قال النووي في شرحه لهذا الحديث: (يستحب لمن عليه دين من قرض وغيره أن يرد أجود من الذي عليه، وهذا من السنة ومكارم الأخلاق، وليس هو من قرض جر منفعة المنهي عنه؛ لأن المنهي عنه ما كان مشروطاً في عقد القرض) . (1)
وفي هذا العصر ابتلي العالم بصفة عامة، والعالم الإسلامي بصفة خاصة، بارتفاع التضخم، مما نتج عنه انخفاض القوة الشرائية للنقود، فالتضخم يعني أن النقود غير قادرة على القيام بدورها كوحدة حسابية عادلة، كما نلاحظ ركوداً عميقاً في بعض البلدان الإسلامية، وارتفاع معدلات البطالة في بلدان أخرى، ووجود مشكلات اقتصادية متعددة.
ويستنتج من هذه المشكلات وجود انحراف عن المنهج القويم. يحتم على المخلصين من علماء الأمة الإسلامية فقهاء واقتصاديين ومفكرين أن يبحثوا عن أسباب الداء ليعالجوه، ولا يكتفون بعلاج الأعراض الظاهرية؛ لأن علاج الأعراض ما هو إلا مسكن، يتيح للفيروس أن ينمو ويستفحل حتى يصل إلى مرحلة المناعة، فيتعذر علاجه.
والعلاج يجب أن يكون مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومقتبساً من أقوال العلماء الراجحة التي تعضدها الأدلة. حتى يمكن الوصول إلى مرحلة استقرار قيمة النقود.
تعريف الربط: (هو تقويم قيمة الديون قروضاً أو بيوعاً، مؤجلة أو مهوراً، أو نحو ذلك؛ بسلعة أو مجموعة من السلع، مناسبة للقوة الشرائية للنقود) .
كيف يتم الربط: يتم الربط بعدة أمور، أقتصر على ما تناوله موضوع هذا البحث، وهو الربط بتغير المستوى العام للأسعار، ويسمى الربط القياسي. فيمكن معرفة قيمة سلعة من السلع في وقت عقد هذا الدين، سواء كان هذا الدين قرضاً، أو ثمن مبيع مؤجل، أو صداقاً مؤخراً. ثم يعرف قيمة تلك السلعة أو السلع عند تاريخ الاستحقاق، ومن هنا يكون الفرق هو التغير في قيمة النقود.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 4/119(8/1513)
حكم ربط القرض الحسن،
أو ثمن البيع المؤجل، أو مؤخر الصداق بمستوى الأسعار
المطلب الأول – حكم الربط إذا كانت النقود من الذهب أو الفضة:
اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة على أن النقود الرائجة ذهباً أو فضة يرد مثلها في الديون، قروضاً، أو ثمن بيوع مؤجلة، أو مهراً مؤخراً. فالنقص أو الزيادة في القيمة مع بقاء الرواج لا يعتد بها.
جاء في المدونة للإمام مالك رحمه الله: (قلت: أرأيت لو أن رجلاً قال لرجل: أقرضني ديناراً دراهم أو نصف دينار دراهم أو ثلث دينار دراهم. فأعطاه الدراهم، ما الذي يقضيه في قول مالك؟ قال: يقضيه مثل دراهمه التي أخذ منه. رخصت أو غلت، فليس عليه إلا مثل الذي أخذ ... ) (1)
وقال الشافعي رحمه الله: (ومن سلف فلوساً أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان، فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي أسلف وباع بها) . (2)
وجاء في المادة 788 من مرشد الحيران: ( ... وإن استقرض شيئاً من المكيلات أو الموزونات أو المسكوكات من الذهب والفضة، فرخصت أسعارها أو غلت، فعليه رد مثلها، ولا عبرة برخصها أو غلوها) .
وجاء في قرة العين في الجواب على سؤال عن الواجب في الذمة عند بطلان السكة، أو زيادة قيمتها أو انخفاضها: (الواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة، ويجب المثل لو كانت مئة بدرهم ثم صارت ألفاً بدرهم أو بالعكس، وكذلك لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صار بمئتين أو بالعكس وهكذا) (3)
__________
(1) المدونة للإمام مالك بن أنس 3/445، وانظر أيضاً: حاشية الرهوني 5/121 و122، والزرقاني على خليل 5/60، ومنح الجليل 2/534.
(2) الأم 3/33.
(3) قرة العين ص 203 و204، وانظر منح الجليل 2/534(8/1514)
وقال ابن قدامة: (قد ذكرنا أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا، أو كان بحاله. إلى أن قال: وأما رخص السعر فلا يمنع ردها، سواء كان كثيراً، مثل إن كانت عشرة بدانق، (1) فصارت عشرين بدانق، أو قليلاً؛ لأنه لم يحدث فيها شيء، إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت) . (2)
المطلب الثاني – حكم الربط بالنسبة للورق النقدي:
نتعامل في هذا العصر بنقود أصبحت هي النقود الرائجة في جميع دول العالم، وهي النقود الورقية.
وقد صدرت قرارات المجامع الفقهية أنه نقد قائم بذاته له حكم الذهب والفضة.
فقد جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم 9/د3/07/86 (أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامه) .
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة السادس (يقرر أن العملة الورقية نقد قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة ... ) .
وجاء في قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية: (إن الورق النقدي يعتبر نقداً قائماً بذاته كقيام النقدين في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان ... ) (3) وقد قالت بهذا من قبل مجلة الأحكام الشرعية في المادة (750) حيث جاء فيها: (إن كان القرض فلوساً أو دراهم مكسرة أو أوراقاً نقدية فغلت أو رخصت أو كسدت ولم تحرم المعاملة بها، وجب رد مثلها، أما إذا حرم السلطان التعامل بها فتجب قيمتها يوم القرض ويلزم الدفع من غير جنسها إن جرى فيها ربا الفضل، وكذا الحكم في سائر الديون، وفي ثمن لم يقبض، وفي أجرة، وعوض خلع، وعتق، ومتلف، وثمن مقبوض لزم البائع رده) . (4)
__________
(1) الدانق: سدس الدرهم.
(2) المغني 6/441 - 442
(3) توضيح الأحكام من بلوغ المرام، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام، الطبعة الأولى، مطبعة دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، سنة 1413 هـ – 1992م، ص 19.
(4) مجلة الأحكام الشرعية، للشيخ أحمد بن عبد الله القاري، تحقيق الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان والدكتور محمد إبراهيم أحمد علي، الطبعة الأولى 1401 هـ – 1981م. مطبوعات تهامة.(8/1515)
وما دامت النقود الورقية تأخذ حكم الذهب والفضة، وقد اتفقت على هذا قرارات المجامع الفقهية وهيئة كبار العلماء، وما دامت هي النقد السائد المقبول والمعمول به في جميع دول العالم، فإنه يتخرج على هذا قول علماء المسلمين، ومنهم الأئمة الأربعة بأنه يجب رد مثل الدين الثابت في الذمة عند حلول الأجل، سواء غلت النقود أو رخصت، وسواء كان الدين قرضاً أو ثمن مبيع، أو مهراً مؤخراً.
ولذا فإنه لا يجوز عندي ربط القرض أو أثمان البيوع المؤجلة، أو المهور المؤجلة بمستوى الأسعار؛ لأن الربط بمستوى الأسعار مصادم لأحكام الشريعة الإسلامية، فهو يؤدي إلى أمرين قد نهى الشارع عنهما:
الأول: الربا، فربط القروض، أو ثمن المبيع المؤجل، أو الصداق المؤخر بمستوى الأسعار يعني أن يدفع المقرض للمقترض مثلاً خمسين ألف ريال سعودي، وبعد عام، وقد حل موعد السداد، وقد ارتفعت نسبة التضخم 5 % فإنه يلزمه دفع الخمسين ألفاً (50000) وعليها زيادة ارتفاع الأسعار وقدرها ألفان وخمسمائة ريال (2500) ، وهذا ربا الفضل والنسيئة، وهو باطل لما رواه مسلم وغيره عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين)) (1)
وعن أبي سعيد الخدري قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفِضة بالفضة، والبُرُّ بالبر والشَّعير بالشعير، والتمر بالتمر، والمِلح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)) (2)
فالحديثان الشريفان تضمنا النص على المنع من أخذ أكثر أو أقل مما أقرض، أو باع به، والحديث الأول جاء بصيغة النهي، وصيغة النهي الخالية عن القرائن الصارفة عند علماء الأصول يقتضي التحريم والفساد.
وإذا قال قائل: إن الربط فيه تماثل؛ لأن القيمة التي ربط الدين بها عند السداد مماثلة لقيمة الدين عند القرض، أو عند البيع أو عند تقرر المهر، بسبب ربطه بقيمة سلعة أو سلع أو ذهب عرفت قيمته في الحالين، فإنه يجاب على هذا بأنه أولاً متعذر؛ إذ يصعب ضبط المماثلة في حالة الربط؛ لأنها قائمة على التقويم، والتقويم يختلف، ولا بد من وجود الفرق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ولا تشفوا بعضها على بعض)) . والشف أدنى زيادة.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 4/96
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 4/96(8/1516)
ثانياً: أن حديث عثمان رضي الله عنه نص على العدد فقال: لا تبيعوا الدينار بالدينارين. والبائع في مثالنا السابق باع خمسين ألفاً باثنين وخمسين ألفاً وخمسمائة ريال. فتحقق بيع الدينار بالدينارين، فشمله النهي، فكان حراماً، والعقد فاسداً.
وهذا هو الذي فهمه العلماء المحققون، ونصوا عليه. جاء في المغني: (وإن كانت الدراهم يتعامل بها عدداً، فاستقرض عدداً، رد عدداً، وإن استقرض وزناً رد وزناً) (1)
ونصوصهم السابقة وغيرها واضحة جلية في عدم اعتبار أي فارق في العدد مع وجود الغلاء والرخص، فهذا موفق الدين بن قدامة يقول: (وأما رخص السعر فلا يمنع ردها، سواء كان كثيراً، مثل أن كانت عشرة بدانق، فصارت عشرين بدانق، أو قليلاً؛ لأنه لم يحدث فيها شيء، إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت) (2)
وما سبق بيانه مما جاء في قرة العين: ومنه (ويجب المثل لو كانت مئة بدرهم ثم صارت ألفاً بدرهم أو بالعكس، وكذلك لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صار بمئتين أو بالعكس وهكذا) .
ومع هذا فهو أولاً: فتح لباب الربا على مصراعيه؛ إذ إن كل مراب سواء كان مصرفاً ربوياً، أو شخصاً اعتبارياً أو طبيعياً. سوف يمارس الربا، ويتذرع بأن هذا فارق الأسعار، وحينئذ لا يمكن قفل هذا الباب.
ثانياً: إن فيه غرراً فاحشاً؛ لأنه لا يعلم كم تساوي قيمة السلعة أو السلع التي سيربط بها القرض، أو قيمة المبيع المؤجل، أو الصداق المؤخر. ومن شروط البيع العلم بمقدار الثمن، ومن شروط وجوب المهر المسمى في عقد الزواج العلم بمقدار المهر، ومقدار الثمن والمهر في حالة ربطهما بمستوى الأسعار أمران احتماليان غير معلومي المقدار، فيكون البيع والقرض فاسداً.
وقد بين التطبيق العملي أن التوسع في الربط القياسي على الدخول والأصول النقدية غير مجد، بسبب تعقيداته وتكاليفه الإدارية العالية. (3)
__________
(1) المغني 6/434
(2) المغني 6/434
(3) نحو نظام نقدي عادل، للدكتور محمد عمر شبرا (ص 57)(8/1517)
ومع أن الربط القياسي قد يخفف جزئياً من الآثار السيئة لتقلبات القوة الشرائية للنقود الناتجة عن التضخم، إلا أنه ليس علاجاً له؛ لأنه يؤدي إلى عدم الاهتمام بالبحث عن سياسات صحيحة (مما يعني أن الربط القياسي يهزم نفسه بنفسه، إلا إذا كان التضخم متجها إلى الانخفاض، وكانت هناك سياسات علاجية نقدية ومالية وداخلية) (1)
وانخفاض القوة الشرائية للنقود لا يختص ضرره بالمقرضين أو أصحاب الأثمان المؤجلة، أو نحو ذلك، بل إنه يشمل المدخرين.
وأسباب هذه المشكلة أنها جاءت نتيجة لتطبيق نظم اقتصادية مخالفة للقيم والأحكام الإسلامية، ومن أهمها اعتماد تلك النظم على الفوائد الربوية.
ولذا فإن معالجتها تتم بإزالة أسبابها، وتطبيق أحكام الاقتصاد الإسلامي في كل القضايا الاقتصادية، ومنها العمل بكل حزم على استقرار الأسعار، وعلى الجهات المعنية بالسياسة الاقتصادية في البلدان الإسلامية العمل على تحقيق ذلك بكل الوسائل. وهذا في نظري هو البديل الأفضل عن الربط القياسي. كما أنه ينبغي لأرباب الأموال استثمارها وعدم كنزها لتجنب أو لتخفيف آثار انخفاض القوة الشرائية لنقودهم.
المطلب الثالث – حكم الربط بالنسبة للفلوس:
الفلوس: جمع فلس، وهو جمع كثرة، وجمع القلة أفلس، وهي: عملة معدنية من غير الذهب والفضة، كالحديد والنحاس والنيكل، قليلة القيمة، مثل الهللة بالنسبة للريال السعودي، والمليم بالنسبة للجنيه المصري، والبنس للدولار الأمريكي.
جاء في لسان العرب: وأفلس الرجل صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم، يفلس إفلاساً: صار مفلساً كأنما صارت دراهمه فلوساً وزيوفاً.
آراء العلماء حالة غلاء الفلوس ورخصها:
ذهب جماهير الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الواجب على المدين من الفلوس في القرض ونحوه، هو نفس المقدار المحدد في الدين بدون زيادة أو نقصان.
__________
(1) نحو نظام نقدي عادل، للدكتور محمد عمر شبرا (ص 57)(8/1518)
جاء في بدائع الصنائع في الكلام على الفلوس: ( ... ولو لم تكسد ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة ههنا؛ لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية) (1)
وجاء فيها بخصوص القرض: (ولو لم تكسد ولكنها رخصت أو غلت فعليه رد مثل ما قبض) . (2)
و (جاء في فتاوى قاضي خان: يلزمه المثل وهكذا ذكره الاسبيجابي قال: ولا ينظر إلى القيمة) (3) (.
وفي مجمع الفتاوى معزياً إلى المحيط قال الشيخ الإمام الأجل الأستاذ: لا يعتبر هذا، ويطالبه بما وقع عليه العقد والدين على هذا، ولو كان يروج لكن انتقصت قيمته لا يفسد وليس له إلا ذاك، وبه كان يفتي الإمام، وفتوى الإمام قاضي ظهير الدين على أنه يطالب بالدرهم التي يوم البيع، يعني بذلك العيار ولا يرجع عليه بالتفاوت) (4)
وقد نقل ابن عابدين عن الاسبيجابي فقال: (قال في غاية البيان: قيد بالكساد احتراز عن الرخص والغلاء؛ لأن الإمام الاسبيجابي في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد) (5)
وقال في مدونة الإمام مالك: (أرأيت إن استقرضت فلوساً ففسدت الفلوس فما الذي أرد على صاحبي؟ (قال) قال مالك: ترد عليه مثل تلك الفلوس التي استقرضت منه وإن كانت قد فسدت. قلت: فإن بعته سلعة بفلوس ففسدت الفلوس قبل أن أقبضها. (قال) : قال مالك: لك مثل فلوسك التي بعت بها السلعة الجائزة بين الناس يومئذ، وإن كانت الفلوس قد فسدت فليس لك إلا ذلك) (6)
فإذا كان الإمام مالك يقول: ليس له إلا مثل فلوسه في حالة الفساد وهو الكساد، فالقول بأنه ليس له إلا مثلها في حالة الغلاء والرخص أولى.
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5/542
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5/542
(3) تنبيه الرقود 2/59
(4) تنبيه الرقود 2/59
(5) تنبيه الرقود 2/59
(6) المدونة 3/444(8/1519)
وفي المدونة للإمام مالك: (وكذلك إن أقرضته دراهم فلوساً، وهو يومئذ مئة فلس بدرهم، ثم صارت مئتي فلس بدرهم، فإنما يرد إليك ما أخذ لا غير ذلك) (1)
وجاء في مختصر خليل وشرحه منح الجليل: (وإن بطلت فلوس فالمثل لما بطل التعامل به على من ترتبت في ذمته، وأولى إن تغيرت قيمتها مع استمرار التعامل بها) (2) وقال الإمام الشافعي: (ومن سلف فلوساً أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه) . (3)
وقال السيوطي: (وقد تقرر أن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقاً، فإذا اقترض منه رطل فلوس فالواجب رد رطل من ذلك الجنس، سواء زادت قيمته أم نقصت. أما في صورة الزيادة، فلأن القرض كالسلم ... وأما في صورة النقص فقد قال في (الروضة) من زوائده: ولو أقرضه نقداً، فأبطل السلطان المعاملة به، فليس له إلا النقد الذي أقرضه، نص عليه الشافعي رضي الله عنه. فإذا كان هذا مع إبطاله، فمع نقص قيمته من باب أولى) (4)
وقال البهوتي: (إن الفلوس إن لم يحرمها وجب رد مثلها، غلت أو رخصت أو كسدت) (5)
هذا هو رأي جماهير العلماء في الفلوس لدى المذاهب الفقهية المختلفة. وهي نصوص صريحة واضحة، لا لبس فيها على أن الفلوس الثابتة في الذمة بسبب القرض أو ثمن بيع مؤجل، أو صداق مؤخر، أنه ليس له إلا مثلها غلت أو رخصت، وهو نص الإمام مالك والشافعي، ومذهب أبي حنيفة، بل إن مالكاً والشافعي يقولان ذلك حتى في حالة الكساد، فإذا كان الأمر كذلك فهو في حالة الغلاء والرخص من باب أولى.
__________
(1) نقلاً عن منح الجليل 2/535
(2) نقلاً عن منح الجليل ص 534
(3) الأم 3/33
(4) قطع المجادلة 1/97
(5) كشاف القناع 3/315(8/1520)
ومع كل ما قاله الأئمة في الفلوس فإني لا أرى قياس الورقة النقدي عليها؛ لأنه موغل في الثمنية إيغالاً تقصر دونه الفلوس، ولأن الفلوس كانت للمحقرات من البيوع، أما الورق النقدي فتتم به الصفقات الكبيرة، ولأنه أصبح النقد الوحيد الشائع الانتشار في جميع بلدان العالم اليوم، بل لقد فاق انتشاره والتعامل والرضا به في هذا العصر الذهب والفضة. لا سيما وبعد أن قررت المجامع الفقهية، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية إعطاءه حكم الذهب والفضة كما بينا فيما سبق.
القول الثاني في الفلوس:
وهو مروي عن أبي يوسف، ونسبه البعض لشيخ الإسلام ابن تيمية، وللرهوني من فقهاء المالكية.
قال ابن عابدين: (وفي الفصل الخامس التترخانية إذا اشترى شيئاً بدراهم هي نقد البلد ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت، فإن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق فسد البيع، وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع، وقال في الخانية: لم يكن له إلا ذلك، وعن أبي يوسف أن له أن يفسخ البيع في نقصان القيمة أيضاً) . (1)
وقال أيضاً: (وفي المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء وليس له غيرها، ثم رجع أبو يوسف وقال: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض) (2)
وقد نقل ابن عابدين عن الإمام الاسبيجابي فقال: (قال في غاية البيان: قيد بالكساد احترازاً عن الرخص والغلاء؛ لأن الإمام الاسبيجابي في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد) (3)
__________
(1) تنبيه الرقود 2/57 - 58
(2) تنبيه الرقود 2/58
(3) تنبيه الرقود 2/60(8/1521)
(وقال أبو الحسن: لم تختلف الرواية عن أبي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها، قال أبو يوسف: قيمتها من الذهب يوم دفع القرض في الدراهم التي ذكرت لك أصنافها –يعني البخارية والطبرية واليزيدية- وقال محمد: قيمتها في آخر نفاقها، قال القدوري: وإذا ثبت من قول أبي حنيفة في قرض الفلوس ما ذكر، فالدراهم البخارية فلوس على صفة مخصوصة والطبرية واليزيدية هي التي غلب الغش عليها، فتجري مجرى الفلوس، فلذلك قاسها أبو يوسف على الفلوس) (1)
وللجواب على ما نسب لأبي يوسف نقول: إن هذا القول ضعيف من ناحيتين: من ناحية الرواية؛ لأنه لم تروه عنه أشهر كتب الحنفية كالهداية، وفتح القدير، والمبسوط، والكنز، ونحوها، يؤيد هذا ما ذكره الكاساني، والاسبيجابي من الإجماع على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها، أو رخصت، فعليه مثل ما قبض من العدد. (2)
والناحية الثانية من ناحية الدراية: فإن فيه فتحاً لباب الربا لمن يرى قياس الأوراق النقدية على الفلوس؛ إذ إن كل مراب سواء كان بنكاً ربوياً، أو شخصاً اعتبارياً أو عادياً سيرتكب الربا، ويقول: هو فرق لمستوى الأسعار، ثم لا يمكن قفل هذا الباب.
ولهذا فإن نسبة قول إلى عالم من العلماء لا يعني إباحة الأخذ به دون النظر في دليله ومقارنته بغيره، فليست الحجة للأشخاص، وإنما الحجة للأدلة.
وما نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية من قوله برد قيمة الفلوس في القرض حالة ارتفاع قيمة الفلوس أو رخصها غير دقيق. (3) فهو يقول بهذا حالة كسادها، أو تحريم السلطان التعامل بها. أما حالة الغلاء والرخص فهو يقول برد المثل.
جاء في المنح الشافيات بشرح مفردات الإمام أحمد:
والنص بالقيمة في بطلانها
لا في ازدياد القدر أو نقصانها
بل إن غلت فالمثل فيها أحرى
كدانق عشرين صار عشراً
__________
(1) تنبيه الرقود 2/60
(2) تنبيه الرقود 2/60
(3) تقلبات القوة الشرائية للنقود، للدكتور شوقي دنيا، نشر في مجلة المسلم المعاصر، عدد 41، سنة 1985 (ص 70) .(8/1522)
(فالنص في رد القيمة إنما ورد عن الإمام فيما إذا أبطلها السلطان، فمنع المعاملة بها لا فيما إذا زادت قيمتها أو نقصت مع بقاء التعامل بها) .
وشيخ الإسلام فتى تيمية
قال: قياس القرض عن جلية
الطرد في الديون كالصداق
وعوض في الخلع والإعتاق
والغصب والصلح عن القصاص
ونحو ذا طرا بلا اختصاص
أي قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قياس ذلك –أي القرض- فيما إذا كانت مكسرة أو فلوساً وحرمها السلطان وقلنا: يرد قيمة جميع الديون) (1)
وجاء في المحرر (وإذا أقرضه فلوساً أو مكسرة فحرمها السلطان. فله قيمتها وقت القرض) . (2)
وما ذكره البعض قولاً للمالكية برد القيمة في الفلوس إذا غلت أو رخصت اعتماداً على عبارة الرهوني التالية: (قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جداً حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف) (3) غير دقيق؛ لأن أصل الخلاف جاء في بطلان الفلوس عند قول خليل: (وإن بطلت فلوس فالمثل) .
وقد ذكر الرهوني صراحة أن هذا الخلاف في البطلان لا في الغلاء والرخص، فقال ما نصه: (ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب، وصريح كلام آخرين منهم أن الخلاف السابق محله إذا قطع التعامل بالسكة القديمة جملة، وأما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا، وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب) ثم أتبعها بعبارته السابقة: (والتي أراد بها تغيير عدم جريان الخلاف في التغير بالزيادة أو النقص بما إذا لم يصل التغير إلى الدرجة التي يكون القابض للفلوس التي نقصت كالقبض لما لا كبير منفعة فيه؛ لأنها لو كانت كذلك تصبح كالفلوس التي بطلت، فينبغي أن يجري فيها الخلاف، وهذا التغيير يكون مقبولاً في حالة التغير بالنقص فقط، ولا يتصور في حالة الزيادة) (4)
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي
__________
(1) المنح الشافيات بشرح مفردات الإمام أحمد، للشيخ منصور البهوتي، تحقيق د. عبد الله المطلق 2/386 - 390
(2) المحرر في الفقه لمجد الدين أبي البركات ابن تيمية 1/355، وانظر الدرر السنية 5/ 110-111
(3) موقف الشريعة الإسلامية من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار، للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، ص 12
(4) موقف الشريعة الإسلامية من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، ص12(8/1523)
ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعار
في ضوء الأدلة الشرعية
إعداد
د. حمزة بن حسين الفعر
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة أمر القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه المسألة نوع من أنواع ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار (Indexation) والذي دفع إلى التفكير في مسألة ربط الحقوق (عامة) بتغير الأسعار ظاهرة التضخم التي حدثت نتيجة لعوامل عديدة ومتشابكة، من أهمها ازدياد عرض النقود، واختلال السياسات النقدية في كثير من بلدان العالم، وقد أدت ظاهرة التضخم إلى تناقص مستمر، بل وحاد في كثير من الأحيان في القوة الشرائية للنقود، ولا شك أن ذلك أدى ويؤدي إلى تضرر أصحاب الديون والالتزامات طويلة الأجل، حيث تنخفض قيمة حقوقهم انخفاضاً شديداً عما يجب أن تكون عليه.
ويهدف الربط بالمستوى العام للأسعار إلى إيجاد مقياس ثابت للمدفوعات المؤجلة، وذلك عن طريق وضع شروط معدلة في العقود التي يتم التوصل إليها بحيث يجري تعديلها دورياً وآلياً بربطها بجدول مناسب للأسعار.
ويسمي البعض هذه العملية بـ (التصحيح النقدي) ، وتعود جذورها في الاقتصاد الوضعي إلى بداية القرن الثامن عشر في عام 1707م عندما وضع الأسقف فليت وود كتاباً عن استخدام هذا المفهوم.
وفي عام 1822م اقترح جوزيف لوي هذا الربط في عقود الأجور وتأجير الأرض والسندات طويلة الأجل.
وفي عام 1833م استخدم بوليت سكروب (جدول مقياس القيمة) لهذا الغرض.(8/1524)
وقد دعا كل من ستانلي جيفونز (1875م) ، والفريد مارشال (1887م) ، وإيرفنج فيشر (1922م) ، وكينز (1927م) إلى قبول هذه الجدولة للتخفيف من الآثار الجانبية للتضخم والانكماش، وتوفير علاج مناسب عن طريق اتخاذ تدابير حازمة، ويعتبر ميلتون فريدمان حالياً من أبرز دعاة التصحيح النقدي هذا (1)
ولم تكن هذه المسألة معروفة بشكلها الحالي (2) في العصور الإسلامية السالفة، ولذا فإنها تعد من النوازل الحادثة التي تحتاج إلى بيان حكمها في الشريعة الإسلامية على ضوء الأدلة والقواعد الشرعية.
وقد طبقت هذه الفكرة –ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار- في عدد من البلدان غير الإسلامية، في هذا القرن، وبخاصة في دول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل، والأرجنتين، وشيلي، وكولومبيا في ظروف التضخم، وقد استخدمته البرازيل وتشيلي بصورة شاملة في الحقوق والالتزامات، بينما استخدمته كل من الأرجنتين وكولومبيا على أساس انتقائي في بعض الأمور دون بعض.
وقد ثار جدل حاد بين الدارسين لآثار تطبيق الربط في هذه الدول على مسيرة الحياة الاقتصادية، فمنهم من يؤيده، ويرى أنه قد نجح في التخفيف من غلواء التضخم بتخفيض العجز في ميزان المدفوعات، وحفز على إنشاء بعض المشاريع الإنمائية الهامة، وساعد على إيجاد سوق طويل الأجل لدين الحكومات، وساعد على رواج السندات الحكومية، وأدى إلى تحسن ملحوظ في عمل أسواق رأس المال (3)
بينما يرى البعض أن الربط وإن أدى إلى تخفيف بعض معدلات التضخم، إلا أنه أحدث آثاراً ضارة أخرى لا تقل سوءاً عن الآثار التي عمل على تخفيفها (4)
__________
(1) د: ج. ج. لاليوالا- مزايا وعيوب الربط الحالي للقيمة بتغير الأسعار ص 41، 42
(2) هناك حالات من غلاء النقد ورخصه وكساده وانقطاعه ناقشها علماؤنا السابقون واستنبطوا لها أحكامها المناسبة، بل ألف بعضهم استقلالاً في هذه المسألة كالسيوطي في رسالته (تنبيه الرقود على مسائل النقود) وغيرهم، ولكن هذه الظاهرة الموجودة في الزمن الحاضر بسبب التضخم الفاحش لم تكن موجودة عندهم على هذا النحو، وانظر د. نزيه حماد: تغير النقود وأثره على الديون في الفقه الإسلامي
(3) د. محمد عبد المنان: ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار، النظريات والتجربة، والتطبيق من منظور إسلامي ص14- 27، نقلاً عن ق. ج. دونالد في بحثه: التضخم وضرورة التقييس في البلدان النامية ص 3 وما بعدها
(4) انظر تعقيب الدكتور ضياء الدين أحمد مدير عام المعهد العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي بالجامعة الإسلامية الدولية بإسلام آباد على بحث الدكتور محمد عبد المنان السالف الذكر ص 38- 40، نقلاً عن ويرنر باير وبول بيكرمان في البحث المعنون بـ (مشكلة الربط بالأسعار القياسية، انعكاسات على التجزئة البرازيلية الأخيرة ص 677) والتقارير الاقتصادية للمعهد الأمريكي للبحوث الاقتصادية في 3 ديسمبر عام 1974م، ص 209(8/1525)
وقد قام بعض الباحثين بدراسة أخرى لنتائج ربط المعاملات بسعر النقود في واحد وعشرين بلداً متقدماً، منها الولايات المتحدة وبريطانيا، ففي ست عشرة حالة ربطت الأمور بمستوى الأسعار، وفي ثلاث عشرة حالة ربطت المعاشات أو الأشكال الأخرى للمدفوعات التحويلية (1) وفي ثلاث عشرة حالة ربط شكل ما من دخل الاستثمار، ولازال الجدل قائماً حول إمكانية استخدام هذه التجارب على نطاق أوسع انتشاراً.. (2)
وقد أثيرت مسألة الربط هذه في محيط الاقتصاد الإسلامي لدراسة إمكانية تطبيقها في مجال الحقوق والالتزامات الآجلة من الناحية الشرعية، وعقدت ندوة في رحاب البنك الإسلامي للتنمية بجدة بالتعاون بين المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي وبين المعهد العالي للاقتصاد الإسلامي التابع للجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد وذلك في 27- 30 من شهر شعبان عام 1407 هـ الموافق 25- 28 من شهر نيسان عام 1987م، وقد حضرها لفيف من رجال الاقتصاد الإسلامي، وعدد من فقهاء الشريعة، وانتهت الندوة بجملة من التوصيات، من أهمها ما جاء في التوصية الثالثة من أنه (لا يجوز ربط الديون التي تثبت في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار بأن يشترط العاقدان في العقد المنشئ للدين كالبيع والقرض وغيرهما العملة التي وقع بها البيع أو القرض بسلعة أو مجموعة من السلع أو عملة معينة، أو مجموعة من العملات بحيث يلتزم المدين بأن يوفي للدائن قيمة هذه السلعة أو العملة وقت حلول الأجل بالعملة التي وقع بها البيع أو القرض) .
وما جاء في التوصية الخامسة من (أن ربط الأجور المتكررة بتغير الأسعار يتضمن غرراً ناشئاً عن الجهالة بمقدار الأجر، سواء تحددت الزيادة في الأجور بسقف معلوم أم لا) وهو محل نظر، ويحتاج إلى بحث وتحليل جديدين لتحديد مشروعيته.
وبناء على ما جاء في تلك التوصيات فقد دعا مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي لعقد هذه الندوة لمناقشة المسائل التي أوصت الندوة السابقة بزيادة بحثها، ومنها مسألة ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعار بغية زيادة تعرف هذه القضية لبيان الحكم الشرعي فيها.
__________
(1) مثل معاشات التقاعد، والرعاية الاجتماعية، والطبية ونحوها
(2) د. محمد عبد المنان، ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار، النظريات والتجربة، والتطبيق من منظور إسلامي، ص 15 نقلاً عن بيج وترولوب – المجلة الاقتصادية للمعهد القومي، ص 460(8/1526)
وقبل أن أدخل في صلب الموضوع المعروض للبحث أود أن أمهد ببيان عدد من الأمور:
الأمر الأول- التكييف الفقهي للنقود الورقية:
منذ أن شاع استعمال النقود الورقية وهي مثار نقاش بين العلماء المسلمين هل هي أثمان أم فلوس؟ وقد قرر بعضهم أنها فلوس، بناء على أن الثمنية الحقيقية عندهم إنما تكون في الذهب والفضة، وكان معتمد بحثهم ما قاله العلماء السابقون في شأن الفلوس، فأعطاها بعضهم ما للفلوس من الأحكام، وقرر بعضهم أنها مستندات ديون وبعضهم أكد على ثمنيتها وأنها قائمة مقام الذهب والفضة.
وهذا الخلاف له ما يبرره؛ ومرده إلى التطورات التي مر بها الورق النقدي، فإنه في أصله ليس ثمناً وإنما ثمنيته بالاصطلاح، إضافة إلى أنه في أول ظهوره كان مغطى بالذهب والفضة، وكان يكتب عليه ما يفيد أنه سند بقيمته من الذهب أو الفضة، ثم بعد ذلك زال الغطاء جزئياً ثم كلياً، ولم تعد هذه النقود الورقية متعلقة بالذهب ولا بالفضة من قريب ولا بعيد، وأصبحت هي أثمان الأشياء ووسيط التبادل في المعاملات، والقول بأنها فلوس، تخرج عن الثمنية بالغلاء والرخص شأن الفلوس في الأزمنة السالفة قول غير صحيح ويترتب عليه مفاسد كبيرة في الدين والدنيا (1) ذلك أنه لابد للناس من أثمان تقدر بها السلع والخدمات، وتكون واسطة للتبادل حتى تتيسر معاملاتهم ويرتفع الحرج عنهم، ولم يعد الذهب ولا الفضة نقداً أصلاً، وهذه الأوراق النقدية فيها خصائص الثمنية، وأصبح إصدارها مضبوطاً بضوابط معينة وتتولاه جهات مسؤولة، وتعمل الدول على حماية نقدها بالتدابير الاقتصادية، ومكافحة التزوير، وترقيم العملات، وسرية العلامات التي تضعها في النقد ضماناً لعدم تزويره، إلى غير ذلك مما لا يخفى في الحياة المعاصرة، وتستخدم هذه النقود في المبادلات والحقوق اليسيرة والكبيرة، وهذا يجعلها تختلف اختلافاً كبيراً عن الفلوس المعهودة في الأزمنة السالفة، والتي لم تكن لها من الثمنية ما للذهب والفضة، وكانت تتعرض للكساد، ولإبطال الحاكم لها كثيراً، كما أنها في كثير من الأحيان إنما تستعمل في الأشياء الحقيرة التافهة، ويترتب على القول بأنها فلوس إباحة الربا فيها عند بعض العلماء وعدم وجوب الزكاة في عينها، إلى غير ذلك، فلا وجه لقياسها على الفلوس المعهودة فيما مضى وإعطائها حكمها، بل هي أثمان يجري فيها الربا وتجب فيها الزكاة وتصلح رأس مال في السلم والشركات.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: الشيخ عبد الله بن منيع: الورق النقدي ص 113- 127، وستر الجعيد: أحكام الأوراق النقدية والتجارية، رسالة ماجستير في جامعة أم القرى عام ... ص 144- 196، 436-466، وانظر البحث القيم لفضيلة الدكتور محمد تقي العثماني بعنوان أحكام أوراق النقود والعملات المقدم لندوة ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة عام 1407هـ، ص 8-17(8/1527)
وقد أثار عدد من رجال الاقتصاد الإسلامي المعاصرين هذه القضية في مسألة الربط بالمستوى العام للأسعار، واختاروا كونها فلوساً ليمهدوا بذلك لقبول الربط (1) ورأوا أن ربط المعاملات الآجلة بالنقود الورقية يؤدي إلى خداع المتعاملين بها.
وقد تبين مما تقدم ما في هذا القول من المخالفة.
الأمر الثاني- الواقع المعاصر البعيد عن التزام أحكام الشرع في كثير من الأحيان:
يلحظ المتأمل في الواقع المعاصر بصفة عامة، والواقع الاقتصادي منه بصفة خاصة أننا ابتلينا بأشياء كثيرة غريبة عنا، نبذل جهوداً طائلة ونصرف أوقاتاً فاضلة في سبيل إصلاح اعوجاجها ورتق فتوقها، وقد لا نصل إلى ما نريده من الإصلاح، والسبب في ذلك أنها أوضاع شاذة مخالفة نشأت فيها أحكام، ووجدت فيها أمور تتناسب معها، بل تعتبر منطقية بالنسبة إليها، في حين أنها غير مقبولة أصلاً في شريعتنا، ولذلك تظل محاولة تطويعها للشريعة من الأمور التي هي أشبه ما تكون بالجمع بين المتناقضات، وهذا الأمر واضح أشد الوضوح في الاقتصاد المعاصر، فإن قواعده ومجالاته نبتت في بيئات لا تلتزم بدين أصلاً، فلا غرابة إن وجدت فيها الحرية المطلقة في تثمير المال وتنميته، عن طريق المكاسب المتنوعة، حتى ولو كانت محرمة في ديننا، والربا –أخذاً وإعطاءً- مبدأ مقرر ليس فيه شبهة ولا تردد عندهم، وقد يبتكرون أنماطاً متعددة للتعامل، أو يضعون شروطاً فيما بينهم تجيزها حرية التعاقد لديهم، وتكون منسجمة تماماً مع أوضاعهم حيث لا يوجد (حلال ولا حرام) ثم تنتقل إلينا هذه المعاملة أو تلك فنصرف الجهود الكبيرة في إضفاء الصفة الشرعية عليها، ونلتمس لها من الأدلة والمؤيدات ما عساه أن يجعلها مقبولة لدينا، وقد ننجح وقد لا ننجح، وقد نتعسف الأمور في كثير من الأحيان (2)
ولم أقصد بهذا أن نرد كل ما جاءنا عن غيرنا، بل نحن مطالبون بالأخذ بكل حسن لا يعارض ديننا مع التسليم بأننا لا نعيش في أبراج عاجية بمعزل عما يدور في هذه الحياة، ولكني أردت الإشارة إلى الصعوبات البالغة التي يتكبدها العلماء والمفكرون في مناقشة هذه الأمور الوافدة، وأنه لن يتم لهذه الأمة أمرها ولن تستقيم لها حياتها، حتى تثوب إلى رشدها وتجعل دينها حاكماً لا محكوماً، متبوعاً لا تابعاً.
__________
(1) انظر: د. عبد الرحمن يسري: دراسات في علم الاقتصاد الإسلامي، ص 246 وما بعدها
(2) هناك مسائل كثيرة مثل الصرف الآجل، وبيوع الاختيار وغيرها، ويمكن أن تكون مسألة الربط التي نحن بصددها من هذا القبيل أيضاً(8/1528)
الأمر الثالث- منهجية التخريج والاستنباط لأحكام الحوادث الجديدة:
يقول الله جل ذكره في محكم كتابه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] .
ويقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، وهذه وغيرها أدلة واضحة على أن صدر هذه الشريعة لا يضيق عن بيان حكم الله فيما ينزل بالناس، وأن هناك أموراً نصت الشريعة على أحكامها وأخرى يمكن معرفة حكمها بالرد إليها مصداقاً لقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
ويوضح الإمام الشافعي رحمه الله هذا المعنى بقوله: (كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه حكم بعينه اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد ... ) (1)
وهذا يعني أن سبيل تعرف أحكام النوازل إنما هو الاجتهاد، وهو يتنوع أنواعاً فقد يكون اجتهاداً في إدخال الأمر الحادث في دلالة لفظ من ألفاظ النصوص فيأخذ حكمه، أو بقياسه على حكم منصوص لوجود معنى جامع بينهما، أو لكونه خادماً لمقصد من مقاصد الشريعة أو غير ذلك مما وضعت له كتب أصول الفقه، وكل ذلك له شروط وقوانين لابد من الالتزام بها، وهي معروفة في مواطنها من كتب الأصول، وعندما يحصل التعارض بين الأدلة، أو بين الأقوال المستندة إلى الأدلة فإن هناك أيضاً من القواعد ما يمكن به تعرف الراجح الذي يتعين المصير إليه والأخذ به، ولكن كثيراً من الباحثين المعاصرين إذا أراد تعرف حكم نازلة، أو أراد أن يجد مسوغاً لقبولها في الفقه الإسلامي لا يلتزم بالقوانين المحكمة التي يتعين الالتزام بها في مثل هذه الأحوال، وهجيراه أن يجد قولاً لبعض العلماء، أو وجهاً أو رواية في مذهب، فيأخذ به ويجعله دليلاً لصحة ما يقوله، ومن نافلة القول بيان خطأ هذا المنهج؛ لأن الأقوال لا عبرة بها في أنفسها وإنما المعول عليه الدليل الذي استندت إليه هذه الأقوال، وكلما ترجح دليل على غيره وجب الأخذ به شرعاً، والقول الذي لا يسنده دليل قوي لا يصلح للاعتماد عليه، فضلاً عن أن يرجح على غيره، ولذا فنحن بحاجة إلى التدقيق في الأقوال التي نجدها موافقة لما نريد من حيث صحة دليلها ورجحانه؛ حتى يمكن لنا البناء عليها، ومن كان معه الدليل فقوله مقدم على قول غيره، حتى وإن خالفنا فيما نريد، كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ( ... فمن كان أسعد بالدليل كان أسعد بالقبول ... ) .
__________
(1) الإمام الشافعي: الرسالة، ص 477 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر(8/1529)
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن بعض الباحثين يأخذ قولاً في مذهب مقدماً له على بقية الأقوال في المذهب نفسه من غير مناقشة أو ترجيح، فنجده مثلاً يأخذ بقول محمد بن الحسن في مسألة معينة تاركاً رأي إمام المذهب أبي حنيفة رحمه الله أو رأي أبي يوسف صاحبه، أو يأخذ برأي ابن شبرمة مثلاً، ويترك آراء جماهير العلماء من غير ترجيح، وإذا لم ننظر في مسألة الأدلة فنزن بها الأقوال، فإن المفترض أن جميع الآراء في مرتبة واحدة ولا مزية لبعضها على بعض، فتقديم بعضها على بعض من غير دليل ترجيح من غير مرجح، وهو تحكم باطل كما يقول العلماء.
ونعود بعد هذا التمهيد إلى موضوع البحث فنقول:
إن ربط الأجور بمستوى الأسعار في الدول التي مارست هذه التجربة يتم عادة عن طريقين:
الطريق الأولى: الربط الذي يتم عن طريق الاتفاقات الجماعية والتي تتحكم فيها اتحادات ونقابات العمل، ويقوم الأطراف المعنيون –أرباب العمل، وممثلو العمال- بتحديد الأجور عن طريق التفاوض، ويتم توقيع الاتفاق الجماعي بعد ذلك، ويضاف إلى الاتفاق بند ينص على أنه في أثناء سريان الاتفاق، وعلى فترات معينة يتم تعديل الأجور تلقائياً تبعاً لمؤشر قياسي متفق عليه من قبل الأطراف ذات العلاقة، ويمكن أن يكون التعديل في نهاية كل سنة، أو تبعاً لغلاء المعيشة، ويطلق على هذا الاتفاق بند التصاعد الأجري أو بند غلاء المعيشة.
الطريق الثانية: ربط يتم عن طريق القرارات الحكومية لتنظيم الأجور والرواتب ومعاشات التقاعد ونحوها لحماية هذه الدخول من التآكل الذي ينتجه التضخم، ويقصد بها أساساً موظفو الخدمة المدنية ومن في حكمهم، وتكون في بعض البلدان التي تستخدم هذا الربط كأداة سياسية حكومية للأجور مثل فرنسا، وفي البلدان التي لا يوجد فيها تفاوض جماعي عن طريق اتحادات أو نقابات (1)
__________
(1) انظر تعقيب الدكتور صباح الدين زعيم على بحث الدكتور محمد عبد المنان (ص5)(8/1530)
وقد استخدام ربط الأجور بمستوى الأسعار على نطاق واسع في عدد من البلدان، كالنمسا، وبلجيكا، والدنمارك، وفنلندا، وفرنسا، وأيرلندا، وهولندا، وسويسرا، والولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان الدافع الأساسي لربط الأجور بمستوى الأسعار في الولايات المتحدة ظروف التضخم بعد الحرب العالمية الأولى.
إلا أن انخفاض الأسعار بعد ذلك في أوائل العشرينات أفقده أهميته (1)
وقد ربطت بريطانيا الأجور بالرقم القياسي للأسعار في فترتين، أولاهما من 1910م-1933م، والثانية من 1973-1974م (2)
وسأحاول بإذن الله دراسة هذه المسألة في إطار الأدلة والقواعد الشرعية التي تضبط عقد الإجارة.
تعريف الإجارة وبيان أركانها:
الإجارة في الفقه الإسلامي تمليك، أو عقد على منفعة معلومة بعوض معلوم (3) وعقد الإجارة عقد معاوضة من الطرفين؛ لأن الأجير يبذل العمل ويأخذ الأجر، وصاحب العمل يبذل الأجر ويأخذ العمل، أو المستأجر يبذل المال، وصاحب العين يبذل المنفعة، وعلى هذا فهو من العقود اللازمة (4)
ولهذا العقد أركان ثلاثة:
1- العاقدان.
2- المعقود عليه، وهو الأجرة من جانب والمنفعة من جانب آخر.
3- الصيغة، وهي الإيجاب والقبول (5)
__________
(1) د. محمد عبد المنان: ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار (ص11) ، مرجع سابق
(2) د. محمد عبد المنان: ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار (ص15)
(3) انظر: قاسم القونوي: أنيس الفقهاء ص 259؛ ابن حجر الهيثمي، تحفة المحتاج بشرح المنهاج 6/121؛ البهوتي: شرح منتهى الإرادات 2/350، ويرى عدد من العلماء أن الإجارة بيع المنافع، انظر: ابن قدامة: المغني 8/7، الزيلعي: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5/105
(4) العقود اللازمة هي العقود الخالية من الخيارات، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أ- عقود لازمة من الطرفين لا تقبل الفسخ عن طريق الإقالة مثل عقد الزواج. ب- عقود لازمة من الطرفين لا تقبل الفسخ إلا بالإقالة أو خيار المجلس عند مثبتيه مثل البيع والإجارة. ج- عقود لازمة من طرف جائزة من طرف آخر كالرهن والضمان والكفالة، وانظر في ذلك ابن قدامة: المغني 6/48-50؛ المجموع 9/163
(5) الدسوقي: حاشية على الشرح الكبير للدردير 4/2، الأردبيلي: الأنوار لأعمال الأبرار 1/588؛ شرح منتهى الإرادات 2/351؛ وذهب الحنفية إلى أن ركن الإجارة الصيغة فقط، وأما العاقدان والمعقود عليه فليست من الأركان وإنما هي من مقوماته، ولابد منها فيه، انظر: الزيلعي: تبيين الحقائق 5/150، والخلاف على هذا لفظي(8/1531)
ويتضح من هذه الأركان أن الأجرة ركن في العقد.
وهي كما يعرفها بعض العلماء (العوض الذي يعطى مقابل منفعة الأعيان، أو منفعة الآدمي) (1) ويجوز أن تكون نقداً، أو عيناً، أو منفعة عند جمهور العلماء، فإن كانت هذه الأجرة نقداً فإنه يشترط فيها أن تكون معلومة علماً يمنع من المنازعة والخصومة، لما رواه الإمام أحمد رحمه الله عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجرة)) (2)
والعلم بالنقد على هذا النحو يقتضي معرفة قدره وجنسه ونوعه؛ حتى لا يكون هناك مجال للمنازعة، وكذا القول في سائر المثليات التي تثبت في الذمة.
وإن كانت عيناً –وهي ما يقابل النقد أو المنفعة- كالأمتعة ونحوها، فإنه يشترط فيها ما يشترط في العين المبيعة من الرؤية أو الوصف المضبوط الذي تنتفي معه الجهالة والغرر.
وإن كانت منفعة فإنه يشترط فيها أن تكون معلومة مضبوطة يصح الاعتياض عنها شرعاً (3)
حكم ربط الأجور بالمستوى العام للأسعار:
في ضوء ما تقدم يمكن لنا أن نقول:
إن الأجرة إما أن تكون نقوداً، أو أعياناً، أو منافع عند من يجوز أن تكون المنافع بدلاً في الإجارة كما تقدم.
__________
(1) محمد بن قراموز الشهير بمنلا خسرو: درر الحكام شرح غرر الأحكام 1/372
(2) قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح إلا أن إبراهيم النخعي لم يسمع من أبي سعيد فيما أحسب، ورواه غيره بأسانيد فيها مقال، وحديث أحمد أصح، انظر: الشوكاني: نيل الأوطار 5/329
(3) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2606 – 2608؛ الدسوقي: حاشية على الشرح الكبير للدردير 4/3، ابن رشد: البيان والتحصيل 8/448؛ الأردبيلي: الأنوار لأعمال الأبرار 1/589-590، البهوتي: كشاف القناع 3/465، ويشترط الحنفية في الأجرة إذا كانت منفعة أن تكون من غير الجنس، وغيرهم لا يشترط ذلك(8/1532)
وفي كل الأحوال إما أن تكون مع الحكومة أو مع جهات غير حكومية سواءً أكانت مع أشخاص أم مع مؤسسات.
فإن كانت الأجرة أعياناً كالأمتعة أو غيرها فإنه يشترط فيها –كما تقدم- العلم النافي للجهالة، ولا مجال للقول بالربط القياسي فيها لأن تلك الأعيان التي تم العقد عليها باقية ولا يؤثر التضخم في ذواتها، سواء أكانت مع الحكومة أم مع غيرها، وسواء أكان الأجير خاصاً أم مشتركاً.
وكذا الحال في المنافع إذا كانت معلومة مضبوطة على النحو الذي مر ذكره قريباً، وأما إن كانت الأجرة نقوداً، فإنه يشترط فيها العلم بقدرها وجنسها ونوعها عند التعاقد كما مر في أركان عقد الإجارة وربطها بالمستوى العام للأسعار يفوت هذا الركن؛ لأن الأجير، ورب العمل، لا يعلمان المقدار الذي يستحق عند وقت التسليم، وهذا ينطوي على جهالة (1) بمقدار الأجرة للأجير ولصاحب العمل في حال الزيادة، أو في حال نقصانها عما تعاقدا عليه عند ارتفاع القيمة الشرائية للنقود، وهذا وإن كان أقل حصولاً من الانخفاض إلا أنه أمر ممكن غير مستبعد.
__________
(1) الجهالة في اللغة من الجهل، وهو ضد العلم، وفي الاصطلاح الفقهي يقصد بها معنيان: أحدهما: وصف الإنسان بذلك –أي بعدم العلم- في اعتقاده أو قوله أو فعله، والمعنى الآخر: أن يكون الجهل متعلقاً بخارج عن الإنسان كمبيع ومشترى وإجارة وثمن ونحو ذلك، وهو المقصود بالجهالة في العقود والتي تعتبر مبطلة لها إذا كانت غير يسيرة، وفرق الإمام القرافي بينهما بأن الغرر في الشيء الذي لا يدرى هل يحصل أم لا؟ والجهالة فيها علم حصوله وجهلت صفته، وذكر أن العلماء قد يتوسعون في عبارتي الجهالة والغرر فيستعملون إحداهما موضع الأخرى، انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 16/167، وقد ثبت في النهي عن الغرر وكل ما أدى إلى الجهالة أحاديث كثيرة عن النبي عليه السلام منها: 1- ما رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه السلام نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. 2- ما رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى النبي عليه السلام عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص) . وقد ضعف حديث أبي سعيد هذا من جهة شهر بن حوشب، إلا أنه له شواهد لأطرافه تقويه. 3 – ما رواه الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي عليه السلام نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع. والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقلبه. والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر بثوبه، ويكون ذلك بيعا من غير نظر ولا تراض. الشوكاني: نيل الأوطار، 5/167 – 170(8/1533)
وإذا كانت الأجرة التي في ذمة صاحب العمل ومن في حكمه مربوطة بالمستوى العام للأسعار، سواء أكان الربط بالسلع الاستهلاكية أم بالسلع الصناعية، فإن ذلك يؤدي إلى الربا في حالة التضخم لأن النقود مثلية لانضباطها بالعد، فإذا انخفضت قيمتها بالنسبة لما ربطت به أدى ذلك إلى زيادة في عددها، وهذا عين الربا، ومثال ذلك أن تكون الأجرة التي تستحق بعد سنة 5000 جنيه مصري، فإذا تم الربط بالمستوى العام للأسعار وكان هذا المبلغ يساوي 100 وحدة مثلاً عند التعاقد بناء على أن الوحدة تساوي 50، وفي نهاية السنة انخفضت القيمة الشرائية للجنيه بحيث أصبحت الوحدة المربوطة بها تساوي 100 جنيه، فإن المبلغ المستحق يكون حاصل ضرب 100× 100 = 10000 جنيه.
وهكذا الحال فيما لو ارتفعت القيمة الشرائية للعملة التي تم التعاقد بها عند وقت التسليم عنها عند التعاقد، فإن ذلك يؤدي إلى سداد الدين بأقل منه، وهذا لا يجوز ...
ومن المعلوم أن الشريعة قد حرمت الربا تحريماً مؤكداً مؤبداً، ولعنت أصحابه كما جاء عن النبي عليه السلام في الحديث الصحيح الذي رواه الخمسة عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي عليه السلام ((لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه)) (1)
وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والبخاري أن النبي عليه السلام قال: ((الذهب بالذهب، والفِضة بالفضة، والبُرُّ بالبر، والشَّعير بالشعير، والتمر بالتمر، والمِلح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)) (2)
__________
(1) الشوكاني: نيل الأوطار: 5/214
(2) الشوكاني: نيل الأوطار 5/215(8/1534)
فقوله عليه السلام: ((فمن زاد أو استزاد)) يعم كل زيادة؛ لأنه فعل وقع في سياق الشرط، والفعل من قبيل النكرة؛ لأنه يتضمن مصدراً نكرة، والنكرة في سياق الشرط تعم على ما تقرر في صيغ العموم.
والنقود الورقية أثمان قائمة مقام الذهب والفضة، فالزيادة فيها أخذاً أو إعطاءً تعاطٍ للربا المحرم.
ومما يزيد الأمر تأكيداً أن الشريعة لم تقف عند حد تحريم الربا الصريح، بل سدت كل الذرائع المؤدية إليه، واعتبرت الجهل بالتساوي محرماً في بيع الربويات ببعضها كالعلم بالتفاضل فيها، فقد روى الإمام مسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من الثمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر)) (1)
وروى الشيخان عن سهل بن أبي حثمة قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر، وقال: ذلك الربا، تلك المزابنة)) (2)
وبناء على هذا فإن ربط الأجور بالمستوى العام للأسعار غير جائز سواء أتم الربط عند التعاقد، أم بعد مدة؛ لأن المحذور في ذلك واحد، وهو جهالة الأجرة التي يتم تسليمها عند حلول الأجل، وإفضاء ذلك إلى الربا كما تقدم بيانه، اللهم إلا أن يفرق بين تضمن العقد من بدايته شرط الربط الفاسد كما في الصورة الأولى، وهل يؤدي ذلك إلى فساد العقد أم أن العقد صحيح والشرط باطل؟ على ما هو الخلاف المعروف عند العلماء في هذا (3) وبين أن يتم العقد بدون شرط الربط، ثم يلحق به هذا الشرط كما في الثانية، فالعقد صحيح والشرط باطل.
__________
(1) الشوكاني: نيل الأوطار 5/221
(2) الشوكاني: نيل الأوطار 5/226
(3) انظر في مسألة الشروط الفاسدة التي تبطل العقد، والتي تبطل هي في نفسها ويبقى العقد صحيحاً، الكاساني: بدائع الصنائع 5/168-170؛ الخرشي: شرح مختصر خليل 4/328؛ الحطاب: شرح مختصر خليل 5/61-63؛ الشربيني: مغني المحتاج 2/30-34؛ البهوتي: كشاف القناع 3/193-195(8/1535)
أما مسألة إضافة ما يسمى (بعلاوة غلاء المعيشة) إذا اعتبرناه نوعاً من الربط فالأمر يحتاج فيها إلى تفصيل، ذلك أن هذه إن كانت من الأجرة فلابد أن تكون معلومة حال التعاقد؛ لأن الجهل بها يجعل الأجرة مجهولة فيبطل العقد، فلا يصلح أن يترك تقديرها لما يتحدد بعد ذلك من أحوالـ؛ لما يترتب عليها من منازعة، وقد اتفق العلماء على عدم جواز أن تكون الأجرة أو شيء منها مجهولاً.
وإن كانت هذه العلاوة من باب التكافل فإنها غير لازمة لصاحب العمل ولا تكون من الأجرة، فلا يشترط العلم بها؛ لأن كفالة المحتاجين واجب على الدولة وليست واجباً على أرباب الأعمال، وإنما الواجب عليهم العدل في الأجرة (1)
وهناك مسألة أخرى قد ينتجها التضخم، وينتجها الربط بالمستوى العام للأسعار أيضاً، وهي مسألة الضرر، ولا شك أن انخفاض القيمة الحقيقية للنقود فيه ضرر على أصحاب الأجور، لأن أجورهم هذه هي عماد معيشتهم، فنقصان قيمتها بسبب التضخم يضر بحاجاتهم الأصلية، والنبي عليه السلام يقول: ((لا ضرر ولا ضرار)) والقاعدة الشرعية أن الضرر يزال، ولكنه لا يزال بضرر مثله (2) وفي تعويضهم عما نقص عليهم، أو ما يتوقع نقصه عن طريق الربط يضر بمصلحة صاحب العمل نفسه؛ لأنه هو أيضاً قد تضرر بنقصان القيمة الحقيقية لأرباحه، وعائداته من العمل، ولا يد له فيما حصل؛ لأن التضخم يحدث نتيجة لكثرة عرض النقود واختلال السياسات النقدية، وربما أثرت فيه قوى السوق أيضاً، فإذا ربطنا أجور العاملين بقيمة ثابتة عاقبنا من لا يستحق العقوبة وتركنا الجاني الحقيقي بدون مساءلة كما يقول بعض الباحثين، وكأنا بذلك نقر الأوضاع الفاسدة ونرقع سوآتها بتحميل أرباب الأعمال نتائج هذا التدهور في قيمة النقد.
وخير من ذلك أن يبحث عن أسباب التضخم الحقيقية ويعمل على إزالتها أو التخفيف من حدتها، وأهم ما في ذلك ضبط كمية النقود المتداولة، وانتهاج سياسات نقدية واقتصادية حصيفة تتوخى العدل، وتعمل على توظيف كل الطاقات في سبيل تحقيق استقرار اقتصادي يقبل فيه الناس على الاستثمار والتنمية، وتختفي فيه المظاهر السلبية من اكتناز الأموال أو توجيهها للأصول غير الإنتاجية كتجارة العملة والعقار ونحوها..
__________
(1) د. شرف الشريف: الإجارة الواردة على عمل الإنسان، ص 216
(2) السيوطي: الأشباه والنظائر، القاعدة الرابعة وملحقاتها ص 92-96(8/1536)
ولابد من الحرص على أن تكون القيمة الحقيقية للنقد في وضع ثابت قدر الإمكان؛ لأنه هو المعيار الذي تقوم به الأشياء، والوسيط الذي يتم به التبادل بين الناس، فالتلاعب به أو التهاون في شأنه مما يعرض حياة الأمة للخطر ويضعفها في مواجهة أعدائها، ويجعلها عاجزة عن القيام بشؤونها.
اقتراح بديل لتفادي مشاكل انخفاض قيمة العملة بالنسبة للأجور:
1- أقترح ألا تطول مدة عقود الإجارة حتى تكون هناك فرصة مشروعة للاتفاق على الأجر المناسب الذي يعتمد على القيمة الحقيقية للنقود في فترات ليست بعيدة يؤمن في مثلها التغير الفاحش.
2- في حالة عدم التمكن من التعاقد لفترات قصيرة نسبياً أو في حالة الخشية من التغير السريع المفاجئ، فإنه يمكن أن يتم التعاقد أساساً بعملة معينة لا تتغير كثيراً كالدولار والمارك أو نحوهما، أو أن يتم التعاقد بالذهب ونحوه.
على أني لا أرى مانعاً من إعادة النظر في التغير الفاحش الذي يلحق به الضرر البين بالأجير ومن في حكمه ليتم تقدير أجرة المثل العادلة على أن تدفع بعملة أخرى ليكون ذلك أبعد عن الشبهة، وبالله التوفيق.
د. حمزة بن حسين الفعر(8/1537)
المراجع
1- أبو الوليد ابن رشد القرطبي
البيان والتحصيل
تحقيق: أحمد الشرقاوي إقبال، د. محمد الحجي
دار الغرب الإسلامي- بيروت، إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر، 1404هـ-1984م.
2- أحمد بن حجر الهيثمي.
تحفة المحتاج بشرح المنهاج، وبهامشه حواشي الشرواني والعبادي، دار صادر.
3- بيج وترلوب.
دراسة بالمجلة الاقتصادية للمعهد القومي، نقلاً عن د. محمد عبد المنان في بحثه المقدم عن رابطة الحقوق والالتزامات بمستوى الأسعار في الندوة المعقودة لذلك بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة من 27-30 شعبان سنة 1407هـ
4- د/ج. ج. لالبوالا
مزايا وعيوب الربط بالقيمة بتغير الأسعار.
5- ستر ثواب الجعيد
أحكام الأوراق النقدية والتجارية
رسالة ماجستير- جامعة أم القرى 1405هـ-1406هـ.
6- د. شرف بن علي الشريف
الإجارة الواردة على عمل الإنسان
دراسة مقارنة- دار الشروق بجدة، ط:1، 1400هـ-1980م.(8/1538)
7- عبد الرحمن السيوطي
الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية
دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه.
8- عبد الرحمن يسري
دراسات في علم الاقتصاد، دار الجامعة المصرية، ط: 1، 1408هـ-1988م.
9- عبد الله بن أحمد بن قدامة
المغني، تحقيق: عبد الله عبد المحسن التركي – عبد الفتاح الحلو
هجر للطباعة القاهرة، ط: 1، 1411هـ-1990.
10- عبد الله بن محمد الخرشي
شرح الخرشي على مختصر خليل، المطبعة الكبرى الأميرية سنة 1317هـ.
11- عبد الله بن منيع
الورق النقدي
مطابع الفرزدق التجارية، الرياض - ط: 22، 1404هـ- 1984م.
12- عثمان بن علي الزيلعي
تبيين الحقائق شرح كنز الحقائق، دار المعرفة- لبنان.
13- علاء الدين أبو بكر الكاساني
الناشر: زكريا علي يوسف- مطبعة الإمام.
14- ق. ج. دونالد
التضخم وضرورة التقييس في البلدان النامية
نقلاً عن د. محمد عبد المنان: ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار النظريات والتجربة والتطبيق من منظور إسلامي، بحث مقدم لندوة ربط الحقوق الآجلة بتغير الأسعار، المعقودة في البنك الإسلامي للتنمية بمقر المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب في جدة من 27- 30 شعبان سنة 1407هـ.(8/1539)
15- قاسم القونوي
أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء
تحقيق د. أحمد عبد الرزاق الكبيسي
دار الوفاء بجدة، ط: 1، 1406هـ-1986م.
16- محمد بن إدريس الشافعي
الرسالة، تحقيق: أحمد شاكر، ط: 2، 1399هـ-1979م.
مكتبة التراث بالقاهرة
17- د. محمد تقي العثماني
أحكام أوراق النقود والعملات، بحث مقدم لندوة ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار، التي عقدت بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة من 27-30 شعبان سنة 1407هـ.
18- محمد الخطيب الشربيني
مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
19- محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي المعروف بالحطاب
مواهب الجليل بشرح مختصر خليل، وبهامشه التاج والإكليل للمواق
مكتبة النجاح – ليبيا
20- محمد بن عرفة الدسوقي
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير، وبالهامش الشرح الكبير للدردير، توزيع دار الفكر
21- محمد بن علي الشوكاني
نيل الأوطار، مصطفى البابي الحلبي، ط: الأخيرة
22- محمد بن قراموز، منلاخسرو
درر الأحكام شرح غرر الأحكام، وبالهامش حاشية الشرنبلالي
طبع في سنة 1330هـ، في مطبعة أحمد كامل الكائنة في دار الخلافة العلية(8/1540)
23- محمد بخيت المطيعي
تكملة المجموع شرح المهذب – ط: 1 مكتبة الإرشاد بجدة
24- منصور بن يونس البهوتي
شرح منتهى الإرادات
25- منصور بن يونس البهوتي
كشاف القناع، مراجعة هلال مصيلحي
مكتبة النصر الحديثة- الرياض
26- المعهد الأمريكي للبحوث الاقتصادية
التقارير الاقتصادية في 30 ديسمبر سنة 1974م، نقلاً عن تعقيب د. ضياء الدين أحمد، في ندوة ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار في المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة من 27-30 شعبان، سنة 1407هـ.
27- د. نزيه حماد
تغير النقود وأثره على الديون في الفقه الإسلامي.
مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي، كلية الشريعة بمكة- العدد 3، عام 1400هـ.
28- ويرنر باير وبول بيكرمان.
مشكلة الربط بالأسعار القياسية - انعكاسات على التجربة الأخيرة، نقلاً عن د. ضياء الدين أحمد مدير عام المعهد العالي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي بالجامعة الإسلامية الدولية بإسلام آباد، في تعقيبه على بحث د. محمد عبد المنان في ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار، في الندوة المعقودة لهذا الغرض في المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة، في الفترة من 27-30 شعبان، سنة 1407هـ.(8/1541)
29- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت
الموسوعة الفقهية الإسلامية
30- يوسف الأردبيلي
الأنوار لأعمال الأبرار في فقه الشافعي، ومعه حاشية الكمثري وحاشية الحاج إبراهيم، الناشر: الحلبي وشركاه، القاهرة - ط: الأخيرة، 1389هـ-1969م، مطبعة المدني.(8/1542)
الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعار
تحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجور
في ظل التضخم والعلاج المقترح
إعداد
د. عبد الرحمن يسري أحمد
أستاذ ورئيس مجلس قسم الاقتصاد
كلية التجارة – جامعة الإسكندرية
بسم الله الرحمن الرحيم
الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعار
تحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجور في ظل التضخم والعلاج المقترح
مقدمة:
اهتم رجال الفكر الاقتصادي منذ زمن بعيد بالعلاقة العكسية ما بين الأسعار والقيمة الحقيقية للنقود، ولقد كان علماء المسلمين في العصور الوسطى من أوائل من انتبهوا إلى هذه الظاهرة واجتهدوا في بحثها حتى يمكن تلافي ما يترتب عليها من آثار غير مرغوبة، ومن أوائل من اجتهدوا في هذا المجال القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني صاحبا الإمام أبي حنيفة رضي الله عنهم جميعاً، إلا أن تقي الدين المقريزي المؤرخ الإسلامي المعروف كان أول من قدم تحليلاً متكاملاً عن أسباب ظاهرة الغلاء وما يترتب عليها من انخفاض القيمة الحقيقية للنقود، بل وفقدان الثقة في النقود بالكامل في حالة الغلاء الشديد، إلى أن قدم تحليلاً علمياً دقيقاً عن الآثار النهائية لهذه الظاهرة على الدخول الحقيقية وتوزيعها بين الفئات المختلفة داخل المجتمع.
كذلك تنبه لنفس الظاهرة بعض المفكرين الأوربيين في العصور الوسطى، أمثال توماس الأكويني ونيكول أورزم وغيرهما، إلا أن هؤلاء قد تأثروا كثيراً بأفكار علماء المسلمين الذين سبقوهم أو عاصروهم.(8/1543)
وفي القرن التاسع عشر اهتم دافيد ريكاردو (وغيره من المدرسة الاقتصادية التقليدية Classical School) بالموضوع من خلال بحث النمو الاقتصادي وتأثره بعملية إعادة توزيع الدخل بين الطبقات المختلفة والتي تحدث بسبب الارتفاع في أسعار السلع الزراعية (1) وفي التحليل الذي قدمه يستفيد ملاك الأراضي الزراعية من الظاهرة في شكل زيادة الريع الذي يحصلون عليه، بينما تقل الأرباح الحقيقية لرجال الصناعة بسبب عدم قدرتهم على رفع أسعار منتجاتهم (لوجود المنافسة الكاملة) بينما يضطرون إلى زيادة الأجور النقدية لعمالهم من أجل الحفاظ على أجورهم الحقيقية من التدني، وليس ذلك حباً في العمال أو عطفاً عليهم، وإنما اضطراراً لأن العمال يحصلون على أدنى مستوى ممكن للأجور الحقيقية وهي التي كانت تسمى أجور الكفاف، فلا بد إذاً من الحفاظ على أجور الكفاف وإلا تعرض العمال للمرض والموت.
وفي الفترة التالية للحرب الثانية نال موضوع الأجور والأسعار اهتماماً متزايداً من رجال الاقتصاد (2) فبينما كان العالم يمر بفترات استقرار أو انخفاض في المستوى العام للأسعار تصاحب حالات الركود أو البطالة التي سادت قبل الحرب الثانية انعكست الأوضاع بعد الحرب، وعرف العالم التضخم وهو الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار كظاهرة عامة أو شبه عامة في جميع البلدان متقدمة أو نامية، كل ما في الأمر أن التضخم كان يشتد أحياناً في بعض الحالات وتخف حدته في حالات أخرى، وكانت الظاهرة الجديدة التي استحقت التسجيل والتحليل حقيقة هي أن التضخم لم يصاحب الرواج فقط كما كان معتاداً، بل أصبح أيضاً مصاحباً للركود، وهذه هي الظاهرة التي أطلقوا عليها الركود التضخمي.
__________
(1) انظر: R.B. Eklund and R.F. HEBERT, A History of Economic Theory and Method (3rd Edition) McGraw- Hill, 1990, pp-153-154 وكذلك أيضاً للعلاقة بين الأجور الاسمية nominal وعلاقتها بالحقيقية real عدد آخر من الصفحات في نفس المرجع P.363,p. (190-195) في المدرسة النيوكلاسيكية
(2) لم نتعرض هنا لآراء كينز أو غيره في موضوع الأجور النقدية وعلاقتها بالأجور الحقيقية حتى لا ندخل في تفاصيل خاصة بالنظرية الاقتصادية، والبحث الحالي ليس مخصصاً لهذا، والمهتم بمعرفة الآراء الكيترية وعلاقتها بما سبق يمكن أن يطلع على المرجع سابق الذكر صفحات 519-524 وآراء المدرسة النقدية Montarists ص 546-548(8/1544)
وفي بحثهم للعلاقة بين الأجور والأسعار توجه اهتمام رجال الاقتصاد إلى عدد من الأمور يمكن إجمالها فيما يلي:
أ- أثر الارتفاع المستمر في الأسعار (التضخم) على الأجور الحقيقية للعمال وعلى نصيبهم من الدخل القومي الحقيقي، ومن ثم على عدالة توزيع الدخل في المجتمع.
ب- كيفية علاج أثر التضخم بالنسبة للأجور، وأساساً كيفية ربط معدلات الأجور بالتغيرات في معدلات الأسعار: توقيت عملية الربط وآلية هذه العملية وآثارها على النشاط الاقتصادي.
وقد اهتم أيضاً بعض الاقتصاديين الإسلاميين المعاصرين بنفس الموضوع: العلاقة بين الأجور والأسعار، وذلك من منطلق الاهتمام بانحراف الأجر الحقيقي عن الأجر النقدي والحرص على العدالة وهي القضية التي يوليها الإسلام كل تقدير ومكانة (1) ، وقد اعتمدت الكتابات الإسلامية المعاصرة في الموضوع على اجتهاد الرواد الأوائل من فقهاء الأمة الإسلامية الذين يتناولون موضوع رخص وغلاء النقود، كما اعتمدت أيضاً على فهمهم للواقع المعاصر للأمة الإسلامية واحتياجاتها للتنمية في ظل مناخ من الاستقرار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
جوهر المشكلة:
أثر التضخم على نصيب العمال من الدخل الحقيقي وقضية العدالة:
نود أن نؤكد أولاً أن التضخم هو الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، فليس كل ارتفاع في الأسعار يعتبر تضخميا، وعلى هذا فإن التضخم في أي بلد يعني تدهوراً مستمرا ًفي القيمة الحقيقية للعملة النقدية (وليس مجرد انخفاض مؤقت أو لفترة قصيرة في هذه القيمة) ، وكلما كان التضخم حاداً كان التدهور في القيمة الحقيقية للعملة حاداً.
__________
(1) انظر: عبد الرحمن يسري أحمد، دراسات في علم الاقتصاد الإسلامي، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية 1988، الفصل التاسع، وأبحاث حلقة العمل حول (ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار من وجهة النظر الإسلامية) جدة، شعبان 1407هـ- أبريل 1987م تحت رعاية البنك الإسلامي للتنمية والجامعة الإسلامية العالمية –إسلام أباد؛ خاصة أبحاث منور إقبال وفهيم خان ومحمد عبد المنان والتعقيبات عليها(8/1545)
وبالنسبة للدخل الحقيقي (سواء في شكل ربح أو أجر) والذي يعرف بأنه كمية السلع والخدمات التي يمكن الحصول عليها من إنفاق دخل نقدي معين، فإنه يتدهور بطبيعة الحال مع تدهور القيمة الحقيقية أو القوة الشرائية للعملة النقدية، هذه بديهية لا تحتاج إلى برهنة طالما قلنا: (دخل نقدي معين) ، أي ثابت، وفي الواقع فإن الدخل النقدي لبعض الأفراد أو الفئات يبقى ثابتاً بينما يتغير بالنسبة للبعض الآخر، ويمكن في حالة التغير أن نميز بين ثلاث حالات:
1- يرتفع الدخل النقدي بنفس نسبة الارتفاع في المستوى العام للأسعار فيظل الدخل الحقيقي ثابتاً.
2- يرتفع الدخل النقدي بنسبة أكبر من نسبة الارتفاع في المستوى العام للأسعار فيرتفع الدخل الحقيقي.
3- يرتفع الدخل النقدي بنسبة أقل من نسبة الارتفاع في المستوى العام للأسعار فينخفض الدخل الحقيقي، وهكذا فإن الدخل الحقيقي لأي فرد (أو لأي فئة من الفئات) سوف يتدهور خلال التضخم في حالتين: إذا بقي الدخل النقدي ثابتاً، أو إذا زاد ولكن بنسبة أقل من نسبة الارتفاع في المستوى العام للأسعار.
والملاحظات التي خرج بها الاقتصاديون بشأن تطور الأجور الحقيقية للعمال في ظل التضخم أخذت من البلدان الصناعية المتقدمة، وسنذكرها أولاً في سبيل عرض بعض الأبعاد الهامة للموضوع ولتحصيل الفائدة العلمية، وبعد ذلك نتناول الوضع الخاص بالبلدان النامية والتي ينبغي أن تنال اهتمامنا ليس فقط لأنها تمثل ثلثي سكان العالم، بل أيضاً لأن جميع بلداننا الإسلامية تصنف من ضمنها، إن الملاحظات الخاصة بالبلدان الصناعية المتقدمة تدل على أن الطبقة العاملة بينما حصلت فقط على أجور الكفاف حتى منتصف القرن التاسع عشر، تمكنت بعد ذلك تدريجياً من رفع أجورها الحقيقية، تارة بمناسبة ارتفاع الأسعار، وتارة بمناسبة الارتفاع المحقق في الإنتاجية العمالية، وقد كان نمو الاتحادات العمالية وراء هذا التطور الذي أدى إلى إعادة توزيع الدخل القومي في صالح الطبقة العاملة، ففي بريطانيا مثلاً ارتفع نصيب الأجور من 40 % إلى نحو 60 % خلال مئة عام انقضت بين ستينات القرن الماضي وستينات القرن الحالي، ولقد ارتبطت الزيادة في الأجور وفي نصيب العمال في الدخل بقضية (العدالة) إلا أن (قضية العدالة) في المجتمعات الغربية كانت ومازالت قضية نسبية.(8/1546)
ففي المراحل الأولى من الثورة الصناعية وإلى منتصف القرن التاسع عشر كانت العدالة في نظر رجال المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية (التقليدية) تعني المحافظة على الأجور الحديدية أو أجور الكفاف للعمال، ولم تكن العدالة حينذاك مستندة إلى مفهوم أخلاقي بقدر ما كانت مستندة إلى مفهوم اقتصادي واقعي في إطار الفلسفة الرأسمالية.
وبعد ذلك تطورت الأمور تطوراً هائلاً مع ظهور الفلسفات الاشتراكية ذات النزعات المختلفة، والتي تبنت جميعها القضية العمالية وعدالة التوزيع بأساليب مختلفة، وخلال أزمة الكساد العظيم في ثلاثينات هذا القرن تمكنت الأحزاب العمالية من تولي سلطة الحكم في معظم البلدان الأوروبية، وأصبح مفهوم العدالة مستقراً لصالح العمال، حتى إن بعض رجال الاقتصاد صاروا يتكلمون عن الإحباط الذي لحق برجال الأعمال الذين يضطرون لدفع ضرائب تصاعدية يذهب جانب منها له اعتباره (بطريق غير مباشر) في الإنفاق على خدمات عامة تستفيد منها الطبقة العاملة وأبناء الطبقة العاملة أكبر الفائدة، كذلك اشتدت الحركة النقابية العمالية حتى إن أصحاب الأعمال يضطرون في معظم الأحوال للخضوع للمطالب العمالية الخاصة بزيادة الأجور أو يخاطرون بتوقف أعمالهم.
وفي مثل هذا المناخ لا يستطيع المرء أن يقول: إن ثمة مشكلة قائمة بالنسبة لأجور العمال بسبب التضخم أو غيره، حيث يستطيع هؤلاء الحصول على حقوقهم كاملة غير منقوصة، بل وربما أكثر منها في حالات؛ ذلك لأن هناك آلية نابعة من التشريعات الوضعية والمؤسسات القائمة والسياسات الاقتصادية تضمن التعبير عن المطالب العمالية في مجالات شروط العمل وتحديد معدلات الأجور وتغييرها، وتضمن تحقيق معظم هذه المطالب بأسلوب مناسب للعمال، ومع ذلك يجب أن نذكر أن هناك استثناءات من هذا الاتجاه العام السائد في البلدان الصناعية المتقدمة، تتمثل في ضعف المقدرة الفعلية لبعض فئات العمال على إثارة مطالبها الأجرية أو تحقيقها، مثال ذلك العاملين في جهاز الدولة من الموظفين العموميين أو رجال الشرطة ورجال القضاء ورجال الجيش، وكذلك أيضاً العاملين في وظائف لها وضعها الأدبي وحساسيتها الشديدة مثل أطباء المستشفيات العامة ورجال الإطفاء والمدرسين بالمدارس العامة، لذلك نجد أن مشكلة الأجور الحقيقية وتدهورها في ظروف التضخم، ومن ثم ضرورة تعديلها، كثيراً ما تثار في العالم المتقدم بالنسبة لهذه الفئات العاملة على وجه الخصوص، فهذه الفئات بحكم وظائفها العامة أو أوضاعها الاجتماعية والأدبية الحساسة لا تتمكن غالباً من المحافظة على دخولها الحقيقية (أو زيادتها) في ظروف التضخم إلا إذا انتبه المجتمع وانتبهت الجهات المسؤولة إلى قضاياهم.(8/1547)
وفي البلدان النامية يختلف الأمر كثيراً عن الصورة السابقة، ففي معظم هذه البلدان تعمل النسبة الكبرى من قوة العمل في القطاع الأولي.. في الزراعة أو الصيد أو الرعي أو استخراج المواد الأولية، وحيث تتوافر عادة في القطاع الأولي أعداد كبيرة من العمال غير المهرة الذين لم يتلقوا تدريباً على حرفة معينة فإنه يسود أجر نمطي في سوق العمل، وبالتالي فإن أي عامل سوف يقبل هذا الأجر، وارتفاع الأسعار بشكل عام ومستمر كما يحدث في البلدان النامية بدرجات متفاوتة لن يؤثر بشكل مباشر أبداً في معدل الأجر السائد في القطاع الأولي، ليس فقط بسبب ظروف العرض الكبير المتاح من العمل غير الماهر، بل أيضاً لأن نسبة من هذا العمل أحياناً كبيرة قد تكون في حالة بطالة، وفي هذه الظروف نجد أصحاب الأعمال دائماً في مركز الطرف الأقوى في عملية تحديد الأجر.
ويؤكد ضعف العمال في القطاع الأولي في البلدان النامية عدم وجود اتحادات أو نقابات لهم تجمع شملهم وتمارس عملية المطالبة بتحسين أحوالهم وأجورهم من خلال تنظيم عرضهم أو المساعدة في تدريبهم.. إلخ، وهكذا فإن الارتفاع المستمر في الأسعار لن يؤدي إلا إلى مزيد من التدهور في الأجر الحقيقي للعامل في القطاع الأولي، فإذا كان الأجر السائد يضمن حد الكفاف فإن مزيداً من الارتفاع في الأسعار يعني التدني إلى أقل من الكفاف مما يعني انتشار الأمراض وزيادة معدل الوفيات في عائلات العمال، أما إذا كان مستوى الأجر قد ارتفع لأي سبب فوق حد الكفاف فإن التضخم سوف يؤدي إلى تدنيه مرة أخرى إلى الكفاف.
أما في قطاع الخدمات والذي يضم نسبة لها اعتبارها من مجموع القوة العاملة في البلدان النامية، فإن فرصة تعديل الأجر خلال التضخم قد تكون متاحة وميسرة بالنسبة لفئة العمال الحرفيين أو المهنيين الذين يبيعون خدماتهم مباشرة في السوق.(8/1548)
ومثال هؤلاء الذين يعملون في البناء وإصلاح الأدوات المنزلية والسيارات.. إلخ وهؤلاء تختلف ظروفهم عن العمال الأجراء الذين يعملون من خلال أصحاب أعمال، فالحرفيون أو المهنيون في الواقع حينما يتفقون على أجورهم مباشرة مع من يحتاجون خدماتهم يصبحون بمثابة أصحاب أعمال يتحملون مخاطر نشاطهم، وهذا على خلاف وضعهم حينما يعملون من خلال شركات أو مؤسسات تتعاقد معهم بأجور معينة مقابل مهام محددة، وعادة ما نجد أن ظروف العرض والطلب الخاصة بالحرفيين الذين يديرون شؤون أعمالهم بأنفسهم تتيح لهم فرصة كبيرة لرفع أجورهم –أو قل: أثمان خدماتهم- خلال التضخم، حتى إنهم يحققون غالباً ارتفاعاً في دخولهم الحقيقية، أما العمال الذين يعملون من خلال شركات أو مؤسسات فلا تتاح لهم مثل هذه الفرصة، ويلاحظ أن بعض من يعملون في قطاع الخدمات في البلدان النامية قد يكون في وضع مميز نسبياً (بالنسبة لتغير الدخل الحقيقي خلال التضخم) من البعض الآخر، مع ذلك فالذين يعملون في البنوك والسياحة وأنشطة التصدير والاستيراد لهم أوضاع مميزة في قطاع الخدمات الخاص، وكذلك من يعملون في الهيئات الدبلوماسية والقضاء ومن يتقلدون مناصب قيادية في الجهاز التنفيذي للدولة مميزون في قطاع الخدمات العام بالنسبة لغيرهم، فلا تتأثر الدخول الحقيقية لهؤلاء خلال التضخم، بل قد تزيد في كثير من الأحيان، وهذا على عكس ما يحدث للآخرين.
وبالنسبة لقطاع الصناعة في البلدان النامية فإنه صغير نسبياً، ولكنه في حالة نمو في معظم الحالات، والعمال في هذا القطاع لديهم عادة قدر من التعليم أو التدريب وإنتاجيتهم في المتوسط مرتفعة بالمقارنة بغيرهم في القطاعات الأخرى (خاصة القطاع الأولي) ، ومن الناحية الأخرى فإن عرضهم أقل من عرض العمال في القطاعات الأخرى، خاصة المهرة منهم، وهي فئة أكثر وعياً بمطالبها وأكثر تنظيماً، ومقدرتها على المساومة مع أصحاب الأعمال أكبر، سواء عند التعاقد على العمل أو بعد ذلك، ولكن مهما كان الأمر فإن عمال الصناعة الحديثة في البلدان النامية لا يقارنون من حيث أحوال العمل والتنظيمات النقابية بأقرانهم في البلدان الصناعية المتقدمة، لذلك فهم يتمكنون من تعديل أجورهم النقدية خلال التضخم بما يؤدي إلى ثبات أجورهم الحقيقية أو زيادتها أحيانا، ولكن ليس أبداً على نفس النمط السائد في البلدان الصناعية المتقدمة.(8/1549)
وخلاصة القول: إن هناك إجمالاً فجوة كبيرة بين أحوال العمال وظروف تحديد أجورهم في البلدان النامية والبلدان المتقدمة، لا تقل بأي حال عن الفجوة الاقتصادية أو الفجوة التقنية، والنتيجة العامة هي أن احوال التضخم تعصف بالأحوال المعيشية لمعظم الفئة العاملة التي لا تتمكن من تعديل أجورها النقدية إلا قليلاً خلال التضخم، وكلما اشتدت حدة درجة التضخم كلما تدهورت أحوال هذه الفئة من سيئ إلى أسوأ.
ومن جهة أخرى فإن التضخم لبعض فئات المجتمع زيادة دخولها النقدية بمعدلات أسرع من معدلات الارتفاع في الأسعار، ولا نتحدث هنا عن بعض فئات العمال التي تتمتع بأوضاع مميزة نسبياً، وإنما عن أصحاب الأعمال في نشاط التجارة خاصة التجارة الخارجية (التصدير والاستيراد) وفي نشاط الصناعة وبعض الأنشطة الخدمية، وكذلك من ينشطون في المشروعات الزراعية الحديثة وتربية الثروة الحيوانية والداجنية ... إلخ، ويأتي على قمة من يتمكنون من رفع دخولهم الحقيقية خلال التضخم أصحاب مكاتب سمسرة العقارات والأراضي وأصحاب شركات الصرافة والبنوك؛ وذلك بسبب ظروف التكاليف المنخفضة نسبياً في أعمالهم من جهة ومقدرتهم على المزايدة بالنسبة لأسعار خدماتهم، حيث تخدمهم ظروف العرض والطلب لهذه الخدمات كثيراً.
والنتيجة العامة أن التضخم يتيح لبعض الفئات أن ترفع دخولها الحقيقية، بينما يعمل على خفض الدخول الحقيقية للبعض الآخر، ومن ثم يعيد توزيع الدخل الحقيقي بين أبناء المجتمع، ولو أن عملية إعادة توزيع الدخل الحقيقي (والتي تؤدي تدريجياً إلى إعادة توزيع الثروة) كانت تتم على أسس موضوعية تتعلق بالاجتهاد في الأعمال أو تطوير الأنشطة والفنون الإنتاجية أو بذل الجهود الإنمائية الحقيقية لما كان لنا أن نبدي أي اعتراض عليها، ولكن إعادة توزيع الدخل الحقيقي في المجتمع التي تحدث خلال التضخم إنما تتحقق في جانب كبير منها من خلال اختلاف المقدرة النسبية لكل فئة من الفئات على تعديل أثمان سلعها أو خدماتها خلال الزمن بما يضمن تعويض التدهور في القيمة الحقيقية للنقود أو بما يتضمن اجتناء مكاسب حقيقية من عملية التضخم ذاتها.(8/1550)
وحيث إن الأجور هي أثمان خدمات العمال وحيث تنخفض مقدرتهم في الغالب على تعديلها خلال التضخم فإنه يتم توزيع الدخل الحقيقي في المجتمع لغير صالح العمال، وكلما اشتدت حدة التضخم وطالت فترته كلما اشتدت حدة المشكلة المطروحة، هنا تكمن خطورة الأمر: شعور الفئة الكبيرة من أبناء المجتمع أنها تتعرض للغبن بسبب ظروف لا تستطيع أن تتحكم فيها ولا علاقة لها بالكفاءة الإنتاجية أو كمية العمل، ونتائج اختلال العدالة خطيرة غاية الخطورة، فهي من جهة تسبب تصدعاً في العلاقات الاجتماعية يبن الفئة التي تخسر والفئة التي تستفيد من نفس الظروف، وهذا أمر في غير صالح الأمن والاستقرار الاجتماعي وفي غير صالح التنمية الاقتصادية أيضاً، فالفرد يشعر بمرارة في نفسه حينما يعمل ويجتهد لكي ترتفع كفاءته ويرتفع دخله الحقيقي، ثم يكتشف بعد مرور السنين أن دخله الحقيقي أصبح أقل مما كان عليه حينما بدأ طريقه بسبب (خداع النقود) ، لقد كان دخله النقدي يزيد ولكن بمعدل أقل من معدل الارتفاع في الأسعار على مدى سنوات طوال، وللمقريزي كلام دقيق وتحليل عميق سبق به زمنه كثيراً في اختلاف أحوال الناس خلال الغلاء الشديد بسبب اختلاف مقدرتهم على مواجهة هذا الغلاء (1) كذلك يصف أحد كتاب أوربا في العصور الوسطى خداع النقود الذي يرجعه إلى غبن القيمة الذاتية للعملة، بما يؤدي إلى تدهور قوتها الشرائية وارتفاع الأسعار، بأنه أسوأ من الربا، فالربا كما يقول نيكول اورزم: يسلبه الدائن من المدين بعلمه وربما برضاه، أما خداع النقود فيتضمن سلباً لحقوق عامة الناس دون علمهم.
وفي البلدان المتقدمة المعاصرة يقال: إن العمال لا يضارون غالباً بالتضخم لأنهم منظمون ومتحدون، وأهم من ذلك على درجة عالية من الوعي بمسألة خداع النقود بحيث إنهم لا يخدعون بمستويات الأجور النقدية وإنما بمعدلات التغير فيها مقارنة بمعدلات التغير في الأسعار أو نفقات المعيشة، أما في البلدان النامية حيث تفتقر معظم الفئة العاملة إلى التنظيمات التي تحفظ لها حقوقها، كما تفتقر إلى الوعي بشأن خداع النقود، فإن آثار التضخم على العدالة والكفاءة الإنتاجية والتنمية وكذلك التماسك الاجتماعي تتفاقم مع الزمن.
__________
(1) راجع المقريزي (تقي الدين أحمد بن علي المقريزي) : (إغاثة الأمة بكشف الغمة) ، وقد خصص فصلاً في هذا الكتاب في ذكر (أقسام الناس وأصنافهم وبيان جمل من أحوالهم وأوصافهم) وذلك تحت وطأة الغلاء الشديد الذي شهدته مصر في (796-808هـ) ، وقد قسم الناس سبعة أقسام: 1- أهل الدولة، 2- أهل اليسار من التجار وأولي النعمة من ذوي الرفاهية، 3- الباعة وهم متوسطو الحال من التجار ويلحق بهم أصحاب المعايش، 4- أهل الفلح سكان القرى والريف، 5- الفقراء وهم معظم الفقهاء وطلاب العلم وما شابههم، 6- أرباب الصنائع والأجراء، 7- السآل الذين يتكففون الناس ويعيشون عليهم، وأخذ المقريزي بعد ذلك يذكر ما حدث للدخل النقدي لكل فئة بالمقارنة بما حدث للأسعار الذي تسبب في اختلاف قيمة النقود –رخصها- وأثبت في تحليله أن الدخل الحقيقي لبعض الفئات لم يزدد كما يظن؛ لأن ارتفاع النفقات واختلاف قيمة النقد أتلف الزيادة في الدخل النقدي، ومن الممكن الاطلاع على مختصر (ولكن مفصل) لعمل المقريزي في: عبد الرحمن يسري أحمد (تطور الفكر الاقتصادي) الطبعة الثالثة (منقحة) ، الناشر: قسم الاقتصاد بكلية التجارة – جامعة الإسكندرية 1993، ص 160- 172(8/1551)
نحو بلورة وجهة نظر إسلامية في المشكلة:
لم تكن مشكلة الفجوة التي تنشأ بين الأجور النقدية والأجور الحقيقية بسبب التضخم معروفة فيما مضى بالكيفية وبالأبعاد التي نعرفها بها في عصرنا الحاضر، فالمشكلة الحالية نتيجة أساسية لعدد من الظروف التي استجدت في عالمنا المعاصر ولم تكن معروفة قديماً، فلم يعرف العالم الإسلامي القديم في عصر الازدهار الاقتصادي تضخماً مستمراً لفترات طويلة مثلما يحدث الآن، كذلك لم تكن عقود العمل طويلة الأجل في مؤسسات قائمة معروفة فيما مضى.
ومع ذلك فإن الإسلام العظيم لم يترك أمراً من الأمور إلا وله فيه حكم بين أو سبيل يعين على فهمه وإرساء قاعدة يحتكم إليها فيه، ومن هنا تتبين ضرورة فهم النصوص المتعلقة بالعمل المستأجر في القرآن الكريم والسنة المطهرة لرؤية ما فيها من معان يستفاد منها ويحتكم إليها، ثم استطلاع ما خرج به علماء المسلمين من الآراء والاجتهادات (دون دخول في تفاصيلها إلا فيما يلزم لهذا البحث) لنرى كيف يمكن أن نستفيد منها أولاً، وما نحتاج لإضافته إليها بعد ذلك.
النصوص والاجتهادات الرائدة:
ورد لفظ (الأجر) في الكتاب الكريم في آيات كثيرة بالمفهوم اللغوي العام للكلمة: أي الثواب أو المكافأة مثال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] ، وفي قلة قليلة من الآيات نجد المفهوم الخاص بالأجر وهو ما يدفع للشخص عوضاً عن مجهود أو عمل يبذله، وهذا ما نهتم به في هذا البحث، ومثال هذا المفهوم الخاص للأجر قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وقوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) } [القصص: 26- 27] . والآية الأولى الخاصة بالمراضع واضحة، والآيتان الأخيرتان من سورة القصص فيهما معان كثيرة؛ منها أن خير الأجراء الأقوياء بدناً الأمناء خلقاً، وأن عقد العمل قد يمتد إلى عدد من السنين باتفاق واضح وصريح بين الطرفين، وأن من علامات الصلاح بالنسبة للمستأجر أن لا يشق على الأجير وأن يحدد له أجره ويوفيه له في وقته.
أما النصوص التي تتعلق بالمفهوم الخاص بالأجر في السنة المطهرة فمنها قول أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه وتعالى أنه قال: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) رواه البخاري وابن ماجه وغيرهما (وأخرجه المنذري في باب الترهيب من منع الأجير أجره- الترغيب والترهيب) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه)) ، رواه ابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد روي نفس هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه (رواه أبو يعلى) وروى الطبراني نفس الحديث في الأوسط من حديث جابر، وقال المنذري: وبالجملة فهذا المتن مع غرابته بكثرة طرقه قوة والله أعلم.(8/1552)
وأهم ما يفهم من الحديث الأول (القدسي) أن العلاقة بين صاحب العمل والأجير محددة، وذلك يفهم من قوله تعالى: ((رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه)) أي استوفى منه ما كلفه به أو اتفق عليه معه من عمل، ((و ((لم يعطه أجره)) )) أي أجره الذي تعين له بالاتفاق عند التعاقد على العمل، واللفظ (أجره) وليس (الأجر) مما يعني أنه حقه المخصص له حينما ينجز ما طلب منه، وهكذا فإن الأجر ثمن مؤجل لمنفعة العمل، ويصبح حقاً خالصاً للأجير وفقاً لما تم عليه الاتفاق عند الانتهاء من العمل، وبشاعة الجرم عند الله عز وجل أن يستوفي صاحب المصلحة منفعة العمل من الأجير ثم لا يوافيه أجره عند استحقاقه له، وهذا يشبه من اشترى سلعة مقابل ثمن مؤجل، فإذا حل تاريخ الاستحقاق رفض أن يدفع الثمن للبائع، وفي الحديث الثاني المتواتر ((أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه)) تصريح واضح بأن الأجر حق خالص للأجير (حقه) وأنه يستحقه عند الانتهاء من العمل المكلف به، بل وإن التعجيل بالأجر قرب الانتهاء من هذا العمل أفضل، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أجره)) يفيد كون المراد بالأجر المأمور بإعطائه الأجر المسمى للأجير عند الاتفاق على العمل وليس (الأجر) الذي يراه المستأجر عند نهاية العمل، وروى البخاري ((أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر رجلاً من بني الديل يقال له: عبد الله بن الأريقط وكان هادياً خريتاً، أي ماهراً)) ، كذلك روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ((احتجم وأعطى الحجام أجره)) ، وهكذا تدل النصوص في الكتاب الكريم والسنة المطهرة على مشروعية الإجارة والقواعد العامة التي تحكمها.
ولقد اجتهد الرواد الأوائل من فقهاء المسلمين في بيان المسائل الخاصة بإجارة العمل، وذلك تأسيساً على النصوص الواردة في الكتاب والسنة، وأخذاً في الاعتبار ظروف الأعمال والأجراء التي عاصروها، ويلاحظ أن الاجتهادات الخاصة بإجارة العمل واردة في باب الإجارة بصفة عامة، وهكذا بحثت إجارة العمال مع إجارة المساكن والأراضي والدواب، ولقد كان لهذا الخلط بين إجارة العمال مع غيرهم وجهان أحدهما إيجابي والثاني سلبي، وذلك من وجهة نظرنا الاقتصادية التحليلية، أما الوجه الإيجابي فهو أن الفقهاء (رضي الله عنهم) بمعالجتهم لمنافع العمل البشري مع منافع الدور والأراضي وغير ذلك في إطار واحد تمكنوا من وضع (قواعد عامة) تحكم إجارة المنافع [والتي نسميها (خدمات) في التعبير الاقتصادي المعاصر] ،(8/1553)
هذه (القواعد العامة) (1) مثل رضا المتعاقدين ومعرفة المنفعة المعقود عليها معرفة تامة تمنع من المنازعة، وأن يكون المعقود عليه مقدور الاستيفاء حقيقة، وأن تكون المنفعة مباحة لا محرمة، لها أهميتها عند الشروع في التحليل الاقتصادي في مجال العمل البشري أو غيره، أما الوجه السلبي فهو أن هذه المعالجة الإجمالية لم تعط الفرصة لمعالجة إجارة العمل بالشكل المناسب أو الكافي، ولا شك أن ظروف الطلب على العمل وعرض العمل في السوق تختلف تماماً عن ظروف الطلب والعرض للمساكن أو للأراضي، وعلى أية حال فإنه يقع على الباحث المعاصر مهمة استخلاص القواعد العامة والخاصة التي تحكم إجارة العمل من التراث الفقهي الإسلامي: وأن يرى كيف يمكن الاستفادة منها، وربما اقتراح كيفية تطويرها حتى تتحقق مقاصد الشريعة في ظروف العصر.
جاء في العدة –شرح العمدة في فقه الإمام أحمد بن حنبل (رضي الله عنه) - أن الحاجة تدعو إلى المنافع (الخدمات) كالحاجة إلى الأعيان (السلع في التعبير الحديث) ، وأن الإجارة عقد على المنافع (2) وقال: (ولا تصح (الإجارة) إلا على نفع معلوم؛ إما بالعرف كسكنى دار، أو بالوصف كخياطة ثوب معين أو بناء حائط أو حمل شيء إلى موضع معين، وضبط ذلك بصفاته أو معرفة أجرته، وقال: يشترط معرفة الأجرة كما يشترط معرفة الثمن في المبيع) (3)
وفي الفتاوى فرق ابن تيمية (رضي الله عنه) بين أنواع من الإجارة، قال: (لفظ الإجارة فيه عموم وخصوص، فإنها على ثلاث مراتب: إحداها أن يقال لكل من بدل نفعاً لعوض فيدخل في ذلك المهر.. والمرتبة الثانية الإجارة التي هي جعالة، وهو أن يكون النفع غير معلوم لكن العوض مضمون، فيكون عقداً جائزاً غير لازم (4) ... والثالثة الإجارة الخاصة، وهي أن يستأجر عيناً أو يستأجره على عمل في الذمة، بحيث تكون المنفعة معلومة، فيكون الأجر معلوماً والإجارة لازمة، وهذه الإجارة التي تشبه البيع في عامة أحكامه، والفقهاء المتأخرون إذ أطلقوا الإجارة أو قالوا: باب الإجارة، أرادوا هذا المعنى، وأضاف: (إن الإجارة الخاصة (وهي موضع اهتمامنا في هذا البحث) يشترط فيها ألا يكون العوض غرراً قياساً على الثمن، فأما الإجارة العامة التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة فلا تشبه هذه الإجارة كما تقدم فلا يجوز إلحاقها به) (5)
__________
(1) انظر خلاصة هذه القواعد في: السيد سابق، فقه السنة، المجلد الثالث (الأجزاء 12، 13، 14) ، دار الكتاب العربي، بيروت (الطبعة السابعة 1985) ص 181، ص 183 في شروط صحة الإجارة
(2) العدة – شرح العمدة في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل الشيباني – تأليف بهاء الدين عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي، المطبعة السلفية، الطبعة الثانية، القاهرة 1982هـ، انظر ص 267
(3) العدة – شرح العمدة ص 268
(4) وشرح ذلك بقوله: (مثل أن يقول: من رد لي عبدي فله كذا فقد يرده من مكان بعيد أو قريب؛ انظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، مكتبة المثنى – بغداد: 3/ 312
(5) الفتاوى الكبرى ص 312(8/1554)
وتتأكد ضرورة انتفاء الغرر بالنسبة للإجارة عند ابن حزم الظاهري فلا تجوز الإجارة عنده (إلا بمضمون مسمى محدود في الذمة أو بعين متميزة معروفة الحد والمقدار) (1) وفي شرح القدير لابن الهمام (ولا تصح الإجارة حتى تكون المنافع معلومة والأجرة معلومة.. لأن الجهالة في المعقود عليه وبدله تفضي إلى المنازعة كجهالة الثمن والمثمن في البيع) (2) وفي رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (ركن الإجارة الإيجاب والقبول وشرطها كون الأجرة والمنفعة معلومتين.. وكل ما صلح ثمناً –أي بدلاً في البيع- صلح أجرة؛ لأنها ثمن المنفعة، ولا ينعكس كلياً، فلا يقال: ما لا يجوز ثمناً لا يجوز أجرة؛ لجواز إجارة المنفعة بالمنفعة) (3) .. وذهب ابن عابدين إلى تفصيل الأجرة فقال: (كقوله: بكذا دراهم أو دنانير وينصرف إلى غالب نقد البلد، فلو الغلبة مختلفة فسدت الإجارة ما لم يبين نقداً منها، فلو كانت كيلياً أو وزنياً أو عددياً متقارباً فالشرط بيان القدر والصفة، وكذا مكان الإيفاء لو له حمل ومؤنة عنده، وإلا فلا يحتاج إليه كبيان الأجل، ولو كانت ثياباً أو عروضاً فالشرط بيان الأجل والقدر والصفة لو غير مشار إليها، ولو كانت حيواناً فلا يجوز إلا أن يكون معيناً) (4) وما هذا التفصيل إلا (لأن الجهالة) كما يقول: (تفضي إلى المنازعة) .
وفي المصادر الفقهية المختلفة نجد التفرقة بين: أ- التعاقد مع شخص لأداء عمل مسمى، أو معين، فيستحق الأجر بأداء هذا العمل.
ب- التعاقد مع شخص على مدة معينة يعمل فيها دون تسمية أو تعيين أو إشارة لعمل محدد، في هذه الحالة يستحق الأجر عن المدة؛ لأن التعاقد تم عليها سواء تم فيها عمل أم لم يتم.
__________
(1) لجنة موسوعة الفقه الإسلامي – معجم فقه ابن حزم الظاهري، دار الفكر، بيروت: 1/15-16
(2) شرح القدير، ابن الهمام، نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار لشمس الدين أحمد بن قودر (ص145) – انظر ص (148) – طبع المكتبة التجارية الكبرى شارع محمد علي- القاهرة
(3) رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) : 5/3 – دار إحياء التراث العربي، بيروت 1407هـ-1987م
(4) رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) : 5/3 – دار إحياء التراث العربي، بيروت 1407هـ-1987م(8/1555)
ملاحظات وتعقيب:
في نهاية عرض ما سبق من اجتهادات فقهية لدينا ملاحظات ثلاث نرفق بكل منها تعقيباً مناسباً في سبيل بلورة قاعدة ننطلق منها إلى مواجهة علاجية للمشكلة المطروحة في هذا البحث.
أولاً: هناك اتفاق على أن الأجر يستحق مقابل أداء عمل معين أو مسمى أو مشار إليه، وذلك من الشخص الذي يطلبه بالاتفاق مع الأجير، ويجوز للأجير في هذه الحالة قبول أداء أعمال مماثلة لأشخاص آخرين في نفس الوقت وفقاً لما يتفق عليه، وهذه الحالة التي أسماها الفقهاء (الأجير المشترك) لا تقع ضمن حالات العمال الأجراء الذين نهتم ببحث مشكلة أجورهم الحقيقية في ظل الارتفاع المستمر في الأسعار، فالذي جرى الاصطلاح على تسميتهم أجراء مشتركون هم الذين يصنفون في الفكر الحديث كعمال حرفيين أو مهنيين مستقلين، حيث إنهم يملكون أدواتهم ومعداتهم الخاصة وكثيراً ما يكون لديهم أماكنهم أو محلاتهم الخاصة التي يمارسون، وقد يكون لديهم أيضاً عمال أجراء يعملون من خلالهم بأجور مضمونة بغض النظر عن مخاطر الأعمال التي يتعهدون بها، ومن ثم فإن قضية الأجير المشترك تختلف عن قضية غالبية العمال الأجراء الذين يعملون من خلال الغير في مؤسسات أو شركات أو هيئات.. إلخ، والواقع أن الأجير المشترك صاحب عمل أو سيد نفسه، بمعنى أنه يقوم بالاتفاق بصفة مباشرة مع أصحاب الحاجات لخدماته على مسؤوليته الخاصة (لهذا تكلم الفقهاء عن مسألة تضمين الأجير المشترك، يضمن أو لا يضمن) ، وهو لا ينتج سلعة مثل الصانع أو المزارع ولا يشتري سلعة ليبيعها كالتاجر، وإنما يبيع الخدمات Services، وهي التي أطلق عليها الفقهاء لفظة (المنافع) وفي مجال بيع خدماته يتفق الأجير المشترك (أو صاحب المهنة أو الحرفة كما هو المصطلح الحديث) على ثمن محدد لهذه الخدمات مع من يطلبها منه، وذلك بصفة مباشرة، وقد أطلق الفقهاء على ثمن الخدمة التي يقوم بها الأجير المشترك مصطلح الأجر، وهذا لا يعترض عليه لغوياً أو منطقياً حيث هو من قبيل الأجر فعلاً، ولكن وجه الاعتراض يأتي من حيث اختلاف المفهوم الاقتصادي العام للأجر مع هذا المفهوم الخاص، فالأجر وفقاً للمفهوم العام الحديث مبلغ من النقود (أو ما يحل محلها) يستحقه العامل بالتعاقد مع صاحب عمل مقابل وقت محدد يقضيه للعمل لديه أو عمل محدد يؤديه من خلاله ولا يتحمل العامل بأية حال مسؤولية ما يقوم به من عمل، بل يتحمل ذلك صاحب العمل، فالأجر ثمن مضمون لخدمة يؤديها العامل بعقد قائم على التراضي بينه وبين صاحب العمل، فلا علاقة للعامل بالسوق أو بأصحاب الحاجات مباشرة مثل الأجير المشترك والذي من خلال وضعه المميز يستطيع أن يساوم على أجره كلما تغيرت ظروف الطلب على العمل أو ظروف الأسعار، ومقابل هذه الميزة فإن الأجير المشترك وهو حرفي أو مهني مستقل يتحمل مسؤولية مباشرة عن أي عمل يتعهد به تجاه من يطلبه، ومن ثم فإن أجره ليس مضموناً مثل العامل الأجير الذي يعمل من خلال الغير.
لكل ما سبق فإن حالة الأجر بالنسبة للأجير المشترك لا تثير نفس المشكلة التي نهتم ببحثها في هذا المقال.(8/1556)
ثانياً: يستحق الأجر في الحالة التي يطلق عليها الفقهاء (الأجير الخاص) عن مدة مؤقتة معلومة للطرفين، ذلك لأن صاحب العمل يتسلط وحده على منافع أو خدمات الأجير خلال المدة التي يتفقان عليها من غير بيان مسبق للعمل أو مع بيان طبيعة هذا العمل وأوصافه، ولكن دون تحديد لكمية أو مقدار العمل المطلوب في المدة (وإلا فسدت الإجارة) .
وحالة الأجير الخاص أقرب ما يكون إلى الحالة الشائعة التي نجدها في مجتمعاتنا الحديثة للعمال الأجراء، سواء كانوا ممن يعملون بأيديهم أو بأذهانهم، ففي معظم الحالات نجد أن الاتفاق يتم بين صاحب عمل وبين عامل يعمل لديه على أساس معدل أجر بالساعة أو باليوم أو بالأسبوع أو بالشهر، والعامل عادة يتعاقد على القيام بعمل معين ذي طبيعة معينة أو أوصاف محددة، لكن دون تحديد لمقدار العمل أو كميته أو نوعيته التي تلزم، وفي الممارسة العملية (خارج نطاق العقد) ، قد يحدد صاحب العمل كماً معيناً من الإنتاج كمتوسط لإنتاجية العامل في الساعة أو في اليوم.. إلخ فإذا زادت إنتاجية العامل فوق المتوسط المتوقع استحق مكافأة أو ترقية، أما إذا حدث العكس تعرض العامل للفت نظره، وربما زادت رقابة صاحب العمل عليه أو ربما فكر في الاستغناء عنه بمجرد انتهاء فترة التعاقد معه، وكل هذا من حقه، ولا أعتقد أن هذا يثير خلافاً من الناحية الشرعية.
لكن الأمر الذي يدعو إلى البحث هو مدة التعاقد في حالة الأجير الخاص التي كما ذكرنا تعتبر الحالة الأكثر شيوعاً في العصر الحديث، ففي حالات قد يتم الاتفاق مع الأجير الخاص على يوم أو أسبوع أو شهر أو عام، ولكن في معظم الحالات أصبحت مدة الإجارة الخاصة ممتدة لأعوام ومتجددة تلقائياً، ففي مجالات النشاط الحديث: صناعي أو تجاري أو خدمي أو أولي أصبحت المؤسسة القائمة تعمر أكثر مما يعمر الرجال بسبب انفصال هيكلها المالي أو التنظيمي عن الأعمار الطبيعية لملاكها، كما أصبح سوق العمل منظماً عما كان عليه الأمر قديماً، واتخذت عقود العمل في الحالة التي يسميها الفقهاء الإجارة الخاصة، في ظل الظروف المذكورة، أبعاداً زمنية لم تكن معروفة فيما مضى، حتى إن العقد قد يجدد تلقائياً حتى سن التقاعد (في الستين مثلاً) أو حتى الوفاة أيهما أقرب، وهذه الظاهرة متكررة بعينها في حالات جميع العمال أو الموظفين الذين يشتغلون في الأجهزة والإدارات الحكومية.(8/1557)
هذه الظاهرة –أي عقود العمل الطويلة الأجل جداً أو المجددة تلقائياً إلى سن التقاعد أو لنهاية العمر لم تعرف في العصور الوسطى، بل ولم تعرف إلى قرن مضى، وكان الأمر الغالب في هذه المجتمعات بطبيعة ظروفها الاقتصادية هي عقود الإجارة الخاصة قصيرة الأجل ليوم أو لأيام أو لشهور أو عام.. ومن أطول عقود الإجارة الخاصة زمناً في العهد القديم ما جاء ذكره في قصة النبي موسى عليه السلام {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص: 27] .
ولم أجد في المصادر الفقهية التي اطلعت عليها ما يدل على اهتمام بمناقشة طول المدة أو قصرها في حالة الأجير الخاص، وربما هذا لظروف العصر كما ذكرنا، ولكن حيث تدخل إجارة العمل في باب الإجارة بصفة عامة يمكن لنا الاستفادة من المناقشة الخاصة بالمدة وطولها في حالة الدور والأراضي، لقد ورد في شرح القدير لابن الهمام- باب الإجارة قوله: (قد تقدم أن المنفعة لا بد أن تكون معلومة في الإجارة، فلا بد من بيان ما تكون به تكون معلومة، فتارة تصير معلومة بالمدة، كاستئجار الدور للسكن والأراضي للزراعة مدة معلومة وكائنة ما كانت؛ لأن المدة إذا كانت معلومة كان مقدار المنفعة فيها معلوماً) ثم يضيف: (ولا فرق بين طويل المدة وقصيرها عندنا إذا كانت بحيث يعيش إليها العاقدان؛ لأن الحاجة جوزت الإجارة لها قد تمس إلى ذلك، وهي مدة معلومة يعلم بها مقدار المنفعة، فكانت صحيحة كالأجل في البيع، وأما إذا كانت بحيث لا يعيش إليها أحد المتعاقدين فمنعه بعضهم؛ لأن الظن في ذلك عدم البقاء إلى تلك المدة، والظن مثل التيقن في حق الأحكام، فصارت الإجارة مؤبدة معنى، والتأبيد يبطلها وجوزه آخرون) (1)
__________
(1) شرح القدير لابن الهمام، والعبارة مقتطفة من الشرح على الهامش للإمام أكمل الدين محمد بن البابرتي المتوفى سنة 786هـ، (شرح العناية على الهداية)(8/1558)
السؤال إذاً: هل امتداد عقود الإجارة الخاصة للعمال إلى سن التقاعد أو إلى الوفاة أيهما أقرب، والذي نشهده في غالبية المؤسسات الحديثة أمر غير جائز؟ بصفة مبدئية لا أعتقد هذا؛ لأن الامتداد في العقود ليس ملزماً أو إجبارياً، بمعنى أن العامل يستطيع الاستقالة من عمله أو يطلب عدم تجديد العقد، كذلك فإن صاحب العمل يستطيع اتخاذ قرار عدم تجديد العقد أو فصل العامل، صحيح أن بعض الشروط قد توضع في إجراءات الاستقالة أو إجراءات الفصل حماية لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، ولكن هذه الإجراءات لا تعني أبداً أن عقد العمل للأجير الخاص ملزم بصفة مؤبدة، ويلاحظ أنه إذا أصبح عقد إجارة الأجير الخاص ملزماً بصفة مؤبدة أو مجدداً تلقائياً بصفة إجبارية إلى سن التقاعد أو إلى نهاية العمر تحت أي نظام من النظم السياسية أو التشريعية، فإنه يكون باطلاً، فالأجير الخاص يصبح في مثل هذه الظروف أقرب إلى العبد منه إلى الحر.
ولكن تبقى مسألة خطيرة مترتبة على طول مدة العقد ألا وهي الخاصة بالأجر خلال المدة الطويلة جداً، كيف يكون؟ هل يبقى ثابتاً عند المستوى المحدد عند التعاقد؟ أم يتغير؟ وكيف يتغير؟ هذه المسألة الخطيرة هي التي تحتاج إلى الاجتهاد حقاً، وهي التي نواجهها بطريقة أو بأخرى في هذا البحث.. إن المدة الطويلة تعني عادة زيادة الكفاءة الإنتاجية للعامل بسبب اكتسابه مهارات إضافية أو مزيداً من التعليم والتدريب، وهذا يعني زيادة قيمة المنفعة أو الخدمة التي يقدمها العامل خلال الوقت، والتي يحصل عليها صاحب العمل وفقاً للعقد، فكيف يبقى الأجر ثابتاً عند مستواه الأول عند التعاقد؟ (مثلاً منذ عامين أو منذ عشرة أعوام أو أكثر..) ، كذلك فإن المدة الطويلة تعني احتمال نقص الأجر الحقيقي للعامل كلما ارتفعت الأسعار –أي كلما انخفضت القيمة الحقيقية للنقد، فكيف لا يتم تعديل الأجر النقدي حتى نحافظ- على الأقل- على الأجر الحقيقي؟ كذلك فإن المدة الطويلة تعني تزايد الفجوة بين الأجر المتعاقد عليه في سنة ما مع متوسط أجر المثل الجاري في السوق.
كل هذه الاحتمالات تثير بقوة قضية عدالة الأجر في عقود العمل الخاصة الممتدة لآجال طويلة جداً.(8/1559)
ثالثاً: هناك اتفاق تام على أن الأجر المستحق يجب أن يحدد تحديداً واضحاً بنقد رائج معلوم بكذا دراهم أو دنانير من نقد البلد غالباً، ولو اتفق على دفع الأجر من مكيلات أو موزونات أو معدودات متقاربة فإن الشرط بيان القدر والصفة في أي حالة على وجه التحديد، ويلاحظ أن مثل هذه السلع المتجانسة أو المتماثلة الوحدات استخدمت قديماً كنقود سلعية في المبادلات، ويلاحظ أن مثل هذه النقود السلعية تشترك مع النقود الذهبية والفضية في أن لها قيمة أو مالية ذاتية، على عكس النقود الاصطلاحية أياً كان شكل هذه الأخيرة، وفي المصادر الفقهية ما يؤكد جواز تحديد الأجر أيضاً بأي سلع أخرى (وربما منافع) لها مواصفات مميزة ومعروفة وفي حد ذاتها مقبولة بصفة عامة بين الناس، أما إذا لم يكن الأجر محدداً تحديداً واضحاً فغير جائز لاحتمال الجهالة أو الغرر، وكل ما سبق يعني أن أئمة الفقه الإسلامي كانوا حريصين أشد الحرص على تحديد ما نسميه في الفكر الحديث بالأجر الحقيقي عند التعاقد على العمل.
ويترتب على هذا أمر هام في بحثنا الحالي، حيث إن الأجور تستحق بالنقد الرائج المتداول الذي هو نقد ورقي اصطلاحي، ليس له بالضرورة صفة الاستقرار أو الثبات، فالنقد الرائج المتداول في عصرنا قد يستقر في قيمته الحقيقية (قوته الشرائية) حيناً، وقد يتدهور حيناً آخر، وبذلك فهو لا يضمن استقرار الأجر الحقيقي الذي هو عبارة عن كم معين سلعي.
ولدينا احتمالات ثلاثة: أولها أن الأجر المستحق بالنقد الورقي المتداول يتقلب في قيمته الحقيقية حول مستوى معين، تارة لأعلى إذا انكمشت الأسعار أو غلت النقود، وتارة لأسفل إذا ارتفعت الأسعار ورخصت النقود، وثانيها أن القيمة الحقيقية للأجر المستحق بالنقد الورقي المتداول تتجه بصفة مستمرة لأعلى بسبب استمرار انكماش الأسعار –أي غلاء النقود- على المدى الطويل من الزمن، وثالثها أن القيمة الحقيقية للأجر المستحق بالنقد الورقي المتداول تتجه بصفة مستمرة لأسفل بسبب استمرار ارتفاع الأسعار – أي رخص النقود- على المدى الطويل من الزمن.
والاحتمال الأول لا يستدعي معالجة خاصة؛ حيث إنه إذا سارت الأمور على مثل هذا المنوال فإن الضرر أو النفع الواقع على أحد طرفي العقد لن يستديم، بل إن الضرر والنفع قد يتساويان في المتوسط على مدى الزمن بشكل لا يتضمن إخلالاً بالعدالة، أما في الحالتين الأخريين فإن الأمر يختلف بداهة؛ ذلك لأنه إذا انكمشت الأسعار بصفة مستمرة فغلت النقود بصفة مستمرة فإن في هذا إضراراً بالمستأجر للعمل على مدى الأجل الطويل، ويزداد الضرر طالما بقي مستوى الأجر النقدي ثابتاً، وكلما طالت مدة العقد واشتدت حدة غلاء النقود، والعكس صحيح، بمعنى أنه إذا ارتفعت الأسعار بصفة مستمرة فرخصت النقود بصفة مستمرة فإن في هذا ضرراً مؤكداً واقعاً على الأجير، وتشتد حدة الضرر طالما بقي مستوى الأجر النقدي ثابتاً وكلما طالت مدة العقد واشتدت حدة رخص النقود.(8/1560)
ولقد استبعدت المناقشات الفقهية فيما مضى حالات الرخص المستمر أو الغلاء المستمر للنقود، بناء على المشاهدات الواقعية، فلقد كان التقلب بين ارتفاع الأسعار وانكماشها أو رخص النقود وغلائها هو الأمر الشائع، أما الآن في عصرنا الحديث فلدينا حالة واضحة تماماً تتمثل في الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار أو التضخم الممتد لآجال طويلة، ومن ثم فلدينا حالة رخص مستمر ومتزايد في القيمة الحقيقية للنقود الورقية المتداولة، والتي هي نقود اصطلاحية، فإذا أضفنا إلى هذا ما توصلنا إليه من قبل بشأن عقود العمل التي أصبح معظمها ينطوي غالباً تحت مضمون الإجارة الخاصة، وأصبحت معظم هذه العقود ممتدة لآجال طويلة جداً، فإننا سنجد أمامنا حالة خطيرة تتمثل في ضرر مؤكد يقع على العمال الذين تبقى أجورهم المسماة عند التعاقد لأول مرة ثابتة، أو الذين تتغير معدلات أجورهم بشكل لا يعوضهم عن الفقد الحادث بسبب الرخص المستمر في قيمة النقود، هذه هي المشكلة التي يتعين علينا بحثها لنجد لها حلا.
علاج مقترح: الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعار:
من الممكن اقتراح مواجهة المشكلة المذكورة للأجور العمالية في إطار التدهور المستمر لقيمة النقد، والذي يحدث من خلال التضخم، بربط الأجور بالرقم القياسي للأسعار، وهذا العلاج له مزاياه وله مثالبه، وعلينا أن نناقش هذه وتلك قبل أن نقره أو لا نقره. وهذا العلاج يصنف ضمن أنواع العلاج النقدي حيث يعمل من خلال تغير الأجور النقدية تبعاً لتغيرات الأسعار، وجميع أنواع العلاج النقدي تعتبر قصيرة الأجل في عرف رجال الاقتصاد، ولا بد من التنويه بالملاحظات الآتية قبل الدخول في مزيد من التفاصيل عن العلاج المذكور:
أ- إنه لا يوجد في الغالب علاج وحيد ناجع لأي مشكلة اقتصادية قائمة على المستوى الكلي Macro Level، وقد يكون العلاج المقترح رئيسياً ومن ثم علينا أن نتبين أنواع العلاج الأخرى التي تصاحبه حتى يؤتي ثمرته المرجوة.
ب- إن العلاج النقدي الذي يعمل في الأجل القصير يختلف في طبيعته عن العلاج الهيكلي الذي يعمل في الأجل الطويل، والعلاج الهيكلي مطلوب وهو هدف حتمي للدول الإسلامية؛ حيث إنه يعمل من خلال الشريعة الإسلامية والالتزام بها نصاً وتطبيقاً في جميع الأمور وليس في جزء من الأجزاء أو أمر واحد دون الأمور الأخرى، وحيث هذا هو الوضع المنشود في الأجل الطويل يلزم علينا وضع تصور عن العلاقة بين العلاج المقترح في الأجل القصير والعلاج الهيكلي.
ج- إن أي علاج مقترح لا يمكن أن ينفصل عن العلاج الاجتماعي طالما أننا نتكلم في إطار الاقتصاد الإسلامي، ومن ثم علينا أن نضع نصب أعيننا تحقيق الهدفين الاقتصادي والاجتماعي معاً، أو على الأقل تحقيق الهدف الاقتصادي دون إضرار بالهدف الاجتماعي.(8/1561)
وصف العلاج:
يتمثل العلاج المقترح في ربط معدلات الأجور بالرقم القياسي لأسعار التجزئة، وهذا الرقم يستخدم في عدد كبير من البلدان لكي يدل على نسبة التضخم التي تهم أصحاب الدخول بصفتهم مستهلكين، فالتغيرات في الرقم القياسي لأسعار التجزئة في أي بلد تعتبر مؤشرات جدية للتغيرات في نفقة المعيشة (1)
وسوف نفترض بصفة مبدئية أن ربط الأجور بالرقم القياسي لأسعار التجزئة سيتم تلقائياً، بمعنى أنه إذا كان التغير في الرقم القياسي خلال سنة ما بنسبة 10 %، فإن الارتفاع في نفقة المعيشة يساوي 10 %، والتدهور في القيمة الحقيقية للنقود بنفس النسبة، ومن ثم يتم تعديل الأجور بصفة عامة بزيادة قدرها 10 %، فإذا تم التعديل تلقائياً بالطريقة المذكورة تظل الأجور الحقيقية على ما هي عليه عندما تم التعاقد على إجارة العمل.
الإطار الشرعي للعلاج:
هل هناك أساس شرعي يستند إليه العلاج المقترح؟
إن معظم مناقشات رجال الاقتصاد الإسلامي في هذا المجال تنطلق من اجتهادات فقهية سابقة بخصوص النقود والتغير في قيمتها بالغلاء أو بالرخص، ولقد أجمع الفقهاء في المذاهب المختلفة على أن المناقشات الخاصة برخص أو غلاء النقود لا تنطبق على النقود الذهبية أو الفضية الخالصة من الغش، ولكن الأمر يختلف بالنسبة للنقود المسكوكة من معادن رخيصة والتي كان يطلق عليها (الفلوس) ، وكذلك بالنسبة للدراهم والدنانير (وهي في الأصل فضية أو ذهبية) التي غلب عليها الغش.
فالفلوس لها ثمنية اصطلاحية تختلف عن قيمتها الذاتية الزهيدة، فإذا رخصت الفلوس بسبب الغلاء تعرض مالكها –وكذلك الدائن وصاحب الحق المؤجل الذي قدر ماله أو حقه بالفلوس- للغبن؛ لأنه لم يعد يستطيع أن يشتري بها سلعاً أو منافع مساوية في قيمتها الحقيقية لما كان يشتريه بها قبل رخصها، وهذه النقود الاصطلاحية لا تصلح في ظل التدهور المستمر في قيمتها الحقيقية أن تؤدي وظيفتها كمستودع للثروة، كما أنها تبخس حقوق الغير إذ استخدمت لسداد ما في الذمة من قروض أو ديون أو أثمان مؤجلة، وكلما اشتدت حدة الغلاء في الأسعار اشتدت حدة التدهور في القيمة الحقيقية للنقود الاصطلاحية، وهي في الأصل ليس لها قيمة أو مالية ذاتية، فتصبح بلا معنى، وكلما طالت مدة الغلاء كلما اشتدت حدة المشكلة على الناس.
__________
(1) انظر الملحق في آخر البحث لشرح الرقم القياسي لأسعار التجزئة، ولقد وضعت هذا الشرح بالملحق لأن المعلومات الواردة فيه معروفة لأي طالب درس مبادئ الاقتصاد، ولكن قد تهم بمعرفتها غير المتخصصين في الاقتصاد، وهي في الواقع ضرورية لهذا الموضوع محل البحث(8/1562)
وكان أبو يوسف رضي الله عنه من أكثر فقهاء المسلمين فهماً لمشكلة غلاء ورخص النقود الاصطلاحية –الفلوس- في عصره، وقوله فيها صار أساساً لاجتهاد الفقهاء من المذهب الحنفي فيما بعده، فهو يرى أنه يجب على المدين أن يؤدي (قيمة النقد) الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج.. ففي البيع تجب القيمة يوم العقد، وفي القرض يوم القبض (1) والقول الثاني في المشكلة عند بعض المالكية وهو أن التغير في قيمة النقد (الغلاء أو الرخص) إذا كان فاحشاً فيجب أداء (قيمة النقد) الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص (2) (ولكن يلاحظ أن التغير الفاحش يجب أن يعرف تعريفاً موضوعياً دقيقاً وإلا أصبح مبهماً يحتمل التأويل) ، أما إذا لم يكن التغير في قيمة النقد فاحشاً فالمثل، وهذا القول يعني أن المشكلة توجد فقط في حالة التضخم الجامح الذي يصاحب أحوالاً غير عادية، تماماً مثل الحروب وهلاك المحاصيل أو انتشار أوبئة مهلكة تؤدي إلى نقص شديد في الناتج الكلي.. إلخ، والتعقيب الوحيد على هذا الرأي هو ذكر حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يحض على استثمار أموال اليتامى حتى لا تأكلها الصدقة وهي 2.5 %، فهل نعتبر أن معدل تضخم سنوي 25 % حالة تستدعي النظر، حيث يأكل أموال اليتامى في سنة واحدة ما تأكله الصدقة في عشر سنوات، أم ماذا يكون التضخم الفاحش لدى أصحاب هذا القول من المالكية؟
والقول الثالث لأبي حنيفة والمالكية في المشهور عندهم والشافعية والحنابلة وهو (أن الواجب على المدين أداؤه هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت ديناً في الذمة دون زيادة أو نقص وليس للدائن سواه) (3) ، ويلاحظ أن هذا الرأي يتعرض للنقد الشديد إذا افترضنا أن حالة الغلاء أو الرخص كانت حادة ومستمرة، كما يحدث في عصرنا الحالي، أما قديماً حينما كان الغلاء يحدث حيناً والرخص يحدث حيناً آخر فالأمر قد يحتمل رأياً أو آخر.
وفي العصر الحديث نجد النقود الورقية المتداولة (أو ما ينوب عنها من نقود ائتمانية) تتماثل في الواقع العملي مع الفلوس في خصائص، وتتماثل مع النقود الذهبية أو الفضية في خصائص أخرى، فهي تتماثل مع الفلوس –ومع جميع أنواع النقود العرفية أو الاصطلاحية التي تفتقر إلى مالية ذاتية- في عدم قدرتها على حفظ الثروة وقياس وتسوية القيم الآجلة، خاصة كلما طال الأجل وتغيرت الأسعار، وتتماثل مع النقود الذهبية والفضية- ومع جميع أنواع النقود السلعية التي كانت متداولة قديماً- التي لها مالية ذاتية في مقدرتها على قياس القيم الحاضرة وأداء وظيفة الوساطة في التبادل (4)
__________
(1) نزيه حماد: تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي.. مقال: ندوة الربط القياسي للحقوق والالتزامات من وجهة النظر الإسلامية، أبريل 1987- جدة
(2) نزيه حماد: تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي.. مقال: ندوة الربط القياسي للحقوق والالتزامات من وجهة النظر الإسلامية، أبريل 1987- جدة
(3) نزيه حماد: تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي، مقال: ندوة الربط القياسي للحقوق والالتزامات من وجهة النظر الإسلامية، أبريل 1987 - جدة
(4) انظر: عبد الرحمن يسري أحمد: (دراسات في علم الاقتصاد الإسلامي) ، ص214-218(8/1563)
وإنه مما يثير عجب رجل الاقتصاد المعاصر أن يقرأ آراء فقهية معاصرة، فيجد أن بعضها يصر على إلحاق النقود الورقية بالفلوس وأحكامها الشرعية في كل شيء، والبعض الآخر يصر على القول بأن النقود الورقية قد حلت محل النقدين الذهب والفضة حلولاً كاملاً (1) فهي بدل كما يقال، وللبدل حكم المبدل عنه مطلقاً، والمطلوب رأي اجتهادي تجديدي يأخذ في الاعتبار الوضع الصحيح للنقود الورقية، وهو أنها صالحة تماماً مثل الذهب والفضة في أداء وظائفها في الوساطة في التبادل وقياس القيم الحاضرة في الأجل القصير، خلال العام الواحد، ولكنها لا تصلح لأداء وظيفة النقدين النفيسين في حفظ الثروة، والوفاء بالالتزامات والحقوق الآجلة، أو قياس القيم الآجلة إلا إذا كان مستوى الأسعار مستقراً.
نحن إذاً بصدد حالة جديدة لم تكن معروفة؛ فلنواجهها كما هي دون أن تطغى علينا آراء مسبقة أو آراء فرضناها على أنفسنا عن طريق استدلال قمنا به أو قياس اعتقدنا بصحته، ولكن نتائجه لا تستقيم مع مصالح عامة الناس ولا تؤكد أولوية العدالة التي حرص عليها الإسلام دائماً.
أياً كان الأمر فإن رجل الاقتصاد الإسلامي لا يملك إلا أن يأخذ من بين الآراء الفقهية الموجودة إلا ذلك الرأي الذي يحرص على تحقيق مصلحة عامة المسلمين، ويتفق مع قضية التحليل العلمي للأمور الاقتصادية.
إن الأجر للعامل كالثمن للمبيع، وهناك اتفاق تام على هذه المسألة، فإذا كان الثمن حاضراً لمبيع حاضر، فإنه لا مشكلة بالنسبة للنقود الورقية حتى في ظل تغير الأسعار كما سبق الشرح، ذلك لأنه طالما اتفق المشتري والبائع فإننا نفترض أنهما قد استطاعا أن يقوما بتقدير مصلحتيهما في إطار السوق الحر ومتغيرات الأسعار والقيمة الحقيقية للنقود، أما إذا كان الثمن مؤجلاً لمبيع حاضر، فإن المناقشة الخاصة برخص النقود تصبح ذات أهمية.
والتفرقة هنا ضرورية بين التضخم المفاجئ وغير المفاجئ، وكذلك بين الحاد والمعتدل، فبافتراض تضخم مفاجئ وحاد يلزم النظر في الثمن المؤجل؛ حتى لا يقع ظلم بيِّن على البائع ولم تكن لديه قدرة بأي شكل على توقع أو تفادي ما حدث، وهذه الحالة ليست شائعة أو متكررة، وإلا لأثارت مشكلة حتى في خلال العام الواحد، وقد يكون التضخم مفاجئاً ولكن معتدلاً، وليس في هذا نفس المشكلة.
__________
(1) انظر: سليمان بن منيع (الورق النقدي) حقيقته، تاريخه، قيمته، وحكمه، الطبعة الأولى 1391هـ / 1971م- مطابع الرياض، المملكة العربية السعودية، والطبعة الثانية 1404هـ /1984م والصفحات المشار إليها من الأخيرة (ص70 وما بعدها)(8/1564)
أما إذا كان التضخم متوقعاً –أي غير مفاجئ- فيفترض أن يكون البائع بالأجل قد أخذ في حسبانه ظروف التغيرات في الأسعار، ومن ثم في القيمة الحقيقية للمعاملة عند البيع، ويمكن تشبيه الأجر بالثمن المؤجل حيث يستحق بعد أداء عمل معين وتسليمه أو بعد انقضاء وقت معين متفق عليه، ولن تكون هناك مشكلة بالنسبة للأجر الحقيقي واحتمال التغير فيه في غضون الفترة القصيرة (الأسبوع أو الشهر أو السنة) في معظم الحالات التي نجد فيها التضخم معروفاً ومعدله متوقعاً، إنما المشكلة كما سبق الإيضاح في المدة الطويلة حيث تمتد عقود الإجارة الخاصة للأفراد إلى سن التقاعد أو إلى نهاية العمر (أيهما أقرب) فتنشأ المشكلة حقاً كلما طال الأجل بعد التعاقد الأصلي الذي تم فيه تحديد معدل الأجر لأول مرة.
وبسبب ظروف العلاقات العمالية في العصر الحديث وطبيعة عقود العمل الممتدة لآجال طويلة جداً من الزمن، فإن مشكلة الأجر تبدو أكثر من مشكلة الثمن المؤجل، سواء كان التضخم حاداً أو معتدلاً تدريجياً، ومتوقعاً أو مفاجئاً ذو معدلات متغيرة، وزيادة معدل الأجر تبعاً للنقص في القيمة الحقيقية للنقود لا يعني هنا أكثر من المحافظة على الحق العيني للعامل والذي حصل عليه بموجب تعاقده مع مستخدمه لأول مرة، أما إذا لم يتم هذا فإنه يعني استيفاء صاحب العمل لحقه من العامل مقابل أجر حقيقي أقل مما اتفق عليه أصلاً، وهذا يتعارض مع مبدأ العدالة الذي تحافظ عليه الشريعة في جميع الأمور، فثبات الأجر النقدي ليس إلا مظهراً خادعاً، ولقد تحدث الاقتصاديون كثيراً عن خداع النقود (الورقية) ، كذلك فإن زيادة الأجر النقدي بنسبة لا تعوض الفقد في القيمة الحقيقية للنقود ليس فيه وفاء بحق العامل، ويتضمن على سبيل التأكيد نسبة خداع أو غش. وعلى سبيل التأكيد ينبغي أيضاً أن نفرق هنا بين الزيادة المطلوبة في معدل الأجر النقدي بسبب التدهور في القيمة الحقيقية للنقود والزيادة التي يمكن أن يطالب بها العامل بسبب ارتفاع إنتاجيته الحقيقية على مدى الزمن أو لأي سبب آخر.
شروط العلاج وضرورة الحذر من الآثار السلبية أو الجانبية:
تختلف الشروط الأولية أو الضرورية للعلاج المقترح عن الشروط الكافية لتطبيقه، وسنبدأ بذكر الأولى.
إن الشروط الأولية أو الضرورية لتطبيق سياسة ربط الأجور بالمستوى العام للأسعار تتمثل أولاً في توافر إحصائيات دقيقة وصادقة عن أسعار السلع والخدمات المختلفة التي تدخل في تركيب الرقم القياسي لأسعار التجزئة، وذلك حتى يتم تقدير هذا الرقم تقديراً دقيقاً؛ ذلك لأن هدف العدالة الذي هو القصد من وراء عملية ربط الأجور بالرقم القياسي للأسعار قد يختل بدرجة أو بأخرى، أو ربما لا يتحقق إذا اعتمدنا على إحصائيات غير سليمة أو حسبنا الرقم خطأ.(8/1565)
وبالإضافة إلى عدم تحقيق هدف العدالة عند الاعتماد على إحصائيات غير صادقة، فإن هناك آثاراً اقتصادية سيئة سوف تترتب على ربط الأجور برقم قياسي غير دقيق أو غير معبر عن تغيرات الأسعار، ويلاحظ أن الكثير من الدول النامية ومن بينها الدول الإسلامية المعاصرة تفتقر إلى الإحصائيات الدقيقة الخاصة بالأسعار، وتفتقر إلى المؤسسات الكفء في مجال الإحصاء، هذا الأمر يثير المخاوف بالطبع حيث يبين أحد أوجه النقص التي سوف نواجهها عند تطبيق العلاج المقترح، ومع ذلك فإن من الممكن تفادي هذا النقص أو القصور بإعادة النظر في تنظيم وعمل الأجهزة المسؤولة عن جمع الإحصائيات واستخدامها، وذلك بالاستعانة بأهل الخبرة المشهود لهم بالأمانة والحيدة العلمية، وكذلك بالاجتهاد قدر الاستطاعة في جمع البيانات الواقعية بدقة، وحث مختلف الأفراد على التعاون في هذا المجال.
أما ثاني الشروط الضرورية لتطبيق العلاج المقترح، فيتمثل في وجود هيئة رسمية عليا على المستوى الوطني تصبح مسؤولة بصفة دائمة عن ربط الأجور بالتغيرات في المستوى العام للأسعار، وذلك بالتنسيق مع السلطات الاقتصادية للدولة (وزارة الاقتصاد والبنك المركزي) من جهة، ومع أصحاب الأعمال والعمال من جهة ثانية، وهذه الهيئة العليا، ولنطلق عليها هيئة الأجور والأسعار سوف تضم إذاً ممثلين من وزارة الاقتصاد ومن البنك المركزي ومن الهيئات الممثلة لأصحاب الأعمال والنقابات العمالية، بالإضافة إلى بعض أهل الخبرة من رجال الاقتصاد والشريعة، ودور الهيئة العليا للأجور والأسعار كبير الأهمية، ولا غنى عنه، حيث يتمثل في إعلان النسبة المئوية أو المدى الذي سوف تتحرك فيه الأجور تبعاً لتغيرات الأسعار، ومتى يبدأ التنفيذ؟ وفي أي الأنشطة أولاً، ثم أي الأنشطة بعد ذلك؟ وهل يسمح بتحرك الأجور لأعلى تدريجياً أم دفعة واحدة؟ وكذلك يتعين على الهيئة العليا للأجور والأسعار الاتصال بممثلي أصحاب الأعمال والعمال للتأكد من سير الأمور بدقة وفقاً للخطة الموضوعة أو البرنامج المقترح، وتفادي أوجه النقص أو القصور التي تظهر خلال التنفيذ حتى لا تقود هذه إلى مشاكل قد يكون لها انعكاسات خطيرة على الأسعار والنشاط الإنتاجي.(8/1566)
وثالث الشروط الضرورية في رأينا أن يكون هناك التزام عام بعقود عمل مكتوبة ومسجلة رسمياً لدى هيئات مختصة أو لدى بعض الهيئات المعروفة، مثل هيئة التأمينات الاجتماعية أو النقابات العمالية؛ ذلك لأن بعض أصحاب الأعمال قد يحاولون التهرب من الالتزام بتعديل الأجور النقدية على مدى السنوات المتتالية إذا لم تكن عقود العمل مدونة ومسجلة وموضحاً فيها شروط العمل ومعدل الأجر.
أما الشروط الكافية للعلاج المقترح فتتعلق بمواجهة الآثار السلبية أو الجانبية غير المرغوبة المترتبة على التطبيق، وأهم هذه الآثار على الإطلاق ينبعث من العلاقة الدائرية بين الأجور والأسعار، فكما أن الارتفاع التضخمي في الأسعار يستدعي زيادة الأجور النقدية، فإن هذه بدورها يمكن أن تؤدي إلى زيادة حدة التضخم، فالتضخم كما هو معروف له أسباب عديدة، وأحدها زيادة الأجور النقدية التي لا تقابلها زيادة في الإنتاجية الحقيقية للعمال على المستوى الكلي للاقتصاد، فالزيادة في الأجور النقدية تؤدي إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي الكلي، بينما أن ثبات الإنتاجية الحقيقية للعمال –أو عدم زيادتها بمعدل متقارب مع الزيادة في الأجور النقدية- يعني أن الناتج الحقيقي الكلي من السلع والخدمات لم يتغير –أو تغير بمعدل غير متناسب مع التغير في الإنفاق الاستهلاكي- وهذا مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار في الأسواق، لذلك فإن ثمة اختلال قد ينشأ بسبب زيادة الأجور النقدية التي تتقرر بناء على الارتفاع في الأسعار، وهذا الاختلال يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بشكل عام، فإذا رفعنا الأجور مرة أخرى دخلنا في دائرة مفرغة، أو ما يسمى بلولب الأسعار / الأجور.
ومن جهة أخرى فإن الاختلال الناشئ بين الأجور النقدية التي سوف نربطها بالرقم القياسي للأسعار من جهة، والإنتاجية التي تتحدد بعدد من العوامل الأخرى من جهة ثانية لن يكون عاما أو بنفس الدرجة في جميع الأنشطة داخل الاقتصاد، فالواقع أن بعض الأنشطة سوف تتميز بارتفاع الإنتاجية بمعدل يفوق الارتفاع في المستوى العام للأسعار، بينما تشهد أنشطة أخرى عكس هذا الوضع أو ربما تظل الإنتاجية فيها ثابتة، وفقط في الأنشطة التي ترتفع فيها الإنتاجية بمعدل يفوق أو يساوي معدل الزيادة النقدية في الأجور (التي ترتبط بالمستوى العام للأسعار) فإن أثر الربط القياسي للأجور لن يكون تضخمياً.(8/1567)
ولهذه المسألة نفسها أبعاد أخرى، فالمتوقع أن أصحاب الأعمال الذين نلزمهم برفع معدلات الأجور لعمالهم بما يتناسب مع الزيادة العامة التي يسجلها الرقم القياسي للأسعار لن يعانوا من هذه السياسة إذا كانت الإنتاجية قد ارتفعت لديهم بما يفوق التغير في الأجور، أما بالنسبة لأصحاب الأعمال في الأنشطة التي لم تتغير فيها الإنتاجية أو ربما انخفضت، فإنهم سوف يواجهون نقصاً في أرباحهم بسبب سياسة ربط الأجور بالمستوى العام للأسعار، وفي ظل اقتصاد يعتمد على السوق وحرية التعاقد واتخاذ القرارات المحققة للمصلحة الخاصة سوف يقوم رجال الأعمال الذين تتأثر أرباحهم بسبب السياسة المذكورة بالنظر في احتياجاتهم الفعلية من العمال، ولن يكون أمراً غريباً إذا قام بعض هؤلاء بإنهاء عقود بعض العمال بدلاً من زيادة أجورهم، بل ربما أدت السياسة نفسها إلى إغلاق بعض المشروعات التي كانت أصلاً تعاني من خسارة سابقة، ومن ثم تسريح عمالها، وهكذا يمكن أن يتسبب الربط التلقائي للأجور بالرقم القياسي للأسعار إلى بطالة عمالية غير مرغوبة اقتصادياً واجتماعياً.
وبناء على ما سبق فإن أول الشروط الكافية لسياسة ربط الأجور بالرقم القياسي للأسعار أن يتم تنفيذها من خلال السياسة الاقتصادية الكلية التي تعالج التضخم والتي ترسمها وتشرف على تنفيذها السلطات الاقتصادية للدولة، ومن خلال هذه السياسة الكلية قد يتقرر السماح بزيادة الأجور على المستوى بمعدل لا يزيد عن 5 % بينما أن الرقم القياسي للأسعار قد سجل ارتفاعاً قدره 10 % مثلاً، والسلطات الاقتصادية قبل اتخاذها لمثل هذا القرار ستعمل على تقدير الأثر العام للزيادة في الأجور على المستوى العام للأسعار والانعكاسات المتتالية لهذه العملية على النشاط الاقتصادي، وقد يظن لأول وهلة أن في هذا ظلما واقعا على العمال حيث تتدهور الأجور الحقيقية، ولكن ليس الأمر كذلك بالضرورة؛ لأن علاج التضخم بتخفيف حدته أو بالتخلص منه هو الحل الأساسي للمشكلة، ومن ثم فإن له أولوية على علاج المشاكل المترتبة عليه، بعبارة أخرى قد تتحقق مصلحة الجميع حينما نرجئ الزيادة النقدية في الأجور بالرغم من الارتفاع العام في الأسعار، أو نسمح بهذه الزيادة ولكن بمعدل يقل عن معدل الارتفاع العام في الأسعار.(8/1568)
أما الشرط الثاني الكافي لنجاح السياسة فهو قيام الهيئة العليا للأجور والأسعار (التي سبق اقتراحها) بوضع برنامج زمني لتنفيذ هذه السياسة في إطار السياسة الاقتصادية الكلية للدولة، والتي يفترض أن من أهدافها الرئيسية تحقيق النمو أو التنمية الاقتصادية في ظل أقل معدل ممكن للتضخم وأعلى مستوى ممكن للتوظف، والتقيد بالسياسة الاقتصادية الكلية للبلد قد يستدعي العمل على ارتفاع الأجور بمعدلات تقل عن معدل الارتفاع في الأسعار، والتمييز بين الانشطة المختلفة داخل الاقتصاد بالنسبة للمعدلات التي ترتفع بها الأجور وفقاً للتغيرات في الإنتاجية، وتحديد الآلية التي يتم بها تنفيذ سياسة ربط الأجور، الأنشطة التي تبدأ قبل غيرها في رفع الأجور والتدرج المطلوب في التنفيذ، ويتطلب تنفيذ سياسة ربط الأجور بالأسعار في هذا الإطار الكلي تنظيم لقاءات بين أصحاب الأعمال والعمال في الأنشطة المختلفة والترتيب للمفاوضات بينهم في حالة الاختلاف والتدخل للتحكيم كلما لزم الأمر، وكلما كانت الهيئات الممثلة لأصحاب الأعمال والعمال أكثر وعياً بالصلة الوثيقة بين سياسة (الأجور / الأسعار) والسياسة الاقتصادية الكلية للبلد كلما قلت الآثار السلبية أو الجانبية المترتبة على هذا العلاج المقترح.
السياسات المكملة للعلاج المقترح:
يندر أن يؤدي نوع واحد من السياسات الاقتصادية دور العلاج الناجع الكامل لمشكلة ما على المستوى الكلي كما سبق وذكرنا، وقد لاحظنا من قبل ضرورة تنفيذ السياسة المقترحة لربط الأجور بتغيرات الأسعار من خلال السياسة الاقتصادية الكلية، لذلك سوف ترتبط سياسة (الأجور / الأسعار) بالسياسات النقدية والمالية وسياسة التنمية والتوظف.
من الصعب مثلاً أن نتصور جدية سياسة ربط الأجور بالأسعار ما لم تكن هناك سياسة نقدية تعمل على تنظيم عرض وتدفقات كمية النقود داخل الاقتصاد، فالزيادة في عرض وتدفقات النقود بمعدلات تفوق زيادة الناتج الحقيقي على المستوى الكلي سوف تغذي التضخم وتزيد من حدته، كذلك تؤدي سياسة عجز الموازنة العامة إلى التضخم، ومن ثم لا بد من الحد من بعض بنود الإنفاق العام غير الضروري، أو زيادة الضرائب على بعض أنواع السلع بغرض مكافحة التضخم (1) .
__________
(1) يمكن للدولة فرض الضرائب على بعض السلع الكمالية أو فوق الكمالية - وهي غير محرمة- وذلك بغرض ترشيد الاستهلاك بالمفهوم الإسلامي ومكافحة التضخم في نفس الوقت، ويلاحظ أن بعض النظريات تعزو التضخم إلى زيادة الطلب أو الإنفاق الكلي، ولكن ينبغي أن يكون لدينا مفاهيم شرعية واضحة عن حق الدولة في فرض الضرائب في مثل هذه الحالة(8/1569)
ومن الضروري أيضاً متابعة الاهتمام بقضية تنمية الناتج الحقيقي الكلي بأعلى معدلات ممكنة في إطار سياسة التنمية؛ حيث إن هذا هو العلاج الهيكلي للتضخم في الأجل الطويل، ويجب أن نتذكر دائماً أن التضخم المستمر هو سبب المشكلة أصلاً..
خاتمة البحث:
العلاج المقترح والعلاج الهيكلي الإسلامي: متفقان أم متعارضان؟
من المعروف أن العلاج المقترح لأي مشكلة واقعية يتقيد بقيود معينة، وفي الفكر الوضعي التجريبي فإن هذه القيود ليست سوى قيود الواقع العملي، أما في الفكر الوضعي المثالي (بغض النظر عن ماهية المثال) فإن القيود تتمثل فيما ينبغي أو ما يجب، وفي مواجهة المشاكل الحالية للبلدان الإسلامية يواجه رجل الاقتصاد الإسلامي مشكلة فكرية أساسية، تتمثل في أن النشاط الاقتصادي ليس محكوماً في الغالب بقواعد الشريعة الإسلامية، وإنما بقواعد وقوانين ونظم وضعية مستوردة من خارج العالم الإسلامي، فتارة تكون هذه رأسمالية النزعة، وتارة غير ذلك.
فهل يمكن طرح علاج إسلامي لمشكلة ما بالرغم من أن الإطار العام غير إسلامي؟ هذا هو السؤال الخطير الذي يواجهه رجال الاقتصاد الإسلامي عند بحثهم لمشاكل مجتمعاتهم المعاصرة، وفريق من الاقتصاديين الإسلاميين يرفض كلية فكرة المعالجة الإسلامية للمشاكل الموجودة في ظل أطر غير إسلامية، ويؤكد على ضرورة تصحيح الهيكل العام للمعاملات وهيكل المؤسسات والنشاط الاقتصادي أولاً وفقاً للشريعة الإسلامية ومقاصدها، بعد ذلك يأتي طرح العلاج الإسلامي لأي مشكلة موجودة أو مستجدة في ظل هذا الإطار، أما الفريق الثاني فيرى أن هناك ضرورة ملحة في علاج المشاكل التي يواجهها المجتمع الإسلامي في إطار ظروفه الحالية. والمنطق الذي يستند إليه الفريق الثاني هو أن الحل الهيكلي الإسلامي قابل للتطبيق على مراحل، وأنه إذا طبق في مرحلة ما في بعض الأمور فإنه يعمل على نقل المجتمع تلقائياً إلى مرحلة أعلى من حيث التطبيق، وهكذا إلى أن يتحقق الهدف الكامل النهائي.
وبينما لا يمكن إنكار أهمية رأي الفريق الأول بضرورة توافر الإطار الشرعي والعقائدي الإسلامي قبل بحث أي مشكلة وتقديم علاج لها، إلا أنه لا يمكن أيضاً التغاضي عن المشاكل الفعلية التي يواجهها المجتمع الإسلامي الحالي والتقليل من أهمية وضرورة علاج هذه المشاكل، فنحن لا نستطيع أن ننكر ضرورة بل وحتمية التصحيح الهيكلي لأوضاع المجتمعات الإسلامية القائمة، ولكن من الخطورة أيضاً بمكان أن نتغاضى عن مشاكل قائمة يعاني منها المسلمون بسبب الظن بأن بالإمكان الانتقال إلى وضع أمثل مرة واحدة، دون مقدمات أو مراحل انتقالية، وفي رأينا أن النظرة المتوازنة للأمور تقتضي النظر في المشاكل الراهنة القائمة في بلدان المسلمين، والعمل على علاجها مهما كانت أسباب هذه المشاكل، فالعلاج طالما يتم من منطلق الاعتماد على الشريعة الإسلامية، يعني ترك الخطأ أو التصحيح، ويعني خطوة للأمام في الاتجاه الصحيح، وعلينا أن نضع نصب أعيننا أن يكون أي علاج مقترح وسيلة تدريجية لتحقيق العلاج الهيكلي المطلوب في الأجل الطويل.(8/1570)
ولا شك أن مشكلة الأجور الحقيقية وتعرضها للتدهور المستمر على مدى الأجل الطويل بسبب التضخم –مما يعني الإخلال بحقوق العمال والانحراف عن مبدأ العدالة - قد نشأت نتيجة ظروف عديدة، منها سوء الإدارة النقدية والمالية، أو عدم القدرة على مواجهة التصرفات الاحتكارية، أو العجز المستمر في موازين المدفوعات أو جمود النشاط الإنتاجي، وغير ذلك من الأسباب التي تقف وراء ظاهرة التضخم المستمر، وبالنسبة لمن ينادون بالعلاج الإسلامي الهيكلي أولاً فإنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن هذا العلاج سوف يضمن التخلص من معظم الظروف المذكورة، ومن ثم فإن المشاكل المترتبة عليها سوف تختفي أو تقل حدة تدريجياً.
ولكن الواقع أن تطبيق الشريعة الإسلامية بينما يضمن التخلص من بعض هذه الظروف المشار إليها، إلا أنه لا يضمن بالضرورة الخلاص منها، هذا أمر يجب أن يعيه تماماً من يطالبون بالعلاج الهيكلي أولاً؛ ذلك لأنه حتى بفرض تطبيق الشريعة الإسلامية ووضع القواعد الملائمة للتنظيم الاقتصادي الإسلامي، فإن مشاكل معينة تظل متعلقة بطبيعة الحياة الاقتصادية وسلوك الأفراد الذي لا نستطيع أن نفترض كماله، فمن الممكن جداً أن تخفق حكومة إسلامية ملتزمة بالشريعة في إدارة العرض الكلي للنقود وذلك من منطلق قلة الخبرة، ومن الممكن أن يضع أحد وزراء المالية في ظل نظام اقتصادي إسلامي له قواعده المعروفة سياسة مالية فاشلة تتسبب في التضخم.. من الذي يستطيع أن يزعم أن حكومة ما ستكون في مأمن من الخطأ لأنها تعمل في إطار إسلامي؟ إن السلوك الرشيد بصفة عامة والالتزام بقواعد الاقتصاد الإسلامي سيؤدي إلى تقليل الأخطاء الاقتصادية، ولكنه لا يعني ضمان عدم وقوعها.
والرأي عندنا أن معالجة مشاكل الأجور في إطار ظروفنا الحالية أمر جوهري لكي لا تزداد المشاكل سوءاً في عالمنا الإسلامي، وحتى لا نتهم بأننا غارقون في مثالية خيالية، وهذا لا يعني أبداً أن نهمل أو نتهاون في اتخاذ جميع الخطوات اللازمة للعلاج الهيكلي الشامل، وأن نعمل بكافة الطرق على جعل العلاج الجزئي حلقة من العلاج الكلي وخطوة من الخطوات على الطريق الصحيح، أما ترك العلاج الجزئي أو المرحلي بدعوى التمسك بالحل أو العلاج الهيكلي وحده، ورفض أي شيء دونه فهو في رأينا نوع من السلبية الخفية التي يتذرع بها البعض ممن يعجزون عن مواجهة الواقع.. الواقع الذي واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً فأصلحه على مراحل بقرآن وسنة وعمل صالح وجهاد واجتهاد، والواقع المر الذي لا بد أن نواجهه الآن حتى نصلحه قدر استطاعتنا كلما استطعنا، وإلا فإنه سوف يستمر ويستمر بلا إصلاح، فتكون له آثار خطيرة على الأمة، تم بحمد الله.
د. عبد الرحمن يسري أحمد(8/1571)
الملحق
الرقم القياسي لأسعار التجزئة
الرقم القياسي للأسعار
من الضروري قياس المعدل الذي تتغير به الأسعار في سبيل قياس معدل التضخم، وهذا ما نفعله عن طريق الرقم القياسي، والذي يختص بالتغيرات المئوية في الأسعار.
إن الرقم القياسي للأسعار عبارة عن متوسط للتغيرات المئوية في أسعار عدد من السلع والخدمات، والمثال التالي سوف يبين لنا كيفية حساب هذا الرقم على مرحلتين من أجل التبسيط والشرح.
أولاً: حساب رقم قياسي للأسعار دون أوزان ترجيحية سنة 1990 (سنة الأساس) .
السلعة السعر بالجنيه الرقم القياسي
أ 10 100
ب 1 100
جـ 5 100
د 4 100
المجموع = 400
المجموع / عدد السلع= 400/4= 100 الرقم القياسي
سنة 1991 (سنة المقارنة)
السلعة السعر بالجنيه الرقم القياسي
أ 12 120
ب 1.50 150
جـ 4 80
د 5 125
المجموع = 475
المجموع / عدد السلع: 475/4= 118.75 الرقم القياسي(8/1572)
الشرح:
1- سنة 1990 تسمى سنة الأساس، وهي سنة نعتبرها بمثابة قاعدة أو مقياس، بمعنى أننا نقيس التغيرات في أسعار السنوات الأخرى على أساس أسعارها، وعند اختيار سنة الأساس نراعي قدر الإمكان أن تكون سنة عادية، بمعنى أنها لم تشهد ارتفاعاً أو انخفاضاً حاداً أو غير عادي في الأسعار.
2- نفترض أن لدينا أربع سلع: أ، ب، جـ، د؛ ولكن عند حساب الرقم القياسي في الحياة العملية نأخذ مئات السلع ونلتقط لكل سلعة عدة أسعار من تجارة التجزئة على مستوى البلد ككل، وننتقي السلع التي تستهلكها عادة أسرة متوسطة الدخل.
3- في سنة الأساس يعطى سعر كل سلعة من السلع رقماً قياسياً = 100.
4- نعبر عن الأسعار في السنة التالية 1991 بمعرفة التغيرات الحادثة فيها بالمقارنة بسنة الأساس، ويطلق على سنة 1991 سنة المقارنة، وكذلك على أي سنة أخرى عند مقارنة أسعارها بأسعار سنة الأساس. فمثلاً سعر السلعة (أ) في 1991 أصبح 12 (جـ) وكان 10 (جـ) في 1990. على ذلك يصبح الرقم القياسي لسعر (أ) في 1991 مساوياً 120 حيث الرقم القياسي لهذه السلعة = 100 في سنة الأساس. وهكذا فالرقم القياسي للسلعة (ب) في سنة المقارنة 150 ... إلخ.
5- نجمع الأرقام القياسية للسلع المختلفة ونقسم على عدد السلع فنحصل على الرقم القياسي للأسعار. وهو في سنة الأساس = 400/4 = 100 (ودائماً في أي مثال سوف = 100) وفي سنة المقارنة 475/4 = 118,75. هذا يعني أن الأسعار قد ارتفعت من 100 في 1990 إلى 118,75 1991؛ أي بنسبة 18.75 %، وهكذا فإن الرقم القياسي سوف يعبر عن النسبة المئوية للتغير في الأسعار بالمقارنة بسنة الأساس.(8/1573)
ثانياً: تعديل المثال السابق: حساب الرقم القياسي للأسعار أخذاً في الاعتبار الأوزان النسبية التي تعبر عن الأهميات النسبية للسلع.
وفي هذا المثال نترك التبسيط الذي اتبعناه من قبل لكي نتقدم إلى ما يحدث في الواقع.
السنة 1990 (سنة الأساس)
السلعة الوزن السعر بالجنيه الرقم القياسي الرقم القياسي المرجع بالوزن
أ 1 10 100 100
ب 4 1 100 400
جـ 2 5 100 200
د 3/10 4 100 300/1000
الرقم القياسي = 1000/10 = 100
السنة 1991 (سنة المقارنة)
السلعة الوزن السعر بالجنيه الرقم القياسي الرقم القياسي المرجع بالوزن
أ 1 12 120 120
ب 4 1.5 150 600
جـ 2 4 80 160
د 3/10 5 125 375/1255
الرقم القياسي = 1255/10 = 125,5
الشرح:
1- كما هو الحال في الجزء الأول –السابق- فإن الرقم القياسي لكل سلعة في سنة الأساس = 100، ولكن في هذا المثال العددي الأخير يتم ضرب الرقم القياسي للسلعة في الوزن الخاص بها. مثلاً السلعة (أ) في 1990 الرقم القياسي × الوزن = 100 × 1 = 100، والسلعة د. (100 × 3) وهذا هو الرقم المرجح بالوزن النسبي للسلعة.(8/1574)
2- يتم جمع الأرقام القياسية المرجحة وقسمة المجموعة على مجموع الأوزان في سنة الأساس 1000/ 10 = 100. وسنة الأساس في أي حساب لا بد أن تساوي 100.
3- في سنة المقارنة تم حساب الرقم القياسي بنفس الطريقة التي اتبعت في الجزء الأول (المثال العددي السابق) ثم تم الترجيح بنفس الطريقة، مثلاً السلعة جـ انخفض سعرها من 5 (جـ) في 1990 إلى 4 (جـ) في 1991، لذلك فإن الرقم القياسي لها 4/5 × 100 = 80، وبترجيح هذا الرقم بوزن السلعة النسبي ويساوي 2 إذا نجد الرقم القياسي المرجح = 160 في 1991.
4- يتم حساب الرقم القياس في 1991 بنفس الطريقة التي حسب بها في 1990، أي مجموع الأرقام القياسية المرجحة بالأوزان مقسوماً على مجموع الأوزان 1255/10 = 125.5، وهكذا يتضح أن الأسعار في 1991 قد تغيرت بنسبة 25.5 % بالمقارنة بسنة الأساس. واختلاف هذه النتيجة عن النتيجة الخاصة بالمثال العددي الأول يرجع إلى عملية الترجيح بالأوزان، وهي عملية ضرورية ولا بد منها للتوصل إلى نتائج صحيحة عن تغيرات الأسعار. ففي المثال العددي الأول لم نأخذ في اعتبارنا أن بعض السلع قد تكون أهم من الأخرى. لقد أعطينا كل سلعة من السلع أ، ب، جـ، د نفس الأهمية النسبية بإعطاء كل منها رقماً قياسياً = 100، وهذا غير واقعي. ولكن كيف نحدد الأهمية النسبية لكل سلعة حتى نعطيها وزناً يتفق مع ذلك؟. إن هذا الأمر يتوقف على نسبة الإنفاق على السلعة في ميزانية الأسرة، والاهتمام المنصب عند تكوين الرقم القياسي لأسعار التجزئة بالأسرة متوسطة الدخل، حيث تؤخذ ميزانيتها وتوزع هذه الميزانية على السلع المختلفة كمعيار عام يحتكم إليه. ومن واقع جمع عدد كبير جداً من الإحصائيات الخاصة بإنفاق الأسر ذات الدخل المتوسط في المجتمع نستطيع أن نعرف النسبة المئوية المخصصة لكل سلعة أو بند من بنود الإنفاق، ويتم تحديد الأوزان للسلع بناء على ذلك. وهذه الأوزان عرضة للتغير، فيتم أحياناً أخذ الأوزان الخاصة بسنة الأساس في الاعتبار عند الترجيح، وأحياناً أخذ الأوزان الخاصة بسنة المقارنة، فتطبق على سنة الأساس في هذه الحالة. ويفضل أخذ متوسط للأوزان بين سنة الأساس وسنة المقارنة.(8/1575)
التضخم والربط القياسي
دراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعي
والاقتصاد الإسلامي
إعداد
الدكتور شوقي أحمد دنيا
قسم الاقتصاد الإسلامي
كلية الشريعة – جامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
منذ فترة ليست بالقصيرة يعيش الاقتصاد المعاصر ظاهرة اقتصادية مرضية تتجسد في التقلبات السعرية الحادة ذات الاتجاه الصعودي عموماً، والتي تشتهر اليوم باسم ظاهرة التضخم. ومما زاد الأمر سوءاً اقتران هذه الظاهرة أخيراً بظاهرة مرضية أخرى مقابلة لها هي ظاهرة الانكماش أو الركود، مما جعلنا نعيش ما يعرف بظاهرة الركود التضخمي. وغير خاف أنه إذا كان علاج ظاهرة التضخم أو ظاهرة الركود صعباً فإن علاج ظاهرة الركود التضخمي أشد صعوبة.
ومن المعروف أن لظاهرة التضخم جذوراً تضرب في أعماق الماضي لدى العديد من الشعوب، لكنها في عصرنا هذا اكتسبت مواصفات وسمات جديدة من حيث تضخمها واستفحالها وتعقد وتعدد عواملها وأسبابها، وتضخم آثارها وتباين سياسات مواجهتها. ومن ثم استمرارها حتى أصبحت جزءاً من نسيج الاقتصاد المعاصر. أو حسب التعبير الطبي مرضاً متوطناً. (1)
ونظراً لعظم وجسامة الآثار السلبية لها من جانب وقصور ومخاطر مواجهتها من جانب آخر، أخذ الفكر الاقتصادي يتخذ حيالها مسلكاً مفاده العمل على معايشتها لكن على الوضع الأفضل؛ بعبارة أخرى العمل على الوقاية والحماية من آثارها. ومن هنا جاء البحث في سياسة الربط القياسي، كوسيلة لتقليل مضار التضخم طالما أنه من المتعذر القضاء عليه.
__________
(1) خيرات البيضاوي: التضخم وآثاره في العلم الثالث، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1986 (ص 7) .(8/1576)
وقد سبق أن كانت هناك محاولات متعددة من قبل الاقتصاديين المهتمين بالاقتصاد الإسلامي، لكن الأمر ما زال في حاجة إلى المزيد من الجهود لاستجلاء أبعاده من الناحية الاقتصادية والناحية الشرعية.
وبالرغم من أن الأهداف التي قدم من أجلها هذا البحث هي التعرف على آثار المعدلات المرتفعة للتضخم على الأطراف المتعاملة وكذلك على النقود وعلى الاقتصاد القومي عموماً. وعلى كيفية التعامل مع التضخم المرتفع في بعض البلدان التي عايشته. والإجابة على تساؤلين هما: هل هناك معيار شرعي للتفريق بين التضخم العادي والتضخم المرتفع بما يواكب العصر الحاضر؟ وهل يؤثر ارتفاع معدل التضخم على الحكم الشرعي المتعلق بربط الديون والعقود الآجلة بتغير المستوى العام للأسعار؟ بالرغم من هذا إلا أنه من باب العرض المتكامل للموضوع، ومن ثم المزيد من الفائدة فإن الهدف لن يقف عند ذلك، بل يتعداه إلى استعراض سريع لمفهوم التضخم وأسبابه وآثاره وعلاجه، وكذلك استعراض موقف الاقتصاديين الإسلاميين من سياسة الربط القياسي، ولتحقيق هذه الأهداف فإن البحث يحتوي على العناصر التالية:
1- أساسيات التضخم.
2- الاقتصاد الإسلامي والتضخم.
3- الفقه الإسلامي ومشكلة التضخم.
4- الاقتصاد الوضعي وسياسية الربط القياسي.
5- الاقتصاديون الإسلاميون وسياسة الربط القياسي.
6- الفقهاء القدامى وعملية الربط القياسي.
7- منهج التعرف على الحكم الشرعي للربط القياسي.
8- ما نراه حيال موضوع التضخم والربط القياسي.
1 - أساسيات التضخم
1 - 1 مفهوم التضخم: مما يعرفه الاقتصاديون جيداً أنه ليس هناك تعريف واحد للتضخم، بل إن هناك تعاريف عديدة كل منها ينطلق من زاوية من زوايا التضخم، كما أنه ليس هناك تعريف من هذه التعاريف لا ترد عليه ملاحظات، تكثر أو تقل. ومرجع ذلك كله تعقد ظاهرة التضخم وتنوع وتداخل عواملها، وتشعب آثارها. (1)
وأظن أننا هنا لسنا مطالبين بتقصي هذه المسألة والخوض العميق في لجتها. ويكفينا أن نذكر تعريفين للتضخم لهما شهرتهما ولهما حظ واسع من الاعتراف والقبول. رغم ما فيهما من ثغرات.
التعريف الأول: التضخم ارتفاع مستمر في المستوى العام للأسعار. وحيال هذا التعريف من المهم أن نلاحظ عدة ملاحظات، الأولى: أن التضخم هو عملية الارتفاع السعري، وليس هو أسعار مرتفعة. والثانية: استمرارية هذه الارتفاعات. والثالثة: أن كل ارتفاع ليس هو الأسعار المطلقة ولا الأسعار النسبية، وإنما هو المستوى العام للأسعار.
التعريف الثاني: التضخم انخفاض مستمر في سعر النقود، أو في قيمة النقود، أو في القوة الشرائية للنقود.
وبتأمل اقتصادي بسيط نجد مضمون التعريفين واحداً، رغم ما قد يكون لكل منهما من نكهة متميزة.
__________
(1) لمزيد من المعرفة يراجع: بنت هانسن: مشكلات التضخم في البلاد الصغيرة، ترجمة د. صلاح الصيرفي، نشر معهد الدراسات المصرية، القاهرة؛ كروين: التضخم، ترجمة د. محمد عزيز، نشر جامعة قاريونس، ليبيا، 1981م (ص 21) وما بعدها؛ مايكل أبدجمان: الاقتصاد الكلي، ترجمة د. محمد إبراهيم منصور، دار المريخ، الرياض، (ص 361) ، وما بعدها؛ د. نبيل الروبي، التضخم في الاقتصاديات المتخلفة، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، (ص 12) وما بعدها؛ د. فؤاد هاشم: اقتصاديات النقود والتوازن النقدي؛ 1959م، (ص 206) ؛ د. مصطفى رشدي: التحليل النقدي ونظرية الدخل القومي، الإسكندرية، 1971، T. Killick, Policy Economics, Heinemann, London: 1971, P. 158. (ص 62) W. C. Peterson, Income, Employment and Economic Growth, N. Y: W.W. Norton & Company, 1978, PP. 463 - 464.(8/1577)
1- 2- مقياس التضخم: (1) رغم ما يبدو من بساطة وسهولة التعرف على مقياس التضخم، وذلك من خلال التعريفين المذكورين. حيث لا يخرج مقياسه عن أن يكون المستوى العام للأسعار من حيث ما يعتريه من ارتفاعات. أو القوة الشرائية للنقود من حيث ما يعتريها من انخفاضات.
رغم هذه البساطة الظاهرية فإن المسألة أعقد من ذلك بكثير، لاعتبارات عديدة، منها: مفهوم المستوى العام للأسعار، وكيفية التعرف عليه وتحديده، وطبيعة الارتفاعات في هذا المستوى، وهل يدخل كل ارتفاع وإن قل؟ وطبيعة ومدى استمرارية هذه الارتفاعات، وهل هناك مدى زمني مقبول لهذه الاستمرارية؟ ثم طبيعة هذه الأسعار التي نتعامل معها، وهل هي الأسعار الحرة أو الأسعار الإدارية، إلى غير ذلك من العوامل التي تجعل من التعرف العلمي الدقيق على ظاهرة التضخم وتحديدها أمراً قد يكون بالغ الصعوبة بالرغم من أن الإحساس العادي بها من أقوى ما يكون ومن أيسر ما يكون. فليس هناك إنسان مهما كانت درجة ثقافته لا يشعر ولا يحس بوقع التضخم إذا ما كان موجوداً. ومع ذلك فإذا ما أخذنا هذا الشعور العادي وحاولنا أن نخضعه للدراسة العلمية فإن المسألة تغدو على غير ما كانت عليه من السهولة والبساطة.
ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى أن الفكر الاقتصادي والإحصائي لم يقف عاجزاً إزاء هذه المسألة، بل قدم المزيد من المحاولات وما زال يعدل ويطور فيها. لقد ابتكر في ذلك ما يعرف بالأرقام القياسية للأسعار. ومهما حاولنا في هذه الورقة أن نتناول هذه الأرقام فإن من عنده معرفة سابقة بها لن يزيده القول هنا معرفة على معرفته، ومن ليست عنده معرفة سابقة فلن يكتسب معرفة ذات بال مما نقوله عنها هنا. لذا فإننا نكتفي بالإشارة إلى أهم أنواعها. وهي ثلاثة: الرقم القياسي لأسعار المستهلك، وهو يتعامل مع حزمة من السلع والخدمات الاستهلاكية ذات المواصفات الخاصة؛ والرقم القياسي لأسعار المنتج، وهو يتعامل مع حزمة من السلع والخدمات الإنتاجية؛ والرقم القياسي المعروف بمكمش الناتج القومي الإجمالي، وهو يتعامل مع كل المنتجات النهائية التي تم إنتاجها في المجتمع في فترة ما، والذي نحب أن نؤكد عليه هنا بخصوص هذه الأرقام أنها وخاصة منها الأولان لا تعبر بصدق كبير عن التضخم القائم، كما أنها صعبة التطبيق والاستخدام، وليست متاحة في أي وقت وفي كل الدول. وهي في حاجة إلى تعديل وتطوير مستمر. (2)
__________
(1) د. مصطفى رشدي: الاقتصاد النقدي والمصرفي، بيروت – الدار الجامعية للطباعة والنشر، 1981 (ص 556) وما بعدها؛ د. نبيل الروبي، مرجع سابق.
(2) ابدجمان. مرجع سابق. ص 363 وما بعدها، كروين. مرجع سابق. ص 22؛ د. محمد زكي شافعي: مقدمة في النقود والبنوك، دار النهضة العربية، القاهرة، (ص 62) وما بعدها؛ د. صقر أحمد صقر: النظرية الاقتصادية الكلية، الكويت – وكالة المطبوعات، 1977م، ص 52 وما بعدها.(8/1578)
ومهما يكن من أمر فإنه بفرض توفر هذه الأرقام فإن دلالتها على التضخم في ضوء التحفظات السابقة يمكن إدراكها، فلو كان الرقم القياسي للأسعار في سنة ما هو 120، وذلك بالنسبة لسنة أخرى، فإن معنى ذلك أن مستوى الأسعار قد ارتفع في هذه السنة عن تلك السنة بمقدار 20 % وهكذا. (1)
وتبقى درجة صدق تعبير هذا الرقم عن التضخم القائم فعلاً رهينة عوامل عديدة، منها ما يرجع إلى طريقة تركيب الرقم نفسه ومنها ما يرجع إلى نوعية السلع والخدمات المختارة، وكذلك غير المختارة، ولذلك فإن المقياس يجب أن يؤخذ بحذر كبير، وفي بعض الأحيان قد يكون خاطئاً بدرجة كبيرة إن لم يكن مضللاً فعلاً.
