مدى إمكانية رد السندات إلى المضاربة الشرعية:
السندات التي تصدرها الحكومات أو البنوك الربوية أو الشركات بصورتها الحالية عقد قرض بفوائد محددة سنويا، فهي إذن من الربا المحرم حسب التكييف الشرعي - كما سبق -.
ولكنه مع ذلك إذا أريد أن تكون هذه السندات مشروعة لا بد أن تصاغ عقودها وإصداراتها على أساس المضاربة الشرعية التي يكون للمضارب ورب المال المشاركة في الربح حسب الاتفاق، وإذا حدثت الخسارة فإن رب المال يتحملها، فإذا صيغت بهذه الصورة فلا مانع منها شرعا إذا لم يكن متضمنة أمورا أخرى لا يجيزها الشرع.
وكذلك يمكن صياغتها على أساس عقود المشاركات أو أي عقد لا يتوفر فيه مصادمة مع نص شرعي، وذلك لأن الأصل في العقود والشروط الإباحة إلا إذا دل دليل على الإفادة منها (1) .
وقد وضع قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي مجموعة من الضوابط يمكن الإفادة منها (2) .
العقود التي يمكن أن تصاغ منها الصكوك أو السندات المشروعة:
1- المضاربة بجميع صورها - كما سبق -.
2- المشاركة بجميع صورها - كما سبق -.
3- الإجارة، وقد سبق أننا ذكرنا شهادات التأجير أو الإيجار المتناقصة - كما سبق-.
ويمكن صياغة صكوك للإجارة المنتهية بالتمليك، بحيث تصدر سندات لمشروع خاص يقوم به البنك، ثم يتفق مع مجموعة من الناس (أو شخص أو جهة) أن يؤجره لهم على شكل الإيجار المنتهي بالتمليك فيصدر البنك مجموعة من السندات لهذا المشروع.
وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي بشأن التأجير المنتهي بالتمليك هذا نصه:
__________
(1) يراجع رسالتنا للدكتوراه مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة، طبعة دار البشائر الإسلامية 1985، بيروت (2 / 1448) ، أثبتنا بالأدلة هذا الأصل
(2) وهو قراره المرقم 5 في الدورة الرابعة المنعقدة بجدة في18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ.(8/908)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (6) 5 / 9 / 1988
بشأن الإيجار المنتهي بالتمليك
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ الموافق 10ـ15 ديسمبر 1988.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
واطلاعه على قرار المجمع في الدورة الثالثة بشأن الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية رقم (1) فقرة (ب) بخصوص عمليات الإيجار.
قرر
أولًا: الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى، منها البديلان التاليان:
الأول: البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية.
الثاني: عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور التالية:
• مد مدة الإجارة.
• إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها.
• شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
ثانيًا: هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة بعد تقديم نماذج لعقودها وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود بالتعاون مع المصارف الإسلامية بدراستها وإصدار القرار بشأنها. والله أعلم.
وقد صدرت فتوى عن الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي 1981 بشأن التأجير المنتهي بالتمليك تنص على أنه:
إذا وقع التعاقد بين مالك ومستأجر على أن ينتفع المستأجر بمحل العقد بأجرة محددة بأقساط موزعة على مدة معلومة على أن ينتهي هذا العقد بملك المستأجر للمحل فإن هذا العقد يصح إذا روعي فيه ما يأتي:
أـ ضبط مدة الإجارة وتطبيق أحكامها طيلة تلك المدة.
ب ـ تحديد مبلغ كل قسط من أقساط الأجرة.
ج ـ نقل الملكية إلى المستأجر في نهاية المدة بواسطة هبتها إليه تنفيذًا لوعد سابق بذلك بين المالك والمستأجر.
مجالات تطبيق الإجارة المنتهية بالتمليك:
يمكن تطبيقها في نطاق العقارات أرضًا أو بناءً أو موزعة، وفي الآلات والمعدات المختلفة، وفي السفن والطائرات والسيارات وأجهزة الكمبيوتر ونحوها.
ويمكن كذلك إصدار سندات للإجارة العادية (أي غير منتهية بالتمليك) سواء أكانت إجارة الأعيان منقولة أم غير منقولة أم إجارة على الأعمال.
والبنوك الإسلامية اليوم تستخدم إجارة الأعيان بشكل واسع فتشتري السفن أو الطائرات وتؤجرها في مقابل أجرة معينة، ويمكن توسيع نطاقها إلى جميع الأعيان، وتنظم حالاتها من خلال عقود نمطية.(8/909)
والإجارة كما هي معروفة إما إجارة على عين معينة كتحديد عقار معين للاستئجار أو على شخص، أو على شيء موصوف في الذمة مثل الإجارة على أن يلتزم البنك بتوفير سفينة موصوفة بالأوصاف الدقيقة لإيجارها.
ويمكن إصدار سندات بالإجارة بكل أنواعها في مشروعات معينة، يقوم البنك بتخصيصها لهذه المشروعات على ضوء الضوابط الشرعية (1) .
4 ـ المزارعة: وهي شركة في الزرع بحيث يقدم صاحب الأرض المزروعة أرضه والآخر عمله وجهده الزراعي ويكون الناتج من الزرع بينهما حسب الاتفاق.
5 ـ وكذلك الأمر في المساقاة: وهي شركة في الثمرة ويقدم صاحب الأشجار أشجاره والآخر يقوم برعايتها على أن يكون الناتج من الثمر بينهما حسب الاتفاق.
وهذان العقدان محل إجماع بين الفقهاء (2) ويمكن صياغة صكوك المزارعة وصكوك المساقاة على غرار صكوك المضاربة التي ذكرناها.
6، 7 ـ صكوك السلم وبيع الأجل:
كذلك يمكن إصدار صكوك بعقد السلم تنظم فيه مسائله حيث إنه يعالج العقود التي ترد على السلع المستقبلية، كما أن بيع الأجل يعالج الأثمان الآجلة، ويمكن صياغة صكوك في هذين النوعين بضوابطهما الشرعية، ولا سيما في السلم (3) ، وسيأتي له تفصيله.
8 ـ صكوك الاستصناع:
وهذا النوع في نظري أهم الأنواع في علاج كثير من الموضوعات المعاصرة، ومع ذلك لم يول عناية مناسبة، لذلك سيكون بحثنا الخاص بالاستصناع منصبًّا على هذا الجانب بشكل تأصلي إن شاء الله (4)
__________
(1) يراجع لمزيد من التفاصيل فتح القدير (9 / 57) ، وبدائع الصنائع (5 / 2554) ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4 / 2) ، وبداية المجتهد (2 / 219) ، وكتاب الأم للشافعي (7 / 139) ، والغاية القصوى، (2 / 619) ، والمغني لابن قدامة: (5 / 432) .
(2) حيث ذكر ابن المنذر وغيره الإجماع فيهما. انظر الإجماع لابن المنذر طبعة قطر (صفحة 100) ، والمغني لابن قدامة (4 / 485 ـ 5 / 596) .
(3) يراجع في تفصيل ذلك بحثنا في القبض، المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة
(4) يراجع في تفصيل ذلك بحثنا في الاستصناع، الذي قدم إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة.(8/910)
9 ـ المرابحة:
كما هي معروفة، وقد ألفت فيها كتب كثيرة ولاسيما في عصرنا الحاضر حيث لا تزال البنوك الإسلامية تعتمد عليها اعتمادًا كبيرًا باعتبارها أسلوبًا مرنًا من أهم أساليب التداول الشائعة (1) .
وقد نوقش في ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي التي عقدت بتونس في 4ـ7 نوفمبر 1984. كيفية صياغة صكوك بيع المرابحة باعتباره من أبرز الأمثلة المختارة لبيع الحصص الاستثمارية، حيث يمكن بعد إتمام العقد معرفة الربح وموعد تحققه ونسبة ما يستحق من الزمن وما يتبقى كما هو باقي من الأيام (2)
وكان مبنى الفكرة المعروضة على العلماء المشاركين في الندوة قائمًا على أن تنشأ شركة تابعة لبنك البركة الإسلامي في البحرين تكون متخصصة في تمويل المرابحة وتكون أسهمها قابلة للبيع والشراء وفق أسعار معلنة مقدمًا على أساس محسوب تبعًا للعمليات المنفذة والأرباح المستحقة في بيوع المرابحة القائمة باعتبار أن السهم في الشركة التابعة يمثل جزءا شائعًا في موجودات الشركة بكاملها (3)
ضمانات السندات:
يوجد عادةً حسب النظام السائد ـ نوعان من الضمان لأصحاب هذه السندات هما:
النوع الأول: أن تعطي الجهة المصدرة ضمان رأس المال أو رأس المال وفوائدها وقد تقوم جهة ثانية بإعطاء هذا الضمان لمن يشتري هذه السندات.
النوع الثاني: خلو السندات عن أي ضمان، وهذا ما يقع بالنسبة للشركات الكبرى حيث تعتمد على سمعتها وثقة الناس بها بحيث تصبح قابلة للتداول ما دامت الشركة الكبيرة الفلانية أصدرتها (4)
__________
(1) يراجع كتاب الشيخ يوسف القرضاوي في المرابحة طبعة المؤسسة
(2) د. سامي حسن حمود: بحثه عن خطة الاستثمار في البنوك الإسلامية المقدم إلى المؤتمر السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت)
(3) المرجع السابق نفسه والعلماء الذين حضروا هذه الندوة هم: الشيخ عبد الحميد السائح رئيسًا ـ الشيخ زكريا البري عضوًا ـ الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير عضوًا ـ الشيخ محمد الحبيب بلخوجه عضوًا ـ الدكتور / حسين حامد عضوًا ـ الشيخ محمد السعدي فرهود عضوًا ـ الدكتور / عبد الستار أبو غده عضوًاـ الدكتور / حسن عبد الله الأمين عضوًا ـ الدكتور / عبد الوهاب أبو سليمان عضوًا ـ الدكتور / محمد إبراهيم عضوًا ـ الدكتور / محمد الطيب النجار عضوًا ـ الدكتور / عبد اللطيف آل محمود عضوًا ـ الدكتور بابكر عبد الله إبراهيم عضوًا ـ الشيخ أبو تراب الظاهري عضوا ـ الشيخ المختار السلامي عضوًا ـ الحاج أحمد بزيع الياسين عضوًا مراقبًا ـ الدكتور سامي حسن حمود مقرر اللجنة.
(4) يراجع د. معبد الجارحي: المصارف الإسلامية والأسواق المالية، بحث مقدم إلى المؤتمر الثالث للمصارف الإسلامية بدبي أكتوبر 1985 ص17(8/911)
ولكن السندات في ظل النظام الرأسمالي لا تخلو من تحديد فوائدها مقدمًا كما أنه من الطبيعي استرداد رأس مالها وفوائدها حسب المدة المتفق عليها مقدمًا.
وفي الفقه الإسلامي لا يجوز بالإجماع (1) ضمان رأس مال الصكوك من قبل الجهة المصدرة ولكنه يجوز أن تقوم جهة ثانية ـ كالدولة مثلًا ـ بإعطاء هذا الضمان للسندات التي أصدرتها البنوك أو الشركات. وهذا ما أجازه مجمع الفقه الإسلامي في قراره رقم 5 في دورت هالرابعة بجدة في 18ـ23 جمادى الآخرة 1408هـ، القاضي بأنه: "ليس هناك ما يمنع شرعًا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المضاربة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزامًا مستقلًّا عن عقد المضاربة ".
ومن المعلوم بداهةً حرمة الفوائد المضافة إلى رأس المال في السندات (وفي غيرها) وكذلك ضمانها.
كذلك لا مانع شرعًا من أن تضمن الجهة المصدرة للصكوك قيامها بشرائها تطمينًا لمن يشتريها وهذا هو الحال في شهادات الإصدار اللاحقة من شهادات الاستثمار للبنك الإسلامي للتنمية حيث يتمتع هذا النوع بإمكانية التسييل بإحدى الوسيلتين.
الأولى: البيع إلى مؤسسة مصرفية إسلامية بالسعر الذي يتفق عليه وذلك بعد فترة الاكتتاب والتشغيل الفعلي.
الثانية: شراء البنك الإسلامي للتنمية، حيث تعهد بشراء ما قد تعرض البنوك الإسلامية بيعه مما تملكه من شهادات وذلك بحد أقصى 50 % مما يملكه البنك الواحد من الإصدار الأساسي (2)
__________
(1) الإجماع للإمام ابن المنذر تحقيق د. فؤاد عبد المنعم، طبعة دولة قطر ص 98، وكذلك صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الرابعة بجدة من 18ـ23 جمادى الآخرة 1408هـ حيث جاء فيه: " 4 ـ لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المضاربة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال"
(2) د. محمد فيصل الأخوة: بحثه عن الأدوات المالية الإسلامية والبورصات الخليجية قدم إلى مجمع الفقه في دورته السادسة.(8/912)
المبحث الثالث
الاستفادة العملية من العقود في سوق المال الإسلامية
ذكرنا فيما سبق أن العقود التي يمكن صياغة الصكوك منها تسعة عقود مع مراعاة الضوابط الشرعية لكل عقد، ونقول هنا: إنه لا مانع من التفكير في أي عقد جديد يصلح أن يكون أداة من أدوات السوق ما دام لا يتعارض مع نصوص الكتاب والسنة والإجماع الصريح، وذلك لأن الأصل في العقود والشروط الإباحة إلا إذا دل دليل على حرمتها (1)
وبما أن المجمع الموقر في ورقته قد طرح عدة أمور وعقود لبحثها، لذلك سنخصصها بمزيد من البحث:
1 ـ الاستفادة من السلم:
السلم كما هو معروف بيع شيء موصوف في الذمة إلى أجل معلوم بثمن معجل، أو أنه عقد على موصوف في الذمة، ويجوز أن يكون الثمن نقودًا أو غيرها، والمسلم فيه أي شيء يمكن ضبطه عن طريق الوصف، ويشترط فيه تعجيل الثمن في مجلس العقد عند الجمهور، وعدم تأخيره أكثر من ثلاثة أيام عند المالكية (2) ، وأن يكون الأجل معلوما، إما تحديدا، أو حسب العرف كالحصاد والجذاذ، والمقدار محدد وزنًا أو وكيلًا، أو عددا، أو ذرعًا، وأن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها، وأن يكون مقدور التسليم عليه عند الحلول.
والسلم يمكن أن يكون في جميع السلع والمعادن، والحيوان والبضائع، وحتى في المنافع عند جماعة من الفقهاء، كما أنه يمكن تجزئة تسليم المسلم فيه على أوقات متفرقة معلومة، وأيضًا يمكن أن يكون سلمًا حالًّا، أو مؤجلًا، وكذلك يمكن أن يكون رأس مال السلم نقدًا، أو سلعة أو طعامًا، أو حيوانًا، أو نحو ذلك (3) .
والمقصود أن دائرة عقد السلم واسعة تسع كثيرًا من الأمور، ولذلك يمكن الإفادة منه في سوق المال الإسلامية إفادة كبيرة، باعتباره عقدًا فيه مرونة كبيرة، ويحقق كثيرًا من مصالح المجتمع، ومنافع للعاقدين، ولاسيما لمن لم يكن لديه السيولة، أو لديه الأعيان في المستقبل، أو هو قادر على توفيرها في الوقت المحدد، كما أن تداول عقود السلم يؤدي إلى نوع من الضمان، والتشجيع على الإنتاج المستقبلي في الزراعة والصناعة ونحوهما.
__________
(1) وقد رجحنا ذلك، وأثبتنا أن هذا هو رأي جمهور العلماء وذلك في رسالتنا للدكتوراه: مبدأ الرضا في العقود دراسة مقارنة ط. دار البشائر (2 / 1148ـ 1163)
(2) يراجع لتفصيله: فتح القدير: ط. مصطفى، بالقاهرة (7 / 69) ، وحاشية ابن عابدين: ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت (4 / 203) . والمدونة: ط. السعادة، مصر 1323هـ (4 / 0002) ، والمقدمات والممهدات: ط. دار الغرب الإسلامي (2 / 19) ، والأم: ط. دار المعرفة ـ بيروت (3 / 89) . والغاية القصوى: ط. دار الاعتصام (1 / 493) ، والروضة: ط. المكتب الإسلامي (4 / 3) . والمحلى لابن حزم (10 / 45) والمغني. (4 / 3ـ4) .
(3) المصادر السابقة، ويراجع: الغاية القصوى (1 / 494) ، والمغني (4 / 304) .(8/913)
ففيه فائدة للمسلم إليه (البائع) حيث يستفيد من السيولة المتحققة لديه للإنتاج الزراعي، أو الصناعي، أو التجارة، كما أن المسلم (المشتري) يستفيد من تصريف نقوده وتدويرها واستثمار فائض أمواله من خلال رخص الثمن، وتحقيق الأرباح.
وإدارة سوق المال يمكن الإفادة منها من خلال تداول عقود السلم، وصكوكه والسمسرة فيها ونحو ذلك.
التصرفات في المسلم فيه:
تصرفات المسلم في المسلم فيه إما أن تكون بعد القبض، أو قبله، ولذلك تنقسم إلى نوعين:
النوع الأول: التصرفات في المسلم فيه بعد القبض:
فللمسلم (المشتري) بعد قبض المسلم فيه (حسب العرف) (1) جميع التصرفات المشروعة من بيع عاجل، وآجل، ومرابحة، ومشاركة، وتولية، وتأجير، ورهن ونحو ذلك بدون خلاف، لأنه دخل في ملكه التام.
__________
(1) يراجع قرار مجمع الفقه الإسلامي الموقر في تحديد القبض في دورته السادسة، وبحثنا في القبض وصوره المعاصرة المقدم إلى تلك الدورة(8/914)
الثاني: التصرف في المسلم فيه قبل القبض:
هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل لأنها تحتمل عدة احتمالات:
الاحتمال الأول: التصرف فيه عن طريق الاعتياض عنه ممن عليه السلم.
الاحتمال الثاني: بيع المسلم فيه لشخص آخر.
الاحتمال الثالث: التصرف في المسلم فيه بالمشاركة،والحوالة، والتولية، ونحو ذلك.
الاحتمال الرابع: أن ينفسخ عقد السلم بالإقالة أو نحوها، فهل يجوز أن يصرف الثمن في عوض آخر غير المسلم فيه.
ومجمع الفقه الإسلامي تحدث في قراره في دورته السابعة عن حالة واحدة وهي:
"عدم جواز بيع السلعة المشتراة قبل قبضها"، ولذلك أرى إعادة الموضوع بكامله وطرحه على بساط البحث والمناقشة للوصول إلى رؤية شاملة واضحة.
وهأنذا أعرض هذا الموضوع بجمع جوانبه واحتمالاته وما ثار فيه من خلاف، وما نراه راجحًا على ضوء ما يأتي:
الاحتمال الأول: ـ الاعتياض عن المسلم فيه من المسلم نفسه عند حلول الأجل:
وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم (رحمهما الله) في هذه المسألة، ننقل منهما بعض النصوص (1)
جاء في مجموع الفتاوى: "سئل ـ رحمه الله ـ عن رجل أسلف خمسين درهمًا في رطل من حرير إلى جل معلوم، ثم جاء الأجل فتعذر الحرير، فهل يجوز أن يأخذ قيمة الحرير؟ أو يأخذ عوضه أي شيء كان؟
فأجاب: "هذه مسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد:
إحداهما: لا يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره كقول الشافعي.
__________
(1) مجموع الفتاوى (29 / 503ـ519) ، وشرح سنن أبي داود لابن القيم، بهامش عون المعبود (9 / 353) .(8/915)
والقول الثاني: يجوز ذلك، كما يجوز في غير دين السلم وفي المبيع من الأعيان وهو مذهب مالك، وقد نص على هذا في غير موضع، وجعل دين السلم كغيره من المبيعات، فإذا أخذ عوضًا غير مكيل، ولا موزون يقدر دين السلم حين الاعتياض لا بزيادة على ذلك، أو أخذ نوعه يقدره مثل أن يسلم في حنطة فيأخذ شعيرًا بقدر الحنطة، فإنه يجوز، وقد ذكر ذلك طائفة من الأصحاب، لكن في بعض الصور.. روايتان".
ثم قال: " وأما المطلعون على نصوص أحمد فذكروا ما هو أعم من ذلك وأنه يجوز الاعتياض عن دين السلم بغير المكيل والموزون مطلقًا.. وكذلك إن أخذ قيمته مما لا يكال، ولا يوزن كيف شاء..".
ثم ذكر أن بعض الروايات قيدت بأن لا يأخذ مكان المسلم فيه إلا بقيمته أو أنقص منه، وهذا هو قول ابن عباس (رضي الله عنهما) (1) . وجاء في المجموع أن السلم إذا فسخ لانقطاع المسلم فيه كان لصاحب رأس المال بيعه قبل استرداده (2) .
وقد استدل المانعون بعدة أدلة أهمها ما يأتي:
1ـ ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره (3)
2 ـ أن هذا يدخل في بيع الشيء قبل قبضه، وهذا لا يجوز، لأنه يدخل ضمن النهي عن ربح ما لم يضمن.
يقول ابن تيمية: "فإن علته في منع بيع دين السلم كونه مبيعًا، فلا يباع قبل القبض" (4) ثم بين بأن مبنى ذلك على ما رواه ابن عباس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن يع الطعام قبل قبضه)) وقال: ((ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام)) (5)
__________
(1) مجموع الفتاوى: (19: 503ـ518)
(2) المجموع للنووي: (9:266)
(3) الحديث رواه أبو داود: الحديث رقم (3451) ، عون المعبود (9 / 353) ، وابن ماجه (2: 766) الحديث رقم (2283) ، والبيهقي (6 / 25) ، والدارقطني (308)
(4) مجموع الفتاوى (29 / 505) .
(5) الحديث رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض (4 / 349) ، ومسلم (3 / 1159)(8/916)
3 ـ الإجماع: حيث ذكر صاحب المغني الإجماع على ذلك فقال: "أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافًا (1)
وهذه الأدلة كلها مجال للنقاش والرد والبدل على ضوء ما يلي:
1 ـ فبالنسبة للدليل الأول (الحديث) هو أولًا: ضعيف لا ينهض حجة في مثل هذه القضايا، حيث في سنده عطية بن سعد وهو كما قال عبد الحق في أحكامه: لا يحتج به، وقد ضعفه أحمد، وغيره، وقال ابن عدي: وهو مع ضعفه يكتب حديثه، وقال مسلم بن الحجاج: قال أحمد: وذكر عطية العوفي فقال: هو ضعيف، ثم قال: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي ويسأله عن التفسير وكان يكنيه بأبي سعيد فيقول: قال أبو سعيد: وكان هشيم يضعف حديث عطية، وقال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه، وقال النسائي: هو ضعيف، وذكر ابن عدي أن عطية مع أهل البدعة، وذكره ابن حبان في الضعفاء، وذكر أنه كان يسمع أحاديث من الكلبي ويرويها فإذا قيل: من حدثك بهذا؟ فيقول: حدثني أبو سعيد فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري، وإنما أراد الكلبي، قال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب (2)
فرجل هذا حاله كيف يؤخذ منه أحاديث الأحكام؟ لذلك فالحديث ضعيف لا ينهض حجة لأن مداره على رجل "مجمع على ضعفه" (3)
__________
(1) المغني لابن قدامة (4 / 334) .
(2) أنظر، تهذيب التهذيب: ط. دار صادر، بيروت (7 / 224ـ226) والمغني في الضعفاء، ط. قطر (1 / 617) .
(3) قال الذهبي في المغني (1 / 617) عطية بن سعد العوفي الكوفي تابعي مشهور، مجمع على ضعفه، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص (3 / 225) : وهو ـ أي هذا الحديث ـ ضعيف، وأعله أبو حاتم، والبيهقي، وعبد الحق، وابن القطان بالضعف والاضطراب(8/917)
ثانيًا: أن الحديث ـ على فرض ثبوته ـ ليس نصًّا على الدعوى، حيث يحتمل أكثر من معنى فقد قال الطيبي: "يجوز أن يرجع الضمير في (غيره) إلى (من) في قوله: _من أسلف) يعني لا يبيعه من غيره قبل القبض، أو إلى شيء، أي لا يبدل المبيع قبل القبض بشيء آخر (1) .
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الحديث بجوابين أحدهما: أنه ضعيف، ثم قال: "والثاني: المراد به أن لا يجعل السلف سلمًا في شيء آخر، فيكون معناه النهي عن بيعه بشيء معين إلى أجل وهو من جنس بيع الدين بالدين، ولهذا قال: (لا يصرفه إلى غيره) أي لا يصرف المسلم فيه إلى مسلم فيه آخر، ومن اعتاض عنه بغيره قابضًا للعوض لم يكن قد جعله سلمًا في غيره" (2)
ثالثًا: أن الحديث رواه الدارقطني بلفظ آخر ليس فيه ما يدل عليه اللفظ السابق، وهو "من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ما أسلم فيه، أو رأس ماله (3) فهذا اللفظ ليس فيه النهي عن صرفه إلى غيره، لكن الحديث ضعيف جدًّا، ومضطرب ومعلول كما قال الحافظ ابن حجر وغيره (4) ، فلا ينهض حجة.
2 ـ وأما البيع قبل القبض ـ كقاعدة عامة ـ ستأتي مناقشته فيما بعد عند كلامنا عن بيع المسلم فيه لغير المسلم إليه.
__________
(1) عون المعبود: (9 / 354)
(2) مجموع الفتاوى: ط. الرياض (29 / 17جـ) ، ويراجع كذلك شرح ابن القيم على سنن أبي داود (9 / 355) .
(3) الدارقطني: (308) .
(4) التلخيص الحبير: (3 / 25)(8/918)
3 ـ وأما الإجماع الذي ادعاه صاحب المغني ابن قدامة، فقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: "وأما ما ذكره الشيخ أبو محمد في (مغنيه) .. قال: (بيع المسلم فيه قبل قبضه لا نعلم في تحريمه خلافًا) فقال رحمه الله بحسب ما علمه، وإلا فمذهب مالك أنه يجوز بيعه من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه، وهذا أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته، وإن كان ذلك ليس في كتب كثير من متأخري أصحابه، وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد (1)
وإذا كان هذا هو القول الأصح للإمام أحمد، فلنذكر رأي المالكية في هذه المسألة، جاء في المدونة: "قلت: فإن كنت أسلفت في شعير، فلما حل الأجل أخذت سمراء، أو عمولة؟ قال: لا بأس بذلك هو قول مالك، قلت: ولا ترى هذا بيع الطعام قبل أن يستوفي؟ قال: لا إذا حل الأجل، فأخذت بعض هذا من بعض مثل الذي ذكرت لي، وأخذت مثل كيله، فإنما هذا بدل، وليس هذا بيع الطعام قبل أن يستوفي (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى: (29 / 506) ، وقد سرد ابن القيم في شرح سنن أبي داود ـ بهامش عون المعبود (9 / 353) ـ مجموعة من أجوبة أحمد وأصحابه منها أن القاضي قال: نقلت من خط أبي حفص في مجموعه: "فإن كان ما أسلم فيه مما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه في الجودة جاز، وكذلك إن أخذ بثمنه مما لا يكال، ولا يوزن كيف شاء".. ومنها ما قال حرب: سألت أحمد: فقلت: رجل أسلم إلى رجل دراهم في بر، فلما حل الأجل لم يكن عنده بر، فقال: قوم الشعير بالدراهم فخذ من الشعير.. مثل كل البر، أو أنقص
(2) المدونة: (4 / 34) .(8/919)
ثم ذكر أن هذا " إنما يجوز بعد محل الأجل، أن يبيعه من صاحبه الذي عليه السلف، ولا يجوز أن يبيعه من غير صاحبه الذي عليه السلم.. حتى يقبضه من الذي عليه السلف، لأنه إن باعه من غير الذي عليه ذلك بمثل كيله وصفته صار حوالة، والحوالة عند مالك بيع من البيوع، فلذلك لا يجوز أن يحتال بمثل ذلك الطعام الذي سلف فيه على غير الذي عليه السلف، لأنه يصير دينًا بدين وبيع الطعام قبل أن يستوفي (1)
هذا في السلم في الطعام حيث يجوز الاعتياض عنه إلا ممن عليه السلم، ويكون بعد حلول الأجل، أما قبل حلول الأجل فتجوز الإقالة، وحينئذ يكون له الحق أن يأخذ رأس ماله، أو الطعام الذي أسلم فيه (2)
فالاعتياض عن الطعام يجوز عند مالك ممن عليه السلم، ولكنه لا يجوز بيعه قبل القبض (3)
أما غير الطعام فيجوز بيعه لغير المسلم إليه مطلقًا، أما له فلا يجوز قبل حلول الأجل بأكثر، جاء في المدونة في كتاب السلم: "قلت: أرأيت إن أسلمت في طعام معلوم.. أيجوز لي أن أبيع ذلك الطعام قبل أن أقبضه؟ قال: لا يجوز ذلك في قول مالك. قلت: وما سوى الطعام والشراب مما سلفت فيه كيلًا أو وزنًا فلا بأس أن أبيعه قبل أن أقبضه من الذي باعني، أو من غيره؟ قال: قال مالك: "لا بأس أن تبيع ما سلفت فيه إذا كان من غير ما يؤكل ويشرب من غير الذي عليه ذلك السلف بأقل أو بأكثر، أو بمثل ذلك إذا انتقدت، وأما الذي عليه ذلك السلف فلا تبعه منه قبل الأجل بأكثر، ولا تبعه منه إلا بمثل الثمن، أو بأقل، ويقبض ذلك (4)
__________
(1) المدونة: (4 / 34ـ35)
(2) المدونة: (4 / 59ـ69)
(3) المدونة: (4 / 59، 87)
(4) المدونة: (4 / 87)(8/920)
وجاء في الشرح الكبير: "وجاز بلا جبر قبل زمانه أي أجل المسلم فيه قبول صفته ـ أي موصوفها فقط ـ لا أوفى ولا أجود، ولا أقل ولا أكثر.. قبل محله إلا الموضع الذي اشترط فيه القبض أو موضع العقد عند عدم الشرط فيجوز في العرض مطلقًا حل الأجل أم لا، وفي الطعام إن حل".
وعلق الدسوقي على ذلك بأن في العرض والطعام قولين أحدهما لابن القاسم، وأصبح الجواز قبل محله بشرط الحلول فيهما، والثاني: لسحنون، واختاره ابن زرقون: الجواز قبل محله وإن لم يحل فيهما (1)
وجاء فيه أيضًا: " وجاز قضاؤه ولو قبل الأجل بغير جنسه، أي المسلم فيه بشروط أربعة" وهي: إن جاز بيعه قبل قبضه كسلم ثوب في حيوان فأخذ عنه دراهم، إذ يجوز بيع الحيوان قبل قبضه، وثانيها: قوله: وجاز بيعه أي المأخوذ عن المسلم فيه بالمسلم فيه مناجزة كدراهم في ثوب أخذ عنه طشت نحاس، إذ يجوز بيع الطشت بالثوب يدًا بيد.. والثالث: قوله: وأن يسلم فيه ـ أي في المأخوذ ـ رأس المال، كالمثال المتقدم، إذ يجوز سلم الدراهم في طشت نحاس، والرابع: أن يعجل المأخوذ ليسلم من نسخ الدين في دين (2)
وجاء في بداية المجتهد: "اختلف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه، فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلًا، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه.. وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين:
أحدهما: إذا كان المسلم فيه طعامًا.
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: (3 / 219)
(2) المرجع السابق نفسه.(8/921)
والثاني: إذا لم يكن المسلم فيه طعامًا فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله..".
ثم قال: "وأما بيع السلم من غير المسلم إليه فيجوز بكل شيء يجوز التبايع به ما لم يكن طعامًا، لأنه لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه" (1)
الخلاصة أن مالكًا أجاز الاعتياض عن المسلم فيه ممن هو عليه السلم إلا الطعام حيث لا يجوز فيه بيعه قبل قبضه، وهذا رواية عن أحمد، وفي رواية أخرى أجاز بيع المكيل والموزون بغير المكيل والموزون، وكذلك الاعتياض عن المكيل والموزون أو بالعكس، إذا كان بقدره. (2)
وأما الدليل على جواز الاعتياض عن المسلم فيه ممن عليه السلم فهو ما يأتي:
1 ـ الاستدلال بالحديث الثابت الذي يرويه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: "كنت أبيع الإبل بالنقيع ـ بالنون: سوق المدينة، وبالباء: مقبرتها ـ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله، رويدك اسألك، إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) (3)
__________
(1) بداية المجتهد: ط. مصطفى الحلبي (2 / 206)
(2) مجموع الفتاوى: (29 / 511)
(3) الحديث رواه أحمد في مسنده (2 / 82، 154) ، وأبو داود في سننه ـ مع عون المعبود ـ كتاب البيع (9 / 203) ، وابن ماجه في سننه لكنه بدون" سعر يومها " كتاب التجارات (2 / 70) ،والدارمي (2 / 174) ، والنسائي، البيوع (7 / 281) .. قال النووي في المجموع (9 / 273) : (حديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وآخرون بأسانيد صحيحة عن سماك بن حرب عن سعيد عن ابن عمر) ، ثم ذكر بأن الحديث إذا روي مرفوعًا، وموقوفًا، ومرسلًا كان محكومًا بوصله ورفعه على المذهب الصحيح الذي قاله الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين من المتقدمين والمتأخرين"(8/922)
وقد اعتبر شيخ الإسلام هذا الحديث دليلًا على جواز الاعتياض عن المسلم فيه فقال: "والدليل على ذلك أن الثمن يجوز الاعتياض عنه قبل قبضه بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.. فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتاضوا عن الدين الذي هو الثمن بغيره مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينتقل إلى ضمان البائع، فكذلك المبيع الذي هو دين السلم يجوز بيعه وإن كان مضمونًا على البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يجوز الاعتياض عنه إذا كان بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن (1) ثم ختم كلامه بقوله: "والصواب الذي عليه جمهور العلماء.. أنه يجوز بيع الدين ممن هو عليه؛ لأن ما في الذمة مقبوض للمدين، لكن إن باعه بما لا يباع به نسيئة اشترط فيه الحلول والقبض لئلا يكون ربا، وكذلك إذا باعه بموصوف في الذمة، وإن باعه بغيرهما ففيه وجهان:
أحدهما: لا يشترط، كالاشتراط في غيرهما.
والثاني: يشترط؛ لأن تأخير القبض نسيئة كبيع الدين بالدين، ومالك لم يجوز بيع دين السلم إذا كان طعامًا؛ لأنه بيع، وأحمد جوز بيعه وإن كان طعامًا أو مكيلًا، أو موزونا من بائعه إذا باعه بغير مكيل، أو موزون؛ لأن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه هو في الطعام المعين، وأما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملك له، فلا يقاس هذا بهذا، فإن البيع المعروف هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهنا لم يملك شيئا، بل سقط الدين من ذمته، وهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: أوفاه حقه، بخلاف ما لو باعه بدراهم معينة فإنه بيع، فلما كان في الأعيان إذا باعها بجنسها لم يكن بيعًا، فكذلك إذا وفاها من غير جنسها لم يكن بيعًا بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى: (29 / 510)
(2) مجموع الفتاوى: 29 / 512) .(8/923)
ومما يدل على تسامح أكثر في بيع اعتياض دين السلم من المسلم إليه أن ابن عباس الذي لم يجوز بيع البيع قبل قبضه مطلقًا (1) أجاز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح، حتى أنه لم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما، قال ابن تيمية: "لأن البيع هنا من البائع الذي هو عليه، وهو الذي يقبضه من نفسه لنفسه، بل ليس هنا قبض، لكن يسقط عنه ما في ذمته فلا فائدة في أخذه منه، ثم إعادته إليه، وهذا من فقه ابن عباس" (2)
2 ـ بل إن شيخ الإسلام ذكر في توضيح الرأي القائل بجواز الاعتياض عنه سواء تعذر المسلم فيه أم لا (3) : إن قول ابن عباس في جواز ذلك لا يعرف له في الصحابة مخالف، وذلك لأن السلم دين ثابت فجاز الاعتياض عنه كبدل القرض، وكالثمن في المبيع، ولأنه أحد العوضين في البيع فجاز الاعتياض عنه كالعوض الآخر ما دام بسعر يوم الاعتياض (4)
قال ابن القيم: "قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: (إذا أسلفت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسفلت فيه، وإلا فخذ عوضًا أنقص منه ولا تربح مرتين) رواه شعبة، فهذا صحابي، وهو حجة ما لم يخالف".
ثم قال: "والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم، وقالوا: لأنه دين فلا يجوز بيعه كدين السلم، وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه، (حيث يدل على جواز بيع الثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه، فما الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السلم بغيره؟) .
والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه ـ كما سبق ـ.
__________
(1) صحيح البخاري: مع الفتح (4 / 349)
(2) مجموع الفتاوى: (2 / 514)
(3) جاء هذا في جواب سؤال هذا نصه: "وسئل عن الرجل يسلم في شيء فهل له أن يأخذ من المسلم إليه غيره، كمن أسلم في حنطة، فهل له أن يأخذ بدلها شعيرًا سواء تعذر المسلم فيه أم لا؟ " مجموع الفتاوى (29 / 518)
(4) مجموع الفتاوى: (2 / 519)(8/924)
والذين فرقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر، والقياس التسوية بينهما (1)
وقد أطال العلامة ابن القيم النفس في هذه المسألة وناقش المانعين مناقشة رائعة نذكرها بنصها لأهميتها فقال: "وما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه فهذا إنما هو في المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن، فإنه لا يجوز قبل قبضه، وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته: سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملك له فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة، فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عرضًا أو غيره أسقط ما في ذمته. فكان كالمستوفي دينه لأن بدله يقوم مقامه. ولا يدخل في هذا بيع الكالئ بالكالئ بحال. والبيع المعروف: هو أن يملك المشتري ما اشتراه. وهذا لم يملكه شيئا، بل سقط الدين من ذمته. ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بمثلها فإنه بيع. ففي الأعيان إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين غير جنسها يسمى بيعًا. وفي الدين إذا وفاها بجنسها لم يكن بيعًا. فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعًا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة. ولو حلف ليقضينه حقه غدًا، فأعطاه عنه عرضًا برَّ في أصح الوجهين.
وجواب آخر: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أريد به بيعه من غير بائعه. وأما بيعه من البائع ففيه قولان معروفان.
__________
(1) شرح سنن أبي داود للحافظ ابن القيم، بهامش عون المعبود (9 / 356)(8/925)
وذلك لأن العلة في المنع إن كانت توالي الضمانين اطرد المنع في البائع وغيره، وإن كانت عدم تمام الاستيلاء، وأن البائع لم تنقطع علقه عن المبيع بحيث ينقطع طمعه في الفسخ، ولا يتمكن من الامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه، لم يطرد النهي في بيعه من بائعه قبل قبضه لانتفاء هذه العلة في حقه. وهذه العلة أظهر، وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة، ولا تنافي بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه وعليه من وجه آخر، فهي مضمونة له وعليه باعتبارين. وأي محذور في هذا؟ كمنافع الإجارة، فإن المستأجر له أن يؤجر ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه، وكالثمار بعد بدو صلاحها له أن يبيعها على الشجر، وإن أصابتها جائحة رجع على البائع فهي مضمونة له وعليه، ونظائره كثيرة.
وأيضًا فبيعه من بائعه شبيه بالإقالة، وهي جائزة قبل القبض على الصحة.
وأيضًا فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع، وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين.
فعلم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان، فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز، كما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقًا بخلاف الإقالة في الأعيان.
ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه، واحتج عليه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وقال: "أحسب كل شيء بمنزلة الطعام" ومع هذا فقد ثبت عنه أنه جوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه. ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما. لأن البيع هنا من البائع الذي هو في ذمته. فهو يقبضه من نفسه لنفسه، بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط ما في ذمته، بل يسقط ما في ذمته فتبرأ، وبراءة الذمم مطلوبة في نظر الشرع، لما في شغلها من المفسدة، فكيف يصح قياس هذا على بيع شيء غير مقبوض لأجنبي لم يتحصل بعد، ولم تنقطع علق بائعه عنه؟
وأيضًا: فإنه لو سلم المسلم فيه ثم أعاده إليه جاز. فأي فائدة في أخذه منه: ثم إعادته إليه، وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقة لم تحل بها فائدة؟
ومن هنا يعرف فضل علم الصحابة وفقههم على كل من بعدهم.(8/926)
قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن: فنحن نقول بموجبه، وأنه لا يربح فيه، كما قال ابن عباس: "خذ عرضًا بأنقص منه، ولا تربح مرتين".
فنحن إنما نجوز له أن يعاوض عنه بسعر يومه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة: " لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها" فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل العوض وغيره من الديون أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وكذلك قال مالك: يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه كما قال ابن عباس لكن مالكًا يستثني من الطعام خاصةً؛ لأن من أصله أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز بخلاف غيره.
وأما أحمد: فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعرض أو حيوان أو نحوه، دون أن يعتاض بمكيل أو موزون، فإن كان بعرض ونحوه جوزه بسعر يومه، كما قال ابن عباس ومالك، وإن اعتاض عن المكيل بمكيل، أو عن الموزون بموزون، فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض، إذ كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين. ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه، كالشعير عن الحنطة، نظرًا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة، كما يستوفي الجيد عن الردئ، ففي العوض جوز المعاوضة، إذ لا يشترط هناك تقابض. وفي المكيل والموزون منع المعاوضة، لأجل التقابض، وجوز أخذ قدر حقه أو دونه، لأنه استيفاء. وهذا من دقيق فقهه ـ رضي الله عنه.
قالوا: وأما قولكم: إن هذا الدين مضمون له، فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين فهو دليل باطل من وجهين:
أحدهما: أنه لا توالي ضمانين هنا أصلًا، فإن الدين كان مضمونًا له في ذمة المسلم إليه، فإذا باعه إياه لم يصر مضمونًا عليه بحال. لأنه مقبوض في ذمة المسلم إيه، فمن أي وجه يكون مضمونًا على البائع؟ بل لو باعه لغيره لكان مضمونا له على المسلم إليه ومضمونًا عليه للمشتري، وحينئذ فيتوالى ضمانان.
الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين. وليس بوصف مستلزم لمفسدة يحرم العقد لأجلها. وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف؟ وأي حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له.(8/927)
وقد قدمنا ذكر الصور التي فيها توالي الضمانين. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة. ولا فرق بينه وبين دين السلم.
قالوا: وأيضًا فالمبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري. فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر، فلا محذور في ذلك.
وشاهده: المنافع في الإجارة والثمرة قبل القطع. فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة التي لا معارض لها وضع الثمن عن المشتري إذا أصابتها جائحة. ومع هذا يجوز التصرف فيها. ولو تلفت لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه.
قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع، فكيف يصح دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس، وعالم المدينة مالك بن أنس؟
فثبت أنه لا نص في التحريم،ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم، والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم" انتهى:
3 ـ أن الأصل في العقود أنها تنعقد بمجرد الإيجاب والقبول ـ مع توافر الشروط المطلوبة ـ فإذا انعقد العقد تحققت التزامات الطرفين، ويجب الوفاء بها تنفيذًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1](8/928)
الاحتمال الثاني: بيع المسلم فيه لشخص آخر قبل القبض.
وقد ثار خلاف كبير في بيع المبيع قبل القبض يمكن إرجاعه إلى ثلاثة اتجاهات وهي:
الاتجاه الأول: يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقًا سواء أكان المعقود عليه طعامًا أم غيره، وسواء أكان مكيلًا أم موزونًا، عقارًا أم منقولًا.
وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه (1) ، وأحمد في رواية (2) ، ومحمد بن عبد الحق وزفر من الحنفية (3) ، والظاهرية (4) ، والزيدية (5) ، ورواية للإمامية (6) ، والأباضية في المشهور عنهم (7) ، وروي ذلك عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب في رواية عنه، وسفيان الثوري (8)
الاتجاه الثاني: يرى جواز بيع المبيع، وكل تصرف فيه مطلقًا، وهذا رأي عطاء بن أبي رباح، وعثمان البتي (9) ، ورأى للإمامية (10)
الاتجاه الثالث: يرى التوسط والتفصيل، وأصحاب هذا الاتجاه مختلفون على خمسة آراء، حيث ذهب أكثرهم إلى عدم جواز بيع الطعام قبل قبضه، وإلى جواز ما عداه، وهذا رأي مالك في المشهور عنه (11) ، وأحمد في رواية عنه (12) ، واختيار أبي ثور وابن المنذر (13) ، وإليه أشار البخاري في صحيحه (14) .
وهذا الرأي هو الذي يدعمه الدليل (15) ، وقد قال الحافظ ابن المنذر: "هو أصح المذاهب ……." (16)
__________
(1) الأم: (3 / 60) ، والمجموع للنووي: (9 / 264 / 275)
(2) المغني لابن قدامة: (4 / 121ـ123)
(3) بدائع الصنائع: (7 / 2100) ، وفتح القدير: (7 / 22)
(4) المحلى لابن حزم: (9 / 592)
(5) البحر الزخار: (4 / 311)
(6) المختصر النافع: ص148.
(7) شرح النيل: (8 / 59)
(8) المصنف لعبد الرزاق: (8 / 38ـ 44) ، والمحلى: (9 / 594) ، والمغني: (4 / 121)
(9) المحلى: (8 / 597) ، والمغني: (4 / 220) ، وشرح ابن القيم على السنن: (9 / 382)
(10) المختصر النافع: ص148
(11) المدونة: (4 / 90)
(12) المغني: (4 / 120) ، ومجموع الفتاوى: (29 / 398) ، وشرح ابن القيم على سنن أبي داود: (9 / 392) .
(13) المغني: (4 / 121ـ123) .
(14) حيث ترجم البخاري في صحيحه: باب بيع الطعام قبل أن يقبض: (4 / 349) ، وباب إذا اشترى متاعًا أو دابة فوضعه عند البائع أو مات قبل أن يقبض: (4 / 351) .
(15) يراجع في تفصيل الأدلة والآراء: بحثنا عن القبض وصوره المعاصرة المقدم إلى مجمع الفقه الموقر في دورته السادسة بجدة عام 1990م
(16) المجموع: (9 / 270ـ271)(8/929)
هذا هو الخلاف في بيع الشيء قبل قبضه بصورة عامة، وهل هذا الخلاف يجري في بيع المسلم فيه قبل قبضه؟
إنه من الثابت في كتب المالكية والحنابلة أن مذهب مالك على جوازه فيما عدا الطعام (1) وكذلك نص عليه أحمد (2) ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية "فمذهب مالك أنه يجوز بيعه من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه، وهذا أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد، نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته.. وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد (3) ، ثم قال: "والمقصود أن أصل أحمد ومالك جواز التصرف، وأنه يوسع في البيع قبل انتقال الضمان إلى المشتري، بخلاف أبي حنيفة والشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد (4)
,أصل الخلاف يعود إلى مسألة الضمان، هل هو من ضمان البائع، أم من ضمان المشتري، وهل ذلك الضمان يمنع المشتري من التصرف فيه؟
فمالك وأحمد في المشهور عنه ومن معهما قالوا: إن ما تمكن المشتري من قبضه فهو من ضمانه، وأن المشتري يستطيع أن يتصرف في المبيع قبل التمكن من قبضه؛ لأن ضمان البائع له لا يمنع تصرف المشتري الذي انتقلت إليه ملكية المبيع والمسلم فيه بمجرد العقد، قال ابن تيمية: " فظاهر مذهب أحمد أن جواز التصرف فيه ليس ملازمًا للضمان ولا مبنيًّا عليه، بل قد يجوز التصرف فيه حيث يكون من ضمان البائع كما ذكر في الثمرة، وصنائع الإجارة، وبالعكس كما في الصبرة المعينة (5)
بينما ربط أبو حنيفة والشافعي جواز التصرف بالضمان فإذا لم ينتقل الضمان إلى المشتري لا يجوز له التصرف فيه حتى لا يتوالى الضمانان.
لكن شيخ الإسلام رد على هذا الأصل بأنه مأخذ ضعيف، وأنه لا محذور في وجود ضمانين؛ لأن الواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان ذاك (6) ، فلو تلف المبيع قبل التمكين من القبض فإن المشتري الثاني يعود إلى المشتري الأول وهو على البائع، وكل يرجع على الآخر بما دفعه.
__________
(1) المدونة: (4 / 88،90، 91، 95) ، وبداية المجتهد: (2 / 206)
(2) مجموع الفتاوى: (29 / 506) .
(3) المرجع السابق
(4) المرجع السابق: (29 / 506ـ509)
(5) مجموع الفتاوى: (29 / 506ـ509)
(6) المرجع السابق نفسه(8/930)
ويدل على أن ضمان البائع لا يمنع من تصرف المشتري في المبيع حديث ابن عمر الثابت السابق في البيع بالذهب والأداء بالفضة، أو بالعكس، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتاضوا عن الدين الذي هو الثمن بغيره، مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينتقل إلى ضمان البائع، فكذلك المبيع الذي هو دين السلم يجوز بيعه وإن كان مضمونًا على البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عنه بسعر يومه لئلا يربح بما لم يضمن، وهكذا قد نص أحمد على ذلك في بدل القرض وغيره من الديون، إنما يعتاض عنه بسعر يومه (1)
ومن ناحية أخرى إن ما في ذمة المدين البائع مقبوض للدائن فحينما يبيعه للآخر فكأنه سلمه إليه، وحل محله، يقول ابن تيمية، "إن ما في الذمة مقبوض للمدين (2) كما أن الموجود في الذمة فكأنه موجود في الواقع والخارج.
الاحتمال الثالث ـ التصرف في المسلم فيه بالتولية، والشركة، والحطيطة، والمصالحة، والحوالة، والوكالة ونحوها:
فعقد الوكالة والسمسرة في السلم جائز؛ لأن القاعدة فيها هي أن كل من صح تصرفه في شيء بنفسه وكان مما تدخله النيابة صح أن يوكل فيه رجلًا أو امرأة، مسلمًا كان أو كافرًا، وكل ما يصح أن يستوفيه بنفسه وتدخله النيابة صح أن يتوكل لغيره فيه (3)
وأما التولية، والشركة في المسلم فيه قبل قبضه فمحل خلاف بين الفقهاء:
فذهب مالك إلى جوازهما سواء أكان المسلم فيه طعامًا، أم غيره، جاء في المدونة: " قلت: ارأيت إن اشتريت سلعة من السلع فأشركت فيها رجلًا قبل أن أنقده، أو بعد ما نقدته، أيصلح ذلك في قول مالك أم لا؟
قال: لا بأس بذلك عند مالك
قال: ولقد سألت مالكًا عن رجل اشترى من رجل طعامًا بثمن إلى أجل فأتاه رجل، فقال: أشركني في هذا الطعام، وذلك قبل أن يكتال طعامه الذي اشترى.
قال مالك: لا بأس بذلك إن أشركه على أن لا ينتقد إلا إلى الأجل الذي اشترى إليه الطعام، فإن انتقد فلا خير في ذلك".
وكذلك الأمر في التولية، جاء في المدونة، "قلت: أرأيت أن اشتريت سلعة من رجل بنقد، فلم أقبضها حتى أشركت فيها رجلًا، أو وليتها رجلًا، أيجوز ذلك؟
قال: لا بأس بذلك عند مالك.
قلت: وإن كان طعامًا اشتريته كيلا، ونقدت الثمن، فوليته رجلًا أو أشركته فيه قبل أن أكتاله من الذي أشتريه؟
قال مالك: لا بأس بذلك، وذلك الحلال إذا انتقد مثل ما نفذ.
قلت: لم جوزه مالك وقد جاء في الحديث الذي يذكره مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى؟
قال: قد جاء هذا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى إلا ما كان من شرك، أو إقالة، أو تولية.
__________
(1) المرجع السابق: (29 / 510)
(2) المرجع السابق: (29 / 512)
(3) يراجع المغني لابن قدامة: (5 / 88) ، وحاشية ابن عابدين: (4 / 399) ، وروضة الطالبين: (4 / 291) ، وبداية المجتهد: (2 / 301) ، والمدونة: (4 / 94)(8/931)
قال سحنون: وأخبرني ابن القاسم عن سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شرك، أو إقالة، أو تولية)) .
قال مالك: " اجتمع أهل العلم على أنه لا بأس بالشرك والإقالة والتولية في الطعام قبل أن يستوفى إذا انتقد الثمن ممن يشركه، أو يقيله، أو يوليه" (1) وهذا الحديث الذي رواه الإمام سحنون بسنده، رواه أيضًا عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، عن ربيعة عن ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التولية، والإقالة، والشركة سواء لا بأس به)) . وأما ابن جريج فقال: أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا مستفاضًا بالمدينة، قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه ويستوفيه إلا أن يشرك فيه، أو يوليه، أو يقيله)) (2)
والحديث الذي رواه سحنون، وعبد الرزاق مرسل لكنه مرسل سعيد بن المسيب، وهو يحتج به عند جمهور العلماء. (3)
وأما سند الحديث فالحافظ عبد الرزاق معروف بأنه ثقة حافظ (4) ، وهو قد روي عن معمر وغيره، ومعمر أيضًا ثقة ثبت، بل عده علي ابن المديني وأبو حاتم فيمن دار الإسناد عليهم، بل اعتبره النقاد من أثبت الناس (5) وأما ربيعة المعروف بربيعة الرأي فهو أيضًا ثقة ثبت من التابعين الفقهاء المفتين، حتى قال مالك: "ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة" (6)
إذن فالحديث مرسل صحيح الإسناد، أو أنه لا تقل درجته عن الحسن الذي ينهض حجة، وكذلك فهو نص في الدعوى حيث يدل بنصه على جواز الشرك، والإقالة، والتولية في الطعام قبل القبض والاستيفاء، ويقاس عليه بطريق أولى غير الطعام.
وذهب جماعة آخرون منهم الحنفية (7) ، والشافعية (8) ، والحنابلة (9) إلى عدم جواز الشركة، والتولية في المسلم فيه قبل قبضه.
__________
(1) المدونة: (4 / 80ـ81)
(2) المصنف للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق خليل الرحمن الأعظمي، ط. المجلس العلمي: (8 / 49) ، ونصب الراية: (4 / 31) .
(3) المجموع: (1 / 60ـ63، والأحكام للآمدي: (2 / 178) ، والمقدمة لابن الصلاح ص: 130..
(4) تقريب التهذيب، ط. دار المعرفة: (1 / 505) ، وتهذيب التهذيب: (6 / 310)
(5) تهذيب التهذيب: (10 / 243ـ246) ، وتقريب التهذيب: (2 / 66) .
(6) يراجع للمزيد من التفصيل: تهذيب التهذيب: (3 / 258) ، وتقريب التهذيب: (1 / 247) .
(7) حاشية ابن عابدين على الدر المختار: (4 / 209ـ210)
(8) يراجع: تحفة المحتاج مع حواشي الشيرواني، وابن قاسم العبادي، ط. دار صادر بيروت: (3 / 30ـ31) ، والغاية القصوى: (1497) .
(9) المغني لابن قدامة: (4 / 235) ، والمبدع شرح المقنع، ط. المكتب الإسلامي: (4 / 197ـ198) .(8/932)
واستدلوا بأن هذه التصرفات معاوضة في المسلم فيه قبل القبض فلم يجز، كما لو كانت بلفظ البيع، ولأنهما نوعا بيع فلم يجوزا في المسلم فيه قبل قبضه كالنوع الآخر (1) ويمكن أن يرد على هذا الاستدلال بأنه لا نسلم أن التولية والشركة بيع، ولو سلم فالبيع نفسه محل خلاف، فلا يكون الدليل ملزمًا، لأنه أيضًا محل خلاف.
ويكاد الخلاف السابق ينسحب على الصلح في المسلم فيه قبل قبضه (2)
والذي يظهر رجحانه رأي مالك لقوة دليله، ومنطقه، وموافقة رأيه للأصل القاضي بأن الأصل في العقود والشروط الإباحة إلا ما دل على حرمته، فليس هناك نص من الكتاب ولا من السنة يمنع التصرف في المسلم فيه قبل القبض عن طريق الشركة، أو التولية، أو الحيطة، أو الصلح لكنه بشرط واحد، وهو أن ينقد الثمن حتى لا يكون بيع دين نسيء بدين نسيء.
وأما الحوالة بالمسلم فيه (دين السلم) ، أو عليه فمحل خلاف كبير.
فذهب جماعة من الفقهاء منهم الحنفية (3) ، ووجه للشافعية (4) ، والمالكية (5) في غير ما إذا كان البدلان: المحال به، وعليه طعام من بيع إلى جواز الحوالة بدين السلم وعليه.
وذهب الحنابلة (6) ، ووجه للشافعية ـ رجحه النووي (7) إلى أنه لا تجوز الحوالة بدين السلم ولا عليه.
__________
(1) المغني لابن قدامة: (4 / 235)
(2) يراجع المدونة: (4 / 59) ، وروضة الطالبين: (4 / 4) ، والتحفة مع حواشيها لابن قاسم والشيرواني: (4 / 31) ، والمغني لابن قدامة: (4 / 542)
(3) جاء في الدر المختار ـ مع حاشية ابن عابدين: (4 / 208) : "وصحت الكفالة والحوالة والارتهان برأس مال السلم"
(4) يراجع: فتح العزيز بهامش المجموع: (10 / 340) ، والروضة: (3 / 512) .
(5) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: (3 / 327)
(6) المغني لابن قدامة: (4 / 335، 577) ، والمبدع: (4 / 198) .
(7) انظر الروضة: (3 / 512، وتحفة المحتاج: (5 / 228)(8/933)
وهؤلاء المانعون استدلوا بما يلي:
أولًا: إنهم اعتمدوا في منعهم هذا على أن دين الحوالة يجب أن يكون مستقرا، وأن السلم بعرض الفسخ (1) .
ويمكن الجواب عنه بأن هذا الشرط نفسه محل خلاف وليس عليه دليل من الكتاب والسنة والإجماع، فالنص النبوي الشريف في الحوالة لم يشترط كون الدين مستقرًّا أو غير مستقر، بل قال: " فإذا أتبع ـ أو أحيل ـ أحدكم على مليء فليتبع" (2) ، فالنص لم يشترط سوى كون المحال عليه مليئًا قادرًا على أداء الدين، ولذلك قال الشوكاني معلقًا على اشتراط استقرار الدين لدى البعض: "فلا أدري لهذا الاشتراط وجها؛ لأن من عليه الدين إذا أطال على رجل يمتثل حوالته، ويسلم ما أحال به كان ذلك هو المطلوب؛ لأن به يحصل المطلوب بدين الحال ولو لم يكن في ذمة المحال عليه شيء من الدين (3) ، ولذلك أجاز الحنابلة أنفسهم استعمال لفظ الحوالة في صورتين ليستا بحوالة، وإنما هي وكالة وقرض (4)
__________
(1) المغني لابن قدامة: (4 / 335)
(2) الحديث متفق عليه، ورواه الشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، انظر: صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ (4 / 464) ، ومسلم: (3 / 1197) ، وسنن أبي داود ـ مع العون ـ: (9 / 195) ، والترمذي ـ مع التحفة: (4 / 535) ، وابن ماجه: (2 / 803) ، والسنن الكبرى للبيهقي: (6 / 70) ، والنسائي: (7 / 278) ، والأم: (3 / 203) ، ومسند أحمد: (2 / 463) .
(3) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: (4 / 242)
(4) جاء في المغني (4 / 579) : "وإن أحال من لا دين له عليه رجلًا على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة، بل هي وكالة.. وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة، لاشتراكهما في المعنى.. وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فليست حوالة أيضًا.. وإنما هو اقتراض، فإن قبض المحتال منه الدين رجع على المحيل، لأنه قرض.. وإن أحال من لا دين عليه فهي وكالة في اقتراض، وليست حوالة؛ لأن الحوالة إنما تكون لدين على دين". وعند المالكية: "لو أعلم المحيل المحال بأنه لا دين له على أعمال عليه، أو علم من غيره، وشرط المحيل البراء من الدين الذي عليه، ورضي المحال صح التحول، ولا رجوع له على المحيل، لأنه ترك حقه حيث رضي بالتحول"، انظر: الشرح الكبير مع الدسوقي (3 / 326)(8/934)
ثانيًا: واستدل المانعون كذلك بأن الحوالة إما بيع وهو لا يجوز قبل قبض المبيع، أو هو كالبيع، أي يقاس عليه فيكون حكمه مثل حكمه.
والجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: "أن هذا الكلام مبني على أن الحوالة بيع، وهذا بناء ضعيف؛ لأن الحوالة عقد مستقل له شروطه ومواصفاته وأن اسمها ومسماها قد أثبتهما الشرع، فلا يقبل أن تدخل في عقد آخر، ومن هنا فاختلاف الاسم والمسمى لغة وشرعًا يدل على اختصاص هذا العقد بأحكامه الخاصة به دون غيره، ولذلك لا يشترط في عقد الحوالة التقابض حتى ولو كان الدينان من النقود، أو الطعام، ولا يدخل في بيع الدين بالدين الذي يمنعه الفقهاء، وجاز فيه كون أحد الدينين أكثر من الآخر وغير ذلك (1)
الوجه الثاني: أن قياس الحوالة على البيع قياس مع الفارق، لما ذكرنا في الوجه الأول.
الوجه الثالث: أن المقيس عليه نفسه مختلف فيه فلا يصلح أن يكون أصلًا ملزمًا للطرفين، فبيع المبيع قبل قبضه ـ بما فيه المسلم فيه ـ محل خلاف، كما سبق.
ثالثًا: استدلوا بما روي: ((من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)) .
والجواب عنه ـ كما سبق ـ أنه ضعيف جدًّا لا ينهض حجة ولو فرضنا ثبوته فلا يدل على منع الحوالة؛ لأن معناه النهي عن عدم صرف المسلم فيه إلى شيء آخر، ولا يدل الحديث على منع الحوالة به أو عليه (2)
__________
(1) المغني لابن قدامة: (4 / 335) .
(2) فتح العزيز شرح الوجيز، بهامش المجموع: (10 / 338)(8/935)
ويتبين من خلال هذه المناقشة الموجزة ضعف الحجج التي بنى عليها المانعون، حيث لم تصمد أمام المناقشة.
أما المجيزون للحوالة بدين السلم،أو عليه فحجتهم قوية ـ كما سبق.
وقد يرد تساؤل حول حق المحال في الحفاظ على حقه إذا لاحظنا أن المحيل تبرأ ذمته بمجرد الحوالة، وأن المحال عليه (المسلم إليه) يمكن أن ينفسخ سلمه للأسباب المقبولة شرعًا في الفسخ أو الإقالة، أو نحو ذلك، وحينئذ ماذا يفعل المحال في الحفاظ على حقه؟
للجواب عن ذلك نقول: إن هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل لأن لها شقين:
الشق الأول: هل تبرأ ذمة المحيل إذا تمت الحوالة بشروطها؟
للجواب عن ذلك نقول: إن فيها اختلافًا كبيرًا بين الفقهاء.
1 ـ حيث ذهب الحسن في رواية، وشريح، وزفر إلى أن الحوالة لا يترتب عليها براءة ذمة المحيل مطلقًا، بل تبقى ذمته مع ذمة المحال عليه مشغولة كالكفالة (1)
2ـ وذهب أبو حنيفة إلى أن المحتال لا يرجع إلى المحيل إلا بالتوى (2) ، وهو بأحد أمرين: أن يجحد المحال عليه الحوالة، ويحلف ولا بينة للمحتال والمحيل، أو يموت مفلسًا بغير دين، ولا عين، ولا كفيل.
__________
(1) فتح الباري: (4 / 464) ، والمغني لابن قدامة: (4 / 580)
(2) التوى على وزن الحصى بمعنى الهلاك، المصباح مادة (توى)(8/936)
3ـ وأضاف صاحباه إليهما حالة ثالثة وهي: أن يحكم بإفلاسه الحاكم في حياته (1)
4 ـ وذهب الثوري إلى أنه يرجع على المحيل في حالة الموت فقط (2)
5ـ وذهب الحسن في رواية، وقتادة إلى أنه إذا كان يوم أحال عليه مليئًا لم يكن له حق الرجوع على المحيل (3)
5 ـ وذهب مالك إلى أن المحال لا يرجع على المحيل وإن أفلس المحال عليه، أو جحد بعد الحوالة، غير أن مالكًا استثنى حالتين هما:
الحالة الأولى: أن يعلم المحيل بإفلاسه فقط دون المحال، فحينئذ له الرجوع عليه؛ لأنه غره، قال الدردير: "والظاهر أن الظن القوي كالعلم، ومثل علمه بإفلاسه علمه بلدده، أوعدمه ـ أي فقره" (4)
وهناك رواية عن أحمد بمثل هذا القول (5)
الحالة الثانية: أن يشترط المحال على المحيل أنه إذا أفلس المحال عليه يرجع على المحيل فله شرطه، قال الدسوقي: "ونقله الباجي كأنه المذهب، وقال ابن رشد: هذا صحيح ولا أعلم فيه خلافًا" (6) وذهب وجه للشافعية إلى مثل هذا (7)
__________
(1) حاشية ابن عابدين: (4 / 293)
(2) فتح الباري: (4 / 464)
(3) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ: (4 / 464)
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: (3 / 328)
(5) المغني: (4 / 581)
(6) حاشية الدسوقي: (3 / 328) ، لكن الدسوقي بعد نقله هذا الكلام عن ابن عرفة قال: "فيه نظر؛ لأن شرطه هذا مناقض لمقتضى العقد، وأصل المذهب في الشرط المناقض للعقد أن يفسده، تأمل". لكن الحقيقة ليس في هذا الشرط تناقض لمقتضى العقد
(7) جاء في الروضة (4 / 232) : "فلو شرط في الحوالة الرجوع بتقدير الإفلاس أو الجحود فهل تصح الحوالة والشرط، أم الحوالة فقط، أم لا يصحان؟ فيه أوجه. هذا إذا طرأ الإفلاس، فلو كان مفلسًا حال الحوالة، فالصحيح المنصوص: أنه لا خيار للمحتال سواء أشرط يساره أم أطلق، وفيه وجه يثبت خياره في الحالين، وفي وجه: يثبت إن شرط فقط، واختار الغزالي الثبوت مطلقًا"(8/937)
7 ـ وذهب الشافعية والحنابلة في المشهور عنهم إلى أن الحوالة تبرئ ذمة المحيل إذا جرت بشروطها ـ من رضا الأطراف ـ ولاسيما المحيل والمحال، وفي المحال عليه خلاف ـ ومن كون الدين ثابتًا، أو مستقرًّا، وتماثل الدينين أو أن لا يكون ما على المحال عليه أقل ـ وحينئذ ليس للمحال الحق في الرجوع عليه بأي حال من الأحوال (1)
فمسألة براءة ذمة المحيل عن الدين ليست منصوصًا عليها، ولا متفقًا عليها، بل الذي يظهر رجحانه هو أن ذمته إنما تبرأ بشروط وضوابط منها أن يكون المحال عليه مليئًا وقت الحوالة كما اشترط ذلك النص النبوي الشريف، ومنها أن لا يموت أو يفلس قبل أداء الدين، وأن لا يشترط المحال حق الرجوع إليه مطلقًا.
الشق الثاني: أن دين السلم في حالة فسخه يبقى في ذمة المسلم إليه من خلال الثمن، لأنه قد استلم الثمن فعلًا، فإما أن يدفع المسلم فيه بشروطه ومواصفاته وحينئذ يتسلمه المحال كما هو بدلًا من دينه الذي كان على المحيل (المسلم) ، أو تحدث ظروف تؤدي إلى فسخ السلم بشروطه، وحينئذ يتسلم الثمن، وإذا وجد نقص في دينه فإنه يرجع إلى المحيل بناء على الرأي القائل بعدم براءة ذمته ـ كما سبق.
__________
(1) الروضة: (4 / 231ـ232) ، والمغني: (4 / 580 ـ 581)(8/938)
وهناك حل آخر، وهو جواز الاعتياض عنه، بل بيعه لآخر بشروطه كما سبق.
ومن هنا فلا مانع أن يشترط في الحوالة على دين السلم، وأحرى به أن يوضع هذا الشرط، وهو أنه في حالة نقص المتسلم عن الدين فإن المحال يرجع إلى المحيل تحقيقًا للعدالة، كما أن المحال ينبغي أن يحتاط لنفسه فلا يقبل إلا في حدود الثمن إلا إذا كان المسلم إليه مليئًا معروفًا بقدرته على الوفاء.
الاحتمال الرابع ـ أنه إذا انفسخ عقد السلم بإقالة (1) ، أوغيرها، فهل يجوز أن يأخذ عن دين السلم عوضًا من غير جنسه؟
هذه المسألة ذكر فيها العلامة ابن القيم وجهين:
أحدهما: أنه لا يجوز ذلك حتى يقبضه، ثم يصرفه فيما شاء وهذا اختيار الشريف أبي جعفر، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: يجوز أخذ العوض عنه، وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مهب الشافعي، وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون من القرض وغيره.
وأيضًا فهذا مال رجع إليه بفسخ العقد فجاز أخذ العوض عنه كالثمن في المبيع.
__________
(1) جاء في المغني: (4 / 336) : قال ابن المنذر: أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة" وأما في بعضه فمحل خلاف.(8/939)
وأيضًا فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز (1)
وهؤلاء المانعون استدلوا بالحديث السابق وهو: ((من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره..)) وقد سبق أن الحديث ضعيف جدًا لا ينهض حجة، وأنه يحتلم معاني أخرى كما سبق، قال ابن القيم "ولو صح لم يتناول محل النزاع، لأنه لم يصرف المسلم فيه في غيره وإنما عاوض عن دين السلم بغيره، فأين المسلم فيه من رأس مال السلم؟ (2) واستدلوا كذلك بأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم، فلم تجز المعاوضة عليه قبل قبضه وحيازته كالمسلم منه.
ويجاب عنه بأن قياسكم المنع على نفس المسلم فيه، فالكلام فيه أيضًا قد تقدم وأنه لا نص يقتضي المنع، ولا إجماع ولا قياس.
وقال ابن القيم: "ثم لو قدر بتسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه، ورأس المال السلم واضحًا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يضمن بعد فسخ العقد فكيف يلحق أحدهما باآخر؟ فثبت أنه لا نص في المنع، ولا إجماع، ولا قياس" (3)
ثم بين ابن القيم أن حكم رأس المال في السلم بعد الفسخ حكم سائر الديون، ولك لا يجوز أن يجعل سلمًا في شيء آخر، وأنه إذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض العوض في المجلس، لأنه صرف بسعر يومه، لأنه غير مضمون عليه، وإن عاوض عن المكيل بمكيل، أو عن الموزون بموزون من غير جنسه كقطن بحرير، أو كتان، وجب قبض عوضه في مجلس التعويض، وإن بيع بغير مكيل، أو موزون كالعقار والحيوان فهل يشترط القبض في مجلس التعويض؟ فيه وجهان:
أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد.
والثاني: يشترط (4)
__________
(1) شرح سنن أي داود للحافظ ابن القيم بهامش عون المعبود (9 / 360) ، ويراجع مذهب أبي حنيفة في حاشية ابن عابدين: (4 / 209) ، لكنه أجاز الاستبدال في حالة كون عقد السلم فاسدًا
(2) المرجع السابق
(3) شرح سنن أبي داود لابن القيم: 9360) ، ويراجع المذهب الشافعي في الروضة: (3 / 493) .
(4) شرح سنن أبي داود لابن القيم بهامش عون المعبود: (9 / 361)(8/940)
قال ابن القيم: "ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلًا بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلًا آخر من غير المجلس مما يمتنع ربا النساء بينهما، فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: المنع، وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب، وطاوس، وهو مذهب مالك، وإسحاق.
والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة (1) ، وبه قال جابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب المغني (2) وشيخنا.. (3)
ثم قال: "والصحيح الجواز، لما تقدم، قال عبد الله بن زيد: قدمت على علي بن حسين، فقلت له: (إني أجذ نخلي، وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجر فيقدمون بالحنطة، وقد حل الأجل فيوقفونها بالسوق، فابتاع منهم، وأقاصهم؟ قال: لا بأس بذلك، إذا لم يكن منك على رأي) يعني إذا لم يكن حيلة مقصودة فهذا شراء للطعام بالدرام التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول، فصح، لأنه لا يتضمن ربا بنسبة ولا تفاضل، والذين يمنعون ذلك يجوزون أن يشتري منه الطعام بدراهم، ومعلوم أن شراءه العام منه بالدراهم التي في ذمته أيسر من هذا، واقل كلفة، والله أعلم (4)
والخلاصة أن الإقالة جائزة في عقد السلم بالاتفاق، وأن المسلم (المشتري) له الحق في أن يأخذ بدل رأس ماله (دينه) أي شيء من المسلم إليه، مع ملاحظة قواعد الصرف فيما لو كان رأس ماله نقدًا، ويأخذ الآن نقدًا آخر مكانه، أما لو كان رأس ماله عينًا فيسترد مثله أن كان مثليًا، وقيمته أن كان قيميًا.
وكذلك له الحق في أن يشتري برأس مال السلم ـ بعد فسخ ـ أي شيء آخر مع ملاحظة قواعد الربا في النقود والطعام، ولكنه لا يجوز له أن يشتري به دينًا نسيئة، لأنه لا يجوز بيع الدين بالنسيء.
وله الحق في الحوالة، والتولية والإشراك والصلح ونحو ذلك، كما سبق.
__________
(1) يراجع: حاشية ابن عابدين: (4 / 210) ، والروضة: (3 / 493، 4 / 29) ، ويراجع المدونة: (4 / 69ـ79)
(2) المغني لابن قدامة: (4 / 337)
(3) شرح سنن أبي داود: (9 / 361)
(4) شرح سنن أبي داود بهامش عون المعبود: (9 / 361 ـ 362)(8/941)
2 ـ الاستفادة من عقد الاستصناع:
إن مجمع الفقه الإسلامي الموقر قد خطا خطوة رائعة في مؤتمره السابع حسم فيها خلافًا كبيرًا بين الفقهاء، إذ قرر أن عقد الاستصناع عقد ملزم للطرفين، ولأهمية القرار نذكره هنا بنصه:
قرار رقم 66 / 3 / 7
بشأن
عقد الاستصناع
إن مجلس الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ، 9ـ14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (عقد الاستصناع) .
واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، ومراعاة لمقاصد الشريعة في مصالح العباد والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، ونظرًا لأن عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة، وفي فتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإسلامي.
قرر
1 ـ أن عقد الاستصناع ـ هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة ـ ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط.
2 ـ يشترط في عقد الاستصناع والشروط:
أـ بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة.
ب ـ أن يحدد فيه الأجل.
3 ـ يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة.
4 ـ يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.
والله أعلم(8/942)
وبناء على هذه القرارات الرائعة أصبح للاستصناع مجال كبير ودائرة واسعة جدًا في سوق المال الإسلامية، من حيث الاستفادة منه كأحد العقود المستعملة، وكذلك من حيث صياغة صكوك منه.
وذلك لأن الاستصناع ليس كالسلم حتى يشترط فيه قبض رأس المال في المجلس أو خلال ثلاثة أيام عند المالكية، وليس كالبيع الآجل الذي ينبغي وجود المبيع، وإنما هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة يجوز فيه تأجيل الثمن، أو تقسيطه، وبذلك يعطي مرونة رائعة لسوق المال أن تتعاقد عقودًا كثيرة في السلع والمعادن والبضائع المصنعة التي لا توجد في السوق، أو هي موجودة لكن المشتري ليس له مال كاف لشرائها، كما أن له دورًا في تنشيط الصناعة والزراعة والتجارة والحرف، من خلال عقود تضمن لأصحابها الكمية التي تنتجها مصانعهم مثلًا أو التي طلبها المستصنع.
ويستفاد كذلك من عقد الاستصناع الموازي لعقد استصناع مبرم مع آخر، وهذا ما تقوم به المصارف الإسلامية، حيث يقوم ـ مثلًا ـ بنك قطر الدولي الإسلامي بالتعاقد مع عميله لبناء دار له، أو تصنيع سيارة، أو بضاعة، أو أي شيء فيه الصنعة، حسب الشروط الموجودة بين الطرفين، والضوابط الشرعية، ثم يقوم البنك مع مقاول، أو شركة أخرى بعقد استصناع مواز بنفس الشروط والضوابط السابقة، ويمكن للمصرف أن يغير بعض الشروط في مسائل الثمن ونحوه (1)
__________
(1) يراجع لتفصيل عقد الاستصناع: بحثنا عن عقد الاستصناع إلى قدم إلى مجمع الفقه الإسلامي الموقر في دورته السابعة بجدة عام 1412هـ. ولدى بنك قطر الدولي الإسلامي ـ وغيره ـ عقد الاستصناع وعقد الاستصناع الموازي بطبقهما في أغلب الأحوال، وقد نص البند السابع من عقد الاستصناع المعمول به في البنك على هذا الحق.(8/943)
3 ـ الاستفادة من الوعد بالبيع،والمواعد به:
الوعد لغة: هو التعهد، وكذلك الموعد، قال تعالى: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طه: 87] ، حيث قال مجاه: الموعد: العهد، وكذلك قوله تعالى {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} [طه: 85] : عهدي (1)
والمواعدة هي الوعد من الطرفين.
والوعد بالبيع ـ أو نحوه ـ: هو التعهد بإنشاء البيع ـ مثلًا ـ في المستقبل، أو بالقيام بالشراء، أو نحو ذلك في المستقبل.
والوعد بالمال: أن يتعهد بدفع المال المتفق عليه في المستبق.
وقد أولى القرآن والسنة النبوية المشرفة عناية كبرى بالوعد وأهميته، وضرورة الحفظ عليه، وحرمه إخلافه، حتى تكرر (وعد) ومشتقاته في القرآن الكريم أكثر من (150) مرة، تدل على هذه العناية، وعلى إلزامية الوعد بالنسبة للواعد، ولذلك فهم الأنبياء الكرام من الوعد الالتزام، فقد قال نوح ـ عليه السلام ـ لربه حينما رأى ابنه قد هلك بالطوفان: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45] . طلب ذلك لأن الله تعالى وعده بنجاة أهله، فبين الله تعالى بقوله: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] ، أي أن المراد أهلك اتباعك الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أما ابنك فقد خرج منهم بعمله غير الصالح، وكذلك التزام إبراهيم بالاستغفار لأبيه الكافر، لأنه وعده ذلك، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] ، كما أن موسى ـ عليه السلام ـ بين لقومه أن مخالفة الموعد يترتب عليها العقوبات الرادعة فقال: {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} [طه: 86] ، وكذلك فهم موسى وخضر الإلزام حتى في المواعدة، حيث حينماوعد موسى بأنه إذا سأل عن شيء بعد ذلك فلا يصاحبه خضر، ثم سأل، قال خضر: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ} [الكهف:] (2)
__________
(1) لسان العرب: (6 / 4872) ، مادة (وعد)
(2) راجع سورة الكهف من آية 60 إلى الآية 82، وراجع صحيح البخاري، وترجم له في كتاب الشروط (باب الشروط مع الناس بالقول) فتح الباري: 5 / 326) .(8/944)
وكذلك السنة حيث جعلت مخالفة الوعد من خصال النفاق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كن يه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) (1)
فهذه الأدلة ونحوها واضحة في دلالتها على وجوب الوفاء بالوعود والعهود والعقود، غير أن الفقهاء على الرغم من اتفاقهم على أن خلف الوعد منهي عنه اختلفوا اختلافًا كبيرًا في إلزاميتها أمام القضاء، فذهب الجمهور إلى عدم لزومه.
وذهب ابن شبرمة إلى أن الوعد كله لازم، ويقضي به على الواعد ويجبر على تنفيذه (2)
ويقرب من هذا القول ما ذكره البخاري عن ابن سيرين عن القاضي شريح: قال ابن سيرين: قال الرجل لكربه: أدخل ركابك، فإن لم ارحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: "من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه"، وقال أيوب عن ابن سيرين: أن رجلًا باع طعامًا. فقال: أن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجيء. فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت، فقضي عليه" (3) .
هاتان المسألتان داخلتان في الوعد؛ لأن ما تعهد به لم يدخله ضمن العقد حتى يكون من شروط العقد، وإنما هو تعهد مستقل، أي أنه وعد ومع ذلك قال به شريح، ولذلك قال الحافظ ابن حجر في رده على شريح: "وقال الجمهور: هي عدة فلا يلزم الوفاء بها" (4)
__________
(1) الحديث رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ كتاب الإيمان: (1 / 89) ،ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: (1 / 78) .
(2) المحلى لابن حزم: (8 / 377) .
(3) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب الشروط: (5 / 354)
(4) فتح الباري: (5 / 354)(8/945)
وذهب المالكية إلى تفصيل فيه على أربعة آراء (1) ، قال القرافي: "واعلم أن الفقهاء اختلفوا في الوعد: هل يجب الوفاء به شرعًا أم لا؟
قال مالك: إذا سألك أن تهب له دينارًا، فقلت: نعم، ثم بدا لك، لا يلزمك، ولو كان افتراق الغرماء عن وعد، وإشهاد لأجله، لزمك، لإبطالك مغرمًا بالتأخير، قال سحنون: الذي يلزم من الوعد قوله: اهدم دارك، وأنا أسلفك ما تبني به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسفلك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء من مكارم الأخلاق.
وقال أصبغ: يقضى عليك به، تزوج الموعود أم لا. وكذا أسلفني لأشتري سلعة كذا، لزمك تسبب في ذلك أم لا…" (2)
لكن الراجح لدى الكثيرين في مذهب مالك هو رأي ابن القاسم وسحنون القائل بأنه يقضى بوجوب الوفاء إذا كان على سبب، ودخل الموعود في سبب (3)
والذي ظهر لنا رجحانه أن الوعد ملزم مطلقًا إلا إذا دل خاص بعدم إلزاميته (4)
غير أن مجمع الفقه الإسلامي الموقر قد أخذ بالرأي القائل بإلزامية الوعد إذا كان معلقًا على سبب، ودخل الموعود في كلفة، حيث نص في قراره بالدورة الخامسة التي عقدت بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ، قرار رقم 2، 3 على ما يلي:
"ثانيًا: الوعد: (وهو الذي يصدر من الآمر، أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزمًا للوعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد.
__________
(1) انظر: الفروق للقرافي: (4 / 24ـ25) ، وإدرار الشروق المطبوع بهامش الفروق: (4 / 24) ، وفتح العلي المالك: (1 / 254)
(2) الفروق: (4 / 24ـ25)
(3) يراجع إدرار الشروق على أنوار الفروق: (4 / 24) ، وفتح العلي المالك: (1 / 254)
(4) ويراجع للمزيد من التفصيل: مبدأ الرضا في العقود ـ ط. دار البشائر عام 1985م: (2 / 1032 وبعدها) ، حيث دافعت كثيرًا عن إلزامية الوعد وبرهنت على ذلك بكثير من الأدلة، وبعد طبع هذا الكتاب بفترة اطلعت على كتاب فضيلة الشيخ القرضاوي: بيع المرابحة للأمر بالشراء، فوجدته يتجه نحو هذا الرأي ويرجحه بأدلة معتبرة، فراجعها ص: (87ـ 106) .(8/946)
ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الغرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر".
وعلى ضوء ذلك يمكن للوعود المنفردة بالبيع، أو بالشراء، أو بالإجارة، أو بالشركة، أو بالمضاربة، أو المساقاة، أو المزرعة، أو المرابحة، أو نحوها.. أن تلعب دورًا بارزًا كبيرًا في تنشيط سوق المال، والحركة، وذلك لأن الوعد أصبح ملزمًا ما دام الموعود دخل في السبب الذي لأجله وعد.
4 ـ الوعد بالصرف، والمواعدة فيه وفي غيره:
لا يختلف الوعد (من طرف واحد) بالصرف عن الوعد بالبيع ونحوه، وحينئذ ينطبق عليه قرار المجمع الموقر الذي نقلناه في الفقرة السابقة، فيجوز أن يعد شخص من طرفه بأن يقوم بالصرف بعد يوم أو يومين بصرف ريالاته بالدولار أو بنحوه بسعر يومه. فهذا الوعد ليس عقدًا حتى يحتاج إلى شروط الصرف، ولكنه تعهد من قبله، فإذا حان وقت الصرف لابد من التقابض في المجلس وأن يكون بسعر يومه.
وأما المواعدة في الصرف إذا لم يتم في المجلس تقابض، فمحل خلاف بين جمهور الفقهاء (1) الذين منعوها، والظاهرية الذين أجازوها، حيث قال ابن حزم: " والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا؛ لأن التواعد ليس بيعًا، وكذلك المساومة أيضًا جائزة، تبايعا أو لم يتبايعا (2)
__________
(1) يراجع: فتح القدير: (7 / 17) وبداية المجتهد: (2 / 194،197) ، والروضة: (3 / 379) ، والمغني لابن قدامة: (4 / 53)
(2) المحلى لابن حزم: (9 / 583) .(8/947)
وقد استدل ابن حزم بأنه لم يأت نهي عن المواعدة في الصرف، ولو كان محرمًا لذكره الكتاب والسنة؛ لأن الله تعالى قد فصل المحرمات وبينها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] . قال ابن حزم: " فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن، إذ ليس في الدين إلا فرض، أو حرام، أو حلال، فالفرض مأمور به في القرآن والسنة، والحرام مفصل باسمه في القرآن والسنة، وما عدا هذين فليس فرضًا ولا حرامًا فهو بالضرورة حلال إذ ليس هناك قسم رابع (1)
فرأي الجمهور هنا هو الراجح؛ لأن المواعدة في الصرف إذا كانت ملزمة فهي مثل العقد فلا تجوز دون تقابض البدلين بنص الأحاديث الصحيحة في هذا الباب.
وإن كانت غير ملزمة فلا فائدة فيها للطرفين، لكنها قد تتخذ وسيلة للتحايل، بل هي ذريعة للخلاف والنزاع الشديدين ولا سيما إذا لاحظنا تغير قيمة النقود صعودًا أو هبوطًا تغيرًا خطيرًا، حيث قد تنزل قيمة عملة ما نزولًا يخرجه عن المعيار والثمنية، ويكون الفرق بين وقت المواعدة ووقت العقد بالملايين، بل قد يكون بالمليارات في الصفقات الكبيرة، حتى في العملات الدولية المعتبرة، فقد نزلت قيمة الدولار عام 1986م أمام الين الياباني بنسبة 40 %، وحدث للجنيه الإسترليني في صيف 1993 صعود كبير، وهبوط حاد، كل ذلك يجعل المواعدة في الصرف مخاطرة كبرى، واحتمالًا للغبن الفاحش، أو الربح الكبير، غير أن ابن حزم لا يقول بكونها ملزمة، لكن الاحتياط يقتضي سد هذا الباب في باب الصرف.
المواعدة في غير باب الصرف:
فالمواعدة هي التعهد الصادر من طرفين بإتمام عقد ما في زمن محدد، أو عند استكمال شيء معين، بأن يقول البائع: أبيع لك داري في شهر كذا، أو عندما أشتري دارًا أخرى، أو نحو ذلك، فيوافق عليه المشتري، أو يكون التعهد أولًا من المشتري ويوافق عليه البائع.
__________
(1) المرجع السابق نفسه(8/948)
ويسميه القانونيون: الوعد المتبادل حيث يرتبط الطرفان على سبيل التبادل، إذ يعد أحدهما أن يبيع للآخر شيئًا معينًا إذا أظهر الأخير رغبته خلال مدة معينة، كما يعد هذا الأخير أن يشتري الشيء ذاته بالثمن المعين إذا أظهر البائع رغبته خلال هذه المدة، وحينئذ يلتزم الطرفان قانونًا بما التزما به (1)
وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي الموقر في دورته الخامسة عام 1409هـ ينص على أن "المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما، أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز؛ لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده".
والقرار يخص المرابحة، لكنه إشارة طيبة إلى أن المواعدة يمكن أن تكون ملزمة في البيع إذا توفرت شروط البيع حيث قال: " لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه. حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده ".
فهذا واضح في دلالته على إقرار إلزامية المواعدة مع ضوابط، كما أن هذا النص يفتح الشهية لبحث المواعدة في جميع العقود ما عدا الصرف.
__________
(1) الوجيز في عقد البيع للدكتور: توفيق حسن فرج، ط. دار الجامعية عام 1988م، ص28ـ29.(8/949)
والذي يظهر لنا رجحانه أن المواعدة في المعاوضات وغيرها إذا خلت عن المحرمات فهي ملزمة للطرفين، حيث تشهد بذلك ظواهر النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية التي ذكرنا بعضها، وقد ترجم الإمام البخاري: باب من أمر بإنجاز الوعد وفعله الحسن.
ثم ذكر قوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] ، وقال: وقضى ابن الأشوع (1) بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب، وقال المسور بن مخرمة: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صهرًا له، فقال: وعدني فوفى لي)) (2)
ثم ذكر البخاري في هذا الباب أربعة أحاديث تدل على وجوب الوفاء بالوعد، فإذا كان الوفاء بالوعد واجبًا ديانة فيجب على القضاء أن يحمي ذلك ما دام يقع تحت طاولة القضاء، وكذلك لو كان خلف الوعد محرمًا وعلامة من علامات النفاق فيكون الوفاء به واجبًا، ولذلك قال الحافظ ابن حجر متسائلًا متعجبًا: "وينظر هل يمكن أن يقال: يحرم الإخلاف، ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك!!!! (3)
ويفهم من صنيع البخاري أن القول بإنجاز الوعد والقضاء به مذهبه، ولذلك ترجم له هذا الباب، وكذلك ذكره هذا الباب في كتاب الشهادات يدل على أن الواعد يؤخذ بوعده، كما يؤخذ الشاهد بالشهادة على نفسه (4)
وقد ذكر العلامة الزبيدي: أن أكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد، وتحريم الخلف فيه، وأن الحافظ السخاوي ألف في ذلك رسالة مستقلة سماها: "التماس السعد في الوفاء بالوعد" (5) .
وليس هذا البحث مجال التفصيل في مسألة الوعد والمواعدة، إذ لم تأت فيه إلا كجزئية من الجزئيات، ولكن الذي يظهر لنا رجحانه هو القول بإلزامية المواعدة في غير الصرف، إلا إذا أدت إلى مخالفة نص (6)
5- الاستفادة من الصلح:
وقد فصل العلماء في كتاب الصلح، وذكروا تفصيلات طيبة في الصلح في المعاوضات، يمكن الإفادة منها في سوق المال الإسلامية، حيث توضع المعلومات الخاصة بالصلح في المعاوضات أو الحطيطة، أو على الدين في إطار مرن يستفاد منها عند النزاع والتصالح.
__________
(1) وهو القاضي الفقيه سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمذاني، كان قاضي الكوفة، في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وذلك بعد المائة، وتوفي في (120هـ) ، ذكره ابن حيان في الثقات، قال العجلي: ثقة، قال البخاري: رأيت إسحاق بن راهويه يحتج بحديثه انظر: تهذيب التهذيب: (4 / 67) ، وفتح الباري: (5 / 289) .
(2) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب الشهادات: (5 / 289ـ290)
(3) فتح الباري: (5 / 290) .
(4) المرجع السابق نفسه.
(5) تاج العروس في شرح القاموس: مادة "وعد"
(6) وقد أطلنا النفس في رسالتنا الدكتوراه: مبدأ الرضا في العقود: (2 / 1032 وما بعدها) وكذلك فعل الأستاذ الجليل الشيخ القرضاوي في كتابه القيم: بيع المرابحة للآمر بالشراء (ص 87ـ106)(8/950)
6- الاستفادة من المقاصة:
حيث فصل الفقهاء فيها ولا سيما المالكية، وقالوا: إنها " إسقاط ما لك من دين على غريمك في نظير ما له عليك بشروطه" (1) . أي بشروط الإسقاط.
والمقاصة قد تكون جائزة، وقد تكون واجبة، والغالب عليها الجواز، ووجوبها في ثلاث أحوال وهي: " إذا حل الدينان، أو اتفقا أجلًا، أو طلبها من حل دينه فإن المذهب وجوب الحكم بها". (2)
وقد فصل علماء المالكية تفصيلًا للحالات التي يمكن أن تقع فيها المقاصة فبلغت ثمان وأربعين حالة، لخصها الدردير فقال: " واعلم أن الدينين إما من بيع، أو من قرض، أو مختلفين، وفي كل إما أن يكونًا عينًا، أو طعامًا، أو عرضًا" الدسوقي: " فهي تسعة أحوال، وفي كل إما أن يكون الدينان حالين، أو أحدهما حالا، والآخر مؤجلًا، أو يكونا مؤجلين متفقين في الأجل، أو مختلفين فيه، فالجملة ست وثلاثون حالة " وعلق الشيخ محمد عليش على ذلك فقال: "بل ثمان وأربعون حالة، أسقط المحشي منها اثنتي عشرة صورة اختلافهما قدرًا وصفة، وحكمها حكم صور اختلاف القدر فقط (3)
7 - 7 ـ والاستفادة من بيع الدين بالدين إذا لم يكونا نسيئين:
فالتحقيق (4) أن الممنوع منه هو بيع الدين النسيء بالدين النسيء؛ لأن الإجماع على منع "الكالئ بالكالئ " وهو كما فسره علماء اللغة العربية وغريب الأحاديث: بيع النسيئة بالنسيئة، وهي التأخير (5) ، قال البيهقي: قال أبو عبيدة: " هو النسيئة بالنسيئة" (6)
وأما الفقهاء فقد اختلفوا في تفسيره اختلافًا كبيرًا أثر في وجهات نظرهم في حكمه، لكن المجمع عليه هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال: " قال أحمد: لم يصح منه ـ أي في النهي عن بيع الكالئ بالكالئ ـ حديث، ولكن هو إجماع، وهذا مثل أن يسلف إليه شيء مؤجل، فهذا الذي لا يجوز بالإجماع "، ثم قال ابن تيمية: "وإذا كان العمدة في هذا هو الإجماع، والإجماع إنما هو في الدين الواجب بالدين الواجب كالسلف المؤجل من الطرفين ".
__________
(1) الشرح الكبير: (3 / 227)
(2) المرجع السابق نفسه
(3) انظر الشرح الكبير للدردير، مع حاشية الدسوقي، وتقريرات الشيخ محمد عليش على الشرح، والحاشية: (3 / 227) فنجد فيها هذه الصور: (ص227ـ231) .
(4) قام الأخ الدكتور: نزيه حماد بتحقيق هذه المسألة، وأجاد فيها فليراجع كتابه: دراسات في أصول المداينات، ط. دار الفاروق، ص: (242 وما بعدها)
(5) يراجع: لسان العرب مادة: كلأ، وغريب الحديث لأبي عبيدة: (1 / 20) .
(6) السنن الكبرى: (5 / 290)(8/951)
ولذلك أخرج ابن تيمية بيع ما هو ثابت في الذمة ـ ليسقط بما هو في الذمة ـ عن صور الكالئ بالكالئ، فقال: "ليس في تحريمه نص ولا إجماع ولا قياس، فإن كلًّا منهما اشترى ما في ذمته، وهو يقول له بما في ذمة الآخر" (1)
ولكن في حصر صور بيع الكالئ بالكالئ على هذه الصورة نظر (2) ، غير أنها تنحصر عند التحقيق في بيع الدين النسيء بالدين النسيء، ويمكن الاستفادة من بيع الدين بالدين في سوق المال ما داما غير نسيئين فيما يأتي:
أولًا: بيع الديون لمن هو عليه، جاء في المهذب: "وأما الديون فينظر فيها، فإن كان الملك عليه مستقرًّا كغرامة المتلف، وبدل العرض جاز بيعه ممن عليه قبل القبض؛ لأن ملكه مستقر عليه فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض (3)
والمراد باستقرار الدين بأن سببه قد تحقق فعلًا، وأمن من الفسخ كتسليم المبيع، أو يحقق الوطء في المهر، أو نحو ذلك كغرامة المتلف، وبدل العرض، وقيمة المغصوب، وعوض الخلع، وثمن المبيع، والأجرة بعد استيفاء المنفعة، والمهر بعد الدخول (4)
__________
(1) قاعدة العقود ـ التي طبعت باسم نظرية العقد ـ ط. دار المعرفة (ص234ـ235)
(2) د. نزيه حماد: المرجع السابق ص (245)
(3) المهذب وشرحه المجموع: (9 / 272)
(4) المنشور في القواعد للزركشي، ط. وزارة الأوقاف الكويتية: (2 / 159ـ160) ، والأشباه والنظائر للسيوطي ص (351) ، ود. نزيه حماد: أصول المداينات ص (47)(8/952)
ويسمى هذا النوع أيضًا بالاستبدال، والاعتياض، وهو جائز في جميع الديون المستقرة بالاتفاق، والثانية: ما عدا دين السلم عند الجمهور ـ كما سبق ـ (1)
ولكن يشترط في بيع الدين بالدين لمن هو عليه ملاحظة قواعد الصرف، بحيث لو باع دينه الذي كان نقودًا بالنقود يشترط فيه التقابض في المجلس، ويدل على ذلك حديث ابن عمر في هذا الباب، ولكن إذا لم يكن من باب الصرف فيجوز البيع بالتأجيل وغيره كبيع الدين بالعين، أو بالعكس (2)
وهذا الحل يفيد كثيرًا في تصفية الديون بين الناس، وفي المصارفة في الذمة دون الحاجة إلى القبض الفعلي، وذلك بأن يكون لرجل دنانير في ذمة رجل آخر، وللآخر عليه ريالان فاصطرفا بما في ذمتهما جاز عند الأكثر، منهم المالكية والحنفية، أما اقتضاء أحد النقدين من الآخر ويكون صرفًا بعين وذمة، فهو جائز في قول أكثر أهل العلم، لحديث ابن عمر (3) . وذكر ابن القيم أن مسألة التعاوض فيها غرض صحيح ومنفعة مطلوبة؛ لأن ذمتهما تبرأ من أسرها، وهي مطلوبة للشرع والعاقدين. (4)
جعل الدين الحال رأس مال في السلم:
وهذه المسألة نقل فيها الإجماع على عدم جوازه بناء على أنه داخل في بيع الكالئ بالكالئ (5)
__________
(1) يراجع: حاشية ابن عابدين: (4 / 166) ، والمدونة: (4 / 80) ، والمجموع للنووي (9 / 274) ، والمغني لابن قدامة: (4 / 53) ، وقال النووي في المجموع (9 / 274) : "فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف، كما لو كان له في يد غيره مال بغصب، أو عارية فإنه يجوز بيعه له"
(2) فتح العزيز: (8 / 436) ، والمجموع: (9 / 274) .
(3) يراجع: بدائع الصنائع: (7 / 3155) ، ومجموع الفتاوى: (29 / 472) ، والمغني لابن قدامة: (4 / 530ـ540) ، ود. نزيه حماد ص (146) .
(4) إعلام الموقعين، ط. شقرون: (2 / 8ـ9)
(5) جاء في المغني: (4 / 339ـ330) ، " وإذا كان له في ذمة رجل دينار فجعله سلمًا في طعام إلى أجل لم يصح، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم.. لأنه بيع دين بدين"(8/953)
غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم بينا أنه لا إجماع فيها، بل هي جائزة، قال ابن القيم: "وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم إليه في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته فقد وجب له عليه دين، وسقط له عنه دين غيره، وقد حكي الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه، قاله شيخنا واختار جوازه، وهو الصواب، إذ لا محذور فيه، وليس بيع كالئ بكالئ فيتناوله النهي بلفظه، ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى، فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة، فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله، وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة، وأما ما عداه من الصور الثلاث فلكل منها غرض صحيح ومنفعة مطلوبة (1)
بيع الساقط بالواجب:
هذا مصطلح استعمله ابن القيم في تقسيم بيع الدين بالدين وأجازه، فقال: " والساقط بالواجب كما لو باعه دينًا له في ذمته بدين آخر من غير جنسه فسقط الدين المبيع ووجب عوضه، وهي بيع الدين ممن هو في ذمته".
ثم بين فائدة هذا النوع للطرفين (2)
لكن الفقهاء الذين أجازوا هذا النوع ـ وهم الحنفية، والحنابلة، ووجه للشافعية ـ اشترطوا لصحة بيع الدين ممن هوعليه بشيء موصوف في الذمة أن يقبض الدائن العوض قبل التفرق من المجلس حتى لا يقع في المنهي عنه من بيع الكالئ بالكالئ (3)
__________
(1) إعلام الموقعين: (2 / 8) .
(2) المرجع السابق: (2 / 8ـ9) .
(3) بدائع الصنائع: (7 / 3230) وكشاف القناع: (3 / 294) ، والمجموع: (9 / 274) ود. نزيه حماد: المرجع السابق ص (148) .(8/954)
هذا كله في الديون المستقرة، أما الديون التي لم يستقر ملك الدائن عليها لعدم قبض المدين العوض المقابل لها كالأجرة قبل استيفاء المنفعة، أو مضي زمانها، وكالمهر قبل الدخول، فهذه الديون اختلف الفقهاء في جواز تمليكها ممن هي عليه بعوض، والذي يظهر رجحانه هو جواز ذلك كما سبق في السلم.
تمليك الدين لغير المدين:
لخص الإمام الرافعي والنووي هذا الموضع تلخيصًا طيبًا نذكره ثم نذكر آراء الفقهاء فيه وهو:
الدين في الذمة ثلاثة أضرب: مثمن، وثمن، ولا مثمن ولا ثمن (1)
الضرب الأول: المثمن: وهو المسلم فيه فلا يجوز بيعه، ولا الاستبدال عنه، وهل تجوز الحوالة به أو عليه، فيه ثلاثة أوجه.
الضرب الثاني: الثمن: فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة ففي الاستبدال عنها طريقان: أحدهما القطع بالجواز، قاله القاضي أبو حامد وابن قطان، وأشهرهما على قولين: أصحهما وهو الجديد جوازه، والقديم منعه.
ولو باع في الذمة بغير الدراهم والدنانير فإن قلنا: الثمن ما ألصقت به الباء صح الاستبدال عنه كالنقدين، وادعى البغوي أنه المذهب وإلا فلا؛ لأن ما ثبت في الذمة مثمنًا لم يجز الاستبدال عنه.
__________
(1) ذكر الرافعي في الفتح: (8 / 431) ، والنووي في المجموع: (9 / 273) : أن حقيقة الثمن مختلف فيها على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ما ألصق به الباء كقولك: بعت كذا بكذا، فالأول مثمن، والثاني: أن الثمن هو النقد فقط، والثالث: أن الثمن هو النقد، والمثمن ما يقابله، فإن لم يكن في العقد نقد، أو كان العوضان نقدين فالثمن ما دخلت عليه الباء، والمثمن ما يقابله، ورجح الرافعي والنووي الوجه الثالث.(8/955)
وأما الأجرة فكالثمن، وأما الصداق وبدل الخلع فكذلك إن قلنا: إنهما مضمونان ضمان العقد، وإلا فهما كبدل الإتلاف.
الضرب الثالث: ما ليس ثمنًا ولا مثمنًا: كدين القرض والإتلاف، فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف، كما لو كان له في يد غيره مال بغصب أو عارية فإنه يجوز بيعه له (1)
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أربعة آراء:
الرأي الأول: جواز تمليك الدين بعوض وبغير عوض.
وهذا وجه للشافعية، ورواية للحنابلة (2) .
الرأي الثاني: عدم جواز تمليك الدين لغير من هو عليه بعوض أو بغير عوض.
وهذا رأي الحنفية، والشافعية في قول، والحنابلة في رواية، والظاهرية (3) .، غير أن الحنفية استتثنوا بعض الحالات منها الوصية (4) .
الرأي الثالث: جواز بيع سائر الديون ما عدا دين السلم لغير من عليه الدين، وهذا قول للشافعية صححه جماعة من أئمتهم منهم الشيرازي والنووي، واختاره السبكي والقاضي زكريا الأنصاري (5) .، قال النووي: " أما بيعه لغيره كمن له على إنسان مئة فاشترى من آخر عبدا بتلك المئة فلا يصح على الأظهر..، وعلى الثاني: يصح.. قلت: الأظهر الصحة والله أعلم " (6) .
الرأي الرابع: جواز بيع الدين لغير المدين إذا لم يكن فيه غرر، أو محظور شرعي آخر، جاء في شرح الخرشي: " والمعنى أن الدين ولو حالا لا يجوز بيعه بدين، قال المؤلف: ولا بد من تقدم عمارة الذمتين، أو إحداهما، ويتصور في ثلاثة، كمن له دين على شخص فيبيعه من ثالث بدين، وفي أربعة كمن له دين على إنسان ولثالث دين على رابع فيبيع كل ما يملك من الدين بمال صاحبه من الدين ... ولا يتصور بيع الدين بالدين في أقل من ثلاثة ".
__________
(1) نقلنا النص عنهما مع اختصار. فتح العزيز: (8 / 431ـ439) ، والمجموع (9/ 273- 275) .
(2) المنثور في القواعد للزركشي: (2/ 160) ؛ والمبدع: (4/ 199) ؛ ومجموع الفتاوى: (29/ 506)
(3) حاشية ابن عابدين (4/ 166) ؛ وبدائع الصنائع: (7/ 3104) ؛ والروضة: (3/ 514) ؛ والأشباه والنظائر للسيوطي ص (331) والمحلى لابن حزم: (9/ 6، 117)
(4) حاشية ابن عابدين: (4/ 166) ؛ ويراجع للمزيد د. نزيه حماد: المرجع السابق ص (158)
(5) المهذب من المجموع: (9/ 275) ؛ والروضة: (3/ 514) ؛ والأشباه والنظائر للسيوطي ص (331)
(6) الروضة: (3/ 514)(8/956)
ثم قال: " وفهم من قوله: (بدين) عدم منع بيع الدين بمعين يتأخر قبضه، أو بمنافع معين ... ولا يجوز للشخص بيع ماله على الغير من دين سواء كان حيا أو ميتا
ولو علم المشتري تركته؛ لأن المشتري لا يدري ما يحصل له بتقدير دين آخر إلا أن يكون من هو عليه حاضرًا بالبلد مقرًّا، والدين مما يباع قبل قبضه لا طعامًا من بيع، وبيع من غير جنسه، وليس ذهبًا بفضة، ولا عكسه، وأن لا يكون بين المشتري والمدين عداوة، وأن لا يقصد المشتري إعنات المدين، وأما إن لم يقر فلا يجوز لأنه من شراء ما فيه خصومة (1)
والذي يظهر لنا رجحانه هو أن بيع الدين لمن هو عليه ولغيره جائز مع ملاحظة قواعد الصرف، وكون الدين ثابتًا مقدورًا عليه يمكن تسليمه بالفعل، أو عن طريق المصارفة في الذمة، وأن لا يكون فيه محظور شرعي آخر من جهالة فاحشة، وغرر ونحو ذلك. والله أعلم.
الصلح عن دين بدين:
هذا له عدة صور:
منها: أن يتصالح الدائن مع مدينه بأن يكون للمدين أيضًا دين آخر عليه من نفس جنسه، فيتصالحان بما في ذمتيهما سواء كان ما في ذمتيهما متساويين أو لا وهذا بمثابة إسقاط من الطرفين، وإبراء، وتخارج.
ومنها: أن يتصالح الدائن مع مدينه في الذمة، وذلك بأن يصالحه على موصوف في الذمة من غير جنسه، "كأن يصالحه عن دينار في ذمته بإردب من قمح، أو نحوه في الذمة" (2) فهذا الصلح صحيح عند جمهور الفقهاء ـ الحنفية والمالكية والحنابلة ـ إذا تم قبض البدل في المجلس، قبل التفرق (3)
__________
(1) شرح الخرشي على المختصر مع حاشية العدوي: (5 / 77ـ78) .
(2) مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد المادة (1628) .
(3) تبيين الحقايق: (5 / 42) ، والتاج، والإكليل للمواق: (5 / 81) ، والمغني: (4 / 534) ، ويراجع لمزيد من التفصيل د. نزيه حماد: المرجع السابق ص (260)(8/957)
وذهب الشافعية إلى أنه يشترط تعيين بدل الصلح في المجلس، ولا يشترط القبض في المجلس على أصح الوجهين (1)
أما إذا كان بدل الصلح ليس في الذمة فيجوز مع تفصيل ذكره النووي حيث قال:
أما إذا كان صالح الدائن على دينه عن بعض الأموال التي يقع فيها الربا على ما يوافقه في العلة فلابد من قبض العوض في المجلس، فإن لم يكن العوضان ربويين، فإن كان العوض عينًا صح الصلح ولا يشترط قبضه في المجلس. (2)
8 ـ الاستفادة من عقد البيع بمختلف أنواعه:
سواء أكان بيع الشيء بالثمن، أم عن طريق المقايضة، أو بيع العربون، أو البيع الآجل (وبالتقسيط) ، أو بيع الشيء المعين، أو البيع على الأوصاف والبيع على البرنامج، كذلك بيوع المرابحة، والإشراك، والتولية، والحطيطة.
فلو تتبعنا اجتهادات الفقهاء جميعًا في كتاب البيوع، وتتبعنا استنباطاتهم في أنواع البيوع والخيارات الفقهية التي تزيد على ثلاثين نوعًا من الخيار، والشروط وغيرها.. لاستطعنا أن نوفر لسوق المال الإسلامية عددًا كبيرًا من العقود التي تحقق مصالحها، وتعطيها المرونة والانسياب.
__________
(1) روضة الطالبين: (4 / 195) ، حيث قال: "وإن كان دينًا صح على الأصح، ولكن يشترط التعيين في المجلس، ولا يشترط القبض بعد التعيين على الأصح
(2) الروضة: (4 / 195) .(8/958)
الاستفادة من عقد الإيجار سواء كان واقعًا على العين، أو العمل، أو الذمة، ولاسيما عند الحنابلة في الإجارة في الذمة حيث أجازوا تأخير الأجرة ما دام العقد جرى بلفظ الإجارة (1)
9 - 9 ـ الاستفادة من بقية العقود:
كالشركات، الوكالة، والحوالة والرهن، والصلح، والقراض، والمساقاة والمزارعة والجعالة، والضمان، وإحياء الموات، والوقف، ونحوها من العقود التي ذكرها فقهاؤنا الكرام.
ومع ذلك علينا أن ندرسها دراسة متعمقة على ضوء حاجاتنا العصرية، بحيث نستفيد من القواعد الثابتة فيها، وندخل فيها من الاجتهادات ما يكتمل بها، وتجعلها صالحة لوقتنا الحاضر، دون أن تصطدم هذه الاجتهادات المكملة بالقواعد الأصلية.
10 ـ الاستفادة من إنشاء عقود جديدة:
والذي نرى رجحانه هو أن الأصل في العقود والشروط الإباحة،وهذا هو الرأي الذي اختاره المحققون من العلماء مثل ابن تيمية، وابن القيم وغيرهما، بل وجدنا أن هذا الأصل معتبر عند المذاهب الأربعة (2)
وبناء على ذلك فعلى الفقهاء أن يبحثوا عن عقود جديدة وشروط جديدة لم تكن موجودة لدى فقهائنا العظام؛ لأن عصرهم لم يكن بحاجة إليها، ولذلك لو وجدت الحاجة إلى أي عقد جديد قالوا به استحسانًا.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات: (2 / 360) .
(2) يراجع: رسالتنا للدكتوراه: مبدأ الرضا في العقود، ط. دار البشائر الإسلامية ـ بيروت 1985م: (2 / 1032) ، حيث أقمنا الدليل على اعتبار هذا الأصل لدى المذاهب الأربعة، خلافًا للظاهرية.(8/959)
الاجتهاد الانتقائي، والاجتهاد الإنشائي:
والمقصود بهذا العرض الموجز أننا بحاجة ـ كما يقول الأستاذ الدكتور القرضاوي (1) ـ إلى نوعين من الاجتهاد، هما الاجتهاد الانتقائي بحيث يقوم الفقهاء بغربلة الفقه الإسلامي بمختلف آرائه ومذاهبه ومدارسه للوصول إلى ما هو الأرجح دليلًا، والأوفق بمقاصد الشريعة، والأكثر تحقيقًا للمصالح، مع مراعاة ضوابط الشرع، وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان.
والاجتهاد الإنشائي في المسائل التي لا نجد فيها آراء لفقهائنا الكرام ولأنها لم تكن موجودة في عصرهم، وإنما هي ظهرت في عصرنا نتيجة للتطورات الاقتصادية والطبية، والاجتماعية، والسياسية.
فإذا أردنا النجاح فعلينا أن نسير بتوازن على هذين الأمرين، وهما: الاعتماد على فقهنا العظيم مع تنقيته، وغربلته، والاستفادة من كل نظرية من نظرياته، وكل رأي من آرائه ما دام صادرًا من فقيه ثقة، صحابيًّا كان أم تابعيًّا، أم إمامًا للمذهب أو غيره.
ثم التجديد في الاجتهاد، وعدم الوقوف على ما قالوه ولاسيما في الأمور الجديدة، والقضايا المستحدثة، مشجعين على هذا النوع ما دام صاحبه أهلًا للاجتهاد الكلي، أو الجزئي، أو الترجيح، وما دام يريد به وجه الله تعالى، ولا نغلظ عليه إن أخطأ، بل يصوب بعضنا البعض من خلال المنابر الفقهية المعتبرة كهذا المجمع الموقر الذي يحتضن الجميع، أو من خلال المناقشات العلمية الهادفة التي تريد إحقاق الحق، وإظهاره على لسان أي شخص كان، والله المستعان.
الخلاصة
بعد هذا الاستعراض الشامل الموجز للتطبيقات الشرعية لإقامة سوق المال الإسلامية نلخص بأن سوق المال الإسلامية تحتاج إلى ثلاثة عناصر أساسية بعد ترتيب النواحي الإدارية والفنية، هي الأسهم والسندات أو الصكوك، والعقود النمطية، أو العقود العادية، وهي:
أولًا: في نطاق الأسهم نجد فيها سعة من الناحية الشرعية حيث إنها تعني حصة المساهمة بنسبة من الشركة، ولذلك فالأصل فيها الحل إلا إذا كانت طبيعة الأسهم ـ كأسهم الامتياز بالمال ـ مخالفة للشرع، أو أن محلها ونشاطها محرم.
__________
(1) الأستاذ الدكتور / يوسف القرضاوي: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، ط. مكتبة الوهبة بالقاهرة ص (277)(8/960)
وقد أصدر المجمع الموقر قرارًا في دورته السابعة حول هذا الموضوع.
ثانيًا: في نطاق السندات، حيث بما أنها تقوم اليوم على القرض بفائدة فإنها محرمة ـ كما صدر بذلك قرار من المجمع الفقهي الموقر.
ولكن المجمع قد وصل إلى بعض البدائل من خلال صكوك المضاربة التي أقرها في دورته الرابعة بجدة من 18 ـ 23 جمادى الآخرة 1408هـ، كما وضع مجموعة من الضوابط لها. وقدمنا في هذا البحث بدائل أخرى، ويمكن أن يشكل مجمع الفقه الموقر لجنة من علماء الفقه والاقتصاد والبنوك لصياغة صكوك من العقود التي تقبل أن تصاغ منها، وقد قدمنا في البحث البدائل الآتية:
أـ صكوك مضاربة طويلة الأجل.
ب ـ صكوك مضاربة لمشروع معين.
ج ـ صكوك المضاربة المستردة بالتدرج.
د ـ صكوك المضاربة المستردة في آخر المشروع.
هـ ـ صكوك المضاربة المنتهية بتمليك المشروع.
وـ صكوك المضاربة على فئات متنوعة، مثل 100 دولار.
ز ـ شهادات الاستثمار للبنك الإسلامي.
ح ـ شهادات التأجير أو الإيجار المتناقصة، كما في تجربة بيت التمويل التونسي السعودي.
ط ـ صكوك المشاركة بجميع أنواعها، وهي تشمل:
الأسهم بجميع أنواعها المباحة كما سبق.
صكوك ـ أو شهادات ـ المشاركة في مشروع معين.
صكوك المشاركة المؤقتة بفترة زمنية محددة.
صكوك المشاركة المنتهية بالتمليك.
صكوك المشاركة المستردة بالتدرج.(8/961)
صكوك المشاركة المستردة في نهاية المشروع.
ي ـ سندات الخزينة المخصصة للاستثمار.
ك ـ صكوك المرابحة.
وأما العقود التي يمكن صياغة الصكوك، أو السندات الشرعية منها فهي ـ في نظرنا ـ ما يأتي:
المضاربة بجميع صورها.
المشاركة بجمع صورها.
الإجارة بجميع أنواعها (العين والعمل والذمة) وكذلك الإجارة المنتهية بالتمليك.
السلم بضوابطه.
بيع الأجل.
الاستصناع.
،8ـ المزارعة، والمساقاة.
المرابحة.
وقد ارتأينا أنه لا مانع شرعًا من وجود ضمانات للصكوك لكنها ليست من المضارب، أو الشريك، أو نحوهما، وإنما من جهة ثالثة كالدولة، أو مؤسسة النقد.
وكذلك لا مانع شرعًا من تعهد الجهة المصدرة للصكوك بشراء نسبة منها كما هو الحال بالنسبة للبنك الإسلامي للتنمية.(8/962)
ثالثًا: في نطاق العقود التي يمكن الاستفادة منها في سوق المال فهي ما يأتي:
أـ السلم حيث يمكن الإفادة منه من ناحيتين: الناحية الأولى أنه عقد يحقق المنفعة للعاقدين، وينشط حركة السوق بشكل كبير، حيث يكون لدى البائع (المسلم) سلع ومعادن وبضائع ومواد غذائية ونحوها في المستقبل فيدخل في عقد لضمان تصريفها، وكذلك المشتري يستفيد من رخص الثمن واستثمار فائض أمواله.
الناحية الثانية من خلال صكوك السلع على ضوء ما رجحناه من جواز التصرف في المسلم فيه بالبيع، والإقالة، والتولية، والشركة، والحوالة ونحوها بضوابطها الشرعية.
ب ـ الاستفادة من عقد الاستصناع الذي يتسم بمرونة أكثر من السلم، والبيع الآجل، ولاسيما بعد إقرار كونه ملزمًا للطرفين من قبل مجمع الفقه الموقر في دورته السابقة.
جـ ـ الاستفادة من الوعد الملزم، والمواعدة بضوابطها.
د ـ الاستفادة من بيع الدين بالدين، إن لم يكونا نسيئين من المدين ومن غيره بضوابطه الشرعية.
هـ ـ الصلح بجميع أنواعه، ولاسيما الصلح على الدين.
وـ البيوع بجميع أنواعها.
ز ـ الإجارة بجميع أنواعها ولاسيما الإجارة في الذمة.
ح ـ الإفادة من جميع العقود الموجودة في فقهنا العظيم.
ط ـ الاستفادة من إنشاء عقود جديدة ما دامت لا تخالف نصًًّا شرعيًّا من الكتاب والسنة بناء على أن الأصل في العقود والشروط الإباحة إلا إذا دل دليل معتبر على حظرها.
واللهَ أسأل أن يجعل أعمالي كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا من الخطأ والزلل في القول والعقيدة في العمل.
الدكتور / علي محيي الدين القره داغي(8/963)
التطبيقات الشرعية
لإقامة السوق الإسلامية
إعداد
الأستاذ الدكتور / علي السالوس
أستاذ الفقه والأصول
كلية الشريعة ـ جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله تعالى حمدًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على رسوله خير البشر، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
وبعد: ففي المؤتمر السابع للمجمع الموقر بحث موضوع الأسواق المالية، وبين المجمع في قراره رقم 64 / 1 / 7 ما يجوز شرعًا مما يجري العمل به في هذه الأسواق، وما لا يجوز، وظهر أن كثيرًا من المعاملات غير جائزة شرعًا، وهذه نتيجة طبيعية لأسواق نشأت في ظل نظام اقتصادي بعيد عن الإسلام.(8/964)
وفي قرار المجمع ورد ما يأتي:
"البديل الشرعي للمعاملات المحرمة في السلع والعملات:
ينبغي تنظيم سوق إسلامية للسلع والعملات على أساس المعاملات الشرعية وبخاصة في بيع السلم والصرف والوعد بالبيع في وقت آجل والاستصناع وغيرها. ويرى المجمع ضرورة القيام بدراسة وافية لشروط هذه البدائل، وطرائق تطبيقها في سوق إسلامية منظمة" ا. هـ.
وعند تحديد موضوعات الدورة الثامنة كان مناسبًا جدًّا أن يأتي موضوع: " تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية"
والمراد من الموضوع هو "المنهج التطبيقي للاستفادة من العقود الخاصة كالسلم والاستصناع ونحوها، ومن الوعد بالبيع والصرف، في إقامة السوق الإسلامية للسلع والعملات، مع الاحترام لطريقة التعامل الشرعي والالتزام بها".
وفي هذا البحث الوجيز بينت المنهج التطبيقي للاستفادة من السلم، والسلم الموازي، والحوالة، والبيع الآجل، والاستصناع، والاستصناع المتوازي، والوعد والمواعدة، والبديل الشرعي للمواعدة في الصرف.
ولم أناقش من القضايا ما قرره المجمع من قبل، كعدم جواز بيع دين السلم قبل قبضه، وخضوع النقود الورقية لأحكام الصرف، وحكم الاستصناع، كما لم أجد حاجة للحديث عن الشروط المعلومة للعقود، وإنما تناول البحث بعض المسائل الخلافية.
ونسأل الله جلت قدرته أن يجنبنا الزلل في القول والعمل، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله.(8/965)
المبحث الأول
السلم
السلم بشروطه المعروفة يمكن أن يستفاد منه في إقامة السوق الإسلامية، حيث يستفيد المشتري من رخص الثمن في استثمار فائض المال. وعند حلول الأجل وتسلم المبيع بأية صورة من صور القبض التي أقرها المجمع يستطيع المشتري أن يبيع بيعًا حالا إن كان في حاجة إلى الثمن في الحال، وإن لم يكن في حاجة إليه يمكن أن يبيع بيعًا آجلًا بثمن يربو على الثمن الحال كما هو معلوم، وبذلك يكون استثمر المال مرتين، ثم يستمر في استثماره بعد ذلك بالطريقة التي تناسبه.
ومن اشترى سلمًا، أو باع بيعًا آجلًا، واحتاج إلى المال قبل الأجل، يستطيع في المنهج غير الإسلامي أن يقترض بالربا المحرم، أو أن يبيع دين السلم ويحيل المشتري على البائع الأول، فما الحلول المقترحة في المنهج الإسلامي؟
السلم الموازي والحوالة:
من اشترى سلمًا وكان الأجل بعد عام مثلًا، وبعد ثلاثة أشهر احتاج إلى الثمن، فإنه يستطيع أن يبيع سلمًا مثل الدين الموصوف في الذمة ويكون الأجل بعد تسعة أشهر. ويلاحظ هنا أن علاقته بالمشتري منفصلة تمامًا عن علاقته بالبائع، فالعقدان منفصلان، فعليه أن يتسلم المبيع في الموعد، ثم يسلمه للمشتري. وقد يبيع مقدارًا أكثر أو أقل مما اشتراه سلمًا تبعًا لحالته الخاصة ما دام العقدان منفصلين.(8/966)
وإذا كان الدينان متساويين في القدر والصفة والأجل أيمكن أن يستفاد من عقد الحوالة؟ وتصبح العلاقة بين البائع الأول المدين، والمشتري الثاني الدائن، ويكون المحيل هو المشتري أولًا، فهو دائن، وهو البائع ثانيًا، فهو مدين، فهو إذن دائن للبائع الأول المحال عليه، وفي الوقت نفسه مدين للمشتري الثاني المحال، فمع تحقق شرط تساوي الدينين لصحة الحوالة أيمكن الاستفادة من عقد الحوالة؟
تحدث ابن قدامة عن شروط صحة الحوالة فقال:
"الشرط الثاني: أن تكون على دين مستقر، ولا يعتبر أن يحيل بدين مستقر، إلا أن السلم لا تصح الحوالة به ولا عليه؛ لأن دين السلم ليس بمستقر لكونه بعرض الفسخ لانقطاع المسلم فيه، ولا تصح الحوالة به، لأنها لم تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه، والسلم لا يجوز أخذ العوض عنه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره" (1)
من هذا نرى أن ابن قدامة يوضح عدم جواز الحوالة على دين السلم، لأنه يتعرض للفسخ، فهو غير مستقر، ومع جواز الحوالة بالدين غير المستقر، إلا أن السلم لا تصح الحوالة به، واستدل بالخبر، ولم يشر لأي خلاف.
وقال الكاساني في شروط الحوالة:
"أن يكون لازمًا، فلا تصح الحوالة بدين غير لازم.. والأصل أن كل دين لا تصح الكفالة به لا تصح الحوالة به" (2)
وقال في السلم:
"لا يجوز استبدال المسلم فيه قبل قبضه"، ثم قال: "وتجوز الحوالة بالمسلم فيه لوجود ركن الحوالة مع شرائطه، وكذلك الكفالة به. ثم قال أيضًا: "ويجوز الرهن بالمسلم فيه" (3)
__________
(1) المغني: 5 / 55، وانظر معه الشرح الكبير: 5 / 56
(2) بدائع الصنائع: 6 / 16
(3) المرجع السابق: 5 / 214، وفي فتح القدير: 6 / 230: "لا يجوز التصرف في المسلم فيه قبل القبض"(8/967)
وقال النووي:
"المسلم فيه لا يجوز الاستبدال عنه، ولا بيعه.
وهل تجوز الحوالة به، بأن يحيل المسلم إليه المسلم بحقه على من له عليه دين قرض أو إتلاف، أو الحوالة عليه، بأن يحيل المسلم من له دين قرض أو إتلاف على المسلم إليه؟
فيه ثلاثة أوجه، أصحها: لا. والثاني: نعم. والثالث: لا تجوز عليه وتجوز به" (1)
وقال النووي بعد ذلك في الحوالة:
"قد اشتهر في كتب الأصحاب اشتراط استقرار ما يحال به وعليه" (2)
ثم قال:
"أطلق الإمام الرافعي أن الدين اللازم تصح الحوالة به وعليه، واقتدى في ذلك بالغزالي، وليس كذلك، فإن دين السلم لازم، ولا تصح الحوالة به ولا عليه على الصحيح، وبه قطع الأكثرون، وحكي وجه في (الحاوي) و (التتمة) وغيرهما: أنه يجوز بناء على أنها استيفاء، وسبقت هذه المسألة باب حكم البيع قبل القبض. فكان ينبغي أن يقول: الدين المستقر ليخرج هذا (3)
وفي المدونة (4 / 34ـ35) تقرأ ما يلي:
"قلت: فإن كنت أسلفت في شعير فلما حل الأجل أخذت سمراء أو محمولة؟ قال: لا بأس بذلك، وهو قول مالك. قلت: ولا ترى هذا بيع الطعام قبل أن يستوفى؟ قال: لا، إذا حل الأجل فأخذت بعض هذا من بعض مثل الذي ذكرت لي، وأخذت مثل كيله، فإنما هذا بدل وليس هذا بيع الطعام قبل أن يستوفى. قال: ولا خير في هذا قبل الأجل عند مالك.
__________
(1) روضة الطالبين: 3 / 512
(2) المرجع السابق: 4 / 230.
(3) المرجع السابق: 4 / 231(8/968)
قلت: وكذلك إن سلف في حنطة فلما حل الأجل أخذ شعيرًا؟ قال: نعم، لا بأس به. وكل هذا إنما يجوز بعد محل الأجل أن يبيعه من صاحبه الذي عليه السلف، ولا يجوز أن يبيعه من غير صاحبه الذي عليه السلم بنوعه ولا بشيء من الأشياء، ولا بمثل كيله ولا صفته حتى يقبضه من الذي عليه السلف، لأنه إن باعه من غير الذي عليه ذلك بمثل كيله وصفته صار ذلك حوالة، والحوالة عند مالك بيع من البيوع، فلذلك لا يجوز أن يحتال بمثل ذلك الطعام الذي سلف فيه على غير الذي عليه السلف لأنه يصير دينًا بدين، وبيع الطعام قبل أن يستوفى " ا. هـ
ثم جاء بعد ذلك في المدونة الكبرى أيضًا (ص88 من الجزء نفسه) الحديث عن السلم في غير الطعام، وهو:
"وما سلفت فيه من العروض إلى أجل من الآجال فأردت أن تبيعه من صاحبه فلا بأس أن تبيعه منه بمثل الثمن الذي دفعته إليه أو أدنى منه قبل محل الأجل، لأنه لا يتهم في أن يدفع عشرة دنانير ويأخذ ثمانية، حل الأجل فيه أو لم يحل. ولا يصلح أن تبيعه من الذي عليه السلف بأكثر مما أعطاه فيه، حل في ذلك الأجل أو لم يحل.(8/969)
وإن أردت أن تبيعه من غير صاحبه فلا بأس أن تبيعه منه بما شئت، بمثل الثمن أو أكثر أو أقل، أو ذهب أو ورق أو عرض من العروض، أو طعام إلا أن يكون من صنفه بعينه فلا خير فيه.
ولا بأس أن تبيعه ـ وإن لم يحل الأجل ـ بما يجوز، ذلك أن تسلف الذي لك عليه، فيه، إن كان الذي لك عليه ثيابًا فزقبية فلا بأس أن تبيعها قبل محل الأجل بثياب قطن مروية أو هروية، أو خيل أو غنم أو بغال أو حمير، أو بقر أو إبل، أو لحم أو طعام تقبضه مكانك ولا تؤخره، وإن أردت أن تأخذ منه ثيابًا فزقبية قبل محل الأجل فلا تأخذ منه أكثر من عددها. وإن كانت هذه التي تأخذ أفضل من رقاعها، واختلف العدد أو اتفق، فلا خير فيه، ولا خير في أن تأخذ منها قبل محل الأجل، إلا بمثل صفتها في جودتها، وإن حل الأجل فخذ منها أرفع من صفتها أو أكثر عددًا، أو أقل من عددها، أو خيرًا من صفتها، أو أكثر عددًا، أو أشر من صفتها، فلا بأس به إذا حل الأجل على حال من الحالات" ا. هـ
وقال ابن رشد (الحفيد) :
"للحوالة عند مالك ثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون دين المحال حالًّا؛ لأنه أن لم يكن حالًّا كان دينًا بدين" (1)
وقال الشوكاني:
وأما قوله: "واستقرار الدين على المحال عليه" إلخ، فلا أدري لهذا الاشتراط وجهًا؛ لأن من عليه الدين إذا أحال على رجل يمتثل حوالته، ويسلم ما أحال به، كان ذلك هو المطلوب؛ لأن به يحصل المطلوب بدين المحال، ولو لم يكن في ذمة المحال عليه شيء من الدين (2)
وقال في السلم:
قوله: "ومتى بطل بفسخ أو عدم جنس لم يؤخذ إلا رأس المال "
أقول: هذا صحيح؛ لأن المسلم إليه معذور بالفسخ أو عدم الوجود، فلا يطالب بغير رد رأس المال" (3)
__________
(1) انظر بداية المجتهد مع الهداية، في تخريج أحاديث البداية: 8 / 115.
(2) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: 4 / 242
(3) المرجع السابق: 3 / 160(8/970)
مما سبق نرى الخلاف حول الحوالة بدين السلم، والحوالة عليه.
الذين منعوا الحوالة بدين السلم فريقان:
أحدهما: من قال: إن الحوالة بيع.. والحوالة عند الجمهور ليست بيعًا، ولا حرج من الأخذ برأي الجمهور.
والفريق الثاني: حجته في المنع حديث "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره"
والحديث رواه أبو داود في باب السلف يحول، وفي سنده عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري، وعطية ضعيف لا يحتج به. ورواه ابن ماجه في كتاب التجارات: باب: من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره، وهو بإسنادين فيهما عطية أيضًا (1)
إذن يمكن الأخذ برأي من ذهب إلى جواز الحوالة بدين السلم.
أما الحوالة على دين السلم فهي مشكلة حقًّا..
فإذا أخذنا برأي المجيزين فلعل من الواجب مراعاة ما يأتي:
1 ـ رضا المحال عليه لأن الدين غير مستقر، وإذ فسخ العقد فلا يلزمه إلا الثمن الذي أخذه دون أدنى زيادة، ولا يطالب بثمن المبيع بقيمته عند حلول الأجل، فقد يؤدي إلى الربا.
2 ـ عدم براءة المحيل حتى تنقضي الحوالة، لأنه إذا باع سلمًا بثمن أكبر مما دفعه في الشراء، وفسخ العقد، لا يستحق إلا الثمن الذي دفعه، ويجب عليه رد الثمن الذي أخذه.
ويمكن في هذه الحالة الأخذ برأي من أجاز الاعتياض عن دين السلم، فهذا يساعد على حل المشكلة دون الوقوع في محظور شرعي إذا نظرنا إلى الثمن، وعدم جواز أخذ زيادة عليه.
إذن يمكن أن تكون الحوالة مع السلم الموازي منهجًا شرعيًّا عمليًّا يساعد في نجاح التطبيق في السوق الإسلامية.
ومما يجب أخذه في الاعتبار أن هذا لا ينطبق على أنواع المقامرة، أو ما يعرف في معاملات الأسواق العالمية باسم المضاربة.
__________
(1) انظر ترجمة عطية في تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال، والمغني في الضعفاء، وانظر ترجمته بالتفصيل، وروايته عن أبي سعيد، في كتابي (عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثني عشرية) ص125 ـ 126، وراجع بيان الشيخ الألباني لضعف الحديث في إرواء الغليل 5 / 215ـ216، وتضعيف ابن القيم وغيره لهذا الحديث في عون المعبود: 9 / 353 وما بعدها، وراجع أيضًا نصب الراية: 4 / 51.(8/971)
ولذلك قبل أن نشتري سلمًا لابد من التأكد من أن البائع ليس مضاربًا، أي مقامرًا، وإنما ممن يتوقع وجود السلعة المبيعة في ملكه عند حلول الأجل، وهذا ينطبق عليه ما ذكره الفقهاء في شروط السلم من أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله، فالبائع إذن يريد البيع فعلًا وليس المقامرة.
ونلاحظ في المعاملات المعاصرة أن النقود التي يراد بها المضاربة في البرص الآجلة قد لا يبلغ فيها التسليم والتسلم 1 % كما ظهر من الإحصائيات عند مناقشة هذا الموضوع من قبل في دورات للمجمع وندوات سابقة. فهؤلاء المقامرون لا حل لهم في المنهج الإسلامي قبل التوبة، وترك هذا النوع من القمار.
كما نلاحظ أيضًا أن العقود التي تجمع بين متعاقدين يريدون البيع والشراء فعلًا، هذه العقود تنتهي عادةً بالتسليم والتسلم، وقلما تتعرض للفسخ إلا لظروف طارئة، ومثل هذه العقود متى كانت سلمًا بشروطه الشرعية، واحتاج المشتري إلى الثمن، أو التصرف في المبيع قبل الأجل، يمكن الاستعانة بالسلم الموازي، ثم الحوالة.
صكوك السلم:
اقترح أحد الإخوة الباحثين إحداث ورقة مالية تمثل دين السلم، بحيث تكون صكا قابلا للتداول.
والاقتراح يقوم على أساس بيع دين السلم قبل قبضه وقبل حلول أجله، بل جواز تعدد هذا البيع.
وقد ناقشت الباحث من قبل، وبينت له خطأه. ولكن لم نعد في حاجة إلى إعادة المناقشة بعد صدور قرار المجمع رقم 64 / 1 / 7 في دورته السابعة، حيث جاء في القرار ما نصه: "لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلمًا قبل قبضها".(8/972)
المبحث الثاني
البيع الآجل
البيع الآجل بضوابطه الشرعية له دور كبير في السوق الإسلامية، حيث يستفيد البائع من زيادة الثمن، فيكون وسيلة مشروعة لاستثمار المال بديلًا للقرض الربوي.
وإذا احتاج البائع إلى الثمن قبل حلول الأجل فقد يجد المخرج في بيع السلم، ولكن إذا توقع من البداية عندما يدرس ظروف استثمار المال أنه سيحتاج إلى الثمن ـ كله أو بعضه ـ قبل حلول الأجل فإن الأفضل في هذه الحالة ألا يلجأ إلى البيع الآجل، أو على الأقل لا يستثمر إلا جزءًا قليلًا، ولعل الأفضل في هذه الحالة الاستثمار في صكوك المقارضة، حيث يستفيد من أرباحها ويبيعها متى أراد.
وأحب أن أذكر هنا طريقة عملية تعتمد على البيع الآجل اقترحتها على المصرف الإسلامي لتكون بديلًا للصرف غير الجائز.
فالمصرف قد يكون في حاجة إلى عملة معينة بعد فترة زمنية، ويخشى المخاطر، فربما يرتفع سعر صرفها حينئذ، ولذلك يريدها بسعر اليوم. وعلى العكس من ذلك قد يكون من حقه عملة معينة بعد مدة، وهو لا يحتفظ بمثل هذه العملة وإنما يستبدلها بأخرى، ويخشى أيضًا مخاطر تغير سعر الصرف.
وفي كلتا الحالتين لا يستطيع أن يتعاقد على صرف آجل.
وللتوضيح أذكر المثال الآتي:
مصرف قطر الإسلامي يتعامل بالريال القطري أساسًا، فهو العملة المحلية وسعر الصرف الريال ثابت بالنسبة للدولار الأمريكي فقط. ولذلك فهو لا يحتفظ بمبالغ كبيرة إلا بهاتين العملتين.(8/973)
وفي العمليات التي يقوم بها، وما يترتب عليها من ديون له أو عليه، أو على مشروعات تحتاج مستقبلًا إلى قدر من النقود، أو تأتي بعائد، إذا كان ما يأتيه مستقبلا، أو ما يلتزم به، سيكون بغير الريال والدولار، فماذا يفعل؟
فمثلًا المطلوب منه بعد ثلاثة أشهر خمسة ملايين مارك، أو سيوضع في حسابه بعد سنة مليون جنيه، ويريد شراء الماركات وبيع الجنيهات بسعر صرف اليوم مع الدولار.
في الحالة الأولى:
المصرف يستثمر جزءًا كبيرًا من الأموال في البيوع الآجلة، وهي في البيوع المحلية بالريال، وفي الخارجية بالدولار، وفي هذه الحالة يجعل بعض صفقات بيوعه الآجلة بالمارك في حدود خمسة ملايين، أو أقل أو أكثر بقليل، ويكون الأجل أقل من ثلاثة أشهر ولو بيوم واحد. وبذلك يتسلم الثمن قبيل موع التزامه، حيث يقوم بالتسليم بعد ذلك دون حاجة إلى شراء المارك.
في الحالة الثانية:
يقوم بشراء سلعة أو سلع لأجل أبعد من العام ولو بيوم واحد، ويكون الثمن مليون جنيه، أو أقل أو أكثر بقليل.
وعندما يوضع المليون في حسابه لا يحتاج إلى بيعه بالدولار، ويتعرض لمخاطر الصرف، حيث يكون محتاجًا إليه لدفع ثمن ما اشتراه من قبل بالأجل، وبذلك ينقل من حسابه لحساب البائع.
وما اشتراه في هذه الحالة يبيعه بالريال أو بالدولار دون ارتباط الأجل بالأجل السابق، وإنما تدخل هذه السلع في وعائه الاستثماري، فيبيع بيعًا حالًّا أو آجلًا، إلى أجل قريب أو بعيد، تبعًا لحالات الاستثمار وفرصه.
اعتراض:
عندما اطلع بعض السادة العلماء الأجلاء على هذا الاقتراح، رأوا أنه وإن كان مخرجًا شرعيًّا لكنه غير عملي، حيث إن التزامات المصرف لا يستطيع أن يخل بها، على حين نجد المتعاملين مع المصارف الإسلامية منهم المدين المماطل، ومنهم المعسر، وما أكثر الديون المتأخرة كما هو معلوم. فكيف نجعل التزامات أمثال هؤلاء في مقابل التزامات المصارف؟(8/974)
وهذا الاعتراض في موضعه، والديون المذكورة منها ما هو غير مرجو الأداء، ولذلك لم نغفل عن هذا الملحظ، وكان لابد من مراعاته وإلا أصبح هذا البديل لا جدوى منه.
والاعتراض ينطبق على الحالة الأولى فقط دون الثانية.
ولتخطي هذه العقبة رأينا أن تقتصر الحالة الأولى على التجارة الدولية والتعامل مع الدول والشركات، ويكون لضمان الثمن الآجل كفالات مصرفية، وبذلك يستطيع المصرف أن يجعل التزاماته في مقابل التزامات مصارف أخرى.
الحوالة:
وفي كلتا الحالتين إذا أصبح المصرف دائنًا لجهة، ومدينًا لجهة أخرى، وتساوى الدينان، يمكنه الاستعانة بعقد الحوالة، وهذا يختلف عن دين السلم وما وجدناه فيه من اختلاف الفقهاء، فكل من الدينين دين مستقر، وتجوز الحوالة به وعليه عند الجمهور.(8/975)
المبحث الثالث
الاستصناع
إذا كان الحنفية قد انفردوا بقولهم في الاستصناع أخذًا بالاستحسان خلافًا للمذاهب الثلاثة، فإنهم قد اتفقوا على أن الاستصناع عقد غير لازم قبل العمل لكل من المتعاقدين، وكذلك بعد الفراغ من العمل قبل أن يراه المستصنع، واختلفوا إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة، ولكنا وجدنا مجلة الأحكام العدلية تخرج على إجماع الحنفية أنفسهم، وتجعل الاستصناع عقدًا لازمًا من بداية الإيجاب والقبول قبل العمل (1)
ويبدو أن المجمع الموقر مال إلى ما ذهبت إليه المجلة حيث قرر في مؤتمره السابع ما يأتي:
"إن عقد الاستصناع ـ هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة ـ ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط".
وقرر المجمع كذلك جواز تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة.
__________
(1) في بحث الاستصناع الذي قدمته للمؤتمر السابع للمجمع بينت أن ما ذهب إليه الحنفية يستند إلى الاستحسان فقط، والمجلة خالفت الإمام وصاحبيه، وما استقر عليه المذهب(8/976)
وفي ضوء قرار المجمع يمكن أن يقوم الاستصناع بدور لا يستطيع القيام به البيع الآجل ولا السلم، ففي البيع الآجل يكون المبيع موجودًا حين العقد، وفي السلم يتم قبض الثمن كاملًا.
وأذكر على سبيل المثال أن مصرف قطر الإسلامي أراد شراء نوافذ وأبواب لمبناه الجديد، وأراد الشراء من شركة تقوم بمثل هذه الصناعات رأت الشركة أنها في حاجة إلى قدر كبير من الألومنيوم وهو غير موجود لديها، فرأينا أن يشتري المصرف المواد المطلوبة، ثم يدخل مع الشركة في عقد إجارة. لم نجد هذه المواد في السوق المحلي، وطلبت الشركة أن تقوم باستيرادها وتصنيعها بعد أن يتم عقد البيع للنوافذ والأبواب، تأخذ جزءا من الثمن. وجدنا أن هذا العقد غير جائز، فهو بيع لشيء غير موجود لدى البائع، وكما هو معلوم مشهور قول الرسول صلي الله عليه وسلم: ((لا تبع ما ليس عندك))
(1)
وكان المخرج هنا هو عقد الاستصناع.
وفي حالة أخرى جاء إلى المصرف من يطلب أن يشتري بالأجل بعض المواد، ويريد مبلغا آخر يكون أجرا للعمال الذين سيقومون بالتصنيع والتركيب. فرأينا أن يشتري المصرف المواد لنفسه ويقوم أيضا بالتصنيع والتركيب عن طريق الإجارة مع عدد من العمال، وقبيل هذا كله يتم عقد استصناع بينه وبين طالب الشراء والقرض.
__________
(1) حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده، وأصحاب السنن الأربعة، وغيرهم، انظر إرواء الغليل:5 / 132(8/977)
فعقد الاستصناع إذن يمكن أن يكون له دور كبير في السوق الإسلامية، وعلى الأخص في حالتين:
الأولى: السلع والمعادن غير الموجودة بالسوق إذا كانت تدخل في الصناعات.
ثانيا: السلع والمعادن المذكورة إذا كانت موجودة غير أن طالب الشراء لا يستطيع أن يدفع الثمن إلا مؤجلا، ولا يقدر في الحال على تكلفة التصنيع.
وإذا كان المتعامل في السوق من أصحاب المصانع فإن الحاجة إلى عقد الاستصناع تكون واضحة جليه بلا ريب.
الاستصناع المتوازي:
المستثمر غير الصانع، سواء أكان تاجرا أم شركة أم مصرفا إسلاميا، إذا طلب منه أحد المشترين شراء أي شيء مصنوع غير موجود عنده، ولا يستطيع أن يقوم بتصنيعه، فإنه يستطيع أن يقوم بالاستصناع المتوازي، فيعقد مع طالب الشراء عقد استصناع، يكون فيه الطالب هو المستصنع ويكون المستثمر هو الصانع، ويحدد في العقد جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة، وموعد التسليم.
وبالشروط ذاتها يقوم المستثمر بعقد استصناع آخر مع أي صانع، والمستثمر عادة يدفع الثمن في الحال، ويدفع جزءا منه قبل البدء في العمل.
وفي عقد الاستصناع الآخر يقبل المستثمر من المستصنع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة، ومن هنا يأتي مجال الاستثمار، حيث يختلف الثمن في كل عقد عن الآخر، فيزيد المؤجل عن الحال.(8/978)
المبحث الرابع
الوعد
عندما يريد أحد شراء شيء مما ليس عند البائع، أو يريد تاجر طلب سلع إلى السوق ويخشى كسادها، أو تكون أكثر من حاجة المتعاملين في السوق، عندئذ يمكن أن يأتي دور الوعد تجنبا للبيع المحظور.
فيقوم طالب الشراء بالبحث عمن يستطيع أن يحضر ما يريد، ويعده بأن يشتريه منه متى أحضره، وكذلك يقوم التاجر بالبحث عن المشترين الذين يرغبون في هذا النوع من السلع، ويأخذ من كل منهم وعدا بالشراء بعد أن يجلب هذه السلعة وفي ضوء هذه الوعود يحدد التاجر ما يجلبه.
فالوعد هنا ييسر على المشترين والبائعين، فتنشط حركة التجارة وتروج.
وحتى لا يكون الوعد لغوا لا أثر له، وحتى لا يكون أيضا كالبيع نفسه فنقع في مخالفة شرعية، وحتى لا يكون ما لا نريده في السوق الإسلامية، نطبق قرار المجمع الموقر في دورته الخامسة بشأن الوفاء بالوعد في المرابحة للآمر بالشراء، حيث نص القرار على ما يأتي:
ثانيا: الوعد (وهو الذي يصدر عن الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزما للواعد ديانة إلا لعذر وهو ملزم قضاء إذا كان معلقا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد. ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.(8/979)
ثالثا: المواعدة (وهي التي تصدر عن الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز؛ لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلي الله عليه وسلم (عن بيع الإنسان ما ليس عنده) انتهى المطلوب نقله.
المواعدة في الصرف
الصرف: وهو بيع الأثمان بعضها ببعض، له أحكامه المعروفة، وتنطبق شروط صحته على بيع العملات بعضها ببعض، وهذا أمر قد استقر بحمد الله تعالى، وصدرت فيه قرارات المجامع الفقهية والمؤتمرات المتعددة التي شارك فيها عدد كبير من فقهاء العصر ورجال الاقتصاد. (1)
ووجود القبض في المجلس لا خلاف حوله، ولكن يجب أن نتذكر صور القبض في عصرنا كما أقرها المجمع الموقر في دوراته السابقة.
وإذا جاز الوعد في البيع بصفة عامة، أفيجوز المواعدة في الصرف بصفة خاصة؟ انتهى بعض الباحثين إلى جواز هذه المواعدة بشرط أن يكون الوعد غير ملزم أخذا برأي أهل الظاهر خلافا للجمهور.
ورأى آخرون جواز المواعدة دون اشترط عدم الإلزام، واحتجوا بقول نسبوه للإمام الشافعي - رضي الله عنه- أورده في الأم، وبرأي أهل الظاهر.
__________
(1) منذ أكثر من عشر سنوات رأى أحد العلماء أن الصرف لا ينطبق على العملات ودار بيني وبينه حوار في مجلة الوعي الإسلامي، انتهى بتأليفي كتابا عن النقود واستبدال العملات.(8/980)
ولعل الفريقين معا جانبهما التوفيق والصواب، وإن كان الأول أقل خطأ من الآخر، غير أن مثل هذا الوعد لا وزن له في معاملات العصر وعلى الأخص في التغير الكبير الذي يطرأ من وقت لآخر على أسعار الصرف، مما قد يترتب عليه خسارة مبالغ طائلة هائلة. وننظر في أدلة الثاني، حيث تتضمن دليل الفريق الأول وزيادة. هل خالف الإمام الشافعي جمهور الأئمة؟
نسب هذا الفريق للإمام الشافعي أنه قال في الأم: " إذا تواعد الرجلان في الصرف فلا بأس أن يشتري الفضة ثم يقر أنها عند أحدهما حتى يتبايعاها ويصنعا بها ما شاءا"
وهذه العبارة فيها حذف وتحريف، وتحتاج إلى تكملة ليتضح المعنى:
أما الحذف فهو فاعل يشتري، وهو كلمة الرجلان " أن يشتري الرجلان الفضة" فالشراء ليس من أحدهما، بل اشترك فيه الاثنان معا.
وأما التحريف ففي كلمة " يقر أنها" أي يعترف بها، والصواب " يقرانها" بألف الاثنين، أي أن الرجلين يودعان الفضة عند أحدهما. (1)
ما جاء في كتاب الأم: ذكرته مع تكملة له في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي (سنة 1403هـ –1983 م) لأبين للسادة المشاركين أن كلام الإمام الشافعي ينصرف إلى معنى آخر غير المواعدة في الصرف.
__________
(1) تقول: أقر بالحق، وأقر الشيء في المكان: راجع المعنى في معاجم اللغة: لسان العرب والمعجم الوسيط، ومختار الصحاح، وغيرها.(8/981)
وما نقلته من كتاب الأم هو ما يأتي:
قال الشافعي: " إذا تواعد الرجلان الصرف فلا بأس أن يشتري الرجلان الفضة ثم يقرانها عند أحدهما حتى يتبايعاها ويصنعا بها ما شاءا. قال الشافعي: ولو اشترى أحدهما الفضة ثم أشرك فيها رجلا آخر وقبضها المشترك ثم أودعها إياه بعد القبض فلا بأس. وإن قال: أشركك على أنها في يدي حتى يبيعها لم يجز" (1) " انتهى المطلوب.
ويتضح مما سبق أن الإمام الشافعي يتحدث عن موضوع القبض إذا اتفق اثنان على الاشتراك في الصرف، فاشترى الشريكان معا الفضة، ثم وضعاها عند أحدهما حتى يتبايعاها ويصنعا بها ما شاءا، فهذا جائز. ويجوز أيضا أن يشتريها أحدهما، ثم يشرك فيها رجلا آخر، ويتم قبض المشترك، وبعد القبض يودعها إياه. أما إذا أشرك الآخر وأبقاها في يده حتى يتم بيع الفضة دون أن يقبضها المشترك فإن هذا لا يجوز.
فحديث الإمام إذن عن قبض الشريكين، وهما طرف واحد في عقد الصرف وليسا طرفين.
فكلمة " تواعد الرجلان الصرف " تعني أنهما تواعدا على الاشتراك في الشراء، ولذلك قال بعد هذا: "فلا بأس أن يشتري الرجلان الفضة....".
والخلاف الذي نراه في القاعدة على الصرف بين الأئمة الأربعة هو إذا اتفق المتواعدن على الصرف، ولم تكن النقود حاضرة، ثم أحضر النقود وهما في مجلس العقد لم ينصرفا، وتم التقابض في المجلس نفسه قبل أن يتفرقا.
فالإمام مالك لا يجيز هذه المواعدة خلافا للائمة الثلاثة.
أما إذا تفرق المتواعدان من غير قبض كل من العوضين فالعقد باطل عند الأربعة جميعهم.
جاء في حاشية الدردير (2 / 16 مع بلغة السالك) :
"ويفسد الصرف (أو غاب نقداهما) معًا عن مجلس العقد ولو لم يطل، لأنه مظنة الطول. ومعناه – كما قال في المدونة – أن تعقد الصرف مع غيرك وليس معكما شيء، ثم تقترض الدينار من رجل بجانبك وهو يقترض الدرهم من رجل بجانبه، ودفعت له الدينار ودفع لك الدرهم، فلا خير فيه، ولو لم يحصل طول.
__________
(1) الكتاب المذكور: 3 / 27(8/982)
ولو كانت الدراهم معه واقترضت أنت الدينار، فإن كان أمرا قريبا كحل الصرة، ولم تقم ولم تبحث له، فذلك جائز. ومعنى لا خير فيه: أنه حرام ".
وقال ابن رشد (الجد) في المقدمات: (ص 507) :
"لا يجوز في الصرف مواعدة "
وقال ابن قدامة في المغني: (4 / 169- 171)
" ... اصطرفا في الذمة، نحو أن يقول: بعتك دينار مصريا بعشرة دراهم، فيقول الآخر: قبلت، فيصح البيع سواء كانت الدراهم والدنانير عندهما أو لم يكونا إذا تقابضا قبل الافتراق، بأن يستقرضا أو غير ذلك.
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وحكي عن مالك: لا يجوز الصرف إلا أن تكون العينان حاضرتين، وعنه: لا يجوز حتى تظهر إحدى العينين وتعين، وعن زفر مثله؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا غائبا منها بناجز....)) .
ورد ابن قدامة بقوله: "ولنا أنهما تقابضا في المجلس فصح كما لو كانا حاضرين ... "
ثم قال: " إذا ثبت هذا فلا بد من تعيينهما بالتقابض في المجلس ".
وقال أيضا: " فإن تفرقا من غير قبض بطل العقد "
وفي كتاب المجموع شرح المهذب جاء بيان الخلاف بين الإمام مالك والجمهور، وهو كما جاء في المغني، وجاء ذكر رأي الشافعية ( ... ثم يعينان ويتقابضان قبل التفرق. إن لم يكن معهما فاستقرضا وتقابضا جاز (1) .
مما سبق نرى أن الإمام الشافعي مع الجمهور، خلافا لمالك في جواز المواعدة على الصرف بشرط أن يتم التقابض في المجلس قبل الافتراق، أما إذا كانت المواعدة بغير تقابض في المجلس فقد أجمع الأئمة على المنع وعدم الجواز.
وخالف ابن حزم الأئمة الأربعة حيث قال في المحلى:
" التواعد في بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض، جائز تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا؛ لأن التواعد ليس بيعا، وكذلك المساومة أيضا جائزة - تبايعا أو لم يتبايعا – لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك، وكل ما حرم علينا فقد فصل باسمه" (2)
__________
(1) المجموع شرح المهذب: 10 / 87
(2) المحلى لابن حزم: 9 / 583.(8/983)
وهذه المخالفة مبنية على رأيه في الوعد والعقود ففي آخر النذور من المحلى عقد مبحثا عنوانه " الوعد " وقال: " ومن وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين أو بأن يعينه في عمل ما، حلف له على ذلك أو لم يحلف – لم يلزمه الوفاء به، ويكره له ذلك، وكان الأفضل لو وفى به. وسواء أدخله بذلك في نفقة أو لم يدخله..إلخ " (1)
وفي كتاب الجعل من المحلى قال:
" لا يجوز الحكم بالجعل على أحد، فمن قال لآخر: أن جئتني بعبدي الآبق فلك علي دينار، أو قال: إن فعلت كذا وكذا فلك علي درهم، أو ما أشبه هذا فجاءه بذلك – أو هتف وأشهد على نفسه: من جاءني بكذا فله كذا فجاءه به، لم يقض عليه بشيء ويستحب لو وفى بوعده" (2)
ورد على القائلين بوجوب الجعل، وقال:
" العقود التي أمر الله تعالى بالوفاء بها إنما هي العقود المنصوص عليها بأسمائها وأن كل ما عداها فحرام عقده" انتهى المطلوب.
ومن المعروف أن المواعدة في الصرف في عصرنا تأخذ حكم العقد اللازم، ولا يستطيع أحد المتعاقدين أن يقوم بعدم اللزوم، وأن يجعل لنفسه الحق في عدم إتمام ما اتفق عليه، وهذا يعني أن عقود الوعد في الصرف تعتبر حراما عند ابن حزم نفسه لأنها ليست من العقود المنصوص عليها بأسمائها والنتيجة هي أن الأئمة جميعا يمنعون هذا النوع من التعامل.
البديل الشرعي للمواعدة في الصرف:
بحثت عن هذا البديل لمصرف قطر الإسلامي، حيث لم يجز له المواعدة في الصرف سواء أكان الوعد ملزما أم غير ملزم. والبديل الشرعي هو ما بينته من قبل عند الحديث عن البيع الآجل.
__________
(1) المرجع السابق:8 / 377.
(2) المحلى لابن حزم:9 / 40(8/984)
الخاتمة
مما سبق ننتهي إلى ما يأتي:
أولا: يمكن الاستفادة من السلم في إقامة السوق الإسلامية، وحيث لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلما قبل قبضها كما قرر المجمع، فإن المخرج الشرعي نجده في السلم الموازي ثم الحوالة، وهذا يساعد في نجاح التطبيق في السوق الإسلامية.
ثانيا: البيع الآجل له دور كبير في السوق الإسلامية، وما يجوز منه يمكن أن يوجد مخرجا للصرف غير الجائز، والمواعدة في الصرف.
ثالثا: الاستصناع كما أقره المجمع يقوم في بعض الحالات بدور لا يستطيع القيام به البيع الآجل والسلم، أما الاستصناع المتوازي فقد يكون ضروريا لابد منه.
رابعا: الوعد بشراء السلع آجلا ييسر على المشترين والبائعين، وينشط حركة التجارة ويضبط بقرار المجمع بشأن الوفاء بالوعد في المرابحة للآمر بالشراء.
أما المواعدة في الصرف فإنها غير جائزة، والمخرج أشرت إليه.
هذا ما انتهيت إليه وهناك عقود أخرى ستجد لها مكانا في السوق الإسلامية، كالوكالة والإجارة والجعالة والمشاركة، ولكل منها شروطه وضوابطه الشرعية.
وقد رأيت الاكتفاء بالحديث عما سبق.
ونسأل الله تعالى أن تظهر هذه السوق الإسلامية التي تحكم شرع الله تعالى فيظهر العدل ويمنع التغابن وتختفي العقود المحرمة، ويومئذ يفرح المؤمنون، والحمد لله تعالى في الأولى والآخرة.
" سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين".(8/985)
ملخص البحث
يبدأ البحث – بعد التقديم – ببيان المنهج التطبيقي للاستفادة من السلم في إقامة السوق الإسلامية. وحيث لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلما قبل قبضها؛ فقد بين البحث المخرج الشرعي، وهو السلم الموازي والحوالة وناقش الاعتياض عن دين السلم، والحوالة به، والحوالة عليه.
وأشار إلى صكوك السلم، والأساس الخاطئ الذي بنيت عليه.
وبعد هذا الحديث عن البيع الآجل، مع الإشارة إلى صكوك المقايضة، وبيان طريقة عملية تعتمد على البيع الآجل لتكون بديلا للصرف غير الجائز. ثم بين أهمية الاستصناع، وأنه - كما أقره المجمع - يقوم في بعض الحالات بدور لا يستطيع القيام به البيع الآجل والسلم. وتحدث عن الاستصناع المتوازي بين أنه قد يكون ضروريا لابد منه.
وجاء آخر موضوعات البحث عن الوعد، وبيان أنه ييسر على المشترين والبائعين وينشط حركة التجارة، مع ضبطه بقرار المجمع بشأن الوفاء بالوعد في المرابحة للآمر بالشراء.
كما ناقش المواعدة في الصرف وبين عدم جوازها، وأشار إلى البديل الشرعي وهنا جاءت خاتمة البحث.
الدكتور علي السالوس(8/986)
المراجع
بعد كتاب الله تعالى
1- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل:
محمد ناصر الدين الألباني – المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية.
2- الاستصناع:
د- علي أحمد السالوس- بحث قدم لمجمع الفقه بمنظمة المؤتمر الإسلامي الدورة السابعة.
3- الأم للإمام الشافعي – مكتبة الشعب بالقاهرة.
4- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع:
علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني – دار الكتب العلمية بلبنان، الطبعة الثانية.
5- بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك.
أحمد بن محمد الصاوي – ومعه حاشية أحمد بن محمد الدردير.
ط. مصطفى البابي الحلبي بمصر 1372هـ.
6- تهذيب التهذيب لابن حجر.
7- روضة الطالبين للإمام النووي – المكتب الإسلامي.(8/987)
8- سنن ابن ماجه:
9- السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار.
محمد بن علي الشوكاني – دار الكتب العلمية ببيروت.
10 - الشرح الكبير:
شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة المقدسي.
دار الكتاب العربي ببيروت سنة 1392 هـ
11- عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثني عشرية:
د: علي أحمد السالوس- دار الاعتصام بالقاهرة، الطبعة الأولى.
12- عون المعبود شرح سنن أبي داود:
أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي.
مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية - المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية
13- فتح القدير:
كمال الدين محمد بن عبد الواحد: ابن الهمام
ومعه الهداية وشروحها: العناية، والكفاية- دار إحياء التراث العربي ببيروت.(8/988)
14- كتاب المجموع شرح المهذب للشيرازي:
محمد بخيت المطيعي – المكتبة العالمية بالقاهرة.
15- لسان العرب لابن منظور.
16- المحلى:
أبو محمد علي بن أحمد بن حزم
مكتبة الجمهورية العربية بالقاهرة – 1387هـ.
17- مختار الصحاح للرازي.
18- المدونة الكبرى للإمام مالك – دار صادر، بيروت.
19- المعجم الوسيط:
مجمع اللغة العربية بالقاهرة
20- المقدمات الممهدات:
ابن رشد (الجد) : أبو الوليد محمد بن أحمد
دار صادر، بيروت.(8/989)
21- المغني:
موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة
دار الكتاب العربي ببيروت سنة 1392 هـ.
22- المغني في الضعفاء للذهبي.
23- ميزان الاعتدال للذهبي.
24- نصب الراية لأحاديث الهداية.
جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي – المكتب الإسلامي.
25- النقود واستبدال العملات:
د. علي أحمد السالوس
دار الاعتصام، الطبعة الثانية.
26- الهداية في تخريج أحاديث البداية:
أبو الفيض أحمد بن محمد الغماري
ومعه: بداية المجتهد لابن رشد (الحفيد) – عالم الكتب، بيروت، طبعة أولى.(8/990)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
السوق الإسلامية
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في هذه الجلسة الصباحية المباركة- إن شاء الله تعالى – يناقش موضوع التطبيقات الشرعية لإقامة السوق الإسلامية المشتركة. العارض هو فضيلة الشيخ علي السالوس، والمقرر هو الشيخ علي القره داغي، تفضل فضيلة الشيخ علي السالوس!
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل ونصلي ونسلم على رسوله خير البشر وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
التطبيقات الشرعية لإقامة سوق إسلامية، الموضوع كما حدده المجمع المراد منه هو المنهج التطبيقي للاستفادة من العقود الخاصة كالسلم والاستصناع ونحوها، ومن الوعد بالبيع والصرف في إقامة السوق الإسلامية للسلع والعملات مع الاحترام لطريقة التعامل الشرعي والالتزام بها.
وكتب في هذا المبحث باحثان: فضيلة الأخ الأستاذ الدكتور علي القره داغي وبحثي، ولذلك لعل المهمة تكون سهلة يسيرة إن شاء الله.
في المبحث الأول بدأت بالسلم، والسلم بشروطه المعروفة يمكن أن يستفاد منه في إقامة السوق الإسلامية حيث يستفيد المشتري من رخص الثمن في استثمار فائض المال، وعند حلول الأجل يتسلم المبيع بأية صورة من صور القبض التي أقرها المجمع الموقر، يستطيع المشتري أن يبيع بيعا حالا إن كان في حاجة إلى الثمن في الحال وإن لم يكن في حاجة إلى الثمن يمكن أن يبيع بيعا آجلا بثمن يربو على الثمن الحال كما هو معلوم وبذلك يكون استثمر المال مرتين، ثم يستمر في استثماره بعد ذلك بالطريقة التي تناسبه، ومن اشترى سلما أو باع بيعا أجلا واحتاج إلى المال قبل الأجل يستطيع في المنهج غير الإسلامي أن يقترض بالربا المحرم أو أن يبيع دين السلم ويحيل المشتري على البائع الأول.(8/991)
في الحلول المقترحة في المنهج الإسلامي. بيع دين السلم، المجمع اتخذ فيه قرارا من قبل، كذلك مجمع الرابطة، لذلك لم أبحثه ولم أتعرض له، بل ذكرت القرار.
فضيلة الأخ الدكتور القره داغي بحث الموضوع وانتهى إلى جواز بيع دين السلم خلافا لما انتهى إليه المجمعان.
ولأن بيع دين السلم غير جائز بحسب قرار المجمع، بحثت عن الحلول الأخرى، وكذلك فضيلة الدكتور بحث أيضا مع قوله بجواز بيع دين السلم عن حلول أخرى، وهي السلم الموازي والحوالة، واتفقنا في هذا بالنسبة للسلم الموازي، من اشترى سلما وكان الأجل بعد عام مثلا، وبعد ثلاثة أشهر احتاج إلى الثمن، فإنه يستطيع أن يبيع سلما مثل الدين الموصوف في الذمة، ويكون الأجل بعد تسعة أشهر، ويلاحظ هنا أن علاقته بالمشتري منفصلة تماما عن علاقته بالبائع، فالعقدان منفصلان، فعليه أن يتسلم المبيع في الموعد ثم يسلمه للمشتري، وقد يبيع مقدارا أكثر أو أقل مما اشتراه سلما تبعا لحالته الخاصة ما دام العقدان منفصلين، وإذا كان الدينان متساويين في القدر والصفة والأجل أيمكن أن يستفاد من عقد الحوالة؟ وتصبح العلاقة بين البائع الأول المدين والمشتري الثاني الدائن، ويكون المحيل هو المشتري أولا فهو دائن وهو البائع ثانيا فهو مدين فهو إذن دائن للبائع الأول المحال عليه وفي الوقت نفسه مدين للمشتري الثاني المحال، فمع تحقق شرط تساوي الدينين لصحة الحوالة أيمكن الاستفادة من عقد الحوالة؟ بحثنا هذا الموضوع وذكرت من النقول ما يبين أن الحوالة بدين السلم جائزة عند الجمهور، وناقشت الذين لم يجيزوا، وناقشت فضيلة الدكتور علي أيضا، وانتهينا إلى جواز الحوالة بدين السلم أما الحوالة على دين السلم فهذا ما رأينا أنه خلاف ما عليه الجمهور، فهو رأي عند الشافعية وذهب إليه الشوكاني.(8/992)
فضيلة الدكتور علي القره داغي ذكر أيضا أن الحنفية أجازوا الحوالة على دين السلم، لكن النقل الذي ذكره يبين الحوالة به وليس عليه، فلعل فضيلته عنده شيء آخر غير المنقول في بحثه أما المنقول في بحثه لا يبين أن الحنفية يجيزون الحوالة على دين السلم، وما نقلته أنا يبين أنهم لا يجيزونه. وقال أيضا بأن المالكية في غير الطعام يجيزون الحوالة عليه، فهذا أيضا فيه نظر. فانتهينا إذن إلى جواز الحوالة بدين السلم، أما الحوالة على دين السلم فإذا رأى المجمع الموقر أن يأخذ بهذا الرأي فقد وضعنا عدة شروط:
الشرط الأول: رضا المحال عليه لأن الدين غير مستقر، وإذا فسخ العقد فلا يلزمه إلا الثمن الذي أخذه دون أدنى زيادة، ولا يطالب بثمن المبيع بقيمته عند حلول الأجل، فقد يؤدي إلى الربا.
الشرط الثاني: عدم براءة المحيل حتى تنقضي الحوالة، والشرط الثاني باتفاق الباحثين، لأنه إذا باع سلما بثمن أكبر مما دفعه في الشراء وفسخ العقد لا يستحق إلا الثمن الذي دفعه، ويجب عليه رد الثمن الذي أخذه ويمكن في هذه الحالة الأخذ برأي من أجاز الاعتراض عن بيع السلم، وهذا يساعده على حل المشكلة دون الوقوع في محظور شرعي، إذا نظرنا إلى الثمن وعدم جواز أخذ زيادة عليه.(8/993)
فضيلة الدكتور علي أضاف هنا نقطة أخرى، حيث قال: ويجوز هنا بيع دين السلم، مع اتفاقه بأنه لا يجوز إذا فسخ العقد أن يأخذ المشتري أكثر مما دفع، وقد اتفق الباحثان على هذا على أنه إذا فسخ العقد فالمشتري ليس له إلا ما دفع من الثمن، ولذلك إذا تمت حوالة وفسخ العقد فإنه يأخذ ما دفعه للبائع الأول، ويعطي ما أخذه من المشتري الثاني، لقد تم اتفاق الباحثين على هذا، والأدلة بينة. فضيلته أضاف أشياء أخرى مثل التولية والشركة والحطيطة والمصالحة والوكالة ونحوها، كما إذا فسخ العقد ولم يتمكن من تسليم المدين يمكن أن يلجأ إلى أمور أخرى.
أضفت أنا شيئا آخر وهو مما يجب أخذه في الاعتبار أن هذا الحل لا ينطبق على أنواع المقامرة أو ما يعرف في معاملات الأسواق العالمية باسم المضاربة ولذلك قبل أن نشتري سلما لا بد من التأكد من أن البائع مضاربا أي مقامرا وإنما ممن يتوقع وجود السلعة المبيعة في ملكه عند حلول الأجل، وهذا ينطبق عليه ما ذكره الفقهاء في شروط السلم من أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله. فالبائع إذا يريد البيع فعلا وليس المقامرة. ونلاحظ في المعاملات المعاصرة أن العقود التي يراد بها المضاربة في البرص الآجلة قد لا يبلغ فيها التسليم والتسلم 1 % كما ظهر من الإحصائيات عند مناقشة هذا الموضوع من قبل دورات للمجمع وندوات سابقة.
فهؤلاء المقامرون لا حل لهم في المنهج الإسلامي قبل التوبة، وترك هذا النوع من القمار.
كما نلاحظ أيضا أن العقود التي تجمع بين متعاقدين يريدون البيع والشراء فعلا هذه العقود تنتهي عادة بالتسليم والتسلم، وقلما تتعرض للفسخ إلا لظروف طارئة، ومثل هذه العقود متى كانت سلما بشروطه الشرعية، واحتاج المشتري إلى الثمن، أو التصرف في المبيع قبل الأجل، يمكن الاستعانة بالسلم الموازي، ثم الحوالة.(8/994)
بعد هذا انتقلت إلى نقطة أخرى وهي:
صكوك السلم: اقترح أحد الإخوة الباحثين إحداث ورقة مالية تمثل دين السلم بحيث تكون صكا قابلا للتداول. والاقتراح يقوم على أساس بيع دين السلم قبل قبضه وقبل حلول أجله، بل جواز تعدد هذا البيع.
فضيلة الدكتور القره داغي أشار إلى هذا الموضوع وذكر بأنه سيكتب فيه ولكنه لم يكتب واكتفى بمجرد إشارة فقط إلا أنه بحسب ما انتهى إليه من أنه إذا فسخ العقد فإن المشتري لا يأخذ أكثر مما دفع. أعتقد أن صكوك السلم لا تتفق مع ما انتهى إليه ولا مع ما انتهيت إليه ولا مع قرار المجمع؛ لأن صكوك السلم إذا ترتبت وتباع فإن البائع لا يدري من المشتري النهائي، قد يكون باع بمائة، والمشتري النهائي اشترى بمائة وخمسين فإذا لم يتمكن من التسليم معناه طالب بمائة وخمسين، وهذا بالإجماع غير جائز.
ولذلك رأيت أن هذا الموضوع لا يحتاج إلى مناقشة لأني ناقشت الباحث من قبل، وبينت له خطأ هذا الرأي، لكن أعتقد بعد قرار المجمع في عدم جواز بيع السلم ومع الإجماع على أن عقد السلم إذا فسخ فالمشتري لا يستطيع أن يأخذ من الثمن أكثر مما دفع، وإلا كان ربا، أعتقد أن هذا يبين أنه لا يجوز إطلاقا أن يصدر صكوكا للسلم.(8/995)
انتقلت بعد هذا إلى المبحث الثاني، وهو البيع الآجل، ولكن فضيلة الدكتور علي انتقل إلى الاستصناع مباشرة، وإنما أشار إلى البيع بصفة عامة ولكني وقفت عند البيع الآجل لأسباب، فالبيع الآجل بضوابطه الشرعية له دور كبير في السوق الإسلامية حيث يستفيد البائع من زيادة الثمن فيكون وسيلة مشروعة لاستثمار المال بديلا كالقرض الربوى.
وإذا احتاج البائع إلى الثمن قبل حلول الأجل فقد يجد المخرج في بيع السلم ولكن إذا توقع من البداية عندما يدرس ظروف استثمار المال أنه سيحتاج إلى الثمن - كله أو بعضه – قبل حلول الأجل، فإن الأفضل في هذه الحالة أن يلجأ إلى البيع الآجل أو على الأقل لا يستثمر إلا جزءا قليلا ولعل الأفضل في هذه الحالة الاستثمار في صكوك المقارضة، حيث يستفيد من أرباحها ويبيعها متى أراد.
وأحب أن أذكر هنا طريقة عملية تعتمد على البيع الآجل اقترحتها على المصرف الإسلامي لتكون بديلا للصرف غير الجائز فالمصرف قد يكون في حاجة إلى عملة معينة بعد فترة زمنية ويخشى المخاطر فربما يرتفع سعر صرفها حينئذ، ولذلك يريدها بسعر اليوم، وعلى العكس من ذلك قد يكون من حقه عملة معينة بعد مدة، وهو لا يحتفظ بمثل هذه العملة وإنما يستبدلها بأخرى ويخشى أيضا مخاطر تغير سعر الصرف. وفي كلتا الحالتين لا يستطيع أن يتعاقد على صرف آجل وهذا سأبينه بعد هذا.
وللتوضيح أذكر المثال الآتي:
مصرف قطر الإسلامي يتعامل بالريال القطري أساسا، فهو العملة المحلية وسعر صرف الريال ثابت بالنسبة للدولار الأمريكي فقط، ولذلك فهو لا يحتفظ بمبالغ كبيرة إلا بهاتين العملتين وفي العمليات التي يقوم بها وما يترتب عليها من ديون له أو عليه أو مشروعات تحتاج مستقبلا إلى القدر من النقود، أو تأتي بعائد إذا كان ما يأتيه مستقبلا، أو ما يلتزم به سيكون بغير الريال والدولار، فماذا يفعل؟. فمثلا المطلوب منه بعد ثلاثة أشهر خمسه ملايين مارك، أو سيوضع في حسابه بعد سنة مليون جنيه، ويريد شراء الماركات وبيع الجنيهات بسعر صرف اليوم صرف اليوم مع الدولار.
في الحالة الأولى: المصرف يستثمر جزءًا من الأموال في البيوع الآجلة، وهي في البيوع المحلية بالريال، وفي الخارجية بالدولار. وفي هذه الحالة يجعل بعض صفات بيوعه الآجلة بالمارك في حدود خمسه ملايين، أي أنه يبيع بيعا آجلا، بدلا من أن يبيع بالدولار يبيع بالمارك ويكون الآجل أقل من ثلاثة اشهر ولو بيوم واحد، حيث أنه قبل الثلاثة أشهر يأخذ خمسه ملايين مارك أو أكثر قليلا أو أقل قليلا، فلا يتعرض لخطر الصرف متى جاء هذا المبلغ استطاع أن يدفعه وبذلك يتسلم الثمن قبيل موعد التزامه، حيث يقوم بالتسليم بعد ذلك دون حاجة إلى شراء المارك وبهذا لا يتعرض لمخاطر الصرف بالنسبة للدولار والمارك.(8/996)
الحالة الثانية: يقوم بشراء سلعة أو سلع لأجل أبعد من العام ولو بيوم واحد. ويكون الثمن مليون جنيه، أو أقل أو أكثر بقليل وعندما يوضع المليون في حسابه لا يحتاج إلى بيعه بالدولار، ويتعرض لمخاطر الصرف، حيث يكون محتاجا إليه لدفع ثمن ما اشتراه من قبل بالآجل، وبذلك ينقل المبلغ من حسابه لحساب البائع، وما اشتراه في هذه الحالة يبيعه بالريال أو الدولار ارتباط الأجل السابق، وإنما تدخل هذه السلع في وعائه الاستثماري، فيبيع بيعا حلا أو آجلا، إلى أجل قريب أو بعيد تبعا لحالات الاستثمار وفرصه.
اعتراض: عندما اطلع بعض السادة الأجلاء على هذا الاقتراح، رأوا أنه وإن كان مخرجا شرعيا لكنه غير عملي، حيث إن التزام المصرف لا يستطيع أن يخل بها على حين نجد المتعاملين مع المصارف الإسلامية منهم المدين المماطل، ومنهم المعسر، وما أكثر الديون المتأخرة كما هو معلوم، فكيف نجعل التزامات أمثال هؤلاء في مقابل التزامات المصارف؟ وهذا الاعتراض في موضعه، والديون المذكورة منها ما هو غير موجود الأداء ولذلك لم نغفل عن هذا الملحظ، وكان لا بد من مراعاته وإلا أصبح هذا البديل لا جدوى له. والاعتراض ينطبق على الحالة الأولى فقط دون الثانية.(8/997)
ولتخطي هذه العقبة رأينا أن تقتصر الحالة الأولى على التجارة الدولية والتعامل مع الدولة والشركات، ويكون لضمان الثمن الآجل كفالات مصرفية، وبذلك يستطيع المصرف أن يجعل التزاماته في مقابل التزامات مصارف أخرى.
