الأمر الثالث – كونها أصلية أو على خلاف القياس:
فقد ذهب جماعة إلى أن هذا البيع على خلاف القياس.
قال الزيلعي من الحنفية: وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم، والقياس يأبى جوازه لأن المسلم فيه مبيع وهو معدوم وبيع موجود غير مملوك أو مملوك غير مقدور التسليم لا يجوز فبيع المعدوم أولى أن لا يجوز ولكن تركناه بما ذكرناه (1) .
وذكر صاحب التاج: المذهب أن السلم باب من أبواب البيع ولكنه مخالف للقياس إذ هو بيع معدوم، وحكى صاحب الروض النضير إجماع المسلمين على جواز السلم إلا ما روي عن ابن المسيب من النهي عنه لحديث: ((لا تبع ما ليس عندك)) وأجيب بأنه يحتمل أن يكون معناه: لا تبع ما ليس لك وأن يكون المعنى ما يكون غائبا عنك مما ليس بسلم وتكون أدلة الجواز خاصة وهي صريحة في معناها والسلم نوع من أنواع البيع إلا أنه لما خالف البيع في أحكامه وشرائطه خالفه في الاسم (2) .
قال ابن المنذر: وقد استثني عقد السلم من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم (3) .
__________
(1) موسوعة الفقه الإسلامي 9/164
(2) موسوعة الفقه الإسلامي 9/166
(3) الفقه الإسلامي وأدلته 4/598(9/319)
هذه كلماتهم وهي صريحة في أن بيع السلم مخالف للقياس ووجه مخالفته للقياس منافاة هذا البيع لمضمون الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تبع ما ليس عندك)) كما هو المصرح في عباراتهم، ولكن يمكن أن يقال: إن مخالفة بيع السلم للقياس منوط بأن الحديث مفاده ومضمونه النهي عن بيع السلم ولو بعمومه حتى يكون بيع السلم مخالفا للقياس أي مخالفا للحديث النبوي المذكور، ولكن الحديث فيه احتمالات يمكن أن يكون أحد المحتملات النهي عن بيع السلم بعمومه ومفاده النهي عن بيع شيء معدوم كما تقدم في كلماتهم من معنى الحديث وفي معنى الحديث احتمالات ثلاثة كما احتمل بعضها صاحب الروض:
1- لا تبع ما ليس عندك أي ما ليس لك.
2- لا تبع ما ليس عندك أي ما يكون غائبا عنك وإن كانت مالكا له.
3- لا تبع ما ليس عندك أي ما لا تكون قادرا على تسليمه ولو في الأجل المسمى.
وهذا الاحتمال الثالث هو مختار بعض.
قال الشيخ العلامة الأنصاري في كتاب البيع: منها ما اشتهر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ((لا تبع ما ليس عندك)) بناء على أن كونه عنده لا يراد به الحضور لجواز بيع الغائب والسلف إجماعا فهي كناية لا عن مجرد الملك؛ لأن المناسب حينئذ ذكر لفظة اللام ولا عن مجرد السلطنة عليه والقدرة على تسليمه لمنافاته لتمسك العلماء من الخاصة والعامة بها على عدم جواز بيع العين الشخصية المملوكة للغير ثم شرائها من مالكها خصوصا إذا كان وكيلا عنه في بيعه ولو من نفسه فإن السلطنة والقدرة على التسليم حاصلة هنا مع أنه مورد الرواية عند الفقهاء فتعين أن يكون كناية عن السلطنة التامة الفعلية التي تتوقف على الملك مع كونه تحت اليد حتى كأنه عنده وإن كان غائبا (1) .
والحاصل مع وجود هذه الاحتمالات في معنى الحديث كما هو الظاهر من كلماتهم فالحكم بكون بيع السلم مخالفا للقياس محل تأمل كما لا يخفى.
__________
(1) المتاجر للشيخ الأنصاري: 186(9/320)
الأمر الرابع: في شروط صحته:
قد ذكروا لصحة بيع السلم شروطا ولكن بعضهم اكتفى بذكر خمسة من هذه الشروط (1) وذكر البعض أن شروط السلم ستة (2) وذكر البعض أكثر من ذلك، ونحن نذكر الشروط المتفق عليها ونشير إلى ما هو المختلف فيه من شروط السلم.
الأول والثاني:
ذكر الجنس والوصف، والمراد من ذكر الجنس أي: ذكر الحقيقة النوعية. ومن ذكر الوصف: الوصف المائز بين أصناف ذلك النوع.
قال المحقق الكركي: المراد بالوصف كل وصف تختلف به القيمة اختلافا ظاهرا لا يتغابن الناس بمثله في السلم؛ لأنه قد يقع التغابن في السلم بما لا يتغابن في غيره. (3) .
والضابط فيه أن كلما يختلف لأجله الثمن اختلافا لا يتسامح بمثله في السلم فذكره لازم (4) ولا يجوز الاستقصاء في ذكر الأوصاف المخرج إلى عزة الوجود وعسر التحصيل وإلا يبطل السلم.
والدليل على اعتبار هذا الشرط مضافا إلى أن البيع يصير بدون ذكرهما غرريا والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر ما ورد في روايات بيع السلم من لزوم ذكر الأوصاف.
منها ما عن محمد بن يعقوب عن علي ابن إبراهيم عن أبيه عن إسماعيل بن مرار عن يونس عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس بالسلم في المتاع إن سميت الطول والعرض)) (5) .
ومنها ما تقدم من رواية جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول والعرض (6) .
ومنها ما عن محمد بن الحسن، عن فضالة عن جميل بن دراج عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس بالسلم في الحيوان والمتاع إذا وصفت الطول والعرض وفي الحيوان إذا وصفت أسنانها (7) إلى غير ذلك من الروايات الواردة الدالة بمضمونها على اعتبار هذا الشرط في صحة السلم.
ثم إنه لا بد مع ذلك أن تكون العبارة الدالة على الوصف معلومة بين المتعاقدين ظاهرة في العرف واللغة حتى يمكن استعلامها عند اختلافهما، وإذا كان الشيء مما لا ينضبط بالوصف على وجه ترتفع جهالته لم يصح السلم فيه.
__________
(1) المختصر النافع
(2) شرايع الإسلام
(3) جامع المقاصد 4/209
(4) جواهر الكلام 24/275
(5) الكافي 5/199
(6) الكافي 5/199
(7) وسائل الشيعة 13/56 ح10(9/321)
الشرط الثالث:
قبض رأس المال قبل التفرق شرط في صحة العقد فلو افترقا قبله بطل، والدليل على اعتبار هذا الشرط في صحة العقد الإجماع كما نقل عن الغنية والمسالك وفي بطلان العقد بعد التفرق بدون القبض قال في التذكرة: عند علمائنا أجمع كما في الجواهر.
ولكن يمكن أن يقال مضافا إلى ما ادعي من الإجماع على اعتبار القبض قبل التفرق في صحة العقد أن تسليم الثمن دخيل في حقيقة السلم وأنه بدونه منتف؛ لأن هذا العقد يسمى سلما وسلفا لغة وشرعا والسلم ينبئ عن التسليم والسلف ينبئ عن التقدم فيقتضي لزوم تسليم رأس المال وقد تقدم في تعريفه أن معناه لغة عبارة عن إعطاء الثمن في سلعة معلومة إلى أمد معلوم واصطلاحا ابتياع مال مضمون إلى أجل معلوم بمال حاضر أو في حكمه.
فعلى ضوء هذا التفسير يكون قبض رأس المال من مقومات السلم بحيث لو لم يقبض ثمن السلعة معجلا وفي مجلس العقد لا يكون سلما.
وبالجملة الدليل لهذا الشرط إما أن يكون هو الإجماع كما نقلناه آنفا عن جملة من الأعلام مثل (الغنية) و (المسالك) و (التذكرة) وهو الحجة بعد شهادة التتبع، وإما أن يكون قبض رأس المال قبل التفرق مما به قوام بيع السلم فلا يصدق السلم إذا لم يقبض رأس المال في مجلس العقد؛ فعلى هذا فلو تفرقا ولم يقبض إلا بعض ثمن السلعة صح في المقبوض وبطل في الباقي.
وفي (جامع المقاصد) قال: الشرط الرابع قبض الثمن في المجلس فلو تفرقا قبله بطل ولو تفرقا بعد قبض البعض صح فيه خاصة وللبائع الامتناع من قبض البعض للعيب بخلاف الدين، نعم صرح غير واحد بأن للبائع الخيار في الفسخ إذا لم يكن بتقصيره للتبعيض إلا أن الظاهر عدم الفرق في ذلك بين البائع والمشتري ولعل اقتصارهم على الأول هنا لأن الغالب كون التقصير في عدم القبض من المشتري فيسقط خياره، أما لو فرض عدمه مع حصول التبعيض فلا ريب في تسلطه على الخيار لذلك كما هو واضح. (1) .
__________
(1) جواهر الكلام 24/29(9/322)
الشرط الرابع:
من الشرائط تقدير المسلم فيه بالكيل والوزن العامين فلو عولا على صخرة مجهولة أو مكيال مجهول لم يصح. وهذا الشرط لا يختص بالسلم بل التقدير بالوزن فيما يوزن وبالكيل فيما يكال من جملة شروط البيع، والدليل على لزومه في البيع دليل على لزومه في السلم لأن السلم من أقسام البيع، ولا بأس بالإشارة إلى ما قيل أو يمكن أن يقال من الدليل على اعتبار هذا الشرط في البيع.
وهو أن عدم التقدير فيما يوزن بالوزن المعتبر وفيما يكال بالكيل المعتبر موجب للجهالة بمقدار المبيع. والعلم بمقدار المثمن إن كان مكيلا أو موزونا معتبر شرعا وعرفا لعدم صحة المعاملة جزافا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر (1) ومع عدم تعيين مقدار المثمن كيلا ووزنا يصير البيع غرريا مضافا إلى عدم وجود مخالف ظاهرا في اعتبار ذلك. قال في الجواهر: بلا خلاف أجده إذا كان من المكيل والموزون بل ولا إشكال، ضرورة توقف المعلومية فيهما عليهما في المشاهد فضلا عن الغائب (2) .
ومع أن الروايات الواردة في السلم تدل على تقدير المكيل بالكيل والموزون بالوزن نذكر بعضا منها:
1- محمد بن يعقوب عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان عن ابن مسكان عن محمد الحلبي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن السلم في الطعام بكيل معلوم إلى أجل معلوم قال: لا بأس به (3) .
__________
(1) الوسائل 12/330 من أبواب آداب التجارة ح3
(2) جواهر الكلام 24/296
(3) وسائل الشيعة 13/62 ح1و2و3(9/323)
2- وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعن محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد جميعا عن ابن محبوب، عن حماد، عن الحلبي قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل أسلم دراهم في خمس مخاتيم من حنطة أو شعير إلى أجل مسمى (إلى أن قال) فقال: لا بأس. والزعفران يسلم فيه الرجل دراهم في عشرين مثقال أو أقل أو أكثر من ذلك، قال: لا بأس – الحديث (1) .
3- وبإسناده عن صفوان بن يحيى عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يسلم في غير زرع ولا نخل، فقال: تسمى كيلا معلوما إلى أجل معلوم – الحديث (2) .
ثم إن الإسلاف في المعدود عددا هل يكون مثل الإسلاف في الكيل والوزن في الجواز أم الإسلاف منحصر بالكيل والوزن ولا يجوز في غيرهما؟ ففيه خلاف؛ قال بعض فيه بعدم الجواز واستدلوا عليه بأن الغرر لا يرتفع به لكثرة اختلاف المعدود في الكبر والصغر وغيرهما والاكتفاء به في المشاهدة لارتفاع الغرر بها لا به. ولكن يمكن أن يقال: إن كان التفاوت فيه بحيث يتسامح فيه بالعادة ولا يكثر فيه التفاوت فالوجه الجواز لعدم الغرر حينئذ وفاقا لجماعة من الأعلام. وهل يجوز الإسلاف في الثوب؟ الوجه فيه الصحة بشرط أن يكون الثوب معلوما من جهة الذرع وغيره من الأوصاف التي ترتفع معها الجهالة كما تقدم في المكيل والموزون.
__________
(1) وسائل الشيعة 13/62 ح1و2و3
(2) وسائل الشيعة 13/62 ح1و2و3(9/324)
الشرط الخامس:
من الشروط تعيين الأجل بحيث يكون وقت تسليم السلعة معلوما عند المتعاقدين، فلو ذكر أجلا مجهولا مثل أن يقول: متى أردت. أو ذكر أجلا يحتمل فيه الزيادة والنقصان مثل: وقت الحصاد أو الدياس أو قدوم الحاج ونحوهما مما يؤدي إلى الجهالة كان باطلا.
والدليل على لزوم التعيين في السلم أمور:
منها أن عدم ذكر الأجل سبب لكون المعاملة غررية إن كان الأجل مما له مدخلية في حقيقة السلف كما يظهر من كلمات عدة من الأعلام وقد تقدم فعلى هذا لا بد من تعيين الأجل دفعا للغرر. ومنها النصوص الكثيرة الدالة على تعيين الأجل نذكر جملة منها:
1- محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن صفوان بن يحيى عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يسلم في غير زرع ولا نخل قال: يسمى كيلا معلوما إلى أجل معلوم – الحديث (1) .
2- وعن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن السلم وهو السلف في الحرير والمتاع الذي يصنع في البلد الذي أنت به؟ قال: نعم، إذا كان إلى أجل معلوم (2) .
3- وعنه عن أحمد بن محمد عن محمد بن يحيى عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا بأس بالسلم كيلا معلوما إلى أجل معلوم ولا تسلمه إلى دياس ولا إلى حصاد (3) . إلى غير ذلك من الروايات الواردة في المقام الدالة على لزوم تعيين الأجل المعلوم وعدم جواز ذكر الأجل الذي يحتمل فيه الزيادة والنقصان كما هو المستفاد من الرواية الثالثة.
ثم إذا جعل الأجل شهرا مثلا قمريا أو شمسيا فإن كان وقوع المعاملة في أول الشهر فالمراد تمام ذلك الشهر وإن كان في أثناء الشهر فالمراد من الشهر مجموع ما بقي منه مع إضافة مقدار من الشهر الثاني يساوي الماضي من الشهر الأول وهكذا إذا جعل الأجل شهرين أو شهورا وإذا جعل الأجل جمادى أو ربيعا ولم يعين حمل على أولهما من تلك السنة وحل بأول جزء من ليلة الهلال وإذا جعله الجمعة أو الخميس وغيرهما من أيام الأسبوع حمل على الأول من الأسبوع الآتي وحل بأول جزء من نهار اليوم المذكور.
__________
(1) وسائل الشيعة 13/57 ح1 من أبواب السلف
(2) وسائل الشيعة 13/58 ح4 من أبواب السلف
(3) وسائل الشيعة 13/58 ح5 من أبواب السلف(9/325)
الشرط السادس:
من شروط السلم أن يكون وجود السلعة غالبا بحسب العادة وقت حلول الأجل ولو كان معدوما وقت العقد ويستفاد من هذا الشرط في الحقيقة أمران: الأول وجود المسلم فيه وقت حلول الأجل، الثاني عدم لزوم وجود السلعة وقت المعاملة.
أما الأمر الأول وهو وجود السلعة وقت حلول الأجل بحسب العادة لأن القدرة على تسليم السلعة شرط عند حلول الأجل فإذا لم تكن السلعة موجودة بحسب العادة عند حلول الأجل لم يقدر على التسليم؛ لأن القدرة على التسليم فرع وجود السلعة عند حلول الأجل ولكن ليس هذا الشرط من شروط بيع السلم خاصة بل القدرة على تسليم المبيع شرط في جميع أقسام البيع.
وفي الجواهر: وهذا الشرط ليس من خواص السلم بل القدرة على تسليم المبيع شرط في كل بيع (1) .
وذكروا في كتاب البيع أن من شروط العوضين القدرة على التسليم كما في المتاجر للعلامة الشيخ الأنصاري عليه السلام (2) وكيف كان، فالقدرة على التسليم شرط في العوضين سواء في السلم وغيره والدليل على لزوم هذا الشرط في العوضين دليل على لزومه في السلم لأنه قسم من أقسام البيع.
أما الأمر الثاني وهو عدم لزوم وجود السلعة حين المعاملة لأنه يصدق القدرة على التسليم ولو كان معدوما عند العقد إذ الأمور المعدومة المعتادة التحقق في أزمنة خاصة بمنزلة الأمور الموجودة فلا تقدح المعدومية وقت العقد (3) . وفي (الروضة) : كما لا يشترط وجوده حال العقد حيث يكون مؤجلا ولا فيما بينهما. (4) وقال بعض: يشترط أن يكون جنس المسلم فيه (المبيع) موجودا في الأسواق بنوعه وصفته من وقت العقد إلى وقت حلول أجل التسليم ولا يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس (5) وفيه أن المعتبر هو القدرة على التسليم والمفروض أن المسلم إليه قادر على التسليم عند حلول الأجل ولا يعتبر زيادة على ذلك لعدم الدليل بل الدليل على عدم اعتباره.
__________
(1) جواهر الكلام 24/304
(2) المكاسب
(3) جواهر الكلام 24/304
(4) الروضة البهية 3/416
(5) الفقه الإسلامي وأدلته(9/326)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: ((من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم)) ، ولم يشترط وجود المسلم فيه حال عقد السلم ولو كان شرطا لذكره ولنهاهم عن السلم سنتين لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة. (1) مضافا إلى أن المذكور في بعض النصوص لزوم وجود المسلم فيه وقت حلول الأجل، منها محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن إسحاق بن عمار، وعبد الرحمن بن الحجاج جميعا قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده فيشتري منه حالا، قال: ليس به بأس، قلت: إنهم يفسدونه عندنا، قال: وأي شيء يقولون في السلم؟ قلت: لا يرون به بأس يقولون: هذا إلى أجل، فإذا كان إلى غير أجل وليس عند صاحبه فلا يصلح، فقال: فإذا لم يكن إلى أجل كان أجود (أحق به) ثم قال: لا بأس بأن يشتري الطعام وليس هو عند صاحبه حالا وإلى أجل فقال: لا يسمي له أجلا إلا أن يكون بيعا لا يوجد مثل العنب والبطيخ وشبهه في غير زمانه فلا ينبغي شراء ذلك حالا (2) .ونحوها رواية أخري.
ومما ذكر ظهر صحة السلم ولو كان المسلم فيه معدوما وقت المعاملة.
ثم لو طرأ الانقطاع بعد انعقاد السلم كما لو أسلم فيما يعم وجوده وانقطع لجائحة أو وجد وقت الحلول عاما ثم أخر التسليم لعارض ثم طالب بعد انقطاعه تخير المشتري بين الفسخ والصبر (3) .
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته 4/609
(2) وسائل الشيعة 13/373 ح1 من أبواب أحكام العقود
(3) جامع المقاصد 4/236(9/327)
الشرط السابع – تعيين موضع التسليم:
ووجه لزومه اختلاف الأغراض باختلافه الموجب لاختلاف الثمن وعلى هذا يجب تعيين موضع التسليم، قال الشيخ في (الخلاف) : إذا كان السلم مؤجلا فلا بد من ذكر موضع التسليم فإن كان في حمله مؤنة فلا بد من ذكره أيضا، وللشافعي في ذلك قولان أحدهما: يجب شرطه وإليه ذهب أبو إسحق في الشرح قال: فإذا أخل به بطل السلم. والثاني: لا يجب ذكره وإليه ذهب القاضي أبو حامد في (جامعه) (1) .
قال الشهيد في (الروضة) : ولو شرط موضع التسليم لزم لوجوب الوفاء بالشرط السائغ وألا يشترط اقتضى الاطلاق التسليم في موضع العقد كنظائره من البيع المؤجل (2) .
أقول: إن اشترط موضع التسليم في ضمن العقد فلا ريب في وجوب الوفاء به لأجل قوله: (المؤمنون عند شروطهم) ولا كلام في ذلك كما صرح به الشهيد في كلامه المتقدم، وإنما الكلام في أنهما أو أحدهما إذا لم يعينا في العقد موضع التسليم هل يكون عقد السلم باطلا ويكون تعيين موضع التسليم دخيلا في صحة العقد؟ ما هو الظاهر من كلام الشافعي في أحد قوليه حيث قال: (فإذا أخل به بطل السلم) أو يكون العقد صحيحا وإن لم يعين موضع التسليم بل ولو كان في حمله مؤنة كما ذهب إليه المحقق حيث قال: ولا يشترط ذكر موضع التسليم على الأشبه ولو كان في حمله مؤنة، واختاره صاحب الجواهر في شرحه حيث قال: وكيف كان فقد ظهر لك ضعف القول باشتراطه مطلقا (3) وقال ابن إدريس: لم يذهب إلى هذا أحد من أصحابنا ولا ورد به خبر عن أئمتنا عليهم السلام وإنما هذا أحد قولي الشافعي (4) والتحقيق أن يقال: إن إطلاق الأدلة الواردة في معرض البيان يقتضي عدم لزوم تعيين موضع التسليم كما في الحديث النبوي المتقدم ((من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم)) فذكر فيه الأجل المعلوم ولم يتعرض لموضع التسليم، ولو كان شرطا في صحة العقد فلا بد من التعرض له، وكذلك سائر النصوص الواردة في مشروعية السلم.
وأما ما ذكر من تفاوت الأغراض بذلك تفاوتا يختلف فيه الثمن في الجميع أو في بعض الأحوال فلا يقتضي الاشتراط إذا لم يكن عدمه مؤديا إلى جهالة في الثمن والمثمن فعلى هذا لا يكون تعيين موضع التسليم دخيلا في صحة العقد مثل ذكر الأجل المعلوم؛ نعم يجوز للمتعاقدين تعيين موضع التسليم إذا تعلق غرضهما بمكان خاص فيجب الوفاء به إذا شرط ولذلك إذا كان هناك عرف يقتضي الانصراف إلى مكان مخصص فيتبع حينئذ إذ هو حينئذ كالمشروط؛ وفي المسألة خمسة أقوال: الأول: عدم لزوم اشتراط موضع التسليم مطلقا. والثاني: وجوب اشتراط موضع التسليم مطلقا. والثالث: وجوب الاشتراط فيما إذا كان في النقل مؤنة. الرابع: لزوم الاشتراط إذا وقع العقد في مكان يقصدان مفارقة ذلك المكان. والقول الخامس: لزوم الاشتراط إن كان في النقل مؤنة وكان من قصدهما افتراق مكان العقد.
__________
(1) الخلاف للشيخ الطوسي 1/539
(2) الروضة البهية 3/418
(3) جواهر الكلام 24/318
(4) السرائر 2/317(9/328)
الأمر الرابع – في حكمته:
وأما الحكمة في تشريعة من الشارع فهي تسهيل الأمر على المسلمين والوصول إلى مقاصدهم وأغراضهم العقلانية التي هي السبب في الإقدام على المعاملة سلفا.
فالزارع يبيع الحنطة سلفا لحاجته إلى النقود وصرفها إلى ما لا بد منه من المؤنة في الزراعة والمشتري يشتري الحنطة سلفا لغرض وهو أن اشتراء الحنطة سلفا يكون بثمن هو أقل بالنسبة إلى ثمن الحنطة نقدا وهذا التفاوت هو الباعث على اشتراء الحنطة سلما.
وقال بعض في حكمة بيع السلم: لأن بالناس حاجة إليه لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكمل وقد تعوزهم النفقة فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص (1) .
وعن بعض آخر: وقد أجيز حكمه بطريق الرخصة دفعا لحاجة الناس ولكن بالشرائط المخصوصة التي ذكرناها والتي هي غير مشروطة في عقد البيع (2) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 4/312
(2) الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي 4/619(9/329)
المطلب الثاني
بيان أنواع المعاملات التي يجوز فيها السلم،
وبيان أنواع السلع التي يجري فيها
فالبحث في هذا المطلب يكون في ضمن أمرين:
الأمر الأول: بيان أنواع المعاملات التي يجوز فيها السلم، والأمر الثاني بيان أنواع السلع التي يجري فيها.
أما الأمر الأول: وهو بيان أنواع المعاملات التي يجوز فيها السلم فنقول: التحقيق أن السلم لا يجري في غير البيع من العقود والمعاملات والسر في ذلك أن السلم كما تقدم معناه لغة هو عبارة عن إعطاء مال في سلعة معلومة إلى أمد معلوم كما نقلناه عن لسان العرب وغيره من كتب اللغة وهذا المعنى وإن كان يشمل القرض بضرب من التأويل كما فسر بعض اللغويين السلف بالقرض كما تقدم نقله (1) وفسره بعض بالقرض والبيع كما ذكرناه أيضا (2) .
إلا أن السلم الذي هو معنون في كتب الفقه وعليه اصطلاح الفقهاء عبارة عن السلم في البيع حتى أنهم جعلوه قسما ونوعا من أنواع البيع فإليك نص عباراتهم:
قال فخر المحققين في شرح قول والده العلامة عليه السلام: المطلب الثاني في السلف والأقرب انعقاد البيع بلفظ السلم، وجه القرب أنه نوع من البيع اعتبره الشارع في نقل الملك فجاز استعماله في الجنس مجازا تابعا للقصد. (3) .
وقال الشهيد في (الروضة) : إن السلم بعض جزئيات البيع وقد استعمل لفظه في نقل الملك على الوجه المخصوص فجاز استعماله في الجنس لدلالته عليه حيث يصرح بإرادة المعنى العام (4) .
__________
(1) المنجد مادة سلف
(2) مجمع البحرين 5/72 سلف
(3) إيضاح الفوائد 1/457
(4) الروضة البهية في شرح اللمعة 3: 412(9/330)
وقال في (المسالك) : إن لفظ السلم موضوع حقيقة للنوع الخاص من البيع (1) .
وقال في (الجواهر) عند قول المحقق: (وهل ينعقد البيع بلفظ السلم ... إلخ) : قلت: تفصيل القول في ذلك أن النزاع إن كان في قيام صيغة أسلمت مقام بعت كالعكس فمحله في صيغة البيع ولعل التحقيق عدم الجواز، لأنه مجاز بخلاف العكس، فإنه حقيقة مع عدم قصد الخصوصية، إذ السلم نوع من البيع، فاستعمال صيغة البيع فيه استعمال للفظ فيما وضع له (2) .
وفي (جامع المدارك) قال الفقهاء: هو قسم من البيع فلا بد فيه من الإيجاب والقبول (3) .
وفي (الفقه على المذاهب الأربعة) السلم قسم من أقسام البيع (4) .
وفي بعض كتب اللغة: السلف بفتحتين نوع من البيوع يعجل فيه الثمن وتضبط السلعة بالوصف إلى أجل معلوم (5) .
الأمر الثاني: في بيان أنواع السلع التي يجري فيها: فنقول: المستفاد من الأدلة أن الضابط لذلك هو أن السلعة إن كانت من السلع التي يمكن تعينها بالوصف وينتفي معه الغرر فيجري السلم فيها، وكل ما لا يمكن ضبطه بالوصف ولا يمكن تحديده يمتنع السلم فيه، ولعل ذكر المصاديق في الأحاديث الواردة في ذلك إرشاد إلى هذا حيث إن المذكور في الروايات بعض المصاديق التي يجوز فيها السلم مثل قوله عليه السلام في السلم في الحيوان: ((لا بأس بالسلم في الحيوان إذا وصفت أسنانها)) (6) .
وبعض المصاديق التي لا يجوز فيها السلم مثل قوله عليه السلام في السلف في اللحم قال: ((لا تقربنّه فإنه يعطيك مرة السمين ومرة الذاوي ومرة المهزول)) الحديث (7) .
هذا جملة القول في السلع التي يجري السلم فيها وما لا يجري، وأما تفصيل القول في أنواع السلع فنذكر كلمات الفقهاء وعباراتهم بعينها حتى يتبين أن المستفاد من كلماتهم هي القاعدة المذكورة بعينها.
قال الشيخ: ولا يجوز السلف فيما لا يتحدد بالوصف مثل الخبز واللحم وروايا الماء؛ لأن ذلك تحديده لا يمكن بوصف لا يختلط به سواه (8) .
وقال ابن حمزة: ولا يجوز السلف فيما لا يتحدد بالوصف ولا في الأشياء المختلطة ولا الأمتعة المتخذة من جنسين فصاعدا ولا في المنسوب إلى شيء مخصوص (9) .
__________
(1) المسالك 3/405
(2) جواهر الكلام 24/270
(3) جامع المدارك في شرح المختصر 4/316
(4) الفقه على المذاهب الأربعة
(5) مختار الصحاح مادة سلف
(6) وسائل الشيعة 13/55 ح3
(7) وسائل الشيعة 13/57 ح1
(8) النهاية للشيخ الطوسي 396
(9) الوسيلة لابن حمزة 242(9/331)
قال ابن إدريس: وكل شيء لا يتحدد بالوصف ولا يمكن ذلك فيه لا يصح السلف فيه إلى أن قال: وإنما منع أصحابنا من السلف في الخبز واللحم وروايا الماء؛ لاختلافها في الكبر والصغر؛ فأنها لا تضبط بالتحديد فإن حددها براوية معلومة لا يصح ذلك؛ لأن السلف في الذمة، وربما هلكت تلك الراوية فيبطل السلف إلى أن قال: ولا بأس بالسلم في الحيوان كله إذا ذكر الجنس والأوصاف والأسنان من الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير والرقيق وغير ذلك من أجناس الحيوان وبالسلف في الفواكه كلها إذا ذكر جنسها ولم ينسب إلى شجرة بعينها. (1) .
قال المحقق: فلا يصح فيما لا يضبطه الوصف كاللحم والخبز والجلود ويجوز في الأمتعة والحيوان والحبوب وكل ما يمكن ضبطه. (2) .
قال الشهيد عند قول المحقق (ولا يجوز الإسلاف في القصب أطنانا) : الوجه في ذلك كله اختلاف مقدار المذكورات الموجب للغرر في عقد السلف بخلاف ما لو بيع مشاهدا فإن المشاهدة ترفع الغرر عنه والضابط للصحة الانضباط الرافع لاختلاف الثمن (3) .
__________
(1) السرائر 2/308 و314
(2) جامع المدارك في شرح المختصر النافع 3/316
(3) المسالك 3/413(9/332)
وقال المحدث البحراني: وأما الجواهر واللآلئ فظاهر جملة من الأصحاب عدم الفرق بين الكبار والصغار لاشتراك الجميع في علة المنع وهو تعذر ضبطها على وجه يرتفع بسببه اختلاف الثمن، وفرق آخرون: فخصوا المنع بالكبار لما ذكر من تفاوتها باعتبارات لا تحصل بدون المشاهدة أما الصغار التي تستعمل في الأدوية والكحل ونحوها فهي لا تشتمل على أوصاف كثيرة بحيث تختلف القيمة باختلافها فيجوز السلم فيها وما ذكرنا من التفصيل مثل المعاجين خيرة الشهيدين رحمهما الله وهو جيد (1) .
وقال صاحب الجواهر عند قول الماتن: (وهل يجوز الإسلاف في المعدود؟ الوجه: لا؛ لعدم ارتفاع الغرر به لكثرة اختلاف المعدود في الكبر والصغر وغيرهما والاكتفاء به في المشاهدة لارتفاع الغرر بها لا به، قال: قلت: التحقيق الجواز فيما لا يكثر فيه التفاوت بل كان التفاوت فيه يتسامح فيه بالعادة وفاقا للفاضل في جملة من كتبه والشهيدين وغيرهما لعدم الغرر فتشمله الإطلاقات (2) .
هذه كلماتهم كما ترى يظهر منها تصريحا أو تلميحا أن الضابط في السلع التي يجوز السلف فيها والتي لا يجوز هو إمكان ضبطها بالوصف وتحديدها فيجوز الإسلاف فيها لانتفاء الغرر، وأما إذا لم يكن ضبطها فلا يجوز الإسلاف فيها للغرر.
__________
(1) الحدائق النضرة 20/14
(2) جواهر الكلام 24/298(9/333)
المطلب الثالث
مفهوم صفة (التعيين) في السلع التي يمتنع معها السلم
التعيين ليس له حقيقة شرعية بمعنى أن الشارع وضعه لمعنى جديد تأسيسي غير معناه اللغوي بل هذه الكلمة بمعناها اللغوي عبارة عن التخصيص، قال الطريحي: تعيين الشخص: تخصيصه من الجملة (1) وفي (المنجد) عين تعيينا الشيء: خصصه من الجملة وأفرده (2) .
فإذا كان شيء من الأشياء أو أمر من الأمور مبهما أو عاما كليا فتعيينه قد يكون بالإشارة الخارجية مثل هذا الشيء وهذا الأمر مشيرا إلى شيء خاص وأمر معين وقد يكون بالتوصيف والتحديد بحيث يخرج بهذا الوصف جملة من الأفراد لكن الوصف لا يخرج الموصوف عن الكلية والفرض في السلم أن المسلم فيه أمر كلي لا يمكن الإشارة إليه وإلا خرج عن الكلية بالإشارة الخارجية فيكون التعيين في السلم بالتحديد والتوصيف بحيث يجعل المسلم فيه مميزا ومخصصا من بين الأفراد ولكن هذا التحديد والتوصيف لا يخرج المسلم فيه عن الكلية بل التخصيص في الحقيقة تضييق وإخراج لجملة من الأفراد عن المعنى الكلي بحيث يصير المعنى العام بالتحديد والتوصيف معلوما ومميزا عند المسلم والمسلم إليه وذلك منوط بكون الشيء مما يمكن أن ينضبط بالوصف على وجه ترتفع جهالته ولا يؤدي إلى عزة وجوده، فإذا كانت السلعة من الأمور التي لا يمكن ضبطها بالوصف على الوجه المذكور لم يصح السلم فيها.
والحاصل أن الشيء إما أن يكون من الأشياء التي تنضبط بالوصف بحيث ترتفع الجهالة معه ويكون معلوما عند المتعاقدين ولذا لا بد أن تكون العبارة الدالة على الوصف معلومة ظاهرة في العرف واللغة حتى يمكن استعلامها عند اختلافهما، ففي هذه الأشياء التي تنضبط بالوصف مع الحيثية المذكورة يجوز السلم فيها قطعا وأما أن يكون الشيء مما لا ينضبط بالوصف والتحديد كما قيل في بعض الأشياء فهذا مما يمتنع السلم فيه لأجل عدم إمكان التعيين الذي هو عبارة عن انضباط الشيء بالوصف مثل الجواهر واللآلي الكبار لتعذر ضبطها فلا يجوز السلم فيها، نعم قد تلون بعض الأشياء مما يشك في كونها من الأمور التي يمكن ضبطها أو لا يمكن ضبطها كما مثلوا له بالجلود بل وكذا اللحم والخبز قال المحقق: وفي الجلود تردد. (3) وفي (الجواهر) نعم: قد يشك في بعض أفراده كاللحم نِيئه ومشويه والخبز (4) نعم يمكن أن يقال: بجواز السلم فيها لأجل الإطلاقات (5) .
__________
(1) مجمع البحرين 6/287
(2) المنجد: 542
(3) جواهر الكلام 24/281
(4) جواهر الكلام 24/280
(5) جواهر الكلام 24/281(9/334)
المطلب الرابع
هل تعد السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية (الماركات)
المتعددة صنفا واحدا أم أصنافا متعددة؟
أثر اختلاف العلامات التجارية (الماركات المسجلة) في تعدد أصناف السلع المسلم فيها.
فهنا أمران: الأمر الأول في أن العلامات التجارية المتعددة موجبة لأن تصير السلعة الواحدة أصنافا متعددة أم لا.
فنقول: ليست العبرة في كون السلعة واحدة من حيث الصنف أو متعددة بمجرد أن السلعة لها ماركات متعددة مع وحدة الجنس بحيث لا تفاوت بين السلعتين إلا من جهة الماركة والعلامة التجارية مثلا إذا كانت السلعة لها ماركة مخصوصة تغاير سلعة أخرى التي لها علامة تجارية فهاتان السلعتان إذا فرضنا أن جميع أجزائهما وخصوصياتهما كانت واحدة لا تفاوت بينهما من حيث الكمية والكيفية إلا من جهة العلامة التجارية ففي هذه الصورة تعد السلعتان صنفا واحدا في الحقيقة؛ لأن المناط في الوحدة والتعدد من حيث الصنف ليس بمجرد الماركات المختلفة والعلامات التجارية من دون تفاوت بين الجنس كما وكيفا، نعم قد تكون السلعتان المشتركتان من جهة الأجزاء والخصوصيات المتساويتان من جهة الكمية والكيفية متفاوتتين من حيث القيمة، وهذا التفاوت في القيمة ليس من جهة الاختلاف في الجنس والوصف وسائر الخصوصيات بل لأجل اختلاف العلامات التجارية والماركات المختلفة، ولكن هذا الاختلاف في الواقع من جهة القيمة ليس بمجرد اختلاف العلامات، وإن كان العرف يرى أن اختلاف القيمة لأجل اختلاف العلامات بل قد يكون من جهة اشتهار بعض العلامات التجارية شهرة حدثت من كثرة الإعلان لهذه العلامة التجارية أو لأن بعض السلع للمؤسسات ولها سابقة أكثر من غيرها أو لأجل أمور أخرى، فهنا سلعتان مشتركتان من حيث الخصوصيات الموجودة فيهما كمية وكيفية، ومختلفان من حيث القيمة من جهة أمور ذكرناها وحيث تكون السلعتان مختلفتين من جهة القيمة فلا بد من ذكر العلامات التجارية والماركات المختلفة لدى انعقاد المعاملة، لا سيما إذا كان اختلاف القيمة بين السلعتين فاحشا لأجل لزوم الغرر المنهي كما في الحديث النبوي المتقدم ذكره. (1) .
__________
(1) الوسائل 12/320 من أبواب آداب التجارة ح3(9/335)
وأما أثر اختلاف العلامات التجارية (الماركات المسجلة) في تعدد أصناف السلع المسلم فيها فنقول: بعد ما تقدم أنه لا بد من ذكر العلامات التجارية عند المعاملة لا سيما إذا كان اختلاف القيمة فاحشا بين السلعتين، وقد أشرنا إلى أن الماركات المسجلة صارت في السلع عند العرف بمنزلة الأوصاف فلا بد من ذكرها لما تقدم من أن عدم ذكرها موجب للغرر فأثر اختلاف العلامات التجارية يكون في أمور نذكر جملة منها، وهي التي لها ربط بمعاملة السلف:
منها – أنه لا بد من ذكر العلامات التجارية عند المعاملة لأنها بمنزلة الأوصاف عند العرف.
منها – أنه لا يجوز للمسلم إليه تبديل السلعة بعلامة تجارية مذكورة حين المعاملة بسلعة أخرى بعلامة غيرها.
منها – أنه لا يجب على المسلم قبول السلعة التي ليست بتلك العلامة التي ذكرت عند المعاملة، وفي (الجواهر) : لا خلاف في أنه إذا دفع المسلم إليه المسلم فيه دون الصفة أو المقدار المشترطين فيه لا يجب على المسلم قبوله وإن كان أجود من وجه آخر؛ لأنه ليس نفس حقه مع تضرره به. (1) .
منها – أنه يجوز التراضي إذا لم تكن السلعة بتلك العلامة بعد ذلك، وقال أيضا: ولو رضي المسلم به صح وبرئ المسلم إليه كانت ذمته مشغولة به (2) .
وقد روى محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد وعن علي بن إبراهيم عن أبيه جميعا عن ابن أبي عمير عن أبي المغرا عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يسلم في وصف (وصفا - يب) أسنان معلومة ولون معلوم ثم يعطي دون شرطه أو فوقه فقال: إذا كان عن طيبة نفس منك ومنه فلا بأس (3) .
__________
(1) جواهر الكلام 24/326
(2) جواهر الكلام 24/326
(3) وسائل الشيعة 13: الباب 9 من أبواب السلف ح1(9/336)
المطلب الخامس
اشتراط قبض بضاعة السلم قبل بيعها والحكمة في ذلك
أما اشتراط قبض بضاعة السلم قبل بيعها ففيه ثلاث صور:
الصورة الأولى: بيعها قبل حلول الأجل وقبل قبض البضاعة.
الصورة الثانية: بيعها بعد حلول الأجل وقبل قبض البضاعة.
الصورة الثالثة: بيعها بعد حلول الأجل وبعد قبضها.
أما الصورة الأولى: وهي بيعها قبل حلول الأجل وقبل قبضها فالذي عليه الأكثر هو عدم الجواز واستدل عليه بأن المسلم الذي هو بائع البضاعة غير قادر على تسليمها في الحال، والقدرة على تسليم المبيع شرط في صحة البيع فلا يصح البيع قبل حلول الأجل وقبل القبض.
ولكن يمكن أن يقال: إن المعتبر من القدرة على تسليم المبيع عند الأجل والفرض أن المسلم باعها مؤجلا وهو قادر على التسليم عند الأجل وهو كاف في صحة المعاملة.
وبأن من جملة الشرائط أن يكون البائع مالكا للبضاعة ولا يكون المسلم مالكا للبضاعة قبل حلول الأجل والوجه في ذلك أن المسلم فيه كلي والكلي غير موجود في الخارج والملكية لا تتعلق بأمر لا يكون في الخارج موجودا.
ولكن فيه أنه لا مدخلية للأجل في الملكية إذ العقد هو السبب في الملك والأجل إنما هو لمطالبة السلعة.
ويمكن الاستدلال عليه بقوله: لا تبع ما ليس عندك وتقريره أن المستفاد من الحديث أن البيع قبل قبض السلعة منهي عنه فلا يجوز بيع المسلم فيه قبل حلول الأجل وقبل القبض، ولكن يمكن أن يكون معنى الحديث عدم جواز بيع الشيء قبل أن يصير ملكا للبايع، والمفروض في المقام أن السلعة ملك للمسلم فلا يمكن الاستدلال بالحديث على عدم الجواز، والعمدة في المنع وعدم الجواز في هذه الصورة الإجماع المحكي في كلمات الأعلام (1) .
وفي الجواهر: للإجماع المحكي في التنقيح وظاهر الغنية وجامع المقاصد وغيرها وعن كشف الرموز إن لم يكن محصلا بل لعله كذلك (2) .
الصورة الثانية: وهي بيع البضاعة بعد حلول الأجل وقبل قبضها فالأقوى الجواز كما في الجواهر (3) . وفي (جامع المدارك) : فلا إشكال بعد حلول الأجل وإن لم يقبضه (4) .
فلا يكون في المقام ما يدل على المنع عدا ما عسى يظهر من الحديث النبوي المتقدم: ((لا تبع ما ليس عندك)) .
__________
(1) جامع المدارك 3/321
(2) جواهر الكلام 24/320
(3) جواهر الكلام 24/320
(4) جامع المدارك 3/321(9/337)
لكن تقدم الكلام في عدم دلالته على المدعى وهو عدم جواز بيع شيء قبل قبضه بل يحتمل أن يكون المراد منه النهي عن بيع شيء لا يكون ملكا للبائع ويمكن أن تكون هذه العبارة كناية عن القدرة على التسليم أي: لا تبع ما لا تكون قادرا على تسليمه فعلى هذا لا يمكن الاستدلال بالحديث على عدم الجواز في هذه الصورة أيضا مضافا إلى إطلاق الأدلة وعمومها (1) الدالة على الجواز مع الروايات الواردة في خصوص المقام؛ منها مارواه الكليني عن سهل بن زياد عن معاوية بن حكيم عن الحسن بن علي بن فضال قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام: الرجل يسلفني في الطعام فيجيء الوقت وليس عندي طعام أعطيه بقيمته دراهم؟ قال: نعم (2) ومنها ما عن الكليني عن أحمد بن محمد عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله في الرجل يسلم الدراهم في الطعام إلى أجل فيحل الطعام فيقول: ليس عندي طعام ولكن انظر ما قيمته فخذ فمني ثمنه فقال: لا بأس بذلك (3) وغيرهما من الأخبار. هذا في غير المكيل والموزون، وأما فيهما فقد قال بعض بعدم الجواز، والمعروف الكراهة جميعا بين الأخبار. (4) .
الصورة الثالثة: بيع السلم بعد حلول الأجل وبعد القبض فهو جائز وفي الجواهر فلا خلاف فيه ولا إشكال (5) .
وأما الحكمة في ذلك، فيمكن أن تكون في قبض بضاعة السلم قبل البيع على القول باشتراطه في بيع البضاعة هو أن المسلم قبل القبض ربما يكون مترددا حين إنشاء البيع؛ لأنه لا يدري أن بضاعته تصل إليه ويقبضها أم لا وهل يكون قادرا على الإقباض والإعطاء لمبتاعها أم لا وهذا بخلاف ما إذا قبضها. ويمكن أن تكون الحكمة أمورا أخرى مثل النهي عن البيع قبل القبض كما في الروايات، وأما كفاية قدرة المسلم على توفير السلعة عن القبض أو التأمين على السلعة أو وجودها في المخازن فبعدما ذكرنا الصور الثلاث في المسألة وبينا الحكم في كل واحد منها، وقلنا: إن الحكم في الصورة الأولى هو عدم جواز البيع قبل حلول الأجل وفي الصورتين الأخيرتين فالحكم فيهما جواز البيع تبين حكم الأسئلة المذكورة في المتن نعم فصل بعض في الصورة الثانية بين ما كان المسلم فيه الطعام وغيره، وبعض آخر بين ما كان مكيلا وموزونا وغيرهما فقالوا بالتحريم في الطعام والمكيل والموزون والمعروف الكراهة كما تقدم ذكره.
__________
(1) جواهر الكلام 24:320
(2) وسائل الشيعة الباب 11 من أبواب السلف ج13 ح8
(3) وسائل الشيعة الباب 11 من أبواب السلف ج13 ح5
(4) جامع المدارك 3/323
(5) جواهر الكلام 24/320(9/338)
المطلب السادس
عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الأجل في السلم
فنقول: إذا حل الأجل فأما أن يتمكن البائع من دفع المسلم فيه إلى المشتري فيجب عليه تسليم البضاعة وإقباضها ويجب على المشتري القبول إذا دفعها البائع على الصفة والقدر، وأما إذا لم يتمكن من دفع المسلم فيه أو كان المسلم فيه دون الصفة أو أقل من المقدار لم يجب على المشتري القبول وحينئذ تخير المشتري بين الفسخ والرجوع بلا زيادة ولا نقيصة وبين أن ينتظر إلى أن يتمكن البائع من دفع المبيع إليه في وقت آخر ويدل على ذلك ما رواه الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان بن يحيى ومحمد بن خالد عن عبد الله بن بكير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أسلف في شيء يسلف الناس فيه من الثمار فذهب زمانها (ثمارها) ولم يستوف سلفه. قال: فليأخذ رأس ماله أو لينظره (1) .
ثم لو تمكن البائع من دفع بعضه وعجز عن الباقي كان للمشتري الخيار في الباقي بين الفسخ فيه واسترداد ما يخصه من الثمن وبين الصبر إلى وجوده كتعذر الكل والذي يدل عليه ما رواه الشيخ محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يسلم في الزرع فيأخذ بعض طعامه ويبقى بعض لا يجد وفاءه فيعرض عليه صاحبه رأس ماله قال: يأخذه فإنه حلال الحديث (2) .
وعنه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك إلى أجل مسمى، قال: لا بأس إن لم يقدر الذي عليه الغنم على جميع ما عليه أن يأخذ صاحب الغنم نصفها أو ثلثها أو ثلثيها ويأخذ رأس مال ما بقي من الغنم دراهم ويأخذ دون شرطهم ولا يأخذون فوق شرطهم ... )) الحديث (3) .
__________
(1) وسائل الشيعة 13/72 ح14 نقلا عن الشيخ في التهذيب
(2) وسائل الشيعة 13/ 69 ح3
(3) وسائل الشيعة 13/68 ح1(9/339)
ويجوز للمشتري حينئذ الفسخ أيضا في الجميع لتبعض الصفقة عليه، وفي (الجواهر) : بلا خلاف أجده في شيء من ذلك (1) .
ثم إذا اختار المشتري الفسخ في البعض فقد صرح بعض بأن للبائع الخيار لتبعض الصفقة عليه أيضا وقواه جماعة وهو كذلك إذا لم يكن ذلك بتفريط منه وتقصير.
وأما مشروعية الشرط الجزائي عن تأخير تسليم البضاعة:
فلا خلاف ولا إشكال في قبول عقد البيع وغيره من العقود اللازمة، الشرائط في الجملة والنصوص مستفيضة فيه أو متواترة؛ منها ما عن محمد بن يعقوب، عن عدة أصحابنا، عن سهل بن زيادة وأحمد بن محمد جميعا عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: من اشترط شرطا مخالفا لكتاب الله فلا يجوز له، ولا يجوز على الذي اشترط عليه والمسلمون عند شروطهم مما وافق كتاب الله عز وجل. (2) .
وبإسناده عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد، عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((المسلمون عند شروطهم إلا كل شرط خالف كتاب الله عز وجل فلا يجوز)) (3) .
وبإسناده عن الصفار عن الحسن بن موسى الخشاب عن غياث بن كلوب عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليه السلام أن علي بن أبي طالب عليه السلام كان يقول: من شرط لامرأته شرطا فليف لها به؛ فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما (4) .
وغيرها من النصوص والأخبار الواردة في الشرط الدالة على مشروعية الشرط ولزوم الوفاء به؛ بل يمكن الاستدلال على مشروعية الشرط بإطلاق الأمر بالوفاء بالعقود والتجارة عن تراض كما في الجواهر (5) .
__________
(1) جواهر الكلام 24/341
(2) وسائل الشيعة 13/353
(3) وسائل الشيعة 13/353
(4) وسائل الشيعة 13/253
(5) جواهر الكلام 23/199(9/340)
إلا أن من الشروط ما ليس بسائغ ومنها ما هو سائغ ولذا يشترط في وجوب الوفاء بالشرط أمور:
منها: أن لا يكون مخالفا للكتاب والسنة ويتحقق هذا في موردين:
الأول: أن يكون العمل بالشرط غير مشروع في نفسه مثل أن يبيع شيئا ويشترط عليه أن يرتكب محرما من المحرمات الإلهية.
الثاني: أن يكون الشرط بنفسه مخالفا لحكم شرعي كما إذا باع شيئا بشرط أن لا يرثه منه ورثته أو بعضهم وأمثال ذلك، فإن الشرط في جميع هذه الموارد باطل.
ومنها: أن لا يكون منافيا لمقتضى العقد كما إذا باعه بشرط أن لا يكون له ثمن أو آجره الدار بشرط أن لا تكون لها أجرة.
ومنها: أن يكون مذكورا في ضمن العقد صريحا أو ضمنا كما إذا قامت القرينة على كون العقد مبنيا عليه ومقيدا به إما لذكره قبل العقد أو لأجل التفاهم العرفي مثل اشتراط التسليم حال استحقاق التسليم فلو ذكر قبل العقد ولم يكن العقد مبنيا عليه عمدا أو سهوا لم يجب الوفاء به.
ومنها: أن يكون مقدورا عليه بل لو علم عدم القدرة لم يمكن إنشاء الالتزام به.
فقد قال بعض: إن ضابطه ما لم يكن مؤديا إلى جهالة المبيع أو الثمن ولا مخالفا للكتاب والسنة والحاصل أن الشرط مع رعاية الأمور التي ذكرناها مشروع ويجب على المشروط عليه الوفاء به. وعقد السلم كما قلنا فيما تقدم قسم من أقسام البيع والشرط فيه مشروع مع رعاية الأمور المتقدمة فيجوز فيه الشرط الجزائي عند تأخير تسليم البضاعة.(9/341)
المطلب السابع
إصدار سندات سلم قابلة للتداول
فنقول: لا بد أولا من البحث عن الأوراق والأسناد التجارية بشكل عام وأن الاعتبار هل هو قائم بنفس تلك الأوراق أو بما أن الأوراق حاكية عن مالية عرفية ثم البحث عن قابليتها للتداول وهل بينها وبين الأوراق النقدية فرق أم لا؟
فنقول: إن أوراق النقود وما يشابهها مثل بعض الأوراق التي تعتبرها البنوك وتتعهد بإعطاء مبلغها على أنه مثل أوراق النقود كانت معتبرة عند العرف والسوق ولكن كان الاعتبار بنفس تلك الأوراق لا بما أنها حاكية عن شيء معتبر بنفسه مثل الذهب والفضة ونظائرهما بل يرى العرف والعقلاء أن المالية قائمة بنفس تلك الأوراق أي: أوراق النقود وهذا بخلاف الأوراق والأسناد التجارية فإن تلك الأوراق والأسناد لا يرى العرف أن المالية قائمة بنفس تلك الأوراق على الظاهر، بل الاعتبار لها بما أن تلك والأسناد حاكية عن أمر آخر له مالية واعتبار، فالمالية لتلك الأوراق ليست لنفسها بل من جهة ما تحكي تلك الأوراق عنها، وهي الأشياء الخارجية التي لها الاعتبار، والمالية عند العرف والسوق بحسب الظاهر.
فعلى هذه المالية والاعتبار قائمة بأوراق النقود نفسها وفي الأوراق التجارية ليست قائمة بنفس تلك الأوراق بل أوراق حاكية عن أمور خارجية والمالية قائمة بتلك الأمور فبهذا الفرق بين أوراق النقود والأوراق التجارية تختلف أحكامها أيضا فبعد بيان الفرق بينهم نشرع في بيان جواز التداول والصرف في أوراق النقود والأوراق التجارية، فأما أوراق النقود فهي قابلة للصرف والتداول بنفسها حيث إن لها الاعتبار والمالية بنفسها عند العرف والسوق، ولذا كانت المعاملات الكثيرة بأوراق النقود وما شابهها من غير فرق بين كون الثمن من أوراق النقود والمثمن شيء آخر من الأجناس أو الثمن والمثمن كليهما من أوراق النقود، ومن أتلف تلك الأوراق أي أوراق النقود وكانت للغير فهو لها ضامن بمثل تلك الأوراق التي أتلفها وهذا بخلاف الأوراق والأسناد التجارية، فإذا جاوزنا الصرف والتداول فيها فليس من جهة اعتبار تلك الأوراق وماليتها بنفسها بل من جهة أن هذه الأوراق حاكية لأمور وأشياء أخرى لها المالية والاعتبار، فالحقيقة أن التداول من جهة أمر كون تلك الأوراق حاكية عن المالية فالمعاملات الواقعة بها لم تقع عليها بنفسها بل وقعت على الأمور التي عبرت عنها تلك الأوراق، فعلى هذا يجوز التداول في تلك الأوراق بهذا الاعتبار.(9/342)
والأسناد والأوراق الصادرة في معاملة السلم ليست من قبيل أوراق النقود التي كانت المالية لها بنفسها، بل من قبيل الثاني، وهي الأوراق التجارية التي كانت المالية قائمة بأمور أخرى وتلك الأوراق حاكية عنها.
وحيث قد تقدم أن بضاعة السلم لا يجوز بيعها قبل حلول الأجل اتفاقا وبعد حلول الأجل وقبل القبض كما عند بعض، فلا يجوز بيع تلك الأوراق قبل حلول الأجل وبعد حلول الأجل وقبل القبض، كما هو مختار جماعة؛ لأن اعتبار تلك الأوراق وماليتها باعتبار أمور كانت تلك الأوراق معبرة عنها.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد علي التسخيري
والشيخ علي نظري منفرد(9/343)
السلم
وتطبيقاته المعاصرة
إعداد الشيخ حسن الجواهري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه الميامين
السلم وتطبيقاته المعاصرة
السلم بفتح السين واللام وهو مرادف للفظ السلف، هو نوع من البيع، فاستعمال صيغة البيع فيه استعمال للفظ فيما وضع له، غاية الأمر أن هذا الفرد في البيع له أحكامه الخاصة الزائدة على أحكام البيع: وقد عطف في مختصر النهاية القرض عليه، ولعل اشتراكهما لفظا فيه لاشتراكهما في أن كلا منهما إثبات مال في الذمة بمبذول في الحال. (1) .
والإيجاب فيه:
1- إذا كان بلفظ السلم أو السلف هو أن يقول المشتري: أسلمت إليك أو أسلفتك كذا في كذا إلى أجل، فيقول المسلم إليه (البائع) : قبلت وشبهه، وهذا من مختصات بيع السلم لعدم تعقل معناهما من غير المشتري.
2- أما إذا وقع بغير لفظ أسلمتك أو أسلفتك فيصح الإيجاب من البائع فيقول: بعتك كذا بكذا وصفته كذا إلى أجل كذا، فيقول المشتري: قبلت، ودفع الثمن في المجلس انعقد سلما لا بيعا مجردا عن كونه سلما. إذ اتضح عدم اعتبار قصد السلمية في صيرورته سلما بعد إن كان مورده متشخصا في نفسه.
فما عن بعض الشافعية من أن ذلك بيع لا سلم فلا يجب القبض في المجلس وغيره من أحكامه نظرا إلى كونه الإيجاب بلفظ البيع واضح الفساد، إذ مع كون الأولى النظر إلى المعاني، لا تنافي هنا بين اللفظ والمعنى ضرورة كون السلم نوعا من البيع، فليس في لفظ البيع ما يقتضي كونه غير سلم حتى يحتاج إلى ترجيح النظر إلى اللفظ على المعنى (2) .
3- وكذا يقع السلم (من البائع) بلفظ: استلفت واستلمت، وتسلفت وتسلمت فيقول المشتري (المسلم) : قبلت ونحوه، فيكون الموجب هو البائع والقابل هو المشتري.
4- كما يصح السلم بلفظ الشراء، فيقول: اشتريت منك ثوبا أو طعاما صفته كذا بهذه الدراهم إلى أجل كذا، فقال البائع: بعته منك، فهناك ينعقد هذا البيع سلما ويكون صحيحا بناء على جواز تقديم القبول على الإيجاب، كما هو الصحيح، أما لو قال البائع: قبلت، فقد يقال بصحته أيضا بناء على اختصاص السلم بجواز كون الإيجاب من المشتري والقبول من البائع.
__________
(1) جواهر الكلام (للمحقق صاحب الجواهر النجفي) 24/267-269
(2) جواهر الكلام (للمحقق صاحب الجواهر النجفي) 24/267-269(9/344)
تعريف بيع السلم:
عرف عند البعض بأنه: (ابتياع مال مضمون إلى أجل معلوم بمال حاضر أو في حكمه) (1) .وهذا التعريف ينسجم مع من يقول بأن البيع هو اسم للنقل والانتقال المراد من الابتياع هنا.
والمراد من المضمون هنا هو الكلي في الذمة بقرينة إلى أجل معلوم، وبهذا يحترز عن البيع المضمون قبل القبض. وأخرج بقوله بمال حاضر أو ما في حكمه بيع النسيئة لعدم اعتبار ذلك فيها، فالمراد بالمال الحاضر هو المال الموجود المشخص في مجلس العقد، والمراد بما في حكمه:
1- المال المقبوض قبل التفرق وإن لم يكن موجودا في مجلس العقد وهو الكلي في الذمة المدفوع قبل التفرق.
2- أو كان موجودا بدون تشخيص ثم يشخص قبل التفرق ويقبض.
3- أو كان الثمن دينا في ذمة البائع بناء على جواز جعله ثمنا للسلم.
وهذه وأمثالها لم تعتبر في النسيئة. وأما الأجل في السلم فهو المشهور وسيأتي تحقيق الحال فيه.
مشروعيته:
أما مشروعيته فقد دل عليها أمور:
1- شمول العمومات القرآنية مثل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] . إذ لا إشكال في كونه بيعا عرفا فتشمله الأدلة.
2- إجماع المسلمين على جواز هذا البيع.
3- الروايات المتواترة التي دلت على صحته وهي كاشفة عن السنة النبوية، فمن الروايات:
أ - صحيح جميل بن دراج عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول والعرض) (2) .
ب - صحيح زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (لا بأس بالسلم من الحيوان إذا وصفت أسنانها) (3) .
ج- صحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك إلى أجل مسمى قال عليه السلام: لا بأس (إلى أن قال) : والأكسية مثل الحنطة والشعير والزعفران والغنم. (4) ، وغيرها من الروايات.
__________
(1) شرائع الإسلام/ج2
(2) وسائل الشيعة/ ج13 باب (1) من السلف/ ح1 و3 و4
(3) وسائل الشيعة/ج13 باب (1) من السلف/ ح1 و3 و4
(4) وسائل الشيعة/ ج13/ باب (1) / ح1 و3 و4(9/345)
هل مشروعية السلم أصلية أو استثناء؟
ذهب البعض إلى أن مشروعية السلم ليست أصلية، بل إن تعامل الناس والحاجة جعل الفقه الإسلامي يميز بيع السلم، فقد ذكر السنهوري ما خلاصته: هنا نجد الفقه الإسلامي – على الوجه الذي استقر عليه في عصور التقليد – يضيق بحاجات التعامل. فقد كان الأصل الذي قام عليه عدم جواز بيع المعدوم هو فكرة الغرر. (1) ولكن سرعان ما اختفى هذا الأثر، وأصبح انعدام الشيء في ذاته هو سبب البطلان ولو لم يكن هناك غرر أو كان هناك غرر يسير.
لذلك نجد إجماع من المذاهب على أن الشيء إذ لم يكن موجودا أصلا وقت التعاقد كان العقد باطلا، حتى لو كان وجوده محققا في المستقبل.
لقد سلم الفقهاء كما رأينا، أن الشيء إذا كان موجودا في أصله دون أن يوجد كاملا – كالزرع أو الثمر الذي لم يبد صلاحه وكالزرع الذي يوجد بعضه بعد بعض – فهذا الوجود الأصلي وإن لم يكن وجودا كاملا يكفي لجواز التعاقد. أما انعدام الشيء أصلا، فقد خلطوا بينه وبين الغرر، واعتبروا أن التعامل في شيء منعدم وقت التعاقد ينطوي في ذاته على غرر يفسد العقد، ولم يميزوا بين مصير الشيء المعدوم في المستقبل، هل هو محقق الوجود فتزول الخشية من الغرر وكان ينبغي أن يصح العقد، أو هو محتمل الوجود، وعند ذلك يدخل عنصر الغرر بقدر متفاوت فيعالج القدر الذي يقتضيه.
على أن تعامل الناس والحاجة أوجدا ثغرتين في هذا المبدأ الذي جمد عليه الفقهاء، فأجاز الفقه الإسلامي بيع المعدوم في السلم والاستصناع فنبسط المبدأ ثم نستعرض الاستثناءين. ثم استند السنهوري في رأيه هذا على أقوال بعض الفقهاء كقول صاحب البدائع في عدم جواز بيع المعدوم، ونقل عن (فتح القدير) / جزء 5/ 102/: "لا خلاف في عدم جواز بيع الثمار قبل أن تظهر" وعن (الفتاوى الهندية) /3/106/: "بيع الثمار قبل الظهور لا يصلح اتفاقا". وعن (بداية المجتهد) /2/124/: (أما القسم الأول وهو بيع الثمار قبل أن تخلق فجميع العلماء مطبقون على منع ذلك، لأنه من باب النهي عن بيع ما لم يخلق أو من باب بيع السنين والمعاومة وهي بيع الشجر أعواما، إلا ما روي عن عمر بن الخطاب وابن الزبير أنهما كانا يجيزان بيع الثمار سنين) . (2) .
__________
(1) الغرر هو عبارة عن التردد في حصول الشيء وعدمه كالطير في الهواء والسمكة في الماء وهو يختلف عن المجهول الذي معناه ما علم حصوله مع جهل صفته.
(2) مصادر الحق في الفقه الإسلامي 3/31 – 32(9/346)
أقول: يرد على ما ذكره السنهوري عدة أمور:
1- إن ما ننسبه إلى الفقه الإسلامي يجب أن يكون مستخرجا من الأدلة الشرعية التي هي مصدر الفتاوى عند علماء الإسلام، فنسبة مشروعية السلم إلى الاستثناء (من عدم جواز بيع المعدوم) دعت إليه الضرورة كما صرح بذلك، استنادا إلى أقوال بعض الفقهاء غير صحيح.
2- إن قاعدة (عدم جواز بيع المعدوم) ليس لها أصل في الشريعة (القرآن والسنة) ، نعم ورد النهي عن بيع الغرر، وهو كما يوجد في بيع بعض الأعيان المعدومة كبيع ما تحمل هذه الأمة أو هذه الشجرة يوجد في بيع بعض الأعيان الموجودة كما في بيع الحنطة جزافا وكبيع الآبق منفردا.
3- لقد أجاز الشارع بيع المعدوم في بعض الموارد (كما سيأتي ذكر الروايات الدالة على ذلك) فكيف مع هذا ننسب إلى الفقه الإسلامي أن الأصل فيه عدم جواز بيع المعدوم؟!
4-أجاز الشارع بيع السلم بروايات كثيرة وجعل له شروطا رفعه عن دائرة الغرر والجهالة وبيع المعدوم الغرري، فاشترط في المبيع أن يكون معلوم الجنس والنوع والصفة، وأن يكون معلوم القدر بالكيل أو الوزن أو العدّ أو الذرع وأن يكون مما يمكن أن يضبط قدره وصفته بالوصف الذي لا يفضي إلى التنازع. كما اشترط في الثمن شروطا معينة كأن يكون مقبوضا في المجلس، كما اشترط في الأجل أن لا ترقى إليه الجهالة، وغير هذه الشروط المذكورة في الروايات التي صدرت في عصر التشريع الإسلامي الأول، ومع هذا كيف يقال: إنه أجيز للضرورة على خلاف الأصل؟!
روايات جواز بيع المعدوم (الخاص) :
لقد وردت روايات كثيرة تصحح بيع المعدم، وهي تكشف عن رؤية إسلامية لصحة بيع المعدوم إذا توافرت فيه شروط خاصة تخرج عن الجهالة والغرر (الخطر) المؤدي إلى المنازعة، وإليك بعضها:
1- صحيحة يعقوب بن شعيب قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن شراء النخل فقال: كان أبي يكره شراء النخل قبل أن يطلع ثمرة السنة، ولكن السنتين والثلاث كان يقول: إن لم يحمل في هذه السنة حمل في السنة الأخرى. قال يعقوب: وسألته عن الرجل يبتاع النخل والفاكهة قبل أن يطلع سنتين أو ثلاث سنين أو أربعا؟ قال عليه السلام: لا بأس، إنما يكره شراء سنة واحدة قبل أن يطلع مخافة الآفة حتى يستبين) (1) .
2- صحيحة الحلبي قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن شراء النخل والكرم والثمار ثلاث سنين أو أربع سنين فقال عليه السلام: لا بأس، تقول: إن لم يخرج في هذه السنة أخرج في قابل، وإن اشتريته في سنة واحدة فلا تشتريه حتى يبلغ، وإن اشتريته ثلاث سنين قبل أن يبلغ فلا بأس. وسئل عن الرجل يشتري الثمرة المسماة في أرض. فتهلك ثمرة تلك الأرض كلها، فقال عليه السلام: قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يذكرون ذلك، فلما رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة ولم يحرمه ولكن فعل ذلك من أجل خصومتهم) (2) .
فمن هذين النصين يتبين أن بيع ثمر النخل والفواكه سنين متعددة لا بأس به، وهذا هو بيع المعدوم حالا المحقق الوجود مآلا، ولا يوجد فيه غرر، أما بيع ثمرة النخل سنة واحدة فقد كان الأصل هو الجواز كما تقول الرواية، لكن لما انتهى في بعض الموارد إلى الخصومة (وهي موارد ما إذا هلكت الثمرة قبل القبض وعدم إرجاع الثمن إلى المشتري حسب القاعدة المستفادة من الرواية القائلة: (كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه) نهاهم عنه ولم يحرمه فيكون النهي استثناء.
__________
(1) وسائل الشيعة/ج13 /باب (1) من بيع الثمار / ح8
(2) وسائل الشيعة/ ج13/باب (1) من بيع الثمار ح2(9/347)
3- صحيحة يعقوب بن شعيب قال: (قال الإمام الصادق عليه السلام إذا كان الحائط فيه ثمار مختلفة فأدرك بعضها فلا بأس ببيعها جميعا) (1) .
4- موثقة سماعة قال: (سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها؟ فقال: لا، إلا أن يشتري معها شيئا من غير رطبة أو بقلا، فيقول: أشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر بكذا وكذا، فإن لم تخرج الثمرة كان رأس مال المشتري في الرطبة والبقل) . (2) .
ويتبين من هذين النصين أن بيع المعدوم لا بأس به إذ لم يكن فيه غرر (خطر) كما لو اشترى المعدوم مع الموجود وكان المشتري على علم بالحاصل، وهذا نظير بيع الآبق إذا لم يقدر على تسليمه البائع وكذا لا يتمكن أن يتسلمه المشتري؛ فإنه إذا باعه وحده فهو غير صحيح، للخطر، وأما إذا باعه مع الضميمة، فحينئذ يصح البيع، فإن حصل عليه وتسلمه المشتري فهو، وإن لم يتسلمه كان ماله في مقابل الضميمة الموجودة. وعلى هذا فيكون الميزان فيه بيع الموجود والمعدوم واحدا وهو عدم جوازهما إذا كان فيهما غرر (خطر) وجوازهما إذا زال الغرر (الخطر) . فلا أصل هناك في جواز بيع الموجود وعدم جواز بيع المعدوم.
5- عن ثعلبة بن زيد قال: (سألت الإمام الباقر عليه السلام عن الرطبة تباع قطعتين أو ثلاث قطعات، فقال عليه السلام: (لا بأس ... ) (3) :
6- عن معاوية بن ميسرة في حديث قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرطبة يبيعها هذه الجزة وكذا وكذا جزة بعدها؟ قال عليه السلام: لا بأس به ثم قال: قد كان أبي يبيع الحناء كذا وكذا خرطة) (4) . وهاتين الروايتان ظاهرتان في جواز بيع الخرطات التي توجد فيما بعد، فهي من بيع المعدوم حالا المحقق الوجود مآلا ولا غرر فيه.
__________
(1) باب (2) من بيع الثمار/ ح1
(2) باب (3) من بيع الثمار/ ح1
(3) باب (4) من بيع الثمار ح1 و3
(4) باب (4) من بيع الثمار ح1 و3(9/348)
7- إن أدلة عقد الإجارة كلها دليل على جواز بيع المعدوم حالا المحقق الوجود مآلا (فالإجارة هي بيع المنافع المستقبلة والمنافع ليست موجودة حالا لكنها ستوجد مستقبلا) وقد أجاز الشارع عقد الإجارة بنصوص واضحة كثيرة مع شروط تخرجها عن الغرر. (1) . ونكتفي بهذا القدر من النصوص الشرعية التي تدل على أن بيع المعدوم إذا لم يكن فيه غرر (خطر) فهو صحيح وهذا هو الأصل والقاعدة كما في بيع الموجود إذا لم يكن فيه خطر. وأما بيع المعدوم والموجود معا إذا كان فيه خطر وغرر فهو باطل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وعلى هذا فالأصل والقاعدة هو عدم جواز بيع الغرر، فإذا جوزت الشريعة أو الفقهاء بيع غرر خاص يكون استثناء للأصل، أما هنا فبيع المعدوم لا يوجد أصل في عدم جوازه، بل ما تقدم من النصوص تصرح بأن الأصل فيه الجواز إذا كان بعيدا عن الغرر. وعلى هذا فسوف يكون بيع السلم على الأصل لما فيه من الشروط والقيود التي تخرجه عن كونه بيعا غرريا " فالمسلم فيه معين محقق الوجود مآلا، ومقدار معين بالكيل أو الوزن أو العدّ أو الذرع الذي يرفع الاختلاف والجهالة، والثمن معلوم يدفع مقدما، ووقت التسليم محدد أيضا بحيث لا يحتمل الزيادة والنقيصة، وأن يكون المسلم فيه موجودا حين الأجل غالبا" وعلى هذا فكيف صار جوازه استثناء وقد صرحت الشريعة بكل ذلك؟!
ثم إننا إذا تعقلنا عرفا بيع الكلي في المعين الذي هو عبارة عن بيع الكلي الموجود في الخارج الذي له أفراد خاصة يمتاز كل فرد عن الآخر بخصوصيته، لكن المعاملة حينما وردت على فرد لم تلحظ فيه هذه الخصوصية، فكان بيعا كليا في المعين ويكون تشخيص هذه الخصوصية للبائع كما قد يكون تشخيصها بيد المشتري كما إذا قال: بعت كتابا من هذه الكتب أيا شئت منها.
وتعقلنا بيع الحصة المشاعة (2) كمئة متر من ألف أو حصة من البيت مشاعة، فتحصل الشركة ولابد من التراضي في التقسيم أو القرعة.
نتعقل بيع الكلي المضمون في الذمة الموصوف بأوصاف معينة تخرجه عن كونه غرريا. وإذا تعقل هذا عرفا شمله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} فتكون مشروعيته أصلية وليست على خلاف القاعدة.
__________
(1) راجع وسائل الشيعة/ ج13/ب1 – 35 من الإجارة توجد روايات متعددة تدل على صحة عقد الإجارة، فلا يصلح أن يقال: إن الإجارة أجازها الفقهاء استحسانا، راجع مصادر الحق في الفقه الإسلامي 3/34
(2) الفرق بين بيع الكلي في المعين وبيع الحصة المشاعة هو ما ذكرته الروايات بأن الميت إذا ترك ماله بوصية وقد تلف منه شيء قبل القسمة فإنه يتلف على الميت والورثة بالنسبة. أما إذا كان الميت مدينا وقد تلف شيء من التركة ولم يبق إلا بقدر الدين فيتخصص الباقي للغرماء، وما الفرق بين تضرر الوصية عدم تضرر الدين إلا بسبب أن الدين كلي في المعين بينما الوصية على سبيل الإشاعة(9/349)
شروط صحة السلم:
ذكروا أن شروط السلم ستة:
1- ذكر الجنس (الحقيقة النوعية كالحنطة والشعير) .
2- ذكر الوصف الرافع للجهالة: والمائز بين أفراد ذلك النوع. والضابط فيه: هو ما يختلف لأجله الثمن اختلافا لا يتسامح بمثله، فذكره لازم، والمرجع في ذلك على العرف لأنه ربما يكون أعرف من الفقيه في هذه الأمور. ولا يجب الاستقصاء في الوصف، بل يجوز الاقتصار على الوصف الذي يزيل اختلاف أثمان الأفراد الداخلة في العين. وحينما نقول بعدم وجوب الاستقصاء في الوصف، فليس معنى ذلك عدم جوازه، بل هو أمر جائز إلا في صورة ما إذا أدى إلى عزة الوجود "الممتنعة" فيبطل العقد، لأننا سنشترط كون وجود الجنس الموصوف غالبيا، ولعل دليل هذا هو أن عقد السلم هو من بيع ما ليس بموجود فإذا كان عزيز الوجود كان مؤديا إلى التنازع والفسخ، وهو مناف للمطلوب، كما أن بعضهم ذكر تعذر التسليم هنا هو المانع من صحة البيع.
3- قبض رأس المال قبل التفرق، فإن حقيقة السلم (السلف) تعتمد على تسليم الثمن، وعلى هذا فلا يصح أن يكون الثمن كليا لم تشتغل ذمة البائع به (كالدين الذي لم يأت أجله) أما إذا كان قد حل أجله وتراضيا على كونه هو الثمن صح عقد السلم. ويصح أن يكون الثمن حوالة للبائع فقبضه من المحال عليه في المجلس وذلك لحصول قبض الثمن في مجلس العقد قبل التفرق.(9/350)
ولكن إذا ترضيا على كون الثمن دينا على المشتري فالمشهور البطلان لكونه بيع دين بدين مثله (1) فيشمله ما روي عن رسول صلى الله عليه وسلم ((لا يباع الدين بالدين)) ولصحيح منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (سألته عن الرجل يكون له على الرجل طعام أو بقر أو غنم أو غير ذلك فأتى الطالب المطلوب يبتاع منه شيئا فقال عليه السلام: لا يبعه نسيئا وأما نقدا فليبعه بما شاء) (2) . فإن شراء الطالب من المطلوب شيئا بما له في ذمته يجعل النسيء في الرواية بمعنى السلم.
4- تقدير المسلم فيه بالكيل أو الوزن أو الذرع أو العد (إذا كان يرتفع الغرر به) لترتفع به الجهالة. وكذا رأس المال.
5- تعيين الأجل بما لا يحتمل الزيادة والنقيصة، أما إذا كان المثمن حالا فهو بيع لا سلم إذا وقع بلفظ البيع.
6- أن يكون وجود المسلم فيه غالبا بحسب العادة وقت الحلول ولو كان معدوما وقت العقد، ليمكن التسليم.
ولعل هذا الشرط قد ذكر للرد على من أوجب أن يكون الجنس المبيع موجودا حال العقد إلى حال المحال كالأوزاعي والثوري وأبي حنيفة (3) .
أقول: إن ما ذكر مقدما بأن لا يكون عزيز الوجود إذا كان راجعا إلى القدرة على التسليم فهو يكفي عن هذا الشرط؛ لأنه لا يطمئن بالقدرة على التسليم إلا في معتاد الوجود، وبهذا الشرط يكون السلم قد ورد على موجود بالنوع.
__________
(1) هذا إذا لم نقل: إن صدق الدين بالدين مخصوص بسبق الدينية، أما في السلم فيصدق الدين بالدين بعد تمام العقد.
(2) وسائل الشيعة/ج12/ باب6 من أحكام العقود/ ح8 وهذه الرواية تكون دليلا لنا كما هي هكذا في بعض الكتب، أما بناء على ما نقله صاحب الوسائل عن نسخ التهذيب المعتبرة "أتى المطلوب الطالب" فهو في عكس المسألة
(3) راجع جواهر الكلام 24/306(9/351)
حكمة السلم:
إن الحكمة في بيع السلم واضحة حيث إنه يحق كثيرا من منافع المتعاقدين، فمن لم يكن لديه السيولة النقدية وعنده القدرة على إنتاج السلع والمحصولات بكميات كبيرة الشيء الكثير بعد أجل معين ويريد ضمان تصريفها فيتمكن أن يحصل على السيولة النقدية ويسلم البضاعة أو المحصول في وقته إلى المشتري، وهذا بنفسه يشجع على الإنتاج المستقبلي في الزراعة والصناعة والعمل ويسد باب عدم تصريف البضاعة وكسادها.
ثم إن المشتري يستفيد من استثمار فائض أمواله بشرائه للسلعة السلمية بسعر أرخص بكثير من قيمتها الحقيقية في وقتها وبهذا سوف يحقق أرباحا له جيدة حيث إنه إذا استلم البضاعة فإن كان بحاجة إلى المال فسوف يبيعها بربح، وإن لم يكن بحاجة إلى المال فسوف يبيعها بيعا آجلا بثمن أكبر من ثمنها الحالي، وبهذا يكون قد استثمر المال مرتين.
بيان أنواع المعاملات التي يجوز فيها السلم:
إن المعاملات التي يجوز فيها السلم كثيرة وحاصلها:
1- بيع السلم وهو الشائع من أنواع المعاملات السلمية الذي يكون الثمن فيه هو النقد سواء كان ذهبا أو فضة أو نقودا ورقية ويكون المثمن فيه سلعة من السلع.
2- إسلاف الأعراض في الأعراض إذا اختلفت، كما إذا أسلفه رصاصا بحنطة، وقد دل عليه إطلاق خبر وهب عن علي قال عليه السلام: (لا بأس بالسلف ما يوزن فيما يكال وما يكال فيما يوزن) (1) المنجبر بالشهرة العظيمة، ولهذا لا يصار إلى ما ذهب ابن أبي عقيل إلى عدم جواز السلم إلا بالعين والورق ولا يجوز بالمتاع، والنهي الوارد في هذا النوع يحمل على الكراهة خصوصا مع التعبير بلفظ (لا ينبغي للرجل إسلاف السمن بالزيت ولا الزيت بالسمن) (2) .
3- إسلاف الأعراض في الأعراض إذا اتفقت ولم تكن مقدرة بالكيل أو الوزن كإسلاف الثياب في الثياب.
4- إسلاف الأثمان في الأعراض كإسلاف النقد الذهبي أو الفضي بالحنطة. فيشتري منه نقدا إلى أجل بحنطة حالة، وهذا قد يقال له بيع النسيئة إذا كان البائع قد اشترى حنطة بنقد مؤجل إلى ستة أشهر مثلا. وفي خبر غياث عن جعفر عن أبيه عليه السلام قال: (لا بأس بالسلف في الفلوس) (3) .
5- أما إسلاف الأثمان في الأثمان فينقسم إلى أقسام:
الأول: إسلاف الذهب بالفضة أو العكس هذا لا يجوز لأنه عبارة عن بيع الأثمان في الأثمان وقد اشترط فيه التقابض في المجلس فما لم يحصل التقابض يكون باطلا.
ولو قيل: إن التقابض قد يحصل بكون الأجل قصيرا، فمع هذا لا يجوز بيع الأثمان في الأثمان سلما وذلك للأدلة الدالة على عدم جواز الأجل في النقدين إذا بيع أحدهما بالآخر وأنه لا بد من الحلول في بيعهما والتقابض في المجلس (4) .
الثاني: إسلاف الأوراق النقدية في الأوراق النقدية من جنس واحد، فأيضا لا يجوز، لا لأجل أن التقابض شرط في النقدين: (الذهب والفضة) ولكن لا يجوز؛ لأن العرف يرى قرضية هذه المعاملة، فإذا كان ما يستحقه بعد ستة أشهر أكثر مما أعطاه الآن فهو ربا.
الثالث: إسلاف الأوراق النقدية في الأوراق النقدية من جنسين مختلفين، فهذا يجوز على قول المشهور الذي يرى عدم وجوب التقابض في الأوراق النقدية، وهناك رأي بعدم جواز ذلك لاشتراط التقابض فيها.
6- يجوز أن يكون ما في الذمة ثمنا في السلم إذا كان حالا كما تقدم.
__________
(1) وسائل الشيعة / ج13 باب 7 من السلف/ ح1
(2) وسائل الشيعة/ج13/ باب 7 من السلف/ح3
(3) وسائل الشيعة/ ج 13 باب 1 من السلف ح12
(4) وسائل الشيعة/ ج12/ باب 2 من أبواب الصرف (الروايات)(9/352)
7-كما يمكن تجزئة تسليم السلم على أوقات معلومة، فقد وردت صحيحة أبي ولاد الحناط فقال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل تكون له الغنم يحلبها لها ألبان كثيرة في كل يوم، ما تقول في شراء الخمسمئة رطل بكذا وكذا درهما، يأخذ في كل يوم منه أرطالا حتى يستوفي ما يشتري؟ قال عليه السلام: لا بأس بهذا ونحوه) (1) .
بيان أنواع السلع التي يجري فيها السلم:
هناك قاعدة في بيان أنواع السلع التي يجري فيها السلم وهي كل سلعة تنضبط في الوصف على وجه ترتفع الجهالة ولا يؤدي إلى عزة الوجود فيصح فيه السلم قطعا، فالميزان في صحة السلم رفع الغرر والجهالة، فيصح في جميع السلع والمعادن والحيوان والطعام والخضر والفواكه بشرط الانضباط في الوصف كما تقدم.
وقد وردت بعض الروايات التي تمنع السلم أو ترشد إليه عدم تحققه في الخارج لعدم الانضباط في ذلك الزمان كاللحم نيئه ومشويه والخبز، ففي خبر جابر (سألت الإمام الباقر عليه السلام عن السلف في اللحم فقال: لا تقربنه؛ فإنه يعطيك مرة السمين ومرة الثاوي ومرة المهزولة واشتر معاينة يدا بيد) (2) إلا أن أدوات الضبط في هذه الأيام متوفرة أكثر مما مضى من الزمان، فما دامت القاعدة هي انضباط السلعة بما يرفع الجهالة ولا يؤدي إلى الغرر وعزة الوجود فيصح السلم فيه إذا وجدت أدوات انضباطه في هذه الأيام وإن منع فيه سابقا لعدم انضباطه.
وعلى هذا المقياس فلا يجوز السلم في الجواهر واللآلئ لتعذر ضبطها بحيث ترتفع الجهالة ولا يؤدي إلى عزة الوجود، وذلك لتفاوت الأثمان مع اختلاف أوصافها بالحجم والوزن واللون، نعم هناك من الأحجار الصغيرة التي لا يتفاوت الثمن باعتبارها تفاوتا بينا، إذ هي تباع بالوزن مثلا، فيجوز فيها السلم.
هذا وقد أطلقت الروايات جواز السلم فيما ينضبط وعدم الأداء إلى عزة الوجود فقالت: لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول والعرض، ولا بأس بالحيوان إذا وصفت أسنانها (3) وكأنها اتكلت على العرف الذي يكون عارفا بأوصاف الانضباط أكثر من الفقيه أحيانا.
__________
(1) وسائل الشيعة/ جزء 13/ باب 4 من السلم/ح 1
(2) وسائل الشيعة/ ج12/باب 2 من السلم/ح1
(3) وسائل الشيعة/ج12/باب 1 من السلم/ ح1- 3(9/353)
وعلى هذا فيجوز السلم:
1- في الخضر والفواكه وكل ما أنبتته الأرض.
2- وفي الحيوان كله والعبيد.
3- وفي الألبان والسموم والشحوم والأطياب.
4- وفي الألبسة والأشربة والأدوية.
5- ويجوز في جنسين مختلفين صفقة واحدة وغير ذلك، مع ضبطه بما تقدم.
مفهوم صفة التعيين في السلع التي يمتنع معها السلم:
لقد تقدم ذكر السلع التي يجوز فيها السلم بشرط انضباطها بما يؤدي إلى رفع الغرر وعزة الوجود. وعلى هذا فإذا كانت الصفة التي ذكرت في السلعة لتعيينها قد استقصيت فأدت إلى عزة الوجود، فيمتنع فيها السلم، وقد علل بأنه يؤدي إلى التنازع والفسخ فهو مناف للمطلوب من السلف.
وقد نقول: إن التعيين إذا أدى إلى عزة الوجود ارتفع شرط أن تكون السلعة موجودة غالبا بحسب العادة وقت الحلول، فيبطل السلم.
ومن الأمثلة على التعيين في السلع التي يمتنع معها السلم ما إذا اشترط الأجود، فإن هذا العنوان غير منضبط، إذ ما من جيد إلا ويمكن وجود أجود منه.
وكذا اشتراط الأردأ: فإن الاكتفاء (في المرتبة الثانية من الرديء، ودفع الأردأ إن وجد فقد تحققت الأفضلية، وإلا فدفع الجيد عن الرديء جائز وقبوله على المشتري لازم فيصح شرط الأردأ) لا يفيد وذلك لأن ضبط المسلم فيه (المبيع المؤجل) يعتبر على وجه يمكن الرجوع إليه عن الحاجة سواء امتنع وجوده أم لا، ومن جملة موارد الحاجة ما لو امتنع المسلم إليه من دفعه، فإن الحاكم الشرعي يتدخل في أخذه قهرا، وهو غير ممكن؛ وذلك لأن الجيد غير متعين عليه فلا يجوز لغير مالكه دفعه، وأما الرديء فما من رديء إلا ويوجد أردأ منه، فيتضح عدم الصحة في هذا العنوان.
نعم: إذا اشترط الجيد والرديء فهو أمر جائز لإمكان تحصيلهما بسهولة، فإن الواجب أقل ما يطلق عليه اسم الجيد، فإن زاد عنه زاد خيرا، وكذا الرديء، وكلما قلل الوصف فقد أحسن.(9/354)
والخلاصة:
فكل شيء لا يمكن ضبطه بالوصف بمعنى أنه يبقى بعد بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره جهالة فاحشة مفضية إلى التنازع لا يصح فيه السلم، ولعل دليل ذلك هو أن السلم بيع، فيكون المسلم فيه مبيعا، والمبيع يحتاج إلى أن يتعين بالتعيين، فإذا كان التعيين لا يعينه كما تقدم فلا يصح فيه السلم.
الصنف الواحد والأصناف المتعددة:
هل تعد السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية (الماركات) المتعددة صنفا واحدا أم أصنافا متعددة؟
إن السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية (الماركات) المتعددة كمناديل تنظيف اليد والحليب والحبوب والأدهان والفواكه وأشباهها قد تكون على أنحاء:
النحو الأول: إذا كان تختلف من ناحية الثمن اختلافا لا يتسامح بمثله، ومعنى ذلك وجود اختلاف في خصوصيات الأفراد كالجودة والرداءة وأمثالهما، ففي هذه الصورة تعد السلعة أصنافا متعددة، كالحنطة العربية والكردية والاسترالية، فإن اختلاف الثمن مع كون العنوان واحدا يكون بملاك اختلاف خصوصيات الأفراد، وهذا يجعل الحنطة أصنافا، فإن لم يذكر في السلم صنفا واحدا معينا كانت الجهالة موجودة. وعندما يقول الفقهاء: إن المشتري أو البائع للسلم "لا يطلب في الوصف الغاية، بل يقتصر على ما يتناوله الاسم" فالمراد الاقتصار على ما يتناوله العنوان الذي يزيل اختلاف أثمان الأفراد الداخلة في العين.
النحو الثاني: إذا كانت لا تختلف من ناحية الثمن لعدم اختلاف الخصوصيات في الأفراد، ففي هذه الصورة تعد العلامات التجارية المتعددة صنفا واحدا عرفا كالذرة التي تكون من صنف واحد، ولكن مقدمات عرضها المتساوية وعرضها للأسواق تقوم به شركات متعددة ولكل واحدة منها ماركة خاصة، ففي هذه الصورة لا يوجد بين أفراد السلعة اختلاف في الخصوصيات وينبغي أن لا يكون هناك اختلاف في الثمن عرفا إلا نادرا، وبهذا فسوف تكون السلعة هذه صنفا واحدا وإن تعددت الماركات.(9/355)
النحو الثالث: إذا كانت السلعة الواحدة ذات الماركات المتعددة لا تختلف من ناحية خصوصيات الأفراد ولكن تختلف من ناحية الثمن بسبب بعض الأمور الجانبية، مثل أن تكون هذه الشركة في مكان بعيد يوجب نقل السلعة إلى هذا أجورا إضافية، فتكون السلعة أعلى سعرا من الشركة المحلية التي تعرض السلعة نفسها في نفس البلد بدون أجر يضاف إلى تصنيعها أو عرضها، ففي هذه الصورة تكون السلعة صنفا واحدا وإن كانت ماركاتها متعددة وأثمانها مختلقة، لأن المدار في اختلاف الأثمان الذي يوجب ذكر الأوصاف هو الذي يوجب اختلاف الأوصاف بين الأفراد، أما اختلاف الأثمان هنا فهو ناتج عن أمور جانبية لا عن اختلاف الأوصاف والخصوصيات، فعلى هذا تكون الماركات المتعددة صنفا واحدا.
وكمثال على ذلك: إن الحنطة المزروعة في مكان واحد وزمان واحد تشترى من قبل شركات متعددة، فبعضها في نفس بلد الزراعة. وبعضها في بلد آخر يبعد عن بلد الزراعة بالآلاف الكيلومترات، ثم تجري عليها عمليات واحدة قبل عرضها للأسواق ثم تعرض بعد ذلك، وهنا سوف يكون ثمن الشركة المحلية للكيلو الواحد من الطحين أرخص من ثمن الشركة البعيدة إذا وصل نتاجها المطحون إلى بلد الشركة المحلية، فهنا لا يوجد اختلاف في الخصوصيات ووجد الاختلاف في الثمن، فتكون الماركات المتعددة من هذا القبيل صنفا واحدا.
النحو الرابع: إذا كانت السلعة الواحدة ذات الماركات المتعددة لا تختلف من ناحية خصوصيات الأفراد ولكنها تختلف من ناحية الثمن بسبب اختلاف عمليات ما قبل العرض في الأسواق كأن تكون السلعة الصادرة من الشركة المعينة تحمل قابلية بقائها صالحة للاستعمال أكثر من السلعة الصادرة من شركة أخرى بسبب خلط المواد المبعدة للتعفن والمبقية للسلعة على طراوتها مدة أطول من قبل الشركة الأولى دون الثانية، فهنا سوف يكون اختلاف بين السلع الصادرة من شركات مختلفة إلا أن الاختلاف ليس في نفس السلعة، إذ المفروض أن السلعة واحدة ومن مزرعة واحدة ولكن الاختلاف هو في التصنيع الذي يجعل بعض الأفراد يرغب أكثر لهذه الشركة التي صناعتها أجود من الأخرى، وعلى هذا فسوف يكون اختلاف الماركات كاختلاف الأصناف للسلعة الواحدة.(9/356)
النحو الخامس: ما لو فرضنا (النحو الثاني والثالث) الذي يجعل الماركات المتعددة صنفا واحدا، ولكن المشتري اشترط في صفقة السلم الماركة المعينة، ولتكن الأغلى ثمنا أو الأرخص ثمنا، ولكن بهدف إرباح هذه الشركة التي له معها رابطة خاصة، فهل تعد الماركات المتعددة أصنافا متعددة فيجب على البائع أن يلتزم فيدفع ما شرط عليه، أو يجوز له أن يدفع السلعة من الماركات الأخرى؟
الجواب: إن الماركات المختلفة وإن كانت تعد صنفا واحدا، ولكن حكم هذه الصورة هو حكم السلعة ذات الأصناف المتعددة، وقد جاء هذا الحكم من قبل الشرط، فإن القاعدة القائلة: (المسلمون عند شروطهم) توجب العمل بالشرط إذا كان لهذا الشرط فائدة تعود للشارط وإن لم يكن الشرط موجبا لاختلاف الأفراد.
وبهذا التفصيل الذي تقدم اتضح أيضا أثر اختلاف العلامات التجارية في تعدد أصناف السلع المسلم فيها، فإن الماركة المعينة إذا كانت توجد في السلعة (ذات العنوان المشترك مع آلاف السلع) خصوصيات معينة تجعلها متميزة عن بقية السلع بدون هذه الميزة، فإن ذكر هذه الميزات في عقد السلم يكون لازما لرفع الجهالة والغرر، فإن فرضنا أن شركات صنع الورق أو المناديل تختلف في صناعة الورق إلى صقيل وخشن وكذا المناديل، فإن عقدنا السلم الذي يوجد في الخارج لا بد فيه من ذكر الصفة التي تميز أفراد ذلك النوع وإلا لأدى إلى الغرر المنهي عنه.
اشتراط قبض العلماء بضاعة السلم قبل بيعها والحكمة في ذلك:
عقد علماء الإسلام في هذا الموضوع بحثين:(9/357)
البحث الأول: هل يجوز بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل؟
وقد ذكر بعض علماء الإسلام عدم الجواز، وكان دليله المدعى الإجماع المحكي إن لم يكن محصلا، فقد ذكر صاحب الجواهر الدليل فقال: (للإجماع المحكي في التنقيح وظاهر الغنية وجامع المقاصد وغيرها، وعن كشف الرموز إن لم يكن محصلا) (1) . وقد صرح بأن المنع من بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل: ليس لأجل عدم ملكية البضاعة للمشتري؛ لأن العقد هو السبب في الملك، والأجل يكون لأجل المطالبة. كما أن المنع ليس لأجل عدم القدرة على التسليم إذ إن القدرة على التسليم في البيع الآجل تكون عند الأجل (2) .
وقد ذكر في كتاب (الجواهر) فتوى نسبها إلى كتاب (الوسيلة) - لابن حمزة ظاهرا – تخالف هذا الإجماع وهي: (وإذا أراد أن يبيع المسلف ما أسلف فيه من المستسلف عند حلول الأجل أو قبله بجنس ما ابتاعه بأكثر مع الثمن الذي ابتاعه لم يجز، ومن باع بجنس غير ذلك جاز) فقد جوز بيع السلم على البائع بجنس آخر غير المسلم فيه، وذكر صاحب الجواهر أيضا مخالفة بعض متأخري المتأخرين استنادا إلى عمومات حل البيع ونحوها، لكنه تهجم عليهم بعد ذلك.
وقد ذكر عن الإمام مالك في المدونة الكبرى (4/88) الحديث عن السلم في غير الطعام فقال: (وما أسلفت فيه من العروض إلى أجل من الآجال فأردت أن تبيعه من صاحبه فلا بأس أن تبيعه منه بمثل الثمن الذي دفعته إليه أو أدنى منه قبل محل الأجل ... وإن أردت أن تبيعه من غير صاحبه، فلا بأس أن تبيعه منه بما شئت بمثل الثمن أو أكثر أو أقل، أو ذهب أو ورق أو عرض من العروض أو طعام إلا أن يكون من صنفه فلا خير فيه، ولا بأس أن تبيعه – وإن لم يحل الأجل – بما يجوز ... ) (3) . وهذا النص جوز بيع بضاعة السلم غير الطعام على غير البائع قبل حلول الأجل بما لا يكون ربا محرم.
ولكن الشيخ صاحب (الجواهر) الذي ذكر فتوى (الوسيلة) ادعى تقدم الإجماع عليها وتأخره عنها، فبناء على حجية هذا الإجماع التعبدي الذي يكون بحساب الاحتمال كاشفا عن رأي المعصوم عليه السلام فسوف تكون النتيجة – كما هي الحق – عدم جواز بيع بضاعة السلم قبل حلول أجلها، وأظن ظنا قويا بأن المراد من منع بيع البضاعة السلمية قبل القبض الصادر من مجمع الفقه الإسلامي الموقر في دورته السابعة هو بيعها قبل حلول أجلها حيث إن المنع من بيع البضاعة السلمية قبل القبض مخصوص بالمكيل أو الموزون أو بالطعام كما سيأتي ذلك.
__________
(1) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام (للمحقق صاحب الجواهر) 24/320
(2) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام (للمحقق صاحب الجواهر) 24/320
(3) نقلنا هذا النص من بحث الدكتور علي السالوس المقدم إلى الدورة الثامنة لمجمع الفقه الإسلامي تحت عنوان: تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية/ص6(9/358)
البحث الثاني: هل يجوز بيع بضاعة السلم بعد حلوله وقبل قبضه؟
وهذه المسألة خلافية عند علماء الإسلام نستعرضها بشيء من التفصيل والتقسيم، فنقسم البحث إلى قسمين:
القسم الأول: هل يجوز بيع بضاعة السلم بعد حلوله وقبل قبضه على غير البائع؟
القسم الثاني: هل يجوز بيع بضاعة السلم بعد حلوله وقبل قبضه على نفس البائع؟
أما القسم الأول: أقول: هناك مسألة أعم من هذه المسألة من جهة وأخص من جهة وهي مسألة: (جواز بيع المبيع قبل قبضه (سلما أو غير سلم) وعدمها) ومسألتنا الخاصة في السلم التي هي بيع البضاعة السلمية قبل قبضها، وهي من مصاديق المسألة العامة، لذا سوف نبحث عن المسألة العامة فيتضح الأمر في مسألتنا الخاصة؛ فنقول:
في هذه المسألة العامة ثلاثة اتجاهات فقهية:
الأول: يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقا (أكان المعقود عليه طعاما أم غيره وسواء كان مكيلا أو موزونا، عقارا أو منقولا) وذهب إلى هذا الاتجاه الإمام الشافعي (1) وأكثر أصحابه والإمام أحمد في رواية (2) وجمع غفير من العلماء.
الثاني: يرى جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقا، وذهب إليه بعض كعطاء أبي رباح وعثمان البتي. (3) وذهب إليه بعض الإمامية على كراهة (4) .
الثالث: تفاصيل أهمها التفصيل بين بيع المكيل والموزون قبل قبضه فهو لا يجوز إلا تولية وبين غيره فيجوز وذهب إليه مشهور فقهاء الإمامية قديما وحديثا (5) .
ولا بأس بالتنبيه إلى أن النهي الوارد هنا دال على الفساد (أي الإرشاد إلى عدم إمضاء المعاملة) فيكون معنى إذا اشتريت متاعا فيه كيل أو وزن فلا تبعه إلا بعد كيله أو وزنه هو اشتراط القبض في صحة البيع الثاني.
والذي يهمنا هنا هو ما ينساق إليه الدليل من هذه الاتجاهات الثلاثة فنقول:
__________
(1) الأم 3/60
(2) المغني لابن قدامة 4/121-123
(3) المحلى لابن حزم 8/597؛ والمغني 4/220
(4) المختصر النافع ص148
(5) هناك تفصيل بين بيع الطعام قبل قبضه فلا يجوز وبين بيع غير الطعام قبل قبضه فهو جائز، ذهب إليه الإمام مالك كما في المشهور عنه والإمام أحمد في رواية عنه. المدونة 4/90؛ والمغني 4/120(9/359)
البيع قبل القبض عند المذاهب الإسلامية:
كأن المسألة غير منصوصة عند غير الإمامية، فقد قال حيث ذكر: " أن أصل الخلاف يعود إلى مسألة الضمان، هل هو من ضمان البائع أم من ضمان المشتري، وهل ذلك الضمان يمنع المشتري من التصرف فيه؟ فمالك وأحمد في المشهور عنه ومن معهما قالوا: إن تمكن المشتري من قبضه فهو من ضمانه، وأن المشتري يستطيع أن يتصرف في المبيع قبل التمكن من قبضه؛ لأن ضمان البائع له لا يمنع تصرف المشتري الذي انتقلت إليه ملكية المبيع والمسلم فيه بمجرد العقد. قال ابن تيمية: (فظاهر مذهب أحمد أن جواز التصرف فيه ليس ملازما للضمان ولا مبنيا عليه، بل قد يجوز التصرف فيه حيث يكون من ضمان البائع كما ذكره في الثمرة وصنائع الإجارة وبالعكس كما في الصبرة المعينة) . بينما ربط أبو حنيفة والشافعي جواز التصرف بالضمان، فإذا لم ينتقل الضمان إلى المشتري لا يجوز له التصرف فيه حتى لا يتوالى الضمانان) (1) .
__________
(1) راجع مجموع الفتاوى 29/5-6-509 عن تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية المشتركة د. علي القرة داغي(9/360)
وبما أننا لا نجد أي محذور في وجود ضمانات متعددة إذا كانت السلعة عند البائع وباعها المشتري إلى مشتر ثان، وباعها المشتري الثاني إلى ثالث وهكذا، فإذا تلفت السلعة عند البائع قبل أن يسلمها فيكون المشتري الثاني ضامنا للمشتري الثالث ويكون المشتري الأول ضامنا للمشتري الثاني ويكون البائع ضامنا للمشتري الأول، فيستقر الضمان على البائع الذي تلفت السلعة عنده قبل أن يسلمها إلى المشتري الأول ولم نجد أي شاهد من أصول الشرع لمنع أن تتوالى الضمانات، ولم نشاهد حكما علق الشارع فساده على توالي الضمانات" بل قد ورد النص عند المذاهب في تجويز التصرف في المبيع قبل أن يتسلمه المشتري، فهو مع أنه مضمون على البائع يتمكن المشتري من بيعه بجنس آخر، وهو رواية ابن عمر: (كنت أبيع الإبل بالنقيع، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله رويدك، أسالك إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير. آخذ هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) (1) ،كما قد ورد عند كل المذاهب جواز التصرف في الثمرة المشتراة على النخل مع أن ضمانها إذا تلفت يكون على البائع، فما نحن فيه أيضا كذلك حتى يتصرف المشتري قبل القبض مع أن الضمان على غيره، فإذا حصل تلف حصل توالي الضمانين.
إذن تكون النتيجة العلمية بناء على الخلاف السابق هو جواز بيع السلعة المشتراة قبل قبضها لعدم ما يمنع من ذلك شرعا، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم على ما نسب إليه من ربح ما لم يضمن لا يمنع من النتيجة السابقة حيث يقال بجواز بيع ما لم يقبض بسعر اليوم، والبيع بسعر اليوم قبل القبض يكون خاليا عن الربح، فلم يربح فيما لم يضمنه.
نعم ورد النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، ولكن ذكر ابن القيم أن هذا النهي (إنما هو في الطعام المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن فلا يجوز بيعه قبل قبضه) (2) .
__________
(1) مسند أحمد / 2/82،154
(2) عن تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية/ د. علي القره داغي(9/361)
البيع قبل القبض عند الإمامية:
لقد وردت النصوص عند الإمامية عن أهل البيت عليهم السلام تمنع من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه، وتجيز ما سوى ذلك وإليك بعض الروايات:
1- صحيحة منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (إذا اشتريت متاعا فيه كيل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه إلا أن توليه ... ) (1) .
2- صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (في الرجل يبتاع الطعام ثم يبيعه قبل أن يكال؟ قال عليه السلام: لا يصلح له ذلك) (2) .
3- صحيحة الحلبي الأخرى قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن قوم اشتروا بزًّا فاشتركوا فيه جميعا ولم يقسموه أيصلح لأحد منهم بيع بزه قبل أن يقبضه؟ قال عليه السلام: لا بأس به، وقال: إن هذا ليس بمنزلة الطعام، إن الطعام يكال) (3) .
4- صحيحة معاوية بن وهب قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه؟ قال عليه السلام: ما لم يكن كيلا أو وزن فلا تبعه حتى تكيله أو تزنه إلا أن توليه الذي قام عليه) (4) .
5- صحيحة منصور بن حازم قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل اشترى بيعا ليس فيه كيل ولا وزن أله أن يبيعه مرابحة قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه؟ فقال: لا بأس بذلك ما لم يكن كيلا ولا وزنا (كما لو بيع بالمشاهدة) فإن هو قبضه فهو أبرأ لنفسه) (5) . (أي أن غير المكيل والموزون إذا قبضه ثم باعه فهو أبرأ لنفسه) .
__________
(1) وسائل الشيعة /ج12/باب 16 من أحكام العقود ح1، و5 و10 و11
(2) وسائل الشيعة/ج12/باب16 من أحكام العقود ح1، 5 و10 و11
(3) وسائل الشيعة/ج12/ باب 16 من أحكام العقود ح1، و5 و10 و11
(4) وسائل الشيعة /ج12/ باب 16 من أحكام العقود ح1، و5 و10 و11
(5) وسائل الشيعة/ ج12/باب 16 من أحكام العقود ح18(9/362)
6- صحيحة علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر قال: (سألته عن رجل اشترى بيعا كيلا أو وزنا هل يصلح بيع مرابحة؟ قال عليه السلام: لا بأس، فإن سمي كيلا أو وزنا فلا يصلح بيعه حتى تكيله أو تزنه) (1) .
وظاهر هذه الروايات عدم صحة بيع المكيل والموزون قبل قبض إلا تولية، ولا فرق في هذا البيع بين كونه شخصيا أو كليا في الذمة أو في المعين.
7- موثقة سماعة قال: (سألته عن الرجل يبيع الطعام أو الثمرة وقد كان اشتراها ولم يقبضها؟ قال عليه السلام: لا حتى يقبضها إلا أن يكون معه قوم يشاركهم فيخرجه بعضهم عن نصيبه من شركته بربح أو يوليه بعضهم فلا بأس) (2) . وهذه الرواية بالخصوص جوزت بيع الثمرة أو الطعام على غير بائعها تولية كما جوزت بيع نصف الحصة التي لم يقبضها من البائع فيشترك معه غيره.
أقول: إن هذه الروايات التي منعت من بيع المكيل أو الموزون على غير بائعه قبل القبض إلا تولية أو شركة هل هي قاعدة مستفادة من الأدلة العامة أو استثناء؟
الجواب: أن هذا استثناء على خلاف القاعدة، حيث إن المشتري للمكيل أو الموزون إذ ملك بواسطة العقد، يتمكن بيعه قبل القبض حسب القواعد العامة القائلة بتسلط الناس على أموالهم، ولكن الروايات المتقدمة منعت عن البيع في خصوص المكيل أو الموزون، فنتعبد بها ونقتصر على موردها، وموردها هو (البيع بغير التولية وغير التشريك على طرف ثالث إذا كان المبيع مكيلا أو موزونا) .
__________
(1) وسائل الشيعة/ ج12/ باب 16 من أحكام العقود ح18 و22 و15
(2) وسائل الشيعة/ج12/ باب 16 من أحكام العقود ح18 و22 و15(9/363)
هل هناك حكمة من اشتراط القبض قبل البيع؟:
وللجواب عن هذا السؤال نستعرض ما يمكن أن يقال في كونه حكمة لنرى مدى صحة ذلك أو عدمه فنقول:
1- قد ندعي أن الحكمة المتوخاة في نظر الشارع هي عدم جواز الربح بدون تحمل الخسارة، وما دامت السلعة المشتراة إذا لم يقبضها المشتري، فخسارتها على بائعها لقاعدة (إذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه) فلا يجوز للمشتري أن يربح بدون تحمل للخسارة إذا حصلت في سلعته. وكأن هذا هو الميزان العدل في المنظار الاقتصادي والشرعي القائل: (من كان له الغنم فعليه الغرم) فينبغي أن يكون من يربح إذا باع هو الذي يخسر إذا تلفت السلعة، أما هنا فإن السلعة ما دامت عند البائع وقبل قبض المشتري فخسارتها شرعا على البائع، فلا يجوز لمالكها أن يربح فيها.
ويشهد لهذه الحكمة جواز بيعها على شخص ثالث تولية.
ولكن رغم معقولية هذا القانون، لم يدل عليه أي دليل شرعي، بل نراه غير مرعي فيما إذا كان المشتري غير مكيل أو موزون كما لو كان المشترى ثوبا أو دارا، فإن المشتري يحق له أن يبيعه ويربح فيه قبل قبضه مع أن المشتري لا يخسر إذا تلف.
وكذا قد تخلف هذا القانون في موارد أخر كالثمار بعد بدو الصلاح، فإن المشتري له حق أن يبيعها وهي على الشجر، ولكن إذا أصابتها جائحة رجع على البائع، وكذا منافع الإجارة، فإن المستأجر له الحق في أن يؤجر ما استأجره ويتصرف فيه ويربح بقسم كبير منه إذا عمل فيه عملا، ولكن إذا حدث تلف في المستأجر، فيرجع على المؤجر بمقدار ما تلف.
فتبين من هذه الأحكام ومن غيرها كما سيأتي (وهو جواز بيع المكيل والموزون على بائعه بربح مع أن تلفه يكون على البائع) إن هذه الحكمة ليست هي صحيحة بالنسبة لمنع بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه.
2- هل يمكن أن تكون الحكمة هي القدرة على التسليم؟
والجواب بالعدم إذ القدرة على التسليم قد تكون موجودة حتى مع عدم قبض المشتري كما أنها قد لا تكون موجودة حتى مع قبضه كما لو غصبت بعد القبض.
3- هل يمكن أن تكون الحكمة هي الوقوف ضد المعاملات الوهمية التي لا قصد إليها كما هو الواقع في أسواق البورصة العالمية التي يكون القصد فيها غالبا هو انتظار تقلبات الأسعار للحصول على ربح وهو ما يسمى بالمضاربة الاقتصادية؟(9/364)
والجواب: إن كلامنا هو في صورة القصد إلى البيع الحقيقي لإخراج كل البيوع التي لا قصد فيها إلى تسلم المثمن كما هو الجاري في البورصات العالمية التي لا يكون التسليم والتسلم فيها إلا بمقدار 1 % كما اتضح هذا عند المناقشات التي جرت في مجمع الفقه الإسلامي في دورات سابقة. بالإضافة إلى انتقاص هذا ببيع غير المكيل أو الموزون قبل قبضه كما جوزت ذلك الروايات السابقة.
4- وقد يقال: إن الحكمة في النهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه هو التيقن من حصول القصد الحقيقي للبيع فإن قبض السلعة ووضعها في المخازن يجعل المشتري في حالة من الجدية بحيث لا يشك أحد في وجود قصده الحقيقي للشراء، بينما عدم القبض لم يجعل قصده واضحا للآخرين وإن دفع الثمن حيث يتهم بأن قصده الحقيقي هو الربا، فيدفع الثمن ليشتري بأقل من القيمة مؤجلا ويبيعها قبل قبضها بعد الأجل فيكون قد دفع مائة واستلم مئة وعشرين وقد منع منه الشارع لكونه فائدة مستترة تحت البيع.
ويؤيد هذه الحكمة جواز بيع السلعة على شخص ثالث تولية (بدون ربح) .
ولكن يرد على هذه الحكمة:
1- أنها ليست مطردة في بيع البضاعة قبل قبضها إذا لم تكن السلعة مكيلة أو موزونة بل جوزت الروايات بيعها قبل قبضها مرابحة كما سبق، وما قيل من وجود نهي عن بيع كل ما لم يقبض فهو لم يثبت (1) .
2- إن كلامنا في القصد الحقيقي للبيع والشراء الذي قد تلازمه الخسارة أو عدم الربح، بخلاف الربا الذي هو ربح مضمون دائما من دون الدخول في المعاملات، فإذا دخل الإنسان في المعاملة التي قد تربح أو تخسر، من دون اشتراط إرجاع ماله إليه مع الزيادة فهي معاملة بعيدة عن الربا حتى وإن حصل الربح قبل القبض بواسطة البيع الحقيقي.
__________
(1) أقول: لم يثبت وجود رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم تقول: (لا تبيعن شيئا حتى تقبضه) وإنما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهي عن بيع الطعام قبل قبضه) وقال: ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام. وقد روى هذه الرواية البخاري/ كتاب البيوع/ باب بيع الطعام قبل أن يقبض 4/394 ومسلم 3/1159. وواضح أن هذه الرواية ليست كلها قد صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم، بل أن الصادر هو الفقرة الأولى وهي النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، أما الفقرة الثانية فهي من اجتهاد ابن عباس. وعلى هذا فإن صدر الرواية يقيد بالروايات الناهية عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه أو يفسر بها. أما ما لا كيل له ولا وزن فقد أجازت الروايات بيعه قبل قبض مرابحة. راجع الروايات المفصلة بين عدم جواز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه وجواز بيع ما عداهما(9/365)
والخلاصة:
أننا لم نجد حكمة معقولة لشرط قبض المكيل أو الموزون قبل البيع، فلا بد من التعبد بالحكم مقتصرين على مورده رغم وجود روايات ترخص في بيع المكيل والموزون قبل قبضه، إلا أنها ضعيفة السند أو مطلقة للبيع تولية وغيره، فتقيدها الروايات المانعة للبيع قبل الكيل أو الوزن إلا تولية أو على سبيل الشركة ببيع نصف ما اشتراه قبل القبض مثلا.
تنبيهات: وعلى هذا سننبه على أمور:
1- أن المبيع إذا كان غير مكيل أو غير موزون (كالمعدود والمذروع، والمشاهد) يجوز بيعه قبل قبضه (سلما أو استصناعا أو غيرهما) طبقا للقاعدة القائلة: "الناس مسلطون على أموالهم" مع ورود الرخصة في بيع هذا في نفس الروايات المانعة من بيع المكيل والموزون قبل القبض ففي ذيل صحيحتي منصور بن حازم المتقدمتين: "فإن لم يكن فيه كيل ولا وزن فبعه".
وكذا في رواية أبي حمزة عن الإمام الباقر عليه السلام قال:"سألته عن رجل اشترى متاعا ليس فيه كيل ولا وزن أيبيعه قبل أن يقبضه؟ قال عليه السلام: لا بأس" (1) . وغيرها.
2- الثمن إذا كان مكيلا أو موزونا والمبيع عروضا فيتمكن البائع من بيع الثمن المكيل والموزون قبل قبضه طبقا للقاعدة وعدم المانع، فإن الدليل اللفظي الدال على منع بيع المكيل والموزون قبل كيله أو وزنه مختص بالمثمن فتعديته إلى الثمن تحتاج إلى دليل لفظي عام أو مطلق، أو اطمئنان بأن الملاك واحد فيهما، وبما أنه لا يوجد إطلاق ولا عموم ولا يوجد اطمئنان بالملاك فيهما حيث إن الحكم تعبدي على خلاف القاعدة، فنقتصر على موارد المنع، ونتمسك بدليل {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لصحة بيع الثمن إذا كان مكيلا أو موزونا قبل قبضه.
__________
(1) وسائل الشيعة/ ج12/باب 16 من أحكام العقود/ ح8(9/366)
نعم: من علل عدم جواز بيع المبيع إذا كان مكيلا أو موزونا قبل القبض بضعف ملكية المشتري إذ يحتمل أن يتلف الطعام وتنحل المعاملة، فإن هذا الوجه الاستحساني موجود في الثمن الموزون أو المكيل قبل القبض.
ولكن هذا الوجه ضعيف، إذ لا يكون الملك ضعيفا قبل القبض؛ ولأن هذا الوجه يقول بعدم جواز البيع حتى تولية ولغير المكيل والموزون، ولا أحسب أن يقول بنتيجته أحد.
3- إن الحكم بعدم جواز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه مختص بالبيع، وعلى هذا فللمشتري أن يصالح عليه قبل قبضه، وله أن يؤجره قبل قبضه إذا كانت له منفعة يستفاد منها مع بقاء العين، لصحة الصلح والإجارة قبل القبض، ومع الشك في صحة الصلح والإجارة عليه، فنتمسك بإطلاق صحة الإجارة والصلح جائز بين المسلمين.
4- إذا اشترى مكيلا أو موزونا ومات المشتري قبل قبضه، فهل يجوز للوارث البيع قبل القبض؟ وكذا إذا اشترى ذهبا موزونا من الصائغ ثم جعله مهرا لزوجته فهل يجوز للزوجة بيع هذا الذهب قبل القبض؟
وكذا إذا ملكت المكيل والموزون بواسطة الصلح، فهل يجوز بيعه قبل قبضه؟
الجواب: إن الروايات المانعة تخاطب المشتري، فبناء عليها يجوز بيع الوارث والزوجة والمصالح، لعدم صدق عنوان المشتري عليهم، ولكن توجد صحيحة معاوية بن وهب تمنع من بيع المبيع المكيل أو الموزون قبل قبضه بدون مخاطبة المشتري، وبهذا نفهم أن مخاطبة المشتري ليس لها خصوصية، بل المنع لكل من انتقل إليه المبيع المكيل والموزون، وإليك الصحيحة: قال: سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه؟ فقال: ما لم يكن كيل أو وزن فلا تبعه حتى تكيله أو تزنه إلا أن توليه الذي قام عليه (1) .
__________
(1) وسائل الشيعة/ ج12/ باب 16 من أحكام العقود/ح11(9/367)
فكرة السلم الموازي:
وهي فكرة يراد بها شيئان:
1- التخلص من (عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه) .
2- التخلص من (عدم جواز بيع البضاعة السلمية قبل حلول الأجل) .
وهذا البحث الذي نريد أن نطرقه يفيدنا في التخلص من عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه، الذي دلت عليه الروايات المتقدمة وتعبدنا في الأخذ بها، كما يفيدنا في التخلص من عدم جواز بيع البضاعة السلمية قبل حلول أجلها الذي دل عليه الإجماع المتقدم، ولذا سوف نتكلم في الموضوع الأول ولكن البحث يسري بأكمله في الموضوع الثاني أيضا. فنقول:
بما أن النهي عن بيع المكيل والموزون قبل قبضه تعبد محض كما تقدم، فإذا أردنا أن نصل إلى نتيجة بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ولكن لا عن طريق البيع المنهي عنه، فهل هو جائز؟
الجواب: أن العلة في منع المكيل والموزون قبل قبضه لم تعرف لدينا، ولهذا يكون النهي تعبديا، فلا نتعدى إلى غير ما دل الدليل اللفظي عليه، وعلى هذا فإذا وجد طريق لا يشمله النهي وأدى إلى نفس نتيجة بيع المكيل والموزون قبل قبضه بدون البيع، فلا بأس به ويكون جائزا.
أما ما هي الوسيلة التي تخلصنا من عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه؟
الجواب: هنا وسيلتان:
الوسيلة الأولى: (الوكالة في القبض) أو فكرة السلم الموازي.
بمعنى أن المشتري للمكيل أو الموزون (إذا لم يقبضه من البائع، أو لم يحل الأجل) يتمكن أن يبيع في الذمة مكيلا أو موزونا من نفس النوع، ثم بعد تمامية بيعه يوكل المشتري (في أخذ المبيع من البائع الذي اشترى منه، ولم يقبضه أو لم يحل الأجل) بوكالة غير قابلة للعزل وقد يعكس الأمر بأن يبيع كليا في الذمة مكيلا أو موزونا، وهو يخشى من ارتفاع قيمته فيما بعد أو يريد السفر حين حلول الأجل أو قبله، فيتمكن أن يشتري مقداره سلما إلى حين الأجل وقبل قبضه أو قبل الأجل يتمكن أن يوكل المشتري في أخذه من البائع، وهذه الوكالة منجزة يكون متعلقها حلول الأجل كما في الوكالة المنجزة في الطلاق في حالة معينة أو يوم معين.(9/368)
وهذه الطريقة لا تشملها الروايات المانعة، لأنها تمنع من العقد الثاني إذا جرى على ما جرى عليه العقد الأول (لا تبعه حتى تكيله أو تزنه) . وإذا نظرنا إلى استثناء بيع التولية نقطع بأن الممنوع هو البيع الثاني إذا جرى على ما وقع عليه البيع الأول حيث إن التولية هي (أن يبيع ما اشتراه أوّلا برأس ماله". أما هنا فلم يبع ما جرى عليه العقد الأول، بل وكل دائنه في أخذ المبيع من مدينه فهو استيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته منه.
لكن هذه الطريقة التي قلناها هنا، لا نقولها في مورد نفهم الملاك من المنع، كما إذا حلف إنسان أو نذر عدم بيع بيته وكان السبب في ذلك هو أن لا يبقى بدون مأوى هو وعائلته رغم الظروف التي يمر بها، ففي هذه) الصورة إذا باع بيتا كليا في الذمة ثم قال للمشتري: أعطيك بيتي وفاء لما في ذمتي، فإن العرف يرى أنه ممنوع من هذا العمل بواسطة حلفه أو نذره، وذلك لعلمنا بالملاك الذي دعاه للحلف أو النذر بعدم بيع داره، وهو أعم من البيع بحيث يشمل إعطاء داره وفاء لبيع بيت كلي.
ومثال أوضح لذلك: هو النهي عن بيع أمهات الأولاد في الشريعة الإسلامية، كما ورد عن علي عليه السلام، فالنهي وضعي يدل على البطلان، والملاك والغاية منه هو تحرر الأمة (أم الولد) من نصيب ولدها إذا مات سيدها، وحينئذ يرى العرف أن بيع أمة على الغير بنحو الكلي في الذمة ثم يعطي أمته وفاء عما في ذمته مشمول للنهي وذلك لأن العلة التي أوجبت الحكم عامة تشمل هذه الصورة. وهذا يختلف عما نحن فيه حيث إن العلة المانعة من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه غير معلومة لنا، فلا يكون المنع شاملا لهذه الصورة.(9/369)
ولا إشكال في هذه الوسيلة الأولى إلا أن يكون القابض والمقبض متحدا، وهو ليس فيه أي محذور، إذ يكون قابضا بالوكالة عن المشتري الأول ومقبضا لنفسه بالأصالة. بالإضافة إلى وجود صحيحة شعيب بن يعقوب كما يرويها الصدوق (ولكن صاحب الوسائل توهم فرواها عن الحلبي) قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل ... وسألته عن الرجل يكون له على الآخر أحمال من رطب أو تمر فيبعث إليه بدنانير فيقول: اشتر بهذه واستوف منه الذي لك؟ قال عليه السلام: لا بأس إذا ائتمنه) (1) . فهنا المديون الذي أعطى الدراهم إلى الدائن واشترى الدائن بها رطبا للمديون، فإذا استوفى الدائن دينه بعد الشراء فقد برئت ذمة المديون قبل قبضه، ولكن قد يقال: إن الوكالة في الشراء الموجود في الرواية هي وكالة في القبض عرفا، فحينئذ تكون الرواية دالة على استيفاء الدين بعد القبض للمكيل والموزون، لا قبل القبض. إلا أن الرواية شاملة باطلاقها لما إذا اشترى رطبا سلما ووكله في أخذه عند حلول الأجل.
ثم لا يتوهم أن هذه الطريقة فيها منع بواسطة صدر رواية شعيب المتقدمة عن الإمام الصادق عليه السلام حيث جاء فيها: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل أسلفه دراهم في طعام، فلما حل طعامي عليه بعث إلى بدراهم وقال: اشتر لنفسك طعاما واستوف حقك؟ قال عليه السلام: أرى أن تولي ذلك غيرك وتقوم معه حتى تقبض الذي لك ولا تتولى أنت شراءه" وكذا موثقة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل أسلف دراهم في طعام، فحل الذي له، فأرسل إليه بدراهم فقال: اشتر طعاما واستوف حقك هل ترى به بأسا؟ قال عليه السلام: يكون معه غيره يوفيه ذلك) (2) .
وسبب عدم التوهم: هو أن النهي في هاتين الروايتين عن الشراء الذي هو مورد تهمة وسوء ظن، فإن الدائن هنا هو المشتري وقد يتهم في صورة شرائه لنفسه، فيعلم أن النهي كراهتي حيث يجوز أن يكون الدائن هو المشتري لمدينه بلا إشكال.
__________
(1) وسائل الشيعة/ج13/باب 12 من السلف/ح1
(2) وسائل الشيعة/ ج13/باب 12 من السلف/ح2(9/370)
الوسيلة الثانية (الحوالة) :
كما إذا كان المشتري للسلم قد احتاج إلى المال فيبيع سلما إلى ما بعد ذلك الأجل، ثم يحول المشتري على البائع الذي باعه قبل الأجل أو قبل القبض. وكذا إذا باع سلما مكيلا أو موزونا وأراد أن يتخلص من هذا الدين لأي سبب كان، فيتمكن أن يشتري البائع سلما مماثلا ثم يحول المشتري الذي كان مدينا له على البائع الذي اشترى منه سلما. وبما أن الحوالة ليست بيعا ولا معاوضة، بل هي تعيين الدين الذي في ذمة المديون بحال في ذمة فرد آخر، وهو عقد مستقل، فلا يشملها النهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه أو قبل حلول الأجل.
ويمكن الاستدلال بجواز هذه الحوالة بموثقة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل عليه كر من طعام، فاشترى كرا من رجل آخر فقال للرجل: انطلق فاستوف كرك قال عليه السلام: لا بأس به) (1) فالرواية شاملة لما إذا كان الكر في ذمة الإنسان بالشراء أو القرض، وشاملة لما إذا كان في ذمة المحيل معوض أو عوض، وشاملة لكون المبيع كليا في الذمة أو شخصيا، فتكون دليلا لما نحن فيه.
وهنا لا إشكال على هذه الوسيلة أصلا إذا كان المال المحال عليه أو به حالا ومستقرا (2) ، أي بعد الأجل وقبل القبض. أما الحوالة إذا كانت بمال غير حال أو على مال غير حال كما في الحوالة بدين السلم أو على مال السلم قبل حلول الأجل فسنتكلم عنها الآن.
__________
(1) وسائل الشيعة/ باب 10 من السلف/ ح2
(2) الإحالة بمال السلم كما لو أحال البائع المشتري سلما على من له عليه قرض أو أتلف مال البائع وأما الإحالة على مال السلم كما إذا أحال المشتري شخصا آخر على البائع ليأخذ مقدار السلم. كما يمكن الإحالة بمال السلم على مال السلم(9/371)
الإشكال على الحوالة بدين السلم أو على دين السلم:
وقد استشكل البعض في هذه الحوالة بإشكالين:
الإشكال الأول: هو أن الحوالة بيع من البيوع كما عن الإمام مالك (1) وعلى هذا فلا تجوز الحوالة ببضاعة السلم قبل حلول الأجل؛ لأنها عبارة عن بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل وهو مورد المنع.
الإشكال الثاني: ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) (2) .
ولكن بما أن الجمهور والإمامية يعتقدون بأن الحوالة ليست بيعا وإنما هي عقد مستقل كما هو الصحيح فقد ارتفع الإشكال الأول.
وأما الرواية النبوية فقد يناقش في متنها فضلا عن سندها إذ لعل المراد هو النهي عن بيعه قبل الأجل لا النهي عن الحوالة على مال السلم بحيث يتمكن من أخذه في وقته وبعد الأجل. وأما من ناحية السند، فالحديث روي بثلاثة طرق في باب السلف يحول وفي باب من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره، وفي كل الإسناد عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف (3) .
الإشكال الثالث: وقد ذكر الإمام مالك إشكالا آخر في المقام، وخلاصته (اشتراط أن تكون الحوالة بدين حال) (4) أما الدين في بيع السلم إذا كان مؤجلا فهو ليس بحال فلا تجوز الحوالة.
وقد أجاب الشوكاني عن هذا الإشكال فقال: (واستقرار الدين على المحال عليه ... فلا أدري لهذا الاشترط وجها لأن من عليه الدين إذا أحال على رجل يمتثل حوالته ويسلم ما أحال به كان ذلك هو المطلوب؛ لأن به يحصل المطلوب بدين المحال، ولو لم يكن في ذمة المحال عليه شيء من الدين) (5) .
__________
(1) المدونة/ 4/34- 35
(2) المغني 5/55
(3) انظر ترجمة عطية في تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال
(4) المغني 5/55، وبدائع الصنائع 6/16
(5) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار 4/242(9/372)
بالإضافة إلى أن الحوالة هي "تحويل ما في ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه) (1) ، فإذا كان زيد وهو الذي احتاج إلى النقد بعد شرائه البضاعة السلمية قد باع سلما إلى شخص آخر، فهو قد انشغلت ذمته بمقدار معين موصوف إلى المشتري الجديد، وبما أنه يطلب البائع الذي باعه بتلك الكمية، فيتمكن أن يحول ما في ذمته إلى ذمة البائع، فإن قبل المشتري الجديد (المستحق) وقبل المستحق عليه وهو البائع، فلا يوجد أي مانع من صحة هذه الحوالة وتنفذ عند الأجل والاستحقاق، وأي مانع في أن أقول للذي يستحق عليه المال بعد مدة: ادفع ما يستحق عليك في وقته إلى فلان الذي يطلبني قدره؟!
نعم: إن صحة الحوالة بعد عملية السلم الموازي أو صحة الوكالة كذلك منوطة بأن لا يفسخ أحد عقدي السلم المنفصلين، فإذا فسخ العقد الأول فتبطل الحوالة لأن العقد هنا هو أن يتسلم المحال له بضاعة السلم التي كنت قد اشتريتها سابقا، فإذا بطل عقد السلم الأولى فلا يستحق المشتري إلا ثمنه، فلا توجد بضاعة سلم يستحقها المشتري. كما أنه لو بطل عقد السلم الثاني فتبطل الحوالة أيضا حيث إن العقد هو أن يتسلم المشتري الثاني ما استحقه بعقد السلم الثاني من البائع الذي يستحق عليه المشتري الأول البضاعة السلمية، وبعد أن بطل عقد السلم الثاني، فإن المشتري الثاني لا يستحق إلا ثمنه فلا يستحق بضاعة على بائعه، وعلى هذا فيبقى حق المحال كما هو دون ضياع، لأن الحوالة التي هي عبارة عن براءة ذمة المحيل وانتقال المال إلى المحال له إنما يكون في صورة صحة الحوالة وعدم بطلانها أما إذا بطلت فيبقى حق المحال بحاله على ذمة المحيل. على أنه يمكن للشخص الثالث وهو المحال اشتراط عدم براءة ذمة المحيل إلا في صورة تسلمه للبضاعة؛ فإنه شرط صحيح لا يخالف كتابا ولا سنة حيث إن براءة ذمة المحيل على القول بها هي في صورة عدم وجود شرط على خلافها في صورة معينة.
__________
(1) اللمعة الدمشقية ج4/142(9/373)
القسم الثاني: بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على البائع.
وأما بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على البائع فقد جوزته الروايات ما لم يستلزم الربا وتفصيله يذكر في أمور:
الأمر الأول: إذا باع المشتري ما اشتراه قبل القبض (سواء كان كليا أو شخصيا) بجنس آخر على البائع فهو جائز بلا كلام وذلك لأن الروايات المانعة من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه وإن كانت مطلقة لكل بيع، إلا أن الروايات التي جوزت البيع على البائع قد أحلت هذه الصورة بشرط أن يأخذ بقدر دينه دراهم أو عروضا، فمن الروايات:
1- صحيحة العيص بن القاسم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (سألته عن رجل أسلف رجلا دراهم بحنطة حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دوابًّا ومتاعا ورقيقا، يحل له أن يأخذ من عروض تلك بطعامه؟ قال عليه السلام: نعم، يسمي كذا وكذا بكذا وكذا صاعا) (1) .
2- رواية الحسن بن فضال قال: (كتبت إلى الإمام أبي الحسن عليه السلام: الرجل يسلفني في الطعام فيجئ الوقت وليس عندي طعام، أعطيه بقيمته دراهم؟ قال: نعم) (2) .
3-ما وري مرسلا عن الإمام الصادق عليه السلام في الرجل يسلم الدراهم في الطعام إلى أجل فيحل الطعام فيقول: (ليس عندي طعام ولكن انظر ما قيمته فخذ مني ثمنه، فقال عليه السلام: لا بأس) (3) .
__________
(1) وسائل الشيعة /ج13/ باب 11 من السلف/ ح6
(2) وسائل الشيعة / ج13/ باب 11 من السلف/ ح8
(3) وسائل الشيعة /ج13/ باب 22 من السلف/ح 5(9/374)
وبظني أن الشرط الذي ذكر لصحة هذه العملية وهو: (أن يأخذ بقدر دينه دراهم أو عروضا لا أكثر) هو لأجل أن لا يستغل المشتري البائع ويضغط عليه بأن يردده بين أن يدفع المتاع الذي لم يوجد وبين أن يدفع أكثر من قيمته، بل تريد الرواية أن تقول: إن البائع له حق في أن يعطي بدل المتاع الذي في ذمته ولا يوجد في الخارج لا أنه يجبر على ذلك بحيث يستغل من قبل الطرف الآخر، وعلى هذا فإن أعطى البائع من متاعه أكثر من قيمة ما عليه من الدراهم أو العروض باختياره فهو معاوضة صحيحة، يشملها (تجارة عن تراض".
الأمر الثاني: إذا باع المشتري ما اشتراه قبل القبض بجنس ما اشتراه على البائع، وهنا روايتين ضعيفتين (1) تجوزان ذلك بشرط أن يكون بقدر الثمن الأولي لا أكثر. ولكن الروايات المتقدمة في الأمر الأول أجازت البيع بجنس الثمن الأولي مطلقا (أي سواء كان بقدر الثمن الأولي أو بزيادة عنه أو نقيصة) ولذلك فقد اختلفت أقوال العلماء. ولكن بما أن الروايتين ضعيفتين فنصير إلى روايات الجواز، بالإضافة إلى أن الأصل الأولي القائل بأن المشتري عندما ملك بيع السلم، فهو حر في بيعه بعد بجنس الثمن الأولي أو بزيادة أو بنقيصة؛ لأنه يبيع المبيع ولا يبيع الثمن حتى يشترط أن يكون بقدر دراهمه لا أكثر، وحينئذ يشمله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] .
الأمر الثالث: إذا باع المشتري المسلم فيه بنفس جنس المسلم فيه فلا يجوز بزيادة أو نقيصة لأنه ربا حيث اشترطت الروايات في بيع المتجانسين إذا كان من المكيل أو الموزون التساوي.
آراء بقية المذاهب في بيع المكيل والموزون قبل قبضه
وقد ذهب العلامة ابن القيم إلى جواز بيع الطعام قبل قبضه على بائعه بدليل آخر، فقال: (وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه فهذا إنما هو في المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن فإنه لا يجوز قبل قبضه، أما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه لا حدوث ملك له، فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة، فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عرضا أو غيره أسقط ما في ذمته، فكان كالمستوفي دينه لأن بدله يقوم مقامه، ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال.
والبيع المعروف: هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهذا لم يملكه شيئا، بل سقط الدين من ذمته، ولهذا لو وفاه في ذمته لم يقل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بمثلها فإنه بيع.
ففي الأعيان: إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين من غير جنسها يسمى بيعا.
وفي الدين: إذا وفاها بجنسها لم يكن بيعا، فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة. ولو حلف ليقضينه حقه غدا، فأعطاه عنه عرضا برًّا في أصح الوجهين) (2) .
وقد ارتأى هذا الرأي الإمام مالك أيضا فقد جاء في المدونة: (قلت: فإن كنت أسلفت في شعير فلما حل الأجل أخذت سمراء أو عمولة؟ قال: لا بأس بذلك وهو قول مالك ... ثم ذكر أن هذا إنما يجوز بعد محل الأجل أن يبيعه من صاحبه الذي عليه السلف ولا يجوز أن يبيعه من غير صاحبه الذي عليه السلم ... حتى يقبضه من الذي عليه السلف ... ) (3) .
__________
(1) إحداهما خبر علي بن جعفر قال: (سألته عن رجل له على آخر تمر أو شعير أو حنطة أيأخذ بقيمته دراهم؟ قال: إذا قومه دراهم فسد؛ لأن الأصل الذي يشتري به دراهم فلا يصلح دراهم بدراهم ... ) باب 11 من السلف ح12
(2) عن القره داغي/ تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية المشتركة/ ص66
(3) المدونة 4/34 – 35(9/375)
وكذا ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد، فقد جاء في مجموع الفتاوى: (سئل رضي الله عنه عن رجل أسلف خمسين درهما في رطل من حرير إلى أجل معلوم، ثم جاء الأجل فتعذر الحرير، فهل يجوز أن يأخذ قيمة الحرير؟ أو يأخذ عوضه أو شيء كان؟ فأجاب: هذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد: أحدهما لا يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره كقول الشافعي.
والقول الثاني: يجوز ذلك كما يجوز في غير دين السلم وفي المبيع من الأعيان ... ) (1) .
وقد استدل على ما نحن فيه بالحديث الذي يرويه ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنت أبيع الإبل بالنقيع – بالنون سوق بالمدينة وبالباء مقبرتها – فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله رويدك، أسألك إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير آخذ هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) (2) .
وهذا الحديث وإن كان في جواز الاعتياض عن الثمن بغيره مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينقل إلى ضمان البائع، إلا أنه استدل به على جواز بيع المثمن الذي هو بيد البائع بغيره مع أنه مضمون على البائع لم ينقل إلى ضمان المشتري (3) .
ثم إن ابن عباس الذي لم يجوز بيع المبيع قبل قبضه مطلقا، أجاز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح حتى إنه لم يفرق بين الطعام وغيره ولا بين المكيل والموزون وغيرهما، وقد وجه بقولهم: (لأن البيع هنا من البائع الذي هو عليه وهو الذي يقبضه من نفسه لنفسه، بل ليس هنا قبض، لكن يسقط عنه ما في ذمته فلا فائدة في أخذه منه ثم إعادته إليه) (4) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 19/503 – 518
(2) رواه أحمد في مسنده – 2/82 – 154
(3) راجع مجموع الفتاوى 29/ 510
(4) مجموع الفتاوى 29/ 514(9/376)
خلاصة القسم الثاني: هو جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه على بائعه وبهذا يكون التفصيل المتقدم متجها وهو:
1- بيع المكيل والموزون قبل قبضه على شخص ثالث فهو لا يجوز (وهذا نتيجة البحث الأول) .
2- بيع المكيل والموزون قبل قبضه على البائع فهو جائز (وهذا نتيجة البحث الثاني) .
ولكن الشيخ صاحب الجواهر - قُدِّسَ سِرُّهُ - ذكر في الرياض أنه لا قائل (من الطائفة الإمامية) بالفرق بين البيع على شخص ثالث أو على البائع (1) . وحينئذ إن تم هذا فيكون بيع المكيل والموزون قبل قبضه (على بائعه أو على شخص ثالث) قد نهي عنه حسب روايات البحث الأول وقد جوز حسب روايات البحث الثاني، وحينئذ فتطبق القاعدة القائلة بأن الروايات المجوزة هي صريحة في الجواز، أما الروايات الناهية فهي ظاهرة في البطلان أو الحرمة فنحملها على الكراهة أو الإرشاد إلى أن البيع قبل القبض قد تحدث منه خلافات يكون الأولى تجنبها.
ويؤيد هذه النتيجة:
1- عدم وجود علة أو حكمة لمنع بيع المكيل والموزون قبل قبضه وجواز بيع غيرهما قبل القبض.
2- والوسيلتان اللتان ذكرتهما الروايات للوصول إلى نفس نتيجة بيع المكيل والموزون قبل قبضه، إذ لا معنى للمنع من بيع المكيل والموزون قبل قبضه وتجويزه بطريقة ملتوية عن طريق الحوالة أو الوكالة، فإن الفهم العرفي يرى التنافي في هذه الطريقة.
3- تعبير بعض الروايات بأن البيع للمكيل أو الموزون قبل قبضه بلفظ (لا يعجبني) (2) .
ولكن الحق: أن الأدلة دلت على التفصيل بين بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على بائعه فأجازته وعلى غير بائعه فلم تجزه إلا تولية أو أن يشاركه معه غيره، وأما ما ذكر من عدم الفرق بين علماء الإمامية فهو لم يثبت، فيكون التفصيل متجها.
__________
(1) راجع جواهر الكلام / ج24/321
(2) وسائل الشيعة/ ج12: باب 16 من أحكام العقود/ ح16(9/377)
النتيجة من البحث السابق:
1- إذا اشترى مكيلا أو موزونا سلما وحل الأجل، فلا يتمكن أن يبيعه على شخص ثالث قبل القبض، أما بيعه على البائع بجنس آخر غير ثمن السلم أو بجنس ثمن السلم بزيادة عليه أو نقيصة فهو أمر جائز.
2- إذا أراد بيع المال المسلم فيه بجنسه فلا يجوز أن يبيعه بزيادة أو نقيصة لأنه ربا.
3- بيع المسلم فيه إذا لم يكن مكيلا أو موزونا قبل قبضه فهو أمر جائز، للعمومات الدالة على صحة البيع مثل {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} والراويات الخاصة المصرحة بذلك وقد تقدمت.
4- بيع المسلم فيه قبل حلول الأجل فهو غير جائز.
ملاحظة: إن ما يجري في البورصات العالمية من شراء الرصاص أو الذهب أو المتاع أو غيرها التي يكون القصد فيها ليس هو البيع والشراء الحقيقي، بل الانتفاع من تقلبات الأسعار للحصول على ربح، لا يمكن أن نطبق عليها حصيلة البحث السابق، لعدم وجود قصد حقيقي للحصول على السلع عند البائع والمشتري، بل إن المقصود هو المقامرة والاستفادة من تقلبات الأسعار ويكون لفظ المتاع والشراء غطاء لذلك.
ماذا يقوم مقام القبض؟
هل التحقق من قدرة البائع في بيع السلم على توفير السلع عند المطالبة يغني عن القبض؟
هل التأمين على السلع المسلم فيها أو وجودها في مخازن عمومية منظمة يغني عن القبض؟(9/378)
نقول: إذا انتهينا إلى هذه النتيجة وهي (اشتراط قبض المكيل أو الموزون قبل بيعه على غير بائعه، وعدم جواز بيع بضاعة السلم قبل حلول أجلها) . فيأتي هذان التساؤلان المتقدمان وللجواب عن ذلك نقول:
1- إن القبض مفهوم يختلف عن مفهوم التأكد من قدرة البائع في السلم على توفير السلع، إذ القبض مفهوم محسوس يتحقق في الخارج حسب نوع البضاعة التي يراد قبضها، أما المفهوم الثاني فهو مفهوم يقع في صقع النفس، قد لا يكون له تحقق في الوجود الخارجي، وإنما هو افتراض الوجود الخارجي عند المطالبة فبين المفهومين تباين وتضاد كالتباين بين الحقيقة والافتراض، وقد جعل الشارع القبض موضوعا لبعض الأحكام الشرعية (كتلف المبيع قبل قبض فهو من مال بائعه) بمعنى أنه يوجب انفساخ البيع بحيث يكون التلف على البائع ويرجع الثمن على المشتري، و (ككون القبض في الصرف في المجلس مصححا للمعاملة الصرفية) بمعنى التقابض قبل التفرق في مجلس العقد، وهذه الأحكام قد وردت في موضوع القبض بما هو مفهوم حقيقي خارجي، فلا يقوم مقامه التحقق من القدرة على التقابض فما نحن فيه أيضا كذلك.
2-وكذا مفهوم التأمين على بضاعة السلم فهو مباين لمفهوم القبض، إذ التأمين على البضاعة السلمية يجعل المشتري مطمئنا بوصولها إلى يده أو وصول المبلغ الذي تدفعه شركة التأمين على فرض عدم وصوله إلى يده فهو شيء مفروض يؤول إلى التحقق، وهو شيء آخر غير القبض الذي يجعل المشتري متسلطا على بضاعته السلمية ويطبق عليها قانون: (الناس مسلطون على أموالهم) بحيث يتمكن من أن يبيع أو يهب أو يأكل العين التي قبضها أو يتلفها، فالقبض يحول ما في الذمة الذي هو دين إلى عين خارجي حيث إن الدين الذي في الذمة لا يتعين إلا بتعيين البائع أو قبض المشتري فيكون ما في الذمة تحول إلى عين خارجية يمكن تلفها وأكلها، وهذا بخلاف التأمين على البضاعة السلمية فهو وإن كان يمكن للمؤمن له على هبته أو بيعه، إلا أنه لا يتمكن من أكله وإتلافه فهو ليس مسلطا عليه كما في السلعة المقبوضة، ولهذا الفارق لا يرى العرف قيام التأمين على البضاعة السلمية مقام القبض.(9/379)
وبعبارة أخرى قد يكون التأكد من قدرة البائع في السلم على توفير السلع والتأمين على السلعة المسلم فيها، هو بمثابة الضامن للبائع على دفع البضاعة السلمية، ومن الواضح أن الضمان يختلف عن القبض.
2- كما لا يقوم مقام القبض وجود السلعة في المخازن العمومية المنظمة إذ يكون هذا الوجود غير مفيد لمشتري السلع السلمية، وإنما المفيد له قبضها بحيث يتحول ماله في ذمة الغير إلى عين خارجية يتسلط عليها، وكم فرق بين أن يتسلط الإنسان على ذمة الغير فيكون دائنا لها وهو شيء اعتباري فرضي وبين أن يتسلط على عين خارجية قد قبضها فهو تسلط حقيقي، فوجود السلعة في المخازن لا يجعله متسلطا عليها حقيقة، بل يبقى يطلب الذمة التي هي وعاء اعتباري اخترعه العقلاء للأموال الكلية التي لا وجود لها في الخارج.
هل هناك تصرفات في المكيل والموزون (السلمي أو غيره) صحيحة قبل القبض؟
أقول: قد انتهينا سابقا إلى عدم جواز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه حتى في بيع السلم، فهل هناك معاملات أخرى تجوز التصرفات في السلم بغير البيع مرابحة؟ وكذا يأتي هذا البحث في التصرفات الصحيحة للبضاعة السلمية قبل حلول الأجل، فنقول:
هناك عدة معاملات للتصرف في المكيل والموزون قبل القبض، وللبضاعة السلمية قبل حلول الأجل وهي:
1- التولية.
2- الشركة فيه بربح.
3- الإقالة فيه.
فقد تقدمت الروايات الدالة على صحة الشركة والتولية في بيع ما لم يقبض فمما تقدم:
1- صحيحة منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (إذا اشتريت متاعا فيه كيل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه إلا أن توليه ... ) (1) .
2-موثقة سماعة، قال: (سألته عن الرجل يبيع الطعام أو الثمرة، وقد كان اشتراه ولم يقبضها؟ قال: لا حتى يقبضها إلا أن يكون معه قوم يشاركهم فيخرجه بعضهم عن نصيبهم من شركته بربح أو يوليه بعضهم فلا بأس) (2) .
__________
(1) وسائل الشيعة ج12/ باب 16 من أحكام العقود/ ح1
(2) وسائل الشيعة ج12/ باب 16 من أحكام العقود/ 15(9/380)
فهاتان الروايتان جوزتا بيع الثمرة والمتاع على غير بائعه تولية، كما جوزت موثقة سماعة بيع نصف الحصة التي لم يقبضها من البائع فيشترك معه غيره.
وأما الإقالة: فقد دل الدليل العام على جوازها في كل بيع قبل القبض أو بعده سلما أو غيره للحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أيما عبد أقال مسلما في بيع أقاله الله عثرته يوم القيامة" (1) وقد أرسلها الفقيه عن الإمام الصادق عليه السلام لكن قال: "أيما مسلم أقال مسلما بيع ندامة أقاله الله عز وجل يوم القيامة" (2) . وفي استحبابها ورد عن سماعة بن مهران عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أربعة ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: من أقال نادما أو أغاث لهفان أو أعتق نسمة أو زوج عزوبا" (3) .
والإقالة في الحقيقة: هي فسخ في حق المتعاقدين برضاهما وليست بيعا لعدم قصد معنى البيع ولا غيره من المعوضات الموجبة ملكا جديدا، بل هي تفيد رد الملك بفسخ العقد الذي اقتضى خلافه. ولهذا لا تجوز الإقالة بزيادة عن الثمن، لعدم ما يصلح مملكا للزيادة المفروضة، كما لا تجوز الإقالة بنقصان لعدم ما يصلح مملكا لما بقي من الثمن بعد فسخ العقد فيما قابله تماما. وقد صرح صحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام بذلك قال: (سألته عن رجل اشترى ثوبا ولم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه ثم رده على صاحبه، فأبى أن يقبله إلا بوضيعة، قال عليه السلام: لا يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه رد على صاحبه الأول ما زاد) (4) . بناء على أن مبنى ذلك فساد الإقالة وبقاء الثوب على ملك المشتري.
__________
(1) وسائل الشيعة ج12/ باب 3 من أبواب آداب التجار/ ح2
(2) وسائل الشيعة ج12/ باب 3 من أبواب آداب التجار/ ح4
(3) وسائل الشيعة ج12/ باب 3 من أبواب التجار / ح5
(4) وسائل الشيعة ج12/ باب 17 من أحكام العقود ح1(9/381)
وقد ذهب إلى هذه النتيجة التي انتهينا إليها الإمام مالك، فقد جوز البيع تولية والمشاركة فيه بربح في ما لم يقبض، فقد جاء في المدونة: (قلت: أرأيت إن اشتريت سلعة من رجل بنقد فلم أقبضها حتى أشركت فيها رجلا أو وليتها رجلا أيجوز ذلك؟
قال: لا بأس بذلك عند مالك.
قلت: وإن كان طعاما اشتريته كيلا، ونقدت الثمن فوليته رجلا أو أشركته فيه قبل أن أكتاله من الذي اشتريته؟
قال مالك: لا بأس بذلك وذلك الحلال إذا انتقد مثل ما نقد.
قلت: لِمَ جوزه مالك وقد جاء في الحديث الذي يذكره مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى؟
قال: قد جاء هذا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى إلا ما كان من شرك أو إقالة أو تولية.
قال سحنون: وأخبرني ابن القاسم عن سليمان بن بلال عن ربيعة عن أبي عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شرك أو إقالة أو تولية)) .. قال مالك: اجتمع أهل العلم على أنه لا بأس بالشرك والإقالة والتولية في الطعام قبل أن يستوفى إذا انتقد الثمن ممن يشرطه أو يقيله أو يوليه) (1) .
__________
(1) المدونة/ 4/ 80 – 81(9/382)
4- الصلح:
أقول: لقد تقدم دليل المنع من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه، أو المنع من بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل، فهل الصلح الذي يذكر على أساس أنه عقد مستقل يختلف عن البيع والإجارة، (وإن كانت نتيجته البيع أو الإجارة) هل يشمله المنع المتقدم؟
الجواب: بالعدم وذلك، للتباين بين البيع والمصالحة التي تتحمل من المسامحة أكثر مما يتحمل البيع. هذا بالإضافة إلى عدم وجود نص من الكتاب أو السنة يمنع من التصرف في البضاعة السلمية (حتى وإن كانت مكيلة أو موزونة) على أساس المصالحة قبل القبض، فلا مناص من القول بصحة الصلح على المكيل والموزون قبل قبضه، ومن القول بصحة المصالحة على البضاعة السلمية قبل حلول أجلها ولكن بشرط أن ينقد الثمن حالا أما إذا كان نسيئة فيكون من باب بيع الدين بالدين على تفسير مشهور.
5- الحوالة:
وهو ما يسمى بفكرة السلم الموازي الذي تكلمنا عليه سابقا فلا نعيد، بل نؤكد على أن عقد الحوالة عقد مستقل له شروطه الخاصة ومواصفاته فلا يمكن أن يكون داخلا في عقد البيع، ولذلك لا يشترط في عقد الحوالة التقابض حتى ولو كان الدينان من النقود، ولا يدخل في بيع الدين بالدين الذي يمنعه الفقهاء.
ونفس هذا الكلام قلناه في الوكالة في السلم الموازي فلا نعيد.
6- الحطيطة:
وإذا نهت الروايات المتقدمة عن بيع المكيل أو الموزون ما لم يقبض، أو قام الإجماع على عدم جواز بيع ما لم يحل أجله، فهل تجوز الحطيطة عن رأس المال وإنهاء هذه المعاملة؟ أي بمعنى بيعها بأنقص من ثمنها.
الجواب:
إذا كانت علة النهي في بيع المكيل أو الموزون قبل القبض هي أن لا يربح بدون ضمان، فلا بد من تجويز الحطيطة؛ لأنها ليست ربحا بدون ضمان، ولكن لم يتضح لنا أن المانع هو ذلك لانتقاضه بالسلعة السلمية إذا لم تكن مكيلة أو موزونة بالإضافة إلى أن بعض الروايات لم تجوز إلا البيع تولية أو الشركة بربح، وبما أن الحطيطة ليست تولية ولا شركة فلا تجوز ولا يجوز بيعها قبل الأجل بالأولوية.(9/383)
هذا كله في بيع المكيل والموزون قبل قبضه على غير بائعه، أما إذا المشتري يريد بيع سلعته على نفس البائع بحطيطة لأن سعر الحنطة الذي اشتراه قد تنزل فأصبح بعد الأجل قبل القبض أقل مما اشتراه إلى الأجل فهو جائز بل كلام لما سيأتي من جواز معاوضة السلعة المكيلة أو الموزونة قبل قبضها بسعر يومها إذا وافق البائع على المعاوضة. وفي الحقيقة إن هذه ليست حطيطة عن الثمن، بل هي معاوضة بسعر اليوم قبل القبض، على من تكون السلع المكيلة أوالموزونة في ذمته، بل هي معاوضة بعد القبض؛ لأن ما في الذمة يكون مقبوضا للمدين وإن لم يكن مقبوضا للدائن أو لفرد آخر. وقد ذكر الإمام مالك جواز ذلك أيضا فقال: (وما سلفت فيه من العروض إلى أجل من الآجال، فأردت أن تبيعه من صاحبه فلا بأس أن تبيعه منه بمثل الثمن الذي دفعته إليه أو أدنى منه قبل محل الأجل ... ) (1) . أقول: إن هذا يختلف عن الإقالة بحطيطة؛ لأنه بيع بينما الحطيطة قبل الأجل على البائع إقالة والإقالة بوضيعة ممنوعة كما تقدم ذلك (2) .
7- الإجارة:
إذا كانت الروايات قد نهت عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه، فهل يجوز لنا أن نؤجره إذا كان قابلا للإجارة بأن كان يستفاد من عينه مع بقاء العين بدون تلف؟ وإذا كان الإجماع قد منع من بيع السلع السلمية قبل حلول أجلها، فهل نتمكن أن نؤجرها قبل ذلك على أن تكون مدة الإجارة بعد الحلول والقبض؟
__________
(1) المدونة الكبرى/ 4/88
(2) لا بأس بالتنبيه إلى أن هذا البحث يختلف عن أخذ السلم أقل ما شرط في المعاملة السلمية، فإن هذا أمر جائز منصوص يراجع ج13 من وسائل الشيعة/ باب 11 من السلم/ ح1(9/384)
والجواب: أن القاعدة تقتضي ذلك، فيصح عقد الإجارة على المكيل أو الموزون قبل قبض المشتري له وقبل حلول الأجل، ولكن لا يجب على المستأجر لهذه العين تسليم الأجرة إلا بعد تسليم العين المؤجرة إلا مع الشرط فإذا اشترط المستأجر تسليم الأجرة قبل تسلم العين المؤجرة فيمكن أن تدخل الإجارة للعين السلمية قبل حلول أجلها أو قبل القبض مورد الاستثمار.
وبما يقال: بعدم فائدة هذا البحث لعدم وجود ما يكون سلع سلمية مكيلة أو موزونة وتكون قابلة للإجارة.
ولكن يقال: إننا نتكلم كلاما عاما، سواء كان له مصداق في الخارج أو لا، على أنه يمكن أن نوجد مصداقا له في الخارج الآن، كما إذا افترضنا أن الألبسة ومجموعة ما يفرش على الأرض كالسجاد، وما يكون ملحفا يلتحف به الإنسان، مما يباع بالكيل أو الوزن، وحينئذ يمكن افتراض أجرتها مع بقاء عينها قبل القبض بشرط أن تسلم الأجرة مقدما. على أن الزمان قد يوجد سلعا تباع بالكيل أو الوزن مما تقبل الإجارة، وقد قيل سابقا ليس من دأب المحصل المناقشة في المثال.(9/385)
عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الأجل في السلم:
إن المشتري لما كان مالكا في ذمة البائع سلعة معينة موصوفة، فإذا حل الأجل ولم تكن هذه السلعة موجودة لآفة سماوية ونحوها فمقتضى القاعدة هو تخير المشتري بين أمور:
1- فسخ المعاملة واستعادة الثمن الأولي لتخلف الوفاء بالشرط.
2- ينتظر وجود السلعة لحين توفرها في السوق
3- يعاوض البائع عليها بجنس آخر غير الثمن الأولي إذا رضي البائع بذلك.
4- يأخذ قيمة المتاع حين الاستحاق إذا رضي البائع بذلك.
5- يعاوض البائع بجنس الثمن الأولي بزيادة. (1) عنه أو نقيصة إذا رضي البائع بذلك.
وواضح أن الأمور الثلاثة الأخيرة لا تتعين على البائع كما أشرنا إلى ذلك، وذلك لعدم وجود خطاب بدفع العين المتعذرة إلى المشتري، وحينئذ لا تتعين قيمتها عند تعذرها، بل أن تعذر العين يسقط أصل خطاب الدفع.
وهذا الذي تقدم بالإضافة إلى أنه على طبق القاعدة في تعذر مال السلم، قد وردت فيه روايات خاصة منها:
1- صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (لا بأس بالسلم في الحيوان إذا سميت الذي تسلم فيه فوصفته، فإن وفيته وإلا فأنت أحق بدراهمك) (2) .
2- موثقة عبد الله بن بكير قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل أسلف في شيء يسلف الناس فيه من الثمار فذهب زمانها ولم يستوف سلفه، قال عليه السلام: فليأخذ رأس ماله أو لينظره" (3) .
3- صحيحة العيص بن القاسم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "سألته عن رجل أسلف رجلا دراهم بحنطة حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دوابا ومتاعا ورقيقا، أيحل له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه؟ قال عليه السلام: نعم يسمي كذا وكذا بكذا وكذا صاعا) (4) .
__________
(1) في هذه الصورة يوجد خلاف، فقد خالف الشيخ الطوسي رحمة الله استنادا إلى خبر على بن جعفر (المتقدم الضعيف) عن الإمام موسى بن جعفر قال: (سألته عن رجل له على آخر تمر، أو شعير أو حنطة أيأخذ بقيمته دراهم؟ قال: إذا قومه دراهم فسد؛ لأن الأصل الذي يشتري به دراهم، فلا يصلح دراهم بدراهم ... ) وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11 من السلم/ح13
(2) وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11 من السلف/ ح17 و14
(3) وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11 من السلف/ ح17 و14
(4) وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11 من السلف/ ح6(9/386)
4- أبان بن عثمان عن بعض أصحابنا عن الإمام الصادق عليه السلام: (في الرجل يسلم الدراهم في الطعام إلى أجل، فيحل الطعام، فيقول ليس عندي طعام، ولكن انظر ما قيمته فخذ مني ثمنه؟ قال عليه السلام: لا بأس بذلك) (1) وعن علي بن محمد قال: (كتبت إليه: رجل له على رجل تمر أو حنطة أو شعير أو قطن، فلما تقاضاه قال: خذ بقيمة مالك عندي دراهم، أيجوز له ذلك أم لا؟ فكتب: يجوز ذلك عن تراض منهما إن شاء الله) (2) .
وفي حكم تعذر المبيع في السلم عند الحلول موت البائع قبل الأجل وقبل وجود المبيع، حيث إن الموت يجعل الدين حالا. وهناك صورة أخرى مختصة بما إذا كان البائع قد أحضر في الأجل قسما من بضاعة السلم ولم يوجد القسم الآخر، فهنا في صورة عدم كون القبض بتفريط من المشتري يكون بالخيار في أخذ المهيأ له ورأس ماله المقابل لغير الموجود أو الفسخ بالجميع أو الانتظار لحين وصول الباقي وأما إذا كان عدم القبض بتقصير من المشتري فلا خيار له، بل يجب عليه أخذ الموجود وانتظار الباقي.
وقد يقال في الصورة الأولى (عندما يأخذ المشتري الموجود ويفسخ في غير الموجود) بوجود خيار للبائع وهو خيار تبعض الصفقة، كما هو ليس ببعيد وعلى مقتضى القاعدة. ويدل على الصورة الأخيرة صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (سألته عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك إلى أجل مسمى؟ قال عليه السلام: لا بأس إن لم يقدر الذي عليه الغنم على جميع ما عليه، (له) أن يأخذ صاحب الغنم نصفها أو ثلثها ويأخذ رأس مال ما بقي من الغنم دراهم، ويأخذ دون شروطهم ... ) (3) .
وصحيحة عبد الله بن سنان قال: (سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يسلم في الطعام (إلى أن قال) : أرأيت إن أوفاني بعضا وعجز عن بعض أيصلح أن آخذ بالباقي رأس مالي؟ قال: نعم ما أحسن ذلك) (4) ومعنى ذلك وجود أشياء جائزة أيضا كالفسخ أو الانتظار لحين وصول الباقي، كما تقدم ذلك في صورة عدم تقصير المشتري في عدم القبض.
__________
(1) وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11 من السلف ح6
(2) وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11 من السلف/ ح11
(3) وسائل الشيعة/ ج13/ باب 11من السلف/ح1
(4) وسائل الشيعة/ ج13/ ياب 11 من السلف/ ح2(9/387)
صحة الشرط الجزائي عن تأخير تسليم البضاعة:
لقد عرف الفقه الإمامي الشرط الجزائي في عقد الإجارة، فقد روى الحلبي في الصحيح قال: كنت قاعدا إلى قاض وعنده أبو جعفر (الإمام الباقر عليه السلام) جالس، فجاءه رجلان فقال أحدهما: إني تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعا إلى بعض المعادن، فاشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا؛ لأنها سوق أخاف أن يفوتني، فإن احتبست عن ذلك حططت من الكراء لكل يوم احتبسه كذا وكذا، وأنه حبسني عن ذلك اليوم كذا وكذا يوما؟ فقال القاضي: هذا شرط فاسد وفيه كراه. فلما قام الرجل أقبل إلى أبو جعفر عليه السلام فقال: شرطه هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه (1) .
أقول: فإن لم تكن خصوصية لعقد الإجارة في صحة الشرط الجزائي، فيكون الشرط الجزائي صحيحا في جمع العقود إن لم يكن هناك نهي عنه، هذا بالإضافة إلى الحديث الصحيح: ((المسلمون عند شروطهم)) فإذا اشترط المشتري لبضاعة السلم أن أي تأخير يحصل في تسليم البضاعة يستوجب نقصان قيمة البضاعة بمقدار 10 % من الثمن الأصلي، أو أن البضاعة السلمية إذا تأخرت شهر عن الأجل المحدد نقصت قيمة البضاعة 10 % من الثمن الأصلي، فإن تأخرت شهرين نقصت 20 %، فإن هذا الشرط يكون صحيحا ونافذا حسب قاعدة (المؤمنون عند شروطهم) وما لم يحط بجميع السعر حسب "ما لم يحط بجميع كراه" أو حسب تسالم عليه الارتكاز العقلاني من عدم صحة هكذا شرط يكون مؤاده اشتريت البضاعة السلمية بلا ثمن. بل أن {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] يوجب علينا العمل بالعقد الذي اشترطت فيه الشرط الجزائي إذا كان معنى العقد موجودا معه، فإنه بعمومه يدل على وجوب الوفاء بالعقد الذي شرط فيه الشرط الجزائي. ثم إن هذا الشرط الجزائي الذي يذكر في متن العقد له صورتان صحيحتان:
__________
(1) وسائل الشيعة/ ج13/ باب 13 من الإجارة/ ح2(9/388)
الصورة الأولى: أن يكون على نحو شرط النتيجة: ومثاله ما تقدم، إذ يكون المشروط له (على تقدير مخالفة الشرط) قد ملك مقدار النقصان على ذمة المشروط عليه.
الصورة الثانية: أن يكون على نحو شرط الفعل: وهو أن يقول له: إذا تخلفت عن تسليم البضاعة في وقتها المحدد إلى شهر فعليك أن تدفع لي مقدار عشرة دنانير، فإن تخلفت إلى شهرين فعليك أن تدفع عشرين دينارا، ففي هذه الصورة لا يوجد اشتغال ذمة المشروط عليه عند التخلف، بل يجب عليه تمليك المقدار المعين حسب الشرط، فإن لم يفعل فقد فعل حراما مطلقا.
وهناك صورة ثالثة: كما لو قال: إذا تأخرت عن تسليم البضاعة في الوقت المحدد فينقص الثمن (ولم يحدد النقصان) ففي هذه الصورة تبطل المعاملة لجهالة الثمن على تقدير التأخير. (1) .
إصدار سندات سلم قابلة للتداول وضوابط ذلك في حال الجواز:
إذا كانت هناك شركة لبيع الحديد والرصاص أو أي متاع من الأمتعة أو أي طعام من الأطعمة التي صح فيها السلم، وقد عقدت الشركة عقد سلم مع شخص معين إلى أجل محدد، فقد تقدم أنه لا يجوز له بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل، وكذا لا يصح بيع المكيل أو الموزون بعد الأجل قبل القبض إلا تولية أو شركة، وقد قلنا فيما سبق بجواز إيجاد الوكالة في استلام البضاعة السلمية أو الحوالة فيها بعد إيجاد ما يسمى بالسلم الموازي، وجواز المصالحة والإقالة والإجارة قبل الأجل أو قبل القبض. أما هنا فنريد أن نفتش عن إمكان أن تقوم الشركة أو الحكومة بإصدار صك سلم قابل للتداول. فنطرح هنا هذه الأفكار للتداول والمناقشة وخلاصتها:
__________
(1) تعرضنا للشرط الجزائي بصورة أوسع في بحث المناقصات، فمن أراد التوسع فليراجع بحثنا في المناقصات(9/389)
1- أن تقوم الجهة (حكومة أو شركة أو غيرهما) بإصدار صك (وثيقة) تفيد أنها تبيع البضاعة السلمية المعينة إلى من يشتريها على أن تسلم له بعد سنة مثلا ولكن الشركة لا تكون مسؤولة إلا أمام من يبرز الوثيقة عند حلول الأجل. وهنا من يشتري هذه البضاعة السلمية ويتسلم الوثيقة لا يمكنه أن يبيع البضاعة السليمة قبل الأجل أو لا يمكنه من بيع المكيل أو الموزون قبل القبض وهذا شيء صحيح إلا أنه هل يتمكن أن يهب هذه البضاعة السلمية لشخص آخر بشرط أن يهب الآخر له شيئا معينا (وليكن كمية من المال) ؟
الجواب: ذكرنا أن الهبة عقد مستقل يختلف عن البيع حتى وإن كانت الهبة مشروطة بهبة الآخر له شيء آخر؛ لأن الهبة المعوضة (المشروط فيها هبة الآخر كمية من المال) عبارة عن التمليك الذي اشترط فيها العوض فهي ليست إنشاء تمليك بعوض على جهة المقابلة بعوض على جهة المقابلة، لذا لا يكون تملك للعوض بمجرد هبة الواهب إلى الموهوب له وتملكه ما وهب له، بل غاية الأمر أن الموهوب له بعد أن تملك ما وهب له يجب عليه أن يعمل بالشرط فيملك العوض، فإن لم يفعل كان للواهب الرجوع في هبته نتيجة اقتضاء عدم العمل بالشرط.
وعلى هذا فإن التعويض المشترط في الهبة كالتعويض الغير مشترط في الهبة، يكون عبارة عن تمليك جديد يقصد به وقوعه عوضا، لا أن حقيقة المعاوضة والمقابلة مقصودة في كل من العوضين كما يتضح ذلك بملاحظة التعويض الغير مشترك في ضمن الهبة الأولى.
ولو كانت الهبة المعوضة هي تمليك بعوض على جهة المقابلة، فلا يعقل تملك أحدهما لأحد العوضين من دون تملك الآخر للآخر، مع أن ظاهر الفقهاء في الهبة المعوضة هو عدم تملك العوض بمجرد تملك الموهوب له الهبة كما تقدم.(9/390)
إذن قد اتضح أن البيع يختلف عن الهبة المعوضة اختلافا أساسيا حيث إن حقيقة البيع: تمليك العين بالعوض، وهذا لا يكون هبة معوضة وإن قصدها. وحقيقة الهبة المعوضة: هي التمليك المستقل مع اشتراط العوض في تمليك مستقل يقصد به العوضية، وهذا ليس معاوضة حقيقية مقصودة في كل من العوضين، وبهذا يبطل ما يقال من أن الهبة المعوضة هي بيع للاختلاف الحقيقي في معنييهما.
ولكن الذي يقف في وجه هذه العملية: أن الهبة لا بد في صحتها من القبض، والقبض للبضاعة لا يحصل بقبض الوثيقة، بل يحصل بقبض مصداق الوثيقة وهي العين الخارجية.
ولكن: أليس من حقنا أن نتساءل في أن الإعلان عن كون الشركة مسؤولة عمن يبرز هذه الوثيقة عند الأجل يكون قد جعل للوثيقة قيمة عرفية؟ وعلى هذا فهل يمكن أن يهب صاحب الوثيقة القيمة العرفية لهذه الورقة بما تحمل من قدرتها على تحقق البضاعة السلمية ويكون تسليمها هو تسليم لقيمتها بما تحمل من قدرة على البضاعة كهبة الدينار والدرهم؟
2- إن المشتري للوثيقة يتمكن أن يوكل شخصا في استلامها في أجلها، مع إسقاط حق عزله من الوكالة ويجعل وكالته مطلقة بحيث يتمكن أن يفعل الوكيل بالبضاعة السلمية كل ما يحلو له حتى بيعها أو هبتها أو أكلها أو إتلافها وما إلى ذلك، وبما أن هذه الوكالة بهذه الصفة لها ثمن، فيتمكن الموكل أن يأخذ ثمن هذه الوكالة، وهكذا يفعل الثاني والثالث، وحينئذ لم يصدق أن المشتري قد نقلها قبل الأجل أو قبل القبض مع تحقق فكرة تداول صكوك السلم ودخولها في الاستثمار، فهل تكون هذه الفكرة كافية لتداول صكوك السلم؟
وعيب هذه الفكرة الثانية هو فيما إذا مات أحد الأفراد قبل حلول الأجل فقد سقطت الوكالة وحينئذ يستحق البضاعة السلمية ورثة الميت (لا من بيده الوثيقة وورثته) ، وهذا مما يلكأ هذا الطريق.
3-قد نقول بأن التداول لصكوك السلم يحصل فيما إذا اقترض صاحب السلعة (صاحب الوثيقة والصك) مقدار هذه البضاعة من المال، ثم يقوم صاحب السلعة بمصالحة الدائن عما في ذمته من الدين بما في ذمة بائع السلم، فإذا كانت المصالحة عقدا مستقلا ولا ارتباط له بالبيع، فهل تكون هذه العملية كافية لتداول صكوك السلم؟(9/391)
خلاصة البحث:
وتلخيص البحث يكون بذكر عدة نقاط:
1- عرف السلم بأنه: "ابتياع مال مضمون إلى أجل معلوم بمال حاضر أو في حكمه"
2- دلت على مشروعيته العمومات القرآنية مثل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} والروايات المتواترة وإجماع المسلمين.
3- اتضح لدينا أن مشروعية السلم أصلية وليست استثناء، وقد استدللنا على ذلك براويات صحيحة دلت على جواز بيع النخل والفاكهة سنتين أو أكثر، وجواز بيع ثمرة الحائط إذا كان فيه ثمار مختلفة فأدرك بعضها ولم يدرك الآخر، وجواز بيع ما يجز، جزتين أو ثلاث جزات وما يخرط خرطة أو خرطات، وجواز الإجارة التي هي بيع منفعة معدومة.
كما استدللنا على أن المشروعية للسلم أصلية بجواز بيع الحصة المشاعة والكلي في المعين، حيث إن الكلي في الذمة لا يختلف في أصله عنهما.
4- شروط السلم ستة هي: "ذكر الجنس والوصف الرافعين للجهالة، وقبض رأس المال قبل التفرق وتقدير المسلم فيه والثمن بأحد المقادير الرافعة للجهالة، وتعيين الأجل بما لا يحتمل الزيادة والنقيصة، وأن يكون المسلم فيه موجودا غالبا بحسب العادة وقت الحلول".
5- إن المعاملات التي يجوز فيها السلم هي كما يأتي:
أ- بيع السلم المعروف الذي يكون الثمن فيه هو النقد والمثمن عبارة عن سلعة من السلع.
ب- إسلاف الأعراض في الأعراض إذا اختلفت.
ج- إسلاف الأعراض في الأعراض إذا اتفقت ولم تكن مقدرة بالكيل أو الوزن، كالثياب في الثياب.
د- إسلاف الأثمان في الأعراض، وقد يقال له بيع النسيئة باعتبار آخر.
هـ- إسلاف الأوراق النقدية بالأوراق النقدية إذا كانا من جنسين مختلفين على القول المشهور القائل بعدم وجود التقابض فيها.(9/392)
و يجوز أن يكون ما في الذمة ثمنا في السلم إذا كان حالا.
ز- كما يمكن تجزئة تسليم السلم على أوقات متفرقة معلومة.
6- إن السلم يجري في كل سلعة تنضبط في الوصف على وجه ترتفع الجهالة ولا يؤدي إلى عزة الوجود، وهذا هو الضابط في أنواع السلع التي يجري فيهل السلم.
7- إن كل شيء لا يمكن ضبطه بالوصف، بحيث تبقى بعد بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره جهالة فاحشة مقتضية إلى التنازع، لا يصح فيه السلم.
8- إن الماركة المعينة إذا كانت في السلعة (ذات العنوان المشترك) خصوصيات معينة تجعلها متميزة في خصوصيتها أو في تصنيعها عن بقية السلع بدون هذه الميزة، فهي صنف مستقل عن بقية الماركات. كما أن اشتراط المشتري ماركة معينة لغرض عقلاني يوجب أن تكون هذه الماركة صنفا مستقلا عن بقية الماركات التي يشترط إفرادها في الخصوصيات.
9- لا يجوز بيع البضاعة السلمية قبل حلول الأجل إلا على البائع تولية أو بأقل من ثمنها.
10- لا يجوز بيع بضاعة السلم "إذا كانت مكيلة أو موزونة" بعد حلول الأجل وقبل القبض على غير بائعه إلا تولية أو شركة. وهذا هو معنى اشتراط قبض المكيل أو الموزون في جواز بيعه على غير بائعه مرابحة.
11- إن اشتراط قبض المكيل أو الموزون قبل بيعه على غير بائعه هو أمر تعبدي لم نجد له حكمة معقولة.
12- يجوز بيع بضاعة السلم (إذا لم تكن مكيلة أو موزونة) على غير بائعها بعد حلول الأجل وقبل القبض، استنادا إلى قاعدة: (الناس مسلطون على أموالهم) ، بل وورود الرخصة في ذلك في النصوص المتقدمة.
13- يجوز لمن اشترى سلما أن يبيع صفقة سلمية قبل الأجل أو قبل القبض ثم يحول المشتري الجديد على بائعه بنفس المقدار الذي اشتراه أو يوكله في القبض وهذه هي فكرة السلم الموازي التي نطقت بها بعض النصوص المتقدمة وهي خارجة عن تحريم المنع الذي تقدم في بيع المكيل أو الموزون قبل القبض أو بيع البضاعة السلمية قبل الأجل.
14- يجوز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على البائع ما لم يستلزم الربا، وذلك لتصريح الروايات بذلك.(9/393)
15- إن التحقق من قدرة البائع في بيع السلم على توفير السلعة لا يقوم مقام القبض كما أن التأمين على السلعة المسلم فيها أو وجودها في مخازن عمومية منظمة لا يغني عن القبض، كل ذلك للتباين بين القبض الذي اشترط في بيع السلعة المكيلة أو الموزونة وبين هذه الأمور التي غاية ما تفيد ضمان السلعة السلمية، وهو يختلف عن القبض الذي هو مفهوم محسوس.
16- تجوز عدة تصرفات في المكيل والموزون السلمي قبل القبض كما تجوز عدة تصرفات في البضاعة السلمية قبل حلول الأجل، وهي:
1- التولية في البضاعة السلمية قبل الأجل، أو قبل القبض.
2- الشركة بربح في البضاعة السلمية قبل الأجل أو قبل القبض.
3- الإقالة.
4- الصلح.
5- الحوالة أو الوكالة.
6- الحطيطة على بعد الآراء.
7- الإجارة.
17- إذا عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الأجل في السلم فيتمكن المشتري من اتباع عدة خطوات:
1- فسخ المعاملة واستعادة الثمن الأولي لتخلف الشرط.
2- ينتظر وجود السلعة لحين توفرها في السوق
3- يعاوض البائع عليها بجنس آخر غير الثمن الأولي إذا رضي البائع بذلك.
4- يأخذ قيمة المتاع حين الاستحقاق إذا رضي البائع بذلك.
5- يعاوض البائع بجنس الثمن الأولي بزيادة عنه أو نقيصة إذا رضي البائع بذلك.
كل ذلك دلت عليه النصوص المتقدمة.(9/394)
18- إن الشرط الجزائي في صورة تأخير تسلم البضاعة، إذا كان معينا بنقصان الثمن أو بدفع مبلغ من المال أقل من الثمن فهو شرط صحيح يجب الوفاء به، للنص الوارد في عقد الإجارة ولصحة الشروط ما لم تكن مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه، أما إذا كان الشرط الجزائي يجعل البضاعة السلمية بدون ثمن أو كان النقصان من الثمن غير معلوم فهو شرط باطل.
19- طرحنا هنا فكرة إصدار سندات سلمية قابلة للتداول خلاصتها: هو أن تصدر الشركة وثيقة (صكا) يفيد بيع كمية من السلع المعينة بثمن معين، يباع لمن أراد على أن يكون حامل الصك هو المالك له. ثم يقوم الحامل للصك بهبته بشرط أن يهب له الموهوب له شيئا آخر. وعيب هذه الفكرة هو أن الهبة يشترط في صحتها القبض ولم يكن هناك قبض للبضاعة السلمية. ولكن تساءلنا عن إمكان أن يهب حامل الوثيقة القيمة العرفية لهذه الوثيقة بما تحمل من قدرتها على تحقق البضاعة السلمية، ويكون تسليمها هو تسليم لقيمتها كهبة الدينار والدراهم؟
كما طرحنا فكرة أن يوكل صاحب الصك شخصا في استلام البضاعة السلمية في وقتها وكالة غير قابلة للعزل ويوكله في التصرف فيها بأي أنواع التصرف حتى الإتلاف والأكل والبيع، وهذه الوكالة بهذه الصورة لها قيمة، فيتمكن الموكل أن يأخذ قيمة هذه الوكالة فهل بهذه الفكرة نتمكن أن نجعل صكوك السلم قبل التداول؟
وهناك فكرة ثالثة عبارة عن اقتراض صاحب السلعة مقدارا من المال يساوي ثمن البضاعة السلمية، ثم يقوم صاحب السلعة بمصالحة الدائن عما في ذمته من الدين بما في ذمة بائع السلم، فإن كانت المصالحة عقدا مستقلا لا ارتباط له بالبيع فهل تكون هذه العملية كافية لتداول صكوك السلم؟
وأخيرا نبتهل إلى الله عز وجل في أن يسددنا ويجنبنا الزلل في القول والعمل والحمد لله رب العالمين
الشيخ حسن الجواهري(9/395)
السلم
وتطبيقاته المعاصرة
إعداد نزيه كمال حماد
أستاذ الشريعة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي أفاض على عباده النعمة وكتب على نفسه الرحمة، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث إلى الخلق أجمعين بالهدى والحق المبين.
وبعد، فأتقدم بهذه الدراسة الموجزة لعقد السلم (فقهه وتطبيقاته المعاصرة) نظرا لأهمية هذه المعاملة ودورها البارز في النشاط الاقتصادي في الحاضر والماضي، وباعتبارها لونا من التمويل (الائتمان) في ضمن عقد معاوضة، غرضه الاسترباح والاكتساب من جانب المشتري (رب السلم) ، وباعثه الحاجة إلى الحصول على المال المعجل ثمنا للمبيع الموصوف في الذمة من جانب البائع (المسلم إليه) ليتسنى له استعماله والتصرف فيه في وقت حاجته إليه، وبذلك ينتفع كل من البائع والمشتري به، ويرتفع عنهما الحرج بالإقدام عليه.
وقد عبر الكمال بن الهمام عن هذا المعنى بقوله: "ووجب المصير إليه بالنص والإجماع للحاجة من كل من البائع والمشتري، فإن المشتري يحتاج إلى الاسترباح لنفقة عياله، وهو بالسلم أسهل، إذ لا بد من كون المبيع نازلا عن القيمة، فيربحه المشتري، والبائع قد يكون له حاجة في الحال إلى السلم، وقدرة في المآل على المبيع بسهولة، فتندفع به حاجته الحالية إلى قدرته المآلية، فلهذه المصالح شرع" (1) . ونبه ابن قيم الجوزية إلى قصد رب السلم من التمويل بقوله: "فإن المستسلف يبيع السلعة في الحال بدون ما تساوي نقدا، والمسلف يرى أن يشتريها إلى أجل بأرخص مما تكون عند حصولها، وإلا فلو علم أنها عند حلول الأجل تباع بمثل رأس مال السلم لم يسلم فيها، فيذهب نفع ماله بلا فائدة، وإذا قصد الأجر أقرضه ذلك قرضا، ولا يجعل ذلك سلما إلا إذا ظن أنه في الحال أرخص منه وقت حلول الأجل". (زاد المعاد 5/815) .