كذلك من المفيد هنا أن نشير إلى أنه من خلال التعريفين المذكورين للتضخم لم نجد تحديداً لمقدار التغير في المستوى السعري أو في قيمة النقود، ومعنى ذلك أن أي تغير طالما استمر يعتبر تضخماً. وفي هذا الصدد نجد بعض الاقتصاديين لا يبدون ارتياحاً كبيراً لاعتبار كل تغير مرتفع تضخماً، بل يرون التضخم قاصراً على التغير الكبير فقط، حيث إن مجرد التغير أمر عادي ولا يخلو منه مجتمع، ولا يعد ظاهرة مرضية، عكس التغير الكبير، ورغم ما لهذا الموقف من وجاهة إلا أن نقطة الضعف فيه هو عدم توافر مقياس موضوعي للارتفاعات أو الانخفاضات الكبيرة، وإنما هي معايير تحكمية، وغير عامة.
والبعض الآخر من الاقتصاديين يرون كل تغير تضخماً غير أنه ذو درجات متفاوتة، فهناك التضخم المعتدل أو العادي، وهناك التضخم المرتفع. ونفس الاعتراض يرد هنا، إذ ما هو الفيصل بين التضخم المعتدل والتضخم المرتفع؟
__________
(1) وذلك طبقاً للمعادلة التالية: الرقم القياسي لسنة القياس – الرقم القياسي لسنة الأساس معدل التضخم = ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ × 100 الرقم القياسي لسنة الأساس(8/1579)
ليست هناك إجابة قاطعة يمكن تعميمها في هذا الشأن، فالأمر يختلف من حالة لأخرى ومن دولة لأخرى. وما ينظر إليه على أنه معتدل في دولة ينظر إليه على أنه مرتفع في أخرى. فهل المعتدل ما كان في حدود 5 % سنوياً؟ أو في حدود 10 % سنوياً؟ ليست هناك معلومات أو بيانات -على الأقل فيما اطلعت عليه- تمكن من الإجابة المحددة على ذلك (1) وسوف نرى في فقرة قادمة أن أمر هذه المسألة قد يكون أيسر لدى الفقهاء.
1- 3- أسباب التضخم: الجدل المحتدم بين الاقتصاديين حول عوامل وأسباب هذه الظاهرة لا يخفى على مهتم (2) وليس من مهمة هذا البحث الدخول في لجة هذا الموضوع وسبر أعماق جوانبه، وإنما يكفي التعرض الكلي له ثم استخلاص دلالته في موضوعنا.
يمكن القول إن ظاهرة التضخم هذه التي تعايشنا معها منذ فترة ليست بالقصيرة هي ظاهرة متعددة العوامل والأسباب والمولدات. وتعدد العوامل لا ينفي تفاوتها في الأهمية، ومعنى ذلك أنه لا خلاف بين الاقتصاديين، وإن اختلفت مدارسهم حول تعدد أسباب الظاهرة، لكن الخلاف بينهم حول مدى أهمية كل عامل ودرجة إسهامه في توليد هذه الظاهرة، وبإجمال شديد يمكن ذكر رؤوس هذه العوامل على النحو التالي:
1- العامل النقدي: تعتبر زيادة كمية النقود من أهم العوامل المسببة لزيادة الطلب عن العرض، ومن ثم حدوث التضخم.
2- العامل المالي التوسعي: ومن أسباب زيادة الطلب عن العرض ومن ثم حدوث التضخم زيادة الإنفاق الحكومي من جهة والتخفيضات الضريبية المتعاقبة وخاصة منها الضرائب المباشرة.
__________
(1) د. نبيل الروبي، مرجع سابق، ص 29 وما بعدها. R.J. Boll, Inflation and the theory of mony, London: Alen & Unwin, 1964, P. 261.
(2) أبدجمان، مرجع سابق، ص 374 وما بعدها. جيمس جوارتني، ريجاردوا ستروب: الاقتصاد الكلي، ترجمة د. عبد الفتاح عبد الرحمن وآخر، دار المريخ، الرياض، ص 401 وما بعدها؛ د. رمزي زكي: مشكلة التضخم في مصر. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980، ص 40 وما بعدها؛ باري سيجل: النقود والبنوك والاقتصاد، ترجمة د. طه عبد الله منصور وآخر، دار المريخ، الرياض، ص 553 وما بعدها؛ د. نبيل الروبي، مرجع سابق، ص 45 وما بعدها؛ د. محمود عبد الفضيل: مشكلة التضخم في الاقتصاد العربي: الجذور والمسببات والأبعاد والسياسات. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1982، ص 37 وما بعدها؛ خيرات البيضاوي، مرجع سابق، ص 17 وما بعدها. T. Killick, OP. 160 - 171(8/1580)
3- تزايد التكلفة: والتي تسبب تخفيض حجم العرض عن الطلب ومن ثم حدوث التضخم، وتزايد التكلفة قد يرجع إلى ارتفاع الأجور أو إلى ارتفاع الأرباح أو إلى ارتفاع أثمان المواد المستوردة أو ارتفاع الفوائد، وكل ذلك يولد بطريق أو بآخر ارتفاع الأسعار. ومن المعروف أن التضخم المستورد يمارس دوراً بارزاً في تغذية العملية التضخمية في البلاد النامية.
والملاحظ أن التضخم الناشئ هنا يسمى تضخم دفع التكلفة، والملاحظ أيضاً أنه في ظل هذا اللون من التضخم يهبط حجم الناتج ويتزايد حجم البطالة، مما يعني أن منحنى فيلبس الشهير لا ينحدر انحداراً سالباً على الأقل في المدى الطويل، وبالتالي التشكك في علاقة التقابل بين التضخم والبطالة. (1) وإذا كان كل من العامل الأول والعامل الثاني يولدان تضخم جذب الطلب، فإن وجود العناصر الاحتكارية ممثلة في نقابات العمال أو اتحادات المنتجين، وكذلك وجود ما يعرف بالتضخم المستورد؛ كل ذلك يولد النوع الثاني من التضخم وهو ما يعرف بتضخم دفع التكلفة. وفي الحقيقة فإنه في الكثير الغالب لا نجد استقلالية لأي من النوعين عن الآخر، بل كلاهما يمثل حلقة في العملية التضخمية التي حالما تبدأ فإن كلاً منهما يولد الآخر ويتولد عنه. (2)
ومما تجدر الإشارة إليه أن المزيد من الضرائب في بعض أنواعها يولد بدوره تضخم التكلفة، كما أن النص المفاجئ في بعض عناصر الإنتاج ومستلزماته يولد هو الآخر التضخم. وعموماً فإن التضخم في النهاية قد يرجع إلى تزايد الطلب لسبب أو لآخر، كما قد يرجع إلى نقص العرض، وكذلك لعوامل هيكلية.
1- 4- آثار التضخم: مع التسليم بعدم وجود مقياس موضوعي عام للتمييز بين التضخم العادي أو المعتدل، والتضخم المرتفع أو الجامح، إلا أن ذلك لا يعني أن الآثار السلبية لهذه الظاهرة مربوطة بحدة هذه الظاهرة ومدى ارتفاعها، ولذلك فإن ما قيل وما يقال عن هذه الآثار فإنه ينصرف فعلاً إلى التضخم المرتفع بالدرجة الأولى.
__________
(1) أبدجمان، مرجع سابق، ص 389.
(2) لمعرفة مفصلة بالعملية التضخمية راجع أبدجمان، مرجع سابق، ص 950 وما بعدها.(8/1581)
وقبل أن نتناول هذه الآثار السلبية قد يكون من المفيد الإشارة إلى ما يطرحه بعض الاقتصاديين من ضرورة التمييز بين التضخم المتوقع والتضخم غير المتوقع، ذاهباً إلى أن الكثير من تلك الآثار إنما يعود فقط من جراء التضخم غير المتوقع. (1) ومع التسليم بذلك ولو جزئياً إلا أنه من المهم التأكيد على صعوبة وتعذر توقع التضخم بشكل دقيق أو قريب منه في الكثير الغالب من الحالات.
فكثيراً ما لا يمكن توقعه، وأحياناً كثيرة يخيب التوقع، فلا يحدث التضخم مع توقعه، أو لا يحدث بنفس درجة التوقع، إنما قد يكون أقل أو أعنف، وفي كل ذلك يكون التضخم الواقع غير متوقع. وهنا نجد أن عملية التوقع وما يترتب عليها من إجراءات قد تحدث آثاراً سلبية ضارة في حد ذاتها على الاقتصاد القومي وعلى أطراف المعاملات، وعموماً فإن هناك اتفاقاً بين الاقتصاديين على أن للتضخم آثاراً متعددة يمكن ذكر أهمها فيما يلي:
1- تدني كفاءة العملة في قيامها بوظائفها، (2) فمن المتعارف عليه أن للنقود وظائف فنية أربعاً؛ وسيط في المبادلة، ومقياس للقيمة، ومخزن للقيم، ووسيلة للمدفوعات الآجلة، ومن الملاحظ أن كل هذه الوظائف على درجة كبيرة من الأهمية في ظل اقتصاد نقدي؛ إذ إن تحقق هذه الوظائف على الوجه الأمثل يعد أحد الشروط الضرورية لعمل مثل هذا الاقتصاد بكفاءة عالية، ومما يلاحظ كذلك أن هذه الوظائف أو على الأقل الثلاث الأولى منها بينها قدر كبير من التلازم، بمعنى أن قيام الشيء بوظيفة منها يستدعي عادة قيامه ببقية الوظائف، ومن ثم فإنه من الصعب قبول مقولة: إن النقود تفقد وظيفتها كمخزن للقيم وتظل تمارس بقية الوظائف مثلاً. (3)
ومن المتعارف عليه أن التضخم يجعل النقود لا تؤدي تلك الوظائف بكفاءة، وكلما اشتد كلما فقدت النقود أهليتها للقيام بوظائفها، إلى أن تفقد أهليتها كاملة، بمعنى أن تصبح غير مقبولة بين الناس كوسيط للمبادلة، ومن ثم كوحدة للحساب، ومن ثم كمخزن للقيم، ومن باب أولى كوسيلة للمدفوعات الآجلة، كل ذلك عندما يشتد التضخم ويجمح حيث تفقد النقود قيمتها النقدية (القوة الشرائية العامة) (4) وعند ذلك فإن الأمر ينتهي بإبطال هذه العملة وإصدار عملة جديدة مكانها، وقد حدث ذلك في المجتمع الإسلامي أكثر من مرة كما حدث في العديد من المجتمعات الأخرى. يقول المقريزي: (أصبح ينفق أحدهم مئة درهم على ما كان ينفق فيه من قبل عشرين درهماً) (5)
2- إعادة توزيع الدخل والثروة بين الأفراد والدولة من جهة وبين الأفراد وبعضهم البعض من جهة أخرى.
__________
(1) باري سيجل، مرجع سابق، ص 591 وما بعدها؛ كروين، مرجع سابق، ص 111 وما بعدها، أبدجمان، مرجع سابق ص 367 وما بعدها.
(2) باري سيجل، مرجع سابق، ص 599 R. J. Ball, Op cit., P. 262. د. نبيل الروبي، مرجع سابق، ص 337.
(3) باري سيجل، مرجع سابق، ص 13 وما بعدها
(4) المقريزي: إغاثة الأمة، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1975م؛ د. محمد عجمية، د. محمد محروس: فصول في التطور الاقتصادي، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، ص 112 – 126؛ د. محمد زكي شافعي، مرجع سابق ص 89
(5) الإغاثة، ص 75. ومعنى هذا أن قيمة النقود أصبحت 20 % من قيمتها قبل التضخم، ومعنى ذلك أيضاً أن الرقم القياسي أصبح 500 %.(8/1582)
من المعروف أنه في ظل التضخم يتجه الدخل من الأفراد إلى الدولة، من خلال المزيد من الضرائب التي تولدت في المجتمع لمجرد وجود التضخم، (1) ومن خلال فقدان الديون العامة قيمتها الحقيقية، ولعل في ذلك ما يفسر لنا ولو جزئياً ما نجده من توان وعدم بذلك الجهد الكافي من قبل بعض الدول لمواجهة التضخم، رغم ما له من آثار ضارة.
أما عن تأثير التضخم في توزيع الدخول والثروات بين الأفراد فيمكن القول بوجه عام: إن بعض الأفراد والفئات تستفيد من التضخم وبعضها يضار منه، فأصحاب الأصول المالية والنقدية وأصحاب الدخول الثابتة مثل العمال والموظفين يضارون من التضخم، عكس أصحاب الأصول العينية وأصحاب الدخول الحرة، مثل التجار وأصحاب المهن الحرة. (2) وفي هذا الصدد يهمنا توضيح بعض المسائل:
أ- أثر التضخم على كل من المقرض والمقترض: من المقولات الاقتصادية الشائعة أن التضخم يفيد المقترض ويضر المقرض، وهذه المقولة صحيحة إلى حد كبير خاصة في ظل اقتصاد لا يؤمن بسعر الفائدة، أما في ظل الإيمان بنظام الفائدة فإن الأمر في النهاية يتوقف على مدى اقتراب أو ابتعاد التضخم الفعلي عن التضخم المتوقع. والاحتمالات ثلاثة: (3) عدم حدوث أي ضرر أو نفع لأي من الطرفين، استفادة المقرض، استفادة المقترض.
__________
(1) باري سيجل، مرجع سابق، ص 581 وما بعدها؛ تقرير التنمية في العالم 1989، ص 86، النشرة العربية، مؤسسة الأهرام. T.Killick, OP. Cit, PP. 175 – 177 وقد أشار المقريزي إلى هذه المسألة – انظر إغاثة الأمة، ص 73
(2) وهناك أثر توزيعي للتضخم تنبه له الفقهاء القدامى، وذلك عند تناولهم لرأسمال المضاربة وعدم جواز أن يكون بالفلوس عند بعض الفقهاء، حيث برروا قولهم بتعرض الفلوس لتقلبات كبيرة في قيمتها، ومعنى ذلك تأثر حقوق المضارب ورب المال عند انتهاء المضاربة بتغير قيمتها، انظر السرخسي: المبسوط، دار المعرفة، 11/160
(3) باري سيجل، مرجع سابق، ص 591 وما بعدها(8/1583)
والبعض يصور المسألة تصويراً مغايراً فيقول: إنه لا يمكن الجزم بأن ضرراً قد لحق بالفئة المقرضة أو نفعاً قد جنته الفئة المقترضة، حيث إن المسألة في النهاية تتوقف على هيكل المحفظة المالية لكل فرد.
ومع التسليم بذلك إلا أن هذا لا ينفي الأثر المباشر للتضخم على عملية الإقراض، ومهما يكن الأثر النهائي الشامل على محفظة كل من المقرض والمقترض فإن هناك أثراً مباشراً قد نتج من عملية الاقتراض قد يكون ضاراً وقد يكون مفيداً.
والبعض يزعم هنا أن ما قد يلحق المقرض من ضرر لا يرجع إلى عملية الإقراض حد ذاتها، وإنما احتفاظه بأمواله في شكل نقدي، ومن ثم فهو مضار من التضخم حتى ولو لم يقرض، وبعض الاقتصاديين الإسلاميين قد تلقف هذا القول ونادى به في مواجهة الربط القياسي – كما سنشير إلى ذلك في حينه.
والحقيقة أن هذا مغالطة، فالمقرض قد أضير لسببين وليس لسبب واحد، السبب الأول: كون ثروته في شكل نقدي، والسبب الثاني: عملية الإقراض التي حالت بينه وبين تغير شكل ثروته لوقايتها من التضخم المستمر.
ب- أثر التضخم على أصحاب العقود الآجلة، مثل العمال والبائعين والمشترين وأصحاب المعاشات وغير ذلك، والمقولة الشائعة هنا أن التضخم يحابي أصحاب العمل والمشترين على حساب العمال والبائعين وأصحاب المعاشات، والحق أن هذه المقولة في حاجة إلى تحرير وتمحيص (1) ، فالأمر متوقف في النهاية على عاملين؛ القدرة على المساومة وفرض الشروط الملائمة والمعدلة، ثم المهارة في التوقع، ومعنى ذلك أنه ليس صحيحاً على إطلاقه وجود ضرر للعامل أو للبائع أو لصاحب المعاش، ولا وجود نفع للأطراف المقابلة لهم.
فمن الممكن أن يستفيد العامل من التضخم إذا ما كان ذا قدرة كبيرة على المساومة وفرض الشروط الملائمة في عقد الإجارة، وخاصة إذا ما جاء التضخم أقل مما توقع، وكذلك الحال بالنسبة للبائع إلى أجل، حيث قد يكون الثمن من الارتفاع بحيث يجب أي تضخم يحدث ويزيد، ويمكن أن يقال ذلك بالنسبة لأصحاب المعاشات، مع أنه غالباً ما يكون الموقف في غير صالحهم، ونظراً لأن الكثير من العمال خاصة في الدول النامية، وخاصة العاملين لدى الدولة لا يملكون القدر الكبير على المساومة، فإن التضخم في غالب أوضاعه ضار بهم، ولذلك نجد ما يعرف بالعلاوات الدورية، وإعانات غلاء المعيشة؛ كل ذلك تخفيفاً من آثار التضخم، مع التسليم بعدم كفايتها في تلافي تلك الآثار في معظم الحالات.
__________
(1) باري سيجل، مرجع سابق، ص 594 وما بعدها؛ كروين، مرجع سابق، ص 32 وما بعدها، المقريزي: إغاثة الأمة، مرجع سابق، ص 72 وما بعدها؛ د. محمود عبد الفضيل، مرجع سابق ص79 وما بعدها(8/1584)
3- تدني كفاءة الاقتصاد القومي: (1) إن التضخم يشوه هيكل الاستثمارات بحيث ينحاز إلى أشكال غير مفيدة لكنها ذات وقاية عالية من آثار التضخم، كما أنه يقلل من أحجامه ومجالاته، لما يحدثه من تأثير سلبي على كل من التكاليف وتقديراتها وكذلك الإيرادات، ثم إنه يقلل من المدخرات التي هي مصدر التمويل الحقيقي للاستثمارات، كذلك فإنه يسيء ويشوه من تخصيص الموارد حيث يحول دون جهاز الأسعار وإرسال الإشارات الصحيحة لمتخذي القرار الإنتاجي والاستهلاكي. (2)
4- كما أنه يشوه من هيكل التجارة الخارجية، ويزيد من عجز الميزان التجاري، ومن اختلال أسعار الصرف. (3)
5- وأخيراً فإنه يحد بقوة من عمليات الائتمان التجاري والاجتماعي، ولا يستغني مجتمع معاصر عن مثل تلك العمليات، وفي الوقت ذاته يفتح شهية الحكومات للمزيد من المديونية بما لذلك من آثار سلبية. (4)
وفي كلمة أن التضخم يزعزع كلاً من قاعدتي الكفاءة والعدالة. تلك القاعدتان اللتان يهتم بهما الإسلام غاية الاهتمام، ومن ثم فإن التضخم إذا كان مكروهاً لدى الاقتصاد الوضعي فإنه أشد كراهة لدى الاقتصاد الإسلامي.
1- 5- علاج التضخم: مهما قيل من وجود بعض المنافع للتضخم وخاصة المعتدل منه، مثل تمويل التنمية؛ فمما لا شك فيه أنه باتفاق جماهير الاقتصاديين يعد مرضاً اقتصادياً خطيراً، ومن ثم تجب مواجهته والعمل الجاد على علاجه وشفاء الاقتصاديات منه.
ولن ندخل هنا في معمعة طرق وأساليب العلاج وتحليل مدى نجاعة كل طريق في مواجهة التضخم، فلذلك مواطنه المتخصصة المستقلة، ولكن في هذه الدراسة الموجزة قد يكفي الإشارة السريعة إلى أهم هذه الطرق والتأكيد على بعض الدلالات المستخلصة.
__________
(1) باري سيجل، مرجع سابق، ص 598 وما بعدها؛ د. محمد زكي شافعي، مرجع سابق ص 82 وما بعدها؛ د. فؤاد شريف: المشكلة النقدية، الطبعة الأولى، ص 4 وما بعدها؛ د. فؤاد مرسي، النقود والبنوك، الطبعة الأولى، ص 404 وما بعدها؛ د. مصطفى رشدي: الاقتصاد النقدي المصرفي، مرجع سابق، ص 560 وما بعدها
(2) قام بشرح هذه المسألة شرحاً مفصلاً فريدمان، انظر باري سيجل، مرجع سابق ص 598
(3) د. فؤاد مرسي، مرجع سابق، ص 405؛ أبو جمان، مرجع سابق، ص 376؛ خيرات البيضاوي، مرجع سابق، ص 37 وما بعدها.
(4) د. نبيل الروبي، مرجع سابق، ص 347 وما بعدها.(8/1585)
لقد تبين لنا أن مصادر التضخم ترجع بوجه عام إلى كل من الطلب والعرض، حيث إن التضخم في جوهره ما هو إلا اختلال جوهري في العلاقة بينهما، حيث يكون الطلب من القوة والزيادة بما لا يواكبه العرض.
وقد رأينا أن منشأ هذا الاختلال قد يكون تزايداً في الطلب، وقد يكون تناقصاً في العرض، وقد يكون كلا الأمرين معاً، ومعنى ذلك أن أي علاج يراد له أن يكون فعالاً عليه أن يتعامل باقتدار مع تلك المصادر.
ولعل من جوانب الصعوبة هنا أنه في حالات ليست بالقليلة، لا نستطيع التشخيص الدقيق لمصدر التضخم، وهل هو جذب الطلب أو دفع التكلفة أو كلاهما أو أي شيء آخر؟
ويترتب على ذلك وجود احتمال قوي في عدم نجاعة وفعالية السياسة المتخذة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل ربما ترتب على تلك السياسة إذا لم تكن متوائمة مع المصدر المزيد من الآثار السلبية على الاقتصاد القومي.
ودلالة ذلك قد تكون في ضرورة أن يكون العلاج حزمة متكاملة من السياسات والإجراءات تقوم على عدة عناصر؛ من أهمها ما يلي:
1- الإصلاح النقدي: وذلك بحسن التعامل مع عرض النقود بحيث تتواءم بقدر الإمكان مع حاجة الاقتصاد القومي، وكلما كانت هناك كوابح قوية تحول دون الحكومة والجهاز المصرفي والمزيد من النقود كلما كان الموقف أفضل حيال التضخم، ومعنى ذلك ضرورة تواجد سياسة نقدية رشيدة. (1)
2- الإصلاح المالي: على أن يشتمل ذلك على أمرين معاً، الإنفاق العام والإيرادات العامة، وخاصة منها الضرائب والقروض. إن ترشيد الإنفاق العام يعد شرطاً ضرورياً لإمكانية مواجهة التضخم، وكذلك الحال في كل من الضرائب والقروض اللتين تعتبران من أهم مصادر الضغوط التضخمية، ومعنى ذلك حتمية توفر سياسة مالية رشيدة. (2)
__________
(1) د. محمود عبد الفضيل: مشكلة التضخم في الاقتصاد العربي، مرجع سابق، ص 95؛ د. مصطفى رشدي: الاقتصاد النقدي، مرجع سابق، ص 568. كروين، مرجع سابق، ص 185 وما بعدها؛ د. رمزي زكي: مشكلة التضخم في مصر. مرجع سابق، ص 618 وما بعدها. T. Killick, OP. Cit., PP. 182 – 184.
(2) أبدجمان، مرجع سابق، ص 425 وما بعدها؛ كروين، مرجع سابق، ص 192 وما بعدها.(8/1586)
3- الإصلاح المؤسسي: والمقصود به دعم وتوسيع رقعة المنافسة، والقضاء على ما يمكن القضاء عليه من أشكال الاحتكارات. (1)
4- الإصلاح السياسي: وخاصة منه ما يتعلق بالجانب الإداري، وبدون إدارات عامة جيدة وأجهزة إدارية وفنية قادرة فإنه من الصعوبة بمكان ترشيد الإنفاق العام والإيرادات العامة. كذلك من المهم توافر التشريعات والسياسات الصحيحة، وتوافر المساءلة الشعبية الفعالة. (2)
ومن الواضح أن توفر كل تلك العناصر ليس بالأمر السهل، كما أنه من المهم أن تعمل مع بعضها في تناغم واتساق، فلا يكفي مجرد توافرها، وهذا أيضاً من الصعوبة توفيره.
ولا يخفي على مهتم ما هنالك من جماعات الضعف المختلفة ذات المصلحة والتي تقف بكل ما لديها من جبروت حيال الكثير من الإصلاحات، يضاف إلى ذلك ما أصبح معروفاً بأثر قصر النظر السياسي وما يحدثه من مزيد من التضخم.
وأخيراً فهنالك مسألة تجدر الإشارة إليها تتعلق بصعوبة مواجهة التضخم والعمل على اجتثاث جذوره، وهي ما أشار إليه بعض الاقتصاديين من وجود تكاليف اقتصادية باهظة لهذه العملية، عادة ما لا تتحملها الاقتصاديات القومية، والتي تتمثل في المزيد من البطالة ومن تدني حجم الناتج القومي، وقد قدرت بعض الدراسات أن تخفيض التضخم بمعدل 1 % سوف يؤدي إلى تخفيض حجم الناتج القومي الأمريكي بمقدار 10 %. (3)
وهذا ما حدا ببعض الاقتصاديين إلى الدعوة إلى المعايشة مع التضخم بدلاً من مواجهته، كما سنوضح ذلك عند حديثنا للربط القياسي.
ومهما يكن من أمر فلا ينبغي على الإطلاق أن تثني تلك الصعوبات الحكومات عن مواجهة التضخم بكل ما لديها من وسائل وأساليب، وألا تنسى في يوم ما أن التضخم مرض اقتصادي خطير.
__________
(1) جيمس جواريني، مرجع سابق، ص 404 وما بعدها؛ أبدجمان، مرجع سابق، ص 379 وما بعدها.
(2) باري سيجل، مرجع سابق (ص 565 وما بعدها)
(3) أبدجمان، مرجع سابق (ص 426)(8/1587)
2- الاقتصاد الإسلامي ومشكلة التضخم
في هذه الفقرة نهتم بالإجابة على سؤال مهم هو: هل يتعرض الاقتصاد الإسلامي لمشكلة التضخم؟ وللإجابة على هذا التساؤل نجد من المهم التمييز بين:
1- الظروف العادية والظروف غير العادية.
2- الاقتصاد الإسلامي كمبادئ وقوانين وسياسات، والاقتصاد الإسلامي كهياكل اقتصادية عاشت على أرض المجتمع الإسلامي. ومن ثم أخذت وصف (الإسلامي) من هذه الكينونة الواقعية.
فيما يتعلق بالمسألة الأولى فلا أظن أن أحدا يجادل في إمكانية تعرض الاقتصاد الإسلامي –حتى من منظور المبادئ والسياسات- للتضخم في ظل الظروف غير العادية مثل الحروب والكوارث الطبيعية والجفاف.. إلخ، من كل ما يسبب نقصاً طبيعياً حاداً في العرض، ومن ثم يتولد التضخم، وأرى أن خير مثال لذلك ما حدث في عام الرمادة في زمن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أما في ظل الظروف العادية فيمكننا القول بثقة كبيرة: إن الاقتصاد الإسلامي كمبادئ وسياسات لا يتعرض لمشكلة التضخم، خاصة منه ما كان ذا مصدر داخلي شريطة توفر أمرين على الأقل هما التطبيق الفعلي والحقيقي لمبادئ الاقتصاد الإسلامي، وكذلك أن يكون الاقتصاد الإسلامي كواقع على درجة من القوة تمكنه من تحصين نفسه إلى حد كبير ضد التضخم المستورد. (1)
وفيما يتعلق بالمسألة الثانية فإن الاقتصادي الإسلامي كواقع عاش على أرض المجتمع الإسلامي عبر العصور المختلفة، ومن ثم ولهذا السبب وحده اكتسب هذه الصفة، إما أن يتمشى هذا الواقع مع المبادئ والأسس أو يخرج عليها، في الحالة الأولى ينطبق عليه ما قيل في المسألة الأولى، وفي الحالة الثانية فإن شأنه شأن الاقتصاد الوضعي تماماً بتمام.
__________
(1) د. شوقي دنيا: النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي، مكتبة الخريجي، الرياض، (ص 298 وما بعدها) ؛ د. أحمد الحسيني: تطور النقود في ضوء الشريعة الإسلامية، جدة، دار المدني، 1410 هـ (ص 44 وما بعدها)(8/1588)
وحيث إن العالم الإسلامي المعاصر لا يطبق في مجمله المبادئ الاقتصادية الإسلامية من جهة، كما أنه يرزح تحت كابوس التخلف الاقتصادي من جهة أخرى، فإن اقتصادياته معرضة وبشكل بارز لكل ألوان ومصادر التضخم، وعلينا أن ندرك أن التعرض للتضخم شيء ووجود التضخم فعلاً شيء آخر.
وعندما نقول: إن التطبيق السليم لمبادئ الاقتصاد الإسلامي يقي المجتمعات الإسلامية في ظل الظروف العادية من أن تقع فريسة للتضخم الجامح، فإن حيثيات هذه المقولة متوفرة، والتناول المفصل لها ليس من مهام هذا البحث، ويكفي أن نقول عنها كلمة كلية هي عدم وجود كل عوامل التضخم الداخلية التي أشرنا إليها سلفاً، سواء منها ما يرجع إلى جانب الطلب أو ما يرجع إلى جانب العرض.
ومع ذلك، ومع توارد الظروف غير العادية، ومع تشابك العلاقات الاقتصادية الدولية، ومع وجود درجات من عدم الالتزام الصارم بالمبادئ الاقتصادية الإسلامية، فإن الاقتصاد الإسلامي مهما كانت الزاوية التي تنظر منها فيه وإليه يمكن أن يتعرض للتضخم، بل هو معرض له بالفعل، كل هذا لا ينفي حقيقة راسخة هي الكراهية الشديدة للتضخم من قبل الاقتصاد الإسلامي والحرص على منعه، ومرجع ذلك ما يحدثه من آثار سلبية متعددة، ولا سيما منها ما يرجع إلى العدالة وعدم بخس الناس أموالهم، والوفاء بالعقود، وعدم أكل أموال الناس بالباطل، إضافة إلى آثاره الاقتصادية المعروفة والتي يوليها الاقتصاد الإسلامي عناية لا تقل بحال عن عناية الاقتصاد الوضعي إن لم تتفوق عنها. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أنه من دواعي شدة كراهية الاقتصاد الإسلامي للتضخم أن بعض آثاره السلبية أشد ضراوة في الاقتصاد الإسلامي منه في الاقتصاد الوضعي، ويتمثل ذلك بوضوح في عمليات الائتمان وخاصة منها ما كان مصدره القروض، حيث إن القروض في الاقتصاد الإسلامي هي قروض حسنة، ليس لها عائد اقتصادي يواجه ما قد يطرأ عليها من تدهور في قيمتها عندما تكون هناك ضغوط تضخمية.
وبتتبع فترات التضخم التي مر بها المجتمع الإسلامي في عصوره السابقة نجدد أن مصدر التضخم لم يخرج في مجمله عن المصادر المعروفة لنا الآن، والتي من أهمها اختلال السياسة النقدية وصك المزيد من العملات وكذلك اختلال السياسة المالية؛ سواء من حيث الإسراف المتزايد في الإنفاق العام وسوء تخصيصه، أو في فرض المزيد من الضرائب والتي كان لها مردودها السلبي القوي على حجم المعروض من السلع والخدمات وكذلك سوء الأوضاع المؤسسية وشيوع الاحتكارات؛ سواء من قبل رجال الدولة أو التجار، وأخيراً ما قد يصاحب ذلك من عوامل طبيعية مثل الجفاف. (1)
__________
(1) لمزيد من المعرفة يراجع المقريزي: الإغاثة، مرجع سابق.(8/1589)
3- الفقه ومشكلة التضخم
المجتمع الإسلامي، رغم حرص الإسلام الشديد على تحقيق الاستقرار السعري قد عايش التضخم بدرجة أو بأخرى في بعض عصوره، ومن المتوقع في ضوء ذلك أن يكون الفقه قد عني بهذه المسألة. فهل تناول الفقهاء فعلاً هذه المشكلة وبينوا الحكم الشرعي حيالها على مستوى الأسباب وعلى مستوى النتائج؟ الظاهر حتى الآن، ومن خلال ما تم من دراسات معاصرة حيال هذا الموضوع، أنه كان للفقه كلمته حيال هذه المسألة على مستوى الآثار وخاصة ما يتعلق منها بأطراف التعاقدات، ومما يؤسف له عدم التفات أو تنبه الدراسات المعاصرة للشق الأول من القضية؛ وهو موقف الفقه من أسباب التضخم، مع أنه لا يقل أهمية ولا اهتماماً من الشق الثاني.
3- 1- إن الفقهاء قد أفاضوا في الحديث عن كل العناصر غير الطبيعية التي تعد مصادر التضخم، ومن ذلك:
1- لقد تكلموا عن النقود وسكها وغشها وتنظيم تداولها ومسؤولية الدولة حيال حسن التعامل معها.
2- وتكلموا عن الإنفاق العام ومجالاته وضوابطه وأهمية ترشيده ومسؤولية الدولة حيال كل تلك الجوانب.
3- وتكلموا بإفاضة عن كل من الضرائب والقروض، وبينوا الضوابط والقيود الصارمة حيال استخدام الدولة لكل منها.
4- وتكلموا عن الاحتكارات سواء من قبل العمال أو أصحاب الأعمال أو الدولة، ووضحوا الحكم الشرعي حيال تلك الممارسات الاحتكارية وكيفية مواجهتها.
معنى ذلك أن الفقه الإسلامي قد حفل بقضية أسباب ومصادر التضخم ربما بقدر أكبر من تناوله لقضية آثار التضخم. لكن الذي أوجد شيئاً من الغمامة فوق هذا الموضوع ربما لتناثر التناول لهذه القضية وتباعد أماكنها، وربما لعدم وجود إشارات منهم عند تناولهم لهذه المسائل بما لها من علاقة وطيدة بالتضخم، ومع ذلك تظل الحقيقة المتمثلة في عدم إمكانية التجادل حول تناولهم لأسباب التضخم في حين إمكانية التجادل في تناولهم لآثاره القائمة، وعذرهم في ذلك عدم تضخم القضية واستفحالها بالصورة التي تبدو فيها الآن، ولعل الرسالة الضمنية المهمة هنا هي عظم مسؤولية الفقهاء المعاصرين، وعدم دقة المنهج الفقهي المعاصر الذي ينطلق في بحثه لهذه القضية من منطلق وحيد هو: ماذا قال فيها الفقهاء سلفاً؟ وإنما المنهج الصحيح هو ما يسلك مسالك متعددة فيرجع إلى النصوص الشرعية والقواعد العامة، وأقوال الفقهاء في قضايا قريبة، مع عدم إهمال ما هنالك من أقوال فقهية في هذه القضية.(8/1590)
3- 2- ماذا عن موقف الفقه من التضخم على مستوى الآثار المترتبة وخاصة ما يتعلق منها بأطراف التعاقدات؟
أما ما يتعلق منها بالاقتصاد القومي فقد تحدث فيها العديد من العلماء منهم على سبيل المثال وليس الحصر الجويني والماوردي والغزالي وابن تيمية وابن القيم وابن خلدون والمقريزي. وبتجميع ما قالوه ومقارنته بما هو متعارف عليه الآن من الآثار السلبية للتضخم لا نجده يقل كثيراً عنه. (1) رغم أن وحدة التضخم وتعقده وتداخل عوامله لم تكن على مستوى ما نعايشه اليوم. ونظراً لأن هذا لجانب ليس من المهام الأساسية للبحث الحالي فلن ندخل في بسط القول فيه.
وأما ما يتعلق منها بأطراف التعاقدات فهو محل اهتمامنا.
وبداية علينا أن نناقش القول المعاصر بأن الفقهاء لم يتناولوا مشكلة التضخم من حيث آثارها على النحو الذي نعرفه الآن، ومصدر هذا القول هو أنه بالبحث في كتب الفقه على اختلاف مذاهبها لم نعثر على كلمة تضخم، ولا على كلمة المستوى العام للأسعار، ولا على كلمة انخفاض القوة الشرائية للنقود حيال مختلف السلع والخدمات، وطالما غابت تلك المصطلحات ولم تظهر في كتب الفقه فليس هناك مجال للقول بتناول الفقه لتلك المشكلة، ويمضي أصحاب هذا القول في تبيان وتأصيل موقفهم، فيقولون: إن كل ما عثرنا عليه لدى الفقهاء هو تعبير غلاء الفلوس ورخصها، ومن الأمثلة التي ضربوها نجد معنى هذه العبارة ينحصر في علاقتها بالذهب والفضة وليس بمختلف السلع والخدمات كما هو الحال في شأن التضخم، يضاف إلى ذلك أنهم لم يتحدثوا عن غلاء النقود ورخصها، وإنما جاء حديثهم الصريح عن الفلوس، تلك العملات المساعدة، والتي لم ترق لأن تكون نقداً كامل النقدية لها خاصية النقد المتمثلة في القوة الشرائية العامة وقوة الإبراء غير المحددة. ومناقشة هذا القول تسير في مسالك متعددة.
__________
(1) وبذلك فنحن نتحفظ على تبرير الدكتور نجاة الله صديقي لعدم اهتمام الفقهاء بهذه النوعية من الآثار والتي أسماها الجوانب الضيقة، حيث يرى أن جهود الفقهاء القدامى حيال هذا الموضوع لم تكن على درجة من التفصيل والعمق، ويرجع السبب في ذلك جزئياً إلى بعد هذه الكتابات الفقهية عن فن إدارة الدولة وصنع السياسة العامة. وذلك في تعقيبه القيم على بحث د. حسن الزيان: استعراض للمؤلفات الإسلامية حول ربط المعاملات بتغير الأسعار (ص 13) . من أوراق حلقة عمل حول ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار من وجهة النظر الإسلامية. المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية، 27 – 30 شعبان 1407 هـ.(8/1591)
أولاً: لا نسلم بأن كلام الفقهاء في هذا الموضوع انحصر في الفلوس ولم يشمل النقود، فقد نقل ابن عابدين ما هنالك من خلاف في هذا المذهب حول شمول كلام علماء المذهب للنقود الذهبية والفضية أو عدم شموله. وفي ذلك يقول: (ورأيت في حاشية الشيخ خير الدين الرملي على البحر عند قوله: وحكم الدراهم كذلك. أقول: يريد به الدراهم التي لا يغلب غشها كما هو ظاهر، فعلى هذا لا يختص هذا الحكم بغالب الغش ولا بالفلوس) لكنه في كتاب آخر له أشار إلى أن الكثير من الفقهاء لا يدخلون النقود الذهبية والفضية تحت حكم فلوس في هذا الشأن. (1) وإذن فالمسألة عند الأحناف خلافية.
وعند المالكية نجد النص الصريح على أن ما جرى من كلام حول تغير سعر الفلوس وأثره لا يقف عند الفلوس بل يتعداها إلى النقود الذهبية والفضية، يقول الحطاب: (تنبيه: لا خصوصية في الفلوس بل الحكم كذلك في الدنانير والدراهم، كما أشار إليه في كتاب الصرف من المدونة، وصرح به في التلقين والجلاب وغيرهما، قال في التلقين: ومن باع بنقد أو اقترض ثم بطل التعامل به لم يكن عليه غيره إن وجد، وإلا فقيمته إن فقد. وقال في الجلاب: ومن اقترض دنانير أو دراهم أو فلوساً أو باع بها وهي سكة معروفة ثم غير السلطان السكة بغيرها، فإنما عليه مثل السكة التي قبضها ولزمته يوم العقد) . (2)
وكذلك الحال عند الشافعية فقد نص السيوطي على ذلك بقوله عقب الكلام على تغير سعر الفلوس أو كسادها: (فإن وقع مثل ذلك في الفضة بأن اقترض منه أنصافاً بالوزن ثم نودي عليها بأنقص أو بأزيد أو بالعدد، أو اقترض عدداً ثم نودي عليها بالوزن فلا يخفى قياسه على ما ذكر في الفلوس) . (3)
__________
(1) لمعرفة مفصلة يراجع: حاشية ابن عابدين، دار الفكر، بيروت، 4/533 وما بعدها؛ رسائل ابن عابدين، دار إحياء التراث، بيروت: 2/62 وما بعدها
(2) الحطاب: مواهب الجليل، دار الفكر، بيروت: 4/340
(3) السيوطي: الحاوي، دار الكتب العلمية، بيروت: 1/97(8/1592)
والحال كذلك لدى الحنابلة، فيقول ابن قدامة: (قد ذكرنا أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله ... وإن كان القرض فلوساً أو مكسرة..) . (1) والمعروف أن النقود الذهبية الفضية تدخل في المثليات بلا خلاف، كذلك نجده يضيف إلى الفلوس النقود أو الدراهم المكسرة. والأمر أكثر صراحة عند الظاهرية حيث لا يرون أية تفرقة بين المواد المستخدمة نقوداً ذهباً أو فضة أو غير ذلك.
وهكذا يسقط زعم من زعم بأن كلام الفقهاء في هذا الشأن اقتصر وانحصر في الفلوس، فقد صرح جمهور الفقهاء بعدم التفرقة بين ما كان يعرف بالفلوس وما كان يعرف بالنقود، والخلاف الجاري في المذهب الحنفي إنما هو في بطلان الثمنية عند الكساد أو الانقطاع، حيث تظل النقود الذهبية والفضية على ثمنيتها وماليتها عكس الفلوس المتخذة من معادن رديئة قليلة القيمة الذاتية، أما عند تغير السعر فموقفهم واحد سواء كانت نقوداً أو فلوساً.
وثانياً: لا نسلم بأن الفلوس كانت في غالب حالاتها مجرد عملة مساعدة، بل كانت في معظم الحالات عملة رئيسية انفردت بالنقدية في بعض المجتمعات، وكانت أقوى –نقدياً- من العملات الذهبية والفضية في بعضها الآخر.
يقول فيها الإمام الحنفي أبو بكر بن الفضل شيخ الإمام السرخسي: (هي أعز النقود عندنا، تقوم بها الأشياء، ويمتهر بها النساء، ويشترى بها الخسيس والنفيس، بمنزلة الدراهم في ذلك الزمان) (2) يقصد أنها مثل الدراهم تماماً في الأزمنة السابقة التي كانت تسود فيها الدراهم. وقد أثبت المقريزي وهو أحد علماء المذهب الشافعي أن الفلوس في مصر كانت في بعض العصور أقوى وأوغل في النقدية من الدنانير والدراهم؛ إذ يقول: (إن الذي استقر أمر الجمهور بإقليم مصر عليه في النقد الفلوس خاصة، يجعلونها عوضاً عن المبيعات كلها.. ويصيرونها قيماً عن الأعمال جليلها وحقيرها، لا نقد لهم سواها ولا مال إلا إياها) (3) وفي عبارة أخرى له نجده يشير صراحة إلى أن الذهب والفضة كانت تنسب إلى الفلوس وتقوم بها، فيقال: كل دينار بكذا وكذا درهماً من الفلوس ((4)
__________
(1) ابن قدامة: المغني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض: 4/360
(2) الكاساني: بدائع الصنائع، نشر زكريا يوسف: 2/843؛ وانظر الفتاوى البزازية على هامش الفتاوى الهندية: 1/249
(3) وقد نص وشرح ذلك المقريزي، انظر الإغاثة (ص 79)
(4) إغاثة الأمة (ص 76 و84)(8/1593)
وثالثاً: لا نسلم بأن غلاء الفلوس ورخصها تجاه الذهب والفضة لا تعكس التضخم كما نعرفه اليوم، ذلك أن الذهب والفضة لم يكونا في تلك العصور مجرد سلعة وإنما كانا نقوداً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن معظم نصوص الفقهاء في هذا الشأن كانت مطلقة غلت الفلوس أو رخصت، وغلت النقود أو رخصت، وفهم هذه العبارات المطلقة لا يخرج عن مفهوم التضخم، وهذا لا يمنع من وجود بعض عبارات لهم تمثل مقدار التغير السعري هذا، فتنسبه إلى الذهب أو الفضة، وقد كان المتعارف عليه عندهم أن النقود هي قيم الأموال، ولا تقوم هي بالأموال، وبالتالي لم يتأت لهم إمكانية القول بأن النقود غلت أو رخصت بالنسبة للقمح مثلاً، وقد تساءل ابن عابدين عند بحثه لهذه المسألة باستنكار كيف يمكن تقويم النقود؟ وذهب إلى عدم إمكانية ذلك. (1) ثم إن التاريخ يؤكد على وقوع التضخم الجامح عندما تغيرت أسعار الفلوس. (2)
ورابعاً: من منظور تفرقة الفقهاء بين ما كانت خلقته نقداً وما اصطلح عليه الناس، وبين ما يروج ويتعامل به في كل البلاد وما لا يروج إلا في بلد معين. النقد الذي يروج في كل البلاد وهو بأصل خلقته نقد هو الذهب والفضة عند من قال بذلك من الفقهاء، وماعداه فهو نقود اصطلاحية، وهي تشمل الفلوس وهي تلك العملات المعدنية من غير الذهب والفضة التي كانت معروفة قديماً، كما تشمل أي شيء يصطلح عليه كنقد، (3) ومن ذلك النقود الورقية المعروفة لنا اليوم. ومثلما قال الشيخ الكبير مصطفى الزرقا: (من ادعى انحصار النقود الاصطلاحية في الفلوس فعليه البيان) (4) ومعنى ذلك كله أن ما لدينا من نقود يجري عليها ما سبق من أقوال للفقهاء، حتى بفرض قصر كلامهم على الفلوس، وعلينا هنا أن نزيل اشتباهاً ربما وقع فيه البعض، وهو أنه ليس معنى إلحاقنا نقودنا في هذه المسألة بالفلوس عدم جريان الربا فيها –كما زعم البعض أن الربا يجري فيها بالصفة الثمنية، وهي مع ذلك شبيهة بالفلوس من حيث الاصطلاح وعدم كون مادتها من ذهب أو فضة؛ أي عدم تناسب القيمة الغذائية السلعية، مع القيمة النقدية، وكونها تروج في بلد ولا تروج في أخرى، وكون قيمتها ذات قابلية عالية للتقلب، (5) ولا أعلم أن هناك مانعاً شرعياً من القول بذلك.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4/537
(2) المقريزي: إغاثة الأمة؛ الأسدي: التيسير والاعتبار.
(3) ابن الهمام: شرح فتح القدير، بيروت، دار صادر: 5/287
(4) المدخل الفقهي العام، دار الفكر.
(5) يتفق معنا في ذلك الدكتور رفيق المصري، الإسلام والنقود، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، (ص 85 وما بعدها) وكذلك د. أحمد الحسني، مرجع سابق (ص 183)(8/1594)
3- 3- أثر تغير أسعار العملة بعد إبرام العقود:
بداية علينا أن نصوغ التساؤل المراد معرفة حكمه الشرعي بقدر كبير من الوضوح. في حال العقود التي ترتب حقوقاً والتزامات مستقبلية، بفرض أنه عند سداد هذه الالتزامات أو الوفاء بهذه الحقوق تغيرت أسعار العملة التي أبرمت بها سلفاً هذه العقود، فما الذي يسدد، هل هو مثل العملة التي هي محل العقد وزناً أو عدداً أو هو قيمتها؟ وإذا كان قيمتها فقيمة أية لحظة زمنية هي المعتبرة؟
هذا هو السؤال الذي تناوله الفقهاء على اختلاف مذاهبهم بالإجابة، ولعلنا نلاحظ أنه مهما كانت نوعية الإجابة فإننا لسنا أمام عملية ربط قياسي كما نعرفها اليوم، وإنما نحن أمام أمر واقع واتفق عليه سلفاً ثم تغير عند حلول موعد السداد فما الذي يسدد؟
بدراسة موقف الفقهاء حيال هذا الموضوع بغض النظر عن مذاهبهم تبين لنا أن هناك ثلاثة أقوال، نذكرها بشيء من الإيجاز:
أ- القول الأول: عدم الاعتداد بأي تغير يطرأ، قليلاً كان أو كثيراً، بمعنى أنه لا ينظر لأي تضخم أو كساد مهما كانت معدلاتهما، وعلى المدين أن يسدد مثل الذي سبق وتعاقد عليه وزنه أو عدده. هذا القول هو مشهور المذهب المالكي وكذلك المذهب الشافعي، وهو رأي المتقدمين في المذهب الحنبلي، وهو رأي غير راجح ولا معول عليه في المذهب الحنفي. وهذه بعض عباراتهم؛ يقول الدردير: (وإن بطلت معاملة من دنانير أو دراهم أو فلوس ترتبت لشخص على غيره من قرض أو بيع أو تغير التعامل بها بزيادة أو نقص عليه المثل حتى ولو كانت مئة بدرهم فصارت ألفاً بدرهم أو بالعكس) (1) يقول ابن قدامة: (وأما رخص السعر فلا يمنع ردها، سواء كان كثيراً مثل أن كانت عشرة بدانق، فصارت عشرين بدانق، أو قليلاً؛ لأنه لم يحدث فيها شيء، إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت) . (2)
__________
(1) أحمد الدردير: الشرح الصغير، القاهرة، دار المعارف: 3/ 69
(2) ابن قدامة، المغني: مرجع سابق: 4/360(8/1595)
وبالبحث والتحري حول مبررات أو حيثيات أو مؤيدات هذا القول وجدنا أنها ترجع إلى ما يلي:
1- تحقيق العدالة بين الطرفين، فهذا المبلغ هو ما تم التعاقد عليه، ومن ثم فهو أقرب إلى حق الدائن.
2- أن نقص سعر النقود هو مجرد فتور في رغبات الناس ولا يرجع إلى تغير في ذاتها، ولذا لا يعد عيباً يوجب القيمة.
3 – أن القول بالقيمة معناه إلزام للمدين بأكثر مما التزم، كما أن فيه مراعاة لحق الدائن، مع إهمال حق المدين.
4- أن نقص السعر لا يعدو أن يكون مصيبة نزلت بالدائن، وهي ليست أشد ممن باع سلعة بعبد معين مثلاً، فمات بيد صاحبه قبل أن يدفعه للبائع. (1)
5- وأعتقد أن أساس هذا الموقف يتمثل في الأحاديث الصحيحة التي تنص على أن الذهب بالذهب والفضة بالفضة.. إلخ مثلاً بمثل. وعلى أن الشرع قد أسقط اعتبار الجودة أو المالية في تلك الأموال عند مقابلتها ببعضها.
ومما يثير الاهتمام أن الفقهاء القدامى لم يشيروا إلى هذا الاعتبار صراحة وبكثرة في معرض بحثهم لهذه المسألة، رغم أن المعاصرين الذين تناولوا هذه القضية كان تركيزهم الكبير على هذا الحديث.
__________
(1) الرهوني: حاشية الرهوني على شرح مختصر خليل للزرقاني، دار الفكر: 5/121. لكن هل تشبيه ذلك بالموت وبالتالي أخذه حكمه محل تسليم من الفقهاء على اختلاف المذاهب؟ الأمر في حاجة إلى تحرير ونظر.(8/1596)
ب- القول الثاني: مراعاة تغير الأسعار، بمعنى عدم النظر للمثل والتعويل على القيمة يوم ثبوت الدين في الذمة، دونما تمييز أو تفرقة بين التغير المعتدل والتغير المرتفع؛ هذا القول هو الراجح والمعول عليه عند الأحناف وهو كذلك المعول عليه والمختار عند متأخري الحنابلة، وهو خلاف المشهور عند المالكية والشافعية. يقول ابن عابدين: (وفي البزازية معزياً إلى المنتفى: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول – أبو حنيفة - والثاني أولاً – أبو يوسف -: (ليس عليه غيرها) أي ليس عليه إلا المثل، وقال الثاني – أبو يوسف - ثانياً: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض. وعليه الفتوى ... وقد نقله شيخنا في بحره وأقره، فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء) (1) وابن تيمية يرى أنه في مختلف الديون من قروض وغيرها إذا نقصت قيمتها فمعنى ذلك أنها تعيبت بنوع من أنواع العيوب هو عيب النوع (إذ ليس المراد الشيء المعين، فإنه ليس هو المستحق وإنما المراد عيب النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا نقصان قيمتها، وإذا أقرضه أو غصبه طعاماً فنقصت قيمته فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا، فيرجع إلى القيمة. وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، ويخرج في جميع الديون من الثمن والصداق والفداء والصلح والقرض) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 4/534(8/1597)
وقال صاحب الدرر السنية تعليقاً على موقف ابن تيمية: (إن كثيراً من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي في إلحاق سائر الديون بالقرض، وأما رخص السعر فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضاً، وهو الأقوى) (1)
ومن الملاحظ أن الحجة الأساسية وراء هذا القول هي العدل وعدم الضرر، فما التزم به المدين عليه مثله طالما توفر المثل، والمثلية تتحقق بتوفر شرطين أو عنصرين؛ تساوي القيمة أو التساوي في المالية والتماثل في الجنس أو بمعنى آخر في الشكل والصورة، وبفقد أحد العنصرين وخاصة عنصر المالية يزول التماثل (2) وفي تلك الحالة ليس أمامنا إلا الرجوع إلى القيمة، والملاحظ كذلك أن هذا ليس تبريراً قاصراً على ابن تيمية، فالسرخسي من الأحناف يقول: (ثم الملك نوعان، كامل وقاصر، فالكامل هو المثل صورة ومعنى، والقاصر هو المثل معنى، أي في صفة المالية، فيكون الواجب عليه هو المثل التام، إلا إذا عجز عن ذلك فحينئذ يكون المثل القاصر خلفاً عن المثل التام.. ولأن المقصود الجبران، وذلك في المثل أتم، لأن فيه مراعاة الجنس والمالية، وفي القيمة مراعاة المالية فقط) (3) لو دققنا النظر في كلام السرخسي نجده ينطق بأنه عند اختلاف المالية لا نكون أمام مثل، حيث قصر التماثل على حالتين فقط؛ التماثل التام وهو ما جمع بين الجنس والمالية، والتماثل القاصر وهو ما توفرت فيه المالية فقط. وهو كلام ابن تيمية نفسه.
يضاف إلى ذلك أنه باتفاق العلماء فإن العيوب في المعقود عليه ما تولد عنها نقص الثمن أو القيمة. يقول ابن قدامة في تعريف العيوب: (إنها النقائص الموجبة لنقص المالية؛ لأن المبيع إنما صار محلاً للعقد باعتبار صفة المالية، فما يوجب نقصاً فيه عيب) (4) أو ليس الثمن هو الآخر معقوداً عليه (5) ؟ وإذن فيجري عليه ما يجري على المثمن مع مراعاة اختلاف طبيعة كل منهما.
__________
(1) المرداوي، الإنصاف: 5/127 وما بعدها؛ عبد الرحمن العاصمي، الدرر السنية: 5/110 وما بعدها، نشر دار الإفتاء بالرياض.
(2) ابن تيمية، الفتاوى: 29/415 الرياض، توزيع دار الإفتاء
(3) السرخسي، المبسوط: 11/50 مرجع سابق
(4) ابن قدامة، المغني 4/349. مرجع سابق
(5) الخرشي، شرح الخرشي على مختصر خليل، دار صادر، بيروت: 3/5(8/1598)
جـ- القول الثالث: التمييز بين التغير السعري المعتدل والتغير المرتفع؛ في الحالة الأولى لا ينظر للتغير السعري ويعول على المثل، وفي الحالة الثانية لا ينظر إلى المثل ويعول على القيمة، هذا القول قال به بعض علماء المالكية وبعض علماء الشافعية. يقول الإمام الرهوني المالكي معلقاً على القول المشهور في المذهب والقاضي برد المثل مهما كان التغير السعري: (ينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جداً حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف، حيث إن الدائن قد دفع شيئاً منتفعاً به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به) (1) ، ويقول الإمام الرافعي الشافعي: (وهذا كله إذا لم يخرج المثل باختلاف المكان والزمان عن أن تكون له قيمة ومالية، وأما إذا خرج كما إذا أتلف عليه ماء في مفازة ثم اجتمعا على شط نهر أو بلد، أو أتلف عليه الجمد في الصيف واجتمعا في الشتاء فليس للمتلف بذلك المثل، بل عليه قيمة المثل في تلك المفازة وفي الصيف) . (2) ورغم ما في هذا القول من وجاهة حيث إنه يكاد يكون توفيقاً أو توسطاً بين القولين السابقين، وحيث إنه يراعي إلى حد كبير مقتضيات العدل وعدم الضرر مع تيسير المعاملات وعدم توقفها وعرقلتها عند أي تغير وإن كان عادياً، إلا أن مشكلته أنه لم يضع معياراً محدداً نميز به بين التغير المعتدل والتغير الكبير جداً، وإن كان يفهم منه أنه ما تجاوز النصف. على أية حال موضوع التمييز بين التغير السعري العادي والمرتفع سوف نفرد له فقرة قادمة.
3- 4- مناقشة هذه الأقوال:
قبل أن ندخل في مناقشة هذه الأقوال نحب أن نشير إلى أن الفقهاء حيال تلك المسألة فرقوا بين حالتين: حالة التراضي والاتفاق بين الطرفين وعند السداد على ما يدفع ويؤخذ، وحالة عدم وجود اتفاق. وما سبق من أقوال ينصرف إلى الحالة الثانية، أما الحالة الأولى فسنعرض لها بعد فراغنا من مناقشة هذه الأقوال. من المهم هنا التأكيد على النقاط التالية:
1- واضح تماماً أن المسألة خلافية؛ ومعنى ذلك يحق لنا الأخذ بأي منها طالما كان متوائماً بدرجة أكبر مع واقعنا.
2- إنها مسألة ذات اعتبارات متقابلة قوية، مما يجعل الحسم فيها صعباً، وكان تعليق الإمام المالكي الصائب أنها مسألة اضطرب فيها المتقدمون والمتأخرون. (3) وبعد أن أجرى مزيداً من البحث والدراسة قال فيها ابن عابدين: إنها مسألة ذات اشتباه، وهذا غاية ما ظهر لي فيها. (4) كل هذا مع الأخذ في الحسبان أن قضية التضخم لم تكن على هذه الدرجة من التعقيد التي هي عليها اليوم.
__________
(1) الرهوني، مرجع سابق: 5/121
(2) الرافعي: فتح العزيز، مطبوع على هامش كتاب المجموع، المكتبة السلفية: 11/278
(3) الرهوني، مرجع سابق: 5/20
(4) حاشية ابن عابدين: 4/538(8/1599)
3- الملاحظ أن مبدأ العدل قد برز هنا بشكل واضح حتى عند الأقوال المتقابلة، فمن لا يعتد بالتغيير يتمسك بأن هذا هو العدل، ومن يذهب إلى القيمة يستند إلى أن ذلك هو العدل. الأول يرى أن المثل هو ما التزم به المدين عدداً وقدراً، والثاني يرى أن العدد والقدر خاصة في النقود إذا ما تدهورت قيمتها لا يعتبر مثلاً لما التزم به.
4- الملاحظ أن أصحاب الرأي الأول أخرجوا التغير السعري من باب العيوب وأحكامها، حيث لم يطرأ على ذات النقد شيء وإنما هو مجرد فتور في رغبات الناس وقاسوا ذلك على المثمنات مثل الحِنطة، والحقيقة أن هذا القول محل نظر، فالعيب في كل شيء بحسبه، وهناك عيب الذات وهناك عيب النوع، والمفارقة هنا أنهم وضعوا للعيب معياراً دقيقاً وعاماً وهو كل ما يرتب نقصاً في المالية، وبتطبيق ذلك على النقود نجد ماليتها ليست في ذاتها وعينها وشكلها ورسمها وإنما هي في ماليتها وقوتها الشرائية، وقد صرح بذلك الإمام السرخسي. وإذا صح هذا بالنسبة للنقود الذهبية والفضية ذات القيمة الذاتية أو السلعية فإنه ليصح من باب أولى على نقودنا الورقية التي ليس لها إلا قيمة نقدية فقط. ومعنى ذلك أن أي شيء ينقص من هذه القيمة فإنما هو عيب حسب التعريف الفقهي للعيوب، ولم أجد من فصل القول في ذلك تفصيلاً شافياً من الفقهاء إلا ابن تيمية رحمه الله، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
5- وما دمنا سلمنا بأن ذلك عيب في النقود قد طرأ بعد ثباتها في الذمة، فإما أن يضمن من هي في ذمته نقصان العيب أو يرجع القيمة، وضمان نقصان العيب في الأموال الربوية محل خلاف بين الفقهاء؛ البعض يمنعه لأنه ربا والبعض يجيزه، والرجوع إلى القيمة قد يكون مخرجاً من ذلك.
6- ومما يزيد المسألة اشتباهاً الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((كنت أبيع الإبل بالبقيع، أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا بأس بذلك إذا كان بسعر يومه)) وهذا الحديث روي بعبارات مغايرة بعض الشيء، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)) دون عبارة ((إذا كان بسعر يومه)) ، والإشكال هنا إن صحت الرواية الأولى حيث يعد ذلك نصاً في عدم الاعتداد بالتغير السعري، والمثال يوضح ذلك.
هب أنه عند ثبوت البيع كان سعر الصرف بين الدرهم والدينار هو 1: 3، وأصبح سعره عند السداد 1: 4، وكان الثمن مقداره 180 درهماً، فلو راعينا قيمة هذه الدراهم عند ثبوتها في الذمة فإنها 180 ÷ 3 = 60 ديناراً، ولو راعينا قيمتها عند السداد لكانت 180 ÷ 4 = 45 ديناراً، النص يقول بالسعر عند السداد أي أنه يأخذ 45 ديناراً، رغم أنها أقل مما كانت عليه عند الالتزام، ومعنى ذلك عدم التعويل على القيمة يوم البيع، وبعبارة أخرى التمسك بالمثل وعدم الالتفات لأي تغير سعري، فإن صحت هذه الرواية فكيف يتأتى لهؤلاء الفقهاء الذين عولوا على القيمة واعتدوا بتغير الأسعار أن يوفقوا بين كلامهم وبين هذا النص النبوي؟ الأمر مطروح ليحرره لنا الفقهاء.
7- هل من الممكن قياس هذه المسألة على مسألة الجائحة؟ وقد قال المالكية بوضعها على الطرف الثاني منعاً للظلم والإضرار (1) ، ربما كانت هناك فوارق بين المسألتين، لكنهما معاً يعدان مصيبة نزلت بأحد طرفي التعامل، ولا يمكن دفعها ولا الرجوع على المتسبب فيها، على أية حال الأمر في ذلك في يد الفقهاء، ومما يزيد الموقف اشتباهاً أن أصحاب الرأي الأول يقيسون هذه المسألة على مسألة الجائحة، لكن على أساس عدم وضعها.
__________
(1) ابن رشد: بداية المجتهد، بيروت، دار المعرفة: 2/188؛ الخرشي، شرح الخرشي، 5/190؛ ابن تيمية، الفتاوى الكبرى: 30/278(8/1600)
3- 5- هل هناك معيار شرعي للتمييز بين التضخم المعتدل والتضخم المرتفع؟
بحث هذه المسألة يكتسب أهمية في حالة الأخذ بالقول الثالث الذي يميز التغير السعري القليل والتغير الكثير، ويمكن أن يكون له بعض الإفادة عند من يقول بالقول الأول، أو بمعنى أصح عند بعض من يقول بذلك وهم الحنابلة.
على أية حال من الملاحظ أن القول الذي يذهب إلى التمييز بين الارتفاع اليسير والارتفاع الكبير لا يحدد بوضوح المعيار الفاصل بين هذين المعدلين، ومع ذلك فيشتم منه أن التغير الكبير هو الذي يكاد يفقد النقود ماليتها، ومعنى ذلك أن تصبح وكأنها أبطلت أو كسدت أو انقطعت.
وباستخدام الأدوات التحليلية المعاصرة لقياس قيمة العملة أو قوتها الشرائية (1) فإننا نجد أن معدل التضخم الذي يكاد يفقد العملة قوتها الشرائية هو من الارتفاع بحيث يمكن النظر إليه على أنه حالة استثنائية قل أن تحدث؛ إذ عليه كي يفقد العملة أن يتجاوز 10000 % وذلك طبقاً للمعادلة التالية:
الرقم القياسي لأسعار سنة الأساس
القوة الشرائية للعملة = ــــــــــــــــــــ × 100
الرقم القياسي لأسعار سنة المقارنة
فمثلاً لو كان الرقم القياسي لأسعار سنة المقارنة هو 10000 فإن قيمة العملة تكون:
100
ــــــــــــــ × 100 = 1 %
10000
لكن هل هذا المعدل الفاحش هو المتعارف عليه عند الاقتصاديين كمعدل مرتفع أو جامع للتضخم؟
في الواقع ورغم عدم تحديدهم للحد الفاصل بين المرتفع والمعتدل، إلا أنهم عادة لا يقصرون معدل التضخم الجامح على هذه المعدلات البالغة الارتفاع، ومتى ما وصل المعدل إلى أكثر من 20 %، فإنه يفكر فيه باهتمام على أنه قد يصير بعد فترة تضخماً جامحاً، أو هو نذير سوء.
__________
(1) لمعرفة مفصلة بالمعاني المختلفة لقيمة النقود يراجع د. مصطفى رشدي: الاقتصاد النقدي، مرجع سابق (ص 440 وما بعدها)(8/1601)
ومهما يكن من أمر فمن الناحية الفقهية لو اقتصرنا على مضمون القول الثالث فإن المعدل المعول عليه للتضخم هو مثل هذه المعدلات البالغة الارتفاع، أما لو نظرنا في مواطن فقهية أخرى ذات صلة بموضوعنا مثل الجوائح والعيوب الغبن، فإننا نجد الأمر يختلف؛ حيث يذهب فريق من الفقهاء إلى أن المعول عليه في التفرقة بين اليسير والكثير في تلك المواطن هو غالباً الثلث؛ ومعنى ذلك أن معدل التضخم المرتفع هو الذي يفقد النقود ثلث قيمتها فأكثر، ومعنى ذلك أن يصبح الرقم القياسي للأسعار حوالي 300 % وعند ذلك يكون معدل التضخم هو 200 %، والفريق الآخر من الفقهاء يرى أن الحدود الفاصلة في تلك المواطن بين اليسير والكثير يرجع فيها إلى أهل الاختصاص فما يعدونه عالياً فهو عال بغض النظر عن كونه الثلث أو أكثر أو أقل، والمشكلة هنا أن أهل الاختصاص لا يتفقون على معيار فاصل بين التضخم العادي والتضخم المرتفع، بل لم يقدموا أصلاً مثل هذا المعيار حتى مع عدم الاتفاق على قبوله، فيما اطلعت عليه، وذلك باستثناء أرثر لويس (1)
ولو أخذنا بمعيار فقدان القيمة أو معيار نقصانها بمقدار الثلث فأكثر فإن معدلات التضخم التي تترجم هذه المعايير هي من الارتفاع بمكان حيث لا تقل عن 200 %، وهذا من المنظور الواقعي ربما كان حالة استثنائية وليس عادية (2) مع ملاحظة ضرورة التنبه لكون هذه المعدلات عادة ما تكون سنوية، وحيث إن الديون مثلاً قد تكون لمدة أكبر من عام، وكذلك مؤخر الصداق والمعاشات، فلابد من مراعاة التضخم بين لحظة ثبوتها ولحظة وفاتها مهما كانت المدة.
وبأخذ ذلك في الحسبان فإن الموقف قد يختلف، فمثلاً لو كان هناك دين لمدة خمس سنوات وكان معدل التضخم السنوي هو 50 % فمعنى ذلك أن معدل التضخم بين لحظة ثبوت الدين ولحظة سداده ليس 50 %، وإنما هو حوالي 250 %، فلو نظرنا إليه كمعدل سنوي فهو قليل لا يعول عليه، ولو نظرنا إليه خلال فترة الدين كلها فهو معدل مرتفع، ومن الواضح أن النظر الفقهي الصحيح هو ما ينظر إلى لحظة الثبوت ولحظة السداد ويراعي الفترة بينهما مهما كانت.
__________
(1) حيث يصنف التضخم من حيث درجاته ومدى حدته إلى: تضخم زاحف، يتميز بزيادات متتالية في الأسعار لكنها غير عنيفة، ومنه يتولد ما يعرف بالتضخم العنيف، وحدد بدايته بتواجد معدل للتضخم يساوي 5 % سنوياً لمدة أربع سنوات متتالية إذا ما تجاوز الاقتصاد ذلك الحد دخل في مرحلة التضخم العنيف الذي يفقد العملة وظائفها الأساسية، وهذا التضخم العنيف بدوره يعد مقدمة للتضخم الجامح الذي يؤدي إلى انهيار النظام النقدي بأكمله كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى A. Lewis, Denelopment Planning, London: Allen, 1955, p. 134
(2) ومع ذلك فقد تعرضت بعض الدول لمعدلات من التضخم أعلى من ذلك بكثير خاصة بين الحريين، لمزيد من المعرفة انظر د. محمد عجمية، مرجع سابق، ص 113 وما بعدها، وحتى خلال الثمانينات مازالت عدة بلدان تتعرض لمعدلات من التضخم تتكون من عدد من ثلاثة أرقام –100 فأكثر- ومعظمها من دول أمريكا الجنوبية، انظر الملحق(8/1602)
3- 6- مدى إمكانية الاتفاق والتراضي بين الطرفين عند السداد:
بدراستنا لأقوال الفقهاء في هذه المسألة لفت نظرنا مسألة قد تكون لها أهميتها الكبيرة في موضوعنا هذا، وهي أن الكثير منهم كان يشير إلى حالتين: حالة الإجبار والإلزام، وذلك عند عدم اتفاق الطرفين على حل ما، وحالة التراضي والاتفاق الثنائي، وما مضى من أقوال لهم ينصرف إلى الحالة الأولى، ويبقى التساؤل: هل هناك إمكانية بين الطرفين للتراضي والاتفاق فيما بينهما على موقف ما عند حلول موعد السداد؟ إن أهمية بحث هذه المسألة تكمن في فتح المزيد من المخارج وعدم الانحصار في مسلك واحد قد تكون له سلبياته الكبيرة، خاصة إذا ما وضعنا نصب أعيننا أن مقصد الشريعة تجاه المعاملات المالية –كما أفهمه- هو تيسيرها إلى أقصى حد ممكن لما لها من أهمية قصوى في حياة الناس، في إطار من العدالة وعدم الظلم والضرر، تكفلت الشريعة نفسها بوضع معالم هذا الإطار وضوابطه وحدوده، وما من عقد مالي إلا ونجد اشتراط الفقهاء حياله بألا يحتوي على ما يؤدي إلى المنازعة والاختلاف، لما في ذلك من تضييق وعرقلة لمهمة التبادل التي لا يستغني عنها الناس، وفي سبيل تحقيق هذا المطلب وجدنا الضرر اليسير يحتمل، ووجدنا الغبن اليسير، بل الكثير بضوابط معينة عند بعض العلماء هو الآخر يحتمل، ووجدنا العيوب اليسيرة الهينة لا تعرقل في معظم الحالات إتمام الصفقات ونفاذها. والباحث في هذه المسألة التي نحن بصددها لا يفتي ولا يصدر أحكاماً وإنما يضع بعض عبارات الفقهاء تحت النظر لمن لديه القدرة على استخراج ما وراءها من مضامين وما يمكن أن يستنبط منها من أحكام. يقول الإمام السيوطي في معرض حديثه عن هذا الموضوع: (وقولي: فالواجب إشارة إلى ما يحصل عليه من الجانبين، هذا على دفعه وهذا على قبوله، وبه يحكم الحاكم، أما لو تراضيا على زيادة أو نقص فلا إشكال، فإن رد أكثر من قدر القرض جائز بل مندوب، وأخذ أقل منه إبراء) ، ويحسن أن أنقل بقية عبارته لما فيها من فوائد أخرى (فإذا اقترض منه رطل فلوس فالواجب رد رطل من ذلك الجنس سواء زادت قيمته أو نقصت ... وقولي: من ذلك الجنس احتراز من غيره؛ كأن أخذ بدله عروضاً أو نقداً ذهباً أو فضة، وهذا مرجعه إلى التراضي أيضاً، فإنه استبدال، وهو من أنواع البيع ولا يجبر فيه واحد منهم، فإن أراد أخذ بدله فلوساً من الجدد المتعامل بها عدداً فهل هو من جنسه لكون الكل نحاساً أو لا لاختصاصه بوصف زائد وزيادة قيمة؟ محل نظر، والظاهر الأول، لكن لا إجبار فيها لاختصاصها بما ذكر، فإن تراضيا على قدر فذاك) . (1) وللفقهاء كلامهم المطول حيال عمليات الوفاء والاستبدال وشروط صحتها. ولسنا هنا في ضرورة للدخول في تفاصيل ذلك، ولكنا فقط نشير إلى أنه عند حلول موعد الوفاء يمكن أن يتم التراضي بشرط مراعاة الشروط المتعلقة بها، ونحن في حاجة إلى بحث فقهي مستقل عن موضوع استيفاء الحقوق، وما يجوز وما لا يجوز فيها. (2)
__________
(1) السيوطي: الحاوي، مرجع سابق: 1/97
(2) مع الإشارة إلى ما قد يكون هنالك من أبحاث لم أطلع عليها إضافة إلى بحث طيب اطلعت عليه للدكتور نزيه حماد بعنوان (التصرف في الدين) ضمن كتاب دراسات في أصول المداينات في الفقه الإسلامي، الطائف، دار الفاروق، ومع ذلك فأعتقد أننا ما زلنا بحاجة إلى مزيد من الأبحاث في هذه المسألة.(8/1603)
4- الاقتصاديون الوضعيون وسياسة الربط القياسي
4- 1- مفهوم الربط القياسي والغرض منه:
يقول كروين: (إن الغرض من التماس التقييس –الربط القياسي- هو المحافظ على القيمة الحقيقية لمتغيرات الاقتصادية التي تقاس عادة بالوحدات النقدية، ويتم ذلك بربط تلك المتغيرات بأرقام قياسية تستخدم لتحويلها إلى حجوم حقيقية) (1) مثال: لو أردنا القيام بالربط القياسي للأجور مثلاً، فيكون الهدف منه التأكد من أن الزيادات المتفق عليها في الأجور لرفع مستوى المعيشة قد حوفظ عليها طوال فترة الاتفاقية، فلو نص الاتفاق على زيادة حقيقية مقدارها 5 %، وبفرض أن الإنتاجية من المتوقع تحسنها بنسبة 5 % سنوياً، كما أنه من المتوقع زيادة الأسعار بنسبة 10 % سنوياً، فإن التفاوض الحالي حول زيادة الأجور النقدية يكون على أساس 15 %، وهب أن الأسعار ارتفعت بمعدل أكبر مما كان متوقعاً خلال فترة الاتفاق، ففي تلك الحالة تتغير الأجور النقدية تبعاً لذلك بنفس معدل ارتفاع الأسعار (أتوماتيكياً) ، فلو ارتفعت الأسعار زيادة عن المتوقع بمقدار 1 % فإن الأجور النقدية ترتفع بمقدار 1 % فوق الارتفاع المتوقع سلفا، وهو 10 % وبهذا فإنه في نهاية فترة الاتفاقية يكون الدخل الحقيقي للعمال قد ارتفع بنسبة 5 % بصرف النظر عن نسبة التضخم في الأسعار.
4- 2- أنواع الربط القياسي:
يمكن أن نجد أكثر من نوع من أنواع الربط، فمن حيث ما يربط به قد يكون برقم قياسي، وهو الغالب، وقد يكون بسلعة من السلع، وقد يكون بعملة حقيقية مثل الدولار والريال، أو حسابية مثل الدينار الإسلامي، ومن حيث مدى شموله للمتغيرات الاقتصادية، هناك ربط شامل لكل الحقوق والالتزامات وهناك ربط انتقائي ينصرف إلى بعض تلك المتغيرات، ومن حيث كونه إجبارياً أو اختيارياً يمكن أن يكون الربط إلزامياً، من قبل الدولة كما قد يكون اختيارياً من قبل المتعاقدين. (2)
__________
(1) كروين، مرجع سابق (ص 199 وما بعدها)
(2) كروين، مرجع سابق (ص 199 وما بعدها)(8/1604)
4 - 3- الدافع الأساسي وراء فكرة الربط القياسي:
برزت فكرة الربط إلى الوجود من نمو الشعور بتعذر القضاء على التضخم، وإذن فأفضل شيء يعمل في ضوء ذلك هو تعلم العيش معه على أفضل ما يستطاع، أو بعبارة أخرى العمل على تلافي ما يمكن تلافيه من آثاره. وهنا برزت فكرة الربط. (1)
وقد كانت سياسة الربط محل حوار ساخن بين الاقتصاديين، ما بين مؤيد ومعارض، كما أنها طبقت فعلاً في بلاد عديدة بصورة أو بأخرى، وأجريت دراسات عديدة حول نتائج هذه التطبيقات ومدى اتفاقها أو اختلافها عما قيل عنها نظرياً، ونظراً لتوفر الدراسات التي تناولت هذه المسألة، ولأن الدخول في تحليل فني مفصل لجزئياتها قد يستغرق حيزاً ليس بالهين، ولأن الذي يعنينا بالدرجة الأولى هو دلالة نتائج هذه الدراسات، من حيث ما لها من أثر في التكييف الشرعي للمسألة، فإننا نكتفي بذكر خطوط عريضة دون الغوص وراء التفسير والتعليل.
4- 4- مبررات الربط:
ذهب فريق من الاقتصاديين وخاصة ما يعرف منهم بالنقديين - وعلى رأسهم فريدمان- إلى تحبيذ سياسة الربط (2) وبعض هؤلاء يرى ضرورة أن تشمل سائر العقود والالتزامات حتى تحقق أهدافها بكفاءة، (3) وبعضهم يحبذ سياسة الربط الانتقائي، لتعذر الربط الشامل من جهة، ولما قد يولده من آثار حميدة من جهة أخرى، وأهم حجج الربط هي:
1- إن الربط يدني من الآثار السلبية للتضخم على هيكل توزيع الدخول والثروات.
2- إن الربط وخاصة في الأرصدة المالية يحول دون جعل المدخرات سالبة من جراء التضخم.
ومعنى ذلك أنه يساعد على النمو الاقتصادي، كما أنه يحول دون وقوع الاقتصاد في براثن الركود وتفشي البطالة، كما أنه ومن خلال التحفيز القطاعي يساعد في حسن تخصيص الموارد.
__________
(1) أبدجمان، مرجع سابق (ص 431) ؛ كروين، مرجع سابق (ص 199)
(2) أبدجمان، مرجع سابق، (ص 432 وما بعدها) ؛ د. محمد عبد المنان: ربط القيمة بتغير الأسعار، من أعمال حلقة ربط الحقوق بتغير الأسعار، من وجهة النظر الإسلامية (ص 3 وما بعدها) ؛ د. منور إقبال. مزايا ربط المعاملات بمستوى الأسعار ومساوئه، من أعمال حلقة ربط الحقوق المذكورة (ص 5 وما بعدها) M. Friedman, Monetary Corriection, London: Institute of Economic Affars, 1974
(3) موريس آليه، الظروف النقدية لاقتصاد السوق، محاضرة ألقاها بالبنك الإسلامي للتنمية في 9/2/1992(8/1605)
3- إن الربط إذا ما دعم بسياسات مالية ونقدية يسهل وييسر من مهمة علاج التضخم، من خلال تقليل الضغط على الحكومات لاتخاذ سياسات تضخمية، وتسهيل قبول السياسات المقاومة للتضخم.
4- في جملة واحدة يرى بعض الاقتصاديين أن الربط لا مناص منه في ظل اقتصاد يرتكز على كم هائل من الالتزامات والعقود الآجلة، والتي يجب أن تحترم وأن تحمى من التغيرات في القوة الشرائية للنقود؛ وذلك لأنه يساعد في الحد من التضخم ويلطف من آثاره السلبية على كل من الكفاءة والعدالة.
هذه هي العناوين الكبرى لمبررات سياسة الربط كما صاغها الاقتصاديون الوضعيون، وهي نفسها التي يجادل بها من ذهب إلى تأييد الربط من الاقتصاديين الإسلاميين.
4- 5- مبررات عدم الربط:
لم يسلم الفريق الآخر من الاقتصاديين بما قاله الفريق المؤيد لسياسة الربط، مقدماً في ذلك العديد من المبررات، ذاهباً إلى أن سياسة الربط ضارة وغير مفيدة. (1)
1- إن الربط في حد ذاته عمل تضخمي، بمعنى أنه بدلاً من أن يخفف من التضخم فإنه يزيده اشتعالاً وخاصة من حيث تأثير عملية الربط على منحنى العرض الكلي، يضاف إلى ذلك أنه اعتراف ضمني بأن التضخم لا يمكن علاجه، بل يمكن العيش معه، وفي ذلك ما فيه من تأثير سلبي على السياسات المضادة للتضخم.
__________
(1) أبدجمان، مرجع سابق (ص 432 وما بعدها) ، كروين، مرجع سابق (206) ؛ د. عبد المنان، مرجع سابق (ص 6 –7) ؛ د. ضياء الدين أحمد: ربط القيمة بتغير الأسعار؛ تعليق على بحث د. عبد المنان المشار إليه سالفاً (ص 4 وما بعدها) ؛ د. منور إقبال، مرجع سابق (ص 8 وما بعدها) ؛ د. محمود عبد الفضيل، مرجع سابق، (ص 105 وما بعدها)(8/1606)
2- من الصعوبة بمكان تقييس العقود كاملة، ومعنى ذلك أن الربط غير الشامل الذي هو الأسلوب العلمي سوف يؤدي بذاته إلى المزيد من الظلم والإجحاف بالكثير من الأطراف التي لم تتمكن من ربط تعاقداتها، يستوي في ذلك العمال وأصحاب الودائع وأصحاب المعاشات.. إلخ، كما أنه يحابي المقرض على حساب المقترض.
3- إن الربط له أثر سلبي على كفاءة الاقتصاد ونموه، وذلك من نواح عديدة، منها أنه لا يسمح للأجور المربوطة بالتعديل فيها مجاراة للعوامل المستجدة مثل التغير في الإنتاجية، ومنها أنه يؤدي إلى ظهور وحدتين حسابيتين للعقود المربوطة والعقود غير المربوطة، وفي ذلك ما فيه من زعزعة الاستقرار الاقتصادي.
4- هناك العديد من المشكلات التطبيقية التي تحول دون عمل هذا النظام بكفاءة، ومن ذلك مسألة اختيار الرقم القياسي المناسب، ومسألة توفر هذه الأرقام، خاصة في الدول النامية، ومسألة تعبير هذه الأرقام بصدق عن التضخم القائم، ثم تواجد العديد من العقود غير المرتبطة عند أية لحظة زمنية، فكيف يكون مصير هذه العقود؟
ومعنى ذلك أنه إذا كان التضخم يؤثر سلباً على كفاءة الاقتصاد وعدالته فإن الربط القياسي لا يخفف من ذلك، بل إنه في كثير من الحالات يحدث هو الآخر تشوهاً في مستوى العدالة وفي مستوى الكفاءة، بل ويزيد من حدة التضخم (1)
وتعتبر تلك المبررات لعدم الربط أساس موقف الاقتصاديين الإسلاميين الذين لا يؤيدون فكرة الربط، مع إضافة بعض المبررات التي تقتضيها الطبيعة المميزة للاقتصاد الإسلامي وخاصة منها ما يتعلق بموضوع الربا.
4- 6- نتائج عملية لتطبيق سياسة الربط:
من الناحية العملية تم استخدام سياسة الربط بصورة أو بأخرى في دول عديدة، وتمت دراسة تلك التجارب من قبل العديد من الاقتصاديين بهدف التعرف على آثارها عملياً، ومن ثم اختبار صحة المقولات النظرية المؤيدة والمعارضة، وفيما يلي بعض الملاحظات العامة حول ما أسفرت عنه هذه الدراسات من نتائج.
__________
(1) تقرير التنمية، 1989 (ص91-92)(8/1607)
1- قام كل من بيج وترولوب ببحث نتائج التقييس الذي طبق في واحدة وعشرين دولة صناعية، في ست عشرة حالة كانت الأجور مقيسة، وفي ثلاث عشرة حالة كانت الرواتب التقاعدية –المعاشات- مقيسة، وفي اثني عشرة حالة كانت بعض دخول الاستثمار مقيسة، وتبين أنه ما من قطر من هذه الأقطار حاول أبداً أن يطبق نظام التقييس الشامل، وخلصت الدراسة إلى القول بأنه لم يكن للربط أثر بارز في الأداء الاقتصادي لتلك البلدان، ولم يترك أثراً ملحوظاً بالنسبة لمشكلة التضخم، وقد اقتصر أثره التوزيعي على إعادة جزئية في التوزيع، وقد راعى حملة رأس المال أكثر من رعايته للعمال، ولم يكن له سوى أثر ضئيل على أصحاب المعاشات والضمان الاجتماعي ولم يكن له أثر واضح في عملية الإدخال (1)
2- وفيما يتعلق بالبرازيل كدولة رائدة في عملية الربط، فإن بعض الدراسات تشير إلى أن معدلات التضخم قد هبطت بشدة، لكن ذلك كان مرجعه الأساسي السياسة المالية من جانب والنمو الاقتصادي السريع من جانب آخر، وبعض الدراسات الأخرى تشير إلى ما كان له من بعض الآثار الإيجابية سواء على مستوى الكفاءة وتخصيص الاستثمارات أو مستوى العدالة في توزيع الدخول (2)
وتشير دراسة أخرى لتجربة البرازيل إلى أن الربط وإن حقق فيها بعض الإيجابيات وخفف بعض التشويهات، إلا أنه أوجد تشويهات لا تقل سوءاً عن تلك التي قام بتخفيفها (3)
3- من الواضح أن دلالة هذه النتائج يمكن أن تتجسد في أن التجربة العملية لم تبرهن بقوة على ما لهذا النظام من مزايا، ولم تحسم القضية عملياً بل ظلت كما كانت عليه نظرياً محل أخذ ورد.
__________
(1) أشار إلى هذه الدراسة كروين، مرجع سابق (ص 201 وما بعدها) ؛ د. عبد المنان. مرجع سابق ص 17
(2) كروين، مرجع سابق (ص 206)
(3) د. ضياء الدين أحمد، مرجع سابق (ص5 وما بعدها) البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم، 1988م (ص85 وما بعدها) وكذلك تقرير 1989م (ص 92) ؛ د. رمزي زكي، مرجع سابق (ص 688 وما بعدها)(8/1608)
مع ملاحظة ما هنالك من تحفظات على تلك الدراسات وعلى تعميم النتائج المستخلصة؛ لأن لكل دولة ظروفها الخاصة بها، ومع ذلك فلا يمكن تجاهل موقف دولة اعتبرت من أنجح البلدان في استخدام سياسة الربط من هذه السياسة بعد أن طبقتها لمدة 21 عاماً المتمثل في إلغائها تلك السياسة وعدولها عنها.
4- 7- نتائج عملية لتطبيق السياسة الدخلية:
من البرامج غير التقليدية –المالية والنقدية- التي طبقتها بعض الدول لمواجهة التضخم ما يعرف بالسياسة الدخلية المتمثلة في إجراءات حكومية تستهدف التأثير أو التحكم في معدلات الزيادة في الأجور والأسعار، ومن الواضح أن الركون إلى هذه السياسة يعني ضمناً التسليم بأن من مصادر التضخم الأصلية تزايد التكاليف وتعمد تزايد الأسعار، وبالتالي فالتدخل الحكومي لمنع ذلك يحول دون استمرارية التضخم، بل ويدني من معدلاته ويخفف من حدته، وقد جربت كثير من الدول هذه السياسة وعلى رأسها الولايات المتحدة وبعض دول أوربا وبعض دول أمريكا الجنوبية، إضافة إلى دول متفرقة في قارات أخرى.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه كما كان هناك خلاف حاد بين الاقتصاديين حول فعالية سياسة الربط، وكما جاءت النتائج العملية غير حاسمة فإن الشيء نفسه حدث مع السياسة الدخلية، البعض يؤيدها بقوة ويرى أنها المخرج الوحيد من التضخم إذا ما عملت مع كل من السياسة المالية والنقدية، وبذلك يتحاشى المجتمع وقوع الاقتصاد فريسة للتضخم من جانب والبطالة من جانب آخر، والمنطلق الأساسي لهؤلاء هو ما هنالك من قوى احتكارية ضخمة تتمتع بها كل من نقابات العمال واتحادات رجال الأعمال، والقضية ببساطة يصورونها على أنه من خلال السياسة المالية والنقدية التوسعية يتحقق المزيد من العمالة وحجم الناتج و، عن طريق السياسة الدخلية يمكن الحد من التضخم الذي يصاحب ذلك عادة.(8/1609)
والبعض الآخر لا يؤيد هذه السياسة، معتمداً في ذلك على أنها تنطلق من منطلق غير مسلم به، وهو حدوث التضخم نتيجة ممارسات احتكارية، كما أنها غير فعالة، ثم إنها تشوه تخصيص الموارد وتسبب في عدم المساواة، إضافة إلى ما لها من تكاليف مرتفعة في تنفيذها، وأخيراً فهي تتعارض ومبدأ الحرية الاقتصادية، إن المؤسسات يمكنها التهرب الكبير من الرقابة على الأسعار بتخفيض الحجم أو درجة الجودة، ثم إن تجميد الأجور والأسعار يقلل كثيراً من فعالية جهاز الأسعار بتخفيض الحجم أو درجة الجودة، ثم إن تجميد الأجور والأسعار يقلل كثيراً من فعالية جهاز الأسعار في تخصيص الموارد بشكل حسن، ثم إنها تولد تضخماً مكبوتا، وهو أخطر من التضخم الظاهر، وهل كل المؤسسات مهما كانت أحجامها تخضع للرقابة؟!، وبالتالي سوف يتفشى الظلم (1)
ومن المهم أن نشير إلى أن نتائج التجارب العملية، وخاصة في الولايات المتحدة وكذلك في بعض دول أمريكا الجنوبية تشير إلى أن السياسة الدخلية بما لها من صور متعددة ودرجات متفاوتة لم تكن فعالة في تحقيق المطلوب منها في معظم تجاربها، بل لقد ولدت آثاراً سلبية تعود إلى كل من الكفاءة والعدالة، وإذن فمن المفضل عدم استخدامها إلا بحذر شديد وفي حالات خاصة محددة، وبمصاحبة السياسات المالية والنقدية، وكما طرحت السياسة الدخلية طرحت سياسة الدعم كمحاولة للتعايش مع التضخم وتخفيف آثاره السلبية، وهي بدورها كانت محل تأييد واعتراض (2)
ولعل أهم رسالة نخرج بها من هذا العرض المجمل للتضخم وطرق مواجهته هي أن التضخم مرض خبيث ليس من السهل علاجه بعد أن يتمكن من الجسم الاقتصادي، ويحتاج إلى تجنيد كل الأسلحة لمواجهته، وبقدر ما نتعرف على أسبابه الحقيقية ونباعد بين الاقتصاد وبينها بقدر ما ننجح في جعل الاقتصاد في منأى عن هذا المرض.
__________
(1) لمعرفة مفصلة بهذه السياسة وما لها وما عليها نظرياً وعملياً يراجع ما يلي: أبدجمان، مرجع سابق، (ص 573- 601) ؛ جيمس جوارتني، مرجع سابق، (ص 402 وما بعدها) ؛ تقرير التنمية لعام 1988م، (ص85 وما بعدها) ؛ باري سيجل، مرجع سابق، (ص 704 وما بعدها) ؛ ميجل كيجويل ونيسان ليفياتان، تقرير عن مدى نجاح البرامج غير التقليدية لتحقيق الاستقرار، مجلة التمويل والتنمية عدد مارس 1992؛ ماريو بليجير وأوريان تشيستي، بعض الدروس المستفادة من برامج تحقيق الاستقرار غير التقليدية، مجلة التمويل والتنمية عدد سبتمبر سنة 1988 م
(2) ومن المعروف أن الكثير من الدول النامية وغيرها جرب هذه السياسة لفترات طويلة، ولم تكن نتائجها حاسمة في تحسين الوضعية وتحقيق المستهدف منها، وهناك دراسات عديدة في هذا الصدد، وهناك تلخيص جيد لموقف هذه السياسة من التضخم، انظر: د. محمود عبد الفضيل، مرجع سابق (ص 106)(8/1610)
5- الاقتصاديون الإسلاميون وسياسة الربط القياسي
فرضت سياسة الربط القياسي نفسها على بساط البحث أمام الاقتصاديين الإسلاميين منذ زمن ليس بالقصير، وقدمت فيها العديد من الدراسات، وعقدت لها بعض الندوات، وبمراجعة متأنية لما أتيح لي مما كتب –وهو ليس بالقليل- تبين لي أن هذه الدراسات في مجملها وسواء كانت في شكل بحث أو في شكل تعليق على بحث ذات مستوى عال من الجودة، على أن ذلك لا ينفي وجود بعض الملاحظات، وأرى أن استرجاع ما قيل هنا غير مفيد، ولكن المهم والمفيد هو إبداء هذه الملاحظات بالتركيز على ما يكون منها ذا أهمية في تنمية وإثراء المعرفة في هذا الموضوع، لاسيما وأن تلك الجهود السابقة مع عظم أهميتها إلا أنها لم تتمكن من حسم الموضوع حسماً تاماً وبالذات من الناحية الشرعية، ومن ثم فالمجال مازال متسعاً والباب مازال مفتوحاً أمام المزيد من البحوث في جوانب معينة في هذه القضية، حتى يمكن للجهات الشرعية المعنية أن تصدر ما تراه من أحكام حيالها.
وفيما يلي إشارة سريعة لما خرجت به من ملاحظات حول عدد لا يستهان به من الكتابات التي قدمت.
5- 1- لعل من أهم تلك الملاحظات أن معظم هذه الدراسات قد انطلق من الناحية الشرعية، من منطلق أنه كان لفقهائنا القدامى جهود مفصلة حيال هذا الموضوع، في حين أن هناك دراستين ذهبتا إلى أنه لم يكن لفقهائنا القدامى جهود في هذا الشأن (1) وإنما انصرف كل جهدهم للعلاج البعدي وليس للترتيب القبلي.
والواقع –كما سنوضح ذلك في فقرة قادمة- أن كلا المنطلقين غير صحيح.
كذلك نلاحظ أن غالبية تلك الدراسات قد انطلقت من منطلق أن موقف الفقهاء القدامى من هذه العملية هو الرفض دونما إشارة من جانب الرافضين لفكرة الربط إلى ما هنالك من تعدد في أقوال ومواقف الفقهاء، ودونما التفات من جانب المؤيدين منهم إلى أن هناك أقوالاً فقهية تساندهم.
__________
(1) دراسة د. رفيق المصري: تدهور النقود والربط القياسي للقروض غير الربوية؛ دراسة د. شوقي دنيا: تقلبات القوة الشرائية للنقود، مجلة المسلم المعاصر، العدد 41 لسنة 1984م(8/1611)
5- 2- من الملاحظ كذلك أن مسألة الشروط في العقود لم تنل ما تستحقه من اهتمام، رغم أهميتها الكبرى في موضوع الربط، فالربط ما هو في حقيقته إلا شروط في العقد، وإنما لمست لمساً سريعاً من خلال تعرض بعض الدراسات للضرر وللجهالة، وقد ظهرت بعض الأفكار الغريبة الطريفة، ومن ذلك ما ذهب إليه بعضها في معرض ردها على ما هنالك من جهالة في ربط الأجور، بأن الجهالة في بيع المرابحة أكبر بكثير ومع ذلك لم تحرم المرابحة (1) فهل صحيح كون المرابحة تحتوي على عنصر كبير من الجهالة؟
الواقع أن كل المذاهب الفقهية تؤكد على ضرورة التوضيح الدقيق لكل العناصر المؤثرة والمكونة للثمن، حتى للصيغ التي تقال فيها، فكيف يدعى أن الثمن الأصلي في المرابحة مجهول؟؟؟ وليس معنى ذلك قبول أو رفض سياسة الربط، وإنما المعنى أنه يجب أن يكون موضوع الشروط في العقد من أهم الموضوعات التي تدرس بعناية للوصول إلى حكم شرعي سليم لهذه السياسة، وغير خاف ما هنالك من خلاف فقهي واسع حول هذه المسألة.
ولنا أن نأخذ بالرأي الميسر للتعامل، طالما أن الشرط لا يوقعنا في محظور شرعي، وعلى الأخص الربا والجهالة المفضية إلى المنازعة والخلاف.
5- 3- كذلك فقد غابت مسألة فقهية دقيقة وذات أهمية حاسمة في التعرف على الحكم الشرعي لأثر التضخم على أطراف المبادلة، وهي مسألة (الضمان) الذي يقع على كل طرف من أطراف العقد، وخاصة في العقود الآجلة، أي التي لم يسلم فيها أحد المعقود عليه مثل الثمن، الأجر، مؤخر الصداق، المعاش، بدل القرض، ... إلخ، وعدم العناية الكافية بهذه المسألة رتب بعض التشوش، ومن ذلك ما قيل: كيف يعوض الدائن من المدين عن جرم لم يرتكبه؟ (2) إن المسؤولية عن محل العقد لم تعالج فقهياً على هذا النحو، وإنما عولجت على أساس أن المسؤول أمام الطرف الثاني في العقد هو الطرف الذي يقع عليه ضمان محل العقد وليس شخصاً آخر لا علاقة له بالعقد ولا بطرفه الثاني.
__________
(1) د. شابرا في تعليقه على بحث د. عبد المنان، مشار إليه سلفاً (ص7) ، ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن د. عبد المنان يرى أنه إذا كان وجود الجهل في نظام الربط يؤثر على الحكم الشرعي له فإن جميع عقود الاستثمار فيها درجات من الجهل ومع ذلك لم تحظر، لقد غاب عن الدكتور عبد المنان، ما هنالك من تمييز واضح بين العقود المختلفة حيال مسألة الغرر والجهالة، وأنها لا تعامل معاملة واحدة، فلعقود المعاوضة وضع خاص ولعقود الاستثمار وضع آخر لاختلاف الطبائع، ومعروف أن الربط يجري عادة في عقود المعاوضة
(2) د. حسن الزمان، مرجع سابق (ص 18)(8/1612)
5- 4- لم يجر تمييز واضح في هذه الدراسات بين أنواع الربط المختلفة، لا أقصد من حيث موضوع الربط ومجاله وإنما أقصد من حيث الإلزام والاختيار، ومن حيث ما يربط به، وهل هو رقم قياسي أو سلعة أو عملة أو غير ذلك، رغم أن التمييز في ذلك له أهميته، فمثلاً لم تتطرق دراسة –فيما تحت يدي- لمسألة مدى مشروعية تدخل الدولة في العقود وفرض ما تراه من ربط حيالها، فهل ذلك التدخل من حيث ذاته جائز أم لا؟ ومتى؟ وكيف؟ ومن جهة أخرى فقد ظهر تخوف لا محل له شرعاً في حال الربط الاختياري، وهو أن الدولة سوف تستغل الربط في زيادة الضرائب مثلاً (1) إن ذلك التخوف قد يكون له مبرر شرعي عندما يكون الربط إجبارياً، أما إن كان اختيارياً فلا أظن أنه يمنع لمجرد هذا الاحتمال، ثم إن المربوط به إن كان المستوى العام للأسعار فالهدف عندئذ هو منع أثر التضخم، وإن كان سلعة أو عملة أو حتى رقماً قياسياً لا يعبر بكفاءة عن مستوى الأسعار فإن الهدف غالباً يكون تخفيف أثر التضخم، وإذن فلا يقال بشكل مطلق: إن الربط بسلعة ما مرفوض لأنه لن يحقق دائماً الهدف، فمعيار الحل والحرمة ليس هو ذاك وإنما شيء آخر.
5- 5- في ثنايا هذه الدراسات ظهر تحمس مبالغ فيه في بعض الجوانب، ولا أظن أن منهج التعرف على الحكم الشرعي يرحب بذلك، فمثلاً وجدنا مقولة: (لماذا لا نؤمن صاحب المدخرات ولا نؤمن رجال الأعمال؟؟) و (إن الربط سوف يجعل الناس يبتعدون عن المخاطرة والدخول في لجنة المشروعات) (2) ، (إن الربط يعطي ميزة للمقترض لا يتمتع بها الشخص الذي يقرر تجميد أمواله) (3) ولا يخفى أنه عند التأمل في مثل تلك المقولات لا نجد لمضمونها تأثيراً يذكر في تكييف الحكم على الربط، بل إن بعضها يمكن أن يستخدم كمبرر للربط، وما المانع من تأمين صاحب المدخرات طالما أنه يقدمها دون عائد متوقع؟ إن تأمينه على رجوع أمواله كاملة له أهميته الشرعية والاقتصادية، بينما رجل الأعمال قد دخل على المخاطرة متحملاً لها، ولما تجلبه له أو عليه، فكيف يؤمن؟؟؟ وهل مطلوب من كل فرد أن يخاطر ويعمل في النشاط الاقتصادي بكل ما لديه من أرصدة؟ وماذا في تمييز المقرض على المكتنز المجمد لماله؟ إن المقرض قد أفاد غيره عكس المجمد لماله، والتمييز هنا مطلوب ولاسيما من الناحية الاقتصادية، وكذلك من الناحية الشرعية.
__________
(1) د. محمد عارف، تعليقات على بحث الدكتور منور إقبال، مشار إليه سلفاً (ص 8)
(2) د. شابرا: نحو نظام نقدي عادل، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي (ص 57- 58)
(3) د. صديقي، مرجع سابق (ص 10)(8/1613)
5- 6- ظهرت أفكار عديدة بخلاف ما سبق قد تكون دلالتها عدم متانة الأساس الشرعي الذي انطلقت منه هذه الدراسات أو بالأحرى بعضها، ومن ذلك على سبيل المثال:
1- شاع ذكر أحاديث الربا ((الذهب بالذهب..)) وبعد الدراسات (1) فهمت المثلية في الحديث على أنها الاتفاق والتساوي في الجودة والصفة، أو بعبارة أخرى في القيمة المالية، مع أنه باتفاق العلماء لا اعتبار في هذا المجال لهذه الأشياء، بل الأكثر من ذلك الاتفاق على إهدارها وحظر أن يكون لها اعتبار في هذه المبادلات، ولا يخفى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في المعاملة التي راعت القيمة المالية في التمر: ((عين الربا)) .
2- كان التخوف من الربا والاقتراب منه هاجساً قوياً لدى الطرفين، وهذا أمر محبب ومطلوب، لكن يجب أن يكون في ظل ضوابط محددة، وإلا حرمنا الكثير مما أحله الشرع بسبب هذا الهاجس، فمثلاً قيل: إنه لو حدث الاتفاق فإن صاحب الدين سيستفيد، ومعنى ذلك أنه بشكل أو بآخر سيرجع إليه أكثر مما له، وفي ذلك ربا (2)
ولو رجعنا إلى تحليل الفقهاء للمسألة، لوجدنا أولاً ليست كل زيادة ربا، وثانياً لقد قالوا برد القيمة، والقيمة مال مغاير وليس من جنس الدين أو الحق، وبذلك لا يكون هناك ربا، والمفهوم الفقهي للقيمة ينبغي أن يكون واضحاً لدى الاقتصاديين (3)
__________
(1) ومن ذلك ما جاء في تعليق كل من د. محمد عارف وجيه، آي، لاليوالا على بحث الدكتور منور إقبال المشار إليه سلفاً
(2) د. شابرا، مرجع سابق (ص 58)
(3) عرف الفقهاء المثل بأنه المساوي في الجنس والمعنى، والقيمة بأنها مال مغاير في الجنس مساو في المعنى (المالية)(8/1614)
3- ذهبت بعض الدراسات إلى تكييف القرض على أنه من باب الصدقة، واعترضت بشدة على دراسة أعطت عقد القرض لوناً من ألوان عقود التبادل أو المعاوضة (1) ومن الناحية الفقهية نجد القرض مغايراً للصدقة أو للهبة، ولنرجع لما قاله الفقهاء في تعريف عقد القرض قال خليل: (القرض إعطاء متمول في عوض متماثل في الذمة) (2) ويعرفه الأحناف بأنه ما تعطيه من مثلي لتتقاضاه، وقال ابن عابدين في شرحه لتعريف القرض: خرج الصدقة والهبة، ثم قال: القرض إعارة ابتداء معاوضة انتهاء (3)
وجميع الفقهاء يعتبرون القرض عقد مبادلة بينما الهبة أو الصدقة ليست مبادلة، وإنما هي إعطاء بغير رد، لكن القرض إعطاء برد، غاية الأمر أن المبادلة أو المعاوضة فيه ليست من قبل المماسكة والمشاحة كما هو الحال في البيع والإجارة مثلاً، ولذلك قالوا: إن القرض عقد يجمع بين التبرع والمعاوضة، فهو تبرع ابتداء معاوضة انتهاء، ومن حق الدائن أن يسترد قرضه كاملاً غير منقوص، بغض النظر عن مدى استفادة المقترض به، حتى ولو ضاع القرض نفسه من المقترض، يظل حق المقرض في استرداد قرضه قائماً، ومن ثم فمن الصعب فهم تبرير رفض أخذ الدائن قرضه كاملاً من حيث المقدار والمواصفات بأن المقترض ربما لم يستفد من هذا القرض إلا في آخر مدته، وهب أنه لم يستفد منه على الإطلاق فهل ذلك يسقط حق المقرض؟ إن المقرض قد ملك المقترض مالاً ووضعه تحت تصرفه الكامل، ومجرد هذا كاف في حق المقرض لاسترداد مثل قرضه كاملاً، وقد نص الفقهاء جميعاً على أنه عند الوفاء بالقرض يجوز التراضي على مثله أو أكثر أو أقل، وبالطبع فإن ذلك بمفرده لا يجوز الربط على القروض، وعلينا أن ندرك بوضوح أنه لا تلازم من حيث الحكم الشرعي بين الوفاء بالحقوق والالتزامات وبين الاتفاق على كيفية الوفاء عند ثبوت هذه الحقوق، فقد يجوز شيء عند الوفاء ويمنع عند ثبوت الدين، وقد يكون العكس، ومن الملاحظ أن جمهور الفقهاء عند تناولهم لمسألة: ماذا يرد عند تغير السعر؟ لم يفرقوا بين دين القرض ودين غيره (4)
__________
(1) د. صديقي في تعليقه على بحثي د. حسن الزمان، المشار إليه سلفاً، والدراسة المعترض على ما فيها للدكتور شوقي دنيا، مشار إليها سلفاً
(2) الدردير، الشرح الصغير: 3/ 291
(3) ابن عابدين، حاشية ابن عابدين: 5/ 161
(4) ابن عابدين، حاشية ابن عابدين: 4/ 533، 534؛ الحطاب، مواهب الجليل، 4/ 338؛ عبد الرحمن العاصمي، الدرر السنية، مرجع سابق: 5/ 110، ومع ذلك فلا خلاف حول ما هنالك من اختلافات في الحكم عندما يحدث الاتفاق عند ثبوت الدين، فقد يجوز الاشتراط في دين البيع أو الإجارة بشيء لا يجوز شرطه في عقد القرض(8/1615)
5- 7- وأخيراً فإن هذه الملاحظات لا تقلل من عظم الجهود التي بذلت، والهدف من طرحها تطوير هذه الجهود والمزيد من تجويدها.
وأنا على يقين من أنه لو كان للفقهاء المعاصرين دور بارز في تلك الجهود وقدموا دراسات فقهية حول هذه الجوانب التي تمكنت من إثارتها وما قد يكون هناك من جوانب أخرى، لجاء البحث الاقتصادي على نحو أفضل من هذا، ولعل ذلك يؤكد على حتمية التعاون الفعال بين الفقهاء والاقتصاديين خدمة للاقتصاد الإسلامي أولاً وللفقه ثانياً.
6- الفقهاء القدامى وعملية الربط القياسي
سبق أن قلنا في تعليقنا على الدراسات التي قدمت من قبل الاقتصاديين الإسلاميين سلفاً: إنها قد انطلقت من منطلق أن الفقهاء القدامى كان لهم تحليل فقهي مفصل حيال مسألة الربط، بينما ذهبت دراستان إلى أنه لم يكن لهم شيء من هذا القبيل، وقلنا: إن كلا المنطلقين غير صحيح، ونحب هنا أن نوضح تلك المسألة، الواقع أنه كانت للفقهاء جهودهم حيال مسألة الربط لكنها لم تكن على هذا النحو من البروز والوضوح والبسط كما ذهبت إلى ذلك هذه الدراسات المعاصرة، إن الربط عمل ينشأ عند نشأة العقد أو الدين، أما أي عمل ينشأ إجبارياً كان أو اختيارياً بعد ذلك فلا يدخل في باب الربط، وكلام الفقهاء الذي كثيراً ما يشار إليه في الدراسات الاقتصادية المعاصرة كان من قبيل الحالة الثانية.
لكن ليس معنى ذلك أنهم قد غفلوا أو أهملوا كلية الحديث عن الحالة الأولى، فقد تناولوها هي الأخرى بالبحث والدراسة لكن بصورة عامة تشمل ما نحن فيه وغيره. ألم يتحدثوا باستفاضة عن الشروط في العقود من جهة وعن شروط المعقود عليه من جهة أخرى؟؟؟ أو لم يتحدثوا عن العديد والعديد من العقود الباطلة أو الفاسدة، وفي كثير منها تبين أن مناط الفساد أو البطلان هو ما هنالك من ربا أو غرر غير يسير أو جهالة ... إلخ؟
إن الكلام في تلك المواطن كلها كفيل باستخراج الحكم الشرعي لعملية الربط القياسي التي نبحثها اليوم، ومع ذلك فقد وجدنا لبعضهم كلاماً مباشراً وصريحاً في مسألة الربط هذه.. ومن ذلك على سبيل المثال:(8/1616)
قال الحطاب: (ذكر ابن أبي زيد أن من أقرضته دراهم فلوس، وهو يوم قبضها مئة بدرهم، ثم صارت مئتين لم ترد عليه إلا عدة ما قبضت، وشرطكما غير ذلك باطل) (1) الشاهد هنا هو قوله: (وشرطكما غير ذلك باطل) ، فهو نص صريح مباشر في الربط من جهة وفي عدم شرعيته من جهة أخرى، ورغم صراحة هذه العبارة في عملية الربط إلا أنها وبكل أسف غير مفصلة، فلم توضح تبرير بطلان هذا الشرط، لكن يمكن معرفة ذلك من خلال دراسة قضية الشروط في العقد.
قال ابن رشد: لو قال: أبيعك ثوبي هذا بعشرة دراهم من صرف عشرين درهماً بدينار، قال ابن القاسم: البيع صحيح، ويلزمه نصف دينار، تحول الصرف كيفما حال –أي مهما كان سعر الصرف الجديد- حيث إنه أوجب له ثوبه بنصف دينار (2) ، وقد أيد ابن رشد موقف ابن القاسم هذا، والشاهد هنا ظهور مسألة الربط، حيث عند التعاقد شرط أو حدد البائع أن يكون الثمن هو عدد معين من عملة ما منظور إليه في ضوء سعر صرفه بعملة أخرى، وهذا ربط بعملة مغايرة، ثم قال: البيع صحيح، والأهم أنه يبين أن الذي له هو العملة المربوط بها وهي الدينار وليس العملة المباع بها ظاهرياً وهي الدراهم، وأوضح أن له ما ربط به مهما تحول أو تغير سعر الصرف.
وقد تعرض ابن رشد لهذه المسألة مرة أخرى فقال: سئل –أي ابن القاسم - عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوبة عليه من صرف عشرين بدينار، فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار، بالغاً ما بلغ من الدراهم إذا كان الدين من بيع، أما إذا كان من سلف فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه، وفسر ابن رشد بعض كلام ابن القاسم بقوله: إن ذكر (من صرف عشرين بدينار) معناه أنه لم يسم الدراهم (العشرة) إلا ليبين بها الجزء الذي أراد البيع به من الدينار فله ذلك الجزء (3) لاحظ أنه رغم أن الصك مكتوب بعدد معين من عملة معينة لكن ذلك كله مربوط بسعر صرف معين من عملة أخرى، وهنا روعي العمل بالعملة الأخرى إذا ما كان الدين من بيع، أما إن كان من قرض فليس له إلا مثل ما أخذ؛ أي عشرة دراهم أو ما تعادله عند السداد من ذهب.
__________
(1) الحطاب: مواهب الجليل: 4/ 341
(2) ابن رشد: البيان والتحصيل، بيروت، دار الغرب الإسلامي: 7/ 23
(3) البيان والتحصيل: 6/ 487(8/1617)
7- منهج التعرف على الحكم الشرعي للربط القياسي
لعل من أهم نتائج ما مضى من هذه الدراسة أن المنهج الذي سار عليه الاقتصاديون الإسلاميون في بحث مسألة الربط لم يكن خالياً من ملاحظات، ومعنى ذلك أنه في مجمله ليس هو المنهج الأفضل والأسلم، فقد تولد عنه كثير من المقولات التي لا نجد لها سنداً شرعياً قوياً.
ثم إن المواطن الفقهية التي ركن إليها الاقتصاديون وانطلقوا منها في دراسة الربط لا تنبئ عن ربط لا من بعيد ولا من قريب، وإنما هي في كيفية المعالجة والتصرف في حيال ما تم أو ما وقع، بعد ما انتهت الفترة الزمنية التي نشأت فيها هذه الحقوق، ومن الواضح أن الاعتماد أو الانطلاق على ذلك في الوصول إلى معرفة الربط أمر غير مأمون شرعاً، حيث كثيراً ما تكون هناك تفرقة وتمييز بين الحكم عند إتمام مقتضيات العقد وعند إنشاء العقد.
ومن ناحية أخرى فقد وجدنا لبعضهم عبارات صريحة في مسألة الربط، بغض النظر عن الحكم الذي قالت به عليها، لكن يلاحظ أن هذه العبارات من القلة بحيث يمكن القول بعدم الاطمئنان الكافي لبناء حكم شرعي أو رسم سياسة بناء عليها، وإذن نحن في حاجة إلى استخدام منهج أفضل مما سرنا عليه قبلاً، وفيما يلي أقدم بعض العناصر والتي قد تكون مهمة أو مفيدة في ذلك:
1- بداية لابد من التمييز بين أنواع الربط المختلفة، ليس فقط من حيث محلها وإنما من حيث الإجبار والاختيار وما يربط به.
2- علينا أن نحاكم هذه السياسة أو التصرف أمام المحظورات الشرعية وخاصة الربا والغرر والجهالة.
3- وطالما أن الربط لا يخرج في حقيقته على أن يكون شرطاً في العقد فعلينا أن نعنى كل العناية بالشروط في العقود وهل اشتراط الربط من بين الشروط المقبولة شرعاً أم المرفوضة؟(8/1618)
4- بفرض اجتياز سياسة الربط هذه الخطوات، بمعنى عدم وجود محظور شرعي فيها وعدم دخولها في الشروط المرفوضة عند ذلك فقط لا قبله، تدرس آثارها الاقتصادية دراسة عميقة؛ تبين حقاً ما لها من إيجابيات وما عليها من سلبيات، ثم نقارن ونرجح، وفي النهاية نطبق القواعد الشرعية المتعارف عليها، عند تعارض المصالح والمفاسد وعند تعارض الأضرار، وخاصة عندما يكون الربط إجبارياً وسياسة عامة من قبل الدولة.
5- معنى الفقرة الرابعة، أن مجرد قول الاقتصاديين أو بعضهم بأن هذه السياسة تحقق العدالة وتحقق الكفاءة لا ينهض بمفرده دليلاً على الأخذ بها شرعاً وإنما لابد أولاً من التأكد من عدم دخولها في محظور شرعي، ومما يؤسف له أن الكثير من الدراسات السابقة لم تنتبه لذلك جيداً باستثناء دراسة واحدة فيما اطلعت عليه (1)
6- من الواضح أن منهج القياس الأرسطي الذي برز في بعض الدراسات السابقة ليس هو المنهج الفقهي المعروف في التعرف على الحكم الشرعي، فمثلاً نجد مثل هذه المقولات: (النقود تستعمل كوسيلة للمدفوعات المؤجلة، والمتلقي لها لا يحصل في فترة التضخم السريع على ما يستحقه حقيقة، وربط المعاملات بالأسعار يصحح هذا الوضع، ومن ثم فهو أقرب إلى روح الشريعة الإسلامية) ، و (التضخم يخل بمبدأ العدالة، والربط يصحح الوضع، والعدالة مطلب إسلامي إذن الربط لا غبار عليه) إلى غير ذلك من المقولات التي لا تسلم من حيث الصياغة والشكل ولا من حيث المضمون، ولعل أقل ما يمكن أن يثار في وجه ذلك، هل العدالة في الربط أمر مؤكد؟ أم هي أمر احتمالي؟ ونحن نعرف أن الاحتمال إذا تطرق إلى شيء لا يصح اتخاذه دليلاً، والمعروف أن خبراء الاقتصاد أنفسهم شككوا قوياً في تعبير الرقم المقاس المختار عن حقيقة التضخم، ومن ثم عن العدالة، بل إن أثر التضخم ذاته على العدالة محل نظر، ويحتاج إلى دراسة كل حالة بحالتها.
خلاصة القول: إن استخدام هذه الأساليب في الوصول إلى الحكم الشرعي محفوف بالمخاطر والمزالق، والأفضل منه استخدام المناهج والأساليب المتعارف عليها بين الفقهاء في معرفة الحكم الشرعي.
__________
(1) وهي الدراسة التي علق بها د. شابرا على دراسة د. عبد المنان(8/1619)
8- ما نراه حيال موضوع التضخم والربط القياسي
عرضنا فيما سبق للتضخم ومخاطره ومضاره المتنوعة، ولأساليب وطرق مواجهته، ثم عرضنا لقضية الربط القياسي، ولانقسام الاقتصاديين حيالها ما بين مؤيد ومعارض، ثم عرضنا لموقف الاقتصاديين الإسلاميين لهذه القضية وقلنا: إنهم بدورهم قد انقسموا حيال تأييدها ورفضها، معتمدين على المبررات الاقتصادية المعروفة وضعياً، وكذلك على موقف الشريعة من تلك القضية، وأبدينا بعض الملاحظات حول الدراسات المقدمة في هذا الشأن، وفي ضوء ما تم عرضه يمكن الخلوص إلى ما يلي:
1- أن يركز البحث الاقتصادي الإسلامي في هذا الموضوع على السياسات الاقتصادية المختلفة التي تحقق درجة حميدة من الاستقرار السعري، وألا ينشغل في هذا الشأن بمسائل أخرى قد لا تكون لها فائدة كبيرة.
وبهذا نتلافى بقدر الإمكان الآثار الضارة للتضخم، ولا نضطر لاستخدام سياسات يظن أنها تحد من آثاره في حين ما قد يكون لها من آثار ضارة، فنكون قد أزلنا الضرر بضرر.
معنى ذلك التأكيد على مخاطر التضخم ومحاذره الاقتصادية والشرعية، والطرق الكفيلة بالحد منه، وقد أكدت أكثر من دراسة سابقة أن ذلك هو الاتجاه الصائب.
2- فيما يتعلق بمواجهة آثار التضخم يمكن القول: إن هناك مواجهة قبلية ومواجهة بعدية:
أ- المواجهة القبلية: والمتمثلة في سياسة الربط، وفي ضوء كل ما قيل عن هذه السياسة سواء من قبل الاقتصاديين الوضعيين أو الاقتصاديين الإسلاميين أرى أن يتم أولاً حسم للقضية من الناحية الشرعية بالتركيز على قضية الربا وقضية الجهالة ومدى سلطة الدولة في التدخل في العقود، فإذا ما اتضح بجلاء الموقف الشرعي وتبين أن العمل بها لا يوقعنا في محظور شرعي فإنني أرى أنه يمكن استخدامها في ظل ضوابط معينة أهمها: أن يكون معدل التضخم مرتفعاً، وأن يكون استخدامها اختيارياً، وأن تصحب بشكل صريح بالسياسات التي تواجه أسباب التضخم، وأن نتأكد اقتصادياً من أنها أفضل سياسة متاحة للحيلولة دون آثار التضخم السلبية، وأن يدرس كل عقد على حدة ويقرر بشأنه ما يصلح له؛ إذ لكل عقد أو ارتباط طبيعته الخاصة، ومن الواضح أن مسألة ربط الديون التي أصلها قروض تحتاج إلى نظر فقهي دقيق ومعمق، حتى لا نقع في الربا، بينما العقود الأخرى وإن كانت بعيدة عن ذلك إلا أنها في حاجة إلى التأكيد على مسألة الجهالة المفضية إلى المنازعة.
ب- المواجهة البعدية: بمعنى ماذا يحدث في ظل التضخم عند الوفاء بالعقود وسد الالتزامات؟ أعتقد أن هذه مسألة فقهية فنية، ترجع إلى الفقهاء المعاصرين وما يرونه حيالها، آخذين في الاعتبار أن قضية التضخم وما يتعلق بها ويتفرع عنها هي قضية معاصرة في المقام الأول، ومن ثم فينبغي عدم الاقتصار على معرفة أقوال الفقهاء القدامى المباشرة في هذه القضية، بل عليهم النظر في موضوعات فقهية متعددة وبخاصة ما يتعلق بالتصرف في الديون والحقوق والاعتياض عنها، ودور الاقتصاديين في هذا الأمر لا يعدو أن يكون تصويراً لبعض الجوانب الفنية التي تعين الفقهاء على التكييف الصحيح للمسألة.(8/1620)
كلمة ختامية
إن هذه الدراسة لوجازتها لم تقدم للقارئ من أبعاد وملامح مشكلة التضخم والتقلبات الحادة في قيم النقود على اختلاف أنواعها إلا النزر اليسير، والمشكلة أعقد بكثير من ذلك، سواء على مستوى الأسباب أو على مستوى الآثار أو على مستوى طرق العلاج، وهي بكل المقاييس أصبحت مزمنة، وقد برهنت كل التجارب حتى الآن على عدم نجاعة وسائل العلاج على اختلاف أنواعها، وإذن ما هو المخرج الحقيقي؟ إن بعض عمالقة الاقتصاد الوضعي اعترف صراحة بأن علم الاقتصاد لم يتمكن حتى هذه اللحظة من إنجاز الدور المناط به، وهو وضع إطار مؤسسي مناسب للنشاط الاقتصادي حتى يتمكن من إشباع الحاجات الإنسانية، وقال في عبارة بالغة الدلالة: (في الوقت الذي تحتفل فيه فرنسا بالذكرى المئوية الثانية لقيام الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان فإنه يتعين علينا أن نعلن بأن أحد حقوق الإنسان الأساسية هو حقه في الحماية بصورة فعالة من أسلوب عمل اقتصاد السوق، الذي يفتقر إلى العدالة والأمانة) (1)
هل لنا معشر الاقتصاديين المسلمين أن نعي ذلك حق الوعي، وأن نجهر بغير أدنى قدر من التردد بأنه لا مخرج لنا من هذه الموبقات الاقتصادية إلا بالتطبيق الجيد الصحيح لكل مبادئ الاقتصاد الإسلامي؟؟؟ إن الأمر أكبر بكثير من أن يتقلص في النظر إلى مشكلة بذاتها ومحاولة إيجاد حلول لها، إن أبسط ما يوصف به مثل هذا المنهج أنه منهج عقيم.
إننا في حاجة إلى نظرة كلية تعيد تشكيل الحياة الاقتصادية برمتها، نظرة عميقة في نمط الاستهلاك ونمط الإنتاج، ونمط التنمية التي تنشد ونمط المؤسسات الملائمة ونمط العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تشكل البيئة السليمة، ونمط الحكم والعلاقات المتفرعة منه، ونمط الأنظمة واللوائح والتشريعات السائدة، إن انتهاج ذلك كله كما جاء به الإسلام هو المخلص الوحيد لنا من هذه الأمراض الاقتصادية الخبيثة.
__________
(1) موريس آليه، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، انظر محاضرته المشار إليها سابقاً(8/1621)
علينا أن نجهر بذلك ونتمسك به ونصر عليه ونجاهد بكل ما لدينا في تحقيقه على الأقل في بلاد المسلمين، وإن قيل فينا وعنا ما قيل، ومن يتشكك في ذلك فعليه أن يأتي لنا بعلاج ناجع للتضخم ليست له من الآثار السلبية ما قد يتفوق على آثار التضخم.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن بعض الاقتصاديين الوضعيين اعترف صراحة بأن علاج التضخم من أصعب الأمور، وذهب إلى أن تحقيق ذلك لا يتأتى في الأجل القصير، ثم إنه يتطلب توفر عدة شروط وقيام وتكاتف أكثر من سياسة (1) وهو بذلك يقترب قليلاً مما نقوله نحن هنا، مع التأكيد على أن مجرد القيام بتلك الأعمال والإجراءات التي نادى بها لم تتمكن من حل المشكلة، من جهة، كما أنها متعذرة التحقيق بمفردها من جهة ثانية؛ حيث لم تنطلق من منظور شامل متكامل للحياة الاقتصادية يختلف كثيراً عما نحن عليه الآن، وإذن فمازلنا نؤمن بأن العلاج الناجع لكل عللنا وأمراضنا الاقتصادية رهين بإعادة تشكيل حياتنا الاقتصادية برمتها على نهج جديد، لا يتمثل إلا في المنهج الإسلامي، نصوغ على هديه سلوكاتنا الإنتاجية وسلوكاتنا الاستهلاكية وسلوكاتنا حيال العالم الخارجي وسلوكاتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية، وسلوكاتنا حيال بعضنا البعض معشر دول العالم الإسلامي.
الدكتور شوقي أحمد دنيا
__________
(1) د. محمود عبد الفضيل، مرجع سابق (ص 106 وما بعدها) حيث قدم بعض المرئيات ليمكن للعالم العربي أن يعالج التضخم، وهي مع تقديرنا لها إلا أنها بمفردها غير كافية وغير فعالة(8/1622)
ملحق
معدل التضخم السنوي بمكمش الناتج القومي الإجمالي في الفترة من 1980 إلى 1990
الدولة المعدل السنوي للتضخم الدولة المعدل السنوي للتضخم
تنزانيا 25.7 سوريا 14.7
الصومال 49.7 الكميرون 5.6
تشاد 1.2 بيرو 233.7
بنجلاديش 9.6 تونس 7.4
أوغندا 107.0 تركيا 43.2
سيراليون 56.2 بولندا 54.3
بوركينا فاسو 4.6 كوستاريكا 23.5
بنين 1.9 الجزائر 6.6
الصين 5.8 ماليزيا 1.6
باكستان 6.7 الأرجنتين 395.1
غانا 42.7 إيران 13.8
موريتانيا 8.8 نيكارجوا 432.0
أندونيسيا 8.4 المكسيك 70.4
مصر 11.9 البرازيل 284.4
زمبابوي 10.8 المملكة العربية السعودية -5.2
بوليفيا 318.4 ليبيا 0.2
السنغال 6.6 إسرائيل 101.4
المملكة المتحدة 5.8 الإمارات العربية 1.1
اليابان 1.5 الولايات المتحدة 3.7
ألمانيا 2.7 الكويت -2.9
المغرب 7.2
المصدر: البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 1992 (ص 282، 283)(8/1623)
مراجع البحث
1- خيرات البيضاوي، التضخم وآثاره في العالم الثالث، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1976.
2- بنت هانسن، مشكلات التضخم في البلاد الصغيرة، ترجمة د. صلاح الصيرفي، نشر معهد الدراسات المصرفية، القاهرة.
3- كروين، التضخم، ترجمة د. محمد عزيز، نشر جامعة قاريونس، ليبيا، 1981
4- مايكل أبدجمان، الاقتصاد الكلي، ترجمة د. إبراهيم منصور، دار المريخ، الرياض، 1988.
5- د. نبيل الروبي، التضخم في الاقتصاديات المتخلفة، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية.
6- د. فؤاد هاشم، اقتصاديات النقود والتوازن النقدي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1970.
7- د. مصطفى رشدي شيحة، التحليل النقدي ونظرية الدخل القومي، الإسكندرية، 1971.
8- Killick T. policy Economics, London: Heinemann, 1977
9- peterson W.C. Income. Employment and Economic Growth, N.Y: W.W Norion & Company , 1978
10- د. مصطفى رشدي شيحة، الاقتصاد النقدي والمصرفي، بيروت، الدار الجامعية للطباعة والنشر، 1981.
11- د. محمد زكي شافعي، مقدمة في النقود والبنوك، القاهرة، دار النهضة العربية.
12- د. صقر أحمد صقر، النظرية الاقتصادية الكلية، الكويت، وكالة المطبوعات، 1977.(8/1624)
13- Ball R.g. Inflation and the theory of money, London: Allen & unwin, 1964
14- جيمس جوارتني وريماردا ستروب، الاقتصاد الكلي، ترجمة د. عبد الفتاح عبد الرحمن وآخر، الرياض، دار المريخ.
15- د. رمزي زكي، مشكلة التضخم في مصر، القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب، 1980.
16- باري سيجل، النقود والبنوك والاقتصاد، ترجمة د. طه عبد الله منصور، الرياض، دار المريخ، 1987.
17- د. محمد عبد الفضيل، مشكلة التضخم في العالم العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1982.
18- المقريزي، إغاثة الأمة بكشف الغمة، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1957.
19- د. محمد عجمية ود. محمد محروس: فصول في التطور الاقتصادي، الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة.
20- البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 1989، النسخة العربية.
21- السرخسي، المبسوط، بيروت، دار المعرفة.
22- د. فؤاد شريف، المشكلة النقدية، الطبعة الأولى.
23- د. فؤاد مرسي، النقود والبنوك.
24- د. شوقي أحمد دنيا، النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي، الرياض، مكتبة الخريجي، 1984
25- د. أحمد الحسني، تطور النقود في ضوء الشريعة الإسلامية، جدة، دار المدني، 1410 هـ.
26- د. محمد نجاة الله صديقي، بعض التعليقات، مع بحث د. حسن الزيان، استعراض للمؤلفات الإسلامية حول ربط المعاملات بتغير الأسعار، من أعمال حلقة ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار من وجهة النظر الإسلامية، البنك الإسلامي.
27- د. حسن الزيان، استعراض للمؤلفات الإسلامية حول ربط المعاملات بتغير الأسعار، من أعمال حلقة عمل حول ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار من وجهة النظر الإسلامية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، البنك الإسلامي للتنمية، جدة، 1407 هـ.(8/1625)
28- ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، بيروت، دار الفكر.
29- ابن عابدين، رسائل ابن عابدين، بيروت، دار إحياء التراث.
30- الحطاب، مواهب الجليل، دار الفكر، بيروت.
31- السيوطي، الحاوي، بيروت، دار الكتب العلمية.
32- ابن قدامة، المغني، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة.
33- الكاساني، بدائع الصنائع، القاهرة، نشر زكريا يوسف.
34- مجموعة من العلماء، الفتاوى الهندية وبهامشها الفتاوى التيرازية.
35- الأسدي، التيسير والاعتبار، القاهرة، دار الفكر العربي.
36- الشيخ مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، بيروت، دار الفكر.
37- د. رفيق المصري، الإسلام والنقود، جدة، جامعة الملك عبد العزيز.
38- أحمد الدردير، الشرح الصغير، القاهرة: دار المعارف.
39- الرهوني، حاشية الرهوني على الزرقاني، بيروت، دار الفكر.
40- المرداوي، الإنصاف.
41- عبد الرحمن العاصمي، الدرر السنية، الرياض، دار الإفتاء.
42- ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، الرياض، توزيع دار الإفتاء.
43- الخرشي، شرح الخرشي مع مختصر خليل، بيروت، دار صادر.
44- الرافعي، فتح العزيز، بهامش المجموع، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.
45- ابن رشد، بداية المجتهد، بيروت، دار المعرفة.
46- Lewis A; Development planning, London: Allen, 1955.
47- د. نزيه حماد، دراسات في أصول المداينات في الفقه الإسلامي، الطائف، دار الفاروق.
48- Friedman M. monetary correction, London: Institute of Economic Affairs 1974
49- د. محمد عبد المنان: ربط القيمة بتغير الأسعار، من أعمال حلقة ربط الحقوق بتغير الأسعار، مشار إليها سلفاً.(8/1626)
50- د. منور إقبال، مزايا ربط المعاملات بمستوى الأسعار، من أعمال حلقة ربط الحقوق.
51- موريس آليه، الظروف النقدية لاقتصاد السوق، محاضرة ألقاها في البنك الإسلامي للتنمية 1992.
52- د. ضياء الدين أحمد، ربط القيمة بتغير الأسعار، تعليق على بحث د. عبد المنان، مشار إليه سلفاً.
53- البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 1989، 1988.
54- ميجل كيجويل ونيسان ليفياتان، تقرير عن مدى نجاح البرامج غير التقليدية لتحقيق الاستقرار، مجلة التمويل والتنمية، صندوق النقد الدولي، عدد مارس 1992.
55- ماريو بليجير وأوريان تشيستي، بعض الدروس المستفادة من برامج تحقيق الاستقرار غير التقليدية، مجلة التمويل والتنمية، عدد سبتمبر 1988.
56- د. رفيق المصري، تدهور النقود والربط القياسي للقروض غير الربوية من أعمال حلقة الربط المشار إليها سلفاً.
57- د. شوقي دنيا، تقلبات القوة الشرائية للنقود، مجلة المسلم المعاصر، العدد 41 لسنة 1984.
58- د. محمد عمر شابرا، ربط القيمة بتغير الأسعار: النظرية، التجربة، وقضايا من المنظور الإسلامي، تعليق مع بحث د. عبد المنان.
59- د. محمد عارف، تعليقات على بحث الدكتور منور إقبال، مشار إليه سلفاً.
60- د. محمد عمر شابرا، نحو نظام نقدي عادل، واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
61- جيه. آي. لاليوالا، مزايا وعيوب الربط، تعليق على بحث د. منور إقبال.
62- ابن رشد، البيان والتحصيل، بيروت، دار الغرب الإسلامي.
63- البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 1992.(8/1627)
ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعار
بين الفقه والاقتصاد
إعداد
د. محمد أنس الزرقا
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
مخطط البحث
1- موضوع البحث ونطاقه.
2- مفاهيم اقتصادية متصلة بالموضوع.
3- مؤشرات المستوى العام للأسعار (الأرقام القياسية) .
3- 1- سلة السلع التي يشملها المؤشر.
3- 2- الحاجة إلى أكثر من مؤشر واحد للأسعار.
3- 3- تحديد الوزن النسبي لكل سلعة.
3- 4- مؤشر تكاليف المعيشة وفق صيغة لاسبير.
- الطريقة الأولى في الحساب ومعناها الاقتصادي.
- الطريقة الثانية في الحساب ومعناها الاقتصادي.
4- صور لربط الأجور بالأسعار.
5- بعض آثار الربط الاقتصادية.
5- 1- على الاستقرار الاقتصادي.
5- 2- على التضخم.
5- 3- على توزيع الدخل.
6- أثر ربط الأجور بالأسعار على الجهالة في عقد العمل.
6- 1- مدى الجهالة الناجمة عن الربط.
6- 2- هل هي جهالة مفسدة للعقد؟
7- مدخل آخر للموضوع: الأجر غير النقدي كنوع من الربط.
8- خلاصة ونتيجة.(8/1628)
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - موضوع البحث ونطاقه
إن الصيغة المألوفة لعقد العمل (إجارة الأجير الخاص عند الفقهاء) يتم فيها تحديد مقدار العمل بالمدة الزمنية وتحدد الأجرة بالنقود، وهذه الصيغة البسيطة متفق على جوازها شرعاً، ولا تثير إشكالاً يقتضي البحث.
وعندما يكون عقد العمل لفترة زمنية طويلة نسبياً، شهوراً أو أعواماً، وتكون الزيادات المطردة في تكاليف المعيشة أمراً متوقعاً، يثور السؤال عن جواز ربط الأجرة النقدية المقبلة في عقد العمل بمستوى تكاليف المعيشة (أو أي مؤشر آخر للمستوى العام للأسعار) ، وهذا هو موضوع البحث الحاضر الذي يهدف إلى التعريف بحقيقة المؤشرات العامة للأسعار، وربط الأجور لها، وببعض التساؤلات الشرعية التي يثيرها ذلك، وما يتصل بالموضوع من مقاصد شرعية عامة ينبغي أخذها في الحسبان للوصول إلى موقف صحيح فقهاً من هذه القضية.
2- مفاهيم اقتصادية متصلة بالموضوع
يقصد الاقتصاديون بسعر سلعة ما ثمن مثلها في السوق، ويميزون بين هذا السعر، وهو السعر المطلق، والسعر النسبي للسلعة، وهو سعرها المطلق منسوباً إلى (مقسوماً على) متوسط أسعار السلع الأخرى (1) كما يميزون بين الأجر (النقدي) الاسمي وهو الأجر معبراً عنه بالنقود الرائجة في بلد ما، والأجر الحقيقي ويساوي الأجر الاسمي مقسوماً على مؤشر تكاليف المعيشة، وهو نوع من الأرقام القياسية العامة للأسعار.
ويدل التحليل الاقتصادي على أن القرارات الاقتصادية الرشيدة إنما تبنى على الأسعار النسبية للسلع والخدمات، لا على أسعارها المطلقة، وعلى الأجور الحقيقية دون الأجور الاسمية، كما أن الدراسات الاقتصادية العملية تدل على أن السلوك الفعلي للناس قد يبنى مؤقتاً – نتيجة عدم التبصر- على الأسعار المطلقة والأجور الاسمية، لكن هذا الخطأ لا يلبث أن يصحح، بحيث إننا في المدى البعيد لا ينبغي أن نتوقع من الناس إلا أن يبنوا سلوكهم وقراراتهم الاقتصادية على الأسعار النسبية والأجور الحقيقية.
__________
(1) هذا المتوسط يقاس عملياً برقم قياسي عام للأسعار(8/1629)
مفهوم المستوى العام للأسعار: إن السلع والخدمات (المنافع) التي يتم تداولها في مجتمع ما تعد بالألوف، وكثيراً ما نحتاج إلى معرفة التغير الذي طرأ على أسعار طائفة كبيرة من السلع (أو كلها أحياناً) ، وليس على سعر سلعة أو سلع محددة، فنسأل عما إذا كانت الأسعار عموماً في بلد معين قد ارتفعت أو انخفضت، أي أننا نسأل عن المستوى العام للأسعار، هل ارتفع أو انخفض عما كان عليه، وأحياناً نحتاج إلى مقارنة بلدة بأخرى في آن واحد، هل الأسعار على وجه العموم في إحداهما هي أعلى منها في البلدة الأخرى؟ ففي هذه الحالات نحن نسأل عن المتوسط العام للأسعار، لنقارنه بين فترتين زمنيتين أو فترات في بلد واحد، أو في الفترة نفسها بين بلدين مختلفين، وسنرى بعد قليل أن من الممكن قياس هذا المتوسط العام للأسعار.
إن النقود، ونرمز لها في هذا البحث بالدراهم، تصلح لشراء أية سلعة أو خدمة، فإن ارتفع سعر سلعة ما فإن الوحدة من النقود (ولتكن الدرهم الواحد مثلاً) تشتري لنا كمية أقل من السابق من تلك السلعة، فإذا ارتفعت أسعار سائر السلع والخدمات، فإن الدرهم الواحد سيشتري كمية أقل من أية سلعة أو خدمة، أي أن قوته الشرائية عموماً قد انخفضت، وبعبارة عامة: إن المتوسط العام للأسعار يعني ارتفاعه: انخفاض القوة الشرائية للنقود، ويعني انخفاضه: ازدياد تلك القوة الشرائية، وهذه العبارة صحيحة بصرف النظر عن أسباب ارتفاع الأسعار أو انخفاضها.
لننتقل الآن إلى معنى التضخم، إنه ببساطة التصاعد في المستوى العام للأسعار فترة بعد فترة، فالتضخم مفهوم يرتبط بحركة متوسط الأسعار، فإذا كانت حركة متصاعدة فهذا هو التضخم، وهو بهذا يؤدي إلى تناقص مطرد في القوة الشرائية للنقود، ولو سألنا عن أسعار عدد كبير من السلع في بلد فظهر لنا أنها أعلى بكثير من أسعار نظيرها في بلدنا، لا يصح أن نقول: إن ذلك البلد الآخر يعاني من التضخم؛ لأن التضخم ليس مجرد كون الأسعار مرتفعة في وقت معين، بل هو ارتفاعها آناً بعد آن عما كانت عليه.(8/1630)
3- الأرقام القياسية للمستوى العام للأسعار
إن الحاجة كبيرة إلى التعبير عن المتوسط العام للأسعار بطريقة دقيقة متفق عليها، وقد بذلت كثير من الجهود النظرية والتطبيقية من قبل الإحصائيين والاقتصاديين في هذا الشأن منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حتى صار من الشائع في جميع دول العالم اليوم أن تقوم جهة رسمية لديها موظفون متخصصون بجمع البيانات اللازمة وحساب الأرقام القياسية للأسعار في فترات دورية سنوية أو شهرية.
هناك عقبتان فنيتان تواجهان أية محاولة لحساب رقم قياسي عام للأسعار، ويحتمل أن لهما في الوقت نفسه علاقة بالحكم الفقهي عن ربط الأجور بالأسعار، فأوضحهما الآن؛ أولهما: كيفية اختيار (سلة السلع) التي تدخل في حساب الرقم القياسي، وثانيهما: كيفية تحديد الوزن النسبي، أي درجة الأهمية التي تعطى لكل سلعة ضمن سلة السلع المختارة.
3- 1- سلة السلع:
ونقصد بها قائمة السلع (والخدمات) التي ستدخل أسعارها في حساب المؤشر (الرقم القياسي)
نلاحظ ابتداءً أن السلع (والخدمات) المتداولة في أي مجتمع مدني معاصر تعد بالألوف المؤلفة؛ إذ لا يكفي أن نعد أجناس السلع، بل إن السلع (والخدمات) ضمن الجنس الواحد تعد بالعشرات، فالورق جنس تحته عشرات الأنواع، فبعضها لطلاب المدارس وأخرى لمطابع الكتب وأخرى للصحف اليومية، وكل من هذه الأنواع تحته أصناف تختلف أوصافها ومستوياتها في الجودة، وتختلف أسعارها، وما قلناه عن الورق يصدق على إطارات السيارات، وخدمات الأطباء والمستشفيات، بل إن طعاماً طبيعياً غير مصنوع كالتمر تحته عشرات الأنواع التي يزيد أحياناً سعر أعلاها عن أدناها بأكثر من عشرة أضعاف.
والأرقام القياسية الفعلية لا تأخذ بالحسبان إلا أسعار عشرات أو مئات السلع المختارة، وهذه نسبة مئوية صغيرة جداً من مجموع السلع في المجتمع قد يبدو أنها لا يمكن أن تدل دلالة صحيحة على حركة أسعار جميع السلع والخدمات.
لكن يلاحظ بالمقابل أن السلع الداخلة في سلة السلع يتم اختيارها فنياً بحيث تمثل الأجناس الرئيسية للسلع المتداولة، وتبين النظرية الاقتصادية أن أسعار السلع ضمن الجنس الواحد، لأنها بدائل لبعضها البعض، تتحرك باتجاهات متقاربة في الغالب.
لذلك يمكن لأسعار عدد صغير نسبياً من السلع المختارة بعناية أن تعبر بصورة جيدة عن حركة أسعار أعداد كبيرة من السلع.(8/1631)
3- 2- الحاجة إلى أكثر من مؤشر واحد للأسعار:
إن إمكان التعبير برقم قياسي واحد عن حركة أسعار جميع السلع والخدمات في مجتمع ممكن عملياً لما بينا (1) لكن مثل هذا المؤشر الشامل يعد شموله المفرط عيباً فيه من وجهة نظر أية فئة محدودة من الناس لا تتعامل في كثير من السلع والخدمات التي تؤثر في ذلك المؤشر، فعلى سبيل المثال، لا يشتري المستهلكون في العادة المواد الأولية الصناعية والوقود الثقيل، ومواد التغليف وأمثالها من السلع التي تهم المنتجين الصناعيين، وبالمقابل لا يشتري هؤلاء الأطعمة الجاهزة والملابس ولا يستأجرون الشقق والمنازل الصغيرة التي تهم الأسر.
لهذا السبب صار من المعتاد في أكثر البلاد إعداد مجموعة من الأرقام القياسية للأسعار يصلح كل منها لأغراض دون أخرى، منها:
* الرقم القياسي لأسعار المفرق، وتختلف تسميته من بلد لآخر، فالبعض يسميه الرقم القياسي لتكاليف المعيشة أو لأسعار المستهلكين.
وسنتطرق إليه مرة أخرى فيما بعد لأنه هو أقرب ما يتصل بالبحث الحاضر.
* الرقم القياسي لأسعار الجملة.
* الرقم القياسي لأسعار الواردات، ونظيره لأسعار الصادرات.
* مصحح أسعار مجمل الناتج المحلي.
وغالباً ما يتكون الرقم الواحد من هذه من عدد من الأرقام القياسية الفرعية، فرقم تكاليف المعيشة ينبني على رقم فرعي لأسعار الأطعمة، وآخر لإيجارات المساكن، وثالث للنفقات الصحية.. إلخ.
وخلاصة الفقرة الحاضرة هي أنه لا يوجد رقم قياسي واحد للأسعار يصلح لجميع الأغراض والفئات الاجتماعية، لهذا تتعدد الأرقام القياسية، وتختلف معدلات تغير الأسعار التي يدل عليها كل منها، ولابد من تخير واحد من تلك الأرقام يكون أقرب إلى غرض المستخدم بقدر الإمكان.
__________
(1) أقرب ما يمثل هذا المؤشر عملياً هو مصحح أسعار الناتج المحلي الإجمالي والذي تتوافر أرقامه لأكثر بلدان العالم (ر: مثلاً تقرير عن التنمية في العالم 1992، الصادر عن البنك الدولي)(8/1632)
3- 3- تحديد الوزن النسبي لكل سلعة:
لو كان المطلوب هو قياس التغير في سعر سلعة أو خدمة بعينها خلال عدد من السنوات لما كان ثمة حاجة إلى نظرية خاصة بالأرقام القياسية للأسعار، لكن المطلوب هو التعبير برقم قياسي واحد عن التغير في أسعار مجموعة من السلع بعضها قد غلا وبعضها رخص وأخرى قد تحركت أسعارها بنسب متفاوتة.
فكيف ندمج هذه الأسعار المختلفة في رقم واحد يعبر بصورة وسطية عن تلك التحركات المختلفة، أو المتناقضة أحياناً للأسعار؟
وما الأهمية النسبية التي نعطيها لسعر كل من السلع والخدمات التي يشملها الرقم القياسي؟
وما المعنى المحدد الذي يمكن إعطاؤه لمثل هذا الرقم القياسي؟
هذه هي الأسئلة الجوهرية في الأرقام القياسية عموماً، وحولها تدور نظريات مختلفة (1) وسيقتصر البحث الحاضر على كيفية الحساب، والمعنى المحدد الذي يمكن إعطاؤه لأكثر رقم قياسي للأسعار شيوعاً، في عالم اليوم، وأكثرها استخداماً في ربط الأجور بالأسعار فيما أحسب، وهو الرقم القياسي لتكاليف المعيشة (أو أسعار المفرق) المحسوب وفق صيغة العالم لاسبير، وهو الاقتصادي الألماني الذي اقترحها في عام 1864م (2)
__________
(1) ر: حول هذا المعنى رويست (ص 154 وما يليها)
(2) روست (ص 155)(8/1633)
3- 4- مؤشر تكاليف المعيشة وفق صيغة لاسبير:
المبدأ الأول: يتم دمج أسعار السلع والخدمات المختلفة الداخلة في الرقم القياسي بأخذ الوسط الحسابي المرجح لتلك الأسعار.
ونقصد (بالمرجح) أن الوزن أو الأهمية التي تعطى للأسعار المختلفة ليست متساوية كما هو الشأن في الوسط الحسابي البسيط (غير المرجح) ، فالترجيح يعني أن سعر أية سلعة يقام له وزن أكبر (أو أصغر) من سواه في الحساب بقدر أهمية تلك السلع بين السلع التي يشملها الرقم.
المبدأ الثاني: يقدر الوزن النسبي لسعر كل سلعة بالقيمة السوقية لما يتم تداوله منها (يباع = يشترى) خلال فترة زمنية محددة تسمى (فترة الأساس) وتكون غالباً سنة معينة.
ويتم تطبيق هذا المبدأ عملياً على النحو التالي في شأن مؤشر تكاليف المعيشة:
* تحدد الفئة المراد متابعة التطور في تكاليف معيشتها مثل العمال غير الزراعيين، أو الأسر المتوسطة الدخل القاطنة في المدن، وتختار عينة إحصائية مؤلفة من عدد من تلك الأسر.
* تجمع بيانات إحصائية فعلية عن أنماط إنفاق (مشتريات) أسر العينة على احتياجاتها المختلفة خلال فترة زمنية، ثم يحسب نصيب (= حصة شائعة) كل جنس من السلع والخدمات في مجموع إنفاق الأسر.
* يختار لكل جنس من السلع والخدمات سلعة أو بضعة سلع تمثله، وتعطى تلك السلعة وزناً يتناسب مع جنس ما تمثله من السلع والخدمات.
3- 4- 1- الطريقة الأولى في الحساب ومعناها الاقتصادي:
لنفترض كمثال للإيضاح، أن الأسرة المتوسطة تشتري ثلاث سلع فقط: الخبز، ومنافع المنزل الذي تستأجره، وأثواباً للباس.
وهدفنا هو حساب مؤشر للتغير في تكاليف المعيشة (مستوى الأسعار) في السنة الحالية مقارناً بسنة أساس ولتكن هي السنة الفائتة.(8/1634)
الجدول رقم (1)
أسعار السلع وكمياتها التي تشتريها الأسرة
في سنة الأساس
عدد الوحدات سعر الوحدة المبلغ المنفق
الخبز
750 كجم × 2 درهم للكيلو = 1500 درهم أنفق على الخبز
السكن (مسكن واحد) × 800 درهم = 800 درهم أنفق على استئجار مسكن
اللباس 10 أثواب × 20 درهم للثوب = 200 درهم أنفق على الأثواب
المجموع = 2500 درهم مجموع الإنفاق على (سلة السلع) في سنة الأساس
ويستنتج من الجدول (1) أنه في سنة الأساس بلغت الأهمية النسبية للخبز 60 % (1500/2500) ، وللسكن 32 % (800/2500) ، وللباس 8 % (200/2500) ، وتطبيقاً للمبدأ الثاني تستخدم هذه الأوزان النسبية للترجيح عند حساب المؤشر.
لنفترض الآن أن الأسعار تحركت على النحو التالي في السنة الحالية بالمقارنة مع سنة الأساس:
الجدول رقم (2)
تطور الأسعار في السنة الحالية مقارنة بسنة الأساس
سعر سنة الأساس سعر السنة الحالية منسوب السعرين التغير في السعر
الخبز 2 درهم للكيلو 2.2 درهم للكيلو 2.2 / 2 = 1.1 ارتفاع 10 %
السكن 800 درهم للمسكن 800 درهم للمسكن 800/800= 1 لا تغير
اللباس 20 درهم للثوب 15 درهم للثوب 15/20= 0.75 انخفاض 25 %(8/1635)
يمكن حساب مؤشر تكاليف المعيشة للمثال السابق وفق صيغة لاسبير بالطريقة التالية (1) ولنسمها الطريقة الأولى:
قيمة مؤشر السنة الحالية = 100× منسوب السعرين للسلعة الأولى × أهميتها النسبية + منسوب السعرين للسلعة الثانية × أهميتها النسبية + منسوبي السعرين للسلعة الثالثة × أهميتها النسبية
=100× [1.1
1500
× ـــ
2500
+ 1
800
× ــــ
2500
+ 0.75
800
× ــــ
2500
= 100× [1.1 ×0.6 + 1 × 0.32 + 0.75 × 0.8]
__________
(1) هذه طريقة الوسط المرجح لمنسوبات الأسعار، انظر مثلاً: نيتر مع وسرمان (ص 666 وما يليها)(8/1636)
ومعنى الرقم 104 هو أننا إذا اعتبرنا المستوى العام لأسعار سنة الأساس (السنة الماضية) هو 100، فإن مستوى أسعار السنة الحالية هو 104، فهناك زيادة في الأسعار بنسبة 4 % في المتوسط.
وهذه الطريقة في الحساب تظهر حقيقة أن المؤشر هو وسط حسابي مرجح لتغيرات الأسعار المختلفة.
ونلاحظ في مثالنا أن سعر السكن (أجرة المسكن) لم يتغير عن السنة الماضية، بينما ازداد سعر الخبز 10 %، وانخفض سعر الملابس 25 %، ومع ذلك ارتفع المؤشر 4 %؛ لأن الخبز أكثر أهمية ووزناً في مثالنا من الملابس، وقد اخترنا أرقام المثال المفترض لنبرز الحقيقة التالية عن مؤشرات الأسعار عموماً:
عندما يرتفع مؤشر الأسعار 4 % مثلاً، فهذا يعني أن الأسعار في المتوسط ارتفعت بتلك النسبة، فقد يكون بعضها قد ارتفع بأكثر، وبعضها بقي على حاله أو انخفض، والسلع ذات الأهمية الأكبر هي المؤشر الأكبر على حركة المؤشر.
وغني عن البيان أن كل ما ذكرناه من معان ومبادئ لا يقتصر على مثالنا البسيط، بل يبقى صحيحاً ولو ازداد عدد السلع إلى المئات وتغيرت الأرقام وسنة الأساس.
3- 4- 2- الطريقة الثانية في الحساب ومعناها الاقتصادي:
يمكن أيضاً حساب مؤشر تكاليف المعيشة وفق صيغة لاسبير بطريقة أخرى هي الآتية (1) ولنسمها الطريقة الثانية:
(هذه الطريقة مكافئة جبرياً للطريقة الأولى، وتعطي للمؤشر عين القيمة السابقة، لكنها تمتاز بإبرازها معنى آخر للمؤشر مهم جداً من الناحية الفقهية كما سيظهر فيما بعد) .
المبلغ اللازم بأسعار السنة الحالية لشراء سلة السلع
قيمة مؤشر السنة الحالية = 100 ×
__________
ـــــــــــــــــــــــ
المبلغ اللازم بأسعار سنة الأساس لشراء سلة السلع
__________
(1) هذه طريقة المجموع المرجح، انظر نيتر مع وسرمان (ص 662- 665)(8/1637)
وبالرجوع إلى الجدول رقم (1) نرى أن سلة السلع في سنة الأساس كانت 750 كجم خبزاً، ومنافع مسكن واحد، وعشرة أثواب، لزم لشرائها جميعاً بأسعار تلك السنة مبلغ 2500 درهم، ولو أرادت الأسرة شراء السلة عينها بأسعار السنة الحالية للزمها مبلغ:
750 كجم × 2.2 درهم + مسكن واحد × 800 درهم + 10 أثواب × 15 درهم = 2600 درهم
وبذلك تصبح قيمة المؤشر:
2600 درهم
قيمة مؤشر السنة الحالية = 100 × ـــــــــــــــــــــــــــــ = 100 (1.04) = 104
2500 درهم
فالمئة الدرهم الإضافية التي تلزمنا للإنفاق في السنة الحالية = (2600- 2500) تمثل 4 % بالضبط من كلفة معيشة السنة الماضية، ولهذا نرى أن قيمة المؤشر هي 104، وهو عين الرقم الذي وصلنا إليه بالطريقة السابقة، ويعني أيضاً أن تكلفة المعيشة أو مستوى الأسعار قد ارتفع 4 % عما كان عليه.
وهذه الطريقة الثانية تبرز المعنى الإضافي التالي للمؤشر:
إن مؤشر الأسعار يقيس التغير اللازم في إنفاق الأسرة حتى تستطيع أن تشتري بأسعار السنة الحالية كميات السلع نفسها المحددة في سنة الأساس.
نتيجة الفقرة 3:
بينت في هذه الفقرة الأسئلة الجوهرية التي يثيرها قياس التغير في المستوى العام للأسعار، ووضحت الإجابات التي يقدمها الاقتصاديون والإحصائيون عنها، مقتصراً من ذلك على ما يسهل الوصول إلى حكم فقهي في موضوع هذا البحث.(8/1638)
4- صور لربط الأجور بالأسعار
على الرغم من تعدد صور ربط الأجور بالأسعار فإن جوهرها واحد، والحكم الفقهي في الموضوع لا يرتبط بصورة بعينها، فأشرح الآن الصورة الأساسية الشائعة للربط:
هناك عقد عمل يمتد عدداً من الفترات الزمنية، لنقل: 3 سنوات، حددت فيه أجرة العامل بـ (2400 درهم) في السنة الأولى على أساس 200 درهم تدفع في نهاية كل شهر، على أن تكون الأجرة في كل سنة تالية هي (2400 مضافاً إليها الزيادة في تكاليف المعيشة في السنة الفائتة عما كانت عليه في سنة الأساس) ، ويوضح الجدول رقم (3) التالي كيفية الحساب.
الجدول رقم (3)
صورة لربط الأجور بالأسعار
السنة مؤشر تكاليف المعيشة للسنة السابقة الأجرة السنوية الأساسية الزيادة بسبب الغلاء مجموع الأجرة المستحقة
الأولى من العقد 100 2400 صفر 2400
الثانية من العقد 102 2400 2 % = 48 2448
الثالثة من العقد 107 2400 7 % = 168 2568
والمعتاد أن مؤشرات تكاليف المعيشة تعلن في نهاية كل فترة (سنة مثلاً) ففي نهاية السنة الأولى من العقد أعلن أن المؤشر هو 102، بمعنى أن أسعار السنة الأولى كانت عموماً أعلى بـ 2 % عن سنة الأساس، فاعتمد هذا الرقم لزيادة الأجرة السنوية خلال السنة الثانية بـ 2 % (= 48) فصارت 2400+ 48 = 2448.
وفي ختام السنة الثانية تبين أن تكاليف المعيشة خلالها ارتفعت 7 % عن سنة الأساس، فبلغ المؤشر (107) ، فزيدت أجرة السنة الثالثة بالنسبة نفسها (2400+ 7 % من 2400 = 2568) .
ومن الصور الأخرى للربط أن لا يعتد بزيادة الأسعار حتى تبلغ نسبة معينة مثلاً 10 %، فإن تجاوزتها طبق الربط حينئذ فقط، ومن الصور أن لا تزاد الأجرة بنفس نسبة زيادة الأسعار، بل بأقل منها، فإن زادت الأسعار 12 % مثلاً زيدت الأجور اللاحقة 6 % فقط، ومن الصور – وبخاصة في البلاد التي تعاني من التضخم الجامح- أن يعلن مؤشر الأسعار كل شهر أو بضعة شهور، وأن تعدل الأجور كل بضعة شهور في ضوء الغلاء الواقع في الشهور السابقة، وواضح أن هذه الصور المختلفة جوهرها الفقهي واحد.(8/1639)
5- بعض آثار الربط الاقتصادية
5- 1- على الاستقرار الاقتصادي:
هل يزيد ربط الأجور من حدة التقلبات في الناتج ومن ثم في النشاط الإنتاجي عموماً؟ أو بعبارة الاقتصاديين: هل يزيد من عدم الاستقرار على المستوى الكلي؟ والمقصود في هذا المقام هو الربط الواسع الانتشار، بمعنى أن تكون أكثر الأجور في المجتمع مربوطة بالأسعار.
ثمة إجابات عن هذا السؤال ظاهرها التناقض، فبعض الاقتصاديين (1) أدت بهم دراساتهم إلى أن الربط يخفف من حدة التقلبات في الناتج (النشاط الاقتصادي الإنتاجي) بينما يرى آخرون (2) على العكس من ذلك أن الربط يزيد عدم الاستقرار.
ويرى فريق ثالث أن كلا الرأيين السابقين يمكن أن يصدق ضمن شروط معينة: (3)
فإن كان مصدر الهزات الاقتصادية = (الصدمات) هو تغير اسمي في الطلب، وكانت متكررة، فإن الربط يخفف التقلبات في الناتج (4) ومثال هذا النوع: زيادة في كمية النقود تؤدي إلى زيادة في الطلب الكلي.
وإن كان مصدر الهزات الاقتصادية حقيقياً يؤثر على العرض الكلي، فإن ربط الأجور يزيد من التقلب في الناتج؛ لأنه يحول دون حصول التغير اللازم في الأجور الحقيقية (5) ومن الأمثلة على الهزات الحقيقية: تقلبات عوامل الطقس المؤثرة في الناتج الزراعي، أو تقلبات معدلات التبادل التجاري، كأن تنخفض الأسعار العالمية للصادرات بالمقارنة مع أسعار الواردات.
وحيث إن جميع البلدان وبخاصة البلدان النامية هي عرضة لكلا النوعين من الهزات الاقتصادية، فإننا لا نستطيع على وجه العموم أن نحكم على ربط الأجور بأنه يزيد أو يقلل من التقلبات في النشاط الاقتصادي.
__________
(1) ملتون فريدمان وهـ. غيرش موريس آليه، على سبيل المثال لا الحصر، انظر المراجع الأجنبية في نهاية البحث
(2) منهم مثلاً برنستاين
(3) ستانلي فشر، الفصل 5 (ص 159 وما يليها) وآيزمان (ص 840)
(4) فيشر، الفصل الخامس (ص 159- 162)
(5) فيشر: الفصل الخامس، ص (159- 162)(8/1640)
5- 2- على التضخم:
أسلفت تعريف التضخم اقتصادياً بأنه الزيادة المطردة في مستوى الأسعار خلال فترة زمنية معينة، والسؤال هو: هل ربط الأجور بالأسعار يزيد قابلية الاقتصاد للتضخم، بمعنى أن تعرض الاقتصاد لصدمة تضخمية، كارتفاع أسعار الواردات مثلاً، يؤدي إلى تضخم أشد في اقتصاد يتم فيه الربط، بالمقارنة مع اقتصاد لا ربط فيه؟
يبدو الجواب بالإيجاب في حدود ما اطلعت عليه (1) ؛ إذ تدل بعض التحليلات الاقتصادية النظرية الدقيقة على أن ربط الأجور، ومثله ربط الديون والالتزامات الضريبية بالأسعار، يزيد قابلية الاقتصاد للتضخم، ويجعل التضخم أشد عندما يقع، لكن هذه النتيجة يتوقف وقوعها على السياسات النقدية والمالية المتبعة، فإن كانت هذه السياسات تغطي عجز موازنة الدولة كلياً أو جزئياً بطبع النقود، فإن الربط يزيد القابلية للتضخم (2) ونلاحظ أن أكثر البلاد النامية تلجأ إلى هذه السياسات.
وفضلاً عن هذا، هناك اقتناع واسع الانتشار بين الاقتصاديين بأن اللجوء إلى ربط الأجور غالباً ما يضعف من عزيمة الدول عن مكافحة أسباب التضخم؛ لأنه يخفف مؤقتاً من آثاره ويؤجلها (3) وربما يجعل مكافحة التضخم أصعب في المدى البعيد.
5- 3- على توزيع الدخل:
لم أطلع على دراسات حول أثر ربط الأجور على توزيع الدخل، ولا أستبعد أن يكون من آثاره – في المدى القصير على الأقل- المحافظة على حصة الأجور في الناتج الإجمالي، أو عرقلة انخفاضها في حالات التضخم الظاهر الذي يميل عموماً إلى زيادة المكاسب النسبية لأصحاب الأعمال الحرة والصناعيين والتجار ومالكي رأس المال الحقيقي كالعقارات، بينما يؤدي في الوقت نفسه إلى تخفيض الدخل الحقيقي لأصحاب الدخول الثابتة كالعمال والموظفين والمتقاعدين.
وحيث إن الغالب على من يتقاضون الأجور أنهم الأضعف اقتصادياً والأقل ثروة، فإن ربط الأجور، إذا حفظ مصلحة هؤلاء، يكون أقرب إلى تحقيق مقصد الشريعة في مساعدة الضعفاء وعدم جعل الماء دولة بين الأغنياء، ولابد من الموازنة بين هذا الأثر الإيجابي المحتمل للربط وأثره السلبي على التضخم مما ذكرناه في الفقرة الآنفة.
__________
(1) انظر فيشر، الفصل السادس (ص 193 وما يليها)
(2) فيشر: وخاصة (ص193 و215)
(3) آيزمان: (ص 840) ؛ وفيشر (ص 193)(8/1641)
6- أثر ربط الأجور بالأسعار على الجهالة في عقد العمل
معلوم أن الشريعة الإسلامية توجب وضوح الحقوق والالتزامات بين الطرفين في جميع عقود المعاوضات، ومنها عقد العمل = (عقد إجارة الآدمي عند الفقهاء) وربط أجر العامل بمؤشر لتكاليف المعيشة ستعلن أرقامه فيما بعد يعني أن مقدار الأجر المستحق عن فترة مقبلة غير معلوم تماماً حين إبرام العقد الآن، وهذه جهالة بلا ريب.
وقد اتفق علماء الشريعة في الجملة على أن الجهالة اليسيرة لا تؤثر في صحة العقد وأن الجهالة الفاحشة تفسده، إنما تعددت آراؤهم في أنواع متوسطة من الجهالة، وفيما يجوز أن يغتفر – على خلاف الأصل- من جهالة كثيرة، والذي يهمني هنا هو أن أوضح مدى الجهالة التي يمكن أن يؤدي إليها الربط.
6- 1- مدى الجهالة الناجمة عن الربط:
إن ربط الأجور بالأسعار يعني عملياً الاتفاق على أجر أساسي محدد (كما في المثال المضروب في الجدول رقم (3) السابق) مع الالتزام بزيادة عليه ترتبط بالغلاء أي بزيادة الأسعار في المستقبل، فالجهالة محصورة في مقدار (زيادة الغلاء) وليس في الأجر الأساسي، (وسأفترض تبسيطاً أن العقد يقضي بزيادة الأجر بنسبة مساوية لزيادة الأسعار) .
ولإعطاء فكرة واقعية عن الموضوع أذكر أن الزيادات السنوية في الأسعار في كثير من البلاد الإسلامية غير المصدرة للنفط خلال العقد الماضي (1980- 1990م) كانت في المتوسط دون 10 % سنوياً في أكثرها، وما بين 15 % - 20 % في بضع بلدان، وبلغت قريباً من 50 % سنوياً في بلدين (1)
__________
(1) البنك الدولي: تقرير عن التنمية في العالم 1992م، الجدول 13، ومؤشر الأسعار المستخدم في التقرير وهو مثبت أسعار الناتج المحلي الإجمالي(8/1642)
فإذا كان عقد العمل يمتد 3- 4 سنوات، فمن السهل أن تبلغ (زيادة الغلاء) في أجر السنة الأخيرة نصف الأجر الأساسي، حتى في البلدان ذات التضخم المعتدل، وأستبعد أن يمكن فقهاً وصف مثل هذه الجهالة بأنها يسيرة، بل الأقرب أن تعد متوسطة أو كثيرة، وواضح أنه بقدر ما يكون معدل التضخم في بلد ما ضئيلاً تتضاءل معه الحاجة إلى ربط الأجور أصلاً، فالربط غالباً ما يحصل – أو يطالب به- عندما تكون معدلات ارتفاع الأسعار كبيرة ومتقلبة، فيؤدي حينئذ إلى جهالة كبيرة في (علاوة الغلاء) التي ستضاف إلى الأجر الأساسي.
6- 2- هل يؤدي ربط الأجور النقدية إلى جهالة مفسدة للعقد؟
إن حيثيات الفقرتين السالفتين توصل إلى القول بأن الجهالة التي ينطوي عليها ربط الأجور النقدية هي جهالة كثيرة والظاهر بادي الرأي أن تعد جهالة فاحشة تفسد العقد.
لكن القضية تحتاج إلى مزيد من التأمل والموازنة في ضوء الاعتبارات التالية:
أ- هل الجهالة الفاحشة المفسدة للعقد هي مجرد الجهالة الكثيرة، أم إنها (الجهالة التي تفضي إلى النزاع، وهي تمنع صحة العقد) (الموسوعة الفقهية الكويتية مادة: جهالة) ، وبعبارة فقهاء آخرين (.. هي الجهالة التي تفضي إلى نزاع مشكل تستوي فيه حجة الطرفين) (1)
واضح أن ربط الأجور بمؤشرات الأسعار يؤدي إلى جهالة، لكنها لا تفضي إلى النزاع؛ إذ إن مؤشرات الأسعار تصدرها جهات فنية متخصصة تابعة للدولة، وليس في حساب الأجر بعد معرفة أرقام مؤشرات الأسعار أي إشكال أو التباس، وبعبارة أخرى: إن الجهالة واقعة عند العقد لكنها ستزول قبل تنفيذه.
__________
(1) الشيخ مصطفى الزرقا، نظام التأمين(8/1643)
ب- إن الجهالة الكثيرة تغتفر فقهاً لمبررات شرعية معتبرة كالحاجة العامة، (ومثالها عقد الجعالة) فهل من مبرر شرعي هنا لاغتفار الجهالة؟ الجواب بالإيجاب، والمبرر هو مراعاة قاعدة شرعية عظيمة هي: حفظ العدل بين طرفي العقد (1) ذلك أن أثر التضخم على العمال الذين يتقاضون أجوراً ثابتة خلال سريان عقد العمل هو تخفيض القوة الشرائية لتلك الأجور نتيجة ارتفاع الأسعار، بينما أثره على أرباح أصحاب الأعمال هو عادة زيادة أرباحهم بما يوازي معدل التضخم على الأقل.
فربط الأجور بالأسعار لا يلزم أصحاب العمل بزيادة الأجور إلا عندما تزداد أسعار منتجاتهم فتزداد أرباحهم، وهذا أقرب إلى تحقيق العدل بين الطرفين في ظل اقتصاديات التضخم.
ويظهر للمتأمل أن قاعدة منع الجهالة في العقود هي على التحقيق وسيلة إلى مقصد شرعي أسمى هو حفظ العدل بين طرفي العقد؛ لأن الجهالة الكثيرة هي مظنة إلحاق غبن بالعاقد ما كان يرضى به لو علم الحقيقة قبل العقد، وما دام الأمر كذلك فإن من المناسب أن نغتفر الجهالة الكثيرة إذا كانت في نفسها وسيلة لازمة لحفظ العدل بين طرفي العقد، وهذا قريب من واقع ربط الأجور بالأسعار.
ج – من المعهود في الشريعة كثرة اغتفارها الغرر (وهو نوع من الجهالة) في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان، وقد أجاد في بيان ذلك الشيخ العلامة المحقق محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله (2)
د – هناك مدخل مختلف تماماً لموضوع ربط الأجور بالأسعار ينبغي أيضاً النظر فيه قبل الانتهاء إلى رأي فقهي، وأنتقل الآن إليه.
__________
(1) للتفصيل والشواهد الفقهية على هذه القاعدة الملحوظة في الفقه وإن لم تكن ملفوظة، انظر لكاتب هذا البحث (قواعد المبادلات في الفقه ... ) (ص 45- 48) ويذكر ابن رشد في بداية المجتهد (2/ 164) رأي مالك رحمه الله بأن النهي عن بيوع الغرر (إنما هو لمكان عدم العدل فيها) والغرر نوع من الجهالة
(2) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 184- 186، ط: الشركة التونسية(8/1644)
7- تحديد الأجر بمجموعة سلع، وصلة الربط (الأجر غير النقدي كنوع من الربط)
7- 1- مقدمة:
يدل البحث عن مدى الجهالة في عقد عمل مستحدث ربط فيه الأجر بالأسعار كما فعلت في الفقرة (6) السابقة، يمكن الانطلاق من مدخل مختلف تماماً وهو البحث عن عقد معروف حكمه، يشبه ذلك العقد المستحدث، وتعدية الحكم المعروف إلى العقد الجديد، وهذا ما سأحاوله الآن.
إن الأجر في عقد العمل يجوز شرعاً أن يكون مبلغاً نقدياً، كما يجوز أن يكون أجراً غير نقدي؛ مالاً متقوماً من غير الأثمان كسلعة معينة، أو منفعة محددة كسكنى دار معينة مدة معلومة.
ويجوز أن يكون بعض الأجر نقوداً وبعضه سلعاً ومنافع محددة، وقد نقلت كتب التاريخ أن بعض ولاة المسلمين كان رزقهم: كذا درهماً ونصف شاة كل يوم، أو كذا درهماً مع كسوة في الشتاء وأخرى في الصيف وعمرة كل سنة.
7- 2- الأجر سلعة محددة:
لنبدأ بملاحظة فنية، أفترض عقد عمل حدد الأجر فيه بسلعة محددة موصوفة: مثلاً عشرة أرطال أرز (من نوع معين) كل يوم.
إن هذا الأجر محصن تماماً من ارتفاع سعر الأرز، ولو كان سعر الأرز عند ابتداء العقد 5 دراهم للرطل فإن هذا العقد الصحيح شرعاً يشبه عقداً مستحدثاً، الأجرة اليومية الأساسية فيه 50 درهماً أول العقد (10 أرطال × 5 دراهم) مع ربط الأجر بسعر الأرز؛ لأن ربط الأجر بسعر سلعة معينة معناه العملي: إعطاء مبلغ نقدي يكفل شراء المقدار نفسه من السلعة المعينة، فترة بعد فترة، خلال سريان العقد.
ولا ينكر أن هناك بعض الفروق بين عقد تكون الأجرة اليومية فيه عشرة أرطال أرزاً، وعقد الأجرة فيه دراهم بقية هذه الأرطال، ولابد من تحديد هذه الفروق بدقة، والنظر فيما إذا كانت مؤثرة تقتضي القول بصحة العقد الأول وفساد الثاني.(8/1645)
ويبدو لي الشبه قوياً جداً بين العقدين، وبخاصة إذا ذكرنا حكماً شرعياً معروفاً هو صحة توفية الالتزام المالي، عند حلول أجله، ببديل يتفق عليه الطرفان (1) وتطبيق ذلك في موضوعنا هو أنه عندما تستحق الأجرة أرزاً مثلاً، يجوز أن يتفق الطرفان على الوفاء بقيمتها دراهم مقبوضة، وهذا الحكم الفقهي يقوي جداً وجه الشبه بين العقدين.
7- 3 –الأجر المركب من مجموع سلع وخدمات محددة بالعقد:
لنفترض الآن عقد عمل حدد الأجر فيه بسلة (مجموعة) كميات من سلع مختلفة ومنافع محددة، ويشبه هذا ما ذكره الفقهاء واختلفوا فيه من عقد يكون الأجر فيه طعام الأجير وكسوته، فمن الفقهاء من أجازه، ومنه من منعه لأن مقدار الطعام والكسوة يتفاوتان كثيراً بين الناس مما يؤدي إلى جهالة الأجر، لكن (إن اشترط الأجير كسوة ونفقة معلومة موصوفة جاز ذلك عند الجميع) (2) فالأجر المركب من سلة محددة من سلع ومنافع (خدمات) موصوفة جائز، وهو محصن تماماً من تقلب أسعار (سلة السلع) التي بني عليها العقد؛ لأن الأجير سيحصل على (السلة) المعينة كيفما تقلبت أسعارها، وهو يشبه عقداً مستحدثاً الأجر الأساسي فيه دراهم معلومة (تساوي قيمة (السلة) عند ابتداء العقد) وهو مربوط بمؤشر للأسعار مبني على سلة السلع ذاتها.