الحوالة: وفي كلتا الحالتين إذا أصبح المصرف دائنا لجهة، ومدينا لجهة أخرى وتساوي الدينان، يمكنه الاستعانة بعقد الحوالة، وهذا يختلف عن دين السلم وما وجدناه فيه من اختلاف الفقهاء، فكل من الدينين دين مستقر تجوز الحوالة به وعليه عند الجمهور.
الاستصناع: عمد الباحثان للاستصناع وذكرا الاستصناع الموازي وأشار فضيلة الدكتور علي القره داغي إلى بنك قطر الدولي الإسلامي، غير أنني ذكرت هنا بعض التفصيلات العملية لأبين بطريقة عملية بعض ما حدث حتى يمكن الاستفادة منه إن شاء الله.
إذا كان الحنفية قد انفردوا بقولهم في الاستصناع أخذا بالاستحسان خلافا للمذاهب الثلاثة، فإنهم قد اتفقوا على أن الاستصناع عقد غير لازم قبل العمل لكل من المتعاقدين وذك بعد الفراغ من العمل قبل أن يراه المستصنع، واختلفوا إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة، ولكنا وجدنا مجلة الأحكام العدلية تخرج على إجماع الحنفية أنفسهم، وتجعل الاستصناع عقدا لازما من بداية الإيجاب والقبول قبل العمل وهذا بينته في البحث الذي قدمته قبل هذا ويبدو أن المجمع الموقر مال إلى ما ذهبت إليه المجلة حيث قرر في مؤتمر السابع ما يأتي:
" أن عقد الاستصناع – هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة – ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط " وقرر المجمع كذلك جواز تأجيل الثمن كله أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة وفي ضوء قرار المجمع الموقر يمكن أن يقوم الاستصناع بدور لا يستطيع القيام به البيع الآجل ولا السلم، ففي البيع الآجل يكون المبيع موجودا حين العقد وهذا لا يشترط في الاستصناع وفي السلم يتم قبض الثمن كاملا وهذا أيضا لا يشترط في الاستصناع.(8/998)
وأذكر على سبيل المثال أن مصرف قطر الإسلامي أراد شراء نوافذ وأبواب لمبناه الجديد، وأراد الشراء من شركة تقوم بمثل هذه الصناعات. رأت الشركة أنها في حاجة إلى قدر كبير من الألومنيوم وهو غير موجود لديها. فرأينا أن يشتري المصرف المواد المطلوبة، ثم يدخل مع الشركة في عقد إجارة. لم نجد هذه المواد في السوق المحلي وطلبت الشركة أن تقوم باستيرادها وتصنيعها بعد أن يتم عقد البيع للنوافذ والأبواب، وأن تأخذ جزءا من الثمن. وجدنا أن هذا العقد غير جائز، فهو بيع لشيء غير موجود لدى البائع، وكما هو معلوم مشهور قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تبع ما ليس عندك)) وكان المخرج هنا عقد الاستصناع.
وفي حالة أخرى جاء إلى المصرف من يطلب أن يشتري بالتصنيع والتركيب بالآجل بعض المواد ويريد مبلغا آخر يكون أجرا للعمال الذين سيقومون بالتصنيع والتركيب فأجر العمال لا يمكن أن يكون إلا قرضا. فرأينا أن يشتري المصرف المواد لنفسه، ويقوم أيضا بالتصنيع والتركيب عن طريق الإجارة مع عدد من العمال، هذا ما يقوم به المصرف وقبيل هذا كله يتم عقد استصناع بينه وبين طالب الشراء والقرض الذي طلب الشراء والقرض عوضا عن هذا ندخل معه في عقد استصناع حيث يدخل العمل مع المواد الخام. فعقد الاستصناع إذن يمكن أن يكون له دور كبير في السوق الإسلامية وعلى الأخص في حالتين:
الأولى: السلع والمعادن غير الموجودة بالسوق إذا كانت تدخل في الصناعات.
الثانية: السلع والمعادن المذكورة إذا كانت موجودة غير أن طالب الشراء لا يستطيع أن يدفع الثمن إلا مؤجلا، ولا يقدر في الحال على دفع ثمن التصنيع وإذا كان المتعامل في السوق من أصحاب المصانع فإن الحاجة إلى عقد الاستصناع تكون واضحة جليه لا ريب.
انتقلنا بعد هذا إلى الاستصناع الموازي وتحدث الباحثان عنه:
المستثمر غير الصانع، سواء كان تاجرا أو شركة أو مصرفا إسلاميا إذا طلب منه أحد شراء أي شيء مصنوع موجود عنده، ولا يستطيع أن يقوم بتصنيعه، فإنه يستطيع أن يقوم بالاستصناع المتوازي فيعقد مع طالب الشراء عقد استصناع يكون فيه الطالب هو المستصنع، ويكون المستثمر هو الصانع ويحدد في العقد جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة، وموعد التسليم. وبالشروط ذاتها يقوم المستثمر بعقد استصناع آخر مع أي صانع. والمستثمر عادة بدفع الثمن في المستثمر من المستصنع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه على أقساط معلومة لآجال محددة ومن هنا يأتي مجال الاستثمار، حيث يختلف الثمن في كل عقد عن الآخر. فيزيد المؤجل عن الحال وبهذا تكون الطريقة للاستثمار.
انتقلت بعد ذلك إلى المبحث الرابع (الوعد) ، والوعد تحدث عنه الباحثان عندما يريد أحد شراء مما ليس عند البائع، أو يريد تأجر طلب سلع إلى السوق ويخشى كسادها، أو تكون هذه السلع أكثر من حاجة المتعاملين في السوق، عندئذ يمكن أن يأتي دور الوعد تجنبا للبيع المحظور. فيقوم طالب الشراء بالبحث عمن يستطيع أن يحضر ما يريد، ويعده بأن يشتريه منه متى أحضره، وكذلك يقوم التاجر بالبحث عن المشترين الذين يرغبون في هذا النوع من السلع، ويأخذ من كل منهم وعدا بالشراء بعد أن يجلب هذه السلع وفي ضوء هذه الوعود يحدد التاجر مقدار ما يجلبه.. فالوعد هنا ييسر على المشترين والبائعين، فتنشط حركة التجارة وتروج.(8/999)
وحتى لا يكون الوعد لغوا لا أثر له، وحتى لا يكون أيضا كالبيع نفسه فنقع في مخالفة شرعية، حتى لا يكون ما لا نريده في السوق الإسلامية، نطبق قرار المجمع الموقر في دورته الخامسة بشأن الوفاء بالوعد في المرابحة للآمر بالشراء حيث نص القرار على ما يأتي:
الوعد: (وهو الذي يصدر عن الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزما للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد ويتحدد أثر الالتزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلا بسبب عدم الوفاء بلا عذر.
والمواعدة: (وهي التي تصدر عن الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو إحداهما فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، ولكن فضيلة الدكتور علي القره داغي ذكر أنها جائزة وناقش هذا الموضوع ولكن أنا لم أناقشه. لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.
انتقلت بعد ذلك إلى المواعدة في الصرف، ولا خلاف بين الباحثين في عدم جواز المواعدة في الصرف إذا كانت المواعدة ملزمة، أما المواعدة غير الملزمة فبينت هنا أيضا عدم جوازها، ولكن فضيلة الدكتور علي القره داغي ذكر جوازها بشرط عدم الإلزام (أن تكون بسعر يوم البيع وليس بسعر يوم الاتفاق) . ويبدو أنها قد تكون مقبولة لأنه لا شيء فيها لأنها ما دام أنها وعد وغير ملزم وفي الوقت نفسه بسعر يوم البيع وليس بسعر يوم الاتفاق، هذا الحل يمكن أن يقبل.
الصرف: وهو بيع الأثمان بعضها ببعض، له أحكام المعروفة، وتنطبق شروط صحته على بيع العملات بعضها ببعض، وهذا أمر قد استقر بحمد الله تعالى، وصدرت فيه قرارات المجامع الفقهية والمؤتمرات المتعددة التي شارك فيها عدد كبير من فقهاء العصر ورجال الاقتصاد. ووجوب القبض في المجلس لا خلاف حوله، ولكن يجب أن نتذكر صور القبض في عصرنا كما أقرها المجمع الموقر في دوراته السابقة. وإذا جاز الوعد في البيع بصفة عامة، أفيجوز المواعدة في الصرف بصفة خاصة؟
انتهى بعض الباحثين إلى جواز هذه المواعدة بشرط أن يكون الوعد غير ملزم أخذا برأي أهل الظاهر خلافا للجمهور. ورأى آخرون جواز المواعدة دون اشتراط عدم الإلزام – أي جواز المواعدة مع عدم الإلزام – واحتجوا بقول نسبوه للإمام الشافعي – رضي الله عنه – أورده في كتاب الأم وبرأي أهل الظاهر. ولعل الفريقين معا جانبهما التوفيق والصواب، وإن كان الأول أقل خطأ من الآخر غير أن مثل هذا الوعد لا وزن له في معاملات العصر وعلى الأخص في التغير الكبير الذي يطرأ من وقت لآخر على أسعار الصرف مما قد يترتب عليه خسارة مبالغ طائلة هائلة. وننظر في أدلة الفريق الثاني، حيث تتضمن دليل الفريق الأول وزيادة وبدأت أناقش هنا الذين قالوا بجواز الوعد مع الإلزام هذا الفريق نسب هذا الفريق للإمام الشافعي أنه قال في كتاب الأم: إذا تواعد الرجلان الصرف فلا بأس أن يشتري الفضة ثم يقر أنها عند أحدهما حتى يتبايعاها ويصنعا بها ما شاءا " هذا ما جاء بالنص في كلام الذين أجازوا المواعدة مع الإلزام، وللأسف الشديد أن هذا طبق فعلا في بعض البنوك الإسلامية نتيجة هذه الفتوى. هذه العبارة فيها حذف وتحريف وتحتاج إلى تكملة المعني، أما الحذف فهو فاعل يشتري، وهو كلمة الرجلان (أن يشتري الرجلان الفضة) فالشراء ليس من أحدهما بل اشترك فيه الاثنان معا. وأما التحريف ففي كلمة " يقر أنها " أي يعترف بها، والصواب " يقرانها " بألف الاثنين، أي أن الرجلين يودعان الفضة عند أحدهما.(8/1000)
ما جاء في كتاب الأم ذكرته مع تكملة له في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي (سنة 1403 هـ – 1983 م) لأبين للسادة المشاركين أن كلام الإمام الشافعي ينصرف إلى معنى آخر غير المواعدة في الصرف.
وما نقلته من كتاب الأم هو ما يأتي:
" قال الشافعي: إذا تواعد الرجلان الصرف فلا بأس أن يشتري الرجلان – وليس رجلا واحدا – الفضة ثم يقرانها عند أحدهما – أي يضعانها عند أحدهما- حتى يتبايعاها- هما اشتريا ثم هما يتبايعان – ويصنعا بها ما شاءا " قال الشافعي: " ولو اشترى أحدهما الفضة ثم أشرك فيها رجلا آخر وقبضها المشترك ثم أودعها إياه بعد القبض فلا بأس وإن قال: أشركك على أنها في يدي حتى يبيعها لم يجز"
ويتضح مما سبق أن الإمام الشافعي يتحدث عن موضوع القبض إذا اتفق اثنان على الاشتراك في الصرف فاشترى الشريكان معا الفضة، ثم وضعاها عند أحدهما حتى يتبايعاها ويصنعا بها ما شاءا فهذا جائز، ويجوز أيضا أن يشتريها أحدهما، ثم يشرك فيها رجلا آخر، ويتم قبض المشترك، وبعد القبض يودعه إياها، أما إذا أشرك الآخر وأبقاها في يده حتى يتم بيع الفضة دون أن يقبضها المشترك فإن هذا لا يجوز. فحديث الإمام إذن عن قبض الشريكين، وهما طرف واحد في عقد الصرف، وليسا طرفين.
فكلمة " تواعد الرجلان الصرف " تعني أنهما تواعدا على الاشتراك في الشراء ولذلك قال بعد هذا: " فلا بأس أن يشتري الرجلان الفضة.." والخلاف الذي نراه في المواعدة على الصرف بين الأئمة الأربعة هو إذا اتفق المتواعدان على الصرف ولم تكن النقود حاضرة، ثم أحضرا النقود وهما في مجلس العقد لم ينصرفا، وتم التقابض في المجلس نفسه قبل أن يتفرقا. فالإمام لا يجيز هذه المواعدة خلافا للأئمة الثلاثة. أما إذا تفرق المتواعدان من غير قبض كل من العوضين فالعقد باطل عند الأربعة جميعه وقد نقلت ما يثبت هذا في بحثي ولا حاجة لقراءته.
مما سبق – النقول التي ذكرتها – نرى أن الإمام الشافعي مع الجمهور خلافا لمالك في جواز المواعدة على الصرف يشترط أن يتم التقابض في المجلس قبل الافتراق، أما إذا كانت المواعدة بغير تقابض في المجلس فقد أجمع الأئمة الأربعة على المنع وعدم الجواز وخالف ابن حزم الأئمة الأربعة حيث قال في المحلى:" التواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض، جائزة، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا؛ لأن التواعد ليس بيعا، وكذلك المساومة أيضا جائزة - تبايعا أولم يتبايعا – لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك، وكل ما حرم علينا فقد فصل باسمه " وهذه المخالفة مبنية على رأيه في الوعد والعقود فإذا ذكرنا رأي ابن حزم يجب أن نعرف رأيه في الوعد وفي العقود، وألا يذكر هذا منفصلا عن رأيه في الوعد والعقود. ففي آخر النذور من المحلى عقد مبحثا عنوانه " الوعد" وقال: " ومن وعد آخر بأن مالا معينا أو غير معين أو بأن يعينه في عمل ما – حلف له (حتى لو حلف) على ذلك أم لم يحلف – لم يلزمه الوفاء به، ويكره له ذلك، وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله ذلك في نفقة أو لم يدخله".(8/1001)
وفي كتاب الجعل من المحلى قال: " لا يجوز الحكم بالجعل على أحد فمن قال لآخر: " إن جئتني بعبدي الآبق فلك علي دينار. أو قال: إن فعلت كذا وكذا فلك علي درهم أو ما أشبه هذا، فجاء بذلك، أو هتف وأشهد على نفسه: من جاءني بكذا فله كذا فجاءه به، لم يقض عليه بشيء، ويستحب لو وفى بوعده "
ورد على القائلين بوجوب الجعل وقال:" العقود التي أمر الله تعالى بالوفاء بها إنما هي العقود المنصوص عليها بأسمائها، وإن كل ما عداها فحرام عقده " ومعنى هذا أن الوعد بالصرف إذا أصبح عقدا فهو عند ابن حزم حرام عقده حتى ولو كان عقدا غير جائز.
ومن المعروف أن المواعدة في الصرف في عصرنا تأخذ حكم العقد اللازم ولا يستطيع أحد المتعاقدين أن يقوم بعدم اللزوم، وأن يجعل لنفسه الحق في عدم إتمام ما اتفق عليه وهذا يعني أن عقود الوعد في الصرف تعتبر حراما عند ابن حزم نفسه لأنها ليست من العقود المنصوص عليها بأسمائها. والنتيجة هي أن الأئمة جميعا يمنعون هذا النوع من التعامل البديل الشرعي للمواعدة في الصرف أشرت إليه عند الحديث عن البيع الآجل، وانتهى بحثي إلى هنا.
فضيلة الدكتور علي القره داغي أضاف بعد هذا المسائل الآتية: الاستفادة من الصلح الاستفادة من المقاصة، الاستفادة من بيع الدين بالدين إذا لم يكونا نسيئين بيع الديون لمن هو عليه، وتمليك الدين لغير المدين والاستفادة من عقد البيع بمختلف أنواعه والاستفادة من بقية العقود كالشركة والوكالة والحوالة والرهن والصلح والقراض. إلخ والاستفادة من إنشاء عقود جديدة وتحدث عن الاجتهاد الانتقائي والاجتهاد الإنشائي ولكن نلاحظ أن هناك نقطة، وهي أن فضيلته أجاز بالنسبة لدين السلم كما أجاز البيع إذا لم يتم تسلم دين السلم وأصبح الدين حالا أو أي دين سواء سلم أو غير سلم – أي دين بصفة عامة- هي أن الدين الحال يمكن أن يكون رأس مال سلم وهذا الإجماع على منعه ولكنه استدل بأراء شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ولكن نلاحظ هنا أن الدين الحال إذا جعلناه رأس مال للسلم ثم بعد هذا إذا كان المدين معسرا ولم يستطع أن يدفع وجعلناه رأس دين سلم أعتقد هذا يمكن أن يؤدي إلى محاذير شرعية. والله أعلم.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.(8/1002)
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين، رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
أشكر أولا الأستاذ الجليل الشيخ الدكتور علي السالوس على بحثه القيم وعرضه الطيب وجزاه الله خيرا. هناك بعض النقاط أحب أن أفصل فيها بعض التفصيل:
أولا: أشار فضيلته إلى أن الحنفية اتفقوا على أن عقد الاستصناع عقد جائز غير ملزم رغم أن هذه القضية قد نوقشت في الدورة السابقة وأتينا بنصوص الحنفية في بحثنا أن هناك رواية عن أبي يوسف تقول:" إن عقد الاستصناع عقد ملزم" وبهذه الرواية أخذت المجلة؛ لأن مجلة الأحكام العدلية لم تخرج عن نطاق مذهب الحنفية، نعم خرجت عن نطاق ظاهر الرواية هذا صحيح لكنها لم تخرج عن روايات أبي حنيفة وقد نقلت النص أو الرواية من المحيط البرهاني والحمد لله، والمجمع أقر ذلك.
ثانيا: بخصوص الإسناد إلى المالكية. المالكية – في الحقيقة – في غير الطعام ولهم تفصيلات بالنسبة للمستسلف وغير المستسلف، وذكرته حتى نسند الرأي إلى المالكية قضية دين السلم أو الحوالة عليه أو به في هذه المسالة، فرأي المالكية مقيد في غير الطعام، وهناك فرق بين المستسلف وغير المستسلف، وقد فصلت ذلك في البحث.
بقي لي إذا سمح لي السيد الرئيس – جزاه الله خيرا وجزاكم الله خيرا – أن أتكلم عن بعض التفصيلات التي ينبغي أن تذكر ما دام هناك خلاف بيني وبين فضيلة أخي الحبيب الكبير الأستاذ علي السالوس في بعض المسائل وفي بعض الجزئيات.(8/1003)
الحقيقة أنا سرت في بحثي على ثلاثة مباحث: المبحث الأول عن الأسهم والثاني عن السندات، وهذان الموضوعان قد بحثا ولا داعي لمناقشتهما ولكن أردت أن أعطي صورة متكاملة لقضية التطبيقات ما دامت المسألة عن تطبيقات شرعية فذكرت قضايا الأسهم وقضايا السندات والصكوك والبدائل الإسلامية للسندات والذي الآن أصبح عصرنا اليوم كل يوم يصدر نوعا جديدا من أنواع الأسهم أو السندات وتحدثت عن كيفية الفائدة من العقود في سوق المال الإسلامية في الموضوعات التي جرى بيني وبين الأخ الكبير فيها بعض الخلاف البسيط والخلاف أبدا لا يفسد للود قضية كما قالوا وحقيقة الشيخ علي من أحب الناس إلي.
أنا وصلت مع احترامي الشديد لقرار مجمع الفقه في أنه لا يجوز بيع السلم قبل القبض ولكني قلت: إن هذا الموضوع قد بحث كجزئية من الجزئيات في إطار القبض ولم يبحث السلم بموضوعه المفصل فلذلك إذا أردنا الموضوع، فوجدت أن عندنا مجالات كبيرة من الاستفادة من السلم، طبعا السلم بعد قبضه هذا معروف، لكن قبل القبض هناك عدة مسائل في بعض من هذه المسائل الراجح فيها الآخذ بها. مثلا قضية الاعتياض عن دين السلم - مسألة مهمة جدا – والراجح في هذه المسألة ما ذهب إليه المالكية وأحمد في رواية منصوصة نقلها الإمام ابن القيم وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. وفي الحقيقة الأدلة التي تدعم مذهب الإمام مالك ومذهب الإمام أحمد أقوى من الأدلة التي استدل بها الجمهور فلم إذا لا نأخذ بالاعتياض في قضية السلم وهي مسألة يمكن أن نستفيد منها في السوق؟ ووجدت المانعين – وهم الجمهور – استدلوا بثلاثة أدلة وهذه الأدلة الثلاثة ضعيفة جدا استدلوا بحديث " من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره" حققت الحديث فوجدت أنه ضعيف جدا أجمع العلماء على ضعفه فلا ينهض حجة في الأمور البسيطة فكيف ينهض في مثل هذه القضية وفي قضية الأحكام وأثبت في البحث ضعف هذا الحديث بشكل مفصل كذلك للحديث معنى آخر ورواية أخرى وإن كانت الرواية الأخرى أيضا ضعيفة المهم قصدي أن الحديث لا متنا ولا سندا ولا معنى يصلح أن يكون دليلا في مثل هذه القضية واستند كذلك على بيع الشيء قبل قبضه بحديث ابن عباس أو برأي ابن عباس حيث قال: (أرى كل شيء مثل الطعام) ما معنى كلامه؟ بينما الإمام مالك خالفه، هذه مسألة خلافية كبيرة جدا فيها ثلاثة اتجاهات اتجاه بالمنع واتجاه بالجواز المطلق واتجاه بالتفصيل ستة آراء، فالمسائل المختلف فيها لا يمكن أن تكون حجة في إسناد القضايا استندوا على الإجماع الذي ادعاه ابن قدامة في هذه المسألة وشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – رد عليه ردا جيدا فقال: هذا حسب علمه وإن الإمام مالك والروايات المنصوصة عن أحمد خلاف ذلك.(8/1004)
فإذن الأدلة التي استند عليها الجمهور في عدم جواز الاعتياض عن دين السلم ليست أدلة قوية أو أدلة لها وجاهتها ولها قوتها واعتبارها بينما الإمام مالك – رحمه الله – والإمام أحمد – رحمة الله عليه – استند إلى أدلة في غاية من الوجاهة استدلا – طبعا – بحديث ابن عمر – رضي الله عنهما – في قضية بيعه بالدنانير وأخذه الدراهم في قضية حديث (النقيع أو البقيع) كما ورد في الروايتين، والحديث معروف لحضراتكم واستند إلى قول ابن عباس في مسألة السلم، أجاز ابن عباس، رغم أنه لا يجيز بيع المبيع قبل قبضه- الاعتياض عن السلم لكن قال: إذا كان أقل بقيمته أو أقل من قيمته بسعر يومه.
ولذلك قال ابن القيم وابن تيمية: هذا من فقه الصحابة – رضي الله عنهم – رغم أنه يقول ما سار على قاعدته في منع الشيء قبل قبضه في السلم الاعتياض أجازوه، ابن القيم – في الحقيقة- أطال النفس في هذه المسألة وناقش المانعين مناقشة رائعة ذكرتها في بحثي، ... أنا فعلا أجزت في بيع المسلم فيه وبيع السلم قبل القبض والشروط قلت أولا: أن لا يكون في طعام، ثانيا: أن لا يكون نسيئة بنسيئة ووضعت بعض الضوابط، وقلت: إن هذه المسألة مرتبطة بمسألة بيع المبيع قبل القبض، وبما أن مسألة بيع المبيع قبل القبض رجحت فيه مذهب مالك فهنا أيضا سرت على هذا المذهب. قال شيخ الإسلام بعد ما ذكر مذهب مالك: وهذا أيضا إحدى الروايتين عن أحمد نص عليه في مواضع. يعني إذا الإمام مالك أجاز بيع دين السلم بشروط وضوابط خاصة إذا كان من المستسلف ألا يكون في طعام وأن يكون حالا (أي عند الحلول) من غير المستسلف في غير الطعام جوز مطلقا، هذا رأي مالك ونقلت نصوصه في المدونة وكذلك في بداية المجتهد، وكذلك في حاشية الدسوقي وغير ذلك إذن من هنا بيع السلم بهذه الصورة جائز بهذه الضوابط التي وصلنا إليها.
الاحتمال الثالث: التصرف في المسلم فيه بالتولية والشرك – أو كما يسمونه الشركة – والحطيطة والمصالحة والحوالة والوكالة وهذا ما ذكره فضيلة الأستاذ الدكتور وفعلا هنا أعتقد أن فضيلة الدكتور لم يذكر إلا الحوالة وأنا ذكرتها وقلت: إنه يمكن الاستفادة منها، الوكالة بالإجماع جائزة التولية والشركة في المسلم فيه محل خلاف، ذهب مالك إلى جوازها في الطعام وفي غيره، وذكرت تلك النصوص في بحثي- ما دام ينتقد الثمن، وهو قد استدل بحديث سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شرك أو إقالة أو تولية)) وهذا الحديث بينت أنه صحيح الإسناد وثابت ونهض حجة على هذه الدعوى، إضافة إلى إجماع أهل المدينة قالوا: إن أهل المدينة يتعاملون بذلك الحنفية والحنابلة والشافعية ذهبوا إلى عدم الجواز، ولكن- حقيقة – ناقشت أدلتهم وتبين لي رجحان مذهب مالك في هذه المسألة أما الحوالة فقد فصلها أخي الأستاذ الدكتور علي السالوس وكذلك أنا فصلت فلا حاجة.(8/1005)
إذا انفسخ عقد السلم بإقالة أو بعدم الوجوب، هذه مسألة لم يذكرها أستاذنا الجليل الشيخ علي السالوس، وأنا ذكرتها وقلت: ممكن إذا انفسخ بإقالة أو بأي وسيلة من وسائل الفسخ أو بعدم الوجوب فهل يمكن أن يؤخذ أو أن يأخذ الشيخ المسلف عن دين السلم عوضا من غير جنسه؟ قلت: فيه رأيان؛ الرأي الأول يقول: لا يجوز، والرأي الثاني يقول بالجواز. والمانعون استدلوا بالحديث الضعيف السابق والرأي الثاني هو الراجح لحديث ابن عمر وقد رجح ابن القيم الجواز، وأطال فيه النفس وذكرت ذلك في بحثي، لا شك أننا أجزنا ذلك مع ملاحظة قواعد الصرف في النقود وكذلك قضايا الطعام وعدم بيع الدين النسيء بالنسيء، وهذه ثلاثة ضوابط يجب ملاحظتها في كل هذه الاعتبارات.
هناك ملحوظة طيبة أعرضها على حضراتكم من خلال دراستي السلم فترة كبيرة من الزمن، وجدت أن العلماء أو معظم العلماء ولاسيما المتأخرون تشددوا في قضية التصرفات في المسلم فيه تشديد كبيرا حتى أصبح لديهم نوع من الحساسية في أي تصرف من التصرفات التي تقع على المسلم فيه، وسبب هذه الحساسية أو هذا التشدد يعود إلى أربعة أسباب، الحديث الضعيف الذي اشتهر، ولذلك لو سأل سائل عن الحوالة يرد عليه في الغالب بقولهم: لا تجوز الحوالة، لماذا؟ للحديث المذكور " من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره" وهو لا ينهض حجة أساس وقد تكرر الاحتجاج به في التولية لا يجوز للحديث لكذا، لكذا، الحديث لا ينهض حجة وهذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: (ربح ما لم يضمن) كل شيء قلنا لا يجوز بيع المسلم فيه أنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن وقد ناقش ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية مناقشة رائعة وكذلك ابن القيم وقالا: إن هذا لا يؤدي إلى ربح ما لم يضمن عندما أبيع دين المسلم فيه بسعر يومه لا يؤدي إلى ربح ما لم يضمن هناك نوع من الضمان أي أنني ما ربحت الربح الذي يقصده الحديث، وفي البحث مبين كيف ناقشت هذا الحديث، والحديث صحيح طبعا " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان وعن ربح ما لم يضمن "
الأمر الثالث: قضية توالي الضمانين، وهي مسألة خطيرة جدا ذكروها أكثر من مرة، في كل شيء، حينما يقول: إن هذا يؤدي إلى توالي ضمانين، أي الرجل الذي عليه السلم وهو ضامن، فكذلك أنت تبيع إلى شخص آخر يؤدي إلى ضمان، فابن القيم ناقش هذه المسألة مناقشة رائعة، كذلك شيخ الإسلام قال: وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة ولا تنافي بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه ومضمونة عليه من وجه آخر فهي مضمونة له وعليه لاعتبارين، وأي محظور في هذا؟ كمنافع الإجارة فإن المستأجر له أن يؤجر ما استأجره فتكون المنفعة مضمونة له وعليه وكالثمار بعد بدو صلاحها، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة وقال: إن هذه المسألة- توالي الضمانين- منقوض فرضا وعكسا.(8/1006)
فهذا إذن المبنى أو الأسباب التي اعتمد عليها الفقهاء في هذه المسألة ما وجدت أنها قوية جدا حتى تصلح لهذا التشدد الكبير في هذا الموضوع انظر إلى ابن عباس – رضي الله عنه – رغم قوله بعدم جواز بيع المبيع قبل قبضه عاد في قضية السلم فأجاز الاعتياض عن المسلم فيه بشروط وضوابط، يعني قواعد الصرف ألا يكون في طعام وكذلك لا يكون بنسيء.
تكلمنا كذلك في مسألة الوعد والمواعدة. أنا مثل ما تفضل أخي الكريم إنني في المواعدة قلت: إنها جائزة، ولكن بشرط ألا تكون ملزمة حقيقة بالنسبة للوعد في غير الصرف والمواعدة في غير الصرف، إن هذا رأيي منذ أن درست في جامعة الأزهر وأعددت رسالة الدكتوراه، وصرت إلى أن الوعد ملزم وأن القضاء الإسلامي يجب أن يحمي هذه الإلزامية، وذكرت أدلة على ذلك ثم اطلعت على كتاب شيخنا الجليل الأستاذ الجليل الأستاذ الفاضل الدكتور القرضاوي بعدما جئت إلى قطر فوجدت أن أستاذنا القرضاوي أيضا في كتابه القيم: (بيع المرابحة) أطال فيه النفس وذكر أدلة معتبرة على إلزامية الوعد والمواعدة فالقضية مسألة واردة ومسألة لها السوابق كما يقول: ولها آراء سابقة.
المسألة الأخرى التي فيها مجال للنقاش وفيها مجال للإفادة الكبرى ولا سيما في عالمنا اليوم: ولم يرد الفاضل علي السالوس أن يذكرها بالتفصيل لأنه لم يتطرق إليها وهي (بيع الدين بالدين) قلت: يمكن الاستفادة من بيع الدين بالدين بشكل كبير، فإذا سمح لي السيد الرئيس أذكر ملاحظات حول بيع الدين بالدين لأنه لم يذكر ذلك.(8/1007)
بيع الدين بالدين مسألة من المسائل التي ورد فيها خلاف كبير بين الفقهاء، وأنا قلت في آخر بحثي وما أقوله في هذا البحث ليس فتوى وإنما أعرضه على المجمع الموقر وعلى أعضائه الموقرين للمناقشة وما يقتنعون به، أنا إن شاء الله راض به. الذي وصلنا إليه أن بيع الدين بالدين أو منع بيع الدين بالدين ليس على إطلاقه وإنما المنع فيما إذا كانا نسيئين لأن الإجماع على منع الكالئ بالكالئ، وهو كما فسره علماء اللغة وغريب الأحاديث فسروه ببيع النسيئة بالنسيئة، والنسيئة هي التأخير وهذا ما قاله البيهقي وما قاله أبو عبيدة الفقهاء اختلفوا في تفسيره اختلافا كبيرا فشيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية قال بعد دراسة مستفيضة في كتابه مجموع الفتاوى تكلم وأطال فيه النفس قال: المجمع عليه في بيع الدين بالدين هو أن يكون بيع النسيء بالنسيء قال: ولكنه إجماع وقال أحمد: لم يصح منه – أي في النهي عن بيع الكالئ بالكالئ حديث، ولكنه هو إجماع وهذا مثل أن يسلف إليه الشيء المؤجل فهذا الذي لا يجوز بالإجماع. ثم قال ابن تيمية: إذا كان العمدة في هذا هو الإجماع والإجماع إنما هو في الدين الواجب – أي النسيء – بالدين الواجب – أي النسيء – كالسلف المؤجل من الطرفين. هذا ما حصره ابن تيمية في المسألة، ولذلك أخرج ابن تيمية بيع ما هو ثابت في الذمة ليسقط بما هو ثابت في ذمة شخص آخر قال: هذا ليس من صورة الكالئ بالكالئ وجعل السلم أيضا دينا بسلم آخر أو ما أشبه ذلك أيضا إذا كان حالا أو بشيء حال أيضا أو بالنسبة للشخص نفسه قال: ليس هذا من صور الكالئ بالكالئ فقال: ليس في التحريم نص ولا إجماع ولا قياس فإن كلا منهما اشترى ما في ذمته وهو مقبول له بما في ذمة الآخر وابن القيم عنده كلام طيب قال: ما في الذمة كأنه موجود حسا يعني الموجود كالموجود حسا، وإن كنا قد لاحظنا على شيخنا الكبير شيخ الإسلام أنه كنا في حصر صور بيع الكالئ بالكالئ على هذه الصورة فيه نظر أضفنا إليها بعض الصور غير أنها لا تنحصر عند التحقيق في بيع الدين النسيء بالدين النسيء ويمكن الاستفادة من بيع الدين بالدين في سوق المال ما داما غير نسيئين.(8/1008)
فيما يأتي: بيع الديون لمن هو عليه – مكتوب في الكتاب: هي عليه – جاء في المهذب: (وأما الديون فينظر فيها، فإن كان الملك عليه مستقرا كغرامة المتلف وبدل العرض جاز بيعه ممن عليه قبل القبض لأن ملكه مستقر عليه فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض) والمراد باستقرار الدين أي أن سببه قد تحقق فعلا وآمن من الفسخ ويسمى هذا النوع أيضا بالاستبدال والاعتياض، وذكرت ذلك لا أريد أن أطيل عليكم، جعل الدين الحال - الذي أشار إليه فضيلة الدكتور قال: إنه يخالفني، وأنا أخالفه في هذه المسألة – جعل الدين الحال رأس مال في السلم، هذه المسألة نقل فيها الإجماع وقلت: كنت أميل في ذلك هذه المسألة نقل فيها الإجماع على عدم جوازه بناء على أنه داخل في بيع الكالئ بالكالئ غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم بينا أنه لا يجمع فيها بل هي جائزة قال ابن القيم: وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم إليه في كر حنطة وهو المعيار عندنا في العراق بعشرة دراهم في ذمته فقد وجب له عليه دين وسقط عنه دين غيره، وقد حكي الإجماع على امتناع هذا ولا إجماع فيه قاله شيخنا – أي ابن تيمية – واختار جوازه، وهو الصواب إذ لا محظور فيه وليس بيع كالي بكالي فيتناوله النهي بلفظه ولا في معناه فيتناوله بعموم المعني فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة فإنه لن يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله وينتفع صاحب المؤخر بربحه بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة، وأما ما عداه من الصور الثلاث فلكل منها غرض صحيح، ومنفعه مطلوبة وهو بيع الساقط بالواجب وهو مصطلح عند ابن القيم. هذا بالنسبة لبيع الدين لمن عليه الدين.
تمليك الدين لغير المدين لخص الإمام الرافعي والإمام النووي هذا الموضوع تلخيصا طيبا في الحقيقة ذكرته في البحث ولكن خوفا من الإطالة لا أذكره فالصلح عن دين بدين – أيضا- أجزناه في هذه ووضعنا له ضوابط أنا قلت: إننا الآن رغم هذه العقود الثرية الغنية في فقهنا الإسلامي يجب ألا نتوقف عند هذه العقود، واستشهدت هنا بكلام شيخنا القرضاوي في قضية الاجتهاد الانتقائي والاجتهاد الإنشائي يعني نحن الآن في هذه المجمع الموقر محتاجون إلى هذين النوعين من الاجتهاد الانتقائي أي أننا ننتقي الآراء الجيدة من فقهنا العظيم ومن هذه الثروة الضخمة سواء كانت من كتب الفقه أو من كتب التفسير أو من كتب الحديث كذلك الاجتهاد الإنشائي في الأمور الجديدة المستحدثة هناك عقود لا يمكن أن ينطبق عليها أي عقد من العقود القديمة فلا بد أن نقول بها ما دامت هذه العقود لا تتعارض مع الشريعة.
مرة أخرى أشكر فضيلة الدكتور علي سالوس على بحثه وعلى عرضه، وأشكر السيد الرئيس على إتاحة المجال لي وجزاكم الله خيرا، وأشكركم على حسن الاستماع، وصبركم على عرضي وعلى عرض الشيخ علي، وجزاكم الله خيرا، والسلام
الرئيس:
أحب أن أسأل الشيخ علي السالوس: طالما أن مسائل الاستصناع والمواعدة والحطيطة والأسهم والسندات والقبض بصورة سبق وأن صدرت لها قرارات من المجمع باتة ومنهية فما تذكر من وسائل إقامة السوق الإسلامية المشتركة هذا لا إشكال فيه لكن كونها تطرح للمناقشة وتذكرون أنتم والشيخ علي إعادة النقاش فيها هل هذا يعني من وجه استجد؟(8/1009)
الشيخ علي السالوس:
لم أطرحها للمناقشة ولكن إشارة فقط.
الرئيس:
طيب، إذا رأيتم على أن هذه التي صدرت فيها قرارات من المجمع أنها لا تكون محل تداول في المناقشات وإنما يكون محل التداول هو القضايا التي أضيفت في إقامة السوق.
الشيخ الكبيسي:
بسم الله الرحمن الرحيم
ائذن لي سيدي الرئيس في أن أخالف ما عزمت عليه من أن أكون في هذه الدورة مستمعا ومتعلما.
حينما قرأت العنوان تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية المشتركة كنت مترقبا لحدث علمي كبير لأنني توقعت أننا نريد أن نقابل أو نتحدى السوق الأوربية المشتركة، لكني بعد أن قرأت بحث الأستاذ الدكتور علي السالوس في بغداد وجدت الأمر يختلف بحث هو في فتاوى تعالج تصرفات سوق إسلامية قائمة، وعندها بعض الإشكالات في بعض التصرفات فجاء البحث لمعالجة هذه الجزئيات فسألت نفسي هل يا ترى المجمع يريد أن يهيئ للأطر الشريعة والقانونية لإقامة هذه السوق، وإلا كان ينبغي أن تبدأ الدراسة بأسس وضوابط إقامة السوق من حيث سياسة تبادل السلع من حيث تبادل الخبرة تبادل رؤوس الأموال تبادل العمالة توحيد التعريفة الجمركية، الخبرات في المصارف والبنوك المركزية إلى آخر هذا الذي كنا نتوقعه في إقامة سوق إسلامية مشتركة تقابل وتتحدى السوق الأوربية المشتركة فأنا سألت نفسي – أيضا – هل هذا يا ترى من باب ما قاله أبو الطيب المتنبي:
أو الجزيرة لما جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
أو أن هناك دراسات كانت معدة إلى السوق وإقامة السوق، وأنا لا علم لي بها أنا هنا لا أريد أن أوجه السؤال لصاحبي البحثين فهما قد قاما بجهود علمية قيمة مشكورة، ولكن سؤالي إلى هذه القضية الكبيرة التي حينما يقرؤها أي قارئ في العنوان يقول: إذن نحن نترقب حدثا علميا كبيرا، يا ترى أين هي السوق الإسلامية المشتركة التي هي أمل، وأمل في أيامنا هذه، قد بعد أين هذه السوق المشتركة قواعدها أسسها روابطها؟ حتى نبدأ بالبحث في تطبيقات جزئياتها. شكرا.
الشيخ محمد الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين
أشكر الباحثين على بحثيهما القيمين، الدكتور علي أحمد السالوس والدكتور علي محيي الدين. عندي ملاحظتان إحداهما توافق أحدهما والأخرى كانت تخالفه لولا ما سمعت مؤخرا.
مما يخص بيع السلم وهو في الحقيقة اختلاف العلة فيه ما قال فيه الدكتور علي محيي الدين لأن حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه)) أخرجه مالك والبخاري ومسلم. وفي روايتي البخاري ومسلم قال ابن عباس: (ولا أحسب كل شيء إلا مثله) يعني قالها ابن عباس من نفسه وعبر بقوله (ولا أحسب) لأن هذا التعبير من ابن عباس، وليس من الرسول صلى الله عليه وسلم، زاد مسلم فيه تفسيره: (ولا أحسب كل شيء إلا مثله) يعني الطعام، اختصر الإمام مالك في الحديث على ما ورد في الحديث فأجاز بيع المبيع قبل قبضه في غير طعام المعاوضة، قال ابن المنذر: وهو أصح المذاهب في هذه المسألة. الإمام أحمد يجوز عنده بيع كل شيء قبل قبضه إلا المكيل والموزون والمذروع والمعدود، أما أبو حنيفة كما نقلت من (اللباب شرح الكتاب) لا يجوز عنده بيع المبيع قبل قبضه إلا الدور والأرض هذا يجوز عنده بيعها قبل قبضها أما الإمام الشافعي فلا يجوز عنده بيع أي شيء قبل قبضه سواء كان طعاما أو غيره وسار على ما قاله ابن عباس – رضي الله عنه – هذه إحدى الملاحظتين.(8/1010)
الملاحظة الأخرى: وهي (بيع الدين بالدين) أنا عندي فيها ما كان يقول الأخ الآخر، وهي أن حديث ابن عمر في بيع الكالئ بالكالئ – الذي أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه – إن كان هذا الحديث طعن في بعض رواته كما قال الشوكاني فإن الإمام أحمد قال بعد أن قال: إنه ليس في هذا شيء صحيح، لكن إجماع الناس أنه لا يجوز بيع دين بدين وكذلك ابن المنذر قال: وأجمعوا على أن بيع الدين بالدين لا يجوز.
هذا ما عندي في المسألة أما ما ذكر عن ابن تيمية وابن القيم في الحقيقة ما كانت أعلمه الذي كان عندي هذا عند الأئمة الأربعة. والسلام عليكم ورحمة الله.
الدكتور إبراهيم بشير الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله.
أولا: لا بد أن أسجل الشكر الكبير للأخوين الباحثين على ما بذلاه من جهد، وبعد ذلك أشعر بأنه من حق إخوتي علي أن أقول وأن أذكر بما سبق أن قلته في اجتماعات هذا المجمع من أن هذه المواضيع توقعت أننا سنصل إليها وبالشكل الذي تسير فيه من يوم أن تحدثنا عن موضوع النقدين، أو النقود وقد قلت وقتها: إن إقرارنا بعدم تثبيت النقدين كوحدة تبادل وقياس وأخذنا بالمفهوم العصري وبالاحرى بالمفهوم الغربي للنقود سيجرنا للائتمان وإلى البنوك وإلى البورصة وأنا أود أن أكون صريحا: هذه ليست السوق الإسلامية المشتركة السوق المشتركة تتناول أمورا أخرى تتناول أمور انتقال العمالة وانتقال رؤوس الأموال وما إلى ذلك، السوق المشتركة لها تعريف محدد هذا حديث عن سوق مالية بورصة وما يجري داخل البورصة ولا بد أن يكون الأمر واضحا، ولهذا أنا أقترح: أولا: تصحيح العنوان فلا يقال السوق الإسلامية المشتركة، ثم يكون البحث في هذا المجال الحديث عن سوق مالية للعالم الإسلامي يجوز (بورصة) أود أن أكون واضحا باعتباري من المجازين والمتخصصين والعاملين في المجال الاقتصادي، إن الفكر الاقتصادي يعرف أن هناك المذهب الاقتصادي أو (doctrin) ويعرف تطبيقات متعددة لأي مذهب يسمى (Systems) وتأخذ أشكالا مختلفة وفقا للسياسات المالية النقدية المختلفة (Poloses) ووفقا للتحاليل العلمية التي تتنوع بتنوع المدارس.(8/1011)
الذي نريده للفكر الاقتصادي الإسلامي والذي نؤمن أنه يوجد في كتاب ربنا عز وجل وفي تطبيقات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تقدم الأنموذج هو أن هناك مذهبا وإن هذا المذهب أو هذه النظرية أو هذه الرؤية من الممكن أن تقام على أساسها أنظمة وإن الأنظمة ستتعدد وفقا لتعدد المدارس والسياسات المالية والنقدية ولكن السياسات المالية والنقدية يجب أن تكون حينما تنطلق من نظرية معينة مختلفة عن السياسات التي تنطلق من نظرية أو مذهب آخر، ومن هنا فأرى أننا حينما نريد أن نتخير للمذهب الاقتصادي الإسلامي نتخير بعد أن نحدد هذا المذهب أولا ثم نتخير وفقا لأرجحية دليله والاوفق بمقاصد الشريعة وهو الأصلح وهو الأكثر تحقيقا للمصالح وأنا أتوقع في هذا المجال أننا نقدم حلا لمشاكلنا ولمشاكل البشرية أنا أود أن أشير إلى هذه النقاط لأنني سأقف بعد ذلك أمام قضية البورصة أو السوق المالية وما يتعلق بها أنا لا أريد أن أتحدث الآن عن ما تصوره المذهب الاقتصادي في الإسلام ولكن يكفيني أن أشير إلى ما سبق أن أشرت إليه إلى أن موضوع الوظيفة الثالثة للنقود التي عرفها الفكر على يد الإحياء اليوناني الذي قام في أوروبا في العصور الوسطي وبتأثيرات الفكر اليهودي التي تبناها (روت شلت) الذي كان أول من أسس بنكا هي ما تسمى بالوظيفة الثالثة للنقود، النقود أصلا وسيلة تبادل ومقياس للطيبات أضيفت لها وظيفة ثالثة سميت وظيفة الاختزان والقول بوجود وظيفة الاختزان أو الاكتناز للنقود هو الذي أوجد نظرية الائتمان ليس كل الناس يطلبون النقود وهو في نفس الوقت إذن من الذي يطلب نقوده؟ يطلب نقوده حينما يودعها لدى صاحب البنك الذي كان على الميناء ويقول للتجار هم 10 % أو 20 % وإذن له أن يأخذ 80 % ويتصرف فيها وأقيمت على هذه الرؤيا إذن الوظيفة الثالثة للنقود مع نظرية الائتمان هي أساس البنوك حينما أقيمت البنوك بصورها المختلفة استدعت أن تكون لها بورصة.
وأوجدت الشركات المساهمة وتبادل الأسهم وتبادل السندات والعملات وما إلى ذلك وأصبحت النقود بعد ذلك ليست كسلعة بل إنها ليست مقياسا ولا تقوم بوظيفتها فتلك قضية أخرى.(8/1012)
هل نحن عندما نسير في هذا الطريق في حقيقة الأمر نقدم حلا إسلاميا لمشاكل العالم الإسلامي والإنسانية أم أننا نحن ننقل إمكانية إقامة بورصة في هذه المنطقة كما أن هناك بورصة في الشرق الأقصى في اليابان (طوكيو) أو أن هناك بورصة في هونج كونج أو أن هناك بورصة في باريس وما إليها؟
هذه القضية يجب أن تدرس، ولذلك إذا كان بحثنا عن قضية السوق الإسلامية المشتركة وبحثنا عن قضية أن هذه المنطقة هي المواد الأولية وإمكانية إقامة سوق للمواد الأولية في هذه المنطقة، وإمكانية انتقال السلع وإمكانية انتقال الأيدي العاملة ورؤوس الأموال وما إليها ثم رأينا أن تقيم سوقا ضمن هذا الإطار ذلك أمر آخر إنما حينما نبحث عن إقامة بورصة ونبحث لها عن مبرراتها ذلك ما قلته من أول يوم: إننا نسير في طريق أسلمة والبحث عن مبررات لنظام رأس مالي يقام في هذه المنطقة، إنني أحذر وأنبه مع احترامي الكبير والجليل لهذه البحوث القيمة التي بحثت. وكما أشار أخي الأستاذ علي في خاتمة بحثه أنه فعلا أشار إلى إمكانية الاجتهاد الانتقالي وأشار إلى الاجتهاد الإنشائي أخذا عن الدكتور القرضاوي لأن المسائل التي لا نجد فيها آراء لفقهائنا يجب ألا نؤمل ما قاله الأقدمون واحتراما لهم لم يخطر لهم على بال هذه قضايا هذا العصر لا بد أن نواجهها بفهمها إنني أبرأ من أن تكون الأمة كمن يسير في سفينة يقودها غيرهم، ويكتفون لكي يعبروا عن موافقتهم أو عدم موافقتهم بأن يذهبوا من أول السفينة إلى آخرها أو من آخرها إلى أولها، إن مطلب السفينة الإنسانية يحتاج أن نمسكه بأيدينا، ونحن نملك في هذا القرآن الكريم وفي تطبيقات رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينقذنا وينقذ الإنسانية، وإننا لمسؤولون، ولقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، أو في شهادة وأبقانا لنكون شهداء على الناس، لا أن نكون أتباعا لهم. شكرا، والسلام عليكم ورحمة الله.(8/1013)
الشيخ رضا عبد الجبار العاني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
الواقع أن لي بعض الملاحظات على هذه المسألة المطروحة الآن منها ما سمعناه الآن وبارك الله في الأقوال التي قيلت الحقيقة إننا قد وقعنا في خلط عجيب في المفاهيم التي شاعت في هذا العصر صادرة عن الأنظمة الرأسمالية والغريبة وكلما سمعنا بعنوان أبهر نحاول أن نؤسلمه فالبورصة وأمثالها من المصطلحات التي وجدت الآن ووفق فلسفاتها ليست من الإسلام في شيء ونحن ينبغي ألا ننسى أننا مسلمون ولنا خصائصنا، ولنا مبادئنا وضوابطنا فالمادية التي تسير الغرب نريد أن ننقلها إلى الشرق الإسلامي والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((أجملوا في طلب الرزق)) فكل الذي نراه الآن هو محاولة تقليد الغربيين في هذه المسائل، العنوان الذي نقرؤه (الأسواق الإسلامية) الحقيقة حينما فتحنا البحوث التي كتبت وجدنا جزئيات منها ما عولج سابقا، وصدر فيه رأي جزئياته الفقهية مطروحة، وما طرح أيضا هو ليس على طريق الحصر لأن العقود كثيرة وكثيرة جدا وإنما الوقائع هي التي تكشف لنا الوسائل التي نريد لها حكما في الشرع الإسلامي، فالمسلمون يتعاملون من قديم الزمان وإلى الآن يتعاملون بهذه العقود بيعا وسلما واستصناعا وغيرها من العقود يبحثون عندما عن واقعة جديدة ظهرت ولم يظهر فيها الحكم واضحا فيسألون العلماء عنها، نحن الآن نريد أن نضع ضوابط لبورصة وليس لسوق إسلامية البورصة كيف نحصرها والسوق الإسلامية عامة لكل المسلمين يتعاملون دون حصر فلا يتعاملون به، هو من أصول دينهم ومن تشريعاتهم وما يستجد يسألون عنه.
الآمر الثاني: الحقيقة وجدت بعض المسائل التي طرحت في ندوات أخرى وصدرت فيها آراء، ولكن الباحثين يصرون على المخالفة ويصدرون آراءهم مغايرة كما في مسألة الوعد والحقيقة بالنسبة للوعد القول بالإلزام به أمر يناقض قواعد الملكية في الفقه الإسلامي وينسف مسألة العقد نسفا تاما لأنه تتبين المعاني من تعاريف المصطلحات، فالوعد قال فيه الفقهاء التزام إنشاء معروف في المستقبل، والعقد قالوا: إيجاب وقبول يظهر أثره في محله، فأين الوعد من العقد؟ ونحن الآن نريد أن نقيم الوعد مقام العقد فهذا خلط غريب وعجيب جدا كأنهم حينما قالوا إنشاء معروف في المستقبل كأنهم ألغوا أصلا أن يكون هناك وعد في البيع لأن البيع لابد من تنجيزه، ويبقى الوعد بسوف وسأبيعك، وهذه كلها أمور لا تلزم، فكيف نريد بالنسبة للشيخ الفاضل علي السالوس في الحقيقة وجدت بعض الملاحظات في بحثه بالنسبة للمسلم فيه، الحنفية يشترطون الوجود من بداية العقد إلى نهايته، ولا يقولون بعام الوجوب، ولذلك يفسدون السلم حينما يختفي المسلم فيه، في موضع آخر يقول أيضا الشيخ علي السالوس: " انتهى بعض الباحثين إلى جواز المواعدة بشرط أن يكون الوعد غير ملزم أخذا برأي أهل الظاهر خلافا للجمهور" والواقع أن الجمهور كلهم لا يقولون بإلزام الوعد ليس ابن حزم فقط، وابن حزم حينما تكلم في الوعد ونقل ما قرأه الآن الشيخ السالوس قال: " وهذا رأي أبي حنيفة والشافعي وغيرهم من العلماء" فكل العلماء لا يقولون بإلزام الوعد وحتى ابن شبرمة ما نقل عنه إنما هو مخصوص في التبرعات وكذلك المالكية والمالكية أنفسهم يقولون: " لو قال له: أبيعك يجب عليه أن يحلف أنه ما أراد الوعد لكي يكون البيع ناجزا، يجب عليه أن يحلف أنه ما أراد الوعد، وهذا قاطع لأنه لا يرى المالكية إلزاما في المعاوضات وإنما كلامهم كله يدور في التبرع.
الشيخ السالوس أيضا في الحقيقة ساق خلافا لا وجود له بين مالك والأئمة الثلاثة المسألة التي تطرق إليها ونقل النصوص فيها النصوص فيها هي تخص النقدين لو تصارفا والنقدان خارج مجلس العقد - لو تصارفا- وهذه صريحة في النصوص وتصارفا معناها: تم عقد الصرف، وليس وعدا فهذا ليس من التواعد في الصرف في شيء أبدا لو تصارفا والنقدان غير موجودين فمالك يقول: هذا ليس بصحيح، والصرف فاسد إذا جاء النقدان وأتى بهما والأئمة الثلاثة يقولون: الصرف مضى صحيحا بينما التواعد سأصرفك غدا أي نساء، فهذا مع أنه كان في الحقيقة موفقا في فرز ما قيل عن الشافعي ووجهه توجيها سليما لكنه عاد فخلط الأوراق مرة أخرى فابن حزم حينما قال قولا فهو رأي الجمهور في الحقيقة كلهم يقولون: تجوز المواعدة في الصرف، وقولهم: يجوز. لا يعني أنه ملزم لا يعني أن فيه إلزام إنما يجوز أن أقول لك: سأصارفك غدا وعصرا وبعد أسبوع ومن يقول لا يجوز هذا لا يقول به أحد أبدا فكل العلماء يقولون هذا يجوز لكن هذا ملزم؟ لا أبدا عند الجميع ليس ملزما، وشكرا.
الدكتور سامي حسين حمود:(8/1014)
بسم الله الرحمن الرحيم
يبدو أن الموضوع فيه شيء من اللبس فالسوق الإسلامية المشتركة تحتمل مجالين المجال الأول: هو المجال الاقتصادي تبادل السلع والمنتجات بين الدول الإسلامية وهذا محل بحثه عند الاقتصاديين إنما في المجمع تبحث الطرق والأحكام التي تتم بها هذه المعاملات من أحكام البيع والمواعدة فيه وأحكام السلم وأحكام الاستصناع والمجال الثاني: هو السوق المالية الإسلامية التي تحكم الأدوات التي يتم فيها تداول حصص تمثل حصص امتلاك، وتأكيدا لهذا اللبس نجد الباحثين الكريمين وهما يقيمان في بلد واحد ويدرسان في جامعة واحدة قد طرقا هذا الموضوع تحت العنوان المشترك بأسلوبين مختلفين، فبينما تطرق فضيلة الأستاذ الدكتور علي السالوس إلى الطرائق في البيع والمواعدة والاستصناع والسلم، تطرق الأستاذ الدكتور القره داغي بشكل واضح إلى أنه يتكلم عن السوق المالية المشتركة بمفهوم الأدوات المالية التي تعمل في هذه السوق.
والواقع من سياق دورات المجلس المتصلة كان البحث والقواعد التي وضعت أسسها في الدورات السابقة يتعلق في الشق الثاني من الموضوع الذي هو الشق الفقهي المتعلق بالأدوات المالية الإسلامية لوجود حاجتين أساسيتين في العالم الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه، الحاجة الأولى هي حاجة البنوك الإسلامية لأن يكون لديها متنفس تستطيع أن تستثمر فيه فائض السيولة عندما يكون لديها فائض وأن تلجأ إلى هذه الأسواق لأخذ ما تحتاجه من المال عند احتياجها إليه على طريق مواز لما هو معروف في الأسواق المالية العالمية بالسوق الثانوية لرأس المال، وليس عيبا من المحاكاة عندما تكون الاحتياجات موجودة فهذا هو منهج الشارع الحكيم نفسه في معالجة الأمور التي عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة النبوية الإسلامية فوجد الناس يتبايعون ويتعاملون فأجاز ما كان منها صحيحا وصحح ما كان منها معيبا، وأبطل ما كان منها من أساسه باطلا وفاسدا ومخالفا لقواعد الشرع ونحن في حياتنا نفتح عيوننا على واقع هذا الواقع يدل أن هناك حاجة لسوقين أساسيين في التعامل السوق الأولية التي تتعامل في الإيداعات واستثمار الأموال والسوق الثانية التي تحتاج إلى الرديف الذي تلجأ إليه البنوك الإسلامية عندما يكون لديها فائض أو يكون لديها احتياج وإذا كانت هذه السوق العالمية التي نشاهدها محكومة بواقع الفائدة والسندات التي تعتمد على الربا فإن الواجب علينا وهذا المنهج الذي حصل أن نستحدث وأن نفكر وأن نوجد الصورة التي تعتمد على نوع من الصكوك يحتمل الربح والخسارة والتي هي صكوك المضاربة الوجه الثاني للحاجة: هي حاجة دولنا الإسلامية التي نحن واجب علينا أن نسخر فكرنا لخدمتها في الاتجاه الشرعي (الاتجاه الصحيح) فالدول تحتاج إلى أموال وهذه الدول عند عدم وجود البديل تصدر سندات الفائدة في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه إلا من رحم الله، هذه السندات يعزف عنها الناس لمعرفتهم أنهما تعتمد على الفائدة وإن كانت أحيانا تصدر بعض الفتاوى والأقوال هنا وهناك ومن الواجب أن نبحث عن صكوك أو أدوات مالية استثمارية تستعملها الدولة ولكن ضمن قواعد الشريعة وهي الصور التي تطرق وأشار إليها بالبحث الأخ الفاضل الدكتور القره داغي وهي صكوك الخزينة الإسلامية إذن حاجتنا من هذين الوجهين حاجة أساسية فما هي صورة هذه الصكوك؟
القاعدة الأساسية الواضحة التي أقرها المجمع بوعي وعلم وفضل هي قاعدة أن هذه الصكوك تمثل حصصا في موجودات أو مشروعات استثمارية مدروسة اقتصاديا تحتمل الربح غالبا ولكن لا تخرج عن الخسارة وهذه الصكوك تشارك في الأرباح ويكون لها مجال تباع وتشترى فيه فإذا وجد المجال الذي تباع وتشترى فيه فقد قامت قواعد هذه السوق، أما الضمان من الشخص الذي يأخذ المال ليقيم المشروع غير مقبول لأنه لا يجتمع دين وضمان في موضوع المضاربة ولكن الضمان إذا كان من طرف ثالث ليس مدينا ملتزما فهل هذا جائز؟ قالوا: إذا كان التبرع بأصل المال جائز ألا يجوز التبرع بالضمان؟ من هنا قضت لجنة الفتوى في المملكة الأردنية الهاشمية بجواز دخول الحكومة كضامن لسندات المقارضة المخصصة لمشاريع الأيتام هذه هي الصورة التي نتمنى أن تتطلب في المجالات التي تشجع فيها الحكومة تنمية قطاعات محددة في مجالات معينة لمنفعة الاقتصاد الوطني ولمنفعة الناس والمواطنين بما يخدم الشريعة الإسلامية في مجالاتها التطبيقية الواسعة.(8/1015)
هناك نقطتان أحب أن أشير إليهما في البحث الذي قدمه الأستاذ الدكتور علي السالوس:
النقطة الأولى: غالبها استفساري هي في المبحث الثاني من بحثه، أشار إلى أنه إذا احتاج البائع إلى الثمن قبل حلول فقد يجد المخرج في بيع السلم، والذي أفهمه أنه إذا باع شيئا فقدْ فقدَ ملكية ما باع وأصبح حقه معلقا في الثمن في موعد مؤجل فما هو مجال بيع الثمن في هذه الحالة بعد أن يكون قد باع أيبيع ما باع مرة أخرى، أم المقصود أنه يستحدث سلما جديدا وفي هذه الحالة ليس له علاقة بالبيع الأول؟
النقطة الثانية والأخيرة: هي المواعدة في الصرف والمواعدة بمفهومها التطبيقي في المصارف ليس المقصود فيها أن تكون بيعا وإنما هي اتفاق على تحديد سعر عملة في يوم محدد ولا يتم فيها تبادل البدلين – يعني ما تم شراؤه من الدولار مقابل الإسترليني أو العكس- إلا عند حلول الأجل ويتم التبادل في آن واحد، إنما عندما يتم التبادل في ذلك الوقت فإنه يكون بالسعر الذي اتفق عليه مقدما هذا السعر الذي قدم وكما أن هذا يجوز تحديدا كذلك من الممكن أن يجوز تطبيقا فلو أقدم البنك الإسلامي مثلا ويقول: أنت تحتاج للدولار وأنه ملتزم في أن يستورد في هذا الموعد ولا يريد أن يدفع الثمن الآن فإنه يستطيع أن يقرضه بلا فائدة بطبيعة الحال لأنه مصرف إسلامي ويكون عليه في الدفتر قيدان قيد أول هو مضمون بقيمة الريال القطري، وقيد قبال الدائن بقيمة الدولار الأمريكي بما يعادل يعني عشرة ملايين ريال قطري تقابلها ثلاثة ملايين ونصف دولار أمريكي، وعندما يأتي الموعد هو يدفع قيمة الريالات القطرية فلا يكون قد تحمل زيادة والبنك يحتفظ بحقه في الضمان لأنه يملك القيدين معا إنما تغيرت صورة الالتزام فكما أن هذا جائز تطبيقا كذلك يجوز للمواعدة في نظري حسب ما وصلت إليه في رسالتي للدكتوراه (المواعدة بالصرف) عند من يجيز المواعدة فيها أنه يجوز ابتداء تحديد السعر طالما ليس المقصود هو المضاربة والمقامرة إنما المقصود تنفيذ عملية اقتصادية حقيقية ولكن بصدق. والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ علي التسخيري:(8/1016)
بسم الله الرحمن الرحيم.
بعض ما أردت أن أقوله قاله أخي الأستاذ سامي فأنا أقدر للطرفين غيرتهما لكن هناك خلط كبير يقع على صرف العنوان مما دعا الإخوة الأستاذ الكبيسي وبعض الإخوة الآخرين للاعتراض في الموضوع الحقيقة نحن بحاجة إلى تصحيح أوضاعنا القائمة وبحاجة إلى تغيير أمورنا وأعطانا الصبغة الشرعية إن وافق الشرع رأيا قبلت المرونة الإسلامية مثل هذه الأنماط الجديدة في التعامل وهذا أمر قام به المجمع الكريم وقام به الأخوان الباحثان أيضا وأعتقد أننا لو جمعنا القرارات السابقة والقرارات التي سوف تصدر في هذا المجمع – إن شاء الله – في هذه الدورة، لتشكلت لدينا مجموعة شبه كاملة لسير سوق إسلامية مقبولة ولا أقول مثالية وحبذا لو سرنا وأكملنا وسددنا بعض نقاط الضعف في هذه السوق العنوان الآخر أيضا عنوان مطلوب فمسألة السوق الإسلامية المشتركة حققت الكثير من آمال أوروبا ولا ريب أن مجمعنا يجب أن ينتقل لحالة الانفعال وهو حالة لا بأس بها حالة طبيعية أن ينفعل المجمع فيحاول أن يجيب على المسائل التي نبتلى بها. إن الحالة الفاعلية أو الفعلية حينما يدخل في موضوعات تحقق للأمة أملها فلو أننا عقدنا ندوات ثم ناقشنا بعد ذلك قراراتنا هنا، ندوات في مسألة السوق الإسلامية المشتركة فهذه المسألة لها جوانب سياسية ويجب أن تتوافر الإدارة السياسية لدى قادة الدول الإسلامية في إيجاد مثل هذا الأمل وجانب آخر اقتصادي تخصص وجانب ثالث وهو جانب النمو وهو الفكر الأساس أو العمل الفاعل في الأمر وهو العمل الفقهي فلو أن هناك من استكتب أو استكتبت مجموعة في إعطاء الأسلوب العملي للاستفادة من الأحكام الإسلامية في إقامة السوق الإسلامية المشتركة لكان ذلك جديرا بالمجتمع ولكان المجمع فاعلا.(8/1017)
سيدي الرئيس أنتم أعلم مني في أن هناك أحكاما لو طبقت لوجدنا سوقا إسلامية مشتركة أفضل بكثير من السوق الأوربية مسألة ملكية الأمثال إذا جعلنا المعادن من الأمثال وعادت هذه الأمثال إلى الدولة الإسلامية نيابة عن الأمة الإسلامية فكل المعادن ستملك لكل الأمة مسألة ملكية الأراضي المفتوحة عنوة وبالمناسبة إيران أكثرها مفتوحة عنوة العراق مفتوحة عنوة هذه ملكية الأمة الإسلامية بالفعل ولكنها لا تورث كما هي الفتوى المشهورة إذن هناك مجالات كبيرة تنفع أصحابها أو هؤلاء أصحاب النظرية المثالية لسوق إسلامية مشتركة تدخل فيها كل الأموال التي هي ملك الأمة في حوض كبير لصالح مستقبل الأمة الاقتصادي أعتقد إذن أنه حبذا لو قامت لجنة التخطيط لمثل هذه النظرية نحن قد لا نبتلى بالفعل لكنه أمل مطلوب من جماهيرنا جميعا، ولذلك الدكتور الكبيسي تألم كثيرا عندما لم يجد أن ما تصوره يتضمنه المقال، المقال كان يشير إلى سوق مالية وإلى علاقات مالية قائمة في حين كان يطمح إلى سوق إسلامية مشتركة اقترح إذن أن تقوم لجنة التخطيط بوضع خطة للسوق مع الخبراء الاقتصاديين وعندنا أناس فاضلون يجمعون بين الخبرة والالتزام الإسلامي – للوصول إلى صيغة. هذه نقطة.
النقطة الثانية التي أردت أن أشير إليها هي: أن أشكر الأستاذ السالوس والأستاذ القره داغي عيل بحثيهما ولكني أشير إلى نقطة وهي أن هذين البحثين كانا يترددان أحيانا بين منهجين منهج لنقل الأقوال والاستناد إلى الأقوال الماضية وكل أصحابها محترمون لدينا ومنهج مراجعة الدليل القوي كما رأينا الدكتور القره داغي في عملية الاعتياض في صرف السلم كان يقول: أم دليل هؤلاء المانعين الاستناد إلى هذا الحديث أو الإجماع المنقول أو بيع ما ليس عنده وناقش الأدلة فرجح هنا نحن إما أن نرجح أو نجتهد وفي كلتا الحالتين نحتاج إلى معرفة الدليل حتى نستطيع أن نرجح وإلا فيم نرجح؟ نرجح بالكثرة- مثلا – لأن الأكثرية وقعت أو الأقلية؟! نرجعحلأن الدليل أقوى إذا ثبت لدينا بين قوة الدليل منهج الاستدلال في الترجيح أو في الاجتهاد منهج أراه جيدا وسليما، وأطلب من أخوتي أن يركزوا على هذا المنهج طبعا نقل الأقوال يعد صيانة ويعد دعما ضمانا للسير الصحيح في عملنا الاجتهادي وشكرا.(8/1018)
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
حديثي سيكون أساسا عن المواعدة في الصرف والتي وردت في بحث الدكتور السالوس ورد في هذا البحث تخطئة القائلين بالمواعدة في الصرف سواء أكانت على الإلزام على غير الإلزام ونسب الدكتور السالوس هذا القول إلى الجمهور واستدل بأدلة.
ملاحظتي هي عن الأدلة التي استدل بها لرأي الجمهور ذكر عددا من الأدلة ليس فيها ما يتعلق بالمواعدة في الصرف سوى دليلين عبارة ابن رشد الجد " والمواعدة في الصرف لا تجوز" وعبارة ابن حزم وقد قرأها عليكم أما باقي التي نقلها فليست في المواعدة على الصرف وإنما هي في الصرف على الذمة كما يعبر المالكية أو الصرف في الذمة كما يعبر الحنابلة وفي النص الذي نقله الدكتور السالوس عن الحنابلة هذه العبارة صريحة.
في المبحث الرابع: وقال ابن قدامة في المغني: " اصطرفا في الذمة نحو أن يقول بعتك دينارا مصريا بعشرة دراهم فيقول الآخر: قبلت فيصح البيع سواء كانت الدراهم والدنانير عندهم أو لم يكونا" فهذا عقد لصرف وليس مواعدة والعبارة واضحة وكل العبارات التي نقلها في هذا صريحة في أننا أمام عقد صرف وليس أمام مواعدة والنتيجة التي توصل إليها من هذه النقول هي جواز هذا العقد عند الجمهور خلافا للإمام مالك فهو يؤدي إلى عكس ما أراده الدكتور السالوس لو أخذنا بأن هذه النصوص في المواعدة على الصرف والواقع أن المواعدة في الصرف أو على الصرف ليس للجمهور فيها رأي، فعلى قدر ما بحثت في هذا الموضوع لم أجد نصا للحنفية ولا للشافعية ولا للحنابلة الذين تكلموا صراحة في المواعدة في الصرف من الأئمة الأربعة هم المالكية ورد هذا في المدونة، وورد هذا عند كل شراح الحديث كشراح متن خليل العبارة التي وردت في متن خليل:" وحفظ في نقد وطعام بلا فضل ونساء ومؤخر ولو قليل أو غلبة أو عقد ووكل في القبض أو غاب نقد أحدهما وطال أو نقداهما" وهذه هي الصرف على الذمة غاب نقد إحدهما أو غاب نقداهما المالكية لا يجزون هذا ولو حصل العقد يعني العقد حصل قال له: صارفتك كذا بكذا وقبل الآخر وليس عند أحدهما نقد ثم التفت أحدهما إلى جاره وقال له: أقرضني درهما والتفت الآخر إلى جاره وقال له: أقرضني كذا دينار ودفعها حصل التقاضي وهما في المجلس الجمهور يجيز هذا بينما الإمام مالك لا يجيزه والذي هو الصرف على الذمة أو الصرف في الذمة وهو غير صرف ما في الذمة ورد في الحديث صرف ما في الذمة هو في دين ثابت على شخص حيث حل الأجل وليس عنده فقال لدائنه أعطيك دولارات مكان الريالات هذا جائز عند الجميع وكلاهما غير المواعدة على الصرف المواعدة عيل الصرف كما قلت لكم هي التي وردت في هذه العبارة أو غاب نقد أحدهما وطال أو نقداهما أو بمواعدة فخليل ناص على الحالتين: حالة الصرف على الذمة وحالة المواعدة وأسهب الشراح في هذا أقول لكم عبارة واحدة للحطاب: " وحرم صرف بمواعدة " وهذا القول شهره ابن الحاجب وابن عبد السلام وقال ابن رشد هو ظاهر المدونة وشهر البعض بالكراهة ونسبه اللخمي لمالك وابن القاسم وصدر به في المقدمات ونسبه لابن القيم ونصه: وأما المواعدة فتكره فإن وقع مرة الصرف بينهما على المواعدة لم يفسخ الصرف عند ابن القاسم وقال أصبغ يفسخ فلعل قول ابن القاسم إذا لم يتراوضا على السوم وإنما قال له اذهب معي أصرف منك وقول أصبغ: إذا تراوضا على السوم فقال: اذهب معي أصرف منك ذهبك بكذا وكذا وهذه هي النقطة التي أريد أن أصل إليها والتي استنتجت منها أن المواعدة على الصرف عند المالكية إذا كانت – والأصل فيها على الإلزام – بصيغة تدل على الإلزام بأن تم الاتفاق على البدلين هكذا تكون ملزمة ولذلك منعت أما إذا قال له اذهب معي إلى السوق أصارفك هذه تجوز لأنه تجوز لأنه ليس هناك إلزام في هذه الحالة والذي خرجت منه من هذا أن المواعدة في الصرف أو على الصرف إذا لم تكن على الإلزام فهي جائزة أما إذا كانت على الإلزام فإنها لا يجوز لأنها تكون في حكم العقد ويكون في هذه الحالة قد تأجل البدلان وليس البدل الواحد هذا ما أرادت أن أقوله بالنسبة للمواعدة.
كلمة قصيرة قالها الأخ رضا وإن كان وافقني في بعض كلامه تتعلق بالسلم واعترض بها على عبارة الدكتور السالوس حيث قال: السلم يشترط المثمن فيه أن يكون محققا وجوده أو قريبا من المحقق وقال: إن رأي الحنفية أن السلم يجب أن يكون موجودا من وقت العقد إلى وقت التسليم وهذا صحيح بالنسبة لمذهب الحنفية لكن ما كتبه الدكتور السالوس صحيح أيضا وهو رأي الجمهور، الحنفية يرون أن السلم من بيع ما ليس عند الإنسان وليس للبيع المعدوم ولذلك اشترطوا الوجود، غير الحنفية يرون أنه من بيع المعدوم ولذلك لا يشترطون وجوده وقت العقد إنما يشترطون أن يكون غالب الوجود عند رحيله أي عند حلول الأجل وشكرا.(8/1019)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
شكري وتقديري الاتمان الأكملان للباحثين الكريمين واللذين أعتبرهما ركنين من أركان هذا المجمع الفقهي لما جمعاه من تحقيق وعمق وحسن البيان وما كتباه هو يحقق ما جاء في العنوان الخامس أو الموضوع الخامس الذي عرضته الأمانة العامة على الاستكتاب وإن العنوان هو في يومنا هذا كأمسنا ربما يلفت النظر إلى بعض أجزائه فيصرف الناظر عن التأمل الكامل والاقتصار على جزء من العنوان، العنوان هو " تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية " هذا هو العنوان فهو تطبيقات وشأن استعمال " تطبيقات" أن يفيد التقييد فهو بعض تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية فما كتباه في الموضوع وينسى أصل الموضوع هو السوق الإسلامية المشتركة هكذا، ثم إن هذا العنوان فصل فيما بعد المذهب التطبيقي للاستفادة من العقود الخاصة والسلم الاستصناع ونحوها، ومن الوعد بالبيع والصرف في إقامة السوق الإسلامية للسلع والعملات مع الاحترام لطريقة التعامل الشرعي والالتزام بها إذن هذا هو الموضوع الذي سندرسه، وقد تكون آمالنا معلقة بموضوع آخر لكن الموضوع الآخر هو ليس محل دراسة وقد يكون محل اقتراح أو يكون جلسة من جلستنا القادمة ولذلك أعتقد أن ما جاء من الكاتبين الكريمين من بحوث وفي الموضوع هو واف هذا من الناحية الشكلية أولا.(8/1020)
الناحية الثانية: أو الموضوع الثاني هو ما تفضل وسبقني به فضيلة الدكتور الصديق الضرير مما جاء في البحث حيث اشترط الدكتور علي السالوس في بحثه وقال: ولذا قبل أن نشتري سلما لا بد من التأكد من أن البائع ليس مضاربا أو مقامرا وإنما ممن يتوقع وجود السلعة المبيعة في ملكه عند حلول الأجل الشرط بهذا الشكل أو بهذه الطريقة هو ما أعتقده مجمعا عليه لأن من شروط السلف من مذهب المالكية أن يكون موجودا عند الأجل
وشرط ما يسلم فيه أمرا
متصفا مؤجلا مقدرا
من كيل أو درع أو عدد
مما يصاب غالبا عند الأمد
فوجوده عند الأمد عند إتمام العقد والتسليم فجعله على أن هذا شرط عام ومتفق عليه هو أعتقد أنه لا بد من أن يحرر تحريرا أكثر.
الناحية الثالثة: هو أن التطبيقات الشرعية التي وردت في بحث الدكتور القره داغي، أنا عاجز عن مناقشة ما جاء فيها أو عن الالتزام بها لأن ما جاء فيها من العمق ومن البحث ومن المناقشة ومن حديثه حديثا برقيا عما كتبه لأنه لا يسمح له الزمن بذلك يجعلنا لا نستطيع أن نؤكد ما ذهب إليه وما وصل إليه ولا أن نرفضه، ولذا أعتقد أن هذه النواحي التي جاءت في هذه التطبيقات الشرعية لعمقها ولما جاء فيها من نقاش استمعنا إليه كما قلت برقيا يجعلني عاجزا عن الموافقة عليها أو مخالفتها، أو اعتمادها في المجمع أو أن يكون المجمع يصدر فيها قرارا بكامل الوضوح.
الأمر الرابع: هو رجاء للرئاسة وللأمانة العامة أن تحذف كلمة من محضر الجلسة التي هي عادة تنشر كما هي وردت آخر كلمة لأنه ليس من العادة ومن الشأن بعد كلام الرئيس أن يأخذ أحد الكلام لكن وقعت في الأمس مخالفة هذه القاعدة جاء في هذه الكلمة " تأنيب مالك من علماء عصره" كلمة " تأنيب " أرجو ألا توجد في محضر جلساتنا وأن تحذف.
وشكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/1021)
الشيخ تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
الواقع أنه لا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر والتقدير للباحثين الجليلين اللذين قدما في هذه الجلسة أبحاثهما وهما قيمان وفي غاية العمق والتوسع ومع تقديري لهذين البحثين فإني أريد أن أذكر نقطة أساسية في هذا الموضوع وأشير إلى بعض الجزئيات التي ذكرت في هذين البحثين.
أما النقطة الأساسية فهي أننا لا شك بحاجة شديدة إلى إقامة سوق مالية إسلامية ولنحذف كلمة (المشتركة) لأنها قد أحدثت بعض اللبس المقصود في هذا المجمع هو التحدث عن السوق المالية الإسلامية والتي تسمى في بعض الأحيان " السوق الثانوية "
وإن من ضروريات هذا العصر أن تكون عند الأمة المسلمة أدوات مالية تتداول في مثل هذه السوق ولكن في الوقت نفسه حينما نؤكد حاجة مثل هذه السوق لا نريد أبدا أن نبرر كل ما يجري في الأسواق المالية العالمية أو الغربية ولا أن نأتي ببدائل لكل ما يتعامل به في هذه الأسواق بجميع عجرها وبجرها، وإنما المقصود أن نقيم سوقا إسلامية تقوم على قواعد الشريعة الإسلامية فإذا كانت هناك أدوات مالية مقبولة شرعا لا شك في قبولها وحسنها من الناحية الشرعية فأهلا وسهلا أما إذا لم تكن هناك أدوات فلا ينبغي لنا أن نحتال أو نلتمس المخارج لكل ما يجري في مثل هذه البورصات أو مثل الأسواق المالية.
وانطلاقا من هذا المبدأ أرى أن المقترحات التي قدمت في هذين البحثين مقترحات صكوك المقارضة هذا مقترح مقبول وقد أقره مجمع الفقه الإسلامي سابقا وكذلك تداول الأسهم مقترح مقبول ولا مانع منه شرعا وكذلك إذا أنشئت أدوات المشاركة أو الإجارة فهذه أدوات مقبولة شرعا وقد تقرر عليه رأي جمهور علماء الأمة في عصرنا هذا.(8/1022)
ولكن جاء فضيلة الدكتور علي السالوس - حفظه الله – وأخونا الأستاذ علي محي الدين القره داغي –حفظه الله – كلاهما جاء بمقترحين جديدين وهما السلم والاستصناع. ولي وقفة طويلة نحو اتخاذ هذين الأساسين لإصدار أدوات مالية في السوق الإسلامية. أما السلم فلا يمكن اتخاذ السلم كأداة مالية إلا إذا أقررنا أن عقد السلم يقع فيه التبادل. وقد ذهب أخونا الشيخ علي القره داغي أو على الأقل مال إلى أن بيع المسلم فيه قبل أوان الأجل ينبغي أن يجوز، وهذا خلاف ما قرره جمهور الفقهاء، وأخشى أننا لو التمسنا الحيل أو المخارج لمثل هذا السلم ولتداول هذا السلم لم يكن هناك فرق بين ما يجري الآن في الأسواق المالية من المستقبليات في السلع فإنه تجري على سلعة واحدة ألف بيعة إلى أوان محله، فلو قلنا: إن بيع المسلم فيه يجوز قبل أوان محله فإنه ينتج نفس الشيء الذي نجده في تلك الأسواق، ولا شك أن ما يجري هناك لا يعدو من أن يكون مضاربة أو مقامرة وهي من النتائج السيئة في هذا النظام الرأسمالي الذي ورثناه في القرون الماضيه، ولهذا أخالف الأستاذ علي محي الدين في إجازة بيع المسلم فيه قبل أن يحل أجله،
وقد جاء فضيلة الدكتور علي السالوس بمقترح آخر وهو أن يكون هناك سلم متواز مثلا، رد السلم بعد عقد السلم الأول يعقد السلم مع رجل ثالث، ثم اقترح أيضا أن تكون هناك حوالة للسلم الثاني إلى السلم الاول. فهذا هو الذي أعتقد أنه يسبب نفس المشاكل التي نراها في السوق المالية اليوم، وبالرغم من أن فضيلة الدكتور علي السالوس ذكر في بحثه أنه يجب في هذه الصورة أن يكون البائع والمشتري كلاهما مجدين في بيعهما ولا يكون من غرضهما المخاطرة والمقامرة، ولكن حينما أجزنا هذه الكلمة التي ذكرنها الأخ علي السالوس – حفظه الله – من أن تكون لا أثر لها في الحياة العملية. فالذي أريده أن هناك شيئا ذكره بعض الفقهاء وهو الحوالة في السلم، هل تجوز أم لا تجوز؟
هناك خلاف ولكنهم لم يتصوروا أن هذه الحوالة تقع في مثل هذه السوق وتستباح به عمليات المستقبليات في السلع التي لا تعدو أن تكون مضاربة ومخاطرة. فالذي أراه أننا يجب أن نحترز من مثل هذه المقترحات بألا تؤدي إلى المحاذير التي نراها في هذه الأسواق.
وقد ذكر أخونا الدكتور علي محي الدين القره داغي – حفظه الله – أيضا " صكوك المرابحة " ولم يصف هذا الموضوع في بحثه ولكنني لم أستطع أن أفهم كيف يمكن أن تصاغ للمرابحة صكوك؟ لأنه إذا تمت المرابحة فحينئذ البائع خرجت السلعة من ملكه ولم يكن يستحق إلا مبلغ السلم، فإذا أحدثنا صكوك المرابحة فإن هذه الصكوك لا تمثل إلا مبلغا من الثمن، فكيف تتداول في السوق الثانية؟ فإنها تؤدي إلى الربا وتؤدي إلى الفائدة، يعني لا تعدو من أن تكون سندات ربوية.(8/1023)
فما فهمت ماذا يريد من صكوك المرابحة؟ ربما يفهم من كلامه أن المؤسسات التي تتعامل بالمرابحة هي توزع أسهمها وتصدر أسهما وهي التي تتداول.
فهنا لا نستطيع أن نقول: صكوك المرابحة، وإنما هي أسهم تلك الشركة أو أسهم تلك المؤسسة المالية وليست صكوك المرابحة. فينبغي أن يجتنبها؛ لأن هذا الموضوع – صكوك المرابحة – أصبح كثير من الناس ينادون بها ويقولون يجب أن تحذف المرابحة بالصكوك ولا تعدو أن تكون سندات ربوية هذا ما رأيته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الشيخ إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
السيد رئيس المجمع الموقر، يسعدني أن أشكر سماحة الأمين العام لمجمعنا الموقر على دعوته لي للمشاركة في هذه الندوة المباركة، وأعتذر في التأخير عن الحضور غير المتعمد لأسباب لها علاقة بعملي في الجامعة ولصعوبة الحصول على الحجز المبكر ليتسنى لي المشاركة في أيام المؤتمر الأولى.(8/1024)
فضيلة الرئيس، ما جاء من خلاف بين الباحثين الجليلين حول جواز التصرف في المسلم فيه في البيع، الحقيقة هناك ملاحظات عامة قبل أن أتطرق إلى هذه المسألة، ينبغي أن نلاحظ:
أولا: أنه لا يجوز لنا أن نطوع شريعتنا الغراء لمفاهيم غربية ونظم غير إسلامية إرضاء لأصحاب رؤوس الأموال.
ثانيا: أنه من الممكن أن نجد في فقهنا الإسلامي ما يفي بالغرض، فهناك العقود المالية التي تكلم عنها الفقهاء – رحمهم الله تعالى – من مشاركة ومضاربة واستصناع..، من الممكن أن نجعل منها صكوكا تكون أساسا للسوق الإسلامية المشتركة، ومن الممكن أن تؤلف لجان من المجمع الموقر لتتولى صياغة هذه العقود على شكل صكوك بصورتها الشرعية على غرار صكوك المضاربة التي أقرها مجمعنا الموقر، وأن نستفيد من الأبحاث التي ألفت بهذا الخصوص وما قدمه الباحثان الجليلان.
ثالثا: لا أرى مبررا لإثارة الشكوك حول ما اتخذه المجمع من قرارات سابقة فإنها صادرة – والحمد لله – عن قرار علمي صائب سواء منها ما تعلق بالوعد أو ببيع المبيع قبل قبضه أو ما أشبه ذلك.
رابعا: ما جرى من خلاف بين الباحثين الجليلين حول جواز التصرف في المسلم فيه في البيع فإني أميل إلى الرأي القائل بعدم جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه، لأنه من المعلوم لدى الجميع أن عقد السلم من العقود التي وردت على خلاف القياس، أي أنه لا يجوز أيضا لأنه يؤدي إلى بيع الدين بالدين وهو غير جائز.
كما أنني أتطلع كما تتطلع الشعوب العربية والإسلامية إلى إقامة مثل هذه الأسواق التي تكون في منأى عن الكسب الحرام، وأنها داعية لإظهار اقتصادنا الإسلامي بشكل مستقل بعيدا عن الاقتصاد الغربي أو الشرقي. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وشكرا.(8/1025)
الشيخ عبد اللطيف الفوفور:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا سماحة الرئيس. ومع كل التقدير والاحترام للجهود المبذولة من الباحثين المعاصرين والأبحاث المقدمة وتعقيبات الإخوة الزملاء والبحثين المقدمين إلى هذا المجمع الموقر فإنني أرى كي لا نستغفل أن السوق الإسلامية الواحدة ولو أنها كانت درجة في سلم الصعود نحو توحيد العالم الإسلامي – إن شاء الله – بيد أن هناك ضوابط ينبغي أن تضبط بها، وذلك في بندين اثنين أسلط الأضواء عليهما:
البند الأول: الموجود حاليا ليس سوقا إسلاميا أو إسلامية، بل هي ترقيع لنظام رأسمالي معمول به حاليا أو ما يسمى بـ (سياسة السوق) ، سواء أعرفنا ذلك أم لم نعرف، وسواء أقصدنا إلى ذلك أم لم نقصد، والأكثر أننا لا نقصد، وهذا لا يفيدنا في شيء بل يضرنا من حيث نريد النفع والخير، بل لعله أو يكاد يكرس الواقع الحياتي الراهن، وذلك أمر خطير جدا ينبغي أن نتوقف عنده مليا، وما ذكره إخوتي وزملائي الباحثون الفضلاء والمعقبون من قضية السلم وما ذكره القاضي العثماني أيضا، وما ذكره – أيضا – الأستاذ الذي قبلي الدكتور فاضل، يؤيد ذلك وأرجو أن يضم هذا إلى ذاك.
البند الثاني: المطلوب نظرية متكاملة في السوق الإسلامية تجمع المفرقات فتصوغها في بوتقة واحدة في شجرة متكاملة في أغصانها وجذعها وثمارها ويكون ذلك في اتجاهين اثنين يكمل أحدهما الآخر.
الاتجاه الأول: وهو اتجاه قاصر فيكون فى ظل الوضع الراهن للعالم الإسلامي حين يكون الإسلام مشاركا فى القرار لأصحاب القرار. ينبغي ألا يكرس الواقع الحياتي الراهن بل يجب أن يخرج المجمع الموقر بعلمائه الأفاضل الذين تجشموا عناء السفر فجاؤوا إلى هذا البلد الطيب بنية حسنة، وقصد طيب جميعا بلا استثناء، اليوم ينبغي أن يخرجوا بنظرية جديدة في كليتها بقدر الوسع والطاقة وبقدر ما تسمح به الظروف الراهنة، تقوم على نقد الواقع الراهن نقدا علميا بناء.(8/1026)
الاتجاه الثاني: وهو الكامل فذلك في ظل الوضع الذي يكون فيه الإسلام صاحب القرار، وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، فتصاغ هذه النظرية صياغة جديدة كاملة شاملة على الظروف التي ستكون آنئذ – إن شاء الله تعالى – في ظل دور الإسلام صاحب القرار.
أما اليوم فهل يجوز أن يستغفل بعض علماء المسلمين بحسن نية وصدق طوية وطيب سريرة فيلجأ إلى أضيق المضائق وأقل المزالق فيرتفع نظاما رأسماليا فاسدا بأشياء من هذ الإسلام العظيم، جزئيات بسيطة تصاغ من هنا وهناك ليرقع بها لا لتثبت نظرية جديدة؟!
أيها الإخوة، إنني أدق ناقوس الخطر ثم أقول:ينبغي أن نتوقف مليا وأن ندرس الأمر دراسة متأنية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور: علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
أشكر الأساتذة الأجلاء الذين شاركوا في هذه المدخلات وأثروا هذه البحوث بمناقشاتهم الطيبة – فجزاهم الله خيرا – سواء أكانوا موافقين أم معارضين، ولي في الحقيقة بعض الملاحظات البسيطة على ما عرض بخصوص الحمل على قضية العنوان فالعنوان أضيفت إليه كلمة المشتركة هنا، حتى ليس في العنوان الذي أرسل إلينا، وبعد ذلك المجمع الموقر ليس هذه أول مرة يبحث فيها قضية السوق إنما سبق للمجمع الموقر عدة جلسات وندوات بحث فيها الأسواق المالية بالتفصيل، فأراد المجمع الموقر أن يستكمل هذه البحوث السابقة بقضايا الأدوات، وأنا سرت – كما قال أخي الكريم الدكتور سامي – على هذا المنهج حيث ذكرت الأدوات كاملة من حيث الأسهم والسندات والبدائل الإسلامية ثم كيفية الاستفادة من العقود التي تجري داخل السوق الإسلامية.
بخصوص ما أثير حول بعض القضايا ولا سيما أن بعض الإخوة قالوا – ولم يؤيدوني وخالفوني-: نخالف صاحب البحث في عدم جواز بيع السلم قبل القبض باعتبار أن السلم على خلاف القياس. هذه المسألة قد فرغنا منها سابقًا وأن كثيرًا من المحققين ليس فقط ابن تيمية – رحمه الله – وابن القيم وإنما غيرهما سبقوا إلى ذلك بأنه لا يمكن اعتبار السلم على خلاف القياس، والحديث الثابت في السلم أقوى من حديث النهي عن بيع المعدوم: " لا تبع ما ليس عندك" هذا الحديث لم يروه البخاري ولا مسلم، لكن حديث السلم أقوى سندًا وأكثر رواية وعددًا، وطالما أنه ثبت بالسنة لا يعتبر هذا خلافًا للقياس وقد أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. كذلك على (بيع الدين بالدين) أنا قلت: إن بيع الدين بالدين ليس على إطلاقه بالإجماع، وهذه الكلمة لم يقل بها أحد من العلماء بإطلاقه، وإنما كل عالم قد خصصه بنوع من التخصيص، حتى الشافعية، وبعض الإخوة أسندوا إلى الشافعية- وأنا في الحقيقة حفظت المذهب الشافعي منذ الصغر- وقالوا بجواز بيع بعض الأمور وذكرت بعضها، وذكرت في بحث آخر حوالي ثلاثة عشر موضعًا قال فيها الشافعية في هذه المسألة. عمومًا فقضية (بيع الدين بالدين) ليس على إطلاقه، وإنما هو بيع الدين النسيء بالنسيء، وأنا حينما أقول بيع السلم بضوابط، أنه فرق بين المستسلف وغير المستسلف، فرق بين الطعام وغير الطعام كما ذكرت في بحثي.(8/1027)
مسألة أخرى أثارها بعض الإخوة الكرام وهي قضية أننا – لا سمح الله- نستغفل أو أننا يعني نرقع، هذا كلام من المفروض ألا يرد أمام المجمع الموقر، هؤلاء العلماء الكبار وهذا المجمع الموقر، لا يمكن - إن شاء الله - أن يستغفلوا إلى مثل هذه القضايا، فيقيننا وليس ظننا بهم وبالمجمع الموقر أكبر من هذه القضية، أم لأنه ما دام الغرب صنع البورصة، خلاص نقول: هذا حرام؟ ليس هذا منهج السلف الصالح أبدًا، ولا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم حينما جاء إلى المدينة المنورة وكان السلم وكان الناس يتبايعون به أقره ولكن وضع ضوابط، كان الناس يستسلفون فأقر النبي صلى الله عليه وسلم السلم وأقر البيع وأقر كثيرًا من الأعراف السابقة، ولكن وضع لها ضوابطها الشرعية التي تتفق مع الإسلام ومع عقيدة الإسلام. كذلك سيدنا عمر وسيدنا أبو بكر وسيدنا عثمان وسيدنا علي - رضي الله عنهم – أقروا كثيرا من الأنظمة التي كانت موجودة عند الفرس وعند الرومان (نظام الديوان، قضايا تنظيم الخراج) كثير منها أبقيت ولكنها أدخل فيها قضايا العدل التي تتفق مع الإسلام، يمكن أفراد عاديون جالسون في بيوتهم أو في بيوت زجاجية يقولون هذا الكلام، أما العلماء الذين يعايشون العصر وهو من شرط الاجتهاد كما قال السيوطي وغيره: من شرط الاجتهاد أن يكون الإنسان يعيش عصره عالمًا بعصره يعرف ماذا يدور، فلا ينبغي أن نقول: نحن نستغفل وأن هذا السوق الإسلامي لا ينبغي أن نتكلم فيه، يا أخي هذه السوق الإسلامية نحن ندرسها، وما يتفق مع الفطرة والإسلام نقره وما هو معارض نحن أولى بمعارضته بإذن الله تعالى. فالكلمة هذه في الحقيقة أردت أن أذكرها.(8/1028)
قضية البدائل الإسلامية. ذكرت في الحقيقة بدائل كثيرة جدًّا واستفدت من الدراسات السابقة من كلها أو أغلبها وقمت بعملية الاستقصاء نوعًا ما في كل الدراسات السابقة حول البدائل الإسلامية التي قام بها الإخوة الكرام من الدكتور سامي إلى غيره إلى المجمع الموقر إلى غير ذلك وذكرتها في الجزء الثاني أو المبحث الثاني وهو أنواع الصكوك وفصلت فيها، أما ما أثاره فضيلة شيخنا الكريم الدكتور تقي العثماني بخصوص صكوك المرابحة فأنا لا أقصد بالصكوك أن يكون كل صك يتوفر فيه عملية المداولة وعملية البيع والشراء كما هو جار في السندات إنما وضعنا ضوابط لو وضعنا فرضًا صكوكًا من المرابحة يكون القصد به أن الشركة التي ترابح تصدر الصكوك بدل ما تدفع أنت مثلًا خمسة آلاف يمكن أن تدفع مائة دينار أو مائة دولار من خلال الصك وتقوم الشركة بالاستثمار وغير ذلك، ووضعت بعض الضوابط وليس المقصود بالصك أن تتوفر في كل صك جميع جوانب قضايا التبادل أو المبادلة. يمكن بعض الصكوك أن يتوفر فيها هذه السعة لكن بعض الصكوك يمكن أن تقيد ببعض القيود.
أشار بعض الإخوة إلى مسألة الوعد. أنا لا أناقش قضية الوعد، ولو ما كان الأستاذ الدكتور علي السالوس أثار القضية وكذلك قضية الاستصناع، ما كنت أشرت إليها حتى في عرضي، لأنه نوقشت هذه القضية، ولكن هذا رأينا وأنا أعتقد لا أحاصر على رأي، أبدا أنا رأيي أن الوعد ملزم وأن المواعدة ملزمة في غير الصرف.
أخونا الكريم الأستاذ الدكتور سامي - جزاه الله خيرا – وضح لنا المراد بالسوق الإسلامية وما قاله فيه كفاية. أما ما قاله شيخنا الجليل فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي أنه نحن أمام بحث كذا وكذا – جزاه الله خيرا – لا يستطيع أن يعتمده.
المفروض – حقيقة – أن هذه البحوث تقدم إلى أعضاء المجمع وإلى أعضاء المجمع وإلى الخبراء والمفروض أن يبحثوا ونحن حقيقة واثقون من أن البحوث التي نكتبها وتعرض على المجمع الموقر، والله يشهد بأنني أسعد بأي بحث يقدم لهذا المجمع لأن في ذلك تقييما لهذا البحث وأنتم مسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى، أنا إذا لم أقرأ البحث الذي قدم للمجمع أعتبر نفسي مقصرا لأن السكوت في هذا المجال بمثابة الإقرار، ولذلك مولانا الشيخ قال: إنه ليس هذا يعتمد فصرح بعدم إقراره فجزاه الله خيرا عن ما قاله، هذا ما أردت أن أقوله، وجزاكم الله خيرا.(8/1029)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
شكرا لأخي الكريم علي القره داغي لشكره وعرضه ورده، وشكرا للإخوة جميعا الذين اشتركوا في إثراء هذا الموضوع. ولكن – حقيقة – ما كنت أحب أن نقع في هذا الخلط الذي وقع فيه بعض الإخوة، لأنه كما وضح فضيلة الشيخ السلامي أن موضوع تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية، والتطبيقات الشرعية المراد بها – وأنا بينت هذا في المقدمة قبل أن أبدأ البحث – المنهج التطبيقي للاستفادة من العقود الخاصة كالسلم والاستصناع ونحوها ومن الوعد بالبيع والصرف في إقامة السوق الإسلامية للسلع والعملات، هذا هو المطلوب منا والتزمت به، ولذلك بحث الدكتور علي القره داغي عندما تحدث عن الأسهم والسندات ثم جاء بعد هذا بالتطبيقات في مبحثه الثالث قلت له: في العرض لا أتحدث عن الأسهم والسندات لأنه ليس المطلوب منا الأوراق المالية وأن هذا ليس موضوع البحث وإنما كيف نستفيد من السلم؟ كيف نستفيد من الاستصناع؟ وهكذا. الاستفادة العملية التطبيقية، ولذلك في العرض لم أتحدث عن الأسهم والسندات.
كلمة (السوق المشتركة) قلنا: إنها غير موجودة في العنوان أصلا، انتقال العمالة وما يتصل بالسوق الإسلامية المشتركة هذا لم يكن مطلوبا منا.
مسألة الحنيفة يشترطون الوجود، فضيلة الشيخ الصديق رد.
بالنسبة للوعد، مسألة أن الجمهور ليس لهم رأي في الوعد لا بد أن نبحث الرأي، نقول: هذا بالنسبة للصرف في الذمة وأن هذا عقد، كيف أنه ليس لهم رأي؟ ما نقل هنا؛ المالكية صرحوا – كما تفضل فضيلة الشيخ الصديق الضرير – بعدم جواز هذا الوعد مطلقا، والآخرون أخذنا من كلامهم مجرد أخذ من كلامهم؛ يعني أنه لا بد من التقابض في المجلس، ما لم يتم تقابض في المجلس فلا يجوز، ولكن هل هناك في كتب المذاهب من نص على جواز المواعدة في الصرف على أن تكون غير لازمة؟
الأمر الآخر: إن هذا لا أثر له في الجانب العملي التطبيقي لأن الجانب العملي التطبيقي الوعد في عصرنا عقد ولا يوجد إطلاقا بين المتعاملين في الأسواق المالية وعد غير ملزم، لا يوجد إطلاقا، الوعود كلها ملزمة، فإذا قلنا بأن الوعود كلها ملزمة إذن على رأي الجميع – وأظنهم أهل الظاهر – هذا غير جائز. ما نسب للإمام الشافعي بينت بطلانه، إذن لا يجوز إطلاقا أن نجيز المواعدة في الصرف؛ لأن المواعدة في عصرنا هي نوع من العقد.
بالنسبة للأخ الكريم الذي قال: خلطت الأوراق، وقلنا: أهل الظاهر قالوا بجواز الوعد من غير الملزم، والجمهور لم يقولوا بجواز الوعد سواء أكان ملزما أم غير ملزم. ليس معناه أن أهل الظاهر، يعني كأنه فهم من كلامي أن أهل الظاهر يقولون بجواز الوعد إذا كان غير ملزم خلافا للجمهور أي أن الجمهور يقولون بجواز الوعد وإن كان ملزما، هذا لا يتبادر إلى الذهن إطلاقا يعني كلام الجمهور واضح، الخلاف الموجود بين مالك والأئمة الثلاثة، فهي تخص النقدين فقط ولكن الأوراق النقدية الآن بحكم قرار المجامع كلها أصبحت تأخذ حكم النقدين، فهو خلاف موجود.(8/1030)
إذا باع آجلا فكيف يبيع سلما؟ نحن نتحدث عن التطبيق العملي، شخص باع بيعا آجلا والثمن في ذمة المشتري والأجل بعد عام – مثلا – هذا البائع بعد أشهر احتاج إلى الثمن، قلنا: هنا يمكن أن يبيع سلما بحيث يستطيع – كعقد منفصل – أن يأخذ الثمن الآن إلى أن يتصرف بعد ذلك فيعد المبيع وليس أنه يبيع ما باع.
المواعدة في الصرف – كما قلنا – في عصرنا عقد لازم غير جائز بالنسبة لجميع الأئمة.
ما ذكر في نهاية المبحث الأول من مسألة المقامرة وأن هذا ليس بشرط عام متفق عليه، أنا ما جعلته شرطا وإنما هنا توصية بأننا نلاحظ عند هذا التعامل ألا نتعامل مع مقامرين. لا أظن أن أحدا يقول بأنه يجوز أن نتعامل مع مقامرين. ما دام أنه مقامرة فلا يسلم المبيع، فما الحل إذن؟ يعني إذا كان في السلم الأصل تسليم المبيع، وإن لم يسلم المبيع وفسخ العقد يرد الثمن، فإذا كنت سأشتري سلما وأدفع الآن وأتسلم المبيع بعد سنة، وأنا أعلم أنه مقامر ولن يسلم المبيع، معناه أنني سأسترد الثمن كما هو بعد سنة فكيف أدخل في مثل هذه العملية؟ لا أدري. السلم لا يمكن أن يكون أداة مالية، لم أتحدث عن الأدوات المالية بل بالعكس تحدثت عن صكوك السلم وبينت عدم جوازها، السلم المتوازي يحل المشكلة.
بالنسبة للحوالة؛ بينت الحوالة بدين السلم وأن هذا رأي الجمهور، والحوالة على دين السلم وأن هذا رأي للشافعية وأيده الشوكاني وهو خلاف ما عليه الجمهور. ولم أؤيد الحوالة على دين السلم ولكن قلت: إذا رأى المجمع الموقر أن يجيز الحوالة على دين السلم فأرجو أن يلاحظ ما يأتي، ووضعت عدة ضوابط.
على كل حال أشكر الإخوة جميعا، ولعل السوق الإسلامية المشتركة نسأل الله تعالى أن تظهر في واقعنا بإذن الله تعالى، وشكرا لكم، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/1031)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
لعلكم ترون مناسبا أن تتألف اللجنة لهذا الموضوع من العارض والمقرر ومن الشيخ الصديق والشيخ تقي العثماني والشيخ عبد الوهاب أبو سليمان والأستاذ سامي حمود.
ونرجو أن تأخذ اللجنة باعتبارها ما يلي:
أولا: إن هذا الموضوع امتداد للقرار الحادي والستين من قرارات المجمع والذي جاء فيه: "ويوصي المجمع باستكمال النظر في الأدوات والصيغ المستخدمة في الأسواق المالية بكتابة الدراسات والأبحاث الفقهية والاقتصادية الكافية".
ثانيا: إن هناك مجموعة من هذه الأدوات سبق وأن بت فيها المجمع وينبغي للجنة أن تحيل على ما سبق البت فيه، وهو الاستصناع والمواعدة والحطيطة والأسهم والسندات والقبض وغيرها.
ثالثا: هناك مجموعة من الأودات عرضها الباحثان ولم تتعرض لها المناقشة بقليل ولا بكثير كبيع الدين بالدين، والحوالة بدين السلم والحوالة عليه، وهناك موضوعان جاء فيهما نقاش اثنين أو ثلاثة من أصحاب الفضيلة المشائخ، وهي بيع المسلم فيه قبل حلول الأجل أو قبل القبض، والموضوع الثاني: هو الصرف المبني على المواعدة الملزمة أو غير الملزمة، ولكن لم تأخذ حظها في المداولة بين جميع أصحاب الفضيلة الأعضاء، ولهذا نرجو من اللجنة أن تأخذ في الاعتبار ألا تكون الإحالة في قرارها على الأدوات كما كانت الإحالة مجملة في القرار الحادي والستين، بل على أن تفصل هذه الأدوات وتبين، ويبين الوعاء الكامل للسوق المالية وتعطى هذه الأدوات الأولوية في البحث في جلسات قادمة. وسيعرض نتيجة القرار المعد عليكم – إن شاء الله تعالى – وبهذا تنتهي الجلسة.(8/1032)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا
محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 78 / 5 / د8
بشأن
تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 / 27 يونيه 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع:" تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية " التي كانت استكمالا لموضوعات الأسواق المالية والأوراق المالية الإسلامية التي سبق بحثها في الدورات السابقة ولاسيما في دورة مؤتمره السابع بجدة وفي الندوات التي أقامها لهذا الغرض للوصول إلى مجموعة مناسبة من الأدوات المشروعة لسوق المال حيث أنها الوعاء الذي يستوعب السيولة المتوافرة في البلاد الإسلامية ويحقق الأهداف التنموية والتكافل والتوازن والتكامل للدول الإسلامية.(8/1033)
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول كيفية الإفادة من الصيغ التي بها تكتمل السوق الإسلامية وهي الأسهم والصكوك والعقود الخاصة لإقامة السوق الإسلامية على أسس شرعية.
قرر ما يلي
1- الأسهم:
أصدر مجمع الفقه الإسلامي قراره رقم 65 / 1 / د7 بشأن الأسواق المالية الأسهم والاختيارات والسلع والعملات وبين أحكامها مما يمكن الإفادة منها لإقامة سوق المال الإسلامية.
2- الصكوك (السندات) :
أ- سندات المقارضة وسندات الاستثمار:
أصدر مجمع الفقه الإسلامي قراره رقم 5 / د4 بشأن صكوك المقارضة
ب- صكوك التأجير أو الإيجار المنتهي بالتمليك وقد صدر بخصوصها قرار المجمع رقم 6 / د5 وبذلك تؤدي هذه الصكوك دورا طيبا في سوق المال الإسلامية في نطاق المنافع.
3- عقد السلم:
بما أن عقد السلم – بشروطه واسع المجال إذ أن المشتري يستفيد منه في استثمار فائض أمواله لتحقيق الربح، والبائع يستفيد من الثمن في النتاج مع التأكيد على قرار المجمع رقم 64 / 1 / د7 بشأن عدم جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه ونصه:" لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلما قبل قبضها "(8/1034)
4- عقد الاستصناع:
أصدر المجمع قراره رقم 66 / 3 / د7 بشأن عقد الاستصناع.
5- البيع الآجل:
البيع الآجل صيغة تطبيقية أخرى من صيغ الاستثمار تيسر عمليات الشراء حيث يستفيد المشتري من توافر الحصول على السلع حالا ودفع الثمن بعد أجل كما يستفيد البائع من زيادة الثمن وتكون النتيجة اتساع توزيع السلع ورواجها في المجتمع.
6- الوعد والمواعدة
أصدر المجمع قراره رقم 302 / د5 بشأن الوعد والمواعدة في المرابحة للآمر بالشراء.
7- يدعو المجمع الباحثين من الفقهاء والاقتصاديين لإعداد بحوث ودراسات في الموضوعات التي لم يتم بحثها بصورة معمقة لبيان مدى إمكانية تنفيذها والاستفادة منها شرعا في سوق المال الإسلامية وهي:
أ- صكوك المشاركة بكل أنواعها
ب- صياغة صكوك من الإيجار أو التأجير المنتهي بالتمليك.
ج- الاعتياض عن دين السلم والتولية والشركة فيه والحطيطة عنه والمصالحة عليه ونحو ذلك.
د- المواعدة في غير بيع المرابحة وبالأخص المواعدة في الصرف
هـ- بيع الديون.
و الصلح في سوق المال (معارضة أو نحوها) .
ز- المقاصة
والله أعلم(8/1035)
الائتمان المولد على شكل بطاقة
مع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعية
إعداد
سعادة الدكتور محمد القري بن عيد
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي - جدة(8/1036)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
لقرون طويلة كان التبادل بين الناس بصيغة المقايضة، ثم اخترع الناس النقود السلعية مثل الذهب والفضة وقبلها الملح والطعام.. إلخ، فلم يغير ذلك من طبيعة النظام التبادلي؛ إذ استمر معتمدًا على صيغة المقايضة وإن اكتسب قدرًا كبيرًا من الكفاءة.
إن النقلات العظيمة في النظام التبادلي إنما تحققت عندما اخترع الإنسان النقود الائتمانية وهي تلك التي تستطيع الحكومات أن تتوسع في إصدارها دون حاجة إلى أن يكون لهذا الإصدار موازيًا من سلع حقيقية كالذهب والفضة.. إلخ، وإنما يعتمد ذلك بصفة أساسية على ثقة الناس بمصدرها، ثم لما ظهرت البنوك كمؤسسات تقبل الودائع وتقدم لأصحابها بدلًا عنها وسائل دفع جاهزة هي الشيكات؛ تحول الجزء الأعظم من عمليات إصدار النقود الائتمانية التي تعتمد عليها علاقات التبادل إلى البنوك، فصار التوسع في الكمية النقدية إنما تولده المصارف أضعاف أضعاف ما تقوم به السلطات النقدية الحكومية.. ومع ذلك تبقى قدرة البنوك على التوسع محدودة بمقدار ما لديها من ودائع؛ لأن ما تولده من نقود هو مضاعفات لتلك الودائع، فكان أن جاءت النقلة الثالثة باختراع صيغ جديدة لتوليد النقود الائتمانية، ومنها الائتمان على شكل بطاقة، وضمن هذا الترتيب تمكنت البنوك من التوسع في توليد النقود بصفة غير محدودة إلا بمحدودية الطلب على هذا الائتمان والقوانين المنظمة له، ولاسيما الحد الأعلى لكل بطاقة، وصارت البطاقة الائتمانية وسيلة لجعل قرار التوسع النقدي في يد الفرد، فهو بمجرد أن يحتاج إلى نقود يستطيع أن يولد وسائل دفع جديدة بإبرازه البطاقة، ويحصل على الائتمان من مصدر تلك البطاقة، إننا لا يمكن أن نحيط بأبعاد هذا التطور إلا بالنظر إليه كجزء من مراحل التطور النقدي للمجتمعات الإنسانية، ومن ثم نضعه في مكانه المناسب من النظام الاقتصادي الإسلامي.(8/1037)
لقد انتشرت بطاقات الائتمان انتشارًا واسعًا في السنوات الأخيرة، وصارت من النشاطات المهمة للبنوك والمؤسسات المالية، ومن الحاجات الأساسية للأفراد في المجتمعات المتقدمة والنامية.
وقد بلغ من انتشارها أن عدد البطاقات الائتمانية المصدرة في بريطانيا فقط قد زادت في سنة 1987 عن 31.5 مليون بطاقة "1" ووصلت إلى 85 مليون بطاقة في اليابان في سنة 1985 "2"، ويعتقد أن عدد البطاقات على مستوى العالم قد وصل إلى نحو 800 مليون بطاقة، أما في الولايات المتحدة فقد قارب عدد البطاقات المصدرة ضعف عدد السكان في نفس العام "3"، كما بلغ الائتمان الذي ولدته بطاقات الائتمان في الولايات المتحدة في سنة 1986 نحو 275 بليون دولار "4"، في سنة واحدة (1989) حققت شركة أمريكان اكسبرس من عمليات إصدار البطاقة الائتمانية وإدارتها أرباحًا صافية قدرت بمبلغ 500 مليون دولار، بينما حقق بنك سيتي Citibank أرباحًا صافية من إصداراته لتلك البطاقات وصلت في نفس العام إلى 600 مليون دولار "5"، وقد بلغ من أهميتها أن الائتمان المولد على صفة بطاقة يمثل 30 % من الاقتراض الاستهلاكي في الولايات المتحدة "6".(8/1038)
وتصدر البطاقة الائتمانية مئات البنوك (وربما أكثر من ذلك) ، ويقبلها ملايين التجار والمحلات التجارية وشركات الطيران والفنادق.. إلخ في كل أنحاء العالم.
وليس أدل على الدور المهم الذي تلعبه البطاقة في النشاط الاقتصادي في وقتنا الحاضر من الصدمة التي أصيبت بها الأسواق المالية في الولايات المتحدة في شهر نوفمبر 1991م عندما أعلن الكونجرس أنه سيضع سقفًا على سعر الفائدة الذي تفرضه البنوك على ديون المستهلكين من حملة البطاقات، يبلغ 14 % بدلًا عن 19 %.
نبذة تاريخية:
ظهرت بطاقات الائتمان في بداية القرن العشرين عندما بدأت بعض الفنادق في الولايات المتحدة بإصدار بطاقة لزبائنها المفضلين الذين يحتاجون إلى الإقامة في الفندق في مرات متكررة، وكان الغرض من تلك البطاقة تسهيل معاملاتهم واختصار وقتهم، ثم قامت بعض المحلات التجارية وبعض محطات الوقود في العقد الثاني من القرن بإصدار بطاقات مشابهة للغرض نفسه.
وكانت المنافع المتحققة من تلك البطاقات هي تسهيل الإجراءات وتوفير الراحة للزبائن الممتازين، ومن طرق العميل المباهاة بحمل البطاقة والحصول على الائتمان، وقد استمر التوسع في إصدارها في السنوات التي تلت تلك الحقبة.
ثم توقف العمل تمامًا بتلك البطاقة خلال الحرب العالمية الثانية بسبب القيود الحكومية في أمريكا على الائتمان وعلى الإنفاق الاستهلاكي، ولما رفعت تلك القيود بعد الحرب عاد مصدرو تلك البطاقات إلى نشاطهم وتوسع العمل بها حيث شمل شركات الطيران والقطارات، وفي سنة 1949 ظهرت أول شركة متخصصة في إصدار البطاقات وهي شركة داينرز كلوب (Diners Club) ، وقد اقتصرت في البداية على إصدار بطاقة خاصة برواد المطاعم، ثم ظهرت أمريكان اكسبرس (American Express) وكارت بلانش (Carte Blanch) وفي سنة 1951 انتقلت عملية إصدار البطاقات إلى البنوك حيث بدأ بنك فرانكلين في نيويورك (Franlkin National Bank) بإصدار البطاقة، وفي نحو سنتين زاد عدد البنوك المصدرة للبطاقات في الولايات المتحدة عن 100 بنك، ونظرًا إلى عدم تطور سوق البطاقات لم تحقق أكثر تلك البنوك أرباحًا تذكر فترك أكثرها هذا النشاط ولم يزد عدد البنوك المصدرة للبطاقات من تلك المائة في سنة 1967 عن 27 بنكًا.
ولقد اخترعت البنوك صيغة أخرى للائتمان الاستهلاكي أدت فيما بعد إلى تطور كبير في بطاقات الائتمان، هي ما سمي بالائتمان من الحساب الجاري (Ckeck – Credit plans) والذي بدأه بنك (First National Bank Boston) في الولايات المتحدة في سنة 1955م، وتركز الغرض منه في إيجاد طريقة للاقتراض الأتوماتيكي للأفراد من البنوك التي تحتفظ بحساباتهم. ولقد صاحب ذلك أيضًا انتشار ما سمي بضمان الشيك (Cheque Guarantee Card) ، حيث يضمن البنك للمستفيد دفع مبلغ الشيك الذي يحرره حامل البطاقة المذكورة (والذي يكون غالبًا من العملاء الممتازين) حتى لو أدى ذلك إلى كشف حسابه. فلما اجتمعت الفكرتان ظهرت بطاقة الائتمان مرة أخرى بقوة في عقد السبعينات، ودخلت البنوك العالمية الكبرى في إصدارها لأنها تتضمن نشاطًا مشابهًا في طبيعته لغرض البنك وهو الإقراض.(8/1039)
فكان أن بدأ بنك أمريكا (Bank Of America) وبنك شيز (Chase) الذي كان يسمى حينئذ (Chase Manhattan) وهما أكبر بنكين في العالم في ذلك الوقت في إصدار البطاقات، فكان أن ظهرت بطاقة (Bank Americard) من الأول وانتشرت أيما انتشار، فاتفقت – كرد فعل لذك النجاح - بعض البنوك على تأسيس جمعية تعاونية تصدر بطاقة منافسة، فظهرت ماستر كارد (Master Card) والتي كانت مملوكة في الأصل لبنك فيرست ناشيونال في لوزفيل بولاية كنتكي الأمريكية (Firs NationaL Of Luisville) فصادفت نجاحًا منقطع النظير أدى إلى تحول الأولى إلى جمعية تعاونية تصدر بطاقة جديدة باسم فيزا Visa بدلًا عن Bank Americard) ، وأضحت مع الثانية أكثر البطاقات انتشارًا في العالم ومثلتا في الولايات المتحدة نحو 75 % من سوق البطاقات الائتمانية في سنة 1986. وقد اعتمدت البطاقتان المذكورتان على طريقة جديدة وهي أن تكونا جمعيات تعاونية يملكها الأعضاء وهم البنوك المصدرة، ويحق لكل بنك أن يكون عضوًا بمجرد إصداره للبطاقة، ويتنازل للجمعية (التي تكون مهمتها رعاية مصالح الأعضاء) عن جزء من دخله المتولد من الإصدار.
صيغة البطاقة الائتمانية:
هناك أنواع كثيرة ومتعددة من الصيغ الائتمانية المصدرة على شكل بطاقة، ومرد هذا التنوع هو اختلاف الشروط التي تشكل بمجملها العلاقة التعاقدية بين الأطراف المتعاملة بالبطاقة. ولكن يمكن بشكل عام إجمال أنواع البطاقات إلى ثلاث، تشترك في صفات وتختلف في صفات، وسنبدأ في شرح الصفة العامة لكل البطاقات الائتمانية ثم نوضح الفروق، علمًا بأن شكل البطاقة واسمها لا يكشف بالضرورة حقيقتها؛ لأن ذلك يعتمد على شروط العقد. فلا يمكن القول مثلًا: أن بطاقة فيزا Visa متشابهة عند كل مصدر، بل إن في شروطها اختلاف رغم أن كل المصدرين أعضاء في جمعية فيزا.
تعريف:
البطاقة علاقة بين ثلاثة أطراف، (1) الأول مصدر البطاقة، وهو في الغالب بنك والثاني حاملها والثالث هو التاجر الذي يقبلها بدلًا عن النقود. فعندما يرغب حامل البطاقة شراء سلعة (2) أو خدمة (3) ، أو الحصول على النقود، (4) فما عليه إلا أن يبرز تلك البطاقة فيقوم الطرف الثالث (الذي يقدم السلعة أو الخدمة أو النقود، يسمى التاجر) بتسجيل رقم بطاقته وتوقيعه على قسيمة تبين ثمن تلك السلعة أو الخدمة وتاريخ تقديمها بعد أن يتأكد من صحة المعلومات المتعلقة بهويته وتاريخ انتهاء صلاحية البطاقة. ثم يقوم التاجر بتقديم تلك القسيمة إلى الطرف الأول (مصدر البطاقة) فيحصل على المبلغ المدون عليها مطروحًا منه رسم يمثل نسبة تتراوح بين 1 % إلى 8 %. (5) والمصدر للبطاقة (الطرف الأول) ملتزم بدفع المبلغ بمجرد التأكد من دقة البيانات بصرف النظر عما إذا كان حامل البطاقة قد سدد للبنك (المصدر) أو لم يفعل، فهو ضامن للمبلغ تجاه التاجر. (6) ثم يقوم الطرف الأول بإرسال فاتورة إلى حامل البطاقة (مرة في كل شهر) تتضمن جميع مشترياته بالبطاقة وتطالبه بدفعها. ويبين العقد الذي يتم بناء عليه حصول الفرد على البطاقة شروط الإصدار، ومنها الحد الأعلى على الائتمان الذي يمكن أن توفره البطاقة له كثمن لمشترياته أو كنقود، ورسم الإصدار والعضوية ومدة صلاحية البطاقة. هذه هي الصيغة العامة للبطاقة، ويمن أن يتفرع منها ثلاثة أنواع رئيسية:
__________
(1) في الغالب، ولكن يمكن أن تكون بين طرفين حيث يقتصر استخدامها على شراء السلع والخدمات التي يبيعها المصدر ذاته، مثل البطاقات التي تصدرها شركات البترول لكي يستخدمها أصحاب السيارات لشراء الوقود من محطاتها فقط، أو التي تصدرها الفنادق الكبرى لكي يستخدمها العميل في فروعها في المدن المختلفة ... إلخ.
(2) كأجهزة التلفاز أو الملابس أو السلع الاستهلاكية الأخرى.
(3) مثل استئجار السيارات أو الفنادق
(4) من المصدر أو من سواه
(5) ويحدد العقد هذه النسبة، فهي ليست غير محددة، ولكنها تتراوح في الشركات المختلفة بين هذين المستويين.
(6) وربما تشترط بعض الشركات الرجوع للتاجر في حال عدم تسديد حامل البطاقة للمبلغ.(8/1040)
- بطاقة الخصوم (أو البطاقة المدنية) Debit Card:
ويكون إصدار البطاقة في هذه الحالة مشروطًا بفتح العميل كحساب مصرفي لدى البنك المصدر (وفي أحيان أي بنك آخر يودع فيه مبلغًا مساويًا للحد الأعلى للائتمان الذي توفره له البطاقة وهو ما يسمى بالخط الائتماني) . ولا يسمح بأن ينخفض رصيد حسابه المذكور عن ذلك المبلغ. فهو أشبه ما يكون بضمان نقدي. وكلما استخدم البطاقة يقوم المصدر (البنك) بالسحب مباشرة من حسابه لسداد قيمة الفاتورة الواردة من التاجر. وهذا النوع من البطاقات موجود في كثير من البلاد النامية، (1) والواقع أن البطاقة لا تعد بطاقة ائتمان وليست المقصود عند الحديث عن بطاقات الائتمان. ويقوم عدد من البنوك الإسلامية بإصدار مثل تلك البطاقات اعتمادًا على إجازة هيئاتها الشرعية لصيغة العقد. (2) ومن الواضح أن هذه كثيرة الشبه بالشيك بل تكاد تكون بدلًا عنه.
__________
(1) والسبب أنه بعكس بطاقات الائتمان القرضية، لا تعطي صيغته المذكورة المصدرين القدرة على سيولة إضافي عن طريق البطاقة، وتميل الدول النامية إلى مثل ذلك الإجراء لغرض السيطرة على حجم النقود في الاقتصاد نظرًا لعدم وجود أسواق متطورة للنقود والرساميل يمكن من خلالها تنفيذ سياسة نقدية قادرة على تحقيق ذلك الهدف. ومن جهة أخرى تحرص أكثر الدول النامية على تشجيع الادخار وهو هدف يتعارض مع التوسع في استخدام البطاقات الائتمانية.
(2) مثل شركة الراجحي المصرفية للاستثمار في السعودية، وبيت التمويل الكويتي في الكويت وغيرهما(8/1041)
2- بطاقة الائتمان العادية (Charge Card) :
والفرق الرئيسي بين هذه البطاقة وما ذكره أعلاه هو عدم ارتباط إصدارها بإيداع مبلغ في الحساب. فلا يلزم للحصول عليها وجود مثل ذلك الحساب.
ومن ثم فعندما يقوم الفرد باستخدامها فإنه يحصل بصورة أوتوماتيكية على قرض (ائتمان) مساوٍ لقيمة السلعة أو الخدمة، ولكل عميل حد أعلى للقرض يحدده العقد ويسمى خط الائتمان. (1) ويلتزم حامل البطاقة، طبقًا لشروط الإصدار بتسديد كامل مبلغ الفاتورة خلال فترة لا تزيد غالبًا عن ثلاثين يومًا من تاريخ استلامه لها، وفي حالة المماطلة يقوم المصدر بإلغاء عضوية حامل البطاقة وسحبها منه، وملاحقته قضائيًّا لتسديد ما تعلق بذمته من المبلغ المذكور، وأشهر أنواع هذه البطاقة: أمريكان اكسبرس (البطاقة الخضراء) American Express Credit Card (Green (Card
3- بطاقة الائتمان القرضية (Credit Card With Revolving) :
وهذه أكثر أنواع البطاقات انتشارًا وخصوصًا في الدول المتقدمة. وتفترق صيغة هذه البطاقة عن النوع السابق في أن الائتمان الذي تخلقه أو تولده هو دين متجدد. فلا يلزم حامل البطاقة عند تسلمه للفاتورة الشهرية أن يسدد مبلغها (والغالب إلزامه بدفع نسبة ضئيلة منه فقط) بل يمكنه أن يدعه معلقًا بذمته ويقوم شهريًّا بدفع فوائد تأخير. وتحسب الفوائد بصفة يومية على المبالغ المعلقة. (2) وأشهر أنواع هذه البطاقات فيزا (Visa) ، وماستر كارد (Master Card) ، (3) وأمريكان اكسبرس "American Express – Optima American Express Golden Card) ، والبطاقة الذهبية، وداينرز كلوب (Diners Club) ، وفي بريطانيا أكسيس (Access) ، ويوروكارد (Eurocard) .
__________
(1) فيما عدا عددًا قليلًا من البطاقات مثل بطاقة أمريكان اكسبرس الخضراء فلا يوجد لها حد أعلى، على الأقل من الناحية النظرية.
(2) ويحقق المصدرون للبطاقات دخلًا مجزيًا من هذه الفوائد؛ لأن نسبتها تصل غالبًا إلى ضعف نسبة الفائدة على القروض المصرفية العادية
(3) علمًا بان هاتين البطاقتين وسواهما ربما تصدران بصيغة النوع الأول والثاني(8/1042)
المنافع المتحققة لأطراف البطاقة الائتمانية:
تحقق بطاقات الائتمان منافع لجميع الأطراف المشاركة فيها سنوضح جوانبًا منها أدناه:
المنافع المتحققة لمصدر البطاقة:
1- يحصل مصدر البطاقة على رسوم الإصدار التي تختلف من مصدر إلى آخر، وهي في المملكة العربية السعودية تتراوح بين 500 إلى 1000 ريال سعودي. وحينما يكون مستوى المنافسة عاليًا بين المصدرين فقد تنخفض تلك الرسوم كثيرًا وربما يكون الإصدار مجانيًّا.
2- يقتطع المصدر لنفسه نسبة من مبلغ كل فاتورة يقدمها التجار إليه، وتختلف تلك النسبة من مصدر إلى آخر ومن بطاقة إلى أخرى. وتتراوح هذه النسبة بين 1 % (كما في أكثر بطاقات الفيزا) وربما يصل إلى 8 % (كما في أمريكان اكسبرس في بعض الأسواق) ، ولكن الغالب أن تتراوح بين 2 % إلى 4 %، ويمثل هذا الاقتطاع المصدر الرئيسي للدخل بالنسبة للمصدر. ولذلك يحرص المصدرون على التوسع في الإصدار لتكبير حجم التعامل ومن ثم ارتفاع الدخل المتحقق من ذلك الاقتطاع ويلاحظ أن هذه العملية فيها شبه بما يسمى بخصم (حسم) الكمبيالات؛ لأن البنوك المصدرة تعامل فواتير التاجر كما لو كانت كمبيالات مقدمة للخصم.(8/1043)
3- فوائد التأخير، وذلك بالنسبة للبطاقات ذات القرض المتجدد، ويعد هذا أيضًا مصدرًا رئيسيًا للدخل، لا سيما أن سعر الفائدة على متأخرات البطاقة الائتمانية يصل غالبًا إلى ضعف سعر الفائدة المعتاد على القروض. ولعل مرد ذلك افتراض أن تلك القروض تتضمن قدرًا من المخاطرة يزيد على الائتمان المصرفي المعتاد وأن نسبة الديون المعدومة فيه عالية. (1) وقد وصلت نسبة الفائدة على ديون البطاقة في الولايات المتحدة إلى 23 % بينما أن مؤشر سعر الفائدة (Prime Rate) لم يزد في الفترة نفسها عن 10 % في الولايات المتحدة في سنة 1987 "7".
4- يحصل المصدر على رسم قدره (في الغالب) 1 % في عمليات الصرف، فإذا استخدم العميل بطاقته في خارج بلاده واشترى بعملة أجنبية، فإن فواتير التاجر التي ترد ستزيد عند تحويلها إلى العملة المحلية بهذه النسبة. وفي حالة استخدام ذلك العميل البطاقة للسحب النقدي فإن هذه النسبة تكون أعلى من ذلك في الغالب.
__________
(1) وهناك قوانين لتحديد هذه النسبة خصوصًا في الولايات المتحدة مثل قانون (Truth in Lending act وقانون (Fair Credit Billing) و (Consume Credit protection) وقد سن جميعها في السبعينات.(8/1044)
5- توفر حوض من السيولة لدى البنك المصدر بسبب تدفقات السيولة يمكن أن يستخدم في أغراض تجارية مختلفة. ويتمثل في الفترة بين تلقي المدفوعات من حامل البطاقة وتسديد المبالغ إلى التجار. ويحقق ذلك في بعض الحالات وفي الفترات الموسمية دخولًا مجزية لمصدر البطاقة.
6- تحقيق دخول أخرى من خدمات مساندة؛ مثل بيع بعض السلع بالبريد لحاملي البطاقة، أو التأمين على حياة حملة البطاقة، أو الخدمات المتعلقة بالسفر كقطع التذاكر وعمل الحجوزات في الفنادق ... إلخ (كما تفعل شركة أمريكان اكسبريس) .
الخدمات والفوائد التي يحصل عليها حامل البطاقة:
1- وسيلة دفع جاهزة لا يحتاج الفرد –مع وجودها- إلى حمل النقود وما يتضمنه ذلك من خطر السرقة والضياع.
2- المباهاة؛ لأن الحصول على البطاقة كثيرًا ما يرتبط بشروط لا تجعلها متاحة إلا لذوي الدخول المرتفعة فقط.
3- الحصول على الائتمان كلما برزت الحاجة إليه بالنسبة للنوعين الثاني والثالث من البطاقات. وذلك أن حامل البطاقة يستطيع أن يحصل على قرض بصفة أتوماتيكية بمجرد إبرازه للبطاقة. ومعلوم ما في ذلك من راحة وخدمة له خصوصًا في الحالات التي يحتاج فيها إلى المال وهو لا يمتلكه لا سيما في الأسفار وعند النوازل.(8/1045)
4- يستطيع حامل البطاقة أن يحصل على كثير من السلع التي يحتاج إليها بالتقسيط وبصورة مباشرة، فهو يشتري الأجهزة المنزلية والملابس والأدوات الكتابية والأجهزة الكهربائية متى احتاج إليها، ولأن شروط إصدار البطاقة من النوع الثالث لا تلزمه بدفع المبلغ دفعة واحدة، صارت هذه صيغة للتقسيط المريح.
5- الحصول على النقود على سبيل الاقتراض من المصدر أو من آلات الصرف الآلي وذلك لشراء الحاجات التي لا يقبل بائعوها العمل بالبطاقة، ويتمتع حامل البطاقة بهذه الخدمة في أي مكان من العالم بمجرد تقديمها إلى البنوك أو مكاتب الخدمات التي تقبل ذلك.
6- وبالنسبة للمستهلكين في الغرب فإنها توفر ميزة أخرى حيث يمكن للفرد أن يستثمر مدخراته في أدوات مالية بشكل مستقر بينما يحمل مصاريفه على البطاقة ومن ثم يمكن اقتطاع مصاريفه الحالية من دخله المستقبلي، وبذلك يتم له توزيع ميزانيته بطريقة تحقق له عائدًا أكبر.(8/1046)
7- وتقدم له البطاقة الحماية في حال كون السلعة غير مستوفية للمواصفات؛ لأن بإمكانه الامتناع عن الدفع إلى مصدر البطاقة، ولم يكن القانون في الولايات المتحدة يعطي هذه الحماية للأفراد حتى صدر في سنة 1974 قانون العدالة في المطالبة بالديون Fair Credit billing act حيث أصبحت المسؤولية تقع على مصدر البطاقة في مثل تلك الحالات، ويعطي القانون الأفراد في الولايات المتحدة ستين يومًا للاعتراض على محتوياتها "8".
الفوائد والخدمات للتاجر الذي يقبل البطاقة بدلًا عن النقود (أو الشيك) :
1- من الثابت أن البطاقات تؤدي إلى خلق حافز الإنفاق لدى حاملها لأنها تعطيه الشعور بالغنى آنيًا، رغم أنه ربما لا يكون مالكًا للمال، ويستفيد التجار من هذا النوع من الشعور في زيادة مبيعاتهم على المشتري لإتمام عملية الشراء فورًا Impulse buying بأكثر مما يحتاج إليه فعلًا.
2- يعمد أكثر التجار إلى إضافة النسبة التي يقتطعها مصدر البطاقة من فواتيرهم إلى سعر السلعة "9"، ومن ثم فإن استخدام البطاقة لا يؤدي إلى انخفاض معدل أرباحهم. وبما أن عملية تسديد قيمة الفواتير من قبل مصدر البطاقة لا تستغرق غالبًا إلا أيامًا قليلة، صارت بالنسبة إليهم عملية مفيدة ومجدية. وتمنع القوانين في الولايات المتحدة (وربما في بلدان أخرى) التجار من تحديد سعرين للبيع أحدهما لمن يدفع نقدًا، والآخر لمن يستخدم البطاقة، يكون الفرق بينهما ما يقتطعه المصدر من فاتورة التاجر "10" والنتيجة أن الذي يدفع بالنقود يتحمل قيمة الائتمان دون أن يتمتع به. وليس معروفًا أن التجار يكون لهم سعران: واحد للنقد وآخر لحملة البطاقة، بل إن اتفاقيات المصدرين مع التجار تنص على أن تلك الاتفاقية تكون لاغية إذا عمد التاجر إلى مثل ذلك العمل، وفي بعض الأحيان تمنع القوانين التجارية من تبني سعرين للبيع.
3- وفي البلدان المتقدمة تتم جميع مشتريات السلع المعمرة تقريبًا بالدين، ولا سبيل للشراء بالنقد إلا فيما ندر. فنجد أن الأسرة في الولايات المتحدة تدفع نحو 50 % من دخلها فوائدًا للديون "11"، ولذلك فإن التجار الذين لا يرتبون لأنفسهم طريقة للبيع بالنسيئة سوف لن يجدوا الكثير من الزبائن. ولا ريب أن التقسيط عن طريق البطاقة يتفوق على التقسيط من التاجر مباشرة، من حيث انخفاض التكاليف الإدارية ومن حيث ضمان المدفوعات من قبل الشركة المصدرة للبطاقة.(8/1047)
4- الاستفادة من الحملات الدعائية التي ينظمها مصدرو البطاقة، لا سيما بالنسبة للمؤسسات التي تقدم الخدمات؛ مثل شركات تأجير السيارات والفنادق والتي تستفيد من إدراج اسمها في الدليل الذي يوزعه المصدر على حاملي البطاقة.
أثر التعامل بالبطاقة على المجتمع والاقتصاد:
من الجلي أن أطراف البطاقة الثلاثة يحققون جميعهم منافع أدت إلى التوسع وانتشار العمل بها، وربما يكون الأمر مختلفًا نوعًا ما إذا نظرنا إلى الآثار العامة للبطاقة على المجتمع وعلى الاقتصاد الوطني. بعض هذه الآثار إيجابي وبعضها سلبي، ومنها:
1- لا ريب أن التعامل بالبطاقة يؤدي إلى توسع السوق وزيادة حجم الطلب على السلع والخدمات، وذلك لأن المستهلكين سوف يشترون ليس اعتمادًا على دخولهم ولكن اعتمادًا على مستوى الدخل المتوقع في المستقبل. ولذلك نجد أن الأفراد في الدول التي تكون سبل الاقتراض فيها ميسرة يتوسعون كثيرًا في الشراء بالنسيئة ويحملون أنفسهم ديونًا تمتد فترة تسديدها العمر كله (كما في قروض بناء المساكن) . وقد دلت الدراسات على أن الأسرة في الولايات المتحدة تدفع نصف دخلها في المتوسط لتسديد الفوائد المتراكمة على الديون، حتى بلغت الديون الاستهلاكية في الولايات المتحدة في سنة 1986 نحو 2،2 ترليون (مليون مليون) من الدولارات "12" وفي اليابان لأكثر من 40 ترليون من الينات "13". ويعتقد كثير من الاقتصاديين أن ذلك يؤدي إلى زيادة معدل النمو الاقتصادي؛ لأنه يمثل محركًا فعالًا للاستثمار نظرًا لزيادة معدل الطلب. ولكن مثل هذا الاتجاه له آثار سلبية أيضًا لأنه يقلل من معدل الادخار، ومن ثم يؤدي إلى انخفاض الموارد المخصصة لغير الأغراض الاستهلاكية في المجتمع. ويؤذن بعدم الاستقرار؛ لأن تراكم الديون له آثار سلبية على الاقتصاد الوطني.(8/1048)
2- يؤدي انتشار البطاقة إلى تقليل التعامل بالنقود، ومن ثم يساعد على توفير قدر أكبر من الأمان للأفراد لعدم تعرضهم للسرقة وضياع أموالهم أو حاجتهم للاحتفاظ بالسيولة في منازلهم. وتتعرض البطاقة في بعض الأحيان للتزوير إذا فقدت من مالكها الأصلي، وربما يعمد بعض أصحاب المحلات التجارية إلى إساءة استخدام البطاقة بتحميل زبون مبالغ عن أشياء لم يشترها، أو قيام اللصوص بعمل مشابه، وحصولهم على الأموال من الشركة المصدرة التي سوف تطالب بدورها حاملي البطاقة بدفع تلك المبالغ. وقد تطورت القوانين في البلدان المختلفة لتقديم الحماية لحامل البطاقة، فإذا فقدت منه لم يتحمل إلا مبلغًا بسيطًا بعد إبلاغه المصدر بفقدانها، ويجوز له الاعتراض على ما يرد في فاتورته من مشتريات، إلى غير ذلك. وهي أمور تؤدي إلى زيادة التكاليف على المصدر (تأمين) ، ومن ثم زيادة التكاليف على جميع حملة البطاقة لأنها تحملهم جميعًا المصاريف الإضافية.
3- يؤدي انتشار العمل بالبطاقة إلى تحول الائتمان الخاص ببيع السلع والخدمات من الشركات المنتجة إلى البنوك، ومن ثم دخول البنوك كدائن لجميع المستهلكين. مع ما في ذلك من توسع ونمو القطاع المالي في الاقتصاد واتجاه الأرباح نحو النشاطات المالية بدلًا عن التجارة والإنتاج.
4- يؤدي إلى زيادة حجم السيولة في الاقتصاد لأنه يزيد من قدرة المؤسسات المالية (المصدرة للبطاقة) والبنوك على خلق الائتمان (بدون حدود تقريبًا) ، وفي الحالات التي لا تكون أسواق المال وأسواق النقود فيها متطورة، تعجز السلطات النقدية (كالبنك المركزي) عن السيطرة على الحجم الكلي لوسائل الدفع في الاقتصاد. ومن الواضح أن عدم توفر أدوات فعالة للسيطرة على عرض النقود يؤدي إلى كثير من الأحيان إلى عدم الاستقرار لوجود ضواغط تدفع الاقتصاد إلى التضخم. ولذلك نجد كثيرًا من البلدان النامية لا تسمح إلا بالنوع الأول من البطاقات الذي لا يعطي البنوك القدرة على التوسع في توليد السيولة (خلق الائتمان) .
العلاقات التعاقدية بين أطراف البطاقة الائتمانية:
لما كان الحكم على الشيء فرعًا من تصوره، فإن من الضروري فهم العلاقات التعاقدية بين أطراف البطاقة الائتمانية والحكم عليها بالجواز أو عدمه اعتمادًا على صحة التعاقد وسلامة الشروط وخلوها من الربا والغرر وغيره من مفسدات العقود.(8/1049)
وسوف نعطي اهتمامًا كبيرًا هنا بالنوع الأول من البطاقات لأنه شبيه – من الناحية التعاقدية- بالشيك، فهو لا يعدو أن يكون حوالة ووكالة بالدفع. أضف إلى ذلك أنه لا يمثل في عالم بطاقات الائتمان أهمية كبيرة، والاتجاه في العالم اليوم ضده، فقد قررت اليابان –وكانت أكبر دولة تعمل بهذه الصيغة- السماح للبنوك بإصدار بطاقات الائتمان من النوع الثاني والثالث "14"، وكذلك سمح في المملكة العربية السعودية للبنوك أخيرًا بعدم الاقتصار على النوع الأول.
أما النوع الثالث فإن اختلافه الرئيسي عن النوع الثاني هو تضمنه لقرض متجدد يتضمن شرط دفع الفائدة الربوية ومن ثم فهذا الأمر فيه واضح، وما خفي منه سيظهر في التركيز على النوع الثاني من البطاقات.
طبيعة العلاقات التعاقدية في البطاقة الائتمانية العادية:
1- العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها:
العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها فيها معنى الضمان؛ لأن المصدر ضامن للديون المتعلقة بذمة حامل البطاقة تجاه التجار الذين يشتري منهم. والضمان (الكفالة) التزام ما في ذمة الغير. ويبدو أن رسم الاشتراك إن وجد هو أجر على ذلك الضمان، ولا يرتبط ما يحصل عليه مصدر البطاقة بتكاليفه الحقيقية، ولذلك لا وجه للقول: إنه مقابل قيمة البطاقة أو التكاليف الإدارية المتعلقة بترتيب تسديد الفواتير.. إلخ. ولا يتصور أن تكون وكالة لأن أموال حامل البطاقة ليست مودعة لدى المصدر ومن ثم يوكله في دفع ما استحق عليه من ديون (وربما يكون هذا صحيحًا في النوع الأول من البطاقات) ، إلا أن يكون وكيلًا يقترض له من نفسه ثم يسدد نيابة عنه، وإذا كان الأمر كذلك كان فيما يقتطع شبهة الزيادة على القرض.(8/1050)
وعندما يبرز هذا الفرد البطاقة إلى التاجر، فإن الأخير يكون متأكدًا أن مصدر البطاقة ضامن للدين الذي سيتعلق بذمة حاملها، ثم يصالح مصدر البطاقة التاجر على أقل من مبلغ الدين (عندما يقتطع نسبة منه) .
وقد يبدو أن فيها معنى القرض، وهذا ما تصوره الدراسات الاقتصادية الوضعية حيث ترى أن العميل يحصل عند استعماله للبطاقة على قرض أتوماتيكي من المصدر. لكن المشكلة هنا أنه إن كان قرضًا وجب لوجوده أن يقبض المقترض مبلغ القرض وهذا لا يوجد في الصيغة المذكورة، إلا أن يكون قبضًا حكميًّا قام به مصدر البطاقة نيابة عن حاملها فأقرضه من نفسه وسدد عنه دينه.
2- العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر:
الأرجح أن العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر (الذي يشتري منه بالبطاقة) هي حوالة، فهو عندما يشتري سلعة أو خدمة يتعلق بذمته قيمتها ويكون التاجر دائنًا له بذلك المبلغ فيحيل الدائن على مليء، وهو المصدر للبطاقة ويمثل توقيعه على الفاتورة هذه الإحالة ويقبل التاجر تلك الإحالة فيرسل الفاتورة إلى المصدر الذي يدفع له المبلغ. ومن المعروف أنه لا يشترط لصحة الحوالة أن يكون للمحيل دين على المحال عليه. والرضا متوفر بين أطراف هذه العلاقة والدين معلوم، وهو دين لازم على المدين في الحال.
وإذا أخذنا برأي من يشترط في الحوالة أن يكون للمحيل على المحال عليه دين فهو حوالة لأن المحال عليه احتمل سداد الدين عن المحيل.
ويمكن أن نتصور أن العلاقة وكالة، فحامل البطاقة يجعل التاجر وكيلًا عنه يقترض باسمه من مصدرها ويسدد دينه لنفسه، ولكن الخصم الذي يحصل عليه التاجر في هذه الحالة يكون زيادة على القرض.(8/1051)
3- العلاقة بين مصدر البطاقة والتاجر:
إذا قلنا: إن حامل البطاقة محيل ومصدرها محال عليه، وإن التاجر دائن للأول يستوفي دينه من الثاني، بدت العلاقة بين المصدر والتاجر وكأنها غير ذات أهمية تذكر. ولكن اقتطاع المصدر لنسبة مئوية من قيمة الفاتورة لنفسه يدخل في العلاقة المذكورة قدرًا من التعقيد. فهي تصبح شبيهة إلى حد كبير بخصم (حسم) الأوراق التجارية، إذ يمكن تصور أن الفاتورة التي وقع عليها المشتري هي كمبيالة مستحقة الدفع يقوم التاجر بحسمها لدى البنك (المصدر) مقابل نسبة 3 % (أو أقل أو أكثر) ومما يرجح هذا الاحتمال اشتراط بعض الشركات على التجار الرجوع إليهم في حالة رفض العميل (أي حامل البطاقة) دفع المبلغ الذي دفع إلى التاجر لسبب مخالفة التاجر لشروط البيع أو المواصفات المتفق عليها وليس في الحالات الطبيعية، والغرض منها هو حماية المشترين الذين يستخدمون البطاقات وإعطاؤهم نفس حقوق من يستخدم الشيك مثلًا "15".
المواطن المحتملة للربا والغرر في العلاقات التعاقدية في بطاقات الائتمان:
1- الرسوم التي يدفعها المشترك في برنامج البطاقة لكي يتحصل عليها من قبل المصدر تحول العلاقة بينهما إلى عقد معاوضة، لكن ليس واضحًا على ماذا سيحصل حامل البطاقة مقابل ذلك الرسم. فإن كان مجرد العضوية ووجود اسمه ضمن قائمة حاملي البطاقة، وحصوله على القدرة على المباهاة والفخر بحملها، فهذه حقوق والتزامات واضحة وهي حاصلة للفرد بمجرد العضوية، لكن الواقع خلاف ذلك. وإن كان المبلغ المذكور مقابل عدد المرات التي تمتع فيها بالائتمان أو حصل فيها على التسهيلات المالية ففي العقد غرر أو جهالة (على افتراض عدم وجود الربا وهو موجود) لعدم معرفته عند التعاقد لعدد مرات احتياجه لها وتكرر استفادته منها ... إلخ.(8/1052)
2- وفي الصيغة الثالثة التي تتضمن قرضًا متجددًا لحامل البطاقة (Revolving Credit) فإن اشتراط الزيادة على القرض يجعله من الربا الصريح. والزيادة المذكورة ليست زيادة في بيع آجل (بالتقسيط) رغم أنها ظهرت بسبب شراء العميل لسلعة أو خدمة من التاجر، والسبب أن الزيادة فيها غير ثابتة ولم تحدد عند البيع كما أنها تزيد بزيادة المدة وهي مرتبطة بالمبلغ والمدة فحسب.
3- وفي الصيغة الثانية للبطاقة يلتزم حاملها بتسديد ما عليه من ديون خلال ثلاثين يومًا، وإذا لم يفعل ألغت الشركة المصدرة عضويته، وبدأت في ملاحقته في أجهزة القضاء والأمن لإرغامه على الدفع. وتنص أكثر عقود هذا النوع من البطاقات على أن العضو ملتزم بدفع الفوائد على المبالغ المتأخرة ابتداء من تاريخ إلغاء عضويته، فهو شرط جزائي فحسب، فإذا التزم العضو بالدفع خلال الفترة المسموح بها لا يكون عرضة لآثاره. ولكن هل يجوز له أن يدخل في عقد يتضمن شرطًا مثل ذلك؟ وهذا الشرط هل هو شرط مفسد للعقد؟ وهناك حالات تعرض لها بعض الفقهاء لا يؤدي إلى شرط الفاسد فيها إلى فساد العقد فهل نعد هذه واحدة منها؟ وهذا ما يتعرض له المسلمون بحملهم بطاقات الائتمان الشهيرة أمريكان اكسبرس، فهم يحرصون على دفع المبالغ في وقتها دون التعرض لآثار شرط الفائدة في العقد. إذا التزم حامل البطاقة بالتسديد في الوقت المطلوب بحيث لا يعرض نفسه أبدًا لدفع الفائدة، فمثلًا قال في إعلاء السنن: (1) " ... وأما القرض المشروط بالفضل والمنفعة، قال الشافعي ومالك يبطلان عقد القرض، وقال الحنفية: يبطل الشرط لكونه منافيًا للعقد ويبقى القرض صحيحًا ... ومرادهم بكون القرض صحيحًا والشرط باطلًا أن المستقرض إذا قبض الدراهم التي استقرضها بالشرط يصير دينًا عليه وأما أن الإقراض والاستقراض بالشرط يكون جائزًا فكلا ... " وقد ذكر في مرشد الحيران. (2) "كل ما كان مبادلة مال بمال كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والمزارعة والمساقاة والقسمة والصلح عن مال....، لا يصح اقترانه بالشرط الفاسد ولا تعليقه به، أما ما كان مبادلة مال بغير مال كالنكاح والخلع على مال والتبرعات كالهبة والقرض ... وكذلك الإقالة والرهن والكفالة والحوالة والوكالة ... ففي هذه التصرفات كلها إذا اقترن العقد بالشرط الفاسد صح العقد ولغي الشرط". وحديث بريرة معروف".... اشترطي لها الولاء فإن الولاء لمن أعتق ... الحديث" ولم تزل مسألة الشروط في العقد من المسائل الخلافية بين الفقهاء.
__________
(1) إعلاء السنن: ج 13- 14 ص 534
(2) مرشد الحيران، مادة 323 - 326(8/1053)
4- والحصول على النقد يعد من أهم استخدامات البطاقة، فيمكن لحامل البطاقة سحب مبلغ من النقود من الأماكن المخصصة لذلك في المطارات والمحلات التجارية أو من البنوك مباشرة في داخل بلده أو عند سفره إلى الخارج. وفي كل الأحوال تعد تلك النقود قرضًا يدفع عليه فائدة (فيما عدا النوع الأول حيث لا يعدو ذلك أن يكون سحبًا من حسابه لدى البنك) . ويحصل مصدر البطاقة على تلك الفوائد وربما يقتسمها مع البنوك التي قدمت التمويل (إن كان مصدر النقود سواه) ، وهذا موطن واضح للربا في عمل البطاقة.
5- وتقوم بعض الشركات المصدرة للبطاقات في الدول المتقدمة بما يسمى بعملية تسييل الديون Sicuritization، وذلك بتحويل الديون المتعلقة بذمم حملة البطاقات إلى أدوات مالية يمكن أن تعرض للبيع على البنوك الأخرى والمستثمرين. ولا يعلم حملة البطاقات شيئًا عن ذلك؛ لأن البائع للديون (أي مصدر البطاقة) يستمر جهة للتحصيل بالنسبة لتلك الديون. وهي عملية معقدة ولكنها أصبحت كثيرة الانتشار في الولايات المتحدة وربما دول أخرى. وقد أصبحت هذه العملية جزءًا مهمًّا من عمل شركات بطاقات الائتمان. وهي وإن كانت لا تقوم بصفة دورية، إلا أنها عرضة للحاجة إليه على الدوام وهي صورة واضحة لبيع الدين لغير من هو عليه وهو باب من أبواب بيع الكالئ بالكالئ.(8/1054)
6- ولكل بطاقة ائتمانية عملة تحسب المستحقات بها. ولكن كثيرًا ما يستخدمها الناس خارج بلدانهم. وهنا تحسب المشتريات بالعملة الخارجية ثم تحول إلى العملة المحلية، فيتعلق بذمة حامل البطاقة لمصدرها مبلغ بعملة البطاقة وليس بالعملة التي اشترى بها السلع. رغم أن الدين الذي تعلق بذمته في الأصل كان بعملة مختلفة لأنه نشأ من عملية شراء تلك البضائع. وربما يكون الدين ناشئًا من قرض نقدي ثم بواسطة البطاقة.
7- وقد دلت التجارب العملية على أن إدارة أي مشروع ائتماني (كإصدار بطاقة ائتمانية) لا يتحقق له النجاح ما لم تتوفر للمشروع السيولة النقدية الكافية للنهوض بحاجاته الغير منتظمة. فمن المعروف أن إيرادات المشروع المتمثلة في مدفوعات حاملي البطاقة، ومصروفاته المتمثلة في المدفوعات إلى التجار؛ ليست متناغمة، وإنما تفترق في الزمن. ولذلك نجد أن شركات إصدار البطاقات تقترض كثيرًا من البنوك، ويكون لها خط ائتماني دائم تحصل من خلاله على ما تحتاج من سيولة بصفة مستمرة ومستعجلة، فمثلًا تجد تلك الشركات في فترة أعياد الميلاد في البلاد الغربية ارتفاعًا كبيرًا في معدل استخدام البطاقة. ونظرًا إلى التزامها أمام التجار بدفع ما يقدمون إليها من فواتير فإنها تحتاج بعد فترة الأعياد مباشرة إلى مبالغ كبيرة جدا لا تتوفر لها إلا بالاقتراض من البنوك نظرا إلى أن مدفوعات حاملي البطاقة لها أن تتم إلا بعد تلك الفترة بعدة أشهر. ولعل هذا هو سبب اختصاص البنوك بإصدار هذه البطاقات وبصفة عامة تحصل تلك الشركات على قروض بفوائد متدنية لقوة مراكزها المالية.
هذا لا يعني بالضرورة أنه لا يمكن إدارة مشروع للبطاقات الائتمانية بدون اللجوء إلى الاقتراض، ولكن ما تدل عليه التجارب العملية لا يمكن تجاهله.
8- وهناك شروط تتكرر في أكثر عقود البطاقات؛ مثل إعطاء الحق للمصدر بتغيير الشروط متى شاء وتعهد حاملها بقبول ذلك، وهذا أمر لا شك غير مقبول، فهو إضافة إلى كونه إجحافًا بحق الفرد، يدخل في العقد قدرًا من الغرر. وكذلك تنص عقود أكثر البطاقات على أنها تتضمن تأمينًا على الحياة يدفع ثمنه باقتطاع جزء من رسوم العضوية، والغرض من التأمين هو رغبة المصدر تقليل المخاطرة، في حالة وفاة حامل البطاقة.(8/1055)
صيغة مقترحة لبطاقة ائتمان خالية من المحظورات الشرعية:
ذكرنا سابقًا أن بطاقة الخصوم Debit card لا تعد بطاقة ائتمان وهي ليست ذات أهمية، ويتضاءل العمل بها يومًا بعد يوم، ومن جهة أخرى فإنه نظرًا إلى تشابه صيغتها مع الشيك المصرفي فقد أفتت بعض الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية بجواز صيغ عقودها، ولكن الحاجة ماسة الآن إلى صيغة للبطاقة الائتمانية Credit card تكون مقبولة شرعًا وقادرة على أن تنهض بالوظائف المعتادة للبطاقة دون اللجوء إلى الربا أو الغرر، ويمكن للمؤسسات المالية في المجتمعات الإسلامية أن تتبناها –أي الصيغة المذكورة- لإصدار البطاقات الائتمانية، ولا ريب أن واجب العلماء والفقهاء أن يقدموا هذه الصيغة العملية؛ لأن استخدام البطاقة هو ظاهرة حديثة في مجتمعات الإسلام وهي تنتشر وتتوسع ولذلك يحسن أن تكون هذه الصيغة جاهزة في الوقت المناسب، والذي أقدمه أدناه ليس صيغة جاهزة لذلك، ولكنها بعض المقترحات التي أحسب أنها تساعد على الوصول إلى مثل تلك الصيغة.
1- من الأفضل أن يقتصر إصدار البطاقة الائتمانية على جهة عامة (حكومية) وأن لا يكون نشاطًا يقوم به القطاع الخاص وذلك للأسباب التالية:
أ- من ناحية السياسة الاقتصادية، يمكن في هذه الحالة لمؤسسة البطاقة الائتمانية أن تتبنى الإجراءات والأنظمة التي تتفادى التأثير بشكل سلبي على الاقتصاد الوطني، مثل السيطرة على حجم الائتمان الذي تولده البطاقة، وتحديد السلع والخدمات التي يمكن شراؤها بها وتنظيم الآجال المتعلقة بتسديد الديون ودفع فواتير التجار بطريقة تتفادى تلك السلبيات، ومن جهة أخرى يمكن لمؤسسة عامة أن تحرص على تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص في الحصول على الائتمان وعدم قصر ذلك على الأغنياء وذوي الدخول العالية كما هو المتبع في القطاع الخاص. ولا تتعرض لمشكلة نقص السيولة في دورات السنة والاضطرار إلى الاقتراض، إذ يمكن ترتيب ذلك مع مصادر ذات دورات معاكسة (1)
__________
(1) من جهة أخرى أن تستفيد الحكومة من تيار السيولة المذكور لتكتفي به عن الاقتراض الجسري: Bridge Finance(8/1056)
ب- لا ريب أن بين توليد الائتمان عن طريق البطاقة وبين إصدار النقود الذي هو من وظائف السلطان، شبهًا كبيرًا لأن كليهما يخلق وسائل دفع في الاقتصاد لاسيما في هذا الزمن الذي أضحت النقود جميعها ائتمانية لا سلعية، ولذلك فإن طبيعة البطاقة تجعل اختصاص الحكومة بإصدارها أمرًا ملائمًا لجنس وظائف الدولة.
2- يجب أن تصاغ العلاقة بين المصدر للبطاقة وبين التاجر بحيث تقتصر على الحوالة فقط، فيكون المصدر محالًا عليه وحامله محيلًا والتاجر دائنا له، ولا أظن أن ذلك سيؤثر على فاعلية العلاقة وملاءمتها للنهوض بوظيفة البطاقة الائتمانية، وإذا أخذنا برأي المالكية باشتراط أن يكون للمحيل على المحال عليه دين لحصول الحوالة، فهي إذن حمالة، ويكون ما يقتطع المصدر من قيمة الفاتورة أجرة تلك الحمالة التي تراضى الأطراف على أن يدفعها التاجر.
ويجب النص في عقد البطاقة على عدم براءة ذمة المحيل بمجرد الإحالة (لاسيما وأن المحال عليه ليس مدينًا للعميل) وذلك لزيادة توضيح أوجه الحوالة في هذا العقد.
3- يجب أن لا يتضمن عمل البطاقة توفير القروض المتجددة، وإنما تقتصر على توفير الائتمان مجانيًّا لمدة ثلاثين يومًا، وفي حال مماطلة العميل في السداد تلغى عضويته ويطالب بما يتعلق بذمته بالطرق المشروعة فلا يعاقب بغرامات مالية، ويمكن أن ينص على بعض الشروط الجزائية لمعاقبة المماطل مثل التهديد بوضع اسمه في قائمة سوداء لا يتمكن بعدها من الحصول على بطاقات أخرى أو تمويل مصرفي.. إلخ.(8/1057)
4- ويحسن أن تنص عقود الإصدار على أن لا يسمح لحاملها ببيع البضاعة التي يشتريها بها إلى نفس البائع ذلك لأن ذلك يجعلها أداة للعينة، ولا لسواه لأن ذلك نوع من التورق.
5- ويجب أن تقدم البطاقات لمن تتوفر فيهم شروط العضوية من ملاءة وثقة وأمانة بدون مقابل، وهذا أمر معهود في الولايات المتحدة (1) ذلك لأن وجود الرسوم المذكورة يحول العلاقة إلى عقد معاوضة لا يصح إلا إن خلا من الغرر والجهالة الفاحشة.
ومن جهة ثانية فإن الرسوم التي يتحصل عليها المصدر، وهو يقدم الائتمان الشبيه بالقرض إلى حاملها يجعل العلاقة مشوبة بشبهة الربا، ولذلك فإن إلغاء الرسوم يخلصها من ذلك، ولا بأس أن يقوم المصدر برفع نسبة ما يأخذه من التاجر لتعويض ذلك.
وبما أن العلاقة بين حامل البطاقة ومصدرها يمكن أن تكون ضمانًا، (ولا يجوز أخذ الأجر على الضمان) (2) ، صار إلغاء تلك الرسوم إبعادًا لها من شبهة الأجر على الضمان أيضًا.
6- كما يمكن صياغة العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها ضمن عقد الضمان أو عقد الوكالة، فإن كان الأول فلا يجوز الأجر على الضمان، وإن كان الثاني فربما تجوز مصالحة الوكيل للدائن بتنازل الأخير عن جزء من الدين (3) فإن جاز ذلك أضحى للوكالة وجه في العلاقة التعاقدية ولها صفة عملية؛ إذ يمكن لمصدر البطاقة أن يحقق لنفسه دخلًا يغطي تكاليف عملياته.
والأجر جائز على الوكالة، والمصدر وإن كان يقتطعها من فاتورة التاجر فالذي يتحملها في النهاية هو العميل بصفة غير مباشرة، ومن جهة أخرى فالتراضي متحقق بين الأطراف في دفعها بهذه الطريقة.. والله أعلم.
الدكتور محمد القري بن عيد
__________
(1) وإن كان مقتصرًا على البطاقات من النوع الثالث أي ذات القروض المتجددة
(2) وإن أجاز البعض أخذ تكاليف الضمان أن أمكن حسابها بدقة
(3) والمعروف جواز مصالحة المدين دائنه على أقل من مبلغ الدين، فإن كان وكيلًا كان له مثل ذلك نيابة عن المدين(8/1058)
المراجع:
1- مجلة Business Week عدد 30 مارس 1987، ص 21.
2- مجلة Business Week عدد 15 يونيو 1987، ص 28.
3- مجلة Business Week عدد 15 يونيو 1987، ص 28.
4- مجلة Business Week عدد 20 أبريل 1987، ص 157.
5- مجلة Business Week عدد 28 مايو 1990، ص 52.
6- مجلة Business Week عدد 20 أبريل 1987، ص 157.
7- مجلة Business Week Economist عدد 6 يونيو 1987، ص 17.
8- مجلة Business Week Economist عدد 6 يونيو 1987، ص 97- 99.
9- مجلة Economist عدد 6 يونيو 1987، ص 17.
10- مجلة Time الأمريكية، عدد 9/ 3/ 1987، ص 44.(8/1059)
11- مجلة Time الأمريكية، عدد 9/ 3/ 1987، ص 43.
12- مجلة Economist عدد 6/ 6/ 1987، ص 90.
13- مجلة Business Week عدد 15/ 6/ 1987، ص 29.
14- Cleeson, Adrienne, The Credit Book, Leden, Kogan, Page 1982
15- Drury, Tony and Ferrier, Charles W. Credit Cards, London, Buther Worths, 1984
16- مجلة عالم الإدارة، فبراير 1986 ص 25- 27.
17- مجلة nov. 1986 p. 17 Tokyo Business Today
18- مجلة Dec. 1986 p. 56-59 Tokyo Business Today
19- مجلة التجارة (غرفة تجارة جدة) مارس 1984، ص 6- 11.
20- Hindle Time, Pocket Banker, London, Basil Blackwell, 1987
21- Makin, Johan, H. Teory of Money, Hinsdale, IU, Dryden press(8/1060)
ملحق
بعض صيغ عقود بطاقات الائتمان(8/1061)
__________(8/1062)
بطاقات الائتمان
إعداد
الشيخ حسن الجواهري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه الميامين.
بطاقات الائتمان
نبذة تاريخية للبطاقات المصرفية:
إن البطاقات المصرفية (أعم من بطاقات الائتمان) مثل بطاقة الاعتماد والملاءة كان وجودها نتيجة لتطلع المجتمع إلى إيجاد نظام متطور ومأمون لتسديد الديون والمقاصة وإنجاز التبادلات التجارية.
وكان هذا الحديث قد زامن مطلع القرن التاسع عشر، وقد ابتكرته شركات عالمية مثل شركة "سترن يونين" في أمريكا سنة 1913م لتسهيل أعمال عمالها، ثم تبعتها على ذلك شركات النفط وسكك الحديد وبعض الفنادق والمحلات التجارية، ولكن ضمن حدود خاصة ولبعض العمال.
وفي سنة 1923م قامت شركة "جنرال بتروليوم كوربويشن" في كاليفورنيا بإصدار أول بطاقة ائتمان حقيقية، توزع على الجمهور لدفع قيمة البنزين المهم على أن تسدد المبالغ المترتبة عليهم في تواريخ لاحقة.(8/1063)
ثم تقدمت البنوك – نتيجة نجاح فكرة الدفع بالبطاقة الائتمانية - لإصدار بطاقات الائتمان، وتشكلت منظمة غير ربحية ينضوي تحت لوائها البنوك التي ترغب بإصدار بطاقة خاصة بها وسميت هذه المنظمة "الفيزا" (1)
وكانت مهمة منظمة الفيزا ما يلي:
1- قبول طلبات البنوك في إصدار بطاقة خاصة بها أو رفضها.
2- تزويد البنوك الأعضاء بالخبرة الفنية لإصدار البطاقات.
3- تقديم الخدمات بين البنوك الأعضاء في حالات المراسلة الخاصة بالمنظمة والمقاصة والتسديد وفي عمليات التفويض.
4- تطور خدمات البطاقات مع تزويد البنوك الأعضاء بها.
والخلاصة: أن "منظمة الفيزا" تسعى لخدمة البنوك الأعضاء التي تصدر البطاقة لهم من الناحية الإدارية والفنية والخدماتية وتتكون إدارتها من ممثلي البنوك الأعضاء.
__________
(1) الفيزا: منظمة تقبل بطاقة الائتمان المرتبطة بها أكثر من مائة وستين دولة في العالم، وبعبارة أخرى: تقبل بطاقة الائتمان المرتبط بهذه المنظمة أكثر من ستة ملايين مؤسسة، تشمل شركات الطيران والفنادق والمطاعم والمحلات التجارية والنوادي ووكالات تأجير السيارات وغير ذلك(8/1064)
ما هي بطاقات الائتمان؟
إن بطاقة الائتمان: هي سند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء أو بيع السلع، أو غيرها من الحصول على الخدمات أو تقديمها.
ومن فوائده: سحب النقود من البنك على حساب المصدر.
وهذا التعريف لبطاقات الائتمان عبارة عن عقدين:
1- عقد بين المصدر للبطاقة وبين الحامل لها، يتضمن حدًّا أقصى للائتمان وشروط العلاقة بينهما، فالبنك تعهد بإعطاء ما يشتريه عميله بالبطاقة مثلًا (من حساب العميل إن وجد، أو من حساب البنك المصدر إن لم يوجد للعميل رصيد كافٍ عند البنك) ، وفي مقابل ذلك تعهد حامل البطاقة (العميل) بالسداد في وقت محدد كشهر مثلًا.
ومن الواضح هنا أن هذا العقد هو عقد صحيح (يشمله) {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لعدم اختصاص الآية بالعقود التي كانت وقت نزوله بل تشمل كل ما يراه العقلاء عقدًا وعهدًا ما لم ينه عنه من قبل الشارع، والمفروض عدم النهي هنا لعدم الضرر (الخطر) وعدم الجهالة اللذين يبطلان العقد؛ حيث إن البطاقة مشتملة على سقف ائتماني معين لا تتعداه، فلا خداع ولا خطر في البيع، فإن حصل الشراء أو تلقى الخدمة أو سحب نقدًا معينًا فإن الوثائق التي تدل على هذه الأمور قد تبودلت بينهما وعلم كل منهم بما هي وظيفته، وثانيًا: أن هذا التعهد من البنك للحامل هو عبارة عن أداء دين شخص نيابة عنه، فإذا تعهد البنك أداء دين حامل البطاقة بمال نفسه أو بمال البنك المصدر ويرجع عليه بعد ذلك، مع أجرة على هذا التسديد والأداء، وقد قبل حامل البطاقة هذا التعهد، فإن هذه العملية هي من مصاديق العقد العقلانية، وقد قام الارتكاز العقلاني على أن كل عقد بما أنه عقد وعهد وجب الوفاء به ما لم يندرج تحت أحد النواهي المعينة.(8/1065)
وبعبارة أخرى: إن هذا التعهد من البنك لحامل البطاقة هو عبارة عن جعل مالية المال المشترى مثلًا في عهدة مصدر البطاقة، وهذا معنى مشروع للضمان يمكن إنشاؤه مستقلًّا.
2- عقد بين المصدر للبطاقة وبين من يعتمدها من مؤسسات وشركات ومصارف، يتضمن شروط العلاقة بينهما، والعلاقة هي أن يقوم البنك بإعطاء التاجر ثمن البضاعة أو الخدمة التي قدمها إلى حامل البطاقة، محسومًا منها نسبة معينة، وقد تبلغ البطاقة حدًّا من الاعتبار تبيح بيع السلع أو تقديم الخدمات لحامل البطاقة بلا حاجة إلى عقد ينشأ بينهما، ويكون الدافع لثمن البطاقة نائبًا عن المصدر لها حسب ضمانه لقيمتها.
وقد ذكروا (1) عدم وجود أي صلة بين حامل البطاقة والمؤسسة التجارية بحيث لو فرضنا أن المؤسسة التجارية لم تحصل على الثمن من المصدر للبطاقة، فلا يحل لها أن ترجع على الحامل للبطاقة لتسديد حقها، وسوف يتضح أن العمل الخارجي لهذه البطاقات ليس كذلك، بل هناك ارتباط ثالث بين المؤسسة التجارية والعميل لم يظهر للخارج لوجود البنك الذي يتولى التسديد بما أنه ضامن للعميل (أو محال عليه من قبل العميل) قيمة ما أخذه، وهنا لابد لنا من تفسير الضمان (أو الحوالة) بما قاله الإمامية من أنه عبارة عن نقل الدين من ذمة العميل إلى ذمة البنك المصدر للبطاقة حتى يكون العميل بعد شرائه أجنبيًّا وليس مدينًا للمؤسسة التجارية، أما على تفسير أهل السنة الذي يقول بأن الضمان عبارة عن ضم ذمة إلى ذمة، فيبقى العميل له ارتباط بالتاجر، ويتمكن التاجر أن يرجع عليه في تسديد الثمن.
أطراف بطاقات الائتمان:
ذكروا أن لبطاقات الائتمان أطرافًا هي:
1- شركة عالمية أو بنك عالمي يرعى البطاقة.
2- وكالات محلية للشركة العالمية، أو فروع للبنك العالمي تستخدم للوساطة بين الشركة العالمية والعملاء.
__________
(1) هو الدكتور عبد الستار أبو غدة عند عرضه لبحث بطاقات الائتمان في مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة لسنة 1412هـ في ذي القعدة الحرام، المنعقدة في جدة(8/1066)
3- أصحاب المتاجر (المؤسسات التجارية) والخدمات (وهم من يتعاملون مع هذه البطاقة) .
4- حملة البطاقة، وهم العملاء الذين يشترون أو يحصلون على خدمات البطاقة قدر حاجتهم.
والعلاقة بين هذه الأطراف الأربعة بصورة مجملة كالآتي:
أ- تتفق الشركة العالمية مع الوكالات المحلية (أو يتفق البنك العالمي مع فروعه) لإصدار البطاقة لكل من يتعامل بها سواء كان عضوًا مشتريًا، أو طالبًا لخدمة، أو عضوًا بائعًا أو عارضًا للخدمة.
ب- يتقدم حامل البطاقة (المشتري) إلى صاحب المتجر (البائع) أو يتقدم من يريد الخدمة فيتسلم ما أراد لقاء الالتزام بالدفع عن طريق الشركة أو البنك بتوقيع القسيمة مع إعطاء صورة البطاقة (مشخصاتها) .
ج- يتقدم صاحب المتجر أو الخدمة بالإشعار الموقع من حامل البطاقة إلى البنك (1) أو الشركة، وحينئذ يتسلم من البنك العالمي أو الشركة العالمية أو فروعها ثمن البضاعة أو الخدمة.
__________
(1) قد يكون بنك التاجر الذي يضع التاجر قسيمة البيع عنده ليتسلم ثمنها هو بنك المصدر أيضًا، فيكون العميل والتاجر كلاهما قد ارتبط بالبنك المصدر للبطاقة، وأحيانًا يكون بنك التاجر غير البنك المصدر للبطاقة، ولكنه مخول من قبل البنك المصدر للبطاقة بتسديد دين التاجر والرجوع عليه، فحينئذ يقوم بنك التاجر غير البنك المصدر للبطاقة، ولكنه مخول من قبل البنك المصدر للبطاقة بتسديد دين التاجر والرجوع عليه، فحينئذ يقوم بنك التاجر بتسديد قيمة القسيمة ويرجع على البنك المصدر في الاستيفاء، وحينئذ يقسم ما يخصمه بنك التاجر (من ثمن البطاقة) بينه وبين البنك المصدر كأجر على عملهما(8/1067)
د- تقوم الشركة أو البنك بإرسال صورة المشتريات بالبطاقة للعميل مطالبة إياه تسديد ثمن ما دفعته الشركة أو البنك على شكل دفعات منتظمة أو غير منتظمة، أو يقوم البنك بخصم ذلك المبلغ من حساب عميله إذا كان صاحب حساب دائن عند البنك.
هـ- إذا تأخر حامل البطاقة (المستفيد) عن سداد التزاماته في الفترة المحددة المسموح بها في العقد، فإنه يحسب عليه فائدة من أجل التأخير وهي فائدة مركبة.
و إذا لم يسدد حامل البطاقة التزاماته وما ترتب عليه فسوف توضع البطاقة في قائمة منع الاستخدام إلى أن تتم المحاسبة بين البنك والعميل.
أقسام بطاقات الائتمان
وتقسم بطاقات الائتمان تقسيمات متعددة بملاحظة أخذ رسوم في مقابلها، أو اشتراط فتح حساب لدى البنك، أو تحديد زمن التسديد، أو غير ذلك، وعلى هذا فقد تقسم بطاقات الائتمان إلى:
1- بطاقات يؤخذ رسوم اشتراك في مقابلها.
2- بطاقات لا يؤخذ رسوم اشتراك في مقابلها.
وقد تقسم بطاقات الائتمان إلى:
1- بطاقات تطلب فتح حساب في البنك الذي يصدرها.
2- بطاقات لا تطلب فتح حساب في البنك الذي يصدرها.
وقد تقسم بطاقات الائتمان إلى:
1- بطاقات توجب الدفع خلال شهر واحد من الاستفادة منها.
2- بطاقات لا توجب الدفع خلال شهر واحد من الاستفادة منها ولا تحدد عليه الدفع فورًا، بل إذا دفع فورًا فهو، وإلا وضعت عليه فوائد.
وقد تقسم بطاقات الائتمان إلى:
1- بطاقات توجب الدفع الفوري لكل المبلغ لمدة معينة.
2- بطاقات لا توجب ذلك، بل تقسط دفع المبلغ إلى آجال متعددة.
وهناك بطاقات تقسم حسب امتيازها العالي والمتوسط والعادي، مثل البطاقة الذهبية والماسية والخضراء، فالذهبية تمنح لمن يتمتع بكفاءة عالية من العملاء، وليست محدودة بسقف ائتماني محدد، وتتميز بكون صاحبها مضمونًا من قبل المصدر لها والذي عنده حساب دائن فيه.(8/1068)
فائدة بطاقات الائتمان:
لقد أصبح لبطاقات الائتمان في المجتمعات الحديثة شأن كبير، ومن الأساسيات، أما في البلاد الإسلامية فهي على مستوى بعض الأفراد مهمة في سفره حيث تحقق له فوائد كبيرة سوف نذكرها فيما بعد، وهي مهمة جدًّا بالنسبة للتاجر الذي يعرض سلعته وخدماته، كما أنها مفيدة للبنك الذي يصدرها، وإليك الفوائد مفصلة شيئًا ما:
أ- فائدة البطاقة للعميل:
1- تحقق للعميل سهولة وأمانًا على الأموال من حملها معه، فتتعرض للسرقة أو الفقدان، أو يتعرض هو للهجوم والسطو المسلح.
2- تمكنه من شراء ما يبدو له شراؤه في ظروف مفاجئة لم يستعد لها، بحمل ما يقابلها من الأموال.
3- تيسر لحاملها السداد بأي عملة كانت، وبهذا يستريح العميل من إجراءات دخول العملات وخروجها في بعض البلاد التي بها قيود على تحويل العملة أو منع خروجها أو دخولها.