هذا، ولما كان تطبيق هذا العقد وممارسته في هذا العصر بالصورة الصحيحة المقبولة شرعا لا يمكن أن تتم إلا في ظل الشروط الشرعية المتعلقة به – كيلا تستغل هذه المعاقدة فتتخذ ذريعة إلى التمويل بالفائدة الربوية – بدت الحاجة الماسة لصياغة بحث فقهي موثق لهذا الموضوع الحيوي الخطير، وذلك ما حاولت تقديمه في الفصل الأول من هذه الدراسة. أما في الفصل الثاني منها فقد خصصته لعرض جملة من التطبيقات الاجتهادية المعاصرة لعقد السلم في إطار الاقتصاد الإسلامي بشكل عام وفي مجال المصارف الإسلامية بصورة خاصة.
والله خير مسؤول أن يهب النفع لقارئ هذه العجالة والأجر لكاتبها، عليه توكلت، وعليه أنبت، وإليه المصير.
نزيه كمال حماد
__________
(1) (فتح القدير 6/206)(9/396)
الفصل الأول
فقه عقد السلم
المبحث الأول
حقيقة السلم ومشروعيته
السلم في اللغة:
1- السلم في لغة العرب يعني الإعطاء والترك والتسليف (1) . يقال: أسلم الثوب إلى الخياط، أي أعطاه. قال المطرزي: (وأسلم في البر؛ أي أسلف. من السلم. وأصله: أسلم الثمن فيه، فحذف) (2) .أي المفعول به وهو الثمن.
السلم في الاصطلاح الفقهي:
2- أما السلم في مصطلح الفقهاء فهو عبارة عن " بيع موصوف في الذمة ببدل يعطي عاجلا". وقد اختلف الفقهاء في تعريفه تبعا لاختلافهم في الشروط المعتبرة فيه.
* فالحنفية والحنابلة الذين شرطوا في صحته قبض رأس المال في مجلس العقد، وتأجيل المسلم فيه – احترازا من السلم الحال – عرفوه بما يتضمن ذلك، فقال ابن عابدين: (هو شراء آجل بعاجل) (3) . وجاء في "الإقناع" أنه "عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد" (4) .
* والشافعية الذين شرطوا لصحة السلم قبض رأس المال في المجلس، وأجازوا كون المسلم حالا ومؤجلا عرفوه بأنه "عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلا" (5) .فلم يقيدوا المسلم فيه الموصوف في الذمة بكونه مؤجلا، لجواز السلم الحال عندهم.
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب، ط. دار صادر ببيروت (بدون) 12/295؛ المغراوي، غرر المقالة في شرح غريب الرسالة. ط. دار الغرب الإسلامي ببيروت 1406هـ ص216؛ القونوي، أنيس الفقهاء، دار الوفاء بجدة سنة 1406هـ ص218
(2) المطرزي، المغرب، ط. حلب سنة 1402 هـ 1/412
(3) ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، 4/203 ط بولاق سنة 1272هـ
(4) البهوتي، كشاف القناع شرح الإقناع، 3/276 مط. الحكومة بمكة سنة 1394هـ
(5) الرافعي، فتح العزيز، 9/ 207 مط. التضامن الأخوي بمصر سنة 1347هـ(9/397)
* أما المالكية الذي منعوا السلم الحال، لكنهم لم يشترطوا تسليم رأس المال في مجلس العقد، وأجازوا تأجيله اليومين والثلاثة لخفة الأمر، فقد عرفوه بأنه "بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم " (1) .
فتعبيرهم: "أو ما هو في حكمها" يشير إلى جواز تأخير رأس مال السلم تأخيرا يسيرا، حيث إنه يعتبر في حكم التعجيل بناء على أن ما قارب الشيء يعطى حكمه في النظر الفقهي (2) .وقولهم في التعريف: " إلى أجل معلوم" يبين وجوب كون المسلم فيه مؤجلا، احتراز من السلم الحال.
3- ويسمي الفقهاء المشتري في هذا العقد "رب السلم" أو "المسلم"، والبائع "المسلم إليه"، والمبيع "المسلم فيه"، والثمن "رأس مال السلم" (3) .
العلاقة بين المعنيين:
4- لا يخفى وجود الصلة بين المعنى اللغوي والمعني الاصطلاحي للسلم، وذلك لأن السلم في اللغة معناه الدفع والإعطاء والتسليم، وفي اصطلاح الفقهاء هو عقد يقتضي إعطاء المشتري رأس المال وتسليمه للبائع – وهو المسلم إليه – معجلا، مقابل التزام البائع بأداء عين موصوفة في الذمة مؤجلة. وعلى هذا فالسلم بمعناه الاصطلاحي مستفاد من المعنى اللغوي وهو الدفع والتسليم (4) . قال ابن فارس في "حلية الفقهاء": يقال: السلم، وهو أيضا من أسلمت الشيء، ولذلك لم يجز أن يتفرقا إلا عن قبض، لأنهما إن افترقا عن غير قبض الثمن لم يكن ذلك سلما، لأنه لم يسلم إليه شيئا" (5) .
وذكر بعض المحققين وجها آخر للعلاقة بين المعنيين، فجاء في "أنيس الفقهاء" للقونوي:
" السلم: وهو لغة السلف. فإنه أخذ عاجل بآجل، سمي به هذا العقد لكونه معجلا على وقته، فإن وقت البيع بعد وجود المبيع في ملك البائع، والسلم عادة يكون بما ليس بموجود في ملكه، فيكون العقد معجلا. كذا في الدرر" (6) .
__________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ص1186 ط. دار الشعب بالقاهرة (بدون)
(2) الونشريسي، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، ص173 ط. الرباط سنة 1400هـ
(3) القونوي، أنيس الفقهاء، ص220 مرجع سابق
(4) القاضي عياض، مشارق الأنوار، 2/217 ط. المغرب سنة 1333هـ
(5) ابن فارس، حلية الفقهاء، ص140 ط. بيروت سنة 1403هـ
(6) القونوي، أنيس الفقهاء، ص218- 219 مرجع سابق(9/398)
مشروعية السلم:
5- لقد ثبتت مشروعية عقد السلم بالكتاب والسنة والإجماع.
أ- فأما الكتاب:
ففي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] . قال ابن عباس: "أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه"، ثم قرأ هذه الآية (1) .
ووجه الدلالة في الآية: أنها أباحت الدين، والسلم نوع منه. قال القاضي ابن العربي: (الدين هو عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا، والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا، والدين ما كان غائبا) (2) . فدلت الآية على حل المداينات بعمومها، وشملت السلم باعتباره من أفرادها، إذ المسلم فيه ثابت في ذمة المسلم إليه إلى أجله.
ب_ وأما السنة:
* فما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة والناس يسلفون في التمر السنتين والثلاث، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من أسلف في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) (3) .فدل الحديث على إباحة السلم وبين الشروط المعتبرة فيه.
* وروى البخاري عن محمد بن أبي المجالد قال: أرسلني أبو بردة وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى وعبد الرحمن بن أبي أوفى، فسألتها عن السلف؟ فقالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأتينا أنباط من الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب، فقلت: أكان لهم زرع أم لم يكن لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. (4) .
ج- وأما الإجماع:
فقال ابن المنذر: أجمع كل ما نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز (5) .
__________
(1) أخرجه الحاكم والبيهقي والطبراني وعبد الرزاق وابن أبي شيبة. (ابن حجر العسقلاني، الدراية في تخريج أحاديث الهداية، 2/159 مط. الفجالة الجديدة بمصر سنة 1384هـ)
(2) ابن العربي، أحكام القرآن، 1/247 ط. عيسى البابي الحلبي بمصر سنة 1376هـ
(3) ابن حجر العسقلاني، الدراية، 2/159 مرجع سابق
(4) البخاري، صحيح البخاري، 3/111 ط. كتاب الشعب (بدون)
(5) ابن قدامة، المغني، 4/ 304 ط. مكتبة الرياض الحديثة سنة 1401 هـ(9/399)
حكمة مشروعيته:
4- إن عقد السلم مما تدعو إليه الحاجة لتوفير التسهيلات الائتمانية للإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري، ومن هنا كان في إباحته رفع للحرج عن الناس، والإرفاق بطرفيه واضح بين؛ بالمنتج الذي يحتاج إلى تمويل موسمي لأجل قصير أو متوسط، حيث يستفيد من تعجيل رأس المال، وبالدائن الذي يحتاج إلى البضاعة التي تعاقد عليها لاستهلاكه أو لتجارته أو لصناعته، حيث يستفيد من رخص ثمنها المقدم.
وقد أشار إلى هذا المعنى ابن قدامة بقوله: (ولأن بالناس حاجة إليه، لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكمل، وقد تعوزهم النفقة، فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص) (1) .
مدى موافقته للقياس:
7- بعد ما ثبت مشروعية السلم بالكتاب والسنة والإجماع اختلف الفقهاء في كون تلك المشروعية جارية على وفق القياس ومقتضى القواعد العامة في الشريعة، أما أنها جاءت استثناء على خلاف ذلك لحاجة الناس إلى هذه المعاقدة، وذلك على قولين:
(أحدهما) لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة: وهو أن السلم عقد جائز على خلاف القياس (2) .
وعلى ذلك قال ابن نجيم: (وهو على خلاف القياس، إذ هو بيع المعدوم، ووجب المصير إليه بالنص والإجماع للحاجة) (3) . وقال الشيخ زكريا الأنصاري: (السلم عقد غرر جوز للحاجة) (4) . وفي "منح الجليل": (صرح في المدونة بأن السلم رخصة مستثناة من بيع ما ليس عند بائعه) (5) .
وقد بين العلامة ابن خطيب الدهشة الشافعي أن عقد السلم وإن كانت مشروعيته في الأصل على خلاف الدليل للحاجة إلى بيع المعدوم، فقد صار أصلا مستقلا، فجوز مطلقا عند الحاجة وعدمها، وفي المعدوم والموجود والحال (6) .
__________
(1) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق، 4/305، وانظر ابن الهمام، فتح القدير، 6/206 مط. الميمنية بمصر سنة 1319هـ
(2) الكاساني، بدائع الصنائع، 5/201 مط. الجمالية بمصر سنة 1328هـ؛ ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد، 2/228 ط. دار الكتاب الحديث بمصر (بدون) ؛ البهوتى، شرح منتهى الإرادات، 2/218- 221ط. مصر (بدون)
(3) ابن نجيم، البحر الرائق، 6/169 ط. دار الكتب العربية الكبرى بمصر سنة 1333هـ
(4) زكريا الأنصاري، أسنى المطالب شرح روض الطالب، 2/122 مط. الميمنية بمصر سنة 1313هـ
(5) محمد عليش: منح الجليل شرح مختصر خليل، 3/2 ط. بولاق سنة 1294هـ
(6) ابن خطيب الدهشة، مختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنوي، 1/293 ط. بغداد سنة 1984م(9/400)
(والثاني) لابن حزم وتقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: وهو أن السلم عقد مشروع على وفق القياس، وليس فيه مخالفة للقواعد الشرعية (1) .
قال ابن تيمية: "وأما قولهم: "السلم على خلاف القياس" فقولهم هذا من جنس ما رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (2) . وأرخص في السلم. وهذا ما لم يرو في الحديث، وإنما هو من كلام بعض الفقهاء؛ وذلك لأنهم قالوا: السلم بيع الإنسان ما ليس عنده، فيكون مخالفا للقياس.
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده: إما أن يراد به بيع عين معينة، فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه، وفيه نظر. وإما أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه، وإن كان في الذمة، وهذا أشبه. فيكون قد ضمن له شيئا لا يُدْرَى هل يحصُل أو لا يحصل؟ وهذا في السلم الحال إذا لم يكن عنده ما يوفيه، والمناسبة فيه ظاهرة.
فأما السلم المؤجل، فإنه دين من الديون، وهو كالابتياع بثمن مؤجل. فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة، وكون العوض الآخر مؤجلا في الذمة، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] . قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله، وقرأ هذه الآية.
فإباحة هذا على وفق القياس لا على خلافه" (3) .
وقال ابن القيم: (والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيع مضمون في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبا، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، وقد تقدم أنه على وفق القياس.
وقياس السلم على بيع العين المعدومة التي لا يُدْرَى أيقدر على تحصيلها أم لا؟ والبائع والمشتري منها على غرر، من أفسد القياس صورة ومعنى، وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه. فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى، والربا والبيع) (4) .
ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج من نظر وجيه وتأويل حسن.
__________
(1) جاء في المحلى: "فإن قيل: السلم بيع استثني من جملة بيع ما ليس عندك، قلنا: هذا باطل؛ لأنه دعوى بلا دليل ". (ابن حزم، المحلى، 9/107 مط. المنيرية بمصر سنة 1350هـ
(2) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وغيرهم. (ابن الملقن، تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج، 2/206 ط. مكتبة حراء بمكة)
(3) ابن تيمية، مجموع الفتاوي، 20/529 ط. الرياض (بدون)
(4) ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، 2/19 ط. دار الجيل ببيروت (بدون)(9/401)
المبحث الثاني
أركان السلم وشروط صحته
8- لكل عقد من العقود أركان يقوم عليها، وشروط يتوقف ثبوت أحكامه على توفرها، ومن ذلك السلم، فله أركان لا ينشأ العقد بدونها، وشروط يتوقف وجوده الشرعي على تحققها، وقد ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أن أركان السلم ثلاثة:
1- الصيغة (وهي الإيجاب والقبول) .
2- والعاقدان (وهما المسلم، والمسلم إليه) .
3- والمحل (وهو رأس المال، والمسلم فيه) .
وذكروا لكل ركن شرائطه التي لا بد منها لصحة العقد وترتيب أحكامه عليه.
وخالفهم في ذلك التقسيم الحنفية، إذ اعتبروا ركن السلم الصيغة المؤلفة من الإيجاب والقبول الدالين على التراضي، أي على اتفاق الإرادتين وتوافقهما على إنشاء هذا العقد. أما بقية الأركان التي ذكرها الجمهور، فقد اعتبرها الحنفية شرائط للركن – أي شروطا لازمة للصيغة – وليست أركانا.
ومنشأ الخلاف بينهما أن جمهور الفقهاء يرون أن كل ما يقوم به الشيء فهو ركنه، سواء أكان داخلا في الماهية أم خارجا عنها، والأمور الثلاثة – الصيغة والعاقدان والمحل – لا يتصور قيام العقد ولا ترتب أحكامه إلا بتوفرها، ولهذا كانت أركانا عندهم. بينما يرى الحنفية أن ركن الشيء ما يتوقف عليه وجود الشيء، بحيث يكون داخلا في ماهيته، بخلاف الشرط، فإنه مع توقف الوجود عليه، يكون خارجا عن الحقيقة والماهية. (1) ، ومن أجل ذلك اعتبروا الإيجاب والقبول ركن العقد فقط؛ لتوقف الوجود عليه مع دخوله في الماهية ... أما العاقدان والمحل فجعلوهما شرطين للركن، لا ركنين؛ لأنهما أمران خارجان عن الماهية، وإن كان العقد لا يصح بدونهما. وعلى ذلك فالخلاف لفظي، والحقيقة واحدة، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وقد آثرت السير على منهج الجمهور في هذا البحث، لأنه أكثر ملاءمة لغرض تنسيق مسائله، وترتيب جزئياته، وتنظيم عرض أفكاره، وربط فروعه بأصولها.
__________
(1) انظر الشريف الجرجاني، التعريفات ص59،67 ط. الدار التونسية عام 1971م(9/402)
الركن الأول
الصيغة (الإيجاب والقبول)
9- لما كان السلم عقدا يتم بين طرفين، فإن وجوده يتوف على صيغة تفصح عن رغبة المتعاقدين على إنشائه، وتعبر بجلاء عن اتفاقهما على تكوينه؛ لأن النية – أو الرغبة – أمر باطن لا يمكن الاطلاع عليه، فلا بد من تعبير يدل عليه ويكشف عنه، وهو الإيجاب والقبول المتصلين المتوافقين.
وقد اتفق الفقهاء على صحة إيقاع الإيجاب بلفظ السلم أو السلف، وكل ما اشتق منهما، كأسلمتك وأسلفتك، وأعطيتك كذا سلما أو سلفا في كذا.. لأنهما لفظان بمعنى واحد، وكلاهما اسم لهذا العقد. وكذا على صحة القبول بكل لفظ يدل على الرضا بما أوجبه الأول، مثل: قبلت ورضيت ونحو ذلك (1) .
10- غير أن الفقهاء اختلفوا في صحة انعقاد السلم بلفظ البيع على قولين:
(أحدهما) لأبي حنيفة وصاحبيه والمالكية والحنابلة والشافعية في وجه: وهو أن ينعقد السلم بلفظ البيع إذا بين فيه إرادة السلم وتحققت شروطه، كأن يقول رب السلم: اشتريت منك خمسين رطلا زيتا صفته كذا إلى أجل كذا بعشرة دنانير حالة، وقبل المسلم إليه. ونحو ذلك. وحجتهم النظر إلى المعنى والتعويل على القصد، مع كون اللفظ لا يعارضه، إذ كل سلم بيع، كما أن كل صرف بيع، فإطلاق البيع على السلم إطلاق للفظ على ما يتناوله (2) .
(والثاني) لزفر من الحنفية والشافعية في وجه صححه الشيخان النووي والرافعي: وهو أن السلم لا ينعقد بلفظ البيع (3) . وحجة زفر (أن القياس أن لا ينعقد أصلا؛ لأنه بيع ما ليس عند الإنسان، وإنه منهي عنه، إلا أن الشرع ورد بجوازه بلفظ السلم بقوله: ورخص في السلم) (4) فوجب الاقتصار عليه، لعدم إجزاء ما سواه. أما حجة أصحاب هذا الرأي من الشافعية فهو التعويل على اللفظ واعتباره، وعلى ذلك ينعقد بيعا نظرا للفظ، ولا يشترط فيه قبص رأس المال في المجلس؛ لأن السلم غير البيع، فلا ينعقد بلفظه.
__________
(1) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/201؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/214؛ عليش، منح الجليل، مرجع سابق 3/2؛ الرملي، نهاية المحتاج، 4/178 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1357هـ وحاشية الرشيدي عليه؛ الشيرازي، المهذب، 1/304ط. مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1379هـ
(2) البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/214؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/201؛ والشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/034؛ النووي، روضة الطالبين، 4/6 ط. المكتب الإسلامي بدمشق 1388هـ؛ عليش منح الجليل، مرجع سابق 3/36؛ الحطاب، مواهب الجليل، 4/538 مط. السعادة بمصر سنة 1329هـ
(3) المراجع السابقة
(4) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/201(9/403)
11-وقد انتصر الإمام تقي الدين ابن تيمية لمذهب المعولين على القصد والمعنى دون اللفظ بحجة بليغة وبرهان ساطع فقال: "والتحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت، فأي لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما انعقد به العقد. وهذا عام في جميع العقود، فإن الشارع لم يحد ألفاظ العقود حدا، بل ذكرها مطلقة. فكما تنعقد بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية وغيرهما من الألسنة الأعجمية، فهي تنعقد بما يدل عليها من الألفاظ العربية. ولهذا وقع الطلاق والعتاق بكل لفظ يدل عليه، وكذلك البيع وغيره" (1) .
16- بعد هذا تجدر الإشارة إلى أن جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة اشترطوا في صيغة السلم أن تكون باتة لا خيار فيها لأي من العاقدين، وذلك لأنه عقد لا يقبل خيار الشرط، إذ يشرط لصحته تمليك رأس المال وإقباضه للمسلم إليه قبل التفرق، ووجوب تحققهما مناف لخيار الشرط (2) .
وخالفهم في ذلك المالكية، وقالوا بجواز خيار الشرط في السلم للعاقدين أو لأحدهما أو لأجنبي ثلاثة أيام فما دون ذلك، بشرط أن لا يتم نقد رأس المال في زمن الخيار، فإن نقد فسد العقد مع شرط الخيار، لتردد رأس المال بين السلفية والثمنية (3) . وهذا هو الرأي المعتمد في مذهبهم، وهو مبني على جواز تأخير قبض رأس مال السلم ثلاثة أيام فما دونها، لأن هذا التأخير اليسير في حكم التعجيل، فيكون معفوا عنه ومتسامحا فيه، إذ القاعدة الفقهية تنص على "أن ما قارب الشيء يعطي حكمه" (4) .
__________
(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع سابق 20/ 533؛ وانظر ابن القيم، وإعلام الموقعين، مرجع سابق 2/23
(2) الشافعي، الأم، 3/133 ط: دار المعرفة ببيروت سنة 1393هـ؛ الكاساني، بدائع الصنائع، مرجع سابق 5/ 201؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/169
(3) الخرشي، شرح مختصر خليل، ومعه حاشية العدوي عليه، 5/ 203 ط. بولاق سنة 1318هـ 5/ 203؛ عليش، منح الجليل، مرجع سابق 3/5؛ الزرقاني، شرح خليل، 5/205 مط. محمد مصطفى بمصر سنة 1307هـ.
(4) الونشريسي، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، ص 173 ط. الرباط سنة 1400هـ؛ الخرشي، مرجع سابق 5/202؛ وانظر الزركشي، المنثور في القواعد، 3/144 ط. الكويت سنة 1402هـ؛ أحمد الجكني الشنقيطي، إعداد المهج للاستفادة من المنهج، ص43 ط. قطر سنة 1403هـ(9/404)
الركن الثاني
العاقدان
17- لما كان السلم عقدا من عقود المعاوضات المالية التي تنشأ بين متعاقدين بإرادتهما، اشترط الفقهاء في كل واحد من عاقديه أن يكون أهلا لصدوره عنه، وأن يكون له ولاية إذا كان يعقد لغيره.
• أما الأهلية المشترطة: فهي أهلية الأداء التي تعني صلاحية الشخص لصدور الأقوال منه على وجه يعتد به شرعا، وتتحقق هذه الأهلية في الإنسان البالغ العاقل الرشيد غير المحجور عليه بأي سبب من أسباب الحجر.
• أما الولاية المطلوبة فيمن يعقد السلم عن غيره: فهي كونه مخولا شرعا في ذلك بأحد الطريقين:
- إما بالنيابة الاختيارية التي تثبت بالوكالة. ولا بد فيها أن يكون كل من الوكيل والموكل أهلا لإنشاء عقود المعاوضات المالية.
- وإما بالنيابة الإجبارية التي تثبت بتولية الشارع، وتكون لمن يلي مال المحجور عليهم من الأولياء والأوصياء الذين جعلت لهم سلطة شرعية على إبرام العقود وإنشاء التصرفات المالية لمصلحة من يلونهم.
الركن الثالث
المعقود عليه
14- وهو في السلم: رأس المال، والمسلم فيه. ولهذا الركن شروط عديدة، منها ما هو مشترك بين البيع والسلم، وسنشير إليها دون إطالة، ومنها ما هو خاص بالسلم، وسنعرضها بالبيان والتفصيل.
وهذه الشروط بإجمال يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات:
الأولى: شروط تعود على البديلين معا.
والثانية: شروط تعود على رأس المال.
والثالثة: شروط تعود على المسلم فيه.(9/405)
أ - الشروط التي ترجع إلى البدلين معا:
15- لا خلاف بين الفقهاء أنه يشترط لصحة عقد السلم أن يكون كل من رأس المال والمسلم فيه مالا متقوما، فلا يجوز أن يكون أحدهما خمرا أو خنزيرا أو غير ذلك مما لا يعد مالا منتفعا به شرعا.
16- كما أنه لا يشترط لصحته ألا يكون البدلان مالين يتحقق في سلم أحدهما بالآخر ربا النسيئة، وذلك بألا يجمع البدلين أحد وصفي علة ربا الفضل، حيث إن المسلم فيه مؤجل في الذمة، فإذا جمعه مع رأس المال أحد وصفي علة ربا الفضل، تحقق ربا النساء فيه، وكان فاسدا باتفاق الفقهاء (1) . وذلك لما روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (2) .
17- هذا، وقد اتجه الحنفية إلى أنه لا يجوز كون أي من البديلين في السلم منفعة، لأن المنافع لا تعتبر أموالا في مذهبهم، إذ المال عندهم: "ما يميل إليه طبع الإنسان، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة" (م 121 من المجلة العدلية) ، والمنافع غير قابلة للإحراز والادخار، إذ هي أعراض تحدث شيئا فشيئا، وآنا فآنا، وتنتهي بانتهاء وقتها، وما يحدث منها غير الذي ينتهي. وعلى ذلك فلا يصح جعل المنافع بدلا في عقد السلم عندهم.
وخالفهم في ذلك جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة الذين اعتبروا المنافع أموالا بحد ذاتها، وأنها تحاز بحيازة أصولها ومصادرها، وهي الأعيان المنتفع بها. ومن ثم أجازوا كونها رأس مال ومسلما فيه في عقد السلم ... وعلى ذلك لو قال رب السلم: أسلمت إليك سكنى داري هذه سنة، أو خدمتي شهرا في كذا إلى أجل كذا صح ذلك السلم ... ولو قال له: أسلمت إليك عشرين دينارا في منفعة موصوفة في ذمتك إلى أجل كذا صح السلم (3) .
__________
(1) ابن جزي المالكي، القوانين الفقهية، ص 273 ط. الدار العربية للكتاب بتونس سنة 1982م، ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/ 227؛ الخرشي، شرح مختصر خليل، مرجع سابق 5/ 206
(2) ابن حجر العسقلاني، الدراية في تخريج أحاديث الهداية، مرجع سابق 2/ 156
(3) الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/ 210؛ الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/ 203؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/310؛ زكريا الأنصاري، أسنى المطالب شرح روض الطالب، مرجع سابق 2/ 123؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/ 181؛ القاري، مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد، م 539 ط. تهامة بجدة سنة 1401هـ(9/406)
ب - شروط رأس مال السلم:
يشترط الفقهاء في رأس مال السلم شرطين:
(أحدهما) أن يكون معلوما:
18- لا خلاف بين الفقهاء في أنه يشترط في رأس المال أن يكون معلوما، وذلك لأنه بدل في عقد معاوضة مالية، فلا بد من كونه معلوما، كسائر عقود المعاوضات.
ورأس المال إما أن يوصف في الذمة، ثم يعين في مجلس العقد، وإما أن يكون معينا عند العقد، كأن يكون حاضرا مشاهدا، ثم يقع العقد على عينه.
ب - فإن كان موصوفا، فيجب أن ينص في عقد السلم على جنسه ونوعه وقدره وصفته، كأن يقول رب السلم: أسلمت إليك ألف ريال سعودي أو ألف دولار أمريكي، أو أردب قمح استرالي أو كندي، من نوع جيد أو وسط أو رديء، كبير الحب أو صغيره.. الخ، وذلك لأن قبول الطرف الآخر مبني على العلم بالبدل الذي يلتزم الطرف الأول بأدائه، ولا يتم هذا العلم إلا ببيان الجنس والنوع والقدر والصفة، مما يرفع الجهالة عن رأس المال. ثم إنه إذا كان رأس المال نقودا، وكان في البلد نقد غالب، انصرف الإطلاق إليه، ولا يحتاج إلى التصريح بالنوع. فلو كان العقد في مصر، وقال رب السلم: أسلمتك ألف جنيه في كذا ... انصرف ذلك إلى الجنيه المصري دون السوداني أو الإسترليني؛ لأن التعامل الغالب والدارج إنما هو فيه، فيكون هو المراد عند الإطلاق.
وعلى هذا، فإن قبل الطرف الآخر، وجب تعيين رأس المال وتسليمه إليه وفاء بالعقد (1) .
__________
(1) ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/ 206؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/ 307؛ ابن جزي الغرناطي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص274؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/ 330؛ زكريا الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/ 123(9/407)
ت - أما إذا كان رأس المال معينا مشاهدا في مجلس العقد، فهل يصح إسلامه جزافا دون بيان قدره وصفاته؟ كأن يقول رب السلم: أسلمتك هذه الدنانير في كذا إلى أجل كذا، دون أن يبين عددها. أو أسلمتك هذه الصبرة من القمح في كذا دون بيان قدرها ... وبعبارة أخرى: هل تعتبر الإشارة إلى رأس المال الحاضر كافية في رفع الجهالة عنه، واعتباره معلوما، أم لا بد من بيان القدر والصفات بالإضافة إلى ذلك؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
(القول الأول) لأبي حنيفة والثوري والقاضي عبد الوهاب البغدادي من المالكية: وهو أنه لا يشترط ذكر صفات رأس مال السلم، سواء أكان مثليا أو قيميا، حيث إن المشاهدة تكفي في رفع الجهالة عن الأوصاف.
أما قدره، فهناك فرق بين كون رأس المال مثليا يتعلق العقد بمقداره وبين كونه قيميا. فإن كان مثليا – المكيلات والموزونات والذرعيات والعدديات المتقاربة – فإنه يجب بيان القدر، ولا تكفي المشاهدة. أما إذا كان قيميا، فلا يشترط بيان قدره، وتكفي الإشارة إليه (1) .
(والقول الثاني) للمالكية والصاحبين من الحنفية والشافعية في الأظهر وظاهر كلام الخرقي من الحنابلة: وهو أنه تكفي المعاينة إذا كان رأس مال السلم معينا، ولا يشترط ذكر قدره أو صفاته؛ وذلك لأنه عوض في عقد لا يقتضي رد المثل، فوجب أن تغني المشاهدة عن ذكر صفاته ومقداره، كالمهر والثمن في البيع (2) .
__________
(1) ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/221، ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/ 207؛ القاضي عبد الوهاب، الإشراف على مسائل الخلاف، مرجع سابق 1/ 280؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/ 202
(2) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/ 331؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/ 201؛ زكريا الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/ 124؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/ 207؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/ 183؛ الحطاب، مواهب الجليل شرح مختصر خليل، 4/ 516 مط. السعادة بمصر سنة 1329هـ؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/307(9/408)
(والقول الثالث) للحنابلة على المعتمد عندهم والشافعي في قول: وهو أنه يجب ذكر مقداره وصفاته، ولا يصح السلم إلا ببيانها. وذلك لأنه لا يؤمن أن ينفسخ السلم بانقطاع المسلم فيه، فإذا لم يعرف مقداره وصفته لم يعرف ما يرده (1) .
(الشرط الثاني) تسليم رأس المال في مجلس العقد:
19- لقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية إلى أن من شروط صحة السلم تسليم رأس ماله في مجلس العقد، فلو تفرقا (2) قبله بطل العقد (3) .
واستدلوا على ذلك:
(أولا) بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) . إذ التسليف في اللغة التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإعطاء، فيكون معنى كلامه عليه الصلاة والسلام (فليعط) لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارق من أسلفه، فإن لم يدفع إليه رأس المال فإنه يكون غير مسلف شيئا، بل واعدا بأن يسلف. قال الرملي: (ولأن السلم مشتق من استلام رأس المال، أي تعجيله، وأسماء العقود المشتقة من المعاني لا بد من تحقق تلك المعاني فيها) (4) .
(ثانيا) بأن الافتراق قبل قبض رأس المال يكون افتراقا عن كالئ بكالئ، أي نسيئة بنسيئة، وهو منهي عنه بالإجماع (5) .
__________
(1) البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/ 221؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/ 330؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/ 307؛ الرملي، حاشيته على أسنى المطالب، مرجع سابق 2/124
(2) وتجدر الإشارة ههنا إلى أن المراد بالتفرق في هذا المقام هو افتراق العاقدين بأبدانهما، فلو قاما عن المجلس مصطحبين قليلا أو كثيرا فليسا بمفترقين، وكل ما يصدر منهما قبل الافتراق بأبدانهما له حكم مجلس العقد. (الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/ 203؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/ 270
(3) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/ 202؛ ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/ 109؛ الشافعي، الأم، مرجع سابق 3/ 95؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/ 328؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/ 1209، البهوتي، كشاف القناع، 3/ 291 مط. الحكومة بمكة سنة 1394هـ، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/ 220
(4) الرملي، حاشيته على أسنى المطالب، مرجع سابق 2/122
(5) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/ 54؛ السبكي، تكملة المجموع، 10/ 107 مط. التضامن الأخوي بمصر سنة 1347 هـ؛ ابن تيمية، نظرية العقد، ص 235 مط. السنة المحمدية بمصر سنة 1368هـ؛ والشوكاني، نيل الأوطار، 5/ 255 مط. مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1380 هـ(9/409)
(ثالثا) بأن في السلم غررا احتمل للحاجة، فجبر ذلك بتعجيل قبض العوض الآخر، وهو الثمن، كيلا يعظم الغرر في الطرفين. (1)
(رابعا) بأن الغاية الشرعية المقصودة من إبرام العقود ترتب آثارها عليها بمجرد انعقادها، فإذا تأخر البدلان كان العقد عديم الفائدة للطرفين خلافا لحكمه الأصلي ومقتضاه وغايته. ومن هنا قال ابن تيمية عن تأخير رأس المال في السلم: "فإن ذلك منع منه لئلا تبقى ذمة كل منهما مشغولة بغير فائدة حصلت لا له ولا للآخر، والمقصود من العقود القبض، فهو عقد لم يحصل به مقصود أصلا، بل هو التزام بلا فائدة". (2)
(خامسا) وبأن مطلوب الشارع صلاح ذات البين وحسم مادة الفساد والفتن، وإذا اشتملت المعاملة على شغل الذمتين، توجهت المطالبة من الجهتين، فكان ذلك سببا لكثرة الخصومات والعداوات، فمنع الشرع ما يفضي إلى ذلك باشتراط تعجيل قبض رأس المال. (3)
20-ولا يخفى أن اشتراط قبض رأس مال السلم قبل التفرق عند جمهور الفقهاء، إنما هو شرط لبقاء العقد على الصحة، وليس شرط صحة؛ لأن السلم ينعقد صحيحا بدون قبض رأس المال، ثم يفسد بالافتراق قبل القبض. وبقاء العقد صحيحا يعقب العقد ولا يتقدمه، فيصلح القبض شرطا له. (4) وقد جاء في م (387) من المجلة العدلية: (يشترط لبقاء صحة السلم تسليم الثمن في مجلس العقد، فإذا تفرق العاقدان قبل تسليم رأس مال السلم انفسخ العقد) .
21- وقد خالف المالكية –في المشهور عندهم- جمهور الفقهاء في اشتراط تعجيل رأس مال السلم في مجلس العقد، وقالوا: يجوز تأخيره اليومين والثلاثة بشرط وبغير شرط، تعويلا على القاعدة الفقهية (ما قارب الشيء يعطى حكمه) ، حيث إنهم اعتبروا هذا التأخير اليسير معفوا عنه؛ لأنه في حكم التعجيل. (5) ومن هنا قال القاضي عبد الوهاب البغدادي في كتابه (الإشراف) في تعليل جواز ذلك التأخير اليسير: (فأشبه التأخير للتشاغل بالقبض) . (6) .
__________
(1) الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/209
(2) ابن تيمية، نظرية العقد، مرجع سابق ص235.
(3) القرافي، الفروق، 3/290 مط. دار إحياء الكتب العربية بمصر سنة 1344هـ.
(4) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/203؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/208؛ ابن نجيم، البحر الرائق، مرجع سابق 6/177.
(5) الخرشي، شرح مختصر خليل، مرجع سابق 5/202؛ ابن رشد الجد، المقدمات الممهدات، ص 516 مط. السعادة بمصر سنة 1325هـ؛ الحطاب، مواهب الجليل، مرجع سابق 4/514 وما بعدها؛ الونشريسي إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، مرجع سابق ص 173.
(6) القاضي عبد الوهاب، الإشراف على مسائل الخلاف، مرجع سابق 1/280(9/410)
قال ابن رشد: (وأما تأخيره فوق الثلاث بشرط، فذلك لا يجوز باتفاق، سواء كان رأس المال عينا أو عرضا. فإن تأخر فوق الثلاث بغير شرط لم يفسخ إن كان عرضا، واختلف فيه إن كان عينا: فعلى ما في (المدونة) من السلم، يفسد بذلك ويفسخ. وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب: أنه لا يفسخ إلا أن يتأخر فوق الثلاث بشرط) . (1)
على أن المالكية أنفسهم يصرحون بأن العزيمة في السلم إنما تتحقق بتعجيل رأس المال في مجلس العقد. يقول ابن عبد السلام: لم أعلم خلافا في كون تعجيل رأس المال عزيمة، وأن الأصل التعجيل، وإنما الخلاف: هل يرخص في تأخيره؟. (2)
22- بقي بعد هذا مسألة مهمة، وهي ما لو عجل رب السلم بعض رأس المال في المجلس، وأجل البعض الآخر، فما هو الحكم في هذه الحالة؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
(أحدهما) للحنفية والشافعية والحنابلة: وهو أنه يبطل السلم فيما لم يقبض، ويسقط بحصته من المسلم فيه، ويصح في الباقي بقسطه. (3) قال ابن نجيم: (وصح في حصته النقد لوجود قبض رأس المال بقدره، ولا يشيع الفساد لأنه طارئ، إذ السلم وقع صحيحا في الكل، ولذا لو نقد الكل قبل الافتراق صح) . (4)
وعلل المالكية قولهم هذا بأنه (متى قبض البعض وأخر البعض فسد، لأنه دين بدين) . (5)
واستدل الظاهرية على ذلك بأن السلم عقد واحد وصفقة واحدة، وكل عقد جمع فاسدا وجائزا، كان كله فاسدا؛ لأن العقد الواحد لا يتبعض، والتراضي منهما لم يقع حين العقد إلا على الجميع، لا على البعض دون البعض، فلا يحل إلزامهما بما لم يتراضيا جميعا عليه، لأنه أكل مال بالباطل لا عن تراض. (6)
ومستند ابن أبي ليلى: أن الأصل عنده في أبواب المعاملات أن العقد إذا ورد الفسخ على بعضه انفسخ كله. (7)
__________
(1) ابن رشد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص 516؛ وانظر عليش، منح الجليل، مرجع سابق 3/4.
(2) عليش، منح الجليل، مرجع سابق 3/3.
(3) النووي، روضة الطالبين، مرجع سابق 4/3؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/210؛ البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/291؛ ابن نجيم، البحر الرائق، مرجع سابق، 6/178؛ الخطيب الشربيني، مغني المحتاج شرح المنهاج، 2/102 مط مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1377هـ.
(4) ابن نجيم، البحر الرائق، مرجع سابق 6/178.
(5) أبو الحسن المالكي، كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، مع حاشية العدوي عليه، 2/163 ط. مصطفى الحلبي بمصر سنة 1357هـ.
(6) ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/109 وما بعدها.
(7) الدبوسي، تأسيس النظر، ص95 ط. دار الفكر ببيروت سنة 1399هـ.(9/411)
23- ولو أراد رب السلم أن يجعل الدين الذي في ذمة المسلم إليه رأس مال السلم، فإن ذلك غير جائز عند جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة ومالك والأوزاعي والثوري وغيرهم؛ وذاك لأن المسلم فيه دين، فإذا جعل الثمن دينا، كان بيع دين بدين، وهو غير جائز بالإجماع. (1)
وخالفهم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وذلك لعدم تحقق المنهي عنه –وهو بيع الكالئ بالكالئ، أي الدين المؤخر بالدين المؤخر- في هذه المسألة إذا كان الدين المجعول رأس مال السلم غير مؤجل في ذمة المدين (2) ، لأنها تكون من قبيل بيع الدين المؤخر بالدين المعجل، ولوجود القبض الحكمي لرأس مال السلم من قبل المسلم إليه في مجلس العقد، لكونه حالا في ذمته، فكأن المسلم –إذ جعل ماله في ذمته معجلا رأس مال السلم- قبضه منه ورده إليه، فصار دينا معجلا مقبوضا حكما، فارتفع المانع الشرعي؛ ولأن دعوى الإجماع على هذا المنع غير مسلمة.
جاء في (إعلام الموقعين) لابن القيم: (وأما بيع الواجب بالساقط، فكما لو أسلم إليه في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته، فقد وجب له عليه دين، وسقط له عنه دين غيره. وقد حكي الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه. قاله شيخنا، واختار جوازه، وهو الصواب. إذ لا محذور فيه، وليس بيع كالئ بكالئ، فيتناوله النهي بلفظه، ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى، فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة) (3) .
__________
(1) ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/209؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/180؛ البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/221؛ الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، وحاشية الشلبي عليه، 4/140ط. بولاق سنة 1314هـ؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/212؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/329.
(2) أما إذا كان الدين المجعول رأس مال السلم مؤجلا في ذمة المدين، فلا خلاف لأحد من الفقهاء في منع ذلك شرعا، وأنه من بيع الكالئ بالكالئ المحظور، لكونه ذريعة إلى ربا النسيئة.
(3) ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق 2/9(9/412)
24- أما إذا جعل رب السلم ماله الموجود في يد المسلم إليه رأس مال المسلم، فهل يصح ذلك، وينوب القبض السابق للعقد مناب القبض المستحق في مجلسه، أم لا يصح ذلك، ويحتاج إلى قبض جديد؟
للفقهاء في المسألة قولان:
(أحدهما) للحنابلة: وهو أن قبض المسلم إليه السابق للعين المجعولة رأس مال السلم ينوب عن القبض المستحق بالعقد، ويقوم مقامه، سواء أكانت العين في يده أمانة أم مضمونة، ولا يحتاج إلى تجديد القبض. (1)
(والثاني) للحنفية: وهو أنه ينوب القبض السابق لرأس مال السلم عن القبض المستحق في مجلس العقد إذا كانت يد المسلم إليه عليه يد ضمان لا يد أمانة. أما إذا كان في يده أمانة –كيد الوكيل والوديع والشريك ونحوهم- فإن القبض السابق لا يقوم مقامه، ويحتاج إلى تجديد في المجلس ليصح عقد السلم. (2)
وقد أوضح الكاساني قاعدة الحنفية في نيابة القبض السابق مناب القبض المستحق اللاحق بعبارة وجيزة جامعة حيث قال: فالأصل فيه أن الموجود وقت العقد إن كان مثل المستحق بالعقد ينوب منابه. وإن لم يكن مثله: فإن كان أقوى من المستحق ناب عنه. وان كان دونه لا ينوب؛ لأنه إذا كان مثله أمكن تحقيق التناوب، لأن المتماثلين غيران ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد مسده، وإن كان أقوى منه يوجد فيه المستحق وزيادة، وإن كان دونه لا يوجد فيه إلا بعض المستحق، فلا ينوب عنه كله. (3)
__________
(1) البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/221؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/291.
(2) البغدادي، مجمع الضمانات، ص 217 مط. الخيرية بمصر سنة 1308هـ؛ الطرسوسي، أنفع الوسائل إلى تحرير المسائل، ص253 مط. الشرق بالقاهرة سنة 1344هـ.
(3) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/248.(9/413)
ج- شروط المسلم فيه:
لقد اشترط الفقهاء في المسلم فيه شروطا عديدة، وجعلوا تحققها لازما لصحة عقد السلم، وإن كانت آراؤهم واجتهاداتهم غير متوافقة في جميع الأحكام وسائر المسائل، وإليك بيان ذلك:
الشرط الأول: أن يكون دينا موصوفا في الذمة.
25- لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط كون المسلم فيه دينا موصوفا في ذمة المسلم إليه، وأنه لا يصح السلم إذا جعل المسلم فيه شيئا معينا بذاته. (1) لأن ذلك مناقض للغرض المقصود منه، إذ هو موضوع لبيع شيء في الذمة بثمن معجل، ومقتضاه ثبوت المسلم فيه دينا في ذمة المسلم إليه، ومحله ذمة المسلم إليه. فإذا كان المسلم فيه معينا تعلق حق رب السلم بذاته، وكان محل الالتزام ذلك الشيء المعين، لا ذمة المسلم إليه. ومن هنا كان تعيين المسلم فيه مخالفا لمقتضى العقد.
يضاف إلى ذلك أن تعيينه يجعل السلم من عقود الغرر، إذ ينشأ عنه غرر عدم القدرة على تنفيذ العقد، فلا يدرى، أيتم هذا العقد أم ينفسخ، حيث إن من المحتمل أن يهلك ذلك الشيء المعين قبل حلول وقت أدائه، فيستحيل تنفيذه، والغرر مفسد لعقود المعاوضات المالية كما هو معلوم ومقرر.
وهذا بخلاف ما لو كان المسلم فيه دينا موصوفا في الذمة، إذ الوفاء يكون بأداء أية عين مثلية تتحقق فيها الأوصاف المتفق عليها، ولا يتعذر تنفيذ العقد لو تلف المسلم فيه قبل تسليمه، إذ يسعه الانتقال عنه إلى غيره من أمثاله. (2)
__________
(1) ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/105؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/183؛ ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/219؛ ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص 274.
(2) البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/292؛ الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/124، 130؛ مواهب الجليل، مرجع سابق 4/534.(9/414)
وقد رتب بعض الفقهاء على تضمن السلم غررا إذا عين المسلم فيه أيلولة العقد إلى السلف الذي يجر نفعا، فقال ابن رشد: (وإنما لم يجز السلم في الدور والأرضين. لأن السلم لا يجوز إلا بصفة، ولا بد في صفة الدور والأرضين من ذكر موضعها، وإذا ذكر موضعها تعينت فصار السلم فيها كمن ابتاع من رجل دار فلان على أن يتخلصها له منه، وذلك من الغرر الذي لا يحل ولا يجوز؛ لأنه لا يدرى بكم يتخلصها منه، وربما لم يقدر على أن يتخلصها منه، ومتى لم يقدر على أن يتخلصها منه رد إليه رأس ماله، فصار مرة بيعا ومرة سلفا وذلك سلف جر نفعا) (1)
كما بنى بعض الفقهاء منع كون المسلم فيه معينا على أساس أن السلم إنما جاز شرعا على خلاف القياس للحاجة إليه، فإذا عين المسلم فيه، فيمكن عندئذ بيعه في الحال، ولا يكون هناك ثمة حاجة إلى المسلم، فينسحب عليه الحكم الأصلي وهو عدم المشروعية. (2)
26- ولعل المستند النصي لوجوب كون المسلم فيه دينا موصوفا في الذمة، وعدم جواز السلم إذا تعين ما روى ابن ماجه عن عبد الله بن سلام، قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: إن بني فلان أسلموا (لقوم من اليهود) وإنهم قد جاعوا، فأخاف أن يرتدوا. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : ((من عنده؟)) فقال رجل من اليهود: عندي كذا وكذا (لشيء قد سماه) أراه قال: ثلاثمائة دينار بسعر كذا وكذا من حائط بني فلان، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : ((بسعر كذا وكذا، إلى أجل كذا وكذا، وليس من حائط بني فلان)) . (3)
27- وبناء على اشتراط كون المسلم فيه دينا في الذمة، ذكر جماهير الفقهاء أن ما يصح أن يكون مسلما فيه من الأموال: المثليات كالمكيلات والموزونات والمذروعات والعدديات المتقاربة، وكذا القيميات التي تقبل الانضباط بالوصف. (4)
__________
(1) ابن رشد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص 516.
(2) البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/292؛ شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/221.
(3) ابن ماجه، السنن، 2/766 ط. عيسي البابي الحلبي بمصر سنة 1373هـ.
(4) ابن الهمام، الهداية، مرجع سابق 6/206؛ ابن نجيم، البحر الرائق، مرجع سابق 6/196؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/214، 215؛ الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/128؛ الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/212؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/203؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/318، 320؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/268.(9/415)
قال الشيرازي: (ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه وتضبط صفاته، كالأثمان والحبوب والثمار والثياب والدواب والعبيد والجواري والأصواف والأشعار والأخشاب والأحجار والطين والفخار والحديد والرصاص والبلور والزجاج وغير ذلك من الأموال التي تباع وتضبط بالصفات) (1)
أما ما لا يمكن ضبط صفاته من الأموال فلا يصح السلم فيه، لإفضاء العقد للمنازعة والمشاقة، وعدمها مطلوب شرعا. (2)
28- وعلى هذا فقد نص جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية على جواز السلم في النقود، على أن يكون رأس المال من غيرها لئلا يفضي ذلك إلى ربا النساء. (3) قال ابن قدامة: (لأنها تثبت في الذمة صداقا، فتثبت سلما كالعروض؛ ولأنه لا ربا بينهما من حيث التفاضل ولا النساء (4) فصح إسلام أحدهما كالعرض في العرض) . (5)
وخالفهم في ذلك الحنفية، وقالوا بعدم جواز كون المسلم فيه نقدا؛ لأن المسلم فيه لا بد أن يكون مثمنا، والنقود أثمان، فلا يصح أن تكون مسلما فيها. (6) قال الكاساني: (لأن المسلم فيه مبيع، لما روينا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم. سمى السلم بيعا، فكان المسلم فيه مبيعا، والمبيع مما يتعين بالتعيين، والدراهم والدنانير لا يتعين في عقود المعاوضات، فلم تكن مبيعة، فلا يجوز السلم فيها) . (7)
__________
(1) الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/304.
(2) الكاساني، البدائع مرجع سابق 5/208، الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/130؛ البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/276؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/195.
(3) البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/215؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/287؛ الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/137؛ الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/206؛ عليش، منح الجليل، مرجع سابق 3/11؛ ابن رشد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص 519؛ ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/100.
(4) لكون رأس المال عرضا غير نقد.
(5) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/332.
(6) ابن عابدين/ رد المحتار، مرجع سابق 4/203؛ ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/206.
(7) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/212.(9/416)
وقد رد القاضي عبد الوهاب البغدادي مذهب الإمام أبي حنيفة مستندا في تجويز السلم في النقود على قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم)) وهي من الموزونات، وبأن كل ما جاز أن يكون في الذمة ثمنا جاز أن يكون مسلما فيه؛ ولأن ضبطها بالصفة ممكن بذكر فضتها أو ذهبها وسكتها ووزنها، (1) فانتفى كل مانع، وتوفر مناط الجواز. أما احتجاجهم بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) ((نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم)) فغير مسلم؛ لأن الحديث الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام إنما هو النهي عن بيع ما ليس عندك، أما تتمة (ورخص في السلم) فلم تُرْوَ في الحديث، وإنما هي من كلام بعض الفقهاء (2)
29- هذا، ومع أن جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة يعدون المذروعات المتماثلة الآحاد والعدديات المتساوية أو المتقاربة من جملة المثليات التي تقبل الثبوت في الذمة دينا في عقد السلم، ويصح كونها مسلما فيه قياسا على المكيلات والموزونات التي نص الحديث على جواز السلم فيها، للعلة الجامعة بينهما وهي رفع الجهالة بالمقدار؛ لأن القصد من التقدير هو رفع الجهالة وإمكان التسليم بلا منازعة، وهذا حاصل بالعدّ والذرع فيما يقدر بالوحدات القياسية الطويلة أو بالعدد كما هو حاصل بالوزن أو بالحجم فيما يقدر بالوزن أو الكيل. قال الخطيب الشربيني: فإن قيل: لم خص في الحديث الكيل والوزن؟ أجيب بأن ذلك لغلبتهما وللتنبيه على غيرهما. (3)
فقد خالف ابن حزم في ذلك، ومنع صحة السلم في غير المكيلات والموزونات، فقال: (ولا يجوز السلم إلا في مكيل أو موزون فقط، ولا يجوز في حيوان ولا مذروع ولا معدود ولا في شيء غير ما ذكرنا) . (4) واحتج على ذلك بما روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ((من أسلف فلا يسلف إلا في كيل معلوم ووزن معلوم)) قال: (فهذا منع السلف وتحريمه البتة إلا أن في مكيل موزون) . (5)
__________
(1) القاضي عبد الوهاب، الإشراف على مسائل الخلاف، مرجع سابق 1/281.
(2) ابن حجر العسقلاني، الدراية في تخريج أحاديث الهداية، مرجع سابق 2/159؛ ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع سابق 20/529.
(3) الشربيني، مغني المحتاج، مرجع سابق 1/108.
(4) ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/105
(5) ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/106.(9/417)
الشرط الثاني: أن يكون معلوما.
30- لا خلاف بين الفقهاء في أنه يشترط لصحة السلم أن يكون المسلم فيه معلوم مُبَيَّنًا بما يرفع الجهالة عنه ويسد الأبواب إلى المنازعة بين العاقدين عند تسليمه؛ وذلك لأنه بدل في عقد معاوضة مالية، فاشترط فيه أن يكون معلوما كما هو الشأن في سائر عقود المبادلات المالية.
ولما كان السلم فيه ثابتا في الذمة غير مشخص بذاته اشترط الفقهاء أن ينص في عقد السلم على جنس المسلم فيه، بأن يبين أنه حنطة أو شعير أو تمر أو زيت ... ونوعه إن كان الجنس الواحد أكثر من نوع، بأن يبين أن الرز مثلا من النوع الأمريكي أو الاسترالي أو البشاوري ونحو ذلك. فإن كان للجنس نوع واحد فقط، فلا يشترط ذكر النوع. (1)
كما اشترطوا بيان قدره لقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم)) . وبيان القدر يتحقق بكل وسيلة ترفع الجهالة عن المقدار الواجب تسليمه، وتضبط الكمية الثابتة في الذمة بصورة لا تدع مجالا للمنازعة عند الوفاء. (2)
31- ويستنتج من نصوص الفقهاء التي بينت طرق التقدير الأربعة (الكيل والوزن والذرع والعدّ في كل شيء بحسبه) وهي الوسائل العرفية المعلومة في عصورهم أن معلومية المقدار في أيامنا الحاضرة يمكن أن تكون بأية وحدة من الوحدات القياسية العرفية المحدودة الشائعة.. وذلك مثل التحديد بالمتر أو بالقدم أو بالميل في الطول، وبالغرام أو بالأونصة أو الباوند في الوزن، وبالليتر أو الجالون في الحجم ونحو ذلك.
وفي هذا المقام نصّ الفقهاء على وجوب كون أداة التقدير العرفية معلومة العيار، وإلا فسد السلم لجهالة قدر المسلم فيه وإفضاء ذلك إلى الخصومة والمنازعة. (3)
__________
(1) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/207؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/216.
(2) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/318؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/190؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/218.
(3) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/318؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/207؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/193؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/218(9/418)
32- ومما يجدر بيانه أن جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية وأحمد في رواية عنه رجحها كثير من الحنابلة (1) لا يرون بأسا في اتفاق العاقدين على تحديد المسلم فيه بأية وحدة قياسية عرفية تضبطه، ولو كانت غير المستعملة لتحديد قدره في زمن النبوة، وذاك لأن الغرض معرفة قدره بما ينفي عنه الجهالة والغرر. وإمكان تسليمه من غير تنازع، والعلم بالقدر يمكن حصوله بأية وحدة قياسية عرفية منضبطة، وعلى هذا فلو قدره بأي قدر جاز (2) ، (ويغاير ذلك بيع الربويات، فإن التماثل فيها في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا شرط، ولا يعلم تحقق هذا الشرط إذا قدرها بغير مقدارها الأصلي) (3)
وخالف في ذلك الحنابلة على المعتمد في مذهبهم، وقالوا: (لا يصح سلم في مكيل وزنا، ولا في موزون كيلا؛ لأنه مبيع يشترط معرفة قدره، فلم يجز بغير ما هو مقدر به في الأصل، كبيع الربويات، بعضها ببعض، ولأنه قدّره بغير ما هو مقدر به في الأصل، فلم يجز، كما لو أسلم في مذروعات وزنا) . (4)
وقال المالكية: العبرة بعرف أهل البلد الذي جرى فيه السلم. فلا بد أن يضبط المسلم فيه بالوحدة القياسية التي تعارف أهل البلد وقت العقد على تقديره بها، قطعا لدابر المنازعة بين العاقدين في تقديره عند الوفاء. (5)
33-وبيان مقدار السلم فيه بهذه الصورة إنما يجزي في المثليات التي تخضع أنواعها للوحدات القياسية العرفية (الوزن أو الحجم أو الطول أو العد) .
أما إذا كان المسلم فيه من القيمات التي تختلف آحادها وتتفاوت أفرادها بحيث لا تقبل التقدير بتلك الوحدات القياسية، وإن كانت صفاتها قابلة للانضباط، فعندئذ يجوز السلم فيها بشرط بيان صفاتها التي تتفاوت فيها الرغبات، ويختلف الثمن بتفاوتها اختلافا ظاهرا.
ولا يجب استقصاء كل الصفات؛ لأن ذلك يتعذر، وقد ينتهي الأمر لو طلب فيها الاستقصاء إلى حال يتعذر معها تسليم المسلم فيه، إذ يبعد وجود المسلم فيه عند المحل بتلك الصفات كلها. ولهذا يكتفى بالأوصاف الظاهرة التي يختلف الثمن بها غالبا أو تختلف الأغراض بسببها عادة. (6)
__________
(1) اختار هذه الرواية منهم موفق الدين ابن قدامة في المغني وابن عبدوس في تذكرته وجزم بها في الوجيز والمنور ومنتخب الأزجي. (البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/285؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/318.
(2) الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/191؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/208؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/318؛ الشيرازي/ المهذب، مرجع سابق 1/306.
(3) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/319.
(4) البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مرجع سابق 2/218؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/285.
(5) المواق، التاج والإكليل، 4/530 مط. السعادة بمصر سنة 1329هـ؛ الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/212.
(6) الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/213؛ الحطاب، مواهب الجليل، مرجع سابق 4/531؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/311؛ ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/230.(9/419)
الشرط الثالث: أن يكون مؤجلا.
34-لقد اشترط جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والظاهرية لصحة السلم أن يكون المسلم فيه مؤجلا، وقرروا عدم صحة السلم الحال (1) ، ودليلهم على ذلك:
أ – قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) . حيث أمر عليه الصلاة والسلام بالأجل في السلم، وأمره يقتضي الوجوب، فيكون الأجل من جملة شروط صحة السلم، فلا يصح بدونه.
ب – أن السلم جوز رخصة للرفق، ولا يحصل إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفي الرفق، وذلك (لأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة، وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى) . (2)
ج- قال القاضي عبد الوهاب: (ولأن السلم مشتق من اسمه الذي هو السلف، وهو أن يتقدم رأس المال ويتأخر المسلم فيه، فوجب منع ما أخرجه عن ذلك) . (3)
د- ولأن السلم الحال يفضي إلى المنازعة، إذ هو أصلا بيع المفاليس، فالظاهر أن يكون المسلم إليه عاجزا عن تسليم المسلم فيه حالا، ورب السلم يطالب بالتسليم، فيتنازعان على وجه تقع الحاجة إلى الفسخ. كما أنه قد يكون فيه إلحاق الضرر برب السلم، لأنه أعطى رأس المال إلى المسلم إليه وصرفه في حاجته، فلا يصل المسلم فيه ولا إلى رأس المال، بخلاف الأمر عند اشتراط الأجل، حيث لا يملك المطالبة إلا بعد حل الأجل، وعند ذلك يقدر المسلم إليه على التسليم ظاهرا، فلا يؤدي إلى المنازعة المفضية إلى الفسخ والإضرار برب السلم. (4)
35- وخالف في ذلك الشافعية وقالوا بجواز السلم الحال كما هو جائز مؤجلا. وحجتهم القياس الأولوي على السلم المؤجل، حيث إن في الأجل ضربا من الغرر، إذ ربما يقدر المسلم إليه على تسليمه في الحال، ويعجز عند حلول الأجل، فإذا جاز مؤجلا، فهو حالا أحرى بالجواز؛ لأنه أبعد عن الغرر. (5)
__________
(1) ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص274؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/212؛ ابن رشد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص 515؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/321؛ ابن حزم، المحلى/ مرجع سابق 9/105؛ أبو الحسن المالكي، كفاية الطالب الرباني، مرجع سابق2/163؛ ابن نجيم، البحر الرائق، مرجع سابق 6/174؛ البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/218؛ ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/217؛ الباجي؛ المنتقى شرح الموطأ، 4/297 مط. السعادة بمصر سنة 1332هـ.
(2) ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/228.
(3) القاضي عبد الوهاب، الإشراف على مسائل الخلاف، مرجع سابق 1/280
(4) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/212.
(5) الشيرازي، المهذب مرجع سابق 1/304؛ الشافعي، الأم، مرجع سابق 3/95؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/185؛ الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/124؛ النووي، روضة الطالبين، مرجع سابق 4/7؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/226.(9/420)
36- ومع أن جمهور الفقهاء –عدا الشافعية- اتفقوا على وجوب كون المسلم فيه مؤجلا لصحة العقد، فقد اختلفوا في تحديد الأجل الأدنى الذي لا يصح بأقل منه، وذلك على جملة أقوال:
أ- فذهب الظاهرية إلى أن الحد الأدنى للأجل أقل ما ينطبق عليه اسم الأجل لغة، ساعة فما فوقها. (1)
ب- وقال الحنابلة: من شرط الأجل أن يكون مدة لها وقع في الثمن عادة، كالشهر وما قاربه؛ لأن الأجل إنما اعتبر لتحقيق الرفق الذي من أجله شرع السلم، ولا يحصل ذلك بالمدة التي لا أثر لها في رخص الثمن. (2)
ج- واختلف فقهاء الحنفية في تحديده، فقال الكرخي: إنه موكول لتراضي العاقدين، حتى لو قدّرا نصف يوم جاز. وقيل: أقله ثلاثة أيام قياسا على خيار الشرط. قال الكاساني: (وروي عن محمد أنه قدره بالشهر وهو الصحيح؛ لأن الأجل إنما شرط في السلم ترفيها وتيسيرا عن المسلم إليه، ليتمكن من الاكتساب في المدة. والشهر مدة معتبرة يتمكن فيها من الاكتساب، فيتحقق معنى الترفيه. فأما ما دونه ففي حد القلة، فكان له حكم الحلول) . (3)
د- وذهب المالكية في المشهور عندهم إلى أن أقله ما تختلف فيه الأسواق، كالخمسة عشر يوما ونحوها. وهو قول ابن القاسم (4) . وروى ابن وهب عن مالك: أنه يجوز اليومين والثلاثة. وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به إلى اليوم الواحد. (5)
قال الباجي –بعد عرض تلك الأقوال-: (إذا ثبت ما قلناه، فالذي قاله القاضي أبو محمد أن تغير الأسواق في ذلك لا يختص بمدة من الزمان، وإنما هو على حسب عرف البلاد. ومن قدر ذلك بخمسة عشر يوما أو أكثر فإنما قدر على عرف بلده، وتقدر ابن القاسم ذلك بخمسة عشر يوما أو عشرين أظهر؛ لأن هذا عرف البلاد، ومقتضى ما علم من أسواقها، فإنه يغلب تغيرها في مثل هذه المدة) . (6)
__________
(1) ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/109
(2) البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/218؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/285؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 3/285.
(3) الكاساني، البدائع/ مرجع سابق 5/213؛ وانظر ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/219
(4) الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/210؛ ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص274؛ ابن رشد بداية المجتهد، مرجع سابق 2/228.
(5) ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/228، الباجي، المنتقى، مرجع سابق 4/297. وقد ذكر الباجي وابن رشد أن محل هذا الخلاف عند المالكية فيما إذا كان قضاء المسلم فيه في البلد الذي عقد فيه المسلم. أما إذا كان المسلم فيه يقتضي بغير بلد السلم، فإن أدنى الأجل عندهم هو مدة قطع المسافة التي بين البلدين قلَّت أو كثرت.
(6) الباجي، المنتقى، مرجع سابق 4/298.(9/421)
الشرط الرابع: أن يكون الأجل معلوما.
37- اتفق الفقهاء على أن معلومية الأجل الذي يوفى فيه المسلم فيه شرط لصحة السلم، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) ، حيث أوجب معلومية الأجل. (1)
وعلى ذلك نص العلماء على أنه (إن كان الأجل مجهولا فالسلم فاسد، سواء أكانت الجهالة متفاحشة أو متقاربة؛ لأن كل ذلك يفضي إلى المنازعة، وإنها مفسدة للعقد، كجهالة القدر) . (2)
ويتم العلم بالأجل بتقدير مدته بالأهلة نحو أول شهر رجب أو أوسط محرم أو يوم معلوم منه، أو بتحديده بالشهور الشمسية المعروفة عند المسلمين والمشهورة بينهم مثل أول شباط وآخر آذار أو يوم معلوم منه. أو بتحديد وقت محل المسلم فيه بأن يقال: بعد ستة أشهر أو شهرين أو سنة ونحو ذلك. (3)
__________
(1) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/321؛ الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/210؛ البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/218؛ ابن رشد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص515؛ ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص274؛ ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/218؛ النووي، الروضة، مرجع سابق 4/7.
(2) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/213.
(3) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/324؛ النووي، الروضة، مرجع سابق 4/8؛ الرملي، نهاية المحتاج، مرجع سابق 4/87(9/422)
الشرط الخامس: أن يكون مقدور التسليم عند محله.
38-وذلك بأن يكون المسلم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل، وهذا شرط متفق على وجوب تحقيقه لصحة السلم بين الفقهاء. واحتجوا على ذلك بأن المسلم فيه واجب التسليم عند الأجل، فلا بد أن يكون تسليمه مقدورا عليه حينذاك، وإلا كان من الغرر الممنوع. (1)
وعلى هذا، فلا يجوز أن يسلم في ثمر إلى أجل لا يعلم وجود ذلك الثمر فيه، أو لا يوجد فيه إلا نادرا، كما أنه يسلم في ثمار نخلة معينة أو ثمار بستان بعينه. وذلك لما روى ابن ماجه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه أسلف إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى، فقال اليهودي: من حائط بني فلان. فقال عليه الصلاة والسلام: ((أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى)) . (2) وذلك لأن ثمر البستان المعين أو النخل المعين لا يؤمن تلفه وانقطاعه.
39- أما وجود المسلم فيه عند العقد فليس شرطا لصحة السلم عند جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية، فيجوز السلم في المعدوم وقت العقد وفيما ينقطع من أيدي الناس قبل حلول الأجل. (3) وحجتهم على ذلك ما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قدم المدينة، والناس يسلفون في الثمر العام والعامين، فقال: ((من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) . فلم يشترط عليه الصلاة والسلام وجود المسلم فيه عند العقد، ولو كان شرطا لذكره ولنهاهم عن السنتين والثلاث؛ لأن من المعلوم أن الثمر لا يبقى طوال هذه المدة. وأيضا: فإن التسليم قبل حلول الأجل غير مستحق، فلا يلزم وجود المسلم فيه بتلك الفترة، إذ لا فائدة لوجوده حينئذ.
__________
(1) الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/243؛ البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/290؛ ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/114؛ النووي، الروضة، مرجع سابق 4/11؛الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/218؛ ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/213؛ الباجي، المنتقى، مرجع سابق 4/300؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/325؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/211.
(2) ابن ماجه، السنن، مرجع سابق 2/766.
(3) القاضي عبد الوهاب، الإشراف، مرجع سابق 1/279؛ ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص274؛ ابن رشد بداية المجتهد، مرجع سابق 2/229؛ الباجي، المنتقى، مرجع سابق 4/300؛ ابن حزم، المحلى، مصدر سابق 9/114؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/245؛ البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/220؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/326؛ ابن رشد الجد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص513.(9/423)
وخالفهم في ذلك الحنفية والثوري والأوزاعي الذين قالوا بعدم السلم إلا فيما هو موجود في الأسواق من وقت العقد إلى محل الأجل دون انقطاع.
واستدل الحنفية على ذلك بأن الأجل يبطل بموت المسلم إليه، ويجب أخذ المسلم فيه من تركته، فاشترط لذلك دوام وجود المسلم فيه لتدوم القدرة على تسليمه؛ إذ لو لم يشترط هذا الشرط، ومات المسلم إليه قبل أن يحل الأجل فربما يتعذر تسليم المسلم فيه، فيؤول ذلك إلى الغرر. (1)
وقد أجاب ابن قدامة على حجة الحنفية هذه بقوله: (ولا نسلم أن الدين يحل بالموت، وإن سلمنا فلا يلزم أن يشترط ذلك الوجود، إذ لو لزم لأفضى إلى أن تكون آجال السلم مجهولة، والمحل ما جعله العاقدان محلا، وههنا لم يجعلاه) . (2) وقال القاضي عبد الوهاب البغدادي: (ولأن كل وقت لم يجعل وقتا لقبض المسلم فيه لم يكن وجوده شرطا في صحة العقد، أصله ما بعد المحل؛ ولأنه يضبط بالصفة ويوجد عند المحل، فجاز السلم فيه) . (3)
__________
(1) ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق 6/213؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/326؛ ابن النجيم، البحر الرائق، مرجع سابق 6/172؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/211؛ ابن عابدين، رد المحتار، مصدر سابق 4/206.
(2) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/326؛ وانظر ابن رشد، المقدمات الممهدات، مرجع سابق ص 513.
(3) القاضي عبد الوهاب، الإشراف على مسائل الخلاف، مرجع سابق 1/279.(9/424)
الشرط السادس: تعيين مكان الإيفاء.
40- لقد اختلف الفقهاء في مدى اشتراط تعيين مكان إيفاء المسلم فيه لصحة العقد، وذلك على خمسة أقوال:
أ- فذهب الشافعية في المعتمد إلى أنه يشترط لصحة السلم بيان مكان تسليم المسلم فيه إذا كان موضع العقد لا يصلح للتسليم كالصحراء، أو كان لحمله مؤنة. فإن كان العقد بمكان يصلح للتسليم أو لم يكن لحمله مؤنة فلا يشترط ذلك، ويتعين مكان العقد للتسليم بدلالة العرف. وهذا كان المسلم فيه مؤجلا. أما الحال فلا يشترط فيه تعيين مكان الوفاء ويتعين موضع العقد للتسليم. (1)
قالوا: ووجه اشتراط تعيينه في المؤجل إذا كان المكان لا يصلح للتسليم اختلاف الأغراض وتفاوتها في الأمكنة، فوجب بيانه كما هو الأمر في الأوصاف. وأما إذا كان لحمله مؤنة فلأنه يختلف الثمن باختلاف المكان الذي سيسلم فيه، كالصفات التي يختلف باختلافها. بخلاف ما ليس لحمله مؤنة؛ فإنه لا يجب بيانه؛ لأنه لا يختلف باختلافه فلم يجب بيانه كالصفات التي لا يختلف الثمن باختلافها. (2)
ب- وقال المالكية: لا يشترط تعيين مكان الإيفاء، ولكنه يفضل، (3) . قال ابن جزي: (الأحسن اشتراط مكان الدفع.. فإن لم يعينا في العقد مكانا، فمكان العقد، وإن عيناه، ولا يجوز أن يقبضه بغير المكان ويأخذ كراء مسافة ما بين المكانين؛ لأنهما بمنزلة الأجلين) . (4)
__________
(1) الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/128؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/307؛ الرافعي، فتح العزيز، مرجع سابق 9/251؛ النووي، روضة الطالبين، مرجع سابق 4/12، 13
(2) الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/307؛ الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/127.
(3) ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/229.
(4) ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق 275.(9/425)
ج- وذهب الحنابلة إلى أنه لا يشترط ذكر مكان الإيفاء، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يذكره، فدل على أنه لا يشترط فيه. ولأنه عقد معاوضة، فلا فيه ذكر مكان الإيفاء، كبيوع الأعيان، إلا أن يكون موضع العقد لا يمكن الوفاء فيه كصحراء وبحر وجبل ونحو ذلك، فعند ذلك يشترط بيانه لتعذر الوفاء في موضع العقد، فيكون محل التسليم مجهولا، فاشترط تعيينه بالقول كالأجل. (1)
د- وقال ابن حزم: لا يجوز أن يشترطا في السلم دفعه في مكانه بعينه، فإن فعلا فالصفقة كلها فاسدة لكن حق المسلم قبل المسلم إليه أنه حيث ما لقيه عند محل الأجل فله أخذه بدفع حقه إليه، فإن غاب أنصفه الحاكم من ماله –أي المسلم إليه- إن وجد له، لقوله تعالي: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] فهو مأمور بأداء أمانته حيث وجبت عليه ويسألها. (2)
هـ -قال الحنفية: لا يشترط مكان الإيفاء إذا لم يكن للمسلم فيه حمل ومؤنة، بحيث لا يحتاج نقله إلى كلفة وسيلة نقل وأجرة حمال (3) . أما إذا كان له حمل ومؤنة، فقد اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في اشتراط تعيين مكان الإيفاء.
- فقال أبو حنيفة: يشترط بيان مكان إيفاء المسلم فيه؛ لأن التسليم غير واجب في الحال، فلا يتعين مكان العقد موضعا للتسليم، وإذا لم يتعين بقي مجهولا جهالة مفضية إلى المنازعة لاختلاف القيم باختلاف الأماكن، فلا بد من البيان دفعا للمنازعة، إذ صار كجهالة الصفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يحتاج إلى تعيينه، ويسلمه في موضع العقد؛ لأن مكانه موضع الالتزام، فيتعين لإيفاء ما التزمه في ذمته، كموضع الاستقراض والاستهلاك وكبيع الحنطة بعينها. (4)
__________
(1) البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/221؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/292.
(2) ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/110.
(3) وهذا الحكم لا خلاف فيه بين الإمام وصاحبيه، وفي هذه الحالة يكون للمسلم فيه أن يوفيه حيث شاء كما صحح صاحب الدر المختار، وصحح ابن كمال أن الوفاء يكون في مكان العقد. (ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/207)
(4) ابن نجيم، البحر الرائق، مرجع سابق 6/176؛ الكاساني، البدائع مرجع سابق 5/213؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/207؛ ابن همام، فتح القدير، مرجع سابق 6/221 وما بعدها(9/426)
المبحث الثالث
الأحكام المترتبة على السلم والمتعلقة به
ويندرج تحت هذا المبحث سبع وسائل:
المسألة الأولي
انتقال الملك في البدلين
41-لا خلاف بين الفقهاء في أن عقد السلم إذا أبرم بين عاقدين مستجمعا أركانه وشروط صحته فإنه يقتضي انتقال ملكية رأس المال إلى المسلم إليه وانتقال ملكية المسلم فيه إلى رب السلم.
وعلى ذلك، فإذا قبض المسلم إليه رأس المال كان له أن يتصرف فيه بكل التصرفات السائغة شرعاً؛ لأنه ملكه وتحت يده. أما المسلم فيه، فمع صيرورته ملكًا للمسلم بمقتضى العقد، إلا أن ملكيته له غير مستقرة. قال السيوطي: (وجميع الديون التي في الذمة بعد لزومها وقبض المقابل لها مستقرة إلا دينًا واحدًا هو دين السلم؛ فإنه وإن كان لازما فهو غير مستقر. وإنما كان غير مستقر؛ لأنه بصدد أن يطرأ انقطاع المسلم فيه، فينفسخ العقد) . (1)
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص326 ط. مصطفي البابي الحلبي بمصر سنة 1378 هـ.(9/427)
المسألة الثانية
بيع دين السلم قبل قبضه
42-وبناء على كون دين السلم غير مستقر فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يصح بيع المسلم فيه لمن هو في ذمته، أي استبداله قبل قبضه بأن يأخذ رب السلم مكانه من غير جنسه (وهو ما يعبر عنه الفقهاء بالاعتياض عن المسلم فيه أو استبداله) كما أنه لا يصح بيعه مِنْ غير مَنْ هو في ذمته؛ لأنه لا يؤمن من فسخ العقد بسبب انقطاع المسلم فيه، فكان كالمبيع قبل القبض. ولقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) . (1)
قالوا: وهذا يقتضي إلا يبيع رب السلم دين السلم لا من صاحبه ولا من غيره. (2)
43-وخالفهم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، حيث أجاز بيع المسلم فيه قبل قبضه من غير مَنْ عليه الدين، وهذا القول رواية عن أحمد ووجه عند الشافعية. (3)
جاء في (الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية) : (ويجوز بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره، ولا فرق بين دين السلم وغيره، وهو رواية عن أحمد) . (4)
__________
(1) أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي والدارقطني عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً. (ابن حجر العسقلاني، الدراية في تخريج أحاديث الهداية، مرجع سابق 2/160
(2) النووي، المجموع شرح المهذب،9/273 مط. التضامن الأخوي بمصر سنة 1347هـ؛ الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/214؛ البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/293؛ شرح المنتهى، مرجع سابق 2/222؛ الشافعي، الأم، مرجع سابق 3/133؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 4/209،166؛ الزيلعي، تبيين الحقائق، مرجع سابق 4/118؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/270؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/334.
(3) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع سابق 29/506؛ ابن مفلح، المبدع شرح المقنع، 4/199 ط. المكتب الإسلامي بدمشق سنة 1400هـ؛ الزركشي، المنثور في القواعد، مرجع سابق 2/161.
(4) البعلي، الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية. ص131 مط. أنصار السنة المحمدية بمصر.(9/428)
وقال ابن القيم في (أعلام الموقعين) : (والدين في الذمة يقوم مقام العين، ولهذا تصح المعاوضة عليه من الغريم وغيره) . (1)
كذلك أجاز ابن تيمية وابن القيم الاعتياض عن المسلم فيه (أي بيعه لمن هو في ذمته) قبل قبضه بثمن المثل أو دونه لا أكثر منه حالاً، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه ورواية الإمام أحمد. (2)
قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: (إذا أسلفت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عوضًا أنقص منه، ولا تربح مرتين) . (3)
وحجتهم على جواز بيعه من المدين (أو الاعتياض عنه) إذا كان ذلك بسعر المثل أو دونه هو عدم المانع الشرعي، حيث إن حديث ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ضعيف لا تقوم به حجة. (4)
وحتى لو ثبت فمعنى (فلا يصرفه إلى غيره) أي لا يصرفه إلى سلم آخر، أو لا يبعه بمعين مؤجل، وذلك خارج عن محل النزاع.قال ابن القيم (فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة) . (5)
__________
(1) ابن القيم، إعلام الموقعين، 4/3 مط. السعادة بمصر سنة 1374هـ.
(2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع سابق 29/503، 518؛ البعلي، مختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص345 ط. باكستان سنة 1397هـ؛ ابن القيم، تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، 5/113 وما بعدها مط. السنة المحمدية بمصر سنة 1369هـ.
(3) ابن القيم، تهذيب سنن أبي داود، مرجع سابق 5/113.
(4) قال الحافظ ابن حجر: (وفيه عطية بن سعد العوفي، وهو ضعيف، وأعله أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان بالضعف والاضطراب) . (ابن حجر، التلخيص الحبير 3/25، ط. شركة الطباعة الفنية بمصر سنة 1384هـ) .
(5) ابن القيم: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، مرجع سابق 5/117.(9/429)
أما دليلهم على عدم جواز الاعتياض عنه ببدل يساوي أكثر من قيمته؛ فلأن دين السلم مضمون على البائع، ولم ينتقل إلى ضمان المشتري، فلو باعه المشتري من المسلم إليه بزيادة، فيكون رب السلم قد ربح فيما لم يضمن، وقد صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه ((نهي عن ربح ما لم يضمن)) . (1)
44-ونهج المالكية في المسألة نهجًا وسطاً؛ إذ أجازوا بيع المسلم فيه لغير المسلم إليه إذا لم يكن طعاما بمثل ثمنه وبأقل وأكثر حالًا غير مؤجل كيلا يؤول إلى بيع الكالئ بالكالئ. (2)
قال ابن رشد الحفيد: (وأما بيع دين السلم من غير المسلم إليه فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع، ما لم يكن طعاماً؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل قضبه) . (3)
أما الاعتياض عنه، أي بيعه من المسلم إليه ببدل حال فقد أجازوه بشروط ثلاثة بينها الخرشي بقوله: (يجوز للمسلم إليه أن يقضي السلم من غير جنس المسلم فيه، سواء حل الأجل أم لا بشروط ثلاثة:
الأول: أن يكون المسلم فيه مما يباع قبل قبضه (وهو ما سوى الطعام) . كما لو أسلم ثوبا في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان دراهم، إذ يجوز بيع الحيوان قبل قضبه.
الثاني: أن يكون المأخوذ مما يباع بالمسلم فيه يدا بيد كما لو أسلم دراهم في ثوب مثلا، فأخذ عنه طشت نحاس، إذ يجوز بيع الطشت بالثوب يدا بيد.
الثالث: أن يكون المأخوذ مما يجوز أن يجوز أن يسلم فيه رأس المال. كما لو أسلم دراهم في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان ثوباً، فإن ذلك جائز، إذ يجوز أن يسلم الدراهم في الثوب) . (4)
وجاء في (القوانين الفقهية) لابن جزي: (يجوز بيع العرض المسلم فيه قبل قبضه من بائعه بمثل أو أقل لا أكثر؛ لأنه يتهم في الأكثر بسلف جر منفعة، ويجوز بيعه من غير بائعه بالمثل وأقل وأكثر يدا بيد ولا يجوز بالتأخير للغرر) . (5)
__________
(1) أخرجه ابن ماجه والدارقطني والحاكم وعبد الرازق وأحمد والنسائي وأبي داود والترمذي والدرامي والطحاوي وغيرهم. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. (الألباني، إرواء الغليل،5/146ط. المكتب الإسلامي بدمشق سنة 1399هـ.
(2) ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص 275؛ المواق، التاج والإكليل، 4/542 مط. السعادة بمصر سنة1329هـ.
(3) ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق2/231.
(4) الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/227؛ وانظر ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص 274.
(5) ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص 275.(9/430)
المسألة الثالثة
إيفاء المسلم فيه
45-اتفق الفقهاء على أنه إذا حل أجل السلم المتفق عليه في العقد وجب علي المسلم إليه إيفاء الدين المسلم فيه. فإن جاء به وفق الصفات المشروطة المبينة في العقد وجب على المسلم قبوله، (1) (لأنه أتاه بحقه في محله، فلزمه قبوله، كالمبيع المعين، وسواء كان عليه في قبضه ضرر أو لم يكن. فإن أبى قيل له: إما أن تقبض حقك، وإما أن تبرئ منه. فإن امتنع قبضه الحاكم من المسلم إليه للمسلم، وبرئت ذمته منه؛ لأن الحاكم يقوم مقام الممتنع بولايته) . (2)
46-أما قبل حلول الأجل، فلا يخفى أنه ليس للمسلم مطالبة المسلم إليه بالدين المسلم فيه. (3) ولكن إذا أتي به المسلم إليه قبل الأجل، وامتنع المسلم من قبوله، فهل يجبر على أخذه أم لا؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
أ-فقال المالكية: (إذا دفع المسلم فيه قبل الأجل، جاز قبوله، ولم يلزم. وألزم المتأخرون قبوله في اليوم واليومين) . (4)
__________
(1) النووي، وروضة الطالبين، مرجع سابق 4/29.
(2) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/339.
(3) النووي، الروضة، مرجع سابق4/30.
(4) ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص 275، وانظر ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/232.(9/431)
ب-وقال الشافعية والحنابلة: إذا أتى به المسلم إليه قبل محله، فينظر فيه: (فإن كان مما في قبضه قبل محله ضمن –على المسلم- إما لكونه مما يتغير، كالفاكهة والأطعمة كلها، أو كان قديمه دون حديثه، كالحبوب ونحوها، لم يلزم المسلم قبوله؛ لأن له غرضا في تأخيره، بأن يحتاج إلى أكله أو إطعامه في ذلك الوقت. وكذلك الحيوان؛ لأنه لا يأمن تلفه، ويحتاج إلى الإنفاق عليه إلى ذلك الوقت، ربما يحتاج إليه في ذلك الوقت دون ما قبله. وكذا إن كان مما يحتاج في حفظه إلى مؤنة، كالقطن ونحوه، أو كان الوقت مخوفًا يخشى نهب ما يقبضه، فلا يلزمه الأخذ في هذه الأحوال كلها، لأن عليه ضررا في قبضه، ولم يأت محل استحقاقه له، فجرى مجرى نقص صفة فيه.
وإن كان مما لا ضرر عليه في قبضه، بأن يكون مما لا يتغير، كالحديد والرصاص والنحاس، فإنه يستوي قديمه وحديثه. ونحو ذلك الزيت والعسل، ولا في قبضه ضرر لخوف ولا تحمل مؤنة، فعليه قبضه؛ لأن غرضه حاصل مع زيادة تعجيل المنفعة، فجرى مجرى زيادة الصفة وتعجيل الدين المعجل) . (1)
47-ولو أحضر المسلم إليه الدين المسلم فيه على الصفة المشروطة بعد محل الأجل، فقال الحنابلة: (فحكمه حكم ما لو أحضر البائع المبيع بعد تفرقهما) . (2) وقال المالكية: اختلف في ذلك أصحاب مالك، فروي عنه أنه يلزمه قبضه، مثل أن يسلم في قطائف الشتاء، فيأتي بها في الصيف. وقال ابن وهب وجماعة: لا يلزمه ذلك. (3)
__________
(1) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/339؛ وانظر النووي، روضة الطالبين، مرجع سابق4/30.
(2) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/339
(3) ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/232(9/432)
وقد أوضح القاضي ابن رشد الحفيد منشأ الخلاف في المسألة بأن من لم يلزمه بقبضه بعد الأجل رأى أن المقصود من العروض إنما كان وقت الأجل لا غيره. أما من أجاز ذلك وألزمه بقبضه، فقد شبهه بالدنانير والدراهم. (1)
48- وحيث وجب على المسلم إليه تسليم الدين المسلم فيه في مكان معين، فإن جاء به فيه لم يكن للمسلم الامتناع عن تسلمه فيه. فإن شاء المسلم إليه أداءه في غيره، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
أ-فقال المالكية: لا يلزم المسلم قبوله بغير محله، ولو خف حمله. (2) وكذلك (لا يجوز أن يقبضه بغير المكان، ويأخذ كراء مسافة ما بين المكانين؛ لأنهما بمنزلة الأجلين) . (3) وبمثل ذلك قال الحنابلة (4) وكذا الحنفية حيث جاء في (البدائع) : (ولو سلّم في غير المكان المشروط فلرب السلم أن يأبى لقوله (عليه الصلاة والسلام) ((: المسلمون على شروطهم.)) فإن أعطاه على ذلك أجرا لم يجز له أخذ الأجر عليه؛ لأنه لما قبض المسلم فيه فقد تعين ملكه في المقبوض، فتبين أنه أخذ الأجر على نقل ملكه، فلم يجز، فيرد الأجر. وله أن يرد المسلم فيه حتى يسلم في المكان المشروط؛ لأن حقه في التسليم فيه، ولم يرض ببطلان حقه إلا بعوض ولم يسلم له، فبقي حقه في التسليم في المكان المشروط) . (5)
ب-وقال الشافعية: (إذا أتى المسلم إليه بالمسلم فيه في غير مكان التسليم، فامتنع المستحق من أخذه، فينظر: فإن كان لنقله مؤنة، أو كان الموضع مخوفاً، لم يجبر. وإلا فوجهان بناء على القولين في التعجيل قبل المحل. فلو رضي وأخذه، لم يكن له أن يكلفه مؤنة النقل. قال النووي: قلت: أصحهما إجباره) . (6)
المسألة الرابعة
تعذر السلم فيه عند حلول الأجل
49-إذا انقطع المسلم فيه (7) عند حلول الأجل، بحيث تعذر على المسلم إليه إيفاءه للمسلم في وقته، فقد اختلف الفقهاء فيما يترتب على ذلك من أحكام على ثلاثة مذاهب:
أـ فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية في الأظهر والمالكية والحنابلة إلى أنه يخير رب السلم بين أن يصبر غلي وجوده، فيطالب به عنده، وبين أن يفسخ السلم ويرجع برأس ماله إن وجد، أو عوضه إن عدم لتعذر رده. (8)
ب ـ وقال زفر وأشهب والشافعي في قول: ينفسخ السلم ضرورة، ويسترد رب السلم رأس المال، ولا يجوز التأخير. (9)
ج ـ وقال سحنون: ليس لرب السلم فسخ السلم، وإنما له أن يصبر إلى القابل. (10)
__________
(1) ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/232
(2) الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق5/228
(3) ابن جزي، القوانين الفقهية مرجع سابق ص 275.
(4) البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/92؛ شرح المنتهى، مرجع سابق 2/222.
(5) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/213
(6) النووي، روضة الطالبين، مرجع سابق 4/31
(7) وقد حكى النووي ضابط الانقطاع بقوله: (فإذا لم يوجد فيه أصلا، بأن كان ذلك الشيء ينشأ بتلك البلدة، فأصابته جائحة، مستأصلة، فهذا انقطاع حقيقي. ولو وجد في غير ذلك البلد، لكن يفسد بنقله، أو لم يوجد إلا عند قوم امتنعوا من بيعه، فهو انقطاع. ولو كانوا يبيعونه بثمن غالٍ فليس بانقطاع، بل يجب تحصيله ولو أمكن نقله من مكان آخر وجب إن كان قريباً. وفيما يضبط به القرب خلاف، نقل فيه صاحب التهذيب وجهين آخرين، أصحهما: يجب نقله مما دون مسافة القصر.الثانى: من مسافة لو خرج إليها بكرة أمكنه الرجوع إلى أهله ليلا. وقال الإمام: لا اعتبار لمسافة القصر، فإن أمكن النقل على عسر، فالأصح أنه لاينفسخ قطعا. (النووي، الروضة، مرجع سابق 4/12))
(8) البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 2/220؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/290؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/326؛ ابن الهمام / فتح القدير، مرجع سابق 6/214؛ ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/230؛ الخرشي، شرح خليل، مرجع سابق 5/221؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق1/309؛ النووي، الروضة، مرجع سابق4/1
(9) ابن الهمام، فتح القدير، مرجع سابق6/214؛ ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص 275؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/309؛ ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/230؛ النووي، الروضة، مرجع سابق 4/11.
(10) ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص275؛ ابن رشد، بداية المجتهد، مرجع سابق 2/230(9/433)
المسألة الخامسة
الإقالة في السلم
50-لقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة إلى جواز الإقالة في السلم. فإذا أقاله رب السلم وجب على المسلم إليه رد الثمن إن كان باقياً، أو مثله إن كان مثليًّا، أو قيمته إن كان قيميا إذا لم يكن باقياً. (1) قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة. (2)
واستدلوا على ذلك:
أولا: بما روى أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ((: من أقال نادمًا بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة)) (3) حيث ندب النبي عليه الصلاة والسلام إلى الإقالة مطلقاً، فيدخل فيه السلم، كما يدخل فيه البيع المطلق؛ لأن السلم نوع من البيع. (4) قال الكاساني: (ولأن الإقالة في بيع العين إنما شرعت نظرا للعاقدين دفعًا لحاجة الندم، واعتراض الندم في السلم ههنا أكثر، لأنه بيع بأوكس الأثمان، فكان أدعى إلى شرع الإقالة فيه) . (5)
ثانيا: وبأن الحق لهما، فجاز لهما الرضا بإسقاطه، (6) إذ الإقالة فسخ للعقد ورفع له من أصله. (7)
51- وخالفهم في ذلك ابن حزم فقال: (ولا تجوز الإقالة في السلم؛ لأن الإقالة بيع صحيح على ما بينا قبل، وقد صح نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن بيع ما لم يقبض، وعن بيع المجهول، لأنه غرر، لكن يبرئه مما شاء منه، فهو فعل خير) (8)
__________
(1) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق4/336؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/309، الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/214، سحنون، المدونة، 9/69 مط. السعادة بمصر سنة 1323 هـ ابن رشد بداية المجتهد مرجع سابق 2/231.
(2) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/336.
(3) أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه وغيرهم. (ابن حجر، الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/154
(4) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/214
(5) الكاساني، البدائع، مرجع سابق 5/214
(6) الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/309
(7) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/336
(8) ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/115(9/434)
المسألة السادسة
توثيق الدين المسلم فيه
52-لا يخفى أن توثيق الدين المسلم فيه يون بأحد أمرين:
أ-إما بتقوية وتأكيد حق رب السلم في الدين المسلم فيه بالكتابة أو الشهادة، لمنع المسلم إليه من الإنكار، وتذكيره عند النسيان، وللحيلولة دون ادعائه أقل من الدين المسلم فيه قدرًا أو صفة ونحو ذلك أو ادعاء رب السلم أكثر منه. وهذا النوع من التوثيق لا خلاف بين الفقهاء في كونه مندوبًا إليه، بما فيه من حماية الحقوق، ومنع التلاعب بها وقطع دابر الخصومات والمنازعات بين الناس فيها. وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]
ب-وإما بتثبيت حق رب السلم في الدين المسلم فيه وإحكامه، بحيث يتمكن عند امتناع المسلم إليه عن الوفاء – لأي سبب من الأسباب- من استيفاء دينه من شخص ثالث يكفل الدين المسلم فيه بماله، أو من عين مالية يتعلق بها حق رب السلم وتكون رهينة بدينه، وذلك بالكفالة أو الرهن وتلك محل نظر بعض الفقهاء.
53-وبيان ذلك أن الفقهاء اختلفوا في مشروعية توثيق الدين المسلم فيه بالكفالة أو الرهن على أربعة أقوال:(9/435)
أ-فذهب الحنابلة في المعتمد عندهم إلى أنه لا يصح أخذ رهن ولا كفيل من المسلم إليه. (1) وذلك لأنه (إن أخذ برأس مال السلم الرهن والضمين، فقد أخذ بما ليس بواجب ولا مآله إلى الوجوب؛ لأن ذلك قد ملكه المسلم إليه. وإن أخذ بالمسلم فيه، فالرهن إنما يجوز بشيء يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن، والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من الرهن ولا من ذمة الضامن؛ ولأنه لا يأمن هلاك الرهن في يده بعدوان، فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : ((من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره)) رواه أبو داود. ولأنه يقيم ما في ذمة الضامن من مقام ما في ذمة المضمون عنه، فيكون في حكم أخذ العوض والبدل عنه وهذا لا يجوز) . (2)
ب-وذهب الشافعي ومالك والحنفية وإسحاق وابن المنذر إلى جوازه. وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها ابن قدامة وجمع من الحنابلة. وهو قول عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والحكم وغيرهم من السلف. (3) جاء في (الأم) للشافعي: (السلم: السلف. وبذلك أقول: لا بأس فيه بالرهن والحميل؛ لأنه بيع من البيوع، وقد أمر الله جل ثناؤه بالرهن، فأقل أمره تبارك وتعالى أن يكون إباحة له) . (4) وقد علق برهان الدين ابن مفلح الحنبلي على استدلال المانعين بحيث: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره) بقوله: (فيه نظر؛ لأن الضمير في (لا يصرفه) راجع إلى المسلم فيه، ولكن يشتري ذلك من ثمن الرهن ويسلمه، ويشتريه الضامن ويسلمه، لئلا يصرفه إلى غيره) . (5)
ج ـ وروي عن علي وابن عمر وابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والأوزاعي كراهة ذلك. (6)
د ـ وذهب ابن حزم الظاهري إلى أن (اشترط الكفيل في السلم يفسد به السلم؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل. أما اشتراط الرهن فجائز) . (7)
__________
(1) البهوتي، شرح منتهى الإيرادات، مرجع سابق 2/222، كشاف القناع، مرجع سابق 3/298.
(2) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/342
(3) ابن جزي، القوانين الفقهية، مرجع سابق ص328؛ عليش، منح الجليل، مرجع سابق 3/252؛ ابن عابدين، رد المحتار، مرجع سابق 5/318؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/342؛ الشافعي، الأم، مرجع سابق 3/94
(4) الشافعي؛ الأم، مرجع سابق 3/94.
(5) ابن مفلح، المبدع، 4/202 ط. المكتب الإسلامي بدمشق سنة 1400هـ؛ البهوتي، كشاف القناع، مرجع سابق 3/298.
(6) ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/342، البهوتي، شرح المنتهى، مرجع سابق 200/222.
(7) ابن حزم، المحلى، مرجع سابق 9/110.(9/436)
المسألة السابعة
الاتفاق على تقسيط المسلم فيه على نجوم
54-إذا أسلم شخص في شيء واحد على أن يقبضه بالتقسيط في أوقات متفرقة أجزاء معلومة، كسمن يأخذ بعضه في أول رجب وبعضه في أول رمضان وبعضه في منتصف شوال مثلا ... فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك على ثلاثة أقوال:
أ-فذهب المالكية والشافعية في الأظهر إلى أنه يصح ذلك؛ لأن كل ما جاز أن يكون في الذمة إلى أجل، جاز أن يكون إلى أجلين وآجال، كالأثمان في بيوع الأعيان. (1)
ب-وذهب الشافعي في قول ثان له إلى أنه لا يصح ذلك؛ (لأن ما يقابل أبعدهما أجلا أقل مما يقابل الآخر، وذلك مجهول، فلم يجز) . (2) أي أن القيمة الحالية (وقت عقد السلم) للدفعة المؤجلة إلى الأجل القريب أعلى من القيمة الحالية للدفعة المؤجلة إلى الأجل البعيد، فحيث لم يسم في العقد لكل دفعة من المسلم فيه قدرا من الثمن (رأس المال) على حدته، فلا تعرف حصة كل قسط من الثمن، وتلك هي الجهالة المفضية إلى فساد العقد.
ج-وذهب الحنابلة في المعتمد عليه إلى التفصيل، حيث قالوا: (يصح أن يسلم في جنس واحد في أجلين) كسمن يأخذ بعضه في رجب، وبعضه في رمضان؛ لأن كل بيع جاز إلى أجل جاز إلى أجلين وآجال إن بين كل قسط أجل وثمنه؛ لأن الأجل الأبعد له زيادة وقع على الأقرب، فما يقابله أقل. فاعتبر معرفة قسطه وثمنه. فإن لم يبينهما لم يصح ...
ويصح أن يسلم في شيء كلحم وخبز وعسل يأخذه كل يوم جزءا معلومًا مطلقا، أي سواء بين ثمن كل قسط أو لا، لدعاء لحاجة إليه) . (3)
(فإن قبض البعض مما أسلم فيه ليأخذ منه كل يوم قدرا معلوما، وتعذر قبض الباقي، رجع بقسطه من الثمن، ولا يجعل الباقي فضلا على المقبوض، لأنه مبيع واحد متماثل الأجزاء، فقسط الثمن على أجزائه بالسوية كما لو اتحد أجله) . (4)
__________
(1) النووي، روضة الطالبين، مرجع سابق 4/11؛ الأنصاري، أسنى المطالب، مرجع سابق 2/126؛ الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/307؛ القاضي عبد الوهاب، الإشراف على مسائل الخلاف، مرجع سابق 1/280.
(2) الشيرازي، المهذب، مرجع سابق 1/307
(3) البهوتي، شرح المنتهى الإرادات، مرجع سابق 2/218؛ كشاف القناع، مرجع سابق 3/287.
(4) البهوتي، كشاف القناع مرجع سابق 3/286؛ وانظر: شرح المنتهى له، مرجع سابق، 2/219؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق 4/338.(9/437)
الفصل الثاني
التطبيقات المعاصرة لعقد السلم
55-إن السلم كما كان بالغ الأهمية كباب من المداينات في العصور التي خلت والأزمان التي سلفت، فإنه يعد من عصرنا الحاضر أداة تمويل (ائتمان) ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي وفي نشاطات المصارف الإسلامية من حيث مرونتها واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة، سواء أكان تمويلا قصير الأجل أو متوسطه أو طويله، واستجابتها لحاجات شرائح مختلفة ومتعددة من العملاء، سواء كانوا من المنتجين الزراعيين أو الصناعيين أو المقاولين من التجار، واستجابتها لتمويل نفقات التشغيل والنفقات الرأسمالية الأخرى.
وعلى هذا فمجالات تطبيق هذا العقد متعددة:
أ - فهو يصلح للقيام بتمويل عمليات زراعية مختلفة حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقع أن تتوفر لهم السلعة في الموسم من محاصيلهم أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها ويسلموها إذا أخفقوا في التسليم من محاصيلهم، فيقدم لهم بهذا التمويل نفعا بالغاً ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم.
ب - كما أنه يمكن استخدامه في تمويل النشاط التجاري والصناعي، ولا سيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة، وذلك بشرائها سلما، وإعادة تسويقها بأسعار مجزية.(9/438)
ج-كذلك يمكن تطبيقه في تمويل الحرفيين وصغار المنتجين الزراعيين والصناعيين عن طرق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات وآلات أو مواد أولية كرأس مال سلم مقابل الحصول على بعض منتجاتهم وإعادة تسويقها. (1)
د) كذلك يمكن استخدامه في تمويل التجارة الخارجية , وذلك بقيام المصرف الإسلامي بشراء المواد الأولية من المنتجين سلما، ثم إعادة تسويقها عالميًا بأسعار مجزية، إما نقدا، أو بجعل هذه الصادرات رأسمال سلم من أجل الحصول في مقابلها على سلع صناعية أو غير ذلك.
هـ -ويمكن أيضا اللجوء إليه في تمويل الأصول الثابتة – كبديل للتأجير التمويلي – حيث يقوم المصرف بتمويل الأصول الثابتة اللازمة لقيام المصانع الحديثة أو لإحلالها في المصانع القديمة القائمة، وتقديم تلك الأصول كرأس مال سلم مقابل الحصول على جزء من منتجات تلك المصانع على دفعات وفقا لآجال تسليم مناسبة. (2)
56- ولا يخفى أن خاصية عقد السلم- وهي كونها عقدًا على موصوف في الذمة (منضبط بمواصفات محددة طبقًا لمقاييس دقيقة معروفة) - تجعل نطاقه شاملًا للمنتجات الزراعية كالحبوب والزيوت والألبان والمنتجات الصناعية كالحديد والإسمنت والسيارات والطائرات ومنتجات المواد
الخام أو نصف المصنعة كانفط والكلنكر وغيرها.
ويمكن للمسلم (المشتري) فيما بين تاريخ عقد السلم وتاريخ قبض المُسَلَم فيه أن يكون مسلمًا إليه (بائعًا) في سلعة مماثلة وبشروط مماثلة بشروط عقد السلم الأول الذي أبرمه أو بشروط معدلة وهو ما يعبر عنه بالسلم الموازي.
* أما عن الأمثلة والصيغ التطبيقية المعاصرة، فإليك الصور التالية:
__________
(1) عز الدين خوجة، أدوات الاستثمار الإسلامية، ص48 جدة سنة 1413هـ.
(2) د/محمد عبد الحليم عمر، الإطار الشرعي والاقتصادي والمحاسبي لبيع السلم. ص66،67 ط البنك الإسلامي للتنمية بجدة 1412هـ.(9/439)
الصورة الأولي:
57-يوجد مصنع ياباني لسحب وتشكيل قضبان الحديد يحتاج إلى تمويل لشراء كتل الحديد اللازمة، ويحصل عادة على التمويل اللازم من البنك بفائدة بأجل يمتد حتى تاريخ تسويق منتجاته. ففي مثل هذه الحال يقوم المصرف الإسلامي بعرض التمويل اللازم على أساس عقد السلم، فيأخذ مقابل التمويل المنتجات المصنعة من منتجات الحديد، وتبرمج مواعيد وأمكنة التسليم، ويتفق مثلا أن يكون التسليم في ميناء التصدير أو سيف ميناء الاستيراد.
وفيما بين تاريخ إبرام العقد وتاريخ التسليم يمكن للمصرف الإسلامي أن يجري عقدا أو عقود سلم مع مستثمرين آخرين، يكون المصرف فيها في موقف المسلم إليه (البائع) ، حيث يلتزم بتوريد قضبان حديد مماثلة لقضبان الحديد التي أبرم عقد السلم عليها من المصنع، وذلك بشروط مماثلة لعقده مع مصنع أو بشروط معدلة. كما يمكن للمصرف بدلا عن ذلك أن ينتظر حتى يتسلم القضبان، فيبيعها للموردين في البلد المستورد أو لتجار التجزئة بثمن حال أو مؤجل.
وعلى العكس من الصورة السابقة يمكن أن يسبق زمنيا عقد السلم الذي يبرمه المصرف مع المستثمرين، ويكون مسلما إليه ملتزما بقضبان الحديد عقد السلم الذي أبرمه المصرف مع المصنع الياباني، وكان المصرف فيه في موقف المسلم (المشتري) . ويمكن للمصرف التوغل لمرحلة سابقة بأن يقوم بإبرام عقد سلم مع مصنع للصلب ينتج كتل الحديد ويحتاج لتمويل شراء خام الحديد، حيث يقوم المصرف بالتمويل النقدي في مقابل الحصول على كمية مناسبة من كتل الحديد يتم بيعها لمصنع القضبان.(9/440)
الصورة الثانية:
58-يحتاج مصنع إسْمَنْت الجنوب (مثلا) إلى تمويل لنفقات التشغيل، فيتقدم المصرف الإسلامي بعرض التمويل في نظير أخذ كمية مناسبة من الأسمنت يتفق على تسليمها في موعد واحد أو مواعيد مختلفة، في مكان المصنع أو في مواضع أخري.
فإذا احتيج إلى تدرج التدفق النقدي بالنسبة للمصنع، فيمكن بدلا إبرام عقد واحد إبرام عقود متعددة لهذا الغرض. وفي الوقت نفسه – بين تاريخ تقديم التمويل وتاريخ التسليم – يمكن للمصرف الإسلامي إبرام عقود سلم مع المقاولين مباشرة أو مع مستثمر وسيط، يكون محلها إسمنتا مصنعا بمواصفات الإسمنت الذي تعاقد المصرف مع المصنع على شرائه بعقد السلم، كما يمكن للمصرف الانتظار حتى يتسلم من المصنع الأسمنت الذي التزم به، فيبيعه للمقاولين بثمن ناجز أو مؤجل.
وعلى العكس من الصورة السابقة يمكن أن يسبق زمنيا عقد السلم الذي يكون المصرف فيه مسلم إليه (بائعا للإسمنت) عقد السلم الذي يبرمه المصرف مع المصنع، ويكون المصرف فيه مسلما (مشتريا) .
وهناك تفصيلات أخرى حول هذه الطريقة الثانية لاستخدام عقد السلم نفصل بيانها في الصورة الثالثة الآتية.
الصورة الثالثة:
59-يمكن تطبيق عقد السلم لتمويل شراء المصرف للسلع التي تنتجها المصانع المحلية، ثم قيامه ببيعها من خلال الوسطاء الذين يتولون أمر توزيعها حاليا وفي السوق الداخلية. ويقتضي تطبيق هذا الاقتراح أن يختار المصرف بعناية السلع التي سيتعامل بها، بحيث تكون مما يقبل التخزين مدة ملائمة، مع تحديد سعر شراء البنك لها على نحو يأخذ بالحسبان الدورة الزمنية المعتادة لتصريفها، وكذلك نفقات التخزين ونحوها من التكاليف، وكذا تقلبات الأسعار المعتادة في تلك السلع.
وفي الوقت الذي يدخل فيه المصرف بعقد سلم لشراء السلع يدخل بعقود مع الوسطاء الموزعين لتلقي السلع نيابة عن المصرف وتخزينها لديهم، ثم بيعها لحساب المصرف. ويمكن للمصرف أن يتفق مع أولئك الوسطاء على أن يبيعوا السلع لأجل مع أخذ الضمانات اللازمة للدين. وبذلك يكون المصرف قد استخدم أمواله في تمويل شراء السلع سلما بأسعار منخفضة نسبيا، ثم بيعها بعد قبضها لأجل بأسعار مرتفعة نسبيا.
وهذا التمويل يحيط بالسلعة من الجانبين (عقد سلم للشراء، ثم عقد بيع لأجل للتسويق) ويتيح المصرف مجالا واسعا لاستثمار موارده.(9/441)
الصورة الرابعة:
60-يمكن للمصرف الإسلامي أن يعقد سلما مع شركة منتجة للنفط (أرامكو السعودية مثلا) تلتزم بموجبه تلك الشركة بتسليم كمية محددة من النفط الموصوف في الذمة بتاريخ معين على الناقلة الراسية في ميناء التصدير برأس تنورة.
ويمكن للمصرف بين تاريخ إبرام عقد السلم مع دفعه الثمن حالا والتاريخ المتفق عليه لتسليم النفط أن يبرم عقود سلم موازية مع المستهلكين مباشرة أو مع مستثمر وسيط، يكون محل التزام المصرف في تلك العقود نفطا مماثلا في مواصفات وبشروط مماثلة أو معدلة. ويمكن للمصرف الانتظار، حتى يتسم النفط (المسلم فيه) ثم يبيعه للمستهلكين أو لمن يشاء بثمن ناجز أو مؤجل.
الصورة الخامسة:
61-يشتري المصرف الإسلامي كمية من الأسمنت (مثلا) على أساس عقد سلم كما بيناه، ويتضمن العقد أن يضع المصنع كمية الإسمنت بعد إنتاجها في مستودعاته باسم المصرف بصورة متميزة، ويوكله المصرف ببيعها لحساب المصرف بسعر ناجز أو مؤجل لا يقل عن المقدار الذي يحدده المصرف، ويمكن للمصرف أن يجعل للمصنع أجرة على البيع مبلغا محددا أو نسبة من ثمن البيع. ويمكن أن يكون للبيع المشار إليه نقدا، كما يمكن للمصرف أن يأذن للمصنع بأن يبيع لأجل بشروط يرتضيها المصرف، ومنها أخذ ضمانات كافية للوفاء بالثمن. (1)
__________
(1) الصور الخمس مستفادة من فتوى غير منشورة للهيئة الشرعية بشركة الراجحي المصرفية للاستثمار.(9/442)
ملاحظة (حول توثيق دين السلم بالرهن أو الكفالة)
62-ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن من حق المسلم في الصور السابقة كلها حتى يطمئن إلى وفاء دين السلم (المسلم فيه) عند حلول أجله أخذ رهن أو كفالة به وفقا لقول جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية وبعض محققي الحنابلة وغيرهم كما هو مبين في (ف53 من البحث) .
63-وليس بخاف أنه حيثما ذكر عقد السلم فإنه مأخوذ في الاعتبار التقيد بالشروط الشرعية للعقد ومن أهمها فورية دفع الثمن (تسليم رأس مال السلم) حيث إنه يحول عمليا دون استغلال عقد السلم لاتخاذه حيلة للتوصل للتمويل بالفائدة الربوية.
الصورة السادسة:
64-وهي إحدى الوسائل المقترحة لتمويل العجز في ميزانية الدولة، وذلك بأن تبيع الدولة المنتجة للنفط (مثلا) كميات موصوفة في الذمة إلى آجال عديدة بأثمان معجلة، بحيث يكون للمسلم (المشتري) في الفترة ما بين تاريخ عقد السلم وتاريخ قبض المسلم فيه:
أ-أن يعقد سلما موازيا، فيصير مسلما إليه، وذلك بأن يبيع سلما كمية مماثلة للنفط الذي أسلم فيه القدر والزمن وسائر الأوصاف لطرف ثالث بثمن معجل يزيد على ما اشترى به في السلم الأول، وبذلك يحقق ربحا من مجموع العمليتين، ثم تتم تسوية الصفقتين دون ربط بينهما عن طريق التوافق في الكميات والأوصاف والمواعيد.
وهذا السلم الموازي لا خلاف بين الفقهاء في جوازه ومشروعيته.
ب – أن يبيع المسلم فيه نفسه إلى غير المسلم إليه (طرف ثالث) بثمن حال غير مؤجل يحقق فيه هامش ربح مناسب بحسب سعر السوق.
وقد اقترح الأستاذ عبد اللطيف الجناحي أن تتم هذه العملية من خلال إصدار سندات سلم نفطية بالشكل التالي:(9/443)
(أولا) تتولى الدولة من خلال جهاز تختاره (البنك المركزي مثلا) إصدار سندات ذات قيمة مالية محددة، ويقابلها كمية محددة من النفط الموصوف في الذمة، تبين في موعد محدد مبين في السند.
(ثانيا) تقوم الجهة الموكول إليها إصدار السندات ببيعها إلى المؤسسات المالية والأفراد بثمن معجل.
(ثالثا) يتضمن السند توكيلا من صاحبه لوزارة النفط (مثلا) باستلام المسلم فيه (النفط) وبيعه بالسعر الجاري بحسب العرف التجاري على أن تدفع القيمة لحساب صاحب السند خلال 48 ساعة عقب البيع.
(رابعا) تتنوع سندات السلم حسب مواعيد مختلفة (قصيرة-متوسطة-طويلة الأجل) بحيث تلبي حاجة المتعاملين وظروفهم ورغباتهم. (1)
وهذه العملية عبارة عن تطبيق معاصر لبيع دين السلم من غير المسلم إليه قبل قبضة بزمن معجل، وهو صحيح جائز في رواية عن الإمام أحمد اختارها وأفتى بها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية، وكذا عند المالكية في المعتمد من مذهبهم إذا كان دين السلم غير طعام، خلافا لما ذهب إليه الحنفية والشافعية والحنابلة من عدم جواز بيع دين السلم قبل قبضة من المسلم إليه وغيره مطلقا.
(انظر في الكتاب ص42،43،44 من البحث)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
نزيه كمال حماد
__________
(1) اقتراح الأستاذ الجناحي المقدم لحلقة النقاش الأولى للجنة الاقتصادية التابعة للديوان الأميري للكويت في الفترة ما بين 6-8 فبراير عام 1993م (تهيئة الأجواء لاستكمال تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال الاقتصادي)(9/444)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين،
موضوعنا هذه الجلسة المسائية المباركة – إن شاء الله – هو السلم وتطبيقاته المعاصرة، والعارض هو فضيلة الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير، والمقرر هو محمد عطا السيد سيد أحمد.(9/445)
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد:
قد قدم في هذا الموضوع ثمانية بحوث لم أتمكن من قراءة ثلاثة منها لأني تسلمتها اليوم، وسأعرض ما اتفقت عليه البحوث الخمسة وهو كثير، وأعرض ما انفردت به في بحثي وأترك للإخوة أن يعرض كل منهم بحثه؛ لأن هذا في رأيي أعدل ولأن صاحب البحث أقدر على بيان رأيه وتوضيحه، وبهذا يكون عرض البحوث كلها قد اكتمل من غير تكرار، ويبقى بعد ذلك التعليق والتعقيب والمناقشة، وأرجو أن يكون في هذا بعض الاستجابة لتوجيهات الرئاسة في هذا الصباح. وسأسير في البحث على حسب الخطة الموضوعة من المجمع.
أولا ـ تعريف السلم:
السلم والسلف بمعنى واحد، الأول لغة أهل الحجاز والثاني لغة أهل العراق. والسلم في الاصطلاح هو: بيع آجل بعاجل. وهذا التعريف الذي اتفق عليه في الجملة الحنفية والمالكية والحنابلة، وإن كان ابن عابدين يرى الأفضل أن يقال: شراء آجل بعاجل وليس بيع آجل بعاجل. الشافعية تعريفهم يختلف عن تعريف الجمهور، يقولون: هو بيع موصوف في الذمة. وهذا راجع إلى أنهم يرون أن السلم يكون حالا كما يكون مؤجلا، فلم يلتزموا كلمة: آجل، بيع موصوف في الذمة المالية قد يكون آجلا وقد يكون حالًّا.
والسلم نوع من البيع، هذا في رأي جمهور الفقهاء وهو عكس البيع بثمن مؤجل. ابن حزم يرى أن السلم ليس نوعا من البيع لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) سماه سلما وسماه سلفا ولم يسميه بيعا. فلا يعترف بأنه بيع.
مشروعية السلم ثابتة في القرآن والسنة والإجماع وهذا معروف. وحكي الإجماع في جواز السلم ولكن حكي عن ابن المسيب أنه لا يجيزه متمسكا بحديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، جاء هذا عنه في البحر الزخار وفي نيل الأوطار.(9/446)
هل مشروعية السلم على خلاف القياس أم هي على القياس؟
جمهور الفقهاء يرون أن السلم جاء على خلاف القياس. القياس المنع ولكنه جاز لورود النص به وللحاجة إليه، بل بعضهم يرى أنه عقد غرر جوز للحاجة. هذا الرأي القائل بأن جواز السلم جاء على خلاف القياس مبني على أن السلم من بيع المعدوم ومن بيع ما ليس عندك ومن بيع الغرر. وكل هذه البيوع منهي عنها، فالقياس ألا يجوز السلم ولكن النص ورد بجوازه فعلمنا أنه مستثنى من هذه البيوع، هذه وجهة نظر جمهور الفقهاء، والصواب عندي ما ذهب إليه ابن تيمية وابن القيم من أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس، وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد، إما أن يكون القياس فاسدا أو أن يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص لكونه من.... وينبني على هذه القاعدة أن السلم مشروع وفق القياس؛ لأن مشروعيته ثابتة بالنص، وينبني عليها أيضًا أن القياس الذي قال بعض الفقهاء: إن السلم جاء على خلافه، قياس فاسد. وقد أثبت فساد هذه الأقيسة الثلاثة في البحث في كلام طويل أتركه لتقرءوه. قياس السلم على بيع المعدوم قياس غير صحيح، قياس السلم على بيع ما ليس عندك قياس غير سليم أيضا، وقياس السلم على بيع الغرر أيضا قياس غير سليم.
شروط صحة عقد السلم: يشترط في السلم ما يشترط في البيع، قلنا: إن السلم هو نوع من البيع فيشترط فيه ما يشترط في البيع، غير أن جمهور الفقهاء على حسب رأيهم يستثنون من قاعدة (يشترط في السلم ما يشترط في البيع) شرط وجود المحل عند العقد، وذلك لأنهم يرون أن بيع المعدوم منهي عنه. وستجدون الكلام هذا فيما تقدم. وهناك شروط خاصة ينفرد بها عقد السلم عن عقد البيع، وقد ركزت على ثلاثة من هذه الشروط.
الشرط الأول: أن يكون المسلم فيه مؤجلا – وقبل أن أدخل في هذا أود أن أقول: إن ما تقدم ليس فيه خلاف يذكر بالنسبة للبحوث التي قرأتها – وهذا شرط اشترطه جمهور الفقهاء لصحة عقد السلم على اختلاف بينهم في مدة الأجل، فالسلم الحال لا يجوز عند جمهور الفقهاء.(9/447)
وقال الشافعية: يجوز السلم حالا مؤجلا، وممن قال بالجواز: أبو ثور وابن المنذر، واحتج الجمهور بأدلة ذكرتها في البحث واحتج الشافعية أيضا بأدلة أوردتها وفندتها، ورأي الجمهور أولى بالقبول عندي لقوة دليله وضعف دليل الشافعية. ويتفرع على هذا الشرط الحديث عن مدة الأجل، فقد اختلف جمهور القائلون باشتراط الأجل في السلم في أقل مدة الأجل اختلافا كبيرا، والمفتى به عند الحنفية أن أقله شهر، وهو المعتمد في المذهب، وقيل ثلاثة، وأقوال كثيرة في كل مذهب من المذاهب. ويشترط عند الحنابلة أن يكون الأجل مدة لها وقع في الثمن، كالشهر وما قاربه. وللمالكية تفصيل في هذا.
والذي أراه ألا نجعل حدا لأقل الأجل، كما أنه لا حد لأكثره، ويترك تحديد مدة الأجل لاتفاق المتعاقدين؛ لأن النص الذي أوجب الأجل في السلم لم يحدد مدة لأكثره كما لم يحدد مدة لأقله، وإنما اشترط أن يكون الأجل معلوما، فيجب الوقوف عند ما أمر به النص. يتفرع –أيضا-عن هذا الشرط العلم بالأجل، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء في أن العلم بالأجل في السلم شرط لصحة العقد.
خلاصة آراء الفقهاء في هذا الموضوع، يعني الفقهاء بعد أن اتفقوا على أنه لا بد من العلم بالأجل اختلفوا في بعض أنواع الجهالة على نحو اختلافهم في جهالة الأجل في الثمن، لا خلاف في هذا، والثمن في الدين الذي يفسد البيع.(9/448)
خلاصة الآراء في الموضوعين – البيع وفي السلم – وهي أن الجهالة التي ترجع إلى وجود الأجل تفسد العقد باتفاق، وذلك مثل التأجيل إلى حبل الحبلة أو إلى قدوم حاج معين، أما الجهالة التي ترجع إلى وقت حصول الأجل أي التي يكون فيها الأجل محقق الحصول لكن الوقت الذي سيحصل فيه غير محدد مثل البيع أو السلم إلى الحصاد أو إلى قدوم الحاج، فقد اختلفوا في إفسادها للعقد، فقال الحنفية، والشافعية، والحنابلة في رواية، والظاهرية، والشيعة الإمامية: هي مفسدة للعقد –الجمهور-كالجهالة التي ترجع إلى وجود الأجل، وقال المالكية والحنابلة في رواية: لا تفسده. وإني أرجح رأي المالكية في أن الجهالة التي ترجع إلى وقت حصول الأجل لا تفسد العقد، لأن الأجل سيجيء حتماً، وقد يكون للعاقد غرض صحيح من هذا التأجيل، كما في التأجيل إلى الحصاد وكون الحصاد يتقدم أو يتأخر بعض الشيء هذا لا يؤثر. هذا وقد اشترط بعض الفقهاء أن يكون الأجل معلوما بالأهلية، وقد شدد الشافعي في هذا حتى أبطل العقود التي يكون فيها مؤجلًا إلى أجل غير محدد بالأهلية، واستدل بالآيات التي وردت في هذا الشأن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] إلى آخر الآيات التي من هذا القبيل.
هذا ولا نزاع في أن الأجدر بالمسلمين أن يعلموا آجالهم بالأهلة ما أمكن، لأن الله ذكرها في كتابه العزيز، وأخبر أنها مواقيت للناس، ولكني لا أرى ذلك أمرا لازما يترتب عليه على عدمه فساد عقود المسلمين كما يرى الإمام الشافعي؛ لأنه ليس ثمة دليل نقلي ولا عقلي على إلزام المسلمين بذلك، والأدلة التي ساقها الإمام الشافعي تدل على أن الأهلية مواقيت للناس، ولكنها لا تدل على أن المواقيت لا تكون بغيرها، ومن أجل هذا خالف فقهاء الشافعية إمامهم في هذه المسألة، فاعتبروا الأهلة وغيرها مما يعرفه الناس أجلا معلوما.(9/449)
الشرط الثاني: أن يكون المسلم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل.وهذا شرط متفق عليه بين جميع الفقهاء؛ لأن المسلم فيه واجب التسليم عند حلول الأجل فلا بد أن يكون تسليمه ممكنا حينذاك وإلا كان من الغرر الممنوع، وعلى هذا فلا يجوز أن يسلم في ثمر إلى أجل لا يعلم وجود ذلك الثمر فيه أو لا يوجد فيه إلا نادراً، كما لا يجوز أن يسلم في ثمار نخلة معينة أو ثمار بستان بعينه، وقد كان أهل الجاهلية حين قدم النبي (صلى الله عليه وسلم) يسلمون في ثمار نخيل بأعيانها فنهاهم عن ذلك، وقصة اليهودي معروفة.
يترتب على هذا الشرط عند جمهور الفقهاء أن وجود المسلم فيه عند العقد ليس شرطًا عند الجمهور، فلا يشترطون وجود المسلم فيه عند العقد ولا بعده قبل حلول الأجل. الشرط هو (وجوده عند حلول الأجل) فلا يضر عندهم عدم وجوده عند العقد، كما لا يضر انقطاعه بين العقد والأجل، واستدلوا لهذا ببعض الأدلة وخالفهم الحنفية فقالوا: يشترط وجود المسلم فيه في الأسواق من حين العقد إلى حين حلول الأجل، ولو لم يكن موجودا عند المسلم إليه، لكن وجوده في الأسواق لا بد منه فالسلم عند الحنفية لا بد أن يكون في إبان وجود المسلم فيه، فلو كان المسلم فيه موجودا عند العقد وغير موجود عند حلول الأجل لا يجوز السلم، وهذا محل اتفاق، وكذلك لا يجوز السلم عند الحنفية إذا كان المسلم فيه موجودا عند حلول الأجل، ولكنه غير موجود عند العقد، أو كان موجودًا عند العقد وعند حلول الأجل، لكنه انعدم فيما بين ذلك. كل هذه عندهم تفسد العقد. وينبني على هذا الشرط أن السلم عند الحنفية ليس من بيع المعدوم، وإنما هو من بيع ما ليس مملوكا للبائع. عند الجمهور قد يكون من بيع المعلوم وقد يكون من بيع ما ليس مملوكا للبائع، أما عند الحنفية فهو من بيع ما ليس عند البائع وليس من بيع المعدوم.(9/450)
الشرط الثالث: قبض رأس مال السلم في مجلس العقد.
يشترط في السلم رأس ماله في مجلس العقد، فلو تفرق المتعاقدان قبل التسليم بطل العقد، وهذا رأي جمهور الفقهاء.
المالكية يجوزون تأخير قبض رأس مال السلم إلى ثلاثة أيام. ويرى الغزالي أن الغرض من الشرط جبر الغرر في الجانب الآخر، ويريد من ذلك كما يقول الرافعي: أن الغرر في المسلم فيه احتمل للحاجة فجبر ذلك بتأكيد العوض الثاني بالتعجيل لئلا يعظم الغرر في الطرفين. وجهة نظر الشافعية في هذا، هذا الكلام متمش مع الرأي القائل: إن السلم عقد غرر جوز للحاجة. ويبدو لي أن هذا الشرط ليس الغرض منه تخفيف الغرر لأنه غرر في مجرد التأجيل، وإنما هو شرط يتفق مع طبيعة عقد السلم والحاجة التي شرع من أجلها، وهي احتياج المسلم إلى المسلم إليه إلى المال قبل حصوله على المسلم فيه. ولهذا فإني لا أرى ما يمنع تأجيل رأس المال إلى أجل قريب أو بعيد بشرط أن يكون أقل من أجل المسلم فيه وهذا الرأي له سند من المذهب المالكي؛ لأن المالكية كما قلنا يرون أن التأخير إلى ثلاثة أيام لا يضر ولو كلن مشروطا في العقد ما لم يكن السلم قريبا كيومين.
يتفرع على هذا الشرط بعض المسائل منها:
قبض رأس المال وتأخير بعضه. هل يصح هذا لا؟
إذا قبض المسلم إليه بعض رأس مال السلم ثم تفرقا، صح العقد في المقبوض، وبطل فيما لم يقبض عند الحنفية والشافعية وعلى الصحيح في مذهب الحنابلة، ويبطل في الجميع في رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب المالكية، والأولى إتباع مذهب الحنفية في هذا لأنه لا وجه لبطلان الجزء الذي قبض.(9/451)
يتفرع أيضا على هذا الشرط: جعل الدين رأس مال السلم.
فإذا كان لرجل في ذمة آخر دين، فجعله رأس مال سلم، لم يصح. وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ من أهل العلم، منهم مالك والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي.
ولو كان رأس مال السلم بعضه نقدا وبعضه دينا فالسلم في حصة الدين باطل لفوات القبض، ويجوز في حصة النقد.
ويرى ابن تيمية وابن القيم جواز هذه المسألة التي حكى ابن المنذر الإجماع على منعها، على أصل مذهبهما في بيع الدين بالدين، ونقلت لكم كلام ابن القيم في هذا. ورأيي بالنسبة لبيع الدين بالدين هو جوازه مطلقا، أعني سواء بيع للمدين أو لغيره بنقد أو بدين ما دام خاليا من الربا أو شبهة الربا، وأن الصورة المجمع على منعها –التي حكاها الفقهاء-هي ما اشتملت على ربا أو شبهة ربا، ومسألتنا هذه تدخل في بيع الدين بالدين لمن عليه دين، ولا تخلو عندي من الربا أو شبهته، لأن الإقدام على مثل هذا العقد يكون غالبا عندما يكون المدين غير قادر على أداء الدين في موعده أو راغبا في تأجيله، فيعمد إلى جعل الدين رأس مال السلم، ويقبل الدائن لأنه سيحصل في الغالب على أكثر من دينه فيدخل هذا في (أخرني وأزيدك) . لهذا فإني أرى منع هذه المعاملة وبخاصة في تحويل القروض التي تمنحها المصارف الإسلامية إلى عقود سلم ولقد وقفت على فتوى لمؤسسة من المؤسسات بجواز هذه المعاملة بناء على رأي ابن تيمية.(9/452)
يتفرع على هذا الشرط أيضا: اشتراط الخيار في عقد السلم هل يصح أم لا؟ عند الشافعية والحنفية والحنابلة لا يجوز اشتراط الخيار. المالكية لأنهم يجوزون التأجيل أجازوا اشتراط الخيار إلى مدة ثلاثة أيام، واشترطوا فيها بعض الشروط ليس مطلقا هذا. هذه هي الشروط التي يختص بها السلم ورأيت أن أركز عليها، وتجدون في البحوث الأخرى سردا لشروط، بعض البحوث سردتها وبعضها توسع وذكر كل الشروط حتى ما يشترط في السلم وفي غيره لكن رأيت أن أقتصر على هذه الشروط.
الموضوع الذي بعد هذا هو: السلع التي يجري فيها السلم.
وهذه كلها عناوين جاءت من المجمع.
الأصل في السلم أن يكون في الثمار؛ لأنها هي التي جاء ذكرها في الأحاديث الصحيحة، ولكن الفقهاء توسعوا في السلع التي يجوز فيها السلم، والضابط لهذا الموضوع هو: كل مال يجوز بيعه، ويمكن ضبط صفاته، ويثبت دينا في الذمة، يجوز السلم فيه، وكل مال لا يجوز بيعه، أو لا يمكن ضبط صفاته، أو لا يثبت دينا في الذمة، لا يجوز السلم فيه. وقد استخلصت هذه القاعدة من أقوال كثيرة للفقهاء وهم توسعوا في هذا الموضوع وذكروا أصنافا كثيرة ولكل صنف ذكروا ضوابط إلخ. لكن كلها ترجع إلى هذه القاعدة. فالخلاف بينهم يرجع إلى هل: هذه السلعة يمكن ضبطها، أو لا يمكن؟
والواقع مما ذكره الفقهاء أن الأوصاف التي يجب ذكرها في المسلم فيه تختلف باختلاف نوع السلعة، وما نص عليها الفقهاء من الأوصاف التي يجب ذكرها في كل نوع المقصود منه تعيين السلعة المسلم فيها تعيينا يمنع النزاع فيها، بحسب المعروف في زمنهم، فلا يجب علينا الالتزام به في زمننا، ما دامت السلعة قد وصفت بصفة معروفة تميزها عن غيرها، ومن الأمثلة على هذا التي اتفق عليها الفقهاء أن الدور لا يجوز السلم فيها، لكن هذا قد لا يقبل في زماننا، فيمكن للمنازل المصنعة أن تباع سلما؛ لأنه يمكن وصفها مع أن هذا كان مجمعا على فساده في الماضي. وبناء على هذه القاعدة التي ذكرتها فإن السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية (الماركات) المتعددة تعتبر أصنافا متعددة – هذا سؤال ورد في الورقة الخاصة بالسلم – ويشترط فيها ذكر الماركة؛ لأن الماركة هي التي تميزها عن غيرها وهو وصف يترتب عليه اختلاف الثمن والغرض فيجب ذكره.(9/453)
والموضوع الذي بعده هو: اشتراط قبض بضاعة السلم قبل بيعها، والتي هي بيع المسلم فيه قبل القبض، وهي مسألة الخلاف فيها واسع.
قال ابن قدامة تعليقا على المنع: (أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن؛ ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يجز بيعه.)
قلت: الخلاف في تحريم بيع المسلم فيه قبل قبضه موجود، فقد منع المالكية بيع المسلم فيه قبل قبضه إذا كان طعاما، وجوزوا بيعه قبل قبضه إذا لم يكن طعاما سواء باعه من المسلم إليه أو من غيره، إلا أنه إذا باعه من المسلم إليه قبل الأجل فلا يجوز أن يبيعه بأكثر من الثمن الذي اشتراه به، وإنما يبيعه بمثل الثمن أو بأقل، ويقبض الثمن، وأما إذا باعه من غير المسلم إليه فيجوز بيعه بأكثر من الثمن أو بأقل منه أو بمثله إذا قبض الثمن. ونقلت لكم عبارة عن المدونة تؤدي هذا الكلام، هذا هو مذهب الإمام مالك، وما ذكره ابن قدامة من تحريم بيع المسلم فيه قبل قبضه هو رأي الجمهور وليس إجماعا، وهو الراجح عندي الذي ينبغي العمل به بالنسبة لبيع المسلم فيه من غير بائعه؛ لأنه هو الذي تدل عليه الأحاديث الواردة في بيع ما لم يقبض. والبيع من غير بائعه أما بيعه من بائعه فسيجيء الكلام عنه.
والعلة في تحريم بيع السلعة قبل قبضها هي:
الربا، والغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم، والعلة الثالثة أن المسلم فيه قبل قبضه من ضمان البائع ولا يدخل في ضمان المشتري إلا بالقبض، فبيعه قبل قبضه يدخل في النهي عن ربح ما لم يضمن، وقد أشار المغني إلى هذه العلل الثلاث.
بعد هذا الكلام عن المراد بالقبض ولا بد من ذكره لأنه انبنى عليه جواب عن سؤال.
اختلف الفقهاء في المراد بالقبض فيما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر (المنقول) وهذا السلم لا يكون إلا في المنقول، والذي أرجحه هو أن المنقول إذا كان مقدرا فقبضه يكون باستيفاء قدره، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، وإذا كان جزافا فقبضه بنقله من مكانه، وهو مذهب الحنابلة ورواية عند المالكية، وفيما عدا المقدر والجزاف يكون القبض بما يعتبره العرف قبضا، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وذلك عملا بالأحاديث المصرحة بالأمر بالكيل فيما بيع بالكيل، والأحاديث المصرحة عن بيع الجزاف حتى ينقل، وعملا بالعرف فيما لم يرد فيه نص.(9/454)
ويتضح من هذا أنه لا يغني عن القبض التحقق من قدرة المسلم إليه على توفير السلعة عند حلول الأجل، ولا التأمين على السلعة المسلم فيها، ولا في وجودها في مخازن عمومية منظمة؛ لأن قدرة المسلم إليه على تسليم السلعة عند حلول الأجل شرط لصحة عقد السلم، فلو كان المسلم إليه غير قادر على التسليم أو شاكا فيه لا يجوز العقد من الأصل. ووجود السلعة في مخازن عمومية منتظمة محقق للقدرة على التسليم ولكنه ليس قبضا.
والتأمين على السلعة ضرب من الضمان وليس قبضا، ثم إن علة منع بيع المسلم فيه قبل قبضه ليست هي احتمال عدم القدرة على تسليمه وحدها، حتى يقال: إذا انتفت العلة بتحقق القدرة على التسليم ينتفي المانع ويصح البيع، فهناك علة الربا وعلة عدم دخول السلعة في ضمان المشتري.
مسألة أخرى هي: الاستبدال بالمسلم فيه، أو بيع المسلم فيه إلى المسلم.
لا يجوز عند الحنفية والشافعية والحنابلة ويأخذ المسلم غير ما أسلم فيه بدلا عنه قبل أن يقبضه. ونقلت في هذا نقولا هي بين أيديكم وهي عن السمرقندي وابن قدامة والنووي كل هؤلاء يمنعون. ويجوز عند المالكية قضاء المسلم فيه بغير جنسه، سواء أكان القضاء قبل الأجل أو بعده بشروط ثلاثة هي:
الشرط الأول: أن يعجل البدل المدفوع لئلا يكون من فسخ الدين في الدين، وهم يمنعون هذا.
الشرط الثاني: ألا يكون المسلم فيه طعاما، ليسلم من بيع الطعام قبل قبضه، وهذا يمنعه المالكية أيضا.
الشرط الثالث: أن يكون سلم رأس المال في الموضوع من غير الجنس صحيحا.
يتضح من هذا أن المانعين للاستبدال، وهم الحنفية والشافعية والحنابلة، اعتمد بعضهم على حديث: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ، وهذا مما استدلوا به، واعتمدوا جميعا على أن الاستبدال بيع للمبيع قبل قبضه، وبيع المبيع قبل قبضه لا يجوز، ولا فرق عندهم بين بيعه من بائعه أو من غيره.
والمالكية المجوزون للاستبدال ساروا فيه على رأيهم في بيع المبيع قبل القبض، فأجازوه في غير الطعام بشرط تعجيل البدل، وصلاحيته لأن يكون مسلما فيه لرأس مال السلم. وأرى جواز الاستبدال، سواء أكان المسلم فيه طعاما، أم غير طعام، بشرطين:(9/455)
الشرط الأول: أن يكون البدل صالحا لأن يجعل مسلما فيه لرأس مال السلم، لأن البدل سيحل محل المسلم فيه، فيشترط فيه ما يشترط في المسلم فيه.
الشرط الثاني: ألا يكون البدل أكثر من المسلم فيه لئلا يربح المسلم مرتين كما يقول ابن عباس. وهذا الرأي متفق مع رأي ابن عباس ومع رأي المالكية في غير الطعام مع إسقاط شرط تعجيل البدل، لأني لا أرى مانعا من التأجيل ما دام المسلم لن يأخذ أكثر من المسلم فيه. ولكنه مخالف لرأي الجمهور مخالفة واضحة، وسبب اختلافي مع الجمهور هو أن الدليلين اللذين اعتمد عليهما الجمهور غير مقبولين عندي.
فالدليل الأول – وهو الحديث الذي أورده الحنابلة لم تثبت صحته، فلا يحتج به.
والدليل الثاني، وهو كون الاستبدال بيعا للمبيع قبل قبضه المنهي عنه، غير مسلم به؛ لأن استبدال غير المسلم فيه بالمسلم فيه ليس بيعا، ولو سلمنا بأنه بيع، فلا نسلم بأنه بيع للمبيع قبل قبض المنهي عنه، لأن بيع المبيع قبل قبضه المنهي عنه هو بيعه من غير بائعه، لأن هذا هو الشأن في البيع، والاستبدال، على تسليم أنه بيع، هو بيع للمسلم فيه من بائعه. إن العلل الثلاثة التي ذكرها الفقهاء للمنع من بيع المسلم فيه قبل قبضه لا تتحقق في الاستبدال الذي أجزته، فعلة الربا، وعلة ربح ما لم يضمن لا تتحقق إلا في البيع بأكثر من الثمن الأول، وهذا هو الشأن في بيع المبيع من غير بائعه، ومع هذا فقد اشترطت في الاستبدال ألا يكون البدل لكثير من المبدل –المسلم فيه-وأما علة الغرر فغير متصورة في الاستبدال.
وزيادة على هذا فإنه قد تكون هناك حاجة إلى هذا الاستبدال، وبخاصة بالنسبة للمزارعين، فقد يصعب على المزارع الحصول على ما تعاقد عليه، ويكون عنده غيره، وقد حدث هذا مرارا عندنا في السودان، بين بعض المزارعين والبنوك التي تتعامل بعقد السلم، واستفتيت فيه، فأفتيت بجواز الاستبدال.(9/456)
السلم المتوازي:
هذا اصطلاح حادث المراد به –كما جاء في مخطط المجمع-استخدام صفقتي سلم متوافقتين دون ربط بينهما.
وواضح من المصطلح أنه لا يوجد ربط لفظي في العقد بين السلمين، ولكن الربط حاصل في الواقع؛ لأن رب السلم الأول يبيع سلعة لرب السلم الثاني بنفس المواصفات والمقدار، وإلى نفس الأجل الذي سيتسلم فيه السلعة التي أسلم فيها، وفي نيته أنه سيتسلمها من المسلم إليه، ويسلمها إلى من تعاقد معه، ولكنه لا يصرح بهذه النية، ويبرم عقد سلم ظاهره الاستقلال عن العقد الأول، وباطنه الربط بينهما.
وفي رأيي أن هذا السلم المتوازي هو حيلة لبيع المسلم فيه قبل قبضه، فهل هذه الحيلة مقبولة شرعا؟
هذه الحيلة لا تتحقق فيها علتان من ثلاث العلل التي ذكرها الفقهاء لمنع بيع المسلم فيه قبل قبضه:
أولا:
لا تتحقق فيه علة دخول بيع المسلم فيه قبل قبضه في ربح ما لم يضمن المنهي عنه؛ لأن المسلم فيه دين في ذمة المسلم إليه فهو في ضمانه. ولا يؤثر في هذا نية المسلم إليه في أن يؤدي هذا الدين من السلم الأول، وهذا شبيه بالمزارع الذي يبيع سلما في ذمته من غير أن يربطه بمحصول أرضه، وفي نيته أن يوفى من محصوله. هذا لا يضر.
ثانيا:
ولا يتحقق فيه –أيضا-علة الغرر، لأن المسلم إليه لا يبيع عين السلعة التي اشتراها من المسلم إليه الأول، وإنما يبيع سلعة موصوفة في الذمة تتوافر فيها شروط المسلم فيه.
ولكنها لا تخلو من علة الربا التي أشار إليها ابن عباس بقوله: ((ذاك بدراهم والطعام مرجأ)) ، وبخاصة إذا اتخذ هذا الأسلوب من السلم المتوازي بقصد التجارة والربح. وتكرر السلم المتوازي للمعاملة الأولى، ويدخله مانع آخر هو الضرر الذي يصيب المستهلك من ارتفاع سعر السلعة قبل أن تصل إليه بسبب انتقالها لأكثر من تاجر.
ولهذا فإني أرجح منع هذه المعاملة، إلا إذا احتاج رب السلم الأول إلى نقود قبل أن يحل أجل السلم، ولم يجد من يقرضه فيجوز له في هذه الحالة أن يلجأ إلى السلم المتوازي، بل يجوز له إذا كان المسلم فيه غير الطعام أن يبيعه قبل قبضه ليقضي حاجته عملا بمذهب المالكية. الذي رجحته رأي الجمهور.(9/457)
إصدار سندات سلم قابلة للتداول:
لا يجوز عندي إصدار سندات سلم قابله للتداول؛ لأن هذا سيؤدي حتما إلى بيع المسلم فيه قبل قبضه، سواء أكان المسلم فيه طعاما، أم غير طعاما، غير أنه إذا كان المسلم فيه طعاما، فالمنع يكون بإجماع الفقهاء، للأحاديث الصحيحة الواردة في منع بيع الطعام قبل قبضه، وإذا كان المسلم فيه غير طعام فقد رأينا أن الجمهور يمنعون بيعه قبل قبضه، ولو كان لمرة واحدة فكيف إذا تداولته الأيدي؟ أما المالكية فإنهم يجوزون للمسلم أن يبيع المسلم فيه قبل قبضه إذ لم يكن طعام مرة واحدة ولكنهم لا يجوزون لمن اشتري منه أن يبيع ما اشتراه قبل قبضه، وهذا لم يقل به أحد. فإصدار سندات سلم قابله للتداول لا يجوز عند جميع الفقهاء في رأيي.
عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الأجل في السلم ومشروعية الشرط الجزائي من تأخير تسليم البضاعة:
إذا عجز البائع (المسلم إليه) عن تسليم البضاعة (المسلم فيه) عند حلول الأجل، فإن كان عجزه عن التسليم سببه عدم وجود المسلم فيه عند حلول الأجل، فإن المشتري (المسلم) يخير بين الانتظار إلى أن يوجد المسلم فيه، وفسخ العقد وأخذ الثمن (رأس مال السلم) .
هذا هو مذهب الحنفية، وقول ابن القاسم من المالكية وقول عند الشافعية وهناك أقوال في هذا لا داعي لها. المسلم إليه فالواجب انتظاره إلى الميسرة، والخير في التصدق عليه. وأما إن كان عدم التسليم سببه امتناع المسلم إليه عن التسليم مع يساره فإن حكمه هو حكم المدين المماطل الذي أصدر فيه مجمع الفقه الإسلامي القرار التالي:
يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعا اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.
وإذا كان اشتراط التعويض لا يجوز، فإن الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم البضاعة (المسلم فيه) في بيع السلم، لا يجوز من باب أولى. وقد أجاز هذا بعض الإخوة الذين قدموا بحوثهم في هذا.(9/458)
ننتقل إلى النقطة الأخيرة وهي:
تطبيقات السلم المعاصرة:
وهذه المسألة لم أجد من كتب فيها ممن اطلعت على بحوثهم.
عقد السلم يمكن أن يطبق في مجالات عديدة، ويكون بديلا شرعيا للتمويل بالقرض بالفائدة في كل المجالات التي يحتاج فيها إلى التمويل في المجال الزراعي، والصناعي، والتجاري، ويحقق مصلحة الممول – المسلم إليه – بإمداده بالمال اللازم له في زراعته، وصناعته، وتجارته، ويحقق مصلحة الممول – المسلم – في الحصول على المنتجات الزراعية والصناعية والتجارية بأثمان رخيصة ومشروعة، تمكن من الربح الحلال، وفي تحقيق مصلحة الممول. وللممول تحقيق لمصلحة المجتمع بتشجيع الزراعة والصناعة والتجارة التي تعود على الناس جميعا بالنفع، وتخليص المجتمع من الأضرار التي تصيبه من التعامل بالربا، وسد حاجة الناس جميعا لهذا التعامل، وهذه هي الحكمة من مشروعية عقد السلم: يقول ابن قدامة في هذا المعنى (ولا بالناس حاجة إليه – السلم – لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكتمل، وقد تعوزهم النفقة، فجوز لهم السلم ليرتفقوا، ويرتفق المسلم بالاسترخاص) .
هذا وتستطيع البنوك الإسلامية أن تتعامل بعقد السلم في مجال الزراعة والصناعة والتجارة وجميع المجالات التي يحتاج فيها المتعامل معها إلى تمويل، ولكن الواقع أن البنوك الإسلامية لم تطبق صيغة السلم في استثماراتها – وبخاصة عندنا في السودان – إلا في المجال الزراعي، ولهذا سيكون حديثي عن هذه المسألة خاصا بتطبيق البنوك الإسلامية لعقد السلم في مجال الزراعة.
تعامل السودانيون بعقد السلم في مجال الزراعة قبل وجود البنوك، وكان يسمى عندنا (الشيل) فكان التجار يشترون من المزارعين المحتاجين إلى المال قبل الزراعة، ويدفعون ثمن ما يشترونه مقدما، ولما قامت البنوك أخذت تمول المزارعين بطريق القرض بفائدة، فتعامل معها بعض المزارعين وامتنع البعض، واستمروا في التعامل مع التجار وكانت معاملة بعض التجار للمزارعين لا تخلو من استغلال لحاجتهم، فتدخلت الدولة، وسنت قانونا يجيز للمزارع رفع الأمر إلى القضاء لتعديل السعر في حالة الاستغلال.
وعندما منعت البنوك التعامل بالفائدة، وكان من بين تلك البنوك البنك الزراعي، وهو بنك حكومي متخصص، وهو الممول الأول للمزارعين، طلب من هيئة الرقابة الشرعية البديل فقدمت له عقد السلم التالي: الذي أصبح نموذجا لسائر البنوك، نموذج العقد موجود في بحثي.
النقطة الأخيرة وهي:(9/459)
المشاكل التي تصاحب التعامل بعقد السلم:
لعل أهم مشكلة تعترض التعامل بعقد السلم هى تحديد الثمن، ففي التعامل بين التاجر والمزارع يوجد احتمال استغلال التاجر لحاجة المزارع، وهذا الاحتمال غير وارد في حالة تعامل البنك الإسلامي مع المزارع، لأن السعر تحدده لجنة من اتحاد المصارف واتحاد المزارعين، ولكن مع هذا قد يرتفع السعر عند حلول الأجل، فيقع نزاع بين الطرفين، وقد حدث هذا بالفعل أكثر من مرة، فعالجته هيئة الرقابة الشرعية بإدخال البند الثامن في عقد السلم –بند إزالة الغبن-الذي وافق عليه المزارعون والبنوك.
والمشكلة الثانية هي مشكلة عدم تمكن المزارع من الوفاء بالتزاماته بسبب شح المحصول وقد وضع علاج لهذا البند السابع في عقد السلم لحلها.
والمشكلة الثالثة هي عدم وفاء المزارع بالتزاماته مع يساره، ومقدرته على الوفاء، ولكنه يتعلل بعلل غير شرعية، مثل قلة محصول مزرعته، وقد وضعت الهيئة البند الخامس والسادس في العقد مثل هذه الحالات، ولكن البنوك لا تستطيع في كثير من الحالات العمل بهذين البندين لأن المزارع لا يكون عنده رهن ولا ضامن.
وعلى أي حال التجربة مستمرة في السودان على الرغم من شكاوى بعض البنوك من مماطلة بعض المزارعين.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/460)
الرئيس:
شكرا، والشيخ نزيه حماد في دراسته تعرض للتطبيقات المعاصرة لبيع السلم، فلعله يتفضل.
الشيخ نزيه كمال حماد:
بسم الله الرحمن الرحيم،
لن أتعرض للجانب الفقهي الذي تكلم عنه باستفاضة فضيلة الشيخ الصديق الضرير وسأقتصر على الكلام عن التطبيقات المعاصرة لعقد السلم، ولكن باعتبار أن هناك أمرا جوهريا بنيت عليه بعض التطبيقات وأخالف فيه فضيلة الشيخ بصورة جذرية لا بد أن أنوه إلى مخالفته في رأيه في عدم جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه والاعتياض عنه، وذلك أني أرى جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه بغير المدين وهو رأي الإمام ابن تيمية وابن القيم، حيث إنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس كما يقول ابن القيم، بل إن النص والقياس يقتضيان الإباحة.
والأمر الثاني، قضية السلم الموازي فلست أرى أي مستند شرعي يعول عليه في منع تحريم السلم الموازي كما قال فضيلة الشيخ الضرير.
أما قضية التطبيقات المعاصرة لعقد السلم فمن المعلوم أن هذا العقد كما كان بالغ الأهمية كباب من المداينات في العصور التي خلت والأزمان التي سلفت، فإنه يعد في عصرنا الحاضر أداة تمويل (ائتمان) ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي وفي نشاطات المصارف الإسلامية من حيث مرونتها، واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة سواء أكان تمويلا قصير الأجل أو متوسطة أو طويلة واستجابتها لحاجات شرائح مختلفة من العملاء، سواء أكانوا من المنتجين الزراعيين أو الصناعيين أو المقاولين أو من التجار، واستجابتها إلى تمويل نفقات التشغيل والنفقات الرأسمالية الأخرى.
وعلى هذا فمجالات تطبيق العقد متعددة، فهو يصلح للقيام بتمويل عمليات زراعية مختلفة، حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقعون أن تتوفر لهم السعادة في الموسم من محاصيلهم أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها ويسلموها إذا أخفقوا في التسليم من محاصيلهم، فيقدم لهم بهذا التمويل نفعا بالغا ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم.
كما أنه يمكن استخدامه في تمويل النشاط التجاري والصناعي، ولا سيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة، وذلك بشرائها سلما وإعادة تسويقها بأسعار مجزية.(9/461)
وكذلك يمكن تطبيقه في تمويل الحرفيين وصغار المنتجين الزراعيين والصناعيين عن طريق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات وآلات، أو مواد أولية كرأس مال سلم مقابل الحصول على بعض منتجاتهم وإعادة تسويقها.
كذلك يمكن استخدامه في تمويل تجارة خارجية، وذلك بقيام المصرف الإسلامي بشراء المواد الأولية من المنتجين سلما، ثم إعادة تسويقها عالميا بأسعار مجزية إما نقدا أو بجعل هذه الصادرات رأس مال سلم من أجل الحصول في مقابلها على سلع صناعية أو غير ذلك.
ويمكن أيضا اللجوء إليه في تمويل الأصول الثابتة كبديل للتأجير التمويلي، حيث يقوم المصرف بتمويل الأصول الثابتة اللازمة لقيام المصانع الحديثة أو لإحلالها في المصانع القديمة القائمة وتقديم تلك الأصول كرأس مال سلم مقابل الحصول على جزء من منتجات تلك المصانع على دفعات وفقا لآجال تسليم مناسبة. ولا يخفى أن خاصية عقد السلم وهي كونه عقد على موصوف في الذمة منضبطا بالمواصفات المحددة طبقا لمقاييس دقيقة معروفة تجعل نطاقه شاملا للمنتجات الزراعية كالحبوب والزيوت والآليات، والمنتجات الصناعية كالحديد والإسمنت والسيارات والطائرات، ومنتجات المواد الخام أو نصف المصنعة كالنفط والكلينكر وغيرها.
ويمكن للمسلم –أي المشتري-فيما بين تاريخ عقد السلم وتاريخ قبض المسلم فيه أن يكون مسلما إليه –أي بائعا-في سلعة مماثلة وبشروط مماثلة لشرط عقد السلم الأول الذي أبرمه أو بشروط معدلة وهو ما يعبر عنه بالسلم الموازي.
أما عن الأمثلة والصيغ التطبيقية المعاصرة فإليكم الصور التالية:(9/462)
الصورة الأولى:
يوجد مصنع ياباني لسحب وتشكيل قضبان الحديد يحتاج إلى تمويل لشراء كتل الحديد اللازمة ويحصل عادة على التمويل اللازم من البنك بفائدة بأجل يمتد حتى تاريخ تسويق منتجاته. ففي مثل هذه الحال يقوم المصرف الإسلامي بعرض التمويل اللازم على أساس عقد السلم، فيأخذ مقابل التمويل المنتجات المصنعة من منتجات الحديد، ويتبرمج مواعيد وأمكنة التسليم، ويتفق مثلا أن يكون التسليم في ميناء التصدير أو ميناء الاستيراد، وفيما بين تاريخ إبرام العقد وتاريخ التسليم يمكن للمصرف الإسلامي أن يجري عقدا أو عقود سلم مع مستثمرين آخرين يكون المصرف فيها في موقف المسلم إليه (أي البائع) حيث يلتزم بتوريد قضبان حديد مماثلة لقضبان الحديد التي أبرم عقد السلم عليها من المصنع، وذلك بشروط مماثلة لعقده مع مصنع أو بشروط معدلة. كما يمكن للمصرف بدلا عن ذلك أن ينتظر حتى يتسلم القضبان، فيبيعها للموردين في البلد المستورد أو لتجار التجزئة بثمن حال أو مؤجل.
وعلى العكس من الصورة السابقة يمكن أن يسبق زمنيا عقد السلم الذي يبرمه المصرف مع المستثمرين ويكون فيه مسلما إليه ملتزما بعقد السلم الذي أبرمه المصرف مع المصنع الياباني وكان المصرف فيه في موقف المسلم –أي المشتري-ويمكن للمصرف التوغل إلى مرحلة سابقة بأن يقوم بإبرام عقد سلم مع مصنع للصلب ينتج كتل الحديد يحتاج لتمويل شراء خام الحديد حيث يقوم المصرف بالتمويل النقدي في مقابل الحصول على كمية مناسبة من كتل الحديد يتم بيعها لمصنع القضبان.(9/463)
الصورة الثانية:
يحتاج مصنع إسمنت الجنوب –مثلا-إلى تمويل نفقات التشغيل فيتقدم المصرف الإسلامي بعرض التمويل في نظير أخذ كمية مناسبة من الإسمنت يتفق على تسليمها في موعد واحد أو مواعيد مختلفة في مكان المصنع أو في مواضع أخري، فإذا احتيج إلى تدرج التدفق النقدي بالنسبة للمصنع فيمكن بدلا من إبرام عقد واحد إبرام عقود متعددة لهذا الغرض، وفي الوقت نفسه بين تاريخ تقديم التمويل وتاريخ التسليم يمكن للمصرف الإسلامي إبرام عقود سلم مع المقاولين مباشرة، أو مع مستثمر وسيط، يكون محلها إسمنتا مصنعا بمواصفات الإسمنت الذي تعاقد المصرف مع المصنع على شرائه بعقد السلم، كما يمكن للمصرف الانتظار حتى يتسلم من المصنع الإسمنت الذي التزم به فيبيعه للمقاولين بثمن ناجز أو مؤجل.
وعلى العكس من الصورة السابقة يمكن أن يسبق زمنيا عقد السلم الذي يكون المصرف فيه مسلم إليه-أي بائعا للإسمنت-عقد السلم الذي يبرمه المصرف مع المصنع ويكون المصرف فيه مسلما، أي مشتريا.
وهناك تفصيلات أخرى حول هذه الطريقة الثانية في استخدام عقد السلم نفصل بيانها في الصورة الثالثة الآتية:(9/464)
الصورة الثالثة:
يمكن تطبيق عقد السلم بتمويل شراء المصرف للسلع التي تنتجها المصانع المحلية ثم قيامه ببيعها من خلال الوسطاء الذين يتولون أمر توزيعها حاليا وفي السوق الداخلية،ويقتضي تطبيق هذا الاقتراح أن يختار المصرف بعناية السلع التي سيتعامل بها بحيث تكون مما يقبل التخزين مدة ملائمة مع تحديد سعر شراء البنك لها على نحو يأخذ بالحسبان الدورة الزمنية المعتادة لتصريفها، وكذلك نفقات التخزين ونحوها من التكاليف، وكذا تقلبات الأسعار المعتادة في تلك السلع. وفي الوقت الذي يدخل فيه المصرف بعقد سلم لشراء السلع يدخل بعقود مع الوسطاء الموزعين لتلقي السلع نيابة عن المصرف وتخزينها لديهم ثم بيعها لحساب المصرف، ويمكن للمصرف أن يتفق مع أولئك الوسطاء على أن يبيعوا السلع لأجل مع أخذ الضمانات اللازمة للدين، وبذلك يكون المصرف قد استخدم أمواله في تمويل شراء السلع سلما بأسعار منخفضة نسبيا ثم بيعها بعد قبضها لأجل بأسعار مرتفعة نسبيا، وهذا التمويل يحيط بالسلعة من الجانبين، عقد سلم للشراء ثم عقد بيع لأجل للتسويق، ويتيح المصرف مجالا واسعا لاستثمار موارده.
الصورة الرابعة:
يمكن للمصرف الإسلامي أن يعقد سلما مع شركة منتجة للنفط -ولنفرض أرامكو السعودية مثلا-تلتزم بموجبه تلك الشركة بتسليم كمية محددة من النفط الموصوف في الذمة بتاريخ معين على الناقلة الراسية في ميناء التصدير برأس تنورة، ويمكن للمصرف بين تاريخ إبرام عقد السلم مع دفعه الثمن حالا والتاريخ المتفق عليه لتسليم النفط أن يبرم عقود سلم موازية مع المستهلكين مباشرة أو مع مستثمر وسيط، يكون محل التزام المصرف في تلك العقود نفطا مماثلا في مواصفات وبشروط مماثلة أو معدلة. ويمكن للمصرف الانتظار حتى يتسلم النفط –أي المسلم فيه-ثم يبيعه للمستهلكين أو لمن يشاء بثمن ناجز أو مؤجل.(9/465)
الصورة الخامسة:
يشتري المصرف الإسلامي كمية من الإسمنت –مثلا-على أساس عقد سلم -كما بيناه-ويتضمن العقد أن يضع المصنع كمية الإسمنت بعد إنتاجها بسعر ناجز أو مؤجل لا يقل عن المقدار الذي يحدده المصرف، ويمكن للمصرف أن يجعل للمصنع أجرة على البيع مبلغا محددا أو نسبة من ثمن المبيع، ويمكن أن يكون للبيع المشار إليه نقدا، كما يمكن للمصرف أن يأخذ للمصنع بأن يبيع لأجل بشروط يرتضيها المصرف ومنها أخذ ضمانات كافية للوفاء بالثمن. ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن من حق المسلم في الصور السابقة كلها، حتى يطمئن إلى وفاء دين السلم المسلم فيه عند حلول أجله، أخذ رهن أو كفالة به وفقا لقول جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية وبعض محققي الحنابلة وغيرهم كما هو مبين في بحثي الذي هو بين أيديكم.
وليس بخاف أنه حيثما ذكر عقد السلم فإنه مأخوذ في الاعتبار التقيد بالشروط الشرعية للعقد، ومن أهمها فورية دفع الثمن حيث تسليم رأس المال، حيث إنه يحول عمليا دون استغلال عقد السلم لاتخاذه حيلة للتوصل للتمويل بالفائدة الربوية.
أما الصورة السادسة والأخيرة:
وهي إحدى الوسائل المقترحة لتمويل العجز في ميزانية الدولة، وذلك بأن تبيع الدولة المنتجة للنفط مثلا كميات موصوفة في الذمة إلى آجال عديدة بأثمان معجلة بحيث يكون للمسلم –المشتري-في الفترة ما بين تاريخ عقد السلم وتاريخ قبض المسلم فيه:
أن يعقد سلما موازيا فيصير مسلما إليه، وذلك بأن يبيع سلما كمية مماثلة للنفط الذي أسلم فيه القدر والزمن وسائر الأوصاف لطرف ثالث بثمن معجل يزيد على ما اشترى به في السلم الأول، وبذلك يحقق ربحا من مجموع العمليتين ثم تتم تسوية الصفقتين دون ربط بينهما عن طريق التوافق في الكميات والأوصاف والمواعيد. وشكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/466)
الدكتور/ عطا السيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك، أشكر فضيلة الصديق الضرير على هذا العرض الضافي الجامع للآراء.
تكلمت في بحثي عن الاستفادة من عقد السلم في وقتنا الحاضر وقلت:
أولا: اشتهر عالمنا اليوم بالصناعات والتطور الهائل في التكنولوجيا، فمعظم الشركات تصنع أشياء وتعرضها للبيع في الأسواق ولكن في كثير من الأحيان تطلب بعض الدول أو بعض المؤسسات الكبيرة أشياء معينة بمواصفات معينة لأغراض معينة، وكثير من الشركات قد تطلب الثمن مقدما لتستعين به في إتمام ما طلب عمله فيدفع الثمن على أن يصنع الشيء كما وصف تماما، هذا هو السلف في الصناعات، ويصح ويلزم إذا انطبقت عليه الشروط التي ذكرتها في بحثي.
وفائدة عقد السلم في الصناعات إذا خلا من الشروط الفاسدة تعظم جدا إذا علمنا أن الخلاف بين الفقهاء كبير في لزوم عقد الاستصناع أو عدم لزومه، وعقد السلم في الصناعات لازم بغير خلاف ... في الأسواق والمخازن أو التأكد من قدرة المسلم إليه من تسليمها أو التأمين عليها.
ومن الوسائل التي اختلف فيها –أيضا-أخذ المسلم رهنا، ولم أجد نصا يمنع ذلك بل لعل في قوله تعالى في آية الدين التي ذكرت تأكيدا لهذه المسألة. فكمقرر أرجو من الإخوة العلماء أن يولوا هذه المسائل المختلفة بالذات: (السلم الموازي) الجهد اللازم لهذه المسألة حتى تستبين الصورة في أذهاننا وأن يقعدوها التقعيد اللازم حتى نستطيع أن نصدر فيها قرارا سليما، وأراه من المسائل المعاصرة التي تحتاج إلى قرار من مجمعنا هذا إن شاء الله. وبالله التوفيق والهداية.(9/467)
الدكتور سعود الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
عدة نقاط سريعة سوف أتكلم فيها مما أثاره فضيلة الشيخ الصديق (العارض) .
أولى هذه المسائل أو النقاط هي السلم في الحال. حيث ذكر أن السلم في الحال يصح عند الشافعية ولا يصح عند غيرهم. وفي الحقيقة هذه مسألة مبنية على قاعدة معروفة ومعلومة هي: (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني وليست للألفاظ والمباني) .
الأمر الثاني: تأجيل رأس المال إلى أجل أقل من أجل المسلم فيه هذه مسألة –في الحقيقة-مهمة ويمكن التريث فيها خصوصا في المسائل التي لا استصناع فيها، مسائل السلم الخاصة والبحتة، أما مسائل الاستصناع فهذه ينبغي التمييز بينها وبين مسائل السلم. فإن تأجيل رأس المال إلى أجل أقل من أجل المسلم فيه وما ذكر عن المالكية بأنهم يجيزون تأخير رأس مال السلم إلى ثلاثة أيام، هذا في الحقيقة مخالف للدليل الصحيح وهو النهي عن بيع الدين بالدين، وهذا نهي عام لا تخصيص فيه لهذه الصورة خاصة؛ لأن الثمن أصبح مؤجلا والمبيع مؤجلا وهذه من صور الدين التي يظهر لي أنها متفق عليها.
الأمر الثالث: جواز الاستبدال للمسلم فيه بغيره. النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: ((من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) . وكذلك نهي عن بيعتين في بيعة، وإذا استبدل المسلم فيه بشيء آخر فقد صرف إلى غيره وقد حصل بيعتان في بيعة وكلا الأمرين ممنوع.
الأمر الرابع: السلم الموازي، يقول فضيلة الشيخ الضرير: (إنه إذا احتاج المسلم إلى نقود يجوز له بيع المسلم فيه قبل قبضه.) وفي الحقيقة يعتبر هذا من بيع ما لم يضمن، والربح فيما لم يضمن، وكذلك هو من بيع الدين قبل قبضه. أمر مهم في الحقيقة ينبغي علينا ونحن في هذا المقام وهو التفريق بين مسائل الاستصناع ومسائل السلم. والمجمع الموقر في دورته السابعة قد ميز بين الأمرين وأجاز في أمور الاستصناع أو ما تدخله الصنعة مما يحتاجه المشتري أو يحتاجه التاجر وليس في السوق ما يسد حاجته أو يحقق رغبته إذا كانت تدخله الصناعة أجاز فيه أو أفتى فيه بأنه يجوز الاستصناع سواء دفع رأس المال السلم كله أو جزؤه أو أجل إلى حين التسليم أو على أقساط أو غير ذلك مما أفتى فيه الجمع في تلك الدورة.
الأمر الخامس: مسألة ما إذا كان الدين على المسلم إليه. فضيلة الشيخ ذكر أنه لا يصح جعله رأس مال للسلم، وفي الحقيقة هذه صورة ينبغي أن نحقق وندقق فيها، لأن رأس مال السلم أصبح مقبوضا والنهي إنما هو عن بيع الدين بالدين والنسيئة بالنسيئة، وهذه ليست فها نسيئة وإنما فيها رأس مال للسلم قد أصبح مقبوضا أو هو مقبوض من وقت سابق. فينبغي علينا أن نميز بين هذه الصورة وبين غيرها من الصور التي فيها بيع دين بدين.
وأشكركم على إتاحة الفرصة.(9/468)
الشيخ آدم شيخ عبد الله علي:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده حبيبنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين، أما بعد.
فإن بحثي المتواضع لا يخرج عن ما ذكره الشيخ الفاضل في عرضه سواء كان من حيث التعريف والشروط، وهل السلم على القياس أو على خلاف القياس، وقد ذهبت إلى ما ذهب إليه من أن قول غير الجمهور هو الراجح وقلت أنا بعد التأمل: أميل إلى ترجيح القول الثاني من أن السلم على وفق القياس وليس مستثنى من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم المنهي عنه.
وتكلمت أيضا عن حكم التصرف في بضاعة السلم قبل قبضها، وذكرت أنه لا يجوز لمسلم إليه أن يتصرف في رأس مال السلم ببيع أو غيره قبل قبضه، كما لا يجوز للمسلم أن يتصرف في المسلم فيه قبل قبضه؛ لأنه بيع منقول، والتصرف في بيع المنقول من بائعه قبل القبض لا يصح. وأما من حيث أخذ البدل منه ... وقد ذهب الجمهور كما ذكر الشيخ الفاضل العارض إلى عدم جواز أخذ البدل منه لورود النهي عن ذلك، ولكن أجاز ذلك المالكية، قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: (إذا أسلفت في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا منه ولا تربح مرتين) رواه شعبة. وأما الحديث: ((من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ففيه عطية بن سعد وهو لا يحتج بحديثه، ورجح رأي المالكية ابن القيم، فقال بعد أن ناقش أدلة كل من الفريقين فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة، وذلك إذا كان عقد السلم قائما، وأما إذا انفسخ عقد السلم بإقالة ونحوها فذهب المذهب الشافعي إلى أخذ العوض عن دين السلم من غير جنسه، واختاره أبو يعلى وابن تيمية وقال ابن القيم: وهو صحيح لأن هذا العوض مستقر في الذمة فجازت المعاوضة كسائر الديون من القرض ونحوه.
وذكرت جوابا عن سؤال ورد في موضوع السلم من موضوعات الدورة، هل يغني عن القبض التحقق ... في مخازن عمومية منظمة؟ فذكرت –والله أعلم-أنه لا يغني عن القبض التحقق من قدرة المسلم على توفير السلعة عند حلول الأجل أو التأمين على السلعة المسلم فيها أو وجودها في مخازن عمومية منظمة؛ لأن المراد من القبض القبض الشرعي الذي يفيد التملك بالشيء المقبوض، وأما وجود شيء أو ضمان وجوده فليس قبضا في الشرع، لكن يمكن أن يحصل به شرط من شروط صحة السلم للمسلم فيه الذي هو عموم وجود المسلم فيه من وقت العقد إلى المحل عند الحنفية، أو إمكان وجوده غالبا عند الشافعية. وذكرت بعض السلع التي يجوز فيها السلم ثم أخيرا قلت: (ويجوز السلم في تلك السلع المذكورة وغيرها من أصناف المال إذا اجتمعت فيه شرائط السلم، ووصف كل صنف منها بما يليق من أوصافها مما ينفي الجهالة عنها) . ويقول الشيرازي في المهذب تكملة المجموع: (ويجوز السلم في مال يجوز بيعه) . والله أعلم.(9/469)
الشيخ حسن الجواهري:
بسم الله الرحمن الرحيم، والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين،
وقد نقل الخلاف في صحة بيع الكل الموصوف حالا بين الجمهور والشافعية.
أقول: إن هذا الخلاف إذا كان في خصوص بيع الكل الموصوف حالا على أن يكون سلما، ويوصف بأنه بيع سلم فليس من البعيد أن تكون حجة الجمهور صحيحة في أن عقد السلم لا يصدق إلا إذا كان الثمن مؤجلا، ولكن قد يكون الذي صححه الشافعية وصححه الإمامية –أيضا-هو بيع كل الموصوف حالا وإن لم يسم سلما لأنه بيع؛ وذلك لأن شرط تأجيل الثمن في السلم هو شرط لتحقيق الموضوع والمفهوم. أما إذا لم يكن المثمن مؤجلا فهو بيع مستقل يدخل تحت قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} و {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} .يبقى ما ذكر في قصة حديث: ((لا تبع ما ليس عندك)) ، فقد روي أن حكيم بن حزام كان يبيع الناس أشياء لا يملكها ويأخذ الثمن منهم ثم يدخل السوق فيشتري الأشياء ويسلمها لهم، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: ((لا تبع ما ليس عندك)) .وهذه القصة وإن ثبتت لا بد من تخصيصها في المبيع الشخصي، بمعنى أن حكيم بن حزام كان يبيع أشياء شخصية كانت مملوكة لآخرين فيستلم الثمن ثم يدخل السوق ليشتريها ويسلمها إلى المشتري.(9/470)
والدليل على التخصيص هو ورود الأدلة الكثيرة الدالة على جواز بيع الكل الموصوف المقدور على تسليمه، سواء أكان موجودا عند البائع أو لم يكن موجودا وإن لم يسم سلما، العمومات التي ذكرتها وأدلة خاصة، بالإضافة إلى وجود رواية صحيحة ينقلها ابن الحجاج تكشف عن هذا الخلاف الذي كان موجودا في ذلك الوقت ينقلها عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقوم عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده فيشتريه منه حالا، قال (عليه السلام) : ليس به بأس. قلت –أي الراوي-:إنهم يفسدونه عندنا. قال (عليه السلام) : فأي شيء يقولون في السلم؟ قلت –أي الراوي-:لا يرون فيه بأسا يقولون: هذا إلى أجل فإذا كان إلى غير أجل وليس هو عند صاحبه فلا يصلح. قال الإمام الصادق (عليه السلام) : إذا لم يكن أجل كان أحق به، ثم قال: لا بأس أن يشتري الطعام وليس هو عند صاحبه إلى أجل وحالا لا يسمى له أجلا إلا أن يكون بيعا لا يوجد مثل العنب والبطيخ في غير زمانه، فلا ينبغي شراء ذلك حالا. طبعا هذه الرواية ينقلها الراوي عن الإمام الصادق، والصادق يقول: إنما نقوله عن آبائنا عن رسول الله. ثم إننا إذا لم نشترط مدة معينة لبيع السلم. كما ذهب إليه الصديق الضرير وتركنا تعيين المدة إلى المتعاقدين؛ لأن النص الذي أوجب الأجل في السلم لم يحدد مدة لا من ناحية الكثرة ولا من ناحية القلة بل اشترط أن يكون الأجل معلوما، وحينئذ يصح أن تكون المدة يوما واحدا، وحينئذ يصح أن يبيع البائع ويقبض الثمن ثم يدخل السوق ليشتري السلعة الكلية ليسلمها إلى المشتري، وإذا صح هذا فما هو الفرق بينه وبين من يبيع الكل الموصوف حالا، ورضي أن يسلمه غدا؟ ثم يدخل السوق ليشتريه، لا، ويقدمه إليه. نعم، الفرق في التسمية إذ يسمى الأول بيع سلم والثاني بيعا حالا. إذن بيع الكل الموصوف حالا صحيح على أنه بيع مستقل تشهد له العمومات، عمومات الكتاب، ولا دليل على بطلانه. نعم، ليس سلما ولكن لا دليل على بطلانه على أنه عقد مستقل لأنه النهي عن بيع ما ليس عندك قد خصص للعين الشخصية التي هي ملك الغير، وأبيعها على أن يكون الثمن لي، فإن هذا البيع هو الذي لم يتحقق فيه معنى المعاوضة. سلعة الغير أبيعها لي، لم يتحقق معنى المعاوضة ومفهومها فيكون البيع باطلا.(9/471)
بالنسبة إلى منع اشتراط الخيار في عقد السلم كما ذهب إليه الحنفية والشافعية والحنابلة، منعوا من اشتراط الخيار في عقد السلم، وقد ذكر لهذا الحكم هذه الجملة كدليل: إن إثبات خيار الشرط يؤدي إلى أن يتفرقا قبل تمام قبض العوض. أقول: إن قبول عقد السلم لخيار الشرط لا يؤدي إلى التفرق قبل قبض العوض؛ لأن معنى الخيار هو وجود حق الفسخ للمشروط له، فقد يحصل الفسخ بإعمال هذا الحق، وحينئذ لا يوجد عقد سلم بعد الفسخ، وقد لا يحصل الفسخ نتيجة عدم إعمال هذا الحق، وحينئذ يبقى عقد السلم الذي حصل فيه قبض الثمن بحاله وهو عقد صحيح رغم وجود خيار الشرط، وحينئذ لا ارتباط بين حصول التفرق بعد قبض الثمن وتمامية العقد وكون أن أحد المتعاملين أو كليهما له حق الفسخ. فليس منع خيار الشرط مبنيا على اشتراط قبض رأس مال السلم في مجلس العقد إلا على القول بأن العقد إذا كان فيه خيار لم يكن تاما كما ذهب إليه الشيخ الطوسي من الإمامية ولم يحصل النقل والانتقال وهو أمر ثبت بطلانه، حيث إن الخيار في العقد يجعل العقد جائزا بدل اللزوم، لا أنه لم يحصل فيه النقل والانتقال كما هو واضح، ولعل المؤيد لصحة وجود خيار الشرط مع تمامية عقد السلم حصول القبض قبل التفرق هو وجود خيار الغبن في عقد السلم.
ذكر بعض من الفقهاء حرمة بيع مال السلم قبل قبضه، أو حرمة بيع الطعام قبل قبضه لوجود النهي من قبل النبي (صلى الله عليه وسلم) .
أقول: إن مسألة اشتراط قبض بضاعة السلم قبل قبضها أو اشتراط قبض الطعام قبل بيعه معناه بطلان البيع قبل القبض، وهو حكم وضعي، وصحة البيع بعد القبض أيضا هو حكم وضعي. هذا لا ارتباط له بالحرمة التكليفية حيث إن نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن البيع قبل القبض إرشاد إلى شرطية القبض في البيع، ومع عدم القبض يكون العقد باطلا فقط، لا حرمة تكليفية. وحينئذ إذا بطل العقد يأتي الحكم التكليفي بوجوب إرجاع الثمن إلى صاحبه، فإن لم يرجعه فهو عمل محرم مترتب على بطلان العقد وعدم إرجاع الثمن إلى صاحبه وهذا أمر آخر غير حرمة نفس البيع قبل القبض.(9/472)
بالنسبة لفكرة السلم الموازي، فليست هذه الفكرة هي فكرة حادثة واصطلاح حادث لأننا وجدنا الآثار المروية عن الإمام الصادق (عليه السلام) وهو المتقدم على أئمة المذاهب الأربعة يجيز فكرة السلم الموازي بطريق الحوالة والوكالة في القبض، كما ذكرت ذلك مفصلا في البحث. وفكرة السلم الموازي فكرة صائبة للفرار من بطلان بيع الطعام أو المكيل والموزون أو بضاعة السلم قبل القبض أو قبل الأجل إلى طريقة أخرى جديدة لها أحكامها الخاصة وهي بعيدة عن بيع مال السلم قبل قبضه أو قبل أجله، كما أنها بعيدة عن ربح ما لم يضمن على تقدير القول به، وبعيدة عن الربا الذي نسب القول به إلى ابن عباس القائل: إن هذا عبارة عن بيع دراهم بدراهم، فإننا لا نجد شبهة الربا في السلم الموازي حتى إذا قلنا به في بيع مال السلم قبل قبضه، وبهذا ستكون فكرة السلم الموازي خير طريق لإيجاد أدوات التجارة الرابحة المحللة.
بالنسبة للشرط الجزائي في صورة تأخير البائع في تسليم البضاعة السليمة. كنا قد رأينا في البحث المقدم للمجمع الموقر عدم الفرق بين صحة الشرط الجزائي في الأعمال والبيوع، ولكن نعلن هنا استثناء بيع السلم الذي يكون المثمن فيه كليا في الذمة ومؤجلا إلى أجل لما ثبت من أن تأجيل الثمن في بيع النسيئة في مقابل المال يكون ربا محرماً، فكذا تأجيل المثمن في بيع السلَم في مقابل المال يكون محرمًا لأنه من مصاديق (انظرني أزدك) ، فإن بيع السلَم وإن كان بيعًا لكن المثمن فيه مؤجل فهو دين في ذمة البائع فيكون تأجيله أو تأخيره في مقابل المال ربا محرماً، وإن كنا نقول بصحة الشرط الجزائي في الإجارة وفي البيوع التي ليس فيها الثمن أو الثمن مؤجلاُ. نعم، الطريق لضبط البائع في التزامه بالعقد هو شرط المشتري عليه كمية من المال في صورة تخلفه عن تنفيذ العقد، وهذا هو العربون الذي أجازه المجمع في دورة سابقة، ولكن هذا ليس بديلًا للشرط الجزائي في صورة تأخر البائع عن تسليم البضاعة.
بقي شيء أخير بالنسبة لبيع البضاعة السليمة قبل قبضها. فقد منع منها مشهور العلماء الإمامية في خصوص المكيل والموزون لورود روايات كثيرة وصحيحة تمنع هذا فقط، وعلى هذا الرأي. ورأي من يقول: إن الممنوع من البيع قبل القبض هو في الطعام، يتبين أن العلة في المنع ليست هي ربح ما لم يضمن، ليست هي الربا، إذا كانت العلة هي هاتين فلم أجيز بيع ما لم يكن طعاما عند بعض الفقهاء، أو غير مكيل أو غير موزون عند الإمامية؟ كما لم تكن العلة هي الغرر لما ذكر أيضاً. إذن, إذا امتنعت هذه العلل الثلاث من كونها هي العلل الحقيقية للمنع عن بيع الطعام أو بيع المكيل والموزون قبل قبضه. وطبعًا إذا ثبتت هاتان تتقيد الروايات التي تمنع من بيع بضاعة السلَم قبل قبضها بهاتين الطائفتين من الروايات. ينفتح لدينا القول بأن النهي عن بيع ما لم يقبض هو نهي تعبدي فيقتصر فيه على مورده ويسوغ تجويز السلَم الموازي الذي يكون على سبيل الحوالة والوكالة في القبض.
والحمد لله رب العالمين.(9/473)
الدكتور محمد علي القري بن عيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد، فإننا بعد الاستماع إلى هذا العرض المميز الذي قدمه لنا الشيخ الضرير-أحسن الله إليه ووفقه لكل خير-أظن أننا نخلص بنتيجة ألا جديد في فقه السلَم، ولكن، إن مجرد التأكيد على ما هو معلوم من أركان السلَم وشروط صحته والانتهاء من ذلك بترجيح الراجح منها لا يفيد، إذ إنه لا يعد إنجازًا ذا بال بالنسبة لهذا المجمع الموقر، كما لا يفيدنا بعث الخلافات القديمة بين المذاهب والفقهاء مما لا طائل من ورائه إذ لا علاقة مباشرة لكثير من تلك الخلافات بالحياة المعاصرة.
الأولى – في نظري, والله أعلم-أن ننظر إلى المسائل المستجدة وإلى أنواع المعاملات التي يتعامل بها الناس وإلى العقود التي يقوم عليها النشاط التجاري في معاملات الناس اليوم، فهم يدخلون في ما يشبه السَلم ولكن مع اختلاف في الشروط مثل تأجيل البدلين، وهذه هي صيغة بيع البترول الذي يقوم عليه اقتصاد كثير من بلاد المسلمين، وصيغة بيع أنواع كثيرة من السَلم والمواد، أو يقومون بدفع جزء يسير من رأس المال في مجلس العقد وتأجيل ما بقي، وهذا ما ينتشر في العمل به في أسواق السلع وفيها استثمارات البنوك الإسلامية وكثير من أموال المسلمين، أو أنهم يبيعون المسَلم فيه قبل قبضه، وهذا قوام النشاط التجاري في الأسواق الدولية لتبادل المواد الأولية.
