقطعية توصيلها للحرام وعدم القطع، وما يترتب عليها من ضرر أو مفسدة إلى أربعة أقسام (1) .
الأول: ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعًا: كحفر البئر خلف باب الدار في وسط الظلام، بحيث يقع الداخل فيه حتمًا، وشبه ذلك، هذا ممنوع غير جائز وإذا فعله شخص يعد متعديًا بفعله، ويضمن ضمان المتعدي في الجملة: إما لتقصيره في إدارك الأمور على وجهها، أو لقصده نفس الأضرار.
الثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرًا: كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه، وبيع الأغذية التي غالبها ألا تضر أحدًا، وهذا مباح باق على أصله من الإذن فيه؛ لأن الشارع أناط الأحكام بغلبة المصلحة، ولم يعتبر ندور المفسدة، إذ ليس في الأشياء خير محض، ولا شر محض، ولا توجد في العادة مصلحة خالية في الجملة عن المفسدة. قال الشاطبي: ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة ـ مع معرفته بندور المضرة عن ذلك ـ تقصيرًا في النظر، ولا قصدًا إلى وقوع الضرر، فالعمل إذن باق على أصل المشروعية.
__________
(1) الموافقات: 2/ 358 ـ 361(9/1303)
الثالث: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرًا، ويغلب على الظن إفضاؤه إلى الفساد، كبيع السلاح إلى أهل الحرب، وبيع العنب إلى الخمار ونحوهما. وهذا هو الكثير الغالب.
وحكمه أنه يلحق الظن الغالب بالعلم القطعي لأمور:
1- أن الظن في الأحكام العملية يجري مجرى العلم، فالظاهر جريانه هنا.
2- نص الشارع على سد الذرائع كما سيأتي بيانه، وهذا القسم داخل في مضمون النص؛ لأن معنى " سد الذائع " هو الاحتياط للفساد، والاحتياط يوجب الأخذ بغلبة الظن.
3- إن إجازة هذا النوع فيه تعاون على الإثم والعدوان والمنهي عنه.
4- أن يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا، لا غالبًا ولا نادرًا، كبيوع الآجال، فإنها تؤدي إلى الربا كثيرًا لا غالبًا، وهذا موضع نظر والتباس، فإما أن ينظر إلى أصل الإذن بالبيع، فيجوز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة؛ لأن العلم أو الظن بوقوع المفسدة منتفيان، إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع وعدمه، ولا قرينة ترجح أحد الجانبين على الآخر، ولا يبنى المنع إلا على العلم أو الظن، وأيضًا لا يصح أن نحمل عمل العامل وزرا لمفسدة لم يقصدها، ولم يكن مقصرًا في الاحتياط لتجنبها، لأنها ليست غالبة، وإن كانت كثيرة.
وإما أن ينظر إلى كثرة المفاسد، وإن لم تكن غالبة، فيحرم، وهذا هو مذهب مالك وأحمد، لأسباب ثلاثة:
ا- أنه يراعي كثرة وقوع القصد إلى الربا في هذه البيوع، أما القصد نفسه فلا ينضبط، أما إنها مظنة الوقوع فقد تتخلف المفسدة في حالة من الحالات، وكثرة وقوع المفاسد مع قابلتيها للتخلف يجعلها قريبة الوقوع، ويجب الاحتياط لها في العمل، إذ إن كثرة المفاسد في باب الاحتياط تصل إلى درجة الأمور الظنية الغالبة، أو المعلومة علميًا قطعيًا في مجاري العادات، لأنها تشارك حال غلبة الظن، وحال العلم في كثرة المفاسد المترتبة، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.. وقد اعتبرت الكثرة في حديث أم ولد زيد بن أرقم الذي سيذكر في حجية الذرائع.(9/1304)
ب- في بيوع الآجال تعارض أصلان: لأن البيع في الأصل مأذون فيه، وهناك أصل ثان: وهو صيانة الإنسان عن إيقاع الضرر بغيره، ويرجح الأصل الثاني لكثرة المفاسد المترتبة، فيجب المنع من هذه البيوع، ويخرج بالترجيح الفعل عن أصله وهو الإذن إلى العمل بالأصل الثاني، وهو المنع، سدا لذرائع الفساد والشر.
ج- وردت نصوص كثيرة بتحريم أمور كانت في الأصل مأذونا فيها، لأنها تؤدي في كثير من الأحوال إلى مفاسد، وإن لم تكن غالبة ولا مقطوعًا بها، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به، وهي الجرار الخضر ونحوها، لئلا يتخذ ذريعة، وحرم عليه الصلاة والسلام الخلوة بالأجنبية، وأن تسافر المرأة مع غير ذي رحم محرم، ونهى عن بناء المساجد على القبور وعن الصلاة إليها، وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وقال: إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم، وحرم خطبة المعتدة ونكاحها، حتى لا تكذب في انتهاء العدة، وحرم على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة وسائر دواعي النكاح، ونهى عن البيع والسلف، وعن هدية المدين، وميراث القاتل، وحرم صوم يوم عيد الفطر والأضحى، إلى غيره مما هو ذريعة، فقد كان النهي في هذه الحالات خشية وقوع المفاسد التي قد تترتب عليها، وإن لم يكن المترتب بغلبة الظن أو بالعلم القاطع، والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالجزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقًا إلى مفسدة، كما قال الشاطبي.(9/1305)
-أحكام الذرائع:
المهم في بيان أحكام الذرائع تخصيصها بالذرائع بالمعنى الخاص: وهي الوسائل الجائزة المؤدية إلى ممنوع في النوع الأهم من أنواع الذريعة بالمعنى العام، وهي محل النزاع أو الخلاف بين العلماء كما سيأتي بيانه.
أما حكم الذرائع بالمعنى العام (وهي الوسيلة الجائزة المؤدية إلى الجائز الممنوع وبالعكس) فقد عرفنا أن القرافي حكم عليها بأن وسيلة المحرم محرمة، ووسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة والحج، لكن ابن الشاط في حاشيته على الفروق (1) لا يسلم له هذا الإطلاق ويصحح القول بعدم لزومه فيقول: (جميع ما قاله في هذا الفرق صحيح غير ما قاله منه أن حكم الوسائل حكم ما أفضت إليه من وجوب أو غيره، فإن ذلك مبني على قاعدة أن: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والصحيح أن ذلك غير لازم فيما لم يصرح الشرع بوجوبه والله تعالى أعلم) .
وكذلك القرافي نفسه ذكر تحت عنوان (تنبيه) بعد كلامه السابق (2) : القاعدة أنه كلما سقط اعتبار المقصد، سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع له في الحكم، وقد خولفت هذه القاعدة في الحج، في إمرار الموس على رأس من لا شعر له، مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر، فيحتاج أي دليل يدل على أنه مقصود في نفسه، وإلا فهو مشكل على القاعدة.
وفي (تنبيه) أخر يقول القرافي: قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال للكفار الذي هو محرم عليهم الانتفاع به، بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة عندنا، وكدفع مال لرجل يأكله حرامًا، حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عن دفعه عنها إلا بذلك، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال عند مالك رحمه الله تعالى، ولكنه اشترط فيه أن يكون يسيرًا، فهذه الصور كلها الدفع وسيلة إلى المعصية بأكل المال، ومع ذلك فهو مأمور به لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة.
__________
(1) الفروق، حاشية ابن الشاط عليه: 2/32
(2) الفروق 2/33(9/1306)
والخلاصة: ليس للوسيلة حكم ما تفضي إليه بإطلاق، بل إن هناك اعتبارات أخرى تؤثر في تحديد حكمها (1) ، ومن أهم هذه الاعتبارات ظرف الضرورة، كالجهاد مع أن فيه تعريض النفس للهلاك، أو ظرف الحاجة مثل كشف العورة والنظر إليها فذلك مطلوب نظرًا للمال.
وأما حكم الذرائع بالمعنى الخاص فيتردد بين الجواز عند وجود المصلحة، والمنع أو التحريم عند وجود المفسدة أو كون النتيجة (المتوسل إليه) حرامًا.
تكون الذريعة جائزة إذا كان أداؤها للفعل المحرم نادرًا، سواء أكانت الوسيلة مباحة أو مندوبة أو واجبة؛ لأن في منعها حرجًا وتعطيلًا لمصالح كثيرة، مثال الوسيلة المباحة: التصرفات العادية مع كونها قابلة للإفضاء إلى المحرم، ومثال الوسيلة المندوبة: التصدق على المساكين بالمال، فهو مندوب، لكن يحتمل إنفاق المال في وجوه الحرام. ومثال الوسيلة الواجبة: دفع الزكاة لمسلم، فأنفقها في حرام.
وتكون الذريعة ممنوعة إذا كان أداؤها للفعل المحرم قطعًا أو كثيرًا غالبًا أو غير غالب، سواء أكانت الوسيلة مباحة أو مندوبة أو واجبة. مثال الوسيلة المباحة: اتخاذ البيع أو الشراء أو القرض ذريعة لأكل الربا.
ومثال الوسيلة المندوبة: الاشتغال بالنافلة على وجه يظن الجاهل معها فرضيتها. ومثال الوسيلة الواجبة: الصدق إذا أدى إلى كشف أسرار المسلمين لأعدائهم، أو التفريق بينهم بإيقاع العداوة، تمنع الوسيلة في هذه الحالات للتحقق من الوقوع في المفسدة، وتعتبر الغلبة أو الكثرة في حكم القطع؛ لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة احتياطًا، وعملًا بالقاعدة: (ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال) .
__________
(1) الذرائع للأستاذ هشام البرهاني: ص202(9/1307)
-شروط الذرائع:
للذرائع شروط تفهم من تقسيمات العلماء لها كالشاطبي وابن القيم (1) . فإذا كانت الذريعة جائزة يشترط فيها شرطان.
1- أن يكون الوقوع في المفسدة نادرًا: ففي حال الندرة لا يمنع الفعل؛ لأنه ليس في الأشياء خير محض ولا شر محض، والنادر لا حكم له.
2- أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته، كالنظر إلى المخطوبة، والمشهود عليها. والمصلحة: غرض الشارع في كل أوامره ونواهيه وفي كل تشريعاته وأحكامه، والمفسدة: هي التي اعتبرها الشرع ضررًا، لا ما يراه الإنسان مفسدة.
وإذا كانت الذريعة ممنوعة فيشترط فيها ثلاثة شروط:
1- أن تكون من شأنها الإفضاء إلى المفسدة لا محالة (قطعاً) أو غالبًا أو كثيرًا، فإن لم تتحقق المفسدة أو كانت قليلة أو نادرة فلا تمنع الوسيلة، مثلا (شرب المسكر مفض) لا محالة إلى مفسدة السكر، والزنى مفض إلى اختلاط الماء وفساد الفراش.
2- أن تكون المفسدة أرجح مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة، وإن كانت الوسيلة مباحة لم يقصد بها التوصل إلى مفسدة، مثل سب آلهة المشركين بين ظهرانيهم، أي في ديارهم أو أمامهم.
3- أن يقصد بالمباح التوصل إلى مفسدة، كعقد الزواج المقصود به التحليل، وعقد البيع الذي قصد به التوصل إلى الربا.
__________
(1) الموافقات 2/358 ـ361 إعلام الموقعين 3/148(9/1308)
5- موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع، من تحرير محل النزاع في ذلك:
انقسم العلماء في الظاهر بالنسبة للأخذ بالذرائع فريقين:
الاتجاه الأول للمثبتين: وهم المالكية والحنابلة والشيعة والإمامية (1) : اعتبر هؤلاء مبدأ الذرائع أصلًا من أصول الفقه.
الاتجاه الثاني للمانعين: وهم الحنفية والشافعية والظاهرية (2) : لم يأخذ هؤلاء بالذرائع الاجتهادية غير النصية المصرح بها في الكتاب والسنة. وقد صرح الإمام الشافعي في كتابه الأم (3) . في الأخذ بالذرائع النصية ـ كما تقدم ـ فقال: وفي منع الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله عام يحتمل معنيين: أحدهما ـ أن ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى تحريم ما أحل الله لم يحرم.
فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام.
__________
(1) الفروق 2/32 وما بعدها، شرح الكوكب المنير 4/434ـ 436 المدخل إلى مذهب أحمد: ص 138، الأصول العامة للفقه المقارن للشيخ محمد تقي الحكيم ص414.
(2) إرشاد الفحول للشوكاني: ص217
(3) الأم 3/272، البحر المحيط للزركشي 6/84(9/1309)
أدلة المثبتين: استدل أصحاب الاتجاه الأول لإثبات حجية الذرائع وكونها أحد أصول التشريع بأدلة واضحة من القرآن والسنة (1) . فمن القرآن الكريم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] ، والمراد من كلمة (راعنا) المنهي عنها أنها اسم فاعل من الرعونة، كان اليهود يستعملون هذه الكلمة بقصد سب النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه في حيلة اصطياد السمك من اليهود موبخًا لهم: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] .
وأدلتهم في السنة النبوية: قوله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (2) . وقوله: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات)) (3) . ((المؤمنون وقافون عند الشبهات)) (4) . ((من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه)) (5) . ((الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)) (6) . ((استفت قلبك وإن أفتاك المفتون)) (7) . ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) ، قيل: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) (8) .
__________
(1) قال ابن رشد في المقدمات الممهدات 2/41: وأبواب الذرائع في الكتاب والسنة يقول ذكرها ولا يمكن حصرها، ثم أورد أحاديث كثيرة، وقال: والربا أحق ما حميت مراتعه ومنع منها لئلا يستباح الربا بالذرائع، وأيضًا فإن مراعاة التهمة أصل بني الشرع عليه، قال رسول الله عليه وسلم: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه) .
(2) رواه النسائي والترمذي والحاكم وصححاه عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنها.
(3) رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(4) ذكره الشوكاني في إرشاد الفحول: ص 217، ولم أجده في غير كتب الأصول
(5) ذكره الشوكاني في إرشاد الفحول: وهو من حديث النعمان بن بشير السابق الذي في آخره: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)
(6) رواه أحمد والدارمي في مسنديهما بإسناد حسن عن وابصة بن معبد بلفظ: الإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك
(7) تخريجه في الرقم السابق
(8) رواه البخاري ومسلم من عبد الله بن عمرو، ورواه أبو داود في سننه(9/1310)
واستدل ابن تيمية رحمه الله على سد الذرائع بشواهد قولية وعملية من السنة، وهي ما يأتي:
1- الحديث السابق الذي ينهي عن شتم الرجل أبوي غيره، حتى لا يكون ذريعة إلى سب أبوي نفسه؛ لأن سب الغير يؤدي إليه.
2- إن الشارع نهي عن خطبة المعتدة؛ لأنه قد يجر إلى ما هو أكبر منه، وهو الزواج في العدة.
3- نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف (1) ، مع أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر يصح، لئلا يؤدي إلى الربا.
4- نهى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض (2) ، حتى يحسبها من دينه، لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية، فيكون ربا.
5- إن الشارع منع أن يكون للقاتل ميراث (3) ، لكيلا يتخذ القتل سبيلا لتعجيل الميراث.
6- اتفق الصحابة على قتل الجماعة بالواحد، مع ما فيه من عدم المساواة، وذلك كيلا يكون ذريعة إلى الإجرام، ولا عقاب عليه.
7- إن الله سبحانه وتعالى منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كان بمكة، من الجهر بالقرآن، فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به.
قال ابن تيمية بعد هذه الشواهد: والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه، أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم، إذ الفروع المختلف فيها، منها ما يحتج لها بهذه الأصول، ولا يحتج بها.
والأدلة عدا هذه كثيرة، وأفاض ابن القيم في سردها، حتى إنه أورد تسعًا وتسعين وجهًا للدلالة على سد الذرائع والمنع منها (4) .
__________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة والحاكم عن عمرو بن شعيب من أبيه عن جده
(2) رواه القزويني وابن ماجه عن أنس بلفظ: (إذا أقرض أحدكم قرضًا، فأهدي له) أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك، وفيه مجهول. وروى البخاري في تاريخه عن أنس: (إذا أقرض فلا يأخذ هدية) .
(3) إعلام الموقعين 3/149 ـ 217
(4) إعلام الموقعين 3/ 149 ـ 217(9/1311)
-تحرير محل النزاع في الذرائع:
اتفق العلماء على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان مطلقًا، وأن ما يؤدي إلى إيذاء جماعة المسلمين ممنوع، كحفر الآبار في الطريق العامة، أو إلقاء السم في طعامهم.
واتفقوا على أنه لا يجوز سب الأصنام، حيث يكون سببا في سب الله، عملًا بمقتضى قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
واتفقوا على أن ما يكون طريقا للخير والشر، وفي فعله منفعة للناس، لا يكون محظورًا، كغرس العنب فإنه يؤدي إلى صنع الخمر، ولكن لم يكن غرسه لهذا الغرض بأصله، وإنما الانتفاع بغرسه أكبر من حصول الإضرار به، والعبرة للغالب (1) . ومثله أيضًا: المجاورة في البيوت خشية الزنى. وأما موضع الخلاف فهو في بيوع الآجال أو بيع العينة (2) ، قال الشاطبي (3) : قامت الأدلة على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا مجمع عليه، وإنما النزاع في ذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال.
من أمثلة بيوع الآجال: أن يبيع البائع سلعة بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يشتريها من المشتري بخمسة نقدًا. وهذه البيوع يقال: إنها تصل إلى ألف مسألة. ومن أشباهها في الحكم: كل مباح تذرع به إلى مفسدة كالنظر للضرورة إلى المرأة الأجنبية والتحدث معها من حيث إنه ذريعة للزنى.
__________
(1) الموافقات 4/ 400، الفروق 2/33، 3/266، كتاب ابن حنبل للشيخ محمد أبي زهرة: ص324
(2) فرق المالكية بين بيوع الآجال وبيع العينة، أما بيع الأجل: فهو أن يبيع شيئًا لأجل كشهر، ثم يشتري البائع نفسه من المشتري بجنس ثمنه نقدًا بأقل من الثمن الأول أو إلى أقرب من الأجل، أو بأكثر من الثمن إلى أبعد من الأجل، فلا تجوز هاتان الصورتان للتهمة وأدائها إلى ممنوع: وهو اجتماع بيع وسلف أو سلف جر منفعة أو ضمان يجعل، وأما بيع العينة: فهو أن يقول شخص لآخر: اشتر سلعة بعشرة نقدًا، وأنا آخذها منك باثني عشر لأجل، فلا يجوز لما فيه من سلف جر نفعًا (شرح الكبير للدردير: 3/77، 78، 88
(3) الموافقات 3/ 304ـ وما بعدها(9/1312)
وموطن النزاع أو الخلاف ـ على الوجه الأدق في الذرائع ـ ليس في البيوع التي يظهر فيها القصد إلى الربا، فإن ذلك لا يجوز بحال، وإنما الخلاف هو في الحالة التي لم يظهر منها القصد إلى الممنوع.
فالمالكية والحنابلة: يبطلون هذه البيوع؛ لأن العقد نفسه يحمل الدليل على قصد الربا، إذ إن مآل هذا التعاقد هو بيع خمسة نقدًا بعشرة إلى أجل، والسلعة فيما بين ذلك لغو لا معنى له.
وأما أبو حنيفة: فهو وإن لم يقل بحكم الذرائع، إلا أنه يبطل هذه البيوع على أساس آخر، وهو أن الثمن إذا لم يستوف وتم قبض السلعة لم يتم البيع الأول، فيصير الثاني مبنيًا عليه، أي إنه ليس للبائع الأول أن يشتري شيئًا ممن لم يتملكه، فيكون البيع الثاني فاسدًا، ويؤول الأمر إلى بيع خمسة في عشرة لأجل، وهو ربا فضل ونساء معا، فيصبح العقد الثاني فاسدًا؛ لأن فيه معنى الربا. كما أن أبا حنيفة في غير العقار لا يجيز بيع الشيء قبل قبضه، فليس للمشتري أولا أن يبيع الشيء إلى البائع أو لا أو إلى غيره قبل قبض المبيع في حالة البيع قبل القبض.
وأما الشافعي: فيصحح هذه البيوع في الظاهر قضاء، لاكتمال الأركان والشروط، ويترك ناحية القصد الباطن (أي النية الخبيثة والباعث السيئ) إلى الإثم والعقاب الأخروي إلى الله الذي يحاسب العباد على السرائر والنيات الأئمة، بمعنى أن العقد حرام للنهي عنه، لكن النهي لا يبطل العقد في كل بيع يؤدي إلى مفسدة، وكذا كل تصرف يفضي إلى معصية، ما دام مستوفيًا أركانه وشروطه الصحيحة، فالعقدان صحيحان في الظاهر، حتى يقوم الدليل على قصد الربا المحرم (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 2/37 ـ38(9/1313)
والخلاصة: ينظر الشافعي إلى صورة البيع، ويحمل الأمر على ظاهره فيجوز ذلك، فكل ما لم يكن مشروطًا في العقد، فهو جائز عند الشافعية. ويؤيد هذا التحقيق لموضع الخلاف ما قاله القرطبي والقرافي المالكيان. قال القرطبي (1) . سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلًا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلًا.
ثم قرر موضع الخلاف فقال: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور، إما أن يفضي إلى الوقوع قطعًا أولا، الأول: ليس من هذا الباب، بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه، ففعله حرام من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والذي لا يلزم (أي إفضاؤه إلى الوقوع في المحظور قطعاً) : إما أن يفضي إلى المحظور غالبًا أو ينفك عنه، أو يتساوى الأمران، وهو المسمى بالذرائع عندنا، فالأول: لا بد من مراعاته والثاني والثالث: اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه، وربما يسميه: التهمة البعيدة، والذرائع الضعيفة.
وقال القرافي (2) : مالك لم ينفرد بذلك ـ أي بسد الذرائع ـ بل كل أحد يقول بها، ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها. وأضاف قائلًا: فإن من الذرائع ما هو معتبرة بالإجماع، كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السم في طعامهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذ.
ومنها: ما هو ملغي إجماعًا، كزراعة العنب، فإنها لا تمنع خشية الخمر، وإن كان وسيلة إلى المحرم.
ومنها: ما هو مختلف فيه، كبيوع الآجال، فنحن لا نغتفر الذريعة فيها، وخالفنا غيرنا في أصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا، لا أنها خاصة بنا.
وقال: وبهذا تعلم بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية وفي هذه المسألة بقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] فقد ذمهم لكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم بحبس الصيد يوم الجمعة. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل شهادة خصم وظنين)) (3) . خشية الشهادة بالباطل، ومنع شهادة الآباء للأبناء (4) .
ثم قال وإنما قلنا: إن هذه الأدلة لا تفيد في محل النزاع، لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا أمر مجمع عليه، وإنما النزاع في ذريعة خاصة، وهو بيوع الآجال ونحوها، فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع.
__________
(1) إرشاد الفحول للشوكاني: ص217، البحر المحيط للزركشي 6/82، ط. الكويت
(2) الفروق 2/32، 3/266، تهذيب الفروق 2/42، إرشاد الفحول ص217
(3) رواه مالك في الموطأ موقوفًا على عمر، وهو منقطع، رواه أبو داود والبيهقي مرسلًا ورواه الحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي إسناده نظر (نيل الأوطار 8/291)
(4) رواه الخصاف أبو بكر الرازي عن عائشة وفي مصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق هو من قول شريح: (لا تجوز شهادة الابن لأبيه، ولا الأب لابنه، ولا المرأة لزوجها. ولا الزوج لامرأته)(9/1314)
-أدلة البيوع الربوية:
البيوع الربوية أو بيوع الآجال تسمى أيضًا بيوع العينة، وإن فرق بينها المالكية في الاصطلاح كما تقدم؛ لأنه يتوسط في التعامل بالربا عين (سلعة) كأن يبيع الشخص عينا، كأرز أو سكر بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري لبائعها بثمن معجل أقل، فيكون الفرق ربا، وقد استدلوا على تحريم هذه البيوع بسد الذرائع للربا، وبحديث تكلم بعض العلماء في سنده، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا ضمن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر ـ أي اشتغلوا بالزراعة ـ وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله عليهم بلاء، فلا يرفعه، حتى يراجعوا دينهم)) (1) .
وأضاف المالكية دليلين آخرين وهما:
1- إن هذه البيوع، وإن كانت على صورة بيع جائز في الظاهر، إلا أنها لما كثر قصد الناس التوصل إلى ممنوع في الباطن، كبيع بسلف، وسلف بمنفعة، منعت قياسًا إلى الذرائع المجمع على منعها، بجامع أن الأغراض الفاسدة في كل، هي الباعثة على عقدها؛ لأنه المحصل لها.
2- بحديث ذكره مالك في الموطأ، وهو (أن أم ولد زيد بن أرقم قالت لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين إني بعت من زيد بن أرقم عبدًا بثمانمائة درهم إلى العطاء، واشتريته منه بستمائة نقدًا، فقالت عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أخبري زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب، قالت: أرأيتني إن أخذته برأس مالي؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: فمن جاءه موعظة من ربه، فانتهى فله ما سلف، وأمره إلى الله) (2) .
فهذه صورة النزاع (3) ، قال القرافي: وهذا التغليظ العظيم لا تقوله رضي الله عنها إلا عن توقيف، فتكون هذه الذرائع واجبة السد، وهو المقصود.
وقال ابن رشد في المقدمات الممهدات: وهذه المبايعة كانت بين أم ولد زيد بن أرقم ومولاها قبل العتق، فيخرج قول عائشة على تحريم الربا بين السيد وعبده مع القول بتحريم هذه الذرائع، ولعل زيدا لا يعتقد تحريم الربا بين السيد وعبده (4) .
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، وفي إسناده مقال، ولأحمد من رواية عطاء، ورجاله ثقات، وصححه ابن القطان (سبل السلام 3/41، نيل الأوطار (5 (206) وتعقب ابن حجر تصحيح ابن القطان بأن فيه الأعمش وهو مدلس.
(2) رواه عبد الرزاق في مصنفه عن عائشة، ورواه أيضًا الدارقطني، وقال الشافعي: لا يصح (نيل الأوطار، المكان السابق)
(3) الفروق 3/267
(4) المقدمات الممهدات 2/54، ط دار الغرب الإسلامي، إرشاد الفحول ص217(9/1315)
-أدلة الشافعية:
أجاب الزركشي من الشافعية على أدلة المالكية بأن عائشة قالت ذلك باجتهاد، واجتهاد واحد من الصحابة لا يكون حجة على الآخر بالإجماع، ثم قولها معارض بفعل زيد بن أرقم، ثم إنها أنكرت البيع لفساد التعيين، فإن البيع الأول فاسد بجهالة الأجل؛ لأن وقت العطاء غير معلوم، والثاني بناء على الأول، فيكون فاسدًا (1) .
ثم انتقل الشافعية من منع أدلة المالكية في الجملة إلى إثبات مدعاهم، فقالوا: وإذا اختلف الصحابة كما ذكر، فمذهبنا القياس، واحتجوا بثلاثة أدلة:
1- قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فهذا يقتضي إباحة البيع الصحيح ومشروعيته. وأجابهم القرافي (2) . بأن هذا النص عام، وما استدل به المالكية من حديث عائشة خاص، والخاص مقدم على العام، على ما تقرر في علم الأصول.
2- ثبت في السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتى بتمر جنيب ـ نوع جيد من أنواع التمر ـ فقال: أتمر خيبر كله هكذا؟ فقالوا: إنا نبتاع الصاع بالصاعين من تمر الجمع، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تفعلوا هذا، ولكن بيعوا تمر الجمع بالدراهم، واشتروا بالدراهم جنيبًا)) (3) فهذا بيع صاع بصاعين، وإنما توسط بينهما عقد الدراهم، فأبيح.
وأجاب القرافي: بأن المالكية يمنعون أن يكون العقد الثاني من البائع الأول، وليس ذلك مذكور في الخبر، مع أن بيع العقد إذا تقابضا فيه ضعفت التهمة، وإنما المنع حيث تقوى التهمة.
3- إن العقد المفضي للفساد لا يكون فاسدًا إذا صحت أركانه، كبيع السيف من قاطع الطريق، والعنب من الخمار، مع أن الفساد في قطع الطريق أعظم من سلف جر نفعًا، لما فيه من ذهاب النفوس.