4- أنها تحمل معها وسيلة المحاسبة وضبط المصاريف وتوثيق السداد للمطالبات.
5- تزود حاملها بتسهيلات نقدية في أي دولة كانت ضمن حدود ممنوحة له عند طلبه.
6- إن بعض بطاقات الائتمان تخول العميل سحب نسبة من النقد من فروع البنك الذي يتعامل معه أو بنوك أخرى تتعامل معه، بمراجعة البنك أو أجهزة الصرف الآلي أو أنظمة التحويل الإلكتروني، وهنا تؤخذ عملة تقسم بين شركة البطاقة والبنوك التي لها دور في عملية الاستخدام إن وجدت، وهذه العملية تقلص الوقت الذي يبذل في تحقيق الخدمة نفسها يدويًّا عن طريق البنوك الفرعية أو التي تتعامل مع البنك العالمي لمصدر البطاقة الائتمانية.
7- قد يلتزم التاجر بتخفيض ثمن السلعة (لحامل البطاقة) عن السعر السوقي، حسب الالتزام مع الجهة المصدرة للبطاقة.(8/1069)
8- إن بعض البطاقات تمنح صاحبها التأمين على الحياة كالبطاقات الذهبية، وتمنحهم إضافة إلى ذلك حدودًا ائتمانية عالية، وخدمات أخرى دولية فريدة كأولوية الحجز في مكاتب السفر والفنادق والتأمين الصحي والخدمات القانونية.
9- إن بعض البطاقات تدفع جوائز وهدايا لعملائها بطريقة القرعة ترغيبًا لهم على الحصول على بطاقة الائتمان عند هذا البنك المصدر لها، فيدفع البنك لمن أصابته القرعة مبلغًا من المال بعنوان الجائزة.
10- إن ضياع بطاقة الائتمان يوجب ضمان مسؤولية محددة فقط كمبلغ من المال، إذا أبلغ الجهة المصدرة بضياع البطاقة فورًا، حتى لا تستخدم هذه البطاقة من قبل الآخرين بصورة غير مشروعة، وطبعًا في حالة الاطمئنان بعدم وجود تواطؤ بين حامل البطاقة ومن استخدمها بصورة غير مشروعة، وهذا الشرط لا حاجة له، إذ أن عنوان ضياع البطاقة أو سرقتها يكفي لذلك.
ب- فائدة البطاقة للتاجر:
هناك فوائد كثيرة للتاجر يمكن تلخيصها على النحو التالي:
1- يستقطب التاجر عملاء جددًا، وبنوعية جيدة، وثقافة عالية.
2- تخفف على التاجر مخاطر الاحتفاظ بمبالغ نقدية كبيرة في متجره، فيأمن من السرقة أو السطو المسلح.
3- البنك يضمن للتاجر تغطية المبالغ الناشئة من استعمال بطاقة الضمان عند تقديم المستندات بصورة صحيحة.
ج- فائدة البطاقة للبنك:
إن البنك التجاري يحصل من البطاقة على دخل له، وذلك من خلال:
1- استيفاء رسوم إصدار البطاقة (رسوم العضوية) ، ومنحها.
2- استيفاء رسوم تجديد البطاقة حيث تكون صلاحيتها لسنة واحدة.(8/1070)
3- رسم تبديل البطاقة عند الضياع أو التلف أو السرقة.
4- رسم التجديد المبكر، وذلك عند طلب العميل تمديدها قبل موعد الانتهاء بسبب سفره عند حلول التجديد.
5- تحصيل البنك على نسبة من ثمن البضاعة يستوفيها من التاجر (حسب الاتفاق معه) عند تسديده لقيمة قسيمة البيع أو الخدمة، كما قد يحصل على نسبة من الثمن عند تسديد العميل ما كان عليه كأجر على تسديد البنك دينه الذي للتاجر.
6- الحصول على فرق سعر العملة الأجنبية (إذا كان التسديد بها) عند تحويله عملته المحلية إليها، فهو يأخذ فائدة بيع الصرف عندما يسدد بالدولار ويستلم بالدينار.
7- يأخذ أجرًا على وفاء دين العميل خارج البلد أو مطلقًا (حسب قرارات البنك) .
8- غرامات التأخير عند عدم سداد ما على العميل حسب الوقت المحدد (الفائدة) .
9- البنك يحصل على نسبة من الثمن في مقابل استخدام جهازه الآلي، أو نظام تحويله الإلكتروني عند سحب نقود معينة بواسطة البطاقة الائتمانية إذا كانت مخولة لذلك، وهذه النقطة بالذات توفر إمكانات ائتمانية جديدة للعملاء، مما يؤدي لزيادة عائدات البنك المصدر للبطاقات الائتمانية.
10- يأخذ البنك عمولة على دفعه النقود لبطاقة ائتمان أجنبية مرتبطة بمنظمة الفيزا.
كيف تتم المعاملات التجارية ببطاقة الائتمان؟
ونعرض عليك صورة مفصلة بعض الشيء عن المعاملات التجارية التي تتم بواسطة بطاقة الائتمان وهي تتم ضمن مراحل:
المرحلة الأولى: عند شراء حامل البطاقة سلعة أو تلقي خدمة في أي مكان كان، فإن التاجر أو صاحب الخدمة الذي يقبل التعامل بالبطاقة يقوم بتسجيل العملية على قسيمة البيع، ويعطي نسخة منها إلى حامل البطاقة مع وضع علامة البطاقة على جميع نسخ القسيمة بواسطة آلة بسيطة.(8/1071)
المرحلة الثانية: يقوم التاجر بإيداع أصل القسيمة التي حصل بها في حسابه لدى البنك الذي يتعامل معه لأجل أن يحصل قيمتها (سواء كان هو البنك المصدر للبطاقة أو لا، كما في بنك التاجر الذي يقوم بعملية تحصيلها من البنك المصدر لها) فإن بنك التاجر يقوم بتقاضي نسبة من ربح التاجر متفق عليها، بعد أن يضع في حساب التاجر قيمة القسيمة (مخصومًا منها النسبة التي يتقاضاها من التاجر حسب الاتفاق) ضمن ثلاثة أيام ويتبع المصدر نفسه مباشرة أو عن طريق منظمة (الفيزا) لتسوية الحساب مع عميله، فيرسل بيان قسيمة البيع مفصلة فيذكر وقتها ومكانها وكميتها، ويطلب من بنك المصدر للبطاقة التسديد.
وأما إذا كان البنك واحدًا وهو بنك المصدر للبطاقة فهو الذي يضع في حساب التاجر المبلغ مخصومًا منه نسبة من الثمن حسب الاتفاق كأجر على عمله مثلًا.
تنبيه:
إذا كانت بطاقة الائتمان لها حد أعلى مشار إليه، وكان مبلغ قسيمة البيع يزيد على الحد المشار إليه، أو كان هناك تردد في صحة الأمور المذكورة في بطاقة الائتمان لاحتمال التلاعب فيها أو أشباه ذلك، فإن هذا يستلزم من التاجر أن يأخذ الموافقة من البنك المصدر للبطاقة على إنجاز هذه العملية، بواسطة نظام الاتصالات المتبع والذي يتم خلال عدة دقائق بواسطة شبكة إلكترونية، بشرط سرعة الرد على طلب الموافقة.
وقد تزود نقاط البيع وتقديم الخدمات بآلات التفويض وهي أجهزة إلكترونية قارئة للشريط المغناطيسي على البطاقة، ومربوط بالجانب الآلي (ترمينال) ، إذ يقوم هذا الجهاز بمجرد إمرار البطاقة فيه، ووضع الرقم السري للعميل بالاتصال بمركز التفويض في بنك التاجر الذي يقوم بدوره بتحويل الاتصال آليًا إلى البنك المصدر مباشرة أو بتوسط "منظمة الفيزا"، وذلك للحصول على التفويض بقبول العملية أو رفضها وفق معايير البنك المصدر، ويأتي الرد آليًّا من نفس القنوات.
نعم هناك تفويض عالمي لاستخدام البطاقة الائتمانية وقبولها من قبل التاجر، دون الرجوع إلى البنك المصدر لها، لأجل الحصول على تفويض بقبولها بشروط هي:
1- أن لا يكون تاريخ البطاقة قد انتهى.
2- أن يكون توقيع وشخصية العميل مطابقة لبيانات البطاقة (أي غير محتملة التزوير) .
3- أن لا تكون البطاقة مذكورة في نشرة البطاقات المطلوب حجزها.
المرحلة الثالثة: وعند وصول بيان قسيمة البيع للبنك المصدر للبطاقة فإنه تجري عملية التسديد يوميًّا، فلو فرضنا أن بنك التاجر غير البنك المصدر للبطاقة، فإن بنك التاجر سوف يضع في حسابه قيمة القسيمة ويخصم من حساب بنك المصدر هذا المبلغ في اليوم نفسه، وهذا يتم وفق نظام كفءٍ ودقيق.
وهنا لا بأس بالإشارة إلى أن البنك المصدر للبطاقة يأخذ عمولة (1 %) أو أكثر (1) أو أقل على قسيمة الشراء الصادرة من حامل البطاقة. وقد تكون هذه العمولة على حصوله عملية الشراء خارج البلاد الذي فيه البنك المصدر فقط، وقد تكون شاملة.
__________
(1) ذكر البعض أن هذه العمولة تتراوح بين (4 – 6 %) من قيمة القسيمة. وقد ذكر بيت التمويل الكويتي أخذ العمولة من العميل في صورة وقوع الصفقة خارج البلاد فقط. راجع بحث بطاقات الائتمان الصادرة عن دار التمويل الكويتي.(8/1072)
المرحلة الرابعة: إذا سحب صاحب البطاقة نقدًا من فروع بعض البنوك الخارجية المرتبطة مع بنكه (مباشرة أو عن طريق أجهزة الصرف الآلي المشتركة) يقوم البنك المصدر للبطاقة بتسديد المبلغ المسحوب من البنك الخارجي نيابة عن العميل، على أن يحصلها من حساب العميل (صاحب البطاقة) فيما بعد، ويأخذ البنك المصدر عمولة (1 %) أو أكثر أو أقل لقاء سحب النقود في الخارج بواسطة البطاقة.
التكييف الشرعي لبطاقات الائتمان هل يوجد تكييف شرعي لهذه البطاقات؟
الجواب: إن هذا البحث هو الأساسي في هذه الورقة التي نقدمها، فنقول: إننا نؤمن بأن صيغ المعاملات المالية في الفقه الإسلامي تتسع لاستيعاب المستجدات العصرية بشرط دخولها في صيغة واحدة معروفة، أو دخولها في صيغ مركبة، أو شمول القواعد في العقود لها إذا توفرت أركانها، ومنه أي محذور يؤدي إلى بطلانها أو حرمتها.
وهنا نريد أن نعرف أن ما يدفعه التاجر أو المقدم للخدمة، وما يدفعه حامل البطاقة للبنك، أو ما يأخذه البنك منهما معًا في حالات مختلفة هل يدخل تحت عنوان معروف محلل، أو صيغة مركبة تجمع أكثر من عقد محلل، أو يدخل تحت القواعد العامة للعقود، أو لا يدخل في شيء من هذه الصيغ المحللة، بل يدخل في الصيغ المحرمة الربوية؟
ونحن نحتاج هنا إلى سرد عمليات، البنك المستفيد من هذه البطاقات لنرى حكمها:
1- رسم العضوية (الاشتراك) :
وهذا هو المبلغ الذي يدفعه العميل عند منحه بطاقة الائتمان، ويدفع مرة واحدة فقط.
ويمكن تكييف هذا على أساس أنه أجر على عمل أو منفعة تؤديه شركة البطاقة ووكلاؤها لحامل البطاقة، فهو عبارة عن تقديم خدمة مصرفية لقاء أجر معلوم (والخدمة هي تمكين العميل من شراء وبيع السلع أو الحصول على الخدمات أو تقديمها، وعملية سحب نقدي باليد من فروع البنوك الأعضاء المشتركة في مؤسسة الفيزا أو من أجهزة الصرف الآلي التابعة للبنوك المشتركة) .
وبعبارة أخرى: إن رسم الاشتراك هو أجر مقطوع لقاء إجراءات قبول طلب العميل للحصول على البطاقة، وإجراءات فتح الملف، وتعريف الجهات الخارجية التي سيحتاج التعامل معها، وما إلى ذلك من أمور تتعلق بالخدمة للعميل، فهو يقدم أجرًا ثابتًا على هذه الخدمات والتسهيلات التي تقدم له. وقد ذكر البعض أن هذا الرسم في بعض البنوك يكون عبارة عن مائة وعشرين دولارًا في السنة.(8/1073)
5- أخذ البنك نسبة من ثمن البضاعة أو الخدمة:
إن البنك (حسب اتفاقه مع التاجر) يخصم نسبة من أثمان البضائع والخدمات التي يستوفيها التاجر من البنك عند تسديد البنك قيمة قسيمة البيع أو الخدمات، سواء أكان عند العميل رصيد في البنك أم لم يكن، وهنا يأتي التساؤل عن التكييف الشرعي الفقهي لذلك؟
وقد عرضت هنا عدة تكييفات شرعية لذلك، نعرض أهمها:
التكييف الأول (قرض من مصدر البطاقة للعميل وعمولة من التجار) : قيل "إن بطاقة الائتمان عبارة عن فتح اعتماد للعميل لشراء ما يحتاجه على أن يقوم بسداد القيمة في محدد، فيكون المبلغ قرضًا من مصدر البطاقة لعميله لقاء عمولة من المحلات والتجار". (1)
نقول: إذا كان الأمر كما ذكر سابقًا (من أن البنك يأخذ نسبة من ثمن البضاعة أو الخدمات عند التسديد للتاجر، سواء كان في رصيد العميل ما يكفي لثمن البضاعة أو لا) ، فهو يدل دلالة واضحة على أن ما يأخذه البنك ليس هو في مقابل قرض العميل في صورة عدم وجود حساب دائن عند البنك للعميل، وإلا فلم إذا يأخذ البنك النسبة نفسها إذا كان لدى العميل حساب دائن عند البنك يكفي لثمن البضاعة؟
نعم إذا كان هذا التكييف هو في صورة عدم وجود رصيد دائن لدى العميل عند البنك فيمكن أن يكون ما أخذه البنك من ثمن البضاعة في مقابل القرض كما يمكن أن تكون عمولة من أصحاب المحلات والتجار للبنك على قيامه بعملية تسديد الدين وكالة عن العميل.
ولكن يرد على هذا التوجيه ارتكازية أن تكون العمولة على تسديد الدين هي من قبل المدين الذي قام البنك بالتسديد عنه، بينما نجد أن العمولة يدفعها التاجر للبنك فإذا أضفنا إلى ذلك عدم إعطاء التاجر هذه العمولة للبنك إن لم يقم بعملية الإقراض للعميل، يتضح أن ما يأخذه البنك من ثمن البضاعة هو في مقابل القرض للعميل، وقد استفدنا من أدلة حرمة القرض الربوي عدم جواز الزيادة على المال المقترض للمقرض سواء كانت الزيادة من المقترض أو غيره، وسواء كانت الزيادة للمالك أو لغيره؛ إذ أن الروايات اشترطت إرجاع نفس المال المقترض ليس إلا.
__________
(1) بطاقة الائتمان وتكييفها الشرعي: د. عبد الستار أبو غدة، ص 5.(8/1074)
التكييف الثاني (عمولة على تحصيل الثمن من العميل لدفعه إلى أصحاب المحلات) : إن هذه النسبة التي تحصل عليها شركة البطاقة من أصحاب المتاجر والخدمات هي عمولة على تحصيل الثمن من العميل حامل البطاقة لدفعه إلى أصحاب المحلات والخدمات، مع مراعاة أن العملية فيها تقديم وتأخير، اقتضتهما سهولة أداء المهمة المزدوجة وهي (تحصيل قسيمة البيع وأداء المبالغ لمستحقها) ، فقد بادرت شركة البطاقة بالدفع – من طرفها- لقيمة قسيمة البيع إلى أصحاب المحلات والخدمات، ثم تقوم بتحصيلها من حاملي البطاقات، وهذه المبادرة من شركة البطاقة لأجل ضبط التزامها مع أصحاب البضائع والخدمات، إذ لا تستطيع شركة البطاقة ضبط مواعيد التحصيل من العملاء، في حين أنها يمكنها التحكم فيما تدفعه من عندها ثم تقوم بتحصيله. ومن الواضح شرعًا جواز أخذ أجر معلوم متفق عليه مع كل من تحصيل الدين من المدين لدائنه، أو توصيله إلى الدائن من قبل المدين؛ وما يجوز أخذه من الطرفين، يجوز أخذه من أحدهما كما هو الحال في عمولة السمسرة، إذ يجوز اشتراطها على كل من البائع والمشتري، أو على واحد منهما فقط. (1)
__________
(1) بطاقة الائتمان وتكييفها الشرعي: د. عبد الستار أبو غدة، ص 5(8/1075)
أقول: أولًا: إن هذا الوجه خارج عن العلاقة التي ذكرناها بين البنك والعميل من كون البنك ضامنًا لما يشتريه أو يتلقاه العميل، بل أفترض هذا الوجه أن البنك ليس ضامنًا ولا متعهدًا لما يشتريه العميل، بل البنك يقوم بعملية إقراض للتاجر ويسعى لتحصيل ما دفعه من العميل للتاجر.
وثانيًا: إن هذا التكييف يتوجه لصورة ما إذا لم يكن لدى العميل رصيد دائن كاف لما اشتراه ببطاقته، فيقوم البنك المصدر بالدفع إلى التاجر كقرض حسن، ثم يحاول استيفاء ثمن البضاعة من العميل للتاجر.
وعلى كل حال، لا بد لنا من معرفة أن القصد الحقيقي للبنك هل هو أخذ النسبة من ثمن البضاعة في مقابل تحصيل الدين من العميل إلى التاجر، وليس له أي ارتباط بالثمن الذي قدمه للتاجر، أو أن الأمر بالعكس؟ إذ يكون مرتبطًا بالثمن الذي قدمه للتاجر وكان عنوان العمولة على تحصيل الدين عنوانًا يتستر تحته الربا.
نقول: قد تذكر منبهات على أن القصد هو ربوي تستر تحت الأجرة، منها:
1- إننا إذا قبلنا أن تحصيل الثمن من العميل صاحب البطاقة وتسليمه إلى أصحاب المحلات عملية لها أجر يقوم بها البنك لإمكاناته المتوفرة والعالية، وأن ما يقوم به البنك من تسديد الثمن إلى أصحاب المحلات قبل حصوله عليه هو لأجل ضبط التزامات البنك مع أصحاب البضائع والخدمات، فيكون دفع البنك للثمن مقدمًا إلى أصحاب البضائع والخدمات هو قرض حسن، وقبلنا أن الأجرة يمكن أن تكون نسبة من الثمن حيث إنها مرتبطة بالمنفعة التي يقدمها البنك للتاجر. إننا إذا قبلنا كل هذا ولكن لنا أن نتساءل فنقول: هل تؤخذ هذه النسبة من التاجر حتى في صورة عدم تقديم البنك قرضًا إلى التاجر، وأن هذه النسبة إنما قبلت (كأجرة على تحصيل الدين من العميل) في صورة تقديم البنك القرض إلى التاجر؟(8/1076)
والجواب: فإن كانت الأجرة واحدة في الصورتين، فالقصد هو غير ربوي، أما إذا اختلفت الأجرة في الصورة الأولى عن الثانية، فيتبين أن العملية ربوية، فيخرج القرض عن كونه قرضًا حسنا"ً، بل يكون قرضًا جر نفعًا، حيث إن القرض إذا لم يكن موجودًا تكون الأجرة على تحصيل الدين من العميل أقل بكثير من صورة وجود القرض للتاجر من البنك، ومثل هذا ما إذا أجرت بيتي إليك بأقل من ثمن المثل، فهو عقد صحيح، لكنه إذا اقترن بقرضي كمية من النقود على وجه الالتزام (بحيث لولا القرض لم أؤجر بالأقل) يكون ربويًّا، فهنا كذلك.
وبعبارة أخرى: إن أخذ البنك نسبة من ثمن القسيمة إذا اقترن بعملية قرض للتاجر بحيث لولا هذه العملية القرضية لا يقدم التاجر على إعطاء هذه النسبة من الثمن إلى البنك، ينبهنا إلى أن النسبة من الثمن هي مرتبطة واقعًا بالثمن الذي قدمه البنك إلى التاجر، ولكنها غطيت تحت ألفاظ عمولة تحصيل الدين من العميل إلى التاجر.
2- إذا فرضنا أن البنك لم يتمكن من تحصيل الثمن من العميل، فهل يسترجع البنك ما أقرضه فقط، وهو أقل من ثمن البضاعة، أو يأخذ من التاجر ثمن البضاعة كاملة؟
الجواب: فإن أخذ ما دفعه فقط، فقصده هو قصد حسن ليس فيه شائبة الربا، أما إذا أخذ الثمن كله من دون خصم أجرة تحصيل الدين، فهو منبه واضح على أن الذي خصمه بعنوان أجرة تحصيل الدين هو ربا تستر بالأجرة.(8/1077)
3- إذا افترضنا أن العميل على قسمين:
1- قسم يحمل بطاقة يسدد فيها ثمن ما يشتريه في ضمن شهر واحد من حين الشراء.
2- قسم يحمل بطاقة يسدد فيها ثمن ما يشتريه في ضمن ثلاثة أشهر.
فهل البنك يوافق على القرض للتاجر في كلتا البطاقتين من دون أن تزداد النسبة التي يأخذها من التاجر عند البيع لكل منهما حتى يكون ما يدفعه البنك إلى التاجر هو قرض حسن، وما يأخذه من ثمن البضاعة منهما هو أجرة على تحصيل الدين من العميل إلى التاجر، أو أن البنك يفاوت بين القسمين، فيأخذ من التاجر في الصورة الثانية نسبة أعلى على تحصيل الدين من الصورة الأولى؟
فإذا اختلفت الأجرة في الصورتين، فمعنى هذا أن العملية ليست كما صورت من القرض الحسن، بل النسبة التي أخذت من ثمن البضاعة هي فائدة على تقديم الثمن إلى التاجر.
إن خلاصة كلامنا: لابد من توجيه هذه الأسئلة للبنك فينظر في إجاباته، حتى نعرف قصد البنك الحقيقي عند أخذه للنسبة من الثمن بعنوان الأجرة على تحصيل الدين مع تقديمه القرض للتاجر، وعلى إجابات البنك يكون الحكم الشرعي واضحًا.(8/1078)
التكييف الثالث:
(أجر على قبول البنك لضمان العميل) : قيل: إن البنك إنما يقدم ثمن البضاعة إلى التاجر لأنه تعهد من الأول أن يدفع ثمن السلعة المشتراة من قبل حامل البطاقة، فهو يكون ضامنًا لما يتلقاه العميل من المؤسسة التجارية، فينتقل ما في ذمة العميل من الدين إلى البنك المصدر للبطاقة، وعلى هذا فلا توجد هنا عملية إقراض للتاجر؛ بل في الحقيقة هي عملية إقراض للعميل بقبول البنك ضمانه مع طلبه، فيرجع البنك على العميل بما دفعه إلى التاجر، وعلى هذا يكون أخذ البنك المصدر للبطاقة نسبة من ثمن البضاعة أجرًا على قبول البنك للضمان، وليس هو تنازلًا من التاجر إلى الضامن حتى يقال بأن البنك لا يتمكن أن يرجع على العميل إلا بما أداه إلى التاجر.
وقبول الضمان هذا، وإن كان عقدًا إرفاقيًّا للعميل لا يجوز أخذ الأجرة عليه، إلا أنه ليس عقدًا إرفاقيًّا للتاجر، فيمكن للبنك أن يأخذ نسبة من الثمن لقاء قبوله الضمان للتاجر عن العميل.
وهذا الوجه لا يفرق فيه بين أن يكون للعميل رصيد عند البنك يكفي للمشتريات ولتلقي الخدمات أم لا، لأنه حتى إذا كان عند العميل رصيد عند البنك فهو دائن للبنك، إلا أن الدائن يتمكن أن يضمن المدين لغيره –وسوف تأتي مناقشة هذا الوجه فيما بعد-.
التكييف الرابع (أجر على قبول البنك للحوالة من العميل على البنك للمحال وهو التاجر) : وقد يقال: إن العميل عندما يشتري من التاجر ويوقع قسيمة البيع، فيكون قد أحال التاجر على البنك المصدر للبطاقة، ومن حق البنك المصدر للبطاقة أن يقبل الحوالة عليه بشرط أن يأخذ نسبة من الثمن، أي للبنك أن لا يقبل الحوالة إلا إذا التزم التاجر بأداء مبلغ إلى البنك عمولة على قبوله الحوالة، وبما أن التاجر له نفع في قبول البنك للحوالة عليه، فمن حق البنك أن يأخذ أجرة مقابل هذا النفع الذي قدمه للتاجر (1)
__________
(1) إن هذا التكييف قبله أكثرية أعضاء مجمع فقه أهل البيت (ع) وهو رأي ارتآه رئيس المجمع آية الله الشيخ محمد المؤمن عند بحثه لبطاقات الائتمان في مجلس درسه في قم المقدسة(8/1079)
وهنا أيضًا نقول كتتميم لهذا الوجه: إن قبول الحوالة من قبل البنك وإن كان عقدًا إرفاقيًّا للمشتري لا يحق أن يأخذ منه في قباله أجرًا، إلا أن هذا العقد ليس إرفاقيًّا بالنسبة للتاجر، فيحق للبنك أن يأخذ في مقابل قبوله الحوالة أجرًا من المحال.
ويرد على هذا الوجه بالخصوص: ما إذا كان للعميل رصيد دائن عند البنك، فمن حق العميل أن يحيل التاجر على البنك ليأخذ من حساب العميل، وفي هذه الصورة يقول الفقهاء: "يجب على البنك أن يدفع إلى التاجر من حساب العميل لأنه مدين للعميل، ويجب على البنك أداء الدين للعميل أو إلى من يحوله عليه" وعلى هذا فلم إذا يأخذ البنك عمولة على قبوله الحوالة حتى في هذه الصورة؟
وقد يجاب على هذا الإشكال بأن يقول البنك الذي هو مقترض من صاحب الحساب حسب الفرض: "إنما أقبل منك أيها العميل الاقتراض بشرط أن لا تحيل علي" وبهذا لا يجب على البنك قبول الحوالة بحسب الشرط، فإذا أحال العميل على البنك، فللبنك أن يقول للمحال: أنا أقبل الحوالة علي بشرط أن تلتزم بدفع نسبة من الثمن.
والخلاصة: فإن هذا الوجه يجوز للبنك أن يأخذ أجرًا من المحال على قبوله الحوالة التي حولت عليه من قبل العميل.
ويرد على هذا الوجه والوجه الثالث ما يلي:
1- أن هذا التسهيل الذي أعطاه البنك للتاجر حين صدور البطاقة، وتعهد بضمان العميل وقبول حوالته، قد أخذ عليه أجرًا سميناه رسم صدور البطاقة، فإن البطاقة تصدر لها خدمات مصرفية، منها: أن البنك ضامن لما يشتريه العميل من المؤسسات التجارية، وما يستفيده من أصحاب الخدمات، أو قل: إن البنك يقبل حوالة العميل إذا حول على البنك التجار أو أصحاب الخدمات، وعلى هذا فكيف يجوز للبنك أن يأخذ على نفس هذا العمل نفسه أجرًا مرة ثانية؟(8/1080)
ولو أجيب عن هذا الإشكال بأن رسم الاشتراك ليس هو في مقابل الخدمة الممنوحة ومقدماتها المتمثلة في (شراء السلع والخدمات وعملية السحب النقدي من فروع بعض البنوك الأعضاء أو من أجهزة الصرف الآلي التابعة لها، ومن قبول طلب العميل وإجراء فتح الملف وتعريفات الجهات الخارجية التي سيحتاج التعامل معها وبيان حدود الاستخدام، وما إلى ذلك من أمور تتعلق بالخدمة) (1) بل إن رسم الاشتراك يكون في مقابل مقدمات الخدمة الممنوحة بالبطاقة، أما الخدمة نفسها الممنوحة بالبطاقة لقبول الحوالة من قبل البنك فهو عمل يصح أخذ الأجرة عليه، فيأتي الإشكال الثاني.
2- أن الإرتكاز العرفي والعقلائي يقول: إن عملية الاقتراض أو قبول الحوالة على المحال عليه، أو قبوله لعملية الضمان ليست مما تقابل بالمال لا من المقترض ولا من قبل المسدد له، بل إن العمولة حقيقة هي بإزاء المال المقترض لا في مقابل الاقتراض نفسه أو الضمان نفسه أو قبول الحوالة، وجعل العمولة في مقابل عملية الإقراض وقبول الحوالة والضمان هي مجرد لفظ فقط.
3- ثم لو فرضنا أن البنك والتاجر قد تحررا من الارتكاز العقلائي المتقدم، وجعلت نسبة الثمن في مقابل قبول الحوالة والضمان، فهل هي صحيحة؟
الجواب: إنها غير صحيحة، وذلك لأن النسبة من الثمن التي هي أجر إنما تصح إذا كان في مقابلها عمل قام به البنك قابل للضمان، أما ما لا ضمان له من الألفاظ والأعمال فلا يصح أخذ الأجرة في مقابله، وهنا نقول: إن مالية قبول الضمان وقبول الحوالة هي نفس مالية المال المعطى إلى المؤسسة التجارية، وليس لقبول الحوالة والضمان مالية مستقلة زائدة عن المال المعطى إلى التاجر، وهذا المال المعطى إلى التاجر مضمون على العميل، فلا يصح أخذ أجرة على نفس عملية قبول الضمان أو الحوالة.
إذن تبين أنه ليس عندنا إلا مالية واحدة وهي (المال الذي يعطيه البنك المصدر للتاجر) وهذه المالية تضاف إلى قبول الحوالة أو الضمان باعتبار نفس المال الذي يعطى إلى التاجر، وحينئذ ليس عندنا إلا ضمان واحد وهو ضمان المال المقترض للعميل وقد سدد إلى التاجر، إذن لا يصح أخذ أجرة عليه ولو من قبل التاجر، فإنه إما آكل للمال بالباطل أو أنه قرض لعميل مع أخذ فائدة من التاجر وهو محرم؛ لأن القرض لا يشترط فيه إلا إرجاع نفس المال المقترض.
التكييف الخامس (أجرة سمسرة إلى البنك المصدر للبطاقة) : إن البنك المصدر للبطاقة للعميل، وللمؤسسة التجارية، يقوم بجملة أعمال تنفع الطرفين فهو يقوم بعملية ترويج التعامل مع المؤسسات التجارية، إذ يؤمن لهم زبائن من الدرجة الأولى ويحصل لهم الدين، كما هو يقوم بتقديم منفعة للعميل، إذ يمكنه من شراء أو تلقي الخدمات في أماكن بعيدة من دون أن يقوم النقد لهم بالفعل، ويسهل عليه كثيرًا من الصعوبات التي تنجم من حمل النقود معه، فالبنك يتمكن أن يأخذ عمولة سمسرة من الطرفين أو من التاجر فقط لقاء هذه المنافع التي يقدمها لهم إذا حصلت صفقات بيع أو تلقي الخدمات في الخارج، أما الضمان الذي يوجد في بعض الحالات (كما إذا كان العميل ليس له حساب دائن لدى البنك) فلا أثر له وذلك لأنه لا تزداد العمولة في مقابله.
__________
(1) راجع بطاقات الائتمان، بيت التمويل الكويتي، ص 30- 31(8/1081)
إذن يكون ما يأخذه البنك من المؤسسات التجارية هو أجرة سمسرة عن كل عميل يقوم بالانتفاع من هذه البطاقة بالفعل، وفي هذا الوجه يصح أيضًا ما يأخذه البنك من العميل كنسبة على مشترياته وانتفاعاته أيضًا، وهذه الأجرة تختلف عن أجرة رسم الاشتراك التي هي ثمن للبطاقة وخدماتها الممكنة سواء استفاد منها التاجر أو العميل أم لا، أما هنا فإن السمسرة هي أجرة على وقوع الانتفاع بالبطاقة في الخارج فعلًا.
أقول: إن هذا الوجه جيد إذ اطمأننا بأن التاجر يقوم بدفع هذه النسبة من قيمة القسيمة حتى إذا لم يدفع البنك المصدر للبطاقة قيمة البضاعة إلى التاجر، ويمكن أن نتأكد من هذا في حالة ما إذا كان هناك عميلان للبنك وقد استفادا من هذه البطاقة وكان أحدهما له رصيد دائن لدى البنك، بينما لم يكن الآخر مثله، وقد قام البنك بأخذ هذه النسبة من التاجر ومن العميل على حد سواء، فبهذا يثبت أن الضمان الذي ضمنه البنك لمن لم يكن عنده حساب دائن لدى البنك، وتسديد قيمة القسيمة كان قرضًا حسنًا، ولا أثر له في ازدياد العمولة.
التكييف السادس (عقد بيع بين المصدر والتاجر على أن يبيعه بأقل من الثمن، وعقد بين المصدر والعميل على أن يبيعه بأكثر من الثمن) : إلى هنا كان مسير البحث ينظر إلى العميل على أنه هو المشتري الحقيقي من المؤسسة التجارية، ويكون البنك متعهدًا لتسديد قيمة القسيمة، أما هنا نريد أن نغير مسير البحث بادعاء أن الحقيقة والوقع تقول بأن البنك هو المشتري الحقيقي للبضاعة التي يريدها العميل، ويشهد لهذا بأن المؤسسة التجارية لا تعرف العميل ولا تطمئن إليه، بل هي تعرف البطاقة الائتمانية بواسطة مصدرها، كما أن الذي يدفع قيمة قسيمة البيع هو البنك المصدر للبطاقة، وإذا ما افترضنا أن المؤسسة التجارية لم تتمكن أن تحصل على قيمة قسيمة البيع أو الخدمة من البنك فلا يحق لها أن ترجع على العميل الذي اشترى بواسطة البطاقة، فإن هذه الأمور الثلاثة تشير إلى أن المشتري الحقيقي هو البنك، وعلى هذا نتمكن من تكييف أخذ البنك لحصة من الثمن، باتفاق بين البنك المصدر والمؤسسة التجارية مفاده: تعهد المؤسسة التجارية للبنك في صورة شراء البنك لما يريده عميله؛ بأن البيع يقع بالسعر اليومي مخصومًا منه نسبة من الثمن، وبهذا صححنا أخذ البنك لحصة من الثمن بعد عقد صفقة البيع.
ثم يقوم العميل بشراء هذه السلعة من البنك على أن يسدد الثمن في ضمن شهر واحد مثلًا، ومفاد هذا العقد الثاني هو: أن العميل يشتري هذه السلعة من البنك بزيادة على ثمنها اليومي بنسبة معينة، وهكذا نقول بالنسبة لتقديم الخدمات؛ فإن الحقيقة وجود عقدين:
1- عقد بين المصدر والتاجر: مفاده إذا أرسلت لي أتباعك لتستفيد من خدمات فأنا أعطيك نسبة من الثمن الذي أستلمه منك أو أقدم لك خدماتي بأنقص من الثمن اليومي بنسبة معينة.(8/1082)
2- عقد بين المصدر والعميل؛ مفاده: إذا استفدت أيها العميل من الخدمات التي أهيئها لأتباعي فأنا أريد منك ربحًا بنسبة كذا من ثمنها اليومي، بشرط أن تسدد الثمن في ضمن شهر واحد مثلًا.
وهذا الفرض السادس وإن كان خلاف ما هو المشهود من أن المشتري الحقيقي هو العميل، إلا أن المشهود كان عبارة عن اندماج عقدين مستقلين، كان نتيجتهما حصول العميل على ما أراد، ولكن الدقة في مراحل العمل بالبطاقة الائتمانية يمكن أن تكون عبارة عن عقدين مستقلين الأول منهما كون المشتري الحقيقي هو البنك (لما يريده عميله) بواسطة عميله، والثاني منهما هو بيع البنك ما اشتراه إلى عميله، بزيادة معينة لمدة شهر واحد مثلًا، ولا بأس بأخذ نسبة من الثمن من التاجر ومن العميل معًا.
ومما يؤيد هذا الوجه السادس ما ذكروه من قولهم: بعد إتمام عملية الشراء ببطاقة الائتمان إذا رغب العميل أن يعيد كل البضاعة المشتراة إلى التاجر، ووافق التاجر على ذلك، فإن التاجر في هذه الحالة لا يقوم بدفع وإرجاع قيمة البضاعة المرتجعة نقدًا إلى العميل (حامل البطاقة) بل يحرر له قسيمة دفع بقيمة البضاعة المرتجعة، يحتفظ العميل بنسخة من هذه القسيمة للمتابعة، بينما يقوم التاجر بإيداع هذه القسيمة لدى بنك التاجر الذي يتعامل معه، وذلك حتى يتم خصم القيمة من قسيمة البيع الأصلية، وإيداع القيمة الصافية المستحقة له في حساب التاجر، وحينئذ إذا كان بنك التاجر قد سحب هذا المبلغ من البنك المصدر، فيرجع إليه قيمة القسيمة الثانية، ويبقى البنك المصدر يطالب العميل بتسديد القيمة الصافية فقط (1)
فإن إعادة البضاعة لو كان المشتري حقيقة هو العميل كان من حقه أن يتسلم المبلغ الذي يساوي البضاعة المرتجعة، إلا أننا نرى أنهم لا يسلمون إلى العميل قيمة البضاعة المرتجعة مما يؤيد القول القائل بأن المشتري حقيقة من المؤسسة التجارية هو البنك؛ لذا يوضع في حساب البنك المصدر قيمة البضاعة المرتجعة.
والخلاصة:
إن بعض الوجوه المتقدمة كالخامس والسادس تجوز أخذ البنك المصدر للبطاقة نسبة من ثمن قسيمة البيع من التاجر ومن العميل أيضًا، بشرط أن لا يرتبط هذا بالقرض الذي يحصل من البنك في بعض الحالات ولا بالأجل الذي يشترط فيه تسديد القرض، فمع هذين الشرطين يكون ما يأخذه البنك من المؤسسة بل من العميل أيضًا جائزًا (2)
__________
(1) بطاقات الائتمان، بيت التمويل الكويتي، ص 25
(2) قد يقال: إن النسبة المأخوذة (من التاجر إلى البنك المصدر للبطاقة مثلًا) هي عبارة عن بيع الدين بأقل منه، وهو صحيح للعمومات الدالة على جواز بيع الدين بأقل منه، فإن العميل عندما يشتري يكون مدينًا إلى التاجر، وقد أعطى سند الدين وهو توقيعه على القسيمة، ويتمكن التاجر أن يبيع هذا الدين على البنك أو غيره بالأقل، ولا مانع منه شرعًا؛ لأن المانع أن يأخذ الدائن على دينه أكثر مما أعطى، وهنا الدائن أخذ الأقل فهو عكس الربا مثلًا. ولكن هذا التوجيه بالإضافة إلى أنه غير الذي يجري في الخارج من تعهد البنك المصدر لأداء دين العميل لا يقبله بعض الفقهاء لوجود روايات تقول بوجوب أن يأخذ المشتري لهذا الدين ما دفع إلى الدائن لا أكثر(8/1083)
عمولة تحويل البنك المصدر لما استفاده العميل خارج البلاد:
قد يقال: أن التاجر إذا اشترى سلعًا خارج البلاد، فالبنك وإن كان ضامنًا له، إلا أن التسديد في هذه الصورة يستوجب جهدًا زائدًا على مجرد دفع المال للسلع المشتراة، فيصح للبنك أن يأخذ عمولة على التسديد من العميل كما يصح له أن يأخذها من التاجر، وهذا الكلام يأتي أيضًا فيما إذا استفاد العميل من خدمات خاصة أو سحب نقدًا معينًا خارج البلاد.
ولكن هنا لابد من أن تكون العمولة المأخوذة هي عملة التحويل والتسديد فقط، وهي تختلف عن الفائدة، إذا قبلنا أن البنك قد ضمن العميل أو قبل حوالته، فهو قد أصبح مدينًا للتاجر، ويمكن أن يقول للتاجر: أن الدين الذي كان على العميل قد انتقل إلى ذمتي، وأنا حاضر لدفع المال إليك في بلدي (بلد الضمان) ، فإذا أردت أن أدفع لك المال في بلدك، فأنا آخذ منك نسبة من الثمن، وحينئذ يقوم بنك التاجر بالموازنة بين ما يطلبه البنك المصدر للبطاقة من العمولة وما يطلبه بنك آخر على عمولة تحويل الثمن، فإن كانت العمولة واحدة فإن بنك التاجر أو التاجر سوف يوافق على إعطاء العمولة التي هي عمولة التحويل، أما إذا كانت العمولة كبيرة تختلف عن عمولة تحويل المبلغ نفسه من قبل بنك آخر، فإن التاجر سوف يقول للبنك المصدر: أعطني المبلغ في بلدك، ثم يأمر بنكًا آخر بتحويل المبلغ إليه في مقابل أجر التحويل الذي هو يختلف عن الفائدة لزهادته.(8/1084)
6 – فرق تحويل العملة:
وهي أخذ البنك فرق تحويل عملته إلى عملة أجنبية:
كما إذا سحب العميل ببطاقته مبالغ نقدية من فروع بعض البنوك الخارجية المرتبطة ببنكه بواسطة منظمة الفيزا مثلًا، مباشرة أو من طريق أجهزة الصرف الآلي، فإن البنك المصدر يقوم بتسديد الدين الذي أخذه عميله (صاحب البطاقة) ، وعملية التسديد تقتضي أولًا أن يقرض البنك عميله عملة محلية أو أن العملة المحلية موجودة لدى حساب العميل ثم يقوم بتحويلها إلى العملة الخارجية، فيستحق البنك المصدر الفرق في تحويل هذه العملة وهو ما يسمى بالصرف، فيبيع نقده الذي هو دينار إلى العميل بدولار ثم يسدد دين عميله في الخارج بواسطة الدولار، فيحصل البنك على فائدة الصرف، وهو أمر مشروع إذا كان بهذا القدر.
ثم لا يخفى أن هذا السحب المالي من البنك الخارجي هو عبارة عن إذن من المصدر للبطاقة لبنك خاص أو لكل أحد في أن يؤدي قرضًا عليه لمن يحمل بطاقته، فحامل البطاقة يأخذ النقد على ذمة المصدر وهو مأذون في التصرف فيه، ويتملكه الساحب إما بعنوان أداء الدين الذي له على المصدر (استيفاء) فيما إذا كان الساحب صاحب حساب دائن لدى البنك المصدر للبطاقة وهو أمر لا بأس به، أو بعنوان الاقتراض من البنك المصدر أن لم يوجد له حساب دائن لدى البنك المصدر للبطاقة.(8/1085)
7- أجرة نقل وحفظ المال:
ولو أضيف إلى فائدة بيع الصرف، جرة نقل وحفظ المال من البلد الذي فيه البنك إلى البلد الذي استخدم حامل البطاقة بطاقته فيه، فإن هذا يدخل تحت عنوان الحوالة بأجر، بشرط أن لا يرتبط هذا الأجر بالأجل الذي يجب على العميل التسديد فيه، وإلا كان الربا مستترًا تحت عنوان الحوالة بأجر كما إذا كانت النسبة تكثر إذا كانت البطاقة تجوز التسديد لمدة أطول.
ومن أجل الاطمئنان بأن الأجر الذي يحصل عليه البنك المصدر هو أجر على الحوالة فيجب أن تكون النسبة التي يأخذها البنك كأجر على حوالته هي النسبة التي تحول بها هذه الكمية من الثمن إلى الخارج في بنوك أخرى، أو أن يسمح البنك المصدر للعميل في أن يحول هذا المبلغ بواسطة أي بنك آخر إذا كان يتقاضى أجرًا على حوالته أكثر من البنوك الأخرى، فإنا في هذين الأمرين نكشف عن القصد الحقيقي للبنك المصدر للبطاقة ونجزم بأنه بعيد عن شائبة الربا.
أما إذا كانت هذه النسبة التي تؤخذ كأجر على الحوالة هي أكثر بكثير من قيمة الحوالة التي تحول بها هذه الكمية من الثمن إلى الخارج في بنوك أخرى، ولم يسمح البنك المصدر بتحويل ما أقرضه لعميله إلى البنك الخارجي، فإن هذا يكشف عن أن القصد الحقيقي هو مستتر وراء الأجر على الحوالة أو الوكالة لقضاء الدين، وهو أخذ النسبة من الثمن في مقابل المال الذي يقرضه البنك المصدر للعميل ويحوله إلى البنك الخارجي.
وقد يقال: أن هذه النسبة هي قيمة قبول الحوالة من قبل العميل على البنك المصدر للبطاقة، وهي حوالة على مدين إذا كان لدى العميل حساب دائن عند البنك، أو على بريء إذا لم يكن لدى العميل حساب دائن عند البنك.
ولكن نقول: أن قبول الحوالة ليس معناه إلا إقراض المحيل أن لم يكن له حساب عنده وهو لا يقابل بالمال، وأما إذا كان عند المحيل حساب دائن لدى البنك، فلم يبق إلا ثمن حوالة المبلغ إلى خارج البلاد.
8- الفائدة:
قد يأخذ البنك المصدر للبطاقة غرامات على تأخير العميل عن سداد ما عليه حسب الوقت المحدد، وهذا فائدة صريحة محرمة، ولا بأس بالتنبيه إلى أن بعض بطاقات الائتمان لا تأخذ أي غرامة على تأخير العميل عن سداد ما عليه كما في بطاقة بيت التمويل الكويتي.
9- أجرة استخدام الجهاز الآلي أو نظام التحويل الإلكتروني:
يأخذ البنك نسبة من الثمن المسحوب في مقابل استخدام جهازه الآلي أو نظام تحويله الإلكتروني عند سحب نقود معينة بواسطة البطاقة الائتمانية إذا كانت مخولة بذلك.(8/1086)
وطبعًا أن هذه النسبة من الثمن تقسم بين البنك الخارجي الذي قدم للعميل النقد بعد استعمال أجهزته الآلية أو نظام تحويله الإلكتروني وبين البنك المصدر للبطاقة حيث يكون البنك المصدر للبطاقة وكيلًا عن العميل لقضاء دينه.
وهذه النسبة كأجر على هذا النفع الذي حصل عليه الساحب للنقد، وهي أجرة معقولة مرتبطة بالنفع الذي يحصل عليه العميل، بشرط أن لا ترتبط هذه النسبة بالأجل وليست عوضًا عما أدى إلى حامل البطاقة الذي يدفع العميل فيه ما سحبه من البنك الخارجي إلى بنكه الذي أصدر البطاقة، ولأجل أن نطمئن إلى أن النسبة ليست مرتبطة بالأجل، لابد من أن يكون البنك المصدر للبطاقة يأخذ هذه النسبة من الثمن ممن عنده حساب دائن لدى البنك وممن ليس له حساب دائن لدى البنك بلا فرق بينهما.
10- أجرة الاتصالات الخارجية للحصول على تفويض:
يأخذ البنك عمولة من الذي يحمل البطاقة المرتبطة بمنظمة الفيزا الصادرة عن بنوك أجنبية، إذا سحب عميل البنك الأجنبي ببطاقته من بنك آخر كمية من المال، فيقوم البنك المقدم للدفعة النقدية بأخذ نسبة من الثمن المقدم كأجر على الخدمة المصرفية التي يقدمها، وهذه الخدمة تشمل على تولية عملية التفويض والمتابعة والتحصيل والتسويات.
أقول: قد نقول بجواز ذلك في مقابل الخدمة التي يقدمها البنك المعطي للصفقة النقدية، حيث يكون قد نفع العميل منفعة كبيرة بهذه الخدمات، فهو يستحق أجرًا على خدماته حتى وإن كان نسبة مئوية على ما حصل عليه الساحب، ولكن بشرط أن لا ترتبط هذه النسبة بالأجل الذي يدفع فيه الساحب ما حصل عليه.
تنبيه: إذا كان بين التاجر والبنك المصدر للبطاقة واسطة تؤدي إلى التاجر قيمة قسيمة البيع وهي ما تسمى (بنك التاجر) فإذا هذا البنك يقوم بتسديد قيمة القسيمة ثم يستوفي ذلك من البنك المصدر للبطاقة مقابل نسبة لبنك التاجر، وهذه العملية قد تتم بواسطة تعاقد بين البنك المصدر وبنك التاجر، وقد تتم استنادًا إلى الإذن العام من البنك المصدر بتسديد قيمة القسيمة والرجوع عليه، وتكييف أخذ نسبة من الثمن لبنك التاجر استنادًا إلى قيامه بالتسديد للتاجر وهو عمل يزيد في اعتبار البنك المصدر للبطاقة؛ فصح أن يأخذ بنك التاجر هذه النسبة لقيامه بهذه الخدمة، ولعل هذه جعالة من البنك المصدر لمن يسدد قسيمة البيع نيابة عنه، ولا حاجة للتنبيه على أن بنك التاجر في هذه الحالة يأخذ نسبة من ثمن القسيمة، قد يكون 3 % ولكن يحسم منه نسبة 1 % على عمله الذي قام به نيابة عن المصدر للبطاقة ويبقى 2 % هي للبنك المصدر للبطاقة، يدفعها له عند مطالبته بتسديد ثمن القسيمة.(8/1087)
والخلاصة: لقد تبين لنا أن ما يأخذه البنك من التاجر أو العميل إذا لم يكن مرتبطًا بالأجل الذي يسدد فيه العميل الدين، وكان في مقابل عمل له نفع للتاجر أو العميل فهو أمر مسموح به شرعًا، ولكن لابد لنا من الاطمئنان بأن البنك لم يربط ما يأخذه بعنوان الأجر على عمله بالأجل الذي يسدد فيه العميل ما عليه، نعم إذا لم يسدد العميل ما عليه في الوقت المحدد، فلا يجوز للبنك أن يحسب عليه فوائد فإنه ربا صريح وواضح، وقد تخلت عنه بعض البنوك الإسلامية.
العمليات البنكية الترغيبية
1- جوائز البنك:
هناك بعض العمليات التي يقوم بها البنك كترغيب لعملائه في أخذ بطاقة الائتمان منها الجوائز، فيدفع البنك لمن أصابته القرعة من الذين استلموا بطاقات الائتمان مبلغًا من المال، فهل يجوز للبنك القيام بهذه العملية الترغيبية؟
الجواب: إذا كان البنك هو المقترح لهذه العملية بقصد التشويق والترغيب في فتح بطاقات الائتمان من دون أن يكون لعملائه أي شرط عليه، فهو أمر جائز، أما إذا اشترط عملاء البنك في ضمن عقد قرض البنك وفتح الحساب لديه وأخذ بطاقة الائتمان أن يقيم لهم جوائز بعملية القرعة، فهذه الجوائز تكون محرمة حيث تدخل عند إصابة أحدهم تحت عنوان القرض الذي جر نفعًا لصاحبه بواسطة الشرط.
2- التأمين على الحياة:
إن بعض البنوك تعطي البطاقات الائتمانية الذهبية التي فيها حدود ائتمانية عالية إلى العملاء ذوي الكفاءة المالية العالية، وتمنحهم إضافة إلى الخدمات المتقدمة المتوفرة للبطاقة تأمينًا على الحياة وخدمات أخرى دولية فريدة كأولوية الحجز في مكاتب السفر والفنادق والتأمين الصحي والخدمات القانونية، كما أن بعض البطاقات تتضمن تأمينًا على حياة المسافر حال سفره إذا اشترى بطاقة السفر.
والمهم هنا: وجود تصور عند البعض في عدم تطابق هذا المنح من قبل البنك أو الشركة للتصور الإسلامي (1)
فنقول: أن عقد التأمين هو اتفاق بين المؤمن (الشركة أو البنك مثلًا) وبين المؤمن له على أن يدفع المؤمن عليه مبلغًا من المال معينًا شهريًا أو سنويًا لقاء قيام المؤمن بتدارك خسارة ما (كالحياة) أن حدثت على المؤمن عليه، وقد يكون الشرط هو أن يطلب المؤمن فتح بطاقة الائتمان ويدفع الرسم على ذلك، وأن يكون له حساب من الدرجة الأولى في البنك، فهنا يكون عقد التأمين قد اشتمل على أركان أربعة:
1- الإيجاب من المؤمن له.
__________
(1) بحث عن بطاقات الائتمان المصرفية لبيت التمويل الكويتي، ص 27(8/1088)
2- القبول من المؤمن.
3- المؤمن عليه (الحياة)
4- قسط التأمين الشهري أو السنوي.
وواضح أن الأركان الأربعة متوفرة هنا حيث أن المؤمن له يوجب، ويقبل المؤمن ويكون المؤمن عليه هو (خطر الموت) ، وقسط التأمين هو الرسم الذي يدفعه أو فتح حساب من الدرجة الأولى لدى البنك ليحصل على خدمات منها التأمين على الحياة، وبما أن البطاقة تنتهي إلى سنة فإن بداية ونهاية التأمين أيضًا معينة، وعلى هذا يمكننا أن ننزل عقد التأمين منزلة الهبة المعوضة حيث أن المؤمن له يهب مبلغًا معينًا من المال سنويًا في مقابل ما يحصل على خدمات بواسطة بطاقة الائتمان، ومنها التأمين على الحياة، وحينئذ يجب على المؤمن الوفاء بهذا الشرط؛ وعلى هذا فيكون التأمين بجميع أقسامه صحيحًا شرعًا، لأنه تأمين تجاري عقدي، حيث يقابل بجزء من الاشتراك السنوي.
الخصم من التاجر للعميل:
قد يعلن البنك المصدر للبطاقة عن فائدة للبطاقة تكمن في خصم المؤسسة التجارية نسبة تتراوح بين (5- 30 %) وهذا أمر قد تقوم به بعض المؤسسات التجارية لبعض السلع، وهو يعد من فوائد العميل المستهلك، وهو أمر لا بأس به شرعًا لأنه عبارة عن تخفيض للثمن من قبل البائع، ولا بأس بأن يقول البائع: أن الثمن مائة أو أن يقول: (إن الثمن مائة وعشرون مع تخفيض عشرين لمن يحمل البطاقة الائتمانية) .
تنبيهات:
إن هنا عدة تنبيهات متفرعة على صحة العمل بالبطاقة الائتمانية حيث كيفت الأعمال المنتسبة إليها على أنها أجور على خدمات قام بها البنك المصدر أو البنك الواسطة (بنك التاجر) للتاجر، وللعميل، وهذه الخدمات تستحق أجرًا، وهذا الأجر غير مرتبط بالقرض الذي يحصل في التعامل بهذه البطاقات، حيث أن هذا الأجر يؤخذ –مثلًا- على حد سواء من المتعامل بالبطاقة الائتمانية سواء كان له حساب دائن لدى البنك المصدر أم حساب مدين، فعلى هذا الأساس توجد عدة تنبيهات لا بأس بالإشارة إليها، وأهمها:
1- قد بيع المؤسسة التجارية حاجتها لحامل البطاقة بثمن أعلى من الاشتراء نقدًا، وكذا المؤسسة التي تقدم خدماتها لحملة البطاقات، فهل يصح هذا التعامل أو أنه يحتوي على شائبة ربوية؟
الجواب: أن المؤسسة التجارية قد تنظر إلى أن الثمن الذي تبيع به أحد حاجياتها بواسطة بطاقة الائتمان يحتاج إلى خدمات معينة من أجل الوصول إليه، فقد تصمم من الأول أن السلعة التي تباع ببطاقة الائتمان يكون ثمنها أعلى من السلعة التي تباع نقدًا لعدم احتياج أي خدمات للحصول على الثمن النقدي بخلاف الثمن الذي يكون ببطاقة الائتمان، فهو وإن كان مضمونًا من قبل البنك المصدر، إلا أن الحصول عليه يحتاج إلى خدمات معينة، فتكون هذه الخدمات المعينة داعية لزيادة ثمن السلعة التي تباع بالبطاقة الائتمانية وليست هذه الزيادة هي في مقابل لأجل، بل في مقابل السلعة التي يحتاج الحصول على ثمنها إلى جملة من الخدمات.(8/1089)
2- إذا كان مصدر البطاقة قد تضمن عقده نصًا ربويًا، كما إذا شرط المصدر في عهده مع الحامل للبطاقة دفع فوائد ربوية إذا تخلف حامل البطاقة عن الدفع في فترة معينة، فهل الدخول في هذا العقد إقدام على قبول إعطاء الربا الذي هو حرام؟
الجواب: أن حامل البطاقة إذا أقدم على قبول هذا الشرط بصورة جدية فيكون قد أقدم على التعامل بإعطاء الربا، أما إذا دخل فيه بانيًا على دفع قيمة القسيمة نقدًا، أو في خلال المدة المتفق عليها مع مصدر البطاقة، أو كان قاصدًا عدم قبول الشرط المذكور وعدم دفع الفائدة من تلقاء نفسه إذ يعتقد بحرمتها، فيكون هذا العميل قد قبل العقد ولم يقبل الشرط فلا يكون دخوله في هذا العقد حرامًا.
3- أ- إذا امتنع حامل البطاقة من دفع قيمة القسيمة إلى البنك المصدر، فهل يتمكن المصدر للبطاقة من الرجوع على معتمد البطاقة لاسترجاع الثمن منه؟
الجواب: لا يتمكن مصدر البطاقة من الرجوع على معتمدها لاسترجاع الثمن منه وذلك لأن المصدر كان متعهدًا بالأداء، وبهذا التعهد فقد اشتغلت ذمته بالثمن ووجب عليه أداء ما أخذه العميل من التاجر، وبهذا تكون ذمة العميل مشغولة للبنك المصدر، فإن امتنع العميل من الدفع فقد ضاع مال البنك المصدر أن لم يكن للبنك المصدر إجراء آخر لأخذ دينه من قبله، ومن جملة الإجراءات التي يتمكن البنك من أخذها لعدم ضياع حقه هو "اشتراط البنك المصدر للبطاقة في ضمن تعهده للبائع رجوعه على البائع لو امتنع العميل عن السداد، فهو شرط صحيح بمقتضى قاعدة: المسلمون عند شروطهم ".
ب- إذا أخذ التاجر قيمة القسيمة من بنك التاجر الذي هو مأذون من البنك المصدر للبطاقة بالدفع، ثم امتنع البنك المصدر من التسديد لإفلاسه مثلًا، فلا يتمكن البنك الواسطة (بنك التاجر) من الرجوع على التاجر ولا على العميل؛ لأن الدين قد انتقل إلى ذمة البنك المصدر حسب التعهد الذي تعهد به، وقد دفع البنك الواسطة هذا الدين بإذن من البنك المصدر، إذن يكون البنك الواسطة –وهو بنك التاجر- دائنًا إلى البنك المصدر ليس إلا، فلا يتمكن أن يرجع على التاجر ولا على العميل.(8/1090)
نعم، إذا اشترط على التاجر الرجوع عليه إذا امتنع البنك المصدر من التسديد، فهو شرط صحيح يتمكن بواسطته من الرجوع على التاجر في هذه الصورة.
ج- إذا امتنع بنك التاجر والبنك المصدر من دفع الثمن إلى التاجر لإفلاسهما مثلًا أو لأي شيء آخر فهل يجوز للتاجر الرجوع على العميل؟
الجواب: أن التعهد الذي صدر من المصدر يقضي بأن المال في ذمة المصدر، فيبقى التاجر يطالب المصدر، وليس له الرجوع على العميل، إلا أن يشترط التاجر على العميل الرجوع عليه أن لم يتسلم المبلغ من المصدر فهو شرط صحيح.
خلاصة البحث
إن خلاصة بحثنا المتقدم –بعد معرفة حقيقة بطاقة الائتمان وأقسامها وفائدتها وكيفية المعاملات التجارية بها- يكمن في التكييف الشرعي لها، وقد كانت خلاصته هي:
أولًا: لا إشكال في أخذ رسم العضوية من باب الأجر على عمل أو منفعة تؤديها شركة البطاقة لحاملها، وكذا لا إشكال في رسم التجديد، ورسم التجديد المبكر ورسم الاستبدال عند الضياع أو التلف أو السرقة، للسبب المتقدم نفسه.
ثانيًا: أن أخذ نسبة من ثمن قسيمة البيع للبنك المصدر إنما تصح (وتكون أجرًا على عمل قام به البنك المصدر، ومن قبيل أجر السمسرة مثلًا) إذا كان غير مرتبط بالقرض الذي قدمه البنك وغير مرتبط بالأجل أو بزيادته ونقصانه، ولأجل التأكد من ذلك؛ هو أخذ الأجرة من قبل البنك المصدر للبطاقة حتى إذا كان للعميل حساب دائن لدى البنك المصدر للبطاقة، ولا يفرق في أخذ الأجرة بين العميل الذي له حساب دائن والعميل الذي له حساب مدين لدى البنك المصدر، كما يمكن التأكد من أن القصد هو أجر سمسرة، هو إقدام البنك على أخذ هذا الأجر حتى إذا لم يقدم قرضًا إلى التاجر.
ثالثًا: أن أخذ نسبة من ثمن البضاعة من قبل العميل، وأخذ نسبة من الثمن المسحوب نقدًا خارج البلاد وأمثال ذلك من العمليات التي يتم بها الاستفادة من بطاقة الائتمان كله جائز بشرط أن لا ترتبط هذه النسبة بالأجل أو بالعوض الذي أدي إلى حامل البطاقة، وحينئذ تكون هذه النسبة مرتبطة بالنفع الذي قدمه إليه البنك الخارجي والبنك المصدر للبطاقة غير القرض الحسن الذي زامن هذا النفع، وللتأكد من صحة هذا القصد للقرض الحسن؛ هو أخذ النسبة نفسها من الذي لا حساب دائن لدى البنك المصدر للبطاقة.(8/1091)
رابعًا: إذا لم يسدد العميل ما يجب عليه في ضمن مدة معينة، فلا يجوز للبنك المصدر أن يأخذ منه غرامات على التأخير، فإنها فائدة صريحة محرمة.
خامسًا: يجوز للبنك أن يجعل عمليات ترغيبية للعملاء من قبيل الجوائز أو التأمين على الحياة لمن يسافر إذا اشترى بطاقة سفر معينة، فإن الأول: يجوز إذا كان اقتراحًا من قبل البنك، ولم يشترط عليه العملاء ذلك، وأما الثاني: فهو داخل في عقد بين المصدر والعميل توفرت فيه أركان هذا العقد بصورة صحيحة.
سادسًا: قد تبيع المؤسسة التجارية سلعتها بثمن أكثر من الشراء النقدي لحامل بطاقة الائتمان، وهو أمر جائز وإن كان الداعي إليه هو قيام المؤسسة بخدمات معينة من أجل الحصول على الثمن، وهو أمر جائز حيث أن السلعة قد قوبلت بالثمن الأكثر حين البيع وإن كان الداعي هو تقديم الخدمات للحصول على الثمن.
سابعًا: قد تبيع المؤسسة حاجاتها لحامل البطاقة بأقل من السعر السوقي، وهو أمر جائز بلا كلام، إذ لا فرق بين أن يقول: بعتك السلعة بمائة، أو بمائة وعشرين مع خصم عشرين مثلًا.
ثامنًا: أن استقرار الضمان يكون على البنك المصدر للبطاقة ولا علاقة بين العميل والتاجر أو بنك التاجر، كما لا علاقة بين (بنك التاجر والتاجر) بالعميل.
تاسعًا: يجوز للعميل أن يتعامل مع شركة البطاقة حتى إذا تضمن عقدها معه أيضًا ربويًا بشرط أن يقصد دفع قيمة القسيمة نقدًا أو في خلال المدة المتفق عليها مع مصدر البطاقة، أو كان قاصدًا عدم قبول الشرط الربوي وعدم دفع الفائدة طوعًا، إذ يكون هذا العميل قد قبل العقد ولم يقبل الشرط الفاسد فلا يكون دخوله في هذا العقد حرامًا.
هذا خلاصة ما ذكرناه في بطاقة الائتمان، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.
حسن الجواهري(8/1092)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
بطاقات الائتمان
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الواقع أن البحثين الذين قتدما بين أيدينا درسا الموضع دراسة مستفيضة، وأود أن أنوه بالتصوير الواقعي الاقتصادي لسعادة الأخ الدكتور محمد على القري، وهو رجل اقتصادي معرفو في المملكة العربية السعودية ومن الاقتصاديين الإسلاميين ذوي الغير، فهنا قسم بطاقة الائتمان إلى ثلاثة أقسام، ولهذا لا يمكن أن نعطي أو نصدر حكما عاما على البطاقات جميعها لأنها ثلاثة
موضوع بطاقة الائتمان هو موضوع جلسة العمل هذه، والعارض هو الشيخ محمد علي التسخيري، والمقرر هو الشيخ عجيل جاسم النشمي.
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد الأنبياء محمد وآله الطاهرين وصحبه.
سيدي الرئيس، كتب في الموضوع ورقتان من الأستاذين: الأستاذ الشيخ حسن الجواهري، والأستاذ الدكتور محمد القري بن عيد. سأحاول هنا تتبع ما كتباه مع فهرسة تنسجم مع ما استكتبت به الأمانة العامة.
أعطى الأستاذ القري نبذة تاريخية سار فيها مع تطور التبادل من المقايضة إلى النقود السلعية إلى النقود الائتمانية إلى استعمال البنوك للشيكات، وأخيرًا هو يعتبر بطاقة الائتمان دورًا جديدًا وأداة مالية، جاء دور بطاقات الائتمان ولكل هذه مميزات وخواص. ويعتقد أن عدد البطاقات على مستوى العالم بلغ نحو ثمانمائة مليون بطاقة، كما بلغ الائتمان الذي ولدته هذه البطاقات في أمريكا فقط سنة 1986م مائتين وخمسة وسبعون بليون دولار، وقد ظهرت هذه البطاقات في بداية القرن العشرين بسيطة وتطور العمل بها كما تطورت أنواعه.(8/1093)
صيغة البطاقة الائتمانية:
تقسم هذه البطاقة إلى ثلاثة أنواع بشكل عام، ويجمعها أنها تشكل علاقة بين ثلاثة أطراف، وهذه الثلاثة سوف تمشي معنا، وهي:
الأول: مصدر البطاقة وهو في الغالب بنك.
الثاني: حاملها.
الثالث: التاجر.
فالمصدر يصدر بطاقات ذات مواصفات، والحامل يدفع رسم عضوية ليحصل على هذه البطاقة، وعندما يرغب حامل البطاقة في شراء السلعة أو خدمة يبرز البطاقة فيقوم التاجر بتسجيل رقمها وتوقيعه على قسيمة يوضح فيها ثمن السلعة أو الخدمة، ثم يقوم التاجر بتقديمها إلى المصدر ليحصل على مبلغ القسيمة مطروحًا منه مبلغ يتراوح بين 1 % إلى 8 % من الثمن، والمصدر يضمن ذلك للتاجر؛ طبعًا هذا المعنى بغض النظر عن وجود رصيد للحامل لدى المصدر أم لا، ولكنه يرسل الفاتورة كل شهر مرة ليدفعها حامل البطاقة، فإذا لم يدفعها وتأخر جاءت عليه فوائد. ويبين عقد الإصدار كل الشروط بما فيها الحد الأعلى من الائتمان ورسم الإصدار ومدة الصلاحية. أما أنواعها فهي على ثلاثة أنواع (المشهور منها) :
النوع الأول: ما يسمى ببطاقة الخصوم المدينة، حيث يدعم البطاقة رصيد، فهو أشبه بالضمان النقدي، وتسحب المبالغ –يعني المبالغ التي تأتي في القسائم التي تحصل بعد شراء الحامل من التاجر- من هذا الرصيد، وهذه تشبه الشيك، وهي ما تعمل به بعض البنوك الإسلامية كشركة الراجحي.(8/1094)
النوع الثاني: بطاقة الائتمان العادية ولا ترتبط برصيد لحاملها لدى المصدر، يلتزم الحامل فيها بتسديد مبلغ الفاتورة خلال مدة أقصاها ثلاثون يومًا وإلا – كما قلنا- تمت ملاحقته ملاحقة قضائية، وأشهر أنواعها (أمريكان اكسبرس) .
النوع الثالث: بطاقة الائتمان القرضية، وتمتاز بأن حاملها لا يجب عليه الدفع خلال مدة، بل يمكنه جعل المبلغ بذمته ودفع فوائد التأخير، وأشهر أنواعها (الفيزا والماستر كارد) .
وقد أشار الشيخ الجواهري إلى صيغ أكثر تفريعًا وتعقيدًا نسبيًّا. فمن ناحية المصدر هذه صيغ أكثر تعقيدًا، نجده تارة يوقع عقدًا مع شركة أو شخص خاص نسميه التاجر، وأخرى يصل الأمر به من الشهرة بحيث لا يحتاج الأمر إلى عقد، كما أن المصدر قد يقوم بتوقيع عقد مع بنك أو جهة أخرى حقيقية أو حقوقية تشكل واسطة بين المصدر وبين التاجر، تتعهد بدورها بأداء مبلغ الفاتورة ثم تعود على المصدر بالمبلغ. وقد تبلغ شرهة المصدر حدًّا تجعل البنوك الأخرى تقدم على هذا دون ما حدوث عقد بينها وبين المصدر ثقة منها بأنها ستعود عليه بما دفعته. كما أن ما يأخذه المصدر من الحامل تارة يكون نفس قيمة الفاتورة وأخرى يزيد عليه بنسبة معينة، وربما كانت تتراوح بمقدار المدة المسموح بها للدفع، فإذا تأخر بعدها أخذت نسبة إضافية. كما أن إصدار البطاقة لمن يريدها قد يكون مجانًا وقد يكون في قبال رسوم سنوية وقد يكون ببيعها ممن يرغب فيها، كما أن ذلك قد يشترط بفتح حساب لدى المصدر وأخرى لا يشترط. ثم إن البطاقات قد توجب الدفع خلال شهر واحد وأخرى لا توجبه ولا تحدد الدفع الفوري، فإذا دفع فورًا فهو، وإلا وضعت عليه فوائد مباشرة. كما أن البطاقات قد توجب الدفع الفوري خلال مدة أو تسقط دفع المبلغ إلى آجال متعددة. وهناك بطاقات كثيرة منها البطاقة الذهبية والبطاقة الماسية والبطاقة الخضراء. سماوية أو برونزية بعضها.(8/1095)
أما بالنسبة إلى فوائد البطاقة، الفوائد يقال: إنها تعود على المصدر والحامل والتاجر وعلى المجتمع أيضًا، أما المصدر فيحصل على رسوم إصدار البطاقة وتجديدها، وتجديدها المبكر، وعلى نسبة من ثمن السلعة أو الخدمة يستوفيها من التاجر وربما من الحامل أيضًا، وعلى فرق سعر العملة الأجنبية إن سدد بها وربما أخذ أجرة على وفاء الدين خارج البلد، وكذلك على غرامات التأخير، ويحصل على نسبة من الثمن في مقابل استخدام نظام تحويله الإلكتروني، وربما أخذ عمولة على دفعه النقود لبطاقة ائتمان تصدرها شركة الخدمات، هناك شركات خدمات فقط مثل شركات الفيزا الائتمانية، وربما أمكن تصور حوض من السيولة لديه بسبب تدفق المدفوعات قبل التسديد، كما يمكن تصور دخول أخرى كدخول الحجوزات وأمثال ذلك، هذا بالنسبة للمصدر.
أما حامل البطاقة فتشكل لديه وسيلة دفع جاهزة مأمونة تمكنه من الشراء في أية ظروف جاهزة، كما تيسر له الدفع بأية عملة كانت فيستريح من مسألة خروج العملات من البلد وإدخالها إلى البلد وذلك في البلدان التي تفرض قيودًا على العملة، كما أنها تحمل معها وسائل المحاسبة؛ بل قد يلتزم التاجر بتخفيض ثمن السلعة أو تقسيطها له. وبعض البطاقات تمنح صاحبها التأمين على الحياة، وحدودًا ائتمانية عالية وخدمات دولية كأولوية الحجز في مختلف الأماكن، وبعضها يدفع جوائز وهدايا، وضياعها لا يوجب إلا مسؤولية محدودة، كما ذكر الشيخ القري المباهاة فائدة لذلك أي أنه يقول: أنا أحمل هذه البطاقة أي أنها نوع من المباهاة. وكذلك مسألة توزيع الدخل يستطيع حامل البطاقة أن يوزع دخله الشهري بشكل منظم. أما التاجر فيستفيد من الحوافز التي توجدها البطاقة يعني حتى المفلسين إذا كانوا يحملون بطاقة يمكنهم أن يشتروا. وربما أضاف إلى قيمة الفاتورة، بل وإلى كل القيم حتى تلك التي تدفع نقدًا، أضاف الفرق إلى القيمة؛ لأن الدول التي تقبل هذه البطاقات لا تسمح بسعرين للسلعة. ثم إن التقسيط عن طريق البطاقة يتفوق على التقسيط من التاجر مباشرة، كما أنه قد يستفيد من حملات الدعاية التي ينظمها المصدرون يعني أنهم يذكرون اسمه في حملة الدعاية، وكذلك يستقطب عملاء جددًا وعملاء من النوع الممتاز مثلًا، كما يسلم من مخاطر الاحتفاظ بمبالغ نقدية كبيرة في المحل. أما الآثار الاجتماعية فهي تارة إيجابية وأخرى سلبية، فمنها:
أ- توسع السوق –السوق تتحرك وتتوسع- وزيادة حجم الطلب ما ينسجم مع العرض على السلع والخدمات مما يزيد في نظر الاقتصاديين معدل النمو الاقتصادي، وأثره السلبي هو تقليل معدل الادخار وتراكم الديون، وأضيف إليه أنا أيضًا مسألة اتساع الطلب الكاذب أو ما نسميه (الإسراف في الشراء) . الإسراف في عملية الشراء أي طلب كاذب يعني أنه هو ليس لديه قدرة لكن عنده كارت وعندها يشعر بشيء من المباهاة، يشتري أكثر فيصير إسرافا في عملية الشراء.(8/1096)
ب- تقليل التعامل بالنقود وتوفير قدر أكبر من الأمان للأفراد.
ج- يؤدي انتشارها إلى تحول الائتمان الخاص ببيع السلع والخدمات من الشركات المنتجة إلى البنوك، ومعناه استتباع ذلك نمو القطاع المالي واتجاه الأرباح نحو النشاطات المالية دون الإنتاجية، وأنا أعتبر هذا الاتجاه منحى سلبيًّا إلا أن يفسر بتفسير آخر.
د- يؤدي إلى زيادة حجم السيولة في الاقتصاد من خلال زيادة قدرة المؤسسات المالية المصدرة على خلق الائتمان بدون حدود، يعني هذا الكارت يمكن بالاتفاق يخلق ائتمانًا عاليًّا جدًّا.
هذه الفوائد التي ذكرت في البحثين جمعتها بشكل كامل.
المهم هو أنواع التكييف أو التخريج الفقهي لهذه العملية. جاءت في البحثين تكييفات فقهية أمر عليها مع بعض التعليق مؤكدًا على أن أهم إشكال يورد على نفس العملية هو ذلك الخصم الذي يأخذه المصدر من الفاتورة التي يصدرها التاجر ويوقع عليها الحامل، لكن هذا سيكون آخر حديثي، أذكر الإشكالات الأخرى يعني موارد الإشكال التي هي سهلة الحل حتى نصل إلى هذا المورد. منها موضوع رسم الاشتراك وذلك عندما يريد أن يشترك يجب أن يدفع رسمًا، أو العضوية، أو التجديد المبكر يريد أن يجدد بشكل مبكر قبل انتهائها، أو التبديل. أشكل عليه بأنه لا يعلم –أشكل عليه الدكتور القري- بأنه لا يعلم أن دفعه يتم مقابل أي شيء؟ فإن كان لمجرد العضوية وحصوله على القدرة وعلى المباهاة، فهو كما يبدو في رأيه أكل للمال بالباطل، وإن كان في قبال عدد المرات التي سوف يستفيد بها فيها من هذه البطاقة التي يتمتع بها، ففي العقد جهالة أو غرر، هذا العقد يعني في مقابل رسم العضوية جهالة أو غرر.(8/1097)
جوابه: أعتقد أنه واضح في بحث الشيخ الجواهري الذي يؤكد على أنه أجر على عمل أو منفعة يؤديها المصدر تمكنه من القيام بهذه العملية النافعة.
من الإشكالات موارد الربا المسلمة كما في فوائد تأخير الدين، يعني إذا تأخر حامل البطاقة عن التسديد إلى المصدر عن المدة المعينة، وهي في الحقيقة أعتقد أنها مسألة لا تمس صميم موضوع البطاقات وإنما تعرض عليها من خلال هذا التأخر فيجب على حامل البطاقة ألا يتأخر. وحينئذ وقع هنا بحث جديد في مسألة التوقيع على عقد فيه شرط من هذا القبيل، الشركات الأخرى تشترط إذا تأخرت عليك، بدفع كذا، معلقًا على التأخير، فهل هو عمل فاسد ومفسد أيضًا؟ إذا وقع على العقد الذي فيه مثل هذا الشرط الفاسد فاسد بنفسه أو فاسد ومفسد لعقد؟.
تردد الدكتور القري –حفظه الله- في الإجابة لاختلاف الأقوال، وأجاب الشيخ الجواهري بعدم الضرر إذا كان قد قرر هذا الحامل عدم التأخير من الأول فتوقيعه توقيع صوري في الواقع.
من الإشكالات ما يقوم به بعض المصدرين من تسييل الديون التي لهم على الحاملين بتحويل ما بذمة الحملة إلى أدوات مالية تعرض للبيع على بنوك أخرى. وقد أشكل الدكتور القري عليه أنه من باب بيع الدين لغير من هو عليه وقال: إنه باب من أبواب بيع الكالئ بالكالئ، الصحيح هذا الأمر حتى لو تم أيضًا يعد من عوارض البطاقة، يعني ما تقوم به يقوم به المصدرون، والتي يجب أن ينتهي عنها المصدرون، على أن في مسألة بيع الدين لغير من هو عليه بحثًا مفصلًا، وهل يدخل تحت بيع الكالئ بالكالئ؟ أنا أعتقد أنه لا يدخل تحت هذا البيع، هذا في محله أيضًا.(8/1098)
هذا وقد قلنا: إن أصل الإشكال في تكييف العلاقة بين الاثنين بما يحقق إمكانية خصم جزء من ثمن الفاتورة لصالح المصدر، كما يحقق الالتزامات والخصائص الأخرى للبطاقة. هذا هو أصل الإشكال. من هنا جاءت تكييفات فقهية أشار إلى بعضها الدكتور القري بإشارة عابرة، ولكن بشكل غير مباشر عندما قدم مقترحاته للبديل. ذكر الشيخ الجواهري مجموعة منها بالتفصيل، - فهذا هو التكييف الأول- من قبل الحامل للتاجر على المصدر. فلنلاحظ هذا التكييف وتفصيلاته ثم نستعرض تكييفات أخرى.
التكييف الأول: الإيرادات التي تذكر على تكييف الحوالة والتي ذكرها الشيخ:
أولًا: قيل: إن أحد أطراف الحوالة لم يدخل في العقد وهو المصدر فلا يعلم رضاه أثناء عقد الحوالة، المصدر لا يعلم بتحقق هذا، متى يتحقق هذا المعنى؟ وأجاب بأنه وإن كان هناك اختلاف بين الفقهاء في اعتبار رضا المحال عليه إلا أنه حتى لو قلنا باعتباره، كما هو الأقوى لو كانت على مليء فإن المصدر أعلن رضاه منذ قبوله بإعطائه الكارت أو البطاقة.(8/1099)
ثانيًا: تم الإشكال في صحة الحوالة على المليء في حالة ما إذا لم يكن للحامل رصيد لدى المصدر حتى مع رضاه، وأجاب عن ذلك بأنه المشهور لدى علماء الإمامية، وعقب هو بأننا لو بقينا والعمومات الشرعية فإنها تصححها باعتبارها عقدًا عرفيًّا ولم يتعرض لرأي العلماء الآخرين.
الشيخ الجواهري يقول: هذا مؤشر على أن هذه النسبة عندما كانت مئوية فهي ربوية، وأضاف الشيخ الجواهري مؤكدًا على أن قبول الحوالة ليس مما يقابل بالمال فمالية قبول الضمان أو الحوالة هي نفس مالية المال المعطى للتاجر، فالعمولة ليست إلا بإزاء المال المقترض فهي ربا. والحقيقة هي أننا لو لاحظنا مجمل الخدمات والتسهيلات التي قدمها المصدر كخدمات التحويل وتسهيل التعامل والخبرة ومنها أيضًا مسألة قبول الحوالة برمتها وما يترتب عليها لرأينا أن أخذ عمولة عليها لا يعد عرفًا أكلًا للمال بالباطل ولا يعد في مقابل القرض ليعود ربا.
التكييف الثاني: ملخصه أن المصدر أقرض الحامل ثمن السلعة وأخذ من التاجر العمولة، وربما كان ذلك في قبال تسديد المصدر لدين التاجر. يعني التاجر يطالب الحامل، المصدر هو يسدد دين التاجر وفي مقابل هذا التسديد وهذه الخدمة يأخذ أجرة، لا في قبال القرض المقدم للحامل، فهو يؤخذ حتى ممن له حساب دائن لدى المصدر، أي لو كان الحامل له حساب دائن لدى المصدر، مع ذلك يؤخذ من التاجر هذا المقدار. وقد رده الشيخ الجواهري بأن الواقع يقرر أن المبلغ مأخوذ في قبال القرض وإلا فإن التاجر لن يقدم على تقديم عمولة لو لم يقدم المصدر على الإقراض، فهو إذن قرض جر نفعًا فهو محرم. والحقيقة هي أن هذا التصوير غير واقعي في نفسه، أي أنه لا ينطبق على الواقع القائم، ولكنه لو كان واقعيًّا فلا مانع من أن يتصور التاجر كل عمليات التسهيل التي يقدمها المصدر ويلاحظ منافعه ثم يقدم على دفع العمولة.(8/1100)
التكييف الثالث: إن هذه العمولة تؤخذ على تحصيل الثمن من الحامل المدين للتاجر هنا على تحصيل الثمن، طبعًا مع ملاحظة أن في العملية تقديمًا وتأخيرًا، يعني البنك هو يقدم رأسًا ثم هو يذهب ويحصل، هذا التقديم والتأخير لا يضر.. اقتضته سهولة دفع المصدر ليكون التزامه منضبطًا، ولا مانع من أخذ أجرة لقاء تحصيل الدين أو توصيله، والمصدر هنا ليس ضامنًا للحامل وضمانه إنما هو لضبط التزاماته، وإذا لم يكن للحامل لدى المصدر حساب كانت العملية عملية إقراض له دون فائدة، فهي عملية إقراض للحامل وأخذ هذا المبلغ من التاجر لتحصيل دينه. وقد رده الشيخ الجواهري أيضًا ذاكرًا بعض المنبهات على القصد الحقيقي للعملية. حقيقة هذه المنبهات لم تنبهني فبقيت مع صحة هذا المعنى، ولا أريد أن أذكرها كلها إلا أن الظاهر أن المعمول به في الخارج لا ينسجم مع هذا التكييف ولو انسجم فلا بأس به.
التكييف الرابع: إن العمولة أجر على قبول البنك لضمان الحامل، فينتقل ما في ذمة الحامل إلى المصدر عند إقراضه الحامل، وقبول هذا الضمان وإن كان عقدًا إرفاقيًّا للحامل فلا يمكن أن يأخذ أجرة من الحامل باعتبار أنه عقد إرفاقي، فلا يجوز أخذ نسبة من الثمن منه، لكنه ليس كذلك بالنسبة للتاجر فيمكنه أن يدفع الأجرة لقاء قبول الضمان. وقد ناقشه الشيخ الجواهري أيضًا باعتبار أن الارتكاز العرفي يرى أن قبول الضمان لا يقابل بمال، بل ماليته هي مالية المال المعطى للتاجر؛ وسبق أننا لم نقبل مثل هذا الاستدلال.
التكييف الخامس: ملخصه أن ما يأخذه المصدر من ثمن البضاعة هو أجرة سمسرة، وبطبيعة الحال هو دلال، وبطبيعة الحال هو يقوم بجملة خطوات تسهل العملية وتنفع التجار والعملاء. وقد ذكره الشيخ الجواهري وهو وجه وجيه كما أعتقد.
هذا وقد ذكر تكييفا سادسا أعرض عنه لأنه غير واقعي، يعني يجعل الحامل في الواقع نائبًا عن المصدر في الشراء. وهكذا نجد أن كل الوجوه المذكورة تامة لتصحيح العملية في رأينا، وإن لم يتم بعضها في رأي بعض الباحثين الكرام. بقيت هنا مسائل فرعية نتركها اختصارًا للوقت. إلا أن من الضروري أن نلاحظ أن البطاقة إذا كانت مما يسحب بها النقود والعملات من المصارف والشركات والأشخاص فلا محال هي حوالة عليهم، ولا تصدر إلا بعد قبول المحال عليه، والظاهر صحة الحوالة وجواز السحب بها. في الخاتمة ذكر الأستاذ القري بعض الخطوط العامة أذكرها سريعًا للوصول للصيغة المشروعة في رأيه، وهي:
أولًا: أن يكون الإصدار من جهة حكومية عامة وذلك لأسباب اقتصادية باعتبار أن الإصدار هو في الواقع في مثيل إصدار النقود.(8/1101)
ثانيًا: بناء العلاقة بين المصدر والتاجر على أساس الحوالة، فإذا لاحظنا شرط المالكية باشتراط أن يكون للمحيل على المحال عليه دين، أي أنهم يرفضون الحوالة على مليء وإلا كانت حمالة، فالمقتطع هو أجرة الحمالة، وينص في العقد على عدم براءة ذمة المحيل.
ثالثًا: يجب حذف عملية القروض المتجددة، فإذا ماطل العميل يعاقب بإلغاء عضويته، ويهدد بظروف جزائية أو وضعه في القائمة السوداء، وما إلى ذلك.
رابعًا: ويحسن أن ينص في عقود الإصدار على أنه لا يسمح لحاملها – وهذا غريب إذا جاء هذا النص بعد ... لا يصبح بطاقة- ببيع البضاعة على نفس البائع، وإلا فهي أداة للعينة ولا لسواه؛ لأن ذلك نوع من التورط، ففي الأول يقال: لا تملك الحق، أي لا تبعها للبائع ولا لغيره.
خامسًا: ويجب تقديم البطاقات دون مقابل، وهنا يجعل المصدر مجرد ضامن فليس له أخذ رسوم من الحامل؛ لأن أخذ الأجرة على الضمان باطل. ويمكن صياغة العلاقة بين المصدر والحامل ضمن عقد الضمان فلا يجوز الأجر على ضمان، كما يمكن صياغتها وفق الوكالة وحينئذ يستطيع أن يأخذ أجرًا على وكالته، ولكن بشكل خصم من فاتورة التاجر.
هذه هي سيدي الرئيس – وأعتذر إن كنت قد أطلت- الخلاصة، ولكني أعتبرها وافية جاءت بلب الموضوع، وأعتذر لكم، وأشكركم على حسن الاستماع، وشكرًا.
الرئيس:
شكرًا، في الواقع الشيخ أعطى ملخصًا جيدًا عن بطاقة الائتمان، لكن كان بودي لو ربطت بين الحاضر والماضي، وهو أن هذه البطاقة سبق أن درست في الندوة التي عقدت في البحرين وأن الندوة لم تصل إلى شيء بات فيها، وكان من أعضائها الحاضرين الشيخ المختار والشيخ الصديق، وكذلك درست في الدورة السابعة الماضية قريبًا ووزع على الجميع الآن القرار الذي حصل فيه التوقف، ثم هناك لفتة مهمة وهو أنه كان بودي لو ذكر ملخص أسباب التوقف التي حصلت في الدورة الماضية لأجل أن ينظر هل هي لا تزال قائمة؟ وحصلت بحوث استكتب أصحابها فغطت هذه الجوانب أم لا؟ هذه أشياء مهمة لأن بطاقة الائتمان أذكر أن الإخوة الاقتصاديين في الدورة قالوا: إنها غير مستقرة، يعني في كل وقت، من وقت لآخر يحصل لها أوصاف زيادة ونقصان، فعلى كل شكرًا للشيخ علي.(8/1102)
الشيخ محمد علي التسخيري:
سيدي الرئيس، أنا أولًا: ما كان ينبغي أن أكون أنا العارض لأنني لم أكتب فيه، وعندما جئت إلى هنا فقط قيل لي. وثانيًا: لم توزع أو لم أعط السوابق حتى ندوة البحرين، وثالثًا: ما قلته تقريبًا فيه روح ما قيل في الموضوع، يعني فيه كل الإشكالات وفيه كل الأجوبة. معذرة هناك شيء، أصبح هذا مثل النقود، يعني هذه واقعة مرحلة نقدية فيجب أن نلحظ الأهمية، وعندما نقول ندرك أن الأثر السلبي قوي، والأثر الإيجابي قوي؛ يعني كلا الطرفين.
الدكتور محمد عطا السيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك.
في الحقيقة نفس الملاحظة، لاحظت أن المرة الماضية عندما ناقشنا بطاقة الائتمان وصلنا إلى مشاكل معدودة، وبالتالي توقفنا عن إصدار قرار في هذه المسألة، وبكل أسف لاحظت أن هذه البحوث –أيضًا- لم تتغلب على هذه الصعوبات التي توقفنا عندها المرة الماضية، وهذه الصعوبات بالتحديد، وأنا أريد أن أذكر بعضها:
الأولى: أن بطاقة الائتمان بالطريقة المعمول بها الآن، أن الذي يحمل البطاقة يذهب إلى التاجر أو المحل التجاري ويشتري البضاعة وذلك ببطاقة الائتمان ولا يدفع نقودًا، ولكن بالبطاقة يحول المبلغ إلى البنك، ثم بعد ذلك يدفع البنك هذا المبلغ ويأخذ عمولة من التاجر. التاجر لا يضع أسعارًا معينة منفصلة لأصحاب البطاقات ولكن هذه الأسعار عامة، فمعنى ذلك أن التاجر يأخذ في حسبانه النسبة التي يأخذها البنك من أصحاب البطاقة ويضيف ذلك السعر في أسعاره؛ يعني هذا المبلغ في حساباته للأرباح في جملة التجارة الموجودة في المحل التجاري. ولذلك أرى أن في هذا إجحافًا كبيرًا جدًّا ببقية المشترين الكثر الذين لا يمتلكون بطاقة الائتمان يأتون إلى المحل، ويشترون وهم الناس الضعاف الذين لا يستطيعون أن يتحصلوا على بطاقة الائتمان؛ لأن بطاقة الائتمان لا تعطى إلا للذين يستطيعون أن يدفعوا، أي عندهم دخل عال، وعندهم مصدر كبير ولذلك يعطيهم البنك هذه البطاقات. فإذا معنى ذلك أن الأشخاص الذين لا يمتلكون ذلك الدخل يشترون البضاعة بأثمان أكثر، والسبب في ذلك هو العمولة التي يأخذها البنك من أصحاب بطاقات الائتمان، فلا بد أن ذلك يؤثر في زيادة الأسعار في السوق، وفيه خطورة على التضخم –لا شك في ذلك- وظلم وإجحاف ببقية الناس الذين لا يحملون بطاقة الائتمان.(8/1103)
الناحية الثانية: بطاقة الائتمان بالطريقة المعمول بها الآن، العقد فيه ناحية ربوية لا شك فيها؛ لأن البنك يريد من الذين يحملون بطاقة الائتمان أن يشتروا البضائع، يعني يمكن لهم أن يشتروا ما شاءوا، ودائمًا البنوك تبتغي أن يدفعوا هذا المبلغ بالتقسيط وتضع عليهم أرباحًا بناء على هذا التقسيط، وهذه الفائدة التي تبنى على هذا التقسيط في دفع ثمن البضاعة هذا التقسيط هو بعينه الربا، حتى أنه ذكر في أحد البحوث أنه قد يمضي هذا البنك هذا العقد الربوي ويكون في نيته أن يدفع المبلغ بدون تأخير، لكن قد يحصل – وهذا شيء متوقع- أنه في يوم من الأيام نسبة للمشغوليات لا يدفع المبلغ، فإذن يضع عليه البنك أتوماتيكيًّا فائدة ربوية يكون مجبرًا، ولا مخرج له إلا أن يدفع هذه الفائدة أو أن تلغى بطاقة الائتمان.
فإذن معنى ذلك توقيعه على هذا العقد من البداية توقيع على عقد ربوي، وفي رأيي هذه المسألة غير مقبولة، أنا لا أعارض على مبدأ بطاقة الائتمان، لكن الأخذ به بصورته الحالية الموجودة بين البنوك والمتعاملين – أصحاب البطاقة- غير مقبول إسلاميًّا في رأيي.
ولذلك أرى أنه إذا كنا نريد أن نقدم هذا النظام في وضعنا الإسلامي الشرعي يجب أن نكيف بطاقة الائتمان بطريقة مختلفة تمام الاختلاف عما هي عليه الآن في البنوك التجارية التي في بلادنا، وشكرًا.(8/1104)
الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحقيقة أؤيد جملة ما قاله الأخ الشيخ عطا في أن هذا العقد يشتمل على قرض جر نفعًا وفيه ربا؛ لأن احتمال ضم الفائدة على هذه الديون التي تستقر على صاحب البطاقة إنما هو من قبيل ضم الشرط الفاسد إلى العقد الأصلي، وهذا عند الإمام أبي حنيفة الشرط الطارئ يفسد العقد تمامًا كما لو كان مصحوبًا به أصل العقد، هذا شيء.
كذلك في حالة أخرى، هذا الذي يضم من البنك على نفس التاجر وهو الخصم من 1 % إلى 8 % هو يشبه أيضًا حالة خصم الكمبيالة، فخصم الكمبيالة أيضًا نحن لم نقر هذا العقد لأنه من قبيل دفع شيء في مقابل التأجيل، وذلك خاضع أيضًا للقواعد الربوية، إذن لا مجال لتصحيح هذه البطاقات إلا على أساس الحالتين اللتين ذكرهما فضيلة الشيخ التسخيري –وقد أجاد في عرضه- إما أن تكون هذه البطاقة كما تفعل مؤسسات الراجحي بحساب للعميل عند البنك وهذا لا إشكال فيه، وإما أن تكون من غير مقابل وهذا أمر مقبول. هذا شيء.
وأنتقل إلى شيء آخر له صلة بالقضايا العامة، وعودًا على بدء افتتاح هذه الجلسة المباركة والتي أهنئ فيها رئاسة المجمع وأمانته، إن هذه الجلسة كانت غنية بمواضيع ومستويات ارتقت عن كثير من الدورات السابقة وخصوصًا فيما يتعلق بالإعداد واختيار الموضوعات، وحبذا لو كنا سعداء لما حذفنا موضوع (حقوق الإنسان) لأن هذا العام عام حقوق الإنسان فلو صادفنا الحظ وكان لنا قرار في هذا العام يكون أوقع للاعتبارات العالمية. هذا ما يتعلق بموضوعات هذه الجلسة، أما ما يتعلق في جلسات الافتتاح فإني باعتبار أننا في آخر يوم من جلسات المؤتمر، أرجو كما هو المتبع حينما نوجه برقية شكر لسلطان هذه البلاد على استضافته لهذه الدورة أرجو أن نضمن أن المؤتمر يتعاطف ويؤكد على ما أبداه السلطان من الاتجاه نحو تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاده والتسريع في هذا الأمر، هذا شيء.(8/1105)
والشيء الآخر النقطة الهامة التي تشغل العالم الإسلامي أيضًا أن يكون هناك عمل رسمي من الدول الإسلامية في دعم جهاد إخواننا في البوسنة والهرسك وإن كان الغالب أن المجمع لا يتعرض للقضايا السياسية؛ لكن هذه قضية الساعة على الأقل إن لم يكن لنا فيها توصية أو قرار أن نضمنها في برقية للسلطان فهذا مهم؛ لأن العالم دائمًا يسألون ماذا فعلتم في قضية البوسنة والهرسك؟
القضية الثانية: إنني سعدت حينما قرأت خطاب معالي وزير الشؤون الدينية في أنه تضمن اقتراحًا يصلح أن يكون محلا لندوة مستقلة أو موضوعًا من الموضوعات المستقبلية للمجمع، وهو قضية العمل على وضع منهجية للفكر الإسلامي والعمل الإسلامي فقد أشار سعادة الوزير إلى أن هناك أناسًا كثيرين يرفضون العمل بالسنة ولا يعتبرون إلا القرآن الكريم وهذا فيه مسخ للشريعة. وهناك توضيح لا أريد أن أضيفه إلى ما قاله سعادة الوزير وهذا كلام في غاية الدقة. أمر آخر وهو أن المدرسة الحديثة ممن تربوا في أحضان الغرب وعلى أيدي المستشرقين ينكرون كل هذا العمل الذي نقوم به ويدعون لأنفسهم أنهم أنصار البحث الحر والتجديد وأننا نحن المتخلفون وهم المتقدمون، وهؤلاء يتربعون على كراسي مهمة في الجامعات العربية والإسلامية بحجة التجديد ولهم دعم وتأييد، ودائمًا نحن نتهم بأننا في مرتبة ثانية وهم في الطليعة، فهؤلاء أنكروا كثيرًا من العلوم منها: علم أصول الفقه – كما يذكر الوزير- ومنها علوم أخرى، فأرجو أن يضمن في موضوعاتنا المستقبلية إما ندوة أو بحث لهذا الموضوع وهو يدور حول المنهجية الإسلامية لنلقي حجر أولئك الذين يتطفلون على الفكر الإسلامي وعلى قضاياه وعلى أصوله وعلى أسسه، وحينئذ نكون قد أبرأنا الذمة أمام هؤلاء.
القضية الأخرى التي أشار إليها فضيلة الرئيس في العام الماضي وفي هذا العام في افتتاح كلتا الدورتين أن هناك سيلًا من الكتب التي تحمل السموم وفيها الزيف والانحراف والضلال، ويؤثر في تفريق وتمزيق الأمة الإسلامية وهذه الكتب كثيرة منها في تونس ومنها في مصر ومنها في سوريا ومنها في الحجاز وبلاد أخرى في الخليج وما أكثر هذه الكتب التي تدس السم في الدسم وتسيء إلى الفكر الإسلامي إساءة بالغة والتي كما أشار فضيلة الرئيس بالذات قضية الطعن في الصحابة وفي السلف الصالح، والحقيقة نحن كلنا تألمنا، وإذا كنا نطعن في أصول تاريخنا فلا خير فينا، والله لو حملنا وقلنا لأننا نحن الأوصياء على الإسلام في هذا العصر ونطعن في واحد من أصول سلفنا الصالح فلا خير في هذه الأمة ... كتب تدرس وتنقح ويشار لها، ويكون لنا قرار يشجب هذه الكتب وأصحابها ونبين حكم الله وشرعه في أصحاب هذه الكتب التي لا تريد بالإسلام والمسلمين إلا شرًّا.(8/1106)
وأشكر سلفًا كلا من معالي الرئيس والأمين العام على الاستجابة لهذين المقترحين أو الاقتراحات الثلاثة وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أنا أشكر أخي فضيلة الدكتور وهبة الزحيلي على هذه الاقتراحات التي تفضل بالإعلان عنها وطلب من الأمانة العامة أن تضعها موضع الاعتبار بالنسبة للدورات القادمة، لكني أريد أن أبادر من الآن إلى القول بأننا في تخطيطنا هذه السنة وضعنا جملة ندوات من بينها ندوة حول الفكر الإسلامي وبنائه، هذا وقع الاتفاق عليه وسيقع الاستكتتاب لبعض المتسكتبين قريبا إن شاء الله. أما بقية الموضوعات فهي تشغل بال المسلمين عامة والمفكرين منهم والذين يهمهم أمر هذه الأمة وهذا الدين، لأنه قد نخره كثير من الأمراض والأدواء، ومن واجبنا أن نقف أمام هذه التيارات لنحد من شرها ولندعم البناء الإسلامي دعما حقيقيا، ولذلك فإن ما تفضلتم به من إشارة الشيخ حفظه الله العام الماضي وفي هذه السنة في مفتتح الدورة إلى هذه القضايا هو في الواقع شغل بال كثير من الإخوان أيضا، وقد أشرت إلى هذا عند الحديث عن السنة النبوية والرد على خصومها بأن هيئة تكونت في المملكة العربية السعودية لدراسة هذه القضايا من أطرافها- كل هذه الموضوعات- والإخوان الذين اجتمعوا في هذه الندوات قد تقاسموا الموضوعات، وكونوا ملفا لكل قضية من القضايا، ونحن ماضون- إن شاء الله - في دراستها، فهذا للتطمين.
وأنا أشكركم مجددا على هذا الاقتراح. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/1107)
الشيخ إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الأساتذة الأفاضل.
عندما قرأت الأبحاث التي قدمها الأساتذة عن بطاقة الائتمان تبين لي أن الإخوة يخرجون هذه البطاقة على عقود مالية - كما يدعون- شرعية بغية إيجاد المخرج الشرعي لها، فالذي فهمت من هذه الأبحاث ما يلي:
أولا: إن هذه البطاقة تعتبر من قبيل الكفالة أو ما يعبر عنه في الفقه الإسلامي بكفالة الدرك، وقد اختلف الفقهاء في جوازها بين مجوز وممانع، ولو أخذنا برأي القائلين بالجواز فكيف نسوغ للكفيل أخذ الأجرة على كفالته؟
ثانيا: إن هذه البطاقة تعتبر من قبيل الجعالة، وأيضا لا يمكن تخريج هذه البطاقة على الجعالة، لأن الجعالة من المعروف لدى حضراتكم أنها تصدر عن إرادة منفردة، يلتزم شخص بدفع شيء من المال لمن يأتي له بجعله من سيارة أو دابة أو ما أشبه ذلك.
وفي بطاقة الائتمان - كما يصورها الإخوة - هي عقد يتم بين أطراف ثلاثة. إذن لا يمكن أن نخرج هذه المسألة على الجعالة.
ثالثا: من الإخوة الباحثين من اعتبر أن المسألة هي عبارة عن حوالة. أقول: كذلك لا ينطبق على هذه المسألة مفهو الحوالة، لأن الحوالة تفترض وجود دين مسبق بذمة المحال عليه ولا بد هنا من رضا المحيل، وهنا لا يوجد دين على البنك لنعتبر المسألة من قبل الحوالة، ولا يتصور لنا في هذه المسألة أيضا رضا المحيل.
رابعا: الفوائد التي يجنيها البنك من جراء إصداره البطاقة، منها ما هو مقبول شرعا ومنها ما هو مرفوض، فالمقبول منها مثل استيفاء رسوم تجديد البطاقة أو رسوم تبديلها أو ما شابه ذلك، إذ أنه لا يعدو عن كونه فعلا كما ذكر الإخوة الباحثون أنه أجر على عمل أو منفعة تؤديه الشركة التي تصدر هذه البطاقة ووكلاؤها لحامل البطاقة.
أما تحصيل البنك على نسبة من مثمن البضاعة يستوفيها من التاجر حسب الاتفاق معه عند تسديده لقيمة قسيمة البيع أو الخدمة أو يحصل على نسبة من الثمن عند تسديد العميل ما عليه كأجر على تسديد البنك دينه الذي للتاجر وهذا لا يجوز. وما يقال: لدفعه إلى أصحاب المحلات التجارية، أقول: إن هذا التكييف غير مقبول شرعا أيضا، لأنه لو تصورنا بأن البنك كفيل أو وكيل بدفع الدين مثلا: فعلى أي أساس يجوز له أن يأخذ أكثر مما دفع؟ وعلى أي أساس يدفع له التاجر الذي هو دائن في الأصل جزءا من الدين؟ ففي هذه الحالة لا تعدو المسألة عن أن تكون إبراء للكفيل لجزء من الدين، وينبغي أن يكون ذلك إبراء للأصيل أيضا كما قرره الفقهاء في محله - رحمهم الله تعالى - والله الموفق، وشكرا سيادة الرئيس.(8/1108)
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الواقع أن البحثين الذين قدما بين أيدينا درسا الموضوع دراسة متسفيضة، وأود أن أنوه بالتصوير الواقعي الاقتصادي لسعادة الأخ الدكتور محمد علي القري، وهو رجل اقتصادي معروف في المملكة العربية السعودية ومن الاقتصاديين الإسلاميين ذوي الغيرة، فهنا قسم بطاقة الائتمان إلى ثلاثة أقسام، ولهذا لا يمكن أن نعطي أو نصدر حكما عاما على البطاقات جميعها لأنها ثلاثة أنواع، منها التي تحدث عنها بطاقة الخصوم أو البطاقة المدينة وقال: إنها تمثل شيكا وذلك عندما يكون لصاحب البطاقة رصيدا في ذلك البنك، فالبنك يسحب من رصيده القيمة التي يشتري بها تلك السلعة، وقال: هذه تأخذ حكم الشيك، وهذه واضحة جدا.
البطاقة الائتمانية القرضية: وهذه الحكم فيها واضح، وذلك لأن حامل البطاقة يعتمد في مشترياته على البطاقة دون دفع للثمن ويوفر دخله للاستثمار في نواح أخرى، ويضع البنك على كل مبلغ يشتري به فائدة وعمولة، وهذا هو المعمول به في الغرب، وليس لهذه البطاقة - عادة - وجود في الشرق الأسلامي على الأقل أو في البلدان العربية.
تبقى البطاقة العادية وهي التي نعرف تصويرها تماما، ذلك أن البنك يدفع قيمة المشتريات إلى التاجر ويدفع العميل القيمة إلى البنك. أظن بهذا التصوير وبهذه الطريقة يمكن أن نصل إلى نتيجة.
البحثان نظرا إلى العملية، عملية واحدة، ابتداء من شراء العميل وانتهاء بتسديد البنك دون أن ينظر إلى جانب فقهي آخر، هذا الجانب الفقهي الآخر وهو ما يسمى في الفقه بـ"تفريق الصفقة"، والذين ذهبوا إلى تحريم هذه البطاقة ركزوا أو كل إشكالياتهم على العمولة التي يأخذها البنك المصدر من التاجر، ولذلك أبطلوا العمل بهذه البطاقة. هذا هو تحرير محل الإشكال، وهو العمولة التي يأخذها البنك المصدر من التاجر، كما قلت سابقا: إنهم نظروا إلى الموضع على أنه معاملة واحدة. عندنا في الفقه الإسلامي ما يسمى بـ"تفريق الصفقة"، وهو إذا تمضنت الصفقة قسما حلالا وقسما حراما فعندئذ تجوز الصفقة فيما هو حلال وتحرم فيما هو حرام وهذا هو مذهب الحنفية، وكذلك بعض المذاهب الأخرى لا أذكر ذلك أكانوا الحنابلة أم المالكية إنما أنا متأكد أن الحنفية يقولون بتفريق الصفقة. فعندئذ العلاقة بين العميل وبين البنك سليمة جدا خصوصا إذا سدد في الموعد المحدد. اشتريت السلعة بثلاثين ريالا أدفع للبنك ثلاثين ريالا دون زيادة أو نقص، فهنا العلاقة ما بين حامل البطاقة وبين البنك المصدر علاقة شرعية مئة بالمئة ولا غبار عليها، عندئذ العلاقة ما بين المصدر وما بين التاجر فالبنك المصدر يأخذ عمولة على ذلك.
فضيلة الأستاذ الجواهري بتكييفاته الستة رأى أن التكييف الخامس والسادس تكييفان جائزان، وحمل أحدهما على أساس السمسرة، وجعل هذين الوجهين صحيحين- الذي هو التكييف الخامس والسادس - وعندئذ كما هي القاعدة عند الحنفية " إذا احتمل العقد وجها للصحة ووجها للبطلان فيجب أن يحمل على وجه الصحة " وشكرا.(8/1109)
الشيخ عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى وآله وصحبه وسلم.
لا شك أن موضوع بطاقات الائتمان موضوع هام، وأخشى إن انتظرنا إلى الدورة القادمة ربما يتوسع في تطبيقاته، لأن الاتجاه في كثير من البنوك الإسلامية هو التوسع في بطاقات الائتمان. وأعتقد أن الصورة الأولى صورة ليس عليها إشكال، وهي أن يفتح العميل له حسابا في البنك ويسحب منه عن طريق البطاقة، وهذه حكمها حكم الشيك.
لكن الإشكال في الحالة الثانية والثالثة. فالحالة الثانية - حقيقة- أخف من الحالة الثالثة، وإشكالها هو الدخول في عقد فيه شرط ربوي. أنا أميل إلى أنه لا يجوز الدخول في عقد فيه شرط ربوي ابتداء، وإن التزم بينه وبين نفسه بأن يسدد قبل أن تترتب عليه فوائد.
الإشكال في البطاقة الثالثة؛ وهي التي تتجدد فيها الفائدة كلما استعمل العميل البطاقة ولا يدفع - حقيقة - هو ما عليه من دين وإنما يدفع فوائد التأخير. وإذا أخذنا بالاعتبار أن سعر الفائدة بالبطاقة هو ضعف سعر الفائدة في الحالات العادية وأحد الأبحاث ذكر أن سعر الفائدة وصل في بطاقة الائتمان إلى 23 % بينما هو سعر الفائدة لم يزد عن 10 % في ذلك العام. يضاف إلى أن مصدر البطاقة يحصل على رسوم، لكن هذه الرسوم في الحقيقة غير محددة قد تكون 1 % لكن هي في الحقيقة تزيد. فإذا كان عند استخدام البطاقة خارج البلاد تزيد النسبة وهو فرق تحويل العملة، وإذا كانت لسحب نقدي أيضا تزيد.
فمعنى هذا أن هذه الرسوم غير ثابتة.
وينبغي أنه ننتبه إلى الآثار السلبية التي وردت في بعض الأبحاث، لعل أهم هذه الآثار أنها بالنسبة للدول النامية كدولنا هي دول استهلاكية، فاستخدام البطاقة يرتب على مستخدمها ديونا وتتراكم عليه الديون، والمحصلة هو أن يصبح العملاء مدينين للبنوك؛ لذلك ليس من الحكمة في هذا أن نوجه دولنا إلى النوع الثالث بالصورة التي هي مطبقة في البلدان الغربية.
بالنسبة للعلاقة بين حامل البطاقة والتاجر، لعل الاتجاه إلى تكييف العلاقة على حوالة- هذا طبعا بالنسبة للصورة الأولى والثانية إذا أجزناها- هي أقرب التصورات المطروحة كتخريج فقهي. فالعميل الذي هو مستخدم البطاقة هو المحيل والتاجر هو المحال، ومصدر البطاقة أو البنك هو المحال عليه، إذا لم يكن هناك دين على المحال عليه، وهذا شرط عند المالكية فيمكن أن يخرج على الحمالة- كما أشار أحد الباحثين- ويكون ما يأخذه البنك أو مصدر البطاقة حينئذ أجرة على الحمالة.
أعتقد إذا استطعنا أن نخرج من هذه الدورة بتصور واضح حول البطاقة الثانية نكون قد قدمنا شيئا، والله أعلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/1110)
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الواقع أن الغالب على بطاقات الائتمان أنها تنتهي إلى غاية سيئة هي نوع من التعاون على الإثم والعدوان، وذلك أن الغالب على نهاية مديونية هذه البطاقات- في الواقع- تنتهي إلى البنوك الربوية، وهم يفرحون بتضخم أو بكثرة هذه المديونية حتى يكون لهم من الفوائد الربوية ما يعتبرونه ربحا لهم.
أما من حيث تعليل ذلك فهي أولا، أول ما تبدأ باختصاص حيث يعطي مصدر هذه البطاقة حاملها الاختصاص في أن يقوم باستعمالها في شراء وتبادل ما يريد شراءه دون أن يدفع ثمنا، وهذا- في الواقع- يبدأ بالاختصاص ثم بمزاولته هذا الاختصاص. ومزاولة هذا الاختصاص يعتبر في قوة الحوالة من حامل البطاقة نفسه إلى الدائن نفسه ثمن البضاعة التي اشتراها منه. ممكن أن يجاب على القول أن من شروط الحوالة أن تكون على دين مستقر، هذا ليس محل اتفاق بل هناك من أهل العلم من قال بأن الحوالة لازمة ومعتبرة، ولو لم يكن في ذمة المحال عليه شيء من المبلغ أو من الدين نفسه، لا سيما إذا كان راضيا بذلك إلا أنها تنتهي إلى ما ذكرته من أنه نوع من التعاون على الإثم والعدوان في إتاحة الفرصة للبنوك الربوية في أن تحصل على نشاطاتها الربوية، وهذا لا شك أنه وسيلة أو غاية سيئة، ولا شك أن للوسائل حكم الغايات.
الراجحي عالج هذه القضية وأصدر بطاقات ائتمان ولكن هيئة الرقابة الشرعية لديه ألزمته بأن من شروط هذه البطاقة ألا يطالب مزاول حق هذه البطاقة بأي فوائد ربوية أو أي حسومات تؤخذ عليه لقاء استعماله هذا الحق. وهذه على كل حال أبعدت هذا المحظور، فإذا أبعدت المحظور فهي تبدأ باختصاص، والاختصاص يجوز بيعه أو يجوز الاستعاضة عنه. تبدأ بحوالة، والحوالة هناك من لا يشترط أن تكون مستقرة؛ أي لا يكون الدين مستقرا في ذمة المحال عليه إذا لم يترتب على نهايتها ما هو محظور من شأنها أن تقي حاملها من الاعتداء على ما يملكه من مال أو ما يمكن أن يضيع عليه أو ما يمكن أن يكون سببا من أسباب قلقه.
هذا هو رأيي، وشكرا لكم.(8/1111)
الشيخ رضا عبد الجبار العاني:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
لقد اطلعت على البحثين المقدمين، ومجمل الرأي في البحثين أن جهودا محمودة قد بذلت في إعدادهما ويشكر صاحباهما عليهما.
بالنسبة للشيخ الجواهري، أخذ الإجراءات واحدة بعد الأخرى ثم بدأ يخرجها صورة صورة، وكأن التصرف مستقل أو كأن هذه التصرفات مستقلة عن بعضها ولكنها كلها مترابطة، وقد وقع في إشكالات حينما تعرض لمسألة التأمين فافترض أنها هبة بعوض مع أنه قرر أن التأمين يكون مؤقتا لمدة معينة، والهبة بعوض عند جماهير العلماء هي بيع، فأين العوضان هنا؟ ثم هل يجوز أن يكون العقد هنا مؤقتا؟ الهبة لا تكون مؤقتة، وخاصة الهبة بعوض هي بيع، والبيع لا يؤقت.
الدكتور القري أيضًا لم يحسم المسألة، لأنه في الحقيقة السؤال القائم في المجمع هو: ما هو تكييف هذه البطاقات؟ فلم يحسم المسألة، فتردد بين الحوالة وغيرها، وقد وقع في تجويز أخذ الأجر على الكفالة في بحثه حينما اعتبر جواز الأجر على الحمالة، والحمالة – كما نعرفها- هي الكفالة، والكفالة بأجر لا تجوز.(8/1112)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
لا أريد أن أكرر ما قلته في السنة الماضية وفي الندوة التي عقدت بإعدادها بالبحرين، ولكن ناحية جديدة بعد تتبعي لبطاقة الائتمان وهو في تكييف رسم الإصدار، فهل يصح أن رسم الإصدار هو مقابل خدمات لإعطاء البطاقة؟ هذا ما كنت أظنه وهذا ما بنيت عليه بحثي ومناقشاتي ولكن بعد النظر في حقيقة البطاقة الذهبية وجدت أنها تتضمن أيضًا تأمينًا على الحياة، وأن صاحب البطاقة إذا اشترى تذكرة سفره بالبطاقة فهو مؤمن على حياته وفي حدود معينة، ذلك التأمين إنما هو ناتج من تأمين عام لكل المشتركين، فإذن ارتبطت البطاقة بموضوع آخر وهو موضوع التأمين على الحياة الذي أظن أننا قد حسمناه وأنه لا يجوز.. وبناء على ذلك لابد من تكييف البطاقة تكييفًا من جميع نواحيها وزيادة البحث في كل مقوماتها، لأنه في كل يوم تظهر لنا ظاهرة.(8/1113)
الدكتور عبد الله إبراهيم:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا لسيادة الرئيس بحيث إني لم أتمكن من الكلام إلا اليوم وأشكر العارض على عرضه القيم، ووأشكر جميع المناقشين قبلي الذين استفدت منهم الشيء الكثير.
فبالنسبة للموضوع المعروض للمناقشة أمامنا اليوم وهو بطاقة الائتمان، فإنني أعتقد بالنسبة لهذا الموضوع إنما يمكننا الرجوع إلى المبدأ الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة فوجد الناس يتعاملون في المعاملات التي منها ما يتفق ومبادئ الشريعة الإسلامية ومنها ما لا يتفق، فهنا عندما نسمع من المناقشات ومن العرض الواضح فإننا نجد هناك نوعًا من الأنواع وهو النقود، وهي بعض البطاقات التي أصدرتها بعض المؤسسات المالية كشركة الراجحي، حيث إننا يمكن أن نقبل هذه البطاقة على أساس عقد الإقالة بأجرة، ويفترض للإقراض عليه أن يكون الحاصل على هذه البطاقة على عقد واضح وهو عقد الوكالة بأجرة، إلا أن هذه البطاقة يمكن أن نتعامل بها في نطاق ضيق، ولا يمكن مثلًا بالنسبة للدول المتقدمة حيث إنها لا تقبل المعاملات إلا بالبطاقة، فحينئذ يمكن أن نأخذ بمبدأ الحاجة ويسمح على نطاق ضيق بالتعامل بأي بطاقة من البطاقات التي لا تتعارض مع مبادئ الشريعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/1114)
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
كما هو واضح من البحثين المقدمين في هذه الدورة في البحوث السابقة أن بطاقة الائتمان ثلاثة أنواع، ولذلك فالحكم عليها من وجهة النظر الشرعية لا يمكن أن يكون حكمًا واحدًا كما قال أحد الذين سبقوني بالكلام، ولذلك رأيت أن أقسمها قسمين لإصدار الحكم على كل قسم:
القسم الأول: وهو ما إذا كان حامل البطاقة له رصيد في نفس البنك الذي أصدر البطاقة (عند المصدر) .
القسم الثاني: وهو ما عداه إذا كان حامل البطاقة ليس له رصيد في البنك.
والمرجع في هذا التقسيم هو هل في هذا العقد المركب عقد قرض أم ليس فيه؟
في الصورة الأولى ليس هناك قرض بين المصدر وحامل البطاقة، في الصورة الثانية التي تضمن صورتين، فيه قرض من المصدر إلى صاحب البطاقة، لأنه واضح في كل ما قلت في هذين النوعين أن المصدر (البنك) يدفع الثمن للتاجر ثم يحصله بعد شهر أو كيفما كانت المدة من حامل البطاقة وأحيانًا قد تأتيه الفرصة وهو يسحب على المكشوف حتى لو كان عنده حساب، وفرق بينهما لأن بعضها بأنه يأخذ فائدة، وهذه لا محل للكلام فيها، وبعضها سكت عن أخذ الفائدة.
رأيي في هذا النوع الثاني أنه لا يجوز لأنه إما فيه نص صريح على أخذ الفائدة صراحة أو بصفة ضمنية وفيه شبهة الربا، وهو أخذها ضمنيًّا مستترة في مبلغ آخر هو إما الرسوم التي تدفع أولًا أو النسبة التي يأخذها مصدر البطاقة من التاجر، لأنني أشك شكًّا كبيرًا في أن هذه النسبة تدفع من التاجر فعلًا، بل هي تدفع من التاجر ظاهرًا لكنها في واقع الأمر تدفع من حامل البطاقة، وقد رأيت بعض البحوث صرح بهذا، التاجر يحمل حامل البطاقة هذه النسبة 3 % أو 4 % ويضيفها إلى الأسعار، وإلا لا يفهم أنه يدفع من عنده، وخصوصًا أنا سألت في هذه الحالة هل التاجر يبيع لحامل البطاقة بنفس السعر الذي يبيع به لغير حاملها؟ فكان الجواب: نعم، فقلت: كيف إذن يدفع 3 % أو 4 % من الثمن الذي باع به لحامل البطاقة، معنى ذلك أنه يبيع لحامل البطاقة بأقل من الثمن الذي يبيع به لمن يدفع نقدًا وهذا بالطبع رأيي في عالم التجار.(8/1115)
ولذلك الرأي الذي انتهيت إليه هو أن النوع الثاني والثالث والذين أدمجتهما في نوع واحد لا يجوز، النوع الأول هو الذي يمكن الأخذ به والذي هو أن حامل البطاقة له رصيد، المصدر يعطيه البطاقة ويقول له: اذهب فقدم هذه البطاقة إلى من شئت من الأماكن التي تتعامل معها وخذ ما شئت من السلع، ويقول له حامل البطاقة أيضًا: إذا جاءتك فاتورة وعليها توقيعي فادفع من المبلغ الذي عندك للتاجر، وتكييف هذه يسير، تكييفها وكالة واضحة، حامل البطاقة يوكل المصدر في أن يدفع من رصيده للتاجر، ما يتقدم به من الفواتير.
بقيت نقطة خاض فيها جميع الكاتبين وهي موضوع التكييف، والواقع أنه لم يعجبني أي واحد من التكييفات التي ذكرت لا حوالة ولا كفالة في الصور؛ لأن الذي استقر عندي أن حامل البطاقة ليس في ذمته شيء، هو يأتي ويقدم هذه البطاقة ويأخذ السلعة وليس مدينًا للتاجر، وبعض البحوث ذكرت صراحة أن البطاقة مملوكة لمصدرها، ولذلك الذي ترجح عندي أن العلاقة هي بين التاجر والمصدر، وحامل البطاقة هذا رسول فلا يمكن أن نقول: إن هناك كفالة أو حوالة لأنه لا يوجد أصيل؛ حامل البطاقة ليس أصيلًا بدليل أن البحوث جميعها متفقة على أن التاجر لا يستطيع أن يطالب حامل البطاقة، هو سيطالب مصدر البطاقة، فكيف تكون كفالة؟
على أي حال الذي توصلت إليه مما قرأته أن حامل البطاقة لا يطالب، والمعروف في الكفالة أن المكفول له يستطيع أن يطالب الكفيل، وهو في هذه الحالة يجب أن يكون حامل البطاقة ويستطيع أن يطالب الكفيل، وهذا غير متحقق في بطاقات الائتمان، فالمصدر لا يطالب حامل البطاقة إلا في حالة ما إذا كان هناك تزوير أو شيء من هذا القبيل، الموضوع ينقلب إلى موضوع آخر، لكن في أصل العقد لا يطالبه.
فمن هنا استبعدت التكييف بالحوالة والكفالة ولا أرى داعيًا للتكييف فيها، فلنقل معاملة جديدة بين ثلاثة أطراف بهذه الكيفية وليس فيها غرر، وأستغرب من الذين يتحدثون عن الغرر، لا أدري أين الغرر في هذا؟ لم يبينوا ذلك أكتفي بهذا.(8/1116)
الرئيس:
شكرًا، يا شيخ الصديق، النقطة التي أثارها بعض الباحثين على أن حامل البطاقة لحملها أثر على التأمين على الحياة، هل تؤثر في الحكم؟
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
لا، أنا رفضت هذا بتاتًا، هذا لا يكون إلا فيما يسمى بالبطاقات الذهبية وهذه تدخل في القسم الثاني الذي منعته، هذا بمجرد ما وجد عقد قرض في بطاقة الائتمان هذه أمنعها بتاتًا، لأنها تؤدي إما إلى الربا الصريح أو الربا المستتر، وقد تأتي هذه الإضافات إذا كان هناك تقييد، في الواقع هذا يكون نتيجة عقد جديد، كما لو أضيف فيها تأمين على الحياة، وهذا قطعًا كما قال الإخوة: المجمع فصل فيه وانتهينا منه، يعني قد يأتي السؤال: لو اشترط في النوع الأول التأمين على الحياة؟ قطعًا هذا ممنوع، وشكرًا.(8/1117)
الشيخ تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الواقع أن الكلام في موضوع بطاقة الائتمان ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: وهو ما يتعلق بالعلاقة بين المصدر والحامل، وموضع النظر والإشكال في هذه العلاقة شيئان بين مصدر البطاقة وبين حاملها.
1- هو رسوم الدخول أو الرسوم السنوية التي تدفع إلى المسلف من قبل حامل البطاقة، كيف تكيف هذه الرسوم؟ فالذي يتضح لي أن رسوم الدخول أو الرسوم السنوية في الواقع هي عوض عن بعض الخدمات التي يؤديها مصدر البطاقة، وليس فيه خدمة القرض فقط بل هناك خدمات أخرى، فإن حامل البطاقة يستطيع بفضل هذه البطاقة أن يحصل على عدة خدمات في عدة مجالات، فرسوم الدخول هذه رسوم أو عوض عن خدمات يقدمها المصدر، والنقطة التي أثارها فضيلة الشيخ المختار السلامي –حفظه الله- هو أن في البطاقة الذهبية تأمينًا وتأمينًا على الحياة، فالذي أراه أنه إذا كان هناك زيادة في رسوم الدخول لقصد التأمين فحينئذ لا يجوز بتاتًا لأننا قد انتهينا من موضوع التأمين على الحياة وأنها حرام وفيها قمار وفيها ربا، أما إذا لم يكن هناك إضافة أو زيادة في رسوم الدخول لغرض التأمين بل تكون رسوم الدخول كما هي للبطاقات العادية ولا أعرف ما هو الواقع ولكن إذا كانت رسوم الدخول هي هي وقد أفاد مصدر البطاقة بأنه أمن على حياة الحامل بدون اشتراط منه فحينئذ هي شيء قد فعله بنفسه، فحينئذ لا يحمل حامل البطاقة مسؤوليته ولكن لا يجوز له أن يأخذ ما تعطيه شركة التأمين إليه أو إلى ورثته بعد وفاته.
2- النقطة الثانية في العلاقة بين المصدر والحامل هي أن المصدر يشترط على الحامل أنه إذا لم يؤد الثمن في موعد محدد فإنه يحمل فائدة، فهل يجوز للمسلم أن يدخل في مثل هذه المعاملة؟ والمخرج من هذا هو ما ذكره فضيلة الشيخ محمد الصديق الضرير أنه إذا كان هناك رصيد من قبل الحامل في نفس البنك ويأخذ البنك من ذلك الرصيد ويدفع به الثمن للتاجر، فهذا لا مانع منه شرعًا، أما إذا لم يكن هناك رصيد ولكن عزم حامل البطاقة وحصل على البطاقة بعزمه الصميم على أنه لا يتأخر في الأداء، ومن المعروف أن مصدر البطاقة لا يتقاضى الفائدة فورًا، وإنما يعطيه فرصة لمدة شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر، فإذا كان الرجل على العزم الصميم بأنه لا يتأخر في الأداء ولا يحمل الفائدة ولا يدخل في معاملة ربوية، فهل يجوز له ذلك أن يحصل على مثل هذه البطاقة أو لا يجوز؟ هذا أمر توقفت فيه لأن هناك ناحية ينبغي أن ننظر فيها وأنا أقول ذلك على سبيل التفكير بصوت عال، وهو أننا نجد في كثير من قوانين البلاد تفرض على المشارك أي مشتري الكهرباء أو مستخدم التليفون أنه إذا لم يؤد الفواتير في موعدها المحدد فإنه سيحمل الفائدة، فهل نقول: إنه لا يجوز لمسلم أن يشتري الكهرباء أو يشتري التليفون من أجل أنه قد دخل في هذا الشرط الربوي؟ فالظاهر أنه إذا كان على عزم صميم بأنه يدفع الفواتير في موعدها وقبل أن تفرض عليه الفائدة فإنه ينبغي أن يجوز له ذلك، فهل يجوز قياس هذه المسألة على مسألة البطاقة، بأنه إذا حصل على البطاقة بعزمه الصميم على أنه يدفع الفواتير في موعدها فإنه يمكن أن نقول: إنه يجوز.(8/1118)
القسم الثاني: وهو العلاقة بين المصدر والتاجر، فمعروف أن المصدر يأخذ من التاجر نسبة معينة، ما هو تكييف هذه النسبة التي يأخذها المصدر من التاجر؟ فقد تحدث البحثان عنها، والذي أميل إليه هو أنه في الواقع ما يأخذه المصدر هو عمولة من التاجر لجلب الزبائن إليه؛ لأن هذه البطاقة توفر للتاجر زبائن ومن يكون حاملًا للبطاقة فإنه لا يذهب إلى تاجر إلا إذا قبل هذه البطاقة فييسر له الزبائن ويجلب له الزبائن، فيمكن تخريجه على هذا الأساس، أنه عمولة لجلب الزبائن.
أما ما ذكره فضيلة الشيخ الصديق الضرير –حفظه الله- أن التاجر يأخذ من الحامل نسبة، فهذا ليس موافقًا للواقع، هناك أكثر التجرة الذين يحملون هذه البطاقات لا يتقاضون شيئًا زائدًا على ذلك وهو موضوع آخر، ولكن لا نستطيع أن نقول: إن النسبة التي يتقاضاها المصدر من التاجر يأخذها التاجر من الحامل مرة أخرى، هذا ليس موافقًا للواقع.
والنقطة الثانية التي ذكرها فضيلة الشيخ الصديق الضرير وهي أنه لا يمكن أن يكون هناك كفالة؛ لأن الأصيل هو المصدر بفضل أن البطاقة مملوكة له، فهذا يخالف الواقع تمامًا؛ لأن عقد البيع عندما يقع بين الحامل وبين التاجر وحينما يدفع إليه التاج السلعة يوقع الحامل ويثبت على أنه هو المشتري، فالأصيل هو وليس المصدر، فإذا نظرنا من هذه النواحي ربما يظهر أنه إذا كان عند مصدر البطاقة رصيد للحامل، فلا مانع إذن ولا إشكال للمسلم أن يحصل على هذه البطاقة، أما إذا لم يكن عنده رصيد فأنا في ذلك متوقف والذي أميل إليه أنه يمكن القول بجوازه أيضًا.
هذا ما رأيت، والله سبحانه أعلم.(8/1119)
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت قد قدمت بحثًا في ندوة البحرين عن هذا الموضوع وأشار إليه فضيلة الشيخ حسن الجواهري في بحثه، وهناك وقع التباس لأنه أورده مرتين، مرة في التكييف الأول على أنه قرض من مصدر البطاقة وعمولة من التجار، وأشار إليه ثانية في التكييف الثاني وهو أنها عمولة على تحصيل الثمن من العميل لدفعه إلى أصحاب المحلات.
فالتكييف الذي اخترته في البحث هو الثاني، أما الأول فقد أوردته نقلًا عمن حرمه أو منعها، لهذا اقتضى التنبيه.
التكييف الثاني الذي أوردته والذي ذكرته أورد عليه الشيخ حسن بعض الإيرادات وأريد الإجابة عنها.
الأول: أشار إلى أن هذا الوجه يفترض أنه ليس هناك ضمان ولا كفالة ولا تعهد بالسداد، هذا موجود في البحث بالإضافة للكفالة هناك وكالة بين التاجر وبين مصدر البطاقة، وبين حامل البطاقة وبين مصدرها، وتلخيصًا لهذا الأمر فإن العملية تتم هكذا.(8/1120)
هناك علاقة بين مصدر البطاقة وحاملها وهي الوكالة في تقديم الخدمة سواء بإعطاء البطاقة وتنظيمها وفتح الملف والمرسلات التي تتم بين مصدر البطاقة وبين حاملها والتوكيل بالدفع عنه، وعلى هذا تستوجب الرسوم التي تؤخذ سنويًّا، وأحيانًا يتبرع مصدر البطاقة بهذه الخدمة لجلب الزبائن فلا يأخذ رسومًا على إصدار البطاقة. العلاقة الثانية بين التاجر وحامل البطاقة هي علاقة عادية شراء مع قبول كفالة المصدر، وأما العلاقة بين مصدر البطاقة وبين التاجر فهي علاقة كفالة، فمصدر البطاقة كفيل عن حاملها في مواجهة التاجر وملتزم ومتعهد بالسداد.
إذن هناك وكالة مع الكفالة وقد يقال: كيف تجتمع الوكالة مع الكفالة؟ الوكالة إذا كانت بعقد لا يجوز أن تجتمع مع الكفالة لأن هناك تنافيًا بين المفهومين فالوكيل أمين والكفيل ضمين، ولكن إذا كانت الوكالة بالقبض فيجوز أن تجتمع مع الكفالة وقد نص على هذا فقهاء الحنفية، لأنه مادام وكيلًا بالقبض فيمكن أن يختصر المراحل ويدفع ويجمع بين الكفالة وبين الوكالة، فالإيرادات الأخرى التي جاءت الإشارة إليها في ورقة الشيخ حسن وهي أن هناك نسبة يأخذها مصدر البطاقة من التاجر، هذه النسبة هي أجر عن الوكالة بتحصيل الدين لأن التاجر حينما يبيع لحامل البطاقة يبيعه بدون أن يتسلم منه الثمن، فهو عملية مداينة، والتاجر يكل إلى مصدر البطاقة أمر تحصيل هذه الديون فهو يدفع عمولة على تحصيل هذا الدين، ولكن قد ينغص على هذا كيفية تمام العملية في البطاقة، فالذي يتم في البطاقة ليس المطالبة لحاملها بثمن ما اشتراه بالأجل أو بالدين ثم أخذ هذه الفلوس وإيصالها إلى التاجر، وإنما تتم العملية معكوسة لأن مصدر البطاقة يريد أن ينظم أمر هذه البطاقة فهو يعلم أن هناك زبونًا اشترى، لأنه تأتي إليه القسيمة عن طريق التاجر فيقوم بالسداد والدفع قبل أن يحصل من حامل البطاقة لأنه يستطيع أن يضبط هذا الأمر لأن الدفع عمله، وأما التحصيل من التاجر فيحتاج إلى متابعة وظروف، وهذا كما لو وكلت إنسانًا بأن يشتري لك فإما أن يقول: هات الثمن حتى أشتري لك، وإما أن يدفع منه ثم يأتي إليك ويقول اشتريت وأعطني الثمن الذي قمت بتنفيذ الوكالة به، فهذا هو الترتيب الذي يتم، وهذه النسبة التي تؤخذ من التاجر هي نسبة موحدة لا تختلف بين عميل وآخر سواء تأخر السداد من العميل أو تقدم، وطريق السداد من العميل أنه يرسل إليه إشعارًا، وهذا كلامي كله عن النوع الثاني الذي فيه الجدل، أما النوع الأول الذي فيه ربط بحساب لحامل البطاقة فهذا أمره واضح، والنوع الثالث الذي فيه إقراض وكشف للحساب الذي هو النوع الربوي، وهذا أيضًا واضح، لكن النوع الثاني الذي فيه البحث والجدل والذي يأتي الإشعار إلى حامل البطاقة بالسداد، وهذا الإشعار يطلب منه أن يسدد ما تقاضاه أو ما استخدمه من البطاقة خلال الشهر الذي يؤرخ به الإشعار، فقد يشتري في أول الشهر فيستفيد فترة سماح إلى آخره، وقد يشتري في أوسطه فيستفيد فترة سماح إلى نصف الشهر، وقد يشتري في آخر الشهر وتدرج هذه المشتريات في الإشعار فيطالب بأن يدفعه ولا يمر إلا يوم أو يومان أو ثلاثة بحسب وسائل الاتصال؛ إذن ليس هناك أجل ممنوح قصدًا في هذه البطاقة وإنما هي تحت الطلب ولكن هناك فترة سماح بسبب المراسلات والإشعار، هذا بالنسبة للمدد والتساؤلات.(8/1121)
الذي أراه أنها وكالة مع الكفالة.
من قبل هناك تساؤل لفضيلة الشيخ الصديق الضرير وهو هل يستطيع التاجر أن يطالب حامل البطاقة؟ الأصل أنه يستطيع أن يطالبه ولكن نظرًا إلى أن تصميم هذه البطاقة قائم على استخدامها من أناس متعددين ومن أقطار متباعدة وصفات كثيرة فهي كفالة مع عدم الرجوع على الأصل، ليس بصميم العقد وإنما بتنازل التاجر وعزوفه عن مطالبة الأصل، يعني كما لو جاء شخص اشترى من جهة –شخص نكرة غير معروف- وجاء بكفيل موثوق معروف وهو مصدر البطاقة، فالدائن يتغاضى عن الأصيل ويطالب الكفيل لأن له حق الرجوع على الطرفين كواقع عملي وليس كجزء من صميم البطاقة. والله أعلم.(8/1122)
الشيخ علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم، طبعًا بعض أصحاب البحوث –حفظهم الله- موجودون يمكنهم أن يجيبوا على بعض الإشكالات التي وردت على بحوثهم، ولكني أشير باختصار إلى أن الإشكالات كانت بعضه على القضايا التي تصاحب هذه العملية مثل مسألة التأمين على الحياة ومثل مسألة التأخير، التأخير أنا أعتبره عملًا عرضيًّا تأخير الديون والفوائد التي تأتي، هذا عمل عارض على نفس التكييف الموجود، خصوصًا إذا صمم حامل البطاقة على تسديد المبلغ في الموعد المناسب، أو مسألة بيع الدين على غيره، كل هذه المسائل عارضة تعتبر، أو مسألة تسييل الديون وأمثال ذلك وبعض الإشكالات انصب في صميم الموضوع، أنا اختار منها بعضها وأصل إلى نقطة أريد أن أوضحها في نهاية الحديث.
إشكال الشيخ عطا في الواقع فيه إجحاف يقول: هذا العقد فيه إجحاف، هذا المعنى يرده آخرون يقولون: لا، هذا العقد أولًا ليس فيه رفع للسعر بل بالعكس البائعون يخفضون أسعارهم لصالح المصدرين ولصالح الحاملين لكي يجلبوا زبائن أكبر لهم، فصحيح والدول تمنع من التسعيرتين في الأمر، فلا نستطيع أن نتبين وجه الإجحاف في مسألة السعر فيمكن أن يقول إنسان: هذا.... يقول: فيه إجحاف وذاك يقول: ليس فيه إجحاف. لا يمكن أن يشكل إشكالا شرعيا على صيغة العقد. كذلك إشكال الشيخ وهبة من هذا القبيل وأنه فيه ربا أو تعبير سماحة الشيخ وهبة: أن يشبه حالة خصم الكمبيالة. رأينا أن المسألة أبعدت عن مسألة بيع الدين والمسائل الأخرى طبق التكييفات التي طرحت.(8/1123)
الشيخ الدكتور فاضل ركز على أن فيها ضمانًا والأجر أجر بضمان، وقد رأينا أن كل التخريجات ابتعدت تمامًا عن أن تكون العملة أجرًا للضمان أو في مقابل القرض، هي كلها تركيز على إبعاد هذه العمولة، وليس المهم رسم العضوية الأول البسيط الذي يؤخذ، وقد رأينا أن الشيخ ابن منيع أبعد في قوله: إنه بيع لحق الاختصاص وأمثال ذلك، والواقع أنا أراه التفت إلى هذه النقطة بشكل جيد، المشكل كله على هذه العمولة، البحوث كلها صرفتها عن مسألة أن تكون أجرة بالضمان أو زيادة على القرض مبلغًا في مقابل القرض.
الشيخ عجيل قبل ما عدا البطاقة القرضية السالفة، وإن كان أشكل في مسألة الدخول في عقد فيه شرط لو حقق هذا الرجل موضوعه لكان باطلاًَ، يعني لو تأخر فأخذ منه الربا لكان هذا الشرط باطلاًَ، ونبحث أيضًا الشرط الباطل الفاسد يفسد العقد أم لا؟ وأيضًا هناك كلام وقد أحسن سماحة الشيخ العثماني عندما أجاب على هذه النقطة بكل وضوح، ما أكثر العقود التي ندخل فيها – في داخل بلداننا وخارجها- فيها شروط نصمم على ألا نلتزم بها كما في قضية الكهرباء والماء والتليفون ... إلخ.(8/1124)
سماحة الشيخ الضرير – حفظه الله- جعل العلاقة قائمة بين التاجر والمصدر وجعل الحامل وسيطًا وهذا – كما يبدو لي وكما تفضل السادة- بعيد عن الواقع القائم، فعقد البيع يجزيه الحامل بشكل كامل هو والتاجر، إذن الشيخ الضرير هكذا تفضل، ونقطة أخرى عند الشيخ الضرير – حفظه الله- أنه هو يفرق في مرجع البحث هل فيه عقد قرض أم لا؟ يعني هل في هذه الصيغة عقد قرض أم لا؟ فإن كان فيها عقد قرض فهو باطل وإلا فلا، الواقع يجب أن نركز على أنه هل أخذت العمولة على القرض أم لا؟ وليس وجود القرض، قد يكون في التركيبة عقد قرض ولكن لم تؤخذ العمولة عليه، المرجع هو أن نركز أن الذي أخذ، هل هو في مقابل القرض أم لا؟ وليس المرجع أن نقول: هل هناك قرض أم لا؟ كثير من التكييفات قالت: هناك قرض لكن المأخوذ ليس في قبال القرض.
على أي حال الشيخ العثماني كأنه قبل البطاقة، وإن كان قد توقف في مسألة الدخول في عقد فيه هذا الشرط لكنه واضح أنه قبل هذا المعنى، والشيخ عبد الستار هو من أصله يبدو أنه موافق إذا صح لي أن أنسب له ذلك.(8/1125)
الرئيس:
شكرًا، في الواقع بقي عدد قليل من الطالبين للكلام، وتعرفون أن اللجنة لا بد أن يكون عندها وقت قبل موعد الجلسة الختامية، فبهذا ننهي هذه الجلسة ونقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سمعتم العرض والمناقشات المستفيضة حوله من بيان أنواع بطاقات الائتمان الثلاثة، بطاقة الخصوم والبطاقة العادية والبطاقة القرضية، وأهم الإشكالات التي ترد عليها من الرسوم والفوائد والتكييفات والتخريجات الفقهية التي يمكن لبعضها، وسمعتم من عرض الشيخ الضرير التحديد للحالتين أو تكييفهما في وعاءين، حالة لها رصيد حالة ليس لها رصيد، وتفصيله – جزاه الله خيرًا وجزى الجميع خيرًا- فيما يجوز وما لا يجوز، وكل هذه الأشياء مقيدة لدى مقر اللجنة، ولهذا فقد ترون مناسبًا أن تتألف اللجنة بالإضافة إلى العارض والمقرر من كل من: الشيخ الصديق الضرير، الشيخ تقي العثماني، الشيخ عطا السيد، الشيخ عبد الله بن منيع، الأستاذ عبد الحميد الغزالي.
وبهذا ترفع الجلسة،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(8/1126)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 82 / 9 / د8
بشأن
بطاقات الائتمان
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 – 27 يونيو 1993 م.
بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "بطاقات الائتمان".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله..
ونظرا لأهمية هذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته والتعرف إلى جميع الآراء فيه..
قرر:
أن تقوم الأمانة العامة للمجمع باستكتاب المزيد من البحوث فيه ليتمكن مجلس المجمع من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة.
والله الموفق(8/1127)
أخلاقيات الطبيب، مسؤوليته وضمانه
الأحكام المتعلقة
ببعض ذوي الأمراض المستعصية
إعداد
الدكتور علي داود الجفال
عميد كلية العين
خطة البحث
الباب الأول: سر المهنة.
- الفصل الأول: - المقصود بسر المهنة.
- متى يستثنى من وجوب كتمان السر.
- ما هي العقوبات التي تقع على من يكشف سر مريضه.
- الفصل الثاني: - مداواة الرجل للمرأة، والمرأة للرجل.
- الفصل الثالث: - التداوي بالمحرمات.
- الفصل الرابع: - واجبات الطبيب في السلم والحرب.
- الفصل الخامس: - استطباب غير المسلم.
الباب الثاني: مسؤولية الطبيب
- الفصل الأول: - الكلام على معنى المسؤولية ومشروعيتها في الفقه الإسلامي.
- الفصل الثاني: - الكلام على أسباب المسؤولية، وطرق رفعها وتضمين الطبيب الجاهل.
- الفصل الثالث: - هل يمكن أن تقوم نقابة الأطباء أو شركة التأمين بدور العاقلة؟
الخاتمة: في الآداب التي يجب على الطبيب أن يتحلى بها.(8/1128)
الباب الأول
سر المهنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
المقصود بسر المهنة
المهنة:
مهن الرجل مهناً، ومهنة، ومهنة: اتخذ صنعة (1) المهنة: بالفتح الخدمة، وحكى أبو زيد والكسائي: المهنة بالكسر، وأنكره الأصمعي (2) .
والماهن: الخادم، وقد (مهن) القوم يمهنهم بالفتح فيهما (مهنة) أي خدمهم.
المهنة بالكسر والفتح والتحريك: الحذق بالخدمة والعمل، مهنه كمنعه ونصره، مهنا ومهنة، وبكسر: خدمه وضربه وجهده، وامتهنه: استعمله للمهنة (3) .
مهن الرجل مهناً ومهنة: عمل في صنعته، و ... فلاناً: جهده و ... الثوب: ابتذله.
امتهن: اتخذ مهنة، يقال: امتهن الحياكة مثلاً.
المهنة: العمل، العمل يحتاج إلى خبرة ومهارة وحذق بممارسته، ويقال: ما مهنتك هاهنا؟ عملك. وهو في مهنة أهله: في خدمتهم (4) .
السر: واحد الأسرار، وهو ما يكتم، والسريرة مثله، قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] ، أي يوم القيامة تختبر الأسرار وتعرف، وهو ما يسر في القلوب من النيات والاعتقادات وغيرها فيعرف الحسن منها من القبيح.
وتقول: أسررت إلى فلان إسراراً وساررته سراراً، إذا أعلمته بسرك، وأسرار الكف الخطوط بباطنها.
وفي قوله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] .
السر ما حدث به الإنسان غيره وأسره إليه، والأخفى من السر ما حدث به المرء نفسه وأخطره بباله من غير أن يخبر به أحداً، وهذا من السر أيضاً، إلا أنه أشد الأسرار خفاء.
وإفشاء السر نشره وإظهاره، نقيض الحفظ والكتمان، وكل شيء انتشر فقد فشا، ومنه فشو الخير.
وجاء في قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) } [التحريم: 3-4] .
__________
(1) الوجيز ص 593
(2) مختار الصحاح (م هـ ن) ص 638
(3) القاموس المحيط مادة (مهن)
(4) المعجم الوسيط 2/ 790(8/1129)
والمتظاهرتان عليه في الآية هما أما المؤمنين عائشة وحفصة ((أسر إلى إحداهما أنه حرم على نفسه العسل، وقيل: إنه حرم على نفسه جاريته مارية)) ، فأفشت سره إلى الأخرى (1) ، فأنزل الله تعالى الآيتين وجعل إفشاءهما لسر رسوله جرماً ينبغي المسارعة إلى التوبة منه، وهكذا أدبهما الله تعالى بهذا الأدب الجم فأحسن تأديبهما.
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، أو تفضي إليه ثم ينشر سرها)) (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة)) (3) .
وعن ثابت عن أنس قال: ((أتى علي الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، قال أنس: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك)) (4) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ((احفظ سري تكن مؤمناً)) .
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن إفشاء الأسرار يعد من الكبائر (5) ، وكان الخليفة الفاروق رضي الله عنه يختص المتميزين من الصحابة بالعلم والإيمان والرأي، فيختارهم ليكونوا أهل شوراه، وأدخل فيهم عبد الله بن عباس، على صغر سنه، فجعله من المقربين إليه، فقال له أبوه العباس: (إني أرى هذا الرجل قد اختصك بمجلسه، فاحفظ عني ثلاثاً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذباً) ، فقال رجل للشعبي: كل واحدة منهن خير من ألف، فقال: بل كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف.
من هذا نستنتج أن الشريعة الإسلامية قد أمرت بحفظ الأسرار وكتمانها وعدم إفشائها؛ لدوام الألفة ولصون حقوق الإنسان.
(وسر المهنة) أصل عميق الجذور من أصول المهنة الطبية، وقيمة من قيمها المطلقة التي لم تترك لتقدير الطبيب أو لاجتهاده أو استحسانه في كل حالة على حدة، وهي تلتقي تماماً مع تعاليم الإسلام، فهي بالإسلام تتقوى وتزداد رسوخاً.
والتفريط فيها يقوض صلاح المهنة الطبية، فيحرم الإنسانية مما لا غنى لها عنه، وفي هذا بلاء خطير وشر مستطير وخسارة فادحة.
إن قدسية سر المهنة الطبية تراث موغل في القدم، حصلته المهنة حتى في أدوارها الباكرة، ولا زالت تحرص عليه حتى الآن.
__________
(1) أصل القصة في البخاري المظالم ب 25، ك النكاح ب 83
(2) صحيح مسلم ص 106 حديث رقم (1437)
(3) الترمذي في سننه شرح العون 6/ 92- 93
(4) صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ص 192 رقم الحديث (4282)
(5) الكبائر لابن حجر العسقلاني 2/ 27(8/1130)
كان الطبيب (أمحوتب) في مصر القديمة يأخذ العهد والقسم على طلابه ألا يذيعوا لمريض سراً، وجاء من بعده (أبقراط) اليوناني، وما زال قسمه سارياً على الخريجين من معظم كليات الطب حتى الآن، وفيه أن كل معلومات حصل عليها الطبيب خلال أدائه مهمته، سواء أكانت المعلومات طبية أم غير طبية، سواء أعرفها سماعاً أم مشاهدة أم مجرد استنتاج، فهو سر لا يفشى، مغطى بسر المهنة، حتى أشرقت على العالم شمس الإسلام عقيدة فشريعة فدولة فدعوة فحضارة، فإذا أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس وإذا حضارته خير حضارة استظلوا بها.
وإذا الإسلام يثبت مما سبقه من الأعراف ولو نشأت في وعاء الجاهلية ما يراه غير مجاف للشريعة أو العقيدة، ويعتبره من فضائل الإنسانية التي اكتسبتها على مدى التاريخ.. {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] .
فكان من جراء ذلك أن ازداد (سر المهنة) في مزاولة الطب ثباتاً واستقراراً، ذكر ذلك ابن أصيبعة في كتابه طبقات الأطباء، وأكده علي بن رضوان كبير أطباء مصر (453) هـ، وأوصى بالقسم على حفظ السر مهذب الدين بن هبل البغدادي، وكان من وظائف المحتسب أنه يأخذ على الأطباء قسم (أبقراط) في حفظ السر.
ولا نود أن يفهم أن الإسلام أوصى الأطباء وحدهم بصيانة الأسرار، بل أوصى بذلك أمته كلها؛ لأن الشريعة الإسلامية تأمر الناس بأن يحفظوا الأسرار، فيجب على المسلم أن يلتزم بها، وأن يحافظ عليها، وإن الشخص إذا علم سراً أو اؤتمن عليه أو عرفه بحكم مهنته عليه ألا يفشي السر.
والقاعدة في الشريعة الإسلامية هي حرمة الإفشاء متى كان من شأن ذيوع السر أن يلحق الضرر بصاحبه، وهو على قيد الحياة أو بعد موته، وقد سئل أديب: كيف تحفظ السر؟ قال: أنا قبره، وقالوا: صدور الأحرار قبور الأسرار، وقال آخر: أستره وأستر أني أستره.(8/1131)
فدين الإسلام هو الدين الذي رعى الإنسان ورسم له طريق الحياة الآمنة المستقرة، رعاه في ظاهره وباطنه، رعاه في روحه وجسده، رعاه في يقظته وغفلته، رعاه في كل أموره، فشرع له ما يحافظ على مقومات إنسانيته؛ فحفظ له دينه، ونفسه وعرضه، وماله، وعقله من أن يمس إلا بحق، حتى يسير آمناً مطمئناً مستقراً، مؤدياً حق الله عليه وحقوق العباد، دون تقصير أو تهاون، فيسعد وتسعد بسعادته الإنسانية جمعاء.
فالإسلام أوصى بصيانة الأسرار للأمة كلها، وإنما كان الأطباء على رأس الهرم في ذلك؛ نظراً لأن مهمتهم ذات مساس مباشر بكيان الإنسان ذاته، وهي لا تقوم قائمتها إلا إن استقرت لدى الطبيب والمريض أن ما بينهما غير معرض للإفشاء أو الإفضاء، يستوي في ذلك ما كان خيراً أو شراً، أو قبيحاً أو حسناً، أو مشرفاً أو مخجلاً، وبغير هذا تهتز المهنة الطبية وتزلزل زلزالاً عنيفاً، لقد جعل الإسلام من الأخلاق العامة ألا تذكر أخاك في غيابه بما لا يحب، ولو كنت صادقاً، وحتى في الأمور ذات الخطر جعل للحصول على المعلومات ضوابط إجرائية لا ينبغي تجاوزها بدعوى الوصول إلى الحقيقة.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعتلي السور ليتحقق أن رجلاً في بستان داره يشرب الخمر، ويراه كذلك، ولكن الرجل يذكره بأنه تسور عليه والله يقول: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] ، ولا يملك أمير المؤمنين إلا أن يذعن لشريعة الإسلام، لا غرو إذن وهذه تعاليم الإسلام (العامة) أن تكون التعاليم (الخاصة) التي تحكم المهنة الطبية أقوى أشد؛ فلذا يجب على الأطباء ألا يفشوا الأسرار، وأن يغضوا الأبصار عن المحارم، ولا يهتكوا الأستار.
ولئن قضت سنة الله وعدالته بأن يتقهقر المسلمون عن مركز القيادة والريادة في العالم بتخليهم عن المواصفات والشروط التي فرضها الله عليهم وجعلها شرطاً لنصرهم، لقد صح كذلك أن أوروبا وهي تخرج من عصورها الوسطى المظلمة إلى عصر النهضة إنما فعلت ذلك بفضل حضارة الإسلام التي أقبلت عليها أوروبا وفرط فيها أصحابها الأصليون، وفي غمار الحياة التي كانت تزداد تعقيداً نظروا إلى سر المهنة الطبية كقيمة حضارية، وضرورة إنسانية، فلم يأتمنوا عليها قوة العرف والإلف والتقاليد، وإنما أحاطوها بسياج القانون، وسبق إلى ذلك القانون الفرنسي سنة ألف وثمانمائة وخمس وعشرين، فجعل خرقها جنحة تعاقب بالحبس والغرامة، وانتشر ذلك في كل البلاد.
وقد يظن البعض أن السر الجدير بالصيانة هو ما ينطوي على معلومات سيئة أو مهينة أو مشينة بالنسبة للمريض، وهو ظن خاطئ، وإن شاع، فحفظ المعلومات الخاصة بالمريض هو حفظ مطلق ومقصود لذاته، ولا يلزم إطلاقاً أن يكون المريض قد طلب من الطبيب صراحة ألا يدلي بهذه المعلومات، بل هو سر بطبيعته وبطبيعة المهنة، ولو لم يطلب المريض ذلك.(8/1132)
متى يستثنى من وجوب كتمان السر؟
حفظ الأسرار شيء فطري ترشد إليه الطبيعة البشرية، فكل إنسان يحب أن يحفظ من الأسرار الكثير، سواء كانت خيراً لما ورد في الأثر: ((استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)) ، أو شراً كما ورد في الحديث: ((الإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس)) .
وقد عدد الناس من قديم الزمان كثيراً من الفضائل، وكان من أبرزها المحافظة على الأسرار والوعود والعقود، وخاصة إذا أمنهم الناس عليها، والأطباء في القديم والحديث من أوائل من ائتمنهم الناس على أسرارهم، وقد التزم من قاموا بهذه المهنة بحفظ الأسرار من أقدم العصور، التزم به أطباء مصر كما التزم به أطباء اليونان، وقد ضمنوا هذا الالتزام قسماً يقسمه الأطباء وعهداً يقطعونه على أنفسهم قبل ممارستهم هذه المهنة.
وسر المهنة أصل عميق الجذور من أصور المهنة الطبية، وقيمة من قيمها المطلقة التي لم تترك لتقدير الطبيب أو لاجتهاده أو استحسانه في كل حالة على حدة.
وهي تلتقي تماماً مع تعاليم الإسلام، فهي بالإسلام تتقوى وتزداد رسوخاً، فحثت تعاليم الإسلام على الالتزام بالقيم وإحياء ما اندثر منها وجعل هذا ديناً وعقيدة وأسلوب حياة.
وسار على ذلك أطباء المسلمين، وقد أثبت ابن أبي أصيبعة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) بعضاً من العهود التي أخذت على الأطباء في زمانه، منها:
(وأما الأشياء التي أعاينها أو أسمعها وقت علاج المرضى أو في غير أوقات علاجهم مما لا ينطق به خارجاً فأمسك عنه) ، ويروي ابن أبي أصيبعة بعضاً من التعاليم التي كانت تعلم للأطباء ويطلب منهم التحلي بها، ومنها:
(كمال التخلق وتوافر العقل والحرص على كتمان أسرار المرضى، والعفة، والعزوف عن إسقاط الأجنة، إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق) (1) . هذا وقد حبب الإسلام كثيراً في المحافظة على الشعور الإنساني والحس البشري؛ لأن ذلك من أسباب الرقي والصعود في حلقات السمو الإنساني على هذه الأرض، ولأنه من أسباب التكريم الإلهي للإنسان الذي وكلت إليه الخلافة عن الله في الأرض، لهذا أحاط الله كرامة هذا الإنسان بحصون واقيات؛ حتى لا يهتك له ستراً، ويفضح له سراً، فشرع له أموراً معينة في ذلك ينبغي اتباعها، منها المحافظة على سره وصون كرامته وعرضه.
__________
(1) عيون الأنباء في طبقات الأطباء: 1/ 35(8/1133)
فالتفريط بسر المهنة يقوض صرح المهنة الطبية، فيحرم الإنسانية مما لا غنى لها عنه، وفي هذا بلاء خطير وشر مستطير وخسارة فادحة.
على أن لكل قاعدة شواذاً تمليها ضرورة أقوى منها، وتحديد الشواذ من مهام الشارع لأمن مهام الطبيب أو السلطات الصحية، ومن منطلق الالتزام الخلقي أن تكون مواطن إفشاء السر معلنة للناس، موضحة لهم دائماً من قبل المهنة الطبية؛ حتى لا يظن الناس بها غرراً مقصوداً أو غير مقصود.
ولكن هناك حالات في الشريعة الإسلامية يكون فيها إفشاء السر واجباً، وذلك في الحالة التي يكون فيها كتم السر مؤدياً إلى مفسدة، فإذا عهد شخص بسر إلى آخر، مضمونه ارتكاب جريمة زنا أو سرقة أو قتل، أو حيازة رخصة قيادة مع ضعف البصر الشديد؛ فعلى من عرف هذا السر أن يفشيه، فقد يكون في إفشائه مصلحة ترجى عسى من سمع بالخبر قبل وقوع المفسدة يهب لمنع تلك المفسدة، أو إذا وقعت تلك المفسدة يساعد على كشف الحقيقة للمصلحة العامة، كما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: ((المجالس بالأمانة إلا ثلاثة: مجلس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق)) (1) .
هذا وقد ورد في ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية المنعقدة في الكويت بتاريخ العشرين من شعبان لعام ألف وأربعمائة وسبعة للهجرة الموافق الثامن عشر من إبريل لعام ألف وتسعمائة وسبع وثمانين بحث قيم للدكتور محمد سليمان الأشقر خبير الموسوعة الفقهية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتية حول إفشاء السر في الشريعة الإسلامية، أورده بكامله لما له من أهمية في موضوعنا.
__________
(1) إحياء علوم الدين: 5/ 960، ط الشعب(8/1134)
إفشاء السر في الشريعة الإسلامية
للدكتور: محمد سليمان الأشقر
خبير بالموسوعة الفقهية – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
السر واحد الأسرار، وهو ما يكتم، والسريرة مثله، قال الله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] ، أي يوم القيامة تختبر الأسرار وتعرف، وهي ما يسر في القلوب من النيات والاعتقادات وغيرها، فيعرف الحسن منها من القبيح.
وتقول: أسررت إلى فلان إسراراً، وساررته سراراً: إذا أعلمته بسرك، وأسرار الكف: الخطوط بباطنها.
وفي قوله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] ، السر ما حدث به الإنسان غيره وأسره إليه، والأخفى من السر ما حدث به المرء نفسه وأخطره بباله من غير أن يخبر به أحداً، وهذا من السر أيضاً، إلا أنه أشد الأسرار خفاء.
وإفشاء السر: نشره وإظهاره، نقيض الحفظ والكتمان، وكل شيء انتشر فقد فشا، ومنه فشو الحبر في الورق الرقيق، وفشت الأنعام ترعى: انتشرت، ولذا تسمى السائمة: فاشية.
صور من الكتمان والإفشاء في الكتاب والسنة وآثار الصالحين:
- جاء في سورة التحريم: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 3-4] .
والمتظاهرتان عليه في الآية هما أما المؤمنين عائشة وحفصة أسر إلى إحداهما أنه حرم على نفسه العسل، وقيل: إنه حرم على نفسه جاريته مارية، فأفشت سره إلى الأخرى (1) ، فأنزل الله تعالى الآيتين وجعل إفشاءهما لسر رسوله جرماً ينبغي المسارعة إلى التوبة منه، وهكذا أدبهما الله تعالى بهذا الأدب الجم فأحسن تأديبهما.
__________
(1) أصل القصة في البخاري المظالم ب 25، ك النكاح ب 83(8/1135)
- عن عبد الله بن عمر: ((أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة (أي مات زوجها) قال عمر: فأتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي، ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلى شيئاً، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها قبلتها)) (1) .
وفي رواية أحمد: وكان سراً فكرهت أن أفشي السر.
قال ابن حجر: يستفاد منه عذر أبي بكر في كونه لم يقل كما قال عثمان: قد بدا لي أن لا أتزوج.
- كان الخليفة الفاروق يختص المتميزين من الصحابة بالعلم والإيمان والرأي فيختارهم ليكونوا أهل شوراه، وأدخل فيهم عبد الله بن عباس، على صغر سنه. فجعله من المقربين إليه، فقال له أبوه العباس: (إني أرى هذا الرجل قد اختصك بمجلسه، فاحفظ عني ثلاثاً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذباً) فقال رجل للشعبي: كل واحدة منهن خير من ألف. فقال: بل كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف.
- قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم سراً، فما أخبرت به أحداً بعده، ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به)) رواه البخاري (2) ، وأم سليم هي أم أنس. وفي رواية أنها سألت أنساً عن حاجة النبي صلى الله عليه وسلم التي أرسل أنساً فيها فقال: إنها سر، فقالت له: لا تخبر بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، وفي رواية أن أنساً قال لثابت البناني: (والله لو حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت) .
__________
(1) رواه البخاري (فتح الباري 9/ 176) وغيره
(2) فتح الباري 11/ 82 كتاب الاستئذان ب 46(8/1136)
تحميل الأسرار:
الأولى بالعاقل أن يكون سره وعلانيته سواء، فلا يفعل في غيبة الناس ما يسوءه أن يطلع عليه الناس؛ لأنه وإن غاب عنهم فإن الله عليه شهيد، ولا يضمر في قلبه لأحد من المسلمين ضغينة تحمله على أن يسيء القول، وأن يعلم أن سره ما دام بين حنايا صدره فهو أمير نفسه، فإن أطلع غيره على سره خرج الخيار من يده وأصبح الخيار لغيره.
وإن لم يكن له بد أن يُحَمِّلَ أحداً سره، فلا يبثه إلى كل أحد، فإنه كما قيل: (لسان العاقل في قلبه، وقلب الأحمق في فمه) .
فيختار من يحمله سره اختياراً، بأن يكون عاقلاً ثقة أميناً، وليكن شخصاً واحداً إن أمكن لا أكثر، فإن انتشر السر عرف أن الذي نشره هو صاحبه هذا بعينه، فإن كانوا أكثر ضاع سره، كما قال الشاعر:
وسرك ما كان عند امرئ
وسر الثلاثة غير الخفي
بين حفظ السر وستر العورة:
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا)) ، وعنه أنه قال: ((من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة)) رواه الشيخان.
وقال للمنافقين: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) (1) .
والعورة ما يستقبح ظهوره للناس، حسياً كان كالعورة المغلظة والتشوهات الخلقية، أو معنوياً كسيئ الأفعال والأقوال والأخلاق، ثم إن كانوا يجهلونه منك فهو سر وعورة، وإن كانوا يعلمونه فهو عورة وليس بسر، وقد لا يكون السر عورة، وإن كان صاحبه يكره إظهاره؛ كصدقة السر وصلاة السر.
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد جيد، وللترمذي نحوه من حديث ابن عمر وحسنه، (الإحياء وتخريج أحاديثه للعراقي 5/ 1001)(8/1137)
فضل كتمان السر:
إن كان السر مما يقبح ظهوره للناس فهو عورة كما تقدم، وفي حفظه فضل ستر العورة على المسلم، وقد تقدم الحديث: ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) وهو حق من حقوق كل مسلم على أخيه.
وفي السنة في قصة ماعز الذي اعترف بالزنى، فأقام صلى الله عليه وسلم الحد عليه بالرجم، جاء هزال فقال: أنا أمرته أن يأتي فيعترف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا هزال، لو سترته بثوبك لكان خيراً لك)) (1)
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (لو وجدت شارباً لأحببت أن يستره الله، ولو وجدت سارقاً لأحببت أن يستره الله) .
وإن لم يكن السر عورة، فإن المحافظة عليه من كمال المروءة، وكمال الأمانة، وقوة الإرادة.
ومن هنا الحكمة المأثورة: (صدور الأحرار قبور الأسرار) ، فالحر المسيطر على إرادته يموت السر في صدره، أما الذي هو عبد لهواه فإن السر لا يزال يختلج في صدره ويضطرب حتى يفر هارباً.
وحفظ الأسرار على أهل الإيمان من كمال الإيمان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) قال الغزالي: لا شك أنك تنتظر من أخيك أن يستر عورتك، ويسكت عن مساوئك وعيوبك، ولو أنك ظهر لك من أخيك نقيض ما تنتظره إن اشتد غيظك وغضبك عليه، فما أبعدك إذ كنت تنتظر منه ما لا تضمره له ولا تعزم عليه لأجله، وويل لمن يفعل ذلك في نص كتاب الله، حيث يقول في سورة المطففين: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) } (2) [المطففين: 1-2-3] .
وفضل حفظ الأسرار التي في كشفها قبح ومساءة يكون فيه أحياناً معنى إقالة العثرة، والمعونة على استقامة من وقعت منه الزلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) (3) .
وفي حديث آخر: ((من رأى عورة فسترها، فكأنما أحيا موءودة)) (4) .
صفات كتمان السر:
الأولى بمن حمل السر لغيره أن يمحوه من قلبه، وأن يوحي إلى نفسه أنه قد أمات ذلك السر، حتى كأنه لم يسمع به، أو سمع به ونسيه، فذلك أدعى إلى أن يخفيه من أن يرى أنه سيبثه في فرصة آتية.
ثم إن سئل عن السر فليتجاهل أنه يعرفه، فإن عزم عليه فرأى أنه إن قال: إنها أمانة ولن أخبر بها اكتفي منه، فليقل ذلك، وإن رأى أن ذلك يزيد السائل ضراوة، ويحفزه على متابعة الكشف، فليترك ذلك القول وليتلمس أن يستعمل المعاريض، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب)) (5) وروي قول ذلك عن بعض السلف، والتعريض: التورية.
ثم إن لم يتيسر التعريض واضطر إلى الجواب قسراً فقد قال بعض العلماء: إن له أن ينكر، وإن كان حمل السر أمانة أو يخاف على صاحب السر الضرر في نفسه أو أهله أو ماله بغير حق فله أن يكذب، وإن استحلف فله أن يحلف على الكذب، والإثم على من اضطره إلى ذلك بغير حق (6) .
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد (تخريج أحاديث الإحياء 5/ 999) وانظر الزواجر لابن حجر الهيتمي: 2/ 120
(2) الإحياء: 5/ 960
(3) المنهاج في شعب الإيمان: 3/ 362
(4) قال العراقي: رواه أبو داود والنسائي والحاكم من حديث عقبة بن عامر وقال: صحيح الإسناد (شرح إحياء علوم الدين: 5/ 216)
(5) رواه ابن عدي، قال المناوي: في إسناده داود – تركه أبو داود
(6) الغزالي: إحياء علوم الدين (شرح الإحياء: 5/ 216)(8/1138)
قال ابن حجر الهيتمي: الكذب قد يباح، وقد يجب، والضابط كما في الإحياء: إن كان مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح وإن كان واجباً وجب، كما لو رأى معصوماً اختفى من ظالم يريد قتله أو إيذاءه، فالكذب هنا واجب، أو سأل الظالم عن وديعة يريد أخذها، فيجب الإنكار، وإن كذب، بل لو استحلفه لزمه الحلف، ويوري، وإلا حنث ولزمته الكفارة، ولو سأله سلطان عن فاحشة وقعت منه سراً، كزنى أو شرب خمر، فله أن يكذب ويقول: ما فعلت، وله أيضاً أن ينكر سر أخيه، ثم قال: ينبغي أن يقابل مفسدة الكذب بالمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت مفسدة الصدق أشد، فله الكذب، وإن كان العكس، أو شك، حرم الكذب.
ثم استشهد لصحة ذلك بحديث الترخيص بالكذب في الحرب، وفي الصلح بين الناس، وفي حديث الرجل زوجته ليرضيها (1)
ولنا فيما قاله الغزالي وأقره ابن حجر الهيتمي توقف، فليست كل مفسدة تترتب على الصدق يستباح بها الكذب، وليس كل مصلحة محمودة تتوقف على الكذب تبيحه، فإنه ما من كاذب إلا ويرى أن في الكذب مصلحة له أو درء مفسدة عنه أو عن غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم أخرج كلامه مخرج الحصر عندما قال: ((إن الكذب لا يحل إلا في ثلاث ... )) الحديث. والذي نراه وتقتضيه الأصول أن تكون القاعدة في ذلك: أنه لا يحل الكذب لجلب مصلحة أصلاً ما عدا الحرب، وأما لدرء المفاسد فلا يحل إلا للثلاثة المذكورة في الحديث، أو ما كان مثلها أو أعظم، لا ما كان دونها في العظم. والله أعلم.
وليحذر حامل السر ممن قد يستدرجه لفضاء بمضمون السر من حيث لا يشعر، فإن للناس في ذلك أساليب لا تخفى على ذوي الفطانة.
من يستحق الستر عليه ومن لا يستحق:
قال الحليمي: (الستر هو في الفواحش التي لا تخرج من الملة، فأما إذا سمع مسلماً يتكلم بكلام الكفر، فعرف به أنه من المنافقين، فلا ينبغي أن يستر عليه ... ليعلم المسلمون أنه خارج من جملتهم، ولئلا يغتروا بما يظهره لهم فينكحوه، أو يأكلوا ذبيحته، أو يصلوا خلفه، أو يوصي أحد منهم إليه بولاية أطفاله، ولأن من أظهر الكفر زالت حرمته، فإن الحرمة فيما أوجبنا ستره، إنما كان لدين المتعاطي له، فإذا لم يكن دين فقد زالت العلة، والله أعلم) (2) .
وواضح أن هذا إنما هو فيما كان من الأسرار من قبيل ستر العورات، أما إن كان من قبيل حمل الأمانة فإن الخيانة لا تجوز، ولو كان من حملك الأمانة زنديقاً، إن التزمت له بحفظها.
لماذا حفظ الأسرار؟
أولاً- لما في كشف السر من الأضرار في أغلب الأحوال:
ولا ينبغي لمسلم أن يسعى فيما فيه ضرر أخيه المسلم، ولا يحل لمسلم أن يتعمد الإضرار بأخيه بغير حق، ولا أن يسعى في أمر يكون سبباً في إيقاع الضرر بأخيه؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] .
__________
(1) الزواجر لابن حجر الهيتمي: 2/ 186، القاهرة، مصطفى الحلبي، 1370 هـ
(2) الحليمي: المنهاج في شعب الإيمان 3/ 364(8/1139)
والأضرار التي قد يسببها إفشاء الأسرار مختلفة، فمنها:
أ- الأضرار النفسية والمعنوية:
وذلك إن كان السر عورة يسترها أخوك على نفسه، من إثم ارتكبه، أو فعل شائن زلت قدمه فأقدم عليه، ثم استتر بستر الله تعالى، فإن كشفته عنه آلمته ألماً شديداً، فاستاء وحزن، وقد تسقط شهادته، وقد تسقط بذلك كرامته، ويجفوه بعض من كان يألفه، ويحقره من كان يعظمه، وقد يفسد ذلك ما بينه وبين أهله، فيكون في ذلك تحطيم الروابط الأسرية والعلاقات الاجتماعية.
وقال الحليمي: في هتك ستر أصحاب القروف تخفيف أمر الفاحشة على قلب من يشاع فيه؛ لأنه ربما كان يخشى أن يعرف أمره، فلا يرجع إلى ما قارفه أو يستتر منه. فإذا هتك ستره اجترأ وأقدم، واتخذ ما وقع منه عادة يعسر بعدها عليه النزع عنها، وهذا إضرار به (1)
وقد نهى الله تعالى عن التجسس: وهو تتبع ما يخفيه الناس من أمورهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه: ((إنك إن تتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت تفسدهم)) (2) . قال بعض السلف: (كلمة سمعها معاوية من النبي صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها) ، يعني استقام له شأن خلافته مع الناس.
ب- الأضرار البدنية:
فقد يلزمه بكشف سره حد أو عقوبة.
ج- الأضرار المهنية:
فإن المتعاملين مع أصحاب الصنائع كالطبيب والمحامي، إذا شعروا بأن أسرارهم في خطر، يحجمون عن التعامل معهم، أو لا يطلعونهم بالقدر الكافي على ما يريدون الاطلاع عليه لينجحوا في مهماتهم، وبذلك يفقدون وتفقد المهنة ككل نسبة كبيرة من فرص النجاح، وهكذا المهن الأخرى، حتى السائق والخادم إذا كان حافظاً للأسرار التي يطلع عليها تزيد الثقة به، فإن كان عكس ذلك فقد نسبة كبيرة من فرص العمل، وخسر غالباً ما بيده منها.
د- الأضرار المالية:
فربما أفقده إفشاء السر فرصة كسب ينتظره، أو مصلحة خطط لتحصيلها، وكم يكسب أصحاب الصناعات من الحقائق التي اكتشفوها فأدرَّت عليهم الأموال الطائلة، واعتبروها أسراراً مملوكة لهم، فهم يستثمرونها وينعمون بخيراتها، ويحرصون عليها كما يحرص كل منا على ما ينفعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله)) .
وربما أدى كشف أسرار الناس المالية إلى تسلط اللصوص وأشباه اللصوص حتى يعود الغني فقيراً، وتَؤُول الثروات التي جمعت بالكدح الدؤوب، والعمل الشريف، إلى الأيدي الظالمة، تعبث بها يميناً وشمالاً.
وربما لزمته بكشف سره غرامات وتكاليف مالية كان عنها في عافية.
وربما أفقده فضح السر منصباً يكتسب به رزقه.
وكم قد ثلت الفضائح عروشاً، وأوهنت حكومات، وأتلفت أمماً.
__________
(1) الحليمي: المنهاج في شعب الإيمان 3/ 362
(2) رواه أبو داود بسند صحيح (تخريج أحاديث الإحياء: 5/ 1000)(8/1140)
ثانياً- لأنه قد يكون في إفشاء السر خيانة للأمانة:
وذلك في أحوال:
أ- أن يكون بين المرء وزوجته:
ففي خطبة حجة الوداع أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء خيراً، وقال: ((إنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) .
وروى مسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) ، وفي رواية لمسلم: ((إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة ... )) الحديث (1) .
جاء في أخبار بعض أهل الفضل أنه سئل عن حال زوجة له كان قد طلقها فتزوجت بعده، فلما سئل عنها قال: (ما لي ولزوجة غيري؟)
والمراد بما يكتم هنا تفاصيل ما يقع بين الزوجين في خلوتهما.
ب- أن يكون أخوك قد طلب منك كتمان سره قبل أن يفضي إليك به فالتزمت له بذلك، فإن أفشيته كنت قد خنت الأمانة ونقضت العهد (2) ، فكنت ظلوماً جهولاً شأن المنافقين الذين يظهر نفاقهم ويعلم، بمثل هذا الفعل الذميم.
وقد يستكتم الأخ أخاه سراً في حال دون حال أو وقت دون وقت، فيقبل، فتكون الأمانة بحسب ذلك، كأن يقول: لا تفش عني هذا الخبر إلى ثلاثة أيام، أو: ما دام فلان حياً، أو ما دمت حياً، أو نحو ذلك.
ج- أن يكون أخوك قد فاتحك في أمر خاص مما شأنه أن يكتم عن الناس ولو لم يستكتمك، وخاصة إن كان يستشيرك في أمر مما ينويه أو أمر يعزم عليه، فذلك أمانة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المستشار مؤتمن)) ويكون كشف خبايا ذلك الحديث خيانة لتلك الأمانة.
وفيما روي من الحكمة أن رجلاً وشى بأديب لدى بعض الخلفاء، فأراد الخليفة الانتقام منه، فقال: اجمع بيني وبين هذا الواشي، فلما جاء قال له:
وأنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً
فخنت وإما قلت قولاً بلا علم
فأنت من الأمر الذي كان بيننا
بمنزلة بين الخيانة والإثم
كأن يقول للخليفة: كيف تأخذ في بقول من لا يخرج عن أن يكون خائناً أو كاذباً.
د- أن يكون السر كلاماً صدر في مجلس خاص، يثق الحاضرون فيه بعضهم ببعض، فالحديث الذي قالوه بمقتضى الثقة هو أمانة، ففيما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهو أمانة)) (3) قال شارح الإحياء: أي التفت يميناً وشمالاً؛ لأن ذلك يظهر أنه قصد أن لا يطلع على حديثه غير الذي حدثه (4) .