إن صرف الجهود والوقت لمناقشة هذه أظن أنها أولى وأنفع، ولست أقول: إننا يجب أن نستعجل التوصل إلى النتائج؛ لأن في ذلك خطرًا لا يخفى، بل يجب أن نتأنى وأن ننظر في المآلات في جوانبها الشرعية والاقتصادية. مثلًا إن القول بجواز بيع بضاعة السَلم قبل القبض يثير سؤالًا مهما هو: لماذا جاز ذلك في السلم ولم يجز في غيره من العقود؟ كما أن القول بجواز إصدار سندات للسَلم قابلة للتداول يؤول إلى توليد نظام اقتصادي معتمد في فاعليته على الديون ولذلك آثاره الاقتصادية المدمرة. ثم إن هذه السندات تتداول في أيدي الناس لأغراض المقامرة كما يحصل في أسواق المال في العالم ولا يخفى ما في ذلك من مفاسد. الذي أريد أن ألفت النظر إليه هو الحاجة إلى مناقشة المسائل العملية سواء تلك التي يتعامل الناس بها أو التي تتولد عندما نصمم صيغًا جديدة للسلَم. وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/474)
الدكتور عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين
نشكر للإخوة الباحثين أبحاثهم القيمة، ولي بعض الملاحظات والتأكيدات على بعض القضايا التي اختلف الباحثون.
المسألة الأولى: حول مشروعية السلم، هل هو على خلاف القياس: الذي يرجح أن السلم شرع على وفق القياس وعلى وفق المصلحة وشرع على أكمل الوجوه وأعدلها كما قال ابن القيم.
المسألة الثانية: التي نود التعليق عليها هي: مدة الأجل، وهذه أعتقد أنها مهمة للتيسير على البنوك والمصارف الإسلامية. وهي مدة مختلف فيها بين الفقهاء القدامى أرباب المذاهب، الذي نراه مناسبا نجد ما يمنعه هو ما انتهى إليه فضيلة الشيخ الصديق الضرير، أنه لا حد لأقل الأجل وأكثره لإطلاق الحديث اللفظ في هذا الموضوع فيرجع التحديد إلى اتفاق الطرفين، والحنفية أذكر أنهم قالوا: لو قدرا-أي المتعاقدان-نصف يوم جاز.
المسألة الثالثة: بيع المسلم البضاعة بمجرد وصولها المخازن. هذه في الحقيقة مما ينبغي التنبيه عليه للمصارف والبنوك الإسلامية؛ لأنه مما قد يكون واقعا عند البعض، هذا باطل لأنه من بيع ما لم يقبض كما أشارت بعض الأبحاث لهذا. فينبغي النص على ذلك مطلقا سواء أكان بيع المسلم فيه لمن هو في ذمته أو لغيره. هذا هو رأي الجمهور الذين منعوه مطلقا، سواء كان المسلم فيه موجودا أيضا أو معدوما، وسواء كان العوض مثله في القيمة أو أقل أو أكثر. طبعا هذا بخلاف رأي المالكية الذين جوزوا بيع المسلم فيه قبل قبضه إذا لم يكن طعاما، والتفصيل في ذلك ذكره فضيلة الشيخ صديق الضرير.(9/475)
المسألة الرابعة: وهي أيضا ينبغي التنبيه عليها وهي: فيما يجوز السلم فيه. بعض الأبحاث ضيقت في هذا وبعضها وسع في هذا، وينبغي هنا أن نوسع في الحقيقة على البنوك والمصارف الإسلامية، فكل ما يمكن ضبطه بالوصف-وصفا ينفي الجهالة ويرفع الغرر واحتمال النزاع- جائز؛ لأن السلع تختلف وكذلك تختلف أوصافها في كل زمان وفي كل مكان، ولا يجب ذكر كل الأوصاف، فيكفي ذكر بعض الصفات المميزة مثل ما هو معروف الآن بالعلامات التجارية. نضيف هنا بالمناسبة الرأي في السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية المتعددة، هذه تعتبر أصنافا متعددة في زمننا هذا وإن كانت سلعة واحدة ويجب الوفاء بناء على هذا بما تم الاتفاق عليه لأن تحديد ماركة معينة مقصود لذاته ووصف مرغوب فيه وله قيمة، لكن لو لم يتم الاتفاق على تحديد علامة تجارية محددة ففي هذه الحال أي سلعة حازت المواصفات تفي إذا تعددت العلامات التجارية.
المسألة الخامسة: قضية جعل الدين الذي على العملاء رأس مال سلم. هذا مما ينبغي النص على منعه والتحرز منه وتنبيه البنوك والمصارف الإسلامية عليه، لأن هذا –كما لا يخفى-يدخل في بيع الدين بالدين لمن عليه الدين؛ لأن الدائن في الحقيقة سيحصل على أكثر من دينه فكأنه أخذ زيادة على دينه مقابل تأجيل المدين الذي عجز عن أداء الدين أو الذي احتاج إلى السيولة أو احتاج إلى النقد ورغب في تأجيل السداد.
المسألة السادسة: قضية الشرط الجزائي. لا تحتاج إلى التأكيد على منعه لأن المجمع اتخذ قرار في الدورة السادسة بمنعه.
المسألة السابعة: من المسائل التي ينبغي النص عليها أيضا في التوصيات هي قضية إصدار سندات سلم قابلة للتداول. هذا لا يجوز لأنه يؤدي قطعا إلى بيع المسلم فيه قبل قبضه. وشكرا, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/476)
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم،
بعض النقاط طرقها بعض الإخوان ولكن أريد أن أتناولها من جوانب أخرى فنبدأ بالمسألة التي انتهى بها الدكتور عجيل والتي بدأ بها الشيخ الصديق وهي: تحويل المديونية في ذمة المدين إلى رأس مال السلم. هذه المسألة ليس فيها ربا، وليس فيها بيع بدين لغير من عليه الدين، وإنما هي عبارة عن عملية مقاصة بين مقبوض في الذمة وبين ما يجب قبضه. فالمدين ذمته مشغولة بمبلغ، فإذا اتفق الدائن على شراء سلعة بالسلم من هذا المدين فإنه يجب عليه أن يعجل رأس مال السلم. فالمقبوض في الذمة مقبوض، وهذا يطبق في الصرف في الذمة، إذا كان هناك شخص مدين واتفق مع الدائن على أن يسدد هذا الدين بعملة أخرى فإنه يجب على الآخر أن يسلم، وأما المدين فإن المبلغ هو في الذمة والمقبوض في الذمة كأنه مقبوض في اليد. قد يقال بأن هذا يتخذ حيلة ولكن لماذا نفترض سوء الظن في هؤلاء ولا سيما أن هذه العملية تتم بالتراضي، ليس فيها اشتراط من البداية وإلا يكون اشتراط عقد في عقد؟ فهذا المدين لو كلفناه أن يعيد هذا الدين إلى المسلم فهذا ممكن أن يأخذ مالا من شخص آخر ويعيد هذا الدين إلى المسلم ثم يأتي المسلم ويعيده إليه، وهذا فيه شيء من العبث، ولا عبث في التشريع. فهذا أمر لا يعتبر لأنه ليس فيه ربا؛ لأن عقد السلم ضماناته الشرعية موجودة فيه. تعجيل رأس مال السلم يمنع الربا وهذه عملية تعالج فيها المديونية وينبغي أن تكون بعيدة عن الزيادة الضمنية.(9/477)
المسألة الثانية: هي مسألة السلم المتوازي. هذا السلم ليس جديدا وقد أشار إليه ابن قدامة في المغني حينما منع أن يبيع الإنسان السلعة التي اشتراها بالسلم، فأشار بأنه لو باع سلعة أخرى غيرها وأخذ ما اشتراه وسدد به التزامه فهذا جائز، وهذا السلم المتوازي –أيضا-لا يصلح حيلة لأن ضماناته الشرعية فيه وهي تعجيل رأس السلم، قد يقول قائل: ما دام أن السلم الأول يجب فيه تعجيل رأس مال السلم والثاني يجب فيه التعجيل فلماذا لا يأتي المشتري الثاني ويتصل مباشرة بالمنتج الأول ويلغي هذا الوسيط ما دام هناك تعجيل؟ هناك مآرب كثيرة وأغراض يتوصل إليها الناس عن طريق هذا السلم الموازي، فقد تكون الصفقة الأولى بالجملة بمبالغ كبيرة والصفقات الأخرى الموازية صغيرة لا يقوى المشتري الأخير على أن يتفق مع المنتج الأول، وهذا يحدث في صفقات البترول، وقد يكون هناك استعداد لتحمل المخاطرة من الوسيط، فالمشتري الأخير لا يثق بالمنتج الأول ويعطيه هذا رأس مال السلم معجلا وينتظر، ولكن يأتي وسيط ويقبل هذه المخاطرة ويأخذ هذا رأس مال السلم ثم يسلم هو إلى الطرف الآخر، فإذن كان هناك مآرب كثيرة، وأيضا هذا ليس فيه حيلة والبنوك الإسلامية قد تحتاج إليه، ثم هذا السلم الموازي ليس بالضرورة أن يكون سلما موازيا فقد تكون العملية الأولى سلما والعملية لثانية استصناعا، وبهذا تستطيع المصارف الإسلامية أن تستخدم هذا وسيلة للتمويل فهي تدخل في شراء سلم وتعجل رأس المال للمنتج الأول ثم تبيع هذا إذا كان فيه صنعة، وكما تعلمون أن كل ما يجوز سلما يجوز استصناعا، فيستفاد من هذه الطريقة بأن تكون العملية الأولى سلما والعملية الثانية استصناعا.
هناك فائدة نبه إليها أحد المصرفيين الفنيين للسلم، بأنه يفيد في عملية الميزانيات السنوية للشركات والمؤسسات، لأنه لا يدخل في المطلوبات لأن هذا المبلغ الذي تأخذه الشركة رأس مال للسلم لو أنه كان قرضا فإنه يعتبر مديونية ويثقل ميزانيتها ويؤثر على تصرفاتها تجاه الرقابة من البنك المركزي، ولكن حينما يأخذ رأس مال بالسلم فإنه يعتبر مدفوعات مقدمة عن تصنيع وعن مبيعات، وهذا يفيد الشركات في ميزانياتها لأنه كما هو في العرف يكون خارج القائمة (قائمة المطلوبات) .
هذا الذي أردت أن أنبه إليه، والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/478)
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أولا: أقدم شكرنا الجزيل للأستاذ العارض فضيلة الشيخ الصديق ولجميع الإخوة الكرام الذين قدموا بحوثهم القيمة في هذا الموضوع، ولي بعض الملاحظات قد يكون بعضها تأكيدا لما قاله بعض الإخوة ولا يوجد مانع من التأكيد في هذا المجال.
قبل أن أدخل في هذه الملاحظات الخاصة هناك بعض الملاحظات العامة منها التعريف الذي ذكره فضيلة الشيخ الصديق بأن السلم هو بيع آجل بعاجل، ورجح هذا التعريف بينما جمهور العلماء (المالكية والحنابلة والشافعية) اشترطوا أن يكون في الذمة لأن هذا التعريف ليس مانعا بيع آجل بعاجل. ملحوظة عامة أخرى على معظم هذه البحوث أنها لا تخرج الأحاديث من مصادرها الأصلية والأمانة العامة دائما تؤكد على هذا الموضوع؛ لأنه إذا ثبت أن هذا الحديث ضعيف انتهى الاحتجاج به، أو إذا كان موضوعا أو كان لا ينهض حجة فحينئذ لماذا نتعب أنفسنا؟ وهناك فعلا بعض الأحاديث اعتمد عليها وهي ضعيفة جدا أو تكاد لا تستطيع أن تنهض حجة على الموضوع. من الملاحظات العامة أن معظم هذه الصور التي ذكرت من الصور المعاصرة ومعظم هذه المشاكل التي ذكرت يحلها موضوع الاستصناع، وعقد الاستصناع خاصة حسبما أقره المجمع عقد واسع جدا حيث لا يشترط فيه تقديم الثمن ويجوز فيه التقسيط والتأجيل والتعجيل. فباب الاستصناع باب واسع يسع كل هذه المشاكل التي نحن بصددها. فلذلك نحن إذا أردنا أن نحل المشاكل ليس بالضرورة أن نحل هذه المشاكل عن طريق عقد السلم الذي نقع في إشكالات لا داعي لها، ما دام لدينا بديل آخر، وأنا أعتقد أن هذه العقود الأربعة (عقد البيع العادي وبيع الآجل وعقد السلم وعقد الاستصناع) هذه العقود الأربعة تحل لنا كل المشاكل التي يمكن أن تحدث في خلال المبايعات.
فلذلك إذا ما وجدنا سعة في عقد نجد هذه السعة في العقد الآخر، فلا داعي ما دمنا نبحث عن السلم أن نأتي بصور هي في واقعها غير منطبقة عليه في الحقيقة الصور المعاصرة التي ذكرت أغلبها للاستصناع أو تصلح لعقد الاستصناع، نأتي بها ونقحمها في عقد السلم.(9/479)
أما الملاحظات الخاصة نعود إليها وهي: الاستشهاد بحديث ((لا تبع ما ليس عندك)) . حقق هذا الحديث فوجدنا أن المعنى المطلوب من هذا الحديث هو بيع شيء معين، وهذا ليس من باب التخصيص كما قال بعض الإخوة الكرام؛ لأن التخصيص أن يكون هناك عام وهناك دليل آخر يخصصه، المقصود بالحديث ومعناه هو أن يعين الإنسان شيئا معينا، أما ما هو في الذمة فلا يدخل في ((لا تبع ما ليس عندك)) ، فلذلك لا يعتبر السلم استثناء من هذا العقد، ولذلك نحن لسنا مع أستاذنا الجليل فضيلة الشيخ الصديق حينما قال: إن المراد به ما ليس مملوكا للبائع سواء كان –هذا نص عبارته-معينا أم في ذمة لا، ما في الذمة لا يدخل في هذا الحديث أبدا.
جعل الدين رأس مال السلم، ما دمنا نحن نبحث عن المسائل الفقهية فلا مانع، خاصة في هذه المرحلة التي نعيشها، نحن لا نعيش الآن عصر تطبيق الإسلام بحذافيره وإنما نحن نعيش عصرا لا بد أن نأخذ ببعض الآراء الفقهية ما دامت تحقق المصلحة لهذه الأمة، فرأي ابن تيمية ورأي ابن القيم في جعل الدين رأس مال للسلم شيء طيب وجيد، ويصلح أن نستفيد منه في هذا المجال فلماذا؟! وطبعا معروف شيخ الإسلام بحججه وكذلك ابن القيم فلا مانع أن نأخذ بهذا حتى إذا ما أخذنا به لا مانع من أن يشار كما أشار فضيلة رئيس المجمع في موضوع هيئة كبار العلماء، يعني إذا نحن ما وجدنا المسألة هناك أو ما أجزنا رأي ابن تيمية فلا نقطع الطريق، فأنا رأيي أن يكون أمام لجنة التوصية هذا الموضوع الذي أشار إليه فضيلة الدكتور بكر في هذا الموضوع بأننا لا نقطع الطريق أمام هؤلاء وإنما نبقي المجال المتفق عليه والمختلف فيه نترك هذا المجال للاجتهادات الفقهية ولا سيما في هذا العصر إلى أن يشاء الله رب العالمين يسهل لنا ونصل إلى تطبيق نظام إسلامي متكامل وحينئذ لا أعتقد أننا نحتاج إلى الرخص والحيل. ولذلك دعوى الإجماع في هذه المسألة غير مسلم به كما بينه فضيلة الشيخ الصديق الضرير بنفسه. وحقيقة أنا تابعت هذه المسألة فوجدت أن آراء الفقهاء في هذا الموضوع في عدم جواز مسألة بيع المسلم فيه ومسالة جعل الدين رأس مال سلم آخر، مدار هاتين المسألتين على حديث رواه أبو داود وبين العلماء أن هذا الحديث ضعيفا جدا.
يعني مبنى هذا الكلام في غالبه على حديث ضعيف جدا فلا ينهض حجة، وبين ذلك كل من ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية بصورة لا مجال لذكرها.(9/480)
الشيخ الصديق جعل أن الأصل في السلم أن يكون في الثمر. يعني هذا الجعل بأن يجعل الأصل في السلم أن يكون في الثمر غير مسلم، فالعبرة بعموم اللفظ حتى لو كان اللفظ لم يكن عاما، ما دام أجيز بالإجماع أو أجيز بالقياس أصبح ذلك أيضا يعني لا نعتبر ذلك أصلا، وذلك فرعا وإنما ما دام اتفق الفقهاء على جواز السلم في غير الثمر فلماذا نحن نجعل هذا أصلا وذلك فرعا؟
بخصوص منع السلم الموازي. الإخوة الكرام أشاروا إلى ذلك، وأنا أقول: إذا منعنا السلم الموازي بضوابطه وعدم ارتباطه بالسلم الأول إذن لا بد أن نمنع السلم الأول وقضية الغش، ولذلك أحد الباحثين سابقا في كتابه منع السلم مع الأسف الشديد وقال: لا بد أن نمنع السلم، ويحرم السلم لماذا؟ لأنه يؤدي إلى التحايل، والكتاب موجود والإخوة يعرفون هذه المسألة، يعني لا يجوز أننا نمنع شيئا لوجود تحايل أو كما يسمى بالمصالح الموهومة أو بالحيل الموهومة، ولو فتحنا هذا الباب، كما ذهب إلى هذا في كتاب طبع عدة مرات مع الأسف الشديد ومعروف صاحب الكتاب.
وبالنسبة للسندات، أنا في الحقيقة لا أرى مانعا في إيجاد سندات ولكن ليس على أساس السلم وإنما على أساس عقد الاستصناع في قضية البترول وما أشبه ذلك؛ لأن الاستصناع يجوز في كل شيء دخلته الصنعة عرفا، فلذلك أنا لست مع سندات السلم وإنما مع السندات بنفس الترتيب في الاستصناع.
مسألة إزالة الغبن الموجود في بحث فضيلة الشيخ الصديق، في اعتقادي تجعل العقد غير مستقر، والمسألة في الحقيقة دائما العقود قابلة ... ما دام الغبن لم يكن واقعا الآن احتمال الغبن وارد في كل عقد آجل، وإذا كان هكذا معناه العقد أو الثمن لم يكن مستقرا، والإمام الشافعي يقول: (يجب أن ينأى أو يبعد المسلم عن كل غرر) . يعني إذا كان هناك نوع من الأشياء يتسامح في جزء من الغرر لكن السلم لا بد أن يبعد عن الغرر، كما أن احتمال الغبن وارد كذلك احتمال الخسارة وارد، فهذا البند في نظري يعني دائما أستاذنا الشيخ الضرير متشدد لكنه في هذا البند تساهل ونحن لسنا مع تساهله، ويجوز أننا أول مرة نختلف معه في التساهل. وقد أحضرت نصا لابن القيم يقول: (ثبت أنه لا نص في تحريم بيع السلم والمسلم فيه، عفوا، لا بنص ولا بإجماع ولا قياس وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة.)
والله أعلم.(9/481)
الدكتور وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم،
لا شك أن البحوث المقدمة في موضوع السلم وتطبيقاته المعاصرة تشتمل على أمرين، الأمور التقليدية عند الفقهاء والشروط المقررة في هذا الجانب والتي أحصاها الحنفية أن السلم يشترط فيه سبعة عشر شرطا، وكل ذلك خروج من المحاذير والمخالفات الشرعية المتعلقة بأمرين: أمر الربا، وأمر الغرر، فالقضايا التقليدية التي ذكروها ورجح بعض الإخوة الكرام بعض هذه الآراء فنحن قد نخالفهم في هذه الترجيحات، ولكن المهم في الموضوع هو التطبيقات المعاصرة لهذا العقد، والذي ينبغي أن يحتل المكانة الملائمة له خصوصا في ميدان مجالات أنشطة البنوك الإسلامية التي بفضلها تحرك الفقه الإسلامي وأصبح يتفاعل مع السوق بعد أن كان مجمدا حيث عطل هذا الفقه عن التطبيق في كثير من الدول العربية والإسلامية. فلذلك إذا أردنا إنجاح هذه التجربة البنكية الإسلامية فينبغي أن نكون على قدر من التفاهم والتفاعل مع مقتضيات السوق وحوائج الناس حتى لا يقعوا في الربا الصريح. كل هذه التجربة هي هروب من الوقوع في الربا الصريح. فإذا أجاز بعض العلماء هذه الآراء فلا مانع من الأخذ بها. هذه مقدمة. أما الأمور التقليدية فنحن سمعنا أن الأخ فضيلة الشيخ الصديق يضعف مذهب الشافعية في القول بالسلم أن السلم الحال عند الشافعية هو طريقة لتسويغهم بيع العين أو الغائبة أو العين الموصوفة في الذمة، كما أشار الأخ الشيخ حسن. فإذن هو طريقة، فهم لا يجيزون بيع العين الغائبة، لكنهم من جانب آخر أجازوها عن طريق بيع السلم الحال. والحديث الوارد في السلم ((من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) قالوا: الحديث لا يشترط وجود الأجل وإنما يشترط العلم بالأجل.
وهذه نقطة دقيقة تبين دقة المذهب الشافعي في هذا الموضوع وأن القياس يقضي بذلك إذا كان البيع جائزا والسلم الحال هو صورة أخرى من صور البيع، فلماذا لا يكون جائزا أيضا؟ حتى التأجيل يمكن –حتى على رأي الشيخ الصديق-يمكن أن يكون التأجيل بحسب اتفاق الطرفين ويمكن أن يتم التأجيل لساعات، ويسمى تأجيلا فلماذا نمنع هذا ونقول: إن المذهب ضعيف في بنيته وفي أدلته مع أن الدليل في الواقع يؤيد مذهب الشافعية؟ وأما آية {تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ،واستشهاد ابن عباس أن هذا دليل على مشروعية السلم نوقش هذا الكلام أيضا وأن الآية لا تدل صراحة على هذا النوع من العقد ولا حاجة للاستدلال الضمني لمشروعية السلم ما دام الحديث صحيحا وجائزا، هذه ناحية. فإذن أنا أريد القول ببقاء مشروعية السلم الحال بالإضافة إلى السلم المؤجل وتبدو تسويغاته –كما ذكر الشيخ حسن-سليمة وقوية وهو رأي الشافعية والإمامية.(9/482)
أما الموضوعات الأخرى، قضية السلم الموازي، في الحقيقة بالرغم من أن الإخوة الكرام تحدثوا عن هذا الجانب فأنا مع القائلين بجواز مشروعية السلم الموازي؛ لأنه يحقق فتحا جديدا للشركات الإسلامية في هذا الموضوع، وليس السلم الموازي من قبيل أنه ينصب على المسلم فيه بذاته الأول، وإنما التزم رب السلم في السلم الموازي أن يسلم شيئا موصوفا في الذمة، كما أن المسلم إليه في أصل العقد يمكن أن يسلم هذا من إنتاجه، وإذا لم يكن من إنتاجه فيمكن أن يسلمه مما هو موجود في السوق وفي البلد التي هو فيها. فإذن هو لا ينصب على ذات المسلم فيه في العقد الأول. وكذلك ليس السلم الموازي من قبيل بيع الشيء قبل قبضه لأنه لا ينصب عليه، كذلك هو بعيد عن قضية الاستبدال برأس مال السلم وقد أجاد الأخ الدكتور الصديق في بيان الفروق بين هذين الأمرين بدقة. قضية استبدال المسلم فيه وقضية السلم الموازي. هذه ناحية أشبعت بحثا وخصوصا حديث الدكتور عبد الستار أبو غدة أفاد بأن هذا مما ينبغي القول بجوازه وخصوصا أن صاحب المغني أقر ذلك بشكل صريح.
أما قضية إصدار سندات سلم للتداول فهذه محل نظر صحيح كما ذكر الأخ الدكتور القره داغي، ابن تيمية وابن القيم أجازا جعل الدين رأس مال السلم كما أنهما أجازا بيع الشيء قبل قبضه، فهذه رخصة لا ينبغي أن نسد الباب أمامها ونقول: إن كل شيء ممنوع، وإن هذا غير جائز. فإذن قضية الاتفاق على عدم جواز استبدال المسلم فيه قبل قبضه محل نظر فليس هناك اتفاق ولا إجماع وإنما القضية مختلف فيها.
أما قضية الشرط الجزائي –أيضا-أؤيد ما ذكره الأخ الشيخ حسن بأن هذه القضية ينبغي ألا نتورط في الشرط الجزائي إذا كان ذلك من قبيل العقوبة على عدم تسديد دين مؤجل في المستقبل وإلا وقعنا بما يسمى قانونا في الغرامات التهديدية، وهذا في الحقيقة غير جائز. الشرط الجزائي بالرغم من أن بعض الجهات لا تجيزه لكن –في الحقيقة-هو مقر به لدى طائفة من العلماء، فنحن نجيزه في المقاولات والإيجارات وفي كثير من عقود الحياة الجارية ولكننا لا نجيزه كعقاب على عدم قيام المدين أو مماطلته بسداد ديونه للبنك الإسلامي.(9/483)
يشترط لجوازه أن يكون الرهن معلوما والكفيل معلوما، أما إذا قال: أقدم لك رهنا أو كفيلا وكانا مجهولين هذا الذي لا يجوز، أما هذا من قبيل التوثيق إذا أراد رب السلم أن يوثق عقده مع المسلم إليه وأنه يريد أن يصل إلى قبض المسلم فيه في الوقت المحدد، فما المانع من اشتراط الرهن المعلوم والكفيل المعلوم فما السلم إلا صورة من صور البيع والبيع يجوز فيه ذلك ولا إشكال في هذا الموضوع؟
أما قضية تأجيل رأس مال السلم عند المالكية لثلاثة أيام، هذا لا يتنافى يا إخواننا مع القول المقرر بأنه يجب تعجيل رأس مال السلم. المالكية أيضا بدقة قالوا: التأجيل إلى يوم أو يومين وإلى ما دون الثلاثة أيام يعتبر في حكم العاجل. وهذه نظرة عظيمة من المالكية، في حكم العاجل، هذا كلام سليم ودقيق فالتأجيل يوما أو يومين لا يعد تأجيلا إنما هو في حكم المعجل. فإذن هذا ليس غضاضة على المذهب. أما قضية الخيار والتي استمعنا إليها أن عقد السلم لا يجوز فيه اشتراط الخيار، هو الأدق لأن هذا يتنافى مع شرط تعجيل رأس مال السلم، فإذا شرط الخيار في عقد السلم فأين الشرط المطلوب في الحديث ((لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك؟)) فإذن وجود الخيار يتنافى مع طبيعة هذا العقد ويختلف عن خيار الغبن؛ لأن خيار الغبن ما هم إلا صورة قريبة من خيار العيب. وهذا متفق على جوازه، لا نستطيع أن نقر الغش في المعاملات ولا أن نقر الغبن ولا نقر الاستغلال لكن قضية وجود خيار الشرط مع عقد السلم في الحقيقة يتنافى مع طبيعة هذا العقد. لا شك أنني أجل كل هذه التطبيقات المعاصرة التي ذكرها فضيلة الدكتور الضرير في أن عقد السلم يصلح أمام البنوك الإسلامية؛ لأن يعمل به في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة وفي كل ما يحتاج فيه إلى التمويل ونستغني بذلك عن قضية القروض الربوية لأننا نريد أن نجنب تعامل المسلمين مثل هذه الشبهات أو المقطوع بحرمتها ولا نضيق على الناس في هذا الموضوع. والسلام عليكم.(9/484)
الدكتور جاسم على سالم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
تحدث كثير من المتقدمين والمتأخرين والمحدثين عن السلم أو السلف واستفاضوا في بحثه، وجزاهم الله خيرا، ولكن لكثرة الحوادث والتغير في الظروف الحاضرة وتبادل السلع وغيرها من عروض التجارة المختلفة، والتعامل بين الشرق والغرب، أرى أننا لا نقول: إنه من الأجدى بحث موضوع بيع الأشياء أو التصرف في الأشياء المستقبلة إذا انتفى الغرر كما أفتى به ابن تيمية وابن القيم الجوزية، وأخذ به كذلك عندنا الآن قانون المعاملات المدنية في دولة الإمارات، وهذا النوع من البيع من الممكن أن يستوعب السلم وغيره مع وجوب تحديد معنى الغرر تحديدا واضحا والاستعانة في ذلك بكتابات كثيرة مثل كتاب أستاذنا الدكتور الصديق الضرير في الغرر. ولكم جزيل الشكر والتقدير.(9/485)
الشيخ عبد الله بن بيّه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه،
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
أخرج قليلا عن جو الفقه هذا صعب. يبدو أننا لم نعرف الدار.
سيادة الرئيس: اسمح لي أن أتقدم بمقدمات بين يدي الملاحظات التي سألاحظها على بحث الدكتور الصديق الضرير.
المقدمة الأولى: لقد قلتم بالأمس وبحق إن هذا المجمع لم يضغط على النصوص لتنطبق على الواقع، وهي مفخرة –أعتقد-لهذا المجمع وسبب لصدقية هذا المجمع عند الناس، وهو أمر مهم جدا. فالبحث عن الإتيان بجديد يجب ألا يؤدي إلى الضغط على النصوص.
المقدمة الثانية: هي أن السلم رخصة، والرخصة لا يتجاوز بها محلها، والعلماء الذين اشترطوا شروطا اشترطوها على أساس أنهم نظروا إلى السلم نظرة خاصة وهو أنه معدول به عن نظائره وهذا ما يسمى بالاستحسان بالنص، وهي المسألة التي عدل بها عن نظائرها لوجود دليل قوي، وهنا الدليل القوي وهو الحديث الذي ورد في السلم.
هنا بادئ ذي بدء أريد أن أبعد وهما. الكلام عن السلم هل هو مخالف للقياس أو ليس هو مخالف للقياس؟ إذ كان مخالفا للقياس فليس عيبا. وإذا أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أو نهى فإن الأمر حينئذ هو أمر جديد يخرج المسألة عن كونها معيبة. معنى مخالفته القياس معناه عند الجمهور هو وجود قاعدة لو لم يرد نص بإباحة السلم لكان داخلا فيها، لا تبع ما ليس عندك، فلولا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أجاز بيع السلم لكان داخلا في هذه القاعدة، هذا هو معنى مخالفة القياس وهو أمر واضح جدا ... لكل عقد له سنته، كما نقول: قراض، من سنة القرض ألا يضمن، فالعقود لها سنن والسلم من هذه العقود التي لها سنن، فإذا لم يعجل رأس المال قد خالفنا سنة السلم، وحينئذ لا يسمى سلما لأننا خالفنا سنة السلم.(9/486)
هذه هي المقدمات وسأصل إلى الملاحظات.
الملاحظة الأولى-هي: إلغاء الدكتور الضرير لتحديد الأجل, معناه أنه لا يوجد حل مع أن جميع من اشترطوا ألا يكون السلم حالا حددوا بأجل, والحديث لا يشهد لما ذكره. الحديث عندما يقول: إلى أجل معلوم , معناه أنه يوجد أجل لا بد من تحديده, والفقهاء اتفقوا جميعا على التحديد, والتحديد فائدته هي معقولية النص. معناه الذين حددوا أجلا قالوا: إن المراد من السلم أن توجد حوالة الأسواق بمعنى أن يؤجل بأجل, هذا الأجل يسمح بحوالة الأسواق. وحوالة الأسواق لا تتحقق إلا بأجل محدد إما أن يسلم له في مكان آخر وهنا ينقص الأجل عند المالكية وإما ألا يكون كذلك فلا بد أن يكون إلى خمسة عشر يوما.
فأعتقد أن قوله: إنه لا يحدد أجلا هو قوله غير مسبوق, وبالتالي لو قلت: خالف الإجماع , إذا لم أقلها فأقول: إنه قول غير مسبوق. إما أن يقول: إنه سلم حال أو يقول بالأجل فيحدد أجلا, يقول: العلماء اختلفوا في تحديد الأجل إلا أنهم جميعا اتفقوا على أنه يوجد حد.
الملاحظة الثانية: تأجيل رأس المال , وهذه هي الطامة الكبرى, رأس المال يقال للثمن الذي يدفع يسمى بـ (رأس المال) , يعني العين الحالة إذا كنت سوف تسلم في قمح أو أرز لفترة معينة في العين التي تدفعها تسمى برأس المال, على الأقل عند المالكية يسمونها برأس المال. تأجيله بشرط –وبشرط هذه زادها بقوة، أن يؤجل رأس المال بشرط - وهو اختيار له غير مسبوق أيضا. القول الضعيف الذي في المذهب , أولا: متابعة الضعيف هي من المخالفات الكبيرة؛ لأن العلماء قالوا: إنه لا يجوز القول بالضعيف كما قال في مراقي السعود:
وذكر الضعيف ليس للعمل
ذلك عن وفاقهم قد انحول
بل الترقي في مداره السنا
ولحفظ الندرة من له اعتنا
على قوله يوجد تهافت, فالمالكية إذا كانوا يجيزون التأخير إلى ثلاثة أيام؛ لأنها في حكم المعجل لازم هذا القول: إنه سيؤجل رأس المال ويؤجل السلم وسيبيع – لأنه أجاز البيع –هذا لشخص آخر بحيث لا يوجد موضوع لعقد السلم إلا الكلام, هذا قال: إنه عقد سلما والآخر قال: إنه وافق ثم بعد ذلك يجوز البيع لأنه هو أجاز البيع قبل القبض, فحينئذ نجد أنفسنا أمام تهافت واضح. وأعتقد أنه قد وقع في لبس وهي مسألة جواز بيع الغائب بالوصف التي لا يجوز أن يشترط فيها النقد؛ لأننا نحن هنا نتكلم عن السلم ولا نتكلم عن بيع غائب بالوصف. بيع الغائب بالوصف عند المالكية ليس كالسلم, هذا لا يجوز النقد فيه بشرط ويجوز النقد فيه إلا إذا كان قريبا كاليومين أو كان عقارا لا يخشى تغيره.(9/487)
المسألة الثالثة: طبعا هذه مسألة طفيفة وهي مسألة الدار, قال: إنه يجوز السلم في الدار. المصنع الآن ليس دورا, هي مكان له عرصة وله مكان قائم عليه, وهو لا يجوز أبدا لا يمكن أن يكون سلما لأنه معين, إما أن تقول الدر الفلانية أبيعها لك فهذا بيع لك وليس سلما, وإما أن يكون شيء منشأ كدار فهذا ليس دارا, وبالتالي هنا أعتقد أنك لم تأت بشيء يخرج إذا كان الدار من هذا النوع.
المسألة الرابعة: جواز الاستبدال. وهذه أيضا من مسائله التي خالف فيها الناس. جواز الاستبدال ولو كان طعاما. وهو قلد المالكية في جزء وخالفهم في جزء لم يوافق المالكية ولا غيرهم، كيف يجوز الاستبدال ولو كان طعاما؟ إذا كان المالكية لا يجيزونه في الطعام وغيرهم لا يجيزون الاستبدال مطلقا فمن أين لك هذا القول؟ ! هو ضعف الحديث الذي فيه عدم جواز صرف السلم وأتى بالأثر، هل الأثر صحيح أيضا؟ المسألة هي مسألة من سنن السلم. وأعتقد أن العقود لها سنن فيجب أن نهتم بهذه السنن.
خلاصة القول مع تقديري البالغ للدكتور الضرير وهذا شي أقوله بحقه لتقديري لبحوثه ودراساته واجتهاداته
فإني أقول: إن الأقيسة التي تقدم بها ضعيفة وغير ناضجة وإبطال لعلل الجمهور بطرق غير أصولية. ذكر العلماء على أن السلم رخصة، الرخصة لا يتجاوز بها محلها, والحال أن هذا العقد بيع أقره النبي (صلى الله عليه وسلم) كان على صورة معينة في المدينة , فيجب الرجوع إليها وإلا فنحن لا نناقش سلما وإنما نناقش شيئًا آخر.
وشكرًا لكم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/488)
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد.
الذي يبدو لي أن السلَم أداة كما تحدث عنها الفقهاء أنها عقد المحاويج وليست عقدًا للأغنياء-ليست عقد البنك الإسلامي فهو خلافا لما ظن أنه أداة تصلح للتمويل يستعملها البنك الإسلامي. أنا أقول: إنها أبعد ما يكون أو ما تكون عن الصلاح للبنك الإسلامي أداة للتمويل. والأدلة على ذلك:
أولا: واقع الحال أن البنوك الإسلامية لم تستعملها خلال عشرين سنة رغم وجودها.
ثانيا: عندما استعملتها في بلد من البلدان وقعت بطامات كبيرة لم تخرج منها حتى الآن، وفي السودان بلد الشيخ الضرير وتحت أعين الشيخ الضرير وهو يعلم كل المشكلات التي نشأت عن استعمال السلم من قبل البنوك الإسلامية والسبب هو أن السلم بطبيعته متاجرة مباشرة يجعلك في آخر مدة العقد أمام بضاعة لا تعرف كيف تتصرف بها، وأنت أيها البنك الإسلامي تعمل بأموال المودعين لا تعمل برأس مالك بحيث تأخذ من المخاطرة ما أنت حر فيه. لا ينبغي للبنك الإسلامي أو لأي وسيط مالي يعمل بأموال الآخرين، أن يأخذ ذلك القدر الكبير من المخاطرة لأن هذا القدر أكبر مما يتحمله وسيط مالي. الدول الأخرى تقيد الوسيط المالي باستعمالات كثيرة فلا تسمح له أبدا أن يدخل بأعمال فيها مخاطرة أكثر مما ينبغي لمثله، والسلم فيه تلك المخاطرة. لنقارن السلم في هذا مع المرابحة ومع الشركة. عندما يدخل البنك في شركة هو في ذلك يعطي الأمر لأهله وهنا يتدخل هو بالمتاجرة المباشرة مع وجود أهلها.
النقطة الثالثة في السلم: قلة في الكفاءة الاقتصادية للمجتمع بكامله، لأن البنك متخصص بالوساطة المالية، فإذا تعدى هذا الاختصاص إلى غيره ينبغي له أن يكسب أدوات المتاجرة المباشرة، والتجار أقدر عليه من هذا، والتجار بأموالهم أقدر من موظفي البنك على المتاجرة؛ لأن لديهم الدافع الذاتي الذي هو أقوى.(9/489)
النقطة الرابعة: لنأخذ الأمثلة التي حدثنا عنها، من تطبيقات مقترحة. هذه الأمثلة أربعة منها فيها سلم موازي. السلم الموازي – الحقيقة - كيف نسمي السلم الموازي تمويلا وهو ليس تمويلا أصلا؟ السلم الموازي معناه أن يدفع البنك للتاجر أو للمزارع ويعقد معه سلما فيدفع مالا حالا، ثم يأتي من طرف آخر إلى تاجر فيقبض منه نفس المال. ولو كنا بنفس اليوم لنفرض أن العملية صارت سلمين في آن واحد بوقت واحد لكان السعر واحدا، وإذا كان في السعر فرق فإنما هو سوء في إدارة السوق. يعني السوق ستكون فيها احتكار أو فيها بعض العوامل غير التنافسية حتى اختلف السعر، فما التمويل الذي قام به البنك في هذه الحالة؟ هو دفع هنا وقبض من هنا. هذا هو السلم الموازي بأحسن أمثلته، إذا قام به البنك الإسلامي فلم يقم بتمويله. البنك الإسلامي مهمته التمويل، مهمته أن يبقى المال مع الآخرين، ويتكسب بذلك للمودعين الذين لديه.
أقول: إن عقدي السلم والسلم الموازي يصلحان للتاجر العادي، يصلحان تماما لتاجر الجملة. أقول: لو كنت فقيها لقلت: إنه ينبغي على هذا المجمع الكريم أن ينظر عندما يصدر فتواه إلى مصالح الأمة ومجموعاتها وزمرها ولا ينظر إلى النص، فيقول مثلا: عناية بمصلحة المودعين في المصارف الإسلامية فإنه لا يصح للمصرف الإسلامي كوسيط مالي أن يقوم بسلم ولا بسلم موازي؛ لأن في كليهما مخاطرة تجارية، وفي كليهما أيضا قلة في الكفاءة الاقتصادية للعملية.
بقيت النقطة التي أثارها نص عقد السلم الذي وضعه الدكتور الصديق الضرير. يقول في المادة السابعة: أظن أنه لو زاد السعر فوق الثلث فيتحمله الطرف الآخر. الثلث كثير بل هو كثير جدا، كيف يكون السعر؟ البنوك الإسلامية تعطي مالها سنة بكاملها لتتكسب عشرة أو إحدى عشرة بالمائة؟ فكيف نقول لها: أكسبي فوق ذلك ثلث الثمن ولا بأس بذلك؟ يعني الثلث يخرب بيت الطرف الآخر، كيف نقول: إن الثلث مما يتسامح به وهو انتظار لموسم وليس انتظارا لسنة بكاملها؟ هم ينتظرون سنة ومستعدون لذلك من أجل العشرة بالمائة، فكيف ينتظرون بلك المدة؟
والحمد لله رب العالمين.(9/490)
الرئيس:
لعلنا بهذا القدر نكتفي ونختم هذه الجلسة لأن الذين بقوا من الذين طلبوا الكلمات هم ضعف الذين سبق حديثهم، ولعل ما مضى فيه البركة والكفاية.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما السلم في أحكامه المقررة لدى الفقهاء وهي غير المقصودة في الأصل في هذه الجلسة فقد أخذت النصيب الوافر من المداولات والمناقشات من أصحاب الفضيلة الأعضاء، سواء من حيث التعريف، أو أنه على وفق القياس، ومن حيث شروطه والسلم الموازي، وما إلى ذلك من أحكامه الفقهية. أما الموضوع الذي طرح هذا الموضوع من أجله وهو في تطبيقات السلم وفي تطبيقاته المعاصرة، فلم أستطع أن أقيد ما اتجهت إليه في أي قضية من قضاياه المعاصرة، ولكن قد ترون مناسبا تأليف لجنة من فضيلة العارض الشيخ الصديق الضرير والمقرر الشيخ عطا السيد وأصحاب الفضيلة وهبة الزحيلي والشيخ عجيل النشيمي والشيخ علي محيي الدين القره داغي والشيخ القري ابن عيد.
وهذه اللجنة تنظر في الموضوع ولها أن تستعين ببقية إخواننا الاقتصاديين الموجودين كالأستاذ الجناحي والأستاذ سامي ومن إليهم، ويجعلوا الخطوط الرئيسية التي ينبغي أن يركز عليها في البحث وأن ينظر فيها المجمع في دورة لاحقة –إن شاء الله-ولا نضيع في متاهات الأحكام الأخرى التي هضمها العلماء بحثا ودرسا. مناسب؟
وبهذا ترفع الجلسة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/491)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم:89/2/د9
بشأن (السلم وتطبيقاته المعاصرة)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ الموافق 1-6 أبريل 1995م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (السلم وتطبيقاته المعاصرة)
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر أولا بشأن (السلم) ما يلي:
أ - السلع التي يجري فيها عقد السلم تشمل كل ما يجوز بيعه ويمكن ضبط صفاته ويثبت دينا في الذمة، سواء أكانت من المواد الخام أم من المزروعات أم المصنوعات.
ب - يجب أن يحدد لعقد السلم أجل معلوم، إما بتاريخ معين، أو بالربط بأمر مؤكد الوقوع ولو كان ميعاد وقوعه يختلف اختلافا يسيرا لا يؤدي للتنازع كموسم الحصاد.
ج-الأصل تعجيل قبض رأسمال السلم في مجلس العقد ويجوز تأخيره ليومين أو ثلاثة ولو بشرط، على أن لا تكون مدة التأخير مساوية أو زائدة عن الأجل المحدد للسلم.
د-لا مانع شرعا من أخذ المسلم (المشتري) رهنا أو كفيلا من المسلم إليه (البائع) .
هـ -يجوز للمسلم (المشتري) مبادلة المسلم فيه بشيء آخر –غير النقد-بعد حلول الأجل، سواء كان الاستبدال بجنسه أم بغير جنسه. حيث إنه لم يرد في منع ذلك نص ثابت ولا إجماع، وذلك بشرط أن يكون البدل صالحا لأن يجعل مسلما فيه برأس مال السلم.(9/492)
وإذا عجز المسلم إليه عن تسليم المسلم فيه عند حلول الأجل فإن المسلم (المشتري) يخير إلى أن يوجد المسلم فيه وفسخ العقد وأخذ رأس ماله، وإذا كان عجزه عن إعسار فنظرة إلى ميسرة.
ز-لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه؛ لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير.
ح-لا يجوز جعل الدين رأس مال للسلم لأنه من بيع الدين بالدين.
قرّر ثانيا بشأن (التطبيقات المعاصرة للسلم) :
يعد السلم في عصرنا الحاضر أداة تمويل ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي وفي نشاطات المصارف الإسلامية، من حيث مرونتها واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة، سواء أكان تمويلا قصير الأجل أم متوسطه أم طويله، واستجابتها لحاجات شرائح مختلفة ومتعددة من العملاء، سواء أكانوا من المنتجين الزراعيين أم الصناعيين أم المقاولين أم من التجار، واستجابتها لتمويل نفقات التشغيل والنفقات الرأسمالية الأخرى.
ولهذا تعددت مجالات تطبيق عقد السلم، ومنها ما يلي:
أ - يصلح عقد السلم لتمويل عمليات زراعية مختلفة، حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقع أن توجد لديهم السلعة في الموسم من محاصيلهم أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها ويسلموها إذا أخفقوا في التسليم من محاصيلهم، فيقدم لهم بهذا التمويل نفعا بالغا ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم.
ب - يمكن استخدام عقد السلم في تمويل النشاط الزراعي والصناعي، ولا سيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة، وذلك بشرائها سلما وإعادة تسويقها بأسعار مجزية.
ج-يمكن تطبيق عقد السلم في تمويل الحرفيين وصغار المنتجين الزراعيين والصناعيين عن طريق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات وآلات أو مواد أولية كرأس مال سلم مقابل الحصول على بعض منتجاتهم وإعادة تسويقها.
ويوصي المجلس باستكمال صور التطبيقات المعاصرة للسلم بعد إعداد البحوث المتخصصة.(9/493)
الودائع المصرفية
حسابات المصارف
إعداد
د. سامي حسن حمود
المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
البنك الإسلامي للتنمية بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
1- تقدمة الموضوع:
تعتبر الوديعة المصرفية تطويرا جديدا لمفهوم الوديعة سواء بالنسبة للفقه الإسلامي أم للقانون الوضعي.
فالأصل في الوديعة أنها أمانة تحفظ وترد ولكنها انصبت في العمل المصرفي على النقود ليس بقصد حفظها وردها بذاتها وإنما يهدف استعمالها إما على سبيل الافتراض أو سبيل الإذن بالاستعمال لغاية معينة.
وقد سبقت الممارسة العملية عند المسلمين التكييف الفقهي بالنسبة لمفهوم الوديعة المأذونة بالاستعمال.
فقد أورد ابن سعد في الطبقات الكبرى أن الزبير بن العوام –رضي الله عنه-فيما يرويه ابنه عبد الله أن الرجل كان يأتيه بالمال ليستودعه إياه، فيقول الزبير: (لا ولكن هو سلف، إني أخشى عليه الضيعة) . (1)
وجاء الفقه الإسلامي بتكييف واضح للعلاقات التعاقدية في مختلف حالات الإيداع التي يسمح فيها بالاستعمال انطلاقا من القاعدة الفقهية الواضحة: أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
__________
(1) ابن سعد، الطبقات الكبرى، الجزء الثالث (بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر، 1957) ص 109.(9/494)
2- الوديعة النقدية في الفقه والقانون
الوديعة النقدية هي الصورة التي يكون الشيء المودع فيها نقودا متداولة أو قابلة للصرف بنقود متداولة. وبذلك يخرج الإيداع للنقود الأثرية مثلا والسبائك من الفضة والذهب والمسكوكات التي لم تعد تستعمل نقودا حيث يبقى لها الوصف القديم وهو الاستنابة في الحفظ.
فالوديعة المصرفية تتعلق إذن بفرع من الإيداع الذي يكون فيه الشيء المودع نقودا قابلة للتصرف ومأذونا فيها بذلك التصرف صراحة أو دلالة.
وكان النظر الفقهي واضحا من بداية الطريق حيث اعتبر الفقهاء أن الوديعة توكيل أو استنابة في حفظ المال.
فقد عرف الزيلعي الإيداع بأنه تسليط الغير على حفظ ماله، كما عرفه الحطاب بأنه توكيل بحفظ مال: (1)
كما بين الفقهاء أنه إذا كان الشيء المودع نقودا أو مالا مثليا مما يهلك باستعماله فإن الإذن بالاستعمال يجعله قرضا.
فقد جاء في كشاف القناع: أن الوديعة مع الإذن بالاستعمال عارية مضمونة. (2)
وقال صاحب تحفة الفقهاء: إن كل ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه فهو قرض حقيقة ولكن يسمى عارية مجازا. (3)
وأوضح الكاساني الذي شرح تحفة أستاذه السمرقندي هذه المسألة بقوله: (وعلى هذا تخرج إعارة الدراهم والدنانير أنها تكون قرضا لا إعارة) . (4)
__________
(1) فخر الدين الزيلعي، تبيين الحقائق،5/76؛ الحطاب؟، مواهب الجليل، 5/250.
(2) البهوتي، كشاف القناع، 4/1414.
(3) السمرقندي، تحفة الفقهاء، 3/284.
(4) الكاساني، بدائع الصنائع، 8/3899.(9/495)
وبذلك يتبين بكل وضوح دقة النظر الفقهي فيما أعطاه للوديعة النقدية مع الإذن بالاستعمال من تكييف.
أما بالنسبة للنظر القانوني فقد اضطرب الفهم عندما حاول القانونيون إكساء الوديعة المصرفية ثوب الوديعة بالمنظار القانوني المدني.
وما لبث القانونيون أن تميزوا الفارق الدقيق إلى أن استقر التقنين إلى اعتبار الوديعة المصرفية قرضا. وهكذا نجد نص المادة رقم 726 من القانون المدني المصري صريحة الدلالة على المعنى المراد حيث نص على أنه:
(إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذونا له في استعماله، اعتبر العقد قرضا) .
وبذلك أصبح الفهم القانوني الحديث متلاقيا مع التأصيل الفقهي بالنسبة لمفهوم الوديعة المصرفية وكل ما يماثلها من حالات.
وحيث إن الوديعة المصرفية هي صورة من صور الإيداع الحسابي فإننا نقترح تسمية الوديعة من هذا النوع بالوديعة الحسابية حيث يتساوى في الحكم عندما يكون الشيء المودع نقودا أن يكون المودع لديه مصرفا أو صديقا أو تاجرا طالما أن المقصود هو تسجيل حق للمودع لتتم المحاسبة عليه بالرد المماثل.
فالوديعة الحسابية إذن هي كل ما يودع من النقود المتداولة من طرف لدى طرف آخر على أساس الإذن بالاستعمال والرد بعد المحاسبة.
وهي تتم –شأنها شأن سائر العقود-بالإيجاب والقبول من عاقدين عاقلين بالغين ويكون محلها في هذا النوع من الإيداع المصرفي محصورا في النقود المتداولة حسب العرف المصرفي السائد.(9/496)
3-أنواع الوديعة الحسابية:
حصر القانونيون مفهوم الإذن بالاستعمال في الوديعة المصرفية بالقرض فقط وذلك بغرض تسهيل الاقتراض على البنوك. ولم يكن يهم هذه البنوك أن يكون الاقتراض عن طريق الإيداع بصورة مجانية أم بمقابل وذلك لأن دفع الفائدة المصرفية يعتبر أمرا قانونيا بالنسبة لمن لا يراعون موازين الشرع في المعاملات والأحكام.
لذلك كانت الوديعة المصرفية صالحة للقرض سواء كانت قرضا بلا فوائد أم كانت قرضا بفائدة.
أما مفهوم الإذن بالاستعمال في الفقه الإسلامي فهو أوسع شمولا لكل الحالات التي يتم فيها.
فإذا كان الإذن بالاستعمال لصالح الطرف المأذون له بذلك فإن ذلك الإذن يكون بمثابة العارية المضمونة، وبناء عليه فإن الوديعة الحسابية لدى المصرف الإسلامي في صورة الحساب الجاري تكون قرضا مضمونا على المصرف وكذلك الحال في كل النقود المودعة مع الإذن بالاستعمال لصالح من أودعت لديه.
أما إذا كان الإذن باستعمال الوديعة الحسابية يحمل نوعا من المصلحة للمودع فإن الحكم يختلف باختلاف الحال وذلك لدرجة أن صاحب كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ذهب إلى أنه لو دفع رجل مالا إلى آخر على أن نصفه وديعة في يد المضارب ونصفه مضاربة بأن ذلك جائز ويكون المال في يد المضارب على ما سميا. (1)
وهذا يعني أن النصف الأول هو وديعة مأذونة بالاستعمال فهي قرض مضمون والنصف الثاني هو رأس مال مضاربة فله حكم المضاربة من حيث كون الربح على الشرط بحصة شائعة معلومة وإن الخسارة على المال.
فالوديعة الحسابية يمكن أن تكون على عدة وجوه هي:
1- الوديعة الحسابية بالقرض: وذلك حين يكون الإذن الصادر باستعمال النقود على سبيل الإقراض.
2- الوديعة الحسابية بالاستثمار: وذلك حين يكون الإذن الصادر باستعمال النقود في المضاربة والمشاركة وسائر وجوه الاستثمار الحلال.
3-الوديعة الحسابية بالأمانة: وذلك حين لا يكون هناك إذن بالاستعمال قرضا أو استثمارا وإنما الإذن بالتصرف محصور بالحفظ ولكن ليس على أساس رد ذات النقود وإنما بدلها أو مثلها ومثال الحالة الأخيرة يكون ما لو تلقى مصرف وديعة باسم من لا يملك أهلية التصرف ولم يأذن وليه للمودع بالاستعمال قرضا ولا استثمارا فإنها تبقى بصورة حسابية على أساس الأمانة، فهي وديعة حسابية في الذمة ويرد مثلها عند الطلب.
__________
(1) الكاساني، مرجع سابق، 8/3598.(9/497)
موقع الودائع المصرفية في ميزانية البنك:
تعتبر الودائع التي يتسلمها المصرف بصورة حسابات جارية أو حسابات استثمارية التزاما عليه تتطلب الرد عند الطلب في حالة الحساب الجاري أو الرد على أساس المحاسبة أو التخارج في حالة الحساب الاستثماري.
فأين يقع هذا الالتزام في ميزانية المصرف؟
لتوضيح هذا التساؤل الذي هو محل اختلاف في مجال العمل المصرفي الإسلامي تجدر الإشارة إلى أن الميزانية بالنسبة للشركات عموما هي عبارة عن جرد موقف مالي في تاريخ محدد يكون غالبا في آخر السنة المالية لبيان صافي الموجودات والمطلوبات وبالتالي استخراج الأرباح والخسائر.
وتعتبر التزامات الإيداع بالنسبة للمصرف تجاه عملائه أنها خصوم تحسب من جملة المطلوبات.
ولمعالجة هذه الخصوم محاسبيا هناك طريقتان.
الأولى: هي اعتبارها خصوما في ذمة المصرف وهي تقابل الموجودات التي تم استعمال الجزء الغالب من هذه الأموال في إنشائها، وهنا تتساوى الحسابات جميعها.
والثانية: هي اعتبار يد المصرف أنها يد وكيل مأذون بإدارة الاستثمار حيث يتطلب ذلك التمييز بين الودائع الحسابية للإقراض باعتبارها ملكا للمصرف قابلة للرد وبين الودائع الحسابية للاستثمار باعتبارها رأس مال مسلم للاستثمار تحت المحاسبة.
وتثور المشكلة هنا بالنسبة للموجودات حيث يكاد يتعذر الفصل في جانب الموجودات بمعنى الفصل القانوني للموجودات التي تمثل الحقوق التي تقابل الودائع الحسابية للاستثمار. فالسيارات والسفن والطائرات والمصانع والمساهمات كلها مسجلة باسم المصرف رغم أن المال المدفوع هو من أموال أصحاب الودائع الاستثمارية.
وما لم يكن هناك إفراز قانوني للحقوق فإن البيان الحسابي الظاهر لا يغني شيئا، فلو ألقت جهة قضائية الحجز مثلا على سفينة مملوكة للمصرف بحسب التسجيل القانوني وبسبب يخص المصرف وحده ولا علاقة له بالمودعين المستثمرين الأبرياء فإن المصرف لا يستطيع الادعاء بأن السفينة هي تحت يده بالأمانة وأنه المدير لعمليات الاستثمار بالمضاربة.
لذلك فإن تعذر فصل الموجودات يتطلب إدخال الودائع المصرفية في جملة خصوم المصرف ليكون هناك توازن في الموجودات والمطلوبات.(9/498)
5- رهن الوديعة:
الأصل في الرهن أن تتحقق به للراهن اليد أو المكنة التي يستطيع عن طريقها منع التصرف بالمرهون حتى يستوفي حقه منه.
وقد تكون المكنة إما بالقبض الحيازي أو إثبات إشارة الرهن كما هو الحال في الرهونات الحديثة في سجلات الملكية. وتختلف الحال بالنسبة للوديعة الحسابية لدى رهنها لصالح المصرف المودع لديه.
فإذا كانت الوديعة حسابا جاريا فإنها تسجل في الحسابات الجارية ويصدر بها كشف حساب –ولما كان المقصود من الرهن هو منع التصرف فإن مقتضى الرهن هو أن تنقل الوديعة من الحساب الجاري إلى حساب الأمانات وذلك لمنع وقوع التغرير ولإثبات اليد.
أما إذا كانت الوديعة حسابا استثماريا فإن الرهن يكون إما بإثبات الإشارة بعبارات الرهن الصريح أو بالنقل إلى حساب الأمانات مع إبقاء حق الراهن في منافع المرهون المتحصلة من أرباح الاستثمار وهذه القواعد معمول بها غالبا لدى المصارف.
وسبب التفريق بين الحسابات الجارية والحسابات الاستثمارية هو أن الحساب الجاري قد يعطي حقا للغير عن طريق سحب الشيكات بينما يبقى التصرف بالحساب الاستثماري محصورا بين صاحب الحساب والمصرف الذي يتعامل معه.(9/499)
6- حركة السحب والإيداع في الودائع المصرفية:
تتعرض الودائع المصرفية الحسابية للسحب والإيداع حسب حاجة صاحب الحساب ويختلف الحكم باختلاف نوع الحساب.
ففي حالة الودائع الحسابية للاقتراض أو الأمانة ليس هناك أي إشكال في السحب أو الإيداع طالما كان متفقا على ذلك من البداية أن يكون التصرف فوريا عند الطلب.
أما بالنسبة لحالة الودائع الحسابية للاستثمار فإن هناك شروطا تحد من حرية الحركة في السحب والإيداع.
- فهناك أولا الحد الأدنى الذي يكون المصرف قد قرره للحساب الاستثماري مثل عشرة آلاف ريال سعودي أو ألف دينار كويتي بحيث إن نقصان الرصيد الاستثماري عن هذا الحد يعتبر خروجا من دائرة الاستثمار ويصبح الرصيد المتبقي بمثابة الحساب الجاري.
- وهناك ثانيا الإشعار الذي يفترض في صاحب الحساب أن يقدمه للمصرف عند السحب خصوصا ولا سيما في الحسابات ذات المبالغ الكبيرة حيث قد سبب السحب الطارئ إرباكا للمصرف.
والأصل في الشروط الصحيحة أن تكون ملزمة باعتبارها جزءا من التعاقد الذي جرى على أساسه فتح الحساب وبدء التعامل بين المصرف والعميل.
والسند في ذلك ما ورد في الحديث النبوي ((: والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا)) . (سنن الترمذي، كتاب الأحكام، طبعة استانبول، ص 634،635) .
أما مسألة التفاوت الزمني في الاستثمار بسبب تغير الأرصدة صعودا وهبوطا فإن هذه المسألة محلولة حسابيا حيث ترد الأموال جميعا إلى قاعدة استثمار الدينار الواحد لليوم الواحد ويستخرج المعدل السنوي بقسمة الحاصل على عدد أيام السنة. وهذه الطريقة هي المعروفة بطريقة الأعداد أو النمر وهي نوع من القياس الاصطلاحي.(9/500)
7- مسالة ضمان الودائع:
ليس هناك اختلاف في أن الودائع المصرفية الحسابية لأغراض الإقراض أنها مضمونة طالما أن القرض أساسا مضمون في ذمة المقترض. ويلحق بذلك الحفظ بالأمانة إذا لم تبق النقود على حالها.
ويلاحظ من تمييز آراء الفقهاء أن مدار الكلام في عقد الوديعة وأنه من عقود الأمانة مبني على مفهوم حفظ الشيء بذاتيه بحيث أنه لو هلكت الوديعة دون تعد ولا تقصير فإنها تهلك على مالكها.
ولكن الحال يختلف عندما تذوب الوديعة وتصبح التزاما في الذمة نتيجة الإذن بالاستعمال والتصرف.
أما نقطة الخلاف الكبرى فإنها تدور حول ضمان المصرف للودائع الاستثمارية.
فقد نظر الأكثر من أهل البحث الفقهي المعاصر إلى أن الوديعة الحسابية المصرفية هي رأس مال مضاربة وأن المصرف عامل في هذا المال وأنه ليس على العامل ضمان.
وذهب الرأي المقابل إلى أن ما ينطبق على المضاربة الخاصة التي بحثها الفقه الإسلامي قديما لا يشمل المضاربة المشتركة التي هي عقد جديد تشبه حالة الأجير المشترك.
وكما أن الأجير المشترك له أحكام تتعلق بعمله ومسؤوليته في الضمان بصورة مختلفة عن أحكام الأجير الفرد وذلك حسبما قرر الفقهاء منذ القديم ولا سيما بالنسبة للقول بضمان الأجير المشترك ووجه المصلحة فيما اتفقوا عليه، كذلك فإن رعاية أموال الناس ومصالحهم تتطلب النظر في تضمين المضارب المشترك وذلك على أساس أننا أمام تعاقد جديد بظروف وشروط تختلف عن ظروف وشروط المضاربة الفردية وذلك من النواحي التالية:
1- أن رب المال في المضاربة الفردية يختار العامل ويحدد له نوع النشاط ويضع الشروط التي يراها ملائمة لحفظ ماله من الضياع، بينما لا يملك رب المال في المضاربة المشتركة سوى اختيار المصرف الإسلامي الذي يتعامل معه، أما الشروط فلا تتحملها طبيعة المضاربة المشتركة وكذلك أشخاص العاملين في المال حيث يختار المصرف موظفيه وفق قواعده الخاصة بالتوظيف.
وكان مقتضى توازن العقود أن يكون في مقابل الحرمان من حق الاشتراط نوع من الضمان عن الخطأ المفترض في أعمال الموظفين الذين تقع رقابتهم على عاتق المصرف الذي يريد أموال المضاربة المشتركة.(9/501)
2- أن عمل المضاربة المشتركة ذو طبيعة مستمرة لا تتوقف وذلك لأن العمليات التي يقوم بها المصرف متتابعة ومتداخلة وليس ممكنا الحكم بتاريخ معين على حدوث خسارة محددة إلا إذا صفيت جميع عمليات المصرف، وهذا يعني تصفية المصرف نفسه حيث يحتمل أن تكون عمليات رابحة لو صفيت لكانت أرباحها أكبر من الخسارة الظاهرة.
ولما كانت هذه التصفية متعذرة فإن الحل الوحيد للسماح بسحب الودائع الحسابية الاستثمارية ودخول مودعين جدد هو تقرير مبدأ سحب رأس المال وذلك نحو ما تفعل المصارف الإسلامية دون أن تصرح بالضمان.
وقد حدث في أحد المصارف الإسلامية التي لا تأخذ بأصل مبدأ الضمان خسارة كبيرة حيث لم تجد هيئة الرقابة الشرعية مناصا من تضمين المصرف للخسارة الواقعة على أساس الخطأ المفترض.
بينما استحدث في البنك الإسلامي الأردني منذ تأسيسه صندوق خاص لتغطية مخاطر الاستثمار حيث تقتطع نسبة 10 % سنويا من الأرباح لحساب هذا الصندوق أخذ بوجهة النظر المالكية وذلك بالنسبة لجواز تخصيص جزء من ربح المضاربة لجهة ثالثة غير العامل ورب المال. (انظر المادة 21 من قانون البنك الإسلامي الأردني رقم 13 لسنة 1978 والقانون المعدل لسنة 1981م) .
3- الأساس الفقهي الذي فرقت فيه بعض الآراء بين عمل العامل في مال القراض بنفسه وبين عمله عن طريق دفعه إلى من يعمل فيه.
فقد عرض الفقيه المالكي ابن رشد الحفيد لهذه المسألة عند البحث في طوارئ المضاربة بأنه لم يختلف المشاهير من فقهاء الأمصار أنه (إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض آخر أنه ضامن إن كان خسر وإن كان ربح فذلك على شرطه ثم يكون للذي عمل شرطه على الذي دفع إليه فيوفيه حقه مما بقي من المال) . (1)
والمضاربة تشبه الإجارة من حيث إنها استحقاق الربح بالعمل أو بالضمان، وكما أن الأجير الوسيط يستحق الربح ولو لم يعمل في حالة دفع العمل لغيره ولا سبب لذلك إلا الضمان. كذلك فإن المضارب الوسيط حيث لم يقدم عملا ولا مالا إنما يستحق الربح بسبب الضمان. لذلك لم يتردد الفقيه الكاساني في ضرب المثل مأخوذا من واقع ربح المضاربة بمثال من الإجارة.
__________
(1) ابن رشد (الحفيد) ، بداية المجتهد، 2/238) .(9/502)
فقد عرض الكاساني لمسألة ربح المضارب الأول عندما يدفع المال إلى المضارب الثاني حيث قال بأن المضارب الأول يستحق الربح (السدس مثلا) بعد أن يعطي المضارب الثاني نصيبه وهو الثلث، ويعطي لرب المال نصيبه وهو النصف، حيث يعلل ذلك بقوله: (لأن عمل المضارب الثاني وقع له فكأنه عمل بنفسه كما لو استأجر إنسانا على خياطة ثوب بدرهم فاستأجر الأجير من خاطه بنصف درهم طاب له الفضل؛ لأن عمل أجيره وقع له فكأنه عمل بنفسه) . (1)
والواقع أن سبب استحقاق الأجير الوسيط للربح هو ضمان بدليل أنه لو تلف الثوب بفعل الأجير الأخير فإن المسؤل هو الأجير الوسيط.
كما يستشف من استقراء الآراء في شرح مختصر خليل في شرح عبارة المختصر (ككل آخذ مال للتنمية) أن هناك فرقا في التعدي باستثمار المال بين الوكيل والمضارب. فقد جاء في شرح الخرشي على مختصر خليل (6 /214) في معرض شرحه لعبارة المختصر قوله: (والمعنى أن كل من أخذ مالا لينميه لربه فتعدى في ذلك المال كالوكيل على بيع شيء والمبضع معه واتجر فحصل به ربح أو تلف فيكون عليه وإن حصل ربح فهو لرب المال وحده نظرا لما دخلا عليه ابتداء بخلاف عامل القراض إذا شارك في المال أو باع بدين أو نحو ذلك بغير إذن ربه فخسارته عليه وحده, والربح له ولرب المال على ما دخلا عليه ابتداء. وكل من أخذ مالا لا على سبيل التنمية كالمودع والغاصب والوصي إذا حركوا إلى أن نما بالتعدي فإن الربح لهم بتعديهم والخسارة عليهم) (2)
وهذا يدل أن هناك فرقا في نتيجة التعدي بين الوكيل والمضارب, فإن قال قائل: إن الشرط هنا مرتبط بعدم الإذن قلنا: إن الإذن في المضاربة المشتركة كالعدم لأن المضارب لا يملك أصلا حق المنع والإعطاء, فالمصرف الإسلامي يقارض من يرى ويشارك من يرى دون أن يطلب إذنا وأنه إذا أعطي الإذن فلا معنى له لأنه إذن بما هو غير محدود.
__________
(1) الكساني، مرجع سابق، 7/3545.
(2) الخرشي, شرح مختص خليل,6\214.(9/503)
ومهما يكن من أمر فإن مسألة الضمان وإن لم يصرح بها فإنها قائمة بالفعل؛ لأن المصرف الإسلامي الذي يسمح لصاحب الوديعة بسحب أمواله المودعة كليا أو جزئيا يقر ضمنا أنه قبل مبدأ سلامة رأس المال لأصحابه وإلا كان مقتضى الأمر ألا يسمح المصرف أبدا بسحب أي قدر من الوديعة الاستثمارية ما لم يجر الجرد الكامل لموقف الأرباح والخسائر حتى يقرر ما إذا كانت الوديعة الاستثمارية ترد سليمة لصاحبها أم تنقص عن رأس المال أو تزيد.
فإذا علم أن المصرف يرد يوميا مئات الودائع الاستثمارية ويتسلم مئات غيرها علمنا أن هذا الافتراض النظري مستحيل وأنه لا مناص من افتراض الضمان صراحة أو ضمنا.
أم بالنسبة للجهة التي تتحمل عبء الضمان فإنها تتحدد بالمساهمين إذ هم الذين يملكون الإدارة وهم الذين يتحملون تبعة أخطاء موظفيهم.
8- الخاتمة:
وبعد , فهذه ملاحظات على موضوع الودائع المصرفية الحسابية يرجى أن تجد لها مكانا في المناقشة الفقهية بما يسهل الوصول إلى ما هو أقرب تحقيق مقاصد الشرع.
والأفكار المعروضة هي رأي يستظل بظلال القواعد الفقهية وقد تختلف الأفهام ولكن الاتجاه نحو الحق موحد الولاء , وكما يتجه المسلمون شطر المسجد الحرام من كل صوب وحدب كذلك تتجه الأفكار نحو منابع الشرع من كل مكان.
وإن الله هو الهادي إلى سواء السبيل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
د. سامي حسن حمود.(9/504)
الودائع المصرفية
حسابات المصارف
إعداد
د. حسين كامل فهمي
المعهد الإسلامي للبحوث والتنمية
البنك الإسلامي للتنمية بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وأصلي وأسلم على سيدنا محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخير الأنام وعلى آله وأصحابه السادة الأعلام.. وبعد.
فيعتبر موضوع الودائع المصرفية من أهم الموضوعات التي طالما شغلت بال كثير من رجال البنوك، والعديد من الباحثين الاقتصاديين، والمسؤولين عن رسم السياسات الاقتصادية في جميع أنحاء العالم. ولا غرابة في هذه المقولة إذا علم أن الودائع المصرفية تعد من أهم وأخطر المتغيرات الاقتصادية سواء بالنسبة للدولة على المستوى الكلي، أو بالنسبة للوحدات المكونة للقطاع المصرفي على المستوى الجزئي. وتبرز أهمية وخطورة هذا المتغير من كونه يعد سلاحا ذا حدين. فالودائع إذا أحسن اختيار جمعها ووضعت لها القواعد الصحيحة والأسس العادلة لطرق استخدامها، كانت مصدرا من مصادر الأمن والقوة والرخاء بالنسبة للدولة ولوحدات القطاع المصرفي، ولسائر أفراد المجتمع جميعا. إذ إنها في هذه الحالة تمثل وعاء جيدا للمدخرات اللازمة لدعم مسيرة العملية الإنمائية داخل الدولة، وموردا رئيسيا لتمويل الأنشطة الاستثمارية للبنوك، ومصدرا لدخل منتظم لكثير من الأفراد على مختلف المستويات الاجتماعية داخل المجتمع. هذا فضلا عن كونها تشكل جزءا هاما من المعروض النقدي لدى الدولة. أما إذا أسيء استخدام هذه الودائع فهي إذن مصدر نقمة وسبب للتظالم بين الناس وعامل من العوامل الأساسية وراء كثير من المشكلات الاقتصادية وعدم الاستقرار داخل الأسواق المختلفة (نقدية – رأسمالية – سلعية) .(9/505)
ولقد كان للباحث الشرف في كتابة بحث سابق حول أحد الأبعاد الأساسية لهذا الموضوع، تم نشره مؤخرا في مجلة جامعة الملك عبد العزيز جدة. (1)
ويدور المحور الأساسي لهذا البحث حول بيان معالم المنهج الإسلامي في علاج إحدى المشكلات الاقتصادية الهامة التي يعاني منها بصفة مستمرة كثير من دول العالم في عصرنا الحالي سواء الإسلامي منه أو غير الإسلامي، وهي مشكلة إسراف البنوك غي خلق الائتمان وما يترتب عليها عادة من مفاسد عظيمة. ومن الفأل الطيب أن يتضمن ذلك البحث بعض النقاط التي يتناولها الموضوع الرابع لهذا المؤتمر الموقر، (الودائع المصرفية – حسابات المصارف) . ولعل السبب في ذلك يكمن في أن الحل الذي تقدم به الباحث من خلال البحث المذكور يحتوي على اقتراح بضرورة إعادة النظر في هيكل الودائع المعمول به حاليا في البنوك الإسلامية. ويقتصر هذا الاقتراح على كل من الحسابات الجارية والحسابات الاستثمارية على أساس أن معظم الحسابات المفتوحة لدى البنوك مهما اختلفت في مسمياتها، لا بد وأن تندرج في النهاية تحت أحد هذين النوعين من الحسابات. أما عن أسباب هذا الاقتراح فتتلخص فيما يراه الباحث في وجود تشابه كبير بين الهيكل الحالي لموارد واستخدامات البنوك الإسلامية وبين الهيكل القائم في البنوك التقليدية. وأن هذا الهيكل (سواء بالنسبة للحسابات الجارية أو الحسابات الاستثمارية) يتعارض مع ما قصده الشارع من نشر العدل بين الناس واستتباب الأمن والاستقرار في المعاملات فضلا عن تعارضه مع بعض الأحكام والشروط الأساسية للعقود الشرعية التي تحكم التعامل من خلال هذه الحسابات.
وإذا كان الباحث قد استعرض في بحثه السابق بعض الأدلة والدوافع التي تبرر وجهة نظره في هذا الموضوع، فإنه في هذا البحث الجديد وحول موضوع (الودائع المصرفية – حسابات المصارف) يسترسل في إضافة أبعاد جديدة لتدعيم وجهة نظره السابقة بالنسبة لكل نوع من الحسابات (الجارية – الاستثمارية) ، مع التركيز على الحسابات الجارية بصفة أساسية. ومراعيا أن يتضمن ذلك جميع المحاور المطلوب تغطيتها في هذا المؤتمر الموقر بالنسبة لهذا الموضوع، داعيا الله عز وجل أن يكون عمله هذا خالصا لوجهه الكريم. بناء على ذلك، فإن البحث سينقسم بعد هذه المقدمة القصيرة إلى ثلاثة أجزاء: يتناول الجزء الأول منها موضوع الحسابات الجارية، ويشتمل على عرض مفصل للنقاط الجديدة التي سيطرحها الباحث حول هذا الموضوع. أما الجزء الثاني فيتناول موضوع الحسابات الاستثمارية، وسيتبع فيه الباحث نفس الأسلوب الذي اتبعه بالنسبة للحسابات الجارية، ولكن بشيء من الاختصار. أما الجزء الثالث والأخير فسيخصص للخلاصة وأهم الاستنتاجات.
__________
(1) انظر: د. حسين كامل فهمي، (نحو إعادة هيكلة النظام المصرفي الإسلامي) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي –جامعة الملك عبد العزيز-جدة – المجلد (4) ، 1412هـ -1992-ص (3) .(9/506)
الحسابات الجارية:
الحساب الجاري في البنوك هو: القائمة التي تقيد بها المعاملات المتبادلة بين العميل والبنك. وتكون هذه المعاملات متشابكة يتخلل بعضها بعضا بحيث تكون مدفوعات كل من الطرفين مقرونة بمدفوعات من الطرف الآخر. ويتميز هذا الحساب بأنه قابل للسحب منه عند الطلب، ولذلك يسمى في بعض الأحيان بالحساب تحت الطلب. ولا تمنح البنوك عادة على هذا النوع من الحسابات أي عائد، وإنما قد تطلب من العميل في بعض الأحيان رسوما قليلة نظير الخدمات المؤداة له.
وعادة ما يقترن الحساب الجاري في البنوك التقليدية بنوع واحد من أنواع التكييف القانوني وهو (القرض) . فيعتبر الإيداع في هذا الحساب من الناحية القانونية كقرض من العميل للبنك. (1)
أما بالنسبة للبنوك الإسلامية فيتبع بعضها نفس هذا الأسلوب ويشترط اعتبار صفة الإيداع في الحساب الجاري كقرض حسن من العميل إلى البنك. أما البعض الآخر فيفضل إضفاء صفة الوديعة المأذون باستعمالها على هذا الحساب، رغم أنه من الناحية الشرعية لا فارق بين هاتين الصورتين للحساب فمن المعروف أن الوديعة المأذون باستعمالها تؤول في حالة النقود إلى القرض. وتفسير ذلك يرجع إلى اعتبار الفقهاء هذه الوديعة كعارية، ويطبق عليها أحكامها. إلا أنه لكون أن هذا الوصف يختص بإعارة الأعيان التي ينتفع بها، ولأن الأمر في حالة أرصدة الحسابات الجارية يتعلق بالنقود، وهي بطبيعتها لا ينتفع بها إلا باستهلاكها فإن إطلاق صفة الإعارة عليها تعتبر من طريق المجاز وبالتالي فهي في حقيقتها قرض (2)
بناء على ذلك فإنه على مدى ما سيتبقى من هذا الجزء من البحث فسيفترض الباحث أن التكييف الفقهي للحساب الجاري المعمول به حاليا لدى البنوك الإسلامية هو عقد قرض بين العميل والبنك. ويترتب على هذا النوع من التكييف كل من الأحكام التالية:
__________
(1) انظر: د. محيي الدين إسماعيل علم الدين، (موسوعة أعمال البنوك) الجزء الأول 1987،331.
(2) انظر: د. نزيه حماد (عقد الوديعة) دار القلم 1414هـ -1993م، ص 117. وانظر أيضا د. وهبة الزحيلي، (الفقه الإسلامي وأدلته) ، دار الفكر 1405هـ -1985م – 5/58.(9/507)
-أن عقد الإيداع يعتبر عقدا غير لازم في حق البنك (المقترض) ، فله في أي وقت رد رصيد الحساب إلى العميل (المقرض) . كما أنه يعتبر عقدا غير لازم في حق العميل (المقرض) . فله المطالبة برصيد حسابه (الدين) من البنك (المدين) في أي وقت شاء. (1)
- انتقال ملكية الأموال المودعة في الحساب من العميل (الدائن) إلى البنك (المدين) بحيث يمتلكها الثاني ملكا تاما يخوله حق التصرف فيه. إلا أن الفقهاء اختلفوا فيما يختص بتوقيت نقل الملكية في القرض على أربعة أقوال وهي: انتقال الملكية بالعقد وإن لم يتم القبض (المالكية) – انتقال الملكية بالتصرف (لبعض الشافعية) -انتقال الملكية بالاستهلاك (لأبي يوسف) . انتقال الملكية بالقبض (للحنابلة والحنفية في القول المعتمد والشافعية في الأصح) . (2)
-يتفق الفقهاء على أن المقترض في عقد القرض بمجرد تملكه للعين المثلية أن يثبت في ذمته مثلها لا عينها وبالتالي يصير ملتزما برد بدل مثلها. (3) وهو نفس الشيء الذي ينطبق على النقود المودعة في الحساب الجاري حيث يتم استهلاكها بمجرد الاستعمال.
وفي واقع الأمر فإن تفضيل البنوك بصفه عامة (تقليدية – إسلامية) لإضفاء صفة عقد القرض على الحساب الجاري يرجع إلى سببين أساسيين، هما على وجه التحديد كالآتي:
أ - أن الأحكام والآثار المترتبة على عقد القرض تتواءم تماما مع طبيعة استخدام هذا النوع من الحسابات حيث يقوم العملاء عادة بتجنيب جزء من أموالهم لإيداعها في هذا الحساب لمقابلة مدفوعاتهم الجارية خلال الفترات الدورية الواقعة بين تواريخ حصولهم على الدخل المتكرر. مما يترتب عليه احتمال تقدم العميل لسحب كل أو جزء من رصيد حسابه لدى البنك في أي وقت.
__________
(1) يعتبر القرض عقد غير لازم في حق المقرض عند جمهور الفقهاء باستثناء المالكية –انظر: د. نزيه حماد، (عقد القرض) ، دار القلم 1411هـ -1991م الطبعة الأولى ص 41.
(2) د. نزيه حماد-مرجع سابق، ص 43.
(3) د. نزيه حماد، مرجع سابق، ص (46-47)(9/508)
ب- الاستفادة من الفرصة غير المكلفة المتاحة لهذه البنوك والتي تتمثل في القدرة على تحقيق شيئين هما:
- استثمار الأرصدة المتجمعة لديها في هذه الحسابات بدون مقابل، وتحقيق الأرباح من وراء ذلك.
- مضاعفة حجم هذه الأرصدة بطريقة تلقائية من خلال ما هو معروف وشائع في جميع الأوساط المصرفية باسم مقدرة البنوك على خلق الائتمان، (أو خلق النقود) .
ومن المعروف أيضا – وكما سبقت الإشارة إليه – أن البنوك التقليدية تمتنع عن منح أي عائد على أرصدة الحسابات الجارية بحجة أن هذه الأرصدة قابلة للسحب في أي وقت وفقا للطلبات التي قد ترد إليها من المودعين، مما قد يعوق فرصة استثمارها بالشكل الملائم. وتنتهج البنوك الإسلامية نفس هذا المنهج وتبرر ذلك بعدة أسباب منها: أن ملكية هذه الأرصدة تنتقل إليها بموجب عقد القرض المحرر بينها وبين العميل، ويتعين عليها نتيجة لذلك أن تضمنها، وبالتالي يحل لها العائد المترتب على تشغيلها وفقا لقاعدة (الخراج بالضمان) (1) ومن ناحية أخرى فإن منح البنوك الإسلامية أي عائد لعملائها على هذه الأرصدة يتعارض مع كونها في حكم القرض، لما يترتب على ذلك من نفع للعميل وهو غير جائز للحديث الوارد عن سيدنا على بن أبي طالب بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: ((كل قرض جر منفعة فهو ربا)) (2)
__________
(1) انظر: فضيلة الشيخ أحمد الزرقا (شرح القواعد الفقهية) –دار القلم –دمشق، الطبعة الثانية 1409هـ -1989م ص 429.
(2) رواه الحارث ابن أبي أسامة في مسنده من حديث على بن أبي طالب بلفظ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) (نهى عن قرض جر منفعة) وفي رواية (كل قرض جر منفعة فهو ربا) .(9/509)
تحديد محور الخلاف:
يعتقد الباحث أن طريقة الاختيار الواجب النظر إليها بعين الاعتبار عند تحديد نوع التكييف الفقهي للحسابات الجارية المفتوحة لدى البنوك الإسلامية، يجب أن لا تقتصر على مجرد الوقوف على المصالح الخاصة التي تخدم اهتمامات هذه البنوك فقط، وإنما يجب أن تتسع دائرة الترجيح لتشمل أي احتمال لترتب مفاسد معينة من وراء هذه المصالح، هذا فضلا عن ضرورة البحث أيضا عن أي احتمالات لوجود مصالح أخرى قد تكون أكثر شمولا واتساعا من حيث الأثر وتتعارض مع المصالح الخاصة بالبنوك؛ وذلك لأنه إن كانت شريعة الله قائمة على أساس اعتبار مصالح العباد، فالمقصود بمراعاتها أن لا تكون هذه المصالح واهمة بحيث يترتب عليها مفاسد أعظم منها، أو أن يكون هناك مصالح أخرى أرجح منها وأشمل. (1)
يرجع اهتمام الباحث بهذه الاعتبارات لكون أن إضفاء صفة القرض على الحسابات الجارية لدى البنوك الإسلامية في ظل الميكانيكية التلقائية المتاحة لها لخلق النقود من خلال نشاطها الائتماني، قد يترتب عليه مفاسد عظيمة تتلخص في حدوث غبن وظلم للعملاء من أصحاب الحسابات الجارية، فضلا عن ورود احتمال لتعرض البلاد لموجات تضخمية نتيجة لميل البنوك في كثير من الأحيان إلى الإسراف في خلق الائتمان سعيا وراء تحقيق الربح في ظل تكلفة تكاد تكون معدومة. هذا بالإضافة إلى ما تشهد به الأحداث التاريخية على مستوى العالم خلال هذا القرن من تعرض كثير من الأسواق العالمية سواء نقدية أو سلعية للارتباك عدة مرات مما نتج عنه سقوط عدد كبير من البنوك وإفلاس قطاع كبير من الشركات، وتدهور مستوى المعيشة لفئات كثيرة من الأفراد داخل المجتمعات المختلفة.
__________
(1) د. محمد سعيد رمضان البوطي، (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) . مؤسسة الرسالة، 1402هـ -1982م.(9/510)
بناء على ذلك فإنه تمشيا مع الأحكام والمقاصد لشريعتنا الغراء، والتي تهدف إلى حفظ كيان المجتمع الإسلامي ورفع المستوى المعيشي لأفراده في كل زمان ومكان، فإن الباحث يرى ضرورة إعادة النظر في التكييف الفقهي المعمول به حاليا بالنسبة للحسابات الجارية في البنوك الإسلامية، ليصبح: وديعة (بمفهومها الشرعي) لدى كل من البنك الإسلامي، والبنك المركزي في نفس الوقت، مع الإذن للبنك المركزي فقط باستخدامها. وقد يتمشى هذا الاقتراح مع الحكم بجواز تعدد المستودع للوديعة (1) لكون أن أرصدة الحسابات الجارية تحتمل القسمة، ولاحتمال بقاء الأموال تحت يد المستودع الأول (البنك الإسلامي) لفترات قصيرة أثناء عمليات تحويلها من وإلى المستودع الثاني (البنك المركزي) . وهذا الاقتراح، وهو ما يطلق عليه بالمفهوم المصرفي: الاحتفاظ باحتياطي 100 % من أرصدة الحسابات الجارية لدى البنك المركزي، يؤدي نفس الوظائف المتعلقة بخدمة العملاء من حيث تلقي إيداعاتهم والاستجابة لمسحوباتهم الدورية، إلا أنه فضلا عن ذلك، يخرج بنا عن الخلاف الذي يثيره البعض بشأن بقاء جزء من المعروض النقدي لدى البنوك بدون استخدام. وهو موضوع الاقتراح السابق الذي تقدم به الباحث من قبل. (2)
فالاقتراح الجديد يكفل دفع المفسدة المحتملة من وراء سوء استغلال البنوك التجارية للودائع الجارية، وذلك بمنعها من استخدام تلك الودائع لحسابها. وبالإضافة إلى ذلك فإنه يضمن أيضا عدم تعطيل الأموال أثناء فترة الإيداع لدى الجهاز المصرفي ككل، وذلك بإتاحة الفرصة للبنك المركزي لاستخدامها في الإنفاق العام مع تضمينه رد مثلها للعملاء المودعين عند الطلب ويتميز هذا الاقتراح كذلك بأن استخدامات البنك المركزي لا تهدف إلى تحقيق الربح، وبأنه في حد ذاته يمثل السلطة النقدية في الدولة مما يتيح إحكام الرقابة المباشرة على هذه الأرصدة في حالة استخدامها.
__________
(1) انظر: نزيه حماد –مرجع سابق، ص (177) .
(2) يقتصر ذلك الاقتراح على اعتبار الوديعة لدى البنوك بأنها وديعة بمفهومها الشرعي دون إيداع الأرصدة لدى البنك المركزي أو استخدامها بمعرفته انظر: د. حسين كامل فهمي –مرجع سابق-ص (32)(9/511)
الأسباب والمبررات الأخرى لإعادة التكييف:
وإذا كنت بهذا قد تناولت بعض جوانب هذه المشكلة، فإنني أضيف إلى ذلك أسبابا أخرى قد تكون في حد ذاتها كافية كمبرر للأخذ بالاقتراح الجديد المذكور.
وهذه الأسباب كالتالي:
أولا: أن استخدام النوع الأول من التكييف (اعتبار عقد الحساب الجاري كعقد قرض) يؤدي إلى مشاركة القطاع المصرفي الخاص للدولة في حق إصدار النقود عن طريق خلق النقود الائتمانية كما سبقت الإشارة إليه في بداية هذه الورقة. ولا شك أن ذلك فيه تعارض مع ما ذهب إليه عديد من الفقهاء من عدم جواز تفويض الحاكم للأفراد للقيام بهذه المهمة. فيقول الإمام النووي: (قال أصحابنا: يكره أيضا لغير الإمام ضرب الدراهم والدنانير إن كانت خالصة لأنه من شأن الإمام، ولأنه لا يؤمن فيه الغش والإفساد) (1)
ويقول الإمام أحمد: (لا يصح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان؛ لأن الناس إذا رخص لهم ركبوا العظائم) (2)
وبشأن محاولة تعمد بعض الناس غش النقود (وهو ما يترتب أيضا على الإسراف من جانب البنوك في خلق الائتمان) ، يقول ابن العربي المالكي في كلامه عن عقوبة من يكسرون الدراهم والدنانير: (قال مالك: يعاقبه السلطان على ذلك عقابا مطلقا من غير تحديد عقوبة.) (3) ويقول الإمام النووي في ذلك أيضا: (يقول الإمام الشافعي: يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة للحديث الصحيح: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((من غشنا فليس منا)) (4)
__________
(1) انظر الإمام النووي: (المجموع) ، 5/468.
(2) انظر: القاضي أبي يعلي (الأحكام السلطانية) –طبعة مصطفى الحلبي، ص181.
(3) انظر: ابن العربي، (أحكام القرآن) (3/1065-1066) .
(4) انظر الإمام النووي، مرجع سابق ص (468) .(9/512)
ثانيا- قد يرد البعض على ما جاء بالنقطة السابقة بالقول بأنه طالما كان في استطاعة السلطات النقدية في الدولة الإسلامية إحكام سيطرتها على حجم المعروض النقدي، من خلال الرقابة على العمليات الائتمانية التي تقوم بها البنوك الإسلامية. فلا محل للادعاء بأن زيادة هذا المعروض عن طريق تلك البنوك قد يؤدي إلى عدم الاستقرار أو إلى فقدان الثقة في الجهاز المصرفي.
والإجابة على ذلك باختصار هي كالآتي:
لا شك أن القرارات الخاصة بتطبيق ما يسمى بالسياسات النقدية على اقتصاد الدولة الإسلامية يجب أن تخضع في إطارها العام لأحكام وقواعد الشريعة الإسلامية. وهذه الحقيقة هي المحك الأساسي للفرق بين نظام العمل في الاقتصاد الإسلامي وبين نظم العمل المتبعة في الاقتصاديات التقليدية.
ويدعي الباحث بأن الأخذ في الاعتبار لهذه الأحكام والقواعد من شأنه أن يؤثر تأثيرا سلبيا على فاعلية السياسة النقدية والأدوات المختلفة التي تستخدمها للوصول إلى الأهداف المرجوة منها. وبالتالي قد يقلل من أهمية الاعتماد عليها في تحقيق التوازن والاستقرار النقدي داخل الدولة الإسلامية بالمقارنة بما يمكن أن يكون عليه الوضع في حالة التطبيق على البلدان غير الإسلامية.
ورغم أن تفصيل ذلك يحتاج إلى إفراد بحث مستقل بذاته يخصص لهذا الغرض، إلا أنه يمكن اختصار أهم الملامح الخاصة بهذا الادعاء بتتبع الآثار المختلفة المترتبة على تطبيق الأحكام والقواعد الشرعية على أدوات السياسة النقدية عند محاولة استخدامها في الدولة الإسلامية لتحقيق الأهداف المرجوة منها.
وسنبدأ أولا باستعراض أهم أهداف السياسة المذكورة، ثم نتلو ذلك ببيان عن أهم الآثار المترتبة على تطبيق الأحكام في هذا الشأن.(9/513)
أ - أهم أهداف السياسة النقدية:
لا شك أن أهم هدفين للسياسة النقدية هما كالآتي:
1- تمكن السلطات النقدية من إحكام الرقابة على النشاط الائتماني للبنوك للتأكد من عدم إسرافها في خلق النقود الائتمانية.
2- التأثير على مسار المتغيرات الاقتصادية الكلية (الاستثمار -الادخار-الاستهلاك..الخ) من خلال التغيير في حجم المعروض النقدي، للتوصل من ذلك إلى تحقيق الاستقرار داخل السوق النقدي، والمحافظة على مستوى قريب من العمالة الكاملة، ومنع حدوث فجوات تضخمية أو موجة من موجات الكساد.
ب - الآثار المتوقعة من جراء تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أدوات السياسة النقدية:
فيما يلي تحليل مختصر لأهم الآثار والعوامل المنتظر ترتبها على تطبيق الأحكام الشرعية على الأدوات المباشرة للسياسة النقدية، مبينة حسب الأهداف المرجوة منها:
بالنسبة للهدف الأول (مراقبة عمليات الائتمان) :
تعتبر الأداة الأساسية التي تستخدمها البنوك المركزية للتوصل إلى هذا الهدف هي (نسبة الاحتياطي الإلزامي) . وتتلخص طريقة العمل من خلال هذه الأداة في طلب البنك المركزي من البنوك الإسلامية إيداع نسبة معينة من أرصدة الحسابات الجارية المفتوحة لديها بدون مقابل طرفه. ويكون لهذا البنك، بالإضافة إلى ما سبق ذكره الحق في رفع هذه النسبة أو خفضها بحسب ما قد يراه مناسبا لتحقيق الهدف المطلوب.
أما بالنسبة للآثار المتوقعة من تطبيق الأحكام الشرعية على الميكانيكية التي تعمل من خلالها هذه الأداة، ومقارنة هذه الآثار بالآثار المترتبة على الاقتراح الذي يتقدم به الباحث. فيمكن بيانها في كل من النقطتين التاليتين:
-إذا افترض أن التكييف الفقهي للحسابات الجارية لدى البنوك الإسلامية، هو أنها قرض. وأراد البنك المركزي أن يستخدم أداة نسبة الاحتياطي، فإن ذلك سيضعه في حالة من الحرج. والسبب في ذلك يرجع إلى أن أرصدة هذه الحسابات ستعتبر مملوكة للبنوك (قطاع خاص) ، وبالتالي لا يجوز له مصادرتها أو استعمالها بطريقة تعسفية نظرا لأنه لا يجوز للإمام مصادرة أموال الرعية إلا لضرورة. (1) ،مصداقا لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] . ولقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ((لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير حق، وذلك لما حرم الله مال المسلم على المسلم)) . (2) وقوله عليه الصلاة والسلام وهو في حجة الوداع ((: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) . (3) إلا أن معنى الضرورة في هذه الحالة قد لا يكتمل للبنك المركزي حتى في حالة حدوث بعض القلاقل في السوق النقدي ونظرا لأنه من شروط الضرورة (بمعناها الشرعي) أن تكون الأداة التي يدفع بها الخطر، أداة لازمة لدفع هذا الخطر، بمعنى أنه لا يوجد لها بديل حلال. (4) . وفي حالتنا هذه سيكون البديل متوفرا أمام البنك المركزي، وهو الاقتراح الذي يتقدم به الباحث، وهو في حد ذاته كاف تماما لمنع أي فرصة لخلق ائتمان جديد من خلال الحسابات الجارية.
__________
(1) يلاحظ أن ما ينطبق على أداة نسبة الاحتياطي القانوني من محاذير شرعية ينطبق أيضا على ما يسمى بالأدوات النقدية غير المباشرة كفرض حد أقصى على عمليات البنك الائتمانية سواء كان هذا الحد على الحسابات الجارية أو الاستثمارية أو كلاهما معا.
(2) الحديث أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي سعيد عن أبي حميد العدي.
(3) الحديث رواة الشيخان وابن ماجه وأحمد بن حنبل.
(4) انظر: د. يوسف قاسم: (نظرية الضرورة) ، دار النهضة العربية، 1401هـ -1981م – ص 203.(9/514)
وبالتالي كف لاقتلاع أسباب المفاسد الاقتصادية من جذورها وقبل وقوعها
وهو لهذا السبب أولى بالإتباع، وأفضل من حيث الأثر النهائي.
-أنه يلاحظ أن الهدف الأساسي من استخدام أداة نسبة الاحتياطي الإلزامي هنا هو تمكين البنك المركزي من وضع يده على جزء كبير من أرصدة الحسابات الجارية طرفه (بل أن الأمر قد يمتد أيضا إلى جزء من أرصدة الحسابات الاستثمارية مما يترتب عليه ضياع حقوق المودعين الخاصة بتمكنهم من الحصول على عائد مناسب) بالشكل الذي يحد به من ميل البنوك إلى الإسراف أو التمادي في خلق الائتمان. وبمقارنة هذا الوضع بالوضع المترتب على الاقتراح الذي يتقدم به الباحث، يتضح أن الأثر النهائي في كلتا الحالتين واحد، وهو استقرار أرصدة الحسابات الجارية لدى البنك المركزي. وبالأخذ في الاعتبار للواقع التاريخي الذي يعكس فشل السلطات النقدية في الكثير من الأحيان في التحكم في تصرفات البنوك في تماديها في خلق الائتمان، وكذا لكل ما سبق استعراضه حول هذه النقطة من قبل، فإنه يتبين أفضلية الاقتراح الأخير للاتباع.
أما بالنسبة للهدف الثاني للسياسة النقدية (التأثير على المتغيرات الاقتصادية الكلية) :
فتتضافر بشأنه ثلاثة أنواع أساسية من الأدوات التقليدية. وهي على الترتيب كالآتي:
نسبة الاحتياطي الإلزامي (السابق الإشارة إليها) – السوق المفتوحة- سعر الخصم. وأما عن الآثار المتوقعة لتطبيق الأحكام الشرعية على هذه الأدوات، فيمكن القول بأن المجهودات المبذولة لاستخدام أدوات رقابة نقدية إسلامية بدلا من الأدوات التقليدية، قد لا تأتي بالثمار المرجوة منها لوجود احتمال كبير لعدم قدرتها في التأثير على المتغيرات الاقتصادية الكلية. وبصفة خاصة بالنسبة لكل من الاستثمار والادخار.(9/515)
وتفسير ذلك يأتي من أن هناك فارقا بين الميكانيكية التي تعمل من خلالها السياسة النقدية التقليدية، وبين الميكانيكية المنتظر أن تعمل من خلالها الأدوات النقدية الإسلامية. ففاعلية السياسة التقليدية في تحقيق الأهداف المرجوة منها تتوقف على كونها تعمل للتأثير على سوق واحد هو السوق النقدي، من خلال عمليات ضخ وامتصاص تدفقات متتالية من وإلى القطاع المصري تتم كلها في إطار سلسلة واحدة متصلة الأطراف. كما تعتبر هذه العمليات متجانسة في طبيعتها ويحكمها نوع واحد من العقود هو القرض. كما يؤثر فيها مؤشر واحد هو سعر الفائدة. أما الميكانيكية المنتظر أن تعمل من خلالها السياسة النقدية الإسلامية، فتتم من خلال عمليات متنوعة تخضع في إنشائها لعقود غير متجانسة سواء في طبيعتها أو في الآثار المترتبة عليها، ويكون محل التعاقد فيها عددا لا نهائيا من السلع (وليس النقود) التي تخضع في تسعيرها لقوى السوق (العرض والطلب) الخاص بكل منها. ويترتب على ذلك وجود احتمال كبير لعدم قدرة كل من البنك الإسلامي والبنك المركزي في التأثير على أسواق هذه السلع وبالتالي على قطاع رجال الأعمال (المستثمرين) سواء في فترات الرواج أو في فترات الكساد. وهو ما يترجم في النهاية بعجز السياسة النقدية عن تحقيق الأهداف المرجوة منها. (1) أما فيما يتعلق بأثر هذا الاستنتاج على موضوع الحسابات الجارية الذي نحن بصدد بحثه: أنه في حالة إضفاء صفة القرض على الحساب الجاري لدى البنوك الإسلامية، فإن ذلك سيسمح لهذه البنوك بالتحكم في جزء من المعروض النقدي (النقود الائتمانية) بحيث يكون لها السلطة في زيادة هذا الجزء كيفما شاءت، أن يكون للبنك المركزي أو السلطات النقدية بصفة عامة أي قدرة للسيطرة عليها. أما في حالة ما إذا تم تكييف هذه الحسابات على أساس أنها وديعة غير مأذون باستعمالها، إلا بواسطة البنك المركزي، فسيترتب على ذلك حجب أي فرصة لتوليد ائتمانية جديدة، وهي بالتالي طريقة فعالة للوقاية من العديد من المشاكل الاقتصادية المستعصية التي يعاني منها كثير من بلدان العالم في عصرنا الحالي.
__________
(1) يكتفي الباحث بهذا القدر لتفسير هذه الظاهرة لمجرد الإشارة إلى وجود احتمالات كبيرة لفشل ما يسمى بالسياسة النقدية في التأثير على المتغيرات الاقتصادية الكلية داخل اقتصاد الدولة الإسلامية أما التفصيلات الفنية الخاصة بهذا الموضوع فهي محل بحث مطول جار إعداده حاليا بمعرفة الباحث لتقديمه إلى المعهد الإسلامي للبحوث التابع للبنك الإسلامي للتنمية.(9/516)
ثالثا: إن اختيار البنوك إضفاء صفة القرض لا يعني بالضرورة أو بطريقة تلقائية موافقة العميل على نفس هذا الاختيار أو ما قد يشتمل عليه من شروط مختلفة. وبمعنى آخر فإن الباحث يدعي بأن توقيع العميل (المودع) على عقد الإيداع في الحساب الجاري بهذا الشكل قد لا يكون معبرا عن إرادة تعاقدية حقيقية أو رغبة مؤكدة منه لتحمل الآثار الناتجة عن هذا التعاقد.
ويستند الباحث في هذا الاستنتاج على عدد من الأسباب التي تعبر في رأيه عن عيوب مباشرة في الإرادة التعاقدية نتيجة لاهتزاز عنصري الرضا والاختيار عند مباشرة العقد. وهذه الأسباب كالآتي:
أ-عدم فهم كثير من العملاء للعبارات والألفاظ الفقهية الواردة في العقد:
فكثير من البنوك الإسلامية تورد في عقد فتح الحساب شرطا على العميل مثل: (الحساب الجاري هو قرض تحت الطلب لا يستحق المتعامل مع المصرف بمقتضاه أية أرباح كما لا يتحمل أية خسارة، ويلتزم المصرف بناء على ذلك بدفع الرصيد كاملا عمد طلبه من المتعامل) .
أو
(للبنك في أي وقت من الأوقات الحق في استخدام رصيد الحساب الجاري، ولا يحق للعميل المطالبة بأي عائد عليه وفي مقابل ذلك يضمن البنك سداد هذا الرصيد للعميل عند أي مطالبة به)
وبطبيعة الحال فإن كلا الشرطين يؤديان إلى نفس النتيجة. وهي اعتبار الحساب الجاري كقرض من العميل إلى البنك كما سبقت الإشارة إليه في بداية هذا البحث. إلا أن العميل بسبب عدم فهمه لما يتضمنه كل من هذين الشرطين من معاني شرعية فإنه قد يفهم ما يوحي إليه بأحد المعنيين التاليين أو بكلاهما معا:(9/517)
- أن الطريقة الوحيدة التي تلزم البنك برد قيمة الوديعة، هي السماح له باستخدامها.
- أنه طالما كانت الوديعة مضمونة من قبل البنك فإنه (أي العميل) سيكون دائما في مأمن من ضياع أمواله في حالة تعرض البنك للإفلاس أو تعرضه لأزمة من أزمات السحب المفاجئ. وبالتالي فإن الجزاء العادل لذلك يكون بالسماح للبنك باستخدام هذه الوديعة. ولا شك أن كلا المعنيين يشوبهما الخطأ والخلط وعدم الفهم كنتيجة لعدم الإلمام بالأحكام الشرعية الخاصة بالوديعة مما يترتب عليه نتائج في غير صالح العميل كما سيأتي تفصيله بعد ذلك.
فبالنسبة للمعنى الأول، لا شك أنه يكون من العدل والإنصاف إتاحة المعلومات الكافية أمام العميل عن البدائل الأخرى التي يمكنه الاختيار من بينها كما هو الحال بالنسبة للاقتراح الذي نتقدم به (1) ، خاصة وأنه يتيح في الأحوال العادية نفس الميزة التي تتيحها طريقة التكييف المعمول بها الآن (القرض) وهي التزام البنك برد قيمة الوديعة كاملة وعلى الفور عند المطالبة بها، مصداقا لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] . ويقول ابن المنذر في هذا الشأن: (وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها، الأبرار منهم والفجار) (2) . إلا أن البنوك تفضل حجب هذه المعلومة تماما عن العميل مما يجعل حرية الاختيار أمامه مقيدة وغير كاملة.
وقد يرد على ذلك بأن تطبيق البنوك للمفهوم الشرعي للوديعة والذي بمقتضاه لا يؤذن لها باستخدامها سيتبعها عدم تضمين البنك للوديعة عند التلف أو الفقدان.
__________
(1) هناك بدائل سيرد ذكر أحدها في الصفحات التالية لهذا البحث.
(2) انظر: ابن المنذر، (الإجماع) ، دار طيبة النشر والتوزيع –الرياض-1402-1982م ص 129(9/518)
فنقول: إنه يتعين في هذه الحالة إحاطة العميل بمعنى عدم الضمان بطريقة واضحة لا لبس فيها بحيث تتاح له فرصة الاختيار السليم. لأنه يتبين من الأحكام الخاصة بالوديعة أن عدم الضمان يقتصر على الحالات الخارجة عن إرادة المستودع (البنك) وبعد التأكد من استيفائه للإجراءات المختلفة التي تكفل، في أغلب الظن، حرز وصيانة الوديعة. وبالتالي يشترط لتمتع البنك بميزة عدم الضمان هذه في حالة التلف أو الضياع، ضرورة إثبات توفير القدر المعتاد من وسائل الحفظ اللازمة لضمان سلامة الأموال المودعة لديه، وكذا إثباته بأن تلف الوديعة لم يكن بسبب استعماله لها، أو أنه كان خارجا عن إرادته. ويقول ابن المنذر: (وأجمعوا على أن على المودع إحراز الوديعة وحفظها) . وقال (أجمع أهل العلم على أن المودع إذا أحرز الوديعة ثم تلفت من غير جناية. لا ضمان عليه) ويقول أيضا: (وأجمعوا على أن المودع ممنوع من استعمال الوديعة ومن إتلافها) (1) .
ومن ناحية أخرى، فإنه من البديهي أن تخوف العميل في عصرنا الحالي، الذي أصبحت فيه البنوك كقلعة من القلاع المحصنة، من احتمالات فقدان أمواله نتيجة لوقوع أحداث غير عادية وخارجة عن إرادة البنك كالسرقة أو الحريق، يكون أقل بكثير من تخوفه من الفقدان نتيجة لاستعمال البنك لهذه الأموال، خاصة إذا اشتمل هذا الاستعمال على عمليات استثمارية عالية المخاطر، كالمضاربة على السلع في الأسواق العالمية على سبيل المثال.
__________
(1) انظر: ابن المنذر، مرجع سابق –ص (129-130) .(9/519)
أما بالنسبة للمعنى الثاني الذي قد يتصوره العميل المودع نتيجة إلزامه جبرا بالشرط الخاص بإقراض البنك، وكذا لعدم تفهمه أو إلمامه بالمعاني الشرعية التي يتضمنها العقد، وعما إذا كان لها بدائل أخرى أم لا. فنقول، إنه لما كان اكتساب الحساب الجاري لصفة القرض يفيد من الناحية الشرعية انتقال ملكية الأموال المودعة في هذا الحساب إلى البنك. فإن وقوع البنك في حالة من حالات الإفلاس، لا قدر الله، سيترتب عليه دخول أرصدة هذه الحسابات ضمن قسمة الغرماء وتعرض أصحابها لفقدان جزء أو كل من أموالهم المودعة. ويعني ذلك أن ضمان البنك على استعماله للوديعة لن يشفع لهم في هذه الحالة لاسترداد أموالهم كاملة. وذلك على العكس تماما لما قد يوحي به النص الوارد بالشرط المذكور للعميل. أما إذا أضفيت صفة الوديعة بمعناها الشرعي (عدم الإذن بالاستعمال) على الحساب الجاري، ووفقا للاقتراح الذي نتقدم به، فإن ذلك في حد ذاته كفيل بأن يضمن لأصحاب هذه الحسابات استرداد أموالهم كاملة وذلك لسببين هما: أولا – لأن الأموال سيحتفظ بها عند طرف ثالث وهو البنك المركزي. وثانيا –لأنها غير مملوكة للبنك وإنما هي على سبيل الأمانة المحضة. وبالتالي لن يشملها وعاء قسمة الغرماء.(9/520)
ب - الغبن:
من الأمور المتعارف عليها في مجال العمل المصرفي أن معظم العملاء الذين يحتفظون بحساب استثماري لدى بنك من البنوك، يكون لهم في أغلب الظن حساب جار طرف نفس هذا البنك، والعكس صحيح. وعادة ما تعتبر البنوك هذا الوضع كفرصة طيبة لتحقيق الربح السهل في ظل طريقة التكييف المعمول بها بالنسبة للحساب الجاري واعتبار رصيده كقرض حسن من العميل للبنك. إذ يمكن للبنك في هذه الحالة اتخاذ كافة الوسائل الممكنة لزيادة حجم الإيداعات في الحساب الجاري وبالتالي جني مزيد من الأرباح. ولا شك أن من ضمن الوسائل التي تلجأ إليها البنوك الإسلامية الآن وتعتبرها فعالة في هذا الشأن سياسة رفع الحد الأدنى لكل إيداع جديد في الحساب الاستثماري. إذ تؤدي هذه السياسة –مع غيرها من السياسات-إلى اضطرار كثير من العملاء من متوسطي الدخل إلى إيداع أموالهم في الحسابات الجارية بدون مقابل انتظارا لاستكمال الحد الأدنى الذي تشترطه هذه البنوك ويترتب على ذلك زيادة تدريجية في مجموع أرصدة هذه الحسابات لتشكل في النهاية حجما كبيرا من الأموال، قد يفوق في مقداره إجمالي حجم رأس المال المدفوع للبنك بعدة مرات. وما على البنوك في هذه الحالة إلا إضافة هذه الأرصدة إلى رأسمالها المدفوع واعتبار الإجمالي رأسمالها الجديد الذي تشارك به العملاء في أموالهم. أي أن البنوك تأخذ أموال عملائها المودعة في الحسابات الجارية لتشاركهم بها في أموالهم المودعة في الحسابات الاستثمارية!! ونورد فيما يلي على سبيل الاستدلال جدولا يبين حجم الأرصدة المتراكمة في الحسابات الجارية لدى بعض البنوك الإسلامية، بالمقارنة بحجم رأس المال المدفوع الخاص بكل منها، وذلك وفقا للمركز المالي المعلن لكل منها في 30/12/1409هـ.(9/521)
(مليون دولار)
اسم البنك رصيد الحسابات الجارية
(1) رأس المال المدفوع
(2) %
1-2
دبي الإسلامي 131.4 54.50 241.1
بيت التمويل الكويتي 440.6 97.60 451.1
التنمية التعاوني السوداني 25.3 1.50 1686.6
البحرين الإسلامي 16.7 15.0 111.3
البنك الإسلامي ببنغلاديش 31.8 2.50 1272.0
البركة السوداني 61.7 12.30 501.6
الإسلامي الأردني 37.3 (م. دينار) -6.0 (م. دينار) 621.7
المصدر: الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية – الميزانية المجمعة للبنوك الإسلامية الأعضاء بالاتحاد عن 1409هـ-والتقرير السنوي لعام 1988 بالنسبة للبنك الإسلامي الأردني.
ويتضح من الجدول السابق أن معظم البنوك الممثلة للعينة يزيد رصيد الحسابات الجارية المتجمع لديها عن حجم رأسمالها المدفوع بعدة أضعاف.
فإذا أخذ في الاعتبار أن مصادر تحقيق الإيرادات في البنوك تتكون عادة من مصدرين أساسيين هما:
1- إيرادات الخدمات المصرفية: وهي ناتجة عن الخدمات المختلفة التي يؤديها البنك لعملائه.
2- إيرادات أنشطة المرابحة والمضاربة والمشاركة.
وإذا علم بالإضافة إلى ذلك، أن كثيرا من البنوك الإسلامية تخصص في الوقت الحالي النوع الأول من الإيرادات بأكمله لصالح المساهمين فقط، ولا ينال أصحاب الودائع الاستثمارية منه شيئا. وذلك من منطلق أن هذا النوع لم يتحقق كنتيجة مباشرة لاستخدام تلك الودائع. وأن حجم هذا النوع من الإيرادات قد تتراوح نسبته ما بين 7 إلى 35 % من إجمالي حجم الإيرادات لأي بنك من البنوك. فإنه بناء على ذلك كله يمكن تصور الغبن الذي يبتلى به أصحاب الحسابات الجارية نتيجة إصرار البنوك على إضفاء صفة القرض عليها.(9/522)
كما يمكن بهذا الشكل حصر العناصر المكونة لهذا الغبن في الأنواع التالية من الأرباح والإيرادات التي تفوت على أصحاب الحسابات الجارية:
1- الأرباح المحققة على استخدام أرصدة الحسابات الجارية والتي كان من الممكن أن يتقاسمها العميل مع البنك إذا تم تكييف الحساب الجاري بأنه عقد مضاربة قصير الأجل على سبيل المثال. وكما سبق ذكره، فإن هذه الأرباح تؤول في مجموعها إلى البنك ويحرم منها العميل. ووجه الاعتراض على ذلك هو أنه طالما كان البنك قادرا على استغلال هذه الأرصدة وتحقيق الأرباح من ورائها لنفسه، وفي نفس الوقت يقابل بانتظام طلبات السحب اليومية جميعها التي ترد إليه من عملائه، فمن الأولى أن يكون للعميل نصيب في هذه الأرباح ولا يحرم منها.
2- جزء من الإيرادات الخاصة بالخدمات المصرفية، والتي تشترك أرصدة الحسابات الجارية مع رأس المال المدفوع من المساهمين في تحقيقها.
3- جزء من الأرباح المحققة على الحسابات الاستثمارية والتي تأتي كنتيجة لرفع بعض البنوك الحد الأدنى للوديعة الاستثمارية لديها مما يضطر العميل إلى تجنيب جزء من أمواله في حساب جار لحين استكمال المبلغ المطلوب إيداعه في الحساب الاستثماري. مع الأخذ في الاعتبار بأن معدل العائد على النوع الأول من الأرباح قد يختلف عن قرينه الخاص بالنوع الثالث لاختلاف فترة التشغيل.
ومن ذلك كله يتضح أن عميل الحساب الجاري لدى البنك قد يتعرض لأنواع مختلفة من الغبن, بالإضافة إلى نقص في المعلومات الكافية لإرشاده إلى الاختيار الصحيح, مما قد يعيب جانب الرضا في التعاقد وبالتالي يستلزم فسخ العقد.(9/523)
ج- الاضطرار:
فلا شك أن المودع الذي يرغب في التعامل مع البنوك الإسلامية ابتغاء مرضاة الله وتحاشيًا من الوقوع في التعامل الربوي مع البنوك التقليدية , يضطر مرغمًا لقبول الشروط المعروضة عليه في عقد الإيداع في الحساب الجاري حتى ولو كان على علم ودراية بمعانى الألفاظ المستخدمة في ذلك العقد طالما أن جميع البنوك الإسلامية تضع نفس هذه الشروط. ولأنه إذا لم يوافق على ذلك فلن يكون أمامه إلا أحد بديلين: إما أن يضع أمواله في منزله, أو أن يودعها لدى بنك من البنوك التقليدية. ولا شك أن كلا هذين البديلين يصعب على هذا العميل اتباعه. فيضطر إلى الإذعان لما يملى عليه.
رابعاً: بالنسبة للاستفسار عن ضمان الحسابات الجارية, وهل هو على المساهمين والمودعين أم على المساهمين وحدهم. فيتضح من كل ما سبق أن البنك ويمثله المساهمون هو الذي يتعين عليه ضمان الوديعة الجارية في حالة استعمالها. لأن البنك كما رأينا تنتقل إليه ملكية أرصدة الحسابات الجارية ويضيفها إلى رأس ماله, ويستحوذ على جميع الأرباح والإيرادات التي قد ترد نتيجة استغلال هذه الأرصدة. أما صاحب الوديعة الجارية فهو دائمًا الطرف المغبون, فإذا كان لديه حساب استثماري بالإضافة إلى الحساب الجاري فكيف نطالبه بضمان أمواله المأخوذة منه جبراً, المستخدمة لصالح البنك فقط.
وجدير بالذكر أن مثل هذا التناقض لا يمكن حدوثه في حالة الأخذ بالاقتراح الذي يتقدم به الباحث في هذا الموضوع.
خامساً: فيما يتعلق باستخدام العميل أمواله المودعة في حساب جار كرهن, فإنه في حالة تكييف هذا الحساب على أنه قرض فسيتناقض ذلك مع الشروط الخاصة بعقد الرهن من وجهين, هما كالآتي:
أ-أنه يشترط في الرهن أن يكون مملوكًا للراهن. ومع التسليم بأن ذلك يعتبر شرطًا لنفاذ الرهن وليس شرط صحة , إلى أن رصيد الحساب بموجب التكييف المشار إليه يخرج من ملكية الراهن (المودع) إلى ملكية المستودع (البنك) , مما يمثل تناقضًا مع طبيعة هذا العقد.(9/524)
ب-يرى الجمهور أنه ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن (1) إلا أن هذا الحكم يصعب تنفيذه في حالة إضفاء صفة القرض على الحساب الجاري لدى البنوك الإسلامية، وفي ظل بقاء يد البنك على رصيد هذا الحساب.
وتفسير ذلك هو أنه إذا قام البنك باستثمار هذا الرصيد وغل من ورائه عائد. وهو ما يجري عليه العمل في البنوك حاليا، يصبح المرتهن به (القرض الذي اقترضه العميل من البنك) قد جر نفعا وهو غير جائز. أما إذا ترك البنك رصيد الحساب بدون استثمار فإنه –على أقل تقدير-سيعمل على إيداعه طرف البنك المركزي ليستوفي به نسبة الاحتياطي الإلزامي المفروضة على إجمالي أرصدة الحسابات الجارية المحتفظ بها طرفه. وهذا يوفر للبنك قدرا مماثلا من المبالغ التي كان سيضطر إلى إيداعها طرف البنك المركزي من أرصدة حسابات أخرى ليست على سبيل الرهن. ويكون بذلك قد جر أيضا نفعا من وراء لقرض المتعلق به الرهن.
وهكذا يتضح أنه إذا تم تكييف الحساب الجاري على أنه وديعة غير قابلة للاستخدام طرف البنك الإسلامي أو وديعة قابلة للاستخدام بمعرفة البنك المركزي فإن هذا الاقتراح يكون أفضل وأوقع من حيث التطبيق بالمقارنة بالوضع القائم حاليا (وهو اعتبار هذا الحساب كقرض من المودع للبنك) .
__________
(1) انظر: د. وهبه الزحيلي-مرجع سابق -5/256 ويستثنى من هذا الحكم ما أجازه الحنابلة من انتفاع المرتهن بالرهن إذا كان مركوبًا أو محلوبًا – فيركب أو يحلب عندهم بقدر العلف – انظر المغني مرجع سابق 4/288. كما يستثني أيضًا إذا كان الرهن مشروطًا في بيع واشترط جعل المنفعة للمرتهن خصمًا من القيمة الأصلية للقرض. انظر الخطيب الشربيني-مغني المحتاج, 2/121.(9/525)
الحسابات الاستثمارية
أكرر ما سبق أن أشرت إليه في موضوع الحسابات الجارية من أن هيكل الحسابات المعمول به حاليا في البنوك الإسلامية قد لا يتفق مع الأحكام والقواعد والشروط التي تحكم عقود المعاملات في الشريعة الإسلامية.
فمن المعروف بالنسبة لهيكل الحسابات الاستثمارية في البنوك الإسلامية أن التكييف الفقهي لهذا النوع من الحسابات هو أنه عقد لشركة مضاربة. ويعتبر المودع وفقا لهذا العقد كشريك في ملكية على المشاع لصافي قيمة أصول البنك في لحظة الإيداع. ولأن هذا التكييف يختلف تماما عن التكييف القانوني لنفس هذا النوع من الحسابات في البنوك التقليدية والذي يعتبر كعقد قرض فكان من المنتظر أن تنعكس آثار هذا الاختلاف على طبيعة التعامل بين البنك وعملائه وبصفة خاصة فيما يتعلق ببعض الشروط التي يختص بها عقد المضاربة والتي من أهمها ما يلي:
1- عدم السماح بخلط أموال جديدة بالأموال القديمة في وعاء المضاربة بعد بدء النشاط سواء كان ذلك بإذن رب المال أو بدون إذنه. (1) .
2- عدم السماح بالتخارج للعملاء وسحب أرصدة أموالهم المودعة قبل انتهاء ونض المال نضا فعليا.
إلا أن الوضع القائم يشير بوضوح إلى ابتعاد البنوك تماما عن تطبيق هذين الشرطين حيث تقبل بصفة مستمرة أي حجم من الودائع المتدفقة عليها من العملاء بعد بدء النشاط. كما تستجيب لرغباتهم بسحب أرصدة ودائعهم الاستثمارية في أي وقت يشاؤون دون أن يرتبط بنض المال أو بتصفية عمليات المضاربة.
وقد ترتب على هذا الوضع خلط بين الأموال المستثمرة كما حدث تداخل بين الأرباح والخسائر المحققة خلال الفترات الزمنية المتتابعة وأصبح دخول وخروج المودعين غير مرتبط من قريب أو بعيد بفترة حياة المشاريع التي يديرها البنك، مما يتيح الفرصة لوقوع غبن غير يسير بين مختلف العملاء.
وما أود أن أضيفه بالنسبة لهذا الموضوع هو كما يلي:
أولا-من البديهي أن احتساب مراكز مالية مؤقتة _ أو ما يسمى بالنض الحكمي) لا يضمن منع وقوع الغبن الناشئ من خلط الأموال في الحسابات الاستثمارية وفقا لما يجري عليه العمل الآن وذلك لبقاء جزء من رأس المال غير ناضٍّ.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى للإمام مالك 4/60. وانظر: الإمام النووي (روضة الطالبين) 5/148؛ وانظر ابن قدامة المقدسي، (المغني) طبعة الرياض، 5/16؛ وانظر: أيضا الفتاوى الهندية، 4/309.(9/526)
ولأنه قد يبتلى أي بنك من هذه البنوك بخسائر في جزء من ودائعه خلال الفترة الواقعة بين إعلان مركزين ماليين متتابعين ومع ذلك يظل العمل على ما هو عليه من تقبل ودائع جديدة لا دخل لها بالخسائر التي ابتلي بها البنك ثم خلطها بالودائع القديمة. هذا مع السماح بخروج بعض من المودعين وسحبهم لرؤوس أموالهم كاملة مضافا إليها عائد معين رغم أنه يفترض تحمل هذه الأموال لجزء من الخسائر السابقة.
لذلك فإن الوضع الأمثل المقترح هو التزام البنك بعدم خلط الأموال بعضها ببعض بعد بدء النشاط. ويكون ذلك بإنشاء أوعية استثمارية مختلفة في نوعياتها وفي آجالها بحيث يستقل كل وعاء ببداية ونهاية محددة للنشاط كما يستقل أيضا بنتيجة هذا النشاط من ربح أو خسارة دون خلط بالأوعية الأخرى فإذا أراد عميل الخروج فيمكن منحه جزءا فقط من أمواله تحت حساب التسوية النهائية التي تتم عند انتهاء النشاط ونض المال نضا كاملا.
ثانيا-إن ما يقترحه بعض الإخوة الزملاء من إنشاء حساب لتجميع احتياطي لمقابلة مخاطر عمليات الاستثمار وذلك بخصم نسبة معينة من الإيرادات المحققة عند ظهور كل مركز من المراكز المالية المؤقتة، يتسق تماما مع الاقتراح الذي تقدمنا به، وهو إنشاء صناديق استثمارية مستقلة بحيث يختص كل صندوق بحساب للاحتياطي يوجه لهذا الغرض، وتكون الأرباح المتجمعة فيه ملكا للشركاء المالكين وقاصرة عليهم.
وهذا الاقتراح لا يضيف شيئا جديدا على شروط عقد المضاربة لأن الأصل في الأمور هو ضمان الأرباح المحققة لرأس المال. (1) . فلا يتم توزيع الربح إلا بعد استرداد صاحب رأس المال لأمواله، وما يتبقى بعد ذلك فيتم توزيعه وفقا لنسب التوزيع المتفق عليها بين الأطراف المتعاقدة.
__________
(1) انظر: ابن قدامة المقدسي-مرجع سابق،5/41.(9/527)
أما إذا أريد بهذا الاقتراح أن يكون حلا لمشاكل الغبن في توزيع الربح المترتبة على هيكل الودائع القائم والذي يسمح بدخول وخروج الأموال وخلط الودائع الجديدة بالقديمة بعد بدء النشاط استنادا إلى ما جاء بالمدونة من جواز اشتراط المقارضين لجزء من الربح لطرف ثالث (المساكين) (1) . فإن ذلك مردود عليه بما جاء بعد ذلك في المدونة أيضا من عدم جواز خلط أموال جديدة بوعاء بعد بدء النشاط (2) . مما يؤكد على أن القول المشار إليه للإمام مالك, يقتصر على حالة وعاء المضاربة المغلق على أطرافه, ولا ينطبق على ما يسمى الآن بالمضاربة المشتركة أي التي تسمح بالدخول أو الخروج المستمر. وبالتالي فإن الاقتراح المذكور في هذه الحالة يكون فيه نظر.
ثالثاً-أن ما قد يشير إليه بعض الإخوة الباحثين من أن التطور الكبير في أجهزة الحاسب الآلي يساعد على إعداد مراكز مالية من أي وقت من الأوقات. وأن ذلك قد يصل إلى الحد الذي يمكن فيه إعداد هذه المراكز يومياً. فهذا القول يرد عليه من ناحيتين:
أ-أنه طالما بقي جزء من رأس المال غير ناض-في شكل بضاعة-فإن احتمال تغير النتيجة بعد ذلك سواء إلى خسارة أو ربح يظل قائمًا مهما تعددت المراكز المالية.
وبالتالي لا يمكن التعويل على هذه الطريقة.
ب-أنه إذا كان في الإمكان إعداد مراكز مالية مستقلة بحيث يمكن الفصل بين الإيداعات المتدفقة واستقلال كل منها بنتيجة النشاط الذي أودعت الأموال من أجله فإن ذلك أدعى إلى تدعيم وجهة نظرنا بشأن إنشاء أوعية متعددة يستقل كل منها ببداية ونهاية ونتيجة فعلية للنشاط الذي تقوم عليه بحيث لا يتعرض المودع الداخل بعد إعلان المركز المالي عن الفترة السابقة لأي نوع من أنواع الغبن.
__________
(1) انظر الإمام مالك –المدونة-4/29.
(2) انظر الإمام مالك –المدونة-4/60(9/528)
رابعاً- بالنسبة لموضوع إدراج حسابات الاستثمار (الودائع الاستثمارية) في موجودات المصرف أم في المطلوبات. فإنه في حالة الأخذ بالاقتراح الذي أشرنا إليه في النقاط السابقة فيتعين على البنك إعداد ميزانية مستقلة خاصة به. بحيث يقتصر جانب الخصوم منها على رأس ماله وحقوق المساهمين فيه.
أما في جانب الأصول فيظهر فيه حجم الأموال التي يستثمرها البنك في أي من الصناديق التي سيديرها بصفته شريكًا بماله علاوة على كونه شريكًا بعمله.
وفي هذه الحالة تظهر أرصدة الودائع الاستثمارية كالتزامات عرضية (بند حسابات نظامية خارج الميزانية) على البنك, بحيث تظهر من ناحية حجم النشاط الذي يتعامل هذا البنك فيه, مع إثباتها من ناحية أخرى وجود احتمال دائم لمطالبة المودعين البنك ضمان هذه الودائع في حالة الإهمال أو التقصير من جانبه.
أما بالنسبة للصناديق الاستثمارية المختلفة فيقترح أن يكون لكل منها مركز مالي مستقل بذاته حسب نوع النشاط والفترة الزمنية التي يرغب كل عميل الاستثمار فيها.
وبناء على ذلك تظهر الودائع الاستثمارية في جانب الخصوم كرأس مال للصندوق. بينما تظهر الأصول النقدية والعينية المستثمر فيها في جانب الأصول من ذلك المركز.(9/529)
الخلاصة:
تناولت هذه الورقة عرضًا مفصلًا لبعض الأسباب والمبررات التي تحتم إعادة النظر في الهيكل الحالي للودائع المستخدم في البنوك الإسلامية, سواء كان ذلك متعلقًا بالحسابات الجارية أو الحسابات الاستثمارية التي تفتحها تلك البنوك لعملائها المودعين.
ومن أهم هذه الأسباب ما يتعلق بمشكلة الإسراف في خلق الائتمان وأثره على اقتصاديات الدول الإسلامية , ومشكلة الغبن الواقع على كل من أصحاب الحسابات الجارية والاستثمارية المفتوحة لدى هذه البنوك.
ويتضح من هذا العرض أن كلًّا من الاعتبارات الاقتصادية والشرعية سيكون لها وزن هام عند التفكير في بناء هيكل جديد تستطيع البنوك الإسلامية التعامل من خلاله, بحيث ينأى بهذه البنوك من الوقوع في أي أخطاء شرعية في تعاملها مع جمهور عملائها من المودعين أو المستثمرين. كما يدفع عنها مخاطر التعرض لأزمات قد تؤدي إلى إرباكها أو توقفها عن العمل, هذا فضلًا عما يوفره هذا الهيكل من استقرار للتعامل في الأسواق المختلفة (نقدية-رأسمالية-سلعية) داخل الدولة.
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
د. حسين كامل فهمي.(9/530)
أهم مراجع البحث
1- ابن عابدين حاشية ابن عابدين، طبعة مصطفى الحلبي، 1966م.
2- ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع، 1978م.
3- ابن الهمام، الكمال، تكملة فتح القدير. طبعة مصطفى الحلبي، طبعة أولي، جزء 8.
4- أورنك، محيي الدين محمد، الفتاوى الهندية، الجزء الرابع، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.
5- البوطي، محمد سعيد رمضان، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية. مؤسسة الرسالة، 1402هـ /1982م.
6- حماد، نزيه، عقد الوديعة في الشريعة الإسلامية، دار القلم- دمشق، ط أولى 1414هـ.
7- عقد القرض في الشريعة الإسلامية، دار القلم-دمشق ط أولى 1411هـ.
8- الدردير،أبو البركات أحمد، الشرح الكبير، المكتبة التجارية، 1373هـ.
9- الزحيلي، وهبه، الفقه الإسلامي وأدلته. دار الفكر، دمشق 1984.
10- نظرية الضرورة الشرعية. مؤسسة الرسالة، 1985م.(9/531)
11- الزرقا، مصطفي أحمد الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، دار الفطر، دمشق ط تاسعة 1967.
12-السنهوري، عبد الرازق نظرية العقد. دار الفكر، دمشق، 1934م.
13- الشاطبي، أبو اسحق الموافقات في أصول الشريعة. دار المعرفة، بيروت، لبنان.
14-عليش، محمد منح الجليل على مختصر خليل، بدون ناشر، أو سنة نشر.
15-عوض، على جمال الدين موجز عمليات البنوك من الوجهة القانونية. دار النهضة العربية، 1969م.
16-فهمي، حسين كامل. نحو إعادة هيكلة النظام المصرفي الإسلامي، (مجلة جامعة الملك عبد العزيز، الاقتصاد الإسلامي) المجلد (4) 1412هـ.
17-قاسم، يوسف نظرية الضرورة في الفقه الجنائي الإسلامي والقانون الجنائي الوضعي. دار النهضة العربية 1981م.
18-المصري، ابن نجيم غمز عيون البصائر، شرح كتاب الأشباه والنظائر. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1985م.
19-المقدسي، ابن قدامة "المغني" طبعة مكتبة القاهرة، 1969م.
20-النووي، أبو زكريا يحيي بن شريف "روضة الطالبين"، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، دمشق 1966م.(9/532)
الحسابات والودائع المصرفية
إعداد
د. محمد علي القري
الأستاذ المشارك بمركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبد العزيز بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدي بهداه إلى يوم الدين.
أولا: الحسابات الجارية (تحت الطلب)
الحساب الجاري (تحت الطلب) : هو سجل في دفاتر البنك يخصصه لأحد عملائه، يتمكن خلاله من إيداع الأموال في أي وقت، ضمن ساعات الدوام الرسمي للبنك، واسترداد تلك الأموال بالسحب عند طلبه أو الحوالة عليه. وقد سمي جاريا لأنه يزيد وينخفض بدون قيود عن طريق استخدام الشيكات. ويمكن لهذا العميل أن يودع أي مبلغ يشاء، إذ لا حدود عليا لذلك، ويمكنه أن يسحب أي مبلغ في أي وقت وبأي وسيلة ممكنة له ضمن حدود رصيده الدائن (دائن للبنك) في ذلك الحساب. والحساب الجاري هو مفتاح التعامل مع أي بنك، إذ تشترط البنوك على عملائها فتح حساب من هذا النوع في كل معاملة يجريها معهم، مثل القروض بالنسبة للبنوك التقليدية، والمرابحات وسواها من صيغ التمويل بالنسبة للبنوك الإسلامية.
1- أهمية الحسابات الجارية للبنوك:
تعد عملية تلقي الأموال على صفة الودائع في حسابات البنك أهم ما يميز المصرف عن سائر المؤسسات المالية الأخرى. وتمثل الحسابات الجارية وأنواع الحسابات الآجلة والادخارية أهم موارد البنك. وتمثل في مجملها ما يزيد في غالب الأحوال عن 90 % من مجمل الموارد. وتختلف نسبة الحسابات الجارية إلى مجمل الموارد من بنك إلى آخر، وإن كان اختلافها الأوضح هو من بلد إلى بلد لأنها تتأثر كثيرا بمستوى الوعي المصرفي وعادات القوم في المعاملات المالية، والنمو الاقتصادي في البلاد، ونوعية الفرص الأوعية الاستثمارية المنافسة المتوفرة في القطاع المصرفي، وكفاءة الخدمات المصرفية. وقد تصل نسبتها أحيانا إلى 50 % ونادرا ما تقل عن 20 %.(9/533)
2- نموذج التوقيع وإجراءات فتح الحساب الجاري:
عندما يتقدم أحد الأفراد إلى البنك بطلب فتح حساب جار يقوم الطرفان (البنك والعميل) بإنشاء اتفاقية يوقع عليها العميل وتحفظ في ملفات البنك وتتضمن الشروط الخاصة التي يتفق عليها بين الطرفين، إضافة إلى الجوانب الأخرى التي تنظمها القوانين والأعراف. ومنها نموذج التوقيع الخاص بصاحب الحساب.ولا يجوز للبنك أن يسحب من ذلك الحساب لمصلحة ذلك العميل أو لأمر ثالث إلا بذلك التوقيع. ويعد البنك مسئولا عن أي مبلغ يدفعه بدون مطابقة التوقيع على النموذج المحفوظ عنده. وتتبنى البنوك إجراءات دقيقة فيما يتعلق بفتح الحسابات ولا سيما الجارية منها. بالإضافة إلى ما سبق ذكره في مسألة التوقيع، طلب التوجيه من طرف ثالث للعميل قبل حصول الأخير على دفتر للشيكات، أو شهادات من جهة العمل، أو إثباتا للجنسية..إلخ.
3- الرسوم التي تفرضها البنوك على أصحاب الحسابات الجارية:
الغالب أن لا يفرض البنك الرسوم على العملاء المستفيدين من هذا النوع من الحسابات لأنها مورد مهم ومجاني من الأموال للبنك، ولذلك هي تسعى إلى التشجيع عليه. ولكن يعتمد ذلك في النهاية على معدل التنافس بين البنوك فإن كان عاليا استفاد منه الناس بانخفاض هذه الرسوم أو إلغائها.
وهيكل الملكية في القطاع المصرفي فإذا كانت البنوك مملوكة للحكومة كما هي في عدد من البلدان النامية انتشر العمل فيها بأنواع الرسوم حتى على هذا النوع من الحسابات. فقد تقترن هذه الحسابات برسم فتح الحساب ورسم لإغلاقه ورسم مقابل دفتر الشيكات ورسم يقتطع مقابل كل عملية تجري في الحساب (أي مقابل كل شيك) . وقد يعمل بهذه الرسوم مجتمعة أو متفرقة.(9/534)
ولكن أكثر الرسوم والذي تعمل به أكثر البنوك حتى في الدول المتقدمة هو الرسم المفروض على العميل إذا انخفض رصيده في الحساب عن مبلغ معين. ذلك أن الإبقاء على سجل للعميل في دفاتر البنك يتضمن بالضرورة تكاليف إدارية ورقابية ومحاسبية كثيرة، لا تكاد تختلف بين حساب يودع مبلغا كبيرا وآخر يقتصر ما فيه على مبلغ صغير. ولذلك اتجهت البنوك في كثير من البلدان إلى فرض رسوم على الحسابات التي يقل رصيدها عن مبلغ محدد، واشتراط هذا المبلغ أو أكثر منه لفتح الحسابات الجارية. فإذا لم يتحقق الشرط فرضت عليه رسما يمثل مبلغا شهريا يقتطع من الحساب أو رسما يفرض على شيك يصدره صاحب الحساب ... إلخ.
4- حسابات جارية للأفراد بين البنوك:
إن الجزء الأعظم من الحسابات الجارية في دفاتر أي بنك هي للأفراد والمؤسسات الخاصة والحكومية. إلا أن جزءا لا يستهان به (نحو 10 % أو أقل أو أكثر من مجموع الخصوم) هو للبنوك الأخرى. وتقضي طبيعة العلاقات بين البنوك وجود مثل هذه الحسابات، من ذلك:
1- استخدامها في عمليات المقاصة في الشيكات المحررة من قبل عملاء البنوك الأخرى حيث يقوم البنك بدفع مبلغ من الشيك من الحساب الموجود لديه للبنك الآخر.
2- استخدامها في عملية الحوالات التي يقوم بها العملاء من البنوك الأخرى لا سيما في التحويلات من بلد إلى آخر.
3-أغراض أخرى مثل الاشتراك في التمويل المجمع أو القروض المشتركة.. إلخ.(9/535)
5- حسابات فردية وأخرى مشتركة:
تكون أكثر الحسابات الجارية مخصصة لفرد بعينه سواء كان شخصية معنوية أو طبيعية. لكن بعض الحالات ربما اقتضت اشتراك أكثر من طرف في حساب واحد يكون لهم أن يودعوا فيه ويسحبوا منه ويحيلوا عليه. وتكون مسئوليتهم عندئذ تضامنية والأموال فيها مملوكة ملكية مشتركة بينهم. وتحدد اتفاقية فتح الحسابات المخولين بالتوقيع في ذلك الحساب، وما إذا كان يكتفي بتوقيع واحد أو أكثر.. إلخ.
6- الحساب الجاري المدين:
الحساب الجاري المدين هو حساب يسمح بانكشافه بصفة ذاتية (انظر الفقرة 1/9/ز) ، أي أن لصاحبه أن يقترض من البنك بتحرير الشيكات حتى لو لم يكن مودعا في حسابه ما يكفي من النقود فينكشف حسابه إلى الحد الذي اتفق عليه معه عند فتح الحساب، وتحسب الفوائد المصرفية على المبلغ المدين. ويحتاج إلى هذا النوع من الحسابات رجال الأعمال والمؤسسات التي يكون لها إيرادات ومنصرفات يومية يصعب عليها تحقيق التوازن بينها في كل يوم، لذلك إذا فتحت مثل هذا الحساب أودعت إيراداتها ودفعت مصروفاتها مطمئنة، إلا أنه إن حدث بينهما فرق فلن يتأخر البنك عن الدفع مع انكشاف الحساب. ولا تحسب الفوائد للعميل في حال كون الحساب دائنا. ويكون معدل الفوائد على مثل هذا النوع من الحسابات مرتفعا نسبيا لكي لا تشجع العملاء على استخدامه بديلا عن القروض المصرفية لأن من سماته أن يكون قصير الأجل.(9/536)
7- الحسابات الجارية ذات العائد:
لقد بلغ من حدة التنافس بين البنوك في بعض البلدان أن اتجهت، لغرض اجتذاب العملاء، إلى دفع الفوائد على الحسابات الجارية مع تمتع عملائها بكافة ميزات ذلك الحساب بما فيها دفتر الشيكات. والمعتاد أن الفوائد المصرفية إنما تدفع على الحسابات الآجلة أو حسابات التوفير لأن العميل فيها لا يتمتع بميزة استخدام دفتر الشيكات، كما أن أمواله قد تكون مؤجلة الدفع يستخدمها البنك في توليد الفوائد التي يقتسمها مع أرباب تلك الأموال.
ومع ذلك فقد قامت بعض البنوك، لا سيما في الدول المتقدمة بالإبقاء على كافة ميزات الحسابات الجارية ثم فوق ذلك كله دفع الفوائد الدورية –التي تكون متدنية في العادة-على أرصدة الحسابات الجارية. وفي هذه الحالة ينتقل تصنيف هذه الحسابات من الناحية الشرعية من كونها قروضا حسنة إلى انقلابها إلى قروض ربوية؛ لأن الزيادة فيه مشروطة فهي من الربا. ولا يؤثر في ذلك كونها معلومة القدر عند التعاقد أو غير معلوم (حيث تتبنى بعض البنوك الفوائد المتغيرة) لأن ضمان رأس المال لصاحبه يجعل كل زيادة مشروطة عليه من الربا المحرم.
8- استخدامات البنوك للأموال المجتمعة لديها في الحسابات الجارية:
من المعروف أن النقود مثلية فهي لا تختلف في طبيعتها من حيث المصدر. ومن ثم فإن الأموال في الحسابات الجارية تختلط مع أموال البنك الأخرى وتستخدم كما تستخدم موارده من أنواع الحسابات ورأس ماله. على أن من المفيد الإشارة إلى بعض الخصوصيات لأموال الودائع الجارية. فهي أولا: موارد مجانية (Free Money) لأن موارده الأخرى مثل الودائع الآجلة لها ثمن هو الفائدة المدفوعة عليها بصفة دورية، ورأس ماله له ثمن هو الربح الذي يجب أن يدفعه في نهاية العام. أما الحسابات الجارية فهو يستخدمها دون حاجة إلى دفع ثمن عليها. ثم ثانيا: إنها أعلى أنواع الحسابات من حيث الاحتياطيات. فمن المعلوم أن الأنظمة المصرفية تلزم البنوك باحتياطيات نظامية لحساباتها، يتطلب منها الاحتفاظ بجزء من هذه الحسابات على شكل سيولة كاملة. وتختلف القوانين في ذلك، إذ قد تصل إلى 50 % في بعض الدول وربما لا تزيد عن 4 % في دول أخرى منها ما يحتفظ به البنك لديه ومنها ما يودع في حسابات المصرف المركزي كما سبق تفصيله. وتتبنى أكثر البنوك احتياطيات إضافية لضمان قدر أكبر من السيولة. ومع ذلك تبقى هذه الحسابات تحقق أعلى معدلات العائد للبنوك.(9/537)
9- المنافع المتحققة لصاحب الحساب الجاري:
أهم المنافع المتحققة لصاحب الحساب الجاري في البنك هي:
أ- دفتر الشيكات:
تسمى مجموعة الشيكات التي يمنحها البنك إلى عميله عند فتح الحساب الجاري دفتر الشيكات. ويشبه الشيك السند لأمر (الكمبيالة) في أنه مسحوب على مدين ومستحق الدفع على الفور لأمر شخص طبيعي أو معنوي ولكنه يختلف في أنه غير عرضة للقبول أو الرفض وأنه مسحوب على بنك. ولا يلزم أن يكون الشيك ذا شكل محدد أو على ورقة معينة بل يمكن أن يكتب على أية ورقة ما دام أنه يحمل العبارات الصحيحة. وربما حددت مدة صلاحيته وقابليته للدفع ولكن مثل هذا التحديد يخرجه في أكثر القوانين من تعريف الشيك. ولا يحتاج استلام المبلغ المدون على الشيك إلى سند استلام لأنه هو وثيقة تثبت الاستلام. والشيك غير قابل للتداول وإن كان قابلا للتجيير. ويكتب مبلغ الشيك بالأرقام والحروف وترجح الحروف في حال الاختلاف. وللبنك إرجاع الشيك إذا كان الموجود في حساب المسحوب عليه يقل عن مبلغ الشيك. والشيك غير قابل للتجزئة فلا يعرف منه بقدر ما وجد في الحساب. ويجب تسجيل تاريخ على الشيك ولكن هذا التاريخ غير ذي تأثير في أكثر القوانين:
ويتحقق لحامل دفتر الشيكات منافع متعددة منها:
أ-الأمان، لأن ضياع الشيك أو سرقته أو تزييفه لا يعرض صاحب الأموال لخطر ضياع أمواله في مضمونه على البنك.
ب-أنه يقدم طريقة اقتصادية لدفع الالتزامات تغني عن حمل النقود لا سيما في المبالغ الكبيرة.
ج-أنه إثبات لاستلام القابض للنقود يغني عن السندات. والمعتاد أن تحتفظ البنوك بالشيكات بعد دفع مبالغها، ولكن بعض البنوك تقوم بتسليمها إلى صاحب الحساب للاحتفاظ بها.
وقد يصرف للعميل مع دفتر الشيكات بطاقة تضمن له دائما دفع البنك لأي شيك يحرره لصالح مستفيد آخر بمبلغ لا يزيد عن مستوى محدد وذلك لتشجيع الآخرين على قبول شيكاته.
وقضايا الغش في الشيكات كثيرة ولذلك ربما اشترط بعض المستفيدين حصولهم على شيك مصدق وهو الذي يختم البنك في ظهره أن المبلغ محجوز في الحساب أو شيك مصرفي وهو الذي يصدره البنك نيابة عن العميل لصالح ذلك المستفيد.(9/538)
ب- حفظ أمواله من السرقة والضياع:
ذلك أن احتفاظ الفرد بأمواله في منزله أو متجره يجعلها عرضة للسرقة والضياع بينما أن ذلك لا يحدث في أمواله إذا أودعت في البنك لأنها تكون عندئذ مضمونة من قبل المصرف، فيسلم هو من الخطر. وقد تطورت الخدمات المصرفية بحيث صار المودع في البنك يتصرف في أمواله كما لو كانت محفوظة عنده مباشرة. ذلك أن انتشار العمل بمكائن الصرف والإيداع الآلي على مدار الساعة، وارتباط البنوك جميعا بشبكة الكترونية مكن من تحقيق كفاءة عالية في استعمال الشيكات بحيث أصبح مالك النقود المودعة لدى البنك قادرا على التصرف بها مع الآخرين وكأنها لا تزال في حوزته وتحت تصرفه فلا يعوقه وجودها في البنك عن إجراء العقود وإتمام صفقات الشراء وتسديد الفواتير ... إلخ.
ج- تنظيم حساباته وضبطها:
إذا قام المودع في الحساب الجاري بإتمام كافة مدفوعاته من شراء لسلع أو تسديد لديون أو فواتير أو دفع الرواتب ... الخ بواسطة الشيك المسحوب على ذلك الحساب فإنه سيحصل في نهاية كل شهر (أو أقل من ذلك أو أكثر) على كشف مفصل يتضمن جميع هذه المدفوعات وتواريخها ومبالغها والمدفوعة إليهم. وكذلك الحال في الأموال التي يتلقاها من الآخرين مثل أثمان السلع التي يبيع أو موارده من الإيجارات والأرباح ... إلخ. ومن ثم يحصل على خدمة متميزة تغنيه عن الاستعانة بالمتخصصين في أعمال المحاسبة لضبط حساباته ومتابعتها. فإذا قام بفتح حسابات متعددة خصص لكل منها لغرض محدد مثل أن يكون أحدهما لإيرادات المبيعات وآخر للمشتريات وثالث للراتب ... الخ، استفاد كثيرا من هذه الميزة في معاملاته مع الآخرين.(9/539)
د- الأسعار المميزة للخدمات الأخرى:
ومن أهم المنافع التي يحصل عليها صاحب الحساب الجاري الأسعار المميزة للخدمات الأخرى التي يقدمها البنك، إذ تقدم البنوك لأصحاب هذه الحسابات خدمات مجانية وأخرى ذات أسعار متدنية مقارنة بآخرين ممن ليس لهم حسابات مع المصرف وكل ذلك يعتمد على أهمية العميل للبنك من حيث عدد سنوات تعامله مع البنك ومتوسط الرصيد في حسابه ... إلخ.
وتتعلق هذه الميزات في الغالب بالحوالات والصرف الأجنبي ورسوم فتح الاعتمادات وبطاقات الائتمان وخطابات الضمان، وقد تتعدى ذلك إلى سعر الفائدة على القروض ... إلخ.
هـ - شهادة البنك بملاءة العميل:
يحتاج الناس، لا سيما التجار منهم ورجال الأعمال والمتعاملين مع المصارف، إلى شهادة تثبت ملاءتهم يقدمونها إلى الجهات الحكومية أو الخاصة يتمكنون فيها من الدخول في المناقصات والمزايدات أو عقود المقاولة والتوريد أو الحصول على التمويل بالدين بين المؤسسات المالية الأخرى إلى غير ذلك من الحاجات. والبنوك هي الجهات المعتمدة –في غالب الأحوال-كمصدر لمثل هذه المعلومات. وتعتمد البنوك في إصدارها هذه الشهادة وأمثالها على سجل العميل في حسابه الجاري (وحساباته الأخرى) . ولذلك يحرص أمثال هؤلاء العملاء على التأكد من أن جميع أموالهم تودع في بنكهم الذي يتعاملون معه حتى يتكون لدى القائمين عليه فكرة واضحة عن ملاءتهم يستفاد منها في إصدار تلك الشهادة.
و استخدام الأموال في الحساب الجاري كرهن:
يمكن للعميل أن يتفق مع مصرفه على حجز مبلغ من المال في حسابه الجاري لا يسمح له أن يسحبه أو يحرر الشيكات مقابله، ويكون هذا المبلغ المحجوز رهنا لضمان وفائه بالتزاماته الواجبة أو التي تؤول إلى الوجوب للبنك أو لمؤسسة أخرى، مثل حالات فتحه الاعتماد المستندي للاستيراد، أو إصدار البطاقات الائتمانية أو كفالة جهة أخرى من قبل ذلك العميل. ونتطرق فيما بعد إلى بعض الجوانب الشرعية لهذه المسألة.(9/540)
ز- انكشاف الحساب (القروض الذاتية) :
يقصد بانكشاف الحساب في ما تعارف عليه المصرفيون سحب العميل من حسابه مبالغ تزيد عما أودع فيه. والأصل أن هذا ممنوع إذ لا يجوز لصاحب الحساب الجاري أن يصدر شيكات تزيد مبالغها عن رصيد حسابه، إلا إذا جرى ترتيب ذلك مع البنك. وفي هذه الحالة يسمح للعميل بما ذكر. ويسمى حسابه عندئذ (جار مدين) لأن دفاتر البنك ستظهر أنه مدين بالمبالغ التي تزيد عن رصيده الدائن.
وتعد هذه الخدمة المصرفية من أهم الخدمات التي يحتاج إليها التجار ورجال الأعمال والشركات. ذلك أن هذا النوع من عملاء البنوك – لا سيما إن كان ذا نشاط تجاري واسع –يصدر عشرات بل ربما مئات الشيكات يوميا وربما أكثر من ذلك. في نفس الوقت هو يتلقى من عملائه مبالغ يومية بشيكات وبأنواع الحوالات الداخلية والدولية. وهو لا يستطيع بحال أن يتأكد دائما أنه في كل مرة يصدر فيها شيكا يكون في حسابه رصيد يفي بمبلغه لا سيما وأن عملية تحصيل الشيكات الواردة والمودعة في الحساب قد تستغرق مدة غير معروفة بالدقة، وكذلك الحال في الشيكات التي يصدرها لصالح الآخرين. فهو عندئذ سيتفق مع مصرفه أن يدفع البنك كل شيك يحرره بصرف النظر عما إذا كان في حسابه من الرصيد المالي ما يكفي أم لا. وعندما يدفع البنك الشيك دون أن يكون في رصيد الحساب ما يكفي يسمى حساب ذلك العميل عندئذ حسابا مكشوفا. وفي هذه الحالة سوف يسجل البنك على ذلك العميل فوائد مصرفية (ربوية) بمقدار ذلك الانكشاف. وتحسب هذه الفوائد على أساس يومي بحيث تسجل على الرصيد المدين أي على مقدار الأموال التي دفعت وهي تزيد عن الرصيد.
ويستفيد التجار كثيرا من هذه الخدمة، بل إن جل التمويل الذي يحصل عليه رجال الأعمال والشركات (نحو 70 % أو أكثر) هو بهذه الصفة.
ولا يقتصر العمل في هذا الترتيب في الشيكات فحسب بل يتعدى ذلك إلى كافة حاجات العميل التي تقتضي كشف الحساب مثل مدفوعات الاعتمادات المستندية وخطابات الضمان ... إلخ. وللحساب الجاري على ذلك أنواع متعددة منها المخصص مثل ذلك المرتبط بعملية فتح الاعتماد أو خطاب الضمان، ومنها غير المخصص لغرض محدد. أما عمليات انكشاف الحساب فهي تنقسم إلى نوعين، عادية وهي التي تتم بترتيب مسبق بين البنك وصاحب الحساب وتسمى عندئذ حساب جار مدين، ومنها المؤقتة وهي التي لا تكون جزءا من ترتيب مسبق لكن البنك لمكانة عميله أو ثقته فيه يقبل دفع شيك محرر من قبله يزيد في مبلغه عما هو موجود في حسابه. وربما يفعل ذلك في حالات محددة.(9/541)
ثانيا: مؤسسة التأمين على الودائع:
ذكرنا فيما سبق أن الودائع المصرفية هي في حقيقتها قروض على المصرف، ولذلك فإن يد البنك فيها يد ضمان. وقد تبنت القوانين والأعراف المصرفية أنواعا من الإجراءات التي تسعى إلى التحقق من قدرة البنك –دائما-على الوفاء بالتزاماته تجاه أصحاب تلك الأموال. ومع ذلك فإن التجارب المصرفية تشير إلى أن أوضاعا معينة تؤدي إلى انهيار المصرف وعجزه عن ذلك نتيجة الانقضاض الفجائي للناس عليه نتيجة اهتزاز الثقة به لسحب إيداعاتهم في وقت لا يمكنه تنضيض ما لديه من أصول بخسائر كبيرة. ومن المعلوم أن البنوك الأخرى والمصرف المركزي تتعاون في مساعدة المصرف الذي يتعرض لمثل ذلك. إلا أن هناك حدودا لما يمكن عمله من خلال هذا البرنامج، لا سيما في حالات كون البنك المتعرض لمثل تلك المصاعب كبيرة الحجم، أو سريان روح عدم الثقة في النظام المصرفي برمته.
لذلك فقد اتجهت بعض الدول –مثل الولايات المتحدة -إلى إجراء إضافي يسعى إلى طمأنة جمهور المودعين في البنك من أصحاب الودائع المتوسطة والصغيرة وهو إلزام البنوك في الاشتراك فيما يسمى بمؤسسة التأمين على الودائع (وتسمى في الولايات المتحدة Fedral Deposit-Insurance Com) . ويقوم عمل هذه المؤسسات على دفع البنوك رسما يساوي نسبة متفق عليها من مجمل الودائع في الحسابات الجارية تقوم مقابلها هذه المؤسسة بضمان الأموال في تلك الحسابات التي لا تزيد عن 50.000 دولار (أو أكثر أو أقل) .وهي صيغة شبيهة بصيغ التأمين التجاري المعروفة. وتتبنى بعض البلدان الأخرى ترتيبات مشابهة (مثل ضمان الودائع في بريطانيا) وإن لم تكن على صفة مؤسسة مستقلة تنهض بهذه المهمة بل تكون جزءا من وظائف البنك المركزي.(9/542)
ثالثا: طبيعة العلاقة التعاقدية بين البنك وصاحب الحساب الجاري:
يترتب على فتح الحساب الجاري لدى البنك علاقة تعاقدية بين الطرفين.
وقد ظن كثير من الناس أن تسمية هذا الحساب بالودائع هو تعبير صحيح عن طبيعة هذه العلاقة التعاقدية. ولكن شيوع هذه التسمية لم تخف حقيقة أن هذه الحسابات هي في الواقع قروض لا ودائع والعبرة في العقود بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني. وإن نظرة فاحصة لهذه العلاقة إنما هي مطابقة للقرض وليس للوديعة، ومن ثم وجب أن تأخذ حكمها، فمن ذلك مثلا:
أ- الوديعة كما عرفتها المجلة (مادة763) : (هي المال الذي يوضع عند إنسان لأجل الحفظ) فهي أمانة يحفظها الوديع في صرة أو نحو ذلك، كما يحفظ أمواله وليس له أن يستخدمها ثم يرد عينها إلى صاحبها. أما القرض فهو مال مثلي يرد مثله لا عينه ويستخدمه المقترض لأغراضه ويخلطه بأمواله. ويختلف عن الوديعة من حيث حق تصرف المدين بالقرض ومن حيث وجوب الأداء عند الطلب. وجلي أن الحسابات الجارية ينطبق عليها الوصف الثاني لا الأول.
ب-ومن حيث الضمان في الذمة المالية فالوديعة غير مضمونة إلا أن يفرط الوديع بحفظها، أما القرض فهو مضمون الرد على المدين (إذا لم يكن معسرا) إن سرق أو ضاع أو تلف. وجلي أن الوصف الثاني هو الذي ينطبق على الحسابات الجارية في المصارف وليس الأول.
وقد اتجهت جميع القوانين الوضعية إلى اعتبار الحسابات الجارية قروضا يقدمها أصحابها إلى المصارف، وتسري عليها القوانين المنظمة للديون. ويعد أصحاب هذه الحسابات في زمرة الدائنين للبنك في حال إفلاسه (منها القانون المدني المصري في المادة 726، والمدني السوري في المادة 402، والمدني الأردني في المادة 889، والمدني العراقي في المادة 971) .
يمكن القول إذن أن الحسابات المصرفية الجارية هي قروض حسنة (أي بلا فوائد) حالة غير ذات أجل، المقرض فيها العميل والمقترض البنك. (1)
__________
(1) وقد شك البعض في اعتبار الوديعة المصرفية قرضا فاحتج أن إرادة المودع والبنك لم تنصرف إلى إنشاء عقد قرض، وإنما انصرفت إلى إنشاء عقد وديعة بدلالة الألفاظ المستعملة فوجب –في رأيهم-تكييف المعاملة وفق مقصود المتعاقدين. وأضافوا أن البنوك تتقاضى الأجرة أحيانا على الودائع ولا يتصور ذلك في القرض. انظر حسن عبد الله الأمين، الودائع المصرفية ص228.(9/543)
رابعا: بعض الضوابط القانونية التي تلتزم بها البنوك في الحسابات الجارية:
يلزم القانون بتبني أنواع من الاحتياطات لكي تتوفر عليها القدرة على الوفاء بالتزاماتها، ومنها:
1-الاحتفاظ بجزء من تلك الأموال، لا سيما التي يكون مصدرها الحسابات الجارية، في شكل سيولة تامة (نقدية) في صناديق البنك. منها جزء تحدد نسبته القوانين المصرفية وآخر يحدده كل مصرف بحسب خبرته وطبيعة تعامله في السوق.
2-الاحتفاظ بحسابات جارية للمصرف لدى البنك المركزي تمثل نسبة من تلك الودائع.
3-تعاون المصارف التجارية مع بعضها البعض على توفير السيولة –بطريق الإقراض -بصفة يومية لكي يتحقق لها التقيد بالضوابط القانونية المتعلقة بالسيولة.
4-التزام البنك المركزي بإقراض المصارف المرخصة إذا احتاجت إلى السيولة بصفة عاجلة.
5-توزيع أصول البنك (حقوقه لدى الآخرين مثل القروض) على استخدامات ذات مدد وآجال متنوعة واستخدامات مختلفة تجعل من الممكن تحويل نسبة كبيرة منها إلى سيولة في وقت قصير وبدون خسارة كبيرة.(9/544)
خامسا: مسائل شرعية في الحسابات المصرفية الجارية:
في ضوء ما انتهينا إليه من أن طبيعة العلاقة التعاقدية بين البنك وصاحب الحساب الجاري هي علاقة المقرض بالمقترض، فإن هناك بعض المسائل الشرعية التي تحتاج إلى نظر منها:
أ- هل البنك فقير حتى نقرضه؟
معلوم أن القرض في الإسلام هو لغرض الإرفاق والقربة، يقدمه الغني إلى الفقير المحتاج. والمسألة التي نحن بصددها هي قرض يقدمه الفرد، الذي ربما يكون ثريا ذا يسار أو فقرا قليل المال، إلى المصرف. فهل البنك فقير نقرضه لغرض الإرفاق به؟ الجواب بالنفي القطعي. فهل يعني ذلك أنه قد خرج من تعريف القرض وصار إلى علاقة مختلفة لأن البنك دائما أغنى من المودعين فيه. يرد على ذلك بأن القرض لا يلزم أن يكون من غني إلى فقير. انظر ما رواه البخاري في دين الزبير بن العوام رضي الله عنه. قال: (إنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا ولكنه سلف فإني أخشى الضيعة) (1) فهذه قروض إلى غني وهو الزبير رضي الله عنه. لم يخرجها من تعريف القرض وسريان أحكامه، أنها جاءت من فقير إلى غني أو من غني إلى من هو أغنى منه. وكذلك الحال في ودائع المصرف الجارية فإنها قروض ولا حاجة للسؤال هل المصرف فقير حتى نقرضه.
ب- الحسابات الجارية تعاون الإثم والعدوان:
يقول المولي عز وجل في كتابه الحكيم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]
لما كان الربا من الكبائر، ولما علم أن الفوائد المصرفية التي هي أساس عمل البنوك هي من الربا المحرم، وأن البنوك إنما توجه الأموال المتجمعة لديها في الحسابات الجارية إلى التمويل بالإقراض المتضمن للفوائد الربوية، دل ذلك على أن كل حساب مصرفي جار إنما يؤدي إلى زيادة في نشاط المصرف المذكور وتوسع في قدرته على الإقراض بالربا.
والقاعدة أن ما أدى إلى حرام فهو حرام والأمور بمآلاتها، ولذلك فقد رأى البعض أن هذه الحسابات في البنوك الربوية، على رغم أنها بذاتها لا تتضمن التعامل بالفائدة، إلا أن فيها مخالفة لأصل من أصول الشريعة وهو عدم جواز التعاون علي الإثم والعدوان، لا سيما في الحالات التي يتوفر على المجتمع فيها بنوك أخرى ومؤسسات مصرفية تنهض بنفس الوظائف والأغراض دون التعامل بالفائدة كالبنوك الإسلامية.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب فرض الخمس، باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) وولاة الأمر(9/545)
ج- الحسابات الجارية من أنواع القروض التي تجر نفعا:
القاعدة أن كل قرض جر نفعا فهو ربا. والمقصود هنا النفع الذي يجره القرض للدائن، أما المدين فإنه إنما اقترض لينتفع بالقرض. ولابد لإعمال القاعدة أن يكون هذا النفع مشروطا، قال ابن المنذر: (أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا) . والقاعدة (أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا) والمدين هو البنك، والدائن في الحسابات المصرفية هو العميل المودع للنقود في حساباته لدى البنك وهو يتلقى أنواعا متعددة من الخدمات، بل وتتسابق البنوك في تقديم الخدمات الخاصة لأصحاب هذه الحسابات. وقد أشرنا أعلاه إلى طرف منها مثل تخفيض أسعار الخدمات الأخرى أو إعفائه من تكاليفها ... الخ، وأهم تلك جميعا هو بلا ريب دفتر الشيكات. فهل يعني هذا أن الحساب الجاري على رغم أنه لا يتضمن الفائدة إلا أن فيه شبهة الربا من هذا الجانب لأنه قرض جر نفعا واضحا معروفا للمقرض؟ يرد على ذلك أن القروض التي أشرنا إليها أعلاه عند الحديث عن الزبير بن العوام رضي الله عنه إنما كان الباعث عليها انتفاع الدائن (المقرض) بحفظ أمواله من الضياع والسرقة بدليل ما جاء في الأثر، ولذلك فإن الزبير لعلمه بغرضهم فقد كان رضي الله عنه يقول: (بل هي سلف إني أخاف الضيعة) ولم يقل أحد إنها من الربا. ثم ما أجازت الشريعة من طرق حفظ مال اليتيم عندما يسافر وليه هل يؤدى إلى مؤتمن؟ قال الفقهاء: الأولى أن يقرضها لمليء. وجلي أن اشتراطهم الملاءة دليل على أن الغرض ليس الإرفاق بل انتفاع المقرض بحفظ مال اليتيم فهو قرض جر نفعا. وما ذكره العلماء عن السفتجة، معروف ومعلوم يلخصه كلام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (1/391) : ( ... وإن كان المقرض قد ينتفع أيضا بالقرض كما في مسألة السفتجة ولهذا كرهها من كرهها، والصحيح أنها لا تكره لأن المنفعة لا تخص المقرض بل ينتفعان بها جميعا) . وتلك قاعدة ذهبية ليس أدل على ملاءمتها لما نحن بصدده من حقيقة أن بعض البنوك تفرض الرسوم على الحسابات الجارية وهي قروض، فكأن الدائن يقرض المدين ويزيده، وذلك لأن المنفعة كما في حال السفتجة مشترك بينهما.(9/546)
سادسا: مسألة رهن النقود المودعة في الحسابات المصرفية:
ذكرنا آنفا أن البنوك اعتادت في معاملاتها أن تستخدم النقود لديها في الحسابات الجارية أو الحسابات الآجلة أو صناديق الاستثمار أو الحسابات الاستثمارية في البنوك الإسلامية رهنا مقابل الوفاء بما يتعلق بذمة ذلك العميل من ديون أو التزامات ناشئة أن البيوع أو القروض أو أنواع التمويلات الأخرى.
والحسابات الجارية وأنواع الحسابات الأخرى لا تخلو من أن تكون في التصور الشرعي نقودا وديونا. وتثير مسألة رهن النقود ورهن الديون إشكالات شرعية كثيرة منها:
أ-أن شرط الرهن أن يكون عينا يصح بيعها فخرج من ذلك الديون إلا عند المالكية لأنهم يجيزون بيعها. (1)
ب-واشترط من أجاز رهن الدين توافق الآجال أو أن يكون أجل الدين المرهون به أطول من أجل الدين فإذا اختلفت الآجال فربما أدى إلى إقراض نظير إقراض إذا كانت قرضا أو إلى بيع وسلف إذا كان الدين ناتجا عن بيع المرابحة. (2) والحسابات الجارية حالة غير ذات أجل كما أن توافق الآجال في الحسابات الأخرى مسألة عسيرة يصعب أخذها بالاعتبار. وربما عولجت هذه المسألة بحجز البنك الوديعة الجارية في حساب العميل فتصبح ذات أجل إذ لا يسمح له بالسحب منها إلا بعد حلول ذلك الأجل وهو تاريخ تسديد الدين.
لكن النظرة الكلية لهذه المسألة تظهر جوانب أخرى مهمة. ذلك أن الغرض من الرهن توثيق الحق والاطمئنان إلى استيفائه وأن هذه الأحكام المتعلقة بالرهن إنما هي ضوابط الهدف منها تحقيق العدل في المعاملات والثقة به الدائن والمدين. وجلي أن هذه الطريقة تحقق الغرض ولا تلحق الضرر بالمدين. واستيفاء حقه من المبلغ المرهون إنما يكون بالإذن المسبق من العميل، فلم يحتج إلى حكم قضائي، وبما أنه نقود.
ج-أن لا تكون نقودا لأن النقود لا تتعين بالتعيين عند أكثر الفقهاء.
وأجاز البعض رهن الدرهم والدينار إذا طبع عليها. (3) ومعلوم أن هذا متعذر في الحسابات المصرفية.
__________
(1) بداية المجتهد لابن رشد 2/269.
(2) الزحيلي، وهبة 5/222.
(3) القوانين الفقهية لابن جزي 212.(9/547)
سابعا: الودائع الآجلة أو الحسابات لأجل
بينما أن الغرض الأساس للفرد المودع في حساب جار هو الملاءمة والراحة، فإن غرض الودائع الآجلة هو الاستثمار والعائد. وتعد الودائع الآجلة أهم صيغ الاستثمار في البنوك فهي توفر للعملاء وسيلة مأمونة لتثمير أموالهم وتحقيق النمو لها. والعائد على هذه الحسابات هو الفائدة المصرفية، ولذلك فإن الربا في أعمال المصارف هو أوضح ما يكون في هذا النوع من الحسابات (وفي قروض المصرف) .
والودائع الآجلة هي قروض يقدمها العملاء المودعون إلى البنك فهي مضمونة الرد كسائر الديون. وقد سميت هذه الحسابات آجلة لأن البنك –بالاتفاق مع العميل-يحدد للقروض بها أجلا، ولا يجوز لصاحب الوديعة الآجلة سحب أمواله قبل حلول هذا الأجل، فإذا احتاج إلى المال قبل حلول ذلك الأجل فالطريق هو الاقتراض من البنك بضمان تلك الوديعة. ولا يحمل العميل دفتر شيكات، لعدم جواز السحب من أمواله قبل أجلها. فإذا حان الأجل ورغب سحبها حولت إلى حسابه الجاري. وتشترط البنوك حدا أدنى لا يسمح بفتح الحساب لمبلغ يقل عنه. ويكون هذا المبلغ كبيرا في المعتاد، والغالب أن يكون الأجل في هذه الحسابات شهرا واحدا على الأقل، أو لا يحدد ولكن يشترط أن يتقدم العميل بطلب سحب نقوده قبل شهر على الأقل من التاريخ المرغوب. والحسابات الآجلة أنواع متعددة سيأتي تفصيل أهمها لاحقا.(9/548)
1- أهمية هذا النوع من الحسابات بالنسبة إلى البنوك:
تعد الودائع الآجلة بأنواعها المختلفة العمود الفقري لمصادر الأموال في البنك (وربما تصل نسبتها إلى 70 % من مجمل الخصوم) ، وتمثل أعلى نسبة من مجمل الودائع (في غالب الأحوال) مع أنها تحقق للمصرف أدنى معدل من الربح؛ لأنها أكثر مصادر الأموال تكلفة. ومرد ذلك إلى أن البنوك تدفع الفوائد على هذه الحسابات ومن ثم فإن ربح البنك هو الفرق بين الفائدة الدائنة والمدينة. ولكنها تتميز بأنها أكثر أنواع الودائع استقرارا لأنها مربوطة بمدة زمنية محددة ومن ثم تكون متوفرة للبنك خلال تلك الفترة.
2- الفائدة هلي الودائع الآجلة:
مع وجود الاختلاف بين أنواع الحسابات الآجلة، فالذي عليه العمل في البنوك هو تحديد سعر الفائدة على هذه الودائع في اليوم الأول، ويكون ذلك هو السعر السائد عند الإيداع، وعندما تكون الفوائد ثابتة غير متغيرة –وهو الحالة الغالبة-يستمر العمل بذلك المعدل من الفائدة بصرف النظر عن التغيرات التي تحدث في ذلك المعدل فيما بعد. وتستحق الفائدة في نهاية المدة وتدفع عندئذ. فإذا كان سعر الفائدة في يوم الإيداع 6 % وكانت الوديعة لمدة ستة أشهر ثم انخفض السعر في السوق إلى 4 % لم يتأثر العميل بذلك واستحق من البنك 6 %. وعكس ذلك صحيح. أما إذا كانت فائدة متغيرة (معومة) فإن ما يستحق العميل هو الفائدة الجارية (أو معدل فائدة معتمد على الفائدة الجارية) محسوب على أساس يومي لمدة ستة أشهر.
ويحدد البنك المركزي في كثير من البلدان سعر الفائدة على الودائع الآجلة. إلا أن الاتجاه عالميا هو نحو التحرر من القيود وترك الأسعار تتحدد بتفاعل قوى العرض والطلب.(9/549)
3- المنافع المتحققة لصاحب الحساب الآجل:
يتمتع صاحب الحساب الآجل بجل المنافع المتحققة لأصحاب الحسابات الجارية التي سبقت الإشارة إليها فيما عدا تلك المتعلقة بالسحب من الحساب، إذ لا يسمح له بذلك ومن ثم لا يمنح دفتر شيكات ولا يستفيد من وديعته الآجلة في دفع المستحقات للآخرين وتنظيم حساباته ... الخ، على أن هذا النوع من الحسابات له ميزات لا تتوفر في الحساب الجاري منها:
أ- النماء:
المتمثل في الفائدة. والفوائد على هذا النوع من الحسابات تعد من أعلي أنواع المعدلات في عمل المصارف.
ب- إمكانية استخدام الوديعة كضمان:
وذلك للحصول على القروض من هذا المصرف أو المصارف الأخرى، أو بطاقات الائتمان أو غير ذلك من أنواع العمليات المصرفية وذلك لأن مبلغ الوديعة الآجلة محجوز لدى البنك لا يجوز لصاحبه السحب منه. ولا يتحقق هذا في الحسابات الجارية إلا في حالات الحجز عليها بالاتفاق مع العميل.
4- طبيعة العلاقة التعاقدية بين البنك وصاحب الآجل:
لا خلاف في أن المودع في الحساب الآجل هو مقرض للبنك يسري عليه ما سبق ذكره عند الحديث عن العلاقة التعاقدية في الحسابات الجارية، فهي قرض لا وديعة. ويضاف إلى أسباب خروج الودائع الآجلة عن تعريف الوديعة أن قصد التعاقدين ليس الحفظ وإنما النماء والتثمير وتحصيل الربح، وأن البنك يقترض من هذا العميل بالفائدة، وأن الربا بينهما ظاهر جلي ويتمثل في الزيادة المشروطة لذلك العميل المقابلة للأجل في القرض. ولا تختلف القوانين الوضعية عن الأحكام الشرعية في تصور هذه العلاقة.
5- أنواع أخرى من الحسابات الآجلة:
ظهرت في السنوات الأخيرة أنواع متعددة من الحسابات التي وإن دخلت في المفهوم العام للحسابات الآجلة إلا أنها تتضمن مميزات جديدة أضيفت إليها لتناسب رغبات شرائح معينة من المستثمرين. ومنها شهادات الإيداع، حيث يصدر البنك لصاحب الوديعة الآجلة شهادة تكون في الغالب نمطية (أي بوحدات مثل 1000، 5000، 10.000 دولار ... الخ) ومدد محددة مثل، (شهر ستة أشهر، سنة ... الخ) . ويكون بعضها قابلا للتداول بحيث يمكن لحامل الشهادة بيعها عن طريق البنك إلى جهة أخرى إذا رغب في الحصول على النقد.(9/550)
ثامنا: حسابات التوفير:
تعد حسابات التوفير مرحلة وسطى بين الحسابات الجارية والحسابات الآجلة. وهي مخصصة بصفة أساسية لذوي الدخول المتدنية الذين يرغبون في تثمير ما فاض من الأموال عن حاجتهم الآنية، لكن ثروتهم هي من الصغر بحيث إنهم ربما يحتاجون في أي وقت إلى هذه الأموال على قلتها.
والودائع في الحسابات الجارية، شأنها شأن الحسابات الأخرى، قروض البنك فيها مدين والمودع دائن. ومع ذلك فإن بينها وبين الحسابات الجارية والحسابات لأجل اختلاف لعل أهم أوجهه هي:
1-تختلف عن الحسابات الجارية في أن المودع في حسابات التوفير لا يحصل على دفتر شيكات ومن ثم لا يمكنه إحالة الأطراف الأخرى على البنك، كما يختلف في أن البنك يدفع على الأرصدة في حساب التوفير.
2-ويختلف عن الحسابات الآجلة في أن المودع في حسابات التوفير يحمل ما يسمى بالدفتر وهو سجل موثق من البنك برصيد حسابه. ويستطيع أن يسحب من حسابه بإبراز ذلك الدفتر لأي فرع من فروع البنك. (1) فهي قروض حالة مدفوع عليها الزيادة بخلاف الحسابات الآجلة إذ لا يسمح لصاحبها بسحب نقوده قبل حلول الأجل.
__________
(1) وقد لوحظ في بعض بلدان المسلمين أن هذه الخاصية هي قوة الجذب الرئيسية إلى هذا النوع من الحسابات الجارية؛ لأنها لا تتوفر في الحسابات الجارية، فهم يودعون في فرع ويسحبون حيثما احتاجوا من فروع البنك الأخرى، ولذلك لوحظ أن بعضهم يتنازل عن الفائدة لأنها ليست غاية، قد تغير هذا بانتشار شبكات الكمبيوتر(9/551)
تاسعا: الحسابات في البنوك الإسلامية
سعت البنوك الإسلامية منذ ظهورها إلى تقديم البدائل المناسبة لصيغ الاستثمار وأنواع الخدمات المصرفية التي اعتادت البنوك التقليدية تقديمها، مع الحرص على أن تكون تلك الصيغ والخدمات مقبولة من الناحية الشرعية.
ولذلك نجد هذه البنوك تقدم الحسابات الجارية لعملائها، ويقدم بعضها أشباه الحسابات الآجلة معتمدا في ذلك على صيغة المضاربة لا القرض ... إلخ.
1- الحسابات الجارية:
لا تختلف الحسابات الجارية في البنوك الإسلامية –من حيث مصادر الأموال-عنها في البنوك التقليدية، فهي قروض، المدين فيها البنك والدائن العميل. وهي قروض حسنة (بدون فوائد) حالة (غير آجلة) ، ويمكن لصاحبها أن يسحبها مستخدما دفتر الشيكات أو يحيل عليها بأي وسيلة أخرى. ولا يحصل صاحب الأموال في الحساب الجاري على الربح لأن طبيعة علاقته مع المصرف معتمدة على صيغة القرض فأمواله مضمونة على المصرف وكل زيادة عليها هي من الربا.
ويصح على هذا النوع من الحسابات الجارية ما سبق ذكره من ناحية كونها قروضا تجر نفعا يتمثل في الخدمات الملحقة بالحسابات الجارية وقد سبق تفصيل ذلك آنفا.
وهذه الأموال وإن اشتبهت من حيث مصادرها في مثليها في البنوك التقليدية فإنها تختلف من حيث استخداماتها. ذلك أن هذه الأموال إنما يستخدمها البنك الإسلامي في أنواع التمويل المباحة التي لا تتضمن الفائدة.
ولأنها مضمونة عليه، صار له أن يستأثر بما يحقق عنها من الأرباح إذ الخراج بالضمان.
2- تبادل الودائع:
لا غنى لأي مصرف عن الاعتماد في كثير من نشاطاته على المصارف الأخرى ولذلك يكون له عند المصارف الموجودة في منطقة نشاطه وبعض الموجودة في البلدان الأخرى حسابات مصرفية. وتستخدم هذه الحسابات بشكل أساسي (كما فصلنا ذلك آنفا في الفقرة 1/4) ، في الحوالات بين البنوك وما شابه ذلك. وفي البنوك التقليدية تكون هذه الحسابات على صيغة الحساب الجاري المدين فهي إذا انخفض رصيدها فأصبح دون المطلوبات سد البنك الفرق وحمل ذلك الحساب بالفوائد.
وحاجة البنوك ماسة إلى الحسابات المتبادلة، فلا غنى للبنوك الإسلامية عن ذلك سواء فيما بينها أو مع البنوك التقليدية، إلا أنها غير ممكنة بطريق الفائدة، ولذلك تبنت بعض البنوك الإسلامية صيغة الودائع المتبادلة، فهي تفتح حسابا في أحد البنوك وتودع فيه مبلغا من المال ثم تحيل عليه بأنواع الحوالات لمدة حتى ينضب ما فيه، عندئذ يقوم البنك (المفتوح عنده الحساب) بكشف الحساب (بجعله مدين) بمبلغ مساو لما كان مودعا فيه ولنفس المدة. (1) وقد أجازت ندوة البركة الرمضانية في عام 1413 صيغة الودائع المتبادلة. وغني عن الذكر أنه إذا اشترط فيها اختلاف المدد أو المبالغ وقعت في الربا، على أننا نشك بإمكان تطبيقها مصرفيا دون مثل تلك الشروط.
__________
(1) انظر البحث المنشور في مجلة بحوث الاقتصاد الإسلامي، العدد الثاني المجلد الثاني، بعنوان (نظام المصارف صيغة مقترحة لتنظيم قطاع مصرفي إسلامي) ص 67-94، للمؤلف وآخرين.(9/552)
3- الحسابات الاستثمارية:
تشبه الحسابات الاستثمارية في البنوك الإسلامية أنواع الحسابات الأخرى من حيث إنها قيود في دفاتر البنك، إلا أنها تختلف عنها في أنها معتمدة على صيغة المضاربة لا القرض. فالحسابات الاستثمارية في المصارف الإسلامية هي البديل للحسابات الآجلة في المصارف التقليدية، فالغرض منها إيجاد فرصة النماء لأموال العميل عن طريق استثمارها وتحقيق الأرباح بدلا عن الفوائد. وربما كانت المضاربة مخصصة (حساب الاستثمار المخصص) فيستخدم البنك الأموال فيما اتفق عليه مع العميل وربما تكون مطلقة (حساب الاستثمار العام) هي أشبه ما تكون بصيغة (اعمل فيه برأيك) فيكون مفوضا في استثمار الأموال في النشاطات التي يراها مناسبة وتبين استمارة فتح الحساب الاستثماري كل هذه الأمور؛ لأنها صيغة التعاقد بين البنك والعميل. والواجب أن يذكر فيها مسألة إذن العميل (رب المال) للبنك (المضارب) بخلط ماله بمال المضاربة، وتقديم مال المضاربة لمستثمر آخر على أساس المضاربة أو المشاركة، أو العمل بالمرابحة ... إلخ. لكن ذلك قليلا ما يحدث، إذ المعتاد أن لا تنص هذه الاستمارة على مثل هذا التفصيل.