وأجاب القرافي: بأن محل ذلك إذا لم تكن الأغراض الفاسدة هي الباعثة على العقد، وإلا منع كما في عقود صور النزاع، وهناك فرق بين هذه البيوع وبيع السيف من قاطع الطريق ونحوه، فإن البيع للقاطع ليس محصلًا لقطع الطريق وعمل الخمر، إذ الفساد ليس مقصودًا مع البيع بالذات، حتى يكون باعثًا على عقده كصورة النزاع.
__________
(1) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي، 6/84 ط وزارة الأوقاف بالكويت، إرشاد الفحول ص 217
(2) الفروق 3/268
(3) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما والجنيب: الطيب أو الصلب أو الذي أخرج منه حشفه ورديئه، وتمر الجمع: هو التمر الرديئ، المجموع من أنواع مختلفة (سبل السلام 3/38) .(9/1316)
الترجيح:
إن الموضوع المختلف فيه، وهو المباح الذي يتذرع به إلى المفسدة، أرى أنه ينبغي فيه سد الباب أمام المحتالين والمفسدين الذين يحاولون التحلل من قيود الشريعة وأحكامها، فإن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، وهي إنما تنظر في الحقيقة إلى غايات الأشياء ومآلاتها، فإن كانت هذه الغايات مفاسد وأضرار منعت من أسبابها وسدت الوسائل والطرق التي يتذرع بها إليها ولو كانت هذه الوسائل في نفسها جائزة.
وبهذا يكون مذهب المالكية والحنابلة، ويقاربهم الحنفية في هذه المسألة أسد وأحكم، والعمل به أوجب وألزم.
وفيما عدا البيوع الربوية يتفق العلماء على الأخذ بأصل الذارئع، وإن لم يسمه بعضهم بهذا الاسم، ولكن على اختلاف في المقدار وتباين في طريقة الوصول إلى الحكم، فأكثرهم أخذ بها الإمامان: مالك وأحمد، ويليهم الإمام أبو حنيفة، وأقلهم أخذًا بها الإمام الشافعي رضي الله عنهم، وهو يتفق مع ما نقل عن الشافعي من تحريم الحيل. ولكن أبا حنيفة والشافعي لم يعتبراه أصلًا قائمًا بذاته، بل كان داخلًا في الأصول المقررة عندهما كالقياس، والاستحسان الخفي الذي لا يبتعد عما يقرره الشافعي إلا في العرف القائم بين الناس.(9/1317)
والخلاصة ـ الذرائع ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقطع بتوصله إلى الحرام، فهو حرام بالاتفاق بين العلماء.
والثاني: ما يقطع بأنها لا توصل، ولكن اختلطت بما يوصل، فكان من الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه.
والثالث: ما يحتمل ويحتمل، وفيه مراتب متفاوتة، ويختلف الترجيح عند المالكية بسبب تفاوتها.
ويخالف الشافعية في القسمين الثاني والثالث فلا يأخذان بسد الذرائع فيها، ويقولون بسد الذرائع في القسم الأول لانضباطه وقيام الدليل (1) .
لكن يلاحظ أن الأخذ بالذرائع لا تصح المبالغة فيه، فإن المغرق فيه قد يمتنع عن أمر مباح أو مندوب أو واجب، خشية الوقوع في ظلم، كامتناع بعض العادلين عن تولي أموال اليتامى أو أموال الأوقاف، خشية التهمة من الناس، أو خشية على أنفسهم من أن يقعوا في ظلم، ولأنه لوحظ أن بعض الناس قد يمتنع عن أمور كثيرة خشية الوقوع في الحرام (2) .
__________
(1) البحر المحيط للزركشي 7/85
(2) أصول الفقه للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة: ص281(9/1318)
6- هل الأخذ بالذرائع مما اختص به المذهب المالكي أو أن الأخذ بها ثابت في كل المذاهب وإن لم تصرح به؟ شواهد من فقه الأئمة الأربعة على العمل بسد الذرائع.
إن سد الذرائع معمول به في الاجتهاد في فقه الصحابة والتابعين، وفي المذاهب الاجتهادية الأربعة على تفاوت في مدى الأخذ به، أو درجة الأخذ، فمن عمل الصحابة بسد الذرائع: منع نكاح الكتابيات، وتضمين صاحب الدابة عما تتلفه، وتضمين الصناع، وإمضاء الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا، وتحريم المرأة أبدًا على متزوجها في العدة، وقتل الجماعة بالواحد، وتوريث المبتوتة في مرض الموت من زوجها، لو مات في مرضه الذي طلق فيه (1) .
واستمر هذا العمل في عصر التابعين، مثل القول بمجانبة أهل الهوى والفساد، وترك بعض الأفعال المباحة حتى لا تتخذ سنة، مثل خلع الخليفة نفسه بطلب المعارضة، وترك تطويل الصلاة سدا لزريعة الوسواس وكراهية بعض التابعين صوم ست من شوال، حتى لا يلحق برمضان ما ليس منه، وترك الترفه في المطعم والشرب والمركب والمسكن (2) .
وصرح المالكية كالقرطبي والقرافي وابن رشد الجد كما تقدم بأنهم لم ينفردوا في الأخذ بالذرائع، وشاركهم أئمة المذاهب الأخرى بها، ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها، فهناك ذرائع مجمع على حكمها، كسب آلهة المشركين، وحفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السم في أطعمتهم وأشربتهم، وهناك ذرائع مهمل حكمها كزراعة العنب خشية الخمر، وإباحة التجاور في البيوت، ولو احتمل وقوع الزنا، وإباحة النظر إلى المخطوبة، والتعريض بالخطبة أثناء عدة الوفاء، ونحو ذلك مما يندر إفضاؤه إلى المفسدة، أو استثني من أصل المنع بالنص، لما فيه من المصلحة الراجحة على المفسدة المحتملة، وهناك ذرائع مختلف فيها كبيوع الآجال، منهم من ألحقها بالذرائع الممنوعة، لأنها ذريعة يتحيل بها آكل الربا إلى بيع درهم نقدًا بدرهمين إلى أجل، ومنهم من ألحقها بالذرائع المهملة، لأنها عبارة عن عقدين صحيحين، كلاهما مقصود شرعًا، ولا فرق في القصد بين حصول ذلك مع عاقد واحد أو عاقدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في إباحة بيع تمر الجمع بالدراهم، ثم الشراء بها تمرا جيدًا، لم يفصل.
لكن اتفاق المذاهب الأربعة على الأخذ بسد الذرائع ليس بدرجة واحدة في مجال التطبيقات الفعلية، فالمالكية في أعلى درجة، والشافعية عكسهم، والحنابلة أقرب للمالكية، والحنفية أقرب للشافعية، وهناك شواهد من فقه أئمة المذاهب الأربعة على العمل بسد الذرائع.
__________
(1) الذرائع للأستاذ هشام البرهاني ص 535 ـ547
(2) الذرائع للأستاذ هشام البرهاني ص 560، 572، 575، 591، 599(9/1319)
-شواهد المالكية في الأخذ بالذرائع:
من أبرز أمثلة القول بسد الذرائع عند المالكية، بيوع الآجال وبيوع السلم التي تؤدي إلى ممنوع (1) .
أما بيوع الآجال: فهي بيوع ظاهرها الجواز، لكنها تؤدي إلى ممنوع، وهو أكل الربا، وصورتها الأساسية التي تتفرع عنها صورة أخرى، قيل: إنها تصل إلى ألف مسألة: هي أن يبيع شخص لآخر شيئًا لأجل، ثم يشتريه منه إلى أجل آخر، أو نقدًا. والصور المتفرعة عنها هي أصول الربا، مثل أنظرني أزدك، وبيع ما لا يجوز متفاضلًا، وبيع ما لا يجوز نساء، وبيع وسلف، وذهب وعرض بذهب، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل أن يستوفي، وبيع وصرف.
مثال: " أنظرني أزدك " أن يشتري ثوبًا بعشرة إلى شهر، ولما حل الأجل، ولم يكن عند المشتري ما يوفي البائع، طالب ببيع سلعة أخرى ثمنها عشرة نقدًا بخمسة عشرة مؤجلة.
ومثال: " بيع ما لا يجوز متفاضلًا ": شراء ما باعه بعشرة دنانير إلى أجل بثمانية نقدًا، وهذا كربا الجاهلية.
ومثال: (بيع ما لا يجوز نساء بيع ذهب إلى أجل، ثم شراؤه بفضة، وهذا ممنوع لأنه يؤدي إلى بيع الذهب بالفضة إلى أجل) .
ومثال: " بيع وسلف " بيع سلعتين بدينارين لشهر، ثم شراء إحداهما بدينار نقدًا، ومنعه؛ لأنه يؤول إلى أنه دفع دينارًا وسلعة نقدًا ليأخذ عنها بعد شهر دينارين.
ومثال: " بيع ذهب وعرض بذهب ": بيع ثوب بعشرة دنانير إلى أجل، ثم شراؤه مع سلعة أخرى كشاة مثلًا بمثل الثمن الأول أو أقل نقدًا أو لدون الأجل، ومنعه؛ لأن العقد الثاني أعاد للبائع الأول سلعته، ودفع عنها للمشتري عشرة دنانير، يأخذ عنها من المشتري الأول عند حلول الأجل عشرة وشاة.
ومثال: " ضع وتعجل" بيع سلعة بعشرة دنانير إلى أجل كشهر، ثم شراؤها في الحال باثني عشر، يدفع له منها دينارين، وتجري المقاصة في الباقي، فكأنه قال له: أعطني من ثمن السلعة ثمانية وأسامحك بالباقي.
ومثال: " بيع الطعام قبل استيفائه ": الإقالة من الطعام (قمح أو شعير) المسلم فيه، بزيادة أو نقصان، قبل حلول الأجل ومنعه؛ لأن ذلك بيع جديد، فيكون المسلم (رب السلم) قد باع الطعام قبل قبضه.
ومثال: " بيع وصرف ": بيع ثوب بعشرة دراهم محمدية إلى شهر، ثم شراؤه بثوب نقدًا وبخمسة دراهم يزيدية، فكأن صورة البيع على أن يبدل له، إذا حل الأجل، خمسة يزيدية بخمسة محمدية.
__________
(1) الذرائع للأستاذ هشام البرهاني ص615 ـ 638، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3/76، 86 ـ91، 228 وما بعدها، بداية المجتهد 2/139 ـ 143(9/1320)
وأما عقود السلم التي تؤدي إلى ممنوع: وهو ربا الفضل والنساء، فتكون في حل كون رأس مال السلم (الثمن) والمسلم فيه طعامين متماثلين كقمح في قمح، أو مختلفين كقمح في فول، أو نقدين كذهب بذهب أو بفضة أو بالعكس، أو شيء في أكثر منه، كثوب في ثوبين أو عكسه، أو شيء في أجود منه، كثوب رديئ في جيد وعكسه، كل ذلك حذرًا من الوقوع في الممنوع، وهو سلف بزيادة، أو ضمان بجعل، فإذا كان السلم بطعامين أو نقدين، أدى إلى ربا الفضل والنساء عند تحقق الزيادة بين عوضي السلم، وإلى ربا النساء عند تماثلهما، وكذا يتحقق السلف بزيادة الشيء في غير الطعامين والنقدين إذا أسلم في أكثر منه أو أجود. ومن أسلم شيئًا في أقل أو أردأ منه، يقع في ضمان بجعل، كمن أسلم ثوبين في ثوب، فكأنه يعطي المسلم إليه ثوبين، ليكون أحدهما في ضمانه، ويكون الآخر في نظير هذا الضمان.
ومن المثلة الأخرى عند المالكية لسد الذرائع (1) : كراهية صوم ست من شوال عقب رمضان، وترك قراءة السجدة فجر يوم الجمعة، وترك قراءة السجدة في الفريضة ولو كان المصلي منفردًا، والدعاء بهئية الاجتماع في أدبار الصلوات، والتفريق بين رجل وامرأة تزوجها في عدتها ودخل بها وتحريمها عليه أبدًا، وتوريث المبتوتة في مرض الموت.
__________
(1) الاعتصام للشاطبي 2/116، 211، 354 الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1/185، 488 ـ 489، بداية المجتهد 2/82(9/1321)
-شواهد الحنابلة في سد الذرائع:
الحنابلة كالمالكية في القول بسد الذرائع، ولكنهم في التطبيقات أقل منهم، من الأمثلة عندهم (1) اتفاقهم مع المالكية في المنع من بيوع الآجال وهي كما تقدم: أن يبيع السلعة بنسيئة ثم يشتريها نقدًا، ومنع بيع العينة كأن يبيع سلعة بنقد، ثم يشتريها بأكثر منه نسيئة إلا أن يغير السلعة؛ لأن ذلك يتخذ وسيلة إلى السلف بزيادة. ومن ذلك: لو أقرضه شيئًا، وباعه سلعة بأكثر من قيمتها، أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها، توصلًا إلى أخذ عوض عن القرض، فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم، ومنع بيع العنب لمن يعصره خمرا، وبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطرق أو في الفتنة وكراهية الشراء ممن يرخص في سلعته ليمنع الناس من الشراء من جاره، ونحو ذلك مما هو ذريعة الإثم.
وتحريم الحيل لمناقضتها سد الذرائع، كشراء ثمرة قبل بدو صلاحها، واشتراط قطعها في الحال، ثم تركها حتى يبدو صلاحها، في رواية عن الإمام أحمد، وكبيع رطلي تمر بدرهم، ثم شراء رطل تمر جيد بذلك الدرهم، في حال التواطؤ على ذلك والحيلة.
وسد ذرائع الابتداع في الدين فيما هو مشروع في أصله، لكنه يؤدي مع الجهل وطول الزمن إلى تغيير المشروعات وقلب الأحكام.
وإيقاع طلاق الثلاثة بلفظ واحد ثلاثًا، فإنه ذريعة إلى نكاح التحليل، فيكون المختار في رأي ابن تيمية وابن القيم إيقاعه طلقة واحدة.
وعدم قبول توبة الزنديق المشهود بالزندقة، إذا ارتد، استثناء من حكم استتابة المرتد.
ومنع الوكيل بالبيع من شراء الشيء لنفسه، سد للذريعة، وفي رواية عن أحمد. وضمان من منع الطعام أو الشراب عن غيره، مع غناء عنه، فتجب عليه الدية في ماله، وإجارة الأرض بطعام معلوم، من جنس ما يزرع فيها في رواية عن أحمد؛ لأنه يجعل ذريعة إلى المزارعة عليها، بشيء معلوم من الخارج منها.
__________
(1) الذرائع للأستاذ هشام البرهاني: ص 639 ـ 650، إعلام الموقعين 3/ 169 وما بعدها فتاوى ابن تيمية 3/ 145 ـ 149، شرح الكوكب المنير 4/ 436(9/1322)
-شواهد الحنفية في سد الذرائع:
يأخذ الحنفية (1) بمبدأ سد الذرائع من خلال الاستحسان المصلحي، فهو وجه من وجوه العمل بالمصلحة، أو من طريق اجتهادات أخرى، كقولهم بمنع بيوع الآجال مثل المالكية والحنابلة، كأن يشتري شخص سلعة بألف حالة أو نسيئة، ثم يقبضها، فلا يجوز له أن يبيعها من البائع بخمسمائة، قبل أن ينقد الثمن الأول كله أو بعضه، لما فيه من شبهة الربا، والشبهة ملحقة بالحقيقة في باب المحرمات احتياطًا.
ومن الأمثلة عندهم: استحباب صوم المفتي يوم الشك سرًا، حتى لا يتهم بالعصيان، مع إفتائه العام بالانتظار بدون طعام وشراب إلى وقت الزوال، ثم يأمرهم عند الزوال بالإفطار، منعا من اعتقاد الزيادة.
وتحريم مقدمات الوقاع (الوطء) على المعتكف كاللمس والقبلة، دون الصائم الذي يأمن على نفسه؛ لأن الوطء محرم على الأول بالنص قصدًا في قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، وعلى الثاني ضمنا، من الأمر بالإمساك عن المفطرات فالتحقت المقدمات بالتحريم في الأول، ولم تلتحق في الثاني. ونصوا (أي الحنفية) على أن الوسيلة إلى الشيء حكمها حكم ذلك الشيء (2) . ومنع الفتيات الشابات من الخروج إلى الجماعات؛ لأن خروجهن إلى الجماعة سبب الفتنة، والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام، فهو حرام (3) .
ومنع الاستمتاع بالحائض بما يقرب الفرج؛ لأنه سبب للوقوع في الحرام، وحرم ابن عابدين إحداث الغرف والخلوات في المساجد، ولو كان الأصل في إحداثها معاونة طلاب العلم الفقراء على الدرس والتحصيل؛ لأن أكثر المنتفعين بها اليوم معرضون عن طلب العلم، لاهون بالطبخ والأكل والشرب والغسيل وغير ذلك، مما يؤدي إلى تقذير المسجد (4) .
وكره الحنفية اتباع رمضان بست من شوال، من غير فصل بإفطار يوم العيد؛ خوفًا أن يلحق بالفريضة، وقدم الحنفية ديون الصحة على ديون مرض الموت، وديون المرض المعلومة الأسباب كبدل مال ملكه أو استهلكه أو مهر امرأة تزوجها، على الديون المقر بها من غير علم بأسبابها، منعا من تهمة الإقرار ولأن حق غرماء الصحة تعلق بمال المدين (5) .
__________
(1) الذرائع للأستاذ هشام البرهاني: ص 651-656
(2) فتح القدير 2/132
(3) البدائع 1/157
(4) حاشية ابن عابدين 3/371
(5) فتح القدير 7/2 وما بعدها(9/1323)
-شواهد الشافعية في سد الذرائع:
أخذ الشافعية بمبدأ سد الذرائع كما تقدم إذا كان منصوصًا عليها في القرآن أو السنة، كما أخذوا بالمبدأ وهو الذريعة إذا تحقق أداؤها للمفسدة، فما يقطع بتوصله إلى الحرام فهو حرام، وفرقوا في هذا بين سد الذرائع وتحريم الوسائل المستلزمة للمتوسل إليه، أي المفضية إليه بصورة قطعية، وهم أشبه بالحنفية الذين ينكرون اعتبار سد الذرائع أصلًا من أصول التشريع لكنهم من جانب آخر يتفقون مع بقية الأئمة في بعض تطبيقات المبدأ، ويصرحون في تعليل الأحكام به، عملًا بأصول اجتهادية أخرى، مثل قاعدة: " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " ومثل الأخذ بمبدأ الضرورة أو الحاجة في استثناء بعض الأحكام من تطبيق قاعدة الحكم العام، ويظهر من الأمثلة التالية أخذهم بالذرائع لكن دون غيرهم في الكثرة والقلة (1) .
من ذلك استحباب أداء المعذورين في ترك الجمعة كالمرضى والمسافرين صلاة الظهر، في حال السر أو الخفاء، سدا لذريعة التهمة في تركهم صلاة الجمعة، ومثل قول الإمام الشافعي بأنه لا ضمان على الأجير المشترك كالقصار والملاح ولكنه لا يفتي به لفساد الناس، وكذلك قوله بقضاء القاضي بعلمه الشخصي في الحوادث.
وقول الشافعية بمنع المفطر بعذر من الأكل، عند من لا يعرف عذره، سدًا لذريعة التهمة بالفسوق والمعصية (2) .
وقولهم بعدم لزوم إقرار المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر، في حق الغرماء؛ لأنه قد يتخذ إقراره ذريعة إلى التصرف بأمواله بتواطؤ وحيلة (3) .
وقولهم بمنع الوكيل بالبيع من بيع السلعة لنفسه، حتى لا يتهم بنقص الثمن (4) . وقولهم المشهور بحرمان القاتل من الميراث، بمختلف أنواع القتل، سواء كان القاتل متهمًا بتعجيل الإرث أو غير متهم حسما للباب، وسدًا للذريعة (5) . وإجازتهم قتل من يتترس به الكفار من أطفال ونساء وأسرى مسلمين، حتى لا يتخذ التترس ذريعة إلى ترك الجهاد أو استيلاء الكفار على ديار المسلمين (6) . وكراهيتهم كل ما يكون ذريعة إلى الإثم، من باب التعاون عليه، كبيع العنب لمن يعصره خمرًا، والتمر ممن يعمل النبيذ وبيع السلاح ممن يعصى الله تعالى به؛ لأنه لا يأمن أن يكون معونة على المعصية.
وإبطالهم شراء الحربي سلاحًا كدرع وترس في الماضي؛ لأنه يستعين به على قتالنا (7) .
__________
(1) الذرائع للأستاذ البرهاني ص658 ـ664
(2) المهذب 1/178
(3) المهذب 1/321
(4) المهذب 1/352
(5) المذهب 2/ 24 ـ 25
(6) المهذب 2/ 234
(7) المهذب 1/ 267، مغني المحتاج 2/10، 37(9/1324)
7- أثر القول بسد الذرائع، اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية:
تبين من شواهد سد الذرائع عند العلماء أن الحكم قد يتغير ويختلف فيما بينهم، فيكون حرامًا أو مكروهًا عند جماعة خلافًا لغيرهم، وقد يوصف العقد بالبطلان أو الفساد كبيوع الآجال عند جماعة وهم الجمهور والصحة عند آخرين وهم الشافعية، وقد يكون العقد مع صحته مكروهًا كما ذكر الشافعية في طائفة من العقود كبيع العنب لعاصره خمرًا، وبيع الحربي أو الذمي في دار الحرب حديدًا ونحوه مما يتأتى أو يصنع منه السلاح إذا كان يغلب على الظن أنه يعمله سلاحًا واكتفوا بالقول بالكراهة؛ لأنه لا يتعين جعل الحديد عدة حرب.
والخلاف في بيوع الآجال وهي محل النزاع الشهير في اعتبار الذرائع وعدم اعتبارها محصور في دائرة ضيقة، وذلك فيما إذا لم تنكشف نية المتعاقد، ولم يدل على قصد الربا فيها دليل من تكرار أو غيره.
قال القرافي (1) : من باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر، ثم اشتراها بخمسة، وأخذ عشرة إلى آخر الشهر، فهذه وسيلة السلف: خمسة بعشرة إلى أجل، بإظهار صورة البيع لذلك، والشافعي ينظر إلى صورة البيع، ويحمل الأمر على ظاهره، فيجوز ذلك. وهذه البيوع يقال: إنها تصل إلى ألف مسألة اختص بها مالك (ومعه أحمد) وخالفه الشافعي، ويجيز الحنفية بيع الأجل إن توسط شخص ثالث، وإلا فسد العقد، ومنشأ الخلاف يرجع إلى مسألة مهمة في الشريعة الإسلامية، وهي مسألة " النية واللفظ في العقود ". وفي هذه المسألة اتجه الفقه الإسلامي اتجاهين (2) .
__________
(1) الفروق 2/32
(2) أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 2/ 889 ـ 901(9/1325)
-الأول ـ مذهب الشافعي، وقريب منه مذهب أبي حنيفة:
الاعتداد بالألفاظ في العقود دون النيات والقصود إذ إن نية السبب والغرض غير المباح شرعًا مستترة، فيترك أمرها لله وحده، يعاقب صاحبها عليها، ما دام أتم بنيته، ومن هنا قرروا أن (المعتبر في أوامر الله المعنى والمعتبر في أمور العباد الاسم واللفظ) أي فيما إذا لم يكن في العقد ما يدل على النية والقصد صراحة، فإن ظهر القصد في العقد صراحة أو ضمنًا بقرائن، فيعمل بقاعدة: (العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني) (1) . وهكذا فكل عقد عند الشافعي تؤخذ أحكامه من صيغته ومما لابسه واقترن به، ففساده يكون من صيغته، وصحته تكون منها، ولا يفسد لأمور خارجة عنه، ولو كانت نيات ومقاصد لها أمارات، أو ولو كانت مآلات مؤكدة ونهايات ثابتة، فهم يصححون بيوع الآجال لنظراتهم الظاهرية.
ومعنى هذا الاتجاه أن الشافعية لا يأخذون بنظرية الباعث في العقود، وإنما يعتمدون على ظواهر الصيغة أو ألفاظ التعاقد، كما أنهم لا يحكمون على التصرف بالصحة أو بالبطلان بحسب الغاية أو المآل، ويقولون: إن الشريعة تبنى على الظاهر، وسد الذرائع من مظاهر الاجتهاد بالرأي، وهم لا يصرحون بالأخذ منها إلا بالقياس، لكنهم في الواقع يرون أن سد الذرائع معتبر عندهم كالاستحسان، ضمن المصادر الأصلية الأخرى.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 110 وما بعدها؛ حاشية الحمدي على الكتاب السابق 2/ 12 وما بعدها، الأشباه والنظائر للسيوطي 40، 148 ـ 149 مغني المحتاج 2/ 37 ـ38 الملكية ونظرية العقد للشيخ محمد أبو زهرة ص 215 وما بعدها.(9/1326)
ويستند عندهم إلى أصول معتبرة وهي عشرة (1) .
الأول: أصل جلب المصالح ودرء المفاسد.
الثاني: اعتبار المآل مع قرينة.
الثالث: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الرابع: لا يجيزون التذرع بأمر ظاهر الجواز لغرض غير مشروع.
الخامس: اعتبار الشبهات والاحتياط.
السادس: اعتبار التهم.
السابع: قاعدة (من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه) .
الثامن: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام الحلال.
التاسع: ما حرم استعماله حرم اتخاذه، وما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
العاشر: اعتبار الأهم ورعاية جانبه.
-الاتجاه الثاني: مذهب ابن حنبل
الذي يتشدد بحق في رعاية النية والقصد، ودون اللفظ ويتلخص مذهبه بما يفهم من كلام ابن القيم بما يلي (2) .
أولًا: إن اتفقت نية العقد مع ما تدل عليه عبارته، انعقد العقد، وترتب عليه أثره الشرعي كالبيع العادي الذي لا يقصد به الربا أو التحايل على الربا.
ثانيًا: إن قصد غير ما تدل عليه عبارته، ولكن لم يدل شيء على نيته، كان مؤاخذًا بنيته ديانة، أي أمام الله، إلا أنه يلزم قضاء حكم العقد، كما يؤخذ من عبارته، كمن يعقد عقد زواج بلفظ: نكحت أو تزوجت، لا يقصد عشرة زوجية دائمة، بل يقصد تحليلها لمطلقها الثلاث، أو يستعمل فعل: بعت واشتريت بقصد الربا، ونحو ذلك.
ثالثًا: إن كشفت قرينة على هذه النية، وكانت لا تنافي الشريعة، صح العقد وإلا كان فاسدًا لا أثر له.
__________
(1) الذرائع للأستاذ محمد هشام البرهاني: ص 675 ـ 677
(2) إعلام الموقعين 3/117، 119، وما بعدها، 4/ 400 وما بعدها(9/1327)
والاتجاه الأول: وهو النظر إلى الأحكام الظاهرة، وإلى الأفعال عند حدوثها، دون النظر إلى غاياتها ومآلاتها، أخذ به الإمام الشافعي في الذرائع، بل إنه عمم تلك النظرة الظاهرية المادية على كل نواحي الشريعة وطبق قاعدته على العقود والتصرفات (1) .
وخالفه في تلك النظرية الإمامان مالك وأحمد في الحكم بالذرائع، فإنهما نظرًا إلى المآلات والغايات نظرة مجردة، ونظرا إلى البواعث أيضًا، فمن عقد عقدًا قصد به أمرًا محرمًا، واتخذ العقد ذريعة له، فإن المآل والباعث يحرمان العقد، فيأثم عند الله، ويكون العقد باطلًا؛ لأنه ربا، فيبطل سدا للذريعة.
ولا أجد بدا في تقديري من اختيار مذهب مالك وأحمد رضي الله عنهما؛ لأنه متمش مع قاعدة: " الأمور بمقاصدها " وحديث ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) فبين النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية، وبين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال (2) .
وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا، حصل له الربا، ولا يعصمه من حرمة الربا صورة البيع.
ثم إن هذا المسلك أنزه في الدين، وأقرب إلى مقاصد الشريعة العامة التي جاءت لإصلاح الناس، على أسس صالحة من الخير والسداد، في النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
واعتبار الذرائع عند هؤلاء يكون بأمرين:
الأول: قصد المكلف إلى التخلص من أمر شرعي، كمن يتحايل للتخلص من فريضة الزكاة، بأن يهبها مثلًا للفقير ليردها إليه، أو يبيعها مع شيء ثم يشتريها من الفقير، فإن هذا يحرم؛ لأنه ذريعة مؤكدة لهدم ما أمر الله به.
الثاني: إن الغالب الكثير أن يكون أمر من الأمور في وقت من الأوقات يؤدي إلى ما حرم الله تعالى، فإنه يكون حرامًا في ذلك الوقت وحده، دون سواه، كبيع السلاح في أيام الفتن.