ليس العقدان متماثلين لكنهما متشابهان جداً، ومن الفروق بينهما أن الأجر المركب واجب الأداء بكمياته الموصوفة، ولكل من المستأجر (رب العمل) والأجير أن يتمسك بذلك، بينما العقد المستحدث، بعد أن يعرف مؤشر الأسعار، يثبت الأجر فيه نقوداً يستطيع الأجير أن يشتري بها إن شاء عين السلة الموصوفة، أو سواها مما يريد، والنقود أنفع له لأنها تعطيه خياراً أوسع (3) إلا في الحالات الاستثنائية التي يكون تحصيل السلع فيها عسيراً كالمجاعات والتوزيع بالبطاقات التموينية ... إلخ.
ففي الحالات العادية سيكون في مصلحة الأجير، في عقد الأجر فيه مركب غير نقدي، أن يرضى، بل أن يطلب، الوفاء بقيمة أجره من الدراهم، ولا يستبعد أن يرحب المستأجر بذلك ليوفر على نفسه عناء شراء السلع ونقلها.. إلخ، والظاهر أنه لا مانع من هذا فقهاً.
__________
(1) هذا هو الحد الأدنى الذي يدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (كنت أبيع الإبل بالبقيع..) وانظر أيضاً المادة 402 من مشروع قانون المعاملات المالية الموحد للبلاد العربية المستمد من الفقه الإسلامي
(2) الموسوعة الفقهية الكويتية، مادة إجارة، 1/ 292- 293
(3) هذا ما تؤكده النظرية الاقتصادية عن الأرقام القياسية للأسعار، انظر مثلاً: رويست (ص 157- 158)(8/1646)
وهنا نكون قد اقتربنا جداً من العقد المستحدث الذي نريد معرفة حكمه الفقهي، ولم يبق إلا خطوات يسيرة تنطلق من السؤالين التاليين:
السؤال الأول: هل يجوز في مثل العقد المذكور، الاتفاق ابتداءً على أن يعطي المستأجر (صاحب العمل) الخيار للعامل بين استيفاء أجره، عند حلوله، بكمياته الموصوفة، أو تقاضي قيمته بما تساويه (سلة السلع) في السوق حينئذٍ؟ (أجر غير نقدي مع خيار القيمة للعامل) .
السؤال الثاني: هل يجوز الاتفاق ابتداءً على عدم تخيير أي من الطرفين، بل على أداء الأجر نقوداً بقدر قيمة (السلة) المتفق عليها؟ (أجر غير نقدي مع الإلزام بالقيمة) ، وهذا يكافئ تماماً ربط الأجر بأسعار (السلة) الموصوفة.
ولم يظهر لي سبب وجيه لمنع الصورة الأولى.
أما الصورة الثانية فتنطوي على إسقاط خيار قبل ثبوته، وهذا الغالب فيه فقهاً عدم الجواز فيما أحسب، لكن عدم الجواز ربما كان مبناه منع سوء النية أو الافتئات على حقوق الغير، أو إسقاط مقصد شرعي، ومسألتنا الحاضرة ليست في ذلك من شيء، بل مقصدها العام الاقتراب من العدالة والإنصاف، وتيسير أمر هو غالباً في مصلحة المتعاقدين كليهما، لذلك أقترح قبول الصورة الثانية أيضاً.
7- 4- الأجر المركب من السلع والخدمات الداخلة في مؤشر تكاليف المعيشة:
هذه هي الحالة العامة تماماً لربط الأجور بالأسعار حيث يتفق المتعاقدان على ربط الأجر بمؤشر تكاليف المعيشة الذي تقدره وتعلنه جهة رسمية مستقلة عن الطرفين، وقد أسلفت آنفاً أن المعنى الفني الدقيق للربط لمؤشر تكاليف المعيشة (أو سواه من المؤشرات العامة للأسعار) هو أنه يعدل الأجر النقدي كل فترة على نحو يسمح بشراء عين سلة السلع التي بني عليها المؤشر مهما تقلبت أسعارها.(8/1647)
ووجه الاختلاف بين سلة من السلع والخدمات محددة بالعقد، والسلة التي يبنى عليها المؤشر المذكور؛ هو أن سلة المؤشر تضم عادة عشرات، وأحياناً مئات من السلع والخدمات (1) وهي معلنة لمن يشاء معرفتها بالتفصيل، فيمكن أن يتراضى طرفا العقد على اعتمادها وربط الأجر بها، لكن كثرتها تحول عملياً دون أن يطالب الأجير باستيفائها عيناً بكمياتها الموصوفة لو شاء، أي تحول دون تطبيق صورة السؤال الأول (أجر غير نقدي مع خيار القيمة للعامل) ، لأن هذا الخيار، وإن نص عليه العقد، غير قابل للتطبيق عملياً فهو خيار صوري لا ينبغي أن يعتد به فقهاً.
فلا يبقى والحالة هذه إلا الصورة المبينة في السؤال الثاني (أجر غير نقدي مع الإلزام بالقيمة) ، فمن المناسب لمن يصححها فقهاً أن يصحح أيضاً صورتها العامة التي لا تختلف عنها عملياً إلا في كثرة السلع والخدمات الموصوفة في سلة الأجر.
8 - خلاصة ونتيجة
أولاً: إن المستوى العام لأسعار السلع والخدمات في المجتمع يمكن قياسه رقمياً بعدد من الطرق المنضبطة والمتفق عليها فنياً.
ثانياً: والتضخم هو التصاعد المطرد للأسعار عموماً خلال فترة زمنية، وهو يعني –مهما كانت أسبابه- تناقص القوة الشرائية للنقود، وقد صار التضخم –بدرجات مختلفة- شائعاً في كل دول العالم تقريباً منذ أكثر من نصف قرن، وبسببه ظهرت فكرة ربط الأجور النقدية بمؤشر عام للأسعار، ليعوض تناقص القوة الشرائية للأجور النقدية بسبب التضخم.
__________
(1) تضم سلة مؤشر تكاليف المعيشة في الولايات المتحدة أسعار نيف وأربعمائة سلعة وخدمة، (نيتر مع وسرمان، ص 672) لكن العدد أقل من ذلك في بلدان أخرى وبخاصة النامية منها(8/1648)
ثالثاً: ويعني الربط الكامل للأجور بالأسعار أن يتفق منذ بداية العقد على أن يزداد الأجر النقدي الأساسي في كل سنة لاحقة بنسبة الزيادة العامة في الأسعار، حسب مؤشر عام للأسعار تقيسه وتعلنه جهة رسمية متخصصة مستقلة عن طرفي العقد، ويعني الربط عملياً تمكين الأجير من شراء نفس الكمية من سلع وخدمات محددة موصوفة، ولو تغيرت أسعارها خلال سريان عقد العمل، نتيجة التضخم.
رابعاً: والربط يمكن أن يؤدي إلى جهالة كبيرة في مقدار الأجر النقدي المستحق بالعقد لفترة مقبلة، لكن ثمة اعتبارات شرعية تبرر أن تغتفر هذه الجهالة، وأهم هذه الاعتبارات:
أ- إن ذلك أقرب إلى العدل بين الطرفين في عقد العمل.
ب- إن من الجائز شرعاً الاتفاق على أجر غير نقدي يتكون من سلة من سلع وخدمات محددة موصوفة، وهذا قريب جداً من ربط الأجور بالأسعار.
خامساً: في ضوء ما سبق يبدو من المناسب القول بأن ربط الأجور بالأسعار مباح، بشرط أن يعلم الطرفان بحقيقة المؤشر العام للأسعار الذي يتفق على اعتماده.
سادساً: إن الآثار الاقتصادية العامة لربط الأجور بالأسعار بعضها نافع وبعضها ضار، وكثير منها غير متفق عليه بين الاقتصاديين، وهي على العموم لا تكفي سنداً لمنع ما دلت الأحكام التفصيلية على إباحته، وبوسع ولي الأمر في أي بلد، إذا تبين له، بأدلة معتبرة، أن لربط الأجور آثاراً ضارة راجحة، أن يقيد هذا المباح أو يمنع منه مؤقتاً بحسب قواعد السياسة الشرعية.
د. محمد أنس الزرقا(8/1649)
المراجع الأجنبية
- Fischer, Stanley, (Wage Indexation and Macroeconomic Stability) in Indexaing Inflation and Economic Policy, The Mit Press, Cambridge, 1986.
- Fischer, Stanley, (Indexing and Inflation) in Indexing Inflation, and Economic Policy, The MIT press, Cambridge, 1986.
- Ruist, Erik: (Index Numbers: Theoretical Aspects) International Encyclopedia of the Social Sciences, VOL. 7, pp. 154-59.
- Neter J. et al.,: Applied Statistics, Boston, Alten & Bacon, 1978.
- Friedman, M., (Monetary Correction,) In Giersch et al., Essaays on Inflation and Indexayion, 1974.
- Gierch, H., (index Clauses and the Fight Against Inflation,) in Giersch et al.,
- Essay on Inflation and Indexation, Washington, D.C; American Enterprise Institute, 1974.
- Allais, Maurice, (The Monatary Conditions of An Economy of Markets) paper presented in a Lecture at Islamic Development Bank, Jeddah, Feb. 3, 1992.
- Aizenman, J., (Wage Indexation) , in The New palgrave A Dictionary of Economics, Edited by Eatwell j. et al., Vol. 4, pp. 838, 40, 1987.(8/1650)
ندوة قضايا العملة
الربط القياسي للديون بعملة اعتبارية
إعداد
الدكتور رفيق يونس المصري
بسم الله الرحمن الرحيم
المسألة المبحوثة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
فإن المسألة المطروحة في هذه الورقة، كما حددها مجمع الفقه الإسلامي بجدة، هي:
(إمكان استعمال عملة اعتبارية، مثل الدينار الإسلامي، حيث يتم التعاقد على أساسه، ويتم دفع الدين بما يساوي قيمته يوم التعاقد، أما سداده فيتم حسب قيمته يوم السداد) .
وتقع هذه المسألة ضمن مسائل أخرى في نطاق ندوة (قضايا العملة) ، كالربط القياسي للأجور، والقروض، حال وجود معدلات مرتفعة للتضخم، تفقد العملة معها جزءاً جوهرياً من قيمتها.
للإجابة عن السؤال المطروح، نقسم الورقة إلى قسمين:
- قسم أول: للتذكرة ببعض الأحكام الفقهية المتصلة بالموضوع.
- قسم ثان: لمحاولة الإجابة عن السؤال.
القسم الأول
تذكرة ببعض الأحكام الفقهية المتصلة بالنقود وتغيرها
هناك تعريف للنقود = (الأثمان) يكاد يكون مشتركاً بين رجال الاقتصاد وبعض رجال الفقه، وهي أنها أي شيء يصطلح عليه الناس، ويلقى بينهم رواجاً = (قبولاً عاماً) في تسهيل مبادلاتهم، وهذا التعريف ليس مشتركاً بين جميع رجال الفقه؛ ذلك لأنهم في أمر النقود فريقان: فريق يرى أن النقود خلقية (ذهب، فضة) ، وفريق يرى أن النقود اصطلاحية (ذهب، فضة، أو غيرهما) .(8/1651)
ولئن كانت وظائف النقود أصرح في كتابات رجال الاقتصاد الحديث، إلا أن علماءنا لم يجهلوا معناها، ولعل أبرز من اقترب من وظائفها من علماء المسلمين ابن خلدون (808هـ) ؛ إذ يقول:
(إن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول، وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب، وإن اقتني سواهما في بعض الأحيان فإنما هو لقصد تحصيلهما، لما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق = (تغير الأسعار) التي هما عنها بمعزل، فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة) (1)
فعبارة (قيمة لكل متمول) يبدو أنها تعني أن النقود مقياس للقيمة، وعبارة (الذخيرة) ربما تعني أن النقود أداة ادخار وسيولة ومستودع للقوة الشرائية، وعبارة (القنية) قد تعني أن النقود وسيط مبادلة ودفع، فبها نشتري الأشياء ونقتنيها.
ومن المبادئ التي يتفق فيها رجال الفقه مع بعض رجال الاقتصاد (كالاقتصادي الفرنسي: موريس آليه) ، أن إصدار النقود وظيفة من وظائف الدولة، وإليها تعود أرباح إصدارها، فهذه الأرباح جزء من الدخول التي تعتبر من حق الجماعة، لا من حق الأفراد.
ومن المبادئ التي يتفق فيها رجال الفقه والاقتصاد مبدأ الثبات النسبي لقيمة النقود = (قوتها الشرائية) يقول ابن القيم (751هـ) : (الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً، لا يرتفع ولا ينخفض) (2) هذا هو شأن المقاييس والمكاييل والموازين.
وفي التاريخ الاقتصادي الإسلامي، حدثت نقلة نوعية كبيرة، عندما تم الانتقال من النقود الخلقية إلى النقود الاصطلاحية، ونقلة نوعية أكبر عندما تم الانتقال من النقود الخالصة إلى النقود المغشوشة، فكانت هناك دراهم مغشوشة، وفلوس، ومع ما لقيته هذه النقلة من هجوم، لعل أبرز قادته هو المقريزي (845هـ) ، إلا أن أمر هذه النقود في الواقع كان أقوى من أمرها في الفكر، فعمت البلوى بهذه النقود، وصار الفقهاء أمام ضغط واقعي جديد، هو تغير = (اختلاف) هذه النقود، التي هي معرضة للإبطال والكساد، كما هي معرضة للرخص والغلاء، وكان في طليعة من اهتموا ببيان أحكام هذه النازلة الجديدة: السيوطي (911هـ) في رسالته: (قطع المجادلة عند تغيير المعاملة) (والمعاملة في اصطلاح الفقهاء هي العملة في اصطلاح الاقتصاديين) ، وابن عابدين (1252هـ) في رسالته: (تنبيه الرقود على مسائل النقود) .
__________
(1) المقدمة: 2/ 809
(2) إعلام الموقعين: 2/ 137(8/1652)
والنقود الخلقية عند الفقهاء هي النقود السلعية عند الاقتصاديين، بل هي النقود المعدنية الثمينة، وهي النقود التي لها قيمة ذاتية لا تختلف عن قيمتها الاسمية اختلافاً كبيراً، أما النقود الاصطلاحية المغشوشة عند الفقهاء فهي النقود الائتمانية عند الاقتصاديين، وهي النقود التي تختلف قيمتها الاسمية عن قيمتها الذاتية اختلافاً كبيراً.
وتتلخص آراء الفقهاء في تغير = (اختلاف) النقود، رخصاً وغلاءً، كما يلي:
(1) - إذا كان القرض نقوداً خلقية، وخالصة أو مرجوحة الغش، فالقرض يرد مثله، سواء رخصت النقود أو غلت، أو بقيت كما هي.
(2) - إذا كان القرض نقوداً اصطلاحية، راجحة الغش، ففيه ثلاثة آراء:
1- يرد القرض بمثله، ولا يلتفت إلى رخص النقود وغلائها، وهو قول أبي حنيفة، والمالكية على المشهور عندهم، والشافعية، والحنابلة.
2- يرد القرض بقيمته يوم القرض، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، ولعله وجه عند الحنابلة.
3- يرد القرض بقيمته، إذا كان تغير القيمة بالرخص أو الغلاء تغيراً فاحشاً، وهو وجه عند المالكية (1)
هذه هي أهم الأفكار التي يحسن استحضارها في الذهن، قبل النظر في المسألة المطروحة.
__________
(1) تغير النقود، لحماد (ص 222)(8/1653)
القسم الثاني
الربط القياسي للديون بعملة اعتبارية
المسألة المطروحة للبحث، كما حددها المجمع، مع بعض الشرح مني بين قوسين:
(إمكان استعمال عملة اعتبارية، مثل الدينار الإسلامي، حيث يتم التعاقد (في عقد الدين) على أساسه، ويتم دفع الدين بما يساوي قيمته يوم التعاقد (بالعملة غير الاعتبارية: دولار مثلاً، أو ريال) ، أما سداده فيتم حسب قيمته يوم السداد (بالعملة غير الاعتبارية....)) .
1- لعل المقصود بالدينار الإسلامي هنا الدينار الخاص بالبنك الإسلامي للتنمية، وهو يساوي حقاً واحداً من حقوق السحب الخاصة (بالفرنسية: Droits de tirage speciaux (DTS) وبالإنكليزية: Special Drawing Rights (SDR) في اصطلاح صندوق النقد الدولي، وكل من هذه الحقوق عبارة عن سلة = (مجموعة) من العمل = (العملات) الدولية، بأوزان نسبية معينة، في طليعتها: الدولار الأمريكي.
والدينار الإسلامي (في البنك الإسلامي للتنمية، مثل الدينار العربي في صندوق النقد العربي، لكن الأخير يعادل 3 حقوق سحب خاصة) عملة اعتبارية حسابية، لا وجود لها في الواقع إلا وجوداً محاسبياً دفترياً، على غرار حقوق السحب الخاصة، التي هي نقود كتابية دولية، أنشئت في عام 1969م، وربما لجأ إليها البنك الإسلامي للتنمية للحد من أثر التقلبات في القوة الشرائية للنقود المقرضة.
2- الأساس الفقهي في الدين أو القرض أنه إذا عقد بعملة معينة وفي مثله بالعملة نفسها، فإذا كان القرض مليون دولار أمريكي وجب وفاء مليون دولار أمريكي، أي وفاء المثل، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم)) (1) يعني: مثلاً بمثل، سواءً بسواء.
__________
(1) البخاري: 3/ 98(8/1654)
3- أجاز بعض العلماء (أبو يوسف من الحنفية، وجه عند الحنابلة، وجه عند المالكية) في النقود الغالب غشها وفاء القرض بقيمته يوم العقد، إذا طرأ على هذه النقود تغير، لاسيما إذا كان فاحشاً.
4- المسألة المطروحة تتعلق بما يسميه الاقتصاديون: (الربط القياسي للدين) وقد سمي كذلك لأن الدين تربط قيمته بتغيرات قيمة النقد، ولأن هذا الربط محتاج إلى مقياس يقيس هذه التغيرات، وتبسيط الفكرة أن يقرض لبناني إلى آخر مليون ليرة لبنانية، مقيسة بالدولار مثلاً عند القرض (ولنفرض أن هذا المبلغ يساوي 600 دولار) ، ليسترد عند الوفاء ما يعادل هذه الـ 600 دولار بالليرات اللبنانية.
5- وتتفق مسألة الربط القياسي مع المسألة التي بحثها بعض الفقهاء (في نطاق تغير النقود المغشوشة) ، من حيث إن الغرض في كل منهما هو تخفيف أثر التقلبات في قيمة النقود.
وتختلفان من حيث إن الأولى محاولة للتحصن من التقلب قبل وقوعه، أما الثانية فهي محاولة لتلافي أثر التقلب بعد وقوعه، كما أن الأولى احتماء من التقلب، مهما قل مقداره، في حين أن الثانية (عند بعض الفقهاء) احتماء من التقلب إذا بلغ مقداره حداً كبيراً، أما التقلب اليسير فقد يتسامح به.
6- وعليه فالمسألة المطروحة هي أن يقرض المقرض مليون دينار إسلامي مثلاً، ويعطي المقترض معادلها بالدولار في تاريخ القرض، ثم يسترد معادلها بالدولار في تاريخ الوفاء.
فعدد الدنانير الإسلامية لا يختلف بين القرض والوفاء، ولكن عدد الدولارات قد يختلف، باختلاف قيمة الدنانير.
7- الشبهة التي قد ترد على هذه العملية أن فيها رباً وغرراً، فأما الربا فمن حيث إن المقترض قد يرد عدداً من الدولارات يزيد على العدد الذي اقترضه، وأما الغرر فمن حيث إن المقترض الذي اقترض عدداً من الدولارات لا يعرف العدد الذي سيرده.(8/1655)
على أن الربا قد يكون موجوداً باعتبار الدولار، ولكنه ليس موجوداً باعتبار الدينار، كما أن الربا ليس مؤكداً؛ لأن قيمة الدينار قد تبقى ثابتة، فيرد المقترض عدداً مماثلاً من الدولارات، أو قد تنقص فيرد أقل، أو تزيد فيرد أكثر.
وكذلك الغرر موجود باعتبار الدولار، وغير موجود باعتبار الدينار.
8- ومع ذلك فإني أرى إمكان جواز العملية المطروحة، بشرط أن يكون تقويم الدينار خارجاً عن إرادة طرفي عقد القرض (وهذه هي حال الدينار الإسلامي فيما أعلم) ، وبشرط أن لا يزيد المقرض في هذه القيمة؛ وذلك سدا لذريعة الربا؛ إذ لو كان التقويم بيد طرفي العقد لأمكن المقرض أن يزيد في سعر الصرف، بما يتوصل به إلى الربا الممنوع.
ففي الذهب بالفضة أجاز الشارع الفضل لاختلاف الصنفين، ولكنه لم يجز النساء، سداً لذريعة الزيادة في الفضل لاختلاف الزمنين (الزمن الحاضر والزمن المستقبل) ، ففي إمكان المربي أن يقرض ذهباً بفضة، بدل ذهب بذهب، لاسيما وأن كليهما (الذهب، والفضة) نقد، فيكون ثمة فضل لاختلاف الصنفين، ويزيد المربي هذا الفضل بمقابلة اختلاف الزمنين، فيتوصل بذلك إلى ربا النسيئة المحرم، وهو الزيادة المشروطة في القرض لأجل الزمن.
والله أعلم بالصواب
الدكتور رفيق يونس المصري(8/1656)
المراجع
- ابن خلدون، المقدمة، بتحقيق علي عبد الواحد وافي، القاهرة، دار نهضة مصر، ط 3، د. ت.
- ابن عابدين، تنبيه الرقود على مسائل النقود، ضمن (رسائل ابن عابدين) ج2، دون ناشر، د. ت.
- ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت، دار الفكر، ط2، 1397هـ = 1977م.
ـ البخاري، صحيح البخاري، القاهرة، دار الحديث، د. ت.
- السيوطي، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة، ضمن (الحاوي للفتاوى) ، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج1، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، ط3، 1959م.
- حماد، نزيه، تغير النقود، ضمن (دراسات في أصول المداينات في الفقه الإسلامي) ، الطائف، دار الفاروق، ط1، 1411هـ = 1990.
- المصري، رفيق يونس، ربا القروض وأدلة تحريمه، جدة، جامعة الملك عبد العزيز، مركز النشر العلمي، ط1، 1410هـ- 1990م.
- المصري، رفيق يونس، الجامع في أصول الربا، بيروت، الدار الشامية، جدة، دار البشير، ط، 1412هـ = 1991م.(8/1657)
ملاحظات أساسية
في مسألة ربط الأجور والمستحقات
إعداد
الدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
مذكرة: ملاحظات أساسية في مسألة ربط الأجور والمستحقات
أ- إن النظر إلى مسألة ربط المستحقات النقدية (سواء كانت أجور عمل أو ديون) من الناحية الشرعية، ينبغي أن يستند على تفهم قويم لطبيعة الظروف المعاصرة والتي اقتضت تطبيق أسلوب الربط في الواقع العملي، وفي هذا المنحى أود عرض الملاحظات التالية على أصحاب الفضيلة العلماء والأساتذة المجتمعين في هذا المنتدى المبارك إن شاء الله.
أولاً- إن الدافع الأساسي لفكرة ربط النقود نشأ عن ضغوط نقابات العمال في العالم الصناعي المعاصر رغبة في حماية مستويات معيشة الطبقة العاملة المعتمدة على أجور العمل، وقد تبنت الدول الصناعية صيغاً مختلفة لمفهوم ربط الأجور خلال السبعينات من هذا القرن، ولكن أكثر الدول الصناعية تخلت منذ منتصف الثمانينات عن سياسة الربط وذلك بسبب ظاهرة التضخم الركودي (Stagtlation) : أي تصاعد معدلات البطالة والتضخم في آن واحد.
ثانياً- إن النظام المصرفي الحديث، رغم ضلوعه في الربا المحرم شرعاً، غير أنه لم يضطر إلى محاولة ربط الديون للحفاظ على أصل الديون في مواجهة المعدلات التضخمية المتصاعدة، خاصة وأن هذه المعدلات قد فاقت معدلات الفائدة خلال السبعينات من هذا القرن ... وهذا ما أشار إليه بعض اقتصاديي البنك الدولي في الدعوى بأن معدل الفائدة الحقيقي حدث وأن حقق مستويات سالبة في تلك الفترة (1) مما يعني أن رؤوس الأموال نفسها تضررت.
__________
(1) ندوة البنك الدولي (1989م) : أزمة المديونية(8/1658)
ب- وفي ضوء النقطتين السابقتين أشير إلى ما يلي:
1- إن ربط الأجور هو من الأمور المستحسنة شرعاً؛ لأن الإسلام حريص كل الحرص على حماية الكسب من عمل اليد والحث على ذلك باعتباره المصدر الأساسي للعيش الكريم، غير أن هذا الربط يجب أن يتحقق بمعايير مقبولة (لا ضرر ولا ضرار) وغير مؤدية للجهالة والغرر، بما يفضي إلى النزاع وتوتر علاقات الإنتاج والعمل، في المنشأة الإنتاجية الواحدة.
2- ومن ناحية أخرى، فإن ربط الديون (حتى على فرض إمكانية تخريجه شرعاً) فهو ليس من الأمور ذات الأولوية؛ لأن التنظيم الإنتاجي والاستثماري في الإسلام يعتمد إلى درجة أكبر على صيغ المضاربة والمشاركة ولا تمثل المديونية (كقروض حسنة) نسبة تذكر من هذا النشاط، وربط الديون سيزيد من الضغط على ربحية المنظم خاصة وأن المنظم يستفيد من رفع الأسعار لتحقيق المزيد من الأرباح وفي هذا تحفيز للإنتاج.
3- إن مراعاة مصلحة (طبقة المنظمين) تقتضي عدم تحميلهم أكثر من مسؤولية ربط الأجور، وأكبر ضرر اقتصادي يمكن أن يحدث بسبب عدم ربط الديون هو تحول المستثمرين عن الصيغ الاستثمارية المبنية على الديون إلى صيغ المشاركة والمضاربة، وهذه في حد ذاتها نتيجة مستحسنة.
4- والأكثر خطورة من ذلك أن ربط الديون – وهو أمر لم تضطر له حتى المؤسسات الربوية - قد يتطور إلى صيغة استثمارية ربوية مستترة، ولا شك أن بعض البنوك الربوية ستفضل وضع ودائعها على أساس (معامل الربط) بدلاً من (معدل الفائدة) في حالات التضخم الجامح!!
5- لذا، فإن التركيز الأساسي يجب أن يكون لإيجاد (معامل ربط) للأجور مقبول شرعاً من حيث منافاته لمصادر الجهالة والغرر، المفضيان للنزاع، وأهم معيار لهذا الربط هو أن يصمم ليكون ربطاً مسبقاً وليس ربطاً لاحقاً حسب تعريفنا الآتي لهذين المفهومين:(8/1659)
6- يكون الربط للأجور مسبقاً إذا تم الاتفاق بين صاحب العمل والعامل على زيادة الأجر (للشهر القادم مثلاً) بمعدل 2 % مثلاً، باعتبارها نسبة ارتفاع أسعار السلع الغذائية المتوقعة خلال الشهر القادم، ولا تثريب على صاحب العمل إذا ثبت فيما بعد أن أسعار السلع الغذائية زادت بـ (3 %) بدلاً من النسبة المتوقعة (2 %) .
7- ويكون الربط للأجور لاحقاً إذا اتفق الطرفان على الانتظار حتى نهاية الشهر لمعرفة النسبة الفعلية لزيادة الأسعار، وهذا لا شك من الأمور المحظورة؛ لأن الأجر هنا يكون مجهولاً في ساعة التعاقد، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من استأجر أجيراً فليعلمه أجره)) .
8- يتضح من ذلك أن الاتفاق بين صاحب العمل والعامل على ربط الأجر مقبول شرعاً حتى المعيشة.. أمر غير مقبول شرعاً حتى إذا تم تحديد القانون الرياضي الذي يقوم عليه هذا القانون، مثلاً: رقم لاسبيرس (Laspyres) وسلة السلع الداخلة فيه، ذلك لأن القيمة الحسابية الفعلية لرقم لاسبيرس –أو غيره- تعتمد على معرفة أسعار فترة الأساس وأسعار الفترة اللاحقة، وقد يحدث خلاف حول صحة بيانات الأسعار المستخدمة في الرقم القياسي.
الخلاصة
9- لذا، فإن الذي نميل إليه هنا أن يتم التعاقد على زيادة الأجر بنسبة محسوبة ومعروفة في ساعة العقد مهما كانت طريقة الحساب، وهذا ما نقصده بعبارة (الربط المسبق) .
والله ولي التوفيق
الدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين(8/1660)
مشاكل البنوك الإسلامية
محاور
إعداد
مجموعة دلة البركة
جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
ندوة مشاكل البنوك الإسلامية
المحور الأول: المرابحة
الحالات المطروحة للبحث:
1- بقاء الملكية قانوناً باسم البنك:
في هذه الحالة تؤول حيازة المبيع إلى المشتري فوراً وتبقى العين المبيعة (عقار أو طائرة مثلاً) مسجلة قانوناً باسم البنك (البائع) حتى دفع آخر قسط، بحيث يمكن للبنك في حال عدم التزام العميل بالسداد في مواعيده إعادة حيازة الأصل لكي يبيعه ويسترد بقية الأقساط.
هذا الإجراء يمثل أحد الضمانات للبنك، وهو يتعلق بمبدأ (الصورية) ؛ لأن العقار مثلاً أصبح بالبيع ملكاً للمشتري في الواقع، وهي في الصورة ملك للبنك بسبب تسجيله قانونياً باسمه، ويتطلب حفظ حق المشتري إعطاء البنك له سنداً معاكساً (سند ضد) ينص فيه على أنه هو المالك الحقيقي وأن التسجيل باسم البنك لأجل المديونية، وأن البنك ملتزم بإجراء التسجيل للعميل بمجرد سداد جميع الأقساط، فما حكم هذه الحالة؟ وهل يحق للبنك البيع دون عقد جديد بإعادة الملك إليه أو بدون عقد رهن سابق على المبيع لصالح البنك لتوثيق المديونية؟
2- تطبيق المرابحة في تركيب المعدات وتشغيلها:
في حالة تمويل البنك شراء معدات على أساس المرابحة تنشأ الحاجة إلى تكليف جهة أخرى بالتركيب أو التشغيل والحالة المطروحة هي قيام البنك بذلك على أساس المرابحة.(8/1661)
إن إعطاء مبالغ نقدية بمقابل لإجراء العميل هذه الأعمال لدى الغير لا يمكن شرعاً لأنه ربا، ومن الحلول المطروحة إجراء عقدين منفصلين متحدين في المواصفات وموعد الإنجاز على أساس الاستصناع (عقد المقاولة) أحدهما بين البنك والعميل بمبلغ مؤجل، والآخر بين البنك والمقاول بمبلغ حال أقل، لتحقيق هامش ربح للبنك، دون الربط بين العقدين.
| 3- المرابحة في الأسهم:
الأسهم عبارة عن حصة في المشاركة بملكية محددة شائعة في الموجودات، فما حكم تطبيق المرابحة فيها وما يتطلبه ذلك من مراعاة شروطها، واعتبار الثمن الأصلي عند البيع، وما يتبع ذلك من قبض وتسجيل؟
المحور الثاني: التأجير
الحالات المطروحة للبحث:
1- تبعة صيانة العين المأجورة:
إن الأصل مسؤولية المالك عن صيانة العين المأجورة، لتعلق ذلك بالتزامه تقديم عين ذات منفعة صالحة لأداء الغرض من الإيجار، والمطروح للبحث بعض التطبيقات التي تناط فيها الصيانة بالمستأجر، سواء في الحالة المعروفة باسم التعدي أو التقصير أو حالة رضا المستأجر المعبر عنه بالشروط، وإمكانية التفرقة بين حالة انقطاع المنفعة الأصلية (الصيانة الأساسية) أو غيرها (الصيانة التشغيلية والدورية) وما دور العرف في ذلك؟
2- إعادة التأجير للمالك نفسه أو لغيره:
هذه الحالة تستخدم كصورة استثمارية في المنافع، إذا أعيد الإيجار بأكثر من الأجرة في العقد الأول، وهناك حالة إعادة الإيجار إلى المالك نفسه مع تأجيل الأجرة المستحقة عليه وهي أزيد من الأجرة الحالة المستحقة له، ومدى تصور العينة في الإجارة هنا، أو في الإيجار المنتهي بالتمليك؟(8/1662)
3- استئجار أشخاص وإيجارهم:
هذه الحالة من الصيغ الاستثمارية المطروحة، وهي تحقق السيولة لبعض الشركات في حالة تعثرها في دفع أجور العمال، أو التوقف الموسمي لبعض الأنشطة، كما أنها تؤمن حاجة الشركات أو الأفراد غير القادرين على تأمين العمالة مباشرة.
وهي تقوم على أساس عقد استئجار على منفعة الشخص، ثم إيجار هذه المنفعة للغير، وقد تتم مع من يعمل لديه هذا الشخص قبل عقد الاستئجار، ويكون الربح من الفرق بين الأجرتين.
4- إجارة الأسهم:
تعتمد الإجارة أن يكون للعين منفعة يمكن استخدامها، وهناك تساؤل عن إمكانية ذلك في الأسهم وهل تجوز الإجارة فيها؟ ولمن يكون ربحها طيلة مدة الإجارة؟
المحور الثالث: الودائع والفوائد
أولاً- ضمان ودائع الاستثمار:
تلزم قوانين البنوك المركزية في معظم الدول إن لم يكن كلها بضمان البنوك لأصل الأموال المودعة لديها، حتى ولو كانت ودائع استثمارية، والمطلوب البحث في إمكانية إيجاد مخرج شرعي لهذا الأمر، ومن الحلول المقترحة ما يلي:
1- الأخذ بمبدأ (الضرورة) اعتماداً على أن بعض البنوك الإسلامية لا يمكنها في الأصل الحصول على رخصة للعمل دون التقيد بهذا الالتزام مع مراعاة قاعدة (الحاجة العامة تتنزل منزلة الضرورة) .
2- استخدام مظلة تأمين الودائع.
3- العمل في المال على أساس المضاربة المقيدة بالعمل بمجالات محددة العائد كالمرابحة والتأجير والسلم.
4- فكرة ضمان الطرف الثالث.
5- الاستئناس مما يراه بعض المالكية من جواز التزام المضارب بضمان رأس مال المضاربة بعد إبرام عقدها [منظومة الزقاق وشرحها إعداد المهج، ص 161] .(8/1663)
ثانياً- الودائع المتبادلة بين البنوك:
تضطر البنوك الإسلامية إلى الإيداع في البنوك التقليدية لمواجهة بعض الالتزامات، كما أن البنوك التقليدية ولذات الغرض تضع الودائع لدى البنوك الإسلامية، وتحرص البنوك الإسلامية على الاستفادة من هذا النوع من التعامل دون أن تقوم بإعطاء أو أخذ فائدة ربوية، والحالات المطروحة لإنجاز مثل هذا التعامل تتمثل في:
1- إيداع مبالغ متبادلة بعملة واحدة أو بعملتين مختلفتين بتناسب بين المبالغ المودعة مع الوضع في الحسبان سعر التبادل بين العملتين وأسعار الفائدة دون أن يظهر ذلك كجزء من الاتفاق الذي يقوم على أساسه تقديم كل من الطرفين للآخر قرضاً محدداً من حيث المبلغ والأجل.
2- يتم احتساب فوائد للمبالغ المودعة دون قبضها فعلياً، وتجري المقاصة بين الفائدة الدائنة والمدينة بصورة دورية، وتتم التسوية بزيادة أو إنقاص رصيد كل طرف لدى الطرف الآخر من الودائع.
وبعض الآراء ترى أن هذا من قبيل القيود الحسابية التي لا تخول التصرف والاستفادة والحيازة إذ ليس في العملية أي التزام بإعطاء فائدة أو بأخذ فائدة، والتساؤل الذي يثور: إمكانية ربط القرضين ببعضهما ولو على سبيل المواعدة أو الشرط الملحوظ أو العرف.
3- إمكانية إيداع مبلغ لدى البنك دون الحصول على فائدة نظير تقديم البنك خدمات مصرفية مجانية للمودع، وهو ما يسمى بالأرصدة التعويضية، والتساؤل المثار: ما مدى علاقة ذلك بالقرض الذي جر نفعاً؟
ثالثاً- تكييف ودائع الاستثمار مصرفياً ومحاسبياً، وهل يترتب ضمان الحسابات الجارية على المودعين بالإضافة إلى أصحاب حقوق الملكية؟
تتضح هذه المسألة من النظر في ميزانيات البنوك الإسلامية؛ إذ نجد أن بعضها يدرج ودائع الاستثمار في جانب الخصوم، وهذا يتنافى مع مبدأ ضمان هذه الودائع على البنك؛ لأنها رأس مال مشاركة ولا يجوز للشريك ضمان رأس مال شريكه، فهل الموضع الصحيح ذكرها بين الموجودات أو منفردة؟(8/1664)
ويظهر أثر هذا المشكل بصورة أوضح عند التصفية؛ إذ إن أنظمة بعض البنوك تقضي بإخراج الحسابات الجارية أولاً، ومعنى هذا أنها صارت مضمونة على كل من المساهمين وأصحاب ودائع الاستثمار، مع أن المودعين لم يقترضوا تلك المبالغ لصالحهم، وإنما هي لصالح المساهمين فقط.
والحل المطروح هو اقتسام أموال التصفية قسمة غرماء بين أصحاب ودائع الاستثمار وبين البنك (مع إدراج مبالغ الحسابات الجارية بين أموال البنك) ثم يقوم البنك برد الحسابات الجارية لأصحابها قبل أي توزيع على المساهمين.
المحور الرابع: العقود
أولاً: الربط بين التصرفات والعقود في اتفاق واحد:
الهدف من طرح هذا الموضوع استقصاء ومعالجة الصور المتعلقة بالجمع بين العقود وبينها وبين التصرفات ما كان منها صحيحاً أو ممنوعاً أو في تفصيل، وذلك من أجل دراسة إمكانية تطبيقها في الصيغ والاتفاقات والعقود المتداولة لدى البنوك والشركات الإسلامية، والتي معظمها صور مستحدثة لا يمكن تكييفها على عقد أو تصرف واحد، والحالات المطلوب دراستها مثل:
1- المرابحة المؤجلة عن طريق وكيل يكون هو أيضاً كفيلاً.
2- شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها.
3- إقراض مبلغ لشخص بشرط التعامل به مع البنك بصورة عامة أو في نشاط محدد، هذا مع العلم بأن بعض فقهاء المالكية حصر العقود التي يمكن اجتماعها في صفقة واحدة.(8/1665)
ثانياً- الاتفاق على حق الفسخ في حال تخلف السداد أو تعذر التسليم أو لأي سبب طارئ آخر:
يشتمل هذا الموضوع على صور منها:
1- فسخ عقد المعاوضة القائم لاسترجاع الملكية وإعادة المقبوض من الأقساط، باستثناء مقدار التعويض للضرر.
2- إنشاء عقد معاوضة آخر محل العقد السابق، مع مراعاة ضوابط الفسخ وإنشاء العقد الجديد، من وجود السلعة، وعدم العينة.. إلخ.
3- حكم الاتفاق مسبقاً على تحول العقد إلى عقد آخر، عند التخلف عن السداد.(8/1666)
مشاكل البنوك الإسلامية
محاور
إعداد
بيت التمويل الكويتي
الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
إن ما تواجهه البنوك الإسلامية من مشكلات يتطلب من العلماء المتخصصين أن يتدارسوا السبل والمخارج التي تكفل التغلب على هذه المشكلات، ونود أن نضع بين أيديكم المسائل الآتية، وكلنا أمل ورجاء أن تظفر بنصيب وافر من عنايتكم وعناية الباحثين وهي:
أولاً- مؤشر قياس للربحية بديل عن سعر الفائدة:
تقوم الدول الأجنبية –بحكم سيطرتها على التجارة الدولية - بوضع الأنظمة والمقاييس للتعامل التجاري ومن هذه المقاييس سعر الفائدة الذي يستعمل كمقياس تسعيري للصفقات التمويلية.
وتتنافس المصارف الإسلامية في مجال الاستثمار والتمويل مع مصارف ومؤسسات ربوية، تقرض وتمول اعتماداً على سعر الفائدة أساساً لقياس عوائدها.
لذلك تضطر المصارف الإسلامية لاتخاذ نفس القياس كأساس لتسعير منتجاتها وتسويق استثماراتها، وإلا تعذر عليها المنافسة في السوق المالي العالمي.
ولعدم مشروعية الأخذ بسعر الفائدة من وجهة النظر الإسلامية فإن الحاجة تدعو إلى اعتماد مؤشر لقياس الربحية في أعمال المصارف الإسلامية لتتمكن من تسعير استثماراتها وتقوى على المنافسة في أسواق المال والاستثمار.
ثانياً- مخاطر الاستثمار والتمويل في الدول الإسلامية:
إن المتوقع من المصارف الإسلامية أن توجه عنايتها واهتمامها نحو تنمية الدول الإسلامية وتحسين المستوى المعيشي لشعوبها، ويحول دون تحقيق هذه الرغبة المشكلات الناجمة عن مخاطر الاستثمار والتمويل في بعض الدول الإسلامية بسبب المديونيات الكبيرة على تلك الدول وكذلك ضعف وضعها الائتماني.(8/1667)
وعندما يمول مصرف إسلامي صفقة لشراء سلعة ما لدولة إسلامية تعاني من تلك المشكلات السالفة الذكر فإنه قد يتعرض لمخاطر أكبر من تلك التي يتعرض لها، إذا مول صفقة من هذا النوع في إحدى الدول الصناعية.
والحاجة –كما ترون- تدعو إلى دراسة نظام حوافز يشجع على الاستثمار في الدول العربية والإسلامية.
ومن هذه الحوافز على سبيل المثال:
أ- منح حسم عن سداد الدين لتشجيع تلك الدول على الالتزام والوفاء مما يقلل نسبة التأخر في سداد الدين ويخفف من مخاطر الاستثمار.
ب- إنشاء شركات تأمين وإعادة تأمين إسلامية لضمان السداد.
ثالثاً- إيجاد بحوث شرعية لبدائل استثمارية:
تحل محل اقتراض الدول الإسلامية بفائدة عن طريق سندات خزينة.
رابعاً- دراسة المعوقات - التعليمات القانونية:
التي تصدر من البنوك المركزية في الدول الإسلامية والتي تمثل حرجاً للمصارف الإسلامية، على سبيل المثال فرض مبالغ نقدية على المصارف الإسلامية تودع لدى البنوك المركزية مقابل فائدة يمتنع على المصارف الإسلامية أخذها، ووضع سقوف ائتمانية تضيق من أنشطة المصارف الإسلامية، أو الإلزام باحتياطات كبيرة تحت شعار مراعاة كفاية رأس المال.
آملين أن تعرض هذه المشكلات ضمن ندوة مشكلات البنوك الإسلامية(8/1668)
عرض لبعض مشكلات البنوك الإسلامية
ومقترحات لمواجهتها
إعدد
سعادة الدكتور محمد القري بن عيد
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي – جدة
المحتويات
- مقدمة.
- مشكلة المماطلة في تسديد الديون.
- مشكلة الارتباط بأسعار الفائدة العالمية.
- مشكلة عدم تقبل الناس لفكرة الخسارة في الحسابات الاستثمارية.
- مصاعب إعادة تشكيل المحافظ الاستثمارية.
- مشكلة المخاطرة الأخلاقية.
- مشكلة تمويل الحكومة.
- مشكلة الاستثمار في العملات الأجنبية.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته، وبعد:
فإن العمل المصرفي الإسلامي قد نجح بحمد الله نجاحاً باهراً، وقد صارت صيغ التمويل الإسلامية القائمة على بدائل للتمويل بالفائدة هي محط الاهتمام ليس فقط عند المصرفيين وأرباب المال والأعمال، بل لدى المتخصصين من العلماء والباحثين في كل مكان، ما ذلك إلا لأنها تتمتع بمزايا تتفوق بها على صيغ التمويل الربوية على المستويين الفردي والاجتماعي، ومع أن أكثر هذه المزايا واضحة جلية على المستوى النظري إلا أنها في التطبيق العملي تبدو باهتة مهينة، ولقد كان ذلك بسبب عدد من المشكلات والمصاعب التي ترتب على محاولة حلها أن انحصر نشاط البنوك الإسلامية في البيوع، وصارت أصولها لا تتكون إلا من الديون التي تولدها عمليات المرابحة، ومع أننا يجب أن نتذكر دائماً أن المصرف وسيط مالي، وأن من غير المفيد وربما من غير الممكن أن ينهض بهذه الوظيفة إذا صار يقوم بنشاط مشابه لأعمال التجار، مع ذلك فإننا نعتقد جازمين أن تجارة الديون هي مصيبة العمل المصرفي التقليدي التي يجب أن نبعدها عن نظامنا الإسلامي، وأن نخلص البنوك الإسلامية منها، ولذلك يجب أن تجتهد هذه البنوك في البحث عن حلول لجميع المشكلات التي تبعدها عن الصورة المثالية وأن تتجه إلى صيغ المشاركة والمضاربة كأساس لعمليات التمويل وإلى التقليل إلى أقل الحدود من صيغ البيع التي تولد الديون، لاسيما بيع المرابحة للآمر بالشراء.(8/1669)
وهذا الذي بين يديك هو محاولة لإلقاء الضوء على بعض المشكلات ومقترحات لحلها، والله أسأل أن يوفق العاملين المخلصين في هذه البنوك وأن يسدد خطاهم ويكلل بالنجاح مسعاهم، إنه سميع مجيب.
1- مشكلة المماطلة في تسديد الديون:
تعد مشكلة المماطلة في تسديد الديون من أهم المشكلات التي تواجهها البنوك الإسلامية في الوقت الحاضر، ولعل مما يزيد من خطورة هذه المشكلة تبني أكثر البنوك الإسلامية صيغ التمويل التي يترتب عليها ديون، مثل بيع المرابحة للآمر بالشراء، ولذلك كانت الديون تمثل نسبة عالية من أصول البنوك الإسلامية تصل في بعض الأحيان إلى ما يزيد عن 90 % من مجمل الأصول، ومن ثم كانت مشكلة المماطلة في تسديد الديون تؤثر على هذه المؤسسات تأثيراً بالغاً. (1)
1- 1- وصف المشكلة:
من المعلوم أن النشاط الرئيسي للبنوك –بما فيها البنوك الإسلامية- هو الائتمان، وبينما تعتمد البنوك التقليدية صيغة القرض كأساس لتوفير الائتمان للجمهور، تمارس أكثر البنوك الإسلامية البيوع الآجلة لتحقيق نفس الغرض، والزيادة في الصيغة الأولى هي عين ربا النسيئة المحرم، والزيادة في الصيغة الثانية هي ربح جائز، ولكن الزيادة الثانية في كليهما هي بلا شك من ربا الجاهلية الموصوف بصيغة (أمهلني أزدك) أو (أتقضي أم تربي) وبرغم أن الزيادة الأولى في البيع مقابل الأجل لا تظهر منفصلة عن ثمن البيع إلا أن الثمن ملحوظ فيه بلا شك طول الأجل، فالبنوك تحدد لنفسها –في بيوع المرابحة- ما يسمى بهامش المرابحة وهو يمثل نسبة مئوية تحسب سنوية، تزيد بطول الأجل وتنقص بقصره.
__________
(1) علمت أن بعض البنوك الإسلامية تفرض الغرامات على المماطلين عند مماطلتهم فهذه البنوك لا ينطبق عليها ما ذكرناه من وصف أن تعاني من هذه المشكلة ولكنها بلا ريب ترتكب مخالفة شرعية لا تقبل(8/1670)
والذي تسعى إليه البنوك، شأنها شأن كافة مؤسسات القطاع الخاص، هو تحقيق الأرباح، لكن هذه الأرباح لا تتحقق إلا إذا التزم العميل بتسديد دينه في أجله المحدد وبدون مماطلة؛ ذلك لأن الائتمان الذي أشرنا إليه آنفاً مرتبط بالزمن، فإذا ماطل العميل في السداد لم يتحقق ذلك الربح المتوقع حتى لو سدد الدين بكامله، وقد اتسم العصر الحاضر كما هو معلوم بالسرعة، الأمر الذي جعل لوفاء الديون في مواعيدها أهمية كبيرة لم تكن لها قديماً، فالتجار يرتبطون بعقود شراء بمواعيد متوافقة في مواعيدها مع ما لهم من استحقاقات ناتجة عن البيوع، فإذا تأخرت الثانية أربكت الأولى وربما أدت إلى مشكلة تؤثر على حسن سير المؤسسة وعلى نشاطها.
ورب قائل: إن هذه الديون تكون دائماً موثقة بضمانات عينية وشخصية ورهون ... إلخ، فما على المصرف إذا ماطل العميل في السداد إلا التنفيذ عليها واستخلاص ديونه، لكن الأمر خلاف ذلك؛ إذ من المعروف أن قوة الضمانات ليست هي الأساس في التمويل بل الأساس هو الثقة في العميل، أضف إلى ذلك أن جميع هذه الضمانات لا يمكن التنفيذ عليها –في حال المماطلة- إلا بحكم من المحكمة، وهو أمر يستغرق وقتاً طويلاً، وفي كثير من الأحيان لا تجد البنوك أن من الملائم أن تهرع إلى المحاكم في أول لحظة يتأخر فيها العميل عن السداد، بل هي تفعل ذلك عندما تفشل الوسائل الأخرى في إقناعه بالتسديد، هذا يعني أنه عندما يصل الأمر إلى التحاكم إلى الجهات القضائية يكون الربح قد فات على البنك بمضي الوقت وطول الأجل.
ومعلوم أن الزيادة الطارئة على الدين بعد ثبوته في الذمة هي عين ربا الجاهلية المجمع على تحريمه، فلا يجوز أن يزيد الدين عند مماطلة العميل لتعويض الدائن عما فاته بسبب تأخير السداد، ولا يعني هذا أنه يجوز للمدين أن يماطل، فقد حرصت الشريعة على حفظ الحقوق، فجعلت المماطلة من الأمور المستقبحة بل حرمتها وأجازت معاقبة فاعلها كما قال عليه الصلاة والسلام: ((مطل الغني ظلم)) .
بيد أن هنا مسألتين: الأولى: أن هذه العقوبة التي أجازتها الشريعة هي عقوبة معنوية وجسدية وليست مالية، الثانية: أنها لا توقع على المماطل إلا بحكم من القاضي بعد أن يتحقق أنه - أي المماطل - مليء؛ لأن للمعسر أن ينظر إلى الميسرة كما نص الكتاب الحكيم.(8/1671)
إن أمانة وأخلاقيات العامة في المجتمعات المعاصرة هي بلا شك، دون المستوى المثالي، التجربة العملية عند كثير من البنوك الإسلامية تدل على أن الأفراد إذا ترك لهم الحبل على الغارب ركبوا العظائم، ومال أكثرهم إلى المماطلة في تسديد الديون لأمنهم العاقبة، فإذا قلنا للبنوك الإسلامية أن تتجاهل هذه الحقيقة فقد جعلناها في وضع لا تستطيع معه أن تجاري أو تنافس البنوك التقليدية؛ لأن الأخيرة لديها الوسيلة لدفع المدينين على السداد في الوقت، لعلمهم أن التأخير محسوب عليهم وذلك بزيادة وتراكم الفوائد التأخيرية، بينما تعدم الأولى الوسيلة لخلق مثل تلك الحوافز.
الآثار السلبية لهذه المشكلة على العمل المصرفي الإسلامي:
لهذه المشكلة آثار سيئة على العمل المصرفي لعل أهمها:
1- اتجاه البنوك الإسلامية إلى المبالغة في طلب الرهون والضمانات، الأمر الذي يضيق فرص الاستفادة من التمويل ويجعلها محصورة في فئة الأثرياء وذوي الغنى؛ لأن تلك هي الفئة القادرة على تقديم الضمانات الممتازة، وهذا من أعظم الخطر لأنها تؤدي إلى جعل المال دولة بين الأغنياء، وتلك بلا شك أسوأ مساوئ الصيغ المصرفية الربوية التي ما جاءت البنوك الإسلامية إلا للقضاء عليها.
2- نظراً إلى أن احتمال المماطلة موجود دائماً (وربما برجحان) في كل عملية تمويل، فقد اتجهت البنوك الإسلامية إلى افتراض أن كل عميل هو مظنة المماطلة، وترتب على هذا اتجاهها إلى رفع هوامش الربح حتى تعوض عن تلك المماطلة إذا حصلت؛ لأنه لا يمكنها الحصول على تعويض عن ذلك بعد ثبات الدين في ذمة العميل، ولقد أدى هذا إلى أن أصبح التمويل بالصيغ الإسلامية أعلى كلفة بالمقارنة بالفوائد الربوية، ولطالما انتقدت البنوك الإسلامية كثيراً على هذه الظاهرة، ولذلك سيكون لوجود وسيلة حاسمة لمعالجة المشكلة أثرها الحسن على هذه المشكلة، فيعاقب بالزيادة المماطلون فحسب.
3- ومما يتفرع عن المشكلة المشار إليها في (2) أعلاه أن البنوك صارت عاجزة عن اجتذاب العملاء الممتازين الذين لا يماطلون؛ وذلك لأنها عاجزة عن التفريق بين الأمين الملتزم والمماطل؛ وذلك لأنها تحدد هامش الربح بافتراض أن الجميع من النوع الثاني، فكانت النتيجة أن صار أكثر عملائها من ذلك النوع، وهذه بلا شك من أسوأ ما تواجهه هذه البنوك من مشكلات.(8/1672)
1- 2- مقترحات لمعالجة المشكلة: (1)
لقد حثت الشريعة على حسن القضاء، وأمرت بأداء الأمانات والديون إلى أصحابها ومنعت المماطلة في تسديد الديون، إلا أن يكون المدين معسراً عاجزاً عن الوفاء، أما المليء القادر فقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله المماطلة بالظلم؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((مطل الغني ظلم)) (2) وعنه صلى الله عليه وسلم ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) كما أباحت أنواعاً من العقوبات التي يمكن أن توقع على المليء المماطل.
إن مبدأ معاقبة المدين المليء المماطل هي بلا شك مبدأ مقبول في الشريعة، وبينما أجازت الشريعة الإجراءات التي تعاقب المذنب وتردع أمثاله، فقد منعت التعويض المالي للدائن عما يلحقه من ضرر متمثل في فوات فرص الاستثمار والربح (3) ومعلوم أن الفوائد التأخيرية التي تحسبها البنوك التقليدية على المدين المماطل تشبه العقوبات التي أقرتها الشريعة في أوجه وتختلف عنها في أوجه أخرى، فهي تشبهها من حيث إنها عقاب للمدين المماطل، وأنها رادع لمن تسول له نفسه المماطلة في تسديد الدين، وتختلف عنها في أنها أي الغرامات التأخيرية تعويض للدائن وهو أمر ممنوع في الشريعة وتختلف عنها في أنها لا تأخذ باعتبارها ملاءة المدين أو إعساره.
وتدل الخبرة المصرفية قديماً وحديثاً على ضرورة وجود عنصر العقاب والردع؛ إذ بدون ذلك تضيع الحقوق وتضيع الالتزامات، وجلي ما يؤيد إليه ذلك من الفوضى وعدم الاستقرار في المعاملات المالية ومن التظالم بين الناس.
__________
(1) انظر بحثنا مع (د. أنس الزرقا) في مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الاقتصاد الإسلامي مجلد 3/ 1411هـ بعنوان: التعويض عن ضرر المماطلة في الدين في الشريعة والاقتصاد
(2) رواه الشيخان
(3) ولعل مما يلفت النظر أن أول استخدام لتحريم الربا عند المسيحيين كان اجتهاد المصلح الديني المشهور عندهم المسمى كالفن عندما أجاز للدائن هذه الزيادة فصارت البنوك تقرض بدون اشتراط الفائدة لمدة قصيرة ثم تفرض الغرامات التي تؤول إلى ذلك، انظر كتابنا: حوار موضوعي حول الفوائد المصرفية في الشريعة والاقتصاد، جدة، دار حافظ، 1410 هـ(8/1673)
ورب قائل: إن الإجراءات التي أجازتها الشريعة كافية لتحقيق المراد من العقوبة. وهذا –بلا شك- قول سديد، لكن المشكلة تكمن فيما يلي:
أ- أن هذه العقوبات الشرعية لا يمكن توقيعها إلا بأمر القضاء، وهذا يعني أن كل قضية تتضمن المماطلة تستغرق –حتى تصل إلى فرض العقوبة على المماطل- زمناً طويلاً، وربما يترتب عليها تكاليف باهظة على الدائن لاسيما في وقتنا الحاضر الذي أصبحت فيه المعاملات القضائية بالغة التعقيد وباهظة التكاليف والمحاكم مثقلة بأنواع القضايا والمشاكل.
وليس جديداً أن نقول: إن العائد على الاستثمار للمصرف الدائن محسوب على أساس الزمن، فلا يتحقق الربح للبنك بمجرد استرداد الدين، بل يجب أن يتحقق هذا الاسترداد عند الأجل المحدد، فإذا امتد هذا الأجل أو ترتب على المماطلة تكاليف إضافية على المصرف أضحت العملية خاسرة، حتى لو تم تسديد جميع الأقساط فيما بعد.
ب- لما كانت الشريعة قد أعفت المدين المعسر من العقوبة عن المماطلة في السداد، واقتصر العقاب على المدين المليء المماطل، كان على الدائن (المصرف في هذه الحالة) أن يتحرى حال المدين، فإن كان ممن يتصف بهذه الصفة، أي الإعسار، لزم إنظاره إلى الميسرة كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، بيد أن البنوك إذا ألزمت بضرورة إثبات ملاءة المماطل حتى يمكن مجازاته على المماطلة، أضحت العقوبات على المدين المماطل أمراً بعيد المنال، وأمن المماطلون العقوبة مما يشجعهم على التمادي فيما هم فيه، كل ذلك يضحي نتيجة مؤكدة إذا علمنا حال البنوك الإسلامية في الوقت الحاضر وكون أن أكثرها يعمل ضمن قوانين لا تقدم الحماية الكافية لنشاطاته ولا تأخذ باعتبارها خصوصيات العمل المصرفي الإسلامي الذي يحتاج إلى أنواع من الإجراءات القانونية التي لا تحتاج إليها المصارف التقليدية.(8/1674)
1- والاقتراح الأول المطروح للبحث لمعالجة المشكلة المذكورة إنما يعتمد على الفكرة التالية: إن الشريعة قد أجازت مبدأ عقوبة المدين المماطل، وإنما منعت العقوبة المالية على شكل غرامات تأخير حتى لا تنقلب المعاملة، التي هي في أصلها حلال كالبيع بالتقسيط أو المرابحة للآمر بالشراء إلى ربا الجاهلية المقطوع بحرمته بصيغة: أتقضي أم تربي، أو أمهلني أزدك.
ولذلك كانت الفكرة هي تصميم مجموعة من الإجراءات التي تتضمن العقوبة التي تؤدي إلى ردع المماطلين، ولكنها لا تؤول إلى الصيغة المحظورة، فكان أن قامت هذه الفكرة على فرض الغرامات التأخيرية على كل مماطل، وإنشاء صندوق خاص تصب فيه هذه الغرامات، فلا يستفيد منها الدائن، حتى لا تؤول إلى الربا، بل يوجه ما اجتمع في ذلك الصندوق إلى أعمال البر والخير ومساعدة المحتاجين، فهنا تحقق هدف الردع الذي هو ضروري لحسن سير المعاملات المالية دون أن يتحقق ربا الديون الذي هو ممنوع من الناحية الشرعية.
أما فيما يتعلق بالإعسار فإن الفكرة لا تتجاهل الأمر الشرعي بإمهال المعسر إلى الميسرة ولكنها تقوم على تحويل عبء إثبات الإعسار من الدائن إلى المدين، فتفترض دائماً توفر الملاءة عند المدين، فإن كان في غير تلك الحال كان عليه أن يثبت ذلك بالوثائق والشواهد التي يرضاها البنك، فإن فعل ردت إليه غرامات التأخير، بهذه الطريقة يدرك كل مستفيد من تمويل البنوك أن المماطلة مكلفة فلا يقدم عليها، وبالنسبة إليه، أي المدين، لا فرق –بعد أن تفرض عليه الغرامات- أن تذهب لأغراض الخير والبر أم إلى طريق آخر، فإن عنصر الردع متحقق فيها بلا شك، وذلك هو مقصود الإجراء المقترح.
2- والاقتراح الثاني يقوم على فكرة معاقبة المدين المماطل بإلزامه بإقراض الدائن (المصرف) مبلغاً مساوياً للدين الذي ماطل في تسديده ولمدة مساوية لمدة المماطلة، وتفصيل هذا الاقتراح معروض في بحث (التعويض عن ضرر المماطلة في الدين بين الفقه والاقتصاد) ، د. محمد أنس الزرقا، ود. محمد علي القري، مجلة جامعة الملك عبد العزيز، الاقتصاد الإسلامي المجلد 3 سنة 1411هـ، ص 25- 57.(8/1675)
2- مشكلة الارتباط بأسعار الفائدة العالمية:
يجد المراقب لنشاط البنوك الإسلامية أنها قد تبنت البيوع –وليس المشاركات- كبديل لصيغ التمويل التقليدية، والبيع الآجل –لاسيما بيع المرابحة للآمر بالشراء –يترتب عليه دين، فصارت أصول البنوك الإسلامية (1) شبيهة بأصول البنوك التقليدية.
ولما كانت وظيفة البنوك هي التمويل والائتمان، كانت الأثمان في البيوع الآجلة تتكون من جزئين: الأول هو تكلفة الشراء (على البنك) والثاني هو الزيادة مقابل الأجل والتي تسمى أحياناً بهامش المرابحة، وهامش المرابحة هو نسبة مئوية سنوية تزيد بطول فترة التسديد وتنخفض بقصرها، وهي من هذا الجانب ذات شبه بسعر الفائدة بحكم كونها نسبة مئوية سنوية محسوبة على مبلغ دين متعلق بذمة العميل.
وبرغم أن بينهما اختلافاً جذرياً يتمثل في أن الفائدة هي زيادة مشروطة في قرض بينما أن هامش المرابحة هو جزء من ثمن بيع آجل صحيح؛ برغم ذلك فهي مرتبطة بأسعار الفائدة العالمية، ولا يعني ذلك أنها مساوية لها بالضرورة، ولكنها تتغير معها نزولاً وصعوداً، الأمر الذي يوحي بأنهما صنوان، ولطالما انتقدت البنوك الإسلامية، وشكك المشككون فيها بناء على ما يرون من ارتباط بين هامش الربح وأسعار الفائدة العالمية، ولعل من المفيد هنا أن نستعرض بعض أسباب الارتباط المذكور بين أسعار الفائدة وهوامش الربح في المرابحة:
أ- تمارس أكثر البنوك الإسلامية نشاطها المصرفي في بيئة تتنافس فيها مع البنوك التقليدية، ويمثل الجميع أعضاء في سوق واحد، وسواء كانت هذه البنوك تمارس نشاطها بصفة أساسية داخل بلدانها أو على نطاق دولي فإنه يبقى أن البديل لصيغ تمويلها المقبولة شرعاً هو الاقتراض بالفائدة، ولذلك فهي مضطرة في تحديد هوامش الربح (والتي تمثل ببساطة ثمن الخدمة التي تقدمها) أن تأخذ في اعتبارها هذه الحقيقة، فهي لا تستطيع أن تحدد هامش ربح يزيد كثيراً على أسعار الفائدة السائدة؛ لأنها إذا فعلت تركها الناس ومالوا إلى البنوك التقليدية (إلا من رحم ربك) ، وهي لا تستطيع أن تحدد هامش مرابحة يقل كثيراً عن أسعار الفائدة؛ لأنها عندئذٍ سوف توزع على المودعين لديها وملاك البنوك أرباحاً تقل عن أسعار الفائدة التي يمكن أن يحصلوا عليها في البنوك التقليدية فيتركونها إلى البنوك التقليدية (إلا من رحم ربك) ، لا شك في أننا نعيش في أوضاع غير مثالية، ولذلك لا نستطيع أن نفترض أن جميع المسلمين سوف يتجاهلون هذين العاملين لأنهم في الواقع لن يفعلوا، لذلك تجد البنوك الإسلامية نفسها مضطرة إلى ربط معدلات أرباحها بأسعار الفوائد الدولية.
__________
(1) بمعناها المحاسبي(8/1676)
والبنوك التقليدية تربط معدلات الفوائد لديها بالمعدلات العالمية، ولكن لديها أسباباً أخرى لارتباط أسعار فوائدها الإقراضية مع أسعار الفائدة العالمية، ويتمثل ذلك – في أكثر الدول- في كون أسعار الفائدة العالمية هي البديل القريب (1) لتوظيف أموال البنك، بمعنى أن البنك يستطيع أن يحصل على عائد مساوٍ للفائدة العالمية لو أنه استثمر أمواله في الأسواق المالية العالمية ولذلك فإنه يجب أن يحصل من القرض على زيادة عن ذلك السعر لتتحقق الجدوى في عملية الإقراض.
ولكن لما كان ذلك خيارا غير مطروح بالنسبة للبنوك الإسلامية، لأنها لا تستطيع توظيف أمواله في أسواق النقد الدولية بالفائدة، صار ربط هامش الربح بأسعار الفائدة غير ذي معنى في هذا الباب.
ب- إن الممارسة المصرفية تحتاج إلى معيار (2) تقاس عليه فرص التمويل المختلفة، وليس هذا خاصاً بالأعمال المصرفية، إذ من المعروف أن جميع الأسواق يتولد فيها سعر يمثل أساس جميع الأسعار الأخرى، ففي سوق البترول نجد أن سعر نفط برنت في بحر الشمال –مثلاً- يمثل هذا المعيار، كما يمثل سعر زيورخ معياراً في سوق الذهب.. إلخ، ويؤدي هذا المعيار وظيفة مهمة في تحقيق الاستقرار للأسواق وتوحيد اتجاهات الأسعار، وفي العمليات المصرفية نجد أن ليبور (Libor) وهو سعر الفائدة على القروض بين البنوك في لندن، وبرايم ريت (Prime Rate) وهو سعر إقراض بنوك نيويورك لأفضل عملائها.. إلخ، تمثلان معايير تربط البنوك الأخرى أسعار فوائدها بها، ولا يوجد للبنوك الإسلامية معيار مستقل له فعاليات ومبررات غير ربوية، ولذلك نجدها تتبنى ذات أسعار الفوائد الدولية فترتبط بها هوامش المرابحة لكي تتأكد أنها تسير في نفس الاتجاه العام السائد في الأسواق.
__________
(1) Opportunity Cost
(2) Bench Mark(8/1677)
2- 1- هل يجوز استخدام معدلات الفائدة العالمية لتحديد هامش الربح؟
لا يوجد في الشريعة –بحسب ما نعلم- طريقة لحساب الربح، والمعول في المعاملات هو على صيغة العقد لا على طريقة الحساب، فإذا كان بيعاً وجب أن يكون مكتمل الأركان تام الشروط خالياً من الربا والغرر والغش والغبن ... إلخ، فإذا توفر ذلك فلا أهمية للطريقة التي حسب بها الربح، وهذا يعني أن ربط هامش الربح بأسعار الفائدة مقبول إذا كانت صيغة البيع صحيحة، ولكننا يجب أن ننبه هنا إلى أن ربط هامش الربح بأسعار الفائدة يحتمل معنيين: الأول هو استخدام سعر الفائدة للتوصل إلى تحديد ربح البنك، ثم يصير هذا الربح جزءاً من ثمن بيع يمثل مبلغاً مقطوعاً يدفع منجماً أو دفعة واحدة، والمعنى الثاني: هو تحديد هامش الربح بحيث يتغير مبلغ القسط مع مرور الزمن بتغير أسعار الفائدة، فيكون هامش الربح زيادة متغيرة على الثمن، إن المعنى الثاني غير مقبول بلا شك لأنه يدخل في عقد البيع غرراً فاحشاً مفسداً للعقد، أضف إلى ذلك أن الزيادة التي تحدث إذا ارتفعت أسعار الفائدة هي زيادة في دين ثابت في ذمة المدين وهي من ربا الجاهلية، أما المعنى الأول فهو مقبول لأنه لا يؤثر على صحة البيع؛ إذ للبائع أن يتبنى أي طريقة يراها لحساب الربح.
ومع ذلك لا ننكر أن استخدام أسعار الفوائد الدولية كطريقة لحساب الربح في البيوع وإن كان غير محرم فإنه مناف للذوق الإسلامي ومتعارض مع ما هو مفترض في المسلمين من تأدب مع أحكام دينهم، ونقدم فيما بعد الحلول المقترحة لهذه المشكلة.
2- 2- الآثار السلبية لهذه المشلكة على عمل البنوك الإسلامية:
مما لا شك فيه أن ارتباط هوامش المرابحة، ومن ثم ارتباط العائد على الحسابات والودائع الاستثمارية مع أسعار الفائدة العالمية كانت له آثار سلبية كثيرة على البنوك الإسلامية، فأولها تشكك كثير من المسلمين في (إسلامية) هذه البنوك، وتقوية حجة من يدعي بأن تلك البنوك إنما يقتصر عملها على جمع الأموال من أفراد المودعين ثم إيداعها في البنوك الخارجية، وهو أمر غير صحيح، ومنها اضطرار كثير من البنوك الإسلامية إلى (حيل) يكون بعضها غير مقبول لإدخال عنصر يؤدي إلى تغير عائد الاستثمار عندما تتغير أسعار الفوائد الدولية، لحرصها على عدم الانفصال عن مستويات تلك الفائدة، مثل ربط أقساط التأجير بمعدل ليبور ... إلخ، ومنها أن هوامش الربح في البيوع لا تتغير تبعاً لأنواع السلع لأنها مرتبطة بثمن خدمة الائتمان وهي الفائدة العالمية، بينما المعتاد في عالم التجارة أن يكون معدل الأرباح في قطاع السيارات مثلاً مختلفاً عنه في قطاع الأدوية أو الأسمدة الكيماوية أو مواد البناء والأسمنت..إلخ، ولما كان يفترض أن نشاط البنك الإسلامي هو نشاط التجار ينطحون الأسواق ويبيعون بأسعار منافسيهم من الباعة، كان المتوقع أن يكون هامش الربح في كل سلعة ذا علاقة بهامش الربح في سوق تلك السلعة، ولكن ذلك لا يحدث في عمل البنوك الإسلامية؛ إذ إن هامش المرابحة مرتبط بأسعار الفائدة السائدة وربما يزيد أو ينقص قليلاً تبعاً لملاءة العميل وثقة البنك به، ولا يرتبط بهوامش الربح أسواق السلع الحقيقية.(8/1678)
2- 3- الحلول المقترحة لمواجهة هذه المشكلة:
أ- إن أول الحلول المقترحة لهذه المشكلة هو بلا ريب تقليص صيغ التمويل التي تؤدي إليها ألا وهي الديون، وقد ذكرنا آنفاً كيف أن النموذج المثالي للمصرف الإسلامي هو ذلك الذي يعتمد في التمويل على صيغ الشركة وأنواع المشاركات وليس الديون، وفي صيغ التمويل بالمشاركة لا يحتاج المصرف إلى تحديد عائد ثابت ومن ثم يستغني عن الارتباط بأسعار الفائدة العالمية.
وقد اتجهت بعض البنوك الإسلامية بعيداً عن بيوع المرابحة إلى التأجير والمضاربة.. إلخ، وهذا بلا شك هو الحل الأنجع للمشكلة المذكورة.
ب- إن حاجة صيغ التمويل بالفائدة والقروض الربوية إلى الارتباط بأسعار الفائدة العالمية إنما مرده أن سعر الفائدة المذكور يعد خياراً بديلاً عن كل فرص إقراض يقوم بها المصرف لذلك كان طبيعياً أن يحسب فائدة القرض اعتماداً على مستوى الفائدة العالمي.
ولكن الفائدة العالمية ليست بديلاً أو خياراً مطروحاً أمام البنوك الإسلامية، ومن ثم فلا معنى لربط نسبة الربح في البيوع بتلك الفوائد؛ إذ لا يتصور أن عدم حصول فرص البيع المذكورة سيؤدي إلى إيداع أموال البنك في المراكز المالية الدولية والحصول على الفوائد العالمية، ولكن يبقى أن هذه البنوك بحاجة إلى مؤشر ومعيار، لذلك فمن المفيد تطوير معايير للقياس تكون ذات صلة بطبيعة عمل ونشاط المصرف الإسلامي، مثل تطوير مؤشر للأرباح المصرفية، أي متوسط ما تحققه البنوك من عملياتها بحيث تعني عملية ربط مستوى الربح في عمليات التمويل به (أي بذلك المتوسط) أنه الخيار البديل للمصرف، ويؤدي تطوير مثل ذلك المؤشر إلى تحقق التماثل في سوق المال الإسلامي؛ لأنه يقدم المعيار الذي يوحد عملية قياس المخاطر في التمويل بمعايير موحدة، وهذا شبيه بما تحققه الفائدة العالمية في أسواق المال الدولية.(8/1679)
3- مشكلة عدم تقبل الناس لفكرة الخسارة في الحسابات الاستثمارية:
حاولت البنوك الإسلامية عندما بدأت نشاطها قبل نحو عقدين من الزمان أن تقدم نفسها إلى الجمهور كبديل للبنوك التقليدية، وحرصت على أن تعرض أنواعاً من الخدمات شبيهة بما تقدمه تلك البنوك، ومن المعروف أن أهم أنواع الحسابات (الودائع) التي تقدمها البنوك التقليدية هي الحسابات الجارية وحسابات التوفير والحساب لأجل، لذلك كان جانب الخصوم في البنك الإسلامي يتضمن أيضاً الحسابات الجارية، ودائع التوفير، والحسابات الاستثمارية، مع اختلاف في المسميات بين البنود المختلفة، فجاءت الأولى شبيهة بالحسابات الجارية لتكون بديلاً عنها، وجاءت الثانية بديلاً عن حسابات التوفير فصممت بشروط مشابهة عدا أن ما يتحقق لصاحبها هو الربح لا الفائدة، وجاءت الثالثة بديلاً عن الودائع لأجل، فحددت فيها الآجال متوسطة وطويلة ... إلخ.
لقد أدى هذا الهيكل الذي تبنته البنوك الإسلامية لأنواع الحسابات فيها إلى نجاح كبير، ولكنه زرع في أذهان الجمهور أن تلك الحسابات هي شبيهة بالحسابات التقليدية في جوانبها المختلفة بما فيها درجة المخاطرة، ولكنها ارتبطت في أذهان الجمهور بفكرة (العائد الثابت) المضمون الذي هو أساس العمل المصرفي التقليدي.
ومعلوم أن البنك الإسلامي –وإن كان بإمكانه أن يتوقع مقدار ما سيتحقق من ربح بصفة دقيقة في أكثر الأحيان- لا يمكنه أن يقطع بذلك؛ لأن الربح –بخلاف الفائدة- ليس مضموناً، ولا يعلم تحققه إلا في نهاية المدة، لاسيما بالنسبة لتلك البنوك الإسلامية التي لا تقتصر في أصولها على الديون، بل تمارس أنواع المشاركات والمضاربات والاستثمار المباشر في العقار وخلافه، والمفترض أن هذا أمر معلوم للناس، فهم عندما يودعون أموالهم في حسابات استثمارية إنما يفعلون ذلك لغرض الحصول على الربح، وإنهم سيتقبلون الخسارة لو تحققت لأن الغنم بالغرم.
لكن تجارب البنوك الإسلامية تدل على خلاف ذلك، فإن العملاء لا يتقبلون أن يقال لهم: إن حسابات الاستثمار لم تحقق أرباحاً هذا العام، أو أنها لحقت بها بعض الخسائر، حتى لو كانت تلك هي الحقيقة، وقد وقعت بعض البنوك الإسلامية في حرج شديد عندما حاولت أن تحمل المستثمرين الخسارة التي تحققت في مشاريع مولتها أموالهم المودعة لدى البنك، الأمر الذي اضطرها إلى تحميل الجزء الأكبر من تلك الخسائر على رأس المال بنسبة تزيد كثيراً عن نسبة مساهمة أموال ملاك البنك في الاستثمارات المذكورة.(8/1680)
3- 1- الآثار السلبية المترتبة لهذه المشكلة على البنوك الإسلامية:
لهذه المشكلة آثار سلبية متعددة على عمل البنوك الإسلامية، منها عدم الاستقرار، ذلك أن عدم تقبل الناس لفكرة الخسارة يعني أنهم سيتجهون إلى سحب ودائعهم إذا علموا (أو ظنوا) أن هذا ما سيحدث لأموالهم، ومنها أن ذلك سوف يدفع إدارة المصرف إلى أن تكون محافظة أكثر مما يجب فتقتصر على أنواع الاستثمارات ذات السيولة العالية وذلك حتى تكون مستعدة على الدوام لرد أموال الناس إليهم بسرعة وبمجرد مطالبتهم بها، ومنها أنها سوف تقتصر على الديون حتى تتفادى أثر تقلبات الأسواق وتغيرات الاقتصاد على معدلات العائد على استثماراتها؛ لأن العائد في الدين عائد ثابت، فمن المعروف أن الإدارة المصرفية الحازمة تقتضي المواءمة بين سيولة الأصول والخصوم، فإذا كانت خصوم المصرف تتسم بالسيولة العالية بسبب المشكلة التي أشرنا إليها، اضطرت إدارات المصرف إلى الاتجاه إلى الأصول عالية السيولة بالابتعاد عن المشاركات وعن الاستثمارات المباشرة.
3 - 2- الاقتراح المطروح لمواجهة هذه المشكلة:
لقد كانت البنوك الإسلامية في بداية نشأتها في حاجة إلى أن (تتقمص) شكل البنوك التقليدية وطريقة عملها وأنواع خدماتها لتثبت أن الأعمال المصرفية يمكن أن تقوم بدون الفائدة الربوية، أما وقد ترعرعت وانتشرت وعظم شأنها فهي أحوج ما تكون الآن لأن تختط لنفسها مساراً متميزاً يأخذ باعتباره أوضاعها الخاصة وطريقة عملها، وطبيعة الصيغ التي يعتمد عليها نشاطها المصرفي، ومن ذلك أن تقتصر الحسابات التي تقدمها للجمهور على الحسابات الجارية فحسب، أما فرص الاستثمار فإنها لا تكون على شكل حسابات مشابهة للحسابات بأجل التي تعرضها البنوك التقليدية، بل تكون على صفة صناديق (محافظ) استثمار متخصصة مثل صندوق الاستثمار العقاري، صندوق التأجير، الاستثمار في الأسهم..إلخ، ولهذه الطريقة ميزات، منها:(8/1681)
أ- أن عميل البنك عندما يودع أمواله في هذه الصناديق يكون على علم كامل بالغرض من الاستثمار، ومن ثم تتكون لديه فكرة واضحة عن المخاطر المتضمنة واحتمالات الربح والخسارة، فمثلاً العميل الذي يشارك في صندوق الاستثمار العقاري يعلم بجلاء ما يتعرض له العقار من هبوط وصعود، وهو يفعل ذلك بناء على توقعاته حول اتجاهات أسواق العقار، ومن ثم سيكون أكثر تقبلاً لما يترتب على ذلك من خسائر؛ لأنه يكون مشاركاً في اتخاذ قرار الاستثمار ولو بصفة غير مباشرة، وبما أنه يعلم أن أمواله مستثمرة في مجال العقار تنمحي من ذهنه فكرة العائد الثابت إلى الربح المعتمد على تقلبات الأسواق.
ب- من المعروف أن القطاعات الاقتصادية تختلف في فعالياتها، فتجد بعضها ينتعش ويحقق الاستثمار فيه أرباحاً عالية، بينما تظهر قطاعات أخرى مستوى أدنى من الأرباح.. إلخ، وفي أحيان تكون الخسائر المتحققة في الاستثمارات متركزة في قطاع أو قطاعات محددة، بينما أن ما بقي من أوجه الاستثمار في الاقتصاد الوطني تحقق معدلات مرضية من الأرباح، ولذلك يؤدي تبني الطريقة المقترحة إلى حصر الخسائر (إن حصلت) في صندوق أو صناديق محددة هي التي تستثمر في القطاعات ذات الركود، فلا تؤثر على جميع عائدات الاستثمار، كما تشجع المصرف على توزيع استثماراته بطريقة تحقق تشتت المخاطر وتنويع مصادر الربح، وما يهمنا هنا هو الآثار النفسية لدى العملاء في حالة تحقق الخسائر، ذلك أنهم سيعرفون –عندما يتبنى المصرف الفكرة المطروحة- أن الخسائر لن تلحق كل أموال الاستثمار؛ بل ستكون محصورة في الصندوق الموجهة أمواله إلى النشاط الذي حقق الخسارة، مما يدخل الطمأنينة في قلوب أكثرهم فلا يهرعون إلى سحب أموالهم من المصارف.
4- مصاعب إعادة تشكيل المحافظ الاستثمارية:
تقتضي الإدارة المصرفية الحازمة أن يتم تشكيل أصول البنك بحيث تتضمن درجات من المخاطرة والسيولة، ذلك أن طبيعة العمل المصرفي تستلزم أن يكون البنك قادراً على الدوام على الوفاء بالتزاماته تجاه عملائه، ويتحقق له ذلك بالتركيز على أنواع الاستثمارات ذات السيولة العالية والابتعاد عن تلك الأنواع التي يصعب تسييلها، كما يجعله حريصاً على تفادي المخاطر الاستثمارية فيقتصر على الحد الأدنى منها، ولكن السيولة العالية والمخاطر المتدنية لا تحقق إلا أدنى العوائد، بينما أن البنك يسعى إلى تحقيق أعلى معدل ممكن من الأرباح لملاكه وللمودعين فيه، ومن هنا كانت إدارة البنوك عملية بالغة الدقة محتاجة إلى أعلى درجات الحذر، بحيث توازن على الدوام بين هذين الهدفين المتناقضين.(8/1682)
ومعلوم أن الظروف الاقتصادية وأحوال البيئة التي يعمل فيها البنك تتغير وتتبدل، الأمر الذي قد يحتاج معه البنك إلى إعادة تشكيل محفظة الاستثمار بالاتجاه نحو معدل أدنى (أو أعلى) من المخاطر، ودرجة أقل (أو أكثر) من السيولة.. إلخ.
وقد تطور العمل المصرفي التقليدي فأوجد لهذه المشكلة حلاً يتمثل في بيع الدين، فطورت له أسواق ووجد له وسطاء وأصبحت محفظة البنوك التقليدية عالية السيولة؛ لأن الديون فيها، حتى ذات الأجل الطويل، قابلة للبيع في أي وقت، فالبنك الذي تبنى هيكلاً محدداً لمحفظة الاستثمار فرتب درجات المخاطرة والسيولة بحيث تحقق له أعلى عائد ممكن عند أدنى مستوى ممكن من المخاطرة، عندما تتغير الظروف فيجد أن قروضه العقارية مثلاً أصبحت ذات مخاطرة عالية بسبب الكساد، أو أن تمويله لدولة معينة على سبيل المثال صار غير مضمون لعدم استقرارها السياسي ... إلخ، يستطيع بسهولة أن يبيع ذلك الدين ويستبدله بآخر متوافق مع التركيبة التي يرغب في الاحتفاظ بها (1)
وقد بلغ حجم أسواق الديون في الدول المتقدمة (حيث تتوفر الإحصاءات) مئات بل آلاف البلايين من الدولارات، الأمر الذي أعطى مرونة عالية لعمل البنوك عندهم، وحقق كفاءة مرتفعة في إدارته تجعله قادراً على الصمود أمام الصدمات المتمثلة في تغير الظروف الاقتصادية المحلية والدولية.
4- 1- الآثار السلبية لهذه المشكلة على البنوك الإسلامية:
إن البنوك الإسلامية التي اتجهت إلى المرابحة كصيغة تمويل رئيسية وجدت أن أصولها تتمثل في جملتها من الديون، وسواء كانت عمليات المرابحة قد مولت من المصرف مباشرة أم من صناديق أو محافظ الاستثمار المخصصة، فإنها تواجه وضعا لا تجد فيه وسيلة لإعادة تشكيل محتويات محفظة الاستثمار في حال تغير الظروف لعدم جواز بيع الدين، فمن المعروف أن الدين لا يجوز بيعه إلا لمن هو عليه، أما لغير من هو عليه فيجوز فيه الحوالة، ولا يجوز البيع، فإذا أخذه بأنقص مما فيه أو بأزيد منه فهو بيع لا يجوز، وإذا أخذه بنفس مبلغه أمكن اعتباره حوالة جائزة، ولا يتصور –في ظل المعاملات المعاصرة - تصرفاً يصلح لما ذكرناه ويحقق الغرض الذي أشرنا إليه إلا البيع؛ إذ الحوالة لا تفي بالمقصود، وهو مقصود على إعادة تشكيل المحافظ الاستثمارية عند الحاجة.
__________
(1) الذي سيشتري منه ذلك الدين مؤسسة أخرى وجدت أن محفظة الاستثمار عندها متدنية المخاطر فاشترت ذلك الدين لزيادة معدل العائد(8/1683)
4- 2- بعض المقترحات لمعالجة هذه المشكلة:
إن مسألة بيع الدين هي من القضايا الفقهية الشائكة التي لم تحرر صورها المعاصرة، ولم نطلع على كتابات معاصرة؛ عنيت بهذه القضية وحاولت أن تحدد الصيغ الجائزة التي يمكن للدائن أن يحول مخاطرة الدين إلى جهة ثالثة (1) قبل حلول الأجل، وهناك أنواع من الديون أجاز بعض الفقهاء بيعها مثل جواز بيع دين السلم قبل قبضه عند المالكية (2) ولكن الديون النقدية (غير العينية) أمر مختلف؛ ولذلك لم يجز بيعها إلا ممن هي عليه، والاقتراحات التي نقدمها أدناه لا تغني من الحاجة الماسة إلى دراسات فقهية لمحاولة الوصول إلى الصيغ المقبولة شرعاً لما أشرنا إليه أعلاه:
أ- تصميم محافظ الاستثمار بحيث تكون صناديق مفتوحة وليست مغلقة، وذلك أن دخول أو خروج مستثمر من الصناديق المغلقة لا يكون إلا ببيع حصته (عند الخروج) أو شراء حصة من يخرج (عند الدخول) ، فإذا كانت أموال هذه الصناديق تستثمر في البيوع التي يترتب عليها ديون كانت عملية الخروج والدخول من هذه الصناديق في محصلتها بيعا لديون، أما لو كانت هذه الصناديق مفتوحة فإن الخروج يعني استرداد المستثمر لأمواله، والدخول يعني توسيع الصندوق لتستوعب أموالاً إضافية، وفي الأمر تفصيل يتعلق بالقضايا الفنية لعمل مثل هذه الصناديق، ليس هذا مجال الاستطراد فيه.
ب– الحرص دائماً على حصر الديون في صناديق الاستثمار عند أقل من النصف، وما بقي يكون أصولاً حقيقية مثل الآلات والعقارات والمعدات.. إلخ، فإذا أعملنا قاعدة الغلبة التي قال بها بعض الفقهاء فإن الغالب في هذه الصناديق هو الأصول الحقيقية وليس الديون، فالبيع (إذا بيعت) يكون كله معدات وآلات ... إلخ وليس ديوناً؛ فحكمه الجواز، والله أعلم.
__________
(1) ولعل من أفضل الكتابات المعاصرة بحث للدكتور نزيه حماد عنوانه (بيع الكالئ بالكالئ) نشره مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز، جدة
(2) التاج والإكليل حاشية علي خليل(8/1684)
5- مشكلة المخاطرة الأخلاقية:
المخاطرة الأخلاقية إحدى أهم المشاكل التي تعاني منها صيغ التمويل في البنوك الإسلامية، وتعود هذه المشكلة ليس لطبيعة عمل المؤسسات المصرفية القائمة، بل إلى صيغة الوساطة المالية التي يقدمها البديل الإسلامي، وقد أشار أكثر من كاتب إلى هذه المشكلة وعدها بعضهم المشكلة الأساسية لنموذج البنك الذي لا يعمل بالفائدة (1)
5- 1- وصف المشكلة:
يقوم النشاط الاقتصادي في كل المجتمعات على التعاون بين الأفراد والمؤسسات في علاقات إنتاجية أو استهلاكية أو تبادلية، وتعتمد صيغ هذا التعامل على أنواع التعاقدات المختلفة من بيع وشركة ووكالة ... إلخ، ويمكن القول: إن جميع العلاقات التي تنشأ بين الأفراد في مجال النشاط الاقتصادي هي عقود تكون أحياناً مكتوبة وموثقة، وتكون أحياناً مقصودة غير ملفوظة ولكنها معروفة عرفاً وعادة.
وفي كل مرة ينخرط طرفان في عقد فإن لدى كليهما معلومات اعتمد عليها في اتخاذ القرار، وتتعلق هذه المعلومات بمحل العقد وبالثمن والأثمان الأخرى وبالظروف الحالية والمتوقعة ... إلخ، وكذلك تتعلق بالطرف الآخر في العقد، ومع ذلك يبقى أن هذه المعلومات ناقصة، حيث يستطيع كل طرف أن يظهر من المعلومات عن نفسه وعن نواياه وقدراته وأغراضه الحقيقية فقط القدر اللازم لإقناع الطرف الآخر في الانخراط في العقد المذكور.
وهنا تأتي المخاطرة الأخلاقية؛ ذلك لأنه إذا ظهر بأن المعلومات المتوفرة للطرف الأول عن الطرف الثاني غير صحيحة أو غير كافية فإن السلوك المتوقع منه سوف لن يتحقق، ومن ثم يضحى القرار الذي اتخذه الطرف الأول قراراً خاطئاً، وكانت نتيجته الخسارة لذلك الطرف.
__________
(1) من المراجع المفيدة في هذا الموضوع في الكتابات الاقتصادية: 1- A Theory of Predation based on agency Problems in Financial contracting p. Bahem and d. Scharfstein. 2- M. Katz: Gameplaying agents: contracts as pre- commetment princeton. Princeton Univ. press ومن الأبحاث التي تناولت الجوانب الميدانية وأظهرت تدني مستوى الأمانة عند بعض العمال في عقود المضاربة في نشاط المصارف الإسلامية: عبد الحليم إبراهيم محيسن (تقييم تجربة البنوك الإسلامية) دراسة تحليلية، رسالة ماجستير في كلية الاقتصاد والعلوم، الجامعة الأردنية 1989م(8/1685)
ولذلك يتجه الأطراف في التعاقد –دائماً- إلى تبني أنواع من الضوابط التي تهدف إلى ثلاثة أمور: الأول كشف الحقيقة حول الطرف الآخر، والثاني خلق الحوافز التي تشجع ذلك الطرف على التصرف بطريقة مماثلة لما تكشفه المعلومات المتوفرة عنه (1) والثالث هو صياغة العقد بحيث لا تعتمد نتيجته النهائية إلا إلى الحد الأدنى على الجزء من المعلومات الذي لا يمكن التعرف عليه أو التأكد من صحته، بمعنى آخر أنها تسعى بهذه الإجراءات إلى تقليل حجم المخاطرة الأخلاقية المتضمنة في عقد العمل المذكور.
وعقود التمويل هي أنواع من هذه العلاقات الاقتصادية التي يسعى أطرافها إلى تقليل حجم المخاطرة الأخلاقية فيها بإدخال أنواع الضوابط المختلفة التي تحقق الأغراض الآنف ذكرها.
وعند مقارنة صيغ التمويل الإسلامية (غير الديون) وصيغ التمويل المعتمدة على الإقراض بالفائدة على هذه الأرضية، نجد أن الأولى تتضمن قدراً من المخاطرة يزيد على الثانية، ذلك أن صيغ القرض بالفائدة يكفي فيها لاتخاذ القرار الصحيح من قبل المقرض الاعتماد على المعلومات التي يسهل الحصول عليها والمتعلقة بشكل عام بملاءة العميل وجودة الضمانات التي يقدمها، أما المعلومات المتعلقة بصدق العميل وأمانته ونواياه الحقيقية فإنها لا تؤثر تأثيراً كبيراً على تحقق النتيجة النهائية وهي استرداد القرض مع الفائدة المترتبة عليه.
ولو نظرنا إلى صيغة التمويل بالمضاربة –على سبيل المثال- فسوف نجد أن النتيجة النهائية وهي تحقق الربح واقتسامه مع رب المال (أي البنك) لا تعتمد فقط على توفر الظروف الاقتصادية المواتية، بل ستعتمد أيضاً على أمانة المضارب وصدقه وحسن نواياه وإخلاصه، وهي أمور يصعب التحقق منها عند التعاقد، ولا تنكشف للطرف الآخر (رب المال) بسهولة، كما لا يمكن أن ندخل في العقد أنواعاً من الضوابط التي تؤدي إلى إلغاء تأثير الأمانة والصدق والإخلاص كما هو الحال في عقود الإقراض بالفائدة (2)
__________
(1) فعلى سبيل المثال نجد أن عقود العمل تبدأ بتقديم العامل لشهادات الخبرة وخطابات التوصية وسؤال رب العمل للآخرين عن سلوك ذلك العامل والإجراءات المماثلة التي تهدف إلى التأكد من أمانة وقدرة ذلك العامل، ثم نجد العقود تتضمن المكافآت والترقيات والجوائز.. إلخ التي تهدف إلى خلق حوافز تدفع ذلك العامل إلى سلوك مماثل للمتوقع منه، وهكذا
(2) لاحظ أن صاحب المال (البنك) في القرض القائم لا يهتم بمقدار الربح الذي حققه المقترض ولذلك ليس لدى الأخير حافز لإخفائه، كما أن رأس المال مضمون له وتقابله الضمانات، ولذلك لا يحتاج المقترض إلى إظهار الخسارة للتهرب من دفعه، بينما أن الأمر خلاف ذلك في كلا الحالين في المضاربة(8/1686)
هذه بلا شك نقطة تفريق رئيسية ليس بين المصرف الإسلامي والمصرف الربوي فحسب، بل هي بين النظام الإسلامي والنظام الرأسمالي، ذلك أن النظام الاقتصادي الإسلامي هو بناء قوامه الأخلاق والقيم، ولذلك نجد أن جميع أنواع العلاقات والتعاقدات التي جاءت بها الشريعة إنما تفترض توفر هذه البيئة الإسلامية في مجتمع يكون أكثر أفراده من المتقين، وتقوم فيه المؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية وكذلك أجهزة القمع والأمن ومؤسسات القضاء بالمساعدة على توفر البيئة المذكورة.
لكن الواقع خلاف ذلك تماماً، فهذه الهيمنة الرأسمالية على الحضارة الإنسانية كان من نتائجها انتشار أنواع السلوك الفردي الذي يقوم على أن الممنوع هو فقط ما لا يستطيع الإنسان ارتكابه، فلا يمتنع تعففاً ولا يرتدع خوفاً من الله، وليس للصدق والإخلاص عنده أبعاداً اقتصادية وأثراً على عقود المعاوضة المالية.
5- 2- الآثار السلبية لهذه المشكلة على عمل البنوك الإسلامية:
إن من أهم آثار هذه المشكلة أن اتجهت البنوك الإسلامية بعيداً عن التمويل بالمضاربة والمشاركة وأنواع الشركة الأخرى لما ثبت لها بالتجربة من تدني مستوى الأمانة لدى أكثر المتعاملين مع المصارف، وفي العقود التي هي بطبيعتها عقود أمانة (يكون الطرف الآخر فيها مؤتمناً على أموال البنك) نجد أن النتيجة هي الخسارة أو الربح القليل غير الواقعي.(8/1687)
لقد تصور المنظرون لنموذج البنك الإسلامي عندما ظهرت الكتابات الأولى في هذا الموضوع منذ الخمسينات أن عقود الشركة والمضاربة هي البديل الحقيقي للتمويل بالفائدة (1) وهي القادرة على أن تقدم للمجتمع النتائج الحميدة لصيغ التمويل الإسلامي، من عدالة في توزيع الدخول والثروات ومحاربة للفقر، واستقرار اقتصادي.
ولكن النتيجة كانت خلاف ذلك؛ إذ اتجهت البنوك الإسلامية بعيداً عن أنواع المشاركات إلى التمويل بالدين، حتى أصبحت البيوع التي تتحول إلى ديون (كالمرابحة والاستصناع) هي أساس نشاط هذه المؤسسات.
لذلك صارت الطبيعة المصرفية للبنوك الإسلامية مشابهة للبنوك التقليدية، فكلاهما وظيفته الأساسية هي الديون، والفرق أن الديون في الأولى ناتجة عن بيوع، أما الثانية فهي قروض، هذا فرق لا يستهان به بلا شك، ومع ذلك يبقى أنها مختلفة عن النموذج النظري الذي بهر به الاقتصاديون –مسلمين وغير مسلمين- بما يمكن أن يؤدي إليه من نتائج عظيمة وآثار اجتماعية كبيرة، وبقدرته (نظرياً على الأقل) على معالجة المشاكل التي يعاني منها النظام المصرفي التقليدي.
5- 3- كيف تتفادى صيغ التمويل التقليدية مشكلة المخاطرة الأخلاقية:
تقوم عقود التمويل في البنوك التقليدية على صيغة القرض الموثق برهون وضمانات عينية وشخصية، ولا ترتبط حقوق البنك أو التزامات العميل تجاه البنك بنتائج استخدامه للنقود التي هي محل العقد؛ إذ إن أصل القرض والزيادة عليه (الفائدة) مضمونة على العميل، ومن هنا لا يكون لأمانة هذا العميل وسلوكه القويم وأخلاقه العالية أي تأثير على حقوق البنك؛ لأنها حقوق معروفة ومحددة عند التعاقد، وهي دين ثابت في ذمة العميل وموثق بالرهن والضمانات، وهذا بخلاف التمويل بالمضاربة أو المشاركة حيث إن رأس مال البنك وربحه معتمد على أمانة العميل ومهارته وحسن أدائه، الأمر الذي يدخل عنصر المخاطرة الأخلاقية في العقد المذكور.
__________
(1) ومن أول من طرح فكرة المضاربة أساساً لعمل مصرفي إسلامي، محمد عبد الله العربي في بحثه (المعاملات المصرفية ورأي الإسلام فيها) في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر المنعقد في القاهرة 1385هـ / 1965م(8/1688)
5- 4- مقترحات لمعالجة هذه المشكلة:
لابد من العمل على إعادة توجيه البنوك الإسلامية نحو المشاركة (وصيغ الشركة الأخرى) كأساس لعمليات التمويل، ولابد من العمل على معالجة مشكلة المخاطرة الأخلاقية بكل سبل ممكنة ومقبولة من الناحية الشرعية.
إن العلاج لمشكلة المخاطرة الأخلاقية هو خلق الحوافز التي تدفع طرفي العقد –لاسيما الطرف المشكوك بالتزامه- إلى سلوك يماثل المفترض فيه، فإذا كان المفترض في المضارب أن يتحلى بالأمانة، جاءت هذه الحوافز لتجعل للخيانة ثمناً باهظاً يتردد هذا المضارب قبل أن يركب مركبه الصعب، ذلك أن هذا المضارب هو إنسان عاقل يعرف ما فيه نفعه وضرره، وهو بلا شك حريص على أن لا يذهب في سلوكه مذهباً يؤدي إلى نفع عاجل قليل وضرر آجل كبير، ومن هذه الإجراءات ما يلي:
1- العمل على سن القوانين التي تحمي أطراف العقود المستمدة من الشريعة الإسلامية، ذلك أن أكثر القوانين في بلاد المسلمين مبنية على أصول غير إسلامية ولذلك نجدها ترسي قواعد للتعاقد معتمدة على إلغاء المخاطرة الأخلاقية بصياغة تعاقدية غير جائزة، بحصر صيغ التمويل المصرفية بالقروض والعوائد الثابتة المضمونة. ولذلك كان على المسلمين السعي الحثيث إلى سن القوانين التي تحمي الحقوق في عقود المضاربة والمساقاة والمزارعة وأنواع المشاركات، وذلك بمعاقبة من تثبت خيانته عقاباً يكون رادعاً لأمثاله؛ لأنهم خطر يهدد البنية الأخلاقية في المجتمع.
2- إعطاء الأفضلية في التعاقد مع المؤسسات التي تحرص على ضبط حساباتها ودفاترها بإشراف المراجعين ذوي السمعة الحسنة، ذلك أن توفر المعلومات الصحيحة والدقيقة يقلل من المخاطرة الأخلاقية.(8/1689)
3- الحرص عند صياغة العقود التي تتضمن قدراً كبيراً من المخاطرة الأخلاقية على تضمينها جزاءات مناسبة تدفع المتعاقد إلى الالتزام بنوع السلوك المفترض في أمثاله؛ إما بسبب أخلاقه العالية أو خوفاً من العقاب، مثال ذلك:
أ – فرض عقوبات على المماطلة في رد رأس مال المضاربة إلى البنك، أو التأخر في دفع الأرباح المتحققة حسب ما اتفق عليه (ونورد في مكان آخر من هذه الورقة تفصيل هذه الجزاءات) .
ب- الاشتراط بأنه إذا جاءت الأرباح –في عقد المضاربة - أدنى مما توقعته دراسات الجدوى وبدرجة غير مقبولة لرب المال، انقلب عقد المضاربة إلى عقد مشاركة وصار رأس مال المضاربة حصة شريك في شركة عنان يشارك المضارب في نشاطه التجاري بحيث يمكن لرب المال عندئذٍ أن يشارك في إدارة الأعمال وأن يتدخل مباشرة في اتخاذ القرارات، فيعلم المضارب عندئذٍ أن لا جدوى من إخفاء الربح؛ لما يترتب على ذلك من نتائج.
4- تشجيع الطرف الآخر في العقد (المضارب مثلاً في عقد المضاربة) على الالتزام بالأمانة وذلك بالنص على أن ما تحقق من ربح يزيد على النسبة المتوقعة في دراسة جدوى المشروع سيحقق ربحاً قدره 20 % سنوياً، يمكن للمصرف أن يقول للعميل المضارب: ما تحقق من ربح يزيد على 20 % فإني متبرع لك بحصتي فيه، هذا بلا شك يدفع العامل إلى مضاعفة الجهد وفي نفس الوقت لا يضطره إلى المراوغة والخداع لإخفاء ما زاد عن النسبة المتوقعة، ليس في هذا الإجراء خسارة للبنك؛ لأن إثبات تحقق نسبة تزيد على المتوقع ليس بالأمر السهل، ومن ثم فإن رب المال (البنك) لن يعمد –في الوضع الطبيعي- إلى استقصاء الأمر إذا تحقق من الربح ما توقعته دراسات الجدوى، فكان الأولى التنازل عن ذلك تشجيعاً لهذا المضارب.
5- تبني صيغة لتوزيع الأرباح تولد حافظاً على الجد والاجتهاد لدى الطرف الآخر، ففي عقد المضاربة مثلاً، يمكن النص على أن نصيب المضارب من الربح يكون متدرجاً، فإذا تحقق ربح قدره 10 % كان نصيبه منه الثلث، وإذا تحقق ربح قدره 20 % كان نصيبه الثلثين ... إلخ (1) بهذه الطريقة يعلم المضارب أنه سيستفيد من كل جهد إضافي يبذله في إدارة المشروع، فلا داعي للتهاون ولا حاجة لإخفاء جزء من الربح.
6- العمل على بناء قاعدة معلومات تتوفر فيها كافة البيانات عن عملاء المصارف وأرباب الأعمال الذين هم مظنة الانخراط في العقود مع البنوك، وتصنيفهم بناء على تاريخ التعامل معهم، بحيث يستفيد كل مصرف من تجارب الآخرين، وبهذه الطريقة يتردد الخائن قبل ارتكاب خيانته؛ لأنه يعلم أنه سيدفع ثمناً باهظاً لها يتمثل في وضع اسمه على قائمة سوداء يصعب عليه معها أن يحصل على تمويل لمشاريعه في المستقبل، ومن جهة أخرى يعلم الأمين الملتزم أنه سيستفيد من أمانته؛ لأنها ستسهل عليه في المستقبل أن يحصل على مزيد من التمويل من المؤسسات المصرفية التي تتبنى عقود المضاربة وأنواع المشاركات.
__________
(1) وقد أفتت بجواز ذلك الهيئة الشرعية في شركة الراجحي المصرفية للاستثمار في قرارها رقم 77 في 29/8/1411هـ(8/1690)
6- مشكلة تمويل الحكومة:
تعتبر الحكومات – في كل بلد- أكثر الجهات استفادة من التمويل الذي توفره المؤسسات والأسواق المالية، ففي الولايات المتحدة – مثلاً- تمتص الديون الحكومية نحو 50 % من مجموع المدخرات في تلك البلاد (1) وقد بلغ من عظم تلك الحاجة في بعض البلدان أن مثلث الديون في إيطاليا نحو 105 % من الناتج القومي الصافي (2) مرد ذلك بلاشك هو عظم دور الحكومات في حياة المجتمعات المعاصرة، تقتصر وظيفتها على حفظ الأمن وإقامة العدالة والدفاع عن الحدود وسك العملة، بل صارت مصدر خير كثير ومنافع متعددة يستفيد منها كل أفراد المجتمع، متمثلة في رعاية الصحة والتعليم والاتصالات والمواصلات ووسائل الثقافة والترفيه ... إلخ، كل ذلك دليل على أن الحكومة في حاجة بالغة إلى التمويل.
وتسد حاجة الحكومة إلى التمويل في البلدان المختلفة في الوقت الحاضر بمواردها المختلفة كالضرائب والرسوم وإيرادات ممتلكاتها، ولكنها تحتاج دائماً إلى الاقتراض، حيث تقترض الحكومة من البنوك ومن عامة جمهور الناس بواسطة طرح السندات في أسواق المال.. إلخ.
ومثل ذلك حال الحكومات في مجتمعات الإسلام، فهي تحتاج إلى التمويل كحاجة أية حكومة معاصرة، وتحصل عليه بطرق شبيهة بما وصف أعلاه.
ومع ما وصلت إليه البنوك الإسلامية من نجاح وتوسع،، ومع ما استطاعت أن تصل إليه من كفاءة في العمل وتطوير لصيغ التمويل لتفي بكافة حاجات الناس وأغراضهم، تبقى عاجزة عن الوفاء بهذه الحاجة الأساسية، فإذا استعرضنا البنوك الإسلامية التي تمارس نشاطها في مجتمعات المسلمين وجدناها غير قادرة على النهوض بهذه الحاجة الماسة، ومن فاضل القول أن نؤكد أنه لا سبيل لتحقيق سيادة النظام الإسلامي في أي مجتمع إذا بقيت الحكومات فيه تقترض بالربا ولا تجد لهذه القروض بديلاً يفي بحاجتها ضمن المباح.
__________
(1) Wall Street Joumal, March 2- 93, p. 6
(2) jan 12- 93, p. 7(8/1691)
6- 1- اختلاف تمويل الحكومة عن سائر التمويل:
رب قائل: لا خصوصية لتمويل الحكومة عن سائر أنواع التمويل، وما صلح من صيغ وطرق لتمويل القطاع الخاص (مثل بيع المرابحة للآمر بالشراء) فإنه صالح لتمويل الحكومة.
الواقع أن الأمر غير ذلك؛ فإن لتمويل الحكومة خصوصيات تتمثل فيما يلي:
أ- أن الحكومة لا تحقق ربحاً من نشاطها، ولذلك صارت صيغ التمويل المعتمدة على اقتسام الأرباح مثل المضاربة والمشاركة.. إلخ، غير صالحة لتمويل الحكومة.
ب- أن أكثر حاجة الحكومة إلى التمويل هي لأغراض تشغيلية، مثل صيانة المشاريع أو صرف رواتب الموظفين.. إلخ، وهي حاجة لا يمكن توفيرها حتى بصيغ البيوع المعروفة.
ج- مع أن الحكومات لا تفلس (إلا في حالات نادرة جداً) إلا أنها تميل دائماً إلى المماطلة في سداد الديون، وبينما يسهل مقاضاة مدين من القطاع الخاص والحجز على ممتلكاته والتنفيذ على رهونه، ما أصعب أن يفعل الشيء ذاته في حكومة مدينة، لاسيما في بلدان العالم الثالث، ولذلك يميل أكثر البنوك إلى التزام جانب الحذر بالابتعاد عن تمويل الحكومة.
6- 2- مقترحات لحل هذه المشكلة:
يجب على البنوك الإسلامية أن تسعى إلى تطوير صيغ تمكنها من تمويل الحكومة؛ إذ إن حاجة الحكومات إلى التمويل حاجة مشروعة لا يحسن لتلك البنوك تجاهلها، ولن تكتمل جوانب النظام المصرفي الإسلامي إلا بنجاحه في هذا الجانب المهم في الحياة المعاصرة، وما نقترحه فيما يلي لا يتعدى أن يكون الخطوط الرئيسية لما يمكن أن يتطور إلى صيغ صالحة للغرض المطلوب من ذلك:(8/1692)
أ- إن جزءاً لا يستهان به من حاجة الحكومة إلى التمويل هو لأغراض إنشائية، مثل بناء الجسور والطرق وإنشاء المدارس والمستشفيات.. إلخ، ويقدم عقد الاستصناع صيغة قابلة للنهوض بحاجة الحكومة إذا أمكن أن تتضمن تلك الصيغة الصفات التالية:
- أن يكون عقداً لازماً للطرفين منذ الابتداء.
- أن يجوز للمستصنع دفع الثمن مقسطاً بعد التسليم.
- أن يشتري الصانع السلعة من السوق أو يستصنع سواه.
- أن يلزم الصانع الأول (البنك) الصانع الثاني (أي الصانع من الباطن) بنفس الضمانات التي قدمها إلى المستصنع من ناحية الجودة والصيانة ... إلخ
فإذا تحقق ذلك استطاعت هذه البنوك تقديم صيغة قابلة للتنفيذ وصالحة لتمويل حاجة الحكومة إلى المنشآت كالطرق والمدارس والمستشفيات.
- وبرغم أن الحكومات تتصور دائماً أن حاجتها إلى التمويل لا يطفئها إلا الحصول على المال على صفة القرض، فإن جزءاً من هذه الحاجة هو لغرض شراء الآلات والمعدات والسيارات والأجهزة.. إلخ، وكل ذلك قابل أن يمول بواسطة بيع المرابحة للآمر بالشراء، ولكن قوانين المناقصات الحكومية في أكثر البلدان لا تأخذ باعتبارها إمكانية دخول البنوك كمورد لتلك السلع، ولا إمكانية دفع الحكومة الثمن مقسطاً بدلاً من الاقتراض للتسديد، ومن هنا كان ضرورياً السعي نحو تعديل تلك القوانين لتسمح بما ذكر.
ج- ولعل العقبة الكأداء التي تحول دون دخول البنوك الإسلامية كممول للحكومة هو التخوف من المماطلة، فبينما يمكن للبنوك التقليدية بيع ديون الحكومة لاسيما إن كانت على صفة سندات قابلة للتداول، ليس ذلك للبنوك الإسلامية، فلا غرابة أن نجد الأولى تُقدم بلا تردد على إقراض الحكومة بينما تحجم الثانية عن ذلك، ويصرف النظر عن صيغة التمويل، ففي كل مرة يتعلق الدين بذمة الحكومة من البيع، يواجه البنك الإسلامي هذه المشكلة.
إن الحل الممكن لهذه المشكلة يتمثل في ضرورة ربط تسديد الدين المذكور بمصدر دخل حكومي محدد، فمثلاً تصدر الحكومة للبنك البائع سندات لأجل (كمبيالات) مقبولة لدى شركة البترول الحكومية، فإذا تأخرت وزارة المالية في تسديد أقساط الدين قام البنك فوراً بالحصول على قيمة تلك الكمبيالة من الشركة المذكورة إما نقداً أو بما يقابلها من البترول، ويمكن أن تكون تلك شركة لإنتاج القمح أو النحاس أو الفوسفات أو أي سلعة قابلة للبيع أو نشاط يولد دخلاً مستمراً لتلك الشركة.(8/1693)
7- مشكلة الاستثمار في العملات الأجنبية:
يعد الاستثمار في العملات الأجنبية، لاسيما عملات الدول الصناعية القوية، أحد أهم مجالات الاستثمار التي تجني منها البنوك التقليدية عائدات ضخمة، والمتصور –من الناحية النظرية- أن الغرض من عمليات بيع وشراء العملات هو تسهيل التبادل التجاري الذي هو مبعث الحاجة إلى العملات الأجنبية، لكن الواقع هو أن التحويلات المالية البحتة (أي التي لا تكون لغرض تمويل التجارة) هي أضعاف أضعاف قيمة السلع المتبادلة عبر الحدود بين الدول، لقد صار للصرف أسواق عالمية عظيمة، وصار بحد ذاته نشاطاً مالياً له مؤسساته، والمتخصصون فيه، وأضحى اختلاف أسعار العملات وتقلباتها مصدراً للدخل ومورداً لعائد استثماري.
والصرف من النشاطات التي عرفها المسلمون منذ القدم، وقد كان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل بالصرف، ثم جاءت الشريعة لتبين قواعد الصرف وشروط صحته وصيغه المقبولة وحدود التعامل فيه، فجعلت التقابض شرطاً في صحة الصرف ومنعت تأجيل أحد البدلين أو المواعدة عليه بوعود ملزمة يتأجل فيها البدلان، وبينما جاءت أحكام الصرف في الشريعة الإسلامية منصبة على الدرهم والدينار، والذهب والفضة؛ لأن تلك كانت هي عملاتهم في ذلك الزمن، كان إجماع علماء العصر الحاضر على تنزيل هذه الأحكام على العملات الورقية، واعتبار كل عملة جنساً مستقلاً، فالدولار جنس والريال جنس والجنيه جنس.. إلخ، وينطبق على تبادل جنس مع جنس ما ينطبق على تبادل الدرهم والدينار من أحكام شرعية.
7- 1- وصف المشكلة:
إن المشكلة الأساسية التي تواجهها البنوك الإسلامية في مجالات الاستثمار في الصرف هو أن أكثر الأرباح التي تتحقق في هذا النشاط إنما هي في معاملات لا يتوفر فيها شروط الصحة الشرعية؛ ذلك أن الباعث على أكثر نشاط الاستثمار في العملات هو اختلاف معدلات الفائدة بين البلدان، لاسيما البلدان الصناعية، فإذا كانت أسعار الفائدة في ألمانيا مثلاً أعلى منها في الولايات المتحدة، اتجه المستثمرون إلى نقل أموالهم إلى الأولى للاستفادة من ذلك، ولكنهم لن يحققوا ما توقعوا من عائدات إذا تغير سعر الصرف عندما يقومون بإعادة أموالهم إلى موطنها الأصلي، بل ربما يخسرون خسائر فادحة بسبب ذلك التغير، ولذلك احتاجوا حتى تكون عمليتهم تلك مربحة ومجدية إلى إلغاء هذه المخاطرة بعملية صرف مؤجلة، فيبيعون اليوم ما اشتروا من عملة ألمانيا مع تأجيل التسليم إلى وقت إعادتهم أموالهم إلى أمريكا، ثم يحسبون ما سوف يحصلون عليه من فائدة ثابتة في ألمانيا ويحسبون سعر بيعهم لعملة ألمانيا في التاريخ المستقبلي، فإذا وجدوا أنه لا يزال هناك ربح، أي أنهم سيحققون عائداً يزيد على أسعار الفائدة في أمريكا خلال تلك الفترة؛ أقدموا على العملية المذكورة.. وهكذا.(8/1694)
ومما يزيد الأمر تعقيداً أن مثل تلك العمليات لا تظهر لأطرافها بهذا الوضوح؛ لأن البنوك الدولية ومؤسسات الوساطة تتولى بنفسها دقائق الأمور المتعلقة بهذه المضاربات، فلا يظهر للمستثمر إلا أنه يشتري عملة ألمانيا اليوم فيقبض ما اشترى ويدفع ثمنه حالاً، ويبيع اليوم أيضاً عملة ألمانيا التي اشترى ولكن على أن تسلم إلى المشتري بعد تسعين يوماً أو ستة أشهر أو أقل أو أكثر.
وقد بدا لمن قال بجواز مثل هذه المعاملات أن المرحلة الثانية (أي بيع عملة ألمانيا في المستقبل) هي مواعدة يتأجل فيها البدلان، ولكنها غير ملزمة، والواقع خلاف ذلك؛ فإن المستثمر عند شرائه لعملة ألمانيا لا يقبضها إلا بأن تسجل في حساب مصرفي باسمه، وليس له حرية التصرف فيها، فهو حساب مجمد طوال مدة العقد، ويترتب على ذلك أن الإلزام لم يعد له معنى؛ لأن البائع لم يزل مسلطاً على تلك النقود ومتأكداً من وفاء المستثمر بوعده (إن جاز أن نسميه وعداً) ؛ لأن أمواله تحت يده، فهي إذن ليست مواعدة غير ملزمة يتأجل فيها البدلان، بل هي عملية صرف تأجل فيها بدل واحد فهي غير جائزة، ولا وجه للقول بغير ذلك؛ لأن البنوك الدولية التي تقوم بهذه العمليات لابد أن تحتفظ بأموال المستثمر خلال هذه الفترة حتى تحقق لنفسها أسعار الفائدة الألمانية التي هي مربط الفرس في العملية المذكورة.
الدكتور محمد القري بن عيد(8/1695)
الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلامية
وتصورات لكيفية مواجهتها
إعداد
أ. د. إسماعيل حسن محمد
رئيس مجلس إدارة بنك الإسكندرية (مصر)
بسم الله الرحمن الرحيم
الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلامية
وتصورات لكيفية مواجهتها
مقدمة:
ونحن نتحدث اليوم في عام 1993 عن البنوك الإسلامية فإنه يجدر بنا القول: إن الأمر يختلف عما لو كنا نتحدث عن هذه البنوك منذ 20 عاماً مثلاً عندما كان الجدل يثور حول جدوى إقامة هذه البنوك وعلى أي أسس تقام. أما الآن وقد أصبحت البنوك الإسلامية حقيقة واقعة وانتشرت في العديد من الدول الإسلامية والعربية، بل وفي دول غير إسلامية في أوربا وغيرها، فإن الجدل الدائر حول كيفية استمرار هذه البنوك بنجاح، وما يواجه هذه البنوك من صعاب، وكيفية التغلب عليها بما يضمن تواصل المسيرة على النحو المبتغى.
ويصعب الحديث عن الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلامية وكيفية مواجهتها دون أن نعي جيداً ما هو المقصود بالضبط بالبنوك الإسلامية، وما هو الاختلاف بين هذه البنوك والبنوك التقليدية. وربما يبادر الكثيرون بالقول بأن هذه أمور أصبحت واضحة تماماً في أذهان القائمين على البنوك الإسلامية، ولا مبرر لإضاعة الوقت في الحديث عنها، ولا يتصور إقامة المؤتمرات أو حتى تخصيص جلسات في المؤتمرات المقامة لمناقشة مثل هذه الأمور التي يتصور البعض أنها أصبحت معروفة جيداً.
ولكني، ومع كل التقدير والاحترام لمثل هذه الآراء، أؤكد على أننا جميعاً في حاجة إلى ترسيخ المفاهيم المتعلقة بدور البنوك الإسلامية ووظائفها واختلافها عن البنوك التقليدية، وتذكير أنفسنا دائماً بذلك حتى لا تنفلت منا الأمور وتضيع هذه المفاهيم وسط زحمة وتدابير العمل التنفيذي اليومي في البنوك الإسلامية. ولا أبالغ إذا قلت: إن مقياس النجاح الفعلي للبنوك الإسلامية هو مدى التزامها بالمفاهيم ومنهجية العمل أولاً وقبل كل شيء، وليس مجرد قياس النجاح بحجم النشاط، وعدد الوحدات، ونسبة الربح التي تعود على المتعاملين مع البنوك الإسلامية والمساهمين فيها، وإلا فما كنا بحاجة إلى إقامة البنوك الإسلامية، وكان يكفينا ما لدينا من بنوك تقليدية.(8/1696)
البنوك الإسلامية بنوك تنمية:
لا تكتسب البنوك الإسلامية أهميتها من شرعية الصلة بينها وبين مبادئ الإسلام وأصوله، عندما تلتزم بذلك تماماً، فحسب، وإنما أيضاً بدرجة كبيرة من كونها تمثل أفضل النماذج للمؤسسات المالية التي تستطيع أن تحقق تنمية حقيقية شاملة في المجتمعات التي تزاول نشاطها فيها، فهي قادرة على أن تقدم أشكالاً وصيغاً للتمويل متنوعة ومتعددة تتناسب مع مختلف الظروف والمواقف، وتسهم بدرجة كبيرة في تقليل بل ومعالجة التضخم؛ لارتباط هذه الأشكال والصيغ التمويلية تماماً بالجانب السلعي. فصيغة المشاركة أو المضاربة التي تطرحها البنوك الإسلامية وتلتزم بها تؤكد وتجسد العدل الذي يغري بالتعامل معها والإقبال عليها، ويحقق مصلحة الجميع، بالإضافة إلى أنه يسرع في تحقيق التنمية.
وإذا نحن درسنا وحللنا جيداً نظرة الإسلام إلى المال ورؤيته لمسؤولية الإنسان في عمارة الكون، فإن ذلك يؤكد لنا أن المشروع الاقتصادي الإسلامي هو أساساً مشروع تنموي قائم بالضرورة وبأمر الشارع في قلب العملية الإنتاجية، وأن أي تجاوز للحدود التي رسمها الشارع الإسلامي يمثل انتهاكاً صريحاً لوظيفة المال الأصلية المقررة في الإسلام ولمسؤولية الناس في عمارة الكون؛ ومن هنا فإن وصف البنوك الإسلامية بأنها بنوك لا تتعامل بالفائدة يعبر عن قصور بالغ في فهم دور المال في الإسلام، وقصور بالغ في فهم معنى الالتزام بعمارة الكون.
السمات المميزة للبنوك الإسلامية:
إذا تناولنا بالتحليل البنوك الإسلامية من حيث طبيعة نشاطها، وممارساتها، والسمات المميزة لها والتي تنعكس في تعدد الوظائف وهياكل مواردها واستخداماتها، نجد أن البنوك الإسلامية تجمع بين أكثر من نوعية من البنوك ومن ثم يمكننا القول باطمئنان: إنها بنوك ذات طابع خاص تعمل جنباً إلى جنب مع البنوك التقليدية في المجتمعات التي تزاول أنشطتها فيها ضمن أسرة الجهاز المصرفي محلياً ودولياً وتلتزم بالتشريعات المصرفية السائدة المطبقة على غيرها، وإن كانت بعض الدول قد قطعت شوطاً أبعد في هذا المجال فأصدرت تشريعات خاصة بالبنوك الإسلامية تتفق مع طبيعتها ومنهج عملها.(8/1697)
وتنفرد البنوك الإسلامية ببعض السمات والملامح الأساسية؛ لما لها من أثر مباشر على الممارسات الفعلية، سواء من ناحية التوظيف ونوعياته أو من ناحية الموارد ونوعياتها أو التزامات البنك قبل المتعاملين معه، ويمكن إيجاز هذه السمات فيما يلي:
1- البنوك الإسلامية بنوك متعددة الوظائف؛ حيث تؤدي دور البنوك التجارية، وبنوك الأعمال، وبنوك الاستثمار، وبنوك التنمية؛ ومن هنا فعملها لا يقتصر على الأجل القصير كالبنوك التجارية، ولا على الأجل المتوسط والطويل كالبنوك غير التجارية؛ بل يشمل الآجال القصيرة والمتوسطة والطويلة، الأمر الذي ينعكس على هيكل استخداماتها ومواردها.
2- البنوك الإسلامية لا تتعامل بالفائدة أخذاً أو عطاء سواء كانت هذه الفائدة ظاهرة أو مختفية، مباشرة أو غير مباشرة، محددة مقدماً أو مؤخراً، ثابتة أو معومة.
3- البنوك الإسلامية لا تقدم قروضاً نقدية بل تقدم تمويلاً عينياً، بمعنى أنها بصدد توظيفها للأموال لا توجهها في صورتها النقدية، وبمعنى آخر فهي بنوك لا تتاجر في الائتمان.
4- البنوك الإسلامية ترتبط مع عملائها سواء كانوا أصحاب حسابات استثمار وادخار أو مستخدمين لهذه الموارد بعلاقة مشاركة ومتاجرة قائمة على مبدأ تحمل المخاطرة والمشاركة في النتائج ربحاً كانت أو خسارة وليس علاقة دائنية ومديونية كالوضع بالنسبة للبنوك التقليدية.
وهذه السمات والمبادئ التي تحكم عمل البنوك الإسلامية لها أثرها المباشر على علاقة البنك الإسلامي، والتزاماته، وأسلوبه في استقطاب المدخرات، وتوظيفه للأموال المتاحة.(8/1698)
الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلامية:
تجدر الإشارة بادئ ذي بدء إلى أننا نستعرض الصعوبات التي تواجهها البنوك الإسلامية التي تعمل في البلاد التي يقوم فيها بنك إسلامي أو أكثر إلى جوار البنوك التقليدية الأخرى، وليست تلك التي تقوم في بلاد حولت أو هي في سبيل تحويل النظام المصرفي فيها بأكمله (وعلى قمته البنك المركزي) إلى النظام الإسلامي.
والصعوبات التي تواجهها البنوك الإسلامية عديدة، والحديث عنها طويل، إلا أننا سنقتصر هنا على الإشارة إلى أهم هذه الصعوبات دون إسهاب أو إطالة.
الصعوبة الأولى – نقص الكوادر البشرية اللازمة للعمل في البنوك الإسلامية:
وتكاد تمثل هذه الصعوبة المشكلة الأم لحركة البنوك الإسلامية، فالبنوك الإسلامية تمثل نظاماً مصرفياً جديداً له طبيعة خاصة، ومن ثم فإنه يتطلب مواصفات خاصة، كذلك في المهارات والسمات والقدرات التي يلزم أن تتوفر في العاملين في هذا المجال. والنظم التعليمية الحالية بمستوياتها المختلفة لا تقوم بتفريخ النوعية اللازمة للعمل في البنوك الإسلامية، وفي نفس الوقت لم تتمكن البنوك الإسلامية خلال السنوات الأولى من مباشرتها للنشاط من سد هذه الثغرة بإنشاء معهد خاص بها أو مراكز للتدريب تتوفر على إعدادها بالعناصر البشرية المؤهلة تأهيلاً كافياً للعمل فيها وفق طبيعتها لتغطية احتياجاتها، أخذاً في الاعتبار ما انتهت إليه تجربة المعهد الدولي للبنوك الإسلامية بقبرص التركية من توقف المعهد بعد سنوات محدودة من بداية نشاطه. ذلك كله بالإضافة إلى أن حداثة نشأة هذه البنوك حالت حتى الآن دون تمكنها من تنشئة جيل يستطيع أن ينقل بأسلوب المزاملة المهنية الخبرات والمهارات التخصصية اللازمة للعمل في البنوك الإسلامية لجيل يليه. ويكاد يتفرع من صعوبة عدم توفر الكوادر البشرية اللازمة للعمل في البنوك الإسلامية معظم الصعوبات الأخرى.
الصعوبة الثانية – الإعلام المحدود عن البنوك الإسلامية:
تمثل البنوك الإسلامية فكرة جديدة، والناس عادة أعداء لما يجهلون –كما يقول ابن خلدون- ومن ثم فإن الحاجة ملحة إلى توضيح هذه الفكرة وشرحها للناس وإفهامهم إياها، والبنوك الإسلامية في مناطق عملها ينشغل كل بنك منها بقضاياه، ولا يوجه الاهتمام أو الاعتمادات المناسبة للإعلام عن أنشطة وممارسات البنوك الإسلامية بصفة عامة والبنك ذاته بصفة خاصة. وفي هذا الصدد، فإننا نأمل أن يحقق المركز الإعلامي للبنوك الإسلامية التي اتفقت البنوك الإسلامية على إقامته مؤخراً أهدافه.(8/1699)
الصعوبة الثالثة- موقف البنوك المركزية من البنوك الإسلامية:
لقد ظلت البنوك المركزية في معظم الدول إلى وقت قريب جداً غير مستعدة للاعتراف بإمكان قيام نظام مصرفي بعيداً عن الفائدة، وما زالت قوانين البنوك والائتمان التي تقوم البنوك المركزية بالإشراف على تطبيقها لا تدخل الطبيعة الخاصة للبنوك الإسلامية في اعتبارها، وفي غالبية البلاد التي نشأت فيها بنوك إسلامية اقتضى الأمر أن يتضمن قانون أو مرسوم إنشاء البنك الإسلامي وجود نص خاص يستثنى البنك الإسلامي من قوانين الرقابة على البنوك أو بعض أحكامها لعدم تلاؤمها مع طبيعة أنشطة البنك الإسلامي، ومن المتوقع أن تسفر الجهود التي بذلها ويبذلها الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية مع محافظي البنوك المركزية بالبلاد الإسلامية عن تذليل هذه الصعوبة، ويبشر بذلك ما انتهت إليه اللقاءات المشتركة للجنة خبراء البنوك الإسلامية والبنوك المركزية بصدد الرقابة والإشراف على البنوك الإسلامية من تفهم واضح لطبيعة أعمال البنوك الإسلامية والسعي نحو استنباط طرق ووسائل الرقابة عليها بما يتفق مع منهجية عملها.
الصعوبة الرابعة- وجود فائض سيولة لدى البنوك الإسلامية:
ونقصد بهذا أن تكون الموارد المتاحة لدى البنوك الإسلامية أكبر من إمكانيات توظيفها في المجتمعات التي تزاول نشاطها فيها وفقاً لصيغ التمويل الخاصة بها من مشاركات ومضاربات ومرابحات ... إلخ، وترتد هذه الصعوبة أو المشكلة في حقيقتها إلى عدد من الأمور تمثل كل منها صعوبة ومشكلة:
أ- طبيعة مصادر الأموال حيث تتمثل غالبيتها في موارد قصيرة الأجل، الأمر الذي يتعين على البنوك توظيفها في أوجه محددة الآجال مما يتولد عنه وجود فائض في السيولة.
ب- الحماس العاطفي الذي يقود الناس إلى الإقبال على البنوك الإسلامية –لأنها لا تتعامل بالفائدة -، لا يقابله لدى البنك الإسلامي النشاط المكافئ لدراسة وطرح مشروعات لامتصاص الحجم المتدفق من الودائع.
جـ- المناخ العام في بعض الدول التي تعمل فيها البنوك الإسلامية يمثل بدرجة أو بأخرى اتجاهاً انكماشياً قد يمنع أو يعطل الموافقات المطلوبة للتوظيف.
د- عدم توفر القاعدة العريضة من البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية على مستوى العالم الإسلامي بما يسهل توظيف فائض السيولة محلياً لدى بنك أو مؤسسة إسلامية شقيقة، بدلاً من التجاء البنك الإسلامي مضطراً إلى تصدير هذا الفائض إلى العالم الخارجي مع ما يحيط ذلك التصرف من شبهات.
هـ – يترتب بطيعة الحال على فائض السيولة مشكلة تأثر العائد الذي يقوم البنك الإسلامي بتوزيعه، ذلك أن ما يتم توزيعه هو ناتج الأموال الموظفة فعلاً.(8/1700)
الصعوبة الخامسة- تقهقر نسبة العائد الذي يوزعه البنك الإسلامي كلما توسع في التوظيف طويل الأجل:
ذلك أن مدة تفريخ الاستثمار تتصف بطبيعتها بانعدام العائد،، ويبدأ تولد العائد تدريجياً، ومعنى هذا أن تتأثر نسبة العائد الموزع على المستثمرين خلال فترة التفريخ. هذا الأمر يجعل البنك الإسلامي في موقف غير تنافسي مع البنوك التقليدية التي تمنح المودعين فائدة دائنة محددة النسبة مقدماً.
الصعوبة السادسة- القدرات الهائلة للأجهزة المالية العالمية على الإعلام المضاد لفكرة وحركة البنوك الإسلامية:
فلا جدال في أن هناك مؤسسات عالمية تتحسب للمستقبل البعيد –في ضوء النتائج التي حققتها البنوك الإسلامية في الأمد القريب- باعتبار أن حركة البنوك الإسلامية بمعدلات تزايدها الحالي يمكن أن تؤثر على المؤسسات المالية العالمية التي لديها مليارات الدولارات ودائع من البلاد الإسلامية. وإزاء ما اكتسبته هذه الكيانات العالمية من قدرة على التأثير وصياغة وتوجيه الرأي العام بإمكاناتها المادية الهائلة وخبرات واتصالات القائمين عليها فقد استطاعت أن تحدث تياراً فكرياً في حده الأدنى غير متعاطف مع مسيرة البنوك الإسلامية.
الصعوبة السابعة- ضعف التنسيق بين مجموعة البنوك الإسلامية الأمر الذي يؤثر عليها تأثيراً حيوياً في كافة المجالات:
بالرغم من الاجتماعات التي تعقد للبنوك الإسلامية تحت مظلة البنك الإسلامي للتنمية، أو من خلال الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية الذي يضم مجموعة بنوك فيصل في الدول المختلفة وعدداً لا بأس به من البنوك الإسلامية الأخرى، أو من خلال البنوك التي تضمها مجموعة دلة البركة، إلا أني أرى أن التنسيق بين البنوك الإسلامية غير كاف، وأن هناك حاجة إلى مزيد من الجهد نحو توحيد الصف. والأهم من ذلك هو إيجاد تعاون فعال وتبادل للمعاملات بينها، بل والعمل بقدر الإمكان على تركيز التعامل مع البنوك الإسلامية في الدول التي توجد فيها هذه البنوك.
وهذه الصعوبات أو المشكلات مهما تنوعت وتعددت، فإنه من المقدور عليه تماماً معالجتها وتطويقها إذا توفر القصد وخلصت النوايا، وأن طريق المعالجة والتطويق يقوم على ثلاثة محاور، هي:
1- توضيح وتعميق الفكرة من حيث مهمتها ووظيفتها الاقتصادية والتنويه لتحقيق مقاصد الشريعة، وتوعية جماهير المتعاملين.
2- الاهتمام بانتقاء العاملين وإعداد الكوادر التي تقوم بالعمل والتنفيذ.
3- توسيع دوائر الحوار مع مختلف الأجهزة الرقابية والمسؤولة والتطوير المستمر بما يتواءم مع ما يستجد من متغيرات ومستحدثات العصر.(8/1701)
مواجهة الصعوبات هو الطريق إلى الانطلاق- نظرة مستقبلية:
إن الوضع الذي صارت إليه البنوك الإسلامية سواء من حيث عددها وانتشارها في أقطار شتى، ونمو حجم أعمالها؛ حتى إن عدداً منها فاق مجموع ميزانيته ثلاثة بلايين دولار أمريكي هو أمر يتصف بالنجاح بلا شك، خاصة وأنه تم خلال فترة قصيرة نسبياً، حيث لم تصل إلى حقبتين من الزمان، ولم يكن أكثر الناس تفاؤلاً يمكنه أن يتصور الوصول إلى ما وصلت إليه البنوك الإسلامية.
ومع ذلك، يجب أن نسارع إلى القول بأن جانباً هاماً من هذا النجاح يعود بالدرجة الأولى إلى الرغبة الجارفة لدى قطاع عريض من المتعاملين إلى إيداع أموالهم لدى البنوك مع تجنب الفوائد، ومن ناحية أخرى فإن مبدأ المشاركة في الربح والخسارة، أي تحمل المخاطر، من المتوقع أن يقابله أرباح بمعدلات أعلى من الفوائد على الإيداعات الثابتة لدى البنوك التقليدية حيث تكاد تنعدم المخاطرة، وهذا أمر يغري عدداً كبيراً من المدخرين.
ويتوقف استمرار البنوك الإسلامية ونجاحها، أو –لا قدر الله- تراجعها على مدى قدرتها على مواجهة ما يقابلها من صعوبات، بل واتخاذ الإجراءات التي تحول دون وقوعها في الصعوبات والمشاكل. وفي هذا الصدد فإننا نطرح النقاط التالية:
1- الفهم الواضح لدور البنوك الإسلامية كبنوك تنمية لدى القائمين على هذه البنوك، وعدم الاكتفاء بالعمليات قصيرة الأجل لتحقيق أرباح عاجلة؛ وذلك حتى يشعر المتعاملون مع البنوك الإسلامية بدورها في خدمة التنمية، ومن ثم يقبلون على التعامل معها ويتقبلون في ذات الوقت ما قد ينتج عن إيداعاتهم من أرباح بمعدلات أقل من الفوائد من منطلق إسهامهم بأموالهم في التنمية.
2- فهم طبيعة عمل البنوك الإسلامية من حيث كونها تعمل في أعلى درجات المخاطر؛ ذلك أنها تواجه نوعين من المخاطر هما:
- مخاطر النشاط الذي تموله.
- مخاطر استرجاع الأموال المستثمرة من المتعاملين معها.(8/1702)
ومن شأن فهم هذه الطبيعة وضع النظم الملائمة واستخدام أدوات التحليل المناسبة عند القيام بعمليات التوظيف، ومن ثم تتحول المخاطر إلى مخاطر محسوبة جيداً وبالتالي تقل آثارها غير المواتية.
3- عدم التركيز على عمليات المرابحة في التمويل قصير الأجل، وتحقيق أرباح تكون في معظم الحالات قريبة من أسعار الفائدة والاتجاه نحو عمليات المشاركة والمضاربة والمتاجرة، حيث يظهر بوضوح مبدأ تحمل البنوك الإسلامية المخاطر مع المتعاملين، وتظهر الفروق الواضحة بين البنوك الإسلامية والبنوك التقليدية في أسس التمويل.
4- العمل نحو إيجاد نظم لحماية البنوك الإسلامية من الهزات في موقف السيولة لديها، ويمكن أن يتأتى ذلك عن طريق تكوين مجموعات من البنوك الإسلامية تشترك في صناديق لهذا الغرض، سواء على مستوى الدولة أو على مستوى إقليمي.
5- إيجاد فرص مناسبة لتوظيف فوائض السيولة لدى البنوك الإسلامية، خاصة بالنسبة للعملات القابلة للتحويل، وعدم الاكتفاء بتوظيف هذه الفوائض في الأسواق العالمية بنظام الاستثمار السلعي الذي يثير حوله كثيراً من التساؤلات، حيث يكاد يكون العائد على هذه الاستثمارات السلعية هو ذاته معدل الفائدة في الأسواق المالية، وذلك في الوقت الذي تتزايد فيه حاجة كثير من البلدان الإسلامية إلى رؤوس أموال لإحداث عملية التنمية الاقتصادية، وفي هذا الصدد فلعله آن الأوان لتكاتف البنوك الإسلامية معاً وإقامة شركة تجارة عالمية تقوم بعمليات الاتجار السلعي مباشرة، دون توسيط البنوك والمؤسسات المالية العالمية فيما يسمى عمليات الاستثمار السلعي، وهو ما تقوم به البنوك الإسلامية حالياً، وحتى نطمئن إلى أن عمليات الاتجار في السلع عمليات حقيقية، وبحيث يعود الربح من عمليات الاتجار إلى البنوك، وأهم من ذلك أن توجه العمليات التجارية لصالح المجتمعات الإسلامية وبما يحقق لها التقدم.(8/1703)
6- من خلال العوامل السابقة ينبثق عامل هام هو توفير الكوادر الفنية المناسبة للبنوك الإسلامية على مختلف المستويات، ثم تهيئة هذه الكوادر واستمرار إعدادها حتى تمارس عملها عن فهم واضح، وتستخدم في ممارساتها أدوات التحليل الكفأة. ويستطيع المرء أن يقول باطمئنان: إن هناك حاجة كبيرة إلى هذا العامل الذي يعتبر في حقيقة الأمر حجر الزاوية في نجاح البنوك الإسلامية، ويمكن القول أيضاً باطمئنان: إن البنوك الإسلامية في حاجة إلى أكفأ العناصر المصرفية حتى تواجه الدرجات الأعلى من المخاطر التي تعمل فيها.
7- إقامة علاقات طيبة مع الأجهزة الرقابية وتفهم دور هذه الأجهزة ومسؤولياتها. ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا: إن البنوك الإسلامية في حاجة إلى رقابة الأجهزة الرقابية بدرجة أكبر من غيرها، حيث يتأثر المتعاملون معها مباشرة بأداء البنك؛ إذ لا يوجد عائد محدد كما هو الحال في البنوك التقليدية، ومن ثم يكون من شأن رقابة الأجهزة الإشرافية الاطمئنان إلى حسن الأداء، وكلما أمكن فهم طبيعة عمل البنوك الإسلامية من جانب الأجهزة الإشرافية أمكن التوصل إلى الصيغ الملائمة والمناسبة للرقابة على البنوك الإسلامية، وفقاً لنظمها ومنهجية عملها، ولا شك أن من شأن ذلك أن يدفع عجلة العمل في هذه البنوك وأن يزيل ما يصادفها من عقبات بالتعاون مع الأجهزة الرقابية.
8- تنمية سوق مالي إسلامي متكامل بمرتكزاته الثلاثة: المؤسسات، والأدوات، والسياسات؛ سواء ذات الأجل القصير أو المتوسط أو الطويل، بحيث تعمل من خلاله البنوك الإسلامية مع باقي مكونات السوق. وتنعكس تنمية سوق المال الإسلامي على نشاط البنوك وعلى زيادة كفاءتها، حيث تتسع قاعدة المتعاملين معها المتبعين لذات منهجيتها.
والله سبحانه وتعالى من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل
أ. د. إسماعيل حسن محمد(8/1704)
مشاكل البنوك الإسلامية
عقد السلم ودوره في المصرف الإسلامي
إعداد
الشيخ صالح الحصين
بسم الله الرحمن الرحيم
عقد السلم ودوره في المصرف الإسلامي
الواقع:
نشأت المصارف الإسلامية بهدف تحرير المجتمع الإسلامي من لعنة الربا، ومن تعرضه لحرب الله ورسوله، وبهدف التخلص من آثار الربا الاقتصادية على العالم الإسلامي، ومن هذه الآثار حرمان العالم الإسلامي من الانتفاع بفوائضه المالية، وتمكينه من استخدام المال في وظيفته الطبيعية بحيث:
أ- يكون قياماً للناس يحقق النمو الاقتصادي، ويواجه حاجات الإنتاج.
ب- ولا يبقى دولة بين الأغنياء.
ج- ويحقق استخدام العدل في المعاملة {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} .
وواضح أن اعتماد المصارف الربوية نظام الفائدة حتم انسياب الفوائض المالية للعالم الإسلامي إلى الأسواق المالية في العالم المتقدم، حيث إن اعتماد المصرف نظام الفائدة يحتم عليه البحث عن الاستثمار الأيسر تعاملاً، والأكثر مرونة، والأقوى ائتماناً، وهذا يتوفر في الغالب في الأسواق المشار إليها، بالرغم من أن هذه الأسواق هي الأقل حاجة للمال، وبالرغم من الشكوى المتكررة للاقتصاديين من عدم استخدام هذه الأسواق للمال في وظيفته الطبيعية حيث لا تزيد نسبة المستخدم منه في التجارة الحقيقية عن (3 %) ، وتستأثر المصافقة SPECULATION بالنسبة الغالبة.
ولكن هل حققت المصارف الإسلامية هذه الأهداف؟!!
مع الأسف الشديد فإن واقع المصارف الإسلامية لا يقدم مبررات كافية للإجابة عن هذا السؤال بنعم!!.(8/1705)
لو نظرنا إلى المصارف الإسلامية التي تعتمد في تعبئة مواردها على السيولة المالية في منطقة الخليج، لما كان من السهل القول بأن هذه المصارف غيرت طريق انسياب فوائضه المالية في العالم الإسلامي إلى الأسواق المالية الغربية، والسبب واضح؛ لأن هذه المصارف تعتمد أيضاً التمويل على أساس سعر الفائدة، وإن كان ذلك مغطى بأشكال من التصرفات الشرعية كالبيع، وظاهر من مراجعة أشكال الاستثمار في هذه المصارف أن عقداً مثل العقد التلفيقي العصري المسمى (المرابحة للآمر بالشراء) يحظى بحظ الأسد في التعامل.
وما دام هذا السلوك من المصارف الإسلامية يحقق الآثار السلبية الاقتصادية نفسها التي يحققها سلوك المصارف الربوية، فإن للإنسان أن يشك في أن المصارف الإسلامية حققت الهدف بتخليص المجتمع الإسلامي من لعنة الربا.
لا شك أن المخارج الشرعية جزء من الشرع، وقد علم الله نبيين من أنبيائه صورتين لهذه المخارج ذكرهما القرآن الكريم، ولكن هل سلوك المصارف الإسلامية المشار إليه يقع في دائرة (المخرج الشرعي) أم يتجاوز ذلك إلى دائرة (الحيلة الممنوعة) ؟!!، إن الفرق بين المخرج الشرعي والحيلة مثل الخيط الدقيق، ولكنه واضح بحيث يدركه الشخص العادي؛ إذ الاعتبار في ذلك بالغاية، فإذا كانت نتيجة السلوك الوصول إلى محرم أو إلى تحقيق آثاره، فإن السلوك في هذه الحالة يقع في دائرة (الحيلة الممنوعة) وليس في دائرة (المخرج الشرعي) ، وقد وصف الله في القرآن الكريم إحدى هذه الحيل بأنها ظلم للنفس، واتخاذ آيات الله هزواً (الآية 231 من سورة البقرة) ، وأخبر عن مال الذين استعملوا إحدى الحيل بأنهم مسخوا قردة خاسئين (الآية 65 من سورة البقرة) ، من يوم حرم العمل على اليهود يوم السبت، وهم يرتكبون في كل سبت مخالفات كثيرة، ولكن الذين استحقوا بأن يمسخوا قردة خاسئين هم الذين ارتكبوا المخالفة في صورة تصرف شرعي مباح.
وعقد التحليل في الزواج لا يختلف في صورته ولا في الآثار الفقهية المترتبة عليه عن أي عقد زواج مشروع، ولكن المحلل والمحلل له ملعونان على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن ما الذي ألجأ المصارف الإسلامية إلى هذا السلوك؟!!، للإجابة على هذا السؤال يقدم الكاتب الافتراض التالي: لقد تم التركيز من قبل المنظرين للمصارف الإسلامية منذ البداية على أن المشاركة هي البديل للفائدة الربوية.(8/1706)
وقد ووجهت المصارف الإسلامية في محاولتها استخدام هذه الأداة بالصعوبات الواقعية والعوائق الجدية التي تحول دون استخدام هذه الأداة بكفاءة، وليس المجال متسعاً للحديث عن هذه العوائق والصعوبات، وهي متعددة، ولكن يمكن الإشارة إلى أن من أبرز هذه العوائق أن عقد المشاركة عقد أمانة يعتمد على الثقة من الممول في شخص متلقي التمويل، والعالم الإسلامي على ما هو عليه من التخلف الأخلاقي.
ولذا تضاءل ظهور عقد المشاركة في التعامل حتى أصبح مجرد ظهور رمزي، على سبيل المثال فقد أصدر أحد المصارف بياناته المالية ومن بينها البيان المعنون (تمويلات إسلامية) ويقع تحت هذا العنوان ثلاثة بنود: (المشاركة / المرابحة / القرض الحسن) ، وظهر في عام 1989م بند المشاركة بنسبة حوالي (0.5 %) من بند المرابحة، أما في عام 1990م فظهر بنسبة حوالي (0.075 %) .
إن بنك التنمية الإسلامي وهو الأكثر تأهيلاً، لاستخدام عقد المشاركة باعتباره بنكاً للتنمية، وليس بنكاً تجارياً، بدأ منذ نشأته في التركيز على استخدام عقد المشاركة، ولكن هذا العقد لا يحظى في الوقت الحاضر بأكثر من (3 %) من عمليات البنك.
إن المصارف الإسلامية مع الأسف الشديد بعد أن ظهر لها عجزها عن استخدام المشاركة كبديل للتمويل بالفائدة لم تعمل بجدية على اختبار البدائل الأخرى من العقود الشرعية، وصرفت اهتمامها إلى إيجاد مخارج باستخدام أنواع من التصرفات تحقق لها ما توفره أداة الفائدة في البنوك الربوية، من قلة التكلفة، وآلية التعامل –بما تحققه من قلة الجهد والمرونة، والحصول على عائد محدد معروف ومضمون نسبياً-.(8/1707)
فاتجهت إلى التمويل على أساس سعر الفائدة، ولكن في ظل غطاء من عملية البيع أو الشراء وقد أدى هذا السلوك بالإضافة إلى تعويق الوصول إلى الأهداف المشار إليها في أول الحديث، إلى عجزها عن منافسة البنوك الربوية؛ إذ من الطبيعي أن يكون وصولها إلى سعر الفائدة كعائد على الاستثمار بطريق غير مباشر أو طبيعي، لا يمكنها من كفاءة الأداء التي بها تستطيع اللحاق بالبنوك الربوية، ولذلك يوجد مبرر كاف للاعتقاد بأن المصارف الإسلامية سوف تبقى –ما لم تغير سلوكها- عاجزة عن منافسة البنوك الربوية، مما يبرر التخوف بجدية على مستقبل المصارف الإسلامية.
تغير الواقع:
إن المصارف الإسلامية لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا إذا غيرت الواقع المصور فيما سبق، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بما يأتي:
1- الإيمان الصادق الذي يظهر أثره على العمل بموعود الله الذي لا يتخلف {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3] ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] .
2- التحرر من روح العمل في البنوك الربوية، ومن طريقة التفكير السائدة فيها، وذلك بقبول التخلي عن آلية العمل، وعن الإصرار دائماً على الحصول على عائد محدد معروف سلفاً عند إجراء المعاملة، وذلك يوجب التخلي –كهدف واضح- عن الالتفاف على التمويل بالفائدة عن طريق الحيل والمخارج والاقتناع بالصورة الشكلية الشرعية للمعاملة دون اعتبار لجوهرها.(8/1708)
3- العمل بجدية لاختبار وتجربة البدائل الشرعية المتاحة التي لم تطبق أو طبقت على نظام ضيق، والعمل على تطوير البدائل الشرعية التي جرى تطبيقها ومحاولة التغلب على عوائقها وسلبياتها، وفي هذا الصدد يبدو عقد السلم وعقد الاستصناع بديلين واعدين في التمويل الشرعي، وهذان العقدان ظلا طوال القرون الماضية، وعلى مساحة العالم الإسلامي يقومان بدور كبير في تمويل حاجات الإنتاج، سواء الزراعي أو الصناعي، كما أنهما في الوقت الحاضر يعملان في مجال واسع في التجارة العالمية باسم (PREPRODUCING PURCHASE) ويعتقد الكاتب أن العوامل التي ساهمت في تعويق تطبيق هذين العقدين بشكل جدي تتلخص في الآتي:
1- اكتشاف المصارف الإسلامية لطرق تمكن –في نظرها- من الالتفاف على تحريم التمويل بالفائدة، كالمعاملة المخترعة حديثاً باسم (المرابحة للآمر بالشراء) ، حيث أمكن للمنظرين التلفيق بين مذهبين مختلفين، وصياغة صورة جديدة للتعامل تمكنت المصارف الإسلامية بموجبها من التمويل بفائدة تعويضية، ولكنها لا تزال الفائدة البسيطة.
2- التأثر بروح المذهبين الحنفي والشافعي التي أنتجت وضع قيود عديدة على استخدام هذين العقدين، وهذه القيود تواجه المنظرين والعاملين في حماسهم لاستخدام هذين العقدين.
3- المبالغة في الطواعية لمقتضيات الصناعة الفقهية؛ حيث إن الفكرة السائدة في بعض المذاهب بأن هذين العقدين جاءا على خلاف القياس من شأنها أن تؤثر في إفساح المجال لتطبيق العقدين، إذ إن ما جاء على خلاف القياس لا يقاس عليه، ولا يتوسع في تفسيره، وفي رأي الكاتب أنه لكي يقوم هذان العقدان بدورهما لا مناص من مراعاة ما يأتي:
أ- إن مبادئ الصياغة والصناعة الفقهية مع إنزالها المنزلة اللائقة بها والاعتراف بخطرها وأهميتها ودورها في تطوير الفقه الإسلامي لا ينبغي أن ينظر إليها على أنها خارجة عن مجال الاجتهاد والمراجعة في ظل نصوص الوحي وروح الشريعة.
ولم يرد في النصوص –على ما يظهر للكاتب- ما يقضي بأن عقد السلم ورد على خلاف القياس، فلا مانع من اعتباره أصلاً في ذاته يمكن أن يقاس عليه.(8/1709)
ب- الإفادة من الإمكانيات التي يتيحها المذهب الحنبلي مكملاً باجتهادات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهي تحرر عقد السلم من كثير من القيود، وتتيح له مجالاً واسعاً للتعامل، ولا سيما في نطاق تمويل مشاريع الإنتاج.
ج- أن يتم تطبيق عقد السلم وعقد الاستصناع بصورة تدريجية حيث يستخدمان في تمويل إنتاج السلع النقدية، وفي التعامل مع المنتجين في البلاد التي توفر سهولة التعامل وتوفر ضماناته كاليابان وتايوان وماليزيا.
فإذا تعودت المصارف على تطبيق هذا العقد وعركته تجاربها أمكن نقله بسهولة للتعامل مع البلدان الإسلامية الأقل تقدماً.
لكي نقدر مدى كفاءة المعاملة في صورة عقد السلم والاستصناع لا بد أن تكون أمام أنظارنا الصورة التالية:
1- بالعقدين يتم استخدام المال في وظيفته الطبيعية بتوجيهه لعملية النمو الاقتصادي، وذلك باستخدامه مباشرة لمواجهة حاجات الإنتاج.
2- على خلاف عقد المشاركة وهو من عقود الأمانة، فهذان العقدان يمكن الحصول فيهما على ضمانات الوفاء، فينكسر بذلك عائق مهم ظل يواجه عقد المشاركة.
3- يتفوق هذان العقدان على عقد الأمانة، سواء في صورة القرض بالفائدة كما تستعمله البنوك الربوية، أو في صورة المرابحة للآمر بالشراء، أو بيع العينة أو بيع الوفاء كما تستعمل في المصارف الإسلامية، وذلك بتجنب مشاكل التضخم السريع.
4- يتيح هذان العقدان للمصرف الحصول على عائد يزيد على ثمن الزمن؛ إذ يقبل متلقي التمويل أن يدفع مقابلاً لضمان التسويق سلفاً قبل الإنتاج، ومقابلاً للتأمين عن تغير الأسعار، وبذلك يتاح للمصرف الإسلامي فرصة الحصول على عائد من استخدام أمواله يزيد عن العائد الذي يحصل عليه البنك الربوي، فتتهيأ للمصرف الإسلامي إمكانية منافسة البنك الربوي.
وبالله التوفيق.
الشيخ صالح الحصين(8/1710)
مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضر
إعداد
د. محمد نجاة الله صديقي
بسم الله الرحمن الرحيم
مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضر
مضى نحو عقدين على تجربة البنوك الإسلامية، وذلك إذا تجاهلنا البدايات الطيبة في مصر وماليزيا وبعض المناطق الأخرى، ولا شك أنه لوحظ تقدم ملموس في هذه الفترة في إنشاء البنوك الإسلامية والزيادة في نشاطاتها، خاصة في الثمانينات، ولكن هناك شعوراً عاماً بالبطء في السير ونوع من الركود الذي تزامن مع الركود العالمي في النشاط الاقتصادي في بداية التسعينات. وإن هذه الورقة المتواضعة حين تنظر إلى بعض المشاكل التي تعترض البنوك الإسلامية تأتي في سياق هذه الظاهرة، ظاهرة الركود في السير التي تقتضي محاسبة ذاتية قبل استئناف المسير.
ونرجو أن يكون هذا الاستعراض السريع باعثاً على مزيد من النظر والبحث في الموضوع بهدف حل هذه المشكلات، ودفع عجلة المصارف الإسلامية إلى الأمام.
ونبدأ بسرد قائمة لبعض هذه المشاكل.
1- صعوبات في ممارسة المضاربة في العمل المصرفي.
2- الآثار السلبية لغلبة المرابحة والبيوع الآجلة في العمل المصرفي الإسلامي المعاصر على مصداقية هذه البنوك.
3- ضرورة الرعاية والمساندة من قبل البنوك المركزية للمصارف الإسلامية في البلدان التي يسود فيها النظام المصرفي الربوي، وخاصة فيما يخص دور البنك المركزي كالملجأ الأخير للحصول على السيولة.
4- الخلاف حول معالجة بعض القضايا العملية مثل: المماطلة في الديون الناشئة من البيوع الآجلة، وأخذ الأجر على الضمان المصرفي، وبيع وشراء العملات الأجنبية.(8/1711)
5- تعدد جهات الرقابة الشرعية والغموض حول كيفية تفاعلها مع الإدارة وافتقار معايير موحدة لعمل الهيئات الشرعية في البنوك فيما يخص التعيين والفصل، والتعويض عن العمل، وحق الاطلاع والتفتيش بدون استئذان الإدارة.
هذا، وقد أهملنا من القائمة بعض المشاكل المعتادة التي تحتاج إلى مزيد من الوقت والممارسة لحلها الأمثل، مثل مشكلة تدريب الكوادر وتوحيد الأنظمة واللوائح المتعلقة بالمحاسبة والمراجعة، وضرورة مزيد من الاتصالات وتبادل الخبرات بين البنوك الإسلامية، أهملناها ليس لأنها لا تهم ولكن لأنها قضايا معترف بها وقد أخذت بعض الإجراءات لمعالجتها، ونرجو أن يتحسن الوضع بمرور الزمن.
أما القضايا التي سجلناها في القائمة فمنها ما لم يعترف به بعد، ومنها ما لم يهتم بمعالجته، وإن اعترف به، ولما كان الباحث غير مؤهل لمعالجة كل واحدة من هذه القضايا بحثاً وتحليلاً وإيجاداً للحلول، فإنه سوف يحاول بقدر ما يمكن في ورقة صغيرة أن يعرف بالقضايا ويؤكد على أهميتها والآثار السيئة للغفلة عنها والقصور في معالجتها.
1- صعوبات في ممارسة المضاربة:
الخطر الأخلاقي:
أشار أكثر من باحث (1) إلى الخطر الأخلاقي Moral Hazard الكامن في عملية المضاربة التي قد يتصرف الوكيل فيها (وهو صاحب المشروع الممول من قبل البنك الإسلامي) في غير صالح الأصيل، أو قد يلجأ الوكيل إلى إخفاء بعض المعلومات بقصد الحصول على ما لا يستحقه من المنافع ... إلخ. ولمعالجة هذا الخطر أكد الباحثون الإسلاميون على الدور الذي يمكن أن يلعبه الخلق الإسلامي الرشيد والتوعية الإسلامية، والتقاليد الحسنة في المجتمع الإسلامي (2) كما أكد بعض الباحثين على ضرورة مراقبة المشروع للقضاء على فرص الخيانة من قبل العامل (وهو صاحب المشروع الممول) . (3)
__________
(1) وقار مسعود خان: Waqar Massood Khan Towards an Interest Free Islamic Economics System, Leicester, The Islamic Foundation, 1985. إلياس كازاريان: Elias Kazarian Finanace and Economic Development; Islamic Banking in Egypt, Sweden, university of lunds, 1991
(2) سلمان سيد علي: Salman Syed Ali On Reducing Moral Hazard Through Social Norms; Case of Imperfect Monitoring Phd Thesis under examination, Department Of Economics, university Of pennsylvania, 1993
(3) باقر المضوي في بحث مقدم حول المصارف الإسلامية في لندن في 31 أكتوبر – 1 نوفمبر عام 1985 عنوانه: Baqiral Mudawi Placing Medium and Long term Finance by Islamic Financial Institutions.(8/1712)
وإذا كان لاهتمام الأول يقتضي بيئة إسلامية حكومة وشعباً، وليس هذا في مقدور المصارف الإسلامية العاملة في البلدان التي يسود فيها النظام المصرفي الربوي، كما هو الغالب، فلا يبقى أمام هذه المصارف إلا الخيار الثاني، وهو ممارسة عقد المضاربة مع إضافة المراقبة لسير المشروع، الأمر الذي يأخذ مكانه في العقد كشرط يتفق عليه المتعاقدان.
وهناك شاهد من الواقع على إمكانية نجاح هذا العلاج لهذه المشكلة، فإن مدير عام بنك فيصل الإسلامي في السودان يقول: إن عوائد تمويل البنك من معاصر الزيت (ارتفعت من 5 % إلى 18 % نتيجة لنظام المراقبة الذي فرضه البنك على المشاريع الممولة، الأمر الذي كان تكلفته للبنك لا تتجاوز 1.5 %) . (1)
والخطر الأخلاقي الكامن في عقد المضاربة يمكن تداركه بطريق غير مباشر عن طريق النظر الدقيق في كل مشروع قبل أن يدخل المصرف الإسلامي في تمويله. وذلك يحتاج إلى جهاز كفء لدى المصرف الإسلامي لتقويم المشروعات تقويماً فنياً دقيقاً.
ضمان أمانة العامل:
يكون الإقراض المصرفي مقابل الفوائد المحددة مسبقاً مدعوماً برهن –عقار مرتهن أو أصل آخر –ولكن التمويل الإسلامي على أساس المضاربة لا يقبل الضمان؛ لأن المال الذي يكون في يد العامل (صاحب المشروع) خاضع للربح والخسارة، ولكن مال المضاربة في يد العامل يصير مضموناً رده في حالات التعدي، والتقصير، وهذا يمكن أن يكون مدخلاً لطلب ضمان من العامل رهن لا يكون للمصرف الإسلامي يد عليه إلا حالات التعدي والتقصير، والذي يبرر هذا الطلب هو احتمال التعدي وفساد الزمان وقلة الأمانة، والله أعلم بالصواب.
__________
(1) باقر المضوي في بحث مقدم حول المصارف الإسلامية في لندن في 31 أكتوبر – 1 نوفمبر عام 1985 عنوانه: Baqiral Mudawi Placing Medium and Long term Finance by Islamic Financial Institutions.(8/1713)
وإضافة إلى هذا، فإن صاحب المشروع، الطالب للتمويل، الذي لا يشك في سلامة المشروع ويؤمن بنجاحه، والذي ينوي بكل جدية أن يدير المشروع إدارة حسنة، إن هذا الطالب للتمويل سوف لا يتردد في تقديم الرهن –والذي يتردد يحتمل أن يكون سبب تردده عدم ثقته في سلامة المشروع أو سوء النية في إدارته. هذا على افتراض أن لديه ما يقدمه رهناً، والذي يخشى في بلد توجد فيه مصارف ربوية ومصارف إسلامية أن عدم المطالبة بالضمان من قبل المصارف الإسلامية يجذب إليها ذلك القسم الثاني من الطالبين للتمويل (أي الذي لا يثق في سلامة مشروعه ولا ينوي إدارته بأمانة، الأمر الذي سماه الاقتصاديون اختياراً معاكساً Adverse Selection.
وقد يرى بعض الباحثين مخرجاً آخر من مأزق الخطر الأخلاقي الذي يحول دون ممارسة المضاربة الشرعية لدى المصارف الإسلامية في الوقت الحاضر، وهو ضمان الطرف الثالث لرأس المال، أو لرأس المال والربح معاً. (1) كما يرى البعض أن خضوع مشروع ما لخسارة كبيرة، مثلاً ما يتجاوز ربع رأس المال، يمكن أن يعتبر مؤشراً لسوء الإدارة والتعدي علن المعروف من قبل العامل (صاحب المشروع الممول) الأمر الذي يبرر تضمينه بإلزامه بسداد جزء من المال الضائع لرب المال (البنك الإسلامي) إلا إذا أثبت العامل العكس أمام المحاكم وقضي ببراءة ذمته. (2)
حماية القانون ضد المماطل:
هناك صعوبة في استرداد رأس مال المضاربة والأرباح المستحقة عليه لصاحب المال (البنك الإسلامي) في الوقت المحدد. وأحياناً، وذلك في حال فشل المشروع وخضوع رأس المال للخسارة، يماطل العامل (صاحب المشروع الممول) ولا يرد ما بقي من رأس المال. وقد سمعنا من غير واحد من الذين عاشوا فترة ممارسة البنوك الإسلامية للمضاربة في بداية الأمر أن ذلك كان من الأسباب الرئيسية لإحجام البنوك الإسلامية من الاستمرار في ممارسة المضاربة. فإن القانون في جميع البلدان يحمي المقرض ويعينه في استرداد ما أقرضه إذا وجد عند المقترض مالاً، ولكن نفس القانون لا يحمي رب المال في عقد المضاربة إذا ادعى العامل فشل المشروع الممول، فهل يمكن إعادة النظر في هذه القوانين لحماية أرباب الأموال، وذلك مع المراعاة للفرق بين عقدي القرض والمضاربة؟
__________
(1) منذر قحف (سندات القراض وضمان الفريق الثالث وتطبيقاتها في تمويل التنمية في البلدان الإسلامية) مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الاقتصاد الإسلامي، المجلد 1، 1409/1989 (ص 43 – 76) .
(2) صاحب هذا الرأي هو زميلي الأستاذ الدكتور محمد أنس الزرقا، في محادثة شفوية.(8/1714)
الحد من النفقات الإدارية:
وقد أثارت ممارسة المضاربة في العصر الحاضر قضايا أخرى تحتاج إلى الدراسة من خلال التجارب العملية، منها الحاجة إلى الحد من النفقات الإدارية التي يمكن للعامل أن يحملها المضاربة (كتكلفة المشروع، أو نفقة العامل في المصطلح القديم) وإلى المراقبة على هذه النفقات، فإنه كما قال باحث: (إذا كان العائد للمنظم محدداً كنسبة من الربح، وكان مراقبة عمله من قبل المصرف غير ممكن (أو له تكاليف عالية جداً) ، ففي هذه الحالة يولد عقد المضاربة حافزاً لدى المنظم لكي يستهلك منافع غير نقدية، وذلك بالمقارنة مع عقد أساسه الفائدة المحددة) . (1)
والمعلوم أن هذه المنافع غير النقدية تأتي بتسهيلات للسفر والأثاث للمكتب وحق الاستضافة للعملاء، ومجاملة الحكام ... إلخ، هذا بالنسبة للعلاقة بين البنك الإسلامي وصاحب المشروع الممول، وهناك حالة أخرى ينطبق عليها نفس المبدأ، وهو علاقة المودعين في حسابات الاستثمار مع البنك الإسلامي، فكلما زادت النفقات الإدارية في البنك الإسلامي مع الزيادة في الرواتب وأثاث المكاتب والأجهزة والدعاية والعلاقات العامة ... إلخ، واحتسبت هذه النفقات كتكلفة في المضاربة بين البنك وأصحاب الودائع، كلما انخفضت نسبة الربح الموزع على المودعين. فهل هناك من يحد من هذه النفقات؟ وكيف يؤثر على قرار البنك الإسلامي؟ وما هي المعايير التي ينبغي مراعاتها في الموضوع؟ ربما كان حل هذه القضية يكمن في إعادة صيغة عقد المضاربة بين المودعين والبنك بحيث تزاد حصة البنك من الأرباح، لكن يلزم مقابل ذلك بتحمل هذه النفقات غير القابلة للضبط من حصته هو، وقد سمعنا أن بنك فيصل الإسلامي السوداني يعمل على نحو قريب من هذا المقترح. والأمر يحتاج لمزيد من البحث من الجانبين الشرعي والتطبيقي.
__________
(1) إلياس كازاريان: Elias Kazarian Finance and Economic development: Islamic Banking in Egypt, Sweden, university of Lunds, 1991, Page 123.(8/1715)
تطوير صيغ توفر الحوافز:
ولما كان دخل العامل من المضاربة نسبة محددة من الربح، فيكون الحافز على مزيد من العمل والجدية في التنظيم والإدارة في الدخل المترتب على الزيادة في الربح، ولكن يمكن أن يأتي مستوى من الدخل والسعي المطلوب يصير فيه الحافز هذا ضعيفاً نسبياً، وفي هذه الحالة يكون من المفيد لصاحب المال (ولصاحب المشروع وللمجتمع) أن يقال للعامل: إذا زاد الربح عن هذا المستوى فسوف يزاد في نسبة الربح المحددة للعامل. والمثال: أن يقال للعامل: إن لك من الربح الثلث، أما إذا زادت نسبة الربح لرأس المال (قبل توزيع الربح بين العامل ورب المال) على عشرين في المئة، فلك النصف من الربح الزائد وهكذا، فإذا جاز هذا صار الحافز على العمل الجاد والتنظيم المبتكر والإدارة الحسنة أقوى مقارناً بما يكون في حالة استمرار بنفس النسبة مهما كان مستوى الربح والإنتاجية.
الجمع بين الإجارة والمضاربة:
إن عقد المضاربة يعرض العامل لخطر ضياع جهده إذا فشل المشروع الممول، حتى لو كان هذا الفشل بسبب تغيرات في السوق لا علاقة لها بمؤهلات العامل وجهوده، وإن هذا الخطر يمكن أن يمنع الكثير من الدخول في مثل هذا العقد؛ إذ إن فشل المشروع يعني أن لا يحصل العامل على ما ينفقه على نفسه وعياله، وهذا يؤدي إلى أن لا يتقدم للمضاربة عامل إلا من كان لديه ثروة شخصية تسمح له بتحمل خطر عدم حصوله على نفقته الشخصية في حالة فشل المشروع، ولا ريب أن هذه النتيجة ستحجب عن ممارسة المضاربة بعض ذوي المواهب العالية من غير الأغنياء. ولما كانت المشاريع تختلف في تعرضها للخطر، والبشر يختلفون في مقدرتهم ورغبتهم في تحمل الخطر، فيكون من المفيد الجمع بن الإجارة والمضاربة، مثل أن يقول صاحب المال للعامل: وكلتك بالتجارة بهذا المال في هذا السوق، على أن يكون لك ألف كل شهر، فإذا ظهر ربح بعد تغطية التكاليف (بما فيها الألف المحدد للوكيل شهرياً) فلك من الربح الربع ... إلخ، وإذا جاز هذا فيمكن أن ينظر في اقتراحات أخرى مفادها مشاركة الأجير في أرباح المصانع، بالإضافة إلى أجرة محددة، وقد روج لهذا الاقتراح الخبير الاقتصادي الأمريكي وازمان في منتصف الثمانينات، (1) وذلك كأسلوب لمعالجة الركود مع التضخم ومحاولة للرفع من إنتاجية العمال. كما رجح جواز هذا الجمع بين الأجر وحصة من الربح د. رفيق المصري في بحث سابق. (2)
__________
(1) مارتن وازمان: Martin L. Weitzman The Share Economy, Cambridge, Mass. Harvard University Press, 1984.
(2) رفيق المصري: مشاركة الأموال الاستعمالية (الأصول الثابتة) في الناتج أو الربح، مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، المجلد 3، العدد 1، صيف 1405/1985م. ص 3-56(8/1716)
2- الآثار السلبية لغلبة المرابحة والبيوع الآجلة في العمل المصرفي الإسلامي:
إن رجل الشارع يكاد يشعر أنه لا فرق بين عمليات التمويل عند البنوك الإسلامية والتي عند البنوك الربوية؛ لأن كلتيهما تنتهيان بدين محدد المقدار على العميل سداده بعد فترة من الزمن، بغض النظر عن نجاحه أو فشله في إدارة المشروع الممول. أو بتعبير آخر، التطبيق التمويلي لعقد المرابحة القديم يمكن الممول من الحصول على عائد محدد مضمون على رأس ماله. وكل ما يميزه من التمويل بالقرض هو شكليات وتعبئة استمارات توهم من يحب مثل هذا الوهم أن الممول قد اشترى شيئاً حقيقياً فأدى ثمنه نقداً ثم باعه العميل (الممول) بثمن (أعلى من ثمن الشراء) مؤجل –لأن الذي كان يجري بالفعل لدى عدد من البنوك هو أن العميل الممول هو الذي يستلم البضاعة من البائع الأول الذي يستلم الثمن نقداً من الجهة الممولة وهي البنك.
ومن الحق أن يقال: إن الصورة الآن اختلفت تماماً من الصورة المبينة أعلاه بعد تعديل الصيغ المستعملة لدى البنك الإسلامي للتنمية ومعظم البنوك الإسلامية وفق توصيات المجمع الفقهي، والتي تحتم الفصل بين عمليتي الشراء من قبل الجهة الممولة وعملية البيع من قبل نفس الجهة.
ومن الممكن أن نقول: إن ممارسة المرابحة في هذه الصورة الصحيحة شرعاً تختلف في بعض آثارها الاقتصادية من التمويل بالقرض الربوي، فإنها تضمن أن التمويل يحرك عجلة الاقتصاد بنقل سلعة حقيقية من مالك إلى مالك آخر ينوي استعمالها في مشروع إنتاجي أو تجاري، الأمر الذي ليس مضموناً في التمويل بالقرض، ولو كان مراعياً في أغلب الأحوال، كما يمكن أن يقال: إن المبلغ المحدد ثمناً مؤجلاً يكون تحديده نهائياً لا يقبل الزيادة بزيادة الأجل، لأي سبب كانت الزيادة (نظرة من قبل الممول أو مماطلة من قبل الممول) خلافاً للتمويل بالقرض الذي تتراكم فيه الفوائد بزيادة الأجل حسب السعر المتفق عليه، وعلى الصعيد الكلي، يمكن أن نقول: إن التوسع النقدي الناجم من التمويل بالمرابحة أقل حجماً من التوسع النقدي الناجم من التمويل بالقرض الأمر الذي ناقشناه في بحث آخر. (1)
__________
(1) محمد نجاة الله صديقي: ورقة حول أثر أساليب التمويل الإسلامية على التوسع النقدي، وجهة نظر البنوك المركزية والسلطات النقدية في دول منظمة المؤتمر الإسلامي مقابل رأي البنوك الإسلامية، واقتصاديين مستقلين، أبو ظبي، 1989 من أعمال الاجتماع الخامس للجنة خبراء البنوك المركزية والبنوك الإسلامية. (تحت رعاية البنك المركزي بدولة الإمارات العربية المتحدة) .(8/1717)
لقد فشلت هذه الأدلة في إقناع الجماهير بأن التمويل بالقرض هو في عالم، والتمويل بالمرابحة في عالم آخر، في حين أن الناس مقتنعون منذ الدهور السالفة بأن الذي لا يجد النقد اللازم لشراء ما يحتاجه سوف يلجأ إلى دفع ثمن مؤجل أعلى من السعر الحالي في أغلب الأحوال، فماذا هو السبب؟ ولماذا لا يقتنعون؟.