__________
(1) صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: ك 16 – النكاح، ح 123
(2) انظر الحليمي: المنهاج في شعب الإيمان 3/ 28
(3) قال العراقي: رواه أبو داود في الأدب، والترمذي في البر والصلة من حديث جابر، قال: حسن (شرح الإحياء: 5/ 216)
(4) شرح الإحياء: 5/ 216(8/1141)
هـ- أن تقضي الضرورة أو الحاجة الإنسان أن يكشف عما يسوءه أو يضره إظهاره، وما كان ليظهره لولا حاجته إلى المعونة، كمن يذهب إلى المفتي ليسأله عن حكم الشرع في أمر قد فعله، فإن لم يشرح الواقعة بالقدر الذي يبين به الحكم فيها لم يتمكن المفتي من إجابته والبيان له، فيكون الحديث الذي وصف به فعله إن كان مما يسوء إظهاره أمانة عند المفتي، فإن كشفه كان خائناً للأمانة، فلو شهد المفتي بعد ذلك أمام القضاء بما سمعه من الإقرار لم تقبل شهادته ولا عبرة بها؛ لأن الخائن للأمانة فاسق غير عادل، وهذا عند المالكية هو المعتمد من قولين لم يرويا عن مالك، وعليه العمل (1) .
ومثل ذلك الطبيب إذا أفضى إليه المريض بسبب مرضه، وقد يكون فعلاً شائناً، أو كشف للطبيب من بدنه ما يحتاج إلي كشفه للعلاج، ويكون فيه تشويه أو مرض منفر.
وربما أفضى إلى الطبيب النفساني بأوضاع خاصة به في حياته السابقة، أو أوضاع أسرته؛ ليتمكن من تشخيص المرض ومعرفة أسبابه وعلاجه، فيكون ذلك كله أمانة لدى الطبيب، ومن الخيانة أن يفشيها.
وكذلك المكلفون بالأبحاث الاجتماعية الذين يطلب منهم التحقق من الأوضاع المعيشية للمتقدمين بطلب المعونات الاجتماعية، أو معونة الزكاة والصدقات، فإن ما يفضي إليهم به من الشؤون الخاصة التي من شأنها أن تكتم هي أمانات لديهم ليس لهم تضييعها ولا بثها إلا بإيصالها لمن شأنه تقرير تلك المعونة.
غير أن هذا لا يمنع استخدام وقائع أو الوقائع الطبية أو نحو ذلك في الأبحاث العلمية، والاستشهاد بها في تأييد النظريات أو تزييفها، غير أنها إن كانت من قبيل الأسرار فلا يذكر أسماء أصحابها، ولا ما يكشف شخصياتهم، بل تستخدم الألفاظ المبهمة.
وسائر أمناء السر والموظفون في الدوائر الحكومية أو الأهلية حملوا الأمانة بحكم وظيفتهم، فعليهم كتمان كل ما يعلمون أن في إظهاره ضرراً حسياً أو معنوياً للجهة التي قلدتهم تلك المهمات، ومن الخيانة أن يكشفوا من ذلك شيئاً.
__________
(1) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك، فتاوى الشيخ عليش: 1/ 217، في باب موانع الشهادة(8/1142)
ثالثاً- لأن البوح بالأسرار فيه غالباً اتباع لهوى النفس ممن يفعله:
وقد قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] ، فإن الذي يدعو الناس إلى فضح أسرار غيرهم أو كشف معايبهم أكثرها راجع إلى الهوى.
فمن ذلك:
أ- أن النفوس تنزع إلى كشف الخبايا، والتبسط بغيبة الناس وذكر معايبهم، وخاصة في المجالس التي لا يتقى فيها الله تعالى، فمن اتبع ما تنزع إليه نفسه من ذلك كان متبعاً للهوى، ومن جارى قائلي السوء وكشف لهم ما يعلم من أسرار إخوته، كان متبعاً للمتبعين للهوى من إخوان الشياطين، قال الحليمي: إنما يحمل على ذلك الدغل ورداءة الطبع وسوء النية (1)
فإن الصاحب إذا حل من خليله محل الفؤاد، فاطمأن كل منهما إلى الآخر وركن إليه، فائتمنه على أدق أسراره، وبث إليه أشياء مما في نفسه وأخباراً عن أشياء فعلها، وربما أفضى إليه برأي له في فلان من الناس أو فلانة، فحق حامل الأمانة أن يكون كفناً لها، فلا يفضي بشيء من ذلك إلى أحد، ولو أن حبل الوداد انفصم بين هذين الصاحبين ما كان لأحد منهما أن يخون ما ائتمن عليه، ولا أن يفشي سر صاحبه القديم، فإن فعل ذلك يدل على لؤم طبعه وخبث باطنه (2) وليس للآخر أن يقول: فضحني فأفضحه، وأذلني فأذله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)) .
ثم إن كان في فضح سر المسلم، وكشف الستر عنه، ضرر يلحقه في نفسه أو ماله أو بدنه أو مركزه الاجتماعي، فإن الغالب أن يكون ذلك عن عداوة باطنة أو حقد خفي أو حسد دفين، وذلك من الهوى؛ قال الغزالي: (منشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها: الداء الدفين في الباطن، وهو الحقد والحسد، فإن الحقود الحسود يملأ باطنه الخبث، ولكنه يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له مجالاً، وإذا وجد فرصة انحل الرباط وارتفع الحياء وترشح الباطن بخبثه الدفين) (3) .
ويزداد ذلك الهوى ضراوة إذا انحل رباط المودة فعاد عداوة، فإن لم يكن للصديق القديم عاصم من دين يعتصم به، استغل تلك الأسرار القديمة، وأصبحت في يديه سلاحاً يقتل به عدو اليوم أخاه بالأمس، وكان للهوى حينئذ الأمر والنهي، ولإبليس الكلمة التي لا ترد، لكنه ليس له سلطان على غير الغواة، بل إن هذه الحالة في الحقيقة هي التي تتبين فيها قدرة أهل الحفاظ على كتم الأسرار، فمن أفشى السر عند الغضب فهو لئيم؛ لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها، وإنما محل الامتحان عند الغضب، فإفشاؤه عنده من علامات اللؤم وخبث الطبع وسوء السريرة، وقد قال بعض الحكماء: لا تصحب من يتغير عليك عند أربع: (عند غضبه ورضاه، وعند طمعه وهواه) ؛ بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتاً على اختلاف هذه الأحوال (4) .
__________
(1) المنهاج في شعب الإيمان 3/ 362
(2) إحياء علوم الدين: 5/ 958، ط الشعب
(3) إحياء علوم الدين: 5/ 960
(4) الإحياء وشرحه: 5/ 218(8/1143)
متى يجوز إفشاء الأسرار؟
لا يجوز البوح بالسر الذي يشرع كتمانه –على الوجه الذي تقدم- إلا في أحوال معينة، منها:
1- انقضاء حالة كتمان السر:
إذا انتهت حالة السر من غير جهة الكاتم لها، فلا بأس أن يتكلم بذلك. ويكون انقضاء حالة السر بأمور:
أ- أن يبوح بالسر صاحبه نفسه؛ لأنه لا يعود سراً فيكتم، ولذا فيرتفع الحرج بذلك (1) ، ومع هذا فقد تبقى بعض التفاصيل التي لم يبح بها سراً إن كان يكره التصريح بها، أو يكون في إعلانها ضرر عليه، ومن هنا كان من يفعل الفواحش ويعلن بها خارجاً عمن يجب الكتمان عليه؛ لأنه كاشف ستر نفسه من أول أمره، ولأنه لم يبال أصلاً بما يقال فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)) متفق عليه.
فإن الرجل إذا قارف السوء، ولم يره غير الله تعالى والكرام الكاتبين الذين يعلمون ما يفعلون، كان عليه أن يستتر بستر الله ويتوب إليه، ولكنه إذا ذهب يكشف ستر الله عنه ويحدث فلانًا وفلانًا بقبيح ما فعل، فكأنه يتمدح بالمذمة، ويتفاخر بالمعصية، فيزداد قبحا إلى قبح، ولم يكن للستر عليه معنى، وإنما تنصرف مشروعيته كتم السر والستر على صاحب المعصية إن كان ممن تبدر منه الزلة النادرة، وظاهره عند الناس حسن جميل.
وقد قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] .
فالظاهر أن طلب الشهداء ليشهدوا في هذه الحال إنما هو في المرأة التي كثر منها ذلك واشتهر، جمعاً بين ما في هذه الآية وبين ما علم في الشريعة من طلب الستر على من بدرت منه الزلة وأناب.
ب- انقضاء الأضرار والمفاسد التي يتضرر بها المكتوم عنه أو غيره من جميع نواحيها: بدنياً ونفسياً ومعنوياً ومالياً، وهذا إن كان سبب مشروعية الكتمان الضرر، فأما إن كان السبب حمل الأمانة فلا تنقضي بذلك، ما لم يأذن المكتوم عنه بإعلانها أو يعلنها هو بذاته.
ج- أن يأذن صاحب السر في إفشائه، فإن أذن فلحامل السر أن يحدث به، فإذا حدث به أحداً أداه على أحسن وجه، واختار أجود ما سمع.
د- أن يكون الالتزام بكتمان السر إلى أجل، فيأتي ذلك الأجل.
هـ- أن ينتقل حال المكتوم عنه ممن يشرع كتمان سره إلى من يشرع كشف ستره وفضح أمره، كأن ينتقل من حال الإيمان إلى النفاق والكفر والعياذ بالله، أو من حال التستر بالفواحش إلى الإعلان بها.
__________
(1) فتح الباري: 9/ 177- 178(8/1144)
2- موت صاحب السر:
وذلك لأن ضرر البوح بالسر ينتفي بالموت غالباً، ولكن في المسألة تفصيلاً، فقد نقل ابن حجر: إذا مات لا يلزم من الكتمان ما كان يلزم في حياته، إلا أن يكون عليه غضاضة، ثم قال ابن حجر: والذي يظهر انقسام ذلك إلى أقسام: فيكون مباحاً، وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك، ويكون مكروهاً، وقد يحرم، كالذي على الميت فيه غضاضة، وقد يجب، كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه. اهـ.
قلت: وقد يكون الحق في الأصل للميت، كوديعة أودعها عند غيره سراً واستكتم المودع، فوجب عليه ردها على الورثة.
3- أن يؤدي الكتمان إلى ضرر أبلغ من ضرر الإفشاء:
ومن هنا كشف علماء الحديث أحوال الرواة ووقائع وقعت لهم تدل على فسق أو قلة دين أو تساهل في الكذب، أو نحوه، لا بغرض العيب على المسلمين، وإنما بغرض تفويت الفرصة على هؤلاء؛ لئلا يغتر الناس بأحاديثهم فيظنوها صحيحة، وهي ضعيفة أو مكذوبة، فإن استمرار الكذب، وبناء الأحكام الشرعية على أحاديث منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لم يتكلم بها أعظم ضرراً من كشف كذب الكاذبين.
وكذلك في الشهادة، فإن شهد المستور الحال أو الظاهر العدالة، بأن لمن يعلم باطن حاله أن يقدح فيه ويبين السبب لئلا يظلم المشهود عليه.
4- دفع الخطر:
قال الزبيدي: يستثنى ما لو تعين (الإفشاء) طريقاً لإنقاذ مسلم من هلاكه أو نحوه، كأن يخبر ثقة بأن فلاناً قد خلا برجل ليقتله، أو امرأة ليزني بها، فيشرع التجسس كما نقله النووي عن الأحكام السلطانية واستجاده، وفي حديث جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المجالس بالأمانة، فلا يشيع حديث جليسه إلا فيما يحرم ستره من الإضرار بالمسلمين)) إلا أنه حديث ضعيف، وفي رواية عند أبي داود: ((المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس يسفك فيه دم حرام، أو يستحل فيه فرج حرام، أو مجلس يستحل فيه مال من غير حله)) قال الزبيدي: سكوت أبي داود عليه يدل على أنه عنده حديث حسن.
قال: والمراد بالحديث أن المسلم إذا حضر مجلساً، وجد أهله على منكر أن يستر على عورتهم ولا يشيع ما رأى منهم إلا أن يكون أحد هذه الثلاثة فإنه فساد عظيم وإخفاؤه ضرر كبير.(8/1145)
وعلى ضوء ما تقدم يمكن أن يتبين حكم بعض الوقائع:
1- تأكد الطبيب من أن الزوج عقيم، ولا يمكن أن ينجب، وحملت الزوجة بطريق أو بأخرى، وهم الطبيب بإفشاء السر بإخبار الزوج أو إخبار الجهات المسؤولة، فهل له أن يفعل ذلك؟
والذي نجزم به في هذا الشأن أنه ليس للطبيب أن يقول: إن هذه الزوجة قد حملت من الزنى؛ لأنه إن قال ذلك كان قاذفاً، ويستحق حد القذف وهو ثمانون جلدة إن طالبت بذلك المرأة ولم يأت الطبيب بأربعة يشهدون على ذلك.
لكن لو قال للزوج: (تبين من الفحص أنك عقيم لا تنجب) واقتصر على هذا القول فهذا حق، وليس بسر ولا بأمانة حتى يلزم ستره وكتمانه، ولكن من باب المحافظة على سلامة الأسرة إن علم أن ذلك وقع من المرأة على سبيل الزلة فقد يكون عدم الإخبار بذلك أفضل؛ إذ لا فائدة فيه بالنسبة إلى نسب الحمل؛ لأنه سيلحق بالزوج؛ إذ الولد للفراش ولو انتفى الزوج من الولد، ما لم يجبر اللعان لنفيه.
2- إذا قام الطبيب بعمل يخل بآداب مهنة الطب، واكتشف ذلك زميل له، هل يقوم بإبلاغ وإفشاء السر؟
يختلف ذلك في نظري من حال إلى حال، فإن كان ذلك الطبيب قد اعتدى على الطرف الآخر أو استغل صغره أو جنونه أو نحو ذلك، فهنا ليس الستر على المعتدي أولى من تمكين المعتدى عليه من الوصول إلى حقه.
وإذا كان بموافقة الطرف الآخر، وهو تام التكليف، فإن كانت زلة وحصلت التوبة منها فينبغي الكتمان، وخاصة إذا كان الذي واقع الجرم قد استعان بالزميل الذي اكتشف أمره ليتم تلافي ما حصل.
أما إن كان مستمراً في غوايته واستغلال مركزه فيجب إيقافه عند حده.
3- إذا تبين للطبيب أن رب الأسرة قد أصيب بمرض جنسي، فهل يبلغ الأسرة؟ الجواب عندي أنه إن كان المرض معدياً ويخشى أن ينتقل إلى زوجته أو سائر أفراد أسرته، فإن الضرر المتوقع بإصابته الأبرياء أعظم من الضرر الذي ينال المريض نفسه ببيان حاله، وحينئذ فينبغي للطبيب البيان إن سئل عن ذلك أو اقتضته الحال.(8/1146)
4- مريض أجريت له عملية في العين، أو أصيب فضعف إبصاره لدرجة يكون في قيادته للسيارة خطر عليه هو نفسه وعلى الناس، هل يجوز الإفضاء بأمره للمسؤولين؟
الجواب عندي أنه لا مانع من أن يفضي بذلك ليحصل منعه من القيادة مؤقتاً، إن كان ضعف الإبصار مؤقتاً، أو لسحب الرخصة منه إن كان الضعف دائماً؛ وذلك لأجل الخطر في القيادة.
5- بذل طبيب العيون جهده، ولكن لم يفلح في إزالة الداء، وتلفت العين فهل هو مسؤول شرعاً، وهل يجب عليه إفشاء السر؟
الجواب: إنه إن كان متأهلاً، وقد بذل من الجهد ما يبذله أهل الخبرة، ولم يكن سبب التلف عمله هو، فلا ضمان عليه، وليس هناك سر فيحاول إخفاءه.
6- أخطأ طبيب العيون فأتلف العين بآلة استعملها، أدخلها في جزء من العين لم يكن له إدخالها فيه، وتلفت من حيث يريد إصلاحها، والمريض لم يعلم أن سبب التلف خطأ الطبيب، فهل على الطبيب أن يفشي على نفسه، وهل عليه أن يدفع الدية؟
والجواب: إنه مادام الإتلاف سببه جناية يد الطبيب خطأ فعليه الضمان بدية العين، لأن الإتلاف لا يختلف عمده وخطؤه، بخلاف ما لو فعل ما له فعله، ثم سرى من حيث لا يريد، ولم يكن منعه فلا ضمان، ثم إذا لزم الضمان فعليه أن يخبر به لأنه حق آدمي لا يسقط إلا بالإبراء منه أو الأداء.
7- إذا حضر رجل وامرأة مقبلان على الزواج، وطلبا فحص ما قبل الزواج، وتم اكتشاف مرض معين في أحدهما قد يؤدي إلى احتمال إنجاب طفل مشوه، فهل يقوم الطبيب بإخبار الطرف السليم، وهل يستتبع ذلك شرعاً مساءلة ما، وهل يتم إخبار الطرف المريض نفسه؟
الجواب: يبدو لي أن قدوم الطرفين جميعاً للفحص يقتضي إخبارهما بالنتيجة، وإلا فإن الطبيب يكون قد خدعهما ولم يؤد واجبه في إطلاعهما على حقيقة وضعهما.
8- إذا عرف الطبيب من مريضه الذي يعمل في موقع حساس (طيار مثلاً) أنه مدمن مخدرات، وأن بعض زملائه مدمنون أيضاً، فهل يقوم الطبيب بإطلاع المسؤولين على ذلك السر؟ أم يقوم الطبيب بإخطار السلطات لاتخاذ اللازم؟
الجواب عندي أنه: يجب على الطبيب شرعاً أن يبلغ الجهات المسؤولة، ويبلغ السلطات أيضاً إن لم يكن في الأمر مانع من جهة إدارية، وذلك ليمكن تفادي الأخطار الفظيعة التي قد تترتب على قيادة الطائرة من قبل شخص واقع تحت تأثير المخدر.(8/1147)
9- إذا عرف الطبيب عن مريضته أنها قامت بترك وليدها غير الشرعي في الطريق العام، أو أي مكان آخر؛ تفادياً للفضيحة، فهل يقوم الطبيب بإبلاغ السلطات، أم يلتزم بكتمان السر؟
الجواب عندي أنه هنا يلتزم الطبيب بكتمان السر، وخاصة إذا كانت قد استكتمته السر، والتزم لها بذلك، وحتى لو لم يلتزم فلا يفشي السر، لشدة الخطورة على حياتها في غالب الأحوال، ولما في إفشاء السر من أضرار معنوية شديدة على المرأة نفسها وعلى أسرتها وعلى سائر أولادها.
10- مريض فقد بصر عينه، ولكن أمكن إصلاحها حتى تبدو سليمة تماماً بحيث لا يعرف الناظر إليه بأنه لا يبصر إلا بعين واحدة، طلب المريض إلى الطبيب أن لا يخبر زوجته بذلك؛ لأنها ستطلب الطلاق إذا علمت بذلك، أو أن خطيبته سترفض الاقتران به؟
الجواب عندي أن: هذا السر ليس للطبيب أن يخبر به؛ لما فيه من الضرر على المريض، والله أعلم.
وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.(8/1148)
العقوبات التي تقع على الطبيب الذي يكشف سر مريضه
تمهيد مفيد في تحديد معنى العقوبة والسر:
أما (العقوبة) ، و (المعاقبة) ، و (العقاب) : فتختص بالعذاب، قال الله تعالى: {فَحَقَّ عِقَابِ} ، {شَدِيدِ الْعِقَابِ} .
ويقال: عاقب الحاكم فلاناً على ذنبه عقاباً: أخذه به، والأحكام الشرعية المتضمنة للأجزية، تسمى (العقوبات) .
وأما (السر) فأفصح وأعلى ما قيل في معناه، هو قول الزمخشري: (ما حدث به الرجل نفسه أو غيره، في مكان خال) .
وكني به عن (النكاح) ، من حيث إنه يخفى، قال تعالى: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} أي: نكاحاً، وقال جرير في رثاء زوجته:
كانت إذا هجر (الحليل) فراشها
خزن الحديث وعفت الأسرار
قال الإمام الشافعي: (فإذا علم أن حديثها مخزون، وخزن الحديث: أن لا يباح به سراً ولا علانية، فلا معنى للعفاف غير (الأسرار) ، والأسرار: الجماع.
والرجل الحازم: هو الذي يعامل الناس بالظاهر، فلا يضيق سره في صدره، ولا يتعداه إلى غيره.
قال الشاعر الحكيم (المتنبي) يمدح نفسه بكتم السر:
وللسر مني موضع لا يناله
نديم، ولا يفضي إليه شراب(8/1149)
وإفشاء السر فعل ممقوت، وخلق ذميم، قال الحطيئة في هجاء أمه:
تنحي فاجلسي مني بعيداً
أراح الله منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سراً
وكانوناً على المتحدثينا
حياتك ما علمت حياة سوء
وموتك قد يسر الصالحينا
ولعمري! إن المرء يصعب عليه كتم السر، ويرى بإفشائه راحة، خصوصاً إذا كان السر: مرضاً، أو هماً، أو عشقاً، قال بشار بن برد:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك، أو يسليك، أو يتوجع
وقال غيره:
لا تكتمن دائك الطبيبا
ولا الصديق بسرك المحجوبا
وبالجملة: فإن إفشاء السر إلى الغير، يدل على لؤم الطبع، وخبث الطوية، وسوء الخلق.(8/1150)
وإذ قد تمهد لنا هذا، فلنشرع في الكلام على أحكام جريمة إفشاء الأسرار الطبية، ومدى المسؤولية الجنائية للطبيب إذا أفشى سراً من أسرار مهنته.
فأقول: إن الكلام في هذه القضية متشعب وطويل ومعقد؛ ذلك لأن مسؤولية إفشاء الأسرار عموماً: الطبية وغير الطبية، مسؤولية أدبية، قد تخطاها فقهاء الإسلام، إلى غيرها من العقوبات النصية المحددة، والذي حملهم على إغفال الكلام عليها صراحة، هو أنها تدخل في دائرة الآداب العامة والأخلاق، فهي بها أشبه وأقرب.
ولكنهم لم يغفلوا الإشارة إليها، فيما قعدوا من قواعد وفرعوا من فروع، والإشارة في بعض الأحيان تكون أبلغ من العبارة (والحر تكفيه الإشارة) ، فالباحث في كتب الفقه الإسلامي، لا يعدم وجود حكم لها.
يوضح ذلك: أن للشريعة الإسلامية، في تقسيم الجرائم والعقوبات، مسلكاً رفيعاً فريداً، فقد نصت على عدد من الجرائم، وفرضت لكل منها عقوبات محددة. كالحدود، والقصاص.
وأما باقي الجرائم، فلم تفرض لها عقوبات محددة، بل ترك الأمر فيها لأولي الأمر والقضاة، والمجتهدين يفرضون منها في كل حالة ما يناسبها من عقوبات تسمى في عرف الفقهاء بالتعزيرات.
وقد سماها الإمام الأكبر فضيلة الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر (سابقاً) بالعقوبات (التفويضية) .
وأرى من المناسب، قبل أن أدخل في صميم الحديث، أن أذكر بعض المعلومات العامة ذات الصلة بالتعزير، ليتسنى لي إدراك ما أنا بصدده، والله ولي التوفيق.(8/1151)
أ- عرف فقهاء المسلمين الجريمة بأنها: (محظور بالشرع زجر الله عنها بحد، أو: تعزير) . وذهب جمهور هؤلاء الفقهاء إلى أن التعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.
فما هي (المعصية) ؟
اتفق الفقهاء على أن ترك الواجب، وفعل المحرم؛ معصية فيها التعزير، إذا لم تكن هناك عقوبة مقدرة (1) .
وضربوا الأمثلة لترك الواجب: بمنع أداء الزكاة، وترك الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها، وخيانة الأمانة.
وضربوا الأمثلة لفعل المحرم، بالخلوة بالأجنبية، وتقبيلها، واليمين الغموس، وشهادة الزور، والتستر على المجرمين وإيوائهم.
ترك المندوب وفعل المكروه:
وإذا كان ترك الواجب، وفعل المحرم معصية تستوجب التعزير، إذا لم يكن هناك تقدير للعقوبة.
فما هو الحكم إذا كان الأمر مقصوراً على ترك المندوب أو فعل المحرم، أو بعبارة أخرى: هل يعزر تارك المندوب، وفاعل المكروه؟
لم يتفق الفقهاء في هذه المسألة، ففريق يرى جواز التعزير، وفريق لا يرى الجواز.
فمن قال بعدم الجواز استند على أن التعزير لا يجوز إلا إذا كان هناك تكاليف، وهنا في هذه المسألة، ليس التكليف موجوداً في حالة الندب أو الكراهة، ومن قالوا بالتعزير استدلوا بفعل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فقد عزر رجلاً أضجع شاة ليذبحها وأخذ يسن السكين والشاة تنظر إليه، ولما كان مثل هذا الفعل الذي أتاه هذا الرجل يعتبر مكروهاً فقد قالوا بجواز التعزير على فعله المكروه، ومثله (ترك المندوب) (2) .
__________
(1) السياسة الشرعية (ص 55) ، والحسية في الإسلام (ص38) لابن تيمية، والأحكام السلطانية للماوردي (ص 210 وما بعدها) ؛ والأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص 244 وما بعدها) ، وغيرها
(2) راجع المستصفى للغزالي (1/ 75- 76) ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 60 وما بعدها) ، ومواهب الجليل (6/ 330) وغيرها(8/1152)
التعزير لحماية الآداب العامة والأخلاق:
بقي –علاوة على ما تقدم- شيء آخر أجده لزاماً علي أن أذكره، وهو: أن الشريعة الإسلامية قد عنيت أشد العناية بحماية الآداب العامة، والأخلاق الكريمة، وذلك ابتغاء إيجاد أمة كريمة، ومجتمع فاضل، وشعب مثالي بعيد كل البعد عن الميوعة والتخنث، واللهو والعبث؛ ومن أجل ذلك تركت الشريعة الإسلامية المجال يتسع ويمتد حتى يشمل كل الصور، التي يتراءى فيها الأذى والضرر، وأوجبت التعزير على جميع الأعمال الموجهة ضد الأخلاق والآداب العامة، ومنها: إفشاء السر المصون، والحديث المكتوم، وخصوصاً السر بين الطبيب المعالج وبين مرضاه، فلا يجوز للطبيب إفشاؤه، ولا إذاعة أي شيء من المعلومات التي يحصل عليها من المريض، في أثناء علاجه، فالسر حجاب مستور، لا يجوز هتكه، وجانب من حياة المريض مقدس، لا ينبغي كشفه، وإن الطبيب الذي يذيع الأسرار، فيجرح عرض مريض يشهر به، ويسيء إلى سمعته، أو عرض امرأة يكشف سرها ويفضح أمرها ويلحق بها سبة تشينها وتشين ذريتها وذويها من حولها، هو ممقوت عند الله تعالى، وينبغي أن يكون ممقوتاً من كل نفس فاضلة، وكل قلب مؤمن رشيد.
ولقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا الإنسان أشد الوعيد، وأنذره أفظع إنذار، فذكر أنه مصنوع به كما يصنع هو بالناس، ومقضي عليه كما يقضي هو عليهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف رحله)) ، يعني: يفضحه الله في المكان الذي يأوي إليه، ويأمن به، ويطمئن إليه، وهو بيته الذي ينزل فيه، وكما قيل: (كما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل) .
ومن هذا نستطيع أن نخلص ونفضي إلى أن الطبيب الذي يذيع أسرار مرضاه، ولا سيما الأسرار الخاصة بينه وبينهم بحكم مهنته الطبية، يعتبر من الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات، ويلحق الضرر بهم وبأسرهم، ويشين سمعتهم، فيجب تعزيره وتأديبه والتنكيل به ومنعه من معاودة هذا الخلق الذميم الممقوت، هذا رأيي، والله سبحانه أعلم (1) .
__________
(1) راجع شرح الزيلعي على الكنز (3/ 210) ، وتبصرة الحكام لابن فرحون (2/ 366 وما بعدها) ، ونهاية المحتاج (7/ 174) ، وكشف القناع (4/ 73 وما بعدها)(8/1153)
ب- عقوبة إفشاء الأسرار الطبية (في القانون) :
ونزيد هنا (تحت هذا العنوان) كلمة أخرى، تكون رديفاً لما تقدم، فنقول: إن إفشاء السر في حد ذاته جريمة خلقية قبل أن يكون جريمة جنائية.
وهذا يفسر لنا سكوت العلماء عن تقرير عقاب للإفشاء في العهود الغابرة.. مع أن التزام الطبيب بأسرار مهنته، معروف منذ القدم، طالما أن الحياء العام يتأذى من الإفشاء، وطالما أن في ذلك ضرراً بالمصلحة العامة، عندما يمتنع المرضى عن عرض أنفسهم على الأطباء، خشية افتضاح أمراضهم؛ لما قد يترتب على ذلك من إساءة سمعتهم، والحط من كرامتهم.
ثم إن إفشاء السر قد يثير غضب صاحبه إلى حد الاقتصاص بالقتل، وهذا ما حدث سنة 1832م في إحدى الجامعات الأوروبية، حيث قتل أحد أساتذة كلية الطب، وكان دفاع القاتل أن الطبيب وضع له عقبة في سبيل زواجه.
وبعد: فما أطيل، وسيكون كلامي على هذا الموضوع منصباً على ناحيتين، أعالج في أولاهما (أركان جريمة إفشاء السر) ، وفي ثانيتهما: أذكر الأحوال التي يباح فيها للطبيب إفشاء سر من أسرار مهنته، دون أن يقع تحت طائلة العقاب.
أولاً- أركان الجريمة:
تقوم جريمة إفشاء الأسرار إذا توافرت أربعة أركان:
1- أن يكون هناك سر.
2- أن يكون هذا السر، قد اؤتمن عليه طبيب.
3- أن يفشي الطبيب هذا السر.
4- أن يكون ذلك بقصد جنائي.
فقد نصت (المادة: 310) من قانون العقوبات المصري على أن: (كل من كان من الأطباء، أو الجراحين، أو الصيادلة، أو القوابل أو غيرهم، مودعاً إليه بمقتضى صناعته، أو وظيفته، سر خصوصي اؤتمن عليه، فأفشاه في غير الأحوال التي يلزمه القانون فيها تبليغ ذلك، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة شهور، أو بغرامة لا تتجاوز خمسين جنيهاً) .(8/1154)
الركن الأول: سر المهنة الطبية:
وقد وردت بشأنه عدة تعاريف، ترمي إلى تحديده بقدر الإمكان:
فعرفه بعض المستشارين الأوروبيين بأنه: (كل ما يعهد به المريض للطبيب، ولو كان معيباً أو مزرياً بالشرف) ، ولم يكتف بعضهم بهذا التعريف فقال: (إن سر المهنة الطبية لا يقتصر على ما يعهد به إلى الطبيب، بل يتعداه إلى كل ما يشاهده الطبيب أو يسمع به، أثناء ممارسته مهنته) .
وأخيراً قد يتحدد السر بالوقائع، كما إذا أفضى المريض إلى الطبيب بأن الجرح الذي يعالجه قد نشأ عن عراك.
نخرج من هذا إلى أن (سر المهنة الطبية) : هو كل ما يعرفه الطبيب أثناء ممارسته مهنته، وكان في إفشائه ضرر لشخص أو لعائلة.
الركن الثاني: صفة من اؤتمن على السر:
وهذا الركن يعني: أن يكون قد اؤتمن على السر طبيب أو صيدلي أو قابلة.
الركن الثالث: إفشاء السر:
المراد بالإفشاء: إطلاع الناس عليه، سواء كان ذلك عن طريق المكاتبة أو المشافهة أو الإشارة، ولا يشترط أن يكون الإفشاء على ملأ من الناس، بل يكفي أن يكون إلى شخص واحد، فالطبيب الذي يفشي لزوجته سراً من أسرار مهنته يقع تحت طائلة العقاب، ولو طلب منها كتمانه. ولا يباح الإفشاء ولو كان من طبيب إلى طبيب، والحكمة من هذا: أن المريض لم يأتمن أي طبيب على سره، وإنما ائتمن طبيباً واحداً معيناً.
الركن الرابع: القصد الجنائي:
مجرد الإفشاء مع العلم به، كاف لتوفر هذا الركن، وعليه فالقانون لا يعاقب على الإفشاء إذا حصل بإهمال أو عدم احتياط من الطبيب.
فإذا توافرت هذه الأركان الأربعة، وجدت الجريمة، ووجب تطبيق المادة (310 عقوبات) (1) .
__________
(1) راجع شرح قانون العقوبات –القسم الخاص- تأليف الدكتور محمود مصطفى (ص 424- 430)(8/1155)
ثانياً- مسوغات الإفشاء:
هناك أحوال يخول فيها الطبيب إفشاء السر، دون أن يقع تحت طائلة العقاب.
ويمكن حصر المسائل التي أثير بشأنها مسوغات الإفشاء فيما يلي: (على خلاف وجدل كبير بين الفقه والقضاء، في فرنسا وغيرها) :
1- هل يباح للطبيب أن يفشي السر في حالات الضرورة؟
2- الإفشاء إلى شركة التأمين على الحياة إذا كان الطبيب ممثلاً لها.
3- أداء الشهادة أمام المحاكم.
4- رضاء صاحب السر بإفشائه.
5- إفشاء السر المنطوي على ارتكاب جريمة.
6- التبليغ عن الوفيات والمواليد والأمراض المعدية.
يطول بنا الكلام إذا أردنا شرح هذه المسائل فنجتزئ بهذا الإجمال، ومن أراد التوسع فليرجع إلى قانون شرح العقوبات –القسم الخاص تأليف أحمد أمين (القانوني. لا الأديب) ، والموسوعة الجنائية (الجزء الثاني) ، علاوة على ما ذكرته من مراجع سابقة.(8/1156)
الفصل الثاني
مداواة الرجل للمرأة والمرأة للرجل
جعلت الأحكام الشرعية عامة، بحيث لا تنظر إلى حالة من الحالات، ولا إلى فرد من الأفراد، بل هي تنظر إلى جميع الحالات، وإلى جميع الأفراد.
إلا أن هذه الصفة قد تجعل من تطبيق الأحكام في بعض الأحيان حرجاً على بعض الناس، كما أن الإفراط في التمسك بالظاهر من النصوص يؤدي في بعض الأحيان إلى ظلم وضرر، أو كما قال الغزالي (1) : (كل ما تجاوز حده انقلب ضده) ، لذلك اقتضت حكمة التشريع التيسير على الناس، وعدم تطبيق الأحكام العامة في بعض الأحوال الاستثنائية، رفعاً للضرر، ودفعاً للمشقة.
وقد استند فقهاء الحنفية بذلك إلى (الاستحسان) ، واستند المالكية إلى التعليل بالمصالح المرسلة، ثم عارض بعض علماء الأصول بهذا الإسناد للمصلحة، أو على حد تعبير الإمام الغزالي بهذا الاستصلاح.
غير أن جمهور الفقهاء قبلوا به واستندوا بذلك إلى الكتاب والسنة، وسابقات عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- مثال ذلك في الكتاب الكريم: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] ، وفي الحديث الشريف: ((الدين يسر)) ، ((أحب الدين عند الله الحنيفية السمحة)) (2) .
فهذه الأدلة وما إليها، وإن ذكرت الدين فحسب، لكنها عامة في الفقه الإسلامي؛ لأن هذا الفقه دين وقضاء في الوقت نفسه.
__________
(1) كما نقله السيوطي في الأشباه والنظائر (ص59) ، مطبعة مصطفى محمد سنة 1936م
(2) البخاري، وشرحه (عمدة القاري) للعيني: 1/ 234-235(8/1157)
وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قطع أيدي اللصوص في الغزو، بقوله: ((لا تقطع الأيدي في السفر)) (1) .
ثم بالاستناد إلى هذا الحديث، أفتى المجتهدون، بوجوب رفع الحد والعقوبة في أرض العدو؛ لئلا يلتحق المحكوم عليهم بالأعداء.
وعلى هذا كله، بنى الفقهاء القاعدة الكلية (المشقة تجلب التيسير) وهي من القواعد الأربع التي قال عنها القاضي حسين الشافعي: (إن مبنى الفقه عليها) (2) .
وإن التيسير معناه الرخصة، أو التخفيف الشرعي بسبب المشقة، استثناء من القاعدة العامة.
والمشقة تشمل الاضطرار والحاجة، دون المصلحة الكمالية، فحالة الاضطرار أو الضرورة هي بعرف الأصوليين: ما التجأ فيها المرء إلى حفظ دينه أو نفسه أو ماله أو عقله أو نسله من الهلاك.
والحاجة: هي ما كانت لازمة لصلاح المعيشة، أما الكماليات: فهي ما وقعت موقع التزيين والتحسين.
والمقصود من هذا كله هو أن الأصل في تعاليم الإسلام الحنيف، عدم جواز معاينة ومعالجة الرجل المرأة الأجنبية، وذلك من أجل النظر والملامسة فيهما.
ويستثنى من ذلك حالات الضرورة، كعدم وجود طبيبة تثق المريضة أو ذووها بها، أو تجد طبيبة ولكنها ليست متخصصة كتخصص الطبيب المعالج لها، إذا كان مرضها يتطلب تخصصاً معيناً، أو أن معارك الجهاد تحتاج إلى توفير الرجال للقتال، وإلى فتح المجال أمام النساء لتمريض الرجال أو معاينتهم ومداواتهم، والقاعدة الفقهية تقول: (الضرورات تبيح المحظورات) ، وقال الإمام الغزالي: (جميع المحرمات تباح بالضرورات) (3) .
وجاء في القواعد الكلية الواردة في الأشباه والنظائر والمنقولة في مجلة الأحكام العدلية (مادة رقم 31) أن: (الضرورات تبيح المحظورات) .
وإن الأمثلة على تطبيق هذه القاعدة عديدة ومتنوعة، ولكن هذه القاعدة ليست مطلقة، بل لها تقييدات عديدة، فالإباحة مقيدة بالنص، أو بالقدر، أو بالزمن، وها نحن نستعرض هذه التقييدات مع المواد الكلية التي ذكر بشأنها، ومع بعض الأمثلة التي تهمنا هنا.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الحدود – 37- باب 19 (في الرجل يسرق في الغزو، أيقطع؟) وهذا ترقيم المفتاح، أما نسخة أبي داود بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد: 4/ 200. وقال المحقق: وأخرجه الترمذي والنسائي: عن جنادة بن أبي أمية، قال: كنا مع بسر بن أرطاة في البحر، فأتي بسارق يقال له: مصدرة قد سرق الناقة، فقال: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقطع الأيدي في السفر، ولولا ذلك لقطعته، ورواه الترمذي في كتاب (الحدود) 15- باب (ما جاء أن لا تقطع الأيدي في الغزو) ، وقال: هذا حديث غريب، وقد رواه ابن لهيعة بهذا الإسناد ونحو هذا، انظر 3/5 من سنن الترمذي، وهو الجامع الصحيح بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان – مطبعة دار الفكر- بيروت. ورواه النسائي في كتاب 46 – باب 16 (القطع في السفر) عن بسر بن أرطاة بلفظ أبي داود السابق، انظر الجزء الثامن من سنن النسائي بشرح الحافظ السيوطي ص 91، طباعة دار الفكر – بيروت، قال السيوطي: وجاء في روايات الحديث (الغزو)
(2) جمع الجوامع –شرح المحلى وحاشية البناني (2/ 373)
(3) الوجيز (2/ 216)(8/1158)
أولاً: التقييد بالنص:
قال ابن نجيم: (المشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه) (1) .
ثانياً: التقييد بالقدر:
نصت المجلة على أن: (الضرورات تقدر بقدرها) كما في المادة رقم (22) .
والأصح أن يقال كما جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي (2) : (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) ؛ لأن ما يقدر ليس هو الضرورة نفسها، بل هو ما أبيح بسببها، وبمعناه نصت مجلة الأحكام العدلية على أن (الضرر يدفع بقدر الإمكان) المادة رقم (31) .
ومعنى كل هذا أن الضرورة الملحة حالة استثنائية شاذة، والمستثنيات تفسر بتضييق، بمعنى أن الترخيص الذي تقتضيه الضرورة لا يكون على إطلاقه، بل يكون بالقدر اللازم لرفع المشقة.
(مثلاً) : إذا جاز للطبيب النظر إلى عورة المرأة المريضة للضرورة، فلا يجوز له أن يرى منها أو يكشف عنها إلى موضع الحرج، ويغض بصره ما استطاع؛ لأن الضرورات تقدر بقدرها
ثالثاً- التقييد بالزمن:
إن الترخيص والاضطرار أو الحكم الاستثنائي الذي تقتضيه يبقى ما دام العذر أو حالة الاضطرار موجودة، فإذا زالت هذه الحالة الاستثنائية، زال الترخيص، ورجع الأمر إلى القاعدة الأصلية.
وبمعناه جاء في مجلة الأحكام العدلية: (أن ما جاز لعذر بطل بزواله) ، (وإذا زال المانع عاد الممنوع) ، (المادتان رقم 23، 24) .
وبناء على ذلك على الطبيب أن يقدر الضرورة بقدرها، فلا يكشف من العورة إلا بقدر ما يستدعيه الكشف والمعالجة.
__________
(1) في الأشباه والنظائر، ص 33
(2) ص 60، ولابن نجيم ص 34(8/1159)
هذا وإن في السنة النبوية المطهرة، من الأحاديث الصحيحة الثابتة، ما يفيد جواز معالجة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي للضرورة، وإليك نصوصها:
1- كتب نجدة بن عامر الحروري إلى ابن عباس يسأله عن خمس خصال، فقال ابن عباس: لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه.
كتب إليه نجدة: أما بعد، فأخبرني، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟
فكتب إليه ابن عباس: كتبت تسألني: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة، وأما سهم؟ فلم يضرب لهن.... (1) .
ومعنى (يحذين) أحذيته أحذيه إحذاء، إذا أعطيته، والحذية: العطية.
2- وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه، فيسقين الماء، ويداوين الجرحى (2) .
3- وعن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: ((لقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسقي القوم ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة)) (3) .
ففي هذه الأحاديث الشريفة، جواز معالجة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي لضرورة.
4- ولتوفير الرجال للجهاد، تطوعت الصحابيات في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم لخدمة المجاهدين وتمريضهم ومعالجة جرحاهم، وكيف لا يتطوعن وهم يرين رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه، فأيتهن تخرج سهمها خرج بها في غزوته (4) .
ومن الواجب وجود شخص ثالث عند فحص الطبيب للنساء، وبالعكس، تجنباً للخلوة بهن، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخير المرأة المتطوعة للتمريض في الغزوة بين أن تكون في رفقة قومها أو عشيرتها، وبين أن تكون في رفقة أم المؤمنين التي وقعت القرعة على خروجها معه صلى الله عليه وسلم (5) .
__________
(1) راجع الحديث بطوله في صحيح مسلم، رقم 2812، في كتاب الجهاد –باب النساء الغازيات، يرضخ لهن ولا يسهم، وفي الترمذي رقم 1556 في السير، باب (من يعطى الفيء) ، وأبو داود رقم 2727 في الجهاد- باب (المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة)
(2) أخرجه الترمذي رقم 1575 في السير، باب (ما جاء في خروج النساء في الحرب) ، وأبو داود رقم 2531 في الجهاد –باب في النساء يغزون وغيرهما
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد: باب (مداواة النساء الجرحى في الغزو) ، وباب (رد النساء الجرحى والقتلى) ، وفي الطب –باب (هل يداوي الرجل المرأة، والمرأة الرجل) : 6/ 60
(4) التراتيب الإدارية أو نظام الحكومة الإسلامية، القسم التاسع، النساء الممرضات اللاتي كن يرافقن المصطفى في الغزوة، وصحيح البخاري –كتاب الجهاد، باب (حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه) ، 3/ 221، - المطبعة العامرية باستنبول 1315هـ
(5) صحيح البخاري (9/ 290) في النكاح: باب (لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (ترجمة أم سنان الأسلمية)(8/1160)
على أنه في الحالات الإسعافية المستعجلة، يجوز للجنس تطبيب الجنس الآخر، بغض النظر عن وجود شخص ثالث، فإن الضرورات تبيح المحظورات، والكلام هنا أطول من هذا، لكن هذا مفاده.
وقد بقي علينا أن نورد بعض النصوص الفقهية التي ذكرها الفقهاء في مؤلفاتهم، وتعرضوا فيها لحكم الكشف عن العورات في أثناء المعاينات والعمليات الجراحية فنقول:
1- جاء في المغنى لابن قدامة الحنبلي (1) :
(فصل) فيما يباح له النظر من الأجانب:
يباح للطبيب النظر إلى ما تدعو إليه الحاجة من بدنها (يعني المرأة) من العورة وغيرها، فإنه موضع حاجة، وقد روي ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، كان يكشف عن مؤتزرهم)) .
وعن عثمان أنه أتي بغلام قد سرق، فقال: انظروا إلى مؤتزره، فلم يجدوه أنبت الشعر، فلم يقطعه.
وللشاهد النظر إلى وجه المشهود عليها، لتكون الشهادة واقعة على عينها.
قال أحمد: لا يشهد على امرأة، إلا أن يكون قد عرفها بعينها، وإن عامل امرأة في بيع أو إجارة، فله النظر إلى وجهها، ليعلمها بعينها، فيرجع عليها بالدرك.
وقد روي عن أحمد كراهة ذلك في حق الشابة دون العجوز، ولعله كرهه لمن يخاف الفتنة، أو يستغني عن المعاملة؛ فأما مع الحاجة وعدم الشهوة فلا بأس.
2- وجاء في المهذب وهو من أنفس كتب الشافعية (2) :
(باب ستر العورة) :
سترة العورة عن العيون واجب؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا} [الأعراف: 28] .
قال ابن عباس: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فهي فاحشة، وروي عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت)) (3) فإن اضطر للكشف، للمداواة، أو للختان؛ جاز ذلك لأنه موضع ضرورة.
__________
(1) 7/ 459، طبع محمد رشيد رضا، وقد طبع معه الشرح الكبير على متن المقنع، تأليف شمس الدين ابن قدامة، وهو ابن أخ صاحب المغني موفق الدين
(2) المهذب في فقه الإمام الشافعي تأليف أبي إسحاق الشيرازي (1/63) ، طبع دار الكتب العربية الكبرى بالقاهرة
(3) أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 330) تعليقاً ووصله أبو داود في سننه (4/ 58) في كتاب الحمام، وأخرجه الترمذي في سننه (5/ 97- 98) في كتاب الأدب حديث رقم 2769(8/1161)
وهل يجب سترها في حال الخلوة؟ فيه وجهان:
أصحهما: أنه يجب؛ لحديث علي كرم الله وجهه.
والثاني: لا يجب؛ لأن المنع من الكشف للنظر، وليس في الخلوة من ينظر، فلم يجب الستر.
قال الإمام النووي في شرحه على (المهذب) : والمشهور بـ (المجموع) (1) :
(الشرح) : هذا التفسير مشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما، ووافقه فيه غيره.
وحديث علي رضي الله عنه رواه أبو داود في سننه في كتاب الجنازة، ثم في كتاب الحمام، وقال: هذا الحديث فيه نكارة، ويغني عنه حديث جرهد –بفتح الجيم والهاء- الصحابي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((غط فخذك؛ فإن الفخذ من العورة)) ، رواه أبو داود في سننه في كتاب الحمام والترمذي في الاستئذان (2) من ثلاث طرق، وقال في كل طريق منها: هو حديث حسن، وقال في بعضها: حديث حسن، وما أرى إسناده بمتصل.
عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد، فلا يراها، قال: قلت: يا نبي الله، إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله أحق أن يستحي منه الناس (3)
ثم تابع النووي كلامه قائلاً:
أما (حكم المسألة) فستر العورة عن العيون واجب بالإجماع لما سبق من الأدلة.
وأصح الوجهين: وجوبه في الخلوة، لما ذكرنا من حديث بهز بن حكيم.
وممن نص على تصحيحه المصنف (يعني: الشيرازي صاحب المهذب) فإن احتاج إلى الكشف جاز أن يكشف قدر الحاجة فقط.
ثم أردف كلامه معلقاً على كلام أبي إسحاق الشيرازي قول المصنف، فإن اضطر محمولاً على الحاجة لا على حقيقة الضرورة.
ولو قال: احتاج، كما قال الأصحاب (يعني الأصحاب الشافعية) لكان أصوب؛ لئلا يوهم اشتراط الضرورة، فمن الحاجة: حالة الاغتسال، يجوز في الخلوة عارياً، والأفضل التستر بمئزر. اهـ. المقصود من كلام النووي والشيرازي.
3- وجاء في كتاب الشرح الصغير المسمى أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك (4) ما يلي:
ويجب ستر العورة، عمن يحرم النظر إليها من غير الزوجة والأمة، إلا لضرورة، فلا يحرم، بل قد يجب، وإذا كشف للضرورة فبقدرها، كالطبيب، يبقر له الثوب على قدر موضع العلة في نحو الفرج إن تعين النظر، وإلا فيكتفى بوصف النساء؛ إذ نظرهن للفرج أخف من الرجل.
__________
(1) المجموع (2/ 165-166) من الطبعة المنيرية بالقاهرة
(2) هذا كلام الإمام النووي –رضي الله عنه- في نسبة الحديث إلى الترمذي، وبالرجوع إلى سنن الترمذي 5/ 110، حديث رقم 2795، تبين أن الترمذي قد أخرج الحديث في سننه في كتاب الأدب –وليس في الاستئذان- باب (ما جاء أن الفخذ عورة) ، طبع مصطفى البابي الحلبي
(3) تم تخريجه سابقاً
(4) الشرح الصغير المسمى أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك تأليف العلامة أبي البركات أحمد الدردير (4/ 736) طبع دار المعارف بالقاهرة سنة 1974م(8/1162)
4- وقال العلامة الكاساني في بدائع الصنائع، وهو الكتاب الذي تميز عن سائر كتب فقه المذهب الحنفي بحسن التنظيم والترتيب مع الاستدلال والتعليل، واستيفاء الدليل من المعقول والمنقول:
بيان ما يحل ويحرم من الرجل من المس والنظر:
يحل للرجل أن ينظر من الرجل الأجنبي إلى سائر جسده، إلا ما بين السرة والركبة، إلا عند الضرورة، فلا بأس أن ينظر من الرجل إلى موضع الختان، ليختنه ويداويه بعد الختن.
وكذا إذا كان بموضع العورة من الرجل قرح أو جرح، ودعت الحاجة إلى مداواة الرجل، ولا ينظر إلى الركبة، ولا بأس بالنظر إلى السرة، فالركبة عورة، والسرة ليست بعورة عندنا.
وأما حكم المس، فلا خلاف في أن المصافحة حلال؛ لأن الناس يتصافحون في سائر الأعصار، في العهود والمواثيق، فكانت سنة متوارثة.
بيان ما يحل ويحرم من النظر والمس للمرأة من المرأة:
كل ما يحل للرجل أن ينظر إليه من الرجل، يحل للمرأة أن تنظر إليه من المرأة، وكل ما لا يحل له لا يحل لها، فتنظر المرأة من المرأة إلى سائر جسدها، إلا ما بين السرة والركبة؛ لأنه ليس في نظر المرأة إلى المرأة خوف للشهوة والوقوع في الفتنة، كما ليس ذلك من نظر الرجل إلى الرجل، حتى لو خافت ذلك تجتنب عن النظر، كما في الرجل.
ولا يجوز لها أن تنظر ما بين سرتها إلى الركبة، إلا عند الضرورة، بأن كانت قابلة، فلا بأس لها أن تنظر إلى الفرج عند الولادة، وكذا لا بأس أن تنظر إليه لمعرفة البكارة في امرأة العنين والجارية المشتراة على شرط البكارة إذا اختصما، وكذا إذا كان بها جرح أو قرح في موضع لا يحل للرجل النظر إليه، فلا بأس أن تداويها، إذا علمت المداواة، فإن لم تعلم تتعلم ثم تداويها، فإن لم توجد امرأة تعلم المداواة، ولا امرأة تتعلم، وخيف عليها الهلاك أو بلاء أو وجع لا تحتمله، يداويها الرجل، لكن لا يكشف منها إلا موضع الجرح، ويغض بصره ما استطاع؛ لأن الحرمات الشرعية جاز أن يسقط اعتبارها شرعاً، لمكان الضرورة، كحرمة الميتة وشرب الخمر، وحالة المخمصة والإكراه.
لكن الثابت بالضرورة، لا يعدو موضع الضرورة؛ لأن علة ثبوتها الضرورة، والحكم لا يزيد على قدر العلة (1) .
__________
(1) بدائع الصانع للكاساني (5/ 123- 124) ، كتاب الاستحسان، وقد يسمى عند الحنفية بكتاب الحظر والإباحة، أو بكتاب الكراهة كما في حاشية ابن عابدين وغيرها من كتب الحنفية(8/1163)
لباب القول بالنسبة إلى نظر الطبيب للمرأة الأجنبية:
بعد أن تتبعنا أقوال الفقهاء، فالذي نراه أن أمر العلاج ضرورة، ولئن بين التشريع أحكام العورات في الرجل والنساء، فلقد كان جلياً أن راعى العلاج أنه استثناء من القاعدة العامة.
ولم يجدوا في هذا الاستثناء حرجاً ولا غضاضة ولا مجافاة للدين، فلم يصروا على أن يجعلوه مجالاً للحرج أو الاحتجاج، وعلى ذلك جرى الفقه حتى الآن، فتظل عورة الرجل حراماً على الرجل والمرأة، وتظل عورة المرأة حراماً على الرجل والمرأة كليهما، ولا ينحسر هذا التحريم إلا في شأن العلاج مقام الطبابة.
وطالما توفر هذا الشرط، أي الحاجة الطبية، وتوفرت تقوى الله وصلاح النية؛ فلا إثم ولا بأس.
وآراء الفقهاء المسلمين على هذا الرأي، ولهم منذ مئات السنين أحكام تعد بمقاييس عصرنا، غاية في استنارة وسعة الأفق وتفهم روح الشريعة ونصوصها جامعين في ذلك ما بين العاطفة الإسلامية الدافئة والعقل السليم الرصين، ومن نصوصهم على ذلك:
قول ابن قدامة:
(ويباح للطبيب النظر إلى ما تدعو إليه الحاجة من بدنها من العورة، وغيرها، فإنه موضع حاجة) (1) .
ومن اللطيف ما قرأناه في كتاب الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي (2) حيث قال:
وقال المروزي: قلت لأبي عبد الله: المرأة يكون بها الكسر، فيضع المجبر يده عليها؟ قال: هذا ضرورة، ولم ير به بأساً، قلت لأبي عبد الله: مجبر يعمل بخشبة، فقال: لابد لي من أكشف صدر المرأة وأضع يدي عليها، قال طلحة: (يؤاجر) : فسألت رأي ابن مضرس، قال: هذه ضرورة، ولم ير به بأساً.
__________
(1) المغني لابن قدامة (1/ 458)
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي (2/ 464)(8/1164)
وتورد الصفحة نفسها:
فإن مرضت امرأة، ولم يوجد من يطبها غير رجل جاز له منها ما تدعو الحاجة إلى نظره منه حتى الفرجين، وكذا الرجل مع الرجل.
قال ابن حمدان:
وإن لم يوجد من يطبه سوى امرأة، فلها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظره منه حتى فرجيه.
وفي حاشية ابن عابدين (1) :
وينظر الطبيب إلى موضع مرضها بقدر الضرورة.
ويمكننا أن نقول أخيراً: إن الطبيب الذي يريد مداواة المريضة يجوز له النظر إلى موضع المرض بقدر الضرورة والحاجة إلى التطبيب؛ إذ الضرورات تقدر بقدرها، وكذا الحكم بالنسبة للمريض، يباح للطبيب أن يرى منه موضع العلة، ولكن بالشروط التي أوردها الفقهاء:
1- أن يكون هذا بحضرة محرم أو زوج أو امرأة ثقة، خشية الخلوة؛ لجواز خلوة الرجل بامرأتين ثقتين عند كثير من العلماء، وذلك لاستحياء كل بحضرة الأخرى.
2- أن لا تكون هناك امرأة طبيبة متخصصة تعالجها، وينبغي أن تعلم المرأة علوم الطب؛ لتقوم بمداواة النساء؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أسهل.
وهذا الأمر متوفر في زماننا هذا نوعاً ما، وإن كان على نطاق ضيق، لا يشمل جميع المستويات، أو لم ينتشر في أكثر الجهات، فإن لم يقدر أهل جهة على تعليم المرأة، أو لم يجدوا من تقوم بمداواتها، أو إذا وجد، لكن خيف عليها الهلاك، فيجب أن يستر منها كل شيء، سوى موضع المرض، ثم يداويها الرجل، فينظر ويغض بصره ما استطاع؛ لأن ما ثبت بالضرورة يقدر بقدرها (2) .
ولأن الحرمات الشرعية جاز أن يسقط اعتبارها شرعاً لمكان الضرورة، كحرمة الميتة، وشرب الخمر حالة اللقمة والإكراه، لكن الثابت بالضرورة لا يجوز أن يتجاوز موضع الضرورة؛ لأن علة ثبوتها بالضرورة، والحكم لا يزيد على قدر العلة (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين (5/ 237)
(2) تكملة فتح القدير لقاضي زاده (10/ 26) ط مصطفى الحلبي، والفتاوى الهندية (5/ 330) ط بولاق
(3) بدائع الصنائع (5/ 124) ط الجمالية(8/1165)
قال الإمام الغزالي:
وتقدر الحاجة التي يجوز إظهار العورة معها، بحيث لا يعد التكشف بسببها هتكاً للمروءة (1) .
ولا فرق في هذا بين ذوات المحارم وغيرهن؛ لأن النظر إلى العورة لا يحل بسبب المحرمية (2) .
وأما إذا خافت الهلاك بسبب جراحة تقوم بها المرأة، فللرجل الأجنبي أن يقوم بإجراء مثل هذه الجراحة لها (3) .
وكذلك يشترط في معالجة المرأة للرجل، أن لا يكون هناك رجل يستطيع أن يقوم بمثل هذه المعالجة (4) .
قال الإمام النووي: هو الأصح، وبه قطع القاضي حسين والمتولي، وقالا زيادة على ذلك: والأولى أن لا يكون ذمياً مع وجود مسلم.
وكذلك لا يقدم للكشف على المرأة غير أمين مع وجود الأمين، وقد يحرم النظر دون المس، وذلك إذا تمكن الطبيب من معرفة العلة بالمس فقط (5) .
ويمكن إلحاق الأصناف التالية بالطبيب في حكم النظر:
أولاً: ممن ابتلي بخدمة مريض أو مريضة في وضوء أو استئجار أو غيرهما من وسائل التمريض، فيجوز له النظر إلى موضع الوضوء والعورة على قدر الحاجة.
ثانياً: الخاتن إلى ذكر المختون، والخافضة إلى فرج الأنثى، والقابلة إلى فرج المرأة التي تولدها، واستكشاف العنة والبكارة.
ثالثاً: الإنقاذ من المهلكة، كغرق، أو حريق، أو هدم، أو غيرهما، فيجوز للمنقذ النظر إلى عورة المنقذ من الهلاك للضرورة، ولأنه في حكم الطبيب بجامع إنقاذ النفس، فالمعالج ينقذ النفس، ومنتشل الغريق منقذ له (6) .
هذا والله سبحانه وتعالى أعلم
__________
(1) كفاية الأخيار لتقي الدين الحصني الدمشقي الشافعي (2/ 47)
(2) المبسوط للسرخسي (10/ 157) ، ومغني المحتاج (3/ 133) ط عيسى البابي الحلبي
(3) الفتاوى الهندية (5/ 330) ، ونهاية المحتاج (6/ 197)
(4) مغني المحتاج (3/ 133) ، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي الحنبلي (8/ 22) ط أنصار السنة المحمدية
(5) نهاية المحتاج للرملي (6/ 195)
(6) تفسير الفخر الرازي، المسمى (مفاتيح الغيب) (6/ 354) المطبعة الخيرية بالقاهرة سنة 1308هـ(8/1166)
الفصل الثالث
التداوي بالمحرمات
اختلفت أنظار الفقهاء في ذلك، والراجح أنه يحرم الانتفاع بالخمر للمداواة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) (1) .
ولما روي أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه –أو كره أن يصنعها- فقال: أصنعها للدواء؟ فقال: ((إنه ليس بدواء ولكنه داء)) (2) .
ويحد من شربها لدواء. وهذا محل اتفاق بين معظم المذاهب الفقهية (3) غير أن الشافعية قالوا: إن التداوي بالخمر حرام في الأصح إذا كانت صرفاً غير ممزوجة بشيء آخر تستهلك فيه.
أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه، فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم به التداوي من الطاهرات، فعندئذ يتبع حكم التداوي بنجس كلحم حية وبول وكذا يجوز التداوي بذلك لتعجيل شفاه بشرط إخبار طبيب مسلم عدل بذلك، أو معرفته للتداوي به، وبشرط أن يكون القدر المستعمل قليلاً لا يسكر (4) .
وبالجملة، فإن الجمهور الأعظم من علماء المسلمين، كالمجمعين على تحريم التداوي بالخمر، وعلى أنه لو غص بلقمة ولم يجد شيئاً يسيغها به إلا الخمر، جاز له إساغتها به.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (10/68) تعليقاً في كتاب الطب: باب شرب الحلواء والعسل
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، وحديث رقم (1984) في كتاب الأشربة: باب (تحريم التداوي بالخمر) ، وأبو داود في سننه رقم (3873) ، والترمذي (رقم 2147) ، وصححه، وأحمد (4/ 311)
(3) بدائع الصنائع (5/ 112 - 113) ، أحكام القرآن لابن العربي المالكي (1/ 59) ، والمجموع (9/ 51 و53) ، والمغني (10/ 330- 331) ، والبحر الزخار (4/ 351) ، وغيرها
(4) مغني المحتاج (4/ 188) ، وشرح جلال الدين المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي وعميرة (4/ 203)(8/1167)
كذلك ترادفت كلمتهم على تحريم شربها للجوع أو للعطش إلا الحنفية، فإنهم رخصوا بشربها عند ضرورة العطش أو الإكراه.
هذا وقد شذ عن هؤلاء جميعاً الظاهرية، حيث ذهبوا إلى إباحة التداوي بالخمر عند الضرورة.
قال الإمام ابن حزم الظاهري: (الخمر مباحة لمن اضطر إليها، فمن اضطر لشرب الخمر، لعطش أو علاج، أو لدفع خنق فشربها فلا حد عليه) .
ويقول: إن التداوي بمنزلة الضرورة، وقد قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المآكل والمشارب (1) .
هذا وقد أثبتت الأبحاث الطبية أخيراً أن من الخطأ اتخاذ الكحول دواء لأي مرض من الأمراض، وكان ذلك من أهم النتائج التي توصل إليها المؤتمر الدولي الحادي والعشرون لمكافحة المسكرات والتسمم الكحولي، الذي عقد في هلسنكي عاصمة فنلندا سنة ألف وتسعمائة وتسع وثلاثين، ففي إيراد ذلك عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وكانت النتيجة التي توصل إليها المؤتمر بإجماع الآراء ما يلي:
(يقر المؤتمر أن الطبيب الذي يصف لعليله شيئاً من الخمر على سبيل التداوي يعتبر في عرف هذا المؤتمر طبيباً متأخراً في فنه بضعة عشر عاماً، وأن الشخص الوحيد الذي ينتفع من رواج الخمر هو صانعها أو بائعها، وأما شاربها فهو الضحية والفريسة، وهو الذي يدفع ثمنها من ماله وصحته وعاقبة أمره) (2) .
إن الخمر محرمة لعينها، فلا تباح إلا لضرورة، وليس منها التداوي؛ لأن الخمر لا يغني طريقاً للعلاج، لأن هناك غيرها من الدواء الطاهر يفي بالغرض المطلوب. ومن قال منذ نشأ الطب إلى اليوم: إن في الخمر فائدة طبية لا توجد في غيرها (3) ؟!
__________
(1) المحلى لابن حزم (7/ 404)
(2) المسكرات وآثارها وعلاجها في الشريعة الإسلامية، (ص 185- 186) ، دكتور أحمد علي طه ديان، دار الاعتصام، منقولة من كتاب: آثار الخمور للدكتور أحمد غلوش، مطبعة الهنا للطباعة والنشر بمصر
(3) العقوبة في الفقه الإسلامي: للمرحوم محمد أبو زهرة (ص 185)(8/1168)
رأيي في المسألة:
بكل هذه النصوص الواضحة كان الإسلام حاسماً كل الحسم في محاربة الخمر وإبعاد المسلم عنها، فلم يفتح أي منفذ –وإن ضاق وصغر- لتناولها أو ملابستها.
أما بخصوص استعمالها كدواء، فالناظر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجد التصريح بأن الخمر ليست بدواء، بل إن الأمر جاوزه إلى التصريح بأنها داء، إذن يحرم التداوي بها كما يحرم شربها، وقد أثبتت الأبحاث والتحاليل الطبية العالمية أخيراً أن من الخطأ اتخاذ الخمر دواء لأي مرض من الأمراض، ولا عجب أن يحرم الإسلام التداوي بالخمر وغيرها من المحرمات؛ فإن تحريم الشيء كما قال الإمام ابن القيم (1) يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابساته، وهذا ضد مقصود الشارع.
وقال أيضاً: فإن في إباحة التداوي به – ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه- ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، وبخاصة إذا عرفت النفوس أنه نافع لها ومزيل لأسقامها، جالب لشفائها.
إذن فحرمة التداوي بالخمر هو الحق، وهو الصواب، وهو الرأي الذي أميل إليه.
ومع هذا فإن للضرورة حكمها في نظر الشريعة الإسلامية، فإن الإسلام الحنيف قد بنى تشريعه كله على اليسر والرحمة، ولم يقصد بتكاليفه –على وجه عام- عنتاً ولا إرهاقاً ولا مشقة: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
ومن ذلك رخص لمن أكره بالكفر، أن ينطق بكلمته وقلبه مطمئن بالإيمان. ورخص لمن أشرف على الهلاك أو خاف الضرر بجوع أو عطش أن يأكل ويشرب مما حرم الله بقدر ما يحفظ عليه حياته، أو يدفع عنه ضرره.
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 4/ 154 لابن القيم الجوزية، هذا وقد أفاض العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه القيم (زاد المعاد في هدي خير العباد 4/ 154 وما بعدها) طبع مؤسسة الرسالة في بيروت سنة 1982 م في فصل خاص في هديه صلى الله عليه وسلم في المنع من التداوي بالمحرمات، واستوعب الكلام في بدلائه، فمن أراد المزيد من الاطلاع فليرجع إليه(8/1169)
ذلك أن الإسلام حرم شرب الخمر، حفظاً للعقول، وحرم الدم المسفوح والميتة ولحم الخنزير، حفظاً للصحة، وقد جاء ذلك صريحاً واضحاً في قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] .
وقوله سبحانه: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] .
وقد جاء عقب تحريم هذه المطعومات قوله سبحانه: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] .
وفي آية أخرى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] . ودل هذا التعقيب الذي هو بمنزلة استثناء على أنه إذا وجدت الضرورة التي تدعو إلى تناول شيء منه، أبيح تناول ما تدعو إليه الضرورة –وليس منها التداوي- إبقاء للحياة، وحفظاً للصحة، ودفعاً للضرر.
ولكن الرخصة في تناول الدواء المشتمل على محرم مشروطة بشروط:
أولاً: أن يكون هناك خطر حقيقي على صحة الإنسان إذا لم يتناول هذا الدواء.
ثانياً: ألا يوجد دواء غيره من الحلال يقوم مقامه، أو يغني عنه.
ثالثاً: أن يكون الطبيب طبيباً مسلماً عدلاً معروفاً بالصدق والأمانة.
على أنه في مجال الواقع والتطبيق العملي، ومن تقرير ثقات الأطباء أن لا ضرورة طبية تحتم تناول شيء من هذه المحرمات –دواء- ولكننا نقرر المبدأ احتياطاً لمسلم قد يكون في مكان لا يوجد فيه إلا هذه المحرمات.(8/1170)
بيان حكم المخدرات
تعريف المخدر والمفتر:
إن تعريف المواد المخدرة، أمر مهم في فهم طبيعة هذه المواد وخصائصها، والنتائج المترتبة على تناولها.
وعليه فإنا نذكر (أولاً) – تعريف كل من المخدر والمفتر، فنقول: الخدر: هو الكسل والثقل، يقول: خدر خدراً: عراه فتور واسترخاء. المخدر: هو المادة التي تحدث في الجسم ثقلاً وشعوراً بالكسل. والتخدير في الطب: تعطيل الإحساس موضعياً. (1) .
والمفتر –بصفة الفاعل: الذي يرخي الأعصاب ويضعف الجفن ويكسر الطرف، والخدر في أطراف الأصابع، وهو مقدمة السكر، وقد عرف الإمام أبو سليمان الخطابي (المفتر) تعريفاً شرعياً، فقال: (المفتر: كل شراب يورث الفتور والخدر في الأطراف) (2) ، وقد عرف الصاوي المخدر شرعاً بأنه: (الذي يغيث العقل دون الحواس لا مع نشوة وطرب) (3) وقد جاء ذكر (المفتر) في حديث شهر بن حوشب، عن أم سلمة قالت: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر)) (4) والمواد المخدرة على أنواع كثيرة، وفصائل متنوعة؛ تحمل كل منها اسماً علمياً خاصاً.
ومن المتعذر إيراد حصر كامل لها. وسنذكر في هذا المبحث بعضاً منها على سبيل الذكر، لا الحصر.
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط (مادة خدر) ودائرة معارف القرن العشرين (3/ 689) الطبعة الثانية
(2) المصادر السابقة، مادة (فتر) ؛ ومختصر سنن أبي داود للمنذري؛ ومعالم السنن للخطابي (5/ 269) ؛ وتفسير الفخر الرازي (2/ 230)
(3) الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/47) طبع المعارف.
(4) أخرجه أبو داود في سننه رقم (3686) : 3/449، في كتاب الأشربة: باب النهي عن السكر(8/1171)
حكم تعاطي المخدرات بوجه عام:
عالج الفقهاء مسألة النباتات المخدرة أو المفترة مع الخمر وقاسوها عليها، وذلك في الحكم الشرعي لا في الإطلاق اللغوي، لأن اللغة لا تثبت بالقياس عند جمهور الأصوليين.
والمقصود هو: أنه كما يحرم شرب المسكرات، حتى من غير الخمر مهما كان نوعها كثيرها وقليلها، كما سبق بيانه، يحرم أيضاً تناول المخدرات التي تغشي العقل، ولكن لا تحدث الشدة المطربة التي هي من خصائص المسكر المائع.
وكما أن ما أسكر كثيره حرم قليله من المائعات، كذلك يحرم مطلقاً ما يفتر ويخدر من الأشياء الجامدة المضرة بالعقل، أو غيره من أعضاء الجسد؛ وذلك إذا تناول قدراً مضراً منها دون القليل النافع من أجل المداواة، لأن حرمتها ليست لعينها، بل لضررها.
وقد بدأ الفقهاء بقياس (الحشيشة على الخمر، ثم عددوا النباتات الأخرى) .
ومعظم الفقهاء تكلموا عليها في كتاب الأشربة. وقليل منهم ذكرها في كتاب حد الخمر أو حد السكر. وقد اعتبر الإمام الحطاب المالكي، الحشيشة والأفيون وأمثالهما من المخدرات. (1) ، كما ذكر العلامة ابن عابدين، جوزة الطيب، والعنبر والزعفران، وقال: هذه كلها مسكرة.
ومرادهم من الإسكار هنا: تغطية العقل، لا مع الشدة المطربة، لأنها من خصوصيات المسكر المائع، فلا ينافي أنها مخدرة، فما جاء في الوعيد على الخمر، يصدق فيها، لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه.
بدء ظهور المخدرات في الدولة الإسلامية:
يقول الفقيه الجليل، العلامة ابن تيمية: (إنما ظهر في الناس أكلها – يعني الحشيشة- قريباً من نحو ظهور التتار، فإنها خرجت وخرج معها سيف التتار) (2)
وقد عرف متعاطيها بالحشيشي، لا الحشاش. وتسمى الحشيشة بالقنب، وقد ألف العكبري صاحب إعراب القرآن كتاباً في أكل الحشيشة، سماه: كتاب السوانح الأدبية في مدائح القنبية (3)
ويقول ابن عابدين: سئل شمس الأئمة عن حل البنج وحرمته، فقال: ما نقل عن أبي حنيفة فيه شيء إذ لم يشتهر في زمانه، ولم يرد عن السلف فيه أيضاً شيء إلى زمان المزني تلميذ الإمام الشافعي (4)
وقال في موضع آخر: (وإنما لم يتكلم فيها –يعني الحشيشة- الأئمة الأربعة؛ لأنه لم تكن في زمنهم، وإنما ظهرت في آخر المئة السادسة، وأول المئة السابعة حين ظهرت دولة التتار (5) وكان ذلك في القرن الثالث عشر الميلادي.
__________
(1) شرح الحطاب على مختصر خليل (3/232) ؛ وينظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/352)
(2) مجموعة فتاوى ابن تيمية (4/254) ، وينظر السياسة الشرعية له (ص 108) طبع دار الكتاب العربي بالقاهرة.
(3) راجع كشف الظنون (1/960) من طبعة المعارف التركية؛ والمخلاة للعاملي (143) من طبعة الميمنة؛ النجوم الزاهرة (7/380)
(4) حاشية ابن عابدين (4/326)
(5) حاشية ابن عابدين (5/406)(8/1172)
أنواع النباتات المخدرة:
تحدث الفقهاء عن الكثير من النباتات المخدرة، وقد ذكر كل منهم ما عرف في بلده، ووجد في عصره منها، كما يتضح من سرد ما قالوه فيها.
أولاً- البنج:
في أصله نبات مخدر يسمى باللغة العربية (شيكران) وهو يصدع ويسبت – أي ينوم - ويخلط العقل، ويورث الخبال، وربما يسكر إذا شربه الإنسان بعد ذوبانه. وقد ذكر القرطبي _البنج- على أنه شراب. (1)
ثانياً- الأفيون:
عصارة الخشخاش، تستعمل للتنويم والتخدير، وهو يكرب ويؤثر في شهوتي الطعام والجنس، ويتلف الأغشية ويخرقها، ويصعب تركه في مدة بسيطة عند الإدمان عليه. (2)
ثالثاً- الحشيشة:
نوع من ورق القنب الهندي، يسكر جداً إذا تناول الإنسان منه بقدر الدرهم (13/3 غرامات) حتى إن من أكثر من الحشيشة، أصيب بالرعونة واختلال العقل.
وقد ذكر له ابن حجر (3) مئة وعشرين مضرة دينية ودنيوية. والحشيشة من أعظم المنكر، وشر من الخمر في بعض الوجوه؛ لأنه يورث نشوة لذيذة وطرباً كالخمر، ويصعب الفطام عنه أكثر من الخمر. (4) وذكر ابن تيمية الحشيشة مراراً، وخصص مسألتين فيمن يأكل الحشيشة ما يجب عليه. (5)
وقال ابن البيطار- وهو الذي إليه المنتهى في معرفة خواص النبات والأشجار-: (إن الحشيشة، وتسمى القنب، توجد في مصر، وهي مسكرة جداً، إذا تناول الإنسان منها قدر درهم أو درهمين. (6)
__________
(1) حاشية ابن عابدين (5/275 و276) وحاشية الحطاب على مختصر خليل (3/332) ، وتفسير القرطبي (5/203) ، والمعجم الوسيط (1/70) ، والروض النضير (4/163) .
(2) المعجم الوسيط (1/21)
(3) فتاوى ابن حجر المكي (234 – 224)
(4) مغني المحتاج (4/187)
(5) فتاوى ابن تيمية (255-257) و (5/262 – 264)
(6) الجامع لمفردات الأدوية (مادة ح ش ي ش) وتاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه لعبد الحليم منتصر (ص 185) طبع المعارف بالقاهرة.(8/1173)
آثار تعاطي المخدرات:
أشرنا فيما سبق إلى أن الفقهاء، قد قاسوا النباتات المخدرة على الخمر في الحرمة؛ لأنها تغطي العقل مثلها، وإذا كانت الخمر أشد فتكاً في الجسم من مرض السل، فإن المواد المعروفة الآن بالمخدرات كالحشيش، والأفيون والكوكايين، لها من المضار الصحية والعقلية والروحية والاقتصادية والاجتماعية فوق ما للخمر.
قال ابن عابدين: قال ابن البيطار: (ومن القنب الهندي نوع يسمى الحشيشة يسكر جداً إذا تناول منه قدر درهم أو درهمين، حتى إن من أكثر منه أخرجه إلى حد الرعونة، وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم، وربما قتلت، بل نقل ابن حجر عن بعض العلماء أن في أكل الحشيشة مئة وعشرين مضرة دينية ودنيوية) .
كما قال عن الأفيون: إنه يكرب ويسقط الشهوتين إذا استمر عليه، ويقتل إذا تعاطى منه قدر درهمين، ومتى زاد أكله على أربعة أيام ولاء اعتاده، بحيث يفضي تركه إلى موته؛ لأنه يخرق الأغشية خروقاً لا يسدها غيره، كما ذكر داود الأنطاكي في تذكرته. (1)
ويقول الإمام ابن تيمية: هذه الحشيشة الملعونة تورث آكلها قلة الغيرة، وزوال الحمية، حتى يصير آكلها إما ديوثاً، وإما مأبوناً، وإما كلاهما.
وقد جعلت خلقاً كثيرا مجانين، وتجعل الكبد مثل السفنج، ومن لم يجن من تعاطيها، فقد أعطته نقص العقل، ولو صحا منها، فإنه لا بد أن يكون في عقله خبل، ثم إن كثيرها يسكر. (2)
وهذه الآثار العقلية والخلقية والاجتماعية للمخدرات قد أثبتها الطب الحديث، مما دعا بالحكومات كلها إلى تحريم تعاطيها والاتجار فيها، وفرض العقوبات المشددة على من يخالف ذلك.
__________
(1) حاشية ابن عابدين (5/405) ، وقد وردت عبارة ابن عابدين نفسها في الروض النضير (4/163)
(2) فتاوى ابن تيمية (4/275)(8/1174)
حكم المخدرات كحكم الخمر:
من الواضح أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام)) لا يقصد منه مجرد التسمية فقط؛ ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس واضع أسماء ولغات، وإنما القصد منه، أنه يأخذ حكم الخمر في التحريم والعقوبة.
فكل ما كان في معنى الخمر من المواد المعروفة الآن بالمخدرات يأخذ حكمها، ويلزم ثبوت تلك الأحكام في كل مادة ظهرت بعد عهد التشريع، وكان لها من الآثار الضارة مثل آثار الخمر أو أشد، إن لم يكن بحرفية النص فبروحه ومعناه ومعقوله، وبالقاعدة العامة الضرورية، وهي دفع المضار، وسد الذرائع.
وبذلك أجمع على حرمة المخدرات فقهاء المسلمين الذين ظهرت في عهدهم وتبينوا آثارها السيئة في الإنسان وبيئته ونسله، وعرفوا أنها مثل الخمر وأشد. فقرروا حرمتها، كما قرروا عقوبة تناولها والاتجار بها، وقرروا أن استحلالها كاستحلال الخمر. فابن عابدين الفقيه الحنفي: (1) نقل عن كتاب الجامع وغيره، أن من قال بحل البنج والحشيشة فهو زنديق مبتدع، بل قال نجم الدين الزاهدي: إنه يكفر ويباح قتله.
وعلل الحنفية تحريم تناول البنج والحشيشة والأفيون، بأن ذلك مفسد للعقل، فيحدث عند الرجل خلاعة وفساداً، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
لكن تحريم ذلك ليس لعينه، بل لنتائجه، فإن أكل الشخص شيئاً من ذلك لا يقام عليه حد الشرب أو السكر، وإن تخدر منه؛ لأن الشرع أوجب الحد بالسكر من المشروب المائع لا المأكول، وإنما يعاقب بالعقوبات التعزيرية الأخرى. (2)
وبمثل قول الحنفية في حرمة الحشيشة ونحوه ومعاقبة متناولها بعقوبة تعزيرية رادعة دون الحد؛ قال فقهاء المالكية والشافعية والظاهرية، فإنهم حرموا تناول كل ما يؤثر في العقل، كالبنج والحشيشة والأفيون والقات المخدر المستعمل الآن في اليمن، لثبوت ضررها في البدن والعقل.
ولكن لا حد في تناول ذلك، وإنما يعزر متعاطيها بالعقاب الزاجر له ولأمثاله، وغير الحنفية قالوا: إذا وصل الحشيش المذاب إلى حد الشدة المطربة، فيجب فيه الحد كالخمر. (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين (5/399) و (4/326)
(2) راجع المبسوط للسرخسي (24/9) الطبعة الأولى، وفتح القدير لابن الهمام (4/184) طبعة مصطفى محمد، واللباب شرح الكتاب للميداني (3/352) طبعة صبيح.
(3) راجع في هذا من المذهب المالكي: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/352) . ومن المذهب الشافعي: مغني المحتاج (1/77) ، (4/187) ، وحاشيتي قليوبي وعميرة على المحلى للمنهاج (1/69) ، (4/203) ؛ وفتاوى ابن حجر المكي (4/223 – 224) ، ومن المذهب الظاهري: المحلى لابن حزم (7/563) طبعة الإمام بالقاهرة.(8/1175)
وكذلك قال الحنابلة بحرمة تناول الحشيشة ونحوها من المخدرات.
وأما إقامة الحد على متعاطيها، فقد قال ابن تيمية: يجلد متعاطي الحشيشة كما يجلد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد.
والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة، وكلاهما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
ثم قال: (وقد توقف بعض الفقهاء المتأخرين في حدها، ورأى أن آكلها يعزر بما دون الحد، حيث يظنها تغير العقل من غير طرب بمنزلة البنج، ولم يجد للعلماء المتقدمين فيها كلاماً) .
وليس كذلك، بل آكلوها ينشون عنها (يعني يعاودونها مرة بعد أخرى) ، ويشتهونها، كشراب الخمر وأكثر. (1)
أدلة تحريم المخدرات:
لاحظنا مما سبق أن فقهاء المذاهب اتفقوا على حرمة المخدرات. وأضاف بعض الحنابلة (ابن تيمية) أنه يجب الحد على متعاطيها. والأصل في تحريمها ما رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه بسند صحيح، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر)) (2)
قال العلماء: المفتر: كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف.
قال ابن حجر: وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه؛ فإنها تسكر وتخدر وتفتر، ولذلك يكثر النوم لمتعاطيها.
وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة.
قال ابن تيمية: ومن استحلها فقد كفر، وإنما لم تتكلم فيها الأئمة الأربعة رضي الله عنهم لأنها لم تكن في زمانهم.
وقال بعض الحنفية: يكفر من استحل الحشيش والبنج ويباح قتله.
ورد الرملي ذلك بأن لا التفات لهذا القول، ولا تعويل عليه؛ إذ الكفر بإنكار القطعيات الثابتة يقيناً من الدين، وهذا ليس كذلك. (3)
__________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية (ص 108) طبع دار الكتاب العربي بمصر؛ وينظر مطالب أولي النهى (6/217) طبع المكتب الإسلامي بدمشق.
(2) الحديث مضى تخريجه، وأضيف هنا: قال السيوطي وأقره المناوي: حديث صحيح، راجع الجامع الصغير (2/193) ، وسنن أبي داود (3/449) .
(3) راجع المصادر المشار إليها في الهوامش السابقة.(8/1176)
حكم التداوي بالمخدرات:
يقول العلامة (ابن عابدين) : قدمنا في الحظر والإباحة عن (التتار خانية) أنه لا بأس بشرب ما يذهب بالعقل لقطع نحو آكلة مرض جلدي كالجرب.
أقول: ينبغي تقييده بغير الخمر، وظاهره أنه لا يتقيد نحو بنج، وقيده به الشافعية، والله سبحانه أعلم.
وبالجملة يحرم تناول البنج والحشيشة والأفيون في غير حالة التداوي؛ لأن حرمتها ليست لعينها، وإنما لضررها.
هذا والموقف الآن هو: أن الخمر لم تعد تستعمل الآن كدواء، ولكن المشروبات الكحولية تدخل في صناعة كثير من الأدوية، وكذلك المخدرات.
ومن الواضح أن تعاطي المخدرات في أية صورة كانت غير هذه التي تدخل في الأدوية، يأخذ بحكم الخمر. ذلك أن دخولها في الأدوية يخرجها عن طبيعتها المحرمة، كما يقول بعض الفقهاء الأجلاء: خرج بصرفها ما عجن بها، كالترياق، فيباح التداوي به لاستهلاكها فيه.
قال الشربيني الخطيب: (1)
تنبيه: محل الخلاف في التداوي بصرفها، أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه، فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم مقامه، مما يحصل به التداوي من الطاهرات، كالتداوي بنجس كلحم حية وبول.
ويجوز تناول ما يزيل العقل من غير الأشربة، لقطع عضو. اهـ. المقصود.
أقول: وكذلك الحال بالنسبة إلى استعمال المخدر، إذا وجدت الضرورة الملحة التي تدعو إلى ذلك، وما دام الطبيب الحاذق الأمين يرى أن ذلك هو الدواء الوحيد المفيد الناجع. وذلك إبقاء للحياة، وحفظاً للصحة، ودفعاً للضرر.
وهذا هو أصل من أصول التشريع في الإسلام، يبنى عليه، حينما يحرم ما يحرم، وحينما يبيح ما يبيح، والله سبحانه أعلم.
__________
(1) في مغني المحتاج (4/188) طبعة مصطفى الحلبي.(8/1177)
الفصل الرابع
واجبات الطبيب في السلم والحرب
الحق أنه لا فرق بين واجبات الطبيب في السلم، وواجباته في الحرب، وإن كانت في الحرب أوجب وألزم؛ لأن مهمة الطبيب مهمة إنسانية قبل كل شيء، فسيان عنده التطبيب للمرضى والجرحى، في وقت السلم والحرب، فيجب عليه المبادرة من فوره لمعالجة المريض أو المصاب، وكلما كان المرض أو الإصابة أخطر، كان الإسراع منه أوجب.
أولاً- وإن من أول الواجبات عليه وأولاها: أن يكون عالماً بمهنة الطب، ماهراً بها، متقناً لها، ومشهوداً له بتفوقه فيها وانقطاعه إليها.
ومن لم يكن كذلك، فلا يحق له الإقدام على تطبيب يخاطر فيه، ولا ينبغي له التعرض لما لا علم له فيه، ولا التصدر لطب البشر قبل استكمال أهليته.
ومن هنا جاء الحجر على الطبيب الجاهل وتضمينه، عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن)) .
ثانياً- وكذلك من أوجب الواجبات عليه كتمان سر المريض؛ لأنه قد أمنه على نفسه وسره وعورته. وإفشاء سره غير جائز إلا برضاه وبإذنه، إلا إذا كانت هناك ضرورة قصوى.
ذلك لأن الطبيب ليس من مهمته التحقيق والتفتيش والمحاكمة، وإنما مهمته الأساسية هي العلاج والتطبيب فقط.
وقد جاء في الحديث الشريف: أن ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) .
وهذا الستر عام يشمل الصحيح والمريض، ما لم يكن هناك مجاهرة في المعاصي والتبجح بها والإعلان عنها، فإن ذلك من الجهر بالسوء من القول الذي لا يحبه الله ولا يرضاه، فيجب عندئذ كشف سره لكي يعرف الناس سلوكه السيئ فيهجرونه.
وكذلك يجب كشف بعض أسرار المريض، ولا سيما إذا كان مرضه خبيثاً، وداؤه عضالاً معدياً، وكان ينوي الزواج من فتاة بريئة لا علم لها بهذا المرض الخطير.(8/1178)
ثالثاً- وأيضاً من الواجب عليه استعمال الحكمة والسياسة والكياسة مع المريض، وعدم التهويل والتهويش بحجم المرض وخطورته وأنه ليس لدائه دواء.
فقد مدح أحد الحكماء الشعراء، طبيباً حاذقاً لبقاً، فقال ما معناه: يكاد من رقة أفكاره، حتى أنه:
لو غضبت روح على جسمها
أصلح بين الروح والجسم
رابعاً- كذلك من الواجب عليه الرفق به، وأن يكون لين الجانب، واسع الصدر، رؤوفاً.
وإذا كان الرفق مطلوباً في كل شيء، فهو بالمريض آكد وأليق.
خامساً- كذلك من الحق عليه بذل النصح للمريض، وأن يظهر له الحقيقة في بعض الأحوال، حتى ولو كانت ضد رغبته ومزاجه.
وإذا رأى من المريض علامات الموت، لم يكره أن ينبه على الوصية بالقول اللين اللطيف.
سادساً- التأني في فهم حقيقة المرض، ومزاج المريض، فإن أكثر ما يقع فيه الطبيب من الأخطاء، هو الإقدام على المعالجة، دون الفحص الدقيق ومعرفة الداء، وقد قال بعض الشعراء الحكماء في ذلك:
أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه
وبكحله الأحياء والبصراء
فإذا نظرت رأيت من عميانه
أمماً على أمواته قراء
سابعاً وأخيراً: عليه أن يعتقد أن طبه لا يرد شيئاً من قدر الله تعالى. وأنه إنما يداوي المريض امتثالاً لأمر الشارع، الذي أنزل الداء والدواء. وما أحسن قول ابن الرومي:
غلط الطبيب علي غلطة مورد
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنما
غلط الطبيب إصابة الأقدار
وبالجملة: فإن الطبيب الذي يفقد هذه الواجبات والآداب، يكون قد فجع بأهم واجبات مهنته، وما عليه إلا أن يطلب العزاء على فقده إياها. (1)
__________
(1) راجع في هذا: معيد النعم ومبيد النقم لتاج الدين السبكي (ص 123) ؛ وعيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة؛ ومعالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة القرشي؛ وغيرها.(8/1179)
الفصل الخامس
استطباب الطبيب غير المسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، طب القلوب وشفائها، وعلى آله وصحابته أجمعين.
وبعد: فإن الكلام فيمن يجوز ويعتمد على خبره وطبه من الأطباء، وهل يجوز الاعتماد في ذلك على طبيب غير مسلم، أم لا يجوز، كلام طويل الذيل، عميق السيل، يمكننا أن نلخصه ونختصره فيما يلي:
أولاً: ظاهر مذاهب الأئمة: الحنفي، والشافعية، والحنابلة، أنهم يشترطون في الطبيب الذي يعول على خبره وطبه؛ أن يكون مسلماً. فهو مقيد عندهم بقيد الإسلام.
ثانياً: وذهب المالكية إلى أن الاعتماد على الطبيب غير المسلم، لا يجوز إلا في حالة فقدان الطبيب المسلم، فإذا لم يوجد طبيب مسلم يضاهي غير المسلم في الحذق والمهارة والاختصاص، فيجوز حينئذ التداوي عند غير المسلم.
ثالثاً: هناك فقيهان حنبليان جليلان، هما: شيخ الإسلام (ابن تيمية) ، وتلميذه وناشر آرائه (ابن قيم الجوزية) ، هذان الفقيهان لا يريان وجوب كون الطبيب مسلماً، حتى في حالة وجود الطبيب المسلم. وقولهما هو الصحيح، وهو الذي نختاره ونميل إليه.
ذلك لأن المدار والمعول عليه في الطب، هو ما يوجب غلبة الظن.
وهذا كما يوجد ويتوافر في الطبيب المسلم، يوجد ويتوافر كثيراً في غير المسلم، وذلك بالتجربة والممارسة.
هذا، وليس قول هذين الفقيهين الجليلين من الكلام الملقى على عواهنه، بل هو قول سديد، ورأي أصيل، مدعم بالأدلة التطبيقية، والبراهين العملية في الشريعة الإسلامية.(8/1180)
أ- قال (ابن مفلح) الحنبلي، في كتابه النفيس، (1) نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ما نصه:
(إذا كان اليهودي، أو النصراني، خبيراً بالطب، ثقة عند الإنسان، جاز له أن يستطب، كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله. كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] .
وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما هاجر استأجر رجلاً مشركاً هادياً خريتاً (أي: ماهراً حاذقاً يهتدي لمثل خرت الإبرة. كأنه ينظر في خرت الإبرة من دقة نظره) ، وائتمنه على نفسه وماله.
وكانت (خزاعة) عيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مسلمهم وكافرهم (والعيبة: موضع السر) .
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستطب (الحارث بن كلدة) وكان كافراً.
وإذا أمكنه أن يستطب مسلماً، فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله، فلا ينبغي أن يعدل عنه، وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابي، أو استطبابه، فله ذلك، ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهي عنها ... إلخ) انتهى.
ب- جاء في كتاب بدائع الفوائد، ما نصه:
(في استئجار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط الديلي، هادياً في وقت الهجرة، وهو كافر؛ دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والأدوية والحساب والعيوب، ونحوها. ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة، ولا يلزم من كونه كافراً، ألا يوثق به، في شيء أصلاً، فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق، ولا سيما في مثل طريق الهجرة) (2) انتهى.
وأقول: إن المستند الذي استند إليه شيخ الإسلام (ابن تيمية) وتلميذه (ابن قيم الجوزية) ، هو: ما رواه الإمام البخاري في صحيحه:
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رجلاً من بني الديل، هادياً خريتاً، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيها، صبح ثلاث)) (3)
__________
(1) الآداب الشرعية والمنح المرعية: 2/462، من طبعة المنار بالقاهرة.
(2) بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية: 3/208.
(3) صحيح البخاري (5/76)(8/1181)
وقال ابن إسحاق في السيرة: ((استأجر عبد الله بن أرقط (أو أريقط) رجلاً من بني الدئل (أو الديل) ، وكان مشركاً، يدلهما على الطريق ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما)) . (1) انتهى.
ومعنى الدليل: الدال، وقد دله على الطريق دلالة، ودلالة؛ بفتح الدال وكسرها والفتح أعلى. والخريت: الدليل الحاذق بالدلالة.
والطب: علاج الجسم والنفس.
والطبيب: الحاذق من الرجال، الماهر بعلمه.
والمتطبب: الذي يتعاطى علم الطب، وليس بذلك.
ومعنى فلان يستطب لوجعه؛ أي: يستوصف الدواء بما يصلح لدائه ووجعه.
وأما البراهين العملية، والأدلة التطبيقية على جواز الاستطباب بغير المسلم من الأطباء، فهي الواقع العملي الذي جرى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده في العصور اللاحقة، ففي سنن الإمام أبي داود وغيره: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مرض، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي الحارث بن كلدة، فيستوصف في مرضه الذي نزل به، فأتاه فعالجه فكأنما أنشط من عقال. (2)
ومعلوم أن الحارث بن كلدة كان طبيب العرب في وقته، وأصله من ثقيف، من أهل الطائف؛ رحل إلى أرض فارس، وأخذ الطب عن أهل تلك الديار وغيرها، في الجاهلية، ومهر في هذه المهنة.
وأدرك الإسلام، ومات في نأنأة الإسلام (أي في أول الإسلام) ، ولم يصح إسلامه، كما ذكر ذلك حافظ أهل المغرب. ابن عبد البر الأندلسي القرطبي. (3)
فيدل هذا على أنه يجوز مشاورة أهل الكفر واستطبابهم، إذا كانوا من أهله.
وقد عني الخلفاء المسلمون، في جميع العهود، عناية شديدة باختيار أطبائهم، وكان في بلاط الخلفاء والأمراء، أطباء من اليهود والنصارى والصابئة.
ويذكر التاريخ وكتب التراجم والطبقات، من الأطباء النصارى، الذين حازوا قصب السبق في بلاط الخلفاء العباسيين (ابن ماسويه) طبيب هارون الرشيد.
__________
(1) السيرة لابن إسحاق (1/485)
(2) سنن الإمام أبي داود (2/335)
(3) في كتابه: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/283)(8/1182)
واشتهرت بالطب في ذلك العهد (أسرة بختيشوع) ، وكان منهم على وجه التحديد:
أولاً- جورجيس بن بختيشوع: في صدر الدولة العباسية، رأى الخليفة المنصور وعالجه، وكان نصرانياً.
ثانياً- بختيشوع بن جورجيس: وهو مشهور مقدم عند الملوك، عالج هارون الرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل. وكانت الخلفاء تثق به على أمهات أولادهم.
ثالثاً- جبرائيل بن بختيشوع: وكان طبيباً حاذقاً نبيلاً، خدم الرشيد ومن بعده، وحل محل أبيه بختيشوع عند الخلفاء. (1)
وقد لزم سنان الصابئ - وهو ابن ثابت بن قرة - الخليفة القاهر.
وكان هذا الطبيب يحمل إجازة طبية رسمية من أحد المعاهد.
ذلك أن الراغبين في الاشتغال بمهنة الطب، كان يفرض عليهم أن ينجحوا في الامتحان، وأن تمنح لهم الإجازات التي تحدد العمل الذي يسمح لهم بمزاولته.
وقد فاقت شهرة الأطباء المسلمين شهرة غيرهم ممن سبقوهم وممن وجد في عصرهم؛ أمثال الرازي، فقد كان طبيباً وصيدلياً وجراحاً وكيميائياً.
وكان ابن سينا يمارس مهنة الطب، وله فيها شهرة فائقة، وكتابه (القانون في الطب) أكبر مرجع في هذا الفن في عصره.
وهناك معلومات مستفيضة عن الأطباء موجودة في كثير من المؤلفات؛ منها: عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وتاريخ الحكماء لابن القفطي، ونفح الطيب لابن المقري، وغيرها كثير.
__________
(1) راجع: أخبار العلماء بأخبار الأطباء. أو تاريخ الحكماء لابن القفطي ص 71، 93، 109.(8/1183)
بقي أن نقول: إن ما جاء في النهي من الله تعالى والتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله؛ لا يدخل في باب المعاملات، وإنما يدخل في الديانات.
، فالله عز وجل نهى المؤمنين أن يتخذوا من الكفار واليهود والنصارى أخلاء يأنسون بهم في الباطن من أمورهم، ويفاوضونهم في الآراء، ويستنيمون إليهم، ويستعينون بهم، ويتحالفون بهم، ويتحالفون معهم في الحرب والنصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والتعاضد، والسكون والاطمئنان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] .
وأما معاملة اليهود والنصارى، من غير مخالطة ومجالسة وملابسة، واستعانة في الحرب، فلا يدخل في النهي؛ فقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودياً في المدينة يقال له: (أبو الشحم) ورهن عنده درعه، ومات صلى الله عليه وسلم وبقيت درعه مرهونة.
هذا وبالله تعالى التوفيق لأقوم طريق.(8/1184)
الباب الثاني
مسؤولية الطبيب
(2) مسؤولية الطبيب
شروط انتفاء المسؤولية عن الطبيب في الشريعة الإسلامية
ضمان الطبيب، المقصود من ضمان الطبيب
ما يسأل عنه الطبيب من الأخطاء وما لا يسأل عنه في الشريعة الإسلامية(8/1185)
الفصل الأول
الكلام على معنى المسؤولية ومشروعيتها في الفقه الإسلامي
أولاً- معنى المسؤولية:
لعل كلمة (مأخوذية) الواردة في كلام الإمام الشافعي في كتابه (الأم) (1) أقرب ما تؤدي المعنى المراد من كلمة مسؤولية في التعبير القانوني الحديث، ذلك أن سؤال المرء قد يكون فيما لا تبعة فيه، فأما (المأخوذية) فإنما تكون فيما فيه مؤاخذة وتبعة معاً.
على أن الناظر في كتب الفقه الإسلامي، لا يجد لكلمة مسؤولية مكاناً فيها، لأنها لفظة محدثة، يجد أن الفقهاء قد عبروا عنها بلفظ (الضمان) .
ومع ذلك، فإننا مضطرون إلى استعمال كلمة (مسؤولية) مجاراة لأهل العصر، مع ما أشرنا إليه من أنها محدثة.
هذا ولعل من الواضح، أن تضمين الإنسان هو: الحكم عليه بتعويض الضرر الذي أصاب غيره من جهته.
والضرر نوعان:
الأول- ما يصيب الإنسان في نفسه.
الثاني- ما يصيبه في ماله.
فالأول- كإتلاف نفس أو عضو فيها.
والثاني- كإتلاف ماله أو جزء منه.
وكما أن الضرر يتنوع باعتبار محله إلى هذين النوعين، يتنوع باعتبار سببه إلى عدة أنواع:
منها- ما ينشأ عن مخالفة عقد بين المعتدي والمعتدى عليه.
ومنها- ما ينشأ بالاستيلاء على ملك الغير بطريق القهر، كالغصب.
ومنها- ما ينشأ عن إتلاف مال الغير.
ولك أن تقول بناء على ذلك: إن المسؤولية لا بد في تحققها من ضرر ترتب على إخلال بحق ثابت للغير. فلا مسؤولية حيث لا إخلال بحق الغير، ولا مسؤولية حيث لا ضرر.
__________
(1) كتاب الأم للإمام الشافعي (6/168)(8/1186)
الأصل الشرعي للمسؤولية:
قرر القرآن الكريم - وهو الأصل للتشريع الإسلامي –مبدأ المسؤولية المدنية فيما يتعلق بحق الله، بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] .
وقررها فيما يتعلق بحق الصيد وهو القتل الخطأ بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] .
وقررت السنة النبوية المطهرة –وهي الأصل الثاني من أصول التشريع –مبدأ المسؤولية فيما يتعلق في حق الإنسان من عدة أوجه.
وإن الذي يهمنا منها ههنا، ما قررته على الطبيب الذي يعالج الناس، وهو ليس أهلاً للعلاج، فيتلف ما يعالجه.
وذلك ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن)) . (1)
قال الإمام الخطابي في معالم السنن (2) :
(لا أعلم خلافاً في المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامناً، والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعدي، فإذا تولد من فعله تلف، ضمن الدية، وسقط عنه القود؛ لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض، وجناية الطبيب في قول عامة الفقهاء على عاقلته) اهـ.
وقال الإمام البغوي في شرح السنة: (3)
إذا أخطأ الطبيب في المعالجة، فحصل منه التلف، تجب الدية على عاقلته.
قال الإمام البغوي: وكذلك من تطبب بغير علم. ثم روى حديث: ((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)) .
هذا ومن تتبع السنة وقضاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه - رضوان الله عليهم - من بعده يجد كثيراً من جزئيات المسؤولية المدنية.
ونحن نكتفي بهذا القدر الذي يخص مسؤولية الطبيب مع ما ثبت من روايات متعددة عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: ((لا ضرر ولا ضرار)) . (4) فإنه قاعدة كلية يرجع إليها في تطبيق جزئيات المسؤولية والمؤاخذة بها، وقد كانت هذه الوقائع وغيرها أساساً لقواعد عامة ثبتت عند الفقهاء كأصل من أصول الشريعة المسلم بها عند الجميع، ومن ذلك قولهم: (الضرر يزال) . (والضرر مرفوع بقدر الإمكان) ، (والضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام) ، وكان لهذه القواعد أثر كبير في تطبيق مبدأ المسؤولية عن الضرر، وكان لها في الوقت نفسه أثر بالغ في رفع المسؤولية كما قرروه في أكل الميتة للمضطر وإساغة اللقمة بالشراب المحرم، والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه، وفي أخذ مال الممتنع عن أداء الدين بغير إذنه، وفي دفع الصائل أو المنتهب أو المتلصص أو الباغي. (5)
__________
(1) حديث حسن، أخرجه أبو داود في سننه، رقم (4586) في كتاب الديات: باب فيمن تطبب بغير علم. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. والنسائي في سننه (8 / 52، 53) في القسامة في صفحة شبه العمد، وابن ماجه، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (4/212) ، وأقره الذهبي، وله شاهد مرسل في سنن أبي داود، حديث رقم (4587) بإسناد حسن فيتقوى به ويعتضد.
(2) 4/39، ط حلب.
(3) 1/341، ط المكتب الإسلامي بدمشق.
(4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/69 – 70) ؛ والحاكم في المستدرك (2/58) ؛ وابن ماجة رقم (2340 – 2341)
(5) المسؤولية المدنية والجنائية، للمرحوم محمود شلتوت، ص 8.(8/1187)
سبب المسؤولية ودرجاتها:
السبب هو ما جعله الشارع علامة على مسببه، وربط وجود المسبب بوجوده وعدمه بعدمه، بحيث يلزم في وجود السبب وجود المسبب ومن عدمه عدمه. (1)
والشرط هو ما يتوقف وجود الحكم الشرعي على وجوده، ويلزم من عدمه عدم الحكم. (2)
وسبب المسؤولية الجنائية ارتكاب المعاصي؛ أي: إتيان المحرمات التي حرمتها الشريعة، وترك الواجبات التي أوجبتها، وإذا كان الشارع قد جعل ارتكاب المعاصي سبباً للمسؤولية الجنائية، إلا أنه جعل الوجود الشرعي للمسؤولية موقوفاً على توفر شرطين لا يغني أحدهما عن الآخر وهما:
أ- الإدراك.
ب- الاختيار.
فإذا انعدم أحد هذين الشرطين، انعدمت المسؤولية الجنائية، وإذا وجد الشرطان معاً، وجدت المسؤولية.
فالسرقة معصية حرمها الشارع، وجعل القطع عقوبة لفاعلها، فمن سرق مالاً من آخر فقد جاء بفعل هو سبب للمسؤولية الجنائية، ولكنه لا يسأل شرعاً إلا إذا وجد فيه شرطا المسؤولية وهما: الإدراك والاختيار، فإن كان غير مدرك كمجنون مثلاً، فلا مسؤولية عليه، وإن كان مدركاً ولكنه غير مختار فلا مسؤولية عليه أيضاً.
والعصيان في الشريعة يقابل الخطأ والخطيئة La Faute في تعبير القوانين الوضعية، ولكن التعبير بالعصيان أدق في دلالته على المعنى المقصود، وهو مخالفة أمر الشارع من التعبير بالخطأ والخطيئة. (3)
رأينا فيما سبق أن الوجود الشرعي للمسؤولية يتوقف على وجود العصيان، فمن الطبيعي إذن أن تكون درجات المسؤولية تابعة لدرجات العصيان.
__________
(1) أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف، ص 51
(2) أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف، ص 90
(3) التشريع الجنائي في الإسلام، عبد القادر عودة(8/1188)
والأصل في هذه المسألة أن الشريعة الإسلامية تقرر دائماً الأعمال بالنيات، وتجعل لكل امرئ نصيباً من نيته، وهذا يتمثل في قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) (1)
والنية محلها القلب ومعناها القصد، وتطبيقاً لقاعدة اقتران الأعمال بالنيات، لا تنظر الشريعة للجناية وحدها عندما تقرر مسؤولية الجاني، وإنما تنظر إلى الجناية أولاً وإلى قصد الجاني ثانياً، وعلى هذا الأساس ترتب مسؤولية الجاني، (2) والمعاصي التي يمكن أن تنسب للإنسان المدرك المختار فيسأل عنها جنائياً لا تخرج عن نوعين:
أولاً- نوع يأتيه الإنسان وهو ينوي إتيانه ويقصد عصيان الشارع.
ثانياً- نوع يأتيه الإنسان وهو ينوي إتيانه ولا يقصد عصيان الشارع، أو لا ينوي إتيانه لا يقصد العصيان، ولكن الفعل يقع بتقصيره أو بتسببه.
فالنوع الأول: هو ما يتعمده قلب الإنسان.
والنوع الثاني: هو ما يخطئ به.
ولما كانت الشريعة الإسلامية تقرن الأعمال بالنيات كما قلنا، فقد فرقت في المسؤولية الجنائية بين ما يتعمد الجاني إتيانه وبين ما يقع من الجاني نتيجة خطئه؛ إذ جعلت مسؤولية الجاني العامد مغلظة ومسؤولية الجانب المخطئ مخففة، وعلة التغليظ على العامد أنه يتعمد العصيان بفعله وقلبه، فجريمته متكاملة.
وعلة التخفيف على المخطئ أن العصيان لا يخطر بقلبه وإن تلبس بفعله فجريمته غير متكاملة.
__________
(1) حديث متفق على صحته، أخرجه البخاري في أول صحيحه (1/2) في باب كيف بدأ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، طبع دار الشعب. وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه (3/1515) في كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنية) . وأخرجه الإمام أحمد في المسند (1/227 و285) طبع دار المعارف بالقاهرة. وأخرجه أبو داود في سننه كتاب الطلاق (2/352) مطبعة السعادة 1369 هـ. وابن ماجة في سننه: كتاب الزهد، باب النية (2/1412) طبع عيسى البابي الحلبي 1372 هـ. والترمذي في سننه (1/310) طبع بولاق 1292هـ. والنسائي (1/24) الطبعة الميمنية 1312هـ ومالك في الموطأ (ص 403) رواية محمد بن الحسن الشيباني، طبع الهندسة 1328 هـ. والبغوي في مصابيح السنة (1/3) طبع بولاق 1294هـ. وجامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، وهو شرح على الأربعين النووية (1/10) طبع الأهرام بالقاهرة.
(2) إعلام الموقعين (3/101 - 104(8/1189)
وقد فرق القرآن بين العامل والمخطئ بقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] .
وهكذا تتنوع المسؤولية الجنائية وتتعدد درجاتها بحسب تنوع العصيان وتعدد درجاته.
علة ارتفاع المسؤولية الجنائية:
بينا فيما سبق أن المسؤولية الجنائية تقوم على أسس ثلاثة وهي:
1- إتيان فعل محرم.
2- أن يكون الفاعل مختاراً.
3- أن يكون الفاعل مدركاً.
فإذا توفرت هذه الأسس الثلاثة توفرت المسؤولية الجنائية، وإذا انعدم أحدها لم يعاقب الجانب على فعله، على أن عدم العقاب لا يرجع في كل الحالات إلى سبب واحد بعينه، فإذا لم يكن الفعل محرماً فلا مسؤولية إطلاقاً؛ لأن الفعل غير محرم، والمسؤولية لا تكون قبل كل شيء إلا عن فعل محرم، وإذا كان الفعل محرماً، ولكن الفاعل فاقد الإدراك أو الاختيار، فالمسؤولية الجنائية قائمة، ولكن العقاب يرتفع عن الفاعل لفقدانه الإدراك أو الاختيار.
أسباب الإباحة:
الأصل في الشريعة الإسلامية أن الأفعال المحرمة محظورة على الكافة بصفة عامة، لكن الشارع رأى استثناء من هذا الأصل أن يبيح بعض الأفعال المحرمة لمن توفرت فيهم صفات خاصة؛ لأن ظروف الأفراد أو ظروف الجماعة تقتضي هذه الإباحة، ولأن هؤلاء الذين تباح لهم الأفعال المحرمة يأتونها في الواقع لتحقيق غرض أو أكثر من أغراض الشارع.
فالجرح محرم على الكافة، ولكن لما كانت حياة الإنسان أو راحته قد تتوقف على عملية جراحية، فقد أبيح للطبيب بصفة خاصة جرح المريض لإنقاذه من آلامه أو لإنقاذ حياته، لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولأن الشريعة تحض على التداوي من الأمراض وتوجب على المرء أن لا يلقي بنفسه إلى التهلكة، فإحداث الجرح يحقق من أغراض الشارع دفع الضرر والتداوي من المرض، وإنقاذ النفس من الهلكة.
وإذا كان الفعل المحرم قد أبيح لتحقيق مصلحة معينة، فقد وجب منطقياً أن لا يؤتى الفعل المحرم إلا لتحقيق المصلحة التي أبيح من أجلها، فإن ارتكب الفعل بغرض آخر فهو جريمة، فالطبيب الذي يجرح مريضاً بقصد علاجه يؤدي واجباً كلف به، فعمله مباح، ولكنه إذا جرح المريض بقصد قتله فهو قاتل وعمله جريمة. (1)
__________
(1) التشريع الجنائي في الإسلام، عبد القادر عودة، القانون الجنائي، علي بدوي، ص 400. شرح قانون العقوبات، للدكتورين: كامل موسى والسعيد مصطفى ص 132.(8/1190)
الفصل الثاني
الكلام على أسباب المسؤولية، وطرق رفعها، وتضمين الطبيب الجاهل
تنوع أسباب المسؤولية:
أشرت فيما سبق، وأنا أتكلم على معنى المسؤولية في الفقه الإسلامي، إلى أن المسؤولية تتنوع باعتبار سببها إلى عدة أنواع:
المسؤولية الناشئة عن مباشرة الإتلاف:
معلوم في الاصطلاح الفقهي أن الأضرار تكون مباشرة أو تسبباً.
فالأولى: تحصل دون أن يتخلل بينها وبين الفاعل فعل آخر، أو علة أخرى.
والثانية: تحصل كنتيجة منتظرة لحدوث سبب يفضي إليها غالباً.
وقد أوضحت ذلك مجلة الأحكام العدلية العثمانية، المبنية على المصادر الحنفية في باب الإتلاف بقولها:
أ- الإتلاف مباشرة هو: إتلاف الشيء بالذات من غير أن يتخلل بين فعل المباشر والتلف فعل آخر.
ب- الإتلاف تسبباً هو: السبب في تلف شيء. يعني أن يحدث أمر في شيء ما يفضي عادة إلى تلف شيء آخر. ويقال لفاعله: متسبب. فإن من قطع حبل قنديل معلق، يكون سبباً مفضياً لسقوطه على الأرض وانكساره، ويكون حينئذ قد أتلف الحبل مباشرة وكسر القنديل تسبباً. (1)
__________
(1) المادة رقم (887) .(8/1191)
وكذا إذا شق واحد ظرفاً فيه سمن وتلف ذلك السمن، يكون قد أتلف الظرف مباشرة، والسمن تسبباً.
المادة رقم 888:
ومن القواعد المقررة في هذه المسألة أيضاً، أنه: (إذا اجتمع المباشر والمتسبب، يضاف الحكم إلى المباشر) .
مثلاً: لو حفر رجل بئراً في الطريق العام، فألقى أحد حيوان شخص في تلك البئر، ضمن الذي ألقى الحيوان، ولا شيء على حافر البئر. (1)
وبمعناه ورد في قواعد ابن رجب الحنبلي أنه: (إذا استند إتلاف أموال الآدميين ونفوسهم إلى مباشر وسبب، تعلق الضمان بالمباشر دون السبب، إلا أن تكون المباشرة مبنية على السبب) . (2)
هذا هو الأصل، ولكن الفقهاء استثنوا منه بعض الأحوال، حيث كان المتسبب ضامناً بالاشتراك مع المباشر، أو حيث كان ضامناً وحده.
وقد أضربنا صفحاً عن ذكر ذلك، لأنه خارج عن دائرة بحثنا وما نحن بسبيله.
والمهم هنا هو أن الفقهاء قد اتفقوا على أن من أتلف مالاً أو نفساً أو عضواً من نفس، بغير حق شرعي، فعليه مسؤولية ما أتلف.
وأن من فروع مسؤولية الإتلاف: مسؤولية الطبيب إذا أخطأ، وجاوز الحد المعتاد، أو أهمل في العلاج، أو لم يكن من أهل الطب.
وفي تقرير هذه المسؤولية، حفظ للأرواح البشرية، من تلاعب بعض الأطباء بها، وحفظ لهم على التنبه إلى واجبهم، واتخاذ الحيطة اللازمة في صناعتهم المتعلقة بحياة الناس.
__________
(1) المادة رقم (90) من مجلة الأحكام العدلية، وانظر الأشباه والنظائر للسيوطي (109) . ولابن نجيم (64)
(2) كتاب القواعد لابن رجب، القاعدة رقم (127) ، ص 285.(8/1192)
طريق رفع المسؤولية:
قد يحصل الضرر بفعل أو تسبب، ولكن ترتفع المسؤولية عن الفاعل أو المتسبب فلا يحكم عليه بضمان التلف، فإذا لم يحكم عليه بالضمان، فذلك هو المقصود من رفع المسؤولية.
ونستطيع أخذاً من الفروع الفقهية أن نعد من طريق رفع المسؤولية التلف الحاصل بسريان العملية الجراحية، التي وقعت معتادة، ولم يهمل الطبيب علاجها.
ويعلل الفقهاء ذلك بأن الهلاك ليس بمقارن للعمل، وإنما هو بالسراية بعد تسلم العمل، والتحرز عنها غير ممكن، لأن السراية تبنى على قوة الطباع وضعفها في تحمل الألم، وما هو كذلك مجهول، والاحتراز عن المجهول غير متصور، فلم يمكن التقييد بالمصلح من العمل، لئلا يتقاعد الناس عنه مع مسيس الحاجة إليه. (1)
كذلك نستطيع أن نعد من طرق رفع المسؤولية: رضاء المجني عليه، أو وليه إن كان قاصراً، ذلك أن الصلة بين الطبيب والمريض تحكمها أحكام عقد الإيجار. ومعلوم أن قيام العقد، يستلزم توافق إرادتين: إرادة الطبيب، وإرادة المريض أو وليه.
هذا مع التنبيه إلى أن الفقهاء، لم يقصروا عدم المسؤولية على الرضا فحسب، بل نصوا على أن عدم المسؤولية منوط بالإذن إذا كان العمل معتاداً، ولم يجاوز الطبيب الرسم المتبع في أعماله. أي أن تكون أعماله موافقة للقواعد الطبية التي تتبع في كل حادثة على حدتها. (2)
وإذا قد قطعنا هذه المرحلة من الفصل، فلنشرع بالكلام في التفصيل على مسؤولية الطبيب في الفقه الإسلامي، فنقول:
اعلم –علمت الخير- أن الطب ذلك العمل الإنساني الخطير، قد ينتحله بعض من لا يحسنه، وقد يقوم به من لا يرقب في الله خشية ولا ذمة، ومن لا خلاق له من دين أو خلق.
ومن أجل ذلك بين الفقه الإسلامي الأحكام الصارمة الرادعة لمن يزاوله وهو لا يتقنه، ومن لا يرعى فيه الحقوق الإنسانية حق رعايتها.
__________
(1) الهداية والعناية (7/206) ؛ وشرح الزهار في فقه الزيدية (3/283) .
(2) المغني لابن قدامة (6/120 – 121) ؛ والشرح الكبير (6/124) ؛ والمهذب (2/306) ؛ وبداية المجتهد (2/194) ، وبدائع الصنائع (7/305) ؛ ونهاية المحتاج (8/2) ومواهب الجليل (6/321)(8/1193)
تضمين الطبيب الجاهل بالطب:
روى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك، فهو ضامن)) . (1)
أي أن من تعاطى علم الطب وأعماله، وهو لا يعرفه معرفة جيدة، فهو ضامن لما أتلفه، فإن أتلف عضواً كانت عليه ديته، وإن أتلف الجسم كله ضمن دية النفس.
وهذا محل اتفاق بين العلماء.
قال الإمام الخطابي: لا أعلم خلافاً في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض، كان ضامناً، والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعد، فإذا تولد من فعله التلف، ضمن الدية.
وجناية المتطبب على عاقلته في قول عامة الفقهاء. (2)
مسؤولية الطبيب الحاذق:
بينا في الفقرة السابقة، مسؤولية الطبيب الجاهل، وذكرنا اتفاق أهل العلم على تضمينه الضرر المترتب على فعله.
ونتكلم الآن في هذه الفقرة على مسؤولية الطبيب الحاذق، بيد أننا قبل أن نأخذ فيما نحن بسبيله، نذكر الضوابط التي وضعها الفقهاء فيمن يباح له مباشرة الطب ونوجزها فيما يلي:
1- أن يكون المعالج من ذوي الحذق في صناعته، وله بها بصارة ومعرفة.
2- أن يكون الباعث على عمله، علاج المريض وشفاءه، فإذا حدث أن طلب شخص منه أن يقطع له جزءاً سليماً من جسمه، حتى يعفى من الخدمة العسكرية حقت عليه المؤاخذة.
3- يجب أن تكون أعماله على وفق الرسم المعتاد، أي موافقة للقواعد الطبية التي تتبع في كل حادثة على حدتها.
4- إذن المريض، فإنه يشترط أن تكون المعالجة بناء على إذن المريض أو وليه، ولا بد أن يكون حراً بالغاً عاقلاً، فإن لم يأذن له وعالجه دون إذن ضمن ما جنت يداه، لخروج عمله من دائرة الإباحة إلى دائرة التعدي. (3)
هذا فضلاً عن أن من حق المريض، أن يختار الطبيب الذي يعالجه؛ لأن الثقة بين المريض والطبيب لها تأثيرها في الشفاء، ذلك إذا كان المريض في حالة صحية تسمح له بذلك.
__________
(1) مضى تخريج هذا الحديث قريباً
(2) انظر شرح السنة للبغوي (10/341) ؛ والمغني لابن قدامة (10/349) ، والطب النبوي لابن قيم الجوزية ص (135) طبع دار الحياة في بيروت، وزاد المعاد (4/139) طبع مؤسسة الرسالة في بلاد الشام.
(3) المغني لابن قدامة (6/120) ؛ وشرح الزهار (3/283) ؛ وكشاف القناع (3/473) ؛ وحاشية الطحاوي (4/275) ؛ وجامع الفصولين (1/83) ؛ والمحلى (10/444) .(8/1194)
تقييد الإذن بالسلامة:
من القواعد الفقهية المقررة في الفقه الإسلامي، أن المتولد من فعل مأذون فيه لا يكون مضموناً، ويستثنى من ذلك ما كان مشروطاً بسلامة العاقبة. (1) وقد قسم السادة الحنفية الحقوق التي تثبت للمأذون قسمين:
أ- حقوق واجبة:
ولا فرق بين أن تكون بإيجاب الشارع، كحق الإمام في إقامة الحد وفي القصاص والتعزير، وبين أن تكون واجبة بإيجاب العقد، كعمل الفصاد، (2) والحجام، (3) والختان، (4) وغيرها.
وهذه الحقوق جميعها، لا يشترط فيها سلامة العاقبة، لأنه لا ضمان فيها إلا بالتجاوز عن الموضع المعتاد.
وعليه، فلا ضمان على حجام وبزاغ (5) أو فصاد، لم يجاوز الموضع المعتاد، فإن جاوز ضمن الزيادة كلها إذا لم يهلك، وإن هلك ضمن نصف دية النفس، فلو قطع الختان الحشفة، وبرئ المقطوع، تجب عليه دية كاملة، وإن مات فالواجب عليه نصفها، هذه عبارة (الدر المختار) .
وقد علق صاحب رد المحتار على هذه العبارة بقوله: (لم يجاوز الموضع المعتاد) أي وكان بالإذن.
قال في (الكافي) : عبارة المختصر ناطقة بعدم التجاوز وساكتة عن الإذن،، وعبارة الجامع الصغير ناطقة بالإذن ساكتة عن التجاوز.
ويستفاد من مجموع الروايتين، اشتراط عدم التجاوز والإذن، لعدم الضمان؛ حتى إذا عدم أحدهما أو كلاهما يجب الضمان. (6)
ب- حقوق مباحة:
كحق الولي في التأديب عند أبي حنيفة، وحق الزوج في التعزير فيما يباح له ونحوهما. وهذه الحقوق تتقيد بوصف السلامة. (7)
وبالنظر في ذلك عند بقية المذاهب، يتبين أنهم كالحنفية في هذا المعنى مع شيء من الخلاف الطفيف ففي تحديد الحقوق التي تتقيد لوصف السلامة، والتي لا تتقيد بها، تبعاً لاختلاف أنظارهم في تعليل الفعل.
__________
(1) بدائع الصنائع (7/305) ؛ والأشباه والنظائر للسيوطي ص (111) .
(2) يقال: فصد الفاصد العرق فصداً: شقه. وفصد الفاصد المريض: أخرج مقداراً من دم وريده بقصد العلاج –المصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة (فصد) .
(3) الحجام: محترف الحجامة، يقال: حجم المريض: عالجه بالحجامة، وهي امتصاص الدم بالمحجم. المصدران السابقان مادة (حجم)
(4) الختان: متعاطي الختان، والختان يطلق على موضع القطع من الفرج.
(5) البزاغ: متعاطي البزغ، والبزغ من باب القتل: الشرط للجلد وغيره، والفصد في الآدمي والبزغ في الحيوان.
(6) رد المحتار على الدر المختار (5/44) ، وتبيين الحقائق للزيلعي (5/137) .
(7) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص (116)(8/1195)
وإليك ما جاء في كل مذهب على حدة:
1- ذكر الدردير في شرحه الصغير في باب الإجارة: (وكذا الختان وقلع الضرس والطب، فلا ضمان إلا بالتفريط)
قال الصاوي في حاشيته عليه: قوله: (إلا بالتفريط) ، هذا إذا كان الخاتن والطبيب من أهل المعرفة، ولم يخطئ في فعله، فإن أخطأ فالدية على عاقلته، فإن لم يكن من أهل المعرفة عوقب.
وفي كون الدية على عاقلته أو في ماله قولان: الأول لابن القاسم، والثاني لمالك، وهو الراجح، لأن فعله عمد والعاقلة لا تحمل عمداً. (1) اهـ.
2- وقد نص في مذهب الشافعي على أنه: إذا كان على رأس بالغ عاقل سلعة (2) لم يجز قطعها بغير إذنه، فإن قطعها قاطع بإذنه فمات، لم يضمن لأنه قطع بإذنه، وإن قطعها بغير إذنه فمات، وجب عليه القصاص؛ لأنه تعدى بالقطع، وإن كانت على رأس صبي أو مجنون، لم يجز قطعها؛ لأنه جرح لا يؤمن معه الهلاك، فإن قطعت فمات منه، نظر، فإن كان القاطع لا ولاية له عليه، وجب عليه القود، لأنها جناية تعدى بها، وإن كان أباً أو جداً وجبت عليه الدية، وإن كان ولياً غيرهما: ففيه قولان:
(أحدهما) : أنه يجب عليه القود، لأنه قطع منه ما لا يجوز قطعه. (والثاني) : أنه لا يجب عليه القود، لأنه لم يقصد القتل، وإنما قصد المصلحة. فعلى هذا يجب عليه دية مغلظة، لأنها عمد خطأ وبالله التوفيق. (3)
وقال الإمام الشافعي: (4) (وإذا أمر الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يبيطر دابته فتلفوا من فعله، فإن كان فعل ما يفعل مثله مما فيه الصلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصناعة، فلا ضمان عليه، وإن كان فعل ما لا يفعل مثله من أراد الصلاح، وكان عالماً به، فهو ضامن) .
__________
(1) الشرح الصغير المسمى أقرب المسالك (4/47) طبع المعارف بمصر. وينظر نفس المرجع (4/351) ، وبداية المجتهد (2/194) .
(2) السلعة: خراج كهيئة الغدة تتحرك بالتحريك. قال الأطباء: هي ورم غليظ ملتزق باللحم يتحرك عند تحريكه وله غلاف، وتقبل التزايد، لأنها خارجة عن اللحم، ولهذا قال الفقهاء: يجوز قطعها عند الأمن. راجع المصباح المنير للفيومي، مادة (سلع) .
(3) المهذب للشيرازي (2/306) طبع الحلبي.
(4) في كتابه الأم (6/166) طبع بولاق.(8/1196)
وقال في موضع آخر: (1) والوجه الثاني الذي يسقط فيه العقل (يعني: الدية) أن يأمر الرجل به الداء الطبيب أن يبط (يشق) جرحه، أو الأكلة (الحكة) أن يقطع عضواً يخاف مشيها إليه، أو يفجر له عرقاً، أو الحجام أن يحجمه، أو الكاوي أن يكويه، أو يأمر أبو الصبي وسيد المملوك الحجام أن يختنه، فيموت في شيء من هذا، فلا عقل ولا مأخوذية (مسؤولية) إن حسنت نيته –إن شاء الله تعالى- وذلك أن الطبيب والحجام، إنما فعلاه للصلاح بأمر المفعول به. اهـ.
3- والحنابلة قد ذكروا هذا أو قريباً منه، فقد ذكر ابن قدامة (2) –عند قول الخرقي: (ولا ضمان على حجام ولا ختان، ولا متطبب إذا عرف منهم حذق الصنعة، ولم تجن أيديهم) .
وجملته: أن هؤلاء إذا فعلوا ما أمروا به، لم يضمنوا لشرطين:
(أحدهما) أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم، ولهم بصارة ومعرفة، لأنه إذا لم يكن كذلك، لم يحل له مباشرة القطع، وإذا قطع مع هذا، كان فعلاً محرماً، فيضمن سرايته، كالقطع ابتداء.
إلى أن قال:
(فصل) : وإن ختن صبياً بغير إذن وليه أو قطع سلعة من إنسان بغير إذنه،، أو من صبي بغير إذن وليه، فسرت جنايته، ضمن لأنه قطع غير مأذون فيه، وإن فعل ذلك الحاكم، أو من له ولاية عليه، أو فعله من أذن له، لم يضمن؛ لأنه مأذون فيه شرعاً. اهـ.
على أن بعض الفقهاء ذهب إلى أن الطبيب لا يسأل إلا إذا ارتكب خطأ فاحشاً في عمله، وهو الخطأ الذي لا يمكن أن يقع فيه طبيب آخر. (3)
وبالجملة: فإن الطبيب إذا راعى حقه في عمله، ثم نتج عن فعله ضرر لحق المريض، ولا يمكن الاحتراز عنه، فلا ضمان عليه، لأن الطبيب إذا كان يستعمل حقه في حدوده المشروعة، فهو يقوم بواجبه في الوقت نفسه، والأصل أن الواجب لا يتقيد بوصف السلامة، وعلله بعض الفقهاء بما عرف في الفقه من أن شرط الضمان على الأمين باطل (4)
__________
(1) في الأم (6/168)
(2) المغني لابن قدامة (6/120، 121)
(3) حاشية الطحاوي (4/276)
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/ 25 - 27) ؛ وبداية المجتهد (2/ 194) ؛ وبدائع الصنائع (7/ 305) ؛ وحاشية الطحاوي (4/ 276) ؛ وزاد المعاد (4/ 139) ؛ والطب النبوي (ص 35) كلاهما لابن القيم، وطبع بلاد الشام(8/1197)
والآن وقد جاوزنا بك هاتين المرحلتين: إذن الشارع، وإذن المريض، وأريناك أن الطبيب الحاذق، لا يسأل عن الضرر الذي يصيب المريض، ولو مات المريض بسبب العلاج، ما دام المريض قد أذن له بعلاجه، ولم يقع من الطبيب خطأ في هذا العلاج، بل كان الضرر نتيجة لأمر لم يكن في الحسبان.
وأريناك أيضاً أن عمل الطبيب عند الإذن بالعلاج أو عند طلبه يعد واجباً، والواجب لا يتقيد بشرط السلامة، والضمان على الأمين باطل، فقد وجب علينا أن ننتقل بك إلى المرحلة الثالثة، لنبحث عن ذلك في أفق خارج عن هذا الأفق، والله الموفق.
الحالات العاجلة التي لا يمكن فيها انتظار الحصول على إذن المريض:
إن الفقه الإسلامي العظيم، لم يهمل ذلك، فقد عرض له العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه القيم (إعلام الموقعين عن رب العالمين) في مبحث: (جريان العرف مجرى النطق) حيث قال بعد كلام طويل فيما جرى فيه العرف مجرى النطق:
(ومنها لو رأى شاة غيره تموت، فذبحها حفظاً لماليتها عليه، كان ذلك أولى من تركها تذهب ضياعاً، وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع ذلك ويقول: هذا تصرف في ملك الغير، ولم يعلم هذا اليابس أن التصرف في ملك الغير إنما حرمه الله تعالى لما فيه من الإضرار به، وترك التصرف هاهنا هو الإضرار.
ومنها لو استأجر غلاماً فوقعت الأكلة في طرفه، فتيقن أنه إن لم يقطعه سرت إلى نفسه فمات، جاز له قطعه ولا ضمان) (1)
إلى آخر ما ذكره في الفروع في هذا البحث القيم، وكان قد عرض لمثله من قبل الإمام الحافظ الألمعي (أبو محمد) علي بن حزم الظاهري في كتابه القيم (المحلى) فقال ما نصه:
(من قطع يداً فيها أكلة، أو قلع ضرساً وجعة أو متآكلة بغير إذن صاحبها أو بغير إرادته.
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 22) من الطبعة المنيرية(8/1198)
قال أبو محمد: قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
وقال سبحانه: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] .
فالواجب استعمال هذين النصين من كلام الله تعالى، فينظر، فإن قامت بينة أو علم الحاكم أن تلك اليد لا يرجى لها براء ولا توقف، وأنها مهلكة ولابد، ولا دواء لها إلا القطع، فلا شيء على القاطع، وقد أحسن، لأنه دواء، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمداواة.
وهكذا القول في الضرس إذا كان شديد الألم، قاطعاً به عن صلاته ومصالح أموره، فهذا تعاون على البر والتقوى.
قال أبو محمد: فمن داوى أخاه المسلم، كما أمره الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد أحسن، قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .
وأما إذا كان يرجى للأكلة برء أو توقف، وكان الضرس يتوقف أحياناً، ولا يقطع شغله عن صلاته ومصالح أموره، فعلى القاطع والقالع القود، لأنه حينئذ متعد، وقد أمر الله تعالى بالقصاص في القود) (1)
ومثل هذا أو أصرح منه، كلمة ذكرها شراح مختصر خليل عند قوله: (وترك مواساة وجبت بخيط ونحوه لجائفة) .
يعني: إذا جرح الإنسان جرحاً يخشى منه الموت، سواء أكان جائفة أفضت لجوفه، أم غير جائفة، واقتضى الحال خياطته بفتلة خيط أو حرير، وجب على من كان معه ذلك، إذا كان مستغنياً عنه حالاً أو مآلاً، أو كان معه الإبرة، وكان مواساة المجروح بذلك، فإن ترك مواساته بما ذكر ومات، فإنه يضمن، ومحل الضمان ما لم يكن المجروح منفوذ المقاتل، وإلا فلا ضمان بترك المواساة، وإنما يلزم الأدب بتركها.
ويضمن دية الخطأ، إن تأول في المنع، وتكون على عاقلته، والمانع واحد منهم، وإن لم يتأول في المنع، بل منع عمداً قاصداً قتله، اقتص منه، وهذه هي الطريقة المعتمدة.
__________
(1) المحلى لابن حزم (10/ 444)(8/1199)
وقال اللخمي: (لا فرق بين التأويل وعدمه، وإن على المانع الدية في الحالين) . اهـ.
هذه هي عبارة المالكية، وهي تدل على المقصود للدلالة، التي لا يبقى بعدها مجال لسائل في أمثال هذه المسائل.
فالطبيب بحكم مهنته قادر على المواساة، وقادر على إنقاذ المريض بالعملية الجراحية، التي لا يحتمل المقام فيها انتظار ولي الأمر، ليؤخذ منه الإذن، فيجب عليه المواساة بما يقدر عليه من جبر كسر، أو وصل جرح بخيط أو غيره.
موازنة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية:
تكاد تتفق القوانين الوضعية مع الشريعة الإسلامية في اعتبار التطبيب عملاً مباحاً كما تتفق معها في الشروط التي تمنع من المسؤولية، فتستلزم أن يكون الفاعل طبيباً، وأن يأتي الفعل بقصد العلاج وبحسن نية، وأن يعمل طبقاً للأصول الفنية، وأن يأذن له المريض في الفعل، ذلك بأن التعرض لأجسام المرضى ولو بإجراء عمليات جراحية مهما بلغت جسامتها من الأفعال التي تدخل تحت أحكام قانون العقوبات الخاصة بالضرب وإحداث الجروح.
فهي في أصلها أفعال محظورة، لكن المشرع قد خول للأطباء بالقوانين التي وضعها، حق التعرض لأجسام الغير، ولو بإجراء عمليات جراحية، لأن الأعمال الطبية والجراحية وإن مست بمادة الجسم، إلا أنها لم تحقق الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون بالعقاب، بل هي تؤدي لصيانة الجسم والمحافظة عليه.
وقد قيد المشرع حق إباحة ذلك بقيود يمكن حصرها فيما يلي:
1- أن يكون القائم بإجراء ذلك الفعل قد رخص له القانون بفعله، فإذا لم يكن مرخصاً له في الفعل كان مسؤولاً، سواء تحقق الغرض الذي قصده بشفاء المجني عليه أم لم يتحقق.
2- رضاء المريض، أو وليه إذا كان المريض غير أهل أو غير قادر على التعبير عن إرادته.
والذهاب إلى الدكتور بقصد العلاج يعتبر إذناً ضمنياً بإجراء العلاج في رأي البعض، ويرى آخرون أنه لابد من الحصول على الرضا الصريح.
3- قصد العلاج بالفعل، ولا يتحقق إلا بحسن النية الذي هو شرط لازم لكل حالات استعمال الحق، فإذا قصد الطبيب مجرد تجربة لإشباع شهوة علمية، أو بقصد منع النسل لمصلحة يتوخاها، فإن العمل يكون غير مشروع، ولو كان برضاء المجني عليه؛ لأن سلامة جسم الإنسان لا يباح المساس بها إلا بفائدة الإنسان نفسه.(8/1200)
فللطبيب عند توافر هذه الشروط، أن يباشر الفعل على أن يبذل الجهود الصادقة التي تتفق مع الأصول العلمية.
هذا وإن الشريعة الإسلامية تعتبر التطبيب واجباً، في حين تعتبره القوانين حقاً.
وقد اختلف شراح القوانين ورجال القضاء في تعليل ارتفاع المسؤولية عن الطبيب.
فذهب الفقه والقضاء في إنكلترا إلى أن سبب عدم المسؤولية هو رضاء المريض بالفعل، وأخذ بهذا الرأي بعض الشراح في ألمانيا وفرنسا.
وذهب كثير من الشراح الفرنسيين إلى أن سبب ارتفاع المسؤولية، هو انعدام القصد الجنائي، لأن الطبيب يفعل الفعل بقصد شفاء المريض، وقد أخذ القضاء المصري حيناً بهذا الرأي، والذي استقر عليه الرأي اليوم هو أن التطبيب عمل مشروع تبيحه الدولة، وتنظمه وتشجع عليه؛ لأن الحياة الاجتماعية تقتضي ذلك.
فالتطبيب بإحداث جراحة ونحوها، مباح في كل من الشريعة والقانون؛ لأنه مبني على إذن المريض أو وليه ما دام مباشر التطبيب عالماً بالطب (1)
__________
(1) راجع للأستاذ الدكتور محمود مصطفى بحثه في مسؤولية الأطباء والجراحين، المنشور بمجلة القانون والاقتصاد، العدد الثالث سنة 1948م، والقانون الجنائي لعلي بدوي (400) ، وأخطاء الأطباء للدكتور فائق الجوهري (من سلسلة اقرأ) طبع دار المعارف ص (55- 62) ففيه كلام مهم عن الأخطاء الطبية في التطبيق العملي(8/1201)
الفصل الثالث
هل يمكن أن تقوم نقابة الأطباء أو شركة التأمين
بدور العاقلة
العاقلة: هي الدية، وتسمى عقلاً لأنها تعقل الدماء من أن تسفك أي تمسكها ومنه العقل؛ لأنه يمنع القبائح (1) والعاقلة مشتقة من العقل، وهو المنع، وسميت الدية عقلاً تسمية بالمصدر، لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي القتيل، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية، سواء أكانت إبلاً أم نقداً (2) وبأداء الدية تعقل ألسنة أولياء القتيل، كما يعقل فيهم القاتل.
وعاقلة الرجل قرابته من جهة أبيه، هم عصبته الذين يمنعونه، وينتصرون له، ويعقلون الإبل، ويدفعون المال تغطية لجنايته، وقد تثبت بالسنة في كثير من الأحاديث، ويمكن القول –خلافاً للأصم من الفقهاء-: إن تحميل العاقلة للدية، مخصص بالأحاديث الثابتة عمومات الكتاب، كقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] ونحوهما؛ والإجماع منعقد على ذلك، فلا يعتبر شذوذاً.
وإن الحاجة والمصلحة تدعو إلى تشريع نظام العاقلة، لأن القاتل لو أخذ بالدية وحده، لأوشكت أن تأتي على ماله كله، إن كان لديه منه ما يقوم بها، ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول، فكان في ذلك رعاية مصلحة الجانبين (3)
أ- ويرى الشافعية أن العاقلة عصبة الجاني من النسب باستثناء الأصل والفروع لورود النصوص باستثنائها في حديث الخشخاش العنبري، قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابن لي، فقال: ابنك هذا؟ فقلت: نعم، قال: لا يجني عليك، ولا تجني عليه)) (4)
ب- ويرى الحنفية أن العاقلة هم أهل الديوان، من الرجال البالغين المقاتلين، ويدخل فيهم الآباء والأبناء، ويستدلون لهذا بفعل عمر بحضور الصحابة، وهو أنه جعلها على أهل الدواوين والسجلات التي أنشأها.
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار حاشية ابن عابدين (5/ 140)
(2) انظر المصباح المنير مادة (عقل)
(3) انظر نيل الأوطار (7/ 66- 68) ؛ وبدائع الصنائع (7/ 255)
(4) رواه الإمام أحمد وابن ماجه، انظر منتقى الأخبار بشرح نيل الأوطار (7/ 70) ورد المحتار على الدر المختار حاشية ابن عابدين (5/ 410)(8/1202)
ويرون أن نظام العاقلة من قبيل التناصر، لا التغريم، وبهذا يجمع بين عمومات العواقل، والحديث الذي استدل به الشافعية؛ فلا منافاة بينهما.
وقد قرر الفقهاء بناء على هذا، أن الصغار والمجانين والنساء ليسوا من العاقلة؛ لأنهم ليسوا من أهل التناصر بالمعنى المذكور، وهو في العقل، كما أن الفقراء (1) ليسوا منها؛ لأن العقل مواساة، والفقير ليس من أهلها.
ولاشك في أن نظام العواقل غير موجود في أيامنا، لانقطاع سلسلة النسب وأواصر القرابة.
ويرى بعض المحدثين (2) من الفقهاء أن بيت مال المسلمين –ممثلاً في وزارة المالية في أيامنا- هو الذي يتولى دفع الدية والعقل في أحوال الوجوب، وتستطيع الحكومة أن تفرض ضرائب خاصة لهذه المصارف، وقد وجدت في الغرب صناديق خاصة لهذا الغرض، وإذا كانت الحكومة تلزم نفسها بإعانة الفقراء والعاطلين، فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين.
وأرى أنه ما دامت العلة في العقل هي التناصر، وقد أطلق في لسان الفقه على العاقلة أنها الناصرة للقاتل (3) فإن التناصر تقلب في التاريخ، وتعددت صوره وألوانه فقد كان قبل عمر –رضي الله عنه- بالقبيلة، ثم جعله عمر كما تبين آنفاً بالديوان، والتناصر في أيامنا بالحرف والنقابات، وقد ذاعت وشاعت واتخذت لها قوانين، وأنظمة مالية خاصة، وبنود مقررة لجباية مواردها، واعترفت الحكومات في غالب الدول بأنظمتها وحصانتها، فليكن العقل في أيامنا منوطاً بهذه النقابات، فنرى أنه يمكن أن تقوم نقابة الأطباء الواردة ببحثنا هذا بدور العاقلة.
بل أرى نوط الديات، وبدل الجراحات وضمان المتلفات المالية غير المعتمدة، بهذه النقابات؛ وبهذا التصميم يستغنى عن كثير من أنظمة التأمين الدخيلة، التي تستثمر بها أموالنا أصابع أجنبية عابثة، ولا تلتئم مع خلقنا الإسلامي العربي الأصيل، القائم على التناصر والإيثار، لا على الاستثمار والاستئثار.
__________
(1) انظر تحديد الفقير في شرح المحلى على المنهاج (4/ 165) ، وانظر في الموضوع نفسه المصدر المذكور؛ بدائع الصنائع (7/ 256) ؛ والمغني، والشرح الكبير (9/ 514) ؛ والتاج والإكليل (6/ 267)
(2) الأستاذ الفقيه القانوني الكبير عبد القادر عودة رحمه الله: التشريع الجنائي في الإسلام 2/ 230
(3) انظر رد المحتار (5/ 341) أوائل الجنايات(8/1203)
خاتمة
في الآداب التي يجب على الطبيب أن يتحلى بها
أ- الأدب نوعان: أدب خبرة، وأدب عشرة.
قال الشاعر:
يا سائلي عن أدب الخبرة
أحسن منه أدب العشرة
وقال الإمام الكبير عبد الله بن المبارك:
(إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين، لا أتأسف على فوات لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس، أتمنى لقاءه وأتأسف على فوته) .
وقال الأديب المتفقه ابن قتيبة:
(ونحن نستحب لمن قبل عنا وأتم بكتبنا، أن يؤدب نفسه قبل أن يؤدب لسانه، ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه) .
فالطبيب والعالم المتأدب، أحوج إلى تأديب أخلاقه من تأديب لسانه.
ب- ومن الحق علينا أن نذكر، أن فقهاء المسلمين اعتبروا الخبرة بالنفوس وأحوالها، أساساً في علم الطب.
ويقول في ذلك العلامة ابن قيم الجوزية (1) :
(إن الطبيب الحاذق هو الذي يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان، فإن انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمر مشهود، والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجهما، كان هو الطبيب الكامل، والذي لا خبرة له بذلك – وإن كان حاذقاً في علاج الطبيعة وأحوال البدن- نصف طبيب.
وكل طبيب لا يداوي العليل، بتفقد قلبه وصلاحه، وتقوية روحه.. فليس بطبيب، بل متطبب قاصر) .
__________
(1) في كتابه: الطب النبوي (ص 399) طبع دار الحياة في لبنان سنة 1403 هـ، وكتابه: زاد المعاد (4/ 144) طبع مؤسسة الرسالة في الشام، سنة 1402هـ(8/1204)
ج- ولو طبقنا كلام (ابن القيم) على بعض أطباء زماننا، لأخرجناهم من زمرة الأطباء الكاملين، ووضعناهم في أنصاف الأطباء على حد تعبيره (رحمه الله وغفر له) .
فإن أطباء هذا الزمان يطرحون جانب الأحوال النفسية لمرضاهم ولا يعملون على تقويتها.
د- ومن أجل ذلك، رأيت في هذه الخاتمة أن أجمع بعض ما ورد في تعاليم الإسلام وآدابه، إضافة إلى ما ورد عن الأطباء في عصور الحضارة والازدهار مما يتعلق بقواعد مزاولة مهنة الطب وآدابها، راجياً أن تكون تلك الخاتمة مسكاً وتبصرة لكل من يتبصر فيها إن شاء الله تعالى.
هـ- وأول هذه القواعد والآداب، هو (قسم أبقراط) ، ولقد روجع هذا القسم على مر العصور بقصد تنقيحه وتهذيبه وإدخال بعض التحسينات عليه، وكان ممن راجعوه وعلقوا عليه (ابن رضوان) عميد أطباء القاهرة في القرن الثالث عشر، فكان مما قال: إن الطبيب –على رأي أبقراط- هو الذي اجتمعت فيه سبع خصال:
الأولى- أن يكون تام الخلق، صحيح الأعضاء، حسن الذكاء، جيد الروية، عاقلاً ذكوراً، خير الطبع.
الثانية- أن يكون حسن الملبس، طيب الرائحة، نظيف البدن والثوب.
الثالثة- أن يكون كتوماً لأسرار المرضى، ولا يبوح بشيء من أمراضهم.
الرابعة- أن تكون رغبته في إبراء المرضى، أكثر من رغبته فيما يلتمسه من الأجرة، ورغبته في علاج الفقراء، أكثر من رغبته في علاج الأغنياء.
الخامسة- أن يكون حريصاً على التعليم والمبالغة في منافع الناس.
السادسة- أن يكون سليم القلب، عفيف النظر، صادق اللهجة، لا يخطر بباله شيء من أمور النساء والأموال التي شاهدها في منازل الأعلاء، فضلاً عن أن يتعرض إلى شيء منها.
السابعة- أن يكون مأموناً ثقة على الأرواح والأموال، ولا يصف دواء قتالاً ولا يعلمه، ولا دواء يسقط الأجنة، ويعالج عدوه بنية صادقة كما يعالج حبيبه (1)
__________
(1) عيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص 564- 565) لابن أبي أصيبعة، ترجمة ابن رضوان، نشر دار مكتبة الحياة في بيروت سنة 1965 م(8/1205)
و إن المتأمل لهذه الخصال، يرى أنها – فيما عدا كونه تام الخلق صحيح الأعضاء- خصال إنسانية، وردت في تعاليم الإسلام أيضاً، منها ما هو على سبيل الاستحباب، ومنها ما هو على سبيل الفرض، ليتصف بها كل مؤمن، ولا يتسع المجال لذكر النصوص الإسلامية في ذلك.
ومن الآداب الإسلامية التي يحتاج إليها الطبيب بصرف النظر عن ديانته، إضافة للخصال السابقة أذكر ما يلي:
1- القيام بالإسعاف نهاراً وليلاً على قدر الإمكان تفريجاً للكربة.
2- التلطيف بالمريض والحلم في استجوابه وتفهيمه، مراعاة لحالته النفسية ووضعه الثقافي.
3- اللباقة في تعريف المريض بمرضه، ومحاولة تطمينه ورفع معنوياته، وكتم الإنذار بالخطر عنه وإعلامه إلى ذويه الأقربين.
4- الدعاء للمريض، وهو نوع من مواساة المريض بالكلمة الطيبة.
5- إحالة المريض إلى الأخصائي، إذا كان الأمر يتطلب ذلك قياماً بالأمانة والنصيحة.
6- إذا كان التقى عدة أطباء عند مريض، فليقدم أحدهم من هو أعلى مرتبة في الطب إن علم، وإذا تقاربوا في المرتبة، فيقدم أكبرهم سناً.
7- الابتعاد عن الغيبة، وخاصة غيبة الزملاء وتجريحهم، فالغيبة مذمومة إنسانياً ومحرمة في الإسلام.(8/1206)
تطبيق واحترام آداب الشريعة الإسلامية في المزاولة:
ز- إن الآداب الطبية الآنفة الذكر، تشمل كل الأطباء على اختلاف أديانهم وعقائدهم.
وهناك آداب للشريعة الإسلامية ينبغي على الطبيب المسلم أن يحترمها ويطبقها في أثناء مزاولته لمهنته، عند فحص المسلمين والمسلمات والكشف عليهم، منها:
1- أن يبدأ المعاينة والتشخيص المخبري بقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) .
2- أن لا يكشف عن العورة إلا بقدر ما تستدعيه المعاينة، لأن الضرورة تقدر بقدرها.
3- ألا يصف دواء من المحرمات لغير ضرورة ملحة.
4- ألا ينهي حياة مريض ميؤوس من شفائه متعذب من آلامه بأي واسطة، بل يساعده في تخفيف آلامه وتهدئة نفسه، حتى يأتي أجله المحتوم.
5- أن لا يقوم بإجراء عملية تعقيم نهائي لغير ضرورة صحية ميؤوس من زوالها.
6- أن تراعى أحكام الإسلام في فحص الجنس للجنس الآخر.
ذلك أن الأصل في تعاليم الإسلام، هو عدم جواز معاينة ومداواة الرجل للمرأة غير المحرم أو العكس، لوجود النظر والجنس فيهما.
ويستثنى من ذلك حالات الضرورة، كعدم توفر طبيبة تثق المريضة بمهارتها الطبية أو طبيبة اختصاصها كاختصاص الطبيب المعالج لها، إذا كان مرضها يتطلب اختصاصاً.
فالضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها، ومن الواجب وجود شخص ثالث عند فحص الطبيب للنساء، وبالعكس، تجنباً للخلوة بهن.
على أنه في الحالات الإسعافية المستعجلة، يجوز للجنس معالجة الجنس الآخر بغض النظر عن وجود شخص ثالث، فإن الضرورات تبيح المحظورات (1) .
7- وملاك أمر الطبيب، هو أن يجعل علاجه وتدبيره دائراً على ستة أركان، حفظ الصحة الموجودة، ورد الصحة المفقودة بحسب الإمكان، وإزالة العلة أو تقليلها بحسب الإمكان، واحتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما.
__________
(1) راجع مستندات هذه الأحكام فيما تقدم في بحث كشف العورات(8/1207)
فعلى هذه الأصول الستة، مدار العلاج، وكل طبيب لا تكون هذه أخيته (ذمته) التي يرجع إليها، فليس بطبيب، والله سبحانه أعلم (1)
8- وعليه (أعني الطبيب) أن يعتقد أن طبه لا يرد قضاء ولا قدراً، وأنه إنما يفعل امتثالاً لأمر الشرع، وأن الله تعالى أنزل الداء والدواء، وما أحسن قول ابن الرومي:
غلط الطبيب علي غلطة مورد
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنما
غلط الطبيب إصابة الأقدار
(2)
9- وأختم أو أختتم هذه الأحكام والآداب بقول جامع مفيد –إن شاء الله تعالى-.
قال العلامة محمد بن محمد بن أحمد القرشي المعروف بابن الأخوة القرشي الشافعي، المتوفى سنة (729هـ) في كتابه (معالم القربة) بعد كلام طويل في الطب ولزومه، والأسى على قلة القائمين به من المسلمين:
(والطبيب هو العارف بتركيب البدن ومزاج الأعضاء والأمراض الحادثة فيها، وأسبابها وأعراضها وعلاماتها، والأدوية النافعة فيها، والاعتياض عما لم يوجد منها، والوجه في استخراجها، وطريق مداواتها بالتساوي بين الأمراض والأدوية في كمياتها، ويخالف بينها وبين كيفياتها، فمن لم يكن كذلك، فلا يجعل له مداواة المرضى، ولا يجوز له الإقدام على علاج يخاطر فيه، ولا يتعرض لما لا علم له فيه.
وينبغي أن يكون لهم مقدم من أهل صناعتهم.
وينبغي إذا دخل الطبيب على المريض، أن يسأله عن سبب مرضه وعما يجد من الألم، ثم يرتب له قانوناً من الأشربة وغيره من العقاقير، ثم يكتب نسخة لأولياء المريض بشهادة من حضر معه عند المريض، وإذا كان من الغد، حضر ونظر إلى دائه وسأل المريض: هل تناقص به المرضى أم لا؟ ثم يرتب له ما ينبغي على حسب مقتضى الحال، ويكتب له نسخة ويسلمها لأهله.
__________
(1) زاد المعاد (4/ ص 144- 145) ، والطب النبوي لابن قيم الجوزية (ص 140)
(2) معيد النعم ومبيد النقم لتاج الدين السبكي (ص 133) طبع دار الكتاب العربي بمصر سنة 1367هـ(8/1208)
وفي اليوم الثالث كذلك، وفي اليوم الرابع كذلك، إلى أن يبرأ المريض أو يموت، فإن برئ مرضه أخذ الطبيب أجرته وكرامته، وإن مات حضر أولياؤه عند الحكيم المشهور، وعرضوا عليه النسخ التي كتبها لهم الطبيب، فإن رآها على مقتضى الحكم، وصناعة الطب، من غير تفريط ولا تقصير من الطبيب قال: هذا قضاء بفروغ أجله، وإن رأى الأمر بخلاف ذلك قال لهم: خذوا دية صاحبكم من الطبيب، فإنه هو الذي قتله بسوء صناعته وتفريطه.
فكانوا يحتاطون على هذه الصورة الشريفة إلى هذا الحد، حتى لا يتعاطى الطب من ليس من أهله، ولا يتهاون الطبيب في شيء منه.
وينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد أبقراط، الذي أخذه على سائر الأطباء، ويحلفهم أن لا يعطوا أحداً دواء مضراً، ولا يركبوا له سماً، ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنة، ولا للرجال الذي يقطع النسل، وليغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، ولا يفشوا الأسرار، ولا يهتكوا الأستار، ولا يتعرضوا لما ينكر عليهم فيه.
وينبغي للطبيب أن يكون عنده جميع آلات الطب على الكمال (1) ... إلخ وصلى الله على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين) ..
هذا وقد قدمت لمؤتمر الطب الإسلامي الذي عقد في الكويت مسودة قسم الطبيب المسلم أحببت أن أوردها في رسالتي هذه:
__________
(1) معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الأخوة القرشي (ص 254- 256) الباب الخامس والأربعون، المطبوع في الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1976 م(8/1209)
أقسم بالله العظيم، أن أراقب الله في مهنتي، وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلاً وسعي في استنقاذها من الهلاك والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عورتهم، وأكتم سرهم، وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلاً رعايتي الطبية للقريب والبعيد، والصالح والخاطئ، والصديق والعدو، وأن أثابر على طلب العلم، أسخره لنفع الإنسان لا لأذاه، وأن أوقر من علمني، وأعلم من يصغرني، وأكون أخاً لكل زميل في المهنة الطبية، متعاونين على البر والتقوى، وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي، نقية مما يشينها تجاه الله ورسوله والمؤمنين.
والله على ما أقول شهيد.
وفي الختام، أود أن أشير إلى وصف الطبيب المسلم الذي تبنته الجمعية الطبية الإسلامية بأمريكا الشمالية سنة ألف وتسعمئة وسبع وسبعين للميلاد، والذي يعكس الفلسفة والروح المتمثلتين في الدستور الإسلامي لآداب مهنة الطب، وخلاصة القول أن الطبيب المسلم:
يجب أن يؤمن بالله وبتعاليم الإسلام وسلوكياته في حياته الخاصة والعامة، وأن يكون عارفاً لجميل والديه ومعلميه ومن هم أكبر منه، وأن يكون بسيطاً متواضعاً رفيقاً رحيماً صبوراً متحملاً، وأن يسلك الطريق المستقيم ويطلب من الله دوام التوفيق، وأن يظل دائماً على دراية بالعلوم الطبية الحديثة، وينمي مهارته باستمرار، طالباً العون عندما يلزمه ذلك، وأن يستشعر أن الله هو الذي يخلق ويملك جسد المريض وعقله، فيعامل المريض في إطار تعاليم الله، متذكراً أن الحياة هي هبة الله للإنسان، وأن الحياة الآدمية تبدأ من لحظة الإخصاب ولا يمكن سلبها إلا بيد الله أو برخصة منه، ويتذكر أن الله يراقب كل فكر أو عمل، وأن يلتزم بالقوانين التي تنظم مهنته، وأن تتبع أوامر الله كمنهج وحيد، حتى لو اختلفت مع متطلبات الناس أو رغبات المريض، وألا يصف أو يعطي أي شيء ضار، وأن يقدم المساعدة اللازمة دون اعتبار للقدرة المادية أو أصل المريض أو عمله، وأن يقدم النصيحة اللازمة للجسم والعقل، وأن يحفظ سر المريض، وأن يتوخى الأسلوب المناسب في التخاطب، وأن يفحص المريض من الجنس الآخر في وجود شخص ثالث ما تيسر ذلك، وألا ينتقد زملاءه الأطباء أمام المرضى أو العاملين في الحقل الطبي، وأن يسعى دائماً إلى تبني الحكمة في كل قراراته.(8/1210)
قسم الطبيب المسلم
الحمد لله رب العالمين، العلي العظيم الواحد العليم، خالق الكون ومعلم الناس أجمعين، له الدوام أبد الآبدين، لا نعبد إلا إياه ... إن الشرك لظلم عظيم.
اللهم ارزقني القوة لأكون صادقاً أميناً، متواضعاً، مخلصاً، رحيماً. وهب لي الشجاعة لأقر بذنبي وأصلح خطئي وأعفو عن هفوات غيري، وأعطني الحكمة لأريح غيري وأقدم النصح الداعي للسلام والوئام، وامنحني الإدراك بأن مهنتي مقدسة، تمس أعز ما وهبته للإنسان وهو العقل والحياة، واجعلني يا رب جديراً بهذا الموقف المتميز بالشرف والكرامة والتقوى؛ حتى أهب حياتي لخدمة البشر، فقراء وأغنياء، حكماء وجهلاء، مسلمين وغير مسلمين، بيضاً وملونين، متحلياً بالصبر والتسامح، بالفضيلة والوقار والعلم ومراقبة النفس، واملأ قلبي بالحب والرحمة لعبادك، فهم أعز مخلوقاتك، وها أنا ذا أقسم باسمك الكريم يا خالق السماوات والأرض، أن ألتزم بما أنزلته على رسولك الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .
الدكتور علي داود الجفال(8/1211)
سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانية
إعداد
الدكتور أحمد رجائي الجندي
الأمين العام المساعد للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية
بسم الله الرحمن الرحيم
الطب من أنبل المهن العملية، ويقول الإمام الشافعي عنه: (إنه أشرف مهنة عرفتها بعد العلوم الشرعية) وقد أباحت الشريعة الإسلامية الطب والتطبب فأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتداوي والبحث عن العلاج، على ألا يكون بمحرم، مصداقاً لقوله: ((يا عباد الله تداووا فإن الله لم يخلق داء إلا خلق له الدواء، علمه من علمه وجهله من جهله)) وأيضاً يقول: ((ما جعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها)) ، ولم يقصر صلى الله عليه وسلم التداوي على الأطباء المسلمين، لكنه أمر بالاستعانة بغير المسلمين، فقد أمر بإحضار الحارث بن كلدة لمداواة سعد بن أبي وقاص ولم يكن الحارث قد دخل الإسلام بعد، وقال صلى الله عليه وسلم عن الحارث: ((إنه رجل يتطبب)) أي: أنه خبير بالطب، ثم قال: ((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)) والركيزة الأولى في الوصول إلى تشخيص صحيح للمرض ليوصف العلاج، هو أن يثق المريض بطبيبه لكي يصارحه بما يشكو منه ويسر إليه بكل ما لديه من أسرار قد يخفيها عن أقرب الناس إليه حتى زوجته.
ومن هنا تأتي أهمية سر المهنة، والسر هو ما تعرفه وتخشى المجاهرة به، وفي قول آخر: (السر ما خفي على الناس وتكره أن يطلعوا عليه) ، فقد يكون به من الأسرار الشخصية المتعلقة بسلوكه ولا يرغب في الإدلاء بها.
لذلك كانت السرية ركناً أساسياً في تقدم مهنة الطب، وإحراز نجاح في العلاج، وعلى الطبيب أن يحرص عليها، وتكون أساس علاقته مع مريضه لبناء ثقة متبادلة بين الطرفين، حتى يفضي المريض إليه بشكواه، واثقاً من أن كل كلمة، بل كل لفظة هي في قرار مكين.(8/1212)
ولقد تنبه إلى هذه الأهمية كل من اشتغل بالطبابة على مر العصور والأزمنة، فقد ظهر ذلك واضحاً في قسم الأطباء ابتداء من أمحوتب إله الطب المصري كما كانوا يطلقون عليه، حتى قَسَم المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية التي أصدرته عام 1981م. والذي ينص على أن يحافظ الطبيب على كل ما يصل إليه من أسرار مرضاه ولا يبوح بها.
ورغم هذه الأهمية التي يحتلها موضوع سرية المهنة إلا أن الممارسة العملية لقطاع كبير من الجسم الطبي أثبتت أن موضوع سر المهنة لا يحتل المكانة اللائقة به إضافة إلى عدم دراية العاملين به، ولعل الأسباب ترجع إلى ما يأتي:
1- إن هذا الموضوع لم يلق العناية الكافية من كليات الطب أثناء إعداد الطبيب لممارسة الحياة العملية، وكذلك النقابات المهنية ووزارات الصحة؛ إلا بعد أن يقع الطبيب في المحظور ويجد نفسه أمام القضاء بسبب جهله به.
2- بسبب عدم الاهتمام والتوعية بهذا الموضوع من الجهات المسؤولة فإن الطبيب يقع في حيرة بين كتمان هذا السر وما يمليه عليه ضميره من اعتقاده، بأن الكتمان مخالف لتعاليم دينه الحنيف خاصة إذا كان هذا السر متعلقاً بجرائم أخلاقية ... وهنا يقع الطبيب في الخطأ إذا أفشى السر ويقع تحت طائلة القانون.
3- إن بعضاً من العاملين في الإدارة الصحية ليسوا على إلمام كافٍ بأهمية (سر المهنة الطبية) وبأنها مقننة بصورة قانونية ولا يجوز إصدار ما يخالف القانون، لأن القانون يجب ما دون ذلك.
ونظراً لأهمية هذا الموضوع فقد بادرت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بعقد ندوة تحت اسم (الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية) ودعت له العديد من الزملاء العاملين في مجال العلوم الطبية والقانونية والفقهية لتأصيل المبدأ من الناحية الشرعية والإسلامية.(8/1213)
ورغم أن المنظمة الإسلامية كانت إحدى المنظمات الإسلامية التي اهتمت بالموضوع وبحثته، إلا أن القوانين المدنية كانت مستشعرة أهمية هذا الموضوع فأدرجته ضمن قانون مزاولة المهن الطبية، ولم تترك الموضوع لمجرد نص يذكر في قسم الطبيب ولا لاجتهاده أو تقدير السلطات الصحية؛ بل حددت الحالات على سبيل الحصر لا المثال التي يجوز الإفشاء فيها، وهي كالآتي: (1)
أ- إذا كان الإفشاء لمصلحة الزوج أو الزوجة ويكون الإفشاء لهما شخصياً.
ب- إذا كان الإفشاء بقصد منع حدوث جريمة ويكون الإفشاء مقصوراً على الجهة الرسمية المختصة.
جـ- إذا كان الإفشاء بقصد التبليغ عن مرض سار طبقاً للقوانين الصادرة بهذا الخصوص، ويكون الإفشاء في هذه الحالة مقصوراً على الجهات التي تعينها وزارة الصحة.
د- إذا وافق صاحب السر على إفشائه إلى أي جهة أخرى يحددها.
أي أن الإفشاء يقع تحت بندين: الأول لتوقي وقوع ضرر شخصي، والثاني تفادي حدوث ضرر على المجتمع. والقانون عرف السر بالآتي: هو ما وصل إلى علم المنوط بحفظ السر بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر عند فحص أوراقه أو استشارته عن طريق أحد زملائه، أو أن يكون الطبيب عضواً في لجنة لفحص المريض لتقرير حالته.
والقانون لم يفرق بين أي نوع من أنواع الإفشاء، سواء كان ذلك بسوء نية أو حسن نية، فالعقوبة واحدة، سواء كان ذلك الإفشاء بالسلب أو الإيجاب. (2)
__________
(1) القانون الكويتي رقم 23 لسنة 1960م. المادة 22 والمعدلة بالقانون رقم 25 لسنة 1981م.
(2) نقضي فرنسي 17 يونيو (حزيران) – 1927 (سيري 1927 ص 324) (بحث الدكتور عبد السلام الترمينيني- مجلة الحقوق والشريعة- العدد الثاني – السنة الخامسة يونيو 1981م. شعبان – 1401 هـ، ص 41. القانون الكويتي رقم 22 لسنة 1960م. الذي ألغي بالمرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1981م.(8/1214)
ورغم أهمية هذا الموضوع إلا أن معظم العاملين في الجسم الطبي ليس لديهم الإلمام الكافي بهذا الجانب الخطير من المهنة الطبية، وقد ظهر ذلك في كثير من أسئلتهم التي أرسلوها إلى المنظمة والتي تصل يومياً إليها، والتي تعكس حيرتهم الكبيرة بين استيعابهم لقدسية المهنة وما يخالج ضمائرهم ومحاولة تنصيب أنفسهم مسؤولين عن الأمن أو مصلحين في المجتمع.
إضافة إلى ذلك فإن تنوع الوظائف الطبية التي يقوم بها الطبيب، فرغم أنها كلها تندرج تحت مهنة الطب، إلا أنها تختلف من حيث الأداء والمهام الموكولة إلى كل وظيفة.
ويمكن أن تقسم المهام الطبية إلى الآتي:
1- طبيب معالج ومهمته واضحة في الحصول على الأسرار من مريضه مباشرة أو بإجراء التحاليل اللازمة للتعرف على الكثير من أسرار المريض.
2- طبيب استشاري وهو مسؤول أعلى، وقد لا يرى المريض، وقد يستشار في الحالة، ولهذا فسيطلع على متعلقات المريض وسيتعرف على أسراره، ويمكن أن يكون هذا الاستشاري رئيساً لمعامل التحاليل.
3- طبيب عمل (القومسيونات الطبية أو المجالس الطبية) ومهامه فحص المرشحين للعمل للتأكد من صلاحيتهم للعمل واعتماد الإجازات المرضية، وعند فحصه قد يكتشف مرضاً آخر لا يشكو منه المريض قد لا يؤهله للعمل.
أيضاً في بعض الدول توكل إلى الأطباء العاملين في مثل هذه الوظائف الكشف على حاملي رخص القيادة لمعرفة مدى لياقتهم.
4- طبيب شركات التأمين ووظيفته هي الكشف على المريض والتأكد من لياقته الصحية طوال فترة التأمين وإعطاء تقرير طبي شامل عن الشخص، هذا التقرير سيتداوله من ليسوا في المهنة، وقد يتعرف على مرض لدى الشخص القادم للتأمين بينما جهة عمله لم تكتشف هذا المرض.
5- طبيب بحث علمي ووظيفته تقع تحت أمرين: إما أنه يجرب دواء جديداً على مريض بمرض ما، وذلك حسب الأصول العلمية والمهنية المرعية في ذلك، وهنا مطلوب منه في نهاية البحث نشر ما قد توصل إليه من نتائج إيجابية وسلبية.(8/1215)
أيضاً مثل هؤلاء الأطباء قد تجري في بعض الأحيان أبحاث للتأكد من بعض المواصفات للأدوية، مثل الانطلاق الحيوي للمواد الفعالة من قواعدها، وتجري مثل هذه الأبحاث على أصحاء للتعرف على سير الدواء داخل الجسم وتوزيعه على الأعضاء المختلفة.
أيضاً إمكانية التعرف على خريطة الجسم الصحي من ناحية مستقبل الشخص المرضي نتيجة التعرف على صفات حامض النواويك معاود الالتحام، فسيتعرف الطبيب على المستقبل المرضي للأشخاص فهل يجوز له إخبار الجهات الرسمية بذلك؟.
6- الطبيب الشرعي، ويقوم بالتعرف على أسباب الوفاة بناء على طلب السلطات المختصة باستخدام الوسائل التحليلية، ويطلب منه تقديم تقرير عن ذلك، وقد يرى في المتوفى عاهة ليست المسببة للوفاة ولكنها قد تؤدي إلى خيط الجريمة.
7- الطبيب الإداري، ووظيفته العمل في الشؤون المكتبية التي تحتاجها مثل هذه الوظائف وتتدرج ابتداء من مدير المستشفى إلى مديري الإدارات إلى الوكلاء إلى الوزير وبطبيعة وضعهم فإنهم يطلعون على تقارير خاصة بالعاملين سواء أكانوا مرضى أم أصحاء.
والهدف من وضع هذا التصنيف من الوظائف هو تبيان طبيعة عمل كل وظيفة، فبعض هذه الوظائف مطلوب منها تقديم تقارير تفصيلية عن الحالة، مثل أطباء المجالس الطبية وأطباء شركات التأمين والأطباء الشرعيين؛ للتعرف على أسباب الوفاة. فحدود كل منهم مختلفة عن بعضها البعض، فإلى أي مدى يجوز لكل وظيفة إعطاء التفاصيل؟
ومثال على ذلك: شخص ما ذهب إلى إحدى شركات التأمين، فالإجراء المتبع أن يوقع الشخص على إقرار للفحص الطبي الشامل للتأكد من خلوه من الأمراض الخطيرة قبل إبرام وثيقة التأمين فهل يحق لطبيب الشركة أن يكتب تفاصيل عن حالته ويقدمها إلى الجهات المسؤولة؟ أم أنه يكتفي بكتابة: لائق؟
ولذلك فإن كل وظيفة من الوظائف السابقة تحتاج إلى وضع قواعد عامة وثابتة لتحدد المنهج الذي يسير عليه الجسم الطبي.(8/1216)
هذا وقد حدد القانون الفئات المنوطة بحفظ السرية، واعتبر كل العاملين الذين لهم علاقة بالمريض ابتداء بالسجلات الطبية ومروراً بالهيئة التمريضية والأغذية والصيادلة والعاملين بالمختبرات والأشعة بجميع أنواعها مسؤولين الحفاظ على سرية المعلومات الطبية. (1)
إلا أن التقنية الحديثة وإدخال الحاسب الآلي سوف يؤدي بالتعرف على جميع أسرار المرض بكل سهولة.
أيضاً حدود المشكلة تحتاج إلى دراسة، فهناك الشؤون الإدارية والقانونية والمالية في وزارة الصحة والمستشفيات، فهل يلزمهم القانون بالسرية مثلهم في ذلك مثل بقية المهن الطبية؟ أيضاً موظفو شركات التأمين على الحياة، مشكلة أخرى هي قد يعرض دوسيه شخص ما على أحد مسؤولي الوزارة في مشكلة ما، ويكتشف هذا المسؤول أن صاحب العلاقة مريض بمرض خطير ... هل من حقه إبلاغ السلطات الأعلى لاتخاذ قرارات ضد هذا الشخص أم لا؟ (2)
في الاستعراض السابق تحدثت عن موقف القانون المدني فما هو موقف الإسلام:
الإسلام أحرص من بقية التشريعات المدنية على كتم أسرار العباد (فالستار) هو أحد أسماء الله الحسنى، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن خيانة الأمانة فقال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان)) بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يطلع الرجل أسرار بيته على أحد فقال: ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر أمرهما)) وفي السنة في قصة ماعز الذي اعترف بالزنا فأقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد عليه بالرجم، جاء هزال فقال: أنا أمرته أن يأتي فيعترف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا هزال لو سترته بردائك لكان خيراً)) . وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: لو وجدت شارباً لأحببت أن يستره الله، ولو وجدت سارقاً لأحببت أن يستره الله) .
في القانون المدني إذا طلب من طبيب الشهادة على سر اؤتمن عليه فإن واجبه ألا يستجيب لذلك إلا إذا حصل على موافقة صاحبه؛ لأن القانون كفل مبدأ سر المهنة، وما بني على خطأ فهو خطأ.
__________
(1) قوانين مزاولة المهن الطبية (للأطباء والصيادلة والقابلات والممرضات)
(2) بحث الدكتور عبد السلام الترمينيني –مجلة الحقوق والشريعة، العدد الثاني، السنة الخامسة يونيو 1981 شعبان 1401 هـ، ص 44.(8/1217)
فما رأي الشريعة الإسلامية في ظل {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} ؟ هل هناك حدود معينة للسرية أم أنها مطلقة؟.
وفي المبدأ الإسلامي درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهناك من يقول: إن الكذب الأبيض مباح خاصة في العلاقات الزوجية لضمان استمرارها. ولكن الإمام الغزالي قال: ليس كل مفسدة تترتب على الصدق يستباح بها الكذب، وليس كل مصلحة محمودة تتوقف على الكذب تبيحه؛ فإنه ما من كاذب إلا ويرى أن في كذبه مصلحة له أو درء مفسدة عنه أو عن غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم أخرج كلامه مخرج الحصر عندما قال: ((إن الكذب لا يحل إلا في ثلاث)) ((المجالس أمانة إلا ثلاثة: مجلس سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق)) فتح الباري بشرح صحيح البخاري.
أيضاً العلماء استثنوا من الغيبة أموراً ستة، قالوا: إنها جائزة، أخذاً من نصوص أخرى أو من قواعد شرعية، فإذا جاء من يستنصحني في أن يزوج ابنته لفلان قد أقول له: لا تزوجه إذا لم يكن صالحاً، إذا جاء من يريد أن يتاجر مع فلان أقول له: لا تتاجر معه؛ لأنه غير صالح أو غير قادر على أن يتعامل في مجال التجارة، فالنصوص في الشريعة الإسلامية يجب أن تؤخذ ككل، فكما أن هناك نصوصاً قدسية للتحريم هناك نصوص قدسية للاستثناء. (1)
قال ابن حجر الهيتمي: الكذب قد يباح وقد يجب، والضابط كما في الإحياء أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح وإن كان واجباً وجب، كما لو رأى معصوماً اختفى من ظالم يريد قتله أو إيذاءه فالكذب هنا واجب، أو سأل ظالم عن وديعة يريد أخذها فيجب الإنكار، وإن كذب، بل إن استحلفه لزمه الحلف ويوري وإلا ضمن ولزمته الكفارة، ولو سأل سلطان عن فاحشة وقعت منه سراً كزنى أو شرب خمر فله أن يكذب ويقول: ما فعلت، وله أن ينكر سر أخيه. ثم قال: ينبغي أن يقابل مفسدة الكذب بالمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت مفسدة الصدق أشد فله الكذب، وإن كان العكس حرم الكذب. (2)
__________
(1) بحث الدكتور عمر سليمان الأشقر في ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية عام 1407 هـ الموافق 1987م، ص 63.
(2) بحث الدكتور محمد سليمان الأشقر في ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية عام 1407 هـ الموافق 1987م، ص 91(8/1218)
ثم استشهد لصحة ذلك بحديث الترخيص بالكذب في الحرب وفي الصلح بين الناس وفي حديث الرجل لزوجته ليرضيها. (1)
الحديث طويل وطويل في هذا المجال، والأبحاث الطبية والفقيهة والمناقشات التي دارت في الندوة بين أيدي حضراتكم للاطلاع عليها وإبداء ما ترونه من آراء إضافة إلى ما تحتويه من أفكار.
وعموما فإن الندوة خرجت بأن الأصل هو الكتمان وعدم الإفشاء، والبحث يجب أن يكون في الاستثناء.
أيضاً يجب توضيح مفهوم المصلحة العامة والمصلحة الخاصة وحدود كل منهما.
والله أسأل أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه.