__________
(1) الأم 3/33، 7/70
(2) الأم 3/123(9/1328)
8- أمثلة لفتح الذرائع وسدها:
فتح الذرائع كما عرفنا: معناه الأخذ بالذرائع (أو الوسائل) إذا كانت النتيجة مصلحة؛ لأن المصلحة مطلوبة، وسد الذرائع بالمعنى الخاص: هو الوسيلة الجائزة المؤدية إلى ممنوع، وقد تقدم التمثيل لكل منهما، وأضيف هنا أمثلة أخرى يجمعها أن فتح الذرائع: طلب وسائل الخير، وسد الذرائع: تحريم وسائل الشر، وكلاهما معتبر في الشريعة (1) ، فمن أمثلة فتح الذرائع التي تدور حول إيجاب الله تعالى أمورًا لا لذاتها، بل لكونها وسائل أو ذرائع لأمور أخرى ثبت طلبة لها (2) .
السعي لأداء صلاة الجمعة والجماعة، وترك البيع عند النداء لصلاة الجمعة في آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] .
ومثله السفر إلى مكة لأداء مناسك الحج.
النفير للجهاد وملاقاة الأعداء في آية {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] وكذا إنفاق المال وإعداد السلاح في الآية التالية لها.
الإفاضة من عرفات لذكر الله عند المشعر الحرام في آية {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) } [البقرة: 198 ـ 199] .
النظر في ملكوت السماء والأرض وما فيهما من أحوال الكواكب والجماد والنبات والحيوان لتمكن الإيمان في القلب في الآية {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] وغيرها من الآيات الكثيرة.
إفشاء السلام وإطعام الطعام، وحسن الظن بالناس، والتعاون على البر والتقوى، والبعد عن الضغينة والغل والحقد والحسد والغيبة والنميمة وغير ذلك مما جاء في القرآن والسنة لغرس المحبة بين الناس.
__________
(1) كتاب " ابن حنبل " لأستاذنا المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة ص 327، وكتاب " مالك " له أيضًا.
(2) الذرائع للأستاذ البرهاني: ص 349 ـ 351(9/1329)
ومن أمثلة سد الذرائع التي تدور حول تحريم كل من شأنه أن يؤدي إلى المفسدة بنحو مباشر (1) .
تحريم كل ما يؤدي إلى الكفر من أسباب ووسائل كاتباع الهوى والشيطان واتخاذه وليًا من دون الله وطاعته في آيات كثيرة مثل آية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) } [البقرة: 168 ـ 169] وآية {يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) } [الأعراف: 27] وكذا اتخاذ الكفار المشركين والكتابيين والمنافقين أولياء في آية {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] وآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) } [النساء: 88 ـ 89] وآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أو أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 51 ـ 57] وآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) } [الممتحنة: 1ـ2] وغير ذلك.
__________
(1) الذرائع للأستاذ البرهاني: ص 351 ـ 372(9/1330)
تحريم وسائل الزنى وذرائعه بالأمر بغض البصر في آية {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) } [النور: 30: 31] إلا عن المحارم والأزواج، والنهي عن خضوع النساء بالقول في آية {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) } [الأحزاب: 2ـ 3] والنهي عن الخلوة بالنساء في آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] .
النهي عن إبداء الزينة وعن الضرب بالأرجل في آية {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) } [النور: 31] .
النهي عن النظر إلى العورات وتحريم الدخول إلى البيوت بغير استئذان في آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) } [النور: 27 ـ 28] .(9/1331)
أورد ابن القيم تسعة وتسعين دليلًا على أن للوسائل حكم المقاصد، وعلى المنع من فعل ما يؤدي إلى الحرام، ولو كان جائزًا في نفسه (1) . مثل النهي عن سب آلهة المشركين أمامهم، مع كون السب غيظًا وحمية لله وإهانة لآلهتهم، لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى، والنهي عن الضرب بالأرجل ذات الخلاخيل، لكونه وسيلة لإثارة دواعي الشهوة من الرجال للنساء، والأمر باستئذان المماليك والصغار ثلاث مرات، لئلا يكون دخولهم بغير استئذان ذريعة إلى اطلاعهم على عورات الآباء والسادة وقت القيلولة والنهي عن كلمة (راعنا) مع قصدهم بها الخير، لئلا يكون ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، والنهي عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها، وتحريم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، والنهي عن بناء المساجد على القبور، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانًا والإشراك بها، ونحو ذلك.
منعت السنة النبوية ذرائع مباحة الأصل لما يترتب عليها من محظور مثل: المسافر لا يطرق أهله ليلًا، لا يأكل المضحي من أضحيته فوق ثلاث، النهي عن الجلوس في الطرقات، منع النظر لمن هو فوق الإنسان أو أفضل منه في الدنيا، في مال أو ملبس أو مسكن، النهي عن مدح الإنسان في وجهه، كراهة النوم قبل العشاء والسهر بعدها، الإشارة بالسلاح لغيره، حمل السلاح في الحرم من غير ضرورة، كراهة الاحتباء يوم الجمعة أثناء الخطبة لأنه جالب للنوم، إدامة النظر إلى المجذومين، التخلي في قارعة الطريق وفي الظل والموارد، البول في الجحر، نهى المحرم عن الطيب، السفر بالقرآن إلى أرض العدو (2) .
__________
(1) إعلام الموقعين 3/147 ـ 171
(2) الذرائع للأستاذ البرهاني: ص 483 ـ 493(9/1332)
خلاصة البحث
الأخذ بمبدأ الذرائع فتحا وسدًا أصل من أصول التشريع الكبرى، وسياسة منهجية حكيمة في التخطيط لتحقيق مقاصد الشريعة العامة، وتربية الأمة والجماعة والأفراد، وإرساء معالم السيرة نحو تحقيق الغايات الكبرى للأمة الإسلامية، فلا يعقل أن يقرر التشريع حكمًا لغاية معينة، ثم يبيح الوسائل أو الذرائع المانعة من إنفاذ الحكم، ولا يقبل بحال تحقيق المصالح ودرء المفاسد بغير الأخذ بسياسة الذرائع فتحًا وسدًا، القائمة على طلب الخير ومنع الشر.
وفتح الذرائع: معناه الأخذ بالذرائع إذا كانت النتيجة مصلحة؛ لأن المصلحة مطلوبة شرعًا، وسد الذرائع بالمعنى الخاص معناه منع الوسائل الجائزة المؤدية إلى ممنوع، وكلاهما مطلوب، وتكون وسيلة الواجب واجبة ووسيلة المحرم محرمة، وهذا متفق مع القاعدة الشرعية: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فالفاحشة حرام والنظر إلى عورة الأجنبية حرام، لأنها تؤدي إلى الفاحشة والجمعة فرض فالسعي لها فرض، وترك البيع لأجل السعي فرض أيضًا، والحج فرض، والسعي إلى البيت الحرام وسائل مناسك الحج فرض لأجله، لأن الشارع إذا كلف العباد أمرًا، فكل ما يتعين وسيلة له مطلوب بطلبه، وإذا نهي الناس عن أمر، فكل ما يؤدي إلى الوقوع فيه حرام أيضًا.
وقد ثبت هذا باستقراء التكاليف الشرعية طلبًا ومنعًا، فقد وجدنا الشارع ينهي عن الشيء، وينهي عن كل ما يوصل إليه، ويأمر بالشيء، ويأمر بكل ما يوصل إليه، فقد أمر بالمحبة بين الناس، ونهى عن التباغض والفرقة، ونهى عن كل ما يؤدي إليها، فنهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، وأن يستام على سوم أخيه، أو يبتاع على بيعه، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى التباغض المنهي عنه ونحوه.(9/1333)
والذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره، وتندب، وتباح، ويترتب على الأخذ بمبدأ أو أصل سد الذرائع حسم وسائل الفساد، أي قطعها نهائيًا، ومنع الجائز المؤدي إلى المحظور؛ لأن الشرع نهى عن المفاسد ذاتها، ونهى أيضًا عن كل أمر يتضمن منفعة، لكنه يفضي إلى المفسدة، ولو من غير إرادة المكلف، كشرب الخمر المؤدي إلى السكر، فإنه أمر منهي عنه لذاته، فيحرم القليل منها والكثير؛ لأن القليل شرعًا وطبًا ذريعة إلى الكثير، فما الإدمان وتعلق الإنسان بالمسكر إلا بسبب تناول الشراب بين الفينة والأخرى، ولو من غير إرادة من الشارب، بسبب تلوث الدم بالكحول.
وهناك فرق بين الذريعة والسبب؛ لأن السبب يترتب عليه مسببه حتمًا، أما الذريعة فركنها الإفضاء للنتيجة، ولا تستلزم وجود المتوسل إليه، فإما أن يتم الإفضاء فعلًا، كعصر الخمر من العنب المبيع للخمار، وإما أن يقدر وجود الإفضاء تقديرًا، من غير أن يفضي بالفعل، ويحدد ذلك عنصر القصد، أو كثرة اتخاذ الوسيلة جسرًا موصلًا للحرام، أو كون الوسيلة قابلة من نفسها لاتخاذها وسيلة للإفضاء بها إلى المتوسل إليه، كسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم، فإنه ذريعة لسب الإله الحق أو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا فرق عند المالكية بين سد الذرائع وتحريم الوسائل، فهما في المعنى سواء، وفرق بينهما بعض الشافعية قائلين بتحريم الوسائل التي تستلزم المتوسل إليه، وهي المعتبرة بالإجماع، كحفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في طعامهم، ولكنهم لا يقولون بسد الذرائع.
ورتب العلماء على أصل سد الذرائع منع الحيل في الشريعة، فإن تجويز الحيل يناقض القول بسد الذرائع وتبطل كل الحيل التي تؤدي إلى إسقاط حق، أو تسويغ محرم، أو إسقاط شرط حرمه الشارع؛ لأن هذه مطلوبات وإهمالها محرم، وكل ما يؤدي إلى المحرم يكون محرمًا، ولو كان في أصل ذاته مباحًا، وكذلك اتخاذ الحرام كالرشوة والخيانة وشهادة الزور سبيلًا للوصول إلى الحلال لا يجوز؛ لأن هذه الأمور حرام لذاتها، والمفسدة المترتبة عليها أشر من مفسدة ضياع الحق الفردي لأحد الناس.(9/1334)
وتسد الذرائع إذا أدت إلى المفسدة قطعًا كحفر البئر خلف باب الدار في وسط الظلام، أو أدت إليها كثيرًا لا نادرًا، وغالبًا كبيع السلاح لأهل الحرب، أو غير غالب كبيوع الآجال المتخذة جسرًا للربا من طريق بيع السلعة لأجل بثمن أعلى، ثم شراؤها في الحال من قبل بائعها بثمن معجل أقل، فيكون الفرق بين الثمنين ربا، وهذا مذهب الإمامين مالك وأحمد، وبيوع الآجال هي محل الخلاف الشهير في العمل بسد الذرائع، فأخذ به هذان الإمامان لكثرة وقوع القصد إلى الربا، وأفسد أبو حنيفة هذه البيوع عملًا باجتهاد آخر غير سد الذرائع بسبب عدم إتمام البيع الأول لعدم استيفاء الثمن، ويؤول الأمر إلى بيع خمسة في عشرة مثلًا لأجل، وهو ربا فضل ونساء معًا، وصحح الشافعي هذه البيوع في الظاهر لاكتمال أركانها وشروطها حتى يقدم الدليل على قصد الربا المحرم، وترك الحساب على القصد الخبيث الباطن والباعث السيئ إلى الله تعالى؛ لأن هذا الإمام يأخذ في الحكم على العقود بالإرادة الظاهرة لا الباطنة.
وقد أوردت أدلة الفريقين: المثبتين لتحريم بيوع الآجال، والفرق بينها وبين بيع العينة عند المالكية، والمانعين وهم الشافعية، كما ذكرت أحكام الذرائع وشروطها، وحررت محل النزاع في الذرائع وهو بيوع الآجال وانتهيت إلى ترجيح رأي المالكية والحنابلة، لاتفاقه مع مقاصد الشريعة وحرصها على تحصيل المصالح ودرء المفاسد، وانسجامه مع اتجاه التشريع بتحريم الربا ووسائله وسد الباب أمام المحتالين والمفسدين الذين يحاولون التحلل من قيود الشريعة وأحكامها، وفيما عدا هذه البيوع يتفق أئمة المذاهب على الأخذ بأصل الذرائع، وإن لم يصرح به بعضهم بالأخذ به أصلًا من أصول التشريع، ويمكنني تأكيد هذه الحقيقة وهي أن سد الذرائع أصل مقرر في القرآن والسنة وفقه الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد على تفاوت في درجة الأخذ به في دائرة أتباع المذاهب بين كثرة وقلة، فلم ينفرد المالكية بالأخذ به، ولا خصوصية لهم به، إلا من حيث زيادتهم فيها، فهناك ذرائع مجمع عليها، وذرائع ملغاة، وذرائع فرعية فقهية مختلف فيها، وإن بالغ المالكية أحيانًا بالأخذ ببعضها.
وأيدت هذه الحقيقة بشواهد واضحة من فقه الأئمة الأربعة، وظهر أثر القول بسد الذرائع واعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية بإعلان تحريم البيوع الربوية وبطلانها عند الأكثرية، وتصحيحها في الظاهر عند الشافعية، والقول بحظر بعض المنهيات عند بعضهم، واكتفاء الآخرين بالقول بالكراهة، مثل بيع السلاح في الفتنة ونكاح التحليل وبيع العنب لعاصره خمرًا، أو القول بالبطلان كشراء الحربي سلاحًا أو حديدًا ونحوه مما يصدر لجعله عدة حرب، وبرز أثر الخلاف أيضًا في القول بتحريم الحيل الممنوعة المؤدية إلى تقويض أحكام الشريعة أو التخلص من العمل بها أو إسقاط حق أو تسويغ محرم، أو إسقاط شرط حرمه الشرع، وأجاز بعض الفقهاء كالحنفية وبعض الشافعية بعض الحيل، ولكن ذلك غير سديد شرعًا وفقهًا.
وختمت البحث بطائفة من الأمثلة على فتح الذرائع وسدها، سواء من النصوص الشرعية أم من الاجتهادات الفقهية، تأكيدًا لتأصيل هذا المبدأ في الشريعة.
أ. د. وهبة مصطفى الزحيلي(9/1335)
أهم مراجع البحث
- الأم للإمام الشافعي، الطبعة الأميرية.
- فتاوى ابن تيمية، طبعة الملك خالد.
- أعلام الموقعين لابن القيم، تحقيق محيي الدين عبد الحميد.
- الموافقات للشاطبي، مطبعة المكتبة التجارية بمصر.
- الاعتصام للشاطبي، مطبعة المكتبة التجارية بمصر.
- الفروق للقرافي، الطبعة الأولى 1345 هـ.
- المحصول للرازي، تحقيق الدكتور طه جابر العلواني، الطبعة الأولى.
- شرح العضد على مختصر المنتهى لابن الحاجب، المطبعة الأميرية.
- حاشية حسن العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع، المطبعة الأميرية.
- البحر المحيط للزركشي، طبع وزارة الأوقاف بالكويت.
- الأشباه والنظائر لابن نجيم المصري، الأميرية.
- الأشباه والنظائر للسيوطي، ط التجارية.
- مالك وابن حنبل وابن تيمية للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة.
- المالكية ونظرية العقد وأصول الفقه للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة.
- المدخل إلى مذهب أحمد لابن بدران، إدارة الطباعة المنيرية.
- المقدمات الممهدات لابن رشد الجد، ط دولة قطر.
- شرح الكوكب المنير لابن النجار بتحقيق: محمد الزحيلي، د. نزيه حماد، الطبعة الأولى.
- بداية المجتهد لابن رشد الحفيد، مطبعة الاستقامة بمصر.
- فتح القدير لابن الهمام ط التجارية، البدائع للكاساني ط الأولى، حاشية ابن عابدين، طبع البابي الحلبي.
- المهذب للشيرازي ومغني المحتاج للشربيني، ط البابي الحلبي.
- الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه، طبع البابي الحلبي.
- المغني لابن قدامة، الطبعة الثالثة بدار المنار.
- سد الذرائع في الشريعة الإسلامية للأستاذ محمد هشام البرهاني الطبعة الأولى بيروت.
- أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي، ط دار الفكر بدمشق.(9/1336)
سد الذرائع
إعداد
الشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد
المفتي الشرعي بدائرة القضاء الشرعي
أبو ظبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين سيدنا محمد القائل:
((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) (1) . وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
فقد استلمت موضوعات الدورة التاسعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي وهي موضوعات ذات أهمية كبيرة لما ترمز إليه من أحكام هامة في أصول الفقه وفروعه.
ولقد وقع اختياري على الموضوع الأول، موضوع: سد الذرائع وهو موضوع أصولي ويتضمن بحثي.
1- تعريف الذرائع وبيان معنى سدها.
2- الفرق بين الذريعة والسبب، وبين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه.
3- المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية، ومدى الوفاق والخلاف بينهما.
4- أقسام الذرائع بحسب القطع لتوصيلها إلى الحرام وعدم القطع، وأحكامها وشروطها.
5- موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع مع تحرير محل النزاع في ذلك.
6- هل الأخذ بالذرائع مما اختص به المذهب المالكي أو أن الأخذ بها ثابت في كل المذاهب وإن لم تصرح به؟ شواهد من فقه الأئمة الأربعة على العمل بسد الذرائع.
7- أثر القول بسد الذرائع: اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية.
8- أمثلة لفتح الذرائع وسدها.
9- خلاصة البحث.
__________
(1) صحيح البخاري 1/39، وصحيح مسلم 2/719(9/1337)
أولًا: تعريف الذرائع: وبيان معنى سدها:
الذرائع لغة: جمع ذريعة، وهي الوسيلة قال في اللسان (والذريعة: الوسيلة، وقد تذرع فلان بذريعة أي توسل، والجمع الذرائع، والذريعة مثل الدريئة: جمل يختل به الصيد، يمشي الصياد على جنبه فيستتر به ويرمي الصيد إذا أمكنه) .
قال: (وقال ابن الأعرابي: سمي هذا البعير الدريئة والذريعة ثم جعلت الذريعة لكل شيء أدنى من شيء وقرب منه وأنشد:
" وللمنية أسباب تقربها كما تقرب للوحشية الذرع (1) "
وتعريفها شرعًا: لا يختلف كثيرًا عن مفهومها اللغوي، فعرفها الأصوليون بأنها الوسيلة والطريق إلى الشيء، سواء كان مشروعًا أو غير مشروع، فإذا كان المتوسل إليه مشروعًا شرع فتحها وإذا كان ممنوعًا شرع سدها.
قال القرافي: (واعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها ويكره ويندب ويباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن الوسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي إلى الجمعة والحج) (2) .
وعرفها ابن تيمية فقال: (والذريعة ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء لكن صادر في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم تكن فيها مفسدة) .
قال: (وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس، وبما يخفي على الناس من خفي هواها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة) (3) .
وعرفها ابن القيم فقال: (الذريعة ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء) .
وفصل ذلك بقوله: (لما كانت المقاصد لا يتوسل إليها بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها.
فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غايتها، وارتباطها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل.
__________
(1) لسان العرب مادة ذرع.
(2) تنقيح الفصول. ص448 ـ 449
(3) الفتاوى الكبرى 3/193 ـ 140(9/1338)
فإذا حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له، ومنعًا أن يقرب حماه) (1) .
وعرفها كل من الشاطبي والقرطبي تعريفًا وجيزًا.
فقال الشاطبي: (حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى ما هو مفسدة، ومثل لها ببيوع الآجال (2) . الآتي ذكرها إن شاء الله.
وقال القرطبي: (الذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع) (3) .
هذا وقد اتضح لنا من خلال تعريف الذريعة لغة، ومن خلال تعريفها شرعًا عند القرافي وابن تيمية أنها عبارة عما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء سواء كان خيرًا أو شرًا.
وأنها في عرف الفقهاء أصبحت عبارة عن وسيلة يتوصل بها إلى ما هو ممنوع، وهذا ما اقتصر عليه الشاطبي والقرطبي.
وهو الموافق لما أضيف إليها من السد حتى أطلق عليها سد الذرائع.
غير أنها وإن كان هذا الاسم هو الذي أطلق عليها، وصارت عند الأصوليين معروفة به، فإن المعنى الآخر وهو فتحها المشروع أمر معترف به عند الأصوليين أيضًا، فلها حكم ما تفضي إليه من حرام أو حلال.
__________
(1) إعلام الموقعين 3/ 135
(2) الموافقات في أصول الشريعة 4/ 199
(3) الجامع لأحكام القرآن 2/58(9/1339)
قال القرافي: (وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها كحكم ما أفضت إليه من تحليل أو تحريم، غير أنها أخص رتبة من المقاصد في حكمها.
فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة) (1) . ومثل للذريعة التي تفضي إلى مصلحة بقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] .
وأما الذريعة التي تفضي إلى المفسدة فمن أمثلتها قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) قيل: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه.)) أخرجه البخاري واللفظ له عن ابن عمر مرفوعاً (2) .
وأخرجه مسلم ولفظه: (من الكبائر شتم الرجل والديه) قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: (نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه) (3) .
قال في الفتح: (قال ابن بطال: هذا الحديث أصل في سد الذرائع ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم. (4))
أما سد الذرائع فمعناه الحيلولة دون الوصول إلى المفسدة أي حسم مادة وسائل الفساد دفعًا له، فأي فعل كان بمفرده سالمًا من الفساد، فإنه إذا كان وسيلة إلى ارتكاب مفسدة واقتراف إثم أصبح ممنوعاً (5) . يجب تجنبه والابتعاد عنه وسد الباب دونه (6) . وبالمقابل فإن الوسيلة ـ كما أسلفنا ـ إذا كانت تفضي إلى مصلحة يشرع فتحها؛ فيجب فتحها إلى الواجب، ويندب إلى المندوب، ويباح إلى المباح (7) .
وسنتعرض لذلك بالتفصيل عن كلامنا على أنواع الذرائع إن شاء الله.
__________
(1) تنقيح الفصول ص 449
(2) صحيح البخاري 5/2228
(3) صحيح مسلم 1/92
(4) فتح الباري 10/ 338
(5) نشر البنود على مراقبي السعود 2/265
(6) نشر البنود على مراقبي السعود 2/265
(7) نشر البنود على مراقبي السعود 2/265(9/1340)
ثانيًا: الفرق بين الذريعة والسبب، وبين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه.
تقدم تفسير الذريعة لغة وشرعًا، وأما السبب فهو لغة الحبل وكل شيء يتوصل به إلى غيره (1) .
ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى الشيء، قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36ـ 37] .
قال النسفي: (أي طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها، وكل ما أدى إلى شيء فهو سبب له) (2) .
وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] .
قال القرطبي: (الأسباب: الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره، عن مجاهد وغيره، الواحد: سبب ووصلة، وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه، ثم جعل كل ما جر شيئًا سبباً) (3) .
وهكذا نرى أن الذريعة والسبب يشتركان في بعض المعاني ويختلفان في بعضها.
وقد فرق ابن تيمية بينهما في كتابة " الفتاوى الكبرى " فقال:
(الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل محرم، أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر وإفضاء الزنى إلى اختلاط المياه أو كان الشيء نفسه فسادًا كالقتل والظلم فهذا ليس من هذا الباب) .
__________
(1) الصحاح مادة سبب.
(2) تفسير النسفي 4/ 79
(3) الجامع لأحكام القرآن: 2 /206(9/1341)
فإنا نعلم أنما حرمت الأشياء لكونها في نفسها فسادًا بحيث تكون ضررًا لا منفعة فيه، أو لكونها مفضية إلى فساد، بحيث تكون هي في نفسها منفعة وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم.
فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة وإلا سميت سببًا. (1))
وعليه فإن الفرق بين الذريعة والسبب يعتبر دقيقًا جدًا.
فظاهر كلام ابن تيمية أنه إذا كان الإفضاء إلى المفسدة ليس فعلًا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنى إلى اختلاط المياه أو كان الشيء نفسه فسادًا كالقتل فهذا يعتبر من باب السبب.
وإن كان الإفضاء فعلًا كبيع السلاح في زمن الحرب، وسب آلهة المشركين إذا علم أن ذلك يفضي إلى سب الله عز وجل، فإن ذلك يعتبر من الذرائع.
أما فيما يخص الفرق بين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه.
فقد ذكرنا في تعريف الذريعة أنها الوسيلة إلى الشيء خيرًا كان أو شرًا، فإذا كان المتوسل إليه مشروعًا شرع فتحها وإن كان ممنوعًا وجب سدها، وذكرنا أنها صارت في عرف الفقهاء عبارة عن التي تفضي إلى محرم، ولذلك أضيف إليها سدها، لكنها وإن غلب إضافة سدها ـ فقد ظلت أيضا مفتوحة لكل ما تفضي إليه من مصلحة.
وهذا المعنى تشترك فيه الذريعة والوسيلة في معنى واحد فكل ما كان ذريعة لشيء يعتبر وسيلة له في هذا المجال.
__________
(1) الفتاوى الكبرى: 3/ 139(9/1342)
أما الوسيلة فلها معان بعضها تشترك فيه مع الذريعة.
فالوسيلة لغة هي: ما يتقرب به إلى الغير، والجمع: الوسيل والوسائل قاله في الصحاح (1) .
ومن هذا المعنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] .
والوسيلة: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، والجمع وسائل، قاله في النهاية في غريب الحديث والأثر (2) .
ومن معانيها أيضًا أنها منزلة في الجنة وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) أخرجه مسلم (3) .
وعليه فإن ما ذكر ابن الأثير في النهاية من معنى الوسيلة تتفق فيه مع الذريعة، فتتفقان في المعنى المستلزم للوصول إلى المتوسل إليه، ومما تنفرد به الوسيلة أنها منزلة في الجنة، ومعنى هذا أن الوسيلة أعم من الذريعة.
__________
(1) صحاح الجوهري مادة وسل.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر: 5/185
(3) صحيح مسلم: 1/288 ـ 289(9/1343)
ثالثا:المقارنة بين الذرائع والحيل والفقهية، مدى الوفاق أو الخلاف بينهما؟
لقد تقدم تعريف الذرائع لغة وتعريفها شرعًا، فأتينا بتعريف كل من القرافي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم.
أما الحيل فمفردها حيلة ومعناها لغة الاحتيال.
قال في الصحاح: (والحيلة بالكسر الاسم من الاحتيال، وهو من الواو، وكذلك الحيل والحول، يقال: لا حيل ولا قوة، لغة في حول، قال الفراء: يقال هو أحيل منك أي أكثر حيلة، وما أحيله لغة في ما أحوله) (1) .
أما تعريفها شرعًا فقال الشاطبي: (إن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظرف إلى حكم آخر، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع) .
ومثل الشاطبي لذلك بالذي يهب ماله عند رأس الحول، أي قبيله، فرارًا من الزكاة فقال: (إن أصل الهبة مشروع، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعًا، فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة والمفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد كان مآل الهبة المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة، ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية) .
ثم قال: (ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة فإنه اعتبر المآل أيضًا، لكن على حكم الانفراد) . قال: (ولا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحًا ممنوع، أما إبطالها ضمنًا فلا.) (2)
__________
(1) الصحاح للجوهري مادة حيل
(2) الموافقات في أصول الشريعة 201(9/1344)
وعرفها ابن تيمية بقوله: (والحيلة مشتقة من التحول وهو النوع من الحلول كالجلسة والقعدة من الجلوس والقعود، وكالأكلة والشربة من الأكل والشرب، ومعناها نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي هو التحول من حال إلى حال هذا مقتضاها في اللغة.
ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض، وبحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت الحيلة حسنة، وإن كان قبيحًا كانت قبيحة.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((ولا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قصد بها الحيل التي يستحل بها المحارم كحيل اليهود (1) . وكل حيلة تضمنت إسقاط حق لله أو للآدمي فهي تندرج فيما تستحل به المحارم (2) .
وبالنظر إلى ما تقدم في تعريف كل من الذرائع والحيل نرى أن بينهما ترابطًا كبيرًا فهما متشابهتان، والكلام فيهما متداخل وإن من كتب عن إحداهما غالبًا يكتب عن الأخرى.
فالشاطبي كتب أولًا عن الحيل في الجزء الثاني من الموافقات، وأتى بأمثلة كثيرة، هي الأمثلة نفسها التي مثل بها ابن تيمية للذرائع (3) .
