فالآيات الكريمة التي صرحت بهذه القاعدة العامة " المشقة تجلب التيسير ". أو لمحت إليها بوضوح عديدة، منها:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] .
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] (1) .
ولقد استنبطوا من هذه القاعدة العامة قواعد أخرى مندرجة تحتها ومتفرعة عنها، واستدلوا عليها بأدلتها من أصلي الشريعة، فقالوا في القاعدة الفرعية الأولى وهي: " الضرورات تبيح المحظورات " إنها مستنبطة من قوله تعالى:
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] .
{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] .
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] .
وقالوا في القاعدة الفرعية الثانية، وهي: " ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، إنها مستنبطة من قوله تعالى:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145] .
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] .
واعتبروا أن القاعدة الفرعية الثالثة، وهي: " كلما ضاق الأمر اتسع ". تستند إلى قوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .
{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] .
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) } [الانشراح: 5- 6] .
__________
(1) وانظر كذلك سبب النزول لخواتم سورة البقرة التي منها هذه الآية(8/331)
ورابعة القواعد الفرعية، هي: " الميسور لا يسقط بالمعسور ". وتعني هذه القاعدة أن المطلوب من المكلف قد يكون على مراتب من حيث قد يشق بعضها ولا يشق البعض الآخر، ومثال ذلك: ما فرضه الله على المسلمين من التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر بمراتبه الثلاث: التغيير باليد، والتغيير باللسان، والتغيير بالقلب. فمن شقت عليه المرتبة الأولى وهي التغيير باليد قد لا تشق عليه المرتبة الثانية وهي التغيير باللسان، فيفعلها ولا تسقط في حقه لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، ومن شقت عليه المرتبة الثانية من هذا الواجب لا تشق عليه المرتبة الأخيرة وهي: تغيير المنكر بالقلب، لأنها لا تشق على أحد، ولا يتطلب القيام بها أكثر من عمل داخلي في نفس المؤمن هو الإنكار والاشمئزاز وذلك أضعف الإيمان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من رأي منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (1) .
وقد استندوا في استنباط هذه القاعدة إلى قول الحق سبحانه وتعالى:
{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] .
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} [الطلاق: 7] .
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] .
هذه جملة من الآيات الكريمة، أقرت قاعدة التيسير في الشرع الإسلامي وأصلتها، وأشارت إلى ما أخذ منها من قواعد فرعية مندرجة، لها عظيم الأثر في توجيه الاستنباط وتأصيل الأحكام.
وجاءت السنة الشريفة تواكب آي الكتاب الحكيم وتزيد القضية إيضاحًا وتركيزًا. فكان أن تناولت الأحاديث في ذلك ثلاثة جوانب تصب كلها في مصب واحد هو يسر الدين وسماحته، والنهي عن التشدد والتعمق والتنطع، حتى عمد صلى الله عليه وسلم إلى العدول عن بعض القرب خشية أن يلتزمها فتشق عليهم، أي على المؤمنين.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، وأبو داود في الصلاة، والترمذي في الفتن، والنسائي في الإيمان، وابن ماجه في الصلاة وفي الفتن(8/332)
ولقد جاء في مجال يسر الدين الإسلامي وسماحته ورفع الحرج عن أتباعه من المؤمنين قوله صلى الله عليه وسلم:
- فيما يرويه أنس بن مالك خادم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)) (1) .
- وما يرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) (2) .
والمراد: استعينوا على طاعة الله باختيار أوقات نشاطكم وفراغ قلوبكم بحيث تستلذون عبادتكم ولا تسأمونها، كما يستعين المسافر الحاذق على أتعاب سفره باختيار هذه الأوقات (الروحة، والغدوة، والدلجة) فيبلغ قصده بأقل الأتعاب.
- وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يشق على أصحابه في أمر حتى في أوقات تعليمهم، فقد روى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام (أي يتعهدنا بها في الأيام ولا يكثر) كراهة السآمة علينا)) (3) .
- وفي الحديث الآخر الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين أن يشقوا على أنفسهم بكثرة السؤال كما فعل بنو إسرائيل ويحدد لهم أن يأتوا بالمأمور في حدود الاستطاعة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم)) ، وفي رواية: ((إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم.. واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (4) .
- ولقد جاء في الجانب الثاني من الجوانب الثلاثة المذكورة آنفًا وفي مجال أمره صلى الله عليه وسلم الناس بالتخفيف والاعتدال ونهيهم عن التنطع والتعمق والتشديد أحاديث عديدة منها:
- ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هلك المتنطعون)) (5) . (قالها ثلاثًا) وفي رواية: ((ألا هلك المتنطعون)) والمتنطعون هم المتعمقون والمتشددون في غير موضع التشديد.
__________
(1) حديث متفق عليه؛ انظر البخاري: كتاب العلم – باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كيلا ينفروا.
(2) الغدوة: سير أول النهار، والروحة: سير آخر النهار، والدلجة: آخر الليل. هذا لفظ البخاري في: كتاب الإيمان – باب 29 الدين يسر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة.
(3) انظر البخاري: كتاب العلم – باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كيلا ينفروا.
(4) متفق عليه – انظر البخاري: كتاب الاعتصام – باب الاقتداء.
(5) أخرجه مسلم في القدر: وأبو داود في السنة. انظر ذخائر المواريث عدد 4741.(8/333)
- وجاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، فقال: من هذه؟ قالت: فلانة تذكر من صلاتها ... قال: " مه عليكم بما تطيقون! فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إلى الله ما دوام عليه صاحبه ")) (1)
- وجاء عن جابر عن سمرة رضي الله عنه أنه قال: ((كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا)) (2) .
- وعن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: ((ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه)) (3) .
- وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تشددوا على أنفسكم)) (4) .
- وفى حادثة الأعرابي الذي بال في المسجد، وموقف الشدة الذي رامه الناس حين قاموا إليه ليقعوا فيه، فصدهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل أذى يلحقونه به، بل منعهم أن يقطعوا عليه بوله وأخبرهم أن رسالتهم التي عليهم أن ينشروها هي التيسير:
جاء عن أنس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أعرابيا يبول في المسجد فقال: " دعوه".حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه)) (5) .
وعن أبي هريرة أنه قال: ((قام أعرابي فبال في المسجد تناوله الناس، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ")) (6) .
- وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: ((قال رجل: يا رسول الله لا أكاد أدرك الصلاة مما يطيل بنا فلان. (وفى رواية: إني لا تأخر عن الصلاة في الفجر – أو عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا) فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبًا من يؤمئذ. فقال: " يا أيها الناس إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة ")) (7)
- وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه. وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها)) (8) .
- وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: ((أقبل رجل بناضحين [جملين يسقى عليهما] وقد جنح الليل [أي أقبل] فوافق معاذًا يصلي فترك ناضحه، وأقبل إلى معاذ فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل، وبلغه أن معاذا نال منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! أفتان أنت!؟ أو أفاتن!؟ (ثلاث مرار) فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة ")) (9) .
__________
(1) متفق عليه. انظر: البخاري: كتاب الإيمان – باب أحب الدين إلى الله أدومه.
(2) أخرجه أصحاب الصحاح في الصلاة باستثناء البخاري – انظر: ذخائر المواريث عدد 1118.
(3) متفق عليه. انظر البخارى: كتاب الآذان – باب من أخف الصلاة.
(4) أخرجه أبو داود في الصلاة وفى الأدب. انظر ذخائر المواريث عدد 244
(5) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء – باب ترك النبي صلى الله عليه وسلم والناس الأعرابي.
(6) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء – باب صب الماء.
(7) متفق عليه. أخرجه البخاري في مواضع عدة، انظر البخاري كتاب العلم – باب الغضب في الموعظة، وكتاب الأذان – باب من شكا إمامه ... وأخرجه مسلم وابن ماجه في الصلاة. انظر ذخائر المواريث عدد 5277.
(8) حديث متفق عليه – أخرجه البخاري في عدة مواضع. انظر: كتاب المناقب – باب صفة النبي. وأخرجه مسلم في فضائل النبي. وأبو داود في الأدب. انظر ذخائر المواريث: عدد 11208 وعدد 11314.
(9) أخرجه البخاري كتاب الجماعة والإمامة – باب من شكا إمامه إذا طول(8/334)
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة ليس بكثرة العمل ولا بالتشديد وإرهاق النفس، وإنما دخول الجنة بفضل من الله ورحمة منه، وأن أحب العمل عند الله تعالى أدومه وإن قل، وفى هذا المعنى ورد حديث أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما إذ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسم ((: سددوا وقاربوا واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل)) (1) .
وبالحديث الآخر لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحدًا الجنة عمله! قالوا: ولا أنت يارسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة ")) (2) . كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أراد – رغم ذلك – أن يطيل في العبادة أو أن يقل فلا يلزم الناس بما أراد، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)) (3) .
ولقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة المعالم، نهجها الاعتدال، ديدنها التيسير والتخفيف على الناس، وقد أعلن هذا الاتجاه نبينا يوم جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواجه صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، قال أنس رضي الله تعالى عنه: ((جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها. فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكنى أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ")) (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الرقاق – باب القصد والمداومة على العمل.
(2) نفس المصدر والكتاب والباب. وفيه حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مع اختلاف قليل في اللفظ
(3) انظر: البخاري. كتاب الأذان – باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء
(4) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي في النكاح. انظر: البخارى: كتاب النكاح – باب الترغيب في النكاح. وانظر ذخائر المواريث عدد 670(8/335)
والجانب الثالث الذي ركزت عليه السنة لإقرار مبدأ التيسير هو ما بينته عديد من الأحاديث من أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعمد ترك بعض القربات خشية أن يشق على المؤمنين، وهو بهم – كما وصفه الله تعالى – رؤوف رحيم. لا يريد إعناتهم، ولم يبعث إلا رحمة لهم وللعالمين. ومن هذه الأحاديث.
ما روته أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام ليلة الثانية، فقام معه أناس يصلون بصلاته.... صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثة، حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس، فقال إنى خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل)) (1) .
- وما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك. (وفى رواية: عند كل صلاة)) ) (2)
- وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة. ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقل، ثم أحيا ثم أقتل)) (3) .
وما رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ((أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء حتى رقد الناس واستيقظوا ورقدوا واستيقظوا، فقام عمر بن الخطاب فقال: الصلاة (وفى رواية: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والصبيان) فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه الآن يقطر رأسه ماء واضعا يده على رأسه. فقال: لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم أن يصلوها هكذا. (وفى رواية: لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة)) ) (4) .
وفي خاتمة هذه المجموعة المختارة من الأحاديث التي تنفي المشقة وتنادي بالتيسير نسوق هذا الحديث الشريف، العظيم المرمى، البعيد المقصد وهو حديث أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها قالت: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم، فاشقق عليه. ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)) (5) .
وبعد؛ لقد كان لمبدأ التيسير ورفع الحرج عن المسلمين، وهو المبدأ الذي نوهت به جميع النصوص التي أسلفنا من الكتاب والسنة وغيرها، عظيم الأثر في رسوخ الإسلام وفى سرعة انتشاره واستمراره، مما أثار الدهشة، وحير الأفهام، ودعا إلى التساؤل عن سر هذا الأمر؟! وأوقع العديد من الباحثين الأغراب في الشبه والتمحلات، فعزا من خفي عليه سر هذا الأمر وهو انتشار الإسلام بسرعة غير معهودة، وتمكنه تمكنًا غير مألوف، إلى حد السيف وإلى قوة الإرهاب التي أوقعتها الجيوش الإسلامية في قلوب الكافرين، وفي نفوس الأعداء ... ولقد خفي على هؤلاء أن الترغيب له مفعول واضح الإقناع والاستمالة، كفضل التيسير على النفوس لجعلها أميل وأحرص على هذا الدين، ولشيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى بيان لطيف لحكمة التيسير والسماحة في الشريعة الإسلامية إذ قال: " إن حكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة. وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها. ومن الفطرة النفور من الشدة والإعنات، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] . وقد أراد الله تعالى أن تكون شريعة الإسلام شريعة عامة ودائمة فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلاً، ولا يكون ذلك إلا إذا انتفى عنها الإعنات، فكانت بسماحتها أشد ملاءمة للنفوس، لأن فيها إراحة النفوس في حالي خويصتها ومجتمعها. وقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة وطول دوامها، فعلم أن اليسر من الفطرة لأن في فطرة الناس حب الرفق " (6) .
__________
(1) انظر: البخاري: كتاب الأذان – باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة.
(2) أخرجه البخاري، انظر كتاب التمني – باب ما يجوز من اللو.. كما أخرجه الترمذي في الطهارة
(3) انظر: البخاري: كتاب الايمان – باب الجهاد من الإيمان.
(4) حديث متفق عليه. انظر البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب النوم قبل العشاء لمن غلب. وكتاب التمني – باب ما يجوز من اللو.
(5) رواه مسلم انظر كتاب الإمارة حديث 19
(6) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية ص 61 – 62(8/336)
لا نكاية في الشريعة الإسلامية
تبين من استقراء الشريعة أن السماحة واليسر من مقاصد الدين الإسلامي. وقد بلغت الأدلة من الكتاب والسنة مبلغ القطع على رفع الحرب عن هذه الأمة، فليس بدعًا بعد ذلك أن نجزم أن هذه الشريعة الإسلامية لا نكاية فيها بالأمة، بل هي شريعة عملية تسعى بنهجها المبني على التيسير والرفق إلى تحصيل مقاصدها، سواء كان ذلك في عموم الأمة أو في خويصة أفرادها.
وانتفاء النكاية بالأمة عن الشرع الإسلامي أمر ثابت من وجهين:
الأول: أنه لم يأت في الشرع الإسلامى تشريع يضاهي ما حكاه القرآن من تشريع بعض الأمم التي نالها التنكيل بسبب الظلم والانحراف عن أمر الله، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160-161]
الثاني: أنه إذا تقرر قيام الشريعة على مقصد السماحة واليسر ورفع الحرج تنتفي إمكانية النكاية، لأنها نقيض للسماحة واليسر ورفع الحرج، ولا يوجد النقيض إلا مع انتفاء نقيضه كما يقول المناطقة.
وبناء على ما أسلفنا، بالإمكان أن نورد هنا – دفعًا لما قد يخطر على البال – السؤال التالي: ماذا نقول في الزواجر والعقوبات والحدود؟ أليست نكاية بالمخالف وعقابًا له؟ فكيف ننفي عن الشرع النكاية مع وجود هذه الزواجر والعقوبات؟
الجواب هو: أن الإسلام إذا رخص ويسر وأباح فقد جاء على الأصل من سماحته ورفقه، ومن جاء على أصله فلا سؤال عليه.
وإذا شدد أو زجر، أو نسخ حكمًا من الإباحة إلى التحريم – كما كان الشأن في الخمر – فليس ذلك بقصد النكاية أبدًا، ولكن مراعاة للمصالح ودفعًا للمفاسد. وقد نطقت بهذا جملة من القواعد التي جرت مجرى الحكم لما اشتملت عليه من مصالح، من ذلك: " القتل أنفى للقتل " أو {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] .
ولا يعد الطبيب عندما يصف لمريض مر الدواء بقصد علاج ما اعتل من جسمه، منكلاً بهذا المريض، وقديمًا عرفوا: أن الشفاء للمرض لا يحصل دون آلام.
فليست الزواجر ولا القصاص نكاية بل إصلاح وحماية، كما أنه ليس في بتر عضو أو تجرع مر الدواء نكاية؛ بل رحمة بالمريض ورعاية. وبناء على كون الزواجر والعقوبات والحدود في الشريعة ليست سوى إصلاح لحال الناس، فإنها تحدد بالمقدار الذي قرره الشارع دون زيادة أو نقصان، لأن الزيادة تؤذن بالنكاية ولا نكاية في الشرع، ولأن النقصان يؤذن باتهام الشريعة، أنها زادت على ما به الحاجة في الإصلاح، إلى ما هو أشبه بالتشفي والنكاية.(8/337)
والإصلاح بهذه الزواجر والعقوبات، يتوقف أساسًا على العدل في تطبيقها، فالناس أمامها سواء، لا فرق بين الأبيض والأسود، ولا بين الشريف والوضيع، ولا بين القوي والضعيف، ولا بين الغني والفقير. ومن أجل تحقيق هذه العدالة جعل محلها الأبدان، لأن هذه الأبدان تتساوى فيها فطرة الناس من حب البقاء وحفاظ على النفس وفرار من الألم، ولم يكن محلها الأموال لأن اعتبارها والإحساس بها يختلف باختلاف قلتها ووفرتها، وباختلاف ما جبلت عليه النفوس من بخل وفي البخل درجات ومن كرم وفي الكرم درجات أيضًا، ومن أجل هذا لم تجئ في الإسلام عقوبات مالية خارجة عن غرم الضرر أو ضمان المتلف والمغصوب وما في حكمهما، من كل ما فيه إرجاع المال لمستحقه شرعًا وإرجاع الحق لأهله.
وليس في القانون الجزائي الإسلامي عقوبة مالية تكون منفردة أو مضافة إلى العقوبة البدنية كما هو الحال في القوانين الوضعية.
ليس الأخذ بالعزيمة أولى من الترخص
الرخصة والعزيمة قسيمان للحكم الشرعي ولكل أسبابه مع تمييز باللحاق والسبق، وتأصيلهما في الشريعة مقطوع به، فالمنكر للرخصة كالمنكر للعزيمة، فإن كان هذا الإنكار في المعلوم من الدين بالضرورة أوصل صاحبه إلى الكفر.
فإذا قلت: تعود العزيمة إلى سبب قطعي في حين تعود الرخصة إلى سبب ظني!
قلنا: الكل قطعي لأن المظنة في الرخصة منزلة منزلة القطع، وذلك بناء على أن الشارع أجرى الدلائل الظنية في الفروع الشرعية مجرى الدلائل القطعية.
والقول بأنه لا أولوية للعزيمة على قسيمها في الحكم الشرعي الذي هو الرخصة، قول يستند إلى العديد من البراهين، منها:
1- أن العزيمة يتجه أمر المكلف بها بشرط عدم الحرج: فإن وجد الحرج صح اعتباره مقتضيًا للعمل بالرخصة، فأي معنى للأولوية إذا قام الحرج حائلا دون فعل العزيمة!؟
2- أصل الرخصة وإن كان بمثابة الجزئي، بالنظر إلى أصل عزيمتها، لا يكون مؤثرًا، وإلا لزم القدح في كل جزئي وقع استثناؤه من العموم مع أنه معتبر في نفسه، ومعدود من باب التخصيص للعموم، أو من باب التقييد للمطلق، وقد ذكروا في الأصول الفقهية: أنه يصح تخصيص القطعي بالظني. كما يتعين الرجوع إلى التخصيص – ولو كان بدليل ظني دون العمل بأصل العموم ولو كان دليله قطعيًا.
3- وكما أجازوا تخصيص القطعي بالظني، أجازوا نسخ حكم القطع السابق بغلبة الظن، مثل حرمة أكل الميتة – وهو حكم قطعي سابق – ينسخ بغلبة الظن – لدى الصياد: أن الموت كان بسبب ضربته وصيده، مع وجود الاحتمال – دائما – أن الموت كان بغير ذلك أصلاً، أو كان بمعين آخر على موت الفريسة. وما ذلك إلا لكون الشريعة قبلت وصححت العمل على مقتضى الظن.
4- أسلفنا أن أدلة رفع الحرج عن هذه الأمة قد بلغت مبلغ القطع من مثل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38] ، وغيرها من الآيات والأحاديث التي أصلت مبدأ التيسير ورفع الحرج في الشريعة حتى سميت بالحنفية السمحة، ولا نرى وجهًا لتطبيق هذا المبدأ دون اعتبار الرخص والأخذ بها.
5- مبدأ التيسير ورفع الحرج قررته الشريعة حتى صار أمرًا مقطوعًا به، ولم تقف عند تقريره والإعلان عنه، بل دعت إلى الأخذ به، وأنكرت على المغالين والمتشددين، والنافرين من الرخصة والمنفرين منها.(8/338)
وقد جاءت في هذا المعنى عدة أحاديث، نقتصر منها على ما يلى:
- عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته (1) وفي رواية أخرى ط عليكم برخصة الله الذي رخص لكم)) (2) .
فالدعوة إلى العمل بالرخصة في هذا الحديث لا غبار عليها، فالله يحب أن تؤتى رخصه، والرسول صلى الله عليه وسلم يحضنا على العمل برخصة الله التي رخص لنا.
- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء، فقال: ((ما بال صاحبكم هذا؟ قالوا: يارسول الله صائم! قال: إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم، فاقبلوها (3) وفي رواية عنه: ليس من البر الصيام في السفر، عليكم برخصة الله عز وجل فاقبلوها)) .
فالحديث براويتيه يأمر بقبول رخصة الله عز وجل التي رخص لعباده، رحمة بهم، ومنة عليهم ... فماذا يكون موقف الرافض لهذه النعمة من الله عز وجل؟ خصوصًا وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما هؤلاء التاركين أو المعرضين عن الرخصة التي رخص الله لهم عصاة:
- قال جابر رضي الله عنه: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم [اسم لواد أمام عسفان] فصام الناس، فبلغه أن الناس قد شق عليهم الصيام، فدعا بقدح من الماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون، فأفطر بعض الناس وصام بعض. فبلغه أن ناسا صاموا، فقال: " أولئك العصاة)) (4) .
سماهم عصاة للنكير عليهم في مخالفة ما سن لهم، وفي إعراضهم عن هذه المنحة من الله عز وجل.
فهل يبقى شك بعد هذا في أن من أخذ برخصة الله، فقد رضي بحكمه، وقبل شرعه، وفرح بمنحته، وأحب رحمته وتيسيره رأفة بالعباد؟ ومن ترك الرخصة مع وجود دواعيها وأسبابها - ولو بغلبة الظن - فقد ترك شيئا من شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم استحق بسببه أن يوصف بالعصيان عساه أن يمسك عن التمادي في هذه الطريق المؤدية إلى التشديد والغلو، والله تعالى يحب أن ينعم على عباده ويحب أن يحمدوه على نعمه.
للرخصة أسبابها وللعزيمة أسبابها، وعلى المؤمن أن يأخذ بكل عندما يتوفر سببه، والله يحب ذلك وقد جعل التقرب إليه وعبادته بالرخصة كالتقرب إليه وعبادته بالعزيمة.
إن ترك العزيمة معصية إذا توفرت أسبابها، كما أن عدم ترك العزيمة إذا توفرت أسباب الرخصة، جنوح إلى المغالاة والشدة المنهي عنهما، ولهذا قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم ((أولئك العصاة)) .
وهذا ما حدث للبعض من شيوخ الصوفية الذين أوصوا تلاميذهم بترك اتباع الرخص جملة، وجعلوا من أوصلهم الأخذ بعزائم العلم، كما نقل ذلك عنهم الشاطبي (5) فإنهم وقعوا في مخالفة السنة والشريعة بترك الرخصة من حيث أرادوا الحرص على البر بالشريعة، وعلى المزيد من تقوى الله، والشيء إذا تغالوا فيه ووصل إلى الحد رجع إلى الضد كما يقال. والله الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) انظر مسند الإمام أحمد بن حنبل: 2 /108
(2) هي رواية مسلم: كتاب الصيام: 93 و 105، والنسائي: صيام: 47 و 48
(3) أخرجه النسائي: صيام 47
(4) اخرجه النسائي: صيام 49
(5) الموافقات: 1/ 202(8/339)
تعريف الرخصة
أ – الرخصة لغة:
هي التيسير والتسهيل. قال الجوهري: " الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه، ومن ذلك رخص السعر: إذا سهل وتيسر. وهى بتسكين الخاء، وحكي أيضا ضمها. وأما الرخصة بفتح الخاء، فهو الشخص الآخذ بها.
- وقال في القاموس:
الرخصة (بضمة وبضمتين) ترخيص الله للعبد فيما يخففه عليه.
- وجاء في الصباح المنير:
رخص الشيء رخصا فهو رخيص (من باب قرب) وهو ضد الغلاء، والرخصة (وزان غرفة) وتضم الخاء للاتباع، ومثله ظلمه وظلمة.... والجمع رخص ورخصات، مثل: غرف وغرفات. والرخصة: التسهيل في الأمر والتيسير – يقال: رخص الشرع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصا إذا يسره وسهله. اهـ.
- وفي مختار الصحاح، يقول الرازي:
الرخص ضد الغلاء، وقد رخص السعر (بالضم) رخصًا، وأرخصه الله فهو رخيص، وارتخص الشيء اشتراه رخيصًا، وارتخصه أيضا عده رخيصًا. والرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه.. والرخص الناعم – يقال: هو رخص الجسد، بين الرخاصة والرخوصة.
ب- الرخصة في اصطلاح علماء الشريعة الإسلامية المطهرة:
عرف العلماء الرخصة تعاريف متعددة، محاولين أن تكون هذه التعاريف جامعة مانعة، ولكن حدود الرخصة وما تشمله من أقسام وفروع لم تكن محل اتفاق، ومن هنا جاءت التعاريف مختلفة. وهذا ما قالوه:
- الرخصة عند حجة الإسلام الغزالى رحمه الله:
قال: " الرخصة في الشريعة عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر مع قيام السبب المحرم (1) .
فقد أراد الغزالي بقوله: (مع قيام السبب المحرم) أن ما لم يوجبه الله تعالى مثل صوم شوال، وصلاة الضحى، أو ما أبيح في الأصل، فإن تركه وإن كان لعذر لا يسمى رخصة.
__________
(1) انظر: المستصفى: 1 / 63(8/340)
- وقال القاضي البيضاوي في تعريف الرخصة:
" الحكم إن ثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة. كحل الميتة للمضطر، والقصر والفطر للمسافر، واجبًا ومندوبًا ومباحًا، وإلا فعزيمة (1) فالرخصة عنده حكم شرعي مثل العزيمة، خلافًا للإمام الرازي الذي جعلهما من أقسام الأفعال (2) ولكل حكم دليله من الشرع، فإن كان هذا الحكم ثابتًا بالدليل ابتداء من غير تقدم ما يوجب خلافه فهو العزيمة، وما شرع على خلاف الدليل الثابت ابتداء بدليل آخر لعذر فرخصة. فقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] . هو دليل الحكم الثابت ابتداء، وهذا الحكم هو حرمة أكل الميتة. وهو العزيمة.
وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] هو دليل الحكم الثابت لعذر على خلاف الدليل الثابت ابتداء. وهذا الحكم هو حلية أكل الميتة للمضطر. وهو الرخصة.
- وقال العلامة البدخشي في شرحه على منهاج الأصول للقاضي البيضاوي والذى ترجمه بمنهاج العقول في شرح منهاج الأصول:
وعرف بعضهم الرخصة بأنها: ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام المحرم لولا العذر (3) وهذا التعريف لا يختلف عن تعريف ابن الحاجب. وقد تحصل من هذا التعريف أن دليل الحرمة (وهو قوله تعالى مثلاً: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إذا بقي معمولاً به، فطرأ في حق المكلف عذر (مثل المخمصة) أدى إلى التخلف عن الحكم الثابت ابتداء فأبيح له ما كان ممنوعًا، ولولا ما طرأ من عذر أو مانع ما أبيح له ذلك، فالحكم الثابت بالتخلف لا ابتداء هو الرخصة.
ويخرج بهذا التعريف:
أ – الحكم الثابت ابتداءً لأنه شرع لغير عذر أو مانع.
ب- المنسوخ لأن المحرم لا يبقى قائمًا ولا معمولاً به.
ج – الحكم الثابت بالمخصص لأن التخلف فيه ليس لعذر، بل هو لبيان أن الدليل العام لا يشمله.
- وعرف أبو إسحاق الشاطبي الرخصة فقال:
هى ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على موضع الحاجة فيه (4)
__________
(1) انظر: منهاج الوصول في علم الأصول بشرحي الإسنوى والبدخشي: 1 /69 – 70 (ط. محمد صبيح وأولاده بالأزهر – مصر)
(2) الحاصل: أن القاضي البيضاوي قد تبع في اعتبار الرخصة والعزيمة من أقسام الحكم، تاج الدين الأرموي صاحب كتاب الحاصل، وعلى هذا سار الإمام القرافي في كتبه. وجرى غيرهم على اعتبارهما (أي الرخصة والعزيمة) من أقسام الفعل مثل: الآمدي في الأحكام، وابن الحاجب في مختصره الكبير، والإمام الرازي في المحصول.
(3) انظر: كتاب المنهاج بشرحي الإسنوي والبدخشي: 1 /69
(4) انظر: الموافقات: 1 /18 (ط. أولى بتونس)(8/341)
بالتأمل في هذا الحد نجد أنه اشتمل على عدة قيود:
أولها: كون الرخصة مشروعة لعذر، وظاهره أن ما شرع لغير عذر لا يسمى رخصة كما هو مقرر لدى علماء الأصول.
ثانيها: كون العذر من نوع الشاق، بخلاف العذر الذي لا مشقة فيه، وإنما هو حاجة عرضت، مثل حاجة الضرب في الأرض بصفة عامة لأنها حاجة الأمة وحاجة الأفراد، وعجز صاحب المال عن الضرب في الأرض بنفسه لا يعتبر عذرًا شاقا، ورغم ذلك فقد راعى الشارع حاجة الأمة بصفة عامة ويسر على الناس فأباح أنواعًا من العقود مثل: القراض والمساقاة والسلم إباحة مطردة لم يقتصر فيها على موضوع الحاجة، ولا على أصحاب الأعذار وحدهم.
وهذه العقود – وإن كانت مستثناة من أصل ممنوع – فلا تسمى رخصًا بالمفهوم الاصطلاحي، وإنما هي من قبيل ما رخص فيه الشرع لدخوله تحت أصل الحاجيات الكلية. والحاجيات الكلية لا تسمى عند العلماء رخصة بالمفهوم الاصطلاحي، بل بالمفهوم اللغوي لا غير. وكذلك الشأن فيما إذا رجع العذر إلى أصل تكميلي، وليس من قبيل الأعذار الشاقة، فلا يسمى ما شرع بسبب هذا العذر التكميلي رخصة اصطلاحًا، ومثال هذا: الترخيص للمأمورين في الصلاة جلوسًا تبعا لإمامهم الذي يشق عليه القيام، فجلوس المأمومين كان لغير مشقة، وإنما لموافقة إمامهم وعدم مخالفته، وهو أصل تكميلي بناء على ما جاء به الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) .
ثالثها: الاقتصار بحكم الرخصة على موضع الحاجة دون سواه، بناء على قاعدة: " ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" وهذا القيد عند من نصوا عليه هو الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكلية، وبين ما شرع من الرخص بصورة جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة لا غير.
ذلك أن الرخصة ترتفع بارتفاع العذر الشاق المسبب لها: كالتيمم لعدم الماء أو لعدم القدرة على مسه، والإفطار والقصر للسفر الطويل، والجلوس في الصلاة لمن شق عليه القيام ... إلخ.
بخلاف ما شرع من الحاجيات الكلية مثل: القراض والمساقاة والمغارسة، وغيرها من العقود المستثناة من قاعدة المنع، والمباحة لعموم الحاجة، فأشبهت الرخصة وليست برخصة حقيقة؛ إذ حكم الرخصة يرتفع بارتفاع السبب الذي هو العذر، بخلاف ما أشبهها فلا يرتفع حكمه بارتفاع العذر فيه.
- وعرفها القاضي تاج الدين عبد الوهاب ابن السبكي صاحب كتاب جمع الجوامع بقوله: الحكم الشرعي إن تغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي، فرخصة: كأكل الميتة – والقصر – والسلم – وفطر مسافر لا يجهده الصوم، واجبًا ومندوبًا ومباحًا وخلاف الأولى، وإلا فعزيمة.(8/342)
- وعرفها من المتأخرين شيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله فقال: الرخصة تغير الفعل من صعوبة إلى سهولة لعذر عرض لفاعله وضرورة اقتضت عدم اعتداد بما في الفعل المشروع (يعني المشروع ابتداء) من جلب مصلحة أو دفع مفسدة، مقابل المضرة العارضة لارتكاب الفعل المشتمل على المفسدة.
لم نقف على هذا التعريف عند غير الشيخ ابن عاشور، وقد وضعه بهذا الإطناب ليتقصى الأسس التي قامت عليها الرخصة، وهى كما تؤخذ من عبارته في هذا التعريف:
أ – أن الرخصة أساسها التغيير من صعوبة إلى سهولة: تيسيرًا ودفعها للحرج عن المكلف، وبدون هذا التغيير وهذا التيسير لا وجود للرخصة.
ب- أن الداعي لهذا التغيير أمران:
الأمر الأول: حصول عذر عارض للمكلف يشق معه أو يحول دون الأخذ بالفعل المشروع ابتداء.
الأمر الثانى: عدم اعتداد الشريعة – مع قيام هذا العذر للمكلف – بالفعل المشروع ابتداء، لما في استمرار الاعتداد به من ضرر طارئ.
وبهذا المنهج الواضح في تعريف الرخصة، يتبين لنا أن الشريعة الإسلامية المطهرة لا تخرج في عامة الأحوال وخاصتها عن المبدأين المشهورين.
1- مراعاة مصالح العباد.
2- التيسير ورفع الحرج.
وقد درج الشيخ ابن عاشور على ما درج عليه الشاطبي في عد الرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف وكلاهما (أي الرخصة والعزيمة) أصل كلي (1) .
- الصيغ المؤذنة بالترخيص:
للرخصة صيغ عديدة، جاءت بها نصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة، من هذه الصيغ.
أ – نفي الجناح (بضم الجيم) هو الإثم. قال تعالى:
- {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]
- {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]
- {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور: 58]
- {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] (2)
وفي الحديث الصحيح: عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خمس من الدواب لا جناح على من قتلهن: الغراب والحدأة والفأرة، والعقرب، والكلب العقور)) (3) .
__________
(1) ابن عاشور، مقاصد الشريعة: 124- 125. (ط. الشركة التونسية للتوزيع)
(2) آيات نفي الجناح
(3) رواه الخمسة (عدا ابن ماجه) انظر: التاج الجامع للأصول: 2 /116. (دار إحياء التراث العربي – بيروت. ط. ثالثة 1381هـ /1961م(8/343)
ب- نفي الإثم:
وإذا انتفى الإثم في المنهي عنه أصبح مرخصًا فيه. قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ِ [البقرة: 173] .
- {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] (1)
جـ - نفي المؤاخذة:
قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] – [المائدة: 89]
د – نفي الحنث:
قال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]
هـ - نفي الحرج:
أو الحكم بارتفاعه عنهم، أو الترخيص لهم في الفعل؛ قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] .
- {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] (2)
- {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]
و– نفي السبيل:
أى نفي الإثم والحرج. قال تعالى:
- {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] . أي ما على المحسنين إذا ما قعدوا عن الجهاد من حرج نظرًا لأعذارهم.
- {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] (3) أي ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم، وفي الحديث: ((من دعا على من ظلمه فقد انتصر)) .
وخير من الانتصار من الظالم الصفح والعفو عملاً بقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] .
أنواع الرخص
نظر العلماء في تصنيف الرخص وتقسيمها إلى اعتبارات مختلفة، فتعددت الأقسام والأنواع وتفجر ينبوع ما تحتها من فروع ومسائل، حتى صار كبح السير في غمار هذه الفروع، وما يقاس عليها، أمرًا عسيرًا، ومطاوعة النفس في ترك الحبل للجوس خلالها، أمرًا مغريًا بمزيد التفقه في الدين، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين كما قال رسول رب العالمين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
- التقسيم الأول: باعتبار الإطلاق
ويشمل أقسامًا ثلاثة: قسم الرخص الحقيقية – وقسم الرخص المجازية – والقسم المتردد بينهما.
1- تطلق الرخصة حقيقة على ما استبيح لعذر مع بقاء حكم العزيمة قائمًا، وإنما رخص في تركه تخفيفا عن المكلف.
وكما يسمى هذا القسم رخصة حقيقية يسميه الحنفية: رخصة ترفيه كما جاء في كشف الأسرار على أصول البزدوي.
المثال: نطق المكره بكلمة الكفر، أو إتلافه مال الغير، أو إساغة غصة بجرعة خمر لم يوجد سواها.
__________
(1) آيات نفي الإثم.
(2) آيات نفي الحرج
(3) آيتا نفي السبيل(8/344)
ويعتبر حجة الإسلام الغزالي هذا النوع من الرخص في الرتبة العليا.
2- تطلق الرخصة من باب المجاز على ما استبيح لعذر دون رجوع إلى حكم العزيمة ودون تقيد بقاعدة: ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
وكما يسمى هذا القسم رخصة مجازية، يسمى رخصة إسقاط.
المثال: ما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا؛ كوجوب قتل النفس لمن أراد التوبة، ووجوب قطع موضع النجاسة من الثوب لا غسله، وقطع الأعضاء الخاطئة وغيرها. فرفع هذا الإصر دون عودة هو في الحقيقة نسخ وإنما أشبه الرخصة من حيث التيسير والسهولة، فسميت رخصة على ضرب من التجوز.
3- ما تردد بين القسمين السالفين، وهي صور بعضها أقرب إلى الحقيقة وبعضها أقرب إلى المجاز.
أ- الصور القريبة من الحقيقة: ما أبيح ورخص فيه مع قيام السبب المانع، مثل: الفطر للمسافر في رمضان وقصره للصلاة.
فالسبب المانع من الفطر قائم، وهو دخول هذا المسافر تحت عموم قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . فأخرج من العموم ترخيصًا للعذر ومظنة العسر.
ب- الصور الأقرب إلى المجاز: مما لا يحسن أن يسمى رخصة إلا بتجوز، مثل: التيمم عند فقد الماء، فالسبب المانع، وهو التكليف باستعمال الماء ليس قائما لعدم وجوده، ولقول الحق تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ومن مقتضيات الرخصة الحقيقية التوسيع على المكلف والترخيص له مع وجود السبب قائمًا. وليس منه هذا التيمم عند فقد الماء، بل هو أشبه بالإطعام في كفارة الظهار عند فقد الرقبة، لأن الظهار سبب لوجوب العتق في حالة، ولوجوب الإطعام في حالة، وليس رخصة.
ومما يدخل تحت الرخصة المجازية السلم وما شابهه من العقود المستثناة من أصل ممنوع مثل المغارسة والمساقاة والجعل والقراض وغيرها، فالسلم مثلا داخل تحت أصل ممنوع وهو: بيع الإنسان ما ليس عنده. ولكنه استثني لحاجة الناس، وعبر عن هذا الاستثناء ترخيصًا، كما جاء في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه: ((نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، وأرخص في السلم)) (1) .
ومن هنا جاء اعتبار السلم رخصة مجازية، باعتبار أنه بيع دين فاختلف عن بيع العين في شرط حضور المبيع، والافتراق في الشرط لا يلحق أحدهما بالرخصة.
__________
(1) لفظه عند أحمد: (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي وليس فيه: وأرخص في السلم) . انظر المسند 3 /402(8/345)
- التقسيم الثانى: باعتبار مرجعية الحق في الرخصة:
الحق في الرخصة قد يكون لله تعالى وهو ما عناه الغزالي بقوله: ما يعصى بتركه، وقد يكون هذا الحق للعباد، وسماه الغزالي ما لا يعصى بتركه (1) .
أ – مثال ما يعصى بتركه لأن الحق فيه لله تعالى:
- أكل الميتة لمن خشي الهلاك.
- الإفطار لمن لم يعد يقوى على الصيام.
- شرب الخمر لدفع صائر به إلى هلاك.
ب- مثال ما لايعصى بتركه لأن الحق فيه للعياد.
الإفطار وقصر الصلاة للمسافر.
ونضع تساؤلاً في هذا المجال وهو: كيف يسمى ما يجب الإتيان به رخصة؟ كأكل الميتة لمن أصابته مخمصة مهلكة، أو جرعة الخمر لمسوغ غصة؛ مع أنه يجري مجرى العزيمة في كونه يرجع إلى أصل كلي وهو حفظ النفس؟
والجواب: أنه سمي رخصة باعتبار الفسحة والإذن – ولو مع التحتيم في فعل ما كان محظورًا من أجل حفظ النفس. أو باعتبار الترخيص للعذر وقدر الحاجة مع بقاء سبب المنع قائمًا، إذ حرمة أكل الميتة وشرب الخمر قائمة لم تنسخ في الأحوال العادية.
- التقسيم الثالث: باعتبار حكم الأخذ بالرخصة:
ينتقل المكلف – عند قيام العذر – من حكم العزيمة إلى حكم الرخصة. وحكم العزيمة المنتقل عنه إما الوجوب وإما الحرمة ولا يكون سوى ذلك، إذ لا ترخص في المندوب ولا في المكروه وأحرى المباح. فالمترخص ينتقل من فعل واجب كصيام رمضان إلى خلافه وهو ترك الصيام، ويكون هذا الترك بحسب المشقة أو المضرة التي تلحقه من الفعل أي من الصيام، فالمريض الذي يخشى عليه الهلاك من الصيام أو زيادة المرض يفطر وجوبًا فيكون قد انتقل من واجب الفعل إلى واجب الترك، وقد يكون لصيامه حكم آخر إذا لم يخش الهلاك أو زيادة المرض.
__________
(1) انظر المستصفى: 1 /63. (مصطفى محمد – ط أولى مصر، 1356 هـ / 1937م(8/346)
كما ينتقل المترخص من الفعل المحرم: كأكل الميتة أو شرب الخمر إلى الإباحة أو الوجوب أو الندب أو خلاف الأولى، وهذه هي الأقسام الأربعة للرخصة، كما قررها علماء الشافعية وغيرهم بقطع النظر عن الحكم الأصلي للعزيمة سواء، كان الوجوب أو الحرمة، وهذا تفصيل الأقسام الأربعة وأمثلتها:
1- الرخصة المندوبة، والمراد ما كان الانتقال إليها من حكم العزيمة مندوبًا، مثل:
- قصر الصلاة للمسافر – بعد توفر شروط القصر – تخفيفًا عليه من مشاق السفر لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] وفى الحديث عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فقد أمن الناس. فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ((صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) (1) دل تعبيره صلى الله عليه وسلم بالصدقة، وحثه إيانا على قبول هذه الصدقة دل كل ذلك على أن القصر بات مشروعًا لمن ضرب في الأرض، سواء مع الخوف أو عدمه، كما دل ذلك على أن شرط الخوف جرى مجرى الغالب بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذ كانت أغلب أسفارهم بقصد الجهاد في سبيل الله.
وفهم أبو حنيفة – رضي الله عنه – من هذا التعبير حكم الإسقاط في حق المسافر فيما زاد على الركعتين، بحيث صار فرض المسافر ركعتين، وليس في الأمر رخصة، فقال في مجال التدليل على رأيه: الصدقة هنا ليست حقيقية بدليل أنها لا تملك، ولا تتوقف على قبول المتصدق عليه، ونظير هذا قول ولي القصاص للجاني: تصدقت عليك بدم فلان فإنه يكفي لإسقاط القصاص دون قبول الجاني. وكذلك الأمر هنا: صدقة الله علينا تعني إسقاط ركعتين من الرباعية وليس للأمر علاقة بالرخصة.
وعلى المذهب الحنفي صار فرض المسافر ركعتين بدل أربع للمقيم، والتمثيل بقصر الصلاة- في هذا الباب – يجري على المذهبين الشافعي والحنبلي لأنهما يعتبران القصر للصلاة مندوبًا، كما يجري وفق المذهب المالكي الذي يعتبر القصر سنة مؤكدة لأنه – عند مالك – مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه.
2- الرخصة الواجبة، والمراد ما كان الانتقال إليها من حكم العزيمة واجبًا أي فعله واجبًا، ومثلوا له بأكل الميتة استبقاءً على الحياة لمن وقع في مخمصة وخشي الهلاك، فقد قال الحق تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] بعد قوله تعالى في أصل الحكم الذي بقي به الدليل قائمًا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] كما مثلوا لهذا القسم بوجوب إفطار المريض في رمضان إذا خاف الهلاك أو زيادة المرض أو استمراره.
3- الرخصة المباحة، أي ما كان الانتقال إليها من العزيمة مباحًا ومثلوا لهذا القسم بأمثلة كثيرة لا يسلم أغلبها من الاعتراض، منها: فطر المسافر، والظاهر أنه راجع للقسم الآتي: الرخصة على خلاف الأولى لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] .
__________
(1) رواه أصحاب الصحاح عدا البخاري، وكلهم في الصلاة إلا الترمذي ففي التفسير انظر ذخائر المواريث: عدد 5639(8/347)
ومثلوا بالرخص الاستحسانية: السلم، المساقاة، المغارسة، الجعل، العرية، القراض.. إلخ. والظاهر أنها ليست رخصًا حقيقية بل مجازية لعدم بقاء الحكم الأصلي قائما معها وعدم تحديدها بحدود الضرورة الدافعة إليها، وإنما صار حكمها عامًا مستمرًا.
والأفضل أن يمثل لهذا القسم بما يأتي:
- المسح على الخفين.
- التيمم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمنه المعتاد.
- قراءة القرآن وكتابته على غير طهارة للعالم والمتعلم.
4- الرخصة على خلاف الأولى: والمراد أن الأخذ بالرخصة خلاف المطلوب بل الأولى والمطلوب عدم الترخص كالمسافر يفطر ولا يشق عليه السفر فهو خلاف الأولى لأن الله تعالى يقول: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] ، وأما إذا شق على النفس فالفطر أولى.
- التقسيم الرابع باعتبار أنواع التخفيف التي احتملتها الرخص في الشريعة:
بناء على أن الرخصة ليست سوى تخفيف من الأعباء على المكلف.
- النوع الأول: تخفيف الإسقاط، وهو عبارة عن الترخيص في ترك ما كان مأمورًا به ما دام العذر قائما تخفيفًا على المكلف. وأمثلته كثيرة منها:
- إسقاط الخروج إلى الجماعة للمرض أو البرد والمطر الشديدين.
- إسقاط الجمعة للمرض والبعد وعدم سماع النداء.
- إسقاط الحج والعمرة لعدم الاستطاعة البدنية أو المالية أو الأمنية.
- إسقاط الصلاة على من فقد الطهورين، وذلك في المشهور من مذهبي مالك وأبي حنيفة.
- إسقاط قضاء الصوم لمن أفطر ناسيًا عند الجمهور إلا مالكًا، والأصل فيه حديث أبي هريرة ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) (1)
- إسقاط الحدود بالشبهة على قاعدة: " ادرأوا الحدود بالشبهات". وهي قاعدة منقولة باللفظ عن حديث عائشة الذي رواه الترمذي والحاكم.
فلا حد على من ظن حلية الأمور التالية:
أخذ مال الأب، وطء جارية زوجته، وطء مطلقته ثلاثًا في العدة، وطء المرتهن مرهونته.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم وكذلك الترمذي وابن ماجه. انظر ذخائر المواريث: عدد 8343(8/348)
وقد بحث العلماء الشبهة وقسموها أقسامًا ثلاثة:
1- شبهة في الفاعل: كمن وطئ أجنبية ظانا أنها زوجته.
2- شبهة في المفعول: سرقة مال في غير حرز، وطء الجارية المشتركة.
3- شبهة في السبب: استباحة الوطء بنكاح بلا ولي أو بنكاح المتعة.
النوع الثانى: تخفيف تنقيص، والمراد تنقيص معين من المأمور به أو تنقيص على قدر الاستطاعة.
المثال: قصر الصلاة الرباعية في السفر (وهو تنقيص معين) . تنقيص ما عجز عنه المريض في صلاته (وهو تنقيص على وفق الاستطاعة) .
النوع الثالث: تخفيف الإبدال، والمراد الإتيان بفعل أخف على وجه الترخص بدل الفعل الأشق.
المثال: - التيمم عند فقدان الماء أو العجز عن استعماله بدل الطهارة المائية.
- أعمال الكفارة إذا كانت على الترتيب لا على التخيير، مثل كفارة الصيام عند غير مالك: العتق، ثم صوم شهرين متتابعين، ثم إطعام 60 مسكينًا، فلا ينتقل من نوع إلى ما بعده إلا لعذر.
- فدية الحج والعمرة عما يفعله المحرم من مخالفات الإحرام، مثل: قطع الشجر، ومس الطيب، وقص الشعر أو الأظافر. وأعمال الفدية عند الجمهور تكون على الترتيب، وهي كما يلي: ذبح شاة، صيام ثلاثة أيام، إطعام 6 مساكين – نصف صاع لكل مسكين – ويستوي فيها المعذور وغيره.
النوع الرابع: تخفيف تقديم، أي بأن يقوم المكلف بالعمل قبل وقته، ترخيصًا له وتخفيفًا عليه لقيام العذر.
المثال: جمع التقديم في مشتركتي الوقت (الظهر والعصر أو المغرب والعشاء) بالنسبة للمسافر، جاء في الحديث: ((كان صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها مع العصر يصليهما جميعًا. وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار. وكان إذا ارتحل قبل الغروب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب)) (1)
- إخراج الزكاة قبل حلول الحول، فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لعمه العباس بن عبد المطلب.
- تقديم الكفارة على حنث اليمين لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير)) (2) .
- النوع الخامس: تخفيف التأخير، وهو المقابل للنوع الرابع.
المثال: تأخير الصلاتين المشتركتي الوقت، كما تقدم في المثال الأول من أمثلة النوع الرابع.
__________
(1) أخرج هذا الحديث وما في معناه البخاري وأبو داود والترمذي عن جماعة من الصحابة منهم: أنس بن مالك – وابن عباس – وابن عمر – ومعاذ
(2) حديث عبد الرحمن بن سمرة. أخرجه أصحاب الصحاح، أغلبهم في الأيمان والنذور. انظر ذخائر المواريث: عدد 5040(8/349)
- تأخير صيام رمضان أو أيام منه للمريض لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .
- تأخير الجمع بالمزدلفة للعشاءين في الحج.
- تأخير الصلاة عن وقتها الاختياري لأمر مهم كإنقاذ غريق أو إطفاء حريق.
- النوع السادس: تخفيف بإباحة الممنوع.
المثال: صلاة المستجمر مع بقية من النجاسة لا تزول إلا بالماء، عملاً بقاعدة " القليل معفو عنه"، وهو مقدر عند الحنفية بما دون الدرهم من النجاسة الجامدة، وما دون مقعر الكف من النجاسة المائية. وسبب العفو الضرورة أو عسر الاحتراز عنها.
وعند مالك المقدار المعفو عنه من النجاسة ما يساوي الدرهم البغلي في الصلاة ولا عفو في الطعام.
- النوع السابع: تخفيف تغيير، بحيث يصير معه العمل ميسورًا
المثال: صلاة الخوف وما طرأ عليها من تغيير في نظامها كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]
- التقسيم الخامس باعتبار الأسباب الداعية إلى الترخص:
والمتضمنة لضوابط الأخذ بالرخصة. وهي أسباب عديدة أهمها:
1- الضرورة: عرفها بعضهم بقوله: حقيقتها في الشرع: الخوف على النفس – وما في حكم النفس – من الهلاك المتيقن أو الغالب الظن بحيث يحل له المحظور لقاعدة الضرورات تبيح المحضورات، بل يصبح هذا المحظور في حق هذا المضطر واجبًا كأكل الميتة إذا لم يجد ما يغنيه عنها لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .
2- الحاجة: وهي على قسمين: عامة وخاصة. وبالجملة هي عبارة عن مصالح يترتب على عدم الاستجابة إليها عسر ومشقة وكونها عامة بمعنى أنها تشمل جميع الأمة وكونها خاصة يعني أنها تشمل مصالح مجموعة من الناس أو طائفة أو أهل بلد مثال الحاجة التي تحقق مصلحة عامة تشمل جميع الأمة.
- الإجارة على خلاف القياس رخص فيها للحاجة.
- ضمان الترك على خلاف القياس أيضا.
- السلم لأنه بيع المعدوم دفعًا لحاجة المفاليس.
- الاستصناع لحاجة الناس – دخول الحمام – شربة السقاء.
- بيع الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى وغيرهم، حتى سموه: بيع الأمانة وسماه الشافعية: الرهن، لأنه في حقيقته رهن معتاد. وبعبارة أخرى: ما يدخل تحت ما يسميه الحنفية: الرخص المجازية.
مثال الحاجة التي تحقق مصلحة خاصة لقسم أو طائفة من الناس:
- النظر للأجنبية للحاجة المتعددة المصالح، منها: التعليم – علاج المرض – التقاضي- الفتوى.. إلخ.
- لبس الذهب والحرير للعلاج.
- التصوير الشمسي الذي اقتضاه النظام العالمي لضبط هوية الأفراد، والتعريف بهم في حلهم وترحالهم.
وبالجملة فالحاجة سواء كانت عامة أو خاصة اعتبرتها الشريعة طبقًا للقاعدة التي تقول: تنزل الحاجة منزلة الضرورة (1)
__________
(1) ابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 31 (دار الهلال – بيروت 1400/1980(8/350)
3- السفر: وهو على نوعين:
أ- سفر طويل وأدناه ما يقطع عادة في ثلاثة أيام بلياليها، وهي المسافة المعبر عنها بمسافة القصر مثال لما يسمح به:
- القصر للصلاة الرباعية.
- الفطر في رمضان على درجات واختلاف في حكمه.
- المسح على الخفين أكثر من يوم وليلة.
سقوط الأضحية.
ب – سفر دون الطويل، ومنه مطلق الخروج من المصر.
مثال لما يسمح به:
- ترك الجمعة والجماعة والعيدين.
- جواز التنقل على الدابة.
- جواز التيمم عند الحنفية.
- قصر الصلاة عند الحنفية باعتبار أن هذا القصر رخصة إسقاط بمعنى العزيمة، والمراد أن الإتمام لم يبق مشروعًا، ويأثم إن أتم، وتفسد صلاته لو لم يجلس في نهاية الركعتين، ولم ينو القصر قبيل سجود الركعة الثالثة (1)
4- المرض: هو عبارة عما يدخل على الجسم من اعتلال يفقده مألوف طبيعته واعتداله.
- والأمراض مختلفة في ذاتها، فمنها المرض الخفيف: كالصداع والزكام الخفيفين. ومنها الشديدة والخطيرة والمزمنة.
- كما أنها مختلفة بحسب الأبدان التي تصاب بها، فقد ينقلب الزكام الخفيف إلى مرض شديد وخطير على الحياة إذا أصيب به الشيخ الطاعن أو الرضيع الهزيل.
فالأمر نسبي وليس فيه مقياس ثابت ولا قاعدة مطردة، وإنما العبرة بواقع كل شخص وبطاقته وقوة تحمله. وبالجملة فالمرض المبيح للترخص هو المرض المؤثر على المكلف في جعله في حالة عجز ولو جزئي أو في حالة خوف من زيادة المرض أو تأخر الشفاء، ورخص المرض كثيرة أهمها:
- التيمم لمن خاف من استعمال الماء (خاف على نفسه أو على عضو من أعضائه أو خاف زيادة المرض أو تأخر الشفاء)
القعود في صلاة الفرض أو الاضطجاع فيها أو الإيماء بحسب الاستطاعة.
التخلف عن الجماعة مع حصول ما كان يناله من فضل.
الفطر في رمضان للشيخ الفاني مع وجوب الفدية عليه.
الانتقال من الصوم إلى الإطعام في كفارة الظهار لأنها على الترتيب وفي كفارة الصيام لأنها على الترتيب عند مالك.
- ترك الصيام والخروج من المعتكف.
- الاستنابة في رمي الجمار.
- إباحة محظورات الإحرام وجبرها بالفدية.
- التداوي بالنجاسات والمسكرات أو المخدرات على أحد قولين إن تعينت.
- إساغة اللقمة بهذه الممنوعات إن تعينت اتفاقًا.
- إباحة النظر للأجنبية أو للعورة والسوأتين للطبيب.
- التخلف عن الجهاد.
- الجمع بين مشتركتي الوقت.
__________
(1) ابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص275 وفي ص 368 جملة أخرى من أحكام السفر(8/351)
5- الإكراه: هو جبر الغير على ما لايرضى فعله أو الإعانة عليه لو كان حرًّا في تصرفه.
ويقع المكره تحت طائلة المتسلط عليه المهدد له بإلحاق ضرر بحياته أو حياة أبنائه أو عرضه أو ماله، كالتهديد بقتله أو قتل أحد أبنائه أو اغتصاب زوجته أو ابنته، أو اغتصاب ماله.
وليس كل إكراه يجوز للمكره فعل ما أكره عليه، فالذي توعده الصائل بالسجن أو الجلد أو الصفع مكرهًا إياه على وقاع أجنبية لا يواقعها. والذى يهدد بالقتل إن لم يقتل أباه أو أحد الصالحين لا يقتله ولو قتل، وهذا ما تقوله القاعدة الأصولية وهي: الضرر لا يزال بضرر أشد. ومن هذا الأشد أن الضرر الخاص لا يدفع بالضرر العام ومثاله: إذا تترس الأعداء بصبيان المسلمين ليمنعونا من رميهم. فإذا رميناهم قتلنا صبياننا بأيدينا، وإذا تركنا الرمي استولى علينا الأعداء وقهرونا. فلا نترك الرمي ولا نستسلم لحيلة الأعداء، ولا نضحي بمصلحة الأمة وبعزتها ومنعتها وهي مصلحة عامة، ابتغاء مصلحة خاصة لا تمس إلا عددًا من الأنفار، فالواجب يقتضينا تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
ويختلف الإكراه عن الضرورة في كونها تبيح الفعل مطلقا بخلاف الإكراه فقد يبيح الفعل وقد لا يبيحه، وإذا ثبتت الإباحة في حال الإكراه (إباحة فعل المكره عليه) فذلك دليل على أن الاضطرار قد تحقق كما بين ذلك العلماء ومنهم البزدوي (1) .
6- الخطأ: يطلق الخطأ ويراد به ما يقابل العمد، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وقوله تعالى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وفي الحديث الشريف ((قتل الخطأ ديته عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون........)) الحديث (2) .
وهذا الإطلاق هو مراد الشرع من كلمة الخطأ.
وقد يطلق الخطأ على ما يقابل الصواب، فيقال أخطأ الرامي إذا لم يصب كما يقال للماشي أخطأ طريقه إذا عدل عنها إلى طريق أخرى.
والخطأ مختلف عن النسيان على ما درج عليه أهل التحقيق، يدل عليه عطف أحدهما على الآخر في حديث: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان..)) إذ العطف يقتضي المغايرة، فلا يعطف الشيء ذاته على نفسه.
والفرق بين الخطأ والنسيان على رأي من يقول بالفرق هو أن الخطأ يمكن الاحتراز منه بالتوقف والتثبت، بخلاف النسيان فهو خارج عن طاقة الناس فلا يقال لصياد رمى فريسة فأصاب إنسانًا إنه نسي، بل يقال أخطأ. وبخلاف ذلك، قد يطلق على من أكل ناسيا صيامه أنه أكل مخطئًا.
__________
(1) انظر: كشف الأسرار على أصول البزدوي، ومعه نور الأنوار. ط. مكتب الصنايع 1307هـ وانظر الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 282، ففيه فوائد عن أحكام الإكراه
(2) رواه أبو داود، انظر كتاب الديات عدد 4545. ومثله الترمذي(8/352)
فالفرق بين الخطأ والنسيان قائم، والتداخل موجود بإطلاق المخطئ على الناسي أحيانًا.
والخطأ سواء كان في الفعل أو القصد معدود من أسباب الترخيص مثل: من قتل خطأ فلا قصاص عليه، وعليه الدية جبرًا للضرر، وعليه الكفارة جزاء للتقصير.
- ومن وطئ امرأة خطأ ظانا أنها زوجته فلا حد ولا إثم عليه.
- ومن شرب لبنا لم يعبأ بحموضته فأسكره فلا حد ولا إثم عليه.
- من أكل بعد الفجر خطأ في تقدير الوقت لا إثم عليه، ويقضي يومه عند الحنفية أيضا لأنه مقصر، وإذا أكل ناسيا فقد أطعمه الله وليس عليه قضاء عندهم.
ومما سلف يتبين أن الخطأ مسقط لإثم الاعتداء وللحد وهما حق لله تعالى ولا يسقط حق العباد، وما أتلف خطأ من أموالهم للقاعدة المعلومة: العمد والخطأ في أموال الناس سواء. فمن أحرق مال غيره خطأ أو أفسده، ضمن ما أتلف دون عقوبة ما لم يتهاون تهاونًا واضحًا ومثل حق العباد لا يسقط بالخطأ ما كان دائرا بين العبادة والعقوبة مثل الكفارات التي تترتب عليه ككفارة القتل الخطأ.
7 - الجهل: هو عدم العلم عمن من شأنه العلم.
والجهل على قسمين بحسب شعور صاحبه.
أ – جهل بسيط: لا يشعر صاحبه بشيء يخالف ما هو عليه في الواقع.
ب- جهل مركب: يقارن صاحبه شعور بنقيض ما هو عليه في الواقع.
وينقسم الجهل البسيط – عند المالكية ومن تبعهم – إلى قسمين:
القسم الأول: جهل معفو عنه شرعًا وهو الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة.
المثال:
- جهل الإنسان بنجاسة الأطعمة والأشربة أو طهارتها، معفو عنه، وتحمل هذه الأشياء على الأصل، والأصل هو الطهارة.
- جهل الإنسان كذلك بحال ثوبه ومكانه وبدنه معفو عنه شرعًا ويحمل الأمر على الطهارة لأن الأصل في الأشياء الطهارة.
- من شرب نقيع فاكهة أو عصير ثمر على أنه طيب فتبين بعد شربه أنه تخمر، وهو يجهل ذلك، لا إثم عليه ولو أسكره.
- إذا حكم القاضي استنادًا إلى شهادة عدلين يجهل أنهما قد شهدا شهادة زور فلا إثم عليه.
- وكذلك لا إثم على من قتل مسلمًا في صفوف الكفار يظنه حربيًا.
وفروع هذا الباب كثيرة أفاض كل من القرافي والشاطبي في تعدادها.(8/353)
القسم الثانى: جهل لا يعذر فيه صاحبه، لأنه تقصير، وضرب من التخلي عن الواجب، وضابطه: كل ما لا يمكن للمسلم تركه والاستغناء عنه، ولا مشقة في علمه، من أحكام الديانة والشريعة التي تتصل بحياته العادية. مثل مسائل العقيدة التي لا تخفى على عامة الناس، ومثل ضروريات العبادة وجملة الأحكام التي تتوقف عليها، من صلاة وزكاة وصوم وحج، ومثل ضروريات التعامل وما يحل منها وما يحرم في الجملة.
وبالجملة فإن الإنسان لا يعذر بجهله في كل ما يرجع إلى القضايا والأحكام الداخلة تحت القسم الأول من أقسام العلم، وهو العلم الواجب وجوبًا عينيًا، والذي يقتضي معرفة كافية بضرورات الحياة سواء منها الراجع للمعتقد أو للعبادة أو للتعامل.
وقسم الحنفية الجهل إلى أربعة أقسام باعتبار كونه يصلح عذرًا أو لا يصلح:
الأول: جهل ممقوت لا يعذر به صاحبه، ومن هذا الصنف:
- جهل الكافر بصفات الله تعالى، وبأحكام الآخرة بإجمال؛ لا يعذر به صاحبه في الآخرة، وإن درأ عنه القتل في الدنيا، وجاز قبوله في أهل الذمة.
- جهل الباغي مرفوض حتى يسترد منه ما أتلف أو اغتصب.
- جهل من خالف في اجتهاده صريح الكتاب والسنة، وإجماع الأمة والقياس الجلي
الثاني: جهل يصلح عذرًا باعتبار ما فيه من شبهة، مثال هذا الصنف من وطئ جارية أبيه، أو نكح زوجته من بعده، ظانا أنهما تحلان له.
الثالث: جهل يكون عذرًا لصاحبه، ومثاله: من أسلم من كفار دار الحرب، وبقي حيث هو ولم يقدر على الهجرة لدار الإسلام، فترك العديد من الواجبات لجهله بها، فإنه يعذر ولا إثم عليه.
الرابع: ملحق بما تقدم في قبوله عذرا لصاحبه، مثل جهل الشفيع بوقوع البيع أو بحقه في الشفعة جهل الأمة بوقوع العتق وجهل البكر بأن وليها قد أنكحها. إلى غير ذلك من الأمثلة والفروع التي أفاضت فيها كتب الفتاوى.
8- النسيان أو السهو: من نسي الشيء أو سها عنه، بمعنى أنه لم يتذكره وقت الحاجة. والظاهر أن النسيان والسهو مترادفان في المدلول المراد منهما عند الأصوليين، خلافًا لمن زعم أن بينهما فرقًا. وقد اتفق العلماء على أن النسيان أو السهو مسقط للإثم مطلقًا لحديث ثوبان رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) (1) .
فقد دل الحديث على رفع حكم النسيان، وهذا الحكم مشترك لأنه إما أخروي وإما دنيوي، والأخروي مراد به الإثم، والدنيوي مراد به الفساد أو البطلان.
والظاهر أن الحكم الأخروي وهو الإثم مرتفع عمن نسي واجبًا أو ترك مأمورًا لم يفعله، وإلى هذا الحكم ينصرف الفهم للحديث. وأما الحكم الدنيوي المتمثل فيما يفعل بالواجب المنسي؛ فليس في الحديث ما يفيد إسقاط هذا الواجب على العموم، ولذا وجب القضاء لتبرأ الذمة، إلا ما أفاده النص على خلاف ذلك، كمن أكل ناسيًا في رمضان فلا قضاء فيه عند أبي حنيفة خلافًا لمالك الذي يوجب القضاء وإنما أخذ أبو حنيفة في قوله بعدم قضاء المفطر ناسيًا يومه، بما جاء في الحديث نفسه من قوله صلى الله عليه وسلم: (( ... فليتم صيامه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) (2) . وإطعام الله الذي لا دخل للصائم فيه لا يفسد الصيام وحينئذ لا قضاء.
__________
(1) رواه الطبراني عن ثوبان: كما أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان وأبو نعيم في الحلية.
(2) تقدم الحديث في النوع الأول (تخفيف الإسقاط) من التقسيم الرابع، باعتبار أنواع التخفيف(8/354)
والحاصل أن النسيان والسهو سبب من أسباب التخفيف ورفع الحرج والترخيص للمكلف، وذلك برفع الإثم أخرويًا، وبالقضاء متى ذكر، تبرئة للذمة دنيويا ولا يلزم القضاء فيما أفاد الشارع أنه لم يلحقه فساد، كما في أكل الصائم أو شربه عند أبي حنيفة، وفيما وقته الشارع من العبادات وجعله يفوت بفوات وقته كالجمعة والعيدين والجماعة والخسوف والكسوف، والصلاة على الجنازة، ولا يلزم القضاء كذلك على من نسي بعض الحقوق التي لا يمكن تداركها كإسكان من يجب إسكانه من القرابة مثل الأبوين بل الآباء والأبناء والزوجات، فلا إثم ولا ضمان في مثل هذا النسيان.
9- النقص: هو نوع من المشقة، فاقتضى التخفيف.
والنقص أنواع:
(1) نقص بدني
1-حقيقى: أ – أمراض. ب – عاهات.
2- نسبي: أ – نقص عاطفي. ب – نقص عقلى.
(2) نقص مالي.
(3) نقص اجتماعي.
(1) – النقص البدني منه:
1- الحقيقي ويشمل:
أ – الأمراض العارضة منفكة كانت أو مزمنة وقد تعرضنا لها في السبب الرابع من أسباب الرخص.
ب- أنقاص وعاهات متفاوتة الاستدامة مثل: الصبا، الجنون، الصرع أو الإغماء، الشلل، البله، وغيرها.
كما استوجب المرض العارض – كما أسلفنا – إسقاطًا لبعض الواجبات وتخفيفًا من أخرى؛ كذلك تستوجب الأنقاص والعاهات – من باب أولى – الإسقاط أو التخفيف من الواجبات التي تشق.
فالصبا عائق عن التكليف حتى يبلغ الصبي بالنسبة للعبادات، وحتى يرشد بالنسبة للمعاملات المالية، ولا يكتفى بالبلوغ وحده، إذ قد يحصل متقدما بحسب المناخ وخصوبة الأبدان، ولا يكون معه رشد كاف.(8/355)
- والصبا موجب لإيكال حضانة الصبي وتربيته إلى النساء الأولى فالأولى على قدر حنوهن عليه، فتقدم الأمهات، ثم الجدات، ثم الخالات، ثم العمات، ثم الأخوات.
- والصبا قاض بحفظ مال الصبي، فيوضع تحت يد وليه أو حاجره الذي يعينه القاضي.