اختلفت البنوك الإسلامية في هذه المسألة إلى ثلاث فرق: الأولي: تقتصر على تكوين صناديق الاستثمار (التي سيأتي الحديث عنها لاحقا) والثانية: تقدم حسابات استثمارية تشبه في إجراءاتها ما اعتاد عليه الناس في البنوك التقليدية، والثالثة تجمع بين الأمرين. وسنعرض أدناه لأنواع الحسابات الاستثمارية في هذه البنوك.(9/553)
4- طبيعة العلاقة التعاقدية بين البنك والمودعين في الحسابات الاستثمارية:
لا تظهر الطبيعة الخاصة والصبغة الإسلامية لعمل البنك كمثل ظهورها في الحسابات الاستثمارية. ذلك أنها معتمدة على صيغة المضاربة المتوازية أو (المضارب يضارب) . ذلك أن المودع في هذه الحسابات هو رب مال في عقد مضاربة يكون البنك فيه العامل، فيقوم الأخير باستثمار الأموال واقتسام ما يقسم الله من ربح من رب المال على ما اتفقا عليه في العقد. ونظرا إلى أن الوظيفة الأساسية للبنك هي الواسطة المالية وليست مباشرة التجارة والصناعة ومزاحمة رجال الأعمال والمنظمين في تجارتهم ونشاطهم وإنما هي مساعدتهم بتوفير التمويل لمشاريعهم، لذلك فإن البنك يقدم هذه الأموال إلى المستثمرين بصيغة المضاربة أيضا، فيكون هو (أي البنك) رب مال والمستفيد من رجال الصناعة والتجارة هو العامل، ويقتسمان الربح على ما اتفقا عليه. فيكون عمل البنك عندئذ مضارب يضارب. ويد المصرف في هذه الأموال يد أمانة لا ضمان، ولذلك كان على العميل أن يتحمل ما يحدث في المال من خسارة إذا كانت بغير تعد أو تقصير من المضارب.
وتقوم البنوك بخلط أموال المستثمرين مع جزء من الودائع الجارية. ذلك أن الودائع الجارية هي قروض حسنة ولذلك فهي مضمونة على البنك ومن ثم له أن يستثمرها لنفسه. وعندما يفعل ذلك تكون الصيغة التي يعمل بها البنك هي المضاربة مع خلط الأموال، أي أن المضارب (البنك) يعمل بأموال أرباب المال (المودعين) ويخلطها بأمواله الخاصة. فيحصل على الربح من مصدرين، الأول باعتباره مضارب، والثاني باعتباره شريكا في هذه الأموال.(9/554)
5- التنضيض الحكمي:
اقتضت طبيعة عمل المصرف كوسيط مالي ضرورة أن تكون فرص الاستثمار وتنمية أموال المودعين التي يوفرها لعملائه ذات درجة عالية من السيولة بالمعنى أن أصحابها يمكن لهم تحويلها إلى نقود في وقت قصير وبتكاليف متدنية. ومعلوم أن الاستثمار في المشاريع الصناعية والزراعية والإنشائية الذي توجه إليه أموال أولئك العملاء لا يتضمن لهذه الصفة بل يستغرق وقتا طويلا ولا تتحقق الأرباح إلا بعد تخطي المشاريع لمراحل التأسيس التي ربما استمرت سنوات. وحتى في الأحوال العادية فإن الأرباح في المشاريع القائمة لا توزع إلا في نهاية العام عند إصدار الميزانيات السنوية. وفي الجهة المقابلة فإن العملاء الذين يودعون أموالهم في الحسابات الاستثمارية لدى البنك لا تجتذب أموالهم لمثل ذلك إلا إذا توفرت لهم السيولة وعند اطمئنانهم إلى أن بإمكانهم سحب تلك الودائع في مدة معقولة. إذن فإن البنوك تواجه هدفين متناقضين فهي من جانب الأصول (بمعناها المحاسبي) لا بد أن تكون استثماراتها ذات نظرة طويلة الأجل، ومن حيث الخصوم (بالمعنى المحاسبي) لا بد أن تكون استثماراتها ذات نظرة قصيرة الأجل. ولا ريب أن هذا الوضع يولد مصاعب كثيرة حتى ضمن صيغة العمل المصرفي التقليدي، إلا أنها في النظام المصرفي الإسلامي تولد مصاعب إضافية. ذلك أن عمل المصرف الإسلامي يقوم على صيغة المضاربة فالمودعون في الحسابات الاستثمارية هم أرباب مال في عقد مضاربة يكون المصرف فيه عاملا. والربح كما هو معلوم لا يتحقق في المضاربة إلا بالتنضيض وسلامة رأس المال والقسمة. عندئذ فحسبما يظهر تحقق الربح (أو عدمه) ويجري التوزيع بين العامل ورب المال بحسب ما اتفقا عليه. وهذا أمر غير ممكن في ظل عمل المصرف للأسباب التالية:
1-ما ذكرنا آنفا من أن عملاء البنوك يهتمون بمسألة السيولة وتناقض ذلك مع حقيقة أن المشاريع تحتاج إلى وقت لتحقيق الربح.(9/555)
2-أن المصرف، وإن كان في أصله مضاربا، فإن نشاطه مستمر، فهو يقف مستعدا لقبول ودائع العملاء في أي وقت يقدمونها. وهو وإن حدد أوقاتا معينة لقبول تلك الودائع، فإن طبيعة عمله تقتضي أن تكون تلك الأوقات متقاربة، مثل أن تكون اليوم الأول من كل أسبوع، أو مرة في كل أسبوعين أو نحو ذلك. ثم إن أرباب الأموال الجدد إنما يضيف المصرف أموالهم إلى من سبقهم، الأمر الذي يحتاج معه إلى التحقيق من سلامة رأس المال القديم وما إذا كان الربح قد تحقق أم لا.
ولما كان من المحال أن يعمد المصرف في كل أسبوع أو شهر أو نحو ذلك إلى التنضيض الشرعي وهو صيرورة المال نقدا في المضاربة بعد إن كان متاعا أي سلعا وبضائع. (1) فكان المخرج من كل هذا هو التنضيض الحكمي. ويمكن تعريف التنضيض الحكمي بأنه تقويم أحوال المضاربة في نهاية الفترة المتفق عليها (كسنة أو شهر أو أقل من ذلك أو أكثر) واعتماد ذلك التقويم أساسا لتوزيع الأرباح ورد رأس مال من يرغب من أرباب المال بدون تصفية فعلية للمضاربة. وربما تكون تلك الأصول استثمارات في مشروعات مختلفة أو سلعا أو منشآت عقارية أو ديونا.
ويكثر استخدام هذه الطريقة في البنوك الإسلامية في الودائع الاستثمارية وفي صناديق الاستثمار التي تديرها البنوك وذلك لتحقيق الاستمرارية في نشاط المصرف ومعالجة مشكلة عدم التوافق في مدد الأصول والخصوم. وقد تعرض قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم (5) في دورته الرابعة في سنة 1408هـ الموافق 1988م إلى مسألة التقويم لمعرفة الربح فأجاز ذلك في صيغة سندات المقارضة وهي شبيهة بما نحن بصدده.
وتعتمد فكرة التنضيض الحكمي إلى إجراء تصفية محاسبية لكل المشاريع التي تستثمر الأموال فيها والتعرف –بطريق الحساب-على مسألة سلامة رأس المال والربح. ويمكن أن يقوم المصرف بهذه العملية متى شاء (مرة كل أسبوع أو أكثر أو أقل) . وعندها يتبين له ما ذكر، يقوم عندئذ برد أموال من رغب في سحب أمواله من المودعين ويقوم بتوزيع الربح على عملائه، كما يقبل عندئذ – وقد تبين له الموقف- أموال المودعين الجدد فيبدءون دورة جديدة مع من استمر من المودعين القدامى. وتتحقق القسمة لن البنك وهو المضارب يقوم بحسم نصيبه من الربح بناء على التنضيض الحكمي. وتعتبر نتائج عملية التنضيض الحكمي –نهائية-فلا يعودون إلى مستثمر سحب نقوده مع ربح إذا تحققت الخسارة فيما بعد ولا عكس ذلك.
د. محمد علي القري
__________
(1) نزيه حماد، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء، المعهد العالمي للفكر الإسلامي واشنطن 1414هـ(9/556)
الودائع المصرفية
حسابات المصارف
إعداد
د. حمد عبيد الكبيسي
عميد المعهد الإسلامي العالي لإعداد الأئمة بالعراق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هديهم إلى يوم الدين. وبعد:
فهذا بحث موجز عن الودائع المصرفية أعددته ليكون ضمن بحوث الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي. ووفق الخطة التي تلقيتها من فضيلة الأمين العام للمجمع الأستاذ محمد الحبيب ابن الخوجه حفظه الله. مع تقديم أو تأخير لبعض الفقرات اقتضاه النظر في التنسيق والتبويب مع عدم الإخلال بما طلبته الأمانة العامة للمجمع من مسائل.
وقد تضمن البحث الموضوعات التالية:
1- مفهوم الوديعة المصرفية.
2- الوديعة في الفقه الإسلامي.
3- تقسيم الودائع المصرفية.
4- التصور الشرعي للوديعة الجارية، وضمانها، واستخدامها كرهن أو ضمان. وحجزها (التجميد والمقاصة)
5- التصور الشرعي للوديعة الاستثمارية، ورهنها وكيفية إدراجها، واستحقاق الربح أو تحمل الخسارة في سحب جزء منها قبل نهاية المدة.
والله أسأل أن يجنبنا الهوى والزلل والضلال، وأن يسدد خطانا إنه نعم المولى ونعم النصير.(9/557)
1 -الوديعة المصرفية:
أ- مفهومها:
هي الأموال التي يعهد بها الأفراد أو الهيئات إلى المصرف على أن يتعهد برد مساو لها إليهم أو نفسها لدى الطلب أو بالشروط المتفق عليها. (1)
وقد عدل بعض الكاتبين في الاقتصاد الإسلامي عن مصطلح الوديعة المصرفية إلى عبارة الحسابات المصرفية؛ لأن ما تسميه المصارف ودائع مصرفية لا ينطبق عليها تعريف ولا أحكام الوديعة في الشريعة الإسلامية. (2)
وهذا هو ما لاح لواضعي قائمة الموضوعات المقترح كتابة البحوث فيها في المجمع الفقهي إذ وضع عبارة حسابات المصارف بين قوسين بجنب عنوان الموضوع الرابع (الودائع المصرفية) .
ب- مميزاتها وخصائصها:
تتميز الودائع المصرفية من حيث العموم بأنها توفر حفظ الأموال وصيانتها من السرقة والهلاك. وتوفر تسهيل التعامل التجاري وطريقة الدفع أو السداد، وتيسير المعاملات الأخرى التي تقدمها المصارف لعملائها.
ومن خصائصها أنها لا تستحق أي عائد أو ربح في المصارف الإسلامية، بل أنه يحق لهذه المصارف أن تتقاضى عليها أجرا أو عمولة في مقابل ما يمنحه لأصحابها من امتيازات.
على عكس ما عليه العمل في معظم المصارف الربوية حيث تقوم بعض هذه المصارف بهدف زيادة نسبة هذا النوع من الحسابات في بعض الأحيان بمنح فوائد محددة لأصحاب هذه الحسابات متى ما زاد حجم حسابهم الجاري عن مبلغ معين.
__________
(1) انظر عمليات البنوك للدكتور على جمال الدين عوض: 17.
(2) انظر المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق للدكتور عبد الرازق الهيتي: 200.(9/558)
ج- أهمية الودائع لعمل المصارف:
تعتبر الودائع المصدر الرئيسي للأموال التي يعتمد عليها المصرف في أنشطته وفي عملياته المختلفة، بل تعتبر هي عماد موارده وأهم مصادر التمويل له.
وتسعى المصارف سعيا (حثيثا) وتتخذ وسائل متعددة لتوسيع مواردها من الودائع وتتنافس فيما بينها لاحتواء أموالها للاستفادة منها ولتوظيفها فيما يعود عليها بالربح والفائدة العالية إذ هي موارد للمصارف ليس فيها تكلفة وأغلبها ودائع جارية أو تحت الطلب، لا تدفع عليها البنوك فائدة. ولا تغرم من جراء استلامها وحفظها غرما ماليا. وتتفنن في إبقائها لديها أكبر مدة ممكنة.
2- الوديعة في الفقه الإسلامي:
أ- تعريفها:
عرف الحنفية الوديعة (بمعنى الإيداع) بأنها تسليط الغير على حفظ ماله وبمعنى المال المودع، بأنها: المال الذي يترك عند الأمين. (1)
وعرف المالكية الوديعة بمعنى الإيداع بأنها توكيل على مجرد حفظ المال، أو أنها مجرد حفظ الشيء المملوك الذي يصح نقله إلى الوديع.
وبمعنى الشيء المودع بأنها عبارة عن شيء مملوك ينقل مجرد حفظه إلى الوديع. (2)
وعرفها الشافعية بأنها: العقد المقتضي للاستحفاظ: أو العين المستحفظة به حقيقة فيها. (3) فهي عندهم بمعنى الإيداع: إنابة من المالك أو وكيله لآخر على حفظ مال أو مختص لحفظه لمالكه. وبمعنى الشيء المودع اسم للمال أو المختص المحترم الذي يوضع عند الغير لحفظه لصاحبه.
وإلى مثل هذا التعريف ذهب الإمامية (4) .
وعرفها الحنابلة بمعنى العين المودعة بأنها المال المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض وبمعنى الإيداع بأنها توكيل في حفظه تبرعا. (5) .
وبمثل تعريف الحنابلة للوديعة عرفها الزيدية (6) .
__________
(1) انظر ابن عابدين: 4/550؛ والمغني لابن قدامة: 6/382.
(2) انظر الدسوقي على الشرح الكبير:3/419.
(3) انظر مغني المحتاج للشربيني:3/79
(4) انظر شرائع الإسلام للحلي:163
(5) انظر منتهى الإيرادات: 1/536
(6) انظر البحر الزخار: 4/167(9/559)
ب- أركانها:
يقول ابن النجار: وتعتبر للوديعة أركان وكالة (1) . فركنها الإيجاب صريحا أو كناية أو فعلا. والقبول صريحا أو دلالة من أهل معتد بتصرفه.
ج- أحكامها:
هي عقد جائز بين طرفين، ومتى أراد المودع أخذ وديعته لزم المستودع ردها، وليس على المستودع ضمان إذا تلفت إلا لخيانة أو تفريط (2) .
إلا أنه قد يعرض لجواز العقد من الظروف والأسباب ما يجعلها داخلة في نطاق حكم آخر من الأحكام الشرعية.
فقد تكون مندوبة للمستودع مباحة للمودع إذا ما اشتبه عليه قيام عارض يؤدي إلى تلفها.
وقد تكون واجبة عليه إذا تيقن تلفها إذا لم يودعها. ويحرم على المستودع قبولها إذا تيقن العجز عن حفظها.
فالأصل في الوديعة الإباحة والجواز. وقد يعرض لها ما يجعلها واجبة أو مندوبة، أو محرمة أو مكروهة.
د- شروطها:
ذكر الفقهاء شروطا للوديعة هي شروط للمال أو المختص، من قابليته لوضع اليد عليه ومن إثبات اليد عليه عند الاستحفاظ. وتناولوا ما إذا شرط رب الوديعة على المستودع ضمانها فقبله أو قال: أنا ضامن لها. فبين جمهورهم أنه لا يضمن وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأحمد. وذلك لأنه شرط ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه فلم يلزمه كما لو شرط ضمان ما يتلف في يد مالكه. (3) .
وفرق بعض الحنفية بين أن تكون أمانة: فلا تضمن. أو كانت بأجر فمضمونة (4) .
وتناول فقهاؤنا فروعا في إطار بحثهم لأحكام الوديعة وشروطها.
__________
(1) انظر منتهى الإيرادات: 1/536، وابن عابدين 4/550
(2) انظر الخرشي على خليل:6/125؛ ومجمع الضمانات:68
(3) انظر: المغني لابن قدامة: 6/422
(4) انظر مجمع الضمانات:68(9/560)
الأول: خلط الوديعة.
والثاني: استعمال الوديعة.
والثالث: أخذ الأجرة عليها.
الأول: خلط الوديعة.
الأصل أن تكون الوديعة معزولة عن مال المستودع. محفوظة أمانة بذاتها لصاحبها.
إلا أنه قد يقع الخلط. فإذا كان الخلط بفعل المودع أو بإذنه، أو كان الخلط دون تفريط من المستودع، أو كان منه وتيسير التمييز فلا ضمان إذ لا ضرر ولا نقص يلحق صاحب المال.
أما إذا كان بتفريط من المستودع أو كان خلطا يتعذر معه التمييز كخلط الشيء بجنسه فإنه يضمن الضرر الذي قد ينجم من الخلط. (1)
الثاني: استعمال الوديعة
إذا تعدى المستودع فاستعمل الوديعة ثم ردها إلى موضعها بنية الأمانة فإن الحنفية ذهبوا إلى أنه لا يضمنها لأنه ممسك لها بإذن مالكها فأشبه ما قبل التعدي.
وذهب الجمهور إلى قيام الضمان لأنه تعدى بالاستعمال فبطل الاستئمان. (2)
وإذا تعدى على الوديعة فتاجر بها وربح فقد اختلف الفقهاء فيه. فذهب الجمهور إلى أنه إذا رد المال طاب له الربح. وذهب بعضهم إلى أنه يرد المال وديعة ويتصدق بالربح.
وقال بعضهم: لرب الوديعة الأصل والربح. ويلاحظ أن من اعتبر التصرف قال: الربح للمتصرف. ومن اعتبر الأصل قال: الربح لصاحب المال. (3)
الثالث: أخذ الأجرة على حفظ الوديعة
وقد اختلف الفقهاء فيها:
ومنهم من أجاز أخذ الأجرة على حفظ الوديعة وعلى حرزها (4) . ومنهم من منع أخذ الأجرة على الحفظ والحرز. (5)
ومنهم من فصل فجوز الأخذ على الحرز لا على الحفظ. (6)
والراجح من هذه المذاهب، مذهب من أجاز الأخذ تحقيقا للمصلحة، لأن القول بعدم الجواز يؤدي إلى صرف الناس عن قبول الوديعة، فتتعطل المصالح التي شرعت من أجلها وجازت الوديعة.
3- تقسيم الودائع المصرفية
تتنوع الودائع المصرفية بحسب طبيعة إيداعها وتاريخ استردادها إلى ثلاثة أنواع:
الأول: ودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) تكييفها الشرعي وضمانها.
ويقصد بها الحسابات التي يقوم أصحابها بفتحها في البنك لإيداع أموالهم بغرض حفظها والتعامل اليومي بها بقصد أن تكون حاضرة للتداول والسحب عليها عند الحاجة لها وبمجرد الطلب، ودون توقف على أخطار سابق.
ويكيف هذا الحساب بأنه يأخذ حكم الوديعة في الشريعة الإسلامية في الرأي الراجح لأن البنك ملتزم بردها كاملة إلى أصحابها عند الطلب ولا يعكر على هذا الرأي أن البنك يستخدم هذه الوديعة، وهذا يعتبر خيانة لها إذا اعتبرت وديعة حقيقية، وأن المخرج من هذا أن تعتبر قرضا.
ذلك أن بعض فقهائنا يعدون التصرف بالوديعة لا يرقى إلى مرتبة الحرمة إذا كان الوديع مليئا. وعلل الدردير عدم حرمة تصرف المودع لديه بالوديعة المثلية كالنقود ونحوه بقوله: (ولم يحرم لأن المليء غير المماطل مظنة الوفاء مع كون مثل المثل كعينه التصرف الواقع فيه كلا تصرف. إلى أن قال: والربح الحاصل من التجارة للمودع – بالفتح - فإن كان الوديعة نقدا - أو مثليا فلربها المثل) (7)
وإن تهمة خيانة الأمانة مندفعة بأن المودع رضي باستخدامها، ومن جهة أنه يعلم أن المصرف سوف يتصرف بهذه الأموال وفق العرف المصرفي. (8)
وهذا التكييف يساعد على تيسير إخضاع بعض المعاملات المصرفية لأحكام الشريعة الإسلامية كما في حالة استعمال الوديعة أداة لوفاء دين.
وكذلك حالة ما لو استعملت وسيلة للدفع فلو اشترى صاحب الحساب بضاعة بما يملكه من ذلك الحساب فإذا اعتبرنا هذا الحساب قرضا فإن هذا العقد يكون صحيحا في حالة استلام البضاعة مباشرة بخلاف ما لو كانت البضاعة مؤجلة فإنه يكون عقدا باطلا شرعا لأنه من باب بيع دين بدين.
وهذا لا يرد مع اعتبار الحساب وديعة حقيقية. إضافة إلى إسهام هذا التكييف في المحافظة على حقوق صاحب الوديعة وإبعاده عن التعرض لمخاطر لم تتجه لها إرادته عند إبرام العقد.
__________
(1) انظر المبسوط للسرخسي 13/110؛ والمغني:6/384؛ والخرشي: 6/126.
(2) انظر المغني: 6/401؛ والخرشي على خليل: 6/127.
(3) انظر البداية لابن رشد: 2/312؛ والخرشي على خليل: 6/133.
(4) انظر حاشية البجيرمي: 3/249؛ وقليوبي وعميرة 3/181
(5) انظر كشاف القناع: 4/166؛ والبحر الزخار: 4/167.
(6) انظر الخرشي على خليل: 6/11.
(7) الدردير على خليل:3/421
(8) المصارف بين النظرية والتطبيق للدكتور عبد الرازق الهيتي:205.(9/561)
وزيادة في الاحتياط يذكر بعض الباحثين أنه يراعي تضمين الطلب المقدم من قبل العميل لفتح حساب جار ما يأتي:
أ-الإذن الصريح للمصرف بالتصرف في الأموال التي يودعها لديه.
ب-النص صراحة على عدم استحقاق هذا النوع من الإيداع لأي نصيب من الأرباح. (1)
ولكن ينبغي مراعاة أن هذا الإذن بالتصرف في الوديعة في الحساب الجاري بنقل المال من أمانة المصرف إلى ذمته وتصير دينا من الديون. فتقوم المعوقات الشرعية في بعض الصور إذا أريد استعمال المال وسيلة للدفع أو أداة لوفاء دين.
الضمان
أما ضمان الحسابات الجارية فإنه على المساهمين وحدهم ذلك أن يد المصرف على هذا الحساب يد ضمان عند جمهرة الفقهاء.
وعلة هذا أن المصرف يقوم بخلط هذه الوديعة بغيرها ويستثمر الجزء الأكبر منها. ومن المقرر عند جمهور الفقهاء أنه ليس للوديع أن ينتفع بالوديعة، فإذا انتفع كان متعديا، فإذا تلفت ضمنها، وإذا أذن له المودع بالانتفاع صارت عارية مع بقاء عينها وقرضا إذا لم يبق عينها، والقرض مضمون برد المثل. (2)
والمالكية ذهبوا إلى أن مجرد خلط الوديعة بغيرها خلطا يتعذر معه التمييز يجعل الوديعة مضمونة إذا كان لغير الحفظ والإحراز. (3) . والمصرف يخلط النقود المودعة مع بعضها للتصرف بها. وكذلك الحال إذا كان التصرف غير مأذون به، فقد نص المالكية على أن (من اتجر بالوديعة فذلك مكروه والربح له لأنه ضامن) . (4)
وعلى كل الأحوال فإن هذا التصرف إنما هو من المؤسسين ممثلين بمجلس الإدارة والموظفين المخولين. فالضمان عليهم وحدهم ولا دخل للمودعين الآخرين بهذه التبعة وبهذا الضمان.
__________
(1) انظر فتاوى شرعية في الأعمال المصرفية: 15 بنك دبي الإسلامي.
(2) انظر بدائع الصنائع: 6/207 و213.
(3) انظر القوانين الفقهية:321.
(4) انظر الكواكب الدرية: 3/70؛ والدردير على خليل: 3/420-422.(9/562)
استخدام الحساب كرهن أو ضمان
ومما يتعلق بهذا النوع من الودائع مسألة استخدام العميل أمواله المودعة في حساب جار كرهن، واستخدامها كضمان. أما عن استخدام الحساب الجاري كرهن: فمعلوم أن الرهن يشترط فيه القبض لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] فلا يتصور أن يشتري الإنسان شيئا من آخر بثمن آجل ويرهن عنده نقودا. ولكن يتصور هذا إذا اعتبرنا المصرف الذي فيه الحساب هو العدل، أي الطرف الثالث الذي يرتضيه المتعاقدان ليكون الرهن بيده.
فإذا اعتبرنا الحساب قرضا في ذمة المصرف فهل يكون هذا الدين رهنا أو ضمانا لما جرى بين العاقدين.
ذهب المالكية إلى جواز أن يكون المرهون دينا. (1) وذهب جمهور الفقهاء إلى أن المرهون ينبغي أن يكون مالا متقوما يجوز بيعه ولا يصح رهن مالا يصلح بيعه لأن المقصود من الرهن الاستيثاق للدين باستيفائه من ثمن المرهون عند تعذر استيفائه من الراهن. (2)
وعلى كل حال: فما دام صاحب الحساب الجاري مخيرا بالسحب من حسابه متى شاء فإنه مليء يشتري بالنقد لا بالدين فلا ترد قضية الرهن والضمان في حقه، ولكن من حق صاحب الحساب أن يضمن غيره في حدود حسابه الجاري.
المقاصة من الحساب:
وهناك مسألة تجميد الحساب الجاري وحق المقاصة منه، فإذا كان على صاحب الحساب الجاري حق مقر به، للمصرف أو لغيره أو كان مماطلا وعلى بينة؛ فإنه لا يجوز الأخذ من حسابه مقاصة إلا ما يبذله هو ويعطيه. أو يصدر بالتجميد أو المقاصة حكم قضائي.
وأما إذا كان جاحدا للحق ظالما لصاحبه ولا قدرة لصاحب الحق على حمله على الإقرار فذهب الشافعية وجمهور المالكية إلى جواز الأخذ بقدر الحق من الوديعة مطلقا أي سواء كانت الوديعة من جنس الحق أو من غيره. على أن يحترس الأخذ من أن يصيبه ضرر بسبب الأخذ. يقول الدردير: (والمذهب أن له (أي المودع) الأخذ منها بقدر حقه إن أمن العقوبة والرذيلة وربها ملد أو منكر أو ظالم) (3)
__________
(1) انظر الدردير على خليل: 3/231؛ والخرشي: 5/236؛ والقوانين: 277.
(2) انظر العدة على العمدة: 246؛ وتحفة الفقهاء: 3/55؛ والهروي على الكنز: 293؛ والمغني 4/310.
(3) انظر المهذب:2/317؛ والدردير على خليل: 3/431(9/563)
ويشهد لهذا المذهب قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] ويشهد لهذا المذهب من السنة أيضا ما ورد من قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهند بنت عتبة: ((خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف.)) في الحديث الصحيح. (1)
واستند الشافعية إلى هذا الحديث فأجازوا الأخذ وإن كان يقدر على الأخذ بالقضاء لأن عليه في المحاكمة مشقة. (2)
ونقل عن الإمام مالك رحمه الله القول بعدم جواز الأخذ من الوديعة مقاصة مطلقا. (3)
لعموم أدلة وجوب رد الأمانة إلى أهلها، والوديعة أمانة عند المودع. وذهب بعضهم إلى جواز الأخذ مقاصة بقدر الحق إن كانت من جنسه. فإن اختلفا جنسا لا يجوز لأن أخذ غير الجنس من باب المعاوضة وهي لا تجوز إلا برضاء الطرفين. وهو غير موجود فيها. (4)
وأجاز الشافعية الأخذ من غير الجنس ولكن لا يتملكه بل يبيعه ويصرف ثمنه في حقه. (5)
ولا يخفى رجحان ما ذهب إليه الشافعية من جواز المقاصة وأخذ الحق ممن وجب عليه إذا كان ممتنعا وإن كان يقدر صاحبه على أخذه بالقضاء بأن تكون له بينة. لقوة سنده ولأن فيه دفعا لمشقة اللجوء إلى المحاكم. وردعا عن المماطلة في الوفاء بالحقوق ودفعا للظلم والعدوان. وهذا هو ما يمكن أن يكون سندا شرعيا للمصرف وهو بصدد تجميد الحساب الجاري وحجزه على أموال العميل المودعة في حساب جار تصفية لحقوق عليه ناشئة من عمليات أخرى.
__________
(1) انظر نيل الأوطار.
(2) انظر المهذب: 2/317.
(3) انظر المدونة: 15/160؛ والدردير: 3/431
(4) انظر نيل الأوطار: 6/40؛ والودائع المصرفية للدكتور حسن عبد الله الأمين: 158-162
(5) انظر المهذب: 2/317-318(9/564)
الثاني حسابات التوفير: (الودائع الادخارية)
وهي الحسابات التي يحتفظ المودعون على أساسها بدفتر توفير تسجل فيه عمليات السحب والإيداع وفق ضوابط المصرف وقواعده.
وتهدف المصارف من خلال هذه الودائع إلى تشجيع الناس على الادخار.
وتصرف البنوك الربوية فائدة على هذه المدخرات مع تمكين المودعين من السحب من هذه الحسابات في ضوء شروط يضعها المصرف ويوافق عليها صاحب الحساب. أما المصارف الإسلامية فإنها لا تدفع فوائد عن هذه المدخرات، ولكن تجيز لصاحب الحساب أن يحوله إلى حساب استثماري في عمليات المضاربة أو غيرها من الأنشطة التجارية التي يجتازها صاحب الحساب. أو يبقى المصرف جزءا منه بمثابة سائل نقدي ليتدارك احتياجات صاحب الحساب. وفي كلا الحالين فإن لصاحب دفتر التوفير أن يسحب حسابه كله متى أراد.
ويمكن تكييف هذه الودائع من الناحية الشرعية من زاويتين.
الأولى: بالنظر لتلك الحصة التي يخصصها المصرف لتسديد سحوبات المودع وفقا لاحتياجاته وهذه بمثابة الحساب الجاري وحكمه الجواز ما دام لا تؤخذ عنه فوائد.
الثانية: بالنظر لتلك التي يختار لها صاحبها أن تدخل في حساب استثماري مشترك، وهذا النوع جائز أيضا ما دام المودع يستحق نسبة من الأرباح الناجمة من الاستثمار ويتحمل ما قد يكون من خسارة وفقا لقواعد المضاربة أو المشاركة الأخرى. (1)
__________
(1) انظر المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق: 212.(9/565)
الثالث: الحسابات الاستثمارية (الودائع الآجلة)
ويقصد بها: الودائع التي يضعها أصحابها في المصرف بناء على اتفاق بعدم السحب منها إلا بعد انقضاء فترة محددة. (1)
ويهدف أصحاب هذه الودائع إلى الحصول على الكسب المتمثل بالفائدة في المصارف الربوية أو الربح الحلال في المصارف الإسلامية التي تقوم باستثمارها في الأوجه المناسبة وبالطرق التي يراها دون تدخل من المودع.
ويستثمرها المصرف بنفسه أو مع شركاء آخرين، ويقوم المصرف في نهاية كل مدة محددة لعمله بتوزيع الأرباح الناجمة عن نشاطه لأصحاب هذه الحسابات.
وعادة ما يتوقف هذا على إعداد حسابات ختامية للمصرف وتقرير نسبة الأرباح التي ستوزع. (2)
وبالرغم من وجود اتفاق بعدم السحب من هذه الحسابات إلا بعد انقضاء الفترة المحددة، فقد يطلب صاحب الحساب سحب وديعته كلها أو بعضها. قبل انقضاء موعد الاستحقاق.
وللمصرف في هذه الحالة رد الحساب لصاحبه أو الامتناع عن ذلك. وغالبا ما يعيد المصرف الحساب لصاحبه حفاظا على سمعته، وتسير المصارف الربوية على رد الحساب دون أن يكون له فوائد خلال المدة التي انقضت والمال في حوزته أو إقراض المودع بضمان حسابه مبلغا في حدود وديعته وبفائدة أعلى من فائدة الإيداع. (3)
أما في المصارف الإسلامية فإن الأمر يبحث في إدارة النشاط الذي وظف فيه المال، فإن رأت الإدارة أن ظروف المودع تقتضي إجابته إلى طلبه بدون ضرر يلحق الآخرين فإنها تعيد المال لصاحبه إقالة لعثرة قد يكون المودع تعرض لها.
وعادة ما يلتزم المصرف أن يعطيه الربح الذي يستحقه خلال فترة الإيداع إن كان هناك ربح، مقابل أن يتعهد صاحب الحساب بتحمل الخسارة إن تبين من خلال الحساب الختامي أن هناك خسارة. (4)
ويمكن تكييف هذا النوع من الحساب بأنه عقد شركة بين المودع والمصرف، وأن المصرف يتصرف بالحساب كتصرف العامل في المضاربة. (5)
فما يأخذه صاحب الحساب من الأرباح المتحققة هو جزء مما نتج عن هذا العمل الاستثماري يستحقه باعتباره شريكا للمصرف وما يأخذه المصرف من هذه الأرباح باعتباره شريكا لصاحب الحساب وعاملا في ماله.
__________
(1) انظر المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق: 212
(2) انظر المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق: 214.
(3) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية: 5/130
(4) مجلة الاقتصاد الإسلامي: 10/1982
(5) الموسوعة العلمية للبنوك الإسلامية:5/149.(9/566)
وبهذا نصل إلى تحديد يد المصرف على المال. وبالتأمل في تكييف هذا الحساب بأنه مضاربة بين المصرف وصاحب المال: يتضح أن يد المصرف على هذه الودائع يد أمانة، ولا تضمن إلا بالتعدي. فالمودع يستحق جزءا من الربح إن تحقق، وفي حالة الخسارة فإن المصرف لا يتحمل أي شيء منها، بل هي على المودعين فقط. انسجاما مع قواعد المضاربة الشرعية، صحيح أن المصرف عادة لا يقوم باستثمار هذه الودائع بنفسه بل يقوم بإعطائها لمن يعمل فيها مضاربة، وأنه وسيط أو مضارب بمال المضاربة. فهذا لا يغير من طبيعة اليد على المال.
ولقد بحث فقهاؤنا حالة ما إذا كان المضارب وسيطا بين صاحب المال ومضارب آخر. فاتفقوا على أنه لا يملك هذا بمجرد عقد المضاربة؛ لأن صاحب المال رضي خبرته وأمانته لا خبرة وأمانة غيره. (1) لكن العمل في المصارف الإسلامية يجري على اعتماد التفويض العام له من قبل صاحب الحساب لأن يدفع المال لمضارب آخر.
وقد ذهب فريق من الفقهاء من الحنفية والحنابلة وغيرهم إلى أن التفويض العام من قبل رب المال للمضارب يكفي؛ لأن يدفع عامل المضاربة مال المضاربة لمضارب آخر.
ففي ضوء هذا الذي قرره هؤلاء الفقهاء من جواز هذه المضاربة بالتفويض العام فإن يد المصرف تكون يد أمانة وأن ما تقوم به هذه المصارف من استثمار لهذه الحسابات هو استثمار مشروع خاصة وأن إذن صاحب الحساب للمصرف باستثمار المال بهذه الطريقة إنما هو إذن متحقق بديهي لأنه يعلم أن المصرف لا يمكنه استثمار جميع هذه الأموال بنفسه مباشرة بل لا بد له من استخدام عاملين آخرين لاستثمار الأموال المودعة لديه.
وبيانا لوجه استحقاق المضارب الأول الربح يقول الكاساني: (لأن عمل المضارب الثاني وقع له فكأنه عمل بنفسه كما لو استأجر إنسانا على خياطة ثوب بدرهم فاستأجر الأجير من خاطه بنصف درهم طاب له الفضل؛ لأن عمل أجيره وقع له، فكأنه عمل بنفسه) . (2)
__________
(1) انظر بدائع الصنائع: 6/97؛ والمغني لابن قدامة: 5/48؛ والخرشي: 5/214؛ ومغني المحتاج: 2/314.
(2) انظر البدائع: 6/97.(9/567)
وبحث فقهاؤنا –رحمهم الله- مسألة خلط مال المضاربة بأموال أخرى. والذي ينسجم مع الواقع الاقتصادي لعصرنا وييسر أمر التعامل في المصارف الإسلامية ما ذهب أليه الشافعية، من جوازه بالتفويض العام (1) لأنه ينصرف إلى ما هو متعارف عليه عند التجار وفيه مصلحة للمضاربة خاصة حالة كون رأس المال المودع للمضاربة لا يغطي صفقة يرى المضارب أن فيها ربحا جيدا فيعمد إلى الخلط تحقيقا لمصلحة تعود على الأطراف كلها.
فإذا تحقق الربح فإنه يعطي لكل مال من الأموال المشاركة في هذه المضاربة نسبة تساوي نسبة مشاركته في المضاربة ويعطى المضارب (المصرف) النسبة المتفق عليها في تلك المضاربة.
وإذا وقعت خسارة فإنها تقسم على الأموال المشاركة في هذه المضاربة على نسبة مشاركتها فيها، ويكون الباقي بعد خصم نسبة خسارته هو الذي يستحقه أصحاب رؤوس الأموال، أما المضارب فلا يتحمل شيئا من تلك الخسارة. (2)
نقرر هذا مع علمنا أن هناك من ذهب إلى ضمان مال المضاربة المشتركة على المضارب (البنك) إما بطريق التبرع للمودعين تشجيعا لهم على الإيداع. (3) أو قياسا على الأجير المشترك الذي قال بضمانه المالكية وبعض الحنفية. (4)
وأما ما نقله ابن رشد عن بعض الأئمة من قوله: (إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض آخر فإنه ضامن إن كان خسران.) (5) فهذا جاء في سياق تصرف العامل بغير إذن رب المال.
سواء كان الخلط أو بتسليمه إلى مضارب آخر. بدليل أنه ذكر في أول كتاب القراض الإجماع على أنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد. (6)
والذي يساعد على ما ذهبنا إليه ورجحناه اتفاق الفقهاء على أن الوضعية على رأس المال.
والقول بضمان المضارب المشترك يؤدي إلى جعل هذا المضارب مقترضا لا مضاربا ومن ثم يكون ما يدفعه للمستثمرين فيه شبهة الربا، أو هو الربا بعينه.
__________
(1) انظر تكملة المجموع على المهذب: 5/92 و102
(2) انظر المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق: 385.
(3) انظر البنك اللاربوي في الإسلام.
(4) انظر بدائع الصنائع: 4/210؛ ومجمع الضمانات: 27؛ وبداية المجتهد: 2/232.
(5) انظر بداية المجتهد: 2/242.
(6) انظر بداية المجتهد: 3/236.(9/568)
8- رهن الوديعة الاستثمارية
إن الوديعة الاستثمارية حصة في المشاركة بين صاحبها والمصرف. فلا يتصور رهن هذه الحصة وهي نقود. ومعلوم أن السحب من هذا النوع من الحساب غير مسموح به إلا في نهاية عمل المشروع. غير أنه يمكن لصاحب المال أن يقترض من المصرف الإسلامي بضمان هذه الحسابات وفي هذه الحالة يحسب نصيب الوديعة في الأرباح المتحققة على أساس الفرق بين المبلغ المقترض وأصل الحساب الاستثماري مع مراعاة المدة التي استخدم فيها كل جزء. (1)
وفي هذه الحالة يضع المصرف إشارة على هذا الحساب بقدر ما اقترضه صاحبه منها لسحب ما يوازي القرض. ومعلوم أن هذا القرض في المصارف الإسلامية بلا فائدة وإلا وقع الطرفان في الربا المحرم. وإذا نظرنا إلى هذا الجزء المؤشر في المصرف على أنه دين عليه لصاحب الحساب فيمكن أن يعتبر رهنا وفقا لمن رأى جواز رهن الدين من الفقهاء.
9- الوديعة الاستثمارية حصة في المشاركة
إن العقد الذي ينطبق على الوديعة الاستثمارية هو عقد شركة بين المودع والمصرف، وإن تصرف المصرف في الحساب إنما تتم على أساس أنه شريك لصاحبه، وتصرفه فيها كالتصرف العامل في المضاربة. والمضاربة مشاركة بين اثنين أحدهما يدفع المال والآخر يدفع بدنه، أي يشارك بالعمل. (2) وهذا التصور هو الذي ينسجم مع ما يجري عليه العمل المصرفي فإن صاحب هذا الحساب – وهو شريك للمصرف- سيحصل على نصيبه في أرباح شراكته وستكون هذه الأرباح هي التي تدفعه إلى التعامل مع هذه المصارف مما يساعد على نمو رأس المال للمصرف الإسلامي وازدهار استثماراته بعيدا عن الربا وإثمه. على عكس ما لو كان صاحب الحساب يعلم أنه لا يصيبه من هذا الحساب سوى صيانة أمواله وحفظها وأنه لا فرق بين هذا الحساب والحساب الجاري فإن ذلك سيضعف إقبال العملاء على هذه المصارف. (3)
__________
(1) انظر تقييم تجربة البنوك الإسلامية: 32لعبد الحليم إبراهيم محيسن.
(2) انظر المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق: 216.
(3) انظر المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق: ص 217.(9/569)
10- إدراج حسابات الاستثمار:
إذا تقدم صاحب المال إلى المصرف ليودع ماله في حساب استثماري فإن هذا المال يدرج في المطلوبات قبل مباشرة المصرف في استثماره في أحد المشاريع التجارية. ويترتب على هذا أنه يمكن سحب هذا المال كله أو بعضه لأن هذا المال قبل مباشرة العمل يعد أمانة في يد المصرف. أما بعد مباشرة العمل فإنه يكون حصة في المشاركة فينتقل بهذا إلى موجودات المصرف ويمكن أن نلحظ في عبارة الكاساني ما يعين على هذا التكييف حيث يقول: (إن رأس المال قبل أن يشتري المضارب به شيئًا أمانة في يده بمنزلة الوديعة لأنه قبضه بإذن المالك لا على وجه البدل والوثيقة, فإذا اشترى به شيئًا صار بمنزلة الوكيل بالشراء والبيع لأنه تصرف في مال الغير بأمره.. فإذا ظهر في المال ربح صار شريكًا فيه بقدر حصته من الربح) (1) .
وهذا ينطبق على الحساب الجاري فهو مندرج تحت مطلوبات المصرف وليس هناك مانع شرعي من تحويل هذا الحساب إلى حساب استثماري في حالة رغبة أصحابه ويترتب على هذا أن يتحول الحساب إلى موجودات للمصرف تمثل رأس مال المشروع. ولا يحتاج المصرف إلى عملية إعادة الوديعة إلى المودع ثم إيداعها مرة ثانية في الحساب الاستثماري لأنها تتحول وهي في مكانها, ويؤيد هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من جواز جعل الوديعة رأس مال في المضاربة , وفي هذا يقول الكاساني: (ولو أضاف المضاربة إلى عين هي أمانة في يد المضارب من الدراهم والدنانير بأن قال للمودع: اعمل بما في يدك مضاربة بالنصف جاز ذلك بلا خلاف) . (2) .
11- سحب جزء من حساب استثماري قبل نهاية مدته
يمتاز الحساب الاستثماري في المصارف بثبات واستقرار يتمثل في الاتفاق على أن لا يسحب منه قبل مضي مدة متفق عليها بالأشهر أو بالسنة.
غير أن ظروفًا قد تطرأ للمودع تحمله أن يسحب جزءًا من هذا الحساب وأن المصرف حفاظًا على سمعته لا يريد أن يمنع هذا السحب بعد أن دخل الحساب في المشاركة والمضاربة؛ خاصة وأن المصارف عادة تستثمر الجزء الأكبر من الحساب وتبقي جزءا منه على شكل نقد لمواجهة ما قد يطرأ فيدعو إلى السحب منها (3) . لذلك فإنها تستجيب إلى مثل هذا الطلب.
ثم يرد السؤال عن استحقاق هذا المال المسحوب ربحًا أو تحمله خسارة عن الفترة التي بقي المبلغ في حوزة المصرف. وهنا لا بد أن نفرق بين حالين: حال ما إذا كان هناك ربح ظاهر قبل السحب. وحال ما إذا لم يكن.
فإن كان هناك ربح ظاهر فإن المال المسحوب يستحق حصته من الربح في وقت سحبه, كما يتحمل نصيبه من الخسارة إن كانت هناك خسارة لأن الغنم بالغرم.
وإن لم يكن هناك ربح فإن المبلغ الذي يتم استرداده, لا يستحق شيئًا من الربح الذي يتم توزيعه في الأجل المضروب للتوزيع لأن الربح المعلن في هذا الأجل لا يتقرر إلا للمبلغ الذي يكون باقيًا لدى المضارب من بداية المضاربة إلى نهاية الأجل المتفق عليه أو المتعارف على إجراء الحساب فيه.
__________
(1) انظر البدائع: 6/87
(2) البدائع. 6/83
(3) تقييم تجربة البنوك الإسلامية31(9/570)
وفي هذا يقول النووي وشارحه الشربيني: (ولو استرد المالك بعض مال القراض قبل ظهور ربح وخسران فيه رجع رأس المال إلى ذلك الباقي بعد المسترد, لأنه لم يترك في يده غيره فصار كما لو اقتصر في الابتداء على إعطائه له. وإن استرد بعد ظهور الربح فالمسترد منه شائع ربحًا ورأس مال على النسبة الحاصلة من جملة الربح ورأس المال.... وإن استرداد المالك بعضه بعد ظهور الخسران فالخسران موزع على المسترد والباقي) (1) .
أما كيفية حساب ذلك فإنها كما وردت في فتوى أستاذنا الجليل الشيخ بدر المتولي عبد الباسط رعاه الله وهو ينصح بإجابة طلب هذا الذي رغب في الاسترداد.
وقال: (على أن يتعهد البنك عند وضع الميزانية النهائية للعام أن يعطيه الربح الذي يستحقه خلال فترة الإيداع إن كان هناك ربح, ويأخذ منه تعهدًا بالرجوع عليه بالخسارة إن تبين آخر العام أن هناك خسارة ويكون تحمله بنسبة المبلغ الذي تم سحبه, والمدة التي كان فيها المبلغ في ذمة البنك) (2) .
وقد ذكر النووي طريقة لتوزيع الربح والخسارة (3) . وطرائق الحساب المتقدمة وأجهزتها المتطورة المعاصرة لا تعجز عن الوفاء بهذه المهمة. والله أعلم.
أ. د. حمد عبيد الكبيسي
__________
(1) انظر مغني المحتاج: 2/320-321
(2) انظر مجلة الاقتصاد الإسلامي: 10لسنة 1982
(3) انظر المغنى على المنهاج:2/321(9/571)
الودائع المصرفية
(تكييفها الفقهي وأحكامها)
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
الأمين العام للمجمع العالمي لأهل البيت بإيران
بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم الوديعة المصرفية:
ويقصد بها الوديعة النقدية التي تودع لدى البنوك والتي تتعهد بدورها بإعادة مبلغ معادل لها عند الطلب أو وفق شروط معينة (1) وهذه الوديعة كما يقول الإمام الصدر: (تعتبر بمختلف أشكالها في مفهوم البنوك الربوية عن مبلغ من النقود –يودع لدى البنوك بوسيلة من وسائل الإيداع فينشئ وديعة تحت الطلب أو لأجل محدد اتفاقا ويترتب عليه من ناحية البنك الالتزام بدفع مبلغ معين من وحدات النقد القانونية للمودع أو لأمره لدى الطلب أو بعد أجل، على اختلاف الشكل الذي يتم الاتفاق عليه للوديعة بين البنك والعميل.)
ويطلق على الودائع المصرفية هذه عادة أنها ودائع ناقصة لأن البنك غير ملزم بدفعها عند الطلب بنفس المظهر المادي الذي أودعت به، والعملاء لا يستطيعون رفض ما يقدم إليهم من النقود ما دامت هذه النقود قانونية. (2)
ويقرب من هذا ما ذكره الأستاذ الزرقا في خصائصها. (3)
وواضح أن التعريف الذي طرحه الشهيد الصدر أدق وأشمل من سابقه.
وبهذا نعرف أن الوديعة المصرفية تتمتع بما يلي:
1- أنها تقتصر على النقود المدفوعة للبنوك.
2- أنها قد تكون تحت الطلب وقد تكون لأجل.
3- أنها تمثل عملية لازمة بشروطها.
4- أن للبنك دفع ما يعادلها من نقود قانونية دون الالتزام بالمظهر المادي الذي دفعت به.
5- أن للبنك الحق في التصرف بها بما يشاء لأنها ملكه.
6- أن الأرباح العائدة منها عند الاستثمار تعود للبنك.
7- أن البنك يضمن ما يعادلها في كل الأحوال.
__________
(1) الدكتور علي جمال الدين عوض: عمليات البنوك من الواجهة القانونية ص17
(2) البنك اللاربوي ص 84.
(3) قراءات في الاقتصاد الإسلامي ص 330.(9/572)
أما أهميتها الاقتصادية لعمل المصارف:
فيمكن تلخيصها أيضا –بما يلي:
1- أنها وسيلة هامة من وسائل الدفع لما يحيط بها من ضمانات تنتجها الثقة بالبنوك، وإن لم يعترف لها القانون بالصيغة النقدية ومع ذلك فقد اتسع التعامل بها عن طريق استعمال الشيكات.
ومن الواضح أن ازدياد وسائل الدفع في المجال الاقتصادي يبعث في الحياة الاقتصادية روح السرعة والسهولة في التبادل.
2- أن الودائع المصرفية تمثل غالبا أموالا عاطلة عن التأثير إما لقلتها –أو لأنها لا تعرف سبيلها للدخول في الحياة الاقتصادية بشكل مؤثر في حين تدخل مدد إيداعها في حوض الاستثمار الكبير وهو القادر على تمويل المشاريع الضخمة.
3-أن الودائع المصرفية تمنح البنك القدرة على خلق الائتمان بدرجة كبيرة أكبر من كمية تلك الودائع، والائتمان يخلق بدوره الوديعة المصرفية أيضا وبهذا تكثر وسائل الدفع التي تعوض عن النقود فتتسع الحركة التجارية، وهكذا نعرف أن الودائع المصرفية تعني بيت القصيد في الدخل المصرفي والمحور الأساسي في نشاطاتها الاقتصادية والتجارية وغيرها. (1)
الوديعة في الفقه الإسلامي:
والحديث هنا مفصل نقتصر منه على موضع الحاجة وبكل إجمال.
ويتم التركيز في البحث الفقهي للوديعة عادة تارة على العقد، وأخرى على موجبات الضمان، وثالثة في توابع المسألة.
أما بالنسبة للعقد فيقال: إنه لفظ- أو ما يقوم مقامه- يقتضي استنابة في الحفظ ولا خلاف في اعتبار إنشائية الربط بين القبول والإيجاب فليست من قبيل الإباحة التي لا يلحظ فيها الربط بين القصدين, وإذا استودع وقبل ذلك وجب عليه الحفظ ولو كان المودع مضطرًا وجب على كل قادر عليها واثق بالحفظ قبولها- كفاية- وإلا فهي من العقود المستحبة في نفسها لما تشتمل عليه من التعاون, ولا يلزمه الدرك لو تلفت العين من غير تعد أو أخذت منه قهراً، لأنه أمين, وعموم (على اليد ما أخذت حتى تؤدى) مخصص بقاعدة عدم ضمان الأمين من غير تعد ولا تفريط وهي عقد جائز من طرفيه –بلا خلاف- كما أنه يبطل بموت كل واحد منهما أو جنونه وحينئذٍ تكون العين في يد الودعي أمانة يجب ردها إلى مالكها أو ولي أمره.
__________
(1) الودائع النقدية للدكتور الأمين –الترجمة الفارسية ص169.(9/573)
وتحفظ الوديعة بما جرت العادة بحفظها بما في ذلك الإطعام للحيوان والسقي للنبات.
وقد احتاط الفقهاء للوديعة فمنعوا حتى من بعض الأعمال التي يقوم بها الناس بالنسبة لحاجياتهم كحمل الوديعة معه أثناء خروجه من الدار وأمثال ذلك, ولو عين المالك موضعًا وجب الاقتصار عليه بل احتاط البعض بعدم تجويز نقلها حتى إلى الموضع الأكثر حفظاً.
ولا تصح وديعة الطفل ولا المجنون لاعتبار الكمال في طرفي العقد إلا مع إذن الولي.
وإذا ظهر للمودع أمارة الموت وجب الإشهاد بها.
ويجب إعادة الوديعة إلى المودع مع المطالبة في أول أوقات الإمكان.
وبالنسبة لموجبات الضمان ذكروا منها التفريط والتعدي بل ربما عبر عنهما بالتقصير وذلك لصدق الخيانة المقابلة للأمانة والائتمان المجعول في النصوص سببًا أو عنوانًا لعدم الضمان وقد ذكر الفقهاء الكثير من المصاديق لهذا المفهوم.
وفي لواحق المسألة تعرض الفقهاء إلى مسائل منها مسألة جواز السفر بالوديعة إذا خاف تلفها مع الإقامة, ومسألة عدم براءة الذمة إلا بردها إلى المودع أو وكيله وغير ذلك مما لا نرى مجالًا للتعرض له؛ لأنه لا تأثير له في فهم حقيقة الوديعة إلا أنه يجب التعرض لمسألة واحدة وهي ما لو كان البناء منذ الأول على التصرف في الوديعة, وما هو حكم هذه المسألة إذا كان التصرف مهلكًا للعين المودعة؟
أما بالنسبة للتصرفات غير المتلفة للذات فإنه لو كان ذلك برضا المالك فقد اختلفوا في أنه عارية أو أنها إباحة التصرف لا بعوض.
وإن نوى التصرف في الوديعة منذ البدء دونما اتفاق مسبق فقد ذكر الفقيه الكبير النجفي في جواهر الكلام أن صاحب المسالك قال هنا:
(أن لو نوى التصرف في الوديعة عند أخذها بحيث أخذها على هذا القصد كانت مضمونة عليه مطلقاً؛ لأنه لا يقبضها على وجه الأمانة بل على سبيل الخيانة, وفي تأثير استدامة النية في استدامة الأخذ كما تؤثر في ابتدائه وجهان: من ثبوت اليد في الموضعين مقرونًا بالنية الموجب للضمان, ومن أنه لم يحدث فعلًا مع قصد الخيانة والشك في مجرد القصد في الضمان) .
وعلق عليه بوضوح الفرق بين العزم على الانتفاع مع بقاء القبض عن المالك وبينه مع نية كون القبض له ضرورة تحقق الغصب في الثاني دون الأول (1) .
أما بالنسبة للتصرف المهلك كما في النقود فإنه لو كان متفقًا عليه في العقد تحول العقد إلى عقد قرض؛ لأنه يعني التملك بالضمان وهو حقيقة القرض.
__________
(1) جواهر الكلام في شرح شرائح الإسلام ج 27 طبع بيروت ص 141(9/574)
الودائع المصرفية وأقسامها:
ونعود إلى الودائع المصرفية لنعرف تكييفها الفقهي على ضوء ما سبق:
وهنا لا بد من معرفة أقسام ما يسمى بالوديعة المصرفية لما لذلك من دخل في معرفة هذا التكييف.
وتنقسم هذه الودائع المصرفية عادة إلى أقسام:
الأول: الوديعة الجارية أو المتحركة
وهي المبالغ النقدية التي تودع لدى المصارف بقصد أن تكون مهيئة للسحب عليها عند الحاجة وهي تمتلك الصفتين التاليتين:
• كونها تحت الطلب دائماً.
• لا تدفع المصاريف عليها فائدة -حسب العادة-.
الثاني: الودائع الاستثمارية (الودائع لأمر)
وهي المبالغ التي يتم إيداعها في المصارف بقصد الحصول على دخل مستمر منها أو ربما يستهدفون الاستثمار الموقت ريثما يتسنى لهم تشغيلها مباشرة.
فهي إذن:
1- ودائع نقدية مشترط فيها الإبقاء إلى مدة معينة كحد أدنى.
2- يتم تقاضي مبلغ معين عليها كدخل استثماري.
الثالث: ودائع التوفير:
وهي ودائع فيها وجه شبه بالودائع الجارية من حيث إمكان السحب عليها في كل آن وآخر بالودائع الثابتة من حيث ما تقرضه المصارف من فوائد للموفرين وتمتاز هذه الودائع:
أولاً: بأنها مهيأة للسحب عليها عند الطلب.
ثانياً: بوجود بعض القيود التي تمنع من السحب بأية طريقة كانت: كأن يلزم المودع بتقديم دفتره الخاص في كل مرة يشاء السحب فيها مما يضمن بقاء المبالغ التي يتوقع سحبها من مجموع ودائع التوفير والتي لا تزيد عادة على 10 % (كما يقول الشهيد الصدر) (1) وذلك لصعوبة السحب المشار إليه ويعتبر عشر كل وديعة توفير وديعة جارية ولا يدفع عنها أية فائدة أو ربح بل يحتفظ بها كقرض فهي تمتاز إذن:
ثالثا: بدفع للمودعين من قبل المصارف. فلنلاحظ التكييف الشرعي لهذه الودائع إن كان ممكنا.
__________
(1) البنك اللاربوي ص65.(9/575)
أولا: تكييف ودائع الحساب الجاري
اعتبر بعض الاقتصاديين الإسلاميين أن ودائع الحساب الجاري هي ودائع كاملة بالمعنى الشرعي.
يقول الدكتور الأمين:
(وإذا كانت الوديعة النقدية تحت الطلب هي مبلغ يوضع لدى البنك ويسحب منه في الوقت الذي يختاره المودع فإن ذلك كل ما يطلب في الوديعة الحقيقية ولا توجد أية شائبة فإذا كان البنك قد اعتاد أن يتصرف فيها – بحسب مجرى العادة - فإن هذا التصرف المنفرد من جانب البنك لا يمكن أن يحسب على المودع وينسحب على إرادته فيفسرها على هذا الاتجاه من الإيداع إلى الإقراض فإرادة المودع لم تتجه أبدا في هذا النوع من الإيداع نحو القرض. كما أن البنك لم يتسلم هذه الوديعة على أنها قرض بدليل أنه يتقاضى أجرة (عمولة) على حفظ الوديعة عند الطلب بعكس الوديعة لأجل، وبدليل الحذر الشديد من استعمالها والتصرف فيها من جانبه ثم المبادرة الفورية بردها عند الطلب مما يدل على أن البنك حينما يتصرف فيها إنما يفعل ذلك من موقف انتهازي لا يستند إلى مركز قانوني كمركز المقترض) .
ويؤكد إضافة على ذلك بأننا حتى لو لاحظنا مسألة الإجازة الضمنية والعرفية للمودع بتصرف بأموال الحساب الجاري فإن هذا لا يغير من إرادته في الوديعة ويؤيد اختياره هذا بما أثر عن المالكية من تجويز التصرف بالمثليات للقادر على ردها وإن اعتبروا ذلك مكروها بل إن (أشهب) لم يقل حتى بهذه الكراهة. (1)
والملاحظ أنه يعتبر أموال الحساب الجاري ودائع بمفهومها الشرعي تماما مستدلا..
أولا: بقصد المودع فالمودعون لم يقصدوا القرض.
ثانيا: يأخذ البنك العمولة على حفظها كما في البنوك السودانية.
ثالثا: حذر البنك من استعمالها فموقفه انتهازي كما يعبر.
__________
(1) الودائع النقدية للدكتور حسن عبد الله الأمين –الترجمة الفارسية ص 207-208.(9/576)
إلا أن الظاهر أن المورد مورد قرض ذلك أن من خصائص الوديعة أن تبقى كما هي بعينها ولا يمكن التصرف فيها خصوصا بما يفوت ذاتها –بإجماع المذاهب الإسلامية- إلا ما ينقله عن المالكية حيث اعتبروا ذلك مكروها، وخاصا إذا كانت الوديعة من الدنانير والدراهم أي من النقود. هذا في حين نجد البناء منذ البدء على أن يقوم البنك بالتصرف المطلق في أموال الحساب الجاري تماما دونما حرج أو استثناء، وإنما هو أمر طبيعي جدا ولا يتخذ البنك فيه حالة انتهازية –كما يعبر- أما احتياطه في التصرف في أموال الحساب الجاري فهو تابع لطبيعتها الجارية ولزوم توفير سيولة نقدية في كل آن للاستجابة لاحتمالات السحب في كل آن وإلا تعرضت سمعة البنك للخطر لا بل أمكنت المطالبة القانونية له فحتى على مذهب المالكية لا يمكن تكييف وديعة الحساب الجاري على أساس أنها وديعة وإنما تجب الصيرورة إلى أنها قرض كامل لأن التصرف ليس استثنائيا.
أما مسألة النية (نية الإيداع) فهي في الحقيقة ناشئة من عاملين:
الأول: كونها كذلك في البنوك الربوية.
الثاني: أنها تقرب من الوديعة باعتبار إمكان استيفائها كاملة في كل آن، وبما يصاحب ذلك من الحفظ والصيانة فهي تؤدي إلى نفس النتيجة التي يؤدي إليها الاستيداع تماما إلا أن هذه النية لا تنسجم مطلقا –عندما يراد تكييف العقد شرعا- مع علم الطرفين بأن هذه العين المالية بمجرد تسليمها سوف تقع تحت التصرف الكامل للبنك، وهذا إنما ينسجم مع القرض لا الإيداع، حتى لو وضع عليه عنوان الإيداع ذلك نظير الإيداعات الثابتة التي لا سبيل فيها في البنوك الربوية إلا إلى القرض حتى ولو تمت تحت عنوان الإيداع.
فالعبرة في العقود للمقصود والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولو قبلنا أنها ودائع كان علينا أن نقول: إن التصرف الذي يقوم به المصرف إما أن يكون ناقلا بذمته وإما أن يبقى مجرد تصرف في مال المودع، فإذا كان ناقلا بذمته فمعنى ذلك الاستقراض، وهذا ينسحب على مجمل الوديعة من الأول؛ لأن البنك يقصد من الأول ذلك وفق العقد الأول باعتباره يتصرف من أموال الحسابات الجارية كمالك كامل – بل إن المصارف إنما تقدم على فتح الحسابات الجارية وتقديم خدماتها- وهي لا تتقاضى على ذلك أجرا عادة، ويعتبر ما تتقاضاه بعض البنوك علامة على ضعفها بلا ريب –إنما تقدم لتستفيد من السيولة النقدية التي توفرها الحسابات الجارية.(9/577)
وحتى لو كانت هذه البنوك لا ربوية فهي تقوم بالمساهمة في عمليات المضاربات الكبرى أو أي من العقود المشروعة مما تأخذه من رأس مالها أولا وما تدخله في المضاربات وغيرها ما استقرضته عبر الحسابات الجارية، وهي بالتالي تنال حصتها المشروعة من الأرباح على ما دفعته إلى ساحة المضاربة من أسهم.
أما إذا لم يقصد المصرف نقلها إلى ذمته فهذا يعني أن هذه الأموال يجب أن ترجع هي وأرباحها (المشروعة طبعا) إلى المودع؛ لأنه مالك الأصل -حسب قاعدة الثبات في الملكية- يقول الكيذري- وهو من فقهاء الإمامية القدامى- (إذا اتجر بمال الوديعة فالربح لصاحبها والخسران على المودع) . (1)
يقول الإمام الخميني بهذا الصدد في المسألة السادسة من (أعمال البنوك) –لو كان ما يدفعه إلى البنك بعنوان الوديعة والأمانة فإن لم يأذن بالتصرف فيها لا يجوز للبنك ذلك، ولو تصرف كان ضامنا، ولو أذن جاز، وكذا لو رضي به وما يدفعه البنك إليه حلال على الصورتين إلا أن يرجع الإذن في التصرف الناقل إلى التملك بالضمان، فإن الزيادة المأخوذة مع قرار النفع حرام وإن كان القرض صحيحا، والظاهر أن الودائع في البنك من هذا القبيل، فما يسمى وديعة وأمانة قرض واقعا ومع قرار النفع تحرم الفائدة. (2)
والظاهر أنه ينظر لكلا النوعين من أجناس الوديعة أي الوديعة العينية والوديعة النقدية، ويجيز أن يتصرف البنك بالوديعة العينية بإذن المالك لقاء عوض – أما إذا رجع التصرف في الوديعة إلى التملك – كما في النقود- فقد عاد استقراضا ولا تجوز أخذ الفائدة فيه وبالتالي يفتى بأن الودائع المصرفية بكلا نوعيها الجارية والثابتة هي قرض واقعا.
__________
(1) الينابيع الفقهية 17/132 طبعة بيروت.
(2) تحرير الوسيلة 2/616.(9/578)
ويعلق مؤلف مستند تحرير الوسيلة (والظاهر أنه تقرير لدرس الإمام نفسه) على هذه العبارة بقوله:
(وذلك لأن وضع النقود في البنك على ما هو المتداول في الخارج، مقارن مع الرضا بالتصرف فيه بأنحاء التصرفات حتى التصرفات الناقلة، وهذه التصرفات الناقلة التي تصدر عن البنك لا تكون بعنوان المبادلة على أموال صاحب هذه النقود، ولو كان كذلك كان لازمه أن ربح التجارات يعود إلى صاحب هذه النقود؛ لأن العوض يدخل في ملك من خرج منه المعوض مع أن صاحب البنك يأخذ الأرباح لنفسه فلا يكون ذلك صحيحا شرعا إلا مع التمليك بالضمان، لكن إذا تصرف البنك فيه بالتصرفات الناقلة يخرج عن كونه أمانة ووديعة، ويصير قرضا واقعا، فتسمية ذلك بالوديعة إما لأنه يكون في بداية الأمر كذلك، وإما لأن التسليم إلى البنك ليس لمصلحة المستقرض وهو البنك فقط بل يكون لمصلحة المقرض المودع –أيضا- لأن البنك يحافظ بهذا الإيداع على المال من السرقة والتلف، ولأجل هذه الجهة يسمى إيداعا وأن يكون قرضا غالبا أو دائما واقعا) (1)
أما السيد الشهيد الصدر (رحمه الله) فيقول:
(فليست المبالغ التي توضع في البنوك الربوية ودائع لا تامة –كما يقال في الحساب الجاري – ولا ناقصة - كما يقال في الودائع الثابتة- وإنما هي قروض مستحقة الوفاء دائما أو لأجل محدد؛ لأن ملكية العميل تزول نهائيا عن المبلغ الذي وضعه لدى البنك، ويصبح للبنك السلطة على التصرف فيه ... وهذا ما لا يتفق مع طبيعة الوديعة، وإنما أطلق اسم الودائع على تلك المبالغ التي تتقاضاها البنوك؛ لأنها تاريخيا بدأت بشكل ودائع وتطورت خلال تجارب البنوك واتساع أعمالها إلى قروض فظلت تحتفظ من الناحية اللفظية باسم الودائع، وإن فقدت المضمون الفقهي لهذا المصطلح. وموقف البنك اللاربوي من الودائع التي تتقاضاها البنوك الربوية يقوم على أساس التمييز بين الودائع المتحركة، والودائع الثابتة –كما سبق- فالودائع المتحركة يقبلها بوصفها قروضا دون أن يدفع فيها فائدة والودائع الثابتة يقبلها كودائع بالمعنى الفقهي للكلمة، ولكنها ليست مجرد ودائع مسلمة إلى البنك لاستنابته في حفظها فحسب. بل هناك إلى جانب الإيداع توكيل من المودع للبنك في التصرف بالمال بإجراء عقد المضاربة عليه) .
__________
(1) مستند تحرير الوسيلة ص 116قسم المسائل المستحدثة.(9/579)
وهكذا يختلف لدى البنك اللاربوي المحتوى الفقهي لقبوله الودائع من عملائه باختلاف حركتها وثباتها.
أما بالنسبة لاستيفاء هذا القرض أو السحب عليه وتكييفه فيرى أن الحساب الجاري لدى البنوك القائمة تعبر عن ديون متقابلة فالودائع تمثل رصيد العميل الدائن ويمثل ما يسحبه العميل الرصيد المدين، ويعتبر الحساب الجاري – من وجهة النظر الغربية معبرا عن عقد قائم بذاته تفقد الحقوق النقدية معه خصائصها الفردية وتستحيل إلى عناصر حسابية ينتج عنها في النهاية رصيد دائن مستحق الأداء. وذلك لأن الفقه الغربي ما زال يرى أن المقاصة بين الحسابين الدائن والمدين تحتاج إلى قرار متفق عليه في حين أن الفقه الإسلامي يرى قهرية المقاصة (على رأي الإمامية والحنفية) بل لا يمكن التنازل عنها؛ لأنها ليست حقا قابلا للإسقاط، ويمكن أن تفسر عملية السحب بأنها استيفاء للدين وهو الذي يرجحه فإن تم على المكشوف فذلك يعني إنشاء دين جديد للبنك على العميل. (1)
ويبدو أن هذا الاتجاه –أي اتجاه جعل الوديعة في مثل هذه الظروف قرضا- هو الاتجاه السائد لدى الفقهاء في شتى المذاهب.
فقد جاء في كتاب كشاف القناع المؤلف على المذهب الحنبلي أن الوديعة مع الإذن بالاستعمال عارية مضمونة. (2)
كما جاء في المغني لابن قدامة أنه لو استعار الرجل الدراهم والدنانير لينفقها فهذا قرض. (3)
__________
(1) البنك اللاربوي في الإسلام ص84إلي88.
(2) البهوتي 4/141 المطبوع في مصر 1947.
(3) المغني ط 3 القاهرة 5/207-208(9/580)
ومن الفقه الحنفي نجد السمرقندي يقول: (كل ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه فهو قرض حقيقة، ولكن يسمى عارية مجازا) (1)
وكذلك نجد شمس الأئمة السرخسي يقول: (إن عارية الدراهم والدنانير والفلوس قرض؛ لأن الإعارة إذن في الانتفاع، ولا يتأتى الانتفاع بالنقود إلا باستهلاكها عينا فيصير مأذونا في ذلك) (2)
هذا ...
والذي يبدو أن الفقه الوضعي نفسه مر بتطور في مسألة الودائع هذه.
فقد نقل عن الأستاذ (ربير) الفقيه الفرنسي أنه رغم تغليبه فكرة تفسير الوديعة بأنها أمانة محفوظة لكنه يرى أن هذا مجرد تصور نظري لأنه يتعارض مع إمكان تصرف البنك بالنقود ولذلك اتجه إلى فكرة القول بأن الوديعة المصرفية هي وديعة ناقصة أو شاذة، بينما اقترح البعض إعطاء عقد الوديعة صفة جديدة، وهو ما يؤيده الأستاذ على البارودي في كتاب (القانون التجاري اللبناني) ص288 حيث يرى أن المودع إنما يقدم على الإيداع لحفظ أمواله، ولكنه لا يحرم البنك من استعمال تلك الأموال.
وهنا نجد الأستاذ سامي حمود يرد عليه بأن اللجوء إلى هذا الحل إنما يكون بعد عدم إمكان تفسيره بحل آخر وهو الإقراض وهذا التفسير –كما يقول الأستاذ علي جمال الدين- يستهوي غالبية الفقه الفرنسي مراعاة منه للوضع الغالب من العمل وهو ما أخذ به القانون المصري حيث نصت المادة 726 منه على ما يلي:
(إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذونا في استعماله اعتبر العقد قرضا) (3)
__________
(1) تحفة الفقهاء الطبعة الأولى –دمشق 3/284
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع طبعة القاهرة 8/3899.
(3) راجع تطور الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية للدكتور سامي حسن أحمد حمود ص 264.(9/581)
ضمان الحسابات الجارية:
تلخص مما ذكرنا أن البنوك الربوية في الحقيقة تستلم الودائع الجارية والثابتة كقروض حقيقة وتدفع عليها فوائد ربوية.
أما بالنسبة للبنوك اللاربوية فهي تتسلم الودائع الجارية كقروض أو الودائع الثابتة (لأمد) فهي لا تتسلمها كقروض وإنما يمكن أن تتسلمها كودائع مع توكيل للبنك بإمكان إدخالها في عقود مشروعة كالمضاربة والمشاركة وغيرها فيكون البنك هنا أمينا وسيطا له أحكامه الخاصة به.
وعليه: فمن الطبيعي أن يضمن البنك وهو يعبر عن الأسهم المشتركة فيه أموال الحسابات الجارية؛ لأنها قروض عليه ولا معنى لتصور ضمان الحسابات الجارية من قبل المودعين لا المودعين لهذه الحسابات ولا المودعين للودائع الثابتة فلا دخل لهم في الموضوع.
وهل يمكن استخدام الأموال المودعة في حساب جارى كرهن أو كضمان؟
بعد أن رأينا أنها قروض لم يعد هناك مجال لهذا التساؤل بالنسبة للرهن وحتى لو تصورناها ودائع كما في الودائع لأجل، فالظاهر أيضا أنه لا مجال لذلك؛ لأن الرهن يشترط فيه أن يكون عينا كما يشترط فيه القبض من قبل المرتهن هذا وقد ذكر المرحوم الشهيد الثاني أنه على القول بعدم اشتراط القبض لا مانع من صحة رهنه، وإن العامة في التذكرة بنى الحكم على القول باشتراط القبض وعدمه فقال: لا يصح رهن الدين إن شرطنا في الرهن القبض؛ لأنه لا يمكن قبضه (1)
__________
(1) اللمعة الدمشقية 4/66.(9/582)
هذا وهناك مجال لتصور الرهن هنا إذا لم نشترط العينية والقبض، أما إذا كان المرتهن هو البنك نفسه فيمكن القول بأن القبض حاصل والإشكال في هذه الحالة أقل من حالة كون المرتهن شخصا ثالثا.
أما استخدامها كضمان: فهو أيضا غير واضح المقصود فإن أريد من ذلك أن يقوم البنك –باعتبار ما لديه من ودائع نقدية- بضمان المودع بدين في ذمته أو عمل أو ما إلى ذلك فلا مانع في ذلك كيفما فسرنا الضمان أهو نقل الحق من ذمة إلى أخرى كما يقول الإمامية أو ضم ذمة إلى أخرى كما يقول غيرهم وعلى أي حال فإن الضمان إذا كان بإذن المضمون عنه فللبنك الرجوع عليه بكل ما يتكبده معتمدا على ما لديه من ودائع جارية أو ثابتة وإلا لم يكن له التصرف في أي من هذه الودائع.
فالحكم في الودائع الجارية والودائع الثابتة واحد ظاهرا.
وهل يمكن حجز أموال العميل في حساب جار لتصفية حقوق عليه ناشئة للبنك من عمليات أخرى؟ وبتعبير آخر هل يمكن للبنك أن يجمد الحسابات ويجري المقاصة؟
قلنا بهذا الصدد عند عرض تكييف الحساب الجاري أنه سواء كان بمعنى الحسابين الجاريين المدين والدائن أو بمعنى استيفاء حساب جار واحد أنه دين على البنك المودع، فإذا استحق للبنك على المودع مبلغ من المال تحققت المقاصة على الرأي الراجح لدى الإمامية والحنفية بشكل طبيعي وقهري ودون حاجة إلى أي عقد أو اتفاق مسبق على ذلك بين البنك والعميل أو الرجوع إلى القضاء.
فالحساب إذن يتجمد بمقدار الحق الناشئ وتتم المقاصة بشكل طبيعي إن تمت المشابهة بين الحقين.(9/583)
التكييف الشرعي للوديعة المصرفية الاستثمارية وهل يمكن تصورها كحصة في المشاركة؟
والوديعة الصافية الثابتة إذا أريد تفسيرها كقرض كان ذلك يعني أنها قرض ربوي محرم ولا سبيل لنا إلى تصحيحها ولذلك فهناك سبيل آخر يتلخص في الاحتفاظ بها كوديعة بالمعنى الفقهي وأوكل إلى البنك أن يتصرف بها ويستثمرها لصاحبها، وحينئذ يقوم البنك في إدخالها في حوض الاستثمار الكبير والذي يعمل من خلاله على الدخول في العقود الإسلامية نيابة عن المودعين، فيعود كل مبلغ مودع شريكا في كل نشاطات الحوض الكبير بمقداره وبمستوى المدة التي يبقى فيها لدى البنك.
وهكذا يشترك أطراف ثلاثة في العملية الاستثمارية المودعون والمستثمرون، البنك بوصفه وسيطا بين الطرفين ووكيلا عن أصحاب الأموال.
ومن الطبيعي أنه يدخل أيضا كصاحب رأس مال بالنسبة لحصة من رأس ماله وما لديه من سيولة نقدية توفرها الحسابات الجارية؛ لأنها ملكه بعد أن تصورناها كعمليات قرض.
وقد اشترط المرحوم الشهيد الصدر للبنك في توكيله عن المودعين:
1- أن يلتزم المودع بملزم شرعي بإبقاء وديعته مدة لا تقل عن أشهر تحت تصرف البنك وهو ممكن في عقد الوكالة وإن لم يمكن الإلزام في عقد الوديعة باعتباره عقدا جائزا.
2- أن يقر المودع ويوافق على الصيغة التي يقترحها البنك للعمليات الاستثمارية.
3- أن يفتح المودع وديعة ثابتة حسابا جاريا لدى البنك واعتبر هذا شرطا قابلا للحذف.
كل ذلك لكي يضمن البنك النتائج المرجوة له.
كما تحدث (رحمه الله) عن قدرة البنك على ضمان الدوافع التي تدفع المودعين للأقدام على الوديعة الاستثمارية وهي:
أ - كون الوديعة مضمونة
ب - الدخل
ج-القدرة على الاسترجاع في نهاية الأجل
فقرر إمكان توفير الضمان لرأس المال من قبل البنك نفسه لا العاملين المستثمرين فقد لا يمكن تضمينهم كما في عملية المضاربة وحول هذا الموضوع قدم بحثا فقهيا ملحقا للكتاب وقال في نهايته:(9/584)
(وبناء على أن قرض الضمان على عامل المضاربة لا ينسجم مع مشاركته في الربح من قبل المالك قلنا في الأطروحة: إن الضمان يتحمله شخص ثالث غير العامل والمالك وهو البنك وتحمله له إما بإنشائه بعقد خاص أو باشتراطه بنحو شرط النتيجة في عقد آخر، والبنك بنفسه وإن كان أمينا بالمعنى الأعم على الودائع التي يأخذها من أصحابها ويتوكل عنهم في المضاربة عليها مع التجار، ولكنا قد بينا أن فرض الضمان بالمعنى الذي حققناه على الأمين صحيح على مقتضى القاعدة. (1) واشتراطه بنحو شرط النتيجة نافذ ... كما يمكن تصوير الاشتراط على البنك بنحو شرط الفعل في ضمن عقد وذلك بأن يشترط عليه المودع في ضمن عقد أن يدفع إليه مقدارا من المال مساويا للخسارة التي تقع في وديعته عند المضاربة عليها) .
أما الدخل فقد اقترح أسلوبا شرعيا بدلا عن الدخل المضمون (الفائدة) يتمثل في وضع نسبة مئوية معينة من الربح ورفعها –على الحساب- بوصفهم أصحاب المال، ولما كان دخل المودعين يرتبط بنتائج المشاريع وخلافا للفائدة الربوية فقد أكد أن هذه الودائع إذ تمتزج في حوض الودائع الكبير يدخل أصحابها كمضاربين مثلا في جميع المضاربات التي يعقدها البنك على مجاميع مختلفة، فتكون احتمالات عدم الربح ضئيلة جدا ومن الطبيعي أن النسبة المئوية المقررة من الأرباح يجب أن تكون بحيث تعوض عن هذا الاحتمال وتبقي على إغراء جذب أموال المودعين في قبال إغراءات البنوك الربوية، وكذلك اقترح بعض الأمور التي تبقي على قدرة البنك على الاستجابة لطلبات السحب عند حلول الآجال. (2)
هذا ويجب التنبيه إلى أن ودائع التوفير يمكن أن تدخل من جهة في الودائع الثابتة باعتبار احتمالات ثباتها لوجود صعوبة ما في سحبها بعكس السهولة الموجودة في الحسابات الجارية مما يوفر لها بعض المبالغ باعتبار دخولها كمساهمة في عمليات الاستثمار كما يمكن اعتبارها قروضا كالحسابات الجارية وحينئذ فلا يمكن أن تجر إلى دخل.
وقد عمدت الأطروحة الإيرانية إلى الإعلان عنها باعتبارها قرضا حسنا لا يجر إلى فائدة ولكنها في قبال ذلك فسحت المجال للبنوك عن الإعلان عن جوائز تمنحها لأصحاب حسابات التوفير، وترتفع أحيانا فرص الجوائز بارتفاع المبالغ والمدد المتبقية مما يشجع على مثل هذا الادخار.
ولا بأس في هذا الأسلوب بعد إن لم يتضمن وعدا إلزاميا للمودعين فيها بأية فائدة.
__________
(1) البنك اللاربوي في الإسلام ص204.
(2) نفس المصدر من ص32-40.(9/585)
هل يمكن للعميل أن يسحب جزءا من أمواله من حساب استثماري قبل نهاية المدة؟
والحقيقة هي أنها كلما أمكن إبقاء الودائع مددا أكبر أمكن تفعيل المشاريع الاستثمارية بشكل أكثر أثرا إلا على البنك أن يؤمن للمودعين فرص السحب خلال مدد معينة فليس كل المودعين ممن يفضلون الاستثمار باستمرار على استحصال مبالغهم خلال مدد أقرب ومن هنا ... فإن للبنك أن يحدد مدة أدنى لإبقاء الودائع بحيث طلب المودع المبلغ أو جزءا منه فقد أهليته للحصول على جزء من الأرباح باعتبار أن هذه المدة الأدنى هي المدة المعدل التي يرى خبراء البنك أنها المدة التي توفر دخول الوديعة إلى مجال الاستثمار فكأن الوديعة مازالت غير مشغلة خلال هذه المدة وحينئذ فحتى لو فرضنا واقعا أن هذه الوديعة قد ساهمت إلى حد ما في عملية الاستثمار إلا أن ما يوجبه سحبها من خلل يتطلب اشتراط تنازل مالكها عن مثل هذه الآثار –لو كانت- لقاء إقدامه على السحب المبكر.
وتعيين هذه المدة يضمن الحد الأدنى المطلوب أما بعد ذلك فيمكن أن يتحمل البنك اللاربوي حصول أنماط من السحب باعتبار أن هذه المدد بطبيعة الحال لن تحل في آن واحد، وأن الكثير من المودعين سوف يلتزمون بالإبقاء مددا أكبر انتظارا لأرباح أكبر كما أن عبء هذا السحب سوف يتوزع على مشاريع كثيرة.
ثم إنه يمكن الإقدام على مشاريع وشروط على المستثمرين للالتزام بتوفير سيولة نقدية من أوقات محددة لمواجهة الحالات الطارئة.
وعلى أي حال ...
فإن البنك نفسه سوف يحل برأس ماله وبما لديه من سيولة متوفرة من الحساب الجاري محل المودعين الساحبين ليحصل على حصصهم من الأرباح لنفسه.
نسأل الله جل وعلا أن يوفق أمتنا الإسلامية لبناء حياتها الاجتماعية والاقتصادية على أساس من تعاليم الإسلام السامية إنه السميع المجيب.
الشيخ محمد علي التسخيري(9/586)
أحكام الودائع المصرفية
تأليف
القاضي محمد تقي العثماني
قاضي محكمة النقض بباكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإن الودائع المصرفية أصبحت اليوم من أعظم ما يحتاج إليه الإنسان في تصرفاته المالية في كل بلد وقطر، ويتعلق بها كثير من الأحكام الشرعية التي لا بد من دراستها والبت فيها. وإنها وإن كانت ظاهرة جديدة من الظواهر التي أحدثها العالم المعاصر، ولكن الأحكام الشرعية المتعلقة بها يمكن استخراجها في ضوء المبادئ التي قررها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، والتي فصلها فقهاء الأمة في كتبهم الفقهية. فنريد في هذا البحث أن نوضح الأحكام الشرعية المتعلقة بالودائع المصرفية، والله سبحانه هو الموفق والمعين.
معنى الوديعة المصرفية:
إن كلمة (الوديعة المصرفية) مترجمة من الكلمة الإنكليزية:Deposite Bank والمقصود منها (المال الذي أودعه صاحبه في مصرف من المصارف المالية، إما لمدة محددة، أو بتعاهد من الفريقين بأن للمالك أن يستعيده كله أو جزءا منه متى شاء) .
والمعمول به في المصارف المعاصرة أن هذه الودائع لا تبقى عند المصرف كما هي، وإنما يختلط بعضها ببعض، ويستثمرها المصرف في تمويلات يقدمها إلى عملائه، ويطالبهم على ذلك بفائدة أو ربح، وإنها تكون مضمونة على المصرف، يلتزم المصرف بإعادتها إلى المالك في كل حال حسب الشروط المتفق عليها.
وبهذا يتضح أن كلمة (الوديعة) المستعملة لهذا النوع من الأموال ليست في معناها الفقهي المصطلح، فإن الوديعة تبقى عند المودع كما هي، ولا تكون مضمونة عليه إلا عند التعدي. ولكن هذه الكلمة إنما استعملت لها في معناها اللغوي، فإنها فعلية من (ودع يدع) بمعنى أنها متروكة عند المودع. (1) وهو المصرف ههنا بغض النظر عن كونها أمانة أو مضمونة.
__________
(1) راجع المغني لابن قدامة 7/280 دار الكتاب العربي، بيروت 1392هـ.(9/587)
أنواع الودائع المصرفية:
وإن هذه الودائع المصرفية تنقسم –في عرف البنوك اليوم- إلى أنواع أربعة:
1- ودائع الحساب الجاري (Current Account) :
وهي المبالغ التي يودعها أصحابها في البنوك بشرط أن يردها عليهم البنك كلما أرادوا. فيسحب أصحاب هذه الودائع ما شاؤوا من كمية النقود متى شاؤوا، ويلتزم البنك بأدائها إليهم فور الطلب، ولا يتوقف الأداء على إخطار سابق من قبل صاحب الوديعة. وإن هذا النوع من الودائع لا يدفع البنك إلى أصحابها شيئا من الفوائد. بل المعمول به في بعض البلاد أن البنك يطالب صاحب الوديعة برسوم على القيام بخدمة الإبقاء عليها. ولكن هذه الودائع تبقى عند البنك مختلطة لا تتميز وديعة شخص من وديعة الآخر. وكذلك يحق للبنك أن يستخدمها لصالحه، وإن كان المعمول به في البنوك أنهم يحتفظون بنسبة منها احتفاظا بالسيولة الكافية لمجاوبة طلبات السحب.
2- الودائع الثابتة (fixed Deposite) :
وهي الودائع المؤجلة إلى أجل معلوم.
ولا يحق لصاحب الوديعة في هذا النوع أن يسحب شيئا منها إلا بعد فترة متفق عليها. وتتراوح هذه الفترة بين خمسة عشر يوما وسنة كاملة في عامة الأحوال.
وإن البنك يستثمر هذه الودائع، ويدفع على ذلك فوائد إلى أصحابها بنسبة تختلف من حين إلى آخر حسب ظروف السوق.
3- ودائع التوفير (Saving Account) :
وهي الودائع التي ليست مؤجلة إلى أجل معلوم، ولكن حقوق السحب منها تخضع منها لضوابط لا يمكن معها لصاحب الوديعة أن يسحب كامل رصيده دفعة واحدة، وإنما يفرض البنك حدودا للسحب اليومي، أو شرط الإخطار السابق في بعض الأحيان. وإن هذا النوع من الودائع يشبه الحساب الجاري من حيث إنه يمكن لصاحب الوديعة أن يسحب قدرا منها متى شاء دون انتظار أجل معلوم. ويشبه الودائع الثابتة من حيث إنه لا يمكن سحب كاملها دفعة واحدة. وإن البنك يدفع على هذا النوع فوائد، ولكن نسبتها أقل من نسبة الفوائد في الودائع الثابتة.
4- الخزانات المقفولة (lockers) :
وهي الودائع التي تودع في مخازن معينة يستأجرها المودع من البنك، ويودع فيها أمواله بنفسه، ولا علاقة للبنك بهذه الأموال، بل ولا يعرف موظفو (البنك) ما أودع فيها، وأكثر ما يودع فيها المودعون حلي الذهب والفضة والأحجار الثمينة والمستندات ذات القيمة الكبرى، وقد توضع فيها النقود أيضا.(9/588)
التكييف الفقهي للودائع المصرفية
ولنتكلم على التكييف الفقهي لكل نوع من هذه الأنواع الأربعة قبل أن نتقدم إلى بيان أحكامها؛ لأن الأحكام كلها تنبني على هذا التكييف.
فأما النوع الرابع من هذه الودائع، وهي الخزانات المقفولة، فإن تكييفه لا خفاء فيه، فإنه استئجار من البنك لمخزن معلوم، وإن هذا المخزن يبقى بعد الاستئجار بيد المصرف، وتجري عليه أحكام الأمانة.
أما الأنواع الثلاثة الأخرى، فيختلف تكييفها في البنوك التقليدية عن تكييفها في المصارف الإسلامية، فلنتكلم عن كل منها على حدتها.
ودائع البنوك التقليدية:
أما ودائع البنوك التقليدية، فقد خرجها معظم فقهاء عصرنا على أنها قروض يقدمها البنك، سواء كانت باسم الوديعة؛ لأن العبرة في العقود للمعاني، لا للألفاظ. وإن هذا التكييف يشمل عندهم كل واحد من الأنواع الثلاثة المذكورة؛ لأن المال المودع في كل نوع من هذه الأنواع مضمون على البنك، سواء كان مودعا في الودائع الثابتة، أو في الحساب الجاري، أو في صندوق التوفير، وكونه مضمونا على البنك يخرجه عن طبيعة عقد الوديعة الاصطلاحية في الفقه الإسلامي، لكونها أمانة في يد المودع، غير مضمونة عليها.
ولكن ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى التفريق بين الودائع الثابتة، وبين الحساب الجاري، فقالوا: إن الودائع الثابتة قروض في التكييف الفقهي؛ لأن صاحبها لا يملك سحب رصيده متى شاء، وهذا يخرجها عن طبيعة الوديعة ويجعلها قرضا، وكذلك المال المودع في حساب التوفير ليس وديعة، وإنما هو قرض؛ لأن صاحبه لا يتمكن من سحب كامل الرصيد في وقت واحد. ولكن المال المودع في الحساب الجاري عندهم يختلف عن هذين النوعين، ويزعمون أنه داخل في الوديعة رغم كونه مضمونا. وذلك لأن صاحب هذه الوديعة يملك سحب كامل رصيده متى شاء، دون أن يتوقف ذلك على شيء من الشروط؛ ولأن المودع في هذا النوع من الحساب لا يقصد أبدا أن يقرض ماله للبنك، ولا أن يشاركه في الربح أو الفائدة الحاصلة للبنك بعد استثماره، وإنما يريد إيداعه عند البنك لحفظه. وحيث لم يقصد المودع الإقراض، فلا يمكن أن نسمي فعله إقراضا، ونفسر القول بما يرضى به القائل.
أما تصرف البنك في هذا المال بخلطه مع الأموال الأخرى أو استخدامه لصالحه، فإن ذلك لا يخرجه عن كونه وديعة؛ لأنه تصرف بإذن المالك عرفا، فلا يخرج من كونه وديعة.(9/589)
ولكن هذا التكييف غير صحيح عندنا. وذلك لأن عامة المودعين لا يعرفون الفرق بين مصطلحات الوديعة والقرض والدين، ولا تهمهم المصطلحات، وإنما تهمهم النتائج العملية، فالمودع – في عامة الأحوال- لا يرضى بإيداع نقوده في البنك إلا إذا ضمن البنك بردها إليه. ولو علم المودع أن هذا المال يبقى أمانة بيد أصحاب البنك بحيث إذا سرقت منه أو ضاعت بدون تعد منه فإن البنك لا يردها إليه، فإنه لا يرضى بإيداعه في البنك، ولولا أن البنك قد أعلم صراحة، أو بحكم العرف السائد في البنوك، أنه يضمن للمودعين ما أودعوا عنده من أموال، لما تقدم معظم المودعين إليه لإيداع أموالهم عنده. وهذا دليل على أن المودعين يقصدون أن تبقى أموالهم عند البنك بصفة مضمونة، وأن يكون للبنك عليها يد ضمان، دون يد أمانة. ويد الضمان لا تثبت بالوديعة، وإنما تثبت بالقرض، فثبت أنهم يقصدون الإقراض دون الإيداع بمعناه الفقهي الدقيق، غير أن مقصودهم الأساسي من وراء هذا الإقراض هو حفظ أموالهم بطريق مضمون، لا التبرع على البنك لمساعدته في مهماته، وإن هذا القصد لا يخرج العقد من كونه قرضا؛ لأن عقد القرض يعتمد على أمرين:
الأمر الأول: أن يعطي المال إلى أحد ويؤذن له بصرفه لصالحه، بشرط أن يرد مثله إلى المقرض متى طلب منه ذلك.
والأمر الثاني: أن يكون المال المدفوع مضمونا على المستقرض.
وهذان العنصران متوفران في الودائع المصرفية. أما أن يقصد المقرض التبرع على المستقرض لمساعدته في مهمته، فليس داخلا في صلب معنى القرض، فقد يتوفر هذا المعنى في بعض القروض، وقد لا يتوفر.
فهذا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه، كان يأتي إليه الناس ليودعوا أموالهم عنده، ولا يقصدون بذلك مساعدة الزبير رضي الله عنه وإنما يقصدون كانوا حفظ أموالهم، ولكن لم يرض الزبير رضي الله عنه بقبول هذه الودائع إلا إذا أذنوا له بالتصرف في هذه الأموال على أن تكون مضمونة عنده، فكان يقول لهم: (لا، لكن هو سلف) (1) . فسمى العقد سلفا، وهو القرض، بالرغم من أن دائنيه لم يقصدوا إقراضه لمساعدته، وإنما قصدوا أموالهم لا غير.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب بركة الغازي في ماله، مع فتح الباري 6/175؛ وطبقات ابن سعد3.(9/590)
فظهر بهذا أن قصد حفظ المال لا ينافي كون العقد قرضا. والحق أن عقد القرض وإن كان عقد تبرع من حيث إن المقرض لا يستحق شيئا فوق مقدار ما أقرضه، ولكنه عقد مالي يعتمد على مصلحة الجانبين، فقد تكون مصلحة المقرض أن يؤجر على قرضه في الآخرة فقط (وذلك في القروض التي تقدم إلى المحتاجين بقصد مساعدتهم) وقد تكون مصلحته أن يصير ماله دينا مضمونا على المستقرض، وهذه هي المصلحة التي تدعو الناس إلى إيداع أموالهم في البنوك، ولولا هذه المصلحة لما رجعوا إلى البنوك لحفظ أموالهم. فتبين أنهم يقصدون الإقراض، غير أنهم في عامة الأحوال لا يعرفون أن ما يقصدونه يسمى إقراضا في الاصطلاح الفقهي، فلا يطلقون عليه كلمة الإقراض.
وقد يقال: إن الودائع المصرفية من الحساب الجاري ليست قروضا، وإنما هي وديعة فقهية، غير أن أصحابها قد أذنوا للبنك بخلطها بالأموال الأخرى، واستخدامها لصالحهم، وإن مجرد هذا الإذن لا يخرجها من كونها وديعة، ولكن هذا التكييف لا يصح فقها. وذلك لأن صاحب المال إذا أذن للمودع بخلط الوديعة بماله، فإن العقد ينقلب إلى شركة الملك، ويصير المال المخلوط مشتركا بينهما، كما صرح به الفقهاء. (1) .ومعلوم أن يد الشريك على مال شريكه يد أمانة، فينبغي أن لا يكون ضامنا لما هلك بغير تعد منه.
ولكن أصحاب الأموال الذين يودعون أموالهم في البنك لا يرضون أبدا بأن تكون يد البنك على أموالهم يد أمانة، وإنما يقصدون أن تكون هذه الأموال مضمونة عليه. فتبين أنهم لا يقصدون عقد الوديعة إطلاقا، وإنما يقصدون الإقراض.
فثبت بهذا أن الودائع المصرفية في البنوك التقليدية، بأنواعها الثلاثة، كلها قروض يقدمها أصحاب الأموال إلى البنك، فتجري عليها جميع أحكام القرض.
__________
(1) راجع الدر المختار مع رد المحتار لابن عابدين 6/669 طبع كراتشي.(9/591)
هل يجوز إيداع الأموال في البنوك التقليدية؟
وبعد وضوح حقيقة هذه الودائع، وثبوت كونها قروضا، ننتقل إلى السؤال الثاني، وهو هل يجوز للمسلمين أن يودعوا أموالهم في البنوك التقليدية التي تعمل في إطار ربوي؟
أما الودائع الثابتة، وودائع التوفير، فإن البنك يدفع فائدة مضمونة لأصحابها. وبما أن هذه الودائع قروض بلا خلاف، فما تدفعه البنوك زيادة على رأس المال، فإنه ربا صراح لا سبيل إلى جوازه. وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي في ذلك قرارا في دورته الثانية، فمن يتقدم إلى البنك لإيداع أمواله في هذين النوعين فإنه يعقد معه عقد قرض ربوي، وذلك حرام، فلا يجوز لمسلم أن يودع ماله في أحد من هذين النوعين.
وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أنه يجوز للمسلم أن يودع أمواله في هذين النوعين، ولكن لا يجوز له أن يستعمل الفوائد الحاصلة منها لصالحه بل يتصدق بها على الفقراء، أو يصرفها في وجوه الخير.
ولسنا نؤيد هذا الرأي، وذلك لأن الإيداع في البنوك من أجل الحصول على الفوائد، ولو كان بنية صرفها في وجوه البر، دخول في معاملة ربوية، وهو حرام بالنص. وإن الصرف في وجوه البر طريق يلجأ إليه التائب من الذنب لاستخلاص رقبته من الكسب الخبيث الذي اكتسبه بطريق غير مشروع، إما لكونه جاهلا عن كونه غير مشروع، أو لكونه لا يهتم بالتزام الشريعة في معاملاته التجارية أو المالية. إما أن يختار رجل ملتزم بالشريعة هذا الطريق المحظور لصرف كسبه الخبيث إلى وجوه البر، فإنه مثل أن يقترف الإنسان إثما بنية أن يتوب منه، وإن المفروض من المسلم أن لا يقارف ذنبا حتى يحتاج كفارته.(9/592)
هذا بالنسبة للبنوك التقليدية الموجودة في البلاد المسلمة. أما البنوك التي يملكها غير المسلمين في البلاد غير المسلمة فقد ذهب العلماء المعاصرين إلى جواز الإيداع فيها والانتفاع بالفوائد الحاصلة منها على أساس قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله من أنه يجوز أخذ مال الحربي برضاه وأنه لا ربا بين المسلم والحربي.
وإن هذا القول لم يقبله جمهور الفقهاء حتى إنه لم يفت به الفقهاء المتأخرون منهم الحنفية. وبما أن حرمة الربا منصوص عليها بنص قطعي يؤذن بحرب من الله ورسوله لمن لا يتركه، فلا ينبغي في عموم الأحوال أن يدخل المسلم في معاملة الربا، وإن كانت مع الحربيين.
ولكن هناك نقطة جديرة بالتأمل. وهي أن البلاد الغربية قد سيطرت اليوم على عامة بلاد المسلمين، وإن من أهم عوامل غلبتهم ما غصبوا من الأموال الجمة من بلاد المسلمين، أو أخذوها عن طريق الربا على القروض التي استقرضها منهم تلك البلاد. وفي جانب آخر، إن هذه البلاد تحوز كميات هائلة من أموال المسلمين التي أودعها المسلمين في بنوكهم، ينتفعون بها لصالحهم، بل يستخدمونها لإنجاز خططهم السياسية والحربية ضد المسلمين، فلو ترك المسلمون فوائد أموالهم في تلك البنوك، فإن ذلك تقوية لهم. وإن هذه الظروف قد تجعلني أميل إلى القول بأن المسلمين يجوز لهم أن يأخذوا فوائد ودائعهم، ولكن لا ينبغي أن يصرفوا مبالغ الفائدة في حاجاتهم، بل ينبغي أن يصرفوها في وجوه البر، فإن ذلك يقلل من الأضرار التي يعانيها المسلمون بإيداع أموالهم عندهم. والمسألة مطروحة لدى العلماء للبت فيها.(9/593)
الإيداع في الحساب الجاري من البنوك الربوية
أما الإيداع في الحساب الجاري من البنوك الربوية، فقد أسلفنا أن البنوك لا تدفع للمودعين في هذا الحساب أية فائدة، فالإيداع فيه لا يستلزم الدخول في عقد قرض ربوي. فينبغي أن يجوز من هذه الجهة، ولكن قد يستشكله بعض العلماء المعاصرين بأنه وإن لم يكن قرضا ربويا، ولكن فيه إعانة للبنك في المعاملات الربوية؛ لأن من المعلوم أن البنك الربوي لا يمسك هذه الودائع جامدة، وإنما يستثمرها في القروض الربوية، فيصير المودع للبنك في ممارسته الربوية.
ولكن هذا الإشكال يمكن أن يزال بوجوه:
1- إن المعمول به في جميع المصارف أن البنك لا يصرف جميع ودائع الحساب الجاري في إنجاز أعماله، وإنما يمسك منها نسبة كبيرة ليمكن له تجاوب متطلبات المودعين كل يوم، وبما أن الودائع كلها مختلطة بعضها ببعض، فلا يمكن الجزم لمودع واحد أن ودائعه مصروفة في معاملة ربوية.
2- إن للبنك مصاريف كثيرة، وليست جميع هذه المصاريف محظورة شرعا، فمنها ما لا حرمة فيها، ولا يمكن الجزم لمودع ما أن وديعته تستخدم لمصروف لا يحل.
3- إن القرض اللاربوي عقد جائز شرعا، وإن النقود لا تتعين بالتعيين في العقود الصحيحة، كما تقرر في محله، وإن النقود التي أودعها أحد في الحساب الجاري للبنك لم تعد ملكا له، وإنما صارت ملكا للبنك بحكم الإقراض، فتصرف البنك في تلك النقود ليس تصرفا في ملك المودع، وإنما هو تصرف في ملكه، فلا ينسب هذا التصرف إلى المودع.
4- إن الإعانة على المعصية، وإن كانت حراما، ولكن لها ضوابط ذكرها الفقهاء، وليس هذا موضع بسطها (1) ، ولوالدى العلامة المفتي محمد شفيع رحمه الله تعالى في ذلك رسالة مستقلة جمع فيها النصوص الفقهية الواردة في مسألة الإعانة، ثم توصل إلى تنقيح الضابط فيها بما يلي:
__________
(1) وليرجع عند الحاجة الدر المختار مع رد المحتار 5/272 وما بعدها؛ وتكملة فتح القدير 8/127 لمذهب الحنفية؛ وراجع شرح المهذب 9/391 ونهاية المحتاج 3/454 وما بعده، وحواشي الشرواني على تحفة المحتاج 4/317 لمذهب الشافعية؛ والمبدع لابن مفلح 4/42 لمذهب الحنابلة؛ والفرق للقرافي 2/33 لمذهب المالكية؛ وراجع أيضا نيل الأوطار للشوكاني5/154(9/594)
(إن الإعانة على المعصية حرام مطلقا بنص القرآن، أعني قوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وقوله تعالى: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] ولكن الإعانة حقيقة هي ما قامت المعصية بعين فعل المعين، ولا يتحقق إلا بنية الإعانة أو التصريح بها، أو تعينها في استعمال هذا الشيء، بحيث لا يحتمل غير المعصية، وما لم تقم المعصية بعينه لم يكن من الإعانة حقيقة، بل من التسبب. ومن أطلق عليه لفظ الإعانة فقد تجوز، لكونه صورة إعانة، كما مر من السير الكبير.
ثم السبب إن كان سببا محركا وداعيا إلى المعصية، فالتسبب فيه حرام، كالإعانة على المعصية بنص القرآن كقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] وقوله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب: 32] وقوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ} [الأحزاب:33] . وإن لم يكن محركا وداعيا، بل موصلا محضا، وهو مع ذلك سبب قريب بحيث لا يحتاج في إقامة المعصية به إلى إحداث صنعة من الفاعل، كبيع السلاح من أهل الفتنة، وبيع العصير ممن يتخذه خمرا، وبيع الأمرد ممن يعصي به، وإجارة البيت ممن يبيع فيه الخمر، أو يتخذها كنيسة أو بيت نار وأمثالها، فكله مكروه تحريما، بشرط أن يعلم به البائع والآجر من دون تصريح به باللسان، فإنه إن لم يعلم كان معذورا، وإن علم وصرح كان داخلا في الإعانة المحرمة.
وإن كان سببا بعيدا، بحيث لا يفضي إلى المعصية على حالته الموجودة، بل يحتاج إلى إحداث صنعة فيه، كبيع الحديد من أهل الفتنة وأمثالها، فتكره تنزيها) . (1)
وقد تحدث رحمه الله تعالى عن هذه المسألة في مقالة أردية له بأوضح مما ههنا، وإليكم ترجمته مع تلخيص من عندي:
(إن أخذنا التسبب بمعناه العام، فلن يبقى عمل مباح على وجه الأرض. فإن زراعة الحبوب الغذائية والثمار يسبب النفع لأعداء الله، وكذلك من ينسج الثياب، فإنه يهيئ لباسا للبر والفاجر، وربما يستعمله الفاجر في فجوره ... فلا بد إذن من الفرق بين السبب القريب والبعيد. فالسبب البعيد لا حرمة فيه.
__________
(1) أحكام القرآن، للشيخ المفتي محمد شفيع رحمه الله 3:74؛ وجواهر الفقه 2:453.(9/595)
أما السبب القريب، فهو أيضا على قسمين: القسم الأول ما كان باعثا للإثم بمعنى كونه محركا له، بحيث لولا هذا السبب، لما صدرت المعصية. وإن إحداث مثل هذا السبب حرام كارتكاب المعصية سواء بسواء، وإن هذا القسم من السبب قال فيه الشاطبي في الموافقات: إن إيقاع السبب إيقاع للمسبب ... وبما أن إحداث مثل هذا السبب في حكم ارتكاب المعصية بالذات، فتنسب المعصية إلى المسبب، ولا تنقطع هذه النسبة عنه بتخلل فعل فاعل مختار.
والقسم الثاني من السبب القريب، ما ليس بمحرك للمعصية في نفسه، بل تصدر المعصية بفعل فاعل مختار، مثل بيع ممن يتخذه خمرا، أو إجارة الدار لمن يتعبد فيها للأصنام، فإن هذا البيع أو الإجارة وإن كان سببا قريبا للمعصية، ولكنه ليس جالبا أو محركا للمعصية في نفسه ... وحكم هذا النوع من السبب القريب أن البائع أو المؤجر إن قصد بذلك إعانة المشتري أو المستأجر على معصيته، فهو حرام قطعا.
أما إذا لم ينو بذلك المعصية، فله حالتان: الحالة الأولى أنه لا يعلم أن المشتري يتخذ من العصير خمرا. وفي هذه الحالة يجوز البيع بلا كراهة.
أما إذا علم أنه يتخذه خمرا، فإن البيع مكروه ... فإن كان المبيع يستعمل للمعصية بعينه، من غير احتياج إلى تغيره، فالكراهة تحريمية، وإلا فهي تنزيهية) . (1)
وإذا نظرنا في الودائع المصرفية على هذا الأساس وجدنا أن إيداع رجل أمواله في الحساب الجاري ليس سببا محركا أو داعيا للمعاملات الربوية، بحيث لو لم يودع هذا الرجل ماله، لم يقع البنك في معصية، فدخل في القسم الثاني، ولا يقصد المودع في عامة الأحوال أن يعين البنك في ممارساته الربوية، وإنما يقصد به حفظ ماله. ثم إن المودع لا يعلم بيقين أن ماله سوف يستخدم في معاملة ربوية، بل يحتمل أن يبقى عند البنك، أو يستخدم في معاملة مشروعة، ولو استخدمه البنك في معاملة ربوية، فإن النقود لا تتعين بالتعيين في عقود المعاوضة المشروعة، فلا تنسب هذه المعاملة إلى النقود التي أودعها، وإنما تنسب إلى النقود التي صارت ملكا للبنك. وغاية ما في الباب أن يكون هذا الإيداع مكروها كراهة تنزيه، ولا شك أن كثيرا من المعاملات المشروعة اليوم أصبحت مرتبطة بالبنوك، ويحتاج الإنسان لإنجازها أن يكون له حساب مفتوح في إحدى البنوك، فالحاجة ظاهرة مشاهدة، وترتفع مثل هذه الكراهة التنزيهية بمثل هذه الحاجة إن شاء الله تعالى.
__________
(1) جواهر الفقه 2/460-462.(9/596)
تكييف الودائع في المصارف الإسلامية:
أما الأموال المودعة في المصارف الإسلامية، فإن ما أودع في حساباتها الجارية، فإنه ينطبق عليه ما ذكرنا في الحسابات الجارية للبنوك التقليدية سواء بسواء، فهي قروض قدمها أصحابها إلى البنك، وهي مضمونة عليه، وتجري عليها جميع أحكام القرض:
ولكن يختلف تكييف الودائع الثابتة وحسابات التوفير في البنوك الإسلامية من تكييفها في البنوك التقليدية، فإن هذه الودائع قروض أيضا في البنوك التقليدية قدمت إليها على أساس الفائدة الربوية، ولكن البنوك الإسلامية لا تعمل على أساس الفائدة الربوية، بل إنما تقبل هذه الودائع على أن يشاركها أصحابها في ربحها إن كان هناك ربح، فليست هذه الودائع في البنوك الإسلامية قروضا، وإنما هي رأس مال في المضاربة، وإنها تستحق حصة مشاعة من ربح البنك، وتحتمل حصة مشاعة من الخسران إن كان هناك خسران، وليست مضمونة على البنك، فلا يضمن البنك أصلها ولا ربحها، إلا إذا حصل هناك تعد من قبل البنك، فإنه يضمن بقدر التعدي.
والفرق بين ودائع المودعين وأسهم المساهمين –على ما يظهر لي- أن العقد بين المودعين والبنك عقد مضاربة، وإنه فيما بين المساهمين أنفسهم عقد شركة. وذلك لأن المساهمين لهم حق التصويت في المجلس العام للبنك، فكأنهم قدموا المال والعمل جميعا إلى البنك، وهذا شأن الشركاء.
وأما المودعون فليس لهم حق التصويت في المجلس العام، فليس لهم أي تصرف في تخطيط أعمال البنك وتسييرها، وإنما يقدمون الأموال إلى البنك فحسب، شأن رب المال في المضاربة، ثم إن المساهمين بمجموعهم مضاربون للمودعين بالنسبة إلى رصيد الودائع، فعلاقتهم فيما بينهم علاقة الشركاء، وعلاقتهم مع المودعين علاقة المضاربة، وإن مثل هذه العلاقات المزدوجة غير أجنبية للفقه الإسلامي. فقد ذكر الفقهاء أن المضارب لو خلط مال المضاربة بمال نفسه فإنه يجوز، فيكون مضاربا في النصف مالكا للنصف. (1)
__________
(1) راجع مبسوط السرخسي 22/133.(9/597)
ضمان الودائع المصرفية
تبين مما سبق أن الودائع المصرفية في البنوك التقليدية قروض قدمها أصحابها إلى البنك، سواء أكانت ودائع ثابتة، أو ودائع الحساب الجاري، أو ودائع التوفير. فجميع هذه الودائع مضمونة على البنك، بحيث يجب عليه ردها إلى المودعين، سواء ربح البنك في عملياتها أو خسر؛ لأن القرض مضمون على المستأجر في كل حال. وكذلك الحسابات الجارية في البنوك الإسلامية قروض مضمونة على البنك.
ومن هنا ينشأ السؤال: هل ضمان هذه القروض على المساهمين والمودعين جميعا، أم على المساهمين وحدهم؟ وهو السؤال الخامس من الأسئلة المطروحة من قبل أمانة مجمع الفقه الإسلامي.
والجواب عن هذا السؤال: أن هذا الضمان إنما هو على المساهمين فقط، ولا يلزم المودعين. وذلك لأن المستقرض هو البنك الذي يملكه المساهمون.
أما المودعون في الحساب الجاري، فإنهم مقرضون للبنك، ولا يضمن مقرض واحد لمقرض آخر. وكذلك المودعين في الودائع الثابتة وفي حسابات التوفير للبنوك التقليدية فإنهم كلهم مقرضون.(9/598)
وأما المودعون في حسابات الاستثمار للبنوك الإسلامية، فقدمنا أنهم أرباب أموال في المضاربة، وأن المساهمين مضاربون لهم في حصة ودائعهم، ومشاركون بالنسبة إلى مبالغ سهامهم، فصارت أصول البنك مشتركة مخلوطة بين المساهمين والمودعين، ترجع غنمها وغرمها إلى كل منهما حسب حصته في الأصول، ولما كانت الحسابات الجارية قروضا يستفيد منها البنك في سائر عملياته، ويرجع نفعها إلى المساهمين والمودعين جميعا، فكل واحد من هذين القسمين ضامن للقروض التي يستفيد بها. (1) ، وذلك على أساس القاعدة المعروفة أن الخراج بالضمان، وأن الغنم بالغرم.
وبعبارة أخرى، فإن المستقرض بالنسبة للحسابات الجارية هو البنك، والبنك يتألف من المساهمين والمودعين في الودائع الثابتة وودائع التوفير؛ لأن كل واحد من القسمين مشارك في عمليات البنك، ولا تؤخذ قروض الحسابات الجارية إلا لإنجاز هذه العمليات التي يشاركها فيها المساهمون والمودعون، فتكون هذه القروض مضمونة عليهما جميعا، فلا يوزع الربح فيما بين المساهمين والمودعين في حساب الاستثمار إلا بعد تلبية طلبات المودعين في الحساب الجاري لاسترداد مبالغهم، وعند تحليل لبنك يقدم أصحاب الحساب الجاري بصفة كونهم مقرضين في قضاء ديونهم، وإنما يستحق المساهمون وأصحاب حساب الاستثمار أصولهم أو أرباحهم بعد قضاء ديون الحساب الجاري، بصفة كونهم مستقرضين.
وقد يستشكل هذا بأن هناك ودائع كثيرة في الحساب الجاري قد أودعها أصحابها في البنك قبل أن يدخل شخص في حساب الاستثمار، فكيف يضمن هذا الشخص الجديد القروض التي استقرضها البنك قبل أن يكون شريكا فيه؟
والجواب عن هذا الإشكال أن من يدخل في تجارة جارية كشريك، فإنه يشارك تلك التجارة في جميع ديونها وأرباحها، سواء كانت تلك الديون قد تحملتها التجارة قبل دخوله فيها، فكذلك هؤلاء المودعين، يدخلون في البنك كشركاء، فيتحملون ضمان هذه القروض.
__________
(1) قال العلامة الكاساني رحمه الله: ولو استقرض (أي الشريك) مالا لزمهما جميعا؛ لأنه تملك مال بالعقد، فكان كالصرف، فيثبت في حقه وحق شريكه(9/599)
استخدام الحساب الجاري كرهن أو ضمان
وقد طرحت من قبل الأمانة العامة للجميع مسألة استخدام الحساب الجاري كرهن، والمراد منها: هل يجوز لصاحب الحساب الجاري أن يرهن المبلغ المودع في هذا الحساب توثيقا لدين قد يجب عليه لسبب أو آخر؟
والجواب عن هذا السؤال أن المرهون يجب عند الجمهور أن يكون عينا متقوما يجوز بيعه (1) ، فلا يصلح الدين أن يكون رهنا، وقدمنا أن الحساب الجاري دين صاحبه ذمة البنك، فلا يصح رهنه على قول جمهور الفقهاء، وقد ذهب المالكية إلى جواز رهن الدين عند المدين وغيره، ولكن اشترطوا لصحة رهنه عند المدين أن يكون أجل الدين المرهون مثل أجل الدين المرهون به أو أبعد منه.
قال العدوي رحمه الله:
(ويشترط في صحة رهنه من المدين أن يكون أجل الرهن مثل أجل الدين الذي رهن به أو أبعد، لا أقرب؛ لأن بقاءه بعد محله كالسلف، فصار في البيع بيعا وسلفا، إلا أن يجعل بيد أمين إلى محل أجل الدين الذي رهن به) . (2)
وفي ضوء هذه النصوص، يحتمل أن يكون لرهن الحساب الجاري صور مختلفة:
1- أن يكون للبنك نفسه دين على صاحب الحساب الجاري، فيرهن حسابه للبنك توثيقا لدينه. وذلك يجوز عند المالكية بشرط أن يؤجل الحساب الجاري إلى أجل دينه، بحيث لا يملك صاحبه سحب ما يزيد على دين البنك قبل حلول أجله. أما على قول الجمهور، فمقتضى قولهم أنه لا يصح الحساب الجاري رهنا لكونه دينا، والدين ليس عينا يصح بيعه.
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة 4/375 طبع بيروت مع الشرح الكبير.
(2) حاشية العدوي بهامش الخرشي على مختصر خليل 5/236.(9/600)
2- أن يكون الدائن غير البنك، فيرهن المدين حسابه الجاري عنده بحيث يملك الدائن السحب من ذلك الحساب متى شاء. ومقتضى ما ذكرنا من قول المالكية أن يجوز هذا الرهن مطلقا. أما على قول الجمهور فلا يصح ذلك رهنا؛ لأن الدين لا يرهن عندهم. ولكن يمكن أن يصح ذلك على أساس الحوالة، فكأن صاحب الحساب أحال دائنه على البنك بحيث يستطيع أن يستوفي دينه من البنك متى شاء.
3- أن يكون الدائن غير البنك، فيطالب المدين أن يجمد حسابه الجاري في البنك إلى أن يحل أجل الدين. ويحتمل تخريجه على أنه رهن وضع على يد فريق ثالث يسمى في الفقه (عدلا) ولكن الرهن الموضوع على يد العدل يكون أمانة في يده، ولا يجوز للعدل أن يتصرف فيه أو ينفقه لصالحه، وظاهر أن البنك يتصرف في جميع الحسابات الجارية، فلا يكون أمينا للمبالغ المودعة فيها، فلا ينطبق عليه مبدأ وضع الرهن على يد العدل، إلا أن يقال: إن العدل قد أذن له الدائن والمدين كلاهما أن يتصرف في المبلغ المرهون بشرط الضمان، ولم أر حكمه في كتب الفقه صراحة، غير أنه يظهر أنه لا مانع من ذلك، والله سبحانه أعلم.
هذا إذا كان الدين المرهون به مؤجلا، أما إذا كان حالا، كالقرض الذي لا يتأجل بالتأجيل عند الحنفية وغيرهم، فيمكن تخريج تجميد الحساب على أساس الحوالة، كما قدمنا في الصورة الثانية.(9/601)
رهن الوديعة الاستثمارية:
أما الودائع الاستثمارية في البنوك التقليدية، فلا يختلف حكمها عن الحسابات الجارية؛ لأنها قروض كما أسلفنا، فينطبق عليها جميع ما قلنا في رهن الحسابات الجارية. أما في البنوك الإسلامية، فليست الودائع الاستثمارية دينا على البنك، وإنما هي حصة مشاعة للمستثمر في موجودات البنك، فلا يجوز رهنها على قول من يمنع رهن المشاع، وهم الحنفية. فإن الأصح عندهم أنه لا يجوز رهن المشاع، ولو كان من شريكه (1) ، وأما الشافعية والمالكية والحنابلة، فإنهم لا بأس عندهم برهن المشاع (2) ، فيجوز عندهم رهن الودائع الاستثمارية في البنوك الإسلامية.
تجميد البنك أموال صاحب الحساب
طرحت الأمانة العامة للمجمع سؤالا آخر، وهو: هل يجوز للبنك أن يحجز أموال العميل المودع في حساب جار لتصفية حقوق عليه ناشئة من عمليات أخرى وبعبارة أخرى: هل يجوز للبنك أن يجمد الحساب الجاري لعميله، وأن يستوفي منه حقوقه المالية التي وجبت عليه من خلال عمليات التمويل؟
والجواب عن هذا السؤال: أن هذا التجميد إن كان برضا من صاحب الحساب، فتجري عليه أحكام الرهن حسبما فصلنا في الجواب عن السؤال السابق.
وكذلك استيفاء البنك ديونه على العميل من حسابه الجاري، إن كان برضا منه، فتجري عليه أحكام المقاصة. أما إذا كان بدون إذن من صاحب الحساب، بأن كانت عليه ديون للبنك، ولم يوفها في موعدها، فأراد البنك أن يستوفيها من حسابه الجاري المفتوح عنده، فتنطبق عليه المسألة المعروفة عند الفقهاء والمحدثين باسم (مسألة الظفر) . وحاصل المسألة أن الدائن إذا ظفر بمال المدين هل يجوز له أن يستوفي حقه من ماله الذي ظفر به؟ وقد ذكر الفقهاء أن المدين إن كان مانعا للدين لأمر يبيح المنع، كالتأجيل والإعسار، لم يجز أخذ شيء من ماله، وكذلك إن كان المدين مانعا بغير حق، لكن يقدر الدائن على استخلاص حقه بالحاكم، لم يجز له الأخذ أيضا، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، إلا أن هناك وجها عند الشافعي رحمه الله يجيز له الأخذ. وأما إذا لم يقدر الدائن على استخلاص حقه بحكم الحاكم فهذا موضع خلاف بين الأئمة على الشكل التالي. (3)
1- قال الشافعي رحمه الله تعالى: جاز له أخذ حقه مما ظفر به، سواء كان المال الذي يجده من جنس حقه، أو من خلاف جنسه، وهو رواية عن مالك رحمه الله.
__________
(1) رد المحتار، لابن عابدين 5/348.
(2) المغني لابن قدامة 4/375
(3) انظر لهذا التفصيل: المغني لابن قدامة 12/229و230، كتاب الدعاوي والبينات.(9/602)
2- قال أحمد رحمه الله تعالى في المشهور عنه: ليس له الأخذ من ذلك المال، بل يرده، ثم يطالبه بدينه، وهو رواية عن مالك رحمه الله.
3- وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز له الأخذ إن كان ما وجده من جنس حقه، مثل أن تكون له على المدين دراهم، فوجد دراهم مملوكة له. يجوز له أخذها بقدر حقه، ولا يجوز له إن كان من غير جنسه، مثل أن تكون له على المدين دراهم، فوجد دنانير، لا يجوز له الأخذ.
هذا أصل مذهب الحنفية، لكن المتأخرون من فقهاء الحنفية أفتوا في هذه المسألة بقول الشافعي، رحمه الله، فأجازوا للظافر أن يستوفي حقه مما ظفر به من مال المدين مطلقا، سواء كان المال الذي ظفر به من جنس حقه، أو لم يكن.
يقول ابن عابدين ناقلا عن شرح القدوري للأخصب:
(إن عدم جواز الأخذ من خلاف الجنس كان في زمانهم، لمطاوعتهم في الحقوق. والفتوى اليوم على جواز الأخذ عند القدرة من أي مال كان، لا سيما في ديارنا، لمداومتهم العقوق) . (1)
وقد وردت عن المالكية في ذلك روايات ثلاثة، كالمذاهب الثلاثة المتقدمة. والمشهور من مذهبهم أنه إن لم يكن للمدين دائن آخر، سوى الظافر، فله أن يأخذ بقدر حقه، وإن كان له دائن آخر لم يجز؛ لأنهما يتحاصان في ماله إذا أفلس.
وقد استدل المجوزون للأخذ, وهم الجمهور, بحديث هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان رضي الله عنهما أنها قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح, لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني, إلا ما أخذت من ماله بغير علمه, فهل على في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك)) (2)
وعلى أساس هذا الحديث, الراجح من مذهب الشافعية والحنفية, يجوز للبنك أن يستوفي حقه, كله أو بعضه, من الأموال المودعة عنده في الحساب الجاري المدين.
ومن المناسب, رفعًا للخلاف الفقهي المذكور, أي يضيف في اتفاقيته مع عملائه بندًا يصرح بأنه يحق للبنك, إذا قصر العميل في أداء ما يجب عليه في موعده, أن يستوفي حقه من حسابه المودع لدى البنك. وإذا وقع العميل على هذا البند من الاتفاقية, فإنه يرضى بمقاصة ما يجب عليه من حسابه الجاري أو من حساب الاستثمار , وحينئذ, تخرج المسألة من مسألة الظفر, وتجري عليها أحكام المقاصة بالتراضي, ويجوز ذلك عند جميع الفقهاء بدون أي خلاف.
__________
(1) رد المحتار، لابن عابدين 5/105، كتاب الحجر، وقد ذكر مثل ذلك في كتاب الحدود 3/219 و220؛ وفي الحظر والإباحة 5/300.
(2) الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع من صحيحه, منها كتاب البيوع, باب من أجرى الأنصار على ما يتعارفون بينهم, رقم 2211, وفي المظالم, باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه, رقم 2460, وفي النفقات, رقم 5359 و5364 وغيرها, واللفظ المذكور لمسلم في صحيحه, كتاب الأقضية, باب قضية هند. وقد بسطت الكلام على مذاهب الفقهاء وأدلتهم في هذه المسألة في كتابي (تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم) 2/578(9/603)
طريق محاسبة الودائع المصرفية
المعروف في البنوك التقليدية اليوم أنها تعد لائحة الموجودات والمطلوبات (Balance Sheet) للبنك. فالموجودات: هي الأموال التي هي موجودة بيد البنك, أو يتوقع الحصول عليها في المستقبل, مثل التمويلات المقدمة إلى العملاء, التي يرجو البنك استرداها مع الفوائد. والمطلوبات: هي الأموال التي لها مطالب خارج البنك, ويجب على البنك أن يؤديها إلى مطالبيها. ومن عادة البنوك التقليدية أنها تدرج جميع الودائع المصرفية في المطلوبات؛ لأنها تلتزم بردها إلى أصحابها, إما عند طلبهم في الحسابات الجارية وحسابات التغير, وإما عند حلول أجلها في الحسابات الثابتة. أما التمويلات التي يقدمها البنك إلى عملائه, فإنها تدرج في بند الموجودات, لأن البنك يتوقع استردادها منهم مع الفوائد.
أما البنوك الإسلامية, فلا يستقيم فيها هذا الوضع. أما حساباتها الجارية, فإنها تدرج في المطلوبات كما أنها تدرج في البنوك التقليدية, وذلك لما أسلفنا من أن الحسابات الجارية ديون على البنك يستحقها أصحابها, أما حسابات الاستثمار , فليست ديونا على البنك, وإنما هي أموال شركة أو مضاربة اختلطت مع أموال البنك الأخرى, وليست هذه الأموال مضمونة على البنك, فلا يستقيم إدراجها في قائمة المطلوبات بالمعنى الدقيق. وكذلك التمويلات التي يقدمها البنك إلى عملائه لا يمكن إدراج جميعها في الموجودات؛ لأن التمويلات المقدمة على أساس المشاركة والمضاربة غير مضمونة, فإن العميل لا يستطيع أن يضمن أصلها فضلا عن ربحها. نعم يمكن إدراج أثمان المرابحات وأجرة المؤجرات في مطلوبات البنك.
وعلى هذا الأساس, لا يمكن أن تكون لائحة البنك الإسلامي مماثلة للائحة بنك تقليدي من كل الوجوه, بحيث تساوي مبالغ موجوداته مبالغ المطلوبات مائة في مائة. بل ينبغي أن تكون لائحة البنك الإسلامي مثل لائحة شركة تجارية أخرى. وهذا يوافق طبيعة البنك الإسلامي؛ لأنه ليس مؤسسة للإقراض والاقتراض فقط, وإنما هي مؤسسة تجارية تساهم التجارة الوطنية في أربحها وأخطارها.
ولئن وضع بنك إسلامي لائحته على طراز بنك تقليدي بإدراج حسابات الاستثمار في المطلوبات وبإدارج التمويلات كلها في الموجودات, فإن ذلك إنما يكون على سبيل التقريب والاحتمال, لا على أساس القطع واليقين. والله سبحانه أعلم.(9/604)
طريق محاسبة الربح للمودعين في حساب الاستثمار
وإن من أهم مسائل الودائع المصرفية طريق محاسبة الربح الحاصل على كل وديعة.
والمشكلة إنما نشأت من جهة أن الشركة والمضاربة في أصلهما إنما تتصوران تجارة يحدثها رجلان أو رجال معدودون، والشركاء كلهم يعقدون الشركة فيما بينهم منذ أول نشأة عملية تجارية، ويبقون بهذه الصفة إلى أن تنض الأموال ويوزع الربح بينهم على أساس التنضيض الحقيقي، وحينئذ لا غموض في محاسبة الربح أو الخسارة.
ولكن الشركات المساهمة الكبيرة اليوم يساهم فيها مئون من الرجال، ويخرج من عقد الشركة عدد كبير من الناس كل يوم، ويدخل فيها آخرون.
ومما يزيد الأمر تعقيدا هو تعامل البنوك المعاصرة من كون ودائع كل رجل تزيد وتنقص كل يوم، فإن من يفتح حسابا في البنك، فإنه قد لا يحتاج إلى سحب بعض المبالغ منه في يوم، ثم إلى إيداع بعضها مرة أخرى في يوم آخر، وإن هذه العملية لا تختص بالحسابات الجارية فقط، بل يجري مثل ذلك في حسابات التوفير، حتى في الودائع الثابتة، فإن الودائع الثابتة وإن كان المفروض فيها أن تكون مؤجلة إلى أجل معلوم، ولا يملك صاحبها أن يسحب منها شيئا قبل أن يحل ذلك الأجل، ولكن المعمول به في أكثر البنوك أنها تسمح لصاحبها أن يسحب هذه الودائع أيضا عندما يحتاج إليها، وينقص البنك من فائدته بحساب ما بقي من أيام الأجل.
ثم إن حسابات الودائع الثابتة كلها لا تفتح في تاريخ واحد، بل تختلف تواريخ هذه الودائع من شخص إلى آخر، كما تختلف آجالها من حساب إلى حساب، فلا تكون فترات الإيداع واحدة لجميع الأشخاص، بل يكون بينها تباين لا يحتمل التوفيق، فإذا حولت هذه العمليات إلى عقود الشركة أو المضاربة، فإن من الصعب جدا أن تحدد الأرباح والخسائر المتأتية على كل وديعة على الأساس المعروف لتحديدها.(9/605)
وقد يقترح بعض الناس أن تغير البنوك الإسلامية طريق قبول الودائع مما هو معمول به في البنوك التقليدية، فلا تقبل ودائع التوفير والودائع الثابتة إلا في تواريخ محددة ولآجال موحدة، لتبتدئ فترة جميع الودائع في وقت واحد وتنتهي في وقت واحد، وليتمكن البنك من تحديد الأرباح الحاصلة عليها على أساس المعروف.
ولكن هذا الاقتراح يصعب العمل به في البنوك، لأن طبيعة الأعمال المصرفية تقتضي أن تظل عمليات السحب والإيداع مفتوحة لكل أحد كل يوم، وإن تقييد هذه العمليات بيوم موحد مخصوص تسبب مشاكل كثيرة للتجارة السريعة المعاصرة، ويجعل كميات كبيرة من الأموال معطلة ومنعزلة عن النشاط التجاري. وبما أن توجيه الأموال الفائضة إلى النشاط التجاري والصناعي مطلب صحيح يوافق الشريعة الإسلامية، فإن ضرر المجتمع ببقاء هذه الأموال فاترة ضرر ينبغي أن يزال.
وهناك اقتراح آخر، تقدم به بعض الناس، وهو أن الودائع المصرفية ينبغي أن تقسم إلى وحدات صغيرة كالسهام، وكل من يتقدم إلى المصرف لتوديع أمواله، يحصل على عدد من هذه الوحدات، ثم إن هذه الوحدات تقوم كل يوم بقيمة يعلنها البنك على أساس تقويم أصوله وموجوداته. فمن أراد أن يسحب مبلغا من البنك، فإنه يبيع هذه الوحدات إلى البنك، ويلتزم البنك شراءه على أساس القيمة المعلنة كل يوم. وإن هذه القيمة المعلنة كل يوم ينعكس فيها الربح الحاصل على كل وحدة إن ازدادت قيمة موجودات البنك، وتنعكس فيها الخسارة إن انتقصت قيمة الموجودات.
وإن هذا الاقتراح يمكن العمل به في شركات الاستثمار غير المصرفية، ولكنه يصعب تطبيقه في البنوك، وذلك لوجوه:
أما أولا، فلأن هذا الاقتراح لا يساير طبيعة الأعمال المصرفية المعاصرة التي تقتضي السرعة في إنجاز العمليات، وإن تقييد السحب والإيداع بالوحدات المخصوصة، مهما كانت الوحدات صغيرة، مما يعقد هذه العمليات وإن كثيرا من السحوب المصرفية إنما تكون عن طريق الشيكات المصرفية التي يصدرها أصحابها قضاء لواجباتهم المالية، ومن الصعب جدا أن تقسم هذه الواجبات إلى وحدات مطلوبة، فإن الواجبات تختلف من شخص إلى آخر، ولا يمكن أن تكون موافقة لوحدات الودائع.(9/606)
وأما ثانيا، فلأن هذا الاقتراح يوجب التقويم اليومي لجميع موجودات البنك على أساس سعر السوق، وذلك صعب أيضا.
وأما ثالثا، فلأن الكثير من موجودات البنك لا تكون إلا في صورة نقود أو ديون، وإن جماعة من العلماء المعاصرين لا تجوز بيع أسهم الشركات إلا إذا كانت أصولها الثابتة أكثر من النقود والديون. وعلى رأيهم لا يجوز بيع وحدات البنك فيما إذا كانت معظم موجوداته نقودا أو ديونا. (1)
ومن أجل هذه الأسباب، لا يحل هذا الاقتراح مشكلة تحديد الأرباح في الودائع المصرفية.
وطالما بحثت في كلام الفقهاء عن طريق محاسبة الأرباح فيما إذا استرد الشريك أو رب المال بعض ماله، فلم أفز إلا بمسألة في كلام العلامة النووي رحمه الله في المنهاج، حيث قال في أواخر كتاب القراض:
(ولو استرد المالك بعضه قبل ظهور ربح وخسران رجع رأس المال إلى الباقي، وإن استرد بعد الربح، فالمسترد شائع ربحا ورأس مال.
مثاله: رأس المال مائة، والربح عشرون، واسترد عشرين، فالربح سدس المال، فيكون المسترد سدسه من الربح، فيستقر للعامل المشروط منه، وباقيه من رأس المال وإن استرد بعد الخسران فالخسران موزع على المسترد والباقي، فلا يلزم جبر حصة المسترد لو ربح بعد ذلك.
مثاله: المال مائة، والخسران عشرون، ثم استرد عشرين، فربع العشرين حصة المسترد، ويعود رأس المال إلى خمسة وسبعين) . (2)
وإن هذا الطريق إنما يعالج مشكلة واحدة، وهي سحب رب المال بعض ماله من مال المضاربة، ولكن لا ينظر إلى رد بعض المسترد أو كله مرة أخرى إلى مال المضاربة، وكذلك رب المال في هذا المثال واحد، وظهور الربح أو الخسران واضح، فلو أضفنا إلى هذا المثال أن أرباب الأموال ألوف، وكل واحد منهم يسحب بعض مبالغة تارة، ويرد بعضها أخرى، لتعقد الحساب بما يجعل ضبطه الدقيق كالمستحيل.
__________
(1) أما على قول الحنفية، فمقتضى قولهم في مسألة (مد عجوة) أن يجوز بيع الأسهم فيما كان بعض أصول الشركة عروضا، سواء كان أكثر موجوداتها نقودا وديونا، بشرط أن تكون القيمة زائدة على حصة السهم من النقود والديون، صرفا للزائد إلى العروض.
(2) مغني المحتاج، للشربيني الخطيب 2/320 و321.(9/607)
حساب الإنتاج اليومي ومدى جواز استخدامه في محاسبة الأرباح
وقد يوجد حل هذه المشكلة فيما يسمى في عرف المحاسبة المعاصر (حساب الإنتاج اليومي) (Daily Products) وقد يعبر عنه بحساب النمر، ومعنى استخدام هذا الطريق في الشركة أو المضاربة أن عند نهاية كل فترة يحدد إجمالي مبالغ الربح الحاصلة على جميع الأصول المستثمرة، ثم تقسم هذه المبالغ على الأموال المستثمرة، وعلى مجموع أيام الفترة الحسابية بحيث يعرف قدر ما ربحته وحدة نقدية كالربية الواحدة كل يوم، وإن كل واحد من الشركاء يعطى على كل واحدة من ربيته ربح الأيام التي ظلت فيها الربية مصروفة في حساب الاستثمار، فإذا كانت الربية الواحدة مصروفة في حساب الاستثمار لمدة أكثر، يوزع عليها ربح أكثر، وإن كانت الربية الواحدة مصروفة لمدة أقل، فإنها تحصل على ربح أقل.
مثاله: لو دل حساب الإنتاج اليومي أن ربية واحدة قد ربحت فلسا واحدا كل يوم، فالربح الحاصل على الربية المستثمرة لمائة يوم مائة فلس، سواء كانت هذه المائة يوم متوالية أو متفرقة؛ فمن بقيت ربيته الواحدة مصروفة في الاستثمار بمقدار مائة يوم متوالية أو متفرقة من الفترة المحاسبية، فإنه يستحق مائة فلس من الربح، ومن كانت ربيته الواحدة مصروفة بمقدار يوم، أو كانت ربيتها مصروفتين بمقدار مائة يوم، فإن كل واحد منهما يستحق مائتي فلس.
وهكذا يظل المستثمرون يسحبون ما شاؤوا من المبالغ في أثناء الفترة ويودعون ما شاؤوا مرة أخرى، وإن حقهم في الربح إنما يتعين على أساس مجموع الأيام التي بقيت فيها أموالهم مصروفة في الاستثمار. (1)
هذا هو الحل الوحيد الذي يبدو عمليا في طريق محاسبة الأرباح على الودائع الاستثمارية في المصارف الإسلامية، ولكنه يحتاج إلى تكييف شرعي تقبله طبيعة الفقه الإسلامي، ونظرا إلى التصور المعروف للشركة أو المضاربة في الفقه، فإن هناك عدة عوائق في سبيل تطبيقه في الشركة والمضاربة:
1- معرفة الربح الحقيقي تتوقف –حسبما ذكره الفقهاء- على تنضيض جميع موجودات الشركة، حتى إن اقتسام الربح قبل التنضيض يعتبر كالمدفوع تحت الحساب، ويبقى تابعا للتصفية النهائية بعد التنضيض, أما في العمليات المصرفية، فلا يتصور التنضيض الكلي حتى في نهاية السنة؛ لأن عمليات التمويل لا تزال فيها جارية بصفة مستمرة كل يوم.
__________
(1) راجع لطريق هذه المحاسبة وأمثلته (محاسبة الشركات والمصارف في النظام الإسلامي) ص: 179-181. طبع القاهرة سنة 1404هـ.(9/608)
وحل هذه المشكلة فيما يظهر لي –والله أعلم- أن يصفى حساب الشركة في نهاية كل سنة على أساس التنضيض التقديري، وهو التقويم، وحاصل ذلك أن جميع الأعيان التي يملكها البنك في نهاية السنة من خلال عمليات التمويل يشتريها مساهمو البنك من سلة الودائع الاستثمارية، ويضاف قيمتها إلى الأموال الناضة، ويوزع الربح على ذلك الأساس، وتنتهي عقود المضاربة والشركة لتلك السنة. وفي بداية السنة الجديدة تعقد الشركة بين المودعين والمساهمين من جديد، وتعتبر قيمة الأعيان المذكورة حصة من رأس مال المساهمين لهذه الشركة الجديدة؛ لأنهم يشغلونها لصالح السلة الاستثمارية مرة أخرى بعد أن دفعوا قيمتها إلى السلة الاستثمارية وملكوها. وغاية الأمر أن تلتزم منه الشركة بالعروض، ولكن ذلك جائز عند المالكية وبعض الحنابلة على أساس القيمة مطلقا، وعند الشافعي رحمه الله إن كانت العروض من ذوات الأمثال (1) ، وعند الحنفية إن اختلطت العروض بعضها ببعض (2) ، ولا بأس بالأخذ بقول المالكية في هذه المسألة للتيسير على الناس. (3)
2- إن طبيعة المضاربة والشركة التقليدية تقتضي أن تكون جميع الأموال مدفوعة في وقت واحد إلى التجارة المشتركة، حتى ذكر الفقهاء أنه لو دفع رب المال مالا آخر بعد تشغيل الأول لم تجز المضاربة في المال الثاني. قال النووي رحمه الله: (لو دفع إليه ألفا قراضا، ثم ألفا، وقال: ضمه إلى الأول، لم يجز القراض في الثاني ولا الخلط؛ لأن الأول استقر حكمه بالتصرف ربحا وخسرانا، وربح كل مال وخسرانه يختص به) (4)
وهذا إذا كان المالان جميعا لرجل واحد، أما إذا كان المالان لرجلين مختلفين كذلك بالطريق الأولى، لأن المنافع متفاوتة.
أما الودائع المصرفية، فلا تدفع إلى البنك في وقت واحد، ولا تشغل في الأعمال الاستثمارية إلا في أوقات مختلفة، فلا يمكن تطبيقها على الأساس المعروف للشركة أو المضاربة التقليدية.
__________
(1) المغني، لابن قدامة 5/124 و125.
(2) بدائع الصنائع، للكاساني 6/59.
(3) راجع إمداد الفتاوى، للشيخ أشرف على التهانوي رحمه الله 3:495.
(4) روضة الطالبين للنووي 5:148.(9/609)
3- ثم إن سحب بعض الأموال قبل نهاية الفترة إنما يستلزم فسخ الشركة في ذلك الجزء المسحوب، ويمكن أن يكون الجزء المسحوب لم يربح شيئا إلى وقت السحب، أو يكون قد ربح أكثر مما يقدر بحساب الإنتاج اليومي، وفي الصورة الأولى يحوز هذا الجزء حصة من ربح مودع آخر، وفي الصورة الثانية تنتقل حصته إلى مودع آخر.
ولا سبيل إلى إبعاد هذه العوائق إلا أن نقول: إن (الشركة الجماعية المستمرة) نوع جديد مستقل من أنواع الشركات، ولا يجب لجوازه أن يتوفر فيه جميع عناصر شركة العنان أو المفاوضة. لكونه نوعا مستقلا، ولا يحكم بعدم جوازه إلا إذا تضمن ذلك إخلالا بأحد الشروط المنصوصة لجواز الشركة.
ولا شك أنه ليس هناك نص في القرآن والسنة يحصر الشركة المشروعة في الأنواع التي ذكرها الفقهاء في كتبهم، وإنما بنى الفقهاء هذا التقسيم على استقراء ما كان معمولا به في بيئتهم. ولم تكن بعض هذه الأنواع إلا وليدة حاجات الناس في التجارة، مثل شركة التقبل، أو شركة الوجوه، فإنه لا يوجد لهما ذكر في نصوص القرآن والسنة، ولكنهم جوزوهما لمكان الحاجة، فلو حدث هناك قسم آخر للشركة فإنه لا يحكم ببطلانها بمجرد كونها لا تدخل في أحد الأقسام المذكورة في كتب الفقه، ما لم يعارض المبادئ الأساسية المنصوصة في القرآن أو السنة.
وعلى هذا، فنستطيع أن نقول: إن (الشركة الجماعية المستمرة) نوع جديد للشركة أحدثتها حاجة الناس في مداولاتهم المعاصرة، وما دامت المبادئ الأساسية للشركة متوفرة فيها، فإنها لا تفسد بمجرد أنها لا تنطبق عليها بعض الفروع الجزئية التي ذكرها الفقهاء, ويلاحظ أن أموال جميع الشركاء مخلوطة في هذه الشركة، وكل منها معرض للربح والخسارة، ولا ينفرد فيها أحد الشركاء بتخصيص مبلغ معلوم من الربح، بل يشارك كل واحد منهم في الربح والخسارة على حد سواء لا فضل لأحدهم على الآخر، فإن المبدأ الأساسي للشركة موجودة في هذا النوع من الشركة.
أما توزيع الربح على أساس الإنتاج اليومي،فإنه وإن لم يكن توزيعا للربح الذي نتج فعلا على كل مال على حدة، ولكنه توزيع للربح التقديري الذي حصل على مجموع الأموال في فترة واحدة، وذلك على أساس التراضي بين الشركاء منذ أول نشأة الشركة في حين أنه لا يوجد للتوزيع أساس عادل سواه في مثل هذه العمليات.(9/610)
ويوجد لمثل هذا الأساس نظيران في الأنواع القديمة للشركة أيضا:
أما النظير الأول، فهو شركة الأعمال، ويسمى شركة الأبدان وشركة التقبل أيضا. وهو أن يشترك رجلان في تقبل الأعمال لغيرهما على أن ما يحصلان عليه من الأجرة يكون بينهما على ما شرطا. وقد صرح الفقهاء بأن ذلك جائز، وإن كانت أعمالهما متفاوتة في الكمية والكيفية. فلو اشترط المشاركان أن الأجرة الحاصلة تنقسم عليهما نصفين، فإن كل واحد منهما يستحق النصف، وإن كان عمله أقل من النصف؛ لأن الشركة إنما وقعت على ضمان العمل، وهو مضمون عليهما نصفين. (1)
والنظير الثاني: ما ذهب إليه من أن خلط مال الشركاء ليس بشرط لصحة الشركة. ومقتضى ذلك أنه لو كان لأحد الشريكين دراهم وللآخر دنانير، فعقدا الشركة بدون أن يخلطا أموالهما، فاشترى كل واحد منهما بمال نفسه على حدة، فإنهما يشتركان في الربح. قال الكاساني: (واختلاط الربح يوجد، وإن اشترى كل واحد منهما بمال نفسه على حدة؛ لأن الزيادة وهي الربح، تحدث على الشركة) . (2)
ومقتضى هذين النظيرين أنه لا يجب شرعا أن يكون ربح كل واحد من الشركاء مبنيا على ما حصل على مساهمته (المالية أو العملية) فعلا، بل يجوز أن يتفقا على أساس آخر لتوزيع الربح بينهما.
وعلى هذا، فلو اتفق الشركاء على أساس الإنتاج اليومي لتوزيع الربح بينهم، فإن ذلك لا يبدو مصادما لنص من نصوص الشريعة الإسلامية، وإنما هو طريق حسابي مخصوص لجأ إليه الشركاء لفقدان أساس عملي آخر في شركة جماعية مستمرة، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا.
والله سبحانه أعلم وعلمه أتم وأحكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
القاضي محمد تقي العثماني
__________
(1) راجع بدائع الصنائع/ الكاساني 6:65.
(2) بدائع الصنائع 6/60.(9/611)
الحسابات الجارية
وأثرها في تنشيط الحركة الاقتصادية
إعداد
د. مسعود بن مسعد الثبيتي
عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى
والمدرس في المسجد الحرام
المقدمة
الحمد لله الذي أكمل دينه وأتم نعمته ورضي لنا الإسلام دينا ومنهج حياة، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وبعد:
فإن مما لا مراء فيه ولا جدال أن الشريعة الإسلامية قد اتسمت بالثبات والشمول فهي ثابتة الأسس واضحة المنهج صالحة لكل زمان ومكان وافية بالحاجات، فما من حادثة تقع إلا ولله فيها حكم، بعضها وردت به النصوص الشرعية الصريحة فلا مجال للاجتهاد فيها، والبعض الآخر لم يرد به نص وإنما أنزل ظواهر وعمومات وترك للمجتهدين مجال إظهار أحكام الله فيها على ضوء ما رسم من أسس يسير على ضوئها المجتهد في اجتهاده. وإن أحكام الأموال مما اعتنت به الشريعة الإسلامية، فنالت من عناية العلماء قديما وحديثا جهدا أبان أحكامها ووضح مشكلها، وكيف لا ينال المال ذلك الاهتمام وقد جعله الله قرين النفس وجعل الاعتداء عليه أحد الاعتداءات التي يجازي عليها المعتدي بقطع يده؟ بل جعل الدفاع عنه والموت دونه ضربا من ضروب الشهادة.(9/612)
ونظرا لشدة حاجة الناس إلى إيداع أموالهم في المصارف ومعرفة أحكامها وعائداتها وما يترتب عليها من آثار لجأ الناس إلى الإيداع في المصارف خوفا من السرقة والضياع، أو لاستثمارها، وتهيئتها للوفاء بالتزاماتهم المالية التي أصبحت متشابكة متعددة متجددة متشابهة الصور، منها الحلال البين، ومنها الحرام البين، ومنها المتشابهات، ولا إشكال في البين من الأمرين الحلال والحرام، ولكن المشكلة حقا في الأمور المتشابهة التي لا يعلمها كثير من الناس، وهذه الأمور المشكلة قد توجه مجمع الفقه الإسلامي لدراستها وبيان حكم الله فيها بما هيأ الله له من ثلة من العلماء الشرعيين ونخبة من الاقتصاديين والخبراء العاملين في مجالات المال تدريسا وقضاء ومراقبة وبحثا، فأنتجوا بتوفيق الله وعونه أحكاما كثيرة فيما يهم الناس في حياتهم ومعاملاتهم التجارية والاقتصادية، وأعمال البنوك المتنوعة المتجددة المتسمة بالتطور السريع بسبب توسع الأنشطة وتداخل المعاملات وتشابهها في ظاهرها مما يجعل الباحث في حيرة من أمره عند طرح صورة يتجاذبها أكثر من أصل.
وقد اخترت الكتاب في الحسابات وأثرها في تنشيط الحركة الاقتصادية.
وقد أفدت من الرسائل الجامعية والأبحاث المجمعية المتخصصة وكتبت هذا البحث في مقدمة وتمهيد ومبحثين وخاتمة. ذكرت في المقدمة أهمية الموضوع وخطته، وعرفت في التمهيد بالوديعة، والقرض، وأهم خصائصهما.
وذكرت في المبحث الأول: الحسابات الجارية.
وفي المبحث الثاني: أثر الحسابات الجارية في تنشيط الحركة الاقتصادية.
وجعلت الخاتمة في أهم نتائج البحث.
والله أسأل لي ولجميع المسلمين التوفيق والسداد.(9/613)
تمهيد
تعريف الوديعة والقرض
وقد قسمته إلى ثلاث مطالب:
المطلب الأول
في تعريف الوديعة وأهم خصائصها
قبل البدء وتكيف الصور, لا بد من التعريف بالوديعة الشرعية والقرض حيث إنهما الأساس الذي يرتكز عليه البحث وقد عرفت الوديعة الشرعية أولا ثم الوديعة المصرفية.
تعريف الوديعة الشرعية:
1- الوديعة لغة فعيلة بمعنى مفعولة من الودع وهو الترك قال ابن القطاع: (ودعت الشيء ودعًا تركته.. وأودعتك الشيء جعلته عندك وديعة؛ وقبلته منك وديعة فهو من الأضداد (1) وقال أبو منصور: المعروف في كلام العرب أودعت الرجل إذا استودعته وديعة لحفظها لك, وأما أودعته قبلت وديعته, فليست بمعروفة (2) وأما الإيداع فهو الاستنابة في الحفظ (3)
2- الوديعة اصطلاحا: هي المال المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض (4) , وزاد في كشاف القناع: (الحق) المختص ككلب الصيد ونحوه) (5) .
وعلى ذلك فالوديعة في الشريعة أمانة دفعت إلى الغير ليكون حافظا لها فإذا تمت الوديعة بالإيجاب والقبول صار حكمها وجوب الحفظ فإن هلكت بدون تعد أو تفريط فلا ضمان على من كانت تحت يده.
__________
(1) البعلي, المطلع على أبواب المقنع279, وابن المبرد, الدر النقي 3/299 , الفيومي, المصباح المنير: 328
(2) الأزهري, الزاهر:279
(3) المناوي, التوقيف على مهمات التعاريف:366
(4) البهوتي, شرح منتهى الإرادات: 2/445
(5) البهوتي: 4/166(9/614)
محترزات التعريف:
خرج بقيد المال, والحق المختص: ما ليس بمال ولا مختص كالكلب الذي لا يحل اتخاذه والخمر والخنزير وآلات اللهو.
وبقيد المدفوع: ما ألقته الريح إلى دار من نحو ثوب, وما أخذ بالتعدي كالمغصوب والمسروق.
وبقيد الحفظ: العارية ونحوها.
وبقيد عدم العوض: الأجير على حفظ المال (1) .
أركان الوديعة:
يعتبر للوديعة أركان الوكالة:
1- عاقدان: وهما المودع والمستودع.
2- وصيغة: وهي الإيجاب والقبول.
3- محل: وهو العين المودعة (2)
ولكل ركن شروط موضحة في كتب الفروع.
وقد دل الكتاب والسنة على مشروعيتها.
قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:72] .
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .
وقبولها من التعاون على البر والتقوى وقد حث الله عليه بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] .
وقد حثَّ عليها أيضا النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله: ((أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)) (3)
وقد كان عند النبي (صلى الله عليه وسلم) ودائع للناس استخلف على أدائها وردها إلى أصحابها علي بن أبي طالب حين هجرته (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة.
__________
(1) البهوتي, كشاف القناع: 4/166
(2) النووي, روضة الطالبين 6/324؛ البهوتي, شرح منتهى الإرادات 2/ 450, نزيه كمال حماد, الوديعة: 27
(3) الإمام أحمد , المسند 3/414(9/615)
حكم قبول الوديعة:
وحكمها الاستحباب وقد تكون واجبة أو محرمة أو مكروهة حيث يعتري الحكم بعض الأسباب الناقلة له عن حكمه الأصلي إلى حكم آخر (1)
خصائص الوديعة:
1-الوديعة أمانة في يد المودع لا يضمنها إلا إذا فرط في حفظها أو تعدى فالغرض والمقصد الأصلي لعقد الوديعة: الحفظ والائتمان دون أي غرض آخر بخلاف عقود الأمانات الأخرى, التي قد يكون الغرض منها التوثق كما في عقد الرهن , أو تمليك المنفعة, كما في العارية , والائتمان تابع للمقصد الأصلي.
2-المستودع إذا تعدى على الوديعة , فركب السيارة أو باع واشترى بالنقود ضمن؛ لأن الاستعمال تعد لا يزول أثره إلا بالرد إلى الغرض الأساسي للوديعة, وذلك يخالف عقد الإعارة والإجارة, فالمستعير والمستأجر ينتفعان بالمعار والمؤجر بدون تعد.
3-الوديعة يغلب عليها الاعتبار الشخصي للوديعة في الحفظ, فلا يحل أحد بدله بدون إذن المودع إلا في حالات الاضطرار أو الحاجة, في حين أن عقود الأمانات الأخرى كالإجارة والشركة يحل فيها غير المتعاقد محله؛ لأن الغرض الأساسي فيها الانتفاع بخلاف الوديعة فالغرض الأساسي فيها الحفظ (2) .
__________
(1) البهوتي, كشاف القناع4/166
(2) حسن الأمين, الودائع المصرفية: 45-47(9/616)
المطلب الثاني
تعريف القرض
القرض لغة: مصدر قرض الشيء يقرضه, بكسر الراء إذا قطعه. أو القرض اسم مصدر بمعنى الإقراض.
قال الجوهري: (هو ما تعطيه من المال لتقضاه) (1)
وأكثر استعمالات القرض في النقود إذا أخذها الشخص ورد بدلها (2) .
والقرض في الاصطلاح: دفع مال لمن ينتفع به, ويرد بدله, وهو نوع من المعاملات على غير قياسها لمصلحة لاحظها الشارع رفقا بالمحاويج. (3) .
وهو عقد لازم في حق المقرض بالقبض؛ لكونه أزال ملكه عن بعض ماله بغير عوض, جائز في حق المقترض في الجملة؛ لأن الحق له فيه.
حكمه: القرض في الأصل حكمه الجواز, لما فيه من الإرفاق وسد حاجة المقترض, وقد يعرض له من الأسباب ما يجعل حكمه يتغير إلى الوجوب أو الكراهة أو الحرمة بحسب الملابسات, وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.
1- قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245] .
2- حديث عبد الله بن مسعود ((: ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة)) (4) .
3- نقل البهوتي أن المسلمين أجمعوا على جوازه (5) .
الفرق بين القرض والوديعة:
أ - في القرض تنتقل ملكية الشيء المقرض إلى المقترض، ويرد بدله في نهاية المدة, ويغلب استعماله في أخذ النقود, أما الوديعة فلا تنتقل ملكيتها إلى المودع عنده بل تبقى ملكا للمودع يستردها بعينها.
ب - المقترض ينتفع بالمال بعد أن انتقلت ملكيته له أما المودع عنده فلا ينتفع بالشيء المودع بل يلتزم حفظه حتى يرده إلى صاحبه (6) .
ج- القرض عقد إرفاق للمقترض أما الوديعة فهي عقد إرفاق لصاحب الوديعة الذي يحتاج إلى حفظها من الضياع والسرقة.
__________
(1) مصنفك , الحدود والأحكام: 92
(2) نزيه حماد, عقد القرض: 8-9 نقلا عن الفروق للعسكري
(3) البعلي, المطلع: 246, البهوتي, كشاف القناع:3/321, المناوي, التوقيف على مهمات التعاريف: 271؛ أبو جيب, القاموس الفقهي: 300
(4) ابن ماجه, السنن:2/813
(5) البهوتي, كشاف القناع3/312
(6) انظر نزيه كمال حماد, عقد القرض:13(9/617)
المطلب الثالث
تعريف الوديعة المصرفية وخصائصها
حيث إن الحسابات الجارية (الودائع الجارية) إحدى أقسام الودائع المصرفية فسوف أعرف الوديعة المصرفية.
تعريف الوديعة:
تطلق الوديعة على المال المودع، وعلى العقد المقتضي للحفظ، فهي حقيقة فيهما وقد عرفت بكل منهما وإن كان تعريفها بمعنى العقد أكثر عند القانونيين.
جاء في الأسس القانونية (يقصد بالوديعة المصرفية النقدية: النقود التي يعهد بها الأفراد أو الهيئات إلى البنك على أن يتعهد الأخير بردها أو برد مبلغ مساو لها إليهم عند الطلب أو حسب الشروط المتفق عليها) (1)
وعرفها محمد باقر الصدر بقوله: (تعتبر الوديعة بمختلف أشكالها في مفهوم البنوك الربوية عبارة عن مبلغ من النقود يودع لدى البنوك بوسيلة من وسائل الإيداع فينشئ وديعة تحت الطلب، أو لأجل محدد اتفاقا ويترتب عليه من ناحية البنك الالتزام بدفع مبلغ معين من وحدات النقد القانونية للمودع، أو لأمره لدى الطلب أو بعد أجل، على اختلاف الشكل الذي يتم الاتفاق عليه للوديعة بين البنك والعميل) (2)
تعريف الإيداع:
هو العقد الذي يتم بين العميل المودع من جانب، والبنك المودع لديه من جانب آخر، وفيه يضع العميل مبلغا نقديا لدى البنك. (3)
ويلاحظ على تعريف الإيداع بهذا التعريف، عدم شموله لودائع الصكوك وغيرها مما يندرج في عقد الإيداع في العمل المصرفي، ولذلك عرفها أحمد الحسني في رسالته فقال: (المقصود بالوديعة المصرفية، العقد الذي يتم بين المصرف ومن يعهد إليه بالنقود أو غيرها وبهذا يشمل عقد الإيداع جميع الودائع التي تزاولها المصارف كالحسابات الجارية والوديعة لأجل والوديعة الادخارية –حساب التوفير- وشهادات الاستثمار والمخصصة لنشاط معين وودائع الخزائن الحديدية والوديعة المستندية) (4) ويلاحظ أن هذا التعريف يشمل لإيداع المال وغيره. (5)
__________
(1) سميحة القليوبي: 17؛ وانظر حسن الأمين، الودائع المصرفية: 208؛ حسن عمر، موسوعة المصطلحات الاقتصادية: 263.
(2) البنك اللاربوي: 83-84.
(3) سميحة القليوبي، الأسس القانونية لعمليات البنوك:331.
(4) الودائع المصرفية: 57.
(5) حسن الأمين، الودائع المصرفية: 31.(9/618)
خصائص الوديعة النقدية المصرفية:
الودائع متنوعة، وإذا استثنينا ودائع الخزائن الحديدية والمستندية –التي تعتبر إجارة أو وديعة بأجرة. (1) – نلاحظ أن البنوك تستطيع ملكية هذه النقود وتستغلها في نشاطاتها المختلفة ولو قصرت مدة بقائها لديها.
وسوف أذكر أهم الخصائص العامة للوديعة المصرفية، تاركا ما ينفرد به كل نوع من خصائص إلى أماكنها الخاصة بها.
1- يخول عقد الوديعة المصرفية البنك ملكية النقود المودعة والتصرف فيها بما يتفق مع نشاطه المهني.
2- التزام البنك المودع لديه برد مبلغ الوديعة النقدية إلى العميل المودع في الميعاد المحدد حسب الاتفاق الذي قد يكون عند الطلب أو بعد أجل معين أو التي ترد بإخطار سابق.
3- يكون رد البنك للمبالغ بالعملة التي تم الإيداع بها، ما لم يتفق على خلاف ذلك. (2)
4- لا يستحق المودع فوائد (3) على هذا النوع من الودائع، إلا أن البنوك تلجأ في سبيل جذب الودائع، إلى تقدير عمولة معينة بأسماء متعددة مثل جوائز الادخار، شهادات البنك ذات الجوائز، شهادات الإيداع، دفاتر التوفير ذات الجوائز ... إلى آخر قائمة المسميات التي استحدثتها البنوك لإغراء أصحاب الأموال، والتمويه عليهم لجذب أموالهم واستثمارها. (4)
__________
(1) او وديعة حقيقية كما يرى البعض.
(2) سميحة القليوبي، الأسس القانونية: 331؛ وانظر حسن الأمين، الودائع المصرفية: 244-247.
(3) غالبا وإن كان يستحق ذلك في حساب التوفير وشهادات الاستثمار. انظر حسن الأمين، الودائع المصرفية: 247-248
(4) علي السالوس، حكم ودائع البنوك.(9/619)
المبحث الأول
المطلب الأول
الحسابات الجارية وودائع التوفير والوديعة المشتقة
يرغب المودع في وضع نقوده طرف البنك ليس فقط للمحافظة عليها من الضياع أو السرقة بل ليتمكن بمقتضاه من استعمال أمواله المودعة في معاملاته مع الغير دون حاجة إلى حمل النقود (1) وتعتبر الحسابات الجارية أهم الودائع المصرفية النقدية لدى المصارف والمصدر الأساسي للسيولة في النشاط المصرفي إذ تكون الجزء الأكبر من موارده الخارجية، وهي التي تقصد عادة عند الكلام على نقود الودائع أو النقود الكتابية بوصفها حازت القبول العام في الوفاء بالالتزامات اختيارا عن طريق استخدام الشيكات. وتشكل ودائع الحسابات الجارية الجانب الأكبر من إجمالي الودائع حيث بلغت نسبتها إلى مجموع الودائع في المملكة العربية السعودية 60 % (2) .
ولا بد لمعرفة أحكامها من تعريفها وبيان خصائصها.
تعريفها:
عرفها كثير ممن كتب في الودائع المصرفية (بأنها المبالغ النقدية التي يودعها أصحابها لدى المصارف ويلتزم بدفعها متى طولب بها) .
ويطلق عليها الودائع الجارية (3) .
__________
(1) سميحة القليوبي، الأسس القانونية: 34
(2) الحسني، الوديعة المصرفية: 75؛ سميحة القليوبي، الأسس القانونية: 341.
(3) الحسيني، الوديعة المصرفية: 68؛ الصدر، البنك اللاربوي: 23؛ سميحة القليوبي؛ الأسس القانونية: 331، حسن الأمين، الودائع المصرفية:209،233.(9/620)
خصائص الحساب الجاري:
1- يتميز الحساب الجاري بأنه عام (1) يتضمن جميع العمليات التي تجري بين أطرافه، والمدفوعات التي تقيد في جانب الدائن للدائن، وفي جانب المدين للقابض لا بد أن تكون متماثلة حتى يمكن إدماجها في الحساب الجاري.
2- أن تكون المدفوعات معينة محددة المقدار محققة الوجود حتى لا يحصل نزاع في تقديرها.
3- تسلم المدفوعات إلى المصرف على سبيل التمليك حتى يمكن قيدها في الحساب الجاري، والحكمة من ذلك أن المدفوعات لا تعتبر دينا على القابض إلا إذا تملكها، أما إذا كان وكيلا في تحصيلها فلا تعتبر مدفوعات إلا بعد تحصيلها فعلا؛ لأن القابض يتسلم المبلغ لحساب غيره نيابة عنه، فلا يتملكها حتى تصبح دينا عليه، وبناء على ذلك فإن الأوراق التجارية التي تظهر للبنك توكيلا لا تدرج بالحساب الجاري إلا بعد تحصيلها فعلا أما إذا ظهرت إليه تظهيرا تاما ناقلا للملكية فإنها تقيد بمجرد تسليمها للطرف القابض. (2) .
__________
(1) سيتضح تخلخل هذا العموم حين الكلام على الحجز على الحساب الجاري.
(2) سميحة القليوبي، الأسس القانونية: 489-495.(9/621)
تكييف الحساب الجاري (الوديعة الجارية)
تعددت الآراء في تكييف عقد الحسابات الجارية واختلفت ويمكن تقسيمها إلى خمسة اتجاهات:
1-ذهب بعض من كتب في الودائع إلى أن الحساب الجاري وديعة حقيقية بالمعنى الفقهي (1) وممن اتجه إلى هذا حسن الأمين حيث قال:
(الوديعة النقدية تحت الطلب هي مبلغ يوضع لدى البنك ويسحب منه في الوقت الذي يختاره المودع، فإن ذلك كل ما يطلب في الوديعة الحقيقية ولا توجد أي شائبة في ذلك، وإذا كان البنك قد اعتاد أن يتصرف فيها بحسب مجرى العادة، فإن هذا التصرف المنفرد من جانب البنك لا يمكن أن يحسب على المودع وينسحب على إرادته فيفسرها على الاتجاه من الإيداع إلى الإقراض، فإرادة المودع لم تتجه أبدا في هذا النوع من الإيداع نحو القرض كما أن البنك لم يتسلم هذه الوديعة على أنها قرض بدليل أنه يتقاضى أجرة (2) –عمولة- على حفظ الوديعة تحت الطلب، بعكس الوديعة لأجل، التي يدفع هو عليها فائدة (3) ، وبدليل الحذر الشديد في استعمالها والتصرف من جانبه، ثم المبادرة الفورية بردها عند الطلب مما يدل على أن البنك حينما يتصرف فيها إنما يفعل ذلك من موقف انتهازي لا يستند إلى مركز قانوني كمركز المقترض) . (4)
__________
(1) الحسني، الوديعة المصرفية:107.
(2) تجاوز العمل المصرفي هذه الفترة، وأصبحت المصارف الربوية هي التي تدفع مبالغ نقدية تشجيعا لأصحاب الأموال على الإيداع لديهم إذا استثنيا بعض الودائع البسيطة التي تأخذ عليها.
(3) أي البنك.
(4) حسن الأمين، الودائع المصرفية: 233-234، وانظر العمر، النقود الائتمانية: 125.(9/622)
2- ويرى البعض أن عقد الإيداع المصرفي وديعة شاذة أو ناقصة، وذلك لأنها وديعة لا يلتزم فيها المصرف برد عينها وإنما يرد مثلها وتختلف عن القرض في أن للمودع أن يطلبها في أي وقت مما يجعل المودع لديه يحتفظ دائما بما يساوي الشيء المودع نوعا ومقدارا. (1)
3- ويرى البعض أن عقد الإيداع عقد ذو طبيعة خاصة أو أنه ليس من العقود المسماة، إذ هو عقد ذو أهداف مختلفة، وهذا هو سبب التردد في إلحاقه بعقد الوديعة أو بعقد القرض، فالعميل يودع النقود بهدف الحفظ أو سداد مطلوباته، والمصرف يقبل هذه الوديعة بهدف استعمالها. (2)
4- وذهب البعض إلى القول بأن هذه الفوائد التي تعطى تعتبر أجرا لاستعمال النقود وأن الودائع تدخل تحت عقد الإجارة. (3)
5- وذهب الكثير ممن كتب في الودائع المصرفية والنقود وأعمال البنوك إلى أن الودائع الجارية قرض، المودع فيه بمثابة المقرض، والمصرف هو المقترض، ولذلك لا يلتزم المصرف بحفظ عين الوديعة بل يتملكها ويلتزم برد مبلغ مماثل لما أخذه ويتحمل خطر هلاكه بقوة قاهرة، ويمكنه أن يتمسك بالمقاصة، وعلى هذا أكثر القانونيين، ومن كتب في الودائع من الكتاب الإسلاميين.
جاء في الأسس القانونية لعمليات البنوك (عقد الإيداع هو العقد الذي تم بين العميل والبنك ... وفيه يضع العميل مبلغا نقديا لدى البنك ويترتب على هذا العقد الذي يخول البنك ملكية النقود المودعة والتصرف فيها بما يتفق مع نشاطه المهني) . (4)
وجاء في الوديعة المصرفية (وتكيف الوديعة تحت الطلب التي تتخذ شكل الحساب الجاري الدائن بأنها قرض غير مشروط بأجل يستقرضه المصرف من المودع؛ لأنها نقود يعلم المودع أن المصرف يتصرف فيها وقد دفعها إليه راضيا بذلك فكان إذنا بالتصرف) . (5)
__________
(1) الحسني، الوديعة المصرفية: 102.
(2) انظر المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق: 212.
(3) السالوس، حكم ودائع البنوك:51.
(4) سميحة القليوبي: 331.
(5) الحسني:105.(9/623)
مناقشة الأقوال الواردة في تكييف الوديعة:
يظهر أن مصطلح الوديعة الجارية نقل من القانون الغربي، كغيره من المصطلحات المنقولة، واستعمل بنفس اللفظ عند المسلمين، مع وجود الاختلاف البين بين دلالة اللفظ ومعناه وما استعمل فيه، فالوديعة المصرفية لا ينطبق عليها اصطلاح الوديعة الشرعية؛ لأن البنوك والمصارف لا تأخذها كأمانة وتردها إلى أصحابها بعينها، وإنما تتصرف فيها وتلتزم برد المثل، وأحيانا تدفع فوائد على الأموال التي تودع عندها، ومن المعلوم قطعا أن أحدا لن يدفع مبلغا من المال لمن يودع عنده. بل ولو كانت وديعة حقيقية لحصل العكس بأن يدفع صاحب المال أجرا على حفظ ماله. (1)
ومن الواضح أن البنوك ضامنة لما أودع فيها برد مثله ولو كان الهلاك بسبب قهري (2) والوديعة لا تضمن إلا إذا هلكت بسبب تقصير من المودع.
وأما الاتجاه الذي يرى خضوع الوديعة المصرفية لأحكام الوديعة الناقصة حيث يحتفظ البنك بما يماثل المودع قدرا ونوعا، فيناقش بأن هذا يخالف واقع نظام الإيداع المصرفي، حيث إن المصرف لا يحتفظ في خزانته بمقدار من النقود يساوي مجموع الأموال المودعة لديه وإلا تعطلت نشاطاته، وإنما يحتفظ بنسبة معينة منها وهو ما يعرف بالاحتياطي القانوني لمواجهة احتمالات طلبات الرد، والاحتفاظ بنسبة من المبلغ وليس الاحتفاظ بأجزاء من الأموال بأعيانها. (3)
__________
(1) دفع صاحب المال لا وجود له في العمل المصرفي غالبا بل تحرص البنوك على جذب أكبر قدر من الودائع وتحاول جاهدة إغراء المودعين بما تدفعه لهم من فوائد أو تقدمه لهم من تسهيلات.
(2) السالوس، حكم ودائع البنوك: 52، الحسني؛ الوديعة المصرفية: 103-104.
(3) الحسني، الوديعة المصرفية: 102.(9/624)
وأما القول بأن الوديعة المصرفية عقد ذو طبيعة خاصة لاختلاف مقاصد العاقدين فيناقش بأن القرض عقد إرفاق في الأصل، وقد يخرج عن هذا المقصد إلى مقصد آخر كحفظ المال والأمن عليه من السرقة، وقد أقر هذا التوجيه فقهاء الإسلام قديما وحاضرا.
جاء في كشاف القناع (قال القاضي: ومعنى الحظ في قرض مال الصبي والمجنون أن يكون للصبي أو المجنون مال في بلد فيريد الولي نقله إلى بلد آخر فيقرضه الولي إلى رجل في ذلك البلد ليقضيه بدله في بلده، يقصد الولي بذلك حفظه ... من نهب أو غرق أو غيرهما أو يكون المال يتلف بتطاول مدته أو يكون حديثه خيرا من قديمه ... وإن أراد الولي أن يودع ماله – أي الصغير أو المجنون- فقرضه لثقة أولى من إيداعه؛ لأنه أحفظ له) (1)
ولو قيل: إن الأموال ودائع بالمعنى الحقيقي أو الناقص لعدم استغلالها والعمل بها تعديا يأثم المتصرف في المال بسببه؛ لأنه لا يجوز لأحد انتفاع بمال غيره دون رضا صاحبه.
وأما القول بأن هذه الفوائد التي تعطى تعتبر إجارة، فيرد بأن النقود لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء أعيانها وما لا ينتفع به مع بقاء عينه لا يصلح للتأجير.
__________
(1) البهوتي 3/449.(9/625)
الراجح في تكييف عقد الحسابات الجارية (الوديعة تحت الطلب) :
بالاطلاع على كثير من الكتابات التي عنيت بتكييف الحسابات الجارية للمصارف ظهر اتفاق كثير من القانونيين مع كثير من الشرعيين في اعتبار الودائع المصرفية الجارية قرضا. صاحب المال هو المقرض، والمصرف هو المقترض، وهذا يعني تمليك هذه النقود للمصارف بحيث يحق لها التصرف فيها بشرط أن يكون مستعدا لسدادها حين طلبها. (1)
جاء في الأسس القانونية (تسلم المدفوعات إلى الطرف الآخر القابض على سبيل التمليك وذلك حتى يمكن قيدها بالحساب الجاري) . (2)
وجاء في الوديعة المصرفية (وتكيف الوديعة تحت الطلب التي تتخذ شكل الحساب الجاري الدائن بأنها قرض غير مشروط بأجل يستقرضه المصرف من المودع؛ لأنها نقود يعلم المودع أن المصرف يتصرف فيها وقد دفعها إليه راضيا بذلك فكان إذنا بالتصرف) (3)
ولا فرق في تكييف الودائع بهذا، سواء كانت الإيداعات في بنوك ربوية أو إسلامية، بل الفرق يكون في العائدات ومجال النشاط، فإن حدد قدر العائد من المودع (ك) 5 % كان قرضا ربويا محرما، وإن كان العائد ناشئا عن مضاربة أو مشاركة وحددت نسبة من الربح حسب أصول المشاركات الشرعية كان عملا جائزا.
ويمكن تأييد هذا الاتجاه بعدة أمور:
1- ورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه فقال: يا بني لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم وإني لا أراني إلا سأقتل مظلوما وإن همي لديني ... بع مالنا فاقض ديني وأوصي بالثلث ... فقتل الزبير ولم يدع دينارا ولا درهما إلا الأرضين ... قال: وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا ولكنه سلف فإني أخشى عليه الضيعة ... قال عبد الله بن الزبير فحسب ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف) (4)
__________
(1) سامي حسن حمود، تطوير الأعمال المصرفية: 291-292؛ محمد باقر الصدر؛ البنك اللاربوي: 88؛ العمر، النقود الائتمانية:122-123؛ جهاد أبو عويمر، الترشيد الشرعي: 217؛ غريب الجمال، المصارف وبيوت التمويل: 77؛ أحمد الحسني، الوديعة المصرفية:102؛ على السالوس، حكم ودائع البنوك: 52؛ سميحة القليوبي، الأسس القانونية: 495.
(2) سميحة القليوبي:495.
(3) الحسني:105.
(4) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري6/227-228.(9/626)
2- من المعلوم أن العرف بين التجار المشروط فيما بينهم،
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار
والمعروف عرفا كالمشروط شرطا، والبنك يأخذ هذه الأموال بقصد استغلالها واستعمالها في نشاطاته المختلفة، ونظامه الأساسي ينص على أن ما دخله يكون على سبيل التملك، والمودع يضع ماله وقد علم أن العمل المصرفي لا يحفظ هذه الأموال بعينها وإنما يخلطها مع غيرها من الأموال، ويعمل بها حسب نشاطاته ويلتزم برد مثلها فقط وهذا هو حقيقة القرض حيث إن تعريفه هو دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله.
3- جاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ما يدل دلالة واضحة على أن المال إذا دفع وكان غرض دافعه الحفظ وغرض آخذه الانتفاع به، ورد بدله أن المال المأخوذ يعتبر قرضا حيث قال: (من أخذ السفتجة من المقرض وهو أن يقرضه دراهم يستوفيها منه بلد آخر مثل أن يكون المقرض غرضه حمل دراهم إلى بلد آخر والمقترض له دراهم في ذلك البلد وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض فيقترض منه في بلد دراهم المقرض ويكتب له سفتجة –أي ورقة- إلى بلد دراهم المقترض، فهذا يجوز في أصح قولي العلماء، وقيل: ينهى عنه؛ لأنه قرض جر منفعة، والقرض إذا جر منفعة كان ربا، والصحيح الجواز، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفع الناس وبصلحهم ويحتاجون إليه، وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم) . (1)
فالأمر كان مشتهرا معروفا في عصر صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومن بعدهم من العصور المختلفة، والمحققون من علماء الإسلام سموه قرضا وإن اختلفت مقاصد العاقدين فالعبرة في كل عقد بمقصده الأعظم وإن وجدت مقاصد أخرى.
والله أعلم.
__________
(1) 29/455-456.(9/627)
الآثار المترتبة على تكييف الحساب الجاري:
تبين مما سبق أن الودائع المصرفية التي يتملكها المصرف ولها دور في نشاطه الاستثماري تعتبر قروضا، والقرض دين في ذمة المقترض، وعلى هذا المعنى تختلف الأحكام في تكييف تلك الأموال بأنها وديعة حقيقية شرعية أو ناقصة أو شاذة.
وقد تناولت ثلاث مسائل لها أهمية بالغة في هذا البحث.
أولا: الزيادة التي تدفع للمقرضين على ما دفعوه في مقابلة الأجل سواء كانت مشروطة أو جرى بها العرف أو اعتاد المقرض دفعها كلما اقترض مالا من غيره ربا محرم.
وأدلة ذلك في كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كثيرة منها:
1- قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة:287- 289] .
2- وفي الحديث الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)) . (1) ((وكل قرض جر منفعة فهو ربا)) . (2)
وعلى ذلك يكون ضمانها على المقترض بالمثل ولا يتحمل المودع من الخسارة شيئا مهما كانت الأسباب المؤدية إلى التلف. أما البنوك الإسلامية فإن أخذت الودائع بصفة القرض فلا خلاف في الحكم من حيث وجوب رد المثل والضمان وينبغي على البنوك الإسلامية التي توفرت لديها سيولة نقدية، الإقبال على استثمار هذه الأموال بما يؤدي الدور في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والنفسية للمجتمعات الإسلامية، وذلك بالنهوض بالمجتمع لتحقيق التكافل الاجتماعي، وتوزيع العائدات بما يسهم في عدم تركيز الثروة في أيد قليلة من فئات المجتمع، إذ إن شعار البنك الإسلامي هو (التنمية لصالح المجتمع) .
__________
(1) مسلم، الجامع الصحيح مع شرح النووي 11/26، الشوكاني، نيل الأوطار 5/214.
(2) ابن حجر، تلخيص الحبير 3/395.(9/628)
وذلك باستثمار الأرصدة التي لديها من الودائع الجارية بعد الاتفاق مع أصحابها على استثمارها ودراسة جدواها وتولية الأمناء لمزاولة أعمالها ويكون الربح على حسب الشروط والخسارة حسب موقفه في المشاركة فإن كان عاملا فقط، فالخسارة على المودعين على قدر أموالهم ما لم يخالف البنك شروط المضاربة أو أصول الإدارة الصحيحة (1) وإن كان البنك شريكا في رأس المال، وعاملا اعتبرناه شريكا مضاربا فيحتمل من الخسارة بنسبة نصيبه في رأس المال.
ولصاحب المال تحديد نوع النشاط ومدته وبلده، فقد كان العباس بن عبد المطلب إذا دفع مالا مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحرا ولا ينزل به واديا ولا يشتري به ذات كبد رطبة فإن فعل فهو ضامن، فرفع شرطه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأجازه. (2)
ثانيا: حجز أموال العميل المودعة في حساب جار:
معنى الحجز: تجميد الرصيد وعدم قابليته للتصرف فيه، ويتم الحجز تحت يد البنك، ومقتضى ذلك أنه يحظر على العميل بعد توقيع الحجز سحب أي مبلغ من قيمة هذا الرصيد، ... ويشمل الحجز حسابات العميل داخل البنك الواحد، أما إذا كانت الحسابات في عدة فروع فلا أثر للحجز إلا على حسابات العميل داخل الفرع الذي تم الحجز لديه والذي عينه الحاجز في طلبه. (3)
حكم الحجز: الأصل أن للإنسان حرية التصرف في ماله، ولا تقيد هذه الحرية إلا حينما يؤدي تصرفه إلى الإضرار بغيره أو بنفسه، إما بالمتاجرة في المحرمات المضرة بالمجتمع أو كان التصرف يؤدي إلى ضياع حقوق المتصرف أو حقوق غيره.