هذا السبب يكمن، فيما نرى، في الفرق بين نظر الجماهير إلى التاجر الحقيقي ونظرهم إلى الممول الذي يتكلف البيع والشراء لأداء وظيفة التمويل، فهذا الأخير لا يتحرك إلا بعد الأمر بالشراء، الأمر الذي يصحبه وعد من قبل الآخر بأنه سوف يشتري نفس البضاعة بثمن محدد، بينما التاجر الحقيقي، في أغلب الأحوال، يتحرك على أساس ظنه بأنه سوف يجد من يشتري منه، إنه يشتري دون أن يأمره أحد بالشراء، ودون أن يضمن له البيع بسعر محدد، وبتعبير آخر: التاجر الحقيقي يعرض نفسه للخطر الحقيقي التجاري، ولكن الممول بالمرابحة لا يتعرض للخطر الحقيقي، أما ما يشار إليه من الخطر الذي يتحمله الذي يمارس بيع المرابحة للآمر بالشراء، وهو خطر ضياع البضاعة في الطريق أو في المستودع قبل تسليمها للعميل، أو الخطر أن تكون البضاعة المستوردة على خلاف الوصف المطلوب ... إلخ، فهو من نوع الخطر الذي يمكن التأمين ضده، مع نقل تكلفة التأمين إلى العميل، وليس من نوع الخطر الحقيقي الذي هو جوهر العمل التجاري الحقيقي، وهناك خطر ظهور عيب خفي في البضاعة، وهذا يمكن نقله جزئياً إلى الصانع الأصلي للسلعة، ونقول: جزئياً؛ لأن العميل قد اشترى السلعة من البنك الممول وهذا يبقى شرعاً مسؤولاً تجاهه، وإن كان يستطيع الرجوع إلى الصانع الأصلي. فإن الربح الذي يحصل عليه التاجر يتكون من عدة عناصر. وإذا لم يمكن الفصل بين هذه العناصر بالفعل فينفع الفصل بينها في التصور. إن هناك جزءاً من ربح التاجر يعوضه عن الخدمات التي تقبل الإجارة مثل تعب السفر ونقل البضائع، وادخارها حتى البيع ... إلخ، فإن هذه الخدمات يمكن للتاجر المنظم أن يستأجر من يقوم بأدائها، وإن ما يبقى من الربح الفعلي يكون مقابل تحمل الخطر الحقيقي الذي يكمن في عرض التاجر ماله لخسارة وعرضه جهده التنظيمي للضياع، الأمر الذي يحدث إذا انخفض سعر البيع إلى أقل من سعر الشراء، ومما يذكر أن سعر البيع لا يكون معلوماً للتاجر وقت شراء البضاعة، والحقيقة أنه لولا هذا الجزء من الربح لما تحرك تاجر، فإنه حتى في الصفقات التي يخسر فيها التاجر، يحركه ما يتوقعه من الربح في المستقبل.(8/1718)
إن التمويل بالمرابحة لا يعرض مال الممول للخطر؛ فإن هذا المال لا يخلو من أن يكون نقداً في يده، أو ديناً في ذمة العميل، أو سلعاً موعوداً شراؤها بثمن معلوم، ومن ثم يصير التمويل بالمرابحة تمويلاً مضمون رأسماله ومحدد عائده، وهذا هو السبب في عدم قناعة رجل الشارع بأن هناك فرقا جوهرياً بين التمويل بالقرض الربوي والتمويل بالمرابحة، والذي يهمنا في هذه الورقة هو ليس الحكم بسفاهة رجل الشارع أو رشده، ولكن المهم هو الأثر الذي يترتب على هذا الشعور واستمراره، رغم المؤتمرات والندوات، على مصداقية البنوك الإسلامية، التي تكاد أعمالها التمويلية تنحصر في المرابحات، ولما كان موضوعنا اليوم المشكلات التي تعترض البنوك الإسلامية في الوقت الحاضر؛ فليكن الريب في مصداقيتها على رأس هذه المشاكل.
إن التجارة عمل والتمويل عمل، والجمع بينهما مقبول إذا جاء التمويل ضمن عمل تجاري، مثل التاجر الذي يبيع بضاعته بثمن مؤجل، ولا بأس أن يكون الثمن المؤجل هذا أعلى من سعر السوق، فهذا ما جرى عليه العرف وأقره الفقهاء، أما إذا كان التمويل هو الأصل، وجاءت التجارة ضمناً فالمتبادر إلى الذهن أن التجارة ما دخلت في الصورة إلا وسيلة إلى ما كان مرفوضاً؛ وهو تمويل يحقق عائداً محدداً مع ضمان رأس المال.
الافتقار إلى المرونة:
إن التمويل بالمرابحة يعاني من شيء من التصلب الذي لا ينسجم مع طبيعة المشاريع التي يراد تمويلها، فإنه إذا حان وقت السداد لدين المرابحة ولكن التاجر أراد مزيداً من الانتظار قبل أن يعرض البضاعة للبيع، نظراً لنزول السوق وانخفاض الأسعار وتربصاً للارتفاع في الأسعار، فليس له إلا أن يماطل، فالمصرف الإسلامي (البائع بالمرابحة) سوف لا يمدد له؛ لأن التمديد في فترة السداد لا يعود عليه بشيء، وإذا أجبر صاحب المشروع على البيع فربما يخسر ويعجز عن سداد الدين أو بعضه، الأمر الذي يمكن أن يؤديه إلى الإفلاس، ولا يمكن أن يجبر المصرف الإسلامي على التمديد فإنه يستثمر مال الغير وليس من صلاحياته التبرع.
فهل يمكن إيجاد مخرج يزيل هذا التصلب ويعطي المرونة المطلوبة للطرفين؟ وإنه إذا جاز لهما أن ينشئا عقداً جديداً، وهو عقد المضاربة إلى أن تباع البضاعة، فيشتركان في الربح بنسبة يتفقان عليها في العقد الجديد، فقد تنحل المشكلة في أغلب الأحوال، والمعلوم أن الفقهاء لا يجيزون لرأس مال المضاربة أن يكون ديناً؛ سداً للذريعة إلى الربا، فالسؤال المهم: هل توجد هذه المفسدة في الشكل المقترح؟ وهل المصلحة المقصودة يمكن أن ترجح على المفسدة المحتملة؟.(8/1719)
3- ضرورة الرعاية والمساندة من قبل البنوك المركزية:
نشأت البنوك الإسلامية تحت مظلة قوانين خاصة (1) وضعت لها لتمكنها من ممارسة نشاط مصرفي في بيئة يسود فيها التعامل بالفوائد المصرفية. ولكن لم تعط هذه القوانين كثير أهمية لعلاقة هذه البنوك بالبنك المركزي في البلد الذي تعمل فيه، (2) وبمرور الزمن أثيرت قضيتان لا يمكن إغفالهما:
أ- رقابة البنك المركزي على البنوك الإسلامية وإخضاعها لأنظمة ولوائح مثل ما يختص بالأرصدة الاحتياطية، وغيرها.
ب- مساندة البنك المركزي للبنوك الإسلامية، وبخاصة بوصفه الملجأ الأخير للسيولة في حالة احتياج البنوك الإسلامية للسيولة.
فإن البنك الإسلامي لا بد أن يخضع لأنظمة ولوائح توضع من قبل البنك المركزي في البلد الذي يشتغل فيه؛ نظراً لما ينتج من أعماله من التوسع النقدي وتوجيه الاستثمار إلى قطاع دون قطاع من الاقتصاد الوطني، ولما أنه يدير أموال جماهير الناس -مساهمين ومودعين- فللدول أن تراقب سيره حفاظاً على أموال الناس للمصلحة العامة.
ولما كان البنك المركزي هو وكيل الدولة لمراقبة المؤسسات المالية وتوجيهها لتحقيق المصلحة العامة فمن الضروري أن يكون له صلة وثيقة مع البنوك الإسلامية في البلد.
أما حاجة البنك الإسلامي لرعاية البنك المركزي فلإيجاد الثقة وإحكامها، فإن ثقة الجماهير في بنك ما لا تتوفر إلا بعلم الجميع أن البنك المركزي سوف يسانده في الأزمات إذا وقعت، ولا يتركه يقع في الإفلاس؛ لأن البنك المركزي يقدم هذه المساندة للبنوك التقليدية، فلا وجه لحجبها عن البنوك الإسلامية. فمن واجبات البنوك المركزية في البلدان الإسلامية إرسال رسالة واضحة وصريحة للجميع، داخل البلد وخارجه، بأن السلطات النقدية في البلد تساند البنك الإسلامي وسوف لا تتركه عرضة للفشل، ومن مستلزمات هذه المساندة تقديم السيولة المطلوبة إذا افتقر البنك الإسلامي لها؛ لأنه واجب يترتب على إحدى وظائف البنك المركزي المعروفة، وهو وظيفة المقرض الأخير. ومن البديهي أنه بالنسبة للبنوك الإسلامية لا يكون هذا التمويل على أساس القرض بالفائدة. فإما أن يكون قرضاً حسناً، أو وديعة استثمارية، أو بأسلوب من الأساليب الأخرى المقترحة من قبل الاقتصاديين الإسلاميين، أو التي يمارسها البنك المركزي في البلدان التي تحاول التحول الكامل إلى نظام مصرفي خال من الربا مثل الباكستان، وإيران، والسودان. (3)
يرى بعض الباحثين (4) أن العلاقات بين البنوك المركزية والبنوك الإسلامية تحت رعايتها تشكل إحدى المشكلات التي تواجهها البنوك الإسلامية في الوقت الحاضر، والحقيقة أنه ليس لدى كاتب هذه الورقة معلومات كافية في هذا المجال لنكتف بالتأكيد على ضرورة جمع المعلومات ودراسة الموضوع دراسة علمية.
__________
(1) مجموعة اتفاقيات وأنظمة وقوانين البنوك الإسلامية. جدة 1977 - مركز البحوث والتنمية، جامعة الملك عبد العزيز. John R. Presley Directory of Islamic Financial Institutions, London, 1988.
(2) كان هذا في السبعينات، أما الثمانينات فاختلف الوضع ونجد السلطات النقدية تعطي اهتماما ًبالغاً لعلاقة البنك الإسلامي مع البنك المركزي في البلد، كما يلاحظ في القانون الماليزي رقم 276 الصادر عام 1983 والمرسوم التركي رقم 83/6. 75 الصادر عام 1983، انظر كتاب جان برسلي المذكور أدناه، صفحات 317-321، 327-328، 332-333، 342-345. John R. Presley Directory of Islamic Financial Institutions, London, 1988.
(3) محمد نجاة الله صديقي (المصارف المركزية في إطار العمل الإسلامي) في كتاب الإدارة المالية في الإسلام، الجزء الأول (ص 31 - 76) ، عمان، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية: مؤسسة آل البيت 1989.
(4) مسعد زين الدين: Mosad Zineldin The Economics of Money and Banking: A Theoretical and Empirical Study of Islamic Interest - Free Banking, Stockholm, Almqvist & Wiksell Interntional, 1990, page 240.(8/1720)
4- المماطلة، الضمان المصرفي، التجارة في العملات:
هناك عدة قضايا تعالجها البنوك الإسلامية بأساليب مختلفة، أكثرها لا تزال محاطة بشيء من الغموض، ومن هذه القضايا: معاملة المدين المماطل، وكيفية إصدار الضمان المصرفي، والتجارة في العملات الأجنبية. ولما كان المجمع الفقهي الموقر بمنظمة المؤتمر الإسلامي قد عالج بعض هذه القضايا في الماضي فلا حاجة للبيان والتوضيح. والأمر الذي يهمنا أن الاختلاف في معالجة هذه القضايا يسيء لسمعة البنوك الإسلامية ويشوه صورتها، فليبادر من يهمه الأمر بالتنسيق بين البنوك الإسلامية، وخاصة بين الهيئات الشرعية المشرفة عليها، وليكن الهدف إيجاد صيغة مقبولة تضمن الفصل بين العقوبة والتعويض عن الضرر الفعلي الناشئ من المماطلة، وتسهيل عملية إصدار الضمان المصرفي بأسلوب يغطي التكلفة بشمول هامش ربح عادي؛ نظراً لأن البنك الإسلامي أنشئ لاستثمار أموال الناس وتحقيق الأرباح لهم وليس للتبرع بالخدمات المصرفية، أما التجارة في العملات الأجنبية فالمهم الابتعاد عن الربا وشبهته مع تحريك عجلة الاقتصاد، الأمر الذي يقتضي التزامات مستقبلية في بعض الأحوال.
5- الرقابة الشرعية:
أوجدت هيئات الرقابة الشرعية في أكثر البنوك الإسلامية لتصحيح المسار وكسب ثقة الناس، وقد نشرت عدة من البنوك الإسلامية بعض فتاوى هذه الهيئات، الأمر الذي يستحق الثناء عليه بما أثرى به مكتبة الاقتصاد الإسلامي. ولكن لا تزال أعمال هذه الهيئات وموقف إدارة البنوك منها محاطة بشيء من الغموض، كما تفقد هذه الهيئات جهة تنسق بينها وتسعى لرفع الخلاف في الفتوى في أمور تعم الجميع، مثل الوعد الملزم في المرابحة، أو البيع والشراء الموازيان في العملات الأجنبية، والتجارة في الأسهم، وحكم أسهم الشركات التي لا تخلو أعمالها من التعامل بالفوائد المصرفية ... إلخ.
ومن المهم أيضاً إيجاد معايير موحدة لعمل الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية من حيث: التعيين والفصل، التعويضات المالية، حق الاطلاع والتفتيش دون استئذان الإدارة، حق الإعلان ونشر القرار، وإلزامية القرار.
إن القطاع المصرفي النقدي من أكثر القطاعات تعقيداً، كما يتميز هذا القطاع بتطور مستمر وسريع تجاوباً مع سرعة التطور في تقانة المواصلات والمعلومات. وليس من السهل تعديل الصيغ المستعملة للمعاملات المصرفية حسب التعليمات الإسلامية، أو تطبيق الصيغ المقررة في الفقه الإسلامي في القطاع المصرفي والنقدي، إلا بتجنيد كل الطاقات البشرية ذات الخبرة والتجربة والرسوخ في العلوم الشرعية.. إلخ. وليس ما عرض على المجمع الفقهي الموقر في هذه الورقة المتواضعة إلا تنبيه إلى هذا الأمر وتأكيد على أهميته، وأرجو أن ينال الموضوع العناية التي يستحقها، وجزاكم الله خيراً.
د. محمد نجاة الله صديقي(8/1721)
في مشكلات المصارف الإسلامية
إعداد
الدكتور رفيق يونس المصري
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
بسم الله الرحمان الرحيم
مقدمة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛ فقد قامت المصارف الإسلامية انطلاقاً من مسلمتين:
1- الأولى أن الربا المصرفي حرام.
2- والثانية أن المصارف حاجة عامة، لعلها نازلة منزلة الضرورة الخاصة، بالنسبة للنشاط الاقتصادي الحديث.
وقد كانت الطريقة العملية للتوفيق بين هاتين المسلمتين أن يتم تفحص الأعمال المصرفية بمعيار شرعي، فكان من نتيجة هذا الفحص أن صنفت هذه الأعمال المصرفية صنفين:
1- صنفاً مشروعاً كالأعمال القائمة على الإجارة، سواء كانت إجارة أشخاص أو إجارة أعمال، من ذلك ودائع الأمانة = (تأجير الصناديق الحديدية) ، أو تحصيل الأوراق التجارية (السفاتج، السندات، الشيكات) ، أو تلقي الاكتتابات بأسهم الشركات، أو دفع قسائم الأرباح (= الكوبونات) ، أو تقديم المشورة في المجالات المباحة.
2- صنفاً ممنوعاً كالأعمال القائمة على الربا، كالاقتراض = (تلقي الودائع) ، والإقراض = (التمويل) والحطيطة = (خصم الأوراق التجارية) ، والصرف المؤجل. وكذلك الأعمال القائمة على الضمان المأجور، والأعمال القائمة على القمار، كجوائز شهادات الاستثمار، والمراهنات في مصافق = (بورصات) السلع والأوراق المالية على صعود الأسعار وهبوطها، وسائر الأعمال التي تحرمها الشريعة، كتلقي الاكتتابات بالسندات المالية التي تصدرها الدولة أو الشركات، وكتقديم المعونة أو المشورة لأنشطة اقتصادية محرمة، كأندية القمار، ومصانع ومتاجر الخمور، وملاهي الخلاعة والفجور.(8/1722)
والصنف الممنوع تدخل فيه الأنشطة الأساسية للمصرف، وهو الذي يميز وظيفة الوساطة المالية المصرفية. أما الصنف المشروع فيتعلق بأنشطة مصرفية ثانوية في الغالب.
ومن أجل إحلال المشروع محل الممنوع، قامت محاولات لاستبدال المضاربة = (المقارضة، القراض) ، والشركة؛ بالربا. ثم استشعرت المصارف الإسلامية صعوبات في التطبيق العملي للمضاربة والشركة، فاتجهت من المقارضات والمشاركات إلى المبايعات والمؤجرات. من ذلك بيع المرابحة، والإجارة التمويلية (بالإنكليزية Leasing وبالفرنسية Credit – bail) ، والإجارة البيعية (بالإنكليزية Hire – Purchase وبالفرنسية Location Vente) .
وهذا التحول من المقارضات والمشاركات إلى المبايعات والمؤاجرات تم في جانب الموجودات = (أوجه استخدام الأموال، أو الأصول) من ميزانية المصرف الإسلامي، ولم يتم في جانب المطالب = (مصادر أموال المصرف، أو الخصوم) ، بل بقيت الودائع قائمة على أساس مشاركة المودع، وتحمله المخاطرة.
في هذه الورقة، سنبحث بعض المشكلات التي تواجهها المصارف الإسلامية، موزعة على الفصول الخمسة التالية:
- الفصل الأول: المصارف الإسلامية والأحكام الشرعية الدقيقة.
- الفصل الثاني: المصارف الإسلامية والقيود الشرعية.
- الفصل الثالث: المصارف الإسلامية ومعدلات العوائد المدينة والدائنة.
- الفصل الرابع: المصارف الإسلامية: المساهمون والمودعون.
- الفصل الخامس: المصارف الإسلامية والوساطة المالية.
وهذه المشكلات الخمس بعضها يخص الجمهور (المشكلة الأولى) ، وبعضها يخص المصرف (المشكلة الثانية) ، وبعضها يخص المتعاملين (المشكلة الثالثة) ، وبعضها يخص الرقابة الشرعية (المشكلة الخامسة خصوصاً، وسائر المشكلات عموماً) .(8/1723)
الفصل الأول
المصارف الإسلامية والأحكام الشرعية الدقيقة
من أهم وأدق الأحكام الشرعية التي تفصل بين المصارف الإسلامية وغيرها من المصارف: حكم الربا.
ومذهب الإسلام في الربا مذهب دقيق:
1- فالزيادة (المشروطة) في مقابل الزمن في القرض تدخل في ريا النسيئة المحرم.
2- والزيادة (المشروطة) في مقابل الزمن في البيع (المؤجل) لا تدخل في ربا النسيئة المحرم.
ويرى البعض أن هاتين الزيادتين يجب أن تأخذا حكماً واحداً، إما التحريم وإما الإباحة، أما أن تحرم إحداها وتباح الأخرى، فهذا فيه إشكال.
وبما أن المصارف الإسلامية ذهبت إلى تحريم الأولى وإباحة الثانية، فقد اتهمها البعض بأنها عندما تتعامل ببيع التقسيط فإنها تتعامل بالربا.
والحق أن هذا الاتهام غير صحيح، وإن كانت مسألة التفرقة بينهما مسألة دقيقة، تحتاج إلى نعومة = (دقة) فكرية.
وهذه التفرقة تعتمد على حجتين: إحداهما نقلية، والأخرى عقلية.
1- فالحجة النقلية حديث الأصناف الستة: ((الذهب بالذهب، والفِضة بالفضة، والبُرّ بالبر، والشَّعير بالشعير، والتمر بالتمر، والمِلح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد)) (صحيح مسلم بشرح النووي 4/98) .(8/1724)
هذا الحديث يفيد:
1- أن الذهب بالذهب يمتنع فيه الفضل والنساء.
2- أن الذهب بالفضة يجوز فيه الفضل، ويمتنع النساء.
3- أن الذهب بالبر يجوز فيه الفضل والنساء.
ففي (1) لو جاز الفضل والنساء لجاز القرض الربوي، وهو غير جائز.
وفي (2) جاز الفضل لاختلاف الصنفين، وامتنع النساء سداً لذريعة الفضل لاختلاف الزمنين، أي سداً لذريعة القرض الربوي: قرض يمنح بالذهب ويسترد بالفضة.
وفي (3) جاز الفضل لاختلاف الصنفين، وجاز الفضل أيضاً لاختلاف الزمنين، فكما أن العدل في (1) يمنع النساء لامتناع الفضل، فإن العدل في (3) يجيز الفضل لأجل النساء. ولهذا جاز بيع التقسيط الذي هو بر (معجل) بذهب (مؤجل) .
ولهذا نص العلماء على أن للزمن حصة من الثمن، فوضعوا بذلك مبدأ كان لهم فيه سبق تاريخي كبير في مجال العلوم، وهو مبدأ قيمة الزمن، وهو المبدأ المستمد من مفهوم ربا النساء = (فضل الحلول على الأجل) الذي أرساه الشارع بحديث الأصناف الستة، ولم تكن تعرفه العرب في الجاهلية. (1)
2- والحجة العقلية هي أن القرض في الإسلام أصل والبيع أصل آخر مختلف عنه فأساس القرض الإحسان (= معاوضة ناقصة) وأساس البيع العدل (= معاوضة كاملة) .
والأصل في الإسلام أن للزمن قيمة، تظهر في القرض ثواباً، وفي البيع زيادة، حكمة ذلك أن الزيادة في البيع تابعة لنشاط البيع التجاري المعتبر، أما الزيادة في القرض فهي زيادة مستقلة غير مقترنة ببيع. وقد يجوز الشيء تبعاً ولا يجوز انفراداً، وبهذا يبقى القرض مخصصاً للإحسان، والبيع مخصصاً للتجارة، فلا بأس بالتجارة والاسترباح من البيع، ولو ربحاً إضافياً في مقابل الزمن، أما التجارة بالقروض والاسترباح منها فغير جائز.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1/ 464(8/1725)
ولهذا لا مجال للعالم، ولا لغيره، أن يعترض شرعاً ولا عقلاً على بيع التقسيط الذي تمارسه المصارف الإسلامية، (1) فالاعتراض مرده عدم الإحاطة الدقيقة بالعقود وأسسها الشرعية، أو عدم القدرة على بلوغ مرتبة التمكن من دقائق الفقه ولطائف التحليل.
وقد كان مجمع الفقه الإسلامي بجدة على حق عندما أقر الزيادة للتأجيل في البيع (الدورة السادسة للمجمع 1410 هـ) ، والحطيطة للتعجيل (الدورة السابعة 1412 هـ) التي لا يدخل فيها بالطبع خصم الأوراق التجارية.
كذلك للزمن تأثير في توزيع الأرباح على الودائع الاستثمارية، في المصارف الإسلامية، حيث يتم التوزيع وفق طريقة الأعداد = (النمر) : المبلغ × عدد الأيام، ولهذه الطريقة تطبيق في المصارف التقليدية، وتطبيق آخر مختلف في المصارف الإسلامية، وقد بينت هذا في موضع آخر (2)
__________
(1) راجع، إن شئت، مقالي بعنوان: (البيع الآجل في الفقه الإسلامي) ، في مجلة الوعي الإسلامي، الكويت، العدد 294، لعام 1409 هـ (ص 45- 51)
(2) راجع مقالي بعنوان: (أهمية الزمن في توزيع الأرباح على الودائع في المصارف الإسلامية) ، في مجلة النور، الصادرة عن بيت التمويل الكويتي، الكويت، العدد: 54 لعام 1408 هـ (ص 22- 27) ، والعدد 57 لعام 1408 هـ (ص 19)(8/1726)
الفصل الثاني
المصارف الإسلامية والقيود الشرعية
في حين يرى البعض أن بيع التقسيط والوضيعة للتأجيل من باب التوسعة، فإن بعضاً آخر قد يرى أن أحكاماً شرعية أخرى هي من باب التضييق على حرية المصارف الإسلامية في العمل، وفق ما تقتضيه المصالح المتطورة في مجال المهنة.
فالربا ممنوع، والقمار محظور، والمراهنة غير مشروعة، والرشوة ملعونة، وهذا فيه جهالة، وهذا فيه غرر، وهذا حرام، وهذا مكروه، وهذا فيه شبهة ... إلخ.
جواب هذا:
1- إن ما يميز المصارف الإسلامية عن غيرها هو التزامها بأوامر الشريعة ونواهيها. فإذا تحررت وانسلخت من هذا الالتزام فكيف تكون إسلامية؟!
2- قد يتبرم بعض المديرين بالفتاوى الشرعية المصرفية، وربما يعود ذلك لعدم معرفتهم بالشريعة والتزامهم بها، أو يعود لأن خبراتهم المصرفية المكتسبة قد تشكلت في نطاق المصارف التقليدية.
3- قد يشتد ظهور هذا التبرم من بعض المصارف التي دخلت أخيراً في ساحة العمل المصرفي الإسلامي لغرض تجاري محض، فتتنافس مع غيرها في اجتذاب أموال المسلمين الملتزمين، ومضاعفة طاقاتها المالية، وترى في الأحكام الشرعية قيوداً وأغلالاً، وتتظاهر في أنها تطبق العقود الشرعية، ولا يكون تطبيقها إلا من باب الصور والشكليات، فتجهض العمل المصرفي الإسلامي في روحه ومقاصده وجديته.(8/1727)
الفصل الثالث
المصارف الإسلامية ومعدلات العائد
المصارف الإسلامية، في معظم بلدان العالم الإسلامي وغير الإسلامي، تعمل جنباً إلى جنب مع المصارف التقليدية، وبعض المتعاملين معها، من مودعين ممولين أو تجار متمولين، ينظرون إلى المصارف الإسلامية من منطلق المصلحة المادية فقط، فيودع المودع فيها إذا كان عائدها أكبر، ويتمول المتمول منها إذا كان سعرها أقل، وقد يتمول منها باعتبارها مصادر إضافية للتمويل، ولو كان سعرها أعلى.
وهناك متعاملون آخرون ينظرون إلى المصارف الإسلامية من منطلق الالتزام أولاً، فيتمول منها حتى لو كان سعرها أعلى، ولا يتمول إلا منها، وقد يودع فيها حتى ولو كان عائدها أقل. وكثير من المودعين قد تكون ودائعهم فيها ثابتة راكدة بالفعل، ولو كانت جارية بالاسم، ومن المودعين من هم أيتام أو أرامل، أي من هم شركاء نائمون Sleeping (Dormant) Partners. حتى إنهم لا يقارنون العائد بين مصرف وآخر.
على المصارف الإسلامية أن تسعى للوصول إلى عائد مناسب للمودعين، فيكون لهم عائد أعلى من عائد المودعين في المصارف الأخرى، إذا استوت العناصر الأخرى المؤثرة في العائد؛ ذلك لأن المودع في المصرف الإسلامي مودع مخاطر (شريك في الربح والخسارة) ، أما المودع في المصرف التقليدي فهو مودع مضمون له الأصل والعائد (مقرض بفائدة مضمونة) . فيجب أن يكون عائد المودع في المصرف الإسلامي أعلى بما يتناسب مع المخاطرة التي تنطوي عليها الشركة في المصرف الإسلامي، ولا ينطوي عليها القرض الربوي في المصرف التقليدي.
ثم إن حصوله على عائد أعلى يطمئنه أيضاً إلى كفاءة الإدارة، بالإضافة إلى اطمئنانه إلى أن المصرف لا يلجأ إلى توظيف الودائع في مصارف أخرى بفائدة، يقتسمها مع المودع.
أما في علاقة المصارف الإسلامية مع المتمولين، فإنها إذا كانت قائمة على الشركة، فلا اعتراض إذا زاد معدل العائد المتوقع زيادة تتناسب مع درجة المخاطرة التي ينطوي عليها عقد شركة لا يقترن بضمان أو رهن.
أما إذا كانت العلاقة بين الطرفين قائمة على المداينة (مبايعة أو مؤاجرة) ، فيجب أن يكون معدل العائد قريباً من المعدلات السائدة في المصارف التقليدية.
وعلى المصارف الإسلامية، لا سيما في الحالات التي لا تكون فيها من الكثرة بحيث يتحقق فيها شرط المنافسة، أن لا تتقاضى من المسلم، ممولاً أو متمولاً، ثمن التزامه بالإسلام.(8/1728)
الفصل الرابع
المصارف الإسلامية: المساهمون والمودعون
المصارف الإسلامية إذا كانت شركة مساهمة ففيها مساهمون، وإذا كانت شركة تضامنية أو شركة توصية (بسيطة) أو شركة مسؤولية محدودة ففيها شركاء هم أصحاب رأس المال، وفي كلتا الحالتين، تلجأ المصارف إلى اجتذاب ودائع من المودعين، يبلغ حجمها أضعاف حجم رأس مالها، فالمصارف منشآت تعمل بأموال الغير، إلى حد كبير. ومنه فالمودعون من حيث مجموع أموالهم لهم أهمية كبيرة في المصارف.
وهؤلاء المودعون هم في الغالب مودعون شركاء، فهم كالمساهمين في ذلك، يشتركون في الأرباح والخسائر، وهم المساهمون أصحاب حقوق متعارضة، عند اقتطاع الاحتياطات والمخصصات والمؤونات، وعند تحميل المصاريف، وعند توزيع الإيرادات والأرباح والخسائر. (1)
وفي حين أن المساهمين لهم تنظيمات إدارية تحمي حقوقهم، كمجلس الإدارة أو الهيئة = (الجمعية) العامة، فإن المودعين مشتتون، فمع أنهم شركاء إلا أنهم في التنظيم يعاملون كالمقرضين. حسبهم النظر إلى العائد، فإما أن يروه مقبولاً فيستمروا، أو غير مقبول فيبحثوا عن فرص بديلة، أو ينتقلوا من مصرف إسلامي إلى آخر.
__________
(1) راجع مقالي بعنوان: (أصول توزيع الأرباح واقتطاع الاحتياطات في البنوك الإسلامية) ، في مجلة الأمان، بيروت (العدد 12 لعام 1399هـ، و) المساهمون والمودعون في البنوك الإسلامية صنفان من الشركاء بالمال في شركة أموال واحدة (، في مجلة الأمان، بيروت، العدد 19 لعام 1399هـ، و) توزيع الأرباح بين المساهمين والمودعين في المصارف الإسلامية، (في مجلة الوعي الإسلامي، الكويت، العدد 270 لعام 1407 هـ (ص 38 – 45) .(8/1729)
الفصل الخامس
المصارف الإسلامية والوساطة المالية
المصارف التقليدية مصارف وسيطة، فهي تقترض من طرف (المودعين) ، وتقرض إلى طرف آخر (المقترضين) ، فهي وسيطة بالمعنى الاقتصادي، بمعنى أن المقرضين لا يقرضون المقترضين مباشرة، بل يتم ذلك بوساطة المصارف. وليست وسيطة بالمعنى الحقوقي، فعلاقتها بكل من الطرفين علاقة مستقلة، فهي ليست وكيلة عن الطرف الأول أمام الطرف الآخر. (1)
والمصارف الإسلامية أول ما قامت على أساس استبدال القراض بالقرض، على أساس المقارض يقارض = (المضارب يضارب) ، فلما برزت صعوبات القراض تم التحول من المشاركات إلى المداينات، في صورة بيوع مؤجلة وإجارات. ولكن مع هذا التحول برزت مشكلات في الفتوى، فإذا قامت المصارف الإسلامية بالبيوع المؤجلة مثلاً، فيجب شرعاً أن تكون بائعة حقيقة، أي تمول المشتري تمويلاً مندمجاً بالبيع (تمويلاً مباشراً) ، فإذا فعلت ذلك لم يكن هناك أي شبهة شرعية. أما إذا قامت بهذه البيوع المؤجلة بائعة في المظهر، ممولة في المخبر، فهذا أقرب للعمل المصرفي السائد، ولمفهوم الوساطة المصرفية أو المالية، ولكنه يثير شبهات شرعية؛ لأن فيه فصلاً للتمويل عن البيع.
وفي كثير من الحالات، على المفتي أن يضع نصب عينيه هذه القاعدة الكبرى التي تنيره في الفتوى، فلا يفتي لعملية بالحل، يكون ظاهرها البيع وحقيقتها وساطة مالية مجردة.
على أن الوساطة المالية إذا ثبت بالدراسة الشرعية أن لا مجال لها في الإسلام فإن معنى ذلك أن المصرف الإسلامي سيكون تاجر سلع وخدمات، لا تاجر نقود وديون. (2) وهذا ما يجعل المصرف لفظاً بلا معنى؛ لأن حقيقته إلغاء المصرف بالمعنى الاصطلاحي له. وهذا ما يتناقض مع المسلمة الثانية التي قام عليها المصرف الإسلامي، وذكرناها في مقدمة هذه الورقة.
الدكتور رفيق يونس المصري
__________
(1) كتابي: الجامع في أصول الربا (ص 427) .
(2) كتابي: مصرف التنمية الإسلامي، ط 3 (ص 418) ، وبحثي: النظام المصرفي الإسلامي خصائصه ومشكلاته (ص 189) .(8/1730)
المراجع
- صحيح مسلم بشرح النووي، بتحقيق عبد الله أحمد أبو زينة، القاهرة، طبعة الشعب، د. ت.
- أحكام القرآن للجصاص، بيروت، دار الفكر، د. ت.
- البنوك الإسلامية للدكتور جمال الدين عطية، كتاب الأمة، الدوحة، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، 1407 هـ.
مراجع أخرى (للكاتب)
- الجامع في أصول الربا، جدة، دار البشير، دمشق، دار القلم، بيروت، الدار الشامية، 1412هـ = 1991م.
- مصرف التنمية الإسلامي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1407هـ = 1987م.
- بيع التقسيط، جدة، دار البشير، دمشق، دار القلم، بيروت، الدار الشامية، 1410 هـ = 1990م.
- بيع التقسيط، الجزء الثاني: الحطيطة والحلول، ورقة مقدمة إلى مجمع الفقه الإسلامي، جدة، 1411هـ = 1990م.
- بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، جدة، العدد الخامس، الجزء الثاني، 1409هـ = 1988م.
- النظام المصرفي الإسلامي: خصائصه ومشكلاته، ضمن) دراسات في الاقتصاد الإسلامي، بحوث مختارة من المؤتمر الدولي الثاني للاقتصاد الإسلامي، (جدة، جامعة الملك عبد العزيز، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، 1405هـ = 1985م.
- البيع الآجل في الفقه الإسلامي، مجلة الوعي الإسلامي، الكويت، العدد 294 لعام 1409هـ.
- توزيع الأرباح بين المساهمين والمودعين في المصارف الإسلامية، مجلة الوعي الإسلامي، الكويت، العدد 270 لعام 1407هـ.
- أصول توزيع الأرباح واقتطاع الاحتياطات في البنوك الإسلامية، مجلة الأمان، بيروت، العدد 12 لعام 1399هـ.
- المساهمون والمودعون في البنوك الإسلامية صنفان من الشركاء بالمال في شركة أموال واحدة، مجلة الأمان، بيروت، العدد 19 لعام 1399هـ.
- أهمية الزمن في توزيع الأرباح على الودائع في المصارف الإسلامية، مجلة النور، الكويت، بيت التمويل الكويتي، العدد 54 و57 لعام 1408هـ(8/1731)
حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمة
المتعاملة بالربا
تجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركات
عن طريق شراء أسهمها
إعداد
الشيخ صالح عبد الله كامل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] ، والقائل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا محمد القائل: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) .. وبعد، أيها الإخوة الكرام.
هذه الورقة ليست بحثاً فقهياً أو اقتصادياً بشأن الموضوع المطروح للمناقشة، ولكنها عرض لتجربة مجموعة دلة البركة في مجال أسلمة شركات المساهمة العامة والشركات ذات المسؤولية المحدودة، ونقصد بأسلمة تلك الشركات هو جعل الشركات ذات الغرض الأساسي المشروع والتي تتعامل بالفائدة أخذاً وعطاءً في تسيير نشاطها تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية وتمتنع عن ذلك، وذلك عن طريق شراء أسهمها وحصصها بالحجم الذي يمكن المجموعة ومن يعاونها في ذلك من سلطة اتخاذ القرار في الشركة المعنية.
ولقد اهتمت المجموعة بهذا الموضوع اهتماماً خاصاً وأولته عنايتها وذلك لقناعتها بالمرتكزات الأساسية التالية:
1- الدور المهم لشركات المساهمة العامة والشركات ذات المسؤولية المحدودة في حركة النشاط الاقتصادي.
2- إن إحجام الأفراد والجهات الملتزمة بالمعاملات المالية الشرعية في المجتمعات الإسلامية الخالصة عن شراء أسهم تلك الشركات معناه أن تقع تلك الشركات وبما تمله من وزن اقتصادي مؤثر تحت سيطرة الأفراد غير الملتزمين والمؤسسات الربوية، وبالتالي يصبح جل حركة النشاط الاقتصادي خارج مجال ومتناول المؤسسات الإسلامية.(8/1732)
3- وتبدو الصورة أكثر وضوحاً في حالة المجتمعات الإسلامية التي بها جاليات كبيرة غير مسلمة ذات نفوذ اقتصادي، ففي هذه الحال فإن عدم الدخول في مثل هذه الشركات معناه أن يسيطر اليهود والنصارى واللادينيون على حركة النشاط الاقتصادي.
ولقد قامت المجموعة بعرض هذا الموضوع على ندوة البركة السادسة والتي عقدت بالجزائر في مارس 1990م، والتي اشترك فيها عدد كبير من الفقهاء والعلماء الموجودين بيننا الآن، وجاء نص الفتوى كالتالي:
(شراء أسهم الشركات العاملة في البلاد الإسلامية ذات الغرض المشروع وتتعامل أحياناً مع البنوك الربوية إقراضاً واقتراضا، وذلك بقصد العمل على أسلمة معاملاتها أمر مطلوب لما فيه من زيادة مجالات التزام المسلمين بأحكام الشريعة الإسلامية) .
ولقد صدرت الفتوى بإجماع العلماء المشاركين في الندوة.
عملاً بتلك الفتوى التي اعتبرت أن مثل هذا الأمر واجباً، قامت المجموعة بشراء أسهم عديدة من الشركات تمهيداً لأسلمتها، وبفضل الله وإخلاص كثير ممن تعاملنا معهم نجحت المجموعة في أسلمة عدد من الشركات على المعنى الذي أوضحناه لكلمة الأسلمة.
وضماناً للجدية وعدم التسويف في هذا الأمر، وحتى لا يتم استغلال الفتوى دون متابعة جدية واتخاذ خطوات عملية فلقد راعت المجموعة في الشركات التي تعتبر هدفاً لمحاولاتها هذه اعتبارات عديدة، أهمها التالي:
1- عند دراسة أسلمة أية شركة يجب أن يجري التفريق بين الشركة الجديدة والشركة القائمة. ففي الشركة الجديدة والتي لم تمارس عملها يجب أن لا يتم ذلك إلا مع شركاء يوثق بدينهم، ويكون الاتفاق والتوافق معهم تاماً في الغايات، وشرط عدم تعامل الشركة بالمحرمات والربا باعتبار ذلك أمراً أساسياً واضحاً قبل السير في المشاركة.(8/1733)
2- أما الشركات المساهمة القائمة فيجب الانتباه إلى مجموعة من الملاحظات قبل السير في شراء أسهمها، والإجابة على مجموعة من الأسئلة والأفكار قبل الإقدام على الشراء، ومن هذه الأمور ما يلي:
أ- غرض الشركة:
التأكد من أن غرض الشركة حلال، ومجال عملها ومنتجاتها من الأغراض التي يصدق عليها على أنها تنموية ذات قيمة مضافة.
ب- القوانين:
دراسة القوانين في البلد المعني للتأكد من أنه لا يوجد مانع قانوني من النص على الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية أو من شراء الأسهم أو ملكيتها بسبب الجنسية أو أي اعتبار آخر. كما يتم دراسة الواجبات والمسؤوليات على الشركاء حتى لا يتم التورط فيما هو مخالف للأسلمة.
جـ- الأنظمة الداخلية للشركة:
دراسة النظام الداخلي للشركة وعقد تأسيسها للتأكد من مرونة تغييره بما يوافق التوجه نحو أسلمة الشركة.
د- نصاب اتخاذ القرار:
التأكد من أن عدد الأسهم التي ستشترى بالتعاون مع الشركاء الحاليين أو المحتملين الآخرين تمكننا من إجراء التغيير المطلوب في أنظمتها وقوانين تأسيس الشركة.
هـ- التمويل:
يجب دراسة حاجات الشركة من التمويل للتأكد من أنه يمكن توفيرها للشركة حتى يقع تناقض بين أسلمة النظام الداخلي للشركة والعجز عن توفير التمويل.(8/1734)
و الإدارة الأمينة المؤهلة:
من المهم حقاً وجود إدارة أمينة على القيم الإسلامية، مؤهلة لضمان استمرار نجاح الشركة وتقدمها في تحقيق أهدافها ولضمان التزامها بالأحكام الشرعية.
ولقد اتبعت المجموعة في سعيها لأسلمة الشركات من خلال شراء أسهمها في السعودية والأردن ومصر أساليب مختلفة تتناسب كل منها مع ظروف كل شركة، وذلك وفقاً للتالي:
الأسلوب الأول:
النص في النظام الأساسي للشركة بالالتزام القاطع بأحكام الشريعة الإسلامية وعدم الإقراض أو الاقتراض بالفائدة، وحصل مثل هذه في عدد من الشركات أهمها شركة مكة للإنشاء والتعمير حيث كان معظم المؤسسين من الملتزمين الذين أقبلوا على شراء أسهم الشركة بنية عدم التعامل الربوي.
الأسلوب الثاني:
الدخول في الشركة من خلال شراء الأسهم، ثم العمل من الداخل من أجل تغيير النظام الأساسي من خلال الجمعية العمومية، وخير مثال لذلك شركة طبية، والتي كانت تتعامل لفترة بالفائدة، إلا أنه نتيجة للجهود التي قام بها الشيخ صالح الحصين ومؤازرة ومساندة بعض الإخوة الأفاضل تم تغيير منهج الشركة، وتم إهدار 60 مليون ريال من أموال الربا لم تسجل في ميزانية الشركة كأرباح، كذلك استطعنا وفق هذه المنهجية أسلمة معاملات شركة ساسكو وذلك من خلال الجمعية العمومية، وشركة الفنادق عندما كنت مسؤولاً عنها.
الأسلوب الثالث:
بعض الشركات ذات المسؤولية المحدودة دخلنا مع الشركاء دون أن نطلب منهم النص على التعامل الشرعي أو غيره، وبعدما أشعرناهم بثقل وزننا مالياً ومعنوياً وضعناهم في خيار بين أن نخرج من الشركة، أو أن تصبح أعمال الشركة إسلامية خالصة، وعندها أحسوا بأن بقاءنا في الشركة فيه مصلحتهم أكثر مما في تمسكهم بالتعامل الربوي وافقوا على التحول إلى التعامل الشرعي، وتحققت لهم في آن واحد الهدف المادي والطمأنينة النفسية على التحول إلى التعامل الشرعي، وتحققت لهم في آن واحد الهدف المادي والطمأنينة النفسية بتحريرهم من قيود الربا وأغلاله، وتم وفق هذا الأسلوب أسلمة ما يزيد عن 70 شركة ذات مسؤولية محدودة.
الأسلوب الرابع:
وهو التأثير على بعض الشركات التي نحس من المسؤولين عنها تقبلاً طيباً لفكرة التحول عن الربا، فتقوم بتمويلها عن طريق الصيغ الإسلامية ثم السعي لتخليصها من التعامل الربوي تدريجياً، مع العمل في نفس الوقت على شراء أسهم فيها تدعيماً لهذا التوجه. حتى إذا زاد اقتناع القائمين عليها أو أغلبهم تم السعي إلى تحويل عملها بما يجنبها التعامل الربوي.(8/1735)
أيها السادة:
أنا أعلم أن هناك بعض الفتاوى التي لا تجيز شراء أي نوع من أسهم الشركات المساهمة العامة ما دام أنها تتعامل ولو عرضاً بالربا أخذاً وعطاءً، وذلك دون النظر إلى كل حالة على حدة، وبغض النظر عن أهدافها ونوايا الجهة المشترية للأسهم. وكما ذكرت فإن ذلك سيضعف الملتزمين الإسلاميين ويجعل مراكز القوى الاقتصادية في يد غير المسلمين. والحال أسوأ في الدول الإسلامية التي بها مواطنون غير مسلمين فإنهم سيسيطرون على مقدرات البلد.
فإصدار الفتوى مطلقة دون النظر إلى الآثار الجانبية التي تلحق الضرر بالمسلمين قد لا يكون ملائماً، ولو نظرتم حضراتكم إلى كل حالة ومقصد الشراء فيها، فمثلاً أعتقد بتشجيع المسلمين على شراء أسهم الشركات المساهمة العامة في الدول الإسلامية (حتى ولو كانت تتعامل عرضاً بأخذ ودفع الفوائد) بغرض إحكام سيطرة المسلمين على مراكز الإنتاج كهدف، ثم تحويل هذه الشركات من الداخل للتعامل بالطرق الإسلامية، أعتقد أن في هذه الحالة الأمر واجب ومندوب إليه.
يلي ذلك الأسهم في الدول الإسلامية التي كل مواطنيها مسلمون، أما الأسهم في الغرب فلا أظن أنه بالإمكان محاولة التغيير في الشركات الكبيرة، ولكن توجد شركات حقوق الملكية فيها إلى الديون معقولة، وأنا أعرف محفظة أسهم في نيويورك تعرف الآن باسم (المحفظ الإسلامية) أنشأناها مع بعض المختصين في تلك الأسواق ومن خلال بيوت سمسرة غربية بدأنا فيها بشركات رؤوس أموالها إلى ديونها 1- 1 ثم 60- 40 ثم 70 – 30 ووصلنا بفضل الله إلى 80 – 20، ونأمل الوصول إلى 100 وذلك يتأتى بالإقناع وبتوفير التمويل اللازم بوسائل إسلامية، ونتائج هذه المحفظة باهرة، وتعمل لها مقارنة مع محافظ أخرى، ودائما نتائج هذه أحسن، وبدأ الغربيون يستغربون ذلك؛ لأن هناك نظرية غربية عن موضوع الرافعة المالية وضرورة الديون، وقد أثبتنا الحمد لله أن تلك النظرية ليست دائماً صحيحة.
هناك حالة قد تدعو لها الضرورة في بعض المؤسسات المالية الإسلامية التي تحتاج إلى أصول يمكن تسييلها بسرعة لمواجهة متطلبات السحب المفاجئ، فاحتفاظها بجزء من أموالها في الأسهم الغربية يتيح لها ذلك ولا توجد وسيلة أخرى توفر هذه الإمكانية، وإن لم تقم بذلك تتعرض للكثير من الضرر والتقلص.
هناك حالة مؤسسات مالية تتعامل في ذلك بغرض المضاربة وتحقيق ربح سريع كبير، وهي بعملها ذلك تضر الأسواق ولا تنفع المجتمع وتتعامل بأسهم يشوبها الربا.. فهل ذلك مقبول أم لا؟(8/1736)
قبل أن أختم كلمتي أود أن أتساءل عن موضوعين ربما يلقيان بصيصاً من ضوء على الإجابة المتوقعة:
الأول: موضوع الأوراق النقدية في العصر الحاضر والتي نتقاضى بها رواتب وأرباحاً لا يشوبها غبار الربا، أليس غطاؤها عملات واحتياطات تتعامل بها البنوك المركزية بالربا ولو كان عرضاً، فهل نمتنع عن استلامها والتعامل بها وهي حتى قيمتها يدخل في تحديد ارتفاعها وانخفاضها الربا؟
الثاني: هذه الشركات المساهمة العامة التي تتعامل بالربا عرضاً، هل يجوز لنا أن نمولها مرابحة وتأجيراً، أم نمتنع عن ذلك؛ لأنها تتعامل بالربا، وقد تدفع لنا رأس مالنا وأرباحنا من مصادر ربوية لها، وهي لا تستطيع الفصل بين مصادرها الربوية وغير الربوية، وإذا كان ذلك لا يجوز فمن نمول؟؟ وهل لو اشترطنا عليها الامتناع عن التعامل بالفوائد كلياً هل إمكانيات البنوك الإسلامية المالية تسمح بذلك أو الضوابط القانونية التي تفرض من البنوك المركزية والأعراف المصرفية التي لا تتيح تمويل عميل واحد بأكثر من 10 % من رأس مال البنك.
وهذه مشكلة حالية تواجهنا مع كثير من المتعاملين المسلمين الصادقين الذين لا يرغبون في التعامل في الربا في كامل أعمالهم، ولكن الحواجز القانونية الإسلامية لا تتيح لنا تمويله بأكثر من نسبة معينة، ولقد طرحت ذلك في أحد الاجتماعات المشتركة للبنوك الإسلامية، واقترحت إنشاء صندوق تساهم فيه البنوك الإسلامية بمبالغ معينة، وبفوائض ما لديها، بحيث إذا قام البنك الإسلامي الأردني مثلاً بدراسة عميل وأجاز تمويله بكامل احتياجه إلا أن حاجز النسبة يعوق ذلك، فنلجأ لهذا الصندوق حتى يقدم الفرق بنسبة من كل بنك، وبذلك نتيح للعملاء أسلمة أعمالهم، ولكن الاقتراح ذهب أدراج الرياح؛ لأن كل بنك ينظر فقط لصالح مساهميه ولا ينظر للمصلحة العامة للمسلمين.
أيها السادة العلماء:
الموضوع المطروح أمامكم خطير، وأرجو الله أن يلهمكم الصواب.
الشيخ صالح عبد الله كامل(8/1737)
المشاركة في شركات تتعامل بالحرام
إعداد
الشيخ عبد الله بن بيه
بسم الله الرحمن الرحيم
المشاركة في شركات تتعامل بالحرام
الحمد لله الكريم الوهاب والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأواب، وعلى آله وأزواجه والأصحاب، أسأله تعالى التوفيق وأستلهمه الصواب.
أما بعد؛ فإن من القضايا المعروضة على أنظار المجامع الفقهية في هذه الأيام مسألة مشاركة في شركات أصل نشاطها حلال إلا أنها تتعامل بالحرام فأجبت وبالله استعنت:
إن هذه الشركات لا تخلو من أن يكون نظامها ينص على تعاملها بالحرام صراحة، كأن ينص مثلاً على استثمار بعض عائداتها في البنوك الربوية للحصول على زيادة ناشئة عن القروض أو في مصانع الخمور أو أنشطة القمار، أو أن لا ينص على ذلك صراحة، بل إنه معروف عرفاً، أو أن تكون مجهولة الحال مع أن أصل نشاطها حلال، إلا أنها يشرف عليها كفار أو فسقة لا يبالون بطيب الكسب.
قبل أن نرتب على هذه الفروض حكماً ينبغي أولاً أن نوضح مفهوم الشركة دون النزول إلى تفاصيل أنواعها التي اختلف العلماء فيها، حيث قسمها البعض من حيث الموضوع العام إلى ستة أقسام: شركة في الأعيان والمنافع، وشركة في الأعيان دون المنافع، وشركة في المنافع دون الأعيان، وشركة في المباح بمنافع المباح، وشركة في حق الأبدان، وشركة في حقوق الأموال.
وأما من حيث الصيغة الناشئة عن العقد في شركة خاصة فقد قسمها البعض إلى خمسة أقسام:
- شركة عنان.
- شركة مفاوضة.
- شركة أبدان.
- شركة وجوه.
- شركة مضاربة.(8/1738)
الذي يعنينا هنا هو تعريف الشركة بقدر ما يخدم الموضوع الذي نبحث فيه، فقد عرفها في التكملة الثانية للمجموع (بأنها ثبوت الحق لاثنين فأكثر على جهة الشيوع) (1) وعرفها المغني: (بأنها الاجتماع في استحقاق أو تصرف) (2)
وعرفها خليل المالكي بقوله: (الشركة إذن في التصرف لهما مع أنفسهما) قال شراحه: (إنه إذن من كل منهما في التصرف في ماله لهما مع بقاء تصرف أنفسهم) ، وعرفها ابن عرفة بتعريفين: (أحدهما عام والآخر خاص، قال: الأعمية تقرر متمول بين مالكين فأكثر ملكاً فقط، والأخصية بيع مالك كل بعضه ببعض كل الآخر موجباً صحة تصرفهما في الجميع) (3)
وبعد، فإنه بدون أن ندخل في مناقشة التعريفات جنساً وفصلاً والاختلاف الذي يمكن ملاحظته بينها، والناشئ عن اختلاف المذاهب في الشركة الصحيحة بين موسع كالحنابلة ومضيق كالشافعية ومتوسط كالمالكية؛ يمكن أن نقرر:
إن العنصر المشترك هو استواء الشركاء في المسؤولية؛ عبرنا بثبوت الحق المشاع، أو الاجتماع في استحقاق، أو الإذن في التصرف لهما مع أنفسهم.
وانطلاقاً من الملاحظة الأولى يمكن القول: إن الاشتراك في شركة تنص قوانينها على أنها تتعامل بالربا لا يجوز، وكذلك تلك التي يعرف عنها ذلك، ولو كان أصل مال الشركتين حلالاً والدخول في هذا النوع من الشركات حرام وباطل.
وأما تلك التي أصل مالها حلال ولا يوجد شرط ولا عرف بالتعامل بالربا، إلا أنها يديرها من لا يتحرج من تعاطي الربا؛ فهذه يفصل فيها، فإن كان الشريك الذي يتحرج من الربا يشارك في نشاطها ويطلع عليه بحيث يمنع من تسرب الربا إليها فهذا جائز، وإن لم يكن كذلك بل تجري معاملاته في غيبته، فإن ذلك لا يجوز بداية ويصح عقد الشركة في النهاية، فإذا تحقق وقوع بعض المعاملات الربوية فإنه يتصدق بالربح المتعلق بتلك المعاملة وجوباً لتطهير ماله، وإذا لم يتحقق بل شك في ذلك فإنه يندب له التصدق.
__________
(1) التكملة الثانية للمجموع
(2) المغني لابن قدامه 7/ 109، دار هجر
(3) الزرقاني على خليل، مع حاشية البناني: 6/ 40، وكذلك الحدود لابن عرفة، شرح الرصاع (ص 322)(8/1739)
هذه حصيلة ما يفهم من كلام العلماء في مختلف المذاهب، وما تدل عليه الأصول العامة للشريعة.
وإليك بعض نصوص العلماء المتعلقة بالموضوع تصريحاً أو تلويحاً:
قال ابن قدامة: (قال أحمد يشارك اليهودي والنصراني، ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه، ويكون هو الذي يليه إنه يعمل بالربا، وبهذا قال الحسن والثوري وكره الشافعي مشاركتهم مطلقاً، لأنه روى عن عبد الله بن عباس أنه قال: (أكره أن يشارك المسلم اليهودي) ، ولا يعرف له مخالف في الصحابة، ولأن مال اليهودي والنصراني ليس بطيب، فإنهم يبيعون الخمر ويتعاملون بالربا، فكرهت معاملتهم، ولنا ما روى الخلال بإسناده عن عطاء ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشاركة اليهودي والنصراني إلا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم)) ، ولأن العلة في كراهة ما خلوا به معاملتهم بالربا وبيع الخمر والخنزير، وهذا منتف فيما حضره المسلم أو وليه، وقول ابن عباس محمول عليه، فإن علل بكونهم يربون، كذلك رواه الأثرم عن أبي حمزة عن ابن عباس أنه قال: لا تشاركن يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً؛ لأنهم يربون، وإن الربا لا يحل، وهو قول واحد من الصحابة لم يثبت انتشاره بينهم، وهم (الشافعية) لا يحتجون به، وقولهم: إن أموالهم غير طيبة لا يصح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاملهم ورهن درعه عند يهودي على شعير أخذه لأهله، وأرسل إلى آخر يطلب منه ثوبين إلى الميسرة، وأضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة، ولا يأكل النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بطيب، وما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم فثمنه حلال لاعتقادهم حله، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ولهم بيعها وخذوا أثمانها، فأما ما يشتريه أو يبيعه من الخمر بمال الشركة أو المضاربة فإنه يقع فاسداً.. لأن عقد الوكيل يقع للموكل، والمسلم لا يثبت ملكه على الخمر والخنزير، فأشبه ما لو اشترى به ميتة أو عامل بالربا، وما خفي أمره فلم يعلم فالأصل إباحته وحليته) (1)
__________
(1) المغني، لابن قدامة: 7/ 109- 111(8/1740)
هذا نص المغني بكامله، ويتضح منه أن معاملة المرابي منهم الذي يخلو بتصرفه لا تجوز، وأن العلة هي الربا، وأن تعامل اليهودي والنصراني بما لا يجوز بعد الدخول في الشركة مع المسلم يكون فاسداً؛ لأن المسلم لا يثبت ملكه على المحرمات ولا يصح تعامله بالربا وعقد الوكيل كعقد الموكل، وهذا معنى كلامه الذي يدل بنصه وبمفهومه على أن الدخول في شركة تتعامل بالربا لا يجوز ولا يصح.
أما الشافعية فقد قال صاحب المهذب: (ويكره أن يشارك المسلم الكافر؛ لما روى أبو حمزة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا تشاركن يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً، قلت: لم؟ قال: لأنهم يربون والربا لا يحل) (1)
فأنت ترى الشافعية كرهوا ذلك لمجرد التهمة، أما المالكية فقد قال الزرقاني عند قول خليل في الشركة: (وإنما تصح من أهل التوكيل والتوكل: وخرج به شركة مسلم بكافر يتجر بغير حضور المسلم فإنها غير صحيحة على ما لبعضهم كظاهر المصنف، ولكن ظاهر المدونة المنع ابتداء وصحتها بعد الوقوع، فكان على المصنف الاقتصار على القيد الأول؛ لذا لم يعبر ابن شاس وابن الحاجب بالصحة وإنما عبرا بالجواز فقالا: من جاز له تصرف لنفسه جاز توكيله إلا لمانع – اهـ. وقبله ابن عرفة قائلاً: مسائل المذهب واضحة به –اهـ. وأما شركة مسلم لكافر يتجر بحضور مسلم فجائزة وصحيحة قطعاً كما في المدونة، ثم إذا نض المال في القسم الأول، أي عدم حضور المسلم أخذ المسلم ما يخصه من رأس المال والربح إن علم سلامة الكافر من عمل الربا وتجر الخمر، فإن شك في عمله في ربا ندب للمسلم صدقته بربحه فقط؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] ، وإن شك في عمله به في خمر ندب له التصدق بربحه وبرأس المال جميعاً لوجوب إراقة الخمر ولو اشتراه بمال حلال، وإن تحقق عمله بالربا وجب التصدق بالربح فقط، وإن تحقق تجره بخمر وجب على المسلم تصدقه برأس مال وربحه معاً؛ كذا يفيده اللخمي) (2)
قال الزرقاني كذلك عند قول خليل – في باب الوكالة: ومنع ذمي في بيع أو شراء أو تقاض-: (وفي تعقب أو تقاضٍ لدين لعدم تحفظه أي من فعل الربا) (3)
أما الحنفية فقال في الدر المختار في باب الشركة تعليقاً على قول تنوير الأبصار: (وتساويا مالاً وتصرفاً وديناً، فلا تصح بين حر وعبد، وصبي وبالغ، ومسلم وكافر، لا يخفى أن التساوي في التصرف يستلزم التساوي في الدين، وأجازها أبو يوسف مع اختلاف الملة مع الكراهة) ، قال ابن عابدين: (يستلزم التساوي في الدين؛ لأن الكافر إذا اشترى خمراً أو خنزيراً لا يقدر المسلم أن يبيعه وكالة من جهته، فيفوت شرط التساوي في التصرف ابن كمال، قوله: مع الكراهة؛ لأن الكافر لا يهتدي إلى الجائز من العقود – زيلعي) . (4)
__________
(1) المجموع، التكملة الثانية: 14/ 61
(2) الزرقاني: 6/ 41
(3) الزرقاني: 6/ 82
(4) حاشية ابن عابدين: 3/ 337(8/1741)
المراد من سرد هذه النصوص ليس التدليل على صحة الاشتراك مع الكافر أو عكسه وإنما التنبيه إلى العلة التي من أجلها كرهه من كرهه ومنعه من منعه، ألا وهي تعاطي البيوع الممنوعة في شكل اشتراء أعيان لا تجوز أو تعامل بالربا، فمن احتاط منع خوفاً من تهمة الربا، ومن لم يحتط فصل قائلاً: إن الجواز مختص بالمعاملات التي يحضرها المسلم، وفي حالة عدم معرفة حال الشريك فإنه إذا شك تصدق ندباً لتطهير ماله، وإذا تحقق وجب أن يتصدق على التفصيل الذي ذكره الزرقاني. ولم نجد نقلاً يجيز الدخول معه في شركة مع العلم بأنه يتعاطى الربا؛ ولا نعلم أحداً أقره على الاشتراك معه إذا اكتشف ذلك التعامل؛ لأنه لا يجوز أن يبقى المسلم متلبساً بمعاملة ربوية ليدفع قسطاً من أرباحه تخلصاً من الحرام، وإنما يجب أن يكون دفع هذا القسط علامة على التوبة على أن لا يعود، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92] .
ولتأكيد وتأصيل ما ذهبنا إليه نذكر ثلاث قواعد في شكل مبادئ:
المبدأ الأول: أن الشريك يده هي نفس يد الآخر، بحيث إن أي عمل يعمله الآخر بالشركة هو عمله هو لا فرق بينهما، أشار إلى ذلك ابن قدامة في الكلام الذي نقلناه عنه آنفاً، وذكر أن المعاملات المحرمة التي يقوم بها الشريك الكافر بعد الشركة تكون فاسدة.
المبدأ الثاني: هو شيوع الحرام في مال الشركة مما يجعلها متلبسة بالحرام، حتى ولو أعطى قسطاً من الربا حيث يظل ماله مخلوطاً ببقية مال الشركة الذي ينتشر فيه الحرام، فإن ذلك لا يطهره؛ لأن المعاملة الربوية هي معاملات فاسدة، وبالتالي فإن المال مرهون بمعاملات فاسدة ينتشر فيها الحرام (قال ابن القاسم: قال مالك: قال ابن هرمز: عجباً للمرء يرزقه الله المال الحلال ثم يحرمه من أجل الربح اليسير حتى يكون كله حراماً) ، (قال محمد بن رشد: قوله ثم يحرمه من أجل الربح اليسير يريد من أجل الربح الحرام الذي هو ربا، مثل أن يكون له على رجل مئة فيؤخره بها على أن يأخذ منه مئة وعشرين. وقوله: حتى يكون كله حراماً، ليس على ظاهره بأنه يحرم عليه جميعه ولا يحل له منه شيء؛ لأن الواجب عليه بإجماع العلماء أن يرد الربح الذي أربى فيه إلى من أخذه منه ويطيب له سائره؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] ، وإنما معنى قوله: (حتى يكون كله حراماً) أي: حتى يكون كله بمنزلة الحرام في أنه لا يجوز له أن يأكل منه شيئاً، حتى يرد ما فيه من الربا؛ لأنه إن أكل منه قبل أن يرد ما فيه من الربا فقد أكل بعض الربا لاختلاطه بجميع ماله وكونه شائعاً فيه) (1)
__________
(1) البيان والتحصيل: 18/ 194- 195(8/1742)
وذكر ابن رشد خلافاً في التعامل ببيع وشراء مع المرابي بين مانع لذلك كله كابن وهب وأصبغ من أصحاب مالك، ومجيز كابن القاسم، ومفرق بين الحرام اليسير والحرام الغالب باختصار يراجع فيه (1)
وإذا كان الأمر كذلك فكيف بالشركة معه؟ والخلاف في اختلاط الحرام مع الحلال أيهما يغلب معروف، وكذلك في تميز الجزء الشايع أو عدمه (2)
المبدأ الثالث: إن الشركة كالوكالة والوكالة لا تجوز على محرم، قال البناني بعد كلام: فجعل الإنسان غيره يقتل رجلاً عمداً عدواناً هو أمر لا نيابة فيه، وجعله يقتله قصاصاً نيابة ووكالة (3)
وهو أمر لا مرية فيه، فلا يجوز ولا يصح أن توكل شخصاً ليسرق أو ليبيع بالربا، فهي وكالة باطلة وآثارها كذلك، قال السيوطي: (قاعدة: من صحت منه مباشرة الشيء صح توكيله فيه غيره وتوكله فيه عن غيره، وإلا فلا) (4)
وقد سبق كلام المغني في جعله الشركة كالوكالة عندما قال: إن عقد الوكيل يقع للموكل في كلامه عن الشركة.
وبعد، فإن حرمة هذا النوع من الشركات تبدو غاية في الوضوح؛ لانطباق قواعد التحريم عليها لأنها أحرى بالحرمة مما ذكرنا، ثم إن التحريم في هذه المسألة هو من باب تحريم المقاصد وتحريم الوسائل؛ تحريم المقاصد لأنه ممارسة الربا في شكل بيوع فاسدة، وتعاطي البيع الفاسد في حد ذاته محرم مهما كانت نية المتعاطي في جبره، قال السيوطي: (القاعدة الخامسة) تعاطي البيوع الفاسدة حرام كما يؤخذ من كلام الأصحاب. إلى أن قال عن الروياني في الفروق والتصرفات بالشراء الفاسد: كلها كتصرفات الغاصب إلا في وجوب الحد عليه وانعقاد الوالد حراً (5)
وممنوعة منع الوسائل والمآلات لأنها تعاون على الإثم، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، ولأنها وسيلة إلى استمراء الربا والانغماس في حمأته وقد يؤول الأمر إلى ورثة لا يهتمون حتى بإخراج الأرباح الناشئة عن المعاملات الربوية.
الشيخ عبد الله بن بيه
__________
(1) البيان والتحصيل: 8/ 514- 515، و18/ 579 وما بعدها
(2) القواعد لابن رجب (ص29- 30) ، والأشباه للسيوطي (ص 80)
(3) حاشية البناني: 6/ 72
(4) الأشباه والنظائر، للسيوطي (ص 261)
(5) الأشباه والنظائر: ص 178(8/1743)
توصيات
الندوات الفقهية الاقتصادية
1- ندوة آثار تغير قيمة العملة
2- ندوة مشاكل البنوك الإسلامية
3- ندوة حكم المشاركة في أسهم شركات المساهمة المتعاملة بالربا
بسم الله الرحمن الرحيم
مجمع الفقه الإسلامي – منظمة المؤتمر الإسلامي
المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب – البنك الإسلامي للتنمية
جدة – المملكة العربية السعودية
(18- 19) شوال 1413هـ = 10- 11 أبريل 1993م
ندوة قضايا العملة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تدارس المجتمعون موضوع قضايا العملة وتأثير ظاهرة التضخم على الأجور والديون ومدى مشروعية (ربط الأجور والديون بالمستوى العام للأسعار، وكذلك استخدام وحدة نقدية حسابية، مثل حقوق السحب الخاصة أو الدينار الإسلامي في سداد الالتزامات الآجلة) .
وقد انتهى المجتمعون إلى القرارات والتوصيات التالية:
1- يجوز أن تتضمن أنظمة العمل واللوائح والترتيبات الخاصة بعقود العمل التي تتحدد فيها الأجور بالنقود شرط الربط القياسي للأجور.
والمقصود هنا بالربط القياسي للأجور تعديل الأجور بصورة دورية تبعاً للتغير في مستوى الأسعار، وفقاً لما تقرره جهة الخبرة والاختصاص، والغرض من ذلك التعديل حماية الأجر النقدي للعاملين من انخفاض القدرة الشرائية لمقدار الأجر بفعل التضخم النقدي، وما ينتج عنه من الارتفاع المتزايد في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات.
وذلك لأن الأصل في الشروط الجواز ما لم يكن شرطاً يحل حراماً أو يحرم حلالاً.(8/1744)
2- يجوز أن يتفق الدائن والمدين يوم السداد على أداء الدين بعملة مغايرة لعملة الدين إذا كان ذلك بسعر صرفها يوم السداد، وعلى أن لا يبقى في ذمة المدين شيء.
وكذلك يجوز في الدين على أقساط بعملة معينة الاتفاق عند سداد أي قسط على أدائه كاملاً بعملة مغايرة بسعر صرفها في ذلك اليوم.
3- يجوز أن يتفق المتعاقدان على تعيين الثمن الآجل أو الأجرة المؤجلة بعملة تدفع مرة واحدة أو على أقساط محددة من عملات متعددة، أو بكمية من الذهب، وأن يتم السداد حسب ما جاء في البند السابق.
4- لا يجوز الاتفاق على تسجيل الدين في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة بالذهب أو بعملة أخرى ليقع التزام الأداء بتلك العملة.
5- تؤكد الندوة القرار رقم (4) الصادر من مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت في (1- 6) جمادى الأولى 1409 هـ والذي نص على أن: (العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل، وليس بالقيمة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار) .(8/1745)
بسم الله الرحمن الرحيم
مجمع الفقه الإسلامي – منظمة المؤتمر الإسلامي
المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب – البنك الإسلامي للتنمية
ندوة مشاكل البنوك الإسلامية
20- 21/ 10/ 1413هـ = 12-13/ 4/ 1993م
القرارات والتوصيات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
استعرض المجتمعون ما جاء في المحاور المقدمة بشأن مشاكل البنوك الإسلامية، والأوراق المتضمنة مقترحات معالجة تلك المشاكل بأنواعها من شرعية وفنية وإدارية ومشاكل علاقاتها بالأطراف المختلفة، وبعد الاستماع إلى المناقشات التي دارت حول المحاور والأوراق وما ارتبط بها من مداخلات، انتهى المجتمعون إلى التوصيات والقرارات التالية:
التوصيات:
1- حث البنوك الإسلامية على مواصلة الحوار مع البنوك المركزية في الدول الإسلامية لتمكين البنوك الإسلامية من أداء وظائفها في استثمار أموال المتعاملين معها في ضوء المبادئ الشرعية التي تحكم أنشطة البنوك وتلائم طبيعتها الخاصة، وعلى البنوك المركزية أن تراعي متطلبات نجاح البنوك الإسلامية للقيام بدورها الفعال في التنمية الوطنية ضمن قواعد الرقابة بما يلائم خصوصية العمل المصرفي الإسلامي، ودعوة منظمة المؤتمر الإسلامي والبنك الإسلامي للتنمية لاستئناف اجتماعات البنوك المركزية للدول الإسلامية، مما يتيح الفرصة لتنفيذ متطلبات هذه التوصية.(8/1746)
2- وجوب مواصلة اهتمام البنوك الإسلامية بتأهيل القيادات والعاملين فيها بالخبرات الوظيفية الواعية لطبيعة العمل المصرفي الإسلامي، وتوفير البرامج التدريبية المناسبة بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب وسائر الجهات المعنية بالتدريب المصرفي الإسلامي.
3- العناية بعقدي السلم والاستصناع، لما يقدمانه من بديل شرعي لصيغ التمويل الإنتاجي التقليدية.
4- التقليل ما أمكن من استخدام أسلوب المرابحة للآمر بالشراء وقصرها على التطبيقات التي تقع تحت رقابة المصرف ويؤمن فيها وقوع المخالفة للقواعد الشرعية التي تحكمها، والتوسع في مختلف الصيغ الاستثمارية الأخرى من المضاربة والمشاركات والتأجير، مع الاهتمام بالمتابعة والتقويم الدوري، وينبغي الاستفادة من مختلف الحالات المقبولة في المضاربة، مما يتيح ضبط عمل المضاربة ودقة المحاسبة لنتائجها.
5- إيجاد السوق التجارية لتبادل السلع بين البلاد الإسلامية بديلاً عن سوق السلع الدولية التي لا تخلو من المخالفات الشرعية، ودعوة مؤسسي الشركة الإسلامية للتجارة الدولية (التي تأسست في البحرين) لاستكمال متطلبات قيامها بعملها.
6- توجيه فائض السيولة لخدمة أهداف التنمية في العالم الإسلامي، وذلك بالتعاون بين البنوك الإسلامية لدعم صناديق الاستثمار المشتركة وإنشاء المشاريع المشتركة.
7- الإسراع بإيجاد المؤشر المقبول إسلامياً الذي يكون بديلاً عن مراعاة سعر الفائدة الربوية في تحديد هامش الربح في المعاملات.
8- توسيع القاعدة الهيكلية للسوق المالية الإسلامية عن طريق قيام البنوك الإسلامية فيما بينها وبالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية، للتوسع في ابتكار وتداول الأدوات المالية الإسلامية في مختلف الدول الإسلامية.
9- دعوة الجهات المنوط بها سن القوانين والأنظمة لإرساء قواعد التعامل الخاصة بصيغ الاستثمار الإسلامية، كالمضاربة والمشاركة والمزارعة والمساقاة والسلم والاستصناع والإيجار.(8/1747)
10- دعوة البنوك الإسلامية لإقامة قاعدة معلومات تتوافر فيها البيانات الكافية عن المتعاملين مع البنوك الإسلامية ورجال الأعمال، وذلك لتكون مرجعاً للبنوك الإسلامية وللاستفادة منها في تشجيع التعامل مع الثقات المؤتمنين والابتعاد عن سواهم.
القرارات:
بعد استعراض المجتمعين ما طرح في الندوة من مشاكل البنوك الإسلامية تبين أن معظم هذه المشاكل هو مما يحتاج إلى إعداد دراسات أو بحوث خاصة بها، لذا قرر المجتمعون ما يلي:
1- حصر وتصنيف مشكلات البنوك الإسلامية المطروحة في الندوة وتكوين قائمة موحدة بها، وذلك من قبل لجنة تشكل بمعرفة مجمع الفقه الإسلامي والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب.
2- إحالة قائمة المشار إليها في البند السابق إلى مجمع الفقه الإسلامي للنظر في الوجه المناسب لمعالجتها.
3- بعد عرض التوصيات على مجمع الفقه الإسلامي، تقوم أمانة المجمع –بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب- باتخاذ الإجراءات المناسبة لنشر هذه التوصيات وإبلاغها للهيئات المعنية، كالمصارف الإسلامية والبنوك المركزية في البلاد الإسلامية وغيرها من الهيئات، للمعاونة في تنفيذ هذه التوصيات ومتابعتها.
والحمد لله رب العالمين(8/1748)
مجمع الفقه الإسلامي – منظمة المؤتمر الإسلامي
المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
البنك الإسلامي للتنمية
ندوة حول حكم المشاركة في أسهم الشركة المساهمة المتعاملة بالربا
22/ 10/ 1413هـ – 14/4/ 1993م
القرارات والتوصيات
1- قرار: يؤكد المجتمعون على ما سبق أن توصلوا إليه في مجمع الفقه الإسلامي في دورته السالفة المنعقدة بجدة في الفترة من 7- 12/11/1412هـ الموافق 9-14/5/1992م بشأن مساهمة البنك الإسلامي للتنمية وغيره من الشركات المساهمة المتعاملة بالربا ونصه:
قد اتفق الرأي بعد المناقشات المستفيضة في المسألة أن الأصل هو أن لا يساهم البنك الإسلامي للتنمية في أي شركة لا تلتزم باجتناب الربا في معاملاتها، وأنه لا يكفي أن يكون غرض الشركة مما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، بل لابد من اجتناب الوسائل المخالفة للشرع، ومن أعظمها التعامل بالربا في الأخذ والعطاء، وعلى إدارة البنك البحث عن أساليب استثمارية تتفق مع الشريعة الإسلامية وتحقق غايات التنمية للبلاد الإسلامية، وذلك مثل أنواع عقد السلم بصوره الموسعة وعقد الاستصناع وعقود التوريدات المختلفة، أما بالنسبة للمساهمة في أسهم الشركات المؤسسة خارج البلاد الإسلامية فإن الرأي بالاتفاق على عدم إجازة ذلك للبنك الإسلامي للتنمية إذا كانت تلك الشركات تتعامل بالفائدة.
2- يقرر المجتمعون بأن الربا محرم في جميع أحواله، وأن لا مجال للتفرقة بين الربا الاستهلاكي وربا الاستثمار فالكل محرم.
3- يرى المجتمعون: أن الإسهام في الشركات المساهمة التي تتعامل بالربا بقصد إصلاح أوضاعها بما يتفق مع الشريعة الإسلامية من القادرين على التغيير أمر مشروع، على أن يتم ذلك في أقرب وقت ممكن.
التوصية:
ناشد المجتمعون أرباب الأموال من المسلمين بضرورة السعي لإنشاء شركات تقوم على أساس أحكام الشريعة الإسلامية في أنشطتها، وتتيح للمستثمرين مجالاً للحصول على عائد حلال.
والحمد لله رب العالمين(8/1749)
القرارات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 79/ 6 / د8
بشأن
قضايا العملة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (قضايا العملة) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:
1- يجوز أن تتضمن أنظمة العمل واللوائح والترتيبات الخاصة بعقود العمل التي تتحدد فيها الأجور بالنقود شرط الربط القياسي للأجور، على ألا ينشأ عن ذلك ضرر للاقتصاد العام.
والمقصود هنا بالربط القياسي للأجور تعديل الأجور بصورة دورية تبعاً للتغير في مستوى الأسعار، وفقاً لما تقدره جهة الخبرة والاختصاص، والغرض من هذا التعديل حماية الأجر النقدي للعاملين من انخفاض القدرة الشرائية لمقدار الأجر بفعل التضخم النقدي، وما ينتج عنه من الارتفاع المتزايد في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات.
وذلك لأن الأصل في الشروط الجواز إلا الشرط الذي يحل حراماً أو يحرم حلالاً على أنه إذا تراكمت الأجرة وصارت ديناً تطبق عليها أحكام الديون المبينة في قرار المجمع رقم (4/ د5) .(8/1750)
2- يجوز أن يتفق الدائن والمدين يوم السداد – لا قبله- على أداء الدين بعملة مغايرة لعملة الدين إذا كان ذلك بسعر صرفها يوم السداد، وكذلك يجوز في الدين على أقساط بعملة معينة الاتفاق يوم سداد أي قسط أيضاً على أدائه كاملاً بعملة مغايرة بسعر صرفها في ذلك اليوم.
ويشترط في جميع الأحوال أن لا يبقى في ذمة المدين شيء مما تمت عليه المصارفة في الذمة، مع مراعاة القرار الصادر عن المجمع برقم 55 / 1 / د6 بشأن القبض.
3- يجوز أن يتفق المتعاقدان عند العقد على تعيين الثمن الآجل أو الأجرة المؤجلة بعملة تدفع مرة واحدة أو على أقساط محددة من عملات متعددة، أو بكمية من الذهب، وأن يتم السداد حسب الاتفاق، كما يجوز أن يتم حسب ما جاء في البند السابق.
4- الدين الحاصل بعملة معينة لا يجوز الاتفاق على تسجيله في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة من الذهب أو من عملة أخرى، على معنى أن يلتزم المدين بأداء الدين بالذهب أو العملة الأخرى المتفق على الأداء بها.
5- تأكيد القرار رقم (4/د5) الصادر عن المجمع بشأن تغير قيمة العملة.
6- يدعو مجلس المجمع الأمانة العامة لتكليف ذوي الكفاءة من الباحثين الشرعيين والاقتصاديين من الملتزمين بالفكر الإسلامي بإعداد الدراسات المعمقة للموضوعات الأخرى المتعلقة بقضايا العملة، لتناقش في دورات المجمع القادمة إن شاء الله، ومن هذه الموضوعات ما يلي:
أ- إمكان استعمال عملة اعتبارية مثل الدينار الإسلامي، وبخاصة في معاملات البنك الإسلامي للتنمية ليتم على أساسها تقديم القروض واستيفاؤها، وكذلك تثبيت الديون الآجلة ليتم سدادها بحسب سعر التعادل القائم بين تلك العملة الاعتبارية بحسب قيمتها، وبين العملة الأجنبية المختارة للوفاء كالدولار الأمريكي.
ب- السبل الشرعية البديلة عن الربط للديون الآجلة بمستوى المتوسط القياسي للأسعار.
ج- مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة.
د- حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقوداً كاسدة.(8/1751)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 80/7/د8
بشأن
مشاكل البنوك الإسلامية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (مشاكل البنوك الإسلامية) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
وبعد استعراض مجلس المجمع ما جاء في الأوراق المقدمة بشأن مشاكل البنوك الإسلامية، والمتضمنة مقترحات معالجة تلك المشاكل بأنواعها من شرعية وفنية وإدارية ومشاكل علاقاتها بالأطراف المختلفة، وبعد الاستماع إلى المناقشات التي دارت حول تلك المشكلات.
قرر:
1- عرض القائمة التالية المصنفة على أربعة محاور على الأمانة العامة للمجتمع لاستكتاب المختصين فيها، وعرضها في دورات المجمع القادمة بحسب الأولوية التي تراها لجنة التخطيط:(8/1752)
المحور الأول: الودائع وما يتعلق بها:
أ- ضمان ودائع الاستثمار بطرق تتلاءم مع أحكام المضاربة الشرعية.
ب- تبادل الودائع بين البنوك على غير أساس الفائدة.
ج- التكييف الشرعي للودائع والمعالجة المحاسبية لها.
د- إقراض مبلغ لشخص بشرط التعامل به مع البنك عموماً أو في نشاط محدد.
هـ- مصاريف المضاربة ومن يتحملها (المضارب أو وعاء المضاربة) .
و تحديد العلاقة بين المودعين والمساهمين.
ز- الوساطة في المضاربة والإجارة والضمان.
ح- تحديد المضارب في البنك الإسلامي (المساهمون أو مجلس الإدارة، أو الإدارة التنفيذية) .
ط- البديل الإسلامي للحسابات المكشوفة.
ي- الزكاة في البنوك الإسلامية لأموالها وودائعها.
المحور الثاني: المرابحة:
أ- المرابحة في الأسهم.
ب- تأجيل تسجيل الملكية في بيوع المرابحة لبقاء حق البنك مضموناً في السداد.
ج- المرابحة المؤجلة السداد مع توكيل الآمر بالشراء واعتباره كفيلاً.
د- المماطلة في تسديد الديون الناشئة عن المرابحة أو المعاملات الآجلة.
هـ- التأمين على الديون.
و بيع الديون.
المحور الثالث: التأجير:
أ- إعادة التأجير لمالك العين المأجورة أو لغيره.
ب- استئجار خدمات الأشخاص وإعادة تأجيرها.
ج- إجارة الأسهم أو إقراضها أو رهنها.
د- صيانة العين المأجورة.
هـ- شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها.
و الجمع بين الإجارة والمضاربة.(8/1753)
المحور الرابع: العقود:
أ- الشرط الاتفاقي على حق البنك في الفسخ في حال التخلف عن سداد الأقساط.
ب- الشرط الاتفاقي على تحويل العقد من صيغة إلى صيغة أخرى عند التخلف عن سداد الأقساط.
ويوصي مجلس المجمع بما يلي:
1- مواصلة البنوك الإسلامية الحوار مع البنوك المركزية في الدول الإسلامية لتمكين البنوك الإسلامية من أداء وظائفها في استثمار أموال المتعاملين معها في ضوء المبادئ الشرعية التي تحكم أنشطة البنوك وتلائم طبيعتها الخاصة، وعلى البنوك المركزية أن تراعي متطلبات نجاح البنوك الإسلامية للقيام بدورها الفعال في التنمية الوطنية ضمن قواعد الرقابة بما يلائم خصوصية العمل المصرفي الإسلامي ودعوة منظمة المؤتمر الإسلامي والبنك الإسلامي للتنمية لاستئناف اجتماعات البنوك المركزية للدول الإسلامية، مما يتيح الفرصة لتنفيذ متطلبات هذه التوصية.
2- اهتمام البنوك الإسلامية بتأهيل القيادات والعاملين فيها بالخبرات الوظيفية الواعية لطبيعة العمل المصرفي الإسلامي، وتوفير البرامج التدريبية المناسبة بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب وسائر الجهات المعنية بالتدريب المصرفي الإسلامي.
3- العناية بعقدي السلم والاستصناع، لما يقدمانه من بديل شرعي لصيغ التمويل الإنتاجي التقليدية.
4- التقليل ما أمكن من استخدام أسلوب المرابحة للآمر بالشراء وقصرها على التطبيقات التي تقع تحت رقابة المصرف ويؤمن فيها وقوع المخالفة للقواعد الشرعية التي تحكمها، والتوسع في مختلف الصيغ الاستثمارية الأخرى من المضاربة والمشاركات والتأجير مع الاهتمام بالمتابعة والتقويم الدوري وينبغي الاستفادة من مختلف الحالات المقبولة في المضاربة مما يتيح ضبط عمل المضاربة ودقة المحاسبة لنتائجها.(8/1754)
5- إيجاد السوق التجارية لتبادل السلع بين البلاد الإسلامية بديلاً عن سوق السلع الدولية التي لا تخلو من المخالفات الشرعية.
6- توجيه فائض السيولة لخدمة أهداف التنمية في العالم الإٍسلامي، وذلك بالتعاون بين البنوك الإسلامية لدعم صناديق الاستثمار المشتركة وإنشاء المشاريع المشتركة.
7- الإسراع بإيجاد المؤشر المقبول إسلامياً الذي يكون بديلاً عن مراعاة سعر الفائدة الربوية في تحديد هامش الربح في المعاملات.
8- توسيع القاعدة الهيكلية للسوق المالية الإسلامية عن طريق قيام البنوك الإسلامية فيما بينها، وبالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية، للتوسع في ابتكار وتداول الأدوات المالية الإسلامية في مختلف الدول الإسلامية.
9- دعوة الجهات المنوط بها سن الأنظمة لإرساء قواعد التعامل الخاصة بصيغ الاستثمار الإسلامية، كالمضاربة والمشاركة والمزارعة والمساقاة والسلم والاستصناع والإيجار.
10- دعوة البنوك الإسلامية لإقامة قاعدة معلومات تتوافر فيها البيانات الكافية عن المتعاملين مع البنوك الإسلامية ورجال الأعمال، وذلك لتكون مرجعاً للبنوك الإسلامية وللاستفادة منها في تشجيع التعامل مع الثقات المؤتمنين والابتعاد عن سواهم.
11- دعوة البنوك الإسلامية إلى تنسيق نشاط هيئات الرقابة الشرعية لديها، سواء بتجديد عمل الهيئة العليا للرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية، أم عن طريق إيجاد هيئة جديدة بما يكفل الوصول إلى معايير موحدة لعمل الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية.
والله أعلم.(8/1755)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 81/8/د8
بشأن
المشاركة في أسهم الشركات المساهمة المتعاملة بالربا
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م
بعد اطلاعه على توصيات الندوة الاقتصادية حول حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمة المتعاملة بالربا، والأبحاث المعدة في تلك الندوة.
ونظراً لأهمية هذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته، والتعرف إلى جميع الآراء فيه.
قرر:
أن تقوم الأمانة العامة للمجمع باستكتاب المزيد من البحوث فيه ليتمكن المجمع من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة.
والله أعلم.(8/1756)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله صحبه
قرار رقم: 74 /1 /د8
بشأن
الأخذ بالرخصة وحكمه
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 – 27 يونيه 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "الأخذ بالرخصة وحكمه".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر ما يلي:
1- الرخصة الشرعية: هي ما شرع من الأحكام لعذر، تخفيفًا عن المكلفين، مع قيام السبب الموجب للحكم الأصلي.
ولا خلاف في مشروعية الأخذ بالرخص الشرعية إذا وجدت أسبابها، بشرط التحقق من دواعيها، والاقتصار على مواضعها، مع مراعاة الضوابط الشرعية المقررة للأخذ بها.
2- المراد بالرخص الفقهية: ما جاء من الاجتهادات المذهبية مبيحًا لأمر في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره.
والأخذ برخص الفقهاء، بمعنى اتباع ما هو أخف من أقوالهم، جائز شرعًا بالضوابط الآتية في (البند 4) .
3- الرخص في القضايا العامة تعامل معاملة المسائل الفقهية الأصلية إذا كانت محققة لمصلحة معتبرة شرعًا، وصادرة عن اجتهاد جماعي ممن تتوافر فيهم أهلية الاختيار ويتصفون بالتقوى والأمانة العلمية.
4- لا يجوز الأخذ برخص المذاهب الفقهية لمجرد الهوى، لأن ذلك يؤدي إلى التحلل من التكليف، وإنما يجوز الأخذ بالرخص بمراعاة الضوابط التالية:
أ – أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعًا ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال.
ب – أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة، دفعًا للمشقة سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية.
ج – أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك.
د – ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع الآتي بيانه في (البند 6) .
هـ- ألا يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع.
و– أن تطمئن نفس المترخص للأخذ بالرخصة
5- حقيقة التلفيق في تقليد المذاهب هي أن يأتي المقلد في مسألة واحدة ذات فرعين مترابطين فأكثر بكيفية لا يقول بها مجتهد ممن قلدهم في تلك المسألة.
6- يكون التلفيق ممنوعًا في الأحوال التالية:
أ – إذا أدى إلى الأخذ بالرخص لمجرد الهوى، أو الإخلال بأحد الضوابط المبينة في مسألة الأخذ بالرخص.
ب- إذا أدى إلى نقض حكم القضاء.
ج – إذا أدى إلى نقض ما عمل به تقليدًا في واقعة واحدة.
د – إذا أدى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه.
هـ - إذا أدى إلى حالة مركبة لا يقرها أحد من المجتهدين.
والله أعلم …(8/1757)
القرار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين
وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 75 / 2 / د8
بشأن
حوادث السير
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 – 27 يونيو 1993 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "حوادث السير".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
وبالنظر إلى تفاقم حوادث السير وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم، واقتضاء المصلحة سن الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات بما يحقق شروط الأمن كسلامة الأجهزة وقواعد نقل الملكية ورخص القيادة والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن والقدرة والرؤية والدراية بقواعد المرور والتقيد بها وتحديد السرعة المعقولة والحمولة.
قرر ما يلي:
1- أ- أن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجب شرعا، لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناء على دليل المصالح المرسلة، وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال.(8/1758)
ب- مما تقتضيه المصلحة أيضا سن الأنظمة الزاجرة بأنواعها، ومنها التعزير المالي، لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور لردع من يعرض أمن الناس للخطر في الطرقات والأسواق من أصحاب المركبات ووسائل النقل الأخرى أخذا بأحكام الحسبة المقررة.
2- الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة السلامية، وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ، والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار سواء في البدن أو المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية:
أ- إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان.
ب- إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيرا قويا في إحداث النتيجة.(8/1759)
ج- إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية.
3- ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها، والفصل في ذلك إلى القضاء.
4- إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر كان على كل أحد منهما تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال.
5- أ – مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل، فإن الأصل أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعديا، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعديا أو مفرطا.
ب- إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعديا والمباشر غير متعد.
ج- إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر، فعلى كل واحد من المتسببين المسؤولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر، وإذا استويا أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما على السواء.
والله أعلم(8/1760)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 76/ 3/ د8
بشأن
بيع العربون
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 – 27 يونيو 1993 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: " بيع العربون ".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:
1 – المراد ببيع العربون بيع السلعة مع دفع المشتري مبلغا من المال إلى البائع على أنه إن أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن وإن تركها فالمبلغ للبائع.
ويجري مجرى البيع الإجارة، لأنها بيع المنافع. ويستثنى من البيوع كل ما يشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد (السلم) أو قبض البدلين (مبادلة الأموال الربوية والصرف) ولا يجري في المرابحة للآمر بالشراء في مرحلة المواعدة ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة.
2 – يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود. ويحتسب العربون جزءا من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء.(8/1761)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 77 / 4 / 85
بشأن
عقد المزايدة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 – 27 يونيو 1993 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (عقد المزايدة) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
وحيث أن عقد المزايدة من العقود الشائعة في الوقت الحاضر، وقد صاحب تنفيذه في بعض الحالات تجاوزات دعت لضبط طريقة التعامل به ضبطا يحفظ حقوق المتعاقدين طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، كما اعتمدته المؤسسات والحكومات، وضبطته بتراتيب إدارية، ومن أجل بيان الأحكام الشرعية لهذا العقد.
قرر ما يلي:
1- عقد المزايدة: عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداء، أو كتابة للمشاركة في المزاد ويتم عند رضا البائع.
2- يتنوع عقد المزايدة بحسب موضوعه إلى بيع وإجارة وغير ذلك، وبحسب طبيعته إلى اختياري كالمزادات العادية بين الأفراد، وإلى إجباري كالمزادات التي يوجبها القضاء، وتحتاج إلى المؤسسات العامة والخاصة، والهيئات الحكومية والأفراد.
3- أن الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي، وتنظيم، وضوابط وشروط إدارية أو قانونية، يجب أن لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.(8/1762)
4-طلب الضمان ممن يريد الدخول في المزايدة جائز شرعًا، ويجب أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه العطاء، ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز بالصفقة.
5- لا مانع شرعا من استيفاء رسم الدخول (قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) لكونه ثمنا له.
6- يجوز أن يعرض المصرف الإسلامي، أو غيره، مشاريع استثمارية ليحقق لنفسه نسبة أعلى من الربح، سواء أكان المستثمر عاملا في عقد مضاربة مع المصرف أم لا.
7- النجش حرام،ومن صوره:
أ – أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شراءها ليغري المشتري بالزيادة.
ب – أن يتظاهر من لا يريد الشراء بإعجابه بالسلعة وخبرته بها، ويمدحها ليغرّ المشتري فيرفع ثمنها.
ج- أن يدعي صاحب السلعة، أو الوكيل أو السمسار، إدعاء كاذبا أنه دفع فيها ثمنا معينا ليدلس على من يسوم.
د- ومن الصور الحديثة للنجش المحظورة شرعا اعتماد الوسائل السمعية، والمرئية، والمقروءة، التي تذكر أوصافا رفيعة لا تمثل الحقيقة، أو ترفع الثمن لتغرّ المشتري، وتحمله على التعاقد.
والله أعلم(8/1763)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا
محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 78 / 5 / د8
بشأن
تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 / 27 يونيه 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع:" تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية " التي كانت استكمالا لموضوعات الأسواق المالية والأوراق المالية الإسلامية التي سبق بحثها في الدورات السابقة ولاسيما في دورة مؤتمره السابع بجدة وفي الندوات التي أقامها لهذا الغرض للوصول إلى مجموعة مناسبة من الأدوات المشروعة لسوق المال حيث أنها الوعاء الذي يستوعب السيولة المتوافرة في البلاد الإسلامية ويحقق الأهداف التنموية والتكافل والتوازن والتكامل للدول الإسلامية.(8/1764)
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول كيفية الإفادة من الصيغ التي بها تكتمل السوق الإسلامية وهي الأسهم والصكوك والعقود الخاصة لإقامة السوق الإسلامية على أسس شرعية.
قرر ما يلي
1- الأسهم:
أصدر مجمع الفقه الإسلامي قراره رقم 65 / 1 / د7 بشأن الأسواق المالية الأسهم والاختيارات والسلع والعملات وبين أحكامها مما يمكن الإفادة منها لإقامة سوق المال الإسلامية.
2- الصكوك (السندات) :
أ- سندات المقارضة وسندات الاستثمار:
أصدر مجمع الفقه الإسلامي قراره رقم 5 / د4 بشأن صكوك المقارضة
ب- صكوك التأجير أو الإيجار المنتهي بالتمليك وقد صدر بخصوصها قرار المجمع رقم 6 / د5 وبذلك تؤدي هذه الصكوك دورا طيبا في سوق المال الإسلامية في نطاق المنافع.
3- عقد السلم:
بما أن عقد السلم – بشروطه واسع المجال إذ أن المشتري يستفيد منه في استثمار فائض أمواله لتحقيق الربح، والبائع يستفيد من الثمن في النتاج مع التأكيد على قرار المجمع رقم 64 / 1 / د7 بشأن عدم جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه ونصه:" لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلما قبل قبضها "(8/1765)
4- عقد الاستصناع:
أصدر المجمع قراره رقم 66 / 3 / د7 بشأن عقد الاستصناع.
5- البيع الآجل:
البيع الآجل صيغة تطبيقية أخرى من صيغ الاستثمار تيسر عمليات الشراء حيث يستفيد المشتري من توافر الحصول على السلع حالا ودفع الثمن بعد أجل كما يستفيد البائع من زيادة الثمن وتكون النتيجة اتساع توزيع السلع ورواجها في المجتمع.
6- الوعد والمواعدة
أصدر المجمع قراره رقم 302 / د5 بشأن الوعد والمواعدة في المرابحة للآمر بالشراء.
7- يدعو المجمع الباحثين من الفقهاء والاقتصاديين لإعداد بحوث ودراسات في الموضوعات التي لم يتم بحثها بصورة معمقة لبيان مدى إمكانية تنفيذها والاستفادة منها شرعا في سوق المال الإسلامية وهي:
أ- صكوك المشاركة بكل أنواعها
ب- صياغة صكوك من الإيجار أو التأجير المنتهي بالتمليك.
ج- الاعتياض عن دين السلم والتولية والشركة فيه والحطيطة عنه والمصالحة عليه ونحو ذلك.
د- المواعدة في غير بيع المرابحة وبالأخص المواعدة في الصرف
هـ- بيع الديون.
و الصلح في سوق المال (معارضة أو نحوها) .
ز- المقاصة
والله أعلم(8/1766)
القرارات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 79/ 6 / د8
بشأن
قضايا العملة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (قضايا العملة) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:
1- يجوز أن تتضمن أنظمة العمل واللوائح والترتيبات الخاصة بعقود العمل التي تتحدد فيها الأجور بالنقود شرط الربط القياسي للأجور، على ألا ينشأ عن ذلك ضرر للاقتصاد العام.
والمقصود هنا بالربط القياسي للأجور تعديل الأجور بصورة دورية تبعاً للتغير في مستوى الأسعار، وفقاً لما تقدره جهة الخبرة والاختصاص، والغرض من هذا التعديل حماية الأجر النقدي للعاملين من انخفاض القدرة الشرائية لمقدار الأجر بفعل التضخم النقدي، وما ينتج عنه من الارتفاع المتزايد في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات.
وذلك لأن الأصل في الشروط الجواز إلا الشرط الذي يحل حراماً أو يحرم حلالاً على أنه إذا تراكمت الأجرة وصارت ديناً تطبق عليها أحكام الديون المبينة في قرار المجمع رقم (4/ د5) .(8/1767)
2- يجوز أن يتفق الدائن والمدين يوم السداد – لا قبله- على أداء الدين بعملة مغايرة لعملة الدين إذا كان ذلك بسعر صرفها يوم السداد، وكذلك يجوز في الدين على أقساط بعملة معينة الاتفاق يوم سداد أي قسط أيضاً على أدائه كاملاً بعملة مغايرة بسعر صرفها في ذلك اليوم.
ويشترط في جميع الأحوال أن لا يبقى في ذمة المدين شيء مما تمت عليه المصارفة في الذمة، مع مراعاة القرار الصادر عن المجمع برقم 55 / 1 / د6 بشأن القبض.
3- يجوز أن يتفق المتعاقدان عند العقد على تعيين الثمن الآجل أو الأجرة المؤجلة بعملة تدفع مرة واحدة أو على أقساط محددة من عملات متعددة، أو بكمية من الذهب، وأن يتم السداد حسب الاتفاق، كما يجوز أن يتم حسب ما جاء في البند السابق.
4- الدين الحاصل بعملة معينة لا يجوز الاتفاق على تسجيله في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة من الذهب أو من عملة أخرى، على معنى أن يلتزم المدين بأداء الدين بالذهب أو العملة الأخرى المتفق على الأداء بها.
5- تأكيد القرار رقم (4/د5) الصادر عن المجمع بشأن تغير قيمة العملة.
6- يدعو مجلس المجمع الأمانة العامة لتكليف ذوي الكفاءة من الباحثين الشرعيين والاقتصاديين من الملتزمين بالفكر الإسلامي بإعداد الدراسات المعمقة للموضوعات الأخرى المتعلقة بقضايا العملة، لتناقش في دورات المجمع القادمة إن شاء الله، ومن هذه الموضوعات ما يلي:
أ- إمكان استعمال عملة اعتبارية مثل الدينار الإسلامي، وبخاصة في معاملات البنك الإسلامي للتنمية ليتم على أساسها تقديم القروض واستيفاؤها، وكذلك تثبيت الديون الآجلة ليتم سدادها بحسب سعر التعادل القائم بين تلك العملة الاعتبارية بحسب قيمتها، وبين العملة الأجنبية المختارة للوفاء كالدولار الأمريكي.
ب- السبل الشرعية البديلة عن الربط للديون الآجلة بمستوى المتوسط القياسي للأسعار.
ج- مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة.
د- حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقوداً كاسدة.(8/1768)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 80/7/د8
بشأن
مشاكل البنوك الإسلامية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (مشاكل البنوك الإسلامية) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
وبعد استعراض مجلس المجمع ما جاء في الأوراق المقدمة بشأن مشاكل البنوك الإسلامية، والمتضمنة مقترحات معالجة تلك المشاكل بأنواعها من شرعية وفنية وإدارية ومشاكل علاقاتها بالأطراف المختلفة، وبعد الاستماع إلى المناقشات التي دارت حول تلك المشكلات.
قرر:
1- عرض القائمة التالية المصنفة على أربعة محاور على الأمانة العامة للمجتمع لاستكتاب المختصين فيها، وعرضها في دورات المجمع القادمة بحسب الأولوية التي تراها لجنة التخطيط:(8/1769)
المحور الأول: الودائع وما يتعلق بها:
أ- ضمان ودائع الاستثمار بطرق تتلاءم مع أحكام المضاربة الشرعية.
ب- تبادل الودائع بين البنوك على غير أساس الفائدة.
ج- التكييف الشرعي للودائع والمعالجة المحاسبية لها.
د- إقراض مبلغ لشخص بشرط التعامل به مع البنك عموماً أو في نشاط محدد.
هـ- مصاريف المضاربة ومن يتحملها (المضارب أو وعاء المضاربة) .
و تحديد العلاقة بين المودعين والمساهمين.
ز- الوساطة في المضاربة والإجارة والضمان.
ح- تحديد المضارب في البنك الإسلامي (المساهمون أو مجلس الإدارة، أو الإدارة التنفيذية) .
ط- البديل الإسلامي للحسابات المكشوفة.
ي- الزكاة في البنوك الإسلامية لأموالها وودائعها.
المحور الثاني: المرابحة:
أ- المرابحة في الأسهم.
ب- تأجيل تسجيل الملكية في بيوع المرابحة لبقاء حق البنك مضموناً في السداد.
ج- المرابحة المؤجلة السداد مع توكيل الآمر بالشراء واعتباره كفيلاً.
د- المماطلة في تسديد الديون الناشئة عن المرابحة أو المعاملات الآجلة.
هـ- التأمين على الديون.
و بيع الديون.
المحور الثالث: التأجير:
أ- إعادة التأجير لمالك العين المأجورة أو لغيره.
ب- استئجار خدمات الأشخاص وإعادة تأجيرها.
ج- إجارة الأسهم أو إقراضها أو رهنها.
د- صيانة العين المأجورة.
هـ- شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها.
و الجمع بين الإجارة والمضاربة.(8/1770)
المحور الرابع: العقود:
أ- الشرط الاتفاقي على حق البنك في الفسخ في حال التخلف عن سداد الأقساط.
ب- الشرط الاتفاقي على تحويل العقد من صيغة إلى صيغة أخرى عند التخلف عن سداد الأقساط.
ويوصي مجلس المجمع بما يلي:
1- مواصلة البنوك الإسلامية الحوار مع البنوك المركزية في الدول الإسلامية لتمكين البنوك الإسلامية من أداء وظائفها في استثمار أموال المتعاملين معها في ضوء المبادئ الشرعية التي تحكم أنشطة البنوك وتلائم طبيعتها الخاصة، وعلى البنوك المركزية أن تراعي متطلبات نجاح البنوك الإسلامية للقيام بدورها الفعال في التنمية الوطنية ضمن قواعد الرقابة بما يلائم خصوصية العمل المصرفي الإسلامي ودعوة منظمة المؤتمر الإسلامي والبنك الإسلامي للتنمية لاستئناف اجتماعات البنوك المركزية للدول الإسلامية، مما يتيح الفرصة لتنفيذ متطلبات هذه التوصية.
2- اهتمام البنوك الإسلامية بتأهيل القيادات والعاملين فيها بالخبرات الوظيفية الواعية لطبيعة العمل المصرفي الإسلامي، وتوفير البرامج التدريبية المناسبة بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب وسائر الجهات المعنية بالتدريب المصرفي الإسلامي.
3- العناية بعقدي السلم والاستصناع، لما يقدمانه من بديل شرعي لصيغ التمويل الإنتاجي التقليدية.
4- التقليل ما أمكن من استخدام أسلوب المرابحة للآمر بالشراء وقصرها على التطبيقات التي تقع تحت رقابة المصرف ويؤمن فيها وقوع المخالفة للقواعد الشرعية التي تحكمها، والتوسع في مختلف الصيغ الاستثمارية الأخرى من المضاربة والمشاركات والتأجير مع الاهتمام بالمتابعة والتقويم الدوري وينبغي الاستفادة من مختلف الحالات المقبولة في المضاربة مما يتيح ضبط عمل المضاربة ودقة المحاسبة لنتائجها.(8/1771)
5- إيجاد السوق التجارية لتبادل السلع بين البلاد الإسلامية بديلاً عن سوق السلع الدولية التي لا تخلو من المخالفات الشرعية.
6- توجيه فائض السيولة لخدمة أهداف التنمية في العالم الإٍسلامي، وذلك بالتعاون بين البنوك الإسلامية لدعم صناديق الاستثمار المشتركة وإنشاء المشاريع المشتركة.
7- الإسراع بإيجاد المؤشر المقبول إسلامياً الذي يكون بديلاً عن مراعاة سعر الفائدة الربوية في تحديد هامش الربح في المعاملات.
8- توسيع القاعدة الهيكلية للسوق المالية الإسلامية عن طريق قيام البنوك الإسلامية فيما بينها، وبالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية، للتوسع في ابتكار وتداول الأدوات المالية الإسلامية في مختلف الدول الإسلامية.
9- دعوة الجهات المنوط بها سن الأنظمة لإرساء قواعد التعامل الخاصة بصيغ الاستثمار الإسلامية، كالمضاربة والمشاركة والمزارعة والمساقاة والسلم والاستصناع والإيجار.
10- دعوة البنوك الإسلامية لإقامة قاعدة معلومات تتوافر فيها البيانات الكافية عن المتعاملين مع البنوك الإسلامية ورجال الأعمال، وذلك لتكون مرجعاً للبنوك الإسلامية وللاستفادة منها في تشجيع التعامل مع الثقات المؤتمنين والابتعاد عن سواهم.
11- دعوة البنوك الإسلامية إلى تنسيق نشاط هيئات الرقابة الشرعية لديها، سواء بتجديد عمل الهيئة العليا للرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية، أم عن طريق إيجاد هيئة جديدة بما يكفل الوصول إلى معايير موحدة لعمل الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية.
والله أعلم.(8/1772)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 81/8/د8
بشأن
المشاركة في أسهم الشركات المساهمة المتعاملة بالربا
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م
بعد اطلاعه على توصيات الندوة الاقتصادية حول حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمة المتعاملة بالربا، والأبحاث المعدة في تلك الندوة.
ونظراً لأهمية هذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته، والتعرف إلى جميع الآراء فيه.
قرر:
أن تقوم الأمانة العامة للمجمع باستكتاب المزيد من البحوث فيه ليتمكن المجمع من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة.
والله أعلم.(8/1773)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 82 / 9 / د8
بشأن
بطاقات الائتمان
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 – 27 يونيو 1993 م.
بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "بطاقات الائتمان".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله..
ونظرا لأهمية هذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته والتعرف إلى جميع الآراء فيه..
قرر:
أن تقوم الأمانة العامة للمجمع باستكتاب المزيد من البحوث فيه ليتمكن مجلس المجمع من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة.
والله الموفق(8/1774)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 83/ 10/ د8
بشأن
السر في المهن الطبية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سير باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ، الموافق 21- 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (السر في المهن الطبية) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:
1- أ- السر هو ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتماً إياه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان إذا كان العرف يقضي بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس.
ب- السر أمانة لدى من استودع حفظه، التزاماً بما جاءت به الشريعة الإسلامية، وهو ما تقضي به المروءة وآداب التعامل.
ج- الأصل حظر إفشاء السر، وإفشاؤه بدون مقتضٍ معتبر موجب للمؤاخذة شرعاً.
د- يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل، كالمهن الطبية؛ إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح وتقديم العون، فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه.(8/1775)
2- تستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه، وهذه الحالات على ضربين:
أ- حالات يجب فيها إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضررين لتفويت أشدهما، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه.
وهذه الحالات نوعان:
- ما فيه درء مفسدة عن المجتمع.
- وما فيه درء مفسدة عن الفرد.
ب- حالات يجوز فيها إفشاء السر لما فيه:
- جلب مصلحة للمجتمع.
- أو درء مفسدة عامة.
وهذه الحالات يجب الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل.
ج- الاستثناءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء أو جوازه ينبغي أن ينص عليها في نظام مزاولة المهن الطبية وغيره من الأنظمة، موضحة ومنصوصاً عليها على سبيل الحصر، مع تفصيل كيفية الإفشاء، ولمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن.
3- يوصي المجمع نقابات المهن الطبية ووزارات الصحة وكليات العلوم الصحية بإدراج هذا الموضوع ضمن برامج الكليات والاهتمام به وتوعية العاملين في هذا المجال بهذا الموضوع، ووضع المقررات المتعلقة به، مع الاستفادة من الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع.
والله أعلم.(8/1776)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 84 / 11 / د8
بشأن
أخلاقيات الطبيب: مسؤوليته وضمانه
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (أخلاقيات الطبيب: مسؤوليته وضمانه) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:
تأجيل إصدار قرار في موضوع أخلاقيات الطبيب: مسؤوليته وضمانه وموضوع التداوي بالمحرمات، والنظر في دستور المهنة الطبية المعد من المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت والطلب إلى الأمانة العامة لاستكتاب المزيد من الأبحاث في تلك الموضوعات لعرضها في دورة قادمة للمجمع.
والله أعلم(8/1777)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 85 /12 / د8
بشأن
مداواة الرجل للمرأة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (مداواة الرجل للمرأة) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دار حوله،
قرر ما يلي:
1- الأصل أنه إذا توافرت طبيبة متخصصة يجب أن تقوم بالكشف على المريضة، وإذا لم يتوافر ذلك فتقوم بذلك طبيبة غير مسلمة ثقة، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم، وإن لم يتوافر طبيب مسلم يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم، على أن يطلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته، وألا يزيد عن ذلك، وأن يغض الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم أو زوج أو امرأة ثقة خشية الخلوة.
2- يوصي المجمع أن تولي السلطات الصحية جل جهدها لتشجيع النساء على الانخراط في مجال العلوم الطبية، والتخصص في كل فروعها، وخاصة أمراض النساء والتوليد، نظراً لندرة النساء في هذه التخصصات الطبية، حتى لا نضطر إلى قاعدة الاستثناء.
والله أعلم.(8/1778)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 86 /13/ د8
بشأن
مرض نقص المناعة المكتسب: (الإيدز)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله:
قرر ما يلي:
1- بما أن ارتكاب فاحشتي الزنا واللواط أهم سبب للأمراض الجنسية التي أخطرها الإيدز (متلازمة العوز المناعي المكتسب) ، فإن محاربة الرذيلة وتوجيه الإعلام والسياحة وجهة صالحة تعتبر عوامل هامة في الوقاية منها، ولا شك أن الالتزام بتعاليم الإسلام الحنيف ومحاربة الرذيلة وإصلاح أجهزة الإعلام ومنع الأفلام والمسلسلات الخليعة ومراقبة السياحة تعتبر من العوامل الأساسية للوقاية من هذه الأمراض.
ويوصي مجلس المجمع الجهات المختصة في الدول الإسلامية باتخاذ كافة التدابير للوقاية من الإيدز ومعاقبة من يقوم بنقل الإيدز إلى غيره متعمداً، كما يوصي حكومة المملكة العربية السعودية بمواصلة تكثيف الجهود لحماية ضيوف الرحمن واتخاذ ما تراه من إجراءات كفيلة بوقايتهم من احتمال الإصابة بمرض الإيدز.(8/1779)
2- في حالة إصابة أحد الزوجين بهذا المرض، فإن عليه أن يخبر الآخر، وأن يتعاون معه في إجراءات الوقاية كافة.
ويوصي المجمع بتوفير الرعاية للمصابين بهذا المرض، ويجب على المصاب أو حامل الفيروس أن يتجنب كل وسيلة يعدي بها غيره، كما ينبغي توفير التعليم للأطفال الذين يحملون فيروس الإيدز بالطرق المناسبة.
3- يوصي مجلس المجمع الأمانة العامة باستكتاب الأطباء والفقهاء في الموضوعات التالية، لاستكمال البحث فيها وعرضها في دورات قادمة:
أ- عزل حامل فيروس الإيدز ومريضه.
ب- موقف جهات العمل من المصابين بالإيدز.
ج- إجهاض المرأة الحامل المصابة بفيروس الإيدز.
د- إعطاء حق الفسخ لامرأة المصاب بفيروس الإيدز.
هـ- هل تعتبر الإصابة بمرض الإيدز من قبيل مرض الموت من حيث تصرفات المصاب؟
و أثر إصابة الأم بالإيدز على حقها في الحضانة.
ز- ما الحكم الشرعي فيمن تعمد نقل مرض الإيدز إلى غيره.
ح- تعويض المصابين بفيروس الإيدز عن طريق نقل الدم أو محتوياته أو نقل الأعضاء.
ط- إجراء الفحوصات الطبية قبل الزواج لتجنب مخاطر الأمراض المعدية وأهمها الإيدز.
والله أعلم.(8/1780)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 87/14/د8
بشأن
تنظيم استكتاب الأبحاث ومناقشتها في دورات المجمع
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م
بعد اطلاعه على قواعد النشر لأبحاث المجمع، والشروط المطلوب توافرها في البحوث.
وبعد استماعه إلى الملابسات التي تحصل في عملية الاستكتاب وتحديد أجل معين لتسلم الأبحاث بحيث تتمكن الأمانة العامة للمجمع من تقويم البحوث في ضوء قواعد النشر المشار إليها.
قرر ما يلي:
1- في حالة انتهاء الأجل المحدد لتلقي البحوث يحق للأمانة العامة الاقتصار على الأبحاث الواردة خلال الأجل دون أي التزام تجاه ما تأخر عنه.
2- لا تستقبل الأمانة العامة للمجمع أي بحوث يتطوع أصحابها بإعدادها دون استكتاب من الأمانة العامة.
3- تقتصر المناقشة في الدورة على من تمت استضافتهم من أعضاء المجمع وخبرائه وباحثيه.
والله أعلم.(8/1781)
البيان الختامي
لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
في دورته الثامنة
بندر سري بجاون (بروناي دار السلام)
1-7 محرم 1414هـ / 21-27 يونيو 1993م
البيان الختامي
نحمدك اللهم على ما يسرت لنا من الخير، وهديتنا إليه من الحق، وأسبغته علينا من نعمك وآلائك لننشط في خدمة دينك وإعلاء كلمتك، والدعوى إلى سبيلك بالقول والعمل، وصلى الله على عبدك ورسولك سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، بعثته داعياً وهادياً ورحمة للعالمين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فجزاه الله عنا أفضل ما جازى به نبياً عن أمته.
معالي الدكتور الأستاذ داتو حاجي محمد زين بن الحاج سرودين
وزير الشؤون الدينية ببروناي دار السلام
معالي الرئيس:
أصحاب المعالي والسماحة والفضيلة والسعادة
أيها السادة الأكارم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنه لمن توفيق الله وفضله علينا أن أتيح لنا هذا اللقاء المبارك للدورة الثامنة لمؤتمر مجمعكم الفقهي الإسلامي الدولي على أديم هذه الأرض الطيبة بندر سري بجاون التي أنعم الله عليها بنعمة الإسلام والسلام، وأكرم أهلها بنور الإيمان ومحبة الرسول، وندبها وقادتها وأهلها للعمل الصالح من أجل حماية الملة وتحقيق النهضة الإسلامية بهذه الربوع من جنوب شرقي آسيا.
فبدعوة كريمة من حضرة بادوكا سيري بجندا جلالة السلطان حاجي حسن البلقيه معز الدين والدولة المعظم كان انعقاد المؤتمر الثامن لمجلس المجمع، وبتشريف جلالته وتفضله بافتتاح دورته السنوية هذه في الأسبوع الأول من شهر محرم الحرام لسنة 1414هـ بقاعدة دولته وعاصمة ملكه، تألق يمن الطالع باجتماع الرئاسة السلطانية مع أكبر هيئة علمية شرعية فقهية دولية في مستهل العام الجديد بهذا البلد الأمين المتحفز للخير والمتمسك بالقيم الإسلامية ومبادئ وأصول الدين الحنيف، فالله نحمد على ما أولى من النعم، وهو سبحانه الكفيل بالتأييد والتسديد، ينصر من نصره ويحرس القائمين على دعوته المتمسكين بحبله.(8/1782)
ولقد كانت التوجيهات التي جاءت في خطاب حضرة السلطان أمام علماء الأمة وفقهائها، في هذه المناسبة الشريفة، تفيض إيماناً وحكمة، وتبشر بالمؤازرة والدعم المستمر لكل عمل جاد إسلامي، فرعاه الله وحفظه وأمده بالقوة والأيد من عنده.
وعلى مدى سبعة أيام دارت أعمال المجمع العلمية تتخللها مسامرة عن السنة النبوية الشريفة ودورها في بناء الأمة وإقامة أمجادها ودرء الأخطار والعدوان عنها وعن شريعتها، وفي الجلسات الصباحية والمسائية بحثت عدة قضايا ومشاكل: أصولية فقهية، وتجارية اقتصادية، واجتماعية، وطبية كان قد تضمنها جدول أعمال هذه الدورة، فقدمت العروض، وجرت المداولات، وتشكلت اللجان، وأعدت القرارات والتوصيات، وكانت دورتنا الثامنة هذه ناجحة.
ناجحة في تنظيمها بما وفرته حكومة جلالة السلطان ووزارة الشؤون الدينية بإشراف معالي الوزير الدكتور داتو حاجي محمد زين من أسباب الرعاية الكاملة والعناية الفائقة، فجزاهم الله عنا خير الجزاء.
ناجحة في إدارة أعمالها بحكمة رئيس المجمع فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله، وبدوره الكبير في جمع الآراء وترتيبها واستخلاص وجهات النظر من المناقشات، والانتهاء بها إلى الغاية التي يعلن عنها المجلس، بعد عميق بحثه وطول مناقشاته.
ناجحة فيما توصلت إليه من توصيات وقرارات حكيمة تؤكد أن الاجتهاد الجماعي المجمعي هو المعتمد في هذا العصر، وأن عليه المعول لما ينطق به من تضافر الجهود، ومقارنة الأقوال والآراء بعضها ببعض، وتناولت القضايا المطروحة تناولاً يقوم على استقصاء البحث، واعتماد الدليل، ومراعاة مقاصد الشارع، وذلك من صفوة العلماء من أعضاء وخبراء المجمع، الذين تقدموا لهذه الدورة بنحو ستين بحثاً، ولا يألون جهداً ولا يدخرون وسعاً في خدمة قضايا الأمة، وتجميع طاقاتها، ومواجهة ما يعترض سبيلها من تحديات، بتحديد المسار، وإيضاح الأحكام، والتيسير على الناس، وفقهم الله للخير، وسدد أعمالهم، وأثابهم ببذلهم وعطائهم أجراً حسناً من لدنه.(8/1783)
وناجحة بما تميزت به أعمال هذه الدورة الثامنة من نتائج يعود الفضل في جمع فرائدها وتقديمها على أكمل الوجوه إلى لجان الصياغة المخصصة بكل موضوع بحث، ومشكل طرح، وإلى المقرر العام لدورتنا هذه سماحة قاضي القضاة الشيخ داتو حاجي عبد الحميد بن باكل، وإلى من حوله من عارضين ومقررين في مختلف البحوث والدراسات.
وإني بهذه المناسبة الكريمة لأحييكم وأهنئكم بما قمتم به من أعمال، وحققتموه من تقدم ومضي بخطوات ثابتة ورصينة على درب الفقه الإسلامي، بالاجتهاد في أحكامه، والاعتماد على الشريعة الغراء شريعة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في استنباط الآراء، ومعالجة المشاكل، وفتوى الناس في أطراف العالم الإسلامي، فلكم التقدير الخالص والشكر من الخلق، والثواب والأجر الموفور، إن شاء الله، من رب العالمين.
ويطيب لي في ختام هذه الكلمة أن أتوجه بخالص مشاعر التقدير وأزكاها للمسؤولين كافة في هذا البلد الرضي الهني، وإلى كل من ساهم من مرافق الدولة في إنجاح هذه الدورة، وإلى أعضاء أمانة المؤتمر القائمين على الطبع والسحب والتوزيع، وإلى التراجمة والمساعدين، وإلى مديري المراكز، وهيئات الاستقبال، وإلى المكلفين بالنقل والفندقة، ولسوف نذكر بكل اعتزاز روعة الترتيب، ودقة التنظيم، وما منحتمونا من عون في تسيير أعمالنا، وتحقيق نتائج دورتنا، وأخلص من ذلك كله إلى شكر وتقدير أجهزة الإعلام والمشرفين عليها، ووكالات الأنباء والصحفيين على ما قاموا به من جهود خيرة لتغطية أعمال هذا المؤتمر الفقهي المجمعي الثامن طيلة انعقاده ببندر سري بجاون، عاصمة بروناي دار السلام مما مكن من نقل صورة مشرفة مشرقة تعبر عن اهتمامات فقهاء العالم الإسلامي، ومواكبتهم للواقع والعصر، وبذلهم أقصى الجهد في النصيحة، وتثبيتهم أسس العدل وأصوله وقواعده بين الناس.
وإلى الدورة التاسعة إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والله من وراء القصد، وهو ولينا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(8/1784)
كلمة الختام
- كلمة صاحب المعالي فيهين جواتن لوار فكرما راج
داتؤسري أوتام دكتور أستاذ حاج أواغ محمد زين
ابن حاج سرودين
وزير الشؤون الدينية – نكارا بروني دار السلام
- البيان الختامي
كلمة
صاحب المعالي فيهين جواتن لوار فكرما راج
داتؤسري أوتام دكتور أستاذ حاج أواغ محمد زين
ابن حاج سرودين
وزير الشؤون الدينية
نكارا بروني دار السلام
في
الجلسة الختامية للدورة الثامنة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
في
7 محرم 1414هـ الموافق 27 يونيو 1993م
في
قاعة المؤتمرات الدولية
نكارا بروناي دار السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغر المحجلين، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
أصحاب المعالي والسعادة، أصحاب السماحة والفضيلة:
إنها لحظات تاريخية مباركة سوف نسجلها بحروف من نور تلك التي نلتقي فيها وصفوة من رجال العلم والمعرفة، يجمعنا وإياهم حبل الله المتين من أجل هدف واحد وهو بيان وشرح أحكام الشريعة الإسلامية على ضوء كتاب الله وسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.
وإنه لمن اليمن وحسن الطالع أن يواكب هذا المؤتمر مناسبة عزيزة على المسلمين جميعاً، وهي ذكرى هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي كانت نقطة تحول في تاريخ الدعوة إلى الله، وإننا إذ نستروح شذاها مع باكورة عام هجري جديد ليسعدنا أن نتقدم إليكم جميعاً بأسمى آيات التهاني بهذا العام الهجري الجديد، سائلين الله العلي القدير أن يجعله عام خير وبركة على أمتنا الإسلامية.(8/1785)
أيها الحفل الكريم:
إن انعقاد مؤتمركم هذا على أرض السلام –بروني دار السلام- له دلالته الواضحة، فهو يعبر عن اهتمام كبير من جلالة السلطان الحاج حسن البلقية معز الدين والدولة سلطان دان يعد فرتوان نكار بروني دار السلام بأي عمل يكون من شأنه تبصير الناس بأمور دينهم ودنياهم، وتوضيح ما عن على الفكر فهمه من الأحكام الشرعية، وأن حكومة جلالة السلطان الحاج حسن البلقية معز الدين والدولة لا تدخر جهداً ممكناً من أجل العمل على تعميق المفاهيم الإسلامية الصحيحة، النابعة من الكتاب والسنة، بعيداً عن التعصب والتطرف والغلو في نفوس المسلمين حتى يرتفع شأن الإسلام والمسلمين في العالمين، وتتحقق لهم الخيرية التي وصفهم بها رب العالمين حين قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] .
إننا هنا في بروني دار السلام نشعر بمسؤوليات عديدة وكبيرة تجاه عقيدتنا وشريعتنا وأمتنا الإسلامية، وإن من أعظم هذه المسؤوليات أن حكومة جلالة السلطان المفدى تسخر كل إمكاناتها وطاقاتها، وتجند أجهزتها ورجالها، وتبذل كل غال ونفيس من أجل خدمة الإسلام والمسلمين، يدفعها إلى ذلك الإيمان بالله وطاعته والتقرب إليه؛ لأنها تعلم عظيم المسؤولية، وتعي شرف المهمة، وتعرف عظيم الأجر والثواب.
أصحاب المعالي والسعادة، أصحاب السماحة والفضيلة:
اسمحوا لي أن أتقدم من خلالكم بالشكر الجزيل لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي لاختياره بروناي لإقامة ذلك المؤتمر الفقهي الكبير، كما أتقدم أيضاً بالشكر وعظيم الامتنان لكم أيها العلماء الأجلاء عن تلك الجهود الطيبة التي بذلتموها خلال إقامتكم، وإننا لنعرب لكم عن مدى سعادتنا بوجودكم المثمر بيننا خلال فترة انعقاد المؤتمر، ونرجو أن تكونوا قد سعدتم بتلك الإقامة وتعودوا إلى بلادكم تصحبكم سلامة الله وأمنه، وقد حملتم في قلوبكم انطباعاً سعيداً عن إخوتكم في الله، ووقفتم على مدى ما أنجز وما سينجز من أعمال تخدم الإسلام والمسلمين في هذه البلاد.
وإننا نتمنى من كل قلوبنا أن نخرج من هذا المؤتمر بقرارات وتوصيات مثمرة تعود منفعتها على أمتنا الإسلامية وندعو الله من كل قلوبنا أن يكلل تلك الأعمال بالنجاح والتوفيق والسداد، وأن يأخذ بأيدينا إلى طريق الهدى والرشاد، وأن يجزي كل من ساهم في إنجاح هذا المؤتمر كل الجزاء، كلأكم الله بعنايته وشملكم بوافر رحمته ورعايته.
وسدد خطاكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/1786)
العدد التاسع(9/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يسعدني أيما سعادة أن أقدم هذا العدد التاسع من مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة إلى قادة دولنا الإسلامية وإلى القراء في جميع أنحاء العالم الإسلامي.
وقد جاء هذا العدد زاخرا، على غرار الأعداد السابقة، بمادة علمية وفيرة، متضمنا دراسات قيمة لقضايا كثيرة وجديدة، يجد فيها الدارسون والباحثون على اختلاف مشاربهم ضالتهم المنشودة ورغبتهم في الاستزادة من العلم والمعرفة، وكيف لا! ؟ وهذا العدد قد احتوى على أغلب العلوم من فقه واقتصاد وطب واجتماع.
ومن ناحية أخرى، فإن أبحاث هذا العدد وردت في مسائل تتعلق بحياة المسلم اليومية، ولا أدل على ذلك من أن الموضوعات الاقتصادية التي دُرِسَتْ فيه هي كلها في قضايا مستجَدة يحتاج المسلم لأن يعرف حكم الله فيها أولا بأول.
وكما هو معلوم، فإن الاقتصاد الذي يمثل عصب الحياة، خاصة في عصرنا هذا، يشهد تطورات وتقلبات مستمرة وسريعة ومتعددة الجوانب، لذا فهو يستدعي عناية خاصة ومتابعة ودراسة جادة.
ولا شك أن ذلك هو السبب في أنه لم يخل مؤتمر من مؤتمرات المجمع من موضوع أو عدة موضوعات اقتصادية.
أما العدد التاسع من مجلتنا فيمكن أن يطلق عليه دونما تردد العدد الاقتصادي، حيث إن ستة من الموضوعات التسعة المطروحة على بساط البحث هي اقتصادية، ابتداء من تجارة الذهب والسلم، ومرورًا بالاستثمار في الأسهم والودائع المصرفية، وانتهاءً بالمناقصات وكساد النقود الورقية.
ومع صدور العدد التاسع من مجلة المجمع يصل عدد مجلدات مجلة المجمع إلى سبعة وعشرين مجلدا، مما يشكل ثروة علمية ضخمة تضاف إلى المكتبة الإسلامية الكبيرة لتساهم في إنارة الطريق للمسلمين في حاضرهم ومستقبلهم.(9/2)
ولا عجب، فلقد جاءت فكرة إنشاء مجمع الفقه الإسلامي الدولي أساسا من أجل تبصير المسلمين بأمورهم الدينية والدنيوية، وذلك عن طريق اجتهاد جماعي متأصل من علماء الأمة وفقهائها الذين هم ورثة الأنبياء، كما ورد في الحديث الشريف.
وإلى جانب الدورات، فإن المجمع يعقد مع عدد من المؤسسات الإسلامية ندوات متخصصة في قضايا فقهية واقتصادية وطبية واجتماعية، بهدف التمهيد والتوطئة لمؤتمرات مجلس المجمع، أو لإجراء مزيد من التمحيص والدراسة لبعض الموضوعات التي سبق عرضها على دورة من الدورات، ولكنها لم يكتمل جميع جوانبها من الدراسة، فيوصى ببحثها في ندوة متخصصة استعدادا لعرضها مرة أخرى على دورة لاحقة يتم فيها اتخاذ قرارات بشأنها.
وفي نهاية هذه الكلمة أرى لزاما على أن أُنَوِّهَ بجهود أعضاء مجلس المجمع من فقهاء وباحثين وخبراء، وأخص بالذكر رئيس المجلس، في هذه المؤسسة الأصيلة، سائلا المولى عز وجل أن يجازيهم عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء وأجزله.
كما لا يفوتني أن أُعرب عن فائق الشكر والثناء إلى العاملين بالأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي، وعلى رأسهم الأمين العام الذي لم يدخر أي وسع في سبيل الرقي بالمجمع.
وأخيرا، أنتهز هذه الفرصة لتوجيه نداء حار إلى جميع قادة الدول الإسلامية لكي يمدوا لهذه المؤسسة الإسلامية الدولية يد العون المادي والمعنوي حتى تتمكن من أداء رسالتها النبيلة على الوجه الأكمل.
والله أسأل أن يكلل جهودنا، ويسدد خطانا، ويوفقنا لخدمة الإسلام والمسلمين، إنه تعالى سميع مجيب الدعوات.
والله ولي التوفيق، وهو من وراء القصد.
د. حامد الغابد
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي.(9/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة المجمع
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان الدائمان على خيرة الصفوة من خلقه، محمد، المبعوث من قبل رب العالمين بالحنيفية السمحاء، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبع هداه واقتفى أثره إلى يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم، وبعد:
يسعد مجمع الفقه الإسلامي بجدة أن يقدم العدد التاسع من مجلته السنوية، الذي جاء زاخرا بحلول لعدد من القضايا التي لم يسبق حلها بقرارات جماعية، مثل السلم وتطبيقاته المعاصرة، والتي تعطي توسعة للعمل في المصارف الإسلامية، ومرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) في تفاصيله وقضاياه الدقيقة، والتي تهم، بالدرجة الأولى، رجال الطب والقضاء في العالم الإسلامي.
هذا ومن المعلوم أن مجمع الفقه الإسلامي بجدة ما انفك ساعيا إلى تحقيق مجموعة من الأهداف السامية منها:
أداء واجب الاجتهاد الجماعي، والنظر في قضايا الأمة الإسلامية المعاصرة بما يحقق مصالح المسلمين وآمالهم وحل مشاكلهم.
شرح مبادئ هذا الدين الحنيف، ودحض الشبهات عنه، والتصدي للافتراءات التي يريد بها أعداء الإسلام فتنة المسلمين عن دينهم، وزعزعة عقيدتهم، وبلبلة أفكارهم، وتمزيق وحدتهم.
واستطاع المجمع أن يواصل مسيرته الخيرة المباركة، بفضل من الله تبارك وتعالى، ثم بجهود نخبة طيبة من علماء الأمة الإسلامية وخبرائها المتخصصين في مختلف المجالات الفقهية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والطبية وغيرها.
وقد انعقدت الدورة التاسعة، لمجلس المجمع بمدينة أبو ظبي في الفترة ما بين 1- 6 ذي القعدة 1415هـ (1- 6 إبريل/ نيسان 1995م) برحاب المجمع الثقافي، وتميزت بمشاركة عدد غفير من أصحاب الفضيلة العلماء وجمع كبير من الباحثين والمفكرين المقتدرين والخبراء المتخصصين، بجانب أعضاء المجمع المنتدبين وكبار الشخصيات الإسلامية الذين تشرف بعضهم بإلقاء كلمات في حفل الافتتاح.
وحظيت هذه الدورة بإشراف صاحب السمو الشيخ آل زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة عليها، أجزل الله مثوبته، وبارك في عمره، فقد تكرم، حفظه الله، بإنابة سمو الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التعليم العالي، لتمثيله في افتتاح هذه الدورة وإلقاء خطابه السامي، الذي نوه فيه بدور المجمع الرائد وبرسالته النبيلة، مُرَحِّبًا بالمشاركين في هذه الدورة من علماء المسلمين، الذين اجتمعوا على الهدى والخير، للتدوال في القضايا والمسائل المستجدة التي تمس الجوانب الدينية والاجتماعية والاقتصادية والمالية في حياة المسلمين، على نحو ينبع من مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء، ويؤكد في الوقت ذاته على دعم النواحي الروحية والاجتماعية في الإنسان، بما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة.
وقد اعتبر المؤتمر خطاب صاحب السمو رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، حفظه الله، وثيقة رسمية لأعمال الدورة.(9/4)
هذا، وقد بلغت جلسات العرض والمناقشة، بالإضافة إلى جلستي الافتتاح والختام (12) اثنتي عشرة جلسة، وجاوز مجموع الأبحاث التي شملها العرض (70) سبعين بحثا، إضافة إلى توصيات الندوة الفقهية الطبية للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت، والوثيقة التي ضمت إليها.
وتناولت هذه الأبحاث والدراسات معالجة القضايا والموضوعات التالية:
1- تجارة الذهب والحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة.
2- السَّلَم وتطبيقاته المعاصرة.
3- الودائع المصرفية (حسابات المصارف) .
4- الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية.
5- المناقصات.
6- قضايا العملة.
7- مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي.
8- سد الذرائع.
9- مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) .
وبعد المناقشات والمداولات بين أصحاب الفضيلة الأعضاء والخبراء والباحثين، توصل مجلس المجمع – بحمد الله وتوفيقه – إلى اتخاذ قرارات وتوصيات بالإجماع بشأن المسائل المطروحة.
وإنا لنرجو أن يجد القراء في هذه المسائل، وغيرها من موضوعات هذا العدد، ما يروي ظمأهم، ويشبع نهمهم، ونسأله سبحانه أن يمد - بتوفيق منه - القائمين على شؤون هذا المجمع للنهوض بمسؤوليتهم كاملة، نحو الأمة الإسلامية، وبيان حكم الله تعالى في كل ما يطرأ من مشكلات العصر. إنه تعالى بالإجابة جدير وعليها قدير.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛؛
الأمين العام للمجمع رئيس مجلس المجمع
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة بكر بن عبد الله أبو زيد(9/5)
كلمة صاحب السمو
الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان
رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة
وقد ألقاها نيابة عنه سمو الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان
وزير التعليم العالي
بسم الله الرحمن الرحيم (1) .
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،
أصحاب الفضيلة العلماء،
أصحاب المعالي والسعادة،
ضيوفنا الكرام،
أيها السادة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أحييكم أطيب تحية، وأرحب بكم أجمل ترحيب، ويسعدني ويشرفني في بداية هذا الحفل، أن أنقل إليكم تحيات راعي المؤتمر: صاحب السمو الوالد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة –حفظه الله- والذي يؤكد دائما على دور الشريعة الإسلامية وأثرها الكبير كمحرك للنظام الاجتماعي العام، ويوجه بصفة خاصة إلى أهميتها وسيلة للتواصل وحصنا للأمن والأمان، بل وسبيلا صحيحا لتوجيه مسار المسلمين في عصرنا الحاضر، يتحقق بها ومن خلالها رعاية مصلحة الفرد ومصلحة الأسرة ومصالح المجتمع.
إن سموه يؤكد كذلك أن من واجبنا جميعا، أن ننظر إلى كافة أنشطة المجتمع وفعاليته نظرة إسلامية صميمة، وأن نبحث دائما عن السبل الملائمة لتوجيهها، وكيفية التعامل معها والتفاعل بها، بحثا عن الحلول اللازمة لكل ما يطرأ من أحداث، أو ينشأ من المشكلات، نستلهم في كل ذلك روح التشريع، كما نراعي في الوقت ذاته ضرورات الحياة.
لكل ذلك تأتي أهمية مؤتمركم، ويأتي أيضا اهتمامنا الكبير به.
وبهذه المناسبة الطيبة: مناسبة انعقاد مؤتمركم الموقر، يسعدني أن أعلن لكم، أن صاحب السمو رئيس الدولة، قد بعث إلى هذا المؤتمر الهام بكلمة كريمة، يشرفني أن أوجهها إليكم الآن، باسم سموه.
إن شريعة الله –كما تعلمون أيها السادة الأفاضل- إنما تقوم على عدد من المرتكزات الثابتة والراسخة، أساسها الإيمان بالله، وقوامها كلمة التوحيد، ومن هذا المنطلق تدعو شريعة الإسلام السمحة إلى الوحدة والتآخي والتعاون؛ من أجل تحقيق مصلحة العباد، وتلبية احتياجاتهم، بل وإيجاد الحلول اللازمة، لكل ما يطرأ لهم من قضايا، أو ينشأ أمامهم من مشكلات.
__________
(1) قرر اعتبار خطاب صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وثيقة أساسية ضمن وثائق المؤتمر يرجع إليها وتعتمد في سيره مستقبلا(9/6)
والشريعة الإسلامية إلى جانب هذا كله، إنما تمد المسلمين بزاد فكري ونظام قانوني، بل وعطاء روحي كبير، يكفل لكل منهم حياة طيبة رشيدة آمنة. إنها بذلك، إنما تستهدف توفير الطمأنينة، وتحقيق الاستقرار في المجتمع، وإنها من جانب آخر، تدعو إلى العلم والنظر، وتحث على الاجتهاد والتفكير، طالما يملك العلماء والمهتمون الأدوات اللازمة لذلك. وهذا كله، يتيح المجال لتحقيق رخاء المجتمع الإسلامي وازدهاره، ويؤدي بدوره، إلى مزيد من العطاء والإنجاز، في ركب الحضارة الإنسانية وتقدمها.
ومن فضل الله، أن شريعة الإسلام والمسلمين، قد جاءت في كل ذلك، عامة وشاملة: لا ترتبط بزمن معين، ولا تتوجه إلى جماعة دون أخرى، كما لا تخاطب مجتمعا دون مجتمع، بل إنها للإنسان – أي إنسان – أينما وجد، وحيثما كان: تجسد دائما أمام كل الناس: أن الدين الإسلامي يسر لا عسر، وأن فقه الشريعة مرن بطبيعته، متطور في تكوينه، يقوم على الاجتهاد وإعمال العقل، والأخذ بأسباب العلم والمعرفة، في إطار من روح الشرع وجوهر الدين.
إنني أنتهز مناسبة انعقاد هذا المؤتمر، لأخاطبكم – أنتم علماء الأمة – قائلا: إنه يقع على أكتافكم إعداد مجتمعاتنا الإسلامية على أسس سليمة في الاعتزاز بالقيم وترجمة الفضائل إلى سلوك، بل وفي توجيه هذه المجتمعات إلى كيفية التعايش مع الحاضر، وطريقة التعامل مع تحديات المستقبل. وفي سبيل ذلك كله تقع على عاتقكم واجبات كثيرة، لعل أهمها البحث والدراسة عن كافة جوانب الحياة في ضوء معطيات الشريعة الإسلامية الشاملة والخالدة، وإن مهمتكم الكبيرة، إنما تكمن في الأخذ بأيدي مجتمعاتنا: ترشدونها، تصوبون مسيرتها، توجهونها الوجه السليمة والصحيحة، وصولا إلى تصورات واضحة، وبرامج عمل يسهل تطبيقها، من أجل تحقيق نظام اجتماعي واقتصادي إسلامي: شامل ومتكامل، يحقق للأمة الإسلامية، القدرة على التعامل والتفاعل، في إطار تحديات كبيرة، يفرضها الواقع، وتحتمها الظروف في ظل النظام العالمي المتغير.
إننا أيها السادة الأفاضل، نضع ثقتنا وتفاؤلنا في هذا المؤتمر: نتوقع منه، أن يخلص إلى عدد من الفتاوى العملية السديدة، وأن يقترح نماذج من طرق العمل الرشيدة والهادفة، وأن يضع من برامج التوجيه، ما يمكننا من مواجهة مشكلات هذا العصر، والتغلب عليها في آن واحد. نريد من مؤتمركم: أن يعمق للجميع، فقه الاجتهاد وأساليبه، وأن يكون هذا الاجتهاد، في إطار الأسس التي أجمع عليها السلف والخلف، قائما على ما جاء بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
نريد صياغة ملائمة، لكثير من النظم والإجراءات، التي تكفل النجاح لإدارة هيئات ومؤسسات المجتمع، تحقق لها الكفاءة والفاعلية، وتبعث في القائمين عليها شعور الفخر والاعتزاز.(9/7)
نريد لهذه النظم والإجراءات، أن تكون – في ضوء معطياتكم – نموذجا رائدا، يضمن لنا النجاح، في كل ما نأتي وما ندع، وأن تكفل لنا في الوقت ذاته عدم الانعزال عن العالم، بل تظل مرتبطة بالتطورات الجارية والحادثة، ولا تتخلف عن الركب الحضاري، بأي حال من الأحوال.
نريد كذلك توجيه الفرد المسلم، لإعادة صياغة أموره الحياتية، وفق منهج إسلامي رشيد، كما نريد الحلول المناسبة، لعدد من القضايا الفقهية المعاصرة سواء في المجال الاقتصادي أو الطبي أو الاجتماعي بوجه عام.
إنه في هذا الإطار الواضح، تتحدد، رسالة مؤتمركم الفقهي، وتتبلور فعالياته، لما يقدمه للأمة الإسلامية من خدمات جليلة: تثري حياتها، وتجدد واقعها، وترشد إلى مستقبلها، كخير أمة أخرجت للناس.
وإنني إذ أرحب بانعقاد هذا المؤتمر، وأتفاءل بكل ما يصدر عنه من مقترحات أو توصيات، لآمل أن تكون الفتاوى والقرارات التي تتخذونها، في متناول الجميع للإفادة منها، والعمل بها، كي يتحقق الترابط والتواصل الفكري والحقيقي، بينكم أنتم علماء الأمة، وبين جمهرة المسلمين في كل مكان.
أكرر الترحيب بكم مرة أخرى في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي الدولة التي يسعدها كثيرا أن تسهم في إيصال هذه الرسالة، وأن تبادر إلى تفهم حقيقة هذا الدور، والجهد الكبير المناط بكم يدفعها إلى ذلك طموحات متصلة وتاريخ عريق أنجبت خلاله كوكبة فريدة من علماء الأمة الإسلامية وأعلامها، ساهموا في تحديد الطرق ووضع القواعد، وإرساء التقاليد لانطلاقة شاملة تربط بين الدين والدنيا، وتحقيق الخير للفرد.
نرجو لكم أيها السادة الأفاضل طيب الإقامة في بلدكم الثاني:
الإمارات العربية المتحدة، كما نأمل للجميع دوام التوفيق والسداد.
وفقكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/8)
كلمة معالي
الشيخ محمد بن أحمد بن حسن الخزرجي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف لدولة الإمارات العربية المتحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سمو الشيخ نهيان بن مبارك* نائبا عن صاحب السمو رئيس الدولة* لهذا الحفل الكريم.
أصحاب المعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
الأعضاء المشاركون
أيها السادة الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ينعقد هذا المؤتمر تحت رعاية صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة – حفظه الله ورعاه – وقد دأب – أكرمه الله – على أن يرعى القضايا الإسلامية بجانبيها العلمي والعملي وأن يهتم اهتماما غيورا بأحوال المسلمين في كافة أنحاء العالم.
فباسم دولة الإمارات رئيسا وحكومة وشعبا نرحب بكم أجمل ترحيب بمناسبة افتتاح الدورة التاسعة لمجمعكم الموقر في مدينة أبو ظبي، وبذلك تسعد دولة الإمارات بحضوركم كما سعدت من قبل طيلة شهر رمضان المبارك فاستضافت نخبة من كبار علماء العالم الإسلامي على نفقة صاحب السمو رئيس الدولة لإحياء ليالي رمضان بالفكر الرصين والموعظة الحسنة، فكانوا يشكلون مؤتمرا إسلاميا مفتوحا – طيلة شهر كامل – وذلك مكرمة سموه في كل عام.
واليوم تستضيفكم دولة الإمارات بكل تقدير واعتزاز، أيها العلماء الأجلاء، من علماء الإسلام فقهاء وخبراء وباحثين؛ لتقولوا كلمتكم وتنيروا دروب الحياة المعاصرة بالفقه والفكر والحوار، كي تقدموا لأمتكم الحلول المناسبة لما جَدَّ من قضايا، وتوضحوا لهم المناهج المطلوبة
لمسيرة حياتهم الإسلامية الكريمة.(9/9)
وهذا المؤتمر الموقر يؤكد لنا ولكم حرص صاحب السمو رئيس الدولة وحكومته الرشيدة على دعم المجمع الفقهي واحترام الأمين العام وأعضائه الكرام المستنبطين من صفحات الكتب الخالدة أحكاما للنوازل التي يعيشها مجتمعنا الحاضر ووضع الحلول المناسبة لها بعيدا عن تيارات التعصب والغلو مستنيرا بنهج المصطفى، صلوات الله عليه وسلامه، في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإبراز الرسالة الإسلامية، وقد دأبت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف على الصعيدين الداخلي والخارجي على طباعة كتاب الله، سبحانه وتعالى، وتوزيعه، وطبع ونشر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب الفقه، وإحياء التراث الإسلامي، ودعم وتنمية المشاريع الإسلامية؛ بغية تقوية الروابط الإيمانية وتحقيق الأخوة الإسلامية.
وفي مجال المشاركة في الندوات والمؤتمرات الدولية فإن الوزارة ما تباطأت في تلبية أي دعوة للمشاركة في أي لقاء أو حوار أو ندوة لتقدم من خلاله البحوث والدراسات والآراء المنشودة وبتوجيهات من صاحب السمو، فللوزارة نشاطاتها الخارجية على مستوى تأسيس المراكز الإسلامية والثقافية في الداخل والخارج وذلك بالتعاون والتنسيق مع الهيئات المتخصصة.
وفي الختام: كل التقدير والاحترام لكم ولآرائكم، وأجمل الترحيب بكم في بلدكم دولة الإمارات العربية المتحدة.
جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين كل خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/10)
كلمة معالي
الدكتور حامد الغابد
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على النبي المبعوث رحمة للعالمين
صاحب السمو،
أصحاب السمو والمعالي والفضيلة،
أيها الأخوة،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
إنه لمن دواعي الشرف والغبطة أن أحضر اليوم افتتاح الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي الذي ينعقد تحت الرعاية السامية والكريمة لصاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي هذه الأرض الإسلامية الطيبة التي كانت على مر الزمان قلعة حصينة للإسلام وملاذا للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
إن انعقاد هذا المؤتمر الذي يجمع نخبة من العلماء والفقهاء والمفكرين ذوي الاختصاص في التشريع الإسلامي ومقاصد الشريعة، في عاصمة الإمارات العربية المتحدة واختيارهم لها لعقد مؤتمرهم هذا ليتمكنوا من مناقشة عدة قضايا فقهيه تمس حياة المسلمين هو تقدير لدور سمو الشيخ زايد الرائد في العمل الإسلامي المشترك واعتراف بإسهامه البارز في خدمة الإسلام الذي استوحى منه الأسس التي بنى عليها هذه الدولة، ووحد بها إماراتها، فأصبحت قوية، وغنية، وعزيزة، وأضحت للأمة الإسلامية معينا لا ينضب، ولشعوبها ذراعا لا تكل، تدافع به عن كرامتها وتواسي به ضعفاءها وتقيهم نوائب العصر.
فباسمي الخاص، وباسم منظمة المؤتمر الإسلامي وباسم المؤتمرِين أتوجه بالشكر الجزيل لصاحب السمو رئيس الدولة على رعايته الكريمة لهذا المؤتمر.
ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أشيد بالدعم الثابت الذي تلقاه منظمة المؤتمر الإسلامي ومؤسساتها وخاصة مجمع الفقه الإسلامي من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، ملك المملكة العربية السعودية الذي ما فتئ يولي المجمع رعاية خاصة منذ تأسيسه، ويقدم له شتى أنواع الرعاية والمساندة، وما طبع كتاب (عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة) لابن شاس على نفقته الخاصة إلا دليل آخر على هذه الرعاية الملكية التي لا تنقطع.(9/11)
كما لا يفوتني أن أجزل الشكر لمعالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف الشيخ محمد بن أحمد حسن الخزرجي ومعاونيه الأكفاء على تعاونهم المخلص والبناء مع صاحب الفضيلة معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام للمجمع ومساعديه، من أجل توفير حظوظ النجاح لهذا اللقاء الإسلامي الهام.
كما أوجه كلمة شكر صادقة إلى فضيلة رئيس مجلس المجمع معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، على حرصه الأكيد أن يكون المجمع في مصاف المؤسسات الإسلامية الرائدة.
صاحب السمو،
أصحاب السمو والمعالي والفضيلة،
أيها الإخوة،
إن الإسلام يحمل في جوهره رسالة إنسانية شاملة، جامعة تتعدى إطار الزمان والمكان جاء لإيجاد الحلول الملائمة لمشاكل الإنسان، وميزة هذا الدين العظيم هو الاعتدال والوسطية، يساير التطور البشري وسنن الكون، لا يجمد، ولا يتقوقع على نفسه، ولا يعرف التعصب والتفرقة بين الناس، فأينما وجدت مصلحتهم فثم شرع الله، كما عبر عن ذلك أحد أئمتنا الأجلاء، إنه لا يخشى التيارات الفكرية ولا النظريات الفلسفية التي عرفتها الحضارات الإنسانية قبل مجيئه، بل استطاع استيعابها ليخرج بحضارة إسلامية أصيلة تعتبر خلاصة لمسيرة الحضارة الإنسانية منذ الخلق.
وإذا عرف هذا الفكر الإسلامي الوثاب بعض النكسات في مرحلة معينة من تاريخه الطويل، فهذا لا يرجع إلى طبيعته ولكن مرده إلى جملة من الظروف الغريبة عنه وعن روحه السمحاء مما أدى إلى تشتت شمل المسلمين وبداية عهد الانحطاط.
صاحب السمو،
أصحاب السمو والمعالي والفضيلة،
أيها الإخوة،
لقد مضى اليوم أكثر من عقد على إنشاء مجمع الفقه الإسلامي والذي يعقد دورته التاسعة بمشاركة هذه النخبة من فقهائه وعلمائه في جميع الاختصاصات، وكان الهدف من تأسيسه هو دراسة كل مستجدات الحياة وما تفرزه الحضارة المعاصرة من مشاكل تفرض نفسها على المجتمع الإسلامي في جميع الميادين سواء كان ذلك يتعلق بالعبادات أو المعاملات، وكان لا بد لمواكبة العصر أن يعد لها هذا المجمع الجليل الحلول الملائمة، ويعطي الحكم الشرعي فيها، وهكذا كان نشاط هذه المؤسسة الرائدة حافلا منذ تأسيسها، فاستطاع أن يعالج مسائل كثيرة تتصل بحياة المسلم اليومية.
وإذا ألقينا نظر خاطفة على جدول أعمال هذه الدورة نجد أن القضايا التي تثار فيه تمس أكثر نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المسلم في حياته اليومية، تبدأ من سد الذرائع، ومبدأ التحكيم، مرورا بالودائع المصرفية حتى المفطرات في مجال التداوي، بحيث يمكن أن نقول أن هذه القضايا التي تطرح نفسها الآن على علماء الإسلام وفقهائه لم تكن مطروحة في الأزمنة الماضية، فالتكفل بها وتقويمها والاجتهاد في الحكم فيها ضرورة حتمية إذا أردنا أن نواجه التحدي الذي تفرضه علينا الحضارة المعاصرة.(9/12)
ومن الجدير بالملاحظة أن دور المجمع لم يقتصر على عقد مؤتمراته السنوية، بل تعدى ذلك إلى إقامة ندوات متخصصة عدة ومجالس علمية كثيرة يصب جميعها في نفس الاتجاه. ثم إلى جانب المؤتمرات والندوات والمجالس العلمية هناك مشاريع المجمع العلمية مثل: الموسوعة الفقهية الاقتصادية، ومعلمة القواعد الفقهية، وإحياء التراث والتي تسير جنبا إلى جنب مع هذه وتلك لتكون في نهاية المطاف معلما ضخما متكامل الأطراف.
ورغم ما بذله المجمع من جهود طيبة، فإن الأمة لا تزال تنتظر منه المزيد، فالتطور لا يتوقف، وتقدم التكنولوجيا مستمر.
ومن ناحية أخرى، فهناك بعض الفئات من أفراد هذه الأمة محرومون من معرفة ما يصدر عن المجمع من نشاط، ذلك أن أغلب نشاطاته باللغة العربية ويستحسن أن يهتم المسؤولون بترجمة بعض المواضيع الهامة إلى اللغات الإسلامية الأخرى تعميما للفائدة.
وبهذا الصدد أناشد الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي بمعاونة هذه المؤسسة الهامة لتتمكن من أداء دورها كاملا، وذلك بتسديد مساهماتها المالية نحوها وتقديم مزيد من الدعم إليها.
صاحب السمو،
أصحاب السمو والمعالي والفضيلة،
أيها الإخوة،
إن العالم الإسلامي يواجه تحديات خطيرة وأزمات تكاد تكون مزمنة، فتكالبت عليه قوى الشر والعدوان، فأين أدرت وجهك في أرجائه تجد نارا مشتعلة، وأزمات داخلية تهدر قواه، وفتنا تنخر عظامه.
فالقدس أول القبلتين وثالث الحرمين الشريفين تواجه اليوم أشرس حملات التهويد، في تحدي إسرائيلي صارخ لقرارات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وهذا الشعب الفلسطيني الذي ما زال يناضل منذ عقود طويلة لاسترجاع أرضه وتكوين دولته والعيش بسلام، لم يحقق إلى الآن حقوقه المشروعة، رغم إمضائه على اتفاقيات السلام التي تماطل إسرائيل في تطبيقها وتنتحل جميع الأعذار لعدم الوفاء بالتزاماتها الدولية.(9/13)
أما شعب البوسنة والهرسك، فلا يزال تحت رحمة قوات الصرب المعتدية، وكأن جريمة هذا الشعب هو كونه مسلما، وإلا كيف يمكن تفسير موقف المجتمع الدولي وسكوته عن المجازر الرهيبة التي ترتكب في حقه، منذ ثلاث سنوات.
ولا يسعنا إلا أن نتأسف على الوضع الذي آلت إليه أفغانستان من جراء الاقتتال بين الإخوة الأشقاء وتمزيق وحدة هذا البلد المسلم رغم المحاولات الجادة التي قامت بها كل من منظمة المؤتمر الإسلامي والأمم المتحدة لحل هذا النزاع الذي بات يهدد وجود الشعب الأفغاني نفسه.
كما لا يفوتني أن أشير إلى معاناة الشعب المسلم في كشمير والتأكيد على ضرورة تمكينه من تقرير مصيره تمشيا مع قرارات الأمم المتحدة. وما زلنا نتابع بقلق التطورات الجارية في منطقة القوقاز وفي الشيشان بوجه خاص. ولقد طلبنا من الاتحاد الروسي أن يضع حدا للعمليات العسكرية ويبحث عن حل سلمي للأزمة الشيشانية. إننا نحث المجتمع الدولي على استخدام نفوذه لإجبار الاتحاد الروسي على إيقاف مجزرة المسلمين وقصف مدنهم وقراهم في الشيشان.
صاحب السمو،
أصحاب السمو والمعالي والفضيلة،
أيها الإخوة،
إن الإسلام يتعرض حاليا لهجمة شرسة من طرف بعض الأوساط المناوئة التي باتت تعتقد، بعد انهيار الكتلة الشرقية، أن الخطر المحدق بها هو الإسلام، وقد استغلت هذه الأوساط أعمال التطرف التي ظهرت في بعض بلداننا الإسلامية لتشويه صورة الإسلام وقيمه، متجاهلة أن هذه الأزمات ليست ظاهرة خاصة بالعالم الإسلامي، فهي موجودة في كثير من البلدان، ولهذا يجب التصدي لهذه الحملات المغرضة والعمل على إزالة هذه الازدواجية بين الإسلام والإرهاب التي تروج لها بعض الأوساط لأغراض سياسية.(9/14)
وفي هذا الإطار، جدد قادة الأمة الإسلامية أثناء القمة السابعة بالدار البيضاء، التأكيد على إدانتهم لكافة أشكال الإرهاب، وتجدر الإشارة هنا إلى أن منظمة المؤتمر الإسلامي كانت أول منظمة دولية اعتمدت مدونة سلوك لمكافحة الإرهاب.
صاحب السمو،
أصحاب السمو والمعالي والفضيلة،
أيها الإخوة،
أعتقد أن إصلاح حال العالم الإسلامي أمر ممكن إذا ما عملنا بإخلاص على تعزيز تضامننا والتزامنا بتعاليم ديننا الحنيف الذي يحثنا على التآخي والتآزر ويحملنا على العمل من أجل غد مشرق لأجيالنا القادمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(9/15)
كلمة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
الدكتور أحمد محمد علي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
معالي رئيس المجلس
معالي أمين عام المجمع
أصحاب الفضيلة الأعضاء.. أيها الإخوة الحضور:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فإنه من دواعي سروري أن أتشرف بحضور هذه الدورة المباركة لمجمعكم الموقر تلبية لدعوة كريمة تلقيتها من أخي معالي أمين عام المجمع الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، ويسعدني أن أنقل إليكم تحيات رئيس وأعضاء المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
أيها الإخوة:
لقد حفظ الله لهذه الأمة كيانها بحفظ دينها قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: 9] وقيض لها أفذاذ العلماء وأساطين المفكرين وجهابذة الفقهاء من سلف هذه الأمة فحملوا مشعل الهداية للعالمين ونوروا عقول الأجيال المتعاقبة بنور العلم والمعرفة بالمؤلفات القيمة النافعة التي تملأ مكتبات العالم اليوم بمختلف العلوم والفنون.
ومن واجب الخلف من علماء الإسلام وفقهاء الأمة أن يحافظوا على هذا التراث العظيم بنشره وتعليمه وصيانته وتطويره ليواكب احتياجات الأمة في العصر الحديث.
ولما كان هذا الواجب الذي تمليه الشريعة الإسلامية على المسلمين وفي مقدمتهم فقهاؤهم تنادى المخلصون منهم فأنشؤوا عددا من المجامع الفقهية والمجالس العلمية التي تهتم بقضايا المسلمين المعاصرة وبدراسة المشكلات التي يواجهها المسلمون في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية المعاصرة، وأسهموا في إيجاد الحلول المناسبة لها من الشريعة الإسلامية الخالدة.(9/16)
أيها الإخوة:
لقد كان من فضل الله، عز وجل، على الأمة الإسلامية أن قيض لها هذه المجامع الفقهية والمجالس العلمية ليرجع الناس إليها عند حدوث أي مشكلة ويفزعوا إليها عندما تجد قضية تشغل حياة المسلمين.
إن مجمعكم الموقر والمجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي لهما مكانة سامية في نفوس المسلمين لأنهما يضمان نخبة ممتازة من فقهاء الأمة وعلمائها الذين يقومون بدراسة القضايا المعاصرة ويبحثون المسائل المستجدة وينزلونها على النصوص ويقدمون بحوثا قيمة من تراثنا الفقهي الإسلامي تكون مرجعا ومستندا للمسلمين في شتى بقاع العالم الإسلامي.
أيها الإخوة:
وبهذه المناسبة يسرني أن أنوه بما بين هذين المجمعين من تنسيق وتعاون ورغبة صادقة في توحيد الجهود لما فيه مصلحة الأمة الإسلامية.
ولقد أصدر المجمعان عددا كبيرا من القرارات والتوصيات كان لها بحمد الله، القبول التام والنفع العام في شتى مجالات الحياة.
ولقد تم نشرها وتوزيعها على أوسع نطاق بين المسلمين وبخاصة لدى المؤسسات والجمعيات الإسلامية في العالم؛ تم ذلك كله بتوفيق الله أولا ثم بتضافر الجهود بين المسؤولين في المجمعين بارك الله جهود الجميع.
وأتطلع إلى المزيد من التعاون بين المجمعين وإلى زيادة التنسيق وتمتين العلاقات بينهما بما يخدم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
ولا يفوتني أن أشيد بالموضوعات المطروحة على جدول هذه الدورة وأهميتها وأثني على حسن اختيارها لأنها موضوعات تهم عامة المسلمين وخاصتهم، وأرجو أن يتوصل علماؤنا الأفاضل إلى الحكم الشرعي فيها ليستروح المسلمون عبير الشريعة، ويطمئنوا إلى أدلتها الناصعة، ويطبقوا أحكام الله في حياتهم الخاصة والعامة، طبقا لمقاصد الشريعة المعتبرة.
كما لا يفوتني أن أشيد بما أنجزه مجمعكم الموقر منذ إنشائه من قرارات وتوصيات فيما تم مناقشته من الموضوعات التي طرحت خلال الدورات السابقة وبما أنجزته الأمانة العامة للمجمع من أعمال خلال هذه الفترة الوجيزة من عمر المجمع.(9/17)
وختاما أشكر الله تعالى الذي هيأ لنا هذا اللقاء المبارك ثم أخص بالشكر دولة الإمارات العربية التي استضافت هذا اللقاء وعلى رأسها صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ولجميع المسؤولين والجهات الرسمية في دولة الإمارات العربية المتحدة على حسن التنظيم والترتيب وكرم الضيافة.
كما لا يفوتني أن أعبر عن خالص الشكر وصادق التقدير لحكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله على استضافته الكريمة للمجمعين وعلى ما تقدمه من دعم متواصل لكل منهما، وكذلك لجميع المؤسسات الإسلامية وللعمل الإسلامي المشترك.
والشكر موصول لمعالي رئيس المجمع ومعالي الأمين العام وجميع العاملين في المجمع وكذلك لجميع الأعضاء والخبراء الذين أعدوا البحوث القيمة لهذه الدورة.
وفق الله الجميع وسدد الخطا وبارك الجهود.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/18)
كلمة معالي الأستاذ
أسامة جعفر فقيه
رئيس البنك الإسلامي للتنمية – جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، القائل في محكم التنزيل:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
والصلاة والسلام على المبعوث بالحنفية السمحة، القائل: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) .
معالي ممثل راعي هذا الحفل المبارك؛
أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة؛
أيها الأخوة الأكارم؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد؛ اسمحوا لي أن أستهل حديثي إليكم بتجديد الشكر لله سبحانه وتعالى على نعمه الجليلة وما امتن به على أمتنا الإسلامية، من قيام هذا المجمع المهيب. وأُثَنِّي بإزجاء التهنئة إليكم على أن حقق الله على أيديكم أملا عظيما طالما راود الأمة الإسلامية في قيام هيئة شرعية تبين حكم الإسلام في كثير من المسائل والأمور المستجدة في عصرنا هذا.
فلئن اشتكت الأمة حينا من الدهر فراغا دفع البعض إلى الأخذ بقوانين وضعية لم تألفها من قبل، فإن محفلكم المبارك هذا لخير دليل على أن الأمة لم تخل قط من نخبة رائدة من الدعاة الصالحين، والعلماء المتمسكين بأهداب العقيدة، العاملين بقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .فجزاكم الله خيرا على ما تبذلونه للحفاظ على قيمنا الإسلامية الأصيلة، وما تحثنا عليه من الالتزام بتراثنا الفقهي العظيم، وما تدعون إليه من تمسك بأحكام شريعتنا نبراسا ينير لنا ضروب الخير والفلاح.
فالمجمع هو اللسان الناطق بجمع شمل الأمة على كلمة سواء، والاهتداء بالكتاب والسنة في كل شأن من شؤون الحياة، وهو العقل الذي أَعْتَدَتْهُ الأمة لإعمال النظر والفكر في ما جد ويجد من مسائل ومشكلات. وإليه المرجع في الاهتداء إلى ما وضعته الشريعة من أصول وكليات وقواعد، إذا هي ردت إليها، صلح أمر الناس، بإذن الله تعالى.(9/19)
والمجمع هو العدة لمواجهة التحديات التي يلاقيها المسلمون اليوم، وليواكبوا – بعقيدة راسخة الجذور وعقلية مستنيرة متفتحة – التطور العالمي السريع والاكتشافات العلمية المتلاحقة والتقدم التقني المذهل. ولقد بعث المجمع الأمل في تجميع الطاقات الفكرية للتغلب على التحديات والحفاظ على الهوية والقيم الإسلامية الخالدة التي أخذ يهددها استشراء الطغيان المادي في هذا الزمان.
ولقد حاز المجمع ثقة الأمة، يوم أعربت الدول الأعضاء لمنظمة المؤتمر الإسلامي عن اقتناعها بمسيس الحاجة إليه، وعبرت عن تقديرها للأهداف العلمية والعملية المنوطة به.
ولقد شفعت هذه الثقة بترشيح نخبة مختارة لعضوية المجمع من العلماء والفقهاء المبرزين، ذوي الشهرة والدراية الواسعة، ومن المفكرين اللامعين.
وقد شُدَّ عضد المجمع – بحمد الله – بكوكبة من الأعيان، فأعان مجلسه أعضاء مراسلون، وخبراء باحثون، وعلماء جامعيون، يساهمون في الاضطلاع بالدراسات والبحوث العلمية، والاجتهاد في حمل ما يعرض للعالم المعاصر من قضايا ومشكلات على هدي الشريعة السمحة، وأصولها المقررة، وما تقتضيه قواعد الدين ويحقق مقاصد التشريع للمسلمين.
أصحاب الفضيلة والسعادة..
تعلمون أن الإقدام على إنشاء بنك إسلامي للتنمية، كان خطوة رائدة وبالغة الأهمية. وكانت لجهود البنك – منذ مستهل أيامه – ولحكمة القائمين عليه وعمق إيمانهم برسالته، آثار حاسمة فيما تلا إنشاءه من إنجازات. فلم يسلم حبور الرعيل الأول بميلاد هذا الصرح من مخالطة خوف شديد من أن تجهضه العوائق، وتئده العراقيل، وأن تعجزه عملية المواءمة بين متطلبات الإنماء الاقتصادي الحديث، ومقتضيات الأحكام الشرعية. ولقد زاد من هذا الخوف لدى الغيورين على المؤسسة، ما ألقي من شكوك لدى هؤلاء وأولئك، كادت تقضي على الأمل الوليد.
وحري بنا اليوم شكر المنعم، جل شأنه، على أن اجتاز البنك هذا الاختبار بنجاح مشهود، إذ اضطلع بعمل رائد غير مسبوق، قام فيه باستنباط صيغ تمويل تتلاءم مع طبيعته المتميزة، والتزامه الراسخ بأحكام الشريعة الإسلامية. فالبنك – يوم ولد – لم يكن أمامه نموذج يقتدي به. فكان لزاما عليه أن يبحث في فقه المعاملات عن العقود الشرعية التي يمكن أن يطور على أساسها أساليب تمويلية تستجيب لمتطلبات العمل المصرفي المعاصر.
ولم يأل البنك جهدا في سبيل تحقيق هذه الغاية، فساهمت مجهوداته البحثية الدؤوبة في بلورة تلك الصيغ التمويلية المستحدثة، وإنها لمناسبة ينبغي اغتنامها للتعبير عن خالص امتنان البنك الإسلامي للتنمية لأولئك العلماء الأفاضل الذين استجابوا لندائه، وبذلوا جهدا غير مكفور لمساعدته في تطوير آليات التمويل الإسلامية، وأناروا له الدرب في مرحلة حاسمة من حياته.(9/20)
كما أزجي الشكر لصفوة علماء الأمة الذين أسهموا في الندوات المتخصصة التي عقدها البنك للمساهمة في تطوير مناحي العمل المصرفي الإسلامي، وتحسين أدواته وأساليبه. ولم تزل صيغ التمويل الإسلامية، من مضاربة ومشاركة ومرابحة وسَلَم واستصناع وغيرها، تحظى لدى الباحثين والمصرفيين في عالمنا الإسلامي وخارجه، باهتمام شاهد على قيمة المكاسب التي تم تحقيقها في هذا المضمار.
وبعد أن استطاع البنك، بعون الله وتوفيقه، أن يستقطب بعض القدرات العلمية، ويسخر ما تيسر من الإمكانات لتطوير أدوات تميل وأساليب تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية الغراء ويرسخ قدمه في ريادة العمل المصرفي الإسلامي، اتجه البنك نحو تشجيع المبادرات الجادة وتقدير الجهود الرائدة والخدمات الجليلة والإنجازات المبدعة في حقلي الاقتصاد والبنوك الإسلامية؛ حيث أنشأ عام 1804هـ جائزة فريدة، دأب على تقديمها سنويا للمبرزين في هذين الحقلين، اعترافا بفضلهم وتقديرا لجهودهم، وحافزا لأمثالهم على البذل والعطاء والإسهام الفاعل في تطوير قواعد الفكر الإسلامي الأصيل، وتفعيل دورها في ميادين النشاط الاقتصادي والمصرفي. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وسيواصل البنك، بعون الله، السعي الحثيث، وتوظيف الحوافز ووسائل التشجيع بغية تحقيق المزيد من التحسين، وتطوير أدوات تمويلية أخرى تعين على التوسع في تقديم خدماته، وزيادة طاقته في دعم جهود التنمية الاقتصادية لدوله الأعضاء، وتستجيب لحاجة الناس للخدمات المصرفية الحديثة.
حضرات الإخوة الكرام؛
إن البنك الإسلامي للتنمية لن ينسى لهذا المجمع الموقر فضل استجابته الكريمة للنظر في آليات التمويل المستخدمة في أنشطته، وبيان الحكم الشرعي في كل منها. وهو قمن بشكر الجهود التي بذلتموها للاستيثاق من اتساق مسيرته مع الرسالة التي حددتها له اتفاقية تأسيسه:
وهي أن تكون جميع عملياته وأعماله متفقة وأحكام الشريعة الإسلامية السمحة.(9/21)
ولقد حرص البنك على الاسترشاد بما جاء في القرار الصادر عام 1407هـ، عن المجمع الموقر في هذا الشأن، واتخذه نبراسا في مسيراته نحو بلوغ أهدافه، حيث بادر البنك باتخاذ الإجراءات لتطبيق توجيهاتكم، بدءا بإدخال التعديلات اللازمة على نصوص اتفاقيات تمويل العمليات والمشروعات التي تبرم مع المستفيدين منها. وإن البنك لعاقد العزم، بمشيئة الله، على مواصلة التعاون، إتماما لهذا العمل الجليل والجهد العلمي القيم. وتأكيدا لهذه الرغبة في التعاون مع المجمع، فسيحرص البنك – بإذن الله – على تقديم كل ما يجد أو يطرأ بالنسبة لعملياته على مجلس المجمع لتظل مسيرته ماضية على بصيرة وهدى من الشرع الحنيف.
أصحاب الفضيلة؛
إن البنك الإسلامي الذي لم تزده تجربة التعاون مع المجمع إلا إصرارا على طلب المزيد، وتعلقا بالعمل المشترك من أجل تعميم المنافع، ليدعوكم إلى مواصلة العطاء مما يعود بالنفع بإذن الله على الأمة.
ولقد كادت دورتكم الحالية أن تكون دورة اقتصادية لغلبة الموضوعات المالية والتجارية عليها. وإن ذلك لدليل آخر على مدى تعطش المسلمين لنتاج مجمعكم الموقر وتركيز جانب من جهوده في هذا الميدان المتصل بمصالح المسلمين وشؤون حياتهم، وفي مقدمتها ما حفل به جدول أعمال دورتكم من موضوعات ذات علاقة وثيقة بالاقتصاد والمعاملات المالية، كالحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة في تجارة الذهب، والسَّلَم وتطبيقاته المعاصرة، والودائع المصرفية، والاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية، والمناقصات، وقضايا العملة.
وفي ذلك استجابة موفقة لحاجة حقل المعاملات المالية بالذات إلى جهد حثيث من المختصين لتدقيق فقه أئمة المذاهب فيه، واقتباس ما كان أقوى دليلا، وأقرب لملاءمة روح الزمان، وتغليب مصالح العباد؛ ومن ثم جمع ذلك في موسوعة واضحة العبارة أو معلمة دانية القطوف. كما نرجو أن يتناول عمل المجمع المسائل غير المنصوص عليها، فيجتهد لها ويستنبط حكمها، ويذيع في الناس سر حكمة التشريع ومحاسنه فيها.
وإن رأى مجلسكم الموقر في كل مسألة ونازلة سيجعل الأمة على بينة من أمرها، وسيكون خير عون للمؤسسات المصرفية الحريصة على تثمير الأموال بما يتفق وأحكام الشريعة.
وإن مشاركة بعض ذوي الاختصاص في فروع المعرفة في أعمال هذه الدورة لأمر جدير بالثناء والتقدير إذ يعين على وضوح كثير من المشكلات والمسائل المستجدة حتى يأتي الحكم الشرعي إزاءها متفقا مع مقاصد الشرع الحنيف وحكمه البالغة.(9/22)
أصحاب السماحة والفضيلة؛
لقد كان للبحوث التي قمتم بها أثر جلي في ترسيخ ثقة المسلمين بالمعاملات التي اعتمدتها البنوك الإسلامية. ويتعين الحفاظ على هذه الثقة، بمواصلة العطاء الخير في هذا الميدان الذي يمكن للمجمع أن يتعاون فيه مع مع البنوك الإسلامية لتلبية احتياجاتها المتزايدة.
وإن الحاجة قائمة – بل هي ماسة – إلى مد جسور التعاون بين الفقهاء والاقتصاديين، وتعريف كل من الفريقين بالمنطلقات والمبادئ الأساسية المعينة على تصور القضايا المطروحة، وتفهم أبعادها ومدى ارتباطها بحياة المجتمع ومصالح العباد.
ويسر البنك الإسلامي للتنمية – ممثلا بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب – أن يتعاون مع المجمع الموقر، ومع سائر البنوك الإسلامية، في هذا السبيل
وكما تعلمون فإن الفجوة التي ظلت بين الفقهاء والاقتصاديين قد حالت لبعض الوقت دون إيلاء عناية كافية بمسائل أحكام المعاملات المالية المعاصرة في ضوء الأصلين العظيمين الخالدين: كتاب الله الكريم والسنة النبوية المطهرة.
أصحاب السماحة والفضيلة؛
إن استضافة دولة الإمارات العربية المتحدة لهذه الدورة لتؤكد اهتمام هذا البلد المضياف وحكومته الرشيدة – بقيادة صاحب السمو الشيخ/ زايد بن سلطان آل نهيان؛ رئيس الدولة، حفظه الله – بدعم القضايا الإسلامية، وحرصه على تحقيق تضامن شعوب الأمة ولم شملها. وبهذه الاستضافة الكريمة تعزز دولة الإمارات مكانة المجمع وتدعم مظهرا من مظاهر التقاء أبناء الأمة على كلمة سواء، وتسهم في دعم مسيرة هذا الصرح المبارك لمواصلة جهود البحث الأصيل المبدع عن حلول لمشكلات العصر الملحة.(9/23)
كما يسرني أن أعبر عن أجزل الشكر لمعالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، رئيس مجلس المجمع، ولسماحة الشيخ / محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي, ومعشر الأعوان والزملاء على جهودهم الموفقة، وعلى حرصهم الدائب على تطوير أعمال المجمع. وأتوجه إلى العلي القدير أن يسدد خطا مجلسكم الموقر على طريق الخير والحق، وأن يتحقق لهذا الاجتماع العظيم كل النجاح في بلوغ أهدافه السامية. وما ذلك على الله بعزيز.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/24)
كلمة معالي رئيس مجلس المجمع
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الخلق والأمن والتدبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رحمة من الله وسراج منير.