الدكتور أحمد رجائي الجندي
__________
(1) الزواجر لابن حجر الهيتمي 2/186 – القاهرة – مصطفى الحلبي 1370 هـ.(8/1219)
المبادئ الشرعية للتطبيب والعلاج
من فقه الطبيب وأخلاقيات الطب
مدى شرعية التحكم في معطيات الوراثة
إعداد
الدكتور عبد الستار أبو غدة
عضو المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
المبادئ الشرعية
للتطبيب والعلاج
تمهيد:
إن الغرض من الطب، كما دل عليه الاستقراء، أحد أمرين هما: حفظ الصحة، وإزالة المرض.. والعلاج الناجع في الحالين بسلوك الوسيلة المناسبة، وقديماً قالوا: حفظ الصحة يكون بمثلها، وإزالة المرض يكون بعكسه. ومفاد هذه المقولة أن الصحة لا تدوم إلا بالاستمرار في سلوك المناهج القويمة الملائمة للطبيعة غير المنافرة للفطرة، والمرض لا يزول إلا بمقاومته بالأسباب المضادة له؛ لأنها يغلب فيها مخالفة ما يعتاده الإنسان حال الصحة والسلامة ...
والمراد مما تقدم أن هذين الأمرين (حفظ الصحة وإزالة المرض) يتطلبان الأخذ بكثير من الوسائل الطارئة على مألوف الإنسان، وتطبيق جملة من المبادئ التي يتحقق بمراعاتها استدامة الصحة واتقاء المرض أو درؤه بعد الوقوع.
على أن الصحة والمرض ليسا من خصائص الأجسام العضوية وحدها، بل هما مما يطرأ على النفوس والأرواح أيضاً، انطلاقاً من أن الإنسان ليس جثة ناطقة فحسب، بل هو نفس عاقلة. والتشريع الإلهي يربأ بالإنسان أن تنحصر همته في استدامة الحياة للحواس والأعضاء ولو كان صاحبها (ميت الأحياء) ذلك أن من وراء الضرر المادي: أضراراً تلحق بالدين باعتباره وضعاً إلهياً ينظم محتواها بالغايات الرفيعة، أو تعتري النفس العاقلة السوية التي يفلح من زكاها ويخيب من دساها، أو تخل بالتعايش الاجتماعي بين الإنسان وأخيه من بني آدم الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً.(8/1220)
ورعاية هذه الأسس استوجبت إرساء الشريعة العديد من المبادئ التي تتناول بالإضافة إلى مشروعية التطبيب والعلاج، تنظيم إجراءاته وملابساته ورسم السبل المثلى لتصرفات الطبيب المداوي، والمريض الشاكي، لتحقيق الهدف من خلال الوسائل السليمة ضمن إطار التعاليم الإسلامية، وهذه أبرز معالم الطب الإسلامي، كيلا يكون دفع الضرر عشوائياً، على نمط الاستجارة من الرمضاء اللافحة بالنار الحارقة.. ولا يخفى أن إضفاء المشروعية على أصل فكرة التطبيب والعلاج لا يستلزم إطلاق العنان لمتطلبات ذلك؛ لأن الشريعة الإسلامية كما اهتمت بالمقاصد والأهداف جاءت بتنظيم الوسائل والأسباب، فإن اختيار الوسيلة السليمة من شأنه تمام الغرض واكتمال الثمرة. وذلك للوصول إلى ما ترجح فيه المصالح على المضار، فإن المصالح المحضة نادرة جداً كما قرر المعنيون بالاستنباط من علماء الشريعة، ولذا اكتفي برجحان المصالح في أمر على ما يكتنفه من مضار، كما روعي أثر الوسائل في زوال المصلحة، بأن يؤول إلى أن ما يستهدف بها من منافع يصير كالمضار الخالصة أو أشد.
ولا يختلف المراد بكلمة (مبادئ) هنا عن مقتضى الاستعمال في مختلف العلوم ولا سيما الاستعمال الحقوقي الأقرب في الطبيعة إلى الفقه واستعمالاته.. إلا أن كلمة (مبدأ Principal) يؤثر عليها علماء الشريعة كلمة (قاعدة) فهي المتداولة للدلالة على المعنى نفسه فيما يشمل معظم القضايا الجزئية في موضع ما، ويحمل الطابع الكلي في الصياغة، وهي ثمرة صياغة جماعية تعاقب عليها التطوير والصقل، واكتسبت مزايا التقعيد والدقة والإحكام. وهي لما تتسم به من الإيجاز والسعة تشبه جوامع الكلم، بالرغم من أسلوبها العلمي المفتقر إلى المقومات الأدبية.
على أن هذه المبادئ أو القواعد ليست دائماً مطردة، بل هي في بعض الأحيان أغلبية، لا تنفك عن استثناء محدد من شأنه عصمة القاعدة من الاضطراب والتردد..
وينبئ عن أهمية هذه القواعد اعتبار العلامة القرافي إياها من قبيل أصول الشريعة، حيث قسم تلك الأصول إلى (أصول الفقه) أي العلم المعروف، وإلى (القواعد الكلية الفقهية) ، وبين أن الإحاطة بهذه القواعد توضح مناهج التعرف إلى الأحكام وتغني عن حفظ جزئيات لا حصر لها.(8/1221)
وإذا كانت للمبادئ أو القواعد هذه الفائدة الفنية للمختصين في الفقه، فإن من فوائدها لغيرهم كالطبيب وأمثاله، تكوين الإلمام السريع بجوانب الموضوعات التي تنظمها تلك القواعد –أو المبادئ- وتيسير التعرف إلى الأحكام الشرعية التي يحتاجون إليها في مجال الممارسة من خلال منهج وسط، لا هو مسلك الاستنباط المستوعر على غير من له ملكة فقهية وأهلية اختصاصية تتيح له الاستقلال في النظر وبذل الجهد الفكري، ولا هو المنهج البدائي لتلقي الأحكام المنثورة من غير أن ينتظمها أصل تنضوي تحته، وهو منهج لا يغني سالكه عن دوام التلقي الحرفي واستمرار الحاجة للتلقين..
إن هذه المبادئ وإن كانت لها تطبيقاتها العامة في شتى المجالات، يعتبر التطبيق الدقيق والاستثمار الخطير لها متمثلاً في مجال التطبيب والعلاج، لخطورة آثار التسويغ أو المنع من حيث صلتها بمقصد من مقاصد التشريع هو (حفظ النفس البشرية وسلامتها) ، وهو في عداد (الضروريات) المعتبرة من أهم مقاصد التشريع الإسلامية.
وإن كانت سلامة التطبيق لا تتاح في الميدان النظري، بل تفتقر إلى من يملأ ثغرات التصوير الصحيح، ويرجح أقوى الاحتمالات الدائرة في كل أمر من الأمور قبل اللجوء إلى عنصر التجربة أو مقتضى المقولات المحتكم إليها في كل اختصاص.
لذا فإن من أهداف هذا البحث –وأمثاله- زيادة الوشائج التي تصل بين الفقه والطب، وتسهل تناول الفقه المحتاج إليه للأطباء خاصة أو غالباً، إذ لا بد أن توضع بين أيديهم –بالإضافة إلى البيانات المباشرة لبعض التصرفات- المبادئ (القواعد والضوابط) التي هي النبع الثري للتطبيقات، وبها يسهل لهم أيضاً أن يولوا الأهمية للعناصر المؤثرة في وضع التصورات الصحيحة التي لا يقدر طرف واحد على تولي الفصل فيها، وبمثل هذا التعاون يتحقق الوصول إلى معالم الطب الإسلامي ذي الخصائص المميزة له كعلاج للروح والبدن معاً، ومظهر من مظاهر العدل والإحسان والتعاون على البر والتقوى.
لقد اشتملت الشريعة الإسلامية (وما صدقته من سابق الشرائع السماوية) على مبادئ وقواعد تنبري أحياناً للحض على اجتلاب المصالح، وتنهض أحياناً لدرء المفسدة واجتناب المضار، فإذا كان الضرر عصيا عن الإزالة إلا مع أثر يخلفه أجريت الموازنة بين الضررين للركون إلى أخفهما.. وفي ثنايا هذا المبدأ جملة من القواعد الدقيقة التي تفرز الأضرار بحسب متعلقاتها من الضروريات والحاجيات وبحسب درجتها من الخصوص والعموم..(8/1222)
هذا عن إزالة المرض، أما حفظ الصحة فإن أهم المبادئ المعول عليها لتحقيقه قاعدة تحريم المضار ووجوب التحرز منها قبل الوقوع في أخطارها، وسلوك الطرق الوقائية، وعدم الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة.. وإلى جانب هذين المبدأين هناك قواعد أخرى كثيرة، منها الحض على النفع، والتعاون، وبذل المعروف، وكرامة النفس الإنسانية، ورعاية المقاصد الأساسية من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهي أساس للتطبيب والعلاج بشتى أنواعه، كما هي أساس التكييف الشرعي لإجراءات الطب الاستعاضي الذي يقوم على هذه المبادئ، مضافاً إليها بعض المبادئ الأخلاقية كالإيثار، دون تجاوز حدود الله وحقوقه.
ولو ذهبنا نستعرض جميع المبادئ المتصلة بالموضوع مع الشرح المفصل والتطبيقات الموضحة، لخرجنا عن نطاق المجال المرسوم لمثل هذه الأبحاث. لكن الحرص على مطابقة المقال لمقتضى الحال هو الذي يحدونا للاجتزاء بالقدر المحقق للأغراض الخاصة المنوه بها فيما سبق من بيان. ولذلك كان المناسب استقطاب المبادئ الأساسية بالصورة التي يبرز فيها الموضوع والقصد منها، بدلاً من الألفاظ والعبارات، ويستتبع ذلك الإغضاء عن التغاير الذي مرده الترادف أو التشابه في صياغة المبدأ أحياناً..(8/1223)
مبادئ المصلحة
إن التيسير من خصائص التشريع الإسلامي العامة، وقد تواردت على إثبات هذه الخصيصة كثير من نصوص القرآن والسنة منها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] .
ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الدين يسر)) أخرجه البخاري: وقوله: ((يسروا ولا تعسروا)) .
والتيسير ليس شعاراً معنوياً، بل هو مرتكز لكثير من القضايا التي لم يرد نص بشأنها، ولا ورد بشأن ما هو قريب منها مشابه له ليقاس عليه؛ لذا ظهر هذا المبدأ بصورة تشريعية عامة.
(الأصل في المنافع الإباحة) :
ومعنى هذا المبدأ أن الإباحة هي الأصل فيما فيه نفع للناس، مما لم يتناوله نص أو يكون مقيساً على منصوص –إلا أن هذا فيما تمحض من الأشياء منفعة خالصة، والشأن في هذه الزمرة أنها تدرك من النصوص أو من سكوت الشارع، وهي مرتبة، سماها بعضهم (مرتبة العفو) اشتقاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما سكت عنه فهو مما عفا لكم)) أخرجه البزار بسند صالح كما قال ابن حجر، وفي رواية: ((وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها)) . ومن الأدلة المشهورة لهذا المبدأ قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] . والهدف من هذا المبدأ: الإقدام على ما تحققت فيه صفة المنفعة ولم يرد بشأنه منع، واطمئنان القلب إلى إباحته وانتفاء الإثم عن الانتفاع به.(8/1224)
(الأصل في المضار التحريم) :
والمضرة بعمومها تشمل ما كان شدة في البدن، ويفيد هذا المبدأ أن المضار مما طلبت الشريعة طلباً جازماً الكف عن فعلها، ولم يرد فيها نص يخصها. وأن ما سلف من مستندات للمبدأ السابق تتناول من طرف خفي هذا المبدأ، فضلاً عن اقتضائه بالعقل السليم المجرد عن الشوائب.
على أن هذين المبدأين (أصالة إباحة المنافع – وأصالة تحريم المضار) رغم استمدادهما الشرعي لا يرقيان إلى معارضة الأدلة والقواعد الشرعية العامة؛ ما كان منها خاصاً في الموطن المخصوص، أو عاماً يتناول جميع أفراده.. وفضلاً عن ذلك لا بد من التزام التوصيف الدقيق للضرر والنفع بأن يتولى الشارع نفسه بيان ذلك، فيكون حكمه هو الفصل، أو تراعى قواعد المصالح والمفاسد القائمة على استهداف ما كان النفع أو الضر فيه خالصاً، أو هو الغالب الراجح، ولا عبرة بالنفع المغمور المغلوب في جنب الضرر الغالب، كما لا عبرة بالطارئ المؤقت في إزاء الثابت. وتأمل هذه الأشياء والنظائر ينمي مقدرة البت في المسكوت عنه مما المآل فيه إلى الاستنباط الدقيق، وسؤال أهل الذكر أهل الاختصاص كل منهم في مجال خبرته.
قال العلامة القرافي: إن الموجودات في هذا العالم قسمان: الأول حرام لصفته، وهو ما اشتمل على مفسدة تناسب التحريم (أو الكراهة) والثاني مباح لصفته، وهو ما اشتمل على مصلحة، أو كان ليس فيه مفسدة ولا مصلحة، وهو قليل، فلا يكاد يوجد شيء إلا فيه مصلحة أو مفسدة.
تجنب المضار وإزالتها
مقتضى المبدأ السابق أن المضار متناولة بالموقف العام للمنع، تحت طائلة الإثم والعقاب، سواء كان الضرر بالمبادرة أم على سبيل الانعكاس، وقد تجلى ذلك بإحدى جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وهي قوله: ((لا ضرر ولا ضرار)) ؛ و (الضرر) حصول الأذى أو المفسدة ابتداء، و (الضرار) حصوله على سبيل الجزاء ورد الفعل. وقد استمد من هذا الحديث، في ظل قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 165] أكثر من مبدأ شرعي، وهي إذا روعيت مجتمعة كانت نبراساً في الممارسة الصحيحة لإجراءات التطبيب والعلاج لتوفير الطمأنينة من الإثم الذي يحيك في النفس، ولتحاشي المسؤولية وموجبات الضمان إذا لم تستخدم موازين العدل.
وتشتمل هذه القاعدة على جملة من المبادئ مكونة من نوعين: وقائي وعلاجي.(8/1225)
الجانب الوقائي
الحفاظ على الفطرة السليمة
شرع الله عز وجل مبدأ الحفاظ على الفطرة الإنسانية باعتبارها {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] ، وهي الحالة الأصلية المستحقة للبقاء بعيداً عن التغيير المعنوي أو المادي (كل مولود يولد على الفطرة) ، ووسيلة تحقيق هذا الهدف إرساء المبادئ وتعزيزها بالتطبيقات العديدة، ومما يكفي هنا الإشارة إلى أنها جاءت متنوعة:
(الضرر يدفع بقدر الإمكان) :
والدفع هو الحيلولة دون الوقوع، باتخاذ الإجراءات والاحتياطات الكفيلة بالوقاية منه، سواء كانت سلبية بالامتناع من أفعال مؤدية للضرر، أو إيجابية بالأخذ بما يعصم منه، ومفاد هذا أن الضرر لا يتريث فيه حتى يقع؛ بل يبذل كل ما أمكن لدفعه.
كما أن دفع الضرر إن لم يمكن كلية يدفع المقدار الممكن منه، فليس هناك تلازم بين الدفع والاستئصال، بل إن التخفيف للمقدار الموشك وقوعه يحظى بالاهتمام الشرعي نفسه إذا تعذر تفادي جميعه. هذا المبدأ بشقيه (دفع الضرر – ولو الممكن منه) هو المظلة الفنية للمثلين المتداولين: (الوقاية خير من العلاج) و (ما لا يدرك كله لا يترك بعضه) .(8/1226)
الجانب العلاجي
العودة إلى الفطرة الأصلية
إذا حل الضرر، في غيبة الضمانات المقامة سدوداً دون وقوعه، فإن الإجراء المطلوب حينئذ إيجابي فعال من شأنه تصحيح ما نزل من انحراف عن الطبيعة برفع الضرر وإزالته، وهو مفاد المبدأ القائل:
(الضرر يزال) :
أي الشأن فيه أن ينحى عمن أصابه، ولا يعتبر حصوله وضعاً طبيعياً وأمراً واقعاً مهما تقادم أو تضاعف أثره، ولا ذريعة للمتواكلين المدعين الركون للمقادير، وهي كما تجري بما لا يعرفه الإنسان إلا بعد حصوله، فإن بقاءها كذلك لا يحكم له باللزوم والثبات إلا بعد المحاولة والأخذ بالأسباب، وإذا كان المرض (أو الضرر عامة) أمرا مقدوراً فإن الشفاء والمعاناة هو من قدر الله، وبذلك أجاب عمر رضي الله عنه من تردد في تجنب البيئة الموبوءة: نفر من قدر الله إلى قدر الله.
وتعبيراً عن بقاء (الضرر) دخيلاً جاء المبدأ القائل:
(الضرر لا يكون قديماً) أي: لا يحظى بحصانة ولا يكتسب استيطاناً مهما تطاول زمانه؛ بل يظل مزلزل الأركان، مضطرب الجنان، يهدده نداء الرحيل؛ لأنه (لا تبديل لفطرة الله) .
وللمبدأ الأساسي (إزالة الضرر) هالة تحف به من المبادئ التي يتم بها تنظير كامل له يتناول في آن واحد رسم الوسائل وتحديد المقاصد، منها:
(الضرر لا يزال بمثله) وبعبارة أخرى تقدم البديل: (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) وأسلوب آخر:
(يختار أهون الشرين) ، وتحديد الشرية والخيرية ليس بالهوى بل ضابطه:
(إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) والتحديد:
(يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) ، وبكلمة جامعة: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) .
وهذه المبادئ الغنية عن التطويل بشرحها توحي بالخطوات التي ينبغي سلوكها في مجال التطبيب والعلاج؛ بأن لا يطغى خوف الخطر الماثل في الداء على استشعار الخطر الكامن في الدواء، إذا كانت كفة هذا راجحة على ذلك.
والمحظورات، على ما في بعضها من ملاذ أو أرباح موقوتة أو فردية، جديرة بالمنع، ولو أهدرت به المصالح الجزئية، ومن هنا نشأ حكم الشريعة (وما وافق منهجها) بالحجر على الطبيب الجاهل بأصول الصنعة، والحيلولة بينه وبين فوائد المزاولة النافعة له شخصياً، لما في ذلك من حفظ المصالح العامة ودرء المفاسد المتوقعة.
وهو كذلك مناط الفصل في مسائل العلاج بوسائل هي في الأصل محرمة، أو التداوي ببعض المحرمات إذا تعين ذلك سبيلاً لإزالة الضرر.(8/1227)
رفع الحرج ومراعاة الضرورة
: إن رفع الحرج عن المكلفين من المقاصد الأساسية للتشريع الإسلامي عامة، وله هنا مظاهره الخاصة الكثيرة التي يتعاقب أثرها لتحقيق سمو الشريعة عن أن يكون طابعها الجمود على نمط واحد من التكليف، تأسيساً على أن تلك التكاليف نصبها الشارع الحكيم، بالنسبة للأفراد، لمقصد عام هو: (إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً) ، وإن المقصد بالنسبة للمجموع هو (إقامة المصالح الدنيوية والأخروية على وجه كلي) ، فهناك نظام كافل للسعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك به، ومطلوب من كل فرد أن ينضوي تحت هذا النظام وينقاد له، لا لهواه.
ولهذا جرت الشريعة الإسلامية في التكليف على الطريق الوسط الأعدل الداخل تحت طاقة الإنسان، من غير مشقة عليه، ولا انحلال لربقة عبوديته لله، وجاءت تكاليفها لتحقيق توازن ينشد غاية الاعتدال في جميع المكلفين.. فإن آل الأمر للميل إلى جهة التشديد بسبب واقع خاص، أو حال متوقعة، عالجت الشريعة ذلك بالرخص الشرعية الدائمة، أو مراعاة ظروف الضرورة الطارئة، ليظل المكلف في جميع أحواله ملتزماً بما نصبه الله من معالم دينه التي لا تغادر صغيرة أو كبيرة من شؤون الحياة إلا وضعت لها أصلاً يرجع إليه، ومعقلاً يلجأ إليه. وهذا غاية الإحسان والإنعام من الله.
والضرورة التي اشتملت الشريعة على كثير من المبادئ لمراعاة ظروفها هي كل ما فيه مشقة بالغة وحرج، وهي الحالة التي تلجئ الإنسان إلى فعل الممنوع عنه شرعاً، أو هي الحالة التي يصير بها الإنسان معرضاً للتلف إن لم يقدم على الممنوع.
ولما كان من خصائص الشريعة الإسلامية رفع الحرج ودفع المشقة، سواء كانت المشقة من النوع غير المقصود للشارع أصلاً، وهي المشقة غير المعتادة، أم من النوع الذي لا يخلو عنه أصل التكليف، لأنها في بعض الظروف تتحول إلى منزلة المشقة غير المعتادة، وهذا التحول ليس واقعاً على طبيعتها، بل هو بحصول سبب اقتضاه. قال القرافي: كل ما حرم لصفته لا يباح إلا بسببه، وهو الاضطرار وفي التعليل الدقيق لإباحة المحظور هنا يقول العز بن عبد السلام: الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصالحها أي للمصلحة المغلوبة بمفسدة راجحة، بناء على أن معظم الأمور تشتمل على مصالح ومفاسد، والعبرة بالراجح منها، ففي حال الضرورة يستفاد من تلك المصلحة النادرة التي أهدر أمرها في الأحوال الطبيعية.(8/1228)
وقد صاغ علماء الشريعة هذا المبدأ بجملة من القواعد المشهورة المتداولة بين المختصين، بل بين غيرهم من طبقات الناس على حد سواء مع شيء من التحريف أو إغفال القيود الواجب مراعاتها.
وقطب الرحى لتلك القواعد هو قول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) ، وقوله فيما أجاب به قوماً سألوه عن أكل الميتة في المخمصة: ((فشأنكم بها)) ، وها هي نبذة عن تلك القواعد بتوضيح يسهل استثمارها على الوجه السليم:
(المشقة تجلب التيسير) :
في هذا المبدأ وصف للحال المعهودة من الشريعة الإسلامية السمحة مما تقدمت الإشارة إليه من استهداف التوازن وإعطاء كل ظرف ما يناسبه، وزيادة عما سبق عن الضرورة من بيان توضيح فإن المراد بالمشقة الجالبة لليسر: المشقة التي تجاوز حدود المعتاد، لأن التكليف لا يخلو عن المعتاد منها فهو إلزام ما فيه كلفة، ولو شمل التخفيف جميع التكاليف لكان –كما قال الإمام الشاطبي - نقضاً لما وضعت الشريعة له من إخراج المكلف عن داعية هواه. وضرب من الأمثلة على تسويغ ذلك طلب المعاش بالاحتراف وسائر الصنائع، فإنه مع اعتياده لا يزيل ما فيه من الكلفة.. وأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار في أكله وشربه وسائر تصرفاته، ولكن جعل الله له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره، لا أن يكون تحت قهرها.
وفي نحو هذا المبدأ الوصفي جاءت قاعدة أخرى مؤكدة هي:
(الأمر إذا ضاق اتسع) :
على أن ثمرة الخاصة التشريعية المعبر عنها بالمبدأين السالفين جاءت في مبدأ مشهور متداول هو:
(الضرورات تبيح المحظورات) :
وقد سبق بيان استمداد هذا المبدأ، وهو ذو غزارة في التطبيقات، وأبرزها يتصل بقضايا التطبيب والعلاج، فإن ممارسة أي من الإجراءات المندرجة فيهما هي في الأصل محظورة ومعتبرة جناية على النفس الإنسانية أو جزء منها، أو تسبباً في إتلافها ولحاق الضرر بها لولا عامل الضرورة الذي تسوغ معه تلك التصرفات وتغدو من باب أداء الواجب أو الفعل المأذون به. ولا مجال لسرد التطبيقات الخاصة بدءاً من إباحة النظر واللمس للعورة عند الاقتضاء، وانتهاء بأعمال المبضع في البدن دون أن ينشأ عنه قصاص أو ضمان.(8/1229)
وإلى جانب المبدأ المراعي لحال الضرورة التي تستلزم التعرض للتلف أو وقوع الخطر، هناك مبدأ يعطي الأثر نفسه لحال (الحاجة) وهي ما ينشأ عنها عسر وصعوبة في الظروف الجماعية الشاملة للأمة أو الخاصة بطائفة أو مجموعة خاصة، لا للأفراد، فيكون (عموم الظرف) في (الحاجة) مدعاة لإحلالها منزلة الضرورة التي يطبق مبدؤها ولو كانت فردية. وهذا المبدأ هو:
(الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة) :
والمبادئ المتناولة لأثر الضرورة والحاجة العامة للأمة، أو الخاصة بمجموعة من فئاتها، محاطة بالضمانات الكافية للحيلولة دون اتخاذ ذلك ذريعة للخروج عن دائرة التكليف، وإلغاء الالتزام بأحكام الشريعة على نطاق زائد عن مقتضى الضرورة أو الحاجة، وللتعبير عن أهم تلك الضمانات جاءت المبادئ التالية:
(الضرورات تقدر بقدرها) :
فيباح بالضرورة القدر الذي يدفع الخطر، من غير بغي ولا عدوان، وتطبيق هذا المبدأ سار في تصرفات التطبيب، فلا يتجاوز المقادير المجزئة إلى غيرها، سواء من جهة أصل الفعل الاضطراري، أو من جهة توقيته واستمراره:
(ما جاز لعذر بطل بزواله) :
أو بصياغة أخرى لفكرة المبدأ هي:
(إذا زال المانع عاد الممنوع) :
وهو كما ينظم بقاء المسوغ الاضطراري من حيث الزمن يؤكد الربط بفقدان البديل السائغ ووجوده.(8/1230)
هذا، وإن مبادئ مراعاة الضرورة هي المظلة الشرعية لكثير من قضايا التطبيب والعلاج، ليس للأفعال وحدها، بل للأشياء المحتاج إليها لإزالة الحالة المرضية التي تتحقق فيها شروط الاضطرار، كالتداوي ببعض المحرمات عند تعين الاستشفاء بها وعدم وجود دواء طاهر حلال يؤدي الغرض، حسب إخبار الطبيب المسلم الثقة في تدينه وخبرته، وذلك إذا لم يسعف تطبيق مبادئ المطهرات التي منها: انقلاب العين الأصلية واستحالة المادة إلى خصائص مادة أخرى. فحينئذ تسوق الضرورة إلى استعمال بعض المواد في العلاج والمداواة، ولو كان محكوماً –في الأحوال الطبيعية- بتحريمها للنجاسة أو لسبب آخر من أسباب الحظر، دون أن ينشأ عن ذلك المساس بمقصد أساسي من مقاصد التشريع. فيباح بالضرورة –عند الفقهاء- التداوي بالمقدار الذي لا يسكر؛ أما المقدار الذي يسكر فتحريمه موضع اتفاق ولو للدواء، لأنه كما يقول الإمام الشافعي، ومذهبه هو الأرحب في هذه المسألة: يمنع من أداء الفرائض ويؤدي إلى فعل المحرمات. ومستند اتفاق الفقهاء على تحريم التداوي بما يسكر هو قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر مخاطباً من كان يصفها للدواء: ((إنها ليست بدواء)) أما المشمول بحكم الضرورة فهو المقدار الذي لا يسكر، والمعروف أن ما يستعمل في الأدوية من المواد القابلة للإسكار هي مقادير قليلة وفي أوقات متباعدة، ومع هذا يحسن بالمسلم الخروج من مواطن الخلاف، والحرص على الالتزام بالجادة في أمور الدين، ومثل هذا الموقف إذا اتخذ طابعاً جماعياً يجعل المعنيين بصناعة الدواء يذعنون لمراعاته تحت وطأة المصالح الاقتصادية، بعد أن أهدروا مصلحة الدين وحفظ العقل.
وقبل مغادرة الكلام عن هذا المبدأ الهام لا بد من الإشارة إلى إشكال قديم أثير بشأن اعتبار (المرض) حالة ضرورة مسوغة للمحظور على قدم المساواة مع حال (المخمصة) من حيث إن هذه إن لم يتناول فيها الغذاء المحظور أدى ذلك الامتناع إلى التلف يقيناً، لما سن الله من السنن الكونية بزوال الجوع عند تناول الغذاء، أما الدواء المتناول فقد يحصل معه الشفاء أو لا يحصل، فانتفى عنصر اليقين. وقد جاء جواب هذا الإشكال على لسان الإمام السرخسي بأن ما لا طريق إلى معرفته حقيقة ويقيناً يكتفى فيه بغالب الظن. ولا شك أن الظن يقوى بما بلغته طرق التشخيص والعلاج من شأن رفيع، بسبب التطور الزمني واكتشاف كثير من الوسائل الآخذة من اليقين بحظ كبير، بدءاً بالمجهر، ومروراً بالتخطيط والأشعة، إلى ما يكشف عنه العلم من جديد كل يوم.(8/1231)
حق الغير وإذنه فيه
إن من المبادئ المنظمة مبدأ (الحق) ، لا سيما إن كان للعباد أو في ملكهم، وهو شديد الصلة بمبدأ (الإذن) ، وكل من الحق والإذن إما أن يرجع إلى الشارع (حق الله) و (الإذن الشرعي) أو إلى الإنسان (حق العبد) و (إذن المالك) ، وإن للحقوق تقسيمات وأنواعاً ليس من المناسب التوسع فيها بمجال كهذا، لا سيما أنها موضوع مشترك بين المعاملات المالية والتصرفات الجنائية، وإن ذلك يجر إلى الكلام عن (المسؤولية) ، وهو جانب عولج على حدة لاتصاله بأمور أخرى غير الحق والإذن، كالقصد وطبيعة الفعل والخبرة.
على أن من المفيد لتنويع المبادئ المنوه بها الإشارة إلى أن منها:
(لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذن) :
وبدن الإنسان ملك لله عز وجل، وفيه مع ذلك حق للعبد نفسه، فهو مما يجتمع فيه الحقان (حق الله وحق العبد) ، وهذا من حكمة التشريع، فهذا الاجتماع للحقين مما يستظهر به على صيانة محل الحق، بدلاً من سهولة سقوطه أو إسقاطه ما لم يتوافر اجتماع إذن الشارع مع إذن المالك. وإذن الشارع منه المنصوص عليه في صورة أحكام شرعية، ومنه المنوط بالولاية العامة التي تقول قاعدتها:
(التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) :
على أن إذن الشارع سواء كان بالأحكام المنصوصة أو القواعد العامة هو المرجع في حال القصور أو العجز عن إصدار الإذن ممن كان الأصل أن يملكه، ولهذا كان إلى جانب الولاية العامة: الولاية الخاصة والوصاية والقوامة.
أما إذن المالك فهو بإطلاق التصرف ابتداء أو إجازته بعد وقوعه.
وما يتصل بهذا المبدأ ما أبداه العلامة القرافي من فرق في الأثر بين الإذن من صاحب الشرع (وهو في الغالب عام) وبين الإذن من قبل المالك (وهو من الإذن الخاص) بأن إذن المالك يسقط الضمان، أما إذن الشارع فالأصل فيه إسقاط التبعة الأخروية والعقوبة، دون الضمان (المسؤولية المدنية) وهذا تفضل من الله على عباده حيث جعل ما هو حق لهم لا يصح الإبراء فيه إلا برضاهم وإسقاطهم ضمانه. هذا الفرق تدل عليه القاعدة العامة:(8/1232)
(الاضطرار لا يبطل حق الغير) :
وهو مطرد حيث يكون هناك قيود للإذن الشرعي، أما إذا كان الإذن من صاحب الشرع –أي الجواز – مطلقاً عن أي قيد (ومثاله مما هنا الإجراء الطبي حسب المعتاد، إذا أدى لتلف غير مقدور على التحرز منه) فإن المبدأ المستحق التطبيق هنا أن:
الجواز الشرعي ينافي الضمان:
وهو كما حققه الشراح لهذه القاعدة: الجواز الشرعي المطلق عن أي قيد (عدا عدم التقصير والتعدي) ، ومثاله: أن يكون التصرف الطبي لم تلحظ فيه القيود الشرعية العامة؛ كحفظ حق الغير (بحصول الإذن) أو التحرز من مضاعفات يمكن التوقي منها، لأن تجويز الشرع لهذه التصرفات مقيد بشرط السلامة فيما يمكن التحرز عنه.
ومن تمام القول في الحق والإذن تصريح العلماء كالعز بن عبد السلام والقرافي أن ما هو حق خالص لله تعالى، أو فيه حق له وحق للعباد، لا يتمكن العباد من إسقاط حق الله في الحالتين، بل ذلك يرجع إلى صاحب الشرع. وينوب عن إذن المالك إذن غيره من الأولياء، ومنهم أولو الأمر، في حال الاضطرار إذا ما فقد صاحب الحق مقدرة التصرف المعتبر.(8/1233)
التعاون والنفع والإيثار
إن الحض على التعاون والإحسان وفعل الخير مما تواردت عليه آيات القرآن والأحاديث النبوية المعروفة، ونفع الناس من الرغائب المشروعة المحمودة إلا فيما نهى الشارع عنه، والنهي إما لمحظور يتصل بالفعل النافع لضرر ديني عام، أو لأن النفع يقابله ضرر أكبر لباذله، على ما سبق في مبادئ إزالة الضرر ومراعاة الضرورة. فإذا خلا الفعل النافع للغير من ذلك، وكان الضرر الذي يرفع عن الآخرين أشد من الضرر اللاحق بالمقدم على النفع، فهو من الإيثار على النفس ولو لحقها شيء من الخصاصة أو الضرر المحتمل، أو المتوهم.
وهذه المبادئ هي المسوغ الشرعي للتطبيب القائمة على تقديم الدم والأعضاء البديلة إلى المرضى التالفة أعضاؤهم مما يبذله المحسنون دون أن يؤدي ذلك إلى التهلكة المنهي عنها. ومستند ذلك مقتضى النصوص التي ألمحنا إلى كثرتها في هذا المجال، كقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:5] ، وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ، وقوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] ؛ وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] ؛ ومن الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام: ((من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه)) وفي رواية ((فليفعل)) أخرجه مسلم في صحيحه.
فهذه النصوص وغيرها كثير، ليست مبادئ أخلاقية فحسب، بل هي ذات أثر تشريعي في الإباحة والترغيب، إن لم يكن بالوجوب عند من يجعله أولى ما تقتضيه صيغ الأمر. فهذا العلم من الجائز شرعاً وهو من صنائع المعروف وأبلغ صور الإحسان و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .(8/1234)
وهذا كله إذا كان على سبيل التبرع؛ لأن المبدأ أنه:
(يغتفر في التبرعات ما لا يغتفر في المعاوضات) :
أما إن كان ذلك على سبيل المعاوضة نظير بدل، فإنه تصرف يثير كثيراً من الحرج والشبهة بالحرام، جرياً على أن أجزاء الآدمي ليس لها مالك إلا الله تعالى، فليست مما يباع ويشترى. وقد بلغ التحرز ببعض الفقهاء أن يفسروا بيع لبن المراضع بأنه استئجار لشخص الظئر (المرضع) والانتفاع بلبنها أمر تبعي؛ مع أنه مما فصلت في شرعيته النصوص الصريحة رعاية لضرورة حفظ الأنفس، وما اللبن هنا إلا أجزاء مبانة بصورة طبيعية عن بدن المرضع، ولا نفع مقصوداً لجسدها منه، فكأنه مما استودعها الله إياه لنفع الرضعاء.
ولا يتنافى مع حظر المعاوضة عن هذا البذل أن يقبل الباذل ما يكافأ به من غير مشارطة ولا مواطأة، لقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] ، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم: - بالرغم من ضعفه - ((من أتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له)) فهو مما تشهد له قواعد الشريعة العامة.
كما يملك أولو الأمر تخصيص مكافآت تشجيعية لا مشارطة فيها ولا التزام، للترغيب في هذا اللون من الإحسان وفعل الخير، أو للمعونة على ترميم آثاره على الجسم، كتشجيعهم على أشباه ذلك من الأعمال المندوبة أو الواجبة لكونها من الطاعات المفروضة أو مما ينبغي احتساب الأجر فيه.
وأخيراً ليست هذه المبادئ كل ما يتصل بموضوعنا، وهي أيضاً لا يقتصر تطبيقها عليه، بل هو أهم مجالات استثمارها والاستنارة بها في تكوين الإلمام بمنحى الشريعة في هذه الأمور عن طريق وسط بين تلقي الفروع المجردة، أو التوسع غير الميسور في غمار الأدلة ومقتضاها؛ و (كل ميسر لما خلق له) وإتقان العلوم والمعارف والحرف والصناعات كلها مما فرضه الله على جماعة المسلمين، بإزاء ما عم بفرضيته كل مسلم من طلب العلم بما تقتضيه حاله وتمس إليه حاجته في حياته ومهنته بعد الفرائض العينية المعروفة.(8/1235)
المراجع
- تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) (671 هـ) ط. دار الكتاب العربي.
- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، للشوكاني (1250 هـ) .
- المستصفى في الأصول، للإمام الغزالي (505 هـ) .
- إرشاد الفحول إلى علم الأصول، للشوكاني.
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد الطبيب (الحفيد) ط. الخانجي.
- المبسوط، لشمس الأئمة السرخسي. ط. السعادة.
- التاج والإكليل للمواق المالكي (بهامش مواهب الجليل) ط. السعادة 1328 هـ.
- أسنى المطالب شرح روض الطالب للقاضي زكريا الأنصاري الشافعي.
- المغني شرح مختصر الخرقي، لابن قدامة الحنبلي.
- المحلى، لابن حزم الأندلسي ط. المنيرية 1350 هـ.(8/1236)
- زاد المعاد (الجزء الثالث: الطب النبوي) لابن القيم.
- الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي (790 هـ) ط. مصطفى محمد.
- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للإمام عز الدين بن عبد السلام ط (1) 1353 هـ.
- الفروق (أنوار البروق في أنواء الفروق) للإمام القرافي (684 هـ) ط. دار إحياء الكتب العربية.
- الأشباه والنظائر في قواعد فروع فقه الشافعية، للسيوطي (911 هـ) ط. عيسى الحلبي.
- الأشباه والنظائر، لزين الدين بن نجيم الحنفي ط. مؤسسة الحلبي وشركاه 1387 هـ.
- القواعد، لابن رجب الحنبلي (795 هـ) ط. الخانجي 1352 هـ.
- القواعد والفوائد الأصولية، لابن اللحام البعلي الحنبلي س (803 هـ) ط. السنة المحمدية.
- المنثور في القواعد، للإمام الزركشي (مطبوع بالكويت، الأوقاف) تحقيق د. تيسير أحمد فائق، مراجعة د. عبد الستار أبو غدة.
- المدخل الفقهي العام للأستاذ الشيخ مصطفى أحمد الزرقا، ط. الحياة.
ـ شرح القواعد الكلية للمجلة، للشيخ أحمد الزرقا، مراجعة د. عبد الستار أبو غدة، دار الغرب الإسلامي.
- رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، للدكتور يعقوب عبد الوهاب الباحسين (رسالة دكتوراه) ط. بغداد.
- مجموعة بحوث فقهية (بحث الضرورة) للدكتور عبد الكريم زيدان. ط. الرسالة ومكتبة القدس.(8/1237)
(2)
من فقه الطبيب
وأخلاقيات الطب
تمهيد:
الطب في الدراسات الإسلامية:
حين أردت أن أكتب هذا الموضوع تحت شعار الطب الإسلامي تساءلت عما يستحق أن يدعى (الطب الإسلامي) ؛ لتكون الكتابة في الصميم، وكان الباعث على التساؤل هو أن الطب أحد العلوم التي لا يتضح فيها وجه هذا الوصف بعيداً عن جعل العلم يتعدد تبعاً للأديان والملل.. ثم تأملت فرأيت أن المقصود من الوصف بهذه الصفة التنويه بما أسداه الإسلام لعلم الطب من اعتبار وتشجيع، وما أكسبه من عناية استتبعت استمراره ونموه على نحو لم يشهد له مثيل في ظل غيره، وقد يؤدي لإيضاح المراد تقليب هذين اللفظين بأن يقال: (إسلاميات الطب) أو (طبيات الإسلام) . فالغرض تصويب النظر إلى الموقع الذي اتخذه الطب في أرجاء الدراسات الإسلامية بأنواعها.
وقد تركت الحديث عن نمو الطب في ظل الإسلام وجهود الأطباء المسلمين في تحرير ما ورثوه وإبداع ما ابتكروه من نظريات بعضها ظل محرزاً لهم حق السبق إليه، وبعض منها استلبه الأدعياء في غفلة الانحطاط والاستضعاف، حتى قيض الله من يشهد بالحقيقة، بشهود من أهلها أو أعدائها (والفضل ما شهدت به الأعداء) وهذا يغلب عليه الطابع الاختصاصي الفني، والجدير بجلائه هم الأطباء دون غيرهم. كما أمسكت عن التوسع في مجالين آخرين يستهويان الباحث في ظل ما في عنوان (الطب الإسلامي) من شمول:
أحدهما: هو الاستعراض التاريخي للجهود التأليفية في الطب وعلومه من قبل المسلمين، وذلك له كتب عامة تعنى بتاريخ العلوم من طب وغيره وتهتم بتقويم الكتب (الببليوغرافيا) . والرجوع إليها أو الاقتباس منها –من خلال نظرات سريعة - كفيل بالمطلوب. والسبيل الأمثل لتخليد هذه الجهود تحقيق مخطوطاتها ونشرها وترجمتها إلى اللغات الحية ليكون من مراجع الدراسات الطبية العالمية أمثال كتاب (الحاوي) للرازي المتوفى (311 هـ = 923م) و (القانون) لابن سينا (348 هـ = 961م) وكتب ابن رشد (595 هـ = 1198م) وكتب ابن زهر الأندلسي (557 هـ = 1161م) و (الشامل) لابن النفيس (687 هـ = 1288م) .(8/1238)
وغيرها مما تلاحق بعدها.. تمهيداً لوصل حاضرنا العتيد بالماضي المجيد وانطلاقاً لرسم المستقبل المنشود.
والمجال الثاني: الربط والتوفيق بين النظريات الطبية الحديثة، وما ورد من نصوص فيها إشارات ذات صلة بها في القرآن والحديث. وهذا المجال أيضاً مما عني به القدامى والجدد بكتابات شاملة للنظريات العلمية مطلقاً أو خاصة بالطبي منها.
ومع ما يتطلب هذا المجال من ازدواجية لا بد منها للباحث فيه فقد كان حظ الأطباء للإسهام في بيانه أكثر من حظ غيرهم؛ لأنه يتطلب تمرساً في الطب وتعمقاً في علومه في حين يكفي له الإلمام بالدراسات الدينية والعربية.
وبعد.. فإن وراء ما أشرت إليه مجالاً رحباً لدراسة ما يمكن اعتباره أيضاً من مسمى (الطب الإسلامي) بدءاً من (الطب النبوي) المتضمن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الطب الطبيعي، والعلاج الروحي والطب النفسي، والقواعد التي أرساها الإسلام لحفظ الصحة، ثم ما وراء ذلك من منارات منثورة في علوم الشريعة الغراء تفصل فقه الطبيب (الأحكام الخاصة به) وآدابه (أخلاقيات الطبيب) ، ومعظم ذلك مذكور في غير مظانه، وقليل منه قد حظي بباب مفرد لدراسته في الكتب الشاملة أو بكتاب مستقل فيه.
وفيما يلي إشارات لأهم الجوانب التي كان لها حيز في الدراسات الإسلامية بعيداً عن الاسترسال في الصعيدين التاريخي والتأويلي - المشار إليهما - لتكون هذه الدراسة تقريراً لأصالة الطب الإسلامي، ومدخلاً لوضع مرتكزات للدراسات المفصلة فيه، وذلك يسهم في فتح المجال أمام من ينشط لتسليط أضواء البحث الكاشفة لما خفي منها، ولا يتسع المقام لتلمس دور الطب في الدراسات الإسلامية - تأثراً وتأثيراً - في جميع الزمر المستقرة لتلك الدراسات، بدءاً بالقرآن، ومروراً بالسنة والسيرة، وانتهاء إلى الفقه وعلومه المساعدة لا سيما الحسبة والآداب الشرعية، لذا اقتصرت على لمحات في فقه الطبيب (الأحكام التي تتصل بمزاولته عمله من حل وحرمة) مع نبذ في الآداب التي ينبغي مراعاتها.(8/1239)
النظرة الشرعية للطب:
لا بد من إلقاء هذه النظرة قبل الحديث عن فقه الطبيب وآدابه، ثم أنتقل لبيان الخصال التي أوجبت الشريعة الإسلامية على ممارس الطب المعرفة بها؛ لأنها من الأمور المتصلة بصميم عمله. وهي مما يختص بالقيام به غالباً، كما يشمل آثار تصرفاته في الأحوال العادية أو الطارئة؛ إذ من المقرر أنه يجب على المسلم – بالإضافة إلى معرفة الأحكام العامة في حق الجميع كالعبادة- اكتساب المعرفة بما يخصه في عمله لتكون تصرفاته موافقة للشرع، وليكون كسبه حلالاً.
ولعل أول ما يتعرض له الفقهاء في هذا المجال حكم (التداوي) ، ويستتبع ذلك تعرضهم لحكم (التطبيب) .. ولا يخفى أن الحديث عن هذين كان لهما قديماً ما يبرره إزاء مواقف بعض المتصوفة أو الزهاد الذين توهموا أن الإقدام على التداوي يخالف التوكل.. وقد اعتبرت هذه المواقف من باب التنطع بعدما ثبت تداوي النبي صلى الله عليه وسلم شخصياً، والأمر لغيره بالتداوي والمداواة.
ويستوقف النظر في المراجع التي تناولت هذه القضية حرص الفقهاء على اعتبار (مهنة التطبيب) إحدى فروض الكفاية (1) بمعنى أنه إذا لم يوجد من ينهض بها أثم المسلمون كلهم، وإن القيام بها من البعض يسقط الإثم عن البقية، ويكون الأجر خاصاً بمن يقوم بذلك ... ويظهر أثر هذا الاتجاه حين الموازنة بمحاربة الطب من خلال شن الحملة عليه من قبل محتكري الوصاية على الأديان والعقول قبل الإسلام، بل بعده أيضاً في حقبة القرون الوسطى عند الغربيين.
__________
(1) معالم القربة لابن الأخوة ص (165-166)(8/1240)
الفقه والخبرة الطبية
تثور الحاجة إلى خبرة الطبيب في أكثر من موضوع في الفقه الإسلامي، وتلك المواطن إما أن تتصل بالمرض أو الأعذار المبيحة لبعض الرخص والتيسير في العبادة.. وإما أن تتصل بالفصل في المنازعات التي تنشأ من دعاوى محلها جسم الإنسان، سواء أكان النزاع في شأن السلامة والبقاء على الفطرة وعدمها أم من قبيل ادعاء العيوب والنشاز..
ونظراً إلى أن الشريعة الإسلامية من منهجها العام في التشريع بناؤه على الأعم الأغلب، فقد ندر - في غير مجال الطب - ربط الأمور بالخبرة الفنية وحدها، بل أقيمت أكثر الأمور على حصول الأمارات الظاهرة الميسورة كما هو الحال في أوقات الصلاة ومطالع الأشهر وغيرها. أما في مجال الطب فلم يعدل عنه إلى غيره إلا في الأمور الميسور إدراكها بالتأمل أو بطول الأمد الكافي لظهور الأعراض واجتماع القرائن كما هو الحال في البلوغ وعلاماته الطبيعية.
وفي هذه الأحوال كان البديل ليس هو الشخص العادي، بل أصنافاً من ذوي الخبرة الآخذة من الطب بنصيب كالقابلة.. أو مجموعة من النساء الثقات.
ومن أهم أمثلة الحاجة إلى خبرة الطبيب في تحقيق شروط العبادة لوجود مزاولتها:
أ- التطهر لها بالوضوء والغسل - بحسب الحاجة - حيث ينتقل الواجب بحصول المرض من استعمال الماء، وهي الطهارة الحقيقية الأصلية، إلى طهارة بدلية اعتبارية هي التيمم، وقد يكون الانتقال في جزء من البدن لا في جميعه، ومثاله الإعفاء من مساس الماء للبدن، بسبب وضع جبائر حيث يستعاض عن ذلك بالمسح على الجبيرة.
ب- وصلاة المريض أحد الأبواب المعروفة في الفقه، حيث يصلي كما يطيق من قعود أو على جنب بحسب مقتضى مرضه.
جـ- والمرض أحد الأعذار التي يسقط بها وجوب الجمعة والجماعة، فيستعاض عن حضور المسجد بالصلاة في البيت. ومناط ذلك المرض تعذر الوصول إلى مكان المسجد، لما في الجسم من وهن أو في القدم من ألم.(8/1241)
د- والمرض يبيح الفطر في رمضان ليكون الصوم في أيام أخر هي أيام الشفاء والعافية.. إلا إذا كان المرض مما لا يرجى شفاؤه فينتقل الواجب من الصوم إلى (الفدية) التصدق بطعام مسكين.. ولا يخفى أن الحكم بالمرض أصلاً أو بكونه مزمناً هو مهمة الطبيب دون غيره.
هـ- ومرض الموت له شأن آخر ليس ذاك المرض الميؤوس من شفائه فقط، بل هو الذي يزداد أثره حتى ينتهي بالوفاة، وله أحكام فقهية مفصلة بشأن التصرفات، ولا سيما الهبة والإقرار والطلاق.. والذي يقرر أن المرض من هذا القبيل هو الطبيب.. على أنه ليس من إعطاء الخبرة حقها في الدقة أن يطلق العنان للمرض مهما كان نوعه ومقداره لتستباح به الرخص ويعفى به عن الشروط؛ ولذا كان المرض عند الفقهاء أنواعاً لكل منها اعتباره.
وأكتفي بالإشارة إلى اختلاف الرأي في اكتفاء بعضهم بخوف زيادة المرض أو امتداد زمنه، واشتراط بعضهم خوف الهلاك أو فوات العضو، (1) على أن بعض الفقهاء اكتفى للاستفادة من الرخصة الشرعية بأن يكون في استعمالها (كالفطر في الصوم مثلاً) الظن بحصول الصحة وبعضهم اشترط اليقين. وفي هذه المعايير المختلفة دلالة واضحة على الدقة في تقدير الأمور والحاجة الماسة إلى الخبرة الفنية.. ويتأكد هذا المبدأ من استعراض نماذج من أشهر مجالات الرجوع للخبرة الطبية فيما يلي:
أ- ففي موضوع الزواج وثبوت المهر كاملاً بالدخول أو الخلوة لا يعتد بالخلوة؛ ما لم تكن الموانع زائلة، فالمرض أحد تلك الموانع لكنه (المرض الذي يمنع المعاشرة أو يلحقه به ضرر..) . (2)
ب- والأمراض الجنسية التي تمنح بها المرأة حق الفرقة عن الزوج هي العنة والجب والخصاء، لكن المجبوب لا يتريث في اعتباره، أما العنين والخصي فيؤجل معهما الزوج سنة لتمر به الفصول الأربعة ويتبين هل ما به علة معترضة أم آفة أصلية.
جـ- وكذلك المرجع للخبرة الطبية في عيوب الزواج المستوجبة للخيار (وهي بالنسبة لما يوجد في الزوج مغتفرة عند بعض الفقهاء لوجود الطلاق الذي يتمكن به الزوج من مفارقة الزوجة المصابة.. ويمنحه بعضهم حق الخيار) وتنحصر تلك العيوب في ثلاثة عامة (الجذام، والبرص، والجنون) وقد عمم بعضهم أثرها ليشمل حالة إصابة الزوج بها.. وعيبين نسائيين هما الرتق: التصاق يمنع من المعاشرة الجنسية. والقرن: حائل عظمي أو لحمي يمنع من المعاشرة.
__________
(1) الهداية 1/126
(2) الهداية 1/206(8/1242)
ومن الواضح أن معرفة ذلك لا بد فيه من خبرة الطبيب، وإن كان يستعان في بعض الأحيان بالقابلة.. وهي صورة من صور الطب.. والأمثلة للتعويل على الخبرة الطبية كثيرة في شتى أبواب الفقه.
ولهذا وضع الفقهاء أساساً لاعتبار المرض مرخصاً في التيمم –وأمثاله من المواطن التي يتغير بها الحكم من حال إلى حال أخف أو أشد- وهو أن يعتمد على معرفة نفسه إن كان عارفاً، أي المعرفة الفنية، وإلا فله الاعتماد على قول طبيب واحد حاذق مسلم بالغ عدل. فإن لم يكن بهذه الصفة لم يجز اعتماده. ومفاد هذا أنه لا يعتمد على من لم تتوافر فيه الصفات والقيود المشار إليها، على أن بعض الفقهاء رأى أنه يجوز اعتماد قول من كان فاسقاً، لعدم التهمة هنا؛ لذا اقتصر هؤلاء في وصف الطبيب بأنه (مسلم ثقة) مع تقييده بالحذق والفطنة.
كما صرحوا بقبول المرأة وحدها؛ لأنه من باب الإخبار وليس من قبيل الشهادة التي جاء تنظيمها في الآية الكريمة:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] .
ومما يدل على إحالة الأمر إلى خبرة الطبيب منع بعض الفقهاء من التيمم إن لم يجد طبيباً على الصفة المشروطة. (1)
__________
(1) المجموع شرح المهذب للنووي 2/315، الفروع لابن مفلح 2/53(8/1243)
مسؤولية الطبيب (الضمان) إن المسؤولية بالنسبة للطبيب وغيره نوعان: تعاقدية، وجنائية.
أ- المسؤولية التعاقدية:
تنطبق على التعامل بين المرضى والأطباء القواعد العامة للإجارة على الأعمال وهي السائدة في كل المهن التي يلتزم فيها صاحب المهنة بأداء منفعة للمتعاقد محدودة بإنجاز معين مع تمكنه من تلقي مهام أخرى.. وقد يكون التعامل على أساس الإجارة الخاصة التي يسمى مقدم المنفعة فيها (الأجير الخاص) ، وذلك حين يرتبط خلال مدة معينة بأن لا يعمل لغير من تعاقد معه.. وهاتان الحالتان لا خصوصية فيهما للطبيب عن غيره. على أن هناك حالتين لا تتصوران إلا في ممارسة الطب: تسمى إحداهما المشارطة على البرء وتسمى الأخرى: اشتراط السلامة، وقد عني بمعالجتهما الفقهاء على النحو التالي:
الحالة الأولى – المشارطة على البرء:
الأصل في تقدير التعامل مع الطبيب أن يكون على مدة معينة، أو يكون على القيام بأعمال معينة، ويستحق الأجر بإنجاز ذلك ولو لم يبرأ. وهذا ما يدعى في الاصطلاح القانوني (بذل العناية) . وفي هذه الحالة احتمالات لها حلولها التي تختلف فيها أنظار الفقهاء، مثل حصول البرء أثناء المدة، أو حصول الوفاء.. أو امتناع المريض من مواصلة العلاج.. على أنه قد يشترط في هذا التعاقد بالإضافة إلى بذل العناية (تحقيق غاية) وهي الشفاء من المرض (البرء) والفقهاء مختلفون في الحكم على هذا التعاقد:
فبعضهم منعه؛ لما فيه من الجهالة، لأن البرء غير معلوم متى يحصل.. حتى لو أحاط الطبيب علماً بأحوال مريضه ومرضه، لتدخل أسباب خارجية. وجمهور الفقهاء على جوازه، والدليل هو ما ورد من أن أبا سعيد الخدري عالج رجلاً وشارطه على البرء، وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر تصرفه. ويرى ابن قدامة أن هذه المعاملة ليست من باب الإجارة التي يشترط فيها معلومية محل التعاقد بالمدة أو العمل. وإنما هي من قبيل (الجعالة) ، وهي تجوز على عمل مجهول، كما هو الحال في رد اللقطة، ويكفي للجعالة تحديد مقدار الجعل وبيان الغاية المطلوب تحقيقها بقطع النظر عن مقدار العمل. ومن أحكام هذه المشارطة أنه لو ترك قبل البرء فلا شيء له إلا أن يتمم غيره، فله حساب نسبة من الاتفاق. (1)
وقد تناول الفقهاء هنا مسائل أخرى ثانوية مثل اشتراط الدواء على المريض أو الطبيب، وهي القضايا الملحوظ فيها أثر الأعراف والأوضاع الزمنية، والتي لا يوجد ما يلزم بمتابعتها مع تطور أصول التعامل في هذا المجال.
__________
(1) المغني لابن قدامة 5/400، المحلى لابن حزم 8/196، الشرح الصغير للدردير 4/75(8/1244)
الحالة الثانية – اشتراط السلامة:
تناول الفقهاء ما لو تعاقد الطبيب مع مريضه واشترط أن يكون عمله مقترناً بالسلامة من السراية (المضاعفات..) فالشرط باطل؛ إذ ليس في وسعه ذلك، وما دام ما ينتج عن الفعل المعهود المستوفي للشروط معفى من المسؤولية فلا تترتب بمجرد الاتفاق.. للقاعدة القائلة: ضمان الآدمي يجب بالجناية لا بالعقد (1) ويلحظ هنا أن الشارع قد تدخل لينقذ الطبيب الذي تورط بقبول هذه المغامرة، إما مدفوعاً بإقدامه على أكثر مما يطيق، وإما بدافع الحاجة لقطف ثمار عمله ولو كانت محاطة بمحاذير، والشريعة جاءت لإقرار العدل أو لتحقيقه حين يزهقه جموح أو طغيان الأطراف.
ب- المسؤولية الجنائية:
الكلام عن المسؤولية الجنائية المترتبة على الطبيب إنما هو في مجال ممارسته المهنة (لأن تصرفاته العمدية العدوانية خارج المهنة، لا تختلف عن غيره) ، ولكن نظراً إلى أن طبيعة مهنته قد يلتبس فيها التصرف المعتاد المقصود به العلاج، بالتصرف الجنائي الناشئ عن جهل أو تجاوز أو خطأ، فقد تناول الفقهاء بالدراسة هذه التصرفات بإسهاب وتفصيل يمكن إيجازه على النحو التالي:
إن اعتبار التطبيب واجباً كفائياً يقتضي أن لا يكون مسؤولاً عما يؤدي إليه عمله قياماً بواجب التطبيب؛ لأن القاعدة أن الواجب لا يتقيد بشرط السلامة، لكن لما كانت طريقة أداء هذا الواجب متروكة لاختيار الطبيب وحده؛ لما له من السلطان الواسع في الطريقة وكيفية الأداء تبعاً لاجتهاده العلمي والعملي كان ذلك داعياً للبحث عن مسؤوليته جنائياً عن نتائج عمله إذا أدى إلى نتائج ضارة بالمريض، باعتباره أنه حين يؤدي واجب التطبيب أشبه بصاحب الحق فيه بمؤدي الواجب، ولا يخفى أن صاحب الحق يسأل في حال تجاوزه حقه. وبمناسبة الموازنة بين اعتبار الطبيب قائماً بواجب أو اعتباره صاحب حق، يهتم الفقهاء بالتأكيد على ضرورة الاستعانة بخبرة الطبيب في تنفيذ القصاص الشرعي في حالة وجوبه بالجناية على النفس (القتل) ، أو الجناية على ما دون النفس (الجراح وإتلاف الأطراف أو الحواس) ، فلا شك عندهم أن قيامه بذلك هو من قبيل أداء الواجب.. وقد اتفق الفقهاء على أن مقتضى الإحسان في التنفيذ أن يعهد به إلى ذوي الخبرة بعد أن يوكلهم الأولياء المتمسكون بحق القصاص إذا لم تطب نفوسهم بالعفو، لما يتطلبه ذلك من دقة وحذر لعدم مجاوزة الواجب، قصاصاً كان أو حداً، ولتحقيق البعد عن الظلم والتعذيب.. وقد تضمنت المراجع الفقهية القديمة بعض الأصول التي كانت تراعى قبل التنفيذ، والوسائل التي كانت تستخدم في القياس وتحديد محل الاستيفاء؛ ليتم على أعدل وجه وأرفقه وأسهله. (2)
__________
(1) الهداية 2/194 و3/179، مجمع الضمانات ص (47-48) وفيه تفصيلات طريفة.
(2) المغني 4/351، وهناك كتاب مطبوع باسم (مقاييس الجراحات) لبعض فقهاء الإباضية فيه مزج بين الرياضيات والطب كوسيلة لتحقيق عدالة التنفيذ.(8/1245)
وهناك إجماع على عدم مسؤولية الطبيب إذا أدى عمله لنتائج ضارة فيما إذا توافرت الشروط الآتية: (1)
1- أن يكون طبيباً عن معرفة ودراية، لا عن زعم وادعاء، ولا يفيد أن تكون له شهرة لا تستند إلى خبرة حقيقية.
2- أن يأتي الفعل بقصد العلاج وبحسن نية (أو بقصد تنفيذ الواجب الشرعي) .
3- أن يعمل طبقاً للأصول الفنية التي يقررها فن الطب وأهل العلم به، فما لم يكن كذلك فهو خطأ جسيم يستوجب المسؤولية.
4- أن يأذن له المريض أو من يقوم مقامه كالوالي.
والطريف في هذه القضية أن الفقهاء حين أجمعوا على رفع المسؤولية عن نتائج فعل الطبيب حين توافر الشروط المشار إليها اختلفت وجهات نظرهم في تعليل نفي المسؤولية على نحو يدل على التقدير لشأن هذه المهنة وخطورتها في آن واحد، فبعضهم يرى أن العلة هي الحاجة إلى ممارسة المهنة في جو يشجع على أدائها.. لا سيما حين يقترن ذلك بالإذن.. وبعضهم يرى أن العلة بالإضافة للإذن أن الغرض من الفعل قصد العلاج لا الضرر، والقرينة على هذا لقصد وقوعه موافقاً للأصول الفنية..
ويرى البعض أن العلة هي الإذن في صورته المزدوجة المركبة من إذن الحاكم بممارسة المهنة وإذن المريض بأداء ما تقضي به من أعمال.
__________
(1) المغني 5/298، بداية المجتهد لابن رشد 2/349، البدائع 7/305، الشرح الصغير 4/47، الحطاب 6/321، نهاية المحتاج 8/2(8/1246)
أحكام بعض الإجراءات الطبية
العلاج بالفعل المخوف:
لعله لا يخرج من دائرة ارتكاب أهون الضررين ما ذهب إليه بعض الفقهاء في قضية العلاج بالأفعال التي يخاف منها التلف أو السراية (المضاعفات) ، بدلالة ما أردفوا به هذه المسألة من تفصيلات بأنه إذا خيف التلف من ترك الفعل كان القيام به جائزاً، بل واجباً.. كما صرحوا بحل قطع عضو استقر فيه الداء وخشي انتشاره في سائر الجسم.
ولا يخفى أن المعيار المشار إليه هو المحكم، وما جاء على غير ذلك ربما من التأثر بالأوضاع الزمنية ...
وكان مما ثار الجدل فيه في غيبة مراعاة القاعدة: الكي. (1)
تشريح بدن الإنسان:
كان لهذا الموضوع صداه قديماً باقتصار البعض على التمسك بمبدأ تكريم بني آدم وتحريم المثلة (وتحريم كسر عظم الميت في بعض الأحاديث) دون مراعاة المقاصد الأخرى من حفظ النفس بشتى الوسائل المؤدية لحفظها.. ومن تلك المقاصد التي تسعف نصوص التشريع وعبارات الفقهاء بمراعاتها:
شق بطن الأم الميتة لحفظ حياة الجنين، والتشريح لتعلم الطب، ولكشف جريمة.. ومما جاء في ترجمة ابن النفيس (وهو فقيه مشهور، فضلاً عن أنه طبيب) وغيره أنهم كانوا يذهبون إلى المقابر فيلاحظون بعض العظام التي تنكشف عنها القبور القديمة ويراقبون مفاصلها، فضلاً عن تشريحهم بعض الحيوانات، ولا يخفى أن حرمة بدن الإنسان الميت موفورة إذا كان تشريحه لمصلحة أكبر.
ومما يتبع هذا قضية الاستفادة من أعضاء الموتى لتعويض نقص أو تلف في الأحياء، وهي مسألة مركبة من نواح متعددة، ولا تخرج عن نصوص الأمر بالتعاون وقاعدة ارتكاب أهون الضررين المشار إليها.
العلاج بالمحرم أو النجس:
الأصل المنع من ذلك لنفس المقاصد والغايات التي يرمي إليها الشارع في المنع من بعض الأشياء (غذاء كانت أو دواء) واعتبارها محرمة بالنص على تحريمها أو الحكم بنجاستها.
وقد اتجه جمهور الفقهاء هذا الاتجاه المنسجم مع علل المنع ما ظهر منها وما بطن.. على أن بعضهم رأى فسحة في استعمال المحرم أو النجس فيما إذا تعين ذلك دواء للمريض، وأجرى هنا أحكام الضرورة التي يباح معها ارتكاب المحظور.. في حين أبدى الجمهور فرقاً بين الدواء الذي هو مظنون وله بدائل وبين الغذاء الذي به قوام البدن والغنى عنه مطلقاً، فإذا اضطر إليه الإنسان غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه.
__________
(1) غذاء الألباب 2/21-23(8/1247)
وقد استوفى ابن القيم وجوه الحكمة في المنع من التداوي بالمحرمات بعد أن أورد الأدلة الصحيحة على هذا الاتجاه المشهور لدى الفقهاء، وهو يشير إلى أن المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلاً وشرعاً.. لأن تحريمها على الأمة ليس عقوبة، بل هو لخبثها، فحرمت صيانة عن تناولها وحفظها من أخطارها، فلا يناسب العودة إليها للاستشفاء.
وفي اتخاذها دواء ترغيب بها ينافي داعي التحريم إلى تجنبها.. والأخذ بها يكسب النفس من خبثها بالانفعال البين الحاصل بالدواء.. وإباحة التداوي بها يكون ذريعة لتناولها للشهوة واللذة، والشارع يسد ذرائع الفساد.. ولا يخلو الدواء المحرم من أضرار تزيد على ما يظن فيه من الشفاء. ثم أشار إلى سر لطيف في كون المحرمات لا يستشفى بها هو افتقارها إلى عنصر التلقي بالقبول واعتقاد المنفعة والبركة المجعولة للشفاء.. واعتقاد تحريمها يحول بين المسلم وبين تلك العوامل.
ومما يذكر عن ابن النفيس أنه في مرضه الأخير وصف له بعض الأطباء تناول شيء من الخمر، إذ كانت علته تناسب أن يتداوى بها على ما زعموا، فأبى أن يتناول شيئاً من ذلك وقال: لا ألقى الله تعالى وفي باطني شيء من الخمر.
ولعل في هذه العجالة غنى عن تفصيل الكلام في هذا الموضوع. (1)
النظر للعورة للعلاج:
في ظل القاعدة الشرعية المعروفة: الضرورات تبيح المحظورات والقاعدة الأخرى التي تقضي بارتكاب أهون الضررين اتقاء لأشدهما، اعتبر تحريم النظر إلى العورة قاعدة لها مستثنيات لا تختص بطبيب دون غيره.. لكن التطبيق العملي كشف أن العلاج أشهر التطبيقات التي خرجت عن القاعدة.. وليست كلها، فهناك النظر لأداء الشهادة مثلاً، وأمور أخرى قد آلت بالتطور إلى الطب نفسه كما سنرى.
ولا يخفى أن العورة من الرجل ما بين السرة إلى الركبة، ومن المرأة البدن كله عدا الوجه والكفين، والعورة المغلظة هي الفرج وما حوله. وعلى هذا فإن ما فوق السرة وما تحت الركبة هو القدر المباح للنظر إليه من الرجل بالنسبة للرجل، ومن الرجل لمحارمه، ومن المرأة للمرأة، ومن المرأة للرجل، أما نظر الرجل إلى المرأة فالقدر المباح منه هو الوجه والكفان.
__________
(1) لابن تيمية كلام دقيق في التداوي بالمحرم ومناقشته من زعم تعين الدواء في بعض المحرمات. مجموع فتاوى ابن تيمية 4/372 - 376(8/1248)
هذه هي القاعدة في الجملة، أما الاستثناءات التي نوهت بها فهي:
إباحة النظر إلى محل المعالجة، أو لمسه – وهو في الأصل أشد حرمة من النظر- وذلك بالقدر الذي تدعو إليه الحاجة، حتى لو كان ذلك المحل هو السوأتين. ودواعي النظر التي مثلوا بها متعددة، وهي قد آلت كما أشرت إلى الطبيب أو مساعديه والملحقين به في الحكم: القابلة، الخاتن، الممرض، ولمن يعهد إليه بتعرف البلوغ (التسنين) ، ولمن يرجع إليه في معرفة العيوب الجنسية أو البكارة.
ومما حض عليه الفقهاء ستر ما لا يحتاج لنظره من العورة بثوب، والاقتصار على النظر للمحل المعالج. (1)
علاج المرأة للمرأة وعكسه:
من القواعد الشرعية أن نظر الجنس –ذكراً أو أنثى- إلى الجنس نفسه أخف. ولهذا كان الأصل أن تعالج امرأة مثلها.. ومع هذا فقد نص الفقهاء على جواز الاستثناء، وهو معالجة الرجل للمرأة، وذلك حيث لم يوجد أحد من بني جنسها.. ولهم تفصيلات في تقدير الضرورة بين أن يكون (تعذر تأتي المقصود من المرأة) وهذا يتيح المجال لاعتبار الحال الحاضرة، فإذا لم يكن ساعة العلاج العاجل إلا رجل، أو كان الاختصاص المطلوب أو مقدار المهارة فيه لم يتوافر في امرأة، فذلك كله من الدواعي المشروعة.. وصرح بعضهم بأن الرجل يستعين بامرأة فيطلب إليها فعل ما يريد فعله.
الخلوة بالمرأة:
أحكام الخلوة عامة لا إعفاء من مراعاتها إلا في الحالات الطارئة النادرة، كما لو كانت المرأة مسافرة مع زوج أو محرم، ثم فارقها بالوفاة مثلاً.
والخلوة الممنوعة هي الانفراد بالمرأة من قبل رجل ليس زوجاً ولا محرماً. أما انفراد الرجلين بالمرأة، أو انفراد الرجل بالمرأتين، فليس خلوة عند بعض الفقهاء؛ وهذا طبعاً إذا كان الغرض ليس سيئاً.
__________
(1) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني 2/20، حاشية ابن عابدين 6/370(8/1249)
على أن في انفراد الرجلين بالمرأة، وعكسه، خلافاً لبعض الفقهاء ويتعين تفسيره وفقاً لما تدل عليه الوقائع الكثيرة من السنة وعمل السلف، بأنه نوع من الاحتياط الواجب إذا لم تؤمن الفتنة، وأما المتفق عليه فهو ما جاء به الحديث الصحيح: ((ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) .
ولا شك أن الخلوة –على ما صرح به الإمام أحمد وغيره- لا تتحقق إلا في بيت أو نحوه مما يؤمن معه دخول ثالث إلا بإذنهما.
أما ما كان من الأماكن متاحاً دخوله لعامة الناس أو لصنف كالأطباء والممرضين مثلاً فلا تتحقق فيه الخلوة.
استطباب غير المسلم:
التطبيب مهمة خطيرة، فإذا لم تجر في جو من الأمان والاطمئنان كانت ذريعة لإلحاق الأذى بالخصوم، كما أن لذلك أثره نفسياً في شعور المريض نفسه. (1)
من هذا المنطلق، ومما كان يقع من بعض غير المسلمين من مكايد أو غش، ذهب بعض الفقهاء إلى كراهة استطباب غير المسلم، إلا لضرورة. ويدل على مستندهم في الرأي ما أشاروا إليه بقولهم: لعدم الثقة وافتقاد النصيحة، فإذا لم تبق هذه العلة زال الحكم المنوط بها. ولذا يعارض ابن تيمية في القول بالكراهية قائلاً:
(إذا كان اليهودي أو النصراني خبيراً بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطبه، كما يجوز أن يودعه المال وأن يعامله.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستطب الحارث بن كلدة - وكان كافراً - وإذا أمكن أن يستطب مسلماً فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله فلا ينبغي أن يعدل عنه. وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابي واستطبابه فله ذلك، ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهي عنها) .
كما نبهوا على التثبت مما يصفه من الأدوية المركبة لئلا يكون فيها محرم، كما صرحوا بأنه لو أشار عليه الطبيب غير المسلم بالفطر في الصوم، والصلاة جالساً لا يرجع إلى قوله وحده؛ لأنه خبر متعلق بالدين فلا يقبل منه.
__________
(1) يشير صاحب (معالم القربة في الحسبة) في معرض الحض على تعليم الطب بقوله: (هو من فرض الكفاية ولا قائم به من المسلمين، وكم من بلد ليس فيه طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الطب) (ص 166)(8/1250)
من آداب الطبيب
يشير السبكي في بيان ما ينبغي أن يتحلى به الطبيب من آداب بعبارة مستوعبة بالنسبة لقلة ما جاء عن هذا في غيره من كتب الحسبة التي توغلت في بيان ما يكتشف به أهلية الطبيب وما يزاح به الغطاء عن الجهل أو الغش إن وجد، كما أشارت إلى ما يجب علمهم به، وما يقسمون عليه، ولزوم مراعاة الإذن من ولي الأمر ومن المريض أو وليه (1) . يقول السبكي عن آداب الطبيب: (2)
- من حقه: بذل النصح، والرفق بالمريض.
- وإذا رأى علامات الموت لم يكره أن ينبه على الوصية بلطيف من القول.
- وله النظر إلى العورة عند الحاجة بقدر الحاجة.
- وأكثر ما يؤتى الطبيب من عدم فهمه حقيقة المرض، واستعجاله في ذكر ما يصفه، وعدم فهمه مزاج المريض، وجلوسه لطب الناس قبل استكماله الأهلية.
- وعليه أن يعتقد أن طلبه لا يرد قضاء ولا قدراً، وأنه إنما يفعل امتثالاً لأمر الشرع، وأن الله تعالى أنزل الداء والدواء، وما أحسن قول ابن الرومي:
غلط الطبيب علي غلطة مورد
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنما
غلط الطبيب إصابة الأقدار
وهناك آداب أخرى ليست الشريعة مصدرها الوحيد، بل هي من آداب هذه المهنة، مثل كتمان أسرار المرضى والالتزام بمقتضى القسم مما هو معروف. (3)
على أن من الآداب أمراً يخاطب به الجميع ويخص به الطبيب لاتصاله المباشر بالمريض، وهو آداب (عيادة المريض) ، ولا يقلل من شأن هذه المطالبة الخاصة أن يكون بذلك مقتضى مهنته. فإنه إذا نوى –بالإضافة إلى باعث الواجب الوظيفي- الأخذ بهذه الآداب التي هي من تمام حق المسلم على المسلم، كان أداؤه أكمل، لصدور ذلك عن قناعة والتزام ديني ينمو معه الوازع الداخلي بعد رقابة الله عز وجل.
__________
(1) معيد النعم ومبيد النقم، للتاج السبكي (ص 133)
(2) معالم القربة ص (159 – 169) ، نهاية الرتبة ص (89 – 102) ، وغيرهما.
(3) يرجع إلى كتاب (علم آداب الطب) للدكتور شوكت الشطي طبع جامعة دمشق. وكتاب (الطب العربي) للدكتور أمين أسعد خير الله، المطبعة الأميركانية – بيروت.(8/1251)
وقد جاء من التفصيلات لآداب عيادة المريض ما يجعل منها علاجاً نفسياً للمريض، فضلاً عن تحقيق المؤانسة والرعاية له في حال ضعفه وقعوده. وأشير إلى أهم العناصر البارزة في عيادة المريض مما مصدره الشريعة قبل غيرها:
أ- عيادة المريض أدب ديني، للأمر بها والأجر والفضل عليها فيما يلي من الأحاديث:
- ((أمرنا صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض..)) أخرجه البخاري ومسلم. ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس)) أخرجه البخاري ومسلم.
- ((إن الله يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟)) أخرجه مسلم.
- ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع (أي في جناها)) ) أخرجه مسلم.
ب- الدعاء للمريض، بمثل الأدعية المأثورة التالية:
- ((باسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا بإذن ربنا)) أخرجه البخاري ومسلم.
- ((اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)) أخرجه البخاري ومسلم.
- ((باسم الله (ثلاثاً) أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر (سبع مرات)) ) أخرجه مسلم.(8/1252)
- ((أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك)) .
- ((لا بأس، طهور إن شاء الله)) .
- ((باسم الله أرقيك من كل شر يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد؛ الله يشفيك، باسم الله أرقيك)) أخرجه مسلم.
- قراءة المعوذتين والإخلاص والفاتحة.
- ((اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى الصلاة)) .
جـ- السؤال عن حال المريض:
ويكون الجواب في جميع الأحوال: (أصبح بحمد الله بارئاً) إلا إن كان السائل معنيا بعلاج المريض وهو يسأل عن تطور حاله لمتابعة علاجه بما يناسب تلك الحال.
د- الإحسان للمريض واحتماله والصبر على ما يشق من أمره، وذلك من باب الامتثال لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] . وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء..)) .
هـ- كراهية تمني المريض الموت:
لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي..)) والمراد إيصاء الطبيب المريض بعدم الوقوع في هذا المحذور.
و تطبيب نفس المريض:
لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلتم على مريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئاً ويطيب نفسه)) . ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لأحد من عادهم: ((لا بأس)) مع أنه فيه بأس؛ أي: مرض.
ز- الثناء على المريض بمحاسن أعماله إذا رأى منه خوفاً ليذهب خوفه ويحسن ظنه بربه، وفيه أخبار عن ابن عباس مع عمر، وعبد الله بن عمرو مع أبيه عمرو بن العاص، وابن عباس مع عائشة.. لا محل لسردها.
حـ- تشهية المريض: ((دخل صلى الله عليه وسلم على رجل يعوده فقال: هل تشتهي كعكاً؟ قال: نعم. فطلبه له..)) ابن ماجه.
ط - طلب العواد الدعاء من المريض: ((إذا دخلت على مريض فمره فليدع لك، فإن دعاءه كدعاء الملائكة)) .
ولا شك أن طلب الدعاء منه يشعره بالراحة النفسية من حسن نظرة الناس إليه، وأن مرضه كفر عنه كثيراً من ذنوبه، ويجعله يعيد النظر فيما سلف من أمره.(8/1253)
ى- تذكير المريض بعد عافيته بالوفاء بما عاهد الله عليه:
ومما روي في ذلك حوار جرى بينه صلى الله عليه وسلم وبين الصحابي (خوات) بعد أن عوفي من مرضه، حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: صح الجسم يا خوات، فأجابه: وجسمك يا رسول الله، فقال له النبي: فَفِ اللهَ بما وعدته، فقال خوات: وما وعدت الله شيئاً. قال: بلى، ما من عبد يمرض إلا وعد الله خيراً، فف الله بما وعدته.
هذه لمحات في فقه الطبيب وأدبه، وهي للتنويه والتمثيل، لا للاستيعاب، فله مجال آخر.
ومن ذلك يتبين ما للطب من منزلة في الشريعة، وما له من موقع في فقهها وآدابها. ولا أجد للختام أروع من كلمة مأثورة عن: الإمام الشافعي عن التواؤم بين علاج الأبدان، وعلاج النفوس ومشكلات الحياة، حيث يقول: لا تسكن في بلد ليس في فقيه وطبيب.(8/1254)
(3)
مدى شرعية التحكم
في معطيات الوراثة
تمهيد – الوراثة في الطب والتراث الفقهي:
بالرغم من قلة الكتابات في الوراثة، فإن هذا العلم لم يغفله القدامى من الأطباء والفقهاء وغيرهم من العلماء ممن كتب في موضوعات ذات صلة بهذه الحقيقة. ولا سيما بعد أن أشار إليها الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((لعل ابنك نزعه عرق)) في شأن من استغرب أن يولد له من لم يشبهه تماماً، بل أشبه أحد أجداده. على أن جهودهم اقتصرت على (التعرف) إلى خصائص الوراثة، ولم تبلغ آمالهم إمكانية (التصرف) والتحكم فيها، وهو مجال مضى الطب المعاصر فيه أشواطاً أمكن فيها الانتخاب والاستنجاب، والتعديل والتبديل. بعض ذلك آتى كل ثماره المرجوة، وبعض آخر شارف على تحصيل نتائجه أو اعتبرت في حيز الإمكان، على ما وصف المختصون.
ولا تخفى الحاجة إلى بيان الحكم الشرعي لما وقع من قضايا التحكم في الوراثة أو كاد يقع، بعدما قام الأطباء (أهل الذكر في هذا المجال) بالمهمة الضرورية التي لا بد أن تسبق إصدار الحكم، وهي تقديم التصور والبيانات الكاشفة لحقيقة كل قضية، ليسهل إدراكها وتكييف الإجراءات الواقعة فيها، فضلاً عن الأهداف، والفوائد والمحاذير.
وإذا كان لا بد من تقديم تعريف للوراثة قبل الخوض في التصرفات المتصلة بها والمعالجة أو الإلمام بشرعيتها، فإن الوراثة هي:
(انتقال الصفات من الأصول إلى الفروع، أو من السلف إلى الخلف، وهي تشمل –إلى جانب الخصائص- الأمراض القابلة للتوريث) . (1)
__________
(1) تاريخ الطب، الدكتور شوكت الشطي (ص 109) طبع جامعة دمشق(8/1255)
وقبل الانتهاء من هذه التوطئة إلى صميم الموضوع، لا بد من الإشارة إلى أن (التعرف) إلى هذا العلم في بعض معطياته، وسبر أغوار الإنسان في كنه تكوينه، وملاحظة انطواء العالم الأكبر في جرمه الصغير، لهو مما يدخل في تلبية دعوة الله الخالدة إلى التأمل في النفس وإبصار ما استكن فيها من عجيب الخلقة، ويستتبع ذلك الاعتبار والعظة {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] ويتلوه الانتقال من التدبر في الخلق إلى الإيمان بالخالق وازدياد اليقين بقدرته وحكمته واطمئنان القلب إلى وحدانيته في الألوهية والربوبية.
وإذا كان في بعض الدراسات المتصلة بالعلم من حيث هو التفرقة بين النافع وغيره، فإنها لم يقصد بها إلا إطراح فئة من العلوم قامت على الاستخفاف بعقل الإنسان أو تحدي عقدية الفطرة.. أما العلم الذي يصلح أن يكون –فضلاً عن نفعه المادي- مدرجة للنظر في الكون والتفكر في مالك الملك فإنه في دائرة التكليف والطلب.
حفظ النسل من مقاصد الشريعة:
تستمد قضايا الوراثة أهميتها من اتصالها الوثيق بمقصد من مقاصد التشريع، وهو حفظ النسل وصيانة النسب، باعتباره أحد الكليات الخمس التي جاءت الشريعة لصيانتها، وهي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال.. ولتوفير ما يناسبها من صون وكلاءة جاءت أنواع شتى من الأحكام الشرعية، بعضها لا مناص من مراعاته، لأنه يمثل (الضروريات) . وبعض آخر يتلوه في سلم الأهمية وهو (الحاجيات) . وإلى جانبهما يقوم خط آخر للدفاع يمثل (الكماليات أو التحسينيات) ، وهذه الأحكام تحيط الكليات الخمس –وإحداها النسل- بسور منيع يتحقق به الإنذار المبكر، ودفع الأذى أو رفعه.
ولا يتسع المقام لأكثر من هذا التنويه الدال على عناية الشريعة بما يصون ذات الإنسان ومقوماته، ويعزز تكريم آدميته، وأنه مفضل على كثير من الخلق تفضيلاً.
والغرض من هذا تأكيد واجب الحفاظ على صحة الأنساب وتمايزها، والتبصر عند الإقدام على أي تصرف من شأنه المساس بهذه القضية الأساسية، وملازمة الطرق الطبيعية المرسومة بالفطرة لابتغاء ما كتب الله للإنسان من نسل صحيح صالح {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189] .(8/1256)
ومن هذه الآية وأمثالها يتبين أن الزواج هو السبيل الآمنة التي ألهمها الله خلقه لبقاء النوع الإنساني، وأن فيها وحدها يتحقق السكن والمودة والرحمة، وأن العزوف عن هذه الطريق والتنكب عن هذه الجادة يعرض الكلية الأساسية التي هي (بقاء النسل وحفظ النسب) إلى هزات عنيفة تجتثها من جذورها، فتزهق معها حقائق ذات شأن؛ لأنها يرتكز عليها بقاء المجتمع الإنساني وسعادته؛ كعلاقة الأبوة والأمومة وما يتصل بهما، وقواعد النفقة والميراث، وأصول التكافل الأسري، وهو ما تنظمه أحكام الأحوال الشخصية للإنسان (حقوق العائلة) .
أنواع التحكم في معطيات الوراثة:
إن الصور المطروحة على بساط البحث لا تعدو ثلاثة أنواع هي:
1- النسخ – (أو الاستنساخ) وهو الحصول على نسخ من الكائن بغير التزاوج.
2- المزج بين صفات وخصائص معينة في المخلوق بالتصرف في مورثاته.
3- استصفاء جنس معين باستبقاء عنصره في الطور الأول للجنين.
ولكن هذه الأنواع ليست آخر ما يمكن الوصول إليه من معطيات، لذا كان المفضل تناولها ضمن تقسيم آخر يلحظ فيه الغاية، هل هي وقائية أو علاجية أو سواهما من الأغراض؟.. وهذا كله بعد أن أخذت هذه المعطيات في الظهور مع تقدم علم الوراثة واكتشاف الراموز (الشفرة التي تحكمه) .(8/1257)
الأسباب الوقائية والوراثة
سبقت الإشارة إلى أن من بين ما شرعه الله عز وجل قواعد خاصة لصيانة النسل من أن يلحق به ما يخل بسلامته أصلاً أو يحدث به ضرراً بليغاً أو أذى مهيناً، وقد ظهرت هذه التشريعات في صنفين من الرعاية:
أحدهما: وقائي يسبق وقوع الخطر فيوجد ما يدرؤه ويبعده أو يجعل أثره ضعيفاً مستهلكاً.
والآخر: علاجي تدعو إليه حاجة طروء السقم ودواعي التلف الذي يلحق به، وهو متناول بعموم النصوص في التداوي والعلاج لإصلاح ما يطرأ على الطبيعة وإزالة الأدواء والعلل بالوسائل التي لا يلابسها محرم.
فأما التصرفات الجارية مجرى الوقاية فهي باب مفتوح على مصراعيه، فللإنسان أن يسعى جهده لاتقاء ما يصيبه من سوء.. سواء كان الضرر المخوف لحوقه خلقياً مصاحباً لوجود الإنسان، أو طارئاً عليه مبدلاً ما هو عليه من فطرة سوية.
فالوقاية والاحتراس مأمور بهما بأي وسيلة صحيحة نقية من الشوائب، والنصوص الشرعية في هذا كثيرة، نقتصر منها على ثلاثة أمثلة شديدة الصلة بموضوع الإنجاب، ويتبين منها الدعوة الصريحة للأخذ بما يقي النشء منذ أول مظهر من مظاهر التأثير الوراثي وهو (الزواج) حيث يلتقي شطرا النشأة لوجود السلالة:
الأول- قيام كل من الزوجين بتخير الآخر، والأمر موجه للزوج؛ لأنه هو المتولي عادة للخطبة وإبداء الرغبة، ففي الحديث الذي روي من طرق عديدة لكنها ضعيفة: ((تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم)) رواه الحاكم والبيهقي وابن ماجه.
وفي رواية ابن عدي وابن عساكر: (( ... فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن)) رواه البيهقي بلفظ ((الناس معادن، والعرق دساس، وأدب السوء كعرق السوء)) ، ورواه الديلمي بلفظ: ((تزوجوا في الحجر الصالح؛ فإن العرق دساس)) ، وفي لفظ رواه أبو موسى المديني: ((انظر في أي نصاب تضع ولدك؛ فإن العرق جساس)) (1)
__________
(1) تخريج أحاديث الإحياء، استخراج محمود الحداد، (2/ 971)(8/1258)
الثاني- تحاشي الزواج بالقريبات،؛ تفادياً لضعف السلالة، وفي ذلك أثر عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال لآل السائب: قد أضويتم فانكحوا في النزائع. أي الغرائب، رواه إبراهيم الحربي في غريب الحديث، وأبو نعيم في فضل النفقة، وفي حديث مختلف في صحته: ((الناكح في قومه كالمعشب في داره)) ، وفي أثر آخر: ((اغتربوا لا تضووا)) (1) وهذا المعنى مما عرفته العرب وكررته في أشعارها كقول أحدهم:
إن بلالاً لم تشنه أمه
لم يتناسب خاله وعمه
وقول الآخر:
تنجبتها للنسل وهي غريبة
فجاءت به كالبدر خرقاً معمماً
(2)
وفي محاذيره يقول أحدهم:
ذاك (عبيد) قد أصاب (ميا)
يا ليته ألحقها صبيا
فحملت فولدت ضاويا
الثالث- تحاشي العدوى ونقل الأمراض المعدية أو الوراثية للأصحاء، ولاسيما عند الإقدام على الزواج، قبل الاستشفاء من تلك الأمراض التي يسهل انتقالها للسلالة، وفي ذلك ورد الحديث الصحيح: ((ولا يوردن ممرض على مصح)) أخرجه البخاري ومسلم، وكذلك حديث: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)) أخرجه البخاري وأحمد في المسند.
__________
(1) شرح الإحياء للزبيدي 5/ 348
(2) غريب الحديث للخطابي 2/ 549(8/1259)
أثر الهدف في الأسباب العلاجية الوراثية
يختلف الحكم الشرعي على الإجراءات أو التصرفات الواقعة في مجال الوراثة تبعاً للهدف المبتغى من الفعل، وإن مراعاة الغاية هنا مبعثها الموازنة بين المفاسد والمصالح، أو المضار والمنافع، وهي موازنة مطلوبة شرعاً، انطلاقاً مما قرره علماء أصول الشريعة من أنه لا يوجد –إلا نادراً- ما يتمحض للنفع والصلاح دون أن تشوبه شائبة من الضرر في الدين أو البدن أو المال، وإنما تكون العبرة بالأغلب، أي حيث تتحقق المصلحة الراجحة على ما يقع من ضرر بفعلها، ويعتبر هذا من ارتكاب أخف الضررين تفادياً لأشدهما.
مراعاة سلامة الوسيلة:
فضلاً عن مشروعية الهدف لابد من مراعاة مشروعية الوسيلة أيضاً بأن تكون أمراً حلالاً يمكن به تجنب الإنسان شيئاً من المخاطر الناتجة عن الوراثة من أبيه وأمه، وهذا السعي لتحصيل النفع مأمور به في نصوص شرعية كثيرة، منها الحديث الشريف: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز ... )) .
ومن الواضح أن حرص الإسلام على الجمع بين نبل الهدف والوسيلة معاً نابع من اعتبار التكليف مستمراً وشاملاً لأي تصرف معنوي أو مادي، وأن للوسائل والإجراءات حكم المقاصد والغايات، فليس في الإسلام فكرة الغاية الصالحة تبرر الوسيلة الفاسدة، فإن التعبد والامتثال شامل للنية والفعل.. ولا يعني هذا أن يخلو الإجراء من محاذير، بل المراد أن تكون المصلحة أساسية وأن يربو ما فيها من نفع على ما يستتبع حصولها من محاذير، وأن تكون الوسيلة لتحصيلها هي في ذاتها فعل مشروع بقطع النظر عن اقترانها بالهدف والغاية.
ومن هنا يتبين أنه لا يصلح بحال من الأحوال أن يكون هدفاً مشروعاً الرغبة في التكاثر أو التشهي أو العبث أو الإفساد، وهو ما يلحظ استحواذه على معظم التجارب والتصرفات في هذا المجال بسبب الحضانة في بيئات لا تقيم لمعيار الحلال والحرام أي اعتبار.
ونخلص مما سبق إلى أن هناك ضوابط ومنارات تحوط وتنظم أي تحكم يتطلع إليه في معطيات الوراثة، ولعل أهمها: البعد عما ينشأ عنه تغيير الخلقة كالتصرفات التي تزيد أو تنقص في الطبيعة الأصلية التي فطر عليها الإنسان بداعي التجميل أو الرغبة في الحسن، أو غير ذلك من أغراض غير مشروعة؛ ذلك أن هذا التغيير قد وسمته النصوص الشرعية بأنه استجابة لأوامر الشيطان {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] . ولا يدخل في هذا ما يقع لتلافي الضرر والأذى اللاحق بالإنسان، أو الناشئ معه بصورة مغايرة للمعتادة في جنسه، أي: لا يدخل فيه ما يستهدف به العلاج أو الوقاية.
كذلك يجب الحذر من تبديل الفطرة والسجية التي طبع الله الناس عليها من حيث الميول التي تخلق مع الإنسان قابلة للخير والشر، ومستعدة للتأثير الصالح أو التغيير المفسد، والمراد إدانة تلك التصرفات في السجايا بغير وسائل التقويم المشروعة، مما يخرج الإنسان عن إنسانيته المتكافئة في النوازع؛ ليتحول إلى الاستحذاء والطاعة العمياء، أو التمرد والجموح الشرس.(8/1260)
الاستنساخ
بالرغم من أن التصور الوافي لهذه القضية تكفل به المختصون فيما قدم من بحوث علمية، فإنه لابد من إعادة التعريف بصورة موجزة ليمكن الربط بين الواقعة وحكمها.
فالاستنساخ أو النسخ يريد به المختصون محاولة تقديم كائن أو خلية أو جزيء يمكنه التكاثر عن غير التلقيح ومن غير نقص أو إضافة للمحتوى الوراثي.
هذا التصرف إن كان في مجال الحيوان، وبالأولى في النبات، فإنه لون من ألوان التنمية والتثمير لما سخره الله للإنسان وفسح له فيه سبل التصرف مما ليس فيه تعذيب ولا تبديل عابث للخلقة، ومن وجوه التحكم هذه صورة كانت في عهد التشريع الأول وشملها حكم التقرير والمشروعية؛ لأن التصرف في الحيوان والنبات هو تصرف في المال بما يزيده ويجوده، فقد امتن الله على الناس بوجود الخيل والبغال، مع أن هذه الأخيرة نتيجة تلاقح مستجلب فيه مخالفة النوع، كما ورد الحث على التمكين من عسب الفحل واستنجاب الأعراق، وليس هذا من الخلق أو الإبداع في شيء، فهو سلوك لأسباب مادية يحدث عنها من النتائج ما قدره الله، والكون كله مسخر للإنسان، وقد هداه الله لتدبير وجوه الانتفاع به وتوفير خيراته.
أما بالنسبة للإنسان فإن قضية النسب المعدودة إحدى الكليات الخمس الموصى بصيانتها فهي إحدى الضوابط الجوهرية التي تعصم من اقتحام المخاطر غير المحصورة والعصية عن السيطرة.
كما تخفى خطورة النظر إلى الإنسان كأنه مما يتخذ للتكاثر فيه بما يشبه التمول، كأنه من السلع الخاضعة للتنمية، وكذلك خطورة المساس بالعلاقة المتينة التي أوجدها الله في الزواج ليكون من آثاره حصول الأولاد وانتسابهم.
فالإقدام على تطبيق الاستنساخ في الإنسان لا ينفك عن الوقوع في تجهيل الأنساب وانقطاع التناسل الذي ناط الله به القرابة بأنواعها، وقد تناول الحظر صوراً عديدة تؤدي لجهالة النسب أو لإدخال التنازع فيه، فمما حرمه الله:
- نفي الأنساب الثابتة، سواء كان النفي من نفس المحمول عليه النسب إذا كان لا يعلم قادحاً في النسب، لكنه نفاه باطلاً وزوراً، وهو ما كان معروفاً في الجاهلية باسم (الخلع) بفتح الخاء.
وكذلك إذا كان النفي من غيره، وما هو يستوجب عقوبة القذف من الحدود الشرعية المنصوص عليها {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] .(8/1261)
- تضييع العائل من هم في عياله –ففي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: ((كفى إثماً أن تحبس عمن تملك قوته)) ، وفي رواية لأحمد: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)) .
- تحريم التبني، وهو إخراج النسب من الربط بالحقائق الشرعية إلى محض الادعاء والهوى {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] .
- اختلاط الأنساب: سواء حصل بالزنى {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] أو حصل بالزواج بمن لا تزال في عدة الغير، وفيه الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره)) أي: إتيان الحبلى من غيره.
- كما تناول التحريم كل ما يؤدي إلى قطع التناسل أو إضعافه أو تغيير طرقه التي وقعت موقع الفطرة، كالاختصاء أو الرهبانية أو شتى أنواع الشذوذ عن التمتع الحلال.
أضف إلى ذلك ما تقتضيه مراعاة مبادئ تكريم البشر الذين سخر الله لهم الكون من أن يكونوا محلاً للتصرفات المهينة.
ومن هذا يظهر بوضوح أن الاستنساخ في مجال الإنسان هو من مواطن الحظر، وأن ما يبذل في سبيل ذلك من جهود هي كذلك إلا بالقدر الذي تتطلبه أغراض العلاج والتداوي.(8/1262)
الاستبدال
لعل هذه الكلمة تصلح للتعبير عما تتطلع إليه المحاولات في مجال الوراثة بإيجاد ما يعتبر بدائل عن الوضع الأصلي من خصائص وخصال في الإنسان كانت ستظل معه لولا التدخل باستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير في الواقع، وإن كان الغرض متجهاً إلى عكس ذلك.
والاستبدال هو كما عرفه المختصون: التعويل على ما للحامض النووي من خصائص، لاسيما خاصة الالتحام عند قصه بحيث يمكن التحكم في إبدال المورثات من خلال عمليات معقدة يعود تحقق نتائجها إلى الخصائص في الحامض المذكور.
وبناء على ما سبق من تفصيل في اعتبار الهدف يختلف الحكم على هذه التصرفات تبعاً للقصد، فإن اتجه إلى العلاج من علة، سواء كانت مرضاً وراثياً قائماً بالجسم أو انحرافاً في الطبيعة الأصلية أو تقاصراً عن القدر المألوف فيها فإنه مما يندرج في التصرفات المشروعة، إن لم يكن على سبيل الوجوب فعلى وجه الندب أو الإباحة، لأنه من جنس المأمور به في نصوص الشريعة الداعية إلى التداوي وإزالة الضرر ودرء المفسدة وتحصيل النفع والحرص عليه.
ولكن ما الحكم إن اتجه القصد أو أدت الوسيلة إلى تغيير الخلقة أو تبديل الفطرة على سبيل العبث والإفساد للانحطاط من الخلق السوي إلى أحد طرفي قصد الأمور من المبالغة في الطباع الحليمة الهادئة المغرقة في الجانب الخير كالملائكة، أو الانحراف بالسجايا عن الوضع الطبيعي المحايد المحقق للتوازن إلى صفة العجز والاستخذاء والانقياد اللاإرادي، أو التوغل في الميول الشريرة التي تنحدر بالإنسان إلى حضيض الشياطين والمردة، وهذا كله خلاف ما خلق الله عليه الإنسان في فطرته من القابلية للخير والشر على حد سواء، إلى أن يطرأ مؤثر ما {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] .
مما لا يساور معه الشك أن في ذلك تبديلاً للفطرة المنهي عن تبديلها، وقد حرم الله كل ما يؤثر على الطبيعة الأصلية للإنسان سواء كان بأسباب مادية منضبطة كالإسكار والتخدير والإكراه الملجئ، أو بأسباب أخرى خاصة كالذي يتعاطاه السحرة النافثون في العقد، أو الحسدة هواة الإصابة بالعين، أو المرجفون وأهل التحريض على الشر أو التثبيط عن الخير باستغلال الهوى الجامح، أو الطيش البين، أو الغفلة والسذاجة، وما إلى ذلك من المؤثرات المعنوية أو النفسية السلبية أو المفسدة فلا يقل عن هذه التصرفات في الخطورة ما يصل إليه الإنسان من نتائج بالوسائل المادية المختبرية والإجراءات الطبية، فكل من هذا وذاك استجابة لأمر الشيطان ومطاوعة لنزغاته بالقيام بالتصرف المعتبر سبباً ينشأ عنه مسببات منسجمة مع ذلك التغيير، فإن الله ربط الأسباب بالمسببات، والحكم كما يتعلق بالفعل المباشر يتعلق بالتسبب إذا ما توافرت صلة السببية.(8/1263)
القواعد الشرعية في تغيير الخلقة:
جاء في ذلك آية وحديثان صرحا بأن تغيير خلق الله هو من استجابة الناس لما يأمرهم به الشيطان على سبيل الغواية لهم والإضلال:
أما الآية فهي قوله تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) } [النساء: 117- 119] .
حيث أشارت الآيات الكريمة إلى أن تبتيك الأنعام أي تقطيعها وتغيير خلق الله بمثل قطع الآذان وفقء الأعين هو من المحرمات، ومن فعل الشيطان وأثره.
أما الحديثان فهما ما رواه عياض المجاشعي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي فيما يرويه عن ربه: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وأمرتهم أن يغيروا خلقي)) أخرجه مسلم.
وما رواه ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)) أخرجه مسلم. أيضاً وقد حمل جماعة من المفسرين هذا التغيير على أنه إشارة إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن وهو قول ابن مسعود والحسن البصري: والوشم غرز ظاهر الجسم بإبرة ثم حشوه بالكحل أو النئور (دخان الشحم) فيخضر، ومما يجري مجرى الوشم التنمص وهو قلع الشعر من الوجه، والتفلج وهو صنع تحزيزات في الأسنان تفعله المرأة الكبيرة للتشبه بالشابة.
والمعنى الذي حرمت لأجله هذه الأمور هو تغيير خلق الله تعالى كما قال ابن مسعود، وهو أصح الآراء كما قال القرطبي (1) ، ورجحه على قول من تكلف تعليلاً لا يشير إليه النص، وجعل المعنى في النهي للتدليس وكذلك تظل هذه التصرفات مما تشمله الآية عند من حمل (التغيير) على ما حصل لبعض المخلوقات التي هي للاعتبار والانتفاع، حيث جعلوها معبودة لأمر الشيطان، وهذا النهي إنما هو فيما يكون باقياً؛ لأنه هو الذي يتحقق فيه تغيير خلق الله، فأما ما لا يكون باقياً كالكحل والزينة فلا شيء فيه ولا يدخل في هذا المنع.
__________
(1) تفسير القرطبي 5/ 391(8/1264)
ومع أنه استثنى من النهي الوسم، وهو إحداث علامة في الحيوان بالكي، وهو جائز في غير الوجه، فقد اختلف في خصاء الحيوانات، أما الخصاء في الآدمي فلم يختلفوا في أنه لا يحل ولا يجوز؛ لأنه مثلة وتغيير لخلق الله تعالى، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قصاص؛ قاله أبو عمر بن عبد البر.
وقد بين الإمام الطبري أن في هذا الحديث دليلاً على أنه: (لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة أو نقصان التماس الحسن لزوج أو غيره، سواء فلجت أسنانها أو وشرتها أو كان لها سن زائدة فأزالتها أو أسنان طوال فقطعت أطرافها {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] وذلك يخرج الناس عن فطرة الله، فيشمل هذه المعاصي أيضاً لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي لأن كل ذلك تغيير خلق الله، قال عياض: ويأتي على ما ذكره (الطبري) أن من خلق بأصبع زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه؛ لأنه من تغيير خلق الله، إلا أن تكون هذه الزوائد تؤلمه فلا بأس بنزعها عند (الطبري) وغيره (1)
* * *
الاستصفاء
لعل هذه التسمية تؤدي المراد من عبارة التحكم في جنس الجنين بعد تشخصيه.. فهو من باب الاصطفاء لأحد الجنسين على الآخر.
وإن هذا التحكم إذا ما تم بوسائل صحيحة فهو سائغ كما يسوغ الدعاء بطلب جنس معين، ومن المقرر أن ما يحرم فعله يحرم طلبه، وأن من شروط الدعاء ألا يسأل أمراً محرماً.
وقد سأل نبي الله زكريا عليه السلام أن يرزقه الله ذكراً ليصبح ولياً يرث من ميراث النبوة، وفضلاً عن ذلك فما كان يجري على مرأى ومسمع المفسرين والفقهاء وضمنوه بعض كتبهم ما كان يسلكه الناس من وسائل أخرى يظنون تأثيرها في الحصول على هذا المقصود بقطع النظر عن مدى صلتها بالحقيقة.
ومثل هذا المسعى إذا جاء على نطاق فردي شخصي لا غبار عليه، وهو بمنأى عن توهم منافاته لحصر العلم بالأرحام في جملة الأمور الخمسة التي استأثر الله بعلمها، فإن ذلك العلم ليس حاصلاً بوسيلة ولا هو مسبوق بجهل ولا هو محفوف بظن وتردد كعلم الناس، فضلاً عن أن الآية جاءت في مورد التحذير مما كان مادة خصبة للكهان والمنجمين، ورتب عليها خطورة الجزم بذلك على أنه علم موهوب، أما إن كان الإخبار ناشئاً عن عادة أو وسائل فإنه ليس في حيز النفي.
وكما يقول القرطبي المفسر: قد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم لله تعالى وحده (2)
__________
(1) تفسير القرطبي 5/ 393
(2) تفسير القرطبي 7/ 2 وفيه نماذج 14/ 82(8/1265)
وهنا يثور اشتباه آخر هو المنافاة لإرادة الله وإيجاد الموانع من نفاذ المشيئة كما قيل، وهو ادعاء عجيب؛ لأن مراد الله لا يعرف للإنسان إلا بعد وقوعه، وإرادته تمضي طبقاً لما يشاء سبحانه، ولا راد لأمره، وهذا مقتضى العقيدة الإيمانية الصحيحة في مسألة القضاء والقدر، فالعلم بالمقدور علماً سابقاً لوقوعه هو مما اختص الله به ولا يتخلف عنه القضاء الواقع، وإن الذي يقع فعلاً مهما تخللت من أسباب شتى أو قامت من موانع وصوارف هو المقدور المغيب، سواء كان ظهوره إلى عالم الشهادة مباشرةً للأسباب الظاهرة أو عقب تدخل أسباب غريبة عن مجرى الأمور المعتادة، مما يستدفع به المكروه أو يستجلب به المرغوب، وما قواعد الوراثة إلا نظم وأسباب كونية أودعها الله في مخلوقاته يرفعها متى تعلقت بذلك إرادته، سواء كان ارتفاعها حلالاً أو حراماً؛ ذلك أن الحرام وازعه هو ما في نفوس المؤمنين من منزلة الخطاب والقوى الرادعة عن عصيانه وليس هو الموانع القهرية في صورة المعجزة أو العقوبة المعجلة.
والإرادة الإلهية نوعان: إرادة كونية نافذة دون الحاجة إلى فعل يقدم عليه المخلوق، أو كف يصدر منه، بل يسخر الله من الأسباب ما يكفل نفاذ تلك الإرادة، وإرادة أخرى شرعية تقتضيها النصوص الآمرة أو الناهية، وهي نافذة بالالتزام والمراعاة، أو معطلة بالتمرد والعصيان أو الإهمال؛ لأنها مناط التكليف وموضوع الخطاب.
وابن تيمية ممن أشار إلى الفرق بين نوعي الإرادة، وأوضح اللبس الناشئ عن عدم التمييز بينهما، وكمثال شرعي متشابه؛ قضية التحكم في أصل الإنجاب نفسه بالعزل فقد جاء فيه الحديث عن جابر: ((أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) أخرجه مسلم في صحيحه.
والملحوظ أن أكثر هذه القضايا المطروحة في ظروف المسلمين الحاضرة ليس في الوسع سد ذرائعها بمعالجتها عن طريق الحكم التكليفي القاضي بالطلب أو الكف؛ بل إنها تمثل أمامهم من خلال الواقع بخيرة وشره، ولابد حينئذ من بحث ما يترتب على ذلك من آثار (وهو ما يسمى بالحكم الوضعي) بقطع النظر عن كون الفعل حلالاً أو حراماً، ولا يخفى أنه لا تزال أحكام الشريعة هي المطبقة في هذه القضايا في العالم الإسلامي كله لأنها من قطاع الأحوال الشخصية.(8/1266)
وإن التبعية للغرب الذي لا يقيم وزناً للحل والحرمة هي العائق عن تناول هذه القضايا في بداياتها قبل أن تتفاقم للتعرف إلى الحلال البين والترحيب به، والتنبيه إلى الحرام البين واجتنابه، وتبقى بعض المشتبهات التي تتقى ويحتاط في البعد عنها استبراء للدين والعرض كما أشار إلى ذلك الحديث المعروف.
هذا وإن الذي يمدنا بالحلول والمعالجات للآثار والنتائج هو ما في الشريعة من غنى مصدره ما بنيت عليه من قواعد ومراعاة معاني النصوص وعللها، وهي لا تتناهى ولا تضيق بكل ما يجد من حوادث وقضايا؛ على سبيل التنويه؛ فإن من الصيغ الشرعية التي تتصل بهذه الموضوعات أحكام النسب إثباتاً ونفياً وأحكام اللعان وأثر الولادة التي ينشأ عنها النسب بصورة طبيعية، مهما كانت ملابسات الحمل، حتى باستدخال النطفة بتعبير الفقهاء، وقاعدة ((الولد للفراش وللعاهر الحجر)) ، وهو نص حديث صحيح يعتبر على رأس النصوص المنظمة لهذه الزمرة الهامة من أحكام الشريعة.
الدكتور عبد الستار أبو غدة(8/1267)
مسؤولية الطبيب
إعداد
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
مسؤولية الطبيب
أصبح الناس أكثر من أي وقت مضى في حاجة ماسة إلى الاستعانة بالأطباء مما يصيبهم من أمراض أو إصابات حادثة مما جعل المؤسسات الطبية اليوم من أهم المرافق التي تعنى بها الدول وتعمل على ترقيتها بأحدث الآلات وتزويدها بأمهر الأطباء، وكذلك أصدرت معظم دول العالم لوائح تنظم المهنة فتقصرها على الأطباء المؤهلين الذين أمضوا فترات طويلة منظمة في دراسة علمية وعملية لأصول هذه المهنة وقواعدها حتى يستطيع الناس أن يأمنوهم على أبدانهم وأرواحهم. ومما لا خلاف فيه أن أي شخص لا تنطبق عليه مواصفات اللوائح لا يحق له ممارسة الطب، وإذا فعل فهو مسؤول مسؤولية جنائية مدنية عن جميع تصرفاته وما ينتج عنها من أضرار.
وفي زمان النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقبله لم تكن هنالك دراسات علمية وعملية لأصول هذه المهنة وقواعدها كما هو معروف اليوم، بل كان الطب عندهم وفي معظم بلدان العالم صنعة موروثة لدى طبقة معينة من الناس، فيهم من ادعى أنه إلهام إلهي خصهم به الرب كابراً عن كابر، أو أسرار موروثة في أسر معينة تناقلها الأبناء من الآباء والأجداد، وأصبحوا معروفين بتلك المهنة واستفاضت إصابتهم في التطبيب حتى صاروا معروفين، ويلجأ إليهم خاصة للعلاج. وعلى العموم، لم تكن ممارسة أعمال الطب مقصورة رسمياً على أشخاص معينين كما هو الحال في التنظيمات الحديثة المعاصرة.(8/1268)
واستمر الحال كذلك إلى أن أبان النبي محمد صلى الله عليه وسلم تحديد مسؤولية الأطباء وإيضاح الفرق بين العالم بالطب والجاهل به. جاء في حديث هام جدا، ويعتبر أساساً قيماً في تحديد مسؤولية الأطباء، حيث روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تطبب ولم يعرف الطب فهو ضامن)) (1) وبناء على هذا الحديث أجمع أهل العلم أن من تطبب وهو جاهل فهو مسؤول مسؤولية كاملة جنائياً ومدنياً عن فعله. وهذا المبدأ الإسلامي المنبثق من الحديث الشريف هو الذي دفع كثيراً من الفقهاء بالحجر على المتطبب الجاهل ومنعه من مزاولة الطب؛ لما في ذلك من خطورة على الناس، واعتبروا هذا المنع من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2) كما جاء في مذهب الحنابلة أن مزاولة الطب من غير حاذق في فنه يعتبر فعلاً محرماً (3) وما أجمل قول القاضي برهان الدين إبراهيم بن فرحون المالكي في كتابه (تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام) عند كلامه على ضمان الصناع والأطباء، قال: وإن كان الخاتن غير معروف بالختن والإصابة فيه وعرض نفسه، فهو ضامن لجميع ما وضعنا في ماله، ولا تحمل العاقلة من ذلك شيئاً. وعليه من الإمام العدل العقوبة الموجعة بضرب ظهره وإطالة سجنه. وهذا المبدأ نفسه هو الذي دفع الخليفة العباسي المقتدر بأن يأمر طبيبه سنان بن ثابت بن قرة الحراني أن يمتحن أطباء بغداد في وقته، وأن يمنح من يرضاه في علمه وعمله إجازة لما يصلح أن يتصرف فيه من الطب، وأمر الخليفة محتسبه أن يراعي ذلك، فلا يأذن في العلاج إلا لمن يحمل إجازة من سنان الذي توفي سنة 331 هـ. (4)
وفيما ذكر دلالة واضحة إلى إرساء قواعد التخصص والمسؤولية في مهنة الطب في الدول الإسلامية منذ ذلك الزمان السالف، وعليه لا يكون محل خلاف من أحد أن التسرع لا يؤيد فقط بل يوجب إصدار مثل هذه اللوائح التي تنظم كيفية ممارسة الطب وقصرها على المؤهلين المقتدرين ممن درسوا وتمرنوا حتى يسلم أفراد الأمة من الوقوع في الهلكة.
__________
(1) هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة. وانظر حاشية الرملي على شرح الروض في فروع الشافعية: 4/166
(2) الدرر شرح الغرر: 2/628
(3) المغني لابن قدامة: 6/120
(4) إخبار العلماء بأخبار الحكماء: للقفطي، طبعة الخانجي ص 130(8/1269)
مسؤولية الطبيب المأذون له بالطب:
إذا أذن المريض وأدى الطبيب المأذون له بالطب واجبه بما ينبغي عليه من حيطة ومراعاة لأصول المهنة ثم مات الشخص المريض أو تلف له عضو فلا شيء على الطبيب، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن الخطأ إنما هو في الآراء أو الوسائل الفنية المختلف عليها بين الأطباء، أو فيما تتفاوت فيه قدراتهم وتجاربهم، فلا يسأل عنه مهما كانت النتيجة ... والسبب هو ضرورة إعطاء الطبيب المعالج الحرية اللازمة للإقدام. ولكن قد يخطئ الطبيب أو يهمل فيصف دواء خاطئاً، أو يبتر عضواً سليماً، أو يجري عملية جراحية خاطئة وخارجة عن المألوف، فيموت من جرائها المريض أو يشفى بعاهة مستديمة، والمبدأ العام هو عدم مسؤولية الطبيب جنائياً في هذه الحالة، وذلك للأسباب الآتية:
1- انعدام المسؤولية الجنائية يرجع إلى رضا المجني عليه وإذنه للطبيب المخطئ بالتدخل، وهذا الإذن من المريض أو من ولي أمره في الحالات التي تبرر اللجوء إلى ولي الأمر كاف للقول بعدم مسؤولية الطبيب جنائياً واعتبار عمله مشروعاً؛ وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، حتى إن بعضهم بالغ فقال: إنه لو قال شخص لآخر: اقتلني أو اجرحني ففعل فلا يقتص منه؛ لرضا المجني عليه بالفعل.
والخلاصة هنا أن الذي يفهم من آراء الفقهاء أنه يشترط أن يكون تدخل الطبيب بناء على رضا المريض أو إذن وليه إن كان قاصراً أو غير مدرك، ولا يحق لطبيب أن يتولى علاج إنسان بغير رضاه، فإذا اختار إنسان أن يبقى مريضاً دون علاج فله ذلك ولا يمكن إرغامه. إلا أننا نقول: إن واجب اتباع السنة يملي على كل مسلم مريض يمكن علاجه أن يتعالج؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد. قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: الهرم)) . وكما جاء في طبقات ابن سعد عن عائشة: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً مسقاماً، وكان العرب تنعت له فيتداوى بما تنعت به العرب، وكانت العجم تنعت له فيتداوى)) . (1) ونرى كذلك أن لولي الأمر إذا رأى إنساناً يهلك نفسه بعدم تعاطي العلاج أن يرغمه على ذلك. وإذا كان مرضه معدياً فللحاكم أن يجبره على العلاج كما له أن يحجر عليه مخالطة الناس كما في نظام الكورنتينات، وكما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان الوباء بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها)) . وللمريض الحق كاملاً في اختيار الطبيب الذي يعالجه إذا كان مختصاً بذلك المرض؛ لأن الثقة بين المريض والطبيب عنصر هام من عناصر العلاج. وفقهاء الشريعة يشترطون الإذن صراحة لنفي مسؤولية الطبيب. (2) وتشدد كثير من الفقهاء في مسؤولية الطبيب الذي يجري عملية جراحية بغير إذن أو رضا المريض، واتفقوا على مسؤوليته عن فعله، ولكن اختلفوا فقال بعضهم: إنه يسأل عن فعله مسؤولية عمدية فيعاقب بعقوبة الجرح العمد، وذهب آخرون إلى أن المسؤولية في هذه الحالة تعتبر عمدية وعليه الضمان.
__________
(1) طبقات ابن سعد، 1/116
(2) المغني 6/121، الشرح الكبير 6/124، المهذب 2/306، الهداية والعناية 7/206(8/1270)
2- وأيضاً فإن انعدام المسؤولية الجنائية يرجع إلى انعدام القصد الجنائي الذي ترتكز عليه كل الجرائم العمدية.. ومتى انعدم القصد الجنائي انعدمت المسؤولية الجنائية خاصة في مثل هذه الحالات التي يقصد فيها الشخص المعالج وهو الطبيب شفاء المريض ونصحه ... فالنية طيبة وليست آثمة، ولكن أخطأ في الإقدام دون إذن المريض. ومع ذلك نقول: إنه يجب التفريق بين القصد الجنائي الذي تكلمنا عنه وبين الباعث الذي يجب أن يكون موافقاً للشرع. فالطبيب الذي يقدم على تطبيب أو عملية جراحية بباعث يخالف مبادئ الشرع يعتبر مسؤولاً جنائياً ومدنياً، فالطبيب الذي يستأصل مبيض امرأة بناء على طلبها ولم تكن حالتها الصحية تستدعي ذلك، أو قتل مريضاً لا علاج له ليريحه من معاناة الآلام يقع تحت هذه الطائلة.
3- وإذا تجاوز الطبيب حدوده متعمداً فمسؤوليته عمدية. أما إذا تجاوز حدوده مخطئاً فمسؤوليته غير عمدية. جاء في كتاب متن الأمير وحاشية حجازي العدوي عليه: أنه إذا جهل الطبيب ضمن، وظاهره أن الضمان عليه في ماله وهذا ظاهر سماع أشهب. ويضمن أيضاً إذا قصر كأن أراد قلع سن فقلع غيرها خطأ أو تجاوز بغير اختياره الحد المعلوم في الطب عند أهل المعرفة، كأن زلت أو ترامت يد فاتن، أو سقى عليلاً دواء غير مناسب للداء معتقداً أنه يناسبه وقد أخطأ في اعتقاده. (1) وإذا خلع الطبيب سناً غير المتفق عليها، فإن كان ذلك عمداً فعليه القصاص وإن كان خطأ فالعقل. (2)
وجاء في مذهب الحنابلة أنه لا ضمان على ختان ولا حجام ولا متطبب إذا عرفوا بطبهم ولم تجن أيديهم. وإذا لم يعرف عنه طب فالضمان عليه، وكذلك إذا عرف منه الطب ولكن أخطأ خطأ فاحشاً، كأن يزيل جميع الحشفة في الختان، (3) وذهب الحنفية إلى أن القاعدة هي أن الطبيب لا يسأل متى لم يتجاوز الموضع المعتاد ويعللون ذلك بأن الهلاك ليس بمقارن للعمل، وإنما هو بالسراية بعد تسلم العمد، والتحرز عنها غير ممكن، لأن السراية تبنى على قوة الطباع وضعفها في تحمل الألم، وما هو كذلك مجهول والاحتراز من المجهول غير متصور، فلم يمكن التقييد بالمصلح من العمد؛ لئلا يتقاعد الناس عنه مع مساس الحاجة. (4)
وما أجمل هذا القول من الحنفية إذ إنه يدعو إلى تقدم الطب وازدهاره، وذلك بارتياد مجالات يلهمها الأطباء فيقدمون عليها من غير خوف أو مسؤولية معطلة. وجاء في الدر المختار من كتب الحنفية: ولا ضمان على حجام وبزاغ أو فصاد لم يجاوز الموضع المعتاد، فإن جاوز ضمن الزيادة كلها إذا لم يهلك وإن هلك ضمن نصف دية النفس، فلو قطع الختان الحشفة وبرئ المقطوع تجب عليه دية كاملة، وإن مات فالواجب عليه نصفها. وقد علق صاحب رد المحتار على هذه العبارة بقوله: لم يجاوز الحد المعتاد أي وكان بالإذن. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (وإذا أمر الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يبطر دابته، فتلفوا من فعله، فإن كان فعل ما يفعل مثله مما فيه الصلاح للمعقول به عند أهل العلم بتلك الصناعة فلا ضمان عليه،، وإن كان فعل ما لا يفعل مثله من أراد الصلاح وكان عالما به فهو ضامن) . وقال الشافعي رضي الله عنه أيضاً في هذا المضمار: (والوجه الثاني الذي يسقط فيه العقد – يريد الدية - أن يأمر الرجل به الداء الطبيب أن يبط جرحه، أو الأكلة أن يقطع عضواً يخاف مشيها إليه، أو يفجر له عرقاً، أو الحجام أن يحجمه، أو الكاوي أن يكويه، أو يأمر أبو الصبي وسيد المملوك الحجام أن يختنه فيموت شيء من هذا فلا عقد ولا مأخوذية إن حسنت نيته إن شاء الله تعالى. وذلك أن الطبيب والحجام إنما فعلاه للصلاح بأمر المفعول به. (5)
__________
(1) انظر متن الأمير وحاشية حجازي العدوي 2/406
(2) متن الأمير وحاشية حجازي العدوي (ص 259)
(3) المغني لابن قدامة 6/120، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
(4) الهداية والعناية 7/206
(5) كتاب الأم للشافعي رضي الله عنه 6/168(8/1271)
والخلاصة في هذا الأمر أن الراجح من رأي الفقهاء هو أن الطبيب الحاذق لا يسأل عن نتيجة طبه طالما قام بواجبه على الوجه الأكمل، ويستوي في الحكم إذا شفي المريض أو مات أو قام معلولاً بعلة، وكذلك لا يسأل عن الخطأ الفاحش مسؤولية غير عمدية، وتعتبر هذه الجناية جناية خطأ، فإن الأرش أو الدية يقضى بها، وتكون مخففة على العاقلة، وفيما يتضح لنا أن الشريعة الغراء تبيح الاجتهاد للأطباء في علاج الأمراض ولا يسأل الطبيب إذا خالف زملاءه متى كان رأيه يقوم على أساس سليم، سئل نجم الأئمة الحليمي عن صبية سقطت من السطح فانفتح رأسها فقال كثير من الجراحين: إن شققتم رأسها تموت وقال واحد منهم: إن لم تشقوه اليوم أنا أشقه وأبرئها، فشقه ثم ماتت بعد يوم أو يومين، هل يضمن؟ فتأمل ملياً، ثم قال: لا، إذا كان الشق بإذن وكان معتاداً ولم يكن فاحشاً خارج الرسم.
وكتب محمد بن جزي الغرناطي المالكي في موجبات الضمان فقال في البند السابع: تضمين الصناع فيضمنون ما غابوا عليه سواء عملوه بأجرة أو بغير أجرة، ولا يضمنون ما لم يغيبوا عليه، ولا يضمن الصانع الخاص الذي لم ينصب نفسه للناس، وقال أبو حنيفة: لا يضمن من عمل بغير أجرة، وللشافعي في ضمان الصناع قولان، فإن قامت بينة على التلف سقط عنهم الضمان، واختلف هل يجب لهم أجرة إذ كان هلاكه بعد تمام العمل، وكذلك يضمنون كل ما جاء على أيديهم من حرق أو كسر أو قطع إذا عمله في حانوته إلا في الأعمال التي فيها تضرير كاحتراق الثوب في قدر الصباغ، واحتراق الخبز في الفرن، وتقويم السيوف، فلا ضمان عليهم فيها إلا أن يعلم أنهم تعدوا، ومثل ذلك الطبيب يسقي المريض أو يكويه فيموت، والبيطار يطرح الدابة فتموت، والحجام يختن الصبي أو يقلع الضرس فيموت صاحبه، فلا ضمان على هؤلاء؛ لأنه مما فيه التغرير، وهذا إذا لم يخطئ في فعله، فإن أخطأ فالدية على عاقلته، وينظر، فإن كان عارفاً فلا يعاقب على خطئه، وإن كان غير عارف وعرض نفسه فيؤدب بالضرب والسجن، ولا ضمان على صاحب السفينة خلافاً لأبي حنيفة، ولا على صاحب الحمام إذا ضاعت الثياب بغير تقصير (1)
__________
(1) قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي المالكي، طبعة الشركة الفنية المتحدة، القاهرة (ص 352)(8/1272)
وفي تحديد أدق لمسؤولية الطبيب العالم فقد ذكر في شرح الأزهار في فقه الزيدية عند قول المتن: ولا أرش للسراية عن المعتاد من بصير ((1) ، قال:) فإذا استؤجر الخاتن أو نحوه فحصل مضرة من عمله لم يضمن بشروط:
الأول: أن يكون عن سراية، فلو كان عن سراية مباشرة، نحو أن يقطع حشفة الصبي ضمن عمداً كان أم خطأ.
الثاني: أن يفعل المعتاد، فلو فعل غير المعتاد ضمن.
الثالث: أن يكون بصيراً فلو كان متعاطياً ضمن.
(والمراد بالبصير من يعرف العلة ودواءها وكيفية علاجها ويثق بذلك من نفسه، وأن يكون قد أجاز له مشايخه وفعل مرتين فأصاب، فإن أخطأ في الثالثة فليس بمتعاط، لا الأخذ من الكتب كما في سائر العلوم، ولا يجوز لهم الإيهام بأن الدواء أكثر مما هو عليه، ولو فعل المتعاطي المعتاد مأموراً به ولم تحصل جناية فلا ضمان وبغير أمر يضمن ولو لم يفعل إلا المعتاد، فإن قطع البصير المعتاد فخبث فهلك الصبي بمباشرة ذلك المعتاد، ففي البيان لا ضمان، وقد وقعت في رجل قطع له طبيب فهلك بالمباشرة بالسبب المعتاد، فأخذ كثير من العلماء بظاهر الأزهار يضمن، وأفتى القاضي محمد بعدم الضمان) ، وهذا كله يدل على أن الأمر أو الإذن وحده لا يكفي، بل يشترط أن يكون العمل من بصير غير متعاط وأن يكون على وفق المعتاد.
عمليات التجميل:
ظهرت في العصر الحديث اتجاهات لمعالجة بعض العيوب الخلقية بإجراء عمليات جراحية لإزالتها؛ لتفادي الغم والهم والألم الذي يحس به المشوه من نقص عمن سواه من البشر، وكذلك تفادي سخرية الناس أو اشمئزازهم في بعض الحالات، ولا أرى أن الشريعة الإسلامية تمانع في مثل هذه العمليات، ومما يدعو إلى الإعجاب بشمول دين الإسلام أن أهل الحديث رووا: ((أن عرفجة بن سعد أصيب أنفه يوم الكلاب فأنتن فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب)) (2) وفي رواية النسائي في باب الزينة أخرج عن أبي الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة: ((أن جده عرفجة بن سعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفاً من ذهب)) ، ومثل اتخاذ الأنف من الذهب اتخاذ الأسنان منه، وقد روى الطبراني في معجمه عن عبد الله بن عمر ((أن أباه سقطت ثنيته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يشدها بذهب)) ، ونوع آخر من عمليات التجميل تعرض له الفقهاء، ففي الظهيرية: (إذا أراد الرجل أن يقطع إصبعاً زائداً أو شيئاً آخر، قال نصير رحمه الله: إن كان الغالب على من قطع مثل ذلك الهلاك فإنه لا يفعل، وإن كان الغالب هو النجاة فهو في سعة من ذلك) ، وجاء في خزانة المفتين: (من له سلعة زائدة يريد قطعها إن كان الغالب الهلاك فلا يفعل، وإلا فلا بأس به) (3)
__________
(1) شرح الأزهار 3/ 283
(2) هذا الحديث أخرجه أبو داود في الخاتم، والترمذي في اللباس، والنسائي في الزينة
(3) جاء في لسان العرب 8/ 160 ما نصه: (السلع: البرص ... والسلع أيضاً الشق يكون في الجلد وجمعه سلوع، والسلع أيضاً: شق في العقب)(8/1273)
وذهب الماوردي في الأحكام السلطانية إلى أن بعض العيوب الخلقية تمنع من انعقاد الإمامة، قالوا: إنه يمنع من انعقاد الإمامة (ما شان وقبح ولم يؤثر في عمل ولا نهضة؛ كجدع الأنف وسمل إحدى العينين ... فالسلامة منه تكون شرطاً معتبراً في عقدها؛ ليسلم ولاة الملة من شين يعاب ونقص يزري فتقل به الهيبة، وفي قلتها نفور عن الطاعة، وما أدى إلى هذا فهو نقص في حقوق الأمة) (1)
كما ذكرت فإن الشريعة الإسلامية لا تمانع في مثل هذه العمليات، ولكن لابد من تقدير العيب المطلوب علاجه، ومدى تضرر صاحبه به، وهل فيه معرة أو قلة أو زلة.... ويؤخذ في الاعتبار أيضاً خطورة الجراحة، فإن كان الاحتمال قوياً أن تؤدي إلى الوفاة أو إلى مشاكل أعقد فلا تصح عندئذ، ونقترح أن تنص اللوائح الطبية على إذن هيئة خاصة من نقابة الأطباء ومن المختصين في مثل هذه العمليات حتى لا يقع الناس في مهالك أكبر، ولا يخفى أن إذن المريض في مثل هذه الحالات لابد منه صراحة.
استدراك في شرط الإذن للخلو من المسؤولية:
استثنت كثير من اللوائح الحديثة وكذلك مجمع الفقه الإسلامي في دورته الماضية ضرورة الحصول على إذن المريض أو وليه في الحالات التي تستوجب الإسعاف العاجل والتي لا يمكن فيها الانتظار لحصول هذا الرضا؛ لما في ذلك من هلاك مؤكد للمريض إذا لم يسرع في علاجه بما يراه الأطباء المختصون، والشريعة الإسلامية لا تعارض في هذا الاستثناء الحكيم خاصة في مثل هذه الأيام التي تكثر فيها حوادث الحركة وغيرها، وقد لا يفيق المريض أبداً إلا بعد أن يبدأ في علاج سبب الإغماء وقد يتعثر العثور على أهله وقرابته بالسرعة المطلوبة لإنقاذ المصاب، والأطباء في مثل هذه الحالات إنما يدفعون خطراً محققاً عن شخص عاجز عن تعرف مصلحته، والضرورات تبيح المحظورات كما هو معلوم، وهو من باب التعاون على البر والتقوى.
وقد عرض ابن القيم رحمه الله لهذه المسألة في مبحث (جريان العرف مجرى النطق) حيث قال: (ومنها لو رأى شاة غيره تموت فذبحها حفظاً لماليتها عليه، كان ذلك أولى من تركها تذهب ضياعاً، وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع ذلك ويقول: هذا تصرف في ملك الغير، ولم يعلم هذا اليابس أن التصرف في ملك الغير إنما حرمه الله لما فيه من الإضرار به، وترك التصرف هاهنا من الإضرار....) (2)
__________
(1) الأحكام السلطانية، للماوردي (ص18)
(2) جريان العرف مجرى النطق لابن القيم: 2/ 22(8/1274)
وقال ابن حزم في كتاب المحلى ما نصه: (من قطع يداً فيها أكلة بغير إذن صاحبها، قال أبو محمد: قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، فالواجب استعمال هذين النصين من كلام الله تعالى، فينظر: فإن قامت بينة أو علم الحاكم أن تلك اليد لا يرجى لها برء ولا توقف وأنها مهلكة ولابد، ولا دواء لها إلا القطع، فلا شيء على القاطع، وقد أحسن؛ لأنه دواء، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمداواة، وهكذا القول في الضرس إذا كان شديد الألم، قاطعاً به عن صلاته ومصالح أموره فهذا تعاون على البر والتقوى، عن يحيى بن أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تداووا؛ فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد، قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: الهرم)) (1) ، وجاء في المحلى أيضاً: قال علي فيمن داوى أخاه المسلم كما أمره الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام فقد أحسن، قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .
وأما إذا كان يرجى للآكلة برء أو توقف، وكان الضرس يتوقف أحياناً ولا يقطع شغله عن صلاته ومصالح أموره، فعلى القاطع والقالع القود؛ لأنه حينئذ متعد، وقد أمر الله تعالى بالقصاص في القود (2)
وأبلغ من ذلك ما جاء في شرح مختصر خليل عند قوله: (وترك مواساة وجبت بخيط ونحوه لجائفة) ، وجب على من كانت معه فتلة خيط أو حرير أو إبرة وهو مستغن عنهما حالاً أو مآلاً أن يواسيه بالخياطة لجرحه، فإن لم يفعل فإنه يضمن.
وما ذكر في هذه المواضع يقاس عليه كل ما يستدعي الحال عمله لإنقاذ حياة مريض يشك في حياته لو لم تعمل له هذه العملية الجراحية المستعجلة، على نحو ما يراه الأطباء وأهل الخبرة.
__________
(1) المحلى لابن حزم 10/ 444
(2) المحلى لابن حزم 10/ 444(8/1275)
هل يمكن أن تقوم نقابة الأطباء أو شركة التأمين بدور العاقلة؟
القاعدة العامة للمسؤولية في التشريع الإسلامي أن كل إنسان يتحمل تبعة جنايته، ولا يسأل أحد عن جرم الآخر؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، وللأحاديث الواردة في تعضيد هذا المبدأ القرآني، منها:
روى أبو داود عن أبي رمثة قال: ((انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي: ابنك هذا؟ قال: إي ورب الكعبة، قال: حقاً؟ قال: شهد به، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً من ثبت شبهي في أبي ومن حلف أبي علي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} )) ، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجه: ((لا يجن جان إلا على نفسه. لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده)) (1)
ولكن ورد استثناء في إلزام العاقلة بدفع دية الخطأ، وقد كان المبدأ سائداً قبل الإسلام فأمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من نصرة وتخفيف وتعاون وبر وصلة رحم، وأصل وجوب الدية على العاقلة الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: ((اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة أو وليدة، وقضى بدية عاقلتها)) هذا لفظ البخاري، وروى الحديث مسلم، وأبو داود وابن ماجه وغيرهم، وتتحمل العاقلة الدية إذا كان الحادث خطأ ثابت بالبينة على الجاني، وأن تكون عن ضرر بدني لحر، وقال بعضهم: إن العاقلة تتحمل الدية التي لا تقل عن حد أدنى اختلفوا في تفصيله، وأجمع فقهاء المذاهب الإسلامية على أن دية الخطأ تجب على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين (2) والعاقلة هم أهل ديوان الجاني كما قال الحنفية والمالكية إذا كان الجاني من أهل الديوان، وهم فرقته وحزبه في الجيش، وقال الإمام الشافعي: إن العاقلة هي عشيرة الجاني (3)
وقال فقهاء الحنابلة والشيعة الزيدية والإمامية: إن العاقلة هم عصبة الجاني نسباً وولاء (4)
__________
(1) انظر نيل الأوطار للشوكاني 8/ 70
(2) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 7/ 373، شرح الخرشي 8/ 58، منتهى الإرادات 2/ 450، البحر الرائق شرح كنز الدقائق 8/ 455
(3) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 7/ 371، حاشية قليوبي وعميرة 4/ 154
(4) منتهى الإرادات 2/ 449، كشاف القناع 4/ 36(8/1276)
ولكن يبدو أن كل هذه التفسيرات تتعلق بأوضاع كانت سائدة في الماضي نسبة لقوة الروابط القبلية والعصبية وتعاطف العشيرة، وهذا غير موجود اليوم على ما كان عليه آنذاك، ولذلك تطور الفقهاء المعاصرون بهذا المفهوم إلى وجه حديث من أوجه الخير وهو التعاون والإحسان الذي يراد به وجه الله وحده، وهو التأمين الإسلامي، والتأمين في هذا النظام الإسلامي لا يدخل إلا في قسم الخير الذي فيه معنى الإحسان، وتطمئن إليه النفوس، وإن مما يشرح الصدر في الإجابة على السؤال الموجه وهو: هل يمكن أن تقوم نقابة الأطباء وشركات التأمين بدور العاقلة؟
إن الأمر تعرض له سلفنا الصالح حيث قال بعضهم: إن عاقلة الجاني هم أهل حرفته ومهنته إذا لم يكن له عاقلة من الديوان أو العشيرة؛ لأنهم أهل نصرته وأهل صناعته (1) ، وعرفوا العاقلة تعريفاً عاماً قيماً فقالوا: إن عاقلة كل إنسان من يتناصر هو به إن كان من الديوان فعاقلته أهل ديوانه والصناع بعضهم لبعض (2)
وعليه نرى أن من أعظم أوجه التعاون أن يكون الأطباء لجنة خاصة لحرفتهم، يختارون أعضاءها من أهل الأمانة والديانة والأخلاق النبيلة، ويسندون إليها إدارة صندوق يجمعون فيه رسوماً سنوية، وينوون به أن يكون إعانة منهم لمن يجب عليه الضمان نتيجة خطئه، وأن يتخذوا جميع أسباب الرقابة الشرعية والحيطة المالية، حتى إذا أصيب أحدهم بضمان يدفعه –لا قدر الله- عوضوه من مال هذا الصندوق ويكون في ذلك مثوبة لكل من ساهم في هذا العمل الذي يحول التأمين من مقامرة يحرمها الدين إلى تعاون على البر ينال به صاحبه رضا الرحمن الرحيم.
__________
(1) الجواهر النيرة 2/55، البحر الرائق: 8/ 456
(2) الفتاوى البزازية هامش الفتاوى الهندية 6/ 384(8/1277)
ملخص البحث
ناقشت في هذا البحث حاجة الناس إلى الطب واللوائح الحديثة التي تنظم ممارسة المهنة، فتقصرها على الأطباء المؤهلين، وإذا مارس الطب أحد غير هؤلاء فهو مسؤول مسؤولية جنائية ومدنية عن جميع تصرفاته، وتكلمت عن وضع الطب في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وقبله وعدم الفصل رسمياً بين المؤهلين وغيرهم، إلى أن بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الأساسي: ((من تطبب ولم يعرف الطب فهو ضامن)) ، مسؤولية الأطباء والفرق بين الحاذق وغيره، وهذا المبدأ هو الذي دفع كثيراً من الفقهاء بالحجر على المتطبب الجاهل ومنعه وتحميله المسؤولية كاملة جنائياً ومدنياً، ذكرت كذلك جملة من آراء الفقهاء في هذا الشأن، وكيف أن الخليفة العباسي المقتدر أمر طبيبه سنان بن ثابت بامتحان الأطباء والإذن لمن يراه صالحاً لهذا الغرض، وخلصت إلى أنه لا خلاف أن الشريعة الإسلامية تؤيد إصدار مثل هذه اللوائح وتنفيذها ومراقبة المهنة مراقبة دقيقة.
تكلمت بعد ذلك عن مسؤولية الطبيب المأذون له بالطب، فبينت خلو طرفه من المسؤولية إذ أدى واجبه على الوجه المطلوب مهما كانت النتيجة، وبينت الأسباب الشرعية والقانونية في انعدام المسؤولية هنا، وتتلخص في إذن المريض أو إذن ولي أمره، ثم انعدام القصد الجنائي، وبينت أهمية التفرقة بين القصد الجنائي والباعث.
ناقشت بعد ذلك نوع مسؤولية الطبيب المأذون له بالطب إذا أخطأ جسمياً بأن تجاوز الموضع المعتاد أو الرسم المعهود، وأيدت مذهب الحنفية في إعطاء الطبيب قدراً كبيراً من الاجتهاد والحرية في الإقدام على ما يراه مناسباً إذا لم يخرج عن القواعد المعروفة للمهنة، ولاشك أن في هذه الحرية والحق في الاجتهاد بما يلهمه الطبيب من محاولة جديدة تقدم الطب واتساع علومه ... ولا شيء على الطبيب ولو خالف رأيه رأي زملائه.
وناقشت الاتجاهات الحديثة في الطب لمعالجة العيوب الخلقية بإجراء ما يسمونه بعمليات التجميل، وموقف الإسلام من ذلك ومسؤولية الطبيب فيها.
وأخيراً بينت رأي الشرع في موضوع العاقلة وتفسير الفقهاء للعاقلة، وكيف أن هذا التفسير يبيح لنقابة الأطباء وشركات التأمين الإسلامية أن تقوم بدور العاقلة، والسبب في ذلك.
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد(8/1278)
مداواة الرجل للمرأة
والمرأة للرجل
إعداد
الدكتور محمد علي البار
مستشار الطب الإسلامي بمركز الملك فهد
للبحوث الطبية
بسم الله الرحمن الرحيم
مداواة الرجل للمرأة والمرأة للرجل
مداواة المرأة للرجل:
وردت عدة أحاديث صحيحة تفيد في مداواة المرأة للرجل الأجنبي عنها، فقد جاء:
1- في صحيح البخاري عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها، قالت: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي، ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة)) .
2- وأخرج مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وابن ماجه في سننه أن أم عطية رضي الله عنها قالت: ((غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأجيز على الجرحى، وأداوي المرضي)) .
3- وأخرج مسلم أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغزو ومعه أم سليم (هي أيضاً أم أنس بن مالك) ، ومعها نسوة من الأنصار يستقين الماء، ويداوين الجرحى)) .
4- وأخرج مسلم في صحيحه أن نجدة الخارجي كتب إلى ابن عباس رضي الله عنهما، يسأله عن غزو النساء مع النبي صلى الله عليه وسلم فكتب إليه أنه كان يغزو بهن فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن.
5- وأخرج الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن رجلاً من الأنصار خرجت به نملة، فدل أن الشفاء بنت عبد الله ترقي من النملة (1) ، فجاءها فسألها أن ترقيه، فقالت: والله ما رقيت منذ أسلمت، فذهب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي قالت الشفاء، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها، فعرضتها عليه فقال: ((ارقيه وعلميها حفصة كما علمتها الكتابة)) .
__________
(1) النملة: قروح تظهر في الجنب أو غيره وتدب دبيب النمل في الجلد، وهي تقع على وصف مرض الهربس زوستر (القوباء المنطقية)(8/1279)
6- وعندما أصيب سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم غرب في موقعة الأحزاب في أكحله (1) ((جعل له الرسول خيمة في المسجد وأوكل تمريضه إلى رفيدة الأسلمية، ثم جعل معه بعض الجرحى وأوكل تمريضهم جميعاً إليها)) .
وذكر الإمام الذهبي في كتابه الطب النبوي (2) : (ونص أحمد أن الطبيب يجوز له أن ينظر المرأة الأجنبية إلى ما تدعو إليه الحاجة إلى العورة، نص عليه في رواية المروزي والأشرم وإسماعيل، وكذلك يجوز للمرأة أن تنظر إلى عورة الرجل عند الحاجة.. قال المروزي: أصاب أبا عبد الله (أي الإمام أحمد) لوي فدعا بامرأة فأخرجته) ، ثم قال الذهبي: (وكذلك يجوز خدمته الأجنبية، ويشاهد منها عورة في حال المرض، وكذلك المرأة يجوز لها أن تخدم الرجل وتشاهد منه عورة في حال المرض إذا لم يوجد رجل أو محرم) .
مداواة الرجل للمرأة:
ومما استدل به على جواز مداواة الرجل للمرأة الأجنبية ما يلي:
1- روي عن جابر أن أم سلمة رضي الله عنها استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة فأذن لها، فأمر أبا طيبة أن يحجمها (3)
2- لا خلاف بين الفقهاء على جواز مداواة الرجل للمرأة، ونظر ومس ما تدعو الحاجة إلى نظره أو مسه، وإن كان عورتها المغلظة إذا اقتضت الضرورة أو الحاجة، ومن هذه الشروط عدم وجود امرأة يمكنها القيام بمداواتها، وقال بعض الحنفية: ينبغي أن يعلم الطبيب امرأة كيفية مداواة المريضة، وخص بعضهم ذلك بالعورة المغلظة، فإذا كان المرض في فرجها وخيف عليها الهلاك أو الإصابة بألم لا تطيقه، ولم توجد امرأة يمكن تعليمها كيفية المداواة فللرجل أن يداويها.
وتقدم الطبيبة الكافرة على الطبيب المسلم عند الشافعي، بحيث تداويها المرأة وإن كانت كافرة إلا إذا كان الرجل محرماً لها فيقدم على الكافرة، ويقدم الأمهر من الأطباء ولو كان رجلاً على المرأة.. ولو وجدت امرأة طبيبة لا ترضى إلا بأكثر من أجرة مثلها، ورضي الطبيب الرجل بأقل منها جاز للرجل مداواتها. بل لو وجد كافر يرضى بأجرة أقل من أجرة الطبيب المسلم جاز التداوي عنده، ويجوز التداوي عند الأمهر من الأطباء ولو كان كافراً مع وجود مسلم أقل خبرة ومهارة منه (4)
__________
(1) الأكحل: عرق في اليد يفصد ويحجم، والحديث أخرج البخاري طرفاً منه من حديث أبي سعيد الخدري، وأخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنهم أجمعين
(2) الطب النبوي للذهبي ص 112
(3) أخرجه مسلم في صحيحه، وابن حبان في صحيحه أيضاً، وابن حزم في المحلى، صحيح مسلم: 4/ 173، وصحيح ابن حبان: 7/ 447، والمحلى لابن حزم: 10/ 133
(4) الهداية والعناية: 8/ 99، رد المحتار: 5/ 237، نهاية المحتاج: 6/ 197، مغني المحتاج: 3/ 133 نقلاً عن عبد الفتاح إدريس في بحث أخلاقيات الطبيب ص 11(8/1280)
ولابد أن يكون مع الطبيب عند فحصه للمرأة مانع خلوة كوجود محرم من محارمها أو نساء أخريات، بل ذهب بعض الحنفية إلى أن الخلوة المحرمة بينهما تنتفي بوجود رجل آخر أجنبي عن المرأة، والراجح عند الشافعية أن الخلوة تنتفي بوجود امرأة ثقة أخرى، وذهب آخرون من الحنفية إلى عدم انتفاء الخلوة بوجود رجل أجنبي آخر، وكذلك القول المشهور عند الشافعية إذ يحرم خلوة رجل أو أكثر بالمرأة الأجنبية عنهم، وقال القفال الشاشي: يحرم خلوة رجل بامرأتين أو أكثر إلا إذا كانت إحداهن من محارمه فيجوز، وتنتفي الخلوة، وكذلك يحرم خلوة امرأة برجلين أو أكثر إلا إذا كان أحدهما من محارمها، وعند الحنابلة أن الخلوة لا تنتفي بوجود امرأة أو أكثر مع الطبيب والمريضة، كما لا تنتفي بوجود رجل أو أكثر أجنبي عن المرأة معها، ولابد لانتفاء الخلوة من وجود رجل من محارمها.
وذهب بعض الحنفية والمالكية إلى جواز خلوة الشيخ الهرم المرأة الشابة وخلوة المرأة العجوز غير المشتهاة بالرجل الأجنبي (1) .
وتحريم الخلوة ثابت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعهما ذو محرم)) ، وحديث عامر بن ربيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له فإن ثالثهما الشيطان إلا محرم)) (2)
ويسمح للطبيب أن ينظر أو يمس موضع المرض، هكذا قال الفقهاء، وفي الطب الحديث يحتاج الطبيب لمعرفة العلة وسببها أن يفحص أماكن أخرى عديدة قد لا تبدو للعامة (وهم هنا غير الأطباء) أي علاقة ظاهرية لها بموضع الألم.. ومثاله امرأة تشكو من وجع في بطنها، وقد يكون المرض متعلقاً بالقلب، أو تشكو من صداع، ويكون المرض متعلقاً بضغط الدم، وحينئذ لابد من فحص القلب وغيره من الأعضاء وفحص قاع العين، أو تشكو من كثرة التبول الناتجة عن البول السكري، وذلك يستدعي فحص العديد من أعضاء جسمها، وهكذا، ولهذا فإن اشتراط موضع الألم فقط أمر لا معنى له؛ لأن موضع الألم قد يكون بعيداً عن سبب العلة، ولابد للطبيب أن يفحص ما يحتاج إلى فحصه من جسم المريضة لمعرفة المرض ومضاعفاته، وللوصول إلى التشخيص السليم، وبالتالي إعطاء الدواء الصحيح.
__________
(1) الهداية والعناية: 8/ 99، رد المحتار: 5/ 237، نهاية المحتاج: 6/ 197، مغني المحتاج: 3/ 133 نقلاً عن عبد الفتاح إدريس في بحث أخلاقيات الطبيب ص 11، كما ينقله عن النووي في المجموع: 4/ 277- 278، نهاية المحتاج: 6/ 188، المغني لابن قدامة 3/ 239، الدر المختار ورد المحتار: 5/ 235- 236، كشاف القناع 5/ 13- 16 وشرح النووي لصحيح مسلم 5/ 16- 18، ونيل الأوطار للشوكاني 6/ 241، وسبل السلام للصنعاني: 1/ 7
(2) أخرجه أحمد في مسنده 3/ 446، والهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه أبو يعلى والبزار والطبراني، وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف(8/1281)
طبيبات في الإسلام:
لقد اشتهرت في الإسلام مجموعة من النساء بالطب وبالتمريض، وعرفن باسم الآسيات، وكانت القبالة مهنة مختصة بالنساء، ومن هؤلاء القابلات من الصحابيات الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها، وفيما يلي ذكر موجز لبعض من قام بالتطبيب والقبالة والتمريض من النساء:
1- فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وسيدة نساء العالمين: حينما قامت بحرق قطعة من حصير عندما رأت الدم لا يستمسك من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أصابته الجراح في أحد، فألزقت الحصير المحروق بموضع النزف فاستمسك الدم، وهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وابن ماجه (1) والحصير الذي أحرقته السيدة فاطمة من البردي.
قال ابن سينا في القانون: (البردي ينفع من النزف ويمنعه، ويذر على الجراحات الطرية فيدملها، والقرطاس المصري كان قديماً يعمل منه ... ويحبس نفث الدم ويمنع القروح الخبيثة أن تسعى) .
2- عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: حيث روي أن عروة بن الزبير قال لخالته عائشة (لأنها أخت أمه أسماء بنت أبي بكر) : ((يا أمتاه، لا أعجب من فقهك أقول: زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول ابنة أبي بكر، ولكني أعجب من علمك بالطب، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم عند آخر عمره فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات، فكنت أعالجه، فمن ثم)) (2)
3- حفصة بنت عمر رضي الله عنهما: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفاء بنت عبد الله أن تعلم حفصة رقية النملة (القوباء المنطقية = هربس زوستر) فقد روى أبو داود عن الشفاء قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال: ((ألا تعلمين حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة)) (3) وفي رقية النملة دعاء وطلاء للقروح بطلاء متخذ من الكركم والخل.
4- أسماء بنت أبي بكر: وفي الصحيحين أن أسماء كانت إذا أتيت بالمرأة قد حمت تدعو لها، أخذت الماء فصبت بينها وبين جيبها وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نبردها بالماء (4)
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري كتاب المغازي: 7/ 372
(2) التراتيب الإدارية: 1/ 455
(3) سنن أبي داود، كتاب الطب، ما جاء في الرقى، وأخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي بكر بن سليمان: 4/ 56- 57
(4) جامع الأصول: 7/ 528(8/1282)
5- رفيدة الأسلمية: أخرج البخاري ومسلم (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل خيمة في المسجد لمداواة الجرحى في غزوة الخندق ومنهم سعد بن معاذ، وجعل الإشراف على تمريضهم لرفيدة الأسلمية.
6- الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس القرشية: كانت تقوم بالقبالة وترقي رقية النملة، وقد تقدم رقيتها للأنصاري وتعليمها لأم المؤمنين حفصة رقية النملة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
7- الربيع بنت معوذ: تقدم حديثها في البخاري حيث قالت: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة)) .
8- أم عطية: تقدم قولها: ((غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى)) (2) وأم عطية هي نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف، وتكنى أم عمارة وكانت تختن البنات.
9- أم سليم: (وهي أم أنس بن مالك وزوج أبي طلحة الأنصاري) ، وقد تقدم حديث أنس حيث قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى)) (3)
وهكذا نرى أمهات المؤمنين والصحابيات الجليلات يداوين الجرحى ويسقينهم في ميادين القتال، وقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه: ((لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان)) .
وروى عمر بن الخطاب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما التفت يميناً ولا شمالاً يوم أحد إلا رأيت أم سليط تقاتل دوني)) .. وفي ذلك اليوم العصيب تقاعس عدد غير قليل من الصحابة عن القتال بعد وقع الهزيمة وسماعهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل ففت ذلك في عضدهم.
وروى البخاري أن عمر بن الخطاب قسم مروطاً بين نساء المدينة، فبقي مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك: (يريد أم كلثوم بنت علي وفاطمة الزهراء) فقال عمر: ((أم سليط أحق؛ فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد)) ، وتزفر أي تحمل الحمل الثقيل.. وهكذا كانت أم سليط تداوي الجرحى وتسقي العطشى وتقاتل دون النبي صلى الله عليه وسلم عند اشتداد البأس.
__________
(1) عون الباري: 5/ 255- 256، وصحيح مسلم: 4/ 173
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 5/ 199
(3) صحيح مسلم 5/ 196(8/1283)
وأم سليط هي أم قيس بنت عبد من بني مازن، تزوجها أبو سليط بن أبي حارثة من بني النجار من الأنصار، فولدت له سليطاً وفاطمة، وكانت من أوائل من بايع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وشهدت أحداً وخيبر وحنيناً.
ولم تكتف أيضاً أم عمارة الأنصارية بإسعاف الجرحى وسقاية العطشى، بل حملت السيف وقاتلت، وقتلت أم حكيم يوم اليرموك سبعة من الروم بعمود الفسطاط لما هجم الروم على مواقع المسلمين الخلفية.
واشتهر بالطب من غير الصحابيات عدد من النساء منهن:
1- زينب طبيبة بني أود، واشتهرت بطب العيون (الكحالة) ، حتى تمثل بها الشاعر (1) حيث قال:
أمخترمي ريب المنون ولم أزر
طبيب بني أود على النأي زينبا
2- أخت أبي بكر بن زهر الحفيد وبنتها: وقد اشتهرتا بالطب في الأندلس.. وهي عائلة طبية تخرج منها العديد من الأطباء.. وقد كان المنصور لا يسمح لأحد بمعالجة نسائه وأهله إلا أخت الحفيد أو ابنتها.
3- ابنة شهاب الدين بن الصائغ: كان أبوها رئيس البيمارستان المنصوري بالقاهرة. ودرست الطب على يد والدها وعلى الأطباء المشهورين على عهده. واشتغلت بالطب، وتولت رئاسة البيمارستان المنصوري بعد وفاة والدها، وكانت تعتبر في المكانة السامقة في الطب في عهدها، وتولت مشيخة الأطباء!! (2) .
4- أم الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطنجالي: من أهل برشلونة، كانت واسعة الاطلاع كثيرة المعارف، ولكنها اشتهرت بالطب (3)
5- بنت دهن اللوز الدمشقية: عرفت بالطب ومارسته، رغم أن بعض المؤرخين تشكك في ذلك (4)
__________
(1) ذكر ابن أبي أصيبعة أن رجلاً أتى امرأة من بني أود لتكحله من رمد أصابه فكحلته، ثم قالت: اضطجع قليلاً حتى يدور الدواء في عينيك، فاضطجع وتمثل قول الشاعر: أمخترمي ريب المنون ولم أزر طبيب بني أود على النأي زينبا فضحكت وقالت: أتدري فيمن قيل هذا الشعر؟ قال: لا، قالت: في والله قيل، وأنا زينب التي عناها، وأنا طبيبة بني أود، أفتدري من الشاعر؟ قال: لا، قالت: عمك أبو سماك الأسدي
(2) تاريخ البيمارستانات في الإسلام للدكتور أحمد عيسى (ص 139)
(3) تاريخ التربية الإسلامية للدكتور أحمد شلبي (ص285)
(4) د. محمود الحاج قاسم: الطب عند العرب والمسلمين (ص89)(8/1284)
ما هو الواقع اليوم؟
إن المستشفيات اليوم تعاني من اختلاط شديد بين الرجال والنساء، ولا يكاد يوجد في أقسام المرضى من الرجال ممرضين من الرجال إلا نادراً جداً، والأمر قائم كله على تمريض النساء للرجال.
وقد ذكر فضيلة الشيخ علي الطنطاوي أمد الله في عمره، في أحد أحاديثه التي يجمع فيها بين العلم والمتعة والأدب، أن شخصاً كتب إليه يشكو أن ممرضة في أحد المستشفيات الخاصة قد قامت بحلق شعر عانته للتحضير لعملية كان سيجريها في ذلك المستشفى، وأنه لا توجد في أقسام الرجال من ذلك المستشفى سوى الممرضات.
وهو أمر يحدث في كل المستشفيات تقريباً، مع عدم الحاجة إلى أن تقوم ممرضة بمثل هذا العمل للمريض، إذ يستطيع ذلك المريض نفسه في أغلب الحالات، كما يمكن إيجاد ممرضين من الرجال في أقسام الرجال.
والعكس يحدث في أقسام النساء، حيث نجد أن معظم الأطباء في أقسام أمراض النساء هم من الذكور، ونادراً ما توجد طبيبة في أقسام النساء، وبالتالي تنكشف العورات المغلظة للنساء المسلمات العفيفات للرجال.
وسنحاول هاهنا أن نورد الحجج التي يقدمها من يدافعون عما يجري حالياً في المستشفيات في البلاد الإسلامية، وموقفهم يتلخص فيما يلي:
1- عدم وجود عدد كاف من الممرضين الذكور.
2- أثبتت المرأة قدرتها في مجال التمريض، ولعل التمريض أليق بوظيفتها الأنثوية.
3- الآسيات في التاريخ الإسلامي شهادة ناصعة على سماحة هذا الدين.
4- سماح الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابيات الجليلات وأمهات المؤمنين أن يداوين الجرحى ويسقين العطشى في المعارك والغزوات، وتمريض رفيدة الأسلمية لسعد بن معاذ، ورقية الشفاء للصحابي الأنصاري من النملة.. إلخ كما تقدم معنا.(8/1285)
والرد على هذه النقاط يتلخص في الآتي:
1- إن عدم وجود عدد كاف من الممرضين الذكور راجع إلى أننا أهملنا فتح مدارس التمريض للذكور، وهو أمر ميسور، وإذا وفرنا ذلك فإننا لن نحتاج للممرضات في أقسام الرجال.
وقد عملت شخصياً طبيباً في مستشفيات بريطانيا وكان في بعض المستشفيات عدد كاف من الممرضين الذكور.. وكان الممرضون الذكور منتشرين في أقسام الرجال إلى الخمسينات من القرن العشرين. ثم بدأ عددهم في التناقص، وأوكل الأمر إلى الممرضات الإناث.
2- إن إثبات كفاءة الممرضات لا يعني أن الرجل لا يستطيع أن يقوم بمهمة التمريض، فقد أثبت الواقع أن الرجال كانوا أقدر على أداء مهماتهم في أقسام الرجال عندما كان يتاح لهم ذلك.
3- وجود الآسيات في التاريخ الإسلامي دلالة على عظمة هذا الدين وسماحته.. ومع هذا لم يذكر أحد أن المستشفيات (البيماراستانات) التي انتشرت في العالم الإسلامي بأكمله، كانت تقوم على النساء الممرضات فقط، بل كانت أقسام النساء للنساء فقط، وأقسام الرجال للرجال فقط.
4- الأحاديث الشريفة الواردة في إباحة مداواة النساء للرجال والرجال للنساء عند فقد الطبيب أو الطبيبة.. وما جاء في الأحاديث كان في وقت المعارك وانشغال الرجال بالقتال، فكان لابد من استنفار طاقة الأمة بأكملها وإعطاء المرأة دورها لعدم وجود الرجال.. وكذلك التداوي في وقت السلم، فإن كشف العورة وخاصة المغلظة مشروط بالضرورة أو الحاجة عند عدم وجود من يطبه من جنسه.
والغريب حقاً أن إحدى الزميلات من الطبيبات لديها شهادة الدكتوراه في الأمراض الجنسية وقد حاولت أن تعمل في ميدان تخصصها في معالجة النساء فقط، فلم تستطع؛ لأن كل المستشفيات التي حاولت الالتحاق بها طلبن منها أن تداوي الرجال والنساء، وأن تكشف على عوراتهم جميعاً!! وقد رفضت ذلك ومكثت سنين وهي ترفض، واتصلت بي هاتفياً، فطلبت منها أن تتصل بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لدائرة الإفتاء والدعوة والإرشاد ليفتيها ويوجهها إلى ما يجب عمله في هذه الظروف.
وكان نظام القابلات نظاماً جيداً معمولاً به في كل أنحاء العالم، ولا يزال. ولكننا للأسف الشديد بدأنا نهمله، مع أن القابلات يستطعن القيام بتوليد 95 بالمئة من النساء. ويمكن أن يتم ذلك في البيوت. والحالات المتعسرة تحولها القابلة إلى المستشفى.(8/1286)
ولكننا نصر للأسف، على أن تذهب نساؤنا إلى المستشفيات للولادة الطبيعية، وحيث يشرف عليها في الغالب طبيب رجل (مسلم أو غير مسلم) ، وبتكاليف كبيرة؛ سواء كان ذلك في المستشفيات الخاصة، أو المستشفيات الحكومية، حيث تتحمل الدولة النفقات.
والواقع الذي تدعو إليه منظمات الصحة العالمية، هو إيجاد قابلات مؤهلات تأهيلاً عالياً، وأن يتم توليد الأغلبية الساحقة من النساء في بيوتهن، بكلفة أقل، وفي ستر دون الحاجة إلى أن يتكشفن للرجال.
ولا بد من إيجاد كليات للقابلات والاهتمام بهن وبمستواهن حتى يستطعن أن يقمن بهذه المهمة النبيلة. كذلك لا بد من إيجاد كلية طب لأمراض النساء والولادة، بحيث تدخل الطالبة بعد الثانوية مباشرة إليها، وتتخرج بعد ست أو سبع سنوات طبيبة أخصائية في أمراض النساء والولادة. وذلك ييسر تخريج دفعات متكاملة من طبيبات أمراض النساء والتوليد.
أما النظام الحالي فيقتضي الطالبة أن تدرس الطب بفروعه المختلفة ثم تتخرج بعد ست سنوات طبيبة عامة، ثم عليها بعد ذلك أن تدرس مرة أخرى لثلاث أو أربع سنوات لتتخصص في أمراض النساء والتوليد.
ومعنى ذلك باختصار أن يفوتها قطار الزواج؛ لأنها ستتخرج طبيبة عامة وهي في الرابعة أو الخامسة والعشرين، وعليها أن تعمل فترة، ثم تتخصص. وهذا الفرع من الطب يحتاج إلى تضحيات كبيرة، وإلى ترك المنزل في الليل والنهار، مما يجعل الطبيبات يعزفن عن التخصص فيه إلا ما ندر.
أما إذا وفرنا للطالبات، خريجات الثانوية، كلية لطب النساء والولادة فإنهن سيتخرجن متخصصات في هذا الفرع مباشرة، دون الحاجة لقضاء عشر سنوات أو أكثر، كما هو في النظام الحالي.
وإذا كانت الأسنان تستحق منا أن نفرد لها كلية خاصة بها، فإن أمراض النساء والتوليد تستحق كلية بذاتها تدرس فيها الطالبة كل ما تحتاج إليه في هذا التخصص بالإضافة إلى دراسة عامة عن فروع الطب الأخرى، وهو ما يحدث حتى في كليات طب الأسنان اليوم..
بهذه الطريقة نستطيع أن نوفر الطبيبات المسلمات المتخصصات بهذا الفرع المهم. ونجنب بالتالي زوجاتنا وأخواتنا وبناتنا من انكشاف عوراتهن لدى أطباء النساء والولادة.. وهو أمر ميسور إن صدقت النيات وتقدمت التوصيات إلى الحكومات والجامعات ووزارات التعليم العالي بذلك.. والله ولي التوفيق، لا رب غيره، ولا معبود سواه.
الدكتور محمد علي البار(8/1287)
نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)
الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابين
إعداد
أ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان
مستشار علوم المختبرات الطبية – لندن
نائب رئيس الاتحاد العربي للبيولوجيا السريرية
أمين عام الاتحاد العربي للكيمياء السريرية – سابقاً
بسم الله الرحمن الرحيم
خلق الله تعالى الغرائز وشرع الطرق الحلال لإشباعها، لكن إنسان القرن العشرين تمرد على شرع الله ومارس الفحشاء دون حياء، بل وجاهر بها علناً معتبراً إياها حقوقاً شخصية لا مجال للمساس بها، فأقام مؤسسات للشواذ تدافع عما يسمونه حقوقا إنسانية، وهي في الواقع مجون وفساد. وما ظهور مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) في هذه الظروف وفي هذا العصر بالذات إلا مصداق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه الحاكم وابن ماجه حين قال: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم)) .
ومرض الإيدز لم يكن في أسلافنا من قبل، كما أنه باعتراف منظمة الصحة العالمية، طاعون فتاك ووباء قاتل، لا يوجد علاج له حتى الآن. وهو مرض يؤلم البدن ويعذب النفس ويشوه المنظر ويلحق بصاحبه وصمة عار اجتماعية وأخلاقية بالغة ترافقه حتى وفاته.
وجدير بنا في بيئتنا الإسلامية أن نلزم حدود الله ونلتزم شرعه، وأن نبتعد عما يغضبه؛ حفاظاً على سلامتنا وسلامة أطفالنا وأجيالنا الحاضرة واللاحقة في الدنيا ونجاتنا في الآخرة. وصدق الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: (رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً) .(8/1288)
حقائق عن مرض الإيدز:
أعلن مسؤولون في منظمة الصحة العالمية خلال انعقاد المؤتمر الدولي التاسع للإيدز في برلين في الفترة ما بين 17 و21 ذي القعدة 1413 هـ، أن عدد حاملي فيروس الإيدز الذين تم تشخيصهم والإبلاغ عنهم حتى الآن قد وصل إلى 14 مليون شخص، بينهم أكثر من مليونين ممن ظهرت عليهم أعراض المرض. وتتوقع منظمة الصحة العالمية أن يرتفع هذا العدد إلى ثلاثة أضعافه بنهاية القرن العشرين. واليوم وبعد مرور 12 سنة على ظهور هذا المرض وفشل كافة المحاولات العلمية في إيجاد لقاح أو علاج شاف له لا بد لنا من التساؤل عما إذا كان الحل لهذه المشكلة الصحية الخطيرة تقتصر على العلم والطب فحسب. فالواضح أن لله حكمة في كل هذا، وأن الحل أو قسم كبير منه يكمن في اتباع صراط الله المستقيم والخلود إلى العفة والطهارة والتزام الحشمة والأدب ومحاسن الأخلاق التي تعتبر أفضل وسائل الوقاية ضد هذا الوباء القاتل. وصدق من قال (الوقاية خير من العلاج) .
كلمة الإيدز أو السيدا هي تعبير أجنبي مختصر لمصطلح طبي معناه: (متلازمة العوز المناعي المكتسب) ، أي أنه عبارة عن مجموعة من الأعراض المرضية التي تصيب أجهزة الجسم المختلفة نتيجة للنقص الشديد في المناعة الناجم عن عوامل مكتسبة في البيئة وليس نتيجة لمرض موروث أو عارض تلقائي.
تعود أسباب الإصابة بمرض الإيدز للعدوى بفيروس عوز المناعة البشرية (إتش. آي. في) ، المختص بمهاجمة خلايا الإنسان اللمفاوية المسؤولة عن نظام المناعة. ويتكون هذا الفيروس من مادة من الحمض النووي يحيط بها غلاف من البروتين. وباستطاعة هذا الفيروس تغيير غلافه البروتيني بطريقة تساعده على الهروب من مقاومة الجسم له. كما يوجد فيه إنزيم خاص يمكنه من السيطرة على محتويات نواة الخلية البشرية وتحويل مادتها الوراثية إلى كتلة من الفيروسات المعدية التي تتكاثر وتتوالد فتفجر غلاف الخلية اللمفاوية المصابة وتخرج منه على شكل فيروسات جديدة للإيدز تهاجم الخلايا اللمفاوية أو الخلايا المساعدة الأخرى، وتحولها إلى مزارع للفيروس تتزايد بسرعة خارقة، تحرم الجسم من خلاياه المناعية وتحطم نظامه الدفاعي وجهازه المناعي. ولما كانت الخلايا المناعية تقوم بدور الرقيب على بروز الخلايا السرطانية في الجسم، حيث تباشر في قتلها بالمهد، فإن تدميرها أو اختفاءها يتيح المجال لنمو الأورام السرطانية في أنسجة الجسم المختلفة كالجلد والدم والغشاء المخاطي للجهاز الهضمي. ومع انهيار جهاز المناعة يصبح الجسم فريسة للأمراض الانتهازية التي تنقلها الطفيليات والفطريات وبعض أنواع الجراثيم والفيروسات الأخرى، كالسل والتهاب الأمعاء والتهاب الدماغ والأمراض الجلدية والتناسلية. كما يعجز الجسم عن توليد أجسام مضادة قادرة على مقاومة الفيروس ووقف انتشاره، إلا أنه يولد بعض الأجسام المضادة الكافية للكشف عن الفيروس.(8/1289)
كيفية انتقال العدوى:
تنتقل عدوى الإيدز الأولى عن طريق الاتصال الجنسي مع شخص مصاب، سواء كانت العلاقة بين رجلين، أو بين رجل وامرأة. كما تؤدي عملية نقل الدم المخموج بفيروس الإيدز، أو حقن أحد مكونات الدم المصاب كالبلازما والعامل المساعد لتجلط الدم رقم 8، إلى نقل العدوى أيضاً. وكذلك الحال بالنسبة لاستخدام الحقن الغير معقمة التي سبق استخدامها من قبل شخص مصاب بفيروس الإيدز، ووخز الإبر الملوثة بدم مخموج بمرض الإيدز، وملامسة دم المريض وإفرازاته لأي خدش أو جرح في جلد شخص سليم، واستعمال فرشاة الأسنان التي سبق أن استخدمها شخص مصاب نظراً لاحتمال خدش اللثة أثناء الاستعمال. كما أن هنالك خطورة في أن ينقل لعاب المريض العدوى أثناء التقبيل الحار في الفم، إذا كانت لثة حامل الفيروس مريضة ينزف منها الدم.
الفئات المهددة:
فيروس الإيدز والمرض الناجم عنه لا يعرفان حدوداً جغرافية أو عرقية أو جنسية، فكل إنسان ينجرف وراء شهواته وملذاته وشذوذه ويمارس الفحشاء واللواط، ويرتكب الزنا ولا يلزم حدود الله وقواعد الصحة والسلامة مهدد بالإصابة بالمرض. ويمكن تصنيف الفئات الأكثر تعرضاً للإصابة على النحو الآتي:
أولاً- الشواذ الذين يمارسون اللواط والذين تدفعهم شراهتهم الجنسية للاختلاط بأعداد كبيرة من الرجال، مما يضاعف احتمال التقائهم بشخص مصاب بالإيدز.
ثانياً- العاهرات ومن يخالطونهن والفئات التي تمارس الجنس بشراهة وتسيب، مما يزيد من فرصة التقائهم بشخص مصاب.
ثالثاً- مرضى الهيموفيليا أو الناعور وغيرهم ممن ينقل إليهم دم مخموج بالفيروس أو أحد مشتقاته المستخدمة لوقف النزيف.
رابعاً- متعاطو المخدرات عن طريق الحقن الوريدي، وخاصة أولئك الذين يستعملون حقناً مشتركة قابلة للتلوث بدم أحد المصابين.
خامساً- مرضى البلدان الفقيرة التي تفتقد للحقن المعقمة، والتي تستخدم حقناً زجاجية لعدة أشخاص دون تعقيم كاف.(8/1290)
مراحل الإصابة بالمرض:
يمر مريض الإيدز بثلاث مراحل أساسية يمكن اختصارها بالآتي:
أولاً- مرحلة التقاط العدوى: وهي المرحلة التي يدخل فيها فيروس الإيدز الجسم دون ظهور أية أعراض مباشرة، ولكن تحدث في الجسم عمليتان هامتان: يبدأ الجسم بتكوين الأجسام المضادة بعد فترة تمتد من أسبوعين إلى ستة أشهر، ولا تكفي هذه الأجسام المضادة لوقف نشاط الفيروس، لكنها تساعد في عملية تشخيص الإصابة بالعدوى. وتتجلى خطورة هذه المرحلة في الفترة الممتدة ما بين التقاط الإنسان للعدوى وظهور الأجسام المضادة في دمه تتفاوت بين شخص وآخر بحيث يكون المصاب معدياً لغيره رغم كون نتائج التحليل المبكر لدمه سلبية، وفي بعض الحالات تكون بداية العدوى مصحوبة بالحمى وبأعراض عصبية تظهر خلال أسبوعين أو خمسة أسابيع من تاريخ التقاط الفيروس. وتشمل هذه الأعراض نوبات صرع أو شلل مؤقت، نظراً لأن الجهاز العصبي للإنسان يتأثر بالفيروس في مرحلة مبكرة جداً.
ثانياً- مرحلة الحضانة وحمل المرض: وهي المرحلة التي لا تظهر فيها أية أعراض مرضية، والتي يمارس خلالها الفيروس غزوه للغدد اللمفاوية المساعدة ويستقر فيها. وقد تمتد هذه المرحلة من عام ونصف إلى خمسة أعوام أو أكثر، يكون الشخص خلالها معديا وتحليل دمه إيجابي. ويرى الأخصائيون أن هذه المرحلة قد تستمر عند بعض المرضى دون تطورها لأعراض مرضية كما هو الحال في بعض الدول الإفريقية. وحتى الآن لم تكتشف العوامل أو الأسباب التي تنقل المصاب من مرحلة الحضانة إلى مرحلة ظهور الأعراض.
ثالثاً- مرحلة الأعراض الجسدية: وتعرف بمرحلة التضخم الشامل والمستمر للغدد الليمفاوية، والتي تصحبها أعراض أخرى مثل الحمى والتعرق الليلي والإسهال المزمن ونقصان الوزن والإعياء العام والإصابة بالأمراض الانتهازية كالسلاق أو القلاع الذي تسببه فطريات الكانديدا والحلأ المنطقي الذي تسببه الفيروسات وغيرها من الأعراض. وتستمر هذه المرحلة من شهور إلى سنوات قبل أن تتطور إلى مرحلة الإيدز النهائية المميتة في معظم الأحيان.(8/1291)
أعراض المرض:
من الأعراض الصحية البارزة لمرضى الإيدز مجموعة من الأمراض الانتهازية التي تسببها كائنات ضعيفة تعجز عن إصابة الإنسان عادة، إلا أنها تستغل فرصة انهيار جهاز المناعة فتسبب السعال المزمن الناتج عن الإصابة بأحد أنواع السل الرئوي الذي يصيب الطيور عادة، والإسهال المزمن الناتج عن الإصابة بنوع من الطفيليات التي تصيب البقر، والتهاب المخ الذي يسببه نوع من الطفيليات يصيب القطط عادة، وفطريات تصيب سحايا المخ وتسبب العفن في الجلد والجهاز الهضمي. هذا بالإضافة إلى الإصابة بفيروس الهربس والالتهاب الرئوي الناتج عن البروتوزوا والذي يؤدي إلى الاختناق والوفاة أحياناً. وقد يصاب مرضى الإيدز بسرطان كابوسي، وهو سرطان جلد يصيب كبار السن عادة، إلا أنه يظهر على شكل بقع بنفسجية فوق جلد الشباب وينتشر بسرعة داخل الأحشاء مؤدياً للوفاة. كما يتعرض أولئك المرضى لاحتمال الإصابة بأنواع من السرطان تهاجم الغدد الليمفاوية وأغشية الجهاز الهضمي كالفم والمريء والمستقيم. ويهدد فيروس الإيدز الجهاز العصبي نظراً لإمكانية وصوله إلى المخ مباشرة مما يؤدي إلى أعراض نفسية مختلفة وإلى فقدان الذاكرة والبله والتهاب الدماغ والصرع والشلل.
وسائل الوقاية من المرض:
بما أن مرض الإيدز ينتقل أساساً عن طريق الاتصال الجنسي، فإن أهم وسيلة للوقاية هي العفة وتجنب الفاحشة والالتزام بما أحله الله تعالى. قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)) .