- والصبا أسقط عن الصبي أن يتوجه إليه التكليف – كما قلنا – بالمأمورات أو المنهيات، وحينئذ لم يترتب عليه عقاب أو قصاص وعد عمده خطأ، وأسقط عنه قضاء العبادة إن أراد القيام بها وفاتته، ولا فدية ولا جزاء عليه في الحج، ولا يدخل – مثل المجنون- في قسامة ولا عاقلة، وقال أبو حنيفة بعدم حرمانه من الميراث إذا قتل مورثه، ولا يحرم عليه ما يحرم على البالغ من نظر إلى أجنبية أو خلوة بها، قال تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] ولا تسقط الزكاة عن الصبي في ماله، لأنها واجبة في ذات المال دون اعتبار لصاحبه، ويتولى وليه إخراجها عنه.
والجنون قسمه العلماء إلى قسمين: مطبق (وهو الممتد المستغرق للوقت كله) وعارض أو طارئ (لا يستغرق الوقت كله) .
ولا خلاف بين العلماء أن المجنون جنونًا مطبقًا هو مثل الصبي مرفوع عنه التكليف فليست له استطاعة وليست له أهلية التصرف، ويمكن أن تكون له أموال وتجب فيها الزكاة يخرجها عنه وليه، ويرث ويورث، وليس عليه عقوبات بدنية مهما كان سببها وعليه غرم ما أتلف في ماله إن كان له مال أو في مال وليه.
أما المجنون جنونًا طارئا متقطعًا فهو في حكم النائم والمغمى عليه لجامع وجود العذر العارض فقط، والعذر العارض لا ينفي تكليف ووجوب الفعل أو الترك. ويؤدي ما عليه من واجب أداءً إن خلا من العذر، أو قضاء إن فاته وقت الأداء لحديث: ((من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها)) (1) وحديث ((رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق)) (2) .
فالقائل بالقضاء على من به جنون عارض غير مستمر، حين يفيق، يقيسه على النائم وعلى الناسي في الحديث الأول.
كما يرى أن الحديث الثانى قد حدد رفع القلم بالاستفاقة، فإذا أفاق نزل القلم وعاد التكليف والمطالبة، وحيث هو معذور في إخراج العبادة عن وقتها لفقد الاستطاعة فليؤدها متى أفاق وعادت الاستطاعة. ويرى بعضهم أنه لا يقضيها بناء على أصل القاعدة في التكليف، وهي تقول: وكل تكليف بشرط العقل، ولا عقل للمجنون، فكيف يقضي ما لم يجب عليه أصلا ويخفف عن كل المصابين بنقص مثل الشلل أو الصرع أو البله على قدر نقصهم، وبحسب ما يجدون من مشقة وعسر.
__________
(1) حديث أنس رضي الله عنه رواه الخمسة بألفاظ متقاربة. انظر: التاج: أعذار الصلاة 1 /147 (التاج الجامع للأصول ط. دار التراث العربي – 1381 / 1961 بيروت)
(2) أخرجه الإمام أحمد والنسائى وأبو داود والحاكم وصححه، انظر: التاج: الباب الثالث في شروط الصلاة: 1/ 151(8/356)
2- النقص البدني النسبي ويشمل:
أ – النقص العاطفي: وهو نقص يتصف به جنس الرجال فعواطفهم أنقص إذا ما قيست بعقولهم على الجملة، وإذا ما قيست كذلك بعواطف النساء، وهي حكمة إلهية ليحصل التكامل بين الجنسين.
وقد استوجب هذا النقص العاطفي عند الرجل أن يخفف عنه وتتقدم عليه المرأة في الحضانة وفي التربية الأولى للأبناء، وفي التمريض سواء في حالة السلم أو في حالة الحرب، وفي التعليم، وفي سائر الأعمال التي تتطلب الأناة والدقة والصبر، ولذا اعتبرت الأم هي المدرسة الأولى، ولم يذكر أحد الأب، وذهب حكمة وحكمًا صادقًا قول من قال:
والأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبًا يطب الأعراق.
ب- النقص العقلي: وهو نقص تتصف به المرأة عادة بحكم طغيان عاطفتها مما يحجب لديها في أغلب الأحيان منطق العقل وقوانينه، ومن أجل هذا النقص العقلي النسبي لدى المرأة خفف عنها في جميع الأعمال التي تستدعي العقل واستبعاد التأثير العاطفي كالولاية على اختلاف مراتبها باستثناء ما يقوم منها على العاطفة ولا يصلح إلا بها مثل رعاية الطفولة والتعليم والتمريض، وحماية الشيخوخة، وإعانة المحتاجين، ولم شتات الأسرة تحت جناحيها، لأنها – كما هو الواقع – هي التي تجمع إن شاءت وهي التي تفرق إن صممت.
فقد حط عنها الجهاد والقضاء والإمامة، وكل ولاية أو عمل تفسده العاطفة.
وترك لها المجال فسيحًا في التصرف المالي والأسري والاجتماعي، مع تحذيرها من مخاطر سلاح العاطفة الذي تمتلكه وتتفوق به وتتغلب، لأنه قد يستعمل ضدها فتؤسر به وتقهر، وينال من شرفها وعرضها ومكانتها بين الناس، لذا جاءت أحكام الشريعة لتحميها من ذئاب المجتمع، فحرمت النظر إليها نظرة غير بريئة، وحرمت على الأجنبي عنها (غير المحرم) أن يختلي بها، لأن الغواني يغرهن الثناء، وعند الثناء والإغراء يغيب العقل، وتلتهب العاطفة، فتقع المرأة ضحية بين مخالب الذئب الشره.
ومن العجيب أن هذه الحماية من الشرع الإسلامي لشرف المرأة ومكانتها وعرضها صورها بعض الجهلة والمغرضين وأنصار الحيوانية الجنسية في صور تقييد للمرأة واعتداء على حريتها ونيل من حقوقها كإنسان.
والحاصل أن الله تعالى الذي خلق الذكر والأنثى ليحصل بهما التكامل وعمران الكون، قد أودع في الأول كمالا عقليا ونقصًا عاطفيا (في حدود النسبية طبعًا) وأودع في الثاني كمالاً عاطفيًا ونقصًا عقليًا، وهذه التركيبة الخلقية لا دخل ولا مشيئة فيها لأحد، وإنما هي مشيئة الخالق البارئ دون سواه.(8/357)
وقد خلق تعالى العقل وجعله هاديًا ومنيرًا، وأوجب تقويته بالعلم، وأمر بالاعتماد عليه في سائر الأمور، لأنه كلما قوي ازداد نفعه وقلت عثراته، وأودعه في الرجل والمرأة على السواء، وأناط به التكليف، ووظفه لعمل الخير، وفعل الصالحات، فهو النصوح والمرشد إذا لم تغيبه المغيبات التي منها طغيان العاطفة. وخلق الله تعالى العاطفة وأناط بها علاقة الذكر بالأنثى، وتواصل التناسل، وحمايته الذات من الألم، وحسن ارتباطها بالأصول والفروع، فجعل لها مزايا، وجعل بطلتها المرأة. وجعل لها مخاطر كالسكين، وحذر من مخاطرها التي تكثر عند المرأة.
(2) النقص المالي: وهو الإعسار والعجز عن أداء الحقوق المالية. وصاحب هذه النقص سماه القرآن: ذو عسرة، فقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] .
والإعسار المالي عذر شرعي له أثره في تخفيف الأحكام على المعسر والمفلس.
وفي بيان من هو العسر اختلفت أنظار الفقهاء:
فمنهم من قال: هو الذي يحل له أن يأخذ الصدقة ولا تجب عليه الزكاة، ومنهم من قال: هو الذي يستحق أن يعان ولو من مال الصدقة لأنه لا مال له ولو كانت له دار يمتلكها.
والفلس: هو عدم المال. وللتفليس أحكام مبسوطة في كتب الفروع تحوم كلها أو جلها حول استرداد حق الغير. مع وصية القرآن والسنة في الرفق بالمعسر والتخفيف عنه، وندب الشارع العزيز التصدق عليه بما تخلف في ذمته وعجز عن أدائه. قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280] . وجاء في السنة الصحيحة قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله)) . (1) . وقوله صلى الله عليه وسلم ((من نفس عن غريمه أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة)) (2) . والأحاديث في هذا الباب عديدة ومن طرق متعددة.
وقد اعتبرت الشريعة الإعسار المالي عذرًا يجلب التخفيف للمعسر فيما عليه من حقوق مالية أوجبها الله سواء كانت عبادة: كالزكاة وزكاة الفطر، والحج، والأضحية ونفقة الجهاد.
- أو كانت عقوبة مثل: الكفارات، الدية.
- أو كانت عوضًا عن غير مال مثل: النفقات الواجبة، نفقات الصلة على الأقارب، أجرة الإرضاع والحضانة، الصداق.
والتخفيف في هذه الواجبات المالية يكون بالإسقاط فيما تمحض الحق فيه لله تعالى مثل العبادات: كالزكاة، والحج، والأضحية؛ ومثل الواجبات المشروطة باليسار كالنفقة الواجبة لغير الزوجة، ويكون بالإنظار والتأجيل فيما هو حق للعباد مثل حق الزوجة في صداقها، وفي نفقتها ولو فيما مضى.
(3) – النقص الاجتماعي: المراد به وضع مخصوص كوضع الأرقاء وما يفرض عليهم من أن يكون في خدمة المالكين لرقابهم بإزاء ما هو مفروض عليهم من واجبات شرعية قد يشق عليهم تأديتها كالأحرار الذين قدروا عليها لأنهم يملكون أنفسهم ويتصرفون في أوقاتهم.
__________
(1) حديث عبادة بن الصامت، أخرجه مسلم في الزهد.
(2) حديث أبي قتادة، رواه أحمد ومسلم. انظر ذخائر المواريث: عدد 8079.(8/358)
من أجل ذلك حط عن العبيد كثير من الواجبات مثل: الجمعة، والعيدين، والجماعة، والاعتكاف، والشهادة والولاية، والزكاة، والحج، والعمرة، والأضحية؛ كما حط عنهم نصف العقاب إذا ما ارتكبوا ما يوجب العقاب.
(10) – العسر وعموم البلوى: المراد بالعسر الصعوبة، كما في الإتيان بالمأمورات من مشقة، وكذلك الحال في الإمساك عن المنهيات.
ومن القواعد الكلية في التشريع الإسلامي " المشقة تجلب التيسير " وهي قاعدة متأصلة في أحكام الشرع الإسلامي يدل على تأصيلها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ويقول القرافي في إحدى قواعده: " كل مأمور يشق على العباد فعله، سقط الأمر به، وكل منهي شق عليهم اجتنابه سقط النهي عنه " وجاء في كلام خليل الفقيه المالكي: " وعفي عما يعسر ".
كما جاء في كلام ابن نجيم النظار الحنفي، في مساق التنويه بالقاعدة الكلية الآنفة الذكر: " قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته " (1) .
وليست كل المشاق جالبة للتيسير، ولا كل ما عمت به البلوى يسمح به ويقتضي التخفيف.
ومن هنا جاء البحث في أنواع المشقة وتحديد ما يكون منها مؤثرًا ومقتضيًا للتخفيف والترخيص، فقالوا: المشاق على ثلاث مراتب، وهذه المراتب هي التي تكون في المشقة غير الملازمة للعبادة غالبًا، وهي التي يعنيها العلماء باسم مشقة ويقسمونها إلى المراتب المذكورة.
أما المشقة التي تلازم العبادة ولا تنفك عنها، وهي مدخول عليها في مفهوم التكليف، لأنها في دائرة الاستطاعة ومن ضرورة الحركة والعمل لتحقيق الامتثال والطاعة.
- كمشقة البرد في الطهارة (دون خوف ضرر كحدوث مرض) .
- ومشقة الجوع للصائم العادي.
- ومشقة السفر للحج والجهاد.
ويلحق بهذا: المشقة المقصودة للشارع في القصاص من الجناة وإقامة الحد على العصاة.
فكل هذه المشاق الملازمة لا أثر لها في إسقاط العبادة ولا في ترك ما حتمه الشرع في كل الأوقات.
__________
(1) الأشباه والنظائر: ص 75 (ط. دار الهلال – بيروت 1400هـ / 1980م) .(8/359)
أما المشقة المرادة بهذه التسمية لدى العلماء فهي – كما قلنا – على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: المشقة البينة الواضحة لأنها عظيمة فادحة، مثالها: مشقة الخوف على النفس، أو على البدن ومنافع الأعضاء فهذه وما شابهها من كل مشقة تنال من سلامة الكليات الخمس (في الجملة) توجب التخفيف على وجه من الوجوه.
المرتبة الثانية: المشقة الخفيفة كوجع في إصبع أو صداع خفيف، وسوء مزاج، فهذه لا يعتد بها، لأن تحصيل المصالح التي أناطها الشارع بالمأمورات أولى من دفع هذه المفسدة البسيطة المتمثلة في المشقة الخفيفة.
المرتبة الثالثة: المشقة المترددة بين الشديدة والخفيفة: مثالها: المريض في رمضان يكون الترخيص والإفطار بحسب ما غلب على ظنه، فإن خاف زيادة المرض أو تأخير البرء أفطر وإلا فلا.
وكذا المتيمم من أجل المرض بنفس التفصيل ويعتبر في كل إنسان ما يعرفه من أحوال بدونه وما يشير به الأطباء الثقات.
فائدة:
المشقة التي لا يعتد بها، ولا يجري عليها حكم القاعدة الكلية المتقدمة وهي: " المشقة تجلب التيسير ".
1- المشقة الملازمة وهي المقصودة في ضمن العمل المكلف به.
2- المشقة الخفيفة التي لا يقام لها وزن لدى العقلاء عادة.
3- المشقة التي يعارضها نص لا يكون بها تخفيف لأن المصلحة الحقيقية في إعمال النص، كالنهي عن قطع شجر الحرم المكي وعن رعي حشيشه إلا الإذخر (استثني لحاجة التطيب به) .
ومن ذلك الحكم بتغليظ نجاسة الأرواث للنص الوارد، الذي يرويه البخاري وغيره، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنها ركس)) " أي نجس " وكذلك التنصيص على نجاسة بول الإنسان.
فهذه المسائل وأمثالها، وإن كانت فيها مشقة وعمت بها البلوى، لا يعفى عنها لمعارضة النص، وتكون مستثناة من عموم القاعدة الكلية التي هي: " المشقة تجلب التيسير ".
وأما عموم البلوى فيكون في أمور العبادة، كما يكون في قضايا التعامل بين الناس، بحيث لو أخذ بأصل الحكم فيها لأدى إلى المشقة والعسر، أو إلى تعطيل المصالح وهو نوع من المشقة أيضا.
وليس كل ما عمت به البلوى يجلب التيسير والتخفيف، فشرب الخمر المعدود من أكبر البلايا على النطاق العالمي قديمًا وحديثًا، ولا مشقة في حرمته وتركه لوضوح المفسدة فيه، والتعامل بالربا هو أيضا قد عمت به البلوى عالميا، ولكنها بلوى لا ينظر إليها، ولا تجلب الترخيص لمعارضة النص، وتحقق المفسدة.(8/360)
- مثال لعموم البلوى في العبادة وما يترتب على ذلك من إعفاء وترخيص:
- السلس معفو عنه لمشقة تجديد الوضوء لكل صلاة أو تجديده مرات للصلاة الواحدة، وقد يطلق عليه: نجاسة المعذور التي كلما غسلها خرجت.
- دم البراغيث والبق في الثوب قدر رؤوس الإبر.
- طين الشوارع.
- ما يصيب الثياب المبتلة من ريح وفساء كالسراويل، وما يصيب الثياب الجافة من بخارات النجاسة.
- المسك وإن كان أصله دمًا.
- ما تبقى من نجاسة بعد الاستنجاء بالحجارة (وهو الاستجمار) لأن هذا الاستجمار لا يحصل به النقاء الكامل، بدليل أن صاحبه لو نزل في ماء طاهر نجسه.
- المسح على الخفين في الحضر بدل نزعه في كل وضوء، ولا مسح مع الغسل لعدم تكراره مثل الوضوء.
- مس المصحف للمتعلم والمعلم.
- التنقل على الدابة خارج المصر.
- الماء المتغير لطول المكث أو الطين أو طحلب، ولكل ما يعسر صون الماء عنه.
- ذيل المرأة يستطال للستر، والأصل فيه حديث أم سلمة رضي الله عنها لما سألته صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ((يطهره ما بعده)) وهو راجع على العموم لنجاسات الطرقات التي لا يمكن الاحتراز عنها.
- ما يبتلعه الصائم من غبار الطريق، والطحان من غبار الدقيق.
- ما يخرج قسرًا من قيء لا يرجع الصائم منه شيئًا.
مثال لعموم البلوى في المعاملات، وما يترتب على ذلك من إعفاء وترخيص:
- لبس الحرير للحكة، والذهب لتعويض سن أو ضرس.
- بيع ما ليس حاضرًا، بل على الوصف في الذمة وهو السلم، جوز تيسيرًا، ودفعًا لحاجة المفاليس.
- الاكتفاء برؤية ظاهر الصبرة أو الأنموذج، ومشروعية خيار الشرط لمشتري.
- فتوى المتأخرين بخيار الرد من أجل الغبن الفاحش.
- الترخيص في القرض والشركة والإجارة والمزارعة والمساقاة والإقالة والحوالة والرهن والضمان والإبراء والصلح والحجر والوكالة لحاجة الناس والتيسير عليهم في أمر معاشهم، ولعظم المشقة في أن كل واحد لا ينتفع إلا بما هو ملكه، ولا يستوفي إلا ممن عليه حقه، ولا يأخذه إلا بكماله، ولا يتعاطى أموره إلا بنفسه ومن هنا جاء رفع المشقة، وتيسير الأمر على الناس وتسهيل معاشهم؛ بإباحة الانتفاع بملك الغير بطريق الإجارة والإعارة والقرض.(8/361)
- وبالاستعانة بالغير عن طريق الوكالة والجعل والوديعة والمضاربة والمساقاة.
- وبالاستيفاء من غير من عليه الدين وهو المدين عن طريق الحوالة.
- وبالتوثيق على الدين بالرهن والكفيل.
- وبالتخلي عن بعض الدين عن طريق الصلح، أو عن كل الدين عن طريق الإبراء.
- الترخيص في النظر للأجنبية للطبيب، والقاضي والشاهد والخطيب.
- جواز النكاح من غير نظر للمرأة، لما في اشتراط النظر من مشقة لا يتحملها كثير من الناس في بناتهم وأخواتهم، وبناء على هذا جاءت المفارقة بين النكاح والبيع، فلا يرد النكاح بخيار الرؤية بخلاف البيع.
- جواز حل رباط الزوجية بالطلاق لما في استمرار هذه الزوجية من مشقة معاناة التنافر، ومثل الطلاق الخلع والافتداء.
- إسقاط الإثم عن المجتهد إذا أخطأ، اكتفاء منه بغلبة الظن، ولو كلف باليقين لشق الأمر وعسر الوصول إليه.
- وبالجملة فالرخص في الفروع التي سببها العسر وعموم البلوى لا تدخل تحت حصر لتفرقها في أبواب كثيرة من كتب الفروع، والقواعد، والسياسة الشرعية، وكتب الأشباه والنظائر والمرجع في الترخيص والتخفيف يكون دائما بالنظر إلى ما فيه مصلحة المسلمين المعتبرة شرعًا والتي لا تخالف مقصدًا شرعيا ثابتًا، ورفع المشقة معتبر في الشريعة اعتبار المصلحة ذاتها، بل من المصلحة رفع الحرج والضيق حسب قاعدة " إن الأمر إذا ضاق اتسع " واعتبار سير حياة الناس وأعرافهم، وما عمت به البلوى في محيطهم دون هتك للأصول الدينية، وعندئذ نلوذ بما يسر الله وما خفف عنا مما تشمله قاعدة " ما عمت بليته خفت قضيته ".
وفي هذا المقام للعز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام كلام مهم في المصالح العامة والخاصة المعتبرة شرعًا، ننقل منه ما يلي:
" إن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة، ولو دعت الضرورة واحدًا إلى غصب أموال الناس، لجاز له ذلك، بل يجب عليه إذا خاف الهلاك، لجوع أو حر أو برد ... وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة، فما الظن بإحياء نفوس؟!
ومثل هذا ما لو عم الباطل البلد، فإن الهجرة تكون واجبة منه، فإذا عم جميع البلدان، تعينت الإقامة في أقلها شرا من حيث الكم والكيف وكذلك لو عم الفسق أهل بلد، أقمنا للشهادة عليهم أصلحهم، وأقلهم فجورًا، ويفعل مثل ذلك بالنسبة للقضاة وغيرهم من الولاة لئلا تضيع مصالح الناس.(8/362)
ومعلوم أن التكليف مشروط بالإمكان، والعدل في كل زمان بحسبه.
التقسيم السادس: باعتبار كون الرخصة عامة أو خاصة ومطردة أو مؤقتة:
- قد تكون الرخصة خاصة لأفراد، وقد تكون عامة لعموم الأمة.
- وقد تكون مؤقتة أبيحت للضرورة أو الحاجة، فتقدر بقدرها دون تجاوز.
وقد تكون مطردة لا تؤقت لأن حاجة الأمة ومصالحها واجبة الاعتبار على الدوام.
والحاصل من هذا ثلاثة أقسام للرخصة:
الأول – الرخصة المؤقتة: وهي العارضة للأفراد في حال الضرورة أو الحاجة أو لحدوث المشقة.
وهذا القسم هو الذي خصه الفقهاء بالعناية وضربوا له عديد الأمثلة منها:
- حلية أكل الميتة للمضطر.
- إباحة الإفطار للمريض والمسافر.
- المسح على الخفين بشرطه للمتوضئ.
الثاني – رخص عامة مطردة: وتشمل التشريعات العامة المستثناة من أصول ممنوعة.
المثال: السلم، المساقاة، المغارسة، الجعل، الإجارة، وغيرها من العقود التي أسلفنا ذكرها قريبا فيما عمت به البلوى، والتي رخص فيها الشارع دفعا للحرج وتيسيرًا للمصلحة، وإن كانت هذه العقود راجعة في الأصل إلى حكم المنع لما فيها من غرر وجهالة، ولكن مصالحها أعظم وأجدر بالاعتبار.
وما نسميه هنا بالرخص العامة المطردة، يسميه الشافعية بالرخص المباحة، ويسميه الحنفية بالرخص المجازية.
الثالث – رخص عامة مؤقتة: وهي عبارة عما يعرض للأمة، أو لطائفة منها، من ضرورة تستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي معتبر يتصل بسلامة الأمة، أو بالحفاظ على قوتها ومنعتها.
ومن المسلم أن اعتبار هذه الضرورة العامة أجدر من اعتبار ضرورة خاصة، لا تعني سوى فرد أو أفراد قلائل.(8/363)
المثال: تترس الأعداء بأسرى المسلمين، لإيقاعنا في محظور قتل أبنائنا إن رميناهم، وفي محظور أشد إن أمسكنا عن رميهم وهو الهزيمة والوقيعة بالمسلمين وإذلالهم، لذا فإننا نرميهم وننصر الله لينصرنا، فهي رخصة للأمة في كيفية تصرف جيشها تقدر بقدر الضرورة.
- ما أفتي به من كراء الوقف كراء مؤبدًا عندما زهد الناس في كراء أراضيه وغرسها والبناء فيها لقصر المدة التي جرت بها العادة، كما أفتى بذلك ابن السراج وابن منظور من علماء الأندلس في القرن التاسع الهجري، وتبعهم من مصر في القرن الموالي منهم ناصر الدين اللقاني.
يقول شيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور:
" وقد يطرأ من الضرورات ما هو أشد من ذلك فالواجب رعيه وإعطاؤه ما يناسبه من الأحكام، وفي قواعد عز الدين بن عبد السلام في أواخر قاعدة المستثنيات من القواعد الشرعية في المعاوضات: (لو عم الحرام الأرض بحيث لا يوجد حلال جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجات ولا يقف تحليل ذلك [أي جعله حلالا] على الضرورات، لأنه لو وقف عليها لأدى إلى ضعف العباد، واستيلاء العدو على البلاد، ولانقطع الناس عن الحرف والصنائع التي تقوم بالمصالح ... ) وهذا مقام راعاه المجتهدون في تصاريف استنباطهم، ودونوا منه وابتعدوا في مختلف أقوالهم بحسب الأدلة المتعارضة وغير ذلك " (1) .
وهذا التقسيم هو الذي حفل به الشيخ ابن عاشور وفضله وإن غفل عنه جل المتقدمين (2) .
__________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 126
(2) المصدر نفسه: ص 124(8/364)
ضوابط الأخذ بالرخصة
حتى يكون الأخذ بالرخصة مفيدًا ومعينًا للمسلم على التمسك بدينه منتهيًا عن النواهي وآتيًا من الأوامر ما يستطيع كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد من وضع هذه الرخصة في دائرة ما نحن مطالبون به، وبالمقدار المحدد دون إقلال المتشددين ولا إكثار المتساهلين.
ولو شخصنا الرخصة تشخيصًا ماديًا لوجدناها أشبه بالملح الذي هو أحد مصلحات الطعام، فلا يجوز الإعراض عن الملح لأن في ذلك تعريض الجسم للهزال والسقم، كما يعرض من يشاد الدين – بترك الرخص – إلى أن يغلب ويعجز كما لا يجوز الإكثار من الملح كي لا ينقلب مفسدًا للطعام، كما يوشك المكثر من الترخص بمجرد الوهم أن يفسد دينه بالتخلي عن الواجبات والتحلل منها.
لذا تعين – لصحة الأخذ بالرخصة – أن نأخذ بالاعتبارات التالية:
أ- ضرورة الوقوف على حقيقة الرخصة باعتبار أنها تشريع من الله تعالى ومنحة منه ورحمة بعباده، يصح الأخذ بها، ولا يجوز الإعراض عنها لأنها قد تتعين فيصير الأخذ بها واجبًا كما أسلفنا، وقد تندب فيصير الآخذ بها أفضل وأكثر ثوابًا من الآخذ بالعزيمة، ولقد علم الذين يلوذون برحمة ربهم أنه لن ينجو أحد بعمله – كما أخبر صلى الله عليه وسلم – ولكن النجاة إذا تغمدهم الله تعالى برحمته.
ب- الالتزام بحدود الرخصة كما بينها الفقهاء والأصوليون في تعريفاتهم التي أسلفنا الحديث فيها، وبذلك يتميز المسلك السليم لمن رام أو لمن تعين عليه الأخذ بالرخصة.
جـ- بالوقوف على الأسباب المسوغة لترك العزيمة والداعية للانتقال إلى الرخصة، وهي عبارة عن الضوابط الحقيقية للأخذ بالرخصة، شأن السبب الذي يلزم من وجوده الوجود – كما هو معلوم – ومن عدمه العدم.
وقد أوصلنا هذه الأسباب إلى عشرة عدا، وهي المذكورة – فيما تقدم – في مبحث: التقسيم الخامس للرخصة باعتبار أسبابها.
وتكاد لا تخرج ضوابط الرخصة عن حدودها وأسبابها التي لتفاوت بعض الرخص نزلت منزلة العلة.
د- بمعرفة القيود التي لا تخرج الرخصة عن كونها حكمًا شرعيًا يتعبد به كما يتعبد بالعزيمة، وعن كونها مقصدًا شرعيًا شرع لجلب المصالح ودرء المفاسد مثل العزيمة ومن هذه القيود:
1- نية التعبد والتقرب بالرخصة والإخلاص فيها لله تعالى دون سواه، لأن السنة المطهرة قد بينت أن من كان مريضًا أو مسافرًا فترك ما كان عليه من عبادة، فله مثل أجر ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا.
2- عدم اتباع الهوى والتشهي في الأخذ بالرخصة: حتى لا يصبح الإنسان متحللا من دينه، خارجًا عن ربقة التكليف والعياذ بالله.
3- الوقوف بالرخصة عند حد الضرورة، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، دون تجاوز، ودون تعسف.
4- اللجوء إلى الرخصة والاعتداد بها باعتبار أنها تيسر على المكلف القيام بالواجب، وليست طريقًا للتحلل من أحكام الشريعة ولا للتحيل على أحكامها، ولا لتغيير ما جاء فيها من ثوابت أنيطت بها مصالح العباد والبلاد.(8/365)
تتبع الرخص
الرخصة في هذا المبحث ليست هي الرخصة الاصطلاحية التي ترجع إليها كل الأبحاث السالفة لحد هذا، أعني ليست الرخصة التي تقابل العزيمة، باعتبار أنها من تقاسيم الحكم الشرعي لدى أغلب الأصوليين وليست الرخصة التي لا جدال في الأخذ بها لأنها مشروعة بالكتاب والسنة، ومعلومة من الدين بالضرورة، وإنما هي الرخصة بالمدلول اللغوي للكلمة، والمراد منها على التحديد: رخص المذاهب الفقهية، وذلك بأن يتتبع لمذهب ما يكون أيسر له وأخف عليه في مذهب إمام آخر غير إمامه فيقلده.
ونحن لا نرى حاجة في نقل أقوال العلماء بنصها في هذا المبحث إذ هي مبسوطة في الكتب، وفي المتناول متى أحببنا الرجوع إليها ولهذا المبحث: تتبع الرخص ومع مبحث التلفيق توجهت عناية المتأخرين، وخص الحديث فيهما بكتاب كالذي وضعه الشيخ محمد سعيد الباني وطبع بمطبعة حكومة دمشق سنة 1341هـ.
غير أنا نرى من الأجدى تقسيم هذه الأقوال بحسب توجهاتها وتعليل المنحى الذي انتحاه أصحابها، حتى لا تستغرب هذه الأقوال من قائليها، ولكل وجهة هو موليها وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا ...
تناول العلماء (الأصوليون والفقهاء) هذا المبحث أعني: تتبع الرخص ومثله المبحث الآتي وهو: التلفيق، في غضون كلامهم على التقليد وأحكامه في الغالب.
- هل يجوز للمقلد أن يخرج عن مذهب إمامه الذي قلده؟ منع بعضهم ذلك، واشترط من جوزه: أن لا يفضي أمر انتقاله إلى مذهب آخر إلى الوقوع في ما سماه العلماء بتتبع الرخص في المذاهب.
قال ابن السبكي في متنه: جمع الجوامع: " وأنه يمتنع تتبع الرخص في المذاهب " ونبه الجلال المحلي إلى المراد فقال: " بأن يأخذ من كل منهما [أي من هذه المذاهب] ما هو الأهون فيما يقع من المسائل " وقال البناني في حاشيته معللا لهذا المنع: " وإنما امتنع ذلك لأن التتبع المذكور يحل رباط التكليف، لأنه إنما نبع حينئذ مما تشتهيه نفسه " (1) .
__________
(1) انظر: حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع: 2 /256 (المطبعة الخيرية: ط أولى – مصر 1308هـ) .(8/366)
رأي العلماء في تتبع الرخص:
للعلماء في هذه المسألة مناح ثلاثة: منهم المانع، ومنهم المجيز، ومنهم القائل بالتفصيل.
1- المانعون لتتبع الرخص في المذاهب:
هم جماعة من العلماء بين قدامى ومحدثين، منهم النووي والغزالي وغيرهما من الشافعية، ومعظم المالكية والحنابلة.
وإنما منع هؤلاء تتبع الرخص في المذاهب بناء على سد الذرائع حتى لا يكون الناس تبعا لهوى نفوسهم، وحتى لا يؤدى هذا التتبع إلى حل رباط التكليف، والعبث بالديانة.
ويرى المحدثون من العلماء أن فتح الباب لتتبع الرخص يعين المناهضين للإسلام، وهم كثر في الداخل والخارج، على تطويع الشرع لرغباتهم في الانتصار للحضارة المادية المعاصرة التي أحلت الزنا والربا والجنس في أبشع صوره وأقذرها، والخمر والمخدرات والحرابة والغصب و ... و.... إلخ.
خصوصًا ولم يعد هؤلاء – كما كانوا – يظهرون العداء للإسلام بل غيروا من طرقهم، وصاروا يعلنون مناصرتهم للإسلام، كما يصدعون بتوليهم أمره، وهم يخفون ما لا يظهرون ويسرون ما لا يعلنون {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] ومن تعليل هؤلاء الحكم المنع الذي اختاروه قولهم:
إن الشرع جاء ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر برد ما تنازعتم فيه إلى الله والرسول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وقد نقل عن أبي إسحاق المروزي القول بفسق متتبع الرخص بسبب أن عمله مؤد إلى إسقاط التكاليف في كل مسألة مختلف فيها كما نقل ابن عبد البر المالكي وابن حزم الظاهري الإجماع على منع تتبع الرخص في المذاهب.(8/367)
ولم يتلق العلماء النقلين بالرضى والقبول، بل ناقشوهما كما ناقشوا أصحاب هذا القول بالمنع بأنه لم يأت في الكتاب والسنة ولا في عمل المسلمين منذ عهد الصحابة إلى زمن تدوين المذاهب الفقهية، دليل يفيد لمنع، أو إنكار من منكر.
أقول – وبالله التوفيق -: هذا الرد على المانعين فيه نظر لأن العمل بسد الذرائع واقع، ولأن اتباع التشهي وهوى النفوس من المحظورات التي قام عليها أكثر من دليل، ثم لأن التلاعب بالديانة، وحل رباط التكليف عن طريق أي عمل كان أو يكون، لا أحد يقول بجوازه فهو إجماع وإن لم تجر فيه ترتيبات الإجماع على المنع وهو عمل لا يقدم عليه إلا فاسق، ولا يندفع نحوه المندفعون إلا متأثرين بنزعة الإباحية، وما أكثرهم اليوم في ظل مدنية المال والجنس.
كما لا أعتقد أن هؤلاء العلماء القائلين بالمنع، هم من هواة التشديد على الناس، حاشاهم أن يكونوا مدفوعين بسوى دافع الغيرة على الإسلام والمسلمين، ولو ضمن لهم ضامن أن تتبع الرخص لا يدخله التلاعب وهوى النفس، ولا يفضي أبدًا إلى الإباحية وحل رباط التكاليف الشرعية، ما ركب واحد منهم قاعدة سد الذرائع ولا قال بمنع التتبع للرخص، ولا بتفسيقه من أجل هذا العمل، والله أعلم وأحكم.
2- المجيزون لتتبع الرخص
هم جماعة من العلماء راعوا قيام الشريعة الإسلامية على مبدأ التيسير والرافة بالمؤمنين كما نظروا إلى العمل الإسلامي منذ عهد الصحابة، فقد كان الناس يسألونهم ويستفتونهم فيما يحدث لهم من القضايا والمسائل، ولا يلتزمون صحابيا دون سواه، ولا يميزون بين فاضل ومفضول: بل يستفتون من شاؤوا كما نظروا إلى عمل الأئمة المجتهدين في كراهتهم حمل الناس على اتباع مذاهبهم، فقد عرض الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور على مالك أن يحمل الناس على كتابه الموطأ فأبى مالك ذلك.
استنادًا إلى هذه المرجحات وإلى غيرها قال جماعة من العلماء بالجواز، منهم الحنفية في الراجح من مذهبهم، ومنهم أغلب أصحاب الشافعي، ومنهم بعض المالكية أمثال الإمام القرافي، وهم يدلون بدليلهم القائم، بل هي أدلة كثيرة أسلفنا ذكرها في مبحث تأصيل الرخصة، ومن هذه الأدلة حديث البخاري عن أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ((ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثمًا)) (1) .
قلت: مما لا شك فيه أن هؤلاء القائلين بالجواز تيسيرًا للمقلد على نفسه بتتبع الرخص في المذاهب، لأن مبدأ التيسير مشروع، لا يقولون بجواز هذا التتبع إذا أفسدوا به دينهم، وحلوا به رباط تكليفهم!
حاشاهم أن يقولوا بهذا، وحينئذ هم – عندي – على بساط واحد مع القائلين بالمنع.
__________
(1) وأخرجه الترمذي كذلك بلفظ مقارب.(8/368)
2- القائلون بالتفصيل في جواز تتبع الرخص:
القائلون بالتفصيل في قضية تتبع الرخص في المذاهب، هم الذين نظروا إلى مقصد القائلين بالمنع، ومقصد القائلين بالجواز، وذلك حين قالوا – كما هو ملاحظ من خلال أقوالهم وتفصيلاتهم – بما قال به المانعون والمجيزون جميعا، وهو ما نلخصه فيما يأتي:
أ - التصدي لما قد ينجم عن فتح الباب بإطلاق، من عبث بالشريعة أو علم بهوى النفوس، أو إقدام على فك رباط التكليف، وعلى التلاعب والتحيل، وخصوصًا فيما يرجع لحقوق العباد.
ب - الإبقاء على هذا العمل بمقصد التيسير الذي جاءت به الشريعة، وعمل به المسلمون منذ عهد الصحابة دون نكير، ودون مانع لا شرعًا ولا عقلاً.
لذا جاء تفصيلهم تفريقًا بين المقبول والمرفوض من تتبع الرخص، وأحيانا بوضع شرط أو شروط لدرء المحظورات التي قد تنجم عن تتبع الرخص.
* أما الواضعون للشرط تقييدًا للجواز وإخراجًا للمنوع، فمنهم:
- الإمام القرافي من المالكية.
اشترط أن لا يترتب على عمله في تتبع الرخص بطلان عند جميع من قلدهم، مثال ذلك:
متوضئ توضأ دون ذلك (تقليدًا للشافعي) ودون نية (تقليدًا لأبي حنيفة) وصلي بهذا الوضوء بعد أن لمس امرأة دون قصد.
فوضوؤه وصلاته باطلان عند جميع من قلدهم.
فهذه الصورة من تتبع الرخص ممنوعة عند القرافي لاختلال الشرط، ولكنها صورة من صور التلفيق المفضي إلى كيفية لا يقول بها مجتهد، كما سيأتي في مبحث التلفيق.
- ومثال الصورة التي يتوفر فيها شرط القرافي.
أن يتوضأ المالكي دون ذلك للأعضاء (كما هو واجب في مذهبه) مقلدًا في ذلك الإمام الشافعي، ثم يصلي بذلك الوضوء.
فإن صلاته صحيحة على مذهب الشافعي الذي لا يري وجوب الدلك، وهي صحيحة عند مالك، لأن مالكًا لا يمتنع من الصلاة خلف شافعي ولا يقول ببطلان صلاة الشافعية من أجل ترك الدلك.
- ومنهم الآمدي وابن الحاجب وقد اشترطًا أن يكون قبل العمل لا بعده حتى لا يستلزم الرجوع عما عمل به وتم من قبل.
مثاله: من توضأ دون نية على مذهب إمامه وصلي، ثم سال منه دم فقال: أبقي على وضوئي أخذًا بمذهب مالك، لم يجز لأن تقليده الثاني جاء متأخرًا.
أو كمن قال لزوجته: هي طالق البتة، ورأى أنه الثلاث فأمضاه، ثم وجد من يقول: إنها طلقة رجعية فلا ينقض الحكم الأول ولا يرجع إلى ما رآه ثانية.(8/369)
- ومن القائلين بالشرط ابن دقيق العيد، وله في الحكم بالجواز ثلاثة شروط:
1- أن ينشرح صدره للمذهب الذي انتقل إليه.
2- أن لا يقصد التلاعب.
3- أن لا يكون ناقضًا لما قد حكم عليه به.
وهي شروط واضحة ومعقولة يفرضها صدق العزم والإخلاص في العمل.
* أما القائلون بالجواز مع التفصيل:
- فمنهم: إمام الحرمين الذي قال: إن كان بعد الحادثة التي قلد فيها غير إمامه لم يجز له الانتقال، وإلا جاز، وكلامه شبيه بما يقدم من الشروط.
- ومنهم القدوري الحنفي الذي قال: إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه أقوى في تلك المسألة جاز، وإلا فلا يجوز ومنهم العز بن عبد السلام الذي قال: إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه ينقض الحكم، لم يجز له الانتقال، وإلا جاز.
الحكم بفسق المتلاعبين بأحكام الشريعة:
لم يزل العلماء يحثون على حسن الامتثال لأحكام الشرع، ويحذرون الذين يخالفون عن أمره أن ينالهم وبال أمرهم.
ولقد حكموا صراحة بفسق المتلاعبين بأحكام الشرع العزيز:
- قال الإمام أحمد:
" لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، كان فاسقًا ".
ووضع العز بن عبد السلام قاعدة في تفسيق الطالب للسهولة عن طريق تتبع الرخص فقال:
" ينظر إلى الفعل الذي فعله، فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم، وإلا لم يأثم ".
وعن الإمام الأوزاعي أنه قال:
" من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام ".
كما نبه إلى الرخص التي لا يعتد بها، لأنها نوادر – كما سماها الأوزاعي تلطفًا – وهي في الحقيقة أخطاء وزلات، فقال: " يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف، ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن، وقول أهل الشام الحرب والطاعة، ومن قول أهل الكوفة النبيذ ".
والحاصل من هذه الأقوال للعلماء في تتبع الرخص، أنهم مجمعون على المنع إذا كان الدافع هوى النفس أو الهروب من أداء الواجب أو التلاعب بالأحكام والتحيل فيها.
ولا يمنعون صاحب المقصد الحسن – والأمور بمقاصدها – من تقليد غير إمامه فيما حدث له، طلبًا للتيسير على النفس ودفعًا للمشقة الزائدة التي تعوق عن الاستمرار والمواصلة، وخير العمل عند الله ما كان دائما كما ورد في السنة المطهرة: كالمالكي يشق عليه العمل بمذهب إمامه في انتقاض الوضوء بمس الذكر ولو بطرف الإصبع من غير قصد، فيقلد أبا حنيفة الذي لا يرى ذلك ويقول: إن هو إلا بضعة منك.
فإذا خلص العمل، وصفا المقصد، واستقام الفعل، لا أحد يمنع من الاستعانة على القيام بالواجب بالبحث عن وجه من أوجه التخفيف واليسر في المذاهب الأخرى، وهذا ما عناه ودلل عليه العز بن عبد السلام في الفتاوى إذ قال:
" لا يتعين على العامي إذا قلد إماما في مسألة، أن يقلده في سائر مسائل الخلاف، لأن الناس من لدن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب يسألون – فيما يسنح لهم – العلماء المختلفين، من غير نكير، سواء تبع الرخص في ذلك أو العزائم.(8/370)
التلفيق
التلفيق لغة: هو ضم شقتي الثوب أحدهما إلى الآخر ليخيطهما الخياط، وهو من فعل (لفق) الثلاثي من باب ضرب – ثم ضعفت العين.
والتلفيق في اصطلاح الفقهاء والأصوليين هو: الإتيان بالعمل الذي صار بعد تقليد المذاهب على كيفية لا يقول بها واحد من المجتهدين.
المثال: من توضأ من غير دلك الأعضاء، وبمسح بعض الرأس، ثم صلى بعد أن لمس امرأة دون قصد ولا شهوة فصلاته بهذا الوضوء الملفق باطلة عند الأئمة:
باطلة عند الشافعي لنقض الوضوء باللمس.
باطلة عند أبي حنيفة لعدم مسح ربع الرأس على الأقل.
باطلة عند مالك لعدم الدلك ولعدم مسح جميع الرأس.
باطلة عند أحمد لعدم مسح جميع الرأس أيضا.
رأي العلماء في التلفيق وحكمه عندهم:
التلفيق ظاهرة من ظواهر الحركة العلمية في العالم الإسلامي نشأت عند المتأخرين، ولم تكن معروفة عند الأئمة المجتهدين ولا عند من جاء بعدهم من أهل التخريج على المذاهب الفقهية، وينسب الشيخ السنهوري إلى القاضي نجم الدين بن علي الطرسوسي (المتوفى سنة 758هـ) أنه أول من تكلم في التلفيق بسبب وقوفه على حكم لحسام الدين الروي (المتوفى سنة 681هـ) حكم فيه بصحة وقف المحجور للسفه، وهو حكم قد أشكل عليه، لأنه مركب من مذهبي أبي حنيفة وأبي يوسف، ورأى مثل هذه الواقعة المركبة من مذهبين، وقد نفذت من طرف بعض القضاة وتبعهم بعض من جاء بعدهم من العلماء، كما أجازه كل من الكمال بن الهمام، والسيد الشريف محمد أمين (الشهير بأمير بادشاه) شارح التحرير (المتوفى سنة 972هـ) .
- أما عن حكم التلفيق فالاختلاف فيه أشد من المسألة قبله وهي مسألة تتبع الرخص في المذاهب، ومنهم المانعون، ومنهم المجيزون، ومنهم من يفصل:
المانعون:
- أغلب الفقهاء والأصوليين قد درجوا على منع التلفيق حتى ادعى بعض الحنفية قيام الإجماع على المنع (1) ودليلهم في المنع: أن التلفيق طريق إلى تحليل الحرام مثل تحليل الزنا والخمر ونحوهما.
- أن الدافع إليه هوى النفس وحب التحلل من التكاليف الشرعية.
- أنه ينقض حكم الحاكم الذي به دفع الخلاف وإقامة العدل.
المجوزون:
حجتهم في هذا كحجتهم في تجويز تتبع رخص المذاهب، ولا يزيدون.
المجيزون مع التفصيل:
قلة من العلماء يضعون القيود والشروط لتجويز التلفيق، وقصدهم الإبقاء على ما فيه من تيسير على الناس في إقامة دينهم مع استبعاد ما فيه من استهانة بأحكام الشرع أو تحيل على التحلل منها، أو تكييفها للوصول إلى أغراض، من ورائها الشيطان، كالاعتداء على الآخرين وأكل أموال الناس بالباطل.
__________
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي: ص 250 وما بعدها (ط حلب: سوريا) .(8/371)
ترجيح ما هو أحق بالاتباع خصوصًا في عصرنا
والخلاصة: أن إطلاق الحكم بالمنع أو الجواز في العمل بالتلفيق فيه شيء من عدم الاطمئنان إزاء مسئولية العالم والمفتي في هذا العصر، لأن ذلك لا يكفي ولا يوضح للناس سبيلهم، وإنما السبيل إلى الحق أن نقول بالمنع المشدد في قضايا التلاعب والاستهتار بالدين كمن يلفق فيتزوج امرأة، صورة زواجه لا تختلف البتة عن صورة زناه بها.
فمثل هذه القضايا والأحكام، قد قام الإجماع على تحريمها وبطلانها، وإذا لم يكن إجماعا قوليا فهو سكوتي.
والسبيل أن نقول بعدم المنع وعدم التقيد بمذهب فقهي واحد في مجابهة ما يستجد – دون توقف – من قضايا العصر، اعتبارًا لكون التعدد في المذاهب الفقهية رحمة للأمة، وتوسعة من الله على العباد ... فمن يمنع عن الناس رحمة ربهم؟
وماذا نفعل – إذا قلنا بمنع العمل بالتلفيق – في المجامع العلمية أنخصص كل مذهب بمجمع؟ ثم ماذا نفعل بالاجتهاد الجماعي أنصنف العلماء بحسب مذاهبهم ويصبح الاجتهاد الجماعي ربع جماعي – أو خمس جماعي لأن المذاهب أربعة أو خمسة أو أكثر من ذلك؟
إن من أخطر مسؤوليات العلماء في هذا العصر، أن لا ينفلت زمام الأمر من بين أيديهم، فينسى الناس أو يتناسون أن لهم دينًا يجب الرجوع إليه لحل قضاياهم المعاصرة والمعقدة في سائر مجالات الحياة سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو العلمية أو التقنية، وبهذا يكون الوفاء للإسلام لا بالانطواء والرفض وترك الخلق للخالق كما يقال، ولكن بالتدليل في كل يوم على أن الإسلام دين الحياة المعاصرة بما في المعاصرة من مفهوم صحيح نظيف، نعم هو دين يحب الخير والمصلحة الصحيحة ويأمر بهما، ويكره الشر والفساد في الأرض وينهى عنهما.
لقد وجد الفكر الإسلامي في المذاهب الفقهية الجماعية زادًا عظيمًا وثراء نادرًا منحه النضج والعمق وسعة النفاذ والامتداد، مما أكسبه دورًا فعالاً – منذ وجد هذا الفكر الإسلامي – فيما حوله وفي الفكر الإنساني على العموم.(8/372)
فعلى السادة العلماء في هذا المجمع، وهم المتكلفون بأمر الاجتهاد الجماعي للمسلمين، أن يستعملوا هذا الزاد الذي اكتسبه الفكر الإسلامي من المذاهب الجماعية في سد حاجة المسلمين كلما تطوروا وجد لديهم الجديد، ولا يستطيع أحد أن ينكر قانون الحياة الذي قدره الله وهو قانون التطور والتجديد، يجتهدون في غير الثوابت التي جاءت بها نصوص الشريعة الصريحة مثل أصول العقيدة وأصول العبادات من صلاة وزكاة وصوم وحج، ومثل أصول الحلال والحرام، مثل جملة من المبادئ العامة الثابتة المصلحة، كمبدأ رعاية المصالح والواجبات، ومبدأ سد الذرائع الموصلة إلى المفاسد والشرور، ومبدأ منع الظلم والاعتداء على الغير، ومبدأ حق كل إنسان في المحافظة على الكليات الخمس: الدين والعقل والنفس والنسل والمال، ومبدأ الأهلية وعدم الإكراه في المعاملات.
فهذه كلها ثوابت كفانا الله تعالى عناء الاجتهاد فيها كأصول، وإن جاز لنا البحث والاجتهاد فيما يدخل تحتها من جزئيات وما لا يدخل، علينا – بما لنا من فكر إسلامي عتيد – أن نجتهد اجتهادًا جماعيا أو نرجح ما ينبغي الأخذ به من الأحكام التي تواكب سنة التطور وتراعي مصالح الناس في جميع بلاد الإسلام.
ومجال هذا الاجتهاد أو الترجيح واسع ومعروف لدى العلماء فهو يشمل:
- المسائل التي وردت فيها نصوص ظنية الثبوت أو الدلالة.
- والمسائل المستجدة التي لم يرد فيها نص ولا إجماع.
- والمسائل القياسية.
- والمسائل المصلحية (المصالح المرسلة والمستحسنة) .
- والمسائل العرفية.
ولن تعدم هذه الأمة من علمائها رجالاً وهبهم الله الشجاعة وحسن الإيمان ليصدعوا بالحق، ولو كان للحق أعداء مخاصمون، والله في عون العبد ما كان العبد في عون ربه أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(8/373)
ملخص البحث
موضوع " الأخذ بالرخص الشرعية " له مكانته وتأثيره بين الناس في هذا العصر إذ الناس مع الرخص على ثلاثة أقسام:
الأول: المجانبون لها خوفًا وجهلاً وهم الواقعون تحت الاتجاه التصوفي الذي يحذر من اللجوء إلى الرخص طلبًا لمزيد الثواب بفعل العزيمة في زعمهم.
الثاني: التاركون للرخص جملة ويكادون لا يؤمنون بها حتى أنك ترى الواحد منهم – وهم في الغالب من العامة أو أشباهم – يترك الطهارة لعدم القدرة عليها، ويترك بتركها الصلاة، ولا يتيمم، ولم يعرف التيمم في حياته.
الثالث: الآخذون بالرخص العالمون بمنزلتها، وهم أهل الذكر وعددهم في هذا العصر في تناقص، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قد رأينا أن نقدم للموضوع بمدخل لا غنى عنه يؤصل الرخصة في الشريعة الإسلامية ويبين مكانتها ووزنها في تيسير أحكام الشريعة على المكلفين.
وألححنا في هذا المدخل على جانبين:
أ- لزوم الأخذ بالرخصة والعمل بها لأنها تيسير من الله، وخير من لدنه، وليس لأحد أن يرد خير الله، وليس لأحد أن يترك حمده على ما أنعم.
كما بينا في هذا الجانب أن الآخذ بالرخصة ليس أقل فضلاً وثوابًا من الذي يعمل بالعزيمة كيف؟ وقد تكون الرخصة واجبة كما بينا أن التوجه الصوفي في التحذير من الأخذ بالرخص يتنافى مع التوجه الشرعي في التيسير والتخفيف، كما علم ذلك من نصوص الكتاب والسنة ومن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونضيف هنا: أن التوجه الصوفي في الحذر من الرخص يوافق توجها مسيحيا يقر رهبانية ابتدعوها، تؤمن بإدخال المشقة على الجسم وتعذيبه ابتغاء الثواب وانتصارًا للروح، لأن الإنسان بروحه لا بجسمه الفاني، كما يقولون، كما بينا أنه ما ترك أحد الرخص، وشاد الدين إلا غلبه.
ب- عدم التهاون بأحكام الدين، واللجوء إلى الرخص لأدنى الأسباب ولأخف المشقة والإنسان في ذلك موكول إلى إخلاصه لله، وعليه أن يستفتي قلبه، ولا يفتيه أحد غير قلبه، ولا ينسين المؤمن أن الوسطية والعدل يقوم عليهما كل حكم، وكل أمر شرعه الإسلام.
فليكن الموقف من الرخصة موقف الأخيار العدول لا موقف المتنطعين ولا موقف المتحليين.
مبحث تعريف الرخصة مبحث هام لأنه يكشف عن أنواع الرخص، التي منها الحقيقية وقد عرفها الشاطبي بقوله: " ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على موضع الحاجة فيه "، ومنها الرخص المجازية أو رخص المصالح العامة المطردة كالعقود المستثناة من قاعدة المنع والتي يرى الشيخ ابن عاشور أنها أولى بالاعتبار لأن مصلحتها عامة والحاجة إليها قائمة.
أما مبحث أنواع الرخص: فهو المبحث الذي تبسط فيه أقسام الرخص باعتبارات مختلفة، وأهم هذه التقسيمات تقسيمان.(8/374)
التقسيم الذي باعتبار حكم الرخصة أي حكم الأخذ بها فقد ينتقل المكلف من حرام إلى واجب؛ كأكل الميتة لمن خاف الهلاك ولم يجد سواها.
التقسيم باعتبار الأسباب الداعية للرخصة: وهي أسباب أوصلناها إلى العشرة، وإن كان من العسير حصرها، ومن خاصية هذه الأسباب أنها من علوم الحياة وتحتاج إلى فطنة ودقة نظر لأنها قد أقامها الشارع مقام العلة حين يصعب ضبط العلة أو تحديدها كما هو الحال في المشقة التي تتفاوت تبعًا لاعتبارات كثيرة.
وقد يقوم هذان التقسيمان بدور تحديد الضوابط التي تبيح الأخذ بالرخصة أو تمنع.
أما تتبع الرخص في المذاهب والتلفيق في الأحكام فهما كالسيف ذي الحدين ينفع ويضر، ولكي نمنع المضرة يجب أن تعطى القوس باريها، يعني يقتصر في العمل بهما في مجال الاجتهاد الجماعي عن طريق المجامع العلمية المشهود لها - دون الفتوى أو الاجتهاد الفردي – وبذلك نضمن الاستفادة منهما تيسيرًا وجلبًا للمصالح كما نضمن درء مشتهيات النفوس، ونزوات الهوى، وإغراءات الميول الشهوانية المعادية للدين ولأحكامه الرافضة للشر والفساد.
ودعوت مجمعنا المكرم – بعناية المشرفين عليه – لتغطية الحاجات المتزايدة للعالم الإسلامي في هذا العصر، والخوف كل الخوف أن ينساق المسلمون وراء رمزي حضارة العصر وهما المال من كل طريق، والجنس. ولو أدى إلى الإيدز أو السيدا أو فقدان المناعة المكتسبة عفى الله الجميع.(8/375)
التوصية المقترحة
1- العمل بالرخصة أمر مشروع لا ينبغي تحاشيه أو التساهل فيه، بل يؤخذ بصدق واعتدال كلما وجدت العلة وهي العسر أو المشقة، أو وجد السبب الذي أقامه الشرع العزيز مقام العلة كالسفر والمرض.
2- للرخصة حكمها مثل العزيمة تقريبا فقد يكون الأخذ بالرخصة واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا، أو خلاف الأولى.
3- التلفيق في الأحكام، وتتبع الرخص في المذاهب يعتبران عند أكثر العلماء مزالق خطيرة، مع أنهما لا يخلوان من مصلحة كالتيسير والتوسعة على الناس، وخاصة ما يمكن أن تستخدم فيه من إيجاد أحكام لقضايا العصر المستحدثة والتي لا سبيل لتجاهلها لكن نظرًا للتجاوزات التي قد تؤدي إليها طريقة التلفيق وتتبع الرخص في المذاهب يوصي المجمع بعدم جواز العمل بهما سواء للعامة أو للخاصة بصورة منفردة، وقد تدعو الضرورة إلى التلفيق أو تتبع المذاهب لتقرير المنافع والمصالح العامة عند الاجتهاد الجماعي فقط.
4- على العلماء المسئولين عن الاجتهاد الجماعي في هذا العصر أن لا يألوا جهدًا في مزيد النصح لأولي الأمر من حكام المسلمين وأن يستعينوا بهم ويتعاونوا معهم لمقاومة الحملات المغرضة على الإسلام والمسلمين خصوصًا في هذه الفترة التي بانت فيها الأحقاد العرقية.
الطيب سلامة(8/376)
الأخذ بالرخصة وحكمه
إعداد
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله عليه وسلم على أفضل الأولين والآخرين سيدنا محمد
مقدمة:
إن الله تبارك وتعالى أراد بعباده خيرًا فلم يكلفهم بما لا يطيقون، وبين لهم أحكام ما كلفهم به، وجعل شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم دين سماحة وسهولة ويسر، وكان صلى الله عليه وسلم يتجنب مواضع العسر، ويسلك سبل اليسر، فما خير عليه السلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما، فقال سلام الله عليه: ((دين الله يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا وغلبه)) وقال: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)) وهو بذلك مطبق لقول الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فالله أراد بعباده خيري الدنيا والآخرة، بتوجيههم الوجهة الصالحة، عن طريق تعاليم هيأتهم لتحمل أعبائها وأعفتهم، إما باستبدال الأشد بالأسهل مثل التيمم لعذر بدل الوضوء، وإما بإلغاء الفرض نفسه مؤقتًا مثل الصلاة بالنسبة للحائض أو التأجيل كالصوم بالنسبة لها أيضا واستخلص علماء الأصول من نصوص الكتاب والسنة، أن العزيمة كلما كان تطبيقها جالبًا لمشقة كلما كان ذلك مدعاة لرخصة مخففة، فالأمر لا محالة استهدف صدوره أو إناطة المكلف به تحقيق مصلحة عاجلة أو آجلة، أو هما معا، ولم يترك كل أمر على إطلاقه، بل لا يمكن أن يمتد إطلاقه إلى ما تحصل به مضرة المكلف، إذ بمجرد ما تحصل المضرة تباح الرخصة، كاستثناء من العزيمة، التي هي الأمر.
ولقد حثت مراسيم الشريعة على امتثال الأمر، ولكنها أيضا رغبت في استعمال الرخصة عند حصول المضرة من العزيمة، ففي الحديث الشريف: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه)) ، وفيه ((بعثت بالحنيفية السمحة)) أخرجه أحمد في مسنده، وأخرج أحمد والطبراني، والبزار وغيرهما عن ابن عباس: قيل: يا رسول الله أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: ((الحنيفية السمحة)) وروى الشيخان من حديث أبي هريرة: ((إنما بعثتم مبشرين)) .
هذه الأصول هي التي استخلص منها العلماء القاعدة القائلة: " المشقة تجلب التيسير ".
وحتى نستطيع أن نلم بمختلف جوانب الموضوع حسب المستطاع نقسم هذا العرض إلى المباحث الآتية:
المبحث الأول: تعريف الرخصة والعزيمة.
المبحث الثاني: حكم الرخصة.
المبحث الثالث: الرخصة إضافية لا أصلية.
المبحث الرابع: هل الأفضل الأخذ بالعزيمة أم بالرخصة؟
خاتمة: تشمل على نظري في الموضوع.(8/377)
المبحث الأول – تعريف العزيمة والرخصة:
سنقسم هذا المبحث إلى فقرتين: الأولى نتعرض فيها باقتضاب لتعريف العزيمة وأنواعها، والثانية نخصصها لتعريف الرخصة، على أننا سنتوسع في تحليل الرخصة أكثر في المباحث القادمة بحول الله.
1- تعريف العزيمة: عرفها الشاطبي في الموافقات بأنها: ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء.
وقال الآمدي: " أما العزيمة، ففي اللغة الرقية، وهي مأخوذة من عقد القلب المؤكد على أمر ما، ومنه قوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] أي قصدا مؤكدًا (1) .
فالعزيمة لا يختص حكمها بجماعة من المكلفين دون أخرى فلقد شرعت على الإطلاق والعموم، ولا تختص بحال دون حال ولا بنوع من المكلفين دون بعض، ونفس الحكم ينطبق على الزكاة والصوم، والحج، وسائر شعائر الإسلام وكذلك المصالح التي لا غنى للإنسان عنها في الدارين، كعقود المعاوضات وأحكام الجنايات، مما يعبر عنه اصطلاحًا بكليات الشريعة.
ومعنى كونها كلية: أنه لا تختص ببعض المكلفين دون بعض، كالصلاة وجوبها لا يهم نوعًا من المكلفين خاصا يعتبر فرضها عليه هو وحده، فتجب عليه، إذا تمت مواصفات معينة، وتزول فرضيتها بزوال الشروط المطلوبة، فكليتها تنفي هذه الخصوصية، بعمومية فرضيتها على جميع المكلفين دون تمييز لا في الجنس ولا في المكان، ولا الأحوال؛ وإليه أشار جدنا الشيخ ماء العينين في نظمه لأحكام موافقات الشاطبي بقوله:
" وكونها كلية معناه: لا تختص بالبعض عن البعض جلا، يستنتج من هذا أن العزيمة أمر كلي عام شرع ابتداء، بحيث لا يستند في شرعيته على أمر سابق عليه، فتدخل في ذلك سائر شعائر الإسلام الكلية، كما يدخل فيه أيضا ما شرع لسبب مصلحي في الأصل كالمشروعات المتوصل بها إلى إقامة مصالح الدارين من البيع والإجارة والنكاح، وسائر عقود المعاوضات (2) وإن سبق حكم ثم نسخ بحكم آخر كان الناسخ حكمًا ابتدائيا غير مستند على السابق، ولا يخرج عن هذا التعريف ما كان من الكليات واردًا على سبب فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك فإذا وجدت اقتضت أحكامًا كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] الآية، وقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] ، وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فكل هذا عرفه الشاطبي بأنه تمهيد لأحكام وردت شيئا بعد شيء بحسب الحاجة، وكله تشمله العزيمة فهو شرع ابتدائي حكمًا، وقد يرد استثناء من حكم عمومي، ويبقى حكمًا ابتدائيا كقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] .
نكتفي بهذه اللمحة عن العزيمة لنتمكن من معرفة كيف تستخرج منها الرخصة.
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 /170
(2) انظر الموافقات للشاطبي 1 /204، والمرافق على الموافق ص 91، والآمدي في الإحكام على أصول الأحكام، والأشباه والنظائر للسيوطي.(8/378)
2- تعريف الرخصة:
يقصد بالرخصة: " ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة " الموافقات للشاطبي، ولقد شرح الشيخ ماء العينين من متأخري المالكية هذا التعريف بقوله: " أعني أن الرخصة هي ما شرع لعذر شاق على العباد، ويكون مستثنى من أصل كلي يقتضي المنع في قول كل العلماء، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه ".
فإذا كان العذر لمجرد الحاجة ودون المشقة فلا يسمى رخصة، كالقراض فإنه لعذر عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض لكن لا يسمى رخصة، وكذلك المساقاة والسلم، فكلها شرعت لعذر، لكن انتفاء المشقة فيها ينزع عنها صفة الرخصة فتدخل تحت الحاجيات وتلك لم يسمها العلماء رخصة.
وقد يتحد عمل شخصين في لحظة واحدة ولفعل واحد، فلا يعتبر عمل أحدهما رخصة، بينما تطلق الرخصة على فعل الآخر، مثل: الإمام يعجز عن الصلاة واقفًا أو يقدر بمشقة، فمشروع في حقه الانتقال إلى الجلوس ويسمى عمله هذا رخصة، وبما أنه إمام فالحديث الشريف قال: ((وإنما جعل الإمام ليؤتم به)) إلى أن قال: ((وإن صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون)) فصلاتهم جلوسًا لم تأت عن طريق المشقة، وإنما أتت لضرورة اتباع الإمام بسبب النص المتقدم، القائل باتباع الإمام، وعدم مخالفته، فعذرهم ليس المشقة، ولذلك لا يسمى عملهم هذا رخصة.
وكونها لا تقع إلا استثناء من أصل كلي بسبب ما يجلب عمله في تلك اللحظة للمكلف من مشقة، يبين أن الرخصة ليست بمشروعة ابتداء فهي دائما تأتي استثناء من العزيمة عندما تنجم عنها المشقة وهذا يذكرنا بالحديث الشريف القائل: ((نهى عن بيع ما ليس عندك وأرخص في السلم)) فكل هذا قال الآمدي والشاطبي مستند إلى أصل الحاجيات، فقد اشترك مع الرخصة في بعض معانيها فيجري عليه حكمها وفي معنى كون الرخصة من بين مبررات استعمالها عند عدم المشقة قضية صلاة المأمومين جلوسًا بعذر اتباع الإمام، وصلاة الخوف المشروعة بالإمام أيضا، وقال الشاطبي بأن هاتين المسألتين من أصل التكميلات لا من أصل الحاجيات، فيطلق عليهما لفظ الرخصة، وإن لم تجتمع معهما في أصل واحد.
وقد تباح الرخصة بناء على الضرورة، وليست بناء على الحاجة؛ مثل المصلي يكون قادرًا على الصلاة قائما لكن بمشقة، فتكون الرخصة في حقه للحاجة وليست للمشقة.
وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن الأمة الإسلامية من المشاق، والضرر، بسبب تطبيق عزيمة جلب تطبيقها مشقة قد تجلب مضرة، ومن خصائص هذه الملة السمحة تمكين العبد من قدر كبير من تيسير الله به، ولذلك وردت الرخص أيضا جلبًا للتوسعة على العباد، إذ يأتي نص يحمل عزيمة تضيق على المكلفين فتتدخل الرحمة واللين والسهولة التي تميزت بها الحنيفية السمحة فتمكنه من رخصة تجلب التوسعة استنادًا إلى قوله تعالى:
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] ، وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] ويرى الشاطبي والآمدي والشوكاني وابن حزم أن هذا المعنى يمكن أن يرجع إليه معنى الحديث القائل: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه)) .
فهذا الدين الحنيف أتى سهلاً سمحًا مرخصًا في تجنب كثير من المشاق التي تكبدتها الأمم السابقة، وما شرعت الرخصة إلا لتجنب مشقة جلبها تطبيق عزيمة، فهي رحمة بالعباد، وتيسير ورأفة تمكنهم من نيل حظوظهم من الرحمة وقضاء أوطارهم دون المخالفة؛ فالعزائم أتت لتذكر العباد بأنهم ملك للخالق نافذ فيهم قضاؤه، واجب عليهم اتباع ما أمر به {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه: 132] فعبوديتهم تحتم عليهم التذلل له والاتباع لأوامره، مهما كانت، فليس لهم حق لديه ولا حجة عليه، فإذا وهب لهم حظا ينالونه، فذلك كالرخصة لهم؛ فالعزيمة من هذا الوجه هي امتثال الأوامر، واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم؛ كانت الأوامر وجوبًا أم ندبًا، والنواهي كراهة أو تحريما.(8/379)
فأصبحت الرخصة هي كل ما كان تخفيفًا من شدة تطبيق العزيمة بصفتها حظا من رحمة الله أنعم به على عباده، وفي هذا الشأن تشترك الرخص مع المباح لكونهما معًا توسعة على العبد ورفعها للحرج عنه، وطريقًا لينال حظه من اللطف.
المبحث الثاني – حكم الرخصة الإباحة:
وذلك واضح من خلال نصوص الكتاب والسنة إذ الآيات رفعت الإثم عن المضطر، ولم تجعل جناحًا على المسافر إن قصر الصلاة في سفر الخوف وما قررته السنة بالنسبة للسفر كله، قال الله في كتابه العزيز: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] ثم أتت السنة في الحديث الذي رواه عمر فقالت: ((صدقة تصدق بها الله عليكم فلا تردوها)) .