اللهم صل وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، ورضي الله عن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد،
فقد جرت عادة المنصفين بأعواد المنابر والقائمين على درجات النوادي وردهات المجامع، أن يقدموا بين يدي نجواهم بكلمات ممهدات أمام المقاصد التي يعرضونها والأغراض التي يقصدونها. واليوم ونحن نعيش بين أهل وجيرة أمجاد على أرض من جزيرة العرب دار الإسلام الأولى التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)) .
وفي ضيافة حاكم من حكام العرب صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وتحت مظلة وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بمعالي وزيرها سماحة الشيخ محمد بن أحمد الخزرجي وأسرة وزارته الكريمة – تعقد الدورة التاسعة، بإذن الله تعالى وفضله وتوفيقه، لمجمع الفقه الإسلامي يفتتحها صاحب السمو رئيس الدولة نيابة عنه سمو الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التعليم العالي والبحث العلمي.
إننا حقا نعيش بين أهل وجيرة أمجاد مقدمين خالص الشكر والتقدير لهذه الدولة المباركة ولأصحاب السمو الأمراء والمعالي الوزراء والعاملين في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف الذين قدموا الترتيبات القيمة لاستضافة هذه الدورة.
سمو الشيخ،
صاحب المعالي وزير الشؤون الإسلامية،
أصحاب المعالي،
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي،
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي،
الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي،
رئيس البنك الإسلامي للتنمية،
أصحاب الفضيلة والسماحة، أيها الجمع الكريم، أيها العلماء.(9/25)
هذه الدورة هي بحق يستحق أن يطلق عليها الدورة الاقتصادية، وقد جاء في بلد الاقتصاد والحركة التجارية النوارة، إذ حوت عشرة موضوعات وقدم لها عدد من رجال هذا المجمع وخبرائه وباحثيه نحو ستين بحثا، أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا جميعا إلى القول الحق والصواب فيما نأتي ونذر من أقوالنا وأعمالنا إنه على كل شيء قدير.
أيها الجمع الكريم،
تأتي هذه الدورة المباركة في أعقاب ثمانية مؤتمرات مضت، خمسة منها عقدت في المملكة العربية السعودية، ومؤتمر في المملكة الأردنية الهاشمية، ومؤتمر في دولة الكويت، ومؤتمر في سلطنة بروناي. ويتخلل ذلك ندوات في عدد من دول العالم الإسلامي للتهيئة بين دورات هذا المجمع، وقد طبعت نتائج هذا المجمع في بحوثه وقرارته في نحو عشرين مجلدا تضم نحو أربعمائة بحث وفيها ما يزيد عن ثمانين قرارا.
وقد كان لمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة يد موفقة في تسيير أعمال الأمانة وطباعة المجلة.
هذا، وإن من تتابع الإحسان وتوفيق الله سبحانه وتعالى، أن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، أيده الله, قد أمر بطباعة كتاب (عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة) ، فتمت طباعته، ولله الحمد، في ثلاثة مجلدات، وسيقدم هدية لصاحب السمو ولرجال دولته وللعلماء والمفكرين في هذه الدورة بمشيئة الله تعالى. أجزل الله لخادم الحرمين المثوبة، ووفقه لكل عمل صالح مبرور.
أيها الجمع الكريم.
إن هذا المجمع يسير، بحمد لله، على خطوات ثابتة وعلى مناهج بينة، فهو يعتمد الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ومصادر الشريعة التبعية، ولا مجال في هذا المجمع للآراء الشاذة، والأقوال المهجورة، والرخص الغثة. وهذا المجمع يعتمد الاعتدال والوسطية التي تستل من مشكاة النبوة في جميع آرائه، والمعصوم من عصمه الله.
وإن من نعم الله سبحانه وتعالى أن هذا المجمع لم يصدر منه في يوم من الأيام أي قرار ضغط فيه الإسلام للواقع، ولا قرار ضغط فيه النصوص للوقائع؛ بل أخضع الواقع والوقائع لنصوص الشرع المطهر، وهذا من توفيق من الله وعظيم منته علينا وعلى الناس أجمعين.
ولهذا كان لقراراته الأثر الفعال في شريحة كبيرة من العالم الإسلامي: أفرادا ومؤسسات، وشركات وبنوك إسلامية ومصارف، وعلى مستوى عدد من دول العالم الإسلامي.
ولاشك أن تطبيق الشرع المطهر وإعماله وإدخاله في الحياة العملية للمسلمين هو من أجل أعمال العبادة والأخذ بهدي القرآن العظيم والسنة النبوية المطهرة والاقتداء بهذا الدين قولا وعملا، فليتق الله كل امرئ مسلم، وليتبع القول العمل.(9/26)
سمو الشيخ،
أصحاب المعالي،
أيها العلماء الأجلاء،
أيها الجمع الكريم،
لقد كنت أعددت لهذا المقام موضوعا وجلبت من كلام العرب ينبوعا ولكني الساعة عدلت، لضيق المقام، وسبب رئيسي هو أن كلمة صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان كلمة ضافية تمتعت بالروح الإسلامية العظيمة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الكلمة مفتاح خير لعلم يتبعه العمل، وهذا ما ندعو الله به تعالى في كل حين وآن، وإن هذه الكلمة الثمينة سوف تكون وثيقة من وثائق هذا المؤتمر.
والله يحفظنا وإياكم بالإسلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/27)
كلمة معالى أمين عام المجمع
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على آلائه العظيمة ونعمه الجزيلة، حيث جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأنزل علينا رسوله خاتم النبيين بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين الحق، وأنزل معه الكتاب والفرقان ليكون لنا حجة ومعتصما، وأناط بأحكام شريعته الخاتمة الخالدة التي تعبدنا بها جلب المصالح ودرء المفاسد وتحقيق السعادة للإنسان في الأولى والأخرى، ودعانا سبحانه ودعا الناس جميعا لنقوم بالقسط في حقوق الله وحقوق العباد. وصلى الله علي عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبي الهدى سيدنا ومولانا محمد الذي أوصانا بأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، ووضح لنا بسنته الشريفة وحكمته البالغة المنهج الإسلامي السديد الذي يقينا العثرات وترتفع به الدرجات، وعلى آله وصحبه وسلم.
حضرة صاحب السمو الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، نائب صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وزير التعليم العالي، حضرة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد بن سلطان ولي العهد،
حضرة صاحب المعالي الأستاذ أحمد خليفة السويدي الوزير الممثل لصاحب السمو رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.
حضرة صاحب المعالي الشيخ محمد بن أحمد بن حسن الخزرجي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف،
حضرة صاحب المعالي الدكتور حامد الغابد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي،
حضرة صاحب المعالي الدكتور أحمد محمد علي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي،
حضرة صاحب المعالي الدكتور أسامة جعفر فقيه رئيس البنك الإسلامي للتنمية،
حضرة صاحب المعالي الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع،(9/28)
أصحاب السماحة والفضيلة، أصحاب المعالي والسعادة،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
بدعوة كريمة من حضرة صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة حفظه الله وأبقاه، تحتضن في هذا اليوم الأغر السعيد غرة شهر ذي القعدة 1415هـ هذه المدينة الجميلة الساحرة مدينة أبو ظبي، عاصمة الإمارات بلد الخير والنماء، مؤتمركم التاسع لمجمع الفقه الإسلامي الدولي.
وإنها لرعاية سامية وعناية فائقة يشمل بها سموه الكريم مؤسستكم العلمية مجمعكم الموقر، دعما لجهوده، وحثا له على السير قدما في مجال النظر والدرس والتحقيق والاجتهاد، فهو من أكد في هذه البلاد للمسلمين يقينهم بدينهم، وتعلقهم بشريعة ربهم، وحفز الهمم والطاقات لخدمة هذا الواجب وتعزيزه، أمد الله سمو الشيخ بأيده ونصره وأجزل له مثوبته على ما يبذله من جهود لخدمة الإسلام والمسلمين.
وقد وجدنا من سمو ولي عهده ومن رجال كبار دولته كل إيسار وكرم وبر وحفاوة، أمتع الله بهم ورعاهم وحفظهم وآتاهم في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة.
هذا وقد طال نسبيا ما بين الدورة الثامنة ودورتكم هذه، ولكن الله يسر لنا بفضله بجانب صدور العدد السابع من المجلة، وتقديم الثامن منها للطبع، إنجازات ومشاريع مهمة نحمد الله على ما به أنعم وإليه وفق وهدى. وأعلى هذه الإنجازات قدرا وأعظمها نفعا للفقهاء والطلاب المكرمة البارزة في هذه الدورة لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية. وهي من بين مكرماته العديدة على مجمعنا تتمثل في ما أنفقه على تحقيق وطبع كتاب (عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة) لابن شاس، وفي إذنه السامي للمجمع بنشره باعتباره من أمهات كتب الفقه ومن أهم مصادره، حفظ الله خادم الحرمين الشريفين للأمة، وادخره للملة يحمي ذمارها، ويدعم وحدتها، ويرفع لواءها، ويعلي منارها، وينشر مفاخرها وآثارها.(9/29)
أما المشاريع التي قضينا طوال المدة الماضية في الإعداد لها، والتي نأمل أن تعود بالخير الكثير على الدراسات والبحوث العلمية المجمعية، فهي معلمة القواعد الفقهية، والموسوعة الفقهية الاقتصادية. وقد اتسعت المعلمة في المخطط الذي رسمناه لها لتشمل مع القواعد العامة الفقهية ما يتصل بها من ضوابط وفروق وفوائد وأشباه ونظائر، وليكتمل أثرها البعيد عند المجتهد والفقيه بما تتضمنه تلك المعلمة، بإذن الله، من القواعد الأصولية والقواعد الكلية للمقاصد الشرعية، فيظهر للمتفقِّه كما قال صاحب المدارك (أن أحكام الشريعة - أوامرَ ونواهيَ- تقتضي حثًّا على قُرَب ومحاسنَ، وزجرا عن مناكرَ وفواحشَ، وإباحةً لما به صلاح هذا العالم وعمارة هذه الدار ببني آدم. وأن أبواب الفقه وتراجم كتبه كلها دائرة على كلمات هي كليات هذه القواعد، تبين للواقف عليها والناظر فيها من اتبع معنى الشرع المراد، أو خالفها فتنكب عن السداد وحاد عن سبيل الرشاد. ذلك أن الالتفات إلى قواعد الشريعة ومجامعها، وفهم الحكمة المقصودة بها من شارعها، يعين الفقيه والمكلف جميعا – كما ينبه على ذلك الشاطبي – على أن يكون قصدهم في أعمالهم موافقا لقصد الله من تشريعه، وأن كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وأن كل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل. ومن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل) .
وهذا المنهج هو الذي (دعت إليه الآيات والأخبار، وشد معاقله السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيدت أركانه أنظار النظار) . وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مضى علي سنتهم واهتدى بهديهم قدوة للمقتدين وأسوة للفقهاء والمجتهدين. (فلقد تعمقوا أسرار الشريعة وتدبروا الآيات والسنن، وتعرفوا على المقاصد فحصلوها، وأسسوا قواعدها وأصَّلوها بما بذلوا من جهد، واعملوا من جد في تحقيق مبادئها وغايتها) .رفع الله ذكرهم واحسن جزاءهم.
أما الموسوعة الفقهية الاقتصادية الواقعة من المعلمة بمنزلة الفرع من الأصل والجانب التطبيقي من الجانب التأصيلي النظري، فقد تم بالفعل تحديد زمر من موضوعاتها، وضبطت مجموعة منها ضبطا دقيقا، كما تم استكتاب ثلة من رجال الاقتصاد الإسلامي وجلة من الفقهاء فيها، تعريفا بالتطورات الجديدة وبما استجد من قضايا ومسائل لم تكن قد بحثت قبل في أزمنة تأسيس النظر الفقهي وازدهاره، ومعالجة لها معالجة شرعية فقهية مصلحية بإخضاع تلك القضايا والمسائل لروح التشريع الإسلامي، وما يتسم به من سماحة وعدل.
وإنا لنأمل من وراء ذلك أن تكون المعلمة الفقهية والموسوعة الاقتصادية التي يقدمها المجمع خير معوان على إبراز الصورة النقية للشريعة الإسلامية، وللنظريات الفقهية التي اعتمدها الأئمة المجتهدون والفقهاء المبرزون فيما أصَّلوه من أحكام، وصدروا عنهم تقريرات وآراء، في النوازل والواقعات والفتاوى والتطبيقات. وإنا في الورقتين الموزعتين على حضراتكم بشأن المشروعين ما يغني عن إفاضة القول فيهما في هذا المحل.(9/30)
وإذا كان قد تقرر عند الأئمة المجتهدين والفقهاء المحققين إن قصد الشارع من وضع الشريعة ابتداء، أنها وضعت لمصالح العباد في الدارين، فإن طلاب تلك المصالح ومراعاتها يكون بالاعتماد على (نصوص الشريعة وأدلتها واستخدام العقل في استنباط أسرارها وأحكامها، ولا يصح بحال الابتعاد عن النصوص فإن النقل يتقدم متبوعا، ويتأخر العقل تابعا. فلا يسرح في مجال النظر إلا بقد ما يسرحه النقل. ولو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل لما كان للحد الذي حده النقل فائدة، ولصار غير مفيد وذلك في الشريعة باطل) . وقد تقرر لدى جهابذة الفقهاء إنه لا يحسن التضييق والتشديد فإن الدين يسر، (وإن العامة إذا توهمت أن الدين الصحيح لا يكون إلا مع المشقة والحرمان أخذها اليأس من الوفاء به على تلك الصورة التي رأتها عند المغالين فتركته) . فلا بد إذا من التوسط. وقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم يقدمون أمر الله ونهيه على حظوظ أنفسهم الباطلة على وجه لا يخل بمصالحهم وهو التوسط.
ومن هذا الباب القول بمراعاة الخلاف فلا يحسن التزام مذهب بعينه في تقرير الأحكام، ولا الأخذ بقول أحد أو بفعله مهما بلغ من العلم، فيما يجد من قضايا إلا إذا عرضت أقواله وأفعاله على الشرع فوافقها، خصوصا بعد أن اتضحت الآراء وانكشفت العلل وظهرت المقاصد ووجدت المبررات للأخذ بمذهب آخر. فإذا وقعت مسألة في مذهب ما على خلاف ما في غيره من المذاهب الفقهية، وبعيدا عن قول آخر من أقوال أهل العلم، فإنه من الأجدى والأصلح تصحيح ما وقع وإمضاؤه عملا بالمذهب والقول المخالف إذا بانت صحته وقويت حجته ونهض دليله.
وقد يكون من الضروري أيضا للمجتهد أن ينظر في مآلات الأفعال فإن ذلك معتبر ومقصود للشارع لجواز أن يؤول الأمر إلى خلاف ما قصد به. (فقد يشرع الأمر لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة به تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما شرع لأجله، أو يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك) . فالواجب في مثل هذه الصور الاحتياط. وإنه لمجال صعب المورد للفقهاء والمجتهدين غير أنه مهم يتأكد التفطن له والأخذ به، حرصا على تحقيق مقاصد الشريعة، وحماية لمصالح الناس.(9/31)
فبإتقان لغة القرآن وإدراك أسرارها والوقوف على وجوه تصرفات القول فيها يتأتى النظر والتدبر لنصوص التشريع من الكتاب والسنة، وبمعرفة مواقع الإجماع والناسخ والمنسوخ وشرائط القياس يهتدى إلى استجلاء الأحكام، وبالرجوع إلى القواعد الأصولية والقواعد العامة الفقهية وبالاهتداء إلى ما تعلل به الأحكام من مصالح وما تقتضيه التشريعات من مقاصد يتوصل إلى الحكم فيما لا نص فيه ولا قياس ولا إجماع، وذلك بالاستناد إلى المصالح المرسلة وبمراعاة الكليات الشرعية بأنواعها من ضرورية وحاجية وتحسينية. وهو ما يضطلع به في هذا العصر أهل العلم والدراية من الفقهاء الجلة السادة النجباء الذين يجمعون بين الحفاظ على الدين وعلى شريعة الإسلام، الأمانة التي حملوها وهم عن قريب محاسبون عليها ومسؤولون عنها، وبين النظر في المشاكل المستعصية والقضايا المستغلقة يخضعونها لقواعد الشرع وهديه، ويعالجونها معالجة حكيمة، تحفظ لشريعة الإسلام سماتها البارزة في الشمول والخلود والصلاحية لكل زمان ومكان وحال.
وإن فيما يقول به أعضاء هذا المجمع الأكارم، والمشاركون في جهوده العلمية وبحوثه الفقهية من السادة العلماء وكبار الفقهاء والمتخصصين المبرزين من الخبراء في مختلف الفنون والعلوم الاقتصادية والاجتماعية ونحوها، وفيما أتوه من سعة علم ومعرفة بالثوابت والمتغيرات، وترصد للتطورات وما يناسبها ويناسب الأحوال المختلفات من أحكام شرعية وفتاوى فقهية تضبط، ومصالح معتبرة ترعى وتقصد، وما يجعل منهج عمل هذا المجمع، بإذن الله، راشدا قويما، والصفوة الكريمة من الفقهاء والعلماء المنتسبين إليه مهتدين بهدي الأئمة السابقين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين (كانوا ألين الأئمة قلوبا وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأحسنها بيانا، وأصدقها إيمانا، وأعمها نصيحة) جازاهم الله عن الإسلام خيرا، وعن عطاءاتهم وجهودهم العظيمة مثوبة وأجرا.
وإنه ليسعدني في ختام هذه الكلمة أن أجدد الشكر الجزيل والثناء الجميل لسمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ولولي عهده سمو الشيخ خليفة بن زايد بن سلطان ولوزير التعليم العالي سمو الشيخ نهيان بن المبارك آل نهيان، ولمعالي الوزير أحمد خليفة السويدي، ولمعالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف الشيخ محمد بن أحمد بن حسن الخزرجي، ولوكيل الوزارة سعادة الدكتور محمد بن جمعة بن سالم، ولكافة أعضاء الحكومة ورجال الدولة، ولمعالي الدكتور عز الدين إبراهيم مدير مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية بأبو ظبي، على ما لقيناه من كرم الوفادة وحسن الضيافة، ومن تشجيع وتيسير لإقامة هذه الدورة المجمعية بعاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة.(9/32)
كما يسعدني أن أرحب بضيوفنا الكرام الذين استجابوا لدعوتنا، وتحملوا المشاق من أجل مشاركتنا أعمالنا، على ضيق في أوقاتهم وازدحام في أشغالهم. وأخص منهم بالذكر معالي الدكتور حامد الغابد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي يواصل دعم المجمع ومساندته بحسن رعايته، ودعوته له للمشاركة في كثير من النشاطات مثل ندوة الطفولة بجدة، مؤتمر الإسكان ومؤتمر القدس بالقاهرة، ومؤتمر الدعوة بموسكو وغيرها من النشاطات، وأصحاب المعالي الدكتور أحمد محمد علي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، والدكتور أسامة جعفر فقيه رئيس البنك الإسلامي للتنمية على ما قدما من مساعدة وعون للمجمع من أجل قيامه بدوره النشيط في إنجاز مشاريعه، وأشكر لمعالي الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع همته العالية ومراجعته الدقيقة لكتاب الجواهر وحرصه البالغ على حسن إخراجه.
وأقف هنا قليلا مترحما على أعضاء المجمع الراحلين: سماحة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى ممثل مصر السابق، وفضيلة الشيخ شيت محمد الثاني ممثل بنين، والأستاذ محمد موابا بواتسا ممثل الجابون، والأستاذ محمد الأمين حيدرة ممثل غينيا بيساو, والأستاذ أحمد أزهر بشير ممثل أندونيسيا تغمدهم الله بواسع رحمته، وكريم مغفرته، وأرحب بالأعضاء الجدد الذين تم تعيين دولهم لهم بهذا المجمع وهم نواب أذربيجان وتاجكستان وألبانيا والتركمانستان، وأخص منهم في هذه المناسبة سعادة البروفسور محمد ألييف واسم ممثل أذربيجان الذي أسعدنا بحضوره، وانضم إلى هذه الصفوة الخيرة من أعضاء المجمع ورجال المؤتمر الذين نرحب بهم أجمل ترحيب ونشكرهم عظيم الشكر على ما بذلوا وما يبذلون من جهود كبيرة مستمرة في خدمة الدين وتقرير الأحكام، والكشف عن محاسن هذه الشريعة الغراء الخالدة، وعلى ما يسهمون به ويقدمونه من بحوث فقهية جادة ودراسات اقتصادية وطبية واجتماعية نافعة وأعمال علمية جليلة، ومناقشات مفيدة هادفة، نصيحة لله ولرسوله ولخاصة المسلمين وعامتهم، سدد الله خطانا وخطاهم، ووفقنا جميعا إلى حسن النية وصالح العمل، وكتبنا في المتمسكين بحبله، المحكمين لشرعه، الداعين لدينه، المجاهدين في سبيله، ابتغاء مرضاته وطمعا في رحمته، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كلمة معالي أمين عام المجمع
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجه(9/33)
قصيدة بمناسبة انعقاد الدورة التاسعة
للشاعر الدكتور – سامي حسن حمود – البنك الإسلامي للتنمية بجدة
إلى صاحب السمو الشيخ/ زايد بن سلطان آل نهيان
تحية العلم والعلماء
بمناسبة عقد الدورة التاسعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي في مدينة أبو ظبي من 1- 6 ذي القعدة 1415هـ الموافق 1- 6 إبريل 1995م بضيافة صاحب السمو رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.
يا شيخ زايد أهل الفقه زوار
جاؤوا إليكم ودرب المجد مختار
ألقوا الرحال وهم بالعلم في سفر
والفقه يشرق حيث البحث كرار
فالعلم يبقى رفيع القدر مؤتزرا
ثوب الكرامة والتقدير إكبار
هذي (أبو ظبي) مزدان منابرها
و (العين) هانئة والخير مدرار
ومن (دبي) إلى (عجمان) (شارقة)
(أم القوين) و (رأس الخيم) أبرار
أما (الفجيرة) إذ نامت شواطئها
على المحيط ففي الأمواج أسرار
تلكم وفود ومن بلدانهم قدموا
من كل قطر لكم بالحب إيثار
جاؤوا إليكم على حرص وفي حدب
ختما لتاسعة الدورات إذ ساروا
أتت أمانة هذا الجمع من بلد
تهفو إليه المنى والشوق خطار
من أرض مملكة أعطت أخوّتنا
معنى اللقاء ونعم الجار والجار
أكرم بجمع تلمُّ الأهل وحدتهم
من مشرق الأرض حتى الغرب أنصار
إذا أسرجوا الخيل إقبالا وقد لمسوا
صدق العزيمة حيث العهد إعمار
وجاء ركب وزير الوقف مبتهجا
حبا لأهل لهم بالعلم آثار
فالخزرجي إذا الأنصار قد ذكروا
يعانق الأوس والتاريخ دوار
حتى المهاجر لم يشعر بغربته
ما أجمل الشرع بالإسلام ديار
والكل حولكمو يا شيخ مغتبط
حيث الشيوخ لهم عزم ومقدار
فبارك الله في عهد به انتظمت
تلك الإمارات سبع هن أقمار
وطوق السعد جمعا في محبتكم
يا شيخ زايد إن الفضل معطار
غرة ذي القعدة 1415هـ
مطلع أبريل 1995م
تقديم الشاعر الدكتور سامي حسن حمود
البنك الإسلامي للتنمية
ص ب/ 9201 جدة (21413) المملكة العربية السعودية(9/34)
بحث في
الذهب في بعض خصائصه وأحكامه
إعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على الرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد رسول رب العالمين الهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا وبعد:
فالذهب معدن نفيس استهوى الإنسان منذ القدم بحبه وإيثاره والافتخار بتملكه والتزين به حتى أغراه بعبادته قال تعالى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه: 87- 88] .
فالذهب معدن نفيس يتميز عن المعادن الأخرى بميزات طبيعية تكمن في قدرته على مقاومة عوامل التعرية وسلامته من التعرض للصدأ، فبمشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ عرفجة بن هرثمة أنفا من ذهب حينما قطع أنفه في إحدى المعارك مع رسول الله وبالرغم من حرمة التحلي به على الرجال فقد أذن في اتخاذ الأسنان منه للرجال للحاجة.
ولوقور محبته في النفس البشرية وإيثاره في حب التملك ذكره الله تعالى في عداد أمور زين للناس حب تملكها قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] وقد جعله الله في الجنة من وسائل الإنعام والتنعيم قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23] .
ولما وقر في النفس البشرية من إيثار لهذا النوع من المعادن دون غيره عدا الفضة وكونهما بعد التملك مظنة البخل بهما وإمساكهما فقد حذر تعالى من كنزهما دون إنفاقهما في سبيل الله فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] .
ولما في الذهب من تأثير على النفس البشرية من حيث الافتخار والاعتزاز، واعتبار ذلك من مقومات الوجاهة والقيادة والاعتبار قال تعالى حكاية عن قوم فرعون وفي معرض إنكارهم رسالة موسى عليه السلام، وأن دعواه الرسالة تفتقر إلى ما يسندها من مقومات الاعتبار {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 53] .(9/35)
وقال تعالى في معرض الفداء مشيرا إلى أغلى ما يملكه الإنسان وهو الذهب وإنه لو ملك منه ملء الأرض لرضي ببذله فداء له لما حل به من سوء العذاب قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91] .
ولما في الذهب والفضة من الإغراء للنفوس البشرية فقد جعلهما الإنسان أكثر إيثارا من غيرهما من المعادن الأخرى في اتخاذ زينته منهما. ولحكمة ربانية تقتضي كبح النفس البشرية عن التجبر والتكبر والطغيان فقد حرم الله تعالى على الرجال اتخاذهما زينة لهم إلا ما استثنى. وذكر صلى الله عليه وسلم تعليل التحريم بأن فيهما كسرا لقلوب الفقراء، ولما فيهما من الإغراء والتمتع بالتزين بهما ولأن النساء في وضع يقتضي تمكينهن من أسباب تعلق الرجال بهن فقد أباح للنساء اتخاذهما حليا لزينتهن أمام أزواجهن وحرم ذلك على الرجال. كما حرم تعالى اتخاذ الأواني المنزلية والتحف الجمالية منهما لما في ذلك من كسر قلوب الفقراء. يستوي في ذلك الرجال والنساء.
وقد أشار تعالى إلى طبيعة النفس البشرية في تمتعها بالذهب فجعل من تمتع الصالحين من بني آدم في الجنة أن من أدواتهم المنزلية صحافا من ذهب قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 71] .
النشأة التاريخية لاتخاذه ثمنا:
لقد مر على الإنسان حين من الدهر وهو يعاني الإشكال في حصوله على احتياجه من طعام وشراب ومسكن ومركب ونحو ذلك. فهو مدني بطبعه قليل بنفسه كثير ببني جنسه. لا يستطيع العيش بدون معونتهم. فبالرغم من البساطة التامة في حياته إبان العصور الأولى فقد كان محتاجا إلى ما عند الآخرين. فإن كان مزارعا فهو محتاج إلى أدوات الحرث والري من الصناع. وإن كان صيادا أو راعي أنعام فهو محتاج إلى بعض الحبوب والثمار من المزارعين. ولا شك أن كل فرد في الغالب يضن ببذل ما عنده لحاجة غيره، ما لم يكن ذلك البذل في مقابلة عوض.
وتحقيقا لعوامل الاحتياج نشأ لديهم ما يسمى بالمقايضة، بمعنى أن الصياد أو مستنتج الأنعام مثلا يشتري حاجته من الإنتاج الزراعي، مما يملكه من لحوم وأصواف وجلود وأنعام وهكذا.(9/36)
ويعتقد علماء الاقتصاد أن نظام المقايضة قد ساد وقتا ما، إلا أن تطور الحياة البشرية، وما يعترض الأخذ بمبدأ المقايضة من صعوبات أهمها:
أ- صعوبة التوافق المزدوج بين متبادلين، فصاحب القمح قد لا يجد من يبادله بما هو في حاجة إليه من أدوات الحرث مثلا.
ب- صعوبة توازن قيم السلع وحفظ نسب التبادل بينها، فلا يمكن قياس كمية من السكر بجزء من السمن أو الشاي أو غيرهما إلا بعناء.
ج- صعوبة التجزئة إذ قد تكون الحاجة إلى شيء تافه، فلا يتكافأ هذا الشيء التافه مع ما يرغب فيه من سلعة أخرى.
د- صعوبة احتفاظ السلع بقيمتها لتكون مستودعا للثروة وقوة للشراء المطلق ومعيارا للتقويم.
كل ذلك إلى الاستعاضة عنها بطريقة يحصل بها التغلب على الصعوبات المشار إليها، فنشأ مبدأ الأخذ بوسيط في التبادل، وليكون في ذلك الوسيط وحدة للمحاسبة ومقياس للقيم، وخزانة للثروة، وقوة شرائية مطلقة. إلا أن نوعية هذا الوسيط لم تكن موحدة بين الناس فكان للبيئة أثرها في تعيين وسيط التبادل فالبلاد الساحلية كانت تختار الأصداف نقدا، والبلاد الباردة وجدت في الفراء ندرة تؤهلها لاختيارها وسيطا للتبادل، أما البلاد المعتدلة فنتيجة للرخاء في عيشة أهلها آثروا المواد الجميلة كالخرز والرياش وأنياب الفيلة والحيتان نقودا، ويذكر أن اليابان كانت تستعمل الأرز وسيطا للتبادل، كما كان الشاي في وسط آسيا، وكتل الملح في أفريقيا الوسطى، والفرو في الشمال من أوربا.
وبتطور الحياة البشرية بمختلف أنواعها من فكرية واجتماعية واقتصادية ظهر عجز السلع، وسيطا للتبادل عن مسايرتها هذا التطور الشامل.
هذا العجز يكمن في تأرجح قيم السلع ارتفاعا وانخفاضا، تبعا لمستلزمات العرض والطلب، وأن السلع عرضة للتلف فضلا عن صعوبة حملها، وعن الأخطار التي تصاحب نقلها من مكان إلى آخر.
وفضلا عن ذلك كله فهناك مجموعة من السلع لا تنسب لها قيمة تذكر بجانب السلع المتخذة وسائط تبادل كالبيضة والبطيخة والرغيف من الخبز ونحو هذه المعدودات مما يحتاجه الجميع دائما.
لذلك اتجه الفكر الاقتصادي إلى البحث عن الاستعاضة عن السلع وسيطا للتبادل بما يسهل حمله، وتكبر قيمته، ويكون له من المزايا والصفات الكيماوية والطبيعية ما يقيه عوامل التلف والتأرجح بين الزيادة والنقصان.(9/37)
فاهتدى إلى المعادن النفيسة من ذهب وفضة ونحاس، ووجد فيها أسباب التغلب على الصعوبات التي كانت تصاحب السلع كوسائط للتبادل، فساد التعامل بها ردحا من الزمن على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة، إلا أن اختلاف أنواع هذه المعادن وخصوصا الذهب، أوجد في استعمالها ثغرة كانت ميدانا للتلاعب والفوضى، فليس كل الناس يعرف المادة الأصلية للذهب وليس كل الناس يعرف المعيار المقبول للتبادل، ثم إن ترك تقدير القطع النقدية وخصوصا فيما له ندرة عالية كالذهب، وإرجاع ذلك إلى الوزن، أوجد فرصا لسرقتها بالتلاعب بوزنها، فضلا عما في كل صفقة بيع من المشقات الناتجة عن وزن المقادير المتفق عليها من المعدن الثمين.
لهذا كان واجبا على ولاة الأمور التدخل في شؤون النقد وحصر الإصدار في الإدارات الحكومية، وأن يكون على شكل قطع مختلفة من النقود المعدنية لكل منها ووزن وعيار معلومان، وأن تختم كل قطعة بختم يدل على مسؤولية الحاكم عن الوزن والعيار
فتدخل الحكام في ذلك، وأصبحت العمل المعدنية معدودة بعد إن كانت توزن، وصار كل جنس منها متفقا بعضه مع بعض في النوع والمقدار.
ويذكر أن أول من ضرب النقود كرويوس ملك ليديا في جنوب آسيا الصغرى في القرن السابع قبل الميلاد. ويقال بأنه يوجد أنموذج من نقوده في المتحف البريطاني.
ثم قام بتقليده غيره من ملوك المماليك المتاخمة لها. وفي ازدهار الحضارة اليونانية اتخذت لنفسها عملة خاصة أطلقت عليها اسم الدراخمة، ومعناها قبضة اليد. ولا يزال هذا الاسم هو اسم العملة اليونانية حتى يومنا هذا، ويقال بأن العرب نقلوا اسم الدراخمة إلى العربية وعربوها باسم الدرهم.
وقد ذكر بعض العلماء أن الذهب والفضة يعتبران أثمانا بالخلقة والطبيعة، سواء في ذلك مسكوكهما وسبائكهما بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن، ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزامن هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه وثم رجل يزن بالأجرة فقال له: ((زن وأرجح)) .(9/38)
ومثله حديث جابر بن عبد الله وبيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: ((يا بلال اقضه وزده)) فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا. وقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فجاء في مجموع الفتاوى ما نصه:
(إن الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا) اهـ (1) .
والذي يظهر لي أن الأثمان يتم اعتبارها بالاصطلاح وأن أي شيء يتعارف عليه الناس ويتخذونه ثمنا فيلقي قبولا عاما فهو ثمن يحمل في نفسه مقومات الثمينة من قبول عام ومستودع للثروة ومقياس للقيم.
ولهذا كان أقرب تعريف للنقد وأصوبه تعريفه بأنه: أي شيء يلقي قبولا عاما كوسيط للتبادل مهما كان ذلك الشيء وعلى أي حال يكون.
وقد أشار بعض المحققين من علماء الإسلام إلى هذا، ففي المدونة الكبرى للإمام مالك في كتاب الصرف ما نصه:
(ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة) اهـ.
وفي مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه:
(وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولهذا كانت أثمانا – إلى أن قال – والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت) . اه (2) .
ففي قوله رحمه الله: (والوسيلة المحضة لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت) . في قوله هذا إشارة إلى أن النقد هو ما يلقى قبولا عاما كوسيلة للتبادل على أي صورة كان ومن أي مادة اتخذ.
__________
(1) ج19 ص248
(2) ج19 ص251(9/39)
وذكر لنا سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد – رحمه الله – أنه اطلع على نقل عن الغزالي بأنه يرى أن النقد ما تم الاتفاق على اعتباره، حتى ولو كانت قطعة من أحجار أو أخشاب.
وعليه فإننا في شك من صحة ما قيل بأن النقدين الذهب والفضة خلقا للثمنية. وقد يقوى الشك في صحة هذا القول لمن يتم له استعراض الأدوار التاريخية التي مر بها النقد حتى صار إلى ما هو عليه الآن (1) .
وبما ذكرنا نستطيع القول بأن النقد شيء اعتباري، سواء كان ذلك الاعتبار ناتجا عن حكم سلطاني أو عرف عام. وأن القول بأن الذهب والفضة خلقا للثمنية: قول يفقد مقومات اعتباره من الناحية الشرعية، ومن الناحية اللغوية، والناحية التاريخية: وهذا لا يعني عدم التسليم بأنهما أكثر من غيرهما إيغالا في الثمنية، بل هما موغلان فيها، ولهذا جاء النص بعموم جريان الربا فيهما، سواء في ذلك تبرهما ومسكوكهما، إلا ما أخرجته الصنعة منهما كالحلي، ففي جريان الربا فيه خلاف بين العلماء نذكره في موضعه من هذا البحث إن شاء الله.
علة الربا في النقدين:
لا أدري لعل غيري كان يتساءل كما كان مني التساؤل منذ كنت في المرحلة الثانوية أدرس ضمن دراستي مادة الفقه مسائل الربا، وذلك حينما أجد الفقهاء رحمهم الله يعبرون عن ضابط ما يجري فيه الربا بالعلة فيقولون: علة الربا في النقدين الوزن، وفي غيرهما الكيل، فأي مناسبة في الوزن لجريان الربا في النقدين، وفي الكيل لجريانه في غيرهما من الأصناف الأربعة الواردة في حديث عبادة بن الصامت؟. الواقع أن التعليل بالوزن أو بالكيل لجريان الربا تعليل بوصف طردي لا حكمة فيه، والتعليل بالوصف الطردي ممتنع لدى جمهور علماء الأصول ومحققيهم. قال الآمدي في كتابه إحكام الأحكام في بحثه القياس وشروطه (2) :
(اختلفوا في جواز كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة المجردة، والمختار أنه لا بد أن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث. أي مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وإلا فلو كانت وصفا طرديا لا حكمة فيه، بل أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع لوجهين: الأول أنه لا فائدة في الأمارة سوى تعريف الحكم، والحكم في الأصل معروف بالخطاب، لا بالعلة المستنبطة منه. الثاني أن علة الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عنه، فلو كانت معرفة لحكم الأصل لكان متوقفا عليها ومتفرعا عنها وهذا دور ممتنع) اهـ.
__________
(1) انظر الورق النقدي ص26- 32 لمؤلفه عبد الله بن منيع
(2) ج3 ص12(9/40)
وقال الأستاذ علي حسب الله في كتابه أصول التشريع الإسلامي نقلا عن صاحب شرح التلويح ما نصه (1) :
(إن جمهور العلماء على أن الوصف لا يصير علة بمجرد الاطراد، بل لا بد لذلك من معنى يعقل بأن يكون صالحا لبناء الحكم عليه) اهـ.
وفي مسودة آل تيمية جاء ما نصه (2) :
(مسألة: قال ابن برهان: لا يجوز القياس والإلحاق إلا بعلة أو شبه يغلب على الظن عند أصحابنا وأكثر الحنفية – إلى أن قال – وكذلك ذكر المسألة أبو الخطاب صاحبنا والقاضي، وهو منصوص أحمد ولفظه في المجرد: ولا يجوز رد الفرع إلى أصل حتى تجمعها علة معينة تقتضي، فأما أن يعتبر ضرب من التنبيه فلا) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض انتقاده التعليل بالوزن لجريان الربا في النقدين ما نصه (3) :
(وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض) اهـ.
ففي انتقاده التعليل بالوزن لعدم وجود مناسبة، إشارة إلى أنه رحمه الله يشترط المناسبة في العلة كغيره من محققي علماء الأصول، وفي انتقاد القول بأن علة الربا في النقدين الوزن وفي غيرهما الكيل، يقول الأستاذ محمد رشيد رضا في كتابه (يسر الإسلام وأصول التشريع العام) ما نصه (4) :
(ولم أر مثلا لجعل الكيل والوزن علة للربا بأظهر من جعل الدخول في الجوف علة لتحريم الأكل والشرب على الصائم، في كون كل من العلتين لا يدل عليهما الشرع ولا اللغة ولا العقل المدرك للحكم والمصالح) اهـ.
وهناك من العلماء من أجاز التعليل بالوصف الطردي، واعتبره بمثابة المناط. ففي المستصفى للغزالي قال ما نصه (5) :
(لا معنى لعلة الحكم إلا أنها علامة منصوبة على الحكم، ويجوز أن ينصب الشرع السُّكْر علامةً لتحريم الخمر، ويقول اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر، ويجوز أن ينصبه علامةً للتحليل أيضا، ويجوز أن يقول: من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مُسْكِر، ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مُسْكِر) اهـ.
__________
(1) ص132 طبع دار المعارف بمصر الطبعة الثالثة
(2) ص377 من مسودة آل تيمية
(3) ج2 ص137
(4) ص62
(5) (2/57)(9/41)
وقال في موضع آخر من المستصفى (1) :
(وأما الفقهيات فمعنى العلة فيها العلامة) اهـ.
وقال في كتابه شفاء العليل حسبما نقله عنه الدكتور سعيد رمضان في كتابه (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) ما نصه (2) :
(فكل ما جعل علة للحكم فإنما جعل علة، لأن الشارع جعله علة لا لمناسبة) اهـ.
وقال ابن قدامة رحمه الله في كتابه (روضة الناظر) ما نصه (3) :
(ومعنى العلة الشرعية العلامة. ويجوز أن تكون حكما شرعيا – إلى أن قال – وتكون مناسبا وغير مناسب) اهـ.
علي أي حال فليس هذا موضوع بحثنا، وإنما ذكرنا ذلك استطرادا وتبريرا لتساؤلنا. وعلي أي حال فسواء أَكَثُر القائلون بجواز التعليل بالوصف الطردي، أم قَلُّوا فإن هذا لا يغير ما نحن بصدده من ذكر أقوال الفقهاء رحمهم الله في علة الربا في النقدين، ومناقشتها واختيار ما نراه أقرب إلى الصواب منها.
لقد اختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في الذهب والفضة، نتيجة اختلاف مفاهيمهم في حكمة تحريمه فيهما. فمن تعذر عليه إقامة دليل يرضاه على حكمة التحريم، قصر العلة فيهما مطلقا. سواء أكانا تبرا أم مسكوكين أم مصنوعين. وهذا مذهب أهل الظاهر، ونفاة القياس، وابن عقيل من الحنابلة حيث إنه يرى العلة فيهما ضعيفة لا يقاس عليها. فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية، ولا في غيرهما مما يعد نقدا. والأمر في تحريم الربا فيهما عندهم أمر تعبدي.
__________
(1) (2/93)
(2) ضوابط المصلحة ص92
(3) روضة الناظر 2/313(9/42)
وغير أهل الظاهر ومن قال بقولهم فهموا للتحريم حكمة تتفق مع مراعاة الشريعة تحقيق العدل والرحمة والمصلحة بين العباد في الأحكام، ونتفق مع ما لهذه الشريعة من شمول واستقصاء، فاعتبروا النص علي جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة من قبيل التمثيل بهما لما ينتج التعامل به في حال التفاضل أو الإنظار من الفساد والظلم والقسوة بين العباد. فاستخرجوا مناطا تنضبط به قاعدة ما جري فيه الربا، إلا أنهم اختلفوا في تخريج المناط، فذهب بعضهم إلى أن علة الربا في النقدين الوزن. فطردوا القاعدة في جريان الربا في كل ما يوزن، كالحديد والنحاس والرصاص والصفر والذهب والفضة والصوف والقطن والكتان وغيرها. وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد، وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي.
وقد اختلفوا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن ما لم يكن ذهبا أو فضة، كاللجم والإبر والأسطال والقدور والسكاكين والألبسة من قطن أو حرير أو كتان، وكالفلوس فذهب جمهورهم إلى عدم جريان الربا فيها. وذهب بعض العلماء إلى أن علة الربا في الذهب والفضة غلبة الثمنية. وهذا الرأي هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي ,فالعلة عندهما في الذهب والفضة قاصرة عليهما. والقول بالغلبة احتراز عن الفلوس إذا راجت رواج النقدين.
فالثمنية عندهم طارئة على الفلوس فلا ربا فيها. وذهب فريق ثالث إلى أن العلة فيهما مطلق الثمنية. وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام مالك وأبي حنيفة وأحمد. قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من محققي العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه (1) :
(والمقصود هنا الكلام في علة الربا في الدنانير والدراهم، والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية لا الوزن، كما قال جمهور العلماء – إلى أن قال – والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية. واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوصل بها إلى تحصيل المطالب، فإن ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها في الذمة، مع أنها ثمن من طرفين، فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل، فإذا صارت الفلوس أثمانا صار فيها المعنى فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل) .
__________
(1) (29/473- 474)(9/43)
نقاش هذه الآراء:
لقد استعرضنا بصورة سريعة ومختصرة جدا أشهر آراء العلماء في مناط الربا في النقدين: الذهب والفضة، دون مناقشة أي من هذه الآراء، ونحب الآن مناقشة هذه الآراء لتظهر لنا حقيقتها، وليترجح لنا منها ما يتفق مع حكمه حظر الربا على الأمة الإسلامية، ليكون لنا عونا ومبررا في توجيهنا ما نراه علة للربا في الذهب.
لقد أورد بعض أهل العلم على القائلين بالوزن علة لجريان الربا في النقدين، إيرادا ملخصه أن العلماء متفقون على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، وفي جواز ذلك نقض للعلة.
قال أبو محمد عبد الله بن قدامة رحمه الله في (المغني) في معرض توجيهه قول القائلين بالثمينة (1) :
(ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات، لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النسأ) اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه في معرض توجيهه القول بالثمنية (2) :
(ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا.
والمنازع يقول: جواز هذا استحسان وهو نقيض للعلة ويقول: إنه جوز هذا للحاجة مع أن القياس تحريمه) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض توجيهه القول بالثمنية وتصحيحه ما نصه (3) : (فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد ونحوهما. فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا. فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النسأ.
والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض) اهـ.
وقد أجاب القائلون بهذا من الحنابلة عن إيراد اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، مع أنه بيع موزون إلى أجل، باستثناء هذه الجزئية من القاعدة للحاجة الماسة إلى الإسلام بأحد النقدين، فقالوا بجريان ربا النسيئة في كل جنسين اتفقا في على ربا الفضل ليس أحدهما نقدا، أما الحنفية فوضعوا قيدا ليدفعوا به هذا الاعتراض، فقالوا بجريان ربا النسيئة في كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل وطريقته، وقالوا إن مسألة السلم لا تنقض قاعدتنا، حيث إن النقدين موزونان بالميزان، أما ما يسلم فيه مما يوزن فوزنه بالقبان، فاختلف الميزان فجاز (4) .
__________
(1) المغني: (4/4)
(2) الفتاوى: (29/471)
(3) إعلام الموقعين: (2/137)
(4) بدائع الصنائع: (5/186)(9/44)
ولا يخفى ما في هذا القيد من تكلف ظاهر.
وأورد أيضا على القائلين بالوزن علة لجريان الربا في النقدين إيرادا آخر ملخصه أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على ما يوزن، بل هي متعدية إلى غيره مما يعد ثمنا كالفلوس والورق النقدي، بل إن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين واقع في التعامل بالورق النقدي، وبشكل واضح في غالبه، تتضاءل معه صورة الظلم الواقع في التعامل بالذهب والفضة متفاضلا في الجنس أو نسيئة في الجنسين، نظرا لارتفاع القيمة الثمنية في بعضها كفئات الخمسمائة ريال والألف دولار.
فليس التعليل بالوزن جامعا لأجزاء ما يجري فيه الربا من أنواع الأثمان، فتعين المصير إلى مناط جامع مانع.
أما القائلون بغلبة الثمنية علة لجريان الربا في النقدين، فأورد عليهم أن العلة عندكم قاصرة على النقدين: الذهب والفضة، والعلة القاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار أكثر أهل العلم، قال النووي رحمه الله في (مجموعة شرح المهذب) في معرض سياقه الرد على الشافعية لقولهم بالعلة القاصرة (1) :
(وعندكم في العلة القاصرة وجهان لأصحاب الشافعية، أحدهما أنها فاسدة لا يجوز التعليل بها لعدم الفائدة فيها، فإن حكم الأصل قد عرفناه، وإنما مقصود العلة أن يلحق بالأصل غيره، والوجه الثاني أن القاصرة صحيحة، ولكن المتعدية أولى. قالوا: فعلتكم مردودة على الوجهين لأن حكم الذهب والفضة عرفناه بالنص. قالوا: ولأن علتكم قد توجد ولا حكم، وقد يوجد الحكم ولا علة كالفلوس بخراسان وغيرها، فإنها أثمان ولا ربا فيها عندكم، والثاني كأواني الذهب والفضة يحرم الربا فيها مع أنها ليست أثمانا) اهـ.
وأورد عليهم أيضا ما أورد على القائلين بالوزن علة من أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على النقدين، بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي إلى آخر الاعتراض المتقدم قريبا.
أما القائلون بأن علة الربا في النقدين مطلق الثمنية، فقد استخرجوا مناطا جامعا مانعا متفقا مع الحكمة في جريان الربا في الذهب والفضة.
__________
(1) المجموع: (9/445)(9/45)
وما ذكره ابن مفلح رحمه الله في كتابه الفروع من قوله: بأنها علة قاصرة لا يصلح التعليل بها في اختيار الأكثر، منقوضة طردا بالفلوس، لأنها أثمان وعكسا بالحلي. فهذا الإيراد لا يتجه إلا على القائلين بغلبة الثمنية. أما القائلون بمطلق الثمنية فلم يخرجوا الفلوس الرائجة عن حكم النقدين بل اعتبروها نقدا يجري فيه الربا بنوعيه كما يجري الربا بنوعيه في الذهب والفضة.
كما أنهم لم يقولوا بجريان الربا في الحلي المصنوع من الذهب أو الفضة، لأن الصناعة قد نقلته من مادة الثمنية إلى جنس السلع والثياب.
ولهذا لا تجب فيه الزكاة على القول المشهور مع أنه من مادة الذهب والفضة.
وفي امتناع جريان الربا في الحلي المباح من الذهب والفضة يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) ما نصه (1) :
(وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا، فإن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد، وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة، كالآنية: حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره علي ومعاوية، فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كآلات الملاهي. وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك، فالشريعة لا تأتي به، ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه، لحاجة الناس إليه. فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها ألبتة، بل بيعها بجنس آخر وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع، وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر، لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه؟ فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع، فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغاياتها أن تكون عامة أو مطلقة، ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة، والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحيلة، ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير، كقوله: (الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير) . وفي الزكاة قوله: (في الرقة ربع العشر) . والرقة هي الوَرِق، وهي الدراهم المضروبة. وتارة بلفظ الذهب والفضة فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيا عن الربا في النقدين، وإيجابا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما بل فيه تفصيل. فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها، وفي هذا توفية الأدلة حقها، وليس فيه مخالفة شيء لدليل منها.
__________
(1) الإعلام: (2/140- 141)(9/46)
يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وسائر السلع، وإن كانت من غير جنسها، فإن هذه الصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة، فلا محظور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي) . كما لا يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل. ولا ريب أن هذا قد يقع فيها لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين، وتضرروا بذلك غاية الضرر. يوضحه أن الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية، وكان النساء يلبسنها، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها. ومن المعلوم بالضرورة أنهم كانوا يعطونها للمحاويج ويعلم أنهم يبيعونها. ومعلوم قطعا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه. ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارا، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه، وأعلم بمقاصد رسوله أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس. يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه، والمنقول عنهم إنما هو في الصرف، يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدا للذريعة كما تقدم بيانه، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر. وكما أبيح النظر للخاطب، والشاهد والطبيب، والمعامل من جملة النظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال، حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلي المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
وقد يرد على ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله من أن الحلية المصنوعة لا يجري فيها الربا، ما رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا، فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا يباع حتى يفصل)) ، وفي لفظ لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقلادة ابتاعها رجل بتسعة أو سبعة دنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا حتى تميز بينه وبينه)) فقال: إنما أردت الحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا حتى تميز بينهما)) ، قال: فرده حتى ميز بينهما.
ووجه الإيراد أن القلادة حلية فيها ذهب وقد اشتريت بذهب، ومع هذا فقد اعترض صلى الله عليه وسلم على صحة هذا البيع وأمر برده حتى يفصل. وقد يكون من الجواب عليه أن ذهب القلادة كان أكثر من ثمنها، حيث ذكر فضالة أنه فصلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارا. وأكثر ما روي في ثمنها أنه اثنا عشر دينارا، وقد روي أنه اشتراها بسبعة دنانير أو تسعة، فإذا كان ما فيها من الذهب أكثر من ثمنها ذهبا، لم يكن للصياغة فيها مقابل. وآل الأمر فيها إلى بيع ذهب بذهب متفاضلا، لم يكون لزيادة بعضه على بعض مقابل.(9/47)
وابن القيم رحمه الله يشترط أن يكون ثمن الحلية أكثر منها وزنا، ليكون الزائد على ثمنها في مقابلة الصياغة، وقد مر بنا قوله: (وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها) .
وقال رحمه الله بعد هذا في معرض الدفاع عن هذا الرأي (1) :
(فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة) اهـ.
وأجاب بنحو هذا شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض جوابه عن جواز بيع الأكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية مع القطع بأن بينهما تفاوتا في الوزن، فقال رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه (2) :
(وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي بل يخرص خرصا، مثل القلادة التي بيعت يوم حنين، وفيها خرز معلق بذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تباع حتى تفصل)) ، فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل، لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون، فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله. (3) . وزيادة خرز وهذا لا يجوز.
وإذا علم المأخذ فإذا كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها، وكان المفرد أكثر من المخلوط كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة، بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط، لم يكون في هذا من مفسدة الربا شيء إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها، ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك فيجوز التفاوت) . اهـ.
ومما أجيب به عن هذا الحديث أن فيه اضطرابا واختلافا، يوجب ترك الاحتجاج به، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير ما نصه (4) :
(وله عند الطبراني في (الكبير) طرق كثيرة جدا، في بعضها قلادة فيها خرز وذهب. وفي بعضها: ذهب وجوهر. وفي بعضها خرز وذهب. وفي بعضها: خرز معلقة بذهب. وفي بعضها: باثني عشر دينارا. وفي أخرى: تسعة دنانير، وفي أخرى، بسبعة دنانير، وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة) اهـ.
وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب. اهـ.
__________
(1) الإعلام (2/142)
(2) مجموع الفتاوى (29/453)
(3) هكذا في المطبوع، ولعل الصواب: قد باع ذهبا بذهب مثله زيادة وخرز، والله أعلم
(4) تلخيص الحبير: (3/9)(9/48)
قلت: قد رأيت لبعض المتأخرين من محدثي الهند تعقيبا على ابن حجر رحمه الله في جوابه هذا، فقد ذكر المفتي عبد اللطيف الرحماني في شرحه (جامع الترمذي) الجزء الثاني ص709 ما نصه (1) :
وأما ما أجاب الحافظ عنه بأن المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل. ففيه أيضا أنه غير محفوظ بما روى البيهقي في (السنن) عن فضالة بن عبيد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الأوقية من الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن)) ففي هذا الحديث ليس للقلادة ذكر، وليس فيه النهي عن بيع ما لم يفصل، بل فيه النهي عن بيع الذهب بالدينار إلا مماثلا. وأما ما قال الحافظ من أنه ينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات، فنحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم. ففيه أنهم إذا كانوا كلهم سواء في الحفظ والضبط فكيف الترجيح؟ وأيضا لا يجوز تغليظ ثقة؛ لأن عليه الاعتماد.
فعلى هذا لا حجة في هذا الحديث لاضطرابه، وكيف وفيه حرج عظيم ومشقة على الأمة، إذا حكم بفصل الذهب والفضة عن الأشياء التي تحلى بالذهب والفضة؛ لأن بعض الأشياء بعد نزوع الذهب والفضة منها ينقص قيمتها كثيرا، بل بعضها لا يكون لها قيمة. فكيف يحكم بهذا الشارع، ويحكم بإبطال الصنع وهو حكيم؟ اهـ.
أقول: في اعتراضه رحمه الله بقوله: ففيه أنهم إذا كانوا كلهم سواء في الحفظ والضبط فكيف الترجيح؟ في قوله هذا نظر ملخصه: هل تحقق أن رواة هذه الروايات المختلفة كلهم سواء في الحفظ والضبط؟ كما أن قوله: لا يجوز تغليظ ثقة لأن عليه الاعتماد. ليس على إطلاقه بل إذا روى الثقة حديثا يخالف ما روى الناس اعتبرت روايته هذه شاذة، ويتعين التوقف فيها وعدم الاحتجاج بها. قال ابن كثير رحمه الله في كتابه (الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث) في معرض تعريفه الشاذ ما نصه (2) :
قال الشافعي: وهو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره. وقد حكاه الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني عن جماعة من الحجازيين أيضا. قال: والذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ به ثقة أو غير ثقة، فيتوقف فيما شذ به الثقة ولا يحتج به، ويرد ما شذ به غير الثقة. – إلى أن قال – فإذن الذي قاله الشافعي أولا هو الصواب: إنه إذا روى الثقة شيئا قد خالفه فيه الناس فهو الشاذ. يعني المردود. اهـ.
__________
(1) الكتاب المذكور جرى مني الاطلاع عليه مخطوطا حينما أحيل من المقام السامي إلى سماحة شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله لأخذ رأيه في طباعته
(2) انظر ص61 من الكتاب نفسه(9/49)
ومن المسائل التطبيقية لهذه المسألة ما ذكره ابن حجر رحمه الله في كتابه هدي الساري مقدمة فتح الباري من قوله (1) :
قال الدارقطني: أخرجا جميعا حديث مالك عن الزهري عن أنس قال: (كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة) .
وهذا مما ينتقد به على مالك لأنه رفعه، وقال فيه إلى قباء. وخالفه عدد كثير منهم شعيب بن أبي حمزة، وصالح بن كيسان، وعمرو بن الحارث، ويونس بن يزيد، ومعمر، والليث بن سعد، وابن أبي ذئب وآخرون – انتهى.
وقد تعقبه النسائي أيضا على مالك، وموضع التعقيب منه قوله إلى قباء، والجماعة كلهم قالوا إلى العوالي. ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث لا سيما وقد أخرجا الرواية المحفوظة اهـ.
فقول ابن حجر رحمه الله: ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث: يدل على أنه يرى كغيره من حفاظ الحديث، إن الثقة إذا شذ عن الجماعة برواية خالفهم فيها وترتب على هذه الرواية وهم غير يسير، لزم من ذلك القدح في صحة الرواية، وإن كان مالكا أو من يدانيه، فضلا عمن هو دونه.
كما أنه قد يورد مورد اعتراضا على القائلين بمطلق الثمنية، بأن إجماع العلماء منعقد على جريان الربا بنوعيه، في الذهب والفضة، سواء أكانا سبائك أم كانا مسكوكين، فما سك منهما نقدا فلا إشكال في جريان الربا فيه لكونه ثمنه، وإنما الإشكال في جريان الربا بنوعيه في سبائكهما، مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنا. إلا أنه يمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن الثمنية في الذهب والفضة موغلة فيهما، وشاملة لسبائكهما ومسكوكهما، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا. وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن، ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس. قال: (جلبت أنا ومخرمة العبدي بَزًّا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجرة فقال له: ((زن وأرجح)) . ومثله حديث جابر في بيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: ((يا بلال اقضه وزده)) . فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا فجاء في مجموع الفتاوى (2) :
(إن الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا) اهـ.
__________
(1) الجزء الثاني من هدي الساري ص111
(2) مجموع الفتاوى: (19/248)(9/50)
ويمكن أن يجاب أيضا بما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض توجيهه جريان الربا في الأصناف الستة الواردة في حديث عبادة وغيره، فقال (1) :
(وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات. وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين؛ لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضل بينهما، ولهذا قال: تبرها وعينها سواء) اهـ.
ولابن القيم رحمه الله توجيه رائع للتعليل بالثمنية يحسن بنا ونحن نرى أن التعليل بالثمنية أصوب الأقوال وأصحها أن نذكره كختام لمبحثنا هذا.
قال رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) ما نصه (2) :
(وأما الدراهم والدنانير، فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، ومذهب أبي حنيفة. وطائفة قالت: العلة فيهما الثمنية. وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى. وهذا هو الصحيح بل الصواب.
فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النسأ. والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية.
فإن الدراهم والدنانير أثمان مبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا، لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع، لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة, وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره. إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس- إلى أن قال – فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير، مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرة، أو خفافا ويأخذ ثقالا أكثر منها، لصارت متجرا وجر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد. فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلعة. فإذا صارت في نفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود ولا يتعدى إلى سائر الموزونات) اهـ.
ونظرا لوجود النص الثابت الصريح في جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة وذلك فيما روى الإمام أحمد ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) وحيث إنه لا اجتهاد مع نص فإن الربا بنوعيه يجري فيهما في مسكوكهما وسبائكهما وتبرهما إلا ما أخرجته الصنعة منهما؛ فقد اتجه بعض المحققين من أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما إلى جواز التفاضل في بيع الذهب بجنسه والفضة بجنسها إذا كان أحد العوضين مما أخرجته الصنعة كالحلي مع بقاء الحكم بوجوب التقابض في مجلس العقد رعاية للنص الخالي عما يصرفه عن الحكم العام في جريان ربا النسيئة فيهما. وقد تقدم النقل عن ابن القيم رحمه الله في تعليل ذلك وأن للصنعة فيهما قيمة تقابل زيادة الثمن وزنا على وزن الحلية المبيعة من ذهب أو فضة.
__________
(1) الإعلام: (2/140)
(2) إعلام الموقعين: (2/140) .(9/51)
مما تقدم يتضح أن الثمنية في الذهب والفضة موغلة فيهما، وأن النص صريح في اعتبارهما مالا ربويا يجب في المبادلة بينهما التماثل والتقابض في مجلس العقد فيما اتحد جنسه والتقابض في مجلس العقد في بيع بعضهما ببعض إلا ما أخرجته الصناعة عن معنى الثمنية، فيجوز التفاضل بين الجنسين منهما دون النسأ على ما سبق من توضيح وتعليل.
وتأسيسا على ما تقدم في البحث من خصائص الذهب وكونه أكثر الأثمان إيغالا في الثمنية، وما جاء فيه من نص صريح يقضي باعتباره مالا ربويا يلزم في المبادلة بين الجنس منهما المماثلة والتقابض في مجلس العقد والمبادلة بين الجنسين التقابض في مجلس العقد وما تقدم لنا من اعتبار الثمنية علة الربا فيه تأسيسا على ما تقدم يمكننا الحكم على المسائل التي عرضها مجمع الفقه الإسلامي بجدة.
ومنها:
حكم المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضمونا إليه جنس آخر، الحكم في ذلك فيما يظهر لي الجواز؛ لأن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني أشبه الحكم بجواز بيع حلي الذهب بأكثر من وزنه ذهبا حيث إن الزيادة في الثمن وزنا هي قيمة الصنعة في الحلي وقد مر بنا النقل عن ابن القيم رحمه الله في ذكر هذا الحكم وتعليله.
ومنها:
بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولا – أي فيه صنعة وصياغة – لا يخفى أن الذهب قد يباع بذهب وقد يباع بنقد آخر من فضة أو روق نقدي أو فلوس. فإذا كان الذهب المبيع مشغولا كأن يكون حليا فإن بيع بذهب فلا بأس أن يكون الثمن أكثر وزنا من وزن الذهب الحلي، وتكون الزيادة في الوزن في مقابلة الصياغة والعمل وقد مر بنا رأي ابن القيم في ذلك وذكره تعليل القول بالجواز إلا أنه يشترط للمبادلة بينهما الحلول والتقابض في مجلس العقد. وأما إذا كان أحد العوضين ثمنا غير الذهب فلا بأس في البيع مطلقا لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت: ((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
ومنها:
المتاجرة في الأواني أو الحلي والساعات الذهبية المصنوعة للرجال.
لا يخفى أن الحكم الشرعي في تملك الأواني الذهبية والفضية التحريم وما حرم تملكه حرم بيعه. أما الحلي فإن كان معدا للرجال فهو حرام والنصوص في ذلك أشهر من أن تذكر وما حرم تملكه حرم بيعه.(9/52)
وأما المتاجرة في الحلي المعد للنساء فلا بأس فيه إلا أنه ينبغي مراعاة الحكم الشرعي في بيوعه من حيث الحلول والتقابض، وقد يتفرع من هذه المسألة مسألة هي: هل يجوز لتاجر الحلي حينما يعرض عليه أحد الناس حليا قديما ويبدي له رغبته في شرائه حليا جديدا هل يجوز لهذا التاجر أن يشترط عليه في شرائه الحلي القديم أن يشتري منه حليا جديدا؟ هذه المسألة بحثت في هيئة كبار العلماء في المملكة وصدر القول بمنعها باعتبارها بيعتين في بيعة إلا أن هذا القول لم يكن محل إجماع. ونظر إلى أن هذا النوع من البيع لم يشتمل على غرر ولا على جهالة ولا مخالفة في الصرف ولم يكن في معنى بيعتين في بيعة؛ فلم يظهر لي وجه للقول بمنعه، وقد قال بجواز مثل هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله حيث قال: الصحيح جواز قوله: بعتك داري بكذا على أن تبيعني عبدك أو نحوه بكذا، ولا يدخل تحت نهيه عن بيعتين في بيعة لأن المراد أن يعقد على شيء واحد في وقت واحد عقدين، وذلك كمسائل العينة وما أشبهها. اهـ (1) .
وقال رحمه الله في معرض إجابته عن الذي يدخل في النهي عن بيعتين في بيعة:
(ويدخل في ذلك مسائل العينة وضدها ... – إلى أن قال – وأما تفسيره بأن تقول: بعتك هذا البعير مثلا بمائة على أن تبيعني هذه الشاة بعشرة فالمذهب إدخالها في هذا الحديث والقول الآخر في المذهب عدم ادخالها وأن لا يتناولها النهي لا بلفظه ولا بمعناه ولا محظور في ذلك وهو الذي نراه ونعتقده. اهـ (2) .
وأما الساعات الذهبية فإن كانت للنساء فلا بأس بتملكها واستعمالها والمتاجرة فيها بالبيع والشراء، وأما إن كانت للرجال فحكمها حكم حلي الرجال من حيث تحريم التملك والمتاجرة فيها بيعا أو شراء أو اقتناء. والله أعلم.
__________
(1) الفتاوى الجلية ص96
(2) الفتاوى السعدية ص298(9/53)
وأما ما كان مموها بالذهب أو الفضة أو مشغولا بهما أو بأحدهما بحيث تكون كمية الذهب أو الفضة فيها قليلة جدا بالنسبة إلى ما شغلت به فهذه المسألة محل اجتهاد ونظر وفيها اختلف العلماء بين الإباحة والحظر. فمن نظر إلى الحكمة من التحريم وهي كسر قلوب الفقراء ورأى أن في التمويه بهما وشغل الأداة بشيء منهما بما يعطي الأداة لون أحدهما من نظر إلى هذا قال بالتحريم بصرف النظر عن كامل محتوى الأداة بأحدهما أو بجزء منها لما في ظاهرها من بهجة وزينة وإغراء ينكسر برؤيته قلب الفقير العاجز عن تملكها. ومن نظر إلى أن غالب محتوى الأداة من غيرهما وأن ما فيها من أحدهما لو استخرج لما كان شيئا.. ونظر إلى القاعدة الشرعية: يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا.. قال بجواز ذلك؛ ولكل من الرأيين وجاهته واعتباره ويكون للاختيار منهما التوجه بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس؛ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) . والله أعلم. ومنها: شراء الفرد الذهب بالشيك أو ببطاقة الائتمان أيعد ذلك قبضا للثمن؟ اصطلح الفقهاء على تسمية بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة مراطلة، وعلى تسمية بيع الذهب بالفضة أو بأي ثمن آخر أو العكس صرفا، واشترطوا في المراطلة المماثلة في الوزن والحلول والتقابض في مجلس العقد، واشترطوا في الصرف المتمثل في بيع أحد المعدنين الذهب والفضة بأحدهما أو بأي ثمن آخر من ورق أو فلوس التقابض في مجلس العقد؛ وأصل ذلك حديث عبادة بن الصامت المتقدم ذكره 0 الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلى آخره – واتفق العلماء على أن القبض أمر مرده إلى العرف والعادة فأي طريقة يتم فيها الاستيلاء الكامل على العين محل العقد تعتبر قبضا. وقد بحث العلماء وضع الشيك وهل يعتبر قبضه قبضا لمشموله مبرئا؟ فأصدر مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي قرارا باعبتار قبض الشيك المعتبر قبضا لمحتواه. وقد وجد الخلاف بين فقهاء العصر في تفسير معنى الشيك المعتبر فذهب بعضهم إلى أن الاعتبار في الشيك أن يكون مصدقا من البنك المسحوب عليه؛ لأن تصديقه يعني حمايته من الساحب أن يعود فيه كما يعني وجود رصيد كامل للساحب لتغطية سداد الشيك، وهذا المعنى يعطي القناعة الكاملة بالقدرة على التصرف في مشمول الشيك في أي وقت يريده المستفيد منه، وهذا معنى القبض.
وذهب آخرون إلى أن المراد بالشيك المعتبر هو أن يكون له رصيد في البنك المسحوب عليه لتغطيته. ولكن هذا المعنى لا يعطي القناعة بالقدرة على تصرف المستفيد منه بمشموله. فلئن كان للساحب رصيد لتغطيته فقد يرجع الساحب في الشيك قبل قبضه، وهذا الاحتمال الوارد ينفي عن هذا الشيك الثقة في القدرة على التصرف فيه، وبالتالي فينتفي عن هذا الشيك معنى القبض، وهو القدرة على قبض محتواه أو الأمر بقيده في حسابه.(9/54)
والذي يظهر لي – والله أعلم – أن الشيك المعتبر والذي هو في معنى القبض هو الشيك المصدق. وتأسيسا على هذا فإذا اشترى الفرد ذهبا أو فضة بثمن آخر وبموجب شيك بذلك الثمن فإن كان مصدقا فقبضه قبض لمحتواه والمصارفة بذلك صحيحة. وإن كان غير مصدق فقبضه ليس قبضا لمشموله وبالتالي فقبضه ليس في حكم القبض المبرئ للذمة والمصارفة بموجبه غير صحيحة لأن التقابض في مجلس العقد غير محقق.
فمثل هذا الشيك آفاته كثيرة: منهما احتمال سحبه على غير رصيد، أو على رصيد لا يكفي لتغطيته، أو لاحتمال رجوع ساحبه في سحبه قبل تقديمه للبنك المسحوب عليه؛ فهذه العيوب تجعله غير أهل للاعتبار في القول بأن قبضه قبض لمحتواه. والله أعلم.
وأما شراء الذهب ببطاقة الائتمان فنظرا إلى أن بطاقة الائتمان تعتبر مبرئة للذمة براءة كاملة بين المتصارفين وحق بائع الذهب بموجب بطاقة الائتمان ثابت كثبوت حقه في الشيك المصدق من حيث إن صاحب البطاقة حينما يوقع بموجبها على فاتورة الدفع لا يستطيع الرجوع في توقيعه، ولا يستطيع مصدر البطاقة أن يتأخر عن سداد القيمة عند الطلب مهما كانت حال صاحب البطاقة.
ونظرا لهذا فإن القول بصحة المصارفة ببطاقة الائتمان قول وجيه يؤيده أن معنى القبض متوفر فيها حيث يتفرق المتصارفان بموجبها وليس بينهما شيء. ومع هذا فالمسألة في حاجة إلى مزيد من النظر والتأمل في ضوء التصور لحقيقة البطاقة الائتمانية. والله المستعان.
ومنها:
التعامل بشهادات الذهب أو حسابات الذهب، وهي شهادات تصدرها مؤسسات متخصصة تخول صاحبها قبض كمية من الذهب ولا يلزم أن تكون تلك الكمية معينة منفصلة عن غيرها. وقد لا تكون موجودة فعلا لدى المؤسسة في كل الأوقات.
هذا التعامل يعني أن أحد الرجال مثلا يشتري كمية من الذهب يجري تسلمه شهادة بها يتسلم بموجبها هذه الكمية من الذهب من مخازن إحدى هذه المؤسسات أو من مخازن متخصصة لهذه المؤسسة حق التحويل عليها بذلك وقد لا يكون الذهب موجودا في هذه المخازن وقت المصارفة.
الذي يظهر لي، والله أعلم، أن هذا النوع من المصارفة لا يتحقق فيه معنى التقابض في مجلس العقد لأمرين: أحدهما أن المؤسسة المتخصصة في إصدار شهادات الذهب ليس لشهاداتها اعتبار موجب للثقة كالثقة في الشيك المصدق. حيث إن مشتري الذهب لا يستطيع التصرف فيما اشتراه في مجلس العقد للاحتمال القوي في بعد هذه المخازن عن قدرته على حيازة ما اشتراه. الثاني أن وجود الذهب في المخازن المختصة مشكوك فيه فقد يكون موجودا وقد لا يوجد إلا بعد وقت لا يعلم تحديده، فيطلب من المشتري الانتظار، والرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر من عناصر المصارفة وصحتها التفرق بين المتصارفين وليس بينهما شيء؛ وهذا العنصر مفقود في هذه المصارفة فضلا عن أن التقابض في مجلس العقد مفقود حسا ومعنى.
وتأسيسا على هذا فلا يظهر لي جواز هذا النوع من المصارفة لفقده شرطها. والله أعلم.(9/55)
ومنها:
حكم شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب وتعد أكثر أصولها منه، هل يمثل السهم حصة شائعة في الذهب؟ هل لذلك تأثير على حكم التعامل بأسهمها؟
لا يظهر لي مانع من شراء أسهم في شركة تعمل في استخراج الذهب ولو كانت غالب أصولها من ذلك الذهب؛ وذلك لأن الشركة شخص اعتباري له ذمة محدودة ذات وعاء قابل للحقوق والواجبات والتملك والتبرع وغير ذلك من التصرفات المالية، فأسهم هذه الشركة حصص شائعة في عموم مقوماتها وعناصر وجودها ومن هذه العناصر والمقومات قيمتها المعنوية المتمثلة في اعتبارها ومكانتها في سوق الشركات وأسواق الإنتاج، وقد تكون قيمة الجانب الاعتباري للشركة أكثر حجما من قيمة ما لديها من أصول متحركة. كما أن للشركة أصولا ثابتة للإدارة والتشغيل غير الذهب فسهم الشركة ليس محصورا في كمية الذهب الذي تقوم الشركة باستخراجه حتى يقال بمراعاة شروط الصرف، وإنما تمثل أسهمها كامل عناصر وجودها والسهم فيها حصة مشاعة في عموم مقومات الشركة واعتبارها. فمن يشتري سهما أو أكثر من أسهم هذه الشركة لا يعتبر نفسه قاصدا شراء كمية من الذهب المستخرج.
فالذهب المستخرج مادة متحركة يخرج اليوم ويباع غدا ويخرج غيره بعد ذلك ويستمر نشاط الشركة في هذا السبيل على هذا الاتجاه. ولكنه يقصد الدخول في المساهمة في هذا النشاط وفي هذه الحركة الانتاجية والصناعية والاشتراك في تملك الاختصاص في ذلك، ومن القواعد الشرعية أنه يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا. ألا نرى أن تملك الشركات المساهمة سيولة من النقود ووجود ديون لها وانتفاء الوضوح الكامل لموجودات الشركة مما يعطي نوع جهالة. كل ذلك يغتفر ولا يؤثر في صحة تداول أسهم الشركات بيعا وشراء وتملكا وتمليكا حيث يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا.(9/56)
الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة:
من النشاطات المصرفية المعتادة والمتكررة لدى المؤسسات المالية الحوالات.
والحوالات قد تكون بعملة البلد المحال فيه كأن يطلب أحد الناس من أحد المصارف تحويل مبلغ من المال بعملة معينة كالريال السعودي والدولار الأمريكي فيدفع للمصرف هذا المال ويطلب منه تحويله إلى بلد معين فيقوم المصرف بذلك ويعطيه إشعارا بالتحويل إلى ذلك البلد على أحد المصارف أو على فرع من فروعه، هذا النوع من التحويل المصرفي حوالة محضة ليس لها تعلق بمسائل الصرف وإنما هي من مسائل السفتجة. وقد عرفها بعضهم بقوله:
السفتجة: هي أن يعطي مالا لآخر مع اشتراط القضاء في بلد آخر وذلك لضمان الطريق على سبيل القرض لا على سبيل الأمانة.
وقد اختلف العلماء في حكمها فجمهورهم قالوا بجوازها مستدلين على ذلك بما روي عن عطاء أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه كان يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب بها إلى أخيه مصعب بن الزبير في العراق ويأخذونها منه، فسئل ابن عباس عن ذلك فلم ير به بأسا، فقيل له: إن أخذوا أفضل من دراهمهم؟ قال: لا بأس إذا أخذوا بوزن دراهمهم.
وروي أيضا مثل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فهؤلاء ثلاثة من أصحاب رسول الله أجازوا ذلك.
ورد المجيزون على المانعين قولهم بأن هذا من قبيل القرض الذي يجر نفعا، وكل قرض جر نفعا فهو ربا، فإن دافع النقود يستفيد من ذلك أمنه من خطر الطريق. رد المجيزون على ذلك بقولهم:
المنفعة التي تجر إلى الربا في القرض هي التي تخص المقرض كسكنى دار المقترض وركوب دوابه واستعماله وقبول هديته ولا مصلحة له في ذلك، بخلاف هذه المسألة فإن المنفعة مشتركة بينهما وهما متعاونان فهي من جنس المعاونة والمشاركة (1) .
وهذا المعنى ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى حيث قال:
(والصحيح الجواز؛ لأن المقرض رأى النفع بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، وقد انتفع المقترض أيضا بالوفاء في ذلك وأمن خطر الطريق فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم وإنما ينهى عما يضرهم) (2) اهـ.
__________
(1) المغني: (4/320) وتهذيب السنن لابن القيم (5/152) بواسطة الشيخ عمر المترك رحمه الله من كتابه (الربا والمعاملات المصرفية) ص283- 284
(2) (29/531)(9/57)
وفي مجموع رسائل وفتاوى شيخنا الجليل محمد بن إبراهيم رحمه الله ما نصه:
(فقد جرى الاطلاع على الاستفتاء الموجه إلينا منك المتضمن أنك تقرض من تتولى بيع ماشيته لاستعجاله وتستوفي ما أقرضت مما تقبضه من قيمة ماشيته المباعة بواسطتك حتى تستكمل قرضك وتذكر أنك تتخذ هذه الطريقة لترغيب الجالبين وإيثارهم إياك دون غيرك. والجواب: الحمد لله لا شك أن أصل مشروعية القرض واستحبابه التقرب إلى الله في تفريج كرب المحتاجين وهذا القرض ليس مقصدا من مقاصدك في الإقراض وإنما غرضك جر منفعة لذاتك، وحيث إن هذه المنفعة لا تنقص المقترض شيئا من ماله فغاية ما في الأمر الكراهة) (1) اهـ.
وقال آخرون بمنعها بحجة أن السفتجة قرض يستفيد منها المقترض أمن الطريق وكل قرض جر نفعا فهو ربا. وقد تقدم رد هذا الاحتجاج بما يكفي عن إعادته.
وذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السفتجات حرام)) وهو حديث ضعيف ذكره ابن الجوزي في الموضوعات فلا يصح الاحتجاج به والقول بجواز ذلك هو ما تطمئن إليه النفس لما في ذلك من المصلحة العامة والتيسير على المسلمين في معاملاتهم وانتفاء الدليل المقنع على المنع ولأن الأصل في المعاملات الإباحة.
وقد تكون الحوالة بنقد مغاير للنقد المراد تسلمه في البلد الآخر فهذا النوع من التحويل يجتمع فيه الصرف والحوالة، ولا يخفى أن للصرف في حالة اختلاف العوضين جنسا شرطا هو التقابض في مجلس العقد، وقد تقرر لدى المجامع الفقهية، والهيئات العلمية أن كل عملة ورقية جنس يجوز المصارفة بينها وبين غيرها من عملات الدول الأخرى مطلقا إذا كان يدا بيد، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
__________
(1) (7/210) ، رقم الفتوى 1706(9/58)
وعليه فيجب قبل التحويل إجراء عملية الصرف بحيث يتسلم المحيل العملة التي يريد تحويلها بعد انتهاء عملية الصرف سواء أكان تسلما حسيا أم تسلما في معنى الحس كأن يعطيه شيكا مصدقا يملك بقبضه القدرة على التصرف فيه بتسلم محتواه أو بقيده في حسابه أو تحويله فإذا تسلم الشيك المصدق أمكنه بعد ذلك تحويله، وصار الأمر إلى الإجراءات المتخذة في الحال الأولى وهي تحويل نقد معين إلى بلد آخر، ولفضيلة الدكتور الشيخ عمر المترك رحمه الله بحث في الموضوع يحسن إكمال بحث مسألتنا بنقل قوله في ذلك، قال رحمه الله:
(فإن كان المدفوع للمصرف نقودا ويراد تحويلها إلى نقود من غير جنسها تسلم في مكان آخر. كأن يتقدم شخص إلى مصرف ويسلم نقودا من الريالات السعودية طالبا تسليمها له جنيهات مصرية في مصر أو ليرات في سورية أو نحو ذلك، فإننا إذا نظرنا إلى هذه العملية نجد أنها مركبة من صرف وتحويل، ومن شروط الصحة للصرف التقابض في مجلس العقد ولا تقابض في هذا الصرف لأن الواقع العملي والعادة المتبعة في المصارف أنهم لا يسلمونه المبلغ وإنما يسلم طالب التحويل للمصرف النقود المطلوب تحويلها فيقوم المصرف بتسليمه إيصالا مع شيك يتضمن حوالة على مصرف آخر بمبلغ يعادل هذا من النقود المطلوب التحويل إليها دولارات أو جنيهات مصرية فتكون هذه العملية صرفا من غير تقابض وهو غير جائز، إلا أنه يمكن أن يقال إن العرف يعتبر تسليم الشيك بمثابة تسليم النقود في المعنى لأنه في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية وأنه يجري تداولها بينهم كالنقود لأنه محمي من حيث إن سحب الشيك على جهة بدون أن يكون له رصيد يفي بقيمة الشيك يعتبر جريمة شديدة يعاقب عليه قانونا حتى يطمئن جمهور المتعاملين إلى الثقة الواجب توفرها في الشيك كأداة وفاء؛ لذا فإنه يمكن القول بأن قبض الشيك كقبض مضمونه فيتحقق التقابض بناء على هذا التوجيه.
ولكن خروجا من شبهة الربا والريبة أرى أن يشتري المحيل النقود التي يريد تحويلها من المصرف أو غيره وبعد قبضها يحيلها، فإن لم يمكن شراء العملة الأجنبية لكونها ممنوعا تصديرها خارج دولتها فللمخرج أن يشتري عملة من العملات الأجنبية وبعد قبضها ودفع قيمتها يحيلها ثم بعد ذلك يصارف البنك المحالة عليه بالعملة التي يريدها) (1) اهـ.
هذا ما تيسر إعداده وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) (الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة) ص384(9/59)
ملخص البحث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على الرسول الأمين سيدنا ونبينا محمد رسول رب العالمين الهادي إلى الصراط المستقيم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فالذهب معدن نفيس استهوى الإنسان منذ القدم بحبه وإيثاره والافتخار بتملكه والتزين به حتى أغراه بعبادته قال تعالى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه: 87- 88] ,
فالذهب معدن نفيس يتميز عن المعادن الأخرى بميزات طبيعية تكمن في قدرته على مقاومة عوامل التعرية وسلامته من التعرض للصدأ فبمشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ عرفجة بن هرثمة أنفا من ذهب حينما قطع أنفه في إحدى المعارك وبالرغم من حرمة التحلي به على الرجال فقد أذن في اتخاذ الأسنان منه للرجال للحاجة.
ولوقور محبته في النفس البشرية وإيثاره في حب التملك ذكره الله تعالى في عداد أمور زين للناس حب تملكها قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] ، وقد جعله الله في الجنة من وسائل الإنعام والتنعيم قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج:] .
ولما وقر في النفس البشرية من إيثار لهذا النوع من المعادن دون غيره عدا الفضة وكونهما بعد التملك مظنة البخل بهما وإمساكهما فقد حذر تعالى من كنزهما دون إنفاقهما في سبيل الله فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] .
ولما في الذهب من تأثير على النفس البشرية من حيث الافتخار والاعتزاز ذلك من مقومات الوجاهة والقيادة والاعتبار قال تعالى حكاية عن قوم فرعون في معرض إنكارهم رسالة موسى عليه السلام وأن دعواه الرسالة تفتقر إلى ما يسندها من مقومات الاعتبار {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 53] .(9/60)
وقال تعالى في معرض الفداء مشيرا إلى أغلى ما يملكه الإنسان وهو الذهب وأنه لو ملك منه ملء الأرض لرضي ببذله فداء له لما حل به من سوء العذاب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91] .
ولما في الذهب والفضة من الإغراء للنفوس البشرية فقد جعلهما الإنسان أكثر إيثارا من غيرهما من المعادن الأخرى في اتخاذ زينته منهما. ولحكمة ربانية تقتضي كبح النفس البشرية عن التجبر والطغيان، فقد حرم الله تعالى على الرجال اتخاذهما زينة لهم إلا ما استثني. وذكر صلى الله عليه وسلم تعليل التحريم بأن فيهما كسر لقلوب الفقراء. ولما فيهما من الإغراء والتمتع بالتزين بهما ولأن النساء في وضع يقتضي تمكينهن من أسباب تعلق الرجال بهن فقد أباح للنساء اتخاذهما حليا لزينتهن أمام أزواجهن وحرم ذلك على الرجال. كما حرم تعالى اتخاذ الأواني المنزلية والتحف الجمالية منهما لما في ذلك من كسر قلوب الفقراء، يستوي في ذلك الرجال والنساء.
وقد أشار تعالى إلى طبيعة النفس البشرية في تمتعها بالذهب فجعل من تمتع الصالحين من بني آدم في الجنة أن من أدواتهم المنزلية صحافا من ذهب، قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 71] .
النشأة التاريخية لاتخاذه ثمنا:
لقد مر على الإنسان حين من الدهر وهو يعاني الإشكال في طريقة حصوله على حاجاته الأساسية من طعام وشراب وسكن فاضطر إلى الأخذ بمبدأ المقاضاة، ثم إنه وجدها لا توفر له احتياجه ووجد فيها من المشاكل ما جعله يبحث عن وسيلة أخرى لتيسير تبادله مع غيره طلبا لحاجته فنشأ مبدأ الأخذ بوسيط للتبادل فاتجهت الدول المختلفة إلى اتخاذ السلع وسيطا للتبادل كالفراء في البلاد الباردة والأصداف في البلاد الساحلية وأنياب الفيلة والخرز والرياش في البلاد المعتدلة، وبتطور الحياة الاقتصادية ظهر عجز هذه السلع عن القيام بوظيفتها كوسيلة تقويم فاتجه الفكر الاقتصادي إلى الاستعاضة عن ذلك بالمعادن وخصوصا الذهب والفضة، لما فيهما من عناصر وخصائص جعلتهما أفضل وسيلة للتقويم فساد التعامل بهما ردحا من الزمن على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة، إلا أن اختلاف أنواع هذين المعدنين أوجد في استعمالهما ثغرة كانت ميدانا للتلاعب والفوضى، فليس كل الناس يعرف المادة الأصلية للذهب والمعيار المقبول للتبادل ثم إن تقدير ذلك بالوزن أوجد فرصة لسرقتها بالتلاعب في وزنها فتدخل الحكام في ذلك بسكها نقودا على شكل قطع مختلفة المقدار والوزن.
فأصبحت العملة المعدنية الذهبية معدودة بعد أن كانت موزونة وصار كل جنس منها متفقا بعضه مع بعض في النوع والمقدار.(9/61)
وقد ذكر بعض أهل العلم أن الذهب والفضة خلقا للثمنية وهذا القول فيه تجاوز، فقد مر بنا أن أول عهد الإنسان بالتبادل كان على سبيل المقايضة ثم اتخذت السلع ذات الندرة وسيلة للتبادل ثم اتجه إلى الذهب على نحو ما ذكر، وقد اتجه المحققون من علماء الفقه الإسلامي والاقتصاد إلى أن الثمن هو أي شيء يلقى قبولا عاما للإبراء المطلق بصلاحه للتقويم والاختزان.
وهذا لا يعني التقليل من أهمية الذهب في مقام الثمنية فلا شك أنه غير موغل في الثمن، ولهذا جاءت النصوص بجريان الربا فيه عموما؛ في مسكوكه وسبائكه وغيره.
وعليه فإننا في شك من صحة ما قيل بأن الذهب خلق للثمنية، وقد يقوى الشك لمن يتم له استعراض الأدوار التاريخية التي مر بها النقد حتى صار إلى ما هو عليه الآن (1) .
علة الربا في الذهب:
اختلف العلماء رحمهم الله في تعيين علة الربا في الذهب إلى مجموعة أقوال. فقد قيل: إن العلة في ذلك الوزن، وقيل بأن العلة فيه غلبة الثمنية، وقيل بأن العلة في ذلك مطلق الثمنية. وجرى في البحث استعراض هذه الأقوال ومناقشتها، واختيار القول بأن علة الربا في الذهب مطلق الثمنية، وتوجيه الاختيار والرد على الأقوال الأخرى بما يبرر الاختيار ويؤيده.
وفيما يلي الإجابة عن المسائل التي طرحها مجمع الفقه الإسلامي ورغب الإجابة عنها.
ومنها: حكم المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموما إليه جنس آخر.
الحكم في ذلك فيما يظهر لي الجواز لأن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني أشبه الحكم بجواز بيع حلي الذهب بأكثر من وزنه ذهبا حيث إن الزيادة في الثمن وزنا هي قيمة الصنعة في الحلي، وقد مر بنا النقل عن ابن القيم رحمه الله في ذكر هذا الحكم وتعليله.
ومنها: بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولا أي فيه صنعة وصياغة.
لا يخفى أن الذهب قد يباع بذهب وقد يباع بنقد آخر من فضة أو ورق نقدي أو فلوس. فإذا كان الذهب المبيع مشغولا كأن يكون حليا فإن بيع بذهب فلا بأس أن يكون الثمن أكثر وزنا من وزن الذهب الحلي وتكون الزيادة في الوزن في مقابلة الصياغة والعمل، وقد مر بنا رأي ابن القيم في ذلك وذكره في تعليل القول بالجواز إلا أنه يشترط للمبادلة بينهما الحلول والتقابض في مجلس العقد. وأما إذا كان أحد العوضين ثمنا غير الذهب فلا بأس في البيع مطلقا لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت: ((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
ومنها: المتاجرة في الأواني أو الحلي والساعات الذهبية المصنوعة للرجال.
__________
(1) انظر الورق النقدي ص26- 32 لمؤلفه عبد الله بن منيع(9/62)
لا يخفى أن الحكم الشرعي في تملك الأواني الذهبية والفضية: التحريم، وما حرم تملكه حرم بيعه. أما الحلي فإن كان معدا للرجال فهو حرام، والنصوص في ذلك أشهر من أن تذكر وما حرم تملكه حرم بيعه.
وأما المتاجرة في الحلي المعد للنساء فلا بأس فيه إلا أنه ينبغي مراعاة الحكم الشرعي في بيوعه من حيث الحلول والتقابض، وقد يتفرع من هذه المسألة مسألة هي: هل يجوز لتاجر الحلي حينما يعرض عليه أحد الناس حليا قديما ويبدي له رغبته في شرائه حليا جديدا، هل يجوز لهذا التاجر أن يشترط عليه في شرائه الحلي القديم أن يشترط منه حليا جديدا؟ هذه المسألة بحثت في هيئة كبار العلماء في المملكة وصدر القول بمنعها باعتبارها بيعتين في بيعة، إلا أن هذا القول لم يكن محل إجماع. ونظرا إلى أن هذا النوع من البيع لم يشتمل على غرر ولا على جهالة ولا مخالفة في الصرف ولم يكن في معنى بيعتين في بيعة فلم يظهر لي وجه للقول بمنعه وقد قال بجواز مثل هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله وقد جرى نقل رأيه في البحث.
وأما الساعات الذهبية فإن كانت للنساء فلا بأس بتملكها واستعمالها والمتاجرة فيها بالبيع والشراء وأما إن كانت للرجال فحكمها حكم حلي الرجال من حيث تحريم التملك والمتاجرة فيها بيعا أو شراء أو اقتناء والله أعلم.
وأما ما كان مموها بالذهب أو الفضة أو مشغولا بهما أو بأحدهما بحيث تكون كمية الذهب أو الفضة فيهما قليلة جدا بالنسبة إلى ما شغلت به فهذه المسألة محل اجتهاد ونظر وفيها اختلف العلماء بين الإباحة والحظر. فمن نظر إلى الحكمة من التحريم وهي كسر قلوب الفقراء ورأى أن في التمويه بهما أو شغل الأداة بشيء منهما بما يعطي الأداة لون أحدهما؛ من نظر إلى هذا قال بالتحريم بصرف النظر عن كامل محتوى الأداة بأحدهما أو بجزء منها لما في ظاهرها من بهجة وزينة وإغراء ينكسر برؤيته قلب الفقير بالعاجز عن تملكها. ومن نظر إلى أن غالب محتوى الأداة من غيرهما وأن ما فيها من أحدهما لو استخرج لما كان شيئا، ونظر إلى القاعدة الشرعية: يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا قال بجواز ذلك.. ولكل من الرأيين وجاهته واعتباره ويكون للاختيار منهما التوجه بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) والله أعلم.
ومنها: شراء الفرد الذهب بالشيك أو ببطاقة الائتمان أيعد ذلك قبضا للثمن؟
اصطلح الفقهاء على تسمية بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة مراطلة وعلى تسمية بيع الذهب بالفضة أو بأي ثمن آخر أو العكس صرفا، واشترطوا في المراطلة المماثلة في الوزن والحلول والتقابض في مجلس العقد واشترطوا في الصرف المتمثل في بيع أحد المعدنين الذهب والفضة بأحدهما أو بأي ثمن آخر من ورق أو فلوس التقابض في مجلس العقد وأصل ذلك حديث عبادة بن الصامت المتقدم ذكره – الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... إلى آخره.(9/63)
واتفق العلماء على أن القبض أمر مرده إلى العرف والعادة فأي طريقة يتم فيها الاستيلاء الكامل على العين محل العقد تعتبر قبضا. وقد بحث العلماء وضع الشيك وهل يعتبر قبضه قبضا لمشموله مبرئا، فأصدر مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي قرارا باعتبار قبض الشيك المعتبر قبضا لمحتواه. وقد وجد الخلاف بين فقهاء العصر في تفسير معنى الشيك المعتبر فذهب بعضهم إلى أن الاعتبار في الشيك أن يكون مصدقا من البنك المسحوب عليه لأن تصديقه يعني حمايته من الساحب أن يعود فيه كما يعني وجود رصيد كامل للساحب لتغطية سداد الشيك؛ وهذا المعنى يعطي القناعة الكاملة بالقدرة على التصرف في مشمول الشيك في أي وقت يريده المستفيد منه وهذا معنى القبض. وذهب آخرون إلى أن المراد بالشيك المعتبر هو أن يكون له رصيد في البنك المسحوب عليه لتغطيته؛ ولكن هذا المعنى لا يعطي القناعة بالقدرة على تصرف المستفيد منه بمشموله. فلئن كان للساحب رصيد لتغطيته فقد يرجع الساحب في الشيك قبل قبضه وهذا الاحتمال الوارد ينفي عن هذا الشيك الثقة في القدرة على التصرف فيه وبالتالي فينفي عن هذا الشيك معنى القبض وهو القدرة على قبض محتواه أو الأمر بقيده في حسابه.
والذي يظهر لي – والله أعلم – أن الشيك المعتبر والذي هو في معنى القبض هو الشيك المصدق. وتأسيسا على هذا فإذا اشترى الفرد ذهبا أو فضة بثمن آخر وبموجب شيك بذلك الثمن فإن كان مصدقا فقبضه قبض لمحتواه والمصارفة بذلك صحيحة.
وإن كان غير مصدق فقبضه ليس قبضا لمشموله وبالتالي فقبضه ليس في حكم القبض المبرئ للذمة والمصارفة بموجبه غير صحيحة لأن التقابض في مجلس العقد غير محقق.
فمثل هذا الشيك آفاته كثيرة منها احتمال سحبه على غير رصيد أو على رصيد لا يكفي لتغطيته أو لاحتمال رجوع ساحبه في سحبه قبل تقديمه للبنك المسحوب عليه فهذه العيوب تجعله غير أهل للاعتبار في القول بأن قبضه قبض لمحتواه. والله أعلم.
وأما شراء الذهب ببطاقة الائتمان فنظرا إلى أن بطاقة الائتمان تعتبر مبرئة للذمة براءة كاملة بين المتصارفين وحق بائع الذهب بموجب بطاقة الائتمان ثابت كثبوت حقه في الشيك المصدق من حيث إن صاحب البطاقة حينما يوقع بموجبها على فاتورة الدفع لا يستطيع الرجوع في توقيعه ولا يستطيع مصدر البطاقة أن يتأخر عن سداد القيمة عند الطلب مهما كانت حال صاحب البطاقة. ونظرا لهذا فإن القول بصحة المصارفة ببطاقة الائتمان قول وجيه يؤيده أن معنى القبض متوفر فيها حيث يتفرق المتصارفان بموجبها وليس بينهما شيء. ومع هذا فالمسألة في حاجة إلى مزيد من النظر والتأمل في ضوء التصور لحقيقة البطاقة الائتمانية. والله المستعان.
ومنها: التعامل بشهادات الذهب أو حسابات الذهب.
وهي شهادات تصدرها مؤسسات متخصصة تخول صاحبها قبض كمية من الذهب ولا يلزم أن تكون تلك الكمية معينة منفصلة عن غيرها، وقد لا تكون موجودة فعلا لدى المؤسسة في كل الأوقات.(9/64)
هذا التعامل يعني أن أحد الرجال مثلا يشتري كمية من الذهب يجري تسلمه شهادة بها يتسلم بموجبها هذه الكمية من الذهب من مخازن إحدى هذه المؤسسات أو من مخازن متخصصة لهذه المؤسسة حق التحويل عليها بذلك وقد لا يكون الذهب موجودا في هذه المخازن وقت المصارفة.
الذي يظهر لي والله أعلم أن هذا النوع من المصارفة لا يتحقق فيه معنى التقابض في مجلس العقد لأمرين أحدهما أن المؤسسة المتخصصة في إصدار شهادات الذهب ليس لشهاداتها اعتبار موجب للثقة كالثقة في الشيك المصدق. حيث إن مشتري الذهب لا يستطيع التصرف فيما اشتراه في مجلس العقد للاحتمال القوي في بعد هذه المخازن عن قدرته على حيازة ما اشتراه.
الثاني أن وجود الذهب في المخازن المختصة مشكوك فيه فقد يكون موجودا وقد لا يوجد إلا بعد وقت لا يعلم تحديده فيطلب من المشتري الانتظار والرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر من عناصر المصارفة وصحتها التفرق بين المتصارفين وليس بينهما شيء. وهذا العنصر مفقود في هذه المصارفة فضلا عن أن التقابض في مجلس العقد مفقود حسا ومعنى. وتأسيسا على هذا فلا يظهر لي جواز هذا النوع من المصارفة لفقده شرطها. والله أعلم.
ومنها: حكم شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب وتعد أكثر أصولها منه، هل يمثل السهم حصة شائعة في الذهب؟ هل لذلك تأثير على حكم التعامل بأسهمها؟
لا يظهر لي مانع من شراء أسهم في شركة تعمل في استخراج الذهب ولو كانت غالب أصولها من ذلك الذهب لأن الشركة شخص اعتباري له ذمة محدودة ذات وعاء قابل للحقوق والواجبات والتملك والتبرع وغير ذلك من التصرفات المالية فأسهم هذه الشركة حصص شائعة في عموم مقوماتها وعناصر وجودها ومن هذه العناصر والمقومات قيمتها المعنوية المتمثلة في اعتبارها ومكانتها في سوق الشركات وأسواق الانتاج وقد تكون قيمة الجانب الاعتباري للشركة أكثر حجما من قيمة ما لديها من أصول متحركة. كما أن للشركة أصولا ثابتة للإدارة والتشغيل غير الذهب فسهم الشركة ليس محصورا في كمية الذهب الذي تقوم الشركة باستخراجه حتى يقال بمراعاة شروط الصرف وإنما تمثل أسهمها كامل عناصر وجودها السهم فيها حصة مشاعة في عموم مقومات الشركة واعتبارها. فمن يشتري سهما أو أكثر من أسهم هذه الشركة لا يعتبر نفسه قاصدا شراء كمية من الذهب المستخرج. فالذهب المستخرج مادة متحركة يخرج اليوم ويباع غدا ويخرج غيره بعد ذلك ويستمر نشاط الشركة في هذا السبيل على هذا الاتجاه. ولكنه يقصد الدخول في المساهمة في هذا النشاط وفي هذه الحركة الإنتاجية والصناعية والاشتراك في تملك الاختصاص في ذلك ومن القواعد الشرعية أنه يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا. ألا نرى أن تملك الشركات المساهمة سيولة من النقود ووجود ديون لها وانتفاء الوضوح الكامل لموجودات الشركة مما يعطي نوع جهالة. كل ذلك يغتفر ولا يؤثر في صحة تداول أسهم الشركات بيعا وشراء وتملكا حيث يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا.(9/65)
الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة:
من النشاطات المصرفية المعتادة والمتكررة لدى المؤسسات المالية الحوالات. والحوالات قد تكون بعملة البلد المحال فيه كأن يطلب أحد الناس من أحد المصارف تحويل مبلغ من المال بعملة معينة كالريال السعودي أو الدولار الأمريكي فيدفع للمصرف هذا المال ويطلب منه تحويله إلى بلد معين فيقوم المصرف بذلك ويعطيه إشعارا بالتحويل إلى ذلك البلد على أحد المصارف أو على فرع من فروعه، هذا النوع من التحويل المصرفي حوالة محضة ليس لها تعلق بمسائل الصرف وإنما هي من مسائل السفتجة. وقد عرفها بعضهم بقوله: السفتجة هي أن يعطي مالا لآخر مع اشتراط القضاء في بلد آخر وذلك لضمان الطريق على سبيل القرض لا على سبيل الأمانة.
وقد اختلف العلماء في حكمها فجمهورهم قالوا بجوازها مستدلين على ذلك بما روي عن عطاء أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه كان يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب بها إلى أخيه مصعب بن الزبير في العراق ويأخذونها منه فسئل ابن عباس عن ذلك فلم ير به بأسا فقيل له: إن أخذوا أفضل من دراهمهم؟ قال: لا بأس إذا أخذوا بوزن دراهمهم.
وروي أيضا مثل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجازوا ذلك.
ورد المجيزون على المانعين قولهم بأن هذا من قبيل القرض الذي يجر نفعا وكل قرض جر نفعا فهو ربا، فإن دافع النقود يستفيد من ذلك أمنه من خطر الطريق. رد المجيزون على ذلك بقولهم:
المنفعة التي تجر إلى الربا في القرض هي التي تخص المقرض كسكنى دار المقترض وركوب دوابه واستعماله وقبول هديته ولا مصلحة له في ذلك، بخلاف هذه المسألة فإن المنفعة مشتركة بينهما وهما متعاونان، فهي من جنس المعاونة والمشاركة (1) . وهذا المعنى ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى وجرى نقل نصه في ذلك.
__________
(1) المغني: 4/320 وتهذيب السنن لابن القيم: 5/152 بواسطة الشيخ عمر المترك رحمه الله من كتاب (الربا والمعاملات المصرفية) ص283- 284(9/66)
وقال آخرون بمنعها بحجة أن السفتجة قرض يستفيد منها المقترض أمن الطريق وكل قرض جر نفعا فهو ربا. وقد تقدم رد هذا الاحتجاج بما يكفي عن إعادته. وذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السفتجات حرام)) ، وهو حديث ضعيف ذكره ابن الجوزي في (الموضوعات) فلا يصح الاحتجاج به، والقول بجواز ذلك هو ما تطمئن إليه النفس لما في ذلك من المصلحة العامة والتيسير على المسلمين في معاملاتهم وانتفاء الدليل المقنع على المنع ولأن الأصل في المعاملات الإباحة.
وقد تكون الحوالة بنقد مغاير للنقد المراد تسلمه في البلد الآخر فهذا النوع من التحويل يجتمع فيه الصرف والحوالة ولا يخفى أن للصرف في حالة اختلاف العوضين جنسا شرطا هو التقابض في مجلس العقد وقد تقرر لدى المجامع الفقهية والهيئات العلمية أن كل عملة ورقية جنس يجوز المصارفة بينها وبين غيرها من عملات الدول الأخرى مطلقا إذا كان يدا بيد لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
وعليه فيجب قبل التحويل إجراء عملية الصرف بحيث يتسلم المحيل العملة التي يريد تحويلها بعد انتهاء عملية الصرف، سواء أكان تسلما حسيا أم تسلما في معنى الحس، كأن يعطيه شيكا مصدقا يملك بقبضه القدرة على التصرف فيه بتسلم محتواه أو بقيده في حسابه أو تحويله، فإذا تسلم الشيك المصدق أمكنه بعد ذلك تحويله، وصار الأمر إلى الإجراءات المتخذة في الحال الأولى وهي تحويل نقد معين إلى بلد أخرى (1) .
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
__________
(1) هذا ملخص للبحث المعنون: بحث في الذهب في بعض خصائصه وأحكامه، إعداد عبد الله بن سليمان بن منيع(9/67)
تجارة الذهب
في أهم صورها وأحكامها
إعداد
د. صالح بن زابن المرزوقي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد:
فالذهب معدن نفيس تتوق إليه النفوس، وقد تعلق به الإنسان منذ عرفه، وبالغ في تعلقه به حتى عبده قوم موسى عليه السلام، قال تعالى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) } [طه: 87- 88] .
وقد آثر الإنسان تملكه؛ فذكره الله في عداد الأمور التي زين للناس حب تملكها. قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14] .
وقد جعله الله من وسائل الإنعام على أهل الجنة، قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] . وقال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 71] .
والكلام على أحكام الذهب متعددة الجوانب؛ فمنها ما هو متعلق بزكاته، ومنها ما هو متعلق بالتحلي به، أو استعماله، ومنها ما هو متعلق بدوره في الأنظمة النقدية، ومنها ما هو متعلق بالتجارة فيه، ومنها ما يتعلق بأحكام صرفه، وغير ذلك.
وحيث أن التجارة في الذهب يحف بها كثير من المحاذير الشرعية، ونظرا لتعدد وسائل الاستثمار فيه سواء في الأسواق العالمية أو المحلية، ولحاجة هؤلاء المستثمرين والمستعملين لبيان الحكم الشرعي في هذا النوع من التجارة؛ فقد استعنت بالله على بحث هذا الموضوع، وسميته (تجارة الذهب) . ونظرا لتلازم هذا الموضوع، بموضوعات فقهية أخرى فقد استدعى الأمر أن أتناولها بالبحث؛ مثل الصرف، وعلة الربا، والقبض الحكمي، والصرف بالوديعة المصرفية، وبيان الحل الشرعي لاجتماع الصرف والحوالة المصرفية، وغير ذلك.
وقد جعلته بعد المقدمة في أحد عشر مبحثا، وخاتمة.(9/68)
المبحث الأول: في التعريف بتجارة الذهب والصرف.
المبحث الثاني: شروط الصرف.
المبحث الثالث: علة الربا في الذهب والفضة.
المبحث الرابع: أثر الجودة في شرط التماثل.
المبحث الخامس: شراء حلي الذهب أو الفضة بجنسه من غير الحلي.
المبحث السادس: شراء الحلي بالحلي أو شراء الحلي بثمن الحلي المبيع.
المبحث السابع: الجمع بين البيع والإجارة على عمل الحلي بجنسه.
المبحث الثامن: المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموم إليه جنس آخر.
المبحث التاسع: شراء الذهب للاستعمال. فيه عدة مطالب:
المطلب الأول: شراء الحلي للنساء.
المطلب الثاني: شراء حلي الذهب ليستعمله الرجال.
المطلب الثالث: شراء أواني الذهب.
المطلب الرابع: شراء المموه من الذهب.
المبحث العاشر: أهم أساليب تجارة الذهب في الأسواق العالمية.
المبحث الحادي عشر: صور الصرف. وفيه عدة مطالب:
المطلب الأول: القبض الحكمي.
المطلب الثاني: المصارفة بالوديعة.
المطلب الثالث: صور الصرف المصرفية.
وينتهي البحث بخاتمة تجمل أهم الأحكام التي وردت في ثناياه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وأزكى الصلاة، وأتم التسليم على نبينا وسيدنا محمد وآله وسلم.(9/69)
المبحث الأول
في التعريف بتجارة الذهب والصرف
1- التجارة:
التجارة في اللغة والاصطلاح: هي تقليب المال، أي بالبيع والشراء لغرض الربح (1) . وهي في الأصل: مصدر دال على المهنة، وفعله تجر يتجر تجرا وتجارة. الذهب معدن معروف، والجمع أذهاب مثل سبب وأسباب، ويجمع أيضا على ذهبان وذهوب، وهو مذكر، ويؤنث فيقال: هي الذهب الحمراء، وقد يؤنث بالهاء فيقال: ذهبة.
وقال الأزهري: الذهب مذكر ولا يجوز تأنيثه، إلا أن يجعل الذهب جمعا لذهبة (2) .
2- الصرف:
الصرف في اللغة: يأتي بمعان؛ منها: رد الشيء عن وجهه، فيقال: صرفه يصرفه صرفا فانصرف إذا رده، وصرفت الرجل عني فانصرف. قال تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا} [التوبة: 127] . أي رجعوا عن المكان الذي استمعوا فيه، وقيل انصرفوا عن العمل بشيء مما سمعوا (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم في أمر المدينة: ((من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل)) (4) . قال الأصمعي، والزمخشري: المراد بالصرف التوبة؛ لأنه صرف للنفس إلى البر عن الفجور؛ والعدل الفدية؛ من المعادلة، ومنه دعاء الاستخارة: (فاصرفه عني واصرفني عنه) (5) .
وقال ابن حجر: عند الجمهور: الصرف الفريضة، والعدل النافلة (6) .
ومنها الإنفاق؛ كقولك صرفت المال، أي أنفقته.
ومنها البيع؛ كما تقول: صرفت الذهب بالدراهم، أي بعته.
واسم الفاعل من هذا صيرفي، وصيرف، وصراف للمبالغة.
ومنها الفضل والزيادة. قال ابن فارس: الصرف فضل الدرهم في الجودة على الدرهم، والدينا على الدينار (7) وقال الخليل: الصرف: فضل الدرهم على الدرهم في القيمة (8) .
__________
(1) تاج العروس، مادة: تجر.
(2) المصباح المنير، لسان العرب. مادة: ذهب
(3) المصباح، واللسان، مادة: صرف
(4) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 4/81
(5) فتح الباري 4/86. الفائق في غريب الحديث؛ للزمخشري 2/294
(6) فتح الباري 4/86. الفائق في غريب الحديث؛ للزمخشري 2/294
(7) المصباح المنير، لسان العرب
(8) تبيين الحقائق 4/135(9/70)
تعريف الصرف اصطلاحا:
عرف الحنفية الصرف بأنه: بيع الأثمان بعضها ببعض (1) .وأرادوا بالأثمان الذهب والفضة سواء كانا مسكوكين: دنانير ودراهم؛ وهي المعروفة بالنقدين كما جاء في مجلة الأحكام العدلية، الصرف: (بيع النقد بالنقد) (2) ؛ أم كانا مصوغين كالأقراط والأساور، أو كانا تبرا (3) .
وعبر الشافعية والحنابلة عن الثمن بالنقد. فقالوا: الصرف: بيع النقد بنقد من جنسه أو غيره (4) ؛ الروض المربع 4/491.
وأرادوا بالنقد الذهب والفضة مسكوكين أو مصوغين أم تبرا (5) . وقد عرفه ابن قدامة بأنه: (بيع الأثمان بعضها ببعض) (6) .
وسمي هذا النوع من البيوع صرفا إما لاختصاصه برد البدل ونقله من يد إلى يد، ويحتمل أن تكون التسمية لمعنى الفضل إذ الصرف يذكر بمعنى الفضل، فالتاجر يطلب الفضل منه عادة لما يرغب في عين الذهب والفضة (7) .
وقيل سمي هذا البيع بالصرف لصريفهما عند المبادلة وهو تصويتهما في الميزان: وقيل: لانصرافهما إلى المتصارفين عن مقتضى البياعات من عدم جواز التفرق قبل القبض (8) .
وأما المالكية فلهم اصطلاح آخر في بيع الأثمان، ذلك أنهم يقسمونها إلى ثلاثة أقسام هي:
الصرف، والمراطلة، والمبادلة.
فالصرف عندهم: هو بيع النقد بنقد مغاير لنوعه؛ كبيع الذهب بالفضة.
والمراطلة: هي: بيع النقد بنقد مثله وزنا؛ كبيع الذهب بالذهب، أو بيع الفضة بالفضة، سواء كانا مسكوكين، أو مصوغين، أو تبرا.
والمبادلة هي: بيع النقد بنقد مثله عددا (9) .
__________
(1) المبسوط 13/2؛ رد المحتار على الدر المختار 4/234؛ بدائع الصنائع 5/215؛ فتح القدير 7/،17؛ تبيين الحقائق 4/134
(2) م121
(3) المصادر السابقة
(4) مغني المحتاج 2/25؛ كشاف القناع 2/266؛ شرح منتهى الأرادات 2/201
(5) المصادر السابقة
(6) المغني 6/112
(7) تبيين الحقائق؛ بدائع الصنائع
(8) الكشاف 2/266؛ المطلع ص239؛ الروض المربع 4/491
(9) حاشية الدسوقي 3/2؛ مواهب الجليل 4/226؛ بلغة السالك لأقرب المسالك 2/3(9/71)
حكم التجارة في الذهب:
التجارة عموما مشروعة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق)) (1) ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأجمع المسلمون على جواز التجارة في الجملة (2) .
والتجارة في الذهب جائزة إذا توافرت فيها شروط صحتها؛ لأنها نوع من أنواع البيوع، وقد قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . فالآية دالة على جواز التجارة، ومنها التجارة في الذهب، وبيع الأثمان بعضها ببعض، وهو الصرف.
والأدلة من السنة كثيرة، نقتصر منها على ما يأتي:
1- عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (3) .
2- قال أبو المنهال: (سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهما عن الصرف، فكل واحد منهما يقول هذا خير مني، فكلاهما يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا) (4) .
3- عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما)) (5) .
4- عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) (6) .
وفي لفظ: ((إلا يدا بيد)) ، وفي لفظ: ((إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء)) .
__________
(1) صحيح الترمذي مع شرح ابن العربي 5/214
(2) المغني 6/7
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 4/98؛ ورواه الجماعة إلا البخاري
(4) صحيح البخاري بشرحه 4/382، وانظر صحيح مسلم بشرحه 4/100
(5) صحيح مسلم 4/100
(6) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 4/379 و380؛ صحيح مسلم بشرحه 4/96(9/72)
5- ما رواه عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا، قال: فسأله رجل فقال: يدا بيد فقال: هكذا سمعت)) (1) .
فهذه الأحاديث كلها صحيحة، وقد دلت على جواز التجارة في الذهب، والفضة، للاستفادة من تغيرات الأسعار، سواء كانا سبائك، أو تبرا، أو نقدا؛ حيث جاء بعضها بلفظ: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، بصيغة العموم، وبعضها بلفظ الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما. وفي هذا دليل على جواز الصرف، والتجارة فيه، لكن الحكم بالجواز في جميع الحالات مقيد بشروط (2) حيث يشترط التقابض بين البائع والمشتري في المجلس، والحلول، وأن لا يشترط الخيار لهما، أو لأحدهما، كما يشترط التماثل إذا اتحد الجنس مثل أن يكون ذهبا بذهب، أو فضة بفضة، أو أوراقا نقدية من عملة واحدة كريالات سعودية، أما إذا اختلف الجنس مثل أن يكون ذهبا بفضة، ومثل أن يكون المبيع ذهبا، والثمن أوراقا نقدية، أو شيكا يمثل أوراقا نقدية، أو يكون المبيع جنيهات مصرية بدولارات أمريكية فانه لا يشترط التماثل. ((فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
فإذا التزمت الشروط السابقة، ولم تؤد التجارة فيها إلى الاحتكار، فإن التجارة فيها جائزة.
ولأن صرف النقود من عملة إلى عملة أمر ضروري لعموم الناس، فالحجاج والمعتمرون مضطرون إلى تحويل نقودهم إلى عملة المملكة العربية السعودية، ثم هم مضطرون إلى تحويل الفائض عندهم إلى عملات بلادهم عند عودتهم، وكذلك التجار مضطرون إلى تحويل نقودهم إلى عملة البلاد التي يستوردون منها بضائعهم، ومثلهم السياح ونحو ذلك. وهذا في كل الأزمان؛ فهو جائز نصا، والحكمة تقتضيه.
إذ الحكمة من إباحته هي الإرفاق بالإنسان؛ بإتاحة الفرصة له في استبدال نقد بنقد. وقد كثرت المبادلات التجارية بين الأفراد، وبين الأمم في العصر الحاضر، وتعددت ووسائلها.
وقد ذكر بعض العلماء أقوالا في التجارة في النقود ربما فهم البعض منها المنع أو الكراهة. سنذكر بعضا منها، ثم نجيب عليها إن شاء الله.
__________
(1) صحيح مسلم بشرحه 4/101، انظر: صحيح البخاري بشرحه 4/379
(2) سوف نعرض لتفصيل هذه الشروط في المبحث الآتي إن شاء الله(9/73)
جاء في حاشية الرهوني والمدني: (وحكمه الأصلي الجواز وهو ظاهر الأقوال، والروايات، وكره مالك العمل به إلا لمتق، وقيل: يكره أن يستظل بظل صيرفي) (1) .
وقال ابن رشد: (وباب الصرف من أضيق أبواب الربا، فالتخلص من الربا على من كان عمله الصرف عسير، إلا لمن كان من أهل الورع والمعرفة بما يحل فيه ويحرم منه وقليل ما هم؛ ولذلك كان الحسن يقول: إذا استسقيت ماء فسقيت من بيت صراف فلا تشربه، وكان أصبغ يكره أن يستظل بظل صيرفي، قال ابن حبيب: (لأن الغالب عليهم الربا؛ وقيل لمالك رحمه الله أتكره أن يعمل الرجل بالصرف، قال: نعم إلا أن يكون يتق الله في ذلك) (2) .
فكلام الإمام مالك، وأصبغ وابن رشد لا يدل على عدم جواز عقد الصرف، أو المنع منه، وإنما يدل على أن كثيرا ممن يعملون في هذا المجال ينقصهم العلم بأحكامه أو لا يتورعون فيه، مما يؤدي إلى انزلاقهم في الحرام، لكن مثل هاتين الحالتين لا تعودان على حكم الصرف كنوع من البيوع بالحرمة، أو الكراهة، وإنما تلحق الحرمة والبطلان العقد إذا لم يستوف شروط الصرف، أو اختل شيء من أركانه. إلا أنه يجب ألا يمارس التجارة فيه إلا من عرف أحكامه واستوفى شروطه عند تطبيق عقوده. وحينئذ فإنه لا مانع ولا كراهة.
وقال أبو حامد الغزالي: (خلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما ... إذ لا غرض في أعيانهم، ... فإذن خلقهما الله لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل، ولحكمة أخرى وهو التوسل بهما إلى سائر الأشياء؛ لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة فمن ملكها فكأنه ملك كل شيء ... وهو وسيلة إلى كل غرض وكالحروف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره ... فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما، فإذن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه؛ لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم، ولا يحصل الغرض المقصود به، وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمرو خاصة إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران، وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة للمقادير مقومة للمراتب) . ثم استشهد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] ، وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة كفر النعمة، وكان أسوأ حالا ممن كنز ... وذلك إن الخزف والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات ... ولا يكفي الخزف والحديد في المقصود الذي أريد به النقود ... ، وقال من عامل معاملة الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة، فإذا اتجر في أعيانهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة؛ إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ... فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيدا عنده وينزل منزلة المكنوز، ... فلا معنى لبيع النقد إلا اتخاذ النقد مقصودا للادخار وهو ظلم) (3) .
__________
(1) 5/61، المطبعة الأميرية, مصر 1306
(2) المقدمات 2/14
(3) إحياء علوم الدين 4/142 و143 و144(9/74)
(فإن قلت لم جاز بيع أحد النقدين بالآخر؛ ولم جاز بيع الدرهم بمثل؟ فاعلم أن أحد النقدين يخالف الآخر في مقصود التوصل، إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته كالدراهم تتفرق في الحاجات قليلا قليلا، ففي المنع منه تشويش المقصود الخاص به؛ وهو تيسير التوصل به إلى غيره، وأما بيع الدرهم بدرهم يماثله فجائز من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل مهما تساويا ولا يشتغل به تاجر فإنه عبث) (1) .
فالجواب أن الغزالي لا يمنع جواز بيع أحد النقدين بالآخر؛ لكنه يرى أن كنزهما كفر لنعمة الله التي جعلها فيهما؛ فإن كان مراده بالكنز عدم إخراج زكاتهما – مع بعده – فهذا حرام بلا ريب؛ قال ابن كثير: (وأما الكنز فقال مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر هو المال الذي لا تؤدى زكاته، وروى الثوري وغيره عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز، وقد روي هذا عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا، وقال عمر بن الخطاب نحوه: أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض) (2) .
وإن كان يقصد ادخارهما ادخارا سلبيا غير منتج، فهذا إذا وقع من بعض الأفراد فإنه لا يؤثر، في الغرض منهما؛ وهو توسطهما بين السلع؛ لأنه لا يمكن أن يدخر كل الناس، أو معظمهم، ما بأيديهم من نقود في وقت واحد. مع ادخارهما – ولو دفع زكاتهما- خلاف الأولى؛ لأن الأموال المعطلة إذا استغلت في التجارة، أو الزراعة، أو الصناعة، كثر الإنتاج، أو تحسن، وكثر تداول البضائع، وساهم في التخفيف من البطالة. أما إذا كان الادخار يؤدي إلى الاحتكار فانه حينئذ يكون محرما. واحتكار النقود مثل احتكار الطعام.
وأما قوله: (فإذا اتجر في أعيانهما قد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم) . فغير مسلم؛ فما دام أن الله سبحانه وتعالى أجاز بيعهما وشراءهما على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق ذكره، فإن من لوازمه وجود من يتخذها مقصودا لتتوفر لمن أراداها. وهذه هي الحكمة الربانية، إذ لو لم يوجد الصيارفة الذين يشتغلون بالتجارة في النقود لشق على الناس، أو تعذر في بعض الأحيان حصول مقصودهم من العملات الأخرى. وقد ازدادت هذه الحكمة وضوحا في هذا العصر حيث أصبح الذهب والفضة سلعة، ولم يعد وسيطا للتبادل، وحلت محله الأوراق النقدية التي يتداولها الناس اليوم. وقولي هذا لا يعني تخلف علة الربا في الأثمان، وفي جنسها، بل هي باقية فيهما، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله.
__________
(1) إحياء علوم الدين 4/142 و143 و144
(2) تفسير القرآن العظيم 3/350(9/75)
المبحث الثاني
شروط الصرف
حيث إن عقد الصرف، بيع الأثمان بعضها ببعض، ولا يقصد به إلا الزيادة والفضل دون الانتفاع بعين البدل في الغالب، والربا كذلك فيه زيادة وفضل، وضع الشارع لجواز الصرف شروطا تميزه عن الربا، وتمنع الناس من الوقوع فيه، والصرف من أقسام البيع العام فما كان ركنا للبيع فهو ركن للصرف، وما كان شرطا للبيع فهو شرط للصرف. إلا أنه يشترط للصرف شروط زائدة على شروط البيع الخاص.
وفي تجارة الذهب إما أن يكون الثمن نقودا، أو غير نقود. فإن كان الثمن غير نقود؛ كالعروض؛ مثلية أو قيمية. وليس ذهبا، ولا فضة؛ فإن عقد شراء الذهب يكون صحيحا، إذا توافرت فيه شروط البيع.
فإذا كان الثمن نقودا ذهبية، أو فضية، أو أوراقا نقدية، أو أوراقا تمثل نقودا؛ كالشيك، أو تبرا، أو سبائك، وكذلك إذا كان المبيع فضة، والثمن فضة، أو تبرا؛ فإنه يشترط حينئذ الشروط التالية:
1- تقابض البدلين قبل الافتراق وإن اختلف الجنس:
يشترط في عقد الصرف قبض البدلين جميعا قبل مفارقة أحد المتصارفين للآخر بإجماع الفقهاء (1) ، سواء أكان بيع جنس بجنسه كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، أو بغير جنسه كبيع الذهب بالفضة، فإن افترق المتصارفان بأبدانهما قبل قبض العوضين، أو أحدهما بطل العقد منعًا من الوقوع في ربا النسيئة. لما روى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (2) .
__________
(1) المبسوط 14/10؛ بدائع الصنائع 5/215؛ فتح القدير 7/135؛ الهداية 7/135؛ الشرح الكبير 3/26، المقدمات 2/414، القوانين الفقهية ص250، بداية المجتهد 2/197؛ روضة الطالبين 3/379؛ المجموع 10/85، مغني المحتاج 2/24؛ المغني 6/112، كشاف القناع 3/266
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 4/98؛ ورواه الجماعة إلا البخاري(9/76)
ولما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا)) (1) . ((بعضه على بعض ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد)) (2) ، ولما رواه مالك بسنده عن مالك بن أوس ابن الحدثان النصري أنه التمس صرفا بمئة دينار. قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فترواضنا (3) حتى اصطرف مني وأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتيني خازني من الغابة (4) . وعمر بن الخطاب يسمع. فقال عمر: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء)) رواه البخاري ومسلم (5) .
ومعنى هاء وهاء: خذ وهات.
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((يدا بيد)) ، وقوله ((إلا هاء وهاء)) يدلان على وجوب التقابض.
وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد (6) .
تفسير القبض في الأثمان:
اتفق الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أن التقابض في الصرف، إنما يكون بتناول النقود، أو السبائك أو نحوها باليد فيشترط القبض الحقيقي (7) . أو ما يقوم مقامه، في بيع الأثمان بعضها ببعض وما يأخذ من العملات. فيسلم البائع المبيع إلى المشتري ويسلم المشتري الثمن إلى البائع في مجلس العقد، قبل افتراقهما؛ وإن طالت مدة المجلس.
وقولي: أو ما يقوم مقامه؛ أعني به، مثل القيد الدفتري، أو قبض الشيك، لا التخلية.
وهناك رواية عن الإمام أحمد أن قبض كل شيء بالتخلية. قال ابن قدامة: (وقد روي أبو الخطاب عن أحمد إن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز؛ لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل، فكان قبضا له كالعقار) (8) .
__________
(1) ولا تشفوا: بضم أوله وكسر الشين أي تفضلوا. والشف بالكسر الزيادة، ويطلق على النقص. الفتح 4/380
(2) صحيح مسلم بشرحه 4/95 واللفظ له، وانظر صحيح البخاري بشرحه 4/380
(3) فترواضنا: أي تجارينا الكلام في قدر العوض بالزيادة النقص كأن كل منهما كان يروض صاحبه
(4) الغابة: الأجمة والغيضة، وهي ها هنا: موضع مخصوص بالمدينة، كان لهم فيه أملاك.
(5) موطأ مالك بشرح الزرقاني 3/282؛ البخاري بشرحه 4/378؛ مسلم بشرحه 4/96، جامع الأصول 1/454
(6) الإجماع ص79، المغني 6/112
(7) فتح القدير 7/135؛ رد المحتار 4/234، الدر المختار للحصكفي 4/182 و183، تبيين الحقائق 4/135؛ حاشية الطحطاوي على الدر المختار 3/137؛ شرح اللباب للميداني 1/221، الفتاوى الهندية 3/217. القبض في العقود المالية في الفقه الحنفي؛ للدكتور محمد زكي عبد البر، نشر مجلة البحوث المعاصر؛ العدد الخامس ص74، الذخيرة 5/120؛ شرح تنقيح الفصول ص456؛ المجموع 10/91، مغني المحتاج 2/72، المغنى 6/187، شرح منتهى الإرادات 2/192، كشاف القناع 3/247؛ المحرر في الفقه 1/323؛ مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد م333
(8) المغني 6/186؛ الإنصاف 4/470(9/77)
قال بعض الباحثين المعاصرين: إن القبض عند الحنفية هو التخلية، في كل شيء، وجعل منه القبض في الصرف. واعتمدوا على نقول عامة من بعض كتب الحنفية.
والصحيح ما ذكرته. لأن ما ذكره ليس فيه نص على الصرف. وإليك بعض ما هو منصوص فيه عندهم. قال ابن الهمام: (ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق بإجماع الفقهاء. وفي فوائد القدوري: المراد بالقبض هنا القبض بالبراجم (1) ، لا بالتخلية يريد باليد) (2) .
وقال الحصكفي: (والمعتبر تعيين الربوي في غير الصرف ومصوغ ذهب وفضة بلا شرط تقابض حتى لو باع برا ببر بعينهما وتفرقا قبل القبض جاز) (3) .
يعني أن الصرف – ومنه مصوغ ذهب، فضة – لا يكفي فيه التعيين كما هو في باقي الربويات، وإنما لا بد من القبض باليد.
وقال أيضا: (والتقابض بالبراجم لا بالتخلية قبل الافتراق) (4) .
قال ابن عابدين: (والتقييد بالبراجم للاحتراز عن التخلية، واشتراط القبض بالفعل لا خصوص البراجم) (5) .
والذي أراه أن التخلية لا تكفي لتحقيق القبض في الصرف. وأنه لا بد من القبض بالأيدي في بيع الذهب وغيره مما يدخل في بيع الصرف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ((يدا بيد)) . وقوله: ((إلا هاء وهاء)) . لكن يمكن أن يقبل الذهب، أو يقبض ما يمثل الذهب، كالشيك، أو السند الذي يتضمن قيده في حسابه في المصرف، سواء كان بنفسه أو بوكيله. وبهذا يكون قد تم التقابض بالأيدي (6) .
مع أنه يصعب في بعض الأحوال قبض الذهب أو نحوه، في هذا العصر بالأيدي، أو حيازته في الجيب، ونحوه. وذلك إما لكثرته وإما لما قد يتعرض إليه حامله من خطر.
فإن قيل يصح القبض بالتخلية في الصرف لحديث ابن عمر – رضي الله عنهما –قلت يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وأخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وأخذ الدنانير وأخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (7) . قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
__________
(1) البراجم: جمع برجمة، وهي مفاصل الأصابع التي بين الأشاجع والرواجب، وهي رؤوس السلاميات من ظهر الكف، إذا قبض القابض كفه نشزت وارتفعت. انظر الصحاح؛ لسان العرب، المصباح، وانظر رد المحتار 4/234
(2) فتح القدير 7/135
(3) الدر المختار 4/182 و183
(4) الدر المختار 4/182 و183
(5) رد المحتار 4/234
(6) سوف يأتي إيضاح لصور القبض الحكمي، والشيك، والقيد الدفتري، والوكالة في الصرف
(7) سنن أبي داود، تحقيق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد: 3/650، مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر: 9/85، رقم الحديث 6239 وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. المستدرك 2/44(9/78)
فالجواب إن هذا جائز لا لأنه مخلى بين البائع وبين الثمن الذي باع الإبل به وإنما لأنه باع ممن هو قابض له؛ (ولأن المطلوب في الصرف المناجزة، وصرف ما في الذمة أسرع مناجزة من صرف المعينات؛ لأن صرف ما في الذمة ينقضي بنفس الإيجاب والقبول والقبض من جهة واحدة، وصرف المعينات لا ينقضي إلا بقبضها معا، فهو معرض للعدول، وصرف ما في الذمة أولى بالجواز) (1) ، يؤيده أنه لا يجوز بيعها على شخص آخر، ولو كانت التخلية كافية في الصرف؛ لجاز بيع تلك الدراهم التي لم يقبلها على شخص آخر.
وجاء في المنتقى للباجي: (إن حلول ما في الذمة يقوم مقام حضور ما هي مشغولة به، والقبض يتنجز فيه بإبرائها منه) (2) .
((يدا بيد)) :
يطلقه جماهير الفقهاء على تقابض البدلين من العاقدين في مجلس العقد (3) . أي بالتعجيل والنقد (4) . جاء في المصباح المنير (بعته يدا بيد: أي حاضرا بحاضر. والتقدير: في حال كونه مادا يده بالعوض، وفي حال كونه مادا يدي بالمعوض، فكأنه قال: بعته في حال كون اليدين ممدودتين بالعوضين) (5) .
وقال الحنفية: إن معنى ((يدا بيد)) إنما هو التعيين دون التقابض وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ربا البيوع ((يدا بيد)) أي عينا بعين. ولكن نظرا لكون النقدين لا يتعينان بالتعيين ولا يتحقق التعيين فيهما قبل التقابض، اعتبر التعيين دون التقابل في غير الصرف من بيع الأموال الربوية ببعضها، وذلك لحصول المقصود وهو التمكن من التصرف بالتعيين فيها؛ بخلاف النقدين، فحيث أنهما لا يتعينان إلا بالقبض اشترط في الصرف التقابض (6) .
((هاء وهاء)) :
قال الخطابي: ((هاء وهاء)) معناه التقابض، وأصحاب الحديث يقولون (ها وها) مقصورين، والصواب مدهما ونصب الألف منهما. وقوله ((هاء)) إنما هو قول الرجل لصاحبه إذا ناوله الشيء (هاك) أي خذ. فأسقطوا الكاف منه وعوضوه المد بدلا من الكاف (7) .
وقال ابن حجر: ((إلا هاء وهاء)) بالمد فيهما وفتح الهمزة، وقيل بالكسر، وقيل بالسكون، وحكى القصر بغير همزة وخطأها الخطابي، ورد عليه النووي وقال: هي صحيحة لكن قليلة والمعنى خذ وهات (8) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء)) أي إن هذه البيعات لا تجوز إلا إذا قال كل واحد منهما لصاحبه: (هاء) أي خذ وهات، والمراد به القبض (9) .
__________
(1) شرح الآبيّ على صحيح مسلم 4/264
(2) 4/363
(3) فتح الباري 4/378؛ شرح السنة للبغوي 8/60؛ المجموع 10/92؛ المغني 6/112
(4) المغرب للمطرزي ص510، مادة: اليد؛ الآبي على صحيح مسلم 4/271
(5) مادة اليد
(6) رد المحتار 4/182 و183؛ تبيين الحقائق للزيلعي 4/89
(7) معالم السنن مع سنن أبي داود 3/643؛ وانظر: فتح القدير 7/18؛ المجموع 10/91
(8) فتح الباري 4/378؛ نيل الأوطار 5/1913
(9) تبيين الحقائق: 4/89(9/79)
قبض البعض:
إذا حصل التقابض في بعض الثمن دون بعضه وافترقا بطل الصرف فيما لم يقبض باتفاق الفقهاء. واختلفوا فيما تم فيه التقابض على قولين:
الأول: صحة العقد فيما قبض وبطلانه فيما لم يقبض. وهذا رأي جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية، وهو مذهب عند الحنابلة، وقول عند المالكية (1) .
الثاني: بطلان العقد في الكل؛ وهو قول عند المالكية ووجه آخر عند الحنابلة (2) .
قال المالكية: (إن انعقد بينهما الصرف على أن يتأخر منه شيء فسخ، وإن عقد على المناجزة ثم أخر أحدهما عن صاحبه بشيء منه انتقض الصرف فيما وقعت فيه النظرة باتفاق. فإن كان النظرة في أقل من صرف دينار انتقض صرف دينار، وإن كان في أكثر من صرف دينار انتقض صرف دينارين وإن كان في أكثر من صرف دينارين انتقض صرف ثلاثة دنانير وهكذا أبدًا. وما وقع فيه التناجز على اختلاف، وإن وقع على المناجزة ثم تأخر منه شيء لغلط أو سرقة أو نسيان مضى الصرف فيما وقع فيه التناجز باتفاق، وفيما وقع فيه التأخير إن رضي هذا الذي هو له بتركه على اختلاف) (3) .
والراجح عندي مذهب الجمهور؛ وهو صحة الصرف فيما قبض وبطلانه فيما لم يقبض.
والافتراق المانع من صحة الصرف وافتراق العاقدين بأبدانهما عن مجلسهما، فيأخذ هذا في جهة، وهذا في جهة أخرى، أو يذهب أحدهما ويبقى الآخر، أما إذا كانا في مجلسهما لم يبرحا عنه لم يكونا مفترقين وإن طال مجلسهما، لانعدام الافتراق بالأبدان، وهكذا إذا قام عن مجلسهما فذهب معا في جهة واحدة إلى منزل أحدهما أو إلى الصراف فتقابضا عنده، لم يفارق أحدهما صاحبه. وهذا كله مذهب جمهور الفقهاء؛ الحنفية؛ الشافعية، والحنابلة (4) . قال النووي: (ومذهبنا صحة القبض في المجلس، وإن تأخر عن العقد يوما أو أياما أو أكثر ما لم يتفرقا) (5) وذكر الحنفية صورا أخرى يصح فيه الصرف؛ كما إذا نام العاقدان في المجلس، أو أغمي عليهما أو على أحدهما أو نحو ذلك (6) .
__________
(1) تبيين الحقائق 4/138؛ شرح العناية على الهداية 7/143؛ بداية المجتهد 2/198؛ مواهب الجليل 4/306؛ نهاية المحتاج 3/426؛ حاشية القليوبي 2/167؛ المغني 6/113؛ الإنصاف 5/45
(2) المدونة 3/393؛ مواهب الجليل؛ المقدمات 2/15؛ بداية المجتهد 2/198؛ الكشاف 3/266؛ الإنصاف
(3) البيان والتحصيل 6/441؛ جواهر الإكليل 4/307؛ مواهب الجليل؛ المقدمات؛ بداية المجتهد
(4) البدائع 5/215، فتح القدير 7/17؛ المجموع 10/91، مغنى المحتاج 2/24؛ كشاف القناع 3/266
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 4/97
(6) البدائع(9/80)
2- الحلول:
يشترط في الصرف أن يكون البدلان حالَّيْنِ. فلا يجوز للعاقدين أو أحدهما اشتراط التأجيل، فإن اشترطاه لهما، أو لأحدهما، فسد الصرف، لأن قبض البدلين مستحق قبل الافتراق، والأجل يفوت القبض المستحق بالعقد شرعا، فيفسد العقد (1) .لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة وغيره ((يدا بيد)) وقوله في حديث أبي سعيد الخدري ((: ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) (2) . أي لا يباع منها حاضر في المجلس بغائب عن المجلس سواء كان مؤجلا أو حالا.
وقال الحنفية: إن اشترط الأجل ثم أبطل صاحب الأجل أجله قبل الافتراق، فنقد ما عليه ثم افترقا عن تقابض، ينقلب العقد جائزا عندهم، خلافا لزفر (3) .
3- التماثل في البدلين:
إذا كان البدلان من جنس واحد؛ كأن بيع ذهب بفضة أو فضة بفضة، وجب فيه التماثل في الوزن، وإن اختلفا في الجودة، وهذا باتفاق الفقهاء (4) .
والشرط التساوي في العلم، لا في نفس الأمر فقط، فلو لم يعلما التساوي، وكانا في نفس الأمر متحققا لم يجز إلا إذا ظهر في المجلس. لما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) متفق عليه (5) .
((ولا تشفوا)) من أشف والشف بالكسر الزيادة، ومعناه لا تفضلوا بعضها على بعض. وهو تأكيد لقوله: ((مثلا بمثل)) . وذلك للمنع من التفاضل.
أما إذا اختلف جنس المبيع عن جنس الثمن مثل إن كان ذهبا بفضة وفضة بذهب، أو أيا منهما بنقود ورقية، فانه لا يشترط حين إذا التماثل، فلا مانع من التفاضل، لأن ربا الفضل يقع في الجنس الواحد بعضه ببعض. وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (6) .
__________
(1) البدائع 5/219؛ الشرح الصغير للدرديري 2/15؛ مغني المحتاج 2/24؛ المغني 2/112 و113؛ الكشاف 3/264
(2) صحيح البخاري بشرحه 4/380
(3) البدائع
(4) رد المحتار 4/234؛ الشرح الصغير 2/15؛ القوانين الفقهية ص251؛ مغني المحتاج 2/24؛ كشاف القناع 3/252
(5) صحيح البخاري بشرحه 4/379 و380؛ صحيح مسلم 4/96
(6) صحيح مسلم بشرح النووي 4/98(9/81)
4- الخلو عن خيار الشرط:
اختلف الفقهاء في اشتراط الخيار في الصرف هل يفسد العقد؟ أو لا يفسده؟
فذهب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية في المذهب عندهم إلى أن الصرف لا يصح مع خيار الشرط؛ فإن شرط الخيار فيه لهما أو لأحدهما فسد الصرف؛ (لأن القبض في هذا العقد شرط بقائه على الصحة، وخيار العقد يمنع انعقاد العقد في حق الحكم، فيمنع صحة القبض. ولو أبطل صاحب الخيار خياره قبل الافتراق ثم افترقا عن تقابض ينقلب إلى الجواز (عند الحنفية) خلافا لزفر) (1) .
وقال الحنابلة: لا يبطل الصرف باشتراط الخيار فيه كسائر الشروط الفاسدة في البيع، فيصح العقد ويلزم بالتفرق، ويبطل الشرط ويلغو (2) .
والراجح عندي مذهب الجمهور؛ لما عللوا به.
والحكمة في اشتراط التقابض، والحلول؛ للمنع من الوقوع في ربا النسيئة؛ فحرم التفرق قبل قبض العاقدين؛ لأنه يفضي إلى أن يحصل لمن عجل له أخذ العوض فائدة لا تحصل لنظيره حيث إنه يستطيع الإفادة من الثمن الحاضر بتقليده في التجارة، والإفادة من تقلبات الأسعار بما يحقق له الربح، وقد لا يتحقق له شيئا من ذلك، ولكن أخذه للعوض دون العاقد الآخر مظنة لحصول ما تقدم، والمظنة في الشريعة تقام مقام المئنة (3) .
وقيل (إن الأجل فضل حكمي، ولهذا لا يجوز بيع أموال الربا وما ألحق بها في علته، بعضها ببعض مؤجلا سواء اتحد جنسها أو اختلف لأن الأجل زيادة حكمية في أحد البدلين كالزيادة الحقيقية) (4) .
والأجل ليس مالا، فلا يجعل بمجرده ثمنا؛ لأن الزمن ليس سلعة تباع وتشترى (5) .
والحكمة من اشتراط التماثل للمنع من الوقوع في ربا الفضل، فلو جاز الفضل في الجنس الواحد لوقع الناس في الربا، وبالتالي فإن هذا يؤدي إلى انقطاع المعروف بين الناس، والتراحم، والإحسان. فلا يقرض أحد الآخر إلا بفائدة ربوية، ولهذا جاء الشرع باشتراط التماثل في بيع الذهب بالذهب؛ حتى تطيب نفس المقرض بأن يقرض أخاه ولا ينتظر زيادة مادية، وإنما ينتظر الأجر من الله.
__________
(1) البدائع 5/219؛ المبسوط 14/23؛ فتح القدير 7/138؛ الذخيرة 5/31؛ المقدمات 2/15؛ مواهب الجليل 4/308؛ مغني المحتاج 2/24؛ المهذب 2/272
(2) كشاف القناع 3/266؛ شرح منتهى الإرادات 2/201
(3) حكم قيمة الزمن؛ بحث للدكتور حمزة بن حسين الفعر، نشر بمجلة أم القرى؛ العدد السابع ص90. وانظر: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، طبع ونشر الكليات الأزهرية سنة 1388هـ 2/102 – 188 و139 - 141
(4) مجلة مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، العدد 2، المجلس الأول، سنة 1404هـ ص123، بحث للدكتور أحمد فهمي أبو سنة؛ وانظر: الربا والمعاملات المصرفية: للدكتور عمر بن عبد العزيز المتروك ص40
(5) التفسير الكبير للرازي 7/97. وانظر: الربا والمعاملات المصرفية ص50(9/82)
المبحث الثالث
علة الربا في الذهب والفضة
ذهب قليل من العلماء إلى قصر الربا على الأصناف الستة التي ورد بها الحديث الشريف. وفي الذهب والفضة، والبر والشعير، والتمر والملح. وعدم جريانه في غيرها؛ بقاء على أصل الإباحة؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] .
وأصحاب هذا القول فريقان؛ فريق قال بهذا القول لأنه لا يرى القياس دليلا شرعيا؛ وهم الظاهرية وغيرهم من نفاة القياس.
والفريق الثاني: يقر بأن القياس دليل شرعي، ولكنه لا يعمل به في هذه المسألة، وحكي عن طاووس وقتادة، وهو قول عثمان البتي، وابن عقيل من الحنابلة، وأبي بكر البقلاني، وارتضاه من المتأخرين الصنعاني، والصديق حسن خان (1) . فعثمان البتي يرى عدم القياس في الربا؛ لأنه يشترط في القياس أن يقوم دليل في كل أصل أنه معلول ولم يظهر له هنا، والحديث ورد فيه ستة أصناف فإذا قسنا عليها غيرها صار ورودها لا معنى له، فيبطل العقد، ولا يجوز كما في قوله: (خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم) (2) . وأبو بكر البقلاني يرى أن القياس في الربا قياس شبه، وهو لا يرى الاحتجاج بقياس الشبه (3) ، وأما ابن عقيل فقال: إن علل القائسين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس (4) .
واتفق القائلون بالقياس – عدا من ذكرنا – على أن ثبوت الربا في الأصناف المذكورة بعلة، وأنه يثبت في كل ما وجدت فيه علته؛ لأن القياس دليل شرعي، فيجب استخراج علة هذا الحكم، وإثباته في كل موضع وجدت علته فيه.
__________
(1) فتح القدير 7/5؛ المبسوط 12/113، التمهيد 4/91، الفروق 3/263، المغني 6/54، إعلام الموقعين 2/131، سبل السلام 3/38؛ الروضة الندية ص251
(2) فتح القدير؛ المبسوط
(3) الفروق
(4) إعلام الموقعين(9/83)
وقد اختلف العلماء في علة الربا في الذهب والفضة وسأقتصر على أهم آرائهم في هذا الشأن.
أولا: قال بعض العلماء: إن علة ربا الفضل في الذهب والفضة هي الوزن مع اتفاق الجنس، وأما ربا النسيئة فعلته هي أحد وصفي علة ربا الفضل؛ الوزن، أو اتحاد الجنس وهو مذهب الحنفية (1) ، وأحمد في أشهر الروايات عنه والزهري، وحماد والثوري والنخعي، وإسحاق (2) .
وعلى هذا القول يحرم كل موزون بيع بجنسه إذا كان متفاضلا، فالذهب بالذهب متفاضلا ربا. ويشترط لصحته التساوي في الوزن والحلول، والتقابض. وعلى هذا يجري الربا في كل موزون كالحديد والنحاس والرصاص ونحوها من الموزونات.
ثانيا: إن علة الربا في الذهب والفضة هي الثمنية الغالبة، أو جوهر الثمنية غالبا؛ وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن مالك (3) .
ويعبر الشافعية عن ذلك بكونهما جنس الأثمان غالبا؛ وذكروا جنس الأثمان ليشمل التبر والمضروب، والحلي، والأواني الذهبية والفضية، وإن لم تكن ثمنا. وقالوا غالبا: احترازا من الفلوس إذا راجت رواج النقود (4) .ومنهم من يعبر عن العلة بكونهما قيم المتلفات، ومنهم من جمعهما (5) .وهذه علة قاصرة لا تتعدى إلى غيرهما. وقال النووي: (وفي تعدي الحكم إلى الفلوس إذا راجت وجه، والصحيح: أنه لا ربا فيها لانتفاء الثمنية الغالبة) (6) .
ثالثا: إن علة الربا في الذهب والفضة هي مطلق الثمنية. وهو قول للإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وقول في مذهب الإمام مالك في غير المشهور عنه، وقول يحيى بن سعيد، والليث بن سعد، وهو اختيار أبي الخطاب من الحنابلة، والشيخ موفق الدين بن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم (7) .
ذكر أكثر الباحثين المعاصرين أن للإمام أحمد ثلاث روايات في علة الربا في الذهب والفضة؛ وهي: الوزن والجنس، والثمنية، ومطلق الثمنية، والثمنية الغالبة أو جوهر الثمنية، على اختلاف التعبير بينهم.
__________
(1) بدائع الصنائع 5/183؛ المبسوط 12/113؛ تبيين الحقائق 4/85
(2) المغني 6/54 و62 و63؛ كشاف القناع 3/251، كتاب الذيل على طبقات الحنابلة 2/127 و128؛ المبدع 4/128؛ الإنصاف 5/11؛ مصنف عبد الرزاق 8/37
(3) الأم 2/15؛ نهاية المحتاج 3/433؛ حاشية قليوبي وعميرة على المنهاج 2/170؛ المجموع 9/444 و447؛ روضة الطالبين 3/388؛ مغني المحتاج 2/25؛ حلية العلماء 4/147؛ الوجيز 1/136؛ المهذب 1/270؛ حاشية العدوي 5/56؛ التمهيد 1/270 و6/293 وما بعدها
(4) المجموع9/447
(5) روضة الطالبين: 3/388
(6) روضة الطالبين: 3/388
(7) المدونة 3/395 و396؛ 4/20 و22 و121؛ المغني 6/56؛ المبدع 4/129؛ الإنصاف 5/12؛ حاشية العدوي 5/56؛ الفروع 4/149؛ فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 29/470؛ إعلام الموقعين 2/132؛ حجة الله البالغة 2/286(9/84)
وقد جاء هذا الفهم من ظاهر عبارات فقهاء الحنابلة كما في المغني، والمبدع، وفتاوى شيخ الإسلام.
والتحقيق أن للإمام رحمه الله روايتين في علة الربا في الذهب والفضة، هما: الوزن والجنس، والثمنية. وذكره فقهاء الحنابلة من الروايات الثلاث هو علة الربا بعموم، يشترط الذهب والفضة، والأصناف الأربعة في اثنتين، وتستقل الأصناف الأربعة بالرواية الثالثة (1) . يؤيد هذا أن ابن القيم عندما تكلم عن علة النقود ذكر هاتين الروايتين فقط (2) . يقول ابن قدامة: (روي عن أحمد في ذلك ثلاث روايات، أشهرها أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس، وعلة الأعيان الأربعة مكيل جنس) (3) .
(والرواية الثانية، إن العلة في الأثمان الثمنية، وفيما عداها كونه مطعوم جنس) (4) .
(والرواية الثالثة؛ العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا) (5) .
فقصر علة الربا في الذهب والفضة على الروايتين الأولى، والثانية، أما الثالثة فمختصة بالأصناف الأربعة.
وقد فسر بعض فقهاء الحنابلة الثمنية بالثمنية الغالبة فتختص بالذهب والفضة؛ مضروبه، وتبره، وحليه، ونحوه، وهنا تكون علة قاصرة عليهما، منهم أبو الخطاب الكلوذاني (6) . ومنهم من فسرها بالثمنية المطلقة، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم (7) ، وأبي الخطاب، حيث قال في (الانتصار) عند الجواب عن الفلوس: (ثم يجب أن يقولوا إذا نفقت حتى لا يتعامل إلا بها إن فيها الربا، لكونها ثمنا غالبا) (8) وقال في التمهيد: (من فوائدها ربما حدث جنس آخر يجعل ثمنا، فتكون تلك علة) (9) .
__________
(1) انظر: المغني 6/54 و55 و56؛ الكافي 2/54؛ المبدع 4/129
(2) إعلام الموقعين 2/132؛ وانظر: الفرق بين البيع والربا للشيخ الدكتور صالح الفوزان ص97
(3) المغني 6/54
(4) المغني ص56
(5) المغني ص56
(6) الهداية 1/136؛ الفروع 4/148
(7) الفتاوى 29/470؛ إعلام الموقعين 2/132
(8) الإنصاف 5/12 و13؛ الفروع 4/149. والجدير بالذكر أن ما نقلناه عن أبي الخطاب في الهداية هو تفسير للثمنية عند الإمام أحمد. وما نقلناه عن الانتصار والتمهيد هو اختياره وفرق بين تفسيره، واختياره
(9) الإنصاف 5/12 و13؛ والفروع 4/149. والجدير بالذكر أن ما نقلناه عن أبي الخطاب في الهداية هو تفسير للثمنية عند الإمام أحمد. وما نقلناه عن الانتصار والتمهيد هو اختياره وفرق بين تفسيره، واختياره(9/85)
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول بأدلة أهمها ما يأتي:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد واستزاد فهو ربا)) (1) .
2- عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء)) (2) .
3- عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري، فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَكُلُّ تمر خيبر هكذا؟)) قال: لا، والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعلوا ولكن مثلا بمثل أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا وكذلك الميزان)) (3) . وورد في بعض ألفاظ الحديث: وقال ((في الميزان مثل ذلك)) (4) .
وجه الدلالة من الحديثين الأولين: أنه حكم فيهما على كل موزون مع اتحاد نوعه بأنه مثل بمثل (5) . أما الحديث الثالث فقوله: ((وكذلك الميزان)) أي وكذلك الموزون، فدل على أن كل موزون لا يجوز التفاضل فيه (6) .
قال الكاساني بصدد تبيين وجه الدلالة: (وأراد به الموزون بطريق الكناية لمجاورة بينهما مطلقا من غير فصل بين مطعوم ومطعوم) (7) .
4-جعل الشارع المماثلة شرطا لصحة البيع، وانتفاء الربا، في الأصناف الستة. لأن التفاضل في هذه الأصناف إنما منع؛ لأنه فضل مال خال عن العوض، ويمكن التحرز عنه بحصول التماثل الذي طلبه الشارع، وأداته التي تحققه هي الكيل والوزن (8) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 4/99 كتاب المساقاة
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 4/99 كتاب المساقاة
(3) صحيح مسلم بشرح النووي ص104 كتاب المساقاة
(4) صحيح البخاري بشرحه 4/481
(5) نيل الأوطار 5/199
(6) البدائع 5/184
(7) البدائع 5/184
(8) المبسوط 12/116 و117؛ البدائع 5/184(9/86)
أدلة الفريق الثاني:
1- الذهب والفضة قد خصا بأحكام في مواضع ولم يشاركهما غيرهما في تلك المواضع كتحريم التحلي منهما على الرجال، واتخاذ الأواني ونحوها، فليس بعيدا أن يخصا بتحريم الربا لأجل هذا المعنى (1) .
2- (إن النقدين جوهران نفيسان بهما تقدر الأموال، ويتوصل بهما إلى سائر الأشياء، فهما أثمان المبيعات غالبا، وقيم المتلفات في جميع أقطار الدنيا، فهما رائجان عند كل الأمم ولدى كل الدول قديما وحديثا وذلك لخصائص ومزايا اعتبرت في هذين المعدنين في الأوصاف والندرة كان بهما أثبت من سواهما، ليكون أساسا للتمويلات ومقياس لقيم سائر الأشياء واسطة بين الإنسان وحاجاته؛ ولهذا قال بعض الفقهاء: إنهم يعتبران أثمان بالخلقة ولا غير مسكوكين) (2) قال أبو حامد الغزالي: (ما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة، ولا لعمرو خاصة، إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران، وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي فيكون حاكمين بين الناس وعلامة معرفة للمقادير مقومة للمراتب) (3) .
أدلة من قال بالثمنية المطلقة:
يمكن أن يستدل لمن قال: إن العلة الثمنية المطلقة، بأن المقصود ليس هو الذهب والفضة، وإنما المقصود ما يحققانه من كونهما وسيطين للتبادل، وكل منهما معيار للقيمة ووحدة للحساب والعد. وهو ما يعبر عنه الفقهاء من كونهما أثمان المبيعات وقيم المتلفات. والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض يتحقق بها المقصود كيف كانت، والنقد من هذا القبيل فإذا تحققت وظائف الذهب والفضة في غيرهما كان مقتضى ذلك الإلحاق (4) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب؛ فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال ولا يقصد الانتفاع بعينها فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوصل بها إلى تحصيل المطلوب فإن ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها في الذمة مع إنها ثمن من طرفين، فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل فإذا صارت الفلوس أثمانا صار فيها المعنى فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل) (5) .
__________
(1) الحاوي للمواردي 6- لوحة 54/جـ، 56
(2) الربا والمعاملات المصرفية؛ للدكتور عمر بن عبد العزيز المترك ص105
(3) إحياء علوم الدين 4/143
(4) مجموع الفتاوى 29/ 471 و472
(5) مجموع الفتاوى 29/ 471 و472(9/87)
ويقول ابن القيم: (التعليل بالثمنية هو الصحيح بل الصواب فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد والرصاص فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا – إلى أن قال – والعلة إذا انتقلت من غير فرق مؤثر دل على بطلانه) (1) .
المناقشة والترجيح:
1-إن الأحاديث التي ذكر فيها الكيل والوزن غاية ما فيها أنها دلت على أن الوزن يحقق المماثلة المطلوبة شرعا. لكنها لم تحصر تحقق المماثلة فيهما إذ إن المثلية أعم من الكيل والوزن (2) . قال النووي: (لا يلزم من كون الكيل معيارا أن يكون علة) (3) .
قال صديق حسن خان ناقلا عن الشوكاني: (إن ذكره للكيل والوزن في الأحاديث لبيان ما يتحصل به التساوي في الأجناس المنصوص عليها فكيف كان هذا الذكر سببا لإلحاق سائر الأجناس المتفقة في الكيل والوزن بهذه الأجناس الثابتة في الأحاديث، وأي تعدية حصلت بمثل ذكر ذلك، وأي مناط استفيد منها مع العلم أن الغرض بذكرها هو تحقيق التساوي كما قال: مثلا بمثل سواء بسواء) (4) .
وأما الحديث الثالث فأجيب عنه بأن قوله: (وكذلك الميزان) ليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام أبي سعيد الخدري وموقوف عليه، وهذا هو جواب البيهقي (5) . يؤيده رواية هذا الحديث عند مسلم أيضا، والبخاري بدون كلمة ((وكذلك الميزان)) (6) .
وأجاب القاضي أبو الطيب وغيره: (بأن ظاهر الحديث غير مراد فإن الميزان نفسه لا ربا فيه، وأضمرتم فيه الموزون، ودعوى العموم في المضمرات لا يصح) (7) ، لأنه تعميم بدون دليل عليه.
وأجيب أيضا: (أنه يحمل الموزون على الذهب والفضة جمعا بين الأدلة) (8) . (فيكون المقصود هو أن يتساوى النقدان في الوزن لحل مبادلتهما مع اتحاد الجنس، وليس كما يدعون كلمة ((وكذلك الميزان)) تدل بنفسها على حرمة كل مكيل وكل موزون بيع بجنسه مع التفاضل أو مع النسيئة) (9) .
__________
(1) إعلام الموقعين 2/132؛ وانظر: البدائع 5/185
(2) فتح القدير 7/7 و8
(3) المجموع 9/402 المكتبة السلفية
(4) الروضة الندية 2/110، 252
(5) السنن الكبرى 5/286؛ وانظر: المجموع 10/445
(6) انظر صحيح مسلم بشرح النووي 5/105 باب المساقاة حديث رقم 91
(7) المجموع 9/445
(8) المجموع
(9) الربا والمعاملات المعاصرة ص100(9/88)
2- نقض العلة: التعليل بالوزن منقوض، لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النساء.
وهذا لا يتحقق في عقد السلم؛ لأنه يجوز إسلام الذهب والفضة في سائر الموزونات، مثل الحديد والنحاس، بإجماع الفقهاء؛ وحيث إنه لا يتم التقابض في عقد السلم إلا من طرف واحد، بينما العلة تقتضي أن يتم التقابض من الطرفين، فتخلف الحكم في عقد السلم مع وجود العلة؛ وهي بيع موزون بموزون، فتبين أن العلة منتقضة (1) .
3- التعليل بالوزن ليس تعليلا بوصف مناسب؛ فلا يصح أن يكون مؤثرا في الحكم؛ أي مظنة لأن يكون الحكم شرع من أجله، بل هو مجرد طرد محض ليس فيه مناسبة (2) .
يقول ابن القيم: (فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما (أي الذهب والفضة) في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه، جاز التفاضل فيه دون النساء، والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها) (3) .
أما التعليل بغلبة الثمنية فهو تعليل بعلة قاصرة على النقدين، والعلة القاصرة لا يصح التعليل بها عند كثير من العلماء؛ منهم أبو حنيفة، والكرخي، وأبو عبد الله البصري، وأحد الوجهين عند الشافعية؛ لعدم الفائدة فيها؛ لأن حكم الأصل قد عرف من النص، وإنما فائدة العلة أن يلحق بالأصل غيره (4) ؛ وهي منقوضة طردا بالفلوس، والأوراق النقدية لأنها أثمان ولا ربا فيها على هذه العلة، وعكسا بالحلي والتبر، وأواني الذهب والفضة، فإنه يقع الربا فيها مع أنها ليست أثمانا (5) .
__________
(1) المغني 6/56؛ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 29/471؛ إعلام الموقعين 2/132؛ المنتقى 4/258؛ الحاوي للماوردي 6/54، 56
(2) إعلام الموقعين 2/132. الوصف الطردي: هو الذي ليس في إناطة الحكم به مصلحة كالطول والقصر. مسلم الثبوت 2/299؛ مذكرة أصول الفقه للشنقيطي 264. المناسب: (عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودا من شرع ذلك الحكم) الإحكام 3/248؛ وانظر البحر المحيط 5/207؛ شرح الكوكب المنير 4/152. انظر في أنواعه، وتعريف كل نوع، وحجته، كتب الأصول كالإحكام؛ والبحر المحيط؛ والمستصفى؛ وفواتح الرحموت؛ والمحصول؛ وشرح الكوكب المنير
(3) إعلام الموقعين 2/132
(4) أصول السرخسي 2/158؛ المجموع 9/445؛ البحر المحيط 5/135؛ شرح مختصر الروضة 3/317
(5) الإنصاف 5/12؛ الفروع 4/147 وما بعدها(9/89)
الترجيح:
بعد عرض آراء العلماء في علة الربا في الذهب والفضة، وذكر أدلتهم ومناقشتها، يترجح عندي رأي القائلين بأن العلة مطلق الثمينة. لأن أدلة القائلين بالوزن والجنس، والقائلين بغلبة الثمنية لم يسلم أي منها من اعتراضات قوية؛ ولأن الذهب والفضة وإن كانا يتمتعان بخصائص لا توجد في غيرهما، وأن المضروب منهما ثمن بالاتفاق، إلا أن هذا لا يمنع من وجود الثمنية في غيرهما؛ إذا تحقق فيه القيام بدور النقود؛ ومنها إن صار وسيطا للتبادل، ولقي قبولا عاما، وهذه الخصائص وجدت في غير الذهب والفضة، فدل على أن التعليل بجوهر الثمنية، أو الثمنية الغالبة، إذا قصد بها الذهب والفضة فقط لا يصلح أن يكون علة، لوجود الثمن في غيرهما، مثل الأوراق النقدية التي تكاد تكون النقد الوحيد في العالم في هذه العصور. ومن هنا يتبين أن التعليل بالثمنية، أو الثمنية المطلقة هو الذي يشمل كل نقد، وأنه التعليل الذي يتفق مع مقاصد الشارع.
وقد تنبه أبو الخطاب الكلوذاني، الفقيه الحنبلي المتوفى سنة (510هـ) ، إلى فائدة التعليل بالثمنية، وعدم قصره على الذهب أو الفضة فقال: (من فوائدها ربما حدث جنس آخر يجعل ثمنا، فتكون تلك علة) (1) .
وما أورد على من علل بالثمنية المطلقة بأن الأواني، والحلي من الذهب والفضة يجري فيها الربا وليست أثمانا، وأن هذا يؤدي إلى تخلف العلة عن الحكم.
فالجواب عليه: أن الربا في الذهب والفضة ثابت بالنص، وهو عام يشمل التبر والمضروب، والحلي، والأواني، وقد حكى النووي، وابن عبد البر الإجماع عليه. وأن الثمنية في الذهب والفضة يمتد إلى أصل المضروب، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا، وكان تقدير ثمنيتها بالوزن، والدليل على ذلك ما رواه الترمذي عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فساومنا سروايل وعندي وزان يزن بالأجر فقال النبي صلى الله عليه وسلم للوزان: ((زن وأرجح)) (2) . قال الترمذي حديث حسن صحيح.
ورواه أبو داود وابن ماجه والنسائي، والإمام أحمد، والدارمي.
__________
(1) الإنصاف 5/12 و13؛ الفروع 4/149
(2) صحيح الترمذي بشرح ابن العربي 6/40؛ وانظر: سنن أبي داود 3/631(9/90)
فدل الحديث الشريف على أنه يصح التعامل بالأثمان من الذهب والفضة بالوزن. كما يتعامل بها إذا كانت مضروبة ومحددا وزنها عددا؛ والموزون يمكن أن يكون مضروبا، أو سبائك أو تبرا، فدل على أن الثمنية شاملة للذهب والفضة في جميع أحواله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا) (1) .
وبعد أن استقر التعامل بالنقود الورقية في جميع دول العالم، وأصبحت النقد الوحيد الذي يتعامل به الناس اليوم، أو كاد، وبعد أن ثبتت علة الثمنية لها؛ لاكتسابها خصائص النقد، وصدر بهذا إقرار المجامع الفقهية، وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهو ما استقر عليه رأي معظم الكتاب المعاصرين، وبعد أن اختفى التعامل بالذهب كنقد، إلا في نطاق محدود جدا، ومع أن بعض الدول – في العصر الحاضر – تمنع اتخاذ الذهب عملة. ومع أن السبائك الذهبية صارت سلعة تباع وتشترى. ومع كل هذا فإن علة الثمنية الثابتة للدينار قديما لا زالت باقية، وستظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإن التعامل بالنقود الورقية، أو ظهور عملات أخرى في الوقت الحاضر، أو في العصور القادمة لا يغير علة الثمنية، ولا يقلل منها، في الدينار أو الدرهم، ولا وفي السبائك أو الحلي أو التبر، أو أي نوع من أنواع الذهب أو الفضة؛ لأن السنة الشريفة أوجبت التماثل عند بيع أي منهما بجنسه، وأوجبت القبض عند بيع أي منهما بالآخر، فهما الأصل، وغيرهما مقيس عليهما.
***
__________
(1) مجموع الفتاوى 19/248(9/91)
المبحث الرابع
أثر الجودة في شروط التماثل
تختلف جودة الذهب من جهة تفاوته، وتفاوت عياره؛ ويراد بها مقدار نسبة الذهب الصافي مما يمكن أن يخلط به، مثل أن يكون عيار 24 أو 21 أو 18.
فهل يشترط في بيع بعضه ببعض التماثل؟ أم يجوز التفاضل؟
لا خلاف بين العلماء في أن جيد الذهب ورديئه سواء فيشترط التماثل ويحرم التفاضل، والمراد بالتماثل في الوزن، أو الكيل، أو العدد، أما اعتبار الجودة في الأموال الربوية عند المقابلة بالجنس فهي ساقطة؛ ومنها بيع الذهب بجنسه. سواء كان: تبرا، أو سبائك، أو مضروبا نقودا، صحيحا، أو مكسرا، مصنوعا أو غيره (1) . وإن خالف البعض في الحلي بغيرها (2) .
والدليل على وجوب التماثل، ما أوردناه من الأدلة في شروط الصرف، عند التعرض لشرطي التقابض والتماثل.
والأدلة على عدم اعتبار الجودة منها:
1- عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة- رضي الله عنهما – ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب (3) فقال له: (أكل تمر خيبر هكذا) ، قال: لا، والله يا رسول الله. إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم اتبع بالدراهم جنيبا)) (4) . وهذا لفظ البخاري.
2- عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدي بمدي، والشعير بالشعير مدي بمدي، والتمر بالتمر مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي؛ فمن زاد أو ازداد فقد أربى ... )) (5) الحديث.
فدل حديث أبي سعيد على أن اعتبار الجودة في التمر ملغاة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء التمر متفاضلا لأجل جودة الجنيب. بل أبطل البيع وأشار إلى الوسيلة الصحيحة عندما يراد شراء الجديد؛ وهي أن يباع الرديء بالدراهم – أي بغير جنس المبيع – ثم يُشترى بالدراهم النوع الجيد الذي يرغبه. وهذا في جميع أموال الربا؛ ومنها الذهب.
__________
(1) الأم 4/79؛ فتح القدير 7/134 و135؛ الشرح الكبير 3/40؛ الفروق 3/264، الفرق 191، اللباب في شرح الكتاب للميداني 2/46؛ المغني 6/60؛ الكشاف 3/261
(2) سوف نعرض لهذه المسألة بشيء من التفصيل في المبحث الآتي إن شاء الله
(3) الجنيب: قال مالك: هو الكبيس، وقال الطحاوي: هو الطيب. وقيل: الذي أخرج منه حشفه ورديئه. وقيل: هو الذي لا يخالط بغيره، بخلاف الجمع الذي هو المختلط. انظر: فتح الباري 4/400
(4) صحيح البخاري بشرحه 4/399؛ صحيح مسلم بشرحه 4/105، جامع العلوم والحكم ص76
(5) سنن أبي داود 3/646(9/92)
ودل حديث عبادة: على وجوب التساوي عند اتخاذ الجنس ذهبا بذهب أو فضة بفضة، سواء كان تبرا وهو الذهب أو الفضة قبل أن يضرب، أو عينا؛ وهو الذهب أو الفضة بعد أن يضرب.
ولكي يمكن معرفة نسبة نقاوة الذهب مما يختلط به؛ فإنها تقاس نقاوته كيماويا على أساس (1000 من 1000) ، ويكاد الذهب المتداول – غير الحلي والنقود الذهبية – أن يبلغ هذه الدرجة من النقاوة. إذ يشترط أن تكون نقاوة السبيكة القياسية للذهب المتداول دوليا (995: 1000) (1) .
وحيث إن الذهب معدن لدن ومرن؛ فإنه لا يمكن تحويله إلى نقود أو حلي، أو أي مصوغات أخرى إلا إذا كان معه معدن آخر، كالنحاس أو الرصاص، ليكسبه صلابة، فيسهل تحويله. وتقل عدد قيراطات الذهب كلما زادت كمية المضاف إليه، وبالتالي تقل جودته. فيكون الذهب كمادة كيماوية ذات نقاوة 1000: 1000 معادلا 24/24. وهذا أجود عيار في الذهب
و22 قيراطا = 916 جزءا من الألف
21 قيراطا = 875 جزءا من الألف
20 قيراطا = 833 جزءا من الألف
18 قيراطا = 750 جزءا من الألف
14 قيراطا = 583 جزءا من الألف
12 قيراطا = 500 جزء من الألف
وتقل هذه الجودة كلما هبط عيار الذهب (2) . ولكن ما هو حد الرداءة الذي يعتبر معه هذا المعدن – وهو مختلط بغيره اختلاط امتزاج- ذهبا؟
__________
(1) الذهب ودوره في الأنظمة النقدية الدولية؛ إعداد: خورين آكوب جبرائيل ونهاد النقيب؛ إشراف ومراجعة حسن النجفي ص7
(2) الذهب ودوره في الأنظمة النقدية الدولية؛ إعداد: خورين آكوب جبرائيل ونهاد النقيب؛ إشراف ومراجعة حسن النجفي ص7. وقد اختير رقم 24 لأنه يقبل القسمة على 2 و3 و4 و6 و8 و12 بدون باق(9/93)
اختلف الفقهاء في حكم صرف النقود المغشوشة عند اتحاد الجنس كذهب بذهب.
فقال الحنفية إذا كان الغالب الذهب، أو تساوي الذهب وما خلط به، أي 12/24 فإنه يأخذ حكم الذهب؛ فيجب التماثل، ويحرم التفاضل. أما إذا كانت نسبة الغش هي الغالبة، فإنه حينئذ يجوز التفاضل. جاء في (بدائع الصنائع) : (الدراهم المضروبة أقسام ثلاثة: إما أن تكون الفضة فيها هي الغالبة، وإما أن يكون الغش فيها هو الغالب، وإما أن تكون الفضة والغش فيها على السواء فإن كانت الفضة فيها هي الغالبة بأن كان ثلثاها فضة وثلثها صفرا أو كانت ثلاثة أرباعها فضة وربعها صفر ونحو ذلك فحكمها حكم الفضة الخالصة لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا سواء، وكذا بيع بعضها ببعض لا يجوز إلا مثلا بمثل لأن اعتبار الغالب وإلحاق المغلوب بالعدم هو الأصل في أحكام الشرع؛ ولأن الدراهم الجياد لا تخلو عن قليل غش) (1) .
لكن متأخري الحنفية وهم مشايخ ما وراء النهر قالوا: الدراهم المضروبة التي غالبها الغش يجب أن تعامل معاملة الخالصة؛ في بابي الربا والصرف. فلا يجوز فيها التفاضل (2) .
وذهب المالكية على الراجح من مذهبهم إلى جواز بيع المغشوش بمثله مبادلة، ومراطلة، كما يجوز بيعه بالخالص من الغش مراطلة. جاء في شرح الخرشي: (وجاز بيع مغشوش بمثله وبخالص، وجعله في الشامل المذهب، ابن عرفة، وهو اختيار ابن محرز واستظهر ابن رشد منعه وإليه أشار بقوله والأظهر خلافه، وأنه لا يجوز بيع المغشوش بالخالص، والخلاف إنما هو في المغشوش الذي لا يجري بين الناس كغيره، وإلا فيجوز اتفاقا كما يظهر من كلام التوضيح، وظاهر كلام ابن رشد دخول الخلاف فيه أيضا، وإنما أعاد العامل في قوله وبخالص لأجل قوله والأظهر خلافه فإن خلاف ابن رشد إنما هو في الثانية) (3) .
وقال الشافعية: (لا يجوز بيع دراهم مغشوشة بمغشوشة، أو بخالصة؛ لاشتمالهما على جنسين ربويين من الجانبين، أو من جانب واحد. وهي مسألة مد عجوة) (4) . وقد تعرضنا لها في المبحث الخامس.
وقال الحنابلة: (إذا بيعت النقود المغشوشة بالمغشوشة من جنسها جاز البيع إذا تساوى ما فيهما من الذهب، أو الفضة والغش، أو كان المعدن الذي حدث به الغش غير مقصود فيها. كالجنيهات الذهبية إذا خلطت بالنحاس أو الصفر؛ لأنها لا تخلو عن قليل غش؛ ووجود مقدار من الغش فيها غير مقصود، فلا يكون من قاعدة مد عجوة. أما إذا تفاوت ما فيهما من الذهب ومن الغش، أو جهل مقدار كل فإنه لا يجوز بيع بعضها ببعض. للعلم بالتفاضل في الأولى، والجهل بالتماثل في الثاني) (5) .
__________
(1) 25/196؛ فتح القدير 7/151
(2) البدائع؛ فتح القدير 7/153
(3) 5/52، وانظر أيضا: شرح الزرقاني 5/57، ومواهب الجليل 4/335، ومنح الجليل 2/530
(4) مغني المحتاج 2/28
(5) كشاف القناع 3/261، 262(9/94)
والراجح عندي مذهب الحنفية؛ وهو أن الحكم للغالب فإذا زادت نسبة الذهب على المخلوط به مثل إن كانت 13/24، أو تساوت نسبة الذهب مع غيره مثل إن كان عيار 12/24 فإنه يأخذ حكم الذهب في الحلي وغيرهما – عدا النقود – فيجب تطبيق شروط الصرف، ومنها وجوب التماثل، وحرمة التفاضل.
أما إذا كانت نسبة الذهب أقل من المخلوط معه، واختلاطه هو اختلاط امتزاج، يتعذر فصله إلا بفساد المصنوع فإنه حينئذ لا يأخذ حكم الذهب، وإنما يأخذ حكم السلع من حيث أحكام الربا والصرف. فلا يشترط التماثل ولا التقابض.