ثم إن الشاطبي أتى بسد الذرائع في الجزء الرابع وأتبعها أيضًا بالحيل ومثله ابن القيم أما ابن تيمية فبعد أن أفاض الكلام على الحيل أتبعها بسد الذرائع.
وفي تعريف القرافي للذرائع قال إنها الوسيلة والطريق إلى الشيء، سواء كان مشروعًا أو غير مشروع، ولذلك يجب فتحها للواجب وسدها عن المحرم، إلا أنها غلب عليها الاستعمال في أمر ظاهره الجواز لكنه يؤول إلى الحرام.
والشيء نفسه لاحظناه في تعريف ابن تيمية للحيل فذكر أن الحيل غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض.
قال: (فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت الحيلة حسنة وإن كان قبيحًا كانت قبيحة) . ثم قال: وإنها صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قصد بها الحيل التي تستحل بها المحارم كحيل اليهود) .
__________
(1) حيل اليهود منها أنهم حرمت عليهم الشحوم فأذابوها وجعلوها ودكًا فباعوها لحديث: قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها.) أخرجه الشيخان عن عمر مرفوعًا ـ البخاري 2/774 ـ 775 ومسلم 3/1037
(2) الفتاوى الكبرى 3/83
(3) الموافقات 2/384، والفتاوى الكبرى 3/ 143(9/1345)
والشاطبي في كلامه على الحيل ذكر أن المذموم من الحيل والمنهي عنه منها هو: ما هدم أصلًا شرعيًا وناقض مصلحة شرعية.
فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلًا شرعيًا ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها، فغير داخله في النهي ولا هي باطلة.
ومرجع الأمر فيها إلى أنواع ثلاثة:
أحدهما: لا خلاف في بطلانه كحيل المنافقين والمرائين (1) . قال:
وأما القسم الثالث: فهو محل الإشكال والغموض وفيه اضطربت أنظار النظار، ومثل له بنكاح المحلل وبيوع الآجال (2) . الآتي ذكرها إن شاء الله.
وتقسيم الشاطبي للحيل على هذه الأنواع الثلاثة شبيه بتقسيم القرافي للذرائع.
وهذا مما يؤكد التشابه والترابط بين الحيل والذرائع، غير أن هناك شرطًا تختص به الحيل دون الذرائع ألا وهو القصد، فالحيل كما أسلفنا يشترط فيها القصد، ولا كذلك الذرائع.
وعليه فإن الذرائع أعم من الحيل لأنها تقع بقصد وبغير قصد، وسيتضح ذلك عندما نتعرض لأنواع الذرائع إن شاء الله.
وباستطاعتنا أن نعطي أمثله لما تتفق فيه الحيل والذرائع وما تختلف فيه.
فمثال ما كان ذريعة وحيلة في نفس الوقت: بيوع الآجال كبيع سلعة بدين وشرائها بأقل نقدًا أو لدون الآجل.
__________
(1) حيل المنافقين ذكرها القرآن في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} الآيات. [البقرة 8ـ20]
(2) والأصل في ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106](9/1346)
ومثال ما اجتمعت فيه الذريعة والحيلة مما هو مشروع: بيع رديئ التمر بدراهم وشراء جيده بتلك الدراهم، فهذا النوع يعتبر من الذرائع والحيل المباحة، أدرجه القرافي في باب الذرائع، وأدرجه ابن تيمية في باب الحيل (1) .
والأصل في جوازه ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: (لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا) (2) . وفي رواية: (إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع) . والجنيب: أعلى التمر، والجمع أدناه (3) .
ومثال ما كان ذريعة وليس حيلة سب آلهة المشركين، وسب المسلم والدي المشرك؛ لأن السابّ لم يقصد بهما إبطال حكم شرعي.
ومثال ما كان حيلة وليس ذريعة بيع النصاب قبيل الحول بقصد الفرار من الزكاة.
__________
(1) الفروق للقرافي: 3/128 والفتاوى الكبرى: 3/152
(2) صحيح البخاري: 2/ 767، وصحيح مسلم: 3/1215
(3) إكمال الإكمال للأبي: 4/276(9/1347)
رابعًا: أقسام الذرائع بحسب القطع بتوصيلها للحرام أو عدم القطع، أحكامها وشروطها:
لقد قسم الأصوليون الذرائع إلى أقسام نذكر منها ما يلي:
أ- تقسيم القرافي وابن عاصم للذرائع:
قال القرافي: (لقد أجمعت الأمة أنها ـ أي الذرائع ـ ثلاثة أقسام:
أحدها: معتبر إجماعًا كحفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السم على أطعمتهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله ـ تعالى ـ حينئذ.
وثانيهما: ملغي إجماعًا كزراعة العنب، فإنه ما يمنع خشية الخمر، والشركة في سكنى الدار خشية الزنى.
وثالثها: مختلف فيه كبيوع الآجال، اعتبرنا نحن الذريعة فيها، وخالفنا غيرنا) (1) .
ومثل هذا لابن عاصم، قال في مرتقى الوصول:
وعندهم سد الذرائع انحتم
في مثل الامتناع عن السب الصنم
وبعضها لم يعتبر كالحجر
من اغتراس الكرم خوف الخمر
وقسمها الثالث عند مالك
معتبر لديه في المسالك (2)
وتبعهما في ذلك الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي فقال في مراقي السعود:
سد الذرائع إلى المحرم
حتم كفتحها إلى المنحتم
وبالكراهة وندب وردا
وألغ إن كان الفساد أبعدا
أو رجع الاصطلاح كالأسارى
تفدي بما ينفع للنصارى (3)
__________
(1) تنقيح الفصول ص/290
(2) نيل السول على مرتقى الوصول: ص/ 199
(3) نشر لبنود على مراقي السعود 2/265 ـ 266(9/1348)
وقول القرافي: (كبيوع الآجال اعتبرنا نحن الذريعة فيها وخالفنا غيرنا) لعله يعني الشافعي لأنه هو الذي أجاز بيوع الآجال. أما أبو حنيفة وأحمد فمنعاها، وسنتعرض لذلك بالتفصيل ـ إن شاء الله ـ عندما نتناول النقطة الخامسة من هذا البحث وهي: (موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع) .
وقول العلامة سيدي عبد الله الشنقيطي: (كالأسارى تفدي بما ينفع للنصارى) يشير به إلى قول القرافي: (قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راحجة كالتوسل إلى فداء الأسرى بدفع المال للعدو. الذي هو محرم عليهم الانتفاع به لكونهم مخاطبين بفروع الشريعة عندنا) (1) .
وذلك لأن الرشوة محرمة على الراشي والمرتشي لحديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح (2)
قال الخطابي: (الراشي: المعطي، والمرتشي: الأخذ، وإنما تلحقهما العقوبة معًا إذا استويا في القصد والإرادة، فرشا المعطي لينال به باطلًا، ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا رشا ليتوصل به إلى حق، أو يدفع به عن نفسه ظلمًا، فإنه غير داخل في هذا الوعيد، وقد روي أن ابن مسعود أخذ في سبي وهو بأرض الحبشة، فأعطى دينارين حتى خلي سبيله)
قال: (وكذلك الأخذ إنما يستحق الوعيد إذا كان ما يأخذه على حق يلزمه، فلا يفعل ذلك حتى يرشي، أو عمل باطل يجب عليه تركه فلا يتركه حتى يصانع ويرشي) (3) .
__________
(1) تنقيح الفصول 249
(2) المسند 2/ 164، وسنن أبي داود 4/9 ـ 10 ط دار الحديث ـ حمص ـ سوريا، وسنن ابن ماجة 2/775 وسنن الترمذي 3/623 ط دار الكتب العلمية ـ بيروت.
(3) معالم السنن مع مختصر سنن أبي داود 5/207(9/1349)
ب- تقسيم الشاطبي للذرائع:
قسم الشاطبي الذرائع باعتبار ما تؤدي إليه وما يترتب عليها من مفسدة أو مصلحة فجعلها ثلاثة أنواع، إلا أن أحد أنواعها على وجهين فصارت عنده في الواقع أربعة أنواع:
1- نوع يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيًا كحفر بئر خلف باب الدار بحيث إذا مر بها المار في الظلام وقع فيها لا محالة، فهذه البئر إذا كانت محفورة في طريق المسلمين فلا خلاف في منعها وضمان صاحبها.
2- نوع يكون أداؤه إلى المفسدة نادرًا كحفر بئر في موضع لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيها، وكبيع الأغذية التي لا تضر غالبًا وكزراعة العنب، فهذا النوع باق على ما هو عليه من الإذن والجواز، فلا يترك حفر البئر في مكان لا تضر فيه غالبًا ولا يترك بيع الأغذية المذكورة ولا تترك زراعة شجر العنب خشية عصره خمرًا؛ لأن المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالندور في انخرامها.
3- ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا نادرًا وهو على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون غالبًا كبيع السلاح لأهل الحرب وبيع العنب للخمار وبيع ما يغش به لمن شأنه الغش.
وقال: إن هذا الوجه: (أداؤه إلى المفسدة ظني فيحتمل الخلاف، أما أن الأصل الإباحة والإذن فظاهر، وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنًا، فهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع أم لا، لجواز تخلفهما؟ وإن كان التخلف نادرًا، ولكن اعتبار الظن وهو الأرجح لأمور.
منها أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم، والظاهر جريانه هنا.
ومنها أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل هذا القسم، كقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وذكر له أيضًا أدلة أخرى منها: (إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] .
الوجه الثاني: أن يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا، لا غالبًا ولا نادرًا كمسائل بيوع الآجال فهذا الوجه محل نظر والتباس.
قال: (والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي وغيره) ثم قال: (إلا أن مالكًا اعتبره في سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعاً) (1) ، وظاهر كلام الشاطبي أن مالكًا اختص بهذا الوجه من سد الذرائع، ولعله لم يطلع على أن أحمد قال به أيضًا، وسنأتي بمذاهب الأئمة فيه إن شاء الله.
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة 2/ 348 ـ 361(9/1350)
جـ- تقسيم ابن القيم للذرائع:
لقد قسم ابن القيم الذرائع إلى أربعة أنواع وسماها وسائل فقال:
1- وسيلة وضعت للإفضاء إلى مفسدة كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنى المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد.
2- وسيلة وضعت لمباح، وقصد بها التوسل إلى المفسدة كمن يعقد النكاح قاصدًا تحليل المطلقة لمن طلقها ثلاثًا، أو يعقد البيع قاصدًا به الربا ونحو ذلك.
3- وسيلة وضعت لمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها، كسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم، وكالصلاة في أوقات النهي لغير سبب ونحو ذلك.
4- وسيلة وضعت للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها كالنظر إلى المخطوبة والمشهود عليه، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي (1) .
وقال: إن الشريعة جاءت بإباحة هذا القسم الأخير أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة، وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريمًا بحسب درجاته في المفسدة.
قال: بقي النظر في القسمين: الثاني والثالث، هل جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ وقال إن الدلالة على المنع تلاحظ من وجوه، وسرد على ذلك أدلة بلغت تسعة وتسعين وجهًا، منها قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] .
ومنها أنه تعالى نهى عن البيع وقت النداء للجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضور الجمعة.
ومنها أن الآثار في تحريم العينة تدل على المنع من عود السلعة إلى البائع وإن لم يتواطأ على الربا، وما ذاك إلا سد للذريعة (2) .
ومعلوم أن العينة عند الحنابلة بمثابة بيوع الآجال عند المالكية.
__________
(1) مثل تحية المسجد بعد صلاة العصر
(2) إعلام الموقعين: 3/136، 159(9/1351)
وإذا استعرضنا التقسيمات الآنفة الذكر نجد أن القرافي وابن عاصم قسما الذرائع ثلاثة أنواع وذكر القرافي إجماع الأمة على ذلك، بينما جعلها الشاطبي وابن القيم أربعة أنواع، غير أن تقسيم الشاطبي لم تتسع فيه الهوة بينه وبين تقسيم القرافي وابن عاصم.
فالقرافي وابن عاصم جعلا ما كان أداؤه إلى المفسدة قطعيًا أو ظنيًا نوعًا واحدًا، أما الشاطبي فجعلهما نوعين.
إلا أن الراجح عنده أن ما كان أداؤه إلى المفسدة ظنيًا لا يختلف حكمه مع ما كان أداؤه إليها قطعيًا قائلًا إن الظن يجري مجرى اليقين على الأرجح.
وعليه فإن اختلافهما في التقسيم يكاد يكون لفظيًا، يدل على ذلك أن ما مثل به القرافي للقسم المجمع على منعه مثل به الشاطبي للقسم الذي كان أداؤه للمفسدة غالبًا أي ظنيًا.
وهو قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
وأما تقسيم ابن القيم للذرائع فإنه يختلف مع تقسيم القرافي وابن عاصم من وجهين.
أحدهما: أنه جعل المسكر ذريعة ووسيلة للسكر، والقذف وسيلة للفرية، والزنى وسيلة لاختلاط المياه وفساد الفراش.
فهذا النوع لم يجعله الجمهور ذريعة للفساد؛ لأنه فساد لذاته.
ثانيهما: أنه سوى بين ما كان أداؤه إلى المفسدة غالبًا، وما كان أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لكنه غير غالب حيث قال: (يبقى النظر في القسمين الثاني والثالث) وقال: إن الدلالة على المنع تلاحظ من وجوه، وأتى بتسعة وتسعين وجهًا، منها النهي عن سب آلهة المشركين.
ومنها النهي عن بيوع العينة دون أن يفرق بينهما في الحكم.
علمًا بأن القرافي وابن عاصم فرقا بينهما فجعلا النهي عن سب آلهة المشركين من المتفق عليه إذا علم أن ذلك يؤدي إلى سب الله عز وجل، وجعلا قسم العينة مما اختلف فيه الأئمة وتقدم أن بيوع العينة عند الحنابلة هي بيوع الآجال عند المالكية.
وهذا وقد بينا أحكام الذرائع في كلامنا على أقسامها عند كل من القرافي وابن عاصم والشاطبي وابن القيم، فلا داعي لإعادتها، وما بالعهد من قدم.
أما ما يخص الشروط في الذرائع فقد تقدم عند كلامنا على المقارنة بين الذرائع والحيل أن الذريعة لا يشترط فيها القصد، فقد يكون إفضاؤها إلى المحرم بغير قصد وقد يكون بقصد، أما الحيلة فيشترط فيها القصد، وقد أوضحنا ذلك في النقطة الرابعة الآنفة الذكر.
فذكرنا ما تنفرد به الذريعة، وما تنفرد به الحيلة، وما يجتمعنا فيه.(9/1352)
خامسًا: موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع، مع تحرير محل النزاع في ذلك:
لقد أخذ جميع الأئمة بسد الذرائع وعملوا به في كثير من فروعهم وإن كان بعضهم لم يصرح به من جهة التأصيل، ولقد ذكرنا في الكلام على أقسام الذرائع أن قسمًا منها أجمعت الأمة على منعه فعمل به جميع أئمة المذاهب، وقسما أجمعت على إلغائه.
وأن القسم الثالث هو الذي اختلفوا في العمل به وهو ما سنتناوله عند كلامنا على تحرير محل النزاع بين الأئمة في الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع.
وعليه فإن الأئمة كلهم عملوا بسد الذرائع على الإجمال وإن مالكًا لم يختص به كما زعمه بعض المالكية.
فحفر البئر في طريق المسلمين وسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم وسب المسلم والدي المشرك إذا علم أنه بذلك يسب والديه ونحو ذلك، كل هذا مجمع على منعه كما أسلفنا.
فالذين يعلمون بسد الذرائع يحتجون على منعه بسد الذرائع، وإن كان النص ورد في النهي عنه.
أما الذين لا يحتجون بسد الذرائع فيرون أن منعه ليس من هذا الباب بل من باب أن ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام، ومن باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (1) .
هذا بالإضافة إلى ورود النص بالنهي عنه.
__________
(1) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الأصول ص 246(9/1353)
كما أن القسم الثاني من أقسام الذرائع لا خلاف بين الأئمة في إلغائه كزراعة العنب فلا تمنع خشية عصره خمرًا وكفداء أسرى المسلمين فلا يمنع؛ لأن المصلحة في هذا القسم راجحة على المفسدة.
أما القسم الثالث: فهو محل نزاع بين الأئمة وهو ما كان أداؤه إلى المفسدة كثيرًا ولا غالبًا ولا ندرًا كبيوع الآجال، فإنها ممنوعة عند مالك وأحمد وأبي حنيفة فمالك وأحمد منعاها سدًا للذريعة مع ورود أثر في النهي عنها، أما أبو حنيفة فمنعه لها ليس من باب سد الذريعة وإنما منعها لورود أثر في منعها، ومن باب ما لا يتم الواجب إلا به فواجب.
وهذه نصوص من فقه المذاهب الأربعة حول بيوع الآجال التي يسميها المالكية بيوع الآجال ويسميها الحنابلة والشافعية بيوع العينة.
ففي المذهب المالكي قال الدردير في كلامه على بيوع الآجال: هو بيع ظاهره الجواز لكنه قد يؤدي إلى ممنوع فيمتنع، ولو لم يقصد فيه التوصل إلى الممنوع سدًا للذريعة التي هي من قواعد المذهب) .
قال: (يمنع من البيوع ما أدى لممنوع يكثر قصده كبيعه سلعة بعشرة لأجل، ثم يشتريها بخمسة نقدًا، أو لأجل أقل، فقد آل الأمر إلى رجوع السلعة لربها وقد دفع قليلًا وعاد إليه كثيراً) (1) .
وفي المذهب الحنبلي قال في المغني: (من باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقدًا لم يجز في قول أكثر أهل العلم) .
واستدل بأثر أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية.
وهو الأثر المشار إليه آنفًا وبعد ما أتى ابن قدامة بهذا الأثر قال: (ولأن ذلك ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيه ألف بخمسمائة إلى أجل معلوم، وكذلك روي عن ابن عباس في مثل هذه المسألة أنه قال: (أرى مائة بخمسين بينهما حريرة) يعني خرقة حرير جعلاها في بيعهما، والذرائع معتبرة لما قدمناه) (2)
__________
(1) الشرح الصغير 3/116 ـ 117
(2) المغني 4/193 ـ 194(9/1354)
وقال الزركشي: (والذرائع معتبرة عندنا في الأصول) (1) .
وفي المذهب الحنفي قال في الهداية: (ومن اشترى جارية بألف درهم حالة أو نسيئة فقبضها، ثم باعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول، لا يجوز البيع الثاني.
واستدل بأثر العالية المشار إليه آنفاً (2) .
وأثر العالية أخرجه أحمد عن أبي إسحاق عن زوجته العالية قالت: (دخلت على عائشة في نسوة فقالت: ما حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة فقالت: يا أم المؤمنين: هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء، وأنه أراد أن يبيعها فابتعتها بستمائة درهم نقدًا، فأقبلت عليها وهي غضبى، فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب وأفحمت صاحبتنا فلم تتكلم طويلا ثم إنه سهل عنها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلت عليها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] .
قاله ابن القيم في تهذيبه (3) .
وأخرجه أيضا الدارقطني في سننه وقال: إن أم محبة والعالية مجهولتان لا يصح الاحتجاج بهما، إلا أن صاحب التعليق المغني على الدارقطني قال: (قال في التنقيح: إسناده جيد) (4) .
__________
(1) شرح الزركشي على مختصر الخرقي 3/498
(2) الهداية 3/47
(3) تهذيب ابن القيم مع مختصر سنن أبي داود 5/104 ـ 105
(4) سنن الدارقطني والتعليق المغني 3/ 52 ـ5.(9/1355)
ورد ابن القيم على الدارقطني فقال: إن راوية الحديث يعني العالية هي امرأة أبي إسحاق السبيعي، وهي من التابعيات وقد دخلت على عائشة، وروى عنها أبو إسحاق وهو أعلم بها.
وفي الحديث قصة وسياق على أنه محفوظ، وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها، بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها بها وحفظها لها، ولهذا، رواها عنها، زوجها ميمون ولم ينهها عنها، ولاسيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له.
والكذب لم يكن فاشيًا في التابعين فشوه فيمن بعدهم، وكثير منهم كان يروي عن أمه وامرأته ما يخبرهن به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتج به) (1) .
قلت: بهذا الحديث احتج أبو حنيفة على منع بيوع الآجال كما استدل به المالكية والحنابلة إلا أنهما استدلا أيضًا بسد الذرائع لأنه من الأدلة المعمول بها في مذهبيهما. أما الشافعية فلا تمنع عندهم بيوع الآجال، وكما أسلفنا فإنهم يسمونها بالعينة.
قال الرافعي: (وليس من المناهي بيع العينة، وهو أن يبيع شيئًا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبضه للثمن بأقل من ذلك نقدًا، وكذلك يجوز أن يبيع بثمن نقدًا ويشتري بأكثر منه إلى أجل، سواء قبض الثمن الأول أو لم يقبضه) (2) .
مما اختلف فيه الأئمة أيضًا في الذرائع نكاح المحلل، فمالك وأحمد منعاه ولو كان التحليل لم يشترط عند العقد وإنما أضمره المحلل في نفسه.
وأما أبو حنيفة والشافعي فلا يحرم عندهما نكاح التحليل إذا لم يكن وقع العقد عليه.
وهذه نصوص الأئمة الأربعة حول نكاح المحلل وهو أن يتزوج رجل مبتوتة ليحلها لمن طلقها ثلاثًا.
ففي المذهب المالكي قال خليل: (كمحلل وإن مع نية إمساكها مع الإعجاب ونية المطلق ونيتها لغو) (3) .
__________
(1) تهذيب ابن القيم مع مختصر سنن أبي داود 5/ 105
(2) فتح العزيز شرح الوجيز مع المجموع 8/231 ـ 232
(3) مختصر خليل: ص118(9/1356)
وقال ابن عبد البر: (ونكاح المحلل فاسد مفسوخ، وهو أن يتزوج امرأة طلقها غيره ثلاثًا ليحلها لزوجها، وأنها متى أصابها طلقها، فهذا المحلل الذي ورد الحديث عن النبي عليه السلام بلعنه، وكل من نكح امرأة ليحلها لزوجها فلا تحل لزوجها وإن وطئها بذلك النكاح، وسواء علما أو لم يعلما، إذا قصد النكاح لذلك، ولا يقر على نكاحها، ويفسخ قبل الدخول وبعده، وإنما يحللها نكاح رغبة لا قصد فيه للتحليل) (1) .
وفي المذهب الحنبلي قال في الإنصاف: (الصحيح من المذهب أن نكاح المحلل باطل مع شرطه، نص عليه الأصحاب وعنه يصح العقد ويبطل الشرط) قال:
(فإن نوى ذلك من غير شرط لم يصح أيضا في ظاهر المذهب) . ثم قال: (ظاهر كلام المصنف وكلام غيره أن المرأة إذا نوت ذلك لا يؤثر في العقد) (2) .
وقال في المغني: (فإن شرط عليه التحليل قبل العقد ولم يذكره في العقد ونواه في العقد أو نوى التحليل من غير شرط، فالنكاح باطل أيضًا قال إسماعيل: سألت أحمد عن الرجل يتزوج المرأة وفي نفسه أن يحلها لزوجها الأول ولم تعلم المرأة بذلك قال: هو محلل إذا أراد بذلك الإحلال، فهو ملعون) (3) .
وفي المذهب الشافعي قال الخطابي ـ عند حديث: ((لعن الله المحلل والمحلل له)) ما نصه: (إذا كان ذلك عن شرط بينهما فالنكاح فاسد؛ لأنه عقد تناهي إلى مدة كنكاح المتعة، وإذا لم يكن ذلك شرطًا وكان نية وعقيدة فهو مكروه، فإن أصابها الزوج ثم طلقها وانقضت العدة فقد حلت للزوج الأول) (4) .
__________
(1) الكافي لابن عبد البر 2/533
(2) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 8/ 166 ـ 192
(3) المغني لابن قدامة: 6/ 646 ـ 647
(4) معالم السنن مع مختصر سنن أبي داود 3/21(9/1357)
وفي المذهب الحنفي قال المرغيناني وابن الهمام: إذا تزوجها بشرط التحليل فالنكاح صحيح. ولكنه مكروه كراهة تحريم، فإن وطئها حلت للأول لوجود الدخول في نكاح صحيح، وأما لو نوياه ولم يقولاه فلا عبرة به، ويكون الرجل مأجورًا لقصد الإصلاح (1) .
والأصل في منع نكاح المحلل حديث: ((لعن الله المحلل والمحلل له)) أخرجه أبو داود عن علي رضي الله عنه مرفوعًا وأخرجه ابن ماجة والترمذي وأعله) (2) .
وأخرجه الترمذي أيضًا عن ابن مسعود بلفظ: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له)) . وقال: حديث حسن صحيح. وعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بالتيس المستعار؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له)) أخرجه ابن ماجه (3) .
وأخرج الطبراني في الأوسط: (عن نافع مولى ابن عمر أن رجلًا سأل ابن عمر، فقال: إن خالي فارق امرأته فدخله من ذلك أمر وهم وشق عليه، فأردت أن أتزوجها ولم يأمرني بذلك ولم يعلم به. فقال ابن عمر: لا إلا نكاح غبطة، إن وافقتك أمسكت وإن كرهت فارقت، وإلا فإنا نعد هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحاً) . قال في مجمع الزوائد، قال: ورجاله رجال الصحيح) (4) .
__________
(1) فتح القدير ومعه الهداية 3/ 177
(2) مختصر سنن أبي داود 3/22
(3) سنن ابن ماجه 1/623
(4) مجمع الزوائد 4/ 267(9/1358)
سادسًا: هل الأخذ بسد الذرائع مما اختص به المذهب المالكي أو أن الأخذ بها ثابت في كل المذاهب وإن لم تصرح به؟
- شواهد من فقه الأئمة الأربعة على العمل بسد الذرائع.
الأخذ بسد الذرائع لم ينفرد به المذهب المالكي وإن توهم ذلك بعض المالكية، ولقد أوضحنا ذلك عند السؤال الآنف الذكر وهو: موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع.
قال القرطبي: (سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلًا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلاً) (1) .
ومعنى كلام القرطبي أن الذين خالفوا مالكًا في سد الذرائع عملوا به في الكثير من فروعهم إلا أنهم لم يصرحوا بسد الذرائع كأصل من أصول الفقه.
ولقد ذكرنا في النقطة السابقة أن من لم يحتج بسد الذرائع يقول إن هذا من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وليس من باب سد الذرائع.
وقال القرافي: (ليس سد الذرائع خاصًا بمالك رحمه الله، بل قال به هو أكثر من غيره، وأصل سدها أمر مجمع عليه) (2) .
وقول القرافي: إن مالكًا أخذ به أكثر من غيره لعله يعني بغيره أبا حنيفة والشافعي وأما أحمد فإنه قال بسد الذرائع كثيرًا وذكره بالاسم مصرحًا به، ومعظم المسائل التي هي محل النزاع وجدنا فيها الإمامين مالكًا وأحمد متفقين على الأخذ فيها بسد الذرائع كما تقدم في بيوع الآجال ونكاح المحلل.
__________
(1) إرشاد الفحول للشوكاني ص246
(2) الفروق للقرافي 2/32 ـ 33(9/1359)
هذا وقد ذكرنا مذاهب الأئمة عند تناولنا لتحرير محل النزاع بينهم في الأخذ بسد الذرائع. وهذه شواهد من فقه الأئمة الأربعة على ما يتفقون عليه من سد الذرائع وما هي إلا أمثلة وجيزة:
1- منع صلاة النافلة وقت طلوع الشمس وغروبها. قال ابن تيمية: (وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود الكفار للشمس ففي ذلك تشبيه بهم، ومشابهة الشيء بغير ذريعة إلى أن يطغى بعض أحكامه، وقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس) (1) .
والشاهد على منعها في المذاهب المالكي قول خليل: (ومنع نفل وقت طلوع الشمس وغروبها) (2) .
وفي المذهب الشافعي: (قال في المنهاج: (وتكره الصلاة عند الاستواء إلا يوم الجمعة، وبعد الصبح حتى ترتفع الشمس كرمح والعصر حتى تغرب إلا لسبب كفائته) .
والكراهة كراهة تحريم. قاله في مغني المحتاج (3) .
وفي المذهب الحنبلي قال في المغني: (باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها) .
وأورد حديث مسلم: ((ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع)) (4) .