ثم شرعت الرخصة أيضا لرفع الحرج عن المسلم في بعض المواقف التي تفرض عليه ارتكاب فعل أو قول يحرم على المسلم ولكن أجبر عليه، فتسامت به حينئذ عن المنطوق، أو المرتكب من ظاهر الفعل ليخاطب بحسب ما استقر في نفسه، قال الله في كتابه العزيز: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] فهذا رأفة بالمؤمن رخص له الشارع في النطق بعبارة الكفر إذا خاف على نفسه، على أن يبقى قلبه مفعما بالإيمان عامرًا باليقين، متبرئا في قرارة نفسه مما نطق به لسانه، وهذه الرخصة هنا قال عنها الفقهاء: " لم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة، بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة، وهو الإثم والمؤاخذة على حد ما جاء في كثير من المباحث بحق الأصل كقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] الآية، وقوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] وغير ذلك من الآيات المصرحة برفع الحرج عن الواقع في مخالفة نص العزيمة، ولم تأمر بضرورة استعمال الرخصة، مثل حديث: كنا نسافر مع رسول الله ومنا المقصر، ومنا المتم ولا يعيب بعضنا على بعض؛ لأنهم يتبعون قاعدة إدراك المرء في قرارة نفسه مدى استعداد جسمه لتطبيق العزيمة دون حصول المشقة فيجب اتباع العزيمة، بحصول المشقة فتسن الرخصة، والمراد بالمعنى الثاني: أن الرخصة المراد بها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عن أفراد الأمة من توفرت فيه شروط اتباع الرخصة، حتى يكون في سعة من وطأة ما يمكن أن تسببه العزيمة من مشقة يمكن أن ينشأ عنها الضرر، فيمكنه الشارع عندئذ من فرصة الاختيار، بين اتباع العزيمة والصبر على المشقة – إذا لم تسبب له المهلكة – أو الأخذ بالرخصة، ولكن إذا حصلت المضرة عند ذاك تنقلب الرخصة عزيمة وأصل الرخصة هو: الإباحة تطبيقا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، وقوله {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] .
ولو كانت الرخص مأمورًا بها ندبًا أو وجوبًا لما سميت رخصًا، ولبقيت عزائم بحيث تصبح الأوامر كلها جبرية لا استثناء فيها، مهما نشأ عنها من حرج ومشقة، ولتميزت الشريعة، لو كان ذلك بالشدة والقسوة والحرج بدل اللين والسهولة والرحمة، ووضع الفقهاء تساؤلات حول ما يمكن أن يفهم من أن الجمع بين الأمر والرخصة، جمع بين متناقضين، ثم أجابوا بما مضمونه: " لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضي الإذن في التناول والاستعمال ".
فإذا أتى الكلام مصحوبًا بسبب خاص لرفع الجناح والحرج كان لنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب، فقد يتوهم فيما هو مباح شرعًا أن فيه إثما، بناء على استقرار عادة تقدمت أو رأي عرض، كما توهم بعضهم قديمًا أن الطواف بالبيت بالثياب فيه إثم حتى نزل قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] وفي التعريض بالنكاح في العدة وغير ذلك.
ومن حيث الوصول إلى الخروج من وهم التناقض الحاصل في الجمع بين الأمر والرخصة، فلابد من الرجوع بالوجوب أو الندب إلى عزيمة أصلية لا إلى الرخصة بعينها، لندرك أن المضطر، الذي لم يجد ما يسد به رمقه وأوشك على الهلاك، أرخص له في أكل الميتة، قصدًا لرفع الحرج، إن أجهده الجوع، وعزيمة إن خاف الهلاك، فالرخصة مأمور بها لرفع الحرج، لكن إذا كان الفعل الذي نشأ عنه الحرج والمشقة ارتفع إلى سبب للهلاك، انقلبت الرخصة الناجمة عنه عزيمة، فالمثال السابق ينطبق على هذه القاعدة، فأكل الميتة مرخص فيه لسد المسغبة المضنية وواجب عندما يصل الأمر إلى حد الهلاك بسبب الجوع.(8/380)
المبحث الثالث – الرخصة إضافية لا أصلية:
ليست الرخصة من الأحكام التي شرعت ابتداء لعموم المكلفين وغير مستندة إلى حكم آخر سابق عليها، أتت هي دون الارتباط به، بل على العكس من ذلك فالرخصة إضافية لا أصلية وهذا هو الأصل في أن المرء فيها فقيه نفسه، بسبب الإحساس الداخلي الذي يتولد عن طريق تطبيق العزيمة، وذلك لعدة أسباب؛ منها أن الرخصة من أسبابها المشقة، وتلك تختلف من شخص إلى شخص، ومن حال إلى حال، ومن زمان إلى زمان؛ فقد يكون السفر شاقا على فرد ومعه آخر في نفس الحالة لا يجد فيه أي عناء، فبالنسبة لهما واحد إن صام هلك أو أوشك على الهلاك، والثاني لا يجد فيه أي عناء، بل ربما يجد فيه قوة ولذة، فالأول تباح له الرخصة، والثاني مطالب بتطبيق العزيمة، وكذلك قصر الصلاة وبسبب ذلك ليس للمشقة ضابط معين، يمكن أن يعتبر قاسمًا مشتركًا، تباح بسبب حصوله الرخصة لكل المكلفين، بل الأمر متروك لإحساسهم ودرجات تحملهم، وحسابهم على الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولذلك إن المشاق تختلف بالنسب والإضافات، وذلك يقضي بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات أيضا، وما قضية صيام الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع قضاء حاجاتهم، ومباشرة أعمالهم؛ إلا دليل على أن من يستطيع تنفيذ العزيمة دون حصول المشقة الضارة كان الأفضل له الأخذ بالرخصة، وهذا معنى كون الرخصة إضافية لا نستطيع استعمالها، إلا من خلال تطبيق عزيمة شعرنا بالحرج والمشقة في تطبيقها وأيضا بحسب الظرف الزمني، فالمسافر زمن الشتاء، وفي طائرة أو سيارة، وفي مسافة معتادة ليس كالمسافر على الخيل أو الإبل وفي زمن الحر، وقلة الزاد؛ وعلى هذا رأى الفقهاء بأن الشرع أقام السبب فيها مقام العلة، فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة وترك كل مكلف على ما يجد، وجعل كثيرًا من أحوال الرخصة متروكًا لاجتهاد المكلف، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه، فمن كان من المضطرين معتادًا للصبر على الجوع ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب، وكما هو حال بعض العباد المروضين أنفسهم على تحمل الجوع فليست إباحة الميتة إليهم، على نفس درجة إباحتها لغيرهم من الضعفاء والمرضى، والإباحة المنسوبة إلى الرخص هي من باب رفع الحرج، لا من باب التخيير بين الفعل والترك، ورأى الآمدي أن هذا محل إجماع مستندًا على قول الله عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] فلم يذكر أن له الفعل والترك، بل ذكر أن له التناول في حال الاضطرار برفع الإثم، وكذلك قول الله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ولم يقل فله الفطر، ولا فليفطر ولا يجوز له الصوم، بل اقتصر على ذكر نفس العذر، وأشار بأنه إن أفطر فعليه القضاء في أيام أخر، وهذه الأمثلة منطبقة على آية القصر في الصلاة بالنسبة للمسافر، وعدة حالات أخرى مثل الإكراه.
والغاية من ذلك أن الرخصة شرعت لرفع الحرج، وذلك لا يقتضي التخيير، ولو اقتضته للزم أن تكون مع مقتضى العزيمة من الواجب المخير، وليس كذلك إذا قلنا: إنها مباحة بمعنى رفع الخرج عن فاعلها؛ إذ رفع الحرج لا يستلزم التخيير، ألا ترى أنه موجود مع الواجب، وإنما كان ذلك ليتبين أن العزيمة على أصلها.(8/381)
وإذا قيل بالتخيير بين الرخصة والعزيمة، فإن المجال في ذلك رحب، يقول صاحب إرشاد الفحول والموافقات ما يمكن تلخيصه فيما يلي: قال بعضهم: الأخذ بالعزيمة أولى لأمور منها:
1- العزيمة هي الأصل الثابت المتفق عليه، المقطوع به، وورود الرخصة وإن كان مقطوعًا به أيضا، فلكي يتحقق التماثل فلابد من القطعية بهذا السبب وهو شيء نسبي، يهم حالة كل مكلف على حدة لأن مقدار المباح الذي هو مناط الرخصة غير منضبط، فالمشقة المؤدية إلى الفطر وقصر الصلاة غير محدودة تحديدًا موحدًا، كما أن الصبر والتحمل إذا لم يؤد لضياع النفس أو المال محمود لقول الله عز وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] ، وحث نبيه عليه الصلاة والسلام على الصبر فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] ، وصيغة هذا الأمر هنا يفهم منها أنها من بين المسائل التي تكون لنا نحن أمته أسوة حسنة، وليست من الخصوصيات، ثم أتى الحث أيضا على الصبر عامًا مطلقا يعني جميع أفراد الأمة في قول الله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] .
2- إن اعتبار المشقة في بعض الأمور يقصد منه التوسط في الأمر، فلا يقصد بحصول المشقة أن تقاس بحصولها لضعيف البنية المريض خلقة، الذي يتأثر جسمه بأضعف العوارض كما لا تقاس أيضا بالقوي، الذي لا يحس بوطأة الطوارئ إلا بعد أن تكون أهلكت غيره، فمناط المشقة هنا هو حصولها لمتوسط العادات، لأن الأمور الجزئية لا تحرم الأصول الكلية إنما تستثنى نظرًا إلى أصل الحاجيات بحسب الاجتهاد، والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول للمجتهد، والخروج عن حكم العزيمة مع عوارض المشقات، التي لا تطرد ولا تدوم (1) .
3- إذا أخذ بالترخيص في موارده على الإطلاق، كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حريا بالثبات في التعبد والأخذ بالعزم فيه لأن أسباب الرخص أكثر ما تكون مقدرة ومتوهمة لا محققة، فربما عدها شديدة وهي خفيفة في نفسها، مما يؤدى إن اتبع بدون حدود إلى عدم صحة التعبد، واضطراب تطبيق العزائم، وسلوك سبل الرخص حسب هوى النفس وهو مذموم وحرام.
__________
(1) الموافقات، وإرشاد الفحول، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي، وغيرهم(8/382)
4- مراسيم الشريعة الإسلامية مضادة للهوى من كل وجه، وكثيرًا ما يتداخل الهروب من المشقة مع اتباع هوى النفس المعارض في كثير من أوجهه لمراسيم الشريعة، فصاحب الهوى يشق عليه كل شيء، فكل من نبذ هواه، وحارب نوازع النفس الأمارة بالسوء، لا يلبث يصبر على المشقة، حتى يجد في نفسه القدرة على ممارسة الطاعات تطبيقًا للعزائم، كلما داوم عليها خفت عنه مشقتها حتى يجدها اعتيادية سهلة لا تؤثر فيه بشيء، فكم من شخص صبر على الصيام بتعب، وبعد أيام اعتاده وأصبح لا يحس بمشقة منه، على أنه يجب التنبيه على أن طلب الصبر يقصد به من يجد من نفسه الطاقة على تحمل ما ينجم عن العزيمة من مشقة، لا تضر نفسه، ولا ماله، إذ بإمكانه تأدية الفعل مع شيء من الاجهاد، الذي لا تنعكس آثاره على ما قلنا.
5- إن المشاق التي هي مظان التخفيف على ضربين:
أ- أن يكون بقاؤه على العزيمة يدخل عليه فسادًا لا يطيقه طبعًا ولا شرعًا، ويكون ذلك محققا لا مظنونًا ولا متوهمًا، فإن حصل الأول فرجوعه إلى الرخصة مطلوب، وقد تصبح الرخصة هنا حقا لله، وإن كان مظنونًا كان المطلوب البقاء على أصل العزيمة، ومتى قوي الظن ضعف مقتضى العزيمة.
ب- الضرب الثاني: أن تكون توهمية بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة فلا يخلو أن يكون للسبب عادة مطردة، في أنه يوجد بعد أولى، فإن كان الأول فلا يخلو أن يوجد أولا، فإن وجد فوقعت الرخصة موقعها ففيه خلاف، أعني في إجراء العمل بالرخصة، لا في الإقدام ابتداء، إذ لا يصح أن ينبني حكم لم يوجد بعد، بل لا بناء على سبب لم يوجد شرطه (1) .
ومن هنا وقع الخلاف في لزوم أو عدم لزوم الكفارة لمن ظنت أنها ستحيض غدًا ففسخت نية الصوم في رمضان، والحال أنها لم تحض في ذلك اليوم، فمن العلماء من ألزمها الكفارة، ومنهم من أسقطها بناء على قول الله عز وجل: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] .
وحاصل هذه التقسيمات أن الأفضل للمكلف اتباع العزيمة ما لم يخل ذلك بصحته أو ماله، وأن لا يستخدم الرخصة بمجرد الظن والتوهم، فالمشقة الحقيقية هي العلة التي من أجلها أبيحت الرخصة، وما عدا ذلك من الشعور بالإجهاد فهو تعب العبادة الذي أثيب عليه أصحابه وهو الصبر الذي دعت إليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فمشقة مخالفة الهوى لا رخصة فيها البتة، والمشقة الحقيقية فيها الرخصة بشرطها، ومن لم يجد شرطها، فالأحسن له براءة لذمته أن يلتزم باتباع تأدية ما نصت عليه العزيمة، فكل رخصة لا يأثم المكلف إن استعملها تكون تلك التي أتت من خلال المشقة المولدة للضرر بعيدًا عن هوى النفس أو التحايل، ومن ثم ينطبق عليها قول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس من البر الصيام في السفر)) وقوله: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) وقول الله في الصبر على ما دون المضرة: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] .
__________
(1) الموافقات للشاطبي، أخذت منه هاتين الفقرتين بتصرف.(8/383)
المبحث الرابع – هل الأفضل الأخذ ب العزيمة أم الرخصة؟
الجواب على هذا السؤال فيه أقوال كثيرة منها أن الأخذ بالعزيمة ليس بأولى من الأخذ بالرخصة من أوجه هي:
1- إذا كان أصل العزيمة قطعيا، فإن أصل الترخص قطعي أيضا، لأن الشارع أجرى الظن في كثير من الحالات مجرى القطع.
2- أصل الرخصة إن كان جزئيا بالإضافة إلى عزيمة فذلك غير قادح في جواز الرخصة والعمل بها.
3- رفع الحرج عن الأمة بلغ مبلغ القطع لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .
4- أخذ المكلف بالرخصة يكون تطبيقًا لقصد الشارع الرامي إلى رفع الحرج والرفق بالمكلف، وتؤيد ذلك آيات كثيرة منها ما تقدم، ومنها: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] ، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا من الرخص ليسن تلك السنة لأمته عليه الصلاة والسلام.
5- رأى بعض العلماء أن ترك الترخص مع ظن سببه قد يؤدي إلى الانقطاع عن الاستباق إلى الخير، ويجر السآمة والملل والتنفير من الدخول في العبادة، وكراهية العمل وترك الدوام.
6- إن مراسيم الشريعة وإن أتت مخالفة للهوى، فإنها أيضا أتت لمصالح العباد في دينهم ودنياهم، والهوى يكون مذمومًا حالة مخالفته للشريعة.
وعلى هذا اعتبرت العزائم مطردة مع العادات الجارية، والرخص جارية عند انخراق تلك العوائد.
ولأبي محمد عز الدين بن عبد السلام السلمي في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام، قال: الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلبًا لمصالحها، والجنايات مناسبة لجلب العقوبات درءًا لمفاسدها، والنجاسات مناسبة لاجتناب وجودها ولا مناسبة بين طهارة الأحداث، وأسبابها.
وتحت عنوان: فصل ما يتدارك إذا فات بعذر، أشار إلى أن الضابط أن اختلال الشرائط والأركان إذا وقع لضرورة أو حاجة لا مفر منها، وأقام بالواجب مع اختلال بعض شروطه، فلا قضاء عليه، كالصلاة في قوم كلهم عراة، لما في الاستتار من المشقة فبسبب مشقة عدم الحصول على الثياب تولدت رخصة الصلاة على تلك الهيئة، وهذا ينطبق حسب رأيه على كل مشقة استحال تفاديها، فإنها تستجلب العذر، الذي يفضي إلى جواز استعمال الرخصة.
ومن هذه النظريات يستخلص أن الأخذ ب العزيمة أفضل إذا لم تجر إلى المشقة الفادحة، واتباع الرخصة أفضل إن حصلت المضرة للمال والنفس، على أن المرء في كل ذلك هو فقيه نفسه، لأنه أعلم – بقرارة نفسه – بما يحصل له من مشقة تأدية العزيمة، وعليه أن لا يتهرب ولا يخادع، لأن التعامل مع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.(8/384)
الخاتمة
إن تطبيق العزائم والأخذ بالرخص استثناء منها عند حصول المشقة المفضية إلى المضرة، كلاهما إن اتبع حسب شروطه وعلله وفق مراد الشريعة، كان ذلك مصدرًا لتهذيب النفوس وتطهيرها من رجس الأوثان واتباع الهوى والإدمان على فعل المحرمات، التي تفشت في كثير من المجتمعات الإسلامية، دون حتى ترك الفرصة لاستنكارها، مما جعل تطبيق العزائم في بعضها لا يثير الاستخفاف به أية معارضة، بل أصبحت الرخص هي الأصل عند البعض علمًا بأن الأخذ بالرخصة عند توفر شروطها، ليس فيه أي مطعن، فإذا خلصت النية للطاعة وتمكنت التربية الإسلامية من النفس، وكان استعمال الرخصة مستندًا على مبرراته الشرعية وغير مستعمل إلا في الحدود التي تجنب المكلف إجهادًا يضر بنفسه أو ماله، كان استعمالها جائزًا، أما إذا كان العكس وهو السائد اليوم مع الأسف وهو الاستخفاف بتعاليم الإسلام، والتساهل في كل العزائم، أصبحت الرخصة مستعملة، دون تقيد بضوابطها الشرعية، فأصبحنا أمام مخالفات شرعية، استخدم أصحابها حيلاً على النصوص الشرعية، ستجلب لهم عقاب الآخرة، ولو كانت أحكام الشرعية مطبقة، في كثير من البلاد الإسلامية، لأنزلت بهم التعازير والحدود المنصوص عليها لكل حالة.
فكم من مسافر إليهم يقصد هوى النفس، والتهرب من صيام شهر رمضان فيقصر صلاته ويفطر نهاره، ويوهم الناس بسفر، والأجدر أن يعاقب على السفر، ويضرب لترك الصلاة بالتعمد على قصرها، ويلزم بالكفارة لتعمد الفطر في رمضان.
وكم من مصل تيمم ولم يجرب هل يضره الماء أم لا، وكم من منتهك حقوق الناس في أموالهم مدعيًا الاضطرار وهو غير مضطر.
ومن هنا فالرخص حظ العباد من لطف الله فلا يمكن لأي أحد أن يمنعهم من ذلك الحظ الذي أنعم به الخالق عليهم، والعزائم حق الله على العباد فلا يمكنهم التهرب منه، وإلا عرضوا أنفسهم لعقابه، الذي لا يمكنهم التهرب منه، إذا لم يغفر لهم.
وبناء على هذا يمكن القول بأن الرخص اليوم اتسع مجالها، وكثرت المضار والمشاق المستوجبة لها ولا يمكن لأحد أن يسد على العباد حظهم من لطف الله، ولكن أيضا كثر أتباعها، دون المشقة المفضية إليها، بسبب انعدام التربية الإسلامية وغياب كثير من معرفة أحكامها، فليوضح العلماء أحكام الرخصة ومتى تطلب، ومتى يقع التخيير في شأنها، وما هو الأفضل للمكلف في كل حالة، ثم ضرورة المزيد من تعليم أحكام الحلال والحرام والواجب والمندوب والمباح للطلبة في جميع مؤسسات التعليم في العالم الإسلامي، حتى يعد المسلم العارف بأحكام دينه، ليسهل عليه تطبيق العزيمة أو اتباع الرخصة.
إن ما يشاهد اليوم في كثير من التجاوزات يعد مخالفات وليس أخذًا بالرخص.. ونختم هذا الموضوع بما جاء في الأشباه والنظائر حيث قال: الرخص لا تناط بالمعاصي، ومن ثم فلا يستفيد المسافر سفر معصية من رخصة قصر الصلاة، وفطر رمضان، لأن هذه الرخصة شرعت لرفع الحرج والتسهيل والتيسير في العبادة ولا يمكن استعمالها في غير ذلك، فإذا ما سافر إنسان من أجل أن ينهب مال آخر في مكان بينهما مسافة قصر، ثم قصر صلاته، وأفطر في رمضان عد مرتكب الإخلال بتمام الصلاة، وصلاته باطلة لنقص نصفها، وإن أفطر وجبت عليه الكفارة، لأن فطره غير مستند على عذر شرعي.(8/385)
ولذلك لا يجزئه التيمم ولا يجوز له أكل الميتة، وفي المسح على الخف خلاف، وإن وجد ماء لكن لا يكفي للشرب والوضوء، لزمه الوضوء، لأن السفر من أجل معصية فلا يجزئه فيه التيمم، ولا يقدم عليه في هذه الحالة الشرب، وتحرم عليه الميتة للضرورة، لأنه بإمكانه الاستغناء عن هذا السفر بالتوبة، ووقع الخلاف في المسح على الخف للخلاف الواقع في استعماله في الحضر أو عدم جواز استعماله، عزا السيوطي للإصطخري فقال: إن العاصي بالإقامة لا يستحق منها شيئا، والمسافر لارتكاب معصية لا يسمح له بشيء منها، وقال السيوطي: " إن الرخص لا تناط بالمعاصي، ومعناه إن فعل الرخصة يتوقف على وجود شيء، ولذا كلما حصلت المشقة من العزيمة يجب أن ينظر في الوضع الذي حصلت منه المشقة، فإن كان مباحًا أو مندوبًا أو واجبًا، كان استعمال الرخصة جائزًا أيضا ومباحًا، وحتى واجبًا، وإن ظهرت شبهة في العمل الذي من أجله حصلت المشقة تبين من خلالها أن هذا العمل حرام، امتنع على المكلف استعمال الرخصة بسبب ذلك العمل؛ كمسافر بمال غصبه، والناشز والمسافر للمكس، ونحو عاص بالسفر، فالسفر نفسه معصية، والرخصة منوطة به مع دوامه، ومعلقة ومترتبة عليه ترتب المسبب على السبب فلا يباح، ويلحق بهذا أيضا أن الرخص لا تناط بالشك (1) .
فلو عرف الجميع الأحكام الواجبة عليه، لأصبح مدركًا متى تكون الرخصة مباحة تخييرية، أو حرامًا أو حتى واجبة، عند توفر بعض الحالات.
فهي مباحة والمكلف مخير بين الأخذ بها أو عدمه، عند الشعور بالمشقة أما إذا تسبب استعمالها في المضرة المؤدية إلى الهلاك، فحينئذ تنقلب الرخصة إلى عزيمة، ويصبح العمل بها واجبًا، وتركها حرام يعاقب عليه، فإذا امتنع المكلف من أكل الميتة حتى أشرف على الهلاك أصبح الترخيص الحاصل له بسبب مشقة تحمل الجوع عزيمة يجب عليه العمل بها حتى ينقذ النفس، وإن امتنع أصبح قاتل النفس.
من خلال ما سبق تكون الرخصة من نعم الله على عباده تخرجهم من المشقة وتمكنهم من تجنب المضرة إن كان تطبيق العزيمة سينزلها بهم، فتدخل في المباح تارة إلى أن تصل إلى الواجب لإنقاذ النفس، كما يحرم استعمالها والأخذ بها دون تحقق الشروط، ويبقى الأمر فيها موكولاً لضمير المسلم وإحساسه، وهو ما يتطلب التربية الإسلامية الحقة والسلوك المستقيم، كما يحتم يقظة أولي الأمر حتى لا تنتهك العزائم بخلق المبررات الكاذبة لاتباع رخص أجيزت لأسباب وعلل معينة والله الموفق للصواب.
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 139 دون اتباع ألفاظه(8/386)
الأخذ بالرخص وحكمه
إعداد
الدكتور أبو بكر دوكوري
ممثل بوركينا فاسو الدائم في
مجمع الفقه الإسلامي
التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي
الدورة الثامنة في بروناي (دار السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخذ بالرخص وحكمه
اعلم أن تقسيمات الحكم الشرعي كثيرة، ومن تقسيماته " باب الرخصة والعزيمة " وهو تابع للحكم التكليفي عند الجمهور باعتبار كونه على وفق الدليل أو خلافه. واختار الآمدي كونه من أقسام الحكم الوضعي (1) .
يقول الكمال بن الهمام (2) : " وقيل للشارع في الرخص حكمان: كونها وجوبًا أو ندبًا أو إباحة فهو من أحكام الاقتضاء، وكونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف يناسب تخفيف الحكم عليه مع قيام الدليل على خلافه، فهو من أحكام الوضع " (3) .
فعلمنا أن من قال: إن الرخصة من خطاب الوضع فإنه نظر إلى جهة من جهاتها، ومن قال: إنها من خطاب التكليف، فباعتبار جهة أخرى.
ومقتضى الرخصة: الانتقال مما هو مطلوب على وجه الحتم والإلزام إلى جواز تركه في أمد معلوم أو الانتقال من موضع النهي والتحريم إلى الإباحة لسبب يبرر ذلك ولتوضيح كل ذلك نقول:
إن الرخصة في اللغة عبارة عن السهولة واللين، ومنه يقال رخص السعر إذا تيسر وسهل (4) يقول الشاعر العربي (5) :
وثديًا مثل حق العاج رخصًا
حصانًا من أكف اللامسينا
(6) .
أما في اصطلاح الأصوليين فقد عرفها بعض الشافعية بأنها: " ما أبيح فعله مع كونه حرامًا " وقد انتقد الآمدي هذا التعريف باعتباره متناقضا (7) .
__________
(1) راجع الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 /131، وجمع الجوامع مع حاشية البناني 1 /119.
(2) هو أحد الأحناف المشهورين.
(3) راجع التقرير والتحبير 2 /153.
(4) راجع لسان العرب 1/ 1146 والقاموس المحيط 2 /304.
(5) هو الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم التغلبي، راجع ترجمته في كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة 1 /340.
(6) هذا البيت من معلقته المشهورة.
(7) راجع الإحكام للآمدي 1 /68.(8/387)
وقد ورد في تعريف الرخصة عدة تعريفات لم يسلم معظمها من الانتقاد، إما لكون التعريف غير جامع، وإما لما فيه من التورية. (1) .
والذي اختاره كثير من محققي الأصوليين أن الرخصة هي: " الحكم الشرعي المتغير من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي " (2) . وفي هذا المعنى يقول صاحب مراقي السعود (3) :
للعذر والرخصة حكم غيرا
إلى سهولة لعذر قررا
مع قيام علة الأصلي
وغيرها عزيمة النبي
(4) .
ومن هذا التعريف نعرف أن الرخصة ليست حكمًا أصليا ولا حكما عامًّا كما هو الحال في العزيمة؛ لأن الأحكام الشرعية التكليفية قد طالبت المكلفين بأفعال، وطالبتهم كذلك بالكف عن أفعال أخرى وقد يعرض للمكلف ما يجعل التكليف شاقا غير قابل للاحتمال أو لا يمكن أداؤه إلا بمشقة غير عادية ولكن يستطيع المكلف أداءه في الجملة، فيرخص الله له ترك هذا الفعل رحمة منه لعبده ومصداقًا لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
ذكر الإمام الشاطبي (5) رحمه الله تعالى: أن الرخصة قد تطلق على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا دون اعتبار كون ذلك لعذر شاق كما هو الحال في القراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام في مسألة المصراة، وبيع العرية بخرصها تمرًا، ونحو ذلك مما استثني من أصل ممنوع نظرًا إلى حاجة الناس (6) .
نلاحظ هنا أن هذا النوع من الرخصة يظل مشروعًا وإن زال العذر، فيجوز للإنسان مثلاً أن يقترض وإن لم يكن له حاجة إلى الاقتراض، فهذا هو الفرق بين ما شرع من الحاجيات الكلية، وبين ما شرع من الرخص الحقيقية، فإن هذه الأخيرة يقتصر فيها على موضع الحاجة لأن شرعيتها جزئية، كالمسافر فإنه إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إكمال الصلاة ولزوم الصوم.
وتطلق الرخصة كذلك على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي يدل عليها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] نظرًا إلى أن معنى الرخصة في اللغة يرجع إلى اللين فيكون ما جاء في الشريعة الإسلامية من المسامحة واللين رخصة لهذه الأمة بالنسبة إلى الأمم الأخرى التي حملت مثل هذه العزائم الشاقة.
وقد اعتبر الإمام الغزالي إطلاق الرخصة على هذا النوع من قبيل المجاز (7) .
__________
(1) راجع المحصول 1 /121، وشرح الأسنوي 1 /69- 70، والإحكام 1 /68.
(2) راجع جمع الجوامع مع شرح المحلى 1 /119 – 120، والمستصفى 1 /98.
(3) هو العالم الجليل سيدي عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي واضع أرجوزة في علم الأصول وشرح الأرجوزة في كتابه نشر البنود.
(4) راجع نشر البنود 1 /55 ومذكرة أصول الفقه لأستاذنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص 61.
(5) هو الإمام أبو إسحاق بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي، الأصولي المفسر له مؤلفات كثيرة أشهرها كتابه العظيم " الموافقات " ومن كتبه المهمة كذلك كتاب " الاعتصام " توفي سنة 790هـ، راجع ترجمته في كتاب طبقات الأصوليين 2 /204-205.
(6) راجع الموافقات 1/ 207 – 208.
(7) راجع المستصفى ص 98.(8/388)
وتطلق الرخصة كذلك على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقًا مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء حاجاتهم، وبيانه أن الناس كلهم خلقه وعبيده وما خلقوا إلا لعبادته بموجب قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فيجب على العباد التوجه إليه وبذل كل ما في وسعهم لعبادته، وذلك بامتثال جميع أوامره واجتناب جميع النواهي وترك ما يشغل عن ذلك، فإذا أذن الله للعبد أن ينال حظًّا من حظوظ نفسه فإن ذلك يكون كالرخصة له (1) .
أنواع الرخص:
بعد أن عرفنا المعنى اللغوي والشرعي للرخصة، وكذلك إطلاقاتها الحقيقية والمجازية، بقي أن نشير إلى أننا باستقرائنا وتتبعنا للرخص الشرعية، تبين لنا أنها ليست على درجة واحدة، وإنما هي على أنواع مختلفة فمنها:
1- ما هو واجب، كأكل الميتة للمضطر فقد اختار الجمهور وجوبه لكونه سببًا لإحياء النفس التي هي حق الله تعالى، كما أنها أمانة يجب على الإنسان المحافظة عليها وعدم التفريط فيها ليستوفي الله حقه منها بالعبادات والتكاليف الشرعية لأن ذلك سبب خلق الإنسان حيث يقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
ومن الأدلة على وجوب حفظ النفس قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .
ولا شك أن من كان على وشك الموت بسبب الجوع ولا يجد ما ينقذ به نفسه سوى الميتة فيمتنع من تناولها حتى يموت فإنه يكون بمثابة من قتل نفسه.
لذلك رأى بعض العلماء (2) أن حكم التناول هنا عزيمة وليس رخصة لأن الميتة ما حرمت إلا لخبثها، ضرورة حفظ النفس أولى مما يؤدي إلى تلفها وإن كان محرمًا فيكون الميتة هنا واجبا لا يسع المكلف الامتناع عنه، ولو امتنع حتى مات لكان آثمًا.
ومن هذا المنطلق رأى البعض (3) أن اعتبار التناول هنا رخصة إنما هو من باب المجاز لأن الواجب مأمور به حتما لا خيرة فيه بخلاف الرخصة.
ويمكن أن نقول بأن وجوب أكل الميتة لإحياء النفس لا ينافي كون ذلك رخصة للمكلف، لأنه لم يضيق عليه بإلزامه ترك الأكل منها حتى يموت، فإذا نظرنا إلى هذا التوسيع وهذا التسهيل عليه فهو رخصة، وإذا نظرنا إلى وجوب الأكل لإنقاذ نفسه فهو عزيمة لأن الواقع بالشخص يجوز أن يكون له جهتان والله أعلم.
__________
(1) الموافقات 1 /207 – 208.
(2) قاله الكيا الهراسي من الشافعية كما في البحر المحيط.
(3) صرح به الفخر البزدوي وهو اختيار الشاطبي، راجع كشف الأسرار 2 /321، والموافقات 1 /210.(8/389)
2- ومنها ما هو مندوب كقصر المسافر الصلاة بعد استيفاء الشروط المعروفة فإنه رخصة لمشقة السفر وهذا عند الجمهور.
أما الحنفية: فإنهم يرون القصر واجبا في حق المسافر وليس له أن يصلي أربعًا فيكون القصر في حقه عزيمة، فإن سمي رخصة فمن باب المجاز، وذلك حتى لا يلزم الجمع بين متنافيين وهو الأمر المقتضي للوجوب والرخصة التي تفيد الاختيار (1) .
وقد أطال الإمام الشاطبي الكلام حول هذه المسألة ووضع لها افتراضات ورد عليها ولا مجال لذكرها ههنا (2) .
3- ومنها ما هو مباح، كالجمع بين الصلاتين في غير عرفة ومزدلفة فإنه رخصة للمكلف عند الجمهور في حالة السفر أو المطر خلافًا للحنفية الذين يمنعون الجمع إلا في مزدلفة (3) ، وكإباحة السلم الذي هو بيع غائب موصوف في الذمة؛ وحكمه الأصلي: الحرمة بسبب الغرر وهو قائم، ولكن نظرًا إلى حاجة الناس الماسة إلى ثمن الغلات قبل إدراكها أبيح هذا النوع من البيع (4) .
قال في شرح الكوكب المنير بعد ذكر هذه الأنواع الثلاثة: " وفهم مما تقدم أن الرخصة لا تكون محرمة ولا مكروهة (5) "، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه)) (6) .
ونحن وإن كنا نوافقه بأن الرخصة لا تكون محرمة لأن الحرمة تنافي الرخصة وهذا محل اتفاق بين العلماء ولكن لا نوافقه في كون الرخصة لا تكون مكروهة فقد صرح بعض العلماء (7) أن الرخصة تكون مكروهة واعتبروها – أي الرخصة المكروهة – نوعًا رابعًا من أنواعها.
ومن أمثلتها عندهم: إنشاء السفر فقط من أجل الترخص، أو قصر الصلاة في أقل من ثلاثة مراحل (8) .
أقول إن التمثيل بهذا الأخير لا يخلو من نظر لأن مسافة القصر عند الجمهور بما فيهم الأئمة الثلاثة – مالك والشافعي وأحمد – أربعة برد وهي مسيرة يوم بالسير الوسط، فالقصر عند هؤلاء لا يصح إن كانت المسافة أقل من ذلك وإن كانت مسيرة يوم فأكثر صح القصر، إذن فلا كراهة إطلاقا عند هؤلاء سواء كانت المسافة أقل من ثلاثة مراحل أو أكثر، وعند الإمام أبي حنيفة وأتباعه، لا تقصر الصلاة في أقل من ثلاثة مراحل، ومعلوم أن المرحلة هي المسافة التي يقطعها المسافر في يومه، فإن قصر في أقل من ثلاثة مراحل لم يصح، فلا أرى وجه الكراهة في هذا المذهب أيضا وكذلك الحال عند الظاهرية القائلين بأن القصر إنما هو في كل سفر سواء كان السفر قريبا أو بعيدًا (9) .
__________
(1) راجع أصول السرخسي 1 /122 وكشف الأسرار 2 /324.
(2) راجع الموافقات 1 /190.
(3) راجع نهاية السول 1 /190.
(4) راجع أصول السرخسي 1 /121، وكشف الأسرار 2 /322، وهامش المحصول 1 /122، وأصول الفقه للشيخ أبي زهرة ص 54.
(5) راجع شرح الكوكب المنير 1 /441.
(6) رواه الطبراني والبيهقي وأحمد عن كل من ابن عمر وابن عباس وابن مسعود وضعفه بعض العلماء؛ راجع فيض القدير 2 /292.
(7) ذكره البعلي في " القواعد والفوائد الأصولية " ص 118-119، وذكره كذلك السيوطي في كتابه " الأشباه والنظائر " ص 171.
(8) ذكره الأستاذ القاسمي في بحثه نقلاً عن كتاب الأشباه والنظائر ص 171.
(9) راجع بداية المجتهد لابن رشد 1 /131.(8/390)
وهناك نوع خامس من أنواع الرخصة التي هي بخلاف الأولى كالمسح على الخف، وفطر المسافرين في رمضان فإن حكمه الأصلي: الحرمة وسببه: شهود الشهر – وهو قائم – والعذر: مشقة السفر (1) .
وهذا المنهج في تقسيم الرخصة هو منهج الشافعية أو المتكلمين وهو كما نلاحظ يقوم على اعتبار أحكامها الشرعية.
أما الأحناف فإن لهم تقسيما آخر للرخصة حيث تنقسم عندهم إلى أربعة أنواع: نوعان من الحقيقة أحدهما أحق من الآخر.
ونوعان من المجاز أحدهما أتم من الآخر في كونه مجازًا.
أما النوع الأول:
فكما يقول السرخسي: " هو ما استبيح مع قيام السبب المحرم وقيام حكمه جميعًا فهو الكامل في الرخصة مثل المكره على إجراء كلمة الكفر فإن حرمة الشرك قائمة لوجوب حق الله تعالى في الإيمان به، ومع هذا أبيح لمن خاف التلف على نفسه عند الإكراه إجراء كلمة الكفر رخصة له؛ لأن في الامتناع حتى يقتل تلف نفسه صورة ومعنى، وبإجراء الكلمة لا يفوت ما هو الواجب معنى، فإن التصديق بالقلب باق والإقرار الذي سبق منه مع التصديق، فصح إيمانه، واستدامة الإقرار في كل وقت ليس بركن، إلا أنه في إجراء كلمة الشرك هتك حرمة حق الله تعالى صورة، وفي الامتناع مراعاة حقه صورة ومعنى، فكان الامتناع عزيمة، لأن الممتنع مطيع ربه مظهر للصلابة في الدين فيكون أفضل لما فيه من الجهاد، والمترخص بإجراء الكلمة يعمل لنفسه من حيث السعي في دفع سبب الهلاك عنها، فهذه رخصة له، إن أقدم عليها لم يأثم، والأول عزيمة حتى إذا صبر حتى قتل كان مأجورًا " (2) .
النوع الثاني:
ما استبيح مع قيام السبب المحرم موجبًا لحكمة إلا أن الحكم متراخ عن السبب فلكون السبب القائم موجبًا للحكم كانت الاستباحة ترخصًا للمعذور حقيقة " ولكون الحكم متراخيا عن السبب كان هذا النوع دون الأول (3) .
مثاله: الصوم في شهر رمضان للمسافر والمريض، فإن السبب الموجب شرعًا للصيام وهو شهود الشهر قائم، لذلك لو أديا الصوم كان المؤدى فرضًا،؛ ولكن الحكم لما تراخى إلى عدة من أيام أخر لم يلزمهما شيء لو ماتا قبل إدراك ذلك، إذ لم يثبت الوجوب عليهما، فلو ثبت للزمهما الأمر بالفدية عنهما؛ لأن ترك الواجب بعذر يرفع الإثم ولكن لا يسقط الخلف وهو القضاء أو الفدية.
والتعجيل بعد تمام السبب مع تراخي الحكم صحيح كتعجيل الدين المؤجل، وحكم هذا النوع: أن الأخذ بالعزيمة أولى لكمال سببه، فمثلاً لو أخذنا بعزيمة الصوم في السفر فإنها تؤدي معنى الرخصة أيضا لتضمنها لسر موافقة المسلمين في الصيام لأن صومه وحده في عدة من ايام أخر – أي بعد مضي شهر رمضان – والعالم كله مفطر فيه مشقة (4) .
__________
(1) راجع جمع الجوامع مع شرح المحلى 1/ 123، وهامش المحصول 1 /122.
(2) راجع أصول السرخسي 1/ 118.
(3) المصدر السابق.
(4) راجع أصول السرخسي 1 /120.(8/391)
النوع الثالث
وهو أتم نوعي المجاز، فما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا من الأمم، وقد وضعها الله تعالى عنا كما قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] مع ثبوت الإجابة فهذا النوع غير مشروع في حقنا أصلا لا باعتبار وجود عذر شرعي في حقنا وإنما بسبب التيسير والتخفيف علينا، فكانت رخصة مجازًا؛ لأن الرخصة الحقيقية في الاستباحة مع قيام السبب المحرم، وهو منعدم هنا (1) .
النوع الرابع
ما سقط عن العباد مع كونه مشروعًا في الجملة فمن حيث سقط أصلاً كان مجازًا ومن حيث بقي مشروعًا في الجملة كان شبيهًا بحقيقة الرخصة إلا أنه دون القسم الثالث.
مثاله: العقود الاستحسانية التي جاءت على خلاف القياس، مثل عقد السلم، فقد ورد ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الإنسان ما ليس عنده)) (2) ورخص في السلم، فاعتبرت صحة عقد السلم رخصة من باب المجاز، قال فخر الإسلام البزدوي: " وذلك أن أصل البيع أن يلاقي عينا، وهذا حكم باق مشروع لكنه سقط في باب السلم أصلا تخفيفًا حتى لم يبق تعيينه في السلم مشروعًا ولا عزيمة " (3) .
وبعض الحنفية يقسم الرخصة إلى قسمين: رخصة إسقاط، ورخصة ترفيه.
فالأولى: أن يسقط حكم العزيمة ويكون حكم الرخصة وحده هو المشروع.
مثاله عندهم: قصر الصلاة في السفر حتى أنه لا يصح أداؤه من المسافر، أي أداء ما سقط عنه وهو الأربع؛ إذ لو صلاها كانت الركعتان الأخيرتان نافلة.
والثانية: أن يكون الحكمان ثابتين مثل الفطر في رمضان لعلة السفر فإن حكم العزيمة باق ودليله قائم (4) .
فهذا هو منهج الأحناف في تقسيمهم للرخصة الشرعية وذكر أنواعها.
حكم الرخصة وضوابط العمل بها:
قلنا: إن الرخصة الحقيقية أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه ليكون في سعة من ثقل التكليف، فيكون مخيرًا بين الأخذ بالعزيمة وبين الأخذ بالرخصة كالمسافر في رمضان فإنه مخير بين الأخذ بالعزيمة وهو الصوم وبين الأخذ بالرخصة وهي الإفطار، وذلك لأن النصوص الشرعية جعلت الرخصة في موضع الإباحة والتخيير بعد التكليف اللازم لأن اليسر من مقاصد الشريعة الإسلامية مصداقًا لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
وهذا لا ينافي وجوب الرخصة أو ترجح الأخذ بها في بعض المرات، وذلك لاعتبارات خارجية تقتضي ذلك فكان الأنسب أن تفسر الإباحة المنسوبة إلى الرخصة برفع الحرج وتجويز الفعل ليكون المعنى أعم من أن يكون بالتساوي بين الفعل والترك كما هو في الإباحة الحقيقية أو بدون التساوي ليتناول الوجوب والندب، وقد ثبت أن الرخصة قد تكون واجبة وقد تكون مندوبة وهذا المعنى العام هو الظاهر من نصوص الرخص.
__________
(1) راجع أصول السرخسي 1/ 120، وكشف الأسرار 2/ 319 – 320.
(2) كما في حديث حكيم بن حزام الذي رواه الخمسة، راجع نيل الأوطار 5 /175.
(3) راجع كشف الأسرار 2 /322، واصول السرخسي 1 /120 – 121.
(4) راجع كشف الأسرار 2 /324، وأصول الفقه لأبي زهرة ص 55.(8/392)
ضوابط العمل بالرخصة
إذا تقرر أن حكم الرخصة جواز العمل بها في موضع الجواز، وأن المكلف مخير في هذه الحالة بين الأخذ بالرخصة والأخذ بالعزيمة؛ إذن فما هي ضوابط العمل بالرخصة؟
فقد أجاب الإمام الشاطبي على هذا السؤال بما يشفي الغليل؛ ويعتبر معيارًا دقيقا ينبغي أن يعول عليه كل من أراد الترخص حيث قال: " إن الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يوجد فيها حد شرعي فيوقف عنده " (1) .
وتوضيح ذلك أن سبب الرخصة المشقة، ومعلوم أن المشقات تختلف قوة وضعفًا، وتختلف بحسب الأحوال والأزمان والأعمال كما تختلف بحسب قوة العزائم وضعفها، فمثلا: إن سفر الإنسان في زمن الشتاء حيث يكون النهار قصيرًا وبدون حرارة، ويكون السفر في أرض مأمونة ويكون مع المسافر رفقة مأمونة كذلك وبمركب مريح فإن هذا السفر لا يكون كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر.
وكذلك فإن الناس ليسوا على درجة واحدة في الصبر وتحمل الشدائد فقد يقوى إنسان على تحمل ما لا يقوى غيره عليه فعلمنا أن المشقة المعتبرة في التخفيفات ليس بها ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة من الرخص السبب مقام العلة، فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة، وترك كل مكلف على ما يجد إن قصر أو أفطر في السفر، وترك كثيرًا منها موكولا إلى الاجتهاد كالمرض، وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه غيره فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر.
إذن فليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي ولا ضابط مأخوذ باليد بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه " (2) .
وبهذا نجد أن الشاطبي قد أناط الحكم في الترخص إلى اجتهاد المترخص لأنه أدرى بحاله فدينه وفقهه يمنعانه من الترخص إلا إذا اطمأن قلبه وأيقن أنه أهل للترخص.
__________
(1) راجع الموافقات 2 /213.
(2) راجع الموافقات 2 /213 – 214 بتصرف(8/393)
حكم تتبع الرخص:
الرخصة هنا يقصد بها المعنى اللغوي الذي هو السهولة، وهو أعم من المعنى الاصطلاحي للرخصة (1) .
فالرخصة المعروفة عند الأصوليين والمقابلة للعزيمة فلا خلاف في حكمها لأنها ثابتة بالنصوص الشرعية فلا يسع أحدًا إنكارها إذا تحققت دواعيها، فيكون المقصود في هذه المسألة تتبع رخص المذاهب الاجتهادية بأن يختار الإنسان من أقوال الفقهاء المجتهدين في كل مسألة ما يكون أخف وأيسر عليه ولا يتقيد بمذهب إمام من الأئمة المعروفين.
وهذه المسألة تنبني على القول بجواز الأخذ بقول غير إمامه في مسألة من المسائل وذلك إذا كان له إمام والتزم بمذهبه.
فقد اختلف العلماء في ذلك فقال قوم بجوازه لأن التزامه لمذهب معين غير ملزم له، وممن اختار جواز الانتقال مطلقا الإمام السيوطي (2) وابن القيم الجوزية حيث قال: " ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دون غيره " (3) .
وذهب علماء آخرون إلى المنع من ذلك لأن المذهب يكون لازمًا له بعد التزامه له.
والمذهب الثالث في هذه المسألة: التفصيل؛ أي إذا اتصل عمل المكلف في مسألة بمذهب إمامه الأول فليس له تقليد الغير فيها وإن لم يتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غير إمامه فيها وهذا التفصيل اختاره كثير من العلماء بما فيهم الآمدي (4) .
وشرط القرافي في تقليد مذهب غير إمامه ألا يكون موقعًا في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه والإمام الذي انتقل إلى مذهبه فمن قلد مالكًا مثلاً في كون اللمس الخالي عن الشهوة لا ينقض الوضوء وقلد الشافعي في عدم فرضية دلك أعضاء الوضوء والغسل فإنه إذا توضأ ولمس امرأة بلا شهوة وصلى فإنه صلاته تصح عند مالك إذ كان قد دلك أعضاء الوضوء وإن لم يدلك فصلاته باطلة عند كل من الإمام مالك والشافعي (5) .
وبعض العلماء جوز الانتقال إلى مذهب غير إمامه إذا كان أحوط من مذهب إمامه أو كان دليله قويًّا راجحًا (6) .
__________
(1) راجع حاشبة البناني 2 /400.
(2) راجع كتابه الحاوي للفتاوى 1 /296
(3) راجع إعلام الموقعين 4 /231.
(4) راجع الإحكام للآمدي 3 /174، ومنتهى السول في علم الأصول له أيضا ص 72.
(5) راجع نهاية السول مع الإبهاج 3 /190 – 191.
(6) راجع تيسير التحرير 4 /255.(8/394)
ويتخرج على القول بجواز الانتقال وأنه لا يجب عليه الاستمرار على مذهب إمامه جواز اتباعه رخص المذاهب، وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب:
المذاهب الأول – الجواز:
وقد اختار هذا المذهب بعض الأحناف (1) قال في فتح القدير: " ولا يمنع منه – أي تتبع الرخص – مانع شرعي؛ إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل بأن لم يظهر من الشرع المنع والتحريم، وكان عليه الصلاة والسلام يحب ما خف عليهم (2) " أي على أمته.
وقد نسب ابن السبكي الجواز كذلك إلى ابن إسحاق المروزي (3) ، وهذا يتعارض مع ما نسب إليه من قوله أن متتبع الرخص يفسق بذلك كما سيأتي (4) .
قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام: " وللعامي أن يعمل برخص المذاهب وإنكار ذلك جهل ممن أنكره لأن الأخذ بالرخص محبوب ودين الله يسر وما جعل عليكم في الدين من حرج " (5) ولكن قد ورد عنه ما يدل على أن هذا الكلام ليس على إطلاقه فقد قال: إنه ينظر في الفعل الذي فعله فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم وإلا لم يأثم (6) .
وبعد التحقيق يظهر أن هذا التفصيل يعتبر تحصيل حاصل إذا لا يتصور من عالم مسلم القول بجواز تتبع الرخص فيما يشتهر تحريمه في الشرع.
المذهب الثاني – المنع منه مطلقًا:
نقل عن ابن عبد البر قوله:" إنه لا يجوز تتبع الرخص إجماعا " (7) وقيل: إن دعوى الإجماع لا تصح لأنه قد نقل عن الإمام أحمد روايتان في تفسيق متتبع الرخص، وممن فسقه كذلك أبو إسحاق المروزي (8) وقال ابن أبي هريرة (9) : " لا يفسق لأنه متأول " (10) .
وقد تبين من هذا أنه لا إجماع ولعل رواية التفسيق إنما هو فيما إذا قصد من تتبع الرخص التلهي فقط وخص بعض الحنابلة التفسيق في حق المجتهدين الذي لم يؤد اجتهاده إلي الرخصة. (11) .
__________
(1) الكمال ابن الهمام وابن أمير الحاج راجع التحرير 3/ 350، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 442.
(2) راجع فواتح الرحموت 2 /406.
(3) راجع جمع الجوامع مع شرح المحلى 2 /400 وأبو إسحاق المروزي هو إبراهيم بن أحمد بن إسحاق فقيه كبير من أصحاب المزني ومن مؤلفاته " الفصول في معرفة الأصول " توفي بمصر سنة 340 هـ، راجع ترجمته في وفيات الأعيان 1/ 4 ومعجم المؤلفين 1 /3.
(4) راجع إرشاد الفحول ص 272.
(5) راجع فتح العلي المالك لمحمد عليش مفتي المالكية في مصر 1/ 78.
(6) راجع إرشاد الفحول ص 272.
(7) راجع فواتح الرحموت 2 /406.
(8) راجع إرشاد الفحول ص 272
(9) هو أبو علي الحسن بن الحسين البغدادي المعروف بابن أبي هريرة، درس في بغداد وتخرج عليه خلق كثير منهم الدارقطني، توفي سنة 345 هـ، راجع ترجمته في وفيات الأعيان 1 /161.
(10) راجع إرشاد الفحول ص 272.
(11) راجع المصدر السابق ص272(8/395)
وكثير من العلماء استدل بإحدى روايتي أحمد بعدم تفسيق متتبع الرخص في منع الإجماع الذي ذكره ابن عبد البر في تحريم تتبع الرخص، ولا يخفى ما فيه، إذ لا يلزم من عدم التفسيق القول بالجواز، فالأولى عندي منع هذا الإجماع بأقوال العلماء المصرحين بالجواز والله أعلم.
ومن أدلة هذا المذهب – أعني مذهب المنع – أنه يلزم على تقدير الأخذ بكل مذهب احتمال الوقوع في خلاف المجمع عليه، إذ ربما يكون المجموع الذي عمل به مما لم يقل به أحد فيكون باطلاً إجماعًا، كمن تزوج امرأة بلا صداق اتباعا لقول الإمامين أبي حنيفة والشافعي وبلا شهود اتباعًا لقول الإمام مالك وبلا ولي اتباعًا للإمام أبي حنيفة؛ فهذا النكاح باطل اتفاقًا.
وأجيب بأن هذا مندفع لعدم اتحاد المسألة، والإجماع على تحريم القول الثالث إنما يكون في حالة اتحاد المسألة حقيقة أو حكمًا (1) .
أقول وهذا مثال للتلفيق الذي سيأتي حكمه قريبا.
وقد بالغ الإمام الشاطبي في إنكار تتبع الرخص لما يترتب عليه من المفاسد فقال في الموافقات: " وقد أذكر في هذا المعني جملة مما في اتباع رخص المذاهب من المفاسد سوى ما تقدم ذكره في تضاعيف المسألة كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين؛ إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط، وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم، لأن الخارجة عن مذهب مالك في هذه الأمصار مجهولة، وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف، وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها " (2) .
__________
(1) راجع فواتح الرحموت 2 /407.
(2) راجع الموافقات 4 /96.(8/396)
المذهب الثالث – التفصيل:
وهذا المذهب يقوم على جواز تتبع الرخص ولكن ليس بإطلاق وإنما في حالة توفر بعض الشروط:
1- ألا يكون الدافع إلى ذلك مجرد التشهي والتلهي واتباع الهوى.
2- ألا يؤدي إلى ترك العزائم بحيث يخرج المكلف عن ربقة التكليف الذي هو إلزام ما فيه كلفة.
3- أن يكون اتبع في المسألة المدونة المجتهدين الذين استقر الإجماع عليهم دون غيرهم.
4- ألا يكون التتبع موقعًا في أمر يجمع على إبطاله إمامه الأول وإمامه الثاني كما ذكره الإمام القرافي المالكي (1) .
مسألة التلفيق بين المذاهب:
التلفيق في اللغة: هو ضم شيء إلى آخر تقول: لفقت الثوب ألفقه لفقًا وهو أن تضم شقته إلى أخرى فتخيطهما (2) .
أما في اصطلاح الأصوليين: فهو تركيب مسألة من مذهبين أو أكثر ويكون في جزئيات المسائل، وفي أجزاء الحكم الواحد.
فالأول جائز على الراجح، والثاني محظور باتفاق العلماء وفيه يقول ابن عابدين: " وإن الحكم الملفق باطل بالإجماع؛ مثاله: متوضئ سال من بدنه دم ولمس امرأة ثم صلى فإن صلاته ملفقة من المذهب الشافعي والحنفي والتلفيق باطل فصحته منتفية " (3) .
أما تتبع المذاهب في جزئيات المسائل فإن ابن عابدين لا يرى مانعًا منه وفي ذلك يقول: " أما لو صلى يومًا على مذهب وأراد أن يصلي يومًا آخر على غيره فلا يمنع منه فيحصل مما ذكرنا أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له أن يعمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غير إمامه مستجمعًا شروطه ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينتقض.
بل ذهب ابن عابدين إلى أبعد من ذلك في أمر الانتقال من مذهب إلى مذهب فأجاز بعض العمل إذا لم يؤد إلى نقضه كما إذا صلى ظانا صحتها على مذهبه ثم تبين بطلانها في مذهبه وصحتها على مذهب غيره فله تقليده ويجتزئ بتلك الصلاة " (4) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في الكتب التالية: الحاوي للفتاوى للسيوطي 1 /296، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2 /422، وشرح تنقيح الفصول 432.
(2) راجع لسان العرب 3 /382 والقاموس المحيط 3 /381.
(3) راجع حاشية ابن عابدين 1 /77.
(4) راجع حاشية ابن عابدين 1 /78.(8/397)
ولما كان لموضوع التلفيق صلة بمسألة جواز التقليد أو منعه وكذلك بمسألة جواز التزام مذهب معين وعدمه؛ فكثيرًا ما يخلط العلماء بين موضوع التلفيق وبين موضوع تتبع الرخص حتى إن بعضهم ليمثل لهما بنفس الأمثلة ويعطيهما نفس الحكم (1) .
ولكن لا يخفى أن التلفيق الذي تقدم تعريفه لا يدخل في الخلاف؛ أعني أن يلفق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر فيتولد منهما – أو منها – حقيقة مركبة لا يقول بها أحد، كمن توضأ فمسح بعض رأسه مقلدًا للإمام الشافعي الذي يجتزئ بذلك، ثم بعد وضوئه لمس امرأة أجنبية مقلدًا للإمام أبي حنيفة في عدم نقضه الوضوء بذلك، فإن وضوءه على هذه الهيئة حقيقة مركبة لم يقل بها كلا الإمامين.
ولا شك في بطلان هذا النوع من التلفيق لأنه يفضي إلى محظور في الشرع، أما إذا قصدنا من التلفيق تتبع المذاهب في جزئيات المسائل فإن العلماء اختلفوا في ذلك فمن أجاز التقليد وأوجب الالتزام بمذهب معين منع التلفيق، ومن لم يوجبه جوز التلفيق.
وبعض العلماء جوز التلفيق بشروط هي:
ألا يخالف الإجماع أو القواعد الشرعية أو النص أو القياس الجلي.
فكل ما خالف ذلك وأدى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على حكمتها ومصالحها فهو محظور.
والذي نراه في هذا الموضوع جواز تتبع الرخص والتلفيق بين الأحكام الشرعية بالشروط المذكورة، وإذا كان الاجتهاد جماعيا كالذي يجري في مجمعنا الفقهي هذا وما شابهه من المجامع التي يبحث فيها علماء معتمدون لحل قضايا الأمة وخاصة في هذا العصر المعقد الحافل بالمسائل والقضايا المتجددة في المجتمع من جميع مجالات الحياة، وهذا الذي يتمشى مع شريعتنا السمحة التي تهدف دائما إلى تحقيق مصالح العباد، لذلك نرى فيها دائما ملحظًا للعصر والبيئة والعرف.
وهذا المذهب هو اختيار كثير من فقهائنا المعاصرين إما بالتصريح وإما من خلال أعمالهم العلمية، يقول الأستاذ فرج السنهوري: " ولم يلتزم واضعو قانون الوقف أحكام المذاهب الأربعة ولا أحكام مذهب معين، وأخذوا من كل مذهب ما تبينوا أن الحاجة ماسة إلى الأخذ به، وإذا كانت أحكام هذا القانون قد كونت مزيجًا فقهيا لا نجده في مذهب من هذه المذاهب فإن ذلك نتيجة حتمية للتخير من هذه المذاهب، لكنك لا تجد حكمًا منها غريبًا عن الفقه الإسلامي، ولا يعدو أي حكم منها أن يكون قولاً قال به إمام من أئمة المسلمين، أو رأيا قال به فقيه يعتد به أو يكون مركبًا من هذه الأقوال والآراء " (2) .
وبهذا الكلام الشامل الجامع تم هذا البحث. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور أبو بكر دوكوري
__________
(1) راجع أصول الأحكام للدكتور حمد الكبيسي ص2.
(2) راجع أصول الأحكام لأستاذنا الدكتور حمد بن عبيد الكبيسي.(8/398)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخذ بالرخص
الرئيس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نبتدئ جلسات العمل للدورة الثامنة مستعينين بالله تعالى ونسأله التوفيق والسداد في القول والعمل والصواب في الرأي، بين يديكم جدول أعمال الدورة الثامنة فلعلكم استعرضتموه فإن كان ثمة ملاحظة وإلا فيكون إقراره.
الشيخ علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أود أن أهنئ السيد الرئيس وهيئة الرئاسة وكل الإخوة بتوفيقهم لعقد هذه الجلسة المباركة، في هذه الأرض المباركة إن شاء الله، أعتقد أن موضوع حقوق الإنسان موضوع حيوي وقد حدثت السيد الرئيس حول العالم اليوم دوامة حقوق الإنسان إذا صح هذا التعبير، وهو ينتظر منا أيضا أن نقول كلمتنا في هذا المجال، والموضوع أيضا استكتب فيه وكتب فيه عدد لا بأس به، أعتقد أننا لو خصصنا وقتًا ولو نصف وقت للاستماع إلى المقارنات التي تمت بين اللائحة الإسلامية واللائحة الدولية وذكرنا هنا على الأقل الميزات التي تمتاز بها اللائحة الإسلامية، وقد كنتم سيدي الرئيس أنتم أشرفتم على بعض مراحل إعدادها، فإن في ذلك أثرًا إثباتيًّا وثبوتيًّا، يعني له أثر حتى على المجال العملي وله أثر في المجال العالمي وشكرًا.
الرئيس:
فى الواقع أن الشيخ علي أثار معي الموضوع هذا بالأمس وأوضحت له أن موضوع حقوق الإنسان أجل إلى الدورة القادمة إن شاء الله تعالى لعدة أسباب منها أن هذا الموضوع لا بد من عقد ندوة فقهية له، لأن هذا الموضوع سيال فلا بد من تحديد معالمه ومنهجيته، الأمر الثاني أنه حصل مجددًا الدراسات – التي تمت في بنك التنمية الإسلامي – وهي الدراسات الاقتصادية التي كانت مؤجلة من الدراسات السابقة، والأمر الثالث أن هناك مشروعًا الذي سبق أن اشتركنا فيه سويًا في منظمة المؤتمر الإسلامي منذ ست سنين أو خمس لم يأت ملموسًا إلى هذه الأعمال ولم يكن عرضه على الباحثين حتى يضمنوه بحوثهم، فلهذا واستكمالا للموضوع رؤي تأجيله أو رأت الأمانة تأجيله إلى الدورة القادمة، وعلى كُلٍّ كُلُّ آت قريب إن شاء الله تعالى.(8/399)
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد.
إن لم تكن هذه الملاحظة سابقة لأوانها فأنا أحب أن أعرضها، نحن الآن لدينا بحوث كثيرة في مسألة واحدة، فمثلاً الرخصة فيها أكثر من 15 بحثًا، هذا إتخام مع أنه يوجد قضايا ويوجد وسائل معاصرة تحتاج إلى البحث، فلو وزع كثرت المسائل فلو وزعت البحوث على الأعضاء والمراقبين وغيرهم مسبقًا بوقت كاف، كان أقوى وأجدى فالآن ماذا نقرأ من الرخصة، وماذا نبحث وماذا نناقش وأيها يبنى عليه ... أنا أرى إن شاء الله تكون هذه الملاحظة للمستقبل. وشكرًا.
الرئيس:
على كل لن يغير في جدول الأعمال، إذن تمت الموافقة على جدول الأعمال، تفضل يا شيخ يوسف المنياوي.
الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. التوقيت وقع ضبطه من اليوم الأول قبل الجلسات، ولكن وقع السهو عن تعديله في الأوراق التي وزعت على حضراتكم، فالاجتماع يكون، أعني ابتداء الاجتماع هنا يكون الساعة الثامنة والنصف صباحًا وينتهى الساعة الثانية عشر والنصف، وبعد الظهر من الرابعة والنصف إلى الساعة السابعة والنصف، هذا هو الوقت الذي وقع الاتفاق عليه وشكرًا.
الشيخ عمر جاه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أود أن أتقدم بالشكر إلى دولة سلطنة بروناي ووزارة الشؤون الدينية على استضافتها لهذه الدورة، وأشكر أيضا أمانة المجمع على الترتيبات الجيدة التي نحظى بها دائمًا في مثل هذه اللقاءات، وليس لدي تعليق على جدول الأعمال ولكن لي ملاحظات على قائمة الأعضاء المنتدبين لهذا المجمع؛ من المعروف أنني أجلس أمام دولة جامبيا، ولكن لاحظت أن اسم جامبيا ليس مدرجا في قائمة الأعضاء ولا اسمي مدرجًا في قائمة الأعضاء المنتدبين، وأريد أن ألفت النظر لهذا إن كان الاسم غائبا في النص الإنكليزي، لكنني أيضا وجدته مدرجًا تحت اسم المملكة العربية السعودية، ومن المعروف أن للمملكة مندوبًا، وإن كنت أقيم في المملكة لست مندوبًا عنها في هذه الجلسة وألفت النظر لهذا للأهمية، وشكرًا.
الرئيس:
إذن ندخل في الموضوع، تفضل يا شيخ ...
الشيخ وهبة الزحيلي:
نظرًا لأنه في كل مرة يكون هناك صيغ ما بين المقررات التي تتم في الدورة والمقررات السابقة، وأعتقد أنه لا بد أن تضم إذا سمحتم مقررًا مساعدًا يربط الماضي بالحاضر؛ وأقترح أن يكون الدكتور عبد الستار أبو غدة مقررًا مساعدًا للمقرر العام لتحقيق الانسجام بين قراراتنا الحالية والقرارات السابقة إذا شئتم.(8/400)
الشيخ الحبيب ابن الخوجة:
يا سيدي النظام الذي نسير عليه كل سنة هو أن نختار مقررًا عاما. وقد وقع الاختيار على المقرر العام وهو سماحة الشيخ عبد الحميد بن باكل، وبالنسبة لكل موضوع مقرر، ومن أراد أن ينضم إلى لجنة الصياغة أو لجنة المقررين فلينضم، بالنسبة للجان المقررين الذين يرجعون إلى كل موضوع أخذنا واحدًا ممن كتبوا في تلك الموضوعات، وهذه المسائل تنظيمية. وشكرًا.
الرئيس:
كان المفترض أن يكون العارض الشيخ خليل الميس، لكن ما رأيت الشيخ خليل، والمقرر كذلك الشيخ محمد شقرة لم يصل فلعل الشيخ القبيسي.
الشيخ عبد العزيز الخياط:
أرى أن يكون الشيخ وهبة الزحيلي عارضا والشيخ القبيسي مقررا.
وهو يعني تسجيل رؤوس المداولات والاتجاهات التي حصلت فيها.
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فإنه من حسن الطالع أن يكون بداية هذه الدورة هو بحث الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه، وهو من الموضوعات المهمة التي نحتاج إليها، لا سيما ونحن نعاني جميعًا من أسفار طويلة، كلنا وقعنا في هذا الموضوع، ووجدنا أنفسنا بحاجة ماسة للأخذ بالرخص الشرعية، وتقليد المذاهب المختلفة فيما يعود على الواحد منا باليسر والسماحة والسهولة، ولذلك فإن هذا الموضوع ذو شقين، الشق الأول يتناول بحث الرخصة، والشق الثاني يتناول بحث التلفيق بين المذاهب، أما ما يتعلق بالرخصة فقد دمجت فيه ما تكلم فيه الفقهاء والأصوليون في مكان واحد وكان لكل منهم بحث مستقل في قضية العزيمة والرخصة عما هو موجود في نقاط العلم الآخر، ولذلك وجدت من الضرورة بمكان أن أدمج بين هذين الجانبين من حقلي هذا العلم في هذا الموضوع، وأوضحت أن الرخصة تقابل العزيمة وأن الرخصة هي التي تكون في مجال الأحكام الاستثنائية في مقابل العزيمة التي هي الأحكام الشرعية العامة التي تقرر لجميع المكلفين في جميع الأحوال كأداء فرائض الصلاة والزكاة والشعائر الإسلامية، أما الرخص في استثناءات يكون المسلم بأشد الحاجة إليها في حالات طارئة سواء ما يتعلق في قضايا العقيدة كالتلفظ بالكفر عند الإكراه أو ما يتعلق بممارسة العبادة كقضايا القصر والجمع والأعذار المرضية وقضايا السفر والأكل من المحرمات في حال الضرورة، وبينت مناهج العلماء في تقسيمات الرخصة والعزيمة.
وهذه المناهج في الحقيقة متقاربة فمنهم من يجعل الرخصة واجبة كأكل الميتة للمضطر ونحوها كشرب الخمر أيضا للمضطر عند الغصص وعند العطش الشديد، ومنهم من يجعلها مندوبة كقصر الصلاة للمسافر إذا قطع مسافة معينة، ومنه من يجعل الرخصة مباحة؛ فالعقود المقررة في الشريعة، العقود الاستثنائية من القواعد العامة كعقود السلم وبيع العرايا؛ يعني بيع الرطب على رؤوس النخيل بما يقابله من التمر خرصًا وعقود الإيجارات والمساقاة والمزارعة والمغارسة وغير ذلك؛ وهذا النوع الذي هو من الرخص المباحة، نجد الحنفية توسعوا في هذا الأمر فقسموا أيضا الرخصة المباحة إلى تقسيمات؛ منها تقسيم الفعل المحرم عند الضرورة أو الحاجة، ومنها تقسيم إباحة ترك الواجب إذا كان في فعله مشقة كإباحة الفطر في رمضان، ومنها إباحة العقود والتصرفات يعني مما يتفق مع غيرهم كذلك، فإذن الحنفية يرون الرخصة لا تعني أن تكون إما مباحة أو واجبة، الشاطبي من المالكية جعل أربعة إطلاقات للرخصة هي في الحقيقة تدخل في الغالب تحت إباحة الأحكام في حال الاستثناءات الضرورية، وأما ما يذكره الحنفية من رخصة الترفيه ورخصة الإسقاط فهي لا تعدو أن تكون فلسفة وقوع الإذن طرافية، إذ لا يترتب في الغالب على هذا التقسيم من استثناءات أو أحكام.(8/401)
وبينت قضية ضوابط الأخذ بالرخصة، وهذا هو العمود الفقري في هذا الموضوع؛ لأنه لا ينبغي أن نأخذ بالرخص على إطلاقها وإنما نبيحها إذا وجد هناك عذر، والعذر يشمل المشقة والحاجة، وهناك أمثلة للعذر مثل حال الضرورة وحال الحاجة والإكراه والسفر والمرض والخوف الشديد وبينت أن المشاق تتفاوت بحسب ما يتعرض له الإنسان من أحوال مما يقتضي أن يكون هناك إلحاح في تخفيف الحكم الشرعى بالنسبة لشدة المشقة أو خفتها فبينت ما ذكره ابن نجيم في قضية تصادم المشقة مع النص، وأوضحت أنه مع النص لا يجوز التخفيف بالمشقة إلا في حال الضرورة التي نص عليها القرآن الكريم أو ما هو في معنى الضرورة.