أما النقود المغشوشة التي غالبها الغش، إذا كانت سكة سائرة فإنه يطبق عليها أحكام الربا والصرف لأنها نقود؛ ثبتت فيها علة الثمنية فيجب التقابض والتماثل إذا بيع بعضها ببعض، ويجب التقابض دون التماثل إذا بيعت بنقود من غير جنسها.
ولأن ما ذكره الحنابلة من وجوب تساوي ما فيهما من ذهب، أمر يتعذر تحقيقه. لأنه – كما ذكرنا سابقا – لا بد من وجود نسبة من الغش في الذهب والفضة، وهذه النسبة تتفاوت من مصنوع إلى مصنوع آخر. ولأن الفقهاء قد اتفقوا على أن جيد الذهب ورديئه سواء في اشتراط التماثل، والرداءة في الغالب تكون بسبب ما يضاف إليه. لكن إذا طغى النحاس أو الرصاص، أو غيرهما على الذهب لم يعد ذهبا فلا يشترط حينئذ التماثل.
***(9/95)
المبحث الخامس
شراء حلي الذهب أو الفضة بجنسه من غير الحلي
المطلب الأول
تعريف الحلي، والصياغة
أ - الحلي: (ما تزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة) (1)
قال:
كأنها من حسن وشاره والحلي حلي التبر والحجاره
والجمع حلي
قال الفارسي: وقد يجوز أن يكون الحلي جمعا، وتكون الواحدة حلية، كشرية وشري، وهدية وهدي.
والحلية كالحلي، والجمع من حلي وحلي (2) .
وقوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] . جاز أن يخبر عنهما بذلك لاختلاطهما، وإلا فالحلية إنما تستخرج من الملح دون العذب.
وحليت المرأة حليا، وهي حال وحالية: استفادت حليا، أو لبسته. وحلاها، ألبسها حليا أو اتخذه لها. وقوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] عداه إلى مفعولين؛ لأنه في معنى: يُلْبَسُونَ (3) .
ب - الصياغة: عمل الحلي من فضة وذهب ونحوهما (4) . أي تحويلهما إلى حلي جديد صالح للاستعمال. جاء في المصباح المنير: (صاغ الرجل يصوغه صوغا: جعله حليا، فهو صائغ، وصواغ، وهي الصياغة، وصاغ الكذب صوغا اختلقه، والصيغة أصلها الواو: مثل القيمة) (5) (والصيغة العمل والتقدير، وهذا صوغ هذا إذا كان على قدره، وصيغة القول كذا أي مثاله وصورته على التشبيه بالعمل والتقدير) (6) .
المطلب الثاني
آراء الفقهاء في حكم شراء حلي الذهب أو الفضة بجنسه من غير الحلي
لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط التماثل إذا بيع المصوغ بالمصوغ.
أما بيع الذهب المصوغ، كالحلي وغيره بغير المصوغ، كالتبر والمضروب من الدراهم والدنانير، على اعتبار إلغاء الصناعة في المضروب، أو بيع الصحاح بالمكسرة، فللفقهاء في وجوب التماثل، وجواز التفاضل في مقابلة الصنعة مذهبان.
المذهب الأول:
ويري القائلون به أنه لا عبرة للصناعة ولا لغيرها، فيجب التماثل في بيع الجنس بجنسه – ذهب بذهب، أو فضة بفضة – فيحرم بيع مصنوع من الموزونات لم تخرجه الصناعة عن الوزن بجنسه، إلا مثلا بمثل، وزنا بوزن، سواء ما ماثله في الصناعة أم لا.
وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة (7) والظاهرية والزيدية والإمامية. وممن قال به من العلماء المعاصرين، سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، وصدر به قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية (8) .
__________
(1) المحكم لابن سيده 3/339 مادة: الحاء واللام والياء؛ وانظر: لسان العرب، مادة: حلا.
(2) المصادر السابقة
(3) المحكم
(4) المعجم الوسيط 1/548؛ مادة: صاغ
(5) مادة: صوغ؛ وانظر: المحكم
(6) المصباح؛ وانظر: المحكم؛ اللسان
(7) الأم 4/35، الهداية؛ وفتح القدير 7/134؛ ورد المحتار على الدر المختار 4/81؛ المبسوط 14/6؛ الشرح الصغير مع بلغة السالك 2/15؛ مواهب الجليل 4/317؛ التاج والأكليل بحاشية مواهب الجليل 4/317؛ بداية المجتهد 2/196؛ المنتقى 4/258؛ كتاب التلقين 2/368؛ المعونة 2/1022؛ المجموع 10/79، روضة الطالبين 3/378؛ فتح العزيز 8/160؛ المغني 6/60؛ الكشاف 3/252؛ شرح منتهى الإرادات 2/194؛ الإنصاف 5/14
(8) المحلى 9/547؛ الروض النضير 3/228 و229، كتاب الخلاف للطوسي 2/19؛ شرائع الإسلام 1/110؛ فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم، جمع وترتيب محمد بن قاسم 7/174 و175؛ فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين 2/221 و222؛ الملخص الفقهي، للشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان 2/31؛ فتاوى إسلامية للمشايخ ابن باز، وابن عثيمين، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين 2/263؛ توضيح الأحكام من بلوغ المرام، للشيخ عبد الله البسام 4/21؛ مجلة الدعوة عدد 834 ص27، قرار هيئة كبار العلماء رقم 168 وتاريخ 4/3/1411هـ، فقرة (2) ، ونصها: (يرى المجلس بالأكثرية وجوب التماثل في بيع المصوغ من الذهب إذا بيع بذهب غير مصوغ وكذا المصوغ من الفضة إذا بيع بفضة غير مصوغة من غير زيادة مع أحدهما)(9/96)
المذهب الثاني:
ويقول أصحابه: إذا كانت الصناعة مباحة، كخاتم الفضة، وحلية النساء، وبيعت الحلية بجنسها من غير المصنوع؛ فإنها تباع بالقيمة، ولا يشترط التماثل؛ جعلا للزائد في مقابلة الصنعة.
وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وقد جوزاه حالا ومؤجلا، ما لم يقصد كونهما ثمنا؛ أي لم يقصد الثمنية في الحلي، وإنما قصد كونه حليا يلبس. جاء في (الفتاوى الكبرى) : (ومن المسائل التي انفرد بها شيخ الإسلام عن الأئمة الأربعة القول بجواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلي وغيره كالخاتم ونحوه بالفضة متفاضلا وجعل الزيادة في الثمن في مقابلة الصنعة) (1) واشتهرت نسبته إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، جاء في (كشف القناع) : (وجوز الشيخ المصوغ بقيمته حالا وكذا نساء ما لم يقصد كونهما ثمنا، فإن قصد ذلك لم يجز للنساء) (2) وفي فتاواه نص على عدم الجواز؛ جاء في (مجموع الفتاوى) : (وإذا بيعت الفضة المصنوعة بفضة أكثر منها لأجل الصناعة لم يجز) (3) .
والمشهور عن شيخ الإسلام ما قدمناه. وما جاء في (مجموع الفتاوى) إما أنه قول ثان له، وإما أنه عرف من سؤال السائل أن أحدهما قصد أن يكون ثمنا؛ فلم يجزه بناء على القاعدة عنده.
وقد نسب إلى الإمام مالك (أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورِقه فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزنَ ورقه أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك فأرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه) (4) .
لكن الصحيح أن هذا ليس مذهبا للإمام مالك، ولم يقل به في مسألة الحلي. فليس فيه موافقة لرأي أصحاب القول الثاني.
__________
(1) 3/96؛ الاختيارات الفقهية ص126؛ إعلام الموقعين 2/135 وما بعدها
(2) 3/253؛ وانظر: الفروع 4/149؛ الإنصاف 5/14
(3) مجموع الفتاوى 29/464؛ مختصر الفتاوى ص324
(4) بداية المجتهد 2/196(9/97)
أما أنه ليس مذهبا، ولا قولا للإمام مالك؛ لأن قوله على خلاف؛ لأن أصحابه قد نفوه عنه؛ فقد قال رحمه الله: (ومن أتى إلى الصائغ بورقه ليعمل له خلخالا فوجد عنده خلخالا معمولا فراطله فيه بورقه وأعطاه أجرة عمل يده فلا خير فيه) (1) وقد أنكره فقهاء المالكية؛ قال القاضي عبد الوهاب في (شرح الرسالة) : (وحكى بعضهم عنا في هذا العصر أنه يجوز أن يستفضل بينهما قدر قيمة الصياغة، وهذا غلط علينا، وليس هذا بقول لنا، ولا لأحد على وجه، والدليل على منع ذلك عموم الظواهر التي قدمناها وليس فيها فرق بين المصوغ والمضروب، وصرح القاضي عبد الوهاب بأن زيادة قيمة الصنعة إنما لا تراعى إلا في الإتلاف دون المعاوضات) (2) .
قال السبكي: (فلا وجه لنصب الخلاف معهم وهم موافقون) (3) .
وقال ابن عبد البر: (رواها جماعة من أصحاب مالك عن مالك. وهي مسألة سوء منكرة، لا يقول بها أحد من فقهاء المسلمين، وقد روي عن مالك في غير مسألة ما يخالفه. قال مالك في الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجر الضرب ويأخذ منهم وزن ورقه مضروبة. قال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحوه فأرجو أن لا يكون به بأس. وقال سحنون: عن ابن القاسم: أراه خفيفا للمضطر ولذي الحاجة، قال ابن وهب: وذلك ربا ولا يحل شيء منه، وقال عيسى بن دينار: لا يصلح هذا ولا يعجبني) (4) .
وقال ابن رشد بعد أن أورد مسألة الضرب: (ولم يجز مالك ولا أحد من أصحابه شراء حلي الذهب والفضة بوزنه من الذهب والفضة وزيادة قدر الصياغة) (5) .
__________
(1) مواهب الجليل 4/137
(2) المجموع 10/79
(3) المجموع 10/79
(4) المجموع 10/80؛ وانظر: البيان والتحصيل 6/442 و443
(5) البيان والتحصيل 6/444(9/98)
وقال ابن رشد: (ونقل عن مالك رحمه الله أنه كان يعمل به في زمن بني أمية لأنها كانت سكة واحدة والتجار كثير والناس مجتازون، والأسواق متقاربة، فلو جلس كل واحد حتى يضرب ذهب صاحبه فاتت الأسواق، فلا أرى بذلك بأسا؛ فأما اليوم فإن الذهب يغش، وقد صار لكل مكان سكة تضرب، فلا أرى ذلك يصلح، وإلى هذا ذهب ابن المواز من رأيه أن ذلك لا يجوز اليوم لأن الضرورة ارتفعت، وقال سحنون: لا خير فيه، وإليه ذهب ابن حبيب، وحكى أنه سأل عن ذلك من لقي من المدنيين والمصريين فلم يرخصوا فيه علي حال) (1) .
وبعدما سبق فقد تحرر مذهب الإمام مالك رحمه الله؛ وهو في الحلي بيعه بمثله قولا واحدا. قال ابن حبيب: (وأما الصائغ فلا يجوز ذلك معه قولا واحد) . يؤيده ما نقلناه عن الإمام فيما سبق.
وشبهة من ظن أنه يقول به في الحلي أمران:
الأول: قياسهم بيع الحلي على الإتلاف؛ فإذا أتلف على إنسان ذهبا مصوغا فإنه يرد مثل الذهب، وقيمة الصنعة. قال القاضي عبد الوهاب: (إن زيادة قيمة الصنعة إنما لا تراعى إلا في الإتلاف دون المعاوضات) . (2) .
الثاني: مسألة ضرب السكة، ودفع الأجرة عليها، وفيها روايتان عن مالك، رواية الجواز مع الكراهة، وقيدها بالضرورة واحتج بضرورة الناس إلى الدراهم، وتعذر الصرف إلا في دار الضرب، مع حاجة الناس إلى الاستعجال، وانحفاز المسافر للمرور مع أصحابه وخوفه على نفسه في الانفراد، ويخاف إن غاب عنه ذهبوا أن لا يعطاه ويمطل به، والضرورة العامة تبيح المحظورات، وأما اليوم فقد صار الضرب بكل بلد واتسع الأمر فلا يجوز له (3) .
ومعلوم أن حالة الإتلاف غير حالة البيع، وأن مسألة ضرب السكة، والتي للضرورة لا يصح تجويز بيع الحلي بمثله وزيادة قيمة الصنعة عليها، لأن هذا للضرورة ولا ضرورة في بيع الحلي بمثله وزيادة أجرة الصنع.
__________
(1) البيان والتحصيل 6/ 443
(2) المجموع 10/79
(3) المنتقى 4/259(9/99)
المطلب الثالث:
أدلة الفريقين:
الفرع الأول – أدلة أصحاب المذهب الأول:
استدل الجمهور على وجوب التماثل في بيع الحلي، وعدم جواز أي زيادة لأجل الصنعة؛ بالكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.
أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
وجه الدلالة: أن الله حرم الربا، والربا هو الزيادة. ودليل التحريم عام، لم يفرق بين المصنوع وغيره.
وأما السنة: فقد استدلوا بأحاديث كثيرة منها ما يفيد وجوب التماثل بعمومه، ومنها ما هو نص في الموضوع.
فأما ما يفيد التماثل بعمومه فكثيرة نكتفي منها بما يأتي:
1- عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (1) .
2- عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) (2) .
3- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله قال: ((أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا)) (3) ((بعضه على بعض ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد)) (4) . وفي لفظ ((إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء)) .
وأما الأحاديث التي تعتبر نصا في الموضوع فنذكر منها ما يأتي:
4- عن أبي قلابة قال: ((كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث قال: قالوا: أبو الأشعث أبو الأشعث، فجلس فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت قال: نعم غزونا غزاة وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة فكان فيما آنية من فضة فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس فتسارع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت، فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى. فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعه منه، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية – أو قال وإن رغم – ما أبالي إلا أصحبه في جنده ليلة سوداء)) .
قال حماد: هذا أو نحوه (5) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 4/98؛ ورواه الجماعة إلا البخاري
(2) صحيح مسلم 4/100
(3) (ولا تشفوا بضم أوله وكسر الشين وتشديد الفاء أي تفضلوا، وهو رباعي من أشف، والشف بالكسر الزيادة وتطلق على النقص) فتح الباري 4/380. والشف يطلق على الزيادة وعلى النقصان، فهو من الأضداد. لسان العرب؛ مادة شفف
(4) صحيح مسلم 4/95، وانظر: صحيح البخاري بشرحه 4/379 و380
(5) رواه مسلم واللفظ له، صحيح مسلم بشرح النووي 4/97. رواه أبو داود، والترمذي، وليس فيه قصة معاوية، والنسائي والدارقطني والبيهقي. انظر جامع الأصول 1/462(9/100)
5- روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل ذلك إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه؛ لا أساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن (1) . قال أحمد شاكر: الحديث صحيح (2) .
قال ابن عبد البر: (ظاهر هذا الحديث الانقطاع؛ لأن عطاء لا أحفظ له سماعا من أبي الدرداء، وما أظنه سمع منه شيء؛ لأن أبا الدرداء توفي بالشام في خلافة عثمان لسنتين بقيتا من خلافته) (3) .
وقال: (هذه القصة لا يعرفها أهل العلم لأبي الدرداء إلا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، وأنكرها بعضهم؛ لأن شبيها بها عرضت لمعاوية مع عبادة، وهي صحيحة مشهورة محفوظة مع معاوية من وجوه وطرق شتى) (4) .
فابن عبد البر ذكر احتمال الانقطاع، واشتباه رواية أبي الدرداء برواية عبادة بن الصامت.
والجواب على هذا بالنسبة لدعوى الانقطاع:
أولا: لم يجزم ابن عبد البر بالحكم بالانقطاع. وبعد البحث تبين أن الحديث متصل؛ لأن أبا الدرداء توفي لسنتين من خلافة عثمان بن عفان، رضي الله عنه (5) ، وعثمان توفي سنة خمس وثلاثين، وسط أيام التشريق وهو الراجح (6) وقيل: سنة ستة وثلاثين (7) . فتكون وفاة أبي الدرداء هي سنة ثلاث وثلاثين أو أربع وثلاثين. وعطاء بن يسار توفي على الراجح من قول أهل العلم سنة ثلاث ومئة، وعمره أربع وثمانون سنة، وهو قول الواقدي، وعمرو بن علي، وجزم به ابن يونس في تاريخ مصر، وذكره ابن حبان في الثقات (8) . قال ابن حجر: (كان مولده سنة تسع عشرة، ومات سنة ثلاث ومائة) (9) .
__________
(1) الموطأ 2/492؛ الرسالة فقرة (15) ص73؛ منتقى الأخبار 4/261؛ المسند مع الفتح الراني 15/73؛ شرح الزرقاني على الموطأ 3/165
(2) من يعذرني قال في النهاية: (أي: من يقوم بعذري إن كافأته على سوء صنيعه فلا يلوموني) . نقلا عن أحمد شاكر؛ انظر الرسالة ص446
(3) التمهيد 4/71
(4) التمهيد 4/72 و75
(5) تهذيب التهذيب 8/176؛ التمهيد 4/71
(6) تهذيب التهذيب 7/141؛ الكامل لابن الأثير 3/90؛ اشهر مشاهير الإسلام لرفيق العظم ص758
(7) الكامل
(8) تهذيب الكمال 20/127؛ تهذيب التهذيب 7/218
(9) تهذيب التهذيب(9/101)
وبناء على ما ذكرناه من تاريخ وفاة أبي الدرداء، وتاريخ مولد عطاء؛ فإن سن عطاء عند وفاة أبي الدرداء أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة؛ وعلى هذا فإنه يكون معاصرا له، فلا يكون الحديث منقطعا.
يؤيده أن عطاء بن يسار لم يذكره خليل بن كيكلدي العلاء في المراسيل، ضمن كتابه جامع التحصيل في أحكام المراسيل، فلم يذكر أنه لم يسمع أو لم يدرك أبا الدرداء وكذلك ابن حجر، وقبله المزي في تهذيب الكمال، وفي تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف؛ حيث قال: عطاء بن يسار عن أبي الدرداء ولم يذكر أنه مرسل (1) ، كما أن البيهقي في السنن الكبرى روى هذه الرواية من طريق الشافعي (2) ، وكذلك في معرفة السنن والآثار (3) . وسكت عنه ولم يعلق كعادته في بيان المنقطع والمعلل من الأحاديث.
وقد ذكر ابن حجر أبا الدرداء ضمن من روى عنهم عطاء بن يسار (4) .
قال الزرقاني: (والإسناد صحيح وإن لم يرد من وجه آخر فهو من الأفراد الصحيحة) (5) .
ثانيا: يمكن أن يكون عطاء سمع من معاوية، ومعاوية ذكر الحادثة التي وقعت له مع أبي الدرداء؛ لأن معاوية توفي سنة ستين من الهجرة.
أما اشتباه رواية أبي الدرداء برواية عبادة فإن الجميع ممكن، لأنه عرض له ذلك مع عبادة، وأبي الدرداء (6) . وترجح عندي أن يكون هذا في وقعة واحدة أنكره عبادة على معاوية، كما أنكرها عليه أبو الدرداء، وكل منهما منفرد بفتواه وإجابته وإنكاره. ويمكن أن تكونا قضيتين في زمنين مختلفين؛ إحداهما وقعت لعبادة مع معاوية، والأخرى وقعت لأبي الدرداء مع معاوية أيضا. والله أعلم.
6- روى مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة فباعا كل ثلاثة بأربعة عينا، وكل أربعة بثلاثة عينا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربيتما فردا)) (7) وهو حديث مرسل (8) وقد روي هذا الحديث متصلا من طريق آخر. فقد أورده ابن عبد البر قال: ذكر يعقوب بن شيبة وسعد بن عبد الله بن الحكم، قالا: حدثنا قدامة بن محمد بن قدامة بن خشرم الأشجعي عن أبيه قال: حدثني مخرمة بن بكير عن أبيه قال: سمعت أبا كثير جلال مولى عبد الرحمن أو عبد العزيز بن مروان يقول: سمعت حنشا السبائي عن فضالة بن عبيد يقول: كنا يوم خيبر فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الغنائم سعد بن أبي وقاص، وسعد بن عبادة، فأرادوا أن يبيعوا الدينارين بالثلاثة، والثلاثة بالخمسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا، إلا مثلا بمثل)) (9) .
قال ابن عبد البر: (وهذا إسناد صحيح متصل حسن) (10) .
__________
(1) 28/227؛ حديث رقم 10954
(2) 5/280
(3) 8/39، حديث رقم 11042
(4) تهذيب التهذيب 7/218
(5) شرح الزرقاني على الموطأ 3/166
(6) التمهيد 4/83، شرح الزرقاني على الموطأ 3/166
(7) الموطأ 2/492، وانظر: المنتقى 4/275؛ جامع الأصول
(8) الموطأ
(9) التمهيد 24/106
(10) التمهيد 24/106(9/102)
7- روى مالك عن حميد بن قيس المكي عن مجاهد، أنه قال: (كنت مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل منذ ذلك قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله عن ذلك، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله ينهاه حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابة يريد أن يركبها ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا وعهدنا إليكم) (1) .
قال أحمد البنا: رواه مالك والشافعي في مسنده والبيهقي وسنده عندهم جيد (2) .
ورواه الإمام الشافعي في الرسالة عن ابن عمر أنه قال: (الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم) (3) .
قال أحمد شاكر: هذا حديث صحيح جدا (4) .
8- عن فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة (5) فيها خرز (6) وذهب، وهي من المغانم، تباع فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب في القلادة الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنا بوزن)) (7) .
9- عن أبي رافع قال: قلت لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه يا أمير المؤمنين إني أصوغ الذهب فأبيعه بالذهب بوزنه، وآخذ لعمله أجرا. فقال: (لا تبع الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن والفضة بالفضة إلا وزنا بوزن ولا تأخذ فضلا) (8) وهذا الأثر عند عبد الرزاق في سنده مجهول. لكن البيهقي ساقه بسند فيه تعديل على الإبهام، لذلك المجهول فقال: وأخبرني أبو الحسين بن بشران العدل ببغداد.
10- وروى أنس بن مالك قال: (أتى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بإناء خسرواني قد أحكمت صنعته فبعثني به لأبيعه، فأعطيت به وزنه وزيادة، فذكرت ذلك لعمر – رضي الله عنه – فقال: أما الزيادة فلا – وهذا الإناء من ذهب أو فضة) (9) .
وروى هذا الأثر ابن حزم من طريق سعيد بن منصور نا جرير بن عبد الحميد عن السماك بن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه: أن عمر أعطاه آنية خسروانية مجموعة بالذهب فقال عمر: اذهب فبعها واشترط رضانا، فباعها من يهودي بضعف وزنها، ثم أخبر عمر، فقال له عمر: اذهب فاردده، لا، إلا بزنته (10) .
__________
(1) الموطأ 2/492؛ مسند الإمام أحمد مع الفتح الرباني 15/73؛ التمهيد 2/242؛ السنن الكبرى للبيهقي 5/292
(2) بلوغ الأماني مع الفتح الرباني
(3) الرسالة تحقيق أحمد شاكر، فقرة (760) . وانظر: شرح مشكل الآثار 15/383
(4) الرسالة تحقيق أحمد شاكر، فقرة (760) . وانظر: شرح مشكل الآثار 15/ 383. استفضل: أي استبقى
(5) القلادة بكسر القاف وفتح اللام والدال: هي ما يجعل في العنق من حلي وغيره
(6) الخرز جمع خرزة، وهي حبات مثقوبة تصنع من أي نوع وتنظم في سلك يتزين بها
(7) صحيح مسلم بشرحه 4/101. سيأتي في المبحث اللاحق مزيد بسط لحديث القلادة، بالنسبة لتخريجه، وأقوال العلماء فيه، والإجابة على ذلك إن شاء الله
(8) مصنف عبد الرزاق 8/125؛ السنن الكبرى 5/292
(9) كنز العمال 4/188
(10) المحلى 9/252(9/103)
ومن المعلوم أن ابن حزم لا يحتج إلا بالصحيح. قال في مقدمة كتابه: (وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لم نحتج إلا بخبر صحيح من رواية الثقات) (1) .
وجه الدلالة من الأدلة السابقة:
فقد جاء حديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي هريرة بصيغة النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، وكذلك حديث عبادة جاء عاما في كل ذهب وفضة؛ حيث يدخل فيهما جميع أصنافهما من مضروب ومنقوش وجيد ورديء وصحيح ومكسور وحلي وتبر خالص ومغشوش. وليس في هذا الحديث ولا في غيره من الأحاديث ما يفيد تخصيص بيع الحلي من عموم النهي. فتكون الزيادة التي يقال: إنها في مقابل الصنعة حراما، والعقد فاسدا؛ لأنه منهي عنه، والنهي يفيد البطلان.
وأما حديثا عبادة، وأبي الدرداء فوجه الدلالة فيهما إنكارهما على معاوية بيعه آنية من فضة بأكثر من وزنها كما جاء مصرحا به في حديث أبي الدرداء، والآنية قد تغيرت بالصناعة من التبر أو من الدراهم المضروبة إلى الشكل الذي أصبحت به آنية تصلح للاستعمال فقد بين الصحابيان الجليلان الحكم وهو عدم جواز بيعها بأكثر من وزنها، ولم يجيزا أي زيادة مقابل العمل.
فتضمن الحديثان الشريفان الإنكار في الحالة الأولى، ثم بيان الحكم وهو الحرمة، وكيفية تصحيحه وهو أن يباع مثلا بمثل، ثم دعما قولهما بالدليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا بيان للحكم بدليله، ولم يلتفتا إلى قيمة الصنعة في الآنية المذكورة؛ حيث قال عبادة: ((إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) ، وقال أبو الدرداء: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا. فلما علم المسلمون الحكم امتثلوا وردوا ما أخذوا؛ تجنبا عن الوقوع في المحرم. وهذا دليل على أن هذا البيع باطل. وبعد أن حسا من معاوية رضي الله عنهم جميعا عدم تقبله لما ذكرا أعاد عبادة القصة وقال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كره معاوية، أو قال: وإن رغم. وقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، ثم جاء كتاب عمر إلى معاوية – رضي الله عنهما – مؤكدا عدم جواز التفاضل عند اتحاد الجنس سواء كان مصوغا أو غير مصوغ، وقد جاء ذلك بصيغة النهي (لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن) . وقول عبادة: لا أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء؛ وقول أبي الدرداء: لا أساكنك بأرض أنت فيها (يحتمل أن يكون القائل قد خاف على نفسه الفتنة لبقائه بأرض ينفذ فيها في العلم قول خلاف الحق عنده، وربما كان ذلك منه أنفة لمجاورة من رد عليه سنة علمها من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه، وقد تضيق صدور العلماء عند مثل هذا وهو عندهم عظيم: رد السنن بالرأي) (2) فدل على أن الزيادة في الذهب أو الفضة ربا لا فرق بين تبره ومضروبه ومصوغه وغير مصوغه.
__________
(1) المحلى 9/252
(2) التمهيد 4/86(9/104)
(وكان معاوية يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر من الذهب والفضة بالمضروب، ولا في المصوغ بالمضروب، (وقيل: إنما كان ذلك منه في المصوغ خاصة والله أعلم) حتى وقعت له (الحادثة التي ذكرناها مع عبادة) ؛ وقد سأل عن ذلك أبا سعيد بعد حين، فأخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم التفاضل في الفضة بالفضة والذهب بالذهب: تبرهما وعينهما، وتبر كل واحد منهما بعينه) (1) .
وإنما كان سؤاله أبا سعيد استثباتا؛ لأنه كان يعتقد أن النهي إنما ورد في العين، ولم يكن – والله أعلم – علم بالنهي حتى أعلمه غيره. وخفاء مثل هذا على مثله غير نكير؛ لأنه من علم الخاصة، وذلك موجود لغير واحد من الصحابة. ويحتمل أن يكون مذهبه، كان كمذهب ابن عباس؛ فقد كان ابن عباس – وهو بحر العلوم – لا يرى بالدرهم بالدرهمين يدا بيد بأسا حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد (2) .
ووجه الدلالة من حديث القلادة أنها نوع من الحلي، تتحلى بها النساء، وقد أبطل الرسول صلى الله عليه وسلم بيعها عندما بيعت بذهب، لعدم العلم بتساوي ذهب القلادة بالذهب الذي هو ثمنها؛ حيث إن اقتران قلادة الذهب بالخرز يؤدي إلى عدم العلم بوزن ذهبها. فأمر بفصل الخرز أولا، ثم تساوي الثمن والمثمن، دون التفات إلى قيمة الصناعة في القلادة المذكورة، ولو كانت صناعة الحلي يجوز أن تقابل بالزيادة، لما أبطل الرسول صلى الله عليه وسلم البيع المذكور؛ ولما أوجب التساوي، بل لا بد أن يبينه. لكنه أكد عدم جواز الزيادة التي منعها في الواقعة المذكورة بقوله: ((الذهب بالذهب وزنا بوزن)) . وقوله: الذهب، أي ذهب كان فهو شامل للحلي، لأنه جاء بيانا لحكم واقعة، هي بيع حلي بذهب. وهذه القضية نص في الموضوع لا تحتمل أي تأويل.
وحديث السعدين، عندما باعا الآنية بالزيادة قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: أربيتما فردا)) . وهذا يقتضي منع الزيادة في الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وفي الحلي وغيرها؛ لأن الضرب نوع من الصنعة.
وأمره صلى الله عليه وسلم برد البيع دليل على فساد العقد.
ووجه الدلالة من حديث عبد الله بن عمر مع الصائغ، نهيه رضي الله عنه الصائغ أن يأخذ فضلا على قدر عمل يده. ثم بين الحالة التي يكون البيع فيها صحيحا وهي الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما. فالفضل بينهما الذي سأل عنه الصائغ، ورغب في تجويزه؛ وذلك بتكرير المسألة؛ وتبيين تبريره، وهو أن يستفضل قدر عمل يده؛ بين له الحكم وهو النهي عنه. ثم بين له الحالة التي يكون بيع الحلي فيها صحيحا عند اتحاد الجنس، فقال: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم. ثم أكد الحكم بدليله؛ حيث قال: (هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم) . فدل على أن هذا القول ليس من ابن عمر وإنما استند في فتواه إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا له حكم المرفوع.
__________
(1) التبر: الذهب قبل أن يضرب. العين: الذهب إذا كان مضروبا
(2) التمهيد 4/73 و74(9/105)
وقوله فيه: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم إشارة إلى جنس الأصل لا إلى المضروب دون غيره بدليل إرسال ابن عمر الحديث على سؤال الصائغ له عن الذهب المصوغ.
ومثله قول عمر رضي الله عنه لأبي رافع حين سأله عن الفضل مقابل الصياغة فقال: لا تبع الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن، وأكد ذلك بقوله: ولا تأخذ فضلا. فدل على أن الفضل مقابل الصياغة لا يجوز.
المعقول:
1- الصفات لا تقابل بالزيادة؛ لذا فإن العوضين إذا تساويا في الوزن، لم يؤثر اختلافهما في القيمة، كالجيد والرديء، بل المعتبر التساوي في المعيار الشرعي من كيل أو وزن (1) .
2- ولأن اسم الذهب أو الفضة يتناول جميع أفراده جيده ورديئه، وتبره ومصوغه، صحيحه، ومكسوره، نافقه وغير نافقه، وغير ذلك، ومدار الحكم على ما يصدق عليه الاسم ولو اختلفت أنواع المسمى، وبناء عليه فلا اعتبار بما في الحلية والآنية من زيادة الصنعة، ولا يجوز أن تزيد قيمتها بسببها (2) .
3- ولأن صفة الوزن في النقدين منصوص عليها فلا يتغير بالصنعة ولا يخرج عن كونه موزونا (3) ؛ ولذا فإنه لا يجوز بيع الدراهم والدنانير بالسبائك متفاضلا.
الفرع الثاني – أدلة أصحاب المذهب الثاني:
استدل القائل بجواز الزيادة في مقابلة الصنعة بما يأتي:
1- الحاجة: فيجوز مبادلة حلي الذهب بذهب بالتفاضل، على أن يكون الفضل في مقابل صناعة الحلي، وهذا وإن كان محرما سدا للذريعة، إلا أن ربا الفضل يباح منه ما تدعو إليه الحاجة؛ كالعرايا، فقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعة وشرائه (4) .
2- دفع الحرج: (فإذا كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء ... ، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك، فالشريعة لا تأتي به، ولا تأتي بالمنع من ذلك، فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها البتة، بل يبيعها بجنس آخر، وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب، وإن قالوا: على راغب الحلية اللجوء إلى الاستصناع، قلنا هذا متعذر أو متعسر، وكثير منهم يلجأ إلى الحيل من ذلك، ونحن نرى أن الحيل باطلة في الشرع) (5) .
__________
(1) المغني 6/61؛ كشاف القناع 3/252
(2) المبسوط 14/11، الروض النضير 3/279
(3) فتح القدير 5/135؛ كشاف القناع 3/252
(4) إعلام الموقعين 2/135
(5) إعلام الموقعين 2/135(9/106)
3- الحلي سلعة تباع كما تباع سائر السلع؛ لأنها خرجت بالصنعة عن جنس النقدين، وصارت من جنس الثياب وسائر السلع، فجاز بيعها بجنسها تفاضلا، ونساء، ولا يدخلها إما أن تقضي 0وإما أن تربى، إلا كما يدخل سائر السلع (1) .
4- قياسها على قيمة الإتلاف: فالحلي إذا غصب وتلف عند الغاصب فإنه يضمنه بقيمته لا بوزنه؛ لأنه بالصناعة صار متقوما، فكما يجوز ضمانه بالقيمة يكون بيعه كذلك.
5- لا يجري الربا فيهما قياسا على عدم وجوب زكاتهما عند من يرى ذلك. فالنقدان من الذهب والفضة تجب فيهما الزكاة بلا خلاف، فإذا صار حليا لم تجب فيهما الزكاة عند جمهور العلماء. وهذا يعني أن الصناعة غيرت حكمهما الشرعي في الزكاة؛ وكذلك في الربا هما مالان ربويان، فإذا صارا حليا خرجا عن ربويتهما؛ لأنهما خرجا عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها: إما أن تقضي وإما أن تربى، إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل، ولا ريب أن هذا قد يقع فيها، لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين وتضروا بذلك غاية الضرر (2) .
6- لا يعرف عن واحد من الصحابة أنه نهي عن بيع الحلي إلا بغير جنسه، وإلا بوزنه، والمنقول عنهم إنما هو في الأثمان، لا في الحلي. والناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية، وكانوا يبيعونها، ومعلوم قطعا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه (3) .
7- قياسه على الإجارة: فالزيادة التي تقابل قيمة الصنعة تعتبر بمثابة الإجارة على العمل (لأن المعاوضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها، إذ لا فرق بينهما في ذلك؛ فالشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بع هذا المصوغ بوزنه واخسر صياغتك. ولا يقول له: لا تعمل هذه الصياغة واتركها. ولا يقول له: تحيل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل. ولم يقل لا تبعه إلا بغير جنسه، ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئا من الأشياء بجنسه) (4) .
8- (إذا كان أرباب الحيل يجوزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسا، ويقولون: الخمسة في مقابلة الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة؟ وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلا ورحمة وجلالة بإباحة هذا وتحريم ذلك؟ وهل هذا إلا عكس للعقول والفطر والمصلحة) (5) .
__________
(1) إعلام الموقعين 2/136
(2) إعلام الموقعين 2/136
(3) إعلام الموقعين 2/137
(4) إعلام الموقعين ص139
(5) إعلام الموقعين ص139(9/107)
المطلب الرابع
مناقشة الأدلة
الفرع الأول – مناقشة أدلة الفريق الأول:
1- نوقش الاستدلال بالآية الكريمة، وبالأحاديث الدالة على عدم جواز التفاضل، ومنها حديث أبي سعيد الخدري؛ (بأنه ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ولا ينكر تخصيص العام، وتقييد المطلق بالقياس الجلي) (1) .
سنجيب هنا على القول بأن الأحاديث ليس فيها ما هو صريح في المنع.
وأما مسألة تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي فسوف نعرض لها عند مناقشة أدلة الفريق الثاني.
والقول بأنه لم يرد فيه شيء يمنعه بخصوصه غير مسلم. فحديث عبادة في آنية الفضة بعد أن بين الحكم قال: ((إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... إلا سواء بسواء ... )) الحديث. فطبق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الواقعة.
وجاء في حديث أبي الدرداء ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا)) وجاء في حديث عبد الله بن عمر مع الصائغ ((هذا عهد نبينا وعهدنا إليكم)) فهذا له حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه كلها أحاديث صحيحة؛ كما بيناه فيما سبق.
وحديث القلادة واقعة عين في نوع من حلي النساء، أبطل الرسول صلى الله عليه وسلم بيعه لاجتماع الذهب بالخرز مما يؤدي إلى عدم العلم بالتساوي، فأوجب الفصل، ثم المساواة بين ذهب القلادة – وهو مصنوع – وبين الذهب الذي هو ثمنها. فقال: (الذهب بالذهب وزنا بوزن) فهذه قضية عين لا تحتمل التأويل.
وحديث السعدين الذي رواه الإمام مالك في الموطأ حيث أمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعا آنية من ذهب أو فضة فباعا كل ثلاثة بأربعة عينا وكل أربعة بثلاثة عينا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربيتما فردا)) .
فهذه الأحاديث كلها نصوص صريحة في المنع من بيع الحلي والأواني بأكثر من وزنها.
__________
(1) إعلام الموقعين ص139(9/108)
2- فإن قيل: إن النصوص الواردة بخصوص منع بيع الحلي بزيادة هي أقوال للصحابة وهي آراء لهم، وليس فيها نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا حديث يحيى بن سعيد، وهو مرسل.
3- أجيب عليه بأن حديث النهي عن بيع القلادة إلا بالتساوي هو نص من الرسول صلى الله عليه وسلم. والأحاديث الأخرى التي أوردها الصحابة- رضوان الله عليهم- ليست آراء لهم، وإنما هي مرفوعة، أو في حكم المرفوع؛ لأن أبا قتادة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، ويقول ابن عمر: (هذا عهد نبينا إلينا، وعهدنا إليكم) . وأكد عبادة بن الصامت فتواه، بقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهو في حكم المرفوع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي؛ ولأنه – استشهد – في جوابه للصائغ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا تبع الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن، والفضة بالفضة إلا وزنا بوزن)) .
والقول في حديث يحيى بن سعيد أنه مرسل، صحيح؛ لكنه جاء من طريق آخر بسند صحيح متصل، كما نقلناه عن ابن عبد البر. علما أن الحديث المرسل حجة عند الفقهاء، ولا يحد من العمل به إلا الإمام الشافعي.
4- إن ما أنكره عبادة على معاوية لم يكون إلا لأنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، لا لأنه ربا؛ لأنه كان متعلقا بآنية من فضة، واتخاذ الأواني من الذهب والفضة حرام.
والجواب على هذا: نعم إنها آنية من فضة، لكن عبادة رضي الله عنه لم ينه عن البيع لأنها آنية؛ وإنما نهى عن البيع لعدم التماثل؛ لأنه واضح من سياق الحديث والخلاف مع معاوية، أن الأمر متعلق بأحكام ربا الفضل؛ يؤيده ما جاء في الحديث إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى.
وأما بيع الآنية فجاز لأنها من المغانم، ويمكن الاستفادة منها في غير الاستعمال كإناء؛ وذلك مثل تحويلها إلى دراهم، أو حلي، أو غير ذلك.(9/109)
وأما استدلالهم بالمعقول فنوقش بما يأتي:
1- (الفرق بين الصنعة التي هي أثر فعل الآدمي، وتقابل بالأثمان، ويستحق عليها الأجرة، وبين الصفة التي هي مخلوقة لله لا أثر للعبد فيها، ولا هي من صنعته، فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة؛ إذ ذلك يفضي إلى نقض ما شرعه من المنع من التفاضل، فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر ... وهذا بخلاف الصياغة التي جوز لهم المعاوضة عليها معه) (1) .
والجواب على هذا: أين النص الذي جوز به الشارع من كتاب أو سنة معاوضة الحلي بجنسه مع زيادة تقابل الصنعة؟
بل إن النصوص صريحة بمنع مقابلة الصناعة بالزيادة.
والقول بأن التفاوت في صفات الجودة والرداء ظاهر، يقال: إن التفاوت بين المصوغ وغير المصوغ أظهر. وإنما منع من مقابلتها بالزيادة للتجانس فقط؛ وهذا متحقق في الزيادة الصناعية كما هو في الزيادة الطبيعية.
ولو جازت الزيادة مقابل الصنعة في الحلي، لجازت في بقية الربويات كالبر بدقيقه، لكنها لم تجز؛ لأنه يشترط التساوي، وهو متعذر. (2) .
(2) وأما أن اسم الذهب يتناول جميع أفراده، فنوقش بأن الحلية المباحة صارت في الصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان.
والجواب: أن هذا القول لا يسنده أي نص، بل إن النصوص تعارضه، كما بيناه في الأدلة (3) .
__________
(1) إعلام الموقعين 2/139
(2) الكشاف 3/256
(3) والقول: بأن الحلية بالصنعة صارت سلعة، سوف نناقشه – إن شاء الله – في مبحث مناقشة أدلة الفريق الثاني(9/110)
الفرع الثاني – مناقشة أدلة الفريق الثاني:
1- قولهم: لا ينكر تخصيص العام، وتقييد المطلق بالقياس الجلي، يجاب عليه بما يأتي:
أولا: إنما يستعمل القياس إذا عدم النص، إما إذا وجد النص فإنه لا يسوغ الاجتهاد؛ قال الإمام الشافعي رحمه الله: (لا يحل القياس والخبر موجود، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارة إذا وجد الماء) (1) .
والنصوص – كما قدمنا – متوافرة على النهي عن بيع الحلي بأكثر من وزنه.
ثانيا: قاعدة تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، مسلمة، وإن كان فيها خلاف عند علماء الفقه والأصول (2) . ومع التسليم بالقاعدة فهي غير منطبقة على الدعوى، لما يأتي:
أ - لأن القياس على العرايا لا يصح؛ حيث إن تجويزها ورد استثناء بنص خاص، وهو ما يعبر عنه بما جاء على خلاف القياس. فقد اشترط جمهور الفقهاء والأصوليين في حكم الأصل ألا يكون معدولا به عن سنن القياس (3) .
عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك. متفق عليه (4) . فقوله: ولم يرخص في غير ذلك دليل على قصر الرخصة على هذا النوع من البيوع. كما يدل – أيضا – على قصر الرخصة في العرايا نهيه صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة (5) .
وقوله: (أنه رخص) نص على أن العرايا رخصة. وقوله: (بعد ذلك) أي بعد النهي عن بيع التمر بالتمر. قوله: (بالرطب أو بالتمر) (أو) محتملة أن تكون للتخيير، وأن تكون للشك، وأخرجه النسائي والطبراني من طريق صالح بن كيسان، والبيهقي من طريق الأوزاعي، كلاهما عن الزهري بلفظ: (بالرطب وبالتمر) ولم يرخص في غير ذلك. هكذا ذكره بالواو، وهذا يؤيد كون (أو) بمعنى التخيير لا الشك، بخلاف ما جزم به النووي (6) .
__________
(1) الرسالة ص599، فقرة (1817) ؛ وانظر: البحر المحيط 5/33؛ المغني 6/120؛ إعلام الموقعين 2/279
(2) أصول السرخسي 1/141؛ كشف الأسرار 1/294؛ شرح تنقيح الفصول ص203، جمع الجوامع 2/ 30؛ المستصفى 2/ 122 و123؛ الإحكام للآمدي 2/313؛ المسودة ص119 و120، شرح الكوكب المنير 3/379؛ مختصر البعلي ص124
(3) شرح العضد لمختصر المنتهى 2/211؛ حاشية سعد الدين التفتازاني مع شرح العضد
(4) صحيح مسلم بشرحه 4/30؛ وانظر: صحيح البخاري بشرحه 4/384؛ منتقى الأخبار بشرحه 5/200
(5) حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقترض بفوائد؛ بحث للدكتور صالح المروزقي؛ نشر مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ص99 و100
(6) فتح الباري 4/385(9/111)
ب - أن هذا ليس قياسا جليا؛ لأنه لا يتفق مع تعريف القياس الجلي. حيث عرف بأنه: (ما عرفت علته بنص، أو إجماع) (1) .
وعرفه بعض العلماء بأنه: (ما كانت العلة فيه منصوصة، أو غير منصوصة؛ غير أن الفارق بين الأصل والفرع مقطوع بنفي تأثيره) (2) .
وقد قسم الغزالي، وابن قدامة المقطوع بنفي تأثيره إلى مرتبتين:
إحداهما: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به؛ كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فإنه أفهم تحريم الضرب والشتم، وكنهيه صلى الله عليه وسلم عن الضحية بالعوراء والعرجاء فإنه أفهم المنع من العمياء ومقطوعة الرجلين. (3) .
المرتبة الثانية: ما يكون المسكوت عنه مثل المنطوق به، ولا يكون أولى منه ولا هو دونه، فيقال: إنه في معنى الأصل. (4) كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق. كما في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أعتق شركا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)) (5) . أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد.
وكثير من علماء الأصول، لا يرون تسميته بالقياس الجلي، بل يقولون: إنه من باب دلالة النص؛ لأن هذا معنى يستوي في فهمه الفقيه وغير الفقيه (6) .
والظاهر أن مراد ابن القيم – رحمه الله – بالقياس الجلي لا يخرج عن التعريفات السابقة؛ لأنه قسم القياس إلى صحيح وفاسد، وقل في معرض بيان أوجه خطأ نفاة القياس: (أحدها: رد القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التعميم باللفظ؛ مثل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] نهى عن كل رجس) (7) .
__________
(1) البحر المحيط 5/36؛ شرح مختصر الروضة 3/223
(2) الإحكام 4/3؛ وانظر: شرح العضد 2/247؛ الكوكب المنير 4/207؛ تيسير التحرير 4/76؛ المحصول 5/121؛ التقرير والتحبير 3/221؛ حاشية البناني على شرح المحلي 2/29؛ مختصر البعلي ص150
(3) المستصفى 2/281؛ روضة الناظر 3/833، البرهان: 2/877
(4) المصادر السابقة؛ وانظر: الرسالة، للإمام الشافعي فقرة (1334) ص479؛ المسودة ص374؛ إعلام الموقعين 1/299
(5) صحيح البخاري بشرحه 5/151
(6) البرهان 1/449، 2/878؛ أصول السرخسي 1/241؛ المستصفى 2/281 وما بعدها؛ روضة الناظر 3/833؛ الحرمين للطباعة، القاهرة، سنة 1413هـ - 1993م
(7) إعلام الموقعين 1/377(9/112)
الثاني: (تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دل عليه النص، ولم يفهموا دلالته عليه، وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه، وتنبيهه، وإشارته، وعرفه عند المخاطبين، فلم يفهموا من قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ضربا، ولا سبًّا، ولا إهانة غير لفظة أف، فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان) (1) .
وقال – بصدد إنكاره على من قال: إن القياس كله باطل-: (وأنكروا القياس الجلي الظاهر، حتى فرقوا بين المتماثلين) (2) .
وقال بصدد تناقض القياسيين: (وتركهم لما هو نظيره من كل وجه، أو أولى منه) (3) .
فتبين من التعاريف التي ذكرناه، والتقسيمات التي نقلناها عن علماء الأصول، ومنهم ابن القيم أن قياس بيع الحلي بجنسه متفاضلا في الجواز على العرايا بعلة الحاجة ليس قياسا جليا؛ لأنه لا يساويه، فضلا عن أن يكون أولى منه، ولأن العلة ليس منصوصا عليها، ولا مجمعا عليها، وأين هذا من قياس الضرب على التأفيف، أو الأمة على العبد في سراية الحرية؟ بل إن الرخصة هنا منصوص على قصرها – كما سبق في بيانه في الحديث الشريف – فحكم الأصل قاصر عليه، فلا يقاس عليه غيره.
ثالثا: وأما مسألة تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي:
أ - فإضافة إلى الأحاديث العامة أوردنا أحاديث خاصة صحيحة ناصة على المنع من الزيادة في بيع حلي الذهب والفضة بجنسه. ومن هنا فليس هناك مجال للقول بتخصيص العموم في هذا الموضوع.
ب - لم يثبت القياس الجلي- كما سبق بيانه – حتى يمكن التخصيص به.
2- قال ابن القيم رحمه الله: (إن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به حلي الفضة، أو فضة يشترون بها حلي الذهب، وأن البائع لا يسمح ببيعه ببر أو شعير أو ثياب، والاستصناع متعذر أو متعسر) (4) . وهكذا سد كل الأبواب إلا بابا واحدا هو المطلوب إثبات جوازه. ولكنا لا نسلم وجود الحاجة؛ لأنه يمكن لمشتري الحلي من الذهب أن يشتريها بغير جنسها؛ كالفضة، أو الأوراق النقدية المتداولة اليوم، أو أي عملة يستقر عرف المجتمع في هذا العصر أو في العصور القادمة على أنه نقود، أو بعروض التجارة؛ كالعقار، والمنقول.
__________
(1) إعلام الموقعين 1/377
(2) إعلام الموقعين 1/373
(3) إعلام الموقعين 1/368
(4) إعلام الموقعين 2/136(9/113)
ولو قيل بها في شراء الحلي، لقيل بها في شراء الطعام؛ كالبر، والتمر، ونحوهما؛ إذ الحاجة إلى الطعام أشد من الحاجة إلى الحلي؛ لأن الطعام ضروري لحياة الإنسان، بخلاف الحلي. ولأنه يحتاجه جميع الناس ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا. أما الحلي فلا يستعمله إلا النساء؛ لذا فإن القول بأن الحاجة إلى بيع المصوغ وشرائه أشد من الحاجة إلى شراء الرطب بالتمر غير مسلم؛ لما بيناه.
والقول بأن العاقل لا يبيع هذه من جنسها بوزنها، فإنه سفه، وإضاعة للصنعة.
يجاب عليه بأنكم توافقون على أنه لا يجوز بيع المضروب بالتبر إلا متماثلا، وحالًّا، مع أن الضرب نوع من الصنعة، وفيه زيادة عمل. فكيف صار إهدار الصنعة في الحلي سفهًا وفي المضروب رشدًا؟ ثم إن الشارع وضع قاعدة عامة في أموال الربا؛ وهي التساوي، والحلول، عند استواء الجنس، ولم يستثن شيئا منها، إلا العرايا بنص خاص، وتضمن النص قصر الرخصة عليها، فلا تجوز تعديته إلى غيرها، كما بيناه فيما سبق. فمن أين يأتي استثناء للحلي لم يذكره الشارع؟ بل ذكر منعه؛ كما في النصوص التي سبق ذكرها.
وأما القول بأن الشريعة لم تلزم الناس بأن يبيعوا ذلك بغير جنسه فغير مسلم؛ فقد ألزمت الناس أن يبيعوها بغير جنسها إذا أرادوا الفضل. يدل عليه الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال: أَكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: ((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) . وهذا لفظ البخاري (1) .
3-القول بأن الحلي بالصنعة صارت سلعة كسائر السلع، لا من جنس الأثمان؛ فتجوز مبادلتها بجنسها تفاضلا، ونساء؛ ترده النصوص التي استبدل بها المانعون؛ ولأن الشارع منع الزيادة ولم يقم اعتبارا للجودة أو الصناعة؛ بدليل حديث ((إنا لنأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) . فألغى رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبار الجودة، وأوجب المساواة؛ بدليل أنه لو اختلف الجنس، كذهب بفضة أو فضة بذهب، لجازت الزيادة، مع أن كلا منهما ليس سلعة؛ فسبب المنع من الزيادة اتحاد الجنس، فإذا اتحد الجنس في أموال الربا يجب التساوي، ويحرم التفاضل، حتى لو كان أحدهما سلعة. ولأن طحن الحب زيادة صنعه، ومع ذلك فلا يجوز بيع الدقيق بالحب لتعذر التساوي، جاء في المحرر لمجد الدين ابن تيمية – جد شيخ الإسلام – (ولا يجوز بيع حب بدقيقه أو سويقه) (2) .
__________
(1) صحيح البخاري بشرحه 4/399؛ صحيح مسلم بشرحه 4/105؛ جامع العلوم والحكم ص76
(2) 1/320(9/114)
4- قياس الصناعة على الإتلاف في وجوب الزيادة ممنوع؛ لأن إمكانية إعمال القياس هو فيما لا نص فيه مع اتحاد العلة في المقيس والمقيس عليه، أما وقد وردت نصوص صحيحة، صريحة في منع الزيادة مقابل الصنعة فلا مجال للقول بإعمال القياس هنا، مع أنه لا توجد علة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه ففي حالة ضمان المتلف صورة البيع منتفية تماما، لأن الإتلاف لا يتم برضا الطرفين المتلف، وصاحب الحلية المتلفة، كما هو في البيع، كما أنه تضمين الغاصب ليس من قبيل البيع، بل من قبيل تضمين المعتدي (1) . (لأنه لا يمتنع أن يجري التفاضل في قيمة المتلف ولا يجري في البيع، ألا ترى أنه لو أراد أن يبيع درهما صحيحا بأكثر من درهم مكسر لم يجز؟ ولو أتلف على رجل درهما صحيحا ولم يوجد له مثل فإنه يقوم بالمكسر، وإن بلغت قيمته أكثر من درهم، ولا يكون ربا، فدل على الفرق بين البيع والإتلاف. ولأن الإتلاف قد يضمن به ما لا يضمن بالبيع. ألا ترى أن من أتلف أم ولد لزمته قيمتها، ولو باعها لم تصح ولم تجب عليه قيمتها، فدل على الفرق بالضمانين وبطل اعتبار أحدهما بالآخر) (2)
5- والقول بعدم جريان الربا في الحلي قياسا على عدم وجوب الزكاة فيها مردود؛ لأنه ليس هناك علاقة ولا موافقة بين الربا والزكاة، لا من حيث الأموال، ولا من حيث الأحكام، وبالتالي فإنه لا مانع من أن يكون الحلي ربويا؛ ولا يكون زكويا.
ثم إن عدم وجوب الزكاة فيها ليس لكونها بالصناعة خرجت عن جنس الأثمان، بل لأن من شروط الزكاة أن يكون ملك النصاب خاليا من الحوائج الأصلية، والحلية تعتبر من الحاجات الأصلية للنساء. وعدم وجوب الزكاة دلت عليه النصوص الشرعية، أما عدم اعتبار الربا في الحلي فقد عارضته النصوص.
قال أبو عبيد: (ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سن في الذهب والفضة سنتين: إحداهما في البيوع، والأخرى في الصدقة.
فسنته في البيوع قوله: ((الفضة بالفضة مثلا بمثل)) فكان لفظة (بالفضة) مستوعبا لكل ما كان من جنسها، مصوغا وغير مصوغ. فاستوت في المبايعة: ورقها وحليها ونقرها. وكذلك قوله: ((الذهب بالذهب مثلا بمثل)) فاستوت فيه دنانيره، وحليه وتبره.
وأما سنته في الصدقة فقوله: ((إذا بلغت الرقة خمس أواقي ففيها ربع العشر)) فخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة الرقة من بين الفضة وأعرض عن ذكر سواها، فلم يقل: إذا بلغت الفضة كذا ولكنه اشترط الرقة من بينها) (3) .
__________
(1) أحكام عقد الصرف ص458
(2) المجموع 10/82
(3) الأموال لأبي عبيد ص401(9/115)
قال أبو عبيد: (ولا نعلم هذا الاسم في الكلام المعقول عند العرب يقع إلا على الورق المنقوشة ذات السكة السائرة في الناس. وكذلك الأواقي ليس معناها إلا الدراهم كل أوقية أربعون درهما) (1) .
وفي الصحاح: (الورق الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة) (2) .
وفي لسان العرب: (الرقة في الحديث يريد الفضة والدراهم المضروبة منها) (3) .
6-والقول بأنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن تباع إلا بغير جنسها، أو بوزنها، مردود بالأحاديث التي استدل بها أصحاب المذهب الأول، فقد رووا النهي عن عمر، وابنه، وعبادة، وأبي الدرداء، ويحيى بن سعيد، ومجاهد وأنس بن مالك،، وأبي رافع.
والقول بأن الناس يبيعونها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنهم لا يبيعونها بوزنها قطعا فإنه سفه، يجاب بأنه يمكنهم بيعها بخلاف جنسها، أو بعروض التجارة.
5- والقول بعدم جريان الربا في الحلي قياسا على الإجارة غير مسلم؛ لأن الإجارة وإن كانت بيعا للمنافع، إلا أن الأجرة من طرف، والعمل من طرف آخر، وهذا غير متحقق في حالة بيع الحلي؛ لأن المشتري لا يعقد عقد إجارة، ولأنه لا يلزم من جواز الأجرة – منفردا – على صياغة الذهب مستقلة عن الحلي المصوغ، جواز اعتبارها مضمومة مع القيمة (فقد ظهر بالاستقراء من الشرع أن للاجتماع تأثيرا في الأحكام لا يكون حالة الانفراد. ويستوي في ذلك الاجتماع بين مأمور ومنهي مع الاجتماع بين مأمورين، أو منهيين، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف، وكل واحد منهما لو انفرد جاز، ونهى الله عن الجمع بين الأختين في النكاح مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها. وفي الحديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وقال ((إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)) . ومنها: النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، ونهى عن جمع المفترق وتفريق المجتمع خشية الصدقة. ونهى عن الخليطين في الأشربة؛ لأن لاجتماعهما تأثيرا في تعجيل الإسكار) (4) .
فدلت هذه الأمثلة وغيرها كثير – بنصوص الشريعة – أن للاجتماع تأثيرا في الحكم ليس للانفراد حلا أو حرمة.
8-الحيل التي ذكرها ابن القيم وحكم ببطلانها، نوافقه على أنها باطلة. لكنا لا نوافقه في تصحيح بيع الحلي بأكثر من وزنه مع اتحاد الجنس استنادا إلى تجويز من جوز تلك الحيل؛ لأن ما كان غير صحيح في نفسه لا يمكن تصحيح غيره عليه. قال تعالىلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] .
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص401؛ وانظر: الأموال لابن زنجويه 3/986، وانظر: الصحاح، مادة: ورق؛ الذخيرة 3/12
(2) مادة ورق. وانظر: تحقيق أحمد شاكر على مسند الإمام أحمد 2/92، حديث رقم 710؛ المغني 4/221
(3) مادة ورق. وانظر: تحقيق أحمد شاكر على مسند الإمام أحمد 2/92، حديث رقم 710؛ المغني 4/221
(4) الموافقات 3/111، وانظر: مجلة البحوث الفقهية، عدد 21 ص117(9/116)
الترجيح:
بعد عرض أدلة الفريقين ومناقشتها ترجح لي عدم جواز بيع حلي الذهب أو الفضة؛ عند اتحاد الجنس بأكثر من وزنه، وأنه لا يجوز بيع الشيء بالشيء من جنسه نسيئة؛ وذلك لضعف أدلة الفريق الثاني – المجيزين - وقوة أدلة الفريق الأول – المانعين؛ لأن أدلة الفريق الثاني لا تستند إلى نص من قرآن أو سنة، ولا إلى إجماع، ولا إلى قياس صحيح، وكل الأقيسة والتعليلات التي ذكروها تبين من خلال المناقشة ردها لعدم سلامتها.
وأما أدلة الفريق الأول: فمنها ما هو عام يشمل بعمومه كل ذهب وفضة، ويدخل في عمومها المصوغ وغيره، ولم يرد ما يخصص عمومها، ودعوى تخصيصها بالقياس الجلي، لم تثبت؛ لأنه لا يصح القياس مع النص؛ ولأنه لم يتحقق القياس الجلي لعدم وجود علة منصوص عليها أو مجمع عليها. ولم يصح القياس على العرايا؛ لأنها جاءت على خلاف القياس؛ ولأن من أدلة العرايا ما تضمن النص على أنه صلى الله عليه وسلم (لم يرخص في غيرها) متفق عليه، فدل على قصر الرخصة عليها، وعم تعديته إلى غيرها.
ومنها ما هو نص في الموضوع، ومعظمها أحاديث صحيحة، وما لم تبلغ درجة الصحة فهو صالح للاحتجاج بنفسه، وقد تقوى بغيره. فوجب الرجوع إلى الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] .(9/117)
المبحث السادس
شراء الحلي أو شراء الحلي بثمن الحلي المبيع
شراء حلي الذهب بحلي من الذهب، أو حلي الفضة بحلي من الفضة، أو حلي أحدهما بثمن جنسه له أربع صور، نعرضها في المطالب التالية:
المطلب الأول
شراء الحلي الجديد بالقديم
وصورته: أن يقدم إنسان ذهبه، أو فضته إلى صاحب متجر الحلي، سواء كان ذهبه قديما وهو الغالب، أو جديدا، ويطلب منه أن يعطيه مقابله حليا جديدا، فيزن الحلي القديم فإذا كان وزنه سبعين جراما مثلا أعطاه مقابله ستين جراما.
هذه الصورة حرام؛ لا تجوز شرعا، لعدم التماثل، وقد قال بهذا جميع الفقهاء (1) . وصدر فيها قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة (2) وقرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية (3) لحديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا)) (4) ((بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) (5) . متفق عليه، وغيره من الأحاديث.
__________
(1) انظر المراجع في المذهب الأول، والثاني، من المبحث الأول. ومن الجدير بالذكر أن كلام شيخ الإسلام وابن القيم مقتصر على بيع الحلي بجنسه، ولم يذكرا بيع الحلي بالحلي؛ لأن الزيادة التي أجازاها في مقابلة الصنعة، والحلي بالحلي في كل منهما صنعة، يؤيده قولهما ما لم يكن أحدهما ثمنا. وفي حالة شراء الجديد بالقديم يكون القديم ثمنا.
(2) فقرة (أ) من أولا، من قرار رقم 88/1/د9
(3) فقرة (1) من القرار رقم 168 وتاريخ 4/3/1411هـ
(4) ولا تشفوا: بضم أوله وكسر الشين أي: تفضلوا. والشف بالكسر الزيادة، ويطلق على النقص. الفتح 4/380
(5) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 4/379 و380؛ صحيح مسلم بشرحه 4/96(9/118)
المطلب الثاني
شراء الحلي بثمن الحلي المبيع
اعتاد أكثر الناس، وخاصة النساء، بيع الحلي القديم، وأخذ حلي جديد بدلا منه، فيسألون صاحب متجر الحلي عن سعر الجرام في حالة بيعه، وفي حالة شرائه، فيجيبهم أنه يبيع الجرام بخمسين ريالا، ويشتري بخمسة وأربعين ريالا. فيطلبون منه أن يزن الذهب الذي يرغبونه، فإذا عرفت قيمته أنها ثمانون ألف ريال مثلا، ووزن ذهبهم القديم فبلغت قيمته سبعين ألفا، أجرى المقاصة بين المبلغين، ودفع المشتري العشرة آلاف الباقية.
هذه المسألة وإن لم أجد لها تصويرا عند الفقهاء على هذا النحو. إلا أنه ينخرج لهم فيها قولان بناء على أقوالهم فيما يماثلها، وفي الاستبدال عن ثمن الصرف.
القول الأول: يتخرج الحكم فيها بالجواز على قول الإمام مالك، والأصح من مذهب الحنفية (1) .
جاء في المدونة: (قلت: أرأيت إن صرفت دينارا بعشرين درهما فأخذت منه عشرة دراهم وأخذت بعشرة منها سلعة، قال مالك: لا بأس بذلك. وكذلك لو صرفت دينارا بدرهم فلم أقبض الدراهم حتى أخذت بها سلعة من السلع قال مالك: لا بأس بذلك) (2) .
وقال السرخسي في كتاب الصرف: (والاستبدال بالثمن قبل القبض جائز بخلاف المبيع) (3) .
وقال صاحب الهداية: (ومن كان له على آخر عشرة دراهم فباعه الذي عليه العشرة دينارا بعشرة دراهم ودفع الدينار وتقاصا العشرة بالعشرة فهو جائز، ومعنى المسألة إذا باع بعشرة مطلقة) (4) . (وهذا إذا كان الدين سابقا، فإن كان لاحقا فكذلك في أصح الروايتين) (5) .
(وإن كان مقارنا فإما أن يتقابضا أولا، فإن لم يتقابضا لم تقع المقاصة ما لم يتفقا عليها جميعا) (6) .
__________
(1) المدونة 3/411؛ المبسوط 14/2؛ الهداية؛ وفتح القدير 7/ 149، 150، 151؛ رد المحتار 4/29؛ تبيين الحقائق 4/140
(2) 3/411؛ وانظر الخرشي علي خليل 5/ 234؛ الزرقاني علي خليل 20/10؛ الاستذكار 20/ 10؛ مواهب الجليل 5/234
(3) المبسوط 14/2
(4) الهداية وفتح القدير 5/149- 151؛ وانظر: تبيين الحقائق 4/140؛ رد المحتار 4/239
(5) الهداية وفتح القدير 5/149 – 151؛ وانظر: تبيين الحقائق 4/ 140؛ رد المحتار 4/239
(6) فتح القدير 7/149(9/119)
ووجه الجواز أن هذا عقد صرف، وفي الصرف يشترط قبض أحد العوضين احترازا عن الكالئ بالكالئ، ويشترط قبض الآخر للاحتراز عن ربا النسيئة، ولا ربا في دين يسقط وإنما هو في دين يقع الخطر في عاقبته؛ فجاز الاستبدال، ووقعت المقاصة استحسانا، والقياس ينفيه، وبه قال زفر رحمه الله، لأنه تصرف في بدل الصرف قبل قبضه، ووجه الاستحسان أنه بالتقابض انفسخ العقد الأول، وانعقد صرف آخر مضاف إلى الدين (1)
واستدل أصحاب هذا القول بحديث ابن عمر – رضي الله عنهما – (قلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، وآخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (2) .
قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافق الذهبي وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
القول الثاني: عدم جواز ذلك وهو مذهب الشافعية والحنابلة (3) .
وممن اطلعنا على قول له بالمنع من الفقهاء المعاصرين الشيخ محمد بن صالح العثيمين (4) . واستدل أصحاب هذه القول بأدلة عقلية، هي ما يأتي:
1- لو استبدل عن ثمن الصرف لم يحصل مدلول قوله صلى الله عليه وسلم: ((عينا بعين)) (5) . لا عند العقد، ولا في المجلس.
2- إن الثمن في الصرف غير مستقر؛ لأنه يعرض له البطلان بالتفرق قبل قبضه بخلاف الثمن في غير الصرف (6) .
3- لا يصح تصرفه قبل قبضه؛ لأنه لم يتم الملك فيه، أشبه التصرف في ملك غيره.
4- إذا باع ربويا حالا واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة فإنه ذريعة إلى بيع الربوي نسيئة (7) .
__________
(1) فتح القدير.
(2) سنن أبي داود 3/650، مسند الإمام أحمد تحقيق أحمد شاكر 9/85، رقم الحديث 6239؛ المستدرك 2/44
(3) المجموع 10/100؛ كشاف القناع 3/245؛ شرح منتهى الإرادات 2/190؛ مجلة الأحكام الشرعية م325. الروض المربع 4/382، 383
(4) الفتاوى الذهبية للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص16
(5) صحيح مسلم 4/97
(6) المجموع 10/100
(7) الكشاف؛ شرح المنتهى؛ الروض المربع.(9/120)
المناقشة والترجيح:
يمكن مناقشة أدلة المانعين بما يأتي:
قولهم: لو استبدل عن ثمن الصرف لم يحصل مدلول قوله صلى الله عليه وسلم ((عينا بعين)) . يصدق إذا كان البدل لا يتم قبضه في المجلس، وهذا غير موجود في الصورة التي معنا، إذ إن القائل بجواز الاستبدال يشترط التقابض في المجلس (1) . لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . ومعنى (عينا بعين) . أي حاضرا بحاضر (2) . وهذا الشرط متحقق؛ لأنه يتم قبض المبيع في الصرف، ويستبدل البائع عن ثمنه سلعة أخرى، يقبضها في مجلس العقد.
وفي مسألتنا يشتري الذهب الجديد بثمن معلوم من النقود الورقية، ثم يجري المقاصة بين ثمنه، وثمن الذهب المبيع، ويتم التقابض في المجلس.
وقولهم: إن الثمن في الصرف يعرض له البطلان بالتفرق قبل القبض بخلاف الثمن في غيره، يجاب عليه بأن بدل ثمن الصرف إذا اتحد مع المثمن في علة الربا يأخذ حكم الصرف، فلا بد من قبض البدل في المجلس.
وقولهم: لا يصح تصرفه فيه قبل قبضه، نقول: نعم إذا كان مع غير من هو عليه، أما تصرفه ممن هو عليه فيصح، يؤيده حديث ابن عمر: ((أبيع بالدنانير وأخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، وآخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه)) .
وقولهم: إنه ذريعة إلى بيع الربوي بالربوي نسيئة، غير مسلم؛ لأنه إذا شرط الحلول والتقابض انتفت أي ذريعة إلى بيع الربوي بالربوي نسيئة.
وبناء على رد أدلة المانعين بالمناقشة السابقة وقوة أدلة المجيزين، فإنه يترجح لي جواز التصرف في ثمن الصرف، ممن هو عليه، والمقاصة بثمنه، والاستبدال عنه، بشرط الحلول وتقابض المبيع وبدل ثمنه في مجلس العقد، قبل التفرق، إذا كان ثمنه ربويا.
__________
(1) المبسوط 14/3
(2) لسان العرب؛ المصباح المنير؛ مادة عين(9/121)
وبناء عليه فإنه يترجح عندي جواز الصورة المذكورة، وهو شراء الحلي بثمن الحلي المبيع، لأن هذا ليس بيع ذهب بذهب – كما قد يظن البعض – وإنما هو بيع الذهب القديم بنقود ورقية، وشراء الذهب الجديد بنقود ورقية، وإذا زادت قيمة أحد الذهبين عن الآخر فإن الفرق يدفع من النقود الورقية. وقد صدرت قرارات المجامع الفقهية، وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بأن العملة الورقية نقد قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة (1) . وهنا اختلف الجنس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (2) . وذلك كما لو أن النقود المستعملة اليوم الدراهم الفضية، وكانت هي الوسيط في الصورة المذكورة. ولأن هذه المعاملة خالية من ربا الفضل، والنسيئة، وليس فيها غرر، ويتم التقابض في المجلس.
ويدل على صحة ما رجحناه حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – حيث كان يبيع بالدنانير وهي من أموال الربا، ويعتاض عنها مالا ربويا وهو الدارهم، مع أنه لم يقبض الدنانير في يده. ومثله بيع الحلي القديم بالنقود الورقية، ثم الشراء بهذه النقود من المشتري حليا جديدا قبل قبضها وإجراء المقاصة بين الثمنين.
__________
(1) قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم 9 د3/ 07- 86، وانظر: قرار هيئة كبار العلماء في توضيح الأحكام 4/19
(2) سنن أبي داود 3/650، مسند الإمام أحمد 9/85، رقم الحديث 6239(9/122)
المطلب الثالث
شراء الحلي بشرط الشراء بثمنه حليا من البائع
هذه المسألة من حيث تصويرها كالمسألة السابقة، إلا أن بيع الحلي يشترط لشراء الحلي المعروض للبيع، أن يشتري البائع منه حليا. وربما كان الشرط من صاحب الذهب القديم؛ فيقول: لا أشتري منك إلا بشرط أن تشتري ذهبي القديم. أو لا أبيعك إلا أن تبيعني. وهذه المسألة لم أجد لها تصويرا – أيضا – عند الفقهاء على هذا النحو.
لكن يتخرج الحكم فيها بالحرمة والبطلان على مذهب الشافعية والحنابلة، والحرمة والفساد على مذهب الحنفية بناء على تفسيرهم لبيعتين في بيعة. ولأنه لا يجوز الاستبدال عن ثمن الصرف قبل قبضه عند الشافعية والحنابلة. فكل من العقدين شرط للآخر؛ لأن تاجر الذهب اشترط لشراء الذهب القديم، أن يشتروا منه الذهب الجديد. ومعنى بيعتين في بيعة عند الحنفية والحنابلة وأحد تفسيرات الشافعي لها هي أن يشترط أحدهما على صاحبه عقدا آخر؛ كسلف، أو بيع، أو إجارة؛ كأن يقول: بعتك هذا البيت بمئة ألف على أن تبيعني هذه السيارة بثلاثين ألفا. (1) . لما روى أبو هريرة: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعين في بيعة)) (2) .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم (3) وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح (4) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظلم، وإذا أحلت على مليء فاتبعه، ولا بيعتين في واحدة)) (5) .
قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح (6) . وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح (7) . ولأنه عند الحنفية والشافعية بيع وشرط، وهو منهي عنه لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع وشرط)) (8) .
ويتخرج القول فيه بالجواز على مذهب الإمام مالك رحمه الله.
__________
(1) الهداية وفتح القدير 6/446؛ المبسوط 13/16؛ مغني المحتاج 2/31 و32؛ فتح العزيز 8/194؛ شرح المنهاج وحاشية القليوبي وعميرة 2/177؛ كشاف القناع 3/193؛ الإنصاف 4/349
(2) صحيح الترمذي بشرح ابن العربي 5/239؛ منتقى الأخبار بشرحه 5/151 و152؛ مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر 8/168؛ حديث رقم 9582؛ موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان لنور الدين الهيثمي ص272؛ وانظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/151
(3) صحيح الترمذي بشرحه؛ بلوغ المرام بشرحه توضيح الأحكام 3/457
(4) المسند
(5) المسند 7/209؛ رقم الحديث 5395
(6) مجمع الزوائد 4/85
(7) المسند
(8) معالم السنن للخطابي مع مختصر سنن أبي داود للمنذري 5/154 و155(9/123)
جاء في المدونة: (أرأيت إن صرفت عند رجل دراهم بدنانير على أن آخذ بثمنه منه سمنا أو زيتا، (قال) قال مالك: ذلك جائز نقدا أو إلى أجل) (1) .
واختاره الشيخان عبد الرحمن السعدي وعبد الله البسام من الحنابلة المعاصرين (2) . قال الشيخ السعدي: (وأما تفسيره بأن يقول: بعتك هذا البعير مثلا بمئة على أن تبيعني هذه الشاة بعشرة، فالمذهب (عند الحنابلة) إدخالها في هذا الحديث (بيعتين في بيعة) والقول الآخر في المذهب عدم إدخالها، وأنه لا يتناولها النهي، لا بلفظه ولا بمعناه ولا محظور في ذلك، وهو الذي نراه ونعتقده) (3) . والراجح عندي أن الصورة المذكورة جائزة؛ لأن هذا ليس بيع ذهب بذهب – كما بينا في المطلب السابق – وإنما هو بيع الذهب القديم بريالات ورقية، وشراء الذهب الجديد بريالات ورقية.
وأما أنها من بيعتين في بيعة فالراجح عندي أن بيعتين في بيعة هي بيع العينة. وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وأحد الأقوال للإمام مالك، وقال به الشيخ عبد الرحمن بن سعدي والشيخ عبد الله البسام (4) .
قال ابن القيم رحمه الله: (البيعتان في بيعة بأن يقول: خذ هذه السلعة بمئة مؤجلة ثم يشتريها منه بثمانين حالَّة فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا. وهذا هو المعنى المطابق للحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) (5) . صححه الحاكم. ووافقه الذهبي. ورواه ابن حبان.
وما رواه سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)) . فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله وهو أوكس الثمنين، فإن أخذه أخذ أوكسهما وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا. فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا، ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى، وهذا هو بعينه الشرطان في بيع، فشرطان في بيع كصفقتين في صفقة (6) .
__________
(1) 3/411. وانظر: المغني 6/333
(2) الفتاوى السعدية ص298؛ الاختيارات الجليلة في المسائل الخلافية، للشيخ عبد الله البسام 3/44
(3) الفتاوى السعدية
(4) مجموع الفتاوى 29/432 و440 و441 و447؛ تهذيب سنن أبي داود لابن القيم 5/146 و149؛ إعلام الموقعين 3/193؛ الاستذكار 20/173 و175؛ الذخيرة 5/19؛ مواهب الجليل 4/390؛ الفتاوى السعدية ص298؛ توضيح الأحكام من بلوغ المرام للشيخ عبد الله البسام 3/458
(5) المستدرك 2/45؛ موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص272
(6) تهذيب سنن أبي داود 5/149(9/124)
وقال رحمه الله: (وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى فتأمل نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر عن بيعتين في بيعة، وعن سلف وبيع. رواه أحمد، ونهيه عن شرطين في بيعة، وعن سلف وبيع في حديث عبد الله بن عمرو. فجمع السلف والبيع مع الشرطين، ومع البيعتين في بيعة. وسر ذلك أن كلا الأمرين يؤول إلى الربا وهو ذريعة إليه. أما البيعتين في بيعة: فظاهر، فإنه إذا باعه السلعة إلى شهر ثم اشتراها منه بما شرطه له كان قد باع بما شرطه له بعشرة نسيئة.
ولهذا حرم الله ورسوله العينة.
وأما السلف والبيع: فلأنه إذا أقرضه مئة إلى سنة؛ ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة: فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى زيادة في القرض، الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك. فظهر سر قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع)) . وقول ابن عمر: ((نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وبيع)) واقتران إحدى الجملتين بالأخرى لما كان سلما إلى الربا) (1) .
وأما قول البائع: أبيعك على أن تبيعني، أو تؤجرني، أو نحوهما من العقود؛ فالراجح عندي جوازه لحديث: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع)) .
قال الإمام مالك رحمه الله: (وتفسير ذلك أن يقول الرجل للرجل: آخذ سلعتك بكذا وكذا على أن تسلفني كذا وكذا. فإن عقد بيعهما على هذا فهو غير جائز) (2) .
فالعبارة الأولى من الحديث جاء النهي فيها عن اشتراط السلف في البيع وهذا دليل على قصره على الصورة المذكورة. ولا دليل على تعديته إلى بقية العقود؛ كاشتراط أبيعك على أن تبيعني. وإنما امتنع البيع في أشتري منك بكذا على أن تسلفني من أجل اقتران شيء محرم لعينه به، لا أنه شيء محرم من قبل الشرط (3) ، وهذا غير موجود في العقود الأخرى.
يؤيده أن العين تكون ثمنا بالاتفاق؛ وفي هذه الحالة لا بد أن يدخلها الاشتراط خلال المماكسة، مثل أن يقول المشتري: أشتري بيتك بمليون ريال على أن تأخذ مني ثلاث قطع من الأرض لقاء هذا المبلغ. أو يقول: أشتري بيتك بالقطع الثلاث، دون أن يذكر مبلغا. وما دام هذا جائزا فاشتراط أبيعك على أن تبيعني، أو تؤجرني، أو تشاركني، ونحوه يكون جائزا.
__________
(1) تهذيب سنن أبي داود 5/149
(2) الاستذكار 20/126
(3) بداية المجتهد 2/162(9/125)
فإن قيل: هذا الشرط يؤدي إلى تعليق العقد الأول على الثاني، قلنا: إن التعليق الممنوع هو الذي يؤدي إلى غرر، مثل أن يقول البائع: أبيعك إذا جاء ابني من السفر، ولا يعلمان وقت مجيئه أو يعلق على أمر مستحيل تحققه. أما الشرط الذي نرى جوازه فإنه يتم عقده خلال مجلس العقد؛ كما يتم ذلك لو لم يشترط عقدا آخر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إنه يجوز تعليق العقود بالشروط، إذا كان في ذلك منفعة للناس ولم يكن متضمن ما نهى الله عنه ورسوله، فإن كل ما ينفع الناس، ولم يحرمه الله ورسوله: هو من الحلال الذي ليس لأحد تحريمه. وقد ذكرنا عن أحمد نفسه: جواز تعليق البيع بشرط، ولم أجد عنه ولا عن قدماء أصحابه نصا بخلاف ذلك. بل ذكر من ذكر من المتأخرين: أن هذا لا يجوز كما ذكر ذلك أصحاب الشافعي) (1) .
وأما الأحاديث التي استدل بها أصحاب القول الأول؛ فهي دالة على تحريم بيعتين في بيعة وليس فيها ما يدل على أنها الصورة التي ذكروها.
وأما حديث ((نهى عن بيع وشرط)) فضعفه ابن القطان؛ وعلته ضعف أبي حنيفة في الحديث (2) وأنكره الإمام أحمد، حيث قال: (لا نعرفه مرويا في مسند) (3) وقال ابن قدامة: (فلا يعول عليه) (4) ؛ لأن الشرط الصحيح لا يؤثر في البيع وإن كثر، والفاسد يؤثر فيه وإن كان واحدا. وقد استغربه النووي (5) .
وحديث جابر وهو أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملا واشترط حملانه إلى المدينة متفق عليه (6) يرد الحديث النهي عن بيع وشرط. ويدل على أن الشروط التي فيها منفعة للعاقد تكون صحيحة؛ ومنها أبيعك على أن تبيعني، أو تؤجرني، أو تشاركني، ونحوها.
المطلب الرابع
بيع الحلي وقبض ثمنه ثم الشراء به حليا
وصورته أن يشتري الإنسان من بائع الحلي خلخالا ويدفع ثمنه بالعملة الورقية المتداولة، أو أي عملة مخالفة لجنس الخلخال، ويقبض البائع الثمن ويقبض المشتري المبيع. ثم يبيعه ذهبه القديم ويتسلم قيمته ويتسلم المشتري الذهب.
وهذه الصورة جائزة شرعا بلا خلاف، وهي الأحوط. وإن كان الإمام أحمد رحمه الله يفضل أن يطلب حاجته من غير من باع عليه، فإن وجد وإلا رجع عليه واشترى منه.
__________
(1) نظرية العقد 237
(2) نصب الراية 4/18
(3) كشاف القناع 3/191؛ المغني 6/223
(4) المغني
(5) المجموع 9/368؛ التلخيص الحبير 3/12
(6) صحيح مسلم بشرحه 4/114 و115(9/126)
المبحث السابع
الجمع بين البيع والإجارة على عمل الحلي بجنسه
يرغب بعض الناس في حلية معينة، أو نقوش يقترحها على صائغ الحلي، فيتفق معه على أن يعمل له خلخالا معينا، يحدد وزنه، وعياره وشكله، ومقدار أجرته. فإذا حدد وزنه بثلاثمئة جرام، فإنه عندما تتم صياغته يعطيه ثلاثمئة جرام، وأجرته خمسين جراما مثلا. وربما لا يحدد وزنه، ولكن يتفقان على وزنه بعد صنعه، فإذا علم مقداره بعد صنعه دفع مثله، وأجرته المتفق عليها.
وصورة ثانية وهي: أن يدفع طالب الحلي القيمة والأجرة من غير جنسه، فإذا كانت الحلية المطلوبة من الذهب، دفع مقابلها من النقود الفضية، أو الأوراق النقدية.
فأما المسألة الأولى – وهي أن يدفع القيمة والأجرة من جنسها على ما بيناه – فقد اختلف فيها العلماء على قولين:
القول الأول: لا يجوز ذلك. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية (1) .
وقد علل المانعون ذلك بأن مقدار الذهب مجهول؛ ولأنه عقد صرف لا بد فيه من التقابض، ولم يتم التقابض في المجلس. وزاد الحنفية والشافعية أنه شرط العمل في الشراء (2) .
قال الشافعي: (ولا خير في أن يأتي الرجل بالفص إلى الصائغ فيقول له: اعمله لي خاتما حتى أعطيك ذلك وأعطيك أجرتك، وقاله مالك) (3) .
وجاء في المبسوط: (إن استأجره ليموه له لجاما فإن اشترط ذهب التمويه على الذي يأخذ الأجر فلا خير فيه؛ لأن مقدار ما يحتاج إليه من الذهب للتمويه غير معلوم؛ ولأن العقد في ذلك صرف فلا بد من التقابض في المجلس ولم يوجد) (4) .
__________
(1) الأم 3م35؛ المبسوط 14/48 76 و77. الفتاوى الهندية 3/228؛ الشرح الصغير 2/17 و18. الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3/30، المجموع 10/83
(2) المصادر السابقة
(3) الأم 3/35، وانظر المجموع.
(4) 14/248(9/127)
القول الثاني: يجوز ذلك وهو قول الحنابلة (1) .
جاء في المغني: (فأما إن قال لصائغ: صغ لي خاتما وزنه درهم وأعطيك مثل وزنه، وأجرتك درهما. فليس ذلك بيع درهم بدرهمين. وقال أصحابنا: للصائغ أخذ الدرهمين؛ أحدهما في مقابل الخاتم والثاني أجرة له) (2) .
والراجح عندي مذهب الجمهور؛ وهو عدم جواز هذا العقد وبطلانه؛ لأنه في حالة عدم تحديد مقدار الحلي المطلوب يكون مجهولا، وفي جميع الأحوال لا يصح هذا العقد لعدم التقابض في المجلس في حالة ما إذا كان مقدار الذهب محددا وعدم التقابض والتماثل في حالة عدم تحديد مقدار الحلي؛ مثل أن يقول: صغ لي بناجز وأعطيك مثل وزنها وأجرتك خمسين جراما؛ لأنه صرف ومن شروطه التقابض والتماثل. فإن قيل: إنه من باب الاستصناع. فالجواب أن الاستصناع عند الحنابلة كما هو عند المالكية والشافعية قسم من أقسام السلم (3) ،
ومن شروط السلم تسليم الثمن في مجلس العقد. وإذا كان السلم في الذهب أو الفضة فيشترط أن يكون رأس المال من غير الأثمان (4) ؛ أي من غير الذهب، أو الفضة، أو الأوراق النقدية، أو ما يقوم مقامهما في الوقت الحاضر كالشيكات ونحوها، أو ما يستقر العرف مستقبلا على أنه نقود؛ وذلك لاتحاد العلة وهي الثمنية؛ فيحرم النساء. أما إذا كان رأس المال من غير الأثمان فإنه يجوز استصناع الحلي من تاجر الحلي، أو من المصنع (5) .
وأما قول الحنفية والشافعية بأنه شرط العمل في الشراء؛ بناء على مذهبهم عدم جواز بيع وشرط، بناء على ما روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع وشرط)) (6) فهذا الحديث ضعفه ابن القطان (7) وأنكره الإمام أحمد (8) واستغربه النووي (9) .
قال ابن قدامة: (فلا يعول عليه) (10) .
ولهذا فإن الشرط الصحيح لا يؤثر في البيع وإن كثر، والفاسد يؤثر وإن كان واحدا (11) .
__________
(1) المغني 6/61. وانظر: الكشاف 3/253؛ شرح منتهى الإرادات 2/199
(2) 6/61، وانظر: الكشاف وشرح المنتهى
(3) مواهب الجليل 4/539 و540؛ الشرح الصغير 3/287؛ المطبعة المصرية؛ سنة 1410هـ؛ 1989م، روضة الطالبين 4/3؛ شرح المنهاج، 2/245؛ الإنصاف 4/300؛ الفروع 4/24؛ المجموع 13/109
(4) كشاف القناع 3/291؛ شرح المنتهى 2/215 و216؛ الروض المربع 5/10، مختصر المزني ص76
(5) المصادر السابقة، وانظر: الشرح الكبير 3/18، الشرح الصغير وحاشية الصاوي 3/266 – م- العصرية
(6) معالم السنن للخطابي، مع مختصر سنن أبي داود للمنذري 5/154 و155
(7) نصب الراية 4/18
(8) المغني 6/223؛ كشاف القناع 3/191
(9) المجموع 9/368؛ التلخيص الحبير 3/12
(10) المغني
(11) المغني، تهذيب سنن أبي داود لابن القيم 5/146(9/128)
ويرد على الحنفية والشافعية أيضا بأنه يجوز اشتراط شرط في البيع لا يخالف مقتضاه، أو فيه منفعة للعاقد معلومة. بدليل حديث جابر إنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملا واشترط حملانه إلى المدينة (1) متفق عليه.
ومما يحسن التنبيه عليه، أن أحد الباحثين ذكر أن من أسباب منعه عند المالكية، اجتماع البيع والإجارة؛ لأن الصرف نوع من البيوع (2) .
لكن المالكية لا يمنعون اجتماع البيع والإجارة؛ بدليل قصرهم المنع على العقود الستة فقط، والتي يلخصونها في قول: جص مشنق (3) كما أن ابن جزي نص على جواز اجتماع البيع والإجارة (4) .
وأما قول الحنابلة في الصورة التي ذكرها ابن قدامة: إن ذلك ليس بيع درهم بدرهمين فمسلم. لأن أحدهما في مقابلة وزن الحلي، والثاني أجرة. لكن لم يتم شرط التقابض في المجلس، فلا يصح العقد.
والصورة الثانية هي أن يدفع طالب الحلية الثمن والأجرة من غير جنسه لا تجوز، ولايصح العقد عليها أيضا. لعدم التقابض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (5) .
والطريقة التي يكون بها تحقيق رغبة طالب الحلية وتوافق أحكام الشريعة الإسلامية هي:
أ - أن تتم صناعة الحلي خلال مدة انتظار طالبها، ويتم التقابض في المجلس، ويتم دفع ثمنها من النقود الورقية، أو نحوها مما هو مخالف لجنسها.
ب - أن يشتري الإنسان الذهب أو الفضة، تبرا أو سبائك، أو حليا، ويدفع ثمنها، بالتساوي إن اتحد جنسها أو بالتفاضل إن اختلف الجنس، ويقبض المشتري الذهب، أو الفضة ويقبض البائع الثمن. ثم يتفق معه على أجرة الصناعة التي يريدها ويسلمه المعدن المشترى - ذهبا أو فضة – وفي هذه الحالة يكون العقد جائزا، وصحيحا، سواء كانت الأجرة من جنس المعدن أو مختلفة عنه، وسواء دفعها مقدما أو عند تسليم الحلي، أو دفع بعضها مقدما، والبعض الآخر مؤخرا.
__________
(1) صحيح مسلم بشرحه 4/114 و115
(2) حكم عقد الصرف ص642
(3) الشرح الصغير وبلغة السالك 2/17؛ الشرح الكبير 3/28؛ مواهب الجليل والتاج والإكليل 4/313
(4) القوانين الفقهية ص258
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 4/98؛ ورواه الجماعة إلا البخاري(9/129)
ج- أن يشتري الذهب أو الفضة بما لا يتفق معهما في علة الربا، أي بغير الأثمان، كعروض التجارة، ونحوها. وفي حالة عدم قبض الحلي يجب تسليم الثمن لئلا يكون من بيع الدين بالدين. أو يتم قبض الحلي ثم تسليمها للمصنع، وفي هذه الحالة يكون العقد صحيحا سواء قبض الثمن أم لم يقبض منه شيئا.
وقال الدكتور وهبة الزحيلي: (وأجاز المالكية الجمع بين البيع والإجارة، وبين البيعتين في البيعة ويكون هذا من باب الخيار، ومنع الجمهور ذلك واعتبر الحنفية البيع فاسدا، والشافعية والحنابلة اعتبروه باطلا) (1) .
فقوله: أجاز المالكية الجمع بين البيع والإجارة، صحيح.
وأما بيعتين في بيعة فلم يجزها المالكية ولا غيرهم من المذاهب الأخرى.
وهم وإن اتفقوا على منعها، فقد اختلفوا في تفسيرها (2) . وإذا لم يجيزوا بيعتين في بيعة، فكيف يجيزونها مجتمعة مع البيع والإجارة؟
وأما قوله: ومنع الجمهور ذلك، فالنسبة للبيعتين في بيعة صحيح كما بيناه فيما سبق. وأما بالنسبة لاجتماع البيع والإجارة فغير مسلم.
حيث أجازه الشافعية والحنابلة؛ جاء في متن المنهاج: (ولو جمع في صفقة مختلفي الحكم كإجارة وبيع أو سلم صحا في الأظهر ويوزع المسمى على قيمتهما) (3) .
وفي فتح العزيز: (وأصح القولين أنه لو جمع بين عقدين مختلفين في صفقة واحدة كالإجارة والسلم، أو الإجارة والبيع أو النكاح والبيع ... فالعقد صحيح) (4) .
وجاء في شرح منتهى الإرادات: (وكل من البيع والإجارة يصح إفراده بالعقد. فجاز الجمع بينهما كالعينين) (5) .
وأما الحنفية فالقياس عندهم أنهم يمنعون الجمع بين البيع والإجارة، إذا جاءت بناء على الاشتراط، لكنهم أجازوها استحسانا (6) جاء في الهداية: (ومن اشترى نعلا على أن يحذوها البائع قال: أو يشركها، فالبيع فاسد، قال رضي الله عنه: ما ذكره جواب القياس، ووجهه ما بينا، وفي الاستحسان يجوز للتعامل فيه فصار كصبغ الثوب) (7) .
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته 4/514
(2) انظر: المطلب الثاني، من المبحث الثاني. وانظر: الغرر وأثره في العقود ص79 – 99
(3) المنهاج مع مغني المحتاج 2/41
(4) 8/278
(5) 2/162؛ وانظر: كشاف القناع 3/191؛ الروض المربع 4/398
(6) المبسوط 13/18؛ الهداية؛ فتح القدير 6/451؛ رد المحتار 4/123
(7) 6/451(9/130)
وعلق عليها ابن الهمام فقال: (وفي الاستحسان يجوز البيع والشرط للتعامل كذلك، ومثله في ديارنا شراء القبقاب على هذا الوجه: أي على أن يسمر له سيرا، وصار كصبغ الثوب مقتضى القياس منعه لأنه إجارة عقدت على استهلاك عين مع المنفعة وهو عين الصبغ ولكن جوز للتعامل) (1) .
وقال الحصكفي: (أو جرى العرف به [أي شرط جرى العرف به] كبيع نعل ... على أن يحذوه البيع أو يشركه أي يضع عليه الشرك وهو السير ومثله تسمير القبقاب استحسانا للتعامل بلا نكير، هذا إذا علقه بكلمة على، وإن بكلمة إن بطل البيع لا في بعت إن رضي فلان) (2) .
وقد علق ابن عابدين على قوله: (استحسانا للتعامل. فقال: أي يصح البيع ويلزم الشرط استحسانا للتعامل والقياس فساده لأن فيه نفعا لأحدهما وصار كصبغ الثوب مقتضى القياس منعه لأنه إجارة عقدت على استهلاك عين الصبغ مع المنفعة ولكن جوز للتعامل ومثله إجارة الضئر وللتعامل جوزنا الاستصناع مع أنه بيع المعدوم ومن أنواعه شراء الصوف المنسوج على أن يجعله البائع قلنسوة أو قلنسوة بشرط أن يجعل البائع لها بطانة من عنده) (3) .
وبعد هذه النقول عن علماء الحنفية تبين أنهم يجيزون اجتماع البيع والإجارة استحسانا، وأن العمل على هذا من غير نكير، لأنه استقر العرف على هذا.
__________
(1) فتح القدير 6/452
(2) الدر المختار 4/123
(3) رد المحتار 4/123(9/131)
المبحث الثامن
المبادلة بين مقدار من الذهب
ومقدار أقل منه مضموم إليه جنس آخر
يقع في بعض البضائع كالساعات، والخواتم، وبعض السيارات، وغيرها؛ حلية من الذهب. وكذلك بعض ما يلبسه النساء؛ كالياقوت، والزمرد، واللؤلؤ، قد يطعم بالذهب. وقد يكون الذهب مضموما إلى ذلك الغير دون صناعة. وقد يركب مع غيره، ويسهل نزعه منه، وإعادته إليه، دون إفساد للمبيع. وهذه المسألة يترجم لها الفقهاء ببيع الربوي بجنسه ومع أحدهما، أو معهما من غير جنسهما، ويترجم لها بمسألة مد عجوة (1) . لكن موضوع بحثنا مقتصر على الجزء الأول من المسألة، وهو بيع الربوي بجنسه ومع أحدهما من غير جنسه. وإن كانت الأقوال، والحكم، والأدلة، في الجميع واحدة.
ولأنه يشترط المماثلة في بيع الربوي بجنسه؛ وقع الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة؛ وذلك لعدم تحقق المساواة، أو الجهل به، والجهل بالمساواة في بيع الربوي بجنسه كالعلم بالتفاضل. وقبل عرض خلاف الفقهاء في هذه المسألة، أعرض لبعض الصور:
1- إذا كانت الحلية محرمة كالملاعق والصحون والمطلية بالذهب، والخواتم التي فيها ذهب للرجال؛ فهذه يحرم شراؤها، ويبطل العقد عليها، لما روى حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تلبسوا الحرير ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)) متفق عليه (2) .
وعن أم سلمة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) . متفق عليه (3) . في رواية لمسلم ((الذي يأكل ويشرب)) .
فإذا حرم استعمال الآنية، أو نحوها، حرم بيعها؛ إذا كان الشراء لغرض الاستعمال.
__________
(1) لأن من صورها: مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم
(2) صحيح البخاري بشرحه 9/544 كتاب الأطعمة
(3) صحيح مسلم 4/764 و765، وانظر: البخاري 10/96 رقم الحديث 5634. وقد اقتصرت روايته على آنية الفضة(9/132)
2- أما إذا كانت الحلية مباحة فإنه يصح بيع السلعة التي معها، أو مازجها ذهب بالعروض، وبالنقود الورقية، وبالشيكات، وبالنقود الفضية، دون اشتراط التماثل. وفي بيعها بالفضة والنقود الورقية نسيئة خلاف.
3- لكن الفقهاء اختلفوا في بيعها بالذهب على قولين:
القول الأول: إذا كان مع الذهب شيء غيره؛ فإنه لا يحل بيع ذلك الشيء بذهب، لا بأكثر من وزنه، ولا بأقل، ولا بمثله حتى يفصل الذهب وحده، فيباع مثلا بمثل. وهو مذهب المالكية، والشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة؛ نص عليه الإمام أحمد في مواضع كثيرة، وعليه جماهير الأصحاب، وهو قول زفر من الحنفية، وقول ابن حزم (1) . ومن الصحابة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى محمد بن عبد الله الشعبي عن أبي قلابة عن أنس قال (أتانا كتاب عمر ونحن بأرض فارس: لا تبيعوا سيوفا فيها حلقة فضة بالدراهم) (2) . وصح عن ابن عمر: أنه كان لا يبيع سرجا ولا سيفا فيه فضة حتى ينزعه ثم يبيعه وزنا بوزن وروي فيه عن أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه – شيء محتمل (3) . قال السبكي (وكل هذه الآثار بأسانيد صحيحة) (4) . وروى عن سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، وشريح، وابن سيرين، وإسحاق، وأبي ثور (5) .
قال الإمام الشافعي: (فلا يجوز أن يشتري ذهبا فيه حشو، ولا معه شيء غيره بالذهب، كان الذي معه قليلا أو كثيرا؛ لأن أصل الذي نذهب إليه، أن الذهب بالذهب مجهول أو متفاضل، وهو حرام من كل واحد من الوجهين. وهكذا الفضة بالفضة) (6) .
ويستثني أصحاب هذا القول – ما عدا ابن حزم – من المنع ما إذا كان الذهب المضموم مع غيره مصنوعا صناعة يتعذر معها فصل كل منهما عن الأخر أو أن فصلهما يؤدي إلى تخريب الصنعة. فهنا يكون المبيع قيميا فيجوز بيعه بالذهب. قال الإمام الشافعي: (وهكذا كل صنف من هذه خلطه غيره مما يقدر على تمييزه منه لم يجز بعضه ببعض إلا خالصا) (7) .فقد قيد المنع بالقدرة على تمييزه. وقال الباجي عند ذكر الشروط التي يصح بها بيع المحلى بالذهب أو الفضة بجنسه، دون فصله: (أن يكون الحلي مرتبطا بالمحلى ارتباطا في إزالته مضرة فلا يقدر على إزالته من المبيع وتمييزه إلا بمضرة لاحقة) (8) ؛ كالفصوص المصوغ عليها، وحلية السيف المسمرة عليه وأما القلائد التي لا تفسد عند نظمها فظاهر المذهب أنه لا تأثير لها في الإباحة (9) .
__________
(1) الأم 3/31؛ المجموع 10/233 وما بعدها؛ مغني المحتاج 2/28؛ الوجيز 1/137؛ مسائل الإمام أحمد 3/911؛ المغني 6/92؛ الإنصاف 5/33؛ المبدع 4/134 و144؛ المحلى 9/549؛ فتح القدير 7/144؛ الشرح الصغير وبلغة السالك 2/15؛ القوانين الفقهية ص252؛ بداية المجتهد 2/197
(2) المجموع 10/251
(3) المجموع 10/251
(4) المجموع ص252
(5) المجموع 10/ 233؛ المغني 6/92
(6) الأم 3/31
(7) الأم 3/20 كتاب الشعب، سنة 1388هـ- 1968م
(8) المنتقى 4/269، وانظر: مواهب الجليل 4/ 331؛ وانظر أيضا: إعلام الموقعين 2/136؛ الإنصاف 5/36؛المغني 6/97
(9) مواهب الجليل(9/133)
أما ابن حزم فإنه يقول بالمنع مطلقا حتى يفصل الربوي عن ما معه (1) .
ويستثنون أيضا ما إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره بأن كان المقصود الأعظم غير الجنس الربوي فيجوز البيع، وهو قول الإمام مالك، وأحمد في المشهور عنه، والأصح من مذهب الشافعية، وهو مذهب الحكم بن عتيبة، والحسن، وإبراهيم، وهو قول سفيان (2) . قال المرداوي: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أنه ظاهر المذهب، ونصره صاحب الفائق (3) ، ووافقه ابن القيم (4) .
ومع أن الأصل عند المالكية المنع، إلا أنهم أجازوه للضرورة بشروط، هي:
1-أن تكون الحلية مباحة.
2-أن تكون الحلية مسمرة علي المحل، بحيث يكون في نزعها ضرر.
3 - أن تكون الحلية قدر الثلث فأقل (5) .
قال الإمام مالك: (بأن يكون الثلث فما دون) (6) . جاء في المدونة: (قلت: أرأيت إن اشتريت سيفا محلى بفضة حليته أقل من ثلث السيف بفضة إلى أجل أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا يجوز بيعه بفضة ولا بذهب إلى أجل، قلت: أفبيعه بفضة أو بذهب نقدا في قول مالك، قال: نعم. قلت: فلماذا جوزه مالك بالنقد بالفضة ولم يلتفت إلى الفضة التي في السيف وهي عنده ملغاة وجعلها تبعا للسيف فلم لا يجوزنه بفضة إلى أجل؟ ... قال مالك: لأن هذا لم يجز إلا على وجه النقد) (7) .
__________
(1) المحلى 9/550. قال أبو محمد: وإنما هذا كله إذا ظهر أثر الخلط في شيء مما ذكرنا – وأما ما لم يؤثر ولا ظهر له فيه عين ولا نظر أيضا: فحكمه حكم المحض، لأن الأسماء إنما هي موضوعة على حسب الصفات التي بها تنتقل الحدود
(2) المدونة 3/410و414؛ المنتقى للباجي 4/268؛ القوانين الفقهية ص252؛ بداية المجتهد 2/197؛ المجموع 10/252؛ المغني 6/96
(3) الإنصاف 5/34
(4) إعلام الموقعين 2/136
(5) المنتقى 4/268؛ مواهب الجليل 4/330، 331
(6) المدونة 3/414؛ بداية المجتهد
(7) المدونة(9/134)
وقال ابن قدامة: (وإن باع ما فيه الربا بغير جنسه، ومعه من جنس ما بيع به إلا أنه غير مقصود، كدار مموه سقفها بالذهب جاز. لا أعلم فيه خلافا. وكذلك لو باع دارا بدار مموه سقف كل واحدة منها بذهب أو فضة؛ جاز؛ لأن ما فيه غير مقصود بالبيع؛ فوجوده كعدمه) (1) .
وقال النووي: (لو باع دارا بذهب فظهر فيها معدن ذهب، أو باع دارا فيها بئر ماء بدار فيها بئر ماء، وقلنا الماء ربوي، صح البيع في المسألتين على الأصح لأنه تابع.) (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه: (فإذا كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا، وقد أدخل الغير حيلة، كمن يبيع ألفي درهم بألف درهم في منديل، أو قفيزي حنطة بقفيز في زنبيل فهذا لا ريب في تحريمه، كما هو مذهب مالك وأحمد والشافعى، وإن كان المقصود هو البيع الجائز وما فيه من مقابل ربوي بربوي داخل على وجه التبع كبيع الغنم بالغنم، وفي كل منهما لبن وصوف، أو بيع غنم ذات لبن بلبن، وبيع دار مموهة بذهب وبيع الحلية الفضية بذهب، وعليهما ذهب يسير موهت به، ونحو ذلك، فهذا الصواب فيه أنه جائز، كما هو المشهور من مذهب أحمد وغيره كما جاز دخول الثمرة قبل بدو صلاحها في البيع تبعا) (3) .
القول الثاني: يجوز ذلك؛ إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره، لا مثله، ولا دونه، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه وتكون الزيادة في مقابل المصاحب للربا؛ وهو مذهب الحنفية وحماد بن أبي سليمان، والشعبي، والنخعي، وراوية عن الإمام أحمد (4) .
__________
(1) المغني 6/96. وقد قسم ابن قدامة غير المقصود إلى ثلاثة أقسام: أحدها: (أن يكون غير المقصود يسيرا، لا يؤثر في كيل ولا وزن؛ كالملح فيما يعمل فيه، وحبات الشعير في الحنطة، فلا يمنع؛ لأنه يسير لا يخل بالمماثلة ... ، لأن وجود ذلك كعدمه) . الثاني: (أن يكون كثيرا، إلا أنه لمصلحة المقصود، كالماء في خل التمر، والزبيب، ودبس التمر، فهذا يجوز بيع الشيء منه بمثله، وينزل خلطه منزل رطوبته؛ لكونه من مصلحته، فلا يمنع من بيعه بما يماثله كالرطب بالرطب، ولا يجوز بيعه بما ليس فيه خلط، كبيع خل العنب بخل الزبيب، لإفضائه إلى التفاضل) الثالث: (أن يكون غير المقصود كثيرا، وليس من مصلحته؛ كاللبن المشوب بالماء، والأثمان المغشوشة بغيرها، فلا يجوز بيع بعضها ببعض؛ لأن خلطه ليس من مصلحته وهو يخل بالتماثل المقصود فيه) المغني 6/97
(2) روضة الطالبين 3/ 386، وانظر: مغني المحتاج 2/29
(3) مجموع الفتاوى 29/465، مواهب الجليل 4/331؛ المنتقى4/268 وما بعدها
(4) فتح القدير 7/142 و143؛ رد المحتار 4/239؛ المغني 6/92؛ الإنصاف5/33؛ المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين؛ للقاضي أبي يعلى 1/321 وما بعدها(9/135)
وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من فتاواه (1) .وهذه الرواية عن الإمام أحمد ضعيفة والعمل على الرواية الأولى. فقد نقل الجماعة عن الإمام أحمد أنه لا يجوز. قال: (في رواية حنبل في الخاتم والمنطقة والسيف وما أشبهه: لا أرى أن يباع حتى يفصل ويخرج منه والقلادة على ذلك. ونقل عبد الله قال: قرأت على أبي عن الحكم أنه قال: ألف درهم وستون درهما بألف درهم وخمسة دنانير لا بأس به فقال أبي هذا حديث رديء لا يعجبنا، فظاهر هذا المنع.
ونقل الميموني: وقد سأله لا يشتري السيف والمنطقة حتى يفصلها قال: لا يشتريها حتى يفصلها إلا أن هذا أهون من ذلك. قال أبوبكر روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خمس عشرة نفسا كلهم اتفقوا على أنه لا يجوز البيع حتى يفصل إلا الميموني.
ونقل مهنا قولا آخر، والعمل على ما روى الجميع.
فالراوية التي أوردنها في القول الثاني هي التي نقلها مهنا وهي مخالفة لما نقله عنه الجماعة، بل ما نقله عنه خمسة عشر نفسا) (2) .
وقد اشترط الحنفية قبض الحلية وما يقابلها من الثمن إن أمكن فصلها، وإلا قبضت هي والسلعة التي حليت بها؛ لأن عدم القبض يؤدي إلى ربا النسيئة (3) . جاء في رد المحتار: (ولو تبايعا فضة بفضة أو ذهبا بذهب ومع أقلهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الفضة جاز البيع من غير كراهة) (4) . وقال ابن الهمام (الأصل أنه إذا بيع نقد مع غيره بنقد من جنسه لا بد أن يزيد الثمن على النقد المضموم إليه) (5) .مثل أن يكون المبيع سيفا محلى بذهب زنته حوالي عشرين جراما والثمن مئة جرام من الذهب، فهذا الذهب المفرد أكثر من الذي مع السيف، فيكون عشرون جراما في مقابل العشرين التي مع السيف، والثمانون في مقابلة السيف.
__________
(1) مجموع الفتاوى 29/452 وص28
(2) المسائل الفقهية 1/322. والمراد بالجماعة عند الحنابلة هم: (أبو طالب، وإبراهيم الحربي، وحرب الكرماني، وعبد الملك الميموني، وصالح وعبد الله ابني الإمام أحمد، وحنبل بن إسحاق بن حنبل ابن عم الإمام أحمد) .
(3) فتح القدير والهداية 7/142و143
(4) رد المحتار 4/239
(5) فتح القدير 7/142(9/136)
الأدلة
أولا: أدلة أصحاب القول الأول:
1- استدل أصحاب القول الأول بحديث فضالة الوارد في صحيح مسلم بطرق متعددة، ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم.
فعن فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب وهي من المغانم تباع فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنا بوزنا)) (1) .
وفي راوية عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تباع حتى تفصل)) . رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه (2) .
فقذ تضمن الحديث الشريف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفصل الذهب الذي في القلادة عن الخرز، وبيعه لوحده؛ لأنه لا يجوز بيع الذهب مع غيره بذهب حتى يفصل من ذلك الغير، ويميز عنه ليعرف عنه مقدار الذهب المتصل بغيره؛ لاتحادهما في العلة وهي تحريم بيع الجنس بجنسه متفاضلا (3) ؛ ولأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، وفي هذه المسألة يجهل تساوي الذهب الذي في الساعة – مثلا – بالذهب الذي هو ثمن الساعة. ومثل هذا نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر بالكيل المسمى من التمر، ونهيه عن بيع الرطب خرصا، والحب في سنابله قبل اشتداده خرصا، كما في المزابنة، والمحاقلة.
__________
(1) صحيح مسلم بشرحه 4/101، رقم الحديث 85
(2) صحيح مسلم بشرحه 4/101، رقم الحديث 86؛ وانظر: سنن أبي داود 3/659؛ صحيح الترمذي بشرح ابن العربي 5/ 260
(3) نيل الأوطار 5/197(9/137)
2- (لأنه قابل الجملة بالجملة، ومن قضيته الانقسام على الشيوع لا على التعيين، وهو أن يكون كل جزء على الشيوع مقابلا لكل جزء على الشيوع) (1) .
3- (ولأن قضية اشتمال أحد طرفي العقد على مالين مختلفين أن يوزع ما في الطرف الآخر عليهما باعتبار القيمة والتوزيع فيما نحن فيه يؤدي المفاضل أو عدم تحقيق المماثلة) (2) ؛ (فالصفقة إذا جمعت شيئين مختلفي القيمة انقسم الثمن عليهما، كما لو اشترى شقصا وسيفا بألف قوم السيف والشقص وقسم الألف عليهما على قدر قيمتهما، وأخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن على قدر قيمته، وأمسك المشتري السيف بحصته من الثمن على قدر قيمته، وإذا قسم الثمن على قدر القيمة أدى إلى الربا؛ لأنه إذا باع دينارا صحيحا قيمته عشرون درهما، ودينارا قراضة قيمته عشرة دنانير، بدينارين، وقسم الثمن عليهما على قدر قيمهما صارت القراضة مبيعة بثلث الدينارين، والصحيح بالثلثين وذلك ربا) (3) .
4- واستدل بعضهم على المنع بسد الذرائع المؤدية إلى الربا؛ فإن اتخاذ ذلك حيلة على الربا الصريح، كبيع مئة درهم في كيس بمئتين جعلا للمئة في مقابلة الكيس وقد لا يساوي درهما (4) .
واستدلوا علي تجويز البيع إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره، بما يأتي:
1- إذا كان المقصود هو البيع الجائز، وما فيه من مقابلة ربوي بربوي داخل على وجه التبع، فهو جائز كما جاز دخول الثمرة قبل بدو صلاحها في البيع تبعا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)) (5) .
2- لأن ما فيه الربا غير مقصود فوجوده كعدمه، ولذلك لا تشترط رؤيته في صحة البيع، ولا لزومه (6) .
3-قالوا: إن الحاجة داعية إلى ذلك (7) .
__________
(1) فتح القدير، والهداية 7/144؛ وانظر: المغني 6/94؛ أحكام عقد الصرف بين الشريعة والقانون رسالة دكتوراه من جامعة الأزهر للدكتور سالم أحمد محمد سلامة ص469.
(2) مغني المحتاج 2/82؛ نهاية المحتاج3/442
(3) المجموع 10/233؛ وانظر: المبدع 4/144؛ المغني 6/94
(4) المبدع 4/145؛ مجموع الفتاوى 29/ 453
(5) صحيح البخاري بشرحه 5/49
(6) المغني 6/96
(7) مجموع الفتاوى 29/466(9/138)
أدلة المذهب الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني بما يأتي:
1- أن الأصل في الأموال الربوية المختلفة الجنس إذا اشتملت عليها الصفقة وكان في صرف الجنس إلى الجنس فساد المبادلة يصرف كل جنس منها إلى خلاف جنسه، وإذا كان الثمن أكثر كان ما يقابله مثلا بمثل، والفاضل ثمن الشيء المصاحب (1) .
2- (أن المقابلة المطلقة تحتمل مقابلة الفرد بالفرد كما في مقابلة الجنس بالجنس، وأنه طريق متعين لتصحيحه، فيحمل عليه تصحيحا لتصرفه) (2) . (كما إذا باع نصف عبد مشترك بينه وبين غيره، فإنه ينصرف إلى نصيبه تصحيحا لتصرفه) (3) .
3- قالوا: الأصل حمل العقود على الصحة: (فالعقد إذا أمكن حمله على الصحة. لم يحمل على الفساد؛ لأنه لو اشترى لحما من قصاب، جاز. مع احتمال كونه ميتة. ولكن وجب حمله على أنه مذكى تصحيحا للعقد. ولو اشترى من إنسان شيئا، جاز مع احتمال كونه غير ملكه، ولا إذن له في بيعه، تصحيحا للعقد. وقد أمكن التصحيح ههنا بجعل الجنس في مقابلة غير الجنس، أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائد على المثل) (4) .
4- (لأنه إذا احتمل العقد وجه صحة وبطلان حمل على الصحة) (5) .
__________
(1) الهداية؛ فتح القدير 7/144
(2) الهداية 7/144 و145، وانظر: فتح القدير
(3) الهداية ص144 و145، وانظر: فتح القدير
(4) المغني 6/93
(5) سبل السلام 3/40(9/139)
المناقشة
مناقشة أدلة المذهب الأول:
1- بالنسبة لحديث القلادة نوقش من وجهين:
الوجه الأول من حيث حجيته: قال الطحاوي: (فقد اضطرب علينا حديث فضالة، فلم يوقف على ما أريد منه، فليس لأحد أن يحتج بمعنى من المعاني التي روي عليها إلا أن يحتج بمعنى من المعاني التي روي عليها إلا أن يحتج مخالفة عليه بالمعنى الآخر) (1) . (وله عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا، في بعضها قلادة فيها خرز وذهب، وفي بعضها ذهب وجوهر، وفي بعضها خرز ذهب، وفي بعضها خرز معلقة بذهب، وفي بعضها باثني عشرا دينارا، وفي أخرى بتسعة دنانير وفي أخرى سبعة دنانير) (2) .
الوجه الثاني: من حيث دلالته: قيل: (إنما نهى عنه لأنه في بيع الغنائم) (3) .
وقيل: (يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل الذهب؛ لأن صلاح المسلمين كان في ذلك، ففعل ما فيه صلاحهم؛ لا لأن بيع الذهب قبل أن ينزع مع غيره في صفقة واحدة غير جائز) (4) .
وقيل: إن الأمر بالفصل؛ لأن الذهب الذي مع القلادة أكثر من المنفصل؛ بدليل قوله: (ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، والثمن إما سبعة أو تسعة وأكثر ما روي أنه اثنا عشرا) (5) .فهو دونها على جميع الروايات، وليس في الحديث تعرض لما يكون الثمن أكثر من المبيع بحيث يعلم يقينا مساواة بعض الثمن لما قابله من جنسه، والزيادة في مقابلة المصاحب.
وأجيب على الوجه الأول بما يأتي:
بعد أن ساق البيهقي معظم هذه الروايات؛ قال: (سياق هذه الأحاديث مع عدالة رواتها تدل على أنها كانت بيوعا شهدها فضالة كلها والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها فأداها كلها، وحنش الصنعاني أداها متفرقة) (6) . قال ابن حجر: (والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب، وحينئذ فينبغي الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم، وتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة) (7) .
__________
(1) المجموع 10/236؛ وانظر: تلخيص الحبير 3/9؛ نيل الأوطار 5/197
(2) تلخيص الحبير 3/9
(3) شرح صحيح مسلم 4/102
(4) المجموع
(5) نيل الأوطار؛ الروض النضير 3/233 للسياغي
(6) السنن الكبري 5/293
(7) تلخيص الحبير 3/9؛ وانظر: نيل الأوطار 5/197(9/140)
وقال السبكي: (وليس هذا باضطراب قادح ولا ترد الأحاديث الصحيحة بمثل هذه الاحتمالات، وقوله صلى الله عليه وسلم ((لا يباع حتى يفصل)) صريح لا يحتمل التأويل، وكونه فضالة أفتى به في غير طريقة غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفي سماعه له، فقد يسمع الراوي شيئا ثم يتفق له مثل تلك الواقعة فيفتي بمثله) (1) .
وقال الشوكاني: (إنه لا اضطراب محل الحجة، والاضطراب في غيره لا يقدح فيه) (2) .
فهذه الروايات كلها متفقة على النهى عن البيع حتى يفصل ولا منافاة بينها فالجمع بينهما بذلك أولى من الحكم على بعضها بالغلط.
وأجيب على الوجه الثاني:
بأن القصة التي شهدها فضالة كانت متعددة فلا يصح التمسك بما وقع في بعضها وإهدار البعض الآخر. وبأن الحديث فيه دلالة على علة النهي، وهي عدم الفصل، حيث قال ((لا تباع حتى تفصل)) ، وظاهر ذلك عدم الفرق بين المساوي والأقل والأكثر، والغنيمة وغيرها.
إن القول بمقابلة الجملة بالجملة، والجزء الشائع بالشائع، لا يقتضي الربا والفساد، وإنما يقتضيه لو كان التفاضل لازما حقيقة، وذلك لا يكون إلا إذا قوبل معين بمعين، وتفاضلا، وحينئذ لا حاجة في التصحيح إلى التوزيع وصرف كل جنس إلى خلاف جنسه عينا، ونحن نقول: هو الأصل، وإنما قلنا: إذا كان تصحيح العقد يحصل باعتباره التوزيع وجب المصير إليه (3) .
ونوقش الدليل الثالث؛ وهو أن الصفقة إذا اشتملت على عوضين مختلفي القيمة. قالوا: هذه علة ضعيفة؛ فإن الانقسام إذا باع شقصا مشفوعا، وما ليس بمشفوع – كالعبد والسيف والثوب – إذا كان لا يحل، عاد الشريك إلى الآخذ بالشفعة، فأما انقسام الثمن بالقيمة لغير حاجة فلا دليل عليه.
__________
(1) المجموع 10/236؛ نيل الأوطار
(2) المجموع 10/236؛ ونيل الأوطار
(3) فتح القدير 7/146(9/141)
مناقشة أدلة المذهب الثاني:
1- إن قولهم بصرف الجنس إلى غير جنسه، والزايد في مقابلة الفاضل عن المثل. فيه تغيير تصرف العاقد؛ لأنه قابل الجملة بالجملة، ومن قضيته الانقسام على الشيوع، لا على التعيين (1) ، وهو أن يكون لكل واحد من البدلين نصيب من جملة الآخر. (وبأن اختلاف العوضين من الجانبين، أو من أحدهما يوجب اعتبار القيمة وتوزيع الثمن بالقيمة يوم العقد، فإذا باع عبدا وثوبا ثم خرج أحدهما مستحقا فإنه يرجع بقيمة المستحق من الثمن لا بنصف الثمن) (2) .
وقد أجيب على هذا (بأن الذي تغير وصف التصرف لا أصله؛ لأنه يبقى موجبه الأصلي وهو ثبوت الملك في الكل بمقابلة الكل) (3) .
2-وقولهم: (إنه طريق متعين للتصحيح، بأنه ليس كذلك، بل يحمل على ما يقتضيه من صحة وفساد، ولذلك لو باع بثمن وأطلق، وفي البلد نقود بطل، ولم يحمل على نقد أقرب البلاد إليه، أما إذا اشترى من إنسان شيئا، فإنه يصح؛ لأن الظاهر أنه ملكه؛ لأن اليد دليل الملك. وإذا باع لحما فالظاهر أنه مذكى؛ لأن المسلم في الظاهر لا يبيع الميتة) (4) .
الترجيح:
بعد عرض أدلة الفريقين، ومناقشتها، يترجح عندي، عدم جواز بيع السلعة التي معها ذهب مقصود في الشراء – والتي لا يتعذر فصلها – بالذهب حتى يفصل الذهب عن السلعة، ويباع مثلا بمثل، يدا بيد. وذلك لقوة دليل القائلين به؛ فحديث القلادة صحيح، وصريح في الموضوع، وإجابة المجيزين بأن الأمر بفصلها؛ لأن الذهب الذي مع القلادة أكثر من اثني عشرا دينارا، والثمن إما سبعة أو تسعة، وأكثر ما روي أنه اثنا عشر، فهو دونها في جميع الروايات؛ لا يقوى على دفع دلالة الحديث الذي ورد في بعض رواياته بصيغة النهي، والتي تفيد التحريم عند الأئمة الأربعة، وغيرهم من أهل التحقيق في الأصول (5) ، وتفيد البطلان عند جمهور العلماء (6) ،والفساد عند الحنفية (7) .ولأن الحديث فيه نص على علة النهي؛ وهي عدم الفصل؛ (لا تباع حتى تفصل) وظاهر ذلك عدم الفرق بين الأكثر، والأقل والمساوي، إلا إذا علمت المساواة يقينا.
ولأن قول المجيزين نوع اجتهاد، ولا يجوز الاجتهاد في مقابلة النص. أما إذا كان الذهب في السلعة تابعا لغيره، وغير مقصود بالشراء، أو لا يمكن فصله عنها، أو يمكن لكن يسبب إفسادها، فإني أرى جواز البيع، دون تحديد نسبة معينة. والقول بالجواز في حالة ما إذا كان الذهب لا يمكن فصله، أو أن فصله يسبب فساد السلعة المباعة هو قول جميع الفقهاء، عدا ابن حزم. والقول بجواز البيع إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره، وغير مقصود بالشراء، وهو قول جماهير العلماء، وهو الأصح من مذهب الشافعية، كما ذكره النووي (8) . وهو أصح القولين عند البغوي والرافعي وجزم به صاحب التتمة (9) .
__________
(1) فتح القدير 7/144
(2) المجموع 10/241؛ وانظر المغني 6/94
(3) الهداية 7/145
(4) المغني 6/94 و95
(5) الرسالة ص217-243؛ كشف الأسرار 1/256؛ البرهان 1/283؛ الإحكام في أصول الأحكام 2/174؛ شرح الكوكب المنير 3/83
(6) الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم 3/54، 2/82 وما بعدها؛ شرح تنقيح الفصول ص173؛ جمع الجوامع 1/393؛ نهاية السول 2/51؛ فواتح الرحموت (مع المستصفى) 1/396؛ حاشية سعد الدين التفتازاني 2/96؛ المسودة ص82، القواعد والفوائد الأصولية ص 192
(7) تيسير التحرير 1/ 375 و376؛ أصول السرخسي 1/81، شرح عضد الملة والدين 2/8؛ كشف الأسرار 1/256
(8) روضة الطالبين 3/ 386؛ وانظر مغني المحتاج 2/29
(9) المجموع 10/267(9/142)
يؤيد ما رجحته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن عمر: ((من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)) (1) .
فهذا الحديث دل على جواز دخول الثمرة في البيع؛ مع أن الأصل عدم جواز بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها؛ لكنها جازت هنا؛ لأنها جاءت تبعا للمبيع؛ ولأنها غير مقصودة، أو لأنها غير مقصودة، أو لأنها ليست المقصود الأعظم. وكذلك جوز بيع العبد مع ماله من مال فيبيعه سيده، ومعه ماله؛ ولو كان كله أو بعضه نقودا، بثمن نقدي، مع أن الأصل عدم جواز ذلك، إلا بشروط الصرف. لكنه جاز هذا البيع، لأن مال العبد جاء تبعا للمبيع، وغير مقصود بالشراء.
وقد أكد هذا عمل الصحابة والسلف من بعدهم. فقد روى المغيرة بن جبير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتاه رجل وهو يخطب فقال: يا أمير المؤمنين إن بأرضنا قوما يأكلون الربا، قال علي: وما ذاك؟ قال: يبيعون جامات (2) . مخلوطة بذهب وفضة بورق، فنكس علي رأسه وقال: لا، أي لا بأس به المغيرة بن جبير ذكره البخاري في تاريخه (3) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لا بأس ببيع السيف المحلى بالدراهم) (4) . وعن إبراهيم النخعي قال: كان خباب قينا وكان ربما اشترى السيف المحلى بالورق (5) .
__________
(1) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 5/49
(2) قال ابن بري: الجاما جمع جامة، وجمعها جامات، وتصغيرها جويمة، قال: وهي مؤنثة. (الجوم) أهمله الجوهري. قال الليث: كأنها فارسية، وهم (الرعاء يكون أمرهم واحدا) وكذا كلامهم ومجلسهم، والجاء إناء من فضة) عربي صحيح، قال ابن سيده: وإنما قضينا بأن ألفها واو لأنها عين. انظر تاج العروس 8/234. وفي المغرب ص96: الجام: طبق أبيض من زجاج أو فضة. وقال السيد أدي شير في كتاب الألفاظ الفارسية المعربة، ص49: الجام وهو معروف فارسيته جام. لكن الصواب ما جاء في تاج العروس
(3) المجموع 10/252؛ المحلى 9/552
(4) المجموع 10/252؛ المحلى 9/552
(5) المجموع 10/252؛ المحلى 9/552(9/143)
المبحث التاسع
شراء الذهب للاستعمال
وفيه عدة مطالب.
المطلب الأول
شراء الحلي للنساء
يجوز شراء الذهب لتتحلى به النساء بالإجماع؛ كالخلخال، والسوار، والخاتم، والقلادة، وكل ما جرت العادة بلبسه، ولم يبلغ حد الإسراف أو التشبه بالرجال. (1) . لحديث ((أحل الذهب لإناث أمتي وحرم على ذكورها)) . أخرجه النسائي، وهو حديث حسن (2) .
المطلب الثاني
شراء حلي الذهب ليستعمله الرجال
يحرم استعمال الرجال حلي الذهب، كالخاتم والسوار، وسن لغير حاجة بغير خلاف (3) . لحديث ((أحل الذهب لإناث أمتي وحرم على ذكورها)) (4) . أخرجه النسائي، وهو حديث حسن.
وبالنسبة للبيع فقال قال الحنفية: (إذا ثبت كراهة لبسها.. ثبت كراهة بيعها وصوغها) (5) .
أما المالكية والحنابلة فإنه يتخرج القول بتحريم شراء الذهب لهذا الغرض؛ لقولهم بسد الذرائع، اشتراطهم مشروعية السبب الباعث على العقد. ويتخرج ذلك على مذهب الظاهرية لاشتراطهم مشروعية السبب (6) . وقد نص عليه الإمام مالك ففي الأواني (7) .
أما الشافعية فيصح البيع عندهم؛ لأنهم لا يشترطون مشروعية السبب (8) .
قال القاضي أبو الطيب: في بيع الأواني: (البيع صحيح لأن المقصود عين يصح بيعها) (9) .
__________
(1) الشرح الصغير 1/62 و63؛ المجموع 6/36 وما بعدها؛ حواشي تحفة المحتاج 3/278؛ المغني 4/ 222؛ كشاف القناع 2/239
(2) النسائي 8/161ط المكتبة التجارية، انظر التلخيص الحبير 1/53
(3) الدر المختار 5/229؛ الشرح الصغير 1/62 و63؛ المجموع 6/36؛ المغني 4/222؛ الكشاف 2/239
(4) سنن النسائي 8/ 161، ط المكتبة التجارية؛ تلخيص الحبير 1/53
(5) رد المحتار 5/230
(6) المدونة 4/424 و425 و426؛ المحلى 9/653 و654؛ المغني 6/317 وما بعدها
(7) المدونة 3/416
(8) الأم 3/74
(9) المجموع 1/315(9/144)
والراجح عندي مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية، وهو حرمة شراء الذهب ليلبسه الرجال، وبطلان عقد البيع في هذه الصورة سواء نص عليه في العقد، أم كان مقصودا ولم ينص عليه وحرمت التجارة في هذا النوع من الحلي. ومرادي بلبسه؛ هو ما يضعه الرجل على شيء من بدنه. على أن هناك خلاف بين المذاهب الفقهية في بعض الصور والتفريعات في بعض حالات الاستعمال.
والدليل على ما رجحته، قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أحل الذهب لإناث أمتي وحرم على ذكورها)) (1) .
ولحديث علي رضي الله عنه قال: ((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ وأنا راكع، وعن خاتم الذهب، وعن القسي والمعصفر)) (2) .
قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (3) .
فالشارع جعل حكم الأعمال تابعا لنية المتصرف فإن قصد أمرا حلالا وقعت صحيحة، وإن قصد أمرا محرما وقعت باطلة (4) .
فما حرم استعماله حرم بيعه، وحرمت التجارة فيه، إلا أن يقصد من الشراء تحويله إلى صناعة أخرى، أو أن يلبسه النساء، أو يؤجر عليهن، ونحو ذلك فحينئذ لا بأس بالشراء.
__________
(1) سنن النسائي 8/ 161، ط المكتبة التجارية؛ تلخيص الحبير 1/53
(2) مسند الإمام أحمد 2/610، رقم الحديث 611. العصفر: نبت معروف، وعفصرت الثوب صبغته بالعصفر، فهو معصفر. اسم مفعول. المصباح. القس: هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتي بها من مصر، نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبا من تنيس، يقال لها القس، بفتح القاف. اللسان
(3) صحيح البخاري بشرحه 1/9؛ جامع العلوم والحكم ص5
(4) الموافقات 2/325 وما بعدها، طبعة بيروت، م دار المعرفة سنة 1395هـ / 1975م(9/145)
ويستثنى من المنع حالتان:
الحالة الأولى: شراؤه للحاجة؛ فقد قال جمهور الفقهاء بجواز اتخاذ أنف أو سن من الذهب أو شد الأسنان بالذهب للحاجة إليه (1) ؛ لحديث عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب (2) .
أنفا من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفا من ذهب رواه أبو داود والترمذي، وحسنه (3) .
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز اتخاذ السن أو شده بالذهب للرجال دون الفضة، لأن النص ورد في الأنف دون غيره، ولضرورة النتن بالفضة، وخالفهم محمد، وأما أبو يوسف فقيل مع محمد، وقيل مع الإمام) (4) .
ويتخرج على رأي أبي حنيفة عدم جواز البيع.
والراجح مذهب الجمهور، للاشتراك في العلة وهي الحاجة، أما شراء الذهب لتزيين الأسنان به للرجال دون حاجة فلا يجوز.
الحالة الثانية: تحلية آلات القتال بالذهب، مثل تحلية السيف. وقد اختلف الفقهاء في هذا. على قولين:
القول الأول: قال الحنفية والشافعية لا يجوز تحلية آلات القتال بالذهب لأن الأصل أن التحلي بالذهب حرام على الرجال إلا ما خصه الدليل ولم يثبت ما يدل على الجواز، ولأن فيه زيادة إسراف وخيلاء (5) .
ويتخرج على رأي الحنفية كراهة بيع الذهب لهذا الغرض (6) .
القول الثاني: قال المالكية والحنابلة يجوز تحلية السيف بالذهب سواء ما اتصل به كالقبيعة والمقبض، أو ما انفصل عنه كالغمد، وقصر الحنابلة الجواز على القبيعة. لأن عمر – رضي الله عنه – كان له سيف فيه سبائك من ذهب، وعثمان بن حنيف كان في سيفه مسمار من ذهب (7) .
ويتخرج على القول الثاني جواز بيع الذهب لهذا الغرض وهو الراجح عندي لحديث مزيدة قال ((دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة، قال طالب: فسألته عن الفضة، فقال: كانت قبيعة السيف فضة)) (8) .
قال الترمذي: وهذا حديث حسن غريب.
__________
(1) المجموع 6/35؛ الكشاف 2/238
(2) الكلاب – بضم الكاف وتخفيف اللام والباء – موضع؛ قيل: إنه بين البصرة والكوفة على سبع ليال من اليمامة، وقعت فيه وقعتان مشهورتان بين بعض القبائل العربية، في الجاهلية؛ الأولى بين بكر وتغلب، والثانية، ويسمى يومها يوم الصعقة، بين تميم وأهل هجر الحارثيين وغيرهم. وفي الثانية حضر عرفجة، وأكثم بن صيفي، والزبرقان بن بدر.. انظر: معالم السنن للخطابي مع سنن أبي داود 4/434؛ شرح ابن العربي على صحيح الترمذي 7/269
(3) سنن أبي داود، وصحيح الترمذي
(4) رد المحتار 5/231
(5) رد المحتار 5229؛ الشرح الصغير 1/61؛ حاشية الدسوقي 1/63؛ المجموع 6/36 وما بعدها. قبيعة السيف: ما يجعل على أطراف القبضة
(6) رد المحتار 5/230
(7) كشاف القناع 2/238؛ المبدع 2/372؛ المنتقى 4/268 وما بعدها
(8) صحيح الترمذي بشرح ابن العربي 7/184؛ وانظر: التلخيص الحبير 1/52(9/146)
المطلب الثالث
شراء أواني الذهب
وفيه فرعان:
الفرع الأول – شراء أواني الذهب للاستعمال:
يحرم استعمال أواني الذهب، كالملاعق، والصحون، والسكاكين، ونحوها، على الرجال والنساء، وعلى مذاهب الأئمة الأربعة. لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)) رواه الجماعة (1) .
ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن الشرب في آنية الفضة؛ حيث قال: ((من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة)) (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) متفق عليه (3) . وغير الأكل والشرب من وجوب استعمال في معناهما لأن ذكرهما خرج مخرج الغالب.
وبناء على حرمة استعمالها فإنه يحرم شراء أواني الذهب عند الحنفية، والمالكية، ويتخرج القول بالحرمة على مذهب الحنابلة لقولهم بسد الذرائع، واشتراطهم مشروعية السبب. إذا كان الشراء لغرض الاستعمال؛ لأن ما حرم استعماله حرم شرائه (4) . جاء في المدونة: (كان مالك يكره هذه الأشياء التي تصاغ من الذهب والفضة مثل الأباريق، وكان مالك يكره مداهن الفضة والذهب ومجامر الذهب والفضة سمعت ذلك منه والأقداح واللجم والسكاكين المفضضة وإن كانت تبعا لا أرى أن تشترى) (5) .
أما الشافعية فيصح عندهم شراء أواني الذهب والفضة ما لم ينص في العقد على الاستعمال؛ وذلك بناء على عدم اشتراط مشروعية السبب عندهم (6) . وقد نص القاضي أبو الطيب من الشافعية على صحة بيع أواني الذهب والفضة (7) .
أما إذا كان الشراء لغير غرض الاستعمال فإنه يصح شراء أواني الذهب والفضة، لأنهما مقصودان بذاتهما؛ ولأن المانع من جواز البيع عند من قال به هو الاستعمال، فإذا انتفى استعمالهما؛ انتفى المانع؛ فجاز شرائهما. جاء في مواهب الجليل: (وأما بيعها فجائز لأن عينها تملك إجماعا) (8) .
__________
(1) صحيح البخاري بشرحه 9/554. الصحاف جمع صحفة، كقصعة وقصاع، والصحفة دون القصعة؛ قال الكسائي: القصعة ما تسع ما يشبع عشرة والصحفة ما يشبع خمسة. انظر: المجموع 1/308
(2) صحيح مسلم بشرحه 4/769
(3) صحيح البخاري بشرحه 10/96؛ صحيح مسلم 4/763 و764. الجرجرة: هي صوت وقوع الماء بانحداره في الجوف
(4) رد المحتار 5/230؛ المدونة 3/416؛ وانظر: المنتقى 4/268 و269؛ 1/128، مواهب الجليل 4/330
(5) المدونة 3/416
(6) الأم 3/74؛ المجموع 1/ 307 و311
(7) المجموع 1/215
(8) 1/128(9/147)
والدليل على ما ذكرناه ما يأتي:
1- عن أبي قلابة قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار فجاء أبو الأشعث قال: قالوا أبو الأشعث أبو الأشعث فجلس، فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت قال: نعم غزونا غزاة وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة فكان فيما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس فتسارع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت، فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى.. الحديث (1) .
وجه الدلالة: هو بيع معاوية – رضي الله عنه – آنية من فضة، وعدم إنكار عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – لبيع الآنية المذكورة، وإنما أنكر عدم التماثل، وإنكاره لعدم التماثل، يفهم منه تجويزه لهذا البيع إذا تحقق التساوي؛ يؤيده استشهاده للحكم الذي قرره، وهو المنع عند التفاضل، أو عدم التقابض، والجواز عند التساوي والحلول، بقوله: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... إلا سواء بسواء عينا بعين)) .
فدل هذا على جواز بيع أواني الذهب أو الفضة للاقتناء، أو لغيره من الأغراض، عدا غرض الأكل فيها، أو الشرب منها، أو لبسها. وهذه المستثنيات، فهمت من أحاديث المنع من الاستعمال في الأغراض المذكورة.
2- روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن (2) . قال أحمد شاكر: الحديث صحيح (3) .
وجه الدلالة: أن أبا الدرداء لم ينكر على معاوية بيع السقاية التي هي من ذهب أو فضة، وهي كأس كبيرة يشرب بها، ويكال بها، وإنما أنكر عليه البيع مع عدم التساوي؛ يؤيده قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل. ومفهومه أنه إذا كان مثلا بمثل يصح البيع. فدل على جواز بيع أواني الذهب والفضة. وكذلك عمر بن الخطاب لما كتب إليه لم ينكر عليه بيع السقاية، وإنما أنكر عليه عدم التماثل، وأمره أن لا يبيعها إلا مثلا بمثل. فدل أيضا: على جواز بيع أواني الذهب والفضة إذا توفرت شروط التماثل، والحلول.
__________
(1) صحيح مسلم بشرحه 4/97، سبق إيراده كاملا
(2) الموطأ 2/492؛ منتقى الأخبار 4/261
(3) الرسالة فقرة 15 ص73(9/148)
الفرع الثاني- شراء أواني الذهب للاتخاذ أو الزينة:
اختلف الفقهاء في حكم اتخاذ آنية الذهب.
فمذهب الحنفية، وهو قول عند المالكية، والصحيح عند الشافعية، وراوية عند الحنابلة: يجوز اتخاذ آنية الذهب والفضة (1) .
ومذهب الحنابلة، وقول ثان للمالكية، والأصح عند الشافعية، حرمة اتخاذ آنية الذهب والفضة؛ لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال (2) ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يحرم اتخاذها في أشهر الروايتين، فلا يجوز صنعتها، ولا استصياغها، ولا اقتناؤها، ولا التجارة فيها؛ لأنه متخذ على هيئة محرمة الاستعمال، فكان كالطنبور وآلات اللهو، ولأن اتخاذها يدعو إلى استعمالها غالبا فحرم كاقتناء الخمر والخلوة بالأجنبية) (3) .
فعلى القول الأول، وهو مذهب الحنفية والمالكية والصحيح من مذهب الشافعية، ورواية عند الحنابلة يجوز شراء أواني الذهب والفضة، إذا كان الشراء للاقتناء؛ لأن ما جاز اتخاذه، جاز شراؤه. قال الحطاب: (وأما بيعها فجائز لأن عينها تملك إجماعا) (4) .
ويتخرج على مذهب الحنابلة حرمة بيع وشراء أواني الذهب والفضة؛ لأن ما حرم اتخاذه حرم بيعه.
والراجح عندي جواز شراء أواني الذهب والفضة سواء كانت خالصة، أو مموهة، إذا كان الشراء لغرض القنية، أو الزينة؛ كالتحف، ونحوها، لا لغرض الاستعمال. يؤيده بيع معاوية آنية من فضة، ولم ينكر عليه عبادة ولا أبو الدرداء، كما بينا وجه دلالته في المطلب السابق.
وقياسها على آلات اللهو والطنبور لا يصح في نظري، لأن هذه لا فائدة فيها، أما أواني الذهب والفضة، فإن لها قيمة مادية في ذاتها بصرف النظر عن كونهما آنية، ولأنه يمكن تحويلهما والاستفادة منهما في غير الاستعمال.
__________
(1) رد المحتار 5/218، مواهب الجليل، والتاج والإكليل 1/128؛ الذخيرة 1/ 167، نهاية المحتاج 1/104؛ المجموع 1/308 و313؛ الإنصاف 1/80
(2) مواهب الجليل؛ المجموع؛ نهاية المحتاج؛ كشف القناع 1/51؛ الذخيرة
(3) العدة 1/115؛ وانظر: المغني 1/103
(4) مواهب الجليل، والتاج والإكليل 1/128؛ الذخيرة(9/149)
المطلب الرابع
شراء المموه بالذهب
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى – شراء الآنية المموهة بالذهب:
التمويه: هو طلاء الإناء، المصنوع من نحاس أو حديد أو نحوهما بماء الذهب أو الفضة ماء الذهب: هو سائل ناتج عن إذابة قطعة من الذهب بوضعها في سوائل كيماوية مثل: نتريك أسد مع كلودريك أسد، فينتج عن هذا ماء الذهب، ويسمى الماء الملكي، فيطلى به، أو يكتب به، وعندما يتعرض للشمس يجف.
من الطرق التي تتبع في طلاء الأشياء بالذهب، ما ذكره مالكولم بر، في كتابه الذهب.
فقال:
(والعجب العجاب أن يحول الذهب إلى رقائق رفيعة جدا بواسطة الطرق. فلو حاولت أن تطرق معدنا آخر، فإنه ينكسر، ولكن الذهب له من الليونة ما يكفي لأن يطرق حتى يصير رقائق في منتهى الدقة إلى درجة أن الرقيقة لا تكاد تكون متماسكة الأجزاء. توضع قطع صغيرة جدا من الذهب بحيث أن كل خمسة وسبعين قطعة منها تزن أوقية واحدة، بين ورقات سميكة من الورق المقوى، وتجعل حزمة أو لفافة. ثم تطرق هذه اللفافة لمدة عشرين دقيقة بمطرقة تزن سبعة عشر رطلا. فنجد بعد ذلك أن كل قطعة من ذلك الذهب تغطي مساحة قدرها ثلاث بوصات مربعة ونصف البوصة. ومع ذلك فإن صانعي الذهب لا يقنعون بهذا، بل يمضون في الطرق لمدة ساعتين أخريين. وهكذا تغدو رقيقة الذهب رفيعة جدا، حتى إنك إذا تنفست أمامها طارت، رغم أن كثافة الذهب عالية. ولو لمستها بيدك لاستحالت إلى ذرات رفيعة دقيقة. بعد ذلك يمكن أن تكسى بها الأشياء بفرجون كما لو كانت طلاء فتبدو الأشياء التي تطلى بها كما لو كانت مصنوعة من الذهب المصمت ... كذلك تستعمل رقائق الذهب في طبع العناوين على أغلفة الكتب وفي كتابة اللافتات" ص15 و16.
(وهناك طريق أخرى لتغطية مختلف المصنوعات المعدنية بقشرة من الذهب حتى تبدو كأنها مصنوعة من الذهب الخالص، وهذه الطريقة لا تكلف ثمنا باهظا كما يكلف الذهب المصمت. وذلك بأن تضغط صفيحة رقيقة من الذهب فوق لوح من النحاس أو الفضة تحت ضغط شديد، فليتصق الذهب بلوح المعدن الآخر، فيبدو الأخير كأنه من خالص الذهب، وهو أرخص من الطلاء بالذهب، ويعيش طويلا دون أن يتآكل. فمتى ضغط الذهب جيدا في المعدن الآخر، أمكن قطع اللوح إلى أي شكل أريد، أو طرق إلى صفائح رقيقة، أو سحب إلى أسلاك رفيعة، أو حول إلى أنابيب، وفي كل هذه الأحوال تظل القشرة الذهبية منتظمة السمك في كل جزء من الأشياء الناتجة) ص 17. مثل أن تطلى الأباريق، أو فناجيل الشاي أو نحو ذلك، من الأواني المعدة للأكل فيها، أو الشرب منها.(9/150)
اختلف الفقهاء في حكم استعمال الآنية المموهة على قولين:
القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية والشافعية في الأصح عندهم إلى جواز استعمال الآنية المموهة بذهب أو فضة سواء في الأكل أو الشرب أو غير ذلك. لكن قيده الحنفية والشافعية بما إذا لم يتجمع منه شيء إذا عرض على النار؛ لقلة المموه به فكأنه معدوم، وأما ما يمكن تخليصه، واجتماع شيء منه فعند أبي حنيفة ورواية عن محمد جواز استعماله، ولا يجوز عند أبي يوسف ورواية عن محمد. وعند الشافعية وجهان. والأصح لا يحرم. وعلله المالكية بأنه ليس إناء ذهب (1) .
وأما الحنابلة فلا يجيزون استعمال الآنية المموهة بالذهب أو الفضة.
(وقيل: إن كان لو حك لاجتمع منه شيء حرم وإلا فلا) (2) . واستدلوا بما روى ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شرب من إناء ذهب، أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) (3) .
قال الدارقطني: إسناده حسن.
وبالنسبة لبيع وشراء الأواني المموهة بالذهب أو الفضة فجائز عند المالكية والشافعية، ويتخرج جوازها عند الحنفية بناء على القول بجواز استعمالها (4) ويتخرج عدم جواز ذلك عند الحنابلة.
والراجح عندي عدم جواز بيع وشراء الأواني المموهة بالذهب أو الفضة إذا كان لغرض الاستعمال لحديث ابن عمر الدال على النهي عن استعمال الآنية التي فيها شيء من الذهب أو الفضة وهذا يتحقق في المموه. ولوجود علة المنع وهي السرف والخيلاء، فإذا حرم الاستعمال حرم البيع.
__________
(1) البدائع 2/982، ط الأولى؛ المجموع 1/221 و322، مواهب الجليل 1/128 وما بعدها؛ نهاية المحتاج 1/104؛ الشرح الصغير 1/62
(2) كشاف القناع 1/51
(3) سنن الدارقطني، كتاب الطهارة، باب أواني الذهب والفضة 1/40؛ وانظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/29
(4) مواهب الجليل؛ المجموع(9/151)
المسألة الثانية – شراء التحف أو الثريات، أو مقابض الأبواب المموهة بالذهب:
بعض الأشياء التي تصنع من الحديد، أو النحاس، كمقابض الأبواب والأجزاء الثابتة من الثريات الكهربائية، ونحوها، تدهن نسبة قليلة جدا من الذهب، لتعطيها منظرا جميلا، ولتحميها من الصدأ، ونحوه. ونظرا لقلة الذهب فيها، فإنه لا يتحمل عوامل التعرية، فيدهنه الصاغة بدهان آخر يسمى – روديوم – يساعد على تثبيت الذهب.
ذهب الحنفية والمالكية والشافعية في الأصح إلى جواز استعمال الرجل ما موه بذهب أو فضة مما يجوز له استعماله من الحلي؛ كالخاتم إذا لم يخلص منه شيء بالعرض على النار؛ لأن الذهب والفضة على هذه الصفة مستهلك فصار كالعدم.
وقال الحنابلة: يجوز استعمال المموه – غير الآنية – إن تغير لونه، وبحيث لا يحصل منه شيء إذا عرض على النار.
أما بالنسبة لبيع الأمور المذكورة والتجارة فيها فيصح ذلك عند المالكية والشافعية؛ لأنهم أجازوا بيع أواني الذهب والفضة الخالصة، فيكون بيع المموه جائزا عندهم من باب أولى؛ لأنهم يجيزون استعمالها. ويتخرج جواز ذلك عند الحنفية، لتجويزهم استعمالها.
ويتخرج على مذهب الحنابلة جواز البيع بالقيود التي ذكروها، أما بدونه فلا يجوز عندهم.
الراجح عندي جواز بيعها والتجارة فيها؛ لأن غير الأواني أمرها أخف؛ ولأن نصوص المنع نص في أواني الأكل والشرب واللباس؛ ولأن هذه ليست ذهبا ولا فضة، ولو عرضت على النار لا يخلص منها شيء، ولأنه ربما تدعو لها الحاجة؛ لأن بعض المعادن كالحديد ونحوه يتعرض للصدأ، أو يتغير لونه؛ فيكون قبيح المنظر، فيحتاج إلى طلائه بماء الذهب، وهي قشرة رقيقة.(9/152)
المبحث العاشر
أهم أساليب تجارة الذهب في الأسواق العالمية في هذا العصر
من مجالات الاستثمار التي تقوم بها المصارف العالمية التجارة في الذهب، إلى جانب التجارة في بقية المعادن النفيسة، والعملات الأخرى. كما أن هذا النوع من التجارة تمارسه المؤسسات، كما يمارسه الأفراد.
ويباع الذهب على شكل سبائك مكعبة، أو مسحوق ناعم، أو مسكوكات، ويترواح وزن السبيكة بين 6 – 7 كيلو جرامات، وأما مسحوق الذهب فيوضع ضمن صناديق من التوتيا الملحومة (1) .
وتطبق المصارف العالمية، والأسواق العالمية تجارة الذهب، وغيره من العملات إما بالأسعار الحاضرة أو الآجلة عمليات الصرف على أساس السعر الحاضر. وهذه حالتان: التبايع، والتواعد.
فإذا تم التعاقد بواسطة التلفون، وأكد بالبرقية، أو الفاكس، فإنه يتم إنهاء هذه خلال يومي عمل، بخلاف اليوم الذي تم التعاقد فيه.
فإذا كان التعاقد تم يوم الثلاثاء فإنه يكون التسليم والتسلم هو يوم الخميس، ويكون تاريخ هذا اليوم هو تاريخ الاستحقاق، ولا تحسب أيام العطلات الرسمية في حساب تواريخ الاستحقاق؛ فلو تعاقد مصرفان كل منهما في بلد آخر يوم الجمعة فإنه يكون تاريخ الاستحقاق هو يوم الثلاثاء؛ لأن يومي السبت والأحد هما يوما عطلة رسمية في أوروبا، وتحديد مهلة اليومين يعتبر من متطلبات إجراءات التسوية بين المتعاملين.
وقد أصبح قاعدة عامة في التعامل الدولي، كما قد يضاف إلى ذلك عامل الفرق الزمني بين الأسواق المختلفة في أنحاء العالم، فهناك فرق زمني يترواح بين 5 –6 ساعات بين أوروبا وأمريكا، ويزداد هذا الفارق كلما اتجهنا إلى غرب أمريكا، وكذلك بالنسبة للفارق الزمني بين أسواق الشرق الأقصى (طوكيو، هونج كونج، سنغفورة وأوربا) (2) .
والإجراءات التي يجب اتباعها في تنفيذ عملية بيع أو شراء الذهب، أو العملات بين المصارف التجارية في أنحاء العالم هي كما يلي:
__________
(1) عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية، للدكتور أحمد محيى الدين حسن، ص348
(2) النقد الأجنبي، لسيد عيسى، ص24- 25؛ تحول المصرف الربوي إلى مصرف إسلامي، لسعود محمد الربيعة 1/273 و274(9/153)
1- الاتفاق بين الطرفين عن طريق الهاتف على بيع أو شراء كمية من الذهب، ثم تبادل مراسلي كل من الطرفين، وعنوانهما، وأرقام حساباتهما لديهما.
2- يقوم كل من الطرفين بتأييد الاتفاق الذي تم بينهما – بالهاتف – برسالة تلكس لتأكيد الأمر وإثباته.
3- بعد ذلك يقوم كل من الطرفين بالاتصال بمراسله، ويطلب بائع الذهب تحويل الكمية المشتراة من حسابه إلى حساب الطرف الآخر إما في نفس المصرف، أو في مصرف آخر بحسب رغبة الطرف الآخر. ويطلب المشتري تحويل مبلغ معين من حسابه – وهو قيمة الذهب – إلى حساب الطرف الآخر إما في نفس المصرف أو في مصرف آخر بحسب رغبة الطرف الآخر.
4- عند وصول كمية الذهب إلى حساب المشتري، ووصول قيمته إلى حساب البائع يصل إلى كل من الطرفين إشعار من مراسله بوصول المبلغ إلى حسابه.
5- في حالة عدم وصول كمية الذهب إلى حساب المشتري أو القيمة إلى حساب البائع يتم الاتصال بالطرف الآخر لمعرفة سبب التأخير.
6- في حالة التنازع بين الطرفين حول عملية البيع أو الشراء تتم المصالحة بينهما في نادي العمليات الخارجية (الديلنغ روم) بتقسيم الخسارة الواقعة بين الطرفين.
7- في حالة عدم التصالح في نادي العمليات الخارجية يقوم كل من الطرفين بإحالة المشكلات للمصرف المركزي الذي في بلده لكي يقوم بحلها مع المصرف المركزي في بلد الطرف الآخر.
8- في حالة عدم الاتفاق بين المصرفين المركزيين المذكوريين تحال المشكلة لمحكمة دولية للنظر في القضية والحكم فيها (1) .
__________
(1) تحول المصرف الربوي إلى مصرف إسلامي ص 274(9/154)
الحكم الشرعي للعمليات الحاضرة:
قال بعض الباحثين (1) . بجواز عمليات الصرف الحاضرة، دون أو يوضح المراد بالحاضرة. وتبعه آخرون ظنا منهم أن المراد بالعمليات الحاضرة تعني معناها الحقيقي.
والذي أراه أن عمليات بيع الذهب الحاضرة وبقية عمليات الصرف على الصورة التي ذكرناها، والتي تطبقها المصارف العالمية، وأسواق العملات العالمية غير جائزة شرعا، والعقود التي تمارس على هذه الصورة هي عقود باطلة؛ لا يعتد بها شرعا، ولا يترتب عليها أثر. لأنها مخالفة لأحاديث رسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة. فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد ... )) (2) .
في حديث أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد)) (3) .
والشاهد من الحديثين قوله صلى الله عليه وسلم: ((يدا بيد)) . فاشترط التقابض من البائع والمشتري قبل أن يتفرقا من مجلس العقد.
وقال ابن المنذر: (وقد أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد) (4) .
وكان التطبيق العملي الذي وقع بين أوس بن الحدثان النصري وبين طلحة بن عبيد الله خير شاهد على فساد عمليات بيع الذهب وأنواع الصرف الأخرى إلا بالتقابض في المجلس؛ لأن للحادثة المذكورة وجه شبه بما يسمى بعمليات الصرف الحاضرة، ومع أن أوسا وطلحة كانا حاضرين، وفي بلد واحد، إلا أن نقود أحدهما مقبوضة، ونقود الآخر لم تقبض بعد، فقد منعهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أن يتفرقا قبل أن يقبض كل منهما نقوده، بل أكد هذا المنع بالقسم، فقال: ((والله لا تفارقه حتى تأخذ منه)) وهل كان هذا اجتهادا من عمر؟ لا. وإنما كان قوله هذا تطبيقا عمليا للحكم الذي فهمه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء)) . ومعنى هاء وهاء: خذ وهات.
__________
(1) تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، للدكتور سامي حمود ص313 وما بعدها
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 4/97؛ ورواه الجماعة إلا البخاري
(3) سبق ذكر الحديث بتمامه. انظر: صحيح مسلم بشرحه 4/95؛ وصحيح البخاري بشرحه 4/380
(4) الإجماع ص79؛ المغني 6/112(9/155)
فاشتراط التقابض يدا بيد غير متوفر في عمليات بيع الذهب التي يطلق عليها العمليات الحاضرة، والتي بينا معناها، وخطواتها؛ لأنه لا يتم التقابض فيها إلا في اليوم الثالث من يوم العقد، وإن صادف عطلة فيكون في اليوم الرابع، أو الخامس. فهي غير جائزة شرعا.
أما رسالة التلكس التي يتبادلها المتعاقدان فهي تمثل الإيجاب والقبول فقط. ولا تمثل تقابضا للمبيع وثمنه.
كيف يمكن تصحيح هذه العملية؟
نظرا لأن التجارة في الذهب وغيره من العملات هي إحدى وسائل الاستثمار، والتي يمكن للمصارف الإسلامية، والمؤسسات الإسلامية، والأفراد، الأخذ بها؛ رغبة في زيادة أرباحها، وتنويعا في وسائل استثمارها؛ وحيث إن هذه العملية تتم بين عاقدين كل منهما في بلد بعيد عن العاقد الآخر.
مثل أن يكون المشتري بنك فيصل الإسلامي البحريني، والبائع بنك لندن.
فإني أقترح أن تتخذ المصارف الإسلامية وكيلا موحدا لها، في كل سوق من أسواق الصرف، والسلع العالمية التي يكثر نشاطها فيها، تسهيلا لمعاملاتها، وتقليلا لنفقاتها، واطمئنانا لسلامة مشترياتها من الغش. ودور الوكيل هو القيام بتنفيذ العقود وإبراهما، والقبض، والإقباض. بعد أن يتلقى الأوامر من المصرف الموكل، وبعد أن يقوم المصرف المذكور بالدراسة، والمساومة، ولا يبقى إلا إبرام العقود، حينئذ يوجه أوامره إلى وكيله لإتمام الصفقة المشتراة، أو المباعة.
فإذا كان مصرف فيصل البحريني سيتولى العقد والقبض والإقباض مع بنك لندن، فإنه حينئذ يجب تطبيق شروط الصرف التي سبق بيانها.
وقد ظهر لي جواز هذا العقد لما يأتي:(9/156)
أولا: بالنسبة للقبض. سبق أن بينا أن القيد الدفتري في حساب المشتري في المصرف يعتبر قبضا، وقد صدر بهذا قرار كل من مجمع الفقه الإسلامي بمكة، وجدة. وأما أن المصرف الذي اشترى الذهب منه هو الذي يقبض المبيع من نفسه فجائز أيضا؛ لأن المشتري وكله؛ والوكالة في الصرف جائزة عند جمهور العلماء؛ الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والراجح عند المالكية (1) .
قال البهوتي: (فإن أذن له – أي في مصارفة نفسه – جاز. فيتولى طرفي عقد المصارفة) وقال: (ويصح قبض وكيل من نفسه لنفسه) (2) . وقال ابن جزي: (تجوز الوكالة على الصرف إن تولى الوكيل العقد والقبض وأمن التأخير) (3) فمصرف لندن وهو البائع يمكن أن يقبض ثمن الذهب شيكا؛ لأنه يقوم مقام النقود، كما سبق أن بيناه. أو بالفاكس، أو بالتلفون إذا كان للمشتري فيه حساب يمكن الحسم منه. ويمكن أن يقبض الذهب من نفسه للمشتري، ويقيده في حساب المشتري (بنك فيصل الإسلامي البحريني) .
وإذا كان المشتري مصرف لندن، ولديه رصيد من الذهب لمصرف فيصل البحريني، وباعه، أو باع جزءا منه على مصرف لندن، واقتطعه مصرف لندن من الحساب الذي لديه، وقبض ثمن الذهب قبل الافتراق من المجلس وإن تباعدا. صح العقد. ويمكن تخريجه على ما ذكره الفقهاء في المصارفة بالوديعة. وقد بينا جواز المصارفة بها عندهم (4) .
وقولي إن القيد الدفتري في حساب المشتري يعتبر قبضا مشروطا بوجود كمية الذهب المشتراة في المصرف البائع، لأنه يقع كثيرا أن تبيع المصارف كميات من الذهب، أو العملات الأخرى دون أن يكون عندها المقدار المشترى، وذلك لعلمها أن المشتري لا يطلب استلام ذهبه، أو عملته التي اشتراها؛ لأنه يعتمد على القيود الدفترية فقط، وعلى هذا فالمصارف تبيع شيئا غير مملوك لها، فضلا عن أن يكون موجودا لديها. وإذا كان ذلك كذلك فإن العقد باطل، وحرام شرعا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: ((لا تبع ما ليس عندك)) (5) . قال الترمذي: حديث حسن. وقال عنه في رواية أخرى: حسن صحيح. ولأن القيد الدفتري والحالة هذه لا يمثل قبضا، وإنما هو وسيلة خداع.
وتأكيدا لوكالة المشتري للبائع فإني أرى أن يكتب في ورقة إثبات البيع وتقييده في حساب المشتري العبارة التالية (وذلك بناء على توكيل المشتري للمصرف ... بالقبض) .
وقبض الذهب بالصورة التي ذكرناها هو قبض حقيقي؛ لأنه تم باليد، بواسطة الوكيل. وقبض ثمنه بالشيك قبض حكمي، وفي معنى القبض باليد.
ثانيا: إبرام العقد بوسائل الاتصال الحديث كالتلفون، والبرق؛ والسلكي، واللاسلكي، وبالتلكس، وبالفاكسملي، وبالراديو، وبالتلفزيون، وبالقمر الصناعي، وبالانترفون، أو ما يقوم مقامه وبكل وسيلة تم استخدامها، أو تكتشف فيما بعد؛ وهي مساوية في الوضوح، والسرعة، لهذه الآلات، يكون صحيحا من حيث صحة الإيجاب والقبول، ولزومهما، أو فسخهما. ومن حيث اتحاد مجلس العقد. لأن الرضا هو الأساس في إبرام العقود، ولهذا جاز التعاقد بالرسالة والكتابة والإشارة، مع أن كلا من العاقدين بعيد عن الآخر لا يراه، ولا يسمع صوته، بل أن التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة، أقوى، وأوضح، وأسرع، من التعاقد بواسطة الرسول أو الخطاب، لأن كلا من العاقدين يخاطب الآخر، ويماكسه، ويستطيع أن يستوضح كثيرا من المواصفات والشروط التي يصعب تحقيقها بالرسالة، أو بالخطاب؛ فهي جائزة بدلالة مفهوم الموافقة الأولوي. أي صح ذلك من باب أولى.
ويفهم من نصوص الفقهاء رحمهم الله ما يؤيد صحة هذا القول، قال ابن الهمام عند شرحه لعبارة (البيع ينعقد بالإيجاب والقبول يعني إذا سمع كلام الآخر) (6) . وهذا متحقق في التلفون ونحوه.
__________
(1) المبسوط 14/4؛ رد المحتار 4/234؛ البدائع 5/216؛ حاشية القليوبي 2/167؛ المقدمات 2/18؛ مغني المحتاج 2/22؛ كشاف القناع 3/266؛ مواهب الجليل 4/308؛ القوانين الفقهية ص251؛ الشرح الصغير مع بلغة السالك 2/15؛ البيان والتحصيل 6/455
(2) كشاف القناع 3/267؛ وانظر: المصدر السابق ص246، الإنصاف 4/470، شرح منتهى الإردات 2/190 و191، مجلة الأحكام الشرعية م336
(3) القوانين الفقهية ص250
(4) انظر المطلب الثاني من المبحث التاسع
(5) صحيح الترمذي بشرحه 5/242 و243
(6) فتح القدير 6/248(9/157)
ونقل ابن قدامة عن الإمام مالك رحمه الله قوله: (يقع البيع بما يعتقده الناس بيعا) (1) .
وقال ابن قدامة: (ولنا [يعني الحنابلة] أن الله أحل البيع ولم يبين كيفيته، فوجب الرجوع فيه إلى العرف، كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفرق) (2) .
وقال النووي: (لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف، وأما الخيار فقال إمام الحرمين: يحتمل أن يقال: لا خيار لهما؛ لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته قال: ويحتمل أن يقال: يثبت ما داما في موضعهما فإذا فارق أحدهما موضوعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر أو يدوم إلى أن يفارق مكانه؟ فيه احتمالان للإيمان، وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما دام في موضعهما فإذا فارق أحدهما ووصل إلى موضع لو كان صاحبه معه في الموضع عد تفرقا حصل التفرق وسقط الخيار، هذا كلامه والأصح في الجملة ثبوت الخيار وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه وينقطع بذلك خيارهما، وسواء في صورة المساءلة كانا متباعدين في صحراء أو ساحة أو كانا في بيتين من دار، أو في صحن وصفة؛ فصرح به المتولي) (3) .
فيظهر مما نقلناه عن الشافعية أن المتعاقدين لا يشترط فيهما قرب المكان، ولا رؤية بعضهما في صحة العقد.
وممن أجاز عقود البيع بوسائل الاتصال الحديثة من الفقهاء المعاصرين الشيخ أحمد إبراهيم بك؛ والشيخ محمد بخيت المطيعي، مفتي الديار المصرية سابقا، والشيخ مصطفى أحمد الزرقا والدكتور وهبة الزحيلي والدكتور محمد مصطفى شلبي، وغيرهم (4) .
قال الشيخ أحمد إبراهيم: (وأما العقد بالتلفون فالذي يظهر أنه كالعقد مشافهة، مهما طالت الشقة بينهما، ويعتبر العاقدان كأنهما في مجلس واحد، إذ المعنى المفهوم من اتحاد المجلس أن يسمع أحدهما كلام الآخر ويتبينه وهذا حاصل في الكلام بالتلفون) (5) .
لكني أرى وجوب تثبت كل من العاقدين من شخصية صاحبه، وصحة ما تنسبه إليه الأدلة من أقوال أو أفعال، كي لا يدخل اللبس والتزييف من أحد الطرفين، أو من طرف ثالث (6) .
__________
(1) المغني 6/7
(2) المغني ص8
(3) المجموع 9/139؛ روضة الطالبين 3/438
(4) الفقه الإسلامي وأدلته 4/108؛ مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السادس، 2/887؛ المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي، للدكتور محمد مصطفى شلبي ص423
(5) العقود والشروط والخيارات؛ مجلة القانون والاقتصاد، سنة 4، عدد 5، ص656
(6) مجلة مجمع الفقه الإسلامي؛ العدد السادس، 2/789؛ الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور.(9/158)
ويشترط أن تكون صيغة العقد موافقة لمتقضى الشرع حسب ما فصله الفقهاء؛ لئلا يراد منها السوم، ومعرفة السعر فقط، وما شابه ذلك من الحيل التي يتخذها التجار؛ مثل أن يرسل أو فاكسا، لا لغرض التعاقد، بل لمعرفة السعر مثلا، أو إظهار نفاق البضاعة، أو غير ذلك. فحينئذ لا تكون الصيغة بهذه الوسائل صالحة لتكوين العقد.
ثالثا: اتحاد المجلس، وعدم التفرق قبل إتمام عقد البيع، وإن طالت مدة المجلس، ويعتبر مجلس العقد متحدا، ولو لم ير أحد العاقدين الآخر؛ مثل أن يكون الموجب في بلد، والقابل في بلد آخر، كما في مجلس العقد في حالة إرسال رسول، وإرسال كتاب إلى من وجه إليه إيجاب الموجب. فإذا تم العقد بين الموجب والقابل بواسطة التلفون، أو الفاكس، أو البرقية التي تصل في الحال. وقبل الافتراق – وإن كان كل من العاقدين بعيدا عن الآخر – وأرسل المشتري شيكا إلى البائع، بواسطة الفاكس، أو أي وسيلة أخرى طبقت في هذا العصر، أو يتم تطبيقها مستقبلا، وتمثل النقود، أو تكون وسيلة تصرف النقود بها في الحال، وتكون مقبولة عرفا، وغير مخالفة شرعا. واستلم البنك البائع القيمة، وقيد كمية الذهب المشتراة في حساب المشتري لديه، أو سلمها لمندوب المشتري، فالذي أراه أن العقد صحيح؛ لأننا اعتبرنا البائع وكيلا في القبض عن المشتري؛ ولأن الإيجاب والقبول تم بوسائل الاتصال الحديثة؛ ولأن قبض المبيع والثمن تم خلال مدة المجلس؛ إذا لم يرجع الموجب عن إيجابه، وتم قبول القابل خلال مدة المكالمة التلفونية بينهما، أو بعدها، أو خلال استماعه لتوجيه الإيجاب بالراديو، أو التلفزيون، أو الأقمار الصناعية، أو العرض بواسطة شاشات الحسابات الآلية، أو نحو ذلك، إذا كان موجها إلى شخص معين، طبيعي، أو معنوي، والقبول بالفاكس في مجلس وصول الإيجاب إلى من وجه إليه الإيجاب. لأنه ليس المراد من اتحاد المجلس كون العاقدين في مكان واحد، وإنما المراد به اتحاد الزمن الذي يكون المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد (1) ، ويكون القبول معتبرا ما دام لم يتخلل بينه وبين الإيجاب ما يعد إعراضا عن العقد من الطرفين. يقول السرخسي: (ولسنا نعني بالمجلس موضع جلوسهما، بل المعتبر وجود القبض قبل أن يتفرقا) (2) . وقال النووي: (ولو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف) (3) ويقول: (ومذهبنا صحة القبض في المجلس وإن تأخر يوما أو أياما وأكثر ما لم يتفرقا، وبه قال أبو حنيفة وآخرون) (4) .
__________
(1) العقود والشروط والخيارات، الفقه الإسلامي وأدلته 4/108، المدخل الفقهي، للزرقا فقرة 171؛ أحكام المعاملات الشرعية، للشيخ علي الخفيف ص177 و178
(2) المبسوط 14/3
(3) المجموع 9/193
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 4/97(9/159)
فإن قيل كيف يجوز شراء الذهب وكل من العاقدين في بلد آخر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه ابن عمر: ((إني أبيع الإبل بالبقيع بالدراهم وأخذ مكانها الدنانير، وأبيع بالدنانير وآخذ مكانها الدراهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (1) .
قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
وقد تضمن قرار مجمع الفقه الإسلامي الذي نص على جواز إبرام العقود بوسائل الاتصال الحديثة أن هذا لا يشمل الصرف لاشتراط التقابض.
قلنا: إن النهي عن الافتراق الذي تضمنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلة نص عليها الحديث؛ وهي قوله: ((وبينكما شيء)) . يعني لا يجوز أن تفترقا قبل أن يتم القبض من كل منكما؛ لأن القبض شرط لصحة عقد الصرف، وعدم التفرق شرط لتحقق القبض، فإذا تحقق القبض في مجلس العقد على ما أوضحناه، وهو اتحاد الزمن الذي يكون المتعاقدان مشغلين فيه بالتعاقد، دون أن يصدر من أي منهما إعراض عن العقد فقد زال المانع؛ فلم يتفرقا وبينهما شيء.
ومثله حديث عمر: ((والله لا تفارقه حتى تأخذ منه)) يعني أن المانع من المفارقة هو عدم القبض، أما إذا تم القبض بين المتعاقدين في زمان واحد، على أي حال كان، وفي أي مكان فإنه حينئذ يصح العقد، لأن علة النهي انتفت.
ومثله قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة؛ حيث علل المنع من عدم جواز عقد الصرف بوسائل الاتصال الحديثة لعدم القبض. ونحن نقول بهذا؛ لكن إذا أمكن تحقق القبض عقيب إتمام الإيجاب والقبول، وكان العاقدان في الفترة التي تعقبه مشتغلين بعملية القبض وإن طالت فترة المجلس، دون أن ينصرف أي منهما عن مكانه الذي هو فيه؛ فقد زال المانع؛ فصح العقد.
__________
(1) سنن أبي داود 3/650؛ مسند الإمام أحمد 9/85. انظر فيما يأتي مزيد من التخريج له في مطلب القبض الحكمي(9/160)
العمليات الآجلة:
يتم بيع وشراء الذهب، أو العملات بطريقة العمليات الآجلة، وذلك بتحرير عقود كتابية يتبادلها الطرفان، يتم فيها الاتفاق على أسعار هذه العملية عند التعاقد، بينما لا يتم التقابض للذهب أو العملات المتبادلة إلا في وقت لاحق في المستقبل، تكون الأسعار فيه قد تغيرت غالبا.
وهناك تواريخ تكاد تكون ثابتة للعمليات الآجلة، وهي لمدة شهر، وشهرين، وثلاثة شهور، وستة شهور، وسنة. والعمليات التي تقل عن ستة شهور هي الأكثر تداولا، وسوقها دائما نشطة، أما العقود التي تزيد عن ذلك أي لمدة سنة فهي أقل (1) .
الحكم الشرعي:
والحكم الشرعي لهذه العملية أنها حرام، والعقد المذكور فيها عقد باطل، لا يعتد به شرعا، ولا تترتب عليه آثاره، لفقدان شرط من شروط الصرف؛ وهو التقابض، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
__________
(1) النقد الأجنبي ص26؛ تحول المصرف الربوي إلى مصرف إسلامي ص28(9/161)
المبحث الحادي عشر
صور الصرف
وفيه عدة مطالب
المطلب الأول
القبض الحكمي
القبض الحكمي قال به الفقهاء في أحوال كثيرة، وأقاموه مقام القبض الحقيقي، ومن صوره التخلية بين المشتري والمبيع. بحيث يكون سالما له، ويتمكن من قبضه، وحكموا بالقبض، ولو لم يتم بالفعل في هذه الحالة. على تضييق، وتوسيع في اعتبار التخلية قبضا في بعض البيوع دون بعضها، أو في أكثرها.
أما في الصرف فقد نص الفقهاء على أنه لا تكفي التخلية، وأنه لا بد من القبض باليد، كما بيناه في شروط الصرف.
وعندي أن القبض الحكمي يمكن تقسيمه إلى قسمين، أحدهما التخلية، والثاني ما يستند إلى شيء مادي؛ كالشيك، أو السند المتضمن لقبض مبلغ معين، أو كمية معينة من الذهب، أو الإشعار بالقبض، أو القيد الدفتري في حساب المشتري، أو المقاصة من دين سابق.
فالتخلية لا أرى جواز اعتبارها قبضا في الصرف.
وأما القسم الثاني فإنه يجوز عندي اعتباره قبضا، لاستناده إلى شيء مادي. وهو ما أقصده، عندما أقول بجواز القبض الحكمي في المسائل المذكورة في هذا البحث أو غيره.(9/162)
المطلب الثاني
المصارفة بالوديعة المصرفية
المصارفة بالوديعة المصرفية جائزة عند الفقهاء، وهو مذهب الحنابلة، ورواية عن الإمام مالك (1) .
جاء في كشاف القناع: (وإن كان له عنده دينار وديعة فصارف رب الدينار الوديع به وهو معلوم بقاؤه أو مظنون بقاؤه صح الصرف لانتفاء الغرر وإن شك في عدم وجود الدينار صح الصرف أن الأصل بقاؤه) .
ويتخرج القول بجوازها على مذهب الحنفية والشافعية والرواية الأخرى عند المالكية؛ لأن منعهم الصرف بالوديعة معلل بعدم دخولها في ضمان المودع، أو لعدم حضورها. فهذا غير متحقق في الوديعة المصرفية. قال الباجي: (ولأن حق المودع متعلق بعين ماله-[أي المال المودع] – ولم يتعلق بذمة الشخص المودع فلا يجوز أن يصارف به إلا عند حضوره) (2) .