__________
(1) مختصر خليل ص 24
(2) مختصر خليل ص 24
(3) مغني المحتاج 1/ 128 ـ 129
(4) زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم 5/173(9/1360)
قال: (ويجوز قضاء الفرائض الفائتة في جميع أوقات النهي) (1) .
ومن الدليل أيضًا على منع صلاة النافلة وقت طلوع الشمس وغروبها ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بقرني شيطان) (2) .
2- تحريم جمع المرأة مع عمتها أو خالتها في عصمة واحدة؛ لأن ذلك ذريعة للتقاطع والتدابر المنهي عنهما بين أفراد الأسرة الواحدة، والأصل في ذلك ما أخرجه مالك والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) (3) .
وبه قال الأئمة الأربعة (4) . ونقل ابن المنذر الإجماع عليه فقال: (واجمعوا على أن لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، لا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى) (5)
3- منع توريث القاتل من المقتول لأن توريثه ذريعة لاستعجال الوارث قتل مورثه لأخذ ماله فعوقب بالحرمان، والأصل في ذلك ما أخرجه مالك عن عمرو بن شعيب أن رجلًا من بني مدلج يقال له قتادة حذف (6) ابنه بالسيف، فنزي (7) في جرحه فمات فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فقال له عمر: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير، حتى أقدم عليك، فلما قدم إليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة، وأربعين خلقة (8) ثم قال: أين أخو المقتول؟ قال: ها أنا ذا. قال: خذها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس لقاتل شيء)) (9) .
قال ابن عبد البر: (لم يختلف على مالك. في هذا الحديث وإرساله) قال: (وقد روي مسندًا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم) ثم قال: (وهو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغني بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه حتى يكاد أن يكون الإسناد في مثله لشهرته تكلفاً) (10) . والحديث رواه أيضًا ابن ماجة والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي (11) .
أما القاتل خطئًا فعند الشافعي وأحمد أنه كالقاتل عمدًا لا يرث شيئًا، وقال مالك: لا يرث من الدية ويرث من ماله، وقال أبو حنيفة. لا يرث القاتل من المقتول إن كان القتل يوجب قودًا أو كفارة.
__________
(1) صحيح مسلم 1/568
(2) المغني: 2/107
(3) الموطأ: 2/532، وصحيح البخاري: 5/965، وصحيح مسلم: 2/1028
(4) جواهر الإكليل 1/289، ومغني المحتاج 3/180، والمغني 6/573
(5) الإجماع لابن المنذر: ص/75
(6) حذف أي رمي
(7) نزي: تعني: نزف، أي خرج الدم بكثرة
(8) الخلق: الحامل من الإبل
(9) الموطأ: 2/867
(10) التمهيد: 23/ 436 ـ 437
(11) تلخيص الحبير: 3/84(9/1361)
وهذه نصوص من فقه الأئمة الأربعة حول هذه المسألة.
ففي المذهب المالكي قال الزرقاني: (ولا يرث قاتل لمورثه ولا معتقًا لعتيقه أو صبيًا أو مجنونًا تسببًا أو مباشرة عمدًا وعدوانًا. وإن أتى بشبهة تدرأ عنه القتل كرمي الوالد ولده بحديدة مثلًا، كمخطئ لا يرث من الدية ويرث من المال) (1) .
وفي المذهب الشافعي قال في مغني المحتاج: (ولا يرث قاتل من مقتوله مطلقًا لخبر الترمذي وغيره: (ليس للقاتل شيء) أي من الميراث، ولأنه لو ورث لم يؤمن أن يستعجل الإرث بالقتل فاقتضت المصلحة حرمانه) قال: (وسواء أكان القتل عمدًا أم غيره) (2) .
وفي المذهب الحنبلي قال الخرقي: (والقاتل لا يرث المقتول، عمدًا كان القتل أو خطئًا، قال في المغني: (أجمع أهل العلم على أن قاتل العمد لا يرث من المقتول شيئًا، إلا ما حكي عن سعيد بن المسيب وابن جبير أنهما ورثاه، وهو رأي الخوارج ... قال: (ولا تعويل على هذا القول لشذوذه وقيام الدليل على خلافه) . ثم استدل بحديث مالك الآنف الذكر وقال: إن أحمد أخرجه أيضًا ... ثم قال: (ولأن توريث القاتل يفضي إلى تكثير القتل؛ لأن الوارث ربما استعجل قتل مورثه ليأخذ ماله) (3) .
وفي المذهب الحنفي قال في اللباب: (ولا يرث أربعة ... ومنهم القاتل فلا يرث من المقتول لاستعجاله ما أخره الله تعالى فعوقب بحرمانه، وهذا إذا كان القتل يوجب قودًا أو كفارة، وأما ما لا يتعلق به ذلك فلا يمنع) (4) .
4- قتل الجميع بواحد فإن الأئمة الأربعة متفقون على أن من قتلته جماعة عمدًا قتلوا به كلهم؛ لأن في ذلك ذريعة للتعاون على الإثم.
__________
(1) شرح الزرقاني لمختصر خليل: 8/ 227
(2) مغني المحتاج: 3/ 25
(3) المغني لابن قدامة: 6/291
(4) اللباب في شرح الكتاب: 4/184(9/1362)
ففي المذهب المالكي قال خليل: (ويقتل الجمع بواحد) . إن تساوت ضرباتهم، ويقتل المتمالئون بواحد ولو كان القتل من واحد منهم (1) .
وفي المذاهب الحنفي قال في الكتاب: (وإن قتل جماعة واحدًا عمدًا اقتص من جميعهم) (2) .
وفي المذهب الشافعي قال في مغني المحتاج: (ويقتل الجمع بواحد وإن تفاضلت جراحاتهم في العدد والأرش) (3) .
وفي المذهب الحنبلي قال في المغني: (وجملته أن الجماعة إذا قتلوا واحدًا فعلى كل واحد منهم القصاص. روي ذلك عن عمر وعن المغيرة بن شعبة وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وأبو سلمة وعطاء وقتادة وهو مذهب مالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي) .
والأصل في ذلك ما أخرجه مالك عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفراَ خمسة أو سبعة برجل واحدًا قتلوه قتل غيلة. وقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً) (4) .
وأخرج البخاري نحوه ولفظه: (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غلامًا قتل غيلة وقال عمر: لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم) (5) .
__________
(1) جواهر الإكليل: (2/ 257)
(2) اللباب في شرح الكتاب 3/150
(3) مغني المحتاج 4/20
(4) الموطأ: 2/871
(5) صحيح البخاري: 6/ 2527(9/1363)
سابعًا: أثر القول بسد الذرائع اعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية:
إن سد الذرائع له اعتبار في الفروع الفقهية حتى إن ابن القيم وصفه بأنه أحد أرباع الدين، إذا كان مفضيًا إلى الحرام.
قال في إعلام الموقعين: (وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود.
والنهي نوعان: أحدهما ما يكون النهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين) (1) .
ومعلوم أن اعتبار الذرائع يعود إلى ما تؤول إليه الأمور من خير وشر، سواء قصد ذلك أو لم يقصد.
ولقد سبق أن نقلنا كلام القرافي وغيره أن الوسيلة إلى أحسن المقاصد هي أحسن الوسائل، والوسيلة إلى أسوأ المقاصد هي أسوأ الوسائل.
وفي كلامنا على أقسام الذرائع ذكرنا أن منها ما هو متفق على اعتباره عند جميع الأئمة وإن كان بعضهم لا يصرح فيه بسد الذرائع، ومنها ما هو متفق على إلغاء اعتباره عند الجميع، ومنها ما هو مختلف في اعتباره، فبعض الأئمة اعتبر فيه سد الذرائع وبعضهم لم يعتبرها.
ولقد أوردنا مذاهب الجميع عند كلامنا على تحرير محل النزاع بين الأئمة في سد الذرائع، ونقلنا نصوصًا من فقههم كلهم.
كما أوردنا شواهد فيما اتفقوا عليه من سد الذرائع.
وعليه فإن القول بسد الذرائع معتبر في الكثير من الفروع الفقهية عند جميع الأئمة، وإن لم يذكره بعضهم بالاسم ومعتبر عند المالكية والحنابلة أكثر من غيرهم.
__________
(1) إعلام الموقعين 3/159(9/1364)
والذي أقول به: إن القول باعتبار سد الذرائع في الفروع الفقهية أرجح في نظري بكثير من القول بعدم اعتبارها.
لأنه ما من فعل إلا وله وسيلة تفضي إليه غالبًا، فإن كان ذلك الفعل مشروعًا كانت الوسيلة مشروعة، وإن كان ممنوعًا كانت تلك الوسيلة ممنوعة.
ولا شك أن النفس أمارة بالسوء كما وصفها الله عز وجل بذلك.
فإذا أطلق لها العنان تصرفت على هواها مستخدمة كل وسيلة تحقق لها أغراضها الفاسدة.
يشهد لذلك ما ذكرنا آنفًا عن ابن تيمية في قوله: (وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر، لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس، وبما يخفي على الناس من خفي هواها الذي لا يزال يسري إليها حتى يقودها إلى الهلكة) (1) .
ونلاحظ أن ابن القيم رحمه الله اقتصر على جانب النهي في الذرائع في قوله: إن سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين، وهذا هو الجانب الذي يكثر اقتحامه من أهل الأهواء والمقاصد الفاسدة، وهو الموافق للسد الذي أضيف إليها.
وإذا نظرنا إلى جانب الأمر في الذرائع نجد أنها كما يجب سدها في النهي يجب فتحها في الأمر إذا كانت تفضي إلى واجب كما أسلفنا، فإذا اعتبرنا هذا الجانب ـ جانب الأمر في الذرائع ـ نجد أن وسيلة الأمر ربع آخر، فتكون الذرائع بجانبيها أحد نصفي الدين. والله أعلم.
__________
(1) الفتاوى الكبرى 145(9/1365)
ثامنًا: أمثلة لفتح الذرائع وسدها:
هذا السؤال يمكن أن نقول إنه أجيب عنه في بعض الأسئلة الآنفة الذكر وهي: تعريف الذرائع، أقسام الذرائع، موقف الأئمة من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع مع تحرير محل النزاع، هل الأخذ بالذرائع مما اختص به المذهب المالكي؟
لأننا رأينا أن الإجابة عن تلك الأسئلة يتطلب توضيحها أن تأتي بأمثلة لها.
واستجابة لما ورد في هذا السؤال فهذه بعض الأمثلة لسد الذرائع وفتحها:
أ- أمثلة لفتح الذرائع:
1- جواز بيع رديء التمر بدراهم وشراء جيده بتلك الدراهم.
فقد كان عامل الرسول صلى الله عليه وسلم بخيبر يشتري صاعًا من الجنيب وهو أجود التمر بصاعين من الجمع وهو رديئة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا)) أخرجه البخاري ومسلم. فهذه الذريعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتحها.
2- جواز دفع مال للأعداء المشركين لإطلاق أسارى لديهم مسلمين، فلا يترك دفع المال لهم خشية أن يتقووا به على المسلمين، وخشية أن يأخذوه رشوة بناء على أنهم مكلفون بفروع الشريعة.
لأنه مصلحة إطلاق أسرى المسلمين أرجح من مفسدة إعطاء المال للعدو.
3- يجوز إعطاء مال لرجل مسرف على نفسه ليأكله حرامًا حتى لا يزني بامرأة يزمع الزنى بها؛ لأن فساد الزنى أشد من فساد أكل مال رشوة، إذا لم يمكن دفعه عن الزنى إلا بالرشوة.
4- جواز حفر بئر في مكان لا تضر فيه غالباُ؛ لأن الفساد في حفرها يعتبر نادرًا، وبذلك كانت المصلحة في حفرها أرجح من احتمال ما قد يحدث نادرًا من سقوط أحد فيها.(9/1366)
ب- أمثلة لسد الذرائع:
1- منع خلوة الرجل بأجنبية؛ لأنه ذريعة للزنى بها، لحديث: ((إياكم والدخول على النساء)) قال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو: الموت)) (1) . أخرجه البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر مرفوعًا والحمو: أخو الزوج.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم ((الحمو الموت)) . أن الخوف منه أكثر من غيره لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة بها من غير أن ينكر عليه (2) .
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعًا: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)) (3) .
2- منع البيع إذا شرط معه السلف لأن ذلك ذريعة أن يبيع له سلعة بأقل من ثمنها مقابل القرض الذي اشترط عليه فيؤول الأمر إلى سلف بزيادة وذلك من الربا المنهي عنه.
والأصل في ذلك حديث: ((لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع)) . أخرجه الخمسة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا وصححه الترمذي وابن خزيمة) (4) .
وأخرجه مالك في الموطأ بلاغا. قال: (وتفسير ذلك أن يقول الرجل للرجل: آخذ سلعتك بكذا وكذا على أن تسلفني كذا وكذا، فإن عقدا بيعهما على هذا فهو غير جائز) (5) .
ونقل الباجي إجماع الفقهاء على المنع (6) .
وقال ابن قدامة: (ولا أعلم فيه خلافاً) (7) .
3- منع هدية المقترض للمقرض لما فيه من سلف جر نفعًا وذلك ذريعة للربا.
والأصل في ذلك حديث أبي بردة بن أبي موسى قال: (قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي إنك بأرض فيها الربا فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه، فإنه ربا) أخرجه البخاري في صحيحه (8) .
هذا بالإضافة إلى الأمثلة التي أوردنا لسد الذرائع في الأسئلة السابقة.
__________
(1) صحيح البخاري: 5/2005، وصحيح مسلم: 4/ 1711
(2) صحيح مسلم بشرح النووي: 1/153
(3) صحيح البخاري 5/2005
(4) بلوغ المرام: 162 ـ 163
(5) الموطأ: 2/657
(6) المنتقى: 162 ـ 163
(7) المغني: 4/ 256 ـ 259
(8) نيل الأوطار: 349 ـ 350(9/1367)
خلاصة البحث
الذرائع: جمع ذريعة وهي الوسيلة والطريق إلى الشيء، سواء أكان مشروعًا أو غير مشروع، لكنها غلب عليها في عرف الاستعمال الشرعي أنها عبارة عن أمر غير ممنوع لذاته ولكنه يفضي إلى ممنوع، ولذلك أضيف إليها سدها فأصبحت معروفة عند الأصوليين بسد الذرائع.
ومع ذلك فإنها إن كانت تفضي إلى مشروع شرع فتحها فيجب فتحها إلى الواجب، وسدها عن الممنوع ويندب فتحها إلى المندوب ويكره إلى المكروه ويباح إلى المباح.
قال العلامة سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم الشنقيطي في مراقي السعود:
سد الذرائع إلى المحرم
حتم كفتحها إلى المنحتم
وبالكراهة وندب وردا
والغ إن كان الفساد ابعدا
ومعنى سد الذرائع: حسم مادة وسائل الفساد فيها، والحيلولة دون الوصول إلى المفاسد التي تفضي إليها.
أما الفرق بين الذريعة والسبب، فإنه يعتبر دقيقًا لأنهما على العموم يشتركان في معنى واحد إذ كل منهما عبارة عما يوصل إلى الشيء خيرًا كان أو شرًا، لكن فرق ابن تيمية بينهما بأن الذريعة هي الفعل الذي يفضي إلى فساد كبيع السلاح في زمن الحرب وسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم، وأما السبب فهو ما أفضى إلى فساد وكان غير فعل كشرب الخمر المفضي إلى السكر والزنى والمفضي إلى اختلاط المياه.(9/1368)
وأما الفرق بين الذريعة والوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه فإنه أيضًا يعتبر ضئيلًا لأن الذريعة ـ كما أسلفنا ـ هي الوسيلة التي توصل إلى الشر أو الخير فهما يتفقهان في هذا المعنى، وتنفرد الوسيلة بأنها منزلة في الجنة.
أما المقارنة بين الذرائع والحيل الفقهية فإننا عندما نذكر تعريف الحيلة يتضح لنا علاقتها بالذريعة فالحيلة عرفها الشاطبي بأنها: (تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله إلى حكم آخر بغية خرم قواعد الشريعة، بشرط قصد ذلك.
وهذا المعنى تشاركها فيه الذريعة في بعض معانيها، فقد تقدم أن الذريعة غلب عليها الاستعمال في أمر غير ممنوع لذاته ولكنه يفضي إلى ممنوع.
والفرق بينهما هو أن الذريعة تكون بقصد وبغير قصد. أما الحيلة فيشترط فيها القصد.
فمثال ما كان ذريعة وليس حيلة سب آلهة المشركين بين ظهرانيهم.
ومثال ما كان حيلة وليس ذريعة بيع النصاب قبل حلول الحول فرارًا من الزكاة.
ومثال ما كان ذريعة وحيلة أيضًا: بيوع الآجال كبيع سلعة لأجل وشرائها بأقل نقدًا وكنكاح التحليل وهو أن يتزوج الرجل بالمبتوتة ليحلها لمن طلقها ثلاثًا.(9/1369)
أما أقسام الذرائع فثلاثة عند الجمهور:
قسم أجمعت الأمة على اعتباره ومنعه، وهو ما كان أداؤه إلى المفسدة قطعيًا، كحفر بئر في طريق المسلمين وكسب آلهة المشركين عندما يعلم أنهم بذلك يسبون الله عز وجل.
وقسم أجمعت الأمة على إلغائه وإباحته، وهو ما كان أداؤه للمفسدة نادرًا أو كانت المصلحة فيه راجحة على المفسدة، كزراعة شجر العنب فلا تترك خشية عصر العنب خمرًا، وكفداء أسرى المسلمين بدفع مال للمشركين الذين أسروهم؛ لأن مصلحة فداء المسلمين أرجح من مفسدة دفع مال يمكن أن يتقوى الأعداء المشركون به.
وقسم اختلف الأئمة فيه وهو ما كان أداؤه للمفسدة كثيرًا لا نادرًا ولا غالبًا كبيوع الآجال ونكاح التحليل الآنف الذكر فمنعهما مالك وأحمد وأجاز الشافعي بيوع الآجال ومنعها أبو حنيفة لا لسد الذرائع ولكن لورود نص في منعها، واتفقا على جواز نكاح التحليل، إذا لم يكن مشترطًا في العقد حيث كان نية في القلب فقط.
ومن عرضنا الموجز لأقسام الذرائع يتضح لنا موقف أئمة الفقه من الاحتجاج والأخذ بسد الذرائع، فقد ذكرنا أن القسم الأول مجمع عليه، فقد أخذ به جميع الأئمة إلا أن أبا حنيفة والشافعي لم يحتجا به سدًا للذريعة، وإنما احتجا بالنص الذي ورد بمنعه، ولأن ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام.
أما القسم الذي اختلف الأئمة في منعه فهو ما أسلفنا وذكرنا له مثالين هما بيوع الآجال ونكاح التحليل.
ونظرًا لهذا كله فإنه يتضح لنا أن الأخذ بسد الذرائع لم يختص به الإمام مالك، بل شاركه جميع الأئمة في الأخذ ببعضه، وإن لم يصرح بعضهم به كأصل من أصول الفقه، وشاركه الإمام أحمد في الأخذ ببعضه الآخر، واتفق معه على أن سد الذرائع أصل هام من أصول الفقه.
وعليه فإنه اعتبار سد الذرائع في الفروع الفقهية له ما يرجحه حتى قال ابن القيم: إن ما يفضي منه إلى الحرام يعتبر أحد أرباع الدين؛ لأنه إذا لم يعتبر سد الذرائع في الفروع الفقهية تركت النفس منطلقة على هواها متخذة أية وسيلة تحقق لها أغراضها الفاسدة لأن النفس كما قال الله عز وجل: {لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] .(9/1370)
فسد الذرائع يعتبر سدًا منيعًا بين الإنسان واتباع هواه الذي يقوده غالبًا إلى الهلكة، هذا ونختم هذه الخلاصة بأمثلة لفتح الذرائع وسدها:
أ- أمثلة لفتح الذرائع:
1- السعي لصلاة الجمعة والسعي لأداء حجة الفرض واجب؛ لأن السعي لهما وسيلة إلى الواجب ووسيلة الواجب واجبة.
2- دفع مال للأعداء الكفرة للتوصل إلى فداء أسرى المسلمين لأنها مصلحة راجحة على مفسدة الرشوة.
3- دفع مال لرجل ليأكله حرامًا حتى لا يزني بامرأة إذا لم يمكن دفعه عن هذه الجريمة إلا بالرشوة؛ لأن الرشوة أخف من الزنى.
4- دفع مال لمحارب شهر السلاح على مسلم لأخذ ماله. لأن إعطاء المال رشوة للمحارب أخف من قتل نفس بغير حق.(9/1371)
ب- أمثلة لسد الذرائع:
1- ترك سب آلهة المشركين؛ لأنه وسيلة لسبهم لله عز وجل، قال تعالى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
2- ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين لأنه وسيلة لأن يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه.
ففي صحيحي البخاري ومسلم عن جابر أن عبد الله بن أبي قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} .
فقال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعه حتى لا يقول الناس إن محمدًا يقتل أصحابه))
3- النهي عن خلوة الرجل بالأجنبية لأنه وسيلة إلى الزنى بها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)) أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.
هذه أمثلة وجيزة لفتح الذرائع وسدها ومن أراد المزيد فليرجع إلى البحث بتفصيله.
والله ولي التوفيق.
محمد الشيباني بن محمد بن أحمد(9/1372)
سد الذرائع
عند الأصوليين والفقهاء
إعداد
الأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن
رئيس قسم الدراسات الأساسية
بكلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات العربية المتحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام، على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فهذا بحث عن: (سد الذرائع عند الأصوليين والفقهاء) أعددته للدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي المقرر عقدها بمدينة أبي ظبي حاضرة دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد جعلت البحث في سبعة مطالب:
المطلب الأول: (تعريف الذرائع ومعنى سدها وبيان الفرق بين الذريعة والسبب) .
المطلب الثاني: (في المقارنة بين سد الذرائع والمصلح المرسلة والحيل الفقهية) .
المطلب الثالث: (في تقسيم الأصوليين والفقهاء للذرائع وبيان اتجاهاتهم في ذلك) .
المطلب الرابع: (في موقف أئمة الفقه من الأخذ بسد الذرائع مع شواهد وتطبيقات فقهية) .
المطلب الخامس: (في الأدلة على حجية سد الذرائع من القرآن والسنة وفتاوى الصحابة) .
المطلب السادس: (أثر الاختلاف في سد الذرائع في الفروع الفقهية) .
المطلب السابع: (قضية فتح الذرائع عند الفقهاء) .
والله أسأل أن يجعله عملًا مبرورًا صالحًا لوجهه الكريم يزيد في ثقل موازيني يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.(9/1373)
المبحث الأول
تعريف الذرائع ومعنى سدها والفرق بين الذريعة والسبب
1- معنى الذرائع:
الذرائع جمع ذريعة والذريعة في اللغة الوسيلة والطريق إلى الشيء، والعرب تطلقها على الحيوان الذي تألفه الناقة الشاردة ليكون وسيلة لضبطها، وعلى الجمل الذي يستتر به الصياد فيكون وسيلته لاصطياد فريسته) (1) .
وفي الاصطلاح تطلق الذريعة ـ عند أغلب الفقهاء ـ على الوسيلة المباحة في ذاتها لكنها تؤدي إلى ممنوع وفي هذا يعرفها الباجي بأنها: (المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور) (2) .
ويعرفها الشاطبي بأنها: (التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة) (3) .
والسلف من الفقهاء على هذا الإطلاق فالإمام مالك يقول في الموطأ: (من راطل ذهبًا أو ورقًا بورق فكان بين الذهبين فضل مثقال فأعطى صاحبه قيمته من الورق أو من غيرها فلا يأخذها فإن ذلك قبيح وذريعة إلى الربا) (4) .
والباجي في المنتقى يقول ـ وهو يعلل لفتوى الإمام مالك ـ بأن من رأى هلال رمضان وحده يجب عليه الصوم خلافًا لمن رأى هلال شوال وحده فإنه ينبغي ألا يفطر يقول معللًا ذلك: (ووجه ما احتج به مالك رحمه الله أن ذلك ذريعة لأهل الفسق والبدع إلى الفطر قبل الناس ويدعون رؤية الهلال إذا ظهر عليهم) (5) .
هذا وبعض الفقهاء يستخدم مصطلح (الذريعة) بمعنى الوسيلة مطلقًا سواء كانت وسيلة للمصلحة أم للمفسدة وعلى هذا الاتجاه القرافي الذي يقول: (اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فإن وسيلة الواجب واجبة إلخ) كما أنه يقابلها بالمقصد وهو ما ينطوي على مصلحة أو مفسدة في ذاته (6) .
ولهذا فإنه حينما أتى للذريعة الممنوعة استخدام مصطلح (سد الذرائع) (7) .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور والزرقاني على مختصر خليل 5: 98 طبعة محمد أفندي مصطفى.
(2) الإشارات لأبي الوليد الباجي: 113/ طبعة السعادة المقدمات الممهدات لابن رشد ص 524 طبعة المثنى ببغداد
(3) الموافقات 4/ 130 طبعة صبيح
(4) الموطأ شرح السيوطي 2: 61 ـ 62 طبعة المكتبة التجارية
(5) المنتقى للباجي 2: 39 مطبعة السعادة
(6) الفروق للقرافي 2: 32
(7) الفروق للقرافي 2: 32(9/1374)
2- معنى سد الذرائع:
يراد بسد الذرائع وهو المصطلح الذي يدور الحديث حوله: الحيلولة دون الوصول إلى المفسدة إذا كانت النتيجة فسادًا لأن الفساد ممنوع) .
وفي إطار ذلك فإن كل شيء مباح يمنع إذا أدى إلى محظور حسمًا لمادة الفساد ودفعًا لها (1) .
وفي هذا يقول ابن القيم: (لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بالأسباب والطرق التي تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهيتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وهي مقصودة قصد الوسائل فإذا حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له ومنعًا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصًا للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمته تعالى وعلمه وتأبى ذلك كل الإباء بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضًا ويحصل من جنده ورعيته ضد مقصوده، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الدار منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرون إصلاحه فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال (2) .
__________
(1) الفروق للقرافي 2: 32
(2) إعلام الموقعين لابن القيم 3: 119(9/1375)
3- الفرق بين الذريعة والسبب:
السبب يلتقي في معناه اللغوي مع الذريعة في معناهما اللغوي لأن السبب في اللغة ما يوصل إلى الشيء كالطريق، ولهذا أطلق على الحبل لأنه يوصل إلى الماء، وفي القرآن الكريم: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] .
أما في الاصطلاح الأصولي فإن السبب هو الوصف الظاهر المنضبط الذي دل الدليل على كونه معرفًا لحكم شرعي (1) . أو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم.
وهو ينقسم إلى سبب يكون في مقدور المكلف كصيغ العقود والتصرفات واقتراف الجرائم وسبب ليس في مقدور المكلف كالقرابة سببًا للإرث، والإرث سببًا للملك، ودلوك الشمس سببًا لوجوب الصلاة (2) .
والفرق بينهما ـ في ضوء ذلك ـ يأتي من جهة أن الذريعة لا تكون إلا بفعل الفاعل وقصده أحيانًا، وعلى هذا فهي فعل دائمًا كما أنها فعل في مقدور المكلف، أما السبب فهو أعم من أن يكون فعلًا كدخول الوقت لإيجاب الصلاة مثلًا، كما أنه إذا كان فعلًا قد يكون مقصودًا في ذاته بالتحريم كالقتل وشرب الخمر والزنى فهذه كلها أسباب لما يترتب عليها من مسببات ولكنها ليست ذرائع بالمعنى المصطلح عليه للذرائع لأنها محرمة لذاتها، فضلًا عن أن الذريعة ـ كما سلف ـ تنحصر في الفعل الذي هو في مقدور المكلف أما السبب فهو أعم من ذلك حيث يشمل ما هو في مقدور المكلف وما ليس في مقدوره.
بالإضافة إلى ما سبق فإن السبب يترتب عليه المسبب قصد الفاعل ذلك ولو لم يقصده بل يترتب ولو قصد الفاعل عدم ترتبه، وليست الذريعة كذلك فإنها في أغلب أحوالها مرتبطة بقصد الفاعل إلى إحداث الأثر المترتب على فعله.
__________
(1) شرح العضد على مختصر المنتهى لابن الحاجب 2: 7، وإرشاد الفحول للشوكاني 6.