ثم بينت موضوع الشائع العمل به بين الناس في قضية تتبع الرخص، وأما تتبع رخص المذاهب الفقهية فهو محل خلاف شديد بين العلماء، ومعنى تتبع الرخص أن يأخذ الشخص في كل مذهب ما هو أهون عليه وأيسر فيما يطرأ عليه من المسائل، ومتأخرو العلماء شرطوا أن لا يؤدي التقليد إلى تتبع الرخص، وآراؤهم في هذا تتفاوت بين مراحل أو مراتب ثلاثة فمنهم المشدد ومنهم الضيق ومنهم المتوسط.
فالمشددون في تتبع الرخص قالوا: لا يجوز تتبع الرخص، وهم كثيرون؛ لأنه اتباع للهوى وعمل بالشهوة وأن اتباع الهوى لا يجوز ولذلك منعوا تتبع الرخص وحكى بعضهم كابن عبد البر وابن حزم الإجماع في ذلك، ولكن سنبين أن هذا الإجماع أو حكاية هذا الإجماع محل نظر لأن كثيرًا من العلماء نازعوا فيه مما يدل على عدم ثبوت الإجماع في منع تتبع الرخص.
والمخففون – وهم أكثر الشافعية وأكثر الحنفية – أجازوا تتبع الرخص لأنه لم يوجد في الشرع ما يمنع منه، وأوضحوا أن الإسلام يقوم على مبدأ السماحة واليسر، وأنه سواء في نصوص القرآن والسنة ما يدل صراحة على أن هذه الشرعية دائمًا تتجاوب مع مبدأ اليسر في الأحكام والتنفير من التشديد على الناس.
وبعضهم توسط في الموضوع – وهو القرافي – فقال: يجوز تتبع الرخص بشرط ألا يترتب عليه العمل بما هو باطل عند جميع من قلد. وهذا القول في الحقيقة الذي ذكره القرافي لا نجد دليلاً عليه من نص أو إجماع وإنما هو اصطلاح ذكره بعض المتأخرين، وكذلك قول ابن عبد البر: لا يجوز تتبع الرخص إجماعًا؛ أيضا لا نسلم صحة النقل عنه وإن نقل. فإن هذا متأول لأن فيه تفسيق متتبع الرخص ... وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد. ورأيت في النهاية أن الراجح جواز تتبع الرخص للضرورة أو الحاجة دون أن يكون هناك قصد التعمد وقصد العبث أو التلهي وبشرط ألا يؤدي تتبع الرخص إلى التلفيق الممنوع؛ لأن هناك حظرًا في بعض أحوال التلفيق.(8/402)
ثم انتقلت إلى بحث التلفيق الذي يقع فيه العوام حكمًا، فما من عامي إلا وهو ملفق، لأنه يسأل العلماء دون أن يعرف مذهب مفتيه فيقع في الواقع في التلفيق، لأنه مضطر إلى أن يعرف الحكم الشرعي حينما يجاب عن قضية من القضايا، ثم يسأل عبر هذا المفتي وهو من أنصار أتباع مذهب آخر نجده يأخذ بالرأي الآخر فيقع في التلفيق حكمًا، والتلفيق هو الإتيان بكيفية لا يقول بها المجتهد إذا عرضت عليه؛ كأن يقلد أحد مذهب الإمام الشافعي في الاكتفاء بمسح بعض الرأس، ثم يقلد مذهبًا آخر كالحنفية والمالكية في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة ثم مع أن أبا حنيفة يطالب بضرورة مسح ربع الرأس، والإمام مالك والإمام أحمد يطالبان بضرورة مسح جميع الرأس، وكذلك قضية دلك الأعضاء؛ في النتيجة يكون قد وصل هذا الشخص إلى حالة إذا عرضت على كل إمام من الأئمة لا يقرها، وهذا أعتقد من التلفيق الذي لا أجد فيه منعًا. لكن هناك تلفيق ممنوع مثل التلفيق في الأحوال الشخصية بأن يتزوج رجل امرأة بلا ولي ولا مهر ولا شهود مقلدًا كل مذهب فيما لا يقول به الآخر فهذا يؤدي في النتيجة إلى استباحة الأبضاع والخروج من قيود الشريعة؛ فلذلك أجد هذا من التلفيق الممنوع، وقد نص العلماء على ذلك. كذلك قضية التحليل أن يطلق المرأة البائن بينونة كبرى تطلق فيما تزوج بابن عمره تسع سنوات مقلدًا في هذا الزواج مذهب الشافعية من أجل تحليل المرأة مع أن هذا التقليد غير صحيح لأن الشافعية لا يجيزون تزويج الابن القاصر إلا من قبل ولي عدل وأن يكون في هذا الزواج مصلحة فلذلك هذا التلفيق أيضا ممنوع، للتلفيق مجال في الأحكام الفرعية العملية الاجتهادية الظنية، أما ما يتعلق في العقائد وأصول الدين، وما علم من الدين بالضرورة والأمور المجمع عليها والتي يكفر جاحدها فلا مجال للتلفيق فيها.
العلماء انقسموا في قضية التلفيق إلى قسمين، منهم من يرى، وهم أكثر المتأخرين، يرون منع التلفيق، ورأي آخر لجماعة كثر يرون جواز التلفيق، والمانعون يستدلون على ما قرره علماء الأصول في قضية الإجماع من منع إحداث قول ثالث إذا اختلف السابقون في مسألة على رأيين؛ فقال أكثر العلماء: إن وجود قول ثالث في هذا الموضوع مثل عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فيها رأيان: وضع الحمل وأبعد الأجلين، فلا يجوز إحداث قول ثالث بأن عدتها بالأشهر فقط؛ استندوا على هذا المنع.
فقرروا عدم جواز التلفيق، وبينت أن هذا غير سديد لأن تقليد كل إمام في قضية ليس من قبيل إحداث قول ثالث وإنما التقليد في جزئية تختلف عن الجزئية التي قلد فيها ذلك الإمام، ونقضت أدلة هؤلاء المانعين ونقلت عن كثير من العلماء سواء الحنفية والمالكية والشافعية ما يدل على جواز التلفيق.
وهذا كما أوضحت في أن تتبع الرخص يتفق مع المبدأ الذي قام عليه الإسلام وهو أنه شريعة اليسر والسماحة وليس في ذلك حظر يقوم على التشديد والإعنات وإيقاع الناس في الحرج، لكن ليس كل تلفيق جائزًا، وإنما التلفيق منه ما هو جائز ومنه ما هو ممنوع، وقد حصرت التلفيق الممنوع في ثلاثة أنواع؛ النوع الأول: تتبع الرخص عمدًا وهو ما قلت سابقًا في قضية جواز تتبع الرخص: يجوز بشرط ألا يؤدي إلى التلفيق الممنوع. ثم النوع الثاني: التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم، ثم النوع الثالث: التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر آخر قلده، وأتيت بالأمثلة على هذا.(8/403)
ثم أوضحت أن للتلفيق حكمًا في كل التكاليف الشرعية وأوضحت أن للتكاليف الشرعية أقسامًا ثلاثة، منها ما بني في الشريعة على اليسر والسماحة كالعبادات المحضة وهذه يجوز فيها التلفيق للضرورة أو لحاجة؛ ومنها قسم يقوم على الورع والاحتياط، وهو المحظورات، فهذه لا يجوز التلفيق فيها إلا عند الضرورات الشرعية لأن الضرورات تبيح المحظورات؛ وأما النوع الذي مناطه في هذه الشريعة على مبدأ رعاية المصالح ودرء المضار والمفاسد فهو قضايا المعاملات والحدود وأداء الأموال، فهذه بينت وجود التلفيق فيها، لكن المبدأ وإطار عام هذا المبدأ وهو أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها فهو محظور، وخصوصًا الحيل الشرعية، وأما ما يؤدى إلى تحقيق مقاصد الشريعة ورعاية حكمها وسياستها وإسعاد الناس في الدارين لتيسير العبادات عليهم وصون مصالحهم فهو جائز ولا مانع من ذلك. فإذن التلفيق الجائز عند الحاجة أو الضرورة وليس من أجل العبث أو تتبع الأيسر والأسهل.
ثم أوضحت ما ينبغى ترجيحه في عصرنا الحاضر في قضايا المذاهب، وبينت المبدأ أن الحق لا يتعدد وأنه لا بد أن يكون من خلال هذه الآراء التي قررتها المذاهب أن يكون الرأي الحق واحدًا منها بعينه ولكننا لا نعرفه وحينما لا نعرف سبب القطاع الوحيد فحينئذ يجوز أن يقلد الناس هذه الآراء من دون حرج، لكن إذا وصل العالم إلى مرتبة يتمكن فيها من الترجيح بين آراء المجتهدين فحينئذ لا يجوز له أن يعمل بالقول الضعيف ويترك الرأي الذي شهد له الكتاب والسنة الصحيحة بضرورة العمل به.
لذلك الترجيح بين المذاهب ينبغي أن يكون على وفق ما يأتي وهو العمل بالنصوص القطعية أو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، أما ما يتعلق بالأمور الاجتهادية وهي التي وردت فيها أحكام ونصوص ظنية الثبوت والدلالة، أو ظنية الدلالة وحدها، فهذه الأحكام التي لم يرد فيه نص ولا إجماع كالأحكام القياسية والمصلحية والعرفية، فهذه هي مجال الترجيح بين العلماء، وخصوصًا في عصرنا الحاضر حيث اتجه العلماء إلى وضع التقنيات المستمدة من الشريعة الإسلامية إلى هذا الاتجاه وأخذوا بالمذاهب المختلفة واستفادوا من جملة المذاهب ولم يتقيدوا بالمذاهب الأربعة في بعض القوانين السائدة والمعمول بها في مصر وسوريا وغيرها من البلاد الإسلامية؛ أخذوا بقوانين الأحكام فيها ليست من المذاهب الأربعة، مما يدل على أنهم ارتأوا الاتجاه نحو العمل بما يحقق مصالح الناس والامتناع عن كل ما يلحق بهم الضرر أو يوقعهم في الحظر.(8/404)
خاتمة البحث أخيرًا: بينت أن العمل بالرخصة أمر مباح مساو للعمل بالعزيمة وقد تكون مندوبة لحاجة أو واجبة إذا كانت سببًا للحفاظ على الحياة، فقد تكون خلاف الأولى عند الحاجة، المبدأ الثاني: أن العذر المبيح للأخذ بالرخصة هو الضرورة أو الحاجة أو المشقة أو الإكراه أو السفر أو المرض أو الخوف الشديد ونحو ذلك مما لا يتلاءم أو مما يتفق مع مقاصد الشريعة وسماحتها، والمشقة ضابطها يختلف بحسب كل عبادة تؤسس فيها إشفاقًا أو تخفيفًا، هذا في العبادات تتفاوت؛ أما في المعاملات فالمشاق بالمرتبة الواحدة، والمشقة أو دفع الحرج تعتبر في موضع لا نص فيه. المبدأ الخامس: لا مانع من تتبع الرخص أو الأخذ بما هو أهون وأيسر على المكلف للضرورة أو الحاجة.
سادسًا: فالتلفيق الممنوع أنواع ثلاثة: تتبع الرخص عمدًا، والذي يستلزم نقض حكم الحاكم، والذي يستلزم الرجوع عن الحكم بعد العمل به، أو الأمر اللازم لأمر آخر مجمع عليه.
سابعًا: التلفيق جائز للضرورة أو الحاجة في أحكام الشريعة المبنية على اليسر والسماحة كالعبادات المحضة، وفي الأحكام المبنية على مصالح العباد وسعادتهم وهذا ما ألمح إليه سعادة الأمين العام في خطابه في الجلسة الافتتاحية أن هذه الأحكام التي نعمل بها إنما هي جائزة في هذه القيود، ثم بينت أن المفتي والمجتهد يلزمه أن يعمل بثوابت الشريعة وأما المتغيرات فعليه أن يعمل بظواهر الكتاب والسنة ويفتي بالراجح من آراء المذاهب، والترجيح يكون إما باتباع الحديث الصحيح ثم مراعاة المصالح الزمنية والأعراف الصحيحة التي لا تصادم نصوص الشريعة. كما يلاحظ مبدأ سد الذرائع إلى الفساد والشروع والميزان لأن العمل بالراجح أمر يوجبه الشرع والعقل.
أخيرًا وهذا من مبادئي منذ أن توليت التدريس في الجامعات، دائمًا أنادي بنبذ العصبية المذهبية التي تفرق ولا تجمع وتضر ولا تنفع وعلينا أن نلتزم بمبدأ وحدة الإسلام، ووحدة الشريعة، عند الإمكان، وألا نجنح إلى التطرف أو التعصب الذي يؤدي إلى التفريق وإلى الخصام والنزاع، والتزمت بتوجيهات جيدة في كتابة البحث طلبت منا عند كتابة البحوث من أمانة المجمع وهي أن يضم في آخر كل بحث التوصية المقترحة الصادرة عن المجمع بحسب ما يرى، قد يختلف عند وجود صياغة ولكن التزمت التوصيات، وهذا منهج حكيم، هذا العام وضعت خطة الأمانة العامة للمجمع عندما استكتب السادة الأعضاء كتبت إليهم خطة في ضرورة اتباعها وهذا من ضمن الخطة فالتزمت بذلك ورأيت أن تكون التوصية تتضمن الفقرات الخمسة التالية:
أولاً: لا حرج ولا جناح على أحد بالعمل بالرخص الشرعية، ويترك أمر تقدير المشقة للمكلف بالعبادات، وأما في المعاملات فيكتفى بأدنى المشاق وقد تكون الرخصة أمرًا مندوبًا أو واجبًا أو خلاف الأولى.(8/405)
ثانيًا: لا مانع من تتبع رخص المذاهب الشرعية للأخذ بالأهون والأيسر والأخف للضرورة والحاجة دون قصد تتبع الرخص عمدًا من غير مسوغ أو بقصد العبث والتلهي بشرط أن لا يؤدي إلى التلفيق الممنوع شرعًا لإخلاله بواجب احترام الشريعة الأصلية.
ثالثًا: التلفيق الممنوع هو ما ذكرته مرارًا وأدى إلى تتبع الرخص عمدًا أو استلزام نقض حكم الحاكم أو الرجوع عن أمر مجمع عليه أو بعد العمل بأمر من الأمور التي قلد فيها.
رابعًا: التلفيق جائز للضرورة أو الحاجة في أحكام الشريعة المبنية على اليسر والسماحة كالعبادات المحضة غير المالية وفي أحكام المعاملات القائمة على مبدأ رعاية المصالح ودفع المضار والمفاسد؛ ما لم يؤد ذلك إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها لإسعاد الناس في الدارين.
أخيرًا، على المفتي أو المجتهد أو المقلد التزام ثوابت الشريعة وأحكامها الأساسية وله في مجال الأحكام القياسية المصلحية أو العرفية مراعاة المصالح الزمنية والأعراف التي لا تصادم نصًا شرعيًا، كما له أن يلاحظ سد الذرائع والمفاسد والمضار، ولا بد في الترجيح بين الآراء من التزام ظاهر القرآن والسنة والعمل بالحديث الصحيح وعدم الخروج عن الإجماع ولا داعي للعصبية المذهبية بعد هذا المنهج الذي ارتأيته والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وشكرًا.
الشيخ علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أود أولاً أن أشكر كل الذين كتبو في هذا الموضوع فقد كانت كتاباتهم مفيدة حقًا، إلا أني أود أن أعتذر إلى كثير ممن كتبوا فيه بأنهم لم يحرروا محل النزاع بدقة وربما خرجوا عن الموضوع، الموضوع المطروح هو مسألة تتبع الرخص، والتقسيمات التي ذكرت أحيانا في بعض المقالات وصلت إلى أربعين صفحة هي أنواع الرخص الشرعية، والذي يدل على أنه لا علاقة بين الأمرين أنه لا خلاف مطلقًا في أنه لو ثبتت رخصة من أي طريق كانت وبظروفها الحالية فلا شك في جواز اتباع هذه الرخصة، الكلام ليس في الرخص بمعنى الأحكام الثانوية التي تعرض على الأحكام الأولية العامة، الكلام كله في مسألة اتباع رخص المذاهب وأنه لو كانت أمام فرد فتويان فإحداهما ملزمة والأخرى تفقد عنصر الإلزام، أو يقل فيها عنصر الإلزام، فهل له أن يتبع الفتوى التي تفقد عنصر الإلزام أم لا؟ إذا تم هذا فأود أن أقول إن الموضوع في مسألة اتباع الرخص يتوقف على التلفيق بالمعنى الأعم، إن كان التلفيق بين الآراء الاجتهادية أو بين المذاهب وعندما قلنا التلفيق العام أنه معنى عام هو الجمع بين فتويين وأسميته أنا التبعيض فرارًا من كلمة التلفيق التي فيها معنى سلبي بصفة أن يكون التلفيق مصطلحا هل للإنسان أن يتبع فتويين في عملين مستقلين، أو في عمل واحد مركب وأسميه العمل الارتباطي كالصلاة؟ هذا المعنى العام يشمل الأمرين وربما أجاز أحد أن يتبع الإنسان فتويين في عملين مستقلين ولم يجز اتباع فتويين في عمل واحد باعتبار أن هذا العمل واحد يرفضه صاحبا الفتويين معًا. أما إذا كان العملان مستقلين فأتبع فتوى هذا المجتهد في هذا العمل وذلك المجتهد في العمل الآخر.(8/406)
على أي حال إذن يجب أن نحقق إمكان التلفيق. التلفيق لا يتم إلا من قبل المجتهد تمت عليه الحجة، هو عليه أن يستنبط، المقلد والعامي وغير المجتهد هو الذي يطرح في حقه إن كان التلفيق بين الفتاوى فهل يمكن التلفيق أم لا؟ قلت في بحثي إن هذا يتوقف على مسألة خلافية بين العلماء وهي هل يجب تقليد الأعلم إذا كان هناك أعلم وعالم وكانا مختلفين في الفتوى؟. هل يجب علينا اتباع الأعلم أو أنهما معًا طريقان إلى الحكم الشرعي السائد، لدى الفقه الإمامي هو اتباع الأعلم ولذلك مسألة التلفيق والتبعيض غير معروفة لديهم إلا إذا تصورنا أن هناك رجلين في القمة من العلم متساويان، أما بعد بحثي أن اشتراط الأعلمية غير تام رغم أن هذا يخالف مشهور العلماء لدينا، ورغم أن هذا هو رأي مجمع فقه أهل البيت لكن ما توصلت إليه لا يجب أن يكون المقلد أعلم، وحينئذ ينفتح باب التلفيق على مصراعيه بشكل واضح، الذين يؤمنون بأن الآراء الاجتهادية كلها طرق إلى الحقيقة الواحدة وهي الحكم الشرعي وهي طرق مشروعة فإن أمام العامي طرق عديدة يمكنه أن يسلك أيًا منها للوصول إلى الحكم الشرعي باعتبار التزامها بالقوانين أو الضوابط والملاحظات المطروحة للاجتهاد والمذاهب هكذا ما دامت كذلك فهي طرق لنا إلى الواقع الشرعي وحينئذ إذا أمكن التلفيق يمكن اتباع الرخص، رخص المذاهب، وأود أن أؤكد أن التلفيق غير اتباع الرخص فالتلفيق عام قد يتبع الإنسان حكمين إلزاميين لأنهما منسجمان مع بعضيهما، أما اتباع الرخص فهو اتباع الحكم الأسهل والأكثر والأقل إلزامًا للمكلف.
وحينئذ سيدي الرئيس أعتقد أن محور البحث هو هذا، يعني دعنا نترك أقسام الرخصة رغم أنها مفيدة، كل التركيز على مسألة اتباع الرخص، ومسألة اتباع الرخص متوقف على مسألة التلفيق بكلا المعنيين، وقد ناقشت هذا المعنى، ومسألة التلفيق متوقفة على رفض اشتراط الأعلمية إذا اختلف الأعلم مع العالم في موضوع ما، وبعد أن حققت هذا المعنى رأيت من الممكن التلفيق وكذلك من الممكن اتباع الرخص على ضوء التلفيق إلا أن هناك موانع دفعت العلماء للوقوف في وجه اتباع الرخص. منها ما يستعمل أحيانا للهوى ومما يؤدي إلى مخالفة جزمية قطعية للحكم الشرعي، وإذا أدى هذا العمل إلى مخالفة قطعية فكل الطرق إليه منعت، ومنها ما قد يؤدي أحيانا إلى التساهل في أمر الدين إذا تجاوزنا هذه الحالات، ودعنا من عبث الشعراء وما يطرحونه في أشعارهم ورأينا المسألة بحالتها الطبيعية دونما هوى ودونما هجوم فلا مانع من تتبع رخص المذاهب.(8/407)
وقد ذكرت في بحثي، وأرجو أن يطالع السادة آخر البحث، فوائد التلفيق في ثلاث نقاط.
النقطة الأولى: هي مسألة التسهيل وتأتي في المجالات الفردية والاجتماعية، والنقطة الثانية سيدي الرئيس: في مسألة ما لو وجد الحاكم أن هناك فتاوى حتى لو كانت إلزامية أكثر انسجامًا في تشكيل نظام اجتماعي يمكن تطبيقه في هذه الحالة فيمكنه أن يلفق بين الفتاوى، ومنها أيضا ما فعله المرحوم الشهيد الصدر عندما أراد أن يكتشف المذهب الاقتصادي الإسلامي فراح يبحث عن الاجتهادات المشروعة التي تشكل خطا اقتصاديا واحدًا ليشكل عناصر من النظرية الاقتصادية العامة، أعتقد أنها فوائد يمكنها أن تترتب على التلفيق إذا أخذناه بحالته الطبيعية؛ هذا وأعتذر إذا كنت قد أطلت في التعليق، وشكرًا.
الشيخ محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فالواقع أن الموضوع المطروح لدينا، في هذه الجلسة هو موضوع الأخذ بالرخص، موضوع شائك وخطير من حيث إنه قد حدث في عصرنا هذا وجهتان للنظر في هذا الموضوع؛ وجهة جامدة تجمد على العصبية المذهبية، ووجهة أخرى قد تستغل موضوع تتبع الرخص، وموضوع المأخذ بالرخصة للإباحية المطلقة وللتطرف ولاستباحة المحرمات الشرعية، فيجب علينا أن نحذر كل الحذر عند الأخذ بقرار في هذا الموضوع والذى يؤدي إليه نظري هو أن هذا الموضوع ينقسم إلى قسمين كما تفضل أخونا الشيخ محمد علي التسخيري؛ أن الأخذ بالرخصة الأصولية التي ذكرها الفقهاء والتي ذكرها الأصوليون، فهذا الموضوع قد فرغ منه وليس هناك من شيء جديد نأتي به في هذه الجلسة في هذا الموضوع.
أما الموضوع الثاني وهو موضوع تتبع الرخص أو الأخذ بالرخص في المذاهب الفقهية والأخذ بالرخص بين المذاهب و، الثاني تتبع الرخص من المذاهب. أما الأخذ بالرخص فإنما أعني به أن يأتي رجل عالم عند قدرة من المقارنة بين أدلة الفقهاء؛ فيرجح نظرية فقهية على نظرية أخرى على أساس الدليل فهذا لا مانع منه أبدًا، وهو الذي أخذ به الفقهاء وذكروا أن ذلك من الواجبات الشرعية، أما أن يكون الإنسان يتتبع الرخص في مختلف المذاهب لمجرد التشهي ولاتباع هواه فهذا مما لم يبحه أحد، وإن كلمة التتبع حينما نستعمل كلمة التتبع تتبع الرخص فإنما يراد بها المعنى الثاني، ولهذا لم أجد فيما قرأته وقلبت النظر أن أحدًا من الفقهاء الحنفية أجازوا ذلك، وقد ذكر الدكتور وهبة أن الراجح عند الحنفية هو أنه يجوز التتبع بالرخص عند المذاهب، ولم أر عند فقهاء الحنفية من أجاز تتبع الرخص بهذه الكلمة إنما أجازوا الأخذ بالرخصة أو الأخذ بالمذهب الفقهي الآخر على أساس الدليل أو على أساس الحاجة الاجتماعية للضرورة.(8/408)
فالذي يتلخص في نظري أنه يجوز الأخذ بالمذهب الفقهي الآخر في حالات ثلاث؛ الأولى: إذا كان الراجح من حيث الدليل هو ذلك المذهب في نظر ذلك الفقيه فحينئذ يجب عليه أن يأخذ به. والثانية: أن تكون هناك حاجة أو ضرورة اجتماعية داعية للأخذ بذلك المذهب، ووقع المسلمون في الأمة الإسلامية في حرج شديد فحينئذ يأخذون بمذهب أيسر وأهون عليهم فهذا مما لاشك في جوازه. الثالثة: هو أن يقع الإنسان شخصيا في عذر شخصي ويأخذ بالرخصة الشرعية من المذهب الآخر فهذا أيضا مما لا حرج فيه، أما أن يكون الإنسان يتتبع الرخص من حيث إنه يلتقط الرخص من المذاهب لتكون الحياة عليه أيسر أو ليتبع هواه؛ فهذا مما قال فيه الإمام الأوزاعي رحمه الله: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام، فلو التقطنا مثلاً مذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنه في الصرف وأخذنا مذهب بعض أهل مكة في الإتيان في الدبر ومذهب فلان في مسألة الصورة ومذهب فلان في مسألة أخرى فهذا يعنى ربما يجعل الإسلام لعبة بأيدي المتطفلين، فهذا مما يجب أن نحذر منه.
وفيما ذكره الدكتور وهبه حفظه الله تعالى مجهولاً عن كثير من البحث، ولكنه ذكر أن الراجح عند الحنفية أنه يجوز عند تتبع الرخص من المذاهب، وهذا لا أعتقد أن الحنفية رجحوا هذا القول ولكن ما ذكره في آخر القرار بأنه تتبع الرخص عمدًا من حيث اتباع الهوى فهذا لا يجوز، فهذا مما أثبته وأثنى عليه، ولكن عبارته في مقدمة بحثه مما قد يوحي إلى أن الإنسان يجوز أن يلتقط الرخص من شتى المذاهب مع قطع النظر على الدليل ومع قطع النظر عن الحاجة فهذا مما ينبغي أن نبعد الاحتمال، وأقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، وشكرًا.
الشيخ عبد الله محمد:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا سعادة الرئيس، اسمي الصحيح عبد الله محمد وفي الواقع الدكتور العارض الدكتور الشيخ الزحيلي وفى الموضوع حقه، لأنني قلت كلمة أخيرة وهي التي اختتمت بها بحثي وهي أن فائدة الرخص والتلفيق ترجع في زمننا الحاضر إلى ما استقر عليه العمل في مختلف البلاد الإسلامية وهي وضع قوانين تعالج موضوعات مختلفة كالقانون المدني، والقانون الجزائي، والقانون التجاري، وهكذا ففائدة البحث ترجع إلى هذه المسألة وإلا فالبحث الفقهي أو الأصولي لن نأتي بجديد فيه، فكل البحوث تقريبًا تلتقي حول المسائل المقررة في كتب الأصول، إنما الجديد في الموضوع هو في هذه الناحية من صياغة القوانين، وموقف علماء المسلمين من هذه الخطوة التي اتخذتها الآن كل البلاد تقريبًا لأنني وجدت في كثير من بعض البلاد الخليجية من يعارض وضع قوانين لأن فيها إلزامًا للقضاة والأصل في القاضي أن يكون مجتهدًا ولا يخضع لرأي أحد، هذه المسألة في الواقع تحتاج إلى كثير من النقاش حتى تستقر الأمور، وجدت في الواقع أنه سبقني إلى هذه الفكرة الشيخ أحمد فرج السنهوري رحمه الله في بحث تقدم به إلى مجمع البحوث، وأنا ما وجدت البحث إنما وجت ملتقطات أو متفرقات نشرت في مجلة الأزهر، وأشرت إلى العديد منها، فقسم الموضوع إلى ثلاثة أقسام: أي الاجتهاد: التلفيق في الاجتهاد والتلفيق في التقليد، والتلفيق في التشريع، ونختصر على الموضوع الأخير وهو التلفيق في التشريع بمعنى أن يتخير ولي الأمر من أقوال مختلف المذاهب لصياغة قانون موحد، كقانون الأحوال الشخصية أو القانون المدني أو القانون التجاري أو القانون الجزائي. ما موقف العلماء من هذه المسألة أو ما موقف الفقه الإسلامي أو الشريعة الإسلامية من هذه المسألة؟(8/409)
فى الواقع مجلة الأحكام العدلية في العهد العثماني أخذت بقدر يسير، يعني المجلة وضعت على وفق المذهب الحنفي، ولكن الذين وضعوا المجلة وجدوا أن الخروج في بعض المسائل على القول الراجح في المذهب الحنفي وأخذوا بالقول المرجوح فيه. كما أنهم أحيانا خرجوا عن المذهب الحنفي وأخذوا مذهب ابن شبرمة فيما يتعلق بالشروط وقالوا: إن ذلك أوفق وأصلح لمصلحة الناس، وفي العصور المتأخرة بدأت لجان بمصر بوضع قانون الأحوال الشخصية خرجت فيها أيضا عن المذهب الحنفي وأخذت في بعض الأقوال بمذهب المالكية خصوصًا فيما يتعلق بتطليق المرأة وبالإعسار وبالإعسار في النفقة، وهكذا ففي الواقع خلاصة الأمر أن الثمرة المرجوة من هذه البحوث؛ من هذا الموضوع، هو هذا وأرجوا أن نتفق على رأي يسهل الأمور للناس ويبعدهم عن العبث وعن المشقة وما إلى ذلك، لأن التقيد بمذهب واحد فيه مشقة وفيه نوع من التضييق على الناس، إن الانتفاع والاستفادة من الفقه الإسلامى كله يحقق المصلحة ويحررنا ويحرر الشعوب الإسلامية الذين ساروا خلف التشريع الوضعي، لأنهم رأوا في بعض الأقوال أو في بعض المسائل ما لا يتفق مع ظروف العصر خصوصًا فيما يتعلق بالمعاملات فلجؤوا إلى الاقتباس أو الأخذ من التشريعات الوضعية، وأنا أجد أن الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة يحقق هذا الغرض ويحمينا من التبعية التشريعية للقوانين الأجنبية وأكتفي بهذا وشكرًا.
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم
نشكر فضيلة الدكتور الزحيلي على هذا البحث القيم، وكذلك إخواني الذين تطرقوا إلى هذا البحث فإنهم قد أجمعوا تقريبًا على هذه الملاحظة التي أريد أن أعرضها على الدكتور وغيره من الباحثين للرخصة جعلوا باب السلم وباب الإيجار والمساقاة وكذلك العرايا جعلوها أنها مستثناة من الرخص، أما العرايا فهذا لا شك في ذلك لأن بيع التمر في رؤوس النخل هذا ممنوع بيعه بتمر آخر إلا أنه استثنى هذا من أجل التفكه وأكل الرطب استثنى من ذلك، وأما موضوع السلم فالسلم هذا جعلوه مستثنى من المانع من بيع المفقود أو المعدوم، وهذا أمر غير وجيه لأن بيع السلم إنما هو بيع موصوف في الذمة والبيع الموصوف بالذمة لا يوصف بأنه معدوم ولا يوصف بأنه موجود؛ وإنما هو أمر موصوف بالذمة والرخصة هي نوع من التخصيص تخصيص للعموم، والمخصص لابد أن يكون متأخرًا عن العموم وعليه أن السلم وبيع السلم سابق للنهي عن بيع المعدوم، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وجد الناس يسلفون في الثمار العام والعامين فقال ((من يسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) معناه أن هذه المعاملة سبقت الإسلام وأن الإسلام أقرها وأنها لم تكن مستثناة من بيع المعدوم، وكذلك أيضا الإيجارات وهي بيع ممنوع ولا نصفها بالعدل وإنما هي مقابل لبيع العيان والذي أحب أنا أن ألاحظ عليه هو بيع السلم لأن من أراد أن يقول إنه بيع معدوم يريد أن يقول إنه على خلاف القياس، والسلم على قياس وهو حكم مستقل وليس مستثنى من بيع المعدوم وكذلك الإيجارات نفسها بيع منافع، أما المساقاة فلا توصف بأنها مشاركة بل هي نوع من المشاركات لأن هذا منه مثلاً النخل ومنه الأرض وهذا منه العمل كالمضاربة شبيهة بالمضاربة وبناء عليه أرى وإن كان الإخوان أجمعوا على نقل العبارات من تلك المراجع إلا أني أرى إعادة النظر في هذا الباب وشكرًا.(8/410)
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أؤكد شكري لبروناي شعبًا وسلطانًا وحكومة وإلى رئاسة المؤتمر وأمانته وإلى فضيلة الباحث والعارض والمتداخلين قبلي وجزاهم الله خيرًا وبعد:
فلي بعض ملحوظات بسيطة:
أولاً: إن بعض أصحاب البحوث قد توسعوا تمامًا في مفهوم الرخص، فمع أن الأصل العزائم والاستثناء رخص، ومع ذلك أدخلوا فيها كثيرًا من الأحكام، فكأن غالب الشريعة رخص، فمثلاً أدخلوا درء الحدود بالشبهات في الرخص حتى إسقاط الحج على غير المستطيع أيضا أدخلوه في باب الرخص مع أن الحج أساسًا لم يجب عليه بل أدخلوا ما أسقط عن هذه الأمة من تكاليف أظن أدخلوها في الرخص، وهكذا توسعت بعض البحوث توسعًا غريبًا.
ثانيًا: نحتاج في تعريف الرخصة إلى تعريف وضوابط دقيقة والتمييز بينها وبين التيسير ورفع الحرج وعدم الغلو في الدين، وأرى بعض البحوث حينما تتحدث عن الرخصة تتحدث عن التيسير وعن رفع الحرج وعن الآيات التي وردت في التيسير ورفع الحرج وعدم الغلو، فحتى لا يقع لبس أو خلط أو غموض لابد أن نحدد التعريف للرخصة والتمييز بين الرخصة وبين هذه المصطلحات التي أرى أن التيسير ورفع الحرج أعم من الرخصة، ولذلك نرى بعض البحوث تدخل في الرخص كل تيسيرات الشريعة وطبعًا لا أريد أن أذكر أصحاب هذه البحوث وهي موجودة بين يدي، مع أن التيسير ورفع الحرج أعم – كما قلنا – من الرخصة.(8/411)
ثالثًا: بعض البحوث قسمت الرخص إلى رخص أو إلى رخصة مؤقتة ورخصة عامة مطردة ورخصة عامة مؤقتة، ثم انتقدت منهج الأصوليين في حصرهم الرخص على النوع الأول، وبالتالي أدخلت هذه البحوث كما تفضل قبلي الشيخ عبد الله أدخلوا السلم والإيجار والمغارسة والمساقاة والجعالة وغيرها حتى من النوع الثاني باعتبارها استثناءات من الأصول وأنها مخالفة لأصل نصوص الشريعة وأنها مستثناة من ممنوع لما فيه من الغرض، وقد تحدث في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله والعلامة ابن القيم، وأشار إلى ذلك فضيلة الشيخ عبد الله فلا حاجة للتفصيل في هذه المسألة فلا بد من التحرير.
رابعًا: عند التحدث عن الرخص لا بد أن يكون الحديث منصبًا على أن الأصل هو العزيمة كما قال فضيلة الدكتور الزحيلي، وكذلك ينبغي التحدث عن قضية الشدائد والتشدد فنحن اليوم إذا كنا نتحدث عن تتبع الرخص فلا بد كذلك أن نتحدث عن من يتتبع الشدائد ويصدر الفتوى ويأخذ كل فتوى شديدة، ومن هنا أيضا لا أن يتبع هذا القرار في قضية الرخص، القرار بأن الفتوى الصحيحة لا يجوز إنكارها لأنني أرى اليوم ظاهرة الهجوم على كل عالم ثقة إن شاء الله يفتي برأي ولا سيما من أنصاف المتعلمين أي المتفيقهين، فلا بد أن يوضع في هذا المجمع الموقر معيار للفتوى الصحيحة، وبالتالى عدم مهاجمة صاحبها.
خامسًا: عند حديثنا عن الرخص لا بد أن لا ننسى موضوع القدوة حيث ذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز الأخذ بالرخص في بعض الأمور لمن هو في محل القدوة مثل حالات الإكراه على الكفر والغش، ويترتب على الأخذ بالرخصة ضياع القدوة والدين فحينئذ لا بد من الأخذ بالعزيمة مثل ما حدث للائحة الذين وقفوا أمام الظلم والطغيان كالإمام أحمد والبهوتي وغيرهما.
سادسًا: بعض البحوث عند حديثها عن الإكراه صرحت بأن النفس مقدمة على الدين، وبهذا الإطراق وهذا الكلام صحيح في مجال الفرد، أما في مجال المجموع والجماعة والأمة فالدين إذا تعرض للخطر فيقدم على الأنفس؛ وما الجهاد فرض إلا لأجل حماية الدين.
سابعًا: وأخيرا في تقسيم الرخصة إلى واجبة ومندوبة ومباحة مسألة خلافية، ولكن الراجح الذي أراه هو أن الرخصة لا تشمل الواجب لأنها حينئذ تصبح عزيمة كما قال بعض الأصوليين.
ثامنًا: عفوًا وليس هذا الأخير لا بد أن نميز عند حديثنا عن التلفيق بين التلفيق عن اجتهاد والتلفيق بدون اجتهاد، وأخيرًا لابد أن ننظر في عصرنا الحاضر إلى أنه عصر حدث فيه تغيرات كثيرة ونبحث عن هذه المتغيرات، وأن الأنظمة الإسلامية اليوم والأحكام الإسلامية لا تطبق في كثير من البلاد، ولذلك إذا أخذ بأي رأي صحيح – حتى ولو كان لواحد من العلماء الثقات ما دام يتفق مع مقاصد الشريعة ويحقق مصلحة حقيقية - رأي مقبول، وشكرًا وجزاكم الله خيرًا.(8/412)
الشيخ عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الهادي الأمين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أنا أميل إلى تقسيم الرخص إلى قسمين فقط، ولا أرى حاجة إلى التقسيمات الكثيرة التي وردت في بعض البحوث، من الرخص ما مرجعه إلى أصل كلي ودليل، وهذه في الحقيقة حكمها حكم العزيمة وهذه الرخص بالتتبع لها حسب ما وردت في الأبحاث هي الرخص الشرعية كالفطر خوف الهلاك، المرض الذي يعجز المكلف عن أداء الصلوات بشكلها الأكمل، ومن أجل هذا قرر الفقهاء وجوب العمل بالرخصة عند الاضطرار وإن لم يكن فإنه يأثم؛ فهذه في الحقيقة ليست رخصة وإنما هي عزيمة كما ذكر البعض هذا النوع هو من الرخص التي تكون في مقابل المشقة التي لا قدرة للمكلف على الصبر عليها بحكم الطبع والعادة.
النوع الثاني: هو الرخص التي للمكلف قدرة على الصبر عليها وتحملها؛ لكن هل المكلف مخير بين هذين أو هاتين الرخصتين بين الأخذ وعدم الأخذ؟ يرجح عندي الثاني وهو الأخذ بالعزيمة، الذي نراه أن الأخذ بالرخصة على الإطلاق كما هو مفهوم في بعض الأبحاث لا يجوز المصير إليه لأنه في الحقيقة يؤدي إلى مفاسد عديدة.
وكما قال الشيخ علي: الناس اليوم لا يحتاجون من يفتح لهم باب الرخص فإن كثيرا منهم يتفلتون من العزائم ويتصيدون الحجج الواهية، فكيف الحال إذا فتح لهم باب الرخص على مصارعه؟ وليس معنى هذا سد باب الرخص والتيسير، فإن الرخص المبنية على الدليل مطلوب الأخذ بها، بل الأخذ بها أفضل من الأخذ بالعزيمة إذا وجدت الحاجة، وقد يكون الأخذ واجبًا إذا كان هناك ضرورة، ولا شك أن التيسير في ذات الوقت من مبادئ ديننا وشريعتنا لقوله تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وينبغي حقيقة في تقديري حصر الرخص في هذا ففيما ورد فيه النص تحصر في ذلك، أما ما كان مبنيًّا على الاجتهاد فينبغي تضييق مجاله ولا يكون إلا لحالات خاصة وظروف خاصة لأن الرخص إنما شرعت بناء على أعذار وظروف وأحوال المكلفين.(8/413)
أخيرًا في تعليق على كلمة الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي حينما قال: في المعاملات يكتفى بأقل المشاق لتشريع الرخص، الذي أراه أن مجال المعاملات هو أخطر أبواب الرخص فينبغي التضييق فيه وعدم الأخذ بأقل المشاق، والواقع العملي يشير إلى خطورة فتح هذا الباب، فعلى سبيل المثال المصارف الإسلامية وإن لم تأخذ بالرخص وإنما أخذت بترجيح بعض أقوال الفقهاء على البعض الآخر وهذا أقوى من الأخذ بالرخص، مع ذلك فإن فتح تلك الأبواب فتحًا أدى إلى إثارة الشبهات، على سبيل المثال: التوسع في بيع المرابحة مثلاً؛ توسعوا فيه من حيث التطبيق إلى أن خرجوا عن كثير من ضوابطه التي وضعها الفقهاء، فما بالنا إذا فتحنا باب الرخص كجانب عملي أرى ان باب الرخص في المعاملات ينبغي أن يكون في أضيق نطاق ولا يكتفى بأقل المشاق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد الوهاب أبو سلمان:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سيدي الرئيس: مع بداية أعمال هذه الدورة المباركة أود أن أستفسر استفسارًا واحدًا وهو وظيفة العارض هل هي عرض لبحثه خاصة أم هي تلخيص للبحوث المقدمة في ذلك؟
الرئيس:
العارض المخصص تغيب الذي هو الشيخ خليل فاضطررنا أن نأخذ أحد الباحثين وإلا فالعارض المفروض أن يعطينا ملخصًا لجميع البحوث، وهذا سيوفر علينا كثيرًا جدًّا، وهو كما تعلمون في دورات سابقة معمول به، ولكن بعض الإخوان يلتزم به والآخر لا يلتزم به فعلى كل حال هذا هو الأصل، نعم، تفضل.
الشيخ عبد الوهاب:
الشيء الثاني: أن كلمة تتبع الرخص، كما يقول علماء الأصول وصف عن التلفيق، فالأخذ بالرخصة من حيث هو أمر مشروع، ولكن عملية التتبع الانتقاء والاختيار هذا هو موضوع الإشكال وليس الأخذ بالرخصة موضوع إشكال فهو معروف وهو من موضوعات الأصولية المكشوفة لكل فقيه. إلا أن العملية عملية تتبع والصياغة وصف كاشف – هو مقصود فهي عملية انتقائية اختيارية وهذا هو الذي حظره العلماء أو هو موضوع نقاش العلماء وشكرًا.(8/414)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
موضوع التلفيق بحث في وقت مبكر منذ سنوات مما يقرب من ربع قرن في مجمع البحوث الإسلامية وقدمت فيه أبحاث ممتازة وصدر فيه قرار وأرجو أن يضم هذا إلى مؤتمرنا هذا بحيث لجنة الصياغة تتطلع على القرار وقد تستفيد منه إن شاء الله.
الأمر الآخر نود أن نفرق بين تتبع الرخص بمعنى تتبع ما يرى المكلف أسهل له وبين الرخص الشرعية المعروفة، فكثير من الأبحاث خلط بين الأمرين، وأعتقد أن الأخذ بالرخصة هذا ليس مجال البحث وإنما مجال البحث هو تتبع ما يرى أنه أسهل له وأيسر، وسيتتبع هذا التلفيق بين المذاهب، وفي هذه الحالة نريد أن يكون قرار المجمع واضحًا بالنسبة لمن يجوز له أن يقوم بهذا، هل هو العامي، لأي مسلم أن يأخذ من هذا المذهب ومن ذاك المذهب لأن هذا يرى أنه أيسر له؟، أم أن العالم الذي يستطيع أن يبحث ويرجح ويصحح ويضعف؟ لابد أن يكون هذا الأمر واضحًا في القرار، بمعنى لما نقول هنا بالنسبة للمجمع مثلاً مؤتمرات علمية لها قوانين، لوضع القوانين للدول الإسلامية يجوز أن نأخذ من المذاهب المختلفة، ويجوز أن نقوم بالتلفيق بين المذاهب، ويجوز أن نأخذ بشيء من الرخص، ما دام هذا يتفق مع الأدلة ومقاصد الشريعة الإسلامية، أما الإنسان الذي لا يستطيع أن ينظر ويجتهد ويبحث ويصحح ويرجع ويضعف مثل هذا الإنسان لا يجوز أبدًا أن نقول له: لك أن تأخذ بالرخص كيفما شئت وأن تأخذ من أي مذهب كما شئت هكذا بغير ضوابط، فأرجو بإذن الله تعالى أن يكون في القرار الضوابط التي تبين متى يجوز تتبع الرخص والتلفيق بين المذاهب والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
أولاً: أشكر الله سبحانه وتعالى أن يسر لهذه البلاد المضيافة هذا الشرف الكريم الذي شرفت به باستضافة هذا الجمع المبارك، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك في موازين أصحاب أهل هذه البلاد وأن يثيبهم على هذا المقام المحمود.(8/415)
الأمر الثاني: كذلك أشكر رئاسة هذا المجمع وأمانته على هذا التيسير المبارك وهذا التنظيم الذي نرجو أن تكون ثمرته الخير الكثير.
في الواقع عندي ثلاث ملاحظات وهي خفيفة؛ إحدى هذه الملاحظات هي في الواقع أنني قرأت بعض البحوث المتعلقة بالرخصة وما يتبعها ويستلزمها من أحكام من التلفيق وغيره ومن ضوابط الرخصة؛ فوجدت أن كثيرًا منهم في الواقع خلط أو لم يعط القول الواضح عن التلفيق، فهو يصف التلفيق بوصف جامع شامل لكنه حينما يتطرق إلى شرح هذا الصنف يتناول أشياء في الواقع ما تكون من التلفيق إلا على سبيل المجاز، فمثلاً يقول: من التلفيق الانتقال من مذهب إلى مذهب، أو من التلفيق أن يأخذ بمسألة إمام غير إمامه في مسألة معينة ليست مركبة، وهذا في الواقع لا يظهر لي أنه من التلفيق، وإنما التلفيق هو في الواقع ما جاء في تعريف فضيلة الدكتور وهبة في الصفحة الرابعة عشرة فهو في الواقع جعل التلفيق هو أن تكون مسألة واحدة ذات أجزاء يأخذ برأي هذا الإمام في هذه الجزئية ويأخذ برأي الإمام الآخر في الجزئية الأخرى وأحد الإمامين لا يقول بكامل هذه الجزئية، فهذا في الواقع - على كل حال - هو التلفيق الذي يظهر لي أنه منطبق على معناه، وأرى ضرورة أن يصاغ تعريف التلفيق بطريقة أو بصيغة جامعة شاملة.
والأمر الثالث: أشكر فضيلة الدكتور وهبة على بحثه القيم إذا كان فيه ملاحظات فلا شك أن الملاحظات هي من باب أن كل عمل بشري لا يخلو من ملاحظات وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه، فهو بحث قيم نلاحظ عليه ملاحظتين:
الملاحظة الأولى: هو في الواقع أنه وصف الفطر لمسافر بأنه خلاف الأولى واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] وفي الواقع هذا الدليل ليس منطبقًا على الفطر أو الصوم في السفر وإنما هو منطبق على الفطر مع الاستطاعة قبل النسخ، والآية تدل على ذلك وحينما يرجع إليها سيجد أن ما ذكرته هو صحيح إن شاء الله.
الملاحظة الثانية: ذكر - جزاه الله خيرًا - أن الضرورة أو الحاجة تنزل منزلة الضرورة للجماعة والفرد أو قال: للعامة والخاصة، وأعتقد أن الخاصة المقصود بها الفرد فإذا سوى هذا في الواقع خلاف ما نعرفه عن علماء رحمهم الله فهم يقولون: إن الحاجة تنزل منزلة الضرورة بالنسبة للجماعة أما الفرد على كل حال، فلا يتصور في حقه أن تكون الحاجة ضرورة له، أو تكون الضرورة حاجة له، بل على كل حال الحاجة حاجة الضرورة، والضرورة ضرورة فيما يتعلق بالفرد، شكر الله لكم.(8/416)
الشيخ خليل:
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: ما قدر الله شاء وفعل، سهرت حتى الفجر في التحضير ولكن حصل ما حصل فأعتذر عن العرض ماذا أفعل.
الرئيس:
خيرًا إن شاء الله.
الشيخ خليل الميس:
فى الحقيقة ومن خلال عرضي للأبحاث كلها توصلت إلى شيء وهو ما قاله الزركشي في قواعده وانتهى إليه، حيث يقول: نقل عن السيوطي عن جماعة كثيرة من العلماء أنهم كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لا سيما العوام الذين لا يتقيدون بمذهب ولا يعرفون قواعده ونصوصه ويقولون: حيث وافق فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به، الحقيقة هل هي قضية بيد العوام أو بيد العلماء؟ ما دامت بيد العلماء فنحن نركن إلى جبل، وهنا من يفتي من؟ هل العامي يفتي نفسه أو أن العامي يستفتي عالمًا؟ إذن ما دام يقول: إن العلماء يفتون العوام خارج نطاق مذاهبهم فإذن القضية مادامت بيد العالم فنحن على اطمئنان، وعقب الشعراني قائلاً: كانوا أي أولئك العلماء لا يأمرون قويا برخصة ولا ضعيفًا بعزيمة وهذا شيء واضح. وقال: تفتي كل أحد بما يناسب حاله ولو لم تفعل أنت به كذلك لأنه هو الذي خوطبت فيه فاعلم، من أجمل ما قيل في هذا الباب "لأنه هو الذي خوطبت فيه فاعلم ذلك واعمل عليه وأفت غيرك بما هو أهله" هذا من جهة، ونجد في نهاية الكلام حقيقة أن الشاطبي رحمه الله هو الذي وقف موقفًا مبرزًا وربما متشددًا؛ ولكن عندما نرى قول الشاطبي في تتبع الرخص الحقيقة هذا الكلام ليس على إطلاقه يقول المنع مطلقًا للإمام الشاطبي، لماذا؟ متى خيرنا المقلدين في المذاهب ينتقون منها أطيبها عندهم؟ الحقيقة نحن نخاطب فقهاء وليس مقلدين، نحن عندما يستفتينا عندما يستفتي المقلد العالم ماذا يفعل؟ هذه الضوابط كأنها في وجه المقلدين حتى لا يتفلتوا من المذاهب ولكن نحن ينبغي أن نحسن الظن بالعلماء أو بالمفتين. يقول: متى خيرنا المقلدين في المذاهب لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق عندهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لقصد الشريعة فلا يصح القول بالتخيير على حال وإن ذلك يؤدي إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها.(8/417)
طبعًا لا يقول أحد من العلماء بهذا، إذن هذه ضوابط في وجه العوام وكأنها للعوام الذين يتتبعون الرخص على كل حال، وعلى هذا النهج يسير ابن القيم فيقول: فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغلو، إذن القول ليس على إطلاقه إنه التشهي وليس من عالم يفعل هذا، وتتبع الغلو؟ وليس من عالم يفعل هذا، كأن هذا الكلام في وجه العامة وكلنا يعلم أن المجتهد يجتهد في الأدلة وأن العامي يجتهد في الرجال، فإذن الذين أوصدوا الباب بالكلية كأني بهم يوصدونه في وجه العوام لا العلماء، إذن هذا الذي قالوه، ولكن العلماء بينوا التلفيق الباطل، قالوا: المحظور أو تتبع الرخص عمدًا هذا واحد.، وقال الغزالي: ليس لأحد أن يأخذ بمذهب المخالف بالتشهي وليس للعامي ... ، وهنا قول الغزالي في الحقيقة واضح، ميز بين فقيه وبين عامي قال: ليس لأحد أن يأخذ بمذهب المخالف بالتشهي وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده،
والثاني: التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم هذا هو.
والثالث: التلفيق الذي يستلزم الرجوع عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده، ومنها كما قالوا كمن يقلد الإمام الشافعي في مسح بعض الرأس، والإمام مالكًا رضي الله عنه في طهارة الكلب في صلاة واحدة. ولكن السؤال: كل من حج ولا أقول اعتمر، هل يمكنه أن يتم حجه ونسكه على مذهب واحد؟ قد يكون الأمر متعذرًا عن ازدحام الناس. في هذا إذن ما دام هناك فتاوى لم نستحدثها، قول يقول به إمام متبع: هل الأخذ به للتيسير على الناس؟ وهذا هو الذي قد وصلت إليه في بحثي في باب المناسك , هل القول بهذا الذي قال به إمام متبع هو تتبع للرخص وتخفيف على عباد الله والله أعلم.(8/418)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك كما تبين من الأبحاث موضوعان: أحدهما: الرخص الشرعية، والثاني: الرخص الفقهية أو المذهبية، أما الرخص الشرعية فلا حرج في الأخذ بها بل هناك تحبيب لذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تأتى عزائمه)) وإن كانت العزائم تزيد في تزكية النفس وفي تحصيل التدين الكامل ومن هنا وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقص الدين لقلة فرص التعبد بسبب ما يطرأ عليهن من أعذار، أم الرخص الفقهية فأريد أن أبين فيها نظرة أظنها إن شاء الله صائبة وهي أن الحكم على أمر بأنه رخصة فقهية أمر نسبي بالنسبة للأئمة المجتهدين، فإذا ذهب معظم المجتهدين إلى تحريم أمر وذهب بعضهم إلى القول بجوازه فإن هذا يعتبر ترخيصًا أو قولاً بأن فيه رخصة، فإذا كان المنفرد عن المجتهدين واحدا ولن يقبل قوله بل رد عليه وشذذ فحينئذ تندرج هذه المسألة في شواذ العلماء، وليس كل خلاف صح معتبرًا إلا خلافا له حظ من النظر وإلا خلافًا إذا كان القائل بالإباحة وبالحل لم يرد عليه ولم يشذذ، فهذا يكون رخصة ويكون ترخيصًا، ويدل على هذا قول الإمام سفيان الثوري: إنما الفقه. الرخصة عن ثبت وأما التشديد فيحسنه كل أحد، أفأعتبر ما يرد عن قول فقيه عدل مقبول؟ القبول رخصة لأنه قال بأن شيئًا من الأمور هو جائز، حين قال غيره بتحريمه، فالرخص الفقهية أمر نسبي بالنسبة للأئمة بحسب اندراج هذا القول في الجواز أو في المنع، والأخذ بالرخص الفقهية إذا كان للأفراد فإنه سائع في حال المشقة لأن المشقة تجلب التيسير، وأما في حال الجماعة فإن الأمر يحتاج إلى ضبط وتنظيم، ويقوم بهذا الإمام والحاكم الذي به وبتصرفاته تناط المصلحة. فإذا وجد المصلحة في الأخذ ببعض هذه الرخص، لأن فيه صلاح عام للناس فذلك له، وليست مراعاة المصلحة دائمًا بالأخذ بما فيه جواز أو حل أو إباحة فقد يكون بالمنع والحظر كما فعل الخليفة الثاني حين أمضى. الطلقات الثلاث ثلاثًا على قائليها لأنه وجد في ذلك المصلحة، فمراعاة المصلحة هي الضابط في الأخذ بالرخص في مجال الجماعة، وأما في مجال الأفراد فهو دفع المشقة ودفع الحرج والله أعلم.(8/419)
المستشار محمد بدر يوسف المنياوي:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
البحوث القيمة التي قدمت لهذه الندوة المباركة فيما يتصل بالتلفيق هي بحوث قيمة تستحق الثناء العطر، ولا أريد أن أكرر شيئًا مما ورد في هذه البحوث مما سبقني إليه السادة الزملاء، وإنما أريد أن أركز على أمر في منتهى الأهمية بالنسبة للتلفيق بين المذاهب، والتلفيق بين آراء الفقهاء هذا الأمر هو ما يتصل بالتشريع. وقد سبقني بالإشارة إلى ذلك الأستاذ الشيخ عبد الله والأستاذ الشيخ علي السالوس وإنما أريد أن أركز بعض الشيء على هذه النقاط، التشريع - كما تعلمون حضراتكم - يختلف عن فتوى العالم أو الجاهل، ذلك لأنه ملزم بالعالم وبالجاهل كليهما، وهو عادة لا يستند إلى قوة الدليل فيقال بين الآراء المختلفة ليختار رأيًا يراه أنه دليل أقوى، وإنما يستند عادة إلى المصلحة.
الأمر الثالث: أن التشريع لا يختص بموضوع دون آخر، وهذا معيار من المعايير التي اتخذتها بعض الأبحاث التي قدمت للتفرقة في الحكم بين موضوع وآخر فباستثناء العبادات يرد التشريع في كافة المسائل المتصلة بحياة الناس وأمورهم، قد يكون اتصال التشريع بهذه الأمور في إحدى صور ثلاث، والصورة الأولى: أن يلفق التشريع بين المذاهب المختلفة في عدة مواضيع وعدة أمور كأن يختار المذهب الشافعي مثلاً نظام المتعة المطلقة، أو يختار من خارج المذاهب الأربعة رأيًا يراه جديرًا بالتطبيق متفقًا مع المصلحة، كأن يختار نظام الوصية الواجبة ليطبقها إلزاميًّا في نظام الميراث أو ما يتصل بنظام الميراث، الصورة الثانية: أن يلفق المشرع بين أمور مختلفة تعتبر متصلة اتصالاً وثيقًا بأمر واحد كما إذا لفق في شروط الزواج فأباح الزواج بغير ولي وبلا شهود وبلا صداق، وهذا ما تطرقت إليه الأبحاث القيمة التي قدمت، وانتهوا فيها إلى آراء بعضها يجيز وبعضها يمنع، والأمر بالنسبة إلى التشريع في حاجة إلى تركيز في هذه النقطة وهل نأخذ بما قاله البعض؟ أتصور بأن هذا الأمر يحتاج منا إلى دراسة حتى نستطيع أن نضمن توصياتنا – بإذن الله – ما يشير إلى جواز هذا أو عدم جوازه.(8/420)
الصورة الثالثة: هي أدق الصور، وهي التلفيق بشرع بين عدة مذاهب أو عدة آراء فقهية، لا أقول في موضوع واحد فحسب، ولكن في صميم هذا الموضوع كأن يختار المشرع رأيًا في التقليد كتطليق الضرر، يأخذه من غير مذهب الأحناف، ثم يبيح إثبات هذا التطليق بطريقة لا يرضاها صاحب لهذا المذهب، تطليق الضرر يراه المالكية، والمالكية لا يجيزون الإثبات في النكاح وأمثاله، بل يجب مرتين. بينما يجيز ذلك الأحناف، فهل إذا أخذنا تشريعيًّا بالتطليق للضرر، وهو أمر لا يقره الأحناف، هل يجوز لنا إثبات هذا التطليق أو هذا الضرر بما يراه الأحناف أم لا؟ هذا الأمر كان محل جدل قضائي في مصر، فاتجهت محاكم النقض في أول الأمر إلى القول بأنه لا يجوز إثبات رأي شخص أو رأي مذهب بطرق مذهب آخر، لأن النتيجة لا تكون مقبولة، إلا أن الأمر استقر بعد ذلك في عدة أحكام قضائية في محكمة النقض، على أن إثبات التطليق للضرر إثبات الضرر الموجب بالموجب للتطليق، أخذا بمذهب المالكية. كما ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع للقانون، وإنما يجوز إثباته بطريق الأحناف. أي أنه يجوز إثبات الضرر الموجب للتطليق استنادًا إلى شهادة رجل وامرأتين، وهذا أمر يحتاج منا للفصل، هل من المستساغ بالنسبة لمثل هذا الموضوع وفي موضوع واحد دقيق بهذا الشكل، هل يجوز إثبات هذا الأمر على خلاف ما يراه صاحب الرأي أم لا؟ أتصور أن الاتجاه للتشريع كما قال من سبقوني، جدير بهذا المجمع، وجدير بأن نهتم به في توصياتنا، ولذلك أتصور أنه من الأفضل أن نضيف إلى التوصيات التي تفضل بذكرها بعض الباحثين وعلى الأخص فضيلة الأستاذ وهبة، أن نضيف إليها توصية تنص على أن التشريع مقيد بعدم الخروج على رأي من يقولون بهذا الرأي والاستناد بالإثبات أو ما اتصل بذلك إلى رأي آخر لا يقره ولا يرضاه، وشكرًا.
الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد، فمع شكري لجميع الإخوة الذين بحثوا هذا الموضوع والذين عقبوا وناقشوا، أريد أن أبدي بعض الملاحظات السريعة، أولاً: هناك ملاحظات جزئية على البحوث، وأنا أنصح بأن من وجد مثل هذه الملاحظات الجزئية أن يكتبها في ورقة وإما أن يسجلها للباحث أو للأمانة العامة مثل ماذكر فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع مثلاً بالاستدلال بقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] في غير موضعه، هذا يجعلنا نعيد كثيرًا ولا يتسع الوقت للكلام عنه في هذه الجلسة والوقت المحدد. ثم أقول بالنسبة للرخصة: أنا أعتقد أن المجمع حينما طلب البحث في مسألة الرخص لم يكن المقصود بالذات هو الرخصة من حيث تكلم عنها الأصوليون وأنواعها إلى آخره فهذا أمر معلوم، إنما الرخصة، أعتقد أن المطلوب في عصرنا، والذي يهتم به المجمع الرخصة في مقابل الشدة كما هو معروف في تراثنا، شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس أي بمعنى التيسير، أعتقد هذا هو المقصود، الأقوال التي فيها نوع من التيسير والترخيص للناس وهو ما أشار إليه الأخ الشيخ عبد الستار، وهو الكلام الذي نقله الإمام النووي في مقدمة مجموع الإمام سفيان بن سعيد الثوري وهو إمام في الحديث أمير المؤمنين في الحديث؛ وهو صاحب مذهب اتبع قرنين من الزمان، وهو أيضا في الورع والزهد، مع هذا يقول: إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد، فالرخصة هنا تعني فعلاً التيسير على الناس، ونحن في عصرنا الحقيقة أحوج ما نكون إلى هذا التيسير.
أخي الشيخ خليل نقل عن الزركشي في قواعده، وإن كانت لي ملاحظة أن يكون الزركشي نقل عن السيوطي لا أدري ولكن السيوطي متأخر عن الزركشي، فالعبارة فيها شيء، إنما المهم مراعاة حال المخاطب ومن يفتي له أو من يجتهد له، ونحن في عصرنا في عصر أحوج ما يكون إلى الترخيص والتيسير لرقة الدين وضعف اليقين والهجمة على الإسلام من كل ناحية، فنحن في حاجة إلى أن نعرض الوجه السمح الميسر، ومن هنا إذا كان هناك قولان متكافئان أو متقاربان أحدهما أحوط والآخر أيسر، بماذا نفتي عموم الناس؟ نفتي عموم الناس بالأيسر، وقد أفتي الشخص القوي بالعزيمة وبالأشد، ولكن الشخص العادي أو عموم الناس وخصوصًا حدثاء العهد بالإسلام، وحدثاء العهد بالتوبة، والأمور الاجتماعية العامة، والأمور التي عمت بها البلوى أعتقد أن الفتوى بالأيسر هي الأولى، وحجتنا في هذا ((أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.))(8/421)
نأتي إلى موضوع التلفيق، وهنا القصد من أمر التلفيق موضوع تتبع الرخص، تتبع الرخص هنا كانوا يعبرون عنه بمتتبع زلات العلماء، ما زل فيه العلماء، ولكل عالم هفوة ولكل جواد كبوة، وكل شيء ثبت أنه زلة وليس له وضع ما، هذا يرفض؛ وهو الذي قالوا فيه: إذا أخذت برأي أهل العراق في النبيذ، وأهل مكة في الصرف، وأهل المدينة في مسألة الأجبار فقد اجتمع فيك الشر كله، ولكن أيضا هناك أحيانا ينفرد بعض العلماء برأي ولكنه موجه معتبر، ما قاله الأخ الشيخ عبد الستار إن الرأي الذي رد عليه وشذذ، هذه مسألة نسبية، آراء الشيخ ابن تيمية رد عليها وشذذت وحوكم من أجلها ودخل السجن من أجلها ورفضت في العالم الإسلامي قرونا، ثم أصبحت هي عماد الفتوى وعماد الأحوال الشخصية في بلاد كثيرة، فهذه أيضا مسألة ليست قاطعة، وإنما الأمر الذي ليس له وجه من الشرع بحال؛ وترده الأدلة الصحيحة الصريحة هو الذي يمكن أن يرد، مسألة التلفيق، أيضا الأخ الدكتور وهبة سمعته يقول: إنه ما من عامي إلا وهو ملفق، أعتقد أن العامي لا يلفق وإنما يلفق له، فأما العامي فمذهبه في الحقيقة مذهب من يفتيه.
التلفيق إذا كان القصد هو كما ذكر في اتباع الهوى فقط وليس هناك وجه شرعي أو اعتبار شرعي ما للأخذ من هذا المذهب ومن هذا المذهب، إنما إذا أخذه بعض العلماء؛ بعض الأخوة في بحوثهم قسموا المجتهدين إلى مجتهد مطلق، ومجتهد مقيد. هناك المجتهد الجزئي، والمجتهد الترجيحي، وأعتقد أن معظمنا يشتغل في هذا الميدان، اجتهاد في مسائل جزئية واجتهاد في مسائل ترجيحية، انتقاء لأقوال بعض العلماء ومحاولة ترجيحها ببعض الاعتبارات، ما موقفنا نحن إذا أخذنا بمذهب ما أو رأي ما لا لاتباع الهوى لكن لأننا نرى هذا أليق بالعصر وأوثق بتحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق؟ كما فعل الإخوة في البنوك الإسلامية حينما أخذوا بمرابحة مما ذكره الإمام الشافعي في الأم، ولكنهم أو كثير منهم أخذوا برأي الإمام مالك في الإنزال في الوعد، أو برأي ابن شبرمة، أو برأي غيره. فأخذوا هنا لا لاتباع الهوى ولكنهم وجدوا أن هذا أصلح وأليق بالناس، وأرفق بالناس وأبعد عن التلاعب بمصالح الناس، فلا أرى في هذا شيئًا، يعني التلفيق الذي ذكره عنه هو عندما يكون التقليد مطلقًا في المذاهب، وأعتقد أننا في حالة مثل هذا المجمع، هذا المجمع لا يوجد فيه من يقول بالتقليد المطلق بل نحن نبحث في كل المسائل التي تعرض علينا من خلال المذاهب المتبوعة، وحتى من خارج المذاهب المتبوعة، هناك مذاهب ليست متبوعة ولكن هناك أقوال الصحابة والتابعين، فنحن من خلال هذا التراث الضخم كله نبحث ونأخذ ببعض المسائل، قد لا تكون موافقة لمذهب ما، وقد توافق بعض المذاهب وليس من الضروري أن توافق رأي الجمهور؛ مذهب الإمام أحمد عنده مسائل انفرد بها، وألفت فيها كتب خاصة ونشرت بمفردات المذهب فلا مانع أن ينفرد مذهب أو ينفرد رأي عن بقية المذاهب والأقوال ويكون فيه الصلاح ويكون فيه الخير للناس، في عصر ما قد يضعف رأي في عصر ويرد عليه ويشذذ، ويأتي عصر آخر يقوي هذا الرأي، كم من أراء في المذاهب كانت مهجورة فشهرت، وكم من أقوال كانت ضعيفة فصححت؛ لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف كما هو معروف، وشكرًا.(8/422)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.