أما وسائل الوقاية الأخرى فهي التأكد من خلو وحدات الدم المحفوظة في بنوك الدم من فيروس الإيدز، والامتناع عن استيراد الدم من الخارج، والاعتماد على الحقن البلاستيكية والإبر التي تستخدم لمرة واحدة فقط، وإضافة فحص الإيدز إلى لائحة الفحوصات التي تجرى للراغبين في الزواج. مع فحص الوافدين للعمل للتأكد من خلوهم من مرض الإيدز وفيروسه، والتركيز على القيام بحملات إعلامية واسعة النطاق وبمختلف الوسائل لتوعية المواطنين وللتعريف بالمرض وطرق انتقاله ووسائل الوقاية منه، ومتابعة الأبحاث والتجارب العلمية لإيجاد لقاح أو عقار يوفر الحماية والحصانة من هذا المرض القاتل.(8/1292)
وما أحوجنا نحن العلماء المسلمين لأن نكون من السباقين في اكتشاف الدواء الشافي والعلاج الفعال لهذا الوباء الخطير. وهذا لن يتحقق إلا بتضافر الجهود ومتابعة الدراسات والأبحاث ودعم البرامج القائمة في بعض بلداننا الإسلامية، وإقامة مراكز جديدة متطورة تضم كبار الأخصائيين والفنيين المسلمين، مع بذل المال بسخاء وبحكمة لتسهيل هذه المهمة ومكافأة القائمين عليها. ولنهتدي بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تداووا أيها الناس؛ فإن الله لم يخلق داء إلا خلق له دواء)) . إن فشل دول الغرب في إيجاد دواء أو لقاح لمرض الإيدز يجب ألا يثبط عزائمنا، بل علينا أن نجعله دافعاً ومهمازاً لرفع شأن الإسلام وعلمائه في مجال الأبحاث الطبية التي كان أسلافنا رواداً لها في الماضي.
إن خطر فيروس الإيدز لم يعد مقصوراً على تسببه في الإصابة بمرض نقص المناعة المكتسب، بل تعداه ليصبح خطراً يهدد بعودة أمراض وبائية خطيرة كنا نعتقد أنها انقرضت وتم احتواؤها، مثل وباء السل ووباء الملاريا، فأجساد مرضى الإيدز المنهارة مناعياً تصبح حقلاً خصبا لهذه الأمراض التي يمكن أن تنتقل وتنتشر كالنار في الهشيم عن طريق المعايشة العادية دون حاجة للاتصال الجنسي.(8/1293)
الأحكام المتعلقة بمرض نقص المناعة المكتسبة
(الإيدز)
1- حقوق المريض ذي الأعراض الظاهرة وواجباته نحو المجتمع:
مرض الإيدز طاعون فتاك ووباء قاتل، لا يمكن مقارنته بالأمراض المستعصية الأخرى، فهو ينتقل بالدرجة الأولى من مريض لآخر عن طريق الاتصال الجنسي القائم على الممارسات الشاذة كاللواط أو الممارسات الفاحشة كالزنا والدعارة، أو الممارسات العادية بين الأزواج إذا كان أحدهما مصابا بالمرض، كما ينتقل مرض الإيدز عن طريق الحقن الوريدي بين مدمني المخدرات وبين مرضى الهيموفيليا الذين يقعون ضحية نقل دم ملوث إليهم، ويمكن انتقاله أيضاً إلى المواليد والأطفال عن طريق أم تحمل فيروس المرض أثناء الحمل أو الولادة أو الرضاعة. كما يمكن انتقاله عن طريق الإبر الملوثة وشفرات الحلاقة إذا سبق أن استخدمها شخص مصاب بالإيدز.
من هنا لا بد لنا من التمييز بين المريض الذي يكتسب العدوى عن طريق الممارسات المخالفة لشرع الله، والمريض الذي يكتسبها عن طريق الخطأ دون ذنب له أو إثم.
إن توفير الرعاية الصحية للمرضى حق أساسي من حقوق المواطن، بغض النظر عن الأسباب المؤدية للإصابة بالمرض. وبما أن مرض الإيدز هو من الأمراض التي لا يمكن علاجها أو الشفاء منها حتى الآن، وهو من الأمراض الخطيرة القاتلة والمعدية، فإنه لا بد من عزل المريض مع تقديم الرعاية الصحية اللازمة له في منتجعات أو مراكز متخصصة تتوفر فيها وسائل الراحة وعناصر الحياة الطبيعية التي تسمح للمريض بالمساهمة بأعمال يتقنها أو حرفة يتعلمها تمكنه من كسب قوته وتغطية نفقات علاجه وإعانة أسرته وخدمة مجتمعه، ويستحسن بقاء المريض في تلك المراكز حتى وفاته أو لحين ظهور دواء أو لقاح يشفيه بإذن الله تعالى.(8/1294)
إن إقامة مراكز متخصصة ومجهزة للاهتمام بالمصابين بمرض الإيدز وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية والمادية لهم أمر في غاية الأهمية، تتحمل مسؤوليته الدول المعنية؛ لأنه يوفر حاجزاً منيعاً يحمي مجتمعاتها من أخطار المصابين وحاملي الفيروس الذين يتم كشفهم والتعرف عليهم. كما أن فصل هذه المراكز وتقسيمها إلى شطرين يتيح المجال أمام المسؤولين للتعامل مع المصابين الذين التقطوا العدوى بطريق الخطأ بأسلوب إنساني وحضاري يختلف عن الأسلوب الواجب اتباعه مع المصابين من مرتكبي الفاحشة وممارسي الدعارة والشذوذ والزنا. وعلى المجتمع أن يراعي سرية أسماء المصابين بعد عزلهم؛ حرصاً على مشاعر أفراد عائلاتهم وحماية لمصالحهم، وتفادياً لإحراجهم أمام الآخرين ووصمهم بعار لا ذنب لهم فيه. فالإشاعات والافتراضات الخاطئة قد تؤذي أفراد هذه الأسر وتحرمهم نعمة العيش الكريم، وتهدد مستقبلهم المهني ومركزهم الاجتماعي. ويستحسن السماح لعائلات المرضى وأقاربهم وأصدقائهم بزيارتهم في تلك المراكز وبالاختلاط معهم إذا كان المرضى من الفئة التي اكتسبت المرض عن طريق الخطأ، أما عائلات المرضى الذين اكتسبوا المرض عن طريق الممارسات الشاذة أو غير المشروعة فإن لقاءهم بمرضاهم يجب أن يتم من وراء حاجز عازل.
من واجبات المرضى والمصابين نحو المجتمع أن يعلموا أزواجهم وزوجاتهم وأرباب أعمالهم بالمرض، وأن يزودوا السلطات الصحية بأسماء كافة الأشخاص الذين كان لهم اتصال جسدي معهم قبل الإصابة وبعدها، مع الامتناع عن ممارسة العلاقات الزوجية لتفادي نقل العدوى إلى الزوجة وإلى جنينها إن حملت.
2- واجبات حامل المرض الذي لم تظهر عليه الأعراض والذي يكتشف أمره بعد تحليل الدم، نحو أسرته ونحو المجتمع:
نظراً لكون مرض الإيدز من الأمراض القاتلة التي لا يوجد لها علاج حتى الآن، والتي تمتد مرحلة حضانة المرض فيها لعشر سنوات أو أكثر يكون خلالها حامل الفيروس إنساناً معدياً، فإنه يتوجب على حامل الفيروس الذي يتم اكتشافه دون ظهور الأعراض المرضية أن يقوم بإبلاغ زوجته وأفراد أسرته وأرباب عمله والمسؤولين الصحيين عن طريقة التقاطه لفيروس المرض، وأن يكشف لهؤلاء المسؤولين عن أسماء الأشخاص المتورطين معه جنسياً، حرصاً على السلامة العامة ومنعاً لانتشار العدوى. كما يفترض منه الامتناع عن ممارسة الجنس مع زوجته مع إعطائها الحرية في طلب فسخ النكاح إذا كان في ذلك فائدة لها ولأطفالها. ويتوجب على الأطباء والمسؤولين الصحيين وبحكم القانون إبلاغ زوجة الشخص المصاب أو زوج المرأة المصابة عن حقيقة مرضهم؛ حتى يتسنى لهم اتخاذ الاحتياطات اللازمة والكفيلة بحمايتهم وحماية أطفالهم. وكما تتحمل السلطات الصحية والجهات الرسمية المختصة مسؤولية عزل الشخص المصاب لحماية المجتمع منه ومن فيروس المرض الذي يحمله. ولقد أصدرت دولة الكويت قانوناً يلزم وزارة الصحة بإبلاغ الزوج أو الزوجة إذا ثبت إصابة أحدهما بالمرض.(8/1295)
3 - هل تقع على مريض الإيدز عقوبة إذا تسبب في إصابة شخص آخر؟
سبق وذكرت أن مرض الإيدز وباء قاتل ولا يوجد له علاج، ولا يمكن الشفاء منه حتى الآن، وهذا يعني أن أي إنسان يتسبب في نقل هذا المرض إلى غيره من الناس يستحق العقاب والمحاسبة؛ نظراً لارتكابه جريمة خطيرة أشبه ما تكون بجريمة القتل العمد، وقد تختلف الآراء في حجم وكيفية العقاب، إلا أنه إجراء ضروري جداً؛ لأنه يلقن المذنب وكل من تراوده نفسه القيام بمثل تلك الأفعال الإجرامية المشينة درساً في الحفاظ على سلامة الآخرين.
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] .
وتجدر الإشارة إلى أن مرسوماً أميرياً قد صدر في دولة الكويت منذ عشرة أشهر يجعل النقل المتعمد لفيروس مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن لمدة تصل إلى سبعة أعوام، مع دفع غرامة مالية تصل قيمتها إلى سبعة آلاف دينار كويتي (حوالي 24 ألف دولار أمريكي) .
وإذا كان عقاب تجار المخدرات ومروجيها يصل أحياناً إلى السجن لسنين عديدة أو يؤدي إلى الإعدام في بعض الدول، فإن ناقل مرض الإيدز وهو الأخطر بين الأمراض، يستحق عقاباً صارماً ورادعاً يتناسب وخطورته.
4- هل يجوز للمرأة طلب فسخ النكاح عندما تتبين إصابة زوجها بمرض الإيدز؟
على الرغم من أن فيروس الإيدز لا ينتقل عن طريق اللمس والتنفس والطعام والشراب، أو عن طريق استخدام المناشف والأغطية والمراحيض وحمامات السباحة، إلا أنه ينتقل مباشرة عن طريق المعاشرة الجنسية، وهذا يهدد سلامة الزوجة وسلامة الجنين إذا تحقق الحمل. وإذا ما التزمنا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) فإننا نؤيد حماية الزوجة من الضرر الكبير الذي يمكن أن يلحقه زوجها بها وبأطفالها، ونؤيد حقها في طلب فسخ النكاح، خاصة وأن مرض الإيدز يعتبر من الأمراض المعدية والمنفرة الأشد خطراً من أمراض الجذام والبرص التي تمنع الجماع شرعاً، والتي يمكن انتقالها إلى الجنين. كما نؤيد حقها في طلب التعويض المالي الذي يقره الشرع والقانون، مع معاقبة الزوج إذا كانت إصابته بمرض الإيدز ناتجة عن ارتكابه الزنا أو عن طريق تعاطيه المخدرات بالحقن الوريدي.
ويمكن الاستعانة بقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، وذلك لتبرير تسريح الزوجة المهددة بواحدة من أشنع الأمراض المعدية التي لا علاج لها حالياً والتي تهدد الحياة والنسل أيضاً.(8/1296)
5- ما حكم إجهاض المرأة المصابة إذا حملت؟
إن احتمال انتقال عدوى الإيدز من المرأة الحامل المصابة بفيروس المرض إلى جنينها عبر المشيمة أمر وارد وموثق علمياً. كما أن احتمال انتقال العدوى إلى الطفل أثناء عملية الولادة من خلال الإفرازات المهبلية للأم، أو أثناء الرضاعة بسبب تلوث حليبها أمور ممكنة أيضاً، وهذا يعني أن الطفل المولود من امرأة مصابة بالمرض قد يبلى بهذا الوباء القاتل منذ نعومة أظفاره، وأنه سيشوه بأعراضه ويعاني منها حتى مماته. وخلال تلك الفترة ستكون السلطات الصحية مسؤولة عن رعايته وإعاشته وتربيته وتعليمه وعزله عن المجتمع عند بلوغه. وبما أن إجهاض المرأة المحتمل أن تنقل أمراضاً وراثية خطيرة إلى جنينها كان موضع بحث مستفيض في السابق من قبل السلطات الصحية والسلطات الشرعية والدينية في جمهورية مصر العربية، فإن إجهاض المرأة المصابة بمرض الإيدز إذا حملت ولم يمض على حملها سوى أسابيع معدودة، أي قبل نفخ الروح في الجنين، أمر قابل للبحث والاعتبار. ومن المفيد معرفة القرار النهائي الذي توصلت إليه السلطات المعنية في مصر بخصوص إجهاض المرأة الحامل التي يتبين احتمال إصابة جنينها بالتشوه الوراثي.
6- هل يمنع الطفل المصاب بفيروس الإيدز من الالتحاق بالمدرسة إذا كانت صحته جيدة؟
أثارت حادثة منع بعض الأطفال المصابين بفيروس الإيدز من الالتحاق بالمدارس في الولايات المتحدة الأمريكية عاصفة من الاحتجاج؛ لأن هذا المرض لا ينتقل عن طريق المصافحة والملامسة أو عن طريق التنفس والاختلاط الاجتماعي البريء بين الأطفال في المدارس أو المنازل أو أماكن اللعب والتسلية. وبما أن إصابة الطفل بفيروس الإيدز تكون عادة ناجمة عن عدوى لا ذنب له فيها، فإنني لا أرى مبرراً يمنعه من الالتحاق بالمدرسة، شريطة إبلاغ المسؤولين والمعلمين عن هذه الإصابة حتى يتسنى لهم اتخاذ الإجراءات والاحتياطات الضرورية التي تكفل عدم انتقال دم الطفل إلى زملائه في المدرسة في حالة تعرضه إلى حادث معين أو إصابته بجروح دامية أو أمراض خطيرة معدية كالسل. كما يستحسن توعية الأطفال في المدارس على طرق انتقال العدوى وأهمية تفادي لمس دم زميلهم المصاب أو التسبب في جرحه وإيذائه، وعلى مسؤولي وزارة الصحة أن يقوموا بعزل الطفل عن المجتمع عند بلوغه حرصاً على سلامة الغير.(8/1297)
7- ما هي حقوق الجنين المولود الحامل للمرض تجاه أسرته ومجتمعه؟
حقوق الجنين المولود الحامل لمرض الإيدز تجاه أسرته ومجتمعه لا تختلف عن حقوق أي طفل آخر. فهو يستحق الرعاية والاهتمام والعيش بأمان واطمئنان مع متابعة تحصيله العلمي حتى سن البلوغ. بعدها يجب عزله في مراكز تتوفر فيها وسائل الراحة والثقافة والعلاج. كما يحق له رؤية أسرته والاختلاط معها بين الحين والآخر ضمن حدود المركز الذي يتم عزله فيه. هذا بالإضافة إلى حقه في العمل وكسب رزقه الحلال من خلال أعمال ومهام يقوم بها داخل ذلك المركز.
8- هل يطلب إجراء فحص الدم على الحجيج القادمين من المناطق الموبوءة للتأكد من عدم إصابتهم بمرض الإيدز؟
الحج ركن من أركان الإسلام الخمس وفريضة أساسية واجبة على كل مسلم قادر صحياً ومادياً وعقلياً وجسدياً. ولا أجد مانعاً يحول دون طلب إجراء فحص للدم على الحجيج القادمين من المناطق الموبوءة للتأكد من عدم إصابتهم بمرض الإيدز. أما قرار منع المصابين وحاملي فيروس المرض من أداء شعائر الحج فإنه يحتاج إلى دراسة فقهية عميقة تطرح الأسباب الموجبة للمنع. وإذا كانت دول عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية، التي تتغنى بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، تمنع حاملي المرض من دخول أراضيها لمجرد حضورهم مؤتمراً لا تتعدى مدته الأسبوع الواحد؛ خوفاً على زيادة انتشار المرض في أراضيها وبين مواطنيها، فإن للمملكة العربية السعودية الحق أيضاً في حماية بيت الله وكافة الحجيج الذين يزورون أراضيها وذلك بمنع دخول من يثبت أنه حامل للمرض أو مصاب به. وإذا كان الإسلام قد نهانا عن دخول الأراضي التي يتفشى فيها الطاعون وعدم مغادرتها إذا كنا فيها، فإنه بلا شك سينهانا عن السماح للطاعون وحامليه بدخول أراضينا إذا كانت لدينا القدرة والوسيلة على تحقيق ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها)) .(8/1298)
9- ما هي الوقاية التي ينبغي الأخذ بها عند الحلق بالجمرات لاتقاء الإصابة بنقل فيروس الإيدز أو فيروس التهاب الكبد؟
إن عملية الحلق بالجمرات تحتاج إلى تنظيم وإشراف وحزم ومراقبة مستمرة نظراً لما تشكله من خطر كبير على الحجيج الذين يسلمون أنفسهم للباري عز وجل غير آبهين بالأخطار التي تتهددهم لاعتقادهم أن هذه العملية مجرد مسألة روتينية بسيطة، لا مجال للشك بها أو الخوف منها. وبما أن مرض الإيدز ومرض التهاب الكبد ينتقلان عن طريق التلوث بدم أحد المصابين، فإن هنالك احتمالاً كبيراً في أن يكون بين الحجيج من يقوم برحلته الأخيرة متضرعاً لله عز وجل طالباً الصفح والغفران لأنه يعلم أن نهايته قريبة نظراً لإصابته بمرض الإيدز وحمله لفيروسه القاتل.
وهذا يعني أن أية جروح تظهر نتيجة الحلق بالجمرات عند مريض مصاب ستنقل فيروس المرض إلى الشخص الذي يليه في عملية الحلق. خاصة وأن معظم الحلاقين لا يعقمون أدواتهم تعقيماً صحيحاً ولا يستخدمون الشفرات التي يمكن تغييرها واستبدالها مباشرة بعد كل حلاقة. أضف إلى ذلك وجود عدد كبير من الحلاقين الغير مرخصين والغير مؤهلين الذين لا هم لهم سوى الكسب المادي الرخيص الذي يمكن أن يكلف عدداً كبيراً من الحجيج أرواحهم.
لذا فإنه من الضروري جداً أن تقوم السلطات المختصة بتنظيم هذه العملية وتوفير أدوات الحلاقة التي يمكن استخدامها أو استخدام شفراتها لمرة واحدة فقط، وعدم السماح لغير الحلاقين المؤهلين والمرخصين بالقيام بمثل هذا العمل؛ حرصاً على سلامة الحجيج، والله من وراء القصد.
أ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان(8/1299)
بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعية
الناتجة عن مرض الإيدز
(نقص المناعة المكتسبة)
إعداد
الدكتور محمد علي البار
مستشار الطب الإسلامي بمركز الملك فهد
للبحوث الطبية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والقائل في محكم التنزيل: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] . والقائل عز من قائل: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] .
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله وصحبه أجمعين، والقائل: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) . (1) والقائل: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) . (2)
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أن شاعت الفاحشة في بلاد الغرب ومنه إلى مختلف بلاد العالم إلا أصابهم الله بآفة الأمراض الجنسية، وأخطرها متلازمة نقص المناعة المكتسب المعروف باسم الإيدز (أو سيدا في الجهات الناطقة بالفرنسية) .
تعريف الإيدز:
هو مرض سببه فيروس من الفصيلة المنعكسة (Retrovirus) ينتقل أساساً عبر الاتصال الجنسي، سواء كان بين ذكر وذكر، أو ذكر وأنثى، كما ينتقل أيضاً عبر الدم ومحتويات الدم. ويؤدي إلى فقدان المناعة؛ لأن الفيروس يهاجم الخلايا اللمفاوية المسؤولة عن المناعة،، وبالذات الخلايا اللمفاوية T4، فإذا ضعف جهاز المناعة تناوشت الجسم الميكروبات الانتهازية (Opportunistic infections) ، وهي ميكروبات وطفيليات لا صولة لها ولا جولة عند وجود جهاز المناعة السوي، ولكنها تستغل ضعف جهاز المناعة فتهجم على الجسم الضعيف المقاومة فتصرعه وتقضي عليه. وأهم هذه الميكروبات والطفيليات:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك، وابن ماجه في سننه، والبزار.(8/1300)
1- الطفيلي المتموصل في الرئتين (Rneumo cystis carini) ويؤدي إلى وفاة نصف حالات الإيدز في أوروبا والولايات المتحدة
2- ميكروب الدرن (بأنواع غير معتادة) وأكثر انتشاره في إفريقية.
3- طفيليات البوغيات المختفية (Cryptospordium) ويسبب الإسهال الشديد، وأكثر انتشاره في إفريقية، ويؤدي إلى وفاة نسبة غير قليلة من مرضى الإيدز.
ويؤدي إضعاف جهاز المناعة أيضا إلى انتشار الأورام الخبيثة، وأهمها دون ريب ورم (غرنه) كابوسي الذي يؤدي إلى وفاة ما لا يقل عن 25 % من حالات الإيدز.
كيفية انتشار الإيدز:
رغم أن المصاب بالإيدز تخرج فيروسات الإيدز في إفرازاته كلها، بما فيها الدموع والبول واللبن من المرضع، إلا أن وسائل العدوى تتركز في العوامل الآتية فقط.
1- الشذوذ الجنسي (اللواط)
2- الزنا
ويشكل هذان العاملان اليوم ما يوازي 90 % من حالات انتشار الإيدز، ويعتبر الشذوذ الجنسي (اللواط) العامل الأساسي في حدوث الإيدز وانتشاره في الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا الغربية بصورة خاصة، حيث الشاذون جنسيا ما بين 70 و80 % من جميع حالات الإيدز في هذه البلاد.
ويعتبر الزنا العامل الأساسي في إفريقية الاستوائية، وفي الوباء الذي انتشر مؤخرا في الهند وبانجوك (تايلند) ، حيث بلغت نسبة المصابات بفيروس الإيدز من البغايا في بومباي (الهند) وبانجوك أكثر من 70 %. وبلغت نسبة البغايا الحاملات لفيروس الإيدز في نيروبي (كينيا) وبيوتار (رواندا) وزائير وزامبيا وأوغندا وأنجولا ما بين 80 و90 %.
3- الدم ومحتويات الدم: وهذا العامل كان مهما في الماضي حتى عام 1986 عندما ظهر فحص إليزا (Elisa) الذي يمكن بواسطته معرفة الدم الملوث. وبالتالي لم يعد هذا العامل مهما في تسبيب الإيدز اليوم. وإن كان قد أصاب آلاف الأشخاص في مختلف أنحاء العالم بالإيدز، وجعل عشرات الآلاف يحملون الفيروس. وبما أن المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى كانت تستورد الدم الملوث بفيروس الإيدز من بريطانيا والولايات المتحدة حتى عام 1986، فإن كثيرين ممن تلقوا هذا الدم الملوث أصيبوا بالإيدز أو يحملون فيروس الإيدز في المملكة ودول الخليج.(8/1301)
وبما أن هؤلاء المصابين بالإيدز أو الحاملين لفيروس الإيدز يطلبون تعويضا في الولايات المتحدة وأوربا، وتقوم المحاكم هناك بإعطاء المصاب بالإيدز نتيجة نقل الدم تعويضا يبلغ مليون دولار أو أكثر، فإن من حق من أصيبوا بالإيدز في المملكة ودول الخليج نتيجة الدم الملوث أن يطالبوا المستشفيات بهذه المبالغ. كمما أن من حق المستشفيات أن تطلب هذه المبالغ من المصادر التي مولتها بهذا الدم الملوث!! وهي مبالغ تصل إلى آلاف الملايين من الدولارات والتي ينبغي أن نطالب بها الولايات المتحدة وبريطانيا.
ونحن نعرف يقيناً أنه لو أصيب بريطاني أو أمريكي بالإيدز نتيجة دم ملوث من البلاد العربية لحجزوا الأموال العربية الموجودة لديهم حتى يتم دفع التعويض المطلوب الذي قد يبلغ عشرات الملايين من الدولارات!!
4- انتقال فيروس الإيدز عن طريق الحقن والإبر الملوثة. وأكثر ما يكون ذلك لدى مدمني المخدرات الذين يتعاطونها بواسطة الحقن بالوريد. ولذا فإن الدول الغربية ومنظمة الصحة العالمية تقدم نصائحها لهؤلاء على الوجه التالي: ينبغي أن تتحول من الحقن إلى الشم أو البلع!! إذا لم تستطع ذلك فعليك باستخدام حقن معقمة ولا تشارك أحداً في حقنتك!! ويعتبر استخدام المخدرات بطريق الحقن الملوثة مسؤولاً عن 20 – 25 % من حالات الإيدز في أوربا والولايات المتحدة.
5- انتقال فيروس الإيدز من الأم المصابة إلى جنينها. وتقول منظمة الصحة العالمية: إن هناك ما يقارب مليون طفل حاملين فيروس الإيدز بهذه الطريقة حتى نهاية عام 1992، 75 % منهم في إفريقية. وتقرر منظمة الصحة العالمية أن 25 – 30 % من الحوامل المصابات بفيروس الإيدز سينقلن هذا الفيروس إلى أجنتهن. ثم إن نسبة أخرى ستصاب بالفيروس بعد الولادة نتيجة الرضاعة والاتصال الحميم بين الأم ووليدها.
6- ينتقل فيروس الإيدز أيضاً بواسطة التلقيح الاصطناعي وزرع الأعضاء، وهي حالات محدودة، وفي منطقة الخليج والمملكة هناك 14 شخصاً يحملون فيروس الإيدز نتيجة زرع الكلى.
7- ينتقل فيروس الإيدز أيضاً عن طريق العمليات الجراحية أو الإصابة بإبرة أثناء سحب الدم من المريض أو أثناء استخدام الآلات مثل أدوات طبيب الأسنان عندما تستخدم لأكثر من مريض. وهذه الحالات جميعاً نادرة الحدوث جداً.(8/1302)
ومثلها الحالات التي يمكن أن تحدث نتيجة الحجامة أو الحلاقة بموس واحد لأكثر من شخص، أو عمليات الوشم التي تمارس في بعض المناطق الريفية وعند غير المسلمين، وهذه كلها تعتبر من المخاطر المحتملة، وإن كانت نادرة الحدوث إلى وقتنا هذا.
وبما أن بعض القادمين للحج يأتون من مناطق ينتشر فيها فيروس الإيدز فإن عملية الحلق التي تتم عند الجمرات ينبغي أن يتم الإشراف عليها حتى لا يستخدم الموس لأكثر من شخص واحد.
معلومات هامة عن الإيدز:
في نهاية عام 1992 وإطلالة 1993 كانت تقديرات منظمة الصحة العالمية عن الإيدز كالتالي:
1- عدد الذين يحملون الفيروس يقدرون بعشرة إلى اثني عشر مليوناً من البالغين ومليوناً من الأطفال. ويقدر أن نصف البالغين وثلاثة أرباع الأطفال من إفريقية الاستوائية.
2- عدد الحالات الجديدة التي تصاب بفيروس الإيدز سنوياً (حاملة للمرض) تقدر بنصف مليون حالة، 300000 للذكور و200000 للإناث.
3- عدد الوفيات المتوقعة بسبب مرض الإيدز منذ ظهوره عام 1981 حتى نهاية عام 1992 هي 1.7 مليون.
4- عدد حالات الإصابة بفيروس الإيدز في العالم العربي حتى نهاية عام 1992 يقدرون بـ 75000.
5- العدد الفعلي المسجل لحالات الإيدز في العام نصف مليون بينما تقدره منظمة الصحة العالمية بمليونين.
6- العدد الفعلي المسجل للوفيات من الإيدز في العالم حتى عام 1992 هو ربع مليون فقط.
7- العدد الفعلي المسجل لحالات الإيدز في البلاد العربية والمبلغ عنها إلى منظمة الصحة العالمية حتى نهاية عام 1992 هو 1296 شخصاً فقط.
ولا شك، كما تقول منظمة الصحة العالمية، أن هناك فرقاً كبيراً بين تقديرات منظمة الصحة العالمية وما هو مسجل بالفعل. وتعتقد المنظمة أنه لا يتم التبليغ في كثير من بلاد العالم عن حالات الإيدز.(8/1303)
8- ليس كل من دخل فيروس الإيدز إلى جسمه سيصاب حتماً بمرض الإيدز.
9- حامل فيروس الإيدز قد يكون صحيح الجسم ولا يشكو من أي مرض، ومع هذا ينقل الفيروس إلى غيره.
10- مدة الحضانة في فيروس الإيدز قد تصل إلى عشر سنوات، أي أن الشخص قد يحمل فيروس الإيدز لمدة عشر سنوات قبل أن يظهر عليه المرض.
11- مرض الإيدز حتى الآن لا علاج له يقضي عليه، ولكن هناك عقاقير كثيرة تخفف من المرض وتداوي الأمراض الناتجة عن الميكروبات الانتهازية والأورام الناتجة عن نقص المناعة.
ولذا فإن بعض مرضى الإيدز يعيشون لفترات طويلة، وقد شاهدت أحد مرضى الإيدز الذين لا يزالون على قيد الحياة رغم ظهور الإيدز لديه منذ عشر سنوات، ولكن من المعلوم أن معدل الحياة بعد ظهور الأعراض هو ما بين عامين إلى ثلاثة فقط.
بعض المشاكل الناتجة عن الإيدز:
مريض الإيدز حقوقه وواجباته نحو المجتمع وهل يتم عزله؟
إن الشخص المصاب بالإيدز يسبب الهلع للمجتمع نتيجة لما اعتور هذا المرض من حملات تخويف مرعبة، ولذا فإن المصاب بالإيدز، في كثير من الأحيان، ينبذ ويعامل بقسوة. والمشكلة تختلف من بلد لآخر، وهي أشد ما تكون في إفريقية الاستوائية حيث نسبة الإصابة بفيروس الإيدز عالية.
ولا بد من إفراد مستشفيات أو أجزاء من مستشفيات لمداواة مرضى الإيدز، واتخاذ الاحتياطات اللازمة، وخاصة عند أخذ التحاليل الطبية، وإزالة إفرازات المريض، وكذلك عند غسل الميت المصاب بالإيدز للتوقي من إفرازاته التي تحمل فيروس الإيدز والتي يمكن أن تدخل إلى جسم الإنسان عبر شقوق صغيرة غير مرئية في جلده.(8/1304)
وبما أن مريض الإيدز قد تطول به حياة لعدة سنوات، فإنه من المتعذر إبقاؤه طوال هذه المدة في المستشفى. ولذا ينبغي أن يعود إلى بيته في الحالات والأوقات التي لا تستدعي حالته دخول المستشفى. وأن يقدم لأهله وذويه المعلومات الكافية في كيفية رعايته دون أن يتعرضوا للعدوى.
وبما أن العدوى لا تحدث (في الغالب الأعم) إلا عن طريق الممارسة الجنسية (الجماع) أو الدم، فإن تجنب الوقاع والدم أمر متيسر. وغالباً ما يكون المريض بالإيدز في حالة صحية لا تسمح له بطلب الوقاع.
ينبغي أن يعامل المجتمع مريض الإيدز بما يجب نحوه من الشفقة والرحمة، وخاصة أن كثيراً ممن أصيبوا بهذا المرض الخبيث في بلادنا كان ناتجاً عن نقل الدم في الأساس، وهو بالتالي ضحية من الضحايا دون ذنب اقترفه. وقد يكون اتصل بزوجته قبل أن يعلم بإصابته ونقل إليها المرض، وكذا الأطفال، وهؤلاء كلهم أبرياء.
ثم على فرض أن الشخص قد ألم بخطيئة، ثم تاب، فإن في المرض كفارة له، وواجب المجتمع معاملته بالشفقة والرحمة، والله يتولانا جميعاً برحمته، والراحمون يرحمهم الرحمن.
وواجب من أصيب بفيروس الإيدز عند معرفته ذلك أن يستسلم أولاً لقضاء الله وقدره، ويبادر بالتوبة، ويستعد لما لا بد له منه وهو ملاقاة ربه. ولا يفعل مثلما يفعل الكفرة الذين يبادرون إلى الانتحار والعياذ بالله، فينهي بذلك حياته أسوأ نهاية، وينتقل من عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة.
ثم إن واجبه بعد ذلك أن يعرف كيفية انتقال المرض إلى الآخرين، وأن يحرص كل الحرص على عدم إصابتهم، وعلى النصح لهم، وأن لا يغش إخوانه المسلمين.
ومن فضل الله أن طرق العدوى محصورة أساساً في الاتصال الجنسي (الوقاع) والدم. وعليه أن يمتنع عن الوقاع مع زوجته. وفي الغالب سيكون المريض عازفاً عن ذلك بسبب مرضه وحالته النفسية، ولزوجته الحق في الامتناع عن ذلك إذا طلبها حتى مع استخدام الرفال (الكبوت الواقي) ، فإنه وإن كان يقي إلى حد كبير إلا أنه غير مضمون، وبالتالي لا تزال الخطورة من العدوى موجودة حتى مع استعماله. أما إذا كانت الزوجة قد أصيبت بالفيروس بسبب اتصالها بزوجها قبل أن يعلم بمرضه، فإنه في هذه الحال تستطيع معاشرته جنسياً إذا رغب في ذلك.(8/1305)
وفي كثير من الدول تقوم الحكومة ممثلة بهيئاتها الطبية بتوفير رعاية صحية دورية للمصاب بالإيدز في منزله، أو في مستوصفات خاصة أعدت لذلك، حتى يتم خفض كلفة المستشفيات العالية، ولا يدخل المريض المستشفى إلا عند الحاجة أو الضرورة.
كما أن كثيراً من المجتمعات تقدم خدمات اجتماعية لمرضى الإيدز بواسطة جمعيات ترعى شؤونهم، وخاصة أن مريض الإيدز قد يفقد أهله أو زوجته أو أن يترك الزوج زوجته المصابة بالإيدز ويتزوج غيرها، وقد لا تجد رعاية من أهلها خوفاً من المرض.
ونشر الوعي ووسائل انتقال الإيدز كفيلة بتخفيف هذه المشاكل والمعاناة.
حامل فيروس الإيدز.. حقوقه وواجباته:
يجب على حامل المرض أن يعرف زوجته (والعكس كذلك) بأنه حامل لهذا الفيروس، وبالتالي يتم إجراء فحص لها، فإذا كانت لم تصب بعد بالفيروس، فينبغي إعادة الفحص بعد شهرين أو ثلاثة لاحتمال كونها في الفترة الأولى من الحضانة التي يكون التحليل فيها سلبياً، فإذا ما تكرر وتأكد أنها لا تحمل الفيروس فإن عليها أن تتخذ كافة الإجراءات الوقائية لعدم حصول العدوى من زوجها منذ اللحظة التي تعلم فيها بأنه حامل للفيروس.
يمكن للرجل أن يعاشر زوجته دون حدوث وقاع؛ إذ إن العدوى متعلقة أساساً بالوقاع. كما يمكن استخدام الرفال (الكبوت. الواقي. الكوندم) . ولكن ينبغي معرفة أن الرفال قد ينخرم أو يسقط أثناء الجماع، وبالتالي قد تحدث العدوى.(8/1306)
هل يجوز للمرأة فسخ النكاح عندما تتبين أن زوجها يحمل فيروس هذا المرض؟ أو أنه بالفعل مصاب بهذا المرض؟
لا بد أولاً من إجراء فحوصات لها؛ لأنها قد تكون بالفعل قد أصيبت بالفيروس قبل أن يعرف زوجها بالحقيقة، وبالتالي لا لوم عليه ولا تتريب؛ حيث إنه لم يتعمد إخفاء الحقيقة عنها؛ إذ إنه بمجرد معرفته أخبرها بذلك، فإذا كانت الزوجة أيضاً تحمل الفيروس فأي فائدة ترجى من فسخ النكاح؟ أما إذا كانت الزوجة سليمة فإنها يمكن أن تعاشر زوجها دون حدوث جماع فعلي إذا رغبا في ذلك. وليس من حق الزوج أن يجبرها على أن تواقعه؛ لأن في ذلك خطراً عليها حتى مع استعمال الرفال الواقي، فإذا رضي الزوج بذلك فلماذا تطلب فسخ عقد النكاح؟
وليس من حق الزوج، إذا كان مصاباً بفيروس الإيدز (حاملاً أو مريضاً) أن يجبر زوجته على الجماع؛ بل ينبغي أن يتجنب ذلك حتى مع استعمال الرفال الواقي.
هل يتم عزل المريض عن المجتمع؟
أجمعت الهيئات الطبية ومنظمات الصحة العالمية على عدم الحاجة لعزل المريض بالإيدز أو حامل فيروس الإيدز عن المجتمع؛ لأن العدوى لا تتم إلا بطريقين أساسيين هما الاتصال الجنسي (الجماع) والدم.. وكلاهما لا يمنع الاتصال العادي بمريض الإيدز أو حامله. ويمكن لحامل المرض بل والمصاب بالإيدز إذا سمحت صحته بذلك، أن يمارس عمله العادي؛ لأنه غير معدٍ لغيره من الأشخاص بطريق التنفس أو المصافحة، ومع هذا ينبغي الحذر من استخدام أدوات المريض –أو حامل الإيدز- الشخصية مثل فرشاة الأسنان أو موس الحلاقة. وينبغي الحذر الشديد عند فحص دمه أو إفرازاته. كما ينبغي أن يتجنب حامل الفيروس الرياضة العنيفة؛ لاحتمال إصابته وخروج دم منه، فإذا جاء المسعفون له تعرضوا بسبب دمه للعدوى. ويمنع حامل الفيروس أيضاً من التبرع بالدم أو أي من أعضائه حياً أو ميتاً.
ويجب على المريض بالإيدز أو حامل الفيروس أن يخبر الطبيب وطبيب الأسنان والمختبر بالحقيقة إذا كانوا لا يعلمونها عند إجراء فحوص له؛ ليأخذوا حذرهم، وإن كان المفترض في الهيئة الطبية أن يأخذوا حذرهم في جميع الأحوال وعند فحص كل مريض.(8/1307)
هل يتم إبلاغ جهة العمل؟
بالنسبة لحامل الفيروس الصحيح الجسم لا يبدو هناك أي داع لإبلاغ جهة العمل، وخاصة أن جهات العمل عادة ما تقوم بفصل حامل الفيروس وطرده من عمله.. وللأسف فإن هذا الإجراء شائع جداً في كثير من بلاد العالم بما فيها منطقة الخليج. أما في حالة المرض فإن المصاب بالإيدز سيتكرر تغيبه ثم سيطول غيابه بعد ذلك، وبالتالي ستقوم جهة العمل بفصله، وهو أمر منطقي سواء عرفت جهة العمل بمرضه الحقيقي أم لا!! ولهذا فلا أرى أي مبرر لمعرفة جهة العمل بمرضه الحقيقي، وخاصة أن مرضه غير معد لغيره من الناس سوى بالاتصال الجنسي والدم كما أسلفنا، وكلاهما مستبعد جداً جداً في مجال العمل.
من المسؤول عن رعاية وإعاشة مريض الإيدز؟
لا شك أن الدولة مسؤولة عن توفير الرعاية الصحية لمواطنيها، وبالتالي تقوم الدولة برعاية مريض الإيدز. ولا يعني ذلك إبقاء المصاب بالإيدز فترات طويلة في المستشفى؛ إذ لا توجد الحاجة الحقيقية للمستشفى إلا في أوقات اشتداد المرض، وما عدا ذك يمكن أن يبقى المريض في بيته مع أهله مع توجيههم لكيفية رعايته وتوقي العدوى.. ولا بد من مرور ممرض كفء (أو ممرضة) بانتظام عليه.. وكذلك لا بد من زيارة الطبيب له من حين لآخر، أو يقوم المريض بصفة دورية بزيارة طبيبه المعالج، سواء كان ذلك في مستشفى أو في مستوصف أو عيادة.
وهناك تأمين صحي في كثير من البلدان، وذلك يخفف العبء إلى حد كبير على الدولة؛ حيث يشترك الشخص في أثناء صحته في هذا التأمين حيث يضمن العلاج والتداوي عند مرضه، أما إعاشة المريض بالإيدز فينبغي أن تتم حسب الإجراءات المتبعة في سائر الأمراض؛ حيث يصرف المعاش للمتقاعد والمريض. وإذا لم يكن ذلك كافياً تدخلت الدولة في شغل الضمان الاجتماعي للإنفاق عليه. أما إذا كان المصاب بالإيدز مقتدراً وله دخل أو ثروة فلا حاجة آنذاك للدولة أو الضمان الاجتماعي أو غيره.
وللأسرة دور هام في رعاية مريض الإيدز.. وإذا تم توضيح الحقائق للأسرة فإن الأسرة لن تتخلى عن فرد منها بسبب مرضه وحين حاجته لرعايتها.. ولا خوف على الأسرة من عدوى المرض إذا اتخذت الاحتياطات، وهي يسيرة معروفة وسهلة التطبيق.(8/1308)
هل على المصاب بالإيدز عقوبة إذا تسبب في إصابة شخص آخر؟
إذا قام حامل الفيروس أو مريض الإيدز بنقل المرض إلى غيره عامداً، سواء كان بالاتصال الجنسي (ولو كان بين الزوجين) أو بواسطة إبرة ملوثة بالدم، فلا شك أن هذا الشخص ينبغي أن يعاقب.
وفي الوقت الحاضر تتم محاكمة مسؤولين كبار في وزارة الصحة الفرنسية لأنهم أهملوا إجراءات فحص الدم (بعد ظهور فحص إليزا) ، وسمحوا بإعطاء دماء ملوثة بفيروس الإيدز إلى مجموعة كبيرة من الأطفال في فرنسا مصابين بمرض الهيموفيليا (الناعور) ، وأدى ذلك إلى إصابة المئات من هؤلاء الأطفال بمرض الإيدز. وقد حكمت المحكمة على المسؤولين بالسجن، وتم تعويض أهالي المصابين بآلاف الملايين من الدولارات.
وقد حكمت المحاكم أيضاً في الولايات المتحدة لكل طفل مصاب بالإيدز نتيجة نقل الدم الملوث أو محتويات الدم بمليون دولار؛ رغم أن هذه الحالات قد أصيبت قبل ظهور فحص الدم الخاص بمعرفة فيروس الإيدز (فحص إليزا) الذي لم يعرف ويعمم إلا في عام 1986م.
والموقف في دول الخليج والسعودية مشابه لذلك، فهناك مئات الأشخاص الذين أصيبوا بمرض الإيدز نتيجة نقل دم ملوث تم استيراده من نيويورك ولندن، وعليه فينبغي المطالبة بالتعويض من هذه الجهات التي باعت هذا الدم الملوث.. وللأسف رغم أنني قد طالبت بذلك مراراً وكتبته في الصحف إلا أن أحداً لم يلتفت بعد لهذا الأمر.
وهناك إجراء آخر هام، وهو أن تقوم الدولة بمراجعة الملفات في المستشفيات الحكومية والخاصة لمعرفة الأشخاص الذين تلقوا دماء مستوردة من الخارج حتى عام 1986م. وتقوم بالتالي بفحص دمائهم ومعرفة من منهم يحمل فيروس الإيدز حتى يتم أخذ الاحتياطات اللازمة.. وإذا ثبت أن الشخص يحمل فيروس الإيدز فينبغي آنذاك فحص زوجته (أو زوجه) وأطفاله؛ إذ ربما نقل لهم فيروس هذا المرض.(8/1309)
وبهذه الطريقة يمكن معرفة حالات الحاملين للفيروس.. وكان المفروض أن يتم ذلك الأمر منذ اكتشاف وسيلة فحص الدم وتعميمها في أكتوبر 1986م في المملكة ودول الخليج.
وللأسف الشديد فإن الدول العربية وكثير من الدول الأخرى اتخذت سياسة الإنكار (وليس لدينا حالات إيدز) .. ثم و (الحالات التي لدينا قليلة جداً) ، وما يتم إبلاغه لمنظمة الصحة العالمية هو جزء يسير من واقع الحال. وعملية الإنكار والكذب والمغالطة لا تفيد، بل على العكس تجعل المشكلة تتفاقم، وهو نفس الموقف الذي كنا نقفه قبل عشر سنوات من مشكلة المخدرات، حيث كان الاتجاه هو نفي وجود المشكلة من أساسها، حتى فاحت الرائحة الكريهة واستعلنت وعمت الأرجاء، وآنذاك فقط بدأت الحملة ضد المخدرات والاعتراف بوجود المشكلة، والبحث عن حلول لها.
ما حكم إجهاض المرأة المصابة بالمرض إذا حملت؟ وحقوق هذا الجنين؟
يقول الخبراء في منظمة الصحة العالمية وغيرهم من خبراء الإيدز في العالم: إن احتمال إصابة الجنين بفيروس الإيدز من أمه المصابة بهذا الفيروس هو 25 – 30 %. وبالتالي فإن ما لا يقل عن 70 % ممن ولدوا لأمهات يحملن فيروس الإيدز لن يصابوا به.. وهناك احتمال ضئيل بإصابة المولود أثناء عملية الولادة واحتمال ضئيل آخر بإصابته أثناء الرضاع أو الرعاية والالتصاق الشديد بالطفل.
لهذا كله يبدو أن إجراء الإجهاض من أجل هذا السبب يصعب تبريره طبياً. وأما إذا جاوز الحمل مئة وعشرين يوماً فإن إسقاطه يعتبر جريمة قتل إذا ما تم التأكد من حياة الجنين، والشريعة الغراء تحرم قتل مثل هذا الجنين.
والخلاصة: أن إسقاط مثل هذا الجنين في الأشهر الأولى من الحمل ليس له ما يبرره طبياً إذا كانت الحامل لا تعاني من أمراض أخرى ستزداد بالحمل. وأما إذا كان المرض متقدماً وسيزداد شراسة بالحمل فإن إجهاضه قبل نفخ الروح أمر قد أباحه كثير من الفقهاء الأجلاء والمجامع الفقهية.(8/1310)
ولا يجوز الإجهاض بعد نفخ الروح إلا إذا كان استمرار الحمل سيؤدي إلى قتل المرأة الحامل، وآنذاك تقدم حياتها على حياته. وهو ما قررته الفتاوى المجمعية والفردية لكثير من أجلة الفقهاء في العصر الحديث.. وهذا الأمر مستبعد كل البعد في حالة الإصابة بالإيدز.
وما هو أكثر احتمالاً هو إصابة الجنين بالتشوهات عند تعاطي العقاقير لمعالجة الأمراض الانتهازية الشديدة أو ورم كابوسي التي تصيب مرضى الإيدز.. وإذا حدث مثل ذلك وتأكد فإنه يجوز إسقاط الجنين متى ما كان ذلك قبل نفخ الروح كما قرره المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثانية عشرة (15 –22 رجب 1410 هـ / 10 – 17 فبراير 1990م) بمكة المكرمة.
وللأسف فإن الأطباء حتى الآن لا يستطيعون أن يقرروا هل الجنين مصاب بفيروس الإيدز أم لا، وخاصة في الأشهر الأولى من الحمل، ويمكنهم معرفة ذلك في أواخر الحمل بأخذ دم الجنين وتحليله، ولكن الجنين يكون قد جاوز 120 يوماً بيقين، فلا فائدة من إجراء مثل ذلك الفحص؛ لأن الإجهاض بعد نفخ الروح يحرم قولاً واحداً عند الفقهاء (ما عدا حالة تعرض الحامل لخطر الموت بسبب استمرار الحمل) .
لهذا كله أرى المحافظة على هذا الجنين، وأن تجتنب أمه رضاعه إذا ثبت بالتحليل أنه لا يحمل فيروس الإيدز.. والألبان المجففة متوفرة بكثرة، وكثير من الأمهات يلقمن أولادهن القارورة بدلاً من الثدي حتى في الحالات العادية، فما بالك في هذه الحالة.
وعلى المجتمع أن يرعى هذا الطفل بتوفير احتياجاته إذا كانت الأسرة فقيرة، أو إذا ماتت الأم بسبب المرض.. وهو أمر عام غير خاص بالإيدز، بل يتجاوزه إلى كل أسرة فقيرة وإلى كل طفل يتيم.
هل يمنع الطفل المصاب بفيروس الإيدز من الالتحاق بالمدرسة؟
لقد قرر المختصون بالإيدز في منظمة الصحة العالمية وغيرهم أن الطفل الحامل لفيروس الإيدز والذي يتمتع بصحة جيدة ينبغي أن لا يمنع من الدراسة والالتحاق بالمدرسة. ومع هذا فينبغي الاعتراف بأن هناك خطراً محتملاً بعيداً، وهو أن يصاب مثل هذا الطفل أثناء اللعب مع أقرانه وزملائه، فإذا حاول زملاؤه إسعافه فإن دمه الملوث قد يقع على أيديهم وأجسامهم.. وذلك قد يسبب العدوى إذا كانت هناك شقوق أو سحجات ولو غير مرئية لدى الشخص المنقذ. لذا ينبغي الاحتراز حول هذه النقطة، وينبغي أن تعرف إدارة المدرسة أن هذا الطفل مصاب بفيروس الإيدز وبالتالي قد يكون مصدر خطر عند إصابته فيمنع من الرياضات العنيفة، وينبه الطلبة على عدم معاركته ومشاكسته بطريقة لا تثير الرعب.(8/1311)
كذلك ينبغي التنبيه بالنسبة للأطفال الذين يضعون الأقلام في أفواههم، ويستعيرون الأقلام من بعضهم، ذلك أن اللعاب فيه فيروسات الإيدز ولو بكمية ضئيلة، وبالتالي يمكن أن يكون مصدر خطر، وإن كان بعيد الاحتمال، ولم يتأكد حتى الآن حدوث المرض وانتقاله بهذه الوسيلة.
وقد أوردت هذه النقاط في اجتماع في لاهاي ضم نخبة من المختصين بشؤون الإيدز، وقد رد على هذه النقاط الرئيس السابق لمنظمة الصحة العالمية الدكتور مان (الذي يعمل حالياً في جامعة هارفارد الشهيرة) بأن هذه الأخطار بعيدة الاحتمال، وأنه لم يسجل حتى الآن أي حالة من حالات الإيدز أو العدوى به نتيجة اختلاط الطلبة بحامل فيروس الإيدز أو مريض الإيدز.
على أية حال إذا أمكن أن يتم تدريس هذا الطفل في بيئة شبه منعزلة فذلك أدعى للاطمئنان، وإذا لم يمكن ذلك فيسمح له بالدراسة مع وجوب معرفة إدارة المدرسة والمدرسين والهيئة الطبية فيها لحقيقة وضعه حتى تتخذ الإجراءات الاحتياطية المناسبة لمنع أي عدوى محتملة.
ما هي الإجراءات التي ينبغي أن تتخذ للوقاية من الإيدز عند قدوم أشخاص من مناطق موبوءة للحج أو السياحة أو العمل؟
تتخذ الحكومات في كثير من بلدان العالم ومنها المملكة العربية السعودية ودول الخليج احتياطات جيدة لمنع دخول الأشخاص الذين يحملون فيروس الإيدز. ولذا تشترط هذه الدول لمن يريد الإقامة للعمل أن يثبت خلوه من فيروس الإيدز، ولا تعطى له تأشيرة إلا بوجود فحص من بلده يؤكد ذلك، ثم يعاد الفحص مرة أخرى بعد قدومه لاستصدار أمر الإقامة.
لم يتم حتى الآن اتخاذ إجراء بالنسبة للحجاج أو المعتمرين.. ولا يبدو أن هناك حاجة ماسة لمثل ذلك الإجراء، وخاصة أن فترة بقاء الحجاج والمعتمرين قصيرة، ولكن لا بد من اتخاذ احتياطات وقائية عند إسعاف هؤلاء الحجاج أو إدخالهم إلى المستشفيات واعتبار أن الاحتمال بإصابتهم بفيروس الإيدز وارد. ولذا لا بد من فحص تلك الحالات الخاصة.(8/1312)
وتعتبر السياحة من أهم المصادر لانتقال فيروس الإيدز، فبعض البلاد العربية مثل مصر والمغرب وتونس وبعض البلاد الإسلامية مثل تركيا تعتبر بلاداً سياحية، وتعتمد إلى حد كبير في مدخولاتها من العملات الصعبة عليها، ولهذا فهي تشجع السياحة، وتوفر للسياح ما يبتغون!! وبالتالي ينقلون لهم الإيدز. وقد حدثت حوادث متعددة من نقل متعمد من يهود بجنسيات أمريكية وإسرائيلية للإيدز في مصر.. وعندما اكتشف أمرهم لم تقم الدولة بأمر سوى تسفيرهم.
ولا شك أن السياح مصدر هام جداً لنشر الإيدز في البلاد الإسلامية، بل هو أخطر هذه المصادر على الإطلاق اليوم، ويذهب شباب من دول الخليج إلى شرق آسيا وغيرها من البلاد السياحية، وبالتالي يأتون بأمراض خطيرة، أهمها الإيدز والمخدرات.
إن خطر السياحة في نقل الأمراض الجنسية والإيدز والمخدرات خطر عظيم، وإن ما تكسبه الدولة من دخل بسبب السياحة ستفقده، وأكثر منه نتيجة الأمراض المرعبة الناتجة من السياحة، ومن قدوم أشخاص مجرمين يتعمدون نشر الإيدز، وخاصة في مصر، مع علمهم وتأكدهم بأنهم لن يعاقبوا إذا ما تم اكتشاف أمرهم؛ إذ أقصى ما يمكن أن يفعل بشأنهم هو طردهم من البلد!! مع أن الواجب يقتضي محاكمتهم وإنزال أقسى العقوبات بهم.. ولكن من يستطيع ذلك؟!!.
وسائل الوقاية عند حلق الحجاج في منى:
بما أن الإيدز يمكن أن ينتقل بواسطة الدم، وبما أن الحلاقة يمكن أن تسبب خدشاً بسيطاً يكفي لخروج عشر مليلتر من الدم، فإن تلك الكمية تعتبر كافية لنقل فيروس الإيدز إذا استخدم الموس مرة أخرى لشخص آخر.
ولهذا فإن الوقاية تتركز في عدم استخدام الموس لأكثر من شخص.. ولا بد من استخدام موس جديد لكل حاج، وهو أمر ميسر، ويمكن التأكد منه بوضع مجموعة من المراقبين عند الحلاقين عند الجمرات وغيرها في منى، وعليهم أن يراقبوا ذلك بدقة ويمنعوا أي حلاق من استخدام الموس لأكثر من حاج. وهو أمر يسير ولا حرج في تنفيذه.
الدكتور محمد علي البار(8/1313)
مرض الإيدز
(نقص المناعة المكتسبة)
أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعية
إعداد
الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي
المدرس بقسم الشريعة
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة أم القرى – مكة المكرمة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك ولا ند ولا نظير له. وبعد:
فلما كان مرض الإيدز وباء عرف في هذا العصر، وأول ما عرف عام 1981م، وسمي مرض نقص المناعة المكتسبة، (1) وهو مرض فيروسي يصيب الخلايا الليمفاوية المناعية فيعطل وظيفتها ونشاطها المقاوم لشتى الأمراض الميكروبية والفيروسية الأخرى. (2)
وحيث إن هذا المرض لم يكتشف له علاج إلى يومنا هذا، وهو من الأمراض المعدية التي لا تعرف الحدود الزمانية ولا المكانية، فهو ينتقل من الآباء إلى الأبناء عن طريق الحمل والولادة، كما أنه ينتقل من قطر إلى آخر، حتى لقد وجدت حالات في جميع أنحاء العالم، فالتنقل من بلد إلى آخر للدراسة أو العلاج أو التجارة أو السياحة كان سبباً في انتقاله وانتشاره، فهو مرض له وطأته العالمية، ومن آخر ما نشر في تقرير لليونيسيف أن المصابين به حوالي اثني عشر مليوناً بينهم ستة ملايين ونصف مليون إفريقي، (3) وله آثاره النفسية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية، وقد أصبح الشغل الشاغل لأجهزة الإعلام في الدول الغربية، وأصبح اسم الإيدز مثل الرعب الذي كان يمثله اسم الطاعون في القرون السابقة حينما كان يقضي على عشرات الملايين من البشر. (4)
__________
(1) فقد المناعة قد يكون وراثياً، وهذا غير داخل في موضوع البحث، ولذلك أضيفت المكتسبة. محمد البار ومحمد صافي: الإيدز، ص 75؛ رفعت كمال: قصة الإيدز ص 13
(2) محمد البار ومحمد صافي: الإيدز، ص 75؛ رفعت كمال: قصة الإيدز ص 13
(3) صحيفة المدينة، عدد 9399، في 16/8/1413 هـ.
(4) محمد البار ومحمد صافي: الإيدز ص 134(8/1314)
ولما كان لا بد من بحث الأحكام المتعلقة بالمريض وأسرته وأفراد المجتمع الذي يعيش فيه ويتعامل معهم، اخترت أن يكون مجالاً لبحثي المتواضع لعلي أسهم في معرفة أحكامه وطرق الوقاية منه بعد معرفة وسائل انتقاله، ولهذا قمت بقراءة بعض الكتب الطبية المتخصصة، والاتصال بكثير من الأطباء الذين لهم اهتمام خاص أو مؤلفات مكتوبة وبجهات رسمية مختصة في الطب الوقائي وحماية المجتمع من انتشار الأمراض السارية. (1)
فتكونت عندي فكرة جعلتني أقدم على الكتابة في أحكامه التي تعتبر نتيجة لوضوح رأي الأطباء، خصوصاً في الوسائل التي ينتقل بها، وحيث إن الأمراض المعدية منها ما ينتقل عن طريق المعاشرة الجنسية، ومنها ما ينتقل عن طريق الملامسة، ومنها ما ينتقل عن طريق المعايشة، ومنها ما ينتقل عن طريق الحشرات إلخ ... حرصت كل الحرص على معرفة طرق انتقاله.
وفرعت على ضوء ما ظهر لي وذكرت عند الاختلاف في بعض وسائل انتقاله احتمالات لكون الرأي الطبي فيها غير حاسم حتى الآن، وقد اقتضت طبيعة البحث أن أكتب تمهيداً في القضاء والقدر وارتباط الأسباب بالمسببات، ودفع توهم التعارض بين الأدلة المثبتة للعدوى والنافية لها، ثم كتبت في حكم علاقة الزوج المريض مع السليم، وهل يحق له فسخ النكاح أو لا؟ ثم تعرضت لأحكام جنايته وتسببه في نقل المرض إلى الأصحاء، وتقصير الأطباء المسبب لنقل المرض وما يترتب على ذلك من أحكام، وذكرت حكم حمل المرأة المصابة وإجهاضها وحضانتها ورضاعتها لطفلها الذي لم تظهر عليه أعراض المرض، كما عقدت مبحثاً بينت فيه حكم عزله عن المجتمع ومنعه من مشاركة غيره في التعليم والعمل ذكرت فيه الحكم على احتمالين كما جرت به عادة علمائنا الأفاضل من ذكر الاحتمالات في الأمور المشتبهة، كما أنني لم أنس الإجابة على طرق الوقاية في الحج حين الحلق، واللهَ أسأل أن يكون هذا العمل لله خالصاً وللإسلام والمسلمين نافعاً.
__________
(1) مقابلة أجريتها مع عدد من المختصين في الطب الوقائي، كما زودني سعادة الدكتور عبد الرؤوف الديب، أستاذ مشارك طب القلب والأمراض الباطنية بجامعة أم القرى، وسعادة الدكتور يوسف حلمي بإجابات مفصلة عن كثير من الأمور التي أشكل علي معرفتها عند الأطباء(8/1315)
تمهيد
ويمكن تقسيم التمهيد إلى قسمين:
أولاً- في الإيمان بالقضاء والقدر والأخذ بالأسباب.
ثانياً: دفع التعارض بين الأحاديث الواردة في العدوى.
أولاً- الإيمان بالقضاء والقدر والأخذ بالأسباب:
الإيمان بالقضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستة التي تجب على المؤمن، وهو قاعدة عقيدته، فلا يصح إيمانه إلا إذا آمن أن ما أصابه من خير أو شر فبإذن الله وقضائه وقدره، وأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11] ، وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] .
وفي الحديث: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قدر الله وما شاء فعل)) . (1)
فالمؤمن مطمئن النفس هادئ البال قرير العين بإيمانه، والكافر الذي لا يؤمن بقضاء الله وقدره يخشى المستقبل ويتوقع الخطر ويحيطه الخوف الغامض ويحدث عنده الترقب، ولذلك كثرت نسبة المصابين بالقلق والتوتر النفسي في الدول الغربية، فكثرت حوادث الانتحار، مع كثرة العيادات النفسية وما تقدمه من مسكنات ومهدئات، هذا هو الفارق الواضح بين المؤمن والكافر في الدنيا.
إلا أن مما ينبغي فهمه واعتباره في هذا المقام ما هو معلوم في عقيدة أهل السنة والجماعة مرتبط أوثق الارتباط وأشده بالقضاء والقدر، من أن الأخذ بالأسباب مطلب من مطالب الشارع الحكيم، وأنه لا ينافي التوكل، فالإنسان مخلوق وهبه الله
العقل والإرادة الحرة والقدرة المستعدة للتنفيذ في حدود الإمكان الموهوب، ولكن عمل قدرة الإنسان في آثارها إنما هو عمل الأسباب في مسبباتها، لا عمل المؤثرات الحقيقية؛ إذ إن المؤثر الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى الذي علم ما يصيبنا من خير أو شر فقدره علينا وأمرنا بسلوك طريق النجاة والبعد عن المهلكات، فمن أخذ بالأسباب وآمن بالقضاء والقدر اطمأن قلبه لكل ما يجري في الكون مما لا كسب له فيه، ورضي بمراد الله، مهما كان الأمر محزناً أو ساراً.
__________
(1) ابن ماجه، السنن: 1/31(8/1316)
ثانياً- دفع التعارض بين الأحاديث الواردة في العدوى:
قد يظن بعض من يطلع على الأحاديث الدالة على إثبات العدوى والأحاديث النافية لها أن بينها تعارضاً، ولكن سرعان ما يزول هذا الظن ويندفع ذلك الإشكال المتوهم بعد الاطلاع على أقوال أهل العلم الذين جمعوا بين هذه الأحاديث والآثار.
1- ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى ولا طيرة)) ، (1) كما ثبت أنه قال: ((لا يورد ممرض على مصح)) . (2)
وقد جمع علماء السلف بما يزيل الإشكال ويدفع التوهم، وكان من أبينهم كلاماً في هذا الشأن الشيخ الإمام محيي الدين النووي في شرحه على صحيح مسلم، والعلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى.
قال ابن القيم: (الحديثان صحيحان ولا نسخ ولا تعارض بينهما بحمد الله، بل كل منهما له وجه ... ولكل واحد معنى في وقت وموضع، فإذا وضع موضعه زال الاختلاف ... وعندي في الحديثين مسلك يتضمن إثبات الأسباب والحكم ونفي ما كانوا عليه من الشرك واعتقاد الباطل ووقوع النفي والإثبات على وجهه) . (3)
وقال النووي: (قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع أن حديث ((لا عدوى)) المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث ((لا يورد ممرض على مصح)) فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره) . (4)
وأما حديث: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) ، (5) وحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم في قصعة واحدة، وقال له: ((كل ثقة بالله وتوكلاً عليه)) . (6)
__________
(1) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 10/241؛ ومسلم، الجامع الصحيح مع شرح النووي: 14/215 – 216
(2) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 10/241؛ ومسلم، الجامع الصحيح مع شرح النووي: 14/215 – 216، البخاري: 10/215، ومسلم: 14/ 213
(3) ابن القيم، مفتاح دار السعادة: 2/264
(4) النووي، شرح صحيح مسلم: 4/213 – 214.
(5) البخاري، الجامع الصحيح: 10/215؛ ومسلم، الجامع الصحيح مع شرح النووي: 14/213.
(6) النووي شرح صحيح مسلم: 14/228(8/1317)
فقد وضح ابن القيم وجه الجمع بينهما قوله: (غاية ذلك أن مخالفة المجذوم من أسباب العدوى وهذا السبب يعارضه أسباب أخر تمنع اقتضاءه فمن أقواها التوكل على الله والثقة به فإنه يمنع تأثير ذلك السبب المكروه ولكن لا يقدر كل واحد من الأمة على هذا فأرشدهم إلى مجانبة سبب المكروه والفرار والبعد من ذلك، ولذلك أرسل إلى ذلك المجذوم الآخر بالبيعة تشريعاً منه للفرار من أسباب الأذى والمكروه، وأن لا يتعرض العبد لأسباب البلاء، ثم وضع يده معه في القصعة، فإنما هو سبب التوكل على الله والثقة به الذي هو أعظم الأسباب التي يدفع بها المكروه والمحذور تعليماً منه للأمة دفع الأسباب المكروهة بما هو أقوى منها، وإعلاماً بأن الضرر والنفع بيد الله عز وجل، فإن شاء أن يضر عبده ضره وإن شاء أن يصرف عنه الضر صرفه، بل إن شاء أن ينفعه بما هو من أسباب الضرر، ويضره بما هو من أسباب النفع فعل؛ ليبين للعباد أنه وحده الضار النافع، وأن أسباب النفع والضرر بيديه وهو الذي جعلها أسباباً، وإن شاء خلع منها سببيتها، وإن شاء جعل ما تقتضيه بخلاف المعهود منها ليعلم أنه الفاعل المختار وأنه لا يضر شيء ولا ينفع إلا بإذنه وأن التوكل عليه والثقة به تحيل الأسباب المكروهة إلى خلاف موجباتها) . (1)
فالعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء والنار مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم، والقدوم على بلد الطاعون؛ فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف ... وأما إذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضاء الله وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتماداً على الله ورجاء منه أن لا يحصل منه ضرر ففي مثل هذه تجوز مباشرة ذلك، لا سيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة ... وعليه فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطس والحر والبرد بأضدادها. (2)
__________
(1) ابن القيم، مفتاح دار السعادة: 2/272
(2) عبد الرحمن بن حسن، فتح المجيد (ص 264 – 265) .(8/1318)
المبحث الأول
علاقة المريض مع أسرته
يمكن تقسيم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في إخبار أحد الزوجين بمرض الآخر.
المطلب الثاني: في التفريق بين الزوجين لمرض الآخر.
المطلب الثالث: في إجهاض الجنين وإرضاع وحضانة الطفل السليم من أم مصابة.
المبحث الأول
علاقة المريض مع أسرته
المطلب الأول: في إعلام أحد الزوجين بإصابة الآخر:
المعاشرة الجنسية إحدى وسائل انتقال المرض المتفق عليها بين الأطباء، والمرض كما هو معلوم عند الأطباء يمر بثلاث مراحل هي:
1- مرحلة وجود الفيروس.
2- مرحلة سكون قد تمتد إلى عدة سنوات.
3- مرحلة ظهور المرض بصورته الكاملة حيث تتدهور حالة المريض الصحية بسرعة وتنتهي بالوفاة.(8/1319)
وهو معد في مراحله الثلاث؛ بل إن من أخطر مراحل انتقاله مرحلة السكون. ومعرفة مراحل المرض من أهم الأسباب التي ينبغي تفريع الأحكام عليها، ومن أهم الأحكام التي يجب مراعاتها اتخاذ كافة الاحتياطات للحد منه وعدم انتشاره؛ إذ الوقاية هي الوسيلة الوحيدة للحد منه حتى الآن، ولذا يجب إبلاغ الزوج الآخر بطريقة هادئة غير مروعة حتى يتخذ التدابير اللازمة ووسائل الوقاية التي يراها الأطباء، أو المفارقة، ولو تتبعنا نصوص الشارع لوجدنا فيها ما يمكن أن نستدل به على وجوب الإخبار، ولا سيما إذا علمت الإصابة قبل حصول معاشرة زوجية، (1) أما إذا حصلت المعاشرة فطريقة الإخبار تختلف عند الأطباء ولا تنافي تلك الطرق أدلة الشارع ومقاصده العامة وكما يقال: (كل مقام فله مقال) .
وإليك عدة نصوص يمكن الاستدلال بها على وجوب الإعلام والإخبار منها:
1- ((ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار، فلما دخل ووضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها (2) بياضاً (3) فانحاز عن الفراش ثم قال: خذي عليك ثيابك ولم يأخذ مما آتاها شيئاً)) . (4)
وفي رواية: ((الحقي بأهلك)) ، زاد البيهقي: ((فلما أدخلت رأى بكشحها وضحاً فردها إلى أهلها وقال: دلستم علي)) . (5)
والتدليس هو إخفاء العيب وكتمه (6) وقد قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليهم عدم إخباره بما فيها من عيب، وأمر ببيان العيوب في المبيعات فكيف يكون الحال في مرض هو مقدمة لهلاك محقق، وقد ينتقل إلى غير الزوجين، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر والإضرار ونفاهما، ونهى عن الغش والتدليس.
2- عن ابن سيرين قال: (بعث عمر بن الخطاب رجلاً على السعاية فأتاه فقال: تزوجت، فقال: أخبرتها أنك عقيم لا يولد لك؟ قال: لا. قال: فأخبرها وخيرها) . (7)
هذا أمر من أحد الخلفاء الراشدين لرجل عقيم لا يولد له فكيف والحالة يخشى تعديها إلى الزوج الآخر؛ بل تتعدى بظن غالب إلى الأبناء، أما إذا حصلت الإصابة وشك في إصابة الآخر فيجب إخبار الزوج الآخر وتنبيهه بأن المرض معد، ويجب عليه متابعة حالته، وعدم التسرع في الزواج من آخر حتى يغلب على الظن تجاوز مرحلة العدوى وأخذ الاحتياطات التي يراها الأطباء من لبس العازل الذي يقلل من انتقال العدوى إلى حد كبير إذا رغبا في استمرار الحياة الزوجية.
__________
(1) كما في إصابات نقل الدم أو الإصابات التي تنكشف قبل الدخول أو يظهر الفحص المخبري بعد العمليات الجراحية أو الرجوع من السفر، أما إذا حصلت الإصابة ولم يعلم هل حصلت معاشرة أو لا فلذلك احتياطات في حق الزوجين ومتابعة خاصة معلومة عند الأطباء
(2) ما بين الخاصرة إلى الضلع من الخلف، القاموس المحيط (الكشح)
(3) أي برصاً
(4) الشوكاني، نيل الأوطار: 6/176 -177
(5) البيهقي، السنن الكبرى: 7/214
(6) الفيومي، المصباح المنير
(7) الصنعاني، المصنف: 6/253 - 254(8/1320)
المطلب الثاني: التفريق بين الزوجين المصاب أحدهما بالإيدز:
مرض الإيدز وباء عصري لا نجد له ذكرا في نصوص الفقهاء، والذي يمكننا عند إرادة معرفة أحكامه هو النظر في نصوص الفقهاء وأحكامهم في الأمراض المعدية؛ كالجذام والبرص والسل وغيرها بجامع العدوى، وإن اختلفت طرق العدوى فالنظير يعطى حكم نظيره والمثيل يعطى حكم مثيله، وحيث إنه مرض ليس له علاج حتى الآن ولا حدود له زمانية ولا مكانية، فهو ينتقل إلى الزوجين عن طريق الولادة كما قرر الأطباء فقالوا: (أصيب عدد كبير من زوجات المصابين بالإيدز وقد يكون المصاب متزوجاً ويمارس الشذوذ الجنسي أو يكون متزوجاً ويتناول المخدرات أو يكون متزوجاً ويمارس الزنا أو يكون –وهذا نادر- أحد ضحايا نقل الدم أو محتوياته، وبما أن الفيروس المسبب للمرض ينتقل عن طريق الاتصال الجنسي فإن زوجات المصابين تظهر عليهن في الغالب أعراض المرض) . (1) فالمعاشرة الجنسية بين سليم ومريض وسيلة من وسائل نقل المرض المتفق عليها بين الأطباء، وحيث إن الأمر كما ذكر فما هو حكم الشريعة الإسلامية بشأن زوجين أصيب أحدهما بهذا المرض الخطير؟ هل يحكم ببقاء السليم مع المريض مهما كانت الحياة صعبة والنفرة موجودة والخوف والترقب والقلق يسود حياة الأسرة، أو أن في الأحكام الشرعية ما يجعل للسليم مخرجاً من هذا الحرج والمشقة؟ التي تصبح الحياة معها جحيماً لا يطاق، وسجناً الموت العاجل فيه أيسر من الحياة؟
الجواب على هذا السؤال سيكون باستعراض ما ذكره العلماء من اختلاف في حكم التفريق للأمراض المعدية والمنفرة التي عرفت في زمانهم، وهل يمكن تخريج موضوع البحث على ما ذكروه أو لا؟
يوجد اختلاف واضح في التفريق بسبب الأمراض المعدية التي يعتبر الإيدز أخطرها على الإطلاق، فالجذام والسل والبرص، أمراض لها علاج أو بطيئة الانتقال أو خطورتها وحدتها أسهل مما نحن فيه.
وبعد استعراض آراء الفقهاء في الأمراض المعروفة عندهم وجدت أنها تنقسم إلى ثلاثة مذاهب في الجملة: (2)
__________
(1) محمد البار ومحمد صافي، الإيدز ص 70؛ وانظر كمال رفعت، قصة الإيدز ص 22، ومقابلات أجريتها مع كثير من الأطباء في جامعة أم القرى وقسم الطب الوقائي بوزارة الصحة
(2) هذا المطلب ملخص من رسالتي –التفريق بين الزوجين بحكم القاضي- وقد خرجت موضوع البحث – مرض الإيدز- على ما كتبته سابقا مع إضافات قليلة.(8/1321)
منهم من يرى عدم جواز التفريق مهما كانت الأسباب والموانع.
ومنهم من يعطي حق طلب التفريق للمرأة دون الزوج.
ومنهم من يعطي حق طلب التفريق بسبب المرض الموجود قبل العقد دون الحادث بعده.
ومنهم من يرى أن لكل من الزوجين حق التفريق مطلقا سواء في ذلك الأمراض الموجودة قبل العقد أو الحادثة بعده، وإليك مذاهبهم على النحو الآتي:
المذهب الأول:
ذهب الظاهرية إلى أن النكاح إذا صح لا يجوز فسخه مطلقا سواءً أكان المرض موجوداً قبل العقد والدخول أم حدث بعد العقد وقبل الدخول أو بعدهما، ولا فرق في ذلك بين وجود المرض في الرجل أو المرأة؛ إذ لا يجوز للقاضي ولا لغيره أن يفرق بين زوجين صح عقد نكاحهما بحال.
جاء في المحلى: (لا يفسخ النكاح بعد صحته بجذام حادث ولا ببرص كذلك ولا بجنون كذلك ولا بأن يجد بها شيئاً من هذه العيوب ولا بأن تجده هي كذلك) . (1)
وقد شنع ابن حزم على القائلين بالتفريق بين الزوجين لمرض معد أو غير معد وأنكر عليهم أشد الإنكار حيث قال: (هذا هو الباطل الذي لم يصح قط عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا جاء قط في قرآن ولا سنة ولا في رواية فاسدة ولا أوجبه قياس ولا معقول) . (2)
والظاهر أن الشوكاني يتفق مع الظاهرية في ذلك حيث قال: (من أمعن النظر لم يجد في الباب ما يصلح للاستدلال به على الفسخ بالمعنى المذكور عند الفقهاء) . (3)
__________
(1) ابن حزم، المحلى: 11/357
(2) ابن حزم، المحلى: 11/377
(3) الشوكاني، نيل الأوطار: 6/178(8/1322)
أدلة الظاهرية:
1- كل نكاح صح بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حرم الله تعالى بشرتها وفرجها على كل من سواه فمن فرق بينهما بغير قرآن أو سنة ثابتة فقد دخل في صفة الذين ذمهم الله تعالى بقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] .
2- ما روى إبراهيم عن عبد الله بن مسعود قال: (لا ترد الحرة من عيب) ، (1) ثم قال: إنما هو النكاح كما أمر الله عز وجل إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان إلا أن يأتي نص صحيح فيوقف عنده. (2)
المذهب الثاني:
يرى الحنفية أنه يوجد فرق في إعطاء حق الفرقة بين الزوجين للأمراض المعدية حيث لا يحق للزوج طلب التفريق ويكتفى بما في يده من ملك العصمة فإن شاء طلق وإن شاء أمسك، جاء في العناية (وإذا كان بالزوجة عيب –أي عيب كان- فلا خيار للزوج في فسخ النكاح) . (3)
وعللوا ما ذهبوا إليه بأن الزوج يملك العصمة، أما المرأة فلما لم تملك الطلاق جعلوا لها حق طلب التفريق من القاضي ويجيبها إليه. (4)
جاء في فتح القدير (وعند محمد لا خيار للزوج بعيب في المرأة ولها هي الخيار بعيب فيه من الثلاثة الجنون والجذام والبرص) . (5)
وقد اختلف فقهاء الحنفية في حصر العيوب والأمراض التي يحق للمرأة طلب الفرقة لأجلها.
__________
(1) ابن أبي شيبة، المصنف: 5/176
(2) ابن حزم، المحلى: 11/367
(3) البابرتي، العناية: 3/267
(4) انظر السرخسي، المبسوط: 5/97؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 3/1536
(5) ابن الهمام: 3/267، وانظر ابن عابدين حاشية رد المحتار: 3/501(8/1323)
فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى حصرها في عدد معين (1) لا يتجاوزه إلى غيره، وذهب محمد إلى عدم الحصر، جاء في تبيين الحقائق:
(وقال محمد رحمه الله: ترد المرأة إذا كان بالرجل عيب فاحش بحيث لا تطيق المقام معه لأنها تعذر عليها الوصول إلى حقها لمعنى فيه فصار كالجب والعنة) (2)
وذكر (أن الخيار في العيوب الخمسة إنما ثبت لدفع الضرر عن المرأة وهذه العيوب في إلحاق الضرر بها فوق تلك لأنها من الأمراض المعدية عادة، فلما ثبت الخيار بتلك فلأن يثبت بهذه أولى) (3)
وحيث إن بعض نصوص الحنفية يظهر بينها تعارض في إثبات الخيار للمرأة، ومن ذلك ما جاء في فتح القدير (الحاصل أنه ليس لواحد من الزوجين خيار فسخ النكاح بعيب في الآخر كائناً من كان عند أبي حنيفة وأبي يوسف) (4) فقد وضح السرخسي أن المراد بإثبات الفرقة للمرأة هو إزالة الضرر بالطلاق، لأنه يلزم الزوج الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان والتسريح طلاق (5)
أدلة الحنفية:
1- عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (6) وفي إمساكها مع خشية تعدي المرض إليها أضرار نفسية وخوف وقلق قد تصبح الحياة معه جحيماً لا يطاق كما أن فيه ضرراً إذا أصيبت بالمرض.
2- قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، وإمساكها مع خوفها من انتقال المرض إليها وترقبها لهذا الخطر إمساك بدون معروف فوجب التسريح بالإحسان.
3- فوات المقصود بالعقد يثبت للعاقد حق رفع العقد من أصله وهنا قد فات المقصد من عقد النكاح وانسد عليها الباب من غيره فوجب ثبوت الفرقة (7) ولاشك أن إمساكها مع الخوف من انتقال العدوى إذا أصيب أحد الزوجين يؤدي إلى فوات أهم المقاصد التي شرع لها النكاح وهي الألفة والرحمة والإحصان فوجب التسريح بإحسان.
__________
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 3/ 1536، وابن الهمام، فتح القدير: 3/ 266
(2) الزيلعي، تبيين الحقائق: 3/ 35
(3) الكاساني بدائع الصنائع: 3/ 1537
(4) ابن الهمام، فتح القدير: 3/ 267، وانظر ابن عابدين حاشية رد المحتار: 3/ 501
(5) السرخسي، المبسوط: 5/ 97
(6) الصنعاني: سبل السلام: 3/ 84
(7) السرخسي، المبسوط: 5/ 101(8/1324)
المذهب الثالث:
العيوب والأمراض التي يفسخ النكاح بسببها بعد صحته إما أن تكون موجودة قبل العقد والدخول أو حادثة بعدهما، فالموجود قبل العقد قد اتفق جمهور فقهاء الحنابلة والشافعية والمالكية والزيدية على الرد بها وإن اختلفوا في بعضها إلا أن الجذام وهو المرض الذي يمكن نقل وتخريج مرض الإيدز عليه متفق على التفريق به عند الجمهور.
ولا يخفى ما ورد عن بعض الشافعية والمالكية الذين حصروا العيوب التي يفرق بسببها في سبعة عيوب حيث قال الشربيني: (جملة العيوب سبعة عيوب وأنه يمكن في حق كل من الزوجين خمسة، واقتصار المصنف على ما ذكر من العيوب يقتضي أنه لا خيار فيما عداها، قال في الروضة: وهو الصحيح الذي قطع به الجمهور ... والثاني له الخيار بذلك لنفرة الطبع عنه) (1)
فعلى القول الثاني كل مرض وجدت فيه النفرة يفرق لأجله وعليه يكون الإيدز من أولى الأمراض التي يفرق لأجلها.
وجاء في الخرشي: (وحاصل العيوب في الرجل والمرأة ثلاثة عشر؛ أربعة يشترك فيها الرجل والمرأة وهي الجنون والجذام والبرص....) (2)
ويظهر جلياً أن الحنابلة قد اتفقوا مع غيرهم من الجمهور على أن الجذام من الأسباب المشتركة التي يرد بها كل من الزوجين الآخر، جاء في منتهى الإرادات: (وقسم مشترك وهو الجنون والجذام والبرص لا بغير ما ذكر) (3) ويعتبر مذهب الحنابلة من أوسع المذاهب في عدد الأمراض والعيوب وإن وجدنا في نصوصهم ما يفيد الحصر فيما ذكروا في زمانهم، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وبعض الشافعية أكثر توسعاً حيث أجروا القياس في كل ما وجدت فيه علة التفريق ولم يحصروا العيوب والأمراض بعدد معين، جاء في زاد المعاد: (وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى رد المرأة بكل عيب ترد به الجارية في البيع وهذا القول هو القياس وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساوٍ لها فلا وجه له؛ فالعمى، والخرس، والطرش، وكونها مقطوعة اليدين ... من أعظم المنفرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش وهو مناف للدين، والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو كالمشروط عرفاً، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له: أخبرها أنك عقيم وخيرها. فماذا يقول رضي الله عنه في العيوب التي هذا عندها كمال لا نقص ... وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا يمكنه منه بالجرب المستحكم المتمكن وهو أشد إعداء من ذلك البرص اليسير وكذلك غيره من أنواع الداء العضال (4)
__________
(1) الشربيني، مغني المحتاج: 3/ 203
(2) الخرشي على مختصر خليل: 2/ 236
(3) الفتوحي: 2/ 188
(4) ابن القيم، زاد المعاد: 5/ 182- 183؛ وانظر ابن تيمية، القواعد النورانية (ص 612)(8/1325)
ولم يفرق الحنابلة والشافعية رضي الله عنهم بين العيوب والأمراض الموجودة قبل العقد والحادثة بعده، أما المالكية والإمامية فقد خالفوا في العيوب الحادثة بعد العقد فجعلوا للمرأة طلب الفرقة لأنها لا تملك الطلاق، أما الرجل فقالوا: إنه قادر على التخلص منها بالطلاق فإن شاء طلق وإن شاء أمسك (1)
جاء في حاشية الدسوقي: (العيوب المشتركة إن كانت قبل العقد كان لكل من الزوجين رد صاحبه به، وإن وجدت بعد العقد كان للزوجة أن ترد به الزوج، دون الزوج فليس له أن يرد الزوجة، لأنه قادر على مفارقتها بالطلاق إن تضرر؛ لأن الطلاق بيده بخلاف المرأة فلذا ثبت لها الخيار) (2)
وفرق الإمامية بين العيوب والأمراض الموجودة قبل العقد والحادثة بعد العقد وقبل الدخول فالراجح عدم الفسخ، وأما الحادثة بعد الدخول فلا رد.
جاء في شرائع الإسلام: (العيوب الحادثة للمرأة قبل العقد مبيحة للفسخ وما يتجدد بعد العقد والوطء لا يفسخ به، وفي المتجدد بعد العقد وقبل الدخول تردد أظهره أنه لا يبيح الفسخ تمسكاً بمقتضى العقد السليم عن معارض) .
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور بعدة أدلة من القرآن والسنة والآثار:
1- قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .
وإمساكها مع خوفها وترقبها وقلقها من المرض بعيد كل البعد عن الإمساك بالمعروف فوجب التسريح بإحسان.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)) (3)
فالحديث يدل على الفرار من المجذوم، وفرار أحد الزوجين منه لا يكون إلا بالتفريق.
فالجذام منصوص عليه لأنه معد، فما كان أكثر في العدوى وأسرع في الانتقال –أولى في الحكم - فالنبي صلى الله عليه وسلم لما علم أن في وفد ثقيف رجلاً مجذوماً، أرسل إليه: ((إنا قد بايعناك فارجع)) (4) فكيف لم يسمح الرسول صلى الله عليه وسلم بدخوله على الناس ويجبر أحد الزوجين بالبقاء معه، وهكذا كل مرض معد لا علاج منه في مدة يتضرر الزوج الآخر بسبب انتظاره تضرراً يفوق مصلحة المريض أو يخشى تعديه إلى السليم.
__________
(1) انظر البهوتي، كشاف القناع: 5/ 111؛ والشربيني، مغني المحتاج: 3/ 203
(2) الدسوقي، حاشيته على الشرح الكبير: 2/ 248
(3) البخاري، الصحيح: 7/ 164
(4) مسلم، الصحيح: 4/ 1752(8/1326)
3- عن عمر رضي الله عنه قال: ((أيما امرأة غر بها رجل، بها جنون أو جذام أو برص؛ فلها مهرها بما أصاب منها، وصداق الرجل على من غره)) : وفي لفظ: ((قضى عمر في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها فرق بينهما والصداق لها بمسيسه إياها وهو له على وليها)) ، قال الشوكاني: (قال الحافظ في حديث عمر: (رجاله ثقات)) (1)
4- عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((أربع لا يجزن في بيع ولا نكاح: المجنونة والمجذومة والبرصاء والعفلاء)) (2)
5- روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((قضى أيما امرأة نكحت وبها شيء من هذا الداء فلم يعلم حتى مسها فلها مهرها بما استحل من فرجها ويغرم وليها لزوجها مثل مهرها)) (3)
6- الأمراض التي يخشى تعدي أذاها كالجذام والسل والإيدز وغيرها سبب للشقاء والنفرة بين الزوجين حتى إن الحياة لتصبح جحيماً لا يطاق، وفي بقاء أحد الزوجين مع الآخر تكليف ما لا يطاق وذلك من الأمور المنفية شرعاً.
مناقشة أدلة الظاهرية:
1- قولهم: (كل نكاح صح بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حرم الله تعالى بشرتها وفرجها على كل من سواه ما دامت زوجته ولم يفرق بينهما إلا بنص يجيز ذلك) . يناقش بأن التفريق بهذه العيوب دفع لضرر وإزالة لظلم، وحد ومنع من انتشار الأمراض المعدية وإذا فرق بينهما جازت لمن سواه.)
وأما قولهم: (إن من فرق بينهما بغير قرآن وسنة ثابتة) فقد دخل في صفة الذين ذمهم الله بقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] .
فيرد بأن الآية نزلت في السحرة وما يفرقون به بين الزوجين من السحر والشعوذة لعداوة أو غير ذلك، وليس المراد منها التفريق لسبب يوجبه دفعاً لضرر أصاب أحد الزوجين، والقرآن والسنة قد دلا بعموم نصوصهما على رفع الضرر والظلم، والسنة قد دلت على مفارقة المريض والمعيب ومن يخشى ضرره وتعدى أذاه كما ورد في حديث الأمر بالفرار من المجذوم، وكما في منعه صلى الله عليه وسلم الممرض أن يورد على المصح والعكس، لما في ذلك من خشية انتشار المرض، وكما نهى من كان في بلد فيه طاعون عن الخروج منه أو كان خارجاً عنه عن الدخول إليه، ولاشك أنه لا يمكن الفرار من المجذوم ومن مرض معد كالإيدز إلا بالتفريق.
__________
(1) الشوكاني، نيل الأوطار: 6/177
(2) البيهقي، السنن الكبرى: 7/215
(3) البيهقي، السنن الكبرى: 7/215(8/1327)
فإن قالوا: نحن نمكنه من الفرار بالطلاق، قيل: كيف تمكنونه من الفرار بالطلاق ولا تمكنونها لأنها لا تملك الطلاق، والحديث وغيره لم يفرق في طلب القرار بين الزوجين بل أمر بالفرار جميع أفراد المجتمع؟
2- وأما قول ابن مسعود: (لا ترد حرة بعيب) فهو قول خالف فيه أقوال غيره من الصحابة وقضاءهم فقد روي عنهم: (أربع لا يجزن في بيع ولا نكاح ... إلخ) ، وأما قول ابن حزم: (إنما هو النكاح كما أمر الله به سبحانه إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فيناقش ويرد عليه بأن الإمساك مع وجود الأذى والضرر على الزوج الآخر من الأمراض المعدية المنفرة ليس من الإمساك بمعروف فيتعين التسريح بإحسان.
ومرض الإيدز أخطر الأمراض المعدية فلا علاج له، كما أن انتقاله أسرع من مرض الجذام وغيره؛ فلذلك وجب التفريق بسببه.
مناقشة أدلة الحنفية:
أعطى الحنفية حق الرد بعيب للمرأة دون الرجل وهذا وجهه ضعيف فمع أن الزوج يملك الطلاق كما قالوا إلا أن تفريق القاضي يترتب عليه آثار أخر فيرد المهر إن كان قبل الدخول وللمرأة المهر بعد الدخول ويعود به الزوج على من غره بمريضة معيبة، وإذا أعطيت المرأة الحق دون الرجل كان ذلك سبباً لضياع ماله فيجتمع على الزوج ضياع ماله وفوات زوجته، والشريعة كما جاءت بحفظ الدين والنفس جاءت آمرة بحفظ المال، حتى كان حفظ المال من الضروريات التي اتفق الأديان على حفظها؛ فكيف يقال: إن الزوج لما ملك الطلاق لا حق له في طلب التفريق وينسى ماله الذي أنفقه على هذه المرأة المعيبة المريضة بمرض يخشى تعديه إليه.(8/1328)
وحيث إن هذا المرض لم يكتشف له علاج بعد كما أخبر الأطباء الثقات والمنظمات الدولية للصحة العالمية بجميع هيئاتها ومؤسساتها فلا بد من إعطاء حق الفرقة للزوجين منعاً وحداً لانتشار هذا الوباء الذي لم تشهد له البشرية مثيلاً في طرق انتقاله.
وأما قول الحنفية: إن المرأة ترد الرجل بعيوب محصورة، فيقال بأن الأدلة التي ذكروها معقولة المعنى يجب تعميمها إذا وجدت المعاني التي شرعت لأجلها في أمر آخر أخذاً بقياس المعنى وقياس الأولى اللذين يعتبر الحنفية من أوسع المذاهب قولاً بهما، ولذا لزمهم إعطاء حق الفرقة بسبب كل مرض وجد فيه المعنى الذي نصوا على الفرقة لأجله أو كان أولى منه كما في موضوع البحث – مرض الإيدز - أو غيره من الأمراض المعدية الأخرى.
مناقشة أدلة الجمهور:
ورد على أدلة الجمهور عدة اعتراضات نوجزها فيما يلي:
1- قيل في حديث ((فر من المجذوم)) : نحن نمكنه من الفرار ولكن بالطلاق لا بالفسخ وليس في الحديث تعيين طريق الاجتناب والفرار. (1)
ويمكن أن يجاب عن هذا بأنهم حصروا الفرار حيث جعلوه حقاً للرجل بالطلاق وفي ذلك أضرار مادية تترتب على الطلاق غير التي تترتب على فسخ القاضي، فالمهر إذا طلق الرجل ذهب عليه، والشريعة لا تقر الضرر في المال كما أنها لا تقره على النفس والعرض والدين.
2- قالوا: إن في الرواية الواردة عن عمر: (أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جذام ... ) ، لا يصح في ذلك شيء عن أحد من الصحابة فالرواية عن عمر وعلي منقطعة. (2)
ويرد هذا الاعتراض بأن ما روي عن عمر ورد من طرق كثيرة غير الطريق الذي ذكروه.
فالطرق يقوي بعضها بعضاً علماً بأنه لم يكن في أحدها ما يوجب الضعف، قال الشوكاني: قال الحافظ في حديث عمر: (ورجاله ثقات) . (3)
وأما قولهم: (لو صح لكان لا حجة فيه؛ لأنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرد عليه بأن هذا قول أحد الخلفاء الراشدين المهديين وأقوالهم سنة يجب العمل بها كما أن التفريق من القاضي تتعلق به حقوق الآدميين، وعمر قال ذلك في محضر من الصحابة ولم ينكر عليه فصار إجماعاً.)
__________
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 3/1538
(2) ابن حزم، المحلى: 11/366
(3) نيل الأوطار: 6/177(8/1329)
الترجيح:
الناظر المتأمل في مقاصد الإسلام الكلية وقواعده العامة وما اشتملت عليه الأدلة من جلب للمصالح ودفع للمفاسد يترجح عنده أن إعطاء حق الفراق يعطى لكل من الزوجين؛ لأن الأدلة آمرة بحفظ المال ناهية عن ضياعه محرمة لأكل أموال الناس بالباطل، ولا شك أن من لم يعط كلا الزوجين حق الرد بالعيب أو الفراق إذا حدث بعد العقد كان متسبباً في إضاعة ماله وقد خالف القواعد الكلية التي تمنع الضرر كقاعدة (الضرر يزال) . (1)
فإن قيل: إن في إعطاء السليم حق الفرقة ضرر على الآخر، وقاعدة: (الضرر لا يزال بالضرر) شاهد على ذلك قيل بوجود قاعدة أخرى تخصص هذه القاعدة وهي: (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) . (2) وقاعدة: (إذا تعارضت مفسدتان روعي دفع أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) . (3)
وقاعدة: (يتحمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام) . (4)
وفي بقاء السليم مع المريض ضرر عليهما وعلى الأبناء والأسرة وذلك ينتقل إلى المجتمع، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح (5) .
فمع تسليمنا بأن لأحد الزوجين مصلحة ولكن على الآخر مفسدة ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، والله سبحانه وتعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وفي بقاء السليم مع المريض بالأمراض المعدية عسر وحرج ومشقة لا تطاق.
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر ص 92 – 97؛ وابن نجيم، الأشباه والنظائر ص 85 – 90
(2) نيل الأوطار: 6/177
(3) الأشباه والنظائر، ص 96
(4) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 92 – 97؛ وابن نجيم، الأشباه والنظائر ص 85-90
(5) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 92 – 97؛ وابن نجيم، الأشباه والنظائر ص 85-90(8/1330)
فإعطاء السليم حق الفرقة والفرار من أوجب الواجبات حماية له وللأسرة وللمجتمع وليس ذلك عقوبة للمريض ولا جزاء له بل حماية للمجتمع وحصر للضرر ودرء للمفسدة، فالإحساس يتزايد بان وباء العصر ليس كغيره من الأمراض بل إنه يعتبر كارثة ليست كغيرها من الكوارث، إذ الكارثة طبيعية كانت أو اصطناعية تكون محدودة ذاتياً في الزمان طال أو قصر، وفي المكان ضاق أو اتسع؛ ولكن جائحة الإيدز تنتقل عبر الزمان رأسياً من جيل إلى جيل، وتنتشر في المكان أفقياً بغير حدود، والإيدز بخصائصه هذه التي لم يسبق لها مثيل يتطلب من الجميع عملاً متناسقاً عملاً يبدأ من الأسرة حماية وتوعية ويمضي إلى المدرسة تعليماً وتربية وينتقل إلى مواقع التوجيه العامة والتربية الدينية والمعسكرات ومواقع العمل وسائر مواقع الأنشطة اليومية. (1)
هل للولي حق طلب المفارقة بين زوجين أصيب أحدهما؟
تقدم الكلام ونصوص الفقهاء رحمهم الله في إعطاء حق المفارقة للسليم من الزوجين، وقد ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فجعل للولي الحق في منعها من التزويج بمريض يخشى تعدي مرضه إليها أو إلى الولد، قال في شرح المنتهى: (وإن اختارت مكلفة أن تتزوج مجنوناً أو مجذوماً أو أبرص فلوليها العاقد منعها منه، لأن فيه عاراً عليها وعلى أهلها وضرراً يخشى تعديه إلى الولد كمنعها من تزويجها بغير كفء) . (2)
ولا شك أن مرض الإيدز يخشى تعديه إليها أو إلى الولد، فلو منع الولي أو السلطان التزويج لكان أمراً متجهاً. والله أعلم..
المطلب الثالث: في إجهاض الجنين وإرضاع وحضانة الطفل السليم إذا كانت الأم مصابة:
__________
(1) د. رفعت كمال، قصة الإيدز، ص 144
(2) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3/54(8/1331)
وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول: إجهاض الجنين المصابة أمه بالإيدز:
عند الأطباء عدة نظريات وأقوال في كيفية انتقال فيروس الإيدز إلى الأجنة منها:
1- أن الإصابة تحدث للأطفال نتيجة انتقال الفيروس من المصاب من الأبوين إلى الطفل عن طريق المني، حيث ثبت أن الفيروس قد فصل من المني فتحصل الإصابة للجنين في مرحلة مبكرة ويعزى حدوث بعض حالات الإجهاض إلى هذا السبب.
2- أن الإصابة تحصل بانتقال الفيروس من دم الأم إلى دم الجنين عبر المشيمة ومنه إلى الحبل السري ثم إلى الجنين حيث إنه يتغذى بذلك.
3- أن الإصابة قد تحصل أثناء عملية الولادة ونزوله من الرحم والمهبل المصاب. (1)
وبعد استعراض كيفية انتقال المرض إلى الأجنة مما يشكل خطورة عليهم، وعلى الأم الحامل حيث يساعد الحمل على تدهور صحتها العامة وظهور آثار المرض يظهر أن أقوال الأطباء في منع الحمل وجيهة وقوية حيث جاء في قصة الإيدز: (وعلى الأم المصابة بالمرض أو العدوى أن تتجنب الحمل والولادة حفاظاً على حالتها الصحية من التدهور وحماية للجنين أو الوليد من الإصابة بالعدوى) (2) وهذا القول يتفق مع ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل فلم ينههم صلى الله عليه وسلم ومنع الحمل هنا خشية على صحة الأم، وخشية من انتقال المرض إلى الجنين وذلك أمر متجه تؤيده قواعد الإسلام الكلية وما اشتملت عليه من أن دفع المضار مقدم على جلب المصالح إذا تساوت فكيف إذا رجحت المفاسد على المصالح.
أما بعد حصول الحمل وقبل نفخ الروح في الجنين ففي الأمر تفصيل فإن كان الخوف على الجنين فمجال نظر حيث إن نسبة الأطفال المصابين بالعدوى ليست عالية جداً حيث لا تتجاوز 45? (3) حسب استقراء المختصين حتى الآن، أما بعد نفخ الروح فلا يجوز الإجهاض بحال حيث إن إجهاضه قتل له واحتمال سلامته من المرض نسبته عالية عند الأطباء.
أما إذا كان الخوف على الأم من الهلاك وغلب على الظن بقول أطباء موثوقين فيجوز الإجهاض دفعاً لأعلى الضررين بارتكاب أخفهما.
__________
(1) محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز ص 72 – 73. ومقابلة أجريتها مع مجموعة من الأطباء
(2) كمال رفعت، قصة الإيدز: ص 19، وانظر محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز ص 305
(3) مقابلة أجريتها مع مجموعة من الأطباء(8/1332)
الفرع الثاني: إرضاع الطفل المصابة أمه:
تأكد عند الأطباء أن الفيروس موجود في لبن الأم وذلك مؤشر قوي على أن الإصابة التي تحصل للأطفال تكون من طريق الرضاعة من الأم (1)
وحيث إن الأمر كما ذكر فلنستعرض أقوال الفقهاء في حكم رضاعة الطفل من الأم المصابة بمرض معد أقل خطورة من مرض الإيدز كالبرص والجذام حيث إن البرص غير قاتل والجذام قد وجد له علاج يوقفه عند حد معين بخلاف وباء العصر –الإيدز- الذي لم يوجد له علاج ولا مصل واق، فمما جاء في هذا المجال ما ذكره العلائي في قواعده حيث قال: (ذكر المستفتي أن الولد رضيع وأن من يقبل قوله من الأطباء ذكر أن ارتضاعه لبنها يورث ذلك المرض فيه فيتعين الجواب حينئذ بسقوط حضانتها وذلك قدر زائد على الإعداء؛ لأنه من جنس أكل السموم) (2)
وقال البهوتي: (إذا كان بالأم برص أو جذام سقط حقها من الحضانة كما أفتى به المجد ابن تيمية وصرح بذلك العلائي الشافعي في قواعده وقال: لأنه يخشى على الولد من لبنها.. وقال في الإنصاف: وقال غير واحد وهو واضح: في كل عيب متعد ضرره إلى غيره) (3)
فقد ظهر من أقوال الأطباء الموثوقين أنه يخشى تعدي المرض عن طريق الرضاعة وإن كانت نسبة إصابة الأطفال ليست عالية جداً، ولذلك وجب الامتناع عن إرضاع الأطفال من لبن المصابات بالمرض محافظة على حياتهم وعدم تعريضهم إلى الخطر فإن الله نهى عن التعرض للمهالك، والأمر بحفظ النفس مما اجتمعت الشرائع على وجوبه، إلا أنه ينبغي تقييد هذا الحكم بأن لا يخشى على الطفل الهلاك جوعاً لاسيما في بعض البلدان التي لا يوجد فيها بديل للرضاعة الطبيعية من امرأة أخرى سليمة أو رضاعة بديلة من الألبان المجففة فيجب حينئذ إرضاعه من أمه وعدم تركه للهلاك العاجل جوعاً إذ إن ترك إرضاعه من أم مصابة لا بديل للرضاعة عنها هلاك محقق وعند رضاعته منها وهي مصابة احتمال السلامة عال حيث إن الأسباب المؤدية إلى العدوى قد يبطل الله مفعولها وقد يحدث من الأسباب الأخرى ما يعارضها وقد يسهل الله اكتشاف علاج له أو مصل واق في القريب العاجل وما ذلك على الله بعزيز، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.... والله أعلم.
__________
(1) محمد البار ومحمد صافي الإيدز، ص 37، وكمال رفعت ص 25؛ ومقابلة أجريتها مع مجموعة من الأطباء المختصين
(2) العلائي، المجموع المذهب في قواعد المذهب: 2/ 158 ب؛ وانظر ابن خطيب الدهشة، مختصر قواعد العلائي: 3/ 542- 543
(3) البهوتي، كشاف القناع: 3/ 499(8/1333)
الفرع الثالث: حضانة المصابة بالإيدز للطفل السليم:
إعطاء حكم في هذه المسألة فرع عن اتضاح وسائل انتقال المرض فإن ظهر أن المعايشة والالتصاق سبب في انتقال العدوى منعت الحضانة حينئذ، والأطباء لم يجزموا بعدم انتقاله بالمعايشة بل ورد من نظرياتهم أن الإصابة قد تكون بسبب الالتصاق، جاء في كتاب الإيدز وباء العصر تفسير لبعض إصابات الأطفال: (تحدث الإصابة بعد الولادة نتيجة الالتصاق والصلة الحميمة بينه وبين الأم أو الأب المصاب) (1)
ولكن الذي أميل إليه والحالة هذه من عدم وضوح وسائل انتقاله أن يأخذ حكم الجذام والبرص حتى يقطع بعدم الانتقال بالمعايشة إن وجد من يقوم بحضانته غير المصاب وإلا وجب بقاؤه مع المريض وتخلف الأسباب وعدم تأثيرها إذا كانت واضحة أمر معلوم في شريعتنا السمحة فكيف إذا كان السبب محل خلاف؟
أما إذا وجد من يقوم بحضانته كالأب السليم فتسقط حضانة الأم المصابة أو توقف حتى يتضح الأمر ويحسم طبياً ومن تتبع نصوص الفقهاء وأقوالهم في ذلك اتضح له بعد نظرهم وسعة اطلاعهم. جاء في كشاف القناع: (وإذا كان بالأم برص أو جذام سقط حقها من الحضانة ... قال في الإنصاف: وقال غير واحد: وهو واضح في كل عيب متعد ضرره إلى غيره) (2)
وقال العلائي: (لو كانت الأم مجذمة والولد غير رضيع فينبغي القول بسقوط حضانتها) (3)
وعليه فإن القول بإيقاف حضانتها حتى يتضح الأمر (4) قول وجيه فإن امتنع الولي وأصر فسق، وعليه فإن الجذماء والبرصاء حيث ثبت أن الجذام ينتقل بالمعايشة والمجالسة تسقط حضانتهما ويجب عزلهما فإن شارك هذا المرض –الإيدز- الجذام وكان ينتقل بالمعايشة أخذ حكمه في الحضانة والعزل، جاء في كشاف القناع: (ولا يجوز للجذماء مخالطة الأصحاء عموماً ... وعلى ولاة الأمور منعهم من مخالطة الأصحاء بأن يسكنوا في مكان مفرد لهم) (5)
__________
(1) محمد البار، ومحمد صافي، الإيدز (ص 73) ؛ ومقابلة أجريتها مع مجموعة من الأطباء
(2) البهوتي، كشاف القناع: 3/ 499
(3) العلائي، المجموع المذهب: 2/ 158 ب
(4) إن وجد بديل يقبل حضانته مع الخوف والرعب الذي انتشر بين الناس إذا علم أن في الأسرة مصاب فقد يجتنب الناس الأسرة كلها
(5) البهوتي، كشاف القناع: 6/ 126؛ وانظر شرح منتهى الإرادات: 3/ 367(8/1334)
المبحث الثاني
عقوبة مريض الإيدز
إذا تسبب في إصابة غيره بهذا المرض
يمكن تقسيم هذا المبحث إلى أربعة مطالب:
المطلب الأول: الجواسيس والشاذون ومن في حكمهم من المفسدين.
المطلب الثاني: جرح المريض السليم جرحاً بسيطاً.
المطلب الثالث: معاشرة المصاب من الزوجين للسليم.
المطلب الرابع: الإصابة بالمرض نتيجة تقصير الأطباء والفنيين في المختبرات أثناء نقل الدم ومشتقاته أو زراعة الأعضاء.
المبحث الثاني
عقوبة مريض الإيدز
إذا تسبب في إصابة غيره بهذا المرض
من المبادئ المستقرة عند المسلمين التي لا تقبل التشكيك أن الشريعة الإسلامية متصفة بالكمال، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] فكل ما قد يطرأ على البشرية من حوادث ونوازل لابد من وجود حكم له منصوص أو مقيس أو منقول أو مخرج على القواعد الكلية، فشمولية الشريعة أمر مستقر واضح في مبادئها وقواعدها العامة وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] .
ومما نجده واضحاً أشد الوضوح أحكام الجنايات والحدود والديات ولاشك أن موضوع البحث وهو عقوبة مريض الإيدز إذا تسبب في إصابة غيره قد اشتملت عليه أحكام الشريعة الإسلامية وإن لم ينص عليه باسمه لكن عموم النصوص والقواعد الكلية ومقاصد الشارع العامة مشتملة على حكمه، فحفظ النفس أحد المقاصد التي اجتمعت عليها الشرائع السماوية وسوف يكون في هذا البحث بيان وتخريج ونقل لما قاله الفقهاء في صور الجنايات التي نصوا عليها وتخريج موضوع البحث على ما ذكروه من صور؛ ويمكن تقسيم جنايته وتسببه في إصابة غيره إلى أربعة مطالب:(8/1335)
المطلب الأول: الجواسيس والشاذون ومن في حكمهم من المفسدين:
يشير خبراء التحاليل الطبية أن مريض الإيدز عبارة عن مزرعة متحركة للميكروبات والجراثيم ولا يستطيع أحد تمييزه عن غيره، لأن أعراض الإصابة لا تظهر إلا بعد فترة طويلة؛ حيث إنه يمارس حياته بشكل طبيعي وينشر المرض فيمن حوله خاصة في حالة علمه بإصابته حيث يشعر باقتراب نهايته، ولذلك أكد خبراء الرأي العام أن خطورة مرض الإيدز لا تكمن فقط في صعوبة الشفاء منه ولكن الخطورة تنبع من سوء استغلال بعض الجهات للمرض في أغراض حقيرة لتحقيق أهداف غير إنسانية (1)
وحيث إن الأمة الإسلامية عامة والعربية خاصة أمة مستهدفة في عقيدتها واقتصادها، وشبابها أعظم ثروة لديها، لذلك نلاحظ الهجمة الشرسة من الصهيونية والنصرانية الصليبية التي اتخذت عدة أساليب للنيل من الأمة بوسائل وأهداف لم تعهد من قبل، ويعتبر مرض الإيدز أكثر فاعلية من الأساليب المألوفة وهو أسلوب له تأثيره في الحرب النفسية، وقد ذكر خبراء الرأي العام أن المخابرات المعادية كثيراً ما تلجأ إليه لضرب البلدان المستهدفة في أعز ما تملك وهو الشباب (2) فالجواسيس يحملون المرض وينقلونه إلى غيرهم عن طريق الممارسات الجنسية التي تعتبر إحدى الوسائل الناقلة المتفق عليها عند الأطباء، فقد توفر قصد الجناية بطريقة غير مشروعة، وحيث إن الزنى واللواط والمخدرات طرق لنقل المرض المؤدية إلى الهلاك فما الحكم والحالة هذه؟
هذه الصورة تعتبر من صور الفساد في الأرض والحرابة التي ذكر الله سبحانه وتعالى حكمها في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] .
فالجواسيس والشاذون جنسياً الذين يحصل منهم الاعتداء على الأعراض يستدرجون الغلمان والفتيات الصغيرات والضعفاء والفقراء ويغرونهم بالمال أو يغتصبونهم، يجب قطع شرهم ولو لم يكونوا مصابين بهذا الوباء الخطير الذي ينتقل إلى الأصحاء عن طريق المعاشرة الجنسية، فكيف إذا حصل به انتقال المرض فينبغي قتلهم حداً لا قصاصاً فلا تشترط المكافأة ولا يرد الأمر إلى الأولياء.
فقد ثبت في الصحيحين: ((أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها أو حلي فأخذ واعترف فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين)) (3)
__________
(1) جريدة المدينة، العدد 9399، في: 16/ 8/ 1413هـ
(2) الهدف: 1285، في 16/ 7/ 1413هـ
(3) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 5/ 371؛ ومسلم، الجامع الصحيح: 11/ 158(8/1336)
ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إلى أولياء الجارية ولو كان قصاصاً لرد الأمر إليهم؛ لأنهم أهل الحق، وكل حق يتعلق به حق الله وحق الآدمي؛ وحق الله هو الغالب فلا عفو فيه كحد السرقة وغيرها.
المطلب الثاني: جرح المريض السليم جرحاً بسيطاً:
من المعلوم أن الفيروس إذا دخل عن طريق الدم أصيب الصحيح بالمرض ولذلك ينصح الأطباء عموماً بتجنب أي إجراء من شأنه اختراق الجلد (1)
وقد استفاض عند الناس أن الفيروس ينتقل إلى الصحيح عن طريق الجروح، ولجأ بعض مرضى الإيدز إلى الاعتداء على رجال الأمن وجرحهم بجروح بسيطة أو عضهم انتقاماً منهم أو تخلصاً منهم، وقد علمت أن الممرضة تخاصمت مع مريض في المستشفى، وكان فيه مريض بالوباء الكبدي، فاستعملت إبرة في المصاب ثم استعملتها مع من خاصمته انتقاماً منه، فما حكم هذه الحالة ومثيلاتها؟
بعد أن استعرضت صورة القتل العمد رأيت أن هذه الصورة تشابه القتل بالسم والسحر وغيرها من صور القتل الخفية، وقد وجدت أقوال الفقهاء في القتل بالسم على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول:
ذهب جمهور فقهاء الحنفية فيمن وضع سماً في أكل أو شرب وهو عالم به والآكل أو الشارب غير عالم إلى عدم وجوب القصاص أو الدية وأنه لا يجب عليه إلا التعزير. جاء في الدر المختار: (سقاه سماً حتى مات، إن دفعه إليه حتى أكله ولم يعلم به فمات لا قصاص ولا دية لكنه يحبس ويعزر ولو أوجره السم إيجاراً تجب الدية على عاقلته) (2)
__________
(1) رفعت كمال، قصة الإيدز (ص19)
(2) الموصلي، الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 6/ 542؛ وانظر الكاساني بدائع الصنائع: 10/ 4919(8/1337)
المذهب الثاني:
الأظهر عند الشافعية أن القتل بالسم شبه عمد تجب فيه دية شبه العمد، جاء في نهاية المحتاج: (ولو دس سماً.. في طعام شخص مميز أو بالغ على ما مر والغالب أكله منه فأكله جاهلاً بالحال فعلى الأقوال دية شبه العمد على الأظهر) (1)
المذهب الثالث:
قال المالكية وهو المذهب عند الحنابلة والظاهر عند الشافعية وقول عند الإمامية وبعض الحنفية: إن تقديم السم مثل القتل بالمحدد والمثقل يوجب القود بشرطه، جاء في الشرح الكبير: (وتقديم مسموم لغير عالم فتناوله ومات فيقتص من المقدم إن علم أنه مسموم) (2)
وجاء في شرح منتهى الإرادات: (السابعة أن يسقيه سماً يقتل غالباً لا يعلم به شاربه أو يخلطه بطعام أو يطعمه لمن لا يعلم به أو يخلطه بطعام أكل فيأكله جهلاً به فيموت فيقاد به كما لو قتله بمحدد) (3)
وجاء في روضة الطالبين: (لو سقاه دواء أو سماً لا يقتل غالباً لكنه يقتل كثيراً فهو كغرز في غير مقتل وفي إلحاقه بالمثقل احتمال) (4)
وجاء في البحر الزخار: (وأما السبب فمنه ما يشبه المباشرة فيوجب القصاص وذلك كالإكراه ... وتقديم الطعام المسموم في قول) (5)
وجاء في حاشية ابن عابدين: (وذكر السائحاني أن شيخه أبا السعود ذكر في باب قطع الطريق أنه لو قتل بالسم قيل: يجب القصاص لأنه يعمل عمل النار) (6)
أدلة القائلين بعدم قتل مقدم السم وما شابهه:
1- ما روى أنس بن مالك: ((أن يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتلها)) (7)
2- إن آكل السم أكله مختاراً، فأشبه ما لو قدم إليه سكيناً فطعن بها نفسه فيكون قاتلاً نفسه (8)
__________
(1) الرملي، نهاية المحتاج: 7/ 242؛ وانظر المحلى شرح المنهاج: 4/ 99؛ والنووي، روضة الطالبين: 9/ 126
(2) الدردير، الشرح الكبير: 4/ 217؛ وانظر الشرح الصغير: 4/ 342؛ والصاوي على الشرح الصغير: 4/ 342؛ والدسوقي، حاشيته: 4/ 217
(3) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3/ 270؛ وانظر المرداوي، الإنصاف: 9/ 440، وكشاف القناع: 5/ 509؛ وابن قدامة، المغني: 7/ 643
(4) النووي، روضة الطالبين: 9/ 126؛ وانظر المحلى، شرح المنهاج: 4/ 99؛ وقليوبي حاشية: 4/ 99؛ وابن القاسم العبادي، حاشية: 8/ 384
(5) المرتضى، البحر الزخار: 6/ 216
(6) ابن عابدين حاشية رد المحتار: 6/ 542
(7) البخاري، الجامع الصحيح: 7/ 497، ومسلم، الجامع الصحيح: 14/ 178- 179
(8) السرخسي، المبسوط: 26/ 153(8/1338)
أدلة الجمهور على وجوب القصاص على القاتل بالسم وما شابهه:
الضابط الذي ذكره جمهور الفقهاء في قتل العمد العدوان، أنه القتل بما يغلب على الظن موته به مطرد على عمومه لا يستثنى منه شيء (1)
وهذا سبب يسري إلى البدن غالباً فيؤدي إلى القتل فيستدل له بما يلي:
1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] .
2- وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] .
3- وقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] .
4- ما ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات بشر بن البراء بن معرور، أرسل إلى اليهودية، فقال: ((ما حملك على الذي صنعت؟ فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت)) (2)
5- هذا سبب يقتل غالباً ويتخذ طريقاً إلى القتل كثيراً فأوجب القصاص كما لو أكرهه على شربه (3)
6- لو كان القتل بالأسباب الخفية لا يوجب القصاص لعدل شرار الخلق عن الأسباب الظاهرة الموجبة للقصاص إلى الأسباب الخفية كالسم والسحر والجراثيم والفيروسات ونشر الأمراض الفتاكة التي تعتبر أشد فتكاً وأكثر قتلاً من المحدد والمثقل فالأولى أن تأخذ حكم الأسباب الظاهرة، والله أعلم.
وقد نوقشت أدلة القائلين بعدم قتل مقدم السم بمناقشات بينت ضعفها، فخبر اليهودية ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلها قبل أن يموت بشر بن البراء فلما مات أمر بقتلها فقتلت، وأنس نقل صدر القصة دون آخرها فيتعين حمله عليه جمعاً بين الخبرين (4)
أما تقديم السكين ففرق بينه وبين دس السم إذ السكين لا تقدم إلى الإنسان ليقتل بها نفسه إنما تقدم إليه لينتفع بها وهو عالم بمضرتها ونفعها فأشبه ما لو قدم إليه السم وهو عالم به فأكله (5)
__________
(1) عبد الله البسام، نيل المآرب: 4/ 434
(2) أبو داود، السنن: 4/ 175
(3) ابن قدامة، المغني: 7/ 643
(4) ابن قدامة، المغني: 7/ 643، 644
(5) ابن قدامة، المغني: 7/ 643، 644(8/1339)
الراجح:
كانت العرب في الجاهلية تقول: القتل أنفى للقتل، وبسفك الدماء تحقن الدماء؛ والمقصود من القصاص الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، ولو لم يجب القصاص بهذه الأسباب الخفية لعدل شرار الخلق عن الظاهر إلى الخفي مما يستحدثونه كل حين مما هو أشد فتكاً بالأنفس وإزهاقاً للأرواح من الأسباب الظاهرة فيعود ذلك على مقصد الشارع بالنقض والإبطال فيشيع القتل وتزهق الأنفس وتسفك الدماء، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، فإذا جرح مريض الإيدز غيره أو عضه فأصابه المرض قتلناه بعد موت المجنى عليه لأن سراية الجناية مضمونة وموته بالسراية إذ الغالب أنه بعد دخول الفيروس في بدن السليم يبقى مصاباً حتى يموت من سرايته، جاء في شرح منتهى الإرادات: (وتضمن سراية جناية ولو بعد أن اندمل جرح أو اقتص من جان ثم انتقض الجرح فسرى لحصول التلف بفعل الجاني أشبه ما لو باشره بقود ودية) (1) فعلى القتل بالسم يخرج جرح مريض الإيدز لغيره، وبالإمكان اختيار القول الذي ذهب إليه كثير من الفقهاء أن الجرح ولو كان صغيراً في غير مقتل موجب للقصاص؛ لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل، بل يعلل وجوب القصاص عليه بأنه مات بمحدد، قال في كشاف القناع: (ولو صغيراً كشرطة حجام فمات المجروح ولو طالت علته منه ولا علة به غيره –أي الجرح- ولو كانت في غير مقتل كالأطراف، لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل بدليل ما لو قطع شحمة أذنه أو أنملة فمات) (2)
فالجرح على هذا القول سبب لزهوق النفس والجرح بما له نفوذ في البدن كسكين وحربة ونحوهما وإن قال: لم أقصد قتله، لم يقبل منه ولم يصدق في دعواه؛ لأنه خلاف الظاهر (3)
وعليه فإن التسبب في إدخال الفيروس إلى الدم قد استفاض عند الأطباء وكذا سائر الناس أنه سبب للإصابة ومن ثم السراية والموت فلا يقبل قول الجاني أنه لم يقصد قتله لأن ذلك خلاف الظاهر، والله أعلم.
المطلب الثالث: معاشرة المصاب من الزوجين للسليم:
من المعلوم عند الأطباء أن المني يحمل الفيروس فإذا عاشر أحد الزوجين الآخر، وهو مصاب أصيب الآخر غالباً، فزوجات المصابين أصيب عدد كبير منهن (4) ولذلك ينصح الأطباء إذا كان أحد الزوجين مصاباً بالابتعاد عن الاتصال الجنسي (5) ما أمكن فإن لم يمكن فعن طريق استعمال العازل الذكري –الكبوت- الذي يؤدي إلى منع ملامسة الإفرازات الجنسية لكل من الطرفين وبالتالي لا تنتقل العدوى إلى السليم (6) ولكن السؤال المطروح الذي تجب الإجابة عليه: ما هو حكم الشرع إذا علم المريض ومارس مع السليم الجاهل فأصابه المرض؟ وهل يختلف الحكم إذا لم يعلم أنه مصاب فمارس الجنس وأصاب الآخر؟
__________
(1) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3/ 297- 298
(2) البهوتي، كشاف القناع: 5/ 505
(3) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3/ 269، وانظر المرداوي، الإنصاف: 9/ 441
(4) محمد البار ومحمد صافي، الإيدز ص 70
(5) رفعت كمال، قصة الإيدز ص 23
(6) رفعت كمال، قصة الإيدز ص 23(8/1340)
يقسم الفقهاء القتل الخطأ إلى قسمين:
أحدهما أن يفعل ما له فعله فيقتل إنساناً.
وعلى ذلك هل لمريض الإيدز أن يعاشر السليم المعاشرة الجنسية التي ثبت أنها ناقلة للمرض بما لا يدع مجالاً للشك؟
من القواعد الكلية المعلومة والمستقرة عند العلماء: (لا ضرر ولا ضرار) فكل فعل فيه ضرر أو ضرار بأحد فهو ممنوع شرعاً ومن خالف أثم فيما بينه وبين الله تعالى ولزمته تبعات عمله بل لقد ذهب كثير من علماء الحنابلة إلى أن من فعل ما ليس له فعله فهو عمد محض، جاء في الإنصاف: (تنبيه: مفهوم قوله أن يفعل ما له فعله أنه إذا فعل ما ليس له فعله كأن يقصد رمي آدمي معصوم، أو بهيمة محترمة، فيصيب غيره، إن ذلك لا يكون خطأ بل عمداً وهو منصوص الإمام أحمد رحمه الله، قال القاضي في روايته: وهو ظاهر كلام الخرقي) (1)
وعليه فمريض الإيدز إذا علم بمرضه فليس له المعاشرة فيكون جانياً، يجب عليه تبعات جنايته من دية وكفارة، وفي القود تردد إذ قد يكون حقه في المعاشرة الزوجية التي لا يعلم بمنعها –وذلك متوقع- شبهة في درء حد القصاص.
وأما إذا كان المريض لا يعلم بمرضه فعاشر السليم وأصابه فما الحكم؟
من المعلوم المستقر أن الجهل والخطأ والنسيان رافع للإثم مطلقاً فيما بين المكلف وربه كما وعد بذلك رب العزة والجلال بقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) . (2)
وأما الحكم فإن الدية والكفارة واجبتان عليه إذ الخطأ لا يسقط حقوق الآخرين المالية، كما أنه لا يسقط الواجبات، فمن نام عن صلاة أو نسيها يجب عليه أداؤها إذا ذكرها، وما أحسن تفصيل السيوطي رحمه الله في هذا المقام حيث يقول: (اعلم أن قاعدة الفقه أن النسيان والجهل مسقط للإثم مطلقاً، وأما الحكم فإن وقعا في ترك مأمور لم يسقط بل يجب تداركه ولا يحصل الثواب المترتب عليه لعدم الائتمار، أو فعل منهي ليس من باب الإتلاف فلا شيء فيه، أو فيه إتلاف لم يسقط الضمان، فإن كان يوجب عقوبة كان شبهة في إسقاطها) (3)
فالضمان واجب على من تسبب في إصابة غيره، والجهل والخطأ والنسيان لا تسقط حقوق الآخرين، وعليه تجب دية السليم إذا أصابه المرض نتيجة للمعاشرة الجنسية ... والله أعلم.
__________
(1) المرداوي، الإنصاف: 9/ 446؛ وانظر البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 3/ 272 وكشاف القناع: 5/ 513
(2) ابن ماجه، السنن: 1/ 659
(3) السيوطي، الأشباه والنظائر (ص207)(8/1341)
المطلب الرابع: الإصابة بالمرض نتيجة تقصير الأطباء والفنيين في المختبرات أثناء نقل الدم ومشتقاته وزراعة الأعضاء:
من المؤكد والمتفق عليه بين الأطباء أن نقل الدم ومحتوياته وزراعة الأعضاء من مصاب إلى سليم سبب لانتقال العدوى، وقد علمت وقائع متعددة نقل فيها الدم من مصابين فأصيب المنقول إليه بالعدوى لاسيما في مراحل اكتشاف المرض الأولى قبل أن تعرف وسائل انتقاله وتتخذ الاحتياطات اللازمة والتأكد من سلامة المنقول منه من المرض (1)
وحيث إن الإصابة بسبب تقصير الأطباء وفنيي المختبرات أحد الموضوعات اللازم بحثها في نوازل العصر ومستجداته، فما هو حكم الشارع في ذلك؟
غاية العمل الطبي والمقصود منه هو حصول مصلحة حفظ الإنسان الموجودة، ودفع مضرة الأمراض النازلة به، والشريعة الإسلامية عندما أباحت العمل الطبي أباحته رجاء تحصيل هذه المصالح المرجوة، وتحصيلها لا يتم إلا بمطابقة العمل لأصول مهنة الطب، وحيث لم يطابق العمل الذي يقوم به الطبيب أصول مهنة الطب، فإنه لا يكون محققاً لتلك المصالح ومن ثم يبقى على أصله فعلاً محرماً لا يجوز للطبيب ولا لغيره الإقدام عليه، لأن الأصل المقرر أن كل عمل قاصر عن تحصيل مقصوده لا يشرع (2) فكيف إذا كان يحقق نقيض المقصود؟ وحيث إن الأطباء بشر قد يتسببون في إتلاف الأنفس فقد شرع الله الزواجر لحماية الناس، وهذه الزواجر تتمثل في الوعيد الشديد الذي يلحق بسبب تقصيرهم وإهمالهم واستخفافهم بأجساد الناس وأرواحهم، وذلك يتمثل بعقاب الله لهم في الآخرة كما يتمثل في الدنيا بما يترتب على أفعالهم من قصاص إن كان عمداً، أو ضمان يلزمهم به القاضي إن كان خطأ (3)
قال الدكتور قيس بن مبارك: (لا يكون العمل الطبي مستوفياً هذا الشرط بأن يحقق تلك المصلحة المرجوة ويدفع تلك المفسدة عن المريض إلا إذا كان موافقاً للأصول والقواعد العلمية المعتبرة عند أصحاب هذا الفن، ذلك أن إقدام الطبيب على معالجة الناس والتصدي لجراحة أبدانهم على غير الأصول العلمية المعتبرة في علم الطب يحيل عمله من عمل مشروع ومندوب إليه إلى عمل محرم يعاقب عليه، لأنه أصبح عملاً عدوانياً فهو أشبه بالجناية الصادرة من غير الطبيب) ثم قال: وقد ذكر الدكتور أسامة قايد تعريفاً حسناً لهذه الأصول فقال: (هي الأصول الثابتة والقواعد المتعارف عليها نظرياً وعملياً بين الأطباء والتي يجب أن يلم بها كل طبيب وقت قيامه بالعمل الطبي) (4)
__________
(1) محمد البار، ومحمد صافي: الإيدز (ص 39- 102) ؛ رفعت كمال، قصة الإيدز (ص19)
(2) قيس مبارك، التداوي والمسؤولية الطبية (ص 175)
(3) قيس مبارك، التداوي والمسؤولية الطبية (ص 133)
(4) قيس مبارك، التداوي والمسؤولية الطبية (ص 168)(8/1342)
وقد نص الفقهاء قديماً على تقصير الأطباء ومن في حكمهم والأحكام المترتبة عليها ومن ذلك ما قاله الشيخ خليل: (كطبيب جهل أو قصر) (1) فجعل عليه الضمان بتقصيره وأي تقصير يساوي هذا التقصير الذي لا يحتاط فيه الطبيب والفني من وجود الفيروس المؤدي إلى هذا المرض القاتل.
وقد علق الدسوقي على قول خليل السابق بقوله: (كأن أراد قلع سن فقلع غيرها، أو تجاوز بغير اختياره الحد المعلوم في الطب عند أهل المعرفة) (2)
وقال المواق: (قال ابن القاسم: لا ضمان على طبيب وحجام وخاتن وبيطار إن مات حيوان بما صنعوا به إن لم يخالفوا، وضمن ما سرى كطبيب جهل أو قصر) (3)
فمفهوم قوله إن لم يخالفوا أنهم إن خالفوا تعدياً أو تقصيراً ضمنوا كما يدل عليه قوله: (أو قصر) .
وقال ابن القيم: (وإن كان الخاتن عارفاً بالصناعة وختن المولود في الزمن الذي يختتن في مثله وأعطى الصناعة حقها لم يضمن سراية الجرح اتفاقاً) (4)
وقد علق قيس بن المبارك على هذا الحكم بقوله: (دل قوله: وأعطى الصناعة حقها) على اعتباره لأصول المهنة الطبية سبباً من أسباب سقوط المسؤولية، ومفهوم وصفه هذا يدل على أن عدم الأخذ بهذه الأصول يعتبر موجباً للمسؤولية) (5)
وقال ابن الشحنة: (ليس على الفصاد والبزاغ والحجام ضمان السراية إذا لم يقطعوا زيادة على القدر المعهود المأذون فيه) (6)
وقال الشافعي: (وإذا أمر الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يبيطر دابته فتلفوا من فعله، فإن كان فعل ما يفعله مثله مما فيه الصلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصناعة فلا ضمان عليه، وإن كان فعل ما لا يفعل مثله من أراد الصلاح وكان عالماً به فهو ضامن) (7)
فجعل نفي المسؤولية والضمان عنه مشروطاً بفعل ما فيه الصلاح للمفعول له عند أهل العلم.
ولاشك أن في كل ما تقدم بيانا وإيضاحا للإلزام بأصول المهنة وتضمين من لم يلتزم بها ومن قصر في تحليل الدم ومشتقاته حتى أصيب السليم يكون عمله محظوراً معاقباً عليه في الدنيا بالضمان وفي الآخرة بالعقاب.
ولقد اتخذت المملكة العربية السعودية إجراءً وقائياً عاماً حيث منعت استيراد الدم من الخارج واكتفت بما يتم جمعه من الداخل (8) بعد أن اتخذت عدة وسائل لتشجيع المواطنين على التبرع بالدم، وهذا إجراء يشكر ولا يكفر ويذكر ولا ينسى، والله أعلم.
__________
(1) انظر الدردير، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 4/ 316
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 316
(3) التاج والإكليل مع مواهب الجليل: 6/ 320- 321
(4) تحفة المودود (ص 195)
(5) التداوي والمسؤولية الطبية (ص 178)
(6) لسان الحكم (ص 292)
(7) الأم
(8) محمد البار، ومحمد صافي: الإيدز (ص 306)(8/1343)
المبحث الثالث
عزل مريض الإيدز عن أماكن التجمع
كالمدارس وميادين العمل
يمكن تقسيم هذا المبحث إلى تمهيد ومطلبين:
المطلب الأول: الحكم إذا كان المرض ينتقل بالمعايشة العامة والمصافحة والأكل والشرب واستعمال الأدوات والمراحيض.
المطلب الثاني: الحكم إذا كان المرض لا ينتقل بالمعايشة العامة والمصافحة والأكل والشرب واستعمال الأدوات والمراحيض.
المبحث الثالث
عزل مريض الإيدز عن أماكن التجمع
كالمدارس وميادين العمل
التمهيد:
الأمراض المعدية التي تنتقل من المريض إلى آخر تختلف طرق ووسائل انتقالها من مرض إلى آخر، فمنها ما ينتقل بواسطة التنفس كأمراض الجهاز التنفسي كالأنفلونزا والسل الرئوي، ومنها ما ينتقل بواسطة الفم كأمراض الجهاز الهضمي مثل الدوسنتاريا والتيفود، ومنها ما ينتقل عن طريق المعاشرة الجنسية مثل الزهري والسيلان، ومنها ما ينتقل بطريق الملامسة كالجدري والجذام، وبعضها ينتقل بواسطة الحقن أو نقل الدم كالالتهاب الكبدي الفيروسي، أو بواسطة وخز الحشرات كالملاريا التي تنقلها البعوضة أو الطاعون الذي تنقله الفئران والبراغيث، وقد يكون للمرض الواحد أكثر من وسيلة لانتقاله (1) كالإيدز إذ تحقق أنه ينتقل بالاتصال الجنسي وعن طريق الدم ومشتقاته كزراعة الأعضاء والمخدرات التي تؤخذ عن طريق الحقن وحيث إن الأمر كما ذكر في وسائل انتقال الأمراض، وبعض الأسئلة التي طرحت وطلبت الإجابة عليها يتوقف الجواب عليها على تحديد الرأي الطبي ووضوحه في وسائل انتقال المرض، والسؤال الذي تجب الإجابة عليه حتى يعطى الحكم الصحيح على هذه الأسئلة هو: هل مرض الإيدز ينتقل عن طريق الملامسة والمجالسة والمعايشة واستعمال الأدوات والمراحيض والإفرازات التي يفرزها الجسم كاللعاب والدمع أو لا ينتقل بواسطة هذه الوسائل؟
__________
(1) محمد علي البار، العدوى بين الطب وحديث المصطفى (ص 22)(8/1344)
استفاض بين الناس في مراحل المرض الأولى أن مرض الإيدز ينتقل بالمعايشة، والأطباء عند ظهور أعراض المرض الأولى كانوا يحذرون من مصافحة مرضى الإيدز ومجالستهم، ولقد نقلت الصحف أن بعض المجرمين الهاربين الذين يحيط بهم رجال الأمن يدعي أنه مصاب بالإيدز حتى يتمكن من الهرب، بل إن رجال الأمن إذا أرادوا التعامل مع الشاذين جنسياً أو مدمني المخدرات يلبسون القفازات والأقنعة الواقية خوفاً من الإيدز –حيث تعتبر هذه الفئات مرتعاً للمرض- كما تم إمداد رجال الإسعاف بأجهزة بلاستيكية تمنع وصول وتلاصق فم المسعف بفم المصاب، وعندما حاول التليفزيون في الولايات المتحدة تقديم أحد مرضى الإيدز رفض العاملون في الاستديو دخول المبنى واضطرت الإدارة لإلغاء البرنامج، ونشرت الصحف قصة اللص الذي دخل بنكاً في نيويورك وناول الموظفة قصاصة مكتوب عليها أنا مصاب بالإيدز فناوليني ما معك من النقود وإلا بصقت في وجهك فناولته مسرعة كل النقود وتكررت الحادثة في أماكن مختلفة في أوربا (1)
بل لقد ذكرت قصة الطبيب الذي امتنع عن استعمال الهاتف العام خوفاً من خطر الإيدز (2) غير أن هذا الخوف وهذا الهلع بدأ يخف ويزول شيئاً فشيئاً بسبب كثرة المؤتمرات والندوات والنشرات التي ذكرت فيها الوسائل المتفق على أنها ناقلة للمرض باتفاق وهي: الاتصال الجنسي، ونقل الدم، والمخدرات خصوصاً التي تعطى عن طريق الحقن، والجروح، والحمل؛ أما غيرها فما يزال مجال نظر بين الأطباء، ولذا فالحكم الشرعي يفرع على أحد احتمالين:
المطلب الأول: في الإجابة على احتمال انتقاله بالمعايشة والملامسة والتنفس والاشتراك في المراحيض والأكل والشرب واستعمال الأدوات والمراحيض:
وبناء على هذا نورد عدة أدلة موجبة لعزله ومنعه من التعليم مع غيره وفصله من العمل أو إيجاد فرصة عمل له بعيدة عن الاختلاط، وكذا تعليم المرضى منفردين عن غيرهم، ومما يمكن أن يستدل به على ذلك:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها)) (3)
__________
(1) محمد علي البار ومحمد صافي: الإيدز (ص 84- 85)
(2) محمد علي البار ومحمد صافي: الإيدز (ص 86)
(3) البخاري، الجامع الصحيح، مع فتح الباري: 10/ 178- 179؛ ومسلم، الجامع الصحيح، مع شرح النووي: 14/ 206(8/1345)
وفي هذا الحديث عدة معجزات اكتشفت بعد قرون طويلة، منها أن هذا المرض ينتقل عن طريق الاستنشاق، حيث يصل إلى الرئتين ومنها إلى البدن فيفسد البدن.
وفي الطب أن الشخص السليم في منطقة الوباء قد يكون حاملاً للميكروب ولم يظهر عليه أثر من آثار المرض فترة الحضانة –الفترة الزمنية التي تسبق ظهور الأعراض منذ دخول الميكروب الجسم- ولذلك أمر السليم بعدم الخروج من مكان الوباء؛ لأنه قد يكون حاملاً للمرض فيعرض الآخرين للخطر دون أن يشعر هو أو يشعر الآخرون، ولذا جاء المنع شديداً والوعيد مرعباً مخيفاً (1) في حديث: ((الفار من الطاعون كالفار من الزحف)) ، وحديث: ((فما الطاعن؟ قال: غدة كغدة البعير المقيم بها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف)) (2)
وشبيه بالطاعون كل وباء أو مرض ينتقل عن طريق الاستنشاق والمجالسة والمعايشة، فيمنع السليم من الدخول إلى بلد الوباء كما يمنع المريض والسليم أيضاً من الخروج منها؛ خشية أن يكون حاملاً للمرض ولم تظهر عليه أعراضه ويعدي غيره.
2- قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يورد ممرض عل مصح)) (3)
وفي هذا الحديث منع صاحب الماشية المراض من الورود على صاحب الماشية الصحيحة؛ خشية انتقال العدوى.
3- ثبت أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنا قد بايعناك فارجع)) (4) فهذا المجذوم قد أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم بالبيعة ولم يأذن بدخوله على الناس، وعمر أخرج المجذومة من المطاف؛ وهذا هو الحجر الصحي بأجلى معانيه وأوضح صوره يتضح من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، فكل مرض يشابه الطاعون والجرب في وسائل انتقاله يأخذ حكمه، وحيث إن مرض الإيدز معد ينتقل من المرضى إلى الأصحاء ولم يتم بعد الحسم في انتقاله عن طريق المعايشة، فأرى أنه يجب عزل المريض وإبعاده عن الأصحاء، ولو بإقامة محاجر صحية خاصة كمحاجر المجذومين ومرضى السل والأوبئة الأخرى كسائر الأمراض المحجرية.
__________
(1) محمد علي البار، العدوى بين الطب وحديث المصطفى (ص 73)
(2) أحمد بن حنبل، المسند: 6/ 82، 145، 255
(3) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 10/ 241؛ ومسلم، الجامع الصحيح مع شرح النووي: 14/ 215- 216
(4) مسلم، الصحيح مع شرح النووي: 14/ 288(8/1346)
المطلب الثاني: الحكم إذا كان المرض لا ينتقل بالمعايشة والمصافحة والأكل والشرب واستعمال الأدوات والمراحيض:
هذا الأمر لم يحسم بعد عند الأطباء، وإن كان توجه كثير منهم إلى عدم انتقاله، جاء في كتاب قصة الإيدز: (لا ينتقل فيروس الإيدز عن طريق اللعاب والعرق والدموع أو البول أو رذاذ التنفس أو المصافحة أو ماء حمام السباحة أو الحمامات العامة أو المراحيض أو الغذاء أو ماء الشرب) (1)
هذا القول مع ما كان سائداً يجعل من يريد تفريع الأحكام الشرعية متردداً بين احتمالين سبق الكلام وإعطاء الحكم على الاحتمال الأول، والحكم على الاحتمال الثاني هو عدم جواز عزله وحرمانه من التعليم والعمل، لاسيما إذا كان المريض يتصرف في حياته تصرفاً مسؤولاً لا يخشى منه الإضرار بغيره، فحقوقه العامة والخاصة لا يجوز المساس بها فلا ضرر ولا ضرار، والتدابير الوقائية التي تتخذ للحماية من كل مرض حسب طرق انتقاله من مريض إلى آخر.
فالضرورة تقدر بقدرها ولا يعطى الأمر أكثر مما يستحق، فمريض الإيدز يعاني من الآلام النفسية والصحية والاجتماعية الشيء الكثير، ولذلك صرح بعض المصابين عندما طرد من عمله قائلاً: (إنك لا تعيش آلام الإيدز فقط ولكنك تعيش منبوذاً من المجتمع، وحتى إذا مت فإنهم يرفضون تجهيز جثتك) (2)
فالضرورات تقدر بقدرها، ولذلك يذكر الأطباء الذين يرون عدم انتقاله بغير الوسائل الأربع المتفق عليها احتياطات تؤيدها الأدلة العامة والقواعد الكلية ومقاصد الشريعة العامة؛ منها منع الطفل المصاب من اللعب مع غيره في المدرسة واجب شرعي؛ حيث إن اللعب يعد مصدراً للجرح وعند حصول الجرح في مصاب وسليم ينتقل المرض عن طريق الدم، وكذا يؤكدون على وجوب أخذ الاحتياطات في المدرسة حين استعمال الأطفال للآلات الحادة وتبادلها بين سليم ومصاب، فثقب الجلد بأي طريقة، واستعمال أدوات ملوثة: وسيلة من وسائل انتقال المرض؛ فيجب أخذ التدابير والاحتياطات اللازمة والكفيلة بمنع انتشار الأمراض حسب طبيعة انتقالها، وذلك من ضمن الواجبات الشرعية على ولاة الأمور التي لا يجوز التهاون فيها أو الإخلال بها، ومن لم يراع ذلك حكم بفسقه، والله أعلم.
__________
(1) رفعت كمال: قصة الإيدز (ص91)
(2) محمد علي البار ومحمد صافي: الإيدز (ص 89)(8/1347)
المبحث الرابع
الاحتياطات الواجب اتخاذها عند الحلق
في الحج للوقاية من مرض
الإيدز والالتهاب الكبدي
المبحث الرابع
الاحتياطات الواجب اتخاذها عند الحلق
في الحج للوقاية من مرض
الإيدز والالتهاب الكبدي
يوجد كثير من المهن التي يتم من خلالها انتقال العدوى، سواء من العاملين أنفسهم أو من زبون إلى آخر، فينتقل المرض من شخص إلى آخر، حتى ينتشر المرض إلى عدد كبير من أفراد المجتمع، والخبر الذي نقل عام 1989م أن مرض الإيدز انتشر في الاتحاد السوفيتي بسبب نقص أمواس الحلاقة وإبر الحقن التي يتكرر استخدامها، مؤشر قوي يحتم أخذ الحيطة، ولقد بلغ الاحتياط ببعض الأطباء والصيادلة أن يحلقوا لبعضهم أو يذهبوا بأدواتهم من موسى حلاقة وغيرها إلى الحلاقين، حيث تأكد لديهم أن استخدام آلة حادة ملوثة بالفيروس إذا استخدمت فجرحت مريضاً وسليماً انتقل المرض إلى السليم كالإيدز والوباء الكبدي (1) ولذلك يجب اتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة حتى تتم الوقاية من هذه الأمراض ومنها ما يلي:
1- توزيع ماكينات حلاقة مجانية أو بثمن رمزي على جميع الحجاج عند دخولهم إلى البلاد، وتنبيه الحجاج إذا لجؤوا إلى الحلاقين عند الجمرات أو غيرها إلى وجوب استعمال هذه الأدوات دون غيرها، أو استخدام أدوات أخرى لم تستخدم من قبل (2) فالدولة أيدها الله والمواطنون في هذا البلد الطيب يعملون كثيراً في سبيل راحة الحجاج وحمايتهم، بل لقد وصل الأمر إلى تقديم وجبات غذائية ومياه صحية مجانية للحجاج، فكيف إذا تعلق الأمر بحماية الحجيج من وباء خطير، بل من عدة أمراض الوسيلة الناقلة لها أدوات الحلاقة من أمواس وغيرها؟
2- توعية الحجاج في وسائل الإعلام المختلفة وتثقيفهم بكتابة ملصقات ونشرات بلغات الحجاج المختلفة، توزع عند المطوفين وفي أماكن تجمع الحجاج؛ حتى يعرف كل حاج خطورة ذلك ليجتنبه.
__________
(1) رفعت كمال، قصة الإيدز (ص 19)
(2) عكاظ: 24/ 8/ 1413هـ، عدد: 9698(8/1348)
3- تثقيف وتوعية الحلاقين (1) وتعريفهم بالأمراض التي يمكن أن تنتقل بسببهم وطرق انتقالها ووسائل الوقاية منها.
4- التطعيم الإجباري لجميع العاملين من الحلاقين بلقاح التهاب الكبد الوبائي، والكشف الدوري عليهم للتأكد من سلامتهم ومنع الذين لم يطعموا أو يلتزموا بالاحتياطات من مزاولة المهنة.
5- تعقيم الأدوات التي تستخدم تعقيماً جيداً إن لم يكن استخدام الأدوات مرة واحدة (2)
6- التنسيق الكامل بين وزارة الصحة –الطب الوقائي- والبلديات ومركز أبحاث الحج، بحيث يتم أخذ عينات من القادمين من المناطق التي ينتشر فيها المرض، فإن كانت نسبة المصابين عالية لزم أخذ الحذر في الأعوام القادمة قبل مغادرة الحجاج بلادهم عن طريق السفارات والقنصليات السعودية في الخارج، وهذا يتوقف على حسم الرأي الطبي في انتقال المرض بالمعايشة، فإن كان ينتقل بها وجب منعهم من الدخول، فالنبي صلى الله عليه وسلم منع المجذوم من الدخول على الصحابة وأرسل إليه: ((إنا قد بايعناك فارجع)) ، وعمر منع المجذومة من الطواف، ولكن هذا الأمر ينبغي طرحه على مستوى منظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الصحة العالمية حتى لا يكون سبباً في مشاكل سياسية قبل اتضاح خطورته، وإن كان لا ينتقل بالمعايشة وجب اتخاذ الاحتياطات الكفيلة بمنع انتشاره عند الحلق.
7- الاهتمام بالتثقيف والتوعية العامة في وسائل الإعلام المختلفة بخطورة المرض ووسائل انتقاله حتى يمكن تجنبها والحماية منها.
8- وجوب تأكد الزبون من نظافة المحل والأدوات، وطلبه استعمال أدوات معقمة ونظيفة.
9- ضرورة الزيارات الفجائية من قبل المسؤولين لهذه المحلات للتأكد من تطبيق أسس السلامة الوقائية.
__________
(1) قد يصعب توعية الحلاقين؛ إذ إن الذين يمارسون الحلاقة في الحج غير معروفين قبل الموسم، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله
(2) عكاظ: 24/ 8/ 1413هـ، عدد 9698، ومقابلة أجريتها مع بعض الأطباء بجامعة أم القرى، وقسم الطب الوقائي بوزارة الصحة بمكة(8/1349)
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أحمده حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم على خير خلقه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. وبعد:
فهذا آخر البحث الذي قمت به عن مرض الإيدز –نقص المناعة المكتسبة- وقد اتضح لي عدة نتائج أذكر أهمها ملخصاً فيما يلي:
1- إن الله سبحانه وتعالى ما خلق من داء إلا وله دواء، ولكن قد تحجب معرفته عن الناس عقوبة أو ابتلاء.
2- إن مرض الإيدز لم يكتشف له علاج ولا مصل واق حتى أنهيت كتابة هذا البحث.
3- إن العالم قد وصل إلى منتصف الطريق بمعرفة أكثر وسائل انتقاله وطرق الحماية منها.
4- إن هذا المرض عقوبة معجلة بسبب البعد عن منهج الله القويم وطريقه المستقيم، فهو ينتشر في الشاذين جنسياً والزناة ومدمني المخدرات، ومن له علاقة بهم.
5- ظهور بعض المعجزات التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) (1)
وقوله: ((لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى، فإذا فشى فيهم ولد الزنى فيوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب)) (2)
وهذا المرض الخطير والوباء العظيم الذي ظهر في فئات المجرمين وغيرهم عقوبة من عقوباته سبحانه وتعالى على ارتكاب معاصيه.
__________
(1) ابن ماجه، السنن: 2/ 1333
(2) أحمد بن حنبل، المسند: 6/ 333(8/1350)
6- حيث إن المرض ينتقل بالمعاشرة الجنسية، فإذا أصاب أحد الزوجين كان للآخر حق المفارقة ووجوب الاحتياط ومتابعة حالته إن حصلت معاشرة جنسية بينهما.
7- إيقاف الرضاعة من الأم المصابة إذا توفر البديل المناسب.
8- منع المرأة المصابة من الحمل محافظة على صحتها من التدهور وحماية للطفل من العدوى.
9- عدم جواز إجهاض الجنين المصابة أمه بعد نفخ الروح فيه.
10- وجوب الاحتياط والحذر في حضانة المصاب لطفل سليم حتى يقطع بعدم انتقال المرض بالملاصقة بين المصاب والسليم.
11- جناية المرض وتسببه في إصابة غيره قد تكون من باب الفساد في الأرض، وقد تكون من صور القتل العمد بالأسباب الخفية، وقد تكون قتل خطأ موجب للدية والكفارة وقد تكون بسبب تفريط الأطباء والفنيين في المستشفيات أثناء نقل الدم ومشتقاته أو استعمال الإبر.
12- لزوم تكثيف التوعية للحجاج بخطورة الحلاقة المتكررة بآلة واحدة لعدة مرات، ومنع المرضى والذين لا يتخذون الاحتياطات اللازمة من مزاولة المهنة.
13- حينما يؤدي كل دوره، بداية من الأسرة حماية وتوعية، ومضياً إلى دور التعليم والتربية، وانتقالاً إلى مجالات الحياة المختلفة في المسجد، ومواقع العمل وسائر الأنشطة اليومية، وذلك برسم أهداف متكاملة تنفذ بوسائل مختلفة، تتم السيطرة على المرض والحماية منه بإذن الله.
وصدق الله إذ يقول: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ...
الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي(8/1351)
فهرس المصادر والمراجع
- البابرتي، العناية على هامش فتح القدير.
- البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري، مطابع الشعب: 1378.
- البسام، نيل المآرب، الطبعة الأولى، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة.
- البهوتي، شرح منتهى الإرادات، مطبعة أنصار السنة المحمدية: 1316.
- البهوتي، كشاف القناع، مكتبة النصر الحديثة – الرياض.
- البيهقي، السنن الكبرى، الطبعة الأولى: 1353هـ، دار المعارف العثمانية الهند.
- ابن تيمية، القواعد النورانية، الطبعة الأولى: 1392هـ، مكتبة الكليات الأزهرية.
- الثبيتي، التفريق بين الزوجين، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث.
- ابن حزم، المحلى، تحقيق محمد منير الدمشقي، مكتبة الجمهورية العربية: 1387هـ.
- الحلي، شرائع الإسلام، الطبعة الأولى: 1389.
- ابن حنبل، المسند، الطبعة الثانية: 1398هـ المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
- بيروت دار الفكر.
- الخرشي، شرح مختصر خليل، دار صادر.
- ابن خطيب الدهشة، مختصر قواعد العلائي.
- أبو داود، السنن، تحقيق: محمد محيي الدين، دار إحياء السنة النبوية.
- الدردير، الشرح الصغير، دار المعارف.
- الدردير، الشرح الكبير، على هامش حاشية الدسوقي.
- الدسوقي، حاشية على الشرح الكبير – المكتبة التجارية الكبرى- دار الفكر.
- رفعت كمال، قصة الإيدز، مطابع دار أخبار اليوم.
- الرملي، نهاية المحتاج، المكتبة الإسلامية، رياض الشيخ.(8/1352)
- الزيلعي، تبيين الحقائق، الطبعة الأولى: 1313هـ، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق- مصر.
- السرخسي، المبسوط، الطبعة الأولى، مطبعة السعادة.
- السيوطي، الأشباه والنظائر، دار إحياء الكتب العربية.
- ابن الشحنة، لسان الحكام مع معين الحكام.
- الشربيني، مغني المحتاج، المكتبة الإسلامية.
- الشوكاني، نيل الأوطار، ومصطفى البابي الحلبي.
- ابن أبي شيبة، المصنف، الطبعة الأولى: 1390، مطبعة العلوم الشرقية.
- الصاوي، حاشية على الشرح الصغير، على هامش الشرح الصغير.
- الصنعاني، سبل السلام، الطبعة الرابعة: 1379هـ، مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
- الصنعاني، المصنف، الطبعة الأولى.
- الطرابلسي، معين الحكام، الطبعة الثانية: 1393هـ، مصطفى الحلبي.
- ابن عابدين، حاشية رد المحتار، الطبعة الثانية: 1386هـ، مصطفى البابي الحلبي.
- عبد الرحمن بن حسن، فتح المجيد، الطبعة الأخيرة: 1386هـ، مطبعة المشهد الحسيني.
- العلائي، المجموع المذهب في قواعد المذهب – مخطوط.
- الفتوحي، منتهى الإرادات، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، مكتبة دار العروبة.
- الفيروزآبادي، القاموس المحيط، المؤسسة العربية للطباعة والنشر.
- الفيومي، المصباح المنير، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
- ابن قاسم، حاشية على تحفة المحتاج، دار صادر.
- ابن قدامة، المغني، مكتبة الجمهورية.
- قليوبي، حاشية على شرح المحلى على المنهاج، الطبعة الثالثة: 1375هـ، مصطفى البابي الحلبي.
- قيس مبارك، التداوي والمسؤولية الطبية، الطبعة الأولى: 1412هـ، مكتبة الفاراني.(8/1353)
- ابن القيم، تحفة المودود في أحكام المولود، الطبعة الأولى: 1319هـ، مكتبة البيان.
- ابن القيم، زاد المعاد، الطبعة الثالثة: 1392هـ، دار الفكر.
- ابن القيم، الطب النبوي.
- ابن القيم، مفتاح دار السعادة، دار الكتب العلمية – بيروت.
- الكاساني، بدائع الصنائع، مطبعة العاصمة – القاهرة.
- ابن ماجه، السنن، الطبعة الأولى، المطبعة التازية.
- المحلى، شرح المنهاج على هامش حاشيتي قليوبي وعميرة، ط 3: 1385هـ، مصطفى البابي.
- محمد علي البار، العدوى بين الطب وحديث المصطفى، دار الشروق.
- محمد علي البار، ومحمد صافي، الإيدز، الطبعة الأولى: 1407هـ، دار المنارة.
- محمد فيض الله، نظرية الضمان، الطبعة الأولى: 1403هـ، مكتبة دار التراث – الكويت.
- المرتضى، البحر الزخار، الطبعة الأولى: 1367هـ.
- المرداوي، الإنصاف، الطبعة الأولى: 1367هـ.
- مسلم، الجامع الصحيح مع شرح النووي.
- ابن القيم، الطب النبوي.
- الموصلي، الدرر المختار مع حاشية ابن عابدين.
- ابن نجيم، الأشباه والنظائر، مؤسسة الحلبي وشركاه: 1387هـ.
- النووي، روضة الطالبين، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
- النووي، شرح صحيح مسلم، الطبعة الثانية: 1393هـ.
- ابن الهمام، فتح القدير، الطبعة الأولى: 1315هـ، المطبعة الأميرية ببولاق – مصر.
- الصحف: صحيفة عكاظ – صحيفة المدينة- صحيفة الهدف.(8/1354)
التداوي بالمحرمات
إعداد
الدكتور محمد علي البار
مستشار الطب الإسلامي بمركز الملك فهد
للبحوث الطبية
التداوي بالمحرمات
1- التداوي بالخمر:
الحمد لله الذي أحل الطيبات وحرم الخبائث، والقائل في محكم كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] ، والقائل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] ، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة، الذي وصفه المولى سبحانه وتعالى بقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ، وقد أوضح صلى الله عليه وسلم هذه الخبائث فكان من أخبثها الخمر التي حرمها الله سبحانه وتعالى على عباده تحريماً أبدياً في هذه الدنيا، قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) } [المائدة: 90- 91] ، وقد وصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر وعرفها لنا تعريفاً واضحاً جلياً، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)) (1) و ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) (2) و ((كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملئ الكف منه حرام)) (3)
__________
(1) أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي عن مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
(2) أخرجه أبو داود والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
(3) أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك(8/1355)
وقد خطب عمر رضي الله عنه الناس فقال: ((أما بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أنواع: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل)) (1) ولهذا فإن أي مادة تسبب الإسكار لها حكم الخمر، كما نصت على ذلك الأحاديث النبوية الكثيرة والصحيحة، وإن لم تسبب الإسكار وسببت التفتير والخدر فلها حكم مشابه من ناحية التحريم، وفيها التعزير لا الحد، قالت أم سلمة رضي الله عنها: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر)) (2)
وقد وردت أحاديث كثيرة عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تنهى عن التداوي بالخمر؛ وذلك لأن العرب في جاهليتهم بل وإلى عقود كثيرة بعد الإسلام ظلوا يعتقدون أن في الخمر منافع طبية عديدة، حيث نرى الإمام ابن كثير وهو يفسر قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] يذكر أنه من هذه المنافع منافع عديدة للبدن فيقول: ((أما إثمهما فهو في الدين)) ، وأما المنافع فدنيوية من حيث إن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذة الشدة المطربة التي فيها كما قال حسان بن ثابت في الجاهلية:
ونشربها فتتركنا ملوكاً
وأسداً لا ينهنهنا اللقاء
ونرى شيخ أطباء المسلمين أبا بكر الرازي يتمدح بالمنافع الوهمية للخمر فيقول في كتابه منافع الأغذية: (إن الشراب المسكر يسخن البدن ويعين على الهضم للطعام في المعدة وسرعة تنفيذه إلى الكبد وجودة هضمه هناك ... وتنفيذه من ثمة إلى العروق وسائر البدن، ويسكن العطش إذا مزج بالماء، ويخصب البدن متى شرب على أغذية كثيرة الاغتذاء، ويحسن اللون، ويدفع الفضول جميعاً، ويسهل خروجها من البدن، ولذلك هو عون عظيم على حفظ الصحة) (3)
وكذلك فعل ابن سينا في القانون، وسار على نهجهما كثير من قدامى الأطباء، وهو منهج خاطئ بعد أن أوضح لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الخمر داء.. وقد جاءت أحاديثه معجزة في هذا الباب؛ فقد كشف الطب الحديث زيف ما كانوا يعتقدون، وأبان أن ما جاءت به الأحاديث الصحيحة هو الحق الذي لا مرية فيه، وأن كلام الأطباء على مدى الأزمنة المتطاولة هو الهراء والغثاء.
__________
(1) أخرجه الستة إلا مالكاً
(2) أخرجه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده
(3) أبو بكر الرازي محمد بن زكريا: منافع الأغذية ودفع مضارها، دار إحياء العلوم، بيروت، 1982، ص 69 وما بعدها(8/1356)
وفيما يلي جملة صالحة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تنهى عن التداوي بالخمر والمحرمات:
1- أخرج مسلم في صحيحه (كتاب الأشربة) ، وأبو داود في السنن (كتاب الطب) ، والترمذي في الجامع الصحيح (باب كراهية التداوي بالمسكر) وابن ماجه في سننه وأبو نعيم في الطب النبوي عن وائل بن حجر أن طارق بن سويد الحضرمي رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر يجعل في الدواء، فقال: ((إنها داء وليست دواء)) .
وفي صحيح مسلم عن طارق بن سويد الحضرمي قال: قلت: يا رسول الله، إن بأرضنا أعناباً نعصرها فنشرب منها، قال: لا، فراجعته، قلت: إنا نستشفي للمريض، قال: ((إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء)) ، وهو أيضاً بلفظ مقارب عند ابن حبان.
2- أخرج أبو داود في سننه (1) وابن السني وأبو نعيم كلاهما في الطب النبوي عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أنزل الداء وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام)) .
3- أخرج أبو نعيم في الطب النبوي عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تداوى بحرام لم يجعل الله فيه شفاء)) .
4- أخرج أبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((من تداوى بالخمر فلا شفاه الله)) .
5- أخرج البخاري في صحيحه (كتاب الأشربة) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرفعه قال: ((إن الله لم يجعل شفاءً فيما حرم عليكم)) .
6- أخرج ابن حبان في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: اشتكت ابنة لي فنبذت لها في كوز، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغلي (أي يفور بالحبب وهو ثاني أوكسيد الكربون الناتج عن عملية تخمر السكريات وتحولها إلى كحول إتيلي) ، فقال: ((ما هذا؟ فقلت: إن ابنتي اشتكت فنبذت لها هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) .
__________
(1) 4/ 206، حديث رقم 3874(8/1357)
7- وأخرج أبو داود في سننه (كتاب الطب) ، والترمذي في الجامع الصحيح (كتاب الطب) ، وابن ماجه في سننه والحاكم في المستدرك، وأحمد في مسنده، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث)) .
قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال أحمد شاكر محقق المسند: إسناده صحيح، وقال السيوطي في (المنهج السوي والمنهل الروي في الطب النبوي) : الدواء الخبيث هو السم.
وذكر عبد الملك بن حبيب الأندلسي المالكي الألبيري المتوفى سنة 238هـ في كتاب الطب النبوي أثراً لمالك بن أنس رحمه الله قال: (لا يحل لأحد أن يداوي دبر الدواب بالخمر، فكيف بمداواة المريض بها، وكان ابن عمر إذا دعا طبيباً يداوي أهله اشترط عليه ألا يداوي بشيء مما حرم الله) .
وروي أن عمر بن الخطاب سأل الحارث بن كلدة الثقفي عن دواء الخاصرة، قال: الحلبة تطبخ ويجعل فيها سمن البقر، قال الحارث: وأما إذا كنا على غير الإسلام فالخمر وسمن البقر، قال عمر: لا نسمع منك ذكر الخمر، فإني لا آمن إن طالت مدة من لا ورع له أن يتداوى بالخمر.
التداوي بالخمر:
رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوضح في أحاديثه الكثيرة الصحيحة أن الخمر داء وليست دواء، إلا أن البشرية ظلت سادرة في غيها وضلالها تتداوى بالخمر، وقد كان الأطباء يزعمون في الأزمنة الغابرة وعلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده وحتى عهد قريب أن للخمر بعض المنافع الطبية، ثم تقدمت الاكتشافات العلمية وبطلت تلك المزاعم والأوهام، ومن تلك المنافع المزعومة ما قاله بولس محرف دين المسيح: إن قليلاً من الخمر يصلح المعدة، وبناء على هذا الوهم، فإن الخمر تشرب منذ أقدم الأزمنة كفاتح للشهية (أبرتيف APeretif) وقد ثبت أن استخدام هذا القليل بانتظام يؤدي إلى التهاب المعدة الضموري، والتهاب المريء، كما يؤدي إلى إصابة الكبد والبنكرياس، وقد شرحت مضار الخمر في كتابي (الخمر بين الطب والفقه) ، وهو في طبعته السابعة (أكثر من 400 صفحة) ، وأضفت ما جد من أضرارها في كتابي (الأضرار الصحية للمسكرات والمخدرات والمنبهات) . وخلاصة الأمر هو كما قال الأستاذ الدكتور أوبري لويس في أكبر وأشهر مرجع طبي بريطاني (مرجع برايس الطبي) Price Textbook of Medicine (إن الكحول هو السم الوحيد المرخص بتناوله على نطاق واسع في العالم كله، ويجده تحت يده كل من يريد أن يهرب من مشاكله، ولذا يتناوله بكثرة كل مضطربي الشخصية، ويؤدي هو إلى اضطراب الشخصية ومرضها، إن جرعة واحدة من الكحول قد تسبب التسمم وتؤدي إما إلى الهيجان أو الخمود، وقد تؤدي إلى الغيبوبة، أما شاربو الخمر المدمنون فيتعرضون للتحلل الأخلاقي الكامل مع الجنون) .(8/1358)
ومن المنافع الموهومة في الخمر أنها تدفئ الجسم في الجو البارد القارس، فقد روى أبو داود في سننه أن ديلم الحميري جاء في وفد اليمن، فقال: ((يا رسول الله، إنا بأرض باردة نعالج فيها عملاً شديداً، وإنا نتخذ شراباً من هذا القمح فنتقوى به على أعمالنا وبرد بلادنا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل يسكر؟ قال: نعم، قال: فاجتنبوه، قال: إن الناس غير تاركيه، قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم)) .
وجاء الطب بعد هذه الحادثة بألف وأربعمائة عام ليقول لنا: إن ذلك الدفء ليس إلا من قبيل الوهم، فالخمر توسع الأوعية الدموية، وخاصة تلك التي تحت الجلد، فيشعر المرء بالدفء ويفقد حرارة جسمه في الجو القارس، وما يزيد الطين بلة أن الإنسان المخمور يفقد قدرته على توليد الطاقة من الارتعاش الذي يحدث عند الشعور بالبرد، فالإنسان السليم عندما يشعر بالبرد تنقبض أوعيته الدموية السطحية على الجلد حتى لا يفقد الحرارة، ثم يرتجف من البرد، وهذا الارتجاف يطلق الأدرينالين والكوريتزول ويحول سكر العضلات إلى جلوكوز ينطلق ليعطي الطاقة والدفء، وذلك كله مفقود لدى شارب الخمر، ولذا يتوفى كل عام بضع مئات في الحدائق العامة والمتنزهات في أعياد رأس السنة وأعياد الميلاد في الغرب بسبب شرب الخمر وفقدان الحرارة، ويموتون وهم ينعمون بالدفء الكاذب.. ويتعرض الأطفال بصورة خاصة عند شربهم للخمر لهذه الظاهرة، ويتوفون بسبب انخفاض درجة حرارة الجسم وانخفاض السكر، وذلك بسبب تأثير الخمر على منطقة في الدماغ تعرف باسم تحت المهاد (Hy pothclamus) ، وهي التي تتحكم في درجة حرارة الجسم وفي السكر، مع ما تقدم من اضطراب هرمونات الجسم وتوسع الأوعية الدموية تحت الجلد.
ومن الأوهام المنتشرة حول الخمر أنها دواء للقلب وأنها توسع الشرايين التاجية، وقد كانت تستخدم إلى الستينات من القرن العشرين لمداواة الذبحة الصدرية وجلطات القلب، ثم تبين زيف ذلك الوهم، وأن الخمر لا توسع شرايين القلب على الإطلاق، وأنها أخطر السموم على القلب العضلي وتؤدي إلى إصابة عضلة القلب واعتلالها (Cardiomyopathy) ، ولاشك أن الكحول الميتيلي أشد سمية في هذا الصدد من الكحول الإيتيلي، فالأول يقتل على الفور، والثاني سم بطيء يقتل على مدى الأزمنة المتطاولة.
ومن أوهام الخمر أنها تثير الرغبة الجنسية وتقوي الباءة، وقد شربت ولا تزال تشرب لهذا السبب.. وبما أن الخمر تزيل العقل فإنها تدفع الإنسان إلى الجرائم الجنسية، فمعظم جرائم الاغتصاب والاعتداء الجنسي على المحرمات من الأخوات والبنات ناتجة عن شرب الخمر، وفي الولايات المتحدة كما تقول التايم الأمريكية (1990) فإن 20 بالمائة من العائلات الأمريكية تمارس ما يسمى نكاح المحارم (Incest) ، وذلك نتيجة لانتشار الخمور على نطاق واسع ونتيجة لتحطم القيم وانحلال الأسرة.(8/1359)
ولكن ما أن يستمر الإنسان في شرب الخمور حتى يفقد القدرة على التنفيذ، وهي كما قال الشاعر الإنجليزي الملهم شكسبير في رواية (ماكبث) : إنها تحفز على الرغبة ولكنها تفقد القدرة على التنفيذ.
It provokes The desire, but takes away the per Frmance
وهي تفعل ذلك بسبب تأثيرها على المنطقة الدماغية (تحت المهاد) (Hy Pothclamus) والغدة النخامية (Pituitary glana) والخصية (Testes) بالإضافة إلى أنها تحطم الكبد، وبما أن الكبد السليمة تقوم بتحطيم ما تفرزه الغدة الكظرية (فوق الكلية) من هرمونات الأنوثة القليلة في الرجل، فإن هذه الهرمونات الأنثوية تزداد لدى شارب الخمر فتتضخم أثداؤه ويسقط شعر لحيته وشاربه ويصاب بالعنة.
ليس ذلك فحسب، وإنما قد يضاف إليه إصابة للجهاز العصبي غير الإرادي الذي يتحكم في عملية الانتشار والإنعاط والإنزال، فإذا أصيب هذا الجهاز العصبي بسبب الخمر، فكيف يستطيع المرء أن يجامع؟!
وتصاب المرأة بمثل ما يصاب به الرجل بالإضافة إلى إصابة الأجنة إذا حملت وهي تشرب الخمر.
والباب بعد هذا واسع واسع، ومن أراد المزيد فليرجع إلى الكتب الطبية في هذا الباب أو إلى كتاب (الخمر بين الطب والفقه) لكاتب هذه السطور.
حكم التداوي بالخمر:
اتفق جمهور الفقهاء على حرمة التداوي بالخمر الصرفة، ودليلهم ما تقدم من الأحاديث الصحيحة التي تنهى عن التداوي بالخمر، وقد شذ عن هؤلاء الظاهرية، قال أبو محمد علي بن حزم في كتاب المحلى: (1) (الخمر مباحة لمن اضطر إليها، فمن اضطر لشرب الخمر لعطش أو علاج أو لدفع خنق فشربها، فلا حد عليه ... ) ويقول: (إن التداوي بمنزلة الضرورة وقد قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المآكل والمشارب) .
وذكر الإمام النووي في المجموع (2) أربعة أقوال في شربها للتداوي والعطش المهلك:
الأول: وهو الصحيح عند الجمهور وهو لا يجوز فيهما.
والثاني: يجوز فيهما معاً.
والثالث: يجوز للتداوي ولا يجوز للعطش.
والرابع: يجوز للعطش المهلك دون التداوي، وهذا الرأي الأخير قال به إمام الحرمين والإمام الغزالي.
__________
(1) المحلى لابن حزم 7/404
(2) النووي: المجموع شرح المهذب تكملة المطيعي 4/ 42- 43(8/1360)
وإن اضطر إلى شرب الخمر أو البول؛ شرب البول؛ لأن شرب الخمر أغلظ، وإن اضطر إلى شرب الخمر ففيه ثلاثة أوجه:
الأول: أنه لا يجوز، والثاني: يجوز لأنه يدفع به الضرر عن نفسه، والثالث: أنه إن اضطر لشربها للعطش لم يجز؛ لأنها تزيد في الإلهاب والعطش، وقد رد هذا الوجه الأخير الإمام الجويني والإمام الغزالي لأنها تزيل العطش، والصحيح ما قالاه لأنه قد يبلغ الماء فيها 90 أو 95 بالمئة كما في البيرة والأنبذة الخفيفة، وفي الوجه الثالث أنه يجوز استعمالها للدواء.
قال النووي: (وأما التداوي بالنجاسات غير الخمر فهو جائز في جميع النجاسات غير المسكر، ومنهم من قال: يجوز بأبوال الإبل خاصة لورود النص بحديث عرينة الذين اجتووا المدينة وسقموا، فأمرهم الرسول بشرب ألبان الإبل وأبوالها فصحوا، ثم قاموا بقتل الراعي وسرقة الإبل) (سيأتي الحديث عن التداوي بالنجاسات غير الخمر) .
ولم يسمح جمهور الفقهاء باستخدام الخمر كدواء إلا عند الضرورة القصوى، مثل أن يغص امرؤ بلقمة ولا يجد أمامه إلا الخمر، فعندئذ يجوز شربها، يقول صاحب كتاب فقه السنة: (1) (ومثل الفقهاء لذلك بمن غص بلقمة فكاد يختنق ولم يجد ما يسيغها به سوى الخمر) ، وقد أخطأ غفر الله لنا وله حين قال: (أو من أشرف على الهلاك من البرد ولم يجد ما يدفع به هذا الهلاك غير كوب أو جرعة خمر أو من أصابته أزمة قلبية وكاد يموت فعلم أو أخبره الطبيب بأنه لا يجد ما يدفع به الخطر سوى شرب مقدار معين من الخمر) ، وذلك من الأوهام التي كانت سائدة عن الخمر ثم أبان الطب الحديث زيف ذلك، وأن الخمر لا توسع الشرايين التاجية، ولا تقي من جلطة القلب، بل ربما زادتها سوءاً.. وهي كما أوضحنا ليست دواء للبرد، بل تؤدي إلى الوفاة من هذا البرد القارس والمرء ينعم بالدفء الكاذب.
حكم الخمر غير الصرف المعجونة بالدواء: بطل في الطب الحديث استخدام الخمر الصرفة في الدواء واعتبرت داء لا دواء، ولكنها لا تزال تستخدم في الدواء معجونة به كترياق، حيث تستخدم لإذابة المواد الطبية التي لا يذوب بعضها في الماء، وقد بحث الفقهاء الأجلاء هذه النقطة، يقول الخطيب الشربيني في مغني المحتاج (2) :
__________
(1) الشيخ سيد سابق: فقه السنة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة 1981: 2/ 340
(2) مغني المحتاج لمعرفة ألفاظ المنهاج للخطيب الشربيني: 4/ 188(8/1361)
(إن التداوي بالخمر حرام إذا كانت صرفاً غير ممزوجة بشيء آخر تستهلك فيه، أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم به التداوي من الطاهرات، فعندئذ يتبع حكم التداوي بنجس كلحم حية وبول، وكذا يجوز التداوي بذلك لتعجيل الشفاء بشرط إخبار طبيب مسلم عدل بذلك، أو معرفته للتداوي به، وبشرط أن يكون القدر المستعمل قليلاً لا يسكر) .
وهكذا شرط الشربيني ثلاثة شروط لإباحة استخدام الخمر (الغول، الكحول) في الدواء كترياق معجونة به:
1- أن لا يكون هناك دواء آخر خال من الكحول (الغول) ينفع لتلك الحالة.
2- أن يدل على ذلك طبيب مسلم عدل.
3- أن يكون القدر المستعمل قليلاً لا يسكر.
وإذا نظرنا إلى الأدوية الموجودة بها شيء من الكحول نجدها على ضربين:
الأول: مواد قلوية أو دهنية تستعمل كأدوية، وتحتاج لإذابتها إلى استعمال الغول.
الثاني: مواد يضاف إليها شيء يسير من الكحول (الغول) لا لضرورة وإنما لإعطاء الشراب نكهة خاصة ومذاقاً خاصاً تعود عليه أهل أوربا وأمريكا من حيث يأتينا الدواء جاهزاً، وهذا الصنف الثاني لا شك في حرمته ويجب منعه، وقد استطاعت الصناعة الدوائية أن تستبدل النوع الأول بمذيبات أخرى غير الكحول، وقد قدمت أبحاث كثيرة في مؤتمرات الطب الإسلامي توضح إمكانية ذلك.. وقد نادى وزراء الصحة العرب أيضاً باستبعاد الكحول من الأدوية جميعها.
ويحتاج الأمر إلى وقفة حازمة من الحكومات لكي تقوم الصناعة الدوائية باستبدال الكحول بمذيبات أخرى، وعلى سبيل المثال كان (ماء غريب) الذي يعطى للأطفال يحتوي على نسبة من الكحول (4- 5 بالمئة) ، كما كان دواء للربو يدعى (كويبرون) Quibron يحتوي على الكحول، فلما طلبت الحكومة الأمريكية من شركات الأدوية استبعاد الكحول استبعدته واستبدلته بمذيب آخر، وذلك أن الأطفال المصابين بالربو يستخدمونه لفترة طويلة تبلغ سنين طوالاً، وقد أدى ذلك إلى إصابة الكبد لدى بعضهم من جراء استخدام الكحول ولو بكمية قليلة، ولذا أمرت الدولة الأمريكية باستبعاد الكحول من جميع أدوية الأطفال، وقد فعلوا ذلك بيسر.. ولكنهم أبقوها للكبار لأن الخمر بذاتها مباحة عندهم.(8/1362)
وهكذا يتضح أن الحكومات الإسلامية تستطيع أن تفرض الدواء الخالي من الكحول بسهولة، خاصة وأن الأدوية التي تحتاج إلى إذابتها للكحول قليلة، ويمكن استبدالها بغيرها، بالإضافة إلى أن المذيبات الأخرى قد توافرت، وأمكن للصناعة الدوائية تقديم الدواء الخالي من الكحول، ويستطيع المجمع الفقهي الموقر أن يوصي الحكومات الإسلامية بذلك.
الخمر المستهلكة:
يستخدم الكحول لإذابة الكولا المستخدمة في المشروبات الغازية مثل البيبسي كولا والكوكاكولا.. إلخ، وتوضع هذه الكمية القليلة من المواد المذابة في الكحول في كميات كبيرة جداً من المياه، بحيث إن الشخص لو شرب الكثير لما سكر، وبهذا انتفت علة التحريم وهي الإسكار؛ إذ إن كثر هذه المادة لم يعد مسكراً، والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) ، ((وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام)) ، وهذا الشراب لا يسكر حتى لو شرب المرء منه فرقاً، فما دام كذلك فإن علة التحريم قد انتفت، وقد شبه الفقهاء ذلك بالنجاسة القليلة المستهلكة في الماء الكثير، ومن المعلوم أن الماء أكثر من القلتين لا يحمل الخبث؛ وهذا مثله، وقد أشار إلى هذا الحكم كتاب الأطعمة من الموسوعة الفقهية، إصدار الكويت، وقد ذكر ابن حجر الهيثمي في التحفة على المنهاج ((: وجبن شامي اشتهر عمله بإنفحة الخنزير، وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم جبن من عندهم فأكل ولم يسأل عن ذلك)) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجبنة في تبوك من عمل النصارى، فدعا بسكين فسمى وقطع وأكل)) (أخرجه أبو داود ورزين) .