(2) مباحث الحكم الشرعي والأدلة المتفق عليها للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي والكاتب ص 76(9/1376)
المبحث الثاني
في المقارنة بين سد الذرائع
والمصالح المرسلة والحيل الفقهية
1- سد الذرائع والمصالح المرسلة:
سد الذرائع يدخل في باب المصالح دخولًا بينًا لأن حقيقته ترجع إلى منع كل أمر يتوسل به إلى المفسدة، وهو من هذه الوجهة متمم لأصل المصلحة ومكمل له (1) ، ولدخول سد الذرائع في المصالح نجد الشاطبي يتناوله من خلال حديثه عن (المقاصد) في المسألة الخامسة التي عقدها للحديث عن جلب المصلحة ودفع المفسدة (2) ، كما يتناوله أيضًا في المسألة العاشرة من الطرف الأول وهو الطرف الذي يتعلق بالمجتهد حيث يشترط فيه النظر في مآلات الأفعال بل يعتبر النظر في مآلات الأفعال من المقاصد الشرعية كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وعلى المجتهد ألا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مفسدة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب بالمذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة (3) . ثم يعقب على ذلك في فصل لاحق فيقول: (وهذا الأصل ينبني عليه قواعد منها قاعدة الذرائع التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه (4) .
والأصوليون من المتكلمين يدخل مبحث الذرائع عندهم من خلال المناسبة في باب المصلحة عند الحديث عن انخرام المناسبة بالمفسدة المساوية أوالزائدة (5) . ولعل مما يؤكد الصلة الوثيقة بين الذرائع والمصلحة أن المالكية وهم من المكثرين من الأخذ بالمصالح المرسلة في فتاواهم يكثرون أيضًا من الأخذ بسد الذرائع ـ كما سنرى عند عرض موقف المذاهب الفقهية من سد الذرائع ـ وما ذلك إلا لأن سد الذرائع وجه من وجوه الاجتهاد المصلحي.
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2: 1267، والوجيز في أصول الفقه للأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان ص 250 طبعة الرسالة
(2) الموافقات 2: 255 ط صبيح
(3) الموافقات 4: 127، 128
(4) الموافقات 4: 130
(5) نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور حسين حامد حسان ص 195(9/1377)
2- سد الذرائع والحيل:
يعرف الشاطبي الحيلة بأنها: (تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر) (1) .
والحيلة بهذا المفهوم تناقض سد الذرائع؛ لأن سد الذرائع ـ كما سلف توضيحه ـ منع الأمر المباح إذا كان وسيلة لأمر غير مباح، وعلى هذا فإن الذريعة التي تسد هي في بعض الحالات حيلة منعت ويتأتى ذلك بصورة خاصة في الذريعة التي يكون إفضاؤها إلى المحرم بقصد فاعلها كبيوع العينة ـ إذا قصد بها الربا ـ فهي حيلة لأنها تقديم عمل ظاهره الجواز لإبطال حكم شرعي هو تحريم الربا بإظهاره في صورة بيع صحيح.
وفي هذا يقول ابن القيم: (فتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع سد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة فأين من يمنع الجائز خشية الوقوع في المحرم إلى من يعمل الحيلة في التوسل إليه) (2) .
على أنه لا بد من أن يلاحظ هنا أن التناقض بين سد الذرائع والحيل يكون في حال القصد فقط، أما إذا انعدم القصد كبيوع العينة التي لا يصاحبها قصد، والذرائع التي لا ترد فيها تهمة التحايل أصلًا كسب الأوثان فإنه ذريعة إلى سب المولى ـ تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا ـ ومثل هذا لا يقصده مؤمن قطعًا فهو من باب الذرائع لا من باب الحيل، فالذرائع أعم من الحيل (3) ، ويبدو أن ابن القيم جعل المناقضة بينهما تامة لأن مذهبه يقوم ـ كما أشرنا في تقسيمه ـ على ربط الذريعة بالقصد دائمًا.
هذا وقد أشار الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي إلى فرق آخر بين الحيل والذرائع وهو أن الحيل تجري في العقود خاصة أما الذرائع ففي العقود وغيرها فهي أوسع (4) .
__________
(1) الموافقات: 4: 132
(2) إعلام الموقعين لابن القيم 3: 136
(3) أصول الفقه وابن تيمية للدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور، وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي 2: 911
(4) إعلام الموقعين لابن القيم 3: 135 ـ 161 وأصول الفقه وابن تيمية 2: 493(9/1378)
وفي كل الأحوال فإن بين الذرائع والحيل تداخلًا في بعض الحالات، ولهذا فإن الأصوليين والفقهاء يتناولون إحداهما تبعًا للأخرى، فابن القيم في إعلام الموقعين يتناول الحيل عند حديثه عن سد الذرائع (1) . والشاطبي في الموافقات يتناولهما متجاورتين عند حديثه عن النظر في مآلات الفعال (2) ، وابن تيمية يأتي تناوله لسد الذرائع تابعًا لحديثه عن الحيل (3) .
وفوق ذلك فإن مواقف الفقهاء من الحيل تتحدد في إطار مواقفهم من سد الذرائع، فالذين يتشددون في سد الذرائع يمنعون الحيل بإطلاق وهم الحنابلة والمالكية، والذين يرون أن الذريعة لا تسد إلا إذا ظهر القصد إلى الممنوع واضحًا في صيغة العقد، هم الشافعية والحنفية قد لا يدخلون في الحيل ما أدخله الأولون فيها وهكذا.
وأخيرًا فإن المقارنة السابقة بين الذرائع والحيل لا تمتد إلى الحيل بمعنى المخارج، وهي الحيل التي يقصد بها التوصل إلى إثبات حق أو دفع مظلمة أو التيسير على الناس، كمن يبيع أرضه أو سلعة له أو يهبها لمن يثق به خوفًا من تسلط ظالم حتى إذا اطمئن وزال خوفه عاد فاشتراها أو استرجعها منه (4) ، وكمن يبيع الذهب الرديء بالنقود الورقية ويشتري بها ذهبًا جيدًا خوفًا من ربا الفضل إذا تقابل الذهبان ببعضهم مع التفاضل (5) .
فإن مثل هذه المخارج جائزة ولها شواهد في الشرع منها قوله تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] ليبر بقسمه أثناء مرضه في أن يضرب زوجته مائة ضربة (6) .
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر فجاءه بتمر (جنيب) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) وغير هذين من الشواهد والنصوص.
__________
(1) أصول الفقه وابن تيمية للدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور 2: 494
(2) الموافقات: 130 ـ 132
(3) الفتاوى المصرية الكبرى 3: 83، وأصول الفقه وابن تيمية 2: 491.
(4) مصادر التشريع الإسلامي (الأدلة المختلف فيها) الدكتور حسنين محمد حسنين ص 175
(5) ضوابط المصلحة للدكتور سعيد رمضان البوطي 296
(6) راجع تفسير ابن كثير 7: 214 طبعة المنار، وضوابط المصلحة 304(9/1379)
المبحث الثالث
في تقسيم الأصوليين والفقهاء للذرائع
وبيان اتجاهاتهم في ذلك
للذرائع ـ عند الفقهاء ـ تقسيمان أساسيان يمكن رد التقسيمات الفرعية الأخرى لهما.
أول هذين التقسيمين تقسيم ابن القيم، والثاني تقسيم الشاطبي، وسوف أعرض هذين التقسيمين ثم أقارن بينهما.
أ- تقسيم ابن القيم:
قسم ابن القيم الذرائع من أقوال وأفعال إلى أربعة أقسام:
1- ذريعة أو وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنى المفضي إلى اختلاط الأنساب.
2- ذريعة أو وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة كمن يعقد النكاح قاصدًا به التحليل أو يعقد البيع قاصدًا به الربا.
3- ذريعة أو وسيلة موضوعة للمباح قصد به التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبًا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها وأمثلة هذا (الصلاة في أوقات النهي، وسب آلهة المشركين، وتزين المتوفى عنها زوجها في العدة.
4- وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها قد تفضي إليها إلا أن مصلحتها أرجح من مفسدتها، وأمثلة هذا النظر إلى المخطوبة، وكلمة الحق عند السلطان الجائر (1) .
والقسم الأول من الأقسام الأربعة ـ عند ابن القيم ممنوع وتأتي درجات المنع منه وكراهيته حسب ترقيه في درجات المفسدة، والقسم الأخير منها مباح وتأتي درجات إباحته حسب ترقيه في درجات المصلحة (2) .
يبقى ـ بعد ذلك ـ النظر إلى القسمين الثاني وهو الأمر المباح في أصله الذي قصد به التوسل إلى المفسدة، والثالث وهو المباح الذي لم يقصد به التوسل إلى المفسدة إلخ. لكنه يفضي إليها ومفسدته أرجح من مصلحته.
وهذان النوعان هما اللذان يمنعان سدًا للذريعة عنده وقد أقام ابن القيم الحجة على ذلك بعد أن بسط هذه الأقسام.
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم 3: 120
(2) إعلام الموقعين لابن القيم 3: 121(9/1380)
ب- تقسيم الشاطبي:
قسم الشاطبي الذرائع إلى الأقسام التالية:
1- ما يكون من الأفعال مؤديًا إلى المفسدة قطعًا في العادة ومثل له بحفر البئر خلف باب الدار أو في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد وشبه ذلك.
2- ما يكون من الأفعال مؤديًا إلى المفسدة نادرًا ـ لا قطعًا ولا كثيرًا ـ كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه، وأكل الأغذية التي غالبها لا يضر أحدًا.
3- ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا وهو على وجهين.
ـ أحدهما: ما يكون غالبًا في كثرته بحيث يغلب على الظن أداؤه إليها كبيع السلاح وقت الحرب، وبيع العنب لخمار ونحو ذلك مما يقع في غالب الظن أداؤه إلى المفسدة.
_ثانيهما: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا ولكن كثرته لم تبلغ مبلغًا تحمل العقل على ظن المفسدة فيه دائمًا كمسائل بيوع الآجال (1) .
وقال عن القسم الأول وهو ما أدى إلى المفسدة قطعًا بحسب العادة: إنه جائز من حيث الأصل إلا أنه مظنة لقصد الإضرار، والإضرار لا يجوز سواء كان مقصودًا وهو ظاهر عدم جوازه، أو كان ناتجًا عن تقصير في النظر وهو الآخر غير جائز.
وقال عن القسم الثاني وهو ما أدى إلى المفسدة نادرًا أنه على أصله من الإذن لغلبة المصلحة فيه وعدم اعتبار الندور في انخرامها لأنه لا توجد في الجملة مصلحة عرية عن المفسدة.
وقال عن الوجه الأول من القسم الثالث وهو ما يغلب على الظن أداؤه إلى المفسدة كبيع السلاح وقت الحرب إلخ: إن الظن هنا يلحق بالعلم القطعي ويعتبر سدًا للذريعة إلا أنه مع ذلك ـ قرر أن هذا الضرب أخفض مرتبة من القطعي ولهذا وقع الخلاف فيه من جهة هل تقوم مظنة الشيء مقام نفس القصد إلى ذلك الشيء أم لا (2) ؟
أما الوجه الثاني ـ من القسم الثالث ـ وهو ما أدى إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا كبيوع الآجال فقد قرر فيه أنه موضع نظر والتباس، والأصل فيه الحمل على الأصل وهو صحة الإذن لأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان فيه وليس فيه إلا احتمال التردد بين وقوع المفسدة وعدمه ولا قرينة ترجح أحد الاحتمالين على الآخر، كما أن احتمال القصد إلى المفسدة لا يقوم مقام نفس القصد (3) .
__________
(1) الموافقات 2: 256
(2) الموافقات 2: 265
(3) الموافقات 2: 266(9/1381)
جـ- المقارنة بين التقسيمين:
أولًا: يختلف التقسيمان من ناحية منطقهما، فابن القيم يقوم منطقه على ملاحظة النية والقصد في الفعل، ولهذا تتكرر عنده عبارة الفعل المباح في أصله الذي قصد به التوسل إلى المفسدة، أما الشاطبي فلا ينظر إلى القصد في الفعل بقدر ما ينظر إلى نتائج ذلك الفعل وآثاره بحسب المآل الظاهري، ولهذا تجده يتعلق بشكل ظاهر بدرجة أداء الفعل للمفسدة من حيث القطعية والظنية.
والاختلاف في منطق المسألة عند الإمامين هنا راجع إلى اختلاف كبير في الفقه وهو هل يكون النظر إلى أي فعل بحسب آثاره الظاهرة أو بحسب نية قصد فاعله منه، بتعبير آخر هل الاعتداد في الأحكام الدنيوية يكون بالإرادة الباطنة أم الظاهرة؟
ثانيًا: يلاحظ أن ابن القيم وقد جعل المعيار في تقسيمه على النية والقصد يحسم موضوع بيوع الآجال ونكاح التحليل ويسد الذريعة في كل منهما، أما الشاطبي فقد كان أكثر رحابة وتقبلًا للخلاف في مثل هذه المسائل.
ثالثًا: يلاحظ على ابن القيم في تقسيمه أنه أدخل أمورًا ليست من الذرائع فيها فالقسم الأول من أقسامه يجعله للذريعة أو الوسيلة الموضوعة للإفضاء إلى المفسدة، كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر، والقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنى المفضي إلى اختلاط الأنساب، وكل ما ذكره في هذا القسم يدخل ـ حقيقة ـ في باب المقاصد لا الذرائع؛ لأن شرب الخمر حرام لذاته كما أن الزنى والقذف محرمان لذاتهما، وليس ذلك من باب الذرائع، ولو ساغ لنا أن نعتبر هذا النوع من الذرائع لأدخلنا فيها كل الأمور المنهي عنها شرعًا لأن كل أمر نهى عنه الشارع فإن نهيه عنه يكون لمفسدة تترتب عليه.
رابعًا: يمكننا أن نقرر ـ فيما وراء ما سبق من اختلافات بين الإمامين في تقسيمهما ـ أن القدر المشترك بينهما هو المباح في أصله الذي يكون وسيلة للمفسدة فهذا هو الذي تسد فيه الذريعة مع الاختلاف في الدرجة بحسب القطعية والظنية، وهذا اتجاه الشاطبي ومع ملاحظة النية والقصد وهو اتجاه ابن القيم.
أما التقسيمات الأخرى للفقهاء للذرائع، كتقسيم القرافي والصاوي من المالكية، وابن الرفعة من الشافعية، وغيرهم، فهي تقسيمات أساسها موقف العلماء من الذرائع من جهة ما هو مجمع على سده وما هو موضع خلاف، ولا تتعدى ذلك إلى ذات الذرائع، ولهذا فإن الأنسب تناولها خلال الحديث عن موقف الأئمة والفقهاء من سد الذرائع.(9/1382)
المبحث الرابع
في موقف أئمة الفقه من الأخذ بسد الذرائع
مع شواهد وتطبيقات
يقسم الفقهاء الذرائع من جهة موقف الأئمة من الأخذ بها أو عدم الأخذ بها إلى ثلاثة أقسام: (1) .
1- قسم أجمعت الأمة على سده ومنعه كحفر الآبار في طريق المسلمين فإنه وسيلة إلى هلاكهم فيها، وإلقاء السم في أطعمتهم فإنه وسيلة إلى إهلاكهم أيضًا.
وهذا القسم يسميه الشاطبي ما أدى إلى المفسدة قطعًا في العادة، ويدخل عند ابن القيم في المباح الذي تكون مفسدته أرجح من مصلحته.
2- قسم أجمعت الأمة على عدم منعه وأنه ذريعة لا تسد ووسيلة لا تحسم كالمنع من العنب خشية الخمر، وكالمجاورة في البيوت خشية الزنى وعدم منع هذا القسم لندور أو توهم المفسدة فيه فضلًا عن وجود مصلحة محققة فيه.
ويدخل هذا القسم عند ابن القيم فيما تكون مصلحته أرجح من مفسدته وهو القسم الرابع عنده، ويدخل عند الشاطبي فيما يؤدي إلى المفسدة نادرًا لا كثيرًا ولا غالبًا.
3- قسم اختلف فيه العلماء وهو ما سماه الشاطبي ما أدى إلى المفسدة كثيرًا وقد رأيناه عند تناولنا لتقسيم الشاطبي إحالته لهذا القسم إلى وجهين: ما يكون غالبًا في كثرته بحيث يغلب على الظن أداؤه إلى المفسدة كبيع السلاح وقت الحرب وبيع العنب للخمار وهو ـ كما أسلفنا أيضًا ـ يمنع هذا النوع ويسده، وإن كان يرى أنه دون القطعي كما يشير إلى وقوع الخلاف فيه، والوجه الثاني ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا كبيوع الآجال وهو يقرر عند عرضه لهذا النوع أنه موضع نظر والتباس (2) .
أما ابن القيم فيدخل هذا القسم عنده في القسم الثاني، وهو الذريعة الموضوعة للمباح وقصد بها التوصل إلى المفسدة ويمنع عنده هذا القسم سدًا للذريعة كما سلف توضحيه.
__________
(1) راجع الفروق للقرافي 2: 32 وحاشية الصاوي بهامش الشرح الصغير 4: 152، طبعة الحلبي، وإرشاد الفحول للشوكاني: 217، 218
(2) الموافقات 2: 266(9/1383)
محل النزاع:
في ضوء ما سلف بيانه فإن محل النزاع بين العلماء في سد الذرائع هو المباح الذي يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا بوجهيه السالفين اللذين أوردهما الشاطبي؛ لأن هذا النوع لا يؤدي إلى المفسدة قطعًا فيمنع ولا نادرًا فيباح (1) .
وفيما وراء ذلك فإنه أئمة الفقه الأربعة متفقون على الأخذ بمبدأ سد الذرائع في الجملة، وفي هذا يقول القرافي: (وليس سد الذرائع من خواص مذهب مالك كما يتوهمه كثير من المالكية، بل الذرائع ثلاثة أقسام، ثم يعدد الأقسام الثلاثة التي سلف عرضها وصورها الفقهية ثم يعقب على المسائل التي هي محل اختلاف: (فنحن قلنا بسد هذه الذرائع ولم يقل بها الشافعي فليس سد الذرائع خاصًا بمالك ـ رحمه الله ـ بل قال بها أكثر من غيره وأصل سدها مجمع عليه (2) .
وفيها يقول القرطبي: (سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلًا وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلًا ثم يقول: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يفضي إلى الوقوع قطعًا أو لا يفضي، الأول ليس من هذا الباب بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (والذي لا يلزم ـ أي إفضاؤه إلى المحظور قطعًا ـ إما أن يفضي إليه غالبًا أو ينفك عنه أو يتساوى الأمران وهو المسمى بالذرائع عندنا فالأول: لا بد من مراعاته، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه وربما يسميه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة (3) .
__________
(1) الموافقات 2: 266
(2) الفروق 2: 32
(3) إرشاد الفحول لشوكاني: 217 وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي 2: 893(9/1384)
نخلص من ذلك إلى أن مبدأ سد الذرائع متفق عليه عند الأئمة مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو حنيفة ولم ينازع فيه كمبدأ إلا ابن حزم الظاهري.
أما موضع الخلاف فيه فهو ما أدى إلى المفسدة كثيرًا بوجهيه، وهذا يتجه المالكية والحنابلة إلى سد الذريعة فيه، والشافعية إلى عدم سد الذريعة فيه وبخاصة في بيوع الآجال، أما الحنفية فلهم موقف وسط بين الفريقين كما سوف نرى من خلال بعض فروعهم.
وأصل الخلاف في هذا القسم راجع ـ كما ذكرنا من قبل ـ إلى أن من الفقهاء من يعول على النية والقصد في الإحكام الدنيوية وبخاصة أحكام البيوع، ومنهم من يعول على الظاهر، والأولون هم المالكية والحنابلة الذين اتجهوا إلى سد الذرائع مطلقًا، والآخرون هم الشافعية والحنفية إلى قدر، أما الأحكام الدينية فالجميع متفق على سد الذرائع فيها.
ومما يدل على أخذ الإمام الشافعي بمبدأ سد الذرائع قوله في باب إحياء الموات من كتاب الأم عند الحديث عن النهي عن منع الماء ليمنع به الكلأ إن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله (1) .
ومن القواعد الفقهية التي تشهد لسد الذرائع عند الشافعية قواعدهم:
1- ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
2- ما حرم الله استعماله حرم اتخاذه.
3- من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه (2) .
ومما يدل على أخذ الحنفية بمبدأ سد الذرائع ما جاء في (بدائع الصنائع) بشأن خروج المرأة إلى صلاة العيد ونحوها إذا كان يخشى منها الفتنة.
وأما النسوة فهل يرخص لهن أن يخرجن في العيدين؟ أجمعوا على أنه لا يرخص للثوب منهن الخروج في الجمعة والعيدين وشيء من الصلاة لأن خروجهن سبب الفتنة بلا شك والفتنة حرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام) (3) .
وما جاء في الهداية بشأن تعليل منع المرأة الحادة من استعمال الطيب.
والمعنى فيه وجهان: أحدهما ما ذكرناه من إظهار التأسف والثاني أن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها وهي ممنوعة من النكاح فتجتنبها كيلا تصير ذريعة (4) .
__________
(1) الأم 3: 72 طبعة الشعب
(2) راجع: سد الذرائع في الشريعة الإسلامية للأستاذ محمد هشام البرهاني 699، 700
(3) بدائع الصنائع 2/ 275 طبعة دار الكتاب العربي ببيروت.
(4) الهداية 2: 32(9/1385)
فالمذاهب كلها على هذا آخذة بمبدأ سد الذرائع كما قرره القرافي، والاختلاف فقط اختلاف في تحقيق المناط كما يقول الشاطبي، فالإمام الشافعي في مسائل بيوع العينة مثلًا لا يجيز التذرع إلى الربا بحال إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع (1) .
وقد يكون الاختلاف في بعض الحالات اختلافًا في التقدير والموازنة بين المصلحة والمفسدة، فمن غلبت عنده المفسدة يسد الذريعة إليها، ومن تغلب عنده المصلحة لا يسد الذريعة، مع اتفاق الجميع على منع الذرائع إلى الفساد والضرر؛ لأن هذا مبدأ أساسي تشهد له الشريعة كلياتها وجزئياتها.
وفي هذا المعنى يقول الشاطبي وهو يتناول الحيل: (وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقًا فإنما قال بهاء بناء على أن للشارع قصدًا في استجلاب المصالح ودرء المفاسد، بل الشريعة لهذا وضعت، فإذا صحح مثلًا نكاح المحلل فإنما صححه على فرض أنه غلب على ظنه من قصد الشارع الإذن في استجلاب مصلحة الزوجين فيه، وكذلك سائر المسائل بدليل صحته في النطق بكلمة الكفر خوف القتل أو التعذيب، وفي سائر المصالح العامة والخاصة، إذ لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة، كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة، فإنما يبطل فيها ما كان مضادًا لقصد الشارع خاصة، وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام، ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة) (2) .
__________
(1) الموافقات 4: 200 بتحقيق الشيخ عبد الله دراز.
(2) الموافقات 2: 247(9/1386)
أما ابن حزم الذي أنكر سد الذرائع جملة وتفصيلًا فإن إنكاره لها يرجع إلى مبدئه الظاهري الذي يعول فيه كثيرًا على ظواهر النصوص ويرفض الغوص وراء المعاني، يتضح ذلك من قوله بشأن الذرائع: (ذهب قوم إلى تحريم أشياء عن طريق الاحتياط وخوف أن يتذرع منها إلى الحرام البحت، واحتجوا لذلك بما روي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه)) (1) . وبعد أن يورد روايات متعددة للحديث يلحق ذلك بقوله: فهذا حض منه عليه الصلاة والسلام على الورع، ونص جلي على أن ما حول الحمى ليس من الحمى، وأن تلك المشتبهات ليس بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فعل من الحرام فهي على حكم الحلال بقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] .
وبقوله صلى الله عليه وسلم ((أعظم الناس جرمًا في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)) (2) .
فمنطق ابن حزم في عدم القول بسد الذرائع أن التحريم لا يكون إلا بنص مفصل وما وراء ذلك يظل على مبدأ الاستصحاب والعفو وأن الأصل في الأشياء الإباحة.
ولاستخدامه لمبدأ الاستصحاب بكثرة في فقهه يرى عدم جواز الحكم بالظن لأنه ليس في حاجة إليه ما دام أن باب العفو والبراءة رحب واسع ومع ذلك فإن ابن حزم يقول بسد الذريعة إذا كان الفعل متيقنًا أداؤه إلى الحرام كالتوضؤ بماءين متيقن نجاسة أحدهما من غير تعيين فإن المصلي بذلك الوضوء يكون مصليًا وهو حامل لنجاسة فهذا لا يجوز، وكذلك القول في ثوبين أحدهما نجس بيقين لا يعرف بعينه (3) .
يبقى ـ بعد ذلك ـ أمر أخير لا بد من الإشارة إليه في حجج ابن حزم التي أوردها في عدم الأخذ بسد الذرائع وهو احتجاجه على الجمهور ببعض الفروع التي لم يقل الجمهور بسد الذريعة فيها حيث يقول بعد وصفه لمذهب الجمهور بالتخاذل والتناقض: (وإذا حرم شيء حلال خوف تذرع إلى حرام فليخص الرجال خوف أن يزنوا، وليقتل الناس خوف أن يكفروا، ولتقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر) (4) .
فهذه الصور ـ كما سلف توضيحيه ـ لا يسد الجمهور الذريعة فيها اعتمادًا على أن المفسدة فيها متوهمة أو نادرة وأن المصلحة فيها غالبة.
__________
(1) الحديث رواه البخاري
(2) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 6: 746
(3) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 6: 746
(4) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 6: 449(9/1387)
المبحث الخامس
في الأدلة على حجية سد الذرائع من القرآن
والسنة وفتاوي الصحابة
يجد سد الذرائع سنده في أدلة كثيرة من القرآن والسنة وعمل الصحابة.
- فمن الكتاب:
1- قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
ووجه الدلالة في الآية على المقصود أن الله حرم سب آلهة المشركين لئلا يؤدي فعلهم ذلك إلى سب الله تعالى، ومصلحة ترك سبه أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وفي هذا تنبيه على المنع من الجائز لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز.
2- قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] .
ووجه: دلالة الآية على المراد أنه سبحانه منعهن من ضرب الأرجل وإن كان هذا الفعل جائزًا في نفسه لئلا يكون سببًا في سماع الرجال صدى حركة الحلي فيثير ذلك فيهم دواعي الشهوة، فالفعل في ذاته مباح لكن ما أدى إليه ممنوع، ولذلك منع.
3- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] .
ووجه دلالة الآية على سد الذرائع أن الله نهاهم عن قول هذه الكلمة مع أن قصدهم حسن في ذلك ـ لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود فإن اليهود كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون يا أبا القاسم راعنا يوهمون أنهم يريدون الدعاء من المراعاة وهم يقصدون فاعلًا من الرعونة (1) .
__________
(1) انظر أحكام القرآن لابن العربي 1: 32(9/1388)
- ومن السنة:
1- ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله هل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه)) (1) .
2- نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين وقوله في ذلك: ((لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)) (2) . فكف صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع أن قتلهم مصلحة في ذاته ـ لئلا يكون ذلك ذريعة لنفور الناس عنه.
3- نهيه صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها لئلا يؤدي ذلك إلى قطع الأرحام (3) .
4- قوله صلى الله عليه وسلم ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (4) .
5- قوله صلى الله عليه وسلم ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كان كالواقع في الحمى يوشك أن يقع فيه)) وقوله: ((ألا لكل ملك حمى وأن حمى الله محارمه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه)) (5) .
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في باب الأدب ومسلم في الإيمان
(2) الحديث رواه مسلم
(3) رواه البخاري
(4) رواه البخاري
(5) رواه البخاري(9/1389)
ومن عمل صحابة بسد الذرائع:
1- أن الخليفتين أبا بكر وعمر كانا لا يضحيان كراهية أن يظن من رآهما وجوبها (1) .
2- أن سيدنا عثمان رضي الله عنه أتم الصلاة بالناس في الحج ثم خطب وقال: ((إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ولكن حدث طغام فخفت أن يستنوا)) (2) .
3- أن سيدنا عمر نهى عن نكاح نساء أهل الذمة سدًا لذريعة مواقعة المومسات منهن وما يجلبه ذلك من ضياع الولد بإفساد خلقه، أثر أن حذيفة بن اليمان تزوج بيهودية فكتب إليه سيدنا عمر أن خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة أحرام هي؟ فكتب إليه عمر لا ولكني أخشى مواقعة المومسات منهن (3) .