فلقد أفدت كما أفاد كل واحد من الحاضرين بالبحوث التي قدمت من التعمق في تناول هذه الموضوعات، وأعتقد أن القضية تبدأ من هذه النقطة، هو أن المسلمين ينقسمون إلى علماء ومقلدين، وأن العالم أو المقلد كلاهما إنما يعود أو يبحث عن حكم الله حتى يطمئن أنه عبد لله في حياته، يعود العالم إلى الأدلة التي يستنبط منها الأحكام ويعود العامي إلى العالم ليفتيه، وكل ذلك لإخراجه عن داعية هواه إلى أن يكون عبدًا لله في حياته. فإذا كان العالم يعمل بفتواه على إخراج مستفتيه من العبودية لله إلى موافقة هواه، أو أن المقلد يبحث عن طريق للخروج من العبودية لله إلى اتباع هواه فذلك هو الضلال المبين، فإذا رجع المستفتي المقلد إلى العالم فأفتاه، ثم ذهب إلى عالم آخر ليفتيه فأفتاه برأي آخر، ثم إلى ثالث فأفتاه برأي آخر فتخير من هذه الأقوال ماهو أوفق لهواه فذلك هو التقليد أو التلفيق الذي لا يقبل في الشريعة، وهو ما تحدث عنه الشاطبي؛ لأن في الواقع الشاطبي قد وقع عليه الهجوم في هذا اليوم بكثرة وأنه من المشددين، لا أعتقد أن الشاطبي مشدد ولكن ما يقوله الشاطبي يقوله الجميع، وكذلك العالم إذا رجع إلى النصوص التي بين يديه واستروح من أقوال من سبقه، فإذا به ينتهي إلى البحث عما يوافق هوى مستفتيه دون مصلحته ودون المصلحة الأساسية التي جاء من أجلها التشريع، فهذا ما لا يقوله أصلاً، أما أن العالم يخرج عن قول مشهور إلى قول آخر فهذا هو الذي يعبر عنه في ميدان الفقه بالعمل عند القضاة، فالعمل عند القضاة هو ما يتحول فيه الفقه من مشهور أو من راجح إلى نظر في المصلحة التي تطلبها الأوضاع الخاصة في المجتمع في عهده، فإذا حكم به القاضي العادل وحكم به من بعده أصبح من نوع العمل، وقد ألفت العمليات سواء أكانت العملية عامة أم العملية خاصة وخاصة في الفقه المالكي وفي المغرب، يوجد في ذلك التآليف الكثيرة التي تدل على أن للقاضي أن يخرج في أحكامه عما هو معروف وعن المشهور إلى طرق أخرى وأحكام أخرى تحقق للناس مصالحهم، فهنا أعتقد أن القضية ليست هي قضية تخير الهوى ولكنه البحث عن المصلحة، والمصلحة هو أن يكون الإنسان عبدًا لله ومتى خرج المستفتي المقلد أو المفتي العالم عن هذه الدائرة ودائرة تحقيق العبودية لله كاملاً والبحث عن المصلحة الحقيقية من التشريع، فإنه يصبح كلامه أو فتواه أو تلفيقه أو جمعه بين المذاهب مردودًا عليه لأنه اتبع بذلك هواه، والهوى ضال مضلل.(8/423)
ولذا فإني أرجو أن يعود البحث أو يقعد البحث على أساس أنه لا يجوز التلفيق إذا كان هذا التلفيق سببه أو الدافع إليه هو البحث عما يوافق هوى الشخص الباحث، أما إذا كان هذا يحقق المصلحة من صلاح الفرد أو صلاح المجتمع فذلك هو الأصل ولا يعبر عنه بالخروج عن قواعد الكتب وشكرًا.
الشيخ عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.
أتقدم أولاً بالشكر الجزيل لإخوتنا في بروناي لاستضافتهم للدورة الثامنة للمجمع، وثانيًا، مع تقدير لكل البحوث التي قدمت، أود أن أقترح على الرئاسة الكريمة أن يكلف الدكتور الأستاذ خليل بأن يقدم تلخيصًا للبحوث إلى الرئاسة لتدرج في أعمال المجمع، ليست هذه عقوبة له، وإنما هو اقتراح أقدمه لإعداد بعض الملحوظات على ما أورده الإخوة في مناقشاتهم ولا أطيل فيها.
أولاً: إن ذكر أنواع الرخص المتعددة فيما ذكره الأصوليون أنه في رأيي أمر ضروري، ذلك لأننا لا نستطيع أن نتوصل إلى بيان الرأي وخلاصة الرأي في موضوع الرخصة وتتبع الرخص وموضوع التلفيق إلا إذا استعرضنا ما قاله العلماء وما فصله العلماء وما بينوه، فالعلماء الذين فصلوا في أنواع الرخص من حيث الحكم ومن حيث الأداء ومن حيث التخفيف والتيسير إلى الوجوب وعدم الوجوب ورخصة الفعل أو رخصة الترك، وكذلك رخصة الإسقاط أو رخصة الترفق أو ما ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى من أنواع الرخص وإسقاطاتها، هذا كله أمر في رأيي ضروري، وما ذكره علماء الأحناف في أن الرخصة حقيقية أو شبه حقيقية وأن الرخصة مجازية هذا أمر لا بد من بيانه في البحوث، وبهذا أخالف ما ذكره بعض الإخوة في هذا، لأننا نعرف الحكم الشرعي عندما نعرف نوع الرخصة هذه واحدة، والأمر الثاني أن ضوابط الرخص لم يتعرض إليها بعض الإخوان، وقد ذكرت في بحثي بعض هذه الضوابط ملخصة مبينة وإن كان قد تعرض إليها الباحثون بشكل عام.
فأول هذه الضوابط ألا يكون الأخذ بالرخصة لغرض فاسد، ومن هنا جاء منع تتبع الرخص عند جماعة من العلماء لكف الناس عن الجري وراء الأسهل من غير دليل، والأصل أنه يجوز للعامي أن يأخذ من كل مسألة بقول مجتهد هو أخف عليه، لما روي عن عائشة ((عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب ما خف على الناس.))(8/424)
ثانيًا: ألا يجمع بين الرخص على صورة تخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، لأن هذه الصورة على ما أعتقد لم يقبل بها أحد من العلماء.
ثالثًا: ألا يأخذ برخص متناقضة في الأمر الواحد وهو ما تعرض إليه إخواننا العلماء مما ذكروه في أبواب التلفيق من اختلافات الفقهاء في اجتهاداتهم في مسألة واحدة كأن يأخذ بعدم نقض الوضوء بلمس المرأة وهو رأي أبي حنيفة، ويأخذ بعدم نقض الوضوء بنزول الدم، ويأخذ كذلك بنقض الوضوء باللمس إلى آخر ذلك ...
رابعًا: أنا أقول أيضا لا يجوز الأخذ بالأهون من كل مذهب مجتهد، لأن هذا يحل ربقة التكليف عن عنق المكلف، ونقطة أخرى، أنا أفرق بين الاتباع والتقليد، قد لا يكون هذا اصطلاحًا تعرض له العلماء ولكني أرى أن الاتباع هو أخذ رأي المجتهد عن دليل وهذا يكون لعالم أو لمن له اطلاع على آراء الفقهاء وأدلتهم فيأخذ الرأي في هذا، بينما التقليد هو أخذ الرأي بغير دليل، كما هو عند جميع عامة الناس، فالعامي يسأل المفتي ويسأل العالم فيجيب، وكما قالوا: العامي على رأي مفتيه، قد يأخذ في المسألة الواحدة أو في عدة مسائل بآراءٍ كثيرة من الأئمة الذين استفتاهم.
ومن هنا أقول: تقليد العامي جائز، وإذا أخذ برأي أي من هؤلاء العلماء فهو على مذهب فيه، ولو أدى في بعض الأحيان إلى أن يجمع بين آراء مختلفة في الموضوع الواحد، وهذا هو الفرق بين الاتباع والتقليد.
ثم الأخذ بالتلفيق أيضا، أقول: يجوز الأخذ بالتلفيق اتباعًا لمن قال من العلماء للأسباب التالية:
1- لم يثبت نص في رأيي في منع التلفيق، وبحثت لأجد نصًّا فلم أجد نصًّا في ذلك.
2- الذين منعوا التلفيق هم عدد من العلماء المتأخرين والذين أجازوه كذلك فالأخذ بالأيسر لرفع الحرج جائز.
أختم هذه الكلمة بقول لأحد العلماء في التقليد يقول: وحيث لم يقم للمخالف على التقليد بعدم التلفيق استدلال، فاتق الله في تحريم ما دل إطلاق الدليل على أنه حلال، وكن ممن يعرف الرجال بالحق لا ممن يعرف الحق بالرجال، فماذا بعد الحق إلا الضلال. وهي بصوت صاحب القول السديد في أحكام التقليد، وشكرًا.(8/425)
الشيخ إبراهيم بشير الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أولاً: باعتبار أنني آخذ الكلمة لأول مرة فلا بد أن أحيي هذا البلد على استضافته لهذه الدورة شعبًا وحكومة وملكًا، ولا بد لي أيضا أن أعبر عن سروري لتحقيق رؤيتي ولقياي بإخواني الذين اضطررت أن أتغيب عن لقياهم في جلسات سابقة لظروف لا تخفى عليكم، ثانيًا: أود أن أقدم الشكر والتقدير لكل الباحثين الذين أثروا هذا البحث وهذا الموضوع ببحوثهم ودراساتهم، ولكن لي بعض الملاحظات لا بد أن أبديها:
أولاً: إن دين الله كله يسر وكله موافق للفطرة وكله لا حرج فيه، وهو يرفع الإصر والأغلال عن الناس، وحين نتحدث عن الرخص فنحن نتحدث عن الأيسر، ولكن الله سبحانه وتعالى لم يكلف عباده أن يعبدوه بما لا يطيقونه، فالأصل في عزائم هذا الدين أيضا أنها يسر ورفع للحرج عن الناس ومنع للإصر ودفع للأغلال والقيود عنهم، إذن الرخصة هي مزيد من التيسير لظرف استثنائي يخص حالات استثنائية، ولذلك وددت أن ألاحظ هنا هذا المعنى لكي يتأكد أن الأخذ بعزائم هذا الدين هي أيضا يسر وهي أيضا رفع للحرج وهي دفع للإصر والأغلال عن الناس، فهذا الدين موافق للفطرة ويأخذ بما هو معروف وينكر ما هو منكر كما تنكره الفطرة السليمة، وتستحسنه الفطرة السليمة، وهذا المعنى لا بد أن يتأكد كما قال الشيخ السلامي: الأصل في هذا الدين أنه يرى أن الإنسان قد تعبده الله بما هو موافق لفطرته وطبعه، والعبودية من معانيها تهيئة الشيء لما يصلح له، وفي لسان العرب حينما نقول: عبَّد الطريق أو عبَّد الإبل أو عبَّد الفرس: هيأه لما يصلح له. ومن العبودية التي تعبدنا الله بها أن هيأنا لما هو موافق لفطرتنا، ولذلك فإن الأخذ بالعزائم هو الأصل لأنه هو الذي يدفع الإصر والأغلال عن الناس، والترخيص استثنائي لظروف معينة، ولذلك كنت أتمنى حينما يتم الحديث عن تتبع الرخص إنما يقال: إنه هو نوع من البحث عن اليسير من الأمور لظروف تخص تلك الحالات.
كذلك أود أن أعقب على كلمة التلفيق، وهو بالنسبة لي إنما هو اختيار الأيسر، وهو أدخل بموضوع يتصل بالاجتهاد أو الاجتهاد الجزئي أو الترجيحي منه من الحديث عن مجال الرخص، والبحث في نظري يتناول قضية إمكانية الاجتهاد أو الاكتفاء باجتهادات سابقة والترجيح بينها، وقد يتصل بموضوع الإجماع، وهل يجوز لأهل عصر متأخر الخروج عن إجماع عصر سابق لعصره؟ وإذا صح التعبير فيما يتعلق بالترجيح الاجتهادي أو اختيار الأيسر فإنني هنا أقول: إنه اجتهاد، وقد يعتمد على الأدلة، فقد يترجح لدينا أن المهر أثر من آثار العقد، وبالتالى ليس ركنا يبطل العقد، وقد يترجح لدينا القول بعدم اشتراط الولي، وقد قال الفقيه المالكي ابن رشد حينما تحدث عن أدلة الأحناف وأدلة المالكية: أرى أدلتهم أقوى، وقد يترجح لدينا القول بعدم اشتراط الشاهدين، فإذن هنا الأمر يتوقف على اجتهاد وترجيح بين جوانب معينة، وقد يذهب التشريع إلى الأخذ بكل هذه الجوانب، إذن الأمر المهم للمسلمين اليوم هو ما يمكنهم من استقلالهم التشريعي، وهذا المجمع أعتقد أنه حينما بحث هذا الأمر إنما يبحث عن الاستقلال التشريعي لهذه الأمة بعد أن أخذت زمنا من تاريخها تتبع تشريعات ما أنزل الله بها من سلطان، وأدخلتها في متاهات لا أول لها ولا آخر، وإذا صح ذلك فلابد أن ندرك أن البحث يتعلق بأمر هام يهم أمة المسلمين، وكيف يمكنهم العودة إلى تشريعهم بما يوافق مصالحهم، ولكن بقيد أساسي أنه حيث شرع الله فهناك المصلحة وليس العكس، حيث شرع الله فهو الذي يرفع الحرج وييسر أمور الناس.(8/426)
وإذا رأى البعض أنه يستطيع أن يحقق المصالح باجتهاداته الخاصة وبنظراته الخاصة وبتقديراته لظروف معينة وباتباعه لحكم الغلبة لمذاهب الآخرين وأسلمتها وموافقتها وتخريجها على أي وجه فتأكدوا أن هذا هو التأثير وهو الفساد وهو عدم مراعاة المصلحة للمسلمين ولغيرهم. نحن أمة دعوة ولعل هذا التذكير أردت أن أضعه أمام إخواني وشكرًا. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
الشيخ محيي الدين قادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
في هذا الموضوع عدة ملاحظات واستيضاحات:
الإيضاح الأول: أن الرخصة شيء، وأن التيسير هو أصل الرخصة ودليله، قد وقع فيما قرأت من بعض البحوث عن عدم وضوح التفريق بين الدليل والمستدل عليه، فالشريعة مبنية على رفع الحرج والشريعة مبنية على التيسير، هذا أصل من أصول الشريعة، والرخصة: هي الانتقال من صعوبة إلى سهولة لمانع شرعي حدد بالمشقة ومظنة المشقة، وهنا تتفرع المشقة ومظنة المشقة إلى الضرورة والحاجة والإكراه والجهل في بعض المسائل، هذا هو المعروف في تحديد الرخصة.
النقطة الثانية: ربما هي التي أثارت تدخلي وهي قضية الرخص في العقيدة. قضية أن اليسر من عند الله عز وجل في عقيدتنا، هذا صحيح، أم الرخص في العقيدة وهي الانتقال من شيء إلى شيء، فهذا ما لم يمكن أن يعتقده شخص، العقيدة محلها القلب لعل ذلك يرجع إلى ما جاء في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وقد نزلت في سيدنا عمار بن ياسر بعد أن أكرهه أبو جهل على ما أكره عليه بقية الأسرة، لكن الواقع العقيدة موجودة والشكل فقط هو الذي تغير عند النطق بالسب، ولهذا نجد كثيرا من الفقهاء شددوا على قضية الممارسة للعمل ويقولون: الممارسة للعمل الذي يوجب الكفر، وإن مارسه فهو أيضا شكلي، أما العقيدة فلا يمكن الترخيص فيها لأن محلها القلب، فربما يكون الترخيص في العقيدة أيضا يسر كما قلت، هذا من حديث البخاري رضي الله عنه، حديث الأمة السوداء التي أقسم مالكها أن يعتق رقبة مؤمنة، وحار هل هي مؤمنة أم ليست بمؤمنة ((وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال: من أنا؟ فقالت: رسول الله، فقال: أعتقها إنها مؤمنة. هذا يسر.))
قضية الانتقال بالرخصة، على كل لا يوجد أحد من الأئمة لا يقول بالترخيص، وإنما هم يختلفون في الفروع، هل هذه رخصة أو ليست رخصة؟ هي رخصة عند إمام وليست رخصة عند إمام آخر، كشرب الخمر للعطش أجازه البعض ومنعه آخر، فالمانع يرى أنها لا تروي، والمجيز يرى أنها تروي من العطش، فالاختلاف فيه هو تحقيق الهدف، أما النتيجة على تحديد الهدف فهذا جائز، الشيء الذي أريد أن أضيفه هو قضية أن ما تعرضنا إليه من الرخص كان بالنسبة إلى الرخص الفردية، الرخصة التي ينتقل فيها الفرد من صعوبة إلى سهولة.(8/427)
وهنالك نوع من الرخص هو أهم وأكثر وهو الرخص العامة، وقد تعرض سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور إلى ذلك في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية. وقال: هذا النوع من الرخص، وهو الرخص العامة من الفقهاء من احتفل به، والرخص العامة، هي المشكلة التي تعتري مدينة بأسرها أو شعبًا بأسره أو أمة أو إنسانًا وتكون مشكلة عويصة بالنسبة إليها. ومثل لها الشيخ العزيز بمثالين، مثال مأخوذ من المذهب المالكي ومثال مأخوذ من المذهب الحنفي، فالمثال المأخوذ من المذهب المالكي قد وقعت دراسة هذا المشكل في المجمع وهو ما يسمى بالكراء المؤبد وجاء منه بدل الخلو، وقد أفتى به من علماء الأندلس ابن منظور وابن سراج، والمثال المأخوذ من المذهب الحنفي هو أيضا مسألة وقعت دراستها في العام الفائت وهو ما يتعلق ببيع الوفاء الذي ارتآه علماء بخارى وسمرقند عندما حلت مشكلة بمزروعات العنب عندهم ومشكلة الديون، وقضية الرخص العامة هي التي محل حاجة ملحة اليوم من المجتمعات الإسلامية، وأيضا نرى القدماء من قبل أكدوا عليها فيما سمي بالسياسة الشرعية، فقضية السياسة الشرعية والمأمور فيها المفتي بالتوسيع على ولي الأمر وولي الطاعة، إنما هي محل الاهتمام اليوم، وقد أوسع القرافي الكلام في هذه النقطة، كما نقلها ابن فرحون أيضا في التبصرة، وهي عمدة الصحابة في جمعهم للمصحف وبما دونوه من الدواوين وفيما فعلوه من الأمور التي لا تهم فردًا، وإنما تهم المسلمين أجمعين، فهذا نوع من مراعاة المصلحة ومن التيسير على الناس والترخيص.
الذى هو نتيجة الاجتهاد والاستنباط، ولم يقع التعرض إليه فيما اطلعت عليه من البحوث والوقت قصير.
بقيت كلمة وهي التعقيب على جزئية، قد وردت كلمة الاعتماد الصحيح، الفقه كما يعتمد على الحديث الصحيح يعتمد على الحديث الحسن ووقع الاعتماد في بعض المذاهب على الحديث الضعيف فيما إذا صحت طرقه هذه ملاحظة بسيطة تتعلق بأمر جزئي ولكنها هامة، لأننا لو اقتصرنا على الاعتماد على الأحاديث الصحيحة لأضعفنا كثيرًا من الفروع، هذه ملاحظة أردت أن أعقب على الاعتماد على الحديث الصحيح، وجزاكم الله خيرًا.(8/428)
الشيخ مصطفى كمال التارزي:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أشكر كل من تعرض إلى موضوع الرخصة والتدخلات التي وقعت، وبنظرتي أمس إلى كل المواضيع لم أجد في الواقع قضية اعتبار الرخص العامة في الشريعة الإسلامية، وهو ما تعرض إليه الأستاذ قادي، وقد تعرضت إليه بالاعتماد في بحثي المقدم إليكم، ولا فائدة من أن أرجع إلى كله، ولكن أردت أن أقدم له بمقدمة، وهي الرخص العامة المؤقتة لأنها هي الرخص التي وقعت عليها دائمًا، واعتمدت أيضا على كتاب الشيخ ابن عاشور في "مقاصد الشريعة الإسلامية" ولكن أردت أن أبين أنني استطعت أن أستعرض مسائل تسع وقع فيها التعرض إلى المصالح العامة وهي: الكراء المؤبد، وقد اعتمدت فيها فتوى ابن سراج وابن منظور، وبينت أيضا الترخيص في تغيير الحبس الذي يتعطل منفعته تحصيلات للمنفعة بوجه آخر، وقد ذكر الونشريسي في المعيار أشياء كثيرة وفتاوى متعددة في هذا الموضوع، وكذلك أجازوا أن يستغل ناظر الوقف غلات الحبس التي يتعطل عمله فيتحقق بها مصلحة مشابهة، وكذلك أجازوا للناظر أن يصرف من أموال الأحباس لمساجد إذا كانت زائدة على الحاجة في بعض وجوه البر كالتدريس وإعانة طلبة العلم وتحفيظ القرآن العظيم، وأجازوا أيضا بيع عقار الحبس وتعويضه بآخر، وجاء في المعيار للونشريسي وفي نوازل سحنون: لم يجز أصحابنا بيع الحبس إلا دارًا جوار مسجد ليوسع بها ويشترى بثمنها دارًا مثلها تكون حبسًا، وذكرت عدة أنقال عن ابن القاسم وابن رشد وكذلك عن مالك، ورخصوا في معاوضة الحبس للضرورة أيضا والترخيص في بيع الخلو كما تقدم لنا منذ سنتين في مجمع الفقه الإسلامي هنا، وبينت أيضا فتاوى متعددة، وكذلك أيضا الترخيص في بيع الوفاء وقد ذكرنا هذا في السنة الماضية، وإباحة رمي الأسرى المسلمين الذين تترس بهم العدو متى علمنا أن الكف عنهم نتيجته انهزام المسلمين وإيقاف المد الإسلامي، وهذا يعتبره الغزالي من باب الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة لتحقيق مقصد شرعي فيه سلامة الأمة، وهو مدعو إليه من أجل المحافظة على الإسلام وعموم المسلمين.
وقال الغزالي: وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدًا منهم لنجوا، وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليست كلية، إذ يحصل بها هلاك عدد محصور، وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين، وهو المقصود بإباحة رمي أسرى المسلمين. هذه مسائل متعددة ذكرها الشيخ ابن عاشور في مقاصد الشريعة الإسلامية.(8/429)
أردت أن أتعرض إلى جزئية صغيرة لم أسمع إلى شيء منها، وهي قضية إباحة الرخص لرفع الحرج، والمراد برفع الحرج: ما أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال حالاً أو مآلاً، وقد نبه الفقهاء إلى أن المشقة إذا كانت معارضة بما هو أشد منها مما يتعلق بحقوق الله والمصالح العامة فإنه لا يكون حرجًا شرعيًّا بالنظر إلى ما هو أشد منها مما يتعلق بحقوق الله والمصالح العامة فإنه لا يكون حرجًا شرعيًّا بالنظر إلى ما هو أشد منها مما يتعلق بحقوق الله والمصالح العامة فإنه لا يكون حرجًا شرعيًّا بالنظر إلى ما هو أشد منه، وذلك كالجهاد في سبيل الله دفاعًا عن بيضة الإسلام أو نشر الدين لأن الله تعالى لما طلبه وحض عليه أعقبه بنفي الحرج، وذلك في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . فالحرج اللاحق بالمجاهد ليس من الحرج الشرعي الموجب للترخيص نظرًا لسمو غايته وما يترتب عليه من عظيم المصالح في حماية الدين وأهله. فالموضوع طويل جدًّا وقد كتبنا فيه ولكن أردت أن أتكلم عن بعض الأشياء.
فيما يتعلق بالتلفيق بالتشريع، التلفيق بالتشريع، هذا الموضوع قسمه بعض العلماء إلى أقسام ثلاثة: إلى التلفيق بالاجتهاد، ومثلوا له بظهور رأيين، والتلفيق في التقليد والتلفيق في التشريع، مثلوا له بما وقع في المجلة العثمانية، ورأيت في بداية البحث في المجلة العثمانية: أنهم قالوا: هذا البحث بني على فتوى بمذهب أبي حنيفة، وقالوا: قد احتجنا في بعض الأحيان إلى الأخذ بالآراء الضعيفة مثل قضية قول أبي يوسف في الاستصناع واعتبروا إدخال قول أبي يوسف هو من نوع التلفيق في المجلة العثمانية، وكذلك ما صدر في تونس من إصدار مجلة الأحوال الشخصية من المذهبين المالكي والحنفي، وقد اجتمعت لجنة علمية في تونس من علماء المذهبين للاختيار من المذهبين وهو نوع من التلفيق في إبراز المجلة، وما نحن بصدده الآن في هذا المجمع حيث لا نلتزم بمذهب معين ولكننا نختار من المذاهب ما تملي به المصلحة، وما تتحقق به المصلحة واعتباري لهذا أن ما نقوم به الآن هو ما يسمى بالتلفيق في التشريع. وشكرًا لكم والسلام عليكم.(8/430)
الشيخ محمد الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كما ذكر الإخوان نشكر الدولة المضيفة على ما قابلتنا به، فجزاهم الله أحسن الجزاء، لقد تكلمت في بحثي عن النقاط التي وردت في السؤال، وهي الرخصة وأنواعها وضوابط الأخذ بها وتتبع الرخص وحكم التلفيق، والذي أتكلم عنه في هذ الدقائق المعدودة هو الحكم في تتبع الرخص والحكم في التلفيق، لأنه هو لب المسألة، وأقول: إن الرخص على نوعين: نوع ورد في النص ورغب الشارع في اتباعه؛ هذا لا حرج من اتباعه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم برخصة الله التي رخص لكم)) أخرجه مسلم، وقد بينا هذا القسم وأقوال العلماء فيه، ثانيًا: النوع الآخر هو النوع الاجتهادي الذي اجتهد به أحد الأئمة، هذا النوع أكثر العلماء على منعه من غير ضرورة ملحة، حتى حكى بعضهم الإجماع على منعه، فقد نقل ابن عبد البر في كتابة بيان العلم وفضله عن سليمان التميمي أنه قال لخالد بن الحارث: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله، قال أبو عمر بن عبد البر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا، ونقل ابن حزم الإجماع أيضا على أن تتبع الرخص في المذاهب من غير استناد إلى دليل فسق، وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: لا يجوز للمفتي تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق وحرام، ويحرم استفتاء من فعل ذلك فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي من حرج جاز، بل استحب.
ثم قال: وأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجب الله ورسوله من الحق اللازم انتهى.
هذا كله مشار إليه ومشار إلى المراجع.
وقال المحلي في شرحه جمع الجوامع: (والأصح أنه يمنع تتبع الرخص في المذاهب بأن يأخذ من كل منها ما هو الأهون فيما يقع من المسائل، وخالف أبو إسحاق المروزي فجوز ذلك) .
كما أن ابن عبد السلام – بعد أن ذكر حكاية ابن حزم الإجماع على منع تتبع الرخص من المذاهب – قال: لعله محمول على من يتبعها من غير تقليد لمن قال بها أو على الرخص المركبة في الفعل الواحد.
وذكر القرافي أيضا مثل ذلك، فقال: إن الممنوع من تتبع الرخص هو ما كان فيه تلفيق بين مذهبين فأكثر في مسألة واحدة. هذه كلمة قصيرة عن الرخص.
وأما التلفيق فأكثر العلماء على منعه لغير ضرورة حتى حكى بعضهم الإجماع على منعه، قال صاحب الدر المختار: إن الحكم بالقول المرجوح جهل وخرق للإجماع وأما الحكم الملفق باطل بالإجماع، حاشية ابن عابدين. وقال ابن عابدين في حاشيته: مثال ذلك متوضئ سال من بدنه دم ولمس امرأة وصلى، فإن هذه الصلاة ملفقة من مذهب الشافعي والحنفي، والتلفيق باطل وصحته منتفية.(8/431)
ونقل محمد سعيد الباني في عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق: "إن المعتمد عند الشافعية والحنفية والحنابلة عدم جواز التلفيق، لا في العبادة ولا في غيرها، وأن القول بجوازها ضعيف جدًّا، حتى حكى ابن حجر وغيره أنه خلاف الإجماع " وعقب على ذلك فقال: "وأراد بالإجماع اتفاق الأكثر" لكن محمد بن عرفة الدسوقي قال: إن للمالكية طريقتين في التلفيق في العبادة الواحدة، إحداهما طريقة للمصريين، والأخرى للمغاربة ورجحت.
هذا ملخص ما قلت في الموضوع، وهو موجود، إذن نحن الآن إما أن نتبع المذاهب أو نجتهد، إذا كنا تتبع المذاهب فأكثر المذاهب بل جمهور المذاهب وجمهور أقوالهم على منع التلفيق، وكذلك تتبع الرخص، لكن يبدو أن تتبع الرخص أخف من التلفيق، لأن بعض الذين منعوا تتبع الرخص قيدوه بما إذا لم يكن فيه تلفيق، أما التلفيق فيكادون يجمعون، غير ما ذكر ابن عرفة الدسوقي في العبادة أو بعض آخرون، إذن رأيي أن تتبع الرخص وكذلك التلفيق لا يجوز إلا لضرورة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الشيخ الطيب سلامة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أشكر جميع الأخوة الذين سبقونى بإبداء ملاحظاتهم حيال الموضوع، ولي بعض الملاحظات أرجو أن تتسع صدوركم لسماعها، من هذه الملاحظات أن موضوع الرخص كما اقترحته الأمانة العامة علينا مشكورة، من قيام الجميع بالكتابة فيما سمي بموضوع الرخص، وأنا شخصيًّا تتبعت الموضوع كما وضعته الأمانة عنصرًا عنصرًا وتكلمت فيه، ولم أعتقد أني خرجت إلا فيما وضعته من مدخل سميته: مدخل لتأصيل الرخصة في الشريعة الإسلامية وقصدت بهذا ما رأيته بعيني رأسي وما عشته، حتى بين العلماء الجامعيين، من قضية عدم الاعتداد بالرخصة في الشريعة الإسلامية، لو تأملنا اليوم في عالمنا على نطاق الرخصة والترخص والنظر إلى هذا الموضوع من خلال الشريعة الإسلامية لوجدنا الناس منقسمين إلى قسمين متباعدين، قسم منهم هو الذي يشدد على نفسه في الأخذ بالرخصة وكأن الرخصة ليست من الدين، وهذا ما عشته مع أحد الزملاء الجامعيين، كنا في يوم من الأيام في مؤسسة دولية لبعض الواجبات فحان وقت العصر وكاد يخرج وقته ولم نصل الظهر والعصر، كنت أنا على وضوء، وقلت له: نصلي، قال: أنا على غير وضوء، فقلت له: حل المشكل بيدك فتيمم، فقال: الماء موجود، فقلت: إذن توضأ، فقال: كيف أتوضأ وهذا الماء ملك للمؤسسة، لا أقدر على استعماله؛ هذه صورة لمشكل الرخص وهو قائم، الرخصة بالمعنى الشرعي، وهي الرخصة التي ينتقل فيها من حكم العزيمة مع بقاء حكم العزيمة قائم حتى يقدر للرخصة مقدار الضرورة ثم يعود للعزيمة، هذه هي الرخصة الشرعية الحقيقية هذه الرخصة نفسها محل الأخذ في حين نجد من المسلمين في عدة أقطار إسلامية أنهم يستعملون الرخص بتساهل كبير إلى درجة أن ربقة التكليف قد انحلت عندهم ويحتمون بكلمة: "دين الله يسر".(8/432)
فالحقيقة أن البحث في موضوع الرخصة – كما وضعته الأمانة العامة مشكورة – أصل الموضوع أي الرخصة الشرعية الحقيقية التي تحدث عنها الأصوليون ضروري، ولا أعتقد أنه من المعلوم في الدين بالضرورة بدليل أن الغير معلوم لدى عامة الناس، فبحثه من طرف المجمع وخاصة في تأكيد الأخذ بالرخصة، أعتقد أنه ضروري ولا بد منها، وليس خارجًا عن الموضوع، ونحن مهما بلغنا في تقدير الرخصة فالحديث الشريف الذي رواه جابر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الحديث الذي يقص علينا خروج الرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان فصام الناس حتى بلغوا كراع الغميم (اسم لواد أمام عسفان) فصام الناس فبلغه – أي الرسول صلى الله عليه وسلم – أن الناس قد شق عليهم الصيام، فدعا بقدح من الماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون، فأفطر بعض الناس وصام بعض فبلغه أنا ناسًا صاموا، فقال: ((أولئك العصاة)) واستعماله لكلمة العصاة إما عصيان لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قدوتهم في الدين، أو عصاة بمعنى أنهم رفضوا ما منحهم الله تعالى من رحمة وتوسعة، وهو من جور الإنسان بأنه لا يقبل رحمة الله لأنه لم يقبل عطية الله بالعصيان، هذا مما لا شك فيه، هذا الحديث يكاد ينسى وهو حديث صحيح رواه النسائي أي حديث جابر، وهو من أبدع ما تضمنته السنة وفيه توضيح أمور ديننا، ولذلك مثل هذه القضية أعتقد أنه لا يمكن أن نتجاوزها بدعوى أن قضية الرخصة معلومة ولا تبحث، هذا أولاً.
وثانيًا: أن الرخصة التي نتحدث عنها حين نقول تتبع الرخص وحين نقول التلفيق ليست سياسة شرعية، هي الرخصة بمعنى المجاز، يعني الرخصة بمعنى التيسير بمعنى تتبع قول عالم من العلماء أو مفت من المفتين الذي جنح إلى التيسير ويطرح قول الذي شدد حين يظن إطلاق الرخصة، وإطلاق الرخصة له عدة معان، فمن الضرورة أن نبين أن كلمة الرخصة لها عدة معان، من جملة إطلاقات الرخصة أن هناك رخصة عامة ورخصة خاصة، رخصة لأفراد ورخصة للأمة أو للجماعة، المستحدثون من العلماء قد ذكروا أن الرخصة العامة كثيرًا ما غفل عنها الأصوليون والفقهاء في حين أنها جديرة بالرعاية، لأن الأمة اليوم في عصرنا هذا واقعة أمام حاجات تحتاج فيها إلى هذا النوع من الترخيص لأنه آكد، ولأنه أكثر انسجامًا لحاجات العصر.
تتبعت هذا الموضوع ورأيت أن الفرق بين تتبع الرخص وبين التلفيق ما ذهب إليه القرافي في جعل أن تتبع الرخص يكون عادة في مسائل متعددة، ويعني أن تتبع الإنسان المذهب الأيسر في مسألة كذا ثم في مسألة أخرى يتتبع مذهبًا أيسر آخر أو هو نفس المذهب، هنا يرى العلماء أنه لا مانع منه مع التقييد بالضرورة والحاجة وعدم التلاعب أو عدم العبث وحل ربقة التكليف، عدم قصد هذا، في حين أن قضية التلفيق هي الجمع بين الأخذ بعدة مذاهب في مسألة واحدة، كالذي مثلوا له، بأن الإنسان يستطيع أن يجعل من الزنى نكاحًا شرعيًّا، فيعمل على مذهب كذا بدون ولي وعلى مذهب كذا بدون صداق وعلى مذهب كذا بدون شهود، فاختلى بامرأة وزنى بها وقال: إن هذا نكاح شرعي، إذا أدى إلى هذا، وهو ما يسمى بالتلفيق، فهذا مما لا شك محظور وبالإجماع لأنه لا يوجد من يقول بحلية هذا أبدًا من العقلاء فضلاً من المسلمين المؤمنين، نعم قد نكون في التلفيق أو في استعمال التلفيق محتاجين إلى بعض القضايا العامة، لأننا أمام مستجدات وأمام أحداث تتجدد يوميًّا في عصرنا هذا، ولا بد أن نكون مسلمين بمعنى أن يكون ديننا صالحًا ليغطي جميع الأحداث، أي صالحًا لكل زمان ومكان، والدين في حقيقته هو هذا، وإذا وقع خلل في هذا فهو خلل منا، وليس من الدين.(8/433)
أعتقد أن قضية تتبع الرخص في التلفيق، بما أنه سيف ذو حدين كما سمعته أو بما أن فيه مزالق كثيرة، أعتقد هذا أمر يترك للأفراد ولا يجب أن يكون بأيدي جماعة الاجتهاد الجماعي إنما هو اليوم بأيدي المجامع العلمية ومن ضمنها هذا المجمع، حيث إن قضايا التلفيق والعمل بها لا يسمح به إلا إذا أخذ به المجمع، لأن المجمع لا يأخذ بمثل هذا الأمر إلا في المصالح العامة وفي الحاجيات التي يراها ضرورية للأمة.
بالنسبة للتوصيات، تعرضت إلى توصيات كما جاءت الطلبات من المجمع المحترم، وذكرت جملة من التوصيات في بحثي، أرجو أن ينظر إليها بعين الاعتبار، وشكرًا على حسن استماعكم.
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سأختصر بقدر الإمكان - إن شاء الله تعالى - على دقائق معدودات، باعتبار أنني في أول حديث أدلي فيه بدلوي في نقاش علمي وانطلاقا من الحديث الشريف: لم يشكر الله من لم يشكر الناس، أرفع إلى الدولة الكريمة المعطاء في هذا البلد الطيب ملكا وشعبا وحكومة خالص الشكر والتقدير لحسن الوفادة وحفاوة الاستقبال وإلىرئاسة المجمع الموقرة والأمانة العامة للمجمع الكريم كل الاعتراف بالفضل لأهله وللإخوة الباحثين والمقررين والمناقشين مثل ذلك.
لي أربع ملحوظات صغيرة جدا:
الملحوظة الأولى: تدور حول الرخصة أنها كما ذكر الإخوة نوعان: شرعية والأخذ بها مشروع بالاتفاق وفقهية اجتهادية فمختلف فيها ولا مجال للحديث في هذا الاختلاف لأنه قد سبق وأشبع بحثا، والراجح أنها إذا وردت عن ثبت فالأخذ بها مشروع عند الحاجة لكن أزيد هذا شيئا وهو المعيار. ماهو المعيار؟ المعيار في ذلك التوسط بين الإفراط والتفريط بين التشدد والانحلال فالوسط أم الكتاب، وكما ذكر إخوتنا لا شدائد ابن عمر ولا رخص ابن عباس، والضابط الأكثر أهمية في نظري دخولها تحت أصل المشروع هذه الملحوظة الأولى.
والثانية: الاتباع - كما تفضل أخي الأستاذ الدكتور الخياط - مرتبة مقبولة معروفة أثبتها العلامة ابن القيم في كتابه، وهي مرتبة غير التقليد والاجتهاد وهي أخذ الحكم بدليله، فالمتبع وسط بين المجتهد والمقلد وهذا أمر معروف ذكره ابن القيم وأرجو أن يرجع إلى كتابه القيم في ذلك.
الملحوظة الثالثة: والأصل في قضية الإفتاء والرخص الفقهية الاجتهادية في غير التلفيق مراعاة حال المستفتي فقد يصح لفلان ما لا يصح لفلان، وقد يصح في قطر ما لا يصح في قطر آخر، وهذا ما أثبته العلامة ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر، وفي كتابه العظيم أو رسالته العظيمة شرح عقود رسم المفتي فيرجى الرجوع إلى ذلك ففيهما شرح مطول حول قضية مراعاة حال المستفتي حال الإفتاء بالرخص من العلماء للمقلدين.
الملحوظة الرابعة: وهي مسك الختام أن حاجة المعتنين بالشريعة اليوم هي الأخذ بقول إمام مجتهد صح دليله ولا اعتبار بأن تكون من المذاهب الأربعة أو غيرها، بل الشريعة أكبر من ذلك وأوسع وكما قال العلامة ابن القيم في كتابه القيم: الشريعة رحمة كلها وعدل كلها ومصلحة كلها فكل مسألة خرجت عن الرحمة والعدل والمصلحة فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، وهذه ثلاث دقائق بالضبط.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لى ولكم.
الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا بد لي وقد كلفت بتلخيص هذا البحث على عجلة أن أجيب بإجابات سريعة عن بعض الاستفسارات والتعليقات التي تمت، ووجهت إلى بحثي.(8/434)
من هذه التعليقات ما هو عام ومنها ما هو خاص، أما ما يتعلق بالعموميات فأنا أؤيد الإخوة الذين تكلموا في موضوع الحاجة إلى التلفيق في التشريع، وإلى الاهتمام بكل ما يفيد المسلمين في الوقت الحاضر بالأخذ بالتلفيق في القضايا الاجتماعية، وفيما نحتاجه في القضايا الاقتصادية، فهذا أمر ضروري لابد منه، كذلك أيضا من العموميات أنهم ذكروا أن التيسير أعم من الرخصة وأن التيسير هو الدليل، وهذا واضح في أغلب البحوث، ولكن التوسع أيضا في قضية الرخصة فيما ذكره الدكتور القرضاوي من العرض لقضايا درء الحدود وإسقاط الحد، فهذا في الحقيقة لا داعي ولا سبيل إلى إدخاله في الرخصة، كذلك من القضايا العامة أن هناك اختلافًا في التكييف؛ ففقهاؤنا يعرضون لهذه الشريعة حصرا بأن هناك أدلة عامة وهناك أدلة خاصة، وما يعترض بتكييف على آخر عملاً بالقاعدة المتفق عليها لا مشاحة في الاصطلاح، فالحنفية مثلاً عرضوا لتقسيمات الرخصة، وأن نقطة الدليل العام هو عدم جواز بيع المنافع وعدم جواز بيع المعدوم وعدم جواز بيع الشيء بمثله مما فيه ربا أو شبهة الربا، ثم قالوا: إن الأدلة التي وردت في الشرع استثناء من هذه الأدلة هو ما أدخلوها في قضية الرخصة المباحة، فهذه قضية اصطلاح وقضية تكييف للبحث، وإذا اعترض بعض إخوتي على هذا الاصطلاح فقضية مزاجية وقضية لا تخرج عما قرره الأصوليون صراحة وخصوصًا الحنفية في تقسيمات الرخصة، كذلك قضية الفرق بين الأخذ بالرخصة وتتبع الرخصة أيضا هذا ما لم يذكره فقهاؤنا ولا الأصوليون إطلاقًا، وهي أيضا قضية استحسان من بعض الإخوة الكرام، والمراد لا يدفع الإيراد صحيح هذا الكلام، ولكن في الحقيقة الأصوليون حينما يتكلمون عن تتبع الرخصة يقصدون الأمرين معًا، قضية الأخذ بالرخصة وقضية تتبع الرخصة، وذلك إذا كان للتشهي أو للعبث أو للتلهي أو ما شاكل ذلك، فكلام الإخوة الكرام يتفق مع هذا.
أيضًا من العموميات قضية أنه لا مجال في بحث التلفيق لموضوع الانتقال من مذهب إلى مذهب ولا الخروج في بعض الجزئيات إلى مذهب آخر على سبيل التقليد، فهذا في الحقيقة ليس من التلفيق بمكان.(8/435)
أيضًا من العموميات التي تفضل بها الإخوة الكرام بجواري، وهذه قضية الرخصة العامة واستندوا إلى كتاب العلامة الشيخ ابن عاشور في أنه لم يجد أحدًا تكلم في موضوع الرخصة العامة، الحقيقة لا داعي لهذا، فهو مجرد اصطلاح، لا أن نسمي هذا رخصة عامة، هي في الحقيقة مبدأ مقرر عند الفقهاء المالكية، وهو العمل بالمصالح المرسلة، فسواء سمينا ذلك رخصة عامة أو عملاً بالمصالح المرسلة، والدليل على ذلك كل الحوادث التي تفضل بها الإخوة الكرام في هذا الموضوع داخل تحت مصطلح المصالح المرسلة، فسواء سميناها رخصة عامة أو مصالح مرسلة ففقهاؤنا تعرضوا لها بصراحة ولا يمكن أن نغض من شأنهم حينما أدخلوها في جانب ولم يدخولها في جانب آخر، وأنا أميل إلى اصطلاح المالكية أن هذا من قبيل المصالح المرسلة وليس فيما سموه الرخصة العامة.
بقيت هناك جزئيات بعد هذه العموميات، فضيلة الشيخ تقي العثماني قال: إن الحنفية لم يرجحوا جواز الأخذ بالرخصة كما ذكرت، فأرجو أن يعود إلى الجزء الثاني من كتاب مسلم الثبوت الصفحة على الشمال لمحب الله بن عبد الشكور في ص369، يقول: يجوز تتبع الرخص عندنا، نحن الحنفية، وكتاب مسلم الثبوت حجة عند الأصوليين من الحنفية.
كذلك نقطة مشابهة لهذه النقطة أيضا ما اعترض به فضيلة الشيخ ابن منيع وأيده فضيلة الشيخ الدكتور القرضاوي من أن الاحتجاج بجواز الفطر للمسافر الذي لم يتضرر بالصوم أن هذا خلاف الأولى، نص أيضا الشافعية والحنابلة على هذا، والصفحة أيضا على الشمال في شرح الإسنوي في الجزء الأول ص90 قالوا: والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] فكلامي ليس خروجًا عن النص القرآني ولا استدلالاً بغير دليل تقبله علماؤنا بشكل واضح.
أيضًا ما يتعلق بالتقسيمات التي ذكرها بعض الإخوة في استثناء العقود، تكلمت عنها أيضا ما تكلموا به في قضية التلفيق لفتوى العالم، هذا ما ذكره الشيخ خليل هو سليم وهو ما نريده، والحقيقة العامي لا يستطيع أن يفعل شيئًا بدون فتوى العالم، وكلامنا كله منصب للعلماء، العامي إذا كان مبعثرًا وجاهلاً فهو في الحقيقة ملفق من حيث الواقع، وهو ملفق له بدون قصد، لم يقصد هذا المفتي أن يلفق للعامي، بحسب ما يتهيأ له، مرة يجد عالمًا في حي فيسأله عن قضية ثم ينتقل إل حي آخر في نفس المدينة فيجد عالمًا من مذهب آخر فيسأله عن قضية لها صلة بالقضية الأولى فيفتيه، فإذا هو وقع في التلفيق بدون قصده الملفق له، فلذلك التلفيق في الحقيقة كما أشار العلماء هو جائز، لأنه تلفيق ليس في مسألة واحدة، وإنما هو تقليد لكل إمام مذهب في مسألة جزئية غير المسألة الأخرى التي قام بها إمام مذهب آخر. فإذن القضية ليست في مسألة واحدة، وهذا هو الدقة في بيان تحديد معنى التلفيق، فهما مسألتان جزئيتان وإن كان ذلك ضمن عبادة واحدة.(8/436)
كذلك الإخوة الذين قالوا: لا يوجد تعريف للرخصة، أستغرب هذا، يعني كلمة لطيفة، فالحنفية قالوا: الرخصة ما شرع على خلاف الدليل لعذر، أي تعريف أجمع وأدق من هذا التعريف، الذين قالوا: لا توجد تعريفات للرخصة، التعريف للرخصة موجود وواضح وبشكل سليم، وعلماؤنا في غاية الدقة في هذه الموضوعات وإن كان هناك بعض الانتقاد على هذا.
أيضًا ما تفضل به فضيلة الشيخ المختار أن هناك بعض الإخوة تهجموا على الشاطبي، الحقيقة ليس هناك هجوم، الشاطبي قال: الأصل في الرخصة الإباحة، وما عدا ذلك مما سماه بعض العلماء الرخصة قال: هو عمل بالعزيمة، فإذن هذا تكييف، خلاف في التكييف، والقانونيون يقولون: الخلاف في التكييف لا ضرر فيه، أنا أرى هذه القضية تدخل تحت إطار معين، وعالم آخر يراها تحت إطار آخر، وهو كلام العلماء: لا مشاحة في الاصطلاح، فإذن الشاطبي في الحقيقة كان جليًّا في هذا الموضوع وموسعًا، وكتابه الموافقات من أوسع دائرة للعمل بالمصالح في عصرنا الحاضر. فكيف يقول: إن الرخصة غير جائزة، فهذا متناقض يعد متناقضًا مع كتابه برمته، ولذلك الحقيقة: الكل يحترمون الشاطبي ويعترفون بفضله ويقرون بما أدلى به في هذا المجال بحيث لا يتسع لمزيد عليه حينما قال: مناط الأحكام الشرعية المصلحة، هذا أوسع ما وجدته عند العلماء قاطبة، لم أر ذلك لغيره من العلماء، فالمصلحة هي أساس التشريع، فقال: مناط الحكم هو المصلحة، فإذن كيف نقول: إن الشاطبي يشدد في الرخص؟ .
أيضًا ما اعترض أن العمل في المعاملات بأدنى المشاق، الأخ الدكتور عجيل اعترض على هذا، هذه كلمة العز بن عبد السلام، قال: وأما في المعاملات فالعمل بأدنى المشاق مشقة، ولكن عمل المشارب هذا ليس مشقة، فإذن ينبغي أن نضبط قضية المشقة حتى نقول: إن كلام العز بن عبد السلام كلام واضح وسليم ودقيق.
وهناك أمور أخرى تفضلت الرئاسة بضرورة الاختصار نرجئها إلى قرار الصياغة، وشكرًا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من هذه المداولات المباركة يظهر أن الاتجاه العام هو أن ما دار في الرخص الفقهية وفي التلفيق هو على التحقيق الذي لا يصادم نصًّا من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع، وأما الأخذ بالرخص أو بالتفليق للتشهي أو لطلب الأيسر على الناس حتى ولو كان فيه غض طرف عن دليل، فإن الاتجاه العام على عدم تجوير ذلك، مع ما يحيط بهذا الموضوع من ضوابط وشروط أشار إليها فضيلة الشيخ وهبة، وفضيلة الشيخ عبد العزيز الخياط وعدد من الباحثين.(8/437)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله صحبه
قرار رقم: 74 /1 /د8
بشأن
الأخذ بالرخصة وحكمه
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 – 27 يونيه 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "الأخذ بالرخصة وحكمه".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر ما يلي:
1- الرخصة الشرعية: هي ما شرع من الأحكام لعذر، تخفيفًا عن المكلفين، مع قيام السبب الموجب للحكم الأصلي.
ولا خلاف في مشروعية الأخذ بالرخص الشرعية إذا وجدت أسبابها، بشرط التحقق من دواعيها، والاقتصار على مواضعها، مع مراعاة الضوابط الشرعية المقررة للأخذ بها.
2- المراد بالرخص الفقهية: ما جاء من الاجتهادات المذهبية مبيحًا لأمر في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره.
والأخذ برخص الفقهاء، بمعنى اتباع ما هو أخف من أقوالهم، جائز شرعًا بالضوابط الآتية في (البند 4) .
3- الرخص في القضايا العامة تعامل معاملة المسائل الفقهية الأصلية إذا كانت محققة لمصلحة معتبرة شرعًا، وصادرة عن اجتهاد جماعي ممن تتوافر فيهم أهلية الاختيار ويتصفون بالتقوى والأمانة العلمية.
4- لا يجوز الأخذ برخص المذاهب الفقهية لمجرد الهوى، لأن ذلك يؤدي إلى التحلل من التكليف، وإنما يجوز الأخذ بالرخص بمراعاة الضوابط التالية:
أ – أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعًا ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال.
ب – أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة، دفعًا للمشقة سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية.
ج – أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك.
د – ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع الآتي بيانه في (البند 6) .
هـ- ألا يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع.
و– أن تطمئن نفس المترخص للأخذ بالرخصة
5- حقيقة التلفيق في تقليد المذاهب هي أن يأتي المقلد في مسألة واحدة ذات فرعين مترابطين فأكثر بكيفية لا يقول بها مجتهد ممن قلدهم في تلك المسألة.
6- يكون التلفيق ممنوعًا في الأحوال التالية:
أ – إذا أدى إلى الأخذ بالرخص لمجرد الهوى، أو الإخلال بأحد الضوابط المبينة في مسألة الأخذ بالرخص.
ب- إذا أدى إلى نقض حكم القضاء.
ج – إذا أدى إلى نقض ما عمل به تقليدًا في واقعة واحدة.
د – إذا أدى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه.
هـ - إذا أدى إلى حالة مركبة لا يقرها أحد من المجتهدين.
والله أعلم …(8/438)
بيع العربُون
إعداد
فضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد.
فهذا بحث عن: بيع العربون أكتبه لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة، ملتزمًا فيه ببيان ما طلبه المجمع وهو:
1- تعريفه، مشروعيته، حاجة الناس إليه في تعاملهم.
2- أحكامه:
- هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف؟
- هل يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة؟
- هل يجوز العربون في الخدمات، كما في السلع؟
3- مسائل:
- هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية، كالأسهم؟
- هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟
- هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة، أم يجوز عند المواعدة على الشراء؟. وملتزمًا أيضا بقواعد النشر في مجلة المجمع، وأسأل الله أن يوفقني إلى الصواب.
أولاً – تعريف بيع العربون:
العربون والعربان بضم العين، والعربون والعربان بفتح العين والراء، وتبدل العين همزة، أعجمي معرب، يقال: أعرب في بيعه، وعربن إذا أعطى العربون (1) .
وبيع العربون أو العربان الوارد في الحديث والذي يتحدث عنه الفقهاء هو: أن يشتري الرجل السلعة، ويدفع للبائع مبلغًا من المال، على أنه إن أخذ السلعة يكون ذلك المبلغ محسوبًا من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع. وهذا التفسير اتفق عليه جميع الفقهاء.
قال مالك في الموطأ: "وذلك – أي بيع العربان – فيما نرى، والله أعلم، أن يشتري الرجل العبد، أو الوليدة، أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا، أو أكثر من ذلك، أو أقل، على أني إن أخذت السلعة، أو ركبت ما تكاريت منك، فالذي أعطيك هو من ثمن السلعة، أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة، أو كراء الدابة، فما أعطيتك لك باطل بدون شيء (2) .
وقال ابن قدامة: "والعربون في البيع: هو أن يشتري السلعة، فيدفع إلى البائع درهمًا، أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب من الثمن، وإن لم يأخذها، فذلك للبائع" (3) .
وقال المرتضى: "بيع العربون هو دفع الشيء إلى البائع على أنه إن تم البيع فمن الثمن، وإلا فهبة (4) .
وقال الرملي: "بيع العربون أن يشتري سلعة، ويعطيه دراهم مثلاً، وقد وقع الشرط في صلب العقد على أنه إنما أعطاه لتكون من الثمن، إن رضي السلعة، وإلا فهبة (5) .
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح.
(2) الموطأ بهامش المنتقى 4/ 157.
(3) المغني مع شرح الكبير 4/ 289.
(4) البحر الزخار 3 /295.
(5) نهاية المحتاج3/ 459.(8/439)
تكييف بيع العربون:
يتبين من تعريف بيع العربون، أنه بيع يثبت فيه الخيار للمشتري، فإذا أمضى البيع كان العربون جزءًا من الثمن، وإذا رد البيع فقد العربون، فهو خيار شرط يقابله مال في حال الرد، وهذا الخيار للمشتري وحده، أما البائع فإن البيع لازم بالنسبة له، لا يستطيع رده، كما يتبين أيضا أنه خيار غير محدد بزمن.
ثانيًا: مشروعية بيع العربون:
ورد في حكم العربان حديثان: أحدهما ينهى عنه، والآخر يحله.
1- الحديث الذي ينهى عنه هو: يحكى عن مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان)) (1) .
هذا الحديث ضعفه جماعة من رجال الحديث، منهم الإمام أحمد (2) ، وقال النووي عنه: مثل هذا لا يحتج به عند أصحابنا، ولا عند جماهير العلماء (3) .
والضعف يدخل هذا الحديث من وجهين:
الأول: إبهام الثقة الذي روى عنه مالك.
الثاني: رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
فقد ذهب قوم إلى ترك الاحتجاج بها منهم: أبو داود، وابن حبان، وابن عدي، وابن معين في رواية عنه.
قال ابن حبان: إن أراد جده عبد الله، فشعيب لم يلقه، فيكون منقطعًا، وإن أراد محمدًا، فلا صحبة له، فيكون مرسلاً (4) .
قال ابن معين: رواية عمرو عن أبيه عن جده كتاب ووجادة، فمن هنا جاء ضعفه: لأن التصحيف يدخل على الراوي من الصحف: ولذا تجنبها أصحاب الحديث (5) .
وصحح الحديث جماعة، وقالوا عن المطعن الأول: إن سند الحديث، وإن كان ضعيفًا لإبهام الثقة الذي رواه عنه مالك، إلا أن الحديث ذاته صحيح لمعرفة هذه الثقة، فقد قال ابن عبد البر: إنه ابن لهيعة (6) .
__________
(1) الموطأ بهامش المنتقى 4 /157، وقال في منتقى الأخبار: رواه أحمد والنسائي وأبو داود. نيل الأوطار 5/ 162.
(2) المغني مع شرح الكبير 4 /289.
(3) المجموع شرح المهذب 9 /334.
(4) هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. صحيح الترمذي 3 /137.
(5) تدريب الراوي 221، المصدر السابق.
(6) تدريب الراوي 221، وشرح الشيخ أحمد محمد شاكر لمسند الإمام أحمد 11 /13.(8/440)
وقالوا عن المطعن الثاني – رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده – المراد بجده عبد الله الصحابي، لا محمد التابعي، وسماع شعيب عن عبد الله ثابت، وهو الذي رباه لما مات أبوه محمد.
قال في تدريب الراوي: "وذهب آخرون إلى الاحتجاج بها، وهم أكثر المحدثين، وهو الصحيح المختار الذي عليه المحققون من أهل الحديث (1) .
وقد روي حديث النهي عن بيع العربان من طرق أخرى ذكرها الشيخ أحمد محمد شاكر في شرحه لمسند الإمام أحمد (2) .
2- والحديث الذي يحل بيع العربون هو ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم: ((أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأحله)) (3) .
هذا الحديث مرسل، وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى، وهو ضعيف (4) ، وقال ابن رشد: قال أهل الحديث: ذلك غير معروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) . وقال ابن عبد البر: لا يصح ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إجازته (6) .
واضح من هذا أن العمل بحديث عمرو بن شعيب أولى من العمل بحديث زيد ابن أسلم، لأن حديث زيد بن أسلم فيه المقال المذكور، وحديث عمرو بن شعيب ورد من طرق يقوي بعضها بعضًا، ولأنه يتضمن الحظر، وهو أرجح من الإباحة، كما تقرر في الأصول (7) .
__________
(1) تدريب الراوي 221.
(2) شرح الشيخ أحمد محمد شاكر لمسند الإمام أحمد 11 /14 و15 وانظر أيضا نيل الأوطار 5 /162 – 163.
(3) نيل الأوطار 5 /162.
(4) نيل الأوطار 5 /162.
(5) بداية المجتهد 2 /163.
(6) الزرقاني على الموطأ 2 /99.
(7) نيل الأوطار 5/ 163.(8/441)
آراء الفقهاء في حكم بيع العربون:
اختلف الفقهاء في حكم بيع العربون فمنعه الحنفية، والمالكية، والشافعية، والشيعة الزيدية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وروي المنع عن ابن عباس والحسن (1) ، وقال ابن رشد والشوكاني: المنع قول الجمهور (2) . وأجازه الإمام أحمد، وروي الجواز عن عمر وابنه، وعن جماعة من التابعين، منهم مجاهد، وابن سيرين، ونافع بن الحارث (3) ، وزيد بن أسلم (4) .
أدلة المانعين:
استدل المانعون لبيع العربون بما يأتي:
1- حديث النهي عن بيع العربون.
وهذا دليل قوي، لما بيناه من أن هذا الحديث مقبول عند أكثر علماء الحديث.
2- في بيع العربون غرر:
قال ابن رشد الجد: "ومن ذلك – أي من الغرر المنهي عنه – ((نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان)) وقال أيضًا: "الغرر الكثير المانع من صحة العقد يكون في ثلاثة أشياء: أحدهما العقد، والثاني أحد العوضين، والثالث الأجل فيهما، أو في أحدهما، فأما الغرر في العقد، فهو مثل ((نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)) وعن بيع العربان " (5) .
وقال ابن رشد الحفيد: "وإنما صار الجمهور إلى منعه، لأنه من باب الغرر، والمخاطرة، وأكل المال بغير عوض" (6) . وقد ورد التعليل بالغرر، وأكل المال بالباطل، في كثير من كتب المالكية (7) والغرر متحقق في بيع العربون، لأنه بيع مستور العاقبة، لا يدري كل من البائع والمشتري: هل يتم البيع، أم لا؟ وأكل المال بالباطل متحقق فيه، بصورة واضحة، إذا عدل المشتري وباع البائع سلعته بالثمن الذي اتفق به مع المشتري، أو بأكثر منه.
3- فيه شرطان فاسدان: أحدهما شرط كون ما دفعه المشتري للبائع يكون مجانًا، إن اختار ترك السلعة، والثاني شرط الرد على البائع، إذا لم يقع منه الرضا بالبيع (8) .
4- بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، لأن المشتري اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة، فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهمًا" (9) .
__________
(1) المنتقى 4 /157، ونهاية المحتاج 3/ 459، والبحر الزخار 3 /259، والمغني 4 /289 مع الشرح الكبير.
(2) بداية المجتهد 2 /162، ونيل الأوطار 5 /163.
(3) هكذا في بداية المجتهد، وفي المغني 4/ 289 والقرطبي 5 /150: "عبد الحارث".
(4) بداية المجتهد 2/ 289، والقرطبي 5/ 150.
(5) المقدمات الممهدات 1/ 221.
(6) بداية المجتهد 2 /163.
(7) وبالغ القرطبي فقال: إنه من باب بيع القمار، والغرر، والمخاطرة، وأكل المال بالباطل، بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل بإجماع – الجامع لأحكام القرآن 5 /150.
(8) نيل الأوطار 5 /163.
(9) المغني مع الشرح الكبير 4/ 289.(8/442)
أدلة المجوزين:
استدل المجوزون لبيع العربون بما يأتي:
1- حديث زيد بن أسلم (1) .
وفي هذا الحديث المقال الذي ذكرنا، فلا يصح الاحتجاج به.
2- ما روي عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا. قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنه. قال ابن قدامة: "وإنما صار أحمد فيه إلى ما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث … وذكر الخبر ثم قال: فأما إن دفع إليه من قبل البيع درهمًا، وقال: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك، فهذا الدرهم لك، ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدئ وحسب الدرهم من الثمن صح لأن البيع خلا عن الشرط المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه، فيحمل عليه، جمعًا بين فعله، وبين الخبر، وموافقة القياس، والأئمة القائلين بفساد العربون (2) يستفاد من كلام ابن قدامة هذا أنه يرى العمل بحديث النهي عن بيع العربون، ويرى أن المنع هو القياس، ويؤول فعل عمر بما يتفق مع الحديث والقياس.
3- القياس على ما قاله سعيد بن المسيب وابن سيرين، من أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها، ويرد معها شيئًا، فقد قال الإمام أحمد: هذا في معناه.
ذكر ابن قدامة هذا الدليل ولم يعلق عليه (3) ??وسيأتي الحديث عن هذه الصورة، وأنها ليست من بيع العربون.
وإني أرجح المنع لقوة دليله، فإن حديث النهي أكثر رجال الحديث يصححونه، وحديث الجواز أكثرهم يرده، والغرر في بيع العربون متحقق، وأكل المال بالباطل متحقق أيضا في بعض صوره، وما اعتمد عليه المجوزون من أقوال بعض الصحابة والتابعين لا يقوى على معارضة أدلة المانعين.
__________
(1) نيل الأوطار 5 /163، لم يستدل في المغني ولا في المقنع بهذا الحديث.
(2) المغني مع الشرح الكبير 4/ 289.
(3) المغني مع الشرح الكبير 4/ 289.(8/443)
صور من البيع تشتبه ببيع العربون وليست منه:
1- قد يدفع المشتري للبائع مبلغًا من المال، على أنه إن أمضى البيع احتسبه من الثمن، وإن لم يمضه أخذ ما دفعه. البيع بهذه الصورة صحيح لأن الغرر الذي فيه مغتفر. فهو بيع بالخيار قدم فيه جزء من الثمن. قال الباجي: وأما العربان الذي لم ينه عنه، فهو أن يتباع منه ثوبًا أو غيره بالخيار فيدفع إليه بعض الثمن مختومًا عليه، إن كان مما لا يعرف بعينه، على أنه إن رضي البيع كان من الثمن، وإن كره رجع إليه ذلك، لأنه ليس فيه خطر يمنع صحته، وإنما فيه تعيين للثمن أو بعضه (1) وقال الحطاب: قال مالك: "وأما من اشترى شيئًا وأعطى عربانًا على أنه إن رضيه أخذه، وإن سخطه رده، وأخذ عربانه، فلا بأس به " (2) . ولا بد لصحة هذه الصورة من تحديد مدة الخيار، كما هو الشأن في خيار الشرط.
2- قد يدفع طالب الشراء لصاحب السلعة مبلغًا من المال، ويقول له: "لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فما دفعته هو لك، ثم يشتريها منه بعد ذلك بعقد مبتدئ، ويحسب المبلغ الذي دفعه من الثمن (3) . هذا البيع صحيح، والفرق بينه وبين بيع العربون الممنوع، أن البيع هنا خلا من الشرط المفسد، لأن هذه الصورة عبارة عن اتفاقين، الاتفاق الأول ذكر فيه شرط ترك العربون ولكن لم يقترن به العقد، والاتفاق الثاني تم فيه العقد مجردًا عن الشرط. هذا إذا تم البيع، أما إذا لم يتم، فإن صاحب السلعة لا يستحق شيئًا، لأنه يأخذه بغير عوض، ولا يصح جعله عوضًا عن انتظاره وتأخيره البيع من أجل المشتري، لأنه لو كان عوضًا عن ذلك ما جاز جعله من الثمن حال الشراء، ولا يمكن أن يقال: هو عوض عن الانتظار في حالة عدم الشراء، أما في حال الشراء فهو جزء من الثمن، لأن الانتظار بالبيع لا يجوز المعاوضة عنه، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة " (4) . كما يقول ابن قدامة. أما في بيع العربون الممنوع، فإن العقد يفسد، سواء تم البيع أم لم يتم، لأن الشرط فيه اقترن بالعقد فأفسده حتى في الحالة التي يختار فيها المشتري إمضاء العقد.
__________
(1) المنتقى 4 /158.
(2) الحطاب 4 /369.
(3) هذه هي الصورة التي حمل عليها ابن قدامة شراء نافع دار السجن لعمر.
(4) المغني مع الشرح الكبير 4 /289 والعبارة الأخيرة في كلام ابن قدامة قد يفهم منها أن المعاوضة على الانتظار بالبيع تجوز إذا كان الانتظار معلوم المقدار(8/444)
3- قد يشتري شخص سلعة، ثم يتفق مع البائع على أن يردها ومعها شيء من المال. هذه هي الصورة التي قاس عليها الإمام أحمد صورة بيع العربون الممنوع عند الجمهور. قال ابن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئًا (1) . ولا خلاف بين الفقهاء في جواز هذه الصورة، إذا كان البيع الأول نقدًا، أما إذا كان إلى أجل فقد منعه مالك في بعض الحالات، وهي ما إذا كانت الزيادة نقدًا، أو إلى أجل أبعد من الأجل الأول، لأن هذا فيه ذريعة إلى بيع الذهب بالذهب إلى أجل، وإلى بيع ذهب وعرض بذهب، لأن المشتري يدفع الزيادة والسلعة في الثمن الذي عليه، هذا إذا كان الثمن ذهبًا. وفيه أيضا بيع وسلف، لأن المشتري إذا كان قد اشترى السلعة بمئة مثلاً إلى أجل، ثم اتفق على أن يرد للبائع السلعة ومعها عشرة، فإن المسألة تؤول إلى أن المشتري باع السلعة بتسعين وأسلف البائع عشرة إلى الأجل الذي اتفقا عليه في البيع الأول، وعندئذ يقبضها من نفسه لنفسه وأجاز الشافعي هذه الإقالة مطلقا، لأنها عنده شراء مستأنف، لا فرق بينها وبين ما إذا كان لرجل على آخر مائة مؤجلة فاشترى منه سلعة بتسعين، وعجل له العشرة، وهذا جائز بإجماع، ولم يذهب الشافعي إلى ما ذهب إليه مالك من سد الذريعة، لأنه يرى أن حمل الناس على التهم لا يجوز (2) . ورأي الشافعي أولى بالاتباع في هذه المسألة، فإن المالكية بالغوا في سد الذريعة هنا مبالغة غير مقبولة. وقياس بيع العربون على هذه الصورة غير مقبول، لأن هذه الصورة هي إقالة للبيع، وهي شراء مستأنف، ولا مانع من أن يشتري شخص سلعة بمئة نقدًا، ثم يبيعها لمن اشتراها منه بتسعين نقدًا.
4- قد يشتري الرجل سلعة إلى أجل، ثم يتقايل المتعاقدان على أن يدفع البائع للمشتري شيئًا من المال. قال مالك في الرجل يبتاع العبد أو الوليدة بمئة دينار إلى أجل، ثم يندم البائع، فيسأل المبتاع أن يقيله بعشرة يدفعها إليه نقدًا، أو إلى أجل، ويمحو عنه المئة دينار، قال مالك: لا بأس بذلك. وهذه المسألة لا خلاف في جوازها، لأن هذه إقالة، "والإقالة إذا دخلتها الزيادة أو النقصان تكون بيعًا مستأنفًا، ولا حرج في أن يبيع الإنسان الشيء بثمن، ثم يشتريه بأكثر منه" (3) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 4/ 289.