ولما كان الحساب الجاري في القوانين الوضعية له صفة خاصة ومزايا معينة فآثاره تختلف عن العقود الأخرى، وقد كان الاتجاه السائد في أول الأمر أن الحساب الجاري غير قابل للتجزئة، حيث إن وحداته متداخلة لا يمكن فصل بعضها عن بعض فلا يمكن خلال عمليات الحساب الجاري تحديد موقف أي من طرفيه دائنا أو مدينا ولذلك لا يمكن توقيع الحجز عليه.
__________
(1) جهاد أبو عويمر، الترشيد الشرعي: 31؛ عمر متولي وشوقي شحاته، اقتصاديات النقود: 85.
(2) البيهقي، السنن الكبرى 6/111.
(3) سميحة القليوبي، الأسس القانونية: 514؛ جهاد أبو عومير، الترشيد الشرعي:163.(9/629)
ولكن هذا الاتجاه قد انتقد بأنه يؤدي إلى إلحاق الضرر بالدائنين ويمكن المدينين من الإضرار بهم فأخذ بإمكان الحجز عليه. (1)
حيث إن الأمر يختلف عما تصوروه فلا يحتاج إلى تفسير الحساب الجاري إلى ذوبان الفردية الذاتية للحقوق المتقابلة إلى أن نفترض أنه عقد خاص؛ لأن سحب العميل من حسابه لا يخرج عن أنه استيفاء لبعض حقوقه أو كلها حيث إن إيداعه لدى البنك أعطي حكم القرض غير المؤجل ولا المؤقت ويحق لصاحبه استرجاعه أو جزءا منه في أي وقت شاء. (2)
ومكونات الحساب الجاري من النقود وغيرها من الأشياء المتماثلة في طرفي الحساب وما كان متماثلا، فهو قابل للتجزئة.
وللحجز في الشريعة الإسلامية اصطلاح خاص لا يختلف في تركيب كلمته كثيرا عن الحجز القانوني إذ يسمى في الشريعة الحجر، أما في أحكامه فيختلف حيث إن الحجر الشرعي له أحكام وشروط إذا توفرت منع الإنسان من التصرف في جميع (3) ماله الموجود والمتجمد بعد الحجر بإرث أو هبة أو وصية إذا كان الحجر كليا (4) سواء كان الحجر لحظ نفسه أو لحظ غيره.
ولعل من أهم أحكام الحجر ما يتعلق بالمفلس فمتى لزمه ديون حالة لا يفي ماله بها فسأل غرماؤه الحاكم عليه لزمته إجابتهم، ويستحب أن يظهر الحجر عليه لتجتنب معاملته فإذا حجر عليه بذلك أربعة أحكام:
فتتعلق حقوق الغرماء بعين ماله، ولا يتصرف في عين ماله، فإن تصرف لم يصح تصرفه، ومن وجد من الغرماء عين ماله فهو أحق به، ويبيع الحاكم ماله ويقسمه بين الدائنين بنسبة ديونهم. (5)
__________
(1) سميحة القليوبي، الأسس القانونية: 343،515
(2) الصدر، البنك اللاربوي: 87؛ الحسني، الوديعة المصرفية:105.
(3) ومنه الحجر على من اشترى سلعة ولم يسلم الثمن وهو معين قريب فيحجر عليه في المبيع وجميع ماله حتى يسدد الثمن للبائع. البهوتي، كشاف القناع 3/46.
(4) احتراز عن الحجر الجزئي كالحجر على الراهن. من التصرف في المال المرهون والمريض من التصرف فيما زاد عن ثلث التركة محافظة على حقوق الورثة.
(5) ابن قدامة، المغني 4/453؛ والبهوتي، شرح منتهى الإرادات 2/273، كشاف القناع 3/432.(9/630)
أهم الفروق بين الحجز القانوني والحجر الشرعي:
1- الحجز في البنوك يكون طرف البنك المطلوب الحجز عنده ولا يشمل الفروع الأخرى، كما لا يشمل الأموال غير المودعة ولا الأموال المتجمدة، وأما الحجر في الشريعة فإنه يشمل جميع الأموال الموجودة والمتجددة بإرث أو وصية وما كان مودعا أو غير مودع.
2- الحجز لا يقع إلا على الرصيد في البنك المطلوب إيقاع الحجز عنده، أما غيره من البنوك فيحتاج إلى إجراء مستقل، ولذلك قد يحجز على غني، أما في الشريعة فإن الحجر إذا توفرت شروطه يقع على جميع المال ولا بد أن يسبق الحجر التأكيد بأن ماله لا يفي بديونه –أي مفلسا- أما الغني المماطل فيأمره الحاكم بالوفاء، فإن أبى حبسه فإن أبى عزره، فإن أصر على عدم القضاء باع من ماله وقضى دينه الحال ولا يحجر عليه. (1)
ثالثا: المقاصة في الحساب الجاري:
تعريف المقاصة: المقاصة لغة: مأخوذة من القص وهو القطع، يقال قصصت الشعر إذا قطعته. (2)
وفي الشرع: إسقاط مالك من دين على غريمك في نظير ماله عليك. (3)
حكم المقاصة: المقاصة في الحساب الجاري تكون نتيجة معرفة صفته وتكييفه، وقد مر معنا القول بأن الحساب الجاري تذوب فيه الناحية الذاتية للحقوق الفردية قد ضعف في وقت متأخر واعتمد تجزئته وأنه لم يعد يتمتع بمبدأ عدم التجزئة ولذلك قيل بجواز الحجز قانونا.
وأما في الشريعة الإسلامية فلا يبني الأمر على ذوبان الفردية الذاتية في الحساب الجاري من عدمه بل يعتبر الأمر مبنيا على أمرين:
__________
(1) البهوتي، شرح منتهى الإرادات 2/276.
(2) الجوهري، الصحاح 3/1052.
(3) الدردير، الشرح الكبير3/227.(9/631)
الأمر الأول: تكييف سحب العميل من حساب جار هل يعتبر قرضا أو استيفاء؟
فإن اعتبر قرضا من البنك، فالعميل فيه مقترض والبنك مقرض له مقابل إقراضه للبنك، فهنا دينان متقابلان تجرى بينهما المقاصة القهرية بمجرد حصولهما دون حاجة إلى عقد أو اتفاق مسبق ولا يبقى إلا ما يمثل الفارق بين الرصيد الدائن والرصيد المدين. (1)
وإن اعتبرنا سحب العميل استيفاء من الحساب الجاري فلا يكون الحساب الجاري متألفا من قائمتين من الديون المتقابلة بل من قائمتين إحداهما تمثل ديون العميل على البنك بقدر ما وضع في الحساب الجاري من أموال، والأخرى تمثل استيفاء العميل لدينه الذي يحدد بمقدار سحبه من رصيده، ولا مقاصة حينئذ (2) وهذا الرأي هو الأقرب لحقيقة ووقائع السحب، إذ لا مانع عند المصارف من سحب العميل أمواله كلها أو بعضها في نفس اليوم الذي تم الإيداع فيه، ولو كان إقراضا من البنك للعميل لخضع لإرادة البنك زمنًا وقدرا، وأيضا فإن الساحب إذا أصدر شيكا أو أمر بسحب أكثر من حسابه قد يقع عليه جزاء مالي أو جسدي، وهذا يدل على أن ما يأخذه يعتبر استيفاء إذ لو كان قرضا لما ترتب على رفضه جزاء فإن المقترض إذا كان يطلب قرضا لا جزاء عليه ولا عقوبة، وإنما يجاب فيقرض أو يرد طلبه.
أما إذا كان السحب على المكشوف فهو دين –قرض- للبنك على العميل ولا يتم إلا في حدود ضيقة غالبا، ويعتبر العميل مدينا بهذا القرض.
__________
(1) الصدر/ البنك اللاربوي: 87
(2) الصدر، البنك اللاربوي: 87-88(9/632)
الأمر الثاني: يترتب على تكييف سحب العميل من حساب جار بأنه قرض، وانشغال ذمة البنك بهذا الدين تقابل دينين والنبي (صلى الله عليه وسلم) قد ((نهى عن بيع الكالئ بالكالئ)) (1) وحكم بيع النسيئة بالنسيئة يعتبر محرما وإذا وقع كان فاسدا لا تترتب عليه آثاره.
والذي يظهر من تقصي صور بيع الدين بالدين وسبب منعها أن هذه الصورة ليست من الصور الممنوعة؛ لأن النهي عن بيع نسيئة بنسيئة، وواقع المقاصة إسقاط لما سبق وليست ببيع جديد.
جاء في نظرية العقد: والإجماع إنما هو في الدين الواجب بالدين الواجب كالسلف المؤجل من الطرفين، وهذه الصورة بيع ما هو ثابت في الذمة ليسقط بما هو ثابت في الذمة ليس في تحريمه نص ولا إجماع ولا قياس فإن كلا منهما اشترى ما في ذمته وهو مقبوض له بما في ذمة الآخر. (2)
وجاء في الفتاوى (النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع الكالئ بالكالئ، وهو المؤخر بالمؤخر ولم ينه عن بيع دين ثابت في الذمة يسقط إذا بيع بدين ثابت في الذمة يسقط فإن هذا الثاني يقتضي تفريغ كل واحدة من الذمتين ولهذا كان جائزا في أظهر قولي العلماء) . (3)
ولعل فيما سبق من بيان لجواز الحجز على الحساب الجاري وقبول المقاصة فيه جواب على جواز جعله رهنا أو ضمانا أو ثمنا لشراء أسهم أو بضائع، فإذا جاز سحبه والمقاصة به وقبل الحساب التجزئه جاز حينئذ جعله سدادا لجميع أعمال المودع.
والله أعلم.
__________
(1) الزيلعي، نصب الراية 4/39-40؛ وابن حجر، تلخيص الحبير3/29-30؛ الشوكاني، نيل الأوطار 5/176.
(2) ابن تيمية: 235؛ وانظر نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ: 24-25
(3) ابن تيمية 29/472.(9/633)
المطلب الثاني
ودائع التوفير
ومما له صلة بالحساب الجاري ودائع التوفير، وإليك تعريفها أولا ثم تكييفها.
تعريفها:
هي مبالغ نقدية يقتطعها الأفراد من دخولهم ويدفعونها إلى المصرف ليفتح لهم حسابا ادخاريا يحق لهم سحبه أو سحب جزء منه أي وقت. (1)
وهذا النوع يقصد المودع به حفظ ماله من الضياع وتعويد نفسه على التوفير والادخار، وقد يرغب في استثمارها وما يعود من أرباح وفوائد يعطيها المصرف لمثل هذه الودائع إذ إن المودعين غالبا هم ذوو الدخول البسيطة.
ويحق لصاحب التوفير الإضافة على رصيده في أي وقت كما يحق له السحب من هذا المال بنفسه أو بمن ينيبه عنه ولا يصدر لهذه الحسابات شيكات وإنما يعطى أصحاب هذه الودائع دفاتر تقيد فيها دفعات الإيداع والسحب. وحركة السحب من هذه الودائع بسيطة إلا في المواسم والأعياد. (2)
__________
(1) أحمد الحسني، الوديعة المصرفية: 88؛محمود بابللي، المصارف الإسلامية: 174-175.
(2) المصدران السابقان.(9/634)
تكييف ودائع التوفير:
يظهر من تعريفها السابق أنها تشابه الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) في إمكان السحب منها متى شاء المودع، وإن كانت بعض المصارف الإسلامية تحدد السحب بمرة واحدة في الشهر.
كما إنها تشبه الودائع لأجل فيما تعطيه المصارف الربوية من فوائد للمدخرين. (1)
واستثمار هذه الودائع لا يخرج عن صنفين:
أحدهما: في البنوك التجارية: حيث تدفع فوائد محددة بنسبة معينة متفق عليها على أساس أدنى رصيد له في حساب التوفير خلال شهر. (2) وهذا ربا قرض محرم شرعا.
والثاني: في البنوك الإسلامية حيث يختلف وضع هذه الودائع، ففي بعضها يحق لصاحب الوديعة أن يسحب وديعته متى شاء ويسحب العائد من الربح وتحسب الخسارة على أقل رصيد شهري في الحساب المودع. (3)
وفي بعضها الآخر ليس للمودع السحب إلا مرة واحدة في الشهر فإن سحب أكثر من مرة سقط نصيبه من الربح في ذلك الشهر، وللمودع أن يسحب وديعته في أي وقت يشاء، وتحتاط البنوك في الاحتفاظ بنسبة محددة لا تدخل في الاستثمار لمواجهة طلبات السحب ولا يدفع عنها ربح، وعلى ذلك تكون الودائع التي لم يفوض أصحاب المال المصرف في استثمارها قرضا حسنا. (4)
وأما الودائع التي فوض البنك في استثمارها سواء عين المشروع الاستثماري أو لم يعينه، فالمودعون هم أرباب المال، والبنك هو العامل إن لم يضف إلى مال المشاركة من حصص المساهمين فإن أضاف شيئا فهو شريك ومضارب في آن واحد إن تولى إدارة المشاريع بنفسه فإن دفعها إلى غيره اعتبر وكيلا للمضاربين، جاء في المغني: (وإن أذن رب المال في دفع المال مضاربة جاز ذلك نص عليه أحمد لا نعلم فيه خلافا ويكون العامل وكيلا لرب المال في ذلك ... وإن قال: اعمل فيه بما أراك الله جاز دفعه مضاربة نص عليه؛ لأنه قد يرى أن يدفعه إلى أبصر منه) . (5)
__________
(1) الحسني، الوديعة المصرفية: 119؛ حسن الأمين، الودائع المصرفية 10/210؛ البنك اللاربوي:64.
(2) الحسني، الوديعة المصرفية: 119؛ حسن الأمين، الودائع المصرفية 10/210؛ البنك اللاربوي:64.
(3) الحسني، الوديعة المصرفية:93؛ الصدر، البنك اللاربوي: 64،65؛ محمود بابللي، المصارف الإسلامية: 75.
(4) الحسني: الوديعة المصرفية: 119؛ عوف الكفراوي، النقود والمصارف: 720.
(5) ابن قدامة 5/50.(9/635)
المطلب الثالث
الوديعة الائتمانية (المشتقة)
دعت الحاجة إلى استخدام الودائع المشتقة في كثير من المقاولات والمعاملات التجارية وخصوصا الخارجية منها؛ إذ إن المصدر الأجنبي لا يريد أن يتخلى عن بضاعته لمشتر لا يعرفه دون أن يضمن الحصول على ثمن بضاعته، والمشتري لا يريد أن يدفع ثمن بضاعة لم يتحقق مطابقتها لمواصفاته التي اشترطها، ومن هنا جاء دور البنوك في التوسط بين الطرفين المتعاملين فأوجدت ما يسمى بالودائع الائتمانية. (1) ولا بد من تعريفها ثم تكييفها.
تعريفها:
(عقد بين بنك وعميل يضع فيه البنك مبلغا من المال تحت تصرف العميل خلال مدة معينة أو يتعهد بوضعه. ويكون من حق العميل السحب بشيكات كما أو أودع نقودا) . (2)
تكييف الوديعة الائتمانية:
الوديعة الائتمانية الناشئة من البنك لا تخرج عن حالتين:
الحالة الأولى: الإقراض بتسليم المبلغ نقدا للعميل أو قيده في حسابه فهذا قرض تجرى عليه أحكام القرض، إن كان بفائدة فهو ربا محرم شرعا وإن كان بدون فائدة فهو قرض حسن. (3)
__________
(1) محمد حامد التكينة: الخدمات المصرفية: 166.
(2) حسن الأمين، الودائع المصرفية: 256.
(3) انظر: حسن الأمين، الودائع المصرفية: 256؛ الحسني الوديعة المصرفية: 71.(9/636)
الحالة الثانية: إذا لم يتسلم المقترض المبلغ أو تسلم بعضه ولم يقيد الباقي في سجلات المصرف، فما تسلمه يعتبر قرضا وما لم يتسلمه يعتبرا وعدا بقرض (1) وأرى أن هذا ضمان للمصدر لسداد ما يلزم العميل عند وصول البضاعة موافقة للشروط. وقد تطلب بعض المصارف تغطية المبلغ أو جزءا منه فإن غطى المبلغ جميعه كان الثمن أمانة عند المصرف حتى يتسلم البضاعة ويتأكد من مطابقتها للشروط ثم يدفع لكل حقه، وإذا لم يغط العميل المبلغ المطلوب جميعه كان ما سلم جزءا من الثمن وما لم يسلم ضمان من البنك يقوم بتسديده للمصدر حين تسلم البضاعة مطابقة للشروط.
جاء في الروض المربع (وإن أبى كل منهما –أي البائع والمشتري- تسليم ما بيده من المبيع والثمن حتى يقبض العوض بأن قال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع نصب عدل ... يقبض منهما المبيع والثمن ويسلم المبيع للمشتري ثم الثمن للبائع؛ لجريان عادة الناس بذلك) . (2)
وما يأخذه المصرف من أجرة إذا كان مرة واحدة بقدر تكلفة العمل ولم يختلف حسب اختلاف المبلغ فهو جائز إذ إنه أجر على عمل لا يلزمه فيستحق الأجرة عليه، وأما ما يستحقه مقابل فحص البضاعة ومعرفة مطابقتها للشروط من عدمه فذلك وكالة بأجر.
والله أعلم.
__________
(1) الحسني، الوديعة المصرفية:112.
(2) البهوتي 2/177.(9/637)
المبحث الثاني
أثر الحسابات الجارية في تنشيط الحركة الاقتصادية
يلجأ أصحاب الأموال إلى وضع أموالهم لدى البنوك بقصد حفظها من السرقة أو الغصب أو الضياع، وقد يرغب بعضهم في وضع ماله لغرض معين كالاكتتاب في أسهم شركة معينة أو تنفيذ علاقة تجارية معينة والتي لا تنتهي بمجرد صفقة واحدة أو اثنتين؛ إذ العمليات التجارية متشابكة متداخلة لا تنتهي عند حد معين، والبنوك هي الوسيط غالبا في هذه العمليات. (1)
إذ أنها هي المؤسسات التي يكون من اختصاصها وأغراض تأسيسها قبول الأموال من مالكيها. (2) ، وتنفيذ أوامرهم المتعلقة بحساباتهم، وصرف وتحصيل وإصدار الشيكات، ومنح القروض، وخصم الأوراق التجارية وفتح الحسابات الجارية وقبول الودائع على جميع صورها، وهذه الودائع لها دورها فهي المصدر الأساسي للسيولة في النشاط المصرفي حيث إنها الجزء الأكبر من موارده الخارجية وخصوصا الوديعة الجارية حيث بلغت نسبتها من مجموع الودائع في المملكة العربية السعودية (60.7 %) . (3)
فالبنوك وإن كانت مخزنا للنقود إلا أن هذا أقل أدوارها أهمية، ذلك أن الأهم منه أن تدفع بهذه النقود إلى المنتجين في الصناعة والزراعة والمشتغلين بالتجارة بصفة عامة ثم تستردها منهم لتقديمها من جديد إلى منتجين آخرين، فالنقود تستخدم خارج البنوك في تنشيط الاقتصاد وبث الحياة في المشروعات، ولنا أن ننظر في أهم موارد المصارف حتى تتبين لنا النسبة التي تشكلها الودائع بالنسبة إلى غيرها.
1- رأس المال المدفوع لا يعتبر موردا مهما للبنك وإنما تكمن أهميته في كونه مصدرا لثقة المودعين ولتدعيم البنك في علاقته مع مراسليه بالخارج.
2- الاحتياطات وهي مبالغ نقدية تقتطعها البنوك من صافي الربح القابل للتوزيع وتنقسم إلى قانونية (4) واختيارية. (5)
3- الحسابات الجارية.
4- الودائع الادخارية (حساب التوفير) .
الودائع الاستثمارية بقسميها ما كان منها مع التفويض أو بدونه. (6)
__________
(1) سميحة القليوبي، الأسس القانونية: 330.
(2) يوجد نوع من الودائع تسمى الودائع العامة تحتفظ بها الحكومة عادة في حساباتها طرف البنك المركزي تسمى الودائع العامة وهي تظهر في جانب الخصوم من الميزانية العمومية للبنك المركزي. حسين عمر، موسوعة المصطلحات: 263.
(3) الحسني، الوديعة المصرفية: 75
(4) هي التي تفرض بنص القانون. جهاد أبو عويمر، الترشيد الشرعي: 319-320.
(5) هي التي تقرر بمقتضى النظام الأساسي للبنك والهدف من الاحتياطات دعم المركز المالي للبنك وتقويته في مواجهة التغيرات المختلفة في المستقبل. جهاد أبو عويمر، الترشيد الشرعي: 319-320.
(6) جهاد أبو عويمر، الترشيد الشرعي:319-320(9/638)
ومن المعلوم أن موارد البنوك من النقود بمعناها الضيق وهي النقود المصدرة عن طريق السلطات النقدية بالدولة لا تشكل نسبة ذات أهمية بالنسبة لغيرها من النقود المشتقة، فنقود الودائع هي التي تتوفر لديه بمعنى أن النظام المصرفي يستطيع أن يوجد كمية من النقود تفوق أضعاف كمية النقود التي وضعها المودعون لدى البنوك (1) ، ويرجع ذلك إلى أن نسبة السحب من الودائع محدودة بحيث إن ما تحتفظ به البنوك كاحتياطي نقدي لمقابلة السحب لا يتجاوز 30 % من الودائع، ويبقى (70 %) من الودائع وخصوصا الحسابات الجارية تستثمرها هذه البنوك (2) ولا شك أن هذه النقود الحقيقية أو المشتقة لها دور كبير في مجال النشاط المالي والاقتصادي والتجاري في البلاد، إذ تدفع هذه النقود إلى المنتجين في الصناعة والزراعة والتجارة ثم تستردها منهم لتقديمها من جديد إلى منتجين آخرين (3) ، وهذا يؤدي إلى تقليب المال في البنوك واتساع نطاق التعامل بالودائع المصرفية حيث تنتقل ملكيتها من شخص آخر عن طريق الشيكات، وبذلك تزداد وسائل الدفع في المجال التجاري والصناعي والزراعي والعمراني، مما يؤدي بدوره إلى القضاء على البطالة، أو المساهمة في تقليلها ولا سيما إذا كانت هذه الودائع تقدم مشاركة أو مضاربة أو في أعمال زراعية، وهذا اتجاه لا شك في مساهمته في المشاريع التنموية التي يعود نفعها على المجتمع عامة، ويقلل من دور البنوك الربوية التي تدفع ما لديها من ودائع بفوائد ربوية، حيث يكتفي المصرف بفوائد الودائع عن تشغيلها، الأمر الذي أدى إلى زيادة التضخم وانتشار البطالة وخروج الأموال واستغلالها في خارج بلدان الأموال –الودائع- مما يعتبر له أكبر الأثر في اقتصاديات الأمة حيث يجرد المسلمون من أدوات النشاط الاقتصادي ومن القوة القاهرة في المبادلات، فهذه الأموال التي تنعم بها المصارف الأجنبية هي التي تصنع بها الرفاهية في بلادها بينما يعاني العديد من البلدان الإسلامية من نقص الموارد والإمكانات المالية، وتبذل هذه البلدان جهودا مضنية للحصول على احتياجاتها التمويلية من المصارف الأجنبية، وما تفرضه عليها هذه الأخيرة ما هو في الواقع إلا جزء من أموال المسلمين المودعة أصلا لديها وتمن به عليهم بعد دفعه بشروط باهظة وباستغلال بين، ومن هذا يتبين أن مدخرات البلاد الإسلامية التي تودع في مصارف أجنبية تمنح فرصا ذهبية للبلاد الأجنبية لكي تفيد منها فوائد مضاعفة في تحقيق مزيد من التنمية لشعوبها. (4)
__________
(1) أبو بكر عمر متولي، شوقي إسماعيل، اقتصاديات النقود: 79.
(2) جهاد أبو عويمر، الترشيد الشرعي: 235.
(3) سميحة القليوبي، الأسس القانونية: 317.
(4) غريب الجمال، المصارف وبيوت التمويل: 62-63؛ محمد باقر الصدر، البنك اللاربوي: 99.(9/639)
وأيضا فإن الودائع المصرفية تمثل أموالا كانت عاطلة قبل إيداعها فأتيح لها عن طريق الإيداع دخول مجال الإنتاج والاستثمار على شكل قروض أو مشاركة أو مزارعة ومنح البنوك القدرة على الائتمان (1) بدرجة أكبر من تلك الودائع.
والائتمان البنكي يؤدي بدوره إلى الوديعة المصرفية وبالتالي تكثر وسائل الدفع التي تعوض النقود، وكلما كثرت وسائل الدفع اتسعت ونمت الحركة التجارية والصناعية والزراعية وقلت البطالة (2) كما أن من أهم فوائد الإيداع للعمل المصرفي وللمجتمع عامة ما تلجأ إليه المصارف بتوجيه من الحكومات حيث ترغب الدول في الحد من الإنفاق والبعد عن الإسراف، ولذلك يلجأ الأفراد إلى إيداع مدخراتهم في المصارف التي تعمل جاهدة لتجميع هذه المدخرات وتوجيهها الوجهة التي تحقق النفع العام للمجتمع إن استغلت استغلالا تنمويا صحيحا مبنيا على أسس ومبادئ مدروسة أو يؤدي إلى نتائج عكسية إن استغلت في القروض الربوية غير المنتجة.
__________
(1) قرض أو حساب على المكشوف يمنحه البنك لشخص ما. حسن عمر، موسوعة المصطلحات: 7.
(2) محمد باقر الصدر، البنك اللاربوي: 99؛ إبراهيم العمر، النقود الائتمانية: 43-46.(9/640)
الخاتمة
الحمد لله أولا وآخرا كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وبعد.
فقد انتهيت من بحث الحسابات الجارية وأثرها في تنشيط الحركة الاقتصادية وتوصلت إلى عدة نتائج هذه أهمها:
1- أفرز النظام المصرفي أمرا له خطورته وأهميته في آن واحد ذلك أن البنوك استطاعت إيجاد وخلق نقود لم تكن موجودة وذلك أن الودائع مكنت المصارف من نقود جعلتها تتاجر بها أو تقرضها فيما لا يعود بفائدة اجتماعية إن لم يعد بخسارة حينما تكتفي هذه المصارف بعوائد الودائع الربوية الداخلية التي تؤدي بدورها إلى زيادة نسبة التضخم أو الخارجية التي تؤدي إلى حرمان المجتمعات الإسلامية من ثرواتها وتتعطل المشاريع التنموية من زراعية وتجارية وصناعية لعدم وجود المال في أيدي المستثمرين، ولذلك يجب مراقبة المصارف مراقبة قوية وتوجيهها بما يعود خيره على الأمة.
2- تعتبر الحسابات الجارية أهم المصادر الأساسية للسيولة النقدية في النشاط المصرفي إذ تكون الجزء الأكبر من موارده حيث بلغت نسبتها من مجموع الودائع في المملكة أكثر من 60 %.
3- الحسابات الجارية لها دور في زيادة التضخم إذا لم تراقب وتوجه وجهة سليمة تساهم في المشاريع التنموية الزراعية والتجارية والصناعية.
4- أدى ظهور البنوك الإسلامية إلى الحد من التضخم وتقليل البطالة وذلك عند استثمار الودائع في مشاريع تنموية زراعية وتجارية وصناعية وإن لم يتحقق الدور المطلوب من هذه البنوك لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية مما أدى إلى إضعاف دورها والتقليل من أهميتها.(9/641)
5- تعتبر غالب الحسابات الجارية في واقع التعامل المصرفي المعاصر قروضا وعائداتها من الربا المحرم شرعا بنص الكتاب والسنة، ويمكن جعلها قروضا حسنة.
6- لا عبرة بالاتجاه القانوني في اعتبار الحساب الجاري غير القابل للتجزئة وذوبان الفردية فيه حيث إن مكوناته متماثلة والحجز يقع على المتماثل وغيره مما لا يقبل التجزئة إذا توفرت شروطه.
7- إمكان المقاصة وجعل الحساب الجاري أو جزءا منه رهنا في دين أو سدادا لقيمة مبيع أو تغطية لخطاب ضمان ما دام أنه يجوز للعميل السحب منه والإضافة إليه.
8- ليست المقاصة من صور بيع الدين بالدين الممنوعة.
9- السحب من الحساب الجاري استيفاء للحق أو بعضه وليس قرضا؛ لأن المصارف لا تسمح بسحب أكثر من المبلغ المودع.
10- يجب توسيع نشاطات البنوك الإسلامية وتوجيهها إلى مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والعلمية مكتفية بالقليل من الأرباح المادية مقابل الأرباح المعنوية الهامة.
والحمد لله على توفيقه وإعانته على إتمام هذا البحث والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. مسعود بن مسعد الثبيتي(9/642)
أهم مراجع البحث
- الأزهري، الزاهر، تحقيق محمد الألفي، الطبعة الأولى 1399هـ، دار الشئون الإسلامية، الكويت.
- الإمام أحمد، الطبعة الثانية 1398هـ، المكتب الإسلامي، بيروت.
- البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري، المطبعة السلفية 1390هـ.
- البعلي، المطلع على أبواب المقنع، الطبعة الأولى 1385هـ، المكتب الإسلامي.
- البهوتي، شرح منتهى الإرادات، دار الفكر.
- البهوتي، كشاف القناع.
- البيهقي، السنن الكبرى، الطبعة الأولى 1344هـ دائرة المعارف النظامية، الهند.
- بيت التمويل الكويتي، النظام الأساسي، الكويت1411هـ.
- بنك دبي الإسلامي، النظام الأساسي، 1395هـ.
- ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، مكتبة المعارف، المغرب.
- جهاد أبو عويمر، الترشيد الشرعي للبنوك، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1986م.
- الجوهري، الصحاح، تحقيق أحمد العطار، الطبعة الثانية 1402هـ.
- حسن الأمين، الودائع المصرفية، الطبعة الأولى 1403هـ، دار الشرق.
- حسين عمر، موسوعة المصطلحات الاقتصادية، الطبعة الثالثة، 1399هـ، دار الشروق.
- ابن حجر، تلخيص الحبير، تحقيق شعبان إسماعيل 1399هـ، مكتبة الكليات الأزهرية.
- الدردير، الشرح الكبير على هامش الدسوقي، المكتبة التجارية الكبرى.
- الزيلعي، نصب الراية، الطبعة الثانية 1393هـ، المكتبة الإسلامية.
- السالوس، حكم ودائع البنوك، الطبعة الأولى 1410هـ، دار الثقافة، الدوحة.
- سامي حسن حمود، تطوير الأعمال المصرفية، الطبعة الأولى 1396هـ، دار الاتحاد العربي للطباعة.
- سعدي أبو جيب، القاموس الفقهي، الطبعة الأولى 1402هـ، دار الفكر، دمشق.
-(9/643)
- سميحة القليوبي، الأسس القانونية لعمليات البنوك، دار النهضة العربية 1988م.
- الشوكاني، نيل الأوطار، مصطفى البابي الحلبي.
- الصدر/ البنك اللاربوي، دار التعارف للمطبوعات 1410هـ.
- عمر متولي، وشوقي إسماعيل، اقتصاديات النقود، الطبعة الأولى 1403هـ، دار التوفيق النموذجية.
- العمر، النقود الائتمانية، الطبعة الأولى 1414هـ، دار العاصمة الرياض.
- عوف الكفراوي، النقود والمصارف، دار الجامعات المصرية.
- غريب الجمال، المصارف وبيوت التمويل، الطبعة الأولى، دار الشروق.
- الفيومي، المصباح المنير، مصطفى البابي الحلبي.
- ابن قدامة، المغني، مكتبة الجمهورية العربية.
- ابن ماجه، السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، عيسى البابي الحلبي.
- ابن المبرد، الدر النقي، الطبعة الأولى 1411هـ، دار المجتمع.
- محمد التكينة، الخدمات المصرفية، رسالة دكتوراة، جامعة أم القرى.
- محمد عبد الهادي، الربا والقرض، دار النصر للطباعة، مصر.
- محمود بابللي، المصارف الإسلامية، الطبعة الأولى 1409هـ، المكتب الإسلامي.
- مسلم، الجامع الصحيح مع شرح النووي، دار الفكر، بيروت.
- المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف، الطبعة الأولى 1410هـ، عالم الكتب، القاهرة.
- نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جدة، 1986م.
- نزيه حماد، عقد القرض، الطبعة الأولى 1411هـ، دار القلم، دمشق.
- نزيه حماد، عقد الوديعة، الطبعة الأولى 1414هـ، دار القلم، دمشق.
- النووي، روضة الطالبين، المكتب الإسلامي.(9/644)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الودائع المصرفية
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع هذه الجلسة المباركة –إن شاء الله تعالى- هو: الودائع المصرفية (حسابات المصارف) والعارض هو الدكتور سامي حسن حمود، والمقرر هو الدكتور حسين كامل فهمي.(9/645)
الدكتور سامي حسن حمود:
الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على النبي الأمي، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وكان رحمة للعالمين، أما بعد:
فإنه ليسرني أن أقدم عرضا موجزا مع محاولة عدم الإخلال بالمقصود إن شاء الله من بحوث الموضوع الثالث وهو بعنوان (الودائع المصرفية-حسابات المصارف) .
وقد قدمت بهذا الموضوع سبعة بحوث وسأتبع في العرض نفس الترتيب الوارد في جدول الأعمال بالنسبة لأسماء الباحثين، حيث كلهم أخ كريم أفدت من عملهم ورددت بعض الجميل بالتنبيه إلى ما أورده البعض الآخر ممن قد أختلف معه في الرأي دون أن ينقص الكلام مقام الود والاحترام.
وكانت أمانة مجمع الفقه الإسلامي قد حددت بحرص تشكر عليه أهم عناصر الموضوع الخاص بالودائع المصرفية دون إلزام بالاتباع الحرفية.
وسوف أعرض لأهم نقاط البحث على أساس التصنيف الموضوعي لهذه العناصر مع محاولة التركيز على ما هو مطلوب للتطبيق العملي المعاصر وذلك لتسهيل إعطاء الرأي الفقهي من أهل الفقه وهم على بينة من الموضوع المقصود بالبحث.
أولا – مفهوم الوديعة المصرفية وتسميتها وتكييفها.
ثانيا – النتائج المترتبة على تكييف الودائع المصرفية على أنها قرض.
ثالثا – أنواع الودائع المصرفية وموقعها في الميزانية العمومية للبنك.
رابعا – ضمان الحسابات الجارية ومن يتحمله؟ المساهمون والمودعون أم المساهمون وحدهم.
خامسا – رهن الوديعة المصرفية وإجراءات الحجز والمقاصة.
سادسا – استثمار الودائع المصرفية والتصرف بالسحب والإيداع.(9/646)
أولا – مفهوم الوديعة وتسميتها وتكييفها:
تلاقت آراء الباحثين في الجملة على أن مفهوم الوديعة المصرفية إنما هو مفهوم مغاير لعقد الإيداع بالنظر الفقهي. فالوديعة المصرفية بصورتها الحسابية ليست توكيلا للمصرف على حفظ المال.
وهذا هو الفرق بين الوديعة بالمفهوم الفقهي والتطبيق المصرفي. فالوديعة في الأصل هي: - حسب تعريف مجلة الأحكام العدلية- المال الذي يوضع عند إنسان لأجل الحفظ (مادة762) .
أما الوديعة المصرفية فهي المال الذي يتسلمه المصرف لحساب المودع، ليس على أساس حفظه له بذاته، وإنما على أساس تسجيل قيد يصبح فيه دائنا للمصرف وله حق السحب والاسترداد في الحساب الجاري وقتما شاء أو يجب الشرط المتفق عليه بالنسبة لأنواع الحسابات الأخرى.
لذلك فقد عمد باحثان هما: د. سامي حسن، ود. حمد الكبيسي إلى توضيح التسمية لتكون الوديعة الحسابية حيث إن الإنسان هو القيد الحسابي الذي يثبت انشغال ذمة المصرف المودع لديه حسبما يظهر في كشف الحساب.
وبهذا المفهوم أخذ قانون البنك الإسلامي الأردني رقم 13 لسنة 1978 والمعدل لاحقا برقم 62 لسنة 1985 حيث نصت المادة رقم 11 حسب القانون المعدل على أن (يقبل البنك الودائع النقدية المسجلة في الحسابات المختلفة سواء بصورة حسابات الائتمان ومن هذه التسمية "حسابات الائتمان" كبديل عن مصطلح الحساب الجاري وكذلك حسابات الاستثمار كنقيض لحسابات الودائع الثابتة ذات الفائدة وما يشبهها هي التسمية الجديرة بالشيوع) . وللعلم فإن قانون البنك الإسلامي الأردني خضع بكل مواده لتدقيق شديد من لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الأردنية قبل مسودته إلى رئاسة الوزراء.
أما التكييف الفقهي فإن ما يدعو للاعتزاز بفقه السابقين الذين تظهر في آرائهم أمارات النور الإيماني يتمثل في قولهم المباشر عن الوديعة النقدية المأذون باستعمالها أنها تكون قرضا حقيقة. هذا ما قاله الأئمة السابقون –رحمهم الله جميعا- ومن أبرزهم الإمام السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء وشارحه الإمام الكاساني والسرخسي في المبسوط وصاحب كشاف القناع وكتاب المغني لابن قدامة.(9/647)
وبينما تاه أصحاب القانون المدني في تكييف الوديعة المصرفية قرونا قبل أن يصلوا إلى حقيقة كونها قرضا كما هو معروف الآن، فقد كان فقهاء الإسلام قادرين من بداية الطريق على وضع الأمور في نصابها حتى قبل أن تأتي حفظ الحاجة، حيث لم يعرفوا الشكل التطبيقي للوديعة المصرفية في أرباحهم.
ولكنهم عرفوا أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. هذا هو التكييف الفقهي الذي تعتمده البنوك الإسلامية للوديعة في الحسابات الجارية.
وبينما يسلم الباحثون بهذا المفهوم المتفق عليه بالنسبة للتكييف الفقهي في الوديعة المأذون بالتصرف فيها، فإن الباحث الدكتور حسين كامل فهمي يرى من بحثه المقدم لهذه الدورة (ضرورة إعادة النظر في التكييف الفقهي المعمول به حاليا للحسابات الجارية في البنوك الإسلامية لتعود الوديعة إلى المفهوم الفقهي للوديعة، حيث يصطلح لذلك بقوله (الوديعة بمفهومها الشرعي) . وهو يعتبر أن الوديعة المصرفية بهذا المفهوم تصبح وديعة لدى كل من البنك الإسلامي والبنك المركزي في نفس الوقت مع الإذن للبنك المركزي فقط باستخدامها.
ورأي الباحث –مع الاحترام لحق الزمالة في العمل والمجالسة مع أهل العلم- فيه تناقض بين. فإذا كان يريد الوديعة بمفهومها الفقهي على أنها توكيل بالحفظ فليس محلها القيد بالحساب الجاري وإنما يجب حفظ الأوراق النقدية المودعة بذاتها كما كان بفعل أجدادنا وجداتنا بعقد الصرة على دراهم الأمانة لتعاد بذاتها؛ لأن هذا مفهوم الإيداع بمعنى الحفظ الأمين.
كما أن البحث نفسه يمنع البنك الإسلامي من استخدام الوديعة ويلزمه بالاحتفاظ باحتياطي 100 % من أرصدة الحسابات الجارية بينما يسمح للبنك المركزي فقط باستخدام هذه الأموال. وإن مجرد السماح بالاستخدام يفقد الوديعة الوصف الفقهي كتوكيل بحفظ المال وينقلها إلى عقد جديد هو عقد القرض فيكون الباحث بذلك قد رجع إلى نفس الباب الذي أراد أن يخرج منه.
فأرجو أن يراجع هذه المسألة في بحثه على ضوء ما ذكره وجزاه الله خيرا بما حاول في الاجتهاد.(9/648)
ثانيا- النتائج المترتبة على تكييف الوديعة المصرفية على أنها قرض:
تطرق الباحث الدكتور محمد علي القري إلى نقاط لم يتطرق لها غيره مثل ما فصل به من ناحية النتائج المترتبة على هذا التكييف بينها في ثلاث نقاط هي:
1-إذا كان القرض في الإسلام هو لغرض الإرفاق فهل يكون البنك فقيرا حتى يجوز عليه القرض الحسن في حالة البنك الإسلامي.
2-إذا كان الحساب الجاري قرضا فهل يعتبر الحساب الجاري في البنك الربوي أنه معونة له على الإثم.
3-هل انتفاع صاحب الحساب الجاري بخدمات البنك المقدمة إليه بصفته يتعامل مع البنك الذي أقرضه –هل يعتبر ذلك أنه من باب قرض جر نفعا؟
وكان الجواب الذي تضمنه البحث لهذه النقاط هو:
1- بان القرض الحسن يجوز للفقير كما يجوز للغني.
2- أما المعونة على الإثم في حال التعامل مع البنك الربوي فقد نقل رأي البعض بمخالفة ذلك لأصل من أصول الشريعة ولا سيما إذا وجدت البنوك الإسلامية.
3- وأما النقطة الثالثة فقد انتهي إلى أن الانتفاع هنا متبادل وليس محصورا بطرف المدين وحده وقارن بوجهة نظر لطيفة بين المنافع المتبادلة في الحساب الجاري وكذلك الحال في السفتجة.
وأضيف هنا أن النفع المقصود بالتحريم في القول المتبادل –كل قرض جر نفعا فهو ربا - إنما يراد به النفع المادي المشروط على المدين بما يؤديه للدائن، أما تزويد البنك عميله بكشف الحساب وصرفه الشيكات له وتخويله حق الاستفادة من خدمات الصراف الآلي مثلا فإن هذه ليست نقودا مدفوعة زيادة عن الدين وإنما هي خدمات.(9/649)
ولعل من المناسب التنويه هنا إلى أن أحد الباحثين قد نقل القول المتداول (كل قرض جر نفعا فهو ربا) على أنه حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
فقد ذكر الإمام العسقلاني في كتاب بلوغ المرام من أدلة الأحكام في علم الحديث أن إسناد هذا الحديث ساقط.
كما أورده البيهقي بلفظ آخر هو: كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا.
وقال عنه: إنه موقوف. ونقل الصنعاني أقوالا من هذا المعنى عن بعض التابعين منهم ابن سيرين في قوله: كل قرض جر منفعة فهو مكروه. وتكلم الإمام الزيلعي في هذا الحديث من حيث رواته، فقال: إن عبد الحق قد ذكر هذا الحديث في أحكامه في البيوع وأعله بسوار بن مصعب وقال: إنه متروك.
أقول هذا للتحذير من استمرار تداول هذا القول والإشارة له بأنه حديث وهو ليس كذلك.
ثالثا: أنواع الودائع المصرفية وموقعها في الميزانية العمومية للبنك.
تتفق الأبحاث المقدمة في الأكثرية على تقسيم الودائع المصرفية إلى حسابات جارية وحسابات استثمارية بحسب نظر البنوك الإسلامية بطبيعة الحال. وقد تطرق عدد من الباحثين لذكر أنواع الودائع المصرفية لدى البنوك الربوية لغايات المقارنة ليس إلا. قسم الباحث الدكتور سامي حمود الودائع المصرفية الحسابية كما يسميها إلى ثلاثة أنواع، هي:
1- الودائع الحسابية الائتمانية وهي الحساب الجاري بصورة قروض.
2- الوديعة الحسابية الاستثمارية وهي وديعة الحساب الاستثماري سواء كان بصورة حساب توفير أم لأجل أم بإخطار.
3- الوديعة الحسابية بالأمانة، وهي صورة ليست معروفة في التعامل ولكنها لازمة في الواقع التطبيقي بالمنظور الإسلامي.
وأحببت تقديمها للمناقشة في هذه الندوة الكريمة، فقد يكون هناك مال نقدي مملوك لمن لا يملك أهلية التصرف فيه بسبب صغر السن أو قبل بلوغ الحلم أو الجنون مثلا.(9/650)
فالإيداع لدى المصرف لمثل هذا المال يكون من الولي أو الوصي، وقد لا يكون مأذونا لهما بالتصرف بالإقراض، وحيث إن الحساب الجاري هو قرض حقيقة وإن سمي وديعة مصرفية ظاهرا، فإن الحل المتفق مع الضوابط الفقهية يكون بفتح باب الإيداع الأمين حيث تقدر الضرورة بقدرها، فيكون المصرف غير مجبر على حفظ الأوراق النقدية المسلمة إليه وإنما يرد مثلها ولكن لا يكون مفوضا باستعمالها. مقتضى ذلك من الناحية المصرفية التنظيمية أن البنك يفرد له حسابا لهذا النوع من الحسابات بندا خاصا في الإسناد العام، ويكون تحت بند –اسم متميز- حسابات الحفظ الأمين، وفي هذه الحالة يلزم بأن يحتفظ بالاحتياطي النقدي بنسبة 100 % من هذه الوديعة، ويكون واجب مفتشي البنك المركزي عند النظر في مراجعة الميزانية هو التدقيق من صحة التزام البنك بالاحتفاظ بنسبة الاحتياطي النقدي الكامل لهذا النوع من الودائع.
أما الباحث الدكتور حمد عبيد الكبيسي فقد قسم الودائع المصرفية إلى ثلاثة أقسام هي:
1- ودائع تحت الطلب (حسابات جارية) وتكييفها أنها قرض.
2- حسابات التوفير (الودائع الادخارية) حيث أورد تبدو أنها مطبقة لدى بنك إسلامي يعرفه، وهي اعتبار هذه الحسابات بالتوفير فترة برزخية يمكن للمودع أن يتحول بعدها إلى الحساب الاستثماري مع حقه في سحب ما يشاء في وقت ما يشاء. وليس هناك ملاحظات على هذا الترتيب ولكن اقتضى الأمر التنويه إلى أن ذلك الأمر ليس عاما لدى البنوك الإسلامية كما قد يفهم من العبارة الواردة في بحثه.
3- الحسابات الاستثمارية أو الودائع لأجل، وهي ذات المدة الثابتة.
وتكييفه لهذا النوع من الحسابات –عند الباحث الكريم- أنها عقد شركة بين المودع والمصرف. وهو يقصد شركة المضاربة حيث إن المصرف هو عامل مضاربة كما يقول.(9/651)
كما قسم فضيلة الباحث حجة الإسلام محمد علي التسخيري الودائع المصرفية إلى ثلاثة أقسام –أيضا- مع بعض التخصيص في النظر، فهو يتفق مع النوعين الأول والثاني فيما يسميه بالوديعة أو المتحركة، والودائع الاستثمارية.
أما النوع الثالث فهي وديعة التوفير والتي يرى أنها جامعة بين خصائص الوديعة الجارية لإمكان السحب بين وقت وآخر، وبين الوديعة الاستثمارية. وهذا التمازج في الوديعة بين الحفظ والاستثمار بنسب متفاوتة له وجه معروف في الفقه الإسلامي، حيث ذكر الإمام الكاساني في (بدائع الصنائع) أنه لو قال رجل لآخر: خذ هذه الألف، نصفها وديعة ونصفها مضاربة فإن ذلك يجوز؛ لأن كلا من الوديعة والمضاربة من عقود الأمانة فلا يتنافيان.
ومعلوم أن ما يجوز بالنصف والنصف يجوز بالثلث والثلثين والربع والعشر، وهكذا.
ويتفرد الباحث الدكتور حسين فهمي بين الباحثين بإدخال مفهوم الحسابات الاستثمارية المخصصة ليس إضافة للحسابات الاستثمارية المشتركة وإنما بديلا عنها باعتبار أن ذلك أقرب –في نظره- للفقه الإسلامي، وبذلك تكون كل عملية مضاربة مستقلة عن غيرها ومن دخل فيها يظل حسب شروطها ملزما على أساس عدم السماح بخلط أموال جديدة بالأموال القديمة في وعاء المضاربة بعد بدء النشاط سواء في ذلك بإذن رب المال أو بدون إذنه، وكذلك عدم السماح بالتخارج للعملاء وسحب أرصدة أموالهم المودعة قبل بدء النشاط ونض المال نضا فعليا. وواضح من تصور الباحث بهذا التفصيل أنه يصادر أساسا فكرة المضاربة المشتركة، وهذا هو رأيه نحترمه بالاستماع ولا نوافقه بالاتباع.
أما الباحث الدكتور محمد علي القري فقد أوضح أولا التقسيم المصرفي للودائع في البنوك العادية حيث يتناول الحسابات الجارية تحت الطلب، ونوع من خلالها تنويعا استعماليا للأفراد وللبنوك وحسابات فردية وأخرى مشتركة، كما تناول الحساب الجاري (مدين) وهو ليس من حسابات الودائع ولكن أورده الباحث؛ لأن هذا الحساب قد يصبح رصيده مدينا بعد أن كان دائنا. وعندما انتقل إلى تقسيمات البنوك ذكر الحسابات الجارية والحسابات الاستثمارية وأضاف الودائع التبادلية بين البنوك لحاجة اقتضتها المصلحة حيث تفيض لدى البنوك الإسلامية أحيانا ودائع، فيودعها لدى بنك آخر بالاتفاق على أن يودع لديه في المستقبل ما يعادلها قيمة أو زمنا.(9/652)
وقد أتى الباحث القاضي محمد تقي العثماني بتقسيم مختلف للودائع حيث اعتبرها أربعة أنواع بدلا من ثلاثة، وهي الحساب الجاري، الودائع الثابتة وودائع التوفير، والودائع التي سماها الخزانات المقفولة، وهي كما عرفها فضيلته: الودائع التي تودع في مخازن معينة ليستأجرها المودع من البنك ويودع فيها أمواله بنفسه. والمقصود بذلك هي صناديق الأمانات بالحفظ الأمين.
ونرى أن هذا النوع لا يدخل البحث؛ لأنه ليس حسابات المصارف وإنما هو من الخدمات وليس له بند ظاهر في أية ميزانية وهو صندوق الأمانات.
أما الباحث الدكتور سعود الثبيتي –ثبتنا الله وإياكم على طريق طاعته- فقد أورد تقسيما ثلاثيا، يبدأ بالحسابات الجارية ثم التوفير ثم الوديعة الائتمانية المشتقة (هكذا سماها) ، وهو تعبير جميل للدلالة على الأموال الائتمانية التي توجدها البنوك ولكن لا يقال عن تلك التسهيلات أنها ودائع بالمفهوم المقصود كأموال يودعها الناس لدى البنوك.
أما الودائع الاستثمارية فقد قسمها إلى ثلاث شهادات الاستثمار والودائع لأجل وتحت إخطار ثم تناول ودائع الخزائن الحديدية والودائع المستندية والمخصصة، وهي كلها خارجة عن الودائع المصرفية بمعنى حسابات المصارف.
وخلاصة القول: أن الودائع المصرفية هي: إما ودائع ائتمان ويندرج تحتها الحساب الجاري بالشيكات، وحساب الودائع تحت الطلب للعملاء الذين لا يستعملون الشيكات كصغار المزارعين والأميين الذين يحتفظون في الدفتر بودائع تحت الطلب، وهذه قروض حقيقية وضمانها على مستخدمها وهو المصرف.
وإما ودائع استثمار مشترك قد تكون بصورة حسابات توفير أو لأجل أو إخطار، حسب المسميات وترتيبات السحب والإيداع. وهناك حسابات الأمانات وحسابات الاستثمار المخصص في حالات معينة. وهذه هي الحسابات التي تدخل في التزامات البنوك وتظهر في ميزانياتها المنشورة في الصحف المحلية.
فأين هو موقعها في تلك الميزانيات المعلنة؟ وهل تندرج في موجودات البنك أو مطلوباته؟(9/653)
عرض عدد من الباحثين هذه المسألة، وطالما أن التكييف الفقهي للودائع الجارية أنها قروض فإن الواقع المحاسبي يقتضي إظهارها في جانب المطلوبات شأنها شأن سائر القروض. أما الودائع الاستثمارية فهناك من يرى أن الالتزام يدل عليه عنوان المصرح، وطالما أن الميزانية تبين أن هذه الحسابات هي أموال مسلمة للبنك لغايات الاستثمار من قبله كمضارب، هذا يكفي للإيضاح، وهذا هو ما سار عليه البنك الإسلامي الأردني منذ بدء تأسيسه تبعا للتصور الذي قدم عند وضع قانون البنك المذكور حيث اقتصر التغيير في شكل الميزانية المعلنة على ما يتعارض مع الشرع من أسماء للحسابات الربوية ومدلولاتها وحلت محلها التسميات المحاسبية الإسلامية.
ويرى الباحث الدكتور حمد الكبيسي أن المال يدرج في المطلوبات قبل مباشرة المصرف في استثماره. أما بعد مباشرة العمل فإنه يكون حصة في المشاركة فينتقل بهذا إلى موجودات المصرف. وهذا التصور –مع احترامي للباحث الكريم- تصور غريب على علم المحاسبة الحديث فالمحاسبة قيد مزدوج ولا يعني استعمال مال الوديعة الاستثمارية في المضاربة أنها تنقل من مكان إلى مكان، فتبقى الوديعة في جانب المطلوبات ولا يتغير مكانها بالنقل، وإنما يقف في مقابلها الاستعمال الذي خصصت له أو وجهت إليه. وهناك من البنوك الإسلامية من يعتبر أن الودائع الاستثمارية ليست التزاما على البنك من الأساس، وإنما هي أموال تحت يده بالأمانة، وأنها يجب ألا تظهر في المطلوبات وإنما في بند يسمى حسابيا تحت الخط أو على هامش الميزانية.
والمسألة في الوقت الحاضر هي محل بحث في هيئة المعايير المحاسبية وبين هذا الجمع الكريم أصحاب الفضيلة من هم أعضاء في تلك الهيئة.
وما أراه –بحسب فهمي المتواضع للأحكام الفقهية- أن مقاصد الشرع مبنية على الإفصاح والإيضاح وأنه طالما توجد في الأعراف المحاسبية ما يسمى بالإيضاحات المرفقة بالميزانية المعلنة فإن الأولى هو إدراج الالتزامات جميعا في بند المطلوبات لتسهيل المراقبة والمقارنة ولا يرد على هذا التصور اختلاف الطبيعة بين يد الضمان في القرض الحسن ويد الأمانة في الاستثمار بالمضاربة المشتركة طالما أن اسم الحساب المعلن يفسر نفسه.(9/654)
رابعا: ضمان الحسابات الجارية ومن يتحمله، المساهمون والمودعون أم المساهمون وحدهم؟
طالما أن الحسابات المصرفية هي قروض فإن القرض مضمون على اليد التي أخذته، فالبنك هو الذي يتحمل الضمان فله غنمها وعليه غرمها. وهذا هو ما أورده صراحة كل من الباحث الدكتور الكبيسي وحجة الإسلام التسخيري، والقاضي العثماني وهذا هو ما يفهم ضمنا من اتجاهات بقية الباحثين.
خامسا: رهن الوديعة المصرفية وإجراءات الحجز والمقاصة.
الأصل في الرهن هو أن تتحقق به للراهن اليد أو المكنة التي يستطيع من خلالها منع التصرف بالمرهون حتى يستوفي حقه منه.
وقد تكون المكنة إما بالقبض الحيازي أو بوضع إشارة الرهن على السجل المثبت للحق كما هو الحال في إجراءات الرهن العقاري في البلاد التي لديها سجل عقاري.
ومقتضى تطبيق ذلك هو التفرقة بين الحسابات الجارية والحسابات الاستثمارية.
فالحسابات الجارية يكون رهن الرصيد بنقل المقدار المطلوب وإخراجه فعلا من الحساب بالقبض التام، أما الحساب الاستثماري فقد يكتفي بوضع إشارة إثبات الرهن أو الحجز على صفحة الحساب. وسبب التفريق الذي أراه في هذه المسألة هو أن الحسابات الجارية لها تعلق محتمل بحق الغير ممن يحصلون على شيكات من صاحب الحساب، أما الحسابات الاستثمارية فإن العلاقة تكون محصورة بين البنك والعميل، ولا يتعلق بها حق الطرف الثالث حتى لا يجوز عرفا سحب الشيكات على الحسابات الاستثمارية، وما ينطبق على الرهن يمكن القول به على الحجز والاستيفاء والمقاصة وذلك بحسب الاتفاق عندما تتحقق الشروط القانونية المجيزة لذلك.(9/655)
أورد الباحث الدكتور الكبيسي قول المالكية حول جواز كون المرهون دينا، وقول الجمهور بكون المرهون مالا متقوما. وكلاهما لا يناقض الواقع المصرفي حيث إن الديون في الحسابات المصرفية الجارية والاستثمارية هي ديون نقدية حالا أو مآلا، وهي حقوق مميزة لكل صاحب حساب صفحة خاصة به أو رقم في الكمبيوتر. والرهن ممكن عمليا في كل الأحوال.
أما الباحث حجة الإسلام التسخيري فإنه يقرر أن الظاهر عدم الجواز، حيث يقول: إن الرهن يشترط فيه أن يكون عينا كما يشترط فيه القبض من المرتهن. ولكن مع هذا التصريح فقد نقل في بحثه ما ذكره المرحوم الشهيد الثاني بأن لا مانع من صحة الرهن على القول بعدم اشتراط القبض. وما ذكره كذلك العلامة في (التذكرة) على هذا التفصيل. ثم عاد وانتهى الباحث الكريم بنتيجة إيجابية مشروطة بقوله: وهناك مجال لتصور الرهن إذا لم تشترط العينية والقبض. وأن الحال أظهر بالنسبة للبنك إذا كان هو المرتهن.
سادسا: استثمار الودائع المصرفية والتصرف والإيداع.
اتفق الباحثون على مبدأ استثمار الودائع المصرفية على أساس الخلط بطريق الاستثمار المشترك, عدا ما يراه
الباحث الدكتور حسين فهمي من ناحية عدم جواز ذلك في نظره. وإن الاستثمار يكون بالصناديق المخصصة حيث يتجمع المستثمرون ليدخلوا معا في عملية استثمارية تبدأ بهم ولا يخرجون منها إلا بالتصفية الكاملة. وهذا الرأي مع احترامه يعني إلغاء فكرة الحساب الاستثماري من الأساس، وليس هذا هو المقصود وإنما المطلوب هو التحقق من خضوع التعامل لمقتضيات الشرع, والناس أحرار بعد هذا الالتزام الشرعي باختيار ما يشاؤون من الحسابات الاستثمارية مخصصة أو مشتركة. وقد بين الباحث القاضي العثماني أن الاستثمار المشترك هو نوع جديد مستقل من أنواع الشركات وهو الشركة الجماعية المستمرة كما سماها, وأنه لا يجب لجواز هذا النوع الجديد من الشركات توافر جميع عناصر شركة العنان أو المفاوضة.
والذي أراه أن وصف المضاربة المشتركة هو أقرب إلى القول بتسمية نوع جديد من الشركات, فكما أن المضاربة كانت في القديم مضاربة فردية بين شخص أو مجموعة أشخاص يتفقون معا مع عامل آخر أو مجموعة عاملين بعقد واحد يبدأ مرة واحدة ويصفى ويتحاسب فيه على الربح كذلك, فإنه يمكن أن يستوعب الفقه الإسلامي تطور هذا العقد وامتداده ليكون عقد مضاربة مشتركة مقصودة واستثمار المال فيها هدف للجميع ولكن في نطاق زخم كبير من الاستثمارات, أعجبتني تسمية الشيخ التسخيري لها بـ (الحوض الاستثماري الكبير) . هكذا تطورت الإجارة من عمل الأجير الفرد إلى عمل الأجير المشترك, وهكذا تطورت خدمات النقليات من المقاولة مع الجمال لينقل المتاع والأهل من بلد إلى بلد لتحل محله الحافلات والقطارات والطائرات في عقود النقل المشترك. ورغم أنه يوجد من يستطيع الآن استئجار طائرة خاصة لنفسه ولحسابه إلا أن ذلك لا يمنع وجود الطائرة الموحدة المسار لتكون تحت تصرف المسافرين معا في مساء واحد إلى بلد أو مقصد واحد حتى مع الترانزيت, وتثور بالنسبة للمضاربة المشتركة كتصور جديد وتكييف جديد مسائل متعددة أهمها الإضافة والسحب. ففي مجال المضاربة الفردية ذكر أنه يجوز السحب وكأنه ابتدئ من الأساس بالمقدار الأقل, لكن لا تجوز الإضافة؛ لأن المضاربة متى بدأت ثبت فيها حق, فإذا أضيف مال جديد فلا تضم المضاربة الجديدة للمضاربة القديمة وهذا فهم سديد وحرص على مراعاة الحقوق بين رب المال والمضارب. لكن في المضاربة المشتركة هي تقوم أساسا على فكرة تدفق الأموال وتسربها, وتبقى هذه البركة أو الحوض الكبير قائمة, فلا بد من قبول فكرة الدخول والانسحاب؛ لأن المقصود ليس استثمار ذات المال وإنما تخصيص جزء من هذا المال الذي يدخل تحت قواعد السيولة العامة للبنك في أن يكون في مجال الاستثمار.(9/656)
وهذه نقطة يتفق عليها الباحثون, لكن نقطة الخلاف التي تثور وتستجلب الرأي والمناقشة هي نقطة دور المضارب المشترك في الضمان , هل هو ضامن؟ هل يستطيع أن يحل محل المستثمر المشترك عندما يريد نقوده قبل أن تتحقق الميزانية؟ وهل هناك إمكانية للنض الحقيقي في عمليات المضاربة المشتركة؟
إن من يدخل في تفاصيل العمليات في البنك يعلم أنه في كل لحظة من لحظات النهار تتم عملية إيداع أو عمليات سحب ضمن ساعات العمل المعتبرة وحتى في غياب ساعات العمل هناك شعار يقال هناك في البنوك: نحن نخدمكم ونحن نائمون, بمعنى أن الصراف الآلي هو جاهز للعمل على مدار الساعة فهو يعطيك نقودك ويتسلم منك الودائع أيضا في حافظة خاصة بذلك.
لكن في واقع الأمر أن هذه العمليات الاستثمارية دوارة, ولو قلنا بالتنضيض الكامل فمعنى ذلك أن نوقف عمل البنك في كل يوم عدة مرات, وهذا ليس هو المقصود, والتنضيض بمفهومه ليس هو التنضيض بمعنى التصفية, وإنما التنضيض بمعنى تحقيق ما يتم تصفيته من معاملات, فإذا كنا في خلال السنة المالية الواحدة كوحدة متكاملة نصفي عمليات المضاربة, فما يتحقق من ربح نتيجة تصفية المضاربة، وما يتحقق من ربح في عمليات المشاركة , وما يتحقق من أرباح في عمليات المرابحة يدخل في حساب واحد وهو حساب إيرادات الاستثمار, ثم توزع من هذه الإيرادات على المودعين بقدر ما يستحقون بحسب نوع الحساب وبحسب المدة والمبلغ الذي قدموه للاستثمار.
هذا الشخص الذي دخل في المضاربة يريد أن يسحب قبل أن تأتي نهاية السنة المالية, فهو لا يعرف النتيجة, أربح أم خسارة؟ قيل بنظرية الضمان – ضمان المضارب المشترك كما خرج الفقه الإسلامي بعد ترددٍ ضمان الأجير المشترك – وقيل بواقع أن البنك يحل بأمواله محل المودع المنسحب, وهو حق يملكه, وقيل بأن المودعين فيما بينهم يتخارجون, فكأن المودع الذي أتى في هذا اليوم هو يحل محل المودع الذي انسحب, ومن ينظر في حقيقة المعاملات المصرفية- يعني يقف في الصندوق- يجد أن الناس يتدفقون على البنك, هؤلاء المجموعة يودعون وهؤلاء المجموعة يسحبون, البنك يتلقى يوميا من الدنانير أو الريالات والدراهم ويدفع مليونا, هو لا يستعمل الرصيد المحفوظ في الاحتياطي وإنما يعطي من الأموال المودعة لديه- التي تأتيه كودائع- للذين يسحبون فهو يداخل الأموال مع بعضها البعض, وهذه هي فكرة الاستثمار المشترك أو المضاربة المشتركة.(9/657)
لا أستطيع القول بأن المسألة تطرح للنقاش؛ لأن هناك من هددني من الصباح باستعداده لأن يناقش هذه الفكرة وأنه بيت الليل ليقول رأيه ضد المضاربة المشتركة , إنما المهم أن نبرز جمال الفقه الإسلامي, وأن نرى أن البنوك التي لا تعترف بالمضاربة المشتركة كضمان تمارس الضمان فعلا بدليل أن كل من يقصد البنك الإسلامي في هذا اليوم يسترد وديعته بالكامل, فبأي سبب دفعت الوديعة كاملة إن لم يعتبر البنك نفسه ضامنا؟ ثم هناك تخريج أتينا به نتيجة المناقشة المستفيضة مع لجنة الفتوى عندما وضع مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني خشية تردد الناس في الإيداع , فاتفقنا على الأخذ بالرأي المالكي بأن نجنب قسما أو جانبا من أرباح المضاربة السنوية ليكون مخصصا لتغطية مخاطر الاستثمار , وقد أصبح رصيد هذا الصندوق الآن ما يقرب من رأس مال البنك بكامله ولم يحدث في سنة من السنوات أن تعدّت الخسائر جميع أرباح البنك ولجئ إليه ليغطى, فهذا ناحية أخرى من نواحي الضمان.
في هذه الخاتمة أقول: هذه الأبحاث ثمرة جيدة لفكر نير وتختلف الآراء ويبقى الود والاحترام وكلنا باحث عن الحقيقة وأقول للذي هددني وهو تهديد حبيب: من إنسان حبيب.
فإن كان في الشرع الجميل مقاتلي
فإن دمي فيما يفيد قليل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/658)
الدكتور علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. شكرا للأخ الكريم العارض. الواقع هذا الموضوع وإن لم أقدم فيه بحثا إلا أنني تحدثت عن هذا الموضوع منذ ثلاث عشرة سنة عندما ظهر من ينادي بتحليل فوائد البنوك الربوية فكتبت كتابا عنوانه (حكم أداء البنوك وشهادات الاستثمار في الفقه الإسلامي) وعالجت بعض القضايا التي أثيرت اليوم على سبيل المثال: هل البنك فقير حتى نقرضه؟ يبدو أن الأخ الكريم الذي كتب هذا العنوان أخذه من كتابي؛ لأنه أخذ نفس العنوان ونفس الأدلة, فبينت أن الزبير بن العوام - رضي الله تعالى عنه- عندما كان الناس يذهبون إليه للإيداع كان يقول: لا, بل سلف. فيحوله من الوديعة المضمونة إلى السلف المضمون. ويحوله من الوديعة التي لا تستخدم إلى السلف الذي يستخدم فهو ضامن وينتفع به وفعلا كان ينتفع به.
النقطة الأخرى التي أشار إليها الأخ الكريم الدكتور سامي وهي بالنسبة لأموال الصغار وأن الولي قد يكون غير مأذون له في إقراضه, هذه النقطة بينتها أيضا في كتابي؛ لأن سادتنا الفقهاء تحدثوا عنها, قالوا: مثلا إذا أراد الولي أن يسافر ولا يريد أن يسافر بمال الصغير خشية أن يضيع فماذا يعمل؟ هل يودعه أم يقرضه؟ قالوا هنا: إذا أودعه فالوديعة غير مضمونة، إذن يقرضه لمليء أمين، نصوا هكذا. ويكون الإقراض هنا لمصلحة المقرض وليس لمصلحة المقترض، فيراعى فيه أن من اقترض يكون مليئا وأمينا. إذن التكييف الشرعي للودائع في الحساب الجاري بأنها عقد قرض وهو أيضا –كما بينت في كتابي- التكييف القانوني أيضا كما بين هذا الدكتور السنهوري –رحمه الله- في كتابه (الوسيط) وذكر القانون وشرعه وبين أن الوديعة التي يؤذن باستعمالها إذا كانت مما يهلك بالاستعمال كالنقود والطعام فإنها تعتبر قرضا، ولذلك لا يجوز أن نقول وديعة إذا أذن صاحبها بالاستعمال وهي عقد وديعة لأنها تتحول من عقد الوديعة إلى عقد قرض.(9/659)
نريد أيها الإخوة الكرام ونحن نتحدث عن الودائع المصرفية أن نفرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية، فالإيداع في المصرف الإسلامي إنما هو إيداع في غير الحساب الجاري في شركة مضاربة، عندما بحث مجمع البحوث الإسلامية سنة 1385هـ معاملات البنوك انتهى إلى تحريم فوائد البنوك دعا إلى البدل الذي ظهر بعد المؤتمر الثاني هذا بعشر سنوات. ففكرة أن البنك مهمته الاقتراض والإقراض؛ لأن هذه هي الوظيفة الأساسية في البنوك التي نشأت نشأة ربوية يهودية نشرها خمسة من آل روتشل في أوربا منذ قرنين، هذه الفكرة دعا مجمع البحوث إلى الدليل الإسلامي وليس إلى أن يحل هذا الحرام، فعندما دعا إلى الدليل الإسلامي ونظر الاقتصاديون في هذا –جزاهم الله خيرا- انتهوا إلى أن تكون العلاقة بين المودع والمصرف الإسلامي علاقة صاحب رأس المال بعامل المضاربة أو القرض. أما الحساب الجاري فلا يختلف في البنك الربوي عن البنك الإسلامي في أنه عقد قرض غير أنه يختلف أيضا في الهدف، فالبنك الربوي عندما أضع في الحساب الجاري يستخدم هذا المال في الحرام، وبذلك أكون ساعدته في الحرام. من هنا جاء قرار مجمع الفقه برابطة العالم الإسلامي بأنه لا يجوز لمسلم أن يتعامل مع مصرف ربوي متى استطاع أن يتعامل مع مصرف إسلامي.
بعد هذا الودائع تحت الطلب أو الودائع لمدة بالنسبة للبنوك الربوية، الودائع لأجل هذه معروف أنها قروض ربوية بفوائد ربوية، أو الودائع الاستثمارية في المصارف الإسلامية دفتر التوفير لا يختلف بعضها عن بعض فكلها عقد مضاربة ولكن الاختلاف هنا في طريقة المضاربة، فدفتر التوفير أحيانا يوضع عليه قيود في السحب –غير الحساب الجاري- لكنه يستثمر، وبعض البنوك الإسلامية تشترط أنه لا يستثمر فيأخذ نفس حكم الحساب الجاري. إذن عندنا قروض في الحساب الجاري سواء كان الحساب الجاري في بنك إسلامي أو بنك ربوي مع اختلاف الأهداف فيها، عندنا إيداع في البنك الربوي في غير الحساب الجاري وهو قرض بفائدة لأن البنك كما عرفه الاقتصاديون: المنشأة التي تتاجر في الديون عن طريق الاقتراض والإقراض، هذه هي وظيفتها الأساسية. أما البنك الإسلامي فالإيداع للاستثمار, إذن عندنا التكييف الشرعي بالنسبة للبنك الربوي هو أن الإيداع عقد قرض سواء كان في الحساب الجاري أم في الوديعة لأجل، أما الإيداع في البنك فهو يختلف، إذ إن الحساب الجاري عقد قرض والودائع الاستثمارية شركة مضاربة أو قراض.
النقطة التي أثيرت ونرجو أن يصل المجمع فيها إلى حل وأثارها الأستاذ سامي حمود-جزاه الله خيرا- وهي فعلا مشكلة، مسألة الإيداع والسحب والمضاربة تعمل.
يعني المصرف الإسلامي أمواله كلها مختلطة ويستثمرها، الذي انسحب والذي أودع كيف يدخل في المضاربة أو كيف ينسحب من المضاربة؟ لا بد من اجتهاد جديد للوصول إلى حل في هذه المسألة. وشكرا لكم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.(9/660)
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الحقيقة أنا أريد أن أتكلم في نقطة لا أجد بها حرجا كثيرا لأنني أحب الأخ الدكتور حسين فهمي، وأعتقد أن كثيرا من المعلومات التي قدمها على أنها مسلمات ينبغي أن نتوقف عندها وننظر إلى مدى القبول بتسليمها. سأترك كل النقاط الصغيرة وهي كثيرة وأركز على النقاط المهمة؛ لأنها تؤثر على فهم مسألة الودائع. القول بأن ما شهده التاريخ على مستوى العالم خلال هذا القرن من تعرض كثير من الأسواق المالية سواء نقدية أو سلعية للارتباك عدة مرات مما نتج عنه سقوط عدد كبير من البنوك وإفلاس قطاع كبير من الشركات وتدهور مستوى المعيشة لفئات كثيرة من الناس، يعني هذا القول في الحقيقة فيه تجاوز كثير. وإن واقع الأمر وحقيقة التاريخ أنه قد حصل تقدم كثير جدا وقد حصل ارتفاع في مستوي المعيشة على مستوى العالم كله، فقيره وغنيه، وأنه قد ساهمت البنوك وساهمت الشركات والمؤسسات في صناعة هذا التقدم، إما أن ننظر إلى زاوية ضيقة ضيقة لأنه أفلست بنوك من أصل مائة ألف بنك فصعب في الحقيقة أن نعبر عنها بهذا الشكل فهذا عرض للحقيقة بشكل –في نظري- مذهل.
نقطة أخرى تحتاج إلى تدقيق كثير. كيف نطالب – في جزء من البحث- بعدم تعطيل الأموال التي تودع لدى البنك الإسلامي أو غير الإسلامي ونقول: إن هذا البنك يعطلها أثناء فترة الإيداع وبنفس الوقت نحن –في ورقته- نمنعه من استخدامها إطلاقا بفرضه أنها وديعة. يعني هو بالوقت الذي يستهجن تعطيلها الجزئي هو يريد أن يعطلها كليا بتعريفها على أنها وديعة لا يجوز له أن يتدخل بها.
في موضع آخر يقول: هنالك إسراف في خلق الائتمان في البنوك. إن كان ذلك كذلك فدواء الإسراف أن نمنع الإسراف لا أن نمنع البنوك فنخنقها عن العمل. فليس الدواء بأن نمنعها كلها بل أن نمنع الإسراف الذي ذكر.(9/661)
يقول الباحث كذلك إن الأخذ في الاعتبار لهذه الأحكام والقواعد الشرعية من شأنه أن يؤثر تأثيرا سلبيا على فاعلية السياسة النقدية والأدوات التي تستخدمها. في الحقيقة هذا الكلام أيضا بعيد جدا عن الواقع، بل إن الأخذ بالقواعد الشرعية على مستوى المصارف الإسلامية ومستوى البنك المركزي في أي دولة إسلامية سيجعل البنك المركزي أقدر على تنفيذ السياسة النقدية مما لو كنا في بنك ربوي أو في نظام ربوي وليس أقل هذه الأهداف التي تحدث عنها، أهداف السياسة النقدية في ثنايا البحث، الحقيقة الكلام يحتاج إلى نقد كثير لهذا التقييد الذي ظنه وهو غير واقع وليست حقيقته.
نأخذ بعض الأمثلة على ذلك. هو أغفل قدرة البنك المركزي الإسلامي في دولة يقوم نظامها كله على القواعد والأحكام الشرعية، أغفل أدوات مهمة كثيرة لم يذكرها وظن أن حرمان البنك المركزي الإسلامي من الأدوات الربوية حرمان له من القدرة على التأثير في السياسة النقدية، فمثلا قدرة البنك الإسلامي على التدخل بتحديد معدل الربح في المرابحة –وهو ما تستعمله باكستان - وقدرة البنك المركزي على توزيع الربح بين البنك وبين المستثمر في المضاربة عندما يعطي البنك الأموال مضاربة، أيضا هذه وسيلة يستعملها البنك المركزي في باكستان، ومسألة السوق المفتوحة أنه يشتري الأسهم المباحة من السوق فيزيد بذلك كمية النقود أو أنه يفعل العكس فينقص كمية النقود، هذه وسيلة متاحة للبنك المركزي الإسلامي.(9/662)
مسألة نسبة الاحتياطي النقدي والتدخل به، كل البنوك الإسلامية تحجز احتياطيا نقديا حتى من ودائع الاستثمار لديها، هذا الاحتياطي النقدي لمواجهة طلبات السحب المتعددة حتى من الودائع الاستثمارية في الحساب الجاري، من كليهما. فبهذه النسبة يستطيع البنك المركزي الإسلامي أن يستعملها، ويستعملها البنك المركزي في باكستان.
نسبة الاستثمار، كم هي نسبة الاستثمار التي تستثمر من الودائع الاستثمارية يستطيع أن يتدخل بها؟ فهي وسائل لا تقل، بل إنها تزيد عن الوسائل للبنك الربوي، فكيف يقال: إن البنك المركزي الإسلامي ليس لديه من الوسائل ما يكفي للتأثير على السياسة النقدية، خاصة إذا لاحظنا أن طبيعة التمويل الإسلامي بتعريفه سواء كان مرابحة أو سلما أو مضاربة يربط التمويل بالتحرك السلعي، أنه لا تمويل لمجرد التمويل، التمويل مرتبط بسلع تباع وتشترى، تتحرك من مكان لمكان، فبدهي إذن أن حجم الائتمان لن يزيد كثيرا في مثل هذه الظروف عن حجم التداول السلعي الحقيقي. وبالتالي الحاجة للتدخل النقدي أقل رغم أن وسائله أكثر.
نقطة أخرى أيضا في نظري عجيبة في موضوع الودائع الاستثمارية، إن هذه الودائع صعب أن يفهم أن هناك دورات مالية محاسبية قد تكون صغيرة.
بعض المؤسسات المصرفية وشبه المصرفية الإسلامية تقوم بدورات مالية محاسبية مدتها أسبوع، إحدى المؤسسات الموجودة في البحرين مثلا، فخلال أسبوع تخرج مركزا ماليا وتستطيع أن تتلقى الودائع الاستثمارية أو أن تعطي لمن يرغب بالسحب ودائعه الاستثمارية على أن تبدأ من أول الأسبوع التالي. بنوك أخرى كثيرة تستطيع أن تخرج مركزا ماليا لها معقولا خلال كل شهر، فتقول: إنما يودع أو يسحب خلال الشهر لا حق له في الأرباح عن ذلك الشهر. فما هي المشكلة في هذا؟ مع إمكان التنضيض الحكمي وسيأتي الكلام عليه بعد لحظة قليلة. فأنا حقيقة أستغرب هذا التصور كيف ينشأ عن البنك الإسلامي ويعرض على أنه حقيقة وأنه لا مشكلة فيها؟ !(9/663)
آتي لمسألتين مهمتين أرجو أن ينظر إليهما هذا المجمع الكريم بجدية كبيرة.
المسألة الأولى: توجيه أو التخريج الشرعي للودائع في الحساب الجاري. أنا أقول: إن من المقنع تماما ما صدرت به الآراء وما يتجه إليه جمهور علمائنا وفقهائنا من أن الوديعة بالحساب الجاري هي قرض؛ ولأنها مضمونة فهي بمعنى القرض تماما، هذا كلام مقنع وصحيح ولكن هذا الكلام –في نظري- يغفل مسألة مهمة بل هي في غاية الأهمية، وهي مسألة العدالة في البنك الإسلامي. البنك الإسلامي يتلقى أمواله من ثلاث مصادر رئيسية. المصدر الأول رأس المال من المساهمين. والمصدر الثاني: الودائع الاستثمارية، والمصدر الثالث: الودائع بالحساب الجاري. بالنسبة للودائع بالحساب الجاري لو نظرنا في ورقة الدكتور حسين فهمي نفسها للاحظنا أن الودائع بالحساب الجاري تشكل مبالغ كبيرة في العادة وهي في البنوك الربوية أكثر أيضا، فهي عدة أضعاف رأس المال. فبعض البنوك الإسلامية التي ذكرها في هذا الجدول نسبة الودائع إلى رأس المال –في الحساب الجاري- (16 إلى 1) أو أنها نسبة (12 إلى 1) أو (5 إلى 1) أو (4 إلى 1) هي نسبة عالية جدا في العادة. هذه الودائع لو كانت مضمونة فهي قروض يستعملها أصحاب رأس المال ويكسبون أرباحها. فنحن بهذا أتحنا لأصحاب رأس المال في البنك الإسلامي أن يستثمر مالا هو خمسة أضعاف رأس ماله أو ستة عشر ضعفا لرأس المال أو اثني عشر ضعف رأس ماله ويأخذ أرباح هذه الأموال فقط بحجة أنه ضامن لها، صحيح ضامن لها، لو أفلس هذا البنك لما استطاع أن يفي بهذا الضمان؛ لأن رأس ماله لا يكفي للوفاء بالضمان. دعنا من هذا، هل يرغب الناس بشرط الضمان هذا؟ وهل هم مقتنعون به جدا؟ هل هناك مصلحة عملية من شرط الضمان؟ لنأخذ مثالا، هناك بنك لم يذكره الأخ الدكتور حسين فهمي في هذا الجدول، هناك بنك فيصل الإسلامي المصري الذي كان يعمل فيه، هذا البنك سهل السحب والإيداع في حساب الودائع الاستثمارية وهي مضاربة، جعل السحب والإيداع فيها سهلا، فكان نتيجة ذلك أن أقبل الناس على إيداع أموالهم في ودائع الاستثمار وأحجموا عن وضعها في الحسابات الجارية. إذن الناس يقدرون سهولة السحب والإيداع أكثر من شرط الضمان. الذي أقترحه من منطلق العدالة أن ينظر هذا المجمع الكريم بمصلحة الأمة ومصلحة المودعين ويقول مثلا: إنه ينبغي أن يكون لدى البنوك الإسلامية نوعان من الحسابات الجارية المهم فيهما أن السحب والإيداع ميسر فيهما، نوع يقوم على أساس القرض فهو مضمون لمن يرغب بذلك ونوع آخر يقوم على أساس المضاربة وليس فيه شرط ضمان وهو معرض للخسارة كما هي الودائع الاستثمارية، الفرق بينه وبين الودائع الاستثمارية أن السحب في هذا النوع من الحساب ميسر، وفي ظني وفي نظري وفي تجربة بنك فيصل الإسلامي المصري أننا لو فعلنا ذلك لأقبل الناس على ذلك النوع من الحساب بدلا من الحساب الجاري القائم على أساس القرض ولكانت أرباحه لهم، صحيح أن الفارق المهم والكبير فيه أن نسبة الاحتياطي النقدي ينبغي أن تكون عالية بسبب تيسير السحب والإيداع في هذا الحساب.(9/664)
المسألة الثانية: مسألة التنضيض الحكمي. حقيقة الأمر أن التنضيض الحكمي هي مسألة لا تتعلق فقط بالبنوك الإسلامية، في كل حال نحتاج فيه إلى توزيع أرباح في كل أنواع الشركات. القوانين في العالم الإسلامي كله فيما يخص الشركات المساهمة تعتبر ... وقد أباح هذا المجمع الكريم جواز إصدار الأسهم وأرباح المسؤولية المحدودة وأرباح بيع الأسهم وشرائها بين الناس -تداول الأسهم- بفتاوٍ سابقة، فإذا كان ذلك كذلك فكيف يمكن للشركة المساهمة أن توزع أرباحا وأن تباع الأسهم من شخص لآخر دون أن يكون ذلك قائما على مبدأ التنضيض الحكمي؟ لا يوجد طريقة أخرى إلا التنضيض الحكمي. التنضيض الحكمي هو المبدأ الذي تقوم عليه ميزانية الشركة وحساب أرباحها وخسائرها، الشركة المساهمة بشكل خاص بل كل أنواع الشركات في واقع الأمر حيث ما احتجنا إلى توزيع ربح في شركة ما تزال قائمة نحتاج إلى التنضيض الحكمي. قد يقال – وقد قيل هذا فعلا- إنه يمكن أن نقيم شيئا يشبه التنضيض الحقيقي ولكنه في واقع الأمر –لو سمحتم لي أن أستعمل التعبير- هو تزوير للحقيقة قيلت لعلمائنا الأفاضل فظنوها تنضيضا حقيقيا وهي في واقع الأمر تنضيض حكمي.
فقيل مثلا في بعض المؤسسات المالية الإسلامية، قيل: إننا في آخر كل سنة نبيع كل موجوداتنا لشركة جديدة مؤلفة من الأشخاص، يعني اليوم 31 ديسمبر نبيع كل هذه الموجودات بقيمتها الدفترية أو بالقيمة التي يسعرها بها المحاسبون، نبيعها للشركة الجديدة التي تفترض أنها تقوم في اليوم التالي من نفس الأشخاص الذين كانوا معنا في الليلة السابقة. هذا تنضيض وهمي، هذا ليس تنضيضا حقيقيا هذا تنضيض حكمي؛ لأن التسعير فيه هو نفس التسعير الذي يقوم عليه التنضيض الحكمي والذي تقوم عليه الميزانية وهو نفس التسعير ولنفس الأشخاص لم نغير شيئا إلا توهيم أهل العلم بأنه تنضيض حقيقي وأنه قد جرى البيع. وواقع الأمر أنه لم يجر بيع. فأرجو أن ينظر إلى مسألة التنضيض الحكمي بنظر جدي؛ لأنها لا تتعلق فقط بالمصارف الإسلامية أو بالودائع الاستثمارية بل تتعلق بكل الشركات الإسلامية وبنظام العمل في الواقع المعاصر.
والحمد لله رب العالمين.(9/665)
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
نشكر سعادة الدكتور سامي حمود على عرضه الشيق وعلى عرضه الأمين وعلى ملاحظاته التي استمتعنا بها فجزاه الله خيرا. وكذلك استمعنا إلى بعض الملاحظات من الإخوة، وأحب أن أدلي بدلوي، وقبل أن أدلي بدلوي أحب أن أقدم بين يدي ملاحظاتي نقطة أو تمهيدا أو قولا عاما لذلك.
أولا: أؤكد وأؤيد ما ذكره سماحة الرئيس –حفظه الله- في كلمته الافتتاحية من وجوب إخضاع المعاملات المصرفية والمعاملات المدنية على وجه العموم للقواعد الشرعية، ولا يجوز أن يخضع القواعد الشرعية والأدلة الشرعية لهذه المعاملات بغية التيسير فيها مع وجود المخالفة الشرعية. هذه نقطة لا أشك أنها محل إجماع من الإخوة جزى الله الجميع خيرا.
ثانيا: إن المصارف الإسلامية جاءت باستجابة وبفضل من الله –سبحانه وتعالى- لوقوفها في جانب محاربة الربا، وفي جانب محاربة الربا ما تقوم به البنوك الربوية من استحلال الربا أخذا وعطاء وغير ذلك. ففي الواقع لقد فرح واستبشر بوجودها مجموعة كبيرة من الحريصين على دينهم وعلى التمسك به وعلى أن يكون المسلمون في خير وفي نجاة من الربا ومن محاربة الله –سبحانه وتعالى- ورسوله لأهله، فإذا كان كذلك فينبغي لنا أيها الإخوة أن ننظر إلى هذه المصارف الإسلامية نظرة إشفاق، ونظرة مساعدة، ونظرة معاونة، وأن نيسر لهم ما وسعنا التيسير ما لم يكن ذلك إثما جريا مع قاعدة ومع المسلك السليم الذي وجه إليه (صلى الله عليه وسلم) وكان يأخذ به حيث قالت عائشة –رضي الله عنها- ما خير (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. هذه مسألة أحب –أن تكون على كل حال- محل نظر، وإذا وجدنا أن هناك قولا وإن كان قولا مرجوحا فيما ذكره علماؤنا الأفاضل السابقون لكنه في الواقع لا يتعارض مع أمر شرعي ومع دليل شرعي ومع قاعدة عامة وفي نفس الأمر يخدم هذه البنوك ويساعدها على أداء مهمتها فلا يجوز لنا أن نقول: هذا قول مرجوح وهذا قول ضعيف. بينما نجده يساعد أو يخدم هذه البنوك وفي نفس الأمر ليس له معارض من الأصول المعتبرة من كتاب الله ومن سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ومن القياس أو من الإجماع إلا أنه قول لم يقل به جمهور أهل العلم. هذه في الواقع مقدمة.
أدخل بها إلى بعض الملاحظات.(9/666)
الأول: ما يتعلق بتساؤل الدكتور محمد علي –جزاه الله خيرا- وهو أنه هل يعتبر الحساب الجاري لدى البنوك الربوية تعاونا على الإثم والعدوان؟ أعتقد أن التعامل معهم في الإيداع وفي إيثارهم في المعاملات التي من شأنها أن تقوم به المصارف الإسلامية أعتقد أن هذه نوع من التعاون على الإثم والعدوان؛ لأنها تساعدهم على أداء مهمتهم الرذيلة والخبيثة وهي استحلال الربا أخذا وعطاء، ومن يتعاون على الإثم والعدوان فهو –في الواقع- معرض نفسه لغضب الله، وقد سبق وأن صدر من مجموعة من العلماء فتاوى بجواز الإيداع في البنوك الربوية إذا لم يكن هناك بنوك إسلامية أو عوامل إسلامية من شأنها أن تقوم بمثل هذه الخدمات، أما الآن والحمد لله وقد جاءت المصارف الإسلامية تقوم بنفس الخدمات التي تقوم بها المصارف الربوية، فأعتقد أن أي إنسان يؤثر هذه البنوك الربوية على البنوك الإسلامية وهو مسلم سيحاسب على تصرفه ولا شك أنه يعتبر متعاونا على الإثم والعدوان في ذلك.
الأمر الثاني: الإيرادات على اعتبار الوديعة على الحساب الجاري بأنه قرض جر نفعا. الواقع أولا الحديث –كما سمعنا- ضعيف، ولكن الأمة تلقته بالقبول، وتلقيها بالقبول أشبه بالقبول بحديث: (لا وصية لوارث) (فلا وصية لوارث) نفس الشيء ضعيف لكن الأمة تلقته بالقبول، فتلقي الأمة بالقبول يعني الإجماع. فكل قرض جر نفعا لا شك أنه في الواقع من الربا. والمعنى العام يدل عليه فضلا عن تلقي الأمة إياه بالقبول فلا شك في ذلك ولا يجوز أن نقلل من حكم هذه المسألة بأن الحديث ضعيف، فتلقي الأمة يعتبر إجماعا، والإجماع مصدر من مصادر التشريع.(9/667)
الأمر الثالث: فيما يتعلق بتكييف هذه الحسابات الجارية لدى البنوك الإسلامية. هي في الواقع قرض، ولا يشترط أن يكون القرض من قوي إلى ضعيف، ولا يشترط أن يكون القرض مرادا به التبرع، بل القرض سواء كان من قوي أو من ضعيف أو أريد به التبرع أو لم يرد به التبرع، والزبير بن العوام –وأنتم تعرفون ذلك- كان يتلقى الودائع ويشترط على أصحابها أنها سلف –يعني قرضا- ولم يكن في حاجة إلى قرض بل هو محسن إلى أن يتلقى وديعته، ومع هذا اعتبره قرضا ولم يعترض على ذلك أحد من أهل العلم.
الأمر الرابع: ما يتعلق بالقول برهن الحساب الجاري أو احتجازه ومحاولة أن يربط من حيث الترادف بين الرهن والحجز. وهذا في الواقع يحتاج إلى نظر. الرهن لا يكون إلا بإرادة الراهن نفسه، فحينما يتولى البنك الحجز على هذا الحساب لا نعتبره رهنا وإنما نعتبره حجزا. فينبغي أن نفرق بين الرهن والحجز لأن الرهن لا يكون إلا إرادة من الراهن نفسه والراهن لم يرد ذلك فإذن لا يجوز أن تعتبره رهنا وإنما هو من قبيل الحجز. فلا بد من التفريق بينهما.
الأمر الخامس: القول بجواز السحب من رأس مال شركة المضاربة قبل التصفية ... قول كذلك فيه نظر، لماذا؟ لأنه حينما يسحب فهو يسحب شيئا من وديعته على اعتبار عدم إرجاعه، وهذا المال قبل تصفيته وهو مهيأ للمضاربة، هذا المال في الواقع عرضة لا يزال إلى الآن متأرجح بين الربح والخسارة، فلا ينبغي أن يسحب منه شيء إلا بعد التصفية أو التنضيض الحكمي الذي هو حكم التصفية. نعم لو حصل تراض بين المضارب ورب المال على أن يدفع له شيئا فهذا يكون على الحساب بعد المحاسبة لأنه سيرجع عليه، فيمكن أن يرجع عليه بربح أو يرجع عليه بخسارة أو نحو ذلك.
الأمر السادس: التنضيض. هو في الواقع في معنى التصفية وقد كفاني الدكتور منذر –جزاه الله خيرا- الحديث عن ذلك بما فيه الكفاية فلا أحب أن أعيده.
الأمر السابع: أثني على استغراب الدكتور سامي حمود التفريق بين التصرف بين البنوك المركزية وبين البنوك الإسلامية في حال التصرف بالحساب الجاري، فيقول: لا يجوز للمصرف الإسلامي أن يتصرف في هذه الوديعة ويجوز للبنك المركزي. سبحان الله العظيم!! هذا شيء غريب، طالما أنه حساب جار وفي ذمة المصرف نفسه فهو يتصرف فيه، والمال هذا غير متعين وإنما المتعين مقداره في ذمة هذا المصرف.
وشكرا لكم.(9/668)
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أعتقد أن النقطة الأولى التي أردت الحديث عنها قد كفاني عن التفصيل فيها الأستاذ الشيخ ابن منيع –حفظه الله- فمسألة (كل قرض جر نفعا) صحيح أن السند فيها غير تام بالشكل المقبول الذي يجعله حجة إلا أن الإجماع في تلقي هذا المضمون وانسجام هذا المضمون مع باقي المضامين الواردة في هذا المجال إما أن يترك أثره في مجال السند فيقويه ويجبر ضعفه، وحينئذ يمكننا التمسك بإطلاقات هذا المعنى، أو لا يجبر ضعف السند فتبقى القاعدة كقاعدة عامة مقبولة سارية، وحينئذ يمكن الرجوع إليها ولكن في القدر المتيقن من كونه نفعا، أما في موارد الشبهة فلا يمكن الرجوع إلى هذه القاعدة؛ لأنها لم تأت بنص إذا لم ينجبر سندها. على أي حال القاعدة مقبولة وينبغي الاستناد إليها في موارد مختلفة. لكن فليسمح لي الدكتور سامي –حفظه الله- والذي كان عرضه عرضا حسنا وساميا كاسمه ومحمود الواقع، وأنا أشكره على هذا العرض، فليسمح لي أن أقول: إن المنافع التي ذكرت هنا لا تقتصر على الإضافات المادية، فالمنافع الخدماتية أيضا منظورة، إذا كنت أقدم لك قرضا على أن تقدم لي خدمة حتى لو كانت هذه الخدمة صغيرة فهي نفع في الفهم العرفي، وحينئذ يكون هذا المعنى من باب استطراد الربا، إلا أن التسهيلات المعطاة للحسابات الجارية ليست في الواقع هي منافع تعطى لعملية القرض، وإنما هي تسهيلات للاستيفاء مثلا ولا يمكن عدها من المنافع، ومع ذلك فأعتقد أن البنوك الإسلامية يجب أن تقلل من هذه التسهيلات حتى لا تقع في شبهة المنفعة في هذا المجال. نعم أنا شخصيا لا أمانع في أن نضع جوائز غير محددة لمن يفتحون هذه الحسابات، وهذه الجوائز غير مضمونة في أن تصيب أحدا ولا تصيبه.(9/669)
النقطة الثانية: أنا أعتقد أن وديعة الحساب الجاري تحمل كل خصائص القرض، جواز التصرف تماما من خصائص القرض، وأذكر الأستاذ حسن الأمين وهو غير موجود في هذه القاعة في إحدى كتاباته: صحيح البنك يتصرف لكن تصرف انتهازي، ينتهز الفرصة. لا، هنا تصرف مشروع بشكل كامل وليس انتهازيا. وإذا كان قلقا في تصرفه فهو يخاف من عدم وجود سيولة مالية تستطيع أن توفر السحب. فإذن جواز التصرف تماما عودة النماء للبنك هذه من خصائص القرض بشكل كامل ولو كانت وديعة، فقاعدة الثبات بالملكية تؤدي إلى عودة النماء إلى نفس المال، وبالتالي مسألة الضمان التام للحساب حتى لو تلفت الأموال دونما تفريق. وهذا هو الذي نفهمه، لا أدري المصرفيون هنا (الخبراء) يمكنهم أن يقولوا لنا لو أن البنك سرقت أمواله دونما تفريط فهل تفرغ ذمته؟ ذمته مجبولة بهذا المعنى حتى لو لم يفرط فيها. لا أدري إذا كان هناك نص ينص على أن الذمة لا تنشغل عندما لا يكون هناك تفريط فيجب أن ننظر إلى الأمرين من جانب آخر.
النقطة الثالثة: وددت أن يتعرض لها الأستاذ الدكتور سامي –حفظه الله- وهي مسألة الاستيفاء. هذه المسألة مسألة مهمة جدا. يعني، هناك تصور غربي لمسألة السحب للحساب الجاري، وهناك تصور إسلامي. التصور الإسلامي هل نتصوره على أساس أنه استيفاء تدريجي لقرض بهذه الشيكات، أو أن هناك قائمتين، قائمة دائنة وقائمة مدينة تتم بينهما المقاصة، والمقاصة على رأي الإمامية والحنفية كما أتصور مقاصة قهرية، وحينئذ بشكل طبيعي تتم المقاصة بين القائمتين، أو أنه المقاصة هنا تتم باتفاق أو حسب القانون المطروح هنا؟ على أي حال هذا بحث كان ينبغي أن يشار إليه.(9/670)
النقطة الرابعة: مسألة ودائع التوفير، أنا اقترحت تقسيمها باعتبار أن هناك مبالغ تعطى على هذه الأمور. هذه المبالغ لا وجه لها إلا إذا تصورنا أن قسطا من أموال ودائع التوفير يتحول إلى وديعة ثابتة تدخل في حوض المضاربة، وهذه الوديعة بمقدار ما لديها من قدرة على العمل والاستثمار تحصل على نتائج في إطار العملية الربحية الجامعة عادة البنوك تأخذ منها 10 % وتعتبرها ثابتة في هذا المجال، وأعتقد أن هذا التخطيط لا بأس به، إلا أن الأطروحة الإيرانية للبنك المركزي التي قبلت ودائع التوفير رفضت أن يكون هناك جزء منها بهذا الشكل، واعتبرت هذه الودائع قرضا حسنا إلا أنها فرقت بين ودائع التوفير وبين الحسابات الجارية بوضع جوائز غير مضمونة لذوي الحسابات، على أساس أن هؤلاء الذين يودعون يساهمون في عملية الإقراض الحسن ولهم على هذا العمل الجميل جوائز تعطى، وقد لا يصيب الفرد أي شيء منها وقد يحصل منها على شيء. يعني استعاضت عن مسألة التوفير بالجوائز التي تطرح.
هذا بالنسبة إلى مسألة ودائع التوفير لا أدري هل بقي هناك شيء.
النقطة الخامسة: بقي مسألة واحدة فقط وهي مسألة الحساب الجاري في البنوك الربوية. لا أشك في أنها يصدق عليها الإعانة وخصوصا إذا لاحظنا الحسابات الجارية الضخمة التي يودعها أصحابها في البنوك الربوية والتي هي تشكل دم الحياة الربوية هناك في تلك البنوك، لا ريب أنها إعانة على الإثم فإذا لم يكن هناك اضطرار في الأمد ينبغي التحرز بالإضافة إلى الفوائد والآثار الشرعية التي تترتب على وضع الأموال في البنوك اللاربوية. وشكرا لكم.(9/671)
الرئيس:
قبل أن نرفع الجلسة نسأل الأستاذ سامي وهو أنه عندما ذكرت في (كل قرض جر نفعا) أنه في الأمور المادية، من هو الذي ذكر التفسير هذا؟ أهو من عندك؟
الدكتور سامي حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم
التحليل المنطقي للكلام، ونعم هو من عندي.
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم
... على المساهمين والمودعين، وإنما نشأ هذا السؤال من التفرقة بين الودائع المصرفية في البنوك التقليدية وبين الودائع في البنوك الإسلامية. فإن ودائع البنوك التقليدية كلها قروض، سواء أكانت ودائع جارية (في الحساب الجاري) ، أو ودائع ثابتة (استثمارية) ، أو ودائع التوفير، فإنها كلها قروض فضمانها ليس إلا على المساهمين.
أما في البنوك الإسلامية فالذي هو قرض إنما هو الحساب الجاري فقط، أما حساب التوفير أو حساب الاستثمار فإنه يقع على طريق الشركة أو المضاربة. وأما الأموال المودعة في هذه المحافظ ليست مضمونة على أحد. أما الحساب الجاري فهو قرض من قبل أصحابه إلى البنك، فهل يضمنه المساهمون فقط، أو يضمنه جميع أصحاب الودائع؟ هذا هو السؤال الذي قد طرح من قبل الأمانة العامة، والجواب الذي توصلت إليه هو أن هناك قاعدة شرعية معروفة وهي (أن الخراج بالضمان والغنم بالغرم) وعلى أساس هذه القاعدة فبما أن المودعين بأجمعهم يستفيدون من هذه الأموال المودعة في الحساب الجاري؛ لأنها تشغل في أعمال استثمارية وتحصل على أرباح وهذه الأرباح توزع عليهم فإن غنم هذه الأموال ترجع إلى المودعين أيضا. فإنهم يتحملون غرمها أيضا. ولذلك ينبغي أن يكون ضمان الحساب الجاري على المساهمين والمودعين جميعا لا على المساهمين فقط. ومعنى هذا أن المصرف إنما يؤدي هذه القروض إلى أصحاب الحساب الجاري أولا ثم يوزع الأرباح على المودعين والمساهمين.
مسألة رهن الحسابات الجارية قد مر عليها سعادة الدكتور سامي مرورا سريعا، وهذا يحتاج إلى شيء من التفصيل الذي ذكرته في بحثي أمامكم والذي توصلت إليه هو أن لرهن الحسابات الجارية صورا مختلفة ويختلف حكمها باختلاف صورها. وهذه المسألة مفصلة في بحثي.(9/672)
مسألة تجميد الحسابات وهي أن يجمد البنك أموال صاحب الحساب. قد ذكرت أن هذا الموضوع يتعلق بالمسألة المعروفة في الفقه الإسلامي وهي مسألة (الظفر) ، يعني إذا ظفر الدائن بمال المديون هل يجوز له أن يأخذ ذلك المال بدون رضا من ذلك المديون؟ وهذه المسألة مسألة (الظفر) معروفة وفيها آراء مختلفة للفقهاء، ولكن معظم الفقهاء ذهبوا إلى جواز أخذ مال المديون إن ظفر به الدائن حتى الحنفية الذين كانوا في أول الأمر يقولون: إنه إنما يجوز إذا كان المال المظفور به من جنس المال المستحق أما إذا كان من غير الجنس المستحق فلا يجوز أن يأخذه الظافر. ولكن المتأخرين من الحنفية أفتوا في هذا –في مذهب الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى- وقالوا بأنه يجوز له أن يأخذ هذه الأموال سواء أكان المظفور من جنس المستحق أو من غيره. على هذا الأساس يمكن أن نقول: إنه يجوز للبنك أن يجمد حساب أحد عملائه لمماطلته في الأداء، وإن كان هناك بعض الفقهاء قد يختلفون في ذلك ولا يعطون للظافر حق هذا الأخذ فإن للخروج من الخلاف يمكن أن يضاف إلى اتفاقية بين العميل والمصرف بند يتفق فيه الطرفان بأنه كلما تأخر العميل في الأداء فإنه يجوز للبنك أن يوفي ديونه من المال الموجود عنده في حسابه الجاري. وهذا هو المخلص من هذه المشكلة. المسألة ذات الأهمية الكبرى في موضوع الودائع المصرفية هي طرق المحاسبة. وطرق المحاسبة أعني منه مسألتين مستقلتين.
المسألة الأولى: هي هل تدرج الودائع المصرفية في بنك إسلامي في الموجودات أو في المطلوبات؟ فإذا أخذنا كلمة الموجودات والمطلوبات بمعناها الدقيق فإنه ينبغي أن يكون الحساب الجاري في المصارف الإسلامية يدرج في المطلوبات، وأما الأموال المودعة في محفظة الاستثمار فينبغي ألا تدرج في المطلوبات؛ لأن المطلوبات بمعناها الدقيق هي الأموال التي يتيقن البنك أنه يحصل عليها في المستقبل، أما حساب الاستثمار في البنوك الإسلامية فإنه لا يضمن البنك للمستثمر أن يعطيه ربحا في كل من الأحوال، ولذلك لا ينبغي أن يدرج في المطلوبات.(9/673)
المسألة الثانية: في المحاسبة المصرفية وتتعلق بمحاسبة الأرباح، وهي المسألة المهمة جدا من الناحية العملية والشرعية جميعا. المسألة إنما نشأت من حيث إننا نقول: إن البديل الحقيقي للأعمال الربوية المصرفية هي المشاركة والمضاربة، ولكن المضاربة والمشاركة اللتين نقرأهما في كتب الفقه في الواقع كانتا عمليتين بسيطتين ما بين شخص وشخص أو أشخاص معدودين ولم تكن بهذا الحجم الكبير الذي نشاهده اليوم، فلذلك كان الفقهاء قد قيدوا المشاركة والمضاربة بشروط لا تكاد تتحصل في هذه المحفظة الجماعية كما يقع في البنوك والشركات المساهمة، فكان المفروض في الشركات والمضاربة ألا توزع الأرباح إلا بعد تنضيض الأموال، أما إذا لم تكن الأموال ناضة فكيف توزع الأرباح؟ وكذلك اشترط الفقهاء أنه لا يمكن أن تدخل بعض الأموال في المضاربة بعدما أعطى رب المال بعض ماله إلى المضارب. فهذه المشاكل ربما جعلت بعض العلماء المعاصرين يقولون: إن المشاركة والمضاربة لا يمكن أن تنطبق على هذه الأعمال المصرفية، ومنهم من جاء باقتراحات ربما لا تكون عملية. مثلا قال بعض العلماء المعاصرين: إنه يجب ألا توزع الأرباح إلا بعد تنضيض الأموال كلها حقيقة، هذا مما لا يمكن فعلا لا في الشركات المساهمة ولا في البنوك. واقترح بعض العلماء أن تكون لهذه العمليات فترات محددة، ويدخل الناس لفترة معينة وبعد انتهاء تلك الفترة توزع الأرباح على أساس التقويم، وهذا أيضا يشكل من حيث العمل في البنوك الإسلامية؛ لأن عمليات البنوك متتابعة وسريعة وأن سرعة إنجاز العمليات لا يمكن بهذا الطريق.
واقترح بعضهم أن تكون لكل بنك مثلا وحدات استثمارية ويعلن سعرها كل أسبوع –مثلا- وهذا إنما يتمشى في بعض المؤسسات المالية غير المصرفية، أما العمليات المصرفية فإنها أسرع من أن نوجد لها مثل هذه الوحدات. وليس ذلك حلا عمليا حتى الآن إلا المحاسبة المعروفة باسم (حساب النمر) ، وربما يقال له (حساب الإنتاج اليومي) ، وهذه المحاسبة إنما تكون على أساس ما تنتجه كل وحدة نقدية كل يوم، فمن أودع أموالا في مصرف مثلا مائة ريال لأول يناير ثم سحب منها عشرة ثم أدخل فيها عشرين أخرى بعد مدة فإنهم في نهاية السنة يحاسبون كم بقيت من هذه الأموال؟ وماذا حصل من الأرباح على كل وحدة نقدية أي على كل ريال؟ وعلى هذا الأساس يوزعون الأرباح على جميع المودعين وهو الذي يسمى (حساب النمر) . وحساب النمر هذا يحتاج إلى تخريج أو تكييف فقهي، وطالما فتشت في كتب الفقهاء لأجد له تكييفا فلم أفز بتكييف مصرح في كتب الفقهاء الأقدمين.
ولكن الذي يبدو أن هذه المضاربة أو المشاركة التي تكون في الشركات المساهمة أو في البنوك نوع جديد من المشاركة والمضاربة، وهي ظاهرة جديدة لحاجات جديدة. ولذلك لا يمكن وليس من الواجب أن تتوفر فيه جميع الجزئيات الفقهية التي هي موجودة في كتبنا في موضوع المشاركة أو المضاربة، ما دامت هذه المشاركة أو المضاربة تحتفظ بالمبادئ الأساسية التي يقوم عليها مبدأ الشركة والمضاربة. ولو كان المشاركون –مثلا- إنما يشاركون على أساس المشاركة في الربح والخسران جميعا، ولا يحدد لأحدهم مبلغ معين لأن ذلك يفي بالشروط اللازمة والأساسية لصحة المشاركة والمضاربة. فلو أخذنا هذا الحساب –حساب الإنتاج اليومي أو حساب النمر- فلا أرى هناك مانعا في القرآن أو السنة أو في كلام الفقهاء، والمسألة إنما طرحتها في بحثي لتدرس وتناقش ليبت فيها من قبل هذا المجمع الكريم.(9/674)
هناك بعض المسائل الجزئية أريد أن أشير إليها ولم تكن موجودة في المسائل التي طرحت من قبل الأمانة العامة ولكن تحدث عنها الباحثون وهي مسألة الإيداع في البنوك التقليدية. هل يجوز لمسلم أن يودع أمواله في البنوك التقليدية في غير الحساب الجاري مثل حساب التوفير أو في الودائع الثابتة؟ فقد توصلت إلى أنه يجوز في الحساب الجاري وما قد يثار حوله من شبهة كونه معصية فقد ذكرت المبادئ الفقهية في مسألة الإعانة على المعصية وأن هذا المبدأ لا ينطبق على إيداع الأموال في الحساب الجاري.
مسألة أخرى وهي أن كثير من المسلمين الذين يقيمون ببلاد أجنبية غير مسلمة يودعون أموالهم في البنوك التقليدية الغربية فهل يجوز لهم أن يودعوا أموالهم في حسابات التوفير أو في ودائع ثابتة ويحصلون على فوائد؟ فمن العلماء من أجاز ذلك على أساس أن بعض العلماء كالحنفية أجازوا الربا من الحربي ولكن هذا القول ضعيف لم يأخذ به جماهير العلماء، والربا حرام سواء كان في دار الإسلام أو كان في دار الحرب.
ولكن هناك نقطة أخرى ينبغي أن ينظر فيها أصحاب الفضيلة الأعضاء وهي أن البلاد الغربية اليوم قد سيطرت على البلاد الإسلامية كلها باقتصادها وبأموالها وتقرضها أموالا بفوائد، وكل بلد إسلامي مرهون لديهم بفضل هذه الفوائد الربوية التي تجمعت على القروض التي استفادوها منه. فهل هناك من جواز شرعي بأن يودع المسلمون هذه الأموال في حسابات التوفير أو في الودائع الثابتة في البلاد الغربية فقط. وما يحصلون عليه من فوائد لا ينفقونها على أنفسهم بل يصرفونها لوجوه الخير (للجهات الخيرية) ؟ لو كان جائزا فإن فيه سهولة ويسرا ونفعا للجهات الخيرية للمسلمين. فهذه المسألة طرحتها لكم للمناقشة فقط ولم أبت فيها بشيء.
مسألة أخيرة أثارها الدكتور سامي حمود، وهو قد أثارها في غير مناسبة يعني في مناسبات شتى، وهي مسألة المضارب المشترك وهي أن المضارب المشترك ينبغي أن يكون ضامنا كما أن الفقهاء جعلوا الأجير المشترك ضامنا.
وهذه الفكرة في الواقع مبنية على قياس مع الفارق. الأجير المشترك له أجرة مضمونة، فهو حينما يعمل شيئا فإنه يضمن له أجرته من قبل مستأجريه، أما المضارب فليس له شيئا مضمونا، إذا حصل على ربح فإنه يقاسم رب المال ...
مناقش: وإذا خسر؟(9/675)
القاضي تقي العثماني:
إذا خَسر خسر جهده ولكن ليس هناك ضمان له للربحية. فإذا كان الأجير المشترك مضمونا له الأجر فمن المعقول أن يجعل ضامنا، أما المضارب فإنه ليس له ناتج مضمون. فلذلك لا يعقل أن يجعل ضامنا ولو جعلناه ضامنا لقلنا: إن جميع الودائع الربوية المعمول بها اليوم كلها –يعني- مباحة، وهذا شيء خطير جدا.
أخيرا أشير إلى نقطة أثارها فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري وهي قضية الجوائز على الودائع، وقد ذكر فضيلته أنهم قد أجازوا ذلك إذا كانت هناك جوائز غير مضمونة لأصحاب الودائع فإن ذلك جائز. والذي أراه أن هذه الجوائز إذا كانت معلنة من قبل الحكومة والحكومة ملتزمة بأدائها فإنها ملتزمة تجاه مجموع المقرضين لا اتجاه فرد واحد ولكنها ملتزمة تجاه مجموع المقرضين. فلذلك هذه الجائزة وإن لم تكن مضمونة لفرد واحد ولكنها مضمونة لجميع المودعين، ومن هذه الناحية هي زيادة مشروطة وينبغي أن تكون داخلة في تعريف الربا. وما ذكره سيادة الدكتور سامي حمود في حديث (كل قرض جر نفعا فهو ربا) وأنه ضعيف وما إلى ذلك، فالواقع أن هذا الحديث قد تكلم فيه المحدثون بصناعة حديثية، وهناك جماعة كبيرة من العلماء المحدثين الذين قالوا بأن الحديث حسن، والحسن –كما تعرفون- صالح للاحتجاج به. ثم كما تفضل الشيخ عبد الله بن منيع، هو حديث قد تلقته الأمة بالقبول. ومثل هذا الحديث ينجبر ضعفه بتلقي الأمة بالقبول، ولذا لا ينبغي أن نثير شبهات حول هذا الحديث الذي هو أصل في حرمة الربا. وهذا ما كنت أريد أن أقوله، والله سبحانه أعلم.(9/676)
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
تنصب ملحوظاتي على بحث الدكتور سامي، وأوافقه موافقة كاملة في كل ما كتبه في الصفحات الخمسة الأولى. ما يتعلق بتكييف الحسابات الجارية على أنها قرض.
وأود قبل أن أستمر في بقية الملاحظات أن أقف قليلا عند ما قاله الدكتور منذر والقاضي الثماني والشيخ التسخيري فيما يتعلق بهذه الجزئية، الدكتور منذر تكلم عن أرباح الحسابات الجارية وأن المساهمين يستأثرون بها، وهذا صحيح وهو تابع لتكييف الحسابات الجارية ما دمنا قد كيفناها بأنها قرض فاستثمار القرض وأرباحه للمقترض.
فمن المقترض في البنوك الإسلامية؟ عندنا في البنوك الإسلامية المساهمون والمودعون والمستثمرون، وهذه المسألة قد أثيرت منذ عدة سنوات عندنا في بنك فيصل، كيف توزع الأرباح بين المساهمين والمستثمرين؟ وسبب هذا ناتج من أن البنك يستثمر كل ما لديه من أموال في وعاء واحد.
مصادر استثمار البنك هي: رأس ماله، الحسابات الجارية، الودائع الجارية، ودائع التوفير. كل هذه تستثمر مختلطة مع بعضها وتأتي بأرباح.
بعض البنوك تستثمر ودائع الاستثمار منفصلة عن أموالها، وهذه لا تثير مشكلة. ولكن عندنا في السودان عندما طلبنا من بنك فيصل أن يستثمر هذه الأموال منفصلة وجد صعوبة في هذا، فثارت مشكلة توزيع هذه الأرباح؟ الإشكال سيأتي في الأرباح الناتجة عن الودائع الجارية، هل يستأثر بها المساهمون أم يشاركهم فيها المودعون؟
جواب هيئة الرقابة في ذلك الوقت وأصدرت فتوى في هذا –أظنها موجودة وموزعة في كتاب بنك فيصل- وهو أن هذه الأرباح تتبع المقترض، إذا كان المقترض هو المساهمون وحدهم فإنهم يستأثرون بكل أرباحها ولا يشارك فيها المودعون.
إذا كان المودعون يشاركون في اقتراض هذه الأموال والتي هي الحسابات الجارية وهذا يمكن أن يحصل بشرط أن يأذن رب المال (المودع) ... لكن على أي حال إذا مشينا على الرأي الذي يجيز وكتب في وثيقة الاستثمار أن المودع (رب المال) يأذن للبنك في الاقتراض على أمواله فإنه يكون شريكا في هذه الحالة في أرباح الحسابات الجارية. وهذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن أن تسوغ لأصحاب الودائع أن يشاركوا في الحسابات الجارية، أما إذا لم يوجد هذا فلا وجه للقول بمشاركتهم. في هذا أختلف مع الشيخ العثماني أظنه أراد أن يشركهم بغير هذه الطريقة.(9/677)
الدكتور منذر تحدث عن السحب والإيداع وأن هذا هو ما ينبغي أن يكون بالنسبة لودائع الاستثمار لكي يحول أصحاب الحسابات الجارية حساباتهم إلى ودائع استثمار.
هذه المسألة أيضا بحثت أكثر من مرة عندنا في السودان ولا تزال محل بحث. طريقة تشجيع أصحاب ودائع الحسابات الجارية على تحويل ودائعهم إلى ودائع استثمار، وقد أخذ بها الاقتراح وحتى تقدم عندنا البنك المركزي بطريقة لتشجيع هذا التحويل، وهو أن يضمن البنك لمن يضع أمواله في ودائع الاستثمار يضمن له فرق التضخم؛ لأنه الآن في السودان لا يرغب الناس في ودائع الاستثمار؛ لأن أرباحها أقل كثيرا من التضخم.
فالبنك لكي يشجع على هذه العملية وضع هذه الطريقة وهي محل بحث لدى هيئة الرقابة الشرعية وهي أنه هل يجوز هذا الضمان أو لا يجوز؟
موضوع تيسير السحب هذا موجود عندنا في السودان ومعمول به، لكن مع ذلك لا يوجد إقبال كثير على هذا؛ لأن الأرباح قليلة.. وعندنا في بنك البركة توجد ودائع استثمار, عرض على الهيئة, الإدارة عرضت على الهيئة أن تطلب ودائع الاستثمار لشهر واحد فسألتها هيئة الرقابة هل تستطيع يا بنك أن تصفي العملية في شهر حيث تعرف الأرباح, وهذا يقودنا إلى موضوع التنضيض الحقيقي والتنضيض الحكمي, فوجدت الهيئة أنه لا يستطيع تنضيضا حقيقيا ولا حكميا, ولذلك رفعوا المدة إلى أربعة أشهر وقالت الإدارة تستطيع أن تصفي العملية في هذه المدة, فأذنت لها الهيئة بأن تسير في هذا وهو محل تجربة, قد لا يستطيعون وقد يستطيعون, لكن لا بد في عمليات المضاربة وودائع الاستثمار من التصفية في نهاية المدة كيفما كانت طويلة أم قصيرة، لا بد من التصفية، إما التصفية الحقيقية أو الحكمية. وما قاله الدكتور منذر من أن الإدارات تخدع هيئات الرقابة, الواقع أن هذا فيه شيء من المبالغة, وهذه التجربة عندنا في السودان في شركة من شركات الاستثمار مدة المضاربة فيها سنة كاملة ونشترط عليهم هذا الشرط بأن تصفى في نهاية المدة. المضاربة التي أخذت في يناير لا بد أن تصفي نهاية ديسمبر. فتأتي مشكلة وهي أنه قد تبقى بعض الموجودات في نهاية العام لم تبع ولا يجدون من يشتريها, فقالت لهم الهيئة: لا مانع من أن تبيعوها للمضاربة التي تليها, والشركة هذه وكيل عن المضاربين فتقوم هي بهذه العملية وتكون بهذا قد صفت العملية تصفية حقيقية وليست تصفية حكمية؛ لأنها باعتها للمضاربة التي تليها, فليس في هذا- فيما أعتقد- مخالفة شرعية وهي أفضل بكثير من نظام النمر. أنا لا أعترف بنظام النمر ولا أعتبره تصفية لا حقيقية ولا حكمية, لكن على أي حال هذا هو الذي تمشي عليه الآن البنوك جميعا في السودان وغيرها وهي غير مقبولة عندي؛ لأنها تعطي أرباحا لغير من اشتركوا فيها, هي مسألة تقريبية ويجب أن يوجد لها حل.(9/678)
الشيخ التسخيري تكلم عن جوائز المودعين. رأيي مع الشيخ العثماني، هذه الجوائز إذا كانت معروفة تكون كأنها مشروطة فلا تجوز مطلقا. وقد أفتينا في السودان بعدم جوازها.
بعد ذلك أنتقل إلى صديقي الدكتور سامي ولي بعض الملاحظات على ما ورد في بحثه, يقول الدكتور: أما إذا كان الإذن باستعمال الوديعة الحسابية يحمل نوعا من المصلحة للمودع فإن الحكم يختلف باختلاف الحال وذلك لدرجة أن صاحب كتاب (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع) ذهب إلى أنه لو دفع رجل مالا إلى آخر على أن نصفه وديعة في يد المضارب ونصفه مضاربة بأن ذلك جائز، ويكون المال في يد المضارب على ما سميا. كلام صاحب البدائع سليم، لكن الدكتور سامي يقول هذا يعني أن النصف الأول هو وديعة مأذونة بالاستعمال، فهي قرض مضمون، والنصف الثاني هو رأس مال المضاربة فله حكم المضاربة من حيث كون الربح على الشرط. لا أدري من أين جاء الدكتور سامي بهذا الشرح أن النصف الأول الذي قال صاحبه هو وديعة؟ هي وديعة بمفهومها الشرعي. وديعة إلى أن يطلبها صاحبها، فكيف جعلها قرضا؟ لا يمكن أن تكون قرضا.
وقد عرف الوديعة الحسابية بأنها النقود المودعة مع الإذن بالاستعمال لصالح من أودعته إليه. ثم جاء في تقسيم الوديعة فذكر القسم الأول وهو سليم، والقسم الثاني الوديعة بالاستثمار.
الوديعة الحسابية بالاستثمار لا يمكن أن تدخل في الوديعة الحسابية؛ لأنه قيدها بأن تكون لصالح من أودعت لديه. والوديعة بالاستثمار أودعت لصالح المودع، وقد نقول: إنها أودعت لصالح الطرفين، وهذا شأن المضاربة، فلا يمكن أن تكون قسما من الوديعة الحسابية.
وذكر في بحثه موضوع الرهن. هو يبدو لي من كلامه أنه يجيز رهن الوديعة الحسابية لصالح المصرف المودع لديه. وهذا ما جاء في بحثه. ولا أدري كيف تكون الوديعة الحسابية رهنا، ورهن لصالح المصرف نفسه؟! المصرف هو المقترض وصاحب الوديعة أقرضه وخرجت عن ملكه فكيف يودعها؟ الواقع أنني لا أتصور موضوع رهن لوديعة حسابية من صاحب الوديعة؛ لأن هذا مقرض والمقرض يخرج المال عن ملكه ويكون في يد المقترض فلا محل لرهنه.
تكلم أيضا في بحثه عن النمر وقد تكلمت عن هذا.
مسألة ضمان الودائع. هذا الرأي قديم معروف من الدكتور سامي.(9/679)
القاضي تقي العثماني:
لو سمحتم، لو أعطيتمونا البديل المناسب لحساب النمر عندكم.
الشيخ الصديق الضرير:
لماذا؟ لا، إلى الآن ما يعملون به غير ما ذكرته لكم في هذه الشركة هي شركة مضاربة خاصة عملها المضاربات، هذه وجهناها بأن تعمل بهذه الكيفية ولا تشتغل بحساب النمر، لكن بالنسبة للبنوك التي تأخذ ودائع مستمرة –كما يصورها الدكتور سامي- والتي هي تأخذ في كل وقت ليست محددة بمدة. التي تأخذ ودائع محددة بمدة تعتبر كأنها حساب جار. هذه مقيدة بأن تصفى العملية في آخر السنة. البنوك التي طلبت أن تأخذ ودائع لمدة أقل من سنة، والتي هي أربعة أشهر وثمانية وسنة، وهذه ألزمناها بأن تصفي الوديعة في نهاية كل أربعة أشهر، وقالوا: هذا ممكن وبدءوا في التجربة، وهنا في هذه الحالة أيضا توجد نقطة أثيرت وهي أنه إذا سحب الوديعة في أثناء المدة لا يستحق عليها ربحا فإنه يأخذها كما هي. وهنا أود أن أرد على نقطة ذكرها الدكتور سامي وهو أن هذا يعني أنك قد ضمنت له رأس ماله وأراد أن يأخذه حجة على ضمان البنك، لا، أنا لم أضمن له رأس ماله في نفس الوثيقة التي دخل معها، أنا اشترطت عليه هذا، وهو أن يبقي هذا المال أربعة أشهر كاملة لكي يستحق الربح، فإذا لم يبقه وسحبه في أثناء المدة لا يستحق ربحا. والواقع أن البنك وهذه الودائع التي وضعت عنده لمدة أربعة أشهر، ولنفرض عشرة ملايين سيجنب مليونا منها لهذه المسحوبات ما دام قد أذن بها ويستثمر التسعة ملايين، فالشخص الذي يأتي ويقول لبنك: أريد وديعتي يعطيه من هذا المليون الذي لم يستثمر وهو محفوظ لمقابلة مثل هذه السحوبات فهو ليس ضامنا، وإنما هو في الواقع لم يستثمر هذا المال ودفعه إليه. وقلنا للذين يريدون أن يسحبوا بأنه الذي يضع وديعته لمدة ثمانية أشهر ويسحبها بعد أربعة أشهر فإنه يستحق ربح الأربعة أشهر؛ لأن ماله ربح فعلا وتمت التصفية، والذي يضعها لمدة سنة ويسحبها بعد ثمانية أشهر يستحق ربح الثمانية أشهر؛ لأن هذه لمدة قد عرفت أرباحها، لكن لا يستحق ربح الباقي ويعتبر ماله كأنه مجنب مع هذا المليون الذي يحتفظ به البنك لكي يقابل به السحوبات. فهذه هي الطريقة التي عندنا، لكن بالنسبة لحسابات الودائع التي هي أشبه بالحسابات الجارية والتي من الممكن لصاحبها أن يسحبها في أي وقت هذه هي المشكلة، وهذه هي التي تسير فيها عمل البنوك على حساب النمر، وتوجد بنوك أخرى –وأظن أن الشيخ العثماني على علم بها- لا تسير على حساب النمر وإنما تسير على حساب الوحدات، وهذه في رأيي أقرب من حساب النمر، نظام الوحدات المتبع في دار المال.(9/680)
نمضي إلى كلام الدكتور سامي والذي هو موضوع الضمان والذي قاسه على الأجير المشترك، والشيخ العثماني قد كفاني بعض الشيء وهو في الواقع أننا قلنا هذا الكلام أكثر من مرة في أن هذا قياس مع الفارق وقد بينه لكم الشيخ العثماني، ولكنني أريد أن أسير قليلا في بحث الدكتور سامي.
وجدت في بحثه أنه يريد أن يعلل لهذا التشبيه: إن رب المال في المضاربة الفردية يختار العامل ويحدد له النشاط ويمكن أن يضع له شرطا، بخلاف البنوك فإن رب المال لا يستطيع أن يفعل هذا. وهذا نقص في الواقع، وقد بحث في أكثر من ندوة ويوجد اقتراح بأن تنشأ هيئة للمشتركين – وأظن الدكتور سامي على علم بها وحضر هذا الاجتماع- لكي ترعى حقوق المشتركين، وهذا عملنا به في السودان. تستطيع أن تضع هذه الشروط وتشترط على البنك، صحيح الآن البنك هو الذي يتصرف كما يشاء ما عدا هذا المكتوب في الاستمارة، فهذا منتف: (وكان مقتضى توازن العقود أن يكون في مقابل الحرمات من حق الاشتراط نوع من الضمان) ، لم هذا؟ لا علاقة بين هذا وهذا. وموضوع الضمان كما تعلمون هذه مسألة مجمع على منعها، لا خلاف بين الفقهاء في أنه لا يجوز أن يضمن المضارب لرب المال رأس ماله، بل لا يجوز له أن يضمن له كذلك أي مقدار من الربح فهذه مخالفة للنصوص. الأجير المشترك ليس فيه مخالفة للنصوص حتى يتم القياس عليه، ثم إن العلة في تضمين الأجير المشترك غير موجودة في المضارب المشترك إذا قبلنا هذه التسمية. فالأجير المشترك ضمن لحفظ أموال أصحاب المتاع الذين يضعونه عنده، لكن البنك ليس بهذه المسافة. فلا وجه لقياسه بتاتا.
ثم يقول في صفحة أخرى من بحثه:
إن عمل المضاربة المشتركة ذو طبيعة مستمرة وذلك لأن العمليات التي يقوم بها المصرف متتابعة ومتداخلة وليس ممكنا الحكم بتاريخ معين على حدوث خسارة محددة.
وكأنه يشكك في عملية المضاربة. وإذا أخذنا بهذا قد نذهب إلى أن البنوك لا يجوز لها أن تضارب.(9/681)
وقد حدث في أحد المصارف الإسلامية التي لا تأخذ بأصل مبدأ الضمان خسارة كبيرة حيث لم تجد هيئة الرقابة الشرعية مناصا من تضمين المصرف للخسارة الواقعة على أساس الخطأ المفترض.
هو ليس على أساس الخطأ المفترض كما يقول الدكتور سامي، هي رأت أن البنك فعلا مقصر فضمنته وهذا الحكم الشرعي، لكن الدكتور سامي يريد أن يضمنه في جميع الحالات.
أقترح هنا وهي سجية جميلة موضوع صندوق المخاطر، وهذا معمول به أيضا لكن بغير الطريقة التي ذكرها. صندوق المخاطر هذا أشبه بالتأمين التعاوني ولذلك نحن اشترطنا فيه في السودان أن يكون الاستقطاع من نصيب المودعين فقط وليس من الربح الكلي. الذي ذكره الدكتور سامي هو يقتطع من الربح كله واستند فيه إلى كلام للمالكية، لكن نحن لم نأخذ بهذا وهو أسلم.
المودعون يتضامنون فيما بينهم ويقتطعون جزءا من الربح يوضع احتياطيا في حالة الخسارة إذا حصلت خسارة يدفع منه، لا ضرر في هذا، هذا تأمين تعاوني. نقل الدكتور عبارة هنا في بحثه عن بداية المجتهد ليؤيد بها رأيه، وهي:
إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض آخر أنه ضامن إن كان خسرانا وإن كان ربح فذلك على شرطه، ثم يكون لذلك عمل شرطه على الذي دفع إليه فيوفيه حقه مما يبقي من المال.
وفهم من هذا الضمان. لا، هذا الضمان، وهذه العبارة من ابن رشد هي في حالة ما إذا لم يأذن رب المال للمضاربة بالمضاربة به، لكن لو أذن له بأن يضارب به فلا يضمن، والموجود في البنوك –المعروف- كلها وبعضها تنص على هذا، أن المال يأذن للبنك بالتصرف فيه بما يرى فيه المصلحة من إعطائه المضاربة للغير، وهذا هو المعمول به، إلى آخر ما يجوز للمضارب في حالة التفويض. النص الذي هنا لا يسنده مطلقا وهو فهم أنه مطلق، لا. وكل ما جاء بعده في هذه الصفحة هو مقيد بعدم ...
ثم يقول في آخر كلامه: ومهما يكن من أمر فإن مسألة الضمان وإن لم يصرح بها فإنها قائمة بالفعل؛ لأن المصرف الإسلامي الذي يسمح لصاحب الوديعة بسحب أمواله المودعة كليا أو جزئيا ضمنا أنه قبل مبدأ ...
وهذه هي الجزئية التي تكلمت عنها من قبل ولا يسمح له بهذا ولا يؤدي إلى هذا المعنى الذي ذهب إليه الدكتور سامي. وأكتفي بهذا، وشكرا.(9/682)
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أولا، نشكر الإخوة الباحثين علي بحوثهم القيمة، ونشكر شكرا خاصا للأستاذ الدكتور العارض حيث كان عرضه طيبا ونافعا وجامعا، فجزاه الله خيرا.
بخصوص مسألة الودائع، تكييف الودائع لا يمكن أن يكون على سند واحد، فإنما التكييف يختلف من حيث هل هذه الودائع حسابات جارية؟ والحسابات الجارية لها أوراق خاصة كما أن الودائع الاستثمارية لها أوراق خاصة، فتوقيع الشخص على هذه الورقة دون الورقة يجعل أن هذه الوديعة في حساب جار والثانية في وديعة استثمارية.
فلذلك لا يأتي الشخص اعتباطا ويضع المبلغ في الحساب الجاري أو في الودائع الاستثمارية. فالودائع الاستثمارية والحسابات الجارية كما هو الواقع في البنوك الإسلامية أو حتى في غيرها فلكل شيء –كما يقولون- فورمة خاصة وبالتالي من خلال هذه الورقة، من هذا البيان تتحدد نية الشخص وقصد الشخص، هل هو يريد الوديعة للحساب الجاري أو يريد أن يكون هذا للودائع الاستثمارية؟ فإذا كان قد أدخل في الودائع الاستثمارية فيكون هناك مضاربة بالتأكيد، وإذا كان في الحساب الجاري فتكييف الحسابات الجارية على أنها قرض. ومن هنا فالتقسيم من ناحية الوصف الشرعي أو من هذه الناحية ثنائي وليس ثلاثيا، وكان الأولى أن يركز على هذا التقسيم ثم بعد ذلك تقسم الودائع الاستثمارية إلى عدة أنواع.(9/683)
مسألة إقراض ولي القصر، وهي: هل لولي القصر حق الإقراض؟ أجاز الفقهاء الإقراض إذا كان هناك مصلحة، بل نص صاحب (المغني) كما أحفظه وكذلك صاحب (الروضة) للإمام النووي، نصا على أنه في بعض الأحيان قد يتعين إذا خاف ولي الأمر من الاعتداء على هذه الأموال ولم يجد الاستثمار، فحينئذ يعطي قرضا مضمونا لشخص فتكون هذه الأموال مضمونة. ومن هنا بالتأكيد ولي الأمر إنما يقدم على الحساب الجاري للقصر في حالة ما إذا وجد مصلحة، وإلا يدع هذه الأموال في الحسابات الاستثمارية.
مسألة الظفر في الحسابات التي ناقشتها البحوث. وحقيقة المسألة محلولة عندنا في بعض البنوك الإسلامية ولا سيما البنك الإسلامي في قطر، حيث إنه في نفس العقد يشترط أو يذكر فيه أنه للبنك الحق في أن يأخذ هذا المال في حالة عدم التسديد من أي مال يوجد في البنك ويوافق عليه رب المال أو يوافق عليه المقترض، وحينئذ يكون بذلك قد اشترط على نفسه وأذن المدين بذلك ويكون حينئذ القضية محلولة، ومن هنا يمكن النص عليه في العقود ولا نحتاج بعد ذلك إلى هذا الخلاف الفقهي السائد أو القياس على مسألة الزوجة أو غير ذلك؟ أنا في اعتقادي أن قضايا العقود لا بد أن تنظم من خلال العقود والشروط ولا تنظم من خلال مسائل أخرى بعيدة عن واقع المعاملات.
بخصوص المضاربات المشتركة التي أشارت البحوث إليها وبعض البحوث استشكلتها استشكالا كبيرا، في اعتقادي أن الحل العملي لهذه المسألة هو الذمة المشتركة وتسمى هذه بالشخصية المعنوية فهذه الشخصية المعنوية تتلقى هذه الأموال وهي محل لقبول هذه الأموال مع ملاحظة التنضيض الحكمي مع ما أشار إليه فضيلة القاضي العثماني حساب النمر.
هذه القضايا الثلاث الشخصية المعنوية أو ما تسمى بالذمة المشتركة مع وجود التنضيض الحكمي مع ملاحظة حساب النمر أو ما يسمى (دولار يوم أو يوم بدولار) هذا حل عملي لهذه المسألة. ولا مانع كما قال فضيلة الشيخ العثماني من أن المشاركات اليوم أو المضاربات هي تطوير للمشاركات أو المضاربات السابقة، وكما يجوز إحداث عقود جديدة لا تخالف المبادئ كذلك لا مانع من إحداث أنواع جديدة من عقود كانت متناولة. فالآن ما دامت أصول العقود ثابتة فلا مانع من تطوير هذه العقود بما لا يتعارض مع قواعد الشريعة.
أما بالنسبة إلى ما أشار أخونا الكريم الدكتور منذر، حتى للعلم وأنا أيضا عندي اطلاع على كثير من البنوك الإسلامية، أول مرة أسمع بما أشار إليه الدكتور منذر من أن البنوك الإسلامية تقوم ببيع هذه الأموال في آخر السنة وأن هذا تنضيض صوري أو وهمي. الذي تسير عليه معظم البنوك الإسلامية –حسب علمي- أنها تقوم بعملية التنضيض الحكمي ويكتفى بذلك.(9/684)
مسألة ما أشار إليه الدكتور منذر في القضية أنه لا بد أن تقسم الحسابات الجارية إلى نوعين. هذا طبعا إذا نحن كيفنا الحسابات الجارية إلى القرض، لا بد أننا نحافظ على مثل ما أشار إليه الشيخ ابن بيه على سنن العقد أو –كما أسميه- ميزان العقد، فالقرض له ميزانه الخاص، وحسابات التوفير أو الاستثمار لها ميزانها الخاص، فلذلك تبقى الحسابات الجارية ولكن الآن في كثير من البنوك الإسلامية توجد حسابات توفير يكون للإنسان الحق في السحب في أي وقت ولكن تكون نسبة الأرباح قليلة، فالأفضل بدلا من أن نقسم الحسابات الجارية وهي مكيفة على أساس القرض فالأفضل أننا نتجه إلى الجانب الثاني وهو حسابات توفير ميسورة وتكون نسبة الأرباح للبنك أو للشخص قليلة في مقابل هذه السهولة في عملية السحب.
بعض الباحثين اعتبروا يد المصرف على الحساب الجاري يد أمانة، ثم بالتعدي والتصرف أصبحت يده يد ضمان. هذا التكييف –في اعتقادي- ليس تكييفا صحيحا ما دمنا اعتبرنا أن الحساب الجاري هو بمثابة القرض، وكما قلت: إن الحساب الجاري ليس شيئا مجهولا، هو ورقة مكتوبة ومعروفة، فإذا لم يقرأها فهو كأنه علم بهذه الشروط والضوابط التي تضعها البنوك الإسلامية بخصوص الحساب الجاري. ومن هنا فبمجرد ما أودعت المبالغ في الحساب الجاري كأنك أقرضت وأصبح البنك ضامنا لهذا المبلغ وفي مقابل هذا الضمان يتصرف البنك حيث ما يشاء من باب قاعدة (الغرم بالغنم) وكذلك (الخراج بالضمان) . وهذا إذا اعتبرنا هذه المسألة وهذا التكييف الذي ذكره أكثر من باحث تكييفا مخالفا لما يسير عليه الجمهور من أن الحساب الجاري قرض مضمون أساسا.
مسألة الودائع. بعض الباحثين –حسبما قرأت في البحوث- قالوا بعدم التصرف فيها أبدا باعتبار أن الودائع لا بد أن تبقى، بينما الفقهاء –رحمهم الله- فرقوا بين ما هو دين وما هو عين، فقالوا: ما هو عين من الودائع لا يجوز التصرف فيها؛ لأنها تتعلق ... يعني لا بد أن يحافظوا على العين لكن الدين يدخل في الذمة. والدين ولا سيما فقهاء الحنفية، والدين طبعا هو النقود تعتبر دينا، فإذا كانت هذه النقود دينا فبمجرد ما تسلم الإنسان وأودعها أو تركها في بيته فتعتبر هذه المبالغ دينا وتدخل في ذمة الإنسان. مع – طبعا - قضية الضمان وعدم الضمان تلاحظ فيها.(9/685)
ما طرحه الدكتور سامي مسألة المضارب المشترك، في الحقيقة أنا أيضا أؤيد رأي فضيلة الشيخ العثماني وفضيلة الدكتور الضرير حول هذه المسألة، وأنا حققت النقل، أن نقل ابن رشد لا يدل على ما أراده الدكتور.
بعض الباحثين من خلال بحوثهم فرقوا بين مرحلتين، مرحلة الإيداع ثم مرحلة التصرف. ففي مرحلة الإيداع مثل الدكتور الكبيسي قال: له الحق في السحب بينما في المرحلة الثانية –بعد التصرف- ليس له الحق في السحب.
وحقيقة هذه التفرقة أيضا تفرقة غير مقبولة وقد أشار إليها الدكتور سامي. ومن المعلوم أن عقود المضاربة والمشاركة والقرض والودائع الاستثمارية أو الحسابات الجارية لا تخرج، إما أن تكون قرضا أو تكون مشاركة. هذه العقود من العقود الجائزة خاصة بالنسبة للمضاربة والمشاركة، ولكن الإلزام يأتي من الاشتراط وتحديد المدة، فإذا حددت المدة فيكون الإنسان ملزما بإكمال هذه المدة، وكذلك إذا ترتب على المضاربة أو فسخ المضاربة ضرر فيكون ذلك يأتي من باب آخر وليس هناك فرق بين هاتين المرحلتين ولم أر من السابقين من فرق بين هاتين المرحلتين.
اعتبارات الحسابات رهنا. حقيقة مسألة الرهن، حتى الذين قالوا برهن الديون، يعني تكييف اعتبار الحسابات رهنا تكييف يحتاج إلى نظر واجتهاد جديد، لكن لماذا لا تعتبر هذه الحسابات من باب الضمانات؟ وباب الضمان أوسع حتى الضمان بالمجهول يجوز، فلماذا نحن نتقيد بمسألة الرهن في هذه المسألة ونجعل الضمان ويكون هناك ضمان في هذا الباب؟ أيضا مسألة أخرى أشار إليها الشيخ التسخيري في بحثه وحديثة بأنه يمنع الخدمات، يمنع أن يجر القرض الخدمات، ولكنه مع ذلك يجيز الجوائز، فأنا في اعتقادي فيه شيء يحتاج إلى إعادة النظر في هذه المسألة وأن الجوائز كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ العثماني هي أيضا فوائد مادية تمنح لهؤلاء المقرضين في مجموعهم، وكل واحد يطمع في ذلك، ففيها نوع من المقامرة وفيها أيضا الفائدة المرجوة لبعضهم. كنا نحن منعنا أي شيء وأبقينا القاعدة العامة التي تلقتها الأمة بالقبول فكيف نجيز هذه الجوائز وهي تقرب مما يسمى الآن بالجوائز فئة (ج) التي تصدر في بعض البنوك الربوية بجانب فئة (أ) وفئة (ب) ، وفئة (ج) تعتبر من أصحاب الجوائز؟ هذا ما أردت أن أقوله وشكرا.(9/686)
الدكتور محمد سيد طنطاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا يا سيادة الرئيس، وأنا شخصيا سيكون كلامي محددا وسيكون في الكليات وليس في الجزئيات. وأبني كلامي على حكم تعلمتها, ومنها أن كل عالم في فن هو تلميذ على غيره في فن آخر , وأن الإنسان يتحدث على حسب تخصصه وعلى حسب علمه امتثالا لقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] . وأنا شخصيا خلال قراءاتي للمعاملات في الإسلام وخلال عملي وجدت أن المعاملات في الإسلام تمتاز بالوضوح والصراحة والمكاشفة, كما أن الناس في كل زمان ومكان لا يستغنون عن التعامل فيما بينهم والأمر كما قال الشاعر:
الناس بالناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ
الحقيقة الثانية: أن شريعة الإسلام لم تقصر المعاملات على واحدة أو على اثنتين أو على ثلاث معاملات وإنما أنا بقراءاتي وباطلاعي وجدت أكثر من عشرين معاملة، منها: البيع، والشراء، والوكالة، والمضاربة، والمرابحة، والمشاركة، والمزارعة، والمساقاة، والسلم، والجعالة، والإقالة، والصلح، والرهن. وتمتاز شريعة الإسلام بأن لكل معاملة خصائصها، وشروطها، ولا تختلط معاملة مع معاملة، وإنما كل معاملة لها خصائصها ولها شروطها التي تميزها عن غيرها. هذه حقيقة لا أظن أن عاقلا يجادل فيها. وأن المعاملات في الإسلام لا تفرق بين مسلم وغير مسلم، وإنما الغش حرام مع المسلم ومع غير المسلم، الظلم حرام مع المسلم ومع غير المسلم، وهكذا.
حقيقة ثالثة: وهي أن من المتفق عليه عند العقلاء أن فهم الأمور فهما سليما يؤدي إلى الحكم الصحيح عليها، وتحرير محل النزاع –كما يقول العلماء- يؤدي إلى حسن الاقتناع، وذلك لأن الألفاظ متى حددت معانيها والقضايا متى وضحت معالمها سهل الوصول إلى الاتفاق بين المختلفين. لذا، فأنا يعجبني قول بعض العلماء: لم يكن اختلاف الناس في الرأي واختلافهم في تطبيقه إلا وليد الاختلاف في تحديد مفاهيم الأشياء.
بناء على ذلك أتطرق إلى الحقيقة الرابعة وهي أن القروض لغة وشرعا لها معنى محدد. والودائع لغة وشرعا لها معنى واحد. الاستثمار من حيث اللغة ومن حيث الشرع له معنى محدد. والخلط بين الألفاظ هو الذي يؤدي إلى البلبلة وإلى الاضطراب. لفظ القروض ورد في القرآن الكريم وورد في آيات متعددة، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:] والمعروف أن المقصود بالقرض الحسن: أن يعطي الغني للفقير شيئا من ماله القرض بمعناه العام إذا لم يطلق عليه قرضا حسنا ففي هذه الحالة معروف بالآتي: أن يأخذ الإنسان من غيره مبلغا ثم يرده إليه عندما ييسر الخالق –عز وجل- له.(9/687)
هذا هو المعنى الواضح لمعنى كلمة (القرض) ، هذا هو المعنى الواضح الذي ورد في القرآن الكريم، وورد أيضا في السنة المطهرة، ودعا إليه سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال: ((من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)) .
وبلغ من حرص سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أن ييسر الميسور على المعسر أنه عليه الصلاة والسلام قال ((كل قرض صدقة)) ، أي كل قرض يقرضه الإنسان لغيره له ثواب مثل ثواب الصدقة. والديون لها هذا المعنى تقريبا وإن كان لفظ الدين أعم من لفظ القرض؛ لأن الدين كل ما ثبت في الذمة. فمثلا، الصداق المتأخر في ذمتي لزوجتي دينا ولا يسمى قرضا. لكن على أية حال الفرق سهل، لكن السؤال: متى يجوز للإنسان أن يستدين أو يقترض؟ هذه هي المسألة. الذي أعلمه من كتاب الله ومن سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه لا يجوز للإنسان أن يمد يده بالسؤال لغيره إلا من أجل ضرورات الحياة. إذا لم يأخذ هذا المال تتعرض حياته للخطر، هنا يجوز له أن يسأل غيره أو أن يقترض من غيره، وسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين ذلك بقوله وعمله، واستعاذ من الديون واستعاذ من القروض، وبلغ من حرصه عليه الصلاة والسلام أنه عندما سأله سائل: يا رسول الله أأقترض للحج؟ الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يرض بذلك، وقال له: ((لا)) إذن لا يجوز للإنسان أن يقترض من غيره، سواء أكان هذا الغير إنسان أو بنكا أو مؤسسة إلا من أجل ضرورات الحياة. فإذا أنا مددت يدي بالسؤال إلى غيري وقلت له: من فضلك أعطني عشرة ريالات وفي جيبي العشرة ريالات أكون كذابا ولا أكون مسلما كامل الإسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح –عندما سأله سيدنا قبيصة- وأمامي الحديث وهو في صحيح مسلم قال له: ((يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة ورجل أصابته جائحة ورجل أصابته فاقة)) . إذن، نريد أن نضبط الألفاظ، قبل أن تسألني، أنا عندما أقترض أو أنت، فأنت تقترض لماذا؟ لماذا تمد يدك بالسؤال إلى غيرك؟ لماذا تقترض؟ إن كنت تقترض من أجل ضرورات الحياة تنطبق عليك قول الله –عز وجل- {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] إن كنت تأخذ مالا من غيرك من أجل أن تستثمره وتربح وهذا الغير قال لك: أعطني جزءا من ربحك نظير أنك أنت انتفعت بمالي، يقال في هذه الحالة: أعطه جزءا من هذا الربح، وإن وجدت أن ما يطلبه منك أكثر من ربحك المتوقع ابتعد وقل: اللهم أبعدني عن ذلك وينتهي الإشكال. إذن لا يجوز للإنسان أن يقرض أو يستدين إلا من أجل ضرورات الحياة، وكل معاملة تتم عن طريق القروض أو الديون لا يصح –بأي حال من الأحوال وبأي وسيلة من الوسائل- لصاحب المال أن يأخذ أكثر من حقه بأية صورة من الصور هذا ما أفهمه فيما يتعلق بالقروض والديون.(9/688)
تأتي بعد ذلك الودائع، الذي أعرفه من كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن كلمة الوديعة هي أمانة، ومعنى أمانة أنا إذا أعطيت مبلغا من المال لإنسان، وقلت له: خذ هذا المال ليكون أمانة عندك، في هذه الحالة سواء أكان بنكا أم إنسان أم مؤسسة من حق الذي أودعت عنده أن يقول لك: أعطني مبلغا كذا لأنني أنا ضامن لهذا المال. يبقى الواضح في هذه الحالة لا يجوز لمن أودع ماله عند مصرف أو بنك أو كذا أو كذا وقصده أن يحفظه له البنك لا يجوز له أن يأخذ شيئا بل عليه هو أن يدفع للمودع عنده؛ لأن المودع عنده قد ضمن ذلك.
هذه هي القواعد العامة.
يأتي بعد ذلك الاستثمار، فرق بين القرض وبين الدين وبين الوديعة وبين الاستثمار.
الاستثمار هو أن آتي إلى إنسان فأقول له أنا مفت شرعي وقبل أن أكون مفتيا شرعا عملت في الجامعة لمدة عشرين سنة ومعي مبلغ من المال، ولكني لا أحسن التجارة وليس عندي الوقت، فخذ هذا المال واستثمره لي وأنت وكيل عني وكالة مطلقة، أتحبسني في المضاربة وفي المضاربة لماذا؟ أنا أمامي عشرون معاملة. أنا أتعامل بالوكالة المطلقة خذ هذا المال وأنت وكيل عني وكالة مطلقة في أن تستثمره لي فيما أحل الله، وما تعطيه لي من أرباح فأنا راض بها. والمسألة في غاية الوضوح. إذن في هذه الحالة فرق كبير بين القرض وبين الوديعة وبين الاستثمار، والأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
من نوى القرض ففي هذه الحالة لا يأخذ سوى رأس ماله، ومن نوى الوديعة في هذه الحالة يدفع للمودع عنده أجرة الحراسة، ومن نوى الاستثمار في هذه الحالة له أن يتخذ طرق الاستثمار التي أحلها الله، سواء أكانت عن طريق البيع، أو عن طريق الشراء، وعن طريق الوكالة، أو عن طريق المشاركة، أو المرابحة، أو الإجارة، عن أي طريق من الطرق التي أحلها الله ولا تحبسني في معاملات معينة. وإنما أنا أقول: كل معاملة خلت من الغش وخلت من الربا. نحن نقول، الذي أفتي به في مصر، الذي أفتي به، هو ماذا؟ كل من يستحل التعامل بالربا فهو مرتد عن الإسلام وإذا كان متزوجا تطلق منه زوجته ولا يدفن في مقابر المسلمين. هذا هو الحكم الشرعي في الربا، ولا يدفن في مقابر المسلمين. المشكلة لا بد أن تحدد المسائل، ففيما يتعلق بالقروض والودائع والودائع والاستثمار فلكل لفظ معناه الخاص به والذي يجب أن نفرق بينه وبين غيره.(9/689)
كذلك أنا شخصيا وهذه نقطة يمكن ... أنا شخصيا في دولة دينها الرسمي الإسلام في مصر، وأنا مفت شرعي، وأقول: يجب ثم يجب ثم يجب –وهذا ما قلته في الصحف وغيرها- أن تكون المادة الأولى- في معاملات البنوك وغيرها جميع معاملات البنوك خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامية. وكل دولة دينها الرسمي الإسلام ثم تبيح غير ذلك فهي لا تستحق الاحترام، أنا مفت شرعي. ما دامت الدولة رضيت بأن يكون هناك بنوك إسلامية، أنا أحضرت –بصفتي مفتيا شرعيا ومن سلطاتي- رئيس بنك مصر وقلت له تعال أنت كاتب هنا: بنك مصر فرع المعاملات الإسلامية، وفي المركز الذي أنت فيه لست كاتبا ذلك، هل تستطيع أن تقول لي الفرق بينهما ما هو؟ فسكت ولم يستطيع أن يأتي بجواب. وفي هذه الحالة قلت له: أنت في هذه الحالة كذاب.
الرئيس واحد والخزينة واحدة قل لي: لِمَ الفرق؟ ثم بعد ذلك أية دولة تستحق الاحترام لا تكون المادة الأولى في معاملات البنوك، يجب ثم يجب أن يكون جميع معاملات البنوك خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامية بذلك لا يبقى هنا داع أننا نحن نفرق، لا، كل المعاملات يجب أن تكون خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامية والمفتي الشرعي تأتيه مائة مسألة يدرسها ويقول هذه حلال وهذه مكروهة وهذه حرام، وهكذا، لكن عدم الوضوح هذا الذي يؤدي إلى البلبلة ويؤدي إلى عدم الاقتناع بما نقول؛ لأن الدولة التي تحترم نفسها يجب عليها ألا تكون متناقضة مع نفسها طالما أن دينها الرسمي الإسلام. ما معنى بنوك إسلامية وبنوك غير إسلامية؟ الكل بنوك إسلامية. يجب أن يكون الكل بنوك إسلامية، وأنا أحيي كل دولة دينها الرسمي الإسلام ولا تجعل هذا المعنى، وإنما كل معاملاتها خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامية التي لا تفرق بين مسلم وغير مسلم، وإنما تقوم على العدالة. بعد ذلك تأتي الصور الفرعية.
معاملات البنوك هذه هي متاهات لا أول لها ولا آخر. تأتيني كل مسألة على حدة، مائة مسألة يتعامل عن طريقها البنك، يأتيني بكل مسألة ويقول لي: يا فضيلة المفتي، هذه المعاملة حلال أم ليست حلالا؟ أنا ملزم أن أكون أن هذه المسألة حلال، وهذه المسألة ليست حلال وأصحح الخطأ وبهذا تنتظم الأمور فالكليات شيء والفرعيات شيء آخر. الكليات كلنا متفقون على أن كل من يستحل الربا يكون مرتدا عن الإسلام وتطلق منه زوجته إن كان متزوجا ولا يدفن في مقابر المسلمين. الفرعيات، ائتني بالمسائل على حده، مثل ما أتى أمس الدكتور نزيه بست مسائل قابلة للمناقشة، هذه المسألة فيها شبهة، هذه المسألة فيها حرمة، هذه المسألة لو وضعت في قالب كذا تكون حلالا، وبهذا تتضح الأمور وتستقل الأحوال.
وبالله التوفيق.(9/690)
الدكتور عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
عطفا على طلبك الكريم بالإيجاز وملاحظة لانتهاء جلستي أمس مع وجود عدد من المتحدثين لم تتح لهم فرصة الحديث وبعضهم - لا تمييزا إنما احتراما للوائح المجمع- أعضاء في هذا المجمع أن يستفسروا ويناقشوا ويحاولوا جهدهم استيضاح الصور فيما سيبدون فيه الرأي من السادة الخبراء -حفظهم الله ورعاهم – وواضح أن هذا الأمر كل بحسب تخصصه ومعرفته وليس في ذلك غض من قيمة أحد إنما الأصل سؤال أهل الذكر في كل فن بحسبه, والاستفادة من علمه وفضله لإنارة المجمع وصدور القرار على بينة ووعي ووضوح. فاسمح لي سيدي الرئيس أن أتكلم قليلا في النهج حتى لا يتكرر ما جرى في الجلستين, أمس وهذه الجلسة. إن توزيع الوقت أمر في غاية الضرورة , فلا يصح لعضو ولا لخبير أن يصادر حق بقية الأعضاء في الحديث في إطالة وتوسع, وفي كثير من الأحوال في خروج عن الموضوع جملة وتفصيلا, حتى أثيرت قضايا ليست مفارقة, في البحوث أصلا وليس مطلوبا فيها مثلا الإيداع في البنوك التقليدية , هذا ليس موضوع بحث. نعم, موضوع جليل ويمكن الكتابة فيه والبحث فيه وإصدار قرار فيه. تقييم مسيرة البنوك الإسلامية بصفة عامة, موضوع الجوائز, مع احترامي للآراء التي أبديت, كل هذه القضايا خارج الموضوع المطروح للبحث, فنذهب بعيدا في الاستطرادات وفي المسائل الجانبية ولا نتصدى للقضايا الأساسية, وكثيرا ما يحدث هذا وفي البحوث نفسها. فلذلك – سيدي الكريم- إن الحزم في ضبط مسار الجلسة في إطارها الحقيقي وفيما تصدت له من موضوعات جليلة أمر نرجو أن نعين الرئاسة عليه ونرجو أيضا أن تمارس الرئاسة أصلا صلاحيتها فيه بكل حزم وقوة حتى نصل في موضوعاتنا هذه لأمر هدفنا إليه جميعا, تركنا أشغالنا وارتباطاتنا وهمومنا وقضايانا وجئنا نلتقي هنا لنصل إلى قرارات محددة في موضوعات مهمة, وحقيقة إن انفضاض جمعنا في بعض الموضوعات على التأجيل إذا كنا نستطيع أن نبت في الموضوع باستثمار الوقت استثمارا جيدا أمر منتقد وأنتم تعلمون حتى أنه في ميزان الله -جل وعلا- قد نقع في الإثم. إن تحديد المصطلحات وضبط محل البحث أمر في غاية الأهمية, وإن ضبط الجلسات –أيضا- أمر في غاية الأهمية. اسمح لي أن أقول في الموضوع المطروح هذا اليوم كلاما موجزا التزاما بأمر الرئاسة الجليلة بعد أن قلت هذا الكلام البسيط في موضوع المنهج. حقيقة أنا أستغرب مسارنا في هذا اللقاء.(9/691)
نحن كمجمع ناقشنا مجموعة كبيرة من أعمال البنوك الإسلامية وأفتينا فتاوى واضحة محددة في إجازة كثيرة من هذه الأعمال وتكييفها, وإذا بنا في هذا اللقاء نرجع إلى الخلف ونناقش موضوع وجود البنوك الإسلامية وهو أمر من الناحية العلمية مستغرب!! أنا في ظني عندما طرح هذا الموضوع للبحث لم يكن المقصود تكييف الحسابات البنكية في البنوك الإسلامية , هل هي قرض أم مضاربة؟ هذه قضايا جاوزناها, نحن نتكلم عن عشرات البنوك الإسلامية وبعد مسيرة جاوزت الخمسة عشر أو العشرين سنة في بعض الأحوال. إذن نحن نريد أن ندخل في تفاصيل العمل البنكي الإسلامي لنحزم الأمر فقها في كثير من القضايا التي تصدى لها مصرفيون لا يعرفون تفاصيل الفقه وأحكامه فارتجلوا القول في كثير من التفاصيل بما يصادر أصل الفكرة. ولذلك ما ظننت أن البحث -كما كان بالأمس في موضوع السلم – يريد أن يناقش بديهيات الموضوع وأصوله الأولى، يريد أن ينطلق انطلاقا إلى الأمام للوصول إلى مواقف محددة في قضايا مطروحة.
أنا أقول بالنسبة لهذا الموضوع كان يجب أن ينصب البحث –مثلا- على أسس الاختلاف بين الحسابات سواء كانت جارية أو استثمارية، وخاصة في الحسابات الاستثمارية. في الحسابات الجارية يجب أن يكون منحانا –كما أشار بعض الإخوة- إلى البحث عن العدالة أو عن مزيد من العدالة، مثل أن نتحدث عن موضوع التوسع في القروض الحسنة ما دام أن البنك كيفنا أن العملية الإيداعية عملية قرض، إذن يجب أن نتوسع في القروض الحسنة، ويلزم البنوك الإسلامية أن تلجأ إليها ويجب أن نحافظ على هذا ويجب أن تكون هيئات المودعين لهذه البنوك من الأمور التي تركز عليها هذا الأمر.
الاقتراض الذي اقترحه أستاذنا الشيخ الصديق، الاقتراض لحساب المضاربة من الودائع، هذا أمر في الواقع يجب أن نكيفه ونخرج بصورة محددة تنفع البنوك الإسلامية في التطبيق؛ لأن هذه الأموال التي تستخدمها هذه البنوك والتي تصل في بعض الحالات إلى ستة عشر ضعفا من رأس مالها، حقيقة ما تجنيه من أرباح من هذا الأمر تحت عبارة (الوديعة) حتى أن هنالك عملية تغرير في استخدام الموضوع. وقد اقترحت على أخي الدكتور سامي عند مناقشتنا في لجنة الفتوى لقانون البنك الإسلامي حتى ألا نستخدم هذه العبارة؛ لأن هذه العبارة مضللة، وتوهم بأن العملية عملية وديعة وهي حقيقة ليست إلا قرضا.
كثيرا من الآراء طرحت وتحتاج إلى تأمل ونظر ومناقشات وحوار، تمر هكذا بشكل عابر!! لا يجوز. يعني قضية حساب الأمانة الذي اقترحه أخي الدكتور سامي أيضا محل نقاش. الأمر الذي أعود وأكرره قضية الضمان في المضاربة المشتركة، أنا أذكر أنني التقيت في ندوات حول هذا الموضوع في خلال السنوات أكثر من ست أو سبع ندوات وانتهينا من هذا الموضوع، نعود مرة أخرى ونثيره ونتكلم حوله!!.(9/692)
من الموضوعات التي يجب أن نوليها البحث ونصل فيها إلى قرار: معايير توزيع الأرباح. القضية كنت أتمنى أن يشير إليها الدكتور سامي في بحثه.
ما ألجأ إليه من توزيع اقترحه في حسابات الاستثمار في البنك الإسلامي الأردني حيث أعطى الحق للمودع في حساب استثماري أن يستثمر 90 % من ماله المودع لغرض الاستثمار فيما أسماه (الحساب لأجل) وأعطى لحساب التوفير 70 %، وتحت الإشعار 50 %. طيب، كيف استحل البنك الحسابات الجارية واعتبرناها له قرضا وقلنا له أرباحها لك؟ كيف يعود وحتى على الحسابات الاستثمارية ويأخذ نسبا منها معينة يخصصها للاستثمار وأخرى لا يخصصها للاستثمار تحت حجة أن المتعاقد أو المودع وقع على عقد والتزم بذلك؟ يعني لا بد من حس العدالة أن يقيم هذه العملية. ثم موضوع أسس حساب الأرباح. حقيقة حساب النمر ليس المقصود به عملية محاسبية في إطار البنك. حساب النمر –حقيقة- المراد به عدالة توزيع الأرباح أكثر من الصيغة التي اقترحت في بعض البنوك. هذا الأمر –في الواقع- إذا أوليناه نحن في مجمعنا عناية خاصة وخصصناه بالبحث في غاية الأهمية لأننا نقدم معالجة لمشكلات تعاني منها البنوك الإسلامية، وهذا يقود –كما نعلم جميعا- إلى موضوع التنضيض والخلاف بين الحقيقي والحكمي، وما أشار إليه أخونا الدكتور منذر، الوهمي، أيضا.
يعني وصلنا إلى درجة أن هنالك تنضيضا وهميا.
على أية حال لا أريد أن أطيل أكثر من ذلك لكن أحب في الواقع أن نسوق الجلسات إلى محاورها الرئيسية وأن يتوجه إليها وأن يتاح لنا في المجلس الحوار والمناقشة. القضية ليست أن أضع كل ما عندي ثم انتهى. القضية قضية نريد أن نبلور مواقف فقهية في غاية التحرير والدقة ولا يكون الأمر مؤجلا جميعه إلى الجلسة الختامية كيف سنستطيع في الجلسة الختامية أن نناقش كل شيء؟ وشكرا.(9/693)
الرئيس:
في الواقع أن ما ذكره الشيخ عبد السلام كله صحيح ومسلم به وقد اتخذنا في دورات مضت قرارا بأن يلتزم أصحاب الفضيلة الذين يطلبون الكلمات بالموضوع ذاته.
هذا شيء. الشيء الثاني، على أن الذين يتفضلون في عرض البحوث أن يعرضوا البحث مختصرا ومعتصرا من جميع البحوث الموجودة، إما أن يأتي ببحث أو بتلخيص مضاعف وخارج عن الموضوع وحسب تصورات أو بدخول في غير اختصاصه، وهذه أشياء أظن أن من المؤكد أنها غير مقبولة في مجال البحث العلمي وفي مجال المناقشات وفي مجال المداولات. وفي الواقع أن الإنسان في مثل هذا الموقع يكون في حرج كبير؛ لأن أي متكلم ينفق مما يملك، فالتحكم في الناس إلى درجة فيها تقص فيها شيء من الصعوبة ولكن ينبغي أن تكون الجهود متضافرة ومتساعدة وأن تكون الكلمات في حدود الموضوع.
هناك نقطة مهمة لم يشر إليها الشيخ عبد السلام ولكن سبق الإشارة إليها في دورة مضت ولعلها في الدورة الرابعة أو الثالثة وكان قد أثارها الشيخ مصطفي الزرقا وهو تكثير الموضوعات في الدورة. تكثير الموضوعات في الدورة هو الذي يعطيها ضغطا في حجب عدد من الكلمات المطلوبة وفي عدم هضم عدد من القضايا التي تعرض. فمثلا في تجارة الذهب عرض اثنا عشر فرعا وكلها مهمة وتمس الحياة العملية وليس من المعقول أنها تناقش في جلسة واحدة.
صحيح أنها نالت حقها من البحث من أصحاب الفضيلة ونال عدد من قضاياها التمحيص والمناقشة، لكن بقي البعض يحتاج إلى مزيد من البحث فيقع تحت طائلة التأجيل؛ نظرا لأن الوقت انتهى والموضوع يأتي بعده. يعني لا تنتهي الأمور على هذا الشكل، فلو أن مثل هذه الموضوعات إذا كان متعدد الجوانب تكون له جلستان –صباحية ومسائية- ولا ضير أن المجمع ينصرف عن أربعة قرارات أو خمسة قرارات. المجمع الفقهي بمكة في دورة واحدة لم يصدر منه إلا قرارا واحدا. هيئة كبار العلماء في المملكة أذكر أنها في إحدى الدورات لم يصدر منها إلا قرارا واحدا، وفي بعض الدورات يصدر منها خمسة أو ستة أو ثمانية أو أربعة قرارات حسب استهلاك الوقت للقضية المعروضة والمطروحة. فعلى كل –إن شاء الله تعالى- هذه نواح تنظيمية ولا شك أنها مهمة وتؤخذ في الاعتبار.(9/694)
الدكتور رفيق المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم
عندي نقاط أرجو ألا أتعدى فيها دقائق معدودات وأرجو ألا أثقل عليكم ولا أملكم، لكني أقول: يا أيها العلماء ويا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا الكلام دولة بين الأقوياء والأثرياء وذوي النفوذ فإن الإسلام يحمي الضعفاء ولا يقوي الأقوياء، حسبهم قوتهم. هذه هي النقطة الأولى.
النقطة الثانية: فضيلة سماحة مفتي مصر إنما تكلم به في هذه الجلسة مع تقديري الكبير له ولشخصه ولوظيفته ولبلده ولكنني أقول إنه قد نشره في عدة مرات في الصحف والمجلات وفي الكتب وكله عرفناه، فما أدري ما الذي يتوقع من إعادة الكلام في هذا الموضوع؟ كنت أتمنى من سماحته أن يأتينا بجديد.
النقطة الثالثة: في ورقة أخي الشيخ تقي العثماني التي عنيت بأحكام الودائع المصرفية وفي عرضه الذي قدمه اليوم استخدم مصطلحا إنجليزيا أو أمريكيا وهو products Daily ونحن مهامنا في هذا المجمع أن نعنى بالمصطلحات وأن نعنى بحسن ترجمتها، وقد سمعت الترجمة فقال: حساب الإنتاج اليومي، فارتكب –حفظه الله مع تقديري الكبير له- خطأين. أولا كلمة الإنتاج تقابلها كلمة production بالإنجليزية production بالفرنسية. أما الكلمة الصحيحة هنا هي (الناتج) product أو produit بالفرنسية. هذا هو الخطأ الأول. الخطأ الثاني كلمة product في اللغة الإنجليزية والأمريكية –وفي المجمع من هو أقوى مني في هذا لكنه لم ينبه إليه- كلمة prodway أو product لفظ مشترك يعني أحد معنيين: (الناتج بالمعنى الاقتصادي المعروف) و (الجداء) يعني حاصل الضرب.
والمقصود هنا ليس الناتج ولا الإنتاج، المقصود حاصل الضرب. والمعنى المقصود هو (جداء المبالغ بالأيام) فلو ترجمها بالجداء لكان أفضل.
النقطة الرابعة: يحسن التذكير –هذا اقتراح مني لإدارة الجلسة - في مطلع كل موضوع بالمسائل المطروحة من المجمع التي بلغت إلينا منذ شهور بل منذ سنة قبل البدء بعرض الأوراق حتى يتم التركيز عليها، كما يحسن أن تنشر في مجلة المجمع قبل نشر البحوث المتعلقة بها؛ لأن هذا جهد من المجمع، ولأن هذا يفيد أيضا في معرفة المسائل التي طلبها المجمع لكي تجري المقارنة بينها وبين الأوراق المقدمة.
النقطة الخامسة: طلب المداخلة والتعليق، هل يبدأ بعد الفراغ من العرض للأوراق؟ أرجو أن يكون نظام طلب المداخلة نظاما معلنا وواضحا.
النقطة السادسة: التعليق على الأوراق. هل هو تعليق على الورقة أم تعليق على مسائل مطروحة أم تعليق على مسائل خلافية لا يخرج التعليق عن الآراء المعروفة للفقهاء؟ أنا لا أدري، هل هناك ضوابط؟ أرجو أن تهتم إدارة الجلسة بهذا، ونرجو بيان هذه الأولويات للسادة الحضور بيانا واضحا صريحا.(9/695)
النقطة السابعة: لم أفهم النقد الذي وجهه الدكتور سامي حمود لورقة الأستاذ الكبيسي لقد كان عرضه موجزا غير مفهوم مع أنه يدخل في اختصاصه واهتمامه.
النقطة الثامنة: حبذا لو حدد وقت أقصى لكل تعليق تعطى فيها الحرية للمعلق، وأن يراعى في التعليق ما له علاقة بالمسائل المطروحة وما يثير اهتمام جمهور الحضور؛ لأن الغرض أن الناس الذين حضروا هم متقاربون وعند التقارب والتنافس يحسن أن يكون هناك عدالة في توزيع الوقت.
النقطة التاسعة: القرض –وهذا تعليق على ما أبداه فضيلة الشيخ ابن منيع- الأصل فيه أنه صدقة وتبرع لا كما قال. ثم ورد هناك مصطلح آخر قد أثنى عليه الدكتور منذر القحف، وورد في ورقة الشيخ التسخيري – وأنا لم أطلع عليه- قال: حوض مضاربة، وأنا أقترح أن يكون وعاء مضاربة. وعاء أفضل من كلمة حوض، والله أعلم. تعليق أيضا على ما ذكره الشيخ التسخيري حول جوائز المودعين، وهذه المسألة كثيرا ما أقلقتني عندما كنت أقرأ التجربة الإيرانية هذه الجوائز قمار ولا ينفع فيها أن نقول: إن الأصل في الأشياء الإباحة أو الأصل في المعاملات الإباحة، بل الأصل هنا هو المنع؛ لأن الأمر متعلق بالجوائز ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: ((لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل)) . العبارة (لا، إلا) .
فالأصل في السبق والسبق كما تعلمون المقصود فيه والراجح عند العلماء أن المقصود هنا السبق بعوض (السبتي بفتح الباء) . فالأصل في الجوائز المنع فعلى من أجازها أن يبين لنا الدليل المقنع ويرد على الشبهات.
النقطة العاشرة: ورد في تعليق الشيخ العثماني –حفظه الله- مع تقديري له عندما كان يعرف المطلوبات وهذه مسألة محاسبية قال عبارة: يتيقن الحصول عليها.
ليس هناك تيقن يا أيها الإخوان، المعاملات التجارية مبنية على غلبة الظن بل على الظن. فكلمة (تيقن) كلمة غير مناسبة أنا لا أكره متيقنا من الحصول على الديون والمطلوبات.(9/696)
النقطة الحادية عشرة: حساب النمر. هذه ترجمة لكلمة numbers بالإنجليزية أو Daily product التي تقدمت. أنا لا أعلم حتى الآن وهذا يدخل في اختصاص علم الرياضيات المالية وهذه طريقة مقتبسة عن الغربيين في هذا العلم الذي طوروه هم، هي طريقة تقريبية عادلة ولكنهم يستخدمونها في حساب الفوائد ونحن نستخدمها في حساب الأرباح، ولا توجد طريقة حتى الآن –مع التقدير الكبير لما سمعته من الدكتور الضرير –أفضل منها، فأراها جائزة وعلى من أراد أن يلغيها أن يبين لنا طريقة أفضل منها.
النقطة الثانية عشرة: سحب الوديعة قبل المدة. سحب الوديعة قبل المدة –كما أشار إليه الدكتور الضرير- هذه قد تتخذ حيلة، فإذا ما شعر صاحب الوديعة أو اشتم أن هناك خسارة فإنه سيبادر إلى سحب وديعته وتكون وديعة مضمونة من ذلك الحساب الاحتياطي. وهذا الأمر فيه خطورة ويحتاج إلى بحث ولا يمكن التسليم به بكل سهولة.
الودائع التي اقترحها أن تكون في كل يوم في المصرف، أن تبدأ الوديعة في اليوم وأن تسحب بعد ستة أشهر في يوم معين هذا لا يلبي كل الأذواق وكل المعاملات التي نحتاج إليها. فلا بد من أن يكون هناك حسابات جارية والودائع في المصارف تدخل وتخرج في كل يوم، ومن الصعب الأخذ بهذه الاقتراحات.
النقطة الثالثة عشرة: أيضا كما ذكر الدكتور الضرير نظام الوحدات. قال: نظام الوحدات قد يغنينا عن حساب النمر ولكن لم يبين لنا ما هو مضمون هذا الحساب لعله أيضا على النمر. أنا لا أدري.
النقطة الرابعة عشرة: ضمان مال رب المال إذا كان من غير عامل المضاربة أي من طرف ثالث، هل يجوز؟ هذا سؤال موجه للدكتور الضرير وسائر العلماء الحضور المهتمين بهذا الموضوع.
النقطة الخامسة عشرة: الحساب الجاري أو الوديعة إذا جمدت، لماذا لا تأخذ حكم الرهن، فإنها مال محبوس يمنع صاحبه من السحب منه؟ أرجو النظر في هذه القضية.
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/697)
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا يا سيادة الرئيس وأعانكم الله، إن تسامحتم لاموا وإن حزمتم ساموا.
وأحتفظ بدقائقي العشرة التي أعطيت متمثلا.
رئيس كريم وما يعطه
كريم المقام فإني رضيت
أبدأ في أخي الدكتور منذر وأشار إلى نقطتين هامتين هما:
النقطة الأولى: العدالة بالنسبة للحسابات الجارية. وهذه النقطة نقطة تنظيمية وليست نقطة فقهية لدى البنوك الإسلامية من إدخال حسابات التوفير، حسابات جارية استثمارية للشيكات وحسابات جارية ليست للشيكات ولكن للاستثمار ويكون فيها حق السحب، وكما تخفضت النسبة في التوفير إلى 50 % فتعطى الحسابات الجارية من غير الشيكات 30 % أو 20 % بقدر ما يقدر ونتمنى على الله أن تصل البنوك المركزية للدول الإسلامية وهي في اجتماع قادم سأشارك فيه –إن شاء الله- إلى طريقة تنظيم؛ لأنه لا يجوز أن تبقى البنوك الإسلامية خارج نطاق التنظيم تختار لنفسها ما تشاء وإنما تنظم أمورها وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
النقطة الثانية: مسألة التنضيض. قيل تنضيض حكمي وتنضيض وهمي، والحقيقة التي نسير عليها، يعني الذي يقول: إنه يشتري المضاربة الطارئة الجديدة بحقوق المضاربة السابقة هذا هو التنضيض الوهمي. التنضيض الذي نتكلم فيه من واقع معرفتي كمحاسب قبل ثلاث وثلاثين سنة رئيس قسم محاسبة في المركز الرئيسي في البنك ... أريد أن يعرف الأعضاء أنني لو غششت الدنيا ما غششتكم، أن قضية المحاسبة –التي يسير عليها البنك الذي وضع نظامه بمعرفة لجنة الفتوى- هي مبنية على التحقيق في الأرباح، ليس هناك تنضيض حكمي في البنك الإسلامي الأردني وإن شاء الله هيئة المعايير تعلم هذه وتأخذ بها، كل عملية بعمليتها، ما يتم المحاسبة إليه في هذا العام من عمليات المضاربة والمشاركة والمرابحة تدخل، وما لم تتم تصفيته لا يفترض فيه ربح؛ لأن الربح المفترض من فهمي لقواعد الفقه الإسلامي التي أعتز بها أنه غير مقبول.(9/698)
أخي الدكتور علي السالوس أكتفي بشكره، وأخي الشيخ عبد الله بن منيع أشكره وأعلق. الحديث الذي تحدث فيه أكثر من شخص الذي قال إنه (كل قرض جر منفعة فهو ربا) الصحيح أني أرجو أن أعتذر من الذين قالوا: إنه لا يجوز لأحد أن يقلل من شأن القول الذي تلقته الأمة بالقبول. أقول: نعم، وأنا لا أقول بالتقليل ولكن أقول بالتبجيل، فإن مثل هذا القول الذي ينسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لو أخذناه بالمفهوم، ورب مبلغ أوعى من سامع، هو الذي يقول، فأنا من المبلغين، هذا الذي يقول: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) ، أقول: أي نفع؟ هل هو النفع المادي أو النفع المعنوي؟ إذا أقرضت شخصا وشكرني هو نفع. فالمقصود في الحديث –الذي يقال إنه حديث- النفع المادي، والنفع لمن؟ للمقرض، والنفع المادي المشروط؛ لأنه يجوز لي أن أوفي الدين بأخير منه (وخياركم أحسنكم قضاء) ، فكل هذه الإضافات لا تستقيم حسب فهمي المتواضع، لو قارنا ذلك بقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((إنما الأعمال بالنيات)) . أضف كلمة واحدة: لا تستطيع، أوتي الكلم الطيب وأوتي أحسن الكلام فعندما وجدت هذه الإضافات التي يحتاجها القول دخلت في كتب الرواية وتعلمت فوجدت من يقول إن فيه ضعفا وإن ...
الرئيس:
يا أستاذ سامي اترك الحديث هو معروف بحثه ومستقر عند أهل الاختصاص في هذا المجمع فاترك الأمر. ليس بيننا خلاف فيه.(9/699)
الدكتور سامي حسن حمود:
طيب. القاضي العثماني ذكر عن نقطة ضمان الحسابات الجارية وتحميل ذلك على المساهمين والمودعين معا؛ لأن الغرم بالغنم. أيضا قضية تتصل بالمحاسبة. عندما نقول: إن الحسابات الجارية مضمونة على البنك فإن الربح الذي يدخله الجزء يخص هذه الحسابات الجارية هو للبنك، وعندما يتم التوزيع يتم التوزيع كالتالي: مجموع خلاصة حسابات الاستثمار في البنك يأخذ منها البنك أولا نصيبه كمضارب 20 %، بقيت 80 % الثمانون هي حق المال الذي دخل في الاستثمار فنأتي إلى هذا المالي من له في المال حق من المودعين المستثمرين؟ لهم نسبة 50 % وللبنك 20 % ورأس المال 30 % من الأموال التي أخذها من الحسابات الجارية بالضمان فإذن له خمسون، فيأخذ بحصته أصلا في ملك وحصته تبعا في ضمان ويشارك بالمال، ومراعاة للعدالة قلنا: إن الأولوية تعطى للذين قدموا للاستثمار، فتعطى الأولوية في مراعاة حسابات الاستثمار للمستثمرين، وهذا هو الذي يزيح الإشكال. أما مسألة الظفر وتطبيقها على حسابات البنوك فليست القضية قضية تربص. البنك يحترم كلمته ويحترم عقوده، ولكن كونوا حذرين فكل فتح حساب يوقع عليه البنك والمدير يبتسم، هناك شروط تعطى للبنك بأن يقيد على حسابه المفتوح لديه كل ما يستحق للبنك على هذا الحساب. فإذا استحقت كمبيالة في موعدها أو جاءت عليه بوليصة –يكون تاجرا- فيقيدها البنك على الحساب ليس تربصا وظفرا ولكن بموجب الاتفاق المبتدأ. إذا كان الناس لا يقرؤون فالقانون لا يحمي المغفلين، ولكن هذه الشروط موجودة وتطبقها البنوك، وإذا لم يكن هذا النص قائما وموجودا فالبنك لا يملك أبدا أن يقيد على حسابي أي شيء وأورده بحكم القضاء.
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،،
الرئيس: شكرا.
لعلكم ترون أن نكتفي بهذا.
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع حرصت على أن تتألف اللجنة من الوجهات المتقابلة في البحوث والمناقشة، فتكون اللجنة كالآتي من أصحاب الفضيلة: العارض، المقرر، الشيخ الصديق، الشيخ علي السالوس، الشيخ تقي العثماني، الشيخ سعود الثبيتي، الدكتور القري ابن عيد.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/700)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 90 / 3 / د 9
بشأن (الودائع المصرفية حسابات المصارف)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415 هـ، الموافق 1-6 أبريل 1995 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الودائع المصرفية (حسابات المصارف)
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي
أولا: الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) سواء أكانت لدى البنوك الإسلامية أو البنوك الربوية هي قروض بالمنظور الفقهي، حيث إن المصرف المتسلم لهذه الودائع يده يد ضمان لها هو ملزم شرعا بالرد عند الطلب.
ولا يؤثر على حكم القرض كون البنك (المقترض) ، مليئا.