4- ما قضي به ـ رضي الله عنه ـ في الرجل الذي تزوج بالمرأة في عدتها بتطليقها منه وتحريمها عليه تحريمًا مؤبدًا زجرًا لغيره وسدًا لذريعة الفساد، وروى الإمام مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار: (أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها ونكحها غيره في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بمخفقته وفرق بينهما ثم قال: (أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم كان الآخر خاطبًا من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر ثم لا يجتمعان ابدًا (4) .
5- ضربه ـ رضي الله عنه ـ لصبيغ العراقي حين كان يطوف حاملًا القرآن ليسأله الناس عن مشكلة منعًا له من ذلك وسداّ لذريعة الاشتغال بما لا ينبني عليه عمله (5) .
__________
(1) الموافقات 3: 300
(2) كنز العمال 4: 239 وتعليل الأحكام للشيخ محمد مصطفى شلبي 45
(3) أحكام القرآن للجصاص 2: 397
(4) الموطأ بشرح السيوطي 2: 9
(5) الاعتصام للشاطبي 3: 54(9/1390)
وفوق هذه الأدلة التي تشهد لسد الذرائع من القرآن والسنة وعمل الصحابة وفتاواهم فإن هناك اجتهادات كثيرة للتابعين عملوا فيها بسد الذرائع وبخاصة فقهاء المدينة ككراهيتهم لصيام ستة أيام من شوال بعد رمضان مباشرة وذلك خوفًا من أن يلحق عوام الناس ذلك برمضان ويعتقدون فريضته (1) .
وإجازتهم للسلف في الحيوان إذا كان معلوم الصفة ليرد المستلف مثله واستثنائهم الجواري سدًا لذريعة استمتاع المقترض بهن ووصوله إلى ما لا يحل له (2) .
ونهيهم عن البيع والسلف خشية الربا (3) . والإقالة بغير رأس المال سدًا لذريعة بيع الطعام قبل قبضه (4) .
والأدلة على كل حال في الباب كثيرة وتصحبها أيضًا في ذلك الأدلة التي يوردها العلماء للعمل بمبدأ المصالح المرسلة لأن سد الذرائع ما هو إلا وجه من وجوه الاجتهاد المصلحي ـ كما سلف ذكره ـ لأنه موازنة بين الضر والمصلحة، لدفع الضرر عند غلبته واستفحاله وتقديم المصلحة عند تأكد رجحانها.
ويلحق بكل ما سبق في الاستدلال لسد الذرائع مبدأ أن التعاون على الإثم والعدوان لا يجوز مطلقًا وهو مبدأ مقرر بقوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (5) [المائدة: 2]
__________
(1) الموطأ بشرح السيوطي 1: 228
(2) الموطأ بشرح السيوطي 2: 85
(3) الموطأ بشرح السيوطي 2: 80
(4) الموطأ بشرح السيوطي 2: 65
(5) الموافقات 2: 265(9/1391)
المبحث السادس
عن أثر الاختلاف في سد الذرائع في اختلاف الفقهاء
في الفروع الفقهية
كان للاختلاف في تحقيق المناط أو في الموازنة بين المصلحة والمفسدة في بعض صور الذرائع بالصورة التي سلف إجمالها عند الحديث عن موقف المذاهب الفقهية من سد الذرائع أثر في الاختلاف في الفروع الفقهية المأثورة عن تلك المذاهب.
وسوف أعرض نماذج لتلك المسائل مبينًا موقف المذاهب الفقهية المختلفة منها.
1- بيع السلاح لمن يستعمله في حرام:
يرى فقهاء الحنابلة حرمة بيع السلاح لمن يستعمله في معصية كقتال المسلمين ونحوه إذا كان البائع قد وقف على غرض المشتري ولو كان ذلك بطريق القرائن، والبيع عندهم في هذه الحال يكون باطلًا من أصله.
جاء في كشاف القناع للبهوتي عطفًا على كلام سبق في شأن البيوع التي لا تصح: (ولا بيع سلاح ونحوه في فتنة أو لأهل حرب أو لقطاع طريق إذا علم البائع ذلك من مشتريه ولو بقرائن) (1) . والمالكية يرون رأي الحنابلة في حرمة البيع، جاء في كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب ـ عطفًا على كلام سبق ـ: (كما يحرم بيعه السلاح لمن يعلم أنه يريد قطع الطريق على المسلمين وإثارة الفتنة بينهم) (2) .
ورغم اتفاق الحنابلة والمالكية في حرمة البيع إلا أن الحنابلة ـ كما أشرنا ـ يرون بطلانه أما المالكية فيقولون بانعقاده مع إجبار المشتري على إخراج المبيع من ملكه ببيع أو نحوه.
يقول خليل في مختصره: (وأجبر على إخراجه بعتق أو هبة) (3) .
أما الحنفية فيقولون بصحة البيع ونفاذه إلا إذا أفصح البائع عن الغرض غير المشروع صراحة في صلب العقد أو عرف أن المشتري من أهل الفتنة.
__________
(1) كشاف القناع للبهوتي 3: 181، 182 طبعة عالم الكتب، وانظر المغني لابن قدامة 4: 245
(2) مواهب الجليل للحطاب 4: 254
(3) مواهب الجليل للحطاب 4: 254(9/1392)
جاء في الهداية: (قال) ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة (معناه ممن يعرف أنه من أهل الفتنة لأنه تسبب إلى المعصية وقد بيناه في السير وإن كان لا يعرف أنه من أهل الفتنة لا بأس بذلك لأنه يحتمل ألا يستعمله في الفتنة فلا يكره بالشك) (1) .
والشافعية أيضًا على صحة البيع في مثل هذه الحالة، جاء في الأم للإمام الشافعي: (أصل ما أذهب إليه أن كل عقد كان صحيحًا في الظاهر لم أبطله بتهمة ولا بعادة بين المتبايعين، وأجزته بصحة الظاهر وأكره النية إذا كانت النية أو أظهرت كانت تفسد البيع، وكما أكره لهما للرجل أن يشتري السيف على أن يقتل به، ولا يحرم على بائعه أن يبيعه ممن يراه أن يقتل به ظلمًا لأنه قد لا يقتل به ولا أفسد عليه هذا البيع) (2) .
لعلة واضح من الاختلاف بين الفقهاء في هذه المسألة أن اختلافهم أساسه قاعدة الذرائع، فالحنابلة والمالكية الذين يتشددون في الأخذ بهذا المبدأ يبطل الأولون منهم مثل هذا البيع بطلانًا مطلقًا، والآخرون وإن لم يقولوا ببطلانه لكنهم يبطلون أثره وهو تملك المشتري للمبيع، ويلزمونه بإخراجه من ملكه خوف الضرر والفساد الذي يؤدي إليه ذلك الصنيع، وقد جاء في الحطاب ما يدل على تعويلهم على سد الذرائع في هذه المسألة حيث قال ـ تعقيبًا على جملة مسائل سبقت ـ قال الأبي والمذهب في هذا سد الذرائع) (3) .
أما الحنفية والشافعية فواضح من أقوالهم أنهم لا يسدون الذريعة هنا ـ ما دام أن الغرض غير المشروع لم يفصح عنه صراحة ـ ويكتفون الأخذ بظاهر التصرف ولا يرون مبررًا لإبطاله بتهمة ولا بعادة بني المتبايعين كما يعبر الإمام الشافعي في نصه السابق ـ وإن كانت النية في ذلك مكروهة وغير مستحبة لكن الحكم يصح قضاء وينفذ.
__________
(1) الهداية 4: 94 طبعة الحلبي
(2) الأم 3: 65 طبعة الشعب
(3) شرح مواهب الجليل للحطاب 4: 254(9/1393)
2- بيع عصير العنب لمن يتخذه خمرا:
يرى الحنابلة بطلان بيع عصير العنب لمن يتخذه خمرًا ويكتفون في ذلك بقيام القرائن التي تدل على إرادة صنع الخمر منه يقول ابن قدامة في المغني: (وبيع العصير ممن يتخذه خمرًا باطل) ثم يقول: (إذا ثبت هذا فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم البائع قصد المشتري إما بقوله أو بقرائن مختصة به تدل على ذلك) .
ثم يستدل لذلك بعد بيانه لرأي الشافعية في المسألة (ولنا أنه عقد على عين معصية الله فلم يصح كإجارته الأمة للزنا والغناء) ثم يقول: (ولأن التحريم ههنا لحق الله تعالى فأفسد العقد كبيع درهم بدرهمين) إلى أن يقول: " وهكذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق أو في الفتنة) (1) .
والمالكية على قاعدتهم في حرمة مثل هذا البيع ديانة، وقضاء يرون انعقاده مع إجبار المشتري على إخراج المبيع من ملكه.
جاء في نيل المآرب شرح دليل الطالب: (ولا يصح بيع العنب أو العصير لمتخذه خمرًا ولا مأكول ومشروب ومشموم وقدح لمن يشرب عليه أو به مسكرًا، ولا يصح بيع البيض والجوز ونحوهما للقمار (2) إلخ.. ".
أما الحنفية فيرون صحة هذا البيع، جاء في مختصر الطحاوي (ومن كان عنده عصير فلا بأس عليه ببيعه وليس عليه أن يقصد بذلك إلى من يأمنه أن يتخذه خمرًا دون من يخاف ذلك عليه؛ لأن العصير حلال فبيعه حلال كبيع ما سواه من الأشياء الحلال مما ليس على بائعها الكشف عما يفعله المشتري فيها (3) .
والشافعية أيضًا على صحة هذا البيع، يقول الإمام الشافعي في الأم: (وكما أكره للرجل أن يبيع العنب ممن يراه أن يعصره خمرًا ولا أفسد البيع إذا باعه إليه لأنه باعه حلالًا وقد يمكن أن لا يجعله خمرًا أبداً) (4) ، أساس الاختلاف في هذه المسألة هو نفس الأساس الذي انبنى عليه الخلاف في المسألة السابقة حيث يتقابل منزعان، منزع من يسد الذريعة لاحتمال التهمة فيبطل التصرف، وحتى إذا أجازه يبطل أثره وهؤلاء على التوالي الحنابلة والمالكية، ومنزع من يرى أن التهمة هنا لا ترقى إلى إبطال التصرف ومن ثم يرى صحته قضاء، وهؤلاء هم الحنفية والشافعية اللذين لا يسدون الذريعة في مثل هذه المسائل ويكتفون بالحكم بالظاهر بقصد ضبط التعامل واستقراره.
__________
(1) المغني 4: 245، 246 طبعة الحلبي.
(2) نيل المآرب شرح دليل الطالب لابن عمر الشيباني 1/ 122 طبعة صبيح. وراجع شرح الحطاب 4: 54
(3) مختصر الطحاوي ص 280 بتعليق أبو الوفا الأفغاني طبعة لجنة إحياء المعارف العمانية
(4) الأم 3: 265 طبعة الشعب(9/1394)
3- نكاح التحليل:
يقصد بنكاح التحليل الزواج بالمرأة المطلقة ثلاثًا من زوج سابق بقصد حلها له.
وقد اتفق الفقهاء على أن الزواج بالمطلقة ثلاثًا بشرط صريح في العقد على التحليل لا يجوز وهو حرام عند الجمهور مكروه كراهة تحريمية عند الحنفية (1) .
ويترتب على ذلك فساد العقد عند الجمهور، ويرى أبو حنيفة وزفر صحة العقد مع الكراهة التحريمية، وقال محمد بن الحسن بصحة العقد وبطلان الشرط، وفي رواية عن أبي حنيفة يجوز العقد والشرط معًا وإن كان كثير من فقهاء الحنفية يشير إلى ضعف هذه الرواية عن الإمام، وأبو يوسف مع الجمهور في فساد العقد.
أما إذا لم يشترط التحليل في العقد فالمالكية والحنابلة يقولون أيضًا بالبطلان.
ويرى الحنفية والشافعية صحة مثل هذا العقد وتحل المرأة بوطء الزوج الثاني لزوجها الأول.
والخلاف بين المالكية والحنابلة من جهة، والحنفية والشافعية من جهة أخرى ـ في هذه المسألة ـ أساسه الاختلاف في قاعدة سد الذرائع في مثل هذه الصورة.
فالمالكية والحنابلة يسدون الذريعة فيبطلون العقد، والحنفية والشافعية يرون أن النية وحدها لا تكفي في إبطال العقد فيقع الزواج صحيحًا لتوافر شرائط الصحة فيه، ولا تسد الذريعة هنا لعدم قيام الدليل عليها بحسب الظاهر.
__________
(1) راجع الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي 7: 478(9/1395)
4- بيوع الآجال:
صورة بيوع الآجال أن يبيع الرجل سلعة لآخر بثمن إلى أجل ثم يشتريها منه بثمن آخر إلى أجل آخر أو نقداً (1) .
والقاعدة عند المالكية في هذه البيوع الجواز مطلقًا عند اتفاق الثمنين ولا ينظر لاختلاف الأجل، والجواز أيضًا عند اتفاق الأجلين ولا ينظر لاختلاف الثمن.
أما إذا اختلف الأجلان والثمنان فإنه ينظر إلى اليد السابقة بالعطاء فإن دفعت قليلًا وعاد إليها كثيرًا فهذا هو الممنوع لأنه ربا وإلا فجائز (2) .
وكما يسمى الممنوع من هذه البيوع بيوع الآجال يسمى بيوع الذرائع الربوية (3) .
والخلاف في هذه البيوع أظهر ما يكون بين المالكية والشافعية، أما الحنفية فقد يتفقون مع المالكية في بعضها لكن دليل المنع عندهم ليس سد الذرائع وإنما يمنعونها لفساد البيع الثاني لأنه مبني على الأول، والأول لم يستوف ثمنه فإذا باع شخص لآخر مثلًا ـ سلعة بعشرة دراهم إلى أجل ثم اشتراها منه بخمسة نقدًا يكون البيع الثاني فاسدًا عندهم لأنه مبني على الأول الذي لم يستوف ثمنه فيؤول الأمر ـ في المسألة ـ إلى بيع خمسة دراهم بعشرة إلى آجل وهو ربا فضل ونساء معاً (4) .
__________
(1) بداية المجتهد لابن رشد 2: 140
(2) فقه المعاملات على مذهب الإمام مالك للأستاذ حسن كامل الملطاوي: 98 والحطاب 4: 392
(3) بداية المجتهد 2: 140
(4) أصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي 2: 892، 883(9/1396)
أما المالكية فيمنعونها لكثرة قصد الناس بها التوصل إلى الربا، فأساس المنع عندهم سد الذريعة إلى الربا، وكثيرًا ما ورد ذلك على لسان الإمام مالك نفسه في كتابه الموطأ أو فيما رواه ابن القاسم عنه في المدونة.
وفوق ذلك فإن المالكية يؤيدون رأيهم في أصل منع هذه البيوع بحديث زيد بن أرقم أن أم ولده قالت لعائشة ـ رضي الله عنها ـ يا أم المؤمنين إني بعت من زيد بن أرقم عبدًا بثمانمائة درهم إلى العطاء واشتريته منه بستمائة نقدًا، فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أخبري زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب) (1) .
والشافعية يصححون بيوع الآجال قضاء تاركين القصد الباطني إلى المحاسبة الأخروية طردًا لقاعدتهم في التعويل على الظاهر في العقود إلا إذا قام دليل واضح على قصد الربا المحرم (2) .
كما أنهم يجيبون على حديث زيد بن أرقم بأن ما قالته السيدة عائشة فيه باجتهادها واجتهاد الصحابي لا يكون حجة على صحابي آخر بالإجماع فضلًا عن أن قول السيدة عائشة معارض بفعل زيد بن أرقم وهو صحابي (3) .
أما الحنابلة فهم مع المالكية في منع ما يكون مظنة التهمة إلى الربا من هذه البيوع جاء في المغني: (ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به ثم يشير صاحب المغني إلى أن ذلك قول أكثر أهل العلم وأنه ذريعة إلى الربا (4) .
__________
(1) إرشاد الفحول للشوكاني: 217 والحديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه
(2) أصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي 2: 892
(3) إرشاد الفحول للشوكاني: 217
(4) المغني 4/ 157، 158 طبعة الإمام(9/1397)
وهكذا ترى من خلال عرض المذاهب الأربعة من قضية بيوع الآجال أن المالكية والحنابلة على قاعدتهم في المنع من كل ما يؤدي إلى ما هو محظور سدًا للذريعة، والشافعية على قاعدتهم في الجواز ما دام أن العقد نفسه لم يشتمل صراحة على القصد إلى الممنوع.
أما الحنفية فيتفقون مع المالكية والحنابلة وإن اختلف مسلكهم في الدليل أحيانًا ـ كما سبقت الإشارة ـ على أنه لا بد من بيان أن بعض فقهائهم يستدلون بحديث زيد بن أرقم وبشبهة الربا فيكون دليلهم هو نفس دليل المالكية في المسألة (1) .
وهذا يرجع بنا إلى تأكيد ـ ما سلف ذكره عن القرافي ـ أن الخلاف بين الفقهاء في سد الذرائع ليس خلافًا في الأصل وإنما هو خلاف في بعض الصور والتفاصيل والجزئيات، وهذا قد تتعدد أسبابه بحسب اختلاف مدارك الفقهاء في تقدير المصلحة والمفسدة والموازنة بينهما، أو توفر أدلة عند فريق في المسألة وهي غير مأخوذ بها عند الفريق الآخر، أو توفر أدلة عند فريق في المسألة وهي غير مأخوذ بها عند الفريق الآخر، أو اختلاف المنزع من حيث التعويل على الظاهر ـ في العقود خاصة ـ أو عدم التعويل عليه والاتجاه إلى النية أو تلمس دلائل أخرى ككثرة القصد إلى الممنوع وهكذا.
والخلاف في كل هذا سائغ ما دام أن الأصل محل اتفاق بسد الذرائع إلى الفساد والضرر متى ما قام الدليل على ذلك بوضوح وجلاء.
يبقى ـ أخيرًا ـ أن نختم هذا المطلب بما ذكره المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة من أن المبالغة مطلقًا في الأخذ بسد الذرائع هي الأخرى مضرة حيث يقول: (إن الأخذ بالذرائع لا تصح المبالغة فيه، فإن المغرق فيه قد يمتنع عن أمر مباح أو مندوب أو واجب خشية الوقوع في ظلم، كامتناع بعض العادلين عن تولي أموال اليتامى أو أموال الأوقاف خشية التهمة من الناس أو خشية على أنفسهم أن يقعوا في ظلم، ولأنه لوحظ أن بعض الناس قد يمتنع عن أمور كثيرة خشية الوقوع في الحرام) (2) .
__________
(1) راجع بدائع الصنائع للكاساني 5: 198، 199 طبعة دار الكتاب العربي ببيروت
(2) أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة: 251(9/1398)
المبحث السابع
في فتح الذرائع عند الفقهاء
مصطلح فتح الذرائع مصطلح جاء على لسان الإمام القرافي الذي يستخدم الذريعة بمعنى الوسيلة مطلقًا ـ كما سلفت الإشارة إلى ذلك ـ ومن ثم تسد الذريعة التي تفضي إلى ممنوع ويفتح الذريعة المؤدية إلى مصلحة وفي ذلك يقول: (اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح (1) .
ويقول: (قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، كالتوسل إلى فداء الأسرى بدفع المال للكفار الذي هو محرم عليهم الانتفاع به بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة عندنا، وكدفع المال لرجل يأكله حرامًا حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عند دفعه عنها إلا بذلك، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال عند مالك ـ رحمه الله ـ ولكنه اشترط فيه أن يكون يسيرًا، فهذه الصورة كلها للدفع وسيلة إلى المعصية بأكل المال ومع ذلك فهو مأمور به لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة (2) .
في ضوء نصي القرافي السابقين فإن فتح الذرائع يعني إباحة الأمر الممنوع إذا ترتبت على إباحته مصلحة.
__________
(1) الفروق للقرافي 2: 3
(2) الفروق للقرافي 2: 3(9/1399)
والشاطبي يؤكد هذا المعنى وإن لم يتناوله بنفس التسمية التي سماه بها القرافي، وإنما يتناوله من خلال الحديث عن تداخل المفاسد والمصالح في عمل من الأعمال، فيقرر أن فعل المعصية قد يجوز وذلك في حال ما إذا رجحت المصلحة المترتبة على الفعل في المفسدة التي تنطوي عليها المعصية، ويمثل له بنفس الأمثلة التي أوردها القرافي (1) .
وفي كل الأحوال فإن أمثلة فتح الذرائع التي أوردها القرافي تتمثل في الآتي:
1- جواز دفع المال للمحاربين الكفار توصلًا إلى فداء الأسرى المسلمين، وفتح الذريعة هنا أن دفع المال للمحاربين في الأصل حرام لا يجوز، لما فيه من تقوية الكفار والإضرار بجماعة المسلمين، لكنه أجيز دفعًا لضرر أكبر هو تخليص أسرى المسلمين من الأسر وتقوية المسلمين بهم (2) .
2- جواز دفع المال للدولة المحاربة لدفع خطرها وأذاها إذا لم يكن جماعة من المسلمين على مستوى القوة التي يستطيعون بها حماية بلادهم (3) .
3- جواز دفع المال لرجل حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عن دفعه إلا بذلك (4) .
ولعل هذه الصورة شبيهة بما يمارسه بعض الخارجين على القانون باحتجازهم الفتيات والصبيان والتهديد بقتلهم أو الفجور بهم إذا لم يعطوا فدية يقررونها، فإن إعطاءهم الفدية جائز إذا لم يكن للسلطان سبيل إلى التمكن منهم وتخليص المحتجزين بأمن وسلام من غير أن يمسهم سوء أو أذى.
__________
(1) الموافقات 2: 258
(2) الفروق 2: 33، والموافقات 2: 258
(3) الفروق 2: 33
(4) الفروق 2: 33(9/1400)
هذا هو المراد بفتح الذرائع، والذي أراه أن فتح الذرائع يدخل في باب الموازنة بين المصلحة والمفسدة ورجحان المصلحة، وهو ما اتجه إليه الشاطبي أو يدخل في باب الضرورة إذ الضرورات تبيح المحظورات، ولو أجلنا النظر في كل المسائل التي أوردها العلماء في هذا الباب لوجدنا فيها ضرورات أجازت ارتكاب المحظور، فدفع المال للدولة المحاربة لتخليص الأسرى المسلمين أبيح للضرورة مع أن الأصل عدم جوازه، ودفع المال للرجل الذي يصمم على الزنى بامرأة مغالبة ولا سبيل على دفعه إلا بإعطائه المال أيضًا من باب الضرورة وهكذا الشأن في كل المسائل التي وردت في هذا الباب بل وأصرح من هذا فإن الشاطبي وهو يستدل على هذا المعنى يقول: (إن جلب المنفعة أو دفع المفسدة مطلوب للشارع مقصود، ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من المحرمات الأكل، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد، والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة إلى أشياء كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها (1) .
ومن شأن إدخال هذه المسائل في قاعدة الضرورات التقليل من تجويزها إلا على سبيل الاستثناء في الحالات التي تستوجب ذلك وفي أضيق الحدود؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها (2) .
__________
(1) الموافقات 2: 257
(2) قاعدة فقهية معروفة(9/1401)
والقرافي نفسه نجد عنده إشارة إلى هذا المعنى فهو عند حديثه عن فتح الذرائع وإيراد أمثلتها يقول: (وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال عند مالك رحمه الله ولكنه اشترط فيه أن يكون يسيراً (1) .
أما تسميتها بفتح الذرائع وهو مسلك القرافي، فهو ـ في نظري ـ لا يعدو أن يكون إيغالًا في استخدام المصطلحات الفنية وهو إيغال قد يتحمله المعنى لأن فتح الذرائع موجود في كل المسائل التي سلف إيرادها إلا أن محذوره يبدو في إقرار فتح الذرائع كمبدأ عام وهذا قد يترتب عليه أمران:
أولها: احتمال أدائه للاختلاف في الأمر الذي تفتح فيه الذريعة والأمر الذي لا تفتح فيه لا من حيث المبدأ وإنما من حيث الجزئيات والتفاصيل التي تتعاقب بتعاقب الزمان والمكان، فيؤول الأمر فيه إلى الخلاف الذي حدث فيه سد الذرائع نفسه.
ثانيهما: إن إسباغ وصف فتح الذريعة على هذه المسائل كمبدأ عام قد يشير إلى إبعاده صفة الاستثناء عنها وهي مسائل استثنائية بلا خلاف؛ لأن الأصل في المعصية عدم جواز ارتكابها إلا في حالات الضرورة بحسب القانون العام في الشرع.
لهذا فإن الأوفق إدخال هذه المسائل في قاعدة الضرورة لتضبط بضوابطها وتوزن بموازينها. والله أعلم بالصواب.
تم بحمد الله وتوفيقه.
الأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن
__________
(1) الفروق 2: 33(9/1402)
سد الذرائع
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
الأمين العام للمجمع العالمي لأهل البيت بإيران
بسم الله الرحمن الرحيم
سد الذرائع وفتحها
التعريف:
الذريعة هي الوسيلة: والسد: إغلاق الخلل، والفتح: رفع الموانع وفي الاصطلاح ذكر في تعريف سد الذريعة أنه (حسم مادة وسائل الفساد فيما إذا كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى مفسدة) (1) .
أما فتح الذرائع فهو (تيسير السبل إلى مصالح البشر) (2) .
في حين دعا السيد الحكيم إلى تعريف جامع للذريعة بأنها (الوسيلة المفضية إلى الأحكام الخمسة) (3) . فهي تارة تسد وأخرى تفتح باعتبار المقصد.
والأصح التفريق بين العمليتين واستعمال اللغة الفقهية فيهما فيقال:
سد الذرائع هو: تحريم الوسيلة المؤدية إلى فعل محظور.
وفتح الذرائع هو: إيجاب الوسيلة التي يتوقف عليها فعل واجب.
وهذا التفريق نافع لوجود اختلاف ما في نوعية البحث في الموردين.
__________
(1) الموسوعة الكويتية ج24 ص276
(2) ن. م ص 281
(3) أصول الفقه المقارن ص 408(9/1403)
أقسام الذريعة:
وقد قسمها ابن القيم إلى أقسام أربعة:
1- الوسائل الموضوعة للإفضاء إلى المفسدة كالزنا المفضي لاختلاط الأنساب.
2- الوسائل الموضوعة للأمور المباحة ويقصد الفاعل التوسل إلى المفسدة كمن يعقد البيع ويقصد الربا كحيلة شرعية.
3- الوسائل الموضوعة للأمور المباحة ولم يتم قصد الفساد منها إلا أنها تؤدي في الغالب إليه ومفسدتها أرجح من مصلحتها كسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم فيسبوا الله عدوا.
4- الوسائل الموضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة إلا أن مصلحتها أرجح من مفسدتها كالنظر في المخطوبة.
ويرى أنها كلها محرمة إلا الرابع (1) .
وهناك تقسيم آخر متداول عند علماء الإمامية وهو تقسيمها (أي الذريعة) إلى ما كانت من قبيل العلة التامة وما كانت من قبيل جزء العلة أو يعبر عنها بما ينفك وما لا ينفك.
والانفكاك وعدمه يلاحظ فيه التلازم العرفي لا العقلي.
كما أن هناك تقسيمات أخرى ربما كان لها أثر في نوع الحكم عليها.
__________
(1) إعلام الموقعين ج4 ص 147 ـ 148(9/1404)
موقف المذاهب:
ذهب المالكية والحنابلة إلى أن سد الذرائع من أدلة الفقه مركزين على القسم الثاني من الأقسام الماضية في حين ذكر ابن القيم أن الأقسام كلها ما عدا القسم الرابع محرمة وأنكر الحنفية والشافعية كونها من أدلة الفقه. وأما الإمامية فقد ذكر السيد الحكيم أن هذا الموضوع وإن لم يعنون بهذا العنوان لديهم لكنه يبحث عنه في بحث (الوجوب الغيري للمقدمة) وأنهم يكادون يطبقون على تبعية المقدمة في حكمها لذي المقدمة إلا أن جماعة من كبار المتأخرين منهم أنكروا تبعية حكم المقدمة لحكم ذيلها.
وسنرى فيما يلي أن هناك فرقًا بين بحوثهم وهذا البحث وعلى الأقل في سد الذرائع.(9/1405)
أدلة القائلين بسد الذرائع ومناقشتها:
ذهب المالكية والحنابلة إلى أن سد الذرائع هي من الأدلة الفقهية واستدلوا بما يلي:
1- دليل الاستقراء
2- أحاديث الاحتياط.
3- الدليل العقلي.