(2) بداية المجتهد 2 /141.
(3) بداية المجتهد 2 /141، والمنتقى 4/ 164.(8/445)
العربون في قوانين البلاد العربية:
أولاً: العربون في القانون المصري:
تنص المادة 103 من القانون المدني على ما يأتي:
1- دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه، إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك.
2- فإذا عدل من دفع العربون فقد، وإذا عدل من قبضه رد ضعفه، هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر.
فالقانون المصري اعتبر دفع العربون في حالة عدم الاتفاق دليلاً على ثبوت حق العدول لكل من المتعاقدين، ولكنه عدول بمقابل، هو قدر العربون، فإذا استعمل المشتري في عقد البيع حقه في العدول وجب عليه ترك العربون، وإذا استعمل البائع حقه في العدول وجب عليه رد العربون للمشتري ومعه مثله، من غير نظر إلى مقدار الضرر الذي يصيب أحد الطرفين من جراء عدول الطرف الآخر. وجاءت بعض قوانين البلاد العربية مطابقة للقانون المصري (1) .
ثانيًا: العربون في القانون العراقي:
تنص المادة 92 من القانون المدني العراقي على ما يأتي:
1- يعتبر دفع العربون دليلاً على أن العقد أصبح باتًّا، لا يجوز العدول عنه، إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك.
2- فإذا اتفق المتعاقدان على أن العربون جزاء للعدول عن العقد، كان لكل منهما حق العدول، فإن عدل من دفع العربون وجب عليه تركه، وإن عدل من قبضه رده مضاعفًا.
فالقانون العراقي يرى أن العربون في حالة عدم الاتفاق، يكون جزءًا من الثمن، وإن دفعه دليل على أن العقد أصبح باتًّا لا خيار فيه، فإذا تخلف أحد المتعاقدين عن تنفيذ العقد كان للطرف الآخر إجباره على التنفيذ، كما له أن يطلب فسخ العقد مع التعويض، ولكن لا مانع من أن يتفق المتعاقدان على أن لكل منهما حق العدول على النحو الذي ورد في الفقرة الثانية.
والفرق بين القانون المصري والقانون العراقي هو أن القانون المصري يجعل دفع العربون في حالة عدم الاتفاق دليلاً على أن لكل من المتعاقدين حق العدول، والقانون العراقي يجعل دفع العربون في حالة عدم الاتفاق دليلاً على أن العقد أصبح باتًّا لا يجوز العدول عنه، إلا بالاتفاق بين الطرفين.
وكل من القانون المصري والقانون العراقي متأثر بالقوانين الغربية، يقول الدكتور السنهوري: "وقد انقسمت القوانين الأجنبية بين هاتين الدلالتين: فالقوانين اللاتينية بوجه عام تأخذ بدلالة العدول، أما القوانين الجرمانية فتأخذ بدلالة البت، وغني عن البيان أن كلتا الدلالتين قابلة لإثبات العكس، فإذا تبين من اتفاق المتعاقدين، أو من الظروف أن المقصود من العربون هو غير ما يؤخذ من دلالته المفروضة، وجب الوقوف عند ما أراده المتعاقدان" (2) .
__________
(1) مصادر الحق في الفقه الإسلامي 2 /93.
(2) مصادر الحق 2 /99 و101 و102.(8/446)
والقانون المدني الأردني، مع أن أحكامه مستمدة من الفقه الإسلامي، فقد تبع في هذه المسألة القانون المصري، ونصت المادة 107 منه على الآتي:
1- دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه، إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك.
2- فإذا عدل من دفع العربون فقده، وإذا عدل من قبضه رده ومثله.
وقد حاول كل من الدكتور السنهوري (1) وواضع المذكرة الإيضاحية للقانون الأردني (2) تأصيل المادة من الفقه الإسلامي.
ومشروع قانون المعاملات المالية العربي الموحد، الذي يستمد أحكامه من الفقه الإسلامي أيضًا، تنص المادة 158 منه على الآتي:
دفع العربون المتفق عليه في العقد يفيد أن دافعه مخير بين البقاء على عقده، والعدول عنه، فإذا لم يعدل كان العربون جزءًا مقدمًا من العوض الذي التزم به في العقد، وإن عدل أصبح العربون حقًّا لقابضه مقابل العدول، ما لم ينص على خلاف ذلك.
إن هذه المادة، لو لم ترد فيها عبارة: "ما لم ينص على خلاف ذلك" لقلنا أنها مأخوذة من مذهب الإمام أحمد، لكن ورود هذه العبارة في آخرها يجعلها لا تختلف عن نصوص القوانين العربية التي ذكرتها، وتبعدها عن مذهب الإمام أحمد، لأن هذه العبارة تجيز للعاقدين أن يتفقا على أن يكون العدول حقًّا للطرفين على نحو ما تقرره تلك القوانين، والإمام أحمد لا يقول بها.
ولعل القانون الوحيد في قوانين البلاد العربية الذي أخذ برأي الجمهور في منع العربون، هو قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 (السوداني) فقد نصت المادة (47) منه على الآتي:
لا يجوز دفع العربون ولا استلامه، ومع ذلك إذا قضت المحكمة بنشوء العقد يعتبر كل مبلغ مدفوع جزءًا من المقابل، ولها أن تقضي بأي تعويض تراه عادلاً نظير أي إخلال بالعقد.
ثالثًا: حاجة الناس إلى العربون في تعاملهم:
لا أجد حاجة عامة أو خاصة للتعامل بالعربون، تجعل التعامل به جائزًا، ولو كانت هنالك حاجة فإنها غير متعينة، ,غير معتبرة.
غير متعينة؛ لأن في البيع مع خيار الشرط بشروطه الشرعية غنى عنه. وغير معتبرة؛ لأن الشارع نهى عنه في حديث عمرو بن شعيب الذي صححه أكثر المحدثين.
رابعًا: مسائل تتعلق ببيع العربون:
طلب ممن يكتبون في "بيع العربون " الإجابة عن ست مسائل هي:
1- هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف؟
__________
(1) مصادر الحق 2 /99 و101 و102.
(2) المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني 1 /116(8/447)
قلنا في تكييف بيع العربون أنه يتضمن خيار شرط للمشتري بمقابل في حالة رد المبيع، وبيع النقد بجنسه، والصرف لا يجوز فيهما خيار الشرط، ولو كان بغير مقابل عند الأئمة الأربعة، يقول الكمال بن الهمام في الكلام عن الصرف: "وشرطه التقابض للبدلين قبل الافتراق، وإن اختلف الجنس ولهذا لم يصح فيه أجل، ولا خيار شرط، لأن خيار الشرط يمنع ثبوت الملك أو تمامه على الرأيين منهم، وذلك يخل بالقبض المشروط، وهو القبض الذي يحصل به التعيين (1) . وجاء في المدونة: قلت لابن القاسم هل يجوز مالك الخيار في الصرف؟ قال: لا (2) . وقال الشيرازي: "ويجوز شرط خيار ثلاثة أيام في البيوع التي لا ربا فيها، فأما البيوع التي فيها الربا، وهي الصرف وبيع الطعام بالطعام، فلا يجوز فيها شرط الخيار، لأنه لا يجوز أن يتفرقا قبل إتمام البيع، ولهذا لا يجوز أن يتفرقا إلا عن قبض العوضين، فلو جوزنا شرط الخيار لتفرقا ولم يتم البيع بينهما (3) وقال في المقنع: لا يثبت – خيار الشرط – إلا في البيع … قال في الحاشية: ويستثنى منه ما يشترط فيه القبض لصحته كالصرف والسلم (4) .
وإذا كان الصرف لا يجوز فيه خيار الشرط، فإنه لا يجوز فيه العربون من باب أولى، لا على رأي من يمنع بيع العربون، ولا على رأي من يجوزه أما على رأي من يمنعه فالأمر ظاهر، لأن الصرف بيع، والبيع لا يجوز فيه العربون، ولو لم يكن مما يشترط فيه التقابض، وأما على رأي من يجوز بيع العربون، فلأن بيع العربون فيه خيار شرط، وخيار الشرط لا يجوز في العقد الذي يشترط فيه التقابض، والصرف يشترط فيه التقابض، فلا يجوز فيه خيار الشرط، ولا العربون.
2- هل يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة؟
هذه المعاملة المسؤول عنها لا تدخل في بيع العربون المعروف في الفقه الإسلامي، الذي اختلف الفقهاء في حكمه، فمنعه الأئمة الثلاثة، وجوزه الإمام أحمد، لأن بيع العربون الذي أجازه الإمام أحمد يكون العربون فيه مسحوبًا من الثمن، إذا أخذ المشتري السلعة، والمعاملة المسؤول عن حكمها يكون فيها العربون مستقلا عن الثمن، وصورة هذه المعاملة فيما يظهر لي هي: أن يشتري شخص من آخر سلعة بألف ريال، على أن يكون له الخيار مدة معلومة، مقابل مئة ريال، يدفعها للبائع، سواء أخذ السلعة بالألف، أم ترك البيع، إذا كان هذا التصوير للمعاملة هو المراد، فإنها تكون من بيع الاختيار الذي أصدر مجمع الفقه الإسلامي فيه قرارًا بعدم الجواز في دورة مؤتمره السابع.
هذا وقد ذكر الدسوقي من صور بيع العربون الممنوعة "قول البائع للمشتري: لا أبيعك السلعة إلا إذا أعطيتني دينارًا آخذه مطلقًا سواء أخذت السلعة أو كرهت أخذها" (5) .
__________
(1) فتح القدير 5 /367، وانظر أيضا بدائع الصنائع 5 /219.
(2) المدونة الكبرى 10 /21.
(3) المهذب 1 /258.
(4) المقنع 2 /36.
(5) الدسوقي على الشرح الكبير 3 /63.(8/448)
3- هل يجوز العربون في الخدمات كما في السلع؟
العربون لا يجوز في جميع العقود عند من يمنعه في البيع، يقول الدسوقي: " بيع العربان يجري في البيع والإجارة، لا في البيع فقط، كما هو ظاهر المصنف، والظاهر منعه في جميع العقود، لأنه من أكل أموال الناس بالباطل (1) . أما في مذهب الحنابلة المجوزين لبيع العربون، فقد قال محشي المقنع " وحكم الإجارة كالبيع " ذكره في الوجيز والفروع (2) ولم يذكر ابن قدامة الإجارة، وقال بعد ما أورد رأي المانعين لبيع العربون: "وهذا هو القياس، وإنما صار أحمد فيه إلى ما روي عن نافع بن عبد الحارث … (3) ، ولهذا فإني أرى قصر جواز العربون في مذهب الحنابلة على ما نص عليه فقهاؤهم، وهو البيع والإجارة.
4- هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية كالأسهم؟
لا يجوز على رأي الجمهور العربون في شراء الأوراق المالية كالأسهم، لأنها لا تخرج عن كونها بيعًا، وبيع العربون لا يجوز عندهم. ويجوز على رأي الحنابلة إذا كانت الأوراق مما يجوز شراؤه.
5- هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟
لا يختلف حكم العربون في بيع المرابحة عنه في بيع المساومة فكلاهما بيع، فمن يمنع العربون في بيع المساومة يمنعه في بيع المرابحة، ومن يجوزه في بيع المساومة، يجوزه في بيع المرابحة، ولا خصوصية لبيع المرابحة في منع العربون، وجوازه.
6- هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة، أم يجوز عند المواعدة على الشراء؟
يبدو لي أن المقصود بهذا السؤال هو معرفة حكم العربون في بيع المرابحة للآمر بالشراء، وليس المقصود منه معرفة حكمه في بيع العين الغائبة، المملوكة للبائع، كما يتبادر إلى الذهن من عبارة: "أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة " لأن بيع العين الغائبة ليس فيه مواعدة؛ إنما المواعدة في بيع المرابحة للآمر بالشراء.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 /63.
(2) حاشية المقنع 2 /31.
(3) المغني مع الشرح الكبير 4 /289.(8/449)
إذا كان هذا الذي بدا لي هو المقصود فإن حكم العربون يختلف باختلاف المرحلة التي يدفع فيها، في بيع المرابحة للآمر بالشراء، لأن هذا البيع يتم على مرحلتين: الأولى مرحلة المواعدة، والثانية مرحلة إبرام عقد البيع. فإذا كان دفع العربون في المرحلة الثانية، أي مشروطًا في عقد البيع، فإن حكمه هو ما بيناه في مشروعية العربون، المنع عند الأئمة الثلاثة، والجواز عند الإمام أحمد.
وإذا كان دفع العربون في المرحلة الأولى، مرحلة المواعدة، فإن أخذنا برأي القائلين بالإلزام في المواعدة، فإن الحكم لا يختلف عنه في مرحلة البيع، لأن المواعدة الملزمة عقد في الواقع.
وإن أخذنا برأي القائلين بعدم إلزام المواعدة – وهو ما قرره مجمع الفقه – فإن العربون بمعناه الفقهي الذي بيناه لا يمكن تصوره فيها، لأن العربون لا يكون إلا في عقد لازم، كالبيع والإجارة، والمواعدة غير اللازمة ليست بيعًا، ولا عقدًا، وإنما هي وعد من الآمر بالشراء غير ملزم له، فهو بالخيار إن شاء اشترى، وإن شاء ترك من غير أن يدفع عربونًا، فإذا شرط البائع على الآمر بالشراء أن يدفع له عربونًا، ويفقد هذا العربون إذا ترك الشراء فإن هذا يكون تناقضًا مع كون الوعد غير ملزم.
والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(8/450)
ملخص البحث
بيع العربون المعروف في الفقه الإسلامي هو أن يشتري الرجل السلعة، ويدفع للبائع مبلغًا من المال، على أنه إن أخذ السلعة يكون ذلك المبلغ محسوبًا من الثمن، وإن تركها، فالمبلغ للبائع. وتكييف بيع العربون على هذا هو أنه بيع يثبت فيه الخيار للمشتري، فإذا أمضى البيع، كان العربون جزءًا من الثمن، وإذا رد البيع فقد العربون، فهو خيار شرط، يقابله مال في حالة الرد، وهذا الخيار للمشتري وحده، أما البائع، فإن البيع لازم بالنسبة له، لا يستطيع رده، وهذا الخيار غير محدد بمدة. وقد ورد في بيع العربون حديثان: أحدهما ينهى عنه، والآخر يحله، وفي كل من الحديثين مقال: غير أن الحديث الذي ينهى عنه أكثر رجال الحديث يصححونه، والحديث الذي يحله أكثرهم يردونه.
وقد اختلف الفقهاء في حكم بيع العربون، فمنعه الجمهور، منهم الحنفية والمالكية والشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وأجازه الإمام أحمد، واستدل الجمهور على المنع بحديث عمرو بن شعيب الذي ينهى عن بيع العربان، وبأن في بيع العربون غررًا، واستدل الإمام أحمد بما روي عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر، وإلا فله كذا وكذا، وبالقياس على ما قاله سعيد بن المسيب وابن سيرين من أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها، ويرد معها شيئًا.
وقد ذكر الفقهاء صورًا تشتبه ببيع العربون، وليست منه، ومنها: أن يدفع المشتري للبائع مبلغًا من المال، على أنه إن أمضى البيع احتسبه من الثمن، وإن لم يمضه أخذ ما دفعه؛ البيع بهذه الصورة صحيح باتفاق. ومنها: أن يدفع طالب الشراء لصاحب السلعة مبلغًا من المال، ويقول له: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فما دفعته هو لك، ثم يشتريها منه بعد ذلك بعقد مبتدئ، ويحسب المبلغ الذي دفعه من الثمن. هذا البيع صحيح أيضًا، إذا تم البيع، وإذا لم يتم لا يستحق صاحب السلعة شيئًا. ومنها أن يشتري شخص سلعة ثم يتفق مع البائع على أن يردها ومعها شيء من المال.
هذه الصورة صحيحة، وهي التي قاس عليها أحمد صورة بيع العربون الممنوع عند الجمهور، والقياس غير مقبول عند المانعين لبيع العربون، لأن هذه الصورة هي شراء مستأنف، ولا مانع من أن يشتري شخص سلعة بمئة نقدًا، ثم يبيعها لمن اشتراها منه بتسعين نقدًا، ومنها أن يشتري الرجل سلعة إلى أجل، ثم يتقايل المتعاقدان على أن يدفع البائع للمشتري شيئًا من المال.
وهذه المعاملة لا خلاف في جوازها، لأنها بيع مستأنف، ولا مانع من أن يبيع الإنسان الشيء بثمن إلى أجل ثم يشتريه بأكثر منه.
هذا وقد جوزت قوانين البلاد العربية – ما عدا القانون السوداني – دفع العربون بالصورة الممنوعة عند الجمهور، وذهب بعضها إلى أبعد من هذه الصورة، فجعل دفع العربون في العقد من غير اتفاق بين المتعاقدين دليلاً على أن لكل من المتعاقدين العدول عن العقد، فإذا عدل من دفع العربون فقده، وإذا عدل عن قبضه رد ضعفه.(8/451)
ورأي الجمهور أَولى بالاتباع عندي، لقوة دليله، أما الجواب عن ست مسائل فهو:
1- لا يجوز العربون في بيع النقد بجنسه، ولا يجوز في الصرف على رأي الأئمة الأربعة، لامتناع خيار الشرط فيهما.
2- إذا جعل العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة، فإنه لا يدخل في بيع العربون المعروف في الفقه الإسلامي، ويدخل في بيع الاختيار الذي أصدر مجمع الفقه فيه قرارًا بعدم الجواز في دورة مؤتمره السابع.
3- لا يجوز العربون في جميع العقود عند الجمهور، ونص الإمام أحمد على جوازه في البيع، وألحق بعض فقهاء الحنابلة الإجارة بالبيع، والظاهر أن مذهب الحنابلة لا يقبل التوسع في الجواز، لأن القياس عندهم هو منع العربون في البيع.
4- لا يجوز على رأي الجمهور العربون في شراء الأوراق المالية، لأنها لا تخرج عن كونها بيعًا، ويجوز عند الحنابلة بشرط أن تكون الأوراق المالية مما يجوز شراؤه.
5- لا يختلف حكم العربون في بيع المرابحة عنه في بيع المساومة، ولا خصوصية لبيع المرابحة في منع العربون أو جوازه.
6- في بيع المرابحة للآمر بالشراء، إذا كان دفع العربون في المرحلة الثانية، أي في مرحلة البيع، فإنه لا يجوز عند الجمهور، ويجوز عند الإمام أحمد، أما إذا كان في المرحلة الأولى، أي في مرحلة المواعدة، فإنه لا يجوز عند الأئمة الأربعة، بل لا يتصور، لأن العربون لا يكون إلا في عقد لازم كالبيع، والمواعدة ليست بيعًا، ولا عقدًا لازمًا عند الجميع.(8/452)
القرار المقترح
الاقتراح الأول:
هذا الاقتراح مبني على رأي الجمهور المانع لبيع العربون، وهو الرأي الذي رجحته. لا يجوز بيع العربون، ويفسخ إن وقع، ويرد للمشتري عربونه إذا لم يتم البيع، ويفسخ أيضا إذا تم البيع، وكان المبيع قائمًا، فإن فات مضى بقيمته، ويحسب العربون من القيمة.
الاقتراح الثاني:
هذا الاقتراح مبني على رأي الإمام أحمد لبيع العربون، يجوز بيع العربون. ويحتسب العربون من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا لم يتم.
الاقتراح الثالث:
هذا الاقتراح مبني على رأي الإمام أحمد أيضا مع تعديل يمنع من أن يترتب على الجواز أكل مال البائع العربون بالباطل: يجوز بيع العربون، إذا حددت مدة الانتظار، ويحتسب العربون من الثمن إذا تم الشراء، أما إذا عدل المشتري عن الشراء، فلا يجوز للبائع أن يأخذ من العربون إلا مقدار الخسارة التي لحقته بسبب عدول المشتري، ويرد إليه الباقي.
هذه الاقتراحات هي في بيع العربون بمفهومه الفقهي، أي في الحالة التي يشترط فيها في صلب العقد أن العربون يحتسب من الثمن إذا تم الشراء، ويكون حقًّا للبائع إذا عدل المشتري عن الشراء. أما إذا لم يوجد هذا الشرط، ولا عرف يقوم مقامه، واشترى شخص سلعة ودفع للبائع مبلغًا من المال ولو سماه عربونًا، فإن هذا لا يصدق عليه اسم بيع العربون في الفقه الإسلامي، وإنما يكون بيعًا باتًّا دفع فيه جزء من الثمن، ويجب فيه على المشتري تسليم باقي الثمن، وعلى البائع تسليم السلعة.
والله أعلم
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير(8/453)
المصادر
كتب التفسير:
أحكام القرآن – أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن العربي (543 هـ) دار إحياء الكتب العربية 1376 هـ.
كتب الحديث:
الموطأ – مالك بن أنس (179 هـ) بهامش المنتقى – مطبعة السعادة.
مسند الإمام أحمد – أحمد بن حنبل (241 هـ) مع شرح الأستاذ أحمد محمد شاكر – مطبعة دار المعارف بمصر 1375 هـ - 1377 هـ.
صحيح الترمذي بشرح ابن العربي – أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي (279 هـ) المطبعة المصرية بالأزهر – 1350 هـ.
تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي – الإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (911 هـ) المطبعة الخيرية بمصر (1307 هـ) .
شرح الزرقاني على الموطأ – محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني (1122 هـ) مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1379 هـ.
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار – الإمام محمد بن علي الشوكاني (1255 هـ) مطبعة البابي الحلبي 1372 هـ.
كتب الفقه:
المذهب الحنفي:
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع – علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني (587 هـ) مطبعة الجمالية بمصر 1910 هـ.
فتح القدير شرح الهداية – كمال الدين الهمام (861 هـ) المطبعة الأميرية بولاق 1317 هـ
المذهب المالكي:
المدونة الكبرى – مالك بن أنس (179 هـ) مطبعة السعادة 1323 هـ.
المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (520 هـ) مطبعة السعادة.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد – أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (595 هـ) مطبعة الاستقامة 1370 هـ.
مواهب الجليل لشرح مختصر خليل – محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب (954 هـ) مطبعة السعادة 1329 هـ.
الدسوقي على الشرح الكبير – محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي (1230 هـ) مطبعة مصطفى محمد.(8/454)
المذهب الشافعي:
المهذب: إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (476 هـ) عيسى البابي الحلبي.
المجموع شرح المهذب – أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي (676 هـ) مطبعة التضامن الأخرى.
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج – شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملي (1004 هـ) مطبعة البابي الحلبي سنة 1357 هـ.
المذهب الحنبلي:
المغني مع الشرح الكبير – موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة
(630 هـ) الطبعة الثانية 1347 هـ.
حاشية على المقنع – الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. مكتب الرياض الحديثة.
المذهب الشيعي:
البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار – أحمد بن يحيى بن المرتضى بن مفضل بن منصور الحسني (840 هـ) القاهرة 1948 هـ.
المؤلفات الحديثة:
مصادر الحق في الفقه الإسلامي – الدكتور عبد الرزاق السنهوري.
الغرر وأثره في العقود – الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير.
كتب اللغة:
المصباح المنير – أحمد بن محمد الفيومي (770 هـ) .
القاموس المحيط – محمد بن يعقوب مجد الدين الفيروز أبادي 817 هـ(8/455)
حُكم العربُون في عُقوُد البيع والإجَارَة
إعداد
فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
القاضي بمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية
وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
بحث في بيع العربون وحكمه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد الأمين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين. وبعد.
فقد اتجه جمهور العلماء ومحققوهم إلى أن الأصل في العبادات الحظر حتى يرد الشرع بالتشريع أمرًا أو نهيًا أو كراهة أو ندبًا. وأن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يرد الشرع بالتشريع أمرًا أو نهيًا أو كراهة أو ندبًا أو تقييدًا أو تخصيصًا، وتقدير هذه القاعدة إحدى قواعد الإمام أحمد بن حنبل وأصلاً من أصول مذهبه.
ومن منطلق هذه القاعدة كان القول بإباحة بيوع العربان مذهبّه ومذهب أصحابه من عبده، والقول بذلك من مفردات هذا المذهب، وقبل الدخول في ذكر أقوال أهل العلم في هذه المسألة يحسن التمهيد لذلك بما يعطي التصور الشامل لها من حيث التعريف والتصوير وتحرير محل الاختلاف فيها، إذ الحكم على الشيء فرع من تصوره.
تعريف العربون لغة:
العربون قيل: إنه من الإعراب وهو إعطاء العربون، قال في القاموس عن الفرَّاء: أعربت إعرابًا وعرَّبت تعريبًا إذا أعطيت العربان. وقال شمر: الإعراب في البيع أن يقول الرجل للرجل: إن لم آخذ هذا البيع بكذا فلك كذا وكذا من مال.
وذكر الزبيدي في تاج العروس أن للعربون ثماني لغات هي: الإعراب، العُربان كعثمان، العربون بضمهما، العربون محركة العين، الإربون بإبدال العين همزة، الربون بحذف العين من رَبَن، العربون بفتح فسكون فضم. وذكر لغة تاسعة حكاها ابن عديس قال: نقلت من خط ابن السيد قال: أهل الحجاز يقولون: أخذ مني عُرُبَّان بضمتين وتشديد الباء.
وقيل: بأن العربون مشتق من التعريف وهو البيان لأنه بيان للبيع، فيقال: أعرب في كذا وعرَّبَ وعَرْبَن وهو عربان وعربون، قال في المصباح: هو القليل من الثمن أو الأجرة يقدمه الرجل إلى الصانع أو التاجر ليرتبط العقد بينهما حتى يتوافيا بعد ذلك إعرابًا لعقد البيع، أي إصلاحًا وإزالة فساد لئلا يملكه غيره باشترائه. وقيل بأن الأربون مشتق من الإربة وهي العقدة لأن به انعقاد البيع (1) .
__________
(1) القاموس؛ تاج العروس؛ لسان العرب؛ المصباح.(8/456)
تعريف العربون في الاصطلاح الشرعي:
عرفه الإمام مالك رحمه الله في كتابه الموطأ فقال: هو أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى الدابة ثم يقول الذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة. وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك.
اهـ.
وعرفه بعضهم بقوله: العربون هو ثمن استعمال الحق في العدول عن عقد شراء أو إجارة يجري الاتفاق بين طرفيه على تعيين هذا الثمن، ويلتزم بمقتضاه من يستعمل هذا الحق أن يدفع هذا الثمن ليحق له العدول عن الالتزام بذلك العقد (1) .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله قديمًا وحديثًا في حكم بيع العربون فذهب جمهورهم من الحنفية والمالكية والشافعية إلى القول ببطلانه مستندين في القول بذلك إلى ما روى الإمام أحمد والنسائي وأبو داود ومالك في الموطأ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان.))
ففي موطأ مالك قال: حدثني يحيى بن مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان.)) قال مالك: فيما نرى والله أعلم أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى الدابة ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك، باطل بغير شيء. قال مالك في الرجل يبتاع العبد أو الوليدة بمئة دينار إلى أجل ثم يندم البائع فيسأل المبتاع أن يقبله بعشرة دنانير يدفعها إليه نقدًا أو إلى أجل ويمحو عنه المئة التي له. قال مالك: لا بأس بذلك (2) .
وكذلك يستندون في القول ببطلان بيع العربون إلى ما فيه من الغرر وأكل أموال الناس بالباطل، قال الزرقاني في شرح الموطأ: وهو – أي بيع العربون – باطل عند الفقهاء لما فيه من الشرط والغرر وأكل أموال الناس بالباطل. اهـ (3) .
__________
(1) الوسيط للدكتور عبد الرزاق السنهوري: ج4/ ص 86-92.
(2) موطأ مالك: 2 /609.
(3) الزرقاني. شرح الموطأ: 3 /251.(8/457)
وقال ابن قدامة في المغني في معرض ذكر علة القول ببطلان بيع العربون لدى القائلين به: لأنه شرط للبائع شيئًا بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهم. اهـ (1) .
ونظرًا إلى أن أكثر أقوال أهل العلم في القول ببطلانه هم فقهاء المالكية، وغيرهم من فقهاء الحنفية والشافعية يتفقون معهم في منعه والقول ببطلانه، فقد يكون إيراد النصوص الفقهية عن المالكية مغنيًا عن إيراد النصوص عن غيرهم في معنى المنع والقول بالبطلان.
فقد ذكر الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه "مصادر الحق" مجموعة من النقول عن مجموعة من فقهاء المالكية أنقلها وأدعو الله لجامعها بالمغفرة والرحمة:
جاء في القوانين الفقهية لابن جزي ما نصه: النوع الثالث من البيوعات الفاسدة بيع العربان وهو ممنوع إن كان على ألا يَرُدَّ البائع العربان إلى المشتري إذا لم يتم البيع بينهما فإن كان على أن يرده إليه إذا لم يتم البيع فهو جائز. اهـ (2) .
وجاء في الحطاب ما نصه: وكبيع العربان أن يعطيه شيئًا على أنه إن كره البيع لم يُعِدْ إليه. وفسره مالك في موطئه: بإعطاء البائع أو المشتري درهمًا أو دينارًا على أنه إن أخذ البيع فهو من الثمن وإلا بقي للبائع. أبو عمر: ما فسره به مالك عليه فقهاء الأمصار لأنه غرر وأكل مال بالباطل. قال مالك: وأما من اشترى شيئًا وأعطى عربانًا على أنه إن رضيه أخذه وإن سخطه رده وأخذ عربانه فلا بأس به … قال ابن الحاجب: ومنه بيع العربان وهو أن يعطي شيئًا على أنه إن كره البيع أو الإجارة لم يُعدْ إليه؛ قال في التوضيح: فإن فاتت مضت بالقيمة. اهـ (3) .
وجاء في الخرشي ما نصه: ((وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع العربان)) ، وهو أن يشتري السلعة بثمن، على أن المشتري يعطي البائع أو غيره شيئًا من الثمن على أن المشتري إن كره البيع لم يُعِدْ إليه ما دفعه، وإن أحب البيع حاسبه به من الثمن لأنه من أكل أموال الناس بالباطل وغرر … ومثل البيع الإجارة فلا فرق بين الذوات والمنافع. اهـ (4) .
وجاء في الشرح الكبير للدردير ما نصه: وكبيع العربان اسم مفرد ويقال: أربان بضم أول كلٍّ، وعربون وأربون بضم أولهما وفتحه وهو أن يشتري أو يكتري السلعة ويعطيه – أي يعطي المشتري البائع – شيئًا من الثمن على أنه – أي المشتري – إن كره البيع لم يعد إليه ما أعطاه، وإن أحبه حاسبه به من الثمن أو تركه مجانًا؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل. اهـ (5)
__________
(1) المغني: 4 /58.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي ص 258- 259.
(3) الحطاب: 4 /369-370.
(4) الخرشي: 2 /78.
(5) الشرح الكبير للدردير: 3 / 63.(8/458)
وقال الزرقاني في شرح موطأ الإمام مالك جـ2 صـ251 ما نصه: وهو أي بيع العربون باطل عند الفقهاء لما فيه من الشرط والغرر وأكل أموال الناس بالباطل فإن وقع فسخ وإن فات مضى لأنه مختلف فيه، فقد أجازه أحمد وروي عن ابن عمر وجماعة من التابعين: ويرد العربان على كل حال. قال ابن عبد البر: ولا يصح ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من إجازته فإن صح احتمل أنه يحتسب على البائع من الثمن إن تم البيع وهذا جائز عند الجميع. اهـ (1) .
وذهب الإمام أحمد وجمهور أصحابه إلى القول بصحة بيع العربون ويُمثَّلُ النص الآتي من المغني لابن قدامة مذهب الإمام أحمد في بيع العربون، ووجه القول بصحته وذكر مستنده على ذلك كما أنه يذكر القائلين ببطلانه ووجهة قولهم بذلك، ثم يناقش قولهم وحججهم فيقول: والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهمًا أو غيره على أنه إذا أخذ السلعة احتسب من الثمن وإن لم يأخذها فذلك للبائع … قال أحمد: لا بأس به، فعله عمر رضي الله عنه.
وعن ابن عمر أنه أجازه وقال ابن سيرين: لا بأس به. وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئًا. وقال أحمد هذا في معناه. واختار أبو الخطاب أنه لا يصح وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن ((لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربون)) رواه ابن ماجه، ولأنه شرط للبائع شيئًا بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح، كما لو قال ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهمًا وهذا هو القياس وإنما صار أحمد فيه إلى ما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا، قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه، قال: أي شيء أقول، هذا عمر رضي الله عنه؟ وضعّف الحديث المروي، روى هذه القصة الأثرم بإسناده، فأمَّا إن دفع إليه قبل البيع درهمًا وقال: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك، ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ وحسب الدرهم من الثمن صح، لأن البيع خلا عن الشرط المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشتراه لعمر كان على هذا الوجه فيحمل عليه جمعًا بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس والأئمة القائلين بفساد العربون. وإن لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم، لأنه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه، ولا يصح جعله عوضًا عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله، لأنه لو كان عوضًا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء، ولأن الانتظار بالمبيع لا تجوز المعارضة عنه ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة. اهـ (2) .
__________
(1) موطأ الإمام مالك: 2 /251.
(2) المغني: 6 /331-332، طبعة حجر، تحقيق الدكتور عبد الله التركي.(8/459)
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه بدائع الفوائد (الجزء الرابع) ما نصه: وقال في رواية الميموني: لا بأس بالعربون، وفي رواية الأثرم وقد قيل له: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان)) فقال: ليس بشيء، واحتج أحمد بما روى نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا، قال الأثرم: فقلت لأحمد: فقد يقال هذا؟ قال: أي شيء أقول هذا عمر رضي الله عنه. اهـ.
وقد احتج القائلون ببطلان بيع العربون بحديث عمرو بن شعيب، وقد تقدم نقله من الموطأ وأورده المجد في المنتقى وقال عنه الشوكاني في نيل الأوطار ما نصه: الحديث منقطع لأنه من رواية مالك أنه بلغه عن عمرو بن شعيب ولم يدركه فبينهما راوٍ لم يسم، وسماه ابن ماجه فقال: هو مالك عن عبد الله بن عامر الأسلمي، وعبد الله لا يحتج بحديثه، وفي إسناد ابن ماجه هذا أيضا حبيب كاتب الإمام مالك وهو ضعيف لا يحتج به، وقد قيل: إن الرجل الذي لم يسم هو ابن لهيعة، ذكر ذلك ابن عدي وهو أيضا ضعيف، ورواه الدارقطني والخطيب عن مالك عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب وفي إسنادهما الهيثم بن اليمان وقد ضعفه الأزدي. اهـ (1) .
وقال الصنعاني في كتابه سبل السلام بعد ذكره حديث عمرو بن شعيب ما نصه: وأخرجه أبو داود وابن ماجه وفيه راوٍ لم يسم وسمي في رواية فإذا هو ضعيف وله طرق لا تخلو من مقال. وروي عن عمر وابنه وأحمد جوازه. اهـ (2) .
وقال ابن الأثير نقلاً عن تاج العروس: وحديث النهي منقطع. وقال الإمام أحمد في رواية الأثرم وقد قيل له: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان فقال: ليس بشيء.)) ويظهر والله أعلم رجحان القول بصحة بيع العربون للأثر والمعنى وانتفاء الدليل على المنع وإمكان الإجابة عن حجج القائلين ببطلانه.
أما الأثر ففي نيل الأوطار للشوكاني قال: وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأجازه، قال: وهو مرسل وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف. اهـ (3) .
وفي المغني النص المتقدم عن الإمام أحمد في إجازته بيع العربون قال: قال أحمد: لا بأس به وفعله عمر رضي الله عنه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أجازه. وقال ابن سيرين: لا بأس به. وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة يردها ويرد معها شيئًا، وقال أحمد هذا في معناه. اهـ.
وأما المعنى فإن مالك السلعة قد حبسها عن عرضها للبيع، وحُرِمَ فرصة بيعها بعقد ناجز وبسعر قد يكون أفضل مما باعها به بطريق بيع العربون، وفي هذا ضرر محقق على البائع أو محتمل، وقد أشار إلى هذا المعنى الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه (مصادر الحق) فقال: فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الارتباط والانتظار بالبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة. اهـ (4) .
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني 5 /62-163.
(2) سبل السلام للصنعاني 2 /334.
(3) نيل الأوطار للشوكاني 5 /162.
(4) مصادر الحق: 2 /101.(8/460)
وأما دليل القائلين بالمنع من النقل فهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد تقدم إيراد ما ذكره أهل العلم في رده؛ ومنهم الإمام أحمد رحمه الله في رواية الأثرم فقد قيل له: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان)) ، فقال: ليس بشيء. وهذا يعني أن دليلهم النقلي لا يصح الاحتجاج به وليس لهم دليل نقلي غيره.
أما دليلهم العقلي فيمكن مناقشته بما يعطي القناعة بسقوطه وعدم اعتباره. فهم يقولون بأن بيع العربون يشتمل على المحاذير الآتية:
أولاً: هو من قبيل أكل أموال الناس بالباطل.
ثانيًا: ما فيه من الغرر الموجب لبطلانه.
ثالثًا: ما فيه من شرط شيء للبائع بغير عوض في حال الرد.
رابعًا: هو بمنزلة الخيار المجهول.
خامسًا: لمخالفته القياس.
سادسًا: ((ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عنه)) وإن كانت طرقه كلها لا تخلو من مقال إلا أن بعضها يقوي بعضًا كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار (1) .
فقولهم: بأن العربون من أكل أموال الناس بالباطل غير صحيح، فالعربون ثمن حبس السلعة وعوض عن حرمان صاحبها من فرص عرضها للبيع لتحصيل بيع ناجز، وقد يكون بسعر أفضل. وقد ذكر هذا المعنى الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه مصادر الحق فقال: فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة. اهـ.
وقولهم: بأن فيه غررًا موجبًا لبطلانه قول غير صحيح، فقدر العربون معروف، ولا بد لاعتباره من مدة معينة تعطي دافع العربون مهلة ليختار أثناءها إمضاء العقد أو الرد. نعم لو كانت مدة الخيار مجهولة لتصور الغرر في ذلك ولكننا نشترط لصحة بيع العربون أن تكون المدة معلومة.
__________
(1) موطأ مالك: شروح مختصر خليل؛ المغني لابن قدامة؛ الموسوعة الفقهية الكويتية؛ نيل الأوطار؛ سبل السلام.(8/461)
وقولهم: بأن المشتري شرط للبائع شيئًا بغير عوض غير صحيح، فالبائع حبس السلعة عن عرضها للشراء وحرم من فرص بيعها بما قد يكون أكثر غبطة ومصلحة فالعربون عوض هذا الحرمان.
وقولهم: هو بمنزلة الخيار المجهول، هذا صحيح إذا خلا بيع العربون من خيار محدد بوقت معين أما إذا كان الخيار في بيع العربون معينًا بمدة محدودة فليس بمنزلة الخيار المجهول، وحينما نقول بصحة بيع العربون نشترط أن يكون الخيار في الرد أو الإمساك في مدة معلومة.
وقولهم: لمخالفته القياس، هذا القول مسلم به لو كان العربون في غير مقابله عوض، ولكننا نرى أن العربون في مقابله عوض هو الانتظار بحبس السلعة وحجبها عن الرغبة في شرائها وذلك لصالح مشتريها، وفي مقابله ما دفعه عربونًا للانتظار بها حتى يقرر ما يراه إمضاءً أو ردًّا.
وأما الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب فقد تكرر نقل أقوال أهل العلم في رده وأنه ليس بشيء، وأما القول بأن طرقه وإن كانت لا تسلم من مقال إلا أن بعضها يقوي بعضًا، هذا القول فيه نظر، فالضعيف لا يقوي ضعيفًا ولا تستقيم بالضعفاء قوة.
وللدكتور السنهوري إجابة عن حجج القائلين ببطلان بيع العربون يحسن به إيرادها إكمالاً للفائدة وتأكيدًا لإجابتنا عن هذه الحجج. فقد ذكر ما ذكره ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني عما يتعلق بمسألة بيع العربون، ثم عقب على ذلك بقوله:
أولاً: إن الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي عليه السلام الذي ((نهى عن بيع العربون)) ، ولأن العربون اشترط للبائع بغير عوض، وهذا شرط فاسد لأنه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة كما يقول: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهمًا.
ثانيًا: إن أحمد يجيز بيع العربون، ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر – وضَعَّفَ الحديث المروي في النهي عن بيع العربون – وإلى القياس على صورة متفق على صحتها، هي أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئًا قال أحمد: هذا في معناه.(8/462)
ثالثًا: ونرى أنه يستطاع الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون، فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري، وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع بذكره مدة معلومة إن لم يرجع فيها مضت المدة وانقطع الخيار. اهـ (1) .
تكييف العربون:
اختلف القائلون بصحة بيع العربون في تكييفه هل هو شرط جزائي استحقه البائع لقاء تخلف المشتري عن الوفاء بالالتزام بالشراء، أو هو تعويض عن ضرر محقق على البائع أو محتمل.
فالذين يقولون بأنه تعويض عن شرط جزائي لقاء العدول عن الشراء، يقولون بأن العربون في نظر الشارع معناه أن المتبايعين قد أرادا إثبات حق الرجوع لكل منهما في نظير الالتزام بدفع قيمة العربون فجعلا العربون مقابلاً لحق الرجوع، ومن ثم لا يجوز تخفيض العربون إذا تبين أن الضرر الذي أصاب الآخر أقل من قيمته، كما لا يجوز زيادته إذا تبين أن الضرر الذي أصاب الطرف الآخر أكبر، كما لا يجوز إلغاء العربون ولو لم يترتب على العدول ضرر (2) .
__________
(1) مصادر الحق: 2/ 101-102.
(2) الوسيط للسنهوري: 4 /90.(8/463)
والذين يقولون بأن العربون ليس شرطًا جزائيًّا، وإنما هو تعويض عن ضرر واقع أو محتمل الوقوع بوجوب قولهم بأن صرف النظر عن عرض البضاعة للبيع لقاء الالتزام ببيعها على من بذل العربون يحجب فرص بيعها بسعر ناجز، وقد يكون بسعر أفضل. وحجب الفرص المتاحة فيه ضرر على مالك السلعة إما ضرر محقق وإما ضرر محتمل. أما الضرر المحقق فيتضح فيما إذا تقدم إلى مالك السلعة؛ من يريد شراءها بسعر أفضل وببيع ناجز، فيمتنع من ذلك لقاء التزامه ببيعها على من بذل العربون في شرائها. وأما الضرر المحتمل فيتضح كذلك من حجب فرص بيعها لقاء الالتزام، وذلك بإبعادها عن عرضها للبيع الذي هو مظنة المصلحة والغبطة. ففي حجب السلعة عن عرضها للبيع حرمان مالكها من تشوفه لبيعها بعقد ناجز وبسعر قد يكون أفضل، وهذا عين الضرر.
فإذا قلنا بأن العربون شرط جزائي فإن هذا القول يجعل العربون خاضعًا للنظر القضائي عند النظر في الضرر الموجب لاستحقاقه حيث إن الشرط الجزائي تعويض، اتفق المتعاقدان على تقديره وذلك عن الضرر الذي ينشأ عن الإخلال بالعقد. ولهذا كان للقاضي حق النظر في مقدار هذا الشرط فإذا كان مبالغًا في تقديره فله حق تخفيضه وله حق إلغائه في حال انتفاء الضرر. وهذا النظر القضائي لا يصح إجراؤه في العربون لكونه تعويضًا عن ضرر محقق أو محتمل لقاء امتناع بائع السلعة بيعَ عربونٍ عن عرضها للبيع وفوات مصلحته في ذلك.
ولو قلنا بأن العربون تعويض عن ضرر فإن للقضاء حق التدخل في تغيير مقداره زيادة أو نقصًا، فإذا كان الضرر أقل من المعين فللقاضي حق تخفيضه، وإن كان أكثر فله حق زيادته، وهذا لا يتأتى في العربون، إذ هو شيء جرى اتفاق المتعاقدين على تعيينه واستحقاقه على من يَعْدِل عن إمضاء العقد.
وهذه الإيرادات على تخريج العربون على الشرط الجزائي أو التعويض عن الضرر تجعلنا نبحث عن تكييف للعربون يسلم من هذه الإيرادات ويتفق مع حقيقة العربون.
وعليه فقد يظهر لنا وجه لتخريج العربون على تكييف قد تظهر سلامته من الإيرادات. ذلك أن العربون جزء من الثمن وأن استحقاق البائع إياه بعد اختيار المشتري الرد أنه جزء زائد على الثمن الذي جرى التقابل بين المشتري والبائع، وتوضيح هذا أن المشتري اشترى السلعة بالثمن الذي جرى تحديده به وأن العربون جزء من الثمن فإذا رغب المشتري العدول عن البيع فمخرجه من ذلك بيعه السلعة على مالكها الأول بسعرها الذي اشتراها به ناقصًا قدر العربون. وبهذا نستطيع الخروج من الإيرادات السابقة ومن الإيرادات كذلك على بيع العربون واعتبار بطلانه بها.
وقد يخرج بيع العربون على بيع ناجز بين البائع والمشتري بثمن معين؛ يدفع المشتري جزءًا من الثمن هو العربون، والباقي يدفعه في حال اختياره نفاذ البيع ويعطيه البائع وعدًا بشرائه ما باعه إياه في حال رغبته عن المبيع وبثمن أقل من ثمن مشتراه بقدر العربون.
ويذكر الدكتور السنهوري أن الفقه الغربي يتفق مع المذهب الحنبلي في أن المشتري يفقد العربون إن كره البيع وإن اختاره حسب العربون من الثمن، وأن جميع القوانين المدنية في البلاد العربية تأخذ بذلك.
وبعد أن تم لنا تعريف العربون واستعراض أقوال أهل العلم في حكمه ومناقشة حجج القائلين ببطلانه وذكر مستند القول بصحته يحسن بنا النظر في حاجة المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية إليه كعنصر تنشيط للتجارة والاستثمار.(8/464)
لا شك أن الحركة الاقتصادية في العالم قد تطورت أحوالها وظروفها ومقومات نشاطها وأسباب تعدد طرقها، وقد اتسمت بالجدية في الأداء، والدقة في احتساب الزمن واعتبار الكلمة في الإلزام والالتزام؛ وهذا يعني إيجاد ضوابط للجدية في التعامل إيجابًا وقبولاً. ولا شك أن الأخذ بمبدأ العربون من أهم ضوابط الجدية في الحركات الاقتصادية بيعًا وشراء وإجارة. وهذا يعني أن الناس في حاجة إلى الأخذ ببيوع العربون في معاملاتهم، لا سيما وفي الأخذ به من الفوائد والاطمئنان إلى سلامة التحرك التجاري ما لا يخفى، وقد اتضح من المناقشة السابقة ما يجعل العربون أمرًا مشروعًا في دلالته ومعناه. والعلم عند الله تعالى.
وقد رغبت الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي التعرض في البحث إلى أحكام المسائل الآتية:
1- هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف؟
2- هل يجوز أن يكون العربون في الخدمات كما في السلع؟
3- هل يجوز اعتبار العربون مبلغًا مستقلاً عن ثمن السلعة؟
4- هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية كالأسهم؟
5- هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟
6- هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة، أم يجوز عند المواعدة بالشراء؟
حكم بيع العربون في بيوع الصرف:
لا يخفى أن بيوع المصارفة لها حالان: الحال الأول أن تكون المصارفة في جنس واحد كبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، فهذه الحال يشترط لصحة المصارفة فيها شرطان أحدهما المماثلة والثاني التقابض في مجلس العقد. الحال الثانية أن تكون المصارفة بين جنسين مختلفين كالذهب بالفضة أو العملات الورقية بهما، أو بعضها ببعض، كالدولار الأمريكي بالريال السعودي، أو الجنيه المصري بالجنيه الاسترليني، فهذه الحال يشترط لها شرط واحد هو التقابض عند المصارفة في مجلس العقد، ودليل ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يدًا بيد فإذا اختلف الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) . رواه الإمام أحمد ومسلم.
وأخذًا بهذه الأحكام في المصارفة، ومن هذه الأحكام التقابض في مجلس العقد، وحيث إن بيع العربون يقتضي تأخير الثمن حتى اختيار المشتري ما يراه من إمضاء البيع أو رده، وعليه فلا يجوز بيع العربون في بيوع الصرف في كلا الحالين. والعلم عند الله تعالى.(8/465)
حكم كون العربون مبلغًا مستقلا عن ثمن السلعة:
نظرًا إلى أن العربون في مقابلة حبس السلعة والامتناع عن عرضها لقاء الالتزام ببيعها على دافع العربون، فلا يظهر لي مانع من اعتبار العربون مبلغًا مستقلاً عن ثمن السلعة حتى لو كان العربون عينًا، إلا أنه في حال اختيار إمضاء البيع فيجب أن يحتسب هذا المبلغ من الثمن، وفي حال كونه جنسًا غير جنس الثمن فيجب أن يُقَوَّمَ – أي جنس الثمن – حتى يُعرفَ مقداره ويحسب من ثمن المبيع، أما إذا اختار دافع العربون الرد فإن العربون من حق المدفوع إليه سواء أكان مبلغًا من الثمن من جنس ثمن المبيع أو كان من غير جنسه أو كان عينًا.
حكم العربون في الخدمات:
سبق إيراد ما في موطأ مالك من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حيث قال الإمام مالك بعد روايته الحديث لتصوير بيع العربون ما نصه: "وذلك فيما نرى والله أعلم أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا أو أكثر أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك من ثمن السلعة أو كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك. اهـ.
فهذا الإمام مالك رحمه الله يفسر العربون بأنه دفعة أولى في الشراء أو الإيجار في حال تمام البيع، وفي حال العدول عن الشراء أو الكراء يكون العربون للبائع أو المؤجر. فالإمام مالك رحمه الله وإن كان يرى بطلان بيع العربون إلا أنه يراه جاريًا في الإجارة كما يراه جاريًا في البيع.
ولا يخفى أن بيع العين أو إجارتها بيع في كلا العقدين فواحدهما بيع عين أو بيع منفعة وفي كل منهما معنى بيع العربون وهذا يعني جواز العربون في الخدمات كجوازه في بيوع الأعيان بقول الدسوقي في حاشيته على الدردير ما نصه: بيع العربان يجري في البيع والإجارة لا في البيع فقط. اهـ (1) .
ويقول الخرشي ما نصه: ومثل البيع والإجارة، فلا فرق بين الذوات والمنافع. اهـ (2) .
حكم العربون في شراء الأسهم:
لا يخفى أن السهم في الشركات المساهمة حصة مشاعة في شركة ذات حصص محدودة وأن ملكية هذا السهم تعني امتلاك مقدار هذا السهم في الشركة، فإذا كانت الشركة من الشركات المباح نشاطها وأصل وجودها، فتداول أسهمها بالبيع والشراء جائز، وكل شيء يجوز بيعه حالاً ومؤجلاً؛ فإن العربون في شرائه أو بيعه جائز. والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الدردير: 3 /63.
(2) الخرشي: 5 /78.(8/466)
حكم العربون في بيع المرابحة:
المرابحة هي أن يبيع الرجل على آخر سلعة بربح مقداره نسبة معينة من كامل قيمتها مع قيمتها الشرائية أو بقيمتها الشرائية وبزيادة مبلغ معين، ولا شك أن معنى العربون متحقق في هذا النوع من البيوع، وبناء على ذلك فلا يظهر مانع من اعتباره وجواز البيع به. والله أعلم.
حكم المواعدة على الشراء وأخذ العربون لذلك:
من المعلوم أن العربون دفعة أولى من ثمن المبيع في حال اختيار إمضاء البيع وهو تعويض عن ضرر واقع أو محتمل الوقوع في حال العدول عن الشراء، وأنه لا يكون إلا في عقد بيع أو إجارة استكملت فيه شروطه وأركانه. والمواعدة على البيع والشراء لا تعتبر بيعًا ولا شراء، وإنما هي وعد من كل من البائع والمشتري بذلك، والمبيع عند المواعد بالبيع لا يزال في ملكه وتحت تصرفه، وتصرفه فيه نافذ قبل الوعد وبعده سواء كان ذلك بيعًا أو هبة أو وقفًا أو غير ذلك من التصرفات المعتبرة. ولكن يبقى على الواعد بالبيع موجب الإخلال بالالتزام بالوعد بالبيع، وهذا يقتضي منه الاحتياط لهذا الالتزام بحجب السلعة عن عرضها لقاء الالتزام بالوعد ببيعها على من التزم له ببيعها عليه؛ وهذا المعنى هو معنى العربون.
ونظرًا إلى أن العربون لا يكون إلا في عقد بيع وهو دفعة أولى من الثمن في حال اختيار إمضاء البيع فلا يظهر لنا وجاهة القول بجواز العربون في المواعدة على الشراء وهذا لا يعني القول بعدم جواز أن يدفع الواعد للموعود له بالشراء شيئًا من المال لقاء الوفاء بالوعد ببيع السلعة عليه، ولكننا لا نسمي هذا المال عربونًا، ويمكن أن يكون من الشروط الجزائية، وهو خاضع للاتفاق بين المتواعدين إن اتفقا على أن يكون جزءًا من الثمن في حال الشراء؛ لزم الاتفاق ونفذ.
وإن اتفقا على استحقاقه للموعود له دون اعتباره جزءًا من الثمن في حال الشراء فهما على ما اتفقا عليه؛ إذ المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا.
هذا ما تيسر إيراده وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع(8/467)
مراجع البحث
1- موطأ الإمام مالك.
2- شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك.
3- المنتقى للمجد بن تيمية.
4- نيل الأوطار على المنتقى للشوكاني.
5- سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني. 6- المغني لابن قدامة.
7- بدائع الفوائد لابن القيم.
8- مصادر الحق للدكتور عبد الرزاق السنهوري.
9- الوسيط في شرح القانون المدني للسنهوري.
10- الموسوعة الفقهية الكويتية.
11- لسان العرب.
12- القاموس المحيط.
13- تاج العروس.(8/468)
بيع العربُون
إعداد
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
بجامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله تعالى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ذوي العلا. وبعد:
فإن الحياة الاقتصادية المعاصرة تتطلب عنصرين مهمين: السرعة في التعامل، والتوثيق؛ وقد اصطلح الناس من أجل هذا الدخول في معاملات وعقود تحقق هذين المطلبين، ليطمئن الناس على مصالحهم وشؤون حياتهم، ومن أهم عناوين العقود الجارية في الأسواق: بيع العربون.
ويتكرر السؤال والاستفتاء حول هذا البيع، أهو صحيح أم باطل؟ وهل بقاء العربون في يد البائع حين فسخ العقد جائز شرعًا، ويحل أخذه؟ وهل العقد لازم؟ وغير ذلك من التساؤلات.
لذا وجدت من الخير بحث هذا الموضوع في إطار الفقه المقارن، لمعرفة أحكام هذا البيع على نحو يطمئن إليه المسلم في بيعه وإجارته وغيرهما.
خطة البحث:
1- تعريف بيع العربون، مشروعيته، حاجة الناس إليه في تعاملهم.
2- أحكامه:
- هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف؟
- هل يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة؟
- هل يجوز العربون في الخدمات، كما في السلع؟
3- مسائل:
- هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية، كالأسهم؟
- هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟
- هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة، أم يجوز عند المواعدة على الشراء؟(8/469)
(1) تعريف بيع العربون
مشروعيته، حاجة الناس إليه في تعاملهم
تعريف بيع العربون:
في العربون لغة ست لغات: عَرَبون وأربون كحَلَزون، وعُرْبون وأربون كعُصفور، وعُرْبان وأربان كقُرْبان، أفصحها فتح العين والراء، ثم ضم العين وإسكان الراء، ثم الضم والألف. وأما الفتح مع الإسكان فلحن لم تتكلم به العرب.
وهو أعجمي معرب، وأصله في اللغة: التسليف والتقديم، وهو ما عقد به البيع.
وهو أن يشتري الرجل شيئًا، فيدفع إلى البائع من ثمن المبيع درهمًا أو غيره مثلاً، على أنه إن نُفَّذ البيع بينهما، احتسب المدفوع من الثمن، وإن لم يُنَفَّذ، يجعل هبة من المشتري للبائع. فهو بيع يثبت فيه الخيار للمشتري: إن أمضى البيع كان العربون جزءًا من الثمن، وإن رد البيع فقد العربون، ومدة الخيار غير محددة بزمن، وأما البائع فإن البيع لازم له (1) .
وقال بعض الحنابلة: لا بد من أن تقيد فترة الانتظار بزمن محدد، وإلا فإلى متى ينتظر البائع؟ (2) .
وبعبارة أخرى: أن يشتري السلعة، ويدفع إلى البائع درهمًا أو أكثر، على أنه إن أخذ السلعة، احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فهو للبائع (3) .
حاجة الناس إليه في تعاملهم:
ساد التعامل ببيع العربون قديمًا وحديثًا، وأصبحت طريقة البيع العربون في عصرنا الحاضر أساسًا للارتباط في التعامل التجاري الذي يتضمن التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار (4) .
جريان العربون في البيع والإجارة:
يجري العربون في عقود البيع وفي الإجارة كما صوره الإمام مالك بقوله: وذلك فيما نرى – والله أعلم – أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة، أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا أو أكثر من ذلك أو أقل، على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك، فالذي أعطيك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة، فما أعطيتك لك … ثم قال مالك: باطل بغير شيء (5) .
وصحح الحنابلة الإجارة بالعربون كالبيع بالعربون: وهو دفع بعض ثمن أو أجرة بعد عقد، لا قبله، ويقول: إن أخذته أو جئت بالباقي، وإلا فهو لك، فإن وفى فما دفع فمن ثمن، وإلا فلبائع ومؤجر (6) .
__________
(1) المنتقى على الموطأ: 4 /157؛ الشرح الكبير للدردير: 3 /63؛ القوانين الفقهية: ص 258؛ مغني المحتاج: 2 /39؛ المغني: 4 /232 وما بعدها؛ نيل الأوطار: 5 /153؛ شرح المجموع للنووي: 9 /368؛ الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي: 4 /448.
(2) غاية المنتهى: 2 /26.
(3) الموسوعة الفقهية: 9/ 93.
(4) مصادر الحق للسنهوري: 2 /96 وما بعدها، المدخل الفقهي العام للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء: ف 234.
(5) المنتقى على الموطأ: 4 /157.
(6) غاية المنتهى: 2 /26.(8/470)
مشروعيته:
اتجه العلماء في حكم بيع العربون والإجارة بالعربون اتجاهين: اتجاه الجمهور، واتجاه الحنابلة.
1- أما الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية وأبو الخطاب الحنبلي فقالوا: أنه عقد ممنوع غير صحيح، فاسد عند الحنفية، باطل عند غيرهم. وهو قول ابن عباس والحسن البصري (1) .
واستدلوا على عدم جوازه بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربون)) (2) .
- وعلة النهي اشتماله على شرطين فاسدين؛ أحدهما: كون ما دفعه إليه يكون مجانًا، إن اختار ترك السلعة، والثاني: شرط الرد على البائع إذا لم يقع منه الرضا بالبيع.
- وفيه غرر، وأكل لأموال الناس بالباطل.
- ولأنه شرط للبائع شيئًا بغير عوض، فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي.
- ولأنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن يكون له رد المبيع من غير ذكر مدة، فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة، ومعها درهمًا. وهذا هو مقتضى القياس.
2- وأما الحنابلة في ظاهر الرواية عن الإمام أحمد فقالوا: لا بأس به، وهو عقد صحيح (3) .ودليلهم: ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث زيد بن أسلم أنه: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان في البيع، فأحله)) (4) .
- وفعله عمر رضي الله عنه، بدليل ما روي عن نافع بن الحارث: "أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر، كان البيع نافذًا، وإن لم يرض فلصفوان أربعمئة درهم" (5) . ومن ها هنا قال الإمام أحمد: لا بأس ببيع العربون؛ لأن عمر فعله.
- وضعّف الإمام أحمد الحديث المروي في بيع العربان، وذلك صحيح كما تقدم في تخريجه.
__________
(1) بداية المجتهد: 2/ 161؛ الشرح الكبير للدردير: 3/ 63؛ القوانين الفقهية ص 258؛ مغني المحتاج: 2/ 39؛ شرح المجموع للنووي: 9 /368؛ حاشية قليوبي وعميرة على شرح المحلى للمنهاج: 2/ 186؛ المغني: 4/ 223؛ المنتقى على الموطأ: 4/ 157؛ الفقه الإسلامي وأدلته: 4 /449.
(2) حديث منقطع رواه مالك في الموطأ وأحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه، ضعفه ابن حجر في التخليص الحبير: 3 /17، وفيه راو لم يسمّ، وسمي في رواية، فإذا هو ضعيف، وفيه طرق لا تخلو من مقال (انظر نيل الأوطار: 5 /153؛ سبل السلام: 3/ 17؛ الموطأ مع تنوير الحوالك: 2/ 151) .
(3) المغني: 4/ 232 وما بعدها؛ غاية المنتهى: 2 /26؛ إعلام الموقعين: 3/ 400 وما بعدها؛ ط محي الدين.
(4) حديث مرسل، وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 5/ 153) .
(5) روى هذه القصة أبو بكر الأثرم بإسناده.(8/471)
- وروي عن ابن سيرين أنه قال عن بيع العربون: لا بأس به، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها، ويرد معها شيئًا. وقال أحمد: هذا في معناه، أي في معنى بيع العربون، والله أعلم.
- وأخرج البخاري في باب ما يجوز من الاشتراط عن ابن سيرين قال: قال رجل لكريّه: ارْحَلْ ركابَك، فإن لم أرحل معك في يوم كذا وكذا، فلك مئة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: "من شرط على نفسه طائعًا غير مكره، فهو عليه ". فهذا دليل واضح على أن من اشترط شيئًا على نفسه، وجب عليه الوفاء به.
- وأجاز بيع العربون والشرط فيه مجاهد، ومحمد بن سيرين كما تقدم، وزيد ابن أسلم، ونافع بن عبد الحارث، وقال أبو عمر: وكان زيد بن أسلم يقول: أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وذكر الإمام أحمد أن محمد بن مسلمة الأنصاري اشترى من نَبَطي حزمة حطب، واشترط عليه حملها إلى قصر سعد، واشترى عبد الله بن مسعود جارية من امرأته، وشَرَطَتْ عليه: أنه إن باعها، فهي لها بالثمن. وفي ذلك اتفاقهما على صحة البيع والشرط، ذكره الإمام أحمد وأفتى به (1) .
ترجيح:
رجح الشوكاني رحمه الله رأي الجمهور، للنهي الوارد في حديث عمرو بن شعيب، فإنه وإن كان ضعيفًا إلا أنه قد ورد من طرق يقوي بعضها بعضًا. ولأنه حديث يتضمن الحظر، وهو أرجح من الإباحة كما تقرر في علم الأصول (2) .
والذي أراه هو ترجيح رأي الحنابلة بيعًا وإجارة بعد العقد، عملاً بالوقائع الكثيرة التي دلت على جوازه في عصر الصحابة والتابعين، فهو قول صحابي وافقه عليه آخرون، واتجاه كبار التابعين من فقهاء المدينة.
- ولأن الأحاديث الواردة في شأن بيع العربون لم تصح عند الفريقين.
- ولأن عرف الناس في تعاملهم على جوازه والالتزام به.
ولحاجة الناس إليه ليكون العقد ملزمًا ووثيقة ارتباط عملية بالإضافة إلى الأوامر الشرعية بالوفاء بالعقود في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وبخاصة حيث كثر التحلل من الالتزامات من غير سبب ولا تراضٍ بين الطرفين لفسخ العقد بالإقالة، ودفعًا للضرر عن البائع الذي قد تفوته فرصة أخرى ببيع سلعته.
__________
(1) إعلام الموقعين: 3/ 401.
(2) نيل الأوطار: 5 /153.(8/472)
- ولأن المشتري اشترط على نفسه بدفع العربون وإقراره، وتعارف الناس على استحقاق البائع ما دفعه له إن نكل عن البيع، وقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " مقاطع الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت" وقال البخاري في باب الشروط في القرض: وقال ابن عمر وعطاء: إذا أحله في القرض جاز (1) .
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون على شروطهم)) (2) وفي رواية أخرى ((المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك)) (3) .
- ولأن واقعة شراء دار صفوان سمع بها الصحابة واطلعوا عليها ولم ينكروها، وهي واضحة في استحقاق البائع مبلغ العربون. ومثله الإجارة، سواء دفع العربون سلفًا أو لم يدفع؛ لأن المشتري أو المستأجر الناكل إنما التزم بدفع العوض، ويصبح دينًا في ذمته، فيستحقه البائع أو المؤجر استحقاقًا شرعيًّا سليمًا.
- ولأن الناكل يعلم سلفًا بأنه يخسر المبلغ الذي يقدمه مع السلعة المردودة عند نكوله، كما ذكر سعيد بن المسيب وابن سيرين وغيرهما، وذلك المبلغ هو العربون، الذي يخسره المشتري أو المستأجر الناكل مقابل نكوله.
- وليس العربون أكلاً لأموال الناس بالباطل، وإنما هو في مقابل ضرر التعطل والانتظار، وتفويت الفرصة في صفقة أخرى، بل هو مشروط سلفًا كما تقدم.
- وليس في بيع العربون غرر؛ لأن المبيع معلوم والثمن معلوم، والقدرة على التسليم متوفرة، أما الغرر الناشئ عن احتمال نكول المشتري عن الشراء فلا يضر؛ لأن البائع يحسب حساب هذا الاحتمال، ولأن هذا الأمر موجود في الخيارات كخيار الشرط وخيار الرؤية ونحوهما. ثم إن الحنابلة الذين أجازوا العربون اشترطوا تقييد الانتظار بزمن، وإلا فإلى متى ينتظر؟!
- قال ابن القيم: والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنًا ليس عند كثير من الفقهاء، والالتزام بالشرط كالالتزام بالنذر، بل الشروط في حقوق العباد أوسع من نقص النذر في حق الله، والالتزام به أوفى من الالتزام بالنذر (4) .
- والخلاصة: إن العربون إما متبرع به البائع أو المؤجر، أو مؤديً بشرط التزمه المشتري أو المستأجر الناكل، أو جزء من الثمن أو الأجرة إن تم العقد.
__________
(1) نيل الأوطار: 3/ 400.
(2) حديث صحيح كما ذكر السيوطي، أخرجه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة.
(3) حديث صحيح أيضا كما ذكر السيوطي، أخرجه الحاكم عن أنس وعائشة.
(4) إعلام الموقعين: 3/ 401-402.(8/473)
(2) أحكام العربون
هناك أحكام في عقد العربون ينبغي بيانها وهي ما يلي:
- هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف؟
عقد الصرف: هو بيع النقد بالنقد جنسًا بجنس أو بغير جنس، أي بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو الذهب بالفضة أو بالعكس، مصوغًا ونقدًا (1) . وهو بيع جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز بيع الأموال الربوية ببعضها عند اتحاد الجنس مع المماثلة أو المساواة، أو عند اختلاف الجنس، ولو مع التفاضل بشرط التقابض بأن كان يدًا بيد.
فالتقابض شرط في إباحة عقد الصرف، منعًا من الوقوع في ربا الفضل، أو ربا النسيئة، ولا يجوز اشتمال الصرف على الأجل، وإلا فسد الصرف؛ لأن قبض البدلين مستحق قبل الافتراق، والأجل يؤخر القبض، فيفسد العقد (2) .
ويترتب على اشتراط عدم التأجيل في بيع النقد بجنسه أو الصرف: أنه لا يجوز العربون فيهما؛ لأنه يؤدي إلى التأجيل، والتأجيل يفوَّت شرط تقابض البدلين في مجلس العقد، مما يؤدي إلى الوقوع في ربا النسيئة: وهو تأجيل قبض أحد البدلين عن مجلس العقد، والربا حرام.
- هل يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة؟
ذكرت فيما تقدم أن الحنابلة قالوا: يصح بيع العربون وإجارته: وهو دفع بعض ثمن أو أجرة، بعد عقد لا قبله، ويقول: إن أخذته أو جئت بالباقي، وإلا فهو لك، فإن وفى فما دفع فمن ثمن وإلا فلبائع ومؤجر (3) .
وهذا التصور لعقد العربون بيعًا أو إجارة يدل على أن العربون إنما هو جزء من الثمن أو الأجرة إن تم العقد، فلا يجوز أن يكون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة.