ثانيا: إن الودائع المصرفية تنقسم إلى نوعين بحسب واقع التعامل المصرفي:(9/701)
أ - الودائع التي تدفع لها فوائد، كما هو الحال في البنوك الربوية، هي قروض ربوية محرمة سواء أكانت من نوع الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) ، أم الودائع لأجل، أم الودائع بإشعار، أم حسابات التوفير.
ب - الودائع التي تسلم للبنوك الملتزمة فعليا بأحكام الشريعة الإسلامية بعقد استثمار على حصة من الربح هي رأس مال مضاربة، وتنطبق عليها أحكام المضاربة (القراض) في الفقه الإسلامي التي منها عدم جواز ضمان المضارب (البنك) لرأس مال المضاربة.
ثالثا: إن الضمان في الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) هو على المقترضين لها (المساهمين في البنوك) ما داموا ينفردون بالأرباح المتولدة من استثمارها، ولا يشترك في ضمان تلك الحسابات الجارية المودعون في حسابات الاستثمار؛ لأنهم لم يشاركوا في اقتراضها ولا استحقاق أرباحها.
رابعا: إن رهن الودائع جائز، سواء أكانت من الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) أم الودائع الاستثمارية، ولا يتم الرهن على مبالغها إلا بإجراء يمنع صاحب الحساب من التصرف فيه طيلة مدة الرهن. وإذا كان البنك الذي لديه الحساب الجاري هو المرتهن لزم نقل المبالغ إلى حساب استثماري؟ بحيث ينتفي الضمان للتحول من القرض إلى القراض (المضاربة) ويستحق أرباح الحساب صاحبه تجنبا لانتفاع المرتهن (الدائن) بنماء الرهن.
خامسا: يجوز الحجز من الحسابات إذا كان متفقا عليه بين البنك والعميل.
سادسا: الأصل في مشروعية التعامل الأمانة والصدق بالإفصاح عن البيانات بصورة تدفع اللبس أو الإيهام وتطابق الواقع وتنسجم مع المنظور الشرعي، ويتأكد ذلك بالنسبة للبنوك تجاه ما لديها من حسابات لاتصال عملها بالأمانة المفترضة ودفعا للتغرير بذوي العلاقة.(9/702)
الاستثمار في الأسهم
والوحدات والصناديق الاستثمارية
إعداد
الدكتور منذر قحف
المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
البنك الإسلامي للتنمية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
يهدف هذا البحث إلى عرض موضوع الاستثمار في الأسهم والوحدات والصناديق الاستثمارية من الناحية التطبيقية الواقعية بحيث يمكن للمتخصصين في الشريعة تحقيق جوانبه ونواحيه؛ ليتمكنوا من تأسيس استنباط الحكم الشرعي المتعلق بها. وهو لا يهدف إلى اقتراح أية فتوى شرعية بل إلى طرح الأسئلة وعرض المسائل التي تحتاج إلى ذلك.
ويتألف البحث من ثلاثة أقسام يبحث القسم الأول التعريفات التي توطئ للموضوع فيعرف الاستثمار والادخار ويستعرض بسرعة المنهج الإسلامي للاستثمار وآثاره الجانبية وعلاقته بتحقيق المصالح والمنافع.
أما القسم الثاني فيدرس الاستثمار في الأسواق المالية.
فيستعرض أنواع الأوراق والحقوق التي يتاجر بها في هذه الأسواق، سواء أكانت تمثل حصصا ملكية، أم تمثل حقوقا مالية محددة، أم تمثل مديونية محضة، ثم يستعرض كيفية الاستثمار في الأوراق المالية وفي الوحدات والصناديق الاستثمارية ويشرح تفاصيل هذه العملية.
أما القسم الثالث فيستعرض الفتاوى الشرعية التي صدرت عن المجامع الفقهية الإسلامية وبخاصة مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، ثم يطرح مجموعة من المسائل يعتقد الباحث أنها تحتاج إلى تفصيل نظر وبيان للحكم الشرعي فيها.
والله الموفق وهو الهادي إلى السبيل.(9/703)
القسم الأول
مدخل وتعريف
معنى الاستثمار:
إذا كان المعنى اللغوي للاستثمار واضحا من اشتقاقه اللفظي – وهو طلب الثمر وللمال طلب زيادته- فإن كلمة استثمار يستعملها الناس بمعان متعددة.
فعند الاقتصاديين، الاستثمار هو أصلا الزيادة في الموجودات العينية أو السلع التي تستعمل في إنتاج سلع وخدمات أخرى. وهذه الموجودات والسلع التي تستعمل في إنتاج سلع وخدمات أخرى هي ما يعرف عند الاقتصاديين برأس المال. فالاستثمار هو إذن الزيادة في رأس المال وهو يشمل الزيادة في المباني، والآلات، والتجهيزات، والمخزون من المواد الأولية التي تستخدمها الوحدة الإنتاجية، كالمصنع مثلاً. ويميز الاقتصاديون بين الاستثمار الإجمالي والاستثمار الصافي، بحيث يكون الفرق بينهما هو المقدار التعويضي الذي يمثل ما يقابل ما هلك من رأس المال. فالاستثمار الصافي إذن هو زيادة الكمية الصافية في رأس المال بعد تعويض ما هلك منه، ويلاحظ من تعريف الاستثمار هذا ضرورة ربطه بفترة زمنية معينة؛ لأنه زيادة فتحسب عادة على أساس سنوي. والاستثمار قد يقوم به القطاع الحكومي أو الخاص، أو الخيري، فيقال: استثمار عام، وخاص، وخيري.
أما الماليون، فإنهم يتفقون مع الاقتصاديين على معنى الاستثمار، ولكنهم يضيفون إلى ذلك نوعاً جديداً من استعمال الأموال نشأ مع ظهور وتطور الشركات المساهمة والأسواق المنظمة لها. وهذا النوع هو الاستثمار في الأوراق المالية والتجارية.
فالاستثمار في الأوراق المالية والتجارية هو استعمال للمال في شراء صكوك، تمثل ديناً أو ملكية عين، وتدر دخلاً، قد يكون ثابتاً ومعروفاً مسبقاً، وقد يكون غير ثابت، أو غير معروف عند العقد.
وقد أضافت الصحافة المالية والاقتصادية توسعة أخرى لمعنى الاستثمار فاعتبرت استثماراً كل استعمال للمال بقصد الاستزادة منه. مما جعل كلمة استثمار تشمل –في عرف الصحافة- استعمال المال على سبيل الضمان عند الدخول في عقود الأسواق المنظمة للسلع، والعملات، وما يتبعها من مؤشرات Indexes وكذلك على سبيل ثمن الاختيارات Options على شراء أو بيع الأسهم والسلع والعملات، والإيداعات في المصارف الربوية، والمضاربات البحتة على أسعار الأراضي، وأقساط عقود التأمين على الحياة سواء أكان فيها شرط دفع مبلغ معين بعد عدد معين من السنوات إذا لم تحصل الوفاة، أم لا، وغير ذلك من استعمالات المال النقدي بقصد الاستزادة.(9/704)
أما مجمع اللغة العربية في مصر فقد اختار لكلمة استثمار "استخدام الأموال في الإنتاج، إما مباشرة بشراء الآلات والمواد الأولية، وإما بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات " (المعجم الوسيط، مادة ثمر) .
ولنلاحظ أن المعنى غير المباشر للاستثمار الذي أشار إليه مجمع اللغة العربية في مصر –وهو المعنى المالي للاستثمار- لا يؤدي بالضرورة إلى المعنى المباشر- أو الاقتصادي؛ لأن ذلك يعتمد على ما تمثله تلك الأسهم والسندات من موجودات وديون. وهناك حالة واحدة فقط من حالات كل من الأسهم والسندات تكون فيها الأسهم والسندات ممثلة "لشراء آلات ومواد أولية"، وهي عندما تكون الأسهم لإصدارات جديدة يقصد منها إنشاء وحدة إنتاجية جديدة أو توسيع وحدة قائمة، أو عندما تكون حصيلة بيع السندات معدة لإنشاء وحدة إنتاجية جديدة أو توسيع أخرى قائمة.
معنى الادخار:
وفي معرض الحديث عن الاستثمار لا بد من ذكر الادخار. فالادخار –عند الاقتصاديين والماليين على السواء- هو عزل جزء من الدخل عن الاستهلاك، أو هو امتناع عن الاستهلاك. ويلحظ ضمناً أن الجزء الذي لا يستهلك من الدخل يكون معداً ومهيأ للدخول في دورة النشاط الاقتصادي على شكل استثمار؛ لأن أهل الاقتصاد يفرقون عادة بين الادخار والاكتناز، ويعتبرون الاكتناز سحباً للمدخرات من النشاط الاقتصادي كأن تكون مخبأة عند صاحبها في بيته أو في صندوق خاص للأمانات لدى مصرف قريب.
وتتنافس البنوك والمؤسسات المالية وسائر الوسطاء الماليون على مدخرات الأفراد. فتسعى لاجتذاب أكبر كمية منها من خلال ما تعرضه من إغراءات مالية آنية، هي الفوائد، أو مستقبلية هي الأرباح المتوقعة ومنافع عقود –أو بوالص- التأمين: وهي تتبع في سياستها الإعلانية والدعائية الاستعمال الصحفي لكلمة الاستثمار فتطلق تعبير " شهادات الاستثمار " أو "شهادات الادخار" على سندات القرض التي تجمع من خلالها مدخرات أصحاب الدخول في المجتمع.(9/705)
المنهج الإسلامي في الاستثمار:
يتحدث الاقتصاديون المسلمون عن الاستثمار بمعنييه الاقتصادي والمالي. وقد نجد أحدهم ينتقل أحياناً من معنى إلى آخر دون أن يلاحظ أنه يفعل ذلك.
فالاستثمار هو زيادة في الطاقة الإنتاجية –للفرد وللمجتمع معاً- يمكن معها زيادة الإنتاج. ومثاله فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع ذلك السائل، صاحب الحلس والقعب حيث أمره بشراء أداة استثمارية، هي القدوم، وبالعمل عليها في الاحتطاب. وكذلك فعله عليه الصلاة والسلام مع الزبير بن العوام بإعطائه أرضاً لم تكن مزروعة، ليجري فيها الماء، ويزرعها. فشراء الآلة واستصلاح الأرض للزراعة أو زرعها عمليات استثمارية تزيد الطاقة الإنتاجية.
والإسلام إذ يشجع على الاستثمار، ويحث عليه، ويؤكد على التربية الروحية والنفسية والأخلاقية، التي تزيد في كفاءة الإنسان، وقدراته الإنتاجية، فلا يكون كلًّا، عاجزاً، لا يقدر على شيء، يضع أيضاً الضوابط القسط للاستثمار.
فيمنع أولاً الاستثمار فيما يؤدي إلى الحرام، فيحرم الاستثمار في إنتاج الخبائث من السلع والخدمات الضارة، كالخمر والمخدرات، والزنا وما يروجه. ويمنع ثانياً أن يترافق الاستثمار بأساليب محرمة كالرشوة، والكذب، والغش، والخداع، ويحذر ثالثاً من الإسراف والإتلاف وإضاعة الموارد.
ومن جهة أخرى، فإن الإسلام يشجع الاستثمار في إنتاج الطيبات، ويدعو الأفراد إلى المراعاة العامة لأولويات الأمة ومصالحها؛ لأن الاهتمام بأمور المسلمين واجب على المسلم في كل أموره، وأحواله.
والإسلام إنما يشجع الاستثمار؛ لأنه نشاط إنساني مفيد، يؤدي إلى زيادة الطيبات والخيرات، كما يؤدي إلى زيادة إعمار الأرض، وتحسينها وتجميلها.
وثمة مسألتان ينبغي إثارتهما هنا، تتعلقان بعملية زيادة الطاقة الإنتاجية، أو الاستثمار، وهما مسألة العبث، ومسألة الآثار الجانبية للاستثمار.
علاقة العبث بالاستثمار:
إن المنهج الإسلامي في الاستثمار يهدف إلى الاستزادة من الطيبات، وإعمار الأرض، والانتفاع بمواردها. ولكن هل يقبل الشرع الحنيف العمل الذي لا يهدف إلى مصلحة أو نفع؟ وهل يمكن أن تسخر لمثل هذا العمل العابث الموارد وتجند من أجله الطاقات؟ ولنأخذ على ذلك مثالاً، حفر حفرة ثم ملؤها بما أخرج منها من تراب، دون أن يكون لهذا العمل أي هدف من مصلحة أو نفع أو إحسان.(9/706)
فهل تسمح شريعتنا بهذا النوع من الاستثمار؟ وقد استنكر القرآن الكريم العبث في آيتين: إحداهما تتعلق بفعل العباد في استعمال الموارد الاقتصادية {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:] والأخرى تتعلق بتنزيه فعل الخالق تبارك وتعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] .
وقد ذكر الطبري في جامع البيان أن العبث هنا هو اللعب والباطل ووصفه محمد جمال الدين القاسمي في محاسن التأويل بأنه "ما كان بغير حكمة وما بني لا للحاجة إليه، بل لمجرد اللعب واللهو". ولا يخرج عن ذلك المعنى الفخر الرازي في تفسيره لهاتين الآيتين، بل إنه أضاف في رواية أن عاداً كانوا يهتدون بالنجوم فاتخذوا في طريقهم أعلاماً، عبثاً؛ لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم.
فالعبث لا يصلح أساساً للمعاملات الشرعية. ولا يكون قاعدة يصح أن يتركز إليها الاسترباح. فليس لنا أن نعد كل عملية استرباح استثماراً سواء أكانت تحقق مصلحة أو منفعة، أم تمثل عبثاً محضاً. ولنضرب مثالاً متفقاً عليه حتى نوضح هذه القضية. فقد أفتى مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بحرمة بيع وشراء المؤشرات، وذلك بدورته السابعة عام 1412 هـ/ 1992م؛ لأن المؤشر " شيء خيالي لا يمكن وجوده ". فالاسترباح بالمتاجرة بالمؤشر هو استرباح بالعبث وهو لذلك نوع من المقامرة، ولا يمكن أن نعتبر هذا الاسترباح عملية استثمارية على الرغم من أنه تستعمل فيها الأموال، وينتج عنها ربح لطرف وخسارة لآخر.
وإن المنهج الإسلامي للاستثمار يقوم على استعمال الأموال فيما يحقق مصالح الناس ويزيد من تمتعهم بالطيبات كمًّا ونوعاً، ولا يقوم على مجرد الاسترباح مهما كان هدفه وأيًّا كان موضوعه.
الآثار الجانبية للاستثمار:
إن كل عملية إنتاجية تتضمن نوعاً من أنواع التحويل من حالة المادة الأولية إلى حالة المنتوج النهائي. وإذا كان الاستثمار هو زيادة أدوات الإنتاج وآلاته وموارده، فإنه لا بد من التعرض للآثار الجانبية للإنتاج باعتبارها من آثار العملية الاستثمارية.(9/707)
والآثار الجانبية لكل عملية إنتاجية يمكن تقسيمها إلى نوعين:
1- الآثار التي يمكن لنظام السوق –في ظل إطار قانوني معين- أن يجعل المنتج يتحمل ثمنها. مثال ذلك المواد الأولية والمساعدة التي تستهلكها العملية الإنتاجية، فإن في استهلاكها إنقاصاً للموجود منها في السوق، ولكن هذا مما يدفع المنتج ثمنه، فيعمد إلى إدخال ذلك ضمن تكلفة الإنتاج، وبالتالي ضمن السعر الذي يراه لمبيعاته. ويتضمن هذا النوع من الآثار الجانبية أيضاً كل ما يستطيع المجتمع تحميله للمنتج من خلال إعادة تنظيم العلاقات القانونية لعملية الإنتاج. كأن يحمل المنتج تكاليف تنقية التلوث الذي يحدثه بعمله في الماء والهواء، بأن يفرض عليه استعمال أجهزة التنقية والتنظيف اللازمة قبل إخراج الماء والأبخرة والغازات من مسار العملية الإنتاجية.
2- أما النوع الثاني من الآثار الجانبية فهو تلك الآثار التي لا يمكن تحميلها للمنتج، إما لعدم العلم بها عند الإنتاج نحو ما يكتشف بعد زمن طويل من آثار صحية أو بيئية، كما حصل بشأن مادة الإسبزتوس، وإما لعدم القدرة على تقدير ثمن تلك الآثار بسبب طبيعتها بحيث لا يمكن موضوعيًّا تقدير ثمنها. وهذا النوع من الآثار الجانبية يحتاج إلى قرار اجتماعي يتعلق بالأولويات الإنسانية لتحديد من الذي يتحمل عبء هذا النوع من الآثار، وبأية وسيلة.
مثال ذلك مصلحة الأجيال المستقبلية من المجتمع عندما تنصب عملية الإنتاج على مورد طبيعي قابل للنضوب، كالمعادن الدفينة في الأرض. وقد يكون سبب عدم تقدير ثمن هذه الآثار الجانبية عجز القرار الاجتماعي نفسه عن تحميل المنتج ثمن تلك الآثار، كما حصل في مسألة دفن النفايات النووية في بعض البلدان الفقيرة.
إن النوع الثاني من الآثار الجانبية للاستثمار يشمل كثيراً من التغييرات في البيئة الطبيعية والأخلاقية والاجتماعية والنفسية مما يحتاج إلى التنبه له وأخذه في الحسبان عند دراسة المنهج الإسلامي في الاستثمار وتحديد ما يطيب منه وما لا يطيب.(9/708)
القسم الثاني
الاستثمار من خلال الأسواق المالية
يستزاد المال في الأسواق المالية، سواء أكانت منظمة أم غير منظمة، من خلال شراء وبيع أوراق وحقوق مالية، سنأتي على تفصيلها. ويكون العائد فيها ناشئاً إما عن ارتفاع سعر الورقة أو الحق في السوق، وإما عما يترتب على تملكها من إيرادات. أما الخسارة فتتأتى بسبب هبوط سعر الحق أو الورقة في السوق أو عن خسارة الشركة التي يمثل السهم ملكيتها في حالة الأسهم. وسنستعرض في هذا القسم: أ- أنواع الأوراق التي تتداول في الأسواق المالية. ب: آلية أو كيفية الاستثمار في هذه الأوراق.
أ- الأوراق والحقوق المتداولة في الأسواق المالية:
الأوراق والحقوق التي تتداول –عادة- في الأسواق على أنواع عديدة، يمكن حصرها في ثلاث مجموعات عامة هي:
1- مجموعة تمثل حصة مشاعة في ملكية شركات تتألف موجوداتها –عادة- من أعيان وحقوق ونقود وديون.
2- مجموعة تمثل ملكية حقوق مالية محددة.
3- مجموعة تمثل ديوناً محضة.
أولاً: الأوراق المالية والحقوق التي تمثل حصص ملكية.
تمثل هذه الأوراق والحقوق حصص ملكية مشاعة في شركات مساهمة أو في صناديق استثمارية. وهي على أنواع نذكرها فيما يلي:
1 - السهم:
وهو وثيقة تصدرها شركة مساهمة، تمثل حق ملكية حصة مشاعة في رأس مال الشركة وما يتبعه من حقوق، مما هو منصب على الموجودات الصافية للشركة وعلى إدارتها والرقابة عليها.
وقد نشأ السهم نتيجة عملية تحويل إلى أوراق مالية يطلق عليها باللغة الإنجليزية كلمة Securitization. وهي عبارة عن تمثيل الموجودات العينية والنقدية والحقوق المالية بأصول مالية ليست أكثر من أوراق أو وثائق مكتوب عليها أنها تمثل ملكية حصة مشاعة من رأس المال في شركة مساهمة. ومع مرور الزمن صار ينظر إلى هذه الوثائق، أو الأوراق، أو الأسهم نظرة مستقلة عما هي منصبة عليه من موجودات.(9/709)
فمع التطور القانوني الذي أوجد الشخصية المعنوية صار ينظر إلى نوعين من الملكية في الشركة المساهمة. فالشركة المساهمة، كشخصية اعتبارية، هي التي تملك جميع موجوداتها وحقوقها وتتصرف بها. يضاف إلى ذلك أن المساهمين يملكون –بمجموعهم- الشركة المساهمة نفسها. وكل واحد منهم يستطيع أن يتصرف فقط بما يملكه من وثائق (أو أسهم) ، وليس له أن يملك شيئاً من موجودات الشركة نفسها، أو يتصرف به تصرف المالك بملكه، ولا حتى حصة شائعة من هذه الموجودات.
وتتساوى الأسهم بالقيمة المكتوبة عليها التي يطلق عليها اسم القيمة الاسمية. وتكون ملكية صاحب السهم في الشركة مساوية لحصة تعادل نسبة القيمة الاسمية إلى مجموعة رأس المالي إذا كان مدفوعاً كله، وإلا فينظر إلى نسبة المدفوع من القيمة الاسمية للسهم إلى مجموع رأس المال المدفوع.
والأسهم نوعان عادي وممتاز. حيث تتساوى الأسهم العادية في جميع حقوقها وعلاقاتها مع الشركة، من حيث مشاركتها في الجمعية العمومية، والتصويت، والأرباح، وحقوقها عند تصفية الشركة، إلخ.
أما الأسهم الممتازة أسهم مفضلة عن الأسهم العادية في واحد أو أكثر مما هو من حقوق السهم. فقد يضمن لها حد أدنى من العائد، أو يضمن رأس مال السهم عند التصفية، أو تباع بأقل من قيمتها الاسمية عند الإصدار، أو تكون لها مزايا في التصويت والإدارة، أو تعطى أولوية على الأسهم العادية عند تصفية الشركة، وغير ذلك من المزايا والأسهم، بنوعيها، قابلة للبيع والشراء والانتقال من يد إلى أخرى بسائر أنواع المعاملات الناقلة للملكية أو الحيازة.
2 - صكوك المضاربة:
وهي تمثل –بشكلها الذي أقره مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي - حصصاً شائعة في رأس مال مضاربة. وبما أن الفارق الأساسي بين حقوق أصحاب رأس المال في المضاربة وحقوق المساهمين في الشركة المساهمة هو ما يتعلق بالإدارة والتصويت في الجمعية العمومية، فإنه يمكن إطلاق تعبير "أسهم لا تشارك في الإدارة" على صكوك المضاربة هذه.(9/710)
وهي قليلة في التطبيق العملي. فقد استعملها مصرف إسلامي واحد من بين عدد يتجاوز الستين من المصارف الإسلامية. وهذا النوع من الأسهم التي ليس لها حق المشاركة في الإدارة معروف في الأنظمة الغربية. وقد نقلته كثير من القوانين العربية تحت اسم "شركات التوصية بالأسهم" حيث لا يحق لأصحاب الأسهم أن يشاركوا في الإدارة، بل تنحصر كلها بيد الشريك أو الشركاء المتضامنين.
وصكوك (أو أسهم) المضاربة قابلة للتداول أيضاً مثل غيرها من الأسهم.
3 - أسهم الصناديق المغلقة للاستثمار في الأسهم والسندات:
وهي نوع من أنواع الأسهم، تختلف عن الأسهم في طبيعة عمل الشركة المساهمة فقط. لذلك أفردناها في عنوان خاص بها.
فالسهم يكون، في العادة لشركة تعمل في إنتاج السلع والخدمات، نحو شركات السيارات، وشركات الكهرباء، وشركات النقل، وشركات التأمين، وشركات المصارف، والشركات العقارية وغيرها.
أما صناديق الاستثمار المغلقة (1) فهي نوع من الشركات المساهمة تكون أعمالها تملك الأوراق المالية –باختلاف أنواعها- واسترباح من فروق أسعار بيعها عن أسعار شرائها ومن عوائدها التي توزع دورياً فهي تتضمن، إذن، مرحلتين من التحويل إلى أوراق مالية Securitization. حيث إن الأسهم والسندات وغيرها من الأوراق المالية، التي تتعامل بها صناديق الاستثمار، تمثل حصصاً في رأس مال شركات أخرى مالية وغير مالية أو ديوناً على أشخاص طبيعيين ومعنويين، في القطاعين العام أو الخاص. وذلك في حين تمثل أسهم الشركات العادية مرحلة واحدة من مراحل التحويل إلى أوراق مالية Securitization.
وهذه الأسهم هي أيضاً قابلة للتداول، بيعاً، وشراء، وغير ذلك.
__________
(1) ولها باللغة الإنجليزية أسماء متعددة تتشابه بطبيعتها سواء بالنسبة للمغلق منها أم المفتوح. من هذه الأسماء Closed Investment Funds و Closed Mutual Funds و Closed Investment Units وغيرها ومنها ما يتضمن تنظيمه وجوداً أمينًا Trustee، فتسمى عندئذ Trust Funds أو Investment Unit Trusts(9/711)
4 - حصص الصناديق المفتوحة للاستثمار في الأسهم والسندات:
صناديق الاستثمار المفتوحة هي مثل صناديق الاستثمار المغلقة من حيث طبيعة أعمالها وما تتعامل به من أوراق مالية. وهي تختلف عن الصناديق المغلقة في أن رأس مال الصندوق المفتوح غير محدد مسبقاً. لذلك يستطيع صندوق الاستثمار المفتوح أن يقبل دخول وخروج المساهمين في أي وقت، فيتغير رأس مال الصندوق تبعاً لذلك. وينظم الصندوق على طريقة الحصص أو الوحدات Units فيكون سعر كل وحدة في الصندوق عند إنشائه مائة دولار مثلاً.
ثم تستثمر المبالغ المتجمعة في الصندوق في أوراق مالية متنوعة.
كما يستثمر ما يحصل من إيرادات ناشئة عن أرباح التداول أو عوائد الأوراق المالية. وتسعر موجودات الصندوق بصورة دورية، كل يوم أو كل أسبوع مثلاً، ويكون دخول وخروج المساهمين بسعر الوحدة عند الدخول أو الخروج. حيث يدفع المساهم الجديد ثمن عدد الوحدات التي يرغب بشرائها. أما المساهم المنسحب فتدفع له قيمة الوحدات التي يملكها من الصندوق نفسه.
5 - حصص صناديق الاستثمار المتخصصة:
مع نمو الأسواق المالية تنوعت أشكال تعبئة المدخرات وتوجيهها نحو الاستعمالات المتعددة، مما أدى إلى ظهور عدد كبير من الصناديق المتخصصة للاستثمار. وهي تقوم بتجميع المدخرات من عدد كبير من الناس واستعمالها في أنواع محددة من العمليات بقصد تحقيق عائد للمدخرين.
فمن الصناديق ما يتخصص بالتنمية العقارية، فيقوم الصندوق بشراء مساحات من الأراضي، ثم تخطيطها، وتنظيمها توزيعها، وإيصال الخدمات العامة إليها، ثم بيعها، أو بنائها قبل بيعها. ومن صناديق التنمية العقارية ما يتخصص بتمويل المقاولات للمباني والإنشاءات، أو مشتري البيوت مباشرة، على طريقة الإقراض الربوي فقط.(9/712)
ومن الصناديق ما يتخصص بالمتاجرة بالعملات الأجنبية بيعاً وشراء ومنها ما يتخصص بتمويل عمليات شراء وبيع السلع.
كما أن من الصناديق ما يقتصر في عملياته على التمويل بالمرابحة حسب الطريقة الشرعية، ومنها ما يلتزم بعدم التعامل بالسندات المبنية على الفوائد، أو الربا.
وكذلك فإن من صناديق الاستثمار المتخصصة ما يكون مغلقاً بمعنى أن رأس ماله محدد عند إنشاء الصندوق ولا يقبل الزيادة فيه ولا الإنقاص منه طيلة مدة عمر الصندوق. ولكن كثيراً من الصناديق المغلقة تقبل حلول مالك جديد محل مالك قديم فيما يملكه من حصص. ويكون هذا التبادل عادة بالعسر المعلن دوريًّا للحصص أو الوحدات. ويوجد كذلك صناديق استثمار متخصصة مفتوحة تقبل دخول وخروج المساهمين في مواعيد دورية حسب أسعار الحصص أو الوحدات في هذه المواعيد.
وجميع أنواع الصناديق المشار إليها في الأرقام 3 و4 و5 يكون تنظيمها على واحد من شكلين قانونيين هما شكل المضاربة وشكل الوكالة بأجر.
فإذا كان تنظيم الصندوق على طريقة المضاربة، تجد فيه للمدير –سواء أكان شخصاً طبيعيًّا أم شخصاً معنويًّا – حصة من الربح الذي يحققه الصندوق.
ومثال هذا النوع صندوق وحدات الاستثمار Investment Unit Trust الذي أسسه البنك الإسلامي للتنمية. وقد يعمد المضارب إلى اشتراط حق خلط ماله بمال المضاربة في هذا الصندوق. كما أنه قد يتعهد بقبول شراء ما يرغب الأعضاء في الصندوق ببيعه من حصصهم حسب أسعارها عند البيع.
أما شكل الوكالة بأجر –أو الإجارة - فيكون فيه للمدير أجر ثابت محسوب على أساس نسبة معينة من قيمة الصندوق في غرة كل شهر أو ثلاثة شهور مثلاً. وقلما يخلط المدير الأجير ماله بمال الصندوق.(9/713)
6 - صكوك العقارات المؤجرة:
يمكن أن يمتلك العقار المؤجر من قبل شخص أو عدة أشخاص. فإذا ملكه أشخاص عديدون على سبيل الحصة المشاعة فيه، فإنه يمكن إصدار صكوك تمثل حصصاً مشاعة متساوية في ملكية العقار المؤجر. ولنسم هذه الوثائق " صكوك العقارات المؤجرة " أو " سندات الإجارة ".
فصكوك الإجارة إذن هي وثائق تثمل ملكية حصص مشاعة متساوية في عقار مؤجر. وهي تعطي صاحبها حق التملك، والحصول على الأجرة، والتصرف بملكه بما لا يضر بحقوق المستأجر، أي أنها قابلة للبيع والتداول لأنها تمثل ملكية كما يتحمل صاحب الصك ما يترتب على المالك من تبعات تتعلق بالعقار، فيتحمل هلاكه وصيانته مما لا يصح شرعاً الاتفاق على تحميله للمستأجر.
وصكوك الإجارة غير مستعملة الآن، ولكنها مطروحة كأحد الأوراق المالية الإسلامية التي يمكن قيامها على ضوء مبادئ الاقتصاد الإسلامي، لتمويل المشاريع الإنشائية في كل من القطاع الخاص والقطاع الحكومي.
ثانياً- الأوراق التي تمثل حقوقاً مالية محددة:
هناك عدد من الأوراق المالية الموجودة في الأسواق المالية، والتي تمثل حقوقاً مالية محدد، أي أنها لا تنصب على موجودات عينية.
وأهم هذه الأوراق المالية:
1- شهادة حق شراء سهم Warrant
وهي شهادة تصدرها الشركة المساهمة، إما لحملة الأسهم فيها، أو لأشخاص قدموا للشركة خدمات تستحق المكافأة، وهي تتضمن حق مالك الشهادة بشراء سهم (أو أكثر) من أسهم الشركة بسعر محدد، مبين في الشهادة نفسها، خلال فترة زمنية محددة. وغالباً ما تصدر هذه الشهادة عند زيادة رأس المال، وقد تصدر في الأيام الأولى من وجود الشركة المساهمة، وهي تصدر على كل حال في وقت يكون فيه سعر السهم في السوق أعلى من السعر المذكور فيها. وهذه الشهادة قابلة للبيع، بحيث يستطيع مالكها أن يمارس حقه في شراء السهم بالسعر المذكور ضمن المدة المضروبة.(9/714)
2- الاختيارات Options
الاختيار وثيقة تمثل حقاً بشراء (أو بيع) سلعة معينة أو سهم معين خلال فترة معينة، أو في زمن معين. ويدفع الثمن مقابل هذا الالتزام. فلو كان الالتزام بالبيع دفع المشتري ثمن الاختيار، ولو كان الالتزام بالشراء دفع البائع الثمن.
وهذه الوثيقة قابلة للتداول أيضاً بحيث تباع وتشترى في الأسواق المنظمة، ويكون هنالك اختيارات بقدر ما يوجد من أسهم أو سلع في السوق المنظمة.
3- أسهم التمتع:
أسهم التمتع هي أوراق مالية قابلة للتداول بيعًا وشراءً وغير ذلك من أشكال التداول. وهي تعطي صاحبها الحق في إيراد دوري مماثل لإيراد السهم العادي، ولكنها تختلف عن السهم العادي بأنه ليس لصاحبها أي حصة عند تصفية الشركة. ويمكن لأصحاب أسهم التمتع أن يحضروا الجمعية العمومية ويكون لهم فيها حق التصويت. وتمنح أسهم التمتع عادة من قبل الشركات التي تؤول موجوداتها للخروج عن ملكها بعقد امتياز من الدولة محدد بزمن معين، أو بنفاد معدن تستثمره، وتمنح على إثر إطفاء السهم العادي برد قيمته الاسمية لمالكه مع استمرار بقاء حقه في إيرادات الشركة الصافية. وهذه الأسهم قابلة للتداول أيضاً شأنها شأن الأسهم العادية.
ثالثاً- أوراق تمثل مديونية محضة:
وهي أوراق تنشأ نتيجة لقرض أو بيع (آجل أو سلم) . ويتعهد فيها المقترض أو المشتري بدفع مبلغ معين بتاريخ مضروب. وهي وثائق خطية تعبر عن المديونية. ويوجد منها في الأسواق المالية أنواع متعددة نذكر أصنافها فيما يلي:
1- سندات الحكومة:
وهي وثائق تصدر مقابل قروض تحصل عليها الحكومة وهي تمثل مديونية الحكومة للمقرض أو صاحب السند، ولها أنواع. فمنها ما هو قصير الأجل ومنها ما هو طويل الأجل. ومنها ما يوزع فوائد دورية، ومنها ما لا يوزع فوائد وإنما يباع عند الإصدار بخصم يعادل الفوائد، كما أن منها ما تصدره الخزانة العامة، ومنها ما تصدره جهات حكومية أخرى كالبلديات أو الحكومات المحلية أو البنك المركزي.
وهي في العادة قابلة للتداول بالبيع. وأهم ما يؤثر على سعرها في السوق عاملان هما: مقدار الفائدة التي تلتزم الحكومة بدفعها في السند، وسعر الفائدة السائد في السوق، إضافة إلى القيمة الاسمية للسند وتاريخ استحقاقه.(9/715)
وتتخذ هذه السندات أسماء متعددة. فمنها ما يسمى سندات الحكومة، ومنها ما يسمى أذونات الخزينة، أو سندات الاستثمار، أو شهادات الادخار أو شهادات الاستثمار. ومنها ما يسمى بسندات البلديات أو سندات الحكومات المحلية حسب الجهة المصدرة لها.
وتستعمل الحكومة –أو الجهة الحكومية المقترضة - حصيلة السندات لأغراض متعددة. قد تذكر على السند وقد لا تذكر. كما قد تصدر السندات لأغراض عامة مثل تمويل عجز الميزانية أو لأغراض خاصة مثل تمويل مجموع المشاريع التنموية أو تمويل مشروع محدد بعينه. وكثيرا ما تعتمد الحكومة إلى إنشاء مؤسسة عامة مملوكة للدولة تتخصص في إصدار أنواع من سندات وشهادات القرض بأسماء متعددة
وشروط متفاوتة بقصد تلبية الرغبات المتنوعة للناس باستجلاب أكبر قدر من القروض وقد تخصص مؤسسة حكومية معينة لاستجلاب قروض تستعمل حصيلتها في المشاريع التنموية للحكومة فقط.
2- سندات الشركة:
تسمح القوانين عادة للشركات بإصدار سندات مقابل قروض تحصل عليها من الناس. ولها أنواع عديدة أيضاً حسب طريقة دفع الفوائد وأجل القرض وغير ذلك. وهي جميعها تتسم بأنها وثائق تمثل مديونية الشركة تجاه صاحب السند، وتعبر عن التزام الشركة المدينة بدفع القيمة الاسمية للسند عند استحقاقه والفوائد المترتبة عليه في مواعيدها. وكثيراً ما يدعم القرض برهن أو ضمان. ويتم تداولها بالبيع مثل سندات الحكومة.
3- الأوراق التجارية:
وهي وثائق تمثل مديونية نشأت عن بيع أو التزام تجاري آخر نحو الضمان. ولها نوعان رئيسان: أحدهما يحرره المدين للدائن والآخر يطلب فيه الدائن من المدين دفع مبلغ الدين لطرف ثالث هو المستفيد (ويكون عادة دائناً للدائن) الذي يمكن أن يكون الدائن نفسه.
ويتم تداول هذه الأوراق بالبيع بسعر يقل عن قيمتها الاسمية بمقدار الفوائد المحسوبة عن الفترة التي تفصل بين تاريخ البيع وتاريخ الاستحقاق. وعندما تباع الورقة التجارية لمصرف يسمى ذلك عادة خصماً أو حسماً لها، كما يمكن لمشتريها أن يعيد بيعها، أو يعيد حسمها.(9/716)
4- سندات السلم:
وهي سندات تمثل ديناً عينيًّا بمقدار محدد من سلعة موصوفة بدقة كالبترول مثلاً. وقد اقترحها بعض الكتاب لتمويل الحكومة.
وبما أن أسعار البترول خاضعة للتغيرات السوقية فإن القيمة النقدية للسند تتغير تبعاً لذلك. أما قابلية السند للتداول فتعتمد على جواز بيع دين السلم قبل قبضه، وهي مسألة خلافية معروفة.
5- سندات الخدمات:
وهي سندات اقترحها بعض الكتاب لتمويل قطاع الخدمات نحو الهاتف والنقل والتعليم. وهي تستند إلى الإجارة الموصوفة بالذمة. فيمثل السند ديناً بخدمة محددة معلقة على المستقبل نحو نقل شخص مسافة معينة في زمن لاحق، أو عدد من دقائق الخدمة الهاتفية الداخلية، أو الخارجية المحددة، أو التعليم الجامعي لمادة دراسية محددة، أو غير ذلك من الخدمات.
وتصدر الجهات المقدمة لهذه الخدمات سندات خدمات تتعهد بموجبها بتقديم الخدمة الموصوفة في زمن معين في المستقبل وتقوم ببيع السندات بأسعار تستجلب إقبال الناس على شرائها.
وهذه السندات قابلة للتداول. أما أسعارها في السوق فتحدد حسب قوى العرض والطلب، وأهم ما يؤثر عليها الأسعار الجارية للخدمات المماثلة التي تقدم في وقت البيع، والتوقعات المتعلقة بأسعار هذه الخدمات في المستقبل.
ب- آلية الاستثمار في الأوراق المالية والوحدات الاستثمارية
يتم الاسترباح بالأسهم والسندات وغيرها من الأوراق والحقوق المالية والصناديق والوحدات الاستثمارية بشرائها من خلال الأسواق المنظمة أو غير المنظمة، ثم التربص انتظاراً للحصول على عوائدها، وارتفاع أسعارها لبيعها بالسعر الأعلى. وتشترى هذه الأسهم والأوراق إما مباشرة من أصحابها، وإما بواسطة وسطاء يحصلون على أجور لقاء وساطتهم.
1- ففي سندات الحكومة وسندات الشركات يحصل مالك السند على الفوائد المحددة التي التزم المقترض بدفعها دوريًّا. ويرجع ارتفاع سعر السند (أو انخفاضه) إلى انخفاض (أو ارتفاع) معدل الفائدة السائد والمتوقع في السوق، فيجني المالك –عند البيع - الزيادة في السعر إذا ارتفع، أو يتحمل نقصانه إذا انخفض.
2- وفي الأوراق التجارية والسندات التي لا توزع فوائد (Zero Coupon Bonds) يحصل مالك الورقة أو السند –عند البيع- على ثمنها في السوق المالية. ويختلف هذا الثمن عما دفعه المالك عند حصوله على الورقة أو السند بتأثير عاملين رئيسيين اثنين هما ما مضى من الزمن بين الشراء والبيع والفرق في معدل الفائدة بين وقت الشراء ووقت البيع، يضاف إليهما ما يتعلق بالتوقعات حول التغيرات المستقبلية في معدل الفائدة والفرص البديلة والظروف العامة للسوق المالية.(9/717)
3- وفي الأسهم، يميز عادة بين الأسهم التي تقتنى لإيراداتها وبين تلك التي تقتنى من أجل بيعها بسعر أعلى. وتوزع الشركات المساهمة أرباحاً على المساهمين مستخلصة من الواقع الفعلي لنتائج أعمالها، مع تعديلات يراها مجلس الإدارة عادة بزيادة نسبة التوزيع أو إنقاصه، مستعملاً في ذلك إما بعض أنواع الاحتياطيات المجمعة لدى الشركة أو حساب الأرباح المحتجزة، وهي كلها من حقوق المساهمين على كل حال وكثيراً ما يتم توزيع دفعات ثابتة كل ثلاثة أشهر تعتبر بمثابة سلف على الأرباح يتم تسويتها عند ظهور النتائج السنوية لأعمال الشركة والمصادقة عليها.
أما سعر السهم في السوق فيتأثر بعوامل كثيرة جدًّا تتجلى في التغيرات بالعرض والطلب على السهم. ومن هذه العوامل ما هو حقيقي يتعلق بنشاط الشركة وإنجازاتها وأرباحها الفعلية ومشروعاتها الإنمائية.
ومنها ما يتعلق بتقويم الخبراء لأعمال الشركة ومستقبلها حيث توجد في كثير من الدول مؤسسات تقويم تنشر تقارير عن الشركات وإنجازاتها.
ومنها كذلك ما يعود إلى ما ينشر من الأصدقاء أو الأعداء وغيرهم من ذوي المصالح من إشاعات حول الشركة وإدارتها ومستقبل أعمالها. ومن هذه العوامل أيضاً ما يتعلق بالفرص البديلة المتوافرة في السوق، ومنها كذلك ما يتعلق بالظروف الاقتصادية والسياسية العامة المحلية والإقليمية والعالمية. كما يتأثر العرض والطلب بعوامل نفسية وثقافية وبيئية كثيرة منها الطقس، والغيوم والجفاف، والتصحر، والمكتشفات والمخترعات العلمية وغير ذلك.
ويكون الاسترباح بالأسهم بالحصول على إيراداتها في مواعيد توزيعها وبتحصيل الزيادة في أسعارها عند بيعها بأسعار أعلى من أسعار شرائها. ومن مالكي الأسهم من يقتنيها لوقت طويل نسبيًّا فيكون اهتمامه بأرباحها السنوية أكثر من اهتمامه بتغير أسعارها في السوق، ومنهم من يلهث وراء التغيرات في السوق فينصب جل اهتمامه على الاسترباح بفروق الأسعار، مما يجعل سوق الأسهم كثير التغير حتى إنه ليوصف بالتطاير (Volatility) .
4- وفي أسهم الصناديق التبادلية والصناديق الاستثمارية المغلقة التي يتم تداولها في الأسواق، يكون الاسترباح بارتفاع سعر السهم فقط لأن هذه الصناديق لا توزع أرباحاً، وإنما ترتفع قيمة السهم بارتفاع قيمة محفظتها المالية وتنخفض بانخفاضها.
5- ومثل أسهم الصناديق المغلقة الحصص والوحدات في صناديق الاستثمار المفتوحة المختلفة الأنواع. إذ لا تقوم هذه الصناديق بتوزيع أرباح –في العادة- وإنما ترتفع قيمة الحصة أو الوحدة (أو تنخفض) بارتفاع (أو هبوط) قيمة محفظتها المالية. ويستربح مالك الحصة أو الوحدة باسترداد قيمة حصته أو وحدته عندما يراها مرتفعة. أما الصناديق المغلقة غير ذات الأسهم فإنها تتطلب التربص حتى تاريخ انتهاء الصندوق نفسه حيث توزع على أصحاب الحصص أو الوحدات حصيلة تصفية المحفظة المالية للصندوق فيتحقق الربح (أو تحصل الخسارة) عندئذ.(9/718)
القسم الثالث
القضايا الشرعية التي يثيرها الاستثمار
في الأسهم والوحدات الاستثمارية
سأستعرض في جزء من هذا القسم الفتاوى الصادرة حول موضوع البحث ثم أذكر القضايا التي أعتقد أنها تحتاج إلى بيان موقف الشريعة منها من خلال الجهود المجمعية للفقهاء المعاصرين.
أ- الفتاوى المعاصرة حول الأسهم والوحدات الاستثمارية
1 - فتاوى مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي:
- الزيادة أو الفائدة، مقابل تأجيل دين حل، أو على القرض منذ بداية العقد، ربا محرم شرعاً (قرار رقم –10- دورة المؤتمر الثاني، عام 1406، وقرار رقم –1- دورة المؤتمر الثالث، عام 1407هـ) .
- تجب الزكاة في الأسهم على أصحابها، وتخرج الشركة الزكاة نيابة عنهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله من حيث نوع المال الذي يجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي فإذا لم تخرجها الشركة وأخرج الزكاة أصحابها، فإن الأسهم المقصودة لريعها لا تجب فيها الزكاة بل في الريع بشروطه. أما الأسهم المقصودة للتجارة فتزكى زكاة عروض التجارة (القرار رقم –3- دورة المؤتمر الرابع، عام 1408 هـ) .
- أسهم المقارضة جائزة بشروطها الشرعية التي ذكرها قرار المجمع (القرار رقم –5-، دورة المؤتمر الرابع، عام 1408 هـ) .
- يجوز تداول أسهم المقارضة إذا غلبت الأعيان والمنافع على مال القراض فإن غلبت النقود أو الديون كان التداول حسب الأحكام الشرعية التي تراعي الشروط الشرعية لتداول النقود أو الديون (القار رقم –5- دورة المؤتمر الرابع، عام 1408 هـ) .
- لا يجوز ضمان المضارب لرأس مال المضاربة أو ربحه (القرار رقم –5- دورة المؤتمر الرابع، عام 1408 هـ) .(9/719)
- السندات التي تمثل التزامات بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول؛ لأنها قروض ربوية، سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة.
ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية، أو ادخارية، أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً (القرار رقم 62/11/6 دورة المؤتمر السادس، عام 1410 هـ) .
- تحرم السندات ذات الكوبون الصفري Zero Coupon Bonds باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية (القرار رقم 62/11/6 دورة المؤتمر السادس، عام 1410 هـ) .
- تحرم السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين، أو لبعضهم، لا على التعيين، فضلاً عن شبهة القمار (القرار رقم 62/11/6 دورة المؤتمر السادس، عام 1410 هـ) .
- تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة وذات مسؤولية محددة أمر جائز، ويحرم الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، والأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، كالربا، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة (القرار رقم 65/1/7، دورة المؤتمر السابع، عام 1412 هـ) .
- لا مانع شرعا من إصدار أسهم للحامل وتداولها (القرار رقم 65/1/7، دورة المؤتمر السابع، عام 1412 هـ) .
- لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال، أو ضمان قدر من الربح، أو تقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح. ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية (القرار رقم 65/1/7، دورة المؤتمر السابع، عام 1412 هـ) .(9/720)
- يجوز بيع السهم أو رهنه بشروطه (القرار رقم 65/1/7، دورة المؤتمر السابع، عام 1412 هـ) .
- عقود الاختيارات غير جائزة لأن المعقود عليه ليس مالاً، ولا منفعة، ولا حقًّا ماليًّا يجوز الاعتياض عنه (القرار رقم 65/1/7، دورة المؤتمر السابع، عام 1412 هـ) .
- إن حسم (خصم) الأوراق التجارية غير جائز شرعاً؛ لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم (القرار رقم 66/2/7، دورة المؤتمر السابع، عام 1412 هـ) و (ندوة البركة الأولى، الفتوى رقم 12) .
2 - فتاوى ندوات البركة:
- الأصل جواز بيع حصة في عين تخول المشتري الحق في الأرباح النقدية المتحققة، أو الأرباح المحققة نتيجة لارتفاع قيمة العين (ندوة البركة الأولى، الفتوى رقم 11) .
- يجوز للبنك الإسلامي الذي يملك نسبة عالية من رأس مال شركة أن يعرض إيجاباً عامًّا بشراء حصص فيها أو أسهمها (ندوة البركة الثانية – الفتوى رقم 6) .
3 - فتاوى أخرى:
- أذون الخزانة وسندات التنمية التي تصدرها الدولة بمعدل فائدة ثابت من باب القرض بفائدة، وقد حرمت الشريعة القروض ذات الفائدة المحددة أيًّا كان المقرض أو المقترض؛ لأنها من باب الربا المحرم شرعاً (الفتاوى الإسلامية) –دار الإفتاء- مجلد 9، فتوى 1248 ص 3311، فبراير 1979 م، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وزارة الأوقاف – القاهرة) .
- لما كان الوصف القانوني الصحيح لشهادات الاستثمار أنها قرض بفائدة.. فإن فوائد تلك الشهادات تدخل في نطاق ربا الزيادة ولا يحل للمسلم الانتفاع به (الفتاوى الإسلامية، المجلد التاسع، فتوى رقم 1252 ص 3335، ديسمبر 1979 م) .(9/721)
ب- تساؤلات ومشكلات يثيرها الاستثمار في الأسهم والوحدات والصناديق الاستثمارية.
بما أن مسألة إصدار السندات وشرائها والحصول على فوائدها وكذلك خصم الأوراق التجارية هي من المسائل التي حسم بها مجمع الفقه الإسلامي الموقر – لما فيها من ربا صريح- فإن الاستثمار بهذه الطرق أصبح فيه موقف الشريعة الغراء واضحاً والحمد لله. لذلك لا نرى طائلاً من تكرار هذه المسائل، غير أنه لا تزال هنالك مسائل عددية تحتاج إلى نظر وتمحيص من أهمها ما يلي:
1 - نتائج التعبير عن الأصول والأعيان بصيغة أوراق مالية وهو ما يسمى باللغة الإنجليزية Securitization.
إن عملية التعبير عن الأصول والأعيان بشكل أوراق مالية ينشأ عنها ضرورة التمييز بين نوعين من الملكية. ملكية الأوراق المالية ملكية الأصول والأعيان. فالسهم يملك على وجه الاستقلال عن ملكية الأصول والأعيان التي تملكها الشركة. ولقد لاحظت كثير من القوانين ذلك الاستقلال. ففرضت الدول ضريبة الدخل أو ضريبة الأرباح على الشركات بشكل منفصل عن ضريبة الدخل على الأفراد. فالشركة تدفع ضريبة على مجموع أرباحها سواء أوزعتها أم لا، والمساهم يدفع ضريبة أيضاً عما حصل عليه من أرباح موزعة Dividends دون أن تعتبر في ذلك إزدواجاً ضريبيًّا؛ لأن للشركة شخصية قانونية وذمة مالية مستقلين عما للمساهمين أفراداً ومجتمعين.
ويتكرر هذا التملك بتكرار عملية التحويل إلى أوراق مالية. ففي صناديق الاستثمار المغلقة ذات الأسهم، يمتلك صاحب سهم صندوق الاستثمار سهمه في الصندوق ويتصرف به. ويمتلك الصندوق، كشخصية معنوية، الأسهم التي اشتراها، وتمتلك الشركات التي تخصها هذه الأسهم الموجودات والأعيان. وقد تزداد السلسلة حلقة أخرى أيضاً إذا امتلكت أية شخصية معنوية أسهماً من أسهم صناديق الاستثمار.(9/722)
وإن تراكم وتعدد عمليات تحويل الموجودات إلى أوراق مالية أمر أصبح جزءاً من الحياة المالية والاقتصادية المعاصرة، وهو يحدث في كل مرة تمتلك فيها شخصية معنوية أسهماً في شخصية معنوية أخرى، ومن أبرز أمثلته الشركات القابضة Holding Companies، والشركات الأمهات Mother Companies التي تملك شركات تابعة Subsidiaries.
والسؤال الذي لا بد أن يطرح نفسه يتعلق أولاً بمدى مشروعية تعدد التحويل إلى أوراق مالية مرة فوق مرة، وثانياً بما يترتب على ذلك من أحكام شرعية، سواء ما يتعلق منها بتأثير نوع نشاط كل شركة تملك أسهمها من قبل شركة ثانية على أصحاب أسهم الشركة المالكة، أو ما يتعلق بالزكاة الواجبة وكيفية حسابها.
2 - المجازفات في الأسهم
الأصل في الاستثمار في المنهج الإسلامي أنه زيادة في كمية وسائل الإنتاج في المجتمع، الأمر الذي يزيد القدرة على إنتاج الطيبات والمنافع. فإذا اشترى المرء وسائل إنتاج موجود قائمة بعملها، وإن لم يقم بزيادة كمية وسائل الإنتاج في المجتمع، فإنه يكون قد امتلك آلات وأدوات قادرة –من خلال تنظيم فني وإداري معين- على إنتاج الطيبات والمنافع، ويكون بدفعه قيمتها للمالك السابق قد مكنه من اتخاذ قرار اقتصادي جديد، سواء أجعله استثماريًّا أم استهلاكيًّا. فيلحق من أجل كل ذلك شراء الآلات والأدوات الموجودة بالاستثمار توسعاً للمعنى، وتجاوزاً لقيوده الدقيقة.
فشراء حصة –أو سهم- في رأس مال شركة مساهمة هو استثمار إذن في حدود هذا المعنى. أي طالما أنه يؤول إلى وجود أصول ثابتة وغير ثابتة تنتج الطيبات والمنافع. وبطبيعة الحال، فإن الأصول والموجودات التي تستعمل في إنتاج الطيبات والمنافع إنما تقصد من أجل إنتاجها، فإنها بذاتها لا تشبع رغبة إنسانية، ولا تسد حاجة بشرية. وبالتالي فإن الأسهم في الشركات المساهمة إنما تقتنى؛ لأنها تمثل حصة في رأس مال شركة تنتج الطيبات والمنافع (ومن هنا حرم اقتناء أسهم في شركة تنتج الخبائث) .(9/723)
فالأصل إذن في الاستثمار في الأسهم ضمن المنهج الإسلامي أن يكون شراء للأسهم بقصد الاسترباح من إنتاج الطيبات والمنافع. أي أن الاسترباح يكون أساساً من العملية الإنتاجية التي هي الهدف الأول والأساسي للاستثمار.
ومن جهة أخرى، فإن القيمة السوقية لرأس مال الشركة المساهمة تتأثر بعوامل عديدة، لعل من أهمها:
أ- التوقعات المتعلقة بمستقبل نشاط الشركة من رواج أو كساد. هذه التوقعات تتأثر بدورها بالإنجاز الفعلي للشركة في ماضيها، وكفاءة إدارتها، وغير ذلك.
ب- تراكم حقوق مالية للمساهمين في الشركة فوق رأس المال المدفوع، لأسباب قانونية، كالاحتياطي الإلزامي، أو طوعية تقوم بها إدارة الشركة، كالاحتياطي الاختياري، والأرباح المحتجزة.
ج- زيادة القيمة السوقية لموجودات الشركة دون أن تتمكن من توزيع تلك الزيادة على شكل أرباح من خلال إعادة تقويم موجوداتها في سجلاتها نظراً للصعوبات القانونية التي تعترض ذلك عادة.
د- الحالة العامة للسوق المالية وأسواق السلع والخدمات، وحالة الكساد أو الرواج فيها ومعدلات التضخم السائدة والمتوقعة، وبخاصة ما يتعلق بالسلع البديلة والمنافسة، وسعر الفائدة السائد والمتوقع، وما شابه ذلك من عوامل أخرى.
ومن البدهي أن يتأثر سعر السهم بجميع هذه العوامل التي تؤثر على القيمة السوقية لرأس مال الشركة. ومن البدهي أيضاً أن تلحظ جميع تلك العوامل عند الاستثمار في الأسهم.
فالاستثمار في الأسهم يقصد إذن إلى هدفين بآن واحد هما: العوائد الدورية الناتجة عن نشاط الشركة وأرباحها، والارتفاع في القيمة السوقية لرأس مال الشركة.(9/724)
وهذا غير أنه مع انتشار الشركات المساهمة، وبعد صاحب السهم عن مركز نشاط الشركة وإدارتها، ومع توسع الأسواق المالية ورواج الأسهم وانتشارها، كان من الطبيعي أن تتأثر الأسعار السوقية للأسهم بعوامل أخرى ليست من نوع تلك العوامل التي ذكرناها سابقاً: فالإشاعة صار لها دور كبير في أسعار الأسهم، وكذلك ما ينشر –أو لا ينشر- من معلومات عن الشركة والسوق بشكل عام، وتهافت الناس على الشراء أو على البيع، والأحوال السياسية الإقليمية والعالمية، وما ينشر وما يتوقع عن الأوضاع الاقتصادية العالمية والإقليمية، وبخاصة في البلدان السبع الكبرى اقتصاديًّا، وأحوال السلم والحرب وتوقعاتهما، وكذلك تتأثر أسعار الأسهم باقتراب عطلة نهاية الأسبوع والعطل الرسمية الأخرى في البلدان الكبرى وبأحوال العلوم والاختراعات، وغير ذلك.
ومع النمو الكبير للأسواق المالية واستيعابها لأموال طائلة كبير تبذل في شراء الأسهم –وغيرها من الأوراق المالية - بهدف المجازفة Speculation على أسعارها، لا بقصد تملكها استدرار أرباح الشركات التي تمثل الأسهم رأساميلها، ومع تطور وسائل الإعلام واستخدام الحاسوب في الأسواق المالية وانتشار البرامج الآلية في الشراء والبيع، وكثرة الوسطاء والخبراء ووكلاء الاستثمار، طغت المتاجرة بالأسهم مجازفة على أسعارها، وبعدت أسعار سوق الأسهم عما يحصل في عالم الواقع من تغيرات مادية في الأوضاع الفعلية للشركات، وصار الوهم هو العامل الرئيسي في تغيرات أسعار الأسهم حيث تربح –أو تخسر- آلاف الملايين في ساعات قلائل.
كما صارت الكميات التي يتم بيعها –وشراؤها- في سوق الأسهم يوميًّا تفوق في أحيان كثيرة أعداد الأسهم التي تشكل رساميل الشركات المسجلة في البورصة. كل ذلك يدل على أن هذا النوع من الاستثمار قد تجاوز الحدود التي رسمها الإسلام نهجاً لاستثمار المال وصار استخدام السهم كأداة للمجازفة على السعر وليس مقصوداً لذاته من أجل أرباح الشركات وارتفاع قيمة رساميلها. فهذا النوع من استخدام المال مجازفة على أسعار الأسهم لا ينتج طيبات ولا يزيد منافع، فهل هو يتجاوز معنى العبث الذي أشرنا إليه في القسم الأول من هذه الورقة؟(9/725)
والسؤال الذي ينبغي الإجابة عليه هو: هل تتفق المجازفة على أسعار الأسهم مع المنهج الإسلامي في الاستثمار؟ وهل يقبل الشرع الحنيف الاسترباح بهذا النوع من العمل غير المنتج؟ وهل ينبغي التمييز بين الاستثمار الصحيح في الأسهم وبين استعمال المال عبثاً في المجازفة على أسعارها؟ وبالتالي هل ينبغي وضع قيود على أسواق الأسهم بحيث تقتصر المبايعات على أولئك الذين يرغبون في الاستثمار بالمعنى الذي يؤدي إلى إنتاج الطيبات والمنافع؟ علماً بأنه يمكن تحقيق مثل هذه الأهداف عن طريق فرض قيود على البيع، مثل اشتراط التسجيل ونحوه، وتقليل حجم الائتمان الذي ينصرف لتمويل شراء الأسهم، وعدم السماح بإعطاء أسعار للأسهم في السوق إلا بصورة دورية عقب نشر البيانات المالية الدورية عن الشركة، وغير ذلك من الإجراءات التي تهدف إلى اقتصار التعامل على الراغبين بالدخول في ذلك الميدان من ميادين إنتاج الطيبات والمنافع، أو الخروج منه.
3 - تأثير نشاط الشركة على تملك أسهمها:
إن فتوى مجمع الفقه الإسلامي صريحة واضحة فيما يتعلق بحرمة المساهمة في شركات نشاطها محرم، نحو إنتاج وبيع المحرمات كالخمر. وكذلك فإن المجمع قد أصدر فتوى تتعلق بالمساهمة في شركات نشاطها الأساسي يدخل في ضمن المباحات، ولكنها تتعامل أحياناً بالربا أخذاً وعطاء. فنص على أن الأصل في ذلك الحرمة. ثم استأنف مناقشة المسألة في دورة مؤتمره الثامن، وأوصى بمتابعة هذه المناقشة في المستقبل، لاستكمال جميع جوانبه، وتغطية كل تفصيلاته.(9/726)
وهناك عدد من النقاط تثار حول هذه الموضوع ألخصها فيما يلي:
- هل لشخص المستثمر تأثير في الحكم الشرعي؟ فهناك المستثمر المسلم الفرد، وهناك المؤسسة المالية الإسلامية. فالمؤسسة المالية الإسلامية، كالبنوك وشركات التكافل الإسلامية، صارت في أيامنا شعاراً من شعارات النشاط الاقتصادي الإسلامي، ومناراً من مناراته، ينظر إليها ويقتدى بها ويضرب فيها المثل. فهل يؤثر ذلك على الحكم الشرعي؟ بما يشبه مسألة الأذان الذي يعتبر شعيرة من شعائر الإسلام، فلو تركه أهل بلد قوتلوا عليه، ولو تركه فرد، فهو تارك لسنة أو واجب.
- هل لنية المستثمر من تأثير في الحكم الشرعي؟ وهنا يمكن تمييز عدد من الحالات منها:
أ- أن يشتري أسهماً في شركة تتعامل بالربا بنية تحويلها إلى مؤسسة إسلامية لا تتعامل بالحرام مطلقاً، مع القدرة على ذلك عند المساهمة، أو مع توقع القدرة على ذلك بعد مرور وقت معين، أو بدون توقع القدرة على التحويل مع بقاء نيته.
ب- أن يساهم في شركة نشاطها الأساسي من المباحات، ولكن يختلط بالحرام لأسباب اجتماعية، أو اقتصادية، أو قانونية أحياناً نحو إنشاء مسابح، أو دور للرياضة في بلد لا يسمح بفصل النساء عن الرجال، أو أن الفصل يؤدي إلى فشل المشروع من الناحية الاقتصادية. وذلك بقصد التعرف على هذا الفن ومعرفة هذه الصناعة من أجل إقامة مثيل لها يخلو من الحرام. ونحو ذلك أن ينتج أفلاماً سينمائية فيها بعض المناظر والأفكار المحرمة، بقصد تعلم هذه المهنة ومعرفة خباياها من أجل إنتاج أفلام سينمائية ليس فيها من المحرمات شيء.
ج- أن يساهم في شركة نشاطها الأساسي مباح ولكنه يختلط بالحرام من أجل مخاطبة جمهور من المستهلكين بقصد دعوتهم إلى الإسلام. مثل الإذاعة التي تذيع بعض البرامج الفاسدة بقصد إسماع من يتعشقون هذه البرامج شيئاً من النصح والموعظة الحسنة، للتدرج بهم على طريق الخير.
- هل لظروف الاستثمار من تأثير في الحكم الشرعي؟ وهنا أيضاً يمكن تمييز عدد من الحالات:
أ- استثمار الأموال السائلة لدى الفرد المسلم أو المؤسسة الإسلامية لفترة قصيرة من الزمن، دون قصد المساهمة في الشركة أو إدارتها لوقت طويل. فالمسلم لا يستطيع استعمال الأموال السائلة المتوافرة لديه في جميع أنواع السندات لحرمة الربا. وعند الاختيار بين الأسهم يحتاج إلى اختيار أسهم الشركات القوية الكبيرة للاستثمار القصير الأجل. وهو لا يريد الإبقاء على هذا الاستثمار إلا لوقت قصير ريثما تتاح الفرص الاستثمارية التي يرغبها.(9/727)
ب- في عدد من البلدان الإسلامية يسيطر الأجانب وغيرهم من غير المسلمين على معظم الأنشطة الاقتصادي، وإذا ابتعد المسلمون عن المساهمة في الشركات التي تتعامل أحياناً بالربا ستزداد هذه السيطرة، وسيصعب كسر هذه الحلقة حول الاقتصادي الوطني. وإن مساهمة المسلمين في الشركات القائمة هي خطوة مهمة جدًّا في سبيل استعادتهم لملكية وإدارة الاقتصاد وعدم تركه في أيدي غير المسلمين، أو على الأقل في سبيل تحقيق حصة لهم في الاقتصاد الوطني تتناسب مع نسبتهم في مجموع السكان كأكثرية إسلامية.
ج- المسلمون، والمؤسسات الإسلامية، الموجودون في البلدان غير الإسلامية، وبخاصة البلدان الغربية، لا يجدون في بيئاتهم سوى الشركات التي تتعامل أحياناً بالربا للاستثمار في أسهمها. فلا تكاد توجد في تلك المجتمعات شركات لا تتعامل بالربا، وإن وجدت فيستحيل على جميع المسلمين الراغبين في الاستثمار التعرف عليها والاستثمار فيها. فهل يمكن في هذه الظروف للمسلمين الذين يعشون في البلدان غير الإسلامية أن يستثمروا في شركات نشاطها الأساسي مباح ولكنها تتعامل أحياناً بالربا؟
- هل لسلوك الشركة غير المتعلق بنشاطها الرئيسي تأثير على الحكم الشرعي؟ كأن يكون النشاط الرئيس للشركة مباحاً ولكنها تقدم تبرعات لأعداء المسلمين، أو أنها تبيع منتجاتها، كالسلاح ونحوه، لحكومات أو فئات تحارب به المسلمين وبلدانهم.
4 - أحكام الاستثمار في الصناديق والوحدات الاستثمارية
إن العديد من الصناديق والوحدات الاستثمارية تتعامل مباشرة بالسلع، نحو الصناديق المتخصصة بالعقارات، وبالمتاجرة بالسلع، وتلك التي تعمل في ميادين المرابحات والسلم والإجارة ونحوها. ولكن أكثر الصناديق والوحدات تتعامل بالأسهم والسندات والأوراق التجارية والعملات. وثمة عدد من المسائل ينبغي مناقشتها والوصول إلى الحكم الشرعي فيها لعل من أهمها ما يلي:
أ- كثير من الصناديق والوحدات تنوع في استثماراتها بين أنواع من الأسهم والسندات وغيرها. فما حكم الاشتراك في هذه الصناديق والوحدات في الحالات التالية:
- إذا اقتصرت على الأسهم وكان منها أسهم شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، مع العلم أن الصندوق أو الوحدة الاستثمارية قد يملك أسهماً إيرادية فيكون تركيزه على إيراداتها والاحتفاظ بها لفترات أطول، وقد يملك أسهماً تربصاً لارتفاع أسعارها، على طريقة المجازفة على الأسعار فقط، وقد يملك خليطاً من هذا وذاك، وهو الأغلب.(9/728)
- إذا تضمنت محفظة الصندوق أو الوحدة سندات أو أوراقاً تجارية، سواء أغلبت الأسهم أم لم تغلب، وسواء أمكن فصل الإيرادات الناشئة عن التعامل بالسندات والأوراق التجارية أم لم يمكن.
ج- إذا اقتصر نشاط الصندوق أو الوحدة على التعامل بالعملات تعاملاً حالاً فقط بيعاً وشراء. ولكنه نشاط يقوم على المجازفة Speculation على أسعار العملات، وليس على اتخاذ الصرافة مهنة تهدف إلى توفير العملات لمن يحتاجها. وواقع الحال أن جميع الصناديق المتخصصة بالعملات إنما تقوم على المجازفة دون اتخاذ الصرافة مهنة.
د- وبشكل عام فإن معظم صناديق ووحدات الاستثمار بالأسهم نفسها إنما تقوم على فكرة المجازفة على أسعار هذه الأسهم، ولا يوجد منها من يهدف إلى اتخاذ –مجال استثماري بعينه نبراساً له (1) . وبخاصة أن صناديق ووحدات الاستثمار في الأسهم تقوم على مرحلتين من التحويل إلى حقوق وأوراق مالية Securitization، يبتعد فيها المستثمر في الصندوق أو الوحدة عن الاستثمار المادي الذي يهدف إلى زيادة الطيبات والمنافع في المجتمع، فهل يجوز أصلاً هذا النوع من الاسترباح بالمال فقط؟
هـ- قلنا: إن الصناديق تنظم عادة على أساس المضاربة، أي أن نصيب المدير يكون حصة من الربح عند تحققه، وأنها تنظم أيضاً على أساس الإجارة، بحيث يكون للمدير أجر يحسب عادة على أساس نسبة معلومة من مجموع رصيد الصندوق، كأن تكون الأجرة 0,15? (واحد ونصف بالألف) من مجموع الأموال في الصندوق في آخر كل شهر. وهذه المبالغ الموجودة آخر كل شهر لا تعرف مسبقاً، وإنما تعرف عند حساب الرصيد في آخر كل شهر.
وهي تتأثر بعاملين هما:
1- الأموال المضافة أو المسحوبة خلال الشهر.
2- أسعار الأوراق المالية التي يملكها الصندوق عند إقفال الشهر.
فهل من الجائز شرعاً تنظيم الصندوق بأجرة تحسب بهذه الطريقة؟ وهل تخرج هذه الطريقة على أنها نوع من الأجرة بالقطعة، أو الأجرة على العمل لا على الزمن؟
5 - أحكام زكاة الأسهم وحصص صناديق ووحدات الاستثمار
إضافة إلى الفتاوى المهمة الصادرة عن مجمع الفقه الإسلامي الموقر في هذا الخصوص، هناك عدة نقاط تحتاج إلى بيان الرأي، أهمها ما يلي:
- إذا كانت الفتوى على أن شراء الأسهم بقصد المتاجرة بها يجعلها تعامل معاملة عروض التجارة بالنسبة لأحكام الزكاة، من حيث النصاب، والحول، ومقدار الواجب، فما هو حكم شراء أسهم أو حصص الصناديق والوحدات الاستثمارية التي تقوم بشراء الأسهم وبيعها؟ علماً بأن مشتري السهم أو الحصة قد يشتريها بقصد الإبقاء عليها بإيراداتها، وأن الصندوق نفسه ينحصر كل عمله بالمتاجرة بالأسهم، ولا يمكن معرفة نسبة الأصول الثابتة إلى غيرها من الموجودات في الشركات التي يملك الصندوق أسهمها.
- ما حكم الزكاة على أسهم وحصص الصناديق والوحدات التي يوجد ضمن موجوداتها سندات وأوراق تجارية، أو أسهم لشركات نشاطها الأساسي مباح ولكنها تتعامل أحياناً بالربا؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الدكتور منذر قحف
__________
(1) وإن كان يمكن من الناحية النظرية قيام صندوق استثماري يهدف إلى تنمية صناعة معينة أو مجال إنتاجي(9/729)
الاستثمار في الأسهم
إعداد
د. علي محيي الدين القره داغي
كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعاملين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد،
فلا شك أن الشركات المساهمة تلعب دوراً كبيراً في الاقتصاد المعاصر، وأن أهم ركائزها وأدواتها هي الأسهم، حيث يتم من خلالها جمع أكبر قدر ممكن من الأموال؛ لأن تجزئة رأس المال إلى حصص صغيرة تمكن الجميع من المساهمة فيها مما يمكن تجميع رأس مال كبير وبذلك تستطيع الدخول في المشروعات الضخمة.
ولم يقف التعامل في الأسهم اليوم على المساهمين المؤسسين للشركة بل أصبحت كورقة تجارية مالية تتداول بين الناس بشكل واسع ولا سيما في الأسواق المالية العالمية (البورصة) .
ومن هنا يثور التساؤل حول مدى مشروعية التعامل في الأسهم بصورة عامة، والاستثمار فيها ولا سيما الاستثمار في الأسهم التي تمتلكها الشركات العالمية، أو الشركات المحلية داخل العالم الإسلامي ولكن معاملاتها لا تخلو من شوائب الربا.
ومن أخطر ما تعاني منه مجتمعاتنا هو وجود النظام غير الإسلامي (الرأسمالي، أو الاشتراكي) الذي تكونت في ظله الشركات في عالمنا الإسلامي حيث لا يلتزم معظمهم بالمنهج الإسلامي القويم، فتقرض وتقترض من البنوك الربوية.
ومعظم المسلمين اليوم في حيرة هل يتركون هذه الشركات فيقاطعونها ولا يساهمون فيها وبالتالي ينفرد الفسقة وضعفاء الدين بإدارة هذه الشركات التي تعتبر العمود الفقري للحياة الاقتصادية؛ وذلك لأنها قائمة وأن مقاطعة الغيورين المخلصين لا تؤثر في مسيرتها أم أنهم يدخلون فيها لغرض الإصلاح والتغيير؟
وفي مقابل هذا التحير من عامة المسلمين نجد اختلاف المعاصرين حيث إن منهم من ينظر إلى مقاصد الشريعة وما يترتب على المقاطعة وعدم المساهمة فيها من مفاسد فأجاز المساهمة فيها بشروط وضوابط، ومنهم من نظر نظرة خاصة إلى ما يشوب هذه المعاملة من حرام فرفضها رفضاً مطلقاً.
ونحن في هذه العجالة نناقش هذه المسألة بكل أمانة وإخلاص راجياً من الله تعالى أن يسدد خطانا، ويلهمنا الصواب، وأن يعصمنا من الخطأ في العقيدة وفي القول والعمل.(9/730)
أولاً: الاستثمار في اللغة والاصطلاح:
الاستثمار في اللغة:
الاستثمار لغة: مصدر استثمر يستثمر وهو للطلب بمعنى طلب الاستثمار، وأصله من الثمر وهو له عدة معان منها ما يحمله الشجر وما ينتجه، ومنها الولد حيث يقال: الولد ثمرة القلب، ومنها أنواع المال.
ويقال: ثمر –بفتح الميم- الشجر ثموراً أي ظهر ثمره، وثمر الشيء أي نضج وكمل، ويقال: ثمر ماله أي كثر، وأثمر الشجر أي بلغ أوان الإثمار، وأثمر الشيء أي آتى نتيجته، وأثمر مالُه –بضم اللام- أي كثر، وأثمر القوم: أطعمهم الثمر، ويقال: استثمر المال وثمره - بتشديد الميم - أي استخدمه في الإنتاج، وأما الثمرة هي واحدة الثمر فإذا أضيفت إلى الشجر فيقصد بها حمل الشجر، وإلى الشيء فيراد بها فائدته، وإلى القلب فيراد بها مودته وجمع الثمرة: ثمر –بفتح الثاء والميم- وثمر- بضمها- ثمار وأثمار (1)
وقد وردت كلمة "أثمر"، وثمرة، وثمر، وثمرات أربعاً وعشرين مرة في القرآن الكريم منها قوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] أي انظروا إلى ثمار تلك الأشجار والنباتات، ونضجها للوصول إلى الإيمان بالله تعالى حيث يحمل ذلك عجائب قدرته تعالى، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] حيث امتن الله تعالى علينا بالثمار وأمرنا أن نأكل من ثمار هذه الأشجار والنباتات عندما تثمر وتنتج، وأن نعطي حقها (وهو الزكاة) عند حصادها فوراً للمستحقين، كما أمرنا بأن لا نسرف في الباقي وهذا يدل على أن حق الملكية ليس حقًّا مطلقاً، بل مقيد بضوابط الشرع.
وفي هذه الآية وآيات أخرى أسند الله تعالى الإثمار إلى الشجر والنبات أنفسهما مما يدل على أهمية العناية بالسنن والأسباب الظاهرة التي لها تأثير على النمو والثمر والنضج مع أن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى ولذلك أكد هذه الحقيقة في آيات أخرى فقال: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22] وقوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126] .
__________
(1) يراجع لسان العرب، ط. دار المعارف؛ والقاموس المحيط؛ والمعجم الوسيط مادة "الثمر"(9/731)
ويلاحظ أن القرآن الكريم أطلق (في الغالب) الثمر أو الثمرة، أو الثمرات على ما تنتجه الأشجار والنباتات مثل قوله تعالى: {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155] ، ولم يطلق على ما تنتجه التجارة من أرباح إلا إذا عممنا المراد بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] .
وقد وردت هذه الكلمة أيضاً في السنة كثيراً وهي لا تعدو معانيها عن ثمار الأشجار والنباتات، منها أنه صلى الله عليه وسلم: ((نهى عن بيع الثمر حتى يزهو)) متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ارزقنا من ثمرات الأرض)) (مسند أحمد 3/342) وغير ذلك.
الاستثمار في الاصطلاح:
ورد لفظ "التثمير" في عرف الفقهاء عندما تحدثوا عن السفيه والرشيد فقالوا: الرشيد هو القادر على تثمير ماله وإصلاحه، والسفيه هو غير ذلك، قال الإمام مالك: "الرشد: تثمير المالي، وإصلاحه فقط" (1)
وأرادوا بالتثمير ما نعني بالاستثمار اليوم (2)
وأما لفظ "الاستثمار" فلم يرد بمعناه الاقتصادي اليوم، ولذلك في معجم الوسيط: الاستثمار: استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات والمواد الأولية، وإما بطريقة غير مباشرة كشراء الأسهم والسندات ثم وضع رمز "مج" الذي يدل على أن هذا المعنى هو من وضع مجمع اللغة (3)
__________
(1) بداية المجتهد، ط. الحلبي (2/281)
(2) مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة، رسالة الدكتوراه بجامعة الأزهر الشريف عام 1985، د. علي القره داغي (1/331-353) .
(3) المعجم الوسيط (1/100) مادة "ثمر".(9/732)
حكم الاستثمار:
الذي يظهر من النصوص الشرعية ومقاصدها العامة أن الاستثمار واجب في مجموعه، أي أنه لا يجوز للأمة أن تترك الاستثمار.
* ذلك لأن النصوص الثابتة في أهمية المال في حياة الفرد والأمة، وتقديم المال على النفس في معظم الآيات وامتنان الله تعالى بالمال، والمساواة بين المجاهدين، والساعين في سبيل الرزق كما في آخر سورة المزمل، وتسمية العامل والتاجر بالمجاهد في سبيل الله في أحاديث كثيرة ... كل ذلك يدل بوضوح على وجوب العناية بالمال وتثميره وتقويته حتى تكون الأمة قادرة على الجهاد والبناء والمعرفة والتقدم والتطور والسعادة والنهضة والحضارة، حيث إن ذلك لا يتحقق إلا بالمال كما يقول الله تعالى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5] .
فقد سمى الله تعالى المال بأنه قيام للمجتمع الإسلامي، وهذا يعني أن المجتمع لا يقوم إلا به ولا يتحرك إلا به ولا ينهض إلا به، كما أن قوله تعالى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء:5] ولم يقل "منها" يدل بوضوح على وجوب الاستثمار حتى تكون نفقة هؤلاء المحجور عليهم (من الأطفال والمجانين) في الأرباح المتحققة من الاستثمار وليست من رأس المال نفسه.
يقول الإمام الرازي: "اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال"، قال تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 26 – 27] وقال تعالى {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] وقال تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والإشهاد والرهن، والعقل يؤيد ذلك؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال"، ثم قال: "وإنما قال: "فيها" ولم يقل "منها" لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقاً لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أمواله مكاناً لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوها أرزاقهم من الأرباح، لا من أصول الأموال...." (1)
* ومن الأدلة المعتبرة أن وجوب الزكاة في الأموال يدفع أصحابها إلى التجارة؛ لأنه إن لم يتاجروا فيها تأكلها الصدقة والنفقة، وهذا ما يؤيده الفكر الاقتصادي الحديث حيث يفرض أنواعاً من الضرائب لدفع أصحاب الأموال إلى عدم اكتنازها، بل قد وردت أحاديث تصل بمجموعها إلى درجة الصحيح أو الحسن الذي ينهض به حجة على وجوب التجارة في أموال الصغار (اليتامى وغيرهم) والمحجور عليهم: السفهاء، والمجانين، وناقصي الأهلية. فقد روى الشافعي بإسناده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ابتغوا في مال اليتيم –أو في أموال اليتامى - لا تذهبها- أو لا تستهلكها- الصدقة)) وقد قال البيهقي والنووي: "إسناده صحيح، ولكنه مرسل معضد بعموم النصوص الأخرى وبما صح عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم" (2)
__________
(1) التفسير الكبير 9/186، ط. دار إحياء التراث العربي – بيروت-.
(2) السنن الكبرى للبيهقي 4/107 ط. الهند؛ والمجموع للنووي 5/329 ط. شركة كبار العلماء.(9/733)
قال البيهقي: "وهذا –أي حديث ابن ماهك- مرسل إلا أنا الشافعي –رحمه الله- أكده بالاستدلال بالخبر الأول –وهو عموم الحديث الصحيح في إيجاب الزكاة مطلقاً- وبما روى عن الصحابة في ذلك" (1)
وقال النووي: "ورواه البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفاً عليه بلفظ: "وابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة" وقال: إسناده صحيح، ورواه أيضاً عن علي بن مطرف ... " (2)
- وروى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة)) قال الهيثمي في مجمع الزوائد نقلاً عن شيخه الحافظ العراقي: "إن إسناده صحيح" (3)
يقول فضيلة الشيخ القرضاوي: "إن الأحاديث والآثار قد نبهت الأوصياء على وجوب تثمير أموال اليتامى حتى لا تلتهمها الزكاة...." فواجب على القائمين بأمر اليتامى أن ينموا أموالهم كما يجب عليهم أن يخرجوا الزكاة عنها، نعم إن في هذين الحديثين (أي حديث عمرو بن شعيب المرفوع وحديث يوسف بن ماهك) ضعفاً من جهة السند، أو الاتصال ولكن يقويهما عدة أمور. وذكر منها: " أنه يوافق منهج الإسلام العام في اقتصاده القائم على إيجاب التثمير وتحريم الكنز" (4)
* وكذلك يدل على وجوب تثمير الأموال في قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] حيث إن الأموال لا تتداول إلا عن طريق توزيع الصدقات، والاستثمار الذي يؤدي إلى أن يستفيد منها الجميع من العمال والصناع والتجار ونحوهم، وكذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ومن القوة بلا شك قوة المال بل هي مقدمة في معظم الآيات على النفس، فإذا كانت قوة البدن والسلاح مطلوبة فإن قوة المال أشد طلباً ووجوباً.
ثم إن من مقاصد هذه الشريعة الحفاظ على الأموال، وذلك لا يتحقق إلا عن طريق استثمارها وتنميتها، كما أن من مقاصدها تعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] فقال المفسرون: "معناه: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار" (5) وكذلك ومن مقاصدها الاستخلاف الذي يقتضي القيام بشؤون الأرض وتدبيرها والإفادة منها وتعميرها وكل ذلك لا يتحقق على وجهها الأكمل إلا عن طريق الاستثمار.
__________
(1) السنن الكبرى (4/107) حيث ذكر عددا ً كثيراً من الأحاديث والآثار في هذا المعنى.
(2) المجموع للنووي (5/329) ؛ والسنن الكبرى (4/107) .
(3) فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي، 1/130 ط. وهبه بالقاهرة.
(4) فقه الزكاة (1/107) .
(5) تفسير الماوردي المسمى: النكت والعيون 2/218 ط. أوقاف الكويت.(9/734)
والخلاصة:
أن الاستثمار للأموال بوجهها العام واجب كفائي فيجب على الأمة أن تقوم بعمليات الاستثمار حتى تكون وفرة الأموال وتشتغل الأيادي ويتحقق حد الكفاية للجميع إن لم يتحقق الغنى، ومن القواعد الفقهية في هذا المجال هو أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ويثور التساؤل حول وجوب الاستثمار على الفرد إذا كان له فائض مالي، فالذي يقتضيه المنهج الإسلامي في أن المال مال الله تعالى وأن ملكية الإنسان له ليست مطلقة عن قيد ... إنه يجب عليه أن يستثمر أمواله بالطرق المشروعة سواء كان بنفسه، أو عن طريق المضاربة والمشاركة ونحوهما، وأنه لا ينبغي له أن يترك أمواله الصالحة للاستثمار فيعطلها عن أداء دورها في التدوير وزيادة دورانها الاقتصادي الذي يعود بالنفع العام على المجتمع.
كما أن قوة المجتمع والأمة بقوة أفرادهما ولا سيما على ضوء منهج الاقتصاد الإسلامي الذي يعترف بالملكية الفردية، وأن ملكية الدولة محدودة، ومن هنا فتقع على الأفراد مسؤولية كبرى في زيادة الأموال وتقويتها عن طريق الاستثمار، يقول الشيخ محمود شلتوت: "إذا كان من قضايا العقل والدين أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكانت عزة الجماعة الإسلامية أول ما يوجبه الإسلام على أهله، وكانت متوقفة على العمد الثلاثة: الزراعة والصناعة والتجارة، كانت هذه العمد واجبة وكان تنسيقها على الوجه الذي يحقق خير الأمة واجباً ... " (1)
المعالم الأساسية لمنهج الإسلام في الاستثمار
لا يمكن الخوض في تفاصيل هذا الموضوع في هذا البحث وإنما نكتفي بذكر أهم معالمه بصورة موجزة وهي:
أولاً: أن منهج الاستثمار في الإسلام لا ينفصل عنه العقيدة والفكر الإسلامي، وكما أن الفكر الرأسمالي يسير عجلة الاستثمار في النظام الرأسمالي، والفكر الشيوعي كان يسير عملية الاستثمار في الاتحاد السوفيتي السابق والدول الاشتراكية نحو إطاره الفلسفي وأهدافه من خلال وسائله الخاصة....
__________
(1) نقلاً عن د. رفعت العوضي: منهج الادخار والاستثمار، ص 73 ط. الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية.(9/735)
فكذلك العقيدة الإسلامية هي المهيمنة في الفكر الاقتصادي الإسلامي، وفي منهج الاستثمار وأدواته ووسائله وآلياته، فالمسلم يعتقد أن المال مال الله تعالى وأنه مستخلف فيه، ولذا يجب عليه أن يسير في الاستثمار وغيره على ضوء منهج الله تعالى، ولا يخالف شرعه كما عليه أن يعمر الكون بالعدل والحق ويكون شاهداً على الآخرين.
ولأجل هذه العقيدة تختلف تصرفات المؤمن عن الكافر فبينما يضع المسلم في الاكتساب والإنفاق والاستثمار رضاء الله تعالى نصب عينيه يضع الكافر مصالحه الشخصية أولاً ثم مصالح قومه فوق كل الاعتبارات، بل قد لا يكون له اعتبار إلا لهما، يبين ذلك قوله تعالى في وصف المؤمنين: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) } [الإنسان: 8 – 9] . بينما يصف الكافر بأنه ليس راغباً في إطعام اليتامى والمساكين لأنه ليس فيه مصلحة دنيوية له، حتى لو أطعم فإنما يطعم من يرجو منه مصلحة كأصحاب الجاه حيث يقول تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) } [الماعون: 1-3] ولأجل هذه العقيدة يرى المؤمن أن الربا محق للأموال ونقص حقيقي، وأن دفع الصدقات زيادة لها، وهذا بالتأكيد عكس تصور الكافر، حيث يقول الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] .
ولأجل هذه العقيدة أيضاً يمتنع عن المحرمات ويقبل على الطاعات، ويعتبر أنه مثاب مأجور ينفذ أمر الله تعالى حينما يستثمر ويتاجر ويعمل، إضافة إلى إسناده النتيجة إلى الله تعالى وحينئذ لا يحزن ولا يغتم عند الخسارة، ولا يبطر ويطغى عن الربح والغناء {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} [الحديد: 23] فهو دائماً في أحد المقامين أو في كليهما: مقام الشكر والثناء، ومقام الصبر والرضا.
كما يترتب على هذه العقيدة سرعة الامتثال لأوامر الله تعالى ونواهيه ولذلك يقدم الله تعالى على أوامره ونواهيه ذكر الإيمان فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] .(9/736)
ومن جانب آخر أن المسلم حينما يتحرك ويستثمر فإنما ينطلق من منطلق العقيدة التي تفرض عليه أن يعمر الكون على ضوء منهج الله تعالى وينشر الخير والرحمة للعالمين أجمعين.
ثانياً: أن من أهم المعالم الأساسية للمنهج الإسلامي في الاستثمار قيامه على القيم والأخلاق والمبادئ، ولذلك حرم الإسلام الحيل والغش والاستغلال والتدليس، ولذلك وردت أحاديث صحيحة على أن ((من غشنا فليس منا)) (1) وعلى حرمة التدليس سواء كان بالقول كما في النجش (2) أم بالفعل كما في التصرية (3) ونحوها.
وبالمقابل أوجب الإسلام أن يسير الاستثمار على العدل، والسماحة عند البيع الشراء والاقتضاء، وبيان كل ما في المعقود عليه من عيوب دون كذب ولا حلف ولا زور (4)
ثالثاً: إن من المعالم الأساسية للمنهج الإسلامي في الاستثمار قيامه على التنافس الشريف وإتاحة الفرصة للجميع دون تدخل من الدولة إلا لحماية الضوابط الشرعية والضعفاء، ولذلك كانت حماية السوق منوطة بسلطة شعبية تتمثل في نظام الحسبة والرقابة الذاتية والشعبية.
ومن هنا أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الحق في الخيار لمن كان في عقله ضعف كما في حديث ابن عمر رجلاً ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال: ((إذا بايعت فقل: لا خلابة)) ، ورواه أحمد وأصحاب السنن بلفظ: أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وكان في عقدته –يعني في عقله- ضعف فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف، فدعاه ونهاه، فقال: إني لا أصبر عن البيع، ((فقال: إن كنت غير تارك للبيع فقل: هاء وهاء، ولا خلابة)) . (5) .
فهذا الحديث أصل طيب في الدلالة على إعطاء فرصة أكبر لضعاف العقول والمستأمنين الذين ليس لديهم الخبرة في العقود بأن يشترطوا لأنفسهم الخيار، بل يعطى لهم هذا الحق ما داموا وقعوا في غبن حتى ولو لم يشترطوا الخيار. (6)
رابعاً: تحريم الظلم والربا، وأكل أموال الناس بالباطل، والمقامرة وغير ذلك مما حرمه الإسلام ونهى عنه.
__________
(1) الحديث رواه مسلم (1/99) وأبو داود –مع عون المعبود- (9/32) والترمذي –مع تحفة الأحوذي- (4/544) ؛ وابن ماجه (2/749) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني) والحديث صريح في تحريم كل غش وكتمان للحقيقة.
(2) النجش: هو المزايدة ممن لا يريد الشراء. انظر حديثه في البخاري –مع الفتح- (4/355) ؛ ومسلم (3/1156) .
(3) التصرية: وهي حبس الحليب في ضرع الحيوان ليظهر أنه حلوب، والحديث في النهي عنه متفق عليه. انظر: صحيح البخاري –مع الفتح- (4/361) ؛ ومسلم (3/1155) .
(4) يراجع: مبدأ الرضا في العقود ص 673 إلى ص 850.
(5) صحيح البخاري –مع الفتح- (4/337) ؛ ومسلم (3/1165) ؛ ومسند أحمد (2/80، 129) ؛ وسنن أبي داود –مع العون- (9/395) ؛ والترمذي مع التحفة (4/455) ؛ والنسائي (7/222) ؛ وابن ماجه (2/753) .
(6) يراجع في تفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود ص 852 وما بعدها.(9/737)
الأسهم:
الأسهم هي جمع سهم، وهو لغة له عدة معان منها: النصيب، وجمعه: "السهمان" بضم السين، ومنها العود الذي يكون في طرفه نصل يرمى به عن القوس، وجمعه: السهام، ومنها: بمعنى القدح الذي يقارع به، أو يلعب به في الميسر، ويقال: أسهم بينهم أي أقرع، وساهمه أي باراه ولاعبه فغلبه، وساهمه أي قاسمه وأخذ سهماً، أي نصيباً، جاء في المعجم الوسيط: "ومنه شركة المساهمة " (1) وفي القرآن الكريم {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] أي قارع بالسهام فكان من المغلوبين (2) والاقتصاديون يطلقون السهم مرة على الصك، ومرة على النصيب، والمؤدى واحد، فباعتبار الأول قالوا: السهم هو: صك يمثل جزءاً من رأس مال الشركة، يزيد وينقص تبع رواجها.
وبالاعتبار الثاني: قالوا: السهم هو نصيب المساهم في شركة من شركات الأموال، أو الجزء الذي ينقسم على قيمته مجموع رأس مال الشركة المثبت في صك له قيمة اسمية، حيث تثمل الأسهم في مجموعها رأس مال الشركة، وتكون متساوية القيمة. (3)
وتتميز الأسهم بكونها متساوية القيمة، وأن السهم الواحد لا يتجزأ وأن كان نوع منها –عاديًّا أو ممتازاً- يقوم - من حيث المبدأ- على المساواة في الحقوق والالتزامات وأنه قابل للتداول، ولكن بعض القوانين –مثل النظام السعودي - استثنى الأسهم المملوكة للمؤسسين حيث لا يجوز تداولها قبل نشر الميزانية إلا بعد سنتين ماليتين كاملتين –كقاعدة عامة- وكذلك لا يجوز تداول أسهم الضمان التي يقدمها عضو مجلس الإدارة لضمان إدارته طوال مدة العضوية وحتى تنقضي المدة المحددة لسماع دعوى المسؤولية (4)
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمعجم الوسيط مادة "سهم"
(2) النكت والعيون للماوردي، 2/426 ط. أوقاف الكويت، ويراجع: أحكام القرآن لابن العربي، 4/1622 ط. دار المعرفة بيروت.
(3) يراجع: د. علي حسن يونس: الشركات التجارية، ص 539 ط. الاعتماد، بالقاهرة؛ ود. شكري حبيب شكري، وميشيل ميكالا: شركات الأشخاص، وشركات الأموال علماً وعملاً ص 184 ط. الإسكندرية؛ ود. صالح بن زابن المرزوقي البقمي، ط. جامعة أم القرى 1406 هـ ص 332؛ ود. أبو زيد رضوان: الشركات التجارية في القانون المصري المقارن، ص 526 ط. دار الفكر العربي، القاهرة 1989.
(4) د. صالح البقمي: ط. جامعة أم القرى 1406 هـ ص (337 – 338) .(9/738)
حكم تقسيم رأس مال الشركة:
ومن جدير بالتنبيه عليه أن تقسيم رأس مال الشركة إلى حصص وأجزاء، واشتراط الشروط السابقة لا يتنافى مع المبادئ العامة للشريعة الإسلامية، والقواعد العامة للشركة في الفقه الإسلامي، إذ ليس فيها ما يتنافى مع مقتضى عقد الشركة، بل فيها تنظيم وتيسير ورفع للحرج الذي هو من سمة هذه الشريعة، وداخل ضمن الوفاء العام بالعقود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وتحت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم)) (1) وفي رواية: ((والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً)) (2) قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". (3)
فهذه النصوص وغيرها تدل على أن كل مصالحة وكل شرط جائزان إلا ما دل الدليل على حرمته، وعلى أن الأصل فيهما هو الإباحة، والحظر يثبت بدليل خاص، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا المعنى هو الذي يشهد عليه الكتاب والسنة ... " (4) ويقول أيضاً: "إن الأصل في الشروط الصحة واللزوم إلا ما دل الدليل على خلافه ... فإن الكتاب والسنة قد دلا على الوفاء بالعقود والعهود، وذم الغدر والنكث ... والمقصود هنا: أن مقتضى الأصول والنصوص: أن الشرط يلزم إلا إذا خالف كتاب الله ... ".
ولا يخفى أن هذه القواعد السابقة تجعل الفقه الإسلامي يقبل بكل عقد، أو تصرف أو تنظيم مالي أو إداري ما دام لا يتعارض مع نصوص الكتاب والسنة، وقواعدها العامة، وأن الشريعة الغراء تجعل كل حكمة نافعة ضالة المؤمن دون النظر إلى مصدرها أو اسمها، وإنما الأساس معناها ومحتواها، ووسائلها وغاياتها، وما تحققه من مصالح ومنافع أو مضار ومفاسد.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه –تعليقاً بصيغة الجزم – كتاب الإجارة (4/451) .
(2) سنن الترمذي –مع شرح تحفة الأحوذي- كتاب الأحكام (4/584) ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى 29/147) : "وهذه الأسانيد، وإن كان الواحد منها ضعيفاً فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضاً".
(3) مجموع الفتاوى، 29/150 ط. الرياض. ويراجع لإثبات أن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة: مبدأ الرضا في العقود، 2/1148 ط. دار البشائر الإسلامية.
(4) مجموع الفتاوى (29/346، 351) .(9/739)
خصائص السهم وحقوقه:
للأسهم عدة خصائص من أهمها: تساوي قيمتها حسبما يحددها القانون، وتساوي حقوقها، وكون مسؤولية كل مساهم بقدر قيمة أسهمه، وقابليتها للتداول، وعدم قابلية السهم للتجزئة وأما حقوق السهم فهي حق بقاء صاحبه في الشركة، وحق التصويت في الجمعية العمومية، وحق الرقابة، وحق رفع دعوى المسؤولية على الإداريين، والحق في نصيب الأرباح والاحتياطات والتنازل عن السهم والتصرف فيه، والأولوية في الاكتتاب، وحق اقتسام موجودات الشركة عند تصفيتها. (1)
حكم الأسهم باعتبار نشاطها ومحلها:
ذكرنا أن تقسيم رأس مال الشركة إلى حصص متساوية تسمى بالأسهم جائز ليس فيه أية مخافة لمبادئ الإسلامي وقواعده.
وهنا نذكر بصورة عامة حكم تداول هذه الأسهم والتصرف فيها بالبيع والشراء وغيرهما بصورة عامة، ثم نذكر عند بيان كل نوع من الأسهم حكمه الخاص بإذن الله تعالى.
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن بعض الباحثين (2) أطلقوا اختلاف العلماء المعاصرين حول الأسهم مطلقاً دون تفصيل من غير أن يجد منهم تصريحاً بذلك بل اعتماداً على ما فهم من آرائهم في الشركات بصورة عامة (3)
وهذا الإطلاق لا ينبغي الركون إليه، إذ أن لازم المذهب ليس بمذهب –كما هو مقرر في الأصول- كما أن جل نقاش هؤلاء العلماء في الشركات التي أنشئت في بلاد الإسلام وليس في الشركات التي حدد نشاطها في المحرمات كالخنزير والخمور ونحوها ... (4)
__________
(1) يراجع: المراجع الفقهية السابقة ويراجع: د. محمد عبد الغفار الشريف، بحثه المقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة ص (10 – 11) ؛ ود. محمد الحبيب الجراية، بحثه عن الأدوات المالية التقليدية، المقدمة إلى مجمع الفقه في دورته السادسة؛ ود. الخياط: الشركات، ط. الرسالة (2/94 ... ) ؛ ود. صالح بن زابن: شركة المساهمة ص (334) .
(2) د. صالح بن زابن البقمي: المرجع السابق ص (340) حيث قال: ومن هنا يمكن أن نقسم أقوالهم إلى ثلاثة: قسم حرم التعامل بها –أي بالأسهم- مطلقاً، وقسم أباح الأسهم مطلقاً، واشترط بعضهم خلوها مما يستوجب الحرمة، وقسم أباح أنواعاً من الأسهم، وحرم أنواعاً أخرى.
(3) د. صالح بن زابن البقمي: المرجع السابق ص (340) حيث قال: ومن هنا يمكن أن نقسم أقوالهم إلى ثلاثة: قسم حرم التعامل بها –أي بالأسهم- مطلقاً، وقسم أباح الأسهم مطلقاً، واشترط بعضهم خلوها مما يستوجب الحرمة، وقسم أباح أنواعاً من الأسهم، وحرم أنواعاً أخرى.
(4) يراجع في تفصيل ذلك: الشركات في الفقه الإسلامي للشيخ علي الخفيف ص 96 ط. دار النشر للجامعات المصرية؛ والشركات في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي للدكتور عبد العزيز الخياط، 2/153-212 ". المطابع التعاونية 1971ح وشركة المساهمة في النظام السعودي للدكتور صالح بن زابن ص 340 ط. جامعة أم القرى 1406 هـ، ومن الذين حرموا التعامل بالأسهم حراماً مطلقاً الشيخ تقي الدين النبهاني في كتابه النظام الاقتصادي في الإسلامي، ص 141 –142 ط. القدس 1953 ومن الذين قالوا بإباحتها دون تفصيل فيها، الدكتور محمد يوسف موسى، والشيخ شلتوت، لكنهم بلا شك يقولون بضرورة خلوها من المحرمات. انظر الفتاوى للشيخ شلتوت ص 355 ط. الشروق.(9/740)
- ولذلك نقسم الأسهم إلى نوعين: نوع محرم تحريماً بيناً، ونوع فيه النقاش والتفصيل والخلاف.
فالنوع الأول: هو الأسهم التي محلها الخنزير، والخمور والمخدرات، والقمار ونحوها من المحرمات، وكذلك الشركات التي يكون نشاطها محصوراً في الربا كالبنوك الربوية.
فهذه الأسهم جميعها لا يجوز إنشاؤها، ولا المساهمة في إنشائها، ولا التصرف فيه بالبيع والشراء ونحوها، يقول ابن القيم: -بعد أن ذكر الأحاديث الخاصة بحرمة بيع بعض الأشياء-: "فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناس: مشارب تفسد العقول –كالخمر- ومطاعم تفسد الطباع وتغذي غذاء خبيثاً –مثل الميتة، والخنزير- وأعيان –كالأصنام تفسد الأديان وتدعو إلى الفتنة والشرك، فصان بتحريم النوع الأول، العقول عما يزيلها، ويفسدها، وبالثاني القلوب عما يفسدها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها ... ، وبالثالث الأديان عما وضع لإفسادها" (1)
هذا هو المبدأ الذي لا يجوز تجاوزه، ولا ينبغي التوقف فيه، وما سوى هذا النوع من الأسهم الحرام قسمان:
القسم الأول: أسهم لشركات قائمة على شرع الله تعالى حيث رأس مالها حلال، وتتعامل في الحلال، وينص نظامها وعقدها التأسيسي على أنها تتعامل في حدود الحلال، ولا تتعامل بالربا إقراضاً، واقتراضاً، ولا تتضمن امتيازاً خاصًّا أو ضماناً ماليًّا لبعض دون آخر.
فهذا النوع من أسهم الشركات –مهما كانت تجارية أو صناعية أو زراعية- من المفروض أن يفرغ الفقهاء من القول بحلها وحل جميع التصرفات الشرعية فيها؛ وذلك لأن الأصل في التصرفات والعقود المالية الإباحة، ولا تتضمن هذه الأسهم أي محرم، وكل ما فيها أنها نظمت أموال الشركة حسبما تقتضيه قواعد الاقتصاد الحديث دون التصادم بأي مبدأ إسلامي.
ومع ذلك فقد أثير حول هذا النوع أمران:
الأمر الأول: ما أثاره أحد الكتاب من أن هذه الأسهم جزء من النظام الرأسمالي الذي لا يتفق جملة وتفصيلاً مع الإسلام، بل إن الشركات الحديثة ولا سيما شركات الأموال حرام لا تجوز شرعاً؛ لأنها تمثل وجهة نظر رأسمالية فلا يصح الأخذ بها، ولا إخضاعها لقواعد الشركات في الفقه الإسلامي (2)
وهذا الحكم العام لا يؤبه به، ولا يجنح إليه، فالإسلام لا يرفض شيئاً لأنه جاء من النظام الفلاني، أو وجد فيه، وإنما الحكم في الإسلام موضوعي قائم على مدى موافقاته لقواعد الشرع، أو مخالفته، "فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها" وبما أن الأسهم القائمة على الحلال لا تتضمن مانعاً شرعيًّا فلا يجوز القول بتحريمها، -كما سبق-.
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد، 5/746 ط. مؤسسة الرسالة.
(2) الشيخ تقي الدين النبهاني: النظام الاقتصادي في الإسلام ص 133 ط. القدس، الثالثة 1372 هـ.(9/741)
واستدل كذلك بأن الأسهم بمثابة سندات بقيمة موجودات الشركة، وهي تمثل ثمن الشركة وقت تقديرها، وليست أجزاء لا تتجزأ من الشركة، ولا تمثل رأس مالها عند إنشائها. (1)
غير أن هذا الحكم والتصور للأسهم مجاف للحقيقة، والواقع الذي عليه الشركات المعاصرة، أن الأسهم ليست سندات، وإنما هي حصص الشركة، وأن كل سهم بمثابة جزء لا يتجزأ من كيان الشركة، وأن مجموع الأسهم هي رأس مال الشركة (2)
كما قاس الأسهم على أوراق النقد حيث يهبط سعرها، ويرتفع، وتتفاوت قيمتها وتتغير، ومن هنا ينسلخ السهم بعد بدء الشركة عن كونه رأس مال، وصار ورقة مالية لها قيمة معينة.
والواقع أن هذا التكييف الفقهي للأسهم غير دقيق، وقياسها على الأوراق النقدية قياس مع الفارق؛ لأن الأسهم في حقيقتها هي حصص الشركة، وأجزاء تقابل أصولها، وموجوداتها، وهي وإن كانت صكوكاً مكتوبة لكنها يعني بها ما يقابلها.
ومسألة الهبوط والارتفاع يختلف سببها في الأسهم عن سببها في النقود، فتغير قيمة الأسهم يعود إلى نشاط الشركة نفسها، حيث ترتفع عندما تزداد أرباحها، أو تزداد معها موجودات، وثقة الناس بها، وتنخفض عند الخسارة، ومثل ذلك كمثل شخص أو شركاء لهم سلع معينة فباعوها بأرباح جيدة فزادت نسبة مال كل واحد منهم بقدر الربح، وكذلك تنقص نسبة مال كل واحد منهم لو فقد منها بعضها، أو هلك، أو بيعت السلعة بخسارة، فهذا هو الأنموذج المصغر للأسهم في الشركات.
أما الورقة النقدية فيعود انخفاضها إلى التضخم، وإلى الأنظمة الدولية بهذا الخصوص وسياسة الدولة في إصدار المزيد من الأوراق النقدية التي قد لا يوجد لها مقابل حقيقي، وغير ذلك من العوامل الاقتصادية، بينما السهم يمثل ذلك المبلغ الذي تحول إلى جزء من الشركة ممثل في أصولها وموجوداتها.
الأمر الثاني: الذي أثير حول هذا النوع من الأسهم هو ما أثير حول شرائها، أو بيعها من ملحوظات ثلاث نذكرها مع الإجابة عنها (3)
__________
(1) النبهاني: النظام الاقتصادي في الإسلام ص (141 – 142) ط. القدس، الثالثة 1372 هـ.
(2) د. صالح بن زابن المرجع السابق ص (344) .
(3) يراجع الشيخ عبد الله بن سليمان: بحث في حكم تداول أسهم الشركات المساهمة، ص (0003) وفتوى الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية، بجواز تداول أسهم الشركات الوطنية ضمن كتاب فتاوى ورسائل 7/42 – 43) .(9/742)
الملحوظة الأولى: الجهالة، حيث لا يعلم المشتري علماً تفصيليًّا بحقيقة محتوى السهم.
للجواب عن ذلك نقول: إن الجهالة إنما تكون مانعة من صحة العقد إذا كانت مؤدية إلى النزاع، أو كما يعبر عنها الفقهاء بالجهالة الفاحشة (1) يقول الإمام القرافي "الغرر والجهالة ثلاثة أقسام: كثير ممتنع إجماعاً كالطير في الهواء، وقليل جائز إجماعاً كأساس الدار ... ، ومتوسط اختلف فيه" (2) ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيع المغيبات كالجزر، واللفت والقلقاس: "والأول –أي القول بصحة بيعها وهو مذهب مالك وقول أحمد - أصح ... ، فإن أهل الخبرة إذا رأوا ما ظهر منها من الورق وغيره وهم ذلك على سائرها، وأيضاً فإن الناس محتاجون إلى هذه البيوع، والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر، بل يبيح ما يحتاج إليه في ذلك، كما أباح بيع الثمار قبل بدو صلاحها مبقاة إلى الجذاذ وإن كان بعض المبيع لم يخلق ... وأباح بيع العرايا بخرصها فأقام التقدير بالخرص مقام التقدير بالكيل عند الحاجة مع أن ذلك يدخل في الربا الذي هو أعظم من بيع الغرر، وهذه قاعدة الشريعة، وهو تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما" (3) ويقول الأستاذ الصديق الضرير: "الغرر الذي يؤثر في صحة العقد هو ما كان في المعقود عليه أصالة، أما الغرر في التابع ... فإنه لا يؤثر في العقد" (4)
فالواقع أن المشتري يعلم علماً إجماليًّا كافياً بقيمة السهم، وما يقابله من الموجودات من خلال نشر الميزانية ونشاط الشركة ونحو ذلك، وهذا العلم يكفي لصحة البيع بالإضافة إلى أن العلم في كل شيء بحسبه.
ثم إن بيع الحصص المشاعة جائز بالاتفاق، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية. "يجوز بيع المشاع باتفاق المسلمين، كما مضت بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" (5) يراجع: المغني (5/45) ؛ والمجموع (9/292) ؛ ويراجع: د. صالح بن زابن: المرجع السابق ص (348) والمصادر السابقة الأخرى.
الملحوظة الثانية: أن بيع السهم يعني بيع جزء من الأصول، وجزء من النقود، وهذا يقتضي ملاحظة قواعد الصرف من التماثل والتقابض في المجلس بين الجنس الواحد، والتقابض فيه عند اختلاف الجنس؛ وذلك لأن السهم في الغالب يكون مساوياً لموجودات الشركة بما فيها النقود.
للجواب عن ذلك أن وجود النقود في الأسهم يأتي تبعاً غير مقصود؛ لأن الأصل والأساس فيها هي الموجودات العينية، ولذلك تقول: إن بيع السهم قبل بدء عمل الشركة وقبل شراء المباني ونحوها، لا يجوز إلا مع مراعاة قواعد الصرف.
فالسهم يراد به هذا الجزء الشائع من الشركة دون النظر إلى تفصيلاته فما دام للسهم مقابل من موجودات الشركة لا يعامل معاملة النقد بسبب أن جزءاً من الموجودات نقد، والقاعدة الفقهية تقضي أنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره، وأنه يغتفر في الشيء ضمناً ما لا يغتفر فيه قصداً، قال السيوطي: "ومن فروعها ... أنه لا يصح بيع الزرع الأخضر إلا بشرط القطع، فإن باعه مع الأرض جاز تبعاً ... " (6)
__________
(1) يراجع: الموسوعة الفقهية (الكويتية) مصطلح جهالة (16/167) .
(2) الفروق، (3/265 –266) ط. دار المعرفة.
(3) مجموع الفتاوى، ط. الرياض (29/227) .
(4) الغرر وأثره، ص (594) .
(5) مجموع الفتاوى (29/233) . ويقول ابن قدامة: " وإن اشترى أحد الشريكين حصة شريكه جاز؛ لأنه يشتري ملك غيره وكذلك الأمر لو باعه لأجنبي، وكذلك الأمر عند غيره من العلماء".
(6) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 133 ط. عيسى الحلبي بالقاهرة، ويراجع في نفس المعنى: الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص (121 – 122) ط. مؤسسة الحلبي بالقاهرة.(9/743)
بل إن مسألتنا هذه لها أصل مقرر في السنة المشرفة حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شراء عبد وله مال –حتى وإن كان نقداً- فيكون ماله تبعاً للمشتري إذا اشترط ذلك دون النظر إلى قواعد الصرف فقد روى البخاري ومسلم، وغيرهما بسندهم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ومن ابتاع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع)) (1) قال الحافظ ابن حجر: "ويؤخذ من مفهومه أن من باع عبداً ومعه مال وشرطه المبتاع أن البيع يصح" ثم ذكر اختلاف العلماء، فيما لو كان المال ربويًّا، حيث ذهب مالك إلى صحة ذلك ولو كان المال الذي معه ربويًّا لإطلاق الحديث؛ ولأن العقد إنما وقع على العبد خاصة والمال الذي معه لا مدخل له في العقد (2) قال مالك: "الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إن اشترط مال العبد فهو له، نقداً كان أو ديناً أو عرضاً يعلم أو لا يعلم ... " (3)
الملحوظة الثالثة: إن جزءاً من السهم يمثل ديناً للشركة وحينئذ لا يجوز بيعه بثمن مؤجل؛ لأنه يكون بيع الدين بالدين وهو منهي عنه حيث روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ –أي الدين بالدين- (4)
والجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: الحديث ضعيف؛ لأن في سنده موسى بن عبيدة، وهو ضعيف (5) فلا ينهض حجة، كما أن الحديث فُسِّرَ بَعْدُ تفسيراتٌ لا يدخل موضوعنا في أكثرها.
الوجه الثاني: لا ينطبق عليه بيع الدين بالدين، إذ أن هذا الجزء من ديون الشركة داخل في السهم تبعاً، وحينئذ يكون الجواب السابق في الملحوظة الثانية جواباً لهذا الإشكال بكل تفاصيله.
الوجه الثالث: ليس الحكم السابق –في كون الدين جزءاً من السهم- عامًّا، إذ قد لا توجد الديون للشركة، وإنما تتعامل بالنقد، وعلى فرض وجودها فهي تمثل نسبة قليلة من موجودات الشركة، والقاعدة الفقهية تقضي بأن العبرة بالأكثر. (6)
__________
(1) صحيح البخاري –مع الفتح ط. السلفية- المساقاة 5/49) ؛ ومسلم، ط. عيسى الحلبي – البيوع (3/1173) ؛ وأحمد (2/150) ؛ والموطأ ص (378) .
(2) فتح الباري (5/51)
(3) الموطأ: ص 378.
(4) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/80) : رواه البزار، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف.
(5) تقريب التهذيب (2/286) ، ومجمع الزوائد (4/80) .
(6) المراجع السابقة جميعها.(9/744)
والخلاصة أن الأسهم التي تقوم على الحلال، وتتبع الشركات التي تمتنع عن مزاولة أي نشاط محرم، وتتوفر فيه قواعد الشركة من المشاركة في الأعباء، وتحمل المخاطر، ولا تكون لهذه الأسهم ميزة مالية على غيرها ... فهي حلال لما ذكرناه، ويجوز إنشاؤها، والتصرف فيها؛ وذلك لأن ذلك كله داخل في حدود التصرفات المباحة التي أجازها الشارع للمالك في ملكه، امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] والأدلة الأخرى التي ذكرنا بعضها.
القسم الثاني: أسهم لم تتوفر فيها الشروط السابقة.
وهي الأسهم التي ليست لشركات تزاول المحرمات –كالنوع الأول- ولا لشركات قائمة على الحلال –كالقسم الأول- وإنما هي أسهم لشركات قد تودع في بعض الأحيان بعض فلوسها في البنوك بفائدة، أو تقترض منها بفائدة، أو قد تكون نسبة قليلة من معاملاتها تتم من خلال عقود فاسدة كمعظم الشركات في الدول الإسلامية، والشركات في الدول غير الإسلامية مما يكون محلها أموراً مباحة كالزراعة، والصناعة والتجارة (أي فيما عدا المحرمات السابقة في النوع الأول) .
وقبل أن أذكر حكم هذه الأسهم أود أن أبين جملة من المبادئ الشرعية في هذا الصدد منها:
أولاً: أن المسلمين مطالبون بتوفير المال الحلال الطبيب الذي لا شبهة فيه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا} [النحل: 114] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ... )) (1)
قال الحافظ ابن حجر: "واختلف في حكم الشبهات، فقيل: التحريم. وهو مردود، وقيل: الكراهة، وقيل: الوقف " ثم قال: " ... رابعها: أن المراد بها المباح، ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم الخلاف الأولى ... " ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه أنه كان يقول: " المكروه عقبة بين العبد الحرام فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام ... وهو منزع حسن" (2)
__________
(1) صحيح البخاري –مع الفتح- الإيمان (1/126) ؛ وسلم، المساقاة (3/1220) ؛ وأحمد (4/267) .
(2) فتح الباري (1/127) .(9/745)
ثانياً: أن الشريعة الإسلامية الغراء مبناها على رفع الحرج ودفع المشقة، وتحقيق اليسر والمصالح للأمة، فقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وهذا المبدأ من الوضوح ما لا يحتاج إلى دليل، بل هو مقصد من مقاصد الشريعة.
وبناء على هذا الأصل العظيم أبيحت المحظورات للضرورة، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
وكما أن الضرورة مرفوعة كذلك نزلت الحاجة منزلة الضرورة، يقول السيوطي، وابن نجيم وغيرهما: " الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت، أو خاصة " ولهذا جوزت الإجارة والجعالة، ونحوها (1)
يقول الشيخ أحمد الزرقاء: "والمراد بالحاجة هي الحالة التي تستدعي تيسيراً، أو تسهيلاً لأجل الحصول على المقصود فهي دون الضرورة من هذه الجهة وإن كان الحكم الثابت لأجلها مستمراً، والثابت للضرورة مؤقتاً ... " (2)
ومن الأمثلة الفقهية لهذه القاعدة ما أجازه فقهاء الحنفية من بيع الوفاء مع أن مقتضاه عدم الجواز؛ لأنه إما من قبيل الربا، لأنه انتفاع بالعين بمقابلة الدين، أو صفقة مشروطة في صفقة كأنه قال: بعته منك بشرط أن تبيعه مني إذا جئتك بالثمن، وكلاهما غير جائز، ولكن لما مست الحاجة إليه في بخارى بسبب كثرة الديون على أهلها جوز على وجه أنه رهن أبيح الانتفاع بثمراته ومنافعه كلبن الشاة، والرهن على هذه الكيفية جائز. (3)
ومن هذه الاجتهادات ما ذكره ابن عابدين أن مشايخ بلخ، والنسفي أجازوا حمل الطعام ببعض المحمول، ونسج الثوب ببعض المنسوج لتعامل أهل بلادهم بذلك، وللحاجة مع أن ذلك خلاف القياس، وأن متقدمي الحنفية صرحوا بعدم جوازه (4) وذكر أيضاً أن بعض قدماء الحنفية لما سئلوا عن النسبة المئوية التي يأخذها السمسار مثل 10? قالوا: ذاك حرام عليهم، وإنما يجب لهم أجر المثل. بينما أجازه بعضهم مثل محمد بن سلمة حيث سئل عن أجرة السمسار فقال: أرجو أنه لا بأس به –وإن كان في الأصل فاسداً- لكثرة التعامل، وكثير من هذا غير جائز فجوزوه لحاجة الناس إليه ... (5)
ولهذه القاعدة أدلة عملية من السنة المشرفة، منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح بيع العرايا (6) مع أن أصلها يدخل في باب الربا، حيث لم يجوز صلى الله عليه وسلم بيع التمر بالرطب (7) لوجود النقصان، وعدم تحقيق التماثل الحقيقي، ومع ذلك أباح العرايا لحاجة الناس إليها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأباح بيع العرايا ... عند الحاجة مع أن ذلك يدخل في الربا ... " (8) ويقول أيضاً: " الشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم" (9) ويقول: "والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه في البيع لأجل نوع الغرر، بل يبيح ما يحتاج إليه في ذلك" (10)
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص (97 – 98) ؛ والأشباه والنظائر لابن نجيم ص (91 – 92) .
(2) شرح القواعد الفقهية، تأليف الشيخ أحمد الزرقاء، رحمه الله، ص (155) ط. دار الغرب الإسلامي.
(3) شرح القواعد الفقهية، تأليف الشيخ أحمد الزرقاء، رحمه الله، ص (155) ط. دار الغرب الإسلامي.
(4) حاشية ابن عابدين، (5/36 –37) . ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(5) حاشية ابن عابدين (5/39)
(6) انظر حديث ترخيص بيع العرايا، لحاجة الناس إليها: صحيح البخاري –مع الفتح- (4/390) ؛ ومسلم (3/1168) ؛ وأحمد (5/181) ؛ والعرية هي بيع الرطب فوق النخل بالتمر بالتخمين والتقدير.
(7) فقد سئل عليه السلام عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أينقص الرطب إذا جف؟) فقيل: نعم، فقال: (فلا إذن) انظر: مسند الشافعي ص (51) ؛ وأحمد (3/312) ؛ والترمذي (1/231) ؛ والنسائي (7/269) ؛ وابن ماجه (2/761) ؛ وسنن أبي داود (3/251) ؛ والسنن الكبرى (5/294) . ويراجع تلخيص الحبير (3/9/10) .
(8) مجموع الفتاوى (29/227) .
(9) مجموع الفتاوى (29/227)
(10) مجموع الفتاوى (29/227)(9/746)
ثالثاً: لا ينكر دور العرف وأثره في الفقه الإسلامي ما دام لا يتعارض مع نصوص الشرعية، يقول ابن نجيم: "واعلم أن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذك أصلاً ... " ثم قال: " والحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص، ولكن أفتى كثير من المشايخ باعتباره، فأقول على اعتباره أن يفتى بأن ما يقع في بعض أسواق القاهرة من خلو الحوانيت لازم، ويصير الخلو في الحانوت حقًّا له، فلا يملك صاحب الحانوت إخراجه منها، ولا إجارتها لغيره ولو كانت وقفاً، وقد وقع في حوانيت الجملوث بالغورية أن السلطان الغوري لما بناها أسكنها للتجار بالخلو، وجعل لكل حانوت قدراً أخذه منهم، وكتب ذلك بمكتوب الوقف، وكذا أقول على اعتبار العرف الخاص".
ويقول ابن نجيم مضيفاً إلى ما سبق من مسائل: "وقد اعتبروا عرف القاهرة في مسائل، منها ما في فتح القدير من دخول السلم في البيت المبيع في القاهرة دون غيرها؛ لأن بيوتهم طبقات لا ينتفع بها إلا به". (1) بل إن المحققين من العلماء لا يبيحون لعالم يفتي إلا بعد معرفته بأحوال الناس، وأعرافهم، وأن يلاحظ عرف كل بلد، وفي هذا يقول ابن القيم: " ... فمهما تجدد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه ... " (2)
رابعاً: أننا –نحن المسلمين اليوم- لا نعيش عصراً يطبق فيه المنهج الإسلامي بكامله، فيسوده نظامك الإسلام السياسي، والاقتصادي والاجتماعي والتربوي، وإنما نعيش في عصر يسوده النظام الرأسمالي، والاشتراكي، وحينئذ لا يمكن أن نحقق ما نصبو إليه فجأة من أن تسير المعاملات بين المسلمين على العزائم دون الرخص، وعلى المجمع عليه دون المختلف فيه، وعلى الحلال الطيب الخالص دون وجود الشبهة، فعصرنا يقتضي البحث عن الحلول النافعة حتى ولو قامت على رأي فقيه واحد معتبر ما دام رأيه يحقق المصلحة للمسلمين، بل لا ينبغي اشتراط أن نجد رأياً سابقاً، وإنما علينا أن نبحث في إطار المبادئ والأصول العامة التي تحقق الخير للأمة، ولا يتعارض مع نص شرعي ثابت.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص (93 – 103 – 104) ويراجع: نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، ضمن رسائل ابن عابدين (2/115 –118) ط. أستانه.
(2) إعلام الموقعين 3/78 ط. شقرون بالقاهرة.(9/747)
علينا أن نبحث عن تحقيق نظام اقتصادي، علينا أن نبحث بجد عن حماية أموال المسلمين، وإبقاء اقتصادهم بأيديهم دون سيطرة غيرهم عليه، فننظر إلى هذا الأفق الواسع لشيخ الإسلام العز بن عبد السلام حيث يقول: "لو عم الحرام الأرض بحيث لا يوجد فيها حلال جاز أن يستحل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة، ولا يقف تحليل ذلك على الضرورات؛ لأنه لو وقف عليها لأدى ضعف العباد، واستيلاء أهل الكفر والعناد على بلاد الإسلام، ولانقطع الناس عن الحرف والصنائع والأسباب التي تقوم بمصالح الأنام" (1)
حكم هذا القسم من الأسهم:
بعد ذكر تلك المبادئ نعود إلى حكم هذا القسم من الأسهم، واختلاف المعاصرين، وأدلتهم مع الترجيح.
لقد اختلف المعاصرون على رأيين:
الرأي الأول: هو حرمة التصرف في هذه الأسهم ما دامت لا تقوم على الحلال المحض، وبعضهم فضل وجود هيئة رقابة شرعية لها (2)
الرأي الثاني: إباحة الأسهم (السابقة) والتصرف فيها.
هذا وقد قال الكثيرون بإباحة الأسهم في الدول الإسلامية مطلقاً دون التطرق إلى التفصيل الذي ذكرته، منهم الشيوخ: علي الخفيف، وأبو زهرة، وعبد الوهاب خلاف، وعبد الرحمن حسن، وعبد العزيز الخياط، ووهبة الزحيلي، والقاضي عبد الله بن سليمان بن منيع، وغيرهم على تفصيل وتفريع لدى بعضهم يجب أن يراجع (3)
وقد بنى أصحاب الرأي الأول رأيهم على أن هذه الأسهم ما دام فيها حرام، أو تزاول شركاتها بعض أعمال الحرام كإيداع بعضها بعض أموالها في البنوك الربوية فتصبح هذه الأسهم محرماً شراؤها، بناء على النصوص الدالة على وجوب الابتعاد عن الحرام، والشبهات، وعلى قاعدة: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام.
__________
(1) قواعد الأحكام (2/159) .
(2) الأسواق المالية للأستاذ الدكتور علي السالوس، بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته السادسة ص (7) .
(3) الشركات للشيخ علي الخفيف ص (96- 97) ؛ وبحث الشيخ أبي زهرة المنشور في منشورات المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية (2/184) ؛ ود. الخياط: الشركات في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي ط. الرسالة (2/187) ؛ وبحث د. وهبة الزحيلي المقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة، ص (5) ؛ ود. صالح بن زابن: المرجع السابق ص (342) ؛ وبحث القاضي عبد الله بن سليمان المشار إليه سابقاً.(9/748)
أما المبيحون فهم يعتمدون على أن الأسهم في واقعها ليست مخالفة للشريعة، وما شابها من بعض الشوائب والشبهات والمحرمات قليل بالنسبة للحلال، فما دام أكثرية رأس المال حلالاً، وأكثر التصرفات حلالاً فيأخذ القليل النادر حكم الكثير الشائع، ولا سيما يمكن إزالة هذه النسبة من المحرمات عن طريق معرفتها من خلال الميزانية المفصلة، أو السؤال عن الشركة، ثم التخلص منها. (1)
ويمكن تأصيل ذلك من خلال القواعد الفقهية، ونصوص الفقهاء، المبنية على عموم الشريعة ومبادئها في اليسر، رفع الحرج على ضوء ما يأتي:
أولاً: اختلاط جزء محرم لا يجعل مجموع المال محرماً عند الكثيرين، حيث أجازوا في المال الحلال المختلط بقليل من الحرام التصرفات الشرعية من التملك والأكل والبيع والشراء ونحوها، غير أن الفقهاء فرقوا بين ما هو محرم لذاته وما هو محرم لغيره، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الحرام نوعان": حرام لوصفه كالميتة والدم ولحم الخنزير، فهذا إذا اختلط بالماء والمائع وغيره من الأطعمة، وغير طعمه، أو لونه، أو ريحه حرم، وإن لم يغيره ففيه نزاع ...
والثاني: الحرام لكسبه: كالمأخوذ غصباً، أو بعقد فاسد فهذا إذا اختلط بالحلال لم يحرمه، فلو غصب الرجل دراهم، أو دنانير أو دقيقاً، أو حنطة، أو خبزاً، وخلط ذلك بماله لم يحرم الجميع لا على هذا ولا على هذا بل إن كانا متماثلين أمكن أن يقسموه، ويأخذ هذا قدر حقه، وهذا قدر حقه.
فهذا أصل نافع، فإن كثيراً من الناس يتوهم أن الدراهم المحرمة إذا اختلطت بالدرهم الحلال حرم الجميع، فهذا خطأ، وإنما تورع الناس فيما إذا كانت –أي الدراهم الحلال- قليلة، أما مع الكثرة فما أعلم فيه نزاعاً ... (2)
وعلى ضوء ذلك فمسألتنا هذه من النوع الثاني حيث كلامنا في أسهم شابتها بعض تصرفات محرمة كإيداع بعض نقودها في البنوك الربوية، وحتى تتضح الصورة أكثر نذكر نصوص الفقهاء في هذه المسألة:
يقول ابن نجيم الحنفي: " إذا كان غالب مال المهدي حلالاً فلا بأس بقبول هديته، وأكل ماله ما لم يتبين أنه حرام، وإن كان غالب ماله الحرام لا يقبلها، ولا يأكل إلا إذا قال: إنه حلال ورثه، أو استقرضه " ثم ذكر أنه إذا أصبح أكثر بياعات أهل السوق لا تخلو عن الفساد والحرام يتنزه المسلم عن شرائه، ولكن مع هذا لو اشتراه يطيب له. وقال أيضاً: "إذا اختلط الحلال والحرام في البلد فإنه يجوز الشراء، والأخذ إلا أن تقوم دلالة على أنه من الحرام، كذا في الأصل" (3)
ثم ذكر صوراً أخرى فقال: "ومنها البيع، فإذا جمع بين حلال وحرام في صفقة واحدة، فإن كان الحرام ليس بمال كالجمع بين الذكية والميتة، فإنه يسري البطلان إلى الحلال لقوة بطلان الحرام، وإن كان الحرام ضعيفاً كأن يكون مالاً في الجملة كما إذا جمع بين المدبر والقن ... فإنه لا يسري الفساد إلى القن لضعفه ... " (4)
وقال الكاساني: "كل شيء أفسده الحرام، والغالب عليه الحلال فلا بأس ببيعه". (5)
__________
(1) المراجع السابقة، ولا سيما بحث فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان حيث أفاض فيه إفاضة جيدة.
(2) مجموع الفتاوى، ط. الرياض (29/320-321) .
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص (112، 113، 114) ؛ ويراجع حاشية ابن عابدين (4/130) .
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص (112، 113، 114) ، ويراجع حاشية ابن عابدين (4/130) .
(5) بدائع الصنائع (6/144) .(9/749)
وقد أفاض الفقيه ابن رشد في هذه المسألة، نذكر مها ما يلي: حيث قال: "فأما الحال الأولى: وهي أن يكون الغالب على ماله الحلال، فالواجب عليه في خاصة نفسه أن يستغفر الله تعالى، ويتوب إليه برد ما عليه من الحرام ... أو التصدق به عنهم إن لم يعرفهم ... وإن كان الربا لزمه أن يتصدق بما أخذ زائدًا على ما أعطى ... "
ثم قال: "وإن علم بائعه في ذلك كله رد عليه ما أربى فيه معه فإذا فعل هذا كله سقطت حرمته، وصحت عدالته، وبرئ من الإثم، وطاب له ما بقي من ماله، وجازت مبايعته فيه وقبول هديته وأكل طعامه بإجماع من العلماء".
واختلف إذا لم يفعل ذلك في جواز معاملته، وقبول هديته، وأكل طعامه، فأجاز ابن القاسم معاملته، وأبى ذلك ابن وهب وحرمه أصبغ ...
ثم قال ابن رشد: "وقول ابن القاسم هو القياس؛ لأن الحرام قد ترتب على ذمته، فليس متعيناً في جميع ما في يده من المال بعينه شائعاً ... وأما قول أصبغ فإنه تشديد على غير قياس".
وأما الحال الثانية: وهي أن يكون الغالب على ماله الحرام فالحكم فيما يجب على صاحبه في خاصة نفسه على ما تقدم سواء.
وأما معاملته وقبول هديته فمنع من ذلك أصحابنا، قيل على وجه الكراهة –وعز هذا القول إلى ابن القاسم- وقيل على وجه التحريم إلا أن يبتاع سلعة حلالاً فلا بأس أن تشترى منه وأن تقبل منه هبة ... (1)
وقال العز بن عبد السلام: "وإن غلب الحلال بأن اختلط درهم حرام بألف درهم حلال جازت المعاملة ... (2) ومثله قال الزركشي " (3)
بل إن السيوطي ذكر أن الأصح عند فقهاء الشافعية –ما عدا الغزالي - أنهم لم يحرموا معاملة من أكثر ماله حرام إذا لم يعرف عينه، ولكن يكره، وكذا الأخذ من عطايا السلطان إذا غلب الحرام على يده كما قال في المهذب: إن المشهور فيه الكراهة، لا التحريم خلافاً للغزالي ... قال في الإحياء: "لو اختلط في البلد حرام لا ينحصر لم يحرم الشراء منه بل يجوز الأخذ منه إلا أن يقترن به علامة على أنه من الحرام" وقال: ويدخل في هذه القاعدة تفريق الصفقة، وهي أن يجمع في عقدين حرام وحلال، ويجري في أبواب، وفيها غالباً قولان، أو وجهان أصحهما الصحة في الحلال، والثاني البطلان في الكل ... ومن أمثلة ذلك في البيع أن يبيع خلًّا وخمراً ... (4) وقال ابن المنذر: اختلفوا في مبايعة من يخالط ماله حرام، وقبول هديته وجائزته، فرخص فيه الحسن، ومكحول، والزهري والشافعي، قال الشافعي: "لا أحب ذلك، وكره ذلك طائفة ... " (5)
__________
(1) فتاوى ابن رشد، (1/631 – 649) تحقيق: المختار بن الطاهر التليلي، ط. دار الغرب الإسلامي؛ ومواهب الجليل (5/277) .
(2) قواعد الأحكام (1/72 – 73) .
(3) المنثور في القواعد، 2/253 ط. أوقاف الكويت.
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص (120 – 121) ؛ وحاشيتي: القليوبي مع عميرة على المنهاج 2/186.
(5) المجموع للنووي (9/353) ، ط. المنيرية.(9/750)
وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة تفصيلاً حينما سئل سؤالاً لا نزال نسمعه حتى في عصرنا الحاضر، وهو: أن رجلاً نقل عن بعض السلف من الفقهاء: أنه قال: أكل الحلال متعذر لا يمكن وجوده في هذا الزمان، فقيل له: لم ذلك؟ فذكر: أن وقعة المنصورة لم تقسم الغنائم فيها، واختلطت الأموال بالمعاملات بها، فقيل له: إن الرجل يؤجر نفسه لعمل من الأعمال المباحة، ويأخذ أجرته حلالاً، فذكر أن الدرهم في نفسه حرام.
فأجاب –رحمه الله- هذا القائل ... غالط مخطئ ... فإن مثل هذه المقالة كان يقولها بعض أهل البدع، وبعض أهل الفقه الفاسد، وبعض أهل الشك الفاسد، فأنكر الأئمة ذلك حتى الإمام أحمد في ورعه المشهور كان ينكر مثل هذه المقالة ... وقال: انظر إلى هذا الخبيث يحرم أموال المسلمين.
ثم ذكر خطورة آثار هذا التصور الفاسد، منها أن بعض الناس ظنوا ما دام الحرام قد أطبق الأرض، إذن لماذا البحث عن الحلال؟ فاعتبروا الحلال ما حل بأيديهم والحرام ما حرموا منه، وبعضهم اخترعوا الحكايات الكاذبة بحجة الورع.
ثم رد على هذه المقالة، وبين بأن الغالب على أموال المسلمين الحلال، ثم ذكر عدة أصول:
"أحدها: أنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراماً، وإنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو قياس مرجح لذلك، وما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول" ثم بين بأن حمل المسلمين على مذهب معين غلط.
ثم ذكر أصلاً آخر وهو أن خلط الحرام بالحلال لا يحرم جميع المال، -كما سبق- كما ذكر أصلاً آخر وهو أن المجهول في الشريعة كالمعدوم والمعجوز عنه، ولذلك إذا لم يعلم صاحب اللقطة حل لملتقطها بعد التعريف بها، ومن هنا، فإذا لم يعلم حال ذلك المال الذي بيده بنى الأمر على الأصل، وهو الإباحة (1)
وذكر في جواب سؤال حول التعامل مع من كان غالب أموالهم حراماً مثل المكاسين وأكلة الربا؟
فأجاب: "إذا كان الحلال هو الأغلب لم يحكم بتحريم المعاملة وإن كان الحرام هو الأغلب، قيل بحل المعاملة، وقيل: بل هي محرمة، فأما المعاملة بالربا فالغالب على ماله الحلال إلا أن يعرف الكره من وجه آخر. وذلك أنه إذا باع ألفاً بألف ومائتين فالزيادة هي المحرمة فقط وإذا كان في ماله حلال وحرام واختلط لم يحرم الحلال، بل له أن يأخذ قدر الحلال، كما لو كان المال لشريكين فاختلط مال أحدهما بمال الآخر، فإنه يقسم بين الشريكين، وكذلك من اختلط بماله الحلال والحرام أخرج قدر الحرام، والباقي حلال له" (2)
وسئل عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟ فأجاب: يخرج قدر الحرام بالميزان فيدفعه إلى صاحبه، وقدر الحلال له، وإن لم يعرفه وتعذرت معرفته تصدق به عنه (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (29/311 – 323) .
(2) مجموع الفتاوى (29/272 – 273) .
(3) مجموع الفتاوى (29/308)(9/751)
وقريباً من ذلك يقرره ابن القيم موضحاً أن " التحريم لم يتعلق بذات الدرهم –أي الدرهم الحرام الذي اختلط بماله- وجوهره، وإنما تعلق بجهة الكسب فيه، فإذا خرج نظيره من كل وجه لم يبق لتحريم ما عداه معنى ... وهذا هو الصحيح في هذا النوع، ولا تقوم مصالح الخلق إلا به" (1)
وعلى ضوء هذا المبدأ نرى كثيراً من أهل العلم أجازوا التعامل مع من كان في ماله حرام، ولكن غالبه حلال، ومن هنا يمكن القول بإباحة التعامل في هذا النوع من الأسهم، ولكن يخرج صاحبها بقدر نسبة الحرام فيها إلى الجهات الخيرية العامة، مع مراعاة الضوابط التي نذكرها في الأخير (2)
ثانياً: قاعدة: يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، وقد ذكرنا هذه القاعدة مع دليلها من السنة الصحيحة المتفق عليها. (3)
وعلى ضوء ذلك فهذا النوع من الأسهم وإن كان فيه نسبة بسيطة من الحرام لكنها جاءت تبعاً، وليست أصلاً مقصوداً بالتملك والتصرف، فما دامت أغراض الشركة مباحة، وهي أنشئت لأجل مزاولة نشاطات مباحة، غير أنها قد تدفعها السيولة أو نحوها إلى إيداع بعض أموالها في البنوك الربوية، أو الاقتراض منها.
فهذا العمل بلا شك عمل محرم يؤثم فاعله (مجلس الإدارة) لكنه لا يجعل بقية الأموال والتصرفات المباحة الأخرى محرمة، وهو أيضاً عمل تبعي وليس هو الأصل الغالب الذي لأجله أنشئت الشركة.
ثالثاً: قاعدة: للأكثر حكم الكل، وقد ذكرنا فيما سبق نصوص الفقهاء في حكم المال المختلط بالحرام، حيث إن الجمهور على أن العبرة بالأغلب –كما سبق- (4) وقد ذكر الفقهاء لهذه القاعدة تطبيقات كثيرة في أبواب الطهارة، والعبادات، والمعاملات، اللباس –كالحرير- والصيد، والطعام، والأيمان، وغيرها. (5)
إضافة إلى قاعدة: " الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة "–كما سبق ذكرها- وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الشراء ممن في ماله شبهة لا كراهة فيه إذا وجدت الحاجة إليه. (6)
وتنزيل هذه القاعدة على موضوعنا من حيث إن حاجة الناس إلى أسهم الشركات في عالمنا الإسلامي ملحة، فالأفراد كلهم لا يستغنون عن استثمار مدخراتهم، والدول كذلك بحاجة إلى توجيه ثروات شعوبها إلى استثمارات طويلة الأجل بما يعود بالخير على الجميع، ولو امتنع المسلمون من شراء أسهم تلك الشركات لأدى ذلك إلى أحد أمرين:
أحدهما: توقف هذه المشروعات التي هي حيوية في العالم الإسلامي.
ثانيهما: غلبة غير المسلمين على هذه الشركات، وعلى إدارتها، أو على الأقل غلبة الفسقة والفجرة عليها.
__________
(1) بدائع الفوائد (3/257) .
(2) المراجع السابقة، وبحث الدكتور عبد الله بن سليمان ص (16)
(3) المراجع السابقة، والشيخ عبد الله بن سليمان بحثه السابق.
(4) المراجع السابقة، والشيخ عبد الله بن سليمان بحثه السابق.
(5) يراجع: جمل الأحكام للناطقي، رسالة ماجستير بالأزهر، تحقيق حمد الله سيد ص (370 – 381) .
(6) مجموع الفتاوى (29/ 241) كما ذكر قاعدة الاعتبار بالأغلب فيمن في ماله حرام.(9/752)
لكن لو أقدم على شرائها المسلمون المخلصون لأصبحوا قادرين في المستقبل على منع تعاملها مع البنوك الربوية ولغيروا اتجاه الشركة لصالح الإسلام.
وهذا لا يعني أن المسؤولين القادرين في الشركة وفي غيرها على التغيير معفون عن الإثم، بل هم آثمون، لكن عامة الناس لهم الحق في شراء هذه الأسهم حسب الضوابط التي نذكرها، ولذلك لو كان المساهم قادراً على منع الشركة من إيداع بعض أموالها في الشركة لوجب عليه ذلك.
مناقشة الرأي الأول المانع من تداول هذا النوع من الأسهم:
أولاً: أن وجود نسبة ضئيلة من الحرام في المال الحلال لا يجعله حراماً، وإنما يجب نبذ المحرم فقط –كما سبق تفصيله-.
ثانياً: أن اشتراط البعض في حل الأسهم أو التعامل مع الشركات وجود رقابة شرعية لشركتها لا نجد له دليلاً من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس صحيح، فالمسلمون مؤتمنون على دينهم وعلى الحل والحرمة، وهم مستورون، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"والمسلم إذا عامل معاملات يعتقد جوازها كالحيل ... " التي يفتي بها من يفتي ... جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في ذلك المال، ثم قال: "وأما المسلم المستور فلا شبهة في معاملته أصلاً، ومن ترك معاملته ورعاً كان قد ابتدع في الدين بدعة ما أنزل الله بها من سلطان" (1)
بل إن التعامل مع الكفرة جائز فيما ليس محرماً بالاتفاق، يقول ابن تيمية:
" ... وحينئذ فجميع الأموال التي بأيدي المسلمين واليهود والنصارى لا يعلم بدلالة ولا أمارة أنها مغصوبة، أو مقبوضة لا يجوز معه معاملة القابض، فإنه يجوز معاملته فيها بلا ريب ولا تنازع في ذلك بين الأئمة أعلمه". (2)
نعم لا شك أن معرفة الحلال والحرام ضروري لكل من يدخل في السوق حتى يحافظ على دينه، ويعلم الحلال والحرام إما بنفسه، أو عن طريق السؤال عن أهل الذكر.
لكن لا ينبغي الحكم بعدم جواز التعامل معهم، أو مع شركاتهم إلا مع وجود رقابة شرعية، فهذا الشرط تعسف وتضييق لما وسعته الشريعة.
وصحيح أن وجود الرقابة الشرعية للشركة يعطي الأمان للمتعاملين معها لكن اشتراط حل التعامل بوجودها أمر يستدعي إعادة النظر.
__________
(1) مجموع الفتاوى (29/319- 324) .
(2) مجموع الفتاوى (29/327) .(9/753)
الرأي الراجح مع ضوابطه:
الذي نرى رجحانه –والله أعلم- هو أن هذا النوع من الأسهم بالنسبة للشركات التي يمتلكها المسلمون هو ما يأتي:
أولاً: أن مجلس الإدارة، والمدير المسؤول لا يجوز لهم قطعاً مزاولة أي نشاط محرم، فلا يجوز لهم الإقراض أو الاقتراض بفائدة، ولو فعلوا ذلك لدخلوا في الحرب التي أعلنها الله تعالى عليهم {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] ولا سيما بعد ما يسر الله للمسلمين وجود بنوك إسلامية في أغلب الأماكن، أو قيامها باستثمار جميع أموالها في خيارات إسلامية كثيرة.
ثانياً: أما مشاركة المسلمين في هذه الشركات السابقة وشراء أسهمها، والتصرف فيها فجائزة ما دام غالب أموالها وتصرفاتها حلالاً، وإن كان الأحوط الابتعاد عنها.
ولكن ينبغي على من يشترك مراعاة ما يلي:
1- أن يقصد بشراء أسهم هذه الشركات تغييرها نحو الحلال المحض من خلال صوته في الجمعية العمومية، أو مجلس الإدارة.
2- أن يبذل جهده وماله لتوفير المال الحلال الطيب المحض ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً، ولا يتجه نحو ما فيه شبهة إلا عند الحاجة الملحة ومصلحة المسلمين، واقتصادهم من المشاركة في التنمية والاستثمار والنهوض باقتصادهم من خلال الشركات الكبرى.
3- أن صاحب هذه الأسهم عليه أن يراعي نسبة الفائدة التي أخذتها الشركة على الأموال المودعة لدى البنوك، ويظهر ذلك من خلال ميزانية الشركة، أو السؤال عن مسؤولي الحسابات فيها، وإذا لم يمكنه ذلك اجتهد في تقديرها، ثم يصرف هذا القدر في الجهات العامة الخيرية.
4- لا يجوز للمسلم أن يؤسس شركة تنص في نظامها الأساسي على أنها تتعامل بالربا إقراضاً واقتراضاً، ولا يجوز كذلك التعاون في تأسيسها ما دامت كذلك؛ لأنه تعاون على الإثم والعدوان، إلا لمن يقدر على تغييرها إلى الحلال.
ثالثاً: أن الحكم بإباحة تداول هذه الأسهم – مع هذه الضوابط- خاص بما إذا كانت الأسهم عادية، أو ممتازة لكن ليس امتيازها على أساس المال.
وأما غيرهما فسيأتي حكم كل نوع على حدة.(9/754)
أما أسهم الشركات التي يمتلكها غير المسلمين ولا ينص نظامها على التعامل في الحرام فقد شدد فيها البعض أكثر (1) ولكن لا أرى مانعاً من التعامل فيها حسب الضوابط السابقة، وقد انتهت ندوة الأسواق المالية من الوجهة الإسلامية التي عقدت في الرباط 20- 25 ربيع الآخر 1410 هـ إلى أن أسهم الشركات التي غرضها الأساسي حلال لكنها تتعامل أحياناً بالربا ... فإن تملكها، أو تداولها جائز نظراً لمشروعية غرضها، مع حرمة الإقراض، أو الاقتراض الربوي، ووجوب تغيير ذلك، والإنكار والاعتراض على القائم به، ويجب على المساهم عند أخذ ريع السهم التخلص بما يظن أنه يعادل ما نشأ من التعامل بالفائدة بصرفه في وجوه الخير.
وكذلك ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي حيث أجازت باتفاق المشاركين شراء أهم الشركات العاملة في البلاد الإسلامية لقصد العمل على أسلمة معاملاتها، بل اعتبروا ذلك أمراً مطلوبا، لما فيه من زيادة مجالات التزام المسلمين بأحكام الشريعة الإسلامية.
وأجازوا بالأغلبية شراء أسهم الشركات العاملة في البلاد غير الإسلامية، إذا لم يجدوا بديلاً خالصاً من الشوائب. (2)
والقول بالجواز إن كان نظام الشركة لا ينص على التعامل في الحرام، ومع الضوابط السابقة هو الذي يتناسب مع روح هذه الشريعة القائمة على التيسير، ورفع الحرج، ومراعاة حاجات الناس في الاستثمار؛ وذلك لأنه إذا وجد فيه حرام فهو نسبة ضئيلة لا تؤثر في باقي المال وكذلك يمكن التخلص منها عن طريق إعطائها للجهات الخيرية العامة، بالإضافة إلى أن محل البيع المعقود عليه في جملته أمور مباحة، وأن المشاركة في ذلك جائزة، ولم يمنع أحد من الرعيل الأول التعامل مع أهل الكتاب في الجملة، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام يتعاملون معهم، مع أن معاملات أهل الكتاب وأموالهم لم يكن جميعها على الشروط المطلوبة في الإسلام، فقد ترجم البخاري: باب المزارعة مع اليهود، فقال الحافظ ابن حجر: "وأراد بهذا: الإشارة إلى أنه لا فرق في جواز هذه المعاملة بين المسلمين وأهل الذمة " (3) كما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل ورهنه درعه (4) وكذلك الأمر عند الصحابة رضي الله عنهم حيث كان التعامل معهم سائداً في الجملة.
__________
(1) الشيخ عبد الله بن سليمان بحثه السابق ص (21) حيث مع إباحته شراء الأسهم لشركات يمتلكها المسلمون حتى وإن كانت تتعامل بالربا لكن غالب معاملتها وأمواله حلال لكنه لم يجز تملك أسهم شركات يملكها غير مسلم إلا إذا كان قادراً فعلاً تغيير مسارها، ومنعها من مزاولة الحرام مطلقاً وذكر أن الشيخ صالح كامل ذكر له أنه استطاع أن يحول خمسين شركة مساهمة إلى الالتزام بالأحكام الشرعية من خلال مساهمته فيها، واشتراطه ذلك بعدها.
(2) الفتاوى الشرعية في الاقتصاد، ص 17 ط. مجموعة بركة سنة 1411 هـ.
(3) صحيح البخاري، مع فتح الباري 5/15 ط. السلفية.
(4) صحيح البخاري، مع فتح الباري 5/15 ط. السلفية.(9/755)
الخاتمة
1- الاستثمار في الإسلام له منهجه الخاص المتميز القائم على العقيدة والقيم والأخلاق.
ويترتب على ذلك:
- اندفاع المؤمن نحو العمل والاستثمار من مطلق تنفيذ أمر الله تعالى بالتعمير، وإيمانه بأن الربا وبقية المحرمات نقص ومحق للمال، وأن الإنفاق في سبيل الله زيادة وبركة وخير.
- وأن المؤمن يجعل رضاء الله تعالى نصب عينيه ولذلك يهتم بإطعام الفقراء واليتامى والأسارى، بينما يجعل الكافر مصلحته هي الأساس ولذلك لا ينفق إلا لمصلحته المادية الظاهرة.
- وتحريم الحيل والغش والاستغلال والاحتكار والظلم والربا وغيره مما حرمه الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
2- الأسهم هي جمع السهم وهو صك يمثل جزءاً من رأس مال الشركة، أو هو نصيب المساهم في شركة من شركات الأموال ...
3- أسهم الشركات التي يكون نشاطها في المحرمات كالبنوك الربوية والشركات التي تتعامل في الخنزير والمسكرات والمخدرات فحكم الاستثمار في هذه الأسهم التحريم بدون خلاف.
4- أسهم شركات يكون نشاطها في الحلال المحض كالبنوك الإسلامية، والشركات الإسلامية فحكم الاستثمار في هذا النوع الإباحة بلا شك.
5- أسهم شركات يكون محل نشاطها الحلال، وليس في نظامها الأساسي أن تتعامل في الحرام، ولكن قد تتعامل مع البنوك الربوية إقراضاً أو اقتراضاً فحكم هذا النوع مختلف فيه.
فالذي تقتضيه مقاصد الشريعة والمصالح المرسلة جواز الاستثمار فيه بالشروط التالية:
1- أن يكون دخول المساهم في مثل هذه الشركات لأجل تغيير الشركة وأسلمتها.
2- أن يتخلص المساهم من نسبة الأموال المحرمة على ضوء الميزانية فيدفعها إلى الجهات العامة.
وأما المدير وأعضاء مجلس الإدارة وكل من يشارك في كتابة العقود الربوية فآثمون بلا شك إلى أن يذروا الربا.
ومع ذلك فعلى الإنسان المسلم أن يتحرى الحلال بعيداً من الشبهات، وعلى الدول الإسلامية أن تلتزم بالشريعة الإسلامية، وتطهر أنظمتها من الربا والمحرمات والشبهات والله المستعان.
د. علي محيي الدين القره داغي(9/756)
الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية
إعداد
الدكتور عبد الستار أبو غدة
المستشار الشرعي بمؤسسة دلة البركة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان.
وبعد، فهذا البحث المتناول لموضوع "الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية " مقدم إلى الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي، وقد جرى التركيز فيه على ما يتعلق بالصناديق الاستثمارية والإصدارات الاستثمارية، لقلة معالجتها من الناحية الفقهية، كما اشتمل في أثنائه على حكم الاستثمار عند الفقهاء لتجلية ما اشتبه أمره في بعض الأبحاث الاقتصادية، وكذلك حكم الإسهام في الشركات ذات الغرض المشروع مع وقوع بعض التصرفات الجانبية الخارجة عن ذلك الغرض ... في جملة مسائل أخرى ذات صلة بالاستثمار ولا سيما في الأسهم والوحدات بعدما أصبحت أهم الأوعية للأموال النامية،
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(9/757)
تعريف الاستثمار ومفهومه وتقسيمه
تعريف الاستثمار في اللغة والفقه:
ثمر الشجر يثمر ثموراً أي طلع ثمره، وثمر الرجل: تمول، وأثمر الرجل كثر ماله (1) ومعنى الاستثمار في اللغة طلب الحصول على الثمرة، وثمرة الشيء ما تولد عنه، أو نفعه المقصود منه. وثمر الرجل ماله أي أحسن القيام عليه ونماه.
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي للفقهاء عن المعنى اللغوي، ولا يستعمل الفقهاء لفظ (الاستثمار) بل يستعملون لفظ (التثمير) ويقصدون من التثمير تكثير المال وتنميته بسائر الطرق المشروعة. وأكثر ما يستعمل الفقهاء في هذا المجال كلمة (التنمية) و (الاستنماء) وهو طلب (النماء) وقد تكرر ذلك في باب (المضاربة) و (القراض) . فمن كلام الكاساني الحنفي في ذلك قوله: المقصود من عقد المضاربة هو (استنماء) المال. ويقول الصاوي المالكي في بيان الحكمة من مشروعية القراض: وليس كل واحد يقدر على (التنمية) بنفسه. ويقول الشيرازي الشافعي: الأثمان في المقارضة لا يتوصل إلى (نمائها) إلا بالعمل، فجازت المعاملة عليها ببعض النماء الخارج منها.
وعقد القرطبي في تفسيره فصلاً بعنوان "حفظ الأموال وتنميتها" (2)
تعريف الاستثمار في الاقتصاد:
حيث إن لفظة (الاستثمار) هي من المصطلحات الاقتصادية العالمية، فإن من المناسب الإشارة إلى المقصود من هذا، أي المعنى المصطلح عليه في كتابات الاقتصاديين من شتى الأقطار، بعد الاتفاق على أن كلمة (الاستثمار) في علم الاقتصاد لا تخرج عن المعنى اللغوي السابق؛ لأنها يقصد بها أي زيادة أو إضافة جديدة في ثروة المجتمع، مثل إقامة المصانع والمزارع والمباني والطرق وغيرها من المشروعات التي تعد تكثيراً للرصيد الاقتصادي للمجتمع. والاقتصاديون محترزون بهذا عن التصرفات المتعلقة بانتقال الملكية من شخص إلى آخر فلا يدرجونها في الاستثمار؛ لأن نقل ملكية مبنى أو متجر أو منشأة من شخص إلى آخر لا يترتب عليه إضافة جديدة إلى أصول المجتمع فإنها تظل ثابتة لم يطرأ عليها أي زيادة. ويسمى الاستثمار أيضاً عند الاقتصاديين (التوظيف) .
__________
(1) لسان العرب 6/16؛ والقاموس المحيط مادة ثمر؛ والمعجم الوسيط مادة ثمر؛ وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 2/339 عند كلمة الثمرات؛ والكشاف للزمخشري 1/500 ومعجم مصطلحات الفقهاء للدكتور نزيه حماد/ 49.
(2) البدائع 6/88؛ والشرح الصغير وحاشية الصاوي 2/227؛ والمهذب للشيرازي 1/159؛ وجامع أحكام القرآن للقرطبي 4/417؛ والموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 5/192؛ والمجلة مادة 946.(9/758)
ولا ينكر أن هناك استعمالاً شائعاً لكلمة (الاستثمار) بالمدلول العام في تحقيق المكاسب عن طريق ممارسة أي نشاط تجاري أو صناعي أو خدمي، بهدف الحصول على الأرباح، ولعل لهذا الاستعمال مسوغاته كما سيأتي، بخلاف الاعتقاد السائد بأن الاستثمار لا يكون إلا في رأس مال كبير! والواقع أن كل فرد مهما قل ماله قد يقوم بدور استثماري معين:
1- إذا كانت لديه فكرة عن الهدف من الاستثمار.
2- وعن المجال المناسب الذي يمكنه الاستثمار فيه.
ويدل على ذلك أن معظم المستثمرين في أكبر الشركات المساهمة هم من صغار المكتتبين. (1)
وإذا أردنا الغوص في المدلول الاقتصادي التخصصي لكلمة الاستثمار، والفارق الجوهري بينها وبين كلمة (الادخار) من خلال من كتبوا فيه بخصوصه فإن الاستثمار هو العملية الناشئة بوجه العموم عن تدخل إيجابي صادر عن أحد الأفراد بهدف إيجاد تجهيزات دائمة تؤمن خدمات عاجلة. فعملية الاستثمار تقتضي عنصرين:
1- كلفة مباشرة مؤلفة من ساعات عمل، أو بصورة عامة مؤلفة من نفقات عوامل.
2- خدمات أو سلع ينتجها رأس المال على مدى الزمن (2) وبعبارة أخرى فإن الاستثمار هو الاستخدام للادخارات.
أما الادخار فهو الفرق بين الدخل والاستهلاك. (3)
الاستخدامات المختلفة لمفهوم الاستثمار:
إن كلمة "استثمار" من الكلمات التي يمكن حملها عندما تستخدم –بين الناس- على معان متعددة، فهي تستخدم بمعنى "أي توظيف للنقود لأي أجل" مطلقاً، أو بالتقييد بكون التوظيف لأجل طويل نسبياً. أو بخصوص توظيف النقود في أوراق مالية، أو في مجال الشركات بمعنى الإنفاق الاستثماري لإنشاء مشروعات جديدة أو استكمال مشروعات قائمة أو إحلال وتحديث أصول متقادمة. أو قصر هذا الاستخدام على التوظيف في أصول آمنة أو على الأقل بمخاطر معقولة ومحسوبة تمييزاً له عن المضاربة (بالمفهوم الغربي) التي تعتمد على توقع ارتفاع الأسعار. وفيما يلي توضيح هذه الاستخدامات:
أ- " الاستثمار " بمعنى أي توظيف للنقود لأي أجل:
يعرف معجم المورد لفظ "الاستثمار" بأنه "تثمير أو توظيف أموال" (4) ويشير معجم اكسفورد المختصر (الإنجليزي) إلى أن الاستثمار هو "أي استثمار للنقود أو لأية نقود مستثمرة" أو "أية ممتلكات تستثمر فيها النقود". ويعرف معجم اكسفورد (الإنجليزي – العربي) الاستثمار بأنه أي توظيف أو استغلال الأموال. ولا تنفرد المعاجم في تعريف الاستثمار بأنه أي توظيف للنقود لأي أجل بل نرى الكثيرين يستخدمون لفظ "الاستثمار" ليعني أي توظيف للأموال سواء كان التوظيف لآجال بعيدة أو لآجال قصيرة أو لآجال متوسطة، فإذا تم الاحتفاظ بالأصل لمدة خمس سنوات فإن ذلك استثمار لأجل طويل وإذا تم الاحتفاظ بالأصل لمدة أكثر من سنة وأقل من خمس سنوات كان الاستثمار متوسط الأجل، وإذا تم الاحتفاظ بالأصل لمدة سنة فأقل فيعد استثماراً أيضاً، لكنه استثمار قصير الأجل.
__________
(1) الاستثمار الناجح في الأسهم للدكتور عيد مسعود الجهني 9،10.
(2) الادخار والاستثمار، تأليف بيار وماري براديل ص 10، ترجمة نهاد رضا ط. الأنوار 1966.
(3) منهج الادخار والاستثمار في الاقتصاد الإسلامي، د. رفعت العوضي 66، 67؛ وعمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق المالية د. أحمد محيي الدين 18، 19.
(4) قاموس المورد إنجليزي – عربي (بيروت: دار العلم للملايين 1970) ص 479.(9/759)
ب- الاستثمار بمعنى أي توظيف للنقود لأجل طويل نسبياً:
يعرف معجم "الأعمال والاقتصاد" الإنجليزي "الاستثمار" بأنه "شراء أي شكل من أشكال الملكية والاحتفاظ به فترة طويلة نسبياً" والاستثمار بهذا المعنى يكون في شراء سلع رأسمالية أو شراء أسهم أو وضع المدخرات لدى أفراد أو مؤسسات تقوم بتوظيفها. ويتفق هذا التعريف مع مفهوم الاستثمار في الاقتصاد حيث الاستثمار على عكس الادخار. إذ هو فيه استخدام المدخرات للحصول على سلع رأسمالية.
ج- الاستثمار بمعنى "توظيف النقود في أوراق مالية" وهذا المعنى من منظور البنوك التجارية التقليدية.
إن الاستثمار من منظور البنوك التجارية التقليدية يعني شراء أوراق مالية كاحتياطي وقائي (ثانوي) للسيولة أو لمتطلبات تشغيل الأموال المتاحة في أصول سهلة التحويل إلى نقدية نسبيًّا، فالاستثمار هنا يحوي شراء أوراق حكومية وهي أوراق مالية من الدرجة الأولى على اعتبار أنها حكومية وبالتالي فاحتمالات الخسارة فيها غير واردة نسبيًّا، وربما يحوي أيضاً الأوراق المالية المضمونة من الحكومة، كما يحوي أسهم الشركات الناجحة وهي تعتبر أوراقاً مالية من الدرجة الأولى.
فالأصل الممكن بيعه بسهولة يصبح سائلاً تماماً مثل الأصل الذي يتحول بالتصفية إلى نقدية مثل تسديد القرض (قصير الأجل) .
د- الاستثمار بمعنى " الإنفاق الرأسمالي " تمييزاً من "الإنفاق الجاري" من منظور الشركات:
إن مفهوم الاستثمار من وجهة نظر الشركات الصناعية الزراعية والتجارية والخدمات – يعبر عن "ارتباط مالي بهدف تحقيق مكاسب يتوقع الحصول عليها على مدى فترة طويلة في المستقبل، ولذلك فهو نوع من الإنفاق على أصول يتوقع منها تحقيق عائد على فترة من الزمن، وهو ما يدعو البعض إلى أن يطلق عليه اصطلاح "إنفاق رأسمالي" تمييزاً له عن الإنفاق الجاري أو "المصروفات التشغيلية".(9/760)
والمصروفات التشغيلية –تمييزاً لها عن الإنفاق الرأسمالي- هي المصروفات التي تتم من يوم إلى يوم، مثل الأجور والمرتبات والصيانة وشراء المواد الخام، أما الإنفاق الاستثماري فإنه يشمل كل المفردات الضرورية لتقدم المنشأة (أو الدولة) في الأجل الطويل. و"الإنفاق الاستثماري" يشمل المشروعات الجديدة، أما استكمال المشروعات القائمة، أو إحلال مشروعات أو أجزاء منها للتجديد والتحديث. ومن الواضح أنها كلها ارتباطات مالية لأجل طويل. وبعكس ذلك "الإنفاق الجاري" فإنه يرتبط بفترة صغيرة نسبيًّا، كعدة أسابيع أو عدة شهور (سنة على الأكثر) ويمكن تحديد المكاسب المتوقعة منها بسهولة (1)
هـ- الاستثمار بمعنى "توظيف الأموال في أصول خالية من المخاطرة أو بمخاطرة محسوبة":
يستخدم لفظ "الاستثمار" أحياناً على أنه يعني ارتباطاً خالياً نسبيًّا من الخطر أو الخسارة، ولذلك فإن الأصول الجيدة غالباً ما يطلق عليها أصول " من درجة جودة استثمارية " ومن هذا المنظور فإن لفظ "الاستثمار" يعني المحافظة على الأصل، أو يعني الاستقرار في الدخل حتى لو كان دخلاً متواضعاً ويترتب على ذلك بطبيعة الحال عدم زيادة كبيرة لقيمة الأصل في نهاية المدة. وهذا التعريف للاستثمار يرفض أي استثمار تكون المخاطرة فيه عالية من أجل تحقيق مكاسب كبيرة. فهذا ليس استثماراً ولكنه مجازفة بمعاملات لا يقصد منها المحل الذي تقع عليه وإنما المغامرة في إيقاع تصرفات قائمة على الغرر (المقامرة) . (2)
هذا، وإن مفهوم الاستثمار من هذا البحث هو "المفهوم الواسع للاستثمار" بمعنى أن "الاستثمار" هو أي توظيف للنقود لأي أجل في أي أصل أو حق ملكية أو ممتلكات أو مشاركات محتفظ بها للمحافظة على المال أو تنميته، سواء بأرباح دورية أو بزيادات في قيمة الأموال في نهاية المدة أو بمنافع غير مادية.
وبعبارة أخرى يتناول مفهوم الاستثمار في الأبحاث الشرعية نوعين هما:
- الاستثمار النوعي (أي الذي يتم من خلال المشاريع والأدوات الاستثمارية) .
__________
(1) الاستثمار والتمويل، د. سيد هواري 43.
(2) من الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية الجزء السادس 16.(9/761)
- الاستثمار التجاري المباشر أو المتاجرة (1)
أهداف الاستثمار ومعالمه في المنهج الإسلامي:
هناك أهداف مشتركة في الاستثمار يتطلع إليها كل مستثمر مهما كان منهج أو أسلوب الاستثمار، كما أن هناك أهدافاً أخرى يسعى إليها المستثمر المسلم انطلاقاً من أن الاستثمار في الإسلام جزء من نظام شامل يدور في دائرة الحل والمصلحة العامة وطاعة الله عز وجل، وبذلك ينحصر الاستثمار في المجالات التي تقرها الشريعة، وفيما يحقق المصلحة العامة ومصلحة الفرد، فضلاً عن مراعاة حق الله في الأموال المستثمرة.
أهداف الاستثمار:
وفيما يلي بيان أهداف الاستثمار من النوع الأول (العام) فإن ما كان هدفاً دنيويًّا هو مما يتفق مع فطرة الإنسان في حب المال، إذا كانت طريقة جمعه وتنميته لا تتعارض مع نصوص الشريعة وقواعدها ومقاصدها ويندرج ذلك الهدف في المشروع بل المأمور به، لقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77] .
1- المحافظة على أصل المال (رأس المال) ، ويندرج هذا في عنصر (حفظ المال) الذي هو أحد الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة برعايتها.
2- تحقيق الربح، بأكبر نسبة ممكنة، بما يزيد أصل المال، وهو مقتضى لفظ الاستثمار ومعناه، ومن المشروع سؤال البسطة في الرزق والبركة فيه والسعي إلى ذلك بالأسباب المشروعة.
3- توافر السيولة لإمكان استرداد الأموال واستعمالها عند الحاجة؛ لأن للمال وظيفة بل وظائف وكما قد تهمل تلك الوظائف المتاحة بكنز المال قد تهمل ربطه دائماً بالاستثمار مما يحول دون إنفاقه. (2)
__________
(1) أساسيات العمل المصرفي الإسلامي: الواقع والآفاق، د. عبد الحميد البعلي نشر 1990.
(2) الاستثمار الناجح 16؛ الموسوعة العلمية للبنوك 6/348 – 347.(9/762)
وفيما يلي بيان الأهداف الأخرى التي يتميز بها المستثمر المسلم ويسعى إليها ليكون عمله الدنيوي عبادة وسبباً من أسباب الأجر فضلاً عما يحقق للمجتمع الحياة الطيبة المستلزمة للفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة:
أ- ربط الاستثمار بالقيم الشرعية والأخلاقيات السلوكية.
ب- حصر الاستثمار في السلع الحلال واجتناب الأنشطة المحرمة، وهذان الهدفان ليسا مأخوذين بالاعتبار أصلاً في المبادئ الاقتصادية الوضعية فهي تستبعد مسألة شرعية الاستثمار وتجعل المعيار في الحكم بنجاحه هو تعظيم الربح واستمراريته وليس الحل أو الحرمة. (1)
ج- مراعاة الأولويات في إدارة النشاط الاقتصادي، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات.
7- تحقيق فرص العمل، ومنع البطالة بما يباعد بينهم وبين العوز، ويوفر لهم الأمن والطأنينة.
8- أداء حق الله في المال المستثمر، بالزكاة والصدقات، انطلاقاً من أن المال لله والناس مستخلفون فيه.
ضوابط الاستثمار في المنهج الإسلامي:
اهتم بعض الباحثين في تصوير منهج الاستثمار الإسلامي في عدة ضوابط تأسيساً على أن المنهج الإسلامي للاستثمار لا يرتبط بأشكال أو صور محددة من المعاملات وإنما يرتبط بغايات وبمقاصد.
وهذه الضوابط هي مع مشتقاتها:
1- أخذ العقيدة الإسلامية بالاعتبار في منهج الاستثمار فهناك التزام عقائدي وسلوك عقائدي.
__________
(1) عمل شركات الاستثمار 28 – 33، 34 – 39. وينظر في النقد المفصل لهدف تعظيم الربح أو تعظيم الثروة كتاب الاستثمار والتمويل للدكتور سيد هواري 12/22؛ وعمل شركات الاستثمار 12، 15، 59.(9/763)
2- علاج وضبط الصراع الاجتماعي، انطلاقاً من ارتباط تلك الظاهرة بسوء استخدام الملكية الخاصة، وليس لظاهرة وجود الملكية الخاصة، وكذلك ارتباط المنهج الإسلامي للاستثمار بالتصرفات المعنوية بجانب التصرفات المادية والعناية بالاستثمار في رأس المال الاجتماعي.
3- تحقيق التنمية عن طريق:
أ- الإلزام بالتشغيل الكامل لرأس المال.
ب- الإلزام بأن يغطي الاستثمار الأنشطة الاقتصادية الضرورية للمجتمع.
ج- الإلزام بأن يكون أسلوب مشاركة رأس المال –كأحد عوامل الإنتاج مع العوامل الأخرى- يستهدف الإنتاج وليس مجرد الحصول على دخل.
د- الإلزام بأن يستهدف استثمار رأس المال تنمية العنصر البشري.
4- توجيه أو تخطيط الاستثمار وذلك من خلال:
أ- إثبات المسئولية الجماعية في استثمار رأس المال.
ب- إثبات مسئولية ولي الأمر عن الاستثمار بهدف التنمية.
ج- إثبات مسئولية ولي الأمر عن الاستثمار بهدف إعادة توزيع الدخل والثروة.
د- استنتاج التصور الإسلامي العام لتوجيه وتخطيط الاستثمار (1) ومما يسهم في البيان الشافي للمعالم الأساسية للمنهج الإسلامي في الاستثمار الإشارة إلى أهداف النظام الاقتصادي الإسلامي وما يشتق منها من أهداف المسلم وهي (2) :
1- زيادة معدل النمو ولا سيما متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي مع تحفظات خاصة بهذا الهدف الفرعي، سواء من حيث نوعه أو كيفية حسابه ومدى ملاءمته لتحقيق الحاجات الإنسانية الإسلامية.
2- تحقيق مستوى عال من التوازن بين تشغيل العمل، باعتبار أن اليد العاطلة بخسة، وبين تحقيق استقرار للأسعار لضمان دخل حقيقي وذلك في الحالات التي يكون فيها تعارض.
3- تحقيق الكفاءة الاقتصادية في تخصيص موارد المجتمع، وفي تشغيل هذه الموارد مع تحفظات خاصة بالنسبة للطاقات العاطلة.
__________
(1) منهج الادخار والاستثمار في الاقتصاد الإسلامي، د. رفعت العوضي 136، 145، 162، 181.
(2) لقد جاء سرد هذه الأهداف ثم شرحها في الصفحات 88 – 110 من المجلد السادس المخصص للاستثمار في الموسوعة العلمية العملية للبنوك الإسلامية وقد تناول ذلك المجلد بعد الأهداف الأولويات ثم تحليل أنواع الاستثمار ثم تقويم مشروعاته.(9/764)
4- تحقيق العدالة في توزيع الدخل بين أفراد المجتمع وبين المناطق، وبين أجيال الحاضرة والأجيال القادمة.
5- ضرورة الاستفادة الكاملة من مفهوم الاستقلال الاقتصادي، أو من مبدأ "الميزة النسبية" مع تحفظات خاصة.
6- تحسين الظروف البيئية مثل القضاء على التلوث والضوضاء والازدحام في المركبات والمرور وتوفير الإحساس بالأمن الاقتصادي، مثل التحرر من الخوف والمرض والعجز، مع تحفظات خاصة بمناخ الأعمال العام، بحيث تتحقق جودة الحياة الروحية والمادية في أشمل صورها.
تقسيم الاستثمار في الاقتصاد:
ينقسم الاستثمار اقتصاديًّا إلى منتج أو غير منتج، تبعاً للنظر إلى مجموع قيمة الخدمات والسلع المنتجة خلال الزمن هل هي أعلى أو أدنى من الكلفة المباشرة. ومن الناحية النظرية فإن كل مستثمر يعتبر استثماره منتجاً قبل أن يتبين له خطأ تنبئه. وبعض الاستثمارات تبدأ منتجة ثم تصبح غير منتجة بسبب التقدم التقني السريع كالكيمياء العضوية والطيران العسكري بحيث تجعل التجهيزات المقامة حديثاً تجهيزات قديمة من الوجهة التقنية أي تفقد فقيمتها الاقتصادية قبل أن تتناقص خصائصها المادية.
وهناك تقسيم باعتبار آخر للاستثمار من حيث مجاله، هل هو السلع الإنتاجية أو السلع الاستهلاكية فبناء سكن شخصي هو استثمار استهلاكي. أما إقامة شبكة ري لمزرعة فإنه استثمار إنتاجي. ويمكن استعمال نفس السلعة في فعاليات منتجة أو غير منتجة. وتسمية السلع الاستهلاكية غير منتجة حسب هذا الاعتبار لا ينفي كونها منتجة بحسب الاعتبار الأول.
ثم هناك توظيفات بديلة تستهدف إبقاء التجهيزات على ما هي عليه وتوظيفات جديدة من التجهيزات الموجودة أو من قدرتها الإنتاجية. وقياس حجم التوظيفات الجديدة يسمى توظيفاً صافياً، في حين أن قياس الحجم الكلي للتوظيفات جديدة أو قديمة هو توظيف خام. ولعل من المفيد هنا المقارنة بين كلمة تتردد كثيراً في الكلام عن الاستثمار، وهو الادخار لبيان الفارق الجوهري بينهما، فقد عرفنا ما هو الاستثمار. أما الادخار فهو الاقتطاع من الاستهلاك بهدف تشكيل احتياطي يمكنه أن يفيد بالتناوب للاستثمار. أو لاستهلاك آجل. (1)
__________
(1) الادخار والاستثمار لي بيار – ماري براديل (ص 15) ترجمة نهاد رضا. طبع دار الأنوار 1966.(9/765)
أهمية الاستثمار
لقد حَثَّ الإسلام على الاستثمار وتنمية الثروة، وكان ترغيبه في ذلك إما مباشرة من خلال الآيات والأحاديث التي تدعو للكسب والعمل في حفظ المال وتكثيره. أو من خلال الدعوة للإنفاق والبذل فيما يتعدى نفعه للآخرين، فالإنفاق لا يتاح إلا من خلال اقتناء المال وتنميته ويشمل الإنفاق دوام تلبس الشخص به بما ينفقه على نفسه وعياله أو على المحتاجين والمجتمع.
ومن الآيات التي تثني على من ينمي ماله قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] . بل عدَّ القرطبي آية المداينة وما فيها من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن (نصًّا قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها) (1)
ومن الأحاديث التي ترغب في الاكتساب ومزاولة ما يكثر المال قوله صلى الله عليه وسلم لمن سألته عن خروجها وهي معتدة لرعاية نخلها: ((لا عليك أن تجذي نخلك فتأكلي وتتصدقي)) .
والجدير بالتنويه أن الحضَّ على الاستثمار يتناول حتى من لا تتوافر لديه الأموال إذ فتحت الشريعة له المجال لاستثمار مال غيره بما ينتفع به مالك المال والعامل الخبير بتثميره، وذلك عن طريق المضاربة (أو القراض) . وهو باب أساسي من أبواب الفقه. ولم يقتصر التأكيد على زيادة المال وتنميته بالمضاربة بل شمل المشاركات كلها والمعاملات المالية الأخرى من البيع والسلم والإجارة. كما شمل –بالإضافة إلى التجارة- قطاعات الاقتصاد المختلفة، وبخاصة الصناعة والزراعة والثروة الحيوانية والنقل والمواصلات وقد رأينا أن (الاستثمار) بالمعنى الأوسع يشمل كل تلك الوجوه. (2)
__________
(1) تفسير القرطبي 3/417.
(2) النشاط الاقتصادي في ضوء الشريعة، غريب الجمال 27 دار الأمانة؛ والاستثمارات المالية الإسلامية، علي البدري أحمد الشرقاوي 14، 17؛ وضوابط الإنتاج في الإسلام، د. عرفه المتولي سند 10، 11 مجلة الدراسات مركز صالح كامل جامعة الأزهر.(9/766)
الحكم التكليفي للاستثمار:
(تمهيد) لقد كثرت أقوال الاقتصاديين المسلمين في حكم الاستثمار شرعاً من حيث درجته التكليفية طلباً أو تخييراً، ويكادون يطبقون على أنه واجب بحسب ما فهموه من عمومات بعض النصوص الشرعية في ظل ما يورثه تجميد المال من محاذير، وما يفوته من مقاصد، وتكفي الإشارة إلى بعض المراجع المتناولة لهذا الاتجاه، فهو من الشهرة والتداول بحيث انطلقت به ألسنة بعض الفقهاء وأقلامهم أحياناً، وتهَيَّب بعضهم أن ينازع في هذه القضية التي عدها الاقتصاديون من المسلمات وتابعهم فيها من تابعهم، وما يحق للباحثين في الاقتصاد الإسلامي ذلك التسرع كما لا يقبل ممن هادنهم من الفقهاء هذا الإحجام في موقف يقتضي دوراً إيجابيًّا، وأستحضر هنا ما تقرر في أصول الفقه من أن الفتوى هي صناعة الفقيه ومن شروطها الأساسية ...
وما أكثر ما شوه بعض الناس مبادئ شرعية ناصعة بجعلهم بعض التقاليد أو المفاهيم المرتجلة جزءاً من الدين –تحرياً منهم لما ظنوه ورعاً أو تجميداً للشرع- فأوقعوا غيرهم في الانحراف عن نهج الشريعة المعتدل ورُوِّيَ ذلك الترددُ من بعض المختصين في الفقه في تحديد المشروع دون تزيد أو نقصان، ظناً بأن في القيام بأكثر من المطلوب ضماناً لتوافر المطلوب، وخشية من التغيير بأن يستتبع الميل للتفلت أو التساهل، مع أن دين الله بين الغالي والمقصر، ومما استأمن الله عليه الفقهاء أن ينكروا تحريم الحلال بمثل معارضتهم تحليل الحرام؛ لأن الأول أشد وأعسر في التصحيح، كما يعرف من التنديد في كتاب الله بأهل الجاهلية الذين حرموا ما أحل الله.
ونظراً إلى أن استثمار المال – في الاستعمال الفقهي- يرد تحت اسم الكسب أو الاكتساب، وأن الاستثمار ليس بالضرورة أن يكون محله المال الكثير الوفير، فقد يكون الاستثمار واجباً إذا كان هو الوسيلة لنموه بحيث يفي بحاجة الإنسان نفسه –بدلاً من سؤال الناس وتكففهم باليد السلفى- وإعالة من تجب عليه نفقتهم لان تضييع الشخص من يعولهم هو من حالات الإثم الكافية إدانته في الدنيا والآخرة.(9/767)
على أن ما نحن بصدده هي حالة (الاستثمار) بمعناه العرفي الشائع، وهو تنمية المال ولو كان كثيراً وفيراً يسد حاجة الإنسان القائمة والمتوقعة على المدى المعتاد للناس أخذه بالاعتبار. فهذا الاستثمار حكمه (الإباحة) التي هي التخيير بين الفعل والترك، أو (الندب) الذي هو الطلب على غير وجه الإلزام، بل لمجرد تحصيل الأجر وتحقيق الرغائب وليس لدرء الوزر (1) وسواء قيل بالإباحة أو الندب فهما درجتان مغايرتان لدرجة (الوجوب) ، وإن كان الحكم بالندب هو الغالب بحسب النصوص الداعية للإنفاق لأن دوامه –كما سبقت الإشارة- لا يحصل إلا باستثمار أصل المال.
وما أوردته هو من المقررات الشرعية الكثيرة الدوران في أكثر من باب من أبواب الفقه، ولا سيما باب النفقات، وباب الزكاة، فضلاً عن أبواب المعاملات المالية التي هي صيغ الاستثمار، ويرتبط حكم مزاولتها بحكم الاستثمار شرعاً، إذا يتفق الفقهاء على أن الحكم الأصلي لكل من البيع والإجارة وأنواع الشركات هو الإباحة، ولم يقل أحد منهم: إنه الوجوب مطلقاً، أو الوجوب التخييري لمن توافرت لديه أسبابها، أي يجب الإقدام على إحدى هذه الصيغ لا على التعيين، كما هو الشأن في الواجبات التخييرية المعروفة عند الكلام عن الواجب من الأحكام التكليفية.
ومن المعهود في التشريع أن ما تتوافر لرعايته دوافع فطرية (كحب المال والحرص على ازدياده) يكون في عداد المباحات، ولا يتعلق به الوجوب إلا في حالات طارئة يخرج فيها الإنسان عن طبعه.
مناقشة القول بالوجوب استدلالاً بتحريم الاكتناز:
وأما احتجاج معظم الاقتصاديين بآية الاكتناز وما أطالوا به في شأنها فإننا لا نجد له أي جذور في مدونات الفقه والتفسير والحديث، لما تواردت عليه الأفهام من أن الوعيد فيها هو للاكتناز الذي لا يتحقق مفهومه إلا بمنع زكاة المال، استناداً بحديث: ((ما أديت زكاته فليس بكنز)) كما أن الحض على استثمار مال اليتيم هو من قبيل الطلب الترغيبي المؤدي إلى (الندب) فضلاً عن أن التصرف في حق اليتامى مختلف عن تصرف الإنسان في حر ماله، فالمرء بسبيل من التصرف في ماله بما لا حظر فيه، بخلاف من استؤمن على غيره من ناقصي الأهلية فإن عليه إحسان التصرف، ولذلك ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى أن من يرى وجوب الزكاة في مال اليتيم يرى في الوقت نفسه وجوب المتاجرة فيه حتى لا تأكله الصدقة" (2)
__________
(1) تفسير القرطبي 3/419؛ والأسهم والسندات من منظور إسلامي د. عبد العزيز الخياط 9 – 12.