أولًا: دليل الاستقراء:
وقد استعرض علماؤهم الكثير من موارد التحريم فوجدوا أنها من باب سد الذرائع إلى الحرام من قبيل تحريم النظر المقصود إلى المرأة، وتحريم الخلوة بها. وتحريم إظهارها للزينة الخفية وتحريم سفرها وحدها بعيدًا ولو لحج أو عمرة، وتحريم النظر إلى العورات، ووجوب الاستئذان عند الدخول إلى البيوت وغير ذلك مما يعلم أنها حرمت لكي يتم سد الطرق إلى الزنا وحينئذ فلو كان هناك طريق لم ينص على حكمه تم منعه عملًا بطريقة الشارع.(9/1406)
-المناقشة:
وقبل الدخول في المناقشة يجب التنبيه على أمر مهم وهو:
أن الحديث ينصب على المقدمات التي لا تستلزم بشكل قطعي تحقق الحرام أما إذا افترضنا الاستلزام وعدم الانفكاك ـ ولو بشكل عرفي ـ فإن فعل هذه المقدمات لا ريب في حرمته العقلية (على الأقل) فالقاء المصحف في النار مثلًا يستلزم إحراقه وإهانته وهي محرمة قطعًا (بل يعتبرها التقي السبكي خارجة عن باب سد الذرائع) (1) . وإنما عبرنا عن الحرمة بالحرمة العقلية على الأقل لنستوعب رأي القائلين بعدم تبعية حرمة المقدمة لحرمة ذي المقدمة من باب التحريم المولوي وإن كانوا يؤكدون على وجود حكم عقلي بالحرمة كالحكم العقلي بوجوب المقدمة لتحقيق ذي المقدمة كما يمكن القول بوجود اتفاق على حرمة كل ما ينتهي بشكل طبيعي وعرفي إلى الحرام إذا أدى إلى ذلك كحفر الآبار في طرق المسلمين أيضًا أما إذا لم يؤد إلى الحرام فنقول فيه أيضًا أنه لا كلام في قبحه الفاعلي باعتبار الحافر متجرئًا على الحرام وعاملًا على تحقيقه فإذا قلنا باستحقاق المتجرئ للعقاب استحقه بذلك (وهنا بحث خاص بالموضوع) .
فمصب البحث ـ كما أكد القرافي (2) بحق ـ هو ما كان أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لكنه ليس غالبًا.
__________
(1) راجع إعلام الموقعين لابن القيم ح3 ص148
(2) الفروق للقرافي في ج2 ص 32(9/1407)
وغني عن التنبيه أن الخلاف إنما يجري في غير ما ورد في الكتاب والسنة أما ما قام عليه دليل من موارد سد الذرائع فلا خلاف فيه كما في مسألة النهي عن سب آلهة المشركين لئلا يسبوا الله تعالى.
وهنا نتساءل عن المقصود بسد الذريعة وحرمة كل وسيلة يمكن أن تفضي إلى الحرام وإن كانت بنفسها مباحة كالمشي في طريق قد يؤدي إلى الحرام فهل يراد سد كل وسيلة يمكن أن تؤدي إليه وتحتمل فيها ذلك أم أن المراد هو سد خصوص الوسائل التي نقطع ـ حقيقة أو عرفًا ـ بأدائها إلى الحرام؟
فإن كان الثاني فلا خلاف في ذلك من حيث الحرمة وإن كان الكلام في عقليتها وغيريتها قائمًا. والحقيقة هي قيام تزاحم بين الحكم الأولي لذات المقدمة والقائم على الملاك المتوفر فيها والحكم الأولي لذي المقدمة (إذا كان التزاحم متصورًا بين حكم الإباحة وحكم الحرمة) وحكم ذي المقدمة تكليفي وهو مقدم في الغالب على الحكم غير التكليفي وربما كان ملاك الإباحة أكثر أهمية من ملاكات بعض الأحكام التكليفية.
أما إذا كان المراد هو الأول فهو أمر غريب.(9/1408)
صحيح أن الشارع قد يشتد اهتمامه بحذف مفسدة مهمة فيصب اهتمامه على سد كل الطرق التي تؤدي إليها ولو احتمالًا وحينئذ يقوم مباشرة بالتحريم كما في موضوع الزنا واختلاط المياه وضياع الأنساب حيث عمل الشارع على سد كثير من الطرق المفضية إليه على نحو الاحتمال وقد يستفيد البعض من أسلوبه أن كل طريق يؤدي إليه بنفس المستوى يجب سده ولكن هذا الأمر لا يمكن أن يشكل قاعدة عامة في كل موارد المفسدة لنقول بسد الذرائع كدليل وأصل عام، إلا أن يرشدنا الشارع إلى هذا المعنى، أو يقوم هو بسد الذرائع المفضية إلى الحرام، وكمثال لذلك نشير إلى أن الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله تعالى) يقول وهو في صدد تقدير حرمة التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة المحترمة: (ويمكن أن يستدل عليه بما سيجيء من عمومات حرمة اللهو والباطل وما دل على حرمة الفحشاء ومنافاته للعفاف المأخوذ في العدالة وفحوى ما دل على حرمة ما يوجب ـ ولو بعيدًا ـ تهيج القوة الشهوية بالنسبة إلى غير الحليلة مثل ما دل على المنع عن النظر لأنه سهم من سهام إبليس والمنع عن الخلوة بالأجنبية لأن ثالثهما الشيطان وكراهة جلوس الرجل في مكان المرأة حتى يبرد المكان ويرجحان التستر عن نساء أهل الذمة لأنهم يصفن لأزواجهن والتستر عن الصبي المميز الذي يصف ما يرى والنهي في الكتاب العزيز أن يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وعن أن يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن إلى ذلك من المحرمات والمكروهات التي يعلم منها حرمة ذكر المرأة المعينة المحترمة بما يهيج الشهوة) (1) .
__________
(1) المكاسب للشيخ الأعظم الأنصاري ـ طبعة تبريز ص22(9/1409)
يقول أستاذنا الحكيم:
(على أنا لا نمنع أن يتخذ الشارع احتياطات لبعض ملاكات أحكامه التي يحرص أن لا يفوتها المكلف بحال، فيأمر وينهي عن بعض ما يفضي إليها تحقيقاَ لهذا الغرض، إلا أن ذلك لا يتخذ طابع القاعدة العامة، ولعل الكثير من الأمثلة التي ذكرها (يعني ابن القيم حيث ذكر ما يقارب المائة بين آية وحديث وجد فيها اتحاد الحكم بين الوسائل وما تفضي إليه) منصبة على هذا النوع.
ويكفينا أن لا يكون في هذه الأمثلة من التعليلات ما يصلح لأن يتمسك بعمومه أو إطلاقه لتحريم جميع المقدمات التي تقع في طريق المحرمات، مهما كان نوعها، وليس علينا إلا أن نتقيد بخصوص هذه المواقع التي ثبت فيها التحريم (1) .
نعم يمكن لأحد أن يدعي حصول اطمئنان له بطريقة الشارع في كل الموارد إلا أن إثبات ذلك في غاية الصعوبة (2) .
وقد ذكرت الموسوعة بعض ما قاله الشافعية والحنفية في رد هذه القاعدة الكلية المدعاة باعتبار أن الذرائع هي الوسائل وهي مضطربة من حيث الأحكام، ومختلفة مع المقاصد من حيث قوة المصالح والمفاسد وأضافت الموسوعة المذكورة: (وقالوا إن الشرع مبني على الحكم بالظاهر كما قد أطلع الله ورسوله على قوم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولم يجعل له أن يحكم عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا، وحكم في المتلاعنين بدرء الحد مع وجود علامة الزنا، وهو أن المرأة أتت بالولد على الوصف المكروه.
قال الشافعي: وهذا يبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع، فإذا أبطل الأقوى من الدلائل أبطل الأضعف من الذرائع كلها) (3)
ولعل الشافعي أراد أن يقول بأنه صحيح أن هذه الوسيلة يظهر منها أنها مقدمة للحرام ولكن هذا الظاهر لن يبرر التحريم ما لم يصل إلى مستوى القطع العرفي على الأصل.
__________
(1) أصول الفقه المقارن ص 411
(2) وقد يستفاد من طريقة الشارع أحيانًا ما يعد ضوءًا كاشفًا (على حد تعبير أستاذنا الصدر) يستفيد منه الحاكم الشرعي بتنظيم شئون البلاد
(3) الموسوعة الكويتية ج 24 ص 278 نقلًا عن الأم للشافعي ج7 ص 270 قبيل باب إبطال الاستحسان من كتاب الاستحسان.(9/1410)
ثانيًا: دليل الاحتياط:
الدليل الثاني للقائلين بسد الذرائع وهو ما يمكن تسميته بدليل الاحتياط حيث استند القائلون فيه إلى الأدلة التي تذكر في باب وجوب الاحتياط أو حسنه من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (1) . وقوله صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كان كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه)) (2) .
-المناقشة:
وأهم ما يقال فيه أنه استناد إلى دليل الأصل العملي في حيث أنه يراد هنا الاستدلال به على أصل من أصول الفقه وهو ما يسمى بالأصل الاجتهادي.
ومن المعلوم أن الأصول العملية إنما يرجع إليها لرفع الحيرة والشك عند فقدان الدليل الاجتهادي، والمفروض أن الأدلة الاجتهادية هنا قائمة على إباحة الذريعة باعتبارها هي، ولا معنى لتقديم مقتضى أصل عملي على دليل اجتهادي لأن الأصل الاجتهادي مقدم عليه رتبة ورافع لموضوعه.
على أن الاستناد لما ذكر وأشباهه ليس تامًا في إثبات أصل عملي بالاحتياط وتحريم كل شبهة تحريمية (كما يقول بذلك الإخباريون من الإمامية) والحديث في هذا المجال مفصل إلا أننا نشير إلى مجمله على النحو التالي:
__________
(1) ورد في صحيح الترمذي (ج4 ص 668 ـ ط. الحلبي) من حديث الإمام الحسن بن علي (ع) وقاله عنه: حديث حسن صحيح.
(2) أخرجه البخاري (الفتح ج1 ص126 الطبعة السلفية) ، ومسلم (ج3 ص 1219، ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير(9/1411)
فقد استند القائلون بوجود أصل شرعي يحكم الاحتياط في كل مورد مشتبه مطلقًا أو فيه شبهة تحريم إلى كثير من النصوص الشريفة نذكر منها ما يلي:
1- قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
وقد نوقشت دلالة الآية على ذلك بأنها ربما كانت تحوي نهيا إرشاديًا إلى أن الانفاق المذكور في المقطع السابق على الآية الشريفة، يجب أن لا يكون إلى الحد الذي يوجب الإفلاس والتعرض إلى الهلاك وهو احتمال قربة المرحوم الصدر (1) . أو أنها ترشد إلى لزوم الانفاق في الجهاد وإلا تعرضت البلاد للفناء كما جاء في بعض التفاسير من قبيل تفسير الإمام الرازي (2) . ومن الواضح أن الاستدلال يبطل مع هذا الاحتمال.
ثم إننا هنا نشك في أن العمل بهذه الذريعة فيه هلكة فيكون المورد من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وهو باطل.
ثم إن النهي لو أريد به النهي عن التهلكة الأخروية لم يعد نهيًا مولويًا وإنما هو نهي إرشادي لأنه يعد من شؤون الطاعة والعصيان وهي لا تقبل جعلًا شرعياً (3) .
2- قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] .
فيقال إن الآية الشريفة تنهى عن تقحم الشبهة وتأمر بالرد إلى الله والرسول. إلا أن من المحتمل أنها تشير إلى موارد النزاع لا الشك في الحكم، وربما كانت تركز على النزاع في الأمور العامة باعتبار وروها بعد قوله تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] ثم إن الرد إلى الله يعني تحكيم شريعة الله لا الرجوع إلى الأهواء وهو أجنبي عن موردنا الاستدلالي.
__________
(1) بحوث في علم الأصول ج2 ص83
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي ج5 ص 136
(3) راجع أصول الفقه المقارن ص 469(9/1412)
الاستدلال ببعض الروايات الدالة على حسن الاحتياط من قبيل ما ذكر في الدليل وهناك روايات كثيرة غيرها مثل الروايات التالية:
أ - من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه (1) .
ولم تبين الرواية ماهية هذا الاستبراء.
ب - أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت (2) .
وقرينة (بما شئت) تؤكد الاستحباب.
جـ- أورع الناس من وقف عن الشبهة (3) .
ولا دلالة فيها على الوجوب.
د - من هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه (4) .
هـ- الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة وتركك حديثًا لم تروه خير من روايتك حديثًا لم تحصه (5) .
ومن الواضح أن أدلة البراءة الشرعية ـ كما قلنا ـ ناهيك عن أدلة الإباحة الاجتهادية في الذرائع لا تجعل الارتكاب هنا اقتحامًا بلا دليل، فليس هنا هلكة حتى يعتبر ارتكابها كذلك.
هذا بالإضافة إلى كونها إرشادًا لحكم العقل.
و الأمور ثلاثة أمر بين لك رشده فاتبعه، وأمر بين لك غية فاجتنبه، وآخر اختلف فيه فرده إلى الله (6) .
تؤدي إلى الحرام لارتفاع نسبة احتمال الوقوع فيه مما يجعلها من حيث المجموع طريقًا طبيعيًا له وهو يجعلها من حيث المجموع محرمة على أن الحديث قد يشير إلى الذرائع التي تؤدي بشكل طبيعي إلى الحرام وهذا ما اتفقنا على حرمته باعتباره ملازمًا عرفًا للحرام ـ وهذا المعنى قد يستفاد من الحوم حول الحمى يوشك أن يواقعه بشكل طبيعي.
__________
(1) جامع أحاديث الشيعة الباب الثامن من أبواب المقدمات ج28
(2) جامع أحاديث الشيعة الباب الثامن من أبواب المقدمات ج30
(3) جامع أحاديث الشيعة الباب الثامن من أبواب المقدمات ج33
(4) جامع أحاديث الشيعة الباب السابع من أبواب المقدمات ج 33
(5) جامع أحاديث الشيعة الباب الثامن من أبواب المقدمات ج40
(6) جامع أحاديث الشيعة الباب الثامن من أبواب المقدمات ج 45 وهناك أحاديث تشابهه معنى من قبيل ما جاء في مقبولة عمر بن حنظلة كما عنونت في كتب الإمامية (وسائل الشيعة ج18 طبعة المكتبة الإسلامية ص 114 وقد جاء فيها (إنما الأمور الثلاثة أمر بين رشده فيتبع وأمر بين غية فيجتنب، وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم) وقربها السيد الحكيم من التواتر المعنوي (أصول الفقه المقارن ص 498) وبحثت في كتب الإمامية الأصولية بشكل واف (راجع فوائد الأصول للشيخ الأنصاري ص 209 الطبعة الحجرية، المطفوي)(9/1413)
ثالثًا الدليل العقلي:
وملخصه أن إباحة الوسائل إلى الشيء المحرم المفضية إليه نقض للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمة الشارع وعلمه تأبى ذلك (1) .
-المناقشة:
إن المراد بهذه الوسائل إن كانت تلك التي تستلزم الوقوع في الحرام فلا ريب في أنها مما يمنع العقل منها إلا أنه لا دليل على كونها ذات حرمة شرعية دائمًا لأن الحرمة ـ كما هو معلوم ـ تتبع توفر الملاك في نفس العمل، فإذا لم يكن في أصل الذريعة ملاك الحرمة لم يكن هناك معنى للحكم المولوي بالحرمة بل يعتمد الشارع على تحريمها العقلي باعتبارها مقدمة لازمة للحرام.
إلا أن المناقشة المهمة هي أن موضع النزاع هي تلك الموارد التي قد تؤدي إلى الحرام ولا يوجد فيها حتى الإلزام العقلي بالامتناع عنها، وليس فيها أي نقض للتحريم وإغراء للنفوس وما لم يصلنا من الشارع تحريم فهي باقية على حكمها الأصلي.
ومن هنا فنحن نعتقد أن ما يبحث عند علماء الإمامية تحت عنوان مقدمة الواجب أو مقدمة الحرام ومدى ترشح الوجوب والحرمة إلى المقدمات، لا علاقة له ببحث سد الذرائع المختلف فيه بين المذاهب الأربعة ـ كما تصور ذلك بعض أساتذتنا (2) . فمصب النزاع ليس هو المقدمات التي ثبت تحريمها بنفسها ولا تلك التي تستلزم الحرام وإنما يركز المتنازعون على تلك التي قد تؤدي إلى الحرام (كما يؤكد القرافي) (3) .
وهذا المورد ليس محلًا للنزاع عند علماء الإمامية أيضًا.
يقول الإمام الشهيد الصدر بعد تقسيمه مقدمات الحرام إلى قسمين ما لا ينفك عن الحرام وما ينفك عنه: (فالقسم الأول من المقدمات يتصف بالحرمة الغيرية دون القسم الثاني؛ لأن المطلوب في المحرمات ترك الحرام وهو يتوقف على ترك القسم الأول من المقدمات ولا يتوقف على ترك القسم الثاني) (4) .
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم ج3 ص 148
(2) أصول الفقه المقارن ص410
(3) الفروق ج2 ص 32
(4) دروس في علم الأصول ـ الحلقة الثالثة ج1 ص376(9/1414)
ملاحظات:
الأولى: ذكر الأستاذ سلام أن (الواقع أن الفقهاء جميعًا يأخذون بأصل الذرائع مع اختلاف في مقدار الأخذ به وتباين في طريقة الوصول إلى الحكم أن المشاهد في أحكام الفروع أن أكثر الفقهاء يعطي الوسيلة ـ أي الذريعة ـ حكم الغاية إذا تعينت الوسيلة لهذه الغاية، أما إذا لم تتعين طريقًا لها فالمشهور عن الإمام مالك أنها تعتبر أصلا للأحكام، ويقرب منه في ذلك الإمام أحمد وتبعها ابن تيمية وابن القيم (1) .
والذي ينبغي أن يقال إن تعين الوسيلة للغاية لا يكسبها حكم الغاية دائمًا إلا إذا كانت الغاية غير منفكة عن الوسيلة، فلو أن طريقًا ما كان هو الطريق الوحيد للوصول إلى بيت فيه مفسدة لم يحرم السير فيه لأغراض أخرى، ثم إننا لا ندري كيف يحرم كل طريق يؤدي إلى المفسدة، ولو كان الأداء غير غالبي فضلًا عن كونه في قليل من الأحيان.
وعلى أي حال فالنص غير دقيق وتقسيم القرافي أدق منه.
الثانية: لاحظ الأستاذ الحكيم على ما قاله مالك وأحمد وابن تيمية وابن القيم من أن هذه المسألة من أصول الأحكام وعلق عليه بأن اكتشاف حكم المقدمة إما أن يتم من خلال الحكم العقلي بقاعدة الملازمة بين الحكم الشرعي ذي المقدمة والحكم الشرعي في المقدمة وحينئذ تدخل المسألة في مباحث صغريات حكم العقل.
وإما أن تستفاد هذه الملازمة من خلال الدلالة اللفظية الالتزامية لأدلة الأحكام ـ كما بني عليه البعض ـ وحينئذ يكون وجوب المقدمات مدلولًا للسنة ولا تشكل المسألة أصلًا برأسه (2) .
ولو كان هؤلاء العلماء يقصدون ذلك لكان الإشكال واردًا.
إلا أن المحتمل أنهم يريدون أن المسألة تشكل قاعدة عامة تستنبط منها الأحكام حتى وإن كانت تطبيقًا لأصول أخرى سابقة عليها.
الثالثة: قد ينطبق عنوان محرم على بعض المقدمات وإن لم تكن مستلزمة بشكل عرفي للنتيجة المحرمة فتحرم ولكن لا من باب هذا الأصل وإنما من باب انطباق العنوان المحرم عليها ... وهذا العنوان من قبيل (الاعانة على الأثم) المنهي عنها في القرآن الكريم وقد يقع الاختلاف في موارد الانطباق.
فبيع هياكل العبادة المبتدعة كالصليب أو الصنم، وبيع آلات اللهو المخصصة للحرام وكذلك آلات القمار هي من الموارد المحرمة بلا ريب باعتبارها إعانة على الإثم بالإضافة للأدلة الخاصة الواردة فيها.
وبيع العنب على أن يعمل خمرًا والخشب على أن يعمل صنمًا وإجارة المساكين ليباع ويحرز فيها الخمر، وبيع محلات السينما على أن تعرض فيها الأفلام الخليعة، وإجارة الأماكن ليتم تعذيب المؤمنين فيها كل ذلك وأمثاله مما ينطبق عليه حتمًا عنوان الإعانة على الإثم فضلًا عن أنه أكل للمال بالباطل باعتبار أن تلك المنافع ساقطة في نظر الشارع.
وربما وقع الاختلاف في بيع العنب مثلًا دون تقييد بصنع الخمر ولكنه يحتمل أنه بفعل ذلك، أو في بيع شيء أو انضم إليه شيء آخر في عقد آخر لكان مقدمة حتمية للحرام، أو بيع سلاح ممن يظن أنه يتعامل مع العدو المحارب، أو تمرير بضاعة من خلال بعض الدوائر التابعة للظالمين مما يؤدي لأخذهم ضرائب عليها وتقوية كيانهم دون أن يقصد هذه التقوية وإنما يقصد التصدير لبلاد أخرى.
وخلاصة الأمر: إنه إذا صدقت عناوين محرمة أخرى على بعض المقدمات كانت محرمة لذلك ولكننا نبحث عن المقدمية نفسها وهل تستوجب الحرمة إذا لم تكن ملازمة أم لا؟ ونشير هنا إلى البحث القيم الذي قدمه الشيخ الأعظم الأنصاري في هذا الموضوع فليراجع (3) .
__________
(1) المدخل للفقه الإسلامي ص 270
(2) أصول الفقه المقارن ص415
(3) المكاسب طبعة تبريز من ص 14 إلى 21(9/1415)
سد الذرائع والحيل الشرعية:
ربما اعتبر البعض أن العقد الذي يملك صورة ظاهرية مباحة ويراد منه الغرض الحرام يجب تحريمه وضعيًا من باب سد الذرائع.
وقد حرم ابن القيم فعل من يعقد النكاح قاصدًا به التحليل أو يعقد البيع قاصدًا الربا (1) .
كما حرم المالكية بيوع الآجال كمن باع سلعة إلى شهر بعشر دراهم ثم اشتراها نقدًا بخمسة قبل آخر الشهر فمالك يقول: إنه أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل توسلًا باظهار صورة البيع لذلك.
وقد خالف الشافعي في ذلك مؤكدًا على النظر على ظاهر العقد فهو لا يفسد بشيء تقدمه أو تأخر عنه.
وقد ذكرت الموسوعة أن هناك بيوعًا تصل إلى ألف مسألةاختص بها مالك وخالفه فيها الشافعي (2) فما هو الموقف في هذا المجال؟
والظاهر أن هذا الباب لا يدخل في بحثنا عن سد الذرائع وفق المقياس الذي طرحناه من قبل لأنه لا يستلزم تمامًا أو بشكل غالبي تحقيق الهدف وإن أدى إليه أحيانًا.
فإن بيع الشرط (أو ما يسمى ببيع الوفاء) مثلًا قد يكون حقيقة بيعًا يبيع فيه شخص بيتًا لآخر مشترطًا عليه إعادته عند إعادة الثمن في الوقت المحدد.
كما قد يؤدي إلى تحايل على الربا بهذه الطريقة أو فلنقل قد يؤدي إلى نفس النتائج المقصودة من الربا ولكن هل تحرم نتيجة الربا كمثل حرمة الربا؟
وهل من الممكن وضع ضابط للتمييز بين النوعين على أساس القصد مثلًا والعمل بعد ذلك بمبدأ سد الذرائع؟
__________
(1) إعلام الموقعين ج3 ص 148
(2) الموسوعة الكويتية ج24 ص279(9/1416)
وعلى أي حال، فإن الإشكال يبقى قائمًا من جهة أخرى باعتبار إمكان التحايل لتحقيق الربا وهو المسرب الطبيعي لكثير من أنماط الفساد الاجتماعي والاقتصادي، والأزمات القائمة التي نشاهدها في النظم المتعاملة به فكيف ينسجم هذا مع طرح مسألة التحايل والفرار من الربا؟ حتى في بعض النصوص الشرعية مما يوهم أن الإسلام يفتح بنفسه الباب لجريان الربا إلى المجتمع وهو ما نهى عنه بشتى أساليب النهي ولكن تحت عناوين أخرى بحيل ووسائل وأساليب التفافية تقوم بالدور المفسد نفسه دون أن تمتلك الحرمة الشديدة نفسها.
وقد عبر الإمام الخميني (رحمه الله) عن هذا الإشكال بقوله: (وهذه عويصة بل عقدة في قلوب كثير من المتفكرين وإشكال من غير منتحلي الإسلام على هذا الحكم، ولا بد من حلها، والتشبث بالتعبد في مثل هذه المسألة، التي أدركت العقول مفاسد تجويزها ومصالح منعها، بعيدًا عن الصواب) (1) .
وهو يعقب بالتالي على ذلك مؤكدًا أن الروايات الواردة في مجال الفرار من الربا تنصب في معظمها على الربا المعاوضي الجاري في النقود وفي المكيل والموزون حيث تؤدي الضميمة من غير الجنس إلى إخراج المعاملة من كونها تعاملًا بالمثلين، وذلك كما في رواية الحلبي لا بأس بألف درهم ودرهم بألف درهم ودينارين إذا دخل فيها ديناران أو أقل أو أكثر فلا بأس به) (2) .
__________
(1) البيع للإمام الخميني ج2 ص408
(2) وسائل الشيعة ـ الباب السادس من أبواب الصرف ـ ج4(9/1417)
ولا يرى إشكالًا في تجويزها في الربا والمعاوضي قائلًا:
وأما تجويزها في القسم الأول (المعاوضي) فلا إشكال فيه أصلًا ولا عقدة ولا عويصة لأن المثليات كسائر الأمتعة لها قيمة قد ترتفع وقد تنخفض، واشتراء من الحنطة الجيدة بمنين أو بأمنان من الشعير كاشتراء سائر الأمتعة بقيمتها السوقية، واشتراء دينار أو درهم له قيمة سوقية تساوي دينارين من غير صنفه أو درهمين كذلك ليس فيه إشكال ولا عويصة (عرفية) رأسًا، بل لعل سر تحريم الشارع المبادلة فيها ليس إلا مثلًا بمثل خارج عن فهم العقلاء، وإنما هو تعبد، فالحيلة في هذا القسم لا إشكال فيها أما ربا القرض فلم ترد في مجال التخلص منه إلا بعض الروايات وهي إما أن تكون ضعيفة من حيث السند والدلالة وإما أن تكون بصدد أراءة سبيل صحيح يحقق الغرض بتحويل هذا العقد إلى عقود صحيحة أخرى تترتب عليها أحكامها الطبيعية ولا تنتج عنها المفاسد الربوية، والأزمات الخانقة قد لا تترتب على هذه السبل التي طرحت هنا (1) .
وحتى لو افترضنا وجود روايات ما ـ كما يدعى ـ سليمة السند والدلالة فهي بالنظر العرفي المسلم مخالفة لمقتضى الكتاب والسنة القطعية المؤكدة على كونه من الظلم والفساد وإعلان الحرب ضد الله تعالى ولذلك توضع عليها علامات الاستفهام.
__________
(1) وسائل الشيعة ج12 ص371(9/1418)
هذا وهناك بعض الروايات التي تمنع من التحايل على الربا.
فقد ورد في رواية يونس الشيباني قال:
قلت لأبي عبد الله (ع) (الصادق) : الرجل يبيع البيع، والبائع يعلم أنه لا يسوى والمشتري يعلم أنه لا يسوى إلا أنه يعلم أنه سيرجع فيه فيشتريه منه قال: فقال: يا يونس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله قال لجابر بن عبد الله: كيف أنت إذا ظهر الجور وأورثتم الذل؟
قال: فقال له جابر: لا بقيت إلى ذلك الزمان ومتى يكون ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: إذا ظهر الربا، يا يونس وهذا الربا فإن لم تشتره مرده عليك؟ قال: قلت: نعم قال: فلا تقربنه، فلا تقربنه (1) .
ومن الواضح في هذا الحديث أن مورد البحث هو اشتراط البيع الأول بالثاني مما يعني مجرد عملية تحايل تؤدي بشكل واضح إلى الربا دون أن تترتب أية نتائج أخرى.
__________
(1) ويراجع للتفصيل كتاب البيع ج2 ص 408(9/1419)