- هل يجوز العربون في الخدمات كما في السلع؟
يجوز العربون في الإجارة كما يجوز في البيع كما أبان الحنابلة فيما تقدم، والإجارة واردة على المنافع أو الأعمال، وهي بيع المنفعة، فتشبه الإجارة البيع من هذا القبيل، والمنفعة أو العمل خدمة يقدمها المؤجر في إجارة المنافع كالسكنى في الدار، أو المستأجر في إجارة الأعمال كعمال البناء والحمالين، فلا يكون هناك مانع من العربون في أداء الخدمات، كالاتفاق مع طبيب أو مهندس مثلاً على القيام بكشف على مريض أو إجراء عملية جراحية، أو تقديم تصميم لبناء أو رسم خريطة، فذلك استئجار على عمل أو مقاولة، فيجوز دفع العربون من المستفيد لمن يتعهد بتقديم خدمة من الخدمات.
__________
(1) فتح القدير مع العناية: 5 /284؛ البدائع: 5 /215؛ رد المحتار: 244.
(2) الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي: 4 /637-638.
(3) غاية المنتهى: 2 /26.(8/474)
(3) مسائل
هناك مسائل متعلقة ببيع العربون وهي ما يلي:
- هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية كالأسهم؟
إن شراء الأوراق المالية كالأسهم نوع من أنواع البيوع، وبما أنه يجوز بيع العربون – على ما رجحت من مذهب الحنابلة – فيجوز العربون في هذا النوع من التعامل، توثيقًا للعقد، وبعدًا من إلحاق الضرر بمالك الأسهم التي يتم مبادلتها عادة بسرعة في الأسواق المالية وغيرها.
- هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟
يشترط في بيع المرابحة شروط صحة البيع العامة وشروط خاصة بها وهي علم المشتري بالثمن الأول في مجلس العقد، والعلم بمقدار الربح أو الخسارة في مجلس العقد، وأن يكون رأس المال والربح والخسارة من النقود الرائجة في التعامل أو من المثليات وهي المكيلات والموزونات والزرعيات والعدديات المتقاربة، وألا ينتج عن البيع مرابحة ربا، كبيع قفيز حنطة بقفيز حنطة ونصف قفيز، وأن يكون العقد الأول الذي تملك به البائع السلعة صحيحًا غير فاسد.
فإذا توافرت هذه الشروط العامة والخاصة، جاز بيع المرابحة بالعربون، لأنه كسائر البيوع، إلا أنه إذا اشتمل العقد على الربا، كبيع صاعين من الحنطة بثلاثة آصع من الشعير، وجب التقابض في مجلس العقد، فإذا كان إلى أجل فسد للربا، والعربون يؤدي للتأجيل، فيفسد العقد في هذه الحالة دون غيرها.
- هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة، أم يجوز عند المواعدة على الشراء؟
يجوز بيع العين أو السلعة الحاضرة، والغائبة أو غير المرئية عند جمهور الفقهاء غير الشافعية، ويثبت خيار الرؤية في بيع الغائب الموصوف، وفي هذه الحالة سواء دفع العربون أو لم يدفع، يصح العقد، ولكن يبقى الخيار للمشتري، ويظل العقد غير لازم يجوز فسخه، واسترداد العربون.
ولا يجوز العربون على المواعدة على الشراء؛ لأن الحنابلة الذين صححوا عقد العربون بيعًا أو إجارة قالوا كما تقدم: "هو دفع بعض ثمن أو أجرة بعد عقد لا قبله …" وبما أن المواعدة على الشراء ليست عقدًا، فلا يجوز فيها التعامل بالعربون.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي(8/475)
خاتمة البحث
تبين لدينا من البحث حول بيع العربون ما يأتي:
1- يتصور العربون في كل من البيع والإجارة وشراء الأوراق المالية كالأسهم وبيع المرابحة وفي الخدمات العامة كالاتفاق مع طبيب أو مهندس أو مقاول على عمل معين.
2- عقد العربون جائز في العقود السابقة على الراجح وهو مذهب الحنابلة خلافًا للجمهور ولا يجوز عقد العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف وفي المواعدة على الشراء، ولا يصح إلا بعد عقد لا قبله، ولا يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة، وإنما هو جزء من الثمن أو الأجرة.
3- يكون النكول في عقد العربون للمشتري أو المستأجر الذي يدفع العربون، بشرط تحديد مدة للانتظار، أما العقد بالنسبة للبائع فهو لازم، وكذا بالنسبة للمشتري، فإن نكل خسر العربون.
4- لا يتنافى اشتراط العربون مع مقتضى العقد، ويحل شرعًا للبائع أخذه طيبًا حلالاً إذا نكل العاقد الآخر عن إتمام العقد؛ لأنه إما تبرع في النهاية أو شرط اشترطه الناكل عن الصفقة على نفسه إذا اختار فسخ العقد، ولا يعد أكلاً لأموال الناس بالباطل، وإنما هو في مقابل الضرر الذي لحق بالبائع أو المؤجر بتفويت فرصة إبرام صفقة أخرى.
والحمد لله رب العالمين(8/476)
ملخص البحث
تعارف الناس بيع العربون وتعاملوا به كثيرًا في الحياة التجارية قديمًا وحديثًا، وأصبح قاعدة مستقرة مألوفة لا تثير نزاعًا ولا إشكالاً، والناس بحاجة ماسة إليه لتوثيق العقود والتأكد من إبرام الصفقة والالتزام بها والوفاء بشروطها.
والعربون جزء من الثمن أو الأجرة، وهو جائز في البيع والإيجار، فإن تم العقد احتسب من البدل، وإن نكل المشتري أو المستأجر عن العقد، استحقه البائع. ويجوز أيضا في شراء الأوراق المالية كالأسهم، وفي بيع المرابحة وفي تقديم الخدمات من طبابة أو هندسة أو مقاولة.
واختلف العلماء في شأنه فريقين؛ الجمهور يمنعونه والحنابلة يجيزونه، ولكل فريق أدلة نقلية وعقلية، تبين منها ضعف الأحاديث التي استند إليها الفريقان، وقد رجحت مذهب الحنابلة لقوة أدلته بالعرف العملي وفعل الصحابة والتابعين، وكون العربون اشترطه المشتري أو المستأجر على نفسه، فوجب عليه الوفاء، وحل للبائع أخذه حلالاً طيبًا شرعًا، لأدلة مشروعيته الكثيرة من الأثر والعرف والحاجة إليه، ومنها: ((المسلمون على شروطهم)) و" مقاطع الحقوق عند الشروط، ولك ما شرطت".
وليس العربون أكلاً لأموال بالباطل، وإنما هو في مقابل ضرر التعطل والانتظار، ويشترط له أن يكون الانتظار في وقت معين، منعًا من إلحاق الضرر بالبائع وتحقيقًا للمصلحة. ولكن العقد بالنسبة للبائع لازم. وهو لازم أيضا للمشتري عملاً بمبدأ استقرار المعاملات ووفاء بالعقود، فإن اختار المشتري أو المستأجر النكول عن العقد، خسر العربون.
وليس في بيع العربون غرر؛ لأن المبيع معلوم والثمن معلوم، والقدرة على التسليم متوفرة.
ولا يجوز عقد العربون في عقود الصرف (بيع النقد بالنقد) ولا في المواعدة على الشراء؛ لأنه لا يصح إلا بعد عقد لا قبله، ولا يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة، وإنما هو جزء من الثمن أو الأجرة.
التوصية المقترحة في بيع العربون
عقد العربون جائز للحاجة في البيع والإيجار بشرط تحديد زمن معين للانتظار، وكذا في بيع وشراء الأوراق المالية كالأسهم، وفي بيع المرابحة إلا في حال الوقوع في الربا، وفي حال تقديم العربون في مقابل الخدمات كما في السلع. لا يصح في الصرف ولا في المواعدة على الشراء. ويعد العربون جزءًا من الثمن أو الأجرة بعد عقد لا قبله، في حالات إباحته، وعند إتمام العقد، فإن لم يتم العقد، كان حقًّا للبائع، بسبب إضراره وانتظاره وتعطله، وقبول الناكل عن العقد خسارته حال نكوله.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي(8/477)
أهم المصادر
- فتح القدير لابن الهمام، مطبعة مصطفى محمد بالقاهرة.
- بداية المجتهد لابن رشد، مطبعة الاستقامة بمصر.
- المنتقى على الموطأ للباجي، مطبعة السعادة بمصر.
- الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، مطبعة البابي الحلبي.
- القوانين الفقهية لابن جزي، مطبعة النهضة بفاس.
- شرح المجموع للنووي، مطبعة الإمام بمصر.
- مغني المحتاج للخطيب الشربينى، مطبعة البابي الحلبي.
- المغني لابن قدامة المقدسي، الطبعة الثالثة بدار المنار بالقاهرة.
- غاية المنتهى للشيخ مرعي بن يوسف، الطبعة الأولى بدمشق.
- إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية، طبع القاهرة، تحقيق محيى الدين عبد الحميد.
- الموسوعة الفقهية الكويتية.
- الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي، دار الفكر بدمشق.
- نيل الأوطار للشوكاني، طبع البابي الحلبي.
- مصادر الحق للسنهوري، الطبعة الثانية بالقاهرة 1958.
- المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء، الطبعة السابعة بدمشق.(8/478)
بيع العربون
إعداد
الدكتور رفيق يونس المصري
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي - جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
فهذا بحث في بيع العربون، لم يقصد به فقط إعادة كتابة ما كتبه فقهاؤنا العظام، وإنما قصد به أيضا تمييزه عن معاملات أخرى قد تبدو، في بعض حالاتها، قريبة منه، كما قصد به كذلك التعرض لبعض المسائل الخاصة، وبعض المسائل الحديثة، مما طرحه مجمع الفقع الإسلامي (بجدة) الموقر.
أرجو أن يكون في هذا البحث ما يعين على اتخاذ القرار المجمعي، ولا سيما في المسائل المطلوبة.
والله ولي التوفيق.
تعريف بيع العربون:
العربون والعربون والعربان كله صحيح اللفظ، وفيه لغات أخرى (1) .
والعربون: لحن لم تتكلم به العرب (2) وذكر صاحب الصحاح (3) أنه عند العامة بلفظ " ربون " وهو عند العامة في بلاد الشام: " رعبون "، بتقديم الراء على العين، ودون حذفها يقال: أعرب في بيعه، وعرب، وعربن: إذا أعطى العربون.
قيل: سمي كذلك لأن فيه إعرابا لعقد البيع، أي إصلاحًا وإزالة فساد، لئلا يشتري غيره ما اشتراه هو (4) .
وقال بعض العلماء: وأصله التقديم والتسليف (5) وحقًّا فإن العربون ليس إلا تسليفا (= تقديمًا تعجيلاً) لجزء من الثمن، إذا ما أمضي البيع فالعربون بهذا المعنى هو الدفعة المقدمة (= المعجلة) يقال: اشترى دارًا بأربعة آلاف، وأعرب فيها أربعمئة، أي: أسلف.
والعربون في الاصطلاح: أن يشتري (أو يستأجر) الشيء، ويدفع للبائع (أو للمؤجر) مبلغا من المال، على أنه إذا تم البيع (أو الإجارة) فما دفعه كان جزءًا من الثمن (أو الأجرة) ، وإن لم يتم البيع (أو الإجارة) كان ما دفعه ملكًا للبائع (أو للمؤجر) وفي تعريف بعض العلماء: كان ما دفعه " هبة " (6) وسيأتي مناقشة لفظ الهبة، وما في معناه في مبحث حقيقة العربون.
وقد عرفه بعض العلماء بعبارة مركزة، فقال: " الإعراب في البيع أن يقول الرجل للرجل: إن لم آخذ هذا البيع بكذا فلك كذا وكذا من مالي " (7) ففي هذا التعريف تركيز على الجزء المهم من العربون، وهو دفع المشتري مالاً للبائع إن لم يقع البيع أما إذا دفعه على أنه جزء من الثمن إذا وقع البيع، وقابل للاسترداد إذا لم يقع، فهذا ليس من العربون الذي اختلف فيه الفقهاء، إنما هو متفق عليه بينهم جميعًا (8) ، ولا يعدو كونه دفعة على الحساب.
__________
(1) المجموع للنووي 9/ 407، وتهذيب الأسماء واللغات له أيضا 2 /6، مادة: أرب.
(2) حاشية قليوبي 2 /186.
(3) الصحاح للجوهري 6/ 2164، مادة: عربن.
(4) النهاية لابن الأثير 3 /202، ولسان العرب 1 /592، وعون المعبود 9 /398.
(5) نهاية المحتاج 3 /459.
(6) مغني المحتاج 2 /39.
(7) لسان العرب 1 /592.
(8) تفسير القرطبي 5 /150، والقوانين الفقهية ص 284، والخرشي على خليل 5/ 78، وعون المعبود 9/ 400(8/479)
الآثار الواردة في بيع العربون:
1- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان)) ، الموطأ 2 /609، المنتقى 4 /157، مسند أحمد 11 /13، سنن أبي داود 3 /384، سنن ابن ماجه 2 /738، سنن البيهقي 5 /342.
قال الشوكاني (1) : " الحديث منقطع، لأنه من رواية مالك أنه بلغه عن عمرو بن شعيب، ولم يدركه، فبينهما راو لم يسم ".
2- أخرج عبد الرزاق في مصنفه (2) " عن زيد بن أسلم ((أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأحله)) .
قال الشوكاني: " وهو مرسل، وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى، وهو ضعيف ".
3- روي عن نافع بن عبد الحارق أنه اشترى لعمر دار السجن بـ (400) من صفوان بن أمية فإن رضي عمر وإلا فله (أي لصفوان) كذا وكذا (400) قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنه (3) .
4- عن ابن سيرين قال: قال رجل لكريه (= مكاريه، مؤجره، صاحب الدابة) : أرحل (= شد رحال، والرحال ما يوضع على ظهر الدابة) ركابك (= دوابك) ، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مئة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه (صحيح البخاري، باب ما يجوز من الاشتراط 3 /259، ومصنف عبد الرزاق، باب الشرط في الكراء 8 /59) (4) .
5- عن ابن سيرين وسعيد بن المسيب: لا باس إذا كره السلعة أن يردها، ويرد معها شيئا وقال أحمد: هذا (أي العربون) في معناه (5) .
__________
(1) نيل الأوطار 5 /173 وانظر عون المعبود 9 /399 و401، المجموع للنووي 9 /406، وتفسير القرطبي 5 /150.
(2) نقلته عن نيل الأوطار 5 /173، ولم أجده في مصنف عبد الرزاق، وانظر عون المعبود 9 /401، وتفسير القرطبي 5 /150.
(3) المجموع للنووي 9 /408، والمغني 4 /59 و 289، وأعلام الموقعين 3 /389 و 401
(4) وانظر فتح الباري 5 /354، وإعلام الموقعين 3 /400.
(5) المغني 4 /58 و 289، ومطالب أولي النهى 3 /77.(8/480)
آراء الفقهاء في مشروعية العربون:
منع العربون جمهور العلماء، وأجازه من الصحابة: عمر وابنه عبد الله، ومن التابعين: مجاهد، وابن سيرين، وابن المسيب، ونافع بن عبد الحارث، وزيد بن أسلم، ومن الأئمة: الإمام أحمد بن حنبل ومن المعاصرين: مصطفى الزرقاء (1) ، ووهبة الزحيلي (2) ، ويوسف القرضاوي (3) ، والسنهوري (4) ، وأبو رخية (5) .
ومن المعاصرين الذين لم يجيزوا العربون: الصديق الضرير (6) ولكن يبدو منعه منصب على بيع العربون الذي لم تحدد فيه مدة الخيار ولا أدري هل يستمر في المنع إذا حددت المدة؟
بيع العربون مفسوخ عند المالكية:
(وهم من المانعين) .
قال القرطبي (7) : " وبيع العربون مفسوخ إذا وقع على هذا الوجه، قبل القبض وبعده، وترد السلعة إن كانت قائمة، فإن فاتت رد قيمتها يوم قبضها ".
حجة المانعين:
1- حديث عمرو بن شعيب، في النهي عن بيع العربون قال الشوكاني (8) : " حديث عمرو بن شعيب قد ورد من طرق يقوي بعضها بعضًا ".
2- تقديم الحظر على الإباحة، عند التعارض قال الشوكاني (9) : " ولأنه (حديث عمرو بن شعيب) يتضمن الحظر، وهو أرجح من الإباحة، كما تقرر في الأصول ".
3- حديث نافع بن الحارث يمكن حمله، جمعًا بين الآثار، على أن شراء دار السجن لعمر قد تم بعد الشرط، بعقد مبتدأ، احتسب فيه الدرهم من الثمن، فخلا البيع عن الشرط المفسد.
__________
(1) المدخل الفقهي 1 /495.
(2) الفقه الإسلامي وأدلته 4 /450.
(3) شريعة الإسلام ص 114.
(4) مصادر الحق 2 /96.
(5) حكم العربون ص 23.
(6) الغرر وأثره في العقود ص 105.
(7) تفسير القرطبي 5 /150، والمنتقى 4 /157.
(8) نيل الأوطار 5 /173.
(9) نيل الأوطار 5/ 173.(8/481)
4- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وأخذ العربون هو أكل لأموال الناس بالباطل (1) .
5- فيه شرط شيء للبائع بغير عوض، فلم يصح (2) .
6- لا يصح جعل العربون عوضًا عن انتظار البائع، وتأخير بيع السلعة من أجل المشتري، لأنه لو كان عوضًا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء، لأن الانتظار بالبيع لا تجوز المعارضة عنه، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار، كما في الإجارة (3) .
7- فيه غرر (= خطر) لأنه إذا اشترى كسب العربون (باحتسابه من الثمن) ، وإذا ترك خسر العربون (4) .
8- لا يصح بيع العربون لأن فيه شرطين فاسدين: أحدهما: شرط الهبة، والثاني: شرط الرد على تقدير أن لا يرضى (5) .
9- هو بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة، فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهم (6) .
حجة المجيزين:
1-عدم ثبوت النهي عن بيع العربون (7) .
2- الأ ثر الوارد عن عمر وابنه عبد الله، في شراء دار السجن، وقد تقدم ذكره.
3- الآثار الواردة عن ابن سيرين وابن المسيب ومجاهد ونافع بن عبد الحارث وزيد بن أسلم (8) .
كان زيد يقول: أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أهل الحديث: ذلك غير معروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (9) .
4- ما أخرج البخاري في باب ما يجوز من الاشتراط عن ابن سيرين، وقد تقدم في مبحث الآثار (10) .
__________
(1) مقدمات ابن رشد 2 /222، والخرشي على خليل 5 /78، وتفسير القرطبي 5 /150، والمنتقى 4 /157، والمجموع 9 /408، وعون المعبود 9 /400.
(2) المغني 4 /58.
(3) المغني 4 /59 و 289، وكشاف القناع 3 /195.
(4) مقدمات ابن رشد 2 /222، والخرشي على خليل 5 /87، والمنتقى 4 /157، وتفسير القرطبي 5 /150، والمجموع 9 /408، وعون المعبود 9 /399.
(5) مغني المحتاج 2 /39، والجمل على المنهج 3 /73، وعون المعبود 9 /400-401، ونيل الأوطار 5 /173، والفقه الإسلامي للزحيلي 4 /449.
(6) المغني 4 /58 – 59، والفقه الإسلامي للزحيلي 4 /449.
(7) قليوبي وعميرة 2 /186، والمجموع 9/ 406، وعون المعبود 9 /399، ونيل الأوطار 5 /173.
(8) المغني 4 /58 و 289، وغيره.
(9) بداية المجتهد 2 /122.
(10) صحيح البخاري 3 /259، ومصنف عبد الرزاق 8/ 59، وإعلام الموقعين 3/ 359.(8/482)
موقف الحنابلة من الشروط:
سبق أن ذكرنا أن الحنابلة، من دون سائر المذاهب الأخرى، قد أجازوا بيع العربون، والحقيقة أن مذهبهم في الشروط أوسع من المذاهب الأخرى ففي إعلام الموقعين: ((المسلمون عند شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا، أو حرم حلالاً)) ، " وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلف، وذكر البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: مقاطع الحقوق عند الشروط، ولك ما شرطت. وقال في كتاب الحرث: وعامل عمر الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فلهم الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا.
وهذا صريح في جواز: " إن أخذته اليوم فلك كذا، وإن أخذته غدًا فلك كذا "، وفي جواز: " بعتكه بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة "، فالصواب جواز ذلك كله، للنص والآثار والقياس.
والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنًا ليس عند كثير من الفقهاء، فإنهم يلغون شروطًا لم يلغها الشارع، ويفسدون بها العقد من غير مفسدة تقتضي فساده، وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود وما لا يقبله، فليس لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه، فالصواب الضابط الشرعي الذي دل عليه النص أن كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل، وما لم يخالف حكمه فهو لازم " (1) .
مقصد العربون في الفقه:
1- إعطاء المشتري أو المستأجر حق النكول (= العدول) إذا بدا له أن الشراء في غير صالحه.
2- جبر ضرر البائع أو المؤجر، في حدود مبلغ العربون، نتيجة نكول المشتري أو المستأجر.
فالعربون هو الجزاء أو الثمن الذي يتكبده أحد المتعاقدين، نتيجة نكوله.
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم 3/ 399 – 402.(8/483)
شيء من التفصيل في مقاصد (= حكم) العربون:
1- قد يرغب أحد المستهلكين في شراء سلعة، ولا يملك ثمنها كاملاً، فيدفع جزءًا من الثمن للبائع، ويقول له: لا تبع هذه السلعة لغيري، فإن عدت إلى يوم كذا فما دفعته يكون جزءًا من الثمن، وإلا فلك.
2- قد يجد أحد المشترين سلعة لدى أحد الباعة، ويتردد في شرائها، خشية عدم ملاءمتها جودة أو ثمنًا أو غير ذلك، فإن لم يشترها فربما عاد فلم يجدها، وإن اشتراها على البت فربما لم تعجبه بعد ذلك، أو لم تعجب من اشتراها له، كزوجه أو ولده أو موكله.
فمن أجل الخروج من هذا التردد، يلجأ إلى شرائها بشرط الخيار لنفسه، فإن وافق البائع على الخيار فبها ونعمت، ولكن البائع قد لا يوافق على هذا الخيار بالمجان للمشتري، ولا سيما أن ضررًا قد يصيبه من جراء عدول المشتري عن الشراء، مثل تفويت فرصة بيعها لآخر.
وقد تكون السلعة غير جاهزة، بل سلعة يطلب المشتري تصنيعها أو خياطتها أو غير ذلك، وقد لا يسهل على البائع تصريفها، إذا عدل عنها مشتريها، كأن تكون سلعة خاصة من حيث أوصافها: قياسها، لونها ... إلخ.
ففي مثل هذه الحالات يكون العربون بمثابة تعويض مقطوع للبائع عن العطل والضرر، يتفق عليه المتبايعان، ويقدرانه منذ العقد، ولا يؤخرانه لحين وقوع الضرر الفعلي، فالعربون هو ثمن الخيار، أو ثمن (أو جزاء) حق النكول.
3- والسلعة إما أن تبقى عند البائع محجوزة لحين عودة المشتري وعزمه على الأخذ أو الترك، أو أن يأخذها المشتري معه، لكي يتفحصها أو يختبرها بنفسه أو بالاستعانة بغيره، أو لكي يعرضها على زوجه أو ولده أو موكله، فيتحقق له بذلك التروي أو المشورة أو التجريب (= الاختبار، القياس) .
وهذا كله بافتراض أن المشتري، إذا أخذ السلعة، ثم ردها، لم تتغير عنده، نتيجة استعمال أو استهلاك أو تلف، فمثل هذا إذا وقع فهو دليل على أن المشتري قد عزم على إمضاء الشراء، ولم يعد له خيار فيه (1) .
حقيقة العربون: هل العربون (عند عدم إمضاء العقد) يعد هبة أم جزاء أم تعويضًا أم ثمن خيار؟
1- في بعض كتب الفقه جاء أن العربون إذا ترك المشتري السلعة فهو هبة ففي مغني المحتاج (2) هو " أن يشتري ويعطيه دراهم، لتكون من الثمن، إن رضي السلعة، وإلا فهبة ".
وفي روضة الطالبين (3) : " هو أن يشتري سلعة من غيره، ويدفع إليه دراهم على أنه إن أخذ السلعة فهي من الثمن، وإلا فهي للمدفوع إليه مجانا".
وفي مصنف عبد الرزاق (4) : " للمالك بغير شيء".
وفي موطأ مالك (5) : " للمالك بغير شيء".
وفي نيل الأوطار (6) : " ما دفعه إليه يكون مجانًا ".
وفي المغني (7) .
2- وفي بعض الكتب جاء أن العربون " عوض عن انتظار البائع " (8) .
3- إذا قيل: إنه هبة فهذا ينطبق في الحالات التي لا يتضرر فيها الطرف الآخر من الطرف الناكل.
وإذا قيل: إنه تعويض عن الضرر فيجب أن يفهم أن الضرر قد يقع وقد لا يقع، وقد يكون مبلغه مساويا لمبلغ العربون أقل أو أكثر وعندئذ يفهم أن التعويض مقدر تقديرًا حكميا لا فعليا. وإذا قيل: إنه تعويض عن الانتظار فهذا قد يكون صحيحًا إذا كان الأمر مجرد انتظار فقط، أي لم يقترن بضرر.
__________
(1) مقالي في مجلة الوعي الإسلامي بعنوان: " بيع العربون: تحليل فقهي "، العدد 301 لعام 1410هـ = 1989م، ص 52 – 53.
(2) مغني المحتاج 2/ 39، الجمل على المنهج 3 /72.
(3) روضة الطالبين 3/ 397.
(4) مصنف عبد الرزاق 8/ 18.
(5) موطأ مالك 2/ 609.
(6) نيل الأوطار 5/ 173 وانظر روضة الطالبين 3 /399.
(7) المغني 4 /58 وانظر تفسير القرطبي 5 /150، والمنتقى 4 /157.
(8) المغني 4 /59 و 289، وكشاف القناع 3 /195.(8/484)
وإذا قيل: إنه جزاء (= غرامة) أو عقوبة، فربما وجب إثبات الضرر، وتحديد الجزاء في حدود هذا الضرر، أو أعلى منه، لأن مفهوم الجزاء مختلف عن مفهوم التعويض.
ويرى رجال القانون أن العربون هو جزاء النكول.
ولعل العربون هو أقرب إلى الجابر (= التعويض) منه إلى الزاجر (= العقوبة، الغرامة) .
وربما يكون للعربون طبيعة خاصة تجعله مختلفا عن كل ما سبق، فليس هو هبة، ولا جزاء، ولا غير ذلك، وإن كان أقرب إلى بعض هذا من بعض فالعربون جزء من الثمن إذا أمضيت الصفقة وثمن خيار إذا كان هذا الخيار بالعدول عن الصفقة فالعربون لا ينظر إليه فقط عند العدول، مع ما لهذا النظر من أهمية خاصة، بل ينظر إليه أيضا عند الإمضاء، وهذا ما يجعل له طبيعة خاصة متميزة، والله أعلم.
العربون في البيع والإجارة:
قال في كشاف القناع (1) : " أو يستأجر، ويعطي المشتري البائع أو المؤجر درهما، أو أكثر من الدرهم، أو أقل منه، ويقول له: إن أخذته، أي المبيع أو المؤجر، وسواء عين وقتا لأخذه أو أطلق، صححه في الإنصاف، فهو، أي الدرهم، من الثمن أو الأجرة، وإلا أي: وإن لم آخذه فالدرهم لك أيها البائع أو المؤجر، فإن تم العقد فالدرهم من الثمن أو الأجرة وإلا بأن لم يتم العقد فالدرهم لبائع ومؤجر، كما شرطا، لما تقدم.
وإن دفع من يريد الشراء أو الإجارة إليه، أي: إلى رب السلعة، الدرهم أو نحوه، قبل عقد البيع أو الإجارة، وقال: لا تبع هذه السلعة لغيري، أو لا تؤجرها لغيري، وإن لم أشترها أو أستأجرها فالدرهم أو نحوه لك، ثم اشتراها أو استأجرها منه، وحسب الدرهم من الثمن أو الأجرة، صح ذلك وإن لم يشترها أو يستأجرها فلصاحب الدرهم الرجوع فيه، لأن رب السلعة لو أخذه لأخذه بغير عوض ولا يجوز جعله عوضًا عن إنظاره، لأن الإنظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه ولو جازت لوجب أن يكون معلوم القدر، كالإجارة ".
ليس من العربون:
إذا أعطى المشتري العربون على أنه إن كره البيع استرد المال، وإن أمضى البيع حسب المال من الثمن، فهذا جائز عند الجميع، ولكنه ليس من العربون المختلف في جوازه بين العلماء (2) .
مدة الخيار في بيع العربون:
قال الزحيلي (3) : " فهو (أي العربون) بيع يثبت فيه الخيار للمشتري: إن أمضى البيع كان العربون جزءًا من الثمن، وإن رد البيع فقد العربون، ومدة الخيار غير محددة بزمن، وأما البائع فإن البيع لازم له ".
وقال بعض الحنابلة (4) : " لابد أن تقيد فترة الانتظار بزمن محدد، وإلا فإلى متى ينتظر البائع؟! ".
وسيأتي معنا أن القوانين الوضعية تقيد الخيار بمدة معلومة.
__________
(1) كشاف القناع 3 /195، وانظر الإنصاف 4 /358، وعون المعبود 9 /400، والموطأ 2 /609، والمنتقى 4 /157- 158، وحاشية الدسوقي 3 /63، والخرشي 5 /87 وتفسير القرطبي 5 /150.
(2) الشرح الكبير 3 /63 والقوانين الفقهية ص 684، القرطبي 5 /150، وعون المعبود 9 /400.
(3) الفقه الإسلامي وأدلته 4 /448.
(4) غاية المنتهى 2/ 26، والفقه الإسلامي للزحيلي 4 /448، وانظر المغني 4 /58، وكشاف القناع 3 /195.(8/485)
العربون في القوانين الوضعية:
قال السنهوري (1) : " يتفق أحيانا أن يدفع أحد المتعاقدين للآخر، عند إبرام العقد، مبلغا من المال، يكون عادة من النقد، يسمى: العربون وأكثر ما يكون ذلك في عقد البيع، وفي عقد الإيجار فيدفع المشتري للبائع، أو المستأجر للمؤجر، جزءًا من الثمن أو من الأجرة ويكون غرض المتعاقدين من ذلك إما حفظ الحق لكل منهما في العدول عن العقد، بأن يدفع من يريد العدول قدر هذا العربون للطرف الآخر، وإما تأكيد العقد والبت فيه، عن طريق البدء في تنفيذه بدفع العربون ".
وقال أيضا (2) : " إذا دفع عربون وقت إبرام العقد ـ ولم يتفق المتعاقدان، صراحة أو ضمنا، على أنه إنما دفع لتأكيد البتات في التعاقد، كان دفعه دليلاً على أن المتعاقدين أراد أن يكون منهما الحق في العدول عن العقد، يستوي في ذلك البيع والإيجار وأي عقد آخر.
فإذا لم يعدل أحد منهما عن العقد، خلال المدة التي يجوز له فيها العدول، أصبح العقد باتًّا، واعتبر العربون تنفيذًا جزئيا له، ووجب استكمال التنفيذ.
أما إذا عدل أحد المتعاقدين عنه، في المدة التي يجوز له فيها ذلك، وجب على من عدل أن يدفع للطرف الآخر قدر العربون، جزاء العدول.
فإذا كان هو الذي دفع العربون فإنه يفقده، ويصبح العربون حقًّا لمن قبضه.
أما إذا كان الطرف الذي عدل هو الذي قبض العربون، فإنه يرده ويرد مثله، أي يرد ضعفيه للطرف الآخر، حتى يكون بذلك قد دفع قيمة العربون، جزاء عدوله عن العقد ".
ويلاحظ هنا ما يلي:
1- التصريح في القانون بإعطاء حق العدول لكل من طرفي العقد، البائع والمشتري، أو المؤجر ولمستأجر.
2- قابض العربون قد يكون البائع أو المشتري، المؤجر أو المستأجر.
3- حق العدول عن العقد قيد بمدة معلومة، يصبح بعدها العقد باتًّا، والعربون جزءًا من الثمن أو الأجرة.
4- لا يشترط لاستحقاق العربون وقوع الضرر فعلاً، أو إثبات وقوعه.
5- الغرض من العربون أحد أمرين:
1- تأكيد العقد والبت فيه، واعتبار العربون بدءًا لتنفيذ العقد، وجزءًا من الثمن أو الأجرة (3) .
2- حق العدول لأحد الطرفين، خلال المدة المحددة، فإذا عدل الدافع فقد العربون، وإذا عدل القابض رده ومثله معه.
__________
(1) الوسيط 1 /259.
(2) الوسيط 1 /262.
(3) مر معنا فقهًا أن هذه الصورة لا تعد من العربون الذي اختلف فيه الفقهاء، وأنها جائزة عند الجميع، لأن المبلغ المدفوع يعتبر دفعة على الحساب.(8/486)
العربون في بعض القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية
نصت المادة 47 من قانون المعاملات المدنية السوداني لعام 1984 م (1) على أنه: " لا يجوز دفع العربون ولا استلامه، ومع ذلك إذا قضت المحكمة بنشوء العقد يعتبر كل مبلغ مدفوع جزءًا من المقابل، ولها أن تقضي بأي تعويض تراه عادلاً، نظير أي إخلال بالعقد ".
يبدو أن المذهب المختار للقانون في العربون مطابق للمذهب المختار للدكتور الصديق الضرير، السوداني الجنسية.
تمييز بيع العربون عن معاملات أخرى قريبة:
سنتعرض تحت هذا العنوان إلى أربع معاملات: الإقالة، والتعزير المالي، والبيوع الشرطية الآجلة في المصافق (= البورصات) ، والشرط الجزائي.
1- الإقالة:
الإقالة في اللغة: الرفع والإزالة يقال: أقال الله عثرته: أي رفعه من سقوطه والاستقالة: طلب الإقالة وقد بين بعض العلماء أن الإقالة من القول، والهمزة للسلب، أي: أقال بمعنى: أزال القول، والقول هنا هو القول الأول، أي البيع، كقولنا: أشكاه: أزال شكايته (2) .
والإقالة في الفقه: رفع (= فسخ) العقد، أي: إلغاء حكمه وآثاره، بتراضي الطرفين يقال: تقايلا البيع: أي فسخاه أو تراداه، فعاد المبيع إلى البائع، والثمن إلى المشتري، إذا ندم أحدهما أو كلاهما.
والإقالة عند بعض العلماء فسخ، وعند آخرين بيع جديد وهي كذلك عند الجميع إذا تمت بثمن جديد أو أجل جديد.
وهي في الشرع مندوبة (= مستحبة) ، إذ قد يندم أحد المتبايعين على العقد، فيستحب للآخر إقالته.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أقال مسلمًا (وفي رواية: نادمًا) أقال الله عثرته)) (سنن أبي داود 3 /372، وسنن ابن ماجه 2/ 741، وسنن البيهقي 6 /27، والمستدرك للحاكم 2 /45 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) وفي بعض الروايات: ((من أقال أخاه المسلم صفقة كرهها أقال الله عثرته يوم القيامة)) (شرح السنة للبغوي 8 /161) .
فصورة الإقالة أن يرد المشتري المبيع، أو المستأجر المأجور، ويرد البائع الثمن، أو المؤجر الأجرة، على أن هناك روايات جاءت بلفظ الإقالة، بحيث تقترب من العربون في النهاية، وإن اختلفت عنه في البداية.
فعن ابن سيرين وسعيد بن المسيب: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها، ويرد معها شيئًا قال الإمام أحمد: هذا (أي العربون) في معناه وقد مر هذا في مبحث الآثار.
__________
(1) قانون المعاملات المدنية السوداني لعام 1984م.
(2) شرح فتح القدير 5 /246، وحاشية ابن عابدين 5/ 119.(8/487)
وفي مصنف ابن أبي شيبة (1) : في الرجل يشتري من الرجل الشيء فيستغليه فيرده ويرد معه درهما:
وفي مصنف عبد الرزاق (2) : باب الرجل يشتري السلعة، فيقول: أقلني ولك كذا.
هذه الصورة أجازها البعض (جابر بن زيد، وسعيد بن المسيب، وشريح، وإبراهيم النخعي في رواية، وسعيد بن جبير، وطاوس، وابن عمر) .
وكرهها آخرون (ابن عباس، وعامر، وإبراهيم في رواية، وعلقمة، والأسود، والشعبي، وحماد، والحكم بن عتيبة، وعطاء) .
قلنا: إن هذه الصورة من الإقالة تقترب من العربون، لأن الإقالة لم تتم إلا بقبض مال وتختلف عن العربون، لأن العربون يتفق عليه منذ العقد الأول، أما هذه الإقالة فيتم الاتفاق عليها عند العقد الثاني.
ومع ذلك ربما يكون الحكم الشرعي في العربون، وفي صورة الإقالة هذه، واحدًا، كما ذهب الإمام أحمد، وربما يكون حكم الإقالة هنا أقرب جوازًا، لأن الضرر يكون قد علم على أنه ربما يتمسك بالمال، ولو لم يقع أدنى ضرر، ففي هذه الحالة تعود هذه الإقالة إلى التشابه مع العربون، وربما تزيد عليه، لأن العربون كان الضرر وقت دفعه محتملاً، أما ههنا في هذه الإقالة، فليس هناك أي ضرر.
ويبدو أن بعض السلف كانوا يخشون أن يكون في هذه الصورة من الإقالة ربًا.
عن أسامة بن زيد قال: سمعت سعيد بن المسيب، وسئل عن رجل اشترى بعيرًا، فندم المبتاع، فأراد أن يرده ويرد معه ثمانية دراهم، فقال سعيد: لا بأس به، إنما الربا فيما يكال ويوزن، مما يؤكل ويشرب (3) .
ربما رأى هؤلاء العلماء أن هذه العملية حيلة ربوية (=عينة) ، والعينة هي أن يبيع بعيرًا بـ 100 نقدًا، ثم يبيع المشتري البعير نفسه إلى بائعه بـ 108 لسنة مثلا، فيكون كأنه أقرضه 100 بربًا مقداره (8) .
وإني أرى أنه لا مدخل للربا هنا، ولا للعينة، لأن العملية بيع بعير بدراهم، والذي قبض الثمانية الدراهم الإضافية هو الذي قبض ثمن البعير، ولو كانت الدراهم الثمانية مدفوعة ممن قبض الثمن لربما كانت هناك فعلا شبهة ربا، أو حيلة ربا، ثم إنه يمكن اعتبار هذه الدراهم الثمانية بمثابة أجرة البعير خلال المدة الفائتة كما أنه ليست هناك نية القرض، وإنما يكون الربا في قرض، أو في بيع مشبوه يراد منه التوصل إلى القرض.
وبهذا نتفق مع سعيد بن المسيب في الجواز، ولكن بحجة مختلفة.
__________
(1) .مصنف ابن أبي شيبة 6/ 108
(2) .مصنف عبد الرزاق 8/ 18
(3) مصنف ابن أبي شيبة 6 /110.(8/488)
فهذه الصورة من الإقالة أراها جائزة، سواء كان البيع الأول معجلاً أو مؤجلاً إذ لا يخشى فيها ما يخشى في بيوع الآجال (=العينة) فإذا كان البيع بعيرًا معجلاً بدراهم مؤجلة، فإن المشتري قبض بعيرًا، ثم رد بعيرًا ومبلغًا من الدراهم، والبائع لم يقبض شيئًا (لأن الثمن مؤجل) ، بل دفع بعيرًا، ثم استرجع البعير، ومبلغًا نقديًّا، فأين الربا أو شبهته أو ذريعته؟!
ومما يقوي جواز هذه الصورة من الإقالة، واستغراب منعها عند من منعها، أنها ترجع في النهاية إلى أنها بيع جديد فمن باع سلعة بـ 100، ثم طلب من المشتري الإقالة لقاء 8 مثلاً، فكأن الإقالة هنا بيع جديد بثمن أقل: 100- 8=92.
لكن تخريج هذه الصورة، من الإقالة على أنها بيع جديد، يقضي بنا إلى تخريج بيع العربون على أنه بيعتان في بيعة، أو بيع وشرط، فكأن البائع يتفق مع المشتري، أو يتشارطان، على بيع السلعة بـ 100، مع إمكان إعادة شرائها بـ 92.
غير أن المشتري ليس ملزمًا بإعادة بيع السلعة إلى البائع، أما البائع فهو ملزم بإعادة الشراء، إذا اختار المشتري ذلك، وما ذلك إلا لأن الخيار معطى هنا للمشترى دون البائع.
فإذا كان العربون للطرفين، فإن كلا منهما يكون ملزمًا بإعادة البيع إذا اختار الطرف الآخر ذلك، بشرط دفع العربون.
ومع ذلك يبقى بيع العربون مختلفًا عن بيعتين في بيعة، لأن فيه خيارًا لأحد الطرفين أو لكليهما، في حين أن في بيعتين في بيعة لا يوجد مثل هذا الخيار ولهذا لا نسلم بما جاء في مقدمات ابن رشد (1) ، من اعتبار كل من " بيعتين في بيعة " و " بيع العربون " على مستوى واحد، وأنهما من الغرر.
2- التعزير المالي:
التعزير في اللغة معناه: الرد والمنع، والتأديب، ومعناه في الاصطلاح العقوبة غير المقدرة شرعًا (عكس الحد) ، الواجبة حقا لله تعالى، أو لآدمي، في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة غالبا.
أما التعزير بالمال فهو جائز عند بعض العلماء (كأبي يوسف من الحنفية، والشافعي في القديم، والمالكية، وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة) ، وغير جائز عند آخرين (كأبي حنيفة، ومحمد، والشافعي في الجديد، والحنابلة) .
وللتعزير المالي أنواع، منها: حبس المال، إتلافه، تغيير صورته، وتمليكه للغير (2) .
وقد يعتبر العربون، أو الشرط الجزائي (وسيأتي الكلام عنه) ، نوعًا من التعزير المالي، إلا أنهما قد يكونان من الإمام أو من الرعية، أما التعزير فلا يكون إلا من الإمام، أي هما عقوبة مالية، فإذا صدرت من الإمام جاز أن تسمى تعزيرًا.
__________
(1) مقدمات ابن رشد ص 548.
(2) الموسوعة الفقهية الكويتية 12 /254 و 270.(8/489)
3- البيوع الشرطية الآجلة في المصافق (= البورصات)
وهذه البيوع متعددة الأنواع، منها بيع يسمى: " البيع بشرط التعويض يعطى فيه الخيار للمشتري، أو للبائع، بأن يمضي العقد أو يفسخه، مقابل تعويض متفق عليه، يدفع للطرف الآخر.
وهذا البيع غير جائز لعدة أسباب، منها أن القصد منه هو المراهنة على الأسعار، صعودها وهبوطها.
ولا نقول: إنه غير جائز، لأن التعويض هنا هو العربون، والعربون غير جائز فالمختار عندنا أن العربون جائز، والمراهنة على الأسعار غير جائزة (1) .
4- الشرط الجزائي:
قال السنهوري (2) : " يقع أن يتفق الدائن مع المدين على قدر التعويض الذي يستحقه الدائن، إذا لم يقم المدين بالتزامه، أو إذا تأخر في القيام به فهذا الاتفاق هو ما يسمى بالشرط الجزائي، أي الشرط الذي يشترطه الدائن على المدين جزاء على الإخلال بالالتزام.
وتشير المادتان 123 و 181 (من قانون المصري) إلى الشرط الجزائي، عندما تقضيان بأنه إذا كان مقدار التضمين في حالة عدم الوفاء مصرحًا به في العقد أو في القانون، فلا يجوز الحكم بأقل منه ولا بأكثر.
وأمثلة الشرط الجزائي كثيرة متنوعة فشروط المقاولة Cahier des Charges (دفتر الشروط) قد تتضمن شرطًا جزائيا يلزم المقاول بدفع مبلغ معين عن كل يوم، أو عن كل أسبوع، أو عن كل فترة من الزمن يتأخر فيها المقاول عن تسليم العمل المعهود إليه إتمامه ولائحة المصنع Reglement d' atelier قد تتضمن شروطا جزائية، تقضي بخصم مبالغ معينة من أجرة العامل، جزاء له على خرق التزاماته المختلفة وتعرفه مصلحة السكة الحديد، أو مصلحة البريد، قد تتضمن تحديد مبلغ معين، هو الذي تدفعه المصلحة للمتعاقد معها، في حالة فقد " طرد " أو " رسالة " والعربون الذي يدفعه المشتري للبائع، أو المستأجر للمؤجر، قد يكون شرطًا جزائيا، يتفق عليه الطرفان تعويضًا ممن يأبى المضي في إبرام العقد للطرف الآخر، واشتراط حلول جميع أقساط الدين، إذا تأخر المدين في دفع قسط منها هو أيضا شرط جزائي " (3) .
__________
(1) قارن رأي التشريع الإسلامي في مسائل البورصة لأحمد يوسف سليمان، ص 395 و 421، وعمل شركات الاستثمار الإسلامية لأحمد محيي الدين، ص 266.
(2) الموجز في النظرية العامة للالتزامات ص 442.
(3) في قرار مجمع الفقه الإسلامي، في الدورة السابعة بجدة، رقم 65/ 2 /7 بشان البيع بالتقسيط، الفقرة: (5) " يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط، عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه، ما لم يكن معسرًا ".(8/490)
التفرقة بين العربون والشرط الجزائي:
في " نظرية الالتزام "، كما تقدم، أدخل السنهوري العربون في الشرط الجزائي، وجعله واحدا من أمثلته وفي " الوسيط " (1) , " ومصادر الحق " (2) ، فرق السنهوري بين العربون والشرط الجزائي:
1- فالشرط الجزائي لا يملك المدين أن يؤديه بدلاً من تنفيذ التزامه الأصلي، إذا كان هذا التنفيذ ممكنًا، وطالب به الدائن.
أما العربون فيملك أحد الطرفين أن يؤديه دون أن يطالبه الطرف الآخر بتنفيذ الالتزام الأصلي، كما يملك أن يؤديه حتى ولو كان ممكنًا له تنفيذ الالتزام الأصلي.
ففي الشرط الجزائي ليس المدين مخيرًا بين الالتزام والشرط، أما في العربون فهو مخير بين الالتزام والعربون.
2- في الشرط الجزائي يشترط لتطبيقه على المدين وقوع ضرر ناجم عن عدم تنفيذ العقد، أو عن التأخر في تنفيذه، أما العربون فلا يشترط للمطالبة به عند العدول وقوع الضرر فعلاً.
3- ينتج عن هذا أن الشرط الجزائي يجوز فيه للقاضي تخفيض مبلغه، إذا قام المدين بتنفيذ التزامه جزئيا وبنسبة ما نفذه فعلاً، وكذلك يجوز للقاضي زيادة مبلغ الشرط الجزائي، إذا أخل المدين بالتزامه، بسوء نية أو بخطأ جسيم، فيزاد المبلغ إلى الحد الذي يتناسب مع الضرر الواقع فعلا ويجوز للقاضي كذلك أن لا يحكم بالشرط الجزائي أصلاً، إذا لم يلحق الدائن أي ضرر.
على أن بعض النظم القانونية والقضائية ترى جواز الشرط الجزائي، بدون تعديل بزيادة أو نقصان من القاضي، ودون نظر إلى الضرر وقع أو لم يقع، أثبته الدائن أو لم يثبته وعندئذ فإن الشرط الجزائي يصير مشابها للعربون من هذه النواحي، ولكنه يبقى مختلفا عنه من حيث إن المتعاقد مخير في العربون، وغير مخير في الشرط الجزائي فله في العربون أن يمضي العقد، ويكون العربون جزءًا من الثمن، أو أن لا يمضيه ويدفع العربون جزاء نكوله أما في الشرط الجزائي فالعقد بات، ولا يصار إلى الشرط الجزائي إلا عند عدم إمكان التنفيذ، أو عند التأخر فيه.
هل الشرط الجزائي جائز؟
ذهبت هيئة كبار العلماء، في المملكة العربية السعودية، إلى جواز الشرط الجزائي، في دورتها الخامسة المنعقدة في الفترة 5-22 /8 /1394 هـ (3) كما ذهب إلى جوازه الشيخ مصطفى الزرقاء (4) .
واستدلوا بحديث ابن سيرين: قال رجل لكريه: أرحل ركابك ... وقد ذكرناه في مبحث الآثار الواردة في بيع العربون.
__________
(1) الوسيط 1/ 263.
(2) مصادر الحق 2 /89.
(3) راجع مجلة البحوث الإسلامية، شوال 1395هـ - 1396 هـ، ص 59-139، ونظام المناقصات المزايدات السعودي الذي نص على الشرط الجزائي (= الغرامة) .
(4) المدخل الفقهي ص 720، ف 391.(8/491)
كما استدلوا أيضا بما رواه ابن سيرين نفسه، من أن رجلا باع طعامًا، وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجئ فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت، فقضى عليه (صحيح البخاري، باب ما يجوز من الاشتراط 3/ 259) (1) .
كما استدلوا بحديث: ((المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالا، أو أحل حرامًا)) (سنن الترمذي، كتاب الأحكام، 3/ 626، وقال: هذا حديث حسن صحيح) .
وأن الأصل في الشروط الصحة، وأن الشرط الجزائي شرط من مصلحة العقد، إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدد له، وحافز للوفاء بالعقود.
جواز العربون والشرط الجزائي:
إن إجازة الشرط الجزائي تقتضي إجازة العربون، نظرًا للتشابه الكبير بينهما، لا سيما في القوانين التي تجيز الشرط الجزائي بدون أي حق للقاضي في تعديل مبلغه، بالزيادة أو النقصان أو الإلغاء، لكي يتناسب المبلغ مع مقدار الضرر الفعلي.
وما سبق إثباته من فروق بين العربون والشرط الجزائي لا يستحق تفريقًا في الحكم الشرعي بينهما وإني أختار جوازهما بلا تفريق، وفي المبحث التالي سأبين أسباب جواز العربون.
رأينا في بيع العربون:
إني أميل في بيع العربون إلى اختيار مذهب الحنابلة المجيزين، بشرط أن تكون مدة الخيار معلومة فلعل أهم حجة للمانعين هي أن بيع العربون يتضمن خيارًا غير معلوم المدة وهذه حجة قوية، لذلك قيدنا جواز العربون بمعلومية المدة.
__________
(1) وانظر فتح الباري 5/ 354، ومصنف عبد الرزاق، باب الشرط في الكراء، 8 /59، وإعلام الموقعين 3/ 400.(8/492)
أما القول بمنع العربون، باعتباره عوضًا عن انتظار البائع، فهذا يجاب عنه بما يلي:
1- ليس مسلمًا أن العربون هو مجرد تعويض عن الانتظار، فقد يلحق بالبائع ضرر، نتيجة الخيار الممنوح للمشتري.
2- على فرض أن العربون تعويض انتظار، أو عوض للزمن، فإن هذا العوض ليس مسلمًا أنه حرام نعم هو حرام في القرض، ولكنه جائز في البيع المؤجل، فقد نص الفقهاء على أن للزمن قيمة، ونحن في العربون أمام بيع، لا أمام قرض.
3- أما أن يكون الانتظار معلوم المقدار (1) ، فهذا مطلب حق ولذلك أجزنا العربون مع تحديد المدة.
أما جعل العربون جزءًا من الثمن، في حال إمضاء العقد، فهذا من باب التسامح، لاسيما وأن مدة الانتظار تكون في الغالب قصيرة: ساعات، أو يوما، أو يومين.
أما الادعاء بأن العربون من باب أكل المال بالباطل فهذا غير مسلم، وذلك لأن المشتري ليس مستعدًّا لدفع مال في مقابل لا شيء، إلا إذا كان غبيًّا، والفرض أنه رشيد.
أما القول بأن في العربون غررًا، فهذا أيضا غير مسلم، وعلى فرض وجوده فهو غرر يسير مغتفر، فالمشتري أمام خيارين: إما أن يمضي الصفقة، ويكون العربون جزءًا من الثمن، وإما أن يجد مصلحته في عدم إمضائها، ولو دفع العربون، إذا يرى أن خسارة العربون أقل من خسارة إمضاء الصفقة.
ومما يقوي مذهب الجواز ثلاثة عوامل أخرى.
1- وجود مذهب فقهي معتبر يجيز العربون، وهو مذهب الإمام أحمد، وقد كان معروفًا بشدة الورع.
2- احتمال أن المانعين قد منعوه لعدم تقييد الخيار بمدة معلومة، فهذا فيه غرر غير مقبول وربما لو قيد بمدة لأجازه الجميع أو الأكثرون، والله أعلم.
3- عموم البلوى، فبيع العربون منتشر في القوانين والأعراف التجارية الحديثة ولا أرى جواز بيع العربون كما هو عند الفقهاء فحسب، بل أرى جوازه أيضا كما هو عند رجال القانون أيضا، إذ لا مانع من أن يكون الخيار للطرفين فربما يكون هذا أعدل من أن يكون لطرف واحد وقد تكون عدالته في الحالين واحدة، لأنه خيار بثمن أما لو كان بلا ثمن فنعم يكون لطرفين أعدل منه لطرف واحد.
لكن يجب أن يتنبه أخيرًا إلى أن يكون مبلغ العربون في حدود المعقول، وأن لا تبلغ قيمته حدًّا فاحشًا.
__________
(1) المغني 4 /59 و 289، وكشاف القناع 3/ 195.(8/493)
هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه، وفي الصرف؟
1- بيع النقد بجنسه مرده في الشرع إلى الصورتين التاليتين:
أ - بيع الذهب بالذهب (دنانير ذهبية بدنانير ذهبية) .
ب - بيع الفضة بالفضة (دراهم فضية بدراهم فضية) .
وفي كلتا الحالتين لا يكون هذا إلا إذا اختلفت جهة الإصدار.
2- الصرف يحتمل المعنيين التاليين:
أ - بيع الذهب بالفضة (دنانير ذهبية بدراهم فضية) .
ب - بيع نقد ورقي بنقد ورقي (ريالات سعودية بدولارات أمريكية) .
في (1) و (2) يجب التقابض في المجلس وفي (1) يجب أيضا التساوي.
والتواعد على بيع النقد بجنسه، أو على الصرف، جائز بشرط أن يكون غير ملزم.
وبما أن التقابض مطلوب، والتواعد غير ملزم، فلا مجال للعربون في بيع النقد بجنسه، وفي الصرف إنما يلجأ إلى العربون في الحالات التي يجوز فيها الخيار، وهو غير جائز في الحالتين المذكورتين.
فإذا اقترن التواعد غير الملزم بالعربون صار فيه شوب الإلزام، وإذا كان المقصود أن يدفع المتصارف جزءًا من الثمن، ثم بعد مدة يعقد الصرف ويستكمل الثمن، أو يعدل عن الصرف ويفقد العربون، فهذا غير جائز. إنما يستطيع أن يصطرف بسعر، ثم إذا شاء أعاد الصرف بالسعر نفسه أو بسعر آخر، بعقد صرف جديد.
الخلاصة أن العربون غير وارد في الصرف، ولا في المواعدة عليه، والله أعلم.
ولو جاز العربون في بيع العملات لكان فيه ربوان: ربا نساء ينشأ من قبض أحد البدلين وعدم قبض البدل الآخر في المجلس، وربا فضل إذا كان قابض البدل هو نفسه دافع العربون، فعندئذ يصير العربون فضلاً في مقابل النساء، واجتماع الفضل والنساء هو ما يسمى ((ربا النسيئة)) .
هل يجوز أن يكون العربون مبلغًا مستقلا عن سعر السلعة؟
العربون في الفقه والقانون إذا أمضي العقد كان جزءًا من الثمن، فلا يمكن اعتباره هنا مبلغًا مستقلا عن ثمن السلعة.
وإذا عدل المشتري، أو المستأجر، عن العقد، فقد العربون، في الفقه والقانون. وكذلك في القانون، إذا عدل البائع، أو المؤجر، رد العربون مضاعفًا، أي وقع عليه العربون، فهنا يمكن اعتبار العربون أنه صار مستقلا عن الثمن أو الأجرة فمن كان في الفقه مذهبه جواز العربون لم يقصد به إلا هذا. وكذلك هو المقصود في القانون.
أما إذا كان العربون جزءًا من الثمن أو الأجرة، غير مستقل عنهما، بحيث إذا أمضي العقد استكمل الباقي من الثمن أو الأجرة، وإذا لم يمض العقد رد البائع أو المؤجر العربون، فهذا جائز عند الجميع، كما سبق أن قلنا، وليس هو من العربون في شيء.
هل يجوز العربون في الخدمات كما في السلع؟
الذين أجازوا العربون من الفقهاء إنما أجازوه صراحة في البيع وفي الإجارة. والبيع عبارة عن بيع مال (أو سلعة) ، منقول أو غير منقول (دار مثلاً) ، أما الإجارة فهي عبارة عن بيع منفعة، وهذه المنفعة قد تكون منفعة مال (إجارة أشياء أو أموال) أو منفعة شخص (إجارة أشخاص) . وهذه الإجارة (إجارة الأشخاص) هي الخدمات المقصودة بعنوان هذا المبحث.
أما إجارة الأموال أو الأشياء فلا شك أن الذين أجازوا العربون في الإجارة إنما أرادوا بهذه الإجارة إجارة الأموال، كالدابة، بلا تردد.
وهنا نتساءل: هل تلحق إجارة الأشخاص بإجارة الأموال في العربون؟
يفرق الفقهاء بين الأجير الخاص والأجير المشترك.
وصورة العربون في الأجير الخاص أن يتفق رب عمل مع عامل على استخدامه لديه، خلال مدة محددة، بحيث إذا انقضت المدة ولم يعقد عقد العمل من جانب رب العمل كان عليه أن يدفع للعامل مبلغًا معلومًا، وإذا كان النكول من جانب العامل كان عليه أن يدفع لرب العمل مبلغًا مماثلاً.(8/494)
هذه الصورة أراها تلحق بالعربون في البيع والإجارة، فهي جائزة.
أما صورة العربون في الأجير المشترك فهي أن يتفق أحدهم مع محام مثلاً على توكيله بقضية معلومة، خلال مدة معلومة، بحيث إذا انقضت المدة ونكل الموكل فقد العربون، وإذا نكل الوكيل كان العربون عليه.
هذه الصورة وأمثالها يمكن أن تلحق بالعربون في البيع والإجارة، فهي جائزة، ويلحظ فيها أن نكول أحد الطرفين يسبب ضررًا للآخر. فإذا لم يتصور ضرر، في بعض الصور، كان العربون غير جائز، لأنه يصبح أكلاً للمال بالباطل. وفقًا للفقهاء الذين لم يجيزوا العربون.
هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية، كالأسهم؟
الأوراق المالية في القانون هي الأسهم والسندات. أما السندات، سندات القرض، فهي إذا كانت بفائدة ربوية غير جائزة، ومن ثم لا يجوز العربون فيها.
أما الأسهم فإنها إذا كانت تمثل حصصًا في شركات تمارس أعمالاً مشروعة: زراعية أو صناعية أو تجارية، فإن شراء أسهمها جائز. وإذا كانت تمارس أعمالاً غير مشروعة، كالربا والقمار والخمر والمخدرات والهوائيات التلفزيونية التي تستقبل محطات تلفزيونية داعرة (وهذه الهوائيات تأخذ اليوم شكل صحون أو أطباق كبيرة على أسطحة المنازل) ، فإن شراء أسهمها لا يجوز.(8/495)
ومع ذلك فإن شراء أسهم الشركات، ولو كانت أعمالها مشروعة، مقيد ببعض القيود. فالسهم عبارة عن حصة في صافي موجودات (= أصول) الشركة، وصافي الموجودات هو الفرق بين الموجودات والديون المترتبة على الشركة، فإذا كانت الشركة لا تتعامل بالديون، أو كانت نسبة الديون فيها قليلة بالنسبة لمجموع الميزانية (1) ، فإن السهم يجوز شراؤه، ولو كان بعض الثمن مؤجلاً أو مقسطًا، وعندئذ يجوز العربون، أما إذا كان السهم يمثل حصة في موجودات الشركة وكانت هذه الموجودات نقودًا كلها أو معظمها، فإن شراء السهم يأخذ حينئذ حكم الصرف، ولا يجوز العربون، لما سبق بيانه في مبحث العربون في الصرف.
المهم هنا أنه في الحالات التي يجوز فيها شرعًا شراء السهم لأجل، أو بالخيار، يجوز العربون، وإلا فلا.
هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟
1- بيع المرابحة، في الفقه القديم، عبارة تطلق على أحد أنواع بيوع الأمانة؛ وهذه الأنواع هي: المرابحة، والتولية، والوضيعة. والمرابحة هي بيع الشيء بمثل ثمنه الأول مضافًا إليه ربح معلوم، إما بمقدار محدد: 5 ريالات مثلاً ربح على رأس المال، وإما بنسبة معلومة من رأس المال يسهل حسابها على المشتري، لكي يصير الثمن الكلي معلومًا له، مثلاً نسبة 5 % من الثمن الأول. فإذا كان الثمن الأول 100 فيكون الربح: 100 × 5 % = 05 ويكون ثمن المرابحة: 100 + 5 = 105 ريالات.
أما التولية فهي البيع بثمن مساو للثمن الأول. وأما الوضيعة فهي البيع بثمن أقل من الثمن الأول بوضيعة معلومة، كما في المرابحة.
وسميت هذه البيوع بيوع أمانة (خلاف بيوع المساومة) لأنها مبنية على ائتمان المشتري للبائع وثقته به، من حيث الثمن الذي قامت عليه السلعة به، ويمكن أن تدخل في هذا الثمن مصاريف الشراء.
ففي صورة المرابحة هذه إذا تمت على أساس العربون فإنها جائزة عند من يجيز العربون، لا فرق في الجواز وعدمه بين بيع مرابحة وبيع مساومة.
2-وبيع المرابحة، في حياتنا المعاصرة، عبارة تطلق اختصارًا على بيع المرابحة للآمر (أو للواعد) بالشراء كما يجري في المصارف الإسلامية الحديثة، بأن يطلب أحد العملاء إلى المصرف شراء سلعة موصوفة، فيعد المصرف العميل بشرائها، ويعد العميل المصرف بشرائها منه إذا ما اشتراها المصرف فإذا ما اشتراها المصرف دفع ثمنها نقدًا، وباعها إلى العميل بثمن مقسط أعلى.
وهذه المواعدة بين المصرف والعميل قد تكون ملزمة للطرفين، أو غير ملزمة لهما، أو ملزمة للمصرف دون العميل.
__________
(1) انظر قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة، رقم 5 لعام 1408 هـ (= 1988 م) ، بشأن سندات المقارضة وسندات الاستثمار، مع ملاحظة أن الأسهم في حكمها.(8/496)
والعربون يجوز في المرابحة عند من يجيز العربون، ويجيز الإلزام في المرابحة. من الفقهاء المعاصرين، فإذا كان الإلزام للطرفين جاز العربون لهما، وإذا كان الإلزام للمصرف جاز دفع العربون من المصرف دون العميل.
أما أنا فلا أرى جواز الإلزام في المرابحة (1) ، ومن ثم لا يجوز العربون فيها، ذلك لأن العربون لا محل له إذا كان الطرفان في المرابحة بالخيار، إذا شاءا أمضيا العقد، وإذا شاءا تركا فلا يوجد العربون إلا حيث يوجد الإلزام، ويكون العربون تأكيدًا لهذا الإلزام، ومن نكل دفع ثمن نكوله.
هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة، أم يجوز عند المواعدة على الشراء؟
من يرى من الفقهاء المعاصرين جواز الإلزام بالمواعدة في بيع المرابحة في المصارف الإسلامية، فإنه لابد وأن يرى جواز العربون مؤيدًا لهذا الإلزام، إذا كان أيضا ممن يرى جواز العربون أصلاً، وأعتقد أنه سيكون كذلك، لأن استجازة العربون أسهل في الفقه من استجازة الإلزام بالمواعدة في المرابحة المصرفية المعاصرة، وقد بينا ذلك في مواضع أخرى.
أما من لا يرى جواز الإلزام بالمواعدة، ويرى جواز العربون، فإن العربون لا يجوز عنده إلا عند المعاقدة، أي بعد حضور السلعة، ولا يجوز عنده هذا وقت المواعدة.
وإني أرى المواعدة جائزة بغير إلزام، والعربون جائزًا عند المعاقدة، بعد وصول السلعة ودخولها في ملك المصرف، ولا يجوز عند المواعدة على الشراء.
ويجب الانتباه هنا إلى أن بيع السلم، وهو جائز بالنص والإجماع، لا تكون فيه السلعة حاضرة للمعاينة، بل السلعة فيه موصوفة، والعربون في بيع السلم جائز كما في بيع التقسيط، وسنفصل هذا في المبحث التالي، والسلم معاقدة لا مواعدة ولهذا فإن المقصود من المسألة المبحوثة تحت العنوان أعلاه هو بيع المرابحة في المصارف الإسلامية، حيث فيه مواعدة، وليس المقصود بيع السلم.
هل يجوز العربون في بيع السلم؟
__________
(1) لم يجز مجمع الفقه الإسلامي بجدة الإلزام في المرابحة للطرفين، بل اشترط الخيار لهما أو لأحدهما، انظر القرار 2و3 لعام 1409هـ (= 1988م) بشأن الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء، في مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الثاني، 1409هـ (=1988م) ، ص 1599.(8/497)
بيع السلم هو البيع الذي يكون فيه الثمن معجلاً (= مسلفا) والمبيع مؤجلاً، مثل بيع طن من قمح موصوف يسلم بعد سنة، ويدفع ثمنه الآن.
فها هنا إذا عدل المشتري دفع العربون إلى البائع الذي قبض الثمن، ولم يكن هناك ربا ولا شبهة الربا.
أما إذا عدل البائع ودفع العربون إلى المشتري، كان هناك شبهة ربًا فالبائع الذي قبض ثمن المبيع معجلاً 1000 ريال مثلاً، يعدل عن المبيع ويدفع إلى المشتري، بعد ثلاثة أيام مثلاً 100 ريال، فكأنه استلف 1000 ريال، لمدة ثلاثة أيام، بربًا قدره 100 ريال.
إذا وقعت هذه الصورة بدون اتفاق أو تواطؤ مسبق على العدول فلا يجيزها إلا الشافعية، وتمنعها المذاهب الثلاثة الأخرى، سدًّا لذريعة الربا فحكم هذه الصورة هو حكم العينة.
أما إذا وقعت باتفاق مسبق على العدول فلا يجيزها أحد (1) .
ويأثم البائع وحده، ديانة عند الشافعية، إذا كان عدوله بنية مبيتة منه.
الخلاصة:
1- صورة العربون في البيع، عند العلماء، أن يشتري الشيء، ويدفع إلى البائع مبلغًا من المال، على أنه إذا تم البيع كان ما دفعه جزءًا من الثمن، وإذا لم يتم البيع كان ما دفعه ملكًا للبائع.
2- صورة العربون في الإجارة، عند العلماء، أن يستأجر الشيء، ويدفع إلى المؤجر مبلغا من المال، على أنه إذا تمت الإجارة كان ما دفعه جزءًا من الأجرة، وإذا لم تتم الإجارة كان ما دفعه ملكًا للمؤجر.
3- نرى الأخذ بمذهب الحنابلة وبعض السلف من الصحابة والتابعين في جواز العربون في البيع والإجارة، على أن يكون الخيار في الإمضاء والنكول مقيدًا بمدة معلومة، إذا لم يثبت نص في النهي عنه، والأصل في المعاملات المالية الإباحة، وهو عام البلوى في الأعراف الحديثة، والمصلحة داعية إليه.
وتقييد الخيار بمدة معلومة هو ما ذهب إليه بعض الحنابلة، وبعض العلماء المعاصرين، وهو ما عليه أيضا القوانين الوضعية الحديثة.
4- إذا دفع العربون على أنه إذا تم البيع أو الإجارة كان جزءًا من الثمن أو الأجرة، وإذا لم يتم استرده الدافع، فهذا ليس من العربون المختلف فيه بين العلماء إنما هو جائز عند الجميع، والعربون المختلف فيه بين العلماء إنما هو المال المدفوع مستقلا عن ثمن السلعة، أو عن الأجرة في حال النكول، بحيث إذا نكل المتعاقد خسر العربون المدفوع.
5- والعربون جائز سواء أكان الخيار في الإمضاء والنكول لأحد الطرفين أم لكليهما معا، فإذا نكل دافع العربون فقد هذا العربون، وإذا نكل القابض رده إلى الدافع ومثله معه.
6- لا يشترط لاستحقاق العربون وقوع الضرر فعلاً، أو إثبات وقوعه.
7- البيع بشرط التعويض في المصافق (= البورصات) الحديثة عبارة عن بيع يعطى فيه الخيار للمشتري أو للبائع، بأن يمضي العقد أو يفسخه لقاء تعويض يدفع إلى الطرف الآخر هذا التعويض يشبه العربون، ومع ذلك فإن البيع المذكور غير جائز، لا لأن العربون غير جائز، كما ذهب إليه البعض، بل لأن هذا البيع قائم على المراهنة على الأسعار، صعودها وهبوطها، وهذه المراهنة غير جائزة.