يقول الإمام الشافعي: (وإذا كان للرجل عند الرجل دنانير وديعة فصارفه فيها ولم يقر الذي عنده الدنانير أنه استهلكها حتى يكون ضامنا. ولا أنها في يده حين صارفه فيها فلا خير في الصرف، لأنه غير مضمون ولا حاضر، وقد يمكن أن يكون هلك في ذلك الوقت فيبطل الصرف) (3) .
وقال السرخسي: (إذا استودع رجل رجلا.... فوضعها في بيته ثم التقيا في السوق فاشتراها منه بمئة دينار ونقد الدنانير لم يجز أن يفارقه قبل أن يقبض الوديعة من بيته؛ لأن الوديعة أمانة في بيته والقبض المستحق بالعقد قبض ضمان فقبض الأمانة لا ينوب عند لأنه دونه) (4) .
فالمحترزات التي ذكرها الفقهاء، وهي غياب الوديعة، أو عدم ضمانها من قبل المودع – المصرف – لا تتصف بها الودائع المصرفية في هذا العصر؛ لأنها مضمونة على المصرف، وهي إن سميت وديعة إلا أنها قد كيفت من كثير من الباحثين المعاصرين على أنها قرض؛ بدليل أن الوديعة لو تلفت لا يضمنها المصرف، والودائع المصرفية في هذا العصر يضمنها المصرف ولأن الوديعة لا يجوز تصرف المودع بها، ولا خلطها بماله، والواقع أن المصارف تتاجر بالودائع، وتخلطها بأموالها، لكل هذا فهي قرض، وقبض المصرف ضمان. وما دام ذلك كذلك فإنه يجوز المصارفة على المذاهب الأربعة.
يقول الصاوي: (لأنه لما دخل على الضمان المرتهن أو المودع صار كأنه حاضر في مجلس الصرف) (5) .
__________
(1) المغني 6/118 و119؛ كشاف القناع 3/270
(2) المنتقى 4/263
(3) الأم 3/31
(4) المبسوط 14/53
(5) بلغة السالك 2/16(9/163)
المطلب الثالث
صور الصرف المصرفية
1- شراء النقود من المصرف، أو قبض شيك عنها.
أ - أن يشتري شخص نقدا من المصرف بنقد آخر، فيسلم المصرف نقوده، ويأخذ مقابلها العملة التي يريدها، فهذا جائز، مادام التقابض قد تم في مجلس العقد، حتى وإن طال المجلس. وهذه الصورة التي يتعامل بها الناس منذ القدم، ولا إشكال فيها. وهي قبض حقيقي.
ب - وإن أخذ – في الصورة السابقة – من المصرف شيكا يمكن صرفه من مصرف معين، أو يمكن صرفه من عموم المصارف، أو المحلات التجارية، كما في الشيكات السياحية؛ فيعتبر قبضه للشيك قبضا حكميا لمحتواه؛ وهو جائز؛ لأنه بمنزلة التقابض قي البدلين قبل التفرق.
وأرى أن قبض الشيك قبض لمحتواه إذا كان صادرا من مصرف، أو شركة مصرفية. أما إذا كان صادرا من غيرهما فلا أرى اعتباره قبضا في الصرف إلا إذا كان مصدقا؛ لأن كثيرا من الناس يصدر شيكات غير مصدقة، ولا يتحقق صرفها؛ إما لعدم وجود رصيد يغطيها، وإما لتمكن محررها من إيقافها.
2-يدفع العميل للمصرف مبلغا من النقود (جنيهات مصرية) على أن يسجله في حسابه الخاص بالمارك الألماني فيقوم المصرف بعملية الصرف في الحال، متمثلة في قبضه للجنيهات المصرية، وبيان مقدار قيمتها من الماركات، ثم يدخل في حسابه الخاص ما يقابلها من الماركات، ويعطيه إيصالا بذلك. وهذه العملية مركبة من عقدين: صرف، وإيداع؛ وهذا جائز؛ لأن تحويل الجنيهات إلى الماركات صرف تم في مجلس العقد، وتسجيله في حسابه قبض، واستلام الإيصال مستند لهذا القبض؛ وقد تحقق القبض بشيء مادي محسوس، وهو التسجيل، واستلام المستند؛ ولأنه يرجع في القبض إلى العرف (1) ، وقد جرى في هذا العصر على أن القيد في الحساب المصرفي قبض، وهذا العرف لا يعارض النصوص الموجبة للتقابض؛ ولأن فائدة القبض تمام الملك، وإطلاق تصرف المشتري في المبيع، وهما متحققان بالقيد في الحساب، إذ لا يوجد مانع منه. وقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالمالإسلامي بأنه: (يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف أو بعملة مودعة فيه) (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 2/71؛ المغني 6/ 187
(2) صدر هذا في الدورة الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة من 13 إلى 20 رجب عام 1409هـ/فبراير 1989م(9/164)
وقد صدر بهذا أيضا قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة، وقد جاء فيه: أن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعا وعرفا (القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية) :
ت - (إذا أودع العميل مبلغا من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية) (1) .
وقد يوهم تعبير المالكية أنهم يمنعون الصرف إذا أودع أحدهما ما قبضه عند الآخر. جاء في مواهب الجليل: (إذا وقع التقابض في الصرف ثم أودع أحدهما ما قبضه عند الآخر لم يجز) (2) .
وقال اللخمي: (ولا يجوز اليوم لمن صرف دينارا بدراهم أن يودعها بعد المناجزة عند الصراف لأن القصد من تركها أن يبرأ من نقصها ونحاسها (3) .
لكن يندفع هذا الوهم بما عللوا به: قال ابن رشد: (إنما لم يجز ذلك أنه آل إلى الصرف المتأخر؛ فإنهما على القصد إلى ذلك ولو صح ذلك منهما لم يكن عليهما فيه حرج) (4) . قال: (وقد أجاز ذلك ابن وهب في سماع أبى جعفر إذا طبع عليه) . فبين أن المنع من هذا إذا كان يؤول إلى الصرف المتأخر حيث كان هو المقصود باطلا أما إذا كان الإيداع صحيحا، أي ليس مشروطا من قبل المصرف؛ فإنه حينئذ لا حرج؛ فيكون الصرف صحيحا؛ ومن المعلوم أن الإيداع في حساب العميل في المصارف في هذا العصر، إيداع صحيح؛ لأنه يتمكن العميل في أي لحظة من سحبه، أو سحب بعضه. وما علل به اللخمي غير متحقق في هذا العصر؛ لأن معظم التعامل اليوم بالنقود الورقية، ولا يمكن نقصها، ولا غشها من قبل المصارف المعترف بها، ولا يتحقق فيها أيضا؛ لأن التعليل الذي ذكره – مع عدم التسليم به في جميع الأحوال – يمكن أن يقال في حق النقود الذهبية والفضية القليلة المقدار عند من يرى أنها تتعين بالتعيين. أما النقود الورقية فإنها لا تتعين بالتعيين.
ولا يتحقق أيضا في الذهب والفضة في هذا العصر، لأنه أمكن ضبط حجمهما، ووزنهما، وتحديد عيار كل منهما.
3- (إذا كان للعميل حساب لدى مصرف بعملة ما، فأمر المصرف بقيد مبلغ منه في حسابه بعملة أخرى بناء على عقد صرف ناجز تم بينه وبين المصرف، واستيفاء المبلغ الذي اشترى به من حسابه، فيعتبر القيد المصرفي المعجل بالعملة المشتراة قبضا حكميا من قبل العميل الآمر، ويعتبر الاقتطاع الناجز من قبل المصرف للبدل من حساب العميل قبضا حكميا له من المصرف، ويعد مجموع ذلك بمثابة التقابض بين البدلين في الصرف، وإن اتحدت يد القابض والمقبض حسا) (5) . جاء في كشاف القناع: (فإن أذن له – [أي في مصارفة نفسه] – جاز. فيتولى طرفي عقد المصارفة) (6) .
__________
(1) قرار رقم (55/4/6) ، الدورة السادسة، المنعقدة في جدة سنة 1410هـ/1990م؛ 1/771
(2) 4/306
(3) 4/306
(4) 4/306
(5) القبض الحقيقي والحكمي؛ للدكتور نزيه حماد ص36
(6) 3/267(9/165)
وقد صدر بهذا قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، كما ذكرناه فيما سبق، وصدر بهذا أيضا قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة؛ حيث جاء فيه: إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعا وعرفا. ج إذا اقتطع المصرف – بأمر العميل- مبلغا من حساب له إلى حساب آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر (1) .
إذا تصارف العميل مع المصرف الذي له فيه حساب، فأمر المصرف باقتطاع البدل الذي اشترى به من حسابه، وتسلم من المصرف شيكا بالنقد الذي (2) . اشترى به يمكن صرفه من بنك معين، أو غير معين، فإن هذا الصرف جائز، فاقتطاع المصرف لبدل الصرف من حساب العميل قبضا حقيقيا؛ قال ابن قدامة: (إذا كان له عند رجل دينار وديعة فصارفه به، وهو معلوم بقاؤه، أو مظنون صح الصرف) (3) .
وقد كيفه البعض (4) . على أنه من قبيل المصارفة بما في الذمة (5) . وهذا التكييف لا يصح في نظري؛ لأن هذا ليس دينا على المصرف، وإنما هي نقود العميل أودعها في المصرف، يستطيع أن يسحب منها أي وقت شاء، ويصارف المصرف بها، أو بجزء منها، فهي وديعة وليست دينا.
ويعتبر تسلم الشيك قبضا حكميا لمضمونه.
5- أن يتقدم شخص بنقوده، أو شيكه الذي يمثل ريالات سعودية، مثلا، إلى مصرف في مكة المكرمة، يريد منه أن يحول هذه النقود إلى القاهرة، أو يريد أن يستلمها هناك جنيهات مصرية هو أو وكيله. فيقوم البنك في الحالة الثانية بإجراء صرف الريالات إلى جنيهات مصرية، ويسلم العميل شيكا يتضمن مبلغها من الجنيهات المصرية؛ قيمة لريالاته، يحوله إلى فرع له في القاهرة، أو مصرف وكيل له. ويمكن أن يرسل برقية، أو فاكسا، أو تلكسا، أو مكالمة تلفونية، إلى المصرف المذكور تتضمن تسليم المبلغ المذكور. ويحصل المصرف في هذه الحالة على أجرة، وعلى مصاريف البرقية أو التلكس أو نحوهما.
__________
(1) فقرة ج من ثانيا، من القرار رقم 55/4/6
(2) القبض الحقيقي والحكمي، للدكتور نزيه حماد ص37
(3) المغني 6/188، وانظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة. الذي ذكرناه في الفقرة السابقة.
(4) الدكتور علي محيي الدين القره داغي
(5) مجلة الفقه الإسلامي بجدة، العدد السادس 1/589(9/166)
وهذه المعاملة جائزة، والوصف الفقهي لها عندي، أنها إجارة على نقل النقود، أو صرف وإجارة؛ ففي حالة استلام ذات العملة فهي إجارة فقط، وفي حالة استلام عملة أخرى كالجنيهات المصرية مقابل الريالات السعودية فهي صرف، ثم إجارة؛ وكل من العقدين مستقل عن الآخر؛ لأن تحويل الريالات إلى جنيهات صرف، ثم نقلها أو التعهد بنقلها إلى القاهرة وأخذ عوض مقابل هذا النقل إجارة على نقل النقود؛ لأنه هو مقصود العاقدين، وليست العمولة التي يدفعها طالب التحويل إلا أجرة النقل. والمصرف له أن يتخذ الوسيلة التي ينفذ العقد بها، ومن هذه الوسائل الشيك، أو البرقية، أو الفاكس، أو التلفون، أو نحو ذلك. لكن في جميع الأحوال يجب أن يفرق بين الصرف، والإجارة؛ لأن الصرف يشترط فيه التقابض، وسبق أن ذكرنا أن قبض الشيك، أو قبض المستند الذي يقوم مقامه في حالة الإرسال بواسطة الفاكس، أو البرقية، أو نحوهما، يعد قبضا حكميا صحيحا.
وبعد الوصول إلى هذا التخريج عثرت على أقوال لبعض العلماء والباحثين قد قالوا بتخريج هذا العقد على الإجارة منهم الشيخ أحمد إبراهيم بك، والدكتور عبد الحميد إبراهيم، والدكتور ستر بن نواب الجعيد (1) .
فقد قال الشيخ أحمد إبراهيم بك: (أقول: إن حوالة البريد (بوليصة البوستة) المعروفة عندنا ليست من هذا القبيل بل هي إجارة على إرسال النقود من بلد إلى بلد بأجر معلوم) (2) .
يؤيد هذا القول ما ذكره صاحب المغني من أن العلماء إنما كرهوا اشتراط القضاء في بلد آخر في القرض لاحتمال أن للشيء المستقرض مؤونة وأجرة إلى ذلك البلد الذي شرط فيه الوفاء؛ ولذلك استثنوا ما لا مؤونة لحمله (3) .فإذا دفعت المؤونة التي كره العلماء التوفية في بلد غير بلد القرض فقد زال موجب الكراهة ويصير هذا العقد إجارة حتى لو ورد في صورة القرض لأن العبرة في العقود بمقاصدها لا بألفاظها كما هو راجح في الشريعة (4) .
__________
(1) المعاملات الشرعية المالية ص206؛ الموسوعة الفقهية، الحوالة:212
(2) أحكام الأوراق النقدية والتجارية في الفقه الإسلامي ص378
(3) المغني 6/436
(4) أحكام الأوراق النقدية والتجارية ص378(9/167)
وقد كيف بعض الباحثين هذه العملية على أنه سفتجة (1) .:
1- وهذا التكييف لا يصح في نظري؛ لأن السفتجة قرض. كما هو رأي جمهور الفقهاء (2) . فقد عرفها الدسوقي بأنها (الكتاب الذي يرسله المقترض لوكيله ببلد ليدفع للمقترض نظير ما أخذه منه ببلده وهي المسماة بالبالوصة) (3) .
2- ولأن الجموع التي تقف في المصارف لإرسال النقود إلى ذويهم أو عملائهم، أو حساباتهم في مصارف أخري، في الحقيقة ليست مقرضة، ولا يتبادر إليها القرض بأي حال.
3- وأن المقترض في السفتجة لا يتقاضى أجرا. أما المصارف اليوم فإنها تأخذ أجرا على هذه العملية.
فإن قيل: إنها حوالة. قلنا: لا يصح تكييفها على الحوالة:
1- لأن الحوالة: نقل الدين من ذمة إلى ذمة. والصورة التي نحن بصددها الأصل فيها أنه ليس هناك دائن ولا مدين، وإن وجدت عند تحويل مستوردي البضائع إلى دائنيهم المصدرين، إلا أنها لا توجد في بقية الحالات. مثل أن يحول إلى حسابه، أو إلى أولاده.
2- ولأن من أركان الحوالة: المحيل، والمحتال، والمحال عليه. وهذا غير متوفر في كل الحوالات المصرفية المعاصرة؛ لأنه قد يقوم المحيل بالحوالة إلى نفسه؛ مثل أن يحيل إلى حسابه في بنك القاهرة. فلم يوجد المحتال، ولا المحال عليه، في عقد الحوالة الفقهية. وإذا كان التحويل إلى دائنه المصدر مثلا، فإنه لا يوجد المحال عليه، ومن المعلوم أنه إذا لم يوجد أحد أركان العقد، فإن العقد لا ينعقد.
3- لا يجوز أخذ الأجرة في عقد الحوالة. بينما الحوالات المصرفية يصح أخذ الأجر عليها؛ لأنها إجارة على تعهده بإيصال النقود إلى البلد الذي اتفق العميل مع المصرف عليه، سواء كان المصرف الذي حرر الشيك عليه فرعا له، أو وكيلا عنه.
وقال ابن حزم: (والإجارة جائزة على التجارة مدة مسماة في مال مسمى أو هكذا جملة كالخدمة والوكالة، وعلى نقل جواب المخاصم طالبا كان أو مطلوبا وعلى جلب البينة وحملهم إلى الحاكم وعلى تقاضي اليمين وعلى طلب الحقوق والمجيء بمن وجب إحضاره لأن هذه كلها أعمال محدودة داخلة تحت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاجرة) (4) .
__________
(1) موقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة؛ للدكتور عبد الله العبادي ص336-340، وبحث السفتجة؛ للدكتور رفيق المصري؛ منشور في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي – العدد الأول- لعام 1404هـ/1984م ص113 و123
(2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3/225، وانظر: رد المحتار 4/295؛ المغني 6/436
(3) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3/225
(4) المحلى 8/198(9/168)
فإن قيل: إن اجتماع الصرف والإجارة في عقد واحد يشمله نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عقدين في عقد.
قلنا: إن المنهي عنه إذا كان أحد العقدين شرطا للآخر، مثل أن يقول: أبيعك بشرط أن تؤجرني؛ أو أقرضك على أن تشركني، أو لا أصرف لك أن تحول المبلغ لي. وهذا كله غير موجود في العقد؛ فإن دافع النقود يستطيع أن يصرف دون أن يلزمه المصرف بالتحويل له، والإجارة عليه، وبإمكانه أن ينقل نقوده إلى أي بلد بدون صرف. فليس أي من العقدين متوقفا على الآخر؛ بل كل منهما مستقل عن الآخر.
فإن قيل: كيف يتحمل المصرف الضمان عند هلاك المال، دون أن يثبت إهماله أو تفريطه؛ كما لو وقع عليه حريق؛ أو آفة لا دخل له فيها؟
أجيب عليه بأن الأجير المشترك عليه الضمان عند جماعة من العلماء (1) . (وهذا القول هو الموافق لمقاصد الشريعة في حفظ الأموال، وتضمينه هو سبب وجود الثقة في هذه المعاملات. وإذا ثبتت أنه لم يفرط أو كان التلف مما لا يمكن الاحتراز منه فلا وجه للقول بتضمينه وبهذا يتم الجمع بين المصلحتين؛ مصلحة أصحاب الأموال والأجراء. أما إذا قلنا بعدم تضمينه فإن المفسدة التي تلحق أصحاب الأموال أعظم من المفسدة التي تلحق الأجراء في حال القول بتضمينه، وإذا علم الأجير أنه ضامن بعثه ذلك على التحرز وعدم التفريط، وأخذ الحيطة لنفسه) (2) .
وقال الأستاذ مصطفى الزرقا: (إن الأجير وهو المحيل في السفتجة لن يقوم بما استؤجر عليه وهو إيصال المال الذي دفعه إليه المستأجر إلى البلد المطلوب بل سيحتفظ به ليقبض المستأجر بدلا عنه في البلد الآخر، والإجارة لا بد في انعقادها من أجرة ليتحقق معناها فبماذا استحق الأجرة إذا لم يقم الأجير بالعمل) (3) .؟
ويجاب على هذا بأن العمل قد تحقق ذلك أنه هو المنفعة، وهو تهيئة النقود وتحقق وجودها في المكان الذي يريده المؤجر، وذلك يتحقق بنقلها حسيا، أو بتوفير مثلها هناك في فرعه أو لدى وكيله؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين، كما هو الراجح من قولي العلماء في النقود الذهبية والفضية. وكما هو الثابت في النقود الورقية في هذا العصر. بدليل أن المستأجر لو عدل عن نقل النقد وقد تسلمه المصرف؛ فإنه لا يلزم المصرف ردها بعينها، بل يعطيها مثلها.
__________
(1) الإجارة الواردة على عمل الأشخاص؛ للدكتور شرف بن علي الشريف؛ ص253-258
(2) أحكام الأوراق النقدية والتجارية ص376
(3) الموسوعة الفقهية؛ الحوالة؛ ص212؛ ط تمهيدية، الأنموذج الثالث(9/169)
فما دام الأمر كذلك فلا يترتب على نقل النقد بعينه كبير فائدة والمصرف – الأجير المشترك – يختلف عن بقية الأجراء المشتركين الذين يتقبلون من الناس أشياء تتعين بالتعيين، لأن هؤلاء الأجراء يلزمهم أن يردوا الشيء الذي أخذوه بعينه. أما المصرف فإن الأشياء التي يتسلمها وهي النقود لها هذه الميزة الخاصة – عدم التعيين – فلا يلزم ردها بعينها (1) .
وقال الأستاذ: مصطفى الزرقا: (إذا تصرف الأجير في المال الذي قبضه بحسب المقصود من العملية كان متصرفا في الأمانة فهو غاصب آثم، وإذا قيل: إنه تصرف بالإذن فلا يكون آثما. قلنا: إنه عندئذ ينقلب مقترضا ضامنا إلى حين الوفاء ولا يبقى أجيرا بعمل لقاء أجر) (2) .
ثم بأي حق موجب يلزم الذي في البلد الآخر أن يدفع لهذا المستأجر مال الأجير الذي تحت يده أو في ذمته؟ (3) .
ويمكن الإجابة على هذا الاعتراض: بأن تصرف الأجير المشترك – المصرف – في النقد مبني على ما سبق من أن النقد لا يتعين بالتعيين، وقد قبضها بقصد تقديمها أو تقديم مثلها في المكان الذي عينه طالب التحويل – المؤجر – وتصرف المصرف فيها لا يجعله مقترضا؛ لأنه لم يقبضها أمانة.
أما المصرف الذي في البلد الآخر – كالقاهرة – فإنه يقوم بتسليم المستأجر المبلغ الذي يحتويه الشيك؛ لأنه وكيل عن الأجير في دفع قيمة الشيكات عن موكله. وليس الانسحاب من الوكالة بمؤثر في العقد؛ ذلك أن حامل الشيك حينما يقدمه للفرع الذي في القاهرة يستطيع الوكيل أن يرفض قبول الشيك إذا لم يتلق رصيدا يغطيه، أو ليس عنده ثقة في ساحب الشيك تقوم مقام الرصيد.
يؤيده أن بنك القاهرة في مثلنا وكيل، وأن مصرف مكة المكرمة الذي حرر الشيك إذا أراد أن يمنع صرف ذلك الشيك فإنه يرسل إشعارا إلى ذلك الفرع بوقف صرف الشيك. أما حامل الشيك فلا يضر امتناعه، ولا يتصور أن يمتنع من التقديم؛ لأن امتناعه يضر به (4) .
__________
(1) أحكام الأوراق النقدية والتجارية ص374.
(2) الموسوعة الفقهية
(3) الموسوعة الفقهية
(4) أحكام الأوراق النقدية والتجارية ص377 و378(9/170)
الخاتمة
وفيها أهم نتائج البحث
1- التجارة في الذهب جائزة إذا توفرت فيها شروط صحتها.
2- يشترط لها شروط البيع المعروفة؛ لأنها من أنواع البيوع.
3- إضافة إلى وجوب توفر شروط البيع فإنه إذا كان المبيع ذهبا والثمن ذهبا، يشترط التماثل، والتقابض في مجلس العقد، والحلول، والخلو عن خيار الشرط.
4- إذا اختلف الجنس، مع الاتحاد في علة الربا وهي الثمنية، مثل شراء الذهب بالفضة، أو الأوراق النقدية، أو الشيك؛ فإنه يشترط التقابض، ويجوز التفاضل.
5- تحول النقود من الذهب والفضة إلى الأوراق النقدية لا يغير من علة الربا فيهما شيئا.
6- ما ذكره بعض العلماء من كراهة العمل بالصرف؛ لأن كثيرا ممن يعملون فيه ينقصهم العلم بأحكامه، أو لا يتورعون فيه. لكن مثل هاتين الحالتين لا تعودان على حكم الصرف بالحرمة أو الكراهة، وإنما تلحق الحرمة والبطلان العقد إذا لم يستوف شروطه، أو اختل شيء من أركانه.
7- ما ذكره الغزالي من أن الاتجار في أعيان النقود على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم غير مسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أجاز بيعهما وشراءهما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم – كما بيناه في الأدلة – من لوازمه من يتخذها مقصودا لتتوفر لمن أرادها.
8- اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة على أن التقابض في الصرف إنما يكون باليد. فيشترط القبض الحقيقي، أو ما يقوم مقامه؛ مثل القيد الدفتري أو قبض الشيك، لا التخلية.
9- لا خلاف بين العلماء في أن جيد الذهب ورديئه سواء؛ فيشترط التماثل، ويحرم التفاضل، والمراد بالتماثل في الوزن أو الكيل، أو العدد.
10- حد الرداءة الذي يعتبر معه هذا المعدن – وهو مختلط بغيره اختلاط امتزاج – ذهبا إذا زادت نسبة الذهب على المخلوط مثل إن كان عيار 13/24 أو تساوي مثل عيار 12/14.
وهذا في جميع أنواع الذهب ومنها الحلي، عدا النقود الذهبية، وهذا مذهب الحنفية، وهو الراجح؛ لأن الحكم للغالب.(9/171)
11- إذا زادت نسبة الغش فأصبح عيار الذهب أقل من 12/14 ويتعذر فصله إلا بفساد المصنوع؛ فإنه حينئذ لا يأخذ حكم الذهب، وإنما يأخذ حكم السلع من حيث أحكام الربا والصرف.
12- أما النقود المغشوشة التي غالبها الغش، إذا كانت سكة سائرة فإنه يطبق عليها أحكام الربا والصرف؛ لأنها نقود؛ تثبت فيها علة الثمنية فيجب التقابض والتماثل إذا بيع بعضها ببعض، ويجب التقابض دون التماثل إذا بيعت بنقود من غير جنسها.
13- قال جمهور العلماء الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية والزيدية والإمامية: إذا بيع المصوغ كالحلي بغير المصوغ كالتبر والمضروب من الدراهم أو الدنانير فإنه لا عبرة للصناعة ولا لغيرها، فيجب التماثل في بيع الجنس بجنسه.
14- وقال ابن القيم واشتهر عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه إذا كانت الصناعة مباحة – كحلية النساء – وبيعت الحلية بجنسها من غير المصنوع؛ فإنها تباع بالقيمة ولا يشترط التماثل؛ جعلا للزائد في مقابلة الصنعة.
15- الراجح هو مذهب الجمهور لقوة أدلتهم؛ منها أحاديث عامة تشمل كل ذهب، ومنها ما هي خاصة بالحلي؛ وهي أحاديث صحيحة، وقليل منها لم يبلغ درجة الصحة لكنه صالح للاحتجاج عند جمهور العلماء، كما أنه تقوى بغيره. واحتجوا بالمعقول أيضا.
16- أدلة الفريق الثاني ليس فيها نص من القرآن أو السنة، وإنما هي تعليلات، وأقيسة، مثل القياس على بيع العرايا للحاجة، ودفع الحرج، وأن الحلية بالصنعة صارت سلعة كسائر السلع، وقياسا على عدم وجوب زكاة الحلي عند من يرى ذلك، وقياسها على أجرة الصياغة، وقياسها على قيمة الإتلاف.
17- نوقشت أدلة الفريقين، وتبين منها قوة أدلة المذهب الأول. وأجيب على أدلة الفريق الثاني بما يعتقد أنه كاف في ردها.
18- إذا بيع المصوغ بالمصوغ فإنه يجب التماثل، ويحرم التفاضل عند جميع الفقهاء.
19- بيع الحلي القديم بالنقود الورقية، أو غيرها من العملات عند اختلاف الجنس، والشراء بثمنه حليا جديدا، من مشتري الحلي الأول، وإجراء المقاصة بين الثمنين. لم أجد لهذه المسألة تصويرا عند الفقهاء على هذا النحو. لكن يتخرج القول فيها بالجواز على قول الإمام مالك، ومذهب الحنفية؛ وهو ما رجحه الباحث؛ لأن هذا ليس بيع ذهب بذهب، أو فضة بفضة. ويتخرج منعها على مذهب الشافعية والحنابلة، وقد نوقشت أدلتهم ورد عليها.(9/172)
20- إذا اشترى الصائغ الحلي القديم بالنقود الورقية مثلا، على أن يشتري منه البائع حليا جديدا. لم أجد لهذه المسألة تصويرا عند الفقهاء على هذا النحو – أيضا – لكن يتخرج القول فيها بالحرمة والبطلان على مذهب الشافعية والحنابلة، والحرمة والفساد على مذهب الحنفية بناء على تفسيرهم لبيعتين في بيعة، ولأنها عند الشافعية والحنفية اشتملت على بيع وشرط.
ويتخرج القول فيها بالجواز على مذهب الإمام مالك. وهو ما رجحه الباحث. بناء على أن الراجح في معنى بيعتين في بيعة هو بيع العينة، وهو تفسير ابن تيمية وابن القيم، وغيرهم.
21- إذا باع الإنسان حليا وقبض ثمنه، ثم اشترى بالثمن حليا آخر فهو جائز بلا خلاف.
22- إذا طلب راغب الحلية من الصائغ أن يعمل له حلية معينة سواء حدد وزنها أو لم يحدده، فإذا تم العمل أعطاه مثل وزنها، وزيادة من جنسها، أو من غير جنسها، حسب ما اتفق على مقدارها عند العقد فهذه الصورة لا تجوز عند الحنفية والمالكية والشافعية، وهو ما رجحه الباحث، لعدم التقابض في المجلس، ولعدم التماثل إذا كانت الأجرة من جنس الحلية.
23- إذا حدد وزنها فهي جائزة عند الحنابلة.
24- إذا كان ثمن الحلية المطلوب صناعتها، أو ثمنها وأجرتها – وإن قدرت مستقلة عن الثمن – مختلفا عن الحلية، كالنقود الورقية، ويتم تسليم الثمن أو بعضه عند تسليم الحلية فيحرم العقد، ويبطل؛ لعدم التقابض في مجلس العقد.
25- الطرق التي توافق الشرع، وتحقق غرض طالبي صناعة الحلي سواء كانوا أفرادا أو ورشا، أو مصانع لحلي الذهب أو الفضة، هي كالتالي:
أ - أن تتم صناعة الحلي خلال مدة انتظار طالبها، ويتم التقابض في المجلس، ويتم دفع ثمنها من النقود الورقية، أو نحوها مما هو مخالف لجنسها.
ب - أن يشتري الإنسان الذهب أو الفضة، تبرا، أو سبائك، أو حليا، ويدفع ثمنها، بالتساوي إن اتحد جنسها، أو بالتفاضل إن اختلف الجنس، ويقبض المشتري الذهب، أو الفضة، ويقبض البائع الثمن. ثم يتفق معه على أجرة الصناعة التي يريدها ويسلمه المعدن المشترى – ذهبا أو فضة – وفي هذه الحالة يكون العقد جائزا، وصحيحا، سواء كانت الأجرة من جنس المعدن أو مختلفة عنه، وسواء دفعها مقدما، أو عند تسليم الحلي، أو دفع بعضها مقدما، والبعض الآخر مؤخرا.(9/173)
26- يقع في بعض البضائع كالساعات وبعض السيارات. وكالياقوت والزمرد، واللؤلؤ حلية من الذهب فإذا بيعت السلعة المذكورة بذهب، فلها أحوال:
أ - إذا كانت الحلية محرمة كالملاعق والصحون المطلية بالذهب فهذه يحرم شراؤها، ويبطل العقد عليها، سواء شريت بذهب أو بغيره من النقود.
ب - إذا كانت الحلية مباحة فإنه يصح بيع السلعة التي معها ذهب، بالعروض، وبالنقود الورقية، والشيكات، وبالنقود الفضية، دون اشتراط التماثل.
ج- أما بيعها بالذهب فقد اختلف فيه على قولين:
القول الأول: إذا كان مع الذهب شيء غيره؛ فإنه لا يحل بيع ذلك الشيء؛ لا بأكثر من وزنه ولا بأقل، ولا بمثله حتى يفصل الذهب وحده، فيباع مثلا بمثل. وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وابن حزم، وزفر من الحنفية.
ويستثني أصحاب هذا القول – ما عدا ابن حزم – من المنع ما إذا كان الذهب المضموم مع غيره مصنوعا صناعة يتعذر معها فصل كل منهما عن الآخر، أو أن فصلهما يؤدي إلى تخريب الصنعة. فهنا يكون المبيع قيميا فيجوز بيعه بالذهب.
ويسثنون أيضا ما إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره بأن كان المقصود الأعظم غير الجنس الربوي فيجوز البيع، وهو قول الإمام مالك، وأحمد في المشهور عنه، والأصح من مذهب الشافعية، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم. وقال مالك: بأن تكون الحلية قدر الثلث فأقل.
27- بعد عرض أدلة الفريقين ومناقشتها ترجح عدم جواز بيع السلعة التي معها ذهب مقصود في الشراء – والتي لا يتعذر فصلها – بالذهب، حتى يفصل الذهب عن السلعة، ويباع مثلا بمثل، يدا بيد. أما إذا كان الذهب في السلعة تابعا لغيره، وغير مقصود بالشراء، أو لا يمكن فصله عنها، أو يمكن لكن يسبب إفسادها، فيترجح جواز البيع، دون تحديد نسبة معينة.
28- يحرم شراء الذهب ليلبسه الرجال، وبطلان عقد البيع في هذه الصورة، سواء نص عليه في العقد، أم كان مقصودا ولم ينص عليه، وحرمة التجارة في هذا النوع من الحلي.
29- يستثنى من المنع: إذا كان شراؤه للحاجة؛ كاتخاذ سن، أو أنف من ذهب. وتحلية آلات القتال بالذهب كالسيف، ونحوه.
30- يحرم استعمال أواني الذهب على مذاهب الأئمة الأربعة.
31- يحرم شراء أواني الذهب عند الحنفية والمالكية، ويتخرج القول بالحرمة على مذهب الحنابلة؛ لقولهم بسد الذرائع، واشتراطهم مشروعية السبب.
32- جواز ذلك عند الشافعية ما لم ينص في العقد على الاستعمال.(9/174)
33- يجوز شراء أواني الذهب إذا كان الشراء للاتخاذ أو الزينة عند الحنفية، وأحد القولين عند المالكية، والصحيح عند الشافعية، وراوية عند الحنابلة. وهو ما رجحه الباحث.
34- ويتخرج على مذهب الحنابلة حرمة بيع وشراء أواني الذهب والفضة، لأن ما حرم اتخاذه حرم بيعه.
35- قال الحنفية والمالكية والشافعية في الأصح عندهم يجوز استعمال الآنية المموهة بذهب أو فضة سواء في الأكل، أو الشرب، أو غير ذلك. لكن قيده الحنفية والشافعية بما إذا لم يتجمع منه شيء إذا عرض على النار؛ لقلة المموه به.
والمذهب عند الحنابلة لا يجوز استعمال مموه. وقيل: إن كان لو حك لاجتمع منه شيء حرم وإلا فلا.
36- يجوز شراء الأواني المموهة بالذهب أو الفضة عند الحنفية والمالكية والشافعية. ويتخرج عدم جواز ذلك عند الحنابلة.
وقد رجح الباحث عدم جواز بيع وشراء الأواني المموهة بالذهب أو الفضة إذ كان لغرض الاستعمال؛ لحديث ((من شرب من إناء ذهب، أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) .
37- يصح عند الحنفية والمالكية والشافعية شراء التحف أو الثريات، أو مقابض الأبواب ونحوها المموهة بالذهب. وهو ما رجحه الباحث.
ويصح ذلك عند الحنابلة – في غير الآنية – إن تغير لونه، وبحيث لا يحصل منه شيء إذا عرض على النار.
38- تطبق المصارف والأسواق العالمية تجارة الذهب بالأسعار الحاضرة أو الآجلة.
39- العمليات الحاضرة: إذا حصل التعاقد بالتلفون يوم الثلاثاء وأكد بالبرقية، أو الفاكس فإنه يكون التسليم والتسلم هو يوم الخميس ويكون تاريخ هذا اليوم هو تاريخ الاستحقاق، ولا تحسب العطل الرسمية. ويقوم كل من الطرفيين بالاتصال بمراسله ويطلب بائع الذهب تحويل الكمية المشتراة من حسابه إلى حساب الطرف الآخر إما في نفس المصرف أو في مصرف آخر. ويطلب المشتري تحويل مبلغ معين من حسابه إلى حساب الطرف الآخر، إما في نفس المصرف أو في مصرف آخر.
40- في حالة عدم وصول كمية الذهب إلى المشتري أو القيمة إلى حساب البائع يتم الاتصال بالمصرف الآخر لمعرفة سبب التأخير.(9/175)
41- عمليات بيع الذهب الحاضرة وبقية عمليات الصرف بالصورة التي ذكرناها، غير جائزة شرعا، والعقود التي تمارس على هذه الصورة هي عقود باطلة؛ لا يعتد بها شرعا.
42- بين الباحث كيفية تصحيح هذه العملية.
43- المصارفة بالوديعة المصرفية جائزة عند الحنابلة وراوية عن الإمام مالك. ويتخرج القول بجوازها على مذهب الحنفية والشافعية والرواية الأخرى عند المالكية؛ لأن منعهم الصرف بالوديعة معلل بعدم دخولها في ضمان المودع، أو لعدم حضورها. وهذا غير متحقق في الوديعة المصرفية.
44- إذا تقدم شخص بريالات سعودية، أو شيكا إلى المصرف وطلب منه أن يحولها إلى القاهرة، ويستلمها هناك جنيهات مصرية هو أو وكيله. فهذه المعاملة جائزة والوصف الفقهي لها أنها إجارة على نقل النقود في حالة استلام ذات العملة، وفي حالة استلام عملة أخرى كالجنيهات المصرية فهي صرف، ثم إجارة. وكل من العقدين مستقل عن الآخر؛ لأن تحويل الريالات إلى جنيهات صرف، ثم نقلها أو التعهد بنقلها إلى القاهرة وأخذ عوض مقابل هذا النقل إجارة على نقل النقود.
45- كيَّف بعض الباحثين العملية المذكورة بأنها سفتجة، وهذا التكييف لا يصح في نظري؛ لأن السفتجة قرض؛ كما هو رأي جمهور الفقهاء. والجموع التي تقف في المصارف لإرسال النقود إلى ذويهم أو عملائهم ليست مقرضة، ولا يتبادر إليها القرض بأي حال. بل لا يمكن القول: إن الإنسان مقرض من نفسه لنفسه في حالة تحويل مبلغ من حسابه إلى حسابه في بلد آخر.
46- ولا يصح تكييفها على الحوالة؛ لأن الحوالة نقل الدين من ذمة إلى ذمة، والصورة التي نحن بصددها الأصل فيها أنه ليس هناك دائن ولا مدين. ولأن من أركان الحوالة المحيل والمحتال والمحال عليه، وهذا غير متوفر في كل الحوالات المصرفية المعاصرة؛ لأنه قد يقوم المحيل بالحوالة إلى نفسه، فلم يوجد المحتال ولا المحال عليه في عقد الحوالة الفقهية. ولأنه لا يجوز أخذ الأجرة في عقد الحوالة بينما الحوالات المصرفية يصح أخذ الأجرة عليها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وأزكى الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
د. صالح بن زابن المرزوقي(9/176)
أهم مراجع البحث
- الإجارة الواردة على عمل الإنسان؛ للدكتور شرف بن علي الشريف.
- الإجماع؛ لابن المنذر
- أحكام الأوراق النقدية والتجارية؛ للدكتور ستر الجعيد.
- أحكام عقد الصرف؛ رسالة دكتوراه، من جامعة الأزهر؛ إعداد سالم أحمد سلامة.
- الإحكام في أصول الأحكام؛ لابن حزم.
- الإحكام في أصول الأحكام؛ للآمدي.
- أحكام المعاملات المالية؛ للشيخ علي الخفيف.
- إحياء علوم الدين؛ لأبي حامد الغزالي.
- الاختيارات الفقهية؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- أصول السرخسي؛ أبي بكر محمد بن أحمد بن سهل السرخسي.
- إعلام الموقعين؛ لابن القيم.
- إكمال إكمال المعلم؛ (شرح صحيح مسلم) للآبيّ.
- الأم؛ للإمام الشافعي.
- الأموال؛ لأبي عبيد القاسم بن سلام.
- الأموال؛ لابن زنجويه.
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف؛ للمرداوي.
- البحر المحيط في أصول الفقه؛ للزركشي.
- بدائع الصنائع؛ للكاساني.
- بداية المجتهد؛ لابن رشد.
- البرهان في أصول الفقه؛ للجويني.(9/177)
- بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب مالك؛ للصاوي.
- البيان والتحصيل؛ لابن رشد.
- تاج العروس؛ للزبيدي.
- التاج والإكليل؛ للمواق.
- تبيين الحقائق؛ للزيلعي.
- تحول المصرف الربوي إلى مصرف إسلامي؛ لسعود بن محمد الربيعة.
- تطوير الأعمال المصرفية؛ للدكتور سامي حمود.
- تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير.
- التلخيص الحبير؛ للحافظ ابن حجر العسقلاني.
- التلويح على التوضيح؛ للتفتازاني.
- التمهيد؛ لابن عبد البر.
- توضيح الأحكام من بلوغ المرام؛ للشيخ عبد الله البسام.
- تيسير التحرير؛ لابن الهمام.
- جامع الأصول؛ لابن الأثير.
- جمع الجموع؛ لابن السبكي.
- حاشية الدسوقي؛ للشيخ عرفة الدسوقي.
- حاشية الرهوني على شرح الزرقاني؛ لمتن خليل؛ لمحمد الرهوني.
- حاشية التفتازاني على شرح العضد؛ لسعد الدين التفتازاني.
- حاشية الطحطاوي على الدر المختار؛ للسيد أحمد الطحطاوي الحنفي.
- حاشية القليوبي؛ لشهاب الدين القليوبي.
- حاشية العدوي؛ للعدوي.
- الحاوي؛ للماوردي، مخطوط.
- حجة الله البالغة؛ لولي الله الدهلوي.(9/178)
- حلية العلماء؛ للشاشي القفال.
- حواشي تحفة المحتاج؛ للشراوني، والعبادي.
- الدر المختار، للحصكفي.
- الذهب، تأليف مالكولم بر ترجمة أمين سلامة.
- الذهب ودوره في الأنظمة النقدية الدولية؛ إعداد: خورين آكوب جبرائيل، ونهاد النقيب؛ مراجعة حسن النجفي.
- الذخيرة؛ للقرافي.
- الربا والمعاملات المصرفية؛ للدكتور عمر المترك.
- رد المحتار على الدر المختار؛ لابن عابدين.
- الرسالة؛ للإمام محمد بن إدريس الشافعي.
- الروض المربع؛ للبهوتي.
- الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير؛ للسياغي.
- روضة الطالبين؛ للنووي.
- الروضة الندية؛ لصديق حسن خان.
- سبل السلام؛ للصنعاني.
- سنن أبي داود.
- سنن الدارقطني.
- السنن الكبرى؛ للبيهقي.
- سنن النسائي.
- شرائع الإعلام؛ لابن القاسم المحلي.
- شرح تنقيح الفصول؛ للقرافي.
- شرح السنة؛ للبغوي.
- الشرح الصغير؛ للدردير.
- شرح العضد لمختصر المنتهى.
- شرح القواعد الفقهية؛ للشيخ مصطفى الزرقا.(9/179)
- الشرح الكبير؛ للدردير.
- شرح الكوكب المنير؛ لابن النجار.
- شرح مختصر الروضة؛ للطوفي.
- شرح منتهى الإيردات؛ لابن النجار.
- الصحاح؛ للجوهري.
- صحيح البخاري بشرحه فتح الباري؛ الصحيح للبخاري، والفتح، لابن حجر.
- صحيح مسلم بشرح النووي.
- صحيح الترمذي بشرح ابن العربي. والواقع أن الترمذي لم يلتزم فيه بشرط الصحيح، ففيه الحسن والضعيف.
- شرح العمدة في الفقه؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية؛ للدكتور أحمد محيي الدين.
- الفائق في غريب الحديث؛ للزمخشري.
- فتاوى إسلامية؛ لابن باز، وابن عثيمين، وابن جبرين.
- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
- فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم.
- الفتاوى الهندية؛ لجماعة من العلماء.
- فتح القدير، للكمال ابن الهمام.
- الفرق بين البيع والربا، للشيخ صالح الفوزان.
- الفروع؛ لابن مفلح.
- الفروق؛ للقرافي.
- الفقه الإسلامي وأدلته؛ للدكتور وهبة الزحيلي.
- القبض الحقيقي والحكمي؛ للدكتور نزيه حماد.
- القبض في العقود المالية في الفقه الحنفي؛ للدكتور محمد زكي عبد البر. مجلة البحوث الفقهية المعاصرة.
- القواعد والأحكام؛ للعز بن عبد السلام
- القواعد والفوائد الأصولية؛ لابن اللحام.
- كتاب الخلاف؛ للطوسي.(9/180)
- كتاب الذيل على طبقات الحنابلة؛ لابن رجب.
- كتاب مسائل الروايتين والوجهين؛ لأبي يعلى.
- لسان العرب؛ لابن منظور.
- اللباب في شرح الكتاب؛ للميداني.
- المبدع؛ لابن مفلح.
- المبسوط؛ للسرخسي.
- مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي؛ العدد الأول والثاني سنة 1404هـ.
- مجلة الأحكام الشرعية؛ للقاري.
- مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد الواحد والعشرين.
- مجلة جامعة أم القرى؛ العدد السابع.
- مجلة الدعوة
- مجلة مجمع الفقه الإسلامي.
- مجلة القانون والاقتصاد؛ العدد الخامس.
- المجموع؛ وتكملته؛ المجموع للنووي، والتكملة الأولى للسبكي.
- المحرر في الفقه؛ لابن تيمية.
- المحصول؛ للرازي.
- المحلى؛ لابن حزم.
- المدخل الفقهي العام، للزرقا.
- المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي؛ لشلبي.(9/181)
- المدونة؛ للإمام مالك.
- المستدرك؛ للحاكم.
- المستصفى؛ للغزالي.
- مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر.
- مسند الإمام أحمد، مع الفتح الرباني؛ للساعاتي.
- المسودة، لآل تيمية.
- مصنف عبد الرزاق.
- المعاملات الشرعية المالية، لأحمد إبراهيم بك.
- معالم السنن؛ للخطابي.
- المغرب؛ للمطرزي.
- المقدمات؛ لابن رشد.
- الملخص الفقهي، للفوزان.
- منتقى الأخبار بشرحه، المنتقى لابن تيمية، والنيل، للشوكاني.
- المنتقى؛ للباجي.
- الموسوعة الفقهية، نشر وزارة الأوقاف الكويتية.
- الموافقات؛ للشاطبي.
- مواهب الجليل، للحطاب.
- الموطأ، للإمام مالك.
- المهذب، للشيرازي.
- نهاية المحتاج، للرملي.
- النقد الأجنبي؛ لسيد عيسى.
- الهداية؛ للبابرتي.(9/182)
تجارة الذهب
الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة
إعداد الشيخ محمد علي التسخيري
والسيد جعفر الحسيني
الجمهورية الإسلامية الإيرانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.
الموضوع الثالث – تجارة الذهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة:
1- خصوصية الذهب والفضة واختلافهما عن السلع الأخرى:
لا شك في أن النقود المتعارفة في زمن الشريعة قد تبدلت من الدينار والدرهم الذهبي والفضي إلى النقود الاعتبارية البحتة والأوراق المتعارفة في زماننا هذا والتي لا قيمة ذاتية – تذكر – لها؛ إذ ليست هي سلعة من السلع.
ولكي يتضح لنا علة الثمنية للدينار قديما ومدى اعتبارها في النقدين – الذهب والفضة – بعد انتشار الأوراق النقدية، علينا أن ندرس في تاريخ النقود القديمة في العصور السالفة فنقول.
تاريخ نقود الأمم مختلف الأدوار:
كان التبادل في العصور القديمة على شكل المقايضة، أي مبادلة السلع بعضها ببعض، كما قد يتفق ذلك ولو نادرا في زماننا هذا وخاصة في المجتمعات القروية البسيطة.
وقيل: إنه كان يجعل بعض السلع كالغلات أو الأنعام أو الثياب مقياسا للتبادل وبمنزلة النقد فرارا من مشاكل المقايضة.
قال في المقتطف: كان الناس في العصور السالفة على أقسام:
فمنهم من لا شريعة لهم للتملك فكانوا يضربون في الأرض كيف شاؤوا يصيدون حيوانها ويجتنون ثمارها وهم قبائل كثيرة منتشرة في إفريقية وبعض الجزائر.
وقسم منهم قرروا شريعة التملك فاستقل كل منهم بمال يذب عنه ويسعى في توفيره ولكن لا نقود لهم، فإذا احتاج أحدهم شيئا مما عند الآخر أخذ عوضا عنه شيئا من مقتنياته وهذه المقايضة نوع من البيوع ولعلها أقدم أنواعه ولم تزل جارية في أطراف هذه البلاد وفي جهات كثيرة من آسيا وإفريقية.(9/183)
وقسم ثالث اعتمدوا على أنواع من المقتنيات مقياسا لأثمان البضائع فقالوا: إن هذه البضاعة تساوي كذا خروفا أو كذا سيفا أو كذا وزنا من الذهب أو الفضة. وقد سبق ذلك ضرب النقود عند أكثر أمم الأرض ولم يزل على قلة في بعض الأطراف.
وقسم رابع اعتمدوا على قطع موزونة من المعادن ضربوها بسكة الدولة حتى لا يدخلها الزيف وجعلوا لها قيمة مطلقة يقومون بها أثمان البضائع وهم كل الشعوب المتمدنة.
ومن الجدير بالذكر أن الباحث عن أصل النقود عليه أن يعود إلى مهد المعارف والصنائع، بلاد الصين العظيمة التي سبقت كل العالم إلى رياض التمدن؛ فقد وجد في هذه البلاد نقود ضربت فيها قبل ميلاد المسيح بنحو ألفين ومئتين وخمسين سنة، ومن هذه النقود ما شكله كالقميص أو كالسكين كأنهم كانوا يبيعون ويشترون بالأقمصة والسكاكين.
ثم لما انتبهوا لإبدالها بقطع من المعدن جعلوا شكل القطع كشكل الأقمصة والسكاكين فصارت السلعة التي تساوي عشرين قميصا تساوي عشرين بوا (الفلس الذي بشكل القميص) والسلعة التي تساوي خمسين سكينا تساوي خمسين تاوا (الفلس الذي بشكل السكين) .
ثم إن هذه النقود لما كانت بطبيعتها عسرة الحمل تفطن الصينيون لسبكها مستديرة فقالوا: إن النقود التي تدور العالم يجب أن تكون مستديرة فضربوها كذلك وسبكوها سبكا فأصبحت هدفا للتزييف حتى أنك ترى في تاريخ نقود الصين المنع الأكيد عن زيف النقود والحث البليغ على إرجاعها إلى ميزانها.
وفي عام (119) قبل الميلاد فرغت خزانة الملك (اوتي) من النقود فأمر وزيره بنشر نقود من جلد الغزال الأبيض تضاهي أوراق البنك المتعارفة في يومنا هذا، ومن هنا نسب بعض الباحثين تأسيس البنك إلى الصينين – فلم تلبث أن أصابها ما يصيب أوراق بعض الدول في هذه الأيام أي انحطت أثمانها كثيرا حتى بيع قرص الأرز بما قيمته ثلاثة آلاف ليرا من هذه الأوراق.
ويتلو أهالي الصين في السبق إلى استعمال نقود الورق منذ أمد بعيد أهالي اليابان، فقد قيل إنه ورد في الجزء التاسع والخمسين من قاموسهم العام المسمى (سن تساي دَن) : إن نقود الورق استعملت في أيام دولة سنغ ودولة يون ولم تف بالغرض لأن الفيران كانت تقرضها والمطر يبللها والاستعمال يبريها.
أما المصريون فقد كانوا يتعاملون بقطع النحاس يزنونها وزنا ولم يتعاملوا بالذهب والفضة إلا قليلا وربما صاغوها حلقات كالخواتيم وتعاملوا بها كذلك، وأول من ضرب النقود في مصر المرزبان ارنيدس اقتداء بداريوس الهخامنشي ملك الفرس.(9/184)
أما العبرانيون فقد قيل: إن أول من ضرب النقود العبرية (سمعان المكابي) بإذن انطيوخس السابع عام 144 قبل الميلاد.
أما الدارك الوارد اسمه في التوارة فمن النقود الفارسية، وسمي دركا نسبة إلى داريوس الهخامنشي، وعليه صورة الملك راكعا وبيده قوس وسهم (1) .
وقال الدكتور جيمس هنري في كتابه (العصور القديمة) : كان البيع والشراء تجريان مقايضة قبل أن تعرف النقود، وأول أمة عرفت النقود وتعاملت بها اللوذية (بليديا) في نحو سنة 700 قبل الميلاد، وكانت بابل التي سنت أقدم الشرائع تجهل النقد وكان أهلها يثمنون الأشياء بقطع الفضة بأوزان معلومة وكانت الأوقية أول وزن يستعملوه.
وجاء في ص87 من كتاب (النقود العربية) أما ماذي وفارس فقد تعلمتا ضرب النقود من لوذية، وكانت قيمة الذهب فيهما تزيد على قيمة الفضة ثلاثة عشر ضعفا، ولعل فارس تعلمت ضرب النقود من لوذية على إثر تغلبها عليها سنة 546 قبل الميلاد وكانت النقود في أول أمرها تضرب مربعة، ثم جعلوها مستديرة، وكان الايونيون يستعملون المعادن الكريمة وزنا كما فعل البابليون قبلهم، وكانت وحدة الوزن عندهم، المنا البابلي، وكل ستين منا (ليرة) يساوي (وزنة) وقيمة الوزنة من الفضة 5625 فرنك، وقد علم اللوذيون العالم النقود المقطوعة بحجم معين ووزن معين، وطبعها بطابع الملك أو الملكة كفالة لقيمتها؛ وهكذا شاع استعمال النقود المطبوعة في الجزر ويونان وأوربا.
__________
(1) مجلة المقتطف، المجلد الرابع، الجزء الثاني(9/185)
وقال جودت باشا في تاريخه عند ذكر المسكوكات: قد ثبت بمقتضى التحقيقات التي وقفنا عليها في هذا الباب ونظرا لما حققه أصحاب هذا الفن – ثبت أن اليونانيين هم الذين أحدثوا السكة قبل حوالي ألفين وستمائة سنة، وقبل ذلك كانوا يتبادلون الأموال بالسبائك المصنوعة من الذهب والفضة وما شابهها. وكانوا ينقشون على مسكوكاتهم تارة رسم أصنامهم وطورا رسم الأبنية مثل البروج والقلاع وبيوت الأنعام والجبال والنبات والأشجار وطورا كان الحكام المستقلون يرسمون صورهم على مسكوكاتهم والحكومات الجمهورية كانت ترسم دار حكومتها أو اسم البلدة التي ضرب فيها ومسكوكات الروم كانت على مثل هذا التراث (1) .
وجاء في دائرة المعارف للبستاني (2) نقلا عن مسيولترون أن الدراهم من أيام سولون إلى أيام بيركلس والإسكندر كان يساوي (92) سنتيما أي 92 جزءا من مائة جزء الفرنك، ومن الإسكندر إلى الميلاد 87 سنتيما، وقيل: كان في بادئ الأمر 65 سنتيما وصار (96) ثم هبط بعد زمان الإسكندر إلى (75) .
وذكر اليعقوبي في تاريخه (بأن ملوك بابل هم الذين قيدوا البنيان واتخذوا المدن وعملوا الحصون وشرفوا القصور و.. واستخرجوا المعادن وضربوا الدنانير ... ) (3) .
والقرآن يصرح بوجود الدراهم ورواجها في عهد يوسف عليه السلام حيث قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] .
وروى الشيخ الصدوق رحمه الله في كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام عن آبائه عن الحسين بن علي عليه السلام قال: كان علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام فقال: يا أمير المؤمنين إني أسألك عن أشياء، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: سل تفقها ولا تسأل تعنتا، فأحدق الناس بأبصارهم فقال: أخبرني عن أول ما خلق الله تعالى؟ فقال عليه السلام: خلق النور ... وسأله عن أول ما وضع سكة الدنانير والدراهم فقال: نمرود بن كنعان بعد نوح عليه السلام (4) والظاهر أنه ملك بابل الذي كان معاصرا لإبراهيم الخليل عليه السلام.
__________
(1) ص 274
(2) دار المعارف للبستاني ج7 ص670
(3) تاريخ اليعقوبي: 1/95
(4) عيون أخبار الرضا: 1/246(9/186)
نقود العرب في الجاهلية:
قال جورج زيدان: (كان العرب قبل الإسلام يتعاملون بنقود كسرى وقيصر وهي الدراهم والدنانير، وكانت الدنانير على الإجمال نقودا ذهبية والدراهم نقودا فضية بما يقابل الجنيه والريال عندنا، وكانوا يعبرون عن الذهب بالعين وعن الفضة بالورق، وكان عندهم أيضا نقود نحاسية منها الحبة والدانق، على أن مرجع هذه النقود إنما هو إلى الوزن لأن المراد بالدينار قطع من الذهب وزنها مثقال عليه نقش الملك أو السلطان الذي ضربه، والمراد بالدرهم وزن الدرهم من الفضة، ويسمونه أيضا الوافي) (1) .
وقال في تاريخ العرب قبل الإسلام: (أما أهل الحجاز فقد تعاملوا بالنقود الرومية والساسانية، وتعاملوا بالدراهم وتعاملوا بالدنانير، وتعاملوا بالدانق، ولعلهم كانوا يتعاملون بنقود أهل اليمن كذلك، وبنقود أهل الحبشة؛ فقد كان أهل مكة خاصة تجارا يتاجرون مع اليمن ويتاجرون مع العراق وبلاد الشام، وتجارتهم هذه تجعلهم يستعملون مختلف النقود خاصة أنهم كانوا في مكان فقير لا يساعد على ضرب النقد فيه، وأغلب اعتماد العرب في الجاهلية، وفي صدر الإسلام قبل ضرب النقود الإسلامية، بالحروف العربية على نقد الذهب المضروب عند الروم وهو الدينار أما النقود المضروبة من الفضة فكان جل اعتماد العرب فيها على نقود الساسانيين) (2) .
أول من أمر بضرب السكة في الإسلام:
قيل: إن أول من أمر بضرب السكة في الإسلام، هو عمر بن الخطاب لمصالح أهل البصرة، فضربها على النقش الكسروي سنة 18 من الهجرة ثم تابعه في ذلك عثمان بن عفان وكذا معاوية بن أبي سفيان في أيام دولته ذاهلين عن تحويل عن نقوشها الكسروية والقيصرية إلى الإسلامية.
قال جودت باشا في تاريخه: (في زمن الرسالة المحمدية صلى الله عليه وسلم لم يقع اعتناء بأمر السكة لكون الملة كانت في ابتداء أمرها ساذجة مع بداوة العرب، فاستمرت النقود المتداولة بين الناس على الحال التي كانت عليها، وفي الأكثر كانت تستعمل المقادير الميزانية.
وبالجملة فإن السكة التي كانت جارية في بلاد العرب هي الدراهم والدنانير التي كانت مسكوكة بسكة ملوك الفرس والمجوس والهند والروم، وفي زمن الخلفاء الأربع وأوائل الدولة الأموية كانت الهمم والأنظار متعلقة بأمر الغزاة والجهاد ولذلك لم يقع اهتمام بضرب السكة (3) .
__________
(1) تاريخ التمدن الإسلامي: 1/97، طبعة مصر سنة 1902م
(2) تاريخ العرب قبل الإسلام: 8/206 مطبعة المجمع العلمي العراقي 1378هـ
(3) تاريخ جودت باشا ص276(9/187)
أول من نقش على النقود بسكة إسلامية:
قال جودت باشا: (إن المسلّم عند أهل العلم أن الذي أحدث ابتداء ضرب السكة العربية هو الحجاج بأمر من عبد الملك حين كان واليا على العراق من قبله "75 و76" ولكن ظهر خلاف هذا عند الكشف الجديد في سنة 1276 وذلك إن رجلا إيرانيا اسمه جواد أتى دار السعادة بسكة فضية عربية ضربت في البصرة سنة 40 من الهجرة، والفقير رأيتها بين المسكوكات القديمة عند صبحي بك أفندي، مكتوب على أحد وجهها بالخط الكوفي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } [الإخلاص1: 4] . وفي دورتها محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وعلى الوجه الآخر"لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وفي دروتها "ضرب هذا الدرهم بالبصرة سنة 40) (1) .
وقال السيد محسن الأمين العاملي: تحت عنوان (أول من أمر بضرب السكة الإسلامية) : (ذكر الفاضل المتتبع الشيخ حيدر قلي خان بن نور محمد خان الكابلي في رسالته "غاية التعديل في الأوزان والمكاييل" وأخبرني به من لفظه بمنزله يوم السبت العشرين من المحرم سنة 1353. وكان يجيد اللغة الإنكليزية قال: رأيت في دائرة المعارف البريطانية ص904 عند الكلام على المسكوكات العربية ما تعريبه ملخصا (إن أول من ضرب السكة الإسلامية هو الخليفة علي بالبصرة سنة 40 من الهجرة الموافقة لسنة 660مسيحية ثم أكمل الأمر بعده عبد الملك الخليفة سنة 76 من الهجرة الموافقة لسنة 695 مسيحية) (2) .
إذن فأول من أحدث السكة الإسلامية وأبطل النقوش الكسراوية والقيصرية هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ولا غرو في أن يكون أول من تفطن لذلك فيمحو آثار الشرك وشعائر المجوسية والنصرانية عن المسكوكات الإسلامية فإنه أعلم الأمة بصلاحها وفسادها وأولى الناس بإقامة الأمت والعوج وسد الثلم وتعظيم شعائر الدين والإسلام ولكنه ضربها على الدراهم الفضية المحتاج إليها وجعل نقشها دائرا مدار الشهادتين – التوحيد ورسالة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وتاريخ ودار الضرب.
ثم ضرب بعد ذلك مصعب بن الزبير بأمر أخيه عبد الله بن الزبير دراهم أكثر نقوشها عربية بالخط الكوفي وعليها شعار الإسلام والتوحيد.
__________
(1) تاريخ جودت باشا ص276
(2) أعيان الشيعة 3/599 الطبعة الأولى(9/188)
قال المقريزي: (فلما قام عبد الله بن الزبير بمكة ضرب دراهم مدورة ... وضرب أخوه مصعب بن الزبير دراهم بالعراق وجعل كل عشرة منها سبعة مثاقيل وأعطاها الناس في العطاء حتى قدم الحجاج بن يوسف العراق من قبل عبد الملك بن مروان فقال: ما نبقي من سنة الفاسق أو المنافق شيئا، فغيرها) (1) .
وقال الدميري في حياة الحيوان الكبرى: وهو – أي عبد الملك بن مروان - أول من ضرب الدراهم والدنانير بسكة الإسلام وكان على الدنانير نقش بالرومية وعلى الدراهم نقش بالفارسية. قلت: ولهذا السبب. وهو إني رأيت في كتاب [المحاسن والمساوئ] (2) للإمام إبراهيم بن محمد البيهقي ما نصه: قال الكسائي: دخلت على الرشيد ذات يوم وهو في إيوانه وبين يديه مالا كثير قد شق عنه البدر شقا وأمر بتفريقه على خدمة الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله، وكان كثيرا ما يحدثه فقال: هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة؟
قلت: يا سيدي هو عبد الملك بن مروان. قال: فما كان السبب في ذلك؟
قلت: لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة، فقال: سأخبرك؛ كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانيا على دين ملك الروم وكانت تطرز بالرومية وكان طرازها أبا وابنا وروحا، فلم يزل كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك بن مروان فتنبه له وكان فطنا، فبينما هو ذات يوم إذ مر به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم للعربية ففعل ذلك فأنكره وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام أن يكون طراز القراطيس وهي تحمل في الأواني والثياب وهما يعملان بمصر وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد على سعته وكثرة ماله، والبلد يخرج منه هذه القراطيس تدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت بسطر مثبت عليها، فأمر بالكتابة إلى عبد العزيز بن مروان وكان عامله بمصر بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأمر صناع القراطيس أن يطروزها بصورة التوحيد {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا} وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت لم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلى عمال الآفاق جميعا بإبطال أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل.
__________
(1) النقود العربية: ص33
(2) المحاسن والمساوئ: ص498 – 502 ط لبسبيغ سنة 1902 م(9/189)
فلما ثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحمل إلى بلاد الروم منها انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم، وترجم له ذلك الطراز فأنكره وغلظ عليه واستشاط غيظا فكتب إلى عبد الملك: إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت وإن كنت قد أصبت فقد أخطؤوا فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق حاجة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية، وكانت عظيمة القدر، فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أنه لا جواب له ورد الهدية فانصرف بها إلى صاحبه فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها، ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت الهدية وإني أرغب إليك إلى مثل ما رغبت فيه من رد الطراز إلى ما كان عليه أولا، فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية، فكتب إليه ملك الروم كتابا يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تستعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فضعفتها فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لأمرن بنقش الدنانير والدراهم فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام فينقش عليها شتم نبيك، فإذا قرأته ارفضّ جبينك عرقا، فأحب أن تقبل هديتي وترد الطراز إلى ما كان عليه ويكون فعل ذلك هدية تودني بها ونبقى على الحال الأول بيني وبينك، فلما قرأ عبد الملك الكتاب صعب عليه الأمر وغلظ وضاقت به الأرض وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من شتم هذا الكافر ما يبقى عبر الدهر ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب إذا كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأيا يعمل به، فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه، فقال: ويحك من؟(9/190)
فقال: عليك بالباقر من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قال: صدقت ولكنه أرتج عَلَيَّ الرأي فيه، فكتب إلى عامله بالمدينة أن أشخص إلى محمد بن علي بن الحسين مكرما، ومتعه بمئة ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته وأرح عليه في جهازه وجهاز من يخرج معه من أصحابه وحبس الرسول قبله إلى موافاة محمد بن علي، فلما وافاه أخبره الخبر، فقال له محمد رحمه الله تعالى: لا يعظم هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما إن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخرى وجوب الحيلة فيه. قال: وما هي؟ قال: تدعو في هذه الساعة بصناع فيضربون بين يديك سككا للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها صورة التوحيد وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني. وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عددا من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعا أحدا وعشرين مثقالا فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبع مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسراوية التي يقال لها اليوم البغلية، لأن رأس البغل ضربها لعمر رضي الله عنه بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليه صورة الملك، وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية نوش خور: أي كل هنيئا، وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالا، والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل، والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي السمرية الخفاف والثقال ونقشها نقش فارس.
ففعل ذلك عبد الملك، وأمره محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية، ففعل عبد الملك ذلك ورد رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك ويقول: إن الله عز وجل مانعك مما قد أردت أن تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وبكذا وبإبطال السكك والطروز الرومية، فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهددت به ملك العرب، فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادرا عليه والمال وغيره برسوم الروم فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام وامتنع من الذي قال، وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه إلى اليوم، ثم رمى يعني الرشيد إلى بعض الخدم (1) .
__________
(1) حياة الحيوان للدميري: 1/ 92- 90(9/191)
2- علة الثمنية الثابتة للدينار قديما ومدى اعتبارها في النقدين، الذهب والفضة، بعد انتشار الأوراق النقدية:
السؤال الذي يطرح نفسه بادئ الأمر بالنسبة لنقود اليوم هو أن الأوراق الاعتبارية هل تلحق – في باب الصرف – بالنقدين، الذهب والفضة أولا؟ وذلك من ناحتين.
أ- بلحاظ حرمة التفاضل.
ب- بلحاظ اشتراط القبض.
أما بالنسبة إلى حرمة التفاضل: فقد تعارف القول بحرمة أخذ الزيادة حتى في هذه الأوراق المالية المتعارفة اليوم، فلو اقترض أحد ألف دينار ملتزما بإرجاع ألف ومئتين مثلا بعد سنة كان ذلك ربا.
ولكن يمكن أن يقال فيما إذا لم تكن الزيادة أكثر من زيادة التضخم في الأسعار بجواز أخذ الزيادة وذلك بيان أن هذه الأوراق التي تعتبر مثلية فلا تلحظ في مثليتها شكل الورق مثلا بل تلحظ في مثليتها قوتها الشرائية، فإذا كان الألف والمئتان بعد سنة يساوي الألف لما قبل سنة في القوة الشرائية أو كان أقل من ذلك فلا زيادة في المقام وليس هناك ربا (1) .
وقبل الخوض في صميم الموضوع لا بد من التأمل في أنه هل يصح قياس الأوراق المالية المتداولة اليوم بالشيكات والسندات بدعوى أنها تحكي عن أرصدتها لدى الدولة أو لدى مصدرها وليست لها مالية مستقلة، أو لا يصح ذلك؟
وتوضيح ذلك: أن النقود والأوراق المالية – كما ألمحنا إلى مجمل تاريخها – مرت بأدوار:
الدور الأول: دور نيابتها عن أرصدتها من ذهب أو فضة محتفظ بها في خزانة مصدر الأوراق، تكون هي في الحقيقة ملكا لأصحاب الأوراق وليست هذه الأوراق إلا حاكية عن تلك الأرصدة.
وفي هذا الفرض لا ينبغي الإشكال في حرمة أخذ الزيادة لأنه ربا وقد {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] .
الدور الثاني: ما بدأ بعد أن أحس المصدرون للأوراق بأنهم غير مضطرين إلى الاحتفاظ بعين الأرصدة بمقدار الأوراق المصدرة، لأن أصحاب الأوراق سوف لن يطالبهم جميعا في وقت واحد بتسليم الرصيد فتبدل الاحتفاظ بالأرصدة إلى التعهد بدفع الرصيد لمن جاء بالورق إلى مصدر الأوراق.
__________
(1) راجع الحلقة السادسة من سلسلة: الإسلام يقود الحياة، للشهيد الصدر رحمه الله ص109(9/192)
ويمكن تفسير هذه التعهد بنحوين:
الأول: أن الجهة المصدرة تعتبر نفسها مدينة لصاحب الورق بمقدار رصيده ومعناه أن الورق أصبح أيضا شيكا وسندا لكنه لا يحكي عن رصيد خارجي كما هو الحال في الدور السابق بل يحكي عن رصيد الذمة.
وحينئذ يمكن أن يقال بأنه لا مانع من أخذ الزيادة لأنه من قبيل بيع الدين بأقل منه.
الثاني: إن الجهة المصدرة لا تأخذ على ذمتها، وإنما تتعهد تعهدا مستقلا عن ترجمة الورق لرصيد بأن من أتى له بشيء من هذه الأوراق قدم له من الرصيد بقدره وهذا التعهد يمنح للورق اعتبارا وقيمة لدى الناس باعتبار ثقتهم بالجهة المتعهدة.
وهذه يعني أن الورق إذا لم يصبح شيكا وسندا بل أصبح أمرا ذا مالية، وتعهد الجهة المصدرة لدفع الرصيد وهو حيثية تعليلية لاعتبار المالية اجتماعيا لهذا الورق.
وقد رجح الشهيد الصدر رحمه الله هذا التفسير وأيد ذلك بأن استهلاك السند أو سقوطه عن الاعتبار لا يعني تلاشي الدين، في حين أن أي شخص تتلاشى لديه الورقة النقدية أو يسقط الحكومة اعتبارها ولا يسارع إلى استبدالها بالنقود الجديدة لا تعتبر الجهة المصدرة نفسها مسؤولة أمامه عن دفع قيمة الورقة المتلاشية أو التي سقط اعتبارها وتماهل في استبدالها، فكأن هناك تعهدا بدفع القيمة ذهبا لمن يملك الورقة لا أن الورقة تعطى لمن يملك قيمتها ذهبا في ذمة الجهة المصدرة ولهذا يميزها القانون عن سائر الأوراق التجارية من شيكات وكمبيالات حيث يمنحها صفة النقد والإلزام بالوفاء بها، دون الأوراق الأخرى التي لا تخرج عن كونها سندات (1) .
وعلى هذا الأساس تكون الزيادة محرمة لكونها من مصاديق الربا المحرم، وكذلك لو قلنا بأن الأوراق المالية الرائجة في العالم تعتبر هي الأموال ولا تعتبر حاكية عما في الذمم وذلك بدعوى التعدي العرفي من مورد النص وهو – الذهب والفضة – إلى كل ما أصبح نقدا رائجا لأن العرف يفهم أن حرمة الزيادة في الذهب والفضة لم يكن لخصوصية فيهما بل لكونهما نقدين رائجين.
والتحقيق أن يقال: إن إشكال التفاضل في الصرف يمكن أن ينشأ من أحد وجهين الأول منهما شامل للنقد والنسيئة والثاني منهما يختص بفرض النسيئة.
__________
(1) البنك اللاربوي: ص151، طبعة دار التعارف، بيروت(9/193)
أما الوجه الأول: فهو التعدي من باب الصرف الوارد في الذهب والفضة إلى الأوراق الاعتبارية، بدعوى أن العرف يلغي خصوصية الذهب والفضة ويفهم أن المقياس في حرمة التفاضل كونه نقدا رائجا فما يحرم التفاضل في تبديل الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة كذلك يحرم ذلك في هذه الأوراق، لأن إشكال التفاضل يختص بالجنس الواحد ووحدة الجنس أمر عرفي فلا يقصد به في المقام كونه ورقا أو كونه نحاسا مثلا أو أي شيء آخر، بل يقصد به: أن يطلق عليه كلمة واحدة فالريال مثلا كله جنس واحد، سواء صنع من الأوراق أو من غير الأوراق، فهل يجوز التفاضل في صرفه بالريال أم لا؟ ومع وحدة الجنس فمن الطبيعي عدم الجواز.
ولكن يمكن المناقشة فيه بعدم إمكان الجزم بأن المقياس في حرمة التفاضل هو كونه نقدا رائجا بل الحكم ثابت في ذات الذهب والفضة وإن لم يكن نقدا رائجا وكذلك في كل مكيل أو موزون.
ومما يشهد لكون الحكم تعبديا محضا ولم يكن بنكتة عقلانية اقتصادية ثابتة في الأوراق أيضا – حرمة التفاضل حتى مع فرض الاختلاف في الجودة والرداءة، وذلك لأن تلك النكتة العقلانية لو كانت هي المؤثرة في الحرمة – أعني ثبوت الربح بلا مقابل – فهي منتفية فيما إذا كانت الزيادة في القسم الرديء في مقابل القسم الجيد.
نعم إذا فرضنا أن تلك النكتة حكمة لتحريم التفاضل على الإطلاق، وإن كانت قد تتخلف في بعض الموارد، فيمكن الحكم بحرمة التفاضل في الأوراق، ويؤيد ذلك تعليل التحريم في بعض الروايات بتلك النكتة.
روى الشيخ الصدوق رحمه الله في كتاب "علل الشرائع" بسنده عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في حديث: " ... وعلة التحريم الربا، لما نهى الله عز وجل عنه، ولما فيه من فساد الأموال، لأن الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهما وثمن الآخر باطلا فبيع الربا وشراؤه وكس على كل حال، على المشتري وعلى البائع، فحرم الله عز وجل على العباد الربا لعلة فساد الأموال كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف عليه من فساده حتى يؤنس منه رشد، فلهذه العلة حرم الله عز وجل الربا وبيع الدرهم بالدرهمين (1) .
__________
(1) علل الشرائع: ص483(9/194)
أما الوجه الثاني: فهو يختص بفرض النسيئة وما إذا كان ما فيه الزيادة مؤجلا.
ومن الواضح أن إطلاق الربا يشمل ذلك إذ لا يحتمل أن مجرد الفرق في التكيف يجعل قرضا أو بيعا يكون له دخل في صدق عنوان الربا وعدمه، لأن هذه المعاملة لا تختلف في روحها عن القرض بل حتى لو سلمنا عدم الإطلاق اللفظي فلا نشك في التعدي العرفي إذ مجرد تحويل صيغة القرض إلى صيغة البيع المؤجل لا يحل مشكلة الربا، وإلا لأمكن الحكم بعدم حرمة الربا مطلقا لإمكان إرجاع كل قرض إلى البيع المؤجل.
وأما إذا كانت المبادلة بين سنخين من الأوراق أي فيما بين عملتين نقدا كالريال والدولار فلا إشكال في الجواز مهما فرضت الزيادة في أحد الطرفين.
نعم لو كان أحدهما مؤجلا ففيه إشكال لما سنبينه من اشتراط القبض في بيع الصرف.
هذا كله بالنسبة إلى حرمة التفاضل.
وأما بالنسبة إلى اشتراط القبض: بفناء على شرط القبض في مبادلة الذهب بالفضة كما ورد التصريح به في عدة روايات (1) فهل نتعدى من ذلك إلى الأوراق الاعتبارية إذا كانت من سنخين أي إذا كانت المبادلة بين عملتين كالريال والدولار أو لا؟
فلو قلنا بأن شرط القبض حكم تعبدي بحت، لا نعرف ملاكه، ولا يستبعد العرف الفرق وخاصة أن الحكم لم يكن مخصوصا بالمسكوكين حتى يحمل على مطلق النقد الرائج، فيشكل الحكم بالتعدي واشتراط القبض حتى في الأوراق الاعتبارية.
وأما لو قلنا بأن للذهب والفضة حظا من النقدية والثمنية ولو لم يكونا مسكوكين وأن الحكم بوجوب القبض كان بهذا اللحاظ، وخاصة أن اختلاف الأسعار مما يسبب الغرر لو لم يحصل التقابض إذن فلا إشكال في الحكم بالتعدي واشتراط القبض في مبادلة الأوراق النقدية حسما لمادة النزاع.
__________
(1) الوسائل: 12/485 – 461 الباب 2 من الصرف(9/195)
3- المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموما إليه جنس آخر:
لا شك في ثبوت الربا في مبادلة مقدار من الذهب بمقدار أقل منه بلا انضمام شيء إليه، وأما لو بيع مقدار من الذهب كالدينار الواحد بمقدار أقل منه كنصف دينار مضموما إليه جنس آخر فهل هو من الربا المحرم أم لا؟
ولا بد من تحرير محل النزاع فنقول: يمكن إيقاع هذه المبادلة الخاصة بأحد نحوين:
الأول: أن يكون هناك عقدان مستقلان:
العقد الأول: يتضمن بيع نصف دينار من الذهب بمثله.
والعقد الثاني: يتضمن بيع نصف دينار من الذهب بثوب مثلا، وهذا النحو من المبادلة من مصاديق البيع المحلل ولا تلحقه أحكام الربا جزما ولا بحث فيه.
الثاني: أن لا يكون هناك أكثر من عقد واحد كما لو باع دينار من الذهب بنصف دينار من الذهب وثوب فهل يحكم بالحرمة والفساد أم بالصحة والجواز؟ هناك قولان:
القول الأول: ما ذهب الفقهاء من القول بالحرمة والفساد لاشتراط عدم التفاضل في مبادلة المتجانسين:
منهم الإمام الشافعي في كتاب الأم قال: وإذا صرف الرجل من الرجل الدينار فوزن له عشرة ونصفا فلا بأس أن يعطيه مكان النصف نصف فضة إذا كان في بيعه غير الشرط الأول، وهكذا لو باعه ثوبا بنصف دينار فأعطاه دينارا وأعطاه صاحب الثوب نصف دينار ذهبا لم يكون به بأسا لأن هذا بيع حادث غير البيع الأول، ولو كان عقد عقد البيع على ثوب ونصف دينار بدينار كان فاسدا لأن الدينار مقسوم على نصف دينار والثوب (1) .
__________
(1) كتاب الأم: 3/32(9/196)
ومنهم ابن قدامة في المغني قال: والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين وهو أن يظهر عقدا مباحا يريد به محرما مخادعة وتوسلا إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك. قال أيوب السختياني: إنهم ليخادعون الله كأنما يخادعون صبيا، لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل، فمن ذلك ما لو كان مع رجل عشرة دراهم ومع الآخر خمسة عشرة مكسرة فاقترض كل واحد منهما ما مع صاحبه ثم تباريا توصلا إلى بيع الصحاح بالمكسرة متفاضلا (إلى أن قال) أو اشترى منه بعشرة إلا حبة من الصحيح مثلها من المكسرة ثم اشترى منه بالحبة الباقية ثوبا قيمته خمسة دنانير وهكذا – إلى أن قال – فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم وبهذا قال مالك (1) .
ومنهم الإمام مالك والليث، قال ابن رشد: وأما اختلافهم إذا نقصت المراطلة فأراد أحدهما أن يزيد شيئا آخر مما فيه الربا أو مما لا ربا فيه فقريب من هذا الاختلاف مثل أن يراطل أحدهما صاحبه ذهبا بذهب فينقص أحد الذهبين عن الآخر فيريد الذي نقص ذهبه أن يعطي عوض الناقص دراهم أو عَرَضًا فقال مالك والشافعي والليث: إن ذلك لا يجوز والمراطلة فاسدة. وعمدة مالك التهمة فيه أن يقصد بذلك بيع الذهب بالذهب متفاضلا (2) .
القول الثاني: ما ذهب إليه أكثر الفقهاء من القول بالجواز والصحة وهو المختار.
قال ابن رشد – بعد ذكر المسألة -: وأجاز ذلك كله أبو حنيفة والكوفيين، وعمدة الحنفية تقدير وجود المماثلة من الذهبين وبقاء الفضل في مقابل العرض (3) .
وقال ابن قدامة في المغني – بعد طرح المسألة-: وقال أبو حنيفة والشافعي: ذلك كله وأشباهه جائز إذا لم يكن مشروطا في العقد وقال بعض أصحاب الشافعي: يكره أن يدخلا في البيع على ذلك (4) .
__________
(1) المغني والشرح الكبير: 4/179
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 2/199
(3) البداية والنهاية 2/200
(4) المغني والشرح الكبير: 4/179(9/197)
أما فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام فقد قالوا بالجواز منهم:
1- شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله (1) قال في كتاب (الخلاف) ما لفظه: يجوز بيع مد من تمر ومد من شعير ودرهم بمدي شعير وهكذا إذا كان بدل الدرهم في هذه المسائل ثوب أو خشبة أو غير ذلك مما فيه الربا أو مما لا ربا فيه، وهكذا يجوز بيع درهم وثوب بدرهمين وبيع دينار وثوب بدينارين، وبيع دينار قاساني ودينار إبريزي بدينارين نيسابوريين، وجملته أنه يجوز بيع ما يجري فيه الربا بجنسه ومع أحدهما غيره مما فيه ربا أو لا ربا فيه، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي إن جميع ذلك لا يجوز. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم التي ذكرناها وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وقال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] وهذه الأشياء كلها بيع وتجارة فيجب أن يكون مباحا لعموم الآيتين، والتخصيص يحتاج إلى دليل (2) .
2- وقال العلامة الحلي رحمه الله في القواعد: ولو اشتمل أحد العوضين على جنسين ربويين صح بيعهما بأحدهما مع الزيادة كمد تمر ودرهم بمدين أو بدرهمين، أو بمدين ودرهمين (3) .
3- وقال السيد محمد جواد الحسيني العاملي في كتاب (مفتاح الكرامة) عند شرحه لكلام العلامة الحلي رحمه الله ما لفظه:
(وقد نص على جواز ذلك في المبسوط والخلاف والغنية والسرائر والشرائع والنافع والتحرير والتذكرة والارشاد ونهاية الأحكام وكنز الفوائد والإيضاح والدروس واللمعة وحواشي الشهيد وكفاية الطالبين وجامع المقاصد وحاشية الإرشاد والميسية والروضة والمسالك ومجمع البرهان والكفاية والمفاتيح، وقد حكى الإجماع في الخلاف والغنية والتذكرة وجامع المقاصد وحاشية الإرشاد والمسالك وظاهر نهاية الأحكام والإيضاح وكنز الفوائد مضافا إلى الأصل والعمومات واختصاص أدلة التحريم – بحكم التبادر- والسياق – بغير مفروض المسألة، ومع ذلك الأخبار مستفيضة وفيها الصحيح وقد ذكر ذلك جماعة منهم فيما يتخلص به من الربا إذا بيع أحد المتجانسين بالآخر متفاضلا، قالوا: ويصرف كل إلى مخالفه وإن لم يقصد) (4) .
__________
(1) محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله من كبار علماء الإمامية في القرن الرابع، له مؤلفات عديدة في التفسير والحديث والرجال والفقه والأصول وغيرها
(2) كتاب الخلاف: 2/61
(3) قواعد الأحكام، كتاب الربا:141 طبعة حجرية
(4) مفاتح الكرامة في شرح قواعد العلامة: 4/521(9/198)
ما هو المحقق للربا في مبادلة المثلين؟
بعد الفراغ عن بيان آراء الفقهاء لا بد من البحث فيما هو المحقق للربا في مبادلة الذهب بالذهب فنقول: قال ابن رشد: المسألة الأولى: أجمع العلماء على أن بيع الذهب بالذهب والفضة لا يجوز إلا مثلا بمثل يدا بيد – إلى أن قال – وأما الجمهور فصاروا إلى ما رواه مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض)) (1) .
وروى الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام قال: الفضة بالفضة مثلا بمثل والذهب بالذهب مثلا بمثل ليس فيه زيادة ولا نقصان الزائد والمستزيد في النار (2) .
وقال الوليد بن صبيح سمعت أبا عبد الله يقول: الذهب بالذهب والفضة بالفضة الفضل بينهما هو الربا المنكر (3) .
إلى غير ذلك من النصوص الصريحة في حرمة الزيادة في مبادلة الذهب بالذهب والفضة بالفضة وعدم جواز زيادة أحدهما على الآخر، بل لا بد من أن يكونا مثلا بمثل ووزنا بوزن. ومع زيادة أحدهما على الآخر فهو الربا المحرم المجمع على حرمته وفساده.
وأما إذا كانت المبادلة فيما بين مقدار من الذهب كالدينار ومقدار أقل منه كنصف دينار مع ضم جنس آخر – كثوب مثلا – إليه فليست من مصاديق مبادلة الجنسين المتماثلين إذ المفروض كون المثمن ذهبا وثوبا معه، فهو خارج عن معقد الإجماع والنصوص المبنية لموضوع الربا لعدم كون الثمن والمثمن كليهما ذهبا محضا معه فلم يتحقق التفاضل في الجنس الواحد، إذ المبادلة وقعت فيما بين مجموع الثمن وهو الدينار ومجموع المثمن وهو نصف دينار وثوب، ولا يلاحظ كل جزء من الثمن في مقابل كل جزء من المثمن – لا لغة ولا عرفا ولا شرعا – بل الملحوظ كل الثمن في قبال كل المثمن.
وبتعبير آخر: أنا حتى لو فرضنا كون الملحوظ للمتعاملين كل جزء من الثمن في قبال كل جزء من المثمن فمع ذلك ليست هذه المبادلة من مصاديق مبادلة الذهب بالذهب مع التفاضل، وذلك لأن النصف من الدينار في الثمن يلاحظ مع النصف من الدينار في المثمن، والنصف الآخر من الدينار يلاحظ في قبال الثوب، ومعه فلا يلزم الربا وتشمله أدلة حلية البيع والتجارة عن تراض.
__________
(1) البداية والنهاية: 2/195
(2) وسائل الشيعة: كتاب التجارة – الباب 9 من أبواب الصرف الحديث1
(3) وسائل الشيعة: كتاب التجارة – الباب 9 من أبواب الصرف الحديث(9/199)
قال الشيخ حسن النجفي في موسوعته الفقهية (جواهر الكلام) ما لفظه: (لا خلاف بيننا أيضا في أنه يجوز بيع درهم ودينار بدينارين وبدرهمين ويكون في الصحة بمنزلة أن يصرف كل واحد منهما إلى غير جنسه وإن لم يقصدا ذلك، وكذا لو جعل بدل الدينار أو الدرهم شيء من المتاع وكذا مد من تمر ودرهم بمدين أو أمداد ودرهمين أو دراهم، إذ هو وإن لم يكن في كل منهما جنس يخالف الآخر إلا أن الزيادة تكون في مقابل الجنس المخالف في أحدهما فهو في الصحة حينئذ كذي جنسين ولا خلاف بيننا في الجميع بل الإجماع بقسميه عليه بل المحكي منه مستفيض جدا إن لم يكن متواترا، مضافا إلى الأصل والعمومات واختصاص أدلة التحريم بحكم التبادر والسياق بغير مفروض المسألة) (1) .
مناقشة أدلة القائلين بالحرمة:
أما دليل الإمام الشافعي على الحرمة الذي تقدم نقله عنه (بأن الدينار مقسوم على نصف الدينار والثوب) (2) .
ففيه:
أن المبادلة فيما بين مجموع الثمن وهو الدينار ومجموع المثمن وهو الثوب ونصف دينار ولا يلاحظ كل جزء من الثمن في قبال كل جزء من المثمن ليقال (إن الدينار مقسوم على نصف الدينار والثوب) إذ لو قلنا بذلك فمعناه انحلال العقد الواحد إلى عقدين، فكأنه باع في عقد واحد نصف دينار بنصف دينار وفي عقد آخر مستقل باع ثوبا بنصف دينار ولا إشكال في صحة كلا العقدين، ولم يقل أحد بالبطلان وقد اعترف الشافعي نفسه أيضا بالصحة والجواز.
وأما ما ذكره ابن قدامة من احتساب هذه المبادلة من الحيل المحرمة.
ففيه:
ما تقدم من عدم صدق التفاضل في الجنس الواحد وخروج هذه المبادلة عن موضوع الربا وثبوت كونها بيعا حلالا وتجارة عن تراض.
وبهذا يجاب عن مقالة مالك والليث إذ لا تهمة في قصد بيع الذهب بالذهب متفاضلا إذا كان في قبال الذهب الزائد شيء من العروض. والمنهي عنه وجود الزيادة في أحد الطرفين من دون عوض.
__________
(1) جواهر الكلام: 23/390
(2) الأم: 3/32(9/200)
ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام:
1- روى الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام [جعفر بن محمد الصادق] قال: لا بأس بألف درهم ودرهم بألف درهم ودينارين إذا دخل فيها ديناران أو أقل أو أكثر فلا بأس به (1) .
2- روى عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألته عليه السلام [جعفر بن محمد الصادق] عن رجل يأتي بالدراهم إلى الصيرفي فيقول له: آخذ منك المئة بمئة وعشرين أو بمئة وخمس حتى يراوضه على الذي يريد، فإذا فرغ جعل مكان الدراهم الزيادة دينارا أو ذهبا، ثم قال له: قد زاودتك البيع وإنما أبايعك على هذا لأن الأول لا يصلح، أو لم يقل ذلك وجعل ذهبا مكان الدراهم فقال: إذا كان آخر البيع على الحلال فلا بأس بذلك (2) .
3- وفي رواية أخرى ... فقلت له: أشتري ألف درهم ودينارا بألفي درهم؟ فقال: لا بأس بذلك (3) .
إلى غير ذلك من الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام الصريحة في حلية هذه المبادلة وعدم كونها من مصاديق الربا المحرم.
4- بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولا (أي فيه صنعة وصياغة) - رأي ابن القيم:
يمكن طرح المسألة بأحد نحوين:
الأول: أنه هل يجوز بيع الذهب المصنوع أو المصوغ كالخاتم مثلا بالذهب غير المصوغ مثلا بمثل أم لا؟
الثاني: هل يجوز بيع الذهب المصوغ بالذهب غير المصوغ بزيادة أم لا؟
أما القسم الأول فلا ريب في صحته شرعا لعدم وجود التفاضل حتى تأتي شبهة الربا في مبادلة المثلين.
وأما القسم الثاني: وهو بيع الذهب المصوغ بالذهب غير المصوغ بزيادة فقد ذهب ابن القيم إلى الجواز واستدل على ذلك: بأن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع (إلى أن قال) فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة؟ وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلا ورحمة وجلالا بإباحة هذا وتحريم ذلك؟ وهل هذا إلا عكس للمعقول والنظر والمصلحة؟ فإن قيل: الصفات لا تقابل بالزيادة ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر منها من الردية وبيع الثمر الجيد بأزيد منه من الردي، ولما أبطل الشارع ذلك علم أنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة.
__________
(1) وسائل الشيعة: كتاب التجارة الباب6 من أبواب الصرف، الحديث 4
(2) وسائل الشيعة: كتاب التجارة الباب 6 من أبواب الصرف، الحديث3
(3) وسائل الشيعة: كتاب التجارة الباب 6 من أبواب الصرف، الحديث 1(9/201)
قيل: الفرق بين الصنعة التي هي أثر فعل الآدمي وتقابل بالأثمان ويستحق عليها الأجرة، وبين الصفة التي هي مخلوقة لله لا أثر للعبد فيها ولا هي من صنعته فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة إذ إن ذلك يفضي إلى نقضه ما شرعه من المنع من التفاضل ... (1) .
والمناقشة في كلامه واضحة بعد تصريحه بأن الصفة لا تقابل بالزيادة وأن تجويز ذلك يفضي إلى نقض ما شرعه الله من المنع في التفاضل. فبعد اعترافه هذا كيف يجوز تقابل صفة الصياغة والصناعة بالزيادة.
ومجرد كونه صفة مخلوقة لله تعالى وصفة أخرى مخلوقة للبشر لا يكون فارقا بالنسبة إلى تحقق الربا في مقابلة الصفات بالزيادة، ولازم ذلك تجويز مبادلة طن من الحنطة الجيدة بطنين من الحنطة الرديئة فيما إذا كانت صفة الجودة بصنع البشر من إصلاح البذر والسقي المناسب ورفع الآفات ونحو ذلك، ولم يقل به أحد.
وأما استدلاله بلزوم العسر والحرج، ففيه: أنه لو كانت المبادلة فيما بين الذهب المصوغ وغيره منحصرا بالذهب لكان يلزم منه الحرج ولم يتصد أي أحد لهذه الصناعة التي لا يجوز له أن يأخذ شيئا زيادة على ذهبه.
وأما مع عدم انحصار المبادلة بالذهب وجوازه بالفضة مضافا إليه جواز إعطاء الذهب للصائغ ودفع الأجرة بإزاء عمله من نفس الذهب أو شيء آخر من العروض، ومعه فلا يلزم الحرج ولم يترك الصواغ عمله، كما هو المشاهد من صدر الإسلام إلى يومنا هذا، وخاصة بعد تعارف المبادلة فيما بين السلع والنقود الشائعة، فالإشكال مرتفع من أصله.
ومما يؤكد المطلب ما أخرجه البيهقي في سننه عن مجاهد أنه قال: كنت أطوف مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل في ذلك قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله بن عمر عن ذلك فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله بن عمر ينهاه حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابته يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا وعهدنا إليكم (2) .
وقال النووي: قال الشيخ أبو حامد: قال الأوزاعي: كان أهل الشام يجوزون ذلك فنهاهم عمر بن عبد العزيز.
5-المتاجرة في الأواني أو الحلي والساعات الذهبية المصنوعة للرجال، ويقع البحث في مقامين:
الأول: في حرمة استعمال أواني الذهب والفضة والساعات الذهبية المصنوعة للرجال، وحكم اقتنائها من دون استعمال.
الثاني: في جواز المتاجرة في الأواني والساعات الذهبية المصنوعة للرجال وعدمه.
__________
(1) إعلام الموقعين 2/1-3
(2) سنن البيهقي:5/477، ط: بيروت – دار الكتاب العلمية(9/202)
أما المقام الأول:
فقال ابن قدامة في المغني: ويحرم اتخاذ آنية الذهب والفضة. وحكى عن الشافعي أن ذلك لا يحرم؛ لأن الخبر إنما ورد بتحريم الاستعمال فلا يحرم الاتخاذ، كما لو اتخذ الرجل ثياب الحرير، ولنا أن ما حرم استعماله مطلقا حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالطنبور، وأما ثياب الحرير فإنها لا تحرم مطلقا. فإنها تباح للنساء وتباح للتجارة فيها، ويحرم استعمال الآنية مطلقا في الشرب والأكل وغيرهما، لأن النص ورد بتحريم الشرب والأكل وغيرهما مما في معناهما، ويحرم ذلك على الرجال والنساء بعموم النص فيهما ووجود معنى التحريم في حقهما (1) .
وقال الشيخ محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله في (الخلاف) : أواني الذهب والفضة محرم اتخاذها واستعمالها غير أنه لا تجب فيها الزكاة، وقال الشافعي: حرام استعمالها قولا واحدا، وفي اتخاذها قولان: أحدهما محظور والآخر مباح، وعلى كل حال تجب فيه الزكاة- ودليلنا: ما قدمناه من أن المصاغ لا تجب فيه الزكاة، وإنما تجب في الدراهم والدنانير، وأما الدليل على حظر استعمالها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) أنه نهى عن استعمال آنية الذهب والفضة وقال: ((من شرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) (3) .
وقال المحقق في (شرائع الإسلام) : ولا يجوز الأكل والشرب في آنية من ذهب أو فضة ولا استعمالها في غير ذلك، ويكره المفضض، وقيل: يجب اجتناب موضع الفضة. وفي جواز اتخاذها لغير الاستعمال تردد والأظهر المنع (4) .
أدلة القائلين بحرمة اقتناء أواني الذهب والفضة:
أ - النصوص الشرعية:
1- ما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم له قال: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)) (5) .
قال العلامة في (المنتهى) : دل بمفهومه على تحريم الاتخاذ مطلقا.
__________
(1) المغني والشرح الكبير: 1/64
(2) صحيح البخاري: 7/146. وصحيح مسلم: 3/1634
(3) الخلاف: 2/90 كتاب الزكاة، المسألة:104
(4) شرائع الإسلام: 1/47
(5) صحيح البخاري: 6/207 كتاب الأطعمة باب الأكل(9/203)
2- ما رواه محمد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: (أنه نهى عن آنية الذهب والفضة) (1) .
بتقريب أن النهي تعلق بآنية الذهب والفضة ولم يذكر متعلق النهي، وقد ثبت في محله أن حذف المتعلق يفيد العموم. إذن فكل ما يرتبط بهذه الأواني من الأكل والشرب والاتخاذ وغير ذلك حرام للنهي عنه.
4-ما رواه موسى بن بكير عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: ((آنية الذهب متاع الذين لا يوقنون)) (2) .
وحيث إن اقتناء الأواني داخل في المتاع فيكون حراما؛ لأنه متاع الذين لا يوقنون.
والجواب:
أما قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)) فظاهرة حرمة الاستعمال لا الاتخاذ، فإن الكفار يتمتعون بها في الدنيا والمسلمون المتقون يتمتعون بها في الآخرة ولا دلالة فيه على حرمة الاتخاذ.
وأما النهي الوارد في صحيح محمد بن مسلم المتعلق بنفس الآنية، فإنه منصرف إلى ما هو الظاهر مه عرفا – أعني الاستعمال – ألا ترى أن تحريم الأمهات أو الدم أو الميتة منصرف إلى ما هو متعارف، وما هو المحرم نكاح الأمهات وشرب الدم وأكل الميتة.
وأما دعوى اندراج الاتخاذ في لفظة "المتاع" في رواية موسى بن بكير فغير وجيه؛ وذلك لأن "المتاع" اسم لما يتمتع به، والتمتع بالشيء عبارة عن استعماله ولو في بعض الأحيان، ومجرد الاقتناء، ووضع الشيء على الرف لا يعد استعمالا لا عرفا ولا عقلا ولا شرعا.
__________
(1) الوسائل:2/1083 كتاب الطهارة الباب 65 من أبواب النجاسات- الحديث 3و4
(2) الوسائل 2/1083 كتاب الطهارة الباب 65 من أبواب النجاسات(9/204)
ب- الأدلة العقلية:
1- ما تقدم عن ابن قدامة من أن ما حرم استعماله مطلقا حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالطنبور (1) .
وفيه: أنه لا ملازمة فيما بين حرمة الاستعمال وحرمة الاتخاذ، لا عقلا ولا عرفا ولا شرعا. ولا مانع من التفصيل فيما بين حرمة الاستعمال وجواز الاتخاذ لأن المستفاد من الأدلة الناهية عن تلك الآلات النهي عن وجودها الذي كان منشأ للفساد ولذا يجب كسرها وإتلافها بخلاف أواني الذهب والفضة التي لا يترتب عليها شيء.
2- ما في (المعتبر) : (اتخاذ الأواني من الذهب والفضة حرام. لنا أن ذلك تعطيل للمال فيكون سرفا لعدم الانتفاع) .
وأضاف ابن قدامة في (المغني) على ذلك بأنه موجب للخيلاء وكسر قلوب الفقراء ...
وفيه: أن الاتخاذ لا سرف فيه؛ إذ لربما يتحفظ به كيما يصرفه في حاجاته في المستقبل، وأما الخيلاء وكسر قلوب الفقراء، ففيه أنه لو كان في الخفاء لا يوجب الخيلاء ولا كسر قلوب الفقراء. إذن فنفس الاتخاذ من دون استعمال لا سرف فيه ولا يوجب الخيلاء وكسر قلوب الفقراء.
3- ما في (المبسوط) : (اتخاذ الأواني من الذهب والفضة لا يجوز وإن لم يستعمل؛ لأن ذلك تضييع، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال) .
وفيه: أن اتخاذ الأواني حفظ للمال وصيانة له عن الإتلاف، فكيف يكون تضييعا وخاصة إذا كان لغرض عقلاني كبيعه في وقت الحاجة ونحو ذلك؟
فتبين مما قدمناه أنه لا دليل على حرمة اتخاذ أواني الذهب والفضة، وإن كان يحرم استعمالها في الأكل والشرب.
__________
(1) المغني: 1/64(9/205)
المقام الثاني:
قد عرفت مما سبق اختلاف أنظار الفقهاء بالنسبة إلى جواز اتخاذ أواني الذهب والفضة لغير الاستعمال وترددهم في الحرمة، وعليه فلو قلنا بأن ما هو المحرم خصوص الأكل والشرب في هذه الأواني، وأما الاقتناء من دون الاستعمال فهو جائز، كما يجوز الاستفادة من الساعات الذهبية المصنوعة للرجل من دون لبسها، فهذا يعني أن لها منفعة محللة مقصودة للعقلاء، وما كان كذلك يجوز بيعه وشراؤه.
بل حتى لو قلنا بحرمة مطلق الاقتناء يمكن الحكم بصحة البيع، فيما لو قصدا المعاوضة فيما بين الثمن ومادة المثمن أي الذهب أو الفضة الموجودة في الإناء.
بيان ذلك: أن المتبايعين تارة يقصدان المعاوضة في مجموع الهيئة والمادة للإناء، أي الشكل والهيئة التركيبية المصنوعة بالإضافة إلى الذهب المصنوع به الإناء، وثانية يقصدان المعاوضة في المادة فقط والمقصود هو الذهب ومن ثم لم يتغير سعر الإناء سواء أكان صحيحا أم مكسورا لأن الملحوظ هو وزن الذهب لا غير ومن الواضح جواز البيع على هذا التقدير حتى ولو كان الاقتناء محرما إذ لا مانع من شراء آنية الذهب وكسره وصياغة حلي للنساء به.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد علي التسخيري
والسيد جعفر الحسيني(9/206)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
مناقشات موضوعات الدورة التاسعة
تجارة الذهب:
الرئيس:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صلى الله عليه وسلم وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين،
وبعد:
فنفتتح مستعينين بالله تعالى جلسة العمل الأولى من أعمال الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي. أود أن أبدي خالص الشكر والتقدير لأصحاب السماحة والمعالي والفضيلة أعضاء المجمع العاملين ومعالي الأمين حيث قرروا بالاتفاق ترشيح رئاستي ونوابي وهيئة المكتب كما كانت في جميع ممثليها في الدورة السابقة، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعين الجميع على كل خير، وأن يوفقنا للعمل الصالح وللرأي الحق الصواب.
وفي هذه الجلسة الصباحية لدينا الموضوع الأول (تجارة الذهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة) ، العارض هو فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع والمقرر هو فضيلة الأستاذ الشيخ صالح المرزوقي.(9/207)
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على الرسول الأمين سيدنا ونبينا محمد رسول رب العالمين، الهادي إلى صراط المستقيم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
وبعد،
فالذهب معدن نفيس استهوى الإنسان منذ القدم بحبه وإيثاره وافتخاره بتملكه والتزين به حتى أغراه بعبادته، قال تعالى {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه:87-88] ، فالذهب معدن يتميز عن المعادن الأخرى بميزات طبيعية تكمن في قدرته على مقاومة عوامل التعرية وسلامته من التعرض للصدأ، فبمشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ عرفجة بن هرثمة أنفا من ذهب حينما قطع أنفه في إحدى المعارك مع رسول صلى الله عليه وسلم، وبالرغم من حرمة التحلي به على الرجال فقد أذن في اتخاذ الأسنان منه للرجال، ولوفور ووقور محبته في النفس البشرية وإيثاره في حب التملك ذكره الله تعالى في عداد أمور زين للناس حب تملكها، قال تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران:14] . وقد جعله الله في الجنة من وسائل الإنعام والتنعيم، قال تعالى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج:23] . ولما وقر في النفس البشرية من إيثار لهذا النوع من المعادن دون غيره وكونهما بعد التملك مظنة البخل بهما وإمساكهما فقد حذر تعالى من كنزهما دون إنفاقهما في سبيل الله، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] .
ولما في الذهب من تأثير على النفس البشرية من حيث الافتخار والاعتزاز واعتبار ذلك من مقومات الوجاهة والقيادة والاعتبار، قال تعالى حكاية عن قوم فرعون في معرض إنكارهم رسالة موسى عليه السلام، وأن دعواه – الرسالة – تفتقر إلى ما يسندها من مقومات الاعتبار: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف:53] وقال تعالى في معرض الفداء مشيرا إلى أغلى ما يملكه الإنسان وهو الذهب أنه لو ملك منه ملء الأرض لرضي ببذله فداء له لما حل به من سوء العذاب، فال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران:91] . ولما في الذهب والفضة من الإغراء للنفوس البشرية فقد جعلهما الإنسان أكثرا إيثارا من غيرهما من المعادن الأخرى في اتخاذ زينته منهما ولحكمة ربانية تقتضي كبح النفس البشرية عن التجبر والتكبر والطغيان فقد حرم الله تعالى على الرجال اتخاذهما زينة لهم إلا ما استثني، وذكر صلى الله عليه وسلم تعليل التحريم بأن فيهما كسرا لقلوب الفقراء ولما فيهما من الإغراء والتمتع بالتزين بهما؛ ولأن النساء في وضع يقتضي تمكينهن من أسباب تعلق الرجال بهن فقد أباح للنساء اتخاذهما حليا لزينتهن أمام أزواجهن وحرم ذلك على الرجال، كما حرم تعالى اتخاذ الأواني المنزلية والتحف الجمالية منهما لما في ذلك من كسر قلوب الفقراء يستوي في ذلك الرجال والنساء. وقد أشار تعالى إلى طبيعية النفس البشرية في تمتعها بالذهب فجعل من تمتع الصالحين من بني آدم في الجنة أن من أدواتهم المنزلية صحائف من ذهب، قال تعالى {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف:71] .(9/208)
النشأة التاريخية لاتخاذهما ثمنا:
لقد مر على الإنسان حين من الدهر وهو يعاني الإشكال في طريقة حصوله على حاجاته الأساسية من طعام وشراب وسكن فاضطر إلى الأخذ بمبدأ المقايضة، ثم إنه وجدها لا توفر له احتياجاته ووجد فيها من المشاكل ما جعله يبحث عن وسيلة أخرى لتيسير تبادله مع غيره طلبا لحاجته فنشأ مبدأ الأخذ بوسيط التبادل، فاتجهت الدول المختلفة إلى اتخاذ السلع وسيطا للتبادل كالفراء في البلاد الباردة والأصواف في البلاد الساحلية وأنياب الفيلة والخرز والرياش في البلاد المعتدلة، وبتطور الحياة الاقتصادية ظهر عجز هذه السلع عن القيام بوظيفتها كوسيلة تقويم فاتجه الفكر الاقتصادي إلى الاستعاضة عن ذلك بالمعادن وخصوصا الذهب والفضة لما فيهما من عناصر وخصائص جعلتهما أفضل وسيلة للتقويم فساد التعامل بهما ردحا من الزمن على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة إلا أن اختلاف أنواع هذين المعدنين أوجد في استعمالهما ثغرة كانت ميدانا للتلاعب والفوضى، فليس كل الناس يعرف المادة الأصلية للذهب والمعيار المقبول للتبادل، ثم إن تقدير ذلك بالوزن أوجد فرصة لسرقتها بالتلاعب في وزنها فتدخل الحكام في ذلك بسكهما نقودا على شكل قطع مختلفة المقدار والوزن، فأصبحت العمل المعدنية الذهبية معدودة بعد أن كانت موزونة، وصار كل جنس منهما متفقا مع بعض في النوع والمقدار.
علة الربا في الذهب:
اختلف العلماء – رحمهم الله- في تعيين علة الربا في الذهب إلى مجموعة أقوال؛ فقد قيل: إن العلة في ذلك الوزن، وقيل بأن العلة فيه غلبة الثمنية، وقيل بأن العلة في ذلك مطلق الثمنية. وجرى في البحث المقدم وهو بين أيديكم – حفظكم الله – وهو بحث لا يتسع المجال لذكر تفاصيله في مثل هذه العجالة، جرى مني استعراض هذه الأقوال ومناقشتها واختيار القول بأن علة الربا في الذهب مطلق الثمنية وتوجيه الاختيار والرد على الأقوال الأخرى بما يبرر الاختيار ويؤيده. وفيما يلي الإجابة عن المسائل التي طرحها مجمع الفقه الإسلامي ورغب الإجابة عنها، ومنها: (حكم المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموما إليه جنس آخر) . الحكم في ذلك فيما يظهر لي – والله أعلم – الجواز لأن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني، أشبه الحكم بجواز بيع حلي الذهب بأكثر من وزنه ذهبا حيث إن الزيادة في الثمن وزنها هي قيمة الصنعة في الحلي، وقد مر في النقل عن ابن القيم – رحمه الله – في ذكر هذا الحكم وتعليله.(9/209)
ومن المسائل التي رغب المجمع في الإجابة عنها: (بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولا أي فيه صنعة وصياغة) ، لا يخفى أن الذهب قد يباع بذهب وقد يباع بنقد آخر من فضة أو ورق نقدي أو فلوس، فإذا كان الذهب المبيع مشغولا كأن يكون حليا فإن بيع بذهب فلا بأس أن يكون الثمن أكثر وزنا من ذهب الحلي وتكون الزيادة في الوزن في مقابلة الصياغة والعمل، وقد مر الإشارة إلى رأي ابن القيم – رحمه الله – في ذلك وذكره تعليل القول بالجواز إلا أنه يشترط للمبادلة بينهما الحلول والتقابض في مجلس العقد، وأما إذا كان أحد العوضين ثمنا غير الذهب فلا بأس في البيع مطلقا بشرط التقابض في مجلس العقد لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه -: ((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
ومن المسائل التي رغب المجمع الإجابة عنها أو بحثها: (المتاجرة في الأواني أو الحلي والساعات الذهبية المصنوعة للرجال) . لا يخفى أن الحكم الشرعي في تملك الأواني الذهبية والفضية التحريم، وما حرم تملكه حرم بيعه، أما الحلي فإن كانت معدة للرجال فهي حرام والنصوص في ذلك أشهر من أن تذكر وما حرم تملكه حرم بيعه.
وأما المتاجرة في الحلي المعدة للنساء فلا بأس فيها إلا أنه ينبغي مراعاة الحكم الشرعي في بيوعه من حيث الحلول والتقابض، وقد يتفرع من هذه المسألة هي:
هل يجوز لتاجر الحلي حينما يعرض عليه أحد الناس حليا قديما ويبدي له رغبته في شراء حلي جديدة، هل يجوز لهذا التاجر أن يشترط عليه في شرائه الحلي القديمة أن يشتري منه حليا جديدة؟ هذه المسألة بحثت في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وصدر القول بمنعها باعتبارها بيعتين في بيعة، إلا أن هذا القول لم يكن محل إجماع بينهم؛ ونظرا إلى أن هذا النوع من البيع لم يشتمل على غرر ولا على جهالة ولا على مخالفة في الصرف ولم يكن في معنى بيعتين في بيعة فلم يظهر لي وجه القول، بمنعه وقد قال بجواز مثل هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله – وقد جرى نقل رأيه في البحث المطول.(9/210)
وأما الساعات الذهبية فإن كانت للنساء فلا بأس بتملكها واستعمالها من النساء والمتاجرة فيها بالبيع والشراء، وأما إن كانت للرجال فحكمها حكم حلي الرجال من حيث تحريم التملك والمتاجرة فيها بيعا أو شراء أو اقتناء، والله أعلم.
وأما ما كان مموها بالذهب أو الفضة مشغولا أو بأحدهما بحيث تكون كمية الذهب أو الفضة فيها قليلة جدا بالنسبة إلى ما شغلت به فهذه المسألة محل اجتهاد ونظر وفيها اختلف العلماء بين الإباحة والحظر، فمن نظر إلى الحكمة من التحريم وهي كسر قلوب الفقراء ورأي أن في التمويه بهما أو شغل الأداة بشيء منهما بما يعطي الأداة لون أحدهما، من نظر إلى هذا قال بالتحريم بصرف النظر عن كامل محتوى الأداة بأحدهما أو بجزء منهما، لما في ظاهرها من بهجة وزينة وإغراء ينكسر برؤيته قلب الفقير العاجز عن تملكها، ومن نظر إلى أن غالب محتوى الأداة من غيرهما وأن ما فيهما من أحدهما لو استخرج لما كان شيئا، ونظر إلى القاعدة الشرعية (يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا) قال بجواز ذلك. ولكل من الرأيين وجاهته واعتباره ويكون للاختيار منهما التوجه بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) ، والله أعلم.
ومن المسائل التي رغب المجمع في بحثها: (شراء الفرد الذهب بالشيك أو ببطاقة الائتمان، أيعد ذلك قبضا للثمن؟) .
اصطلح الفقهاء على تسمية بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة (مراطلة) ، وعلى تسمية بيع الذهب بالفضة أو بأي ثمن آخر أو العكس (صرفا) ، واشترطوا في المراطلة المماثلة في الوزن والحلول والتقابض في مجلس العقد. واشترطوا في الصرف المتمثل في بيع أحد المعدنين – الذهب والفضة بأحدهما أو بأي ثمن آخر من ورق أو فلوس – التقابض في مجلس العقد وأصل ذلك حديث عبادة بن الصامت المذكور في البحث ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... إلخ الحديث)) . واتفق العلماء على أن القبض أمر مرده إلى الصرف والعادة، فأي طريقة يتم فيها الاستيلاء الكامل على العين محل العقد تعتبر قبضا. وقد بحث العلماء وضع الشيك وهل يعتبر قبضه قبضا لمشموله مبرئا؟ فأصدر مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قرارا باعتبار قبض الشيك المعتبر قبضا لمحتواه.(9/211)
وقد وجد الخلاف بين فقهاء العصر في تفسير معنى الشيك المعتبر، فذهب بعضهم إلى أن الاعتبار في الشيك أن يكون مصدقا من البنك المسحوب عليه لأن تصديقه يعني حمايته من الساحب أن يعود فيه، كما يعني وجود رصيد كامل للساحب لتغطية سداد الشيك وهذا المعنى يعطي القناعة الكاملة بالقدرة على التصرف في مشمول الشيك في أي وقت يريده المستفيد منه، وهذا معنى القبض. وذهب آخرون إلى أن المراد بالشيك المعتبر هو أن يكون له رصيد في البنك المسحوب عليه لتغطيته، ولكن هذا المعنى لا يعطي القناعة بالقدرة على تصرف المستفيد منه بمشموله، فلئن كان للساحب رصيد لتغطيته فقد يرجع الساحب في الشيك قبل قبضه وهذا الاحتمال الوارد ينفي عن هذا الشيك الثقة في القدرة على التصرف فيه، وبالتالي فينتفي عن هذا الشيك معنى القبض وهو القدرة على قبض محتواه أو الأمر بقيده في حسابه. والذي يظهر لي – والله أعلم – أن الشيك المعتبر والذي هو في معنى القبض هو الشيك المصدق، وتأسيسا على هذا فإذا اشترى الفرد ذهبا أو فضة بثمن آخر وبموجب شيك بذلك الثمن فإن كان مصدقا فقبضه قبض لمحتواه والمصارفة بذلك صحيحة. وإن كان غير مصدق فقبضه ليس قبضا لمشموله وبالتالى فقبضه ليس في حكم القبض المبرئ للذمة، والمصارفة بموجبه غير صحيحة؛ لأن التقابض في مجلس العقد غير محقق. فمثل هذا الشيك آفاته كثيرة، منها احتمال سحبه على غير رصيد أو على رصيد لا يكفي لتغطيته أو لاحتمال رجوع صاحبه أو ساحبه في سحبه قبل تقديمه للبنك المسحوب عليه. فهذه العيوب تجعله غير أهل للاعتبار في القول بأن قبضه قبض لمحتواه. والله أعلم.
وأما شراء الذهب ببطاقة الائتمان فنظر إلى أن بطاقة الائتمان تعتبر مبرئة للذمة براءة كاملة بين المتصارفين وحق بائع الذهب بموجب بطاقة الائتمان ثابت كثبوت حقه في الشيك المصدق من حيث إن صاحب البطاقة حينما يوقع بموجبها على فاتورة الدفع لا يستطيع الرجوع في توقيعه ولا يستطيع مصدر البطاقة أن يتأخر عن سداد القيمة عند الطلب مهما كانت حال صاحب البطاقة، ونظرا لهذا فإن القول بصحة المصارفة ببطاقة الائتمان قول وجيه يؤيده أن معنى القبض متوفر فيها حيث يتفرق المتصارفان بموجبها وليس بينهما شيء، ومع هذا فالمسألة في حاجة إلى مزيد من النظر والتأمل في ضوء التصور لحقيقة البطاقة الائتمانية، والله المستعان.(9/212)
ومن المسائل التي رغب المجمع في بحثها: (التعامل بشهادات الذهب) أو حسابات الذهب وهي شهادات تصدرها مؤسسات متخصصة تخول صاحبها قبض كمية من الذهب ولا يلزم أن تكون تلك الكمية معينة منفصلة عن غيرها وقد لا تكون موجودة فعلا لدى المؤسسة في كل الأوقات. وهذا التعامل يعني أن أحد الرجال مثلا يشتري كمية من الذهب يجري تسلمه شهادة بها يتسلم بموجبها هذه الكمية من الذهب من مخازن إحدى هذه المؤسسات أو من مخازن متخصصة لهذه المؤسسة. لهذه المؤسسة حق التحويل عليها بذلك وقد لا يكون الذهب موجودا في هذه المخازن وقت المصارفة. الذي يظهر لي – والله أعلم – أن هذا النوع من المصارفة لا يتحقق فيه معنى التقابض في مجلس العقد لأمرين:
أحدهما: أن المؤسسة المتخصصة في إصدار شهادات الذهب ليس لشهاداتها اعتبار موجب للثقة كالثقة في الشيك المصدق حيث إن مشتري الذهب لا يستطيع التصرف فيما اشتراه في مجلس العقد للاحتمال القوي في بعد هذه المخازن عن قدرته على حيازة ما اشتراه منها.
الأمر الثاني: إن وجود الذهب في المخازن المختصة مشكوك فيه فقد يكون موجودا وقد لا يوجد إلا بعد وقت لا يعلم تحديده فيطلب من المشتري الانتظار، والرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر من عناصر المصارفة وصحتها التفرق بين المتصارفين وليس بينهما شيء. وهذا العنصر مفقود في هذه المصارفة فضلا عن أن التقابض في مجلس العقد مفقود حسا ومعنى. وتأسيسا على هذا فلا يظهر لي – والله أعلم – جواز هذا النوع من المصارفة لفقده شرطها.
ومن المسائل التي رغب في بحثها: (حكم شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب وتعد أكثر أصولها منه؛ هل يمثل السهم حصة شائعة في الذهب؟ هل لذلك تأثير على حكم التعامل بأسهمها) .(9/213)
لا يظهر لي مانع من شراء أسهم في شركة تعمل في استخراج الذهب ولو كانت غالب أصولها من ذلك الذهب لأن الشركة شخص اعتباري له ذمة محدودة ذات وعاء قابل للحقوق والواجبات والتملك والتبرع وغير ذلك من التصرفات المالية، فأسهم هذه الشركة حصص شائعة في عموم مقوماتها وعناصر وجودها، ومن هذه العناصر والمقومات قيمتها المعنوية المتمثلة في اعتبارها ومكانتها في سوق الشركات وأسواق الإنتاج، وقد تكون قيمة الجانب الاعتباري للشركة أكثر حجما من قيمة ما لديها من أصول متحركة. كما أن للشركة أصولا ثابتة للإدارة والتشغيل غير الذهب فسهم الشركة ليس محصورا في كمية الذهب الذي تقوم الشركة باستخراجه حتى يقال بمراعاة شروط الصرف، وإنما تمثل أسهمها كامل عناصر وجودها والسهم فيها حصة مشاعة في عموم مقومات الشركة واعتبارها. فمن يشتري سهما أو أكثر من أسهم هذه الشركة لا يعتبر نفسه قاصدا شراء كمية من الذهب المستخرج. فالذهب المستخرج مادة متحركة يخرج اليوم ويباع غدا ويخرج غيره بعد ذلك ويستمر نشاط الشركة في هذا السبيل على هذا الاتجاه. ولكنه – أعني مشتري السهم – يقصد الدخول في المساهمة في هذا النشاط وفي هذه الحركة الإنتاجية والصناعية والاشتراك في تملك الاختصاص في ذلك ومن القواعد الشرعية أنه يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا. ألا ترى أن تملك الشركات المساهمة سيولة من النقود ووجود ديون لها وانتفاء الوضوح الكامل لموجودات الشركة مما يعطي نوع جهالة. كل ذلك يغتفر ولا يؤثر في صحة تداول أسهم الشركات بيعا وشراء وتملكا وتمليكا، حيث يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا.
ومن المسائل التي رغب المجمع في بحثها (ذكر الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة) : من النشاطات المصرفية المعتادة والمتكررة لدى المؤسسات المالية والحوالات.
والحوالات قد تكون بعملة البلد المحال فيه كأن يطلب أحد الناس من أحد المصارف تحويل مبلغ من المال بعملة معينة كالريال السعودي أو الدولار الأمريكي – مثلا – فيدفع للمصرف هذا المال ويطلب منه تحويله إلى بلد معين فيقوم المصرف بذلك ويعطيه إشعارا بالتحويل المصرفي في حوالة محضة ليس لها تعلق بمسائل الصرف، وإنما هي من مسائل السفتجة. وقد عرفها بعضهم بقوله: السفتجة هي أن يعطي مالا لآخر مع اشتراط القضاء في بلد آخر على سبيل القرض لا على سبيل الأمانة وذلك لضمان الطريق أو لأي غرض آخر.(9/214)
وقد اختلف العلماء في حكمها، فجمهورهم قالوا بجوازها مستدلين على ذلك بما روي عن عطاء: أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه كان يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب بها إلى أخيه مصعب بن الزبير في العراق ويأخذونها منه فسئل ابن عباس عن ذلك فلم ير بأسا فقيل له: إن أخذوا أفضل من دراهمهم؟ قال: لا بأس إذا أخذوا بوزن دراهمهم.
وروي أيضا مثل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فهؤلاء ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجازوا ذلك.
ورد المجيزون على المانعين قولهم بأن هذا من قبيل القرض الذي يجر نفعا وكل قرض جر نفعا فهو ربا فإن دافع النقود يستفيد من ذلك أمنه من خطر الطريق. رد المجيزون على ذلك بقولهم: المنفعة التي تجر الربا في القرض هي التي تخص المقرض كسكنى دار المقترض وركوب دوابه واستعماله وقبول هديته ولا مصلحة للمقترض في ذلك، بخلاف هذه المسألة، فإن المنفعة مشتركة بينهما وهما متعاونان فهي من جنس المعاونة والمشاركة.
وهذا المعنى ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى وجرى نقل النص في البحث المقدم.
وقال آخرون بمنعها بحجة أن السفتجة قرض يستفيد منها المقترض أمن الطريق وكل قرض جر نفعا فهو ربا. وقد تقدم رد هذا الاحتجاج بما يكفي عن إعادته.
وذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السفتجة حرام)) وهو حديث ضعيف ذكره ابن الجوزي في الموضوعات فلا يصح الاحتجاج به، والقول بجواز ذلك هو ما تطمئن إليه النفس لما في ذلك من المصلحة العامة والتيسير على المسلمين في معاملاتهم وانتفاء الدليل المقنع على المنع لأن الأصل في المعاملات الإباحة.(9/215)
وقد تكون الحوالة بنقد مغاير للنقد المراد تسلمه في البلد الآخر، فهذا نوع من التحويل يجتمع فيه الصرف والحوالة، ولا يخفى أن للصرف في حالة اختلاف العوضين جنسا شرطا هو التقابض في مجلس العقد، وقد تقرر لدى المجامع الفقهية والهيئات العلمية أن كل عملة ورقية جنس يجوز المصارفة بينها وبين غيرها من عملات الدول الأخرى مطلقا إذا كان يدا بيد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
وعليه فيجب قبل التحويل إجراء عملية الصرف بحيث يتسلم المحيل العملة التي يريد تحويلها بعد انتهاء عملية الصرف، سواء أكان تسلما حسيا أم تسلما في معنى الحس، كأن يعطيه شيكا مصدقا يملك بقبضه القدرة على التصرف فيه بتسلم محتواه أو بقيده في حسابه أو تحويله، فإذا تسلم الشيك المصدق أمكنه بعد ذلك تحويله، وصار الأمر إلى الإجراءات المتخذة في الحال الأولى، وهي تحويل نقد معين إلى بلد آخر.
هذا أيها الأخوة – حفظكم الله – ملخص البحث، أرجو أن يكون في عرضه أيفاء للمقام، والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(9/216)
الشيخ صالح المرزوقي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقد تفضل فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع بعرض أحكام تجارة الذهب في مواضع كثيرة ومتعددة – جزاه الله خيرا وأجزل مثوبته – حيث إننا قد كتبنا بحثا في هذا الموضوع، واتفقنا معه في كثير من وجهات النظر، ونختلف معه – أيضا – في بعضها.
أود أن أشير إلى بعض المسائل التي تعرّض إليها بإيجاز:
فمثلا موضوع أثر الصياغة في شرط التماثل؛ بيع الحلي بجنسه بأكثر من وزنه مقابل الصنعة، والذي ذكره فضيلته ورجح جوازه، أقول: للعلماء في هذه الحالة مذهبان:
المذهب الأول:
ويرى القائلون به أنه لا عبرة للصناعة ولا لغيرها، فيجب التماثل في بيع الجنس بجنسه، وهذا مذهب جمهور العلماء: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، والزيدية، والإمامية، وممن قال به من العلماء المعاصرين سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، وصدر به قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.
المذهب الثاني:
ويقول أصحابه: إذا كانت الصناعة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء، وبيعت بجنسها من غير المصنوع، فانها تباع بالقيمة، ولا يشترط التماثل جعل الزائد مقابل الصنعة، وهو قول ابن القيم، واشتهرت نسبته إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، وإن كان جاء في فتاواه ما يدل على خلافه.(9/217)
وأحبُّ هنا أن أوجزَ أدلة الجمهور القائلين بالمنع:
فقد استدل الجمهور على وجوب التماثل في بيع الحلى الذهبية بالذهب، وعدم جواز أي زيادة لأجل الصنعة في الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب فقول الله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، والربا هو الزيادة، ودليل التحريم عام لم يُفرِّق بين المصنوع وغيره. وأما السنة فقد استدلوا بأحاديث كثيرة، منها ما يفيد وجوب التماثل بعمومه، ومنها ما هو نص في الموضوع؛ فأما ما يفيد التماثل بعمومه فقد أوردنا في ثنايا البحث كثيرا منه، ونكتفي بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أبصرت عيناي، وسمعت أذناي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا تبيعوا الوَرِق بالورق، إلا مِثلا بمثل، ولا تُشِفُّوا بعضه على بعض، ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد)) . وأما الأحاديث التي تعتبر نصا في الموضوع، فنذكر منها: عن أبي قلابة قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الأشعث أبو الأشعث. فجلس، فقلت له: حَدِّث أخانا حديثَ عبادة بن الصامت. قال: نعم؛ غزونا غزاة وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية، فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث، قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه؟ فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة، ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية.(9/218)
ثانيا: روى مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم السَّعْدَينِ أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة، فباعا كل ثلاثة بأربعة – هذا الحديث الذي ذكرناه سابقا في صحيح مسلم – عينا، وكل أربعة بثلاثة عينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربيتما فَرُدَّا)) وهو حديث مرسل، وقد روي هذا الحديث متصلا من طريق آخر، فقد رواه ابن عبد البر قال: ذكر يعقوب بن شيبة، وسعد بن عبد الله بن الحكم، قالا: حدثنا قدامة بن محمد بن قدامة بن خشرم الأشجعي، عن أبيه قال: قال: حدثني مخرمة بن بكير، قال: سمعت أبا كثير جلال ... إلى أن قال: سمعت حنشا السبئي، عن فضالة بن عبيد يقول: كنا يوم خيبر، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الغنائم سعدَ بنَ أبي وقاصٍ وسعدَ بنَ عبادة، فأرادا أن يبيعا الدينارين بالثلاثة، والثلاثةَ بالخمسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا، إلا مثلا بمثل)) قال ابن عبد البر: وهذا إسناد صحيح متصل حسن. وروى مالك عن حميد بن قيس المكي، عن مجاهد أنه قال: كنت مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب، ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدرَ عمل يدي. فنهاه عبدُ الله عن ذلك، فجعل الصائغ يُردّدُ عليه المسألةَ وعبدُ الله ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد، أو إلى دابة يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضلَ بينهما، هذا عهدُ نبيِّنا إلينا وعهدُنا إليكم، قال أحمد البنا: رواه مالك، والشافعي في مسنده، والبيهقي وسنده عنده جيد. رواه الإمام الشافعي في الرسالة عن ابن عمر، أنه قال: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا، وعهدنا إليكم. قال أحمد شاكر: حديث صحيح جدا. ورى مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو وَرِقٍ بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، إلا مِثلا بمثل. فقال له معاويةُ: ما أرى بمثل هذا بأسا. فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أُساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمرَ بن الخطاب فذكر ذلك له، فكتب عمرُ بن الخطاب إلى معاوية: ألا تبعْ ذلك إلا مثلا بمثل، وزنا بوزن. وهذا حديث صحيح.
وعن فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: أُتِيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبرَ بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم، تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحدَهُ، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنا بوزن)) . ومعلوم أن القلادة حلي مصوغة. وروى أنس بن مالك قال: أُتِيَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه بإناء كَسْروَانيٍّ قد أُحكمت صنعته، فبعثني به لأبيعه فأعطيت به وزنا، فذكرت ذلك لعمر رضي الله عنه، فقال: أما الزيادة فلا. وهذا الإناء من ذهب أو فضة.(9/219)
وقد تكلم فضيلة الشيخ في مسألة اجتماع الصرف والحوالة، وَكَيَّفَهَا على أنها سَُفْتَجَة، والذي نراه أنها إجارة وليست سفتجة. هذه المعاملة جائزة، والوصف الفقهي لها عندي إجارة على نقل النقود أو صرف وإجارة، ففي حالة استلام ذات العملة فهي إجارة فقط، وفي حالة استلام عملة أخرى بديلة للعملة المقدمة كالجنيهات المصرية مثلا مقابل الريالات السعودية فهي صرف ثم إجارة، كلٌّ من العقدين مستقل عن الآخر؛ لأن تحويل الريالات إلى جنيهات صرف، ثم نقلها أو التعهد بنقلها إلى القاهرة، أو إلى أي بلد آخر، وأخذ عوض مقابل هذا النقل، يعتبر إجارة على نقل النقود؛ لأنه هو مقصود العاقدينِ، وليست العمولة التي يدفعها طالب التحويل إلا أجرة النقل، والمصرف له أن يتخذ الوسيلة التي ينفذ العقد بها، من هذه الوسائل الشيك أو البرقية أو الفاكس أو التليفون أو نحو ذلك.
لكن في جميع الأحوال يجب أن يفرق بين الصرف والإجارة؛ لأن الصرف يشترط فيه التقابض، وسبق أن ذكرنا أن قبض الشيك أو قبض المستند الذي يقوم مقامه في حالة الإرسال بواسطة الفاكس أو البرقية أو نحوهما، يعد قبضا حُكميًّا صحيحا.
أما تكييفه على السَُفْتجة فهذا لا أرى صحته؛ لأن السفتجة قرض كما هو رأي جمهور الفقهاء، فقد عرَّفها الدسوقي بأنها الكتاب الذي يرسله المقترض لوكيله من بلد ليدفع للمقترض نظير ما أخذه منه ببلده، وهي المسماة بـ (البالوصة) . ولأن الجموع التي تقف في المصارف لإرسال النقود إلى ذويهم أو عملائهم أو حساباتهم في مصارف أخرى، في الحقيقة ليست مقرضة، ولا يتبادر إليها القبض بأيِّ حال، وأن المقترض في السفتجة لا يتقاضى أجرا، أما المصارف اليوم فإنها تأخذ أجرا على هذه العملية. فإنْ قيلَ: إنها حوالة، قلنا: لا يصح تكيِيفها على الحوالة؛ لأن الحوالةَ نقلُ الدَّيْنِ من ذمةٍ إلى ذمة، والصورةُ التي نحن بصددها الأصل فيها أنه ليس هناك دائن ولا مدين، وإن وجدت عند تحويل مستوردي البضائع إلى دائنيهم المصدرين، إلا أنها لا توجد في بقية الحالات، مثل أن يحول إلى حسابه أو إلى أولاده؛ ولأن من أركان الحوالة المحيل والمحتال والمحال عليه، وهذا غير متوفرٍ في كل الحوالات المعاصرة. ولا يجوزُ أخذُ الأجرةِ في عقدِ الحوالة، بينما الحوالات المصرفية يصح أخذ الأجرة عليها؛ لأنها إجارة، على تعهده بإيصال النقود إلى البلد الذي اتفق العميل مع المصرف عليه، سواء أكان المصرف الذي حرر الشيك عليه فرعا له أم وكيلا عنه. هذا ما يتعلق باجتماع الصرف والحوالة.
أما ما يتعلق ببيع أسهم الشركة التي تعمل في استخراج الذهب، فأَتَّفِقُ مع فضيلة الشيخ على جوازه؛ لأن المنظور إليه هو رأس مال الشركة.
وأكتفي بالقدر هذا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/220)
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
يفهم من كلام فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع؛ حرمةُ تَملُّكِ الأواني الذهبية أو الساعات الذهبية، هذا الأمر فيه عجب، هو يُحرِّمُ على ما نعلم استعمالها لا اقتناؤها، وهي ليست خمرا حتى تُعطى حكمَ الخمرِ؛ بدليل أنه يحل استعمالها للنساء، فما المانع إذا مُلِكتْ وأُديتْ زكاتُها، ولم تُستعمل، فكما تقدّم: من يملك ساعةً ذهبية ماذا يفعل بها إذن وهو لا يستعملها؟ ألا يبيعها؟ ألا يستفيد من ثمنها؟ فإذن – والله أعلم – هو المعروف أن حرمة استعمالها لا حرمة تملكها واقتنائها، فاقتناؤها واستعمالها شيء آخر، والله أعلم.(9/221)
الشيخ تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
الواقع أنني أشكر الباحثين، فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، وسيادة الأستاذ صالح المرزوقي حفظهما الله تعالى، فقد تمتعنا بقراءة بحثيهما، وهما مليئان علما، ولكن قد أثيرت في هذين البحثين عدةُ نقاط، أريد أن أعرض فيها بعض الملاحظات؛ قد تعرّض فضيلة الشيخ عبدُ الله بن سليمان بن منيع حفظه الله لعدة مسائل، وقد كان موفقا في إيجاد الحلول للمشاكل التي نواجهها في حياتنا اليوم، ومع تقديري لبحثه وعلمه وفضله، فإني أخالفه فيما ذهب إليه من أخذ رأي ابن القيم رحمه الله في أنه يجوز بيعُ الذهب المصوغ بأكثر من وزنه. لا شكَّ أن الإمام ابنَ القيم رحمه الله قد أجاز بيعَ الذهبِ المصوغ بأكثر من وزنه. ولكنني في علمي القاصر لا أجد لهذا القول عهدا في أقوال السلف من الصحابة والتابعين، وهو بظاهره مخالف لصريح النصوص التي تنصُّ على حرمة التفاضل في بيع الذهب بالذهب، ولا تقول: الدينار بالدينار فقط، بل تصرح ببيع الذهب بالذهب، وكلمة الذهب تطلق على كل من: تِبر أو سكَّة أو حلية أو أي شيء مصوغ من ذهب، ولقد وقع فيها أحاديثُ صريحةٌ، مثل حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، كما أشار إليه الدكتور صالح، وحتى أنكر أبو الدرداء رضي الله عنه على معاوية رضي الله عنه وقال: لا أساكنك بأرض أنت بها. وقد أيدَّه سيدُنا عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، وفيما ذكره الدكتور صالح غِنًى عن سرد هذه الأدلة بأجمعها. فالواقع أن مذهب الجمهور هو القوي في هذا الصدد من حيث الدليل عقلا ونقلا، أما الآن في حياتنا المعاصرة فإنه لا إشكال في العمل بقول الجمهور إطلاقا؛ لأن الحلي اليوم لا تشترى بالذهب، إنما تشترى بالأوراق النقدية، فإذا اشتريت الحلي بالأوراق النقدية فللبائع أن يعقد هذا العقد على أي مقدار من هذه الأوراق، فلذلك لا إشكال في ذلك إطلاقا.(9/222)
ثم المسألة الثانية التي أريد أن ألاحظ فيها هي مسألة القبض، في التقابض في الصرف. وقد ذكر فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع حفظه الله، وقد كان موفقا في قوله حيث قال: إن الشيك إذا كان مصدَّقا من قِبَلِ المصرف، فإنه في حكم القبض الحقيقي، أما إذا لم يكن مصدقا من قبل البنك فحينئذ قد ذهب إلى أنه لا يعتبر قبضا؛ لأنه قد تَحُولُ دون تسلُّم مبلغِهِ عوائقُ كثيرة، وهذا ما أوافقه فيه، ولكنه في آخر البحث لمَّا جاء إلى مسألة الحوالة والصرف، فإنه قد يظهر من كلامه أنه يقبل في ذلك شيكا ولو غير مصدق، فإن كان ما فهمتُهُ هو الصواب فقد يبدو أنَّ هناك تعارضًا بين الأمرين.
والمسألة الثالثة، تتعلق بمسألة بطاقة الائتمان، هل يعتبر التوقيع على بطاقة الائتمان قبضا؟ وقد ذهب فضيلته إلى أن هذا يعتبر قبضا، وهذا فيه نظر؛ لأن بطاقة الائتمان في الواقع تكييفُهَا الفقهيُّ لا يمكن إلا عن طريق الحوالة، وقد درسنا هذا الموضوع ولم نبتَّ فيه بشيء، ولكن الظاهر أن هذا حوالة، والحوالة في الصرف غير جائزة، ولو كان هناك توقيع من قِبَلِ صاحب البطاقة، ثم ما ذكره من أنه لا يستطيع الموقع بعد التوقيع أن يرجع عن توقيعه، هذا أيضا مما يحتاج إلى تدقيق من قِبَلِ الخبراء في هذا الصدد، ولست متأكدا في هذا.
وأخيرا قد أثني على ما ذكره الدكتور صالح المرزوقي في مسألة الصياغة، أما ما ذكره في مسألة الحوالة والصرف بأنها ليست سَُفْتَجة وأنها إجارة، فقد يعتريه إشكال آخر؛ أنه لو جعلناها إجارة فإن يدَ العميلِ يدُ أمانة وليست يدَ ضمانٍ، مع أن العقود المعروفة اليوم تضمنها البنوك، فكيف نوفق بين الأمرين؟ هذا سؤالٌ أطرحه لسيادة الدكتور المرزوقي، وشكرا. والله سبحانه أعلم.(9/223)
الدكتور عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، بعدَ تقديم الشكر للباحثين والعارض، لا بد من ذكر بعض الملاحظات، بعضها شكليٌّ وبضعها موضوعيٌّ.
المسألة الأولى، هي قضية الحديث الشريف: ((الذهبُ بالذهب والفضةُ بالفضة)) ، كما تفضَّلَ فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، والذي نعرفه أن الحديث بروايته الصحيحة: ((الذهبَ بالذهبِ والفضةَ بالفضةِ)) أي بيعوا الذهبَ بالذهب، إلا إذا كانت هناك رواية أخرى نستفيدها من فضيلته، أما قضيةُ السفتجة فاختارَ جوازَ ذلك، ولا أدري ما هو مبرر هذا الجواز؟ هل هو أنه قصدها على أساس الإجارة، والإجارة تفضَّل أخي فضيلة الشيخ العثمانيُّ بأنَّ فيها نظرًا من قضية اليد، وإذا بقيت حوالة وصرفا فإن الأمر يتغير من الجواز إلى الكراهة، كما قرر ذلك بعض علماء المذاهب كالحنفية مثلا، والكراهة ربما كانت تحريمية، لذلك ينبغي أن نضع في قضية السفتجة قاعدةً جديدةً غير الإجارة، وأن نرى لها وجها آخر غير الحوالة والصرف، وهذا شأن هذا المجمع بعلمائه وفقهائه، ولا أضع في ذلك رأيا، بل أرفض قضيةَ الإجارة كرأي خاص، وأرى الكراهة ما دام الموضوع حوالة وصرفا، أما إذا رأيتم غير ذلك فنحن مع الرأي الراجح بدليله.
ثم قضية الصنعة التي يقابلها وزن الذهب، هذا أمر- كما تفضل فضيلة الشيخ العثماني – رفضه الجمهور ولم يأخذ به، غير العلامة ابن القيم، ومهما كان ابن القيم على جلالته وفضله وفقهه فإننا مع الجمهور في هذه المسألة، كما هو رأي أكثر إخواننا فيما أرى، والذي قامت عليه أدلة كثيرة قاطعة، لكننا هنا نقف أمام قضية (التَّوَرُّق) الذي ذكره فضيلته، نحن اليومَ لسنا بحاجة أبدا لبحث هذه المسألة؛ لأنه لو كان عندي مثلا ذهب مكسر – أضيف هذه الملحوظة إلى ما تفضل به أخي الشيخ تقي – وأردتُ أن أصرفه أو أُراطله بذهب صحيح (غير مكسر) مصنوع له حلية، فيجب أن يكون الوزن واحد، وأما الصنعة فيقابلها أوراق نقدية، فمثلا عشرون مثقالا من الذهب المكسر بعشرين مثقالا من الذهب المصوغ، وبالحلية والصنعة عشرون بعشرين بالوزن، وأما الصنعة فيقابلها عشرة آلاف ليرة سورية، ما هو المانع من ذلك؟ في هذه الحالة نكون قد ضبطنا قضية الوزن، الذهب بالذهب، والصنعة قد يقابلها شيء من المال، لكن من الوَرَق النقدي، هذا إذا رأيتم ذلك، والله تعالى أعلم، ولكم الشكر.(9/224)
الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد:
لا شك في أن البحثينِ اللذينِ استمتعنا بتلخيصٍ عنهما، هما في الحقيقة يمثلانِ ما عليه الفقهاءُ المسلمون من أمانة ودقة وتعليل وتأصيل، ودوري في هذا التعليق أنني أؤيد فضيلة الشيخ عبدَ الله بن منيع في أمور ثلاثة، وأخالفه في أمور أربعة، بالرغم من أن ما تفضل به كله سليم ومدقق ومحقق من الناحية الفقهية، ولكن القضية قضية ترجيح أو اختيار لأحد هذين الرأيين دون الآخر.
أما الأمور التي أخالفه فيها فهي:
الأمر الأول:
تكلم الإخوة الكرام الشيخ العثماني والشيخ المرزوقي بأن الزيادة بسبب الصنعة في الحقيقة هذا يخالف رأي جماهير العلماء والأكثرية الساحقة، وأن رأي ابن القيم هو في الحقيقة يسير عليه بعض الناس في الوقت الحاضر من الناحية العقلية، وهذا هو ملحظ معاويةَ بنِ أبي سفيان رضي الله عنه، فإذن أنا لا أرجح هذا الرأي – رأيَ ابنِ القيم – وإنما أرجحُ رأيَ الجمهورِ؛ للأحاديث الواضحة في هذا الجانب؛ وسدا للذرائع حتى لا تتخذ الصنعة سبيلا للتفاضل في مالين ربويين الحديث واضح فيهما، والحديث: ((الذهبُ بالذهبِ، والفضةُ بالفضةِ، والبرُّ بالبرِّ، والشعيرُ بالشعيرِ، والتمرُ بالتمرِ، يدا بيد، سواء بسواء)) فالرفع هو المشهور. قضية النصب – يعني – ليس ممنوعا، وإنما الرفع صار، يعني بيع الذهبَ بالذهبِ كذا فيه مبتدأ وخبر محذوف.(9/225)
الموضوع الثاني:
الذي أخالف فيه قضية الاشتراط في بيع الحلي القديم بشراء حلي جديدة. الحقيقة هذا ما أخالف فيه فضيلة الشيخ عبد الله؛ لأنه يتنافى مع بيع وشرط، وصحيح الحديث لا يُذكر فيه: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعٍ وشرطٍ)) هذه عبارة فقهية، وإنما العبارة الصحيحة للحديث: ((لا يحلُّ سلفٌ وبيعٌ، ولا شرطان في بيعٍ)) ، فهنا أيضا لا أوافق على هذا الموضوع.
الموضوع الثالث:
هو قضية تحريم المموه بالذهب والفضة، أيضا أخالفه في القول باختيار المنع؛ لأن أغلب الفقهاء أجازوا ذلك، والقضية واضحة، والناس جميعا يعرفون أن هذه الساعة المموهة وهذا المعدن المموه هو طلاء يحل ذلك ما لم يحصل منه شيء بالعَرْض على النار، فالعبرة وجود جسامة وضخامة المعدن الثمين، وليس المعوّل على المظهر والشكل، فإذن قضية التحريم لا أجد في ذلك مسوغا، وإن كنت أؤيد أيضا فضيلة الشيخ خليل في القول بأن اقتناء الساعة الذهبية ليس هناك مانع في ذلك، وإنما هنا التحريم منصب على الاستعمال، وليست هذه بمثابة الأواني، تحريم الاقتناء للأواني؛ لأن ذلك لا مسوغ له، وكثيرا ما نجد أناسا يملكون مثل هذه الساعات ولا يستخدمونها، فلا أجد مبررا للقول بالتحريم.
الموضوع الرابع:
الذي أخالف فيه قضية الشيك، وقضية اشتراط كونه مصدقا، واشتراط وجود الرصيد، الحقيقة سحب الشيكات كما تقرره القوانين – سحب شيك بدون رصيد – يعدُّ جريمة تعاقب عليه القوانين المعمول بها في كل الدول، فلذلك المفروض تحقق الثقة في ساحب الشيك، وأما قضية اشتراط التصديق، هذا يعرقل عملية المعاملات، ولذلك أعتقد أن الشيك يعد قبضا حكما، ولا يشترط له هذان القيدان اللذان شرطهما فضيلة الشيخ عبد الله، بالرغم من أنه يحرص على أن يكون ذلك قبضا فعليا؛ لأن الشرطين اللذين ذكرهما يجعلان القبض فعليا، ونحن نكتفي لتسيير المعاملات وتسهيلها بالقبض الحكمي، وأن قبض الشيك يعد قبضا لمحتواه.
هذه هي الأمور الأربعة التي أخالف فيها.(9/226)
أما الأمور الأربعة التي أؤيده فيها: أؤيد قوله بأن شراء الذهب بشهادات متخصصة لا يعد قبضا، هذا القول وجيه ومعتمد، وله حظ من التحقيق والنظر، وهو كلام سديد، فهذا ما أوافقه عليه.
قضية هل يمثل السهم حصة شائعة في الذهب أيضا أؤيد ما قاله هو والدكتور المرزوقي، أنا موافق على هذا.
أما قضية اجتماع الصرف والحوالة، أيضا أؤيد ما قاله فضيلة الشيخ ابن منيع، وأن هذا سفتجة، والعلماء والفقهاء قرروا ذلك.
قضية الإجازة غير واردة أصلا؛ لأن هناك خللا، وذلك لأن العلماء اتجهوا للسفتجة؛ لأنه يسهل لهم ضمان هذا الشيء في تسييره ونقله من بلد إلى بلد آخر، وهذا هو الهدف. فقضية الإجارة، يد الأجير الأمين يد أمانة وليست يد ضمان، إلا إذا كان أجيرا مشتركا، فممكن تسويغ ذلك على أساس أن البنوك أجير مشترك، فيمكن أن يكون الضمان هنا قائما، لكن فقهاءنا قرروا أن هذا من قبيل السفتجة، وأجازه الجمهور، الحنفية قالوا: لا يجوز. الحقيقة ما دام أكثرية العلماء أجازوا ذلك فأنا أؤيد فضيلة الشيخ ابن منيع في هذا الاتجاه. أيضا أؤيده في القضية الأخيرة التي اكتفى بها للقول بأن اجتماع الصرف والحوالة بنقد آخر هذا هو التكييف الذي سار عليه الاقتصاديون الإسلاميون في قضايا البنوك الإسلامية.
في الحقيقة لا بد من القول بمثل هذا، وهذه ضرورة؛ يعني أبناؤنا الذين نرسلهم إلى الخارج، وأيضا عدم توافر، أو بسبب عدم السماح بنقل النقود من بلد إلى آخر عند أكثر الدول، الحقيقة لا سبيل إلى هذا إلا بمثل هذه الأعمال المصرفية، التي يجري الاتفاق فيها مع البنك بأن ندفع العملة المحلية ونأخذها بعملة أخرى، وإلا فإننا قد ضيقنا على الناس وأوقعناهم في الحرج الشديد، فلذلك القول بحلِّ هذه العمليات المصرفية، وإن أخذ المصرف أجرا عليها، هو متحتم لرفع الحرج عن الناس والتيسير عليهم، والسلام عليكم.
الرئيس: متحتم عزيمة أم رخصة؟
الدكتور وهبة الزحيلي:
رخصة.(9/227)
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بالنظرة السريعة على البحث الأول والثاني، وجدت أن في بحث فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع حكم مبادلة بين مقدار الذهب ومقدار أقل منه مضموما إليه جنس آخر يقول في هذا: الحكم في ذلك فيما يظهر لي الجواز. الحقيقة أن فضيلة الشيخ عبد الله، وفق في رأيه هذا، ولكنه لم يذكر له أصلا ومعتمدا لذلك، وأعتقد أن المذهب الحنفي يذهب إلى هذا، فحبذا لو كان لهذا الحكم الذي توصل إليه اجتهادا أن يؤيده بما ذهب إليه بعض المذاهب، وذلك صحيح وجائز في المذهب الحنفي؛ لأن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني أشبه الحكم بجواز بيع حلي الذهب بأكثر من وزنه ذهبا، إلخ. هذه النقطة الأولى.
النقطة الثانية: حرمة تملك أواني الذهب والفضة، لا أظن أن هذا هو رأي الجمهور، أو الرأي المعتمد في المذاهب الأربعة، فَفَرْقٌ بين التملك وفرق بين الاستعمال.
الأمر الثالث: وهو في موضوع التفرقة بين الشيك المصدق والشيك غير المصدق، بالنسبة لإبطال الاعتبار واعتماد الشيك غير المصدق ذَكَرَ عدةَ احتمالات، وإذا كان الاحتمال في الدليل يبطل به الاستدلال، فما بالك بالنسبة للأمثلة. فهذه كلها احتمالات لا أظن أنها تمثل جوهرا في عدم الأخذ بالشيك غير المصدق، وما يقال في الشيك المصدق يقال في غير المصدق. المصدق يخول صاحبه استلام المبلغ مباشرة، ولكن قبل استلامه لا يمكن لصاحبه أن يغير رأيه أو يبطل صرفه. الاحتمالات هذه لا أظن أنها تكون جوهرا في التفرقة بين المصدق وغير المصدق.
بالنسبة لبحث الأخ الزميل صالح المرزوقي، ذكر في بحثه أن الحلية إذا كانت محرمة، كالملاعق والصحون المطلية بالذهب، فهذه يحرم شراؤها ويبطل العقد عليها، سواء شريت بذهب أو بغيره من النقود، أعتقد (أو بغيره من النقود) ليست واردة تماما، إلا إذا كان يقول بحرمة التملّك.
أيضا فيما بعد في فقرة أخرى ذلك أنه إذا كان مع الذهب شيء غيره، فإنه لا يحل بيع ذلك الشيء لا بأكثر من وزنه ولا بأقل بمثله، حتى يفصل الذهب وحده، إلخ. وهو مذهب المالكية. وبعد ذلك جاءت تفصيلات لهذه الأشياء.
في صفحة أخرى من البحث في الفقرة الثالثة والعشرين يقول: يحرم شراء أواني الذهب عند الحنفية والمالكية (بالإطلاق) ، ويتخرج القول بالحرمة على مذهب الحنابلة لقولهم بسد الذرائع.
ثم في الفقرة الخامسة والعشرين جاء التفصيل: عند المالكية وغيرهم أنه إذا كان شراؤه للاستعمال أو كان شراؤه للتملك، ففي الأول ذكر كلاما ملخصا مطلقا، ثم جاء بعد ذلك التفصيل، وأظن أن هذا كان من المفروض فيه الدقة في ذلك، وشكرا.(9/228)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
بعض النقاط تمت تغطيتها من الإخوة الزملاء، وخصوصا قضية مبادلة مقدار من الذهب بمقدار أقل منه مضموما إليه، فقد اكتفى فضيلة الشيخ عبد الله بالاستظهار فيها، وتشبيهها بمذهب ابن القيم، مع أن فيها مذهبا أصيلا هو مذهب الحنفية، وللعلم فقد تعرض الشيخ صالح المرزوقي لها في بحثه، ونسبها إلى مذهب الحنفية.
المسألة الثانية: التي أريد أن أعلق عليها هي مسألة الساعات الذهبية التي تكون للنساء. لا بد أن يشترط أن تكون هذه الساعة هي في نفسها حلية، بأن يكون لها زناد، أو تكون لها سلسلة، وألا تكون ساعة مجردة فقط لمعرفة الزمن، يعني حتى يكون فيها معنى التحلي، ولا يكون فيها معنى الاستعمال الممنوع على الرجال والنساء في آن واحد.
المسألة الثالثة: بالنسبة للشيك المصدق، هذا الشرط هو غرض توثيقي وليس – فيما أرى – غرضا شرعيا؛ لأن مجرد إعطاء الشيك ممن لم يُعرف عنه التساهلُ أو الكذب في إصدار الشيكات، هذا يعتبر وسيلة للأداء، وكون الشيك المصدق لا يمكن الرجوع فيه، هذا صحيح بالنسبة للعملاء، ولكن بالنسبة للبنوك لها أولوية في تحصيل مستحقاتها من أرصدة العملاء مقدمة على أي سندات أو شيكات تقدم، فلو نشأ التزام لهذا البنك الذي صدر منه هذا التصديق على هذا العميل يقدم في التزامه على هذا الشيك المصدق، إذن هذا التصديق هو قرينة للتوثيق، ونشبه هذا بالعملات، فقد يتقاضى الإنسان عملات ويتبين أنها مزورة، فماذا نصنع في ذلك؟ وقديما كان يتقاضى الإنسان ذهبا ثم يتبين أنه مغشوش أو زيوف، فإذن يكفي أن يتسلم شيكا، وألا يكون هذا المصدر للشيك معروفا بتلاعبه واحتياله.
المسألة الرابعة: بالنسبة لشراء الذهب ببطاقة الائتمان، الحقيقة أن بطاقة الائتمان كما سبق في قرارات المجمع فيها تكييفات كثيرة.
الرئيس:
اتركونا من هذا؛ لأن بطاقة الائتمان لم يبتَّ فيها المجمع، فطالما لم يبت في الأصل فالفرع لن يُبتَّ فيه.
الشيخ عبد الستار:
أحببت أن أوضح أن بعض التكييفات أنها توكيل مع الكفالة، فإذا جاءت الصلاحية من الجهة التي أصدرت البطاقة صار لها قوة كبيرة.(9/229)
المسألة الخامسة: مسألة شهادات الذهب، هذا الموضوع في الحقيقة نحن بحاجة إلى مزيد من التصوارت عن هذا الموضوع الجديد، ولا سيما بيننا عدد من المسؤولين الفنيين في المصارف الإسلامية، مثل الأستاذ نبيل نصيف، والأستاذ عبد اللطيف الجناحي، والدكتور سامي حمود، وغيرهم، فنريد مزيدا من هذه البيانات، ولا أريد أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع. شهادات الذهب ليست كما قال فضيلة الشيخ عبد الله بأن إصدارها ليس له اعتبار موجب للثقة؛ لأن هذه الشهادات تصدر من بنوك موثوقة، وعليها رقابة للبنوك المركزية، ولدى الاستفسار من الفنيين في هذا تبيّن أنه لا يمكن أن تزيد مقادير هذه الشهادات عن المقادير الموجودة فعليا في مخزن البنك، ولكن المشكلة أنه ليس هناك تعيين، فهذه السبائك أو الكتل الذهبية موجودة، ولا يعرف أن هذه لفلان أو أن هذه لفلان، وهنا أثير نقطة، وهو أنه لدينا في الفقه الإسلامي صيغة خيار التعيين، وخيار التعيين ليس كخيار الشرط يمنع التقابض ويمنع يدا بيد؛ لأن خيار التعيين البيع فيه قد انعقد، وإنما بقيت فرصة للمشتري أن يختار بين ثلاثة أشياء متكافئة في الثمن، فما المانع من أن نطبق خيار التعيين هنا ونقول: إن هذه الشهادات إذا كانت قيمتها مطابقة للموجود ولدى البنك، وكانت هناك رقابة، فإن التعامل فيها يعتبر تعاملا بمثابة القبض بالفعل (الحسي) ؟
المسالة السادسة: التي أريد أن أشير إليها وهي قضية الحوالة بالسفتجة، الحوالة في الحقيقة هناك واقعة كثيرة في البلاد التي عليها قيود في تحويل العملات، وهي أن بعض الناس يريدون أن يوصلوا عملات مختلفة عن عملة البلد إلى الخارج، فيأتون إلى تجار وليسوا بنوكا، وحتى لو أصدروا شيكات فهذه الشيكات لا يمكن تصديقها؛ لأن تصديقها سيكون من البنك في الخارج وهذا لا يمكن، إذن هذه واقعة ومحتاجة إلى البتِّ، ولذلك يمكن أن يكتفى هنا بالتمكين، بأن يكون هذا الشخص الذي سيجري عملية المصارفة بعملة أخرى قادرا على الوفاء، ويخيّر هذا الذي يعطيه المال، ويقول: تريده من عملة البلد أو من عملة أخرى في البلد الفلاني. فإذا كان قادرا فكأن الصرف قد جرى اقتضاء، ثم جرى توكيل لهذا التاجر ليوصل هذه العملية إلى البلد المقصود إيصاله إليها.
المسألة السابعة: بعض الناس ذهب إلى تحريم التعامل بالصرف من غير محترفي الصرافة، واستندوا إلى بعض المقولات لأبي حامد الغزالي وغيره، ولا نجد لهذا المستند قولا، ولكن يراد إمحاض هذا الأمر، يقولون: إن الصرف لا يجوز أن يتعامل به إلا الصراف، مع أن كثيرا من الناس يتعاملون، من أفراد الناس وآحادهم.
هذا ما أردت التنبيه إليه، والسلام عليكم ورحمة الله.(9/230)
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع أنه كثير من النقاط التي أريد أن أتكلم فيها قد تُكُلِّم فيها من قبلي، ولذلك سأمر عليها سريعا، إلا إذا اقتضى الأمر لوقفة.
ففيما يتعلق بموضوع الذهب المصوغ هذا، أظن أن الكلام فيه قد استوفي، ورأيي أنا مع رأي الجمهور، وهو ما بسطه الشيخ صالح المرزوقي.
أما فيما يتعلق بموضوع – في بحث الشيخ عبد الله بن منيع – حكم مبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار أقل منه مضموما إليه جنس آخر. الشيخ عبد الله ذهب إلى الجواز ولم يفصل فيه، ورأيي أن هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل، وأوضحها بالمثال الأتي: مثلا أربعة جرامات ذهب أريد أن أبادلها بثلاثة جرامات ذهب + فضة، هذا يصدق عليه المثال، هنا لا يصح أن نقول: إنه جائز من غير تقييد، هذا ذهبٌ قُوبلَ بذهبٍ وفضةٍ، فيجب أن يطبقَ فيه حكم مبادلة الذهب بالذهب، والذهب بالفضة، لا بد من أن يكون يدا بيد، ثلاثة الجرامات ذهب هي يدا بيد، وليست بمثل، وفيما يتعلق بالفضة مع الذهب – الجرام الزائد – هذا لا بد أن يكون يدا بيد، فلا بد من هذا القيد. كذلك مثال آخر، أربعة الجرامات ذهب هذه أريد أن أبادلها بثلاثة جرامات ذهب + قمح، هنا يجب أن تكون ثلاثة الجرامات ذهب مقبوضة، لا بد أن أطبق فيها مبادلة الذهب بالذهب؛ لأنها ثلاثة جرامات تقابل ثلاثة جرامات منه، فلا بد أن تكون يدا بيد ومثلا بمثل، ويبقى بعد ذلك الجرام الزايد من الذهب مقابل القمح، وهذا لا بأس فيه.
مسألة أخرى: وهي موضوع الشيك، الشيخ عبد الله ذهب إلى أنه لا بد من أن يكون الشيك معتمدا، وأرى أنه في هذا قلب القاعدة، وهي أن الأصل في المسلمين الصلاح، فهو اعتبر كل شخص يقدم شيكا غير معتمد ليس له رصيد أو سوف يسحب رصيده، دخل على الغش في هذا، وهذا هو النادر. الأصل أن صاحب الشيك عنده رصيد وليس العكس، وهذا نظير ما لو أن شخصا باع ذهبا بذهب، وأعطاه ذهبا مغشوشا. فالشخص الذي يقدم شيكا وليس عنده رصيد مثل الشخص الذي يصارف ذهبا بذهب أو فضة بفضة مغشوشة. ثم إن هذا يضيق، كما قال الدكتور وهبة: يضيق المعاملات الأصلية، وهو أنه الذي مشت عليه الفتاوى التي صدرت أن قبض الشيك يعتبر قبضا حكميا كيفما كان الشيك، سواء كان معتمدا أو غير معتمد.(9/231)
موضوع السفتجة، فعلا التخريج مُشكِل عدا حالتين؛ لأنه لو اعتبرناها قرضا هي في الواقع ليست بقرض، الشخص الذي يدفع للبنك كذا درهم ليحولها إلى بلد آخر لا يقرضه، وإنما كما قال الدكتور عبد الستار: هو يوكله في أن يوصلها إلى الجهة الفلانية. فيأتي عليها الإشكال أنها غير مضمونة، فلا بد أن نخرّج هذه العملية تخريجا آخر، وليس على السفتجة مطلقا، ولا على الإجارة مطلقا، فهي في الواقع فيها معنى الضمان، البنك يضمن أنه يوصل هذا المبلغ، ولا يستطيع أن يقول: إن المبلغ قد ضاع، حتى ولو ضاع بآفة سماوية، حيث إن صاحبه غير مسؤول عنه بعد تسليمه للبنك، فلا بد أن يصل إلى المكان المطلوب، فهنا الضمان موجود لا شك في ذلك، ومع ذلك البنك يأخذ أجرا، فلا نستطيع أن نقول: إنه قرض مطلق، أو إجارة مطلقة , هو شكل جديد من العقود لا أرى به بأسا.
موضوع الشركة التي تتعامل بالذهب. صيغة السؤال: حكم شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب، وتعدُّ أكثر أصولها منه. هذا هو السؤال، وفيه أن أكثر أصول الشركة من الذهب، عملها كله من الذهب وأصولها من الذهب. ففي رأيي أن الاشتراك في هذه الشركة هو اشتراك في الذهب. السهم جزء من موجودات الشركة، وإذا كانت موجودات الشركة أكثرها ذهبا - حتى ولو لم نقل: كلها – فالعبرة بالأكثر، على عكس ما قرره الشيخ عبد الله في آخر بحثه، حيث يقول: يجوز تبعا مالا يجوز استقلالا. هذا نقبله لو كان الذهب هو التابع، لكن الظاهر الآن أن الموجودات هي التابعة؛ لأن الأصل في عمل هذه الشركة هو الذهب. فرأيي أن الاشتراك في هذه الشركة والأسهم التي فيها أنها تعامل معاملة الذهب؛ لأن هذا هو ما يملكه صاحب السهم، وشكرا.(9/232)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، شكرا للأخوينِ الجليلين الباحثين، والإخوة الكرام الذين تحدثوا قبلي. بالنسبة لزيادة الذهب المصنوع، أعتقد أننا لسنا في حاجة إلى تكرار هذا الكلام، وأن الأدلة التي ساقها الدكتور صالح كافية وافية شافية – إن شاء الله – ولعل هذا هو الاتجاه العام.
مسألة الشيك والقبض، المجمع الموقر له فتوى سابقة خاصة بالشيك متى يعتبر قبضا، عندما بحثنا القبض وصوره المعاصرة، فليُرْجَع إلى القرار الذي أصدره المجمع من قبل.
المموه بالذهب والفضة، هو أن نفرق بين أمرين، ومسألة أنه يمكن أن ينزل ذهبا في طبقة، أو هو لون فقط بحيث لو صهر لا نجد ذهبا ولا فضة، فالذي يباح هو ذلك اللون فقط، أما إذا كان فيه طبقة من الذهب، فهو إذن لا يباح.
نقطة أخرى أريد أن أتحدث عنها وأوضح رأيي فيها، هي مسألة الصرف والحوالة، بحسب فهمي للموضوع أننا هنا أمام عقدين، صرف ثم حوالة، أو حوالة ثم صرف، وأركان الحوالة موجودة، فلو فرضنا – كما قال الدكتور صالح – أن الإنسان لو أحال لنفسه، فعناصر الحوالة غير موجودة؛ لأن هنا عناصر الحوالة موجودة، فلو فرضنا أن شخصا ذهب إلى المصرف وقال له: حول هذه الدراهم إلى دولارات في حسابي رقم كذا في مصرف كذا، المصرف هنا بمجرد أن يأخذ هذا المال، إما أن يصرفه أولا، قبل أن يقوم بالحوالة، أو أن يحال المبلغ كما هو بنفس العملة، فإذا صرفه أولا إذن أصبح عندنا عقد صرف، والصرف هذا يضاف لحساب الشخص الذي جاء بالدراهم، إذن أصبح المصرف هنا مدينا للشخص طالب الحوالة، والمصرف الآخر في البلد الآخر الذي أحيل عليه هو مدين للمصرف هنا. إذن المصرف في الإمارات هنا دائن ومدين، عناصر الحوالة، المصرف هنا دائن للمصرف في الخارج، ومدين لطالب الصرف والحوالة، المصرف في الخارج مدين – المحال عليه – الشخص الذي كان دائنا للمصرف هنا أصبح دائنا للمصرف في البلد الآخر، وهو هنا المحال. فإذن عندنا عناصر حوالة (محيل ومحال عليه) موجودة في دائن ومدين هو المصرف هنا، وفي دائن فقط كان دائنا للمصرف هنا أصبح دائنا للمصرف هناك، ومدين فقط وهو المصرف هناك، فعناصر الحوالة موجودة – حسب تصوري – الحالة الأخرى، أن تتم الحوالة أولا وعناصر الحوالة موجودة أيضا كما بينته سابقا، ثم بعد أن يحال المبلغ، الدولة هنا قد لا تسمح إلا بالعملية هناك، وعندئذ يتم الصرف هناك، فيكون عندنا عقد حوالة ثم عقد صرف، إذن التخريج كما أرى أننا أمام عقد صرف ثم عقد حوالة، أو عقد حوالة ثم عقد صرف.
هذا ما بدا لي – والله أعلم – وشكرا.(9/233)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، شكرا للعارضين والذين تفضلوا بإثراء هذه العروض، وإذا كان كثير ما أريد أن أبينه فقد سبقني إليه غيري، فلا أريد أن أعيد ولا أن أطيل عليكم، ولكني سأقتصر على النواحي التي أرى أنه لا بد من إتمام وتكميل لما جاء على لسان إخواني العارضين، أو على لسان إخواني المناقشين.
القضية الأولى التي أريد أن أتحدث فيها هي أن بيع أواني الذهب والفضة لا أرى وجها لمن يرى المنع؛ ذلك لأنه قد ذكر المفسرون في قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا} [المائدة: 107] ، إنما نزلت في صحابي اشترى جاما من ذهب، وكان عُظم تجارته، وأنه توفي في الطريق، وأنه لم يجد من يشهد عليه، وأن كثيرا من أموال الغنائم كانت أواني من ذهب أو فضة، وكانت تباع وتشترى، وأن هذه الأواني هي صالحة لاختزانا المال فلا يوجد، ولم أجد نصا واحدا يثبت التحريم، وغاية ما هو موجود هو حرمة استعمال الذهب للرجال، ثم التفرقة بين الساعة، بين أن تكون تتخذ للزينة، وبين أن تكون للتجارة، وهو تفريق أقرب منه للتصور لا إلى الواقع، فالساعات الذهبية بالنسبة للنساء هي جزء من حليهن حسب عرف العصر، وحسب الساعات كما تقدم وكما تصنع، فالساعة بالنسبة للمرأة سواء كانت معلقة أو تأخذها في يدها أو تلبسها في رجلها أو تلبسها على صدرها، فهي نوع من أنواع الزينة التي لها أن تتزين بها، لا أرى في ذلك ما يوجب التفرقة.
الأمر الثاني هو أنه تحدث عن دور المصرف، وأنه هل يعتبر أجيرا؟ وأنه إذا اعتبر أجيرا فكيف يضمن؟ الأجير ليس له الحق في أن يحول ما أخذه ... في هذا الدور، وإنما هي نأخذها في ضمانها، ثم إنها تحول أمثالها إلى المكان المقصود، هذه الأمثال إما أن تكون من نوع العملة، وإما أن تكون من غير نوع العملة التي انقرضت فهي صرف، وبناء على ذلك فالمصرف هو وكيل، وهو كيل بأجر، ولا أرى أنه يمنع أو أنه هناك وجها للمنع في هذه الوكالات التي تقوم بها المصارف تحقيقا لتيسير التعامل بين الناس.
وقع الحديث عن المموه، والمموه من الذهب فيه خلاف واضح، وقولان لم يرجح خليل أحدهما، إذ عبارة خليل تقول: وفي المموه قولان..، وعندما يقول: في المموه قولان، أي أنه لم يظهر لأصحاب الترجيح الذين جاؤوا في عهد الترجيح أن أحد المذهبين هو أولى بالأخذ من المذهب الآخر.
تحدثنا عن شهادات الذهب، أنا أتوقف أولا: هذه الكلمة: كلمة شهادات الذهب، نحن لا نبحث في القضايا النظرية، ولكن نبحث في القضايا الواقعية كما تقع في دنيا الواقع، فشركات الذهب تشمل نوعين: تشمل شركات استخراج الذهب من معدنه، وتشمل الأنشطة التجارية في الذهب والفضة في المادة ذاتها، فإذا كنا نتحدث عن شركات الذهب التي تستخرج الذهب من معادنه، والتي تحوله وتقوم ببيعه، فهذه الشركات لا أعتقد أنه فيها شركة إسلامية تلتزم في تعاملها بحكم الإسلام، ولكنها شركات تقوم على أسس يدخل فيها كل ما يجوز في التعامل على النظام الغربي، وإذا كان هذا هو وضعها فليست القضية هي الاشتراك وأخذ أسهم في هذه الشركات؛ لأنها تتعامل في الذهب والفضة، ولكنها تجري مجرى جميع الشركات، هذا أولا. ثانيا: إذا كانت هذه الشركات إنما هي تشتري الذهب وتبيعه، أو هي تشتري الذهب ثم تأخذ الذهب كما يخرج من معدنه لتخلصه من الشوائب ثم تبيعه، فهي شركة كل أصولها أو معظمها من ذهب، وهنا يتأتى مع ما تفضل به إخواني الذين تقدموا شكر الله لهم، إن إخواني الذين تقدموني أغنوني عن بقية القضايا التي كنت أريد أن أتحدث فيها، فشكرا لهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/234)
الشيخ سيد طنطاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم،
في بحث الأخ الفاضل سماحة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع يقول: ومنها أرى من المسائل التي طرحها مجمع الفقه الإسلامي، ورغب في الإجابة عنها، مسألة شراء الإنسان الذهب بالشيك، أيعدُّ ذلك قبضا للثمن؟ وقد سبقني إلى الحديث عنها بعض الأخوة الفضلاء، أنا أرى شخصيا أنه يكتفى بقول فضيلته، واتفق مع العلماء على أن القبض أمر مردُّه إلى العُرْف والعادة، فأيّ طريقة يتم فيها الاستيلاء الكامل على العين محل العقد تعتبر قبضا، أنا أرى أن يُكتفى بذلك، ولا داعي لمسألة التصديق أو عدم التصديق؛ لأن هذه أمور شكلية، والمسألة مسألة ثقة بين المتعاملين، فإذا تمت الثقة فلا فرق بين أن يكون مصدقا عليه أو غير مصدق، وإذا لم تتم الثقة فالتصديق لن يغني شيئا، وشكرا.(9/235)
الدكتور عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله،
حقيقة عندما أثير هذا الموضوع كان القصد من إثارته هو دراسة الواقع الذي يتم في مجتمعاتنا، وملاحظة تكييف هذا الواقع بما ينسجم مع أحكام الشريعة، بروح تهدف إلى وضع الحلول والمعالجات لمشكلات هذا الواقع، إذا كان هناك آراء فقهية يمكن أن تبتني عليها هذه المعالجات. ومن هنا تبرز حقيقة أهمية رأي ابن القيم رحمه الله في هذا المجال؛ لأنه ينقل العملية من إطار عقد الصرف إلى عقد البيع، فيعتبر الأمر أنه إذا كانت هنالك صنعة في الذهب أو الفضة أن الأمر من قبيل بيع السلع، وبالتالي لا نخرج فقط من قضية المماثلة، إنما نخرج أيضا من قضية التقابض في المجلس، ومن هنا أحبُّ أن ألفت نظر أستاذنا الجليل الشيخ عبد الله إلى اختلافٍ واضحٍ في عبارتين حول هذا الموضوع؛ فقد أطلق العبارة الأولى ولم يشترط حتى موضوع التقابض في المجلس، بينما عاد في العبارة الأخرى واشترط موضوع التقابض، فالعبارة الأولى تقول: (وأما إذا كان أحد العوضين ثمنا غير الذهب، فلا بأس في البيع مطلقا) . وجاء تعقيبا على اشتراط للمبادلة بينهما الحلول والتقابض، مما يعني أنه لا يشترط التقابض في مجلس العقد في هذه الحالة، بينما عاد في العبارة الأخرى وأشار إلى ضرورة التقابض في مجلس العقد مستدلا بالحديث إلا إذا كان ((يدا بيد)) .
على أية حال أنا لا أريد أن أطيل في هذه النقطة؛ لأن الإخوة علقوا عليها تعليقا كافيا، لكن حقيقة يجب أن نقف طويلا عند رأي ابن القيم واستدلالاته، فإذا كان في تبني هذا الرأي وجاهة شرعية كبيرة فإن في ذلك تسهيلا كبيرا على الناس في هذا المجال. هذه قضية.(9/236)
القضية الأخرى كتعقيب فني فقط، فيما يتعلق بالشيك المصدق، هو التزام بالدفع من البنك، وحقيقة يوجد فرق كبير بين الشيك المصدق وغير المصدق، وإن كنت أرى شخصيا في هذا المجال أنه لا مبرر لاشتراط تصديق الشيك؛ لأن احتمال استحقاق الثمن أو ظهوره زائفا أو غير ذلك لا يفسد المعاملة بهذا الاحتمال، فلنجعل الأمر مستقرا على أن هذا الإصدار للشيك يعتبر قبضا في الصرف، لكن إذا تبين بعد ذلك أنه بدون رصيد، أو تبين أن الأمر فيه إشكال معين، فإن المعاملة تفسد بهذا الاعتبار، وليس بإطلاق.