(2) الأنشطة المصرفية وكمالها في السنة النبوية د. حسن العناني 64 ومن مراجعه المحلى 5/ 306 والأموال لأبي عبيد 548 وغيرها.(9/768)
تعريف السهم والسند والوحدة الاستثمارية
تعريف السهم:
السهم جزء من رأس مال الشركة، ويمثل حق المساهم لتحديد نصيبه من الربح والخسارة وحقه في أموال الشركة عند تصفيتها ومسئوليته تجاه الشركة والامتيازات التي يقرها للمساهم النظام الأساسي للشركة. (1) ولكلمة السهم معنيان: حصة الشريك في الشركة، والصك المعطى للشريك إثباتاً لحقه، وهو سند الحق بتعبير الفقهاء. وتنقسم الأسهم باعتبارات مختلفة:
- فهي تبعاً لنوع الحصة المدفوعة تنقسم إلى:
- سهم نقدي، وهو ما تدفع قيمته نقداً.
- سهم عيني، وهو ما تدفع قيمته عيناً من عقار أو منقول شريطة قبول الشركة.
- سهم –حصة- تأسيس، وهو يعطى لمن أدى عملاً للشركة وهو لا يمثل ملكية في الشركة بل يخول الحق في الربح فقط. وقد ذهب إلى منعه أكثر الباحثين مع أنه يمكن تخريجه على أنه صورة من صور اشتراط نسبة من الربح لغير الشركاء وهو جائز.
- وهي تبعاً للشكل الذي تظهر به تنقسم إلى:
- السهم الاسمي، وهو يحمل اسم صاحبه حسب دفاتر الشركة والبيانات الأخرى المتصلة بالسهم.
- السهم لحامله؛ ولا يذكر فيه اسم المساهم بل يكون لحامله ويملك بالحيازة.
- السهم الإذني أو للأمر، وهو ما يسبق اسم صاحبه بعبارة لإذن/ أو لأمر، فتنتقل ملكيته بالتظهير.
- وهي تبعاً للحقوق المخولة لمالكها تنقسم إلى:
- السهم الممتاز، مما يختص ببعض المزايا، كالأولوية في الأرباح بنسبة معينة من قيمته فإن لم تتوافر اعتبرت ديناً يستوفى من أول توزيع، والأولوية في التصفية، وأحياناً بزيادة أصوات.
- السهم العادي، وهو ما ليس له امتياز، ويوزع على أصحاب هذه الأسهم ما يبقى بعد أرباح الأسهم الممتازة.
__________
(1) عمل شركات الاستثمار د. أحمد محيي الدين 98؛ الأسهم والسندات د. عبد العزيز الخياط 18.(9/769)
- سهم التمتع، وهو الصك الذي يتسلمه المساهم عند استهلاك قيمة سهمه ويتأخر حق صاحبه في الربح وعند التصفية عن أصحاب الأسهم غير المستهلكة. (1)
تعريف السند:
إن استيفاء موضوع الاستثمار يقتضي أيضاً تعريف السند وتقسيمه حسب المفهوم الوضعي الذي لا يراعي تحريم الفائدة –ولو لم يرد ذلك في الخطة المبدئية للبحث- فالسند صك قابل للتداول تصدره الشركة أو المؤسسة حين الحاجة للتمويل وعدم رغبة الشركة في زيادة رأس ماله ويمثل قرضاً طويل الأجل ويخول مالكه الحصول على فوائد ثابتة تؤدى قبل توزيع الأرباح على المساهمين، فضلاً عن استيفاء قيمة السند عند حلول الأجل أو عند التصفية قبل الأسهم أيضاً. وليس لصاحب السند التصويت. وتعد السندات بمثابة اتفاق للإقراض بفائدة بين جهة الإصدار وبين من يملك السند. وقد يتضمن الاتفاق رهن بعض الأصول الثابتة ضماناً للسداد.
- السند الاسمي.
- السند لحامله على نحو ما سبق في تقسيم الأسهم.
وتنقسم تبعاً للحقوق الناشئة عنها إلى:
- سند العلاوة، وهي السندات التي تخفض عند شرائها عن قيمتها الأصلية للتشجيع مع دفع قيمتها عند الاستهلاك.
- سند النصيب بفائدة، وهذا السند الذي يصدر بقيمة اسمية وتحدد له فائدة ثابتة، مع إجراء القرعة كل عام لإخراج عدد من السندات تدفع لأصحابها مع قيمتها مكافأة جزيلة. وتجرى قرعة لتعيين السندات التي تستهلك بدون فائدة، وهذا النوع من أنواع اليانصيب وقد منعته بعض القوانين.
- سند النصيب بدون فائدة وهو السند الذي يسترد صاحبه قيمته إن لم يفز بالقرعة.
- السند المضمون، وهو السند الذي تقترح الشركة أو المؤسسة المصدرة له ضماناً عينياً للوفاء به.
- السند العادي هو السند ذو الاستحقاق الثابت الصادر الذي ترد قيمته الاسمية عند استهلاكه.
__________
(1) عمل شركات الاستثمار 99 – 101؛ والأسهم والسندات من منظور إسلامي 9 – 21.(9/770)
- السندات القابلة للتحول إلى أسهم، وتعطي الحق لصاحبها بطلب تحويلها إلى أسهم متى رغب ذلك.
وقد استحدثت في العقدين الأخيرين سندات جديدة تختلف عن السندات التقليدية فهناك سندات بفائدة ولكن لا تحمل كوبوناً بل تباع بخصم على القيمة الاسمية مع استرداد القيمة الاسمية عند الاستحقاق، وسندات ذات معدل بفائدة تتغير بحيث يعاد النظر في المعدل دوريًّا، وسندات ذات دخل وهي سندات الفائدة إلا في السندات التي لا تحقق فيها المؤسسة ربحاً، وقد ينص حينئذ على استحقاقها فائدة من أرباح سنة لاحقة، وقد ينص أيضاً على إمكان تحويلها إلى أسهم وسندات منخفضة الجودة وسندات مشاركة (1)
وهناك سندات مشروعة تمثل حصص مشاركة أو مضاربة أو إجارة، وتسمى في الغالب صكوك لتمييزها عن السندات الربوية السابقة المستخدمة من المؤسسات غير الملتزمة بالأحكام الشرعية.
تعريف الوحدة الاستثمارية:
لا يخرج مفهوم الوحدة الاستثمارية عن المراد بالسهم، فإنها أيضاً تمثل حصة شائعة في الوعاء الاستثماري المقسوم إلى وحدات استثمارية ولكن تختلف الوحدة عن السهم في سهولة التخارج والاسترداد، وفي قيام جهات عديدة لها علاقات تعاقدية مع الصندوق أو الإصدار الذي يقسم إلى وحدات، وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام عن صناديق الاستثمار وإصدارات الاستثمار.
__________
(1) الأسهم والسندات من منظور إسلامي د. عبد العزيز الخياط 50 – 53؛ عمل شركات الاستثمار د. أحمد محيي الدين 102 – 154؛ أدوات الاستثمار، منير هندي 31 – 38.(9/771)
شراء الأسهم لغرض الاستثمار في المشروع والحصول على الأرباح المتحققة من نشاط الشركة أو لغرض بيع الأسهم والحصول على فرق الأسعار
- شراء الأسهم للحصول على الربح:
إن شراء الأسهم لغرض الحصول على ما يتحقق من الربح من نشاط الشركة هو الهدف المقصود من الشركة أصلاً؛ لأن معنى الشركة خلط الأموال بقصد الاشتراك في الربح المتحقق من التصرفات والأعمال التي تندرج في أغراض الشركة. ولا يلزم من هذا القصد أن يكون شاملاً عمر الشركة أي بحيث يبدأ الاشتراك بالاكتتاب الأول في أسهم الشركة وينتهي مع تصفيتها؛ لأن مؤدى القول بذلك إجبار الشريك على البقاء في الشركة ولا قائل بذلك، فكما أن الدخول في الشركة مشروع فإن الخروج هنا مشروع أيضاً بضوابطه، ولا وقت محدداً لمشروعية ذلك من حيث عدد السنوات أو الشهور أو الأيام التي يظل فيها المساهم منتظماً في الشركة.
ويطلق على هذا الربح اسم "الربح التشغيلي".
شراء الأسهم للحصول على فرق الأسعار:
لا يخفى أن الحصول على فرق الأسعار من شراء أصول دارة للريع ثم بيعها قبل الحصول على ريعها أو بعده هو أيضاً هدف صحيح مشروع؛ لأنه تجارة يستهدف منها الربح الذي يحصل من بيع أصول الشركة بأكثر مما اشتريت بها، وكما يصح هذا التصرف في جميع الأصول يصح في حصة منها يمثلها السهم أو الأسهم المشتراة بقصد البيع، فإن الربح الذي يتحقق من ربح الأصول يسمى " الربح الرأسمالي "؛ لأن فيه تنضيضاً لقسم من رأس المال بأكثر من تكلفته على الشركة. ومن الواضح أنه لا تعتبر أي زيادة حسابية تحصل من بيع شيء من أصول الشركة ربحاً رأسماليًّا إذا لم تؤد حصيلة بيع جميع الأصول إلى الربح؛ لأنه يراعى مبدأ الخلطة في النظر إلى الأجزاء التي يتكون منها رأس المال، بحيث إذا بيع شيء منها بخسارة وشيء منها بربح جبرت الخسارة بالربح ونظر إلى حصيلة بيع جميع الأجزاء بربح حتى تعتبر التصفية رابحة، ولذلك يعتبر الربح الذي يقع من بيع جزء من الأصول بأكثر من تكلفته (ربحاً تحت الحساب) .
مناقشة القول بكراهة –أو منع- شراء الأسهم بقصد البيع:
لقد ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى أن شراء الأسهم بقصد بيعها والحصول على فرق الأسعار يؤدي إلى التداول في النقود، نظراً لقصر الفترة بين البيع والشراء الذي ينتفي فيه قصد الحصول على بيع السهم وأنه لا قيمة مضافة من تلك المبايعات السريعة التي ينحصر القصد فيها على الحصول على فرق السعر بين شراء السهم وبيعه بمجرد ارتفاع قيمته.
وفي ذلك القول إغفال لطبيعة السهم من حيث إنه يمثل حصة في موجودات يفترض أنها عند البيع والتداول بأكثر من قيمة الشراء مشتملة على أعيان ومنافع من النقود والديون. وقد تناولت قرارات المجمع التصريح بتلك الطبيعة للسهم باعتباره قيميًّا، وإن كان المظهر الخارجي للأسهم أنها مثلية فتلك المثلية في التساوي بين القيم وما تخول حاملها من حقوق إذا كانوا من شريحة واحدة.(9/772)
والواقع أن هذا الشراء للأسهم بغرض الحصول على فرق الأسعار لا يخلو من فائدة في تحريك الأنشطة المختلفة، سواء كانت تتم بصورة فردية ثنائية، أو بصورة جماعية (في أسهم الشركات) ولا تظهر هذه الفائدة إلا بالنظر إلى مجموع التصرفات السابقة واللاحقة لذلك الشراء، فإن الثمن المعطى ممن يشتري السهم إلى بائعه يتيح له خوض أنواع أخرى من التصرفات الاستثمارية فضلاً عن تمكينه من شراء حصص من أصول شركات أخرى لإتاحة السيولة لآخرين ممن ينتفعون بها بأوجه متعددة، ولولا إمكانية التسييل المتاحة في أسهم الشركات لتردد المتمولون في حبس أموالهم في أسهمها سواء عند بداية الاكتتاب أو في المراحل التالية.. إذ إن هذه الميزة تجعل الباعة والمشترين يراوحون بين ملكية حصص من موجودات الشركة وبين ملكية المال الناض من عمليات البيع، ولكل من الحالتين دواعيها وأهدافها. وينطبق على هذا حديث: ((دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) .
وإن ما يخشى من ضرر –أو ما وقع فعلاً من أضرار التداولات السريعة للأسهم في بعض الظروف والبلاد- كان مبعثه إهمال الضوابط الشرعية لبيع الأسهم، حيث كانت الشركات تباع وتتداول متفاضلة ومؤجلة في بداية التأسيس عقب جمع نقود الاكتتاب أو تباع وهي في طور انحصارها في مديونيات، أو يبيع المساهم أكثر من الأسهم المملوكة له!!
ولمزيد من توضيح وجه المشروعية في شراء الأسهم بغرض بيعها للحصول على فرق الأسعار (الذي أثار الجدل) فإن شراء الأسهم بقصد التداول هو عملية تصفية فردية يقوم بها أحد الشركاء بخصوص مساهمته بدلاً من (التقليب) أي تكرار عمليات المتاجرة في محل المشاركة. وتتضح الصورة من استحضار مظاهر التصفية الجماعية فيما يلي:
- إن ربح المشاركة يحصل من المتاجرة (الشراء للسلع بقصد بيعها بربح) وهناك احتمالان لهذه المتاجرة:
- إما أن تتم لمرة واحدة من جميع المشترين لأسهم الشركة فيما لو أقيمت الشركة لممارسة صفقة واحدة تشتري فيها السلع ثم تباع وتقسم أرباحها. ويحصل هذا في الواقع العملي في عمليات التمويل المصرفي المجمّع.
- وإما أن تتم المتاجرة مرات ومرات طيلة الدورة الزمنية المختارة، وتوزع تبعاً لها الأرباح الدورية التي تسمى الأرباح التشغيلية، وهكذا إلى أن يأتي موعد التصفية الكاملة للشركة وتوزع بقية أرباحها شاملة للأرباح الرأسمالية. وما يحدث على النطاق الجماعي يمكن أن يحدث على النطاق الفردي.(9/773)
- فقد يتخذ المساهم قراره ويبيع حصته من المشاركة عند أول ارتفاع لقيمة السهم، وهو ارتفاع يفترض أن ينشأ عن ارتفاع قيمة موجوداتها، وبهذا يصفي مشاركته، كما لو دخل مع غيره في مشاركة وحيدة الصفقة ليس فيها تقليب.
- وقد يقرر الاستمرار ليقطف ثمار الصفقات المتتالية داخل المشاركة الممثلة لعملية (تقليب السلع) بعبارة الفقهاء. والتقليب ليس من خصائص الشركة أو لوازمها فهو يحدث في مطلق المتاجرة، وفكرته هي السند في توجيه زيادة ربح البيع الآجل عن البيع الحال.
وأما ما وقع بشأن الربح الناتج من تداول الأسهم بأنه تدخل في تكوينه عوامل غير سوية، كالإشاعات، ونشر معلومات الترويج، والأحوال السياسية، ونشر التوقعات الاقتصادية، ونحوها، فكل ذلك وارد في التعامل التجاري الفردي، ولم يؤثر في حكمه الشرعي.
ثم إن هناك غرضاً ثالثاً لبيع الأسهم، غير الحصول على الريع أو الحصول على فرق السعر.. وهو التخلص من لحوق الخسارة، فيما إذا هبطت أسعار الأسهم المشتراة وتأكدت مخاوف مالكها من الضرر اللاحق به لو بقي متمسكاً بها مع وجود من يشتريها، فما الدليل الشرعي الذي يمنع من إخراجها من ملكه بالقيام ببيعها ضمن الضوابط الشرعية بعيداً عن الغرر والتدليس والنجش؟ كما قد يكون البيع بغرض توفير السيولة عند الحاجة إليها وهو غرض رابع، وليس ذلك قابلاً للحصر.
حكم شراء أسهم الشركات المشروعة الغرض مع اقتراضها أو إيداعها بالربا:
بمناسبة الكلام عن شراء الأسهم لأحد الأغراض المشار إليها يلوح التساؤل عن مشروعية شراء أسهم الشركات التي في موجوداتها ما هو حرام، أو أسهم الشركات التي غرضها الأساسي مشروع لكنها تودع أو تقترض بالربا، وليس ذلك الإيداع المحرم أو الاقتراض المحرم هو نشاط الشركة المستهدف من تأسيسها أو بقائها.
والجواب عن هذا الموضوع –الذي ما زال معلقاً في جدول أعمال المجمع بعد تناوله في أكثر من دورة – يقتضي تقديم نبذة عن ملابساته، وما صدر في شأنه من قرارات وفتاوى في دورات المجمع أو في غيرها من الملتقيات الفقهية.
إن شراء أسهم الشركات يقع في أنواع مختلفة منها، بعضها مما وقع الاتفاق على مشروعيته وهي:
الشركات التي تعلن عن التزامها في التعامل بأحكام الشريعة الإسلامية في وثائق إنشائها، وهي الدرجة العليا المفضلة؛ لأن هذا الالتزام المصرح به رسميًّا يتيح لمن يسهم في الشركة الطمأنينة النفسية والأمن من الإقدام المتعمد على ما فيه خلل شرعاً، كما يأمن من استمرار الخلل إن وقع؛ لأن في وسعه الاعتراض والمطالبة بتصحيح آثار الاختلال غير المقصود، محتجًّا بما التزمت به الشركة قولاً وفعلاً، شعاراً وتطبيقاً.
وكذلك الحال بالنسبة لأسهم الشركات التي حصل التوافق بين تطبيقاتها وبين ما هو مشروع، ولو لم يكن هناك تصريح في وثائق إنشاء الشركة بالالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية؛ لأن مجرد التطبيق الصحيح تنتج عنه تصرفات ذات آثار مشروعة، ولو لم يقترن بالنية والعزم على الالتزام فهما سببان لتحصيل المثوبة والأجر.(9/774)
ولا بد من استمرار المراقبة لتصرفات مثل هذه الشركات للتحرز مما يقع من خلل، والمعالجة لما يترتب عليها من أثر لأنها –بعدم تصريحها بالالتزام- مظنة الوقوع في مثل ذلك، والاحتجاج عليها قد لا ينجح لعدم المستند له في وثائق تأسيسها.
كما أنه لا جدال في مشروعية شراء أسهم شركات لم يحصل منها الالتزام ولا التوافق ولكن هناك فرصة للتأثير على مسيرة الشركة بحيث يحصل منها التوافق –وربما الالتزام إذا صير إلى تعديل وثائق الشركة- وهذا لا يتحقق إلا من خلال تكاتف عدد كبير من الأفراد، أو بعض المؤسسات المالية الإسلامية، أو بعض كبار رجال الأعمال، لشراء غالبية من الأسهم تتيح لهم التأثير في مسار الشركة.
وقد جاء النص في فتاوى الندوة السادسة للبركة (1989) على مشروعية الإقدام على شراء أسهم الشركات (مهما كان غرضها الأصلي) . بقصد أسلمة معاملاتها، بل اعتبر ذلك مطلوباً، لما فيه من زيادة مجالات الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية.
كما جاء في قرار ندوة مشتركة بين مجمع الفقه الإسلامي، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب (1993 م) : "إن الإسهام في الشركات المساهمة التي تتعامل بالربا بقصد إصلاح أوضاعها بما يتفق مع الشريعة الإسلامية من القادرين على التغيير أمر مشروع على أن يتم ذلك في أقرب وقت ممكن".
ولا يخفى أهمية تأسيس شركات ملتزمة بالضوابط الشرعية؛ لأنها تمثل النموذج السليم من الشوائب، وقد يصار إلى تجديد الشركة وتصحيحها، بالسيطرة عليها لتحويلها إلى الالتزام بالضوابط الشرعية.
والنوع المحتاج لمزيد من البحث هو تلك الشركات التي غرضها الأساسي مشروع لكن بعض تصرفاتها الجانبية محرمة، وهي محل التفصيل بعد أن تباينت فيها الآراء الفقهية المعاصرة بين المنع المطلق، أو الإباحة المطلقة، أو الإباحة المقيدة بظروف خاصة والمحكومة بقيود وضوابط والتزامات بشأنها.
وأول ما تجب مراعاته هو الغرض الأصلي من الشركة: فإن كان غرض الشركة الأصلي حراماً، مثل البنوك الربوية، وشركات التأمين التقليدية، وشركات إنتاج الخمور ولحم الخنزير ومشتقاتها، وشركات إدارة صالات القمار، ودور الخلاعة، ونحوها. فهذه لا يجوز تملك أسهمها ولا تداولها ببيع أو شراء أو وساطة. وإن كان غرض الشركة الأصلي مباحاً، مثل شركات التجارة في المباحات، أو صناعتها، أو زراعتها، أو تسويقها، أو الخدمات المتعلقة بذلك. فهذه الشركات يختلف حكمها عما كان غرضها الأصلي حراماً، وإن كان يقع من هذه الشركات الاقتراض من البنوك الربوية أو الإيداع لديها بالفائدة. فلا يسوغ التسوية بينها وبين الشركات التي غرضها الأصلي المراباة أو التأمين التجاري أو مزاولة الأنشطة المحرمة؛ لأن محل التصرف في تلك الشركات غير مشروع أصلاً. أما الشركات ذات الغرض المباح التي تودع أو تقترض بالربا فإن محل التصرف فيها معتبر شرعاً وهو التجارة في المباحات لكن وقع منها تصرف جانبي دخيل على غرضها وهو الإيداع والاقتراض بالفائدة، وهو قابل للفصل عن أنشطتها بإلغاء الاتفاق الربوي أو إبطال آثاره وتصحيح نتائجه بالتخلص من عائد تلك الملابسات المحرمة.(9/775)
وقد صرح بعض الفقهاء بالتفرقة بين المتاجرة بالخمر وبين التعامل بالربا، من حيث آثارهما حيث تعلق الحكم برأس المال والربح في المتاجرة بالخمر، وبالربح (الفائدة) فقط في التعامل بالربا، ندباً أو وجوباً في الحالتين. (1)
إن هذه الشركات التي غرضها الأساسي مشروع والمحل الأصلي للتصرف فيها معتبر شرعاً، ولكن وقعت فيها تصرفات جانبية هي الإيداع أو الاقتراض بالفائدة يجوز الإسهام فيها حسبما انتهى إليه عدد غفير من الفقهاء المعاصرين، وكثير من هيئات الفتوى في المؤسسات المالية وخارجها. وهذا يكشف عن إدراك الطبيعة الخاصة للشركات المساهمة وتمييز الفرق بين ما غرضه الأصلي محرم وبين ما غرضه الأصلي مباح مع التصرف الجانبي المحرم، ولا بد من الإشارة إلى الخلاف الواقع في هذا النوع الأخير إلى درجة إرجاء البت فيه وبقائه معلقاً على جدول دورات مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة.
وقد جاء في توصيات ندوة الأسواق المالية بالرباط، التي أقامها مجمع الفقه الإسلامي بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية ووزارة الأوقاف المغربية 5-25 ربيع الآخر 1410 هـ (نوفمبر 1989) ما يلي:
"إن تملك أسهم الشركات التي يكون غرضها التعامل والصناعات المحرمة والمتاجرة بالمواد الحرام غير جائز شرعاً، ولو كان ذلك التملك عابراً، ولفترة لا تسمح بتحقيق الأرباح الناتجة عن ذلك النشاط.
أما تملك –أو تداول- أسهم الشركات التي غرضها الأساسي حلال، لكنها تتعامل أحياناً بالربا باقتراض الأموال أو إيداعها بفائدة فإنه جائز، نظراً لمشروعية غرضها مع حرمة الإقراض والاقتراض الربوي ووجوب تغيير ذلك والإنكار والاعتراض على القائم به.
__________
(1) شرح الزرقاني لمختصر خليل: 6/41، ومواهب الجليل 5/118.(9/776)
ويجب على المساهم عند أخذ ريع السهم التخلص عما يظن أنه يعادل ما نشأ من التعامل بالفائدة، لصرفه في وجوه الخير".
ثم تلا ذلك قرار فيها للمجمع في الدورة السابعة برقم (65/1/7) لم يزد على عبارة أن الأصل حرمة الإسهام في الشركات التي غرضها الأصلي مباح لكنها تودع أو تقترض بالفائدة ... ومن المقرر في علم أصول الفقه أن عبارة (الأصل كذا) هي أضعف التعابير، لما فيها من الدلالة على أن تطبيقات كثيرة خرجت عما هو الأصل، ولا شك أن الاستثناء أقوى من القاعدة ولذا صح إخراجه منها، ولكن لا بد لكل استثناء من ضوابط وقيود حتى لا يطغى على القاعدة الأصلية، وبعبارة أخرى حتى يندرج في قاعدة أخرى، أو يصبح هو قاعدة مستقلة للحالة الخاصة به.
ثم صدر قرار آخر للمجمع برقم (81/6/8) يدعو لمواصلة البحث، في حكم هذا النوع من الشركات.
وفي ظل قراري المجمع كان لا بد من الاهتمام بالتفصيل وبيان قيود التعامل وإبراز الفروق، لبيان حالة الإباحة المشروطة.
هذا، وإن الأنشطة غير المشروعة قد ينص عليها في وثائق إنشاء الشركات المتعاملة بالمحرمات وقد لا ينص، (وهذا التفصيل لا يحتاج إليه في البنوك الربوية لدلالة الحال المغنية عن النص من جهة؛ ولأن النص يستلزمه الترخيص لها) فإن كان منصوصاً في نظامها على أن لها أن تتعامل في الأنشطة المحرمة التي سبقت الإشارة إليها، أو أن تولد شركات فرعية مخصصة لتلك الأنشطة المحظورة، وقد زاولت ذلك بالفعل (ويعرف هذا من تقاريرها السنوية وميزانياتها المالية) فحينئذ لا يجوز تملك أسهمها ولا تداولها ببيع أو شراء أو وساطة.
وإن لم تكن تلك الشركة زاولت شيئاً من هذه الأنشطة المحظورة، فيجوز تملك أسهمها مع مراقبة تصرفاتها المستقبلية بحيث يتم التخلص مما يمتلك من أسهمها إذا ما أقدمت على مزاولة هذه الأنشطة المحظورة المنصوص عليها في نظامها. وكذلك الحال إذا لم يكن منصوصاً في نظامها على إمكانية التعامل في الأنشطة المحرمة ولكن وقع منها هذا التعامل في حرام كذلك تملك أسهمها. فالعبرة بوقوع التصرف على محل غير معتبر شرعاً سواء سبق القصد إليه أو لم يسبق.
وإذا ظهر ذلك التعامل بالأنشطة المحرمة بعد تملك أسهم الشركة –بأي حال- فإنه يجب التخلص من العائد الناشئ عن الأنشطة المحرمة، مع السعي للخروج من تلك الشركة.(9/777)
إنشاء صناديق وإصدارات الاستثمار
تعريف صناديق الاستثمار:
المراد من صندوق الاستثمار هو وعاء للاستثمار له ذمة مالية مستقلة يهدف إلى تجميع الأموال واستثمارها في مجالات محددة وتدير الصندوق شركة استثمار تمتلك تشكيلة من الأوراق المالية. وذلك من خلال قيام جهة تسمى (الكفيل Sponsor) بشراء تشكيلة من الأوراق المالية (السندات غالباً) أو العمليات بالنسبة للصناديق الإسلامية (التأجير، المرابحات، الاستصناع الموازي، السلم الموازي..) وتقوم بجانب جهة الإصدار (التي ينتهي دورها ببناء التشكيلة) جهات أخرى لكل منها دور خاص: فهناك (الأمين Trustee) الذي يتولى إصدار الشهادات، مع الجهة التي تتعهد بتغطية الإصدار، وكذلك هناك الجهة التي تقوم بالاسترداد والتعهد بإعادة الشراء. فضلاً عن الجهة التي تقوم بالتسويق.
من أجل هذا التعدد الذي يجعل الشكل القانوني لتلك الجهات المختلفة اتحاداً وليس شركة، سمى ما يباع للمستثمر من حصة في الصندوق (وحدة Unit) وليس سهماً عادياً كما هوا لحال في الشركات. وهذا الاتحاد قد يكون عمره محدوداً، بستة شهور (أجل استحقاق السندات المكونة للتشكيلة) أو طويل الأجل بحيث يصل إلى عشرين عاماً.
والسبب في قيام مفهوم (الوحدات بالإضافة إلى (الأسهم) هو الماهية التي تتميز بها صناديق الاستثمار من حيث مناسبتها –في الأصل الغالب- للمستثمرين الذين يملكون مدخرات محدودة، حيث نصح هؤلاء بألا يستثمروا مدخراته في ورقة مالية واحدة (أسهم أو سندات) تصدرها منشأة معينة، فيفضل لهم التنويع الذي يوفر لهم حماية ضد تقلب القيمة السوقية لمكونات تلك التشكيلة. ومثل هذا التنويع قد يصعب على صغار المستثمرين تحقيقه؛ لأنه يلتزم شراء كميات كسرية (أقل من 100 سهم) مما يؤدي لرفع تكلفة المعاملات إضافة لدفع قيمة لشراء الورقة تفوق القيمة التي تشترى بها داخل كمية غير كسرية.. فإذا أريد تطبيق سياسة التنويع هنا، اقتضى ذلك توفير موارد مالية كبيرة، بل حتى من يملكون تلك الموارد يفضلون (الوحدات) على (التشكيلة) أيضاً لعدم امتلاكهم الخبرة أو المعرفة أو الوقت لإدارة مثل تلك التشكيلة الاستثمارية وتحدد لصناديق الاستثمار في العادة مدة زمنية لتصفيتها إذا لم يتفق المشاركون فيها على تمديد مدتها كما أن نوعية أنشطته في الغالب تتصف بالتخصص –أو على الأقل- بالثبات والنمطية (1)
__________
(1) أدوات الاستثمار في أسواق رأس المال. الأوراق المالية وصناديق الاستثمار د. منير إبراهيم هندي 96-98.(9/778)
تعريف إصدارات الاستثمار:
انطلاقاً من الخصائص الأخيرة المشار إليها في صناديق الاستثمار، وهي المدة ونوعية الأنشطة الاستثمارية تتميز الإصدارات الاستثمارية عن الصناديق فهي يتم تحديد مددها بحسب نوع الأنشطة التي يشملها الإصدار فقد تكون مدته بضعة شهور وقد يزيد عن السنة قليلاً ويختلف الإصدار عن الآخر، كما أن الأنشطة لا تتصف بالنمطية في الإصدار، بل تتفاوت بين إصدار وآخر. وتقع تصفية الإصدار تلقائياً عند انتهاء المدة المحددة، فإذا تخلفت بعض الأنشطة تباع إلى إصدار آخر جديد أو تشتريها الشركة الراعية للإصدار وفقاً لضوابط الشراء الشرعية بحسب نوع الموجودات عند الشراء (1)
وفي حين ينقضي الإصدار –أو يصفى الصندوق- فإن الشركة أو الجهة التي تنشئهما لا يرتبط وجودها بهما، فلها وضع مستقل لإنشائها وانتهائها، بحسب عقد تأسيسها ونظامها الأساسي وقرارات مالكيها.
الفرق بين الصناديق والإصدارات:
الإصدارات لا تختلف عن الصناديق الاستثمارية من حيث إن كلا منهما يمثل ذمة مالية مستقلة تهدف إلى تجميع الأموال واستثمارها في مجالات محددة، ويقوم على أساس تجزئة رأس المال الإجمالي للإصدار أو للصندوق للاكتتاب فيه من قبل المشاركين.
كما أن صكوك الأسهم أو الوحدات هي وثيقة تمثل ملكية حصة شائعة في الموجودات الكلية للإصدار أو الصندوق، ويكون للمشاركة جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعاً للمالك في الملك الشائع من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها بما لا يمس حقوق بقية المشاركين.
وتعتبر نشرة الإصدار أو لائحة الصندوق هي الوثيقة المنظمة للعلاقة التعاقدية القائمة بين الجهة المصدرة والمشارك من حيث الحد الأدنى للمشاركة وفترة الاكتتاب وشروط التداول والتخارج. ومن حيث طبيعة الصندوق وأهدافه الاستثمارية من جهة ومكونات الإصدار من جهة ثانية، وكذلك من حيث تحديد نصيب مختلف الأطراف من الأرباح وكيفية توزيعها وغير ذلك.
ولعل الاختلاف الأساسي بين الإصدارات والصناديق ينحصر في كون الأولى غالباً ما تكون قصيرة الأجل لا تستغرق مدة عام، أي لا يحول حول كامل عادة على الأموال المكتتب بها. كما أن الإصدارات تشمل دائماً عمليات استثمارية محددة الخصائص المالية في حين تكون الصناديق مفتوحة وطويلة الأجل بحيث يحول عليها أكثر من حول كما يعد لها مركز مالي دوري يوضح حساب الأرباح والخسائر. (2)
إدارة الصناديق والإصدارات على أساس المضاربة:
تدار غالبية صناديق الاستثمار والإصدارات الاستثمارية على أساس عقد المضاربة ويقوم بدور (المضارب) الشركة المنشئة للصندوق أو الجهة المصدرة للإصدار، حيث تتولى جمع رأس مال المضاربة من حصيلة الاكتتاب في الوحدات الاستثمارية المطروحة حسب الشروط المبينة في نشرات الاكتتاب ويقوم المشاركون في الصندوق والإصدار بدور أرباب المال.
__________
(1) دليل زكاة المشاركات في الصناديق والإصدارات 5-6.
(2) دليل زكاة المشاركات في الصناديق والإصدارات 3-4.(9/779)
والمتبع في صورة المضاربة لإدارة الصندوق والإصدار هي المضاربة المقيدة حيث تشتمل نشرة الإصدار على القيود والشروط التي تحدد مسار الاستثمار من حيث مجاله وكيفيته، وذلك في النظام واللوائح التي يضعها المدير (المضارب) ويبدي استعداده للتقيد بها، (1) ولا أثر لكون مصدر التقييد هو رب المال مباشرة، أو المضارب بموافقة رب المال لأن إسهام المشاركين في وحدات الصندوق أو الإصدار بحسب شروط النشرة هو احتفاظ منهم بقيودها وكأنها صادرة منهم أصالة، وهذا هو الوضع المناسب لكثرة عدد المشاركين إذ ليس بالإمكان استقطاب قيودهم الفردية بما يتعذر معه إدارة المضاربة بما يحقق رغبات الجميع.
وتنعقد المضاربة بإيجاب وقبول شأن بقية العقود، لكن صورة الإيجاب هي الاكتتاب في الصندوق أو الإصدار، والقبول هو موافقة الجهة المصدرة أو المنشئة للصندوق. (2)
هذا ما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي، وهو ينسجم مع الصورة التي تحتفظ فيها جهة الإصدار بحقها في قبول مشاركة المكتتب ورفضها، أما إذا كانت جهة الإصدار قد أعطت للنشرة صفة الإيجاب الموجه للجمهور الملزم لها طيلة فترة الاكتتاب وتخلت عن حقها في إبداء الرأي في قبول المشاركة أو عدم قبولها فإن النشرة تعتبر في حد ذاتها إيجاباً، ويكون القبول هو تقدم المكتتب للمشاركة من خلال توقيع الاستمارة وحده أو اقترانه بتحويل مبلغ المشاركة. وقد ينشأ حينئذ دور آخر للجهة المصدرة للتخصيص إذا كانت كمية الاكتتابات أكبر من الحجم المطروح للاكتتاب، وهو تصرف واقعي ليس فيه تعبير عن إرادة الجهة، بل يمكن أن يعهد به إلى أي جهة أخرى، وربما تم أداؤه عن طريق الحاسب الآلي وفق برنامج معد من البداية.
__________
(1) صناديق الاستثمار الإسلامية 17.
(2) قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 5 للدورة الرابعة بشأن سندات المقارضة.(9/780)
إدارة الصناديق والإصدارات على أساس الوكالة:
ليست المضاربة هي السبيل الوحيد لإدارة الصندوق أو الإصدار، فهي تعتمد حيث تقوم الرغبة لدى المدير والمشاركين في أن يكون مقابل عمل المدير هو حصة شائعة من الربح، وأن تنقطع صلة المشاركين عن الإدارة إلا من خلال ما في اللوائح من تعليمات وقيود في البداية ولكن يمكن أن يصار إلى تحديد مقابل عمل المدير بنسبة من المبالغ يديرها أي بمبلغ مقطوع يستحقه في جميع الأحوال، وهذا ما يتحقق من خلال اعتماد الوكالة بالاستثمار بأجر معلوم. والأصل أن يظل للمشارك (الموكل) دور أكبر من (رب المال) في توجيه عملية الإدارة لكن لا مجال لممارسة هذا الدور بسبب تعلق الوكالة بحقوق الغير وهم بقية المشاركين في الصندوق.
وقد جاء في فتاوى الحلقة الفقهية للبركة النص على إمكانية إدارة الصناديق بكل من المضاربة أو الوكالة فيما يلي:
المسائل المتعلقة بتكوين الصناديق والإصدارات
تنظم العلاقة التعاقدية بين إدارة الصندوق أو الإصدار (سواء كانت على أساس المضاربة أو الوكالة) ما تتضمنه نشرة الاكتتاب فيهما أو نظامها الأساسي أو اللوائح المكملة له. وفي تلك اللوائح تدرج كثير من الأحكام الخاصة بعقد المضاربة (وعقد الوكالة بالاستثمار) إلى جانب الإجراءات الإدارية والتنظيمية والمحاسبية التي تسهم في تحديد تلك العلاقة التعاقدية. وهناك مسائل أساسية تتصل بتكوين الصندوق أو الإصدار، بعيداً عما تتم مزاولته داخلهما من الصيغ الاستثمارية المشروعة، وهي جديرة بالبحث عن مفهومها والتكييف الشرعي لها؛ لأنها تحدد الحقوق والواجبات لكل من المدير والمشاركين. (1)
__________
(1) ينظر كتاب "صناديق الاستثمار الإسلامية" مع مراعاة أن ما جاء فيه اقتصر على الصناديق دون الإصدارات، والفرق بينهما ضئيلة وإجرائية، كما أنه ركز على تأسيسهما على المضاربة دون التعرض لاعتماد الوكالة في إدارتهما لندرة ذلك.(9/781)
أ- تقسيم رأس مال الصندوق أو الإصدار:
يقسم الصندوق إلى وحدات تمثل حصصاً شائعة في رأس المال، وذلك ليتلاءم وضع المضاربة مع تعدد رب المال فيها، وتتحدد ملكية كل مشارك بحسب الحصة المملوكة له على الشيوع. ويساعد هذا على توزيع الربح وتحميل الخسارة؛ لأنهما حسب نظام الصناديق والإصدارات متماشيان مع مقدار الملكية. (1)
ب- مساهمة المضارب في الصندوق أو الإصدار:
لا مانع كذلك من مساهمة الجهة المنشئة للصندوق أو الإصدار في رأس مال الصندوق أو الإصدار ويكون استحقاقها نصيباً من الربح بصفتها مضارباً ونصيباً آخر بمقدار مساهمتهما في رأس المال. والأصل في هذه المساهمة من الجهة أو المشاركين أن تكون بالنقود لكن ليس هناك ما يمنع من تقديم مساهمات عينية ولا سيما من الجهة لبعض العقارات أو المعدات شريطة تقويمها لتحديد القيمة التي تعاد للمشاركة عند انتهاء المضاربة مع ما يتحقق من ربح أو بعد حسم ما يقع من خسارة. (2)
ج- دفع مبلغ المشاركة على أجزاء:
أحياناً يسمح نظام الصندوق بدفع المساهمة على أقساط وبذلك تتحقق مصلحة المشارك بالتيسير عليه وتمكينه من المتابعة وتقويم الأداء ومصلحة الجهة أيضاً بمواكبة السيولة لإمكانات التوظيف. ومما يستحضر هنا أن العبرة بما يدفع فعلاً من المقدار الذي اكتتب به المشارك فيتحمل المخاطر في حدود ما دفع فعلاً وليس بالمقدار الذي اكتتب به. وهذه التجزئة في رأس المال المكتتب به في المضاربة، متفقة مع اتجاه الحنابلة في عدم اشتراط تسليم جميع رأس المال للمضارب، بل تصح لو بقي مع رب المال أو وضعه عند أمين؛ لأن هذا الشرط لا يحول دون عمل المضارب فكلما احتاج لمبلغ أخذه. (3)
__________
(1) قرار المجمع رقم 5 للدورة الرابعة.
(2) قرار المجمع رقم 5 للدورة الرابعة البند/2 العنصر الرابع؛ والمغني لابن قدامة 5/ 112.
(3) المغني لابن قدامة 5/138؛ وشرح منتهى الإرادات للبهوتي 2/446.(9/782)
د- تداول الوحدات الاستثمارية:
يمثل صك الوحدة الاستثمارية ملكية حصة شائعة في الصندوق أو الإصدار، وتستمر هذا لملكية طيلة مدتهما وتترتب عيها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعاً للمالك في ملكه، من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها. (1)
فيحق للمشارك التصرف بالوحدة بالبيع ولكن عليه إعلام (مدير الصندوق أو الإصدار) وله أن يبيع بالقيمة المتراضى عليها بينه وبين المشتري سواء كانت مماثلة للقيمة الاسمية أو السوقية أو أكثر منهما أو أقل.
وقد أشار قرار المجمع إلى جواز تداول صكوك المقارضة بالضوابط الشرعية، وذلك وفقاً لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة الطرفين. (2)
ولا بد من مراعاة الأحكام الخاصة بموجودات الصندوق في كل حين:
- فإذا كان التداول قبل المباشرة في العمل والمال لا يزال نقوداً فإنه تطبق عليه أحكام الصرف؛ لأنه مبادلة نقد بنقد. (ولهذا تمنع لوائح الصناديق التداول خلال الفترة التالية للاكتتاب، أو قبيل تاريخ التصفية) .
- وإذا أصبحت الموجودات ديوناً، تطبق على التداول أحكام تداول الديون.
- وإذا صارت الموجودات مختلطة من النقود والديون والأعيان والمنافع فإنه يجوز التداول وفقاً للسعر المتراضى عليه. ولو بالتفاضل بين الثمن وقيمة الحصة أو بتأجيل الثمن.
وقد اشترط قرار المجمع أن تكون الغلبة للأعيان والمنافع. في حين لم تشترطه جهات الفتوى كندوة البركة وغيرها، (3) واكتفت بعدم اقتصار الموجودات على النقود والديون أخذاً بمبدأ التبعية. فتعتبر النقود والديون تابعة للأعيان والمنافع؛ لأن غرض الصندوق منصب عليها.
__________
(1) قرار المجمع رقم 5 للدورة الرابعة، البند/2 العنصر الأول.
(2) قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 5 للدورة الرابعة، الفقرة الثالثة. والحلقة الفقهية الأولى للبركة الفتوى الخامسة، ونصها: يجوز شرعاً خروج صاحب حصة في صندوق استثماري بالقيمة التي يعرضها الصندوق ويقبلها الخارج، بصرف النظر عن الطريقة المحاسبية التي يصل إليها الصندوق في تقييم هذه الحصة (الفتاوى الشرعية في الاقتصاد 145) .
(3) ندوة البركة الفتوى الثانية (5) ؛ والأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية.(9/783)
هـ- ضمان رأس مال الصناديق والإصدارات:
من أحكام المضاربة –وكذا الوكالة - أن المضارب أو الوكيل لا يضمن ما بيده من الأموال المستثمرة إلا بالتقدير أو التقصير أو مخالفة الشروط التي تقيد بها.
فلا يجوز اشتراط ضمان رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمناً بطل شرط الضمان، واستحق المضارب ربح مضاربة المثل. (1)
ويجوز أن يتطوع المضارب بالضمان منفصلاً عن عقد المضاربة أي بعد تمام العقد، فلا يبنى دخول المشارك على وجود ذلك الضمان. وبذلك أفتى بعض فقهاء المالكية، (2) كما يجوز أن يتبرع طرف ثالث بالضمان لرأس المال شريطة أن يكون الطرف الثالث منفصلاً في شخصيته مستقلاً في ذمته المالية عن طرفي العقد وبدون مقابل، على أن يكون التزاماً مستقلاً عن عقد المضاربة. بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطاً في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو العامل في المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد. (3)
و كيفية حساب نفقات التأسيس ومن يتحملها:
إن تأسيس صندوق استثماري، أو إصدار استثماري يحتاج إلى تخطيط وتنظيم وهيكلة تمهيداً لطرح وحداته، وهذه المصروفات تسمى مصروفات أو نفقات التأسيس، وهي تصرف لمرة واحدة، وتشمل نفقات الترخيص والاستشارات ونحوها. وهي من التحضيرات اللازمة لقيام الصندوق أو الإصدار وتظهر آثارها الإيجابية في إنشائهما وعملهما وتؤثر في نفعها على جميع الأطراف؛ لأنها تمكن في النهاية من تحديد كيفية التعاقد وإطاره ومكانه وزمانه وموضوع النشاط وتنظيم العلاقات المختلفة بين الأطراف وبينها وبين الغير.
__________
(1) المغني 5/191؛ والمبسوط 12/20؛ وتكملة المجموع 14/383؛ والمدونة 4/58؛ وقرار رقم 5 للدورة الرابعة لمجمع الفقه الإسلامي البند/4؛ وفتاوى ندوة البركة الأولى رقم 2، والخامسة رقم 2.
(2) إعداد المنهج صـ 161.
(3) القرار المشار إليه سابقاً(9/784)
وتحمل هذه المصروفات على الصندوق؛ لأن مآلها لصالحه، ولأجله، فهي إما أن يطالب بها المشاركون عند الاكتتاب، وإما أن تحسم من صافي الأرباح التي تتحقق بعدئذ قبل التوزيع فيتحمل أثرها كل من المضارب وأرباب الأموال؛ لأن حسمها من الأرباح يعود بالنقص على الطرفين بنسبة ربح كل منهما. ويكون تقديرها بما صرف فعلاً سواء كان لتغطية جهود الغير أو جهود المضارب نفسه، أي بأجر المثل. وعلى هذا جاءت إحدى فتاوى الحلقة الفقهية الأولى إذ نصت على أنه " يجوز أن تحمل مصروفات إنشاء وتسويق الصناديق والأوعية الاستثمارية على مال المضاربة إذا تضمنتها نشرة الإصدار وكانت مصاريف فعلية محددة بمبلغ معين أو بحد أقصى يذكر في النشرة، فإذا لم تتضمنها نشرة الإصدار كانت هذه المصروفات على المضارب". (1)
مطالبة المنضمين للصندوق لاحقاً بمعادل نفقة تأسيس أو فرق قيمة الوحدة وأين توضع؟
إن المنضمين للصندوق بعد تأسيسه إن كان انضمامهم بالشراء ممن سبقهم فإنهم بدفع القيمة السوقية للوحدة قد تحملوا نصيباً مما حققته أعمال التأسيس من زيادة تلك القيمة، وشراؤهم بهذا التخارج بمثابة حلول محل المالك السابق للوحدة، فلا مسوغ لتحميلهم ما يعادل نفقة التأسيس. أما من ينضم للصندوق بعد التأسيس بالاكتتاب بالوحدات ابتداء، مما يتم إصداره في طرح جديد، بعد أن تكون نفقات التأسيس قد تم تحميلها للمكتتبين في الطرح الأول للوحدات فإنهم يتحملون معادل نفقة التأسيس، أو فرق قيمة الوحدة ما بين القيمة الاسمية والقيمة السوقية، وذلك للتسوية بين المكتتبين الجدد والمكتتبين القدامى، وتوضع المبالغ المتحصلة من معادل نفقة التأسيس وفرق قيمة الوحدة في احتياطي الصندوق، وبذلك يعود نفعها على جميع المكتتبين في الصندوق. (2)
توزيع المصروفات التشغيلية في الصناديق أو الإصدارات:
المصاريف التي تقتضيها الصناديق والإصدارات منها ما يقع عند التأسيس –وقد سبق الكلام عنها- ومنها ما يصرف خلال قيامها بأنشطتها، وفيما يلي بيانها بإيجاز:
من المقرر شرعاً أنه لا ربح إلا بعد استرداد رأس المال وتغطية المصارف، والأصل أن تحمل مصارف التشغيل على الوعاء الاستثماري (الصندوق أو الإصدار) فيكون عبئها على المشارك والمدير؛ لأنها تخرج من الأرباح فتنقص ما يصل إلى الطرفين من ربح وإذا لم يحصل ربح تحسم من رأس المال وهو شأن الخسارة. على أنه إذا كانت المصروفات متعلقة بالمضارب وذلك في كل عمل يجب عليه أن يقوم به فإنها تحمل حينئذ عليه في مقابل حصته من الربح، وهذه المصروفات هي التي تلزم لوضع الخطط ورسم السياسات واختيار مجالات الاستثمار واتخاذ القرارات الاستثمارية ومتابعة تنفيذها وحساب الأرباح والخسائر وتوزيعها، وتشمل مصروفات إدارات الاستثمار والأجهزة التي تعتمد قراراتها وإدارة المتابعة وإدارة المحاسبة. إلا إذا اقتضت طبيعة المضاربة الاستعانة بخبرات في المجالات السابقة التي تلزم المضارب والتي لم تكن متاحة في هيكله الوظيفي وقت الدخول في المضاربة فإن تكلفة هذه الخبرات تكون من وعاء المضاربة. (3)
__________
(1) الحلقة الفقهية الأولى للبركة، رمضان 1412 هـ/ 1992 م؛ والأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية.
(2) الأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية؛ ومحضر هيئة الفتاوى والرقابة الشرعية لشركة النخبة للاستثمارات الدولية.
(3) المبسوط للسرخسي 22/64؛ والمغني 5/153؛ والقوانين الفقهية 280؛ وتكملة المجموع 15/152؛ وندوة البركة الرابعة الفتوى/1 والحلقة الفقهية الأولى للبركة الفتوى/2.(9/785)
ح- اقتطاع الاحتياطي في الصندوق:
الاحتياطي هو جزء من الأرباح، وإذا رضي المضارب والمشاركون في الصندوق بإرجاء توزيع جزء من الربح وتخصيصه لمواجهة مخاطر الاستثمار جاز ذلك. ويتحقق الرضا بالقبول باقتطاعه من خلال الموافقة على لوائح الصندوق، فإذا كان ذلك الاحتياطي لمواجهة حالات الانخفاض في الأرباح عن مستوى معين، جاز أن يقتطع من الربح الإجمالي، لاستفادة المضارب وأرباب المال منه. وإذا كان لحماية رأس المال فإنه يقتطع من حصة أرباب المال في الربح دون حصة المضارب؛ لأنه للوقاية من الخسارة وهي على أرباب المال وحدهم إن وقعت. وقد جاء في ذلك قرار المجمع بشأن سندات المقارضة كما جاء في فتاوى الحلقة الفقهية الثانية للبركة بالتفصيل السابق. (1)
ط- التقويم في الصناديق (التنضيض الحكمي) :
بما أن نشاط الصندوق يستمر سنوات وتمر عليه دورات زمنية متعددة نظراً للطابع الجماعي في المستثمرين والمخارجة بينهم فإن التنضيض الحكمي هو الملائم لهذه الطبيعة وقد اعتبر بديلاً صحيحاً عن التنضيض الفعلي الذي لا يقع إلا عند نهاية مدة الصندوق بالتصفية لموجوداته.
وقد جاء في قرار المجمع بشأن سندات المقارضة أن مقدار الربح يعرف إما بالتنضيض أو بالتقويم للمشروع بالنقد. كما اشترطت فتاوى الحلقة الفقهية الثانية للبركة أن يتم التقويم وفقاً للمعايير المحاسبية المتاحة.
ي- توزيع الأرباح والخسائر في الصناديق أو الإصدارات:
لا بد أن تشتمل لوائح الصندوق أو نشرة الإصدار على كيفية توزيع الأرباح بين المضارب والمشاركين، ويجب أن تكون النسبة معلومة شائعة دون تحديد مبلغ مقطوع لأحد الطرفين أو منسوب إلى مبلغ المشاركة (إلا إذا كانت إدارة الصندوق تتم بطريقة الوكالة فيحدد أجر الوكيل بمبلغ مقطوع أو بنسبة من مبلغ المشاركة) . والربح على ما يتفق عليه الطرفان بأي معادلة كانت ما دام لا يقطع المشاركة في الربح، وأما الخسارة فهي على أرباب المال بمقدار حصصهم في رأس المال.
وتوزيع الربح إما أن يكون نهائيًّا فيشترط له التقويم الحكمي على ما سبق وإما أن يكون تحت الحساب فيعاد النظر فيه، وغالباً ما يكون ذلك في المضارات التي فيها أصول تدر دخلاً. وإذا بِيعَ الأصل بعدئذ بأقل من ثمن شرائه فإن هذا النقصان يجبر من الموزع تحت الحساب، وقد نص على ذلك قرار المجمع في سندات المقارضة وجاء في إحدى فتاوى ندوات البركة والحلقة الفقهية الأولى للبركة. (2)
__________
(1) قرار المجمع رقم 5 للدورة الرابعة البند/8؛ وفتاوى الحلقة الفقهية الثانية للبركة فتوى رقم/2.
(2) قرار المجمع رقم 5 للدورة الرابعة البند/7؛ وندوة البركة السادسة فتوى/9؛ والحلقة الفقهية الأولى للبركة فتوى/ 4.(9/786)
ومستند التوزيع طبقاً للتنضيض الحكمي (التقويم) هو أن الرجوع للقيمة هو مبدأ شرعي في كثير من التطبيقات وإن التقويم الدقيق يؤدي إلى معرفة الربح كما لو تمت التصفية. وأما في حالة التوزيع تحت الحساب فهو يستند إلى مبدأ جبر الخسارة بين مراحل المضاربة في حال عدم القسمة النهائية (المفاصلة) . (1)
ك- تسويق الوحدات الاستثمارية في الصناديق أو الإصدارات:
إن الجهة المنشئة للصندوق أو الإصدار لكي توسع من دائرة تداول الوحدات الاستثمارية تستعين ببعض المؤسسات المالية للإسهام معها في تسويق تلك الوحدات، مما يؤدي إلى إبراز ورقة مالية إسلامية فيها إمكانية السيولة، بالإضافة إلى الربح والأمان. حيث تتولى تلك المؤسسات البحث عن الراغبين في استثمار أموالهم في الوحدات المطروحة من خلال عدة مهام تقوم بها في هذا المجال، بصفتها وكيلة عن الجهة المنشئة للصندوق أو الإصدار بعمولة ومتفق عليها هي أجر الوكالة. وهذه العمولة تحمل على الصندوق أو الإصدار باعتبارها من المصاريف المتعلقة بالمضاربة. وقد جاء النص على ذلك في الحلقة الفقهية الأولى للبركة. (2)
ل- إيجاد العمليات للصندوق أو الإصدار:
بالإضافة إلى الفرص الاستثمارية التي تعرض مباشرة على الجهة المنشئة للصندوق أو الإصدار فإنها تشجع بقية المؤسسات المالية على البحث عن عمليات مناسبة لإصدارها في صناديق استثمارية وطرحها للاكتتاب العام. وفي الغالب لا تنشأ العلاقة من تعاقد متزامن، بل من خلال إيجاب موجه إلى المؤسسات المالية للبحث عن عمليات استثمارية تتمثل في رغبات مستثمرين في شراء أو استئجار معدات أو غير ذلك من الصيغ الاستثمارية المشروعة، وتنطبق مواصفاتها مع الشروط المعلنة بشأن المبالغ والمدد والربح المتوقع والضمانات.
هذا، وإن الإيجاب الموجه هو شطر من عقد جعالة يكتمل بإنجاز المؤسسة المالية العمل المستهدف منها وعقد الجعالة هي اتفاق على إنجاز عمل مجهول لكنه مربوط بالنتيجة لقاء أجر معلوم، وهو مما أخذ به جمهور الفقهاء خلافاً للحنفية. (3)
ومن الجدير بالبيان أن تمكين الجهة المنشئة للصندوق أو الإصدار من الانتفاع بالعملية المعروضة مشروط بأن لا يكون محلها ديوناً فقط، كالمرابحات بعد إبرامها، ولكن من قبيل السلم الموازي والاستصناع الموازي، والتأجير (بامتلاك العين المؤجرة) . (4) كما يمكن تسويغ ذلك كله إذا سبق توكيل المؤسسة المالية العارضة للعملية ليكون تصرفها واقعاً منذ البداية لصالح الجهة المعروض عليها.
__________
(1) المغني لابن قدامة 5/169، 176؛ ومغني المحتاج 2/318؛ والمبسوط 22/501.
(2) الفتوى الأولى من فتاوى الحلقة الفقهية الأولى للبركة.
(3) المغني 2/656؛ وبداية المجتهد 2/235؛ والفقه الإسلامي وأدلته 4/784.
(4) الموسوعة الفقهية – الكويت 9/175؛ والفقه الإسلامي وأدلته 4/432؛ وبداية المجتهد 2/146؛ وغاية المنتهى 2/80.(9/787)
م- التعهد بتغطية كامل رأس المال في الصناديق:
من المتبع عند إنشاء أو إصدار رغبة الجهة المنشئة في تأسيسها في وقت محدد وإدارتهما طبقاً للشروط المبينة في نشرة الاكتتاب، من أجل هذا تسعى إلى تأمين تغطية كاملة لرأس مال الصندوق أو الإصدار من قبل مؤسسة مالية أخرى مستعدة لذلك التعهد الذي يتطلب منها توفير السيولة وتستهدف منه الحصول على نصيب من الربح أو على أجر معين.
وبما أن التعهد الذي هو بمثابة ضمان لا يجوز تقاضي عمولة عنه فإن تنفيذ ذلك يتم من خلال عملية بيع من الجهة المنشئة للصندوق أو الإصدار لمكانتهما المشتملة على أعيان ومنافع وذلك بسعر أقل من القيمة الاسمية لتحقيق ربح للجهة المتعهدة بالتغطية، وبعد التملك من تلك الجهة تقوم توكيل الجهة المنشئة للصندوق أو الإصدار بالبيع والتسويق ولا يقع في هذه العملية أي اشتراط لعقد في عقد، وإنما تجري خطواتها تبعاً لتفاهم وإجراءات معهودة، فهناك عقد بيع تام ثم توكيل مستقل بإصدار سلة العمليات في صندوق استثماري وطرحه للاكتتاب العام وتسويقه بالسعر الاسمي. (1)
ن- أحكام التخارج في الصناديق أو الإصدارات:
التخارج: خروج الشريك عن ملكه إلى صاحبه بالبيع، والأصل فيه تصالح الورثة على إخراج بعضهم بشيء معلوم، أو إخراج الموصى له بشيء من التركة. ويختلف عن الصلح الذي هو أعم لشموله المصالحة في الميراث وغيره، كما يختلف عن القسمة التي يقع فيها أخذ جزء من المال المشترك نفسه في حين أن التخارج يؤخذ في شيء معلوم من التركة أو غيرها.
والتخارج مشروع؛ لأنه من قبيل الصلح، ويعتبر عقد بيع إن كان البدل المصالح عليه شيئاً من غير التركة، ويعتبر عقد قسمة ومبادلة إن كان البدل المصالح عليه من مال التركة، ويعتبر عقد هبة وإسقاطاً للبعض إن كان البدل المصالح عليه أقل من النصيب المستحق. ويصح التخارج لو كان محله مجهولاً عند الحنابلة، وكذلك الحنفية فيما لا يحتاج إلى قبض. لكن لا بد أن يكون البدل متقوماً معلوماً منتفعاً به مقدوراً على تسليمه، ويجب التقابض في المجلس فيما يعتبر صرفاً، كالتخارج عن أحد النقدين بالآخر، كما تراعى أحكام بيع الدين إذا كان للتركة دين على الغير. (2)
__________
(1) لقد جاء في قرارات هيئة الفتوى والرقابة لشركة التوفيق للصناديق الاستثمارية وشركة الأمين للأوراق المالية بيان هذا التكييف الشرعي المبين أعلاه.
(2) فتح القدير 7/375، 409؛ ابن عابدين 4/472؛ الدسوقي 3/309؛ البدائع ونهاية المحتاج 4/376؛ والمغني 4/542؛ وشرح منتهى الإرادات 2/262 (الموسوعة الفقهية – الكويت 11/3 –16) .(9/788)
ومن هذه البيانات الأساسية عن التخارج يعرف أن مؤداه بيع المشارك حصته المتمثلة في عدد من الوحدات الاستثمارية إلى آخر سواء كان مشاركاً في الصندوق أو الإصدار أو من غير المشاركين. وقد نظمت أحكام التخارج من الصناديق والإصدارات عدة فتاوى في الحلقات الفقهية للبركة يجزئ الاكتفاء بها بالإضافة إلى ما جاء في قرار المجمع بشأن المقارضة الذي سبقت الإشارة إليه. (1)
ففي الحلقة الأولى، الفتوى (5) : يجوز شرعاً خروج صاحب حصة في صندوق استثماري، بالقيمة التي يعرضها الصندوق ويقبلها الخارج بصرف النظر عن الطريقة المحاسبية التي يصل إليها الصندوق في تقييم هذه الجهة.
وفي الحلقة الثالثة، الفتوى (2) : يجوز تخارج أحد العملاء أو أحد المصارف في التمويل المصرفي المجمع قبل تصفية العمليات بالقيمة التي يتفق عليها، إذا كانت النقود والديون قليلة بحيث تعتبر تابعة للأصول، وأما إذا كانت النقود والديون كثيرة بحيث لا تعتبر تابعة للأصول فلا يجوز التخارج إلا بمراعاة أحكام الصرف وأحكام بيع الديون.
وفي الحلقة الرابعة، الفتوى (8) : التخارج عبارة عن بيع حصة في أعيان مشتركة بالشيوع على سبيل التسامح في تكافؤ المبيع مع الثمن، وهو من قبيل الصلح، ومع أن الأصل تطبيقه في التركات فإن الحاجة تدعو إلى تطبيقه في الشركات، فيجوز التخارج بين الشركاء في الحسابات الاستثمارية أو الصناديق مع مراعاة الضوابط الشرعية المطلوبة في بيع النقود والديون، فإذا كانت الحصة المتخارج عنها تمثل أعياناً مع النقود والديون جاز التخارج عنها بأي بدل ولو بالأجل. (2)
س- أحكام الاسترداد أو التعهد بإعادة الشراء في الصناديق والإصدارات:
تقوم الجهة المنشئة للصندوق أو الإصدار عند طرحها للوحدات الاستثمارية بالتعهد بإعادة شرائها عند الطلب بالسعر الذي تقومها به في مواعيد دورية معينة، ويسمى هذا التعهد (الاسترداد) لما فيه من رد الوحدة إلى مصدرها وقد يحصل التعهد عن طريق مؤسسات مالية أخرى، وفي كلتا الحالتين يتطلب الاسترداد والتعهد بإعادة الشراء توفير السيولة عند الطلب مما يقتضي الحصول على ربح من العملية. كما أن هذا التعهد ملزم لمن صدر عنه طيلة الوقت المحدد له، أي خلال مدة الصندوق، وقد تحفُّ به شروط وضوابط لتحديد الظروف الملائمة له ورسم الأولويات عند زيادة الطلب على الاسترداد.
وقد أقر المجمع قيام الجهة المصدرة في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب موجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء الصكوك بسعر معين مع الاستعانة في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقاً لظروف السوق والمركز المالي، كما أقر الالتزام بهذا من غير الجهة المصدرة. وجاء في فتاوى ندوة البركة الثانية نحو هذا.
ولا مانع من وقوع الشراء بالقيمة السوقية وكذا الاسمية من غير أن يلتزم بها إذا كان التعهد من الجهة المصدرة، لئلا يترتب عليه ضمان الأصل مع الحصول على الربح، أما إن كان من جهة أخرى فيسوغ التعهد بالشراء بالقيمة الاسمية؛ لأنه من ضمان الطرف الثالث. (3)
الدكتور عبد الستار أبو غدة
__________
(1) القرار رقم 5 للدورة الرابعة، العنصر الثالث في ضوابط التداول؛ والبند/3 في التداول باسترداد الجهة المصدرة أو إعادة الشراء من جهة أخرى.
(2) الفتاوى الشرعية في الاقتصاد، ندوات وحلقات البركة.
(3) قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 5 للدورة الرابعة، العنصر/3؛ والموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 5/1/420؛ وعمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية 312؛ ومحضر الاجتماع الثاني لهيئة الفتوى والرقابة الشرعية لشركتي التوفيق والأمين، والأجوبة الشرعية 1/ فتوى 46.(9/789)
أهم مراجع البحث
أولاً- من المراجع المتخصصة في الموضوع:
- أدوات الاستثمار في أسواق رأس المال، د. منير إبراهيم هندي، نشر المعهد العربي للدراسات المالية والمصرفية 1993.
- صناديق الاستثمار الإسلامية، إعداد عز الدين خوجه، مراجعة د. عبد الستار أبو غدة، نشر مجموعة دلة البركة 1993.
- الادخار والاستثمار، بيار وماري براديل، ترجمة نهاد رضا. ط. الأنوار بدمشق 1966.
- الاستثمار والتمويل، د. سيد الهواري، نشر مكتبة عين شمس 1982.
- الاستثمار الناجح في الأسهم، د. عيد مسعود الجهني.
- منهج الادخار والاستثمار في الاقتصاد الإسلامي د. رفعت السيد العوضي، نشر الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية 1980.
- عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية د. أحمد محيي الدين، نشر بنك البركة الإسلامية للاستثمار – البحرين 1986.
- الأسهم والسندات من منظور إسلامي، د. عبد العزيز الخياط، نشر دار السلام بالقاهرة 1989.
- الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية ج 6 (الاستثمار) د. سيد الهواري، نشر الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية 1982.
- دليل المصطلحات الفقهية الاقتصادية، بيت التمويل الكويتي 1992.
- أدوات الاستثمار الإسلامي، إعداد عز الدين خوجة، مراجعة د. عبد الستار أبو غدة نشر مجموعة دلة البركة، 1992.
- الأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية 1-2، د. عبد الستار أبو غدة، نشر مجموعة دلة البركة 1992- 1993.
- الفتاوى الشرعية في الاقتصاد، لندوات وحلقات البركة، نشر مجموعة دلة البركة 1995.
- دليل زكاة المشاركات في الصناديق والإصدارات، إعداد عز الدين خوجة، مراجعة د. عبد الستار أبو غدة، نشر مجموعة دلة البركة 1995 م.
- النشاط الاقتصادي في ضوء الشريعة. د. غريب الجمال، نشر دار الأمانة.
- الاستثمارات المالية الإسلامية، علي البدري أحمد الشرقاوي.
- أساسيات العمل المصرفي، الواقع والآفاق، د. عبد الحميد البعلي، 1990.
- المدخل لفقه البنوك الإسلامية، د. عبد الحميد البعلي، نشر المعهد الدولي للبنوك والاقتصاد الإسلامي 1983.
- ضوابط الإنتاج في الإسلام، د. عرفة المتولي سند، مجلة الدراسات، مركز صالح كامل بجامعة الأزهر.
- الأنشطة المصرفية وكمالها في السنة النبوية، د. حسن العناني.
- معجم مصطلحات الفقهاء، د. نزيه حماد، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1992.
ثانياً- من المراجع الفقهية العامة:
- الموسوعة الفقهية، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - الكويت.
- موسوعة الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي. نشر دار الفكر.
- حاشية ابن عابدين.
- بداية المجتهد، لابن رشد (الحفيد) .
- بدائع الصنائع، للكاساني.
- المغني، لابن قدامة.
- شرح منتهى الإرادات، للبهوتي.
- مغني المحتاج، للخطيب الشربيني.
- نهاية المحتاج، للرملي.
- المدونة، لسحنون.
- الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي.
- المهذب، للشيرازي.
- الأموال، لأبي عبيد.
- إعداد المهج شرح المنهج (منظومة الزقاق) .
- المجموع شرح المهذب، وتكملته.
- القوانين الفقهية، لابن جزي.
- المبسوط للسرخسي.
- غاية المنتهى.
- الدسوقي علي الدردير شرح مختصر خليل.
ثالثاً – من المراجع الأخرى:
- تفسير الكشاف، وتفسير القرطبي.
- جمع الفوائد في الجمع بين جامع الأصول ومجمع الزوائد للروداني.
- لسان العرب، والمعجم الوسيط، وقاموس المورد، دار العلم للملايين 1970.(9/790)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع هذه الجلسة المسائية المباركة –بإذن الله تعالى- هو الموضوع الرابع (الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية) ، والعارض هو فضيلة الشيخ علي محيي الدين القره داغي، والمقرر هو الأستاذ منذر قحف.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين. وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه إلى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم،
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعل يومنا هذا خيراً من أمسنا، وغدنا خيراً من يومنا، واقبلنا في عبادك المخلصين يا رب العالمين.
أيها الأستاذة الأجلاء، أحييكم بتحية الإسلام فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
موضوعنا في هذه الجلسة موضوع اقتصادي معاصر حديث، ألا وهو موضوع (الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية) ، والبحوث المقدمة ثلاثة بحوث لثلاثة باحثين هم:
فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة، وسعادة الدكتور منذر قحف، والفقير إلى الله –سبحانه وتعالى- علي القره داغي. وأنا ألخص هذه البحوث الثلاثة وما يتضمنها من آراء بكل دقة وأمانة –إن شاء الله- ثم نعرض الأمر على المجمع الموقر ليرى فيه الأصلح والأنسب الذي لا يتعارض مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
تناولت البحوث الثلاثة تعريف الاستثمار وهو استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات والمواد الأولية، وإما بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات.
وقد توسع الأستاذ الدكتور عبد الستار أبو غدة في تعريف الاستثمار فذكر الاستخدامات المختلفة لمفهوم الاستثمار منها: الاستثمار بمعنى توظيف للنقود لأي أجل أو لأجل طويل نسبيًّا، أو في أوراق مالية ومنها الاستثمار بمعنى الإنفاق الرأسمالي وغير ذلك. كما قام الأخ الدكتور منذر قحف بتعريف الادخار –أيضاً- فقال: إن الادخار هو عزل جزء من الدخل عن الاستهلاك، أو هو امتناع عن الاستهلاك.(9/791)
وقد تطرق بحثي مع بحث فضيلة الدكتور عبد الستار إلى حكم الاستثمار التكليفي ولكنهما اختلفا. فذهب الدكتور عبد الستار إلى أن الاستثمار يكون واجباً إذا كان هو الوسيلة لنمو ماله للوفاء بحاجة الإنسان ومن يعيلهم، وأما الاستثمار بمعناه العرفي الشائع –أي تنمية المال - حكمه الإباحة عنده أو الندب. في حين ذهبت إلى اختيار القول: بأن الاستثمار في مجموعه واجب، أو بعبارة الفقهاء إنه من فروض الكفايات، فقد لاحظت متطلبات الأمة أيضاً مع الفرد كما لاحظ فضيلة الدكتور متطلبات الفرد فقط. ومعنى كلامي: أن وجوب الاستثمار ليس متعيناً في حد ذاته إلا إذا كان هو الوسيلة للوفاء بقضاء حاجياته والتزاماته؛ وذلك لأن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة تدل على أهمية المال وتقديمه على الأنفس في أكثر من آية، وجعلت هذه النصوص المال قياماً للمجتمع {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5] ، والقيام كما يقول اللغويون أي أن الأمة لا تقوم إلا بالمال ولا تنهض ولا تتحرك إلا بالمال، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما أن قوله تعالى في هذه الآية: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5] حيث استعمل لفظ (فيها) ولم يقل (منها) يدل بوضوح –كما قال بعض المفسرين – على وجوب الاستثمار، حيث يدل على أن تكون نفقة هؤلاء في هذه الأموال في الأرباح المحصلة من الاستثمار وليست من رؤوس الأموال نفسها.
قال الإمام الرازي: اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال وذكر مجموعة من الآيات، ثم قال: والعقل يؤيد ذلك؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال. ثم قال: وإنما قال: (فيها) ولم يقل: (منها) لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا أموالهم رزقاً لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانًا لرزقهم بأن يتحروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح، لا من أصول الأموال. انتهى كلام الإمام الرازي.
ويدل على ذلك الحديث الثابت الذي رواه الشافعي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ابتغوا في مال اليتيم)) وفي رواية: ((في أموال اليتامى)) – ((لا تذهبها)) - وفي رواية أخرى ((لا تستهلكها الصدقة)) قال البيهقي والنووي: إسناده صحيح ولكنه مرسل معضد بعموم النصوص الأخرى، وكذلك بما صح عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم. ورواه الطبراني بسند متصل عن أنس بلفظ: ((اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة)) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: قال شيخي وسندي الحافظ العراقي: إن إسناده صحيح.(9/792)
إضافة إلى آيات وأحاديث أخرى ذكرتها في البحث. كما يدل على الوجوب الكفائي قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] . في حين أن فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة رد على بعض أدلة الوجوب كما هو في البحث.
ثم تناولت البحوث الثلاثة المعالم والضوابط الأساسية للمنهج الإسلامي في الاستثمار. فذكر فضيلة الدكتور قحف المنهج الإسلامي في الاستثمار مبيناً أن الإسلام إذ يشجع على الاستثمار ويؤكد على التربية الروحية والنفسية والأخلاقية التي تزيد في كفاءة الإنسان وقدرته الإنتاجية فلا يكون كلًّا عاجزاً بل يضع ضوابط للاستثمار حيث يحرم الاستثمار في إنتاج الخبائث، كما يحرم استعمال الأساليب المحرمة كالرشوة والكذب والغش، إضافة إلى حرمة الإسراف والإتلاف وإضاعة الموارد، كما أن المنهج الإسلامي في الاستثمار بعيد عن العبث، كما أنه مرتبط بالآثار الجانبية للاستثمار.
وأما بحث فضيلة الدكتور عبد الستار، وكذلك بحثي، فقد ذكرا الضوابط من حيث إن منهج الاستثمار مرتبط بالجانب العقدي، أي أن هنالك التزاماً عقائديًّا لا ينفصل عنه الاستثمار، حيث إن العقيدة الإسلامية هي المهيمنة على الفكر الاقتصادي الإسلامي، وفي منهج الاستثمار وفي أدواته ووسائله وآلياته. فالمسلم يعتقد أن المال مال الله، وأنه مستخلف فيه، ولذلك عليه أن يسير على ضوء منهج الله تعالى في تعمير الكون، فقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61] ، حيث طالبهم بالعبادة لله وتوحيده توحيداً مطلقاً في:
أولاً: بين أن الذي أمرهم بالوحدانية هو الذي أمرهم باستعمار الأرض وتعميرها وهو ذلك الإله الواحد القهار، ثم طلب منهم الاستغفار والتوبة إليه. ولأجل هذا الربط العقائدي يجيب الله –سبحانه وتعالى- في مسألة الربا بهذا الجواب فيقول: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، فربط الله –سبحانه وتعالى- المسألة بتحليل الله –سبحانه وتعالى- وتحريمه، ولم يبين الفرق بين البيع وبين الربا رغم أن الفرق واضح جدًّا وإنما أسند الأمر إلى الله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فمن كان مؤمناً يحل البيع ويحرم الربا مهما كانت الظروف وكيف كانت هناك تظهر مصالح موهومة عند بعض الناس. فربط المسألة إذن ربطاً عقائديًّا محكماً، ولأجل هذه العقيدة يتيقن المؤمن أن الربا الذي في ظاهره الزيادة أنه محق للبركة، وأن الصدقة التي هي نقص أنها زيادة، {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} هذا هو المعلم الأول الأساسي لمنهج الإسلام في الاستثمار.
ثانياً: ومن أهم معالم المنهج الإسلامي في الاستثمار قيامه على القيم والأخلاق والمبادئ من العدالة وعدم الظلم والغش والكذب ونحوها. ومن معالمه أيضاً قيامه على التنافس الشريف وإتاحة الفرصة للجميع لكن مع حماية الضعفاء بإعطائهم حق الخيار، ولذلك كانت حماية السوق منوطة بسلطة شعبية تتمثل في نظام الحسبة والرقابة الذاتية والشعبية. أيضاً، ومن هذه المعالم ضبط الصراع الاجتماعي وكذلك تحقيق التنمية وتوجيه وتخطيط الاستثمار من خلال عدة وسائل معينة.(9/793)
وبعد هذه المقدمات الممهدات دخلت البحوث الثلاثة في عالم الأسواق المالية، كل بطريقته، حيث إن الاستثمار في الأسواق المالية يتم عن طريق شراء وبيع أوراق وحقوق مالية، ويكون العائد فيها ناشئاً إما عن ارتفاع سعر الورقة أو الحق في السوق، وإما عن ما يترتب على تملكها من إيرادات. وأما الخسارة فهي كذلك بسبب هبوط السعر أو خسارة الشركة نفسها. وأما أنواع الأوراق والحقوق المتداولة فهي كثيرة فمنها: الأسهم والسندات، وحصص صناديق الاستثمار المتخصصة، وصكوك العقارات المؤجرة، إضافة إلى الأوراق التي تمثل حقوقاً مالية محددة مثل شهادة حق شراء السهم، والاختيارات، وأسهم التمتع، وكذلك أوراق تمثل مديونية محضة مثل سندات الحكومة والشركات وسندات الخدمات وغيرها. وقد توسع سعادة الدكتور منذر في هذه المجالات بينما انحصر بحثي وبحث فضيلة الدكتور عبد الستار على موضوع الأسهم والوحدات الاستثمارية. وموضوع البحث هو الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية.
أما الأسهم فهي جمع سهم، وهو صك يمثل جزءاً من رأس مال الشركة يزيد وينقص تبع رواجها، أو هو نصيب المساهم في شركة الأموال. وقد ذكرت البحوث الثلاثة التفاصيل حول مميزات الأسهم، وخصائصها، وأنواعها، من سهم نقدي وسهم عينين، والسهم الممتاز، وغير ذلك لا نذكرها حيث إن أساس البحث ليس في هذه الموضوعات.
كما أن بحث الدكتور علي القره داغي أثار بعض الملاحظات من المانعين لفكرة الأسهم مطلقاً لا داعي لذكرها أيضاً بعد صدور قرار مجمعنا الموقر في دورته السابعة بإباحة الشركات المساهمة من حيث المبدأ؛ لأن موضوع البحث أيضاً في الاستثمار في الأسهم وكيفية الاستثمار فيها، وفي الاستثمار في الوحدات الاستثمارية. وقد ذكر بحث الدكتور منذر قحف –حفظه الله- كيفية الاستثمار في الأوراق المالية والوحدات الاستثمارية، في حين اقتصر بحث فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة، وعلي القرة داغي على كيفية الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية. وأما كيفية الاستثمار في الأسهم فتتم عن طريق شرائها من خلال الأسواق أو غيرها، ثم التربص انتظاراً للحصول على عوائدها وارتفاع أسعارها لبيعها بالسعر الأعلى. فشراء الأسهم قد يكون لأجل الحصول على الربح الموزع على المساهمين، وقد يكون للحصول على فرق الأسعار، بل الاستثمار في الأسهم يستهدف إلى تحقيق هدفين معاً هما: الزيادة من خلال الدورة الناتجة من نشاط الشركة، وكذلك الارتفاع في قيمة الأسهم السوقية.(9/794)
ومما أكد عليه بعض البحوث أن الأسهم إذا كانت تمثل النقود أو أن الشركة لم تبدأ بالعمل لا بد أن تطبق عليها قواعد التصرف المعروفة. وذكر الدكتور منذر أنه في أسهم الصناديق التبادلية والصناديق الاستثمارية المغلقة التي يتم تداولها في الأسواق يكون الاسترباح بارتفاع سعر السهم فقط؛ لأن هذه الصناديق لا توزع أرباحاً وإنما ترتفع قيمة السهم لارتفاع قيمة محفظتها، وتنخفض بانخفاضها. وقد ذكر الدكتور منذر في القسم الثالث القضايا الشرعية التي يثيرها الاستثمار فذكر قرارات وفتاوى بهذا الصدد.
ثم الاستثمار في الأسهم كما أنه قد يكون عن طريق الشركات نفسها وقد يكون عن طريق الأسواق بما فيها من بيع آجل وعاجل واختيارات ونحوها، وقد صدرت في ذلك قرارات طيبة من مجمعنا الموقر لذلك نذكر أهم هذه القرارات المتعلقة بموضوع الاستثمار ومتعلقاته للتذكير.
فمن هذه الفتاوى في الزيادة أو الفائدة مقابل تأجيل دين حل –أو على القرض - منذ بداية العقد ربا محرم شرعاً. كذلك ذكرت هذه القرارات وجوب الزكاة في الأسهم على أصحابها، وتحدثت هذه القرارات الصادرة من مجمعنا الموقر أن أسهم المقارضة جائزة بشروطها الشرعية التي ذكرها قرار المجمع قرار رقم 5، دورة المؤتمر الرابع، وهو: يجوز تداول أسهم المقارضة إذا غلبت الأعيان والمنافع على مال القراض فإن غلبت النقود أو الديون كان التداول حسب الأحكام الشرعية التي تراعي الشروط الشرعية لتداول النقود أو الديون.
لا يجوز ضمان المضارب لرأس مال المضاربة أو ربحه.
تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة وذات مسؤولية محددة أمر جائز، ويحرم الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم والأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات كالربا، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.
لا مانع شرعاً من إصدار أسهم للحامل وتداولها.
لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح أو تقديمها عند التصفية أو عند توزيع الأرباح، ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية.
أيضاً قرار آخر: يجوز بيع السهم أو رهنه بشروطه.(9/795)
قرار آخر: عقود الاختيارات غير جائزة؛ لأن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعة ولا حقًّا ماليًّا يجوز الاعتياض عنه. إن حسم الأوراق التجارية غير جائزة شرعاً؛ لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم.
بعض هذه القرارات الصادرة بخصوص الأسهم موضوع بحثناه ثم إن المنهج الإسلامي في الاستثمار هو أن يكون الاستثمار بقصد الاسترباح من إنتاج الطيبات والمنافع، ولذلك لا مكان للمجازفات والمقامرة في الاستثمار الإسلامي كما يحدث في البورصة الحالية من اختيارات وعقود مستقبلية تباع العقود نفسها حتى صار الوهم –كما يقول الدكتور منذر – هو العامل الرئيسي في تغييرات أسعار الأسهم، حيث تربح أو تخسر آلاف الملايين في ساعات قلائل، كما صارت الكميات التي يتم بيعها وشراؤها في سوق الأسهم يوميًّا تفوق في أحيان كثيرة أعداد الأسهم التي تشكل رساميل الشركات المسجلة في البورصة. فلا شك –أيها الإخوة الأجلاء- أن هذه المجازفات على أسعار الأسهم لا تتفق مع المنهج الإسلامي في الاستثمار، وبالتالي لا بد من وضع قيود على أسواق الأسهم إذا أجزنا الاستثمار في الأسهم في الأسواق حيث تقتصر المبايعات على الجدية والمعاملة الحقيقية، وذلك من خلال فرض قيود على البيع مثل اشتراط التسجيل ونحوه وتقليل حجم الائتمان الذي ينصرف لتمويل شراء الأسهم، وعدم السماح بإعطاء أسعار للأسهم في السوق إلا بصورة دورية عقب نشر البيانات المالية الدورية عن الشركة، وغير ذلك من الإجراءات التي تهدف إلى اقتصار التعامل على الراغبين بالدخول في ذلك الميدان من ميادين إنتاج الطيبات والمنافع أو الخروج منها.
وبعد ذلك ننتقل إلى موضوع يعتبر موضوعاً في غاية من الأهمية وهو حكم الاستثمار في أسهم الشركات مع ملاحظة أنشطتها. يكاد يكون من المتفق عليه من الجميع اليوم أنه تجوز المساهمة في الشركات التي يكون نشاطها حلالاً وينص نظامها الأساسي على الالتزام بأحكام الشريعة الغراء كما هو الشأن في البنوك الإسلامية، أو أن هذه الشركات حصل التوافق بين تصرفاتها وبين قواعد الشريعة ولم يصدر منها مخالفات معروفة وإن لم يكن هناك نص في نظامها الأساسي. فالاتجار أو المساهمة أو الاستثمار في أسهم هذه الشركات من المتفق عليه أن الاستثمار فيها جائز. وكذلك من المتفق عليه أنه يحرم الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم كالبنوك الربوية والشركات التي يكون نشاطها التعامل بالمحرمات كالخنزير والخمر ونحوهما. وبهذين الأمرين صدر قرار من مجمع الفقه الموقر كما تلوته على مسامعكم الكريمة قبل قليل.(9/796)
ولكن الذي ثار فيه الخلاف الكبير هو المساهمة في الشركات التي غرضها الأساسي حلال، ومعظم موجوداتها حلال، ولكن في موجوداتها ما هو حرام، أو أنها قد تودع أو تقترض بالربا مع أن النشاط الجزئي المحرم ليس هدف الشركة، فما الحكم في الاستثمار في أسهمها بالبيع والراء والمساهمة؟ ففي الواقع أن بحث الدكتور منذر اكتفى بإثارة عدة أسئلة مهمة ثم ألقى بالكرة في مرمى الفقهاء وفي مرمى المجمع ليجيب عنها المجمع الموقر، ولأهمية أسئلته نذكر بعضها وهي: هل لنية المستثمر من تأثير في الحكم الشرعي؟ وهنا يمكن النظر إلى عدد من الحالات منها:
أ- أن يشتري أسهماً في شركة تتعامل بالربا بنية تحويلها إلى مؤسسة إسلامية لا تتعامل بالحرام مطلقاً مع القدرة على ذلك عند المساهمة، أو مع توقع القدرة على ذلك بعد مرور وقت معين، أو بدون توقع القدرة على التحويل مع بقاء نيته.
ب- أن يساهم في شركة نشاطها الأساسي من المباحات، ولكنه يختلط بالحرام لأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو قانونية أحياناً، نحو إنشاء مسابح أو دور للرياضة في بلد لا يسمح بفصل النساء عن الرجال، أو أن الفصل يؤدي إلى فشل المشروع من الناحية الاقتصادية. وذلك بقصد التعرف على هذا الفن ومعرفة هذه الصناعة من أجل إقامة مثيل لها يخلو من الحرام، ونحو ذلك أن ينتج أفلاماً سينمائية فيها بعض المناظر والأفكار المحرمة بقصد تعلم هذه المهنة ومعرفة خباياها من أجل إنتاج أفلام سينمائية ليس فيها من المحرمات شيء.
ج- أن يساهم في شركة نشاطها الأساسي مباح ولكنه يختلط بالحرام من أجل مخاطبة جمهور من المستهلكين بقصد دعوتهم إلى الإسلام مثل الإذاعة التي تذيع بعض البرامج الفاسدة بقصد إسماع من يتعشقون هذه البرامج شيئاً من النصح والموعظة الحسنة للتدرج بهم على طريق الخير.
هل لظروف الاستثمار من تأثير في الحكم الشرعي؟ هنا أيضاً يمكن تمييز عدد من الحالات:
أ- استثمار الأموال السائلة لدى الفرد المسلم أو المؤسسة الإسلامية لفترة قصيرة من الزمن دون قصد المساهمة في الشركة أو إدارتها لوقت طويل، فالمسلم لا يستطيع استعمال الأموال السائلة المتوافرة لديه في جميع أنواع السندات لحرمة الربا وعند الاختيار بين الأسهم يحتاج إلى اختيار أسهم الشركات القوية الكبيرة، وهكذا.(9/797)
ب- في عدد من البلدان الإسلامية يسيطر الأجانب وغيرهم من غير المسلمين على معظم الأنشطة الاقتصادية، وإذا ابتعد المسلمون عن المساهمة في الشركات التي تتعامل أحياناً بالربا ستزداد هذه السيطرة وسيصعب كسر هذه الحلقة حول الاقتصاد الوطني. وإن مساهمة المسلمين في الشركات القائمة هي خطوة مهمة جدًّا في سبيل استعادتهم لملكية وإدارة الاقتصاد وعدم تركه في أيدي غير المسلمين، أو على الأقل في سبيل تحقيق حصة لهم في الاقتصاد الوطني تتناسب مع نسبتهم في مجموع السكان كأكثرية إسلامية.
ج- المسلمون والمؤسسات الإسلامية الموجودون في البلدان غير الإسلامية وبخاصة البلدان الغربية لا يجدون في بيئاتهم سوى الشركات التي تتعامل أحياناً بالربا للاستثمار في أسهمها، فلا تكاد توجد في تلك المجتمعات شركات لا تتعامل بالربا وإن وجدت فيستحيل على جميع المسلمين الراغبين في الاستثمار التعرف عليها والاستثمار فيها، فهل لهم الحق في الاستثمار في مثل هذه الأمور؟
وقد أولى بحث فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة، وبحث الفقير إلى الله –سبحانه وتعالى- هذا الموضوع أهمية كبرى وأوليت بحثي بجوانب تأصيلية وأدلة ربما لم يرد الخوض فيها فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة. وهذه أيضاً خلاصة البحثين.
ولتشابك هذا الموضوع وخطورته وأهميته –أيها الأساتذة الأجلاء- قد بحث هذا الموضوع في عدة ندوات ومؤتمرات، ويكفي للدلالة على ذلك أن مجمعنا الموقر قد عقد لأجله ندوتين وبحثه في ثلاث دورات، ناهيك عن الندوات الفقهية الأخرى كندوات البركة وهيئات الرقابة الشرعية في أكثر من بنك. فقد جاء في الندوة المشتركة بين مجمع الفقه الإسلامي والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب عام 1993 م، جاء: أن الإسهام في الشركات التي تتعامل بالربا بقصد إصلاح أوضاعها بما يتفق مع الشريعة الإسلامية من القادرين على التغيير أمر مشروع على أن يتم ذلك في أقرب وقت ممكن. جاء مثل ذلك في فتاوى الندوة السادسة للبركة عام 1989 م، حيث نصت فتاوى هذه الندوة على مشروعية الإقدام على شراء أسهم الشركات مهما كان غرضها الأصلي لقصد أسلمة معاملاتها، بل اعتبر ذلك مطلوباً لما فيه من زيادة مجالات الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية الغراء. وقد ذكر فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع –حفظه الله- في بحثه القيم الذي لم يطرح في هذه الدورة ولكني رأيته منذ فترة حول هذا الموضوع أن الشيخ صالح كامل قد استطاع أن يحول أكثر من خمس وخمسين شركة غير إسلامية إلى شركات إسلامية من خلال دخوله في هذه الشركات حيث ذكر كذلك فضيلة الشيخ – حفظه الله- عدة مبادئ وأدلة قيمة حول هذا الموضوع استفدنا منها –للعلم أقول- في بحثنا المعروض على أصحاب الفضيلة.(9/798)
يقول فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة: وأول ما تجب مراعاته هو الغرض الأصلي من الشركة، فإن كان غرض الشركة الأصلي حراماً مثل البنوك الربوية وشركات التأمين التقليدية وشركات إنتاج الخمور ولحم الخنزير ومشتقاتها، وشركات إدارات صالات القمار ودور الخلاعة نحوها، فهذه لا يجوز تملك أسهمها ولا تداولها ببيع أو شراء أو وساطة، وإن كان غرض الشركة الأصلي مباحاً مثل شركات التجارة في المباحات أو صناعتها أو زراعتها أو تسويقها أو الخدمات المتعلقة بذلك فهذه الشركات تختلف حكمها عما كان غرضها الأصلي حراماً. وإن كان يقع من هذه الشركات الاقتراض من البنوك الربوية أو الإيداع لديها بالفائدة. ومن هنا فلا ينبغي أن يسوغ بينها وبين الشركات التي غرضها الأصلي المراباة، أو التأمين التجاري، أو مزاولة الأنشطة المحرمة؛ لأن محل تصرف تلك الشركات غير مشروع أصلاً. أما الشركات ذات الغرض المباح التي تودع أو التي تقترض بالربا فإن محل التصرف فيها معتبر شرعاً وهو التجارة في المباحات لكن وقع منها تصرف جانبي دخيل على غرضها وهو الإيداع أو الاقتراض بفائدة، وهو قابل للفصل عن أنشطتها بإلغاء الاتفاق الربوي أو إبطال آثاره، وتصحيح نتائجه بالتخلص من عائد تلك الملابسات المحرمة. وقد صرح بعض الفقهاء بالتفرقة بين المتاجرة بالخمر وبين التعامل بالربا حيث أثارهما، حيث تعلق الحكم برأس المال والربح في المتاجرة بالخمر، وبالربح –الفائدة فقط- في التعامل بالربا، كما ذكر في ذلك مرجعاً وهو شرحا الزرقاني لمختصر خليل.
إن هذه الشركات التي غرضها الأساسي مشروع والمحل الأصلي للتصرف فيها معتبر شرعاً ولكن وقعت فيها تصرفات جانبية هي الإيداع أو الاقتراض بفائدة يجوز الإسهام فيها حسب ما انتهى إليه عدد غفير من الفقهاء المعاصرين وكثير من هيئات الفتوى في المؤسسات المالية وخارجها. وهذا يكشف عن إدراك الطبيعة الخاصة للشركات المساهمة وتمييز الفرق بين ما غرضه الأصلي محرم وبين ما غرضه الأصلي مباح مع التصرف الجانبي المحرم، ولا بد من الإشارة إلى الخلاف الواقع في هذا النوع الأخير إلى درجة إرجاء البت فيه وبقائه معلقاً على جدول دورات مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة فقد جاء في توصيات ندوة الأسواق المالية بالرباط التي أقامها مجمع الفقه الإسلامي بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية: إن تملك أسهم الشركات التي يكون غرضها التعامل والصناعات المحرمة والمتاجرة بالمواد الحرام غير جائز شرعاً، ولو كان ذلك التملك عابراً ولفترة لا تسمح بتحقيق الأرباح الناتجة عن ذلك النشاط. أما تملك أو تداول أسهم الشركات التي غرضها الأساسي حلال، لكنها تتعامل أحياناً بالربا باقتراض الأموال أو إيداعها بفائدة فإنه جائز نظراً لمشروعية غرضها مع حرمة الإقراض والاقتراض الربوي ووجوب تغيير ذلك والإنكار والاعتراض على القائم به. ويجب على المساهم عند أخذ ريع السهم التخلص عما يظن أنه يعادل ما نشأ من التعامل بالفائدة لصرفه في وجوه الخير.(9/799)
والمبرر الفقهي لذلك عدة أدلة في نظري قد تكون أدلة، وفي نظر البعض قد لا تكون ذلك، ونحن نعرض هذه المسائل –إن شاء الله- لينكشف الحق –بإذن الله تعالى- أو لينكشف ما هو الظاهر والراجح ولا نريد من ذلك فرض رأي أبداً على شخص ولا على أي جهة. نعتقد أن هناك أدلة عامة منها: رعاية الضرورة، ورعاية الحاجة، ورعاية مقاصد الشريعة في أسلمة هذه الشركات التي هي العمود الفقري ولو ترك المسلمون الطيبون المساهمة فيها لأصبحت هذه الشركات يمتلكها الفسقة والفجرة وغير المسلمين، ولا سيما في وقتنا الحاضر التي لا تخلو هذه الشركات والتي تسمى بالشركات الوطنية القومية التي تمسك بالعمود الفقري لاقتصادنا الوطني هذه الشركات في معظمها لا تخلو من هذه الشبهات أو من بعض المحرمات، فلو تركها المسلمون الطيبون لأصبحت هذه الشركات الأساسية ملكاً لهؤلاء، بل يجب علينا أن نبحث وأن نبذل كل جهدنا لأسلمة هذه الشركات ولكن كيف نحن نؤسلمها ونحن نكون خارجين عن نطاق هذه الشركات؟ ولأجل أيضاً كذلك رعاية العرف والحاجة أجاز فقهاء الحنفية بيع الوفاء، ويقول السيوطي وابن نجيم: إن الحاجة تنزل منزلة الضرورة. وأيضاً من جانب آخر خلاصة هذا الرأي تقوم على التفرقة بين المباشر للحرام المتمثل في مجلس الإدارة، هؤلاء الإداريون ومجلس الإدارة آثمون ولكن هناك فرقاً بين هؤلاء المباشرين للحرام وبين المساهمين الذي هم غير راضين عن ذلك أو بعبارة أخرى أن هؤلاء الوكلاء يرتكبون محرمات دون رضا المساهمين.
وأيضاً من جانب آخر إن هذه الأموال ما هي إلا أموال مختلفة معظمها حلال وبعضها حرام، وشراء سهم من هذه الأموال كأنك تعاملت مع شخص معظم أمواله حلال وبعض أمواله حرام، وهذا جائز عند المذاهب الأربعة وإليكم إذا سمح المجال بعض النقول من المذاهب الأربعة:
أولاً: اختلاط جزء محرم لا يجعل مجموع المال محرماً عن الكثيرين، حيث أجازوا في المال الحلال المختلط بقليل من الحرام التصرفات الشرعية من التملك والأكل والبيع والشراء ونحوها، غير أن الفقهاء فرقوا بين ما هو محرم لذاته وما هو محرم لغيره كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الحرام نوعان، ولا أود أن أذكر النصوص؛ لأنها موجودة في بحثي.
ثانياً: قاعدة فقهية معتبرة (يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً) وقد ذكرنا هذه القاعدة مع دليلها من السنة الصحيحة المتفق عليها في بداية بحثي.
وعلى ضوء ذلك فهذا النوع من الأسهم وإن كان فيه نسبة بسيطة من الحرام لكنها جاءت تبعاً، وليست أصلاً مقصوداً بالتملك، والتصرف، فما دامت أغراض الشركة مباحة وهي أنشئت لأجل مزاولة نشاطات مباحة، غير أنها قد تدفعها السيولة أو نحوها إلى إيداع بعض أموالها في البنوك الربوية أو الاقتراض منها.(9/800)
فهذا العمل بلا شك عمل محرم يؤثم فاعله – مجلس الإدارة - لكنه لا يجعل بقية الأموال والتصرفات المباحة الأخرى محرمة وهو أيضاً عمل تبعي وليس هو الأصل الغالب الذي لأجله أنشئت الشركة.
ثالثاً: قاعدة (للأكثر حكم الكل) ، وقد ذكرنا فيما سبق نصوص الفقهاء.
أكتفي بهذا القدر بخصوص الاستثمار في الشركات التي قد تتعامل بالحرام.
ننتقل بعد ذلك إلى الموضوع الثاني وهو: (الاستثمار في الصناديق والوحدات الاستثمارية) . بخصوص أحكام الاستثمار في الصناديق والوحدات الاستثمارية كما هناك قاعدة فقهية (الحكم على الشيء فرع من تصوره) ، ولذلك لا بد أن نعرف الصناديق الاستثمارية فالمراد بالصناديق الاستثمارية هي: صندوق الاستثمار هو وعاء للاستثمار –كما عرفه فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة وكذلك الدكتور منذر- له ذمة مالية مستقلة يهدف إلى تجميع الأموال واستثمارها في مجالات محددة. وتدير الصندوق عادة شركة استثمار تمتلك تشكيلة من الأوراق المالية وذلك من خلال قيام جهة تسمى (الكفيل) بشراء تشكيلة من الأوراق المالية 0السندات) غالباً أو العمليات بالنسبة للصناديق الإسلامية: التأجير، المرابحات، الاستصناع، السلم الموازي، وتقوم هذه الشركة بجانب جهة الإصدار التي ينتهي دورها ببناء التشكيلة جهات أخرى لكل منها دور خاص، فهناك الأمين الذي يتولى إصدار الشهادات مع الجهة التي تتعهد بتغطية الإصدار، وكذلك، هناك الجهة التي تقوم بالاسترداد والتعهد بإعادة الشراء فضلاً عن الجهة التي تقوم بالتسويق. ولذلك من أجل هذا التعدد الذي يجعل الشكل القانوني لتلك الجهات المختلفة اتحاداً وليس شركة سمي ما يباع للمستثمر من حصة في الصندوق يسمى (وحدة) ولا يسمى (سهماً) ، كما هو الحال في الشركات. وهذا الاتحاد قد يكون عمره محدوداً: ستة أشهر، سنة، سنتان، وهكذا حسب النظام الأساسي الذي ينشأ من خلاله هذا الصندوق.
هناك فرق بين الصناديق والإصدارات. فهناك إصدارات الاستثمار وهناك صناديق الإصدارات، لا تختلف عن الصناديق الاستثمارية من حيث إن كلًّا منهما يمثل ذمة مالية –من هذا متحدين- مستقلة تهدف إلى تجمع الأموال واستثمارها في مجالات محدودة، ويقوم على أساس تجزئة رأس المال الإجمالي للإصدار أو للصندوق للاكتتاب فيه من قبل المشاركين، كما أن صكوك الأسهم أو الوحدات وثيقة تمثل ملكية حصة شائعة في الموجودات الكلية للإصدار أو للصندوق، ويكون للمشارك جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعاً للمالك في الملك الشائع من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها، بما لا يمس بقية المشاركين. ولكن الاختلاف الأساسي بين الإصدارات والصناديق ينحصر في كون الإصدارات غالباً ما تكون قصيرة الأجل لا تستغرق مدة عام، بينما الإصدارات تشمل دائماً عمليات استثمارية محددة الخصائص طويلة الأجل.
هناك جوانب فنية. إدارة الصناديق، وهذه المسائل ذكرت في بحث فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة لا ندخل في تفاصيلها.(9/801)
المسائل المتعلقة بتكوين هذه الصناديق والإصدارات:
تقسيم رأس مال الصندوق. يقسم الصندوق إلى وحدات وهذا من الجانب الشرعي لا مانع منه قياساً على الأسهم. كذلك مساهمة المضارب في الصندوق أو الإصدار لا مانع كذلك من مساهمة الجهة المنشئة لصندوق الإصدار في رأس مال الصندوق أو الإصدار، ويكون استحقاقها نصيباً من الربح بصفتها مضارباً ونصيباً آخر. كذلك أيضاً يسمح نظام الصندوق بدفع المساهمة على أقساط، وهذه الأقساط ما دامت متساوية للجميع لا مانع منها من الناحية الشرعية أيضاً.
تبقى قضية، وهي قضية تداول هذه الوحدات الاستثمارية. يمثل صك الوحدة الاستثمارية ملكية حصة شائعة في الصندوق أو الإصدار، وتستمر هذه الملكية طيلة مدتها وتترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعاً للمالك في ملكه كما هو الحال بالنسبة للأسهم فيحق للمشارك التصرف في الوحدة بالبيع، هو حكمه في ذلك حكم الأسهم الاستثمارية دون أي اختلاف فيما بينها من هذا الجانب.
تبقى قضية ضمان رأس مال الصناديق والإصدارات. من القضايا المتفق عليها بين فقهائنا الأجلاء وكذلك أقره مجمعنا الموقف من أنه لا يجوز تضمين المضارب إلا عند التعدي والتقصير. ولذلك يبقى هنا كيف يمكن أن نرتب ضمان رأس المال على الصناديق والاستثمارات؟ المجمع الفقهي الموقر أجاز ضمان طرف ثالث في قرار له بخصوص صكوك المقارضة فلا مانع –أيضاً- إذا وجد مثل هذا الضامن أن يكون هناك ضامن لمثل هذه الصناديق والإصدارات من خلال طرف ثالث ليس هناك أي علاقة –كما قلنا في الجلسة السابقة- لا يدخل في باب قرض جر منفعة وإنما مثل الدولة تضمن ذلك، أو نحو ذلك.
كيفية حساب نفقات التأسيس ومن يتحملها. هذه قضية فنية لا نشرحها ولا ندخل في تفاصيلها وإنما البحوث في متناول الأيدي.
أما الاقتطاع الاحتياطي في الصندوق والتقويم في الصناديق، وبعد ذلك ننتقل إلى مسألة توزيع الأرباح والخسائر في الصناديق أو الإصدارات أيضاً لا بد أن تشتمل لوائح الصندوق –يعني قضايا فنية وإدارية- على كيفية توزيع الأرباح بين المضارب والمشاركين ويجب أن تكون النسبة معلومة شائعة دون تحديد مبلغ معين كما هو الحال بالنسبة للمضاربات وبالنسبة لأحكام المضاربة وأحكام المشاركة.(9/802)
هذه حقيقة خلاصة ما يدور في قضايا الوحدات الاستثمارية، وهناك بعض القضايا الفنية التي تناولها وفصل فيها فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة والبحوث أمامكم، ونكتفي بهذا القدر، ونشكر سعادة الرئيس والأمين العام على إتاحة الفرصة لي وصبرهما علي وكذلك أشكركم على حسن الاستماع وجزاكم الله خيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم،
شكراً سيدي الرئيس، في الواقع أود أن أواصل فقط نقطة واحدة، وهذه النقطة لأهميتها أردت بها أن أوضح شيئاً مما أدلى به فضية الدكتور محمد سيد طنطاوي في معرض التعقيب على بحثي في الصباح.
ذكر فضيلته وأعرف عنه دقته في تحديد معاني الألفاظ بأن الوديعة أمانة والاستثمار تفويض مطلق للبنك بأن يوجه المال كيف يشاء، وهذا ظاهريًّا جائز. وقد حرص فضيلته على تحديد مقصوده من الاستثمار المطلق بأنه فيما أحل الله وهذا متفق عليه. وأقول لفضيلته من واقع الخبرة التي أصدق القول فيها إن عمل البنوك العادية له جانبان. جانب ما يعطيه البنك، وجانب ما يأخذه أي أنه يعطي مما يحصل ومما يأخذ.
فإذا كان ما يدفعه البنك للمودعين يمثل جزءاً من الربح ... دراسات في تحليل ميزانيات البنوك من مواردها نتيجة للإقراض بفائدة وهي تتراوح بين 70? في الحد الأدنى و95? في الحد الأقصى. فإذا كان مصدر الدخل هو فائدة ناتجة عن قرض فإن ما تعطيه هو الجنى من الربا. وإني لأطمع محبة واحتراماً لفضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي الذي عرفته من عشر سنوات تقريباً أن يعيد النظر فيما يراه وما سمعناه اليوم منه بخصوص فوائد البنوك وجوازها، فإذا كان قد اعتمد على الرأي الذي سمعه من بعض العاملين في البنوك فآمل أن يسمع من أخٍ ناصح خبير بأن هذه المصادر والموارد التي تدفع منها البنوك أساسها الإقراض ولا أمل للبنوك العادية إلا الإقراض، وطالما وجد الفن المصرفي الإسلامي وشهادات الاستثمار القابلة للتخصيص بما يتفق والشريعة الإسلامية فالحل موجود وآمل جميعاً أن نكون في طريق واحد يجمعنا الله بالخير والحق، شكراً لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/803)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
الموضوع الأول الذي أريد أن أتحدث فيه هو أن مجمعنا الموقر قد اتخذ قرارات، وهذه القرارات هي قرارات التزمناها إثر دراسة معمقة، وأخلصنا فيها لله، ولذلك فإني أرجو من الأمانة العامة أن كل كلام أو مداخلة تتناقض مع القرارات التي اتخذناها في مجمعنا طيلة الدورات التي سبقت هو كلام ملغي يجب ألا يذكر في المجلة ولا أن يدون.
الناحية الثانية وهي تتصل بهذه هو أنني أرجو من سيادة الرئيس أن تقتصر المناقشات حول المواضيع التي نحن بصددها فكل خروج عن الموضوع هو كلام لغو، ورسالته أن يقطع الكلام عن طالبه، فهاتان ملاحظات أود أن سيادة الرئيس ينظر فيهما بما يصل بهما إلى التطبيق الجازم والكامل. وشكراً.
الرئيس:
شكراً. في الواقع بالنسبة للفقرة الأولى هي في غاية من الأهمية وأرجو من معالي الأمين العام أن تؤخذ في الاعتبار من اللجنة التي شكلت لتدقيق النظر فيما يستبعد من طباعة الأبحاث والمداولات وفيما يقر، فأي مداخلة أو إثارة بحث يناقض ما عليه هذا المجمع وما صدرت به قراراته فإنه يتعين استبعاد طباعته في مجلة المجمع.
وأما النقطة الثانية التي أشار إليها سماحة الشيخ المختار فإنني أرجو من أصحاب الفضيلة أن يكونوا خير عون في هذه النقطة فهم الذين يملكون الكلام وهم الذين يملكون السيطرة على أنفسهم، فأرجو أن يحددوا وأن يحرصوا ألا يخرجوا عن الموضوع ذاته المطروح، إضافة إلى نقطة أخرى وهو أن العرض لا يبغي أن يستهلك ساعة أو ساعة إلا ربعاً وما إلى ذلك، فينبغي أن يعتصر ويختصر وأن يكون في حدود ربع ساعة أو عشرين دقيقة على الأكثر، أما أن يستهلك جزءاً كبيراً من الوقت فهذا ليس من المصلحة؛ لأن الأبحاث بين المشائخ موزعة، والمراد إعطاء خلاصة تلقي الضوء على نتائج هذه الأبحاث وما اتفقت فيه وما اختلفت فيه. وبالنسبة للنقطة التي أثيرت حول ما ذكره الشيخ سيد طنطاوي فإنني أرجو أن تكون هذه خاتمة الكلمات نحوها؛ لأن هذا الموضوع سبق وأن صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي بالتحريم بالإجماع ولا إشكال في هذا. ولهذا فإنني لا أسمح –وأرجو أن تكونوا خير عون بعد الله في ذلك- بإثارة أي نقطة حول هذا الموضوع، والحق واضح وإن يد الله مع الجماعة.(9/804)
الدكتور صالح المرزوقي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد،
فقد قسم أخي الدكتور علي محي الدين القره داغي الشركات إلى قسمين،
فقال:
القسم الأول: يقوم غرضه على الحلال المباح وهو جائز ولا خلاف فيه.
والقسم الثاني أسهم لم تتوفر فيها الشروط السابقة، وإنما هي أسهم لشركات قد تودع في بعض الأحيان بعض نقودها في البنوك بفائدة أو تقترض منها بفائدة أو قد تكون نسبة قليلة من معاملاتها تتم من خلال عقود فاسدة كمعظم الشركات في الدول الإسلامية. ويرى جوازها، فهو يقول: ليست في شركات تزاول المحرمات ولا لشركات قائمة على الحلال.
يرى جوازها مع أنه يقر بأنه لا تقوم على الحلال، وقد احتج فضيلته بقاعدة رفع الحرج.
والجواب أنه ليس هناك حرج بمعناه الشرعي؛ لأن وسائل الاستثمار متيسرة في مجال التجارة والصناعة والزراعة والخدمات، ولا سيما في عصرنا هذا مع انتشار البنوك الإسلامية وكثرتها –ولله الحمد- وهذا ليس فيه حرج، وإنما الحرج هو الذي لا مخرج منه كما قال ابن عباس.
واحتج –أيضاً- بالضرورة، ونقول: الضرورة غير موجودة في هذا الوقت للاشتراك في شركات تزاول الربا؛ لأنه يمكن الاشتراك في شركات أخرى، وإلا معنى هذا أننا نعتمد إخضاع الأحكام الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة بارتكاب المحرم.
ولا أقول نخضعها للواقع الفاسد؛ لأن الواقع فيه من الصلاح الشيء الكثير، وفي الشركات التي تمارس الحلال والبنوك الإسلامية والتجارية الفردية.
واحتج أيضاً بالقياس على بيع الوفاء وهذا قياس فاسد؛ لأن بيع الوفاء عقد باطل وقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي بعدم جوازه، وما كان باطلاً في نفسه فكيف يصحح عليه غيره؟!
وأيضاً، احتج بالقياس على العرايا، وهذا الاحتجاج لا يصح؛ لأن تجويز العرايا ورد استثناء بنص خاص وهو ما يعبر عنه بما جاء على خلاف القياس، فقد اشترط جمهور الفقهاء والأصوليين في حكم الأصل ألا يكون معدولاً به عن سنن القياس. عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أنه رخص بعد ذلك في بيع الرطب أو التمر ولم يرخص في غير ذلك)) متفق عليه. فقوله: (ولم يرخص في غير ذلك) دليل على قصر الرخصة على هذا النوع من البيوع، كما يدل على قصر الرخصة نهيه صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة. وقد استشهد بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وهو: أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا تعارضت مع مصلحة راجحة أو بمحرم.(9/805)
أولاً: هل نقدم كلام ابن تيمية أم نقدم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فالله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278-279] ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين)) ، وفي حديث آخر: ((فمن زاد أو ازداد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)) .
ثانياً: أن ابن تيمية يقول: (المفسدة المقتضية للتحريم) ، ولم يقل (المنصوص على حرمته) ، ولم يقل (الربا) ، وإنما قال: (المقتضية التحريم) ، ثم قال: (وعارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم) ، وأين الحاجة الراجحة للشركات الربوية؟! لا توجد. واستشهادكم بقوله: (والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه في البيوع لأجل نوع من الغرر) ، لا يصح قياس الربا على الغرر؛ لأن الغرر يغتفر في اليسير منه أما الربا فكله حرام، قليله وكثيره. قال صلى الله عليه وسلم: ((درهم ربا يأكله الرجل المسلم وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية)) حديث صحيح. واستشهد بالعرف. ومن شروط الاستدلال بالعرف ألا يصادم نصًّا شرعيًّا، والعرف الذي تذكره عرف فاسد يصادم النصوص الشرعية، فلا يصح الاحتجاج به.
ويقول في بحثه: (لا نعيش عصراً يطبق فيه المنهج الإسلامي وإنما يسوده النظام الرأسمالي والاشتراكي، وحينئذ لا يمكن أن تسير المعاملات على الحلال الطيب الخالص دون وجود الشبهة) ، سبحان الله!! هل نحن مجتمعون لنبحث عن أساليب الاستثمار الشرعية التي تتفق مع الكتاب والسنة أم لنبيح للبنوك الربوية والشركات الربوية أعمالها بدعوى أنه يسودنا النظام الرأسمالي والاشتراكي ونحو ذلك من التعليلات؟!!.
يقول: (ولقد قال الكثيرون بإباحة الأسهم في الدول الإسلامية مطلقاً دون التطرق إلى التفصيل الذي ذكرته) ونسب هذا القول للشيوخ علي الخفيف، وأبو زهرة، وعبد الوهاب خلاف، وعبد الرحمن حسن، وعبد العزيز الخياط، ووهبة الزحيلي، والشيخ عبد الله بن منيع، وغيرهم، ونسب إلى العبد الفقير أيضاً في الحاشية دون أن ينص عليه بالذكر. وقد نبهت إلى خطأ نقل عني وعن المشائخ المذكورين في مجلة (البحوث الفقهية المعاصرة) ، فأود من فضيلته الرجوع إليها؛ لأنني نقلت عنهم بالنص تحريمهم ومنعهم لأي مشاركة في الشركات التي يدخلها الربا أو التي فيها حرام، أقول: نبهت إلى خطأ النقل عن هؤلاء المشائخ، فقد نصوا على وجوب خلو الشركة مما حرم الله. الذين نصوا ووجدت لهم نصوصاً هم: الشيخ علي الخفيف، وأبو زهرة، وعبد العزيز الخياط، وصالح المرزوقي، هؤلاء نصوا على وجوب خلو الشركة مما حرم الله، فإذا كان فيها ربا لا تجوز المشاركة فيها.(9/806)
والاحتجاج بقاعدة (للأكثر حكم الكل) ، ليست على إطلاقها، فلو أخذ بها لجاز قليل الخمر إذا خلط بقليل من عصير البرتقال مثلاً. ولا قائل به؛ لأنه مردود بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) ، ولو أخذ بهذا المقول، قليل الربا مباح وهذا يصادم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((درهم ربا)) والدرهم هو أول أعداد القلة.
واحتج –أيضاً- باختلاط جزء محرم. يقول: اختلاط جزء محرم لا يجعل مجموع المال محرماً عند الكثيرين، فيجوز التملك والأكل والبيع والشرب. أود أن أذكر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رب أشعث أغبر –هذا في مسألة الأكل- يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، أنى يستجاب له)) ، وقال سعد: يا رسول الله ادع أن أكون مستجاب الدعوة. قال: ((يا سعد، أطب مطعمك تجب دعوتك)) .ورضي الله عن أبي بكر عندما شرب شربة لبن جاء بها أحد عبيده فلما علم أنها من كسب خبيث استفرغها وما زال يدخل يده في حلقه حتى أخرج كل ما في بطنه، ثم قال: اللهم إني أستغفرك مما دخل اللحم والعروق، أو نحوه.
والاحتجاج باختلاط جزء محرم. إن كان الاختلاط عن غير قصد أي وقع الاختلاط فإن المال الحرام باختلاطه مع الحلال لا يجعل المال الحلال حراماً، وإنما تقتصر الحرمة على الحرام، ويبقى الحلال حلالاً، هو معنى كلام شيخ الإسلام، لا أن نحمله على ما لا يحتمل فندخل فيه الشركات التي تمارس الربا قليلاً أم كثيراً ونحتج بكلام شيخ الإسلام، والعز بن عبد السلام، وغيرهم. قول هؤلاء العلماء، أقول: إن هؤلاء العلماء يبرؤون إلى الله مما ننسبه إليهم؛ لأننا نحمل كلامهم شيئاً لا يحتمله.
وأما الاحتجاج بمعاملة من في ماله حلال وحرام فليس فيها دليل على هذه الدعوة؛ لأننا ممكن أن نشتري السيارات من اليابان أو من أمريكا أو من إيطاليا أو من غيرها ونتعامل معهم في بضائع وشراء وبيع وإجارة واستئجار، لكن هذا لا يعني أننا ندخل في شركة فيها ربا. فرق بين البيع والشراء أو الإجارة أو نحوها من المعاملات أو الأخذ والعطاء، وفرق بين أن أشارك في شركة جزء منها فيه شيء من الربا.
والاستثمار في الأسهم أرجو أن ننظر فيه بأنه يجب النظر في نشاط الشركة، وفي رأس مالها، فإن كان رأس مالها نقوداً أو أنها شركة مصرفية فيجب هنا إذا اشتريت أسهمها بالنقود يجب فيه التساوي والتقابض؛ لأن فيها أعمال صرف. إذا كانت الشركة شركة مصرفية تقوم على الأعمال المصرفية غير الربوية أو كان رأس مالها نقوداً كله نقوداً ليس فيه عروض أو لم يتحول جزء منه إلى عروض فحينئذ يجب شراء أسهمها بعروض أو بغير ذلك من الأمور، أما بالنقود فحينئذ يجب التساوي والتقابض، وأما إذا كانت الشركة في رأس مالها عروض أو كانت نقوداً وتحولت إلى عروض فحينئذ لا مانع من شراء أسهمها بالنقود أو بالعروض مطلقاً.(9/807)
وأما الأسئلة التي طرحها الدكتور منذر قحف، أو بعض هذه الأسئلة كقوله أن يشتري أسهماً في شركة تتعامل بالربا بنية تحويلها، مع توقع القدرة على التحويل.
أرجو ألا نطلق العنان لأنفسنا بإباحة الدخول في هذا النوع من هذه الشركات مطلقاً إلا إذا علمت القدرة غالباً ورأى الإنسان من نفسه وكان هذا أمراً محدوداً، أما أن نطلق العنان لكل إنسان يريد أن يدخل في شركة بحجة أنه يغير وهو لا يستطيع أن يغير فهذا لا أرى جوازه.
الفقرة الثانية: أن يساهم في شركة نشاطها الأساسي من المباحات ولكن يختلط بالحرام. هذا تكلمنا عنه، مثل الأفلام السينمائية أو المسابح أو نحو ذلك من الأمور، هذه كلها لا تجوز. الإذاعة أو البرامج الفاسدة لأجل دعوتهم إلى الإسلام أرى أن هذا غير جائز. كل هذه الأمور لا يجوز أن نبيحها بدعوى أننا ندخلهم في الإسلام.
إذا قدرنا أن ندخلهم في الإسلام بالوسائل المشروعة المعلومة هذا جائز مثل ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة، أما أن نرتكب المحرم على أمل أن يدخلوا في الإسلام نحن نشوه أنفسنا، وبهذه الطريقة نشوه الإسلام والمسلمين. المسلمون والمؤسسات الإسلامية في الغرب لا يجدون أحياناً إلا شركات تتعامل بالربا فهل لهم الحق في الاستثمار؟ لهم أن يكونوا شركات بأنفسهم، لهم أن يستثمروا أمواله بأنفسهم مثل فتح البقالات أو مخابز أو غيرها، أي أنه لم تقتصر وسائل الاستثمار على الشركات الربوية وإنما يمكن بوسائل الاستثمار الفردية ونحو ذلك.
هذا ما أردت أن أقوله وأستغفر الله، وأستميحكم عذراً والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
الشيخ محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحم الرحيم
نقطة نظام سيدي الرئيس، الواقع أن مسألة الاستثمار في الأسهم قد طرحت في هذا المجمع عدة مرات ونوقشت وكثرت فيها الأبحاث، وتداول الأعضاء آراءهم ودلائلهم ولا نسمع اليوم إلا تكريراً لما سبق. وقد صدر في ذلك أيضاً قرار من قبل المجمع، وبالرغم من أني أؤيد الرأي بجواز الاستثمار في الأسهم بقيود وضوابط قد بينتها ولكننا قد مشينا على سنة، وهي أن القرار إذا اتخذ من قبل المجمع فلا حاجة لنا إلى الإطالة في مناقشة تلك المسألة بعينها. فهذه الدلائل التي ذكرها الباحثون إما من هذا الجانب أو من ذاك كلها سمعناها، وكلها قد فرغنا منها، فلا حاجة بنا إلى الإطالة في هذا الموضوع.(9/808)
الموضوع الجديد الذي جاء في هذه الأبحاث ينبغي أن تقتصر على مناقشته فقط، أما موضوع الأسهم وقد صدر قرار من قبل المجمع أن الأصل في ذلك حرام. وإنما جاء ذلك اللفظ من قبل أنه كان هناك خلاف بين الأعضاء والأغلبية كانت تذهب إلى الحرمة، ولذلك اتخذ هذا اللفظ ليستعين به من يشاء، أما القرار فهو قد اتخذ من قبل المجمع فلا نعيد هذه المسألة.
الرئيس:
هو في الواقع تأييداً لما ذكرتم كذلك سبق وإن كان بودي أن العارض الشيخ علي أنه ذكر هذا وهو أحد الحاضرين أن هذا الموضوع عرض على مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في شهر شعبان من هذا العام. وهو قريب، وفيه عدد من أعضائه هم أعضاء في هذا المجمع، وصدر قرار بالتحريم في المساهمة في شركة نظامها حلال لكنها تتعامل من الباطن بالمحرمات كالزنا، أو الربا، أو ما إلى ذلك، فصدر القرار بالتحريم. وتعلمون أنه في شهرين متقابلين يصدر قرار من مجمع بالتحريم وقرار كذا، هذا فيه خطر عظيم على الأمة وتناقض في آرائها الجماعية. ولهذا أثيرت نقطة في مجمع مكة على قضية أنه لا ينبغي ولا يحسن أن يصدر قرارات فيها اضطراب واختلاف بين المجمعين فأخذ الكلمة معالي الشيخ الحبيب ابن الخوجة أمين عام المجمع. وقال: إنه لا يصدر قرار من المجمعين متضادين، وإنه في حال وجود شيء من ذلك يجري التنسيق مسبقاً بين المجمعين قبل الصدور، وهذا في الحقيقة فيه ضمان عظيم حتى لا يقع الناس في بلبلة وخلط عظيم، والحمد لله الأمر فيه سعة،
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
ليس الأمر إلزاميًّا على أن نفتي في هذه المسألة أو في تلك المسألة؛ لأن حفظ الذمم وعدم فتح أبواب الشر والفساد على الناس هذا أمر متعين، وليس معنى هذا أن نأخذ بقتاب التشتيت، لا. ولكن نأخذ بركاب الاحتياط لذممنا، وألا تكون ذممنا جسوراً يعبر عليها المتاجرون وغيرهم. والأمر مثل ما تفضلتم طالما أنه صدر في القرار الذي صدر من المجمع أن الأصل في الأسهم والمساهمة الحل، قد يكون في عمومه يغطي كثيراً من هذه الجزئيات. وعلى كل نستأنف المداولة. إن شاء الله تعالى –وينبغي ملاحظة ما ذكره الشيخ تقي ونستأنف المداولة بعد صلاة المغرب، إن شاء الله تعالى وشكراً.(9/809)
الدكتور محمد علي القري بن عيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
إن المسألة التي أريد أن أتحدث عنها تتعلق بالاستثمار في أسهم الشركات التي أصل نشاطها مباح ولكنها ربما تتورط في إيداع أموالها في البنوك أو الاقتراض من البنوك بالربا. فإن كانت هذه المسألة لا زالت مطروحة للنقاش تحدثت فيها وإن كان الباب قد أغلق فأتنازل عن هذه الفرصة لغيري. أنتظر منكم الجواب يا سيادة الرئيس.
الرئيس:
على كل المسألة هذه بحكم المفروغ منها نظراً؛ لأننا بين أمرين إما أن تؤجل إلى وقت لاحق لمزيد من البحث ووضع نقاط رئيسية تتولاها الأمانة فيما بعد، أو أن ترفع من الجدول مرة واحدة (كلية) طالما أنه صدر قرارات متعددة من هذا المجمع أو من مجمع الفقه بمكة، فلذلك يترك البحث فيها.
الدكتور محمد علي القري بن عيد:
ولكني أقترح أن تؤجل لأنها مسألة في غاية الأهمية، فإنه معلوم عند جميع من لهم علاقة بهذه الشركات أنه لا تكاد توجد شركة في وقتنا الحاضر في أي بلد من بلاد المسلمين –فيما عدا السودان ربما، والسودان له وضع خاص- إلا وهي متورطة في هذا الأمر، فإذا قلن بعدم جواز المساهمة في مثل هذه الشركات فمحصلة الأمر وماله أن المسلمين قد حرموا من فرصة استثمار أموالهم لا سيما من كان منهم من ذوي الدخول الصغيرة؛ لأن فرصة الاستثمار عندهم هي إما أسهم الشركات أو الإيداع في البنوك فلذلك هي تحتاج إلى نظر.(9/810)
الرئيس:
على كلٍّ هو كسباً للوقت وحتى نتفرغ لبقية ما لدينا هل ترون أن نبت على تأجيلها أم لا؟
الدكتور عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة كما ظهر من حديث الشيخ العثماني في موضوع الشركات التي أصل تعاملها مباح ولكنها تودع أموالها في البنوك أو أنها تقترض بالربا، أن هذا الأمر قد بحث بإطالة وتوسع في المجمع وقد أخذ فيه قرار. فواضح أنه إما أن نؤجل الأمر وأنا أميل مع التأجيل؛ لأن القرار محل نقاش والذي انتهينا إليه وفيه وجهات نظر أخرى، وبحيث نستقصي في هذه المسألة بحوثاً مستفيضة ودراسات موسعة أو رفع الموضوع نهائيًّا.
الرئيس:
هل ترون التأجيل؟
إذن انتهى الأمر. هذه الفقرة نرجو رفع المناقشة فيها وهي تكون مؤجلة إلى دورة لاحقة –بإذن الله تعالى- وتستكمل بقية الموضوعات.
الشيخ تقي العثماني:
لو سمحتم سؤال وهو في مسألة ضمان الطرف الثالث الذي قد ذكره الشيخ علي محيي الدين القره داغي فقد صدر في ذلك قرار أيضاً ولكن النقطة التي ينبغي أن نناقشها هي: ما معنى الطرف الثالث؟ هل الطرف الثالث ينبغي أن يكون شخصاً حقيقيًّا أو إذا كان هناك شخصية معنوية ثالثة مع أن الشركاء هم في كلتا الشركتين؟
الرئيس:
أنتم تعلمون يا شيخ –ولا أحب أن أقطع حديثكم- أن البحوث هذه ليس فيها جديدة، هي معادة، هي البحوث التي كانت في الدورة السابقة وفي قبل وفي ندوة البحرين، وهذه النقطة التي أثرتها هي جديدة ولذلك يحسن أن أصحاب الفضيلة إذا كان أحد عنده نقطة تستشكل في هذا الموضوع وفي جزئياته أن يتفضل بكتابتها ويقدمها للأمانة العامة.
إذن بهذا يكون انتهى الأمر، وترفع الجلسة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/811)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 91/4/د9
بشأن: " الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية "
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415 هـ، الموافق 1-6 أبريل 1995 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث الثلاثة الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية" التي تبين منها أن الموضوع تضمن بين عناصره مسألة شراء أسهم الشركات التي غرضها وأنشطتها الأساسية مشروعة لكنها تقترض أو تودع أموالها بالفائدة وهي لم يقع البت في أمرها بالرغم من عقد ندوتين لبحثها، وصدور قرار مبدئي فيها للمجمع في دورته السابعة، ثم قرار لاحق في دورته الثامنة بأن تقوم الأمانة العامة باستكتاب المزيد من البحوث في هذا الموضوع ليتمكن من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة،
وبعد الشروع في المناقشات التي دارت حوله، تبين أن الموضوع يحتاج إلى الدراسات المتعددة المعمقة، لوضع الضوابط المتعلقة بهذا النوع من الشركات الذي هو الأكثر وقوعاً داخل البلاد الإسلامية وخارجها.
قرر ما يلي:
أولاً: تأجيل النظر في هذا الموضوع على أن يعد فيه مزيد من الدراسات والأبحاث بخصوصه وتستوعب فيه الجوانب الفنية والشرعية. وذلك ليتمكن المجمع من اتخاذ القرار المناسب فيه حسب توصية الدورة الثامنة (قرار 81/8/د9) .
ثانيًا: الاستفادة مما تضمنته الأبحاث الثلاثة عن الصناديق والإصدارات الاستثمارية لإعداد اللائحة الموصى بوضعها في القرار (5) للدورة الرابعة (بند أولاً/ 2 في العنصر الرابع) .(9/812)
مناقصات العقود الإدارية
عقود التوريد ومقاولات الأشغال العامة
إعداد
الدكتور رفيق يونس المصري
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبد العزيز بجدة
المقدمة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
1- فإذا نظرنا إلى عنوان هذا الموضوع كما حدده المجمع الموقر: " المناقصات "، وكذلك إلى عناصره السبعة (1) ، فقد يبدو أن المراد هو البحث في المناقصة، لا في التوريد والمقاولة. وما ذكر التوريد والمقاولة في العناصر إلا من باب بيان علاقة المناقصة بهما، لا لأجل بحثهما المفصل.
يؤيد هذا الاتجاه أن أغلب العناصر المحددة من قبل المجمع ذات صلة بالمناقصة نفسها، لا بالمقاولة والتوريد، اللهم إلا عنصراً واحداً هو العنصر الثالث: الدخول في المناقصة لمن لا يمتلك السلعة ... إلخ.
2- غير أنه مما يعكر على هذا الاتجاه أمران:
الأمر الأول: أن المناقصة لا تراد لذاتها، إنما تراد لتوريد أو مقاولة، فلا يمكن إعطاؤه حكماً شرعيًّا بمعزل عن التوريد والمقاولة.
الأمر الثاني: لو كان المطلوب النظر في المناقصة وحدها، دون نظر مواز في التوريد والمقاولة، لكان من الأحسن أن يقدم النظر في التوريد والمقاولة على النظر في المناقصة، ولكن هذا لا يكاد يتضح للباحث إلا بعد الفراغ من طور المعالجة الذهنية للموضوع.
3- لهذه الأسباب رأيت النظر في المناقصة والتوريد والمقاولة والتوريد والمقاولة معاً، رغبة في التوصل إلى أحكام متوازنة ومنسجمة، لا تحتمل التجزئة.
4- وأحب أن أضيف أن معالجتي للموضوع ستنطلق من منطلق أن الجهة القائمة بالمناقصات جهة إدارية عامة (الدولة) تريد من وراء المناقصة إبرام عقود إدارية، تتصف ببعض الأوصاف التي قد تجعل حكمها في الفقه والقانون مختلفاً عن حكم العقود الخاصة.
__________
(1) أوصى المجمع الموقر بأن ينشر في مجلة المجمع العناصر المحددة من قبله لكل موضوع، قبل نشر البحوث المتعلقة بهذا الموضوع. فقد كنت أود أن أضع هذه العناصر في مقدمتي هذه، إلا أنني لو فعلت ذلك أنا وغيري لأدى هذا إلى التكرار.(9/813)
المنهج
1- بعض الباحثين يسلكون مسلك اللين في بحوثهم الشرعية، فيجيزون كل ما هو جائز (= ماض، نافذ) في البلاد (أو بلادهم) . وإذا كانوا يرون هذا أسلم لهم عند الناس، وعند الدولة، فإنه ليس أسلم لهم عند الله، وليس هذا من الدين ولا من العلم بسبيل.
2- وبعض الباحثين مفتونون بالقوانين الوضعية الحديثة، يباهون بمعرفتها، ويحتجون بها، وكأنها قرآن أو سنة أو نص إمام فقيه.
3- وبعض الباحثين والمفتين يخلصون في بحثهم أو فتواهم إلى أن هذا جائز شرعاً، بشرط ألا يخالف الشريعة الإسلامية، وكأنهم يقولون: جائز بشرط أن يكون جائزاً، فهم يفتون بترك الفتوى للمستفتي، مع أن المطلوب منهم أن يقولوا: هذا جائز، وهذا غير جائز، وإلا لماذا كان البحث؟ وفيم العناء؟ ربما يكون مرادهم: جائز منه ما علمناه، وما لم نعلم يجب ألا يكون فيه مخالفات، يعني: يقولونها من باب الحيطة في الأمور التي قد تغيب، ولكن الصياغة مهمة، دفعاً للشك والالتباس.
4- ليس المطلوب أن ننظر في القوانين واللوائح فكرة فكرة، وكلمة كلمة، إنما المطلوب أن ننظر (كتابة) فيما يستحق النظر الشرعي، لحرام أو شبهة، وما بقي فمتروك على أصل الإباحة في المعاملات المالية. وتفصيل الحرام قد يوهم بأن الحرام كثير، والحقيقة أن الحلال أوسع من الحرام بكثير، وهو الأصل.
أرجو أن يوفقني الله في هذا البحث إلى تجنب هذه المسالك الأربعة وأمثالها.
المصطلحات
في هذه الورقة ستمر معنا بعض المصطلحات، مثل: المناقص والمتناقص، والممارسة، والعطاء، والمقاولة، والإذعان.
سنناقش هذه المصطلحات باختصار، كلًّا في موضعه من هذه الورقة، على أساس أن المصطلح من عادة الباحث المسلم أن يعتني به، وينظر فيه من أين كان مأخذه في اللغة؟ فهذا في العلم مهم؛ لأن المصطلح وعاء إذا كان ملائماً فإنه يستوعب بانسجام أفكاره ومفرداته، وإذا كان غير ملائم فإن ما يدخل فيه يتفلت في الذهن، ولا يترابط، وتكون الإحاطة به مجهدة.(9/814)
المخطط
سأقسم البحث إلى قسمين:
1- القسم الأول للمناقصة فنيًّا.
2- القسم الثاني للمناقصة فقهيًّا.
تسبقهما مقدمة، وتعقبهما خاتمة.
القسم الأول
المناقصة فنيًّا
1 - تعريف المناقصة والغرض منها
1- المناقصة طريقة نظامية (خاضعة لنظام محدد) ، لشراء سلعة أو خدمة، تلتزم فيها الإدارة (الجهة الإدارية) بدعوة المناقصين لتقديم عطاءاتهم (= عروضهم) ، (1) وفق شروط ومواصفات محددة، لأجل الوصول إلى أرخص عطاء، بافتراض تساوي العطاءات في سائر المواصفات والشروط. (2)
فالمناقصة هي طريقة في الشراء (عندما يتعلق الأمر بسلعة) أو الإجارة أو الاستصناع (عندما يتعلق الأمر بمقاولة) . أي إن المناقصة إما مناقصة توريد أو مناقصة مقاولة. وسيأتي مزيد من التفصيل حول التوريد والمقاولة.
2- ويعرفها الباحثون الفنيون بأنها تهدف إلى الحصول على أفضل عطاء من الناحيتين المالية والفنية. (3)
وإني أرى أن الصواب أفضل عطاء من الناحية المالية؛ لأن الفرض أن الذين تمت المفاضلة بين عطاءاتهم هم متساوون من الناحية الفنية: مطابقة الشروط والمواصفات، أي من حيث تحقيق الغرض الفني. وتعريفهم هذا قد يسمح بالتحايل والتلاعب، بإرساء المناقصة على غير صاحب العطاء الأرخص، بدعوى أفضليته في المواصفات الفنية.
3- فالمناقصة تختلف عن الشراء المباشر: مساومة أو أمانة. فهي شراء غير مباشر، بمعنى أن هناك إجراءات تسبقه وتمهد له. ويلجأ إليها عندما تتجاوز القيمة المتوقعة للعقد مبلغاً محدداً.
4- إذا كانت السلع مسعرة، لا يختلف سعرها بين بائع وآخر، فإنه لا جدوى ولا محل للمناقصة، إلا إذا كان من الممكن تنازل بعض المرودين عن جزء من أرباحهم.
5- في المناقصة طرفان: الطرف الأول هو الجهة الإدارية صاحبة المناقصة، الطرف الآخر هم الموردون أو المقاولون المشتركون في المناقصة، ويسمون المناقصين أو المتناقصين، (4) وسنعتمد في هذه الورقة التسمية الأولى.
__________
(1) العرض أو العطاء ترجمة للمصطلح الفرنسي Soumission. ويستخدم هذان اللفظان بمعنى واحد، وهو ما يقدمه المشترك في المناقصة من سعر للسلعة أو العلم المطلوب. والعطاء هنا مشتق من السعر المعطى (= المقدم) . وعبارة "العطاء" عبارة فقهية قديمة، استخدمها الفقهاء في باب السمسرة والمزايدة، انظر مسائل السمسرة للأبياني ص 75، والمعيار المعرب 8/355. يرجى من الذين صنفوا حديثاً معاجم في المصطلحات الفقهية أن يدخلوا هذا المصطلح في معاجمهم.
(2) قارن أسس الشراء الحكومي ص 56-57
(3) أسس الشراء الحكومي ص 57؛ والأسس العامة للعقود الإدارية ص 780.
(4) مثل قولنا: منافسين أو متنافسين. يقال: نافس فلاناً أو تنافس مع فلان. ومثل قولنا أيضاً: مزايدين أو متزايدين. يقال: زايد بعضهم بعضاً، وتزايدوا في الثمن، أو تزايدوا على السلعة.(9/815)
2 - الوصف العام للمناقصة (إجراءات المناقصة) :
1- في الحالات التي تحتاج فيها جهة إدارية ما إلى أصناف (= سلع) للتوريد أو أعمال للتنفيذ، ويتوجب عليها بموجب أنظمتها أو تؤمنها بطريق المناقصة، كأن يكون العدد المتوقع للمناقصين كبيراً، (1) والمبالغ كبيرة تتجاوز حدًّا معيناً (2) فإن الجهة الإدارية بادئ ذي بدء تقدر القيمة التقريبية للتوريد أو للمشروع، وتتأكد من وجود الاعتماد اللازم في الموازنة، ثم تشكل لجنة لوضع المواصفات والشروط، (3) مثل شرط التسليم في محل البائع LOCO، أو في ميناء الشحن، على ظهر المركب F.O.B، أو في ميناء الوصول C.I.F، أو في مستودعات الجهة الإدارية صاحبة المناقصة FRANCO ... إلخ، فهذه الشروط لها أثر في الثمن وتحديد الجهة (البائع، المشتري) التي تتحمل المصاريف المختلفة: الشحن، التفريغ، التأمين، الرسوم الجمركية ... إلخ.
2- بعد وضع المواصفات والشروط تجري الدعوة إلى المناقصة عن طريق الإعلان في الجريدة الرسمية، مرتين بينهما أسبوع مثلاً، وفي صحيفتين محليتين وأجنبيتين (عند اللزوم) ، وذلك لضمان وصول الرسالة الإعلانية إلى عدد غير محدود من المتعهدين أو المقاولين. أما إذا كان عدد من تتوفر فيهم الشروط محدوداً جدًّا (احتكار لا منافسة) فإن المنافسة (= المناقصة) لا تجدي.
ويحدد في الإعلان الصنف أو العمل المطلوب، وقيمة دفتر الشروط، وآخر موعد لتقديم العروض، كما يحدد موعد لفض العروض، يكون عادة في اليوم التالي لآخر يوم من أيام قبول العروض.
وقد يتسامح بتأخير وصول عرض، باليد أو بالبريد، إذا ثبت أن تأخير الوصول عائد لتأخر الطائرة عن موعدها. وهذا التسامح يكون بقرار من الوزير (أو مدير الإدارة) المختص، وبشرط أن يصل العرض ولجنة فتح المظاريف لا تزال مجتمعة.
ويبين في دفتر الشروط الشروط والمواصفات، ومقدار الضمان الابتدائي والانتهائي، والغرامات ... إلخ.
3- بعد حصول الموردين أو المقاولين على دفتر الشروط، يدرس هؤلاء الشروط، فإذا وجدوا في أنفسهم القدرة والرغبة (4) تقدموا بعروضهم إلى الجهة الإدارية، ضمن المواعيد المحددة.
__________
(1) قد لا يكون للسلعة إلا منتج أو وكيل وحيد، كالسيارات وقطع تبديلها.
(2) حتى تكون المناقصة ذات جدوى اقتصادية. ولا يجوز التحايل على المبالغ بتجزئة الشراء إلى عدة مرات، تلافيًا للمناقصة.
(3) هذه الشروط قد تكون عامة منصوصة في لائحة (نظام) المناقصات، أو خاصة تعدها الجهة الإدارية، حسب طبيعة الأصناف والأعمال المطروحة في المناقصة.
(4) قد يكون لهؤلاء الموردين أو المقاولين تصنيف رسمي، فلا يسمح بالاشتراك في المناقصة إلا للمصنفين المسجلين. وقد يكون لهذا التصنيف مراتب متفاوتة.(9/816)
وتقدم هذه العروض في مظاريف مختومة (بالشمع الأحمر) وموقعة. ولا يجوز فتحها إلا في الموعد المحدد لذلك. وترسل بالبريد المسجل، أو تقدم مناولة باليد مقابل إيصال. وتكتب فيها الأسعار على نماذج مخصوصة معدة لهذا الغرض، رقماً وكتابة، بالمداد (= الحبر) ، دون كشط ولا محو. ويجب بيان منشأ البضاعة، فالعرض يهمل إذا كانت البضاعة من دول المقاطعة، أو من المنشآت المحظور التعامل معها.
ويجب تقديم الضمان الابتدائي مع العرض. وتوضع العروض الواردة في صندوق العطاءات الذي له فتحة مناسبة تسمح بدخول العرض ولا تسمح بخروجه منها، وللصندوق قفلان، مفتاح القفل الأول مع مسؤول أمين، ومفتاح القفل الآخر مع مسؤول آخر أمين.
ولا يجوز للمناقصين بعد تقديم عروضهم تعديل أسعارها بالزيادة أو بالنقصان، لما في هذا من إخلال بمبدأ المساواة بين المناقصين ومبدأ السرية في المناقصات.
ويبقى العرض سارياً، لا يجوز لصاحبه الرجوع فيه حتى تاريخ البت، وذلك تحت طائلة مصادرة مبلغ الضمان الابتدائي.
4- تشكل لجنة لفتح المظاريف (فض العروض) ، تقوم بعد التأكد من سلامة أختام المظاريف، بفتح المظاريف في موعد محدد، بحضور المناقصين، أو مندوبيهم، ويعلن اسم كل صاحب عرض، وسعره، على الحضور، ويسجل ذلك كله في سجل خاص.
وتوقع اللجنة المذكورة على العينات الداخلة في مظاريف العروض، وإذا كانت طبيعة العينة لا تسمح بالتوقيع عليها جرى التوقيع على بطاقة تلصق على العينة بطريقة لا يسهل معها نزعها.
5- تشكل لجنة لفحص العروض، (1) وعند الفحص تتأكد اللجنة من توافر الشروط الشكلية في العروض، ومن مطابقة العروض للشروط والمواصفات. ولا تحيل لجنة الفحص إلى لجنة البت إلا العروض التي توافرت فيها الشروط، مثل تقديم الضمان الابتدائي، وصورة عن شهادة السجل التجاري، وبطاقة الاشتراك في الغرفة التجارية أو الصناعية، وشهادة تسديد الزكاة أو الضريبة، وشهادة تصنيف المقاولين أو الموردين.
ويهمل كل عرض مقدم على أساس تخفيض نسبة مئوية، أو مبلغ معين، من أقل العروض. فلو فعل كل المناقصين ذلك لما عرفنا أقل العروض، ويجب أن يتساوى المناقصون في طريقة تقديم العرض.
__________
(1) في المناقصات ذات المبالغ القليلة يكتفى عادة بلجنة واحدة لفتح المظاريف وفحص العروض معاً.(9/817)
6- تشكل لجنة للبت في العروض، التي تحال إليها من لجنة الفحص. وتقوم لجنة البت بالمفاضلة بين العروض، واختيار العرض الأقل سعراً. وتعد محضراً تبين فيه توصيتها (1) بقبول هذا العرض، وأسباب هذه التوصية.
وإذا كانت العروض المقدمة عروضاً خارجية ومحلية، وجب حساب الأسعار على أساس موحد، وهو تسليم المواد إلى مستودعات الجهة الإدارية، خالصة من جميع المصاريف والرسوم FRANCO، مع مراعاة أسعار صرف العملات الأجنبية.
وإذا لاحظت اللجنة ارتفاع العرض الأقل عن سعر السوق ارتفاعاً ظاهراً، أو اقترانه بتحفظات، (2) فإنه يجوز للجنة البت المفاوضة (3) مع صاحب هذا العرض لتخفيض سعره أو سحب تحفظاته، فإذا امتنع جاز أن تتفاوض مع من يليه، أو تعلم جميع المناقصين بذلك، وتطلب إليهم تخفيض عروضهم.
وكذلك إذا تساوت الأثمان بين عرضين وأكثر، ولم تكن لأحدها ميزات على غيره، أجريت بين أصحاب هذه العروض المتساوية مفاوضة علنية، لاختيار الأفضل، أو قسم العقد عليهم، حسب المصلحة الإدارية.
7- بعد اعتماد توصية لجنة البت واتخاذ قرار الترسية (الإرساء) من السلطة المختصة (وزير، وكيل وزارة، مدير إدارة) ، يتم إخطار المناقص الذي قبل عرضه، خلال أسبوع مثلاً من تاريخ الاعتماد، ويطلب حضوره لتوقيع العقد، وتقديم الضمان النهائي. فإذا رفض التوريد أو المقاولة نفذ العقد على حسابه، وحمل بفرق السعر وسائر المصروفات.
8- قد تلغى المناقصة، بقرار معلل (مسبب) ، بعد الإعلان عنها، وقبل البت فيها، أو بعد البت فيها، بناء على رأي لجنة البت. ويكون الإلغاء في الحالات التالية:
1- إذا تقدم عرض واحد، أو لم يبق إلا عرض واحد، بعد استبعاد العروض غير المقبولة شكلاً.
2- إذا كانت قيمة العرض الأفضل تزيد كثيراً على القيمة السوقية. وقد يكون هذا مظنة لوجود رشوة أو تواطؤ بين المناقصين. (4)
__________
(1) فهي إذن توصية لا قرار، وهي وإن سميت لجنة بت، إلا أن هذا البت هنا غير نهائي.
(2) التحفظات تعني الشروط الخاصة التي يشترطها صاحب العرض، وتعتبر تعديلاً لشروط المناقصة (تحفظاً عليها) .
(3) ربما كان لفظ "المراوضة" أو "المساومة" أفضل. واللفظ المذكور أعلاه هو اللفظ الشائع.
(4) تجدر الإشارة هنا إلى أن الصرف (= الإنفاق) العام خاضع لرقابتين: رقابة سابقة (رقابة الممثل المالي، ممثل وزارة المالية) ، ورقابة لاحقة (رقابة ديوان المراقبة العامة) .(9/818)
3- إذا اقترنت العروض كلها أو جلها بتحفظات، ولم يمكن الوصول إلى نتيجة بالتفاوض.
إذا ألغيت المناقصة بسبب من الجهة الإدارية وجب عليها رد ثمن دفتر الشروط والأوراق، في مقابل إعادة هذه الأوراق والدفتر إلى الجهة الإدارية. ويرد الثمن إلى الجميع إذا حصل الإلغاء قبل ميعاد فتح المظاريف. ويرد إلى الذين تقدموا إلى المناقصة فقط إذا حصل الإلغاء بعد الميعاد المذكور.
أما إذا ألغيت المناقصة بسبب من المناقصين، مثل عدم مطابقة عروضهم للمواصفات والشروط، فلا يرد الثمن لأحد.
9- إذا ثبت غش المورد أو المقاول، بعد التعاقد معه، أو تلاعبه، أو دفعه رشوة، أو الشروع فيها، فإنه يعرض نفسه لإلغاء عقده، وتنفيذ العقد على حسابه، ومصادرة ضمانه، وشطب اسمه من سجل الموردين أو المتعهدين، وإدراجه في القائمة السوداء، وإحالته إلى المحاكمة.
1 -3- مبدأ المساواة في المناقصة
من أهم المبادئ التي تقوم عليها المناقصة مبدأ المساواة (= تكافؤ الفرص) بين المناقصين. ومن مظاهر هذه المساواة:
1- الإعلان عن المناقصة حتى يصل خبرها إلى أكبر عدد ممكن من الموردين أو المتعهدين. ويجب أن يكون الإعلان في صحف واسعة الانتشار، وأن يتم الإعلان أكثر من مرة.
2- تجنب ذكر مواصفات أو شروط تنطبق على بلد أو مورد أو مقاول بعينه.
3- إعطاء مهلة كافية لتقديم العروض.
4- عدم إجراء أي تعديل في الشروط أو في المواصفات لصالح أحد المناقصين أو بعضهم.
5- أن تكون معايير قبول واستبعاد العروض واحدة، وكذلك معايير فحص العروض، والبت فيها.
6- عدم العدول عن التعاقد مع صاحب العرض الأقل، إلا بقرار معلل واضح.
7- أن تكون المعاملة واحدة بالنسبة للجميع، لا محاباة فيها لأحد ولا تمييز، من حيث التساوي في المعلومات والفرص واحترام المواعيد وإجراءات التسليم والصرف والضمان والغرامة وسحب العمل ... إلخ.
نصت المادة الأولى من نظام تأمين مشتريات الحكومة في المملكة العربية السعودية على ما يلي:
أ- لجميع الأفراد والمؤسسات الراغبين في التعامل مع الحكومة، ممن تتوافر فيهم الشروط التي تؤهلهم لهذا التعامل، فرص متساوية، ويعاملون على قدم المساواة.
ب- توفر للمتنافسين معلومات كاملة وموحدة عن العمل المطلوب، ويمكنون من الحصول على هذه المعلومات في وقت واحد، ويحدد ميعاد واحد لتقديم العروض. (1)
__________
(1) نظام تأمين مشتريات الحكومة ص 12 و13.(9/819)
وجاء في المادة الرابعة من النظام المذكور أن "على الجهات الإدارية أن تفسح المجال في تعاملها لأكبر عدد ممكن من المؤهلين العاملين في النشاط الذي يجري التعامل فيه، بحيث لا يقتصر تعاملها على أشخاص أو مؤسسات معينة" (1)
8- في حال التساوي بين عطاءين (أو أكثر) يلجأ إلى التفاوض، فإن بقي التساوي قائماً بعد التفاوض قسمت الكمية بينهما إذا كانت القسمة ممكنة وغير ضارة بالمصلحة، وإلا اختير أحدهما بالقرعة.
9- وجود رقابة فعالة لمنع أي تجاوز أو محاباة أو رشوة، أو تسريب للمعلومات، أو إفشاء للسرية، لصالح أحدهم أو بعضهم.
10- أن تكون اللجان وجهات الرقابة مكونة من أشخاص من ذوي الخبرة والسمعة الحسنة؛ لأن أي خلل في الخبرة أو في الأمانة يمكن أن يؤدي إلى التحايل أو التلاعب أو الرشوة أو الشفاعة (الوساطة) السيئة.
11- على الدولة أن تتخذ كل ما يمكن من الإجراءات والتدابير لتحقيق المصلحة العامة من جهة، وللمساواة بين المصالح الخاصة من جهة أخرى.
ولكن كل هذه الإجراءات والتدابير لا تجدي شيئاً إذا ما كان هناك تعسف أو سوء استعمال للسلطة الحكومية. فمثل هذا يؤدي إلى عدم تحقيق المصلحة العامة، بل إلى الضرر العام (إنفاق عام لتغطية تكاليف المناقصة دون تحقيق الهدف المطلوب) ، أو إلى إشاعة الظلم والفساد.
1 -4- مبدأ قيمة الزمن في المفاضلة بين العروض:
أحد تطبيقات مبدأ المساواة عند المفاضلة بين العروض تؤخذ قيمة الزمن بعين الاعتبار. (2) فإذا كانت بعض العروض تقدم تسهيلات ائتمانية، وبعض العروض لا تقدم هذه التسهيلات، أو تشترط دفعات مقدمة، كان لا بد من تقويم هذه الدفعات (المؤجلة أو المقدمة) على أساس زمني واحد، أي حساب قيمتها الحالية بتاريخ موحد.
وليس هذا من الربا الحرام؛ لأنه يتعلق بدراسات الجدوى (المفاضلة بين المشروعات أو بين العروض) ، ولا يتعلق بالقروض الربوية، وقد بينا هذا في موضع آخر. (3)
1 -5- المناقصة والمنافسة:
1- الاقتصاد الإسلامي يقوم على مبدأ المنافسة الحرة. قال ابن خلدون (808 هـ) : "إن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون، ومزاحمة (= منافسة) بعضهم بعضاً تنتهي إلى غاية موجودهم، أو تقرب" (4)
إن هذا التكافؤ أو التقارب ركن من أركان المنافسة. فالمنافسة لا توجد إلا إذا كان عدد البائعين والمشترين كبيراً، وكانت قواهم متكافئة أو متقاربة. (5)
__________
(1) نفسه ص 50.
(2) قارن لائحة المناقصات، ضمن "الأسس العامة للعقود الإدارية" ص 814 و816.
(3) انظر لي بيع التقسيط ص 67، والجامع في أصول الربا ص 75 و325 و336.
(4) مقدمة ابن خلدون 2/734.
(5) أصول الاقتصاد الإسلامي ص 58.(9/820)
2- قد يطلق لفظ المنافسة على معنى مخصوص هو المناقصة أو المزايدة، كما في النظام السعودي. (1) فالمناقصة (والمزايدة) عبارة عن منافسة بين المشتركين فيها. ولا بد أن يكون عدد هؤلاء المشتركين كافياً، وأن يكونوا مستقلين كل منهم عن الآخر (= غير متواطئين) ، ومتساوين في الفرص والمعلومات. فالمناقصة صورة مخصوصة من صور المنافسة.
1 -6- أنواع المناقصات:
أولاً- المناقصة العامة والمناقصة المحدودة
1- المناقصة العامة:
المناقصة العامة هي الأصل، والمحدودة استثناء. فالقاعدة العامة في تنفيذ المقاولات والتوريدات الحكومية هي أن تتم عن طريق مناقصة عامة، تفسح مجال الاشتراك لعدد غير محدود من المناقصين. وتتبع فيها إجراءات النشر الرسمية بالإعلان في الصحيفة الرسمية والصحف المحلية أو الخارجية.
ويلجأ إلى هذا النوع من المناقصة عندما يتوقع أن يكون عدد المناقصين كبيراً.
2- المناقصة المحدودة (الخاصة) :
ويلجأ إليها استثناء، لتحقيق مصلحة مالية عامة تتمثل في الاقتصاد في تكاليف المناقصة العامة. ويجب أن يكون لها تبرير واضح، وإلا اعتبرت مخلة بمبادئ تكافؤ الفرص والعدالة والمساواة بين الراغبين في التعامل مع الدولة.
وفي هذه المناقصة لا يلجأ إلى الإعلان في الصحف، إنما يلجأ فيها إلى توجيه خطابات (= كتب) رسمية لمن تتوفر فيهم الأهلية للاشتراك في المناقصة. ويتوقع أن يكون عددهم قليلاً، بالنظر إلى الإمكانات الفنية والمالية المطلوبة. وغالباً ما يختارون من المنتجين المباشرين، لا من الوسطاء، حتى تكون أسعارهم أرخص، وربما يطلب ترشيحهم من مؤسسة عامة مختصة، أو من مؤسسة أخرى، ومن هيئة دولية.
وبالنظر للإمكانات الضخمة المطلوبة، قد تلجأ الإدارة إلى تجزئة العروض، بقصد التيسير على الموردين أو المقاولين، لا سيما إذا كانوا محليين، وكانت الكميات المطلوبة كبيرة، بحيث تتجاوز إمكانات المنشأة الواحدة. فربما كانت لوائح المناقصة وأنظمتها تنص على إعطاء أولوية للشراء من المنشآت الوطنية، أو المشتركة، أو الإسلامية، أو العربية، لا سيما إذا كانت منتجاتها محققة للغرض المطلوب.
ثانياً- المناقصة الداخلية والمناقصة الخارجية
1- المناقصة الداخلية: وهي التي يقتصر الاشتراك فيها على الموردين والمقاولين في داخل البلد، ويكتفى فيها بالإعلان الداخلي.
2- المناقصة الخارجية: وهي التي يشترك فيها أيضاً موردون ومقاولون من خارج البلد، ويعلن عنها بداخل البلد وخارجه.
ثالثاً- المناقصة العلنية والمناقصة السرية
__________
(1) نظام تأمين مشتريات الحكومة ص 13 و 27.(9/821)
1- المناقصة العلنية (= الممارسة) . (1)
في حالات خاصة قد يحضر المناقصون إلى الإدارة صاحبة المناقصة لتقديم أسعارهم بصورة علنية، ويتناقصون في السعر إلى أن ترسو العملية (التوريد، المقاولة) على صاحب السعر الأقل. ومن مميزات هذه الطريقة أن أسعار المناقصين فيها مكشوفة، ويتناقصون فيها على بينة، حيث يكون سعر كل منهم معلوماً للآخر.
فالمناقصة العلنية تشبه المزايدة العلنية (= المزاد العلني) التي تتم بالنداء (= الصياح) . (2)
2- المناقصة السرية
الأصل في المناقصة أن تكون سرية، بحيث تتم بطريق تقديم المناقصين عروضهم وأسعارهم المكتوبة، ضمن مظاريف مختومة بالشمع الأحمر وموقعة. وتوضع هذه المظاريف في صندوق العطاءات المزود بقفلين وفتحة ملائمة لإدخال المظاريف دون إمكان استعادتها منها، كما مر وصفه.
1 -7 ما الغاية من سرية المناقصة؟
1- المعلوم أن المزايدة المأثورة في الإسلام (سنة وفقهاً) مزايدة علنية. وكذلك المزايدة الشائعة قديماً.
2- والمناقصة قد تكون علنية. لكن المناقصة العامة والسائدة حديثاً هي المناقصة السرية التي تقدم عروضها في مظاريف مختومة بالشمع الأحمر، لا يجوز لأحد آخر الاطلاع عليها قبل موعد فتح المظاريف.
3- ومن الواضح أن العلانية في المزايدة والمناقصة تحقق الغرض منهما، وهو التنافس بين المشتركين فيهما للوصول إلى أفضل عرض.
4- فما الغاية إذن من سرية المناقصات الحديثة؟ لم أجد أحداً من الكتاب أجاب عن هذا السؤال، بل لم أجد من طرحه.
5- قد يجاب عن هذا السؤال بأن المناقصات الحديثة مناقصات فنية معقدة تحتاج العروض فيها إلى دراسة.
6- لكن هذا الجواب غير كافٍ؛ لأن من الممكن أن يناقص المناقص دون أن ينزل عن حد أدنى معين، مبني على دراسة مسبقة.
7- قد يكون الجواب أن المناقصة الحديثة تنطوي على كميات كبيرة من السلع أو الخدمات، وقد يخشى لسبب أو آخر في العلانية أو يندفع البعض للنزول إلى أسعار غير معقولة، فيتعثر التوريد أو التنفيذ. أما إذا كان السعر مدروساً وعادلاً وبعيداً عن حرارة المنافسة العلنية فإنه يضمن لصاحبه حدًّا من الربح، ويعينه على تنفيذ التزاماته.
__________
(1) سموها ممارسة، ولم أفهم وجهاً لهذه التسمية. انظر الأسس العامة للعقود الإدارية ص 63، والعقود الإدارية ص 149. والممارسة ترجمة للعبارة الفرنسية Marcie de gre a gre. ويبدو لي أن الترجمة غير موفقة، والأفضل منها فيما أعتقد: مراوضة، مساومة، ومماكسة، سيما إذا كانت الممارسة عبارة عن مساومة لا مزايدة ولا مناقصة (كما ذكر المعجم الوسيط 2/869) . أما إذا كانت الممارسة عبارة عن مناقصة محدودة، ولكنها علنية، فالأفضل أن تكون ترجمتها: "مناقصة علنية"، تمييزاً لها عن المناقصة السرية (العامة، والمحدودة) . وإذا كان هذا هو معنى الممارسة فإن العبارة الفرنسية تبدو غير مناسبة؛ لأن معناها: صفقة بالتراضي (مراوضة) . إن على المؤلفين في المناقصات والعقود الإدارية أن يبذلوا مزيداً من العناية باختيار وتحقيق وتمحيص مثل هذه المصطلحات.
(2) الوسيط للسنهوري 7/42.(9/822)
لكن قد يعكر على هذا الجواب أمران:
1- وجود مبدأ التفاوض في نظام المناقصات، عند التساوي بين العروض، وإن كان التفاوض يتم بين عدد محدود: اثنين مثلاً.
2- إمكان استبعاد العرض الأقل إذا وجد أن سعره منخفض إلى حد غير معقول.
1 -8- هل المناقصة عقد؟ أين الإيجاب والقبول في المناقصة؟
1- ربما يقال: إن المناقصة عبارة عن طريقة أو إجراءات تمهد لعقد: توريد أو مقاولة.
2- أو يقال: إنها عقد، فيه طرفان: الطرف الأول الجهة الإدارية صاحبة المناقصة تلتزم بالتعاقد مع المناقص الأقل سعراً، والطرف الآخر المناقصون كل منهم يلتزم بالتعاقد مع الجهة الإدارية إذا كان سعره هو الأقل.
فالمناقصة إذن عقد يؤدي إلى عقد آخر: توريد، أو مقاولة.
3- لكن يمكن النظر إلى المناقصة على أنها عقد واحد مركب (منظومة عقود) ، أي تدخل فيه عدة عقود، مثل عقد بيع دفتر الشروط، وعقد الضمان الابتدائي، والانتهائي، ... إلخ.
وبما أن المناقصة تؤول إلى إبرام عقد توريد مواد، أو عقد مقاولة للقيام بخدمات أو أشغال، فيمكن القول بأن هناك مناقصة توريد أو مناقصة مقاولة. ويعتبر العقد عندئذ عقداً واحداً، الإيجاب فيه لا يصدر من الجهة الإدارية عند طرح التوريد أو المقاولة في مناقصة، بل يصدر من المورد، أو من المقاول، عندما يشترط في المناقصة. وهذا الإيجاب ملزم له. (1) لا يرجع عنه حتى رسوِّ المناقصة على غيره. وإذا كانت المناقصة علنية فكل عرض لاحق (يقدمه المناقص) ينسخ عرضه السابق. (2) والقبول فيه يصدر من الجهة الإدارية صاحبة المناقصة عندما تبرم العقد مع المورد أو المقاول الأقل سعراً، بعد رسوّ المناقصة عليه. (3) فهما إيجاب وقبول تسبقهما وتتوسط بينهما إجراءات تمهد للإيجاب أو للقبول.
__________
(1) مصادر الحق 2/62. وهذا الإلزام على سبيل الاستثناء؛ لأن الأصل في العقود أن الموجب يستطيع الرجوع عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر.
(2) مصادر الحق 2/62. وهذا الإلزام على سبيل الاستثناء؛ لأن الأصل في العقود أن الموجب يستطيع الرجوع عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر.
(3) مصادر الحق 2/62. وهذا الإلزام على سبيل الاستثناء؛ لأن الأصل في العقود أن الموجب يستطيع الرجوع عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر.(9/823)
1 -9- عقد المقاولة:
1- المقاولة لغة: المفاوضة والمجادلة. وفي الاصطلاح الحديث: عقد بين طرفين، يصنع فيه أحدهما (وهو المقاول) شيئاً لآخر، أو يقدم له عملاً، في مقابل مبلغ معلوم. (1)
2- ويدخل عقد المقاولة في العقود الإدارية إذا توافرت فيه خصائص هذه العقود، بأن يكون أحد طرفيه جهة إدارية عامة، وغير ذلك مما سنبينه في مبحث لاحق.
3- وعقد المقاولة إذا كان موضوعه أداء عمل فهو في معنى عقد الإجارة (إجارة الأشخاص: الإجارة المشتركة) المعروف في الفقه الإسلامي.
وإذا كان موضوعه صنع شيء، وكانت المادة مقدمة من المستصنع فهو إجارة أيضاً. أما إذا كانت المادة مقدمة من الصانع فهو استصناع بالمصطلح الحنفي. وهو عقد مركب من بيع وإجارة.
4- غير أن رجال القانون يميزون بين عقد المقاولة وعقد الإجارة (الخاصة) ، وهذا التمييز صحيح، ولكنهم لم يميزوا بينه وبين عقد الإجارة المشتركة، كما هو الحال عند التعاقد مع أرباب المهن الحرة (النجار، الحداد، الصباغ ... إلخ) .
5- إن عقد المقاولة إما أنه إذن إجارة، أو أنه يجمع بين بيع وإجارة أشخاص، كالعقد مع مؤسسة المياه (ثمن ماء + أجرة توصيل الماء) . وقد يجمع بين إجارة أشخاص وإجارة أشياء، كالعقد مع ملعب أو مسرح (أجرة اللاعب أو الممثل + أجرة المقعد) . (2)
6- والواقع أن عقد المقاولة (الإجارة المشتركة) وعقد العمل (الإجارة الخاصة) كانا مندمجين معاً في عقد الإجارة في التشريع الوضعي القديم، فكان هذا العقد يضم إجارة الأشياء وإجارة الأشخاص (الإجارة الخاصة) وإجارة أرباب الصنائع (الإجارة المشتركة) . (3)
ويعود الفصل بين هذه العقود في التشريع الجديد لأسباب تتعلق بالتنظيم أكثر مما تتعلق بجوهر الأحكام.
__________
(1) في القانون اللبناني يسمون عقد المقاولة عقد إجارة الصناعة، ترجمة للفظ الفرنسي: Louage d’industrie.
(2) قارن الوسيط 7/7-13.
(3) الوسيط 7/32.(9/824)
1 - 10- عقد مقاولة الأشغال العامة:
1- هو عقد بين جهة إدارية عامة (كوزارة الأشغال العامة) ومنشأة خاصة (أو عامة) ، تقوم ببناء عقارات أو ترميمها أو صيانتها، في مدة محددة، لقاء مقابل محدد، يدفع على نجوم (= أقساط) .
2- وعقد الأشغال العامة هو عقد من عقود المقاولة، ولكن أحد طرفيه جهة إدارية عامة، فهو عقد إداري.
3- في حال رسو المناقصة على مقاول، لا يجوز لهذا المقاول أن يعهد بالمقاولة إلى آخر (مقاول من الباطن) ، إلا بإذن خطي من الجهة الإدارية، تحت طائلة المسؤولية التضامنية بين المقاولين.
4- على المقاول إذا تسلم من الجهة الإدارية موقع العمل أن يحافظ على النظام والنظافة وإماطة الأذى (أخشاب، مسامير ... إلخ) ، وأن يحافظ أيضاً على أملاك الدولة، وعلى تعليمات الجهات الإدارية المختلفة (الشرطة، التنظيم، الصحة، مكاتب العمل، التأمينات الاجتماعية، مصلحة الآثار ... ) ، والتأكد من صلاحية التربة لقيام الإنشاءات المطلوبة عليها، ومراجعة الرسومات والتصميمات الهندسية والفنية، وإخطار الإدارة بأي خطأ فني يؤثر على سلامة المنشآت ومتانتها.
5- كل المواد والقطع والأدوات والآلات التي يستحضرها المقاول إلى موقع العمل، لأجل تنفيذ المقاولة، وكذلك المنشآت الوقتية التي يقيمها، يجب أن تظل في موقع العمل، لا يتصرف بشيء منها إلا بموافقة الجهة الإدارية. ويتحمل المقاول مسؤولية ضياعها أو تلفها أو سرقتها.
6- في حال سحب العمل من المقاول، لمخالفة من المخالفات التي تستوجب هذا السحب، يكون للجهة الإدارية حق حجز أو بيع كل هذه الأشياء أو بعضها، لإتمام العمل على حسابه ومسؤوليته. ويتحمل المقاول أي خسارة يمكن أن تنشأ عن هذا البيع. وإذا كانت هناك أشياء لم تعد صالحة للاستعمال، أو كانت زائدة على الحاجة، كلف المقاول بنقلها على حسابه من موقع العمل. وتحتفظ الجهة الإدارية بحق المطالبة بالتعويض عن كل الأضرار التي تلحق بها نتيجة سحب العمل من المقاول، لتأخره أو توقفه أو انسحابه أو إخلاله بالشروط والمواصفات.(9/825)
7- وتصرف للمقاول دفعات على الحساب (1) تبعاً لتقدم العمل. ولا يجوز صرف مبالغ دورية (شهرية مثلاً) بغض النظر عن حالة العمل. ويجب عدم التهاون بحقوق المتعاقد؛ لأن ذلك يخل بمبادئ العدالة، ويؤدي إلى تعثر التنفيذ. فعلى الجهة الإدارية أن تكون حريصة على حقوقه قدر حرصها على حقوقها. ويحق للمتعاقد المطالبة بالتعويض عن أي ضرر يمكن أن يلحق به بسبب الإدارة، وترجع هذه الإدارة على موظفيها بالمحاسبة والمسؤولية.
ولا يتم الصرف للمقاول إلا إذا كان العمل مرضياً، وعلى أن لا يتجاوز المدفوع قيمة ما تم من عمل. وتمتنع الإدارة عن صرف الأقساط إذا تبين لها أن تقدم العمل أو وضع بعض أجزائه أو سلوك المقاول أو وكلائه غير مرضٍ. وتحتفظ الإدارة بقسط أخير لا يصرف للمقاول إلا بعد تمام العمل.
8- على المقاول بمجرد انتهاء العمل إخلاء موقع العمل، وإزالة جميع المواد والأتربة والمخلفات، وإخطار الجهة الإدارية كتابة، لتحديد موعد المعاينة، وتحرير محضر الاستلام النهائي، ورد الضمان إليه.
1-11- عقد التوريد:
1- هو عقد بين جهة إدارية عامة (2) ومنشأة خاصة (أو عامة) ، على توريد أصناف (= سلع، مواد) محددة الأوصاف، في تواريخ معينة، لقاء ثمن معين، يدفع على نجوم (= أقساط) .
2- فعقد التوريد هو عقد بيع يتأجل ففيه البدلان (المبيع، والثمن) . وهو أشبه شيء في الفقه بعقد الاستصناع المعروف عند الحنفية، إذ أجازوا فيه عدم تعجيل الثمن، خلافاً للسلم.
ولكنه يشبه السلم أيضاً من حيث إن الآجال فيه معلومة: آجال التسليم، وآجال الدفع.
وسنعود إلى هذا الموضوع في القسم الثاني من هذه الورقة.
3- التوريد قد يتم بطريق الشراء العادي (المباشر) ، أو بطريق المناقصة فالمناقصة قد تجري من أجل عقد توريد.
4- وتتولى لجنة الفحص فحص الأصناف الموردة، وتعتبر الأصناف المرفوضة على مسؤولية المورد، من حيث الفقدان، أو السرقة أو الحريق، ولعل هذا من باب التعزيز (= العقوبة) ، وإلا فإن المسؤولية في الأصل تقع على الجهة الإدارية لحين تسليم هذه الأصناف في الموعد المحدد (خلال أسبوع مثلاً من تاريخ الإخطار أو الإشعار) .
__________
(1) الدفعة على الحساب تأخذ حكم القرض، يسدد فيما بعد بالمقاصة من الحقوق المالية للمقاول، عندما تتم المحاسبة النهائية، وتثبت له هذه الحقوق وتستقر.
(2) يمكن أن تكون الجهة خاصة، ولكن قصرنا الكلام في هذه الورقة على العقود الإدارية.(9/826)
5- إذا طلب المورد إعادة تحليل الأصناف المرفوضة أعيد التحليل (أو الفحص) على نفقته، إلا إذا جاءت نتيجته في صالحه، فعندئذ تقع النفقة على الإدارة.
6- تصرف للمورد دفعات على الحساب، لا تتجاوز كل دفعة قيمة الجزء المورد، وذلك بعد تسلم هذا الجزء من الجهة الإدارية أصولاً، بموجب مذكرة، استلام أو إدخال في المستودعات، وشهادة فحص أو تحليل تثبت صالحة المواد المسلمة.
1 -12- العقود الإدارية:
1- تعقد الإدارة العامة (الدولة) نوعين من العقود:
1- عقوداً عادية كعقود الأفراد بعضهم مع بعض، وتخضع للقانون الخاص؛
2- وعقوداً إدارية تعطي الإدارة امتيازات خاصة، وتخضع للقانون العام الإداري. (1)
وعلى هذا نميز بين عقود الإدارة والعقود الإدارية، فعقود الإدارة تتضمن عقوداً غير إدارية.
2- والعقد الإداري هو العقد الذي تكون الإدارة العامة طرفاً فيه، ويتصل بمرفق عام، ويخضع للقانون العام (الإداري) ، وتفصل منازعاته في القضاء الإداري.
1 -13- بعض خصوصيات العقود الإدارية:
1- قلنا: إن العقود الإدارية هي التي تكون الإدارة (العامة) طرفاً فيها. وفي هذه العقود تقوم الإدارة بوضع شروط التعاقد مقدماً دون أن تعطي للمتعاقد فرصة مناقشتها، فهي أشبه بعقود الانضمام أو الإذعان (2) Contrats d’adhesion، بالنسبة للمتعاقد مع الإدارة.
2- تعطي هذه العقود امتيازات للإدارة، (3) غير مألوفة في غيرها من العقود، وظاهرها الخروج على مبدأ المساواة في المنافسة. من هذه الامتيازات:
1- الإدارة تلزم المناقص بإيجابه حتى تاريخ البت في المناقصة، والمعهود في العقود العادية عدم التزام المتعاقد بإيجاب، بل يمكنه الرجوع عنه قبل صدور القبول.
__________
(1) القانون الخاص هو قانون المصالح الخاصة، ويقوم على مبدأ المساواة والتكافؤ بين طرفي العقد. والقانون العام هو قانون المصالح العامة، ويقوم على مبدأ السلطة والقهر وفرض إرادة الدولة على الأفراد، دون تعسف. فهو يعمل إذن: "على التوفيق بين ممارسة امتيازات السلطة بقصد تحقيق المصلحة العامة من ناحية، وبين حماية وضمان الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأفراد من ناحية أخرى"، القانون الإداري ص 10. والقانون الإداري هو أحد فروع القانون العام.
(2) لفظ "الانضمام" أفضل من لفظ "إذعان" الشائع (أدخله السنهوري، الوسيط 1/229) ؛ لأن الأول أوسع وأنسب. فالإذعان حالة خاصة من الانضمام، لا تنطبق إلا في حال الاحتكار المترافق بسعر جائر (شروط تعسفية) . أما إذا كانت هناك منافسة بين المنشآت، أو كان هناك احتكار مع سعر عادل، فلا يكون هناك إذعان، بل انضمام فشركات التأمين وشركات النقل قد تكون كثيرة متنافسة، وكلها تضع شروطها بدون أن يشترط المتعاقد معها في وضع هذه الشروط ومناقشتها.
(3) انظر أنظمة الإدارة العامة ص 374.(9/827)
2- تملك الإدارة سلطة عدم التعاقد: إلغاء المناقصة، بينما لو رجع المناقص عن عرضه لتعرض للعقوبة (مصادرة الضمان الابتدائي) ، ولو رجع عن عقده لتعرض لعقوبات أخرى (مصادرة الضمان النهائي، تنفيذ العقد على حسابه، مطالبته بتعويض الضرر) .
3- تملك الإدارة سلطة التعاقد مع غير صاحب العرض الأقل.
4- تملك الإدارة سلطة تعديل العقد بالزيادة أو بالنقصان (في حدود معقولة، لا تتجاوز 20? مثلاً) .
5) تملك الإدارة سلطة توقيع العقوبات (= الجزاءات) : سحب العمل، الغرامات، دون الرجوع إلى القضاء، (1) بينما لا يملك المتعاقد توقيع أي عقوبة على الإدارة إلا بعد الرجوع إلى القضاء.
3- ويبرر رجال القانون الإداري هذه الامتيازات الممنوحة للدولة بما يلي:
1- بأن العقد يتصل بمرفق عام.
2- ويجب حسن سير المرفق العام، باطراد وانتظام (2) ومسايرة للتطور.
وهذا معناه تغليب الصالح العام على الصالح الخاص، ومن ثم إعطاء أحد الطرفين (الإدارة) سلطات ليست للطرف الآخر.
4- والواقع أن للعقود الإدارية حساسية خاصة، لا تتصل بالصالح العام فحسب، بل بالأمن العام والسلام الاجتماعي أيضاً. ذلك لأن اضطراب سير المرافق العامة من شأنه أن يؤدي إلى الاستياء العام والاضطرابات الاجتماعية. ومن الأسباب المؤدية إلى اضطراب سير المرافق العامة (الماء، الكهرباء، الصحة، التعليم، ... إلخ) انتشار اللامبالاة أو التخريب، بسبب فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم، أو بسبب شيوع الرشوة والفساد في القطاعين العام والخاص، وتحلل القيادة السياسية، وتدخلها في الأعمال الإدارية والاقتصادية للدولة بصورة احتكارية أو إقطاعية (اقتسام مناطق النفوذ، واقتسام المغانم والمنافع، وفرض مكوس أو مبالغ باهظة على التراخيص المطلوبة للأنشطة المختلفة) ، (3) مما يؤدي إلى القضاء على المنافسة الشريفة وحرية المبادرة.
5- وبمقابل ذلك، من المستحسن عدم التوسع في امتيازات الجهة الإدارية حيال المتعاقدين معها، خشية تنفيرهم من التعاقد معها، أو خشية ألا يتقدم للتعامل معها إلا الواثقون من نفوذ مقابل لهم، يستطيعون به مواجهة امتيازات الدولة.
__________
(1) لكن هذا يخضع إلى رقابة لاحقة للقضاء الإداري.
(2) الاطراد يعني عدم الانقطاع، والانتظام يعني انتظام المواعيد. الوسيط 7/272 – 310.
(3) حتى صار لهذه التراخيص سوق تباع فيها هذه التراخيص وتشترى.(9/828)
القسم الثاني
المناقصة فقهيًّا
2 -1- البيع: مساومة، ومزايدة، وأمانة:
1- يقسم فقهاؤنا البيع، من حيث طريقة تحديد الثمن، إلى ثلاثة أقسام:
1- بيع مساومة: بين بائع وشارٍ، الأول يزيد في الثمن، والآخر ينقص، إلى أن يتفقا.
2- بيع مزايدة: بين بائع وعدة شارين يتزايدون في الثمن إلى أن يتفق البائع مع أزيدهم ثمناً.
3- بيع أمانة: وهو بدوره ثلاثة أقسام: مرابحة، تولية، وضيعة (= حطيطة، نقيصة) : بين بائع وشارٍ يأتمن البائع على ثمن السلعة، ثم يزيده ربحاً محدداً (مرابحة) ، أو لا يزيده شيئاً ولا ينقصه (تولية) ، أو ينقصه مبلغاً معلوماً (وضيعة) . (1)
2- والمناقصة عكس المزايدة، و"هي أن يعرض المشتري شراء سلعة موصوفة بأوصاف معينة، فيتنافس الباعة في عرض البيع بثمن أقل، ويرسو البيع على من رضي بأقل سعر". (2)
قالوا: "ولم نطلع على ذكر له (شراء المناقصة) في كتب الفقه بعد التتبع، ولكن يسري عليه ما يسري على المزايدة، مع مراعاة التقابل". (3)
"ويقابله (بيع المزايدة) الشراء بالمناقصة ". (4)
2 -2- المباحث ذات الصلة:
1- المزايدة: وسأعرض لها ملخصاً، في مبحث لاحق.
2- المسابقة: فالمناقصة نوع من المسابقة بين الباعة (مسابقة مهارات إدارية) للفوز بعقد البيع. ومن أحكام المسابقة التي يستفاد منها في المناقصة:
1- المساواة بين الباعة في الفرص والمعلومات والشروط.
2- إذا كان الثمن الأدنى قدمه بائعان قسم العقد بينهما إذا كانت القسمة ممكنة.
قال ابن رشد: "إلا أن يكونا جميعاً قد أعطياه ديناراً معاً هما فيه شريكان". (5)
أما إذا كانت القسمة غير ممكنة، أو ضارة، فيلجأ إلى القرعة. (6)
2 -3- ملخص للمزايدة في السنة والفقه
1- ولم يرد ذكر للمناقصة في قرآن أو سنة أو فقه، أما المزايدة فقد ورد الكلام عنها في كتب السنة والفقه، وهي أخت المناقصة. لذلك فإننا سنستعين بالمزايدة في حكمنا على المناقصة.
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية: 9/9.
(2) الموسوعة الفقهية الكويتية: 9/9.
(3) الموسوعة الفقهية الكويتية: 9/9.
(4) الموسوعة الفقهية الكويتية: 9/9.
(5) البيان والتحصيل 8/475.