وأخرج الإمام أحمد والبزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجبنة في غزاة، فقال: أين صنعت هذه؟ فقالوا: بفارس، ونحن نرى أنه تجعل فيها ميتة، فقال: اصنعوا فيها بالسكين واذكروا اسم الله وكلوا)) .
وقد جاء في كتاب الأطعمة من الموسوعة الفقهية تحت عنوان الغازوزة ما يلي: (الغازوزة شراب حلو فيه قليل من الزيوت العطرية مشبع بغاز ثاني أوكسيد الكربون تحت ضغط أعلى من الضغط الجوي، وقد تضاف إليه مواد أخرى تكسبه لوناً أو طعماً خاصاً..) .
(.
والزيوت العطرية الداخلة في صناعتها لا تمتزج بباقي موادها إلا إذا حلت بإضافة جزء من الغول إليها.. والغول مسكر، بل هو روح المسكرات كلها، فهو نجس عند الجمهور، وبه يتنجس الزيت والغازوزة فيحرم شربها) .
(هذا ما يبدو، ولأول وهلة، ولكن إذا أمعنا النظر أمكننا أن نقول: إن إضافة الغول إنما هي للإصلاح، فشأنها شأن إضافة الإنفحة النجسة إلى اللبن ليصير جبناً، وقد قالوا: إن الإنفحة لا تنجس اللبن، بل يعفى عنها، هذا إذا قلنا: إن الغول نجس، فإن قلنا: إنه طاهر كما قال الشوكاني وكما اختارته لجنة الفتوى في الأزهر فلا إشكال، والله أعلم) .(8/1363)
الاستعمال الظاهري للغول:
تستخدم الغول (الكحول) كمطهر خارجي، كما تستعمل في بعض الحالات النادرة لإماتة عصب من الأعصاب المسبب للألم المبرح، وتستخدم أيضاً بكثافة في العطور وما يسمى البارفان والكولونيا.. وتصل نسبة الكحول في الكولونيا إلى 90 بالمئة.. وبما أن هذه الكولونيا قد تشرب، وخاصة في الأماكن التي يمنع فيها تعاطي الخمور فإن الشركات المصنعة تضيف إليها مادة أخرى شديدة السمية من أنواع الغول (الكحول) وهي الكحول المتيلي.. وقد حدثت حوادث كثيرة في قطر والسعودية ودول الخليج الأخرى وفي الهند أدت إلى وفاة العشرات، وأحياناً المئات من الأفراد نتيجة شرب هذه المواد السامة، فالكحول المتيلي مادة سامة، بل شديدة السمية، وتؤدي إلى هبوط (احتشاء أو فشل) عضلة القلب نتيجة الاعتلال السمي لعضلة القلب Toxic Cardiomyo pathy، كما أنها تؤدي إلى إصابة عصب الإبصار مسببة العمى للأشخاص الذي أمكن إنقاذهم من براثن الموت..
والغريب حقاً أن مداواة حالات التسمم بالكحول المتيلي تستدعي الديلزة (الغسيل الكلوي) ، ويستخدم الأطباء في هذه الحالة الكحول الإتيلي (وهو الخمر بعينها) الأقل سمية ليحل محل الكحول المتيلي في الكبد، وبالتالي يتم طرده بواسطة الغسيل الكلوي.. وهي الحالة الوحيدة التي يتم فيها استخدام الكحول الإتيلي فيحقن ضمن السوائل ويسرب إلى الدم. أما الاستعمال الشائع فهو الاستعمال الظاهري كمطهر للجلد أو مع العطور والكولونيا. والاستعمال الظاهري يمكن الاستغناء عنه فالمطهرات الجلدية كثيرة وتعتبر أفضل من الكحول الإتيلي.. والعطور والروائح يمكن أن تركب بالطريقة القديمة وهي استخدام الزيوت بدلاً من الكحول.
ومع هذا فقد أفتت لجنة الفتوى بالأزهر والسيد مظهر الغرباني والإمام الشوكاني من قبل بأن الخمر ليست نجسة العين.. وبالتالي فإن الكحول وهو مادة مطهرة، لا يمكن أن تكون نجسة؛ لأن ذلك مناقض لاسم المطهر، وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ، فمعلوم أن الميسر والأنصاب والأزلام ليست نجسة العين.. وأن المشرك الذي قال الله عنه: إنه نجس {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] ، ليس نجساً نجاسة حسية، بل نجاسة معنوية، ولا يمكن جعل الخمر نجسة العين وإفرادها عن الميسر والأنصاب والأزلام؛ لأن الآية قد سردت هذه الأربعة في سياق واحد، وبما أنها جميعاً ليست نجسة، فكذلك الخمر، وقد أجمع الفقهاء على عدم نجاسة المسكر الجامد مثل جوزة الطيب والحشيش والأفيون. إلخ.. ولا فرق بين مائع وجامد عند من يقول بعدم النجاسة.(8/1364)
ولذا يجوز الاستعمال الظاهري للكحول عند من يقول بعدم نجاستها. وقد أحسنت المملكة العربية السعودية بمنع استيراد الكولونيا إلا تلك التي تستخدم بواسطة البخاخ حتى لا تشرب.
الخلاصة في موضوع التداوي بالخمر:
يرى جمهور الفقهاء أنه لا يجوز التداوي بالخمر (والمسكر خمر) متى كانت صرفة، فإن كانت مستهلكة في الدواء أو غيره بحيث لا يسكر الكثير منها فإنها تخرج من دائرة المسكرات والمحرمات إلى دائرة المباحات.
وأما الترياق المعجون بقليل من الخمر (الغول) فلا يجوز استخدامه إلا بشروط، وهي أن لا يكون هناك دواء آخر خال من الغول يقوم مقامه، وأن يدل على ذلك طبيب مسلم عدل، وأن يكون القدر المستعمل غير مسكر.
وأما استخدام الكحول ظاهرياً على الجلد فأمر قد أجازه أغلب الفقهاء المعاصرين، ومنه العطور والكولونيا التي تستخدم بكثرة في كافة أرجاء العالم.
وهل يجوز استعمال الكحول لإماتة عصب كما يحدث نادراً في عالم الطب؟
وهل يجوز استعمال الكحول الإتيلي في حالات التسمم بالكحول المتيلي الأشد سمية؟ فأمران لم أجد فيهما فتوى جاهزة. وهي مطروحة بين يدي سادتي العلماء الأجلاء للإفتاء فيها.
2- التداوي بالمخدرات:
تعريف المخدر:
المسكر هو ما غطى العقل، والمفتر (المخدر) كما يقول الخطابي هو: (كل شراب يورث الفتور والخدر، وهو مقدمة السكر) ، وقال ابن رجب الحنبلي: (المفتر هو كل مخدر للجسد وإن لم ينته إلى حد الإسكار) .
وقد جاء في بحث إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوى والإرشاد بالمملكة العربية السعودية إلى المؤتمر الإقليمي السادس للمخدرات (الرياض 25- 30 شوال 1394) تعريف المخدر بما يلي: (المفتر مأخوذ من التفتير والإفتار، وهو ما يورث ضعفاً بعد قوة، وسكوناً بعد حركة، واسترخاء بعد صلابة، وقصوراً بعد نشاط، يقال: فتره الأفيون إذا أصابه بما ذكر من الضعف والقصور والاسترخاء) ، وهو تعريف دقيق كل الدقة حتى من الناحية الأقرباذينية؛ إذ إن الأفيون ومشتقاته مثل البورفين والهروين هي الوحيدة التي يطلق عليها اسم المخدر Narcotic من الناحية الدوائية (الأقرباذينية) .(8/1365)
وقد جاء في المصباح المنير: خدر العضو إذا استرخى فلا يطيق الحركة، وفي القاموس المحيط: (الخدر: امذلال يغشى الأعضاء، وفتور العين أو ثقل فيهما) .. وكل ما يغطي الأشياء يعتبر مخدراً، ومنها خدر المرأة وهو سترها، قال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها
تمتعت من لهوها غير معجل
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
فقالت: لك الويلات إنك مرجلي
وكل ما يختفي في الأجمة والغابة يعتبر خادراً، قال كعب بن زهير في قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتذر فيها عما فعل:
من خادر من ليوث الأسد مسكنه
في بطن عثر غيل دونه غيل
وهكذا تدور معاني كلمة الخدر حول الستر، والخدر: ستر يمد للجارية في ناحية البيت، والجمع خدور، والخدر (بالفتح) الكسل وظلمة الليل والمكان المظلم، واشتداد الحر، واشتداد البرد، وفي لسان العرب: الخدر من الشراب والدواء: فتور يعتري الشارب وضعف، والخدر: الكسل والفتور.
وتدور معاني لفظ Narcotic في اللغات الأوربية، على نفس معاني كلمة المخدر والخدر في اللغة العربية تقريباً، وهي تطلق بصورة خاصة على الأفيون ومشتقاته، وما يحدثه من خدر وفتور في الأعضاء وستر للألم، وتغطية على بعض أنشطة الجهاز العصبي، وشعور بالنوم، وثقل في الأعضاء (قاموس دبستر وقاموس اكسفورد) .
وإذا قررنا هذا التعريف اللغوي والطبي والفقهي للمخدرات فإننا نجد أن التعريف القانوني والإعلامي يختلف تماماً عن هذا التعريف.(8/1366)
تعريف المخدرات في القوانين الوضعية:
لا يوجد أي تعريف للمخدرات في القوانين الوضعية، ولهذا اتجهت القوانين الوضعية لإصدار قوائم بالمواد المحرم استعمالها وحيازتها وتداولها وجلبها وبيعها وزرعها.. إلخ، وعادة ما ينص القانون الوضعي على هذه العبارة:
(تعتبر جواهر مخدرة في تطبيق أحكام هذا القانون، المواد المبينة بالجدول رقم 1، ويستثنى منها المواد الموجودة بالجدول رقم 2) .
ولا تختلف هذه القوائم بأسماء المواد المخدرة التي يحرمها القانون من بلد إلى آخر فحسب، بل تختلف في نفس البلد من زمن إلى آخر.
وعلى سبيل المثال كان الأفيون ومشتقاته مثل المورفين، ومادة الكوكايين وهما من أشد المواد المسببة للاعتماد من المواد المباح تعاطيها في أوربا والولايات المتحدة، وقد استخدم المورفين على نطاق واسع أثناء الحرب الأهلية الأمريكية (1816- 1865) ، وأثناء الحرب الفرنسية الألمانية عام 1870.
وكان الكوكايين يباح في أوربا والولايات المتحدة كمادة مقوية ومشهية وباعثة للسعادة والصحة.. واشتهر في أوربا إكسير مارياني وشاي مارياني وحبوب مارياني، وكلها كانت تحتوي على الكوكايين، وقد نال مارياني بسببها شهرة واسعة وثروة طائلة مع أرفع الأوسمة من ملوك ورؤساء أوربا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى بركات الباباوات الذين كانوا يستخدمون منتجاته المحتوية على الكوكايين.
بل إن مشروب الكوكاكولا كان يحتوي على كمية من الكوكايين عندما بدأ تسويقه في الولايات المتحدة في بداية هذا القرن، ولم يمنع ذلك إلا في العشرينات من القرن العشرين، واستمر بيع الأفيون والمورفين والهروين والكوكايين علناً في الأسواق، وبدون أي وصفة طبية، ولم يمنع ذلك إلا عام 1920.
ورغم أن الجامعة العربية وضعت القات ضمن قائمة المخدرات، إلا أن الأمم المتحدة واليمن والصومال والحبشة تعتبره من المواد المباحة.
والموقف بالنسبة لنبات الكوكا مشابه لنبات القات في دول أمريكا اللاتينية التي تسمح بزراعته رغم الضغوط الشديدة المكثفة التي تواجهها من الولايات المتحدة.(8/1367)
وقد قام المشرع المصري بتغيير قوائم المخدرات الموجودة في القانون رقم 162 لعام 1960 واستبدلها بمواد جديدة وألغى أخرى قديمة في القانون رقم 295 لعام 1976 ثم حدثت تغييرات أخر في القانون رقم 760 لعام 1984.
وقد أباحت هولندا الاستعمال الشخصي للحشيش (الماريوانا، القنب) ، كما أباحت أربع ولايات من الولايات المتحدة الأمريكية استخدام وحيازة الحشيش في النطاق الشخصي.. وهناك حملة قوية لإباحة الحشيش في الولايات المتحدة رسمياً؛ لأنه أقل ضرراً من الخمور المباحة (1)
والموقف المضحك للقوانين الوضعية هي أنها تبيح بدون استثناء صناعة وحيازة وتجارة الخمور، بينما هي تعاقب عقوبات شديدة تصل إلى حد الإعدام على الحيازة وتهريب القات والحشيش والحبوب المنبهة.. وهي مواد أقل ضرراً بكثير من الخمر.. ولا يوجد هناك منطق لإباحة الخمر ومنع الحشيش مثلاً.. فالخمر دون جدال أشد ضرراً وفتكاً من الحشيش، بل إن الخمر أشد ضرراً وفتكاً من جميع المخدرات مجتمعة كما تقرر ذلك منظمة الصحة العالمية في قرارها رقم 650 لعام 1980 (2) الذي جاء فيه:
(إن شرب الخمور يؤثر على الصحة، ويؤدي إلى مشاكل تفوق المشاكل الناتجة عن الأفيون ومشتقاته، والحشيش، والكوكايين والأمفيتامين والباربتورات، وجميع ما يسمى مخدرات مجتمعة، وأن الأضرار الصحية والاجتماعية لتعاطي الكحول تفوق الحصر) .
__________
(1) انظر صحيفة الهيرالد تربيون (الأمريكية والتي تصدر من باريس إلى مختلف بقاع العالم) عدد 16 مايو 1988 الصفحة الأولى والخامسة وعدد 27 مايو 1988 (ص 6)
(2) Report of a Wtto Expert Committee: Problems Yelated to Alcohol Consumption. Wotto Technical Reoprt Sences bso, Geneva, Wtto, 1980: 13(8/1368)
ويكفي لمعرفة الفروق في مخاطر الخمور والمخدرات ما جاء في مجلة التايم الأمريكية نقلاً عن تقرير كبير الأطباء الأمريكيين (وزير الصحة) (1) أن الذين يتوفون سنوياً في الولايات المتحدة نتيجة الخمور هم 125000 (مائة وخمسة وعشرون ألفاً) بينما عدد الذين يلاقون حتفهم بسبب المخدرات وما يتبعها من جرائم ومطاردات مع البوليس وبين العصابات المختلفة هم ستة آلاف فقط.
أما في بريطانيا فتقرر الكلية الملكية للأطباء العموميين في تقريرها الصادر عن الكحول لعام 1986 أن الذين يتوفون نتيجة الخمور في بريطانيا هم 40000 شخص (2) بينما تقرر الكلية الملكية للأطباء النفسيين أن عدد الذين يتوفون سنوياً نتيجة المخدرات هم 88 شخصاً، بالإضافة إلى 77 طفلاً توفوا نتيجة شم الغراء والتولوين والمستنشقات الأخرى (3)
وهكذا يبدو بوضوح أن وفيات الخمور لا يمكن مقارنتها بما تفعله المخدرات الأخرى مجتمعة، ونحن نعلم أن ثلث نزلاء المستشفيات العقلية هم من مدمني الخمور، وأن ما بين ربع وثلث جميع المرضى الذين يدخلون عن طريق الطوارئ يدخلونها بسبب شرب الخمور في الولايات المتحدة واسكوتلنده وروسيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا.. إلخ، وأن ربع الحالات الموجودة في أقسام الأمراض الباطنية في جميع مستشفيات أوربا والولايات المتحدة.. إلخ، إنما دخلوا بسبب أمراض ناتجة عن الخمور.
وتقع القوانين الوضعية في مأزق عندما تسمي المواد المنبهة مخدرات، وهي بدون ريب أو شك ليست من المواد المخدرة، بل هي مواد منبهة شديدة التنبيه، ومن أهم أمثلتها حبوب الأمفيتامين والفنتلين ومشتقاتها والقات والكوكايين.. وكلها تندرج في قائمة المواد المسببة للاعتماد النفسي والمحطمة للصحة على اختلاف بينها في الدرجة، ولكنها جميعاً ليست مخدرة، بل منبهة.
ونجد جميع القوانين لا تدرج المستنشقات ضمن ما تسميه مخدرات، رغم أنها مخدرة فعلاً أو مسكرة، كما أنها لا تضع في قوائمها جوزة الطيب ولا الشيكران ولا العنبر ولا الزعفران، ولا فطر البيوت المخدر ولا نبات ست الحسن (البلادونا) وفطر البسيلوسيبي وفطر أمانيتا وهي مواد مهلوسة ومخدرة فعلاً.
__________
(1) التايم في 30 مايو 1988
(2) Report of Royal College of General Practitioners: Alcohol- Abatunled View 1986: 45-53
(3) Report of Royal College of Psyaiatristis; Alcohol our favousite druy, 1986(8/1369)
ولا يوجد أي ضابط في هذه القوانين الوضعية لتعريف المخدر، فهي تسمح بكثير من المخدرات وكل المسكرات وتمنع مواد منبهة شديدة التنبيه وتسميها مخدرات، وما هي بمخدرات.. ونحن لا نختلف حول ضررها وأنها تسبب الإدمان، فهي مواد ضارة بالصحة، وتسبب الإدمان، وكذلك النيكوتين في التبغ فهو مادة مسببة للإدمان، وضارة بالصحة، بل إن إدمان النيكوتين أشد من إدمان القات، وفي أحيان كثيرة أشد من إدمان الحشيش، وعندي مجموعة من المرضى استطاعوا أن يتركوا الحشيش ولم يستطيعوا أن يتركوا النيكوتين وآخرين استطاعوا أن يتركوا الأمفيتامين ولم يستطيعوا أن يتركوا النيكوتين.. وأما القات فآلاف اليمنيين يتركونه بسهولة عند سفرهم ومغادرتهم بلادهم، ويعودون إليه عند عودتهم لبلادهم.
والخلاصة أن القوانين لا ضابط لها من عقل ولا شرع ولا طب ولا منطق.. وهي تقرر ما تشاء حسبما تشاء بدون مناقشة واعية.. وأما من يناقشها في بلاد المسلمين فمصيره في كثير من الأحيان السجن والتعذيب!!
تعريف المخدرات في علم العقاقير (الأقرباذين) :
يستخدم لفظ المخدرات Narcotics في العلوم الطبية ليدل على مادة الأفيون ومشتقاتها مثل الهروين والكودايين.
وتستخدم منظمة الصحة العالمية لفظ الاعتماد على العقاقير Drug Dependence أو تعبير سوء استعمال العقاقير Drug Abuse والمقصود من ذلك: الاستعمال خارج النطاق الطبي والذي يؤدي إلى الاعتماد النفسي أو كليهما معاً.
وبما أن هناك عقاقير كثيرة يعتمد عليها كثير من المرضى مثل الأنسولين لمرضى السكر والثيروكسين للمرضى الذين يعانون من قصور وظيفة الغدة الدرقية (قصور الدرق Hypothyruidism) ، أو المرضى الذين يعانون من أمراض القلب أو الضغط أو الربو والذين يحتاجون لاستخدام عقاقير معينة باستمرار.
والمقصود هاهنا بالاعتماد على العقاقير المغيرة للحالة المزاجية للإنسان، والتي تؤثر على الجهاز العصبي، والتي يؤدي تناولها إلى اعتماد الشخص عليها بسبب خاصية العقار ذاته، لا بسبب خاصية المرض الذي يوجب تكرار الجرعة الدوائية.(8/1370)
وتقسم العقاقير المسببة للاعتماد النفسي أو الاعتماد الجسدي أو كليهما معاً إلى عدة تقسيمات:
1- العقاقير ذات الأصول الطبيعية (النباتية) : مثل الأفيون الذي يستخرج من نبات الخشخاش، والحشيشة المستخرجة من نبات القنب الهندي، وشجرة القات التي تمضغ أوراقها ثم يمص مستحلبها، وشجرة الكوكا التي تستخدم بطريقة مشابهة للقات، وشجرة التبغ (التنباك) التي تستخدم مضغاً وسعوطاً وتدخيناً.. وهي أكثر المواد المسببة للاعتماد انتشاراً في العالم حيث تصنع شركات التبغ ما يوازي سيجارتين لكل إنسان على وجه الأرض يومياً؛ أي عشرة آلاف مليون سيجارة يومياً. ويؤدي ذلك كما تقول منظمة الصحة العالمية إلى قتل مليونين وخمسمائة ألف من سكان الأرض سنوياً.. وهو عشرة أضعاف العدد الذي قتلته القنابل الذرية التي ألقيت على نجازاكي وهيروشيما في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية 1946، وعشرة أضعاف العدد الرسمي المسجل لضحايا الإيدز في خلال سنوات (1981- 1991) ..
ويدخل في ذلك الكافيين الموجود في الشاي والقهوة.. وهو مادة منبهة تسبب اعتماداً نفسياً خفيفاً لدى بعض الناس.. والكافيين موجود أيضاً في الكاكاو والكولا.. ويدخل في هذه القائمة النباتات المهلوسة، التي بها قلويدات Alkaloids مهلوسة مثل نبات السكران (الشيكران) والداتورة والبلادونا والفطور المهلوسة مثل فطر أمانيتا وفطر البسيلوسيبي، كما يدخل فيها نبات جوزة الطيب والزعفران بالإضافة إلى العنبر وهو إفراز من أمعاء الحوت Whale.
2- العقاقير نصف الطبيعية أو نصف المخلقة: وهذه مواد تستخرج من النباتات ولها تأثير قوي جداً على الحالة المزاجية، وعادة ما يكون تأثيرها أضعاف تأثير المواد الخام المستخرجة من النبات مباشرة، فالمورفين المستخرج من الأفيون أقوى بعشرة أضعاف في تأثيره على الجهاز العصبي من الأفيون، وأما الهروين فهو أقوى بثلاثين ضعف الأفيون الخام.
وكذلك تأثير الكوكايين والكراك المستخرج منه فإنه يبلغ أربعين إلى خمسين ضعف قوة تأثير نبات الكوكا.(8/1371)
3- العقاقير المخلقة: وهذه عقاقير مصنعة بالكامل من مواد كيماوية وليس لها أصل نباتي وأمكن تصنيع عقاقير لها قوة تبلغ ألف ضعف قوة الأفيون الخام، ولكنها بفضل الله لم تستخدم في تجارة المخدرات.. وأهم العقاقير في هذه المجموعة هي العقاقير المنومة مثل الباربيتورات والعقاقير المهدئة مثل الدايزيبام (الفاليوم) ومشتقاته، والعقاقير المنبهة مثل الأمفيتامين والفنتلين ومشتقاتهما العديدة.
وعادة ما يستخدم هذا التقسيم رجال مكافحة المخدرات ورجال القانون. أما الأطباء والصيادلة فيستخدمون تقسيماً آخر يختلف من مرجع إلى مرجع في التفاصيل، ولكنه يحتفظ بالإطار العام، والتقسيم التالي هو من الكتاب المرجع في علم العقاقير (الأقرباذين) جودمان وجلمان الطبعة السادسة لعام 1985 وهو كالتالي:
1- مجموعة الأفيون ومشتقاته: وهي الوحيدة التي يطلق عليها لفظ مخدرات Narcotics.
2- مثبطات الجهاز العصبي وتشمل الكحول والباربيتورات والبينزودايزبين ... إلخ.
3- منبهات الجهاز العصبي وتشمل الكوكايين والقات والأمفيتامين والفنتلين ... إلخ.
4- التبغ وما يحويه من مادة النيكوتين.
5- المهلوسات: ويمثلها عقار L.S.D المستخرج من فطر الأرجوت ومادة الميسكالين والزايلوسايبين الموجودة في بعض الفطور في أمريكا اللاتينية ونبات الشيكران وجوزة الطيب والحشيش (بعض التقسيمات لا تدخل الحشيش في المهلوسات بل تجعله في قائمة مستقلة) .
6- الغازات والمواد المستنشقة مثل غاز أول أوكسيد النتروز (الغاز المضحك) ، والغراء، ومذيب البويه، والتولوين، والأسيتون، والبنزين.(8/1372)
التخدير في العمليات:
ويطلق اليوم لفظ التخدير في اللغة العربية والعامية على إجراء العمليات الجراحية ويسمى أحياناً البنج (بفتح الباء) ، وهو ما يعرف في الطب بفقد الإحساس aansthesia، وهو أنواع؛ حيث يقسم إلى تخدير كلي: يفقد فيه المريض وعيه وإحساسه بالألم، أو تخدير نصفي، أو تخدير موضعي بحيث لا يفقد المريض وعيه وإدراكه، بل يفقد الإحساس بالألم في المنطقة المخدرة، سواء كانت النصف السفلي من الجسم، أو موضعاً معيناً منه.
وأما اسم البنج فيرجع إلى لفظة هندية (بانجو) تعني الحشيش (نبات القنب) ، وقد أطلق هذا الاسم أيضاً على نبات الشيكران (السكران) (Hyoscyamous) ، وما فيه من مادة السكوبالامين التي تحدث نوعاً من الهلوسة، وقد استخدمها الأطباء المسلمون لإجراء العمليات الجراحية وكانوا يخلطون نبات الشيكران والحشيش والأفيون، ثم تطوروا إلى إيجاد مواد للشم تسبب نوعاً من فقدان الوعي مع عدم الإحساس بالألم.
وفي العمليات الجراحية الكبرى تستخدم مجموعة من الغازات مثل الهالوثين التي تؤدي إلى إفقاد الوعي بصورة كاملة مع إفقاد الإحساس وتوقف التنفس الطبيعي مما يستدعي إجراء التنفس بواسطة المنفسة.
وتستخدم الباربيتورات السريعة المفعول جداً في العمليات الجراحية القصيرة أو كمادة بادئة ومساعدة لإفقاد الوعي، ومن أمثلتها أثلايوبنتال (Thiopental) وميثوهيكسيتال (methohexital) .
ويستخدم التخدير الموضعي بحقن العصب أو الأعصاب المعينة بمادة من مشتقات الكوكايين مثل الليدوكايين والنوناكايين والبيرولوكايين والتتراكايين.. إلخ، ويمكن أن تستخدم أيضاً قطرات في العين، أو مرهم، أو حقنة موضعية في الجلد، أو النخاع الشوكي، أو مجموعة معينة من الأعصاب لإحداث الخدر ثم فقدان الإحساس بالكلية لمدة مؤقتة من الزمان، يعود بعدها الإحساس إلى سابق عهده.
ولا يدخل موضوع التخدير من أجل العمليات الجراحية الموضعية والعامة في موضوع الاعتماد على العقاقير إلا نادراً عندما يصبح الطبيب أو الممرضة مدمنين لشم هذه الغازات.. أما متعاطيها من المرضى فيكاد يكون من المستحيل أن يصبح مدمناً لها.(8/1373)
ولابد قبل إنهاء التعريف الأقرباذيني من توضيح الاعتماد على العقاقير وهو نوعان:
الاعتماد النفسي: يسبب العقار لدى المتعاطي رغبة قوية في تكرار الجرعة وتعاطي العقار المعين، وقد تصل هذه الرغبة إلى درجة القهر بحيث تفرض على المتعاطي البحث عن العقار قبل البحث عن الطعام أو أي مطلب آخر.
وهذا الاعتماد النفسي قد لا يكون مصحوباً بأي اعتماد جسدي، بحيث إن الشخص لو ترك هذا العقار لا تظهر عليه أي أعراض بدنية حادة مثل الإسهال والقيء، كما يحدث لدى سحب الأفيون ومشتقاته، أو الصرع والهذيان كما يحدث في سحب الغول (الخمور) والباربيتورات والتي تسبب اعتماداً نفسياً وجسدياً.
وأشد أنواع العقاقير المسببة للاعتماد النفسي هو الكوكايين والكراك المشتق منه يليه النيكوتين الموجود في التبغ وحبوب الأمفيتامين المنبهة وجوزة الطيب والحشيش (الماريوانا، القنب الهندي، الكيف) .. يليهم القات، وفي آخر القائمة الكافيين الموجود في الشاي، والقهوة والكولا والكاكاو الموجود في الشيكولاتة.
الاعتماد الجسدي: يعتبر الاعتماد الجسدي على العقاقير ظاهرة خطيرة جداً.. وعندما يتوقف الشخص فجأة عن تعاطي العقار المسبب للاعتماد الجسدي قد يؤدي ذلك إلى أضرار صحية خطيرة، وإن لم يتم معالجتها بدقة قد يلاقي الشخص حتفه بسببها.(8/1374)
وأهم العقاقير التي تسبب الاعتماد الجسدي بالإضافة إلى الاعتماد النفسي هي مجموعتان:
1- الأفيون ومشتقاته: مثل الهروين والمورفين؛ وتأتي خطورة الهروين في سرعة تسبيبه للاعتماد (الإدمان) إذ تكفي ثلاث جرعات لتسبب الإدمان، على عكس المواد الأخرى التي تحتاج لتكرار الجرعة في وقت متقارب لإحداث الإدمان.. وإذا توقف شخص ما فجأة عن تعاطي الهروين أو المورفين لأي سبب كان فإن علامات سحب العقار Withdrawl Symptoms أو الامتناع Abstinence تظهر عليه.. حيث تبدأ الأعراض بالتثاؤب الشديد وانصباب اللعاب من الفم وانسكاب الدموع من المآقي، وزيادة إفرازات الأنف يصحبها عرق غزير بارد، ولا يلبث المصاب أن يدخل في مرحلة من النوم القلق المتوتر، ويصحو بشعور مرعب، ويتملكه الخوف من نوبات من الإحساس بالبرد يتناوبها إحساس بالحرارة.. وتتسع حدقة العين، وتحدث آلام شديدة في الساقين والقدمين.. ويتبع ذلك نوبات شديدة من الإسهال والقيء المتواصل حتى يفقد كثيراً من سوائل جسمه، فلا يستطيع الحراك، ويتبول ويتغوط ويقيء وهو في مكانه لا يستطيع الحركة ولا الذهاب إلى دورة المياه، فإذا لم تتم معالجته فإن نسبة من هؤلاء تلاقي حتفها في هذه الحالة الكريهة، إلا إذا حصل على حقنة أو جرعة من الهروين أو المورفين.
2- الغول (الخمور) والباربيتورات: وتحتاج إلى فترة طويلة لإحداث الاعتماد (الإدمان) ، ولكن متى حدث الاعتماد فإن التوقف الفجائي عن العقار يؤدي إلى نوبات صرع وارتفاع في درجة الحرارة وهلوسات سمعية وبصرية وعنف، وقد يقتل المصاب من يجده بجانبه؛ لأنه يتوهم أنه يهاجمه فيدافع عن نفسه، وقد يقتل أطفاله وزوجته.. وتشتد الحالة حتى يزداد الصرع والتشنجات فيفقد وعيه وترتفع درجة حرارته جداً، ويتوفى في مثل هذه الحالة ما لم يتم علاجه أو يتناول العقار المسبب للإدمان.
ابن حجر الهيتمي يوضح مشكلة الاعتماد على العقاقير وكيفية حلها:
قال ابن عابدين في الحاشية (1) : (وقد سئل ابن حجر المكي الهيتمي عمن ابتلي بأكل نحو الأفيون وصار إن لم يأكل منه هلك؟ فأجاب: إن علم ذلك قطعاً حل له، بل وجب لاضطراره إلى بقاء روحه كالميتة للمضطر، ويجب عليه التدريج في تنقيصه شيئاً فشيئاً حتى يزول تولع المعدة به من غير أن تشعر (نتيجة لما يتركه التوقف المفاجئ للأفيون من أعراض خطيرة كالقيء والإسهال) ، فإن ترك ذلك فهو آثم فاسق، وقد وافقه على ذلك الرملي) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5/ 304- 305(8/1375)
موقف الفقهاء القدماء من المخدرات والمفترات:
إن المرء ليعجب أشد العجب من قدرة الفقهاء القدماء على فهم خصائص العقاقير المختلفة المسببة للاعتماد والتخدير والتفتير، وبالتالي إصدار الأحكام الدقيقة، وهم في ذلك قد فاقوا الفقهاء المعاصرين، رغم أن العلوم الطبية قد توسعت وتيسرت في العصر الحاضر بما لا يقاس عليه في العصور الخوالي.
وقد جاء في فتح القدير أن عبد العزيز الترمذي قال: (سألت أبا حنيفة (النعمان) وسفيان الثوري) عن رجل شرب البنج فارتفع إلى رأسه فطلق امرأته، هل يقع؟) وقد أفتى الإمامان الجليلان بوقوع الطلاق إذا شربه عامداً.
وقال الإمام السرخسي في كتابه المبسوط (وهو من أوسع كتب الفقه الحنفي) : (البنج لا بأس أن يتداوى به الإنسان، فإذا كان يذهب عقله منه فلا ينبغي أن يفعل ذلك) (1)
وجاء في المغني لابن قدامة الحنبلي: (2) (فأما إن شرب البنج ونحوه مما يزيل عقله عالماً به متلاعباً فحكمه حكم السكران في طلاقه)
وقد نص ابن عابدين وغيره من الفقهاء على جواز استخدام نحو البنج والأفيون للأغراض الطبية، ويحرم السكر منها لأي غرض حتى ولو كان في الطبابة، كما يحرم تناولها للهو، ولو بكميات قليلة لا تغيب العقل، قال ابن عابدين: (وأما القليل فإن كان للهو فهو حرام) (3)
__________
(1) المبسوط للسرخسي 24/ 9
(2) المغني لابن قدامة 8/ 254
(3) حاشية ابن عابدين 5/ 402- 405(8/1376)
والبنح (بالفتح) نبات يسمى بالعربية الشيكران (السكران) يصدع ويسبت ويخلط العقل، وقد جاء في كتاب النباتات الطبية للدكتور فوزي طه قطب ما يلي: (السكران المصري: نبات السكران المصري الذي يطلق عليه أسماء محلية مختلفة، منها البنج المصري أو البنج الأبيض أو السكران، أو سم الفراخ، ويطلق عليه في ليبيا اسم القنقيط، والاسم العلمي لهذا النبات هو: هايوسايمس Hyoscyamous، ويتبع الفصيلة الباذنجانية Fam. Solanacae، ويستخرج منه القلويدات (Alkaloids) التالية: هيوسيامين Hyoscyamine وسكوبالامين Scopalamine وكلاهما يستخدم في الطب.. ويستخدم الهايوسيامين بصورة خاصة في أدوية المغص وأوجاع البطن وتعسر الطمث.. إلخ، ومنه الدواء المشهور بسكوبان، كما أن مادة السكوبالامين كانت تستخدم لإحداث ما يسمى نوم الشفق Twilight Sleer قبل إجراء العمليات ولإنقاص جرعة التخدير.
وهناك نباتات مشابهة جداً لنبات السكران ومن فصيلته ومنها الداتورلا Datura (يطلق عليها أحياناً اسم الطاطورة) ، والبلادونا (ست الحسن) Belladona وكلاهما يستخدم في الطب على نطاق واسع جداً.
وقد ذكر الفقهاء هذه النباتات ووصفوها وسموها بأسماء مختلفة مثل الداتورة والقبيسي (نسبة إلى جبل أبي قبيس في مكة المكرمة) ، والعريط، والجليجلة، حسب ما تعرف به في المنطقة التي تنبت فيها.
ومما يزيد الأمور تعقيداً أن لفظ البنج يطلق (كما أشرنا من قبل) أيضاً على الحشيش ولفظة البنج bhang أو bhanga لفظة هندية قديمة، وهي تعني الغبار أو حبوب اللقاح، ولا يزال اسم بانجو يطلق على الحشيشة في السودان حتى اليوم، والحشيشة هي القنب الهندي ولها عشرات الأسماء مثل الكيف والماريوانا والبانجو والجانجا، والتكروري والحشيش والجنزفوري والحقبك والدقة والجريفا والجومبا واليامبا ... إلخ.
وبصورة عامة فقد أباح الفقهاء استخدام البنج (السكران، الشيكران وأمثاله) في التداوي ومنعوا استخدامه للهو، وهو موقف حكيم ومتوازن وعليم بآثار هذه العقاقير.)(8/1377)
وقد حرم الفقهاء الأجلاء استخدام هذه العقاقير والنباتات لغير الأغراض الطبية قال الخطابي: (المفتر: كل شراب يورث الفتور والخدر، وهو مقدمة السكر، وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شربه لئلا يكون ذريعة إلى السكر)) ، وذكر الحشيشة في المفتر، وقد قالت أم سلمة رضي الله عنها: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر)) ، أخرجه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده.)
وقال ابن رجب الحنبلي: (المفتر: هو كل مخدر للجسد، وإن لم ينته إلى حد الإسكار كالبنج ونحوه) .
وقد حاول الإمام القرافي في كتابه الفروق وكتابه أنوار البروق (1) أن يفرق بين المواد المختلفة التي تؤثر على العقل فقسمها إلى ثلاثة أنواع: المسكرات والمفسدات والمرقدات.
فالمسكر: ما غيب العقل دون الحواس مع نشوة وفرح، وأهم أمثلتها الخمر.
والمفسد: ما غيب العقل دون الحواس؛ لا مع نشوة، كعسل البلاذر.
والمرقد: ما غيب العقل والحواس كالشيكران.
ثم قال: (وتنفرد المسكرات عن المرقدات والمفسدات بثلاثة أحكام: الحد والتنجيس، وتحريم اليسير، والمرقدات والمفسدات لا حد فيها ولا نجاسة، وإنما فيها التعزير) .
وقد تابع الحطاب في كتابه مواهب الجليل (شرح الحطاب على متن خليل) تقسيمات الإمام القرافي إلا أنه اعتبر المسكرات أربعة: (الخمر والبنج والأفيون والجوزة (أي جوزة الطيب) بينما اعتبر القرافي الحشيشة من المفسدات.
__________
(1) أنوار البروق للقرافي 1/ 217- 218(8/1378)
أما الإمام ابن تيمية وتابعة في ذلك الذهبي فقد اعتبر الحشيشة خمراً من ناحية الحد والنجاسة واعتبار القليل والكثير منها سواء، وكذلك اعتبرها ابن القيم والأمير الصنعاني ومن تابعهم من الفقهاء.)
قال ابن تيمية في الفتاوى: (هذه الحشيشة الصلبة حرام، سواء سكر منها أم لم يسكر، والسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين) .
وقال في موضع آخر من الفتاوى: (فهذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها ومستحلوها مما تورثه هذه الملعونة من قلة الغيرة وزوال الحمية، حتى يصير آكلها إما ديوثاً، وإما مأبوناً، وإما كلاهما) .. وقال عنها في كتابه (السياسة الشرعية) : (إن الحشيشة حرام، يحد متناولها كما يحد شارب الخمر.. وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله في الخمر المسكر لفظاً ومعنى) .
وهكذا يتضح الموقف بالنسبة للحشيشة فمن الفقهاء من أدخلها في المسكرات في جميع الأحكام (كالحد والنجاسة وحرمة قليلها وكثيرها) ، ومنهم من جعلها كالمفسد والمرقد والمفتر والمخدر وليس فيها الحد، بل التعزير، وهي طاهرة العين كالأفيون وغيره من المواد الصلبة غير المائعة.
الأفيون:
يستخرج الأفيون من ثمرة شجرة الخشخاش، وقد استخدم منذ أقدم العصور في الصين والهند ومصر القديمة واليونان.. واستخدمه الأطباء العرب والمسلمون، وقد أباح أغلب الفقهاء المسلمين استخدام الأفيون في الأغراض الطبية، ومنعوا استعماله لمجرد اللهو، واعتبروا ذلك حراماً موجباً للتعزير في الدنيا ويأثم متناوله عند الله.
وكانت بذور الخشخاش تستخدم في أرجاء العالم الإسلامي لترقيد الأطفال ولإزالة المغص، كما كان يستخدم مع الحبة السوداء في العيش (الخبز) إلى عهد قريب جداً في كثير من البلدان، ومنها مكة المكرمة، كما استخدم في أنواع المعجنات وغيرها من الكعك، ورغم ذلك فقد صنف بعض الفقهاء الأفيون وجعلوه ضمن المسكرات، ومنهم الحطاب كما قد مر معنا حيث قال في كتابه مواهب الجليل بشرح الحطاب على متن خليل: (المسكرات أربعة: الخمر والبنج والأفيون والجوزة (يقصد جوزة الطيب) ولا يقصدون بلفظ المسكر هاهنا الذي له اللذة المطربة كالخمر، بل المقصود غياب العقل.(8/1379)
وقد تحدث ابن عابدين في الحاشية عن الأفيون ونقل ما ذكره داود الأنطاكي في تذكرته فقال: (1)
(الأفيون: هو عصارة الخشخاش يكرب ويسقط الشهوتين (أي شهوة الجماع وشهوة الطعام وهو حق) إذا تمودي عليه، ويقتل إلى درهمين (الدرهم وحدة وزن تساوي 3.2 جم) ، ومتى زاد أكله على أربعة أيام ولاءً (أي متتالية) اعتاده (أي صار مدمناً له) ، بحيث يفضي تركه إلى موته (قد يؤدي سحب الأفيون فجأة إلى الوفاة، وهو أمر نادر بالنسبة للأفيون ولكنه غير نادر بالنسبة للهيروين والمورفين المشتقة منه والأقوى منه بعشرات المرات) ؛ لأنه يخرق الأغشية خروقاً لا يسدها غيره (هكذا توهم الأقدمون بسبب ما يحدثه تركه من قيء وإسهال شديدين)
وقد سئل ابن حجر المكي الهيتمي عمن ابتلي بأكل نحو الأفيون وصار إن لم يأكل منه هلك، فأجاب بالإباحة بل بالوجوب كما تقدم معنا، ولكن لابد له من تنقيصه شيئاً فشيئاً، وهي نظرة عميقة صحيحة حيث إن مداواة المدمن تكون بتقليل الجرعة واستخدام دواء أقل تسبيباً في الإدمان.
وقد أباح أغلب الفقهاء استعمال الأفيون في التداوي بالقدر الذي لا يذهب العقل، وحرموا استخدامه للهو وجعلوا فيه التعزير.
وعدد ابن حجر الهيتمي المكي في كتابه الزواجر مضار الأفيون بعد أن ذكر مضار الحشيشة، وقد أصاب عندما قال: إن الأفيون أشد ضرراً منها. (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين، 5/ 304- 305
(2) الزواجر لابن حجر المكي الهيتمي 1/ 214- 215(8/1380)
استخدام الأفيون ومشتقاته في الطب الحديث:
يحتوي الأفيون المستخرج من ثمرة نبات الخشخاش على مجموعة كبيرة من القلويدات Alkaloids وتشكل 25 بالمئة من وزن الأفيون، ويبلغ عددها 25 قلويداً ويستخدم بعضها في الطب، ويمكن تقسيمها إلى مجموعتين:
أ- مجموعة الفينانثرين Phenanthrene:
وتحتوي على المواد التالية:
1- المورفين: ويشكل 10 بالمئة تقريباً من وزن الأفيون الخام.. ويعتبر المورفين المادة الأساسية الفعالة في الأفيون.. ويعتبر أقوى مسكن للألم عرفه الإنسان في تاريخه الطويل مع العقاقير، ورغم اكتشاف عدة مواد كيماوية قد يكون لبعضها أضعاف آثار المورفين إلا أن المورفين لا يزال يشكل حجر الزاوية في علاج الآلام الشديدة، وتقاس فاعلية المواد الأخرى المصنعة عادة من مشتقات المورفين، بفاعلية المورفين.
2- الكودايين: ويشكل ما بين نصف وواحد بالمئة من وزن الأفيون.. ويستخدم هذا العقار على نطاق واسع في الأدوية المسكنة المنتشرة، والتي تستخدم بدون وصفة طبية، فعلى سبيل المثال تحتوي أقراص الفيجانين على 8 مليجرامات من الكودايين في كل قرص، ويحتوي قرص الريفاكود على 10 مليجرامات وتحتوي أدوية السعال والكحة على 7 إلى 10 مليجرامات في كل ملعقة شاي من الدواء.
وكذلك يحتوي قرص ABC المسكن على 8 مليجرامات من الكودايين، ومثلها أقراص كوديس.. إلخ.
3- الثيبايين: ويشكل نسبة ضئيلة من وزن الأفيون، ويستخرج من مواد أخرى تستخدم منه في الطب.
ب- مجموعة ايزوبنزيل كونيولين Isobenzyl Quinoline:
وهذه المجموعة لا تسبب إدماناً ولا تسكيناً للألم، وتستخرج منها بعض المواد المستخدمة في الطب وأهمها مادتان: البابافرين Papaverine الذي يستخدم لمنع تقلصات العضلات ولتوسيع الأوعية الدموية، والثاني: النوسكابين Nuscapine الذي يستخدم في أدوية السعال، وهو يعتبر أفضل من الكودايين لأنه لا يسبب الاعتماد عليه.(8/1381)
وقد كاد الأفيون والمورفين يستخدمان على نطاق واسع جداً في المجال الطبي فعلى سبيل المثال نجد القانون المصري رقم 182 لعام 1960 يسمح باستخدام قائمة طويلة جداً من العقاقير المحتوية على الأفيون والمورفين، والتي لم يعد الطب اليوم يستعملها فيها لعدم الحاجة الحقيقية لها ولاستبدالها بعقاقير بعيدة عن تسبيب الاعتماد (الإدمان) وعلى سبيل المثال نذكر منها لبوس يودفورم مع المورفين، لصقة الأفيون، مروخ الأفيون، عجائن كاوية تحتوي على أملاح المورفين والكوكايين والزرنيخ، حبوب مضادة للإسهال تحتوي على مسحوق الأفيون وخلات الرصاص والبزموت، حبوب لأمراض القلب مكونة من مسحوق الأفيون ومسحوق أوراق الديجيتالا، حبوب الزئبق مع الأفيون، حبوب عرق الذهب مع بصل العنصل والأفيون، حبوب الرصاص مع الأفيون.. أقراص مضادة للزكام مكونة من مسحوق الأفيون وكبريتات الكينين والكافور والنشادر، أقراص مضادة للإسهال؛ مسحوق الأفيون، مسحوق عرق الذهب، كافور وخلات الرصاص.. إلخ، وتمضي القائمة الطويلة لتذكر 35 عقاراً مركباً يحتوي كل واحد منها على الأفيون أو المورفين.
وقامت الصناعة الدوائية بتصنيع الهروين (ثنائي خلات المورفين) من المورفين الذي تبلغ قوته 30- 40 ضعف قوة الأفيون الخام.. واكتشف الأطباء بعد فترة، خطورة هذه المادة في تسبيب الإدمان، وأخيراً ألغتها منظمة الصحة العالمية وكتب علم الأدوية والعقاقير من الاستخدام لخطورتها.. ولم تعد الصناعة الدوائية تصنعها وإنما تحولت صناعتها وترويجها إلى عصابات المخدرات.
ولا يزال المورفين يستخدم في الطب لمعالجة الآلام الشديدة الناتجة عن الكسور والجروح والحروق في الحوادث والحروب ولآلام جلطات القلب ولمداواة الآلام الناتجة عن السرطان، ويتحدث الكتاب المرجع في المعالجة الطبية لألستيد (1) عن استخدام المورفين في الطب الحديث فيقول:
(إذا لم يكن هناك مانع طبي مثل وجود فشل في الرئتين، أو فشل في وظائف الكبد، فإن على الطبيب أن لا يخاف من إعطاء المريض الذي يعاني من آلام مبرحة الكمية الكافية والمطلوبة لتسكين الألم من المورفين، إن التردد وعدم إعطاء الجرعات الكافية من المورفين لمريض يعاني من آلام مبرحة هو خطأ فادح يرتكبه الطبيب المعالج)
__________
(1) Alstead and Thomson: Analgesics and Hypnotics in Alstead S: Textbook of Medical Treatment, Churchill and Livingstone, 12 edition 1971 pp440-443(8/1382)
ويعتبر المورفين من أفضل، بل أفضل العقاقير المستخدمة لإسكات الألم، ومما يمتاز به المورفين عن غيره أنه يسكت الإحساس بالألم دون أن يؤثر على الوعي والأحاسيس الأخرى الجلدية، ولا على السمع والبصر والشم والذوق، بشرط أن يكون ذلك في حدود الجرعة الطبية، أما إذا زادت الجرعة فإن التأثير يمتد ليشمل هذه الأحاسيس المختلفة كما يشمل أيضاً درجة الوعي.
وهناك مجموعة من العقاقير المخدرة (المسكنة للألم) Narcotic مصنعة من المورفين أو الكودايين بالإضافة إلى بعض المواد الأخرى ومثالها الجدول الآتي: (1)
اسم المادة قوة تسكين الألم مدة التأثير بالساعات
المورفين 100 3-4 ساعات
ليثورفان 330-500 4-5 ساعات
بنتازوسين 500 4-5 ساعات
الميثادون 100-130 3-4 ساعات
ميبريدين (بيثوين) 10 1-2 ساعة
فينوبيريدين 700-1500 1-2 ساعة
فينتانيل Fentanyl 5000-10000 1-5 ساعات
ايتورفين Etorphine 40000 سريع المفعول جداً
وتعمل هذه المواد المصنعة مثل المورفين من حيث إسكات الألم ولها نفس الأعراض الجانبية، وتسبب الإدمان إذا تعاطاها الإنسان بجرعات متتالية.
وهناك عقاقير عدة من مشتقات الكودايين وتستخدم أساساً في المسكنات الخفيفة وفي أدوية الكحة، وتختلف خصائصها الأقرباذينية التفصيلية لتلائم الحاجات المرضية والدوائية (2)
__________
(1) Goodman and Gliman: The Pharmacological Basis of Therapeutics, Newyork, Macmillan Publishing co, 1980 pp50q.
(2) يراجع كتاب (المخدرات الخطر الداهم) الأفيون ومشتقاته؛ للدكتور محمد علي البار، دار القلم ودار العلوم 1988 (ص 247- 264) لمزيد من التفصيل حول هذه النقاط(8/1383)
البرش:
قال ابن عابدين في الحاشية: (1) (البرش هو شيء مركب من البنج (الشيكران) والأفيون وغيرهما، وفي تذكرة داود أنه يفسد البدن والعقل، ويسقط الشهوتين (أي الطعام والجماع) ، ويفسد اللون، وينقص القوى، وينهك البدن) .
ولذا يحرم تناوله لمجرد اللهو وفيه التعزير، ويجوز استخدامه بقدر لا يسكر في الطب لتسكين الألم أو لإجراء العملية الجراحية.
جوزة الطيب:
تنبه الفقهاء الأجلاء الأقدمون إلى الخصائص الأقرباذينية لجوزة الطيب (الجوزة، الجوزاء، جوزة بابل) Nutmeg واسمها العلمي Myristica Fragrans وتتبع الفصيلة البسباسة Fam. Myristicacae وتعتبر من نباتات المناطق الحارة، وموطنها الأصلي ماليزيا وإندونيسيا وسيلان.
وقد عرف العرب هذا النبات واستعملوا بذوره في إصلاح الطعام، وفي الأغراض الطبية، ولزيادة الرغبة والنشاط الجنسي، وهم الذين أدخلوه إلى أوربا في القرن الثاني عشر الميلادي.
ويحتوي الزيت الطيار الموجود في البذرة على مادة الميريستسين Myristicin وهي مادة مفترة وتزيد من النشاط الجنسي، أما إذا زادت الجرعة فقد تكون سماً قاتلاً بسبب تأثيرها على الكبد، وتسبب الاعتماد عليها (الإدمان) إذا تكرر استخدامها، وذكر سيدني سميث (2) عام 1965 أن جوزة الطيب بكميات كبيرة نسبياً تؤدي إلى أعراض مماثلة لتأثير الحشيش! ويقول المرجع الطبي جودمان وجلمان في علم العقاقير: (3) (إنه إذا تم استخدام جوزتي طيب دفعة واحدة فإن ذلك يؤدي إلى خدر الأطراف ونوع من الهلوسة أو عدم الشعور بحقيقة الأشياء، وكثيراً ما تحدث نوبات هياج وخوف يصحبها خفقان في القلب، مع جفاف الجلد وهي أعراض مشابهة لأعراض التسمم بالبلادونا) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5/ 304
(2) نقلاً عن د. صادق أحمد وزملائه: بعض التأثيرات الأقرباذينية لجوزة الطيب، أبحاث المؤتمر الإقليمي السادس للمخدرات، الرياض 25-30 شوال 1394/ 9-14 نوفمبر 1974
(3) Goodman and Gilman: The Pharmacological Basis of Therapeutics, 1980 pp 56q(8/1384)
وقد جعلها بعض الفقهاء في المسكرات كما تقدم معنا من كلام الحطاب في كتابه مواهب الجليل بشرح الحطاب على متن خليل حيث قال: (المسكرات أربعة: الخمر والبنج والأفيون والجوزة) (1) وقال عنها: إنها مال غير متقوم.
ونص ابن عابدين في الحاشية على تحريم أكل الكثير من جوزة الطيب والعنبر والزعفران؛ لأن هذه الأشياء مسكرة، والمراد بالإسكار تغطية العقل لا مع الشدة المطربة.
وقال ابن حجر المكي الهيتمي في كتابه فتح الجواد بشرح الإرشاد: (خرج بالمسكر مزيل العقل من غير الأشربة، كالبنج (الشيكران) ، والحشيشة، والأفيون، وجوزة الطيب، فإنه وإن حرم لكن فيه التعزير فقط إذ ليس فيه شدة مطربة) . وقال ابن حجر في كتابه الزواجر: (إن ما ذكرته في الجوزة من حرمة تعاطيها هو ما أفتيت به قديماً، وأفتى ابن دقيق العيد بأن الجوزة مسكرة) .
ورغم اتفاق الفقهاء على حرمة تناول الكثير منها المسبب للإسكار أو التخدير إلا أنهم لم يتفقوا على حرمة القليل منها الذي يستخدم لإصلاح الطعام.. وقد كانت تستخدم في معظم البيوت في العالم الإسلامي لهذا الغرض، وأباح ذلك بعض الفقهاء ومنع آخرون.
__________
(1) ليس من المقصود بلفظ المسكرات ها هنا الإسكار مع الشدة المطربة فهي من خصائص الخمر، ولكن المقصود تأثيرها على العقل وإحداث تشوش في الذهن والقدرات العقلية كالمسكر.(8/1385)
الزعفران:
الزعفران Saffron مادة ذهبية اللون تستخرج من ميسم زهرة نبات الزعفران الحمراء المعروفة علمياً باسم Cyrocws Sativus وهي تستخدم في إصلاح الطعام، وفي الطب الشعبي، (الطب القديم) وكمادة ملونة، كما تستخدم كمخدر كما تذكره دائرة المعارف البريطانية (1)
وقد ذكر الملك المظفر يوسف بن عمر الرسولي (ملك اليمن) في كتابه (المعتمد في الأدوية المفردة) خصائص الزعفران وأنه: (يهيج الباءة، ويساعد على الهضم، ويذهب بالغازات، ويساعد على الولادة وتعسر نزول المشيمة. والزائد على الدرهم (2.3 جم) سم قاتل، وثلاثة مثاقيل تقتل بالتفريح (تسبب ما يعرف في الطب حالة جذل مرضي Euphoria) ، وهو يسكر سكراً شديداً إذا جعل في الشراب، ويفرح حتى إنه يأخذ منه مثل الجنون) .
وقد صدق في وصفه ذلك، وتؤكده المصادر الطبية الحديثة، مثل مرجع جلمان وجولدمان، ودائرة المعارف البريطانية، ودائرة المعارف المخدرات (الأمريكية) .
والعجيب أن ابن حجر المكي الهيتمي أدرك خصائصه في كتابه (الزواجر) وجعله ضمن الكبائر (الكبيرة السبعون بعد المئة) ، بعد أن ذكر الحشيشة والبنج والجوزة، ومثله العنبر، واعتبر استعمالها للهو حرام.
والغريب حقاً أن بحث رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية في بحثهم المقدم إلى المؤتمر السادس للمخدرات بالرياض (2) أنكر على ابن حجر إيراده الزعفران والعنبر ضمن المخدرات. قال: (ولكنه (أي ابن حجر) لم يوفق كل التوفيق في إيراد الزعفران بينها (أي بين المخدرات) لأن الزعفران لا يخدر) والواقع أن ابن حجر كان مصيباً ومدركاً لخصائص هذه العقاقير.
__________
(1) دائرة المعارف البريطانية الميكروبيديا 8/764، الطبعة 15 لعام 1982.
(2) المؤتمر السادس للمخدرات – الرياض (25 – 30 شوال 1394/9 – 14 نوفمبر 1974) : 3/171 - 230(8/1386)
العنبر Ambergris:
وهو من أفخر أنواع الطيب كما يقول ابن القيم في الطب النبوي.. وذكر اختلاف الناس في أصله فقال طائفة: إنه نبات ينبت في قعر البحر فيبتلعه بعض دوابه، فإذا ثملت منه قذفته، وقيل: روث دابة بحرية، وقيل: ينبع من عين في البحر، وهو ما مال إليه ابن سينا في القانون.
والصحيح أنه مادة تفرزها أمعاء الحوت Whale (وهو المعروف بالعنبر، والذي وجده أبو عبيدة وأصحابه في غزاة كما ذكر البخاري في صحيحه) .. وتذكر دائرة المعارف البريطانية ودائرة معارف المخدرات العنبر Ambergris، وأنه مادة يفرزها الحوت من أمعائه فتوجد طافية على البحر في المناطق الاستوائية.. ويوجد منه في سواحل سقطرى من حين لآخر (سقطرى جزيرة جنوب المهرة وحضرموت وتتبع محافظة عدن من اليمن) .
وقد ذكر الملك المظفر الرسولي ملك اليمن العنبر في كتابه (المعتمد في الأدوية المفردة) وعرف خصائصه الأقرباذينية، وفوائده الطبية العديدة، وأنه نافع من أوجاع المعدة ومن الرياح الغليظة، ومن السدد، ومن الشقيقة والصداع والفالج (الشلل) واللقوة (شلل العصب الوجهي Facial palsy) والكزاز (التتانوس) ، فينتفعون بشمه.. (و) إن طرح منه شيء في قدح وشربه إنسان سكر سريعاً (.
وتؤكد دائرة المعارف البريطانية أن العنبر بكميات كبيرة نسبياً يسبب نوعاً من السكر وفقدان القدرات العقلية الدقيقة، ويحدث نشوة وتفريحاً (1) Euphoria.
الخلاصة:
وخلاصة القول أن أكثر الفقهاء الأقدمين قد اتفقوا على الآتي:
1- حرمة استخدام المواد الصلبة والنباتات المؤدية إلى اختلاط العقل وتشوش الذهن، وقد أباحها كثير من الفقهاء في الدواء بالقدر الذي لا يسكر، وأن يصف ذلك طبيب مسلم، عدل، وأن لا يوجد بديل لها من العقاقير الأخرى.
__________
(1) دائرة المعارف البريطانية الميكروبيديا: 1/295، الطبعة 15 لعام 1982.(8/1387)
2- أن المواد الصلبة والنباتات طاهرة العين، على خلاف السائلة فهي نجسة العين وإن اشتركا جميعاً في صفة الإسكار، ولا تبطل الصلاة بحملها.
3- أن تناول القليل من هذه المواد المسببة لاختلاط العقل من أجل اللهو حرام وإن لم يسكر ذلك القليل.
4- يجوز استعمال الزعفران والعنبر وجوزة الطيب بكميات ضئيلة لإصلاح الطعام.
5- يجوز استخدام هذه المواد كلها في التداوي إذا كان القدر المستخدم غير مسكر ووصف ذلك طبيب مسلم ثقة عدل ولم يكن ثمة دواء آخر يقوم مقامها.
6- لا يجب الحد في تناول هذه المواد للهو وإنما يجب التعزير.
7- تعتبر مالاً متقوماً.
8- يجوز تناول ما يزيل العقل من غير الأشربة لقطع عضو. أما الأشربة فلا يجوز إلا إن لم يجد غيرها فيجوز.
وقد مال ابن تيمية رحمه الله وتبعه آخرون إلى إفراد الحشيشة بأحكام الخمر كلها من حيث النجاسة، والحد، وحرمة القليل الذي لا يسكر، ولا يجوز استخدامها للدواء، بينما قال آخرون: إن الحشيشة طاهرة العين وفيها التعزير ولا الحد، واتفقوا على حرمة تعاطيها.
موقف الفقهاء المحدثين:
تتابعت فتاوى الفقهاء الأجلاء في العصر الحديث في تحريم المخدرات وزراعتها وتسويقها وتعاطيها. وقد جاء في فتوى مفتي الديار المصرية الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (شيخ الأزهر حالياً) أنه لا يحل التداوي بالمحرمات إلا عند تعينها دواء وعدم وجود مباح سواها، وتستخدم بقدر الضرورة.. وهو موقف سليم. وقد مال فضيلة المفتي إلى اعتبار جميع المخدرات الجامدة وغيرها مسكرة وأعطاها حكم الخمر.. (1)
وهو حكم مختلف فيه كما سبق الإشارة إليه.. والغريب أن القوانين في البلاد الإسلامية عربية وأعجمية تبيح الخمر وتعاقب على المخدرات عقوبات تصل إلى الإعدام. وهو موقف غريب وشاذ ومصادم للعلم والطب والدين والعقل.
__________
(1) الفتوى رقم س 105/ م248 بتاريخ 5/4/1399 الموافق 4/3/1979. الفتاوى الإسلامية، دار الإفتاء المصرية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة 1403هـ / 1983 (ص3507) وما بعدها.(8/1388)
وفي مسألة التداوي بالمخدرات قال فضيلة المفتي:
(وقد اختلف الفقهاء في جواز التداوي بالمحرم، والصحيح من آرائهم هو ما يلتقي مع قول الله تعالى في الآيات البينات، بملاحظة أن إباحة المحرم للضرورة مقصورة على القدر الذي يزول به الضرر، وتعود به الصحة ويتم به العلاج. وللتثبت من توافر هذه الضوابط اشترط الفقهاء الذين أباحوا التداوي بالمحرم شرطين:
أحدهما: أن يتعين التداوي بالمحرم بمعرفة طبيب مسلم خبير بمهنة الطب، معروف بالصدق والأمانة والتدين. والآخر أن لا يوجد دواء من غير المحرم ليكون التداوي بالمحرم متعيناً، ولا يكون القصد من تناوله التحايل لتعاطي المحرم، وألا يتجاوز به قدر الضرورة..) .
وفي موضع آخر من كتاب الفتاوى المسألة 1307، (1) يقول فضيلته:
1- كل شراب من شأنه الإسكار بتعاطيه يكون خمراً محرماً بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، ولو كان تعاطيه عن طريق الحقن.
2- يجوز للضرورة التداوي بالمحرم إذا تعين دواء بقول طبيب حاذق مسلم أمين. وانتهى إلى القول: (فإذا كان الدواء المخدر الذي تتعاطاه السيدة المسؤول عنها لا بديل له من الأدوية التي تخلو من المخدرات أو المحرمات عموماً، جاز لها أن تتناوله ما دام قد نصح الطبيب المسلم الموثوق بدينه وعلمه بنفعه لها وانعدام بديله، فقد قال سبحانه في ختام آية المحرمات: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] والله سبحانه وتعالى أعلم) .
وقد جاء في بحث رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية بعنوان (نظرة الشريعة الإسلامية إلى المخدرات) : (2) إن المخدرات حكمها حكم الخمر من حيث حرمة التعاطي قليلاً أو كثيراً، ومن وجوب الحد، والنجاسة، وعدم جواز تعاطيها للدواء!!.
__________
(1) الفتاوى الإسلامية المسألة 1307 ج 10 ص 3581 الفتوى برقم س 115/ م128 في 22/6/1981
(2) المؤتمر الإقليمي السادس للمخدرات، الرياض 25 – 30 شوال 1394 هـ(8/1389)
والغريب حقاً أن كثيراً من الفقهاء يستعمل أدوية المغص وأوجاع البطن مع أنها مستخرجة من الشيكران (البنج) ، ويستخدمون الأدوية المسكنة حتى بدون وصفة طبية مثل الريفوكود والـ APC والفيجانين وغيرها، وكلها تحتوي على الكودايين وهو من مشتقات الأفيون، ويستخدمون الأدوية المهدئة وغيرها وهي تدخل في قوائم المخدرات الرسمية.. ويستخدمون في طعامهم الزعفران، وبعضهم يستخدم جوزة الطيب أو العنبر وهو من أفخر الطيب ويدخل في تركيبها مع المسك. والزعفران والعنبر وجوزة الطيب كلها تدخل ضمن المواد المخدرة والمغيرة للحالة العقلية.. وتحريمها على الإطلاق أمر ينافي العقل وأغراض الطب والشرع.
ولا شك أنها تحرم عندما تستخدم بالقدر المسكر ولأغراض اللهو. أما إذا استخدمت للتداوي أو لإصلاح الطعام أو في الطيب فإنها لا تحرم، وهي ليست نجسة العين، بل هي من الجامدات الطاهرة.. وهل يتصور إنسان أن يقول: إن العنبر والزعفران وجوزة الطيب، ومئات الأنواع من العقاقير المستخرجة من الشيكران والبلادونا والداتورة ومن الأفيون وغيره من المواد المصنعة أنها جميعاً نجسة العين!! ولا شك أنها جميعاً طاهرة العين، وإن استخدامها في الأغراض الطبية أو في الطيب أو في إصلاح الطعام لا حرمة فيه.. وإنما يحرم منها ما يسكر، وإذا استخدمت لأغراض اللهو.
وهذه المواد ليست سواء؛ فمنها ما هو مسبب للاعتماد (الإدمان) بسرعة، مثل الهيروين والمورفين والكوكايين.. واستخدامها في المجال الطبي محدود بالمورفين في حالات خاصة، ولهذا توجد رقابة شديدة في استخدامه، وما عدا ذلك فيمنع استعمالها في المجال الطبي أو غيره.
وهناك مواد لا تسبب الاعتماد إلا نادراً، ولا تسبب الإسكار إلا بجرعات كبيرة تفوق بكثير المقدار الطبي، وهي تستخدم يومياً في العقاقير الطبية، وهذه لا شك في حرمة القدر المسكر منها.. أما غير المسكر والمأمون العاقبة فلا يبدو ما يبرر تحريمه ولا الحكم عليه بالنجاسة، وهو من المواد الصلبة غير السائلة.(8/1390)
حكم التداوي بالدم وما شابهه من النجاسات
لا جدال في نجاسة الدم المسفوح وحرمة استخدامه، قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] . وقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145] .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة الدم من الثوب قبل أن يصلى فيه، وهو دليل على نجاسته. وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المحرم هو الدم المسفوح، ويستثنى من ذلك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو طاهر لخصوصيته صلى الله عليه وسلم. وقد شرب عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما دمه عندما أعطاه إياه بعد أن احتجم ليدفنه، وقد فعل ذلك تبركاً وتيمناً، وقد أخبر النبي أنه لا يمسه النار لدخول دم النبي صلى الله عليه وسلم جوفه.
وذهب ابن حزم إلى أن الدم نجس ومحرم مطلقاً، سواء كان مسفوحاً أو غير مسفوح. (1) وقال القرطبي: (اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به) . (2)
وقد أباح الفقهاء المعاصرون نقل الدم في فتاواهم العديدة، الفردية والجماعية، وهي عشرات بل مئات الفتاوى منذ الخمسينات من القرن العشرين باعتبار ذلك ضرورة وإنقاذاً للأنفس من الهلاك. وقد أباح الله سبحانه وتعالى للمضطر أكل الميتة في المخمصة. وتنزل الحاجة منزلة الضرورة لشفاء مرض لا يؤدي حتماً إلى الهلاك والموت، فيباح من أجل ذلك.
__________
(1) المحلى لابن حزم: 1/129، 130، 182، 183
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/222(8/1391)
دواعي نقل الدم:
يعتبر الدم بكل المقاييس عضواً من أعضاء الجسم، وإن كان عضواً سائلاً دائم الدوران في الجسم الحي. وقد جعله بعض الفقهاء القدماء موازياً للروح والنفس، حيث قالوا عن الحشرات: إنها لا تنجس الماء أو غيره، وعبروا عن ذلك بقولهم: (ما لا نفس له سائلة) أي ما ليس له دم.
والأغراض التي يتم من أجلها نقل الدم هي:
1- حالات النزف الداخلي أو الخارجي أو كليهما معاً.
2- حالات الحروق حيث يفقد الجسم البلازما من الجلد المحروق.
3- العمليات الجراحية.
4- أنواع فقر الدم المختلفة وبالأخص الأنيمياء الانحلالية.
5- نقص صفائح الدم وعناصر التجلط الأخرى: وفي هذه الحالات يتم نقل الصفائح فقط أو العناصر المفقودة من الدم مثل عامل 8 (مرض الناعور أو الهيموفيليا) .
6- حالات الفشل الكلوي التي تستدعي الديلزة (الغسيل الكلوي) حيث يتم وضع كمية من الدم في الآلة أولاً.
وهناك شروط طبية عديدة لنقل الدم، أهمها خلو الدم المنقول من الفيروسات والبكتريا والطفيليات الممرضة، وأن يكون مطابقاً لفصيلة دم الشخص المتلقي الدم. كما أن هناك شروطاً طبية عديدة للمتبرع وللمتلقي لا مجال لسردها هاهنا.
ويمكن نقل الدم كاملاً، أو جزء منه مثل البلازما، أو خلايا الدم الحمراء، أو خلايا الدم البيضاء، أو الصفائح، أو بعض عناصر الدم مثل عامل ثمانية، أو نقل الدم المتبادل، ويستخدم هذا الأخير في المواليد أو الأجنة أو حالات التسمم. كما يمكن استخدام الأمصال المستخرجة من الدم لمداواة بعض الأمراض الفيروسية أو البكتيرية المعدية، مثل الدفتريا والكزاز (التتانوس) والحصبة ... إلخ.
وقد أباح الفقهاء الأجلاء منذ زمن قديم شرب البول والدم للتداوي من مرض مخوف، ولا إشكال في إباحة شرب البول، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم من عكل وعرينة بشرب أبوال الإبل وألبانها عندما اجتووا المدينة وكبرت بطونهم وامتلأت بالاستسقاء، فصحوا، ثم قتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فعاقبهم الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قبض عليهم أشد عقوبة، فقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم يموتون صبراً.(8/1392)
جاء في الكفاية شرح الهداية: (يجوز للعليل شرب البول والدم والميتة للتداوي إذا أخبره طبيب مسلم أن فيه شفاء، ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه، وإن قال الطبيب: يتعجل شفاؤك؛ فيه وجهان (1) أي الإباحة وعدمها. وقد جاء في حاشية ابن عابدين مثله. (2)
وقد جاء في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (مفتي المملكة العربية السعودية السابق) ما يلي: (وجه الدلالة من هذه الآيات (آيات الضرورة) أنها أفادت إذا توقف شفاء المريض أو الجريح وإنقاذ حياته على نقل الدم إليه من آخر بأن لا يوجد من المباح ما يقوم مقامه في شفائه وإنقاذ حياته، جاز نقل هذا الدم إليه) . (3)
وعملية نقل الدم تدخل من باب الضرورة وإغاثة الملهوف وشفاء المريض. ثم إن الدم لا يعتبر مسفوحاً؛ لأنه يحفظ ويعاد إلى الجسم ليجول في العروق كما يجول الدم الطبيعي.. وعلى هذا فلا يعتبر مسفوحاً ولا نجساً؛ وحتى لو قيل بنجاسته، فإن الفقهاء قد أباحوا استخدام النجاسات في التداوي متى تعين ذلك.
(ولا فرق بين دم المسلم ودم الكافر في أصل مشروعية الانتفاع وإباحة النقل عند الحاجة؛ لأنه إذا أبيح زواج المسلم بالكتابية وتكون الأولاد من هذا الزواج بدمائها، فإباحة نقل الدم من باب الأولى حيث إنه مجرد إسعاف لا يتكون منه أصل الجسد) (4)
وقد أباح كل من تعرض للفتوى في هذه القضية نقل الدم حتى أولئك المعارضين لنقل الأعضاء، ومن هؤلاء السيد أبو الأعلى المودودي الذي قال: (يجوز –عندي- نقل الدم للمريض إنقاذاً لحياته ولا وجه لتحريمه ومنعه) (5) .. وكذلك أفتى مجلس البحث العلمي والإفتاء للقضايا المعاصرة بباكستان بجواز نقل الدم مع معارضتهم لنقل الأعضاء. وكذلك فعل الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي أباح نقل الدم ومنع نقل الأعضاء.!!
__________
(1) الكفاية شرح الهداية على هامش فتح القدير 8/501
(2) الحاشية لابن عابدين 5/228
(3) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 3/174، 175
(4) الانتفاع بأجزاء الآدمي في الفقه الإسلامي، للشيخ عصمت الله عناية الله، رسالة ماجستير من كلية الشريعة، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1408 (ص 188)
(5) ترجمان القرآن (يناير 1962) ورسائل ومسائل: 3/292 – 295، الطبعة الثامنة 1979(8/1393)
ومن الفتاوى العديدة التي صدرت بإباحة نقل الدم فتوى الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية، وهي من أوائل الفتاوى في هذا الباب حيث صدرت سنة 1950م.
وفتوى الشيخ حسن مأمون (مفتي الديار المصرية) برقم 1065 وتاريخ 2/12/1378 هـ الموافق 9 يوليه 1959، وفتوى هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية برقم 65 وتاريخ 7/2/1399هـ، وفتوى لجنة الإفتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية بتاريخ 20/5/1397هـ وفتوى لجنة الإفتاء الجزائرية بتاريخ 6/3/1392هـ وفتوى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي. وقد جاء في الفتوى الصادرة في 13/7/1409 تحريم بيع الدم، وأن نقل الدم من امرأة إلى طفل دون الحولين لا يأخذه حكم الرضاع المحرم.. وهو أمر اتفقت عليه الفتاوى الصادرة في هذا الشأن.. وصدرت عشرات، بل مئات الفتاوى الجماعية والفردية والكتب والمقالات التي تبيح نقل الدم إذا تعين ذلك لإنقاذ حياة أو لشفاء مرض. وأن ذلك يجب أن يكون من قبيل التبرع لا المعاوضة والبيع.. وأن المضطر للشراء لا لوم عليه ولا تثريب إن لم يجد وسيلة أخرى لذلك. وأن تتبع الشروط الطبية لنقل الدم للتوقي من نقل الأمراض، ومن حدوث تفاعلات خطيرة. وقد جاء في فتوى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة (13 – 20 رجب 1409هـ) ما يلي:
(أما حكم أخذ العوض عن الدم، وبعبارة أخرى: بيع الدم؛ فقد رأى المجلس أنه لا يجوز لأنه من المحرمات المنصوص عليها في القرآن الكريم مع الميتة ولحم الخنزير، فلا يجوز بيعه وأخذ عوض عنه. وقد صح في الحديث: ((إن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه)) ، كما صح أنه نهى عن بيع الدم. ويستثنى من ذلك حالات الضرورة إليه للأغراض الطبية، ولا يوجد من يتبرع إلا بعوض، فإن الضرورات تبيح المحظورات، بقدر ما ترفع الضرورة. وعندئذ يحل للمشتري دفع العوض، ويكون الإثم على الآخذ. ولا مانع من إعطاء المال على سبيل الهبة أو المكافأة تشجيعاً على القيام بهذا العمل الإنساني الخيري لأنه يكون من باب التبرعات، لا من باب المعاوضات) .(8/1394)
زرع الأعضاء:
إن زرع (غرس) الأعضاء قد أثار اهتمام الجمهور والفقهاء في العصر الحديث ودرسوه دراسة واسعة، وأصدروا فيه الفتاوى العديدة، الفردية والجماعية، واستقر رأي الغالبية منهم على إباحته بشروط. وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي الموقر فيه عدة قرارات. وبدأها بموضوع أجهزة الإنعاش وموت الدماغ (القرار رقم 5د/3/07/86) في دورته الثالثة المنعقدة بعمان – الأردن (8 – 13 صفر 1407 هـ / - 16 أكتوبر 1986) حيث اعتبر موت الدماغ موازياً لموت القلب وتوقف الدورة الدموية، وفتح بذلك الباب لنقل الأعضاء من المتوفين دماغياً، وذلك ما يَسَّرَ أخذ الأعضاء مثل الكلى والقلب والرئتين والبنكرياس والكبد من المتوفين دماغياً، بعد أخذ موافقة أوليائهم أو موافقتهم أثناء حياتهم على ذلك.. وبما أن هذه الأعضاء والأحشاء الداخلية لا تبقى حية إلا دقائق معدودة بعد توقف القلب والدورة الدموية، فإنه لا يمكن الاستفادة منها بعد توقف القلب وزرعها في إنسان آخر محتاج إليها.. ولذا كان لا بد من أن تؤخذ من شخص توفي دماغياً. وأما الأعضاء الأخرى مثل العظام والجلد والقرنية فإنها يمكن أن تبقى حية بعد توقف القلب والدورة الدموية لمدة 12 – 24 ساعة، وبالتالي يمكن أن تؤخذ من شخص توفي بسبب توقف قلبه ودورته الدموية.
ثم بحث المجمع الفقهي الموقر موضوع زرع الأعضاء في دورته الرابعة وأصدر فيه القرار رقم (1) د4/08/88 (18 – 23 جمادى الآخرة 1408هـ / 6 – 11 فبراير 1988 بجدة) ، وأباح فيه نقل الأعضاء الذاتي أي من الشخص ذاته من مكان إلى موضع آخر في جسده، ونقل الأعضاء من الأحياء المتبرعين وشروطه، ونقل الأعضاء من الموتى وشروطه.. وأجل بحث النقل من الأجنة.. ومنع بيع الأعضاء بأي شكل من الأشكال.(8/1395)
وفي الدورة السادسة للمجمع الفقهي الموقر بحث مواضيع أخرى متعلقة بزرع الأعضاء والتي لم تبحث في الدورات السابقة؛ مثل زراعة خلايا بالمخ والجهاز العصبي والبيضات الملقحة الزائدة عن الحاجة واستخدام الأجنة مصدراً لزراعة الأعضاء وزراعة الأعضاء التناسلية وزراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص، وأصدر فيه قراراته رقم 56/5/6 و57/5/6 و58/5/6 و59/5/6 و60/5/6 الصادرة في الدورة السادسة المنعقدة في جدة (17 – 23 شعبان 1410 هـ / 14 – 20 مارس 1990م) ، وكذلك قام المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بدراسة موضوع زراعة الأعضاء في دورته الثامنة المنعقدة في مكة المكرمة (28 ربيع الآخر – 7 جمادى الأولى 1405هـ / 19 – 28 يناير 1985م) وأصدر فيه قراره الذي أباح فيه زرع الأعضاء بفروعه المختلفة بشروطه المعتبرة، كما أباح بطريق الأولوية أن يؤخذ العضو من حيوان مأكول ومذكى مطلقاً، أو غيره عند الضرورة لزرعه في إنسان مضطر إليه.
وقد أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية أيضاً فتوى بإباحة زرع الأعضاء بشروطها في القرار رقم 99 بتاريخ 16/11/1402هـ.
وقد أصدر عدد كبير من الذين تولوا منصب مفتي الديار المصرية فتاوى متعددة في زرع القرنية، وزرع الجلد وزرع الأعضاء ابتداء من الشيخ حسنين مخلوف (1950) إلى فضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (5 ديسمبر 1979) الفتوى رقم س13/م274 في 15 محرم 1400هـ مروراً بفتوى الشيخ حسن مأمون (زرع قرنية العين ونقل الدم) الفتوى رقم 88/ م 249 في 3/12/1378هـ الموافق 9/6/1959 وفتوى الشيخ محمد خاطر رقم س 105/م173 في 3/12/1392هـ الموافق 3/2/1973.
وأصدرت لجنة الإفتاء التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر فتوى بإباحة نقل الدم وزرع الأعضاء بتاريخ 6 ربيع الأول 1392 الموافق 20 أبريل 1972.
وكذلك أباحها المؤتمر الإسلامي الدولي المنعقد بماليزيا في أبريل 1969. ومثلها لجنة الإفتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية بتاريخ 20/5/1397هـ الموافق 18/5/1977. والفتاوى في هذا الباب كثيرة جداً.(8/1396)
وقد أباح الفقهاء الأجلاء منذ أزمنة متطاولة أن يصل الإنسان العظم المكسور الذي لا ينجبر إلا بنجس لفقد طاهر. قال الإمام النووي في منهاج الطالبين: (ولو وصل عظمه بنجس لفقد طاهر فمعذور، وإلا وجب نزعه إن لم يخف ضرراً ظاهراً، قيل: وإن خاف، فإن مات لم ينزع على الصحيح) (1) وقال الخطيب الشربيني في شرحه لكلام النووي: (وظاهر هذا أنه لا فرق بين الآدمي المحترم وغيره، وهو كذلك. (ولو وصل عظمه) لانكساره مثلاً واحتياجه إلى الوصل (بنجس لفقد طاهر) الصالح للوصل، أو وجده وقال أهل الخبرة: إنه لا ينفع، ووصله بنجس (فمعذور) في ذلك تصح صلاته معه للضرورة.
وقال عبد الحميد الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج شرح المنهاج: (يجوز للذكر الوصل بعظم الأنثى وعكسه ... وينبغي أن لا ينقض وضوءه ووضوء غيره به، وإن كان طاهراً ولم تحله الحياة؛ لأن العضو المبان لا ينقض الوضوء بمسه إلا إذا كان من الفرج أو أطلق عليه اسمه) . (2) وقد أورد كلاماً قريباً منه الإمام النووي في المجموع (3) وكذلك في الفتاوى الهندية. (4)
ولا شك أن الفقهاء لم يبيحوا أخذ العظام من أجسام الأحياء لوصلها فيمن كسر عظمه ولم ينجبر إلا بوصله بعظم آخر؛ لأن الضرر لا يزال بمثله، ولا بما هو أشد منه، فتبين من ذلك أنهم أباحوا الوصل بعظام الحيوانات المذكاة، فإن لم يجد فبعظام الميتة من الحيوان والإنسان. وإن تعين عظم الخنزير لقول خبير جاز ذلك. قال القاضي القزويني في عجائب المخلوقات: (إن من خواص عظم الخنزير أنه يوصل بعظم الإنسان، ويلتئم سريعاً من غير اعوجاج) (5)
__________
(1) مغني المحتاج لمعرفة ألفاظ المنهاج للخطيب الشربيني 1/190 - 192
(2) تحفة المحتاج لألفاظ المنهاج 2/125 - 128
(3) المجموع للنووي 3/138
(4) الفتاوى الهندية 5/254
(5) عجائب المخلوقات للقزويني، الطبعة الثالثة (ص422)(8/1397)
وهكذا أباح الفقهاء الأجلاء منذ قرون متطاولة بعض أنواع زرع الأعضاء من الموتى أو من الحيوانات المذكاة أو من غيرها إذا تعين ولو كان من خنزير.
ولن ندخل هاهنا في مناقشة تفصيلية لموضوع زرع الأعضاء فقد تكفلت به المجامع الفقهية.. ولا شك أنه من المحرمات التي أبيحت للضرورة، وقد تنزل الحاجة بمنزلة الضرورة.. ولا داعي للخوض في ميتة الإنسان وهل هي نجسة أم طاهرة والخلاف بين الفقهاء فيها معروف.. ولا شك في حرمة الإنسان حياً وميتاً.. واستخدام أعضائه لا يجوز إلا بشروط كثيرة أوضحتها الفتاوى العديدة الصادرة من المجامع الفقهية ومن دور الإفتاء ولا حاجة لإعادتها هاهنا.. كما أن الفقهاء الأجلاء أباحوا الأخذ من الحيوانات مذكاة أو غير مذكاة إن تعين، من باب الأولى، ولو كانت من نجس نجاسة مغلظة مثل الخنزير..
وهذا كله يوضح مدى اتساع الفقه الإسلامي وشموله ليحل مشكلات كل زمان ومكان. وهو فضل من الله كبير بهذه الشريعة الغراء التي لا مندوحة للمسلم إلا بالالتزام بها في الصغير والكبير، والأخذ بما يفتي به أهل العلم والفتوى وأجرهم على الله.
التداوي بالخنزير:
لقد نزلت أربع آيات كريمات في كتاب الله سبحانه وتعالى تحرم الخنزير وأنواعاً من المطاعم الأخرى، قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] .
وقال سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] .
وقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145] .
وقال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] .(8/1398)
قال الإمام القرطبي: (1) (قوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} خص الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أم لم يذك، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها. وقد أجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير لأن اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم.. وقد حرم الله تعالى لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه لأنه دخل تحت اسم اللحم) .
(ولا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به، وقد روي أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخرازة بشعر الخنزير فقال: لا بأس بذلك، ذكره ابن خويز منداد ... وما أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كابتداء الشرع) .
وجاء في تفسير الخازن: (2) (وأما الخنزير فإنه أراد بلحمه جميع أجزائه، وإنما خص اللحم بالذكر؛ لأنه المقصود لذاته بالأكل، وقد أجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم، وإنما ذكر الله تعالى لحمه لأن معظم الانتفاع متعلق به، ثم اختلفوا في نجاسته فقال جمهور العلماء: إنه نجس، وقال مالك: إنه طاهر، وكذا كل حيوان عنده لأن علة الطهارة هي الحياة فإذا مات صار نجساً) .
(وللشافعي قولان في ولوغ الخنزير: الجديد أنه كالكلب (أي يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب) والقديم يكفي في ولوغه غسلة واحدة) .
وقد أباح الإمام مالك وأبو حنيفة ومحمد والأوزاعي أن يخاط بشعر الخنزير، ومنعه الإمام الشافعي وابن حزم (3)
واختلف الفقهاء في جلد الخنزير، وذهب الشافعي إلى أن الدباغ يطهر جميع أنواع الجلود ما يؤكل منه وما لا يؤكل ما عدا الكلب والخنزير، ومذهب أبي حنيفة استثناء الخنزير فقط، ويرى الإمام أحمد أن جلود الميتة كلها لا تطهر بالدباغ وكذا الخنزير.. ومذهب داود الظاهري وابن حزم طهارة جميع الجلود بالدباغ بما في ذلك الكلب والخنزير.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/233 تفسير سورة البقرة آية (173)
(2) لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن تفسير سورة البقرة آية (173)
(3) الذبائح في الشريعة الإسلامية للعبادي (ص 153)(8/1399)
قال ابن حزم في المحلى: (1) (وأما الخنزير فإن الله تعالى قال: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} والضمير في لغة العرب التي نزل بها القرآن راجع إلى أقرب مذكور (أي الخنزير) ، فصح بالقرآن أن الخنزير بعينه رجس، فهو كله رجس، وبعض الرجس رجس، والرجس حرام واجب اجتنابه، كله حرام لا يخرج من ذلك شعره ولا غيره حاشا ما أخرجه النص من الجلد إذا دبغ فحل استعماله)
وقال في موضع آخر: (لا يحل أكل شيء من الخنزير لا لحمه ولا شحمه ولا جلده ولا عصبه ولا غضروفه ولا حشوته ولا مخه ولا عظامه ولا رأسه ولا أطرافه ولا لبنه ولا شعره. الذكر والأنثى، والكبير والصغير سواء، ولا يحل الانتفاع بشعره لا في خرز ولا في غيره) (2)
وقد وهم من قال: إن الظاهرية لا يحرمون شحم الخنزير ومنه الألوسي في تفسيره، والدكتور عبد الله العبادي في كتابه الذبائح في الشريعة الإسلامية. وها هو ابن حزم ينفي ذلك بقوة وحزم.
أحكام المضطر:
قد أباح الله تعالى في الآيات الأربع السالفة أكل لحم الخنزير والميتة والدم لمن اضطر لذلك، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
واختلف العلماء في وجوب الأكل؟ وهل يجوز له أن يشبع؟ وحد الضرورة والتزود من الميتة أو الخنزير.. إلخ، وليس هذا موضع تحرير هذا الخلاف.. ونكتفي هاهنا باختصار ما جاء في المجموع للإمام النووي (3) حيث قال:
1- أجمعت الأمة على أن المضطر إذا لم يجد طاهراً يجوز له أكل النجاسات كالميتة والدم ولحم الخنزير، وفي وجوب هذا الأكل وجهان ذكرهما المصنف (أي الشيرازي في المهذب) بدليلهما، في أصحهما يجب.
__________
(1) المحلى لابن حزم: 7/ 390
(2) المحلى لابن حزم 7/388 طبعة دار الفكر، بيروت.
(3) المجموع للنووي 9/32 وما بعدها.(8/1400)
2- في حد الضرورة: لا خلاف أن الجوع القوي لا يكفي لتناول الميتة ونحوها، قالوا: ولا خلاف أنه لا يجب الامتناع إلى الإشراف على الهلاك.. واتفقوا على جواز الأكل إذا خاف على نفسه لو لم يأكل من جوع أو ضعف عن المشي أو عن الركوب، وينقطع عن رفقته ويضيع، ونحو ذلك ... فلو خاف من حدوث مرض مخوف في جسمه فهو كخوف الموت. وإن خاف طول المرض فكذلك في أصح الوجهين (أي يجوز) .
وهذه النقطة هامة في موضوعنا؛ لأنها تبيح استخدام الخنزير في التداوي إذا تعين ذلك بوصف طبيب ثقة عدل. كما يجوز لتعجيل الشفاء.
3- يباح للمضطر أن يأكل من الميتة ما يسد الرمق بلا خلاف، ولا يباح له الزيادة على الشبع بلا خلاف.. وفي حل الشبع قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما.
4- يجوز له التزود من الميتة إن لم يرج الوصول إلى طاهر، فإن رجاه فوجهان: أحدهما يجوز وبه قطع البغوي وغيره، والثاني لا يجوز، وأصحهما يجوز وبه قطع القفال وغيره. وزاد القفال: يجوز حمل الميتة من غير ضرورة ما لم يتلوث بها.
5- المحرم الذي يحتاج المضطر إلى تناوله ضربان: مسكر وغيره.. (قد تقدم ذكر المسكر) . وأما غير المسكر فيباح جميعه ما لم يكن فيه إتلاف معصوم، فيجوز للمضطر أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب البول وغير ذلك من النجاسات.
التداوي بالنجاسات:
قال الإمام النووي في المجموع: (1)
(مذهبنا جواز التداوي بجميع النجاسات سوى المسكر. وقال أحمد: لا يجوز لحديث: ((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) وحديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أنزل الداء وأنزل الدواء. وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام)) رواه أبو داود. وحديث أبي هريرة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث)) رواه أبو داود.
__________
(1) المجموع للنووي 9/44 - 45(8/1401)
(ودليلنا (أي الشافعية) حديث العرنيين (الذين أمرهم الرسول بشرب ألبان الإبل وأبوالها وقد أصابهم الجوى وهو نوع من استسقاء البطن) وهو في الصحيحين، وهو محمول على شربهم الأبوال للتداوي كما هو ظاهر الحديث) . (1)
وحديث: ((لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) محمول على عدم الحاجة بأن يكون هناك ما يغني عنه ويقوم مقامه من الأدوية الطاهرة. وكذا الجواب عن الحديثين الآخرين.
وقال البيهقي: هذان الحديثان إن صحا حملا على النهي من التداوي بالمسكر، وعلى التداوي بالحرام من غير ضرورة للجمع بينهما وبين حديث العرنيين والله تعالى أعلم. وقال البيهقي: قال الشافعي: لا يجوز أكل الترياق (وهو الدواء المعجون به مادة أخرى سامة) المعمول بلحم الحيات إلا أن يكون في حال الضرورة حيث تجوز الميتة) . هذا لفظه.
(واحتج البيهقي بحديث ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((: ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقاً أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي)) رواه أبو داود بإسناد فيه ضعف. ومعناه أن هذه الثلاثة سواء في كونها مذمومة.
وقال النووي في موضع آخر من المجموع: (2)
(وأما التداوي بالنجاسات غير الخمر فهو جائز في جميع النجاسات غير المسكر. هذا هو المذهب، والمنصوص به، وقطع به الجمهور. قال أصحابنا: إنما يجوز التداوي بالنجاسة إذا لم يجد طاهراً يقوم مقامها، فإن وجد حرمت النجاسات بلا خلاف وعليه يحمل حديث: ((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) ، فهو حرام عند وجود غيره، وليس حراماً إذا لم يجد غيره. قال أصحابنا: وإنما يجوز ذلك إذا كان المتداوي عارفاً بالطب يعرف أنه لا يقوم غير هذا مقامه، أو أخبره بذلك طبيب مسلم عدل، ويكفي طبيب واحد، صرح به البغوي وغيره. فلو قال الطبيب: يتعجل لك به الشفاء، وإن تركته تأخر، ففي إباحته وجهان: حكاهما البغوي، ولم يرجح واحداً منهما) .
__________
(1) ما بين القوسين من تعليقي لا من كلام النووي
(2) المجموع للنووي 9/42(8/1402)
وواضح أنه لا بد لإباحة التداوي بالنجاسات (ما عدا الخمر) من توفر الشروط التالية:
1- أن لا يوجد دواء آخر بديل يقوم مقامه.
2- أن يصفه طبيب مسلم عدل.
3- أن يتعين ذلك دواء. فإن كان يعجل الشفاء ففيه وجهان: أحدهما جواز ذلك والآخر منعه.
التداوي بالخنزير في الطب القديم:
من الغريب حقاً أن نجد أن القدماء من الأطباء أسرفوا في استخدام الخنزير في التداوي، وقد جاء في عجائب المخلوقات للقزويني (1) (وهو رجل قد تولى القضاء في واسط والحلة أيام المستعصم بالله العباسي، وينتسب إلى الصحابي الجليل أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه) استخدامات غريبة وكثيرة باطلة للخنزير ولا يصح منها إلا أقل القليل. ومما جاء فيه: (إن استصحاب ناب الخنزير يبقي الإنسان مكرماً عند الناس ويأمن العين.. ويترك الناب في الدهن أسبوعاً، ثم يدهن به الرأس فإنه يطول الشعر ويؤخر الشيب) !!
(مرارة الخنزير: تجفف وتجعل على البواسير. ويسقى منها صاحب الصرع مع شيء من البول العتيق فيزول صرعه) !!
(لحم الخنزير: أطيب لحم الحيوان نافع من لسع الهوام) !!
(شحم الخنزير: ينضج الدماميل الصلبة ويخرج وسخها، ويطلى بشحمه الطري البواسير فينفعها نفعاً بيناً!! وأما عظمه فيوصل بعظم الإنسان في الكسور فيلتئم ويستقيم من غير اعوجاج وليس لشيء من عظام الحيوان هذه الخاصية. ويسحق العظم ويحشى به الناصور فيبرأ. وأما جلد الخنزير فيترك في البيت فتهرب منه البق. وأما كعب الخنزير فيحرق ويسحق رماده ويسقى للقولنج والمغص المزمن فيزيلهما. ونقل ذلك عن ابن سينا وقال نقلاً عنه: إذا طلي به البرص نفعه) !!
__________
(1) عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات لزكريا القزويني، دار الآفاق الجديدة، بيروت ص 421 - 423(8/1403)
(وأما بول الخنزير فيخلط بالنبيذ ويفتت حجر المثانة!! وأما زبله فيسمد به شجر التفاح، وإذا حملت المرأة زبالة الخنزير وروثه فإن ذلك يدفع عنها أذى النفاس!!)
وهو كلام مليء بالأوهام والخرافات التي نقلها عن الأطباء السريان وغيرهم.
استخدام الخنزير في الطب الحديث:
يستخدم الأوربيون وغيرهم الخنزير في أغراض التداوي لرخص الخنزير وتوفر شحمه ولحمه. وتذكر دائرة المعارف البريطانية (1) أن زيت اللارد (دهن الخنزير) يستخدم في تغذية المضادات الحيوية Antibiotics التي تستخرج من أنواع من الفطور fungi وفي الكبسولات التي تحتوي على المضادات حيث يستخدم الجيلاتين من جلد وعظام وغضاريف الخنزير.
وكان الأنسولين يستخرج من الخنزير ومن الأبقار ولا يزال. وهناك بعض الأشخاص الذين لا يتحملون الأنسولين البقري ويحدث لهم حساسية.. وفي هذه الحالة كانوا يحولون إلى الأنسولين الخنزيري. أما الآن فقد تم تصنيع أنسولين إنساني كيميائيا، وبواسطة هندسة الجينات، وبالتالي لم تعد هناك حاجة للأنسولين الخنزيري، واختفى نتيجة ذلك من الأسواق. وإن كان الأنسولين الإنساني أغلى ثمناً من مثيله الحيواني.
وكان الأطباء يستبدلون الصمامات التالفة بصمامات معدنية أو حيوانية..
والحيوانية كانت تعتبر أفضل من المعدنية. ولذا استخدمت صمامات القلب من الأبقار والخنازير، ولكن مع التقدم السريع في جراحة القلب أمكن إصلاح العطب لهذه الصمامات بدون الحاجة إلى الاستبدال إلا فيما ندر. وما ندر يمكن استبداله بالصمامات المصنوعة من المواد الصناعية دون الحاجة للحيوانات.
__________
(1) دائرة المعارف البريطانية الميكروبيديا 6/48 الطبعة 15 لعام 1982(8/1404)
ولا تزال شركات الأدوية تستخدم الخنزير في تصنيع المواد الهاضمة وفي استخراج بعض الهرمونات، وفي تنمية المضادات الحيوية، وفي تصنيع الكبسولات.. وهي أمور يمكن تفاديها إذا قامت صناعة دوائية في البلاد الإسلامية لإمكان استخدام البديل من الأبقار أو غيرها من المباحات.
ويستخدم الأطباء جلد الخنزير في بعض الأحيان لمعالجة الحروق المتسعة، وعندما لا يتم توفر جلد إنساني (من ميت أو حي متبرع) .. ولكن التقدم الطبي السريع سيجعل الحاجة لذلك نادرة جداً حيث أمكن تصنيع جلود بحيث تؤخذ كمية قليلة من جلد المصاب ذاته، ثم تنمى وتوسع بحيث تكفي للمريض دون الحاجة لأخذ الجلد من إنسان أو حيوان.
وخلاصة الأمر أن الحاجة الحقيقية لاستخدام الخنزير في التداوي نادرة جداً، ولكن بما أن الدواء يأتينا في كثير من الأحيان مصنعاً، فإنه في أحيان كثيرة يحتوي على مشتقات خنزيرية مثل الكبسولات التي تصنع من جيلاتين مختلط نباتي وحيواني.. والحيواني يحتوي على جيلاتين من الخنزير (من الغضاريف والجلد) .. وكما أسلفنا تتم تنمية بعض المضادات الحيوية في مشتقات خنزيرية.. وتستخدم بعض المواد الهاضمة من بنكرياس الخنزير وكذلك بعض الهرمونات الأخرى.
والحل الحقيقي هو إقامة صناعة دوائية في بلاد المسلمين تتجنب استخدام الخنزير ومشتقاته. وهو نفس الحل لقضية الغول في الدواء.. وقضية الأطعمة التي تأتي من الخارج حيث إن بعض الأطعمة تحتوي على دهن خنزير كما تذكر ذلك دائرة المعارف البريطانية (1) حيث جاء فيها أن أنواعاً من البسكويت والشيكولاته والآيس كريم والأجبان تحتوي على دهون الخنزير، وكذلك يتم استخدام دهن الخنزير في بعض أنواع الصابون وفي مستحضرات التجميل وفي معجون الأسنان. ويستخدم اللارد (دهن الخنزير) في الطبخ كما يستخدم زيت اللارد Lard oil, Lard Stearine في تركيب السمن والزيوت الحيوانية Animal Shortening وأما الذين يعيشون في الغرب فيواجهون مشاكل عديدة؛ إذ إن دهن الخنزير يستخدم في العديد من الأطعمة والأشربة.. وقد ذكر الدكتور أحمد حسين صقر في مقاله (الدهون في الأطعمة) (2) أسماء لبعض الشركات التي تستخدم الخنزير، فمثلاً شركة أطعمة المطبخ العامة General Foods Kitchen تحتوي منتوجاتها الجيلاتينية على الجيلاتين المستخرج من جلود وغضاريف الخنزير والبقر والغنم، ومعظم الشركات التي تنتج الهامبرجر والفرانكفورتر يحتوي لحمها على نسبة من لحم الخنزير إلا إذا ذكر أنه مصنوع من لحم البقر فقط مثل Au beef hambergur أو Au beef Frank furter وهكذا الشركات التي تنتج أغذية بها زيوت حيوانية أو حتى نباتية ولكنها مخلوطة بشيء من الزيت الحيواني فإنها تحتوي على مشتقات دهون الخنزير ما لم يكتب صراحة أنها مصنوعة من الزيت النباتي النقي الصافي Pure Vegetable Oil.
__________
(1) دائرة المعارف البريطانية الميكروبيديا 5/940 و6/48 الطبعة 15 لعام 1982 و (10/760)
(2) د. أحمد حسين صقر (الدهون في الأطعمة) مجلة المسلم المعاصر العدد 29 لشهر صفر 1402 (ص 135 – 138)(8/1405)
ولا شك أن هذه مشكلة عويصة وخاصة لمن يعيشون في الغرب.. وللعالم الإسلامي الذي يستورد الأطعمة والصابون وأدوات الزينة والأدوية من الغرب حيث تدخل منتجات الخنزير بشكل أو آخر في كثير من هذه القوائم. وكذلك الجلود الفاخرة، فكثير منها مصنوع من جلد الخنزير، وجلد الخنزير لا يطهر بالدباغ عند الشافعية والأحناف والحنابلة.
وعلى الحكومات الإسلامية أن تراقب هذه الأطعمة وأدوات الزينة والأدوية التي تحتوي على مواد خنزيرية وتمنعها. أما بالنسبة للفرد المسلم فإن علم أن هذه المادة تحتوي مواد خنزيرية فعليه أن يتوقاها ويمتنع عن تناولها واستعمالها. وليس عليه أن يبحث، بل ليس في مقدوره، في أغلب الأحيان، أن يعرف ذلك؛ لأنه مما يحتاج إلى مختبرات متخصصة. ولا يكتب أهل الغرب في بضائعهم أنها مصنعة من الخنزير ومشتقاته، فتكون الجهالة في ذلك عذراً.
وقد ذكر الإمام النووي في المجموع (1) أحاديث كثيرة في ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل جبناً أحضرت له في تبوك)) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة رأى جبنة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: طعام يصنع بأرض العجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا فيه السكين واذكروا اسم الله وكلوا)) رواه أحمد والبيهقي بإسناد فيه ضعف. وعن علي رضي الله عنه قال: (إذا أردت أن تأكل الجبن فضع الشفرة فيه واذكر اسم الله عز وجل عليه وكل) .
__________
(1) المجموع للنووي: 9/59(8/1406)
ومعلوم أن الجبن الذي صنع بأرض العجم كانت فيه إنفحه، والمجوس يأكلون الميتة، وذبائحهم لا تحل والإنفحة على ذلك نجسة. وقد اختلف العلماء في أكل الجبن من بلاد المجوس فقال بعضهم: كل ولا تسأل وسم الله. لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] ولما روي عن بعض الصحابة مثل أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال: ((كنا نأكل الجبن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك لا نسأل عنه)) رواه البيهقي وقال عنه الإمام النووي في المجموع: ضعيف. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن السمن والجبن فقال: (سم وكل. فقيل له: إن فيه ميتة. فقال: إن علمت فيه ميتة فلا تأكله) .
وقد روي عن ابن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بجبن في تبوك فدعا بسكين فسمى وقطع)) رواه أبو داود ورزين بإسناد ضعيف. (1)
وذكر ابن حجر الهيتمي المكي في التحفة على المنهاج (2) (وجبن شامي اشتهر عمله بإنفحة خنزير. ((وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم جبن من عندهم فأكل منها ولم يسأل عن ذلك)) .
وقد جاء في مغني المحتاج للخطيب الشربيني (3) والإنفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء وتخفيف الحاء لبن في جوف نحو سخلة في جلده تسمى إنفخة أيضاً. إن أخذت من حيوان مأكول بعد ذبحه لم يطعم غير اللبن طاهرة للحاجة إليها في عمل الجبن، بخلاف ما إذا أخذت من ميت أو مذبوح أكل غير اللبن (.
__________
(1) المجموع للنووي 9/59
(2) تحفة المحتاج شرح المنهاج لابن حجر الهيتمي 1/308 باب النجاسات، مطبوع مع حواشي ابن قاسم وعبد الحميد – دار الفكر، بيروت
(3) مغني المحتاج لمعرفة ألفاظ المنهاج للخطيب الشربيني 1/80(8/1407)
ومعلوم أن الإنفحة تؤخذ من العجول الصغيرة وغيرها التي لا تزال تعيش على اللبن؛ لأن فيها خميرة (أنزيما) يحول البروتين الموجود في اللبن إلى جبن:
أنزيم
كازينوجين كازين
الرنين
فإذا تحول إلى كازين فقد تجبن وصار جبناً.
وقد اختلف العلماء فيما سبق ذكره. فمنهم من أكل وسمى الله، ومنهم من احتاط وقال: اتق الشبهات ولم يأكل الجبن إلا من أرض المسلمين وأهل الكتاب فقد روي ذلك عن ابن مسعود وعمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهم أجمعين. (1)
الخلاصة:
إن على المسلمين أن يوفروا الغذاء والدواء ولا يعتمدوا على الكفرة في غذائهم ودوائهم، وذلك ممكن لاتساع رقعة بلاد المسلمين وكثرة خيراتها.. ولا بد لهم من التعاون والتعاضد وتنمية التجارة بين بلاد المسلمين بدل الاعتماد على الكفار اعتماداً كاملاً في كل شؤونهم.. وذلك يحقق مكاسب عظيمة من الأمن الغذائي والدوائي ويبتعد بالمسلمين عن المحرمات والشبهات، ويحقق مبادئ التكافل بين أقطار المسلمين، ويرفع عن كاهلهم الأوزار التي أثقلتهم وجعلتهم في الحضيض وفي أسفل سافلين.. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين.
التداوي بالذهب:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم)) (2) وروى أنس رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق (فضة) ونقش فيه: محمد رسول الله، وقال: إني اتخذت خاتماً من ورق ونقشت فيه محمد رسول الله، فلا ينقش أحد على نقشه)) . (3)
ويكاد الإجماع أن ينعقد على حرمة لبس الرجال للذهب وحله للنساء. (4)
__________
(1) المجموع للنووي 9/59
(2) أخرجه أحمد في مسنده والنسائي والترمذي في سننيهما. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. المسند 17/270. سنن النسائي 8/161، سنن الترمذي 6/43 كلهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
(3) أخرجه البخاري في صحيحه
(4) المجموع للنووي 4/332(8/1408)
وقد أصيب أنف عرفجة بن أسعد يوم كلاب، وهو يوم معروف من أيام الجاهلية كانت لهم، فهي وقعة مشهورة، وكلاب اسم لماء من مياه العرب كانت عنده الوقعة. ويقال: إنهما وقعتان مشهورتان باسم الكلاب، ولذا يقال: كلاب الأول وكلاب الثاني.. وقام عرفجة باتخاذ أنف له من الورق فأنتن عليه ((فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب فلم ينتن)) . قال النووي في المجموع: (1) (وأما حديث عرفجة فحديث حسن رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بإسناد جيد، وقال الترمذي: هو حديث حسن) .
ولا خلاف بين الفقهاء في حل اتخاذ الرجل الأنف من الذهب أو الفضة إذا احتاج لذلك.
ولا خلاف بين الفقهاء أيضاً في اتخاذ السن أو الأنملة أو الأذن من الفضة ولكنهم اختلفوا في الذهب على قولين: الإباحة وبه قال محمد بن الحسن، ورواية عن أبي يوسف، وإليه ذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية.
والثاني: لا يحل شد الأسنان بالذهب أو اتخاذها أو الأنملة أو الأذن منه. وهو قول لأبي حنيفة ورواية أخرى عن أبي يوسف (2)
ويستعمل الذهب اليوم في طب الأسنان، وإن كان الاستعمال قد ندر لاستخدام البدائل، ولكلفة الذهب العالية. كما يستخدم مركب كيماوي معقد في علاج المرض شبيه الرثياني المفصلي Rheumatoid artheritis.. ولا يستخدم هذا المركب إلا عند فشل العقاقير الأخرى مثل الأسبرين ومشتقات الكورتيزون والأدوية المسكنة الأخرى مثل الفولتارين والبروفين.. إلخ.
__________
(1) المجموع للنووي 1/293
(2) د. عبد الفتاح محمود إدريس في بحث أخلاقيات الطبيب مقدم إلى الدورة الثامنة للمجمع الفقهي ص 28 وقد عزا ذلك إلى المصادر والأمهات في كتب الفقه.(8/1409)
ومما يؤيد استخدام الذهب في الطب ما روي عن ابن عمر أن أباه سقطت ثنيته فأمره أن يشدها بالذهب (أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث هشام بن عروة عن ابن عمر، وفي سنده أبو الربيع بن السمان وهو متروك) . كما روي عن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول قال: ((اندقت ثنيتي يوم أحد، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أتخذ ثنية من ذهب)) (أخرجه الهيتمي في مجمع الوائد وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح) .
وقد روي أن جماعة من الصحابة شدوا أسنانهم بالذهب منهم عثمان بن عفان وموسى بن طلحة وأنس بن مالك رضي الله عنهم. (1)
حكم التداوي بالحرير:
((قال أنس رضي الله عنه: إن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما)) . وفي رواية أخرى: ((رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في القمص الحرير في السفر من حكة كانت بهما أو وجع)) (2)
وقد اختلف الفقهاء في إباحة لبس الحرير للتداوي فقال بالإباحة أبو يوسف والشافعية، وهو رواية عن مالك وأصح الروايتين عن أحمد وإليه ذهب الظاهرية. (3)
والقول الثاني بعدم الإباحة، وهو مروي عن أبي حنيفة ورواية أخرى عن مالك، ورواية أخرى عن أحمد (4) .
ولا أعرف في الطب الحديث استخدام الحرير سوى في خيوط الحرير وتستخدم في الجراحة لربط الأوعية الدموية.
الدكتور محمد علي البار
__________
(1) مجمع الزوائد 5/150، والفتح الرباني 17/172
(2) أخرجه البخاري 4/32، ومسلم 2/234.
(3) د. عبد الفتاح محمود إدريس: أخلاقيات الطبيب (ص 29- 30)
(4) د. عبد الفتاح محمود إدريس: أخلاقيات الطبيب (ص 29- 30)(8/1410)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
أخلاقيات الطبيب
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في موضوع هذه الجلسة (أخلاقيات الطبيب) بوحداته الموضوعية الجامعة وهي:
سر المهنة، الإيدز، مسؤولية الطبيب، مبادئ العلاج والتطبيب، وسيعرض الطبيب أحمد رجائي الجندي ما يتعلق بسر المهنة، والطبيب أبو لسان ما يتعلق بالإيدز، والعرض العام للشيخ علي الجفال، تفضل يا شيخ علي.
الشيخ علي الجفال:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الهداة الراشدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، أما بعد:
فإن البحث في المسائل الطبية المعاصرة وموقف الفقه الإسلامي منها، هو من قضايا الوقت الحاضر التي تحتاج إلى دراسة فقهية دقيقة تكشف عن موقف الشريعة الإسلامية من هذه المسائل التي جدت وشاعت وذاعت وتسرعت وتنوعت، وإني من أجل هذا رأيت أن أدلي في هذا الموضوع الذي يحتاج إلى دراسة تفصيلية تقوم على حقائق من الواقع وهدى من نصوص الشريعة السمحة وقواعدها، وموقف الفقه الإسلامي منها، وأسأل الله تعالى الهداية والتوفيق، إنه نعم المولى ونعم النصير.
مسؤولية الطبيب: هذا وقد ورد بحثان قيمان لكل من فضيلة الدكتور محمد عطا السيد، وفضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة في موضوع مسؤولية الطبيب، ولقد اتفقت معهما في النتائج، واختلفت في التفاصيل
معنى المسؤولية، لعل كلمة مأخوذية الواردة في كلام الإمام الشافعي في كتاب الأم Hقرب ما تؤدي إلى المعنى المراد من كلمة مسؤولية في التعبير القانوني الحديث؛ ذلك أن سؤال المرء قد يكون فيما لا تبعة فيه، فأما المأخوذية فإنما تكون فيه مؤاخذة، على أن الناظر في كتب الفقه الإسلامي لا يجد لكلمة مسؤولية مكاناً فيها؛ لأنها لفظة محدثة، يجد أن الفقهاء قد عبروا عنها بلفظ الضمان ومع ذلك فإننا مضطرون إلى استعمال كلمة مسؤولية مجاراة لأهل العصر، هذا ولعل من الواضح أن تضمين الإنسان هو الحكم عليه بتعويض الضرر الذي أصاب غيره من جهته، والضرر نوعان:(8/1411)
أولاً: ما يصيب الإنسان في نفسه.
ثانياً: ما يصيبه في ماله.
كما أن المسؤولية لابد في تحققها من ضرر ترتب على إخلال بحق ثابت للغير، فلا مسؤولية حيث لا إخلال بحق الغير ولا مسؤولية حيث لا ضرر، هذا وقد أوجبت السنة النبوية المطهرة مبدأ المسؤولية على الطبيب الذي يعالج الناس وهو ليس أهلاً للعلاج، وذلك ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن)) قال الإمام الخطابي في معالم السنن: لا أعلم خلافاً في المعالِج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامناً، والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعد، فإذا تولد من فعله تلف ضمن الدية وسقط عنه القود؛ لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض وجناية الطبيب في قول عامة الفقهاء على عاقلته، كما أن في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) فإنه قاعدة كلية يرجع إليها في تطبيق جزئيات المسؤولية والمؤاخذة بها.
أسباب الإباحة: الأصل في الشريعة الإسلامية أن الأفعال المحرمة محظورة على الكافة بصفة عامة، لكن الشرع رأى استثناء من هذا الأصل أن يبيح بعض الأفعال المحرمة لمن توفرت فيهم صفات خاصة؛ لأن ظروف الأفراد أو ظروف الجماعة تقتضي هذه الإباحة، ولأن هؤلاء الذين تباح لهم الأفعال المحرمة يأتونها في الواقع لتحقيق غرض أو أكثر من أغراض الشارع، فالجرح محرم على الكافة، ولكن لما كانت حياة الإنسان أو راحته قد تتوقف على عملية جراحية لإنقاذه من آلامه لإنقاذ حياته؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات ولأن الشريعة تحض على التداوي من الأمراض، وتوجب على المرء أن لا يلقي بنفسه إلى التهلكة، وإذا كان الفعل المحرم قد أبيح لتحقيق مصلحة معينة، فقد وجب منطقياً ألا يؤتى الفعل المحرم إلا بتحقيق المصلحة التي أبيح من أجلها، فإذا ارتكب الفعل بغرض آخر فهو جريمة، فالطبيب الذي يجرح مريضاً بقصد علاجه يؤدي واجباً كلف به فعمله مباح، ولكنه إذا جرح المريض بقصد قتله فهو قاتل وعمله جريمة.(8/1412)
تنوع أسباب المسؤولية:
معلوم في الاصطلاح الفقهي أن الأضرار قد تكون مباشرة أو تسبباً، ومن القواعد المقررة في هذه المسألة أيضاً أنه إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر، والمهم هنا هو أن الفقهاء قد اتفقوا على أن من أتلف مالاً أو نفساً أو عضواً من نفس بغير حق شرعي، فعليه مسؤولية ما أتلف، وأن من فروع مسؤولية الإتلاف، مسؤولية الطبيب إذا أخطأ وجاوز الحد المعتاد، أو أهمل في العلاج، أو لم يكن من أهل الطب، وفي تقرير هذه المسؤولية حفظ للأرواح البشرية من تلاعب بعض الأطباء بها، وحفز لهم على التنبه إلى واجبهم واتخاذ الحيطة اللازمة في صناعتهم المتعلقة بحياة الناس.
طريق رفع المسؤولية:
قد يحصل الضرر بفعل أو تسبب، ولكن ترتفع المسؤولية عن الفاعل أو المتسبب فلا يحكم عليه بضمان التلف، فإذا لم يحكم عليه بالضمان فذلك هو المقصود من رفع المسؤولية، ونستطيع أخذاً من الفروع الفقهية أن نعد من طريق رفع المسؤولية التلف الحاصل بسريان العملية الجراحية التي وقعت معتادة ولم يهمل الطبيب علاجها، كذلك نستطيع أن نعد من طرق رفع المسؤولية، رضاء المجني عليه أو وليه إن كان قاصراً، ذلك أن الصلة بين الطبيب والمريض تحكمها أحكام عقد الإيجار، ومعلوم أن قيام العقد يستلزم توافق إرادتين؛ إرادة الطبيب وإرادة المريض أو وليه.
هذا مع التنبيه إلى أن الفقهاء لم يقصروا عدم المسؤولية على الرضا فحسب بأن نصوا على أن عدم المسؤولية منوط بالإذن إذ كان العمل معتاداً ولم يجاوز الطبيب الرسم المتبع في أعماله، أي أن تكون أعماله موافقة للقواعد الطبية التي تتبع في كل حادثة على حدتها.
مسؤولية الطبيب:
إن الطب ذلك العمل الإنساني الخطير قد ينتحله بعض من لا يحسنه، وقد يقوم به من لا يرقب في الله خشية ولا ذمة، من لا خلاق له من دين أو خلق، ومن أجل ذلك بين الفقه الإسلامي الأحكام الصارمة الرادعة لمن يزاوله ولا يتقنه، ومن لا يرعى فيه الحقوق الإنسانية حق رعايتها.
تضمين الطبيب الجاهل بالطب:
روى أبو داود والنسائي وابن ماجه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن)) ، وهذا محل اتفاق بين العلماء، وجناية المتطبب على عاقلته في قول عامة الفقهاء.(8/1413)
مسؤولية الطبيب الحاذق:
هناك ضوابط وضعها الفقهاء فيمن يباح لهم مباشرة الطب، ونوجزها فيما يلي:
1- أن يكون المعالج من ذوي الحذق في صناعتهم ولهم بها بصارة أو معرفة.
2- أن يكون الباعث على عمله، علاج المريض وشفاءه.
3- يحب أن تكون أعماله على وفق الرسم المعتاد، أي موافقة للقواعد الطبية التي تتبع في كل حادثة على حدتها.
4- إذن المريض، فإنه يشترط أن تكون المعالجة بناء على إذن المريض أو وليه.
هذا وقد أوردت في البحث الحالات العاجلة التي لا يمكن فيها انتظار الحصول على إذن المريض، ولا يتسع المقام لذكرها، وفضلاً عن أن من حق المريض أن يختار الطبيب الذي يعالجه لأن الثقة بين المريض والطبيب لها تأثيرها في الشفاء، ذلك إذا كان المريض في حالة صحية تسمح له بذلك.
تقييد الإذن بالسلامة:
من القواعد الفقهية المقررة في الفقه الإسلامي أن المتولد من فعل مأذون فيه لا يكون مضموناً، ويستثنى من ذلك ما كان مشروطاً بسلامة العاقبة، وقد قسم السادة الحنفية الحقوق التي تثبت للمأذون إلى قسمين:
أ- حقوق واجبة: ولا فرق بين أن تكون بإيجاب الشارع كحق الإمام في إقامة الحدود وفي القصاص والتعزير وبين أن تكون واجبة بإيجاب العقد لعمل الفصاد، الحجام، والختان وغيرها، وهذه الحقوق جميعها لا يشترط فيها سلامة العاقبة؛ لأنه لا ضمان فيها إلا بالتجاوز عن الموضع المعتاد.
ب- حقوق مباحة: كحق الولي في التأديب، عند أبي حنيفة، وحق الزوج في التعزير فيما يباح له، وهذه الحقوق تتقيد بوصف السلامة، وبالنظر في ذلك عند بقية المذاهب يتبين أنها كالحنفية في هذا المعنى، مع شيء من الخلاف الطفيف في تحديد الحقوق التي تتقيد لوصف السلامة.
والخلاصة أن الطبيب إذا راعى حقه في عمله ثم نتج عن فعله ضرر لحق المريض، ولا يمكن الاحتراز عنه، فلا ضمان عليه؛ لأن الطبيب إذا كان يستعمل حقه في حدوده المشروعة، فهو يقوم بواجبه في الوقت نفسه، والأصل أن الواجب لا يتقيد بوصف السلامة أو عدمه، وعلله بعض الفقهاء بما عرف في الفقه أن شرط الضمان على الأمين باطل.
هذا وقد جمعت في خاتمة بحثي بعض ما ورد في تعاليم الإسلام وآدابه المتعلقة بالطب، كما أوردت نفس قسَم الطبيب المسلم الذي يعكس فلسفته المتمثلين في الدستور الإسلامي لآداب مهنة الطب، راجياً أن تكون تلك الخاتمة مسكاً مسلسلاً لكل من يتوفر فيها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/1414)
الدكتور أحمد رجائي الجندي:
شكراً سعادة الرئيس، بما أني لأول مرة سأتحدث، اسمحوا لي أن أتقدم بخالص وجزيل الامتنان لتفضلكم بتغيير ميعاد الجزء الخاص بالطب حتى نعطي فرصة للأخذ بالتوصيات.
ثانياً: أتقدم أيضا بخالص الشكر للأمانة العامة متمثلة في الأخ الفاضل الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة على العلاقات الوطيدة بين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية وبين المجمع، وكانت إحدى ثمراته هي الندوة التي نوقشت فيها الرؤية الإسلامية لبعض المؤسسات الطبية، ومنها موضوع سر المهنة الطبية، الموضوع الذي سوف نناقشه، شارك في الإعداد له حوالي اثنين وعشرين من الفقهاء وعدد كبير من الأطباء تخيرنا فيهم الوظائف المختلفة، ابتداء من وكيل الوزارة إلى الطبيب العادي إلى مدير الإدارة إلى الأستاذ الباحث إلى عميد الكلية وإلى طبيب التأمينات وإلى طبيب العمل، وذلك بهدفين أساسيين:
الهدف الأول: تعليمي وتثقيفي لهم حتى يعلموا تماماً ما هو موضوع سر المهنة، رغم بساطته إلا أنه من أخطر المواضيع التي تقابل الجسم الطبي، والتي سببت الكثير من المشاكل داخل العمل اليومي لكثير من الأطباء والهيئة الطبية.
الهدف الثاني: حتى نرى جميعاً كيف أن موضوعاً كهذا رغم بساطته إلا أن الجميع يجهلون أبعاده تماماً، رغم أن القانون واضح، ورغم أن النصوص واضحة بأن السر أمانة، وهنالك موضوع استثناءات لهذا الموضوع ومنصوص عليها في القانون، إلا أن الجميع نسوها تماماً أو تناسوها ووقعوا في المحظور.
أهمية موضوع سر المهنة:
أولاً: ثقة المريض بالطبيب للوصول إلى تشخيص صحيح، فإن الطبيب من وسائل رحمة الله بالعباد، ولن يكون هناك تشخيص صحيح بدون ثقة كاملة، وقد عرفه الإسلام بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السر أمانة، ومن أساء الأمانة فقد خان)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من ستر عورة أخيه ستره الله في الدنيا والآخرة)) . و ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) .
ثانياً: أن كثيراً من الأحداث تحدث أثناء الممارسات اليومية نتيجة الجهل الكامل بمفهوم معنى سر المهنة، سواء على المستوى الطبي والإداري، وأدى ذلك إلى وقوف الكثير من الأعضاء في الجسم الطبي أمام الهيئات الطبية القضائية بسبب عدم إلمامهم بهذا الموضوع.(8/1415)
ثالثاً: في أهمية هذه الندوة، يرجع ذلك إلى عدم اهتمام كليات الطب أثناء إعداد الطبيب لممارسة الحياة اليومية، وكذلك النقابات المهنية ووزارات الصحة بهذا الموضوع، ولا تصحو إلا بعد أن يقع الطبيب أو المسؤول في المحظور.
رابعاً: بسبب عدم فهم أبعاد هذا الموضوع لدى الهيئات الطبية فإن الطبيب أو المسؤول يقع في حيرة من أمره إذا ما رأى أمراً ما يخالف ضميره، فهل يفشي السر أم لا؟ ظناً منه أن في الأمر اجتهاداً أو بواعث.
خامساً: جهل الإدارة الطبية أيضاً بأبعاد الموضوع مما يسبب حرجاً كبيراً للأطباء والهيئة الطبية بسبب هذا الموضوع.
تنوع مهنة الطب:
طبيب ممارس، طبيب استشاري، وطبيب عمل أو قمسيون طبي، وطبيب شركة تأمين، طبيب يعمل في البحث العلمي، أيضاً دخل موضوع حديث وهو موضوع الهندسة الوراثية التي تقوم المنظمة فيه بمؤتمر حول أخلاقيات هذا الموضوع، الأبحاث التي في هذا الموضوع تقدم بها كل من: فضيلة الشيخ مختار السلامي، وكذلك الدكتور حسن الشاذلي، والشيخ توفيق الراعي، فالشيخ مختار السلامي ذكر بأن الطبيب بطبيعة عمله يمكنه من الاطلاع على ما لا يطلع عليه غيره فتنكشف له عورات من يتولى فحصهم بدنياً ونفسياً ما لا ينكشف لغيره، ويطلع على أسرار مدفونة في خبايا النفوس أو تحت الثياب الساترة، وهذا يشمل مجالات عديدة وصوراً مختلفة، ثم تطرق إلى غريزة حب الاطلاع، وفي الطب تتاح للإنسان فرص كثيرة يكتشف فيها المجهول؛ إما بواسطة الحس أو بواسطة الفكر، وتقوم التربية المدنية والتبصير الديني على تنظيم هذه الغريزة إلى ما يعود على الإنسان بالخير، وذكر فضيلته بأن المعيار الديني يختلف تماماً عن المعيار المدني؛ لأن المعيار المدني لا يرجع الأسرار إلا لرضا صاحب السر، فإذا هو تنازل عن حقه كانت جوارح الطرف المطلع في حل من اكتشاف ما يراه في معرفته سواء أكان من ذخائر النفس أم من عورات البدن، أما حسب المعيار الإسلامي فإن صاحب السر حقوقه في التنازل محصورة داخل إطار ما أباحه له الشرع، ومن هنا فإن الطبيب المسلم لا يحل له أن يتجاوز محل الحاجة إلى ما وراءها إشباعاً لرغبة خاصة لا يبررها حقاً لوازم الكشف لتشخيص المرض ووقف العلاج.(8/1416)
ثم انتقل بعد ذلك إلى أهمية ووضع القواعد الكلية التي هي عبارة عن موازين دقيقة بين الحاجة العلمية لتشخيص الداء وبين المواطن أو الدوائر التي يطلع عليها أو الأسرار الذاتية، وكل ما زاد على ذلك لا يجوز للطبيب أن يكشفه، واعتبر ذلك تجسساً كما جاء في الآية الكريمة: {وَلَا تَجَسَّسُوا} ، وعرف التجسس المنهي عنه بأنه هو البحث عما يكتم عنه، ثم استشهد بقصة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب التي رواها عبد الرحمن بن عوف عن ربيعة بن أمية بن خلف في شربه للخمر، ثم تطرق إلى العلاقة بين المريض والطبيب وضرورة أن يبذل الأخير قصارى جهده ليتقي الشبهات ويستبرئ لدينه وعرضه، ثم ناقش القضايا المعروضة على الندوة واحدة تلو الأخرى والتي سوف أذكرها فيما بعد.
القانون الفرنسي عرف سر المهنة بأنه الالتزام المفروض على جميع أعضاء الهيئة الطبية بألا يفشوا ما اطلعوا عليه وما علموه أثناء ممارسة مهنتهم. إلا أن الشراح اختلفوا في تحديد نطاق السر، إلا أن ابن أبي أصيبعة حدد نطاقه بأنه كل ما يسمع أو يرى ولا ينطق به خارجه، وبهذا فقد قلع كل قول في تحديد نطاق السر.
أما القانون المصري ومعظم الدول العربية وفيها الكويتي حدد نطاق السرية أنه كل ما وصل إلى علم الطبيب عن طريق مهنته، سواء أكان هذا العمل مما عهد به إليه المريض وائتمنه عليه، شاهده الطبيب بنفسه أو سمع به، الأشخاص الملتزمون بحفظ السر هم جميع الأشخاص الملتزمون بالنسبة للمريض ابتداء من العلاقات العامة إلى السكرتارية إلى الممرضة إلى الطبيب في جميع تخصصاتهم إلى الصيدلة.(8/1417)
القانون الكويتي مثلاً نص على أنه لا يجوز للطبيب أن يفشي سراً خاصاً وصل إلى علمه عن طريق مهنته، سواء أكان هذا السر مما عهد به إليه المريض وائتمنه عليه أم كشفه الطبيب بنفسه أم سمع به إلا بأمر من المحكمة لتحقيق سير العدالة، وقد حرص القانون على أن يذكر الحالات التي يجوز فيها الإبلاغ على سبيل الحصر لا المثال، والحالات التي يجوز فيها الإبلاغ هي أربع حالات: إفشاء السر بطلب من المريض، إفشاء السر لأحد الزوجين أو لكليهما معاً بناء على طلبهما، إفشاء السر منعاً لوقوع جريمة، إفشاء السر في حالة التأمين على الحياة. وفي الطبيب في التأمين، إفشاء السر في حالة التأمين من الطبيب إلى الإدارة لا يعتبر إفشاء؛ لأن العميل جاء بمحض إرادته وهو يعلم أن الكشف يجري بطلب من إدارة التأمين لإطلاعها على كل ما يتعلق بصحة العميل لتحديد شروط العقد، أما من يتلقى تقرير الطبيب فعليه الكتمان وعدم البوح به، أما الحالات الإجبارية التي يجب على الطبيب الإبلاغ فيها هي التبليغ عن الأمراض السارية، وقد عددها الشارع في القانون ولم تترك لتقدير أي من السلطات الإدارية ولا الطبيب.
البند الثاني من الحالات الإجبارية: التبليغ عن المواليد والوفيات، والقانون يجبر الطبيب أن يبلغ إذا قام بالكشف على متوف أو قيامه بإسعاف مصاب أن يخبر السلطات المختصة إذا وجد علامات تشعر باحتمال أن تكون وفاة المتوفى أو إصابة المصاب من جريمة، ومما يؤيد وجوب كتمان السر ولا يجوز إفشاؤه إلا بنص قانوني أن الإجهاض ممنوع في فرنسا بموجب القانون الصادر سنة 1920، ومع ذلك كان على الطبيب أن يمتنع عن الإبلاغ عنه أو الشهادة عليه إذا اطلع عليه أثناء ممارسة عمله، ولكن كثرة حالات الإجهاض دعت المشرِّع الفرنسي أن يعدل المادة 378 من قانون العقوبات والقانون الصادر في سنة 1939 م، والقانون الصادر سنة 1975 م، بموجب هذين القانونين أعفى الطبيب من العقوبة المنصوص عليها بالمادة 678 إذا هو أبلغ أو شهد على إجهاض اطلع عليه أثناء ممارسة المهنة، وأيضاً أجاز له أن يبلغ السلطات ويشهد أمام القضاء إذا شاهد أثناء ممارسته لمهنته من عنف وقع على قاصر، ومن هذا يتبين أنه استثنى من الكتمان حالتين وجعل التبليغ عنهما والشهادة عليهما جوازياً يعود لتقدير الطبيب.
مثال آخر على عدم الدراية بالقانون من جهة الإدارة أتت حالة حاملة السفاح واضطرت المريضة إلى الاعتراف للطبيب بأن حالتها كانت تحتاج إلى الإجهاض وعند عرض المسألة على الإدارة طلبت الإدارة بإبلاغ مكتب التحقيق عن الحمل السفاح بخطاب رسمي وسري إلى المكتب المذكور مع نسخة منه إلى مدير إدارة الخدمات الوقائي، وقد رفض الأطباء الانصياع لهذا القرار واستفتت الوزارة إدارة الفتوى التي قالت: إن التبليغ عن حالات الحمل غير المشروع التي يتم إجهاضها بشأن الدواعي الطبية يجب أن يدور أساساً في ضوء القوانين التي تحكم هذا الموضوع والمسائل المتعلقة به؛ أي: يجب عدم الإفشاء ويجب السرية الكاملة.(8/1418)
نأتي إلى نقطة خطيرة حصلت أمام بعض الأطباء، شهادة الأطباء أمام القضاء، القاعدة العامة أن كل من يدعى للشهادة أمام القضاء عليه أن يستجيب وأن يشهد بالحق الذي يقسم عليه، وإذا امتنع فامتناعه جرم يعاقب عليه، أما بالنسبة للأطباء فالأمر يختلف بين أن يكون طبيباً مداوياً أو طبيباً خبيراً.
موقف الطبيب المداوي من الشهادة:
امرأة طلبت من طبيب أن يفحص زوجها عقلياً ثم رفعت الدعوى على زوجها إما بطلب الطلاق أو عدم الأهلية بسبب اختلال عقله، وطلبت شهادة الطبيب المداوي، فهل يشهد أم لا أمام المحكمة؟ فإذا شهد أمام المحكمة فهل شهادته صحيحة أم باطلة؟ وهل يجوز للطبيب أن يعطي شهادة أو يشهد في دعوى بطلب فسخ وصية أو تصرف آخر إذا كان هو الذي داوى؟ بالنسبة للقانون المدني فإن شهادة الطبيب باطلة، وحكمت المحكمة بقبولها وعدم الأخذ بها.
إذا حدث تزوير في شهادة صادرة من طبيب إلى مريض مثلاً إلى شركة تأمين هل للطبيب الحق في الدفاع عن نفسه وإفشاء سره؟ نعم، للطبيب الحق في الدفاع عن نفسه، أما الطبيب الخبير فشهادته أمام القضاء ضرورية، الوضع مختلف بالنسبة للأطباء والخبراء الذين تنتدبهم المحكمة لفحص مريض، فهو ملزم أن يقول الحقيقة أمام المحكمة، وهنا أيضاً الطبيب الشرعي يقع تحت هذا البند، ولا يجوز إفشاء السر لغير السلطة القضائية.
طبيب عمل:
وهو الذي يقرر صلاحية الموظف من عدمه، فهل يجوز لهذا الطبيب أن يعلل عدم الصلاحية بذكره نوع المرض الذي بنى عليه رأيه؟ السؤال طرح في إحدى المؤتمرات الطبية العالمية، وكانت الإجابة بأنه لا يجوز أن تكون الشهادة معللة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، للسبب الطبي الذي بنى عليه الطبيب رأيه في الأهلية أو عدم الأهلية، لكنه المفروض أن يكتب أنه لائق أو غير لائق، وبالمناسبة فإن إحدى المحاكم الفرنسية حكمت على طبيب لشركة طيران سنة 1965 م قام بالكشف على طيار وأوضح في تقريره بأنه مصاب بمرض عصبي ولا يجوز تحميله مسؤولية الطيران، وقد اعتبرت المحكمة أن الطبيب قد أفشى سراً بذكره العلة المرضية حيث كان يجب عليه أن يقصر رأيه بعدم الأهلية دون ذكر السبب، وهناك صور كثيرة من الإفشاء، ومن عدم الإفشاء لا داعي لها. تحدثت عن الشيخ مختار السلامي والآن الحديث عن الدكتور محمد الأشقر.(8/1419)
الدكتور محمد الأشقر عرف السر من الآية الكريمة: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] وقال: السر ما حدث به الإنسان غيره وأسره إليه، والأخفى من السر ما حدث به المرء نفسه وأخفاه بباله من غير أن يخبر به أحداً، وهذا من السر أيضاً، إلا أنه أشد الأسرار خفاءً، والإفشاء وهو إفشاء السر، ثم ضرب صوراً من الكتمان والإفشاء من الكتاب والسنة وآثار الصالحين، قصة الرسول مع عائشة وحفصة من أنه حرم على نفسه العسل وقيل: إنه حرم على نفسه جاريته مارية، وأفشت السر كل منهما فنزلت الآية الكريمة، قصة زواج حفصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظ الصديق رضي الله عنه هذا الخبر عن عمر عندما عرضها عليه، قصة تعيين عبد الله بن عباس في مجلس سيدنا عمر بن الخطاب وكان صغير السن فأوصاه أبوه عباس: يا بني، احفظ عني ثلاثاً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذبا. وصور أخرى، ثم أصدر فضيلته حفظ الأسرار وستر العورة بدعاء النبي: ((اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا)) وحديثه: ((من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة)) ثم بين فضل كتمان السر وذكر قصة ماعز وهذيل وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى عورة فسترها فكأنما أحيا ميتاً)) .
ثم تطرق إلى نقطة هامة تحت عنوان من يستحق الستر عليه ومن لا يستحق، واستشهد بقول الحليمي: الستر هو في الفواحش التي لا تخرج من الموتب، فأما إذا سمع مسلماً يتكلم بكلام الكفر فعرف به أنه من المنافقين فلا ينبغي أن يستر عليه حتى لا يترتب على ذلك الكثير من الارتباطات.
ثم بين أهمية حفظ الأسرار والأضرار التي يمكن أن تنتج على ذلك، وهي أضرار نفسية وبدنية ومهنية ومالية، ثم اعتبر أيضاً أن إفشاء السر خيانة، خاصة إذا كانت بين المرء وزوجه أو بين أخ وأخيه أو في مجلس استؤمن عليه.
وفي النهاية حدد أن هذا الموضوع للإنسان المسلم العادي وشدد أن يكون الأطباء والعاملون في هذا المجال أكثر التزاماً في هذا الموضوع، ثالثاً لأن الإباحة بالسر فيه غالباً اتباع لهوى النفس ممن يفعله وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] فإن الصاحب إذا حل من خليله محل الفؤاد فاطمأن كل منهما إلى الآخر وركن إليه فائتمنه على أدق أسراره، وبث إليه أشياء مما في نفسه وأخبره عن أشياء يفعلها فحق حامل الأمانة أن يكون كفءا له، فلا يفشي بشيء من ذلك لأحد، واستشهد بقول الغزالي: (منشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها الداء الدفين في الباطن وهو الحقد والحسد) ثم انتقل إلى الحالات –وهذا هو المهم- التي يجوز فيها الإفشاء:(8/1420)
1- انقضاء حالة كتمان السر، واستشهد بذلك بالآية الكريمة: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] .
2- انقضاء الأضرار والمشاكل.
3- أن يأخذ صاحب السر في إفشائه أن يكون كتمان السر إلى أجل، أن ينتقل حال المكتوم منه، من يشرع كتم سره إلى من يشرع كشف ستره وفضح أمره، كأن ينتقل من حال الإيمان إلى النفاق والكفر أو من حال التستر بالفواحش إلى البوح بها، أن يؤدي الكتمان إلى ضرر أبلغ من ضرر الإفشاء.
4- دفع الخطر لإنقاذ مسلم أو مسلمة.(8/1421)
الدكتور حسن الشاذلي تعرض مباشرة إلى المواضيع التي كانت معروضة، فمثلاً اعتبر أن القاعدة الأساسية هي قاعدة السرية، وهي عدم إفشاء الأسرار، بل إنه اعتبر الطبيب إذا أباح سر زوجة أسرت إليه بأنها حامل من سفاح بأن هذا قاذف للزوجة بالزنا، ومن ثم يطالبه الشرع بإثبات ذلك ويسبب ذلك مشاكل لا حصر لها إذا عدلت الزوجة عن هذا الاعتراف، إلى آخر ما يتطلبه من ذلك الإثبات، والتي على أثرها قد يجلد ثمانين جلدة، وقد توسع في ذلك وذكر رأي الحنفية والمالكية والحنابلة، واتفق معه كل من الشيخ مختار السلامي والدكتور محمد الأشقر والدكتور توفيق الواعي واستشهدوا جميعاً بحديث: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر)) .
والسؤال الثاني كان عن إذا أتى طبيب عملاً مخلاً بآداب المهنة واكتشف زميل له هذا الإخلال، هل يبلغ عنه أم لا؟ الشيخ المختار أفاد بوجوب عدم الإفشاء. الدكتور الأشقر فصل في الموضوع وقال: إذا كان هذا العمل مخلاً بالآداب وكان المجني عليها قاصرة مستغلاً طبيعة عمله، فهنا ليس الستر على المعتدي أولى من تمكين المعتدى عليه من الوصول إلى حقه، أما إذا كان بموافقة الطرف الثاني وهو تام التكليف فإن كان زلة وحصلت توبة فينبغي الكتمان، أما إذا كان مستمراً في غوايته واستغلال مركزه فيجب إيقافه عند حده.
الدكتور حسن الشاذلي تطرق إلى رأي الشرع في من رأى منكراً كما وردت في الكتاب والسنة، ثم تطرق أيضاً إلى حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستنتج في النهاية أنه يجب أن نأخذ على يد هذا الطبيب الذي يقوم بأعمال مخلة بآداب المهنة ووضع الاقتراحات الآتية:
- أن يتم نصح هذا الطبيب، إما عن طريق صديق له ونكرر هذا النصح، وإن لم يستجب يرفع الأمر إلى الجهات المسؤولة.
- واستند في ذلك إلى ما جاء في الأحكام السلطانية لأبي يعلى استناداً إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم حد الله عليه)) .
الدكتور توفيق الواعي اختلف وطالب بإبلاغ الجهات واعتبره خائناً للأمانة.
السؤال الثالث: كان إذا تبين للطبيب أن رب الأسرة أصيب بمرض جنسي، ما هو موقفه هل يبلغ الأسرة أم لا؟
فضيلة الشيخ مختار أجمل كل المسائل الجنسية تحت بند واحد وطلب بعدم الإفشاء حرصاً على كيان الأسرة.(8/1422)
الدكتور محمد الأشقر أفاد بأنه إذا كان المرض معدياً ويخشى أن ينتقل إلى زوجته أو سائر أفراد أسرته، فإن الضرر المتوقع بإصابة الأبرياء أعظم من الضرر الذي يناله المريض نفسه في بيان حاله، ولهذا ينبغي للطبيب البيان إذا سئل عن ذلك أو اقتضته الحالة.
الدكتور حسن الشاذلي تطرق إلى موقف الشريعة من الأمراض المعدية وطبعاً ذكر حديث الطاعون وغيره من الأحاديث في هذا المجال، واستنتج بضرورة الإبلاغ عن مثل هذه الأمراض المعدية لحفظ المجتمع وتجنيبه خطر الانتشار بين أفراده.
الدكتور توفيق الواعي طلب بعدم الإفشاء.
هذه كل المواضيع التي عرضت وانتهت الندوة إلى بعض الأشياء، وقد توصلت الندوة في نهاية أعمالها إلى الآتي:
أ- السر هو ما يفضي به إنسان إلى آخر مستكتماً إياه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان أو كان العرف يقضي بكتمانه كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس.
ب- الأسرار أمانات وعلى من استودعها حفظها، التزاماً بما جاءت به الشريعة الإسلامية وهو ما تقتضي به المروءة وآداب التعامل.
ج- إفشاء السر في الأصل محظور ومستوجب المؤاخذة عليه شرعاً ومهنياً وقانونياً.
د- يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل كالمهن الصحية؛ إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح وتقديم العون، فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيره حتى إلى الأقربين إليه.
يستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح علة مضرة كتمانه وهذا على أمرين:
- حالات يجب فيها إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضررين، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقتضي تحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه، وهذه الحالات نوعان:
1- ما فيه درء مفسدة عن المجتمع.
2- ما فيه درء مفسدة عن فرد.(8/1423)
- حالات يجوز فيها إفشاء السر؛ لما فيه من جلب مصلحة للمجتمع، أو درء مفسدة عامة، وهذه ينبغي الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. يضاف إلى ذلك حالات يكون فيها رضى صاحب السر بإفشائه ويكون ذلك في حدود الإذن لأن لصاحب الحق إسقاطه.
الاستثناءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء أو جوازه ينبغي أن ينص عليها قانون مزاولة المهن الطبية موضحة ومنصوص عليها على سبيل الحصر لا المثال، مع تفصيل كيفية الإفشاء ولمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواقف.
الطبيب المسلم الذي يحمل قسطاً من المسؤولية العامة كمصلح ومرشد وعنصر وقائي لتفادي الضرر قبل وقوعه ينبغي أن يحاول قبل الإقدام على استخدام الاستثناءات الجوازية لإفشاء سر المهنة، الاستغناء عن ذلك بممارسة دوره الإصلاحي لوقاية من يتعرضون للخطر من المرضى أو غيرهم مما يرسم الطريق السوية للمريض للنهوض من غفوته ولغيره، لاتقاء ما نجم عن مرضه من أخطار وذلك لإرادة إصلاح النفس وصلاح ذات البين، ولن تعوزه الخبرة مع استخدام المعاريض التي لا تهدر بها الحقوق ولا تزيف بها الحقائق.
وشكراً على حسن استماعكم
الرئيس:
إذا رأيتم أن ندخل في المناقشات والتداول وأن يكون عرض الإيدز بعد صلاة المغرب أو بعد أن ينهى الموضوع بعد صلاة المغرب إن شاء الله تعالى.(8/1424)
الشيخ إبراهيم فاضل الدبو:
شكراً سيادة الرئيس، بالنسبة إلى خطأ الطبيب، الذي أراه والله أعلم أن الطبيب إذا أخطأ في عمله خطأ يمكن وقوعه ممن يفعلون مثل فعله إن كان من أفعالهم صلاح للمفعول به، وكان فيه حق وإتقان وعدم مخالفة لقواعد مزاولة هذه المهنة فإنه لا يسأل عن الخطأ الذي يقع منه في هذه الحالة؛ لأنه خطأ اعتيادي تعم به البلوى ويعسر التحرز عنه، والراجح من الآراء أن الطبيب الحاذق لا يسأل عن نتيجة طبه طالما قام بواجبه على الوجه الأكمل، ويستوي في الحكم إذا شفي المريض أو مات أو قام معلولاً بعلة، وكذلك لا يسأل عن الخطأ الفاحش مسؤولية عمدية وتعتبر الجناية جناية خطأ يجب فيها الأرش أو الدية يقضى بها وتكون مخصصة على العاقلة، أما بالنسبة ما يباح لطبيب من النظر إلى المريضة لا بد من الأخذ بنظر الاعتبار الشروط التي اشترطها الفقهاء رحمهم الله تعالى لذلك، وأن لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة، ومن واجب المسلمين تعليم المرأة تلك الاختصاصات الطبية التي تحتاج إليها المرأة والاستغناء عن الرجل؛ لأن هذه الأمور من فروض الكفاية الواجب على المسلمين مراعاتها، كما أنها من التدابير الاحترازية الواجب اتخاذها خوفاً من الفتنة، وما يخص التداوي عند طبيب غير مسلم لا مانع من ذلك بالنسبة للرجل، لا سيما إذا كان أمهر من ذلك، لكن لا يقبل قوله فيما يتعلق بالأمور العبادية وبالتداوي بالمحرم، استناداً إلى الآثار التي وردت من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تأتيه الوفود من العرب والعجم فتصف له الأدوية وكان يقبل صلى الله عليه وسلم ما وصفوه منها، ولم يكن هؤلاء الأطباء جميعاً من المسلمين. هذا ما أردت بيانه في هذه النقطة. وشكراً والسلام عليكم.
الشيخ عبد الله محمد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
في الواقع أن العارضين قد عرضا البحثين بكل توضيح، وفيما يتعلق بالموضوع الأول مسؤولية الطبيب، لا أريد أن أدخل في الموضوعات نفسها؛ لأن الموضوعات وافية والبحوث قيمة، والعرض كان مقنعاً، إنما ورد على لسان العارض في مسؤولية الطبيب قاعدة إذا اجتمع المباشر والمتسبب كانت المسؤولية على المباشر، هذه القاعدة ليست على إطلاقها، قد يكون المتسبب أقوى والفعل يضاف إليه، يكون هو المسؤول دون المباشر، ثم حكاية كنت أتمنى أن لو وضح هذه القاعدة في تطبيقها تطبيقياً على الطبيب متى يكون مباشراً ومتى يكون متسبباً، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: بالنسبة أيضاً لمسؤولية الطبيب، وهناك أمر وقفت عليه ولم يتعرض له في الماضي، أحياناً يكون خطأ الطبيب ليس في أصل المهنة وهو يزاول مهنة الطب، إنما يأتي الخطأ بعمل آخر خارجي، مثلاً يكتب الوصفة في ورقة ولكن خطه خصوصاً الأطباء معظمهم يتقيدوا باللغة الإنجليزية، واللغة الإنجليزية إذا أخطأ في حرف يتغير معنى الكلام، فأذكر أن أحد الأطباء كتب وصفة لأحد المرضى من الرجال وذهب إلى الصيدلية ليصرف الدواء، فصرف له دواء منع الحمل، وتعاطى منه لمدة يوم أو يومين ثم راجع الطبيب فقال له: هذا خطأ، فكتب له الدواء الصحيح، فإذا ترتب على هذا قطع النسل مثلاً، كيف يكون الحال؟ هذا بالنسبة للأمر الأول.(8/1425)
أما بالنسبة لسر المهنة، بالنسبة فيما يتعلق بالموضوع الأول، أنا سمعت الناس في بريطانيا مثلاً يشددون على كتابة الوصفة يجب أن تكون واضحة جلية وبخط جميل، وإلا يسأل الطبيب عنها، بالنسبة لسر المهنة الدكتور أحمد في الواقع تكلم كفقيه وليس كطبيب، فكان عرضه جميلاً شيقاً وافياً، ولكن هناك أريد أن أفرق أيضاً بين أمرين، هناك قاعدة فقهية يمكن تطبيقها على سر المهنة، وهي قاعدة تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، ومن أمثلة هذه القاعدة طبياً عندما يقف الطبيب على مريض يحمل مرضاً معدياً، وهو يعمل مثلاً في مطعم، ويعلم أن عمله في هذا المطعم قد يؤثر في سريان هذه العدوى إلى الآخرين أو إلى رواد هذا المطعم مثلاً، ففي هذه الحالة عندنا ضرر خاص وهو إفشاء السر، وضرر عام وهو العديد من الناس الذين يتعاملون مع هذا المطعم، فهنا لا بد أن يتعين الإخبار عنه ومنعه من البقاء في هذا المكان، ومن تطبيقات هذه القاعدة قال الفقهاء: جميع العقوبات الشرعية فإنها تلحق ضرراً بالفرد ولكن من تطبيقات هذه العقوبات حماية المجتمع، حماية الكافة، فإذن يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، قد يكون الضرر مساوياً مثلاً في حالة الزوج الذي ذكره الدكتور أحمد، لو كان الزوج يحمل مرضاً معدياً يسري إلى الزوجة مثلاً فهنا الإخبار وعدمه سيان، ولكن إذا تعين أن يكون ذلك أمام القضاء أو بطلب من القضاء فهنا أيضاً يترجح عندي لا تكون للسرية تلك القدسية. وشكراً لكم.
الدكتور علي الجفال:
هذه الملاحظات موجودة في المذكرة بالكامل، معالجة الرجل للمرأة، واستطباب غير المسلم واجب، ولكن هناك ملاحظة، أقول: ما هي العقوبات التي تقع على الطبيب الذي يكشف سر مريضه؟ إن الكلام في هذه القضية متشعب وطويل ومعقد؛ ذلك لأن مسؤولية إفشاء الأسرار عموماً الطبية وغير الطبية مسؤولية أدبية قد تخطاها فقهاء الإسلام إلى غيرها من العقوبات النصية المحددة، والذي حملهم على إقفال الكلام عليها صراحة هو أنها تدخل في دائرة الآداب العامة والأخلاق، فهي بها أشبه وأقرب، ولكنهم لم يقبلوا الإشارة إليها فيما قعدوا من قواعد وفرعوا من فروع، والإشارة في بعض الأحيان تكون أبلغ من العبارة، والحر تكفيه الإشارة، فالباحث في كتب الفقه لا يعدم وجود حكم لها، وقد سماها الإمام الشيخ محمود شلتوت رحمه الله بـ " العقوبات التفويضية "؛ وذلك أن الشريعة الإسلامية قد عنيت أشد العناية بحماية الآداب والأخلاق الكريمة، وأوجبت التعزير على جميع الأعمال الموجهة ضد الأخلاق والآداب العامة، ومنها إفشاء السر المصون والحديث المكتوم، وخصوصاً الصلة بين الطبيب المعالج وبين مرضاه، فلا يجوز للطبيب إفشاؤه ولا إذاعة أي شيء من هذه المعلومات التي يحصل عليها من المريض.
ومن هذا نستطيع أن نخلص ونبدي إلى أن الطبيب الذي يذيع أسرار مرضاه، ولا سيما الأسرار الخاصة بينه وبينهم بحكم مهنته الطبية يعتبر من الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات ويلحق الضرر بهم وبأسرهم، ويشين سمعتهم، فيجب تعزيره وتأديبه والتنكيل به ومنعه من معاودة هذا الخلق الذميم الممقوت. وشكراً.(8/1426)
الشيخ محمد الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أنا فقط أسأل عن عرض القوانين الفرنسية في شأن الإجهاض، هل للاستفادة منها في شرعنا الإسلامي من حيث أخلاق المهنة، وهل للمجمع قرار سابق في عملية الإجهاض التي أصبحت منتشرة في البلاد الإسلامية مع عدم جوازها في الشرع الإسلامي، حتى إنني سمعت مؤخراً في إذاعة لندن بالسؤال عن النساء اللاتي اغتصبن في البوسنة والهرسك أن هناك فتوى إسلامية أباحت لهن الإجهاض ولو كان الحمل مضى عليه أكثر من أربعين يوماً، وأن البعض أفتى بعدم جواز الإجهاض، إنني أرجو إذا لم يكن مجلس المجمع الموقر أصدر قراراً في هذا الموضوع أن يبحثه في الدورة المقبلة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور محمد علي البار:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جزاكم الله خيراً يا فضيلة الشيخ، تعليق في نقطة بسيطة على موضوع ضمان الطبيب، وهو قد ذكره الإمام ابن القيم في كتابه الطب النبوي، وزاد المعاد، وقسمه خمسة أقسام واضحة تقسيماً جميلاً:
القسم الأول: قال: طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجن يده، فتولد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع، ومن جهة من يطبه تلف العضو أو النفس أو ذهاب صفته، فهذا لا ضمان عليه اتفاقاً؛ فإنها سراية مأذون فيه.
الثاني: متطبب جاهل، باشرت يده من يطبه فتلف به، فهذا جعله مسؤولاً مسؤولية كاملة؛ لأنه غر المريض الذي لا يعلم أنه جاهل ويظنه أنه طبيب فجعل كل الدية تكون على هذا الطبيب الجاهل، وتقع عليه أيضاً عقوبة تعزيرية من الشارع، وأوضحهما أيضاً بصورة واضحة عبد الملك بن حبيب الأندلسي توفي سنة 230، قال: إن من لم يكن معروفاً بالطب يكون ضامناً، وإذا لم يكن معروفاً بالطب فهو ضامن لذلك في ماله ولا تحمل ذلك العاقلة، ولا قود عليه؛ لأنه لم يتعمد قتله، وإنما أخطأ الذي طلب من مداواته بجهله.
الثالث: طبيب حاذق، وأذن له وأعطى الصنعة حقها، ولكنه أخطأ، فهذا تقع عليه الدية إذا كانت أقل من ثلث الدية الكاملة، وإذا زادت عن ذلك كانت على العاقلة، ثم ذكر تفصيلاً على ذلك إذا لم تكن هناك عاقلة هل تعود إلى بيت المال بيت مال المسلمين، وإذا كان الطبيب نصرانياً هل هي في ماله أو في بيت مال المسلمين على أقوال اختلف فيها، وهو موقف في الحقيقة دقيق كل الدقة؛ لأن الدكتور العارض قال: جناية المتطبب الجاهل على عاقلته، وما وجدت أحدا قال: إن جناية المتطبب الجاهل على عاقلته، أبداً، كل الذين كتبوا حسب ما وجدته أن جناية المتطبب الجاهل في ماله هو لأنه هو متعد، وتكون في ماله ولا تكون في مال العاقلة قط في هذا الباب.(8/1427)
رابعاً: الإمام ابن القيم ذكر الرابع في هذا الباب، الرابع والخامس قال: الخامس طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها فقطع علة من رجل أو صبي أو مجنون بغير إذنه، أو إذن وليه، أو ختن صبي بغير إذن وليه فتلفه، فقال بعض أصحابنا: يضمن لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه، وأما إن أذن له البالغ لم يضمن.
هذه الأقسام واضحة وذكرها الفقهاء تفصيلاً وتحتاج للنظر فيها؛ لأنها توضح هذه الاختلافات الكبيرة في الشخص إذا كان عمل عملاً واضحاً ليس متجنياً مأذوناً له من جهة الشارع، ومأذونا ًله من جهة المريض أو ولي المريض، والخطأ الذي حدث هو مما تقرره المهنة أنه ليس خطأ منه؛ لأنه لم يتعد حدود المهنة، فهذا لا شيء عليه مطلقاً في هذا، أما إن كان جاهلاً ففي ماله هو فيعاقب عقوبة تعزيرية؛ لأنه أخل بشرط آخر وهو موافقة الشارع في هذه القضية. وشكراً.
الشيخ المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شكراً للعارضين الكريمين على العرضين اللذين سعدنا بالاستماع إليهما، وأريد أن أعقب على ذلك:
أولاً: ما جاء في بحث سعادة الدكتور الذي ابتدأ بالبحث عن كلمة المسؤولية وأنها غير موجودة لا في الفقه الإسلامي ولا في النصوص الإسلامية، أما المسؤولية كمصدر صناعي يعبر عنه مصدر صناعي، فعلاً إني ما وقفت عليها ولكن المسؤولية كمفهوم هو موجود في القرآن وموجود في الكتب القديمة، ومن ذلك في قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] هو تحقيق للمسؤولية التي هي إلى مصدر صناعي، والمصدر الصناعي إذا وجدت مادته فهو موجود معنى لا شك في ذلك.
الأمر الثاني: وما جاء من أن الخطأ الذي يعذر التحرز عنه متى قام الطبيب بعمله على الوجه الأكمل، أعتقد أن في هذا الكلام نوع من التناقض؛ نظراً إلى أنه إذا قام بعمله على الوجه الأكمل فليس هناك خطأ؛ لأن الخطأ إنما يحدث إذا لم يتم العمل على الوجه الأكمل، لكن بدون قصد؛ لأن ما يقع ما يتم من انحراف عن الوجه الأكمل تارة يكون بقصد فذلك هو العمد، وتارة يكون بدون قصد فذلك هو الخطأ، وأما إذا قام به على الوجه الأكمل كان تماماً فإنه لا يكون هناك خطأ أصلاً. فلذلك أردت التدقيق في هذه القضية، هو أنه لا يقال: الخطأ الذي يعذر التحرز عنه متى قام الطبيب بعمله على الوجه الأكمل، وهذا يؤدي بي إلى الحديث عن العقوبة التي تقع على الطبيب الذي أخل بالمهنة وبأدائها على أصولها التي يجب أن تؤدى عليها، فما ذكره فضيلة الدكتور البار، هو رجل يشهد الله أني أحبه وأقدره وأرى فيه الطبيب المسلم الذي جمع الله له بين تخصصه الطبي وبين عمقه في بحثه في الشريعة وفي وصفه الشريعة بالتفصيل، لا أريد أن أقصم ظهره ولكن هي كلمة حق، لا بد أن أنوه بهذا الرجل الذي أفادني كثيراً في ما اطلعت عليه من آثاره وكتبه ومحاضراته.(8/1428)
فبالرجوع إلى ما قاله ابن قيم الجوزية في الحقيقة هي ما يعبر عنه في التشريع الإسلامي بتحقيق المناط بمعنى أن الشريعة قررت للخطأ حكماً وقررت للعمد حكماً، ما هو الخطأ وما هو العمد؟ فما قام به ابن قيم الجوزية رحمة الله عليه إنما هو تحقيق المناط، ما يعتبر خطأ وما يعتبر عمداً، فالطبيب الجاهل في إقدامه على التطبيب هو قد تعمد ضرر الناس ولذلك هو يتحمل، والطبيب العالم الذي أتقن صناعته هو إن أدى وظيفته على أتم وجه ولم يقع أي شيء، وإنما حدث شيء من تفاعلات أخرى لا مدخل له فيها، ولكن الشفاء والمرض هو بيد الله سبحانه، فهذا قطعاً لا يسأل عنه؛ لأنه ليس هناك أي خطأ وليس هناك أي شيء إنما هو كما يحدث المرض من ذاته، يحدث المرض من تولد عن مرض آخر بقدرة الله سبحانه وتعالى وبإرادته ولا مدخل للإنسان فيه.
أما الطبيب الحاذق إذا أخطأ فهو من باب الخطأ الحقيقي، فكل ما ذكره ابن قيم الجوزية إنما هو من باب تحقيق مناط الخطأ، وتحقيق مناط العمد، وما يترتب عليهما، وإذا كان عامداً فهو الذي يتحمل قطعاً الدية؛ لأن الدية إنما تقع في العمد على من قام بالعمل والتجاوز، وبينما في الخطأ هي على تفصيل بين الفقهاء متى تكون على الإنسان ومتى تكون على عاقلته؟
أثني على ما تفضل به فضيلة الشيخ عبد الله محمد من التفصيل بين المباشر والمتسبب بأن العبرة هي بقوة التأثير ومتى كانت قوة التأثير إلى المتسبب نسبت إليه، وإذا كانت قوة التأثير إلى المباشر نسبت إليه وهو كلام فقهي جيد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
أشارك الأساتذة الذين سبقوني في شكر الأستاذين العارضين، ولكن وقع عندي إبهام أو إشكال في عنوان سر المهنة، هو السر في المهنة أم سر المهنة؟ إضافة السر إلى المهنة، المعروف اصطلاحاً دقائق المهنة وخصائصها، هذا ما نعرفه وهذا هو الشائع، فأظن أن العنوان المفروض أن يكون (الأسرار في المهنة) أو أسرار المعالجة في الطب، وليس سر المهنة.(8/1429)
ثانياً: تعرضت البحوث المقدمة لدينا إلى موضوعات شرعية عديدة، أظن أنها مجال لاختلاف الرأي، من بعض هذه البحوث التي تعرضت إلى سراية المرض بيد طبيب ماهر هل يضمن أو لا يضمن؟ فبعض الإخوة رجح رأي الحنفية بعدم ضمان الطبيب الماهر، أعتقد أنه لا مجال لهذه المقولة في الوقت الحاضر؛ ذلك أن الأدوات والتقدم الطبي من القدرة بحيث يستطيع أن يثبت إذا كان هذا المرض سيسري أو هذه العملية ستؤدي إلى شيء أفظع وأكبر، ولذلك يسبق العمليات التحاليل وأشياء كثيرة جداً، فأظن هذه المقولة على أن الطبيب الماهر لا يضمن السراية لا يمكن أن نأخذ هذا الحكم على علاته في الوقت الحاضر، فلا يمكن أن يقدم الطبيب اليوم حتى يتأكد على الأقل 90 % بسبب ما هيئ له من آلات وأدوات ومختبرات إلى غير ذلك، فأظن هذه لا تؤخذ على علاتها.
الشيء الثاني، بعض الأبحاث تعرض إلى موضوع التجميل، عمليات التجميل، وأجازها دون تفريق في هذه العمليات، من عمليات التجميل ما هو ضروري إذا كان عبارة عن إعاقة، ولكن هناك تجميلاً تنكرياً تغييراً للخلق أكون أبيض فأريد أن أكون أسود، أو أسود فأكون أبيض، أكون قبيحاً فأريد أن أكون جميلاً، وليست هناك إعاقة كما هو معروف الآن بين طبقات الفنانين مثلاً، فإذن لا يمكن أن تطلق مثل هذه الأمور ولا تؤخذ على إطلاقها، بل لا بد فيها من التفصيل، وشكراً.
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ملاحظتي في نقطتين، الأولى منهما، هو ضمان الطبيب، والفقهاء رحمهم الله جعلوا قواعد للطبيب ولغير الطبيب، ولكل من تعدى على حق غيره، فأرى أن الأفضل أن يكون الحد في الضمان أو في عدم الضمان هو أنه إن لم يحصل من الطبيب تعد ولا تفريط، تكون هذه هي القاعدة إذا لم يحصل من الطبيب تعد ولا تفريط، فهو غير ضامن لا في السراية ولا في غير السراية؛ لأن العمل المأذون غير مضمون، وهذا مأذون، وطبعاً يدخل تحت هذه القاعدة جميع الجزئيات التي ذكرها الأساتذة المحاضرون والمعلقون جزاهم الله جميعاً خيرا، فكل هذه الأشياء وغيرها وسيحدث غيرها فتدخل تحت هذه القاعدة إذا كان متعدياً أو مفرطاً فهو ضامن، وإن لم يتعد في عمله ولم يفرط في عمله فهو غير ضامن، وهذه القاعدة هي التي من الأفضل أن يرتكز عليها القرار وتكون الجزئيات كتوضيح وأمثلة لذلك.(8/1430)
أما النقطة الثانية من حيث إفشاء السر، إفشاء السر الأفضل أن يكون ممنوعاً منعاً باتاً، ولا يجوز إفشاؤه إلا لمصلحة، إذا تحققت المصلحة جاز إفشاء السر، ومن المصلحة مثلاً إذا كان المرض معديا، وكان يخشى عدواه، وهذا ربما يتحتم إفشاؤه بقدر والضرورة تقدر بقدرها، وليس من الضرورة وليس من جواز الإفشاء أن يكون المريض راضياً بذلك، هذا ليس من حقه أن يأذن فيه، ولهذا لا يجوز له أن يكشف عورته ولو وحده، لا يجوز له ذلك، يتأصل القرار على هذا أن إفشاء السر هذا ممنوع، ولا يجوز إلا إذا كان هناك حاجة أو كان هناك ضرورة إلى ذلك ومصلحة متحققة جاز ذلك، وما عداه فهو ممنوع، وشكراً.
الأستاذ صباح زنكنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع سأطرح بعض القضايا التي أتصور أنها تحتاج إلى إجابات شرعية في الدرجة الأولى في بحث أخلاقيات الطب والطبيب كما تفضل بعض الأساتذة، طرحوا أن علينا أن نسير في اتجاه أن تتخصص النساء في طب النساء، وأن يتخصص الرجال في تطبيب الرجال، وهذا يعني أن تكون الدراسة أيضاً من الأساس دراسة مستقلة، النساء يدرسن طب النساء، والرجال يدرسون طب الرجال، وهذا يعني أن تمهد المقدمات للدراسات الأساسية والمبدئية كعلم التشريح والأنسجة وغيرها، وعلى هذا الأساس من التقسيم، وهناك أمور تعتري هذا الطرح لا بد من النظر فيها، فهناك الحالات الطارئة التي قد تحدث لجنس معين للمرأة ولا تجد إلا طبيباً رجلاً، وهذه كثيراً ما تحدث أو بالعكس، ونسبة الأطباء إلى نسبة السكان في أكثر بقاع العالم الإسلامي، نسبة الأطباء ليست هي النسبة المناسبة التي تعمل بها كثير من الدول المتقدمة، وهذا يؤدي للحاجة إلى مزيد من الأطباء، والتقاليد والعادات ودراسة الرجال والعمل النسوي للمرأة في بيتها وحياتها المنزلية يمنعها من الاستمرار في الدراسة عادة، وقضايا كثيرة تؤدي إلى ارتفاع نسبة الأطباء من الرجال بشكل عادي وطبيعي، وقضية الهرمونات التي تشترك في الرجل والمرأة وبتغيير نسبتها تؤدي إلى تغييرات جنسية، وإذا كانت الطبيبة أو الطبيب لا يدري ما يدور في جسد الجنس الآخر فسيعقد له عمله وقضايا أخرى، وثم قضية الاختصاصات التي يرتفع بها بعض الأطباء إلى مستويات معينة ولا تستطيع الطبيبة أو لا يستطيع الطبيب في مستشفى معين أن يلحق بتلك الاختصاصات، وهنالك حالات ماسة في هذه الحالات، لهذه الحالات أتساءل: ما حكم هذه القضايا من ناحية اختصاص الرجال بالرجال، واختصاص النساء بالنساء، ومقدمات هذا العمل من دراسة وتشريح وأمور أخرى؟(8/1431)
القضية الأخرى في مسؤولية الطبيب، هنالك بعض القضايا قد تكون واضحة، لكن هناك قضايا علمية تحتاج إلى دراسة أو سوامة فمثلاً يعرف الأساتذة الأطباء ويعرف الكثير من الناس أن استعمال بعض الأدوية يؤدي بالتدريج وعلى مر الزمن إلى إيجاد نوع من المقاومة لأنواع من الجراثيم والأمراض، وهذا لا يتأتى بعمل طبيب واحد وإنما بعمل أطباء متعددين في أزمان متعددة، ولكنه في النهاية يأتي بنتيجة أن المرض الفلاني لا يستطيع أن يؤثر عليه الدواء الفلاني، فهنالك مسؤولية لنقل جماعية تدريجية، ما الحكم الشرعي في هذه المسألة؟ ليست هنالك قضايا واضحة ومحددة، الطبيب الفلاني قام بالعمل الفلاني وأخطأ أو لم يخطئ وحدث حادث، في هذه المسألة هنالك أعداد كبيرة من الأطباء لديهم مسؤولية جزئية لكنهم في المجموع يشتركون بأن يصبح المرض الفلاني مقاوماً للأدوية الفلانية، وخاصة المضادات الحيوية المعروفة Antibiotics.
هنالك بحث آخر أشارت إليه بعض الدراسات من الأساتذة الأفاضل، وهي التضامن بين الأطباء، وهذا شيء محبب لكثير من الحالات وشيء مستحسن، ولكن هنالك حالات قد تكون من الاستثناءات، إذا أخطأ طبيب وطلبت استشارة أطباء آخرين، فإن هذا التضامن سيدخل كعنصر متحيز إلى فئة، ويستدل بأن الطبيب الفلاني أعمل اجتهاده واستقصى جهده من أجل الحصول على العلاج المناسب، ولكنه أخطأ، ويستدل ببعض القواعد الشرعية، حتى إن المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر، فما هي أحكام هذا النوع من التضامن؟ هل تسري أخطاء طبيب واحد على المجموعة المتضامنة معه؟ وهل يشتركون أو يتحملون جزءاً من العقاب والمؤاخذة أو لا؟ هذا ما أردت بيانه وشكراً.(8/1432)
الشيخ محمد علي عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: أود أن أقدم شكري للمجمع المكرم بأني أول مرة آخذ الكلمة، ولضيافتكم الكريمة، ولدولة بروناي التي تقدمت بجمع هذا الاجتماع ومكنتنا من التعارف وتبادل الآراء.
سيادة الرئيس، أشكر الأشخاص الذين قاموا بتقديم هذا العرض خاصة العارض، هو مكنا من معرفة بعض القضايا الطبية التي لا شك في أنها من القضايا العصرية، القضايا التي تهم ليس فقط الطبيب بل القضاة أيضاً، بصفتي قاضياً سأتدخل فيما يخص المسؤولية وفيما يخص خطأ الطبيب،، وفيما يخص مسؤولية سر المهنة، أما فيما يخص مسؤولية الطبيب فتدخلي قد يكون غير تدخل البعض، بحيث إن سؤالي سيكون حول مسؤولية الطبيب فيما يخص تجربات تتعلق بما يخص حقوق الله، قد تعرضنا في السنوات الماضية في بعض ندواتنا إلى أطفال الأنابيب، ولا شك أنكم سمعتم بالتجربات التي قامت في أنحاء العالم في أمريكا وغيرها من قصد إيجاد نوع من الأطفال بلا أب وبلا أم كما يقال، فالطبيب الذي يشارك في مثل هذه العمليات ما تكون مسؤوليته أمام الله وأمام المجتمع الإسلامي؟
ثم ثانياً سؤال فيما يخص مسؤولية الطبيب، مسؤولية تتعلق بالآية التي تقول: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] ، عملاً بهذه الآية فالطبيب الذي في حالة مثلاً يكون عنده مريض في حالة خطر، ونظرنا للقضية هذه من ناحية أجهزة الإنعاش ترفأ بالمريض الذي يعرفونه أو الشيخ أو أحد أبنائه ... تنزع الآلة التي تجعل هذا المريض.. ماذا تكون مسؤولية هذا الطبيب أمام القضاء وأمام المجتمع؟
ثم ثانياً: سؤال قد طرحه بعض الإخوان الآن، وكان حقيقة سؤال لأني وجدت قضية من القضايا أن الطبيب أخطأ في الكتابة أو أخطأ في الورقة التي أعطاها إلى المريض اقتناء للدواء عوضاً أن يعطيه الدواء الصالح أعطاه الدواء الذي يمنع من الحمل، فالمسؤولية لا شك مسؤولية مدنية ليست جنائية؛ لأنه لم يتعمد القضاء على هذا العنصر بإعطائه الدواء الذي يمنع الحمل، ولكنه خطأ دون قصد ويدخل المسؤول في مسؤولية مدنية لا جنائية.
ثم ثانياً: فيما يخص سر المهنة، ننتقل إلى عنصر ثان وهو سر المهنة، في الحقيقة في القضايا نحن نطلب من الطبيب إفشاء السر في حالات معينة كوكيل جمهوري أطلب من الطبيب أن يفشيَ سر المهنة بطلب أحد المتقاضين أولاً ثم للضرورة، ولكن في حد معين ليس للإفشاء؛ لأن الإفشاء هذا لا يعني أنه يبيح بكل الأسرار التي يكون البوح بها ضررا.. فقط إمكان إرشاد القضاء فقط، ولهذا إذا أقام كما وقع الحكم على الطبيب الذي أفشى سر الطيار الذي كان مصاباً بمرض العروق بحيث إنه أفشى بالسر تمادى في إفشاء السر إلى حد ما هو مسموح له.
هذه حالة أيضاً فالقضاء لا يطالبه، يطالبه بالإرشاد فقط من الناحية الثانية، فيما يخص أيضاً إفشاء السر أن هناك موضوعاً سيقع عرضه إن شاء الله بعد الجلسة الثانية، فيما يخص بمرض الإيدز، هذا أظن من واقع من مسؤولية المجتمع أن نطلب من الطبيب طبعاً على الأقل إبلاغ الأسرة أو إبلاغ الزوجة الثانية.. الطريقة التي يتحصل بها الزوج أو الزوجة في هذا الأمر؛ لأن عدم الإرشاد في هذه الحالة قد يؤدي ولاشك إلى امتداد هذا المرض إلى أشخاص آخرين، وأيضاً أن تكون المصيبة في شخص واحد تكون المصيبة في المجتمع، أعوذ بالله، وهذا ما لا نرجوه، وشكراً.(8/1433)
الدكتور محمد عطا السيد:
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك.
باختصار سيدي الرئيس، أريد أن أبين النقاط الرئيسية في مبدأ المسؤولية، والتي أرى أن تدور حولها التوصيات من المجمع في هذا المجال.
أولاً: في الأدلة الشرعية دلالة واضحة إلى إرساء قواعد التخصص والمسؤولية في مهنة الطب، وأن الشرع الإسلامي لا يؤيد فقط بل يوجب إصدار مثل هذه اللوائح التي تنظم كيفية ممارسة الطب وقصرها على المؤهلين المقتدرين ممن درسوا وتمرنوا؛ حتى يسلم أفراد الأمة من الوقوع في الهلكة، وأن الذي يمارس الطب بغير إذن يكون مسؤولاً جنائياً ومدنياً.
ثانياً: إن المبدأ العام هو عدم مسؤولية الطبيب جنائياً إذا أذن المريض أو ولي أمره للطبيب بالتدخل، وهو ما ذهب إليه الجمهور، إلا إذا كان بعد الإذن تقصير جنائي، وقد بين المجمع في قراره في الدورة الماضية مبدأ الإذن ومتى يمكن العلاج بدون إذن المريض أو وليه، وهذا فيما يختص بمسؤوليته جنائياً، وكذلك لا بد من توضيح الحالات التي يجب فيها الضمان على الطبيب المعالج وهي:
أولاً: حالة ما إذا أخطأ خطأ واضحاً فادحاً لقلعه للسن الصحيحة دون المريضة، أو أزال جميع الحشفة في الختان مثلاً، ومن الواضح أن نوعية الخطأ في هذا المجال تحتاج إلى قرار من المختصين.
ثانياً: أؤيد ما ذهب إليه كثير من الفقهاء وما ركز عليه فقهاء الحنفية إلى أن الطبيب لا يسأل متى لم يتجاوز الموضع المعتاد وقام بواجبه على الوجه الأكمل، ويعللون ذلك بأن الهلاك ليس بمقارن للعمل، وإنما هو بالسراية والتحرز منها غير الممكن؛ لأن السراية تعتمد على قوة الطباع وضعفها في تحمل الآلام والصدمات النفسية، وهذا مبدأ هام؛ إذ إنه يضمن لنا تقدم وازدهار الطب، وذلك بارتياد مجالات يفهمها الأطباء فيقدمون عليها من غير خوف أو مسؤولية معطلة.(8/1434)
ثالثاً: أرى أن يبين المجمع رأي الفقه في الاتجاهات الحديثة، فمعالجة بعض العيوب الخلقية بإجراء عمليات جراحية لإزالتها لتفادي الهم والغم الذي يحس به المشوه من نقص عمن سواه من البشر، وكذلك تفادي سخرية الناس أو اشمئزازهم في بعض الحالات، وهو ما يسمى بعمليات التجميل، ولا أرى أن الشريعة تمانع في إجراء مثل هذه العمليات إذا اتضحت الضرورة ولم يكن خطر محقق، وذكرت في بحثي الأدلة الشرعية على جواز مثل هذه العمليات وراء عدم مسؤولية الطبيب المعالج متى ما أذن المريض، وكان الطبيب مختصاً بإجراء مثل هذه العمليات.