فيما يتعلق بموضوع تحويل العملات عن طريق البنوك، أريد أن أشير إلى قضية في هذا المجال تتعلق بموضوع الضمان، حقيقة نحن في موضوع ودائع البنوك بصفة عامة، ونحن نسميها ودائع، نحن نشترط على البنك الضمان ونكيف تكييفا غير معلن للناس، يعني نسمي هذه المعاملات: ودائع، ونكيف تكييفا في الراجح من أقوال علمائنا، على أن الأمر من قبيل القرض للبنك على أساس نجيز للبنك استخدام الودائع هذه في استثماراته وغير ذلك. وحتى نوجب الضمان، فموضوع التكييف الفقهي لهذه المعاملات فيه مرونة كبيرة، ويجب أن يلحظ جملة الأحكام وليس حكما واحدا. ومن هنا الذهاب إلى أنه عقد جديد، أو الذهاب إلى نوع من التكييف الذي يأخذ جملة من العقود لا عقدا واحدا، لا بد منه أمام هذا التعامل الواسع، والذي استقرت عليه حياة الناس في هذه الأيام.
فيما يتعلق بموضوع استعمال أواني الذهب والفضة، الإخوة الكرام – جزاهم الله خيرا – عالجوا هذا الموضوع معالجة واضحة، لكن أظن أننا لا بد أن نلتزم بالنصوص، والنصوص تنهى عن الاستعمال، وهنالك في أقوال كثير من فقهائنا غنية لحل إشكالات نعاني منها في واقعنا التطبيقي.
على أي حال أكتفي بهذا، وأرجو أن يأخذ هذا الأمر استحقاقه من البحث لأهميته في الواقع التطبيقي، وشكرا.(9/237)
الشيخ محمد علي عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم فقهنا في الدين.
أشكر السادة مقدمي المحاضرتينِ القيمتين، وخاصة أنهم أثاروا مشكلة السفتجة، ومشكلة شهادات الذهب، وهي تستحق أن يبتَّ فيها المجمع؛ لأنها قضايا جديدة وحيوية، ومن قضايا الساعة، ولكنني أردت أن أتدخل فيما يخص الموضوعين السابقين، وخاصة كسب الأواني وغير الأواني، الثروة الآن بالنسبة للمسلمين لا تعتبر فقط الأوراق المالية وغيرها، ولكن نحتاج إلى مادة لا تتحول مع تغير الوقت، إذا كان الشخص يكسب مالا أو ذهبا فقد يستعملها كمال احتياطي للمستقبل، ولذا فإني أرى أن كسب هذه الأواني حلال؛ لأن القصد من التحريم هو استعمالها والتزين بها.
أما فيما يخص شهادات الذهب أوافق أغلبية الإخوان الذين قالوا: إنه عبارة عن الائتمان؛ لأن الشهادة تصدر إذا كان الذهب موجودا، وتعرف الشركة أن لديها رصيدا من الذهب، وهذه الشهادة تعتبر كالشيك؛ لأن الشيك المصدق عليه يعتبر مضمونا من البنك، وإذا كانت الشركات قد خالفت العقد ... وبالنسبة لتصديق البنك على الشيك، فإنه يعتبر كضمان من مصدر الشيك، وبعض الإخوان قالوا: إننا لا نحتاج إلى تصديق؛ لأن القضية تعتبر قضية أمانة، هي فعلا قضية أمانة؛ لأن كل شيك يخرج من يد صاحبه يعتبر قابلا للصرف، وإلا فإنه سيعرض نفسه لعقوبات جنائية. فيما يخص أسهم شركات الذهب، في الحقيقة موافق مع الجميع على أن اقتناء هذه الأسهم ... ،
فيما يخص قضية السفتجة أُفضّل أن يبت في هذه القضية؛ لأنها قضية حساسة؛ لأنه في الوقت الحالي الدول الغنية والأوروبية قد قسمت العالم إلى عدة أقسام اقتصادية، بحيث إن بعض الدول الفقيرة لا تستطيع تحويل أموالها بدون ضمان.(9/238)
الدكتور سعود الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد:
أريد أن أتكلم في عدة نقاط، لكن سُبِقْتُ إلى الكلام فيها، وأصبح كلامي الآن تثنيةً على ما سبقت الكلمات إليه من العلماء الأفاضل.
الأمر الأول:
بيع أحد النقدين (الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة، ومع أحدهما من غير جنسه) ، ذهب سماحة الشيخ الوالد الشيخ ابن منيع إلى إجازة هذا النوع من البيع، وفي الحقيقة هذا فيه نص صحيح وصريح، وهو حديث القلادة المعروف؛ حينما باع رجل قلادة وفيها خرز بتسعة دنانير، فجاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ((لا، حتى تميز بينهما)) فهذا باطل بنص الحديث الصحيح، ولا مجال للاجتهاد فيه بعد إبطاله من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المُشرِّع الأول.
الأمر الثاني:
الذي أريد الكلام فيه هو بيع الذهب التبر بالمصوغ، بزيادة أحدهما على الآخر، لا شك أن رأيي شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم اللذين اتضحا تمام الوضوح، كانا علاجا في وقت زمني معين، وهو أن الأثمان كانت هي الذهب والفضة. ومن المعلوم ضرورة أن أحدا لن يبيع ذهبا مصوغا بذهب تبر مع التساوي بينهما في الوزن، فأوجد شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم هذا الحل مؤقتا – فيما يظهر لي – لذلك الزمان، أما اليوم ففي الحقيقة لا نحتاج إلى ذلك؛ لأن الأثمان التي تستبدل بها الأشياء أصبحت غير ذهب وفضة، ورأي الجمهور في هذا الأمر هو الواضح والراجح.(9/239)
الأمر الثالث:
التفريق بين أنواع الشيكات المصدقة وغير المصدقة. كما تعلمون أن المجمع الفقهي في دورته السادسة قد اتخذ قرارا في هذا، وهو اعتبار قبض الشيك قبضا لمحتواه، حيث إن قبض الشيك قبض حكمي وليس بحقيقي، وأما الاحتمالات الواردة في أن هذا الشيك قد يكون غير مغطي أو قد يوقفه صاحبه بعد كتابته وقبل قبضه، فهذه احتمالات لا تنقض القاعدة العامة في الشيك، واعتباره قبضا حكميا، كما جرى بذلك العرف، وهي حالات نادرة، وقد تطرأ حتى في قبض النقود، بأن تظهر مزيفة أو غير ذلك.
الأمر الرابع:
حرمة الاستعمال، ذكر بعض المشايخ أن حرمة استعمال الأواني – أواني الذهب والفضة – لا تكون مبررا لتحريم اتخاذها، وفي الحقيقة الاتخاذ إنما حرم لأجل أنه ذريعة للاستعمال، ووسيلة من وسائل استعماله، والشيء إذا حرم اتخاذه ثم اتخذ، قد يكون ذلك وسيلة لاستعماله، ثم في أخذ اتخاذ الأواني من الذهب والفضة تعطيل لمال، والمال ينبغي أن يُستثمر ويدخل في مشاريع التنمية والاستثمار، واتخاذه في أوان أو زينة، مع ما فيه من كسر لقلوب الفقراء، وكونه وسيلة لاستعماله تعطيل للمال، وتعطيل المال نوع من الأمور التي لا ينبغي لعلماء الإسلام أن يجيزوها، أو يعينوا على اتخاذ مثل هذه الأشياء.
الأمر الخامس:
تحويل البنك واعتباره أجيرا. وردت تخوفات من بعض المشايخ أن هذا الأجير قد لا يكون ضامنا. نحن عندنا فرق بين الأجراء؛ الأجير المنفرد والأجير المشترك، الأجير المنفرد أو الخاص هذا لا يضمن، لكن البنوك بوضعها الحالي أجراء مشتركون (أجير مشترك) ، والأجير المشترك ضامن لكل ما يتلفه ولو بغير إرادته، فهذا تحويل المال من مكان إلى مكان، واعتبار البنك أجيرا، واعتبار الأجير ضامنا لا حرج فيه، ولا يعتبر هذا من باب عدم تضمين البنك في هذا؛ لأن الأجير مشترك، والأجير المشترك ضامن عند علماء الإسلام. وشكرا.(9/240)
الدكتور محمد علي القري بن عيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد كفاني من تحدث قبلي عن الحديث عن كثير من المسائل التي كنت أريد أن أعلق عليها، كما أن الشيخ الرئيس أعفانا من الحديث عن مسألة بطاقات الائتمان وشراء الذهب بها؛ لأن هذا موضوع لم يبت فيه بعدُ من قِبَل المجمع، ولذلك فإني سأكتفي بالتعليق على مسألتين وردتا في بحث الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، حفظه الله ووفقه لكل خير.
الأولى: تتعلق بأسهم شركات الذهب، أي تلك الشركات التي يكون نشاطها الأساسي هو استخراج الذهب وبيعه، وجواز شراء هذه الأسهم والتعامل بها. والمسألة التي أريد أن أنبه إليها، هي أن أسهم هذه الشركات عند أرباب الاستثمار والخبراء، إنما هي تعدُّ من أنواع الاستثمار في المعادن الثمينة، وإن أسهمها تتغير أسعارها تبعا لتغير أسعار الذهب، ارتفاعا وانخفاضا. ولذلك فإن الرأي الذي ذكره الشيخ الضرير فيما يتعلق بأن الذهب في هذه الشركات ليس هو التابع وإنما هو المستقل، ولذلك فحكم التعامل بهذه الأسهم يجب أن يتبع هذا المستقل، أما التابع فهو ما بقي من أصول الشركة التي ليس لها قيمة كبيرة، والله أعلم.
المسألة الثانية: هي قضية أن قبض الشيك هو قبض لمحتواه، فأرى أن هذا لا يكون على إطلاقه؛ لأن الشيك إذا ضاع أو تلف في يد هذا الذي يحمله، فإن أمواله التي استحق لها لا تضيع، وإنما تبقى في البنك، يستطيع أن يحصل على هذه الأموال بطريقة أخرى، ولذلك فهذا يدل على انفصال هذا المال عن الشيك، ومن ثَمَّ فإن قبض الشيك ليس بالضرورة هو قبض لمحتواه. أما التفريق بين الشيك العادي والشيك المصدق الذي قال به فضيلة الشيخ ابن منيع فهو وجيه في نظري؛ لأن بينهما فرقا، وليس في طلب الشيك المصدق اتهام لأمانة الطرف الآخر؛ لأن الناس اعتادوا على كثير من الإجراءات التي الغرض منها التوثيق وطمأنة هذا البائع إلى قبضه لماله، ومنها الضمان والرهن، وما إلى ذلك، فلم يقل أحد إن فيها اتهاما للطرف الآخر يتعلق بالثقة فيه أو بأمانته، والثابت أن بينهما فرقا، وأن هذا الفرق له تعليق بالحكم، ولا شك أنه أكثر ما يكون فيما يتعلق بالصرف.
أردت التنبيه على هذه المسائل، وشكرا لكم.(9/241)
الدكتور صالح المرزوقي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، تكلم أصحاب الفضيلة في مسائل، وعقبوا على كثير منها، وأود أن أجيب بإيجاز على موضوعات قليلة.
بالنسبة لمسألة تكييف الحوالة المصرفية على أنها إجارة، وما لاحظه البعض من أنها يختلي فيها مسألة الضمان، فنقول: إن بعض العلماء قالوا بأن الأجير المشترك يضمن، ولا مانع من تضمينه؛ لأن هذا يتماشى مع مقاصد الشريعة الإسلامية. وقد كيفها من قبل الشيخ أحمد إبراهيم بيك، فقال: (إن الحوالة البريدية المعروفة عندنا ليست من هذا القبيل، بل هي إجارة على إرسال النقود من بلد إلى بلد بأجر معلوم) ، فالأجير المشترك عليه الضمان عند جماعة من العلماء، وهذا هو القول الموافق لمقاصد الشريعة في حفظ الأموال، وتضمينه هو سبب وجود الثقة في هذه المعاملات، إذا ثبت أنه لم يفرط، وإذا ثبت أنه لم يفرط أو كان التلف مما لا يمكن الاحتراز منه، فلا وجه للقول بتضمينه، وبهذا يتم الجمع بين المصلحتين: مصلحة أصحاب الأموال، والأجراء، أما إذا قلنا بعدم تضمينه، فإن المفسدة التي تلحق أصحاب الأموال أعظم من المفسدة التي تلحق الأجراء في حالة القول بتضمينه. وإذا علم الأجير أنه ضامن، بعثه ذلك على التحرز وعدم التفريط، وأخذ الحيطة لنفسه، وأما مسألة تكييفها على السفتجة، فكما تعلمون جمهور العلماء يرى أن السفتجة قرض، وعرفوها بأنها قرض، والذين يحضرون إلى المصارف يحولون نقودهم لا يفكرون في القرض، ولا يتبادر إليهم أن هذا قرض.
وأما مسألة الشيك ومسألة تصديقه وما يتعلق بذلك، فأرى أن يفرق بين النوعين من الشيكات. إذا كان الشيك صادرا من مؤسسة مصرفية – أقول هذا بناء على الواقع والتجارب – فإنه يكتفى به بدون تصديق، أما إذا كان صادرا من أشخاص، فأرى أنه لا بد أن يكون مصدقا؛ لأنه غالبا عندما تصدر الشيكات من المصارف أننا لا نرى فيها خللا، أما من الأفراد فيقع بعض الشيء.
أما مسألة المبادلة بين مقدار الذهب ومقدار أقل منه مضموم إليه جنس آخر، فهذه ليس التحريم والمنع فيها على الإطلاق، وإنما إذا كانت الحلية مباحة، كأن تكون حلية للنساء، فإنه لا مانع في البيع، لكن إذا اتحد الجنس فإنه لا بد من التساوي وأخذ قول الجمهور. فقد قال الجمهور: أما بيعها بالذهب فعلى قولين:(9/242)
القول الأول: إذا كان مع الذهب شيء غيره، فإنه لا يحل بيع ذلك الشيء بالذهب، لا بأكثر من وزنه ولا بأقل ولا بمثله، حتى يفصل الذهب وحده، فيباع مثلا بمثل، وهو مذهب المالكية والشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة، نص عليه الإمام أحمد في مواضع كثيرة، وعليه جماهير الأصحاب، وهو قول زُفَر من الحنفية، وقول ابن حزم، ومن الصحابة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى محمد بن عبد الله الشعبي، عن أبي قلابة، عن أنس قال: أتانا كتاب عمر ونحن بأرض فارس: لا تبيعوا سيوفا فيها حلقة فضة بالدرهم. وصح عن ابن عمر أنه كان لا يبيع سرجا ولا سيفا فيه فضة حتى ينزعه، ثم يبيعه وزنا بوزن.
ويستثني أصحاب هذا القول – ما عدا ابن حزم من المنع – ما إذا كان الذهب المضموم مع غيره مصنوعا صناعة يتعذر معها فصل كل منهما عن الآخر، أو أن فصلهما يؤدي إلى تخريب الصنعة، فهنا يكون المبيع قيميا، فيجوز بيعه بالذهب. قال الإمام الشافعي: (وهكذا كل صنف من هذه خلطه غيره مما يقدر على تمييزه منه، لم يجز بيع بعضه ببعض إلا خالصا) . ويستثنون أيضا ما إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره.
يعني كما ذكر أصحاب الفضيلة في الساعة التي فيها شيء من الذهب، يستثنون أيضا ما إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره، بأن كان المقصود الأعظم غير جنس ربوي، فيجوز البيع، وهو قول الإمام مالك وأحمد في المشهور عنه ـ والأصح من مذهب الشافعية، وهو مذهب الحكم بن عتيبة والحسن وإبراهيم، وقول سفيان.
أما دليل هذا الأمر فهو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم – حديث القلادة – وهو وارد في صحيح مسلم وغيره، فعن فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في خيبرَ بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنا بوزن)) ، وفي رواية قال: ((لا تباع حتى تفصل)) رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه. فقد تضمن الحديث الشريف الأمر بفصل الذهب في القلادة عن الخرز وبيعه وحده؛ لأنه لا يجوز بيع الذهب مع غيره بذهب، حتى يفصل من ذلك الغير ويميز؛ ليعرف مقدار الذهب المتصل بغيره، لماذا؟ لاتحادهما في العلة وهي تحريم بيع الجنس بجنسه متفاضلا، ولأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، وفي هذه المسألة يجهل تساوي الذهب الذي في الساعة بالذهب الذي هو ثمن الساعة، ومثله نَهْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر بالكيل المسمى من التمر، ونهيه عن بعض الرطب خرصا والحَبّ في سنبله قبل اشتداده خرصا، كما في المزابنة والمحاقلة.(9/243)
وأما مسألة بيع الحلي والمموّه وما إلى ذلك، فهذا تكلم فيه بعض العلماء الأفاضل، والجواب على هذا أنه إذا كان الشراء لغرض الاستعمال لغير النساء، استعمالَ الرجال، أو شراء الأواني للاستعمال أو للاقتناء بالاتخاذ، فإنَّ هذا لا يجوز؛ لأن هذا يجر إلى الاستعمال، أما إذا كان شراؤه بغرض القنية، فالأمور بمقاصدها، فهذا جائز، وأما المموّه فإنه إذا كان في مواد الأكل أو الشرب أو اللباس – موادَ الاستعمال – فأيضا تتحقق فيه العلة، علةَ الربا في هذه الأمور، هي السرف والخيلاء، وهذا متحقق، أما إذا كان المموّه في غير الأكل والشرب، المموّه في الأكل مثل الملاعق إذا مُوِّهت بالذهب، هل نقول: إنه يجوز شراؤها؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَن شربَ في إناء ذهب أو فضة، أو في شيء منهما، فإنما يجرجر في نار جهنم)) في رواية أخرى بهذا وسندها حسن. والسلام عليكم.(9/244)
الشيخ الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فإني أشكر الباحثينِ على بحثيهما القيمين، وملاحظاتي لوحظت من قبلي، لكن من لاحظوها كان بينهم اختلاف، وأنا أريد أن أعطي رأيي في الموضوع، وسوف لا أطيل، إن شاء الله:
أولا: فيما يخص بيع الذهب بالذهب بزيادة، إذا كان أحدهما أجود صنعة، فإني أرى أنه لا يجوز؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في البحثين.
ثانيا: الأواني النقدية، كما أنها لا يجوز استعمالها، فإن اقتناءها لا يجوز عندي؛ لأنها إذا لم تستعمل تكون عديمة الجدوى، مع أن الإمام مالكا كان رحمه الله صرح بمنع اقتنائها، قال خليل: وحَرُم استعمال ذَكَر محلى، إلى قوله: وإناء نقد واقتناؤه، إلا امرأة.
ثالثا: الإناء المموّه فيه خلاف في المذهب المالكي، فهو إما متساوٍ وإما أن يكون الأرجح الجواز، ولكنني أرى أن الساعة تختلف عن الإناء، ولا أرى جواز لبسهما للذكر، أما المرأة فيجوز ذلك لها.
رابعا: فيما يخص الحوالة في الجنس الواحد، فإني أرى أنها كالسفتجة، قد رجح صاحب المغني الحنبلي جوازها؛ استنادا إلى الآثار الواردة في البحث، ومع أن مذهب مالك هو منع السفتجة، فإنها تجوز عنده إذا خيف على نفس المسافر، أو خيف على ماله المنقود للضرورة، وإذا كانت الحوالة بين جنسين مختلفين، كتحويل الدرهم بالريال السعودي أو الأوقية الموريتانية، فإنني أرى أن هذا بمنزلة الصرف المؤخر، إلا أن الضرورة التي روعيت في السفتجة، أرى أن تراعى في هذه المسألة؛ لأن حمل المال من بلد إلى بلد فيه خطر على المال، خصوصا عندما كثر الفساد، وأرى أن من استلم وصلا من بنك إلى بنك آخر يعتبر في نظري قبضا، والله أعلم وأحكم.(9/245)
الشيخ عبد الله بن بيّه:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين،
هناك مسألة ذهب الإخوان إلى أن مذهب مالك لا يجيز بيعَ الذهب بذهب مع أجرة لصنعة، في الحقيقة أن ما ذهب إليه خليل هو أن ذلك يجوز إذا كان مسافرا، وجاء إلى دار الضرب، ودفع إليها الأجرة، وشُرّاحه قالوا: لا مفهوم للمسافر، وهذا من باب الاستحسان الذي هو تخصيص للعامي بالعرف، كما هي إحدى صيغ الاستحسان الثلاث عند مالك.
الملاحظة الثانية، وأطلقها الشيخ عبد الله حفظه الله تعالى، ولم أسمع من لاحظ عليها، وهي أنه لا يجوز التجارة في الساعات إذا كانت للرجال، والذي أعرفه أن هذا من المستثنى، بمعنى أنه لا يجوز الاقتناء، ولكن التجارة بالبيع والشراء تجوز فيه؛ لأنها وسيلة لا تؤدي حتما للمتوسل إليه، والذريعة فيها تفصيلات؛ إذا كانت تؤدي حتما لا تجوز، وإذا كانت لا تؤدي حتما تجوز، وخصوصا عند الشافعية، لا يقولون بسد الذرائع، والأحناف جزئيا لا يقولون به، وهو موضوع سنصل إليه بعد.
أما مسألة بيع ذهب بذهب أقل مع سلعة، هذه المسألة يجب أن نتصورها في اشتراء سلعة، أن تأتي بدينار من ذهب لتشتري به سلعة، فالذي يبيعك السلعة يبيعك إياها بنصف دينار، ويرد إليك دينارا، وهذا هو المعروف عند الشافعية (بمد عجوة ونصف درهم) . هذا، والشافعية يقولون بحرمته، بناء على حديث القلادة المذكور، أو بناء على الأحاديث التي لا يجوز فيها الجمع بين الصرف والبيع، ولكن المالكية يجيزونه في المحقرات، وهو استحسانٌ مرة أخرى استثناءً من النص، للعرف أو للحاجة، والأحناف يجيزونه. يجب إذن الانتباه إلى مسألة الإجازة.
أما المموّه فللمالكية فيه قولان في المغشى وفي المموّه والمطبب وذي الحلقة وإناء الجوهر، قولان كما قال خليل ولم يرجح أحدهما، ولكن الصحيح هو أن الذي عليه قلادة من ذهب ليست كبيرة يجوز، وأن الذي باطنه ذهب وظاهره غير ذهب لا يجوز، وقالوا: هنا مسألة الباطن والظاهر، هذا هو الصحيح في المذهب، في قولين، خليل أطلق القولين ولم يرجح أحدهما على الآخر، ولكن الصحيح كما رجحه الشراح: الدسوقي وغيره، هو هذا التفصيل الذي ذكرته لكم.
مسألة الاشتراك في الشركة، العبرة بالأكثر، ثم أترك الأقوال الأخرى وشكرا. والسلام عليكم ورحمة الله.(9/246)
الدكتور نزيه كمال حماد:
بسم الله الرحمن الرحيم،
سأتعرض فقط لنقطة بيع الذهب بالشيك، لأني أرى كلام الإخوان جزاهم الله خيرا، لا يزال يحتاج إلى شيء من التحرير أو التوفية.
القضية في أساسها أن جواز بيع الذهب بالشيك، واعتبار الشيك بمنزلة القبض الحقيقي مبناه على أن قبض الشيك هذا يترتب عليه قبض محقق لقيمته. فضيلة الشيخ ابن منيع عندما اقتصر على قضية الشيك المصدق، وجهة نظره مبنية على ذلك أنه فقط الشيك المصدق هو الشيك الذي يتحقق مستلمه من استلام مبلغه. أقول: الشيك الآن له أربع صور:
الصورة الأولى: الشيك المصرفي (الصادرة عن مصرف) مسحوب على نفس المصرف، أو مسحوب على بنك مراسل بالعملة نفسها أو بغيرها، هذا محقق الدفع، وهو أوثق أنواع الشيكات، ولذلك هو أولاها بأن يعتبر قبضه في حكم القبض الحقيقي.
الصورة الثانية: الشيك العادي المصدق – الذي تفضل بالكلام عنه الشيخ ابن منيع – أيضا يعتبر قبضا موثقا ومؤكدا؛ لذلك قبضه يعتبر بمنزلة قبض المبلغ الحقيقي، ويصح بيع الذهب به.
الصورة الثالثة: دفع الشيك الشخصي، أو الصادر من مؤسسة أو شركة أو نحوها، وليس له رصيد أصلا، هذا ينبغي أن لا يعتبر قبضا حقيقيا لمبلغه؛ لعدم وجود – موضوعيا – التغطية، لعدم وجود الرصيد. قال بعض الإخوان: إن هذا لا يمكن أن يصدر؛ لأنه يعتبر جريمة يُعاقَب عليها مُصدِرُه، والأصل الأمانة والذمة، وعدم صدور مثل ذلك، أقول: قائل هذا القول يعرف بناء على قوانين بعض الدول، ولكن بعض الدول الكبرى والعظمى تذهب مصارفها وبنوكها وقوانينها إلى أن كتابة شيك من غير رصيد لا يعتبر جريمة، ولا يعتبر مخالفة، ولا يعتبر أي شيء بتاتا، وعلى سبيل المثال دولة كندا، إذا كتبت أنت شيكا من غير رصيد لشخص يذهب للبنك، فلا يستطيع تحصيله، لا يعتبر فيها أي نوع من المخالفة، فقط يترتب عليه غرامة قدرها سبعة عشرا دولارا؛ نتيجة تكاليف ردّه، وليس أكثر من ذلك. من أجل هذا أقول: إن هذا النوع من الشيكات لو كتب، وخاصة في البلدان التي لا تعتبر ذلك جريمة ولا مخالفة، لا يعتبر قرضا حكميا، وبناء على ذلك شراء الذهب به غير سائغ.
الصورة الرابعة: أن يشتري بشيك شخصي له رصيد حقيقي، أي أنه مغطى، سواء كان هذا الشيك من شخص أو شركة أو مؤسسة أو غير ذلك – شخصًا طبيعيًا أو اعتباريًا – هذا اللون من الشيكات ينبغي أن يقبل، ولو لم يكن مصدقا؛ لأن له تغطية حقيقية، ورصيد فِعْليّ يُمكّن قابضه من تسلمه حالا دون تأجيل، فَلِمَ التعلق والقضية شكلية؟ ونقول: مصدق وغير مصدق، خاصة إذا عرفنا أن قضية الشيكات المصدقة في العالم في غاية الندرة بالنسبة للشيكات المصرفية وللشيكات الشخصية؟
وأشكركم على إتاحة الفرصة لي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/247)
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
جلّ ما كتبت من نقاط، كفاني إخواني الحديثَ أو الخوض فيه، بقيت مسألة الشيك.
الشيك الذي ينظمه قانون، وعندما نريد أن نتحدثَ عن الشيك لا بد أن نرجع إلى القانون الذي يعالج الموضوع، جميع القوانين ارتجالية في العالم بأسره. يدور تعريف الشيك بالمعنى التالي: على أن الشيك أداة وفاء حالة. يعني بحكم البنكنوت. فإذا اختلفنا في جواز حكم القبض بالبنكنوت مزيفا أو غير مزيف، ممكن أن نختلف في الشيكات.
فالذهاب في احتمالات عدم الصرف هذا أمر قد يخرجنا من الموضوعية. موضوع مصدق أو غير مصدق، حتى لو صدق الشيك قد تذهب إلى البنك وقد أفلس فلم تقبض. يعني لو أردنا أن نضع الاحتمالات، الاحتمالات كثيرة، ولكن نأخذ الأصل، ما دام الأصل على أن الشيك أداة وفاء حالة، إذن يجب أن يصدر الحكم على هذا الموضوع، ومجمع الفقه له رأي جيد في دورته السادسة حول هذا الموضوع. بقي مسألة شهادات الذهب، هنا شهادات الذهب يجري التعامل فيها في غير دار الإسلام، وقد ترون التريث في الحكم بالجواز إلى أن تضعوا المعايير؛ لأنه صحيح هناك كثير من الشركات ملتزمة لا تصدر شهادات ذهب إلا ومقابلها هناك فعلا سبائك موجودة، ولكن حصل في الثمانينات أن أفلست شركات تتعامل بالفضة، أصدرت شهادات فضة دون أن يكون لديها فعلا في مستودعاتها كميات كافية من الفضة، فلا بد عندما نصدر مثل هذا الموضوع - والذي تختلف فيه القوانين - أن يكون لنا نحن معايير نضعها حتى نقول مثل هذه الشهادات تُقْبلُ، وشكرا لكم.(9/248)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم
،
سمعت من الإخوان الكثير من الاحتجاج ... ما ذكره العلماء من الاضطراب في متنها وفي إسنادها، فأرجو التكرم بالرجوع إلى ذلك. ما يتعلق بما فضيلة أخي الكريم الدكتور صالح، من أن هيئة كبار العلماء في المملكة أصدرت قرارا في منع بيع الحلي بأكثر منه وزنا، في الواقع أنا عضو في هيئة كبار العلماء منذ إنشائها وحتى الآن، ولم يصدر قرار بذلك، وهذا من باب التصحيح. ما يتعلق بالحديث الذي تكرم به الشيخ عبد اللطيف (الذهبَ بالذهب) هذا على كل حال نحن نحفظه (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ) وكذلك معروف أنَّ الذهبَ بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد، بيعوه أو بيعوها يدا بيد، فالذهبُ هنا مبتدأ، وإذا كان ورد بالنصب، فهذا له تخريج، وهو: بيعوا الذهبَ بالذهبِ، لكن القول بانتقاد الضم لعله يتكرم بالتحقيق في ذلك.
مجموعة من الأخوة حفظهم الله، تحدثوا عن اقتناء الذهب المحرم، وفرّقوا بين الاستعمال والاقتناء، أرجو ممن قال بذلك أن يحقق هذا الموضوع، فإذا كان الاستعمال ممنوعا فما فائدة الاقتناء؟ على كل حال الموضوع يحتاج إلى مزيد من التحقيق والنظر، والعبرة بالمقاصد والغايات الموصلة إليها.
كذلك - حفظكم الله - بعض الأخوة أعرضوا عن بيع أسهم شركة تتعامل بالذهب، وأُحبّ أن أذكر أن الشركات لها – في الواقع – قيم اعتبارية، وقد يكون للقيمة الاعتبارية قيمة أكثر من القيمة المادية، لهذا لو نظرنا إلى البيانات التي تصدر في الصحف عن الشركات وعن أقيامها وعن أسهمها، لوجدنا القيمة الدفترية، ووجدنا القيمة السوقية، ووجدنا القيمة السوقية قد تزيد على القيمة الدفترية بالضعف أو أكثر، فينبغي ألا يكون في اعتبارنا عدم النظر إلى هذه المسألة.(9/249)
المسألة الأخرى الساعات الذهبية. التفرقة بين الساعات الذهبية والساعات الرجالية الذهبية. في الواقع لم نقل بأن الساعات الذهبية الخاصة للنساء محرم استعمالها أو اقتناؤها من جنس الحلي، ولا شك في ذلك، لكننا نقول: الساعات الذهبية المخصصة للرجال هذه هي التي نلحقها بالأدوات المنزلية من ذهب وفضة، ونقول بتحريمها وبتحريم اقتنائها، وإذا كان هناك من يفرق بين الاقتناء والاستعمال، فالله يجزيه خيرا، فهي فائدة نفرح بها ونغبطه على إتحافنا بها.
كذلك – حفظكم الله – ما يتعلق بالشيك المصدق وغير المصدق. في الواقع مُحِبّكم أحد قضاة محكمة التمييز في المملكة العربية السعودية، ولدينا من القضايا المالية التجارية الشيء الكثير في تخلف الشيكات غير المصدقة، وهي إما أن يكون قد سحبها ثم ذهب وأعطى البنك تعليمات على عدم اعتبارها، أو أن يكون ليس لها رصيد ... إلخ.
فلها عيوب كثيرة، ولها قضايا متعددة، أما الشيكات المصدقة فقطعا لا يمكن أن يتصور أن يردَّ شيء، وأما القول بأنه قد يفلس البنك فكذلك نقول: قد تضيع نقودك وهي في جيبك. فعلى كل حال فكون أننا نحن نأتي باحتمال بعيد جدا، ونعتبره سببا من أسباب المنع، فهذا ليس صحيحا، ويمكن أن نقول: إن الشيكات التي تصدرها البنوك، فالبنوك في الغالب لها انضباط، وممكن كذلك أن نلحقها بالشيكات المصدقة، أما الشيكات التي يصدرها الأفراد أو تصدرها الشركات فهي محل نظر، وينبغي أن يكون فيه مزيد من النظر في اعتبارها، هل هي شيك ممكن أن يعتبر في قوة القبض أم لا؟ وشكر الله لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/250)
د. داود علي الجفال:
بسم الله الرحمن الرحيم
،
أشكر الإخوة الباحثين والمناقشين على هذه المعلومات القيمة، ولكن أقول: قبل ثلاث سنوات وقع في يدي كتاب لأحد العلماء الألمان الذين شرح الله صدرهم للإسلام، فبعد أن كتب عن المعجزات تكلم عن الاقتصاد، وقال: إن تحريم الذهب على الرجال وعدم اكتنازه عند المسلمين دليل على عالمية هذا الدين الذي حرم هذا الذهب الأصفر بشكل خاص؛ لأن هذا المعدن الثمين هو أساس الاقتصاد العالمي من ذلك الوقت حتى الآن. فأنا أؤيد رأي الشيخ عبد الله بعدم اقتناء هذا المعدن، ووضعه في البنوك المركزية؛ ليكون غطاء للعملات المحلية في العالم الإسلامي، وشكرا.(9/251)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذا الموضوع ثمان مسائل، أو ثمان قضايا فقهية، ويدخل في تضاعيفها أربع، فيصبح مجموعها اثنتى عشرة مسألة فقهية تتعلق بتجارة الذهب، وهذه القضايا حسب المداولات التي وردت منها، أولا: أن نأخذ العنوان الذي ورد به بحث الشيخ عبد الله بن منيع وهو: بيع الفرد للذهب بالشيك المصدق أو ببطاقة الائتمان، فهو هنا مقيد بالفرد.
الأمر الثاني: أن موضوع بيع الذهب ببطاقة الائتمان، هذا أمر يحسن تنحيته؛ لأن الأصل لم يبت فيه المجمع في دورتيه السابعة والثامنة. هناك حصل خلاف في بعض المسائل لا في الحكم، ولكن في التكييف الفقهي، وهي في قضية الصرف والحوالة، الاتجاه العام على الجواز، وإنما حصل الخلاف في قضية التكييف الفقهي لها.
وكذلك في مسألة المبادلة بين ذهب وذهب مع جنس آخر. وأما مسألة بيع الذهب المشغول بذهب، فأحب أن أذكركم بعقد الاستصناع الذي سبق أن درس في هذا المجمع، وأصدر المجمع قراره في دورة مضت، فيحسن باللجنة التي ستشكل أن تنظر في هذا القرار، مع ما حصل من مداولات وبحث في هذا الموضوع، ثم إن المتاجرة بالأواني ونحوها، هذا أمر يكاد يتفق عليه المجمع على وجه الإجمال، سوى المموّه، والمموه تعرفون ماله جرم وما ليس له جرم، وأن في المذهب المالكي قولين فيه، ذكرهما خليل وقد توقف فيهما، وأخبركم أن هيئة كبار العلماء درست هذا الموضوع على ثلاث دورات متواليات، وتوقفت في هذا الموضوع، وتركته لكل مفت بذمته؛ لأنه فيه شائكة، وفيه نوع اشتباه كبير، لاسيما مع قضايا العصر وواقعاته المتكاثرة. مسألة بيع الذهب بالشيك المصدق، هذا صدر فيه قرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، فنرجو من اللجنة التي ستشكل أن تأخذ بالاعتبار الاطلاع على هذا القرار، ثم بعد ذلك سوف يكون الرأي الأخير لكم في الجلسة الختامية. هل تمثل السهم حصة شائعة في الذهب؟ الاتجاه العام إلى جواز هذه القضية، وتبقى قضية التعامل بشهادات الذهب، والاتجاه العام هو إلى عدم جوازها.(9/252)
قد ترون مناسبا أن تؤلف اللجنة من أصحاب الفضيلة: العارض الشيخ عبد الله بن منيع، والمقرر الشيخ صالح المرزوقي، والشيخ تقي العثماني، والشيخ الصديق الضرير، والشيخ نزيه حماد، والأستاذ الجناحي. مناسب.
وبهذا ترفع الجلسة، وأود أن أذكّر أصحاب الفضيلة العارضين الذين سيعرضون الموضوعات بدءا من بيع السلم وتطبيقاته المعاصرة في الجلسة المسائية، إلى آخر الموضوعات – إن شاء الله – أن يعطي العارض خلاصة لجميع الأبحاث التي قدمت في هذا الموضوع، حتى نستغني عن أن يأخذ أحد الباحثين الكلمة، فيقرأ علينا من بحثه مرة أخرى، فتضيع المناقشات في خضم قراءة الأبحاث، وكما اتفقنا على ذلك في دورات مضت. وشكر الله لكم، والكلمة الآن لمعالي الأمين العام.(9/253)
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم،
حضرات أصحاب الفضيلة والمعالي والسعادة:
أريد أن ألتمس منكم أن تقرؤوا المشروعين اللذين وقع توزيعهما عليكم: مشروع الموسوعة الفقهية الاقتصادية، ومشروع معلمة القواعد الفقهية، وأرجو من حضراتكم أن تتقدموا متفضلين علينا بما ترونه من اقتراحات أو إضافات، ومن لم يحصل على هذه النسخ لأنه لم يكن موجودا، فإننا سنوزعها من جديد بعد ظهر اليوم.
وشكرا لحضراتكم.(9/254)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم،
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 88/1/د9
بشأن (تجارة الذهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1- 6 إبريل 1995م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (تجارة الذهب الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر أولا بشأن تجارة الذهب ما يلي:
أ - يجوز شراء الذهب والفضة بالشيكات المصدقة، على أن يتم التقابض بالمجلس.
ب - تأكيد ما ذهب إليه عامة الفقهاء من عدم جواز مبادلة الذهب المصوغ بذهب مصوغ أكثر مقدارا منه؛ لأنه لا عبرة في مبادلة الذهب بالذهب بالجودة أو الصياغة، لذا يرى المجمع عدم الحاجة للنظر في هذه المسألة؛ مراعاة لكون هذه المسألة لم يبق لها مجال في التطبيق العملي؛ لعدم التعامل بالعملات الذهبية بعد حلول العملات الورقية محلها، وهي إذا قوبلت بالذهب تعتبر جنسا آخر.(9/255)
ج- تجوز المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار آخر أقل منه مضموم إليه جنس آخر، وذلك على اعتبار أن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني.
د- بما أن المسائل التالية تحتاج إلى مزيد من التصورات والبحوث الفنية والشرعية عنها، فقد أرجئ اتخاذ قرارات فيها، بعد إثبات البيانات التي يقع بها التمييز بينها وهي:
شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب أو الفضة.
تملك أو تمليك الذهب من خلال تسليم وتسلم شهادات تمثل مقادير معينة منه موجودة في خزائن مصدر الشهادات، بحيث يتمكن بها من الحصول على الذهب أو التصرف فيه متى شاء.
قرر ثانيا بشأن الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة ما يلي:
أ - الحوالات التي تقدم مبالغها بعملة ما، ويرغب طالبها تحويلها بنفس العملة جائزة شرعا، سواء أكان بدون مقابل أم بمقابل في حدود الأجر الفعلي، فإذا كانت بدون مقابل فهي من قبيل الحوالة المطلقة عند من لم يشترط مديونية المحال إليه، وهم الحنفية، وهي عند غيرهم سفتجة، وهي إعطاء شخص مالا لآخر لتوفيته للمعطي أو لوكيله في بلد آخر. وإذا كانت بمقابل فهي وكالة بأجر، وإذا كان القائمون بتنفيذ الحوالات يعملون لعموم الناس فإنهم ضامنون للمبالغ؛ جريا على تضمين الأجير المشترك.
ب - إذا كان المطلوب في الحوالة دفعها بعملة مغايرة للمبالغ المقدمة من طالبها، فإن العملية تتكون من صرف وحوالة بالمعنى المشار إليه في الفقرة (أ) ، وتجري عملية الصرف قبل التحويل، وذلك بتسليم العميل المبلغ للبنك، وتقييد البنك له في دفاتره بعد الاتفاق على سعر الصرف المثبت في المستند المسلم للعميل، ثم تجري الحوالة بالمعنى المشار إليه.(9/256)
السلم
وتطبيقاته المعاصرة
إعداد
د. الصديق محمد الأمين الضرير
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة الخرطوم
بسم الله الرحمن الرحيم
،
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد فهذا بحث عن:
السلم وتطبيقاته المعاصرة:
أكتبه لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة، ملتزما فيه بالخطة التي وضعتها الأمانة العامة للمجمع، مستعينا بالله، وسائلا السميع القدير أن يهديني الصراط المستقيم.
1- تعريف السلم:
السلم والسلف بمعنى واحد، الأول لغة أهل الحجاز، والثاني لغة أهل العراق (1) .
والسلم في الاصطلاح هو كما عرفه التمرتاشي: بيعُ آجلٍ بعاجلٍ (2) ، فالسلم نوع من البيع يتأخر فيه المبيع، ويسمى المسلم فيه، ويتقدم فيه الثمن، ويسمى رأس مال السلم، فهو عكس البيع بثمن مؤجل، ويسمى البائع المسلم إليه، ويسمى المشتري المسلم.
وعرف الدردير السلم بأنه: بيع يتقدم فيه رأس المال ويتأخر المثمن لأجل (3) .
وعرفه النووي بأنه: بيع موصوف في الذمة (4) .
وعرفه ابن قدامة بقوله: هو أن يسلم عوضا، حاضرا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل (5) ، ولا يوافق ابن حزم على أن السلم بيع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه السلم والسلف والتسليف، ولم يسمه بيعا (6) .
__________
(1) نيل الأوطار 5 /239
(2) تنوير الأبصار مع ابن عابدين 4/ 281، وقال ابن عابدين: الأولى أن يقال: شراءُ آجلٍ بعاجلٍ.
(3) الشرح الكبير 3 /170
(4) المنهاج مع نهاية المحتاج 4 /178
(5) المغني: 4/ 304
(6) المحلى 9/ 105، 106، 107، 114(9/257)
2- مشروعية السلم:
السلم مشروع بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب فقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .
قال ابن عباس: (أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه، وأذن فيه) ، ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} [البقرة: 282] . (1)
وأما السنة فما روي عن ابن عباس أنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، والناس يسلفون في التمر العام والعامين، أو قال: عامين أو ثلاثة - شك إسماعيل (2) - فقال: ((من سلف في تمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم)) رواه الجماعة واللفظ للبخاري، وفي بعض طرق البخاري زيادة: ((إلى أجل معلوم)) (3) .
وقد أجمع العلماء على جوازه، إلا ما حكى عن ابن المسيب أنه لا يجيزه؛ متمسكا بحديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان (4) ، وقال ابن حزم: إن طائفة كرهت السلم جملة (5) .
3- هل مشروعية السلم على خلاف القياس؟
يقول السمرقندي:
(القياس أن لا يجوز السلم؛ لأنه بيع المعدوم، وفي الاستحسان جائز بالحديث، بخلاف القياس؛ لحاجة الناس إليه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أسلم منكم، فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)) وروي عنه عليه السلام: ((أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم)) (6) .
ويقول الشوكاني: (واختلف الفقهاء، هل هو (السلمَ) عقد غرر جُوِّز للحاجة أم لا؟) (7) .
__________
(1) البحر الزخار 3 /397، المغني 4 /275، التلخيص الحبير مع المجموع 9/ 206
(2) إسماعيل بن علية أحد رواة الحديث
(3) صحيح البخاري مع عمدة القاري 12/ 61، 63، ومنتقى الأخبار مع نيل الأوطار 5/ 239
(4) البحر الزخار 3/ 397، ونيل الأوطار 5 /239
(5) المحلى 9/ 106
(6) تحفة الفقهاء 2/ 5
(7) نيل الأوطار 5 /239(9/258)
هذا الرأي القائل بأن جواز السلم جاء على خلاف القياس مبني على أن السلم من بيع المعدوم، ومن بيع ما ليس عندك، ومن بيع الغرر، وكل هذه البيوع منهي عنها، فالقياس ألا يجوز السلم، ولكن النص ورد بجوازه، فعلمنا أنه مستثنى من هذه البيوع.
والصواب عندي ما ذهب إليه ابن تيمية وابن القيم من أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس، وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد: إما أن يكون القياس فاسدا، أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع.... (1)
وينبني على هذه القاعدة أن السلم مشروع على وفق القياس؛ لأن مشروعيته ثابتة بالنص، وأن القياس الذي قال بعض الفقهاء: إن السلم جاء على خلافه قياس، فاسد. ونبين فيما يلي فساد هذا القياس:
__________
(1) إعلام الموقعين: 1/ 335(9/259)
أولا – قياس السلم على بيع المعدوم:
صحيح أن السلم قد يكون من بيع المعدوم؛ لأن المسلم فيه قد لا يكون موجودا وقت العقد، لكن السلم ليس من بيع المعدوم الممنوع؛ لأن جمهور الفقهاء الذين جوزوا أن يكون المسلم فيه غير موجود وقت العقد، اشترطوا أن يكون المسلم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل، وهذا يخرجه من المعدوم الممنوع بيعه، ويدخله في المعدوم الجائز بيعه؛ لأنه كما يقول ابن تيمية وابن القيم: (لم يرد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، بل ولا عن أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما ورد النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما ورد النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي موجودة، إذن فليست العلة في النهي عن بيع بعض الأشياء المعدومة هي العدم، كما أنه ليست العلة في النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة هي الوجود، فوجب أن تكون هناك علة أخرى للنهي عن بيع تلك الأشياء المعدومة، وهذه العلة هي الغرر، فالمعدوم الذي هو غرر نُهِيَ عن بيعه لكونه غررا، لا لكونه معدوما، كما إذا باع ما يحمل هذا الحيوان، أو ما يحمل هذا البستان، فقد يحمل، وقد لا يحمل، وإذا حمل، فالمحمول لا يعرف قدره ولا وصفه) (1) .
__________
(1) القياس في الشرع الإسلامي لابن تيمية 21 – 27؛ إعلام الموقعين لابن القيم 1 /357(9/260)
وهذه العلة – الغررَ – التي ذكرها ابن تيمية وابن القيم للنهي عن بيع المعدوم علة مطردة، لا تحوجنا إلى استثناءات، أو مخالفة للقياس، والغرر في بيع المعدوم لا يتحقق إلا في حالة ما إذا كان المبيع مجهول الوجود؛ لأنه إن كان المبيع محقق العدم فلا غرر في هذا والبيع باطل بداهة؛ لاستحالة التنفيذ، وإن كان المبيع محقق الوجود، فلا غرر أيضا، والبيع صحيح، وإذا تتبعنا ما منعه الشارع من بيع المعدوم، وما أجازه منه، نجد أن كل ما منعه المبيع فيه مجهول الوجود في المستقبل، وأن كل ما أجازه المبيع فيه محقق الوجود عادة في المستقبل، وإن كان معدوما وقت العقد، وهذا ظاهر في بيع السلم، فقد منع الرسول الله صلى الله عليه وسلم في تمر حائط معين؛ لأن المسلم فيه مجهول الوجود في المستقبل، وأجاز السلم في ثمار البلد كله؛ لأن المسلم فيه محقق الوجود بحسب العادة.
فالقاعدة التي ينبغي السير عليها من بيع المعدوم هي:
(أن كل معدوم مجهول الوجود في المستقبل لا يجوز بيعه، وأن كل معدوم محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة يجوز بيعه) .
ثانيا – قياس السلم على بيع ما ليس عندك:
ورد النهي عن (بيع ما ليس عندك في حديث حكيم ابن حزام (1) ، وحديث عمرو بن شعيب (2) ، وقد حمل الفقهاء هذا الحديث أكثر من معنى: فاستدل به بعضهم على عدم جواز بيع المعدوم (3) ، واستدل به آخرون على عدم جواز بيع العين الغائبة (4) ، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد به بيع شيء مباح على أن يستولي عليه فيملكه فيسلمه (5) ، وقال بعضهم: المراد به بيع الأعيان، يقول الإمام الشافعي: والسلف قد يكون بيع ما ليس عند البائع، فلما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيما عن بيع ما ليس عنده، وأذن في السلم استدللنا على أنه لا ينهى عما أمر به، وعلمنا أنه إنما نهى حكيما عن بيع ما ليس عنده إذا لم يكن مضمونا عليه، وذلك بيع الأعيان (6) ، وقال بعضهم: المراد به بيع الإنسان ما لا يملك سواء أكان معينا، أم في الذمة، يقول ابن عابدين: يشترط في البيع أن يكون المعقود عليه مملوكا للبائع فيما يبيعه لنفسه، فلا ينعقد بيع ما ليس مملوكا له، وإن ملكه بعده، إلا السلم.. (7) .
__________
(1) انظر منتقى الأخبار مع نيل الأوطار 5/1 64، 190
(2) منتقى الأخبار مع نيل الأوطار 5/ 164،190، وانظر أيضا كتاب الغرر وأثره في العقود 80 و318
(3) البحر الزخار 3/ 191، والزيلعي 4/ 12
(4) المجموع 9/ 301
(5) البدائع 5/ 163
(6) الأم 3 /83، وانظر أيضا المغني 4 /228
(7) حاشية ابن عابدين 4 /7(9/261)
ويقول ابن القيم: (وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزم: ((لا تبع ما ليس عندك)) فيحمل على معنيين: أحدهما أن يبيع عينا معينة وهي ليست عنده، بل ملك للغير، فيبيعها على معنيين: أحدهما أن يبيع عينا معينة، وهي ليست عنده، بل ملك للغير فيبيعها، ثم يسعى في تحصيلها، وتسليمها إلى المشتري (1) ، الثاني أن يريد بيع ما لا يقدر على تسليمه، وإن كان في الذمة، وهذا أشبه، فليس عنده حسا ولا معنى، فيكون قد باعه شيئا لا يدري هل يحصل له أم لا، وهذا يتناول أمورا: أحدهما: بيع عين معينة ليست عنده، والثاني: السلم الحال في الذمة، إذا لم يكن عنده ما يوفيه، والثالث: السلم المؤجل، إذا لم يكن على ثقة من توفيته عادة) (2) .
والراجح عندي أن عبارة (ما ليس عندك) تعني: (ما ليس مملوكا للبائع، سواء أكان معينا، أم في الذمة، إذا باعه على أن يسلمه في الحال) ، ولا يدخل فيها المعدوم، ولا المملوك الغائب، ولا الأشياء المباحة، وهذا هو ما تدل عليه قصة الحديث، فقد روي أن حكيم بن حزام كان يبيع الناس أشياء لا يملكها، ويأخذ الثمن منهم، ثم يدخل السوق فيشتري الأشياء ويسلمها لهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (3) .
وعلة منع بيع الإنسان ما لا يملك هي الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم وقت العقد، وما قد يترتب على ذلك من النزاع، فإن البائع قد لا يجد المبيع في السوق، والمشتري يطالبه به، ولا يرضى إمهاله؛ لأن العقد تم على أن يسلمه المبيع في الحال.
أما لو تمّ البيع على أن يكون المبيع دينا في ذمة البائع يسلمه للمشتري بعد مدة من الزمن، فإنه لا يدخل في بيع ما ليس عندك المنهي عنه، ويدخل في عقد السلم المسموح به، وهو السلم الذي يكون المسلم فيه مؤجلا إلى أجل معلوم يغلب وجوده فيه.
__________
(1) هذا هو تفسير الشافعي
(2) إعلام الموقعين 1/ 350
(3) انظر البدائع 5 /147، 163(9/262)
ثالثا – قياس السلم على بيع الغرر:
وروى الثقات عن جمع من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر (1) ، وبيع الغرر هو البيع المستور العاقبة (2) ، وعقد السلم عقد معلوم العاقبة، فقد اشترطت فيه شروط خاصة تباعد بينه وبين الغرر المفسد للعقد، كما رأينا في الكلام على قياس السلم على بيع المعدوم، وبيع ما ليس عندك، وكما سنرى في الكلام على الشروط، فالسلم ليس من بيع الغرر المنهي عنه حتى يقال: إنه مستثنى منه، أو جاء على خلاف القياس، وهو كما يقول ابن القيم: (على وفق القياس والمصلحة، وشرع على أكمل الوجوه وأعدلها ... ) (3) .
4- شروط صحة عقد السلم:
1-يشترط في السلم ما يشترط في البيع.
السلم – كما جاء في التعريف – نوع من البيع، ولهذا فإن جميع الشروط التي تشترط في البيع تشترط في السلم (4) ، ولكن جمهور الفقهاء يستثنون من قاعدة: (يشترط في السلم ما يشترط في البيع) شرطَ وجود المحل عند العقد؛ وذلك لأنهم يرون أن بيع المعدوم منهي عنه، وقد تكلمنا عن هذه المسألة.
الشروط الخاصة بالسلم:
اشترط الفقهاء في عقد السلم شروطا خاصة، زيادة على الشروط التي يشترك فيها مع عقد المبيع، هي:
الشرط الأول: أن يكون المسلم فيه مؤجلا:
يشترط جمهور الفقهاء لصحة عقد السلم أن يكون المسلم فيه مؤجلا، على اختلاف بينهم في مدة الأجل، فالسلم الحال لا يجوز عندهم (5) .
وقال الشافعية: يجوز السلم حالا، كما يجوز مؤجلا (6) ، وممن قال بالجواز أبو ثور، وابن المنذر (7) .
وحجة الجمهور في اشتراط الأجل:
1-حديث ابن عباس فإن قوله صلى الله عليه وسلم ((إلى أجل معلوم)) أمر منه بالأجل في السلم، وأمره يقتضي الوجوب، فيكون الأجل من جملة شروط صحة السلم، فلا يصح بدونه، كما لا يصح إذا انتفى الكيل والوزن في المكيل والموزون (8) .
2-إذا لم يشترط الأجل في السلم كان من بيع ما ليس عند البائع المنهي عنه (9) ، أو بيعا للمعدوم، وهو لم يرخص فيه إلا في السلم، ولا فارق بينه وبين البيع إلا الأجل (10) .
3- السلم جوز رخصة للرفق، ولا يحصل الرفق إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفى الرفق (11) ، وذلك لأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة، وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى (12) .
وحجة الشافعية القياس الأولوي على السلم المؤجل، قال الشافعي: فإذا أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الطعام بصفة إلى أجل كان، والله تعالى أعلم، بيع الطعام بصفة حالا أجوز، لأنه ليس في البيع معنى إلا أن يكون بصفة مضمونا على صاحبه، فإذا ضمن مؤخرا ضمن معجلا، وكان معجلا أعجل منه مؤخرا، والأعجل أخرج من معنى الغرر، وهو مجامع له في أنه مضمون له على بائعه بصفة (13) .
__________
(1) انظر أحاديث النهي عن بيع الغرر في كتاب الغرر وأثره في العقود 58- 60
(2) المبسوط 13/ 194
(3) إعلام الموقعين 1/ 350
(4) نيل الأوطار 5/ 239، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 /170. والمنهاج مع نهاية المحتاج 4/ 176
(5) ابن عابدين 4/ 286، ومختصر خليل مع حاشية الدسوقي 3/ 179، وانظر بداية المجتهد 2/ 213، فقد جاء فيه " وقد قيل: إنه يتخرج من بعض الروايات عن مالك جواز السلم الحال، والمغني 4/ 321
(6) المنهاج مع نهاية المحتاج 4/ 185
(7) المغني 4/ 321
(8) بداية المجتهد 2 /203 والمغني 4/ 321
(9) بداية المجتهد 2/203
(10) نيل الأوطار 5/240
(11) المغني 4/321
(12) بداية المجتهد 2/203
(13) الأم 3/83(9/263)
ويقول الرافعي: (في الأجل ضرب من الغرر؛ لأنه ربما يقدر في الحال، ويعجز عند حلول الأجل، فإذا جاز السلم مؤجلا فهو حالا أجوز، وعن الغرر أبعد) (1) .
ورأي الجمهور أولى بالقبول عندي، لقوة دليله، وضعف دليل الشافعية، فإن القياس الذي احتجوا به غير سليم، لأن قولهم: (في الأجل ضرب من الغرر) غير مسلم، لأن الأجل في السلم لا بد أن يكون معلوما باتفاق الفقهاء، فمن أين يأتيه الغرر؟ ولو سلمنا بأن في السلم المؤجل غررا، هو احتمال العجز عند حلول الأجل، كما يفهم من عباراتهم، فإنا لا نسلم بأن السلم الحال أبعد من الغرر بهذا المعنى، بل العكس هو الصحيح، لأنه في السلم المؤجل يكون عند المسلم إليه فرصة يستعد ويحضر فيها المسلم فيه، أما في السلم الحال، فإن المسلم إليه ملزم بالتسليم في الحال، وقد لا يجد المسلم فيه فيؤدي ذلك إلى النزاع بينه وبين المسلم، وهذا هو عين بيع الإنسان ما ليس عنده على المعنى الذي اخترته.
وإذا قالوا: إن السلم الحال الذي نعينه هو ما كان المسلم فيه موجودا عند المسلم إليه (2) ، كأن يسلم شخص في قمح موجود في مخزنه، قلنا لهم: هذا بيع، وليس بسلم، لأنه لا ينطبق عليه اسم السلم، ولا معناه؛ لا ينطبق عليه اسم السلم، لأنه يسمى سلما وسلفا لتعجل أحد العوضين، وتأخر الآخر، ولا ينطبق عليه معناه، لأنه ملاحظ في مشروعيته، حاجة المسلم إليه إلى الثمن قبل حصوله على المسلم فيه، فإذا كان المسلم فيه موجودا عنده فقد انتفت الحاجة إلى السلم، لأن في البيع غنى عنه (3) .
والخلاصة: أني أرى في اشتراط التأجيل تخفيفا للغرر على عكس ما يرى الشافعية، لأن الشأن في المسلم فيه ألا يكون عند المسلم إليه، فإذا جوزنا السلم الحال نكون قد جوزنا بيع ما ليس عند البائع في الصورة التي تؤدي إلى عدم القدرة على التسليم المؤدية إلى الغرر، ولهذا اشترطنا التأجيل ليقل الغرر.
__________
(1) فتح العزيز 9/226
(2) انظر نهاية المحتاج 4/185
(3) المغني 4/321(9/264)
مدة الأجل:
اختلف الجمهور القائلون باشتراط الأجل في السلم في أقل مدة الأجل اختلافا كبيرا، والمفتى به عند الحنفية أن أقله شهر، وهو المعتمد في المذهب، وقيل ثلاثة أيام، وقيل أكثر من نصف يوم، وقيل ينظر إلى العرف في تأجيل مثله (1) .
وتحصيل مذهب مالك في مقدار الأجل من الأيام – كما يصوره ابن رشد هو أن المسلم فيه على ضربين: ضرب يقتضى بالبلد المسلم فيه، وضرب يقتضى بغير البلد الذي وقع فيه على السلم، فإن اقتضاه في البلد المسلم فيه، فقال ابن القاسم: إن المعتبر في ذلك أجل تختلف فيه الأسواق، وذلك خمسة عشر يوما، أو نحوها، وروى ابن وهب عن مالك أنه يجوز اليومين والثلاثة، وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به إلى اليوم الواحد، وأما ما يقتضى ببلد آخر، فإن الأجل فيه هو قطع المسافة التي بين البلدين قلت أو كثرت (2) .
ويشترط عند الحنابلة أن يكون الأجل مدة لها وقع في الثمن، كالشهر وما قاربه.
والذي أراه ألا نجعل حدا لأقل الأجل، كما أنه لا حد لأكثره، ويترك تحديد مدة الأجل لاتفاق المتعاقدين، لأن النص الذي أوجب الأجل في السلم لم يحدد مدة لأكثره، كما لم يحدد مدة لأقله، وإنما اشترط أن يكون الأجل معلوما للعاقدين، فيجب الوقوف عند ما أمر به النص.
العلم بالأجل:
لا خلاف بين الفقهاء في أن العلم بالأجل في السلم شرط لصحة العقد لقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إلى أجل معلوم)) .
قال ابن قدامة: (ولا نعلم في اشتراط العلم في الجملة اختلافا (3) ، ولكن الفقهاء اختلفوا في بعض أنواع الجهالة على نحو اختلافهم في جهالة الأجل في ثمن الدين التي تفسد البيع) .
__________
(1) ابن عابدين 4/286
(2) بداية المجتهد 2/203؛ وانظر الشرح الكبير مع الدسوقي 3/179 و180 ففيه تفصيل في حال القبض في غير بلد العقد
(3) المغني 4/322(9/265)
وخلاصة آراء الفقهاء في هذا الموضوع هي أن الجهالة التي ترجع إلى وجود الأجل تفسد العقد باتفاق، وذلك مثل التأجيل إلى حبل الحبلة، أو إلى قدوم حاج معين.
أما الجهالة التي ترجع إلى وقت حصول الأجل، أي التي يكون فيها الأجل محقق الحصول، لكن الوقت الذي سيحصل فيه غير محدد، مثل البيع أو السلم إلى الحصاد، أو إلى قدوم الحاج، فقد اختلفوا في إفسادها للعقد، فقال الحنفية، والشافعية، والحنابلة في رواية، والظاهرية، والشيعة الإمامية: هي مفسدة للعقد، كالجهالة التي ترجع إلى وجود الأجل، وقال المالكية، والحنابلة في رواية لا تفسده (1) .
وإني أرجح رأي المالكية في أن الجهالة التي ترجع إلى وقت حصول الأجل لا تفسد العقد، لأن الأجل سيجيء حتما، وقد يكون للعاقد غرض صحيح من هذا التأجيل، كما في التأجيل إلى الحصاد وكون الحصاد يتقدم وقته تارة، ويتأخر أخرى، لا يؤدي إلى المنازعة، لأن المتعاقدين قد أبرما العقد، وهما يعلمان ذلك، فليس للمسلم أن يطالب المسلم فيه قبل الحصاد، إذا تأخر، وليس للمسلم إليه أن يمتنع عن التسليم عند الحصاد، إذا تقدم الحصاد.
هذا وقد اشترط بعض الفقهاء أن يكون الأجل معلوما بالأهلة (2) ، وقد شدد الشافعي في هذا فقال: (ولا يصلح بيع إلى العطاء ولا حصاد، ولا جداد، ولا عيد النصارى، وهذا غير معلوم، لأن الله تعالى حتم أن تكون المواقيت بالأهلة فيما وقت لأهل الإسلام، فقال تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] ، وقال جل ثناؤه: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185] ، وقال جل وعز: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ، وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] ، وقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] .
__________
(1) انظر تفصيل هذا الموضوع في كتاب الغرر وأثره في العقود 278- 294
(2) انظر الأم للشافعي 3/84 والمغني لابن قدامة 4/324(9/266)
فأعلم الله تعالى بالأهلة جل المواقيت، وبالأهلة مواقيت الأيام من الأهلة، ولم يجعل علما لأهل الإسلام إلا بها، فمن أعلم بغيرها فبغير ما أعلم. والله أعلم) (1) .
ولا يجوز عند الشافعي أن نعلم بعيد النصارى، لأن لو أجزناه نكون كما يقول الشافعي: (قد أعلمنا في ديننا بشهادة النصارى الذين لا نجيز شهادتهم على شيء، وهذا عندنا غير حلال لأحد من المسلمين) (2) .
هذا ولا نزاع في أن الأجدر بالمسلمين أن يعلموا آجالهم بالأهلة ما أمكن ذلك؛ لأن الله ذكرها في كتابه العزيز، وأخبر أنها مواقيت للناس، ولكني لا أرى ذلك أمرا لازما يترتب على عدمه فساد عقول المسلمين كما يرى الإمام الشافعي؛ لأنه ليس ثمة دليل نقلي ولا عقلي على إلزام المسلمين بذلك، والأدلة التي ساقها الإمام الشافعي تدل على أن الأهلة مواقيت للناس، ولكنها لا تدل على أن المواقيت لا تكون بغيرها.
ومن أجل هذا خالف فقهاء الشافعية إمامهم في هذه المسألة، فاعتبروا الأهلة وغيرها مما يعرفه الناس أجلا معلوما، فيجوز عندهم التأقيت بكل ما هو معلوم للمتعاقدين، ولم يتقيدوا بالأهلة إلا في حالة الإطلاق، فإذا كان الأجل إلى أول الشهر من غير تقييد انصرف إلى الشهر الهلالي. (3) .
__________
(1) الأم 3/84
(2) الأم 3/84
(3) المهذب 1/298؛ والمجموع 9/339؛ ومغني المحتاج 2/105(9/267)
الشرط الثاني – أن يكون المسلم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل:
هذا شرط متفق عليه (1) ، لأن المسلم فيه واجب التسليم عند حلول الأجل فلا بد أن يكون تسليمه ممكنا حينذاك، وإلا كان من الغرر الممنوع، وعلى هذا فلا يجوز أن يسلم في ثمر إلى أجل لا يعلم وجود ذلك الثمر فيه، أو لا يوجد فيه إلا نادرا، كما لا يجوز أن يسلم في ثمار نخلة معينة أو ثمار بستان بعينه، وقد كان أهل المدينة حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون في ثمار نخيل بأعيانه فنهاهم عن ذلك، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلف إليه رجلا من اليهود دنانير في تمر مسمى، فقال اليهودي: من تمر حائط بني فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما من حائط بني فلان، فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى، وذلك لأن تمر البستان المعين لا يؤمن تلفه)) (2) .
وجود المسلم فيه عند العقد ليس شرطا عند الجمهور:
لا يشترط عند جمهور الفقهاء وجود المسلم فيه عند العقد، ولا بعده قبل حلول الأجل، فلا يضر عندهم عدم وجوده عند العقد (3) ، كما لا يضر انقطاعه بين العقد والأجل وحجتهم في هذا:
1- حديث ابن عباس المتقدم، فإنه لم يذكر فيه شروط الوجود، ولو كان شرطا لذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ولنهاهم عن السنتين والثلاث، لأن المعلوم أن الثمر لا يبقى هذه المدة.
2- التسليم قبل حلول الأجل غير مستحق، فلا يلزم وجود المسلم فيه، إذ لا ثمرة لوجوده حينئذ (4) .
وقال الحنفية: يشترط وجود المسلم فيه في الأسواق من حين العقد إلى حين حلول الأجل، ولو لم يكن موجودا عند المسلم إليه، فالسلم عند الحنفية لا بد أن يكون في إبان وجود المسلم فيه، فلو كان المسلم فيه موجودا عند العقد، وغير موجود عند حلول الأجل، لا يجوز السلم، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء، وكذلك لا يجوز السلم عند الحنفية إذا كان المسلم فيه موجودا عند حلول الأجل، ولكنه غير موجود عند العقد، أو كان موجودا عند العقد، وعند حلول الأجل، ولكنه انعدم فيما بين ذلك.
__________
(1) ابن عابدين 4/284؛ وبداية المجتهد 2/202؛ والمنهاج مع نهاية المحتاج 4/188؛ والمغني 4/325؛ والمحلى 9/114؛ والبحر الزخار 4/403؛ والمختصر النافع 158
(2) نيل الأوطار 5/240؛ والمغني 4/325؛ والبحر الزخار 3/399
(3) الشافعية يشترطون وجوده عند العقد في السلم والحال، ويعبرون بالقدرة على التسليم، يقول النووي: (يشترط كون المسلم فيه مقدورا على تسليمه عند وجوب التسليم) ويعلق عليه الرملي بقوله: وذلك بالعقد إن كان حالا، وبالحلول إن كان مؤجلا – نهاية المحتاج 4/188
(4) المنتقى 4/30؛ وفتح العزيز مع المجموع 9/345؛ المغني 4/226(9/268)
وحجة الحنفية في هذا الشرط هي أن الأجل يبطل بموت المسلم إليه، ويجب أخذ المسلم فيه من تركته، فاشترط لذلك داوم وجود المسلم فيه، لتدوم القدرة على تسليمه، إذ لو لم يشترط هذا الشرط، ومات المسلم إليه قبل أن يحل الأجل، فربما يتعذر تسليم المسلم فيه (1) .
وينبني على هذا الشرط أن السلم عند الحنفية ليس من بيع المعدوم، وإنما هو من بيع ما ليس مملوكا للبائع- المسلم إليه.
والغرض من هذا الشرط عند الجمهور وعند الحنفية أيضا، هو التحرز من الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم، ولكن الحنفية شددوا أكثر مما يلزم في التحرز من الغرر، باشتراطهم دوام وجود المسلم فيه، من وقت العقد إلى وقت الاستحقاق، وقد كان من الممكن معالجة الحالة التي فرضوها بما عالج به الحنفية أنفسهم حالة انقطاع المسلم فيه بعد حلول الأجل، وقبل أن يوفى، فقد قالوا فيها: يخير رب السلم بين انتظار وجود المسلم فيه، والفسخ وأخذ رأس ماله (2) فلم لا يقال هذا في حالة انقطاع المسلم فيه عند موت المسلم إليه هذا على التسليم بأن موت المسلم إليه يبطل الأجل، أما إذا قلنا بأن موته لا يبطل الأجل، فإن حجة الحنفية تبطل من أساسها (3) .
__________
(1) ابن عابدين 4/284؛ 286 وذكر ابن قدامة أن النووي والأوزاعي رأيهما كرأي الحنفية، وإن رأي إسحق وابن المنذر كرأي الأئمة الثلاثة – المغني 4/326؛ وانظر أيضا نيل الأوطار 5/242 وقال ابن حزم: إن سفيان والأوزاعي اشترطا وجود المسلم فيه وقت العقد، ولكنهما لم يشترطا عدم انقطاعه – المحلى 9/144
(2) ابن عابدين 4/ 284
(3) انظر المغني 4/326(9/269)
الشرط الثالث – قبض رأس مال السلم في مجلس العقد:
يشترط في السلم تسليم رأس ماله في مجلس العقد، فلو تفرق المتعاقدان قبل التسليم بطل العقد، وهذا رأي جمهور الفقهاء (1) .
وحجتهم في ذلك أن تأخير التسليم يصير العقد كبيع الكالئ بالكالئ، وذلك لأن المسلم فيه دين في الذمة، فلو أخر تسليم رأس المال عن المجلس لكان ذلك في معنى بيع الكالئ بالكالئ (2) .
ويقول الغزالي: إن الغرض من هذا الشرط (جبر الغرر في الجانب الآخر) ويريد من ذلك كما يقول الرافعي: (أن الغرر في المسلم فيه احتمل للحاجة، فجبر ذلك بتأكيد العوض الثاني بالتعجيل ولئلا يعظم الغرر في الطرفين) (3) .
وهذا متمش مع الرأي القائل: إن السلم عقد غرر جوز للحاجة، ويبدو لي أن هذا الشرط ليس الغرض منه تخفيف الغرر، لأنه غرر في مجرد التأجيل، وإنما هو شرط يتفق مع طبيعة عقد السلم، والحاجة التي شرع من أجلها، وهي احتياج المسلم إليه إلى المال قبل حصوله على المسلم فيه، ولهذا فإني لا أرى ما يمنع تأجيل رأس المال إلى أجل قريب بشرط أن يكون أقل من أجل المسلم فيه.
وهذا الرأي له سند من المذهب المالكي، فإن المالكية يرون أن التأخير إلى ثلاثة أيام لا يضر، ولو كان مشروطا في العقد، ما لم يكن السلم قريبا كيومين، أما إن كان التأخير أكثر من ثلاثة أيام، فإن كان مشروطا في العقد لا يصح، وإن كان غير مشروط، فلمالك قولان في المدونة: قول بفساد العقد، وقول بعدم الفساد، سواء كثر التأخير جدا، بأن حل أجل السلم، أو لم يكثر جدا، المعتمد القول بالفساد (4) .
__________
(1) ابن عابدين 4/288؛ والوجيز مع المجموع 9/208؛ والمغني 4/328؛ والمحلى 9/109؛ والبحر الزخار 3/398؛ والمختصر النافع 158
(2) فتح العزيز مع المجموع 9/208؛ والبحر الزخار 2/298؛ وبداية المجتهد 2/202
(3) الوجيز وشرحه فتح العزيز مع المجموع 9/207 و209
(4) الدسوقي على الشرح الكبير 3/195 – 196؛ وبداية المجتهد 2/202؛ ويصرح الحنفية بأن قبض رأس مال السلم في مجلس العقد ليس شرطا لانعقاد ولا لصحته إنما هو شرط لبقائه على الصحة، فينعقد السلم صحيحا، ثم يبطل بالافتراق بلا قبض- ابن عابدين 4/288(9/270)
قبض بعض رأس المال وتأخير بعضه:
إذا قبض المسلم إليه بعض رأس مال السلم، ثم تفرقا، صح العقد في المقبوض، وبطل فيما لم يقبض عند الحنفية، والشافعية، وعلى الصحيح في مذهب الحنابلة، ويبطل في الجميع في رواية عن الإمام أحمد (1) ؛ وهو ما يقتضيه كلام الخرقي (2) ، وهو مذهب المالكية (3) ، قال العدوي لأنه ابتداء دين بدين (4) .
جعل الدين رأس مال سلم:
إذا كان لرجل في ذمة آخر دين، فجعله سالما، لم يصح، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ من أهل العلم، منهم مالك، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحق، وأصحاب الرأي، والشافعي، وعن ابن عمر أنه قال: لا يصح ذلك، وذلك لأن المسلم فيه دين، فإذا جعل الثمن دينا، كان بيع دين بدين، ولا يصح ذلك بالإجماع (5) .
ولو كان رأس مال السلم بعضه نقدا، وبعضه دينا على المسلم إليه، فالسلم في حصة الدين باطل، لفوات القبض، ويجوز في حصة النقد (6) .
ويرى ابن تيمية وابن القيم جواز هذه المسألة التي حكى ابن المنذر الإجماع على منعها، على أصل مذهبهما في بيع الدين بالدين، ويقول ابن القيم في بيانه لأقسام بيع الدين بالدين:
(وأما بيع الواجب بالساقط، فكما لو أسلم في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته، فقد وجب له عليه دين، وسقط له عنه دين غيره، وقد حكي الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه، قاله شيخنا، واختار جوازه، وهو الصواب، إذ لا محذور فيه) (7) .
ورأيي هو جواز بيع الدين مطلقا، أعني سواء بيع للمدين، أو لغيره، بنقد أو بدين، ما دام خاليا من الربا، أو شبهة الربا، وأن الصورة المجمع على منعها في بيع الدين بالدين، هي ما اشتملت على ربا أو شبهة الربا (8) ، ومسألتنا هذه تدخل في بيع الدين بالدين لمن عليه الدين، ولا تخلو عندي من الربا، أو شبهته؛ لأن الإقدام على مثل هذا العقد يكون غالبا عندما يكون المدين غير قادر على أداء الدين في موعده، أو راغبا في تأجيله، فيعمد إلى جعل الدين رأس مال السلم، ويقبل الدائن؛ لأنه سيحصل في الغالب على أكثر من دينه، فيدخل هذا في (أخرني وأزيدك) ، لهذا فإني أرى منع هذه المعاملة، وبخاصة في تحويل القروض التي تمنحها المصارف الإسلامية إلى عقود سلم (9) .
__________
(1) فتح القدير 5/744؛ ونهاية المحتاج 4/180؛ والمقنع 2/93
(2) المغني 4/328
(3) الدسوقي 3/170
(4) كفاية الطالب الرباني مع حاشية العدوي 3/267
(5) المغني 4/329؛ ونهاية المحتاج 4/180؛ والزيلعي 4/140
(6) فتح القدير والعناية 5/344
(7) نظرية العقد لابن تيمية 235؛ وأعلام الموقعين 1/240 – 241
(8) انظر كتابي الغرر وأثره في العقود 310- 316
(9) وانظر الأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية 31(9/271)
اشتراط الخيار في عقد السلم:
وقد انبنى على اشتراط قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، منع اشتراط خيار الشرط في عقد السلم عند الحنفية، والشافعية، والحنابلة (1) ، يقول المرغيناني – عند كلامه عن اشتراط قبض رأس مال السلم-: (ولهذا قلنا لا يصح السلم إذا كان فيه خيار الشرط لهما، أو لأحدهما، لأنه يمنع تمام القبض لكونه مانعا الانعقاد في حق الحكم) . ويقول الشيرازي: (ولا يثبت فيه خيار الشرط، لأنه لا يجوز أن يتفرقا قبل تمامه، لهذا لا يجوز أن يتفرقا قبل قبض العوض، فلو أثبتنا فيه خيار الشرط أدى إلى أن يتفرقا قبل تمامه) .
ويجوز عند المالكية اشتراط الخيار في ثلاثة أيام فقط، إذا لم ينقد رأس المال، فإن نقد، ولو تطوعا، فسد العقد، للتردد بين السلفية والثمنية، كذلك يفسد العقد لو شرط النقد، وإن لم ينقد، ولو أسقط الشرط (2) ، وهذا متمش مع رأيهم القائل بجواز تأخير قبض رأس مال السلم إلى ثلاثة أيام.
السلع التي يجري فيها السلم (3)
الأصل في السلم أن يكون في الثمار، لأنها هي التي جاء ذكرها في الأحاديث الصحيحة، ولكن الفقهاء توسعوا في السلع التي يجوز فيها السلم، والضابط لهذا الموضوع هو: (كل مال يجوز بيعه، ويمكن ضبط صفاته، ويثبت دينا في الذمة: يجوز السلم فيه؛ وكل مال لا يجوز بيعه، أو لا يمكن ضبط صفاته، أو لا يثبت دينا في الذمة، لا يجوز السلم فيه) (4) .
وتطبيقا لهذا الضابط يجوز السلم في كل ما يكال، أو يوزن، بإجماع الفقهاء، لما ثبت في حديث ابن عباس المشهور (5) ويجوز أيضا في الذرعي والعددي المتقارب (6) ، قياسا على ما ثبت بالنص، لأنه في معناه (7) .
__________
(1) تحفة الفقهاء 2/12؛ والهداية مع فتح القدير 5/343؛ والمهذب 1/297؛ والمقنع 2/36
(2) الشرح الصغير على أقرب المسالك 3/265
(3) هذا العنوان من وضع المجمع
(4) تحفة الفقهاء 2/14؛ وبداية المجتهد 2/201 و202؛ والشرح الصغير على أقرب المسالك 3/275، 201، 202؛ والمهذب 1/297؛ والمغني 4/305
(5) بداية المجتهد 2/201
(6) تحفة الفقهاء 2/15
(7) المهذب 1/297(9/272)
ولا يجوز السلم فيما لا يضبط بالصفة، لأنه يقع البيع فيه على مجهول، وبيع المجهول لا يجوز (1) ولا يجوز السلم فيما لا يثبت في الذمة، قال ابن رشد: واتفقوا على امتناعه – السلم – فيما لا يثبت في الذمة وهي الدور والعقار (2) .
ويقول السمرقندي في بيان شروط المسلم فيه: (أن يكون المسلم فيه مما يضبط بالوصف، وهو أن يكون من الأجناس الأربعة: المكيل، والموزون، والذرعي، والعددي المتقارب، فأما إذا كان مما لا يضبط بالوصف؛ كالعدديات المتفاوتة، والذرعيات المتفاوتة، مثل الدور والعقار، والجواهر، واللآلئ، والأدم، والجلود، والخشب والرؤوس، والأكارع، والرمان، والسفرجل والبطاطيخ، ونحوها – لا يجوز؛ لأن المسلم فيه ما يثبت دينا في الذمة، وسوى هذه الأجناس الأربعة لا يثبت دينا في الذمة ... ) (3) .
ويذكر الفقهاء أمثلة كثيرة لما يجوز السلم فيه، وأمثلة لما لا يجوز السلم فيه، يتفقون في كثير منها، ويختلفون في بعضها (4) ، وسبب اختلافهم يرجع إلى اختلافهم فيما ينضبط بالصفة، وما لا ينضبط.
ويشترط ذكر جميع الأوصاف التي تختلف بها الأثمان (5) ، والأوصاف كما يقول ابن قدامة: (على ضربين: متفق على اشتراطهما، ومختلف فيها، فالمتفق عليها ثلاثة أوصاف: الجنس، والنوع، والجودة والرداءة) ، فهذه لا بد منها في كل مسلم فيه، ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في اشتراطها، وبه يقول أبو حنيفة، ومالك والشافعي.
__________
(1) المهذب 1/297
(2) بداية المجتهد 2/201
(3) تحفة الفقهاء 2/14 و15
(4) ابن عابدين 4/281- 285؛ والمدونة الكبرى 9/2؛ وما بعدها والأم 3/83 وما بعدها؛ والمغني 4/305 وما بعدها
(5) المهذب 1/299؛ المغني 4/310(9/273)
الضرب الثاني ما يختلف الثمن باختلافه مما عدا هذه الثلاثة الأوصاف، وهذه تختلف باختلاف المسلم فيه، ونذكرها عند ذكره، وذكرها شرط في السلم عند إمامنا والشافعي، وقال أبو حنيفة: يكفي ذكر الأوصاف الثلاثة، لأنها تشتمل على ما ورائها من الصفات.
ولنا: أنه يبقى من الأوصاف من اللون والبلد ونحوهما، ما يختلف الثمن والغرض لأجله فوجب ذكره كالنوع (1) .
ثم ذكر ابن قدامة أنواعا كثيرة من المسلم فيه، والأوصاف التي يجب ذكرها في كل نوع (2) .
وواضح مما ذكره الفقهاء أن الأوصاف التي يجب ذكرها في المسلم فيه تختلف باختلاف نوع السلعة، وما نص عليه الفقهاء من الأوصاف التي يجب ذكرها في كل نوع المقصود منه تعيين السلعة المسلم فيها تعيينا يمنع النزاع فيها، بحسب المعروف في زمنهم، فلا يجب علينا الالتزام به في زمننا، ما دامت السلعة قد وصفت بصفة معروفة تميزها عن غيرها، وقد أشار الشافعي إلى هذا بقوله: وأقل ما يجوز فيه السلف من هذا أن يوصف ما سلف فيه بصفة تكون معلومة عند أهل العلم ... فكل ما وقعت عليه صفة يعرفها أهل العلم بالسلعة التي سلف فيها، جاز فيها السلف (3) .
وبناء على هذا فإن السلعة الواحدة ذات العلامة التجارية (الماركات) المتعددة تعتبر أصنافا متعددة، ويشترط فيها ذكر الماركة، لأن الماركة هي التي تميزها عن غيرها، وهو وصف يترتب عليه اختلاف الثمن والغرض، فيجب ذكره (4) .
__________
(1) المغني 4/310،311
(2) المغني 4/311- 320
(3) الأم 3/84، من الأمثلة الواضحة على هذا (السلم في الدور) فقد أجمع الفقهاء المتقدمون، كما رأينا، على منع السلم فيها، لأنها معتبرة عندهم مما لا ينضبط بالوصف، فهل ينطبق هذا الحكم على المنازل الجاهزة في زماننا؟ الجواب بداهة: لا ينطبق، لأن هذه المنازل يمكن وصفها وصفا منضبطا مانعا للنزاع
(4) هذا جواب عن استفسار من استفسارات المجمع(9/274)
كتابة عقد السلم:
ورد الأمر بكتابة الدين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ، قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السلم خاصة، قال القرطبي: معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا، والأمر بالكتابة أمر بالإشهاد؛ لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة، وذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها، بهذه الآية، وهو اختيار الطبري، وقال الجمهور: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال، وإزالة الريب، وهذا هو القول الصحيح (1) .
أخذ رهن أو كفيل من المسلم إليه:
يجوز عند جمهور الفقهاء أن يأخذ المسلم من المسلم إليه رهنا، أو يطالبه بكفيل يضمن أداء ما عليه من دين السلم – المسلم فيه-، وهذا هو رأي الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو رأي عطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار، والحكم، وابن المنذر. لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} [البقرة: 282] – إلى قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، وقد روي عن ابن عباس، وابن عمر أن المراد به السلم، ولأن اللفظ عام، فيدخل السلم في عمومه، ولأنه أحد نوعي البيع، فجاز أخذ الرهن بما في الذمة منه. كبيوع الأعيان (2) .
وقال الحنابلة في رواية: لا يجوز أخذ الرهن، أو الكفيل، في المسلم، وهي الرواية التي اختارها الخرقي، ووجه هذه الرواية أن الرهن إنما يجوز بشيء يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن، والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من الرهن، ولا من ذمة الضامن، لأنه لا يأمن هلاك الرهن في يده بعدوان فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ، ولأنه يقيم ما في ذمة الضامن مقام ما في ذمة المضمون عنه، فيكون في حكم أخذ العوض والبدل عنه، وهذا لا يجوز.
ورويت كراهة أخذ الرهن والكفيل عن علي، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والأوزاعي (3) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 3/377 و382 و383
(2) تحفة الفقهاء 2/23؛ والمدونة الكبرى 9/56 و58؛ والمهذب 1/305؛ المغني 4/342
(3) المغني 4/342(9/275)
اشتراط قبض بضاعة السلم قبل بيعها (1) :
قال الخرقي: (وبيع المسلم فيه من بائعه، أو من غيره قبل قبضه فاسد، وكذلك الشركة فيه، والتولية والحوالة به، طعاما كان أو غيره) .
وقال شارحه ابن قدامة: (أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن، ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يجز بيعه، كالطعام قبل قبضه) (2) .
قلت: الخلاف في تحريم بيع المسلم فيه قبل قبضه موجود، فقد منع المالكية بيع المسلم فيه قبل قبضه، إذا كان طعاما، وجوزوا بيعه قبل قبضه، إذا لم يكن طعاما، سواء باعه المسلم من المسلم إليه، أو من غيره، إلا أنه إذا باعه من المسلم إليه قبل الأجل فلا يجوز أن يبيعه بأكثر من الثمن الذي اشتراه به، وإنما يبيعه بمثل الثمن، أو بأقل، ويقبض الثمن، وأما إذا باعه من غير المسلم إليه فيجوز بيعه بأكثر من الثمن، أو بأقل منه، أو بمثله لذا قبض الثمن.
جاء في المدونة:
(قلت) : أرأيت إن أسلمت في طعام معلوم إلى أجل معلوم، أيجوز لي أن أبيع ذلك الطعام من الذي اشتريته منه، أو من غيره قبل أن أقبضه في قول مالك؟ (قال) : لا يجوز ذلك في قول مالك، (قلت) : لم؟ (قال) : لأنك أسلمت في طعام بكيل، فلا يجوز لك أن تبيعه حتى تكتاله، إلا أن يوليه، أو يشرط فيهن أو يقيل منه، (قلت) : وكذلك كل ما يكال ويوزن من الأطعمة والأشربة إذا أسفلت فيها لم يصلح لي أن أبيعها حتى أكتالها، أو أزنها، وأقبضها في قول مالك؟ (قال) : نعم إلا الماء وحده (قلت) : وما سوى الطعام والشراب مما سلفت فيه كيلا، أو وزنا، فلا بأس أن أبيعه قبل أن أقبضه من الذي باعني، أو من غيره؟ (قال) قال مالك: لا بأس أن تبيع ما سلفت فيه، إذا كان من غير ما يؤكل ويشرب من غير الذي عليه ذلك السلف بأقل، أو بأكثر، أو بمثل ذلك، إذا انتقدت، وأما الذي عليه السلف فلا تبيعه منه قبل الأجل بأكثر، ولا تبيعه منه إلا بمثل الثمن، أو بأقل، ويقبض (3) ذلك.
هذا هو مذهب الإمام مالك، وما ذكره ابن قدامة من تحريم بيع المسلم فيه قبل قبضه، هو رأي الجمهور (4) ، وهو الراجح عندي الذي ينبغي العمل به، بالنسبة لبيع المسلم فيه من غير بائعه؛ لأنه هو الذي تدل عليه الأحاديث الواردة في بيع ما لم يقبض (5) .
__________
(1) هذا العنوان من مجمع الفقه الإسلامي
(2) المغني 4/334؛ وانظر أيضا الشرح الكبير على المقنع 4/341
(3) المدونة الكبرى 9/87، وجاء في صفحة 88: ولا يصلح أن تبيعه من الذي عليه السلف بأكثر مما أعطاه فيه حل في ذلك الأجل أو لم يحل، وانظر بداية المجتهد 2/205
(4) تنوير الأبصار مع شرحه؛ وحاشية ابن عابدين 4/289 و290؛ والمهذب 1/263 و301
(5) انظر كتاب الغرر وأثره في العقود 322 وما بعدها(9/276)
والعلة في تحريم بيع السلع قبل قبضها هي:
1- الربا: وهذا ما يراه المالكية (1) ؛ وقد ذهب إليه من قبلهم ابن عباس حين قال في بيع الطعام قبل قبضه: ذلك دراهم بدراهم والطعام مرجأ (2) كما ذهب إليه زيد بن ثابت وأبو هريرة حين قالا لمروان: أحللت بيع الربا عندما رأيا الناس يتبايعون صكوك الطعام قبل أن يستوفوها (3) .
وهذا التعليل – كما يقول الشوكاني – أجود ما علل به النهي، لأن الصحابة أعرف بمقاصد رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) .
2- الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم، وهو رأي سائر الفقهاء، غير أن عدم القدرة على التسليم سببه احتمال هلاك المحل عند الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وضعف الملك عند الزيدية، واحتمال عدم تسليم البائع الأول عند ابن تيمية (5) .
3- المسلم فيه قبل قبضه من ضمان البائع، ولا يدخل في ضمان المشتري إلا بالقبض، فبيعه قبل قبضه يدخل في النهي عن ربح ما لم يضمن (6) .
وأضيف إلى هذه العلل أن في النهي عن بيع السلع قبل قبضها إيجاد فرص للعمل، وذلك لأن في بيع السلع قبل قبضها حرمانا لعدد كبير من العمال الذين يقومون بالكيل والحمل، فإن التاجر يفضل أن يبيع السلعة وهي عند بائعها، ما دام يجد ربحا، ثم إنا لو أبحنا للتجار بيع السلع قبل قبضها، فإن أسعارها ترفع وهي في مكانها، فتعود الفائدة كلها إلى طبقة التجار، ولا ينال العامل والمستهلك فائدة من هذه العمليات، في حين أنه ينالهما ضرر ارتفاع السعر.
وقد نقل الدسوقي عن التوضيح تعليلا جيدا لمنع بيع الطعام قبل قبضه هو: أن الشارع له غرض في ظهور الطعام، فلو أجيز بيعه قبل قبضه لباع أهل الأموال بعضهم من بعض من غير ظهور، بخلاف ما إذا منع من ذلك، فإنه ينتفع به الكيال والحمال، ويظهر للفقراء فتقوى به قلوب الناس، لا سيما في زمن المسغبة والشدة (7) .
__________
(1) بداية المجتهد 2/44؛ المنتقى 4/280
(2) صحيح البخاري 3/68
(3) الموطأ مع المنتقى 4/285؛ وصحيح مسلم مع شرح النووي 10/171
(4) نيل الأوطار 5/169
(5) البدائع 5/180؛ والمهذب 1/262؛ والمغني 4/128؛ والبحر الزخار 2/312؛ والاختيارات العلمية مع الفتاوى 75
(6) المغني 4/327
(7) الدسوقي على الشرح الكبير 3/131(9/277)
وقد اختلف الفقهاء في المراد بالقبض فيما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر – المنقول – والذي أرجحه هو أن المنقول إذا كان مقدرا فقبضه يكون باستيفاء قدره، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، والحنابلة (1) وإذا كان جزافا (2) فقبضه بنقله من مكانه، وهو مذهب الحنابلة ورواية عند المالكية (3) ،وفيما عدا المقدار والجزاف، يكون القبض ما يعتبره العرف قبضا، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة (4) ، وذلك عملا بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالأمر بالكيل فيما بيع بالكيل، والأحاديث المصرحة بالنهي عن بيع الجزاف حتى ينقل، وعملا بالعرف فيما لم يرد فيه نص.
ويتضح من هذا أنه لا يغني عن القبض التحقق من قدرة المسلم على توفير السلعة عند حلول الأجل ولا التأمين على السلعة المسلم فيها، ولا وجودها في مخازن عمومية منظمة (5) ، لأن قدرة المسلم على تسليم السلعة عند حلول الأجل شرط لصحة عقد السلم، فلو كان المسلم غير قادر على التسليم، أو شاكا فيه لا يجوز العقد.
ووجود السلعة في مخازن عمومية منظمة محقق للقدرة على التسليم، وليس قبضا للمسلم فيه.
والتأمين على السلعة ضرب من الضمان، وليس قبضا، ثم إن علة منع بيع المسلم فيه قبل قبضه ليست هي احتمال عدم القدرة على تسليمه وحدها، حتى يقال إذا انتفت العلة بتحقق القدرة على التسليم، ينتفي المانع، ويصح البيع، فهناك علة الربا، وعلة عدم دخول السلعة في ضمان المشتري.
__________
(1) ابن عابدين 4/226؛ والدسوقي على الشرح الكبير 3/126؛ والمغني 4/125
(2) المسلم فيه لا يكون جزافا
(3) المغني 4/125، والدسوقي على الشرح الكبير 3/126
(4) الدسوقي على الشرح الكبير 3/126؛ والمجموع 9/275؛ المغني 4/126
(5) هذا جواب عن الاستفسارات الواردة في مخطط المجمع(9/278)
الاستبدال بالمسلم فيه:
لا يجوز عند الحنفية والشافعية، والحنابلة أن يأخذ المسلم غير ما أسلم فيه بدلا عنه قبل قبضه:
يقول السمرقندي: (وأما الاستبدال بالمسلم فيه فلا يجوز قبل القبض، كالاستبدال بالمبيع المعين، لأن المسلم فيه مبيع، وإن كان دينا، فيكون بيع المبيع المنقول قبل القبض، وأنه لا يجوز بخلاف سائر الديون) (1) .
ويقول النووي والرملي: (لا يصح أن يستبدل عن المسلم فيه غير جنسه، كبر في شعير، ونوعه ... كتركي عن هندي، وتمر عن رطب؛ ... وذلك لأنه بيع للمبيع قبل قبضه ... وقيل يجوز في نوعه؛ لأن الجنس يجمعهما، فكان كما لو اتحد النوع، واختلفت الصفة ... وعلى الجواز لا يجب القبول لاختلاف الغرض، ويجوز أردأ من المشروط، لأنه من جنس حقه، فإذا تراضيا به كان مسامحة بصفة، ولا يجب قبوله ... ويجوز أجود منه من كل وجه لعموم خبر ((خياركم أحسنكم قضاء)) ويجب قبوله في الأصح؛ لأن الامتناع منه عناد..) (2) .
ويقول ابن قدامة:
(وأما بيع المسلم فيه من بائعه فهو أن يأخذ غير ما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه، فهذا حرام، سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما، سواء كان العوض مثل المسلم فيه في القيمة، أو أقل، أو أكثر) ، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل، فرضي المسلم بأخذ الشعير مكان البر جاز، ولم يجز أكثر من ذلك، وهذا يحمل على الرواية التي فيها أن البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه.
وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه يتعجله ولا يؤخره، إلا الطعام.
قال ابن المنذر: وقد ثبت عن ابن عباس قال: إذا أسلم في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عوضا أنقص منه، ولا تربح مرتين، رواه سعيد في سننه.
__________
(1) تحفة الفقهاء 2/20
(2) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 4/209 و210(9/279)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) رواه أبو داود وابن ماجه (1) ، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع، فلم يجز كبيعه من غيره، فأما إن أعطاه من جنس ما أسلم فيه خيرا منه، أو دونه في الصفات جاز، لأن ذلك ليس ببيع، إنما هو قضاء للحق مع تفضل أحدهما (2) .
ويجوز عند المالكية قضاء المسلم فيه بغير جنسه، سواء أكان القضاء قبل الأجل أم بعده، بشروط ثلاثة:
1- أن يعجل البدل المدفوع، لئلا يكون من فسخ الدين في الدين.
2- ألا يكون المسلم فيه طعاما، ليسلم من بيع الطعام قبل قبضه.
3- أن يكون سلم رأس المال في المدفوع من غير الجنس صحيحا، ومثل له الدردير بما لو أسلمه ثوبا في عبد، فقضى عنه بعيرا، فإنه يصح سلم الثوب في البعير، ومثل لما لا يصح بمثالين، أحدهما: ما لو أسلم ورقا في عبد، فقضى عنه ذهبا، أو أسلم ذهبا في عبد، فقضى عنه ورقا؛ لأنه يؤول إلى سلم ذهب في فضة، أو فضة في ذهب، وهو صرف مؤخر.
والمثال الثاني: ما لو أسلمه طعاما في ثوب، فقضى عنه طعاما، لأنه يلزم عليه بيع طعام بطعام نسيئة (3) .
يتضح من هذا أن المانعين للاستبدال- الحنفية والشافعية والحنابلة – اعتمد بعضهم – الحنابلة – على حديث ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) ، واعتمدوا جميعا على أن الاستبدال بيع للمبيع قبل قبضه، المنهي عنه، ولا فرق عندهم بين بيعه من بائعه، أو من غيره.
والمالكية المجوزون للاستبدال ساروا فيه على رأيهم في بيع المبيع قبل القبض، فأجازوه في غير الطعام بشرط تعجيل البدل، وصلاحيته لأن يكون مسلما فيه لرأس مال السلم.
__________
(1) في إسناد هذا الحديث عطية بن سعد العوفي، قال المنذري: لا يحتج بحديثه – نيل الأوطار 5/241
(2) المغني 4/335
(3) الشرح الصغير على أقرب المسالك 2/284؛ وانظر بداية المجتهد 2/205(9/280)
وأرى جواز الاستبدال، سواء أكان المسلم فيه طعاما، أم غير طعام بشرطين:
الأول: أن يكون البدل صالحا لأن يجعل مسلما فيه لرأس مال السلم؛ لأن البدل سيحل محل المسلم فيه فيشترط فيه ما يشترط في المسلم فيه.
الثاني: ألا يكون البدل أكثر من المسلم فيه لئلا يربح المسلم مرتين كما يقول ابن عباس.
وهذا الرأي متفق مع رأي ابن عباس، ومع رأي المالكية في غير الطعام مع إسقاط شرط تعجيل البدل؛ لأني لا أرى مانعا من التأجيل، ما دام المسلم لن يأخذ أكثر من المسلم فيه.
ولكنه مختلف مع رأي الجمهور، وسبب اختلافي مع الجمهور هو أن الدليلين اللذين اعتمد عليهما الجمهور غير مقبولين عندي.
فالدليل الأول – وهو الحديث الذي أورده الحنابلة لم تثبت صحته، فلا يحتج به.
والدليل الثاني، وهو كون الاستبدال بيعا للمبيع قبل قبضه المنهي عنه، غير مسلم به؛ لأن استبدال غير المسلم فيه بالمسلم فيه ليس بيعا، ولو سلمنا بأنه بيع، فلا نسلم أنه بيع للمبيع قبل قبضه المنهي عنه؛ لأن بيع المبيع قبل قبضه المنهي عنه هو بيعه من غير بائعه؛ لأن هذا هو الشأن في البيع، والاستبدال، على تسليم أنه بيع، هو بيع للمسلم فيه من بائعه.
ثم إن العلل الثلاثة التي ذكرها الفقهاء للمنع من بيع المسلم فيه قبل قبضه لا تتحقق في الاستبدال الذي أجزته، فعلة الربا، وعلة ربح ما لم يضمن، لا تتحقق إلا في البيع بأكثر من الثمن الأول، وهذا فقد اشترطت في الاستبدال ألا يكون البدل أكثر من المبدل – المسلم فيه – وأما علة الغرر فغير متصورة في الاستبدال.
وزيادة على هذا فإنه قد تكون هناك حاجة إلى هذا الاستبدال، وبخاصة بالنسبة إلى المزارعين، فقد يصعب على المزارع الحصول على ما تعاقد عليه، ويكون عنده غيره، وقد حدث هذا مرارا، عندنا في السودان، بين بعض المزارعين والبنوك التي تتعامل بعقد السلم، واستفتيت فيه، فأفتيت بجواز الاستبدال.(9/281)
السلم المتوازي (1) :
هذا اصطلاح حادث، المراد به – كما جاء في مخطط المجمع – استخدام صفقتي سلم متوافقتين، دون ربط بينهما.
وواضح من المصطلح وشرحه أنه لا يوجد ربط لفظي في العقد بين السلمين، ولكن الربط حاصل في الواقع؛ لأن رب السلم الأول يبيع سلعة لرب السلم الثاني بنفس المواصفات والمقدار، وإلى نفس الأجل الذي سيتسلم فيه السلعة التي أسلم فيها، وفي نيته أنه سيتسلمها من المسلم إليه، ويسلمها إلى من تعاقد معه، ولكنه لا يصرح بهذه النية، ويبرم عقد سلم ظاهره الاستقلال عن العقد الأول، وباطنه الربط بينهما.
وفي رأيي أن هذا السلم المتوازي هو حيلة لبيع المسلم فيه قبل قبضه، فهل هذه الحيلة مقبولة شرعا؟
هذه الحيلة لا تتحقق فيها علتان من ثلاثة علل التي ذكرها الفقهاء لمنع بيع المسلم فيه قبل قبضه:
لا تتحقق فيه علة دخول بيع المسلم فيه قبل قبضه في ربح ما لم يضمن المنهي عنه؛ لأن المسلم فيه دين في ذمة المسلم إليه فهو في ضمانه، ولا يؤثر في هذا نية المسلم إليه في أن يؤدي هذا الدين من السلم الأول، وهذا شبيه بالمزارع الذي يبيع سلما في ذمته من غير أن يربطه بمحصول أرضه، وفي نيته أن يوفي من محصوله.
ولا تتحقق في السلم المتوازي علة الغرر؛ لأن المسلم إليه لا يبيع عين السلعة التي اشتراها من المسلم إليه الأول، وإنما يبيع سلعة موصوفة في الذمة تتوافر فيها شروط المسلم فيه.
ولكنها لا تخلو من علة الربا التي أشار إليها ابن عباس بقوله ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ، وبخاصة إذا اتخذ هذا الأسلوب من السلم المتوازي بقصد التجارة والربح، وتكرر السلم المتوازي للمعاملة الأولى، ويدخله مانع آخر هو الضرر الذي يصيب المستهلك من ارتفاع سعر السلعة قبل أن تصل إليه بسبب انتقالها لأكثر من تاجر.
ولهذا فإني أرجح منع هذه المعاملة، إلا إذا احتاج رب السلم الأول إلى نقود قبل أن يحل أجل السلم، ولم يجد من يقرضه، فيجوز له في هذه الحالة أن يلجأ إلى السلم المتوازي، بل يجوز له إذا كان المسلم فيه غير الطعام أن يبيعه قبل قبضه ليقضي حاجته عملا بمذهب المالكية.
__________
(1) هذا جواب عن استفسار ورد في مخطط المجمع(9/282)
إصدار سندات سلم قابلة للتداول (1) :
لا يجوز إصدار سندات سلم قابلة للتداول؛ لأن هذا سيؤدي حتما إلى بيع المسلم فيه قبل قبضه، سواء أكان المسلم فيه طعاما، أم غير طعام، غير أنه إذا كان المسلم فيه طعاما، فالمنع يكون بإجماع الفقهاء، للأحاديث الصحيحة الواردة في منع بيع الطعام قبل قبضه، (2) ولهذا الموضوع سابقة حدثت في عهد مروان بن الحكم، فقد روى مالك في الموطأ أنه بلغه أن صكوكا (3) خرجت للناس في زمان مروان بن الحكم من طعام الجار (4) فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مروان بن الحكم، فقالا: أتحل بيع الربا يا مروان؟ فقال: أعوذ بالله، وما ذاك؟ فقالا: هذه الصكوك تبايعها الناس، ثم باعوها، قبل أن تستوفى، فبعث مروان بن الحكم الحرس يتتبعونها ينزعونها من أيدي الناس، ويردونها إلى أهلها (5) ،وجاء مثل هذا الخبر في المعنى عن أبي هريرة (6) ،ولعله هو الصحابي الذي كان مع زيد بن ثابت، وأشار إليه مالك من غير ذكر اسمه.
وأما إذا كان المسلم فيه غير طعام فقد رأينا أن الجمهور يمنعون بيعه قبل قبضه، ولو كان لمرة واحدة فكيف إذا تداولته الأيدي؟ أما المالكية فإنهم يجوزون للمسلم أن يبيع المسلم فيه قبل قبضه إذا لم يكن طعاما، ولكنهم لا يجوزون لمن اشترى منه أن يبيع ما اشتراه قبل قبضه، فإصدار سندات سلم قابلة للتداول لا يجوز عند جميع الفقهاء.
__________
(1) هذا العنوان من المجمع
(2) انظر هذه الأحاديث في كتاب الغرر وأثره في العقود 322
(3) الصكوك جمع صك، وهو الورقة المكتوبة بدين، والمراد بها هنا الورقة التي تخرج من ولي الأمر بالرزق لمستحقه بأن يكتب فيها لفلان كذا وكذا من طعام أو من غيره، ومن هذه الصكوك ما يكون لعمل كأرزاق القضاة والعمال، ومنها ما يكون بغير عمل كالعطاء لأهل الحاجة، والظاهر أن تلك الصكوك كانت من الطعام – النووي على مسلم 10/171؛ والمنتقى على الموطأ 4/285
(4) الجار موضع بساحل البحر يجمع فيه الطعام ثم يفرق على الناس بصكوك – الزرقاني على الموطأ 3/288
(5) الموطأ بهامش المنتقى 4/285
(6) النووي على مسلم 10/171(9/283)
عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الأجل في السلم ومشروعية الشرط الجزائي من تأخير تسليم البضاعة:
إذا عجز البائع (المسلم إليه) عن تسليم البضاعة (المسلم فيه) عند حلول الأجل، فإن كان عجزه عن التسليم سببه عدم وجود المسلم فيه عند حلول الأجل، فإن المشتري (المسلم) يخير بين الانتظار إلى أن يوجد المسلم فيه، وفسخ العقد وأخذ الثمن (رأس مال السلم) .
وهذا هو مذهب الحنفية (1) ، وقول ابن القاسم من المالكية (2) ، وقول عند الشافعية (3) ، والصحيح عند الحنابلة (4) .
وقال أشهب من أصحاب مالك: ينفسخ السلم ولا يجوز التأخير؛ وهو قول عند الشافعية، ووجه عند الحنابلة (5) .
وقال سحنون من المالكية: ليس له أخذ الثمن، وإنما له أن يصبر إلى القابل (6) .
والقول الأول هو المعمول به عندنا في السودان. أما إذا كان العجز عن التسليم سببه إعسار المسلم إليه فالواجب انتظاره إلى الميسرة، والخير في التصدق عليه.
وأما إن كان عدم التسليم سببه امتناع المسلم إليه عن التسليم مع يساره، فإن حكمه هو حكم المدين المماطل الذي أصدر فيه مجمع الفقه الإسلامي القرار التالي:
4- يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعا اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء (7) .
وإذا كان اشتراط التعويض لا يجوز، فإن الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم البضاعة (المسلم فيه) في بيع السلم، لا يجوز من باب أولى.
__________
(1) الدر المختار مع ابن عابدين 4/284
(2) بداية المجتهد 2/205
(3) المهذب 1/302
(4) المغني 4/326
(5) بداية المجتهد 2/205؛ المهذب 1/302؛ المغني 4/326
(6) بداية المجتهد 2/205
(7) القرار رقم (53/2/6) بشأن البيع بالتقسيط – الدورة السادسة بجدة في الفترة من 17 – 23 شعبان 1410هـ- 14مارس 1990م(9/284)
تطبيقات السلم المعاصرة:
عقد السلم يمكن أن يطبق في مجالات عديدة، ويكون بديلا شرعيا للتمويل بالقرض بفائدة في كل المجالات التي يحتاج فيها التمويل: المجال الزراعي، والصناعي، والتجاري، ويحقق مصلحة الممول – المسلم إليه – بإمداده بالمال اللازم له في زراعته، وصناعته، وتجارته، ويحقق مصلحة الممول – المسلم- في الحصول على المنتجات الزراعية والصناعية والتجارية بأثمان رخيصة ومشروعة، تمكن من الربح الحلال، وفي تحقيق مصلحة المموِّل والمموَّل تحقيق لمصلحة المجتمع بتشجيع الزراعة والصناعة والتجارة التي تعود على الناس جميعا بالنفع، وتخليص المجتمع من الأضرار التي تصيبه من التعامل بالربا، وسد حاجة الناس جميعا لهذا التعامل، وهذه هي الحكمة من مشروعية عقد السلم. يقول ابن قدامة في هذا المعنى: (ولأن بالناس حاجة إليه – السلم – لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكتمل، وقد تعوزهم النفقة، فجوز لهم السلم ليرتفقوا، ويرتفق المسلم بالاسترخاص) (1) .
هذا وتستطيع البنوك الإسلامية أن تتعامل بعقد السلم في مجال الزراعة والصناعة والتجارة وجميع المجالات التي يحتاج فيها المتعامل معها إلى تمويل، ولكن الواقع أن البنوك الإسلامية لم تطبق صيغة السلم في استثماراتها – وبخاصة عندنا في السودان – إلا في المجال الزراعي، ولهذا سيكون حديثي عن هذه المسألة خاصا بتطبيق البنوك الإسلامية لعقد السلم في مجال الزراعة.
تعامل السودانيون بعقد السلم في مجال الزراعة قبل وجود البنوك، وكان يسمى (الشيل) فكان التجار يشترون من المزارعين المحتاجين إلى المال قبل الزراعة، ويدفعون ثمن ما يشترونه مقدما، ولما قامت البنوك أخذت تمول المزارعين بطريق القرض بفائدة، فتعامل معها بعض المزارعين وامتنع البعض، واستمروا في التعامل مع التجار، وكانت معاملة بعض التجار للمزارعين لا تخلو من استغلال لحاجتهم، فتدخلت الدولة، وسنت قانونا يجيز للمزارع رفع الأمر إلى القضاء لتعديل السعر في حالة الاستغلال.
وعندما منعت البنوك من التعامل بالفائدة، وكان من بين تلك البنوك البنك الزراعي، وهو بنك حكومي متخصص، وهو الممول الأول للمزارعين، طلب من هيئة الرقابة الشرعية البديل فقدمت له عقد السلم التالي: الذي أصبح نموذجا لسائر البنوك.
__________
(1) المغني 4/305(9/285)
4-التزم الطرف الثاني أن يسلم البنك المبيع (المسلم فيه) في المكان التالي ــــ(9/286)
5-على الطرف الثاني تقديم ضمان عيني مقبول، أو ضمان شخص، يتعهد فيه الضامن بتسليم أي كمية من المسلم فيه يعجز الطرف الثاني عن تسليمها في وقتها المحدد.
6-ويجوز للبنك أن يطلب من الطرف الثاني، أو الضامن، أو منهما معا، تقديم شيكات بمبلغ يتفق عليه الطرفان، ويكون للبنك الحق في التصرف في الشيكات لشراء المسلم فيه المطلوب من الطرف الثاني، بسعر السوق في أي يوم بعد التسليم.
7-في حالة عدم وجود المسلم فيه عند حلول الأجل، للبنك الخيار بين انتظار وجود المسلم فيه، وفسخ العقد، وأخذ الثمن (رأس مال السلم) .
8-اتفق الطرفان على إزالة أي غبن فاحش يلحق بأي منهما بسبب زيادة سعر المسلم فيه، أو نقصه وقت التسليم عن السعر المتفق عليه، بما يزيد عن الثلث، ففي حالة الزيادة يتحمل البنك ما زاد عن الثلث، وفي حالة النقص يتحمل المزارع ما زاد عن الثلث.
9-إذا نشأ نزاع حول هذا العقد يحال ذلك النزاع إلى لجنة تحكيم تتكون من ثلاثة محكمين، يختار كل طرف محكما واحدا منهم، ويتفق الطرفان على المحكم الثالث، الذي يكون رئيسا للجنة التحكيم. وفي حالة فشل الطرفين في الاتفاق على المحكم الثالث، أو عدم قيام أحدهما باختيار محكمه في ظرف سبعة أيام من تاريخ إخطاره بواسطة الطرف الآخر، يحال الأمر لمحكمة البنوك، أو أقرب محكمة مديرية مختصة لتقوم بتعيين ذلك المحكم، أو المحكمين المطلوب اختيارهم.
تعمل لجنة التحكيم حسب أحكام الشريعة الإسلامية، وتصدر قراراتها بالأغلبية العادية، وتكون هذه القرارات نهائية وملزمة للطرفين.
وقع عليه/ وقع عليه/
ع/ الطرف الأول ع/الطرف الثاني
الشهود:
1- 2-(9/287)
المشاكل التي تصاحب التعامل بعقد السلم:
لعل أهم مشكلة تفترض التعامل بعقد السلم هي تحديد الثمن، ففي التعامل بين التاجر والمزارع يوجد احتمال استغلال التاجر لحاجة المزارع، وهذا الاحتمال غير وارد في حالة تعامل البنك الإسلامي مع المزارع، لأن السعر تحدده لجنة من اتحاد المصارف واتحاد المزارعين، ولكن مع هذا قد يرتفع السعر عند محل الأجل، فيقع النزاع بين الطرفين، وقد حدث هذا بالفعل أكثر من مرة، فعالجته هيئة الرقابة الشرعية بإدخال البند الثامن في عقد السلم – بند إزالة الغبن – الذي وافق عليه المزارعون والبنوك.
والمشكلة الثانية هي مشكلة عدم تمكن المزارع من الوفاء بالتزاماته بسبب شح المحصول، وقد وضع البند السابع في عقد السلم لحلها.
والمشكلة الثالثة على عدم وفاء المزارع بالتزاماته مع يساره، ومقدرته على الوفاء، ولكنه يتعلل بعلل غير شرعية، مثل قلة محصول مزرعته، وقد وضعت الهيئة البند الخامس في العقد لعلاج مثل هذه الحالات، ولكن البنوك لا تستطيع في كثير من الحالات العمل بهذا البند.
والتجربة مستمرة في السودان على الرغم من شكاوى بعض البنوك من مماطلة بعض المزارعين.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/288)
ملخص البحث
تعريف السلم:
السلم والسلف معناهما واحد، الأول لغة أهل الحجاز والثاني لغة أهل العراق.
والسلم هو بيع آجل بعاجل فهو نوع من البيع يتأخر فيه المبيع، ويسمى: المسلم فيه، ويتقدم فيه الثمن ويسمى: رأس مال المسلم، فهو عكس البيع بثمن مؤجل، ويسمى البائع: المسلم فيه، والمشتري: المُسلِم.
والسلم مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، ويرى بعض الفقهاء أن السلم في القياس لا يجوز؛ لأنه بيع معدوم، وبيع ما ليس عند الإنسان، وبيع غرر، ولكنه جاز استحسانا، على خلاف القياس، لورود النص بجوازه، وللحاجة إليه.
والصواب عندي ما يراه ابن تيمية من أنه ليس في الشريعة حكم على خلاف القياس، وأن السلم مشروع على وفق القياس؛ لأن مشروعيته ثابتة بالنص، وأن القياس الذي قال بعض الفقهاء: إن السلم جاء على خلاف قياس فاسد.
والسلم كما جاء في التعريف نوع من البيع، ولهذا يشترط فيه كل ما يشترط في البيع، ويشترط في السلم شروط خاصة به هي:(9/289)
الشرط الأول – أن يكون المسلم فيه مؤجلا
يشترط جمهور الفقهاء لصحة عقد السلم أن يكون المسلم فيه مؤجلا، إلى أجل معلوم، على اختلاف بينهم في مدة الأجل، وفي الجهالة التي تفسد العقد، فالسلم الحال لا يجوز عندهم، وكذلك السلم المؤجل إلى أجل مجهول.
وقال الشافعية: يجوز السلم حالا كما يجوز مؤجلا، ولكل أدلته ورأي الجمهور أولى بالقبول عندي لقوة دليله، كما أرى ألا نجعل حدا لأقل الأجل، كما أنه لا حد لأكثره، وأرى أن جهالة الأجل التي تفسد العقد هي الجهالة التي ترجع إلى وجود الأجل (1) ، أما الجهالة التي ترجع إلى وقت حصوله، أي التي يكون فيها الأجل محقق الحصول، لكن الوقت الذي يحصل فيه غير محدد، مثل الأجل إلى الحصاد، أو قدوم الحاج، فإنها لا تفسد العقد.
ولا أوافق الشافعي وبعض فقهاء الحنابلة الذين اشترطوا أن يكون الأجل معلوما بالأهلة، ويكفي عندي أن يكون الأجل معلوما للعاقدين.
الشرط الثاني: أن يكون المسلم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل:
هذا شرط متفق عليه، لأن المسلم فيه واجب التسليم عند حلول الأجل، فلا بد أن يكون تسليمه ممكنا حينذاك، وإلا كان من الغرر الممنوع.
ولا يشترط عند جمهور الفقهاء وجود المسلم فيه عند العقد، ولا بعده قبل حلول الأجل، وقال الحنفية: يشترط وجود المسلم فيه في الأسواق من حين العقد إلى حين حلول الأجل، ولو لم يكن موجودا عند المسلم فيه، فالسلم عند الحنفية ليس من بيع المعدوم، وإنما هو من بيع ما ليس مملوكا للبائع.
__________
(1) مثل الأجل إلى قدوم حاج معين، فإن هذا الحاج قد يقدم، وقد لا يقدم(9/290)
الشرط الثالث: قبض رأس مال السلم في مجلس العقد:
يشترط في السلم تسليم رأس ماله في مجلس العقد، فلو تفرق المتعاقدان قبل التسليم بطل العقد، وهذا رأي جمهور الفقهاء.
وقال المالكية: إن التأخير إلى ثلاثة أيام لا يضر، ولو كان مشروطا في العقد، ما لم يكن السلم قريبا كيومين، أما إن كان التأخير أكثر من ثلاثة أيام فإن كان مشروطا في العقد لا يصح، وإن كان غير مشروط فلمالك قولان في المدونة: قول بفساد العقد، وقول بعدم الفساد، والمعتمد القول بالفساد.
وإذا قبض المسلم إليه بعض رأس مال السلم، ثم تفرقا صح العقد في المقبوض، وبطل فيما لم يقبض عند الحنفية، والشافعية، وعلى الصحيح في مذهب الحنابلة، وبطل في الجميع في رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب المالكية، قال العدوي: لأنه ابتداء دين بدين.(9/291)
جعل الدين رأس مال سلم
إذا كان لرجل في ذمة آخر دين، فجعله رأس مال سلم، لم يصح، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ من أهل العلم؛ لأنه بيع دين بدين ولا يصح ذلك بالإجماع.
ولو كان رأس مال السلم بعضه نقدا، وبعضه دينا على المسلم إليه، فالسلم في حصة الدين باطل لفوات القبض، ويجوز في حصة النقد.
ويرى ابن تيمية وابن القيم جواز هذه المسألة التي حكى ابن المنذر الإجماع على منعها، على أصل مذهبهما في بيع الدين بالدين.
وأرى منع هذه المعاملة، وبخاصة في تحويل القروض التي تمنحها المصارف الإسلامية لعملائها إلى عقود سلم؛ لأنها لا تخلو من الربا، أو شبهة الربا.
اشتراط الخيار في عقد السلم
انبنى على اشتراط قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، منع اشتراط خيار الشرط في عقد السلم عند الحنفية والشافعية والحنابلة.
ويجوز عند المالكية اشتراط الخيار في ثلاثة أيام فقط، إذا لم ينفد رأس المال فإن نفد، ولو تطوعا، فسد العقد، للتردد بين السلفية والثمنية، كذلك يفسد العقد لو شرط النقد، وإن لم ينفد، ولو أسقط الشرط.(9/292)
السلع التي يجري فيها السلم
الأصل في السلم أن يكون في الثمار، لأنها هي التي جاء ذكرها في الأحاديث الصحيحة، ولكن الفقهاء توسعوا في السلع التي يجوز فيها السلم، والضابط لهذا الموضوع هو: كل مال يجوز بيعه، ويمكن ضبط صفاته، ويثبت دينا في الذمة، يجوز السلم فيه، وكل مال لا يجوز بيعه، أو لا يمكن ضبط صفاته، أو لا يثبت دينا في الذمة، لا يجوز السلم فيه.
وتطبيقا لهذا الضابط يجوز السلم في كل ما يكال، أو يوزن، بإجماع الفقهاء، لحديث ابن عباس، ويجوز أيضا في الذرعي، والعددي المتقارب، قياسا على ما يثبت بالنص؛ لأنه في معناه.
ويذكر الفقهاء أمثلة كثيرة لما يجوز السلم فيه، وأمثلة لما لا يجوز السلم فيه، يتفقون في كثير منها، ويختلفون في بعضها، وسبب اختلافهم يرجع إلى اختلافهم فيما ينضبط بالصفة، وما لا ينضبط.
ويشترط ذكر جميع الأوصاف التي تختلف من أجلها الأثمان والأغراض، والأوصاف المتفق على وجوب ذكرها هي: الجنس، والنوع، والجودة، والرداءة، واختلف فيما عدا هذه الأوصاف، ويذكر الفقهاء أنواعا كثيرة من المسلم فيه، والأوصاف التي يجب ذكرها في كل نوع.
وواضح مما ذكرها الفقهاء أن الأوصاف يجب ذكرها في المسلم فيه تختلف باختلاف نوع السلعة، وما نص عليه الفقهاء من الأوصاف التي يجب ذكرها في كل نوع المقصود منه تعيين السلعة المسلم فيها تعيينا يمنع النزاع فيها، بحسب المعروف في زمانهم، فلا يجب علينا الالتزام به في زمننا، ما دامت السلعة قد وضعت بصفة معروفة تميزها عن غيرها.
وبناء على هذا فإن السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية (الماركات) المتعددة تعتبر أصنافا متعددة، ويشترط فيها ذكر الماركة؛ لأن الماركة هي التي تميزها عن غيرها، وهو وصف يترتب عليه اختلاف الثمن والغرض، فيجب ذكره.(9/293)
كتابة عقد السلم
ورد الأمر بكتابة الدين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وسبب نزول هذه الآية هو سلم أهل المدينة، ولكنها تتناول جميع المداينات، والأمر بالكتابة أمر بالإشهاد، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة، وذهب بعض الفقهاء إلى أن كتب الديون واجبة بهذه الآية، وهو اختيار الطبري، وقال الجمهور: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب.
أخذ رهن أو كفيل عن المسلم إليه
يجوز عند جمهور الفقهاء أن يأخذ المسلم من المسلم إليه رهنا، أو يطالبه بكفيل يضمن أداء ما عليه من دين السلم – المسلم فيه – لقوله تعالى في آية الدين: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] .
وقال الحنابلة في رواية: لا يجوز أخذ الرهن ولا الكفيل في السلم، وهي الرواية التي اختارها الخرقي.
ورويت كراهة أخذ الرهن والكفيل عن بعض الصحابة.(9/294)
اشتراط قبض بضاعة قبل بيعها
يقول ابن قدامة: (أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا) .
قلت: الخلاف موجود، فقد منع المالكية بيع المسلم فيه قبل قبضه إذا كان طعاما، وجوزوا بيعه قبل قبضه إذا لم يكن طعاما، سواء باعه المسلم من المسلم إليه، أو من غيره، إلا أنه إذا باعه من المسلم إليه، قبل الأجل، فلا يجوز أن يبيعه بأكثر من الثمن، الذي اشتراه به، وإنما يبيعه بمثل الثمن أو بأقل، ويقبض الثمن، وأما إذا باعه من غير المسلم إليه، فيجوز بيعه بأكثر من الثمن أو أقل منه، أو بمثله، إذا قبض.
هذا هو مذهب مالك، وما ذكره ابن قدامة من تحريم بيع المسلم فيه قبل قبضه هو رأي الجمهور، وهو الراجح عندي الذي ينبغي العمل به، بالنسبة لبيع المسلم فيه من غير بائعه؛ لأنه هو الذي تدل عليه الأحاديث الواردة في بيع ما لم يقبض.
والعلة في تحريم بيع المسلم فيه قبل قبضه هي الربا، والغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم، وعدم دخول السلعة في ضمان المشتري.
وقد اختلف الفقهاء في المراد بالقبض فيما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر – المنقول – والذي أراه بالنسبة للمسلم فيه أنه إذا كان من المقدرات – وهذا هو الغالب فيه – فقبضه يكون باستيفاء قدره، وإذا كان من غير المقدرات يكون القبض ما يعتبره العرف قبضا، وذلك عملا بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالأمر بالكيل فيما بيع بالكيل، وعملا بالعرف فيما لم يرد فيه نص.
ويتضح من هذا أنه لا يغني عن القبض التحقق من قدرة المسلم إليه على توفير السلعة عند حلول الأجل، ولا التأمين على السلعة المسلم فيها، ولا وجودها في مخازن عمومية منظمة، لأن قدرة المسلم إليه على تسليم السلعة عند حلول الأجل شرط لصحة عقد السلم، فلو كان المسلم إليه غير قادر على التسليم، أو شاكا فيه لا يصح العقد.
ووجود السلعة في مخازن عمومية منتظمة محقق للقدرة على التسليم وليس قبضا للمسلم فيه.
والتأمين على السلعة ضرب من الضمان، وليس قبضا.
الاستبدال بالمسلم فيه
لا يجوز عند الحنفية والشافعية والحنابلة أن يأخذ المسلم غير ما أسلم فيه بدلا عنه قبل قبضه، ويجوز عند المالكية قضاء المسلم فيه بغير جنسه، سواء أكان القضاء قبل الأجل، أو بعده، بشرط ألا يكون المسلم فيه طعاما ليسلم من بيع الطعام قبل قبضه، وأن يعجل البدل المدفوع لئلا يكون من فسخ الدين في الدين، وأن يكون سلم رأس المال في المدفوع من غير الجنس صحيحا.
وأرى جواز الاستبدال سواء أكان المسلم فيه طعاما أم غير طعام لشرطين:
الأول: أن يكون البدل صالحا لأن يجعل مسلما فيه لرأس مال المسلم؛ لأن البدل سيحل محل المسلم فيه فيشترط فيه ما يشترط في المسلم فيه.
والثاني: ألا يكون البدل أكثر من المسلم فيه لئلا يربح المسلم مرتين.
السلم المتوازي
السلم المتوازي في رأيي، هو حيلة لبيع المسلم فيه قبل قبضه، وهي حيلة ولا تخلو من شبهة الربا التي أشار إليها ابن عباس بقوله في بيع الطعام قبل قبضه: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ، وبخاصة إذا اتخذ هذا الأسلوب من السلم المتوازي بقصد التجارة الربح، وتكرر السلم المتوازي للمعاملة الأولى، ويدخله مانع آخر هو الضرر الذي يصيب المستهلك من ارتفاع سعر السلعة قبل أن تصل إليه بسبب انتقالها لأكثر من تاجر.
ولهذا فإني أرجح منع هذه المعاملة.(9/295)
إصدار سندات سلم قابلة للتداول
لا يجوز إصدار سندات سلم قابلة للتداول، لأن هذا سيؤدي حتما إلى بيع المسلم فيه قبل قبضه، سواء أكان المسلم فيه طعاما، أم غير طعام، غير أنه إذا كان المسلم فيه طعاما فالمنع يكون بإجماع الفقهاء، للأحاديث الصحيحة الواردة في منع بيع الطعام قبل قبضه.
وإذا كان المسلم فيه غير طعام، فقد رأينا الجمهور يمنعون بيعه قبل قبضه، ولو كان لمرة واحدة فكيف إذا تداولته الأيدي. أما المالكية فإنهم يجوزون للمسلم أن يبيع المسلم فيه قبل قبضه إذا لم يكن طعاما، ولكنهم لم يجوزوا لمن اشترى منه أن يبيع ما اشتراه قبل قبضه، فإصدار سندات سلم قابلة للتداول لا يجوز عند الأئمة الأربعة.
عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الأجل في السلم ومشروعية الشرط الجزائي عن تأخير تسليم البضاعة
إذا عجز البائع عن تسليم البضاعة في السلم عند حلول الأجل فإن كان عجزه سببه عدم وجود السلم فيه، فإن المشتري يخير بين الانتظار إلى أن يوجد المسلم فيه، وفسخ العقد وأخذ الثمن عند جمهور الفقهاء، وهو المعمول به عندنا في السودان.
أما إذا كان العجز عن التسليم سببه إعسار المسلم إليه فالواجب انتظاره إلى الميسرة، والخير في التصدق عليه.
وأما إذا كان عدم التسلم سبب امتناع المسلم إليه عن التسليم مع يساره، فإن حكمه حكم المدين المماطل الذي أصدر فيه مجمع الفقه الإسلامي قرارا بعدم جواز اشتراط التعويض في حالة التأخير عن الأداء، وإذا كان اشتراط التعويض لا يجوز، فإن الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه لا يجوز من باب أولى.(9/296)
تطبيقات السلم في المصارف
عقد السلم يمكن أن يطبق في مجالات عديدة، ويكون بديلا شرعيا للتمويل بالقرض بفائدة في كل المجالات التي يحتاج فيها إلى التمويل: المجال الزراعي، والصناعي، والتجاري، ويحقق مصلحة الممول – المسلم إليه – بإمداده بالمال اللازم له في زراعته وصناعته، وتجارته، ويحقق مصلحة الممول – المسلم – في الحصول على السلعة التي يريدها بأثمان رخيصة ومشروعة، تمكنه من الربح الحلال.
وتستطيع البنوك الإسلامية أن تتعامل بعقد السلم في جميع المجالات التي يحتاج فيها المتعامل معها إلى تمويل، ولكن الواقع أن البنوك الإسلامية، وبخاصة عندنا في السودان، لم تطبق صيغة السلم في استثماراتها إلا في المجال الزراعي.
وتعامل السودانيين بعقد السلم كان معروفا قبل وجود البنوك، بين المزارعين والتجار، ولما قامت البنوك أخذت تمول المزارعين بطريق القرض بفائدة، ولما منعت الدولة البنوك من التعامل بالفائدة، وكان من بين تلك البنوك البنك الزراعي، وهو بنك حكومي متخصص، وهو الممول الأول للمزارعين طلب من هيئة الرقابة الشرعية البديل، فقدمت له عقد السلم المرفق مع البحث.(9/297)
المشاكل التي تصاحب التعامل بعقد السلم
لعل أهم مشكلة تعترض التعامل بعقد السلم هي تحديد الثمن، وعلى الرغم من أن السعر في تعامل البنوك في السودان مع المزارع تحدده لجنة من اتحاد المصارف واتحاد المزارعين، قد يرتفع السعر عند حلول الأجل، فيقع النزاع بين الطرفين، وقد حدث هذا أكثر من مرة فعالجته هيئة الرقابة الشرعية بإدخال البند الثامن في عقد السلم – بند إزالة الغبن – الذي وافق عليه المزارعون والبنوك.
والمشكلة الثانية هي مشكلة عدم تمكن المزارع من الوفاء بالتزاماته، بسبب شح المحصول، وقد وضع البند السابع في عقد السلم لحلها.
والمشكلة الثالثة هي عدم وفاء المزارع بالتزاماته مع يساره، ووجود المحصول، وقد وضعت الهيئة البند الخامس في العقد لعلاج مثل هذه الحالات.
د. الصديق محمد الأمين الضرير(9/298)
السلم
وتطبيقاته المعاصرة
إعداد
د. محمد عطا السيد سيد أحمد
ممثل جمهورية السودان
بسم الله الرحمن الرحيم
السلم وتطبيقاته المعاصرة
السلم والسلف عبارتان عن معنى واحد (1) وقد تعددت عبارات الفقهاء في تعريف عقد السلم ولكن جميعها لا تخرج عن تعريف شامل وهو: بيع آجل بعاجل. أما ذكرهم لموصوف في الذمة (2) ، أو ثمن مقبوض بمجلس العقد فيرد في تفصيلهم لشروط صحة عقد السلم.
ويتكون عقد السلم من:
1- الثمن العاجل وهو رأس مال السلم.
2- وصاحب الثمن هو المسلم.
3- المسلم فيه وهو المبيع الآجل.
4- المسلم إليه وهو الملتزم بالمبيع الآجل.
والأصل في السلم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] قال القرطبي في تفسيره: (قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السلم خاصة. معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا) (3) .
وأما السنة فقد أخرج الأئمة الستة في كتبهم الحديث عن ابن عباس في جواز عقد السلم نصا، وإليك رواية الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة والناس يسلفون في التمر العام والعامين أو قال: عامين أو ثلاثة شك اسماعيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم)) (4) ، وذكر البخاري الحديث عن ابن عباس أيضا وفيها: ((في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) (5) .
__________
(1) استحب بعض العلماء إطلاق كلمة سلم على باب خاص به ويفرقون بينه وبين السلف؛ لأن السلف يطلق أيضا على القرض
(2) راجع بدائع الصنائع 5/201؛ وحاشية رد المحتار 4/212
(3) تفسير القرطبي 3/377
(4) صحيح البخاري: 3/43- 44، بيروت: دار الفكر سنة 1981
(5) صحيح البخاري 3/44(9/299)
وروى البخاري رضي الله عنه عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه أنه قال: (كنا نسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزبيب والتمر (1)) وذكر في رواية بعدها الزيت (2) .
ومع أن السلم بيع معلوم في الذمة غائب إلا أن الفقهاء أجمعوا على جوازه لورود النص الصحيح بذلك واعتبر استثناء من نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك.
والسبب في الاستثناء ضرورة كل واحد من المتبايعين (بأن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري التمرة، وصاحب التمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليه، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج) (3) .
وإليك الآن شروط السلم فيما يتعلق بالمسلم فيه:
1- أن يكون المسلم فيه دينا في الذمة وهذا لا إشكال فيه لأن المسلم أصلا نوع من المداينة. ولكن اختلفوا فيما إذا كان من شروط السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه. اشترط أبو حنيفة وجود المسلم فيه في الأسواق من حين العقد إلى حين الأجل مخافة أن يحين أجل تسليم المسلم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غررا. وخالفه سائر الفقهاء وقالوا: المراعى وجوده عند الأجل.
2- أن يكون المسلم فيه موصوفا وصفا كافيا، والوصف إنما يكون بالمتعارف عليه بين الناس في كل بلد فمثلا التمر إذا أسلم فيه فلا بد من بيان نوعه وإلا كان العقد فاسدا، وكذلك إذا أسلم في بلد فيه أنواع من الحنطة فلا بد من تعيينها. جاء في المدونة الكبرى: قل: أرأيت إن أسلف في تمر ولم يبين صيمانيا من برني ولا جعرورا ولم يذكر جنسا من التمر بعينه، قال: السلف فاسد في قول مالك، قلت: فإن أسلف في تمر برني ولم يقل جيدا ولا رديئا، قال: يكون فاسدا في قول مالك، حتى يصف، قلت: وكذلك الحنطة، قال: ولا تكون إلا على صفة فإن لم يصف فهو فاسد (4) .
__________
(1) صحيح البخاري 3/44
(2) صحيح البخاري 3/45
(3) تفسير القرطبي 3/379
(4) المدونة الكبرى 3/123 (بيروت: دار الفكر 1978م)(9/300)
3- أن يكون المسلم فيه مقدرا والتقدير إنما يكون من ثلاثة أوجه إما كيلا أو وزنا أو عدا وذلك ينبني على عرف الناس في كل بلد.
فمثلا التفاح والجوز فإن كانوا يعدونه فيعد وإن كانوا يأخذونه وزنا فيوزن. جاء في المدونة الكبرى وصفا جميلا لهذه المسألة: قلت: كيف يسلف في الجوز في قول مالك، قال: قال مالك يسلف لصفة أي يصف الجوز، قال: ومعنى ما رأيت في قوله أنه يراه عددا، قال ابن القاسم: وإن كان الجوز مما يسلف الناس فيه كيلا فلا بأس به، قلت: ولا بأس بالسلف في الجوز في قول مالك عددا أو كيلا، قال: سمعت مالكا يقول: لا بأس بذلك، قال: وقال مالك: ولا بأس ببيع الجوز جزافا، قال: وقال مالك: لا يسلف في البيض إلا بصفة، قلت: ولا بأس بالسلف في البيض عددا، قال: نعم (1) .
4- وقريب من الشرط الثالث اختلافهم في ذكر موضع القبض فيما له حمل ومؤونة كالحنطة والشعير والتمر. اشترط أبو حنيفة في جواز السلم بيان مكان الإيفاء. وخالفه صاحباه والمالكية والحنابلة وطائفة من العلماء وقالوا: إن موضع القبض ليس من الشروط للأحاديث الصحيحة التي وردت وليس فيها ذكر المكان الذي يقبض فيه السلم ولو كان من شروطه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الكيل والوزن والأجل (2) .
__________
(1) المدونة الكبرى 3/123
(2) تفسير القرطبي 3/381(9/301)
5- وقريب من هذا الذي ذكر رأي كثير من الفقهاء أن من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره مستندين على حديث ((من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا من أسلف أو رأس ماله)) وفي رواية: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) (1) .
ويبدو أن المالكية لا يأخذون بإطلاق هذا الحديث. جاء في المدونة: قلت: أرأيت إن سلف في دجاج أو في أوز فلما حل الأجل أخذ منه مكان ذلك طيرا من طير الماء، قال: لا يجوز، قلت: فإن سلفت في دجاج فلما حل الأجل أخذت مكانها أوزا أو حماما، قال: لا بأس بذلك، قلت: لم جوز مالك إذا سلفت في دجاج أن آخذ مكانها إذا حل الأجل أوزا أو حماما ولم يجوز لي إذا سفلت في دجاج أن آخذ مكانها إذا حل الأجل طيرا من طير الماء؟ قال: لأن طير الماء إنما يراد به الأكل وإنما هو لحم وإنما نهى مالك من وجه أنه لا يباع الحيوان باللحم، قال أشهب: هو جائز ... وكذلك العروض كلها ما خلا الطعام والشراب فإن الطعام والشراب إذا أسلفت فيهما لم يصح أن تبيعهما من صاحبهما ومن غير صاحبهما الذي عليه الطعام حتى تستوفي الطعام إلا أن تأخذ من صنفه أو من جنسه من الذي عليه الطعام إذا حل أجله ... قال: وأخبرني عن الليث بن سعد عن ربيعة أنه قال في رجل أسلف صيادا دنانيرا على صنف من الطير كل يوم كذا وكذا طائر فجاءه فلم يجد عنده من ذلك الصنف شيئا ووجد عنده عصافير فأعطاه عشرة عصافير بطائر واحد مما اشترط عليه، قال ربيعة: عشرة من الطير بواحد حلال وأنا أرى ذلك حلالا كله السلف للصياد وعشرة بواحد (2) .
__________
(1) سنن أبي داود 2/276 (بيروت: دار الفكر)
(2) المدونة الكبرى 3/126(9/302)
6- أن يكون المسلم فيه مؤجلا. وهذا الشرط اتفق عليه الحنفية والمالكية والحنابلة شرطا لصحة السلم للحديث: ((من أسلف في شيء)) فهذا الحديث أمر بالأجل وهو من طبيعة بيع السلم الذي استثني من القاعدة العامة وأجيز رفقا بالناس ومراعاة لضرورتهم (1) . ثم إنه لو كان حالا ولم يكن المسلم فيه عند المسلم إليه من باب بيع ما ليس عندك. وعلل المالكية ذلك تعليلا جيدا فقالوا في المدونة: وحتى لو كانت العين قائمة موجودة فلا يجوز السلم فيها وإن ضرب لذلك أجلا لأن في ذلك غررا لا يدري أتبلغ السلعة إلى ذلك الأجل أما لا وهو يقدم نقده فينتفع صاحب تلك السلعة بالنقد حتى ولو هلكت العين قبل الأجل ووصولها إلى مشتريها وهذا مخاطرة وغرر (2) . وقال الشافعي: يصح السلم حالا ومؤجلا وهو حال أبعد عن الغرر وأن المراد في الحديث ((إلى أجل معلوم)) هو علم المتعاقدين بالأجل لا اشتراطا لوجود الأجل نفسه (3) . واتفق الفقهاء أن عدم تحديد الأجل يفسد البيع وقال في المدونة: إنه بيع حرام. قلت: أرأيت إن اشتريت دابة أو بعيرا بطعام موصوف ولم أضرب له أجلا أو ثيابا موصوفة ولم أضرب لها أجلا وليس شيء مما اشتريت به البعير أو الدابة عندي، أيجوز ويكون شرائي البعير أو الدابة مضمونا إلى اجل أو يكون نقدا، قال: هذا بيع حرام لا يجوز أن يكون مضمونا إلى غير أجل وهو بيع ما ليس عندك، قلت: أرأيت إن أسلمت إلى رجل في مئة أردب تمر مئة دينار: خمسين أعطيتها إياه وخمسين أجلني بها، قال: قال مالك لا يجوز هذا وينتقض جميع السلم، قلت: فإن سلفت في طعام ولم أضرب لرأس المال أجلا فافترقنا قبل أن أقبض رأس المال، قال: هذا حرام إلا أن يكون على النقد (4) .
واختلف الفقهاء في مدة أجل السلم وسئل مالك رضي الله عنه عن الرجل يبتاع الطعام إلى يوم أو يومين مضمونا عليه يوفيه إياه، فقال: لا يصح إلا إلى أجل أبعد من هذا وحتى لو كان ثيابا لا خير فيه إلا إلى أجل بعيد (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5/212؛ غاية المنتهى 2/78؛ المبسوط 12/125
(2) المدونة الكبرى 3/132
(3) المهذب 1/297؛ مغني المحتاج 2/105
(4) المدونة الكبرى 3/138
(5) المدونة الكبرى 3/133(9/303)
وذكر مالك عن الليث بن سعد يذكر عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن رجل أسلف رجلا في طعام مضمون إلى يوم أو يومين أو ما أشبهه فقال سعيد إلا إلى أجل ترتفع فيه الأسواق وتنخفض، ولم يحدد أجلا لهذا الارتفاع والانخفاض ولكن الرأي في المدونة إلى مناسبة الخمسة عشر يوما والعشرين يوما (1) . وأجاز المالكية اليومين والثلاثة إذا كان المسلم فيه في بلد آخر ويحتاج الوصول إليه وتسليمه من بلد العقد مدة اليومين والثلاثة. وانفرد الإمام مالك دون الفقهاء بجواز السلم في ثمار القرى العظام مثل خيبر ووادي القرى وذي المروة وما أشبهها من القرى فلا بأس أن يسلف قبل إبان الثمر ويشترط أن يأخذ ذلك تمرا في أي الإبان شاء ويشترط أن يأخذ ذلك رطبا في إبان الرطب أو بسرا في إبان البسر (2) .
وأورد القرطبي آراء الفقهاء في هذه المسألة فقال: (لا خلاف بين العلماء أن من باع معلوما من السلع بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهور العرب أو إلى أيام معروفة العدد أن البيع جائز) . وكذلك قالوا في السلم إلى الأجل المعلوم. واختلفوا في من باع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء وشبه ذلك، فقال مالك: ذلك جائز لأنه معروف، وبه قال أبو ثور. وقال أحمد: أرجو ألا يكون به بأس. وكذلك إلى قدوم الغزاة. وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء. وقالت طائفة: ذلك غير جائز لأن الله تعالى وقت المواقيت وجعلها علما لآجالهم في بياعاتهم ومصالحهم. كذلك قال ابن عباس، وبه قال الشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: قول ابن عباس صحيح (3) . أما عن أقصى الأجل فقد ورد الحديث الصحيح الذي رواه الأئمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالثمر السنتين والثلاث فقال: ((من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) (4) .
7- وجود المسلم فيه وانقطاعه عن الأسواق:
أ - يتفق الفقهاء أن السلم جائز فيما لا ينقطع من أيدي الناس (تسلف فيه متى ما شئت في أي إبان شئت، واشتراط أخذ ذلك في أي إبان شئت في قول مالك) (5) .
__________
(1) المدونة الكبرى 3/133
(2) المدونة الكبرى 3/121
(3) تفسير القرطبي 2/344
(4) صحيح البخاري 3/44
(5) المدونة الكبرى 3/123(9/304)
ب - أما إذا كان المسلم فيه مما ينقطع عن أيدي الناس في موسم معين كالفواكه مثلا فلا يجوز عقد السلم فيه عند أكثرهم إلا إذا طاب أول ذلك الذي أسلف فيه وذلك معلوم في الفواكه مثل التفاح والرمان والسفرجل والقثاء والبطيخ والشمام وما أشبه ذلك من الفاكهة الرطبة التي تنقطع من أيدي الناس.
ج- وكذلك السلم في الحنطة فلا يصح السلم فيها حتى تشتد في أكمامها أو حتى تيبس، وقال مالك: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الحب حتى يشتد في أكمامه)) وقال: وحدثني عن ابن وهب عن إسماعيل بن عياش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشترى الحب حتى يبيض. وعن ابن سيرين قال: لا تبيعوا الحب في سنبله حتى يبيض. وعن بعضهم: لا يسلف في زرع حتى ينقطع عنه شرب الماء وييبس. قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: لا يباع الحب حتى ييبس وينقطع عنه شرب الماء حتى لا ينقصه الشرب (1) .
وهذا الذي استندوا عليه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم صحيح رواه الأئمة ولكن كان ذلك في المبايعة العادية وقد وضحت ذلك في رواية الدارقطني عن زيد بن ثابت كان يقول: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار، فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه قد أصاب التمر مراق، وأصابه قشام، عاهات كانوا يحتجون بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده المعتومة في ذلك: ((أما لا فلا تبتاعوا حتى يبدو صلاح الثمر)) قال: كالمشورة يشير بها لكثرة حقوقهم (2) .
والذي أراه أن هذا الشرط إنما يكون في البيع ويستثنى في السلم كما استثني عقد السلم من القاعدة العامة ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن محمد بن أبي المجالد قال: بعثني عبد الله بن شداد وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما فقالا: سله، هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون في الحنطة؟ قال عبد الله: كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم. قلت: إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك، ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى فسألته فقال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم ألهم حرث أم لا؟ (3) .
__________
(1) المدونة الكبرى 3/122
(2) سنن الدارقطني 2/37 (الدارقطني 2/37 (القاهرة: دار المحاسن للطباعة 1966)
(3) صحيح البخاري 3/44 – 45(9/305)
ولذلك أجاز الإمام مالك السلم في الحنطة الجديدة قبل الحصاد والتمر الجديد قبل الجداد ما لم يكن في زرع بعينه أو حائط بعينه. (1) . وهذا تحديد جميل من الإمام مالك رضي الله عنه. وأجاز أكثرهم السلف في الخضر والبقل قبل الإبان واشترط الأخذ في الإبان وأن يكون هذا بحزم معروفة أو بوزن معروف أو بحسب ما هو متعارف عليه في بلده. ولا يصح السلم عند المالكية بالفدادين أي المساحات المحددة لأن الناتج قد يكون أنواعا وقد يكون جيدا ورديئا (2) .
8- لا يصح السلم في الحيوان أو ما في بطونها للحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان. وأجاز الإمام مالك في السلف في الحيوان مضمونا لا في حيوان بأعيانها ولا في نسلها وإن كانت موصوفة، لا في نسل غنم بأعيانها ولا في نسل بقر بأعيانها ولا في نسل خيل بأعيانها ولا في نسل إبل بأعيانها (3) . أما السلم في اللحم والشحم وأجزاء الحيوان كالرؤوس والأكارع فيجوز بشرط أن يصف أنواعها ضأنا أو معزا أو بقرا وهكذا ومقاديرها (4) . وأجازوا السلم في لحم الحيوان بالوزن والتحري المعروف.
جاء في المدونة:
قلت: فإن سلفت في لحم الحيوان كيف يكون السلم في قول مالك بوزن أم بغير وزن، قال: قال مالك إذا اشترط وزنا معروفا فلا بأس وإن اشترط تحريا معروفا بغير وزن فإن ذلك جائز، قال ابن القاسم: (ألا ترى أن اللحم يباع بعضه ببعض بالتحري والخبز أيضا يباع بعضه ببعض بالتحري فذلك جائز أن يسلف فيه بغير وزن إذا كان ذلك قدرا قد عرفوه) (5) . ومن أن الحديث قد ورد بالنهي عن بيع اللبن في ضروع الأنعام (6) . إلا أن الإمام مالكا أجازه في السلم بشرط أن يكون في إبان لبنها ويشترط الأخذ في إبانه قبل انقطاعه. فإن سلف في ألبانها قبل إبانها واشترط الأخذ في إبانه فلا يجوز، وهذه الغنم بأعيانها ولبنها إذا سلف في لبنها بمنزلة ثمر حائط بعينه إذا سلف فيه (7) .
__________
(1) المدونة الكبرى 3/122
(2) سنن الدارقطني 3/71
(3) المدونة الكبرى 3/120
(4) المدونة الكبرى 3/125
(5) المدونة الكبرى 3/125
(6) سنن الدارقطني 3/14
(7) المدونة الكبرى 3/120(9/306)
9- ويجوز السلم في المعادن كالحديد والنحاس والرصاص بوزن معروف إذا كان المعدن لا ينقطع عن أيدي الناس لكثرته في تلك المواضع فالسلف فيه جائز إذا وصفه وإلا فلا. (1) .
10- ويجوز السلم في العروض كلها كالعطور واللؤلؤ والجوهر والزجاج والحجارة والزرنيخ والحطب والخشب والجلود؛ لأنها عادة ما تكون في أيدي الناس ولا تنقطع كالثمار والفواكه ولكن لا بد من وضعها بما يلزم ويندفع به النزاع. (2) . ولا يجوز السلم في تراب المعادن؛ لأن صفته غير معروفة ولا كمية ونوعية ما فيه من المعادن معروفة ولا بأس أن يشترى يدا بيد.
11- ويجوز السلم في الحيتان بشرط ألا يكون نوعا معينا ينقطع في زمان معين، وكذلك يجوز السلم في الطير والدجاج والإوز والحمام.
الشروط التي يجب توفرها في رأس مال السلم:
1- يجب أن يكون رأس مال السلم وهو الثمن معلوم الجنس وهو بيان جنسه نقودا أو مكيلا أو موزونا ونوعيته إذا كانت هنالك أنواع مختلفة من الجنس الواحد في البلد الواحد والسبب هو دفع الجهالة التي تفسد البيع (3) .
2- وعند المالكية وأبي حنيفة وسفيان الثوري أن الثمن إذا كان دراهما فيجب أن يعلم وزنها وإلا لم يصح. وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة في الأصح عندهم أن رؤية رأس المال تكفي عن معرفة قدره؛ لأنه عوض مشاهد كالثمن والمبيع المعين (4) . ودقق المالكية فاشترطوا أن يكون الكيل بالمكيال الذي جعله الوالي للناس في الأسواق وهو الجاري بينهم يوم أسلف ويوم اشترى، فأما الرجل يسلف ويشتري ويشترط مكيالا قد ترك وأقيم للناس غيره ولا يعرف قدره ولا معياره من هذا المكيال الجاري بين الناس فإن ذلك لا يجوز وهو مفسوخ (5) .وعليه فكما أوجبنا في المسلم فيه أن يكون معلوم الكيل والوزن والعدد وما إلى ذلك فيجب أن يكون الثمن كذلك بما يحدد قدره بما هو متعارف عليه بين الناس في كل بلد.
__________
(1) المدونة الكبرى 3/120
(2) المدونة الكبرى 3/127
(3) حاشية رد المحتار 4/215
(4) مغني المحتاج 2/104؛ المهذب 1/300؛ البهوتي: كشاف القناع 3/276
(5) المدونة الكبرى 3/139(9/307)
3- ويرى الأئمة أن رأس مال السلم يجب أن يكون على النقد واشترط الحنفية والشافعية والحنابلة القبض في مجلس العقد وإلا بطل السلم وفسخ وحتى لو كان الثمن دينا في الذمة فلا بد من تسليمه أيضا في مجلس العقد ويعللون ذلك بأن القرض من عقد السلم أساسا هو الاستعانة برأس المال على الإنتاج والتحصيل فلا بد من تسليمه فورا، وثانيا لو لم يسلم رأس مال السلم لكان العقد كله دينا في دين وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ. (1) . وعند الإمام مالك لا بأس إن افترقا قبل أن يقبض رأس المال إذا قبضه بعد يوم أو يومين أو نحو ذلك. (2) . وعنده لا يصح العقد إذا لم يذكرا أجلا أو ضربا أجلا بعيدا أو كان بعضه حاضرا وبعضه دينا (3) .
4- ويجوز أن يكون رأس مال السلم نقودا أو طعاما أو حيوانا وما إلى ذلك ولكن المالكية لا يجيزون عقد السلم إذا كان رأس المال والمسلم فيه من جنس واحد تماما ولذلك لم يجيزوا الثوب بالثوبين إلا إذا اختلفت الثياب كفسطاطية معجلة في مروية مؤجلة فهذا يجوز (4) . وقالوا: لا بأس الجمل بالجمل مثله وزيادة دراهم: الجمل بالجمل يدا بيد والدراهم إلى أجل، أما إذا كان أحد الجمال نسيئة فهو ربا وإن أقرت الجمل والدراهم فلا خير في ذلك وذلك أن هذا يكون ربا؛ لأن كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا ونسبوا هذا الرأي لعطاء بن أبي رباح. (5) .
ولا يجيز المالكية تسليف الحنطة في الحنطة مثلها ولا الجيدة في الحنطة الرديئة ولا حنطة في شعير في حنطة إلى أجل. قال مالك: ذلك حرام لا يحل للحديث ((البر بالبر ربا إلا هاء وهاء)) (6) . وأجاز مالك ذلك على وجه المعرفة فالسلف جائز إلى أجله وليس له أن يأخذ منه قبل محل الأجل وهذا عند مالك رضي الله عنه قرض إلى أجل أما على وجه المنفعة والمبايعة فلا. (7) . وأجاز الحنطة في الحشيش الذي تأكله البهائم للاختلاف بينهما (8) . وهذا الذي ذهب إليه المالكية ووافقهم فيه الحنفية (9) .
__________
(1) الحديث رواه الدارقطني 3/71 وصححه الحاكم والإجماع على عدم جواز بيع الدين بالدين
(2) المدونة الكبرى 3/138
(3) المدونة 3/138
(4) المدونة الكبرى 3/129- 130
(5) المدونة الكبرى 3/129- 130
(6) المدونة الكبرى 3/131
(7) المدونة 3/131
(8) المدونة الكبرى 3/131
(9) بدائع الصنائع 5/214. وحاشية رد المحتار 4/217(9/308)
وأثبت الفقهاء خيار العيب وخيار الرؤية في رأس مال السلم إذا كان عينا مشخصة ولا يثبتون خيار الرؤية في المبيع وهو المسلم فيه لأن الأصل فيه أنه غائب ويثبتون خيار العيب وهو من الخيارات التي أثبتها الشارع ضمنا إلا إذا رضي المشتري بالعيب مقدما أو قبل أخذ العين كما هي أو على ما تكون عليه بنسبة اختلاف الطقس.
وبما أن خيار الشرط على خلاف الأصل والقياس وإنما أثبته الشارع استثناء لفائدة في البيوع الناجزة المعجلة فلا يقاس عليها غيرها ولذلك ذهبوا إلى أن يكون عقد السلم باتا ليس فيه خيار شرط لأحد العاقدين أو غيرهما.
الاستفادة من عقد السلم في وقتنا الحاضر:
أولا: اشتهر عالمنا اليوم بالصناعات والتطور الهائل في التكنولوجيا، فمعظم الشركات تصنع أشياء وتعرضها للبيع في الأسواق ولكن في كثير من الأحيان تطلب بعض الدول أو بعض المؤسسات الكبيرة أشياء معينة بمواصفات معينة لأغراض معينة وكثير من الشركات قد تطلب الثمن مقدما لتستعين به في إتمام ما طلب عمله فيدفع الثمن على أن يصنع الشيء كما وصف تماما وهذا هو السلف في الصناعات ويصح ويلزم إذا انطبقت عليه الشروط التي ذكرناها آنفا.
ومما ذكره المالكية على وجه الخصوص هنا هو أن لا يشترط أن يصنع المسلم فيه رجل بعينه فلا يصح لأنه قدم نقده وهو لا يضمن أيسلم الرجل إلى ذلك الأجل، أم لا، فهذا من الغرر لأن الرجل إذا مات قبل ما اتفق على صناعته يكون المسلم إليه قد انتفع بالثمن باطلا (1) .ولا أن يشترط عليه أن يصنع المسلم فيه من مادة قد أراه إياها لأنه لا يدري أتسلم تلك المادة إلى ذلك الأجل أم لا وهو من الغرر أيضا (2) .
وفائدة عقد السلم في الصناعات إذا خلا من الشروط الفاسدة تعظم جدا إذا علمنا أن الخلاف بين الفقهاء كبير في لزوم عقد الاستصناع أو عدم لزومه، وعقد السلف في الصناعات لازم بغير خلاف.
__________
(1) المدونة الكبرى 3/127
(2) المدونة الكبرى 3/127(9/309)
ثانيا: تظل فائدة عقد السلم التي ارتأتها حكمة الشارع يوم أن أجازه استثناء باقية أبد الدهر وهي احتياج البائع للثمن ليستعين به على إخراج المسلم فيه أو ليسد به حاجات معيشته إلى وقت التسليم. وكذلك حاجة المسلم للمسلم فيه. والاحتياط لازم في عقود السلم حتى لا تدخلها شوائب الربا والغرر والمخاطرة التي حظرها الشارع.
1- قد بينا فيما سبق والحمد لله تعريف بيع السلم وبيان مشروعيته وكونها أصيلة أو على خلاف القياس وكذلك الشروط المطلوبة في المسلم فيه ورأس مال السلم.
2- وكذلك بينا المعاملات والسلع التي يجوز فيها السلم بشروطه، وهي:
أ - يجوز السلم في جميع المحصولات الزراعية كالتمر والحبوب المختلفة والحنطة والفاكهة والبقول والخضروات.
ب - يجوز السلم في الحيتان والطير والدجاج والبيض.
ج- أجاز المالكية وغيرهم السلف في لبن حيوانات بأعيانها ويجب أن يشترط الأخذ في إبانه وقبل انقطاعه.
د- يجوز السلم في لحوم الحيوانات وأجزاء الحيوان كالأكارع والرؤوس وغيرها بما ذكرناه من الشروط.
هـ- يجوز السلم في الحطب والخشب وما شابههما في المواد.
و يجوز السلم في المعادن كالحديد والنحاس والصفر والرصاص وغيرها ولا يجوز في الذهب والفضة لأمر الشارع أن تكون المعاملة فيهما يدا بيد.
ز- يجوز السلم في العطور بأنواعها.
ح- يجوز السلم في اللؤلؤ والجوهر والزجاج والحجارة والزرنيخ وما شابهها.
ط- يجوز السلم في الثياب والمواد التي تصنع منها كالكتان والقطن وما إلى ذلك.
ي- يجوز السلم في الصناعات بأنواعها بالشروط التي ذكرناها.(9/310)
المواد التي لا يجوز السلم فيها:
أ - لا يجوز السلم في نسل الحيوانات وإن كانت موصوفة، وقال المالكية: وإنما يكون التسليف في الحيوان مضمونا لا في حيوان بأعيانها ولا في نسلها (1) .
ب - وعند المالكية وغيرهم لا يصح السلم في تراب المعادن ولا بأس أن يشتري يدا بيد وذلك لأن صفته غير معروفة (2) .
ج- ولا يصح عندهم السلم في تراب الصواغين لأنه رماد لا يدري ما فيه (3) .
د- ولا يجيزون سلم دراهم في فلوس وكذلك الدنانير إذا أسلمها في الفلوس وكذلك لو باع فلوسا بدراهم إلى أجل أو بدنانير إلى أجل لا يصح ذلك عند الإمام مالك رضي الله عنه ولا في الفلوس جميعها قال: لأن الفلوس عين ولأن هذا صرف. وسئل عن إسلام فلوس من نحاس في نحاس فقال: لا خير في ذلك ولا يدا بيد لأنه من المزابنة (4) .
3- هل تعد السلعة الواحدة ذات العلامة التجارية (الماركات) المتعددة صنفا واحد أم أصنافا متعددة؟ وما هو أثر اختلاف العلامات التجارية (الماركات المسجلة) في تعدد أصناف السلع المسلم بها؟
بينا عند كلامنا في شروط المسلم فيه أن من أهم شروطه التي نص عليها الشارع أن يكون موصوفا وصفا كافيا يمنع النزاع. والوصف إنما يكون بالمتعارف عليه بين الناس في كل بلد أو بيئة تجارية معينة، وضرب الفقهاء أمثلة من أنواع التمر المختلفة وأنه لا بد من بيان نوع التمر المراد باسمه وإلا فسد السلم. وعليه أرى أنه إذا اشترط رب السلم ماركة تجارية معينة فلا بد من الوفاء بها خاصة إذا كانت الماركات التجارية ذات شهرة تجارية متفاوتة فالإعلانات التجارية المكلفة وتجارب الناس تجعل الإقبال على ماركة تجارية معينة أكبر بكثير من ماركة أخرى لنفس السلعة.
__________
(1) المدونة الكبرى 3/120
(2) المدونة الكبرى 3/127
(3) المدونة الكبرى 3/127
(4) المدونة الكبرى 3/128(9/311)
ولكن يجوز أن يشترط في عقد السلم تسليم سلعة معينة موصوفة من أي ماركة تجارية يجدها المسلم إليه، ففي هذه الحالة لا حرج أن يدفع السلعة بأوصافها المذكورة من أي ماركة تجارية يجدها طالما أن رب السلم قد أعطاه الحق في ذلك وطالما أن السلعة نفسها قد وصفت وصفا يعين نوعها واسمها وفرقها من مثيلاتها.
اشتراط قبض بضاعة المسلم قبل بيعها والحكمة في ذلك، وهل يغني عن القبض التحقق من قدرة المسلم على توفير السلعة عند حلول الأجل، أو التأمين على السلعة المسلم فيها، أو وجودها في مخازن عمومية؟؟
يكاد الفقهاء يجمعون أن المسلم فيه يجب أن يكون دينا في الذمة لأن السلم أصلا نوع من المداينة. ولكن اختلفوا فيما إذا كان من شروط السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه. اشترط أبو حنيفة وجود المسلم فيه في الأسواق من حين العقد إلى حين الأجل مخافة أن يحين أجل تسليم المسلم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غررا. وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: المرعي وجوده عند الأجل.
وقد أوردنا في نقاش شروط المسلم فيه أقوالا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسلفون في الحنطة والشعير والزيت دون أن يسألوا المسلم إليهم ألهم حرث أم لا؟ أو يتحرون أن يكون المسلم إليه عنده أصل السلعة المسلم فيها. (1) . وقد ترك الشارع الكريم الأمر إلى رب السلم وثقته في المسلم إليه وتعامله معه ولم يشترط قدرة المسلم إليه على التسليم أو أن يكون مالكا لأصل العين أو لوسيلة إنتاجها.
وبما أن المسلم فيه دين في الذمة فلا أرى جواز بيعه قبل القبض وأرى في ذلك تجاوزا للاستثناء الخاص في عقد السلم وهو بيع المسلم إليه ما ليس عنده خلافا للنص ((لا تبع ما ليس عندك)) فلا يجوز أن يتعداه إلى بيع رب السلم السلعة المسلم فيها قبل قبضها وذلك يضاعف المخاطرة ويتجاوز مقدار المخاطرة الذي استثني للضرورة. وكذلك لا يحل هذا البيع من وجه آخر وهو نص الشارع الكريم في الحديث عن حكيم بن حزام بن خويلد أنه قال: يا رسول الله إني رجل أشتري هذه البيوع فما تحل لي منها، وما تحرم علي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا ابن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه)) (2) .
وفي رواية أخرى: ((إذا بعت بيعا فلا تبعه حتى تستوفيه)) (3) وخاصة في الطعام فلا يجوز بيعه قبل أن يستوفى لما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري 3/44- 45
(2) سنن الدارقطني 3/9
(3) سنن الدارقطني 3/9(9/312)
وعليه لا أرى إصدار سندات سلم قابلة للتداول وأرى فيه تجاوزا لحد الضرورة التي استثنى لها الشارع عقد السلم مع ما فيه من مخالفة للأصل.
عجز البائع عن تسلم البضاعة عند حلول الأجل في السلم ومشروعية الشرط الجزائي عن تأخير تسليم البضاعة:
ذكرنا في هذا المجال حديثا لأبي داود وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه لغيره)) (1) . والحديث: ((من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ما أسلف أو رأس ماله)) مفهوم هذه الأحاديث إن صحت أنه إذا عجز المسلم إليه عن تسليم السلعة المتفق عليها فلا يأخذ المسلم إلا رأس ماله فقط. ولكن الإشكال أن المسلم إليه قد انتفع بالثمن طيلة المدة المتفق عليها فهل يسكت على ذلك؟؟
أجاز المالكية جواز استبدال السلعة المسلم فيها بغيرها إذا حان الأجل ولم يستطع المسلم إليه تسليم ما اتفق عليه. جاء في المدونة الكبرى: أن مالكا رضي الله عنه أجاز استبدال حنطة مسلم فيها بشعير وكذلك إذا أسلف في شعير فلما حل الأجل أخذ سمراء مكان الشعير. وكذلك يصح في قول مالك إذا أسلم الرجل في لحم فلما حل الأجل أراد أن يأخذ شحما أو أسلف في لحم المعز فلما حل الأجل أراد أن يأخذ لحم الضأن أو لحم إبل أو لحم بقر (2) .
وجاء في مكان آخر في المدونة عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد أنه قال: إذا أسلفت في ريطة فأعطاك قميصا أو قميصين أو قطيفة أو قطيفتين فلا بأس إن وجد تلك الريطة التي أسلمت فيها أو لم يجدها لأنك لو أسلفت الريطة بعينها فيما أخذت منه لم يكن بذلك بأس (3) . وكذلك ذكر عن الليث بن سعد عن ربيعة أنه قال في رجل أسلف صيادا دنانير على صنف من الطير كل يوم كذا وكذا طائر فجاءه فلم يجد عنده من ذلك الصنف شيئا أو وجد عنده عصافير فأعطاه عشرة عصافير بطائر واحد مما اشترط عليه، قال ربيعة: عشرة من الطير بواحد حلال وأنا أرى ذلك حلالا كله السلف للصياد وعشرة بواحدة. (4) .
وأنا أرى أن هذا الذي ذهب إليه المالكية مخرجا وجيها إذا حل الأجل ولم يستطع المسلم إليه تسليم السلعة ويمكن أن يشترطا ذلك ابتداء أو يتفقا عليه عند عدم القدرة على تسليم المسلم فيه.
ومن المعلوم جيدا أنه لا يمكن أن يكون شرط جزائي بتعويض مالي لأن ذلك يكون ربا لا شك فيه.
د. محمد عطا السيد سيد أحمد
__________
(1) سنن أبي داود 3/276 (بيروت: دار الفكر)
(2) المدونة الكبرى 3/136
(3) المدونة الكبرى 3/126
(4) المدونة الكبرى 3/126(9/313)
السلم وتطبيقاته المعاصرة
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
والشيخ علي نظري منفرد
بسم الله الرحمن الرحيم
السلم وتطبيقاته المعاصرة:
1- تعريف بيع السلم وبيان مشروعيته وكونها أصلية أو على خلاف القياس، وشروط صحته وحكمته (بإجمال) .
2- بيان أنواع المعاملات التي يجوز فيها السلم، وبيان أنواع السلع التي يجري فيها.
3- مفهوم صفة (التعيين) في السلع التي يمتنع معها السلم.
4- هل تعد السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية (الماركات) المتعددة صنفا واحدا أم أصنافا متعددة؟ أثر اختلاف العلامات التجارية (الماركات المسجلة) في تعدد أصناف السلع المسلم فيها.
5- اشتراط قبض بضاعة السلم قبل بيعها والحكمة في ذلك، وهل يغني عن القبض التحقق من قدرة المسلم على توفير السلعة عند حلول الأجل، أو التأمين على السلعة المسلم فيها، أو وجودها في مخازن عمومية منظمة؟
6- استخدام صفقتي سلم متوافقتين دون ربط بينهما (السلم الموازي) .
7- عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الأجل في السلم ومشروعية الشرط الجزائي عن تأخير تسليم البضاعة.
8-إصدار سندات سلم قابلة للتداول وضوابط ذلك في حال الجواز.(9/314)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
أما بعد فالموضوع السادس من الموضوعات المقترح طرحها على الدورة التاسعة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي هو السلم وتطبيقاته المعاصرة، فالبحث عن السلم وتطبيقاته المعاصرة يستدعي البحث في مطالب:
المطلب الأول
في تعريف السلم وبيان مشروعيته
وكونها أصلية أو على خلاف القياس وشروط صحته وحكمته (بإجمال) ففي هذا المطلب أمور أربعة:
الأمر الأول – في تعريف بيع السلم:
وقبل التعريف لا بد أن توضح الكلمة التي أضيف إليها لفظ البيع وهي كلمة (السلم) .
والسلم بفتح السين واللام مرادف للفظ السلف ومعناه: إثبات مال في الذمة بمبذول في الحال، وهذا شامل للقرض أيضا لأنه إثبات مال في ذمة المقترض بمبذول من المقرض في الحال كما هو شامل لبيع السلم، وفي المنجد: السلف القرض الذي لا منفعة فيه للمقرض وعلى المقترض رده كما أخذه (1) . قال بعض الأعلام: وهو (أي السلف) في المعاملات على وجهين: أحدهما القرض الذي لا منفعة فيه للمقرض غير الأجر والشكر وعلى المقترض رده كما أخذه، والعرب تسمى القرض سلفا، والثاني هو أن يعطي مالا في سلعة إلى أجل معلوم، بزيادة في السعر الموجود عند السلف، وذلك منفعة للمسلف ويقال له (سلم) دون الأول، وهو يقابل (النسيئة) (2) والمقصود بالبيان هنا هو السلم في البيع.
قال ابن منظور: يقال أسلم وسلّم إذا أسلف وهو أن تعطي ذهبا وفضة في سلعة معلومة إلى أمد معلوم فكأنك قد أسلمت الثمن إلى صاحب السلعة وسلمته إليه. (3) .
وقال الفيومي: السلم في البيع مثل السلف وزنا ومعنى (4) .
ومعناه الاصطلاحي قريب من معناه اللغوي وهو عبارة عن ابتياع مال مضمون إلى أجل معلوم بمال حاضر أو في حكمه (5) .
__________
(1) المنجد: مادة سلف
(2) مجمع البحرين 5/72 مادة سلف
(3) لسان العرب 12/295
(4) المصباح المنير: 286
(5) شرائع الإسلام(9/315)
وعرفه بعض بأن السلم أو السلف عبارة عن بيع شيء موصوف في الذمة بشيء حاضر أو ما في حكمه والمراد مما في حكم الحاضر ما يقابل الموصوف المضمون إلى أجل في الذمة ولم يكن حال العقد حاضرا بل في حكم الحاضر، غاية الأمر لا بد من إقباضه قبل التفرق (1) .
وعن بعضٍ: السلم بفتح السين واللام: اسم مصدر لأسلم، ومصدره الحقيقي الإسلام، ومعناه في اللغة: استعجال رأس المال وتقديمه ويقال للسلم سلف لغة إلا أن السلم لغة أهل الحجاز والسلف لغة أهل العراق (2) .
وأما ما قيل في تعريفه: السلم هو شراء آجل بعاجل. (3) ففيه ما لا يخفى؛ لأن هذا التعريف ناظر إلى ما يعمل المسلم ويشتريه لا إلى بيان إلى حقيقة السلم الذي هو عبارة عن العقد ولذا عبروا عنه بالبيع. قال في التذكرة: (السلم والسلف عبارتان لمعنى واحد وهو بيع شيء موصوف في الذمة بشيء حاضر) (4) .
وعرفه بعض بالعقد كما في الجواهر نقلا عن الدروس. (5) .
فعلى ضوء هذه التعاريف عن بيع السلم إنه عبارة عن:
بيع كلي موصوف مؤجل بثمن حال عكس النسيئة.
ويقال للمشتري: المسلم (بكسر اللام) وللبايع: المسلم إليه، وللمبيع: المسلم فيه وللثمن: المسلم بفتح اللام.
__________
(1) جامع المدارك 3/316
(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/302
(3) الفقه على المذاهب الأربعة 2/302
(4) مجمع الفائدة للأرديبلي 8/303
(5) جواهر الكلام 24/267(9/316)
الأمر الثاني – في بيان مشروعية بيع السلم:
قد ذكر في الأمر الأول في تعريفه أنه بيع فنذكر هنا مشروعية بيع السلم والدليل على مشروعيته من الكتاب العزيز العمومات الواردة فيه مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] .
وتقريبه أن بيع السلم قسم من أقسام البيوع والمعاملات المتداولة والعقود المتعارفة بين الناس فتشمله العمومات والإطلاقات الواردة في الكتاب الدالة بعمومها أو إطلاقها على مشروعية هذا القسم من العقد والبيع الذي كان الثمن فيه حالا والمثمن مؤجلا مضافا إلى ما نقل عن ابن عباس أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه، أي في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . ولعله لعموم اللفظ. (1) .
هذا بالنسبة إلى ما ورد في الكتاب من الآيات التي دلت بعمومها أو إطلاقها على مشروعية بيع السلم وأما السنة فهي الأحاديث المأثورة في مشروعية بيع السلم وهي كثيرة بل يقال: إن السنة قد تواترتفيه (2) فنذكر جملة منها ما نقل الشيخ الطوسي عن:
1- علي بن إبراهيم عن أبيه عن إسماعيل بن مرار عن يونس عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس بالسلف في المتاع إذا سميت الطول والعرض)) (3) .
2- علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل باع بيعا ليس عنده إلى أجل وضمن البيع قال: لا بأس به (4) .
__________
(1) جواهر الكلام 24/268
(2) جواهر الكلام 24/268
(3) التهذيب 7/27
(4) التهذيب 7/28(9/317)
3- وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد عن علي بن النعمان عن ابن مسكان عن سليمان بن خالد في حديث أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن رجل يسلم في غير نخل ولا زرع قال: يسمي شيئا مسمى إلى أجل مسمى. (1) .
4- وعن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول والعرض. (2) .
5- محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه قال: حدثنا صدقة أخبرنا ابن عيينة أخبرنا ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (3) .
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في مشروعية بيع السلم كما لا يخفى على من أمعن النظر فيها ولاحظها.
وأما الإجماع فقد ذكر صاحب الجواهر إجماع المسلمين على جوازه حيث قال: وكيف كان فقد أجمع المسلمون على جوازه، كما أن السنة قد تواترت فيه (4) .
وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز (5) .
وذكر بعض: قد أجمع أئمة المسلمين على جوازه (6) .
وعن العلامة: وقد أجمع المسلمون على جوازه (7) .
هذا تمام الكلام في مشروعية بيع السلم من الكتاب والسنة والإجماع.
__________
(1) وسائل الشيعة 13/55
(2) وسائل الشيعة 13/54
(3) صحيح البخاري 3/111
(4) جواهر الكلام 24/268
(5) الفقه على المذاهب الأربعة 4/598
(6) الفقه على المذاهب الأربعة 2/304
(7) مجمع الفائدة للأردبيلي نقلا عن التذكرة 8/346(9/318)