__________
(1) قارن ما ذكرناه عن الربا في مبحث " الإقالة " في هذه الورقة.(8/498)
8- الشرط الجزائي هو أن يتفق الدائن مع المدين على التعويض الذي يستحقه الدائن، إذا لم يف المدين بالتزامه، أو إذا تأخر فيه وتذهب بعض النظم القانونية والقضائية إلى جواز الشرط الجزائي دون أن يكون للقاضي الحق في تعديله بالزيادة أو النقصان أو الإلغاء، لكي يتناسب مع مقدار الضرر الفعلي، وعندئذ يزداد التشابه بين الشرط الجزائي والعربون وقد أجازت هيئة كبار العلماء في الملكة العربية السعودية الشرط الجزائي عام 1394م، كما أجاز مجمع الفقه الإسلامي بجدة، عام 1412 هـ، إحدى صور الشرط الجزائي، وهي اشتراط حلول سائر أقساط الدين إذا تأخر المدين في دفع أحدها.
أمام هذا نرى من المناسب تقرير جواز العربون أيضا، لكي لا يكون هناك أي تناقض بين قرار وآخر.
9- لا يجوز العربون في بيع النقد بجنسه، ولا في الصرف، لوجوب التقابض في المجلس المأمور به شرعًا في هذه الحالات، وامتناع الخيار.
10- يجوز العربون في الخدمات كما يجوز في السلع، بشرط أن ينشأ في الغالب ضرر عن نكول الناكل، فإذا لم يكن من شأن هذا النكول في العرف أن يترتب أي ضرر، فلا يجوز العربون، لأنه يكون عندئذ من باب أكل المال بالباطل.
11- الأوراق المالية هي السندات والأسهم أما السندات فلا يجوز العربون فيها، لأنها ربوية غير جائزة أصلا أما الأسهم فيجوز فيها العربون في الحالات التي تكون فيها الأسهم جائزة، سواء من حيث نشاط الشركة أو من حيث طبيعة موجوداتها.
12- يجوز العربون في بيع المرابحة وسائر بيوع الأمانة، كما يجوز في بيوع المساومة ولا فرق، أما في بيوع المرابحة كما هي مطبقة في المصارف الإسلامية الحديثة فلا يجوز فيها العربون، لأنها قائمة على المواعدة، والمواعدة فيها لا يجوز أن تكون ملزمة، لما بيناه في بحوث مستقلة غير أن مجمع الفقه الإسلامي بجدة، في عام 1409 هـ، أجاز الإلزام لأحد الطرفين، ولم يجزه لهما معًا.
13- يجوز العربون في بيع السلم إذا كان دافع العربون هو المشتري، أما إذا كان دافعه هو البائع فإن فيه شبهة الربا، ولا يختلف على الحكم قضاء فيه بالربا أحد إذا كان عدول البائع باتفاق مسبق، ولا على الحكم فيه ديانة إذا كان عدوله بنية مبيتة منه، والله أعلم بالصواب.
الدكتور رفيق يونس المصري(8/499)
المراجع
أولا – المراجع القديمة
- إعلام الموقعين لابن القيم (- 751هـ) ، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت، دار الفكر، ط2، 1379هـ (=1977م) .
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد للمرداوي (- 885هـ) ، بتحقيق محمد حامد الفقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1400 هـ (-1980م) .
- بداية المجتهد لابن رشد (-595هـ) ، بيروت، دار الفكر، د. ت.
- تفسير القرطبي (-671هـ) الجامع لأحكام القرآن، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1405هـ (=1985م)
- تهذيب الأسماء واللغات للنووي (-676هـ) ، بيروت، دار الكتب العلمية، د. ت.
- حاشية ابن عابدين (-1252هـ) ، بيروت، دار الفكر، ط2، 1399هـ (= 1979م) .
- حاشية الجمل (-1204هـ) على المنهج لزكريا الأنصاري (=925هـ) ، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، د. ت.
- حاشية الخرشي (- 1101هـ) على خليل (-676هـ) ، بيروت، دار صادر، د. ت.
- حاشية الدسوقي (-1230هـ) على الشرح الكبير للدردير (1201هـ) ، القاهرة، مكتبة البابي الحلبي، د. ت.
- حاشية قليوبي (-1069هـ) وعميرة (957هـ) ، بيروت، دار الفكر، ط4، د. ت.
- روضة الطالبين للنووي (-676هـ) ، دمشق، المكتب الإسلامي، ط3، 1412هـ.
- سنن ابن ماجه (-275 هـ) ، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، مكتبة البابي الحلبي، د. ت.
- سنن أبي داود (-275 هـ) ، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، ط2، 1369 هـ (= 1950م) .
- سنن البيهقي (-458 هـ) ، بيروت، دار الفكر، د. ت.
- سنن الترمذي (-279 هـ) ، الجامع الصحيح، بتحقيق أحمد محمد شاكر، القاهرة، مكتبة البابي الحلبي، ط2، 1398 هـ (= 1978 م) .
- شرح السنة للبغوي (- 516 هـ) ، بتحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، بيروت، المكتب الإسلامي، 1390 هـ (= 1971 م) .
- شرح فتح القدير لابن الهمام (681 هـ) ، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، د. ت.
- الصحاح للجوهري (393 هـ) ، بيروت، دار العلم للملايين، ط2، 1399 هـ (1979 م) .
- صحيح البخاري (-256 هـ) ، القاهرة، دار الحديث، د. ت.
- عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي (- 1323 هـ) مع شرح ابن القيم (-751 هـ) ، بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، بيروت، دار الفكر، ط3، 1399 هـ (= 1979 م) .(8/500)
- غاية المنتهى للمقدسي (- 1033 هـ) ، دمشق، المكتب الإسلامي، 1380 هـ (= 1961 م) .
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر (-852 هـ) ، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب، بيروت، دار المعرفة، د. ت.
- القوانين الفقهية لابن جزي (- 741 هـ) ، بيروت، دار العلم للملايين، 1979 م.
- كشاف القناع عن متن الإقناع لمنصور بن يونس بن إدريس البهوتي (- 1051 هـ) ، بتحقيق هلال مصيلحي، الرياض، مكتبة النصر الحديثة، د. ت.
- لسان العرب لابن منظور (- 711 هـ) ، بيروت دار صادر د. ت.
- المجموع للنووي (- 676 هـ) ، بتحقيق محمد نجيب المطيعي، جدة، مكتبة الإرشاد، د. ت.
- المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابوري (- 405 هـ) ، بيروت، دار الفكر، 1398 هـ (= 1978 م) .
- مسند الإمام أحمد (- 241 هـ) ، بيروت، دار الفكر، ط 2، 1398 هـ (= 1978 م) .
- مسند الإمام أحمد (- 241 هـ) ، بعناية أحمد شاكر، القاهرة، دار المعارف، 1373 هـ (= 1954 م) .
- مصنف ابن أبي شيبة (- 235 هـ) ، بتحقيق عبد الخالق الأفغاني، بومباي، الدار السلفية، ط2، 1399 هـ (= 1979 م) .
- مصنف عبد الرزاق (-221 هـ) ، بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت، المكتب الإسلامي، ط2، 1403 هـ (= 1983 م) .
- مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني (- 1243 هـ) ، دمشق، المكتب الإسلامي، 1380 هـ (= 1961 م) .
- مغني المحتاج للخطيب الشربيني (- من علماء القرن العاشر الهجري) ، القاهرة، مكتبة البابي الحلبي، 1377 هـ (= 1958 م) .
- المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة (- 620 هـ) ، بيروت، دار الكتاب العربي، 1392 هـ (= 1972 م) .
- المنتقى شرح الموطأ للباجي (- 494 هـ) ، بيروت، دار الكتاب العربي، 1332 هـ.
- موطأ الإمام مالك (- 179 هـ) ، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، مكتبة البابي الحلبي، د. ت.
- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (- 606 هـ) ، بتحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، بدون مكان نشر، المكتبة الإسلامية، د. ت.
- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي (- 1004 هـ) ، القاهرة، مكتبة البابي الحلبي، 1357 هـ (= 1938 م) .
- نيل الأوطار للشوكاني (-1250 هـ) ، القاهرة، مكتبة البابي الحلبي، د. ت.(8/501)
ثانيا – المراجع الحديثة
- بيع العربون، تحليل فقهي، لرفيق يونس المصري، مجلة الوعي الإسلامي، العدد 301 لعام 1410هـ (=1989م) .
- حكم العربون في الإسلام لماجد أبو رخية، عمان، مكتبة الأقصى، 1407هـ (1986م) .
- رأي التشريع الإسلامي في مسائل البورصة لأحمد يوسف سليمان، ضمن الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية، الجزء الخامس (الشرعي) ، القاهرة، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، 1402هـ (=1982 م) .
- شريعة الإسلام للقرضاوي، بيروت، المكتب الإسلامي، 1398هـ.
- عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية لأحمد محيي الدين أحمد حسن، البحرين، بنك البركة الإسلامي للاستثمار، 1407هـ (=1986م) .
- الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي للصديق محمد الأمين الضرير، بدون مكان نشر ولا ناشر، ط1، 1386ـ (=1967م)
- الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلى، دمشق، دار الفكر، ط2، 1405م (=1985م) .
- قانون المعاملات المدنية السوداني لعام 1984م.
- قرارات مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، القرار 65 / 2 /7 لعام 1410هـ، بشأن البيع بالتقسيط.
- قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي بجدة خلال الأعوام 1406هـ - 1409هـ.
- مجلة البحوث الإسلامية، الرياض، رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، شوال 1395هـ.
- مجلة مجمع الفقه الإسلامي، جدة، العدد الخامس، الجزء الثاني، 1409هـ (=1988م) .
- المدخل الفقهي العام لمصطفى أحمد الزرقاء، دمشق، بدون ناشر، 1387 هـ (= 1968م) .
- مصادر الحق في الفقه الإسلامي لعبد الرزاق السنهوري، بيروت، دار إحياء التراث العربي، د. ت.
- الموسوعة الفقهية الكويتية، ج12، الكويت، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، ط1، 1408هـ (=1987م) .
- الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1964م.(8/502)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
بيع العربون
الرئيس:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذه الجلسة الصباحية: بيع العربون.
والعارض هو: فضيلة الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير.
والمقرر هو: فضيلة الشيخ عبد الله سلميان بن منيع.
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد.
فقد كتب في هذا الموضوع أربعة باحثين والباحثون هم:
- الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
- الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي.
- الدكتور رفيق يونس المصري.
وسأجعل بحثي أساسًا في العرض وأتعرض عند كل مسألة لما ورد في البحوث الأخرى، موافقة أو مخالفة أو زيادة، والله أسأل التوفيق.
المسألة الأولى- تعريف بيع العربون:
العربون أو العربان الوارد في الحديث، والذي يتحدث عنه الفقهاء هو أن يشتري الرجل السلعة ويدفع للبائع مبلغًا من المال، على أنه إن أخذ السلعة يكون ذلك المبلغ محسوبًا من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع. هذا التفسير اتفق عليه جميع الفقهاء، وقد نقلت في بحثي ما يؤيد هذا من أقوال الفقهاء، فنقلت نص الإمام مالك ونص ابن قدامة، ونص المرتضى ونصًّا للرملي، وكلها متفقة في هذا المعنى، غير أن بعضها يذكر في إحالة الرد. يقول الإمام مالك: " مثلا وإن تركت ابتياع السلعة فما أعطيتك لك باطل بدون شيء " وعبر بعبارة: " باطل بدون شيء"، ابن قدامة عبر بعبارة " فذلك للبائع" أي إن لم يأخذ السلعة، المرتضى عبر بعبارة " وإلا فهبة "، وكذلك الرملي. وهذا المعنى في العربون اتفق عليه أيضا جميع الباحثين، غير أن بعضهم أضاف تعريفًا آخر.
الشيخ عبد الله بن منيع، في بداية بحثه ذكر تعريفًا للسنهوري، وعرفه بعضهم بقوله: " العربون هو ثمن استعمال الحق في العدول عن عقد شراء أو إجارة يجري الاتفاق بين طرفيه على تعيين هذا الثمن، ويلتزم بمقتضاه من يستعمل هذا الحق أن يدفع هذا الثمن ليحق له العدول عن الالتزام بذلك العقد ".
هذا في رأيي تعريف للقانونيين وليس تعريفًا للعربون عند الفقهاء.
الدكتور رفيق أيضا ذكر التعريف الذي أوردته وذكر تعريفا آخر، ولم ينسبه إلى أحد وأشار إلى لسان العرب فقال: وقد عرفه بضع العلماء بعبارة مركزة فقال:
" الإعراب في البيع أن يقول الرجل لرجل: " إن لم آخذ هذا البيع بكذا فلك كذا وكذا من مالي"". وهذا أيضا لا ينطبق في رأيي على بيع العربون الذي ذكره الفقهاء؛ بيع العربون لابد أن يكون فيه بيع، أولاً بيع مستوف لجميع شروطه، ثم يأتي بعد ذلك الشرط، أما أن يقول الرجل للرجل: إن لم آخذ هذا البيع، هذا ليس من بيع العربون، فهذا توسع منه في هذا المعنى.(8/503)
التكييف الفقهي لبيع العربون:
وأعود إلى كلامي، يتبين من تعريف العربون أنه بيع مستوف لجميع شروطه، يثبت فيه الخيار للمشترى فإذا أمضى البيع - وهذا الخيار يثبت بالشرط ولا يثبت تلقائيًّا، إذا لم ينص فيه لا يثبت – فإذا أمضى المشتري البيع مكان العربون جزءًا من الثمن، وإذا رد البيع فقد العربون؛ فهو خيار شرط يقابله مال في حال الرد، وهذا الخيار للمشتري وحده، أما البائع فإن البيع لازم بالنسبة له، لا يستطيع رده، كما تبين أيضا أنه خيار غير محدد بزمن، هذا التكييف وافقني عليه الزحيلي، الدكتور عبد الله بن منيع ذكر تكييفًا لا أستطيع أن أكيفه ولذلك سأتركه له يكفيه لنا ويشرحه. الدكتور رفيق المصري أطال في ذكر التكييف إلى مسائل طبيعتها قد تكون في غير الموضوع، وسماها مقاصد العربون. فبدأ بقوله:
مقصد العربون في الفقه:
أولاً: إعطاء المشتري أو المستأجر حق النكول إذا بدا له أن الشراء في غير صالحه.
ثانيًا: جبر ضرر البائع أو المؤجر في حدود مبلغ العربون نتيجة نكول المشتري أو المستأجر، فالعربون هو الجزاء أو الثمن الذي يتكبده أحد المتعاقدين نتيجة نكوله، يلاحظ أن الدكتور رفيق يجعل العربون من حق العاقدين: البائع والمشتري، وهذا لا يقول به فقيه من الذين تحدثوا عن بيع العربون، فبيع العربون هو خاص بالمشتري هذا هو رأي القانون، وليس رأي الفقه، ثم أخذ يفصل في هذا الكلام تفصيلاً لا أرى داعيًا لقراءته، وقال في آخره: ولعل العربون هو أقرب إلى الجابر (التعويض) منه إلى الزاجر.
وربما يكون للعربون طبيعة خاصة تجعله مختلفًا عن كل ما سبق، وذكر احتمالات كثيرة، هو هبة ولا جزاء ولا غير ذلك، وإن كان أقرب إلى بعض هذا من بعض، فالعربون جزء من الثمن إذا أمضيت الصفقة، وثمن خيار إذا كان هذا الخيار بالعدول عن الصفقة. فالعربون لا ينظر إليه فقط عند العدول، مع ما لهذا النظر من أهمية خاصة، بل ينظر إليه أيضًا، نحرص على قراءة ما يكتبه الدكتور رفيق لأنه غير موجود معنا. هذا ما يتعلق بالتكييف.
نأتي إلى المشروعية: ورد في حكم بيع العربان حديثان، أحدهما ينهى عنه والآخر يحله، الحديث الذي ينهى عنه هو: عن مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان)) . هذا الحديث ضعفه جماعة من رجال الحديث منهم الإمام أحمد، وقال النووي عنه: " مثل هذا لا يحتج به عند أصحابنا، ولا عند جماهير العلماء " والضعف يدخل هذا الحديث من وجهين:
الأول: إبهام الثقة الذي روى عنه مالك.
الثاني: رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
فقد ذهب قوم إلى ترك الاحتجاج بها، بهذه الرواية مطلقًا حيثما ورد؛ منهم: أبو داود، وابن حبان، وابن عدي، وابن معين في رواية عنه، قال ابن حبان: " إن أراد جده عبد الله، فشعيب لم يلقه، فيكون منقطعًا، وإن أراد محمدًا، فلا صحبة له، فيكون مرسلاً ". وعمرو بن شعيب هذا هو عمرو بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. وقال ابن معين عن رواية عمرو بن شعيب: هي كتاب ووجادة، فمن هنا جاء ضعفه لأن التصحيف يدخل على الراوي من الصحف: ولذا تجنبها أصحاب الحديث.
هؤلاء هم الذين ضعفوا هذا الحديث وهذه حجتهم.(8/504)
وصحح هذا الحديث جماعة وقالوا عن المطعن الأول: (رواية إبهام الثقة) قالوا: إن سند الحديث وإن كان ضعيفا لإبهام الثقة الذي رواه عنه مالك إلا أن الحديث في ذاته صحيح؛ لمعرفة هذه الثقة؛ فقد قال ابن عبد البر: إنه ابن لهيعة. وقالوا عن المطعن الثانى _ رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده _ قالوا: إن المراد بجده عبد الله الصحابى؛ لا
محمد التابعى وسماع شعيب عن عبد الله ثابت وهو الذي رباه لما مات أبوه محمد قال في
تدريب الراوى: وذهب آخرون إلى الاحتجاج بها وهم أكثر المحدثين وهو الصحيح المختار. الذي عليه المحققون من أهل الحديث
وقد روي حديث النهى عن بيع العربان من طرق أخرى ذكرها الشيخ أحمد محمد شاكر في شرحه لمسند الإمام أحمد، وصحح الحديث.
أطلت في ذكر هذه المسألة لأن هذا الدليل الذي اعتمدت عليه في رأيي وفي ترجيحي لرأي الجمهور، والحديث كما رأيتم صحيح عند أكثر المحدثين، والإخوة الذين كتبوا في هذا الموضوع ذكروا الحديث أيضا ولكنهم لم ينقلوا لنا إلا روايات التضعيف. ولم يذهبوا إلى أكثر من هذا. فكلهم _ فيما أعتقد_ اعتمدوا على ما في نيل الأوطار.
الحديث الذي يحل بيع العربون هو ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان، فأحله)) . هذا الحديث مرسل، وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى، وهو ضعيف، وقال ابن رشد: قال أهل الحديث: ذلك غير معروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبد البر: لا يصح ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إجازته. ولم أر من صححه، وذكر الإخوة الثلاثة أيضا هذا الحديث، وذكر الدكتور رفيق المصري أنه لم يجد هذا الحديث في مصنف عبد الرزاق، الحديث ورد في نيل الأوطار، واضح من هذا أن حديث زيد لا يجوز العمل به، ولهذا لم يحتج به حتى الإمام أحمد كما سنرى، لأن حديث زيد بن أسلم فيه ما رأينا، وحديث عمرو بن شعيب ورد من طرق أخرى – حتى من غير طريق عمرو – يقوي بعضها بعضا، وقد رجحه وصححه من يعتد به من أهل الحديث. وفي الشوكاني رجح هذا الحديث أيضا ورجحه من جانب آخر فقال: لأنه يتضمن الحظر وهو أرجح من الإباحة، هذا كلام الشوكاني. وكما قلت لكم: الإخوة ذكروا هذا ولا داعى لقراءة أقوالهم لأنها لا تختلف عما قلته لكم. بعد هذا نأتي إلى رأي الفقهاء.(8/505)
آراء الفقهاء في حكم بيع العربون:
اختلف الفقهاء في حكم بيع العربون فمنعه الحنفية والمالكية والشافعية والشيعة الزيدية وأبو الخطاب من الحنابلة، وروي المنع عن ابن عباس والحسن وقال ابن رشد والشوكاني:المنع قول الجمهور. وأجازه الإمام أحمد وروي الجواز عن عمر وابنه عن جماعة من التابعين منهم مجاهد وابن سيرين ونافع بن الحارث – أو ابن عبد الحارث كما في رواية أخرى – وزيد بن أسلم. واستدل كل من الفريقين بأدلة، ما يتعلق بآراء الفقهاء هذا أيضا لا خلاف فيه بين الباحثين، الدكتور رفيق المصرى أضاف إلى آراء المتقدمين رأي المعاصرين فذكر المانعين والمجيزين فقال: من المعاصرين الذين أجازوا العربون مصطفى الزرقا ووهبة الزحيلى ويوسف القرضاوي والسنهوري وأبو رخيمة. ومن المعاصرين الذين لم يجيزوا العربون، الصديق الضرير، ولكن يبدوا – هذا من رفيق المصرى – أن منعه منصب على بيع العربون الذي لم تتحدد فيه مدة الخيار، ولا أدري هل يستمر في المنع إذا حددت المدة؟. صحيح هذا هو رأي الصديق الضرير، ولكن موضوع المدة وتحديد بيع العربون المعروف في الفقه الإسلامى والذى تحدث عنه الفقهاء وورد فيه الحديث، المدة فيه غير محددة، فالذين يرون هذا - ذهب إليه الإخوة الثلاثة الذين كتبوا في هذا الموضوع – أن المدة محددة، إذا كانت المدة هذا ليس رأي الإمام أحمد، الإمام أحمد يجيز العربون من غير تعرض للمدة، وهذا واضح من عباراته، وحتى في الدليل الذي اعتمد عليه أساسا وهو فعل عمر لم يذكر فيه أن المدة محددة، ولذلك في التكييف، أنا ذكرت هذا، أن المدة غير محددة، وهؤلاء الإخوة أيضا رفيق المصرى ذكر هذا في تكييفه لبيع العربون وأن المدة غير محددة، فالرأي الذي يتحدث عن بيع العربون المدة فيه محددة لا يتحدث عن بيع العربون في الفقه الإسلامى، هذا رأي من عنده، سنعود إليه في آخر الكلام.
الأدلة: سأذكر أولا أدلة المانعين ثم أدلة المجوزين.(8/506)
استدل المانعون لبيع العربون، أولا بحديث النهي عن بيع العربون وهذا دليل – كما قلت لكم – دليل قوي لما بيناه من صحة هذا الحديث، وإذا صح الحديث فلا معدل عنه.
الدليل الثانى: في بيع العربون غرر، قال ابن رشد الجد: ومن ذلك أن من الغرر، أي من الغرر المنهي عنه، نهى رسول الله صلى عليه وسلم عن بيع العربون، وقال أيضا: الغرر الكثير المانع من صحة العقد يكون في ثلاثة أشياء أحدهما العقد والثانى أخذ العوضين، والثالث الأجل فيهما أو في أحدهما، فأما الغرر في العقد فهو مثل ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة وعن بيع العربان)) . هذا الغرر فيه يرجع إلى صيغة العقد، لأنه لا يدري هل سيتم هذا البيع أو لا يتم، وقال ابن رشد الحفيد: وإنما صار الجمهور إلى منعه لأنه من باب الغرر والمخاطرة وأكل المال بغير عوض، وقد ورد التعليل بالغرر: وأكل المال بالباطل في كثير من كتب المالكية، وبالغ القرطبي في هذا فقال: إنه من باب بيع القمار، والغرر، والمخاطرة، وأكل المال بالباطل، بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل بإجماع. هذا كلام القرطبي.
والغرر متحقق في بيع العربون لأنه بيع مستور العاقبة، وهذا هو ذلك الغرر، لا يدري كل من البائع والمشتري، هل يتم البيع أم لا؟ ومتى يتم إذا تم؟، لأن المدة مجهولة – كما قلت لكم – أما أكل المال بالباطل فمتحقق فيه بصورة واضحة، إذا عدل المشتري لعذر ما، وباع البائع سلعته بالثمن الذي اتفق به مع المشتري، أو أكثر منه، فبأي حق يأخذ هذا العربون الزائد، لا أظن أن هناك خلافا في أن هذه الصورة من أكل المال بالباطل، ولا أعتقد أن الإمام أحمد يجوز مثل هذه الصورة.
وذكر أيضا بعض الفقهاء أدلة أخرى، وأنا يكفيني هذين الدليلين، فقالوا: إن فيه شرطين فاسدين، أحدهما: شرط كون ما دفعه المشتري للبائع يكون مجانا إن اختار ترك السلعة، والثاني: شرط الرد على البائع إذا لم يقع منه الرضا بالبيع. هذه المسألة تتعلق بالشروط، والرابع: أن بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، وهذا أيضا مهم لأن المشتري اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهما، في شرط الخيار العادي، وهذا فيما يبدو، الإخوة الثلاثة الذين بحثوا هذا الموضوع اعتبروا هذا مانعا من بيع العربون، ولهذا جاءت آراؤهم الثلاثة تشترط في بيع العربون ذكر المدة.(8/507)
وبهذا يعتبر منافذ الاختلاف بيني وبينهم أن بيع العربون المعروف في الفقه الإسلامي لا يجوز، لأن المدة فيه غير محددة، ومن الأدلة التي ذكرها تقريبا كل الإخوة الثلاثة الذين بحثوا الموضوع وإن كان بعضهم ذكرها مجزأة في أماكن مختلفة، والدكتور رفيق المصري كعادته أسهب فيها، وذكر أدلة أخرى، هي في رأيي من قبيل الردود وليست من الأدلة، هو ذكر هذه الأدلة الأربعة وزاد عليها أدلة أخرى، مثلا، ذكر حديث نافع بن الحارث يمكن حمله جمعا بين الآثار على أن شراء دار السجن لعمر قد تم بعد الشرط بعقد مبتدئ، احتسب فيه الدرهم من الثمن، وهذا رد في الواقع وليس من الأدلة، ويقول أيضا: لا يصح من أدلة جعل العربون عوضا عن انتظار البائع، وتأخير بيع السلعة من أجل المشتري، لأنه لو كان عوضا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء. لأن الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة فيه، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار، هذا كلام ابن قدامة في أثناء استدلاله بالأدلة.
ننتقل إلى أدلة المجوزين: استدل المجوزون لبيع العربون أولا بحديث زيد بن أسلم وهذا لم أجده في غير نيل الأوطار، ابن قدامة لم يذكره، وصاحب المقنع أيضا لم يذكره، ولا الإمام أحمد احتج به، احتج بأمر آخر هو الذي سيأتى في الدليل الثانى، مع أن في هذا الحديث المقال الذي ذكرناه مما يدل على أن كل هؤلاء لا يأخذون بهذا الحديث، فلا يجوز الاستدلال به. والدليل الثانى ما روي عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر، وإلا فله كذا وكذا.
وأحب أن أشير إلى حقيقة هذه العبارة كذلك، ليس فيها تحديد لمدة. قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر رضى الله عنه، هذا هو كل الدليل من هذا الأثر المروي عن عمر. قال ابن قدامة معلقا على هذا الكلام: وإنما صار أحمد فيه إلى ما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث … وذكر هذا الخبر ثم قال: فأما إن دفع إليه من قبل البيع درهما، وقال: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك، فهذا الدرهم لك، ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ وحسب الدرهم من الثمن صح، لأن البيع خلا عن الشرط المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه. هذا كلام ابن قدامة، فكأنه يشكك في ما روي، فيحمل عليه جمعا بين فعله وبين الخبر، ويقصد بالخبر الحديث الذي ينهى، وموافقة القياس.(8/508)
فكأن ابن قدامة يرى أن القياس هو المنع، ولأدلة القائلين بفساد العربون، فهذا يستفاد منه صراحة من كلام ابن قدامة، هذا أنه يرى العمل بحديث النهي عن بيع العربون ويرى أن المنع هو القياس ولذلك يؤول فعل عمر بما يتفق مع الحديث والقياس وهذا اتجاه سليم ففي كلام ابن قدامة هذا رد على هذا الدليل الذي استدل به المجوزون، والدليل الثالث للمجوزين: القياس على ما قاله سعيد وابن سيرين من أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئا، فقد قال الإمام أحمد: هذا في معناه، هذا أيضا منسوب للإمام أحمد، قياس بيع العربون على هذه الصورة، وسنتحدث عنها فيما بعد. وابن قدامة عندما ذكر هذا الدليل ولم يعلق عليه، سأتناوله بشيء من التفصيل فيما بعد، وبناء على هذا فإني أرجح المنع لقوة دليله، فإن حديث النهي أكثر رجال الحديث يصححونه، وحديث الجواز أكثرهم إن لم يكن كلهم يردونه. والغرر في بيع العربون متحقق، وأكل المال بالباطل في بعض صوره، وما اعتمد عليه المجوزون من أقوال بعض الصحابة والتابعين حتى ولو صحت عنهم لا يقوى على معارضة أدلة المانعين، أولها الحديث الذي صححه الإخوة الباحثون أيضا ذكروا هذه الأدلة، وحاولوا الرد على أدلة المانعين، وهم ثلاثتهم يجوزون بيع العربون، وإن كان في رأي بعضهم وهو رفيق المصرى لم يقل عبارة صريحة وإنما قال: أميل إلى المنع، مع أنه أكثر مَن أورد الأدلة في هذا الموضوع، ولهذا سأقرأ لكم ما اعترض به على أدلة المانعين مكتفيا به عن غيره، لأنه تضمنها وزيادة. " رأينا في بيع العربون: إنى أميل في العربون إلى اختيار مذهب الحنابلة المجيزين " أولا هو لم يختر مذهب الحنابلة، لأنه أصر على أن بيع العربون الجائز هو ما حددت فيه المدة، وهذا ليس رأي الإمام أحمد، لأنه قال بعد ذلك في أول كلامه قال: أختار مذهب الحنابلة بشرط أن تكون مدة الخيار معلومة، فخرج منهم، فهذا رأي مستقل، ثم يقول بعد ذلك: فلعل أهم حجة للمانعين هي أن بيع العربون يتضمن خيارا غير معلوم المدم، وهذه حجة قوية لذلك قيدنا جواز العربون بمعلومية المدة.
أما القول بمنع العربون باعتباره عوضا عن انتظار البائع فهذا يجاب عنه بما يلى:
ليس مسلما أن العربون هو مجرد تعويض عن الانتظار، يعني هذا ليس من الأدلة الرئيسية التي اعتمد عليها المانعون، فقد يلحق بالبائع ضرر نتيجة الخيار الممنوع للمشتري فكأنه يريد أن يجعله هو مقابلا للضرر، وقد رأينا أن هناك صورا لا يكون فيها ضرر بل يكون فيها نفع للبائع، ومع ذلك يحكم له بالعربون الذي أخذه، فكيف يتأتى هذا؟ ثم يمضي ليشعر بأن في هذا ضعفا فيقول: على فرض أن العربون تعويض الانتظار أو عوض للزمن فإن هذا العوض ليس مسلما أنه حرام، نعم هو حرام في القرض ولكنه جائز في البيع المؤجل فقد نص الفقهاء على أن للزمن قيمة ونحن في العربون أمام بيع لا أمام قرض. تشبيه العربون بالبيع المؤجل في غير محله، البيع المؤجل، المشتري يشتري السلعة ويأخذها ودخل الثمن فيها، أما هنا فالمشترى إذا ترك السلعة يترك السلعة ويدفع الثمن، فلا يمكن القياس على هذا.(8/509)
أما جعل العربون جزءا من الثمن في حال إمضاء العقد فهذا من باب التسامح لا سيما وأن مدة الانتظار تكون في الغالب قصيرة ساعات أو غير ذلك، لم أفهم هذا الكلام. أما الادعاء بأن العربون من باب أكل المال بالباطل فهذا غير مسلم، ذلك لأن المشتري ليس مستعدا لدفع مال في مقابل لا شيء، من قال هذا؟ كثيرون الذين يدفعون المال في مقابل لا شيء، وخيار الشرط معمول به في كل العصور، هو يقول: من يدفع مالا في مقابل لا شيء إلا إذا كان غبيا، والفرض أنه رشيد وقد بينا الصورة التي يتحقق فيها أكل المال بالباطل بما لا مزيد عليه.
أما القول " بأن في العربون غررا فهذا أيضا غير مسلم، وعند فرض وجوده فهو غرر يسير مغتفر " الفقهاء قالوا: إنه غرر غير مغتفر، فالمشتري أمام خيارين إما أن يمضي الصفقة ويكون العربون جزءا من الثمن وإما أن يجد مصلحته في عدم إمضائها ولو دفع العربون، إذ يرى أن خسارة العربون أقل من خسارة إمضاء الصفقة. وهذا الدليل يحمل في ذاته المنع لأن هذا شبيه بما عرض على المجمع في بعض صوره، وتعرض إليه الدكتور رفيق هنا أيضا، يشبه بيع الاختيار وهو أن يشتري الشخص الخيار نفسه يدفع مبلغا مقابل الخيار من غير أن يشتري سلعة، وقد أصدر المجمع فيه قرارا بالمنع فيما أذكر.
فلو أردنا بيع العربون بهذه الصفة قد يتخذ بعض المضاربين في الأسواق العالمية للوصول إلى هذا الغرض، هو يشتري السلعة ويدفع عربونا وهو يريد المضاربة ولا يريد الشراء، وينتظر، قد يأخذ مدة يحدد مدة بشهر فإذا انتهى الشهر يرى أن من مصلحته أن يمضي البيع أمضاه، وإذا رأى أن السلعة انخفضت بحيث لو ترك العربون لا يخسر ولو أخذها يخسر أكثر مما لو ترك العربون يترك العربون؛ فهذه هي المضاربات المعمول بها الآن في الأسواق المالية.(8/510)
ثم يقول الدكتور رفيق: مما يقوي مذهب الجواز ثلاثة عوامل أخرى:
1 – وجود مذهب فقهي معتبر يجيز العربون، وهو مذهب الإمام أحمد.
ونقول له: ويوجد بجانبه ثلاثة مذاهب لا تجيزه. يضيف إلى هذا: وقد كان معروفا بشدة الورع. وكأن غيره ليس معروفا بهذا.
2 – احتمال أن المانعين قد منعوه لعدم تقييد الخيار بمدة معلومة، فهذا فيه غرر غير مقبول وربما لو قيد بمدة لأجازه الجميع أو الأكثرون. والله أعلم.
ثم يضيف أيضا دليلا ثالثا وهو عموم البلوى، فبيع العربون منتشر في القوانين والأعراف التجارية، صحيح أن بيع العربون منتشر، وسنتعرض لهذا فيما بعد وقد أخذت به – تقريبا – كل قوانين البلاد العربية والبلاد الإسلامية بالصورة غير المشروعة، واعتمدوا في هذا على القوانين الغربية كما سأبين فيما بعد.
بعد هذا انتهينا إلى مسألة الترجيح: هنا مسائل أخرى جانبية تعرضت إليها في بحثي وتعرض إليها أيضا الدكتور رفيق المصري، ولم يتعرض لها الأخوان الفاضلان الدكتور عبد الله والدكتور وهبة وهي أن هناك صورا تشتمل على بيع العربون ولكنها ليست منه، ذكرها الفقهاء ويذكرونها دائما وخصوصا فقهاء المالكية عند حديثهم عن بيع العربون، لا حاجة للتعرض لهذه لئلا نطيل الحديث، لكن لا بد من التعرض لصورة منها هي التي اعتمد عليها الإمام أحمد وشبه بيع العربون بها، وهي: قد يشترى شخص سلعة ثم يتفق مع البائع على أن يردها ومعها شيء من المال، يشتري شخص سلعة انتهى البيع وتم الشراء وتسلم السلعة، ثم يتفق مع البائع على أن يردها ومعها شيء من المال. هذه هي الصورة التي قاس عليها الإمام أحمد صورة بيع العربون الممنوع عند الجمهور.
قال سعيد وابن سيرين – أيضا – (لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا) . ولا خلاف بين الفقهاء في جواز هذه الصورة، إذا كان البيع الأول نقدا، هذه الصورة جائزة عند جميع الفقهاء. المالكية هم الذين استثنوا بعض الحالات وهي ما إذا كان البيع الأول إلى أجل، لا داعي للخوض فيها ولكن غيرهم جوزها في جميع الحالات. وهذه الصورة إقالة للبيع الأول وهي شراء مستأنف بين المشتري والبائع، المشتري أصبح هو البائع والبائع أصبح المشتري، ولا مانع من أن يشتري شخص سلعة بمائة نقدا، نأتي إلى الصورة المتفق عليها – ثم يبيعها لمن اشتراها منه يبيعها فباعها بتسعين نقدا، المانع قد يأتي إذا اشتراها بأجل لكن إذا اشتراها نقدا بمائة وأراد أن يبيعها فباعها بتسعين نقدا أيضا، لا شيء في هذا. وقياس بيع العربون على هذا لا أرى له وجها.(8/511)
الصور الأخرى والتى لا داعي لذكرها، فلقد أطال الكلام فيها، تكلم عن هذه الصور وتكلم عن البيوع الشرطية الآجلة التي أشرت إليها، وتكلم عن التعزير المالى وعن الشرط الجزائي في عدد من الصفحات. يقول في آخر الكلام عن الشرط الجزائي: والعربون الذي يدفعه المشتري للبائع أو للمستأجر في المؤجر قد يكون شرطا جزائيا يتفق عليه الطرفان تعويضا ممن يأبى المضي في إبرام العقد. فهو مصر على أن بيع العربون يثبت للطرفين، واشتراطه لجميع أقساط الدين إذا تأخر المدين في دفع قسط منها هو أيضا شرط جزاء والواقع أنه ما فيه … ثم أخذ يتكلم عن التفرقة بين العربون والشرط الجزائي في أكثر من صفحتين، وانتهى إلى عنوان جواز العربون والشرط الجزائي. يقول: إن إجازة الشرط الجزائي تقتضي إجازة العربون نظرا للتشابه الكبير بينهما لا سيما في القوانين التي تجيز الشرط الجزائي بدون أي حق للتقاضي في تعديل مبلغه بالزيادة أو النقصان أو الإلغاء، لكن يتناسب المبلغ مع مقدار الضرر الفعلي، ومما سبق إثباته من فروق بين العربون والشرط الجزائي لا يستحق تفريقا في الحكم الشرعي بينهما وإني أختار جوازهما بلا تفريق، وفي المبحث الثاني سأبين أسباب جواز العربون وهو ما قرأته لكم من قبل.
النقطة التي بعد هذا وإن كانت نقطة جانبية لكنها مهمة وهي العربون في قوانين البلاد العربية، وهذه جزئية تعرضت إليها أيضا وتعرض إليها – أيضا – الدكتور رفيق المصري وإن كان بأقل مما ذكرته. تنص المادة (130) من القانون المدني المصري على ما يأتي:
1 – دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه إلا إذا اقتضى الاتفاق غير ذلك، فإذا عدل من دفع العربون فقده، وإذا عدل من قبضه رد ضعفه، هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر. هذا هو رأي القانون المصري، فاعتبر دفع العربون في حالة عدم الا تفاق، لاحظوا أنه هنا لا يوجد اتفاق، أعتبره دليلا على ثبوت حق العربون لكل من المتعاقدين ويترتب عليه ما ذكرناه. وتبع القانون المصري عدد من قوانين البلاد العربية، وخالفه في هذا القانون العراقي، أخذ بالعكس. القانون العراقي يقول:
" يعتبر دفع العربون دليلا على أن العقد أصبح باتا لا يجوز العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك – عكس ما ذكره القانون المصري – فإذا اتفق المتعاقدان على أن العربون جزاء للعدول عن العقد كان لكل منهما حق العدول، فإن عدل من دفع العربون وجب عليه تركه، وإن عدل من قبضه رده مضاعفا " النتيجة واحدة كل ما هنالك القانون العراقي يرى أن العربون في حالة عدم الاتفاق يكون جزءا من الثمن، ودفعه دليل على أن العقد أصبح باتا لا خيار فيه القانون المصري يقول: لا، (العكس) .
الفرق بين القانون المصري والقانون العراقي هو أن القانون المصري يجعل دفع العربون في حالة عدم الاتفاق دليلا على أن لكل من المتعاقدين حق العدول، أما القانون العراقي يجعل دفع العربون في حالة عدم الاتفاق دليلا على أن العقد أصبح باتا لا يجوز العدول عته إلا باتفاق بين الطرفين.(8/512)
وكل من القانون المصري والقانون العراقي متأثر بالقوانين الغربية. يقول الدكتور السنهوري في هذا: " وقد انقسمت القوانين الأجنبية بين هاتين الدلالتين فالقوانين اللاتينية بوجه عام تأخذ بدلالة العدول، أما القوانين الجرمانية فتأخذ بدلالة البت. وغني عن البيان أن تلك الدلالتين قابلة لإثبات العكس ". هذا ما يتعلق بالقوانين، فهي إذن قوانين أصلها القوانين الغربية ولا تمت للشريعة الإسلامية بصلة.
القانون المدني الأردني مع أن أحكامه مستمدة من الفقه الإسلامي فقد تبع في هذه المسألة القانون المصري ونصوصه جاءت متقاربة أو متطابقة مع القانون المصري. وقد حاول كل من الدكتور السنهوري وواضع المذكرة الإيضاحية للقانون الأردني حاولا تأصيل المادة هذه في الفقه الإسلامي، لأنهما التزما فيه أن تؤصل من الفقه الإسلامي، ولكن لم يوفقا في هذا.
مشروع قانون المعاملات المالية العربي الموحد، وهذا قانون فرغ من صياغته ووزع على الدول فيما أعلم، وقد كنت شاركت في تأصيل بعض مواده، هذا القانون يستمد أحكامه من الفقه الإسلامي.
في الحقيقة أنا تمهلت في القراءة وفي العرض لأن المكتوب في البرنامج أن الزمن ساعتان من الساعة الثامنة والنصف إلى العاشرة والنصف، ومع ذلك سأحاول أن أنتهي في النصف الساعة الباقية.
أختم هذا بأن كل هذه القوانين أخذت بالقوانين الغربية. القانون الوحيد الذي أخذ برأي الجمهور هو القانون السوداني الذي صدر عام 1984 م جاء فيه: " لا يجوز دفع العربون ولا استلامه " فقطع الخط من أول مرة، ومع ذلك إذا قضت المحكمة بنشوء العقد يعتبر كل مبلغ مدفوع جزء من المقابل ولها أن تقضي بأي تعويض تراه عادلاً نظير أي إخلال بالعقد، هذا يخضع للقواعد العامة. بعد ذلك توجد بعض المسائل من ضمن التي عرضت منها: حاجة الناس إلى العربون، هل هناك حاجة أو لا؟ بطبيعة الحال الإخوة الثلاثة قالوا: إن هناك حاجة، وقلت: ليس هناك حاجة، لا حاجة عامة ولا حاجة خاصة تجعل التعامل به جائزًا مع ما ورد فيه من المنع لأن هذه الحاجة إما أن تكون غير متعينة وإما أن تكون غير معتبرة، فهي غير متعينة لأن في خيار الشرط المعروف في الفقه الإسلامي غنى عن هذا. لماذا نطالب بدفع مقابل؟! وهي غير معتبرة وهذا هو الأهم لأنه ورد النص بالمنع.(8/513)
ننتقل بعد ذلك إلى المسائل التي عرضت وطلب الإجابة عنها وهي ست مسائل:
المسألة الأولى: هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف؟ الجواب: قلنا في تكييف بيع العربون: إنه يتضمن خيار شرط للمشتري بمقابل في حالة رد المبيع، وبيع النقد بجنسه والصرف لا يجوز فيهما خيار الشرط ولو كان بغير مقابل. هذا عند الأئمة الأربعة لا خلاف فيه، وتوجد نقول تدل على هذا سأتركها. وإذا كان الصرف لا يجوز فيه خيار الشرط فإنه لا يجوز فيه العربون من باب أولى، هذا خيار شرط وزيادة، ولا يجوز فيه لا على رأي من يمنع العربون ولا على رأي من يجيزه. أما على رأي من يمنعه فالأمر واضح: اجتمع مانعان؛ لأن الصرف بيع والبيع لا يجوز فيه العربون ولو لم يكن مما يشترط فيه التقابض، وأما على رأي من يجيز بيع العربون فلأن بيع العربون فيه خيار شرط، وخيار الشرط لا يجوز في العقد الذي يشترط فيه التقابض والصرف يشترط فيه التقابض فلا يجوز فيه خيار الشرط ولا العربون. وقلت قبل هذا الجواب ووافقني عليه الإخوة الثلاثة ولا اختلاف إلا في طريقة العرض والصياغة.
المسألة الثانية: هل يجوز أن يكون العربون مبلغا مستقلا عن سعر السلعة؟.
هذه المعاملة المسؤول عنها لا تدخل في بيع العربون المعروف في الفقه الإسلامي والذي اختلف الفقهاء في حكمه كما قلنا، لأن بيع العربون الذي أجازه الإمام أحمد يكون العربون فيه محسوبا من الثمن إذا أخذ المشتري السلعة، والمعاملة المسؤول عن حكمها يكون فيها العربون مستقلا عن الثمن، لا يدخل في الثمن. وصورة هذه المعاملة – فيما يظهر لي – هي أن يشترى شخص من آخر سلعة بألف ريال على أن يكون له الخيار في مدة معلومة مقابل مئة ريال يدفعها للبائع سواء أخذ السلعة بالألف أم ترك البيع. إذا كان هذا التصوير للمعاملة هو الجواب من السؤال فإنها تكون من قبيل بيع الاختيار الذي تحدثت عنه فيما قبل والذي أصدر المجمع فيه قرارا بعدم الجواز.
وقد وجدت في الدسوقي عبارة في الكلام عن بيع العربون تنطبق على هذه الصورة تماما، ذكر الدسوقي لصور بيع العربون الممنوعة قول البائع للمشترى: لا أبيعك السلعة إلا إذا أعطيتني دينارا آخذه مطلقا سواء أخذت السلعة أو كرهت أخذها. هذه مسألة حصل فيها اختلاف بين الأخوة، والزحيلي متفق معي مع اختلاف في التعليل، أما الدكتور عبد الله يقول: يجوز، وأترك له بيان رأيه، أما الدكتور رفيق فهو غير موجود لذلك سأتولى عنه الحديث. قال: وإن كان مجموع كلامه متفق معنا فهو يقول: لا يجوز في حالة ويجوز في حالة أخرى، لكن الذي فهمته من قوله أنه يرى المنع، وبذلك سأوفر قراءة ما كتبه.(8/514)
المسألة الثالثة: هل يجوز العربون في الخدمات كما في السلع؟. العربون لا يجوز في جميع العقود عند من يمنعه في البيع وهم الأئمة الثلاثة. وعندنا دليل نقل عن بعض الفقهاء؛ أما في مذهب الحنابلة المجوزين لبيع العربون فقد قال محشي المقنع: وحكم الإجارة كالبيع _ أنا لم أجد في المغني نصا في هذا الموضوع لكن هذا في المحشي _ ذكره في الوجيز والفروع ولم يذكر ابن قدامة الإجارة؛ وقال بعدما أورد رأي المانعين لبيع العربون: وهذا هو القياس وإنما صار فيه أحمد إلى ما روي عن نافع بن عبد الحارث … إلخ. ولهذا قلت إني أرى قصر جواز العربون في مذهب الحنابلة حتى عند من يجيزه على ما نص عليه فقهاؤهم ولا يتوسع فيه وهو البيع والإجارة فقط.
في هذه المسألة الدكتور الزحيلي يقول: يجوز في جميع الخدمات إجارة وغيرها، وكذلك الدكتور عبد الله يقول: يجوز، ولكن لاحظت عليه أنه قال يجوز واستشهد بكلام المالكية فهذا لا يستقيم، أما الدكتور رفيق فيقول بالجواز وتوسع في هذا الموضوع كثيرا وتطرق للكلام عن الأجير الخاص والأجير العام وفرق بين الاثنين، وسأقرأ لكم العبارة الأخيرة لأن فيها زيادة شرط اشترطه الدكتور رفيق لجواز العربون: " يمكن أن تلحق بالعربون في البيع والإجارة فهي جائزة. ويلحظ فيها أن نكول أحد الطرفين يسبب ضررا للآخر فإذا لم يتصور ضرر في بعض الصور كان العربون غير جائز لأنه يصبح أكلا للمال بالباطل؛ رجع فقال: _ احتج بما حاول أن يرد به عن المانعين لأنه يصبح أكلا للمال بالباطل _ وفقا للفقهاء الذين لم يجيزوا العربون.
المسألة الرابعة: هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية كالأسهم؟. الجواب قصير على هذا، لا يجوز – على رأي الجمهور – العربون في شراء الأوراق المالية كالأسهم لأنها لا تخرج عن كونها بيعا وبيع العربون لا يجوز عندهم، والدليل على رأي الحنابلة إذا كانت الأوراق مما يجوز شراؤه، لا توجد خصوصية لها إلا أنها في بعض الحالات قد لا تجوز.
وفي هذه المسألة قال الزحيلي: يجوز، والشيخ عبد الله قال أيضا: يجوز والدكتور رفيق وسع بعض الشيء وقيد فقال بالجواز في الحالات التي يجوز فيها شراء الأسهم وعدد تلك الحالات، ولعل الذين قالوا بالجواز يقصدون هذا أيضا.(8/515)
المسألة الخامسة: هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟. الجواب: لا يختلف حكم العربون في بيع المرابحة عنه في بيع المساومة فكلاهما بيع، فمن يمنع العربون في بيع المساومة يمنعه في بيع المرابحة ومن يجوزه في بيع المساومة يجوزه في بيع المرابحة، ولا خصوصية لبيع المرابحة في منع العربون أو جوازه. هذا بالنسبة لبيع المرابحة المعروف، وليس بيع المرابحة للآمر بالشراء لأنني سأتكلم عنه فيما بعد. في المسألة الخامسة أيضا الدكتور الزحيلي قال: يجوز؛ وتعرض فيها لشروط بيع المرابحة؛ والشيخ عبد الله _ أيضا _ قال: يجوز؛ والدكتور رفيق تكلم بإسهاب عن بيع المرابحة وبيع الأمانة وانتهى إلى أنه يجوز عند من يجوز العربون؛ حتى أنه تطرق في هذه الجزئية إلى بيع المرابحة للآمر بالشراء وقرر أنه يجوز عند من يجيز العربون ويجيز الإلزام في بيع المرابحة للآمر بالشراء، وعن رأيه هو قال: إنه لا يجيزه لأنه لا يجيز الإلزام في بيع المرابحة.
المسألة السادسة والأخيرة: هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة أم يجوز عند المواعدة على الشراء؟. هذا الاستفسار ورد فيه شيء من الغموض ولذلك اختلفت الآراء فيه بحسب فهم كل أستاذ له. أما أنا فقلت: يبدو لي أن المقصود بهذا السؤال هو معرفة حكم العربون في بيع المرابحة للآمر بالشراء وليس المقصود منه معرفة حكمه في بيع العين الغائبة المملوكة للبائع كما يتبادر إلى الذهن من عبارة أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة؛ لأن بيع العين الغائبة ليس فيه مواعدة، والسؤال يقول: هل يجوز عند المواعدة على الشراء؟. إنما المواعدة في بيع المرابحة للآمر بالشراء ولهذا أجبت عن هذا السؤال على أنه يسأل عن العربون في بيع المرابحة للآمر بالشراء. فقلت: إذا كان هذا الذي بدا لي هو المقصود فإن حكم العربون يختلف باختلاف المرحلة التي يدفع فيها في بيع المرابحة للآمر بالشراء لأن هذا البيع يتم على مرحلتين: الأولى، المواعدة، والثانية مرحلة إبرام العقد، فإن كان دفع العربون في المرحلة الثانية، أي مشروطا في عقد البيع، فإن حكمه هو ما بيناه في مشروعية العربون لا يختلف، المنع عند الأئمة الثلاثة والجواز عند الإمام أحمد، وإذا كان دفع العربون في المرحلة الأولى – مرحلة المواعدة – فإن أخذنا برأي القائلين بالإلزام في المواعدة، فإن الحكم لا يختلف عنه أيضا في مرحلة البيع لأن هذا كأنه بيع، وإن أخذنا برأي القائلين بعدم إلزام المواعدة وهو ما قرره مجمع الفقه فإن العربون بمعناه الفقهي الذي بيناه لا يمكن تصوره فيها لأن العربون لا يكون إلا في عقد لازم كالبيع والإجارة، والمواعدة غير اللازمة ليست بيعا ولا عقدا وإنما هي وعد من الآمر بالشراء غير ملزم له؛ فهو بالخيار، إن شاء اشترى وإن شاء ترك من غير أن يدفع عربونا، فإذا شرط البائع على الآمر بالشراء أن يدفع له عربون ويفقد هذا العربون إذا ترك الشراء فإن هذا يكون تناقضا مع كون الوعد غير ملزم.
وتنتهى بهذا الإجابة عن الاستفسارات الستة.(8/516)
بعد ذلك المطلوب من كل باحث أن يقدم اقتراحات، وقد استجاب – أعتقد – اثنان فقط لهذا. والدكتور عبد الله والدكتور رفيق لم يقدما شيئا. أقرأ لكم أولا ما قدمه الدكتور الزحيلي، لأنه قصير.
التوصية المقترحة في بيع العربون:
يقول: عقد العربون جائز للحاجة في البيع والإجارة بشرط تحديد زمن معين للانتظار، وكذا في بيع وشراء الأوراق المالية كالأسهم، وفي بيع المرابحة إلا في حال الوقوع في الربا، وفي حال تقديم العربون مقابل الخدمات كما في السلع ولا يصح في الصرف ولا في المواعدة على الشراء، ويعد العربون جزءا من الثمن أو الأجرة بعد عقد لا قبله في حالات إباحة، وعند إتمام العقد، فإن لم يتم العقد كان حقا للبائع بسبب إضراره وانتظاره وتعطله وقبول الناكل عن العقد خسارته حال دخوله. (هذا ما قدمه الدكتور الزحيلي) .
أما أنا فقدمت ثلاثة اقتراحات بالنسبة للجواز وعدمه:
الاقتراح الأول: مبني على رأي الجمهور القائلين بعدم الجواز، وهو: لا يجوز بيع العربون ويفسخ إن وقع ويرد للمشتري عربونه إذا لم يتم البيع ويفسخ أيضا إذا تم البيع وكان المبيع قائما فإن فات مضى بقيمته ويحسب العربون من القيمة. هذا مأخوذ من مذهب المالكية.
الاقتراح الثاني: وهو مبني على رأي الإمام أحمد، يجوز بيع العربون ويحتسب العربون من الثمن إذا تم الشراء ويكون من حق البائع إذا لم يتم. هذا واضح.
الاقتراح الثالث: هو في الواقع توفيق بين الرأيين أو هو رأي ثالث، وهو: يجوز بيع العربون إذا حددت مدة الانتظار – وأود أن تضاف هذه للذين يتابعونني في القراءة – ويحتسب العربون من الثمن إذا تم الشراء، أما إذا عدل المشتري عن الشراء، فلا يجوز للبائع أن يأخذ من العربون إلا مقدار الخسارة التي لحقته بسبب عدول المشتري ويرد الباقى.
الغرض من هذا تفادي حالتين وهما: إما أنه يترتب على الجواز أكل المال بالباطل، والحالة الثانية: ألا تكون المدة محددة؛ لا بد من تحديد المدة.
ما يتعلق بالاقتراحات الأخرى في المسائل المعروضة تركتها لأنها مذكورة في الخلاصة ويمكن أخذها من الخلاصة ولا داعي لقراءتها مرة أخرى.
وأكتفي بهذا، وشكرا لكم على استماعكم.(8/517)
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فنشكر فضيلة الدكتور الصديق على بحثه القيم وعلى عرضه الجيد. وأحب أن أعرض بعض الملاحظات على بحثه وعلى تعليقه:
علمنا أن اعتماد المانعين لبيع العربون هو هذا الحديث – حديث عمرو بن شعيب – وعمرو بن شعيب يروي عن أبيه عن جده ويروي عن غيرهم، فإن ما رواه عمرو بن شعيب عن غير أبيه وبعضه عن جده فهذا قبله كثير من المحدثين إذا روي عن غير أبيه عن جده. أما إذا روى عن أبيه وأبوه رواه عن جده فهذا سند مطعون فيه وقد قال فيه الإمام أحمد: إنه يروي عن مناكير، وقال المحدثون: إنه لا يروي عن أبيه ولا عن جده وإنما يروي عن صحيفة وجدها فكان ينقل عنها، وبناء عليه فالحديث هذا مطعون فيه في هذا السند، فلا يصح الاعتماد عليه ولا يصح أبدا أنه ينقض أصلا متفقا عليه بين علماء المسلمين، وهذا أن الأصل في المعاملات والعادات الإباحة. فهذا أصل كبير لا يعدل عنه إلا حينما نجد نصا صحيحا صريحا في الموضوع، أما ما دام مثل هذا الحديث فهذا حديث لا يقاوم هذا الأصل. هذا من ناحية.
من ناحية أخرى إن لهذا الحديث مقابلا، أي حديث: وهو حديث (وبيع العربون حلال) ، الحديث هذا وإن طعن فيه بعض العلماء كما طعنوا في حديث عمرو بن شعيب ولكن صححه ابن حبان، وابن حجر قال: إنه – مقبول قاله في التلخيص – وابن حجر هو أمير المؤمنين في الحديث، وقد تأخر واطلع اطلاعا واسعا وتتبع الأحاديث وتتبع الرجال وترجم لهم وعرف الرجال المقبولين من المجروحين، وقال: إن هذا الحديث مقبول. وأن الطعن فيه هو عن عبد الرحمن العدوي، وأن عبد الرحمن العدوي رجل ثقة؛ هكذا قال ابن حجر. بناء عليه فأقل الحالين أن الحديثين تقابلا، وأن كلا منهما قيل فيه بالصحة والصحة تعني القبول، وقيل فيه بالطعن.(8/518)
نرجع إلى الأصل وهو أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة والتوسعة، فلا نعدل عن هذا الأصل إلا حينما يأتينا نص لا نستطيع رده ونفوض الأمر إلى الله ورسوله، أما ما دامت الأحاديث أو أقوال مطعون فيها فهذا لا يعتمد عليه مقابل هذا الأصل. أيضا قال المانعون: إنه يوجد في بيع العربون محظور وهو محمول على الجهالة – جهالة النهاية - وهذا غير مسلم به، فالذين أجازوا بيع العربون – وهم الحنابلة – حددوه بمدة. في (غاية المنتهى) قالوا: إذا كان في أجل معلوم، وفقهاء الحنابلة عندهم كل أجل لا يكون معلوما ألغوه سواء في بيع الناجز أو في بيع خيار الشرط، إذا لم يكن الأجل معلوما فإن الأجل عندهم باطل والعقد عندهم صحيح. وبناء عليه بيع العربون هذا عندهم لا بد أن يكون مؤجلا وهذا ما صرح به مرعي في غايته. فلو أبطلنا هذا البيع – على فرض – للتخوف من جهالة العاقبة لأبطلنا أيضا خيار الشرط. خيار الشرط هذا مجهول العاقبة، وأنه إذا بعت هذا البيع بخيار لمدة معلومة ففيه احتمال إمضاء البيع وفيه احتمال فسخ البيع إذا نقول: خيار الشرط الذي أجازه أكثر الأئمة يكون باطلا ويكون غير جائز بناء على إبطال بيع العربون على جهالة العاقبة. أيضا من الأدلة على جواز هذا البيع فعل عمر – رضي الله عنه – حيث إنه اشترى الدار من صفوان بن أمية بن خلف، اشتراها له وكيله على رضا عمر وأجل الشراء برضا عمر، فإن لم يشتر فما دفعه من مبلغ وهو أربعمئة درهم فهي له، ومع هذا أجازه عمر – رضي الله عنه – والحديث في البخاري، والأثر في البخاري معلق وعلقه البخاري بدون تضعيف. والجزم بالصحة، لأن البخاري إذا أراد أن يضعف حديثا معلقا أشار إليه بلفظ التورية (قيل) ، وأما إذا ذكر الحديث فقال فلان، فمراده أنه ارتضاه، والبخاري من هو عندكم وعند غيركم.
هناك حديث (إن المسلمين على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا) هذا الشرط لا يوجد فيه لا تحريم حلال ولا تحليل حرام لا نجد فيه شيئا من هذا، أما كون أن هذا أكل للمال بالباطل فهذا أمر غير مسلم لأنه ليس أكلا للمال بالباطل لأن الطرفين متراضيان على هذا، لا يوجد إكراه لأحد على ذلك. نعم التراضي على العقود المحرمة غير مسوغ لها ولكن هذا في مقابل الانتظار إلى مدة وفى مقابل رد اعتبار السلعة بعد أن تعاد من البائع، ولا يرى فيها تنقص معنويا وماديا، وهذا كأنه تعويض لها.(8/519)
بيع العربون الآن سد فسادا كبيرا وهو بيع النجش، بيع النجش الذي يتعاطى في كثير من المقاولات وكثير من المعاملات، بيع العربون هذا سد هذا الباب الفاسد ومنعه وصارت المقاولات الآن إذا أريدت يجعلونها فتح مظاريف، وهذا الظرف يقدم فيه شيء نسبة من ثمن المقاولة أو ثمن المبيع، بناء عليه فإن أي إنسان لا يقدم على المزايدة في هذه المقاولة أو في هذا البيع أو في هذا الشراء لا يقدم عليه إلا إنسان متأكد من نفسه أنه سيدخل في هذه المقاولة أو سيشتري هذه السلعة، فتقديم هذا المبلغ الذي إن دخل في المقاولة أو دخل في الشراء صار جزءا من الثمن وإن لم يدخل ذهب عليه، هذا منع باب أن هناك أناسا يتلاعبون بالمقاولات، ويتلاعبون بالمقاولات إما إغرارا بالمشتري والمقاول وإما إرادة لمنع صاحب المشروع أو صاحب السلعة التي ستباع، يريدون هذا أو يريدون هذا، بيع العربون منع وقطع دابر هذا العمل المفسد، والآن أصبح بيع العربون إجماعا عمليا بين المسلمين وبين غير المسلمين ولا أظن الآن أنه حتى لو أصدر المجلس قرارا بمنع هذه المعاملة ويقول بما قاله الأئمة وأتباعهم السابقون وأتباعهم الآن في الوقت الحاضر أنهم لا يقولون بهذا، بمعنى أنه لو أصدر قرارا بهذا فالقرار ليس له صدى، ولن يعمل به لأن الآن المعاملات جارية على هذا والأصل في ذلك الإباحة وليس فيه غرر ولا جهالة، وأنا أعجب من فضيلة الشيخ الصديق أنه يرى هذا الأي ويرى أنه من باب الغرر ومن باب الجهالة وهو مالكي المذهب والإمام مالك – رحمه الله – معروف مذهبه بسعة هذه المسألة وسعة هذا الباب أنه يجيز كثيرا من الأمور وكثيرا من المعاملات التي فيها شيء من الغرر، وقوله من المرتضى، وهو الذي أخذ به كثير من أهل العلم وقد ارتضاه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وقالوا: إن هذا هو الذي لا يسع الناس العمل إلا به هو مذهب الإمام مالك في هذه المسألة. وشكرا.
الشيخ يوسف القرضاوى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.(8/520)
جزى الله أخانا الشيخ عبد الله البسام خيرا فقد كفانا الكثير مما يقال، وجزى الله – أيضا – الشيخ الصديق خيرا ورأيه هذا قديم ومعروف وهو متشدد في هذا الأمر، واعتماده الأساسي – في الحقيقة – على حديث عمرو بن شعيب، وصحح هو الحديث أو نقل تصحيحه وقال: إن الحديث صححه أكثر علماء الحديث، وهذه العبارة موهمة في الحقيقة، يعني الحديث نفسه (حديث النهي عن العربان) لم أر من صححه أو نص على تصحيح هذا الحديث، إنما الكلام في تصحيح عمرو بن شعيب نفسه. الذي في تدريب الراوي الكلام عن حديث عمرو بن شعيب وحديث عمرو بن شعيب هذا مختلف فيه كثيرا جدا ومعظم المتقدمين على تضعيف حديثه، ومن أخذه منهم وقبله قال: إذا روى عنه الثقات. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قال الحافظ ابن حجر: إن ترجمة عمرو بن شعيب قوية على المختار إذا لم تعارض. ونجد هذين الأمرين – أن يروي عنه الثقة من الناحية، وألا تعارض من ناحية أخرى – مفقودا في مسألتنا، أولا: لم يرو عنه الثقة، ولا أدرى كيف غفل أو أغفل فضيلة الدكتور الصديق – حفظه الله – مسألة الذي روى عن عمرو بن شعيب هو عبد الله بن لهيعة. الثقة، الذي قال عنه الإمام مالك: أخبرني الثقة، عرف وسمى الثقة بأنه عبد الله بن لهيعة. هل عبد الله بن لهيعة موثق حتى يكون حديث عمرو بن شعيب صحيحا؛ بل اشترطوا لكي يقبل حديث عمرو بن شعيب أن يروي عنه الثقة. عبد الله بن لهيعة مضعف، هناك من ضعفه بإطلاق وهناك من قبله في بعض الحالات، قالوا: من روى عنه قبل احتراق كتبه، وذلك مثل العبادلة الأربعة (عبد الله بن مبارك وعبد الله بن وهب وعبد الله بن مقري) وليس أحد من هؤلاء ممن روى عن ابن لهيعة هنا. اعتمد الشيخ الصديق على أستاذنا الجليل الشيخ محمد شاكر وهو على جلالة قدره في علم الحديث وسمو مكانته كان يتساهل أحيانا في التصحيح، يأخذ بتوثيق ابن حبان بإطلاقه إذا انفرد ابن حبان بالتوثيق، ووثق كثيرا من المضعفين عند العلماء أو المختلف فيهم على الأقل وثقهم بإطلاق، مثل ابن حوشب وليث بن أبي سليل وعبد الله بن محمد بن عقيل وكذلك عبد الله بن لهيعة، فالشيخ شاكر يوثق ابن لهيعة ولذلك صحح حديثه هنا. فالحديث أولا عن ابن لهيعة وهذا معروف، والشيء الآخر إنه كما قال ابن حجر إن ترجمة عمرو بن شعيب تقبل حيث لا تعارض، وهنا عورضت، عورضت بفعل عمر ورأي ابنه عبد الله، اثنان من الصحابة. فالإمام أحمد – فعلا – اعتمد في هذا الأمر على فعل الصحابة عمر وابنه، ومعه أربعة من التابعين، ونحن نقول: نأخذ برأي إمام واحد ولو انفرد به في مثل هذه الأمور، فكيف بإمام مثل أحمد على ورعه وتحريه طبعا؟ فعلا كلهم ورعون ومتحرون، ولكن الإمام أحمد – فعلا – ربما زاد في هذا ومعه أربعة من التابعين، واثنان من الصحابة. القول بأن التحريم يؤخذ به لأنه أحوط ويقدم على الإباحة هذا قول ليس على إطلاقه، ربما في الأشياء التي الأصل فيها التحريم مثل الأبضاع، إنما أشار أخي الشيخ البسام أن الأصل في المعاملات الإذن على خلاف العبادات، والأصل في البيوع الحل كما أكد ذلك الإمام ابن رشد في المقدمات أن الآية {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] تدل على أن الأصل كل بيع حلال إلا ما ورد نص بمنعه. ومذهب الحنابلة في مسألة أن العقود والشروط الأصل فيها الإباحة، وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام ابن القيم في هذا معروف ولا يحتاج إلى أن نكرره.(8/521)
الشيخ الصديق يقول: لا حاجة إلى هذا الأمر، كيف لا حاجة إليه والناس جميعا متعاملون به؟ الحاجة ماسة ولولا هذا ما انتشر هذا الانتشار وتعامل الناس به فالمسلمون تعاملوا به من قديم حتى في البلاد التي ليست على مذهب الإمام أحمد قلدوا الإمام أحمد.
مسألة المدة المرجع فيها إلى العرف. يعني ليس معقولا أن الأمر مفتوح إلى الأبد، لكن يحكمها العرف ومع هذا لو أخذنا باقتراح إضافة تحديد المدة لا أرى في ذلك بأسا تقريبا لشقة الخلاف.
وشكرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
أريد أن أعلق على ثلاث نقاط فقط:
الأولى: بشأن عدم تحديد المدة في بيع العربون: أنا أرى عدم التحديد ليس مؤثرا لأن هناك خيارات شرعية ليس لها مدة ولم يؤثر عدم تحديد المدة فيها، مثال ذلك خيار العيب فإنه تقدر مدة تكفي للعيبة على البائع والمراجعة له، وكذلك خيار الشرط عند المالكية فإن لهم مددا متفاوتة بحسب الأشياء وتقديرها فيه مدخل كبير