(6) كتابي الميسر والمسابقة ص 22 و37؛ والأسس العامة للعقود الإدارية ص 223. وقد يقوم العقد (كعقد المقاولة مثلاً) كله على أساس المسابقة، كمسابقة تصميم مبنى مصرف (بنك) أو مسرح أو مشفى أو مدرسة ... إلخ. وتكون الجائزة إما مبلغاً نقديًّا معلوماً، أو التعاقد مع صاحب التصميم الفائز. ويعتبر إعلان المسابقة دعوة إلى التعاقد، وليس إيجاباً، والإيجاب هو التقدم إلى المسابقة، ولا يكون باتًّا إلا بالفوز بها، والقبول هو قرار إعلان الفائز. الوسيط 7/40.(9/829)
1- قال عطاء: أدركت الناس لا يرون بأساً ببيع المغانم فيمن يزيد. (1)
قال ابن حجر: "وصله ابن أبي شيبة (2) ونحوه عن عطاء ومجاهد. وروى هو وسعيد بن منصور عن ابن عيينة عن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد، وكذلك كانت تباع الأخماس". (3) والأخماس جمع خمس، والمراد: خمس الغنيمة.
2- عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلساً (4) وقدحاً، وقال: ((من يشتري هذا الحلس والقدح؟)) فقال رجل: أخذتهما بدرهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يزيد على درهم؟ من يزيد على درهم؟)) فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه.
رواه أحمد وأصحاب السنن مطولاً ومختصراً. (5)
3- قال الترمذي: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لم يروا بأساً ببيع من يزيد، في الغنائم والمواريث". (6)
قال ابن العربي: "وقد ذكر أبو عيسى (الترمذي) عن بعضهم أنه يجوز في الغنائم والمواريث، والباب واحد، والمعنى مشترك، لا تختص به غنيمة ولا ميراث". (7)
قال الشوكاني: "فالظاهر الجواز مطلقاً؛ إما لذلك لم ينقل أن الرجل الذي باع عنه صلى الله عليه وسلم القدح والحلس كانا معه من ميراث أو غنيمة، وإما لإلحاق غيرهما بهما، ويكون ذكرهما خارجاً مخرج الغالب؛ لأنهما الغالب على ما كانوا يعتادون البيع فيه مزايدة". (8)
4- قال ابن جزي: "أما المزايدة فهي أن ينادي على السلعة، ويزيد الناس فيها بعضهم على بعض، حتى تقف (= ترسو) (9) على آخر زائد فيها، فيأخذها". (10) . (11)
5- وقد يكون المنادي (= الدلال) في المزايدة شخصاً آخر غير صاحب السلعة، كما قد يكون صاحب السلعة حاضراً مجلس المزايدة، أو غائباً عنه. (12)
__________
(1) صحيح البخاري (بيع المزايدة) 3/91.
(2) مصنف ابن أبي شيبة 6/58.
(3) فتح الباري 4/354. وانظر نيل الأوطار 5/191.
(4) الحلس: كساء لظهر البعير.
(5) سنن الترمذي 3/513، واللفظ له، وقال: حديث حسن (باب ما جاء في بيع من يزيد) ؛ وسنن النسائي 7/259، وسنن أبي داود (الزكاة) 2/120؛ وسنن ابن ماجه (التجارات) 2/740؛ والفتح الرباني 15/51.
(6) سنن الترمذي 3/513.
(7) عارضه الأحوذي 5/224.
(8) نيل الأوطار 5/191.
(9) كان يستخدم لفظ الوقوف بمعنى الرسو، والإيقاف بمعنى الإرساء. انظر أيضاً المعيار المعرب 8/359 و362.
(10) قوانين الأحكام الشرعية ص 290.
(11) فالمزايدة تكون في البيع (والإيجار) ، والمناقصة في الشراء (والاستئجار) ، وترتيباتهما الحديثة متشابهة، وقد يجمعهما نظام واحد، ويمكن أن يقال: إن كلًّا منهما جائز، من حيث المبدأ لأن حقيقتهما واحدة.
(12) الفتاوى الهندية 3/210. وهذه التفصيلات الفقهية مفيدة. ففي يومنا هذا يفرق في المزايدات الحكومية بين لجان المزايدة وصاحب الصلاحية (الوزير، أو المدير) ، فهذه اللجان دورها أشبه بدور المنادي، وصاحب الصلاحية دوره أشبه بدور مالك أو صاحب السلعة.(9/830)
6- أطلق بعض الفقهاء على بيع المزايدة بيع الفقراء، أو بيع من كسدت بضاعته. (1) ولعلهم أطلقوا عليه هذا الاسم بالاستناد إلى بعض الأحاديث والآثار الواردة فيه، ولا أرى داعياً لتخصيص هذا البيع بالفقراء، أو بأصحاب البضاعة الكاسدة، أو بغير ذلك لا سيما وأن الحكومات تلجأ إليه في عصرنا هذا. فالعبرة بعموم المعنى لا بخصوص السبب. (2)
7- وقد ميز العلماء بيع المزايدة من بيع المسلم على بيع أخيه، أو سومه على سومه، فبيع المزايدة مباح، والآخر مكروه. (3)
8- ومنع الإسلام النجش في المزايدة، وهو أن يزيد مزايد، لا يريد الشراء، بقصد خديعة المزايدين ليزيدوا فوق ثمن السلعة. (4) وأدخل العلماء في النجش أن يتواطأ أحد المزايدين مع الجميع أو الأكثرين ليكفوا عن المزايدة، لقاء جعل. (5)
9- والإيجاب في بيع من يزيد هو تقدم المزايد بعرض، والقبول هو إرساء البائع المزاد على المزايد الأعلى. (6)
والإيجاب في بيع المزايدة ملزم لصاحبه إلى حين صدور القبول من البائع، بخلاف بيع المساومة، فإن الموجب له هو الرجوع عن إيجابه قبل صدور القبول.
قال الحطاب: "أما بيع المزايدة ( ... ) فالحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له". (7)
وقد يمتد الالتزام بالإيجاب حتى بعد انقضاء مجلس المزايدة (المناداة) ، لمدة يحددها العرف أو الشرط، ما لم تطل. (8)
10- إن بقاء الموجب ملتزماً بإيجابه، ولو زاد غيره عليه (العطاء اللاحق لا يسقط العطاء السابق) يسمح للبائع بأن يعقد البيع مع غير المزايد الأعلى.
قال ابن رشد: "وهو (أي البائع) مخير في أن يمضيها (أي السلعة، أو الصفقة) لمن شاء ممن أعطى فيها ثمناً، وإن كان غيره قد زاد عليه ( ... ) ، لأن (من) حق صاحب السلعة أن يقول للذي أراد أن يلزمها إياه إن أبى من التزامها، وقال له: بع سلعتك من الذي زاد علي فيها؛ لأنك إنما طلبت الزيادة وقد وجدتها: أنا لا أحب معاملة الذي زاد في السلعة عليك". (9)
__________
(1) بدائع الصنائع 5/232؛ وشرح فتح القدير 6/477؛ والفتاوى الهندية 3/210.
(2) انظر نيل الأوطار 5/191؛ ومصادر الحق 2/65.
(3) الفتاوى الهندية 3/210؛ ومصادر الحق 2/70.
(4) أجاز بعض العلماء (الحنفية) النجش في السلعة إلى أن تبلغ ثمنها فقط، لا أكثر. بدائع الصنائع 5/233؛ وشرح فتح القدير 6/477؛ والبحر الرائق 6/107؛ وحاشية ابن عابدين 5/101؛ ومصادر الحق 2/71.
(5) الخرشي على خليل وحاشية العدوي 5/83؛ ومصادر الحق 2/73. ويمكن تصور ذلك في المناقصة، كأن يتفق أحد المناقصين مع الجميع أو الأكثرين لكيفوا عن المناقصة، لقاء جعل.
(6) قال السنهوري: "ويعنينا في العقود التي تتم بالمزايدة أن نعرف متى يتم الإيجاب، ومتى يتم القبول؟ فقد يظن أن طرح الصفقة في المزاد هو الإيجاب، والتقدم بالعطاء هو القبول. وليس هذا صحيحاً، فإن طرح الصفقة في المزاد لا يعدو أن يكون دعوة إلى التعاقد عن طريق التقدم بعطاء، والتقدم بعطاء هو الإيجاب. أما القبول فلا يتم إلا برسو المزاد". الوسيط 1/226؛ ومصادر الحق 2/61؛ ومواهب الجليل 4/237.
(7) مواهب الجليل 4/237. وانظر البيان والتحصيل 8/475.
(8) مواهب الجليل 4/237.
(9) البيان والتحصيل 8/476. وانظر مواهب الجليل 7/237؛ ومصادر الحق 2/66-68.(9/831)
2 -4- ملخص قرار المجمع في المزايدة:
1- "إن الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات، من تحرير كتابي وتنظيم وضوابط وشروط إدارية أو قانونية، يجب أن لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية". (1)
2- طلب الضمان ممن يزيد الدخول في المزايدة جائز شرعاً، ويجب أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه العطاء. (2) ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز بالصفقة. (3)
3- لا مانع شرعاً من استيفاء رسم الدخول (قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) لكونه ثمناً له" (4) . (5)
2-5- التكييف الشرعي للمناقصة:
1- المناقصة لم تعرف سابقاً في الفقه، إنما عرفت أختها: المزايدة. وهما متشابهتان في كثير من الإجراءات، حتى إن معظم أحكامهما تنظمهما لائحة واحدة مشتركة.
2- المناقصة عملية مركبة، فهي عقد بين الجهة الإدارية والمناقصين، ويتخللها عقد مرتبط بها هو عقد الضمان، وعقد مستقل عنها، وإن كان له صلة بها، وهو عقد بيع أوراق المناقصة (دفتر بالشروط) . وقلنا: إنه عقد مستقل؛ لأن من يشتري الدفتر من التجار لا يشترط بالضرورة أن يدخل في المناقصة. ثم تنتهي العملية إلى عقد، هو العقد المستهدف: عقد توريد، أوعقد مقاولة.
فالمناقصة منظومة عقود، وليست عقداً واحداً.
__________
(1) ربما كان من الأنسب بيان الإجراءات التي تتعارض، إذا وجدت، وترك سائر الإجراءات على أصل الجواز. والمرجو أن تكون الدراسات المقدمة تعرضت لهذا التفصيل، وإلا فإنه من الممكن اتخاذ مثل هذه الفتوى بدون أي دراسة مسبقة، وكأن المفتي هنا يرد المسألة إلى المستفتي، ويتخلص من الفتوى.
(2) توحي هذه العبارة بأن الضمان لا يرد للمشارك الذي لم يرس عليه العطاء، مع أن قوانين المزايدة ولوائحها كلها تنص، في حدود ما اطلعت عليه، على رد الضمان، بل وبدون طلب من المشارك. فصارت العبارة تحصيل حاصل.
(3) المراد من هذه العبارة قياس الضمان على العربون. لكن ربما كان من المناسب أن يضاف: ويصادر الضمان إذا أبى من رسا عليه المزاد إبرام العقد. فهذه العبرة تبرز أخص خصائص الضمان (والعربون) ، وإلا فإن العبارة الحالية توحي بأن الضمان لا قيمة له، فإذا رسا العطاء حسب الضمان من الثمن، وإذا لم يرس العطاء رد الضمان إلى صاحبه، فأي فائدة لهذا الضمان؟
(4) الدورة الثامنة للمجمع، بروناي، 1-7 محرم 1414 هـ = 21-27 حزيران 1993م.
(5) كان من الأحسن حذف ما بين القوسين، لسببين: الأول أن من العسير عمليًّا التقيد بالقيمة الفعلية (إذا كان المراد بها التكلفة، وهو الظاهر) ؛ لأن لجهة الإدارية تطبع في العادة دفاتر شروط يزيد عددها على الدفاتر المحتمل تصريفها، فيبقى باق منها، يتم إتلافه؛ والسبب الثاني أن لفظ "ثمن" الوارد في العبارة لا يتناسب مع لفظ "القيمة الفعلية" (بمعنى التكلفة) ، فالثمن يعني البيع بربح، والتكلفة تعني مجرد استرداد المصاريف. هذا على رأي القائل بجواز استيفاء مقابل لدفتر الشروط. أما رأيي فهو عدم جواز ذلك (انظر المبحث 2-12 في هذه الورقة) .(9/832)
3- المناقصة فيها شبه بعقد المسابقة، من حيث الاسم، فكلاهما مفاعلة، ومن حيث المضمون، فالمناقصة مسابقة بين المناقصين على الفوز بعقد التوريد، أو بعقد المقاولة، ومن حيث الشروط، فالمناقصة كالمسابقة يشترط فيها المساواة بين المشتركين في كل شيء، في المعلومات وفي الفرص وفي الآجال، وفي سائر الشروط والمواصفات المطلوبة. ويمكن في المناقصة، كالمسابقة، تجزئة العقد بين المناقصين إذا تساووا في الأسعار، إذا كانت التجزئة ممكنة وغير ضارة بمصلحة الإدارة، وإلا تم اللجوء إلى القرعة.
4- سبق أن قلنا: إن المناقصة عقد طرفاه الجهة الإدارية والمورد (أو المقاول) ، والإيجاب فيه هو اشتراط المورد (أو المقاول) في المناقصة، والقبول فيه هو إرساء الجهة الإدارية المناقصة على المناقص الأقل سعراً.
5- وعلى هذا فإن المناقصة إذا كانت في توريد فهي تشبه عقد البيع، وإذا كانت في مقاولة فهي تشبه عقد الإدارة، إذا كان المقاول يقدم عملاً فقط، وهي تشبه عقد الاستصناع، إذا كان المقاول يقدم العمل والمواد معاً.
6- ومناقصة التوريد تشبه بيع السلم، من حيث ضرورة تحديد أوصاف المبيع، وآجال التسليم، وشرط عموم وجود المبيع، والقدرة على التسليم.
7- في مناقصة التوريد يتأجل البلدان: المبيع، والثمن، إلى آجال معلومة، فتشبه في ذلك الاستصناع بمفهومه عند الحنفية، وبالتحديد عند صاحبي أبي حنيفة اللذين لم يجيزا فقط عدم ذكر الأجل، بل أجازا أيضاً تحديده. (1)
2 -6- ماذا لو تغيرت الأسعار؟:
1- في المناقصة يلتزم المورد أو المقاول بعرضه، من تاريخ تقديم هذا العرض إلى تاريخ إرساء المناقصة، إذا لم ترس عليه، وإلى تاريخ الانتهاء من تنفيذ التوريد أو المقاولة، إذا رست عليه المناقصة. وهذه المدة قد تبلغ سنة أو أكثر.
2- في خلال هذه المدة تقع مخاطرة تغير الأسعار كلها على عاتق المورد أو المقاول. وعلى هذا يجب على المورد أو المقاول أن يكون عارفاً بالأسعار وتوقعاتها، فيتحسب من أي تغيرات، ويراعي ذلك في حساب أسعار عرضه الذي يتقدم به.
3- العادة أن الجهة الإدارية تحرص على التعاقد بأسعار ثابتة لجميع بنود العقد، ولا تعترف بأي تغير في السعر، زيادة أو نقصاناً.
__________
(1) المبسوط 12/139ح وعقد الاستصناع ص 172.(9/833)
4- اللهم إلا إذا كان التغير ناشئاً عن تغير في التعرفة الجمركية، وهو تغير سببه الدولة نفسها، فعندئذ يسوى الفرق سواء أكان بالزيادة أم بالنقص. فإذا زادت أعطي المورد الفرق، وإذا نقصت أخذ منه الفرق.
5- لكن في بعض الحالات يتعذر على الجهة الإدارية التعاقد مع المورد أو المقاول على أساس أسعار ثابتة لجميع مفردات العقد، نظراً لأن جزءاً من الالتزامات كأجور النقل والتأمين وأسعار المواد الخام يكون مرتبطاً بتقلبات الأسعار العالمية. في هذه الحالة يتعين على الجهة الإدارية أخذ موافقة سلطة أعلى (مجلس الوزراء مثلاً) لإمضاء عقد على هذا الشكل. وعندئذ يجوز التعديل بالزيادة في مقابل حق الجهة الإدارية بالانخفاض. وعادة ما يتم الحرص على تحديد نسبة قصوى لهذه الزيارة، في حدود 20? مثلاً، يخصص لها مبلغ احتياطي من الاعتماد لمواجهتها.
2 -7 تأجيل البدلين في المناقصة: الكالئ بالكالئ (= الدين بالدين)
1- قدمنا أن المتعهد أو المقاول يقدم إيجابه عندما يشترط في المناقصة، ويلتزم بهذا الإيجاب إلى حين رسو المناقصة وإبرام العقد (صدور القبول من الجهة صاحبة المناقصة) .
وبعد إبرام العقد لا يعجل البدلان معاً، ولا أحدهما، بل يؤجلان كلاهما. وفي عقود الأشغال العامة قد لا يكون هناك مشكلة كبيرة؛ لأن من طبيعة عقود الإجارة (الشبيهة بعقود الأشغال) أن البدل المتمثل بالمنفعة لا يستوفى دفعة واحدة معجلة ولا مؤجلة، إنما يستوفى شيئاً فشيئاً مع تعاقب الوحدات الزمنية. (1) أما البدل المتمثل بالأجر فيمكن تعجيله أو تأجيله.
وفي عقود التوريد قد تبدو المشكلة أكبر؛ لأن البدلين (المبيع، والثمن) مؤجلان، فهل هذا غير جائز، ويدخل في بيع الكالئ بالكالئ؟
2- ذكر بعض العلماء أن كل معاملة وجدت بين اثنين، وكانت نسيئة من الطرفين، فلا تجوز بإجماع؛ لأنها من الدين بالدين المنهي عنه؛ (2) ولأنها من أبواب الربا؛ (3) ولأنها شغل لذمتين: ذمة البائع، وذمة المشتري، من غير لفائدة. (4)
3- غير أن حديث الكالئ بالكالئ ليس حديثاً ثابتاً، (5) وإن تلقته الأمة بالقبول. والصور التي تدخل فيه ليست موضع اتفاق العلماء، (6) والصورة التي نحن بصددها لا يدخلها الربا؛ لأنها مبادلة سلعة بنقد، أو خدمة بنقد، فالبدلان فيها مختلفان، لا يدخلهما الربا المحرم. وليس مسلماً أنها شغل لذمتين من غير فائدة، فلو لم تكن هناك فائدة لما عقد عليها أحد. (7) ودعوى الإجماع غير سهلة، وغالباً ما يعتريها التسامح والتساهل. (8) ثم إن الإجماع هنا غير وارد على معنى واحد، فبعض العلماء (ابن تيمية) يقولون: إن المجمع على تحريمه هو البيع المؤجل البدلين (كلاهما دين) ، وبعضهم (السبكي) يقولون: إن المجمع على تحريمه هو البيع المؤجل البدل الواحد (السلم، النسيئة) إذا زيد في أجله لقاء الزيادة في بدله. (9)
__________
(1) المحلى لابن حزم 8/183؛ ونظرية العقد لابن تيمية ص 230
(2) أحكام القرآن للجصاص 1/483؛ وبداية المجتهد 2/94 و110 و117؛ ونظرية العقد ص 235.
(3) أحكام القرآن 1/466؛ وتكملة المجموع للسبكي 10/ 25؛وحاشية الشرقاوي 2/30.
(4) الفروق للقرافي 3/290، ونظرية العقد ص 235، وإعلام الموقعين لابن القيم 1/400.
(5) قال الإمام أحمد: ليس في هذا حديث يصح. نيل الأوطار 5/177.
(6) الكالئ بالكالئ لحماد ص 10.
(7) الغرر للضرير ص 316، وقارن الكالئ بالكالئ لحماد ص 17.
(8) التمهيد في أصول الفقه 3/247.
(9) الجامع في أصول الربا ص 342، وانظر فيه الكلام عن حديث جابر، وتكملة المجموع للسبكي 10/106؛ وإعلام الموقعين 2/9 و11؛ وإغاثة اللهفان 1/364. ويبدو أن الدكتور الضرير يميل إلى رأي السبكي. قال: " لعل الصورة المجمع على منعها في بيع الدين بالدين هي ما كان فيه الدين من الأموال الربوية". لكن العبارة فيها شيء من الغموض، وهذا الغموض كثيراً ما يعتري مثل هذه البحوث الفقهية الدقيقة الشائكة.(9/834)
4- قال بعض العلماء إن عقد السلم إذا انعقد بلفظ السلم أو السلف وجب فيه قبض رأس المال في المجلس، وإذا انعقد بلفظ البيع فلا يشترط فيه قبض رأس المال في المجلس. (1)
وقال بعضهم: " السلم شرعاً بيع موصوف في الذمة ( ... ) ، ومن زاد فيه: "ببدل يعطى عاجلاً" فيه نظر؛ لأنه ليس داخلاً في حقيقته". (2)
5- سبق أن رأينا أن الحنفية أجازوا في الاستصناع عدم ضرورة تعجيل الثمن، بل أجازوا تأجيله إلى أجل معلوم.
6- نخلص من هذا إلى أن حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ لا يقف حائلاً دون جواز مناقصات التوريد والمقاولة، التي عمت بها البلوى في القوانين والأعراف، ولا بديل لها أفضل منها حتى الآن، وصارت الحاجة إليها عامة، الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة. وإذا بدا أن فيها مخالفة لبعض القواعد، فإن فيها، والله أعلم، مصلحة يجب تحصيلها ولو خولفت فيها القواعد، أي استحساناً، كما ذكر بعض العلماء المحققين. (3)
2 -8- هل في المناقصة غرر؟
1- لا شك أن البيع الذي يعجل بدلاه يداً بيد هو من أبعد البيوع عن الغرر، (4) وأن البيع الذي يعجل فيه بدل ويؤجل الآخر لا يخلو من غرر؛ لأن أحد الطرفين يقبض بدله في الحال، والآخر يقبضه في الأجل المعلوم أو الآجال المعلومة، وقد يتغير سعر السلعة خلال هذه المدة مرة واحدة وأكثرن فإن زاد انزعج البائع، وإن نقص انزعج المشتري.
2- ويذكر بعض العلماء أن البيع الذي يتأجل بدلاه يتعاظم فيه الغرر.
قال في نهاية المحتاج: " لأن في السلم غرراً، فلا يضم إليه غرر تأخير رأس المال ". (5)
وقال في أسنى المطالب: "لأن السلم عقد غرر، جوز للحاجة فلا يضم إليه غرر آخر". (6)
__________
(1) المهذب للشيرازي 1/392.
(2) فتح الباري 4/428.
(3) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/145.
(4) قال الشافعي: "الأعجل أخرج من معنى الغرر"، الأم 3/83.
(5) نهاية المحتاج 4/179.
(6) أسنى المطالب شرح روض الطالب 2/122، بواسطة بيع الكالئ بالكالئ لحماد 19.(9/835)
3- يبدو أن هؤلاء العلماء نظروا إلى البدلين فرأوا زيادة في الغرر، لكنهم لو نظروا إلى المتعاقدين لما كان هناك زيادة في الغرر، ولَاستويا في تحمل المخاطرة.
فالغرر ينظر إليه لا من حيث ذاته، بل من حيث أثره على المتعاقد.
فلا فرق في الغرر إذن بين بيع يتأجل فيه أحد البدلين أو يتأجل فيه كلاهما، والله أعلم.
2 -9- بيع ما ليس عنده (في المناقصة) :
1- باعتبار أن المورد يلتزم بتوريد سلع في آجال معلومة، فإن هذه السلع قد تكون موجودة عنده أو غير موجودة. وإذا كانت غير موجودة الآن فإنه قد يغلب على الظن وجودها في الآجال المطلوبة، إذا كان البائع منتجاً لها، صانعاً أو زارعاً. وقد يكون تاجراً من شأنه التجارة بهذه السلع.
2- فإذا كانت السلعة المبيعة موصوفة (غير معينة) ، وكان البائع منتجاً لها، أو تاجراً من شأنه التجارة بها، وقادراً على تسليمها، فإن هذا لا يدخل في بيع ما ليس عنده المنهي عنه.
3- بيع السلم جائز بالنص والإجماع، وجمهور الفقهاء (خلافاً للحنفية) لا يشترطون أن تكون السلعة في السلم مملوكة للبائع في وقت البيع، ولا عامة الوجود في السوق من وقت البيع إلى وقت التسليم، بل يكتفون بأن يغلب على الظن أن تكون عامة الوجود في التسليم، وعندئذ يقال: إن البائع قد باع ما يملك القدرة على تسليمه في الميعاد المطلوب، ويملك الأهلية لذلك.
4- يتحصل من هذا أن المناقصة لا تدخل في النهي عن بيع ما لا يملك، أو ما ليس عنده، والله أعلم.
2 -10- قوانين حديثة في المقاولة مستمدة من الشريعة الإسلامية:
1- اعتبرت مجلة الأحكام العدلية. (1) في المادة 388 الاستصناع والمقاولة شيئاً واحداً، واستخدمت عبارة: "تقاول مع نجار، أو مع صاحب عمل، أن يصنع له كذا".
2- نص القانون المدني الأردني المستمد من الشريعة الإسلامية (2) في المادة 780 منه على عقد المقاولة، وعرفه بنفس التعريف الوارد في القوانين الوضعية الحديثة، والذي ذكرناه لدى الكلام عن عقد المقاولة. وذكروا في المذكرة الإيضاحية بأنه لا يناقض آية قرآنية ولا سنة نبوية.
3- نص قانون المعاملات المدنية السوداني لعام 1984 م (3) في المادة 378 على عقد المقاولة، وعرفه بالتعريف نفسه أيضاً.
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية، شرح رستم باز.
(2) كان من المساهمين في وضع مشروعه: عبد العزيز الخياط. ومن خبرائه: مصطفى الزرقا، ومحمد زكي عبد البر، وعلي الخفيف. انظر المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني 1/8 و9 و11 و12.
(3) ملحق التشريع الخاص، ص 141.(9/836)
2 -11- علماء وباحثون أجازوا عقود المقاولة:
من العلماء والباحثين الذين أجازوا عقد المقاولة: مصطفى الزرقا، (1) وعبد الله بن زيد آل محمود، (2) وغريب الجمال، (3) والصديق الضرير، (4) والبدران، (5) وحماد. (6)
2 -12- دفتر الشروط:
1- تقوم الجهة صاحبة المناقصة بوضع شروط ومواصفات للأصناف (= السلع) التي ترغب في توريدها، أو الأعمال التي ترغب في تنفيذها.
وقد تحتاج إلى رسومات أو مخططات أو عينات تتكبد من أجلها نفقات، كما تتكبد نفقات الإعلان والدعوة إلى المناقصة، وسائر المصاريف اللازمة لأعمال اللجان المختلفة وإدارة أعمال المناقصة، من إعداد وإعلان وتلقي عروض وفض عروض ... إلخ.
2- وبنظر بعض الجهات المختصة فإن العناصر المؤثرة في تكاليف إجراء المناقصة هي العناصر التالية:
1- المجهود الذهني المبذول في دراسة المشروع وإعداده؛
2- تكاليف إعداد الخرائط والرسوم والمخططات اللازمة للمشروع؛
3- تكاليف الخدمات والاستشارات الهندسية؛
4- قيمة الأوراق المتعلقة بالمشروع؛
5- حصة من المصاريف الإدارية، تقدر بنسبة 10? من مجموع العناصر السابقة.
3- فمن يتحمل هذه التكاليف؟ هل تتحملها الجهة صاحبة المناقصة، أم يعاد تحميلها على المناقصين؟ وعندئذ هل يعاد تحميلها بتكلفتها، أم بثمن فيه ربح؟
فصار لدينا ثلاثة بدائل:
- بذل دفتر الشروط بالمجان؛
- تقديمه بقيمة لا تزيد على استرداد التكلفة؛
- بيعه بثمن (فيه ربح) .
1- بذله بالمجان: ووجهه أن الجهة صاحبة المناقصة هي المستفيدة من اختيار طريقة الشراء بالمناقصة، بحيث يغلب على ظنها أن هذه الطريقة توصلها إلى مرادها بأدنى ثمن. فهذه مصاريف تختص بالجهة، ويجب أن تستقر عليها، لا سيما وأن المناقصين لو حملوا بالتكلفة أو بالثمن فإن واحدا منهم فقط هو الذي سيفوز بالعقد وترسو عليه المناقصة. فما وجه تحميل سائر المناقصين بالتكلفة أو بالثمن؟
2- تحميل التكلفة للمناقصين: ووجهه:
أ- أن الدولة تتحمل تكاليف لا بد من تغطيتها بإيرادات مقابلة، وهذه مناسبة لتحميل المناقصين بهذه التكاليف.
ب- لا سيما وأن كلًّا من المناقصين يتوقع أن يستفيد من إبرام العقد مع الدولة، وهم من ذوي القدرة واليسار.
__________
(1) المدخل الفقهي العام 2/710: أجاز المقاولة والتوريد والشرط الجزائي.
(2) أحكام عقود التأمين ص 81: أجاز المقاولة، ولم يجز الغرامات المالية.
(3) النشاط الاقتصادي ص 93.
(4) الغرر ص 316.
(5) عقد الاستصناع ص 216
(6) الكالئ بالكالئ ص 29.(9/837)
3- بيعه للمناقصين بثمن: ووجهه:
أ- أن الدولة تبيع شيئاً للمناقص ذا قيمة ومنفعة له، بذلت في إعداده وقتاً وجهداً ومالاً، فيمكن بيعه كما يباع كتاب مؤلف.
ب- تحديد الثمن يجب أن يسبق معرفة عدد المناقصين، فلو حدد المبلغ المطلوب من المناقص بالتكلفة فقد يكون عدد المتقدمين، لا سيما في المناقصة العامة، أقل من المتوقع، فلا تسترد الدولة تكاليفها. فلا بأس أن تحتاط لذلك بالزيادة على التكلفة.
4- الحكم:
لو كان دفتر الشروط فيه نفع للمناقص لم يكن بأس في أخذ قيمته منه بالتكلفة أو بالثمن، بشرط أن تكون هذه القيمة معتدلة، لا تستغل الدولة فيها مركزها، فتفرض على المتعاملين معها وضع المحتكر.
لكن الراجح أن نفع دفتر الشروط عائد على الجهة الإدارية، فإذا أخذت مقابلاً له كان هذا أشبه بالضريبة، ولكن لا وجه لاختصاصهم بها دون غيرهم من القادرين. فيجب لذلك أن تبذل دفتر الشروط بالمجان لمن يطلبه من المتعهدين أو الموردين المعتمدين (= المسجلين) .
وهذا لا يمنع أن تأخذ الجهة الإدارية من طالب الدفتر تأميناً نقديًّا، ترده إليه إذا رد الدفتر، لعدم اشتراكه في المناقصة، أو لعدم رسوها عليه، أو للفراغ من التوريد أو المقاولة إذا رست عليه بالمناقصة، أو لإلغاء المناقصة.
وهذا التأمين مفيد لحماية دفتر الشروط ممن يأخذه غير جاد، ليرميه بعد ذلك دون أن ينتفع به أو ينفع.
2 -13- الضمان:
في المناقصات نوعان من الضمان (= التأمين) . (1)
1- ضمان ابتدائي (= مؤقت) : 1 أو 2? مثلاً من قيمة العرض، ويقدم مع العرض، بغرض التأكد من جدية اشتراك المتعهد أو المقاول في المناقصة، والتأكد من التزامه بالتعاقد، في حال رُسُوِّ المناقصة عليه.
ويهمل كل عرض غير مصحوب بضمان، ويعتبر عرضاً غير جدي. ومن حق الجهة صاحبة المناقصة مصادرة هذا الضمان، وإدخاله في خزينة الدولة، إذا سحب العرض قبل ميعاد البتِّ في العروض، وذلك دون اللجوء إلى القضاء.
ويرد الضمان الابتدائي إلى أصحاب العروض غير المقبولة، أي الذين لم ترس عليهم المناقصة. أما الذي رست عليه المناقصة فيقدم ضماناً نهائيًّا، ويرد إليه الضمان الابتدائي، أو يستكمل الضمان الابتدائي، باعتبار أن نسبته أقل من النهائي.
__________
(1) يعفى من الضمان (الابتدائي والانتهائي) المورد أو المقاول إذا كان من شركات القطاع العام.(9/838)
2- ضمان انتهائي: 5? مثلاً من قيمة العقد، يقدم في مدة لا تتجاوز عشرة أيام مثلاً من تاريخ إخطار المورد أو المتعهد بقبول عرضه. وكلما نقص الضمان وجب استكماله إلى حد النسبة المقررة.
ويعفى المورد من تقديم هذا الضمان الانتهائي إذا تم التوريد كله خلال المدة المحددة لدفع الضمان، أو كان ثمن الكمية الموردة كافياً لتغطية هذا الضمان، فصار الضمان هنا هو البضاعة نفسها، وما وجد الضمان إلا لضمان التوريد، وقد حصل.
ويرد الضمان إلى صاحبه بعد تنفيذ العقد بصفة نهائية، وذلك دون حاجة إلى تقديم أي طلب.
صور الضمان:
1- ضمان نقدي: يدفع مبلغ نقدي إلى خزينة الجهة صاحبة المناقصة، مقابل إيصال رسمي. وهذه الصورة من الضمان تم استبعادها، إذ قد تؤدي إلى إفشاء مبلغ العرض، عندما يدفع الضمان إلى صندوق الوزارة أو الجهة صاحبة المناقصة؛ لأن الضمان نسبة محددة من مبلغ العرض. (1)
2- ضمان بحوالة أو شيك مصرفي: ويشترط أن يؤشر عليه المصرف المسحوب عليه بالقبول. وقد استبعدت هذه الصورة أيضاً؛ لأن الشيك أداة وفاء، وليس أداة ائتمان. فإذا كان مسحوباً في الداخل فيجب تقديمه إلى المصرف المسحوب عليه خلال شهر، وإذا كان مسحوباً في الخارج فيجب تقديمه خلال ثلاثة أشهر. والتأشير عيه بالقبول لا يفيد أكثر من وجود الرصيد (= مقابل الوفاء) في تاريخ التأشير. (2)
3- ضمان بالاقتطاع من مبالغ مستحقة: يقدم صاحب العرض طلباً إلى الجهة صاحبة المناقصة باقتطاع قيمة الضمان المطلوب من مبالغ مستحقة له لديها. ويشترط أن تكون هذه المبالغ (في حدود قيمة الضمان) قابلة للصرف فعلاً وقت تقديم العرض.
ويبدو أن النظام الجديد قد غض النظر أيضاً عن ذكر هذه الصورة، كالصورتين السابقتين؛ لأن مرد هذه الصورة (الثالثة) إلى الصورة الأولى.
4- ضمان بخطاب ضمان مصرفي: ويدفع لدى طلب الجهة الإدارية، دون التفات لأي معارضة قد تصدر من صاحب العرض.
5- ضمان بتعهد من شركة تأمين: واجب الدفع عند أول طلب من الجهة الإدارية صاحبة المناقصة، دون اعتبار لأي معارضة يمكن أن تصدر من صاحب العرض، ودون حاجة إلى استصدار حكم قضائي، أو إقرار من هيئة تحكيم.
في الصور الثلاثة الأولى لا توجد مشكلة شرعية، ولكنها مستبعدة. أما في الصورتين الأخيرتين فيجب أن يكون الضمان بلا أجر؛ لأن الأجر على الضمان لا يجوز شرعاً، كما سيأتي. كما يجب أن يكون الضمان في الصورة الخامسة مقدماً من شركة تأمين تعمل وفق قواعد التأمين الإسلامي.
فلو قدم المتعاقد ضماناً علمت الدولة أنه بأجر، أو أنه مقدم من شركة تأمين غير إسلامية، ما الحكم؟ الظاهر عدم الجواز.
__________
(1) نظام تأمين مشتريات الحكومة ص 100.
(2) نظام تأمين مشتريات الحكومة ص 100.(9/839)
الحكم الشرعي للضمان في المناقصة:
1- الغاية من الضمان الابتدائي هو إلزام المناقص بإبرام العقد إذا رست المناقصة عليه.
والغاية من الضمان الانتهائي هو إلزام المتعاقد بتنفيذ العقد دون تأخر ولا تخلف ولا مخالفة.
2- فطلب الضمان هنا يعد مشروعاً لحث المشترك أو المتعاقد على القيام بالتزاماته، ومواجهة حالات التعدي والتقصير، وما ينشأ عنها من أضرار. فهذه من الأسباب أو الموجبات المشروعة للضمان.
3- ويصادر الضمان الابتدائي كله إذا سحب العرض قبل ميعاد البت في العروض، أو إذا لم يقم المورد أو المتعهد بإبرام العقد حال رسوّ المناقصة عليه.
ومصادرة الضمان في هذه الحالة يشبه مصادرة العربون إذا نكل دافعه. وقد سبق بحث العربون، وقرر المجمع جوازه عام 1414 هـ (دورة بروناي) ، بشرط تقييده بمدة محددة. وتعتبر المدة هنا في حال المناقصة هي المدة المنقضية بين تاريخ الدخول في المناقصة وتاريخ رسوها.
4- ويصادر الضمان الانتهائي كله إذا لم يقم المتعاقد بتنفيذ العقد، بل وينفذ العقد عندئذ على حسابه، ويحمل بفروق الأسعار، وبالتعويض عن الضرر.
وحكم مصادرة الضمان الانتهائي هنا كحكم مصادرة الضمان الابتدائي هناك. وتصادر أجزاء من الضمان الانتهائي إذا ترتبت على المورد غرامات تأخير. وسنرى حكم هذه الغرامات في مبحث مستقل.
5- سبق للمجمع أن نظر في حكم الضمان الابتدائي والانتهائي، ومنع الأجر على الضمان وفقاً لمأثور الفقه، ولم يجز إلا استرداد المصاريف الفعلية. (1) وإني لا زلت أعتقد أن من الصعب في هذا العصر الحصول على ضمان بالمجان. (2)
6- فليست هناك مشكلة في طلب الضمان لضمان حالات التخلف أو التقصير. ولكن قد تكون هناك مشكلة في تقديم ضمان بصيغة مشروعة. فغالباً ما يكون الضمان المقدم في صورة خطاب ضمان، وغالباً ما يكون هذا الخطاب مقدماً من المصارف بأجر.
__________
(1) الدورة الثانية للمجمع بجدة 10-16 ربيع الثاني = 22-28 كانون الأول (ديسمبر) 1985م.
(2) انظر ورقتي في مجلة المجمع، العدد 2، الجزء 2، 1407 هـ.(9/840)
2 - 14- غرامات التأخير (الشرط الجزائي) :
1- يخضع المتعاقد مع الدولة لغرامة تأخير، لا تزيد في مجموعها على 4? من قيمة عقد التوريد، و10? من قيمة عقد الأشغال العامة والصيانة.
ولا تقع عليه هذه الغرامة إذا كان التأخير بسبب الجهة الإدارية (إيقاف العمل) ، أو نتيجة حادث طارئ (= قوة قاهرة) . (1) وعلى المتعاقد أن يقدم كافة الأدلة والمستندات التي تثبت أن التأخير خارج عن إرادته، ولم يكن بإمكانه توقعه وقت التعاقد.
وقد تكون هذه الغرامة تصاعدية كالتالي:
1? عن الأسبوع الأول، أو جزء الأسبوع؛
1.5? عن الأسبوع الثاني؛
2? عن الأسبوع الثالث؛
2.5 ? عن الأسبوع الرابع؛
3? عن الأسبوع الخامس، أو أكثر. (2)
وذلك من قيمة التوريدات أو الأعمال المتأخرة، أو من القيمة الكلية للعقد، إذا كان من شأن التأخير عدم انتفاع الإدارة بالتوريدات أو الأعمال التي تمت.
وتختلف الغرامة عن التعويض بأن الضرر فيها مفترض ولا يلزم إثباته على الجهة الإدارية، ولا يستطيع المتعاقد الاحتجاج بعدم وقوعه، بخلاف التعويض، يجب فيه إثبات أصل الضرر ومقداره، ويستطيع المتعاقد إثبات عدم وقوعه.
وتؤخذ هذه الغرامات من مبلغ الضمان الانتهائي، أو من مستحقات المتعاقد (لدى الجهة الإدارية نفسها، أو لدى أي جهة إدارية أخرى في البلد نفسه) .
وحكم هذه الغرامات، عند بعض العلماء المعاصرين، حكم الشرط الجزائي الذي سبق بحثه، وأجاز المجمع بعض صوره.
2- من صور الشرط الجزائي التي أجازها المجمع:
1- اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط، عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه، ما لم يكن معسراً. (3)
2- العربون، فإذا عدل أحد الطرفين عن العقد (البيع، الإجارة) ، أو مضت الفترة المحددة لانتظار إمضاء العقد، كان مبلغ العربون من حق الطرف الآخر. (4)
3- فغرامات التأخير في مناقصات التوريد والمقاولة ليست، بنظر البعض، إلا صورة من صور الشرط الجزائي. (5) الذي أجازه عدد من العلماء منهم مصطفى الزرقا. (6) وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية. (7)
عن ابن سيرين قال: قال رجل لكريِّه: أرحِل ركابك، فإن لم أرحل معكم يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج. فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً غير مكره، فهو عليه (8)
__________
(1) هذا يشبه مبدأ وضع الجوائح في الفقه الإسلامي، وسنفرد له مبحثاً في هذه الورقة.
(2) أنظمة الإدارة العامة ص 379.
(3) قرار مجمع الفقه الإسلامي، في الدورة السابعة، جدة، رقم 65/2/7 بشأن البيع بالتقسيط، الفقرة (5) . ومما يؤيد قرار المجمع، ولم يذكر حينها في الأوراق العلمية المقدمة، ما جاء في حاشية ابن عابدين 4/533: " عليه ألف ثمن، جعله ربه نجوماً (= أقساط) ، إن أخل بنجم حل الباقي، فالأمر كما شرط ( ... ) ، وهي كثيرة الوقوع". وفي أحكام المعاملات الشرعية لعلي الخفيف ص 464: "إذا اشترط مع ذلك أن تأخير أي قسط تتعجل به بقية الأقساط صح الاشتراط". لكن هل تحل بقيمتها الاسمية أم الحالية؟ هذه المسألة لم تبحث، ولها علاقة بالحطيطة (= الوضيعة) للتعجيل.
(4) قرار مجمع الفقه الإسلامي، في الدورة الثامنة، بروناي، 1414 هـ (= 1993 م) . وانظر بحثي: " بيع العربون وبعض المسائل المستحدثة فيه " ص 19-22.
(5) الموجز في النظرية العامة للالتزامات للسنهوري ص 442؛ والوسيط 1/263؛ ومصادر الحق 2/89.
(6) المدخل الفقهي العام، ص 711 و718.
(7) مجلة البحوث الإسلامية، شوال 1395 هـ – 1396 هـ، ص 59-139.
(8) صحيح البخاري، باب ما يجوز من الاشتراط 3/259؛ ومصنف عبد الرزاق، باب الشرط في الكراء 8/59؛ وفتح الباري 5/354؛ وإعلام الموقعين 3/400. الكري: المكاري، المؤجر. أرحل ركابك: شد رحلك على ظهر دابتك.(9/841)
2-15- غرامات التأخير هل تشبه فوائد التأخير؟
1- الفوائد الربوية نوعان: فوائد تعويضية 10? مثلاً، وفوائد تأخيرية 15? مثلاً. فالفوائد التأخيرية تكون في العادة وفي القانون أعلى من الفوائد التعويضية، وفيها معنى الجزاء على التأخير في وفاء القرض.
2- فهي تشبه غرامات التأخير إذن، بجامع معنى الجزاء في التأخير، ومن حيث إن كلًّا منهما يأخذ صورة معدل مرتبط بالمبلغ والزمن.
3- لكن فوائد التأخير تتعلق بتأخير وفاء القرض عن موعد استحقاقه، أي هي متعلقة بالقروض، فهي من الربا.
4- أما غرامات التأخير في مناقصات التوريد والمقاولة فتتعلق بتأخير تسليم السلع أو الأعمال عن موعدها المحدد، أي هي متعلقة بالبيوع والإجارات، لا بالقروض.
5- لكن إذا اعتبرنا أن المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام (= الدين) فإن في غرامة التأخير شبهة ربا نسيئة: تقضي أم تربي؟
6- في البيوع المؤجلة (النسيئة، السلم) أجاز جمهور الفقهاء نقصان البدل المعجل لقاء التأجيل في البدل المؤجل، ولكن لا أعلم أن أحداً منهم أجاز، بعد أن يترتب البدل المؤجل في الذمة، أن يؤجل هذا البدل المؤجل تأجيلاً آخر مقابل مبلغ من المال؛ لأن هذا يصير ربا نسيئة، كقول المدين لدائنه: أنظرني أزدك، أو الدائن لمدينة: تقضي أم تربي؟ كما يصير هذا داخلاً في بيع الكالئ بالكالئ، في صورة منه مجمع عليها، ويسميها المالكية: فسخ الدين في الدين، ويعتبرونها بحق من أشد الصور. (1)
7- نستدل مما تقدم أن من الشرط الجزائي صوراً جائزة، وأخرى غير جائزة، فليست الصور الداخلة تحته قانوناً مطابقة للصور الداخلة تحته شرعاً.
8- إن العلماء الذين أجازوا الشرط الجزائي (غرامات التأخير) : مصطفى الزرقا، وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، لم أجدهم ناقشوا مثل هذا في البحث الذي استندوا إليه في إصدار فتواهم.
2 -16- إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فلك نصف درهم
1- أجازه بعض العلماء. قال في المغني: "وإن قال: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فلك نصف درهم، فعن أحمد روايتان: إحداهما لا يصح، وله أجر المثل، نقلها أبو الحارث عن أحمد، وهذا مذهب مالك والثوري والشافعي وإسحق وأبي ثور؛ لأنه عقد واحد اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير، فلم يصح، كما لو قال: بعتك نقداً بدرهم، أو بدرهمين نسيئة، والثانية يصح، وهو قول الحارث العكلي وأبي يوسف ومحمد؛ لأنه سمى لكل عمل عوضاً معلوماً، فصح، كما لو قال: كل دلوٍ بتمرة" (2)
وقال في البناية: "لأن التعجيل والتأخير مقصودان، فنزل منزلة اختلاف النوعين"، (3) أي اختلاف الزمن كاختلاف النوع، كلاهما مقصود، ومن ثم فإن له أثراً في القيمة (الأجر) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/61.
(2) المغني 6/87؛ وانظر إعلام الموقعين 3/401؛ والإنصاف 6/18؛ والبيان والتحصيل 8/438؛ والمدونة 3/389؛ والموسوعة الفقهية الكويتية 1/256.
(3) البناية 7/993.(9/842)
2- الصيغة المذكورة أعلاه جائزة إذا انعقدت الإجارة على أحد الموعدين (في هذا تستوي مع البيع، فهي جائزة في الإجارة والبيع) . وغير جائزة إذا ترك الخيار للأجير: إن خاط الثوب اليوم أعطي درهماً، وإن خاطه غداً أعطي نصف درهم.
3- ومثل هذا لا يجوز في البيع أيضاً فلو قال له: إن سلمت المبيع (سلماً) بعد ستة أشهر فلك 100، وإن سلمته بعد سنة فلك 90. أو قال: إن دفعت ثمن المبيع بعد ثلاثة أشهر فعليك 1000، وإن دفعته بعد ستة أشهر فعليك 1010. هذا غير جائز.
4- هذه الصيغة أعلاه تؤكد قيمة الزمن في الإسلام. فالأجرة تتأثر بزمن العمل، أي إن للزمن حصة من الأجر، كما أن للزمن حصة من الثمن. وقد بينا هذا في مواضع أخرى.
2 -17- هل من فرق في الحكم بين (بيع ثوب بردهم نقداً ودرهمين نسيئة) و (خياطة ثوب بدرهمين ليوم، ودرهم ليومين) ؟
1- لا يبدو أن هناك فرقاً بين الصورتين، فإجارتان في إجارة كبيعتين في بيعة.
2- وقد أجاز بعض العلماء الصورة الأولى، إذا انعقد البيع على أحد الثمنين. (1) وإني أرى رأي هؤلاء العلماء.
3- وعليه أرى أن خياطة الثوب بدرهمين اليوم، وبدرهم غداً، جائزة أيضاً، إذا انعقدت الخياطة (الإجارة) على إحدى الأجرتين (أو أحد الموعدين) .
4- ولا تجوز إذ لم تنعقد كذلك. فإذا خاطه اليوم أعطي درهمين، وإذا خاطه غداً أعطي درهما واحداً.
وهذا كما في البيع، فلا يجوز إذا سدد نقداً سدد درهماً، وإذا سدد غداً سدد درهمين. (2)
5- ومما يؤكد رأينا في الصورتين (البيع، والإجارة) أنهما من باب بيعتين في بيعة، ما جاء في المدونة. (3)
قلت: أرأيت إن دفعت إلى خياط ثوباً يخيطه لي، فقلت له: إن خطته اليوم فبدرهم، وإن خطته غداً فبنصف درهم. أتجوز هذه الإجارة في قول مالك أم لا؟
قال: لا تجوز هذه الإجارة عند مالك.
قلت: لم؟
قال: لأنه يخيطه على أجر لا يعرفه. فهذا لا يعرف أجره. فإن خاطه فله أجرة مثله.
وقال غيره: إلا أن يكون أجر مثله أقل من نصف درهم، فلا ينقص عن نصف درهم، أو يكون أكثر من درهم فلا يزاد على درهم. (4)
( ... ) وقال عبد الرحمن: وهذا من باب بيعتين في بيعة.
قال سحنون: وقول عبد الرحمن حسن.
( ... ) قال: وأخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه قال: ينهى أن يقول الرجل للعامل: اعمل لي متاعي هذا، فإن قضيتنيه غداً فإجارتك كذا وكذا، وإن قضيتنيه في بعد غدٍ فإجارتك كذا وكذا. قال: من بيعتين في بيعة.
__________
(1) سنن الترمذي 3/524؛ ومصنف عبد الرزاق 8/138؛ والمهذب للشيرازي 1/355؛ وبداية المجتهد 2/115؛ وبحثي: "بيع التقسيط" ص 60.
(2) بيع التقسيط ص 57.
(3) المدونة 3/389، في الرجل يقول للخياط: إن خطت لي ثوبي اليوم فبدرهم، وإن خطته غداً فأجرك نصف درهم.
(4) إني أرى جوازه إذا انعقدت الخياطة على إحدى الأجرتين، وقد أوردت نص المدونة لأجل بيان أن هذه الإجارة تدخل أيضاً في بيعتين في بيعة، وحكمهما واحد.(9/843)
2 -18- رأينا في الشرط الجزائي: التمييز بين التخلف والتأخير:
1- وعلى هذا فإن الرأي في الشرط الجزائي إن كان لعدم التنفيذ فهو جائز، ويأخذ حكم العربون.
2- وإذا كان الشرط الجزائي لأجل التأخير في التنفيذ فإنه غير جائز؛ لأنه يكون عندئذ في حكم ربا النسيئة، والله أعلم.
- وبهذا نكون قد ميزنا في الشرط الجزائي بين التخلف (عدم التنفيذ) والتأخير. وبهذا تمتنع غرامة التأخير في عقود التوريد وعقود الأشغال. ويخطئ من يظن جوازها في عقود الأشغال، على أساس أن هذه العقود من باب الإجارة، والإجارة لا يدخلها الربا، وقد أجاز بعض العلماء هذا الشرط": إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فلك نصف درهم.
4- فلا يجوز للدولة في عقود التوريد والأشغال أن تفرض غرامات تأخير، إلا إذا كان يجوز لها في باب الربا (أخذاً وعطاءً) ما لا يجوز للأفراد. وقد سبق أن طرحت مثل هذا في مجال الكلام عن سندات الدين العام، لكنه لم يناقش، ولم تثبت صحته حتى الآن. (1)
ولعل هذا الموضوع من الموضوعات التي يسميها الفرنسيون Tabou، أي الموضوعات التي تكاد تمتنع على الطرح والنقاش، لحساسيتها الدينية والسياسية المفرطة.
2 -19- التعزير المالي:
1- التعزير المالي (= العقوبة المالية) ثلاثة أنواع:
1- تعزير إتلاف (تعزير بإتلاف المال) ؛
2- تعزير تغيير (تعزير بتغيير صورة المال) ؛
3- تعزير امتلاك (تعزير بأخذ المال) . (2)
2- جمهور العلماء على عدم جواز التعزير المالي، لا سيما التعزير بأخذ المال. بل جاء في بعض المراجع: "لا يجوز التعزير بأخذ المال إجماعاً" (3)
3- ابن تيمية وابن القيم والشاطبي يرون جواز التعزير المالي. (4)
4- فالغرامات المالية في مناقصات التوريد والأشغال العامة غير جائزة إذن، على رأي الجمهور.
__________
(1) انظر إعلاء السنن 14/474، والجامع في أصول الربا ص 143و 201.
(2) فتاوى ابن تيمية 28/113.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/355.
(4) فتاوى ابن تيمية 28/109 و113 و118؛ والطرق الحكمية ص 266؛ وإعلام الموقعين 2/98؛ وزاد المعاد 3/571؛ والاعتصام 2/123.(9/844)
5- وعندي أنها جائزة في بعض الأحوال، وغير جائزة في أحوال أخرى، كما سلف في المبحث (2-18) .
وبعض العلماء المعاصرين لم يجيزوها بإطلاق. (1)
2 -20- وضع الجوائح (الظروف الطارئة) :
1- "الجائحة كل آفة لا صنع للآدمي فيها، كالريح والبرد والعطش ( ... ) والسيل". (2)
2- عقود التوريد والأشغال العامة من العقود الزمنية (المتراخية التنفيذ) . وقد يقع في هذه المدة تغير جوهري في الأسعار، أو في انتظام ورود المواد، نتيجة قوة قاهرة غير متوقعة عند التعاقد (حادث طارئ) : حرب، زلزال، طوفان، جراد ... إلخ، مما يؤدي إلى الإخلال بميزان المعاوضة الذي قام عليه العقد.
3- يجوز اللجوء إلى القضاء لإعادة التوازن إلى طرفي العقد، والخروج من النزاع، بالاستناد إلى مبدأ وضع الجوائح، ورعاية الأعذار الطارئة، بناء على بعض الآراء الفقهية (المالكية والحنابلة) . (3)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو بعت من أخيك ثمراً، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) رواه مسلم. (4)
إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح. رواه مسلم. (5)
4- نظر المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في "الظروف الطارئة وتأثيرها في الحقوق والالتزامات العقدية "، في الدورة الخامسة 1402 هـ، وقرر الأخذ بالظروف الطارئة، وجواز اللجوء إلى القضاء لإعادة تعديل الحقوق والالتزامات، بالنسبة لطرفي العقد، أو فسخ العقد والتعويض، بناء على رأي أهل الخبرة. (6)
__________
(1) أحكام عقود التأمين لعبد الله بن زيد آل محمود ص 85.
(2) المغني 4/216.
(3) المدونة 4/15؛ وبداية المجتهد 2/141 (الجوائح) و2/173 (أحكام الطوارئ من كتاب الإجارات) ؛ وإعلام الموقعين 2/337؛ والمغني 4/216؛ ومصادر الحق 6/20 (نظرية الحوادث الطارئة) ؛ و6/103 (الجوائح) ؛ و6/177 (القوة القاهرة، الآفة السماوية) ؛ ونظرية الظروف الطارئة للترمانيني ص 60.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 10/216.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 10/216.
(6) قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، مكة المكرمة، ص 99.(9/845)
2 -21- هل يجوز أن يدخل في المناقصة على توريد سلعة لا يملكها؟
نعم يجوز، وتعليل هذا الجواز في المباحث: (2-9) ، (2-7) ، (2-8) .
وهذا من باب المعاقدة، لا من باب المواعدة، فالمواعدة عندنا غير ملزمة، والدخول في المناقصة فيه التزام على الطرفين، فعلى الجهة الإدارية، وعلى المناقصة إذا رست عليه المناقصة، إبرام العقد.
2 -22- هل الجهة الإدارية ملزمة بإرساء المناقصة على أنقص عطاء؟ (1)
1- الأصل في الجواب عن هذا السؤال هو الإيجاب. ذلك لأن المناقصة من شأنها اختيار الأنقص، وهذا هو الغرض منها. ولو اختير غير الأنقص لكان ذلك مدعاة للتلاعب أو اتهام الجهة الإدارية بأمانتها، لنفوذ أو رشوة أو غير ذلك.
2- غير أن الذي يحدث في المناقصات عادة ليس مثل هذه الدرجة من الوضوح والسهولة. فالمناقصة ليست كالمسابقة تماماً، بحيث يمكن التسوية بين المتسابقين في كل شيء، (2) فإذا سبق غيره في الزمن، أو في الإصابة، كان هو السابق بلا خلاف.
في المناقصة توضع مواصفات، ويتقدم المناقصون بعروض تحقق في نظرهم هذه المواصفات. وقد يحدث أن لا تكون مواصفات كل عرض مساوية تماماً لمواصفات العروض الأخرى، وإن كانت جميع العروض تعتبر مستوفية للمواصفات المطلوبة.
فعند البت في العروض قد يكون العرض الأقل سعراً ينقص بمزاياه الفنية قليلاً عن العرض الذي بعده. ولدى الموازنة بين الأسعار والمزايا قد يكون من مصلحة الإدارة اختيار العرض الذي بعده.
3- وقد يستبعد العرض الأقل؛ لأنه عرض غير مدروس، إذ ينخفض سعره إلى حد غير معقول، بما يشعر بعدم إمكانية تنفيذ التوريد أو العمل. (3)
4- قد يستبعد العرض الأقل إذا اقترن بتخفيضات وتمت المفاوضة مع صاحبه من أجل سحب تحفظاته دون جدوى.
5- قد يستبعد العرض الأقل لوجود عرض قريب منه من حيث السعر، فيقدم عليه؛ لأنه صادر من منشأة وطنية أو مشتركة أو إسلامية أو عربية، كل ذلك بشرط أن يكون الفرق في السعر ضمن حدود المعقول، وذلك للتوفيق بين المصلحة المالية ومصلحة تشجيع المنتجات الوطنية.
ولا تعتبر المنتجات ذات منشأ وطني إلا بناء على شهادة من الوزارة المختصة بأن المواد الأولية المحلية، واليد العاملة المحلية، قد ساهمت بنسبة معقولة في إنتاج هذه المنتجات. (4)
6- قد يكون لصاحب العرض الأقل سابق تعامل مع الإدارة، والذي يليه أحسن منه تعاملاً وكفاءة، أو أفضل منه في الجودة والكمية والخدمة والسمعة والمركز المالي.
__________
(1) قد لا يتحتم إرساء المناقصة على أقل عرض، ولا على غيره، وذلك بسبب إلغاء المناقصة للأسباب المبينة في موضع سابق. من هذه الأسباب عدم ملاءمة السعر بالنسبة للأسعار السابقة ولأسعار السوق الحالية. وفي المبحث أعلاه لا نتعرض لهذا، وإنما نتعرض لغرض إرساء المناقصة، ولكن على عرض آخر، غير العرض الأنقص.
(2) انظر كتابي المسابقات ص 22.
(3) نظام تأمين مشتريات الحكومة ص 25
(4) نظام تأمين مشتريات الحكومة ص 21.(9/846)
أما إذا كان صاحب العرض الأقل سيئ التعامل، ولا تريد الإدارة التعامل معه أبداً، فهذا يجب استبعاده منذ البداية، أي عند الفحص الشكلي للعروض، فلا يدخل في المفاضلة النهائية، هذا إذا لم يستبعد بشطب اسمه أصلاً من سجل الموردين أو المتعهدين.
7- قد تشترط الجهة الإدارية صاحبة المناقصة إرساء المناقصة على أي مناقص، ولو كان عرضه ليس هو الأقل سعراً، وذلك مع إبداء السبب أو دون إبدائه. (1)
وعندي أنه يجب أن يفهم من هذا أن السبب قد لا تبديه الإدارة للمناقص، لكن لا بد من أن تبديه للجهة المسؤولة بقرار معلل، وإلا أدى هذا الأمر إلى الإخلال بمبدأ آلية (= موضوعية) المناقصة، (2) والتلاعب والتحايل، وتضييع الهدف من إجراء المناقصة. فإذا كان الأمر تخيراً بالتشهي والهوى والتحكم ففيم العناء والوقت والكلفة في إجراء المناقصة؟
كثيراً ما يلجأ البعض، بادئ ذي بدء، إلى التظاهر بالانضباط والانتظام، ثم يفتح بطرق مختلفة ذرائع وحيلاً للالتفاف على هذا النظام.
8- في المبحث الذي لخصنا فيه أحكام المزايدة (المبحث 2-3) ، نقلنا نصوصاً فقهية عن بعض علماء المالكية، فيها جواز إلزام كل مزايد بعطائه، ولو زاد غيره عليه، مما يسمح للبائع بأن يعقد البيع مع من يختار من المزايدين، سواء أوقع اختياره على المزايد الأعلى أم على غيره، إذ قد لا يحب معاملة الأول.
9- وعندي أن استبعاد العرض الأقل يجب أن يكون مستنداً في نهاية المطاف إلى اعتباره مخالفاً للشروط والمواصفات، ويدخل فيها سمعة صاحب العرض، وحسن تعامله ... إلخ، ولكن هذا الاستبعاد يؤخر إلى المرحلة الأخيرة، مرحلة البت في المناقصة.
فبعد التساوي في الشروط والمواصفات، يؤخذ العرض الأقل. أي لا يؤخذ العرض الأقل إلا إذا كانت سائر الشروط والمواصفات مستوية. وأي اعتبار آخر غير هذا لا بد وأن يفسح مجالاً للتلاعب والتحايل، ومن ثم فوات الغرض الأساسي للمناقصة، ألا وهو المنافسة (الشريفة) ، وضياع كل ما بذل فيها من أوقات وجهود وأموال.
__________
(1) مصادر الحق للسنهوري 2/62.
(2) أسس الشراء الحكومية ص 121 و124.(9/847)
الخاتمة
1- عقد التوريد هو عقد بين جهة إدارية عامة ومنشأة خاصة (أو عامة) ، على توريد أصناف (= سلع، مواد) محددة الأوصاف، في تواريخ معينة، لقاء ثمن معين، يدفع على نجوم (= أقساط) .
وعقد التوريد عقد جائز شرعاً، لا يدخل في النهي النبوي عن الكالئ بالكالئ، ولا عن بيع ما ليس عنده، والغرر فيه مغتفر، والحاجة إليه عامة، وهو قريب من عقد الاستصناع عند الحنفية.
2- عقد المقاولة هو عقد بين طرفين، يصنع فيه أحدهما (وهو المقاول) شيئاً لآخر، أو يقدم له عملاً، في مقابل مبلغ معلوم.
وعقد المقاولة عقد جائز شرعاً؛ لأنه في معنى عقد الإجارة إذا كان موضوعه أداء عمل أو صنع شيء مادته مقدمة من المستصنع، وهو في معنى عقد الاستصناع (عند الحنفية) إذا كان موضوعه صنع شيء مادته مقدمة من الصانع.
3- المناقصة طريقة في الشراء أو الاستئجار أو الاستصناع، تخضع لنظام محدد، تلتزم فيه الإدارة (الجهة الإدارية) بدعوة المناقصين إلى تقديم عطاءاتهم (= عروضهم) ، وفق شروط ومواصفات محددة، لأجل الوصول للتعاقد مع صاحب أرخص عطاء.
والمناقصة كالمزايدة جائزة شرعاً، سواء أكانت مناقصة عامة أو محدودة، داخلية أم خارجية، علنية أم سرية.
4- دفتر الشروط لا يجوز أن يطلب فيه من المناقصين كلفة ولا ثمن؛ لأن منفعته عائدة للإدارة، لا للمناقص. فيجب بذلك بالمجان، وهذا لا يمنع أن تطلب الإدارة من المناقص تأميناً نقديًّا قابلاً للرد إذا أعيد الدفتر إلى الإدارة، إما لعدم الرغبة في الدخول في المناقصة، أو بعد رسوِّ المناقصة، أو إلغائها. ويجوز اشتراط مصادرة هذا التأمين النقدي إذا لم تتم إعادة الدفتر إلى الإدارة.
وطلب التأمين النقدي مفيد لوقاية دفتر الشروط من أن يكون مصيره، عند بعض من يطلبه، إلى سلة المهملات.
5- يجوز طلب ضمان ابتدائي من المشتركين في المناقصة، عند تقديم العطاءات. ويجوز اشتراط مصادرة هذا الضمان إذا انسحب المناقص من المناقصة قبل الإرساء، أو تخلف عن إبرام العقد إذا رست المناقصة عليه.
6- يجوز طلب ضمان انتهائي من المتعاقد مع الإدارة، بعد رسو المناقصة عليه. ويجوز اشتراط مصادرة هذا الضمان إذا تخلف المتعاقد عن تنفيذ التزامه، بدون عذر مقبول: قوة قاهرة (= ظرف طارئ) .(9/848)
7- يجب أن تكون صيغة الضمان الابتدائي والانتهائي من الصيغة المقبولة شرعاً، وقد كانت هذه الصيغ موضع اهتمام المجمع في دورات سابقة.
8- يجوز للإدارة فرض غرامات تخلف على المقاولين والموردين إذا تخلفوا عن تنفيذ التزاماتهم بدون عذر مقبول.
9- لا يجوز للإدارة فرض غرامات تأخير على الموردين والمقاولين إذا تأخروا في تنفيذ التزاماتهم؛ لأن غرامات التأخير في التوريد والمقاولة تشبه فوائد التأخير في القروض الربوية. وقد أوضحنا ذلك في موضوعه من هذه الورقة.
10- يجوز الدخول في المناقصة لمن لا يمتلك السلعة، بشرط أن تكون السلعة عامة الوجود في السوق، في مواعيد التسليم، حتى يتحقق شرط القدرة على التسليم، وينتفي الغرر.
11- لا يجوز للإدارة أن تختار غير العطاء الأرخص، إلا بقرار مسبب، ويجب أن يكون فيه السبب عائداً إلى نوع مخالفة في الشروط والمواصفات، التي يدخل فيها سمعة المناقص وحسن تعامله وإعطاء أولوية (مقيدة) للمنشآت الوطنية أو الإسلامية أو العربية.
12- يجب أن تحرص الإدارة على رعاية حقوق الموردين والمتعهدين، في عقودها الإدارية المبرمة معهم، وكذلك على رعاية الظروف الطارئة، وأن تحرص على مبدأ المساواة في تعاملهم معها، بدون محاباة ولا تحيز، وألا تتجاوز في امتيازاتها الإدارية الحد المطلوب لسير المرافق العامة، بانتظام واطراد وتطور. وكل تجاوز في ذلك يعد من قبيل التعسف أو سوء استخدام الحق أو السلطة أو الامتياز.
13- والخلاصة فإني أرى جواز المناقصة والتوريد والمقاولة، في حدود ما كتبته واطلعت عليه (انظر المراجع الفنية آخر هذه الورقة) ، بتحفظين اثنين:
1- الأول بشأن بيع دفتر الشروط.
2- الثاني بشأن غرامات التأخير.
14- حاولت ألا أتأثر بما كتبه غيري من الباحثين في المزايدة، لا سيما وأن لها علاقة بالمناقصة، ولا حرج بعد ذلك أخذ المجمع برأيي أو لم يأخذ. ذلك لأن الأوراق والآراء العلمية يجب أن تكون مستقلة بعضها عن بعض، فلا قيمة لتعددية مع التبعية. فلو أن هناك عشرين عالماً، سبق أحدهم إلى رأي، وتبعه الآخرون تقليداً، دون اجتهاد ولا تمحيص ولا تحقق، لكانت آراء العشرين لا تزن أكثر من رأي العالم الواحد، أما لو كان لكل منهم رأي مستقل، دون رغبة مسبقة بالتأييد أو بالمعارضة، فإن آراءهم تزن آراء عشرين عالماً بالفعل.
هذا ما وفق الله تعالى في الوصول إليه، فإن كان صواباً فالحمد لله، وإن ثبت خطؤه فإلى الحق المصير المرجع، وأعوذ بالله من التمادي في الخطأ والباطل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور رفيق يونس المصري(9/849)
أهم مراجع البحث
أولاً- المراجع الفقهية:
أحكام عقود التأمين لعبد الله بن زيد آل محمود، دار الشروق، بيروت، القاهرة، ط3، 1402 هـ = 1982 م.
أحكام القرآن للجصاص (370هـ) ، دار الفكر، بيروت، د. ت.
أحكام المعاملات الشرعية لعلي الخفيف، بنك البركة الإسلامي للاستثمار، البحرين د. ت.
أصول الاقتصادي الإسلامي لرفيق يونس المصري، دار القلم دمشق، الدار الشامية بيروت، دار البشير جدة، ط2، 1413هـ = 1993 م.
الاعتصام للشاطبي (-790هـ) ، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
إعلاء السنن لظفر أحمد العثماني التهانوي
(- 1394هـ) ،بتحقيق محمد تقي عثماني، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي، د. ت.
إعلام الموقعين لابن القيم (- 751هـ) ، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، ط2، 1397هـ = 1977 م.
إغاثة اللهفان لابن القيم (- 751هـ) ، بتحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1357هـ = 1939 م.
الأم للشافعي (-204هـ) ، طبعة الشعب، القاهرة، د. ت.
الإنصاف للمرداوي (- 855هـ) ، بتحقيق محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1400 هـ = 1980 م.
البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم (- 969هـ) ، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
بدائع الصنائع للكاساني (- 587هـ) ، شركة المطبوعات العلمية، القاهرة، د. ت.
بداية المجتهد لابن رشد (- 595هـ) ، دار الفكر، بيروت، د. ت.
البناية في شرح الهداية للعيني، دار الفكر، بيروت، 1400هـ = 1980 م.
البيان والتحصيل لابن رشد (- 520هـ) ، بتحقيق أحمد الشرقاوي إقبال ومحمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1404 هـ = 1984 م.
بيع التقسيط لرفيق يونس المصري، دار القلم بدمشق، الدار الشامية بيروت، دار البشير جدة، 1410 هـ =1990 م.
تكملة المجموع للسبكي، بتحقيق محمد نجيب المطيعي، مكتبة الإرشاد، جدة، د. ت.
التمهيد في أصول الفقه للكلوذاني (- 510هـ) ، بتحقيق مفيد محمد أبو عمشة، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، كلية الشريعة، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1406 هـ = 1985 م.
الجامع في أصول الربا لرفيق يونس المصري، دار القلم دمشق، الدار الشامية بيروت، دار البشير جدة، 1412هـ = 1991 م.
حاشية ابن عابدين (1252هـ) ، دار الفكر، بيروت، 1399هـ= 1979 م.
حاشية الدسوقي (- 1230هـ) ، على الشرح الكبير للدردير، دار الفكر، بيروت د. ت.
حاشية الشرقاوي (- 1226هـ) ، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
الخرشي (-1101هـ) علي خليل وحاشية العدوي، دار صادر، بيروت، د. ت.
خطاب الضمان لرفيق يونس المصري، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد 2، الجزء 2، 1407هـ =1986 م.(9/850)
زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (- 751هـ) ، بتحقيق شعيب الأرناؤوط، بيروت، ط3، 1402 هـ=1982 م.
سنن ابن ماجه (-275هـ) ، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت.
سنن أبي داود (- 275هـ) ، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية، القاهرة، د. ت.
سنن الترمذي (- 279هـ) ، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، ط3، 1398هـ =1986 م.
سنن النسائي (- 203هـ) ، بتحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط2، 1406هـ = 1986م.
شرح فتح القدير لابن الهمام (-681هـ) ، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1389هـ=1970 م.
الشرط الجزائي، هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، مجلة البحوث الإسلامية، رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، شوال 1395هـ – 1396هـ.
صحيح البخاري (-256هـ) ، دار الحديث، القاهرة، د. ت.
صحيح مسلم (- 261هـ) بشرح النووي (- 671هـ) ، دار الفكر، بيروت، د. ت.
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم (- 751هـ) ، بتحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت.
عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي لابن العربي (-543هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت د. ت.
عقد الاستصناع في الفقه الإسلامي لكاسب عبد الكريم البدران، دار الدعوة، الإسكندرية، د. ت.
الغرر وأثره في العقود للصديق محمد الأمين الضرير، دون ناشر، 1386هـ =1967م.
الفتاوى الهندية العالمكيرية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1400هـ = 1980م.
فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (-852هـ) ، دار المعرفة، بيروت د. ت.
الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد (-241هـ) ، لأحمد البنا، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.
الفروق للقرافي (-684هـ) ، عالم الكتب، بيروت، د. ت.
قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1405 هـ = 1985 م.
قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، جدة، الدورة الثامنة، بروناي، 1-7 محرم 1414هـ = 21-27 حزيران (= يونيو) 1993.
قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، جدة، 1406هـ- 1409هـ (=1985م-1988م) .
قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام (-660هـ) ، بتحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، ط2، 1400هـ = 1980م.
قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (-741هـ) ، دار العلم للملايين، بيروت، 1979م.
الكالئ بالكالئ لنزيه حماد، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، 1406هـ=1986م.
المبسوط للسرخسي (-490هـ) ، دار المعرفة، بيروت، ط3، 1398هـ= 1978م.
مجلة الأحكام العدلية شرح سليم رستم باز، دار إحياء التراث العربي، ط 3، د. ت.
المحلى لابن حزم (456هـ) ، بتحقيق أحمد شاكر، دار الآفاق الجديد، بيروت د. ت.
المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا، مطابع ألف باء الأديب، دمشق، ط 9، 1967-1968م.
المدونة الكبرى للإمام مالك (-179هـ) ، دار الفكر، بيروت، 1398هـ= 1978م.
المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني، نقابة المحامين، عمان، ط 2، 1985م.
مسائل السماسرة للأبياني (-352هـ) ، عرض وتعليق محمد أبو الأجفان، مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، العدد 2، المجلد1، شتاء 1404هـ= 1984م.(9/851)
مصادر الحق في الفقه الإسلامي لعبد الرزاق السنهوري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.
مصنف ابن أبي شيبة (-235هـ) ، بتحقيق عبد الخالق الأفغاني، الدار السلفية، بومباي، ط2، 1399هـ= 1979م.
مصنف عبد الرزاق (-211هـ) ، بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403هـ = 1983م.
المعيار المعرب لأحمد بن يحيى الونشريسي (-914هـ) بإشراف محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، 1401هـ = 1981م.
المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة (-620هـ) ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1392هـ = 1972م.
مقدمة ابن خلدون (-808هـ) ، بتحقيق علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر، القاهرة، ط3، د. ت.
ملحق التشريع الخاص للجريدة الرسمية لجمهورية السودان الديمقراطية رقم 1340 (قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م) ، الخرطوم، د. ت.
المهذب للشيرازي (-456هـ) ، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، ط3، 1396هـ= 1979م.
مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب (-954هـ) ، دار الفكر، بيروت، ط2، 1398هـ =1978م.
الموجز في النظرية العامة للالتزامات لعبد الرزاق السنهوري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.
الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، التاريخ مختلف باختلاف الجزء والطبعة.
الميسر والمسابقة لرفيق يونس المصري، دار القلم دمشق، الدار الشامية بيروت، دار البشير جدة، 1413هـ = 1993م.
النشاط الاقتصادي في ضوء الشريعة الإسلامية لغريب الجمال، دار الشروق، جدة، 1397هـ=1977م.
نظرية الظروف الطارئة لعبد السلام الترمانيني، دار الفكر، دمشق، 1391 هـ= 1971م.
نظرية العقد (= قاعدة العقود) لابن تيمية (-728هـ) ، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
نهاية المحتاج للرملي (-1004هـ) ، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1357 هـ =1938م.
نيل الأوطار للشوكاني (-1250هـ) ، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت.
ثانياً- المراجع الفنية:
أسس الشراء الحكومي لأحمد صبري حمود، معهد الإدارة العامة، الرياض، 1395هـ =1975م.
الأسس العامة للعقود الإدارية لسليمان محمد الطماوي، دار الفكر العربي، القاهرة، ط4، 1984م.
أنظمة الإدارة العامة في المملكة العربية السعودية لمحمود مسعد، مطبعة المدني، القاهرة، 1401هـ = 1981م.
العقود الإدارية لمحمود عاطف البنا، دار العلوم، الرياض، 1405 هـ =1984م.
القانون الإداري لماجد راغب الحلو، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، 1983م.
قانون تنظيم المناقصات والمزايدات، ضمن "الأسس العامة للعقود الإدارية" ص 775-783.
لائحة المناقصات والمزايدات، ضمن "الأسس العامة للعقود الإدارية"، ص 789-843.
نظام تأمين مشتريات الحكومة، وزارة المالية والاقتصاد الوطني، الرياض، 1400هـ.
الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1964م.(9/852)
المناقصات
(عقد الاحتياط ودفع التهمة)
إعداد
الشيخ حسن الجواهري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.
المناقصات (عقد الاحتياط ودفع التهمة)
1- تعريف المناقصة: عرفت المناقصة بأنها: "طريقة بمقتضاها تلتزم الإدارة (أو الشخص) باختيار أفضل من يتقدمون للتعاقد معها شروطاً، سواء من الناحية المالية أو من ناحية الخدمة المطلوب أداؤها". (1)
ونرى أن هذا التعريف شامل للمزايدة أيضاً، باعتبار أن المناقصة والمزايدة معاً من عقود المنافسة النزيهة والتي تساوي بين المتنافسين، وعلى هذا سوف يكون شراء الحاجات وتنفيذ الأعمال من خصوصيات عقد المناقصة، كما أن بيع الحاجات والمباني الحكومية أو التابعة للأشخاص من خصوصيات عقد المزايدة.
وهذا التعريف وإن لم يكن تعريفاً حقيقيًّا للمناقصات، بل هو شرح الاسم، إلا أنه قد تعرض لالتزام أحد الأطراف بالتعاقد، ولم يتعرض لالتزام المتعاقد الآخر، ولكن من مجمل عملية المناقصة الحديثة نفهم أن المناقص ملزم بما تقدم به من عرض لبيع سلعته أو تقديم خدماته لحين رسو عملية المناقصة، ولذا من الأفضل إضافة هذه الجملة إلى التعريف السابق، وهي: "ويلتزم الطرف الآخر بما عرضه لحين رسو العملية". ولذا يمكننا أن نعرف المناقصات بأنها "طريقة بمقتضاها تلتزم الأطراف باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد شروطاً".
وقد يقال: إن التزام الداعي إلى المناقصة هو التزام ابتدائي "ليس في ضمن عقد" فيكون وعداً لا يجب الوفاء به وهو معنى عدم كونه ملزماً.
ونجيب على ذلك: بأن الالتزام إذا كان قد وصل إلى حد التعهد إلى الغير بحيث رتب الغير عليه الآثار، فصار عهداً "عقداً" مستقلاً يجب الوفاء به خصوصاً إذا قابله التزام من الطرف الآخر. (2)
وهذا بالإضافة إلى ما سيأتي من إمكان أن يكون إلزام الداعي إلى المناقصة باختيار أحسن العروض وإلزام المتناقصين بالبقاء على التزاماتهم لحين رسو المناقصة، قد شرط في ضمن عقد بيع المعلومات التي تشترط للدخول في المناقصة، فيحصل الالتزام في ضمن عقد فيكون ملزماً بالاتفاق.
وقد يستشكل في صحة التزام الداعي إلى المناقصة باختيار أفضل من يتقدمون للتعاقد معه، سواء قلنا: إن هذا الالتزام قد وصل إلى مرحلة التعهد والعقد أو كان شرطاً في ضمن عقد بيع المعلومات، قد يستشكل بإشكال آخر، وخلاصته تكمن في غررية هذا الالتزام؛ لأن الداعي إلى المناقصة قد التزم باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد معه، مع أنه لا يعلم المقدار الذي يقع عليه التعاقد في الخارج الآن، فهو التزام غرري.
__________
(1) مصطلحات قانونية/ اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية/ مطبوعات المجمع العلمي العراقي 1394/1974/ص178.
(2) هذا الرأي يخالف ما ذهب إليه علماء الإمامية من أن التعهد الابتدائي لا يجب الوفاء به ولكن رأينا أن الأدلة الروائية والقرآنية الدالة على وجوب الوفاء بالعهد حتى الابتدائي كافية، لذا ارتأينا هذا الرأي خلافاً للمعظم من علماء الإمامية(9/853)
والجواب على ذلك:
1- إن الغرر الذي منعه الشارع ليس هو الجهالة، بل الغرر عبارة عن عدم معرفة حصول الشيء من عدمه، كالطير في الهواء والسمك في الماء، وهذا يختلف عن المجهول الذي معناه "ما علم حصوله مع جهالة صفته".
2- ولو قلنا كما قال الفقهاء بأن الغرر يشمل الجهالة أيضاً، فإن الغرر المنهي عنه هو الغرر الذي يؤدي إلى منازعة بين المتبايعين، أما ما كان لا يؤدي إلى المنازعة فهو لا بأس به، وقد ذكرت الروايات الأمثلة الكثيرة الدالة على عدم الضرر في وجود غرر (جهالة) لاتؤدي إلى المنازعة كما في بيع شيء من الحليب في الإسكرجة مع ما في الضرع، وبيع السمك في الأجمة مع القصب الظاهر وأمثال ذلك من البيوع التي فيها جهالة واضحة إلا أنها لا تؤدي إلى منازعة بين المتخاصمين.
3- ولو تنزلنا وقلنا: إن الغرر يشمل كل جهالة، فهو إنما يضر إذا كانت الجهالة في العقد، أما هنا فإن الجهالة في الشرط وليست في العقد.
ولا حاجة إلى التنبيه إلى أن هذه العقود لا يجوز فيها التغرير والخداع من المتناقصين أو المتزايدين أو واحد منه أو أطراف خارجية، وذلك لأجل تحقق المنافسة النزيهة التي هي أساس المناقصة الحرة. كما هي عقود يطلب فيها المشتري أو البائع الاحتياط لنفسه ودفع التهمة عنه فيما إذا كان وكيلاً أو وليًّا.
العلاقة بين المزايدة والمناقصة:
وبهذا يتضح أن العلاقة بين المزايدة والمناقصة هي علاقة تضاد من الناحية اللغوية والموضوعية، فالزيادة ضد النقص، ولهذا وردت التفرقة بينهما في العقود.
فالمناقصة: تستهدف اختيار من يتقدم بأقل عطاء، ويكون ذلك عادة إذا أرادت القيام بأعمال معينة كالأشغال العامة مثل بناء العمارات أو إقامة الجسور أوتبليط الطرقات وما شابه ذلك.
أما المزايدة: فترمي إلى التعاقد مع الشخص الذي يقدم أعلى عطاء، وذلك إذا أرادت الإدارة أن تبيع أو تؤجر شيئاً من أملاكها مثلاً. (1)
وعلى هذا نتمكن أن نقول: إن العلاقة بين المزايدة والمناقصة هي علاقة تضاد في اللفظ والموضوع كما هو واضح من اختلاف طبيعة كل منهما، ولكن يشتركان في الإجراءات والتنظيمات في الجملة كما هو واضح من اشتراكهما في التعريف (اختيار أفضل من يتقدم للتعاقد) ، فالإجراءات المتبعة في عقد المناقصة هي بنفسها متبعة في عقد المزايدة، فمثلا بعد الإعلان عن المزايدة أو المناقصة في وسائل الإعلام وتتم الإجراءات الكتابية والمناداة العلنية تأتي هذه المراحل الثلاثة:
1- التقدم بالعطاءات من قبل الأفراد والمؤسسات.
2- فحص العطاءات وإرساء المزايدة أو المناقصة.
3- إبرام العقد.
__________
(1) الأسس العامة للعقود الإدارية (دراسة مقارنة) / السيد محمد الطحاوي/ الطبعة الرابعة مصر 1984/ ص 213 مصطلحات قانونية/ ص 178.(9/854)
النجش: ويأتي في بيع المناقصة النجش الذي يذكر في بيع من يزيد ويعرف "بأنه تواطؤ صاحب السلعة مع مزايد صوري يدفعه للمزايدة في السلعة حتى يعلي ثمنها، ولا يقصد شراءها، وإنما أراد خدمة صاحبها" وذكر الفقهاء حرمته في صورة كون الناجش قد رفع الثمن عن القيمة الحقيقية تضليلاً للمزايدين، يأتي ولكنه معكوس وذلك لوجود العلة التي حرمته وهي الاحتيال والإضرار بالأخ المسلم ظلما، المستنبطة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش. وعلى هذا فلو تواطأ المريد للسلعة الموصوفة بأوصاف معينة مع أحد الأفراد المشتركين في المناقصة بأن يعرض بثمن أقل من الثمن السوقي ولا يقصد البيع حقيقة خدمة لمن طلبها فيكون هذا حراماً، للعلة التي حرم النبي صلى الله عليه وسلم فيها النجش وهي الاحتيال والخديعة والإضرار بالأخ المسلم ظلماً، ويشتركان في الإثم.
وكذا يحرم فيما إذا اتفق البائع مع من ينافسه في بيع السلعة الكلية على عدم المنافسة له في العرض، أو اتفق معهم على عدم عرض السلعة بثمن أقل من كذا، فهو من الاحتيال والغش "حيث إن اتفاق الأطراف كلها كان قد بني على المنافسة النزيهة فيكون اتفاق البعض على عدمها غشاً واحتيالاً" فإن كان فيه إضرار بالمشتري (كأن اشترى السلعة بأكثر من الثمن السوقي مع عدم علمه بذلك) فالعمل يكون حراماً لوجود علة حرمة النجش ويثبت للمشتري الخيار في إمضاء الصفقة أو فسخها.
وإن حصل التنقيص في الثمن ممن لا يريد شراءها بغير تواطؤ مع المشتري ليضر الغير ويخدعه، فإن الحرمة تختص بالمنقص.
اختلاف الموجب بين المزايدة والمناقصة في البيع:
قالوا (1) : إن الموجب هو من يتقدم بعطاء، إلا أنه في المزايدة يكون الموجب هو المشتري، بينما في المناقصة يكون الموجب هو البائع، كما يكون إرساء المناقصة باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد هو القبول.
ولكن يمكن المناقشة في جعل الموجب في المزايدة هو من يتقدم بعطاء، باعتبار أنه يتملك بثمن معين (وإنما يملك ثمنه للغير تبعاً لتمليك الغير سلعته إياه، فهو تمليك تبعي) فيكون قابلاً، وقدم قبوله بلفظ اشتريت أو ابتعت أو تملكت وأشباهها، وأما الموجب فهو الذي يملك السلعة وإن تأخر عن القبول، وعلى هذا لا يشترط تقديم الإيجاب على القبول لظهور كونه عقداً يجب الوفاء به، أما الرضا فهو موجود في تقديم القبول على الإيجاب وتقديم الإيجاب على القبول. نعم يكون المتقدم بالعطاء في المناقصة موجباً؛ لأنه يملك ماله بثمن معين وهو معنى الإيجاب، ثم إننا وإن قبلنا (قياساً على المزايدة) بأن الذي تقدم بعرض سلعته بثمن معين هو الموجب، فإن بذلك آخر عمله أو سلعته بأقل من الأول فقد سقط الإيجاب الأول ووجد إيجاب ثان (وهو البذل الثاني) استناداً إلى التعريف الذي تقدم للمناقصات القائل بأنه باختيار أفضل من يتقدمون للتعاقد، وحينئذ يكون البذل بالأقل هو أفضل من الأول للتعاقد، وقد التزم الداعي إلى المناقصة باختياره فيكون ملزماً به ومعرضاً عن البذل الأول فيسقط البذل الأول، فإننا وإن قبلنا كل ذلك إلا أننا لا نقبل ذلك وفيما إذا كان البذل الثاني قد صدر من القاصر أو المحجور عليه، (2) لأن هذا البذل الأخير ليس ملزماً للداعي إلى المناقصة وإن تصوره ملزماً.
وعلى هذا يمكن القول بعدم وجود بذل ثان أفضل من الأول في هذه الصورة الأخيرة.
__________
(1) مصادر الحق في الفقه الإسلامي/ ج2/ ص 66
(2) مصادر الحق في الفقه الإسلامي/ ج2/ ص 66(9/855)
علاقة المناقصة بالمقاولة:
إن علاقة المناقصة بالمقاولة من حيث إن المناقصات هي قسم من المقاولات التي تكون ملزمة للطرفين، فإن المقاولة ربما تكون مع طرف خاص من غير أن تسبق بعرض ذلك المشروع على الآخرين، وبعبارة أوضح إن المناقصة والمقاولة كلاهما تعهد من قبل من يشترك في المناقصة والمقاولة، إلا أن الاختلاف من ناحية أن المقاولات عامة تشمل المناقصات التي هي مقاولات خاصة وتشمل غير المناقصات التي يكون التقاول مع طرف خاص من غير أن تسبق هذه المقاولة بعرض المشروع على الآخرين. فالعلاقة بينهما هي علاقة العموم والخصوص المطلق، إذ كل مناقصة هي مقاولة وليست كل مقاولة هي مناقصة، فالمقاولات أعم من المناقصات التي هي مقاولات خاصة.
توضيح لعقود المناقصات المعاصرة:
إن ما يجري في الخارج لعقود المناقصات قد يحتوي على عمليات متعددة يكون لفهمها الأثر الخاص في تشخيص الحكم الذي نحن بصدده، لذا من المستحسن أن نستعرض سير عملية المناقصة من أول ما يدعى إلى المشاركة فيها وحتى نهاية العقد فنقول:
1- إن أول ما يصدر منشوراً في الصحف الكثيرة الانتشار هو وجود عزم جهة معينة لتأسيس مشروع معين أو شراء سلع موصوفة، ولكن طريقة تمامية العقد تكون على طريقة المناقصة التي هي (التزام بالتعاقد مع أفضل من يتقدم بالتعاقد معه) ، ويذكر عادة في هذا المنشور الدعوة إلى الاشتراك في المناقصة وذكر آخر موعد لتسلم المظاريف التي فيها الاستعداد الكامل لتقبل الصفقة بسعر معين.
2- قد يشترط لأجل الاشتراك في عملية المناقصة شراء المعلومات التي أعدتها الجهة الداعية إلى المناقصة حول المشروع وهنا لا بد لأجل الاشتراك في عملية المناقصة لمن يرغب بها من شراء تلك المعلومات، وهذا عقد مستقل قبل الاشتراك في المناقصة ولا ارتباط له بعقد المناقصة الذي لم تبدأ أي مرحلة من مراحله لحد الآن. وقد يشترط في هذا العقد تقديم خطاب ضمان ابتدائي يدفعه البنك إذا رست المعاملة على أحد المتناقصين ولم يلتزم بها.
3- يبدأ عقد المناقصة من حين تسلم المظاريف وفتحها "وقد يكون من حين كتابة المظاريف"، وبما أن في كل مظروف استعداد صاحبه لتقبل المشروع بسعر معين، فهو يكون إيجاباً من قبل صاحبه للالتزام بما يريده صاحب الطلب "وفي حالة كون المناقصة علنية وعلى وجه المباشرة بين البائع أو المقاولين وبين الراغب في تمامية المشروع له، تكون المناداة بالاستعداد بسعر معين هي الإيجاب ". ولكن بما أن الداعي إلى المناقصة قد التزم بأنه يختار أفضل من يتقدمون للتعاقد معه، فحينئذٍ يكون بذل السلعة أو العمل بسعر أقل من الأول موجباً لسقوط الإيجاب الأول وبقاء الثاني، وهكذا إذا حصل من يبذل أقل من الثاني، إلا أن هذه المرحلة يبتدأ بها العقد ولكنه لم يتم إلا بعد إرساء المناقصة على أحد الأفراد وهو الأقل من غيره.(9/856)
1- وإذا رست المعاملة على أحد المتناقصين باعتباره الأفضل للتعاقد، فقد حصل القبول وتم العقد في هذه اللحظة وإن كان قد بدأ قبل ذلك. وفي هذه المرحلة لا يوجد أي إشكال في هذه المعاملة حيث يكون الثمن معلوماً للمشتري، كما لا بأس بالفاصل بين الإيجاب والقبول هنا كما لا نرى بأساً به فيما إذا حصل الإيجاب بواسطة الرسالة التي تستغرق مدة "أكثر من المدة التي تكون بين كتابة المظاريف وفتحها وإرساء المناقصة على أفضلها" غير قليلة حتى يتحقق القبول ويتم العقد.
ولكن قد يكون سبر المناقصة بصورة أخرى: خلاصتها " تقديم القبول على الإيجاب " كأن يقول الداعي إلى المناقصة "كما تقدم في تعريفها" أنا ألتزم باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد معي حول هذا المشروع الموصوف بهذه الأوصاف المعينة، ويعتبر هذا قبولاً متقدماً على الإيجاب. وعلى هذا فسوف يكون فتح المظاريف والاطلاع على أقل من تقدم للتعاقد هو الإيجاب المقبول سابقاً.
وفرق هذه الصورة عن سابقتها هو في تحديد بدء العقد وانتهائه، ففي الصورة الأولى كان بدء العقد بكتابة المظاريف أو فتحها وانتهائه بالقبول مع أفضل من تقدم للتعاقد، أما في الصورة الثانية فيكون بدء العقد من حين الدعوة إلى المناقصة وختامها بفتح المظاريف ومعرفة أفضل من تقدم للتعاقد.
ولكن إشكال هذه الطريقة الثانية يكمن في عدم معرفة الثمن حين القبول المتقدم، حيث إن المشتري أو صاحب المشروع قد قبل أفضل من يتقدم للتعاقد معه، وهو لا يعرف الثمن الذي يكون في مقابل المشروع أو السلعة المشتراة، نعم يعرف الثمن حين تمامية العقد ومجيء الإيجاب، فهل هذا يضر بصحة العقد؟
الجواب: قد يقال بأن جهالة الثمن عند القبول المتقدم لا يضر بصحة العقد، حيث إن معلومية الثمن وكذا المثمن هي شرط لصحة العقد، وحينما يتم العقد يتضح الثمن، فلا جهالة بالثمن عند تمامية العقد، نعم هناك جهالة بالثمن قبل تمامية العقد وهي لا تضر.
وبعبارة أخرى: إذا قلنا: إن جهالة الثمن مضرة بحصة العقد؛ لأنها تؤدي إلى الضرر المنهي عنه، فإن الضرر غير موجود بعد تمامية العقد، حيث إن المشتري قد علم بالثمن حين رسو المعاملة.
ثم إننا إذا لم نقبل ما تقدم كتوجيه لصحة الصورة الثانية للمناقصات فنقول: إن القبول المتقدم إن لم يكن مقبولاً، فبعد فتح المظاريف ومعرفة أفضل من تقدم للتعاقد يحصل القبول من المشتري الآن، فيكون ابتداء العقد وانتهائه كالصورة الأولى وقد عرفنا أنه لا إشكال فيها.
2- أنواع المناقصات: إن المناقصات التي توجد في الخارج يمكن أن تكون على أنواع متعددة:
الأول: مناقصات للبيع والشراء: فإن الجهة الداعية إلى عقد المناقصة تريد الشراء لما ترغب فيه بمواصفات معينة، والذي يبذل ما يريده المشتري يكون بائعاً. وهذا هو بيع الكليّ المضمون حالاً.
الثاني: مناقصات الاستصناع والسلم: حيث تعقد المناقصة لشراء الكلي الموصوف الذي يسلم بعد ستة أشهر مثلاً، فيتعاقد المشتري مع أفضل من يتقدم من الناحية المالية والالتزامية، فهي مناقصة سلم إذا كانت على سلعة لا بد من تحويلها بعد الأجل، ومناقصة استصناع إذا كان المراد تحويله عبارة عن شيء كونه العمل مع المواد الأولية التي يوفرها المستصنع.(9/857)
الثالث: مناقصات لعقد الإجارة: لإنشاء مشروع معين، على أن تكون مواد المشروع من الجهة الداعية إلى المناقصة.
الرابع: عقد مناقصة لأجل الاستثمار: ولهذا القسم أنواع متعددة تبدو في كل من:
أ- عقد المضاربة.
ب- عقد المزارعة.
ج- عقد المساقاة.
فإن الممول في المضاربة الشرعية، وصاحب الأرض والبذر الذي يريد زراعة أرضه بنسبة من الربح، وصاحب الأصول الذي يرغب في أن يسقي غيره أصوله المغروسة قد يعقدون مناقصة لمن يكون شريكاً لهم في الربح، فيعلن (المضارب والمزارع والمساقي) رغبته للتعاقد مع أفضل من يتقدم للشركة معه.
ونحن لا نحتاج إلى سرد دليل خاص على مشروعية المناقصات حيث إنها كما اتضحت داخلة:
إما في بيع الكلي حالاً.
أو بيع الكلي سلماً.
أو بيع الاستصناع.
أو الإجارة.
أو الاستثمار على طريقة المشاركة.
وبهذا سوف تكون أدلة هذه العقود هي الأدلة على صحتها.
ثم إنه كما يكون البيع في الحيوان والصرف والسلف والاستصناع، كذلك تكون المناقصة فيها على حد سواء. وعلى هذا فسوف تكون المناقصات شاملة للبيع وللإجارة وللاستثمار عن طريق المشاركة في الربح فهي عبارة عن عنوان عام يمكن أن نطلق عليه عنوان عقود المناقصات.
وعلى هذا فإن المناقصات لما كانت تختلف عن البيوع العادية في اعتبار أن المشتري ملتزم بالتعاقد مع أفضل من يتقدم بالتعاقد معه، وكذلك البائع قد التزم بذلك كما في التعريف فمعنى ذلك أن العقد الحاصل من تلك المناقصة قد اشترط فيه إسقاط الخيارات، حيث إن الالتزام في العقد بالتعاقد مع أفضل من يتقدم للتعاقد ليس معناه عرفاً هو الالتزام بالتعاقد حتى يتم ثم يفسخ بعد ذلك بخيار مجلس مثلاً، فإن هذا المعنى وإن كان له وجه دقيق إلا أنه ليس عرفيًّا لمن يصرح بأنه ملزم بالعقد مع غيره، كما إذا حلف أن يبيع داره من فلان، فإنه لا يحق له أن يبيعها منه ثم يفسخ البيع بخيار المجلس، وحينئذ يكون التصريح معناه بقاء العقد بدون فسخ، أما إذا وجد فسخ بعد ذلك فلا معنى للالتزام بالعقد.
وعلى هذا فسوف يكون معنى الالتزام بالعقد مع من يتقدم بأحسن الشروط هو عدم جواز الفسخ بخيار المجلس مثلاً، وهو معنى ارتكازية عدم الفسخ في عقد المناقصات. ومما ينبهنا على ذلك أخذ خطاب الضمان الابتدائي الذي يكون لصالح من يلتزم بالعقد ضد من لم يلتزم به رسو المعاملة، وسوف يأتي توجيه ذلك بكونه شرطاً في فسخ المعاملة، ومعنى ذلك عدم جواز الفسخ بدونه، ونستطيع أن نستنتج من كل ذلك: أن الخيار موجود للمتبايعين ولكن لا يحق لكل واحد شرعاً الفسخ إلا في صورة أن يكون خطاب الضمان لصالح الآخر.(9/858)
بالإضافة إلى أن المشتركين في هذه العقود هم من أهل الخبرة الذين لهم سابقة جيدة في هذه المعاملات السوقية فيكون ادعاء الغبن مثلاً هنا غير مسموع عادة، فلا يثبت خيار الغبن فيها من هذه الناحية أيضاً.
اختلاف المناقصة عن البيع: وإذا نظرنا بمنظار آخر للمناقصات نراها أنها عبارة عن قسم من البيوع، حيث إن البيع قد يكون مع طرف خاص من غير أن يعرض المشروع في شراء السلع للآخرين. كما تكون المناقصات قسماً من بيع السلم أو الاستصناع أو الإجارة أم الاستثمار حيث قد تكون هذه العقود الأخيرة من غير أن يعرض مشروعها للآخرين.. وبهذا اتضح أن المناقصات قد تكون أعم من البيع كما قد تكون أخص منه من ناحية أخرى. فبين المناقصة والبيع عموم وخصوص من وجه فيتفقان ويختلفان، وكذا تكون هذه النسبة بين المناقصة والسلم، والمناقصة والشركة (مضاربة، مساقاة، مزارعة) .
التكييف الشرعي للمناقصات:
إن المناقصات التي قد لا يكون لها أثر شرعي خاص في كتب الحديث، يمكن الاستدلال على صحتها ومشروعيتها بعمومات {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} و {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بعد وضوح كونها من مصاديق البيع والتجارة والعقد عرفاً، حيث إن المشتري أراد الوصول إلى مقصوده، وكذا المستأجر، وكذا الطرف الآخر البائع أو مقدم الخدمات إلى الآخرين يريد الحصول على نتيجة عمله متمثلاً في النقد أو أي شيء آخر، وإذا اتضح أن المعاملة الجارية بصورة المناقصة هي بيع أو إجارة أو مزارعة أو مضاربة أو مساقاة أو غير ذلك، فالدليل الذي دل على صحة هذه العقود من الأدلة العامة أو الخاصة هو نفسه الدليل على صحة هذه المناقصة بشرط أن تسلم أصول العقد وتحقق أغراضه. وسوف نرى فيما يأتي أن ما اشترط في عقد المناقصة هل يخل بأصل العقد أو لا؟
ثم إن المناقصات تستهدف في حقيقتها المحافظة على المنافسة الشريفة في خفض الأسعار لصالح طالب السلعة، أو خفض الأجرة لصالح طالب العمل، وهذا العمل قد يتعين في الشريعة الإسلامية إذا كان الغرض منه الشراء للأيتام بواسطة الحكام أو الوصي أو القيم، لما فيه من توقع الشراء بأقل ودفع التهمة.
وكذا قد يتعين هذا العمل في الشراء أو إنجاز العمل لمؤسسات الدولة كالأوقاف والمؤسسات العامة كالمدارس، وإن لم يتعين فلا أقل من استحبابه في مثل الصورة المتقدمة لما فيه من تحقيق المصلحة العامة أو مصلحة المتولى عليه أو دفع التهمة على المباشر في بعض الصور.
هل هناك تعارض بين صحة عقود المناقصات والنهي عن الدخول في سوم الأخ؟
هناك طائفتان من الروايات قد يقال بتعارضها مع عقد المناقصة وهما:
طائفة النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه.
طائفة النهي عن سوم الرجل على سوم أخيه.(9/859)
أما الطائفة الأولى:
1- فقد ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبيع بعضكم على بيع أخيه)) . (1)
2- عن أبي هريرة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد و ... ولا يبيع بعضكم على بيع أخيه)) (2) وقد روى هذا الحديث أيضاً مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ ((لا يبع بعضكم على بيع بعض)) .
وعنه أيضاً: ((لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته إلا أن يأذن له)) .
ولما كان البيع حقيقة هو في صورة انعقاده، فيكون البيع على البيع حقيقة في صورة انعقاد البيع الأول، وهذه الحقيقة هنا منتفية، فحمل على أقرب المجازات إليها، وأقرب المجازات هي المراكنة التي يركن فيها المشتري إلى البائع وتنشر السلعة له.
أقول: إن حقيقة البيع على البيع هنا موجودة، فلا حاجة إلى حمل الروايتين على أقرب المجازات، وتوضيح ذلك هو أن البيع الأول عندما يتم يأتي البائع الآخر فيقول للمشتري في زمن خيار المجلس "إذا فسخت بيعك فأنا أبيعك مثله بأقل منه أو يقول مشتر آخر للبائع إذا فسخت بيعك، فأنا أشتري منك بأكثر منه".
وأما ما ذكر من المراكنة فقد وردت فيها روايات الطائفة الثانية.
الطائفة الثانية:
روي عن الحسين بن زيد عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه في حديث المناهي أنه قال: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم". (3)
ومعناه: أن يطلب غيره من المسلمين ابتياع الذي يرد أن يشتريه، ويبذل زيادة عنه ليقدمه البائع أو يطلب البائع بيع سلعته بسعر أقل مما اتفق عليه البائع مع المشتري أو يبذل شخص آخر غير المتساومين إلى المشتري متاعاً غير ما اتفق هو والبائع عليه. فنرى أن أحد المتبايعين قد ركن في المعاملة إلى الآخر ولم يبق إلا العقد والصفقة، فإذا أراد أحد أن يدخل في ما بين المتراكنين ليفسد عليهما صفقتهما فيكون مشمولاً لهذا النهي، وهذا النهي دال على الحرمة ظاهراً، فقد يقال بتعارضه مع صحة عقد المناقصة.
ولكن أقول بعد الغض عن ضعف سند الحديث:
إن هذا النهي وإن كان ظاهراً يدل على الحرمة، إلا أن ارتكازية "تسلط الناس على أموالهم" التي ورد فيها النص تدل على أن السلطنة على مال الإنسان تمتد إلى تمامية البيع أو العقد، وما دام هنا في المساومة لا يوجد بيع ولا عقد فتكون قرينة على أن المراد من النهي المتقدم هو الكراهة، ولذا أورد الفقهاء هذه الرواية في باب الآداب، وعلى هذا فلا تكون معارضة لصحة عقد المناقصة بناء على ورودها في مورد عقد المناقصة.
النتيجة: ولكننا نقول: إن المناقصة التي نحن بصدد الكلام عنها تختلف اختلافاً أساسيًّا عن مورد النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه، ومورد النهي عن الدخول في سوم الأخ المسلم وذلك:
لأن المناقصات التي توجد في الخارج ويحصل التوارد على المناقصة في العملية الواحدة لا يوجد فيها بيع حتى يكون بيع الرجل على بيع أخيه، ولا يوجد ركون حتى يكون دخول على سوم الأخ المسلم، وإنما هي عروضات تحصل من المتناقصين للمشترى يختار أحدها الموافق له وحينئذ تكون هاتان الطائفتان من الروايات خارجتين عن صحة المناقصات التي نحن بصدد الكلام عنها.
__________
(1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري /ج4/ص 352-353 باب 58/ حديث رقم 2139 – 2140.
(2) صحيح البخاري بشرح فتح الباري /ج4/ص 352 – 353 باب 58/ حديث رقم 2139 – 2140
(3) وسائل الشيعة /ج12/ باب 49 من أبواب التجارة/ ح3.(9/860)
على أنه صرح بعض الفقهاء (1) بعدم شمول النهي في الدخول على سوم الأخ المسلم الدلالة التي يتعارف وجودها في المزايدات والمناقصات حيث إنها موضوعة عرفاً لطلب الزيادة أو النقيصة، فما دام الدلال يطلب الزيادة أو النقيصة لا يكون هناك سوم أو ركون حتى يأتي النهي عن الدخول في سوم الأخ المسلم.
ويمكن توجيه عدم التنافي بشكل آخر وهو أن يقال: إن حديث النهي عن الدخول في السوم ناظر إلى المعاملة الخاصة الجارية بين طرفين خاصين ولا يشمل مثل بيع المناقصة التي تكون المعاملة فيه مبنية من الأول على عدم السوم مع شخص واحد بل مع جماعة.
3 - الدخول في المناقصة لمن لا يمتلك السلعة أهو من المواعدة أو الاستصناع أم بيع ما ليس عند الإنسان؟
لا بد لنا من التفرقة بين الاستصناع أو السلم وبين بيع ما ليس عند الإنسان الذي روي فيه النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم لنرى أن ما نحن فيه (بيع المناقصة) من أي القسمين. ثم لا بد من التفرقة بين ما نحن فيه وبين المواعدة التي تحصل بين اثنين على أمر من بيع أو عمل.
بيع ما ليس عندك:
إن الروايات الواردة في بيع ما ليس عندك على طوائف:
الطائفة الأولى: روايات حاكية لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك فقد روى سليمان بن صالح عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع وعن بيعتين في بيع وعن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن. (2)
وهذه الروايات مطلقة لبيع ما ليس عند الإنسان سواء كان بيعاً كليًّا أو شخصيًّا.
ولكن يتعين علينا رفع اليد عن الإطلاق وحمله على صورة كون المبيع شخصيًّا، وذلك لورود الروايات المعتبرة الدالة على جوز بيع الكلي على العهدة مع عدم ملك الشخص حال البيع كما سيأتي.
ويتعين علينا أيضاً رفع اليد عن إطلاق بطلان بيع ما ليس عنده بالإضافة إلى مالك المال، لما ورد من الأدلة الدالة على صحة بيع الفضولي بإجازة المالك، وهذا واضح.
فالخلاصة: أن النهي المتقدم هو في (خصوص المبيع الشخصي لغير المالك) ، وهذا النهي يدل على عدم حصول النقل والانتقال شرعاً (أي فساد البيع باعتبار اشتراط الملك في البيع الشخصي إذا باعه لغير المالك) .
الطائفة الثانية: روايات تصحح البيع بعد أن يشتري العين الخارجية وتبطله إذا باعها قبل الشراء، منها:
1- صحيحة يحيى بن الحجاج قال: سألت الإمام الصادق عليه السلام عن رجل قال لي: "اشتر لي هذا الثوب أو هذه الدابة، وبِعْنِيهَا، أربحك فيها كذا وكذا، قال: لا بأس اشترها ولا توجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها" (3) والاستيجاب عام لمطلق التملك ولو بغير الشراء، بينما الشراء خاص لخصوص التملك بالشراء.
__________
(1) الشهيد الأول/ الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية /ج3/296.
(2) وسائل الشيعة/ ج12/ باب 7 من أحكام العقود/ح2، وكذا ح د.
(3) المصدر نفسه/ باب 8 من أحكام العقود /ح13.(9/861)
2- روى ثقة الإسلام الكليني (1) في باب (لا تبع ما ليس عندك) عن ابن عمير عن يحيى بن الحجاج عن خالد بن الحجاج قال: قلت للصادق عليه السلام: "الرجل بجيئني ويقول: اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا، فقال عليه السلام: أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك؟ قلت: بلى، قال عليه السلام: لا بأس، إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام". (2)
فكأن الإمام الصادق عليه السلام لا يرى بأساً بالمواعدة والمقاولة ما لم يوجب بيع المتاع قبل أن يشتريه من صاحبه، وإنما المانع إذا باع الثوب ثم اشتراه من صاحبه، ودفعه إلى المشتري، فإن هذا باطل. أقول: وإذا ناقشنا بكون طائفة الروايات الأولى ضعيفة وطائفة الروايات الثانية غير ظاهرة في المفروض (3) لاحتمال كونها في من أراد الحصول على المال بدون محذور الربا وهو ما يسمى (بيع العينة) فإن كان البيع الثاني مشروطاً في الأول فهو باطل، ولا ربط لها في من باع ثم ملك، فتأتي روايات الطائفة الثالثة.
الطائفة الثالثة: وهي روايات تصحح البيع بعد أن يشتري المتاع، سواء كان كليًّا أو شخصيًّا منها:
1- صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السلام: "سألته عن رجل أتاه رجل فقال له: ابتع لي متاعاً لعلي أشتريه منك بنقد أو نسيئة، فابتاعه الرجل من أجله، قال عليه السلام: ليس به بأس، إنما يشتريه منه بعدما يملكه" (4)
2- صحيحة منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه السلام: "في رجل أمر رجلاً يشتري له متاعاً، فيشتريه منه قال عليه السلام: لا بأس بذلك، إنما البيع بعدما يشتريه". (5)
وهاتان الروايتان تقضيان بأن الجواز بعد أن يشتري الشيء وبعدما يملكه، أما بيع الشيء قبل تملكه فهو باطل. ولكن لا بد من تخصيصهما بصورة العين الخارجية، وذلك: لورود الروايات الصحيحة الدالة على صحة بيع الكلي كما سيأتي.
بيع الكلي (بيع ما في الذمة) : وهو يتصور على قسمين:
1- بيع السلم.
2- بيع الكلي.
أما الأول: بيع السلم: فهو عبارة عن ابتياع مال مضمون إلى أجل معلوم بمال حاضر أو ما في حكمه) (6) والدليل على صحته بالإضافة إلى عمومات صحة البيع والتجارة عن تراض هو:
1- ما رواه زرارة في الصحيح عن الإمام الصادق عليه السلام قال: لا بأس بالسلم في الحيوان إذا وصفت أسنانها. (7)
2- صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك إلى أجل مسمى قال: لا بأس. (8)
3- موثقة سماعة قال: "سئل الإمام الصادق عليه السلام عن السلم في الحيوان؟ فقال: أسنان معلومة وأسنان معدودة إلى أجل مسمى لا بأس به". (9)
__________
(1) روى هذه الرواية الشيخ الطوسي في باب (النقد والنسيئة) ولعل الذي جعله يرويها في هذا الباب هو احتمال أن الحديث بصدد بيان تحصيل الإنسان مالاً بدون محذور الربا وهو ما يسمى بـ (بيع العينة) وحينئذ فإن لم يكن البيع الثاني مشروطاً في البيع الأول فلا بأس به.
(2) المصدر نفسه/ باب 8 من أحكام العقود/ح4
(3) هذا الاحتمال غير وارد في الصحيحة الأولى؛ لأنه يقول: "اشتر لي هذا الثوب أو هذه الدابة وأنا أربحك فيها كذا وكذا" فوجود كلمة (لي) تبعد الاحتمال المذكور وهي ظاهرة في إرادة أن يشتري له ملك الغير.
(4) وسائل الشيعة/ ج12/ باب 8 من أحكام العقد/ ح8.
(5) المصدر والباب نفسه/ ح6.
(6) جواهر الكلام/ ج24/ ص 267.
(7) وسائل الشيعة / ج13/ باب 1 من السلف/ ح3.
(8) وسائل الشيعة / ج13/ باب 1 من السلف/ ح4
(9) وسائل الشيعة / ج13/ باب 1 من السلف/ح7.(9/862)
وأما الثاني (بيع الكلي حالاً) : فقد ذكر الفقهاء أن بيع الكلي في الذمة حالاً صحيح تشمله الأدلة العاملة لصحة البيع مع خصوص صحيح ابن الحجاج قال: سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده فيشتري منه حالاً؟
قال: ليس به بأس.
قلت: إنهم يفسدونه عندنا.
قال: فأي شيء يقولون في السلم؟
قلت: لا يرون فيه بأساً، يقولون: هذا إلى أجل فإذا كان غير أجل وليس هو عند صاحبه فلا يصلح.
قال: إذا لم يكن أجل كان أحق به.
ثم قال: لا بأس أن يشتري الرجل الطعام وليس هو عند صاحبه إلى أجل، وحالاً لا يسمى له أجلاً إلا أن يكون بيعاً لا يوجد مثل العنب والبطيخ في غير زمانه، فلا ينبغي شراء لك حالاً" ونحوه آخر (1)
النتيجة: أن المناقصة ليست من بيع ما ليس عندك:
وبعد أن اتضحت هذه الأمور:
1- إن المراد من (لا تبع ما ليس عندك) هو في خصوص العين الشخصية التي تكون ملكاً للغير، فلا يجوز لغير صاحبها أن يبيعها ثم يشتريها ويسلمها إلى المشتري.
2- وإن بيع الكلي في الذمة صحيح، سواء كان سلماً (مؤجلاً) أو حالاً، ما دام تسليمه إلى المشتري مقدوراً.
نأتي إلى ما نحن فيه وهو بيع المناقصة فنقول:
1- إذا كانت المناقصة عبارة عن رغبة المشتري في الحصول على شيء كلي له مواصفاته الخاصة فيكون المناقص بائعاً لهذا الكلي بثمن يعرضه، فإن رست عليه العملية فهو صحيح لصحة بيع الكلي.
أ- فإن كان هذا الكلي سلعة مؤجلة إلى أجل معين فهو بيع سلم.
ب- وإن كان هذا الكلي سلعة حالة فهو بيع الكلي الحال.
ج- وإن كان هذا الكلي عبارة عن صنع شيء معين إلى أجل معين فهو بيع الاستصناع الذي هو قسم من السلم.
د- وإن كان هذا الكلي عملاً في المستقبل كالزرع والسقي والضرب في الأرض بحصة من الربح فهو مزارعة ومساقاة ومضاربة.
هـ- وإذا كان هذا الكلي عملاً له شرائطه كالبناء والخياطة والطباخة بأجرة معينة فهو إجارة. وهكذا.
وعلى هذا تبين أن المناقصة التي يدعو لها فرد أو جهة معينة لا تتصور في الرغبة في شراء شيء معين خارجي له مالك واحد أو متعددون، بل يتصور هنا المساومة والمراوضة معهم للوصول إلى الاتفاق على شيء خاص وهو غير المناقصة.
الفرق بين المواعدة والمناقصة:
بقي أن نعرف الفرق بين المواعدة والمناقصة، فنقول: إذا كانت المناقصة (عبارة عن بذل سلعة كلية أو عمل كلي بمواصفات معينة بثمن معين، وهو معنى الإيجاب وصاحبها يكون هو البائع، وإرساء المناقصة على أي واحد من المتناقصين هو القبول من قبل المشتري فمعنى ذلك: أن العقد يتم ويكون ملزماً بهذه الأمور التي تكون على صورة الجزم والبت) (2) فقد اتضح فرقها عن المواعدة التي لا تكون ملزمة للطرفين، بل يكون صاحباها بالخيار إن شاءا عقدا وإن شاءا تركا كما ذكرت ذلك الروايات كصحيحة معاوية بن عمار قال: "قلت للصادق عليه السلام: يجيئني الرجل يطلب مني بيع الحرير وليس عندي منه شيء، فيقاولني عليه، وأقالوه في الربح والأجل حتى نجتمع على شيء، ثم أذهب فأشتري له الحرير، فأدعوه إليه، فقال عليه السلام: أرأيت إن وجد بيعاً هو أحب إليه مما عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك، أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه؟ قلت: نعم.
قال: فلا بأس (3)
والمفهوم من هذه الصحيحة هو أن الرجل الذي طلب الحرير من الآخر لم يحصل بينهما البيع الكلي في الذمة وإنما تقاولا، وبما أن التقاول قد يكون ملزماً كالعهد وقد لا يكون ملزماً كالوعد، أراد الإمام عليه السلام أن يفهمه بأن التقاول غير الملزم وهو المواعدة أو الوعد الذي ليس لها صفة إلزام في البيع أو الشراء، بينما الذي له صفة الإلزام هو العهد أو البيع الكلي ولم يصلح أي منهما.
__________
(1) وسائل الشيعة/ ج12/ باب 7 من أحكام العقود /ح1 وح3.
(2) وإنما يبرم العقد بعد ذلك، بمعنى كتابته كوثيقة.
(3) وسائل الشيعة / ج12 باب 8 من أحكام العقود/ ح7.(9/863)
إذن حصل الفرق بين المناقصة والمواعدة بالإلزام وعدمه، فإذا تمت المناقصة مع أحد الأطراف فهي إما بيع، أو بيع خاص (كالسلم) ، أو استصناع، أو إجارة، أو استثمار على أحد الطرق المتقدمة وهذا كله يختلف عن المواعدة التي لا تكون ملزمة وليست هذه من العقود.
4 - بيع وثائق المناقصة بالتكلفة أو بأي ثمن للحصول على ربح:
أقول: إن المناقصات التي هي عبارة عن قائمة احتياجات (مشاريع أو مقاولات) يحتاجها المعلن بمواصفات معينة تسد حاجته وتشبع رغبته، تستدعي توظيف بعض الخبرات والاستشارات التي يتفق عليها المحتاج مقداراً من المال. ثم يقوم المحتاج بتزويد المتناقصين بهذه المواصفات والدراسات التي يرغب في تنفيذ احتياجاته على وفقها، وهذه الدراسات تفيد المناقص إذا رست عليه المناقصة، إذ ليس عليه بعد ذلك إلا التنفيذ. وهنا قد يقوم المشتري على استعادة هذه التكلفة من الرسوم التي يأخذها من المتقدمين للمناقصة، أو يأخذ أكثر منها للحصول على ربح، فهل هذا العمل جائز؟
أقول: إن هنا معاملتين:
الأولى: يقوم بها المشتري مع الأخصائيين الذين يتصدون لتهيئة المعلومات الكاملة؛ لأن تعرض المشتركين في المناقصة مثل تهيئة خريطة المشروع أو صفة السلعة أو نوع الشركة أو شروط الإجارة أو الاستصناع وما يرتبط هذه المشروعات من أمور، وهذه المعاملة بين المشتري والمعدين لهذه المعلومات يمكن أن تكون على أساس الجعالة، كما يمكن أن تكون من قبيل استئجار المتصدين لتهيئتها وهو عقد صحيح.
ثم هناك معاملة ثانية: هي بين من استحق هذه المعلومات لصالحه وهو المشتري وبين من يريد أن تعرض تلك المعلومات له، فهي معاملة ثانية صحيحة سواء كانت بسعر الكلفة أو أزيد لدخولها تحت عنوان التجارة عن تراض، أو أحل الله البيع، حيث إن هذه المعلومات قد تكون كراساً صغيراً فبيعه على من يريد أن يقتنيه للدخول في المناقصة جائز بلا إشكال.
5- طلب المشتري ضماناً بنكيًّا من كل المشتركين في المناقصة، وطلبه تأميناً نقديًّا منهم، وهل يحق أخذه كليًّا أو جزئيًّا عند النكول؟(9/864)
ولإيضاح الحقيقة في هذا الأمر ينبغي لنا أن نتكلم في عدة نقاط:
الأولى: ما هو الضمان البنكي الذي يطلبه المشتري من كل من المشتركين في المناقصة، وما هو التأمين النقدي منهم؟
الثانية: ما هي أقسام هذا الضمان البنكي؟
الثالثة: هل يجوز شرعاً للمشتري أن يأخذ هذا الضمان مطلقاً عند نكول المقاول؟
أما النقطة الأولى: فخلاصة الكلام فيها هو عبارة عن طلب الجهات التي تقوم بالمناقصة من مطالبة:
1- كل مشترك في هذه العملية.
2- وكل من ترسو عليه العملية ويبرم معه العقد.
بتقديم تأمينات نقدية تبلغ نسبة معينة من قيمة العملية، بشرط أن تصبح هذه التأمينات من حق الجهة التي قامت بالمناقصة في حالة عدم اتخاذ المشترك الإجراءات اللازمة لرسو العملية عليه أو عدم تنفيذ العقد.
ولكن بدلاً عن تكليف المشترك بتقديم هذه التأمينات النقدية وتجميدها، حصل الاتجاه القائل بأن يتقدم المشترك إلى البنك طالباً منه خطاب الضمان.
ومعنى خطاب الضمان: أن يكون البنك كفيلاً وضامناً بقبول دفع مبلغ معين لدى المستفيد من ذلك الخطاب نيابة عن طالب الضمان عند عدم قيام الطالب بالتزامات معينة قبل المستفيد (1) ولكن لا بمعنى الكفالة الاصطلاحي التي هي عبارة عن إحضار المكفول، ولا بمعنى الضمان الاصطلاحي الشرعي الذي هو عند طائفة ضم ذمة إلى ذمة وعند طائفة النقل من ذمة إلى ذمة، بل بمعنى أداء البنك شرط المشترط في حالة عدم قيام المشترط عليه بأداء الشرط مثل ضمان الأعيان المغصوبة التي لا تكون الذمة مشغولة بها ما دامت العين موجودة، فيكون معنى ضمان الأعيان المغصوبة هو ما نحن فيه من التعهد بأدائها (2)
ويترتب على هذا التعهد بالأداء اشتغال ذمة المتعهد بقيمتها عند تلفها.
ويتحقق تلف الشرط على المشترط: بامتناع المشروط عليه عن أداء الشرط، الذي هو تلف للفعل على مستحقه وبذلك تتحول العهدة الجعلية (التعهد بأداء الشرط) إلى اشتغال ذمة البنك بقيمة ذلك الفعل (أداء الشرط) لأنه من اللوازم العقلانية لدخول ذلك الشرط في العهدة.
وعلى ما تقدم: فإذا تخلف المقاول عن الوفاء، اضطر البنك إلى دفع القيمة المحددة في خطاب الضمان، ويرجع في استيفائها على الشخص الذي صدر خطاب الضمان إجابة لطلبه. وسيأتي زيادة توضيح في تكييف هذا التعهد شرعاً فيما بعد.
__________
(1) راجع البنك اللاربوي في الإسلام/ الشهيد الصدر/ ص 128
(2) غاية الأمر أن وقوع العين المغصوبة في عهدة الغاصب قهري، أما وقوع أداء الشرط في عهدة البنك فهو بسبب إنشاء البنك لمثل هذا التعهد المفروض كونه نافذاً بحسب الارتكاز العقلاني الممضى شرعاً. وهذا البحث يأتي في صورة ضمان البنك أو الفرد أداء دين شخص معين.(9/865)
أما النقطة الثانية: فإن خطاب الضمان ينقسم إلى قسمين:
1- خطاب الضمان الابتدائي.
2- خطاب الضمان النهائي.
أما خطاب الضمان الابتدائي: فهو تعهد بنكي لضمان دفع مبلغ من النقود من قيمة العملية يطلبه من يتنافس على العملية إلى المستفيد الذي يدعو إلى المناقصة، ويستحق المستفيد الدفع له عند عدم قيام الطالب باتخاذ ما يلزم عند رسو العملية عليه.
وأما خطاب الضمان النهائي: فهو تعهد بنكي لضمان دفع مبلغ من النقود يعادل نسبة من قيمة العملية التي استقرت على عهدة العميل، يطلبه من رست عليه العملية ونفذ معه العقد لصالح المستفيد، ولا يكون دفع المبلغ واجباً على البنك إلا عند تخلف العميل عن الوفاء بالتزاماته المنصوص عليها في العقد النهائي للعملية التي عقدت بين المقاول والمستفيد من خطاب الضمان. (1)
لماذا خطابات الضمان:
ثم إن الفكرة الأساسية في خطابات الضمان تكمن في نقاط، أهمها:
1- إن الجهة المعلنة عن المناقصة تحتاج إلى التأكد من جدية عرض خدمات كل شخص من المشتركين، وهذا يحصل بفكرة خطابات الضمان الابتدائية.
2- للتحفظ على عدم التورط في خسائر أو مضاعفات عند الاتفاق مع أحد المشتركين ورسو العملية عليه، فيما إذا تخلف عن الوفاء بالتزاماته، وهذا يحصل بفكرة خطابات الضمان النهائية.
وعلى العموم فإن فكرة خطابات الضمان فيها حماية للمصلحة العامة (التي تقوم بالمناقصات عادة) أو الفرد، وتقطع على المتهاونين سبل الخلل والإهمال، ولكل أحد الحق في سلوكها.
أما النقطة الثالثة: أما حكم خطابات الضمان هذه، فينبغي أن نتكلم في كل من القسمين بصورة مستقلة. أما خطاب الضمان الابتدائي: فقد يقال: إن الطالب للضمان الابتدائي من البنك وهو المقاول أو المشترك في المناقصة لم يرتبط مع الجهة التي تجري المناقصة بأي ارتباط عقدي، وإذا كان كذلك فلا يمكن إلزامه بشرط لكي يتمكن البنك أن يضمن وفاء ذلك الشرط. فلو فرضنا أن هذا المقاول الذي يريد أن يتنافس على الوصول إلى رسو العلمية عليه قد التزم للجهة الداعية للمناقصة بأن يدفع مبلغاً معيناً من المال إذا لم يتخذ الإجراءات اللازمة عند رسو العملية عليه، فهو من الوعد الابتدائي غير الملزم. وعلى هذا فلو تعهد البنك بدفع هذا المبلغ عند عدم دفع المقاول فهو من التعهد غير الملزم أيضاً وإن كان جائزاً. (2)
__________
(1) يمكن أن يكون خطاب الضمان الابتدائي والنهائي لصالح المقاول إذا شعر بأن الجهة المقابلة قد لا تلتزم بالعقد أو قد لا تؤدي ما عليها من مال في الوقت المحدد، كما يمكن أن يكون خطاب الضمان الابتدائي والنهائي من كل منهما لصالح الآخر إذا لم يلتزم أحدهما بالعقد أو بشروطه.
(2) راجع البنك اللاربوي في الإسلام/ ص 131(9/866)
ولكن: ألا يمكن أن يقال: إن المقاول إذا التزم بدفع مبلغ معين عند عدم القيام بالإجراءات اللازمة عند رسو العملية عليه يكون متعهداً وملزماً بذلك، استناداً إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] الذي معناه أوفوا بالعهود، ونتيجة ذلك إلزام البنك بتعهده إذا حصل نتيجة طلب المقاول لصالح المستفيد.
على أن هذا الضمان من قبل البنك لمن اشترك في المناقصة يمكن أن يكون عربوناً، وهو لا يحق أخذه في جميع الأحوال، بل يؤخذ في صورة عدم التزام مَنْ رست عليه العملية بالمقررات اللازمة وعلى هذا، فسوف يكون دفع المبلغ المعين عند عدم القيام بالإجراءات اللازمة شرطاً في فسخ المعاملة المذكورة، فالمعاملة إذا رست على أحد فهي لازمة ولا يحق فسخها إلا إذا دفع المقدار المعين من المال المتمثل في خطاب الضمان الابتدائي، وبهذا يكون أخذه من قبل الجهة الداعية إلى المناقصة عند عدم القيام بالإجراءات اللازمة لمن رست عليه العملية جائزاً. كما يمكن أن يشترط الداعي إلى المناقصة في عقد بيع المعلومات إلى من يريد الاشتراك في المناقصة، يشترط عليه أخذ مبلغ معين من المال إذا لم يلتزم بالعقد حين رسو العملية عليه، وهذا شرط في ضمن عقد فيكون ملزماً.
خطاب الضمان النهائي: وهو الخطاب الذي يكون بعد وجود عقد قائم (بين من دعا إلى المناقصة وهي الجهة المستفيدة من الخطاب وبين المقاول الذي طلب إصدار الخطاب من البنك لصالح المستفيد) ، وهذا العقد ينص على شرط على المقاول لصالح من دعا إلى المناقصة، وخلاصة هذا الشرط هو أن يدفع المقاول نسبة معينة من قيمة العملية في حالة تخلفه عن الوفاء بالتزاماته.
فهل هذا الشرط صحيح ولازم؟
الجواب: نعم إنه شرط صحيح ولازم ما دام واقعاً في عقد صحيح كعقد الإيجار مثلاً أو البيع، وحينئذ يصح لمن أعلن عن المناقصة الحق في تملك هذه النسبة من قيمة العملية في حالة التخلف.
ثم إن هذا الحق قابل للتوثيق والتعهد من قبل طرف آخر، وهو نظير تعهد طرف ثالث للدائن بوفاء الدين عند عدم قيام المدين بما هو عليه، وعلى هذا يصح أن يرجع المستفيد على البنك عند تخلف المقاول عن التزاماته وعدم دفع ما شرك عليه.
ولما كان تعهد البنك وضمانه للشرط بطلب من المقاول فيكون المقاول ضامناً لما يخسره البنك نتيجة لتعهده، فيحق للبنك أن يطالب المقاول بقيمة ما دفعه إلى المستفيد.(9/867)
إذن هنا بحثان نحتاج إلى أدلة شرعية عليهما:
البحث الأول: صحة الشرط على المقاول.
البحث الثاني: صحة تعهد البنك (خطاب الضمان) .
البحث الأول: صحة الشرط بدفع مبلغ من المال عند تخلفه عن التزاماته:
وقد ذكر السيد الشهيد الصدر أن صحة الشرط المتقدم على المقاول يتصور صياغته بأحد أنحاء ثلاثة، يكون الصحيح منها شرعاً هو الثاني والثالث.
الأول: أن يكون (الشرط) بنحو شرط النتيجة بحيث تشترط الجهة الخاصة على المقاول أن تكون مالكة لكذا مقداراً في ذمته إذا تخلف عن تعهداته.
الثاني: أن يكون بنحو شرط الفعل، والفعل المشترط هو أن تملك الجهة الخاصة كذا مقداراً، لا أن تكون مالكة.
الثالث: أن يكون بنحو شرط الفعل، والفعل المشترط هو أن يملك المقاول تلك الجهة كذا مقداراً. والفرق بين هذا النحو وسابقه مع أن الشرط في كل منهما شرط الفعل: هو أن الشرط في هذا النحو فعل خاص وهو تمليك المقاول مالاً للجهة الخاصة، وأما في النحو السابق فالمشترط وإن كان هو عملية التمليك أيضاً ولكن المراد بها جامع التمليك القابل للانطباق على تمليك نفس المقاول وعلى تمليك غيره ... وإذا اتضحت هذه الأنحاء الثلاثة للشرط، فنقول: إن النحو الأول (أي شرط النتيجة) غير صحيح في المقام، لأن النتيجة المشترطة في المقام وهي اشتغال ذمة المقاول بكذا درهماً ابتداءً ليس في نفسه من المضامين المعاملية المشروعة، وأدلة نفوذ الشرط ليست مشرعة لأصل المضمون، وإنما هي متكفلة لبيان صلاحية الشرط لأن تنشأ به المضامين المشروعة في نفسها ... وأما النحوان الآخران من الشرط فهما معقولان. (1)
ولكن لا يبعد أن يقال: بأن قاعدة " المسلمون عند شروطهم " حيث إنها تشمل الشرط إذا كان فعلاً أو كان الفعل مترتباً على الشرط، كما إذا اشتريت بيتاً بشرط أن تكون الثلاجة المعينة ملكاً لي والملكية لها أسباب مختلفة منها الاشتراط فالمسلمون عند شروطهم يقول: ادفع الثلاجة إلى فلان، وهو معنى صحة شرط النتيجة، وعلى هذا فالمسلمون عند شروطهم يشمل المشروط الذي يكون حصوله وإنشاؤه بغير الشرط صحيحاً وبالشرط لازماً. كما يمكن أن يكون الاستدلال على صحة شرط النتيجة بـ" أوفوا بالعقود" حيث إن البيع الذي شرط فيه ملكية الثلاجة المعينة معناه الالتزام بأصل المعاملة ولالتزام بالأمر الوضعي، وبما أن الشرط قد دخل تحت عنوان العقد، فأوفوا بالعقود يقول بالعقد والشرط، فيكون الشرط صحيحاً. (2)
__________
(1) البنك اللاربوي في الإسلام/ للشهيد السيد الصدر/ ص 236، 237
(2) لا بأس بالإشارة إلى أن شرط النتيجة الذي يحكم بصحته، هو خصوص تحصيل الغاية التي لا يشترط في إيجادها سبب خاص كالنكاح والطلاق الذي اشترط الشارع فيهما صيغة خاصة. أما هذه الغايات التي اشترط الشارع فيها صيغة خاصة فلا يمكن أن تحصل في الخارج إلا بصيغتها الخاصة ولا ينفع في تحققها شرط النتيجة.(9/868)
وعلى هذا فيمكن أن يكون شرط دفع مبلغ من المال على المقاول عند تخلفه بصياغاته الثلاثة المتقدمة عن السيد الشهيد صحيحاً، والفرق بين شرط الفعل وشرط النتيجة هو الوجوب التكليفي على المشروط عليه في أن يملك، أما في شرط النتيجة فيكون المشروط عليه ضامناً للشرط وضعاً ويترتب عليه الحكم التكليفي بوجوب الدفع.
البحث الثاني: صحة خطاب الضمان الذي يصدره البنك عند طلب المقاول لصالح المستفيد:
ويمكن أن نصحح خطاب الضمان الذي يصدره البنك بطلب من المقاول لصالح المستفيد:
على أساس الضمان بالمعنى المتقدم، حيث قلنا: إن المراد بالضمان ليس هو المعنى الاصطلاحي عند أهل السنة أو الإمامية، بل هو ما تعارف عند العرف من ضمان أن يفي المقاول بالشرط، وبعبارة أخرى هو التعهد بأداء المقاول الشرط، وهذا الضمان كالضمان (1) المعروف من قبول البنك للكمبيالة بمعنى تحمل البنك مسؤولية أمام المستفيد من تلك الكمبيالة، وهو كما حرر ضمان جائز شرعاً على أساس أنه (تعهد بوفاء المدين بدينه) . ونتيجة هذا التعهد من الناحية الشرعية هو فيما إذا تخلف المدين عن الوفاء، فيمكن أن يرجع المستفيد من الكمبيالة على البنك لقبض قيمتها.
وتوضيح ذلك من الناحية الفنية: أن يقال: إن البنك تعهد تعهداً إنشائيًّا وجعل نفسه مسؤولاً (بأداء المقاول للشرط عند تخلفه عن التزاماته) وهذا التعهد نافذ بحسب ارتكاز العقلاء، وحينئذ يكون ممضى من قبل الشارع.
وقد تقرب هذه المسؤولية من قبل البنك بمسؤولية الغاصب عن العين المغصوبة حيث تكون العين بعهدته ومسؤولاً عنها ما دامت موجودة، فإذا تلفت العين المغصوبة تتحول هذه العهدة إلى اشتغال ذمة الغاصب بقيمة العين المغصوبة، فما نحن فيه أيضاً كذلك حيث إن البنك جعل نفسه مسؤولاً عن أداء الشرط الذي على المقاول عند تخلفه عن التزاماته من عملية الإرساء عليه، ومعنى هذا أن البنك مسؤول عن تسليم الشرط بوصفه فعلاً له مالية، فإذا تلف أداء الشرط على المشترط عند تخلف المقاول عن التزاماته وعن أداء الشرط بسبب امتناع المقاول عن أداء ما شرط عليه نتيجة تخلفه، فقد تلف الفعل الذي له مالية على مستحقه، وعندها تتحول عهدة البنك الجعلية إلى اشتغال ذمة البنك بقيمة ذلك الفعل (أداء الشرط) ، لأن اشتغال الذمة بقيمة المال "سواء كان عيناً أو فعلاً" عند تلفه من اللوازم العقلانية لدخول ذلك المال في العهدة.
__________
(1) يوجد فرق غير فارق بين ضمان البنك للكمبيالة وضمان البنك لخطاب الضمان وهو: أن المضمون في موارد قبول البنك للكمبيالة هو المدين، والمضمون في خطاب الضمان هو المشروط عليه (المقاول) وهذا فرق غير فارق إذ كما يصح للبنك أن يتعهد للدائن بأداء الدين كذلك يصح للبنك أن يتعهد للمشروط له بأداء الشرط، وهذا مقبول ارتكازاً عند العقلاء(9/869)
ونحن بعد فرضنا إمضاء الشارع لهذا الضمان الجعلي العقلاني، يترتب عليه اشتغال ذمة البنك بقيمة (ضمان أداء الشرط) على تقدير تلف أداء الشرط.
وعلى هذا الأساس يصح خطاب الضمان من البنك في المقام (1)
ويمكن توضيح الضمان بالمعنى المتقدم بصورة عرفية: بأن ندعي بأن معنى الضمان من قبل البنك للمقاول هو تحمل البنك للعمل بالشرط إذا تخلف المقاول عن التزاماته وبالشرط معاً، ولا يفهم العرف إلا هذا التحمل عند ضمان البنك لأداء المقاول الشرط الذي له مالية، عند تخلف المقاول.
ولكنا نلاحظ كما ذكر السيد الشهيد الصدر: وجود فرق دقيق بين توضيح الضمان بالوجه الفني وتوضيح الضمان بالوجه العرفي والفرق هو:
أن صاحب الشرط (الداعي إلى المناقصة) بناء على المعنى العرفي ليس له مطالبة البنك بإقناع المقاول بالأداء وإنما له على تقدير امتناع المقاول أن يغرم البنك قيمة ما تعهد به.
أما بناء على المعنى الفني، فلصاحب الشرط مطالبة البنك بإقناع المقاول بالأداء (2)
ولعل وجه هذا الفرق يكمن في أن المعنى الفني للضمان إنما يتم تلف الشرط على المشروط له ولا يتحقق التلف إلا عند امتناع المقاول عن الأداء رغم الحث على إقناعه بالعمل بالشرط.
ملاحظة: لا حاجة إلى التنبيه إلى عدم صحة خطاب الضمان لو كان بقدر قيمة العملية أو أكثر منها؛ لأنه يؤول إلى حصول الداعي إلى المناقصة إلى العوض والمعوض وهو بمعنى الشراء أو الحصول على الخدمة بدون ثمن.
هل يصح للبنك أن يأخذ عمولة على خطاب الضمان؟
تقدم أن التأمين المالي الذي يأخذه الداعي إلى المناقصة مثلاً قد تطور إلى الضمان البنكي المتمثل في (خطاب الضمان) الذي يصدره البنك ويتحمل فيه مسؤولية ما ينجم من تقصير المناقص تجاه مسؤوليته وواجباته حيال الطرف الآخر.
__________
(1) راجع للتوسع البنك اللاربوي في الإسلام / للشهيد الصدر/ ص 239 مع تعمق أكثر.
(2) البنك اللاربوي في الإسلام / للشهيد الصدر/ ص 240-241.(9/870)
ولكن البنك إنما يصدر خطاب الضمان ويتحمل المسؤولية في مقابل نسبة مئوبة يحصل عليها من صاحب الخطاب، وعلى هذا يتولد لهذا الإجراء جانبان:
الجانب الأول: العلاقة بين من يدعو إلى المناقصة ومن يدخل في المناقصة، فالأول الذي يكون هنا هو المشتري للسلعة أو المؤجر للعمل أو المشتري لما يصنعه المقاول، له أن يشترط في العقد ما يضمن حقوقه ومصلحته سواء كان في صورة ضمان أو رهن أو غير ذلك استناداً إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم ((المسلمون عند شروطهم)) . فإذا طالب المقاول بضمان بنكي فهو حق له لا إشكال فيه.
الجانب الثاني: العلاقة بين المناقص (المقاول) والبنك الذي يصدر خطاب الضمان، فإن البنك هنا يأخذ نسبة مئوية من صاحب الخطاب الذي صدر الخطاب بطلبه، فهل لهذه النسبة المأخوذة وجه شرعي؟
الجواب: لقد ذكر الشهيد الصدر رحمه الله جواز ذلك معبراً عنها "عمولة على خطاب الضمان هذا؛ لأن التعهد الذي يشتمل عليه هذا الخطاب يعزز قيمة التزامات الشخص المقاول، وبذلك يكون عملاً محترماً يمكن فرض جعالة عليه أو عمولة من قبل ذلك الشخص" (1)
1- أقول: إن الارتكاز العرفي والعقلاني يقول بأن عملية الضمان المجردة من قبل البنك للمقاول بأداء شرط المشترط ليست مما تقابل بالمال، وإنما الذي يقابل بالمال هو نفس خسارة البنك عند عدم قيام المقاول بالتزاماته مطلقاً، نتيجة لضمان البنك، فالعملية التي قام بها البنك من ضمان شرط المقاول فيها جانبان، الأول نفس عملية الضمان كألفاظ معينة والثاني تحمل البنك الخسارة على تقدير عدم التزام المقاول بالتزاماته مطلقاً، والذي يكون مهمًّا في تعزيز التزامات المقاول كلا الأمرين الذي يكون الثاني منهما هو لب الأول، والأول يكون كاشفاً عن الثاني، فإذا أخذ البنك على عملية الضمان المجرد مالاً بنحو الإلزام كان من أكل المال بالباطل. أما إذا آل الضمان اللفظي إلى خسارة البنك في حالة معينة (وهي حالة –عدم سداد المقاول ما عليه من الشرط عند التخلف عن أداء التزاماته) فهو مضمون على المقاول بلا إشكال فلا يتمكن أن يأخذ عمولة عليها.
2- إننا لو تحررنا من الارتكاز العقلاني المتقدم، وصرحنا بأن العمولة يأخذها البنك في مقابل نفس عملية الضمان، فحينئذ نقول:
إن العمولة إنما يصح أخذها شرعاً في خصوص ما قابلها من عمل قابل للضمان (كالخياطة والحلاقة وأشباهها) بخلاف ضمان البنك وحده (من دون دخل الإجراءات الإدارية في ذلك الذي تستوجب أخذ المال عليها) فإن ضمان البنك وحده من قبيل الألفاظ والأعمال التي ليست قابلة للضمان لعدم مالية له إلا نفس مالية المال المعطى من قبل البنك عند تخلف المقاول عن التزاماته وما شرط عليه، وهذا المال مضمون على المقاول، ولا يوجد عمل آخر له مالية حتى يصح ضمانه ليأخذ أجراً عليه.
__________
(1) البنك اللاربوي في الإسلام / للشهيد الصدر/ ص 131(9/871)
3- إن عقد الضمان الذي يسمى (خطاب الضمان) هو من العقود الإرفاقية للمقاول كالقرض فإذا كان الضمان يغزز قيمة التزامات المقاول، فإن قيام البنك بالتعهد بإقراض شخص معين عند حاجته أيضاً يغزز قيمة التزاماته فهل يجوز أخذ أجرة على قيام البنك بتعهده لعملية الإقراض؟
وإن ادعي الفرق بين القرض والضمان بحرمة أخذ الزيادة في عملية القرض دون عملية الضمان فإننا نقول ليس الكلام في أخذ الزيادة في مقابل المال المقترض في القرض، وإنما الكلام في تعزيز التزامات الإنسان لقيام البنك بعملية الإقراض، فهي واحدة في إصدار خطاب الضمان أو عملية الإقراض عند الحاجة، وإذا كان يجوز أخذ البنك أجرة على قيامه بعملية الإقراض متى احتاج إلى المال فقد جوزنا الربا بصورة ملتوية.
وعلى ما تقدم نتمكن أن نقول: إن خطاب الضمان الصادر من البنك بطلب من المقاول لصالح المستفيد (سواء كان مغطى من حساب المقاول فيكون حوالة أو غير مغطى فيكون ضماناً) لا يجوز أخذ الأجر عليه.
نعم إذا عممنا جواز أخذ الأجرة على كل خدمة يقدمها شخص لآخر بشرط أن لا يكون منهيًّا عن أخذها، فحينئذ يكون أخذ الأجرة على الضمان جائزاً. وهذا هو الذي ذهب إليه بعض كبار علماء الإمامية المعاصرين.
نعم: إن المصاريف الإدارية التي يسلكها البنك تبعاً لقوانين الدولة لأجل إصدار خطاب الضمان (الابتدائي والنهائي) فهي جائزة شرعاً.
وعلى كل حال: فإن المناقص إذا طلب من البنك إصدار خطاب الضمان لصالح المشتري فإن هذا التعاقد بين المناقص والمشتري يكون صحيحاً ما دام يحصل على ضمان حقوق المشتري بطريقة شرعية ولم يكن للمشتري علاقة فيما حصل بين المناقص والبنك.
6 - تضمين عقد المناقصة شرطاً جزائيًّا في حالة التأخير:
قد يقال: إن البحث قد تعرضنا له في صورة طلب الجهة الداعية إلى عقد المناقصة خطاب ضمان نهائي لصالح المستفيد منه عند عدم القيام بما يجب على الطرف الآخر من التزامات وشروط شرطت عليه في العقد.
ولكن نقول: يوجد فرق بين هذا البحث وما تقدم من خطاب الضمان النهائي، حيث إن ما تقدم كان في صورة تخلف المقاول عن الالتزامات أو الشروط المشترطة عليه بصورة عامة في العقد، أما هذا البحث فهو في صورة عدم تخلفه عن أي التزام، أو شرط سوى شرط التسليم في الموعد المقرر حيث حصل التأخير الذي فيه ضرر على المستفيد.(9/872)
وحينئذٍ نقول: إن الشرط الجزائي المتصور في كل عقد على أنحاء ثلاثة ولنأخذ الإجارة مثالاً للعقد:
1 - التنقيص من الأجرة بمقدار معين: لقد تعرض الفقه الإمامي لهذه الحالة في بحث الإجارة، فقد ذكر العلماء في مسألة " ما لو استأجره ليحمل له متاعاً إلى موضع معين بأجرة معينة واشترط عليه وصوله في وقت معين فإن قصر عنه نقص عن أجرته شيئاً معيناً، جاز وفاقاً للأكثر نقلاً وتحصيلاً، بل المشهور كذلك للأصل، وقاعدة المؤمنون عند شروطهم والصحيح أو الموثق أو الخبر (1) المنجبر بما عرفت عن محمد الحلبي قال: " كنت قاعداً عند قاض من القضاة وعنده أبو جعفر (الإمام الباقر عليه السلام) جالس، فأتاه رجلان فقال أحدهما: إني تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعاً إلى بعض المعادن، واشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا؛ لأنها سوق أتخوف أن يفوتني فإن احتبست عن ذلك حططت من الكرى لكل يوم احتبسته كذا وكذا، وأنه حبسني عن ذلك الوقت كذا وكذا يوماً. فقال القاضي هذا شرط فاسد وفيه كراه، فلما قام الرجل أقبل إلى أبو جعفر (الإمام الباقر عليه السلام) فقال: شرط هذا جائز ما لم يحطَّ بجميع كراه" (2) (3) (4)
ومقابل قول الأكثر: من أشكل في صحة هذا الشرط الجزائي لكونه يوجب تعليقاً وجهالة وإبهاماً وأنه كالبيع بثمنين نقداً ونسيئة مثلاً، ولذا ذهب المحقق في " جامع المقاصد" وغيره من المتأخرين إلى البطلان في ذلك وطرح الرواية أو حملها على الجعالة أو نحو ذلك.
أقول: إن ما ذهب إليه مخالف الأكثر هو كالاجتهاد في مقابلة النص الذي لا يقبل الحمل على الجعالة.
ثم إننا لا نرى تعليقاً في الإجارة؛ لأنه لم يستأجره بالناقص لو لم يصل في اليوم المعين، بل وصل بعده، بل الأجرة معينة إن وصل في اليوم المعين، فإن تأخر نقص من الأجرة، وهو شرط في متن العقد على نحو شرط النتيجة أو شرط الفعل، والفرق بينهما واضح، إذ على النحو الأول يكون المشروط له (على تقدير مخالفة الشرط) قد ملك مقدار النقصان على ذمة الشروط عليه، بينما على النحو الثاني فلا يوجد اشتغال ذمة المشروط عليه، بل يجب عليه تمليك مقدار النقصان، فإن لم يفعل فعل حراماً فقط.
__________
(1) إنما عبر صاحب الجواهر بهذا التعبير؛ لأن هذه الرواية لها ثلاثة أسناد: الأول: سند الشيخ الكليني وفيه (محمد بن أحمد) وهو مجهول فالرواية تكون ضعيفة فعبر عنها بالخبر: الثاني: سند الشيخ الطوسي وهو سند صحيح. الثالث: سند الشيخ الصدوق وهو سند صحيح أيضاً. أقول: بعد وجود الطريق الصحيح لا معنى للتعبير بالخبر.
(2) جواهر الكلام/ج27/ص230.
(3) وسائل الشيعة /ج13/باب13 من الإجارة/ح2..
(4) لقد ثبتت الروايات المتواترة عن الأئمة عليهم السلام بأن قولهم ليس من الرأي أو الاجتهاد وإنما هو عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبرئيل عن الله عز وجل، فيكون قولهم حسب هذه الروايات المتواترة حجة وكاشفاً من السنة النبوية، فيلزمنا العمل بها إذا كان السند صحيحاً. راجع كتاب الحلال والحرام في الإسلام، الأمر الخامس من مقدمة المحقق ص23.(9/873)
نعم: هناك جهالة في الشرط ولكن لا تضر هذه الجهالة التي ليست راجعة إلى أحد العوضين. كما أن التشبيه بالبيع بثمنين ليس بصحيح؛ لأن المشابهة للبيع بثمنين أن يقول مثلاً، إن خطته روميًّا فلك درهم وفارسيًّا نصفه، أما ما نحن فيه فهو ليس كذلك، ولذا صرح بالصحة هنا ما لم يقل بها في مثال الخياطة بالرومية والفارسية؛ وذلك لأن المستأجر عليه فيما نحن فيه معيناً، ولكن اشترط عليه التنقيص على تقدير المخالفة. وهذا شرط صحيح لعموم " المسلمون عند شروطهم " وإطلاق الرواية المعتضدة بفتوى الأكثر.
2 - التنقيص من الأجرة بدون تعيين:
نعم، لو كان الشرط الجزائي هو التنقيص بدون ذكر لمقداره ولو أوصله متأخراً، فيكون الشرط هنا باطلاً لجهالة الأجرة على تقدير الإيصال المتأخر، وحينئذٍ تبطل الأجرة، وإذا بطلت الأجرة ننتقل إلى أجره المثل في هذه الصورة.
ويدل عليه:
كونه على مقتضى القواعد القائلة بصحة الإجارة وبطلان الأجرة لجهالتها، فننتقل إلى أجرة المثل.
ويؤيده ما ورد في كتاب دعائم الإسلام عن الإمام الصادق عليه السلام "أنه سئل عن الرجل يكتري الدابة أو السفينة على أن يوصله إلى مكان كذا يوم كذا، فإن لم يوصله يوم كذا كان الكرى دون ما عقده؟ قال عليه السلام: الكرى على هذا فاسد، وعلى المكترى أجر مثل حمله" (1)
3 - سقوط الأجرة بأكملها:
ثم لو كان الشرط الجزائي هو سقوط الأجرة بأكملها إن لم يوصله في الوقت المعين، فهو شرط باطل لكونه شرطاً منافياً لمقتضى الإجارة؛ لأنه يرجع إلى استحقاق المستأجر العمل بعقد الإجارة بلا أجرة، فهو مثل قوله آجرتك بلا أجرة، وحينئذ فإن فسد الشرط فسد العقد على رأي؛ لأنه شرط أساسي بني عليه العقد، ويدل على بطلان الشرط نفس الرواية المتقدمة عن الحلبي بقول الإمام الباقر عليه السلام: " وشرط هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه" وعلى قول آخر إن الشرط إذا كان فاسداً لا يبطل العقد. ولكن لا بأس بالتنبيه إلى أن المؤجر يستحق أجرة مثله على كلا التقديرين (من بطلان عقد الإجارة أو عدم بطلانه) ؛ لأنه عمل عملاً بدون تبرع بطلب من صاحب السلعة، فيستحق أجرة المثل لما عمل، ولقاعدة (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) ، والإجارة عقد مضمون لو كان صحيحاً بالأجرة المسماة، فلو كان فاسداً فهو مضمون بأجرة المثل (2)
__________
(1) المتسدرك ج14 باب 7من الإجارة / ح1 طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
(2) هنا أبحاث معمقة آثرنا تركها لأجل أن لا يطول بنا المقام.(9/874)
أقول: هذا الكلام في الشرط الجزائي قد ورد فيه الحديث المتقدم في الإجارة، فإن لم نر فرقاً بين عقد الإجارة وبقية العقود (غير القرض) (1) فيكون دليل الشرط الجزائي غير منحصر بعقد الإجارة، فيصح الشرط الجزائي على النحو الأول في كل عقد، ومنه عقد المناقصة التي نحن بصددها والتي تكون الإجارة قسماً منها، فيتمكن الداعي إلى المناقصة أن يشترط على من رست عليه المناقصة نقصان أجرته أو ثمنه بمقدار معين إن لم يكمل المشروع الصناعي أو لم يسلم المبيع في مدته المعينة. كما يمكن أن يكون الدليل على صحة الشرط الجزائي هو قاعدة " المسلمون عند شروطهم " التي توجب الوفاء بالشرط إذا كان في ضمن عقد ما لم يكن مخالفاً للكتاب أو السنة.
7 - مدى حرية الجهة الداعية إلى المناقصة في اختيار أحد من العروض أو التقيد بالأنقص منها:
إن التعريف المتقدم للمناقصات كان يلزم الداعي إلى المناقصة إلى اختيار أحسن من يتقدم للتعاقد معه، وهذا التعريف قد استدل من العرف التجاري لعقد المناقصات، فإذا وصل هذا العرف إلى حد التعهد من قبل المشتري ومن يدخل في المناقصة فلا يبعد أن يلزم المشتري شرعاً باختيار أقل العروض لهذا التعهد الذي يكون ملزماً حسب "أوفوا بالعقود".
ونستطيع أن نتخلص من هذا العرف التجاري في صورة واحدة وهي ما إذا اشترط المشتري على المتناقصين عدم الالتزام باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد معه، ففي هذه الصورة يكون المشتري مختاراً في اختيار أحد المتقدمين للمناقصة حسب الشرط.
وأما إذا لم يكن إلزام للداعي إلى المناقصة في اختيار أفضل العروض كما في المناقصات البدائية التي تحصل مشافهة، فحينئذ يكون الحكم هو حرية الجهة الداعية إلى المناقصة في اختيار أحد العروض وإن لم يكن أحسنها ما لم يشترط تقييد الداعي إلى المناقصة بأفضل العروض.
خلاصة البحث:
وخلاصة ما سبق من البحث نذكره على نقاط:
1- بعد تعريف المناقصات وبيان علاقة الضد بين المزايدة والمناقصة واشتراكهما في الإجراءات تبين أن المناقصات هي قسم من المقاولات التي تكون ملزمة للطرفين.
2- المناقصات على أنواع (مناقصات البيع، والاستصناع والسلم والإجارة والاستثمار بأقسامه المختلفة من مزارعة ومضاربة ومساقاة) وتبين أن المناقصة كما تكون قسماً من البيع والسلم والاستصناع والإجارة والاستثمار تكون أيضاً أعم من البيع لشمولها لهذا العقود.
3- لا تعارض بين صحة عقود لمناقصات والنهي عن الدخول في سوم الأخ؛ لأن حديث النهي ناظر إلى المعاملة الخاصة الجارية بين الطرفين خاصين، ولا يشمل بيع المناقصة المبنية على عدم السوم مع شخص واحد بل مع جماعة.
__________
(1) إن الشرط الجزائي في القرض سواء كان الغرض منه حث المقترض على الوفاء بدينه في الميعاد فيكون تهديداً ماليًّا للتنفيذ العيني، أو كان شرطاً جزائيًّا حقيقيًّا وهو خلاف التهديد المالي حيث إنه يتصل بالتعويض لا بالتنفيذ العيني، وعدم صحته في القرض واضح حيث إن كل الزيادة للمقرض جاءت من قبل الشرط في عقد القرض هي ربا.(9/875)
4- الدخول في المناقصة قد يكون لمن لا يمتلك السلعة وهو يكون من قبيل بيع السلم أو الاستصناع أو بيع الكلي أو الإجارة أو الاستثمار بأقسامه المختلفة الشرعية، أما بيع ما ليس عند الإنسان الذي ورد فيه النهي فإنه مختص ببيع السلعة الخارجية لمن لا يملكها، وقد تبين أيضاً أن المناقصة ليست من المواعدة التي لا تكون ملزمة للطرفين.
5- بيع وثائق المناقصة بالتكلفة أو بأي ثمن آخر عقد صحيح لدخول ذلك تحت حلية البيع والتجارة عن تراض.
6- إن خطاب الضمان الابتدائي الذي يأخذه الداعي إلى المناقصة عند تخلف من رست عليه من القيام بمقررات المناقصة أمر جائز؛ لأنه عبارة عن شرط في حق فسخ المعاملة المذكورة.
7- إن خطاب الضمان النهائي الذي يكون لصالح الداعي إلى المناقصة الذي يكون عبارة عن دفع نسبة معينة من قيمة العملية في حالة تخلف المقاول عن الوفاء بالتزاماته هو شرط صحيح ولازم ما دام واقعاً في عقد صحيح سواء كان بنحو شرط النتيجة أو شرط الفعل. كما يمكن أن يقوم البنك بضمان هذا الشرط والعمل به عند تخلف المقاول عن التزاماته وبالشرط معاً.
8- إن العمولة التي يأخذها البنك على خطاب الضمان الذي هو عمل لفظي ليس قابلاً للضمان، غير جائزة؛ لأنها من قبيل أكل المال بالباطل. إلا إذا جوزنا أخذ الأجرة على كل خدمة يقدمها شخص لآخر لم يكن منهيًّا عنها.
9- إن الشرط الجزائي في حالة التأخير عن وقت التسليم يكون صحيحاً إذا كان معيناً، أما إذا كان غير معين فهو غير صحيح ويؤثر على صحة العقد، وحينئذٍ ننتقل إلى ثمن المثل.
أما إذا كان الشرط الجزائي عبارة عن سقوط الثمن بأكمله فهو شرط باطل لكونه منافياً لمقتضى العقد، وقد كان دليل هذا كله الرواية المعتبر عن الإمام الباقر عليه السلام بالإضافة إلى قاعدة " المسلمون عند شروطهم ".
10- إن الجهة الداعية إلى المناقصة تكون ملزمة باختيار أقل العطاءات إلا في صورة اشتراط عدم الإلزام في متن شراء وثيقة المناقصة أما في المناقصات البدائية التي ليست فيها التزام باختيار أقل العروض فالعكس هو الصحيح.
نسأل الله تعالى العفو عن الزلل والحمد لله أولاً وآخراً
الشيخ حسن الجواهري(9/876)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
المناقشات
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذه الجلسة الصباحية المباركة لدينا موضوع (المناقصات) ، والعارض هو فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري، والمقرر الأستاذ رفيق يونس المصري.
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه أجمعين.
في بحث المناقصات قدم بحثان للأستاذين: الشيخ الجواهري والدكتور رفيق المصري. وسأحاول عرض البحث مقارناً ومعلقاً أحياناً بما لا يخرجني عن وظيفة العارض عن تعريف المناقصة، الشيخ الجواهري يقول: هي طريقة بمقتضاها تلتزم الأطراف باختيار أفضل من يتقدم إلى التعاقد شروطاً. وهذا الالتزام من الطرفين عقد مستقل ملزم يجب الوفاء به وربما أمكن اشتراطه- كما يقول – ضمن عقد بيع المعلومات الذي هو طريق للدخول في المناقصة. كما عرفها الأستاذ المصري بأنها: طريقة نظامية لشراء سلعة أو خدمة تلتزم فيها جهة بدعوة المناقصين لتقديم عطاءاتهم وفق شروط ومواصفات محددة لأجل الوصول إلى أرخص عطاء بافتراض تساوي العطاءات في سائر المواصفات والشروط. والظاهر أن تعريف الأستاذ المصري يحتاج إلى شيء من الاختصار. كما أنه يحصر التعهد بدعوة المناقصين، في حين أن التعهد هو أوسع من دعوة المناقصين.
ويركز الأستاذ على خصوص المناقصة التي تجريها جهة عامة كالدولة. في حين يطرح الجواهري البحث بشكل عام. الأستاذ المصري يتحدث بشيء من التفصيل عن إجراءات المناقصة من قبيل تقدير القيمة التقريبية للتوريد أو المشروع، والتأكد من وجود الاعتماد اللازم للموازنة، ووضع المواصفات والشروط والإعلان عنها.
ثم مسألة تقديم الضمان الابتدائي الذي يقدم مع العرض وتشكيل لجنة لفحص العروض والبت فيها، فإذا وجدت هذه اللجنة أن العرض الأقل يرتفع عن سعر السوق فاوضت صاحبه، ثم يتم اتخاذ قرار الترسية وإرساء المعاملة، حيث يخطر المناقص بتوقيع العقد وتقديم الضمان النهائي. ويؤكد أن مسألة المساواة ومبدأ المنافسة هما أهم المبادئ التي تقوم عليها هذه العملية.
والمناقصات قد تكون عامة بفتح المجال فيها للجميع، أو محدودة لمصلحة ما. كما قد تكون داخلية- يعني داخل القطر- وقد تكون خارجية. أيضاً قد تكون علنية وقد تكون سرية. وتحدث الأستاذ المصري عن أسباب سرية المناقصة وناقشها. وفي صدد توضيح هوية هذه الطريقة وتكييفها فنيًّا يرى الباحثان أنها تحتوي على عمليات متعددة فهي تتلخص بما يلي:
أولاً: الإعلان عن وجود عزم من جهة معينة أو فرد لتأسيس مشروع معين، أو شراء سلعة موصوفة على طريقة المناقصة.
يشترط لأجل الاشتراك في العملية شراء المعلومات، وهذا عقد مستقل قبل الدخول في المناقصة. كما يشترط في عقد شراء المعلومات تقديم خطاب ضمان ابتدائي يدفعه البنك إذا رست المعاملة على أحدهم ولم يلتزم بها.(9/877)
يبدأ عقد المناقصة أو عملية المناقصة- باعتبارها مجموعة- من حين النداء أو التحرير- يعني النداء الشفهي أو التحرير الكتابي- حيث الإيجاب وتكون الكتابة بالتقبل هي الإيجاب، إلا أن كل من تقدم بسعر أقل يسقط الإيجاب الأول ولا يتم العقد إلا بعد رسو المعاملة على الأقل من غيره وحصول القبول. كما يطرح سير آخر لهذه المعاملة يجعل التزام الداعي إلى المناقصة- أي الجهة أو الشخص الذي يريد المناقصة – قبولاً متقدماً، وتقديم العروض إيجابات متأخرة، وإذا كانت الطريقة الأولى سليمة- كما يقول الشيخ الجواهري- فإنه يشكل على الثانية بأن قيمة المشروع كانت مجهولة عند القبول المتقدم، ولكنه يرد عليه بأن مثل هذه الجهالة ليست مما يضر بالعقد، وإن أمكن تحقيق قبول أثناء رسو المعاملة للتخلص من هذا الإشكال.
هذا وقد جاء في البحثين تحديد للفرق بين عقد المناقصة وعقد المقاولة لا نجد داعياً كبيراً للتطرق إليه، إذ المهم هو التكييف الفقهي لهذه العملية. إلا أنه ومن باب التقديم وذكر المماثل تم التعرض للمزايدة وهي أن يعرض البائع سلعة على شارين يتزايدون في الثمن حتى يتفق مع أكبرهم ثمناً. وعقد المزايدة جاء الكلام عنه في كتب السنة والفقه، قال عطاء: أدركت الناس لا يرون بأساً ببيع المغانم فيمن يزيد. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلساً- وهو كساء لظهر البعير- وقدحاً، وقال من يشتري هذا الحلس والقدح؟ فقال رجل: أخذتهما بدرهم. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((من يزيد على درهم؟ من يزيد على درهم؟)) . فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه" رواه أحمد وأصحاب السنن وقد ذكر العلماء أن موضوع سوم المؤمن على أخيه لا يأتي في المزايدة إلا أن النجش يأتي هنا. وللمجمع قرار في المزايدة يجيز طلب الضمان ممن يريد الدخول فيها مع إعادته إلى كل من لم يرس عليه العطاء. ويحتسب الضمان المالي في الثمن لمن فاز بالصفقة، ولا مانع شرعاً من استيفاء رسم الدخول لكونه ثمناً له.
والمناقصة بطبيعة الحال عكس المزايدة إلا أن هناك كلاماً في الموجب الذي قيل عنه إنه المتقدم بالعطاء. فالموجب في عقد المزايدة هو المشتري وتفي المناقصة هو البائع باعتبار أن كلًّا من هذين يتقدمان بالعطاء. إلا أن الشيخ الجواهري ركز على جعل الموجب في المزايدة أيضاً هو البائع؛ لأن المشتري فيها يتملك بثمن معين وهو يملك ثمنه للغير ولكن تبعاً لتمليك الغير سلعته إياه. فتمليكه تبغي فهو قابل قدم قبوله بلفظ (اشتريت) مثلاً. وبالنسبة للمناقصة فإن المقدم بعرض سلعته أو عمله بثمن معين هو الموجب، إلا أن العارض الثاني الأقل عرضاً يسبق الإيجاب الأول ليحل محله بعد أن التزم الداعي إلى المناقصة باختيار الأفضل فيكون ملزماً بالعرض الثاني ومعرضاً عن الأول. هذا وقد ذكرت هناك أنواع المناقصات أذكرها بسرعة، وهي: مناقصات البيع والشراء، وهذا هو بيع كلي المضمون حالاً كما يقول الشيخ، ومناقصات الاستصناع والسلم، ومناقصات عقد الإجارة لإنشاء مشروع معين على أن تكون مواد المشروع من الجهة الداعية للمناقصة. أيضاً مناقصات الاستثمار بشأن عقد المضاربة والمزارعة والمساقاة، إذ يعلن الداعي عن رغبته في التعاقد مع من يتقدم للاشتراك معه في الربح.(9/878)
ولما كان هناك التزام بالتعاقد مع أفضل من يتقدم فإن ذلك يعني إسقاط الخيارات، ونفس أخذ خطاب الضمان الابتدائي ينبهنا إلى ارتكازية عدم الفسخ ويستنتج من ذلك إن الخيار موجود لدى المتبايعين لكن لا يحق لهم إعماله إلا أن يكون خطاب الضمان لصالح الآخر، ولا يسمع ادعاء الغبن باعتبار أن المشتركين هم من أهل الخبرة إلا إذا ثبت غبن مغفول عنه في البين. فأهم ما يستدل به على صحة عقد المناقصة هو العمومات الشرعية من قبيل قوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقوله تعالى {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} . بعد وضوح أن العرف يرى أن هذه العملية هي مصداق لهذه الأمور ويشبهها الدكتور المصري بعقد المسابقة إلا أنه هناك بعض العقبات والشبهات والإشكالات ذكرها الباحثان ونظمتها بشكل نقاط عشر، وأطرحها بسرعة وهذا التلخيص في الواقع يعرض روح كل ما جاء في البحثين بشكل كامل كما اعتقد.
الأمر الأول: مسألة الغرر المطروح، ربما تصور البعض حصول غرر وجهالة في البين، إما من جهة التأجيل المفترض أو من جهة عدم العلم بالمقدار الذي يقع عليه التعاقد في الخارج الآن، وقد حله الأستاذ المصري بأننا لو نظرنا إلى المتعاقدين لن نجد زيادة في الغرر وحله الشيخ الجواهري بأن الغرر الممنوع ليس هو الجهالة مطلقاً ليس كل جهل غرراً بل عدم معرفة حصول الشيء من عدمه. على أن التحقيق الذي أعتقده ودعوت قبل هذا في حديث سبق إلى لزوم التركيز على تحديد الغرر الممنوع؛ لأننا في حاجة إليه في كثير من استنباطاتنا على أن التحقيق في الغرر الممنوع هو ما يؤدي إلى النزاع المستحكم الذي لا يمكن حله، ولا يوجد مثل هذا الغرر هنا.
الأمر الثاني: إشكال بيع ما ليس عنده باعتبار أن المورد يلتزم بتوريد سلع في آجال معلومة، وهو أمر غير وارد هنا بعد عدم اشتراط موجود، مورد العقد حالياً، ثم إن هذا أمر خارج عن طبيعة المناقصة. يعني المناقصة تنصب على التوريد. الكلام في نفس المناقصة، يحسب له حسابه لوحده على أننا نعتقد أن هذا الحديث يركز على بيع العين الشخصية غير المملوكة ولا يشمل موردنا. طبعاً إذا باعها لصاحبها يصبح عقد فضول، أما إذا باعها لنفسه فهو منهي عنه. طبعاً النهي هنا نهي وضعي وليس تكليفيًّا.
الأمر الثالث: موضوع تغير الأسعار بين تاريخ تقدم العرض إلى تاريخ الرسو، أو إلى تاريخ الانتهاء من تنفيذ مصب العقد، التوريد أو المقاولة. وهذا الأمر يتلافى –كما يقول الدكتور المصري، حفظه الله –إما بالدقة في معرفة الأسعار في المستقبل أو بالتعديل المجاز من قبل القانون، القانون أو السلطة العليا تغير.(9/879)
الأمر الرابع: مسألة تأجيل البدلين في المناقصة مما يطرح شبهة (بيع الكالئ بالكالئ) أو الدين بالدين) فيما لو كانت المناقصة توريداً مثلاً. وقد ردها الدكتور المصري بعدم ثبوت الحديث وأن الصور التي تدخل فيه ليست موضع اتفاق وصورتنا هذه لا ربا فيها؛ لأنها مبادلة سلعة بنقد، ولا يسلم باشتغال ذمتين بلا فائدة كما يطرح البعض. وعلى أي حال فالاختلاف في تفسير الحديث يجعله مبهم الانطباق على المورد. وطبيعي إذا كان الدليل فيه شيء من الإبهام لا يمكن الاستدلال به، على أنه يرجح في النهاية أن المناقصة أصبحت حاجة عامة فيجب القول بها حتى لو خالفت بعض القواعد، يجب القول بها استحساناً. طبعاً أنا شخصيًّا أرى في هذا الكلام، إشكالاً ولا يمكن الخروج عن القاعدة العامة المسلمة باستحسان من هذا القبيل، لكني أؤيد أن الإبهام الموجود في الدليل يمنع من الاستدلال به.
الأمر الخامس: موضوع النهي عن الدخول في سوم الأخ. أيضاً هذا لا يأتي هنا إذ أنه يركز هنا على موضوع العرض الأفضل، وليس فيه بيع على بيع الأخ ولا ركون للمتبايعين حتى يتصور دخولهما في السوم، والدلال المفروض مستمر في طلب الأخ. هذه المشكلة أيضاً ليست مطروحة.
الأمر السادس: هناك مشكلة شراء دفتر الشروط، فالجهة صاحبة المناقصة تضع شروطاً ومواصفات للأصناف التي ترغب في تنفيذها أو توريدها، وقد تحتاج إلى أمور تتكبد لها نفقات بالإضافة إلى نفقات الإعلان، فمن يتحمل هذه التكاليف والنفقات؟ قد يقال: إن الجهة صاحبة المناقصة تتحملها؛ لأنها المستفيدة أما المناقصون وبالخصوص من لم ترس عليه المناقصة فما هو الوجه في تحميلهم؟ هو قد يحمل المناقصون باعتبارهم يريدون الاستفادة بغض النظر عن النتيجة، وقد يقال ببيع الكراس لهم. والكراس ذو قيمة، ويرى الأستاذ المصري ضرورة بذله بالمجان ولكن لا مانع من أخذ تأمين نقدي يرد إلى المناقص الذي لم ترسو عليه المعاملة. ولا يمانع الشيخ الجواهري في البيع، وأتصور أنه هو الأصح، لا مانع من البيع.(9/880)
الأمر السابع: موضوع الضمان. هناك نوعان من الضمان، هما: الضمان الابتدائي ويصل إلى حد 1 أو 2? من قيمة العرض، ويقدم مع العرض لغرض التأكد من جدية اشتراك المتعهد في المناقصة والتأكد من التزامه، ومن حق الجهة صاحبة المناقصة مصادرة مبلغ هذا الضمان إذا سحب العرض قبل البت النهائي، ويرد هذا إلى أصحاب العروض الأخرى، أما صاحب العرض الفائز فيرده إليه ليغيره إلى ضمان دائم، إلى ضمان الانتهائي.
الضمان الانتهائي يصل إلى حد 5? مثلاً من قيمة العقد يقدم خلال مدة يرد إلى صاحبه بعد أن ينفذ مصب العقد. والضمان قد يكون نقديًّا، أو بشكل شيك مصرفي، أو بالاقتطاع من مبالغ مستحقة، أو بشكل خطاب ضمان مصرفي، أو بتعهد من شركة تأمين. الإشكال هنا إنما هو في أجرة خطاب الضمان وقد بحث المجمع هذا المعنى، وهي ممنوعة إلا أن هذا المعنى خارج عن مصب هذه المعاملة، يعني هذا أمر آخر جانبي خارج عن المعاملة، وقد أكد الدكتور المصري أن من غير الممكن الحصول على خطاب ضمان في هذا العصر بلا أجر.
ورغم أن المجمع قد رفض الأجر على الضمان إلا أنني شخصيًّا وقد قلت آنذاك: أعتقد أنه لا مانع منه وهناك تخريج فقهي له. والشيخ الجواهري أيضاً يخالف أخذ الأجرة على الضمان، ولا زلت أعتقد أن هذا الخطاب يعزر من قيمة التزامات المقاولين وهو أمر محترم عرفاً ويمكن المقابلة بالمال. على أي حال هذا أمر خارج. ولكن ما هو التكييف الشرعي لمصادرة خطاب الضمان عند التخلف؟ هذا داخل في نفي العمل. يرى الأستاذ المصري أنها تشبه مصادرة العربون عند النكول.
وقد أقر المجمع جواز ذلك بقيد مدة محددة. أما الشيخ الجواهري فيرى أن البنك قد كفل وضمن شرط المشترط في حالة عدم قيام المشترط عليه بأداء الشرط وهو الالتزام بالمناقصة عند الرسو. ولكن هذا الضمان –كما يقول- ليس هو الضمان المصطلح الذي فيه خلاف بين المذاهب، وليست هذه هي كفالة إحضار الطالب بل هو ضمان عرفي يحقق موجبه الشرط المشترط على الطالب عند عدم قيامه بأدائه فهو مثل ضمان الأعيان المغصوبة، الأعيان المغصوبة إذا كانت موجودة لا تدخل في الذمة لكنها إذا تلفت تدخل في الذمة، التي لا تشغل الذمة بها ما دامت العين موجودة والضمان هنا هو التعهد بأدائها ويترتب عليه اشتغال ذمة المتعهد بقيمتها عند تلفها.
قد يقال: إن الطالب للضمان الابتدائي من البنك هو المشترك في المناقصة، وهو بعد لم يرتبط مع الجهة بعقد فلا يمكن إلزامه بشرط ليضمنه البنك ويعود الالتزام وعداً ابتدائيًّا غير ملزم ويعود تعهد البنك أيضاً غير ملزم. ولكن الجواب هو أن تعهد المقاول للجهة مشمولاً نفس تعهد المقاول للجهة بعموم (أوفوا بالعقود) وقد فسر بالعهود. كان يمكن أن يكون عربوناً، ويمكن أيضاً أن تشترط الجهة الداعية للمناقصة في عقد بيع المعلومات أخذ مبلغ من المال ويكون الشرط ملزماً؛ لأنه جاء في عقد سابق ملزم. هذا أيضاً ما ذكره الشيخ الجواهري بشيء من التفصيل، لكني أعتقد أن خطاب الضمان نفسه يمكن أن يتم عليه عقد، وأنه يقدم عند البدء في قبل السماح للعارض بالحصول على هذه الفرصة في إطار عقد آخر يندرج ضمناً في عملية المعاوضة. ويبعد تفسيره للعربون؛ لأن العربون يشكل بالتالي جزء الثمن، أما بالنسبة لخطاب الضمان الانتهائي فهو صحيح مشمول لعموم (المؤمنون عند شروطهم) ضمن عقد ملزم، ولا مشكلة فيه إلا مشكلة أجرة الخطاب، خطاب الضمان، وما قلناه هناك نقوله هنا.(9/881)
الأمر الثامن: موضوع الشرط الجزائي عند التأخير. ما حكم خضوع المتعاقد مع الجهة لغرامة تأخير، وهذا قد تصل إلى 4? من قيمة عقد التوريد، و10? من قيمة عقد الأشغال العامة؟
المجمع الكريم وافق على بعض صور الشرط الجزائي من قبيل لاتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسراً، وكذلك وافق على مصادرة العربون. وقد ورد عن ابن سيرين أنه قال لرجل: أرحل ركابك فإن لم أرحل معكم يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه.
وطرح الأستاذ المصري السؤال التالي: هل تشبه غرامات التأخير فوائد التأخير؟ وأجاب بأن فوائد التأخير تتعلق بتأخير وفاء القرض فهي من الربا، أما غرامات التأخير فتتعلق بالبيوع والإجارات، ولكن إذا اعتبرنا المبيع المستحق ضرباً من الدين من الالتزام فإنه تأتي هنا شبهة تقضي أم تربي، ولذلك فيجب التفصيل بين الصور وقد جاء بمثالين من الإجارة والبيع ليؤكد قيمة الزمن في الإسلام، وأن الأجرة تتأثر بزمن العمل، طبعاً على أن يكون العقد غير مردد بين أمرين لكن أن يدخل الزمن في حسابه لمعرفة الأجرة لا مانع من ذلك. نقل عن المدونة: قلت: أرأيت إن رفعت إلى خياط ثوباً يخيطه لي، فقلت له: إن خطته اليوم فبدرهم وإن خطته غداً فبنصف درهم، أتجوز هذه الإجارة في قول مالك أم لا؟ قال: لا تجوز هذه الإجارة عند مالك. قلت: لم؟ قال: لأنه يخيطه على أجر لا يعرفه. فهذا لا يعرفه أجره فإن خاطه فله أجرة مثله. عدم الجواز تابع للترديد الموجود، أما إذا ركز في ... بعني عندما ... أخد الطرفين يأخذ الزمن بحسابه. ولكن هذا جائز لأن عقد الإجارة على إحدى الأجرتين دون ترديد. وهكذا يرى أن الشرط الجزائي لو كان لعدم التنفيذ يجوز ويأخذ حكم العربون، وإن كان لأجل التأخير في التنفيذ لم يجز؛ لأنه يأخذ حكم ربا النسيئة إلا أن تكون للدولة –كما يقول- أحكام أخرى.
أما بالنسبة للتعزير المالي فيسير إلى موافقة بعض العلماء عليه خلافاً للجمهور، وهو –الدكتور المصري- حفظه الله – يقول بالتفصيل. أما الشيخ الجواهري فيذكر أن للشرط الجزائي ثلاث صور يمثل لها من عقد الإجارة، فتارة يقترح موضوع التنقيص من الأجرة مع تعيين المقدار، هذا المقدار ينقص إن لم تلتزم، وهنا يذكر أن الأكثر – من علماء الإمامية- على جوازه مستدلين بقاعدة (المؤمنون عند شروطهم) ، وما رواه الحلبي قال: كنت قاعداً عند قاضٍ من القضاة وعنده الباقر جالس فأتاه رجلان، فقال أحدهما: إني تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعاً إلى بعض المعادن واشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا؛ لأنها سوق أتخوف أن تفوتني فإن احتبست عن ذلك حططت من الكراء لكل يوم احتبسه كذا وكذا، وأنه حبسني عن ذلك الوقت كذا وكذا يوماً؟ فقال القاضي: هذا شرط فاسد وفيه كراه، فلما قام الرجل أقبل إلي أبو جعفر- يعني - الباقر فقال: شرط هذا جائز لم يحط بجميع كراه. هذه حالة، حالة أن يكون التنقيص بمبلغ معين، وأخرى أن يكون التنقيص من الأجرة دون تعيين، هنا يبطل الشرط الجزائي للجهالة وينتقل الأمر إلى أجرة المثل. أما سقوط الأجرة بأكملها فهو باطل –كما يقول الشيخ- لمنافاته لمقتضى العقد ويرجع لأجرة المثل باعتبار أنه عمل عملاً محترماً أولاً، وأيضاً لقاعدة (ما يضمن بصحيحه –يعني إذا كان صحيحه فيه ضمان –يضمن بفاسده) ، فإذا لم نقتصر هنا على الإجارة صححنا هذا الشرط كما يقول، خصوصاً مع انطباق قاعدة (المسلمون عند شروطهم) على كل الموارد.(9/882)