النقطة الأخيرة هي موضوع سئلنا عنه في الأسئلة الموجهة وأظن الأخ العارض لم يتعرض له، والسؤال هو: هل يمكن أن تقوم نقابة الأطباء وشركات التأمين بدور العاقلة؟ وباختصار مما يشرح الصدر أن هذا الأمر تعرض له سلفنا الصالح، ناقشنا قبل أيام بتفصيل موضوع العاقلة، الذي يهمني هنا أن بعضهم قال: إن عاقلة الجاني هم أهل حرفته ومهنته إذا لم يكن له عاقلة من الديوان أو العشيرة؛ لأنهم أهل نصرته وأهل سمعته، وعليه أرى كما بينت في بحثي أن من أعظم أوجه التعاون أن يكون للأطباء لجنة خاصة لحرفتهم يختارون أعضاء من أهل إعانة منهم لمن يجب عليه الضمان نتيجة خطئه هو أن يتخذوا جميع أسباب الرقابة الشرعية والحيطة المالية، حتى إذا أصيب أحدهم بضمان يدفعه –لا قدر الله- عوضوه من مال هذا الصندوق، ويكون في ذلك مثوبة لكل من ساهم في هذا العمل الذي يحول التأمين من مقامرة يحرمها الدين إلى تعاون على البر ينال به صاحبه رضا الرحمن الرحيم، وشكراً.(8/1435)
الدكتور مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فضيلة الرئيس أصحاب السعادة الإخوة العلماء والخبراء والضيوف، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإنه يشرفني أن أعرض على سعادتكم موضوعاً طبياً في منتهى الخطورة يشغل بال الدنيا ويهدد البشرية والأمة الإسلامية بعواقب وخيمة، لا يعرف مداها إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يختصر الخوف من مرض الإيدز حالياً على الإصابة بنقص المناعة المكتسب فحسب، بل يتعداه للخوف من أن يتسبب هذا المرض في انتشار أوبئة اعتقدنا أنها انقرضت وتم احتواؤها، مثل وباء السل ووباء الملاريا التي عاودت الظهور في القارة الإفريقية والقارة الآسيوية، وفي الدول الأجنبية؛ نتيجة للجوئها إلى أجساد مرضى الإيدز المنهارة مناعياً وانتقالها منهم إلى الأصحاء، دون الحاجة إلى ممارسة الاتصال الجنسي أو نقل الدم والوسائل الأخرى، بل عن طريق المعايشة العادية التي لا تنقل عدوى الإيدز عادة، لكنها تساهم في نقل العدوى بتلك الأوبئة.
تقدم خمسة من الإخوة العلماء والخبراء بأبحاث في هذا الموضوع وهم: الدكتور محمد علي البار، الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد، الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي، والأستاذ تجاني صابون محمد، وكانت أربعة منها متشابهة في عرضها لنقاط البحث، ماعدا واحداً للدكتور محمد علي البار اختلف في بعض وجهات النظر، والتي سأتطرق إليها أثناء العرض، سيكون العرض علمياً وتحليلياً في طرحه، أما دعم الأحكام المطروحة بالأحاديث الشريفة وآيات الذكر الحكيم فيمكن الرجوع إليها فيما ورد في بحثي الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي والدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد.(8/1436)
مرض الإيدز طاعون فتاك ووباء قاتل، لا يمكن مقارنته بالأمراض المستعصية الأخرى، فهو ينتقل بالدرجة الأولى من مريض لآخر عن طريق الاتصال الجنسي القائم على الممارسات الشاذة؛ كاللواط أو الممارسات الفاحشة كالزنا والدعارة أو الممارسات العادية بين الأزواج إذا كان أحدهما مصاباً بالمرض، كما ينتقل مرض الإيدز عن طريق الحقن الوريدي بين مدمني المخدرات وبين مرضى الهيموفيليا أو الناعور الذين يقعون ضحية نقل دم ملوث إليهم، ويمكن انتقاله أيضاً إلى المواليد والأطفال عن طريق أم تحمل فيروس المرض أثناء الحمل أو الولادة أو الرضاعة، كما يمكن انتقاله عن طريق الإبر الملوثة وشفرات الحلاقة إذا سبق أن استخدمها شخص مصاب بالإيدز، من هنا لابد لنا من التمييز بين المريض الذي يكتسب العدوى عن طريق الممارسات المخالفة لشرع الله والمريض الذي يكتسبها عن طريق الخطأ دون ذنب له أو إثم، إن توفير الرعاية الصحية للمرضى حق أساسي من حقوق المواطن بغض النظر عن الأسباب المؤدية للإصابة بالمرض، ومنها أن مرض الإيدز هو من الأمراض التي لا يمكن علاجها أو الشفاء منها حتى الآن وهو من الأمراض الخطيرة القاتلة والمعدية، فإنه لابد من عزل المريض مع تقديم الرعاية الصحية اللازمة له في منتجعات أو مراكز متخصصة تتوفر فيها وسائل الراحة وعناصر الحياة الطبيعية التي تسمح للمريض بالمساهمة بأعمال يتقنها أو حرفة يتعلمها تمكنه من كسب قوته وتغطية نفقات علاجه وإعانة أسرته وخدمة مجتمعه، ويستحسن بقاء المريض في تلك المراكز حتى وفاته أو لحين ظهور دواء أو لقاح يشفيه بإذن الله تعالى.
إن إقامة مراكز متخصصة ومجهزة للاهتمام بالمصابين بمرض الإيدز وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية والمادية لهم أمر في غاية الأهمية، تتحمل مسؤوليته الدول المعنية؛ لأنه يوفر حاجزاً منيعاً يحمي مجتمعاتها من أخطار المصابين وحاملي الفيروس الذين يتم كشفهم والتعرف عليهم، كما أن فصل هذه المراكز وتقسيمها إلى شطرين يتيح المجال أمام المسؤولين للتعامل مع المصابين الذين التقطوا العدوى بطريق الخطأ بأسلوب إنساني وحضاري يختلف عن الأسلوب الواجب اتباعه مع المصابين من مرتكبي الفاحشة وممارسي الدعارة والشذوذ والزنا، وعلى المجتمع أن يراعي سرية أسماء المصابين بعد عزلهم حرصاً على مشاعر أفراد عائلاتهم وحماية لمصالحهم وتفادياً لإحراجهم أمام الآخرين ووصمهم بعار لا ذنب لهم فيه، فالإشاعات والافتراضات الخاطئة قد تؤذي أفراد هذه الأسر وتحرمهم نعمة العيش الكريم، وتهدد مستقبلهم المهني ومركزهم الاجتماعي، كما يستحسن السماح لعائلات المرضى وأقاربهم وأصدقائهم بزيارتهم في تلك المراكز وبالاختلاط معهم إذا كان المرضى من الفئة التي اكتسبت المرض عن طريق الخطأ، أما عائلات المرضى الذين اكتسبوا المرض عن طريق الممارسات الشاذة أو غير المشروعة فإن لقاءهم بمرضاهم يجب أن يتم من وراء حاجز عازل.(8/1437)
وفي هذه النقطة هناك وجه اختلاف مع الدكتور محمد علي البار، من واجبات المرضى والمصابين نحو المجتمع أن يعلموا أزواجهم وزوجاتهم وأرباب عملهم بالمرض، وأن يزودوا السلطات الصحية بأسماء كافة الأشخاص الذين كان لهم اتصال جسدي معهم قبل الإصابة وبعدها، مع الامتناع عن ممارسة العلاقات الزوجية لتفادي نقل العدوى إلى الزوجة وإلى جنينها إن حملت.
في البند الثاني المتعلق بواجبات حامل المرض الذي لم تظهر عليه الأعراض والذي يتم كشفه بعد تحليل الدم، نظراً لكون مرض الإيدز من الأمراض القاتلة التي لا يوجد لها علاج حتى الآن والتي تمتد مرحلة حضانة المرض فيها لعشر سنوات أو أكثر يكون خلالها حامل الفيروس إنساناً معدياً، فإنه يتوجب على حامل الفيروس الذي يتم اكتشافه دون ظهور الأعراض المرضية أن يقوم بإبلاغ زوجته وأفراد أسرته وأرباب عمله والمسؤولين الصحيين عن طريقة التقاطه لفيروس المرض وأن يكشف لهؤلاء المسؤولين عن أسماء الأشخاص المتورطين معه جنسياً؛ حرصاً على السلامة العامة ومنعاً لانتشار العدوى، كما يفترض به الامتناع عن ممارسة الجنس مع زوجته مع إعطائها الحرية في طلب فسخ النكاح إذا كان في ذلك فائدة لها ولأطفالها، ويتوجب على الأطباء والمسؤولين الصحيين وبحكم القانون إبلاغ زوجة الشخص المصاب أو زوج المرأة المصابة عن حقيقة مرضهم حتى يتسنى لهم اتخاذ الاحتياطات اللازمة والكفيلة بحمايتهم وحماية أطفالهم، كما تتحمل السلطات الصحية والجهات الرسمية المختصة مسؤولية عزل الشخص المصاب لحماية المجتمع منه ومن فيروس المرض الذي يحمله، ولقد أصدرت دولة الكويت قانوناً يلزم وزارة الصحة بإبلاغ الزوج أو الزوجة إذا ثبت إصابة أحدهما بالمرض. وفي هذا البند أيضاً خلاف مع الدكتور محمد علي البار.(8/1438)
ثالثاً: في البند المتعلق في عقوبة مريض الإيدز الذي يتسبب في إصابة شخص آخر، وفي هذا اتفاق من جميع الباحثين. سبق وذكرت أن مرض الإيدز وباء قاتل لا يوجد له علاج، ولا يمكن الشفاء منه حتى الآن، وهذا يعني أن أي إنسان يتسبب في نقل هذا المرض إلى غيره من الناس يستحق العقاب والمحاسبة؛ نظراً لارتكابه جريمة خطيرة أشبه ما تكون بجريمة القتل العمد، وقد تختلف الآراء في حجم وكيفية العقاب، إلا أنه إجراء ضروري جداً؛ لأنه يلقن المذنب وكل من تراوده نفسه القيام بمثل تلك الأفعال الإجرامية المشينة درساً في الحفاظ على سلامة الآخرين، وإذا كان عقاب تجار المخدرات ومتعاطيها ومروجيها يصل أحياناً إلى السجن سنين عديدة ويؤدي إلى الإعدام في بعض الدول، فإن ناقل مرض الإيدز وهو الأخطر بين الأمراض، يستحق عقاباً صارماً ورادعاً يتناسب وخطورته.
البند الرابع: عن جواز فسخ النكاح للمرأة إذا تبين لها إصابة زوجها بمرض الإيدز.
على الرغم من أن فيروس الإيدز لا ينتقل عن طريق اللمس والتنفس والطعام والشراب، أو عن طريق استخدام المناشف والأغطية والمراحيض وحمامات السباحة، إلا أنه ينتقل مباشرة عن طريق المعاشرة الجنسية، وهذا يهدد سلامة الزوجة وسلامة الجنين إذا تحقق الحمل، ونظراً لحرصنا على حماية الزوجة من الضرر الكبير الذي يمكن أن يلحقه زوجها بها وبأطفالها، فإننا نؤيد حقها في طلب فسخ النكاح، خاصة وأن مرض الإيدز يعتبر من الأمراض المعدية والمنفرة الأشد خطراً من أمراض الجذام والبرص التي تمنع الجماع شرعاً، والتي يمكن انتقالها إلى الجنين، كما نؤيد حقها في طلب التعويض المالي الذي يقره الشرع والقانون مع معاقبة الزوج إذا كانت إصابته بمرض الإيدز ناتجة عن ارتكابه الزنا أو عن طريق تعاطيه المخدرات بالحقن الوريدي.
البند الخامس: حول إجهاض المرأة المصابة إذا حملت:
إن احتمال انتقال عدوى الإيدز من المرأة الحامل المصابة بفيروس المرض إلى جنينها عبر المشيمة أمر وارد وموثق علمياً، كما أن احتمال انتقال العدوى إلى الطفل أثناء عملية الولادة من خلال الإفرازات المهبلية للأم، أو أثناء الرضاعة بسبب تلوث حليبها أمور ممكنة أيضاً، وهذا يعني أن الطفل المولود من امرأة مصابة بالمرض قد يبلى بهذا الوباء منذ نعومة أظافره وأنه سيشوه بأعراضه ويعاني منها حتى مماته، وخلال تلك الفترة ستكون السلطات الصحية مسؤولة عن رعايته وإعاشته وتربيته وتعليمه وعزله عن المجتمع عند بلوغه، وبما أن إجهاض المرأة المحتمل أن تنقل أمراضاً وراثية خطيرة إلى جنينها كان موضع بحث مستفيض في السابق من قبل السلطات الصحية والسلطات الشرعية والدينية في جمهورية مصر العربية، فإن إجهاض المرأة المصابة بمرض الإيدز إذا حملت ولم يمض على حملها سوى أسابيع معدودة، أي قبل نفخ الروح في الجنين أمر قابل للبحث والاعتبار.(8/1439)
البند السادس: حول منع الطفل المصاب بفيروس الإيدز من الالتحاق بالمدرسة إذا كانت صحته جيدة:
إن مرض الإيدز لا ينتقل عن طريق المصافحة والملامسة أو عن طريق التنفس والاختلاط الاجتماعي البريء بين الأطفال في المدارس أو المنازل أو أماكن اللعب والتسلية، وبما أن إصابة الطفل بفيروس الإيدز تكون عادة ناجمة عن عدوى لا ذنب له فيها، فإنني لا أرى مبرراً يمنعه من الالتحاق بالمدرسة شريطة إبلاغ المسؤولين والمعلمين عن هذه الإصابة حتى يتسنى لهم اتخاذ الإجراءات والاحتياطات الضرورية التي تكفل عدم انتقال دم الطفل إلى زملائه في المدرسة في حالة تعرضه إلى حادث معين أو إصابته بجروح دامية أو بأمراض خطيرة معدية كالسل، كما يستحسن توعية الأطفال في المدارس على طرق انتقال العدوى وأهمية تفادي لمس دم زميلهم المصاب أو التسبب في جرحه وإيذائه، وعلى مسؤولي وزارة الصحة أن يقوموا بعزل الطفل عن المجتمع عند بلوغه حرصاً على سلامة الغير.
البند السابع: حول حقوق الجنين المولود الحامل للمرض تجاه أسرته ومجتمعه:
إن حقوق الجنين المولود الحامل لمرض الإيدز تجاه أسرته ومجتمعه لا تختلف عن حقوق أي طفل آخر، فهو يستحق الرعاية والاهتمام والعيش بأمان واطمئنان مع متابعة تحصيله العلمي حتى البلوغ، بعدها يجب عزله في مراكز تتوفر فيها وسائل الراحة والثقافة والعلاج، كما يحق له رؤية أسرته والاختلاط معها بين الحين والآخر ضمن حدود المركز الذي يتم عزله فيه، هذا بالإضافة إلى حقه في العمل وكسب رزقه الحلال من خلال أعمال ومهام يقوم بها داخل ذلك المركز.
البند الثامن: عن طلب إجراء فحص الدم على الحجيج القادمين من المناطق الموبوءة للتأكد من عدم إصابتهم بمرض الإيدز:(8/1440)
إن الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة وفريضة أساسية واجبة على كل مسلم قادر صحياً ومادياً وعقلياً وجسدياً، ولا أجد مانعاً يحول دون طلب إجراء فحص للدم على الحجيج القادمين من المناطق الموبوءة؛ للتأكد من عدم إصابتهم بمرض الإيدز، أما قرار منع المصابين وحاملي فيروس المرض من أداء شعائر الحج فإنه يحتاج إلى دراسة فقهية عميقة تطرح الأسباب الموجبة للمنع، وإذا كانت دولاً عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية، التي تتغنى بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، تمنع حاملي المرض من دخول أراضيها لمجرد حضورهم مؤتمر لا يتعدى الأسبوع الواحد؛ خوفاً على زيادة انتشار المرض في أراضيها وبين مواطنيها، فإن للمملكة العربية السعودية الحق أيضاً في حماية بيت الله وكافة الحجيج الذين يزورون أراضيها، وذلك بمنع دخول من يثبت أنه حامل للمرض أو مصاب فيه، وإذا كان الإسلام قد نهانا عن دخول الأراضي التي يتفشى فيها الطاعون وعدم مغادرتها إذا كنا فيها، فإنه بلا شك سينهانا عن السماح للطاعون وحامليه بدخول أراضينا إذا كانت لدينا القدرة والوسيلة على تحقيق ذلك.
البند التاسع: حول الوقاية التي ينبغي الأخذ بها عند الحلق بالجمرات لاتقاء الإصابة بنقل فيروس الإيدز أو فيروس التهاب الكبد:
إن عملية الحلق بالجمرات تحتاج إلى تنظيم وإشراف وحزم ومراقبة مستمرة؛ نظراً لما تشكله من خطر كبير على الحجيج الذين يسلمون أنفسهم للبارئ عز وجل، غير آبهين بالأخطار التي تتهددهم؛ لاعتقادهم أن هذه العملية مجرد مسألة روتينية بسيطة، لا مجال للشك بها أو الخوف منها، وبما أن مرض الإيدز ومرض الالتهاب الكبدي ينتقلان عن طريق التلوث بدم أحد المصابين، فإن هناك احتمالا كبيرا في أن يكون في الحجيج من يقوم برحلته الأخيرة متضرعاً لله عز وجل، راجياً الصفح والغفران؛ لأنه يعلم أن نهايته قريبة؛ نظراً لإصابته بمرض الإيدز وحمله لفيروسه القاتل.(8/1441)
وهذا يعني أن أية جروح تظهر نتيجة الحلق بالجمرات عند مريض مصاب ستنقل فيروس المرض إلى الشخص الذي يليه في عملية الحلق، خاصة وأن معظم الحلاقين لا يُعقمون أدواتهم تعقيماً صحيحاً ولا يستخدمون الشفرات التي يمكن تغييرها واستبدالها مباشرة بعد كل حلاقة، أضف إلى ذلك وجود عدد كبير من الحلاقين الغير مرخصين والغير مؤهلين الذين لا هَمَّ لهم سوى الكسب المادي الرخيص الذي يمكن أن يكلف عدداً كبيراً من الحجيج أرواحهم.
لذا فإنه من الضروري جداً أن تقوم السلطات المختصة بتنظيم هذه العملية، وتوفير أدوات الحلاقة التي يمكن استخدامها أو استخدام شفراتها لمرة واحدة فقط، وعدم السماح لغير الحلاقين المؤهلين والمرخصين بالقيام بمثل هذا العمل؛ حرصاً على سلامة الحجيج، والله من وراء القصد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
أريد أن أتكلم عن مسؤولية الطبيب وضمانه، مسؤولية الطبيب تنقسم إلى قسمين، هناك مسؤولية تعاقدية ومسؤولية جنائية، المسؤولية التعاقدية حينما يزاول مهنته فإنه يعمل كما يعمل غيره تحت عقد الإجارة، وقد تكون الإجارة عامة أو خاصة بحسب الاتفاق بأن يعمل للجمهور والعموم، أو أن لا يعمل لغير من تَعَاقَدَ معه، ولا تثور مشكلة في هذا، ولكن هناك صورتان عرض لهما الفقهاء في مجال الطبيب فقط، أريد أن أنوه بهما، وقد ذكرتهما في ورقتي، إحداهما: المشارطة على البرء، إذا اتفق الطبيب والمريض على أن الطبيب يقوم بمعالجة المريض إلى أن يبرأ ويستحق الأجر عند البرء فقط، طبعاً هنا قد يقوم بعمل كبير ولكنه لا يبرأ هذا المريض فلا يستحق الأجر، والفقهاء أجازوا هذه الصورة رغم ما فيها بأنها جاءت في حديث أبي سعيد الخدري حينما عالج رجلاً وشارطه على البرء، وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر تصرفه، والفقهاء خرجوا هذه الصورة من باب الجعالة التي يكون فيها الأجر مرتبطاً بإحداث النتيجة والأثر، وقد يكون العمل قليلاً أو كثيراً فيغتفر.(8/1442)
الصورة الثانية: هي حالة اشتراط السلامة، هذه الصورة عرض لها بعض الإخوان، والحنفية اهتموا بها، ومنعوا الاتفاق على أن العلاج مشروط بالسلامة؛ لأن هذا أمر ليس في وسع الطبيب؛ لأنه إذا اتخذ الإجراءات المعهودة فنياً، وأخذ الاحتياطات الكافية، هناك عناصر خارجية تدخل في الموضوع، وهي تحمل المريض وظروفه التي قد تخفى مهما أجريت من فحوص واحتياطات، فهذه السراية أو المضاعفات كما تسمى الآن لا تدخل في الضمان وإنما يعفى عنها إذا كان الطبيب قد راعى الأصول الفنية.
أما المسؤولية الجنائية فالأصل أن الطبيب يمارس مهنة واجبة عليه وجوباً كفائياً، والواجب كما جاء في القاعدة: لا يتقيد بشرط السلامة، لكن بما أنه يقوم بأعمال فيها ما يشبه الجناية، وقد يدخل فيها قصد سيئ أو مغرض أو خطأ أو جهالة، لذلك كان لابد من مراعاة الشروط لإعفائه من المسؤولية، وهذه الشروط هي أن يكون طبيباً عن معرفة ودراية، لا عن زعم وادعاء، ولا يكفي الشهرة، ولابد أن تكون هناك خبرة حقيقية.
ثانياً: أن يأتي الفعلة بقصد العلاج وبحسن نية، أو بقصد تنفيذ الواجب الشرعي إذا كان الطبيب قد كلف بإقامة حد أو قصاص.
ثالثاً: أن يعمل طبقاً للأصول الفنية التي يقررها فن الطب وأهل العلم، فيما لم يكن كذلك فهو خطأ جسيم يستوجب المسؤولية.
رابعاً: أن يأذن له المريض أو من يقوم مقامه كالولي.
النقطة الثانية: أخلاقيات الطبيب، وقد تم التوسع في أهمها، وهو عدم إفشاء أسرار المرضى، ولكن إلى جانب هذا هناك أمور أخرى نبه إليها من كتبوا في علم الحسبة، وأوسع من كتب في ذلك تقي الدين السبكي العالم المعروف في كتابه (معيد النعم ومبيد النقم) ، فقد بين في كلمات قصيرة معدودة ما ينبغي للطبيب أن يراعيه فقال: من حق المريض على الطبيب أن يبذل له النصح، وأن يرفق به، وإذا رأى علامات الموت لم يكره أن ينبه على الوصية بلطيف من القول، وله النظر إلى العورة عند الحاجة بقدر الحاجة، وأكثر ما يؤتى الطبيب من عدم فهمه حقيقة المرض، واستعجاله في ذكر ما يصفه، وعدم فهمه مزاج المريض، وجلوسه لطب الناس قبل استكماله الأهلية، وعليه أن يعتقد أن طبه لا يرد قضاء ولا قدراً، وأنه إنما يفعل ذلك امتثالاً لأمر الشرع، وأن الله تعالى أنزل الداء والدواء.(8/1443)
هناك آداب كثيرة تم حصرها بمعرفة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، وخرجت في صورة ما أطلق عليه الدستور الإسلامي للمهنة الطبية، وقد وزعت على المشاركين في هذه الدورة في اليوم الأول، وهذه الأخلاقيات أو الآداب تناولت صفة الطبيب وعلاقته بزميله من الأطباء، وعلاقة الطبيب بالمريض، وواجب الطبيب في الحرب، ورعايته لحرمة الحياة الإنسانية، ومسؤولية الطبيب، والطبيب والمجتمع، والطبيب إزاء البحث العلمي، والمعطيات الحديثة، والتعليم الطبي، وأخيراً قَسَم الطبيب، وهذه المادة كتبت في إطار شرعي وفني؛ لأنه شارك وأسهم فيها عدد من المتعاونين مع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، ولعلها تكون في محل عناية في توصيات هذا الموضوع، والله أعلم.
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
في الواقع، أشكر المجمع ممثلاً في رئاسته وأمانته على عرض مثل هذه المواضيع التي في الواقع تدل على إيجابية هذا المجمع، وعلى أنه حريص كل الحرص على بحث كل ما يهم المسلمين من مستجداتهم، وهذا في الواقع على كل حال يعتبر إيفاء وقياماً بالواجب عليه، فجزى الله المسؤولين عن هذا المجمع كل خير.
ما يتعلق بالمسؤولية، في الواقع إن المسؤولية معتبرة شرعاً، من ذلك قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] ، وقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، في الواقع إن كل إنسان مسؤول عن تصرفه، سواء كان تصرفاً في نفسه أو في ماله أو في حقوق الآخرين، هذه المسؤولية لاشك أنها قائمة، ويتعين الأخذ بأحكامها وبمقتضياتها.
ما يتعلق بإفشاء السر، فعندنا في الواقع آثار صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإفشاء السر تقتضيه المصلحة، فإذا كانت المصلحة في إفشائه راجحة تعين إفشاؤه، وإذا كانت المصلحة في كتمانه واضحة تعين كتمانه، من إفشاء السر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه عندما كان راكباً معه على حماره صلى الله عليه وسلم: ((أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: الله ورسوله أعلم، فقال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به، فقال معاذ رضي الله عنه: أفلا أبشر الناس، قال: لا تبشرهم فيتكلوا)) فمعاذ رضي الله عنه وأرضاه ذكر ذلك عند قرب وفاته تحرجاً من كتمان العلم بعد أن تأكد أن الإيمان استقر في نفوس المسلمين، فأصبحوا لا يخشى عليهم من الاتكال، بل هم يعرفون أن الإيمان قول وعمل، فالإيمان قول وعقيدة وعمل، وقد استقر هذا في نفوسهم.(8/1444)
الأمر الثاني: كذلك أن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه كان عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم كجزء من خدمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءته زينب زوجة عبد الله بن مسعود فقالت: اسأل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها لزوجها؟ فدخل رضي الله عنه وأرضاه يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن امرأة بالباب تسأل، فقال: من هي؟ قال: زينب، قال: أي الزيانب؟ فأخبر رضي الله عنه وأرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ بسرية ما ألزمته هذه المرأة؛ وذلك لأنه رأى أن المصلحة طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر.
جانب آخر وهو السرية التي ينبغي أن تلاحظ، رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما بعث حذيفة بن اليمان في غزوة الأحزاب ليأتي بخبر القوم، قال له: إياك أن تحدث شيئاً، فذهب رضي الله عنه وأرضاه وكان منه ما كان، وكان قد تهيأت له فرصة أن يفتك بأبي سفيان ولكنه ذكر ما أوصاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم وألا يحدث شيئاً، فكان هذا منه كتماناً للسر وكتماناً لمغزى القضية التي أرسله صلى الله عليه وسلم فيها، فالحاصل أن السر ينبغي أن لا يكون على إبلاغه، بل إذا كان الاجتهاد يقتضي أن المصلحة الغالبة تقتضي إفشاء السر فيتعين، وإذا كان غير ذلك فيتعين كتمانه؛ امتثالاً للأصل العام في أنه ينبغي ستر أمور المسلمين وألا تفشى عيوبهم.
ما يتعلق بقاعدة المباشر والمتسبب، في الواقع هي قاعدة شرعية، لكنها لا تعين المسؤولية على المباشر مطلقاً، ولا على المتسبب مطلقاً، وإنما هناك نظر اجتهادي، فقد يكون على المتسبب منه مسؤولية الشيء الكثير، وقد يكون المباشر سليماً من المسؤولية، وهذه المسألة بحثها ابن رجب رحمه الله في قواعده بحثاً جيداً، فلعل من يريد الاستزادة الرجوع إليها.
ما يتعلق بخطأ الطبيب، فالواقع أن الطبيب ينبغي أن يكون ذا أهلية بارقة، وألا يكون مقصراً، متعدياً أو مفرطاً، فإذا كانت هذه الشروط مستكملة في حقه، ولم يكن منه إلا سراية هذا العلاج، فالواقع كذلك ليس مسؤولاً عن هذه السراية ولا يعتبر مخطئاً، أما إذا كان مؤهلاً للطب لكن وجد منه التساهل، التقصير، التعدي، ولو كان في قمة الخبرة والأهلية فهو في الواقع مسؤول مسؤولية توجب عليه ضمان ما نتج من تصرفه الخاطئ.(8/1445)
كذلك في الواقع أتمنى من المجمع أن يصدر توصية إلى منظمة المؤتمر بأن يوجد نظام موحد لمسؤولية الأطباء أنفسهم، وفي نفس الأمر يعرف الطبيب كيف يكون مسؤولاً لا فيما يتعلق بأهليته للطب، ولا بما يتعلق بممارسة أعماله الطبية، ولا فيما يتعلق بالأمور التي يسأل عنها في تقصيره أو تعديه أو تساهله، فهذا في الواقع يعتبر خدمة جيدة للمسلمين؛ لأنه حينما تتولى كل دولة إصدار أنظمة قد تكون هذه الأنظمة بعضها يعارض بعضاً أو بعضها أقصر أو بعضها لا يفي بمتطلبات الآخرين.. قد يكون هذا فيه شيء من التقصير في حقوق المسلمين لكن طالما أنها وجدت هذه المنظمة ووجد من فروعها هذا المجمع المبارك، فلو صدر نظام موحد لكان في هذا الشيء الكثير، كذلك ما يتعلق بما ذكره الباحث المحترم أخيراً، في الواقع كل الباحثين –جزاهم الله خيراً- كلهم محترمون وكلهم قدموا بحثاً شيقاً، جزاهم الله خيراً نعتز باقتنائه وبالاستفادة منه.
في الواقع ما يتعلق بالحج، وأن الحج في الواقع فيه اختلاط بين مجموعة كبيرة من الأقطار الإسلامية من ذكور وإناث، وقد يكون هذا الاختلاط، أو في الواقع ليس قد يكون، وإنما هو محقق في الطواف وفي السعي وفي رمي الجمار، وقد يكون كذلك فيما يتعلق فيما بين الحجاج عند مطوفيهم، فلاشك أن هذه في الواقع على كل حال لفتة كريمة ينبغي العناية بها، وأتمنى لو أصدر المجمع توصية للحكومة السعودية بضرورة العناية بهذه الناحية والنظر فيما يمكن أن يكون حماية للمسلمين، فحينما يأتي رجل مصاب ويريد أن يحج لكنه في الواقع قد يترتب على حجه مضرة كبيرة للمسلمين.
هذه في الواقع بعض أمور أحببت أن أدلي بها وشكراً.(8/1446)
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الحقيقة عندي تساؤلات للسادة الأطباء:
الأول منها: لم يبين لنا الفرق بين خطأ الطبيب في نطاق تخصصه، وبين خطئه في خارج تخصصه، إذا أخطأ في تخصصه أو عالج خارج تخصصه كان مخطئاً، هذا واحد.
ثانياً: هل يعتبر إجراء العملية بآلات تعتبر قديمة وهنالك آلات متطورة يحدث معها الخطأ، هل هنا يكون مسؤولية تقصيرية أم لا؟ وتعرفون أن الآلات متطورة دائماً، آلات الجراحة، الآلات التي تجرى بها العمليات الجراحية، يعني يستعمل آلات قديمة وهنالك آلات حديثة، فيتوفر معها ربما النجاح أكثر.
ثالثاً: أخلاقية الطبيب في الارتزاق، وسأضرب مثلاً في عملية الولادة، الطبيب إذا أجرى عملية قيصرية يأخذ أجراً كبيراً، وإذا انتظر حتى تلد المرأة يكون أجره أقل، فهو ربما لا يراعي هذه الناحية الأخلاقية وينظر إلى الربح المادي فقط، ولا يخفى من إجراء العملية هذه من آثار تترتب على الحمل المتباعد، هذه ثالثة.
رابعاً: طبعاً في الأحكام لابد من ذكر كل شيء، ما الحكم عندكم في قضية المهنة، في الطبيب الذي يفجر بالمرأة التي يكشف عليها، هل يحرم من الطب أم لا؟ هذا أمر، أما الآخر كنا نتمنى على السادة مع أن بحوثهم قيمة واضحة جداً بحيث أنا استفدنا جميعاً منها، كنا نتمنى أن نتنزل من العصر الحديث إلى القديم، لا أن نتصعد من القديم إلى الحديث، ما هي أقوال الجهات المتخصصة في العالم في الطبيب المخطئ في آخر ما توصلت إليه القوانين الدولية، من هنا نبدأ، وبعد ذلك نقول: ماذا عند المسلمين، رغم أن القول في الطب عند المسلمين كما تعلمون في قضية فيها شيء من البداءة والبساطة.
أمر، بالنسبة الإيدز، الحقيقة خطر في البال أمس، واضح، كلنا يعلم أن من أكل البصل أو الثوم صار ممنوعاً أو معذوراً من حضور الجماعة، إذا كان آكل البصل أو الثوم حيل دون حضوره الجماعة حتى لا يؤذي المسلمين في المسجد، فكيف بالمصاب من الإيدز؟ أظن ينبغي أن يحرم من هذا حتى لا يبتلى العالم الإسلامي.. وشكراً.(8/1447)
الشيخ أحمد بن حمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإني أشكر الأطباء والعلماء الباحثين الذين قدموا هذه البحوث في أخلاقيات الطبيب، شكراً جزيلاً، وما أحوج المجتمع إلى أطباء يتمسكون بالأخلاقيات الناجمة عن الإسلام الحنيف دين الله الحق، فيؤدوا مهنتهم في إطار التعاليم الإسلامية السمحة، وإنما هنا بعض الأشياء التي أردت أن أطرحها:
أولاً: حول مرض فقدان المناعة المعروف بالإيدز، هذا الطاعون الوبائي الذي انتشر في هذا العصر علينا قبل كل شيء ونحن نسمع من الأطباء التوصيات بالتوقي حتى في الحج، خشية انتشار هذا الداء الخطير، علينا أن نسعى إلى قطع دابر هذه العلة، والكل يعلم أن هذه العلة نجمت ونشأت عن انتشار الفاحشة وليس ذلك بغريب؛ فإن الله سبحانه وتعالى عندما ذكر قوم لوط وما أصابهم من العذاب قال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] ، وعندما ذكر الله تبارك وتعالى أهل القرى وما أصابهم من العذاب ومن بينهم قوم لوط قال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] ، وقد روج للفاحشة في هذا العصر بمختلف الوسائل، ومن بينها وسائل الإعلام على اختلافها، سواء المسموعة أو المقروءة أو المرئية، فانتشار الأفلام الهدامة والمسلسلات الخليعة التي تغري على الفاحشة وتشجع عليها، واستيراد هذه الأفلام والمسلسلات من مختلف البلاد الكفرية، بل وإنتاج هذه المسلسلات أو بعضها في البلاد الإسلامية لمما يشجع على انتشار الرذيلة وانتشار الفاحشة في البلاد الإسلامية، والدين الإسلامي ليس دين تناقضات ومفارقات، ولذلك فإن الله تبارك وتعالى عندما أدب الرجال في كتابه العزيز بما أدبهم به من وجوب غض الأبصار وحفظ الفروج، أدب بمثل ذلك النساء؛ إذ من التناقض الفاضح والمفارقات المتباينة أن يرى المسلم أمام عينيه الأجسام العارية تتراقص وهي تغري على الفساد، وبجانب ذلك تنتشر الدعوة إلى التمسك بآداب الفضيلة، والإسلام عندما جاء بالحدود الشرعية إنما جاء بهذه الحدود ليرد الشارد وليوجه الشاب بعد ما جاء بالأخلاق الفاضلة، إذ الحدود على الزنا وعلى غير ذلك مما فرضت فيه الحدود عندما جاءت بعد ما انتشرت الأخلاق الفاضلة وانتشرت الفضيلة في الأمة الإسلامية، من جراء رسوخ العقيدة وتمسك الناس بالعبادات، وانغراس خشية الله تبارك وتعالى في نفوسهم، لذلك كان من الواجب أن تحارب هذه العلة المتفشية ويقطع دابرها بالتمسك بأهداب الإسلام وفضائل الإسلام بجانب تطبيق الأحكام الشرعية، وهذا لا يتم إلا بتطهير وسائل الإعلام من كل ما يغري على الفساد حتى تكون هذه الوسائل بناءة.(8/1448)
ثم إنني رأيت الكاتبين الباحثين اهتما بأخلاقيات الطبيب، وأرى من أخلاقيات الطبيب ألا يكون هنالك تناقض بين قوله وفعله، فالطبيب قدوة للمريض، كما أن الفقيه قدوة للعابد العامي، فإذا كان الطبيب يوصي بشيء وهو يخالفه فإن ذلك بطبيعة الحال يؤدي إلى التشكيك في كلامه.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
وإنك إذ ما تأتي ما أنت آمر به
تلفى من إياه تأمر آت
نحن نقرأ للأطباء دائماً عن الأمراض التي تنشأ عن التدخين، وقد قرأنا للدكتور البار –جزاه الله خيراً- كتاباً ذكر فيه أنواعاً كثيرة من أمراض السرطان ومن أمراض الجلطات ومن أمراض الشرايين وغيرها من الأمراض القاتلة التي تنشأ عن التدخين، بجانب ذلك في هذا اليوم وجدت في صحيفة عن الأطباء في بلاد عربية ما، بأن نسبة المدخنين منهم بلغت 63 %، وعن بلد عربي آخر بأن نسبة المدخنين فيه من الأطباء بلغت 60 %، وعن بلد إسلامي آخر أن نسبة المدخنين فيه وصلت إلى 29 %، فإذ كان الطبيب يحذر المريض من التدخين ويقول له بأنه سم قاتل، وعندما يأتي إلى الطبيب لعلاجه يأتي والسيجارة بين أنامله يمتصها بشفتيه، ماذا عسى أن يكون اقتناع المريض بمقالة هذا الطبيب؟
وقد كنت في العام الماضي تمنيت وقدمت اقتراحاً أن يخرج المجمع هذا بقرار حاسم في حكم التدخين؛ لأن مضار التدخين أصبحت أمراً لا جدل فيه، والله تبارك وتعالى يحذر من كل ما يؤدي إلى الإضرار بالنفس، وخصوصاً الذي يؤدي إلى إهلاك النفس: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء: 30] ، أو طعن نفسه بحديدة، فلماذا لا يصدر عن هذا المجمع قرار حاسم في أمر التدخين؟(8/1449)
أما بقية القضايا التي كانت تخطر ببالي أن أتحدث فيها، تحدث فيها المشائخ الفضلاء، وأرى في قضية نشر سر وإفشاء السر وعدم إفشائه أن ينظر في مقاصد الشرع فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
والله ولي التوفيق، وشكراً لكم، والسلام عليكم.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لعل من المناسب أن تتألف اللجنة من كل من: الشيخ تقي العثماني، الشيخ عبد الله بن منيع، الأطباء: رجائي، البار، مصطفى أبو لسان، الشيخ الجفال.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(8/1450)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 83/ 10/ د8
بشأن
السر في المهن الطبية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سير باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ، الموافق 21- 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (السر في المهن الطبية) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:
1- أ- السر هو ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتماً إياه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان إذا كان العرف يقضي بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس.
ب- السر أمانة لدى من استودع حفظه، التزاماً بما جاءت به الشريعة الإسلامية، وهو ما تقضي به المروءة وآداب التعامل.
ج- الأصل حظر إفشاء السر، وإفشاؤه بدون مقتضٍ معتبر موجب للمؤاخذة شرعاً.
د- يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل، كالمهن الطبية؛ إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح وتقديم العون، فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه.(8/1451)
2- تستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه، وهذه الحالات على ضربين:
أ- حالات يجب فيها إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضررين لتفويت أشدهما، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه.
وهذه الحالات نوعان:
- ما فيه درء مفسدة عن المجتمع.
- وما فيه درء مفسدة عن الفرد.
ب- حالات يجوز فيها إفشاء السر لما فيه:
- جلب مصلحة للمجتمع.
- أو درء مفسدة عامة.
وهذه الحالات يجب الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل.
ج- الاستثناءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء أو جوازه ينبغي أن ينص عليها في نظام مزاولة المهن الطبية وغيره من الأنظمة، موضحة ومنصوصاً عليها على سبيل الحصر، مع تفصيل كيفية الإفشاء، ولمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن.
3- يوصي المجمع نقابات المهن الطبية ووزارات الصحة وكليات العلوم الصحية بإدراج هذا الموضوع ضمن برامج الكليات والاهتمام به وتوعية العاملين في هذا المجال بهذا الموضوع، ووضع المقررات المتعلقة به، مع الاستفادة من الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع.
والله أعلم.(8/1452)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 84 / 11 / د8
بشأن
أخلاقيات الطبيب: مسؤوليته وضمانه
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (أخلاقيات الطبيب: مسؤوليته وضمانه) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:
تأجيل إصدار قرار في موضوع أخلاقيات الطبيب: مسؤوليته وضمانه وموضوع التداوي بالمحرمات، والنظر في دستور المهنة الطبية المعد من المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت والطلب إلى الأمانة العامة لاستكتاب المزيد من الأبحاث في تلك الموضوعات لعرضها في دورة قادمة للمجمع.
والله أعلم(8/1453)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 85 /12 / د8
بشأن
مداواة الرجل للمرأة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (مداواة الرجل للمرأة) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دار حوله،
قرر ما يلي:
1- الأصل أنه إذا توافرت طبيبة متخصصة يجب أن تقوم بالكشف على المريضة، وإذا لم يتوافر ذلك فتقوم بذلك طبيبة غير مسلمة ثقة، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم، وإن لم يتوافر طبيب مسلم يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم، على أن يطلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته، وألا يزيد عن ذلك، وأن يغض الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم أو زوج أو امرأة ثقة خشية الخلوة.
2- يوصي المجمع أن تولي السلطات الصحية جل جهدها لتشجيع النساء على الانخراط في مجال العلوم الطبية، والتخصص في كل فروعها، وخاصة أمراض النساء والتوليد، نظراً لندرة النساء في هذه التخصصات الطبية، حتى لا نضطر إلى قاعدة الاستثناء.
والله أعلم.(8/1454)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 86 /13/ د8
بشأن
مرض نقص المناعة المكتسب: (الإيدز)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21- 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله:
قرر ما يلي:
1- بما أن ارتكاب فاحشتي الزنا واللواط أهم سبب للأمراض الجنسية التي أخطرها الإيدز (متلازمة العوز المناعي المكتسب) ، فإن محاربة الرذيلة وتوجيه الإعلام والسياحة وجهة صالحة تعتبر عوامل هامة في الوقاية منها، ولا شك أن الالتزام بتعاليم الإسلام الحنيف ومحاربة الرذيلة وإصلاح أجهزة الإعلام ومنع الأفلام والمسلسلات الخليعة ومراقبة السياحة تعتبر من العوامل الأساسية للوقاية من هذه الأمراض.
ويوصي مجلس المجمع الجهات المختصة في الدول الإسلامية باتخاذ كافة التدابير للوقاية من الإيدز ومعاقبة من يقوم بنقل الإيدز إلى غيره متعمداً، كما يوصي حكومة المملكة العربية السعودية بمواصلة تكثيف الجهود لحماية ضيوف الرحمن واتخاذ ما تراه من إجراءات كفيلة بوقايتهم من احتمال الإصابة بمرض الإيدز.(8/1455)
2- في حالة إصابة أحد الزوجين بهذا المرض، فإن عليه أن يخبر الآخر، وأن يتعاون معه في إجراءات الوقاية كافة.
ويوصي المجمع بتوفير الرعاية للمصابين بهذا المرض، ويجب على المصاب أو حامل الفيروس أن يتجنب كل وسيلة يعدي بها غيره، كما ينبغي توفير التعليم للأطفال الذين يحملون فيروس الإيدز بالطرق المناسبة.
3- يوصي مجلس المجمع الأمانة العامة باستكتاب الأطباء والفقهاء في الموضوعات التالية، لاستكمال البحث فيها وعرضها في دورات قادمة:
أ- عزل حامل فيروس الإيدز ومريضه.
ب- موقف جهات العمل من المصابين بالإيدز.
ج- إجهاض المرأة الحامل المصابة بفيروس الإيدز.
د- إعطاء حق الفسخ لامرأة المصاب بفيروس الإيدز.
هـ- هل تعتبر الإصابة بمرض الإيدز من قبيل مرض الموت من حيث تصرفات المصاب؟
و أثر إصابة الأم بالإيدز على حقها في الحضانة.
ز- ما الحكم الشرعي فيمن تعمد نقل مرض الإيدز إلى غيره.
ح- تعويض المصابين بفيروس الإيدز عن طريق نقل الدم أو محتوياته أو نقل الأعضاء.
ط- إجراء الفحوصات الطبية قبل الزواج لتجنب مخاطر الأمراض المعدية وأهمها الإيدز.
والله أعلم.(8/1456)
بحوث مجمعية
السنة النبوية في العصر الحديث
بين أنصارها وخصومها
إعداد
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، وصفيه وخليله، سيدنا ومولانا محمد، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فدعا وقضى، ووعظ وهدى، وأمر ونهى، وحثنا على اتباع سبيله بقوله: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه)) . (1)
طوبى لنا بميراث النبوة تمتد إليه أيدينا، وتتدبره عقولنا، وتتطلع إلى أسراره نفوسنا، وتمتلئ به صدورنا، وتجري به ألسنتنا، فلا نفتر عن ذكره، ولا ننتهي من الرجوع إليه في مجالسنا، وفيما قل أو جل من أمورنا، وإن الوحي، الظاهر والباطن، ليزكي النفس، ويشرح الصدر، ويهدي إلى الحق، ويبني الفرد، ويقيم الجماعة، ويشيد النهضة الإسلامية، ويمد الأمة بطاقات الحزم والجد والعمل الدؤوب من أجل التنمية في عالمنا المعاصر، واسترجاع معاني العزة وأسباب الريادة.
وإن هذا الميراث العظيم الجليل بقرآنه وسنته ليصدر عن مشكاة واحدة هي الوحي بنوعيه. وإنهما لمتلازمان، وإن السنة لتطبيق مثالي للإسلام، وعملي للقرآن، وتفصيل بياني لآياته، وتقرير لما لا التواء فيه ولا معارضة منه لروحه وأحكامه، وهي أيضاً منهج رسمه نبينا صلى الله عليه وسلم، بسيرته المثلى وعلاقاته بربه ومع نفسه وبالخاصة والعامة. وإن السنة لهي المرجع والفيصل عند اختلاف المتأولين لنصوص القرآن، وإن صاحبها صلى الله عليه وسلم لأدرى بمعاني الكتاب وأسراره، وأفضل وأعلم من صدر عنه التأويل العملي لتعاليمه. فهو الذي أوحى له به، وقام بتبليغه لحينه بأمر من ربه عز وجل في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] . وقوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] .
__________
(1) ط: 899(8/1457)
وإن في هذا القرآن المبين لشهادة صريحة بتعبد الله خلقه بسنة نبيه، واقتضائه منهم العمل بها، والامتثال لأمره ونهيه فيها. قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54] ، وقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . قال الشيخ ابن عاشور: (وهذه الآية جامعة للأمر باتباع ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل، فيندرج فيها جميع أدلة السنة) . (1) والإسلام الذي هو تسليم لله واستسلام له، واعتراف للخالق بالوحدانية المطلقة في كل شيء وللرسول بالتبليغ لأمر ربه والدعوة لدينه، جملة حقائق وتعاليم يدين بها المرء، فلا تقبل زيادة ولا نقصاناً، ولا يكون له معها خيرة في الأمر من أوامر الله أو رسوله، إن شاء فعل، وإن شاء ترك؛ لقوله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] .
وإن إخلاص الدين لله لا يكون إلا بالانقياد الكامل، والامتثال التام، والاتباع المطلق لما أمر به الله ورسوله، وإن أوامر هذا الدين ونواهيه لجارية على اعتبار مقاصد شرعية جليلة ودقيقة، تحقق للمؤمنين ما فيه صلاحهم الروحي والاجتماعي، وتقيهم المفاسد والمخاطر.
وهذا ما نبه إليه القرآن الكريم في قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . والرسول الكريم هو الداعي إلى الخير، والقائد إلى الخير، وهو الأسوة الحسنة. ومتى ما ثبتت سنته، وصحت الأحاديث المنقولة عنه، ساعدت الآخذين بها من المتبعين لسبيله على بلوغ أسباب الهداية، وإدراك المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، والتي بوأها صلى الله عليه وسلم أصحابه وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وذلك ما عناه عليه الصلاة والسلام عند تعريفه للفرقة الناجية بقوله: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (2)
__________
(1) التحرير والتنوير: 27/87
(2) حديث ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل. ت: 5/26، 41 كتاب الإيمان، 18 باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، ح 2641(8/1458)
وهكذا يتضح لنا، ولكل من فقه الإسلام وأدرك مقوماته وخصائصه ومميزاته، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بسنته من أقواله وأفعاله وسلوكه المثال الصادق، واللسان الناطق بتلك الحقائق المميزة الفاضلة جميعها. وإن الخبراء وأهل الحق والمعرفة ليعتبرون لذلك السنة هيكل بناء الإسلام، ويجدون فيها، مدى الدهر، الغذاء الروحي والعلاج النفسي والسلوكي الكامل للمؤمنين، وهي عندهم، وعند الصادقين من غيرهم، ممن عرفوا بالنزاهة الفكرية، والتزموا فيما صدروا عنه من بحوث ودراسات بالموضوعية العلمية، الطريق الوحيدة لإدراك أسباب النهضة والعزة في العصور الأولى للتاريخ الإسلامي، ومعرفة دواعي التخلف والانهزام والانحلال والتبعية فيما لحقها من أطوار.
وإنا لنزداد إيماناً بذلك، وإيقاناً بالإسلام، واعتداداً بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم متى سبرنا أغوار الرسالة المحمدية، وعلمنا إلى أي حد كان اهتمام رسولنا شديداً بالحياة الإنسانية واتجاهاتها المكتشفة في المظهرين: الروحي والمادي، ولمسنا تطرق هديه في الحياة كلها في مظاهرها الخلقية والعملية الفردية والاجتماعية بما يخرج الناس من الحيرة، ويرفع عنهم القلق، ويملأ قلوبهم طمأنينة ورحمة، ويبني لهم أكرم حياة مدنية وأكمل نظام اجتماعي، هو النظام الإسلامي المتميز.
ولنتمكن من تصور هذا النظام، في الدقيق والجليل من جزئياته وفرائده، يكون حتماً علينا أن نعود إلى ذلك التراث النبوي الفريد الذي جمعه لنا أصحاب رسول الله، ورواه عنه أتباعهم ومن سلك سبيلهم؛ قصد الاستمداد منه، والتحلي به، والتخلق بآدابه، والعمل بحسبه في كل الشؤون والتصرفات. فلقد أقاموا بصنعهم الجميل للإسلام دولته الزاهرة، وللأمة الإسلامية حضارتها الباهرة، وإن هؤلاء وأولئك لنجوم الاهتداء، وطريقنا إلى معرفة السنة، والسند القائم بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يصلنا بها ويجليها لنا، ويقدم عن طريقها للخلف فيوضات الحكمة النبوية وتعاليمها الشريفة السنية.(8/1459)
و (إن الصحابة، رضوان الله عليهم، وكلهم عدول، قد سمعوا كما قال ابن القيم من النبي صلى الله عليه وسلم، الأحاديث الكثيرة، ورأوا من الأحوال المشاهدة، وعلموا بقلوبهم من مقاصده ودعوته ما يوجب فهم ما أراد بكلامه ما يتعذر على من بعدهم مساواتهم فيه. فليس من سمع وعلم ورأى من حال المتكلم كمن كان غائباً لم ير ولم يسمع، أو سمع وعلم بواسطة أو وسائط كثيرة. وإذا كان للصحابة من ذلك ما ليس لمن بعدهم، كان الرجوع إليهم في ذلك دون غيرهم متعيناً قطعاً) . (1)
وعن هؤلاء الأئمة المتقدمين حملة الكتاب ورواة السنة، الذين لا يدانيهم أحد في المنزلة والرتبة أخذ التابعون وأتباع التابعين، ومن انخرط في سلكهم من العلماء المحدثين، والحفاظ المعتمدين، والأثبات المدققين، ممن شهد لهم الخاص والعام بالثقة والإتقان والحفظ والضبط، وأطبق جمهور علمائنا على كونهم: (من أعظم الناس صدقاً وأمانة وديانة، وأوفرهم عقولاً، وأشدهم تحفظاً وتحرياً للصدق ومجانبة للكذب، وإن أحداً منهم لا يحابي في ذلك أباه ولا ابنه ولا شيخه ولا صديقه، وأنهم حرروا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريراً لم يبلغه أحد سواهم، ولا من الناقلين عن الأنبياء، ولا من غير الأنبياء. وهم شاهدوا شيوخهم على هذه الحال وأعظم، وأولئك شاهدوا من فوقهم كذلك وأبلغ، حتى انتهى الأمر إلى من أثنى الله عليهم أحسن الثناء وأخبر برضاه عنهم واختياره لهم، واتخاذ إياهم شهداء على الأمم يوم القيامة) (2)
فإذا جاء عن طريق هؤلاء من الأخبار والسنن ما تم نقده وتمحيصه، ووصلنا من الأحاديث الثابتة عنهم ما عرف صدقه وصحت روايته، لزم العمل به؛ لما فيه من تزكية للنفوس، وتلقين للحكمة، وبيان لأسباب نزول القرآن، وتفسير لألفاظه ومعانيه، وتفصيل لأغراضه، وغوص على أسراره ودقائقه، وشرح لمجمله، وتقييد لمطلقه، وتخصيص لعمومه، وتعيين لمبهمه. وقد ورد عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بيان وجه الأخذ بالسنة عند مجادلة الضالين وتحريف المبطلين، وذلك قوله: (سيأتي ناس يجادلون بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله) . (3)
__________
(1) ابن القيم: الصواعق المرسلة: 559
(2) ابن القيم: الصواعق: 569 - 570
(3) الدارمي، المسند (ص 28) . البغوي، شرح السنة: 1/202. علي حسب الله، أصول التشريع الإسلامي (ص 38)(8/1460)
وقد أجمعت الصحابة ومن بعدهم على العمل بالسنة، وكذلك أئمة الدين وعلماء الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فهؤلاء يعتمدون السنة ولا يتعمدون مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته دقيق ولا جليل، وإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباعه، وعلى أن كل واحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) . (1)
فهو الهادي الذي أقام الله به الدين، وأنقذ به الأمة، وهو المرجع في الأفهام والأحكام، وفيما أغلق إدراكه على الناس، وهو النبي الذي أطلعه الله على أسرار حكمته وخصائص خلقه، وأفاض على قلبه من الأنوار ما سما به على الأفئدة الواعية والعقول الراجحة، وهدى به الإنسانية كلها إلى ما فيه صلاحها وعلو شأنها، فلا خير إلا في اتباعه، ولا هداية إلا بملازمة سبيله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) } [المائدة: 15 – 16] .
فلا بدع بعد ذلك إذا رأينا العلماء يُقبلون على السنة تعريفاً وتقعيداً، رواية ودراية، ضبطاً ونقداً، تصحيحاً وتضعيفاً. ولا بدع أن نجد لهم في ذلك الدواوين النافعة المقيدة: من الموطآت، والمسانيد، والصحاح، والسنن، والأمالي، والفوائد، والأجزاء، والفرائد، والمجالس ونحوها، ونراهم يبحثون أسانيد الأخبار ومتونها، يُذهبون عنها الزيف، وينفون عنها تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ونقف لهم على ما صنفوه من كتب الطبقات والمعاجم والمشيخات، تعريفاً بالرجال، وتمحيصاً للأحاديث، إلى جانب ما ابتكروه من كتب علم السنة ومصطلحاتها، أو وضعوه في التجريح والتعديل.
__________
(1) ابن تيمية، رفع الملام.(8/1461)
وبفضل هذه العناية الفائقة، اتضح الحق وذهب الشك، ودُوِّنَ الحديث تدويناً لا يزيد الناظرين فيه إلا اطمئناناً وثقة بما اعتمده المحدثون من المصادر الموثوق بها، واستدلوا به من الأخبار الصحيحة، كما تَسَنَّى للفقهاء وعلماء الشريعة والمجتهدين في كل عصر أن يمتثلوا سنة نبيهم ويُحَكِّموها فيما بينهم، ويتركوا أقوال الناس لها ويعرضوها عليها، فما وافقها أخذوا به، وما خالفها طرحوه. وذلك ما يتحقق به قيام أمر الإسلام وتميزه عن غيره من الشرائع والأديان. وهو ما دعا سبحانه إليه المؤمنين في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] ، وقوله في وجوب الاحتكام إلى الكتاب والسنة والرضا بما جاء فيهما من تشاريع وأحكام: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . وإنك لن تجد عند البحث في كتاب الله والتدبر له والاستنباط منه إماماً من أئمة الفقه، أو مذهباً من المذاهب الفقهية في مختلف الأصقاع والأمصار، إلا واعتماده على الحديث أساسي، لا يكاد يتخلف في فرع من الفروع أو مسألة من المسائل. وإن للكثير منهم مسانيد تجمع أدلتهم، وتشير إلى وجه الحكم فيما عرضوا له أو عرض لهم من القضايا. ولم يتخلف الأصوليون أيضاً عن الاهتمام بالسنة وتفصيل القول فيها، فكتبوا في حجيتها وثبوتها، وفصلوا القول في دلالتها وشروط قبولها وأقسامها. وهؤلاء وأولئك لا يعنون بها ولا يحفلون منها إلا بما ورد مورد التشريع، مما يكلف الناس باتباعه والعمل به. وقد نبه على هذا جماعة من علماء الشريعة في القديم والحديث منهم:
النووي في باب وجوب امتثال ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم شرعاً، دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي. (1)
والقرافي في الفرق السادس والثلاثين عند تصنيف الحديث إلى ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم، منه بوصف الإمامة أو القضاء أو الفتوى والتبليغ. (2)
وفي الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام في السؤال الخامس والعشرين. (3)
وابن القيم في زاد المعاد في سياق الحديث عن غزوة حنين. (4)
__________
(1) شرح مسلم: 15/116
(2) الفروق: 1/205 - 209
(3) الإحكام: 86 - 109
(4) زاد المعاد: 3/489(8/1462)
وفي تفصيل هذين الإمامين القول في السنة التشريعية لم يتعرض واحد منهما لما ليس منها من باب التشريع.
وشاه ولي الله الدهلوي في كتابه حجة الله البالغة، حيث قسم الحديث إلى ما سبيله تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وما ليس من باب تبليغ الرسول، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر)) . (1)
ومحمد رشيد رضا في تفصيله حكم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، عند تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] ، (2) وتفسير قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] (3)
ومحمود شلتوت في تقسيمه السنة إلى تشريع وغير تشريع (4)
ومحمد الطاهر ابن عاشور في حديثه عن انتصاب الشارع للتشريع. (5)
ومن هذه المقالات المفصلة والتقريرات العلمية يتبين أن الهدي النبوي للأمة وتعليمها وتأديبها غير منحصر في شرح السنة للقرآن، وفي ما ورد منها من تشاريع وأحكام أوضحتها أو انفردت بها، بل إننا نجد هذا الوصف المميز للوحي الخفي أو الباطن يتجلى في مختلف الأغراض التي وردت بها السنة، وفيما وقع ذكره في دواوينها من أحاديث الهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الناس الحقائق العالية، والتأديب، كما نجده في السيرة العطرة التي كانت محل الائتساء وسبيل الاقتداء، اقتداء أئمة الصحابة، رضوان الله عليهم، بالرسول الأعظم والنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) م. 43 كتاب الفضائل، 38 باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً: 2/1835 ح 1400؛ حجة الله البالغة: 1/128
(2) تفسير المنار. الأعراف: 158
(3) تفسير المنار: 9/317
(4) الإسلام عقيدة وشريعة: 499 - 505
(5) مقاصد الشريعة: 28 - 39(8/1463)
وإن بناء الفرد المسلم بتعليم الرسول له، وتربيته إياه، وتزكية خلقه، وتركيز معاني الإيمان والإسلام والإحسان في خلده، وتعهده بالحكمة والموعظة الحسنة، قد أينع ثمره بتكوين الرعيل الأول من المسلمين ومن بعدهم من الخلفاء الراشدين والأئمة المجتهدين والأتقياء الصالحين والأولياء المقربين. فما من أحد منهم إلا آخذ قواعد الإسلام ونظمه وآدابه وأحكامه، يتدبرها ويتعهد نفسه بها تدبراً وتعهداً يضعانه في كل حين أمام الصورة الكاملة للمسلم التي أوضحها لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بسيرته الشريفة وأقواله وأفعاله السنية وتصرفاته الموحية الملهمة البليغة. وهذا ما تقتضيه طبيعة التربية الإسلامية التي قامت كما يقول الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور: (على الأصول الثلاثة من التلقين والتمثيل والتمرين، التي جاء بها الوحي الإلهي، وكان استمدادها من القرآن والسنة. ولئن شاركت السنة القرآن في الأصل الأول بما قرراه من مبادئ، وبسطاه من دعوات، ورسخاه من قواعد، فإن السنة النبوية قد انفردت بتحقيق الأصلين الآخرين اللذين هما التمثيل والتمرين. وينبغي أن يعلم أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإقراراته موفية بالأصول الثلاثة.
فالأقوال هي تلقين، وإلقاء للحقائق، وتعريف بالواجبات، وإرشاد للقواعد.
وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم هي تمثيل ليكون فيها النبي صلى الله عليه وسلم المثال الصالح للأمة، فيما يأتي من الأعمال وما يترك، وما يحقق من امتثال الواجبات، وما يحقق من اجتناب النواهي. وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] .
وأما الإقرارات فإنما هي عبارة عن أعمال غير النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، التي تكون محلاً لمراقبته ورضاه عنها، إذا كانت مرضية، أو إنكاره إياها إذا كانت منكرة، فإن هذا يرجع إلى معنى التمرين) . (1)
وهكذا امتلأت النفوس إيماناً وإيقاناً، ووعياً كاملاً بالدين وبمنهجه، كما ارتكزت حركاتها على اليقظة الشديدة وضبط النفس. فلا تصدر عنها الأعمال غالباً إلا عن إرادة وقصد، ولا تكون منها إلا خاضعة لرقابة دينية ذاتية دائمة.
__________
(1) محاضرة مسجلة عن التربية الإسلامية.(8/1464)
وإن أفراد ذلك الجيل لا يأتون من الأمر شيئاً إلا أن يكون فيه رضا لله أو خير لمن حولهم من الناس. وعلى هذا الأساس قام المجتمع الإسلامي الأول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورغم ما كان بين العرب من تفاوت وتمايز في الثروة والجاه والقبيلة والمكانة الأسرية، تمكنت سياسة المربي العظيم، والقائد الحكيم، والرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم من أن تقتلع من القلوب كل معاني الجاهلية، وتسوي بين الناس جميعاً. فاتحدت الطباع والعادات، وتماثلت وتدانت بالإسلام المراتب والدرجات، وأصبح المؤمنون كما ورد في السنة ((عباد الله إخواناً، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)) (1) .
وبهذا الوصف الجامع بين أفراد الأمة والمميز لهم عن أهل الضلالة والغواية، نطق القرآن الكريم مصوراً حقيقة المؤمنين في موكب الرسالة: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) } [الفتح: 29] .
ومن كانت هذه أحوالهم، كانوا على الحق وعلى صراط مستقيم. ولن يكون الحفاظ على الإسلام وقوته، وعلى سيادة المسلمين وعزتهم، وعلى تقدمهم وريادتهم، أو القدرة على بعثهم وتجديد أمرهم، إلا إذا كانوا منوطين بالحفاظ على السنة والإقبال عليها، والعمل بها، والحرص على الائتساء بالرسول الكريم.
فمن تبع ذلك فقد رشد، ووصل ما بينه وبين هذا الدين، ومن صدف عنه فقد غوى وقطع ما بينه وبين العلم والإيمان.
وشواهد هذا قائمة على مدار التاريخ الإسلامي. فالإسلام لا يسود ولا يهيمن ولا يقوى على تخليص المسلمين مما تردوا فيه من الانهيار والانهزام العقلي والمهانة والضعف والفشل الذريع، إلا متى تحققت لهم منه مقوماته، وأخذوا بسبيله، وأوثقوا صلتهم بالله وبرسوله، واتخذوا من هذا الدين منهج حياة وطريقاً للسعادة والفوز في الدنيا والآخرة.
ولذلك فإن أول ما يجب الاحتكام إليه والعمل به والالتزام بتطبيقه شرع الله الذي وردت به نصوص الكتاب والسنة، وتضمنته آيات الأحكام والأحاديث الصحيحة، فكانت موضع النظر والدرس والتفسير والتحليل والاستنباط والتأويل، كما كانت سبيل الدعوة إلى الحق والتوجيه إلى الرشد من أئمة الاجتهاد وعلماء الأمة.
__________
(1) د: جهاد 174، ديات: 11؛ ن: قسامة 7، 13؛ جه: ديات 31؛ حم: 6/119، 122، 2/180، 192، 211، 215(8/1465)
تلك سبيل المؤمنين. وأما الذين {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 47] فهم منافقون، لتوليهم وإعراضهم عما التزموا به علناً من الإيمان والطاعة، ولصدور ما يقابل ذلك منهم ويؤكده من أعمالهم وتصرفاتهم المخالفة للدين. وقد ذيل تعالى هذه الآية بالتعرية لحقيقتهم، والتنبيه على مروقهم من الإيمان والإسلام بقوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 47 – 48] .
وقد تقع ألوان من المخالفات لما أنزل الله في كتابه أو حكم به رسوله، كأن يتساءل المرء، غير قاصد الصدوف أو الإعراض، عن وجه آخر للحكم مثلاً، مريداً إما الاستفسار، وإما محاولاً إبداء الرأي، فيتعرض من الأئمة لأعنف الرد وشديد الإنكار. فعن عثمان بن عمر قال: جاء رجل إلى مالك فسأله عن مسألة، فقال له: قال رسول الله كذا وكذا. فقال الرجل: أرأيت؟ فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (1) ووقع مثل هذا مع الإمام الشافعي. روى البخاري قال: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي فأتاه رجل فسأله عن مسألة. فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال الرجل للشافعي: ما تقول أنت؟ فقال: سبحان الله، تراني في كنيسة؟ تراني في بيعة؟ ترى على وسطي زناراً؟ أقول: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وأنت تقول لي: وما تقول أنت! (2)
وإنما كانت هذه المواقف شديدة وعنيفة؛ قصد حمل الناس على التقوى، وتجنيبهم الاحتكام إلى الطاغوت أو إلى الهوى، فيهلكون ويهلكون، ولكونهم بما هموا به أو فكروا فيه يشاقون الله ورسوله، ويخالفون ما في الكتاب والسنة من أحكام: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] .
__________
(1) السيوطي: مفتاح الجنة: 49
(2) ابن القيم. الصواعق: 2/563(8/1466)
ومشاقة الرسول أن يأخذ المتولي عن المنهج الرباني شقاً وجانباً وصفاً غير الشق، والجانب والصف الذي دعا إلى الالتزام به الرسول. فيكون بسلوكه هذا مناقضاً له، ومعارضاً لما جاء يحمله من عند الله من منهج كامل للحياة يشتمل على العقيدة وعلى الشعائر التعبدية، كما يشتمل على الشريعة والنظام الواقعي لجوانب الحياة البشرية كلها. (1)
وفي هذه المشاقة إزهاق لروح الإيمان، وتقويض لهيكل الدين، واختيار للضلالة، وإصرار على الانحراف، وعلى العدول عن الحق والهدى.
وقد أشارت دواوين السنة إلى ما توقع رسول الله صلى الله عليه وسلم حصوله بعد موته. فذكر ذلك البيهقي في دلائل النبوة (2) وأخرج الأئمة في كتب الحديث ما رواه أبو رافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ((لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)) . وقد روى هذا الحديث غير واحد من طرق متعددة: رواه مع أبي رافع المقدام بن معد يكرب، والعرباض بن سارية، وأبو هريرة، ومحمد بن المنكدر بألفاظ متقاربة يعضد بعضها بعضاً. (3)
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه وحذر منه، وصادف التخويف والتحذير محله في القرون الأولى بسبب ما كان من غفلة أو جهل، وظهرت طوائف في صدر الإسلام وبالخصوص في القرن الثاني، قامت على أساس عقدي أو سياسي أو مزيج منهما. وتفرعت عن قضية الإمامة، وعدالة الصحابي، ومشكلة الوضع، ونظرية التحسين والتقبيح عدة مذاهب واتجاهات مالت عن الحق والهدى، لهوى أو تعصب أو شبهات لم تقو على دفعها. وقد كان من بينها المعتزلة والزنادقة الذين وجدوا في أطراف البلاد وخاصة في المدن في زمن الأئمة الأربعة فمن بعدهم.
__________
(1) سيد قطب. في ظلال القرآن: 2/759
(2) البيهقي: 1/24
(3) حديث أبي رافع. ش. المسند، الاعتصام بالكتاب والسنة؛ د. كتاب السنة، باب لزوم السنة؛ ت. كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ جه المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه؛ حم؛ ك، الذهبي، المختصر. كتاب العلم؛ ابن وهب؛ الليث بن سعد؛ حديث المقدام؛ د، حم، ت، دي؛ حديث ابن المنكدر؛ ش، ت؛ حديث العرباض: د؛ حديث أبي هريرة: حم.(8/1467)
وتصدى لهم ولغيرهم الأئمة وأصحابهم في دروسهم ومناظراتهم وتصانيفهم للرد عليهم. (1) وقد ترك لنا رجال تلك الفترة مصنفات هامة تقف في وجه الافتراءات والإفك، وتبطل مزاعم الغواة الضالين المحاربين لدين الله وسنة رسوله، كما تشحذ العقول بما فيها من علم وتحقيق وبيان وتفصيل، مثل كتاب اختلاف الحديث للشافعي، وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، ومعاني الآثار، ومشكل الآثار للطحاوي، وتآليف أخرى كثيرة، مثل دواوين السنة، والمعاجم، والمشيخات، والمسلسلات، والطبقات، والموضوعات، وعلوم الحديث والمصطلح، وما تعاقب ظهوره على مر العصور من تصانيف في السنة وفي الدفاع عنها، إلى جانب مجموعة معتبرة من المؤلفات في الفرق والمذاهب الكلامية.
وقد أغنى، بحمد الله، ذلك جميعه عن الوقوف عند أهل هذه النزعة الباطلة من السابقين المتقدمين زماناً، لانكشاف أمرهم وتمام المعرفة من العلماء والمثقفين بهم، فحملنا هذا الواقع على الالتفات في هذا المقام إلى الموجة الحديثة لهذا التيار الهدام، والتي بدأ ظهورها في القرن الثالث عشر على أيدي المستشرقين في الشرق والغرب، وعلى أيدي أتباعهم ومقلديهم من المتغربين بالبلاد العربية والإسلامية.
وإذا كان من الطبيعي أن يجاري الدرس والبحث هذه القضية في مراحلها المتعددة وأطوارها المتلاحقة، فيبدأ بالنظر في المقدمات للخلوص إلى النتائج، وفي القواعد والأصول للانتهاء إلى التفاصيل والاتجاهات، فإن الحديث عن المستشرقين في هذه المسألة يعتبر المدخل إلى معرفة أسباب الفتنة في العصر الحديث، والمنطلق لظهور الآراء والأفكار التي انتشرت بانتشار مدارس المستشرقين وكتبهم، وبفضل هيمنتهم على الحياة الثقافية ومرجعيتهم فيها في ديارهم وخارج ديارهم، على الأقل فيما يعود إلى ما عكفوا عليه وتخصصوا فيه من موضوعات التراث العربي الإسلامي. وقد حصل لهم ذلك من جهة بما لبسوه على الناس، وتظاهروا به من منهجية، وبما حاولوا الاتصاف به من موضوعية في البحث، واستقلال في النظر، ومن جهة ثانية بخلو المجال لهم من أية منافسة تقطع عليهم الطريق، وتعوقهم عن تحقيق أهدافهم، لا سيما مع من يتعامل معهم من العامة أو من الخاصة الذين لم يشدوا من العلم الإسلامي والثقافة الإسلامية شيئاً.
__________
(1) السيوطي. مفتاح الجنة: 6- 7(8/1468)
فإذا تحولنا من هذا إلى التحقيق في أمر هذه الفئة المضلة، فإنا مع التسليم بجهودها الكبيرة، وبانقطاعها للبحث فيما تشتغل به من قضايا أو تتفرغ له من أعمال، لا نجدها إلا سطحية التكوين، خفيفاً وزنها فيما تحذق من علوم أو تتخصص فيه من فنون؛ لأنها كما قال عنها أحمد فارس الشدياق: (لم تأخذ العلم عن الأشياخ، وإنما تطفلت عليه تطفلاً وتوثبت فيه توثباً) . والذي ساقها إلى الانحراف عن الحق والدس للإسلام، مع ما وقعت وتقع فيه من أخطاء في التصورات والآراء، الوهم الغفلة والجهل الناشئ جميعه عن التوجيهات المدبرة والأحكام المسبقة.
وإنه ليس من الخفي على أحد، وخاصة على المهتمين بالاستشراق والمعنيين بتاريخه وآثاره، أن جهود هذا النوع من الباحثين قام في الأكثر من البداية على أكتاف الرهبان والمبشرين وثلة من اليهود، ثم اتصل بعد ذلك بالاستخبارات وبالسياسة الغربية الحاقدة المغرضة، فكان بالطبع ينبعث بصورة عامة في الدول الاستعمارية من الكنيسة ووزارة الخارجية، ويحمل بذور العصبية الدينية وتيارات الغزو الفكري والثقافي، مستهدفاً تقويض المجتمعات الإسلامية، وتجريدها من مقوماتها، واستلاب هويتها. فلا بدع إن رأيناه يدأب على توهين قوى الإسلام، وتمزيق شمله، وتضليل سعيه، وبعثرة العوائق أمام أممه، وبذل الجهود الماكرة الذكية لجعل المنتمين إلى الدين الإسلامي ينحرفون عنه، ويضيقون به. (1)
__________
(1) محمد الغزالي. دفاع عن العقيدة والشريعة: 342(8/1469)
وهكذا كما قرره الحذاق من علمائنا بالسنة في العصر الحاضر نجد هذه الطائفة من أمثال جولدزيهر صاحب العقيدة والشريعة في الإسلام، وكتاب دراسات إسلامية، ومن تبعه من أصحاب البحوث المدخولة المدسوسة والموجهة ضد الإسلام والمسلمين كمرغليوث وشاخت وربسون وأندرسون وشبرنجر ومويير وويل ودوزي يسير جميعهم على خطة واحدة تقوم، بسبب الغرور والتحامل، على سوء الظن والفهم لكل ما يتصل بالإسلام في أهدافه ومقاصده، وعلى الاحتقار والاستخفاف بعظماء المسلمين وعلمائهم، وعلى تشويه الحضارة الإسلامية تهويناً لشأنها وصرفاً عن معالمها وآثارها، وعلى تصوير المجتمع الإسلامي في مختلف عصوره، وخاصة في العصر الأول بالمجتمع المتهافت المتفكك. وقد كان هذا التحامل المكشوف مبنياً على الجهل بحقيقة المجتمعات الإسلامية، والحكم عليها من خلال تصوراتهم المحدودة الضيقة المتأثرة بما نشئوا عليه من أخلاق وعادات.
وقد زاد عملهم سوءاً واضطراباً المنهج الذي درجوا عليه والتزموا به، من إخضاعهم النصوص لأفكارهم المسبقة وأهوائهم المتحكمة، يختارون منها ما يقبلون، ويرفضون ما يجدونه مناقضاً لما يريدون، ثم تحريفهم لما يعتمدون منها بسبب سوء الفهم وفساد التأويل، أو تحريفهم لها تحريفاً مقصوداً يخدم أغراضهم ويقوي مزاعمهم.
وإن من أغرب ما لا يتفق مع المنهج العلمي المعروف تحكمهم في المصادر التي ينقلون منها.. فهم ينقلون مثلاً من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث، ومن كتب التاريخ ما يحكمون به في تاريخ الفقه، ويصححون ما ينقله الدميري في كتاب الحيوان، ويكذبون ما يرويه مالك في الموطأ. كل ذلك انسياقاً مع الهوى، وانحرافاً عن الحق. (1)
__________
(1) السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 188(8/1470)
وعن هؤلاء المستشرقين انتشرت حول الحديث دعاوى وشبهات كلها أو أكثرها يتصل بقضية الوضع والوضاعين. ونحن نعلم أن علماء الحديث كانوا أشد عناية بهذه المسألة، وأكثر بحثاً فيها، وتمحيصاً للأخبار من أجلها، وتأليفاً في الموضوعات والوضاعين، بما لم يدعوا معه مجالاً لقائل. فبحثوا أسباب الوضع التي كانت في الغالب سياسية أو عقدية دينية، وذكروا ما وجدوا منها له علاقة بعصبية الجنس والقبيلة، واللغة والبلد والإمام، أو كان مما افتتن به القصاصون والإخباريون، أو استزاد منه الوعاظ والدعاة قصد الترغيب أو الترهيب، أو كان له ارتباط واتصال بالخلافات الكلامية والمذهبية، أو كان الباعث عليه التقرب من الحكام والتزلف إليهم ابتغاء تحقيق أغراض دنيوية، أو سببه الإغراب في الرواية أو نحو ذلك. قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: (خالط الحديث كذب كثير صدر عن قوم قصدوا به الإضلال وتخبيط القلوب والعقائد، وقصد بعضهم التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي. ولم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا، بل ذكروا كثيراً من الأحاديث الموضوعة وبينوا وضعها، وأن رواتها غير موثوق بهم) . (1) كما وضعوا لعلم الحديث قواعد وأصولاً، وصنفوا التصانيف وكتب الرجال، وتكلموا عن التجريح والتعديل، ونوهوا بالإسناد وجعلوه من الدين. قال الشاطبي: (ولا يعنون بالإسناد (حدثني فلان عن فلان) مجرداً، بل يريدون من ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين يحدث عنهم، حتى لا يسند عن مجهول ولا مجروح ولا متهم، إلا عمن تحصل الثقة بروايته؛ لأن روح المسالة أن يغلب على الظن من غير ريبة أن ذلك الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم لنعتمد عليه في الشريعة ونسند إليه الأحكام) (2) ولا خشية على الحديث بإذن الله من وضع الوضاعين لما قدمنا، ولما يشهد له قول الخليفة العباسي الرشيد، وقد أراد الفتك بأحد الزنادقة الذي قال له: (يا أمير المؤمنين، أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم! أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام، ما قال النبي صلى الله عليه وسلم منها حرفاً! فقال له الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك! ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفاً حرفاً) (3) وإنما قام علماء السنة بهذا الدور الجليل ابتغاء تنقية الحديث، ودفع الزيف عنه، والاطمئنان إلى ما هو مثبت في الدواوين من الأحاديث الصحيحة للوثوق والاحتجاج به في الدين والعمل بموجبه.
__________
(1) ابن أبي الحديد: 2/134
(2) الشاطبي. الاعتصام: 1/225
(3) الذهبي. التذكرة: 1/273؛ ابن حجر. التهذيب: 1/252؛ السيوطي. تاريخ الخلفاء: 194؛ علي القاري. الموضوعات الكبرى: 14.(8/1471)
أما المستشرقون فقد كان غرضهم الأول التشكيك في الأخبار، والإبطال للسنة، وحمل الناس وبخاصة من خالطهم ومن ليس له حظ من العلم الديني على القول بأنها كلها موضوعة حتى المتواتر منها، أو على اعتقاد أن أحاديث كثيرة نبوية زائفة لا تقبل، أو أن أسانيد الحديث النبوي عملية ملفقة، أو أن نصف الأحاديث النبوية في صحيح البخاري ليست أصيلة وغير موثوق بها. وهي لعمري دعاوى واتهامات خطيرة بعضها أشد من بعض، يؤكد بعضها بعضاً، وهي كلها في الواقع متفقة على القدح في الأخبار والصرف عن العمل بها. فإذا تم لهم ما يريدون انهد المصدر الثاني من مصادر الشريعة الإسلامية الذي يقوم على سيرة الرسول وهديه وبيانه، والذي بينا أهميته، وألمعنا إلى عظيم منزلته، وشديد اهتمام السلف وعلماء الملة به، الذين أطلقوا عليه اسم العلم، وقصروه عليه عهداً، وبذلوا ما بذلوا من جهود في خدمته وضبطه.
ومن أجل تأصيل ما دعا إليه وروجه المستشرقون من المفتريات، وتسويغ أفكارهم أدنى تسويغ ذهب جولدزيهر ومن لف لفه إلى إشاعة بعض الآراء في أوساطهم، وبين طلبتهم ليتلقفها عنهم المهتمون بالدراسات الإسلامية في المشارق والمغارب. فكان من هذا القبيل قولهم: (إن القسم الأكبر من الحديث ليس صحيحاً ما يقال من أنه وثيقة للإسلام في عهده الأول عهد الطفولة، ولكنه أثر من آثار جهود المسلمين في عصر النهضة) . (1)
وهذه الجملة المتكونة من شقين، وإن قامت على إنكار صحة الأحاديث واعتبارها موضوعة في جملتها تدس عن طريق ذلك:
أولاً: عدم تمثيل ما كان يجري في العصر الأول الإسلامي من التحمل للحديث وروايته عن الرسول أو الصحابة، وعدم صحة ما نعرفه من طرق الرواية للسنة من أسباب صدورها عن النبي أو ملابساتها. فلا الأقوال ولا الأفعال ولا التقريرات على هذا الأساس بمسلمة أو مقبولة. ولا الجانب التاريخي الذي تسجله وتشهد له تلك الأخبار بواقع.
__________
(1) علي حسن عبد القادر، نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي: 127(8/1472)
وثانياً: ادعاء أن المتأخرين عن العصر الأول في مرحلة النضج هم الذين وضعوا الأحاديث واخترعوها تلفيقاً وابتداعاً ليقيموا بذلك ديناً ويكتبوا للعرب المسلمين تاريخاً.
ومثل هذا القول باطل ومردود، ينكره العقل والمنطق؛ لما يقتضيه الأمر من صلة قائمة بين صاحب الرسالة ومن حوله ممن أرسل إليهم، ومن بيان وتوجيه ودعوة اضطلع بها فيهم، وبلغها لمن وراءهم عن طريقهم.
ولا نظر لما قد يكون حصل من تزيد في الأخبار مما وصفه القصاصون وأصحاب النحل والأهواء لانكشاف أمرهم وتبين النقاد موضوعاتهم، وتحريهم في النقل، وتنبيههم على كل ما تشوبه أدنى شائبة من الوضع في مروياتهم.
وقالوا: (إن تعاليم القرآن تجد تكملتها واستمرارها في مجموعة من الأحاديث المتواترة، وهي وإن لم ترو عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة تعتبر أساسية لتميز روح الإسلام) . (1)
وفي هذا القول، وإن صح ما يشير إليه من اتحاد النسق بين القرآن والسنة باعتبارهما وحياً منزلاً متلواً، وغير متلو، إبعاد في إنكار السنة وعدم الوثوق حتى بالمتواتر منها.
وزادوا تأكيداً لهذا المعنى حين خلصوا إلى القول (بأن الإسلام نما على يد رجاله، وسبيل نمائه الإضافات التي جعلت كيان هذا الدين يكبر إلى حد لم يعرفه محمد نفسه، فإن ألوف الأحاديث التي ثبت أن الرسول نطق بها هي من صنع العلماء الذين أرادوا أن يجعلوا من الإسلام ديناً كبيراً شاملاً، فخلقوا هذه الأحاديث. (2)
__________
(1) محمد الغزالي: دفاع عن العقيدة والشريعة: 75
(2) محمد الغزالي دفاع عن العقيدة والشريعة: 75(8/1473)
فإذا ولى المتحاملون على السنة النبوية وجوههم قبل الحياة الاجتماعية والظروف السياسية قالوا:) سار الحديث في القرن الأول سيرة المعارضة الساكنة، بشكل مؤلم ضد أولئك المخالفين، يعنون الأمويين، للسنن الفقهية والقانونية ((1) فأساءوا) للعلماء الأتقياء الذين كانوا يجمعون الحديث والسنة حين اتهموهم بالكذب على الرسول، وهم يعلمون وعيد النبي على ذلك في قوله: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) ، (2) وحين نسبوا إليهم (اختراع أحاديث كثيرة كانوا في أشد الحاجة إليها لمحاربة خصومهم، ومقاومة الطغيان والإلحاد، والبعد عن سنن الدين) . (3) (ووقعوا في الخطأ مرة أخرى حين اتهموا الحكومة الأموية بأنها لم تقف ساكنة إزاء ذلك، فإذا أرادت أن تعمم رأياً، أو تسكت هؤلاء الأتقياء، تذرعت أيضاً بالحديث الموافق لوجهات نظرها. فكانت تعمل ما يعمله خصومها، فتضع الحديث أو تدعو إلى وضعه، وإذا ما أردنا أن نتعرف على ذلك كله، فإنه لا توجد مسألة خلافية، سياسية أو اعتقاديه، إلا ولها اعتماد على جملة من الأحاديث ذات الإسناد القوي) (4) .
وهذا الوصف وإن قامت عليه شواهد مما ذكره الأئمة النقاد، مما تبارى فيه الوضاعون من أهل هذا العصر، لكننا لا نجد في الثابت من مدونات السنة، مع كثرتها، سنداً فيه عبد الملك أو يزيد أو الوليد أو أحد عمالهم؛ كالحجاج وخالد القسري وأمثالهم، ولا دليلاً واحداً على طلب الحكومة من يصنع لها الأحاديث. (5)
ولفقوا التهم لتمرير هذه المقولة، ونسبوا للأمويين استغلالهم للزهري في هذا الأمر الجلل. وطعنوا في الإمام طعوناً، وحرفوا قوله: (إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث) بقولهم: (على كتابة أحاديث) ، وكل المؤرخين يعرفون منزلة هذا الإمام ومقامه العظيم في علم السنة. فهو الذي حفظ عنه: (ما عبد الله بشيء أفضل من العلم. وإن هذا العلم أدب الله الذي أدب به نبيه عليه الصلاة والسلام، وهو أمانة الله إلى رسوله ليؤديه على ما أدى إليه. فمن سمع علماً فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين الله عز وجل) ، كما روي عنه قوله: (إن للتعليم غوائل، فمن غوائله أن يتركه العالم حتى يذهب علمه، ومن غوائله النسيان، ومن غوائله الكذب فيه، وهو أشد غوائله) .
__________
(1) علي حسين عبد القادر. نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي: 127
(2) خ. كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث مشهور أخرجته أكثر المصادر
(3) علي حسين عبد القادر، نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي: 127
(4) علي حسين عبد القادر، نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي: 127
(5) السباعي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 205(8/1474)
ومن افتراءاتهم نسبة الكذب للصالحين، والتدليس للمحدثين، مجرين ما تلقفوه من الأوصاف على غير مدلولاتها عند أهل هذه الصناعة من طلبة الحديث ورواته.
فإذا أرادوا الطعن في الفقه الإسلامي وأحكامه نسبوا إلى المجتهدين والفقهاء (اختراع جملة من الأحاديث ليتأيدوا بها، وزعموا أن هذه الأحاديث وغيرها من النصوص المماثلة لها، والتي يسهل علينا جمعها، لا تمثل وجهات نظر خاصة بطبقة سامية الأخلاق فحسب، بل إنها لتعبر عن العاطفة العامة لفقهاء الإسلام) . (1)
ولإبطال دعاوى المستشرقين هذه وغيرها التي لا تحمل إلا مكراً، ولا تفيض إلا غيظاً وحقداً، ننوه بجهود عدد كبير من الباحثين، ونحيل على جمهرة من المحققين والمؤرخين أمثال السباعي والغزالي والمودودي والندوي، وعلى أصحاب الدراسات العلمية الجامعية من المختصين في دراسات السنة والسيرة. وذلك اختصاراً للقول لضيق المقام عن الاستقراء والتفصيل في هذه المناسبة الكريمة.
__________
(1) محمد الغزالي. دفاع عن العقيدة والشريعة: 76(8/1475)
وأما الفريق الثاني الذي ظهر في هذا العصر فهو فريق ضال مضل، نشأ على أيدي المستشرقين، وتأثر بهم، فسار على منوالهم، وهو أشبه بمن عرفناهم في القرن الثاني بالزنادقة المتأثرين بالفلسفات القديمة، والمبارزين للإسلام المحاربين له والعاملين على تقويض أصوله وهدم أركانه.
ولقد تعاون الاستعمار الغربي وعلماء الاستشراق على التخطيط لغزو العالم الإسلامي فكرياً، وترسيخ مفاهيم الغرب فيه، وتصورات الحضارة المادية بين أفراده ومجتمعاته. فكان التفسخ والتمزق والانحلال في المجتمع والفكر والسلوك في حياتنا، وعلى امتداد العالم الإسلامي تغذي ذلك كله وتقوم به مؤسسات ودوائر ظاهرة ومستخفية، جعلت من الدروس العلمية ذريعة لغايات سياسية ودينية. وهذا الغرض العام من السياسة الاستعمارية في البلاد الإسلامية هو الذي يعلن شاتلي عنه في مجلة العالم الإسلامي في بداية هذا القرن، العشرين، ويصرح: (بأنه لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنسية، نظراً لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة) . ويمضي فيقول: (وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنسية.. ولا ينبغي أن نتوقع من جمهور العالم الإسلامي أن يتخذ له أوضاعاً وخصائص أخرى إذا هو تنازل عن أوضاعه وخصائصه الاجتماعية؛ إذ الضعف التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإسلامية، وما يتبع هذا الضعف من الانتقاص والاضمحلال الملازم له سوف يفضي بعد انتشاره في كل الجهات إلى انحلال الروح الدينية من أساسها، لا إلى نشأتها بشكل آخر) (1)
وجاء هؤلاء المتغربون بعد التخرج على تلك المناهج، سواء في ديارهم أو في الدول الاستعمارية، مع قلة معرفتهم بدينهم، وإساءتهم الفهم والتصور لأصوله ومبادئه، وقيمه وأخلاقه، فتفلسفوا ونظروا، وأخضعوا كل شيء لما تلقوه أو شدوا جزءاً منه في تلك الجامعات، أو مارسوه في الحياة العملية في تلك المجتمعات، وتحقق على أيديهم أكثر مما تحقق على أيدي أساتذتهم ومعلميهم الأجانب.
__________
(1) الغارة على الإسلام: 9 - 18(8/1476)
وفتنت المدنية الغربية وبخاصة الأمريكية قلوب هذه الفئة، فأصبحت تقارن بها كل ما تراه خيراً من أوضاع العالم الإسلامي وأحواله في القديم والحديث، كما تعتبرها معيار التقدم، فلا تتردد أن تقول في جرأة على لسان أحمد زكي أبو شادي: (ولذلك قلنا مراراً: إن مبادئ الإسلام نظرياً وعملياً هي أقرب ما تكون لمبادئ الحضارة الأمريكية والحياة الأمريكية تفكيراً وسلوكاً. فهل يتنبه المسلمون إلى هذه الحقيقة الراسخة فيفلحوا!) (1) وتقول أخرى على لسانه أيضاً وهو يتحدث عن الحرية والدفاع عنها: (وما الدفاع الذي تقوم به أمريكا على العالم الحر إلا صنو الدفاع الذي رفع لواءه محمد في قتاله الجبابرة المتقدمين) . (2)
وبعد تصوير هذا التقارب أو التجانس قارنوا مقارنة ثانية بين حاضر الغرب وحاضر العالم الإسلامي، وبارتفاع شعورهم بالانهزام الفكري والعقلي أخذوا في تحقير علومهم وآدابهم، وفي التنكر للصفوة من علماء الإسلام ومفكريه. ثم بشكل إيحائي دعوا إلى الاعتبار بهذه الأوضاع وإلى وجوب التغيير قائلين: (ومع علم أولئك المستشرقين كعلم المستنيرين من المسلمين بأن الجمهرة من الأحاديث النبوية مختلقة اختلاق الإسناد نفسه الذي لم يكن معروفاً في فجر الإسلام، فإن حظهم هو التعلق بكل سخيف حقير منها) . (3)
ثم يمضي في حقد وتهجم كأنه مدفوع أو موكل بنقض مصادر الثقافة الإسلامية، وما تركه المفسرون والمحدثون من آثار تشهد بأعمالهم وجهودهم واجتهاداتهم فيقول: (وأما التغني بأبي داود والترمذي والنسائي إلخ ... وترديد الأحاديث الملفقة التي لا تنسجم وتعاليم القرآن، وأما سوء تفسير آيات الكتاب العزيز، وأما الجهل بروح القرآن التي تشع من وراء هذه الآيات، وأما التنازل عن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان فبمثابة الخيانة لرسالة الإسلام الخالدة) . (4)
__________
(1) ثورة الإسلام: 57
(2) ثورة الإسلام: 61
(3) ثورة الإسلام: 17
(4) ثورة الإسلام: 25(8/1477)
وربما أوضح المراد من هذه الجملة ما أورده الندوي في وصف هذا الفريق، وما ذكره من عوامل فكرية صاغت تصوراته وأغراضه حين قال: (إنها ترتكز على أساس تقليد الحضارة الغربية وأسسها المادية واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها على علاتها، وتفسير الإسلام والقرآن تفسيراً يطابق ما وصلت إليه المدنية والمعلومات الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر، يطابق هوى الغربيين وآراءهم وأذواقهم، والاستهانة بما لا يثبته الحس والتجربة، ولا تقرره علوم الطبيعة في مبادئ النظر من الحقائق الغيبية وأمور ما بعد الطبيعة) (1)
وما من شك في أن هذا الاتجاه كان وما يزال يعتمد في مجال التغيير والتحديث على دعوة المسلمين إلى تقليد الغربيين في أمور الدنيا والدين. فذلك سبيل التقدم والرقي والحضارة، وهو سبيل اللحاق بركب الدول المتحضرة. فلا بدع إذا أصبح من أصول هذا الاتجاه في التفكير والعمل، في العقيدة والسلوك، إنكار ما تنكره الثقافة الغربية ولو كان ديناً، وقبول ما تدعو إليه وتقره تلك الثقافة ولو كان مخالفاً للدين ولما عليه جمهور المسلمين.
ولتأكيد هذا المعنى يعود أحمد زكي إلى تفسير هذه الظاهرة فيصدر فتواه في القضية قائلاً: (ومن البداية أقر الإسلام بأن شرحه في أيدي أهل العلم المتخصصين، لا في أيدي رجال من الكهنوت؛ إذ لا كهنوت في الإسلام، وبذلك كان ديناً تقدمياً إلى أبعد الحدود وإلى ما شاء الله) . (2)
ولإقناع الناس بهذا المنهج التبعي الانهزامي قام المتغربون في الأول بهجومهم على الإسلام ومصادره بالخصوص، وعلى السنة الشريفة النبوية بطريقة ماكرة: (متقنعين بستار العلم والبحث، متجنبين المصارحة، مفضلين عليها المواربة والمخاتلة) . (3)
ولما افتضح أمرهم وكثرت الردود عليهم، وصودرت كتبهم ورسائلهم، نصحهم أحد كبرائهم بقوله: (إن الأزهر لا يقبل الآراء العلمية الحرة، فخير طريقة لِبَثِّ ما تراه مناسباً من أقوال المستشرقين ألا تنسبها إليهم بصراحة، ولكن ادفعها إلى الأزهريين على أنها بحث منك، وألبسها ثوباً رقيقاً لا يزعجهم مسها) (4)
__________
(1) الندوي: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية: 71
(2) ثورة الإسلام: 63
(3) السباعي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 236.
(4) السباعي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 238(8/1478)
وبهذه النصيحة أخذ المضللون هنا وهناك يدعون إلى موالاة الأعداء على حساب ثقافتهم الإسلامية، والروح الديني المميز لجماعتهم. وكأنهم لا يذكرون ما نبههم إليه القرآن في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] .
قال الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور: (إن لا تفعلوا قطع الولاية معهم، أي المشركين، تكن فتنة ... والفتنة اختلال أحوال الناس التي تحصل من مخالطة المسلمين مع المشركين ... وقد كان الإسلام مثيراً لحنق المشركين عليه. فإذا لم ينقطع المسلمون عن موالاة المشركين يخشى على ضعفاء النفوس من المسلمين أن تجلبهم تلك الأواصر، وتفتنهم قوة المشركين وعزتهم، ويقذف بها الشيطان في نفوسهم، فيحنوا إلى المشركين ويعودوا إلى الكفر) . (1)
وقال سيد قطب: (ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص، ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى. فإذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض، فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي – لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفراداً- وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده، ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام، وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله، ووقوع الناس عبيداً للعباد مرة أخرى، وهو أفسد الفساد) (2)
وقد ظهرت بالمشرقين الأدنى والأقصى من بداية هذا القرن الميلادي ثلة من هذا الرهط الأفاك ذي البضاعة المزجاة من الثقافة الإسلامية، المتعالم فيها، الموالي بروحه وعقله ووجدانه لقادة الفكر الاستعماري والاستشراقي. فسارت على غرارهم تشكك في مصادر الإسلام، وتطعن في الدين، وتنقض أصوله وقوانينه، مستجيشة بذلك قلوب المؤمنين الذين وثبوا مسارعين من جديد إلى رعاية الإسلام ومصادره، فكره وفقهه، أدبه وتاريخه، يدعون إلى ربهم، ويثبتون أفئدة أهل ملتهم كاشفين ما يضمره أعداؤهم من الممالاة والمناوءة، حتى افتضح أمر المتغربين، وخسئوا بما فعلوا {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] .
__________
(1) ابن عاشور. التحرير والتنوير: 10/88
(2) سيد قطب. في ظلال القرآن: 3/1559(8/1479)
وطلائع هذه الفتنة في البلاد العربية من المتغربين كثر، قامت دعوتهم على إنكار السنة والتهوين من شأنها؛ إبطالاً لحجيتها ودفعاً لوجوب العمل بها، والتنويه بأن الإسلام يمثله القرآن وحده لأنه الوحي والذكر، ولأنه متواتر، ولأن الله التزم بحفظه، وعني الرسول من أول الأمر بتدوينه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } [فصلت: 42] . وهذه الدعوة أو المقارنة بين الكتاب والسنة جهل وإفك وتضليل وتعطيل. وهي وإن راجت على طائفة من الناس زمناً قصيراً، غير أن ما قامت عليه من دلائل وشبه لم ينهض أمام النظر، ولم يلبث أن تبدد وانحسر عند التأمل والفحص.
قالوا: إن في القرآن لوفاء وغنية وتبياناً لكل شيء. أكدت ذلك آياته وأجمع المسلمون كلهم على اعتقاده. قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . وقال جلت حكمته: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] . فهل يحتاج بعد هذا إلى مزيد تفصيل أو إلى إضافات تكمل الوحي المنزل؟
بل ألم يعلم هؤلاء أن القرآن اشتمل على أصول الدين كلها، وعلى قواعد الأحكام العامة، فنص على بعض هذه الأحكام بصراحة، وترك بيان البعض الآخر للرسول المبلغ عن الله، والواجب اتباعه وطاعته بأمر من الله. قال الشافعي: (فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. قال الله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1] ... فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه، قبل عن رسول الله سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل لما افترض الله من طاعته) . (1)
وقالوا: إن الله أحاط كتابه بأسباب العناية والحفظ، فقال جل ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . فهل وجدت السنة مثل ذلك أو حظيت بشيء مما اختص به الكتاب؟ أجل إن السنة علم تلقاها المؤمنون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعلموها منه، وتم على مر السنين جمعها وتدوينها، كما قيض الله لها من يحرسها من الزيادة والوضع، والغلو وفساد التأويل، فأوكل بها أئمة حفظوها ورووها وبلغوها عن نبيهم لما فيها من هداية وحكم. وقد أمر الله عباده للخروج من الحيرة واللبس، بطلبها ممن اختص بمعرفتها فقال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . وهل الذكر إلا كل وحي نزل من عند الله. فهو واقع على الكتاب والسنة جميعاً. وهي وحي غير متلو، تولى نبينا صلى الله عليه وسلم بيان القرآن للناس بها.
__________
(1) الرسالة: 20/48، 33/102(8/1480)
(وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله فيه بلفظه، لكن ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ، ولا مضمون سلامته مما ليس منه، فقد بطل الانتفاع بنص القرآن، فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا منه، فإذن لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها) . (1)
وحاولوا إثبات موقفهم من السنة، وتأكيد آرائهم الموروثة فيها عن السابقين، وبخاصة المستشرقين، بالاستناد إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بكتابة الحديث، بل نهى عن ذلك، وأن الصحابة والتابعين لم يولوه العناية اللازمة من أجل جمعه وتدوينه، فصار بسبب ذلك ما وصل إلينا منه بعد التدوين ظني الثبوت، لا يصح الاحتجاج به. ويؤيد هذا الموقف ويدعو إلى الالتزام به قوله جل وعلا في الرد على المشركين: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 148] وتوجيهه أمره سبحانه لنا بقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] .
وهذا الكلام ظاهر البطلان؛ لأن النهي عن كتابة الحديث في زمن الرسول كان من أجل عدم اختلاط الكتاب بالسنة، والأصل المنزل به القرآن بما يتصل به من بيان أو تفسير من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قاعدة عامة اقتضاها ظرف خاص وحالة معينة. وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لبعض الصحابة بكتابة الحديث، والشواهد على هذا مثبتة في كتب العلم. أما الصحابة والتابعون فكانوا يتلقون ويتحملون مباشرة عن النبي، أو عن الصحابة، وكانوا يعتمدون الحفظ في ذلك الزمان أكثر من الكتابة والخط، وكانوا يتعاونون على الرواية والحفظ، فلم يحتاجوا إلى الجمع ولا إلى التدوين. فلما خشي المؤمنون على ذهاب السنة بذهاب حفاظها أقبلوا على طلبها، وبذلوا في ذلك كل الجهد مع الضبط والتحري. ويكفي ذلك للتأكد من صحة المرويات من الحديث؛ إذ لا يلزم لثبوت الأخبار والجزم بصدورها عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون مكتوبة مدونة، بل يكفي في ذلك أن تكون متواترة أو منقولة عن العدول الثقات الأثبات. وفي الحفظ والضبط في ذلك الوقت غنى عن الكتابة.
ولا يقال: إنها ظنية لا تفيد علماً ولا يجب العمل بها؛ لأن الظن، وبخاصة في الدين، لا يغني عن الحق شيئاً؛ لأن هذا الشرط وإن كان معتمداً في أصول الدين لكفر من جحدها أو شك فيها كالوحدانية والرسالة وأركان الإسلام وما علم من الدين بالضرورة، فإنه غير لازم في الفروع والأحكام كما هو مقرر عند الأصوليين.
__________
(1) ابن حزم: الإحكام: 6/121(8/1481)
وربما سعوا بعد ذلك إلى تأكيد مزاعمهم بأحاديث، فركنوا إلى السنة نفسها يبحثون عن أدلة منها تقتضي عدم اعتماد الحديث إذا كان مخالفاً للقرآن، فتوجب عرضها على القرآن. وذلك مثل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ((إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس مني)) (1) وأحاديث أخرى تشبهه. وقد تبين بالرجوع إليها كلها أن أسانيدها منقطعة وأن فيها رجالاً مجهولين ومتهمين، وأن طالب العلم لا يتردد في الجزم بتهافتها وضعفها. وهي معارضة لما ثبت من السنة مما تقدمت الإشارة إليه من أحاديث أبي رافع والعرباض والمقدام بن معد يكرب ومحمد بن المنكدر.
تلك هي الشبهات التي وجهها قالة هذه الفئة إلى السنة. وقد فصلها تفصيلاً الطبيب المصري توفيق صدقي في مقالتين نشرتا له بعنوان (الإسلام هو القرآن وحده) . (2)
وذكر لنا بعض من ترجم له، أنه آب إلى رشده ورجع عن آرائه في آخر عمره. (3)
__________
(1) قال البيهقي: رواه خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابي. فالحديث منقطع؛ السيوطي. مفتاح الجنة: 15
(2) مجلة المنار س 9، عدد 9/12
(3) محمد طاهر حكيم، السنة في مواجهة الأباطيل: 57(8/1482)
وقد انضم إليه أحد الأدباء اللامعين خريج القضاء الشرعي وعميد كلية الآداب بالجامعة المصرية سابقاً الدكتور أحمد أمين، ففتح الباب على مصراعيه لنشر آراء جولدزيهر، وبتزويقها أدنى تزويق مع البعد عن المنهجية العلمية، روج بين العامة في حديثه عن السنة (1) آراء وأفكاراً لم يكن أحد يتصور صدورها عن مثله من رجال الأدب العربي والفكر الإسلامي. وهو في اعتقادي لم يتناول جوانب لم يتعرض إليها أسلافه بقدر ما تفلسف فيما وقف عليه منها، أو حاول شرحه وتفصيل القول فيه، بطريقة تجعله في تصور أهل عصره من الباحثين المجددين.
كانت أهم القضايا التي تعرض إليها في فصل الحديث ستة: تدوين الحديث، عدالة الصحابي، الوضع، البخاري وصحيحه، ابن المبارك، النقد. وهذه الموضوعات بعضها آخذ برقاب بعض لشدة الاتصال بينها. وهو في كل واحدة منها، وإن كان أمرها غير خفي، يحاول أن يجعل منها متكأ، بل منطلقاً إلى التشكيك أو ترويج شبهة.
فالتدوين بالقطع لم يكن في عهد الرسول، بمعنى أن الحديث لم يكتب ولم يوضع له كتاب خاص به في ذلك الوقت. وكان الاعتماد فيه على الذاكرة؛ أي: على الحفظ، فلم يكن من الصحابة إلا قليل يكتب لنفسه. ورواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كانت تكثر وتقل بحسب أمزجة الناس، وما اشتهروا به من كراهة التحديث أو رغبتهم في الإكثار منه. وبدل أن يقف أحمد أمين عند هذه المسألة فيبين مدى اعتماد الناس على الذاكرة، وعادة العرب في ذلك، وطرق التحمل للعلم، والاحتياط في الرواية والضبط والحفظ للحديث، يسرع إلى القول بما يؤكد أن الكتابة قيد، وأن الذاكرة خؤون، وأن الصحابة لا يسلمون بصحة حديث حتى يجدوا من الرواة من يشهد له. وقع ذلك كثيراً في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، وإذا قامت الرواية في هذا العهد حسب ظنه على الريبة وقلة الاطمئنان، فالأمر يرجع بدون شك في التقدير إلى المحدث الصحابي الذي تتلقى منه الأخبار ويتحمل عنه الحديث، وإلى ما انتشر وينتشر في ذلك الزمان من أحاديث وأخبار لا تعد ولا تحصى كثرة في مختلف الموضوعات والأغراض وما يحتاج الناس إلى معرفته من أمور دينهم ودنياهم.
ومن هذه الجزئية ننتقل إلى أول الأمرين لنرى موقف الكاتب من الصحابة ومدى جواز الاعتماد على ما يروونه ويحدثون به من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: (وأكثر هؤلاء النقاد، يعني نقاد الحديث، عدلوا الصحابة كلهم إجمالاً وتفصيلاً، فلم يتعرضوا لأحد منهم بسوء، ولم ينسبوا لأحد منهم كذباً، وقليل منهم أجرى على الصحابة ما أجري على غيرهم.) (2) وفي هذه الجملة وما تضمنته من حكم مغالطة؛ لأن نقاد الحديث جميعهم لا أكثرهم مطبقون على عدالة الصحابي. قال الذهبي: (فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى ... إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، وبه ندين الله تعالى) (3) وقال ابن كثير: (والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة) . (4)
فالقليل الذي أجرى عليهم ما أجري على غيرهم لم يكن يعد من النقاد ولا من العلماء الصادقين الذين نهضوا بتنقية الحديث مما خالطه وتمييز جيده من رديئة كما زعم أحمد أمين، ولكنه من الفرق السياسية المعروفة بمواقفها من الصحابة وتقسيمها لهم.
__________
(1) فجر الإسلام: 225 - 274
(2) فجر الإسلام: 265
(3) رسالة في الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم: 4
(4) اختصار علوم الحديث: 220(8/1483)
وبعد هذا التمهيد ينتقل صاحب فجر الإسلام من الحكم العام الذي دس له وأراد إثباته إلى صورة تطبيقية تلقفها عن أستاذه جولدزيهر فجعل منها مثالاً للطعن والمؤاخذة، يستدل بها أولاً على ما أراده من كون الصحابة مثل غيرهم من الناس، وأن بينهم تفاوتاً، وأن بعضهم ينتقد بعضاً، فيورد دسائسه حول أبي هريرة رضي الله عنه للتهوين من شأنه، وحمل الناس بعد ذلك على الصدوف عن الرواية والشك في الحديث بصفة عامة.
وجملة ما ذكره من ذلك: أن بعض الصحابة كابن عباس وعائشة ردوا عليه بعض حديثه وكذبوه.
وأن بعضهم أكثر من نقده وشك في صدقه.
وأنه لم يكن يعتمد في روايته على الكتابة ولكن على الذاكرة وحدها.
وأنه كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروي عن الصحابة ما قد يكونون انفردوا به من الرواية عنه.
وأن الحنفية تركوا حديثه إذا عارض القياس لأنه لم يكن فقيهاً.
وأن الوضاع استغلوا شهرته بسعة الرواية فزوروا عليه أحاديث كثيرة.
وهذه المطاعن الملفقة لا تثبت بعد فحصها والإمعان فيها. فردود ابن عباس وعائشة على أبي هريرة هي من النقاش العلمي المحض المبني على اختلاف الأنظار في استنباط الأحكام والاجتهاد، وزعمهم مجانبة أبي هريرة الصدق لكثرة ما روي عنه يبطله ما رواه مسلم من قوله: (إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم، وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا) (1) وإن في هذه الملازمة لحرزاً وغنى، واعتماده على السماع دون الكتابة هو الظاهرة الغالبة على أهل ذلك العصر، ورواية السماع عند أهل الحديث أولى، وهي مقدمة على الكتابة؛ لبعدها عن طور التصحيف والغلط. وسماعه من الصحابة ما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مرسل الصحابي، وحكمه حكم المرفوع. وقد أجمعوا على الاحتجاج به، ورد خبره عند الأحناف يخضع لقاعدة عندهم وليس خاصاً بأبي هريرة. قال فخر الإسلام: (إن كان الراوي من المجتهدين كالأربعة والعبادلة وغيرهم قدم الخبر، وإن كان من الرواة وعرف بالعدالة دون الفقاهة كأبي هريرة فلا يترك خبره بمعارضة القياس إلا عند انسداد باب الرأي كحديث المصراة) (2)
__________
(1) م: 2/1940 – 44 كتاب فضائل الصحابة ح 2492
(2) نقل السباعي عن مسلم الثبوت. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 315(8/1484)
وأما تزوير الوضاعين فليس مقصوراً عليه، فقد زوروا على عمر وعلي وعائشة وابن عباس وابن عمر وجابر وأنس وغيرهم. فلا حجة فيه.
ولا تنال هذه الدعاوى من مكانة أبي هريرة رضي الله عنه فقد قال الشافعي: (أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره) (1) وقال البخاري: (روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم، وكان أحفظ من روى الحديث في عصره) (2)
وأما الأمر الثاني المتمثل في انتشار الرواية وكثرة ما يروى من الأحاديث. فهو حجر الزاوية عند بحث قضية الوضع لدى المتقدمين والمتأخرين جميعاً، وهو يضع أمامنا عند تتبع مقالة أحمد أمين عدة أسئلة، نقتصر على ثلاثة منها:
الأول: متى بدأ الوضع؟
الثاني: ما هو القول المعتمد بشأن أحاديث التفسير؟
والثالث: من أين جاءت هذه الأحاديث الكثيرة التي انتقى منها البخاري جامعه الصحيح؟
وهذه الأسئلة أو التساؤلات هي التي تكشف عن مكمن الخطأ وموضع الارتياب الذي يعالج به صاحب فجر الإسلام قضية الحديث والرواية.
فللإجابة عن السؤال الأول يقول المؤلف عن نشأة وضع الحديث: (ويظهر أن هذا الوضع حدث في عهد الرسول، فحديث ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) يغلب على الظن أنه إنما قيل لحادثة زور فيها على الرسول) (3) وهذا الافتراض باطل من وجوه: أولها أن الوحي محفوظ مما قد يداخله أو يختلط به ما دام القرآن ينزل والرسول يبلغ. وقد تكفل الله تعالى لذلك بحماية دينه وسلامة أصول تشريعه من الكتاب والسنة.
__________
(1) الرسالة: 281/372
(2) الذهبي. التذكرة: 1/33
(3) فجر الإسلام: 258(8/1485)
فلا يتصور، كما هو يقين هذه الأمة، حدوث الوضع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو حصل ذلك لبلغ إلينا متواتراً لشناعته وسوء أثره، ولوجوب التنبيه عليه من الرعيل الأول القوي الإيمان الشديد التمسك بالدين. فلا يسكت عن مثله حتى يأمن الناس بوائقه. وعلى صحة هذا الافتراض فأين سبب ورود هذا الحديث؟ ولم لم يتحدث المؤرخون والمحدثون عن ملابساته؟ فكل ما أمكننا الوقوف عليه أن هذا الحديث قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما طلب من أصحابه أن يبلغوا عنه. فأوصاهم بالتحري، وحذرهم من التقول عليه. وقد جاء هذا الحديث في سياقات مختلفة: رواه البخاري من حديث المغيرة، وهو في الجنائز، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو في أخبار بني إسرائيل، ومن حديث وائلة بن الأسقع وهو في مناقب قريش، (1) ومسلم من حديث علي وأنس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري، (2) والترمذي من حديث ابن مسعود وعلي وأبى بكر وعمر وعثمان والزبير وسعيد بن زيد وعبد الله بن عمرو وأنس وجابر وابن عباس وأبي سعيد وغيرهم، (3) وأحمد بن حنبل من حديث أبي موسى الغافقي. (4) وليس فيها جميعها دليل يشهد لما ذهب إليه صاحب فجر الإسلام. ولا تنهض دليلاً على ما ادعاه الروايتان الأخريان التي ذكر إحداهما الطحاوي في مشكل الآثار، (5) وثانيتهما التي أوردها الطبراني في الأوسط، (6) وذلك لضعف سنديهما، ونكارة متنيهما، وتعلق الحديث فيهما بتزوير حادث دنيوي خاص بالمزور، ولكون من يروى عنه حصول هذا الحادث له مجهولاً.
أما أحاديث التفسير فإن النتيجة التي توصل إليها المؤلف بعد النظر والبحث هي قوله: (وحسبك دليلاً على مقدار الوضع أن أحاديث التفسير التي ذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: (لم يصح عنده منها شيء) قد جمع آلاف الأحاديث) . (7) فبين ما يروى من أحاديث في هذا الباب وبين حكم الإمام أحمد وهو من هو معرفة بالحديث، بل بين ما يرويه هذا الإمام نفسه في مسنده من أحاديث التفسير، وبين ما نقله عنه أحمد أمين من رأي أو حكم بشأن هذه الأحاديث تقابل مطلق وتناقض كامل.
ولتصوير الحقيقة على الوجه الصحيح لا بد أن نذكر أن من وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم كما صرح بذلك القرآن أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم. ولا شك في كونه قد قام بذلك على الوجه الأكمل. فكان يبين لأصحابه معاني القرآن كما يبين لهم ألفاظه. روى عنه من تلقى ذلك منه، واتخذوه لهم شرحاً وتفصيلاً وبياناً وتوجيهاً. فلا غرو إذا نقلت عنه أحاديث كثيرة في هذا المعنى. ونحن نعلم تقيد العلماء بها وبالخصوص في المتشابه من القرآن حتى روي عن الشافعي أنه قال: (لا يصح تفسير المتشابه إلا بسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو خبر عن أحد أصحابه أو إجماع العلماء) (8) وقال الطبري في شروط التفسير والمفسر: (إن مما أنزل الله من القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره - واجبه ونهيه وندبه وإرشاده- وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه وحدوده ومبالغ فرائضه ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آيه التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته) . (9)
__________
(1) ابن حجر. فتح الباري: 1/164
(2) ابن حجر. فتح الباري: 1/164
(3) ت: 5/35 – 42 كتاب العلم، 8 باب ما جاء في تعظيم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4) حم: 4/334
(5) الطحاوي: 1/164
(6) السباعي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 240
(7) فجر الإسلام: 529
(8) مختصر البويطي.
(9) الطبري. جامع البيان عن تأويل القرآن: 1/74(8/1486)
ونعلم أيضاً أن بعض العلماء المتقدمين كان يرى فيما نقله عنه السيوطي: (أنه لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن إلا بما ورد عن الرسول، وإن كان عالماً أديباً متسعاً في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم) (1) وكل هذا يفسر إقبال أصحاب دواوين السنة على جمع أحاديث التفسير وتدوينها في مصنفاتهم وبين مروياتهم.
والذي يتبين من هذا كله أن ما نقله الكاتب في فجر الإسلام عن الإمام أحمد غير صحيح، إنما صح عنه قوله: (ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي) ، أو: (ثلاثة كتب لا أصل لها: المغازي والملاحم والتفسير) روايتان.
وفي هذا القول المنقول عنه نفي للصحة لا يستلزم الوضع ولا الضعف. ومن هذا الباب روي عنه قوله: (لا أعلم في التسمية - أي بالوضوء - حديثاً ثابتاً) . قال ابن حجر: (لا يلزم من نفي العلم ثبوت العدم، وعلى التنزل: لا يلزم من نفي الثبوت ثبوت الضعف لاحتمال أن يراد بالثبوت الصحة فلا ينتفي الحسن) (2) وقد يكون المراد من قول الإمام نفي كتب خاصة لهذه العلوم، أو أن ما صح في هذا الباب من الأحاديث قليل وأن الذي يغلب على سائرها، وهو الأكثر، الوضع أو الضعف.
وأما أحاديث البخاري التي انتقى منها صحيح جامعه فإن الاتهام والشك مسلطان على وفرتها وتحديدها بستمائة ألف، كما هو واقع بشأن الصحيح منها. وتساءل الناقد: كيف يصح ذلك؟ وأين ذهبت تلك الأحاديث كلها؟ والجواب عنه: أن أبا زرعة كان يحفظ أكثر من ذلك. قال أحمد بن حنبل: (صح من الأحاديث سبعمائة ألف وكسر، وهذا الفتى قد حفظ سبعمائة ألف) (3) ولا يلزم أن تكون هذه الأحاديث كلها متصلة مرفوعة؛ فقد يكون فيها أخبار وموقوفات وآثار. وقد لا تكون الأحاديث مع هذه الكثرة مختلفة المواضيع ولكنها بضم طرقها المتعددة إليها يزداد عددها ويتضاعف أضعافاً كثيرة.
__________
(1) الإتقان: 2/180
(2) نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار
(3) الخطيب البغدادي. تاريخ بغداد: 10/332؛ السمعاني. الأنساب: 6/36(8/1487)
أما زعمه أن ما صح عند البخاري هو أربعة آلاف حديث من غير المكرر لا غير فترده أقوال العلماء. ذكر ابن الصلاح في مقدمته: (فقد روينا عن البخاري أنه قال: ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لملال الطول) (1) وروينا عن مسلم أنه قال: (ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه) (2)
وقال ابن كثير: (إن البخاري ومسلماً لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث؛ فإنهما قد صححا أحاديث ليست في كتابيهما كما ينقل الترمذي عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده بل في السنن وغيرها) (3)
ولا يقف كما قدمنا مكر أحمد أمين عند هذا الحد من توجيهه الطعون للسنة وترويجه الشبهات حولها، فيقفز إلى شنعة أخرى يرددها عن المستشرقين هي اتهامهم علماء المسلمين بقصر النظر، والاكتفاء من العلم بالكتاب والسنة والتدبر لهما والتعمق في دراستهما، آخذين في كل شيء بالمنقول أو العلم النقلي دون ما يمكن أن تهدي إليه مسالك المعقول أو النظر العقلي. وقبل القيام بدراسة موضوعية تعينه على تصور مناهج المحدثين في النقد ودراستها يسبق، كما هي عادة من في قلوبهم مرض ممن يريدون فرض تصوراتهم بأي شكل ومن أي طريق، إلى اتهام الأئمة والطعن في مكاناتهم والقدح في أحكامهم، إضعافاً لشأنهم وصرفاً للطلاب والباحثين عنهم.
__________
(1) ابن الصلاح. علوم الحديث: 19
(2) المقدمة: 20؛ م: 1/304 – 4 كتاب الصلاة، 16 باب التشهد في الصلاة، ح 63.
(3) اختصار علوم الحديث: 9 -10(8/1488)
فقد أورد في كتابه بشأن عبد الله بن المبارك، الذي عده ابن مهدي أحد الأئمة الأربعة مع الثوري ومالك وحماد بن زيد، وقال عنه النسائي: (لا نعلم في عصر ابن المبارك أجل من ابن المبارك ولا أعلم منه ولا أجمع لكل خصلة محمودة منه) (1) وذكره ابن معين: (ما رأيت من محدث لله إلا ستة، منهم ابن المبارك. وكان ثقة عالماً متثبتاً صحيح الحديث، وكانت كتبه التي حدث بها عشرين ألفاً) (2) قال عنه في معرض حديثه عن الوضاعين: (وبعضهم كان سليم النية يجمع كل ما أتاه على أنه صحيح، وهو في ذاته صادق، فيحدث بكل ما سمع، فيأخذه الناس عنه مخدوعين بصدقه، كالذي قيل في عبد الله بن المبارك إنه ثقة صدوق اللسان، ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر) (3)
وبهذه الشهادة التي لفقها، وتبرع بها، قصد نقد مقالات الأئمة السابقين في ابن المبارك، أراد أن يركز في أذهان معاصريه ومن يأتي بعدهم أن هذا العالم الناقد كان من الوضاعين وأن به غفلة، وأن سلامة نيته مع صدقه كانا سبباً في رواية الباطل عنه، وانخداع الناس به.
وقد تولى الدكتور السباعي الرد عليه في ذلك، وخطأه فيما أدلى به من كلام مسلم الذي حرفه عن أصله الذي ورد به. وقال: إن عبارة مسلم في الصحيح هكذا: (حدثني ابن قهزاد قال: سمعت وهباً يقول عن سفيان عن ابن المبارك قال: بقية صدوق اللسان، ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر) (4) و (بقية) لا ثقة هنا هو أحد المحدثين في عصره. فالكلام المستشهد به كان في ترجمة رجل آخر هو بقية، لا مقالة لمسلم يصف بها ابن المبارك. وإذا كان هذا التلاعب أو الخطأ في النقل أصلاً لما يبني عليه من تصورات وأحكام، فإن المترتب على الفاسد فاسد. وتكفي للوقوف على وجوه الرد على هذه المقالة العودة إلى كلام السباعي. (5)
أما اعتماد الحديث بكثرة في الأحكام الشرعية وعدم اللجوء إلى المصادر العقلية في ذلك فالكلام فيه يطول. وهو مبسوط في كتب أصول الفقه، يعرفه كل من شدا مبادئ هذا الفن، أو ألم بصورة مجملة مما حرره العلماء والمؤرخون في كتب التشريع الإسلامي.
__________
(1) ابن أبي حاتم. الجرح والتعديل. المقدمة: 262 - 280
(2) السيوطي. طبقات الحفاظ: 123 رقم 249
(3) فجر الإسلام: 260
(4) السباعي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 252
(5) كتاب السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 250 - 254(8/1489)
وزعمه أن نقد متون الحديث لم يحظ بكبير اهتمام من علماء السنة كالأسانيد، واقتراحه في هذا العرض وجوهاً وملاحظات لا بد من اعتبارها والالتفات إليها للوثوق بالأخبار تعوزه النظرة الفاحصة، والوقوف على ما كتبه علماء هذا الفن، والاستقراء لما اعتمده النقاد من أصول في علمي التجريح والتعديل، ولما وضعوه في كتب الحديث من قواعد. ولعل الذي حمله على سلوك هذا المنهج حرصه على بث الشك والريبة في قلوب قرائه وعقولهم، لذا أتبع مقالته تلك بأمثلة وشواهد من الأحاديث الصحيحة يعرضها على طريقته في النقد، للحمل على استنكارها وردها، توصلاً إلى هدفه وبلوغاً إلى مقصده من حديثه عن السنة.
وذهب أحمد أمين بعد ذلك بخيره وشره، وترك بمواقفه التي ألمعنا إليها وناقشناها القول في بعضها مدرسة تذهب مذهبه وتردد أقواله من أبرز أعلامها كاتبان:
أولهما د. إسماعيل أدهم الذي أحدث كتابة (تاريخ السنة) ضجة كبرى في الأوساط العلمية والإسلامية، وهو كتاب خطير كذب فيه أحاديث الكتب الصحاح، وتولى د. محمد مصطفى الأعظمي تعقب أقواله والرد عليه في كتابه دراسات في الحديث النبوي (1)
وثانيهما د. محمود أبو رية صاحب كتاب (أضواء على السنة المحمدية) ، وقد اشتهر أمره وكثر الحديث عنه، وقال عنه السباعي: (فلما اطلعت على كتابه هالني ما رأيت فيه من تحريف للحقائق، وتلاعب بالنصوص، وجهل بتاريخ السنة، وشتم وتحامل على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كبارهم كأبي بكر وعمر وعثمان إلى صغارهم كأنس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما جميعاً، وقد امتلأ قلبه بالحقد على أكبر صحابي –هو أبو هريرة - حفظ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ونقلها لأهل العلم من صحابة وتابعين حتى بلغوا كما قال الشافعي ثمانمائة، كل واحد منهم جبل من جبال العلم والفهم والهداية) (2) .
وهو رغم فساد رأيه وخطره على المسلمين في دينهم وعلى الناشئة لم يأت بجديد، فهو يستقي أفكاره وآراءه من مواقف المتقدمين من الزنادقة والمعتزلة وأهل الأهواء، ويستمد اتجاهاته من مواقف المتأخرين من المستشرقين ومن تبعهم من دعاة التحرر من الدين والقول بالرأي فيه، ومن أجل ذلك فلسنا في حاجة إلى مناقشته، بعد كل ما تقدم، ولكننا نكتفي بعرض آرائه ملخصة لحصرها، وتبيين إضافاته لتقرير ما أوحي له بها منها.
__________
(1) دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه: 27
(2) السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 464(8/1490)
فهو يبدأ بذكر حقيقة معلومة من الناس جميعاً، هي عدم تدوين السنة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ويستنتج من ذلك أن غيبة التدوين في هذه الفترة أدت إلى انقسام الناس إلى فرق، وإلى اختلاف بينهم في المذاهب، وقد شجع ذلك كله وجود كثير من الأخبار وانتشار الوضع بين أصحاب تلك الفرق.
فإذا عاد بعد ذلك إلى التراث النبوي، وهو الحديث أو السنة جعله نوعين: السنة العملية، والسنة القولية، فالعملية عنده هي السنة المتواترة، وما أجمع عليه المسلمون في الصدر الأول، وما كان معلوماً من الدين بالضرورة، وموقع هذه السنة العملية تال لمحل القرآن، وهما بحسب ما يظهر من قوله مصدرا الشريعة، أما السنة القولية فهي في الدرجة الثالثة، ولا يلزم العمل بها لأنها وإن ثبتت أو صحت لا ترقى إلى القرآن وإلى السنة العملية، فهذان يضعان الدين العام الذي يلزم اعتقاده واتباعه، بخلاف القولية فإنها لا تحدد ذلك، وعلى هذا الأساس فارق كلام العلماء والمجتهدين واعتبر أخبار الآحاد غير ملزمة بالعمل إلا لمن صحت عنده رواية ودلالة، فلا تكون تشريعاً عاماً تلزم به الأمة إلزاماً، تقليداً لمن ثبتت عنده وأخذ بها.
وفي كتابه يعود إلى بعض رجال العصر الأول ممن ورثنا عنهم علماً وحكمة وشريعة وأدباً نبوياً، فيسلك مسلك المستشرقين ومن تبعهم مع أبي هريرة رضي الله عنه، ويصف صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بكل منقصة وضعة، ويقول: فهو ليس في العير ولا في النفير، وأنه كان مصانعاً في حياته العملية للحاكمين، وأنه حين سئل عن موقفه منهم قال: (علي أعلم ومعاوية أدسم والجبل أسلم) (1) وأنه حدث بأحاديث كثيرة أنكرها عليه معاصروه من الصحابة، ويبطل هذه المقالة ما رواه ابن كثير عن طلحة بن عبد الله من قوله عنه: (والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله ما لم نسمع وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوما أغنياء، لنا بيوت وأهلون، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكيناً لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يدور معه حيثما دار، فما نشك أنه علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع) (2)
__________
(1) أبو رية، أضواء على السنة المحمدية: 156-157
(2) تاريخ ابن كثير: 8/ 109(8/1491)
وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في أول مسند أبي هريرة عندما رد على خصومه ومن تحرش به قديماً وحديثاً: (وما كانوا بأول من حارب الإسلام من هذا الباب، ولهم في ذلك سلف من أهل الأهواء قديماً، والإسلام يسير في طريقه قدماً، وهم يصيحون ما شاؤوا، لا يكاد الإسلام يسمعهم بل هو إما يتخطاهم لا يشعر بهم، وإما يدمرهم تدميراً (1) وينقل إثر ذلك كلمة لأبي بكر بن خزيمة في الرد على من تكلم في أبي هريرة، قال: (إنما يتكلم في أمر أبي هريرة، لدفع أخباره، من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار) (2) .
فإذا بحثنا عن أسباب هذه المواقف أدركنا أن العامل الدافع له لاتخاذها هو التوصل إلى القول بأن السنة ليست موضع ثقة، وأن كثيراً مما اشتملت عليه يطعن في صحتها، ويرفض كل ما رواه أئمة الحديث المتثبتون وأئمة الفقه المجتهدون من حقائق لا تعجبه، فلا يعتد بجهود العلماء والنقاد في ضبطها وتنقيتها ويتهمهم بالعجز والتقصير قائلاً في سياق التظاهر بعنايته بالحديث:) إن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس وتركوا أمره لمن يسمون رجال الحديث يتناولونه فيما بينهم ويدرسونه على طريقتهم (3) وهو يؤاخذ هؤلاء بقلة سبرهم لغوامض المعقول، ويقدح في علمهم، مفضلاً عليهم الأدباء وعلماء الكلام من المعتزلة، داعياً إلى وجوب عرض نصوص السنة على العقل الصريح لتلافي التقصير والغفلة.
وقد قيض الله للسنة في هذا العصر من يذود المارقين عنها ويبطل مقالاتهم ويرد عليهم الأباطيل والشبه، فكان منهم الشيخ مصطفى حسين السباعي بكتابه: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي.
محمد عبد الرزاق حمزة بظلمات أبو رية أمام أضواء السنة المحمدية.
عبد الرحمن المعلمي اليماني بالأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة.
محمد الغزالي بدفاع عن العقيدة والشريعة.
محمد أبو شبهة بدفاع عن السنة.
عبد المنعم صالح العزي بدفاع عن أبي هريرة.
محمد مصطفى الأعظمي بدراسات في الحديث النبوي.
__________
(1) مسند أحمد، تحقيق أحمد محمد شاكر: 12/ 84-85
(2) الحاكم المستدرك: 3/ 513
(3) انظر السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 7، 27، 34(8/1492)
وقد نال المسلمين في الهند وباكستان مثل ما نال العرب أو أشد منه في ديارهم من حكم استعماري واستغلال أجنبي وخاصة بعد إخفاق ثورتهم التحررية 1857، فأصابهم الانقسام، وشغلتهم الفتن عن حماية معتقداتهم والكفاح عن دينهم، وضعف المدارك وقل العلم العصري وحتى الديني، واخترقت الاتجاهات الفكرية الغربية الاستعمارية وما تولد عنها من حركات وجماعات تكيد للإسلام في تلك القارة، فمن مذاهب وثنية تنتشر عن طريق الهندوس، إلى حركات تنصيرية سافرة العداء،، ومن قاديانية مضللة مبتدعة مفارقة للملة، إلى بريلوية وجراكلوية تقوم على تعطيل مفاهيم الإسلام، وتحريف تعاليمه، وما من شك في أن للمستشرقين في ذلك يداً كما للسياسة الاستعمارية، ذكر السباعي في ملحق: متى نسد هذه الثغرة، (أن هذه الفئة المسخرة من قديم لمحاربة الإسلام عقدت منذ بضع سنوات مؤتمراً للدراسات الإسلامية في لاهور بباكستان دعت إليه فيمن دعت تلاميذها الفكريين في الهند وباكستان، وكان أشد المستشرقين تعصباً وأكثرهم جهلاً الأستاذ الكندي سميث.. وكان مما ألح عليه المستشرقون يومئذ بحث السنة والوحي النبوي، ومحاولة إخضاعهما لقواعد العلم كما يزعمون، وقد انتهى بعض تلامذتهم إلى إنكار الوحي كمصدر للإسلام واعتبار الإسلام أفكاراً إصلاحية من محمد صلى الله عليه وسلم) (1)
وإذا أردنا تتبع مسلسل هذه الفتنة في بلاد الهند يكون من الضروري، قبل الحديث عن تلك الحركة العلمية الثقافية التقدمية التي كانت تريد أن تؤلف بين الإسلام والحياة العصرية فأخطأت الطريق وانحرفت عن الكتاب والسنة- أن نشير إلى مؤسسي هذا الاتجاه وهما السيد أحمد خان ومولوي جراغ علي.
__________
(1) السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 460(8/1493)
1- الأول: 17/ 10/ 1817 بدلهي – 27/ 3/ 1898 بعليكره، عمل بعد وفاة والده بشركة الهند الشرقية، وتوثقت صلته بالحكم الإنجليزي، فعين مساعداً للقاضي البريطاني بالمحكمة الإنجليزية، وتميزت حياته العلمية بتصنيف الكتب وإصدار المجلات الثقافية والعلمية، كما قام بتأسيس المدارس والمعاهد وجامعة عليكره الإسلامية ونوادي العلوم.
ومن كتبه التاريخية أسباب الثورة في الهند، وكان موالياً فيه للدولة الأجنبية الحاكمة، وله تفسير للقرآن، ومقالات دينية نفث فيها كثيراً من آرائه، فانقسم الناس في شأنه: بعضهم يقصر به عن المقدار الذي يستحقه وينسب إليه العظائم، والبعض الآخر يلقبه بالمجدد الأعظم والمجتهد الأكبر، وإنه في واقع الأمر لكبير الفكر قليل العلم، ليس ملتزماً بتعاليم دينه ولا يقوم بواجباته الدينية (1) فلا غرو بعد ذلك أن ثار بينه وبين علماء عصره ذلك الجدل الحامي لما رأوا من تعاونه مع الإنجليز، ودعوته إلى الأخذ بثقافتهم، وإبدائه في الدين آراء منكرة تتفق وعقليته واتجاهه، ففسر القرآن بهواه، غير ملتزم بدلالات ألفاظه وتراكيبه، وفارق ما أجمع عليه علماء المسلمين في كل العصور بإنكار عدد من الغيبيات، وشتم الفقهاء والمحدثين (2) ولم تكن آراؤه في السنة قائمة إلا على التشكيك في صحتها، وعلى عدم وجوب العمل بما ورد فيها من أحكام؛ لأنها لا تعدو أن تكون أحكاماً اجتهادية لا نصية ولا حتمية.
2- والثاني وهو مولوي جراغ علي 1844- 1895، من أتباع السيد أحمد خان وتلاميذه، استعان به المستعمرون حين انتبهوا إلى خطورة الجهاد، فسار سيرتهم مع القادياني يطعن في أحاديث الجهاد ويؤولها، كما أول نصوص الإسلام بما يتلاءم مع الحياة الأوربية، ووقف مواقف غريبة من أحاديث كثيرة تتعلق بالحرب، والأسر، والمرأة، مركزاً رأيه في السنة على أساسين:
الأول: (أن القرآن كامل من كل الوجوه، ويواكب سير الحضارة وتطورها، ويرفع متبعيه إلى أعلى درجات الرقي والتمدن، فإن أحسنا تفسيره وتعبيره سلك بنا هذا المسلك، وإن قيدناه بآراء المفسرين ومنهجهم وحصرناه في الروايات فإن الوضع ينقلب رأساً على عقب، فنسير في الهبوط والهاوية بدلاً من التقدم ومسايرة الركب؛ لأن الروايات لم يصح منها إلا القليل، بل جلها فرضيات وأوهام للعلماء، أو أنها دلائل قياسية وإجماعية، وهذا المسلك هو ما يسير عليه قانون الشريعة والفقه، ولا شك أن مثل هذا المسلك يحجز عن الرقي والتقدم ومسايرة ظروف الحياة (3)
__________
(1) بخش، فرقة أهل القرآن: 74- 76
(2) بخش، فرقة أهل القرآن: 76- 77
(3) تحقيق الجهاد: 121(8/1494)
والأساس الثاني يكشف عنه هذا الداعي الداعية بقوله: إن المحققين الذين جمعوا الأحاديث وميزوا بين سقيمها وصحيحها خرجوا بأن الحديث مهما قوي سنده لا يمكن الاعتماد عليه، وما ذكر فيه غير حتمي قطعاً، فلو أمعنا النظر في هذه الحقيقة لاضطررنا أن نقول: إن معايير الصدق والأصول العقلية لا حاجة لإقامتها لتميز الحديث؛ لأن الحديث في حد ذاته شيء لا يمكن الاعتماد عليه ولا اعتبار فيما يتحدث عنه) ((1)
فالأستاذ وتلميذه سارا من منتصف القرن الماضي التاسع عشر على منهج في الدراسة والدعوة، فيه زلزلة لقواعد الإسلام ودك لأصوله بالصرف عن السنة صرفاً تاماً، والطعن في الدراسات الإسلامية وبخاصة الشرعية، والدعوة إلى تفسير جديد للقرآن يتأول به على نحو يجعله متماشياً مع أنماط حياة المجتمعات المعاصرة المتطورة، خاضعاً لأهوائها، تحكمه ولا يهيمن عليها، وتغير أفهامه فيفقد روحه وسلطانه، وتبيد مبادئ الإسلام وقيمه عن طريق التحريف، ويصير تابعاً لإرادة الطاغوت محكوماً بها منحرفاً عن الحق، بعيداً عن أداء رسالته الخالدة التي جاء بها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه، ودعا إليها الناس كافة ليملأ الأرض طهراً وعدلاً، ويقيم الموازين بالحق من أجل إسعاد الإنسان والسمو به والصون لكرامته والتحقيق لعزته.
وتلك المحاولة الماكرة التي نلمس آثارها إلى اليوم في الشرق والغرب وتنشرها باستمرار أقلام دعاة الفكر المتحررين، المتقمصين للإسلام خدعة، وللتجديد الديني شعاراً من غير أن يكون لهم به أي ارتباط أو صلة، مضت تغالط العامة وتضلل السذج، في وقت انعدم فيه الوازع من النفوس، وضعفت فيه الثقافة الدينية أو زالت من كثير من الأوساط، واستمرت يرعاها ويسهر على امتداد آثارها في بلاد الهند وباكستان ثلة من المفكرين تلقوا باليمين لواء الضلالة عن السيد أحمد خان ومولوي جراغ علي المتقدمين، برز منها في شرقي الهند ببهار محب الحق عظيم أبادي، وبلاهور من بلاد باكستان غلام نبي عبد الله الجكرالوي.
__________
(1) أعظم الكلام: 1/ 20(8/1495)
3- ولد الأول في أواخر السبعينات من القرن التاسع عشر وتوفي في أواخر الخمسينات من القرن العشرين، كان في الأول سنياً حنفياً، وانتسب إلى الطريقة النقشبندية، ثم ما لبث أن تحول إلى عضو بارز في حركة القرآن الهدامة، وهو بمكره لم يجابه الناس في سلوكهم الديني، وبقي محافظاً على مظاهر الارتباط بقومه إلى أن ظهرت بعد ذلك نزعته الجديدة، بما نشره من مقالات في مجلة البيان ومجلة طلوع إسلام، وبما صدر عنه من كتب دلت على تذبذبه الفكري العقدي كـ (منهاج الحق) أو على مفارقته للجماعة ومروقه وهو (بلاغ الحق) ، وهذا الداعية وإن كان من الجراكلوي كفرسي رهان إلا أنه لم يشتهر شهرته ولا ذاع صيته مثله، وإن تشكلت، بعد وفاته ومنذ عقد من السنين، فرقة تقتفي أثره وتدعو إلى منهجه الفكر العقدي بأواسط الهند.
4- أما غلام نبي عبد الله الجكرالوي وليد جكراله بالبنجاب بباكستان في أواخر العقد الثالث من القرن التاسع عشر والمتوفى بميان والي، فقد كان أشد خطراً من محب الحق، وكان أول أمره من طلاب الحديث، تخرج فيه على يد ميان نذير حسين، وبعد مناظرة حصلت بينه وبين ابن عمه القاضي قمر الدين خرج عن قومه متأثراً بالبلبلة الفكرية والعقدية التي أحدثتها ببلده الفرق المتعددة، وأظهر مخالفته لما عليه المسلمون في كثير من أصول عقائدهم، وتبع حسب ما نشره محمد علي مقصوري بمجلة الاعتصام الأسبوعية التوجيهات السياسية البريطانية التي استغلته كما استغلت المرزا غلام أحمد القادياني لإحداث ما أحدثاه من فتنة واضطراب في البلاد، وفي هذه الآونة اتخذ المشروع الإنجليزي نوعاً جديداً من المناورات المناوئة للإسلام، فضمت صفوفه السياسية كثيراً من القساوسة المبشرين، مما مكنها من اصطياد بعض الشخصيات الإسلامية، وإيقاعها في شبكة التحريف ضد الإسلام، كما انضم إلى هؤلاء بعض من يريد الدنيا فحرضتهم السلطات الإنجليزية على أن يقوموا بأعمال تبعد الثقة عن النفوس تجاه الحديث الشريف، ويستغلوا الضمائر المنافقة من المسلمين، وكان على رأس هؤلاء جميعاً عبد الله الجكرالوي، وقد اختاره المسيحيون لأداء هذه المهمة، فرفع صوته بإنكار السنة كلها، وأخذ يدعو إلى هذا المشروع الهدام، وبدأت كتب التأييد والرسائل تصل إليه من المبشرين بالمسيحية، وتعده بالمساعدات المالية، وتشكره على هذا المجهود الجبار (1)
__________
(1) مجلة الاعتصام الأسبوعية، فبراير 1956، 65- 66(8/1496)
ومما يشهد لهذا الاتجاه الذي جرى عليه الجكرالوي قوله معلناً عن موقفه من السنة: (هذا هو القرآن الموحى به وحده من عند الله إلى محمد، وإن ما عداه فليس بوحي) ، ولنشر آرائه أسس 1902 فرقة أهل الذكر والقرآن المحاربة للسنة بلاهور، وألف الكتب بالأردية، نحو أربع عشرة رسالة أو مصنفاً منها: تفسير القرآن بآيات الفرقان، وترجمة القرآن بآيات الفرقان، وصلاة القرآن، وما علم الرحمن بآيات الفرقان، وإشاعة القرآن، والزكاة والصدقات كما جاء في آيات بينات، ... إلى غير ذلك من الضلالات التي عززت مقالاته في الصحافة والمجلات، وقد كانت مكتبة ربوة القاديانية هي الوحيدة التي احتفظت بكتبه، أما فيما وراء ذلك فقد صودرت وأحرقت فلا تقع اليد عليها في أي مكان، وسبب ذلك الحملة الشديدة التي قام بها علماء الإسلام في الرد عليه؛ دفاعاً عن الملة والدين، ولما أحدثته أقواله وتصريحاته ومقالاته ومحاوراته من تغيير لجوهر الدين وإفساد له، تبرأ المسلمون منه وأنكروا دعوته، وما أحدثه من صفة الصلاة التي جعلها ثلاثاً من غير عصر ولا مغرب، وقصرها في كل مرة على ركعتين، واعتبر ما زاد على ذلك من تعيين الناس لا من تعيين رب الناس، وجعل تكبيرة الإحرام أن تذكر أن (الله كان علياً كبيراً) ، ونقص من الصلاة الرفع من الركوع، وإنما هي ركوع فسجود، ولا يتعدد السجود في الركعة الواحدة، وتنقضي الصلاة بالانتهاء من أذكار السجود، ويصف محمد رمضان الجكرالوي كيفية الصلاة: بالشروع بتكبيرة الإحرام، وقراءة خمس وعشرين آية حصرها لهم من مختلف سور القرآن، ثم يركع بتكبيرة إحرامه الخاصة ويقرأ في الركوع ثلاث آيات، ثم يسجد ويقرأ خمس آيات مختلفة، فإذا تمت الركعة الأولى قام بثانية مثلها، فإذا سجد فيها انقضت الصلاة (1)
ومن أجل ذلك أفتى بكفره أكثر علماء القارة الهندية في باكستان والهند وبنجلاديش، وقامت مجلة إشاعة السنة بنشر توقيعات علماء الدين الذين وقفوا هذا الموقف منه، وحكموا بخروجه عن بوتقة الإسلام، وأنه مقطوع الصلة عن الدين والمسلمين (2) ولم يصده كل ذلك عن محاربة دينه ومحاولة تحريف عقيدة المسلمين من حوله.
__________
(1) بخش، فرقة أهل القرآن: 232
(2) مجلة إشاعة السنة، مجلد 19 ملحق 7/ 211(8/1497)
5- وقد خالط الجكرالوي رجل متميز يسايره في الاتجاه، ويعمل مثله لإبطال حجية السنة نظرياً وتطبيقاً هو الخواجة أحمد الدين الأمرتيسري (1861) بأمر تسر بالهند- 1936، تعلم هذا الرجل القرآن في طفولته، وأخذ بحظ من العلوم الإسلامية ثم دخل مدرسة المبشرين فدرس الكتاب المقدس وتعلم الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والفلك والمنطق وعلم النبات وطبقات الأرض، وأصبح بذلك التخرج عجيب التكوين متفهماً لكل الميول، متقبلاً لكل الاتجاهات، يستمد أصول منهجه الفكري من أحمد خان، ويحاور عبد الله الجكرالوي، ويجالس القادياني، ومهما اختلفت الآراء من حوله واشتدت الفتنة استمر الدعامة القوية لتفكير أهل القرآن، فبليونة طبعه استمال الأثرياء والنبغاء والنبهاء الذين انقادوا لنظرياته، وشجعوه على تكوين حزبه أو جماعته الموالية لجماعة أهل القرآن 1926، والتي كان يسميها (أمة مسلمة) ، وبكتابه معجزة القرآن وغيره من المؤلفات مثل أصل مطاع، وتفسير بيان للناس، وبرهان الفرقان، وريحان القرآن، وبمقالاته في مجلة البلاغ، التي أصدرها باسم الجماعة، نشر نظرياته الخاصة وأفكاره، فقامت من حوله جماعة من المحاضرين وأساتذة الجامعات وأعضاء السلك القضائي، كما أيده وناصره وشد أزره محب الحق عظيم أبادي المتقدم الذكر، وكان في صلاته على سنن عبد الله الجكرالوي (صلاة القرآن كما علم الرحمن) والمفروض عنده منها اثنتان في اليوم والليلة لا يتعداهما، ولفرقة أهل القرآن في شؤون الزكاة آراء خاصة تختلف بين جماعاتهم، فمن رأي الجكرالوي إلى رأي أصحاب البلاغ، ومن رأي الخواجة أحمد الدين إلى رأي برويز، ولهم في الصيام أقوال منها أنه لا يلزم حصره في شهر رمضان ويجوز صيام أي شهر شمسي بحسب الظروف والحاجات (1)
وتتميز فرقة الأمرتسري بإنكارها قانون الميراث (الفرائض) ، ودعوتها إلى توريث ابن الابن مع وجود الابن للميت، وجعل الوصية فرض عين على المتوفى لمن شاء من ورثته، وإعطاء الإرث لمستحقه بقطع النظر عن ديانته وحريته، كما لها مواقف خاصة من المعاملات والحدود وغيرها (2)
__________
(1) بخش، فرقة أهل القرآن: 254-255
(2) بخش، فرقة أهل القرآن: 284-295(8/1498)
6- الحافظ محمد أسلم جراجبوري 1880 بجراجبور بالهند –28/12/ 1955، ظهر على عقب سلفه الخواجة أحمد الدين الأمرتسري، تعلم القرآن في صغره وحفظه ولذلك لقب من طفولته بالحافظ، وحذق اللسان الفارسي لسان العلوم الإسلامية في بلده وكذا الإنجليزية والعربية، ودرس الرياضيات، وقد ساقته مواهبه في الأول إلى جريدة بيسة اللاهورية 1903 واشتغل بالكتابة فيها، ثم تدرج من مدرس للعربية والفارسية بثانوية عليكره 1906، إلى أمين عام لمكتبتها، ومن هذا العمل الإداري 1921 إلى محاضر بجامعة عليكره الإسلامية، ثم تحول للتدريس بالجامعة الملية، وهو ممن لم يسلم بفرائض الله ونظام المواريث الإسلامي، وكان متأثراً جداً بالخواجة أحمد الدين، يدل على ذلك ترجمته لكتابه معجزة القرآن إلى العربية، ووضعه كتاب محجوب الإرث على غرار ما فعل سابقه، والوراثة في الإسلام، ونشر كتباً كثيرة أخرى بعضها في دقائق القرآن، وتعليم القرآن، وتاريخ القرآن، وعقائد الإسلام، وبعضها الآخر في مكانة السنة في الإسلام، وفي نقد العلوم المستنبطة لخدمة السنة، وبعضها في التاريخ الإسلامي بالأردية وكذا تاريخ نجد وحياة حافظ الشيرازي ونحوها.
وهو إلى جانب دعوته لجماعة أهل القرآن وموالاته لها وإعلانه ذلك في كتبه ومقالاته التي كان ينشرها في عدد من المجلات مثل بلاغ وبيان الأمرتيسريتين والجامعة، وأهل الحديث، وطلوع إسلام، والمعارف، كان اشتراكياً يعتقد أن هذا الاتجاه الفكري السياسي مرتبط أي ارتباط بالإسلام، وكان يدعو إلى تحويل ملكية الأرض إلى الدولة وينوه بالاتحاد السوفيتي قائلاً: (إن الملة الروسية جددت العمل الإسلامي الذي وجد في العهود السابقة، بل أجود منه؛ إذ أطاحت بالرأسمالية وملاك الأرض وأصحاب الإمارات الصغيرة، وهذا معنى لها من كلمة لا إله إلا الله، وهي أول لبنة في الإسلام، وهذا العمل هو عين الامتثال لمبدأ الشهادتين (1)
7- وقد برز على إثره واشتهر بين أصحاب جماعته غلام أحمد برويز 1903 بتالة القريبة من قاديان بالبنجاب الشرقية، وهو رجل لم يدرس طويلاً ولا تخرج من المعاهد العلمية ولا الجامعة، ولكنه كان نشيطاً وذكياً، انتسب في الأول إلى المطبعة الحكومية واستمر على العمل بها إلى أن أصبح مديراً لها، ورعى مجلة طلوع إسلام التي أصدرها صديقه السيد نذير أحمد 1938، ثم استحوذ عليها فنشر بها الأفكار الإسلامية في الأول.
__________
(1) نوادرات: 115(8/1499)
وكان بها يذب عن الجامعة الإسلامية التي دعا إليها محمد علي جناح، وعمل على دعمها، وبعد الاستقلال تحول من الهند إلى باكستان مع مجلة طلوع إسلام، واستقر بكراتشي حيث أمدته الحكومة بالإعانة، ولم يظهر في الساحة أحد من المعارضين، فكون لطلوع إسلام مراكز ونوادي هنا وهناك، والتفت من حوله نخبة من المفكرين من مثقفين وقضاة وجامعيين ومهندسين، فعقد الاجتماعات والمؤتمرات، وبرزت دعوته لجماعة أهل القرآن في الآفاق متجاوزة حدود الهند إلى البلاد العربية والأوربية وأمريكا، وعين 1956 عضوًا بلجنة التقنين بباكستان ولو لم يستمر بها طويلاً بسبب الانقلاب العسكري الذي قام به أيوب خان، وحين عهد إليه بخطبة الجمعة لحسن نواياه السابقة بمسجد سكرتارية دلهي) أخذ أسلوبه يتلون من يوم لآخر، فبدأ بالتأويل في السنة فالتعريض بها، وأخيراً إنكار حجيتها وعدم الاعتماد عليها في شرع الله عز وجل، ولم يمض وقت طويل على ظهور هذه الأفكار منه حتى استولى الحماس الديني على موسى الفراش بالسكرتارية، فأخذ بتلابيب الخطيب وهدده، ونهاه عن إلقاء مثل هذه الترهات، فلم يعد إلى الخطابة مرة ثانية بذلك المسجد (1)
وإن انتساب برويز الفكري إلى أحمد خان، وعلاقته الوطيدة بالجكرالوي وحركته ليبرزان في وضوح من خلال مقالاته في طلوع إسلام ومعارف، وعن طريق كتبه الكثيرة التي نذكر منها: الأصول القرآنية، والأقضية القرآنية، ومطالب القرآن، ومفهوم القرآن، ولغات القرآن، ولقد اشتعلت الفتنة في لاهور 1958 باتخاذه إياها مقراً دائماً لدعوة طلوع إسلام، ولمواجهة هذه الحركة اتخذ أبو الأعلى المودودي نفس المدينة مقراً للجماعة الإسلامية، فناقش برويز وحذر الناس من اتباعه، وأفتى أركان المدرسة العربية الإسلامية بكراتشي، بعد عرض آرائه وأفكاره على أكثر من ألف عالم من علماء الدين بباكستان والهند والشام والحجاز، بكفره وخروجه عن ربقة الإسلام (2)
ويقول صاحب فرقة أهل القرآن، مجملاً القول في ثقافته ومنهج دعوته: (والحق أن فكر برويز يمتاز بالاطلاع الواسع على الأفكار الأوربية، ويرى وجوب صبغ الإسلام بها، وهو بالإضافة إلى ذلك يعتقد أن النظريات العلمية لا تقبل الجدل والمناقشة، بل يجب تفسير القرآن بمقتضاها، كما أن أسلوبه المشرق في مؤلفاته يخلب قارئه من حيث يذهل عما يدس فيها من الأباطيل، أما التأويل وصرف الكلمات عن معانيها الحقيقية في كتبه فحدث عنه ولا حرج، فما من معتقد إسلامي إلا مسه، قلم برويز بالتأويل بأسلوب لا يفطن إليه إلا متعمق في دراسة العلوم الإسلامية) (3)
__________
(1) قول فيصل: 15
(2) برويز شاهكار رسالت: 446
(3) بخش، فرقة أهل القرآن(8/1500)
هذه سلسلة الإفك والضلال، التي توالت حلقاتها ببلاد الهند من أحمد خان إلى برويز، تعطينا صورة عما بذلوه من جهود في محاربة الإسلام، وقد أسس كل واحد منهم بطانة من حوله، وأفسد بتلك البطانة أفواجاً من الناس وأجيالاً، داخل البلاد وخارجها، تأولت الإسلام، وحرفت معاني القرآن، وأنكرت السنة، وغيرت أصول الدين وقواعده، إتلافاً لروح الأمة، وقضاء على الجماعة الإسلامية، وتفكيكاً لوحدتها، وإن قادة الضلال والفكر هؤلاء وإن ولوا بالعار والخزي، وباؤوا بالخسران دنيا وأخرى، قد التقوا جميعاً على الطعن في السنة ومحاربتها مثيرين الشبه الكثيرة من حولها، وهي شبه قد سبقت الإجابة عن أكثرها، لا تحتاج من المؤمن الصادق إلى كبير جهد لدفعها وإبطالها، ولكن {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1] ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) } [محمد: 8-9] .
فمما دعوا إليه الاكتفاء بالقرآن وحده، قالوا: حسبنا كتاب الله، قال الجكرالوي: (إن الكتاب المجيد ذكر كل شيء يحتاج إليه في الدين مفصلاً ومشروحاً من كل وجه، فما الداعي إلى الوحي الخفي؟ وما الداعي إلى السنة؟) (1)
وأنكروا مصدرية السنة وكونها وحياً من الله فقالوا: (يعتقد أهل الحديث أن نزول الوحي من الله عز وجل إلى نبيه عليه السلام قسمان: جلي متلو وخفي غير متلو، والأول هو القرآن، والثاني هو حديث الرسول عليه السلام، غير أن الوحي الإلهي هو الذي لا يمكن الإتيان بمثله، بيد أن وحي الأحاديث قد أتى له مثيل بمئات الألوف من الأحاديث الموضوعة) (2) ، (وأنا لم نؤمر إلا باتباع ما أنزله الله بالوحي) (3)
__________
(1) مجلة إشاعة القرآن، العدد 3/ 49؛ إشاعة السنة: سنة 1902، عدد 19/286؛ حشمت علي خليفة عبد الله، مجلة إشاعة القرآن، ديسمبر: 1927/4
(2) مجلة إشاعة القرآن سنة 1903، عدد 4/ 35؛ مجلة إشاعة السنة: 1902، 19/235؛ الحافظ محب الحق، بلاغ الحق: 19
(3) المباحثة: 81؛ مقام حديث: 139(8/1501)
ونفوا حجيتها إخلاصاً منهم لدين الله، وبعداً عن الشرك به، وقالوا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] ، قال الخواجة أحمد الدين: (قد وضع الناس لإحياء الشرك طرقاً متعددة، فقالوا: إنا نؤمن أن الله هو الأصل المطاع غير أن الله أمرنا باتباع رسوله، فهو اتباع مضاف إلى الأصل المطاع، وبناء على هذا الدليل الفاسد يصححون جميع أنواع الشرك) (1)
وزعموا أن السنة لم تكن شرعاً عند النبي نفسه وعند صحابته، قال برويز: (ولو كانت السنة جزءاً من الدين لوضع لها الرسول صلى الله عليه وسلم منهجاً كمنهج القرآن، من الكتاب والحفظ والمذاكرة، ولا يفارق الدنيا إلا بعد راحة بال على هذا الجزء من الدين.. فلم يفعل شيئاً لسنته، بل نهى عن كتابتها، وبهذا الرأي صدع الحافظ أسلم ومحب الحق عظيم أبادي من قبل) (2)
وقالوا: (إن المخاطبين من الصحابة هم المطالبون بطاعة الرسول فيما أمرهم به أو نهاهم عنه) ، قال الخواجة: (اعلم أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت طاعة مقيدة بزمنه، وامتثال أحكامه لا تتجاوز حياته، وقد أوصد هذا الباب منذ وفاته عليه السلام) (3)
وفي توجيه النقد للسنة سنداً ومتناً ما ينفي الالتزام والتدين بها، قال الحافظ أسلم: (إن الأحاديث قد انتقدت علمياً بما أفقدها صفة التدين؛ لأن الأمور الدينية لا يدخلها النقد وآراء الرجال، ولأن الاعتراضات الموجهة للإسلام من غير أهله لا تأتي إلا من الأحاديث التي أقر المسلمون بصحتها، وهي موضوعة الأصل لا صلة لها بالدين) (4)
__________
(1) الجكرالوي. المباحثة: 42
(2) مقام حديث: 7، 104، 110؛ مطالعة حديث سيد مقبول أحمد: 10
(3) مجلة البيان، عدد أغسطس: 1951، 32
(4) مقام حديث: 154(8/1502)
وادعوا أن في اتباع السنة ما يفرق الجماعة المسلمة ويصرف بعضها عن بعض، قال الجكرالوي: (لا ترتفع الفرقة والتشتت عن المسلمين، ولن يجمعهم لواء ولا يضمهم مكتب فكر موحد، ما بقوا متمسكين بروايات زيد وعمرو) (1) ، وقال برويز: (قد فاق تقديس هذه الكتب –كتب السنة- كل التصورات البشرية، مع أنها جزء من مؤامرة أعجمية استهدفت النيل من الإسلام وأهله) (2)
ولم يثقوا بنسبة الأحاديث إلى صاحب الرسالة، قال أسلم: (قد كان للعواطف البشرية يد في تصحيح السنة وتضعيفها، وإنا لنرى توثيق الرواة لم ينحصر في الصدق فحسب بل تجاوزه إلى التلمذة والتشيخ، والمشاركة الفكرية، والعواطف والميول الوجدانية) (3)
وقال عبد الله الجكرالوي: (بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بمئات السنين نحت بعض الناس هذه الهزليات من عند أنفسهم، ثم نسبوها إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو منها براء) (4)
وقال أسلم أيضاً: (لا تتجاوز السنة مرحلة أخبار الآحاد طبقاً للأصول التي أقرها المحدثون، ولا تبلغ رواية من رواياتها إلى المتواتر المفيد للعلم واليقين) (5)
ولم تنقطع هذه الدعاوى عن الانتشار في كثير من البلاد الهندية وحتى الغربية والأوروبية بعد انقضاء زعمائها وموتهم.
ويتلخص من هذه الآراء والأفكار اتجاهان اثنان هما: القول بالاكتفاء بالقرآن وحده في أمور الدنيا والآخرة كلها، وإلغاء حجية السنة النبوية في الدين؛ إذ لا مجال لإقحامها فيه.
__________
(1) مجلة إشاعة القرآن، عدد نوفمبر 1906/39
(2) شاهكار رسالت: 446
(3) مقام حديث: 125
(4) ترك افتراء تعامل: 12
(5) تعليمات قرآن: 102؛ مجلة أهل حديث، أبريل 1936/309(8/1503)
وتتالى أمر هذه الجماعة في العصر الحاضر أربع فرق: فرقة أمت مسلم أهل الذكر والقرآن، وفرقة أمة مسلمة، وفرقة طلوع إسلام، وتحريك تعمير إنسانيت، والمركز الرئيسي لكل واحدة منها بلاهور، ولها مراكز فرعية أخرى كثيرة موزعة على المدن.
والفرقة الأولى فرقة أمت مسلم أهل الذكر والقرآن هي فرقة أهل القرآن التي أسسها الجكرالوي من قبل، جدد نشاطها وبعثها باسمها الجديد من بعده أخص تلامذته به محمد رمضان المتوفى 1939، وهو الذي أصدر باسمها مجلة بلاغ القرآن التي كانت تحمل إلى آفاق باكستان آراء فرقة أهل القرآن، وأكثر أتباعها من العامة والمرضى المعوقين والشيوخ، وقد قام بالإشراف عليها بعد وفاة مجددها محمد علي رسول فكري الشديد العداء للسنة، ولهذه الفرقة الآيلة إلى الانقراض مساجد خاصة بها تؤدي فيها ثلاث صلوات في اليوم والليلة، وما يصدر عنها وعن جملة الأقلام فيها من الكتب والمقالات لا يحمل أسماء أصحابها، ولكنها تنشر جميعها باسم إدارة بلاغ القرآن.
والفرقة الثانية، فرقة أمة مسلمة، هي فرقة الخواجة أحمد الدين التي أسسها بأمر تسر بالهند ثم انتقل بها إلى لاهور بعد الاستقلال 1947، وهي متميزة بفئات من كبار الكتاب والمثقفين، وكانت تصدر مجلتين: الأولى البلاغ التي توقفت عن الصدور 1939، والثانية البيان التي تعطلت في الستينات، وقد انقسم قادة هذه الفرقة، ونضبت مواردها المالية، ولكنها عرفت في الفترة الأخيرة تجديداً لأطرها وتجمعات لأتباعها بكل المدن بباكستان، وهي أكثر أتباعاً من الفرقة الأولى، وكان يذود الخطر عنها مجاملتها للمسلمين في الظاهر وإبقاؤها على الصلوات الخمس وعلى صيام شهر رمضان بأكمله، ودورها الهجومي عنيد عن طريق مجلة فيض الإسلام، وبواسطة الاجتماعات وما يقوم به أتباعها الشبان والمثقفون من جهود في سبيل دعوتهم وخاصة في الإرساليات التي تضطلع بمهمة النصح والإرشاد، وتستعد هذه الفرقة لإعادة إصدار مجلتها السابقة البيان.(8/1504)
والفرقة الثالثة، فرقة طلوع إسلام، هي أنشط الفرق المعاصرة وهي التي أسسها من قبل غلام أحمد برويز بدلهي، وقد أضعفها هجوم علماء الإسلام على قائدها وتكفيرهم له، وبعد فترة استعادت نشاطها وذاع صيتها وأصبح لها بأوربا وغيرها أتباع ودعاة. ويقوم راعيها في العطلة من كل أسبوع منذ أكثر من ثلاثين عاماً بإلقاء درس في التفسير تحضره جمهرة من المثقفين رجالاً ونساء. وتصل أشرطة تسجيل الدروس إلى سائر مراكز الفرقة بأكثر من عشرين مدينة. ولها مجلتها طلوع إسلام التي لم تتوقف عن القيام منذ أكثر من أربعين عاماً، وقد عرفت هذه الفرقة توافد عناصر كثيرة من الفرق الأخرى عليها مثل الأمرتسريين، وأهل الذكر والقرآن. وهي أكبر الحركات أتباعاً؛ ينتسب إليها جمهرة من المثقفين وعدد من أصحاب النفوذ والسلطة.
والفرقة الرابعة، وهي أحدث الفرق نشأة وتكويناً. وتعرف بحركة تعمير إنسانيت، يتزعمها عبد الخالق فالوادة، وينفق عليها من أمواله الخاصة. وقد اشتهر من بين قادتها خطيبها القاضي كفاية الله، وهي حركة متميزة عن غيرها، غير تابعة لأية فرقة من الفرق الأخرى القديمة، وبما تبذله من جهود وتقوم به من نشاط تريد أن تهيمن وتسيطر على غيرها من حركات القرآن السابقة الأخرى. ومما يفسر اتجاه الحركة قول خطيبها القاضي عن الجكرالوي: (إن أفكاره حول السنة لم تتجاوز ما أمر الله به من اتباع ما أنزل الله، وإن لأفكار عبد الله اليد الطولى في القضاء على الجمود العقلي الذي كان مفروضاً على المسلمين قبله) وللقاضي عدة كتب ومؤلفات، منها: القرآن والعقل، وتفسير القرآن بالقرآن، والقرآن والعلوم. وكتبه كلها تطبع طبعاً أنيقاً وتوزع على الناس مجاناً. وليست للحركة صحيفة أو مجلة، وإن كانت تخطط لإصدار صحيفة أسبوعية. وهي تكتفي في الوقت الحاضر بنشر مقالاتها في صحيفة المشرق اليومية. (1)
__________
(1) بخشن. فرقة أهل القرآن: 39-48(8/1505)
ومن هذا الاستعراض المجمل للحركات التي ظهرت ببلاد الهند وباكستان، والتي انتشرت آراؤها وتعاليمها في العالم الغربي وبعض البلاد العربية، لتعود إلينا باللغة العربية وبغيرها من اللغات الحية، مورية نار الفتنة التي أوقدت ببلاد المسلمين عامة، يزداد الخطر المحدق بالإسلام والمسلمين فظاعة، وتظهر من خلاله النوايا المبيتة التي يعمل من أجل تحقيقها أعداؤه.
وهكذا باسم البحث العلمي الذي يدعونه لأنفسهم باطلاً وباسم الإسلام والدراسات الإسلامية التي لا يلمون بشيء منها، يوجهون للفكر الإسلامي أخطر القوارع لدكه من أساسه، وإلغاء ما بينه وبين غيره من مميزات وفروق، قصد طي آثار الحضارة الإسلامية، وإذابة المجتمع الإسلامي، والقضاء على هويته ومقوماته. ودليل ذلك أن حركة إنكار السنة في الشرق والغرب لم تقف عند القول بعدم حجيتها، أو عند الدعوة إلى عدم العمل بها، وإن كان ذلك في ذاته منكراً من القول، وكفراً وتعطيلاً لأحكام الله وشريعته، ولكنها تجاوزت ذلك إلى تأويل القرآن وتفسيره بغير علم، وإخضاعه لما يرونه أو يعتقدونه من اتجاهات أو أفكار، وتصوير الإسلام بما يتفق وأغراضهم، ويخدم ميولهم ومصالحهم، لا بما أراده الله من إرساء قواعد العدل والأمن والسلم والمساواة، وبناء الحياة الإنسانية على المنهج الرباني الذي دعت إليه الرسالة، وحققه الوحي في الصدر الأول من تاريخ الأمة الإسلامية. وكان فيه الإعلان القولي والبيان العملي للناس كافة يردد عليهم النداء: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) } [الأحقاف: 31 – 32] .
ولعل المؤمنين الصادقين والمسلمين الواعين يقدرون هذه الأوضاع، فيتقدمون بما فرضه الله عليهم من دعوة الناس إلى الحق وإلى صراط مستقيم. قال جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] . وإذا وجدوا معارضة أو جحوداً، أو مخالفة قاطعة ونزاعاً في الدين، فإن أمر الله لهم بالمضي في الدعوة قائم: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) } [الحج: 67 – 69] . وقد حدد تعالى منهج الدعوة وسبيلها الناجعة في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .(8/1506)
والأمر في هذا المجال غير مقصور على طائفة دون أخرى، أو جهة دون غيرها، بل هي مسؤولية وواجب على المسلمين جميعاً، على الدول الإسلامية وحكوماتها، وعلى أجهزة الثقافة والإعلام بالدول الإسلامية، وعلى الجامعات الإسلامية ومراكز البحث بها، وعلى أئمة الدين والدعاة والخطباء. كل في النطاق الذي يستطيع منه أن يتحرك لحماية الملة؛ ليدافع عن الذين آمنوا بالطريق المتعينة للدفاع: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) } [النساء: 44-45] . وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة(8/1507)
مراجع البحث
- القرآن.
- أحمد أمين. فجر الإسلام. ط. 3، مصر.
- الأعظمي (محمد مصطفى) دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه. الرياض. 1396.
- بخش (خادم إلهي حسين) . فرقة أهل القرآن بباكستان وموقف الإسلام منها. رسالة جامعية. جامعة أم القرى.
- برويز (غلام أحمد) . شاهكار رسالت.
ـ برويز (غلام أحمد) . مقام حديث. ط. 1976.
- البغوي (الحسين بن مسعود) . شرح السنة. تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط. ط2. بيروت.
- بلاغ الحق. الهند.
- (يوسف) البويطي. المختصر الأكبر.
- البيهقي. دلائل النبوة. بيروت. 1405.
- ابن تيمية. رفع الملام.
- ت = الترمذي (أبو عيسى محمد بن عيسى بن سودة) . اسطنبول 1981. 5 أجزاء.
- جراجبوري (الحافظ محمد أسلم) . تعليمات قرآن.
- جراجبوري (الحافظ محمد أسلم) . نوادرات.
- جراغ علي. تحقيق الجهاد، ترجمة غلام حسين وعبد الغفور. لاهور. 1312- 1913.
- جراغ علي ونواب يارجنك. أعظم الكلام في ارتقاء الإسلام. ترجمة مولانا عبد الحق. لاهور. 1911.
- الجكرالوي (عبد الله) شرك افتراء تعامل. لاهور.(8/1508)
- الجكرالوي (عبد الله) . المباحثة. لاهور.
- ك = الحاكم النيسابوري. المستدرك على الصحيحين. 4 أجزاء.
- ابن حجر (أحمد بن علي) تهذيب التهذيب. ط1. الهند. 12 مجلد.
- ابن حجر (أحمد بن علي) نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار.
- ابن أبي الحديد. شرح نهج البلاغ. دار إحياء الكتب العربية، مصر 1381.
- ابن حزم. إحكام الأحكام في أصول الأحكام. مصر.
- حكيم (محمد طاهر) . السنة في مواجهة الأباطيل. جدة.
- ابن حنبل (أحمد) حم = المسند؛ تحقيق أحمد محمد شاكر. مصر 20 جزءاً.
- ابن حنبل (أحمد) حم = المسند؛ ط. اسطنبول 1982، 6 أجزاء.
- الخطيب البغدادي (أبو بكر أحمد بن علي) تاريخ بغداد. مصر 1349.
- الدارمي. المسند.
- د = أبو داود (سليمان بن الأشعث السجستاني) . السنن. ط. اسطنبول، 5 أجزاء.
- الدهلوي (شاه ولي الله) حجة الله البالغة. بيروت. جزآن.
- الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان) تذكرة الحفاظ. ط. الهند، 5 أجزاء.
- الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان) . رسالة في الرواة الثقات المتكلم فيها بما لا يوجب ردهم.
- الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان) المختصر.
- الرازي (ابن أبي حاتم) الجرح والتعديل ط. الهند. 1375.
- رشيد رضا (محمد) تفسير المنار.
- أبو رية (محمود) أضواء على السنة المحمدية. مصر.
- السباعي (مصطفى حسني) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي. مصر، ط. 4.
- السمعاني (أبو سعيد عبد الكريم بن محمد) . الأنساب. ط. بيروت 1980، 10 أجزاء
- سيد قطب. في ظلال القرآن، مصر، 6 أجزاء.
- سيد مقبول أحمد. مطالعة حديث. الهند. 1952.(8/1509)
- السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن) . الإتقان في علوم القرآن. مصر. 1354.
- السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن) تاريخ الخلفاء. دمشق 1974.
- السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن) طبقات الحفاظ. ط1 بيروت، 1983.
- السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن) مفتاح الجنة. مصر.
- الشاطبي (أبو إسحاق) . الاعتصام ط. بيروت. جزآن.
- أبو شادي (أحمد زكي) ثورة الإسلام.
- الشافعي (محمد بن إدريس) الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر، بيروت.
- الشافعي (محمد بن إدريس) المسند بيروت.
- شلتوت (محمود) الإسلام عقيدة وشريعة. مصر.
- ابن الصلاح (أبو عمرو عثمان الشهرزوري. مقدمة علوم الحديث، تحقيق نور الدين عتر، دمشق 1986.
- الطبري (ابن جرير) التفسير. جامع البيان في تأويل القرآن آي القرآن. ط. مصر.
- ابن عاشور (محمد الطاهر) التحرير والتنوير. تونس، 30 جزءاً.
- ابن عاشور (محمد الطاهر) مقاصد الشريعة. تونس.
- ابن عاشور (محمد الفاضل) محاضرة عن التربية مسجلة.
- علي حسب الله. أصول التشريع الإسلامي. مصر.
- علي حسن عبد القادر. نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي. ط. 2، مصر 1956.
- الغارة على الإسلام.
- الغزالي (محمد) دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين. ط. 2. 1383/1963.
- القادري (ماهر) قول فيصل. لاهور 1960.
- القاري (علي) . الموضوعات الكبرى. شركة الصحافة العثمانية، اسطنبول بعد 1308.
- القرافي (شهاب الدين أحمد) ، الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام.
- القرافي (شهاب الدين أحمد) . الفروق ط. مصر، 4 أجزاء.(8/1510)
- ابن قيم الجوزية (محمد بن أبي بكر) زاد المعاد في هدي خير العباد.
- ابن قيم الجوزية (محمد بن أبي بكر) الصواعق المرسلة.
- ابن كثير (أبو الفداء) اختصار علوم الحديث.
- ابن كثير (أبو الفداء) البداية والنهاية. بيروت، 14 جزءاً.
- جه = ابن ماجه (محمد بن يزيد) السنن ط. اسطنبول 1981، جزآن.
- مجلة الاعتصام اللاهورية.
- مجلة إشاعة السنة اللاهورية.
ـ مجلة إشاعة القرآن اللاهورية.
- مجلة أهل حديث الأمرتسرية.
- مجلة البيان الأمرتسرية، اللاهورية.
- مجلة المنار.
- م = مسلم (بن الحجاج القشيري النيسابوري) . الصحيح. ط. اسطنبول، 3 أجزاء.
- مالك (بن أنس) . ط = الموطأ. ط. اسطنبول، جزآن.
- الندوي. الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية ط. 3، القاهرة.
- ن = النسائي (أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب) . السنن ط. اسطنبول 1981، 8 أجزاء.
- النووي (محيي الدين أبو بكر بن شرف) شرح مسلم. 18 جزءاً.(8/1511)
حُسن وفاء الديون
وعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعار
إعداد
الدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد:
فهذا بحث في (حسن وفاء الديون) (في القروض، وثمن البيع المؤجل والمهر المؤخر) وعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعار.
من سماحة الإسلام، ومن أبرز سمات التكافل الاجتماعي بين المسلمين، أن شرع الله القرض، ورغب فيه، بل حث عليه، وجعل أجره عظيماً، وفضله كبيراً، وحكمه أنه مندوب إليه في حق المقرض، مباح للمقترض. وقد اقترض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة. وحض على حسن التقاضي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى وإذا اقتضى)) (1)
كما بين صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء من خيار الناس، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، ثم قام خطيباً، فذكر الحديث إلى أن قال: ((ألا وخيرهم الحسن القضاء، الحسن الطلب، ألا وشرهم سيئ القضاء وسيئ الطلب)) . (2)
والأمر بحسن التقاضي والسماحة في المعاملة لا يختص بالمدين المعسر، بل شامل له وللموسر، ولكن المعسر أولى.
ومن حسن الوفاء الزيادة في القرض إذا لم تكن مشروطة. وقد طبق ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مسلم عن أبي رافع ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً (3)
فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً (4) فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء)) . (5)
__________
(1) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 4/306.
(2) الترغيب والترهيب. للمنذري 2/564 – 565، رقم الحديث 12. قال الترمذي: حديث حسن.
(3) البكر – بفتح الباء-: الفتي من الإبل كالغلام من الآدميين، والأنثى بكرة.
(4) رباعياً: الرباعي من الإبل ما أتى عليه ست سنوات ودخل في السابعة حيث طلعت رباعيته
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 4/119(8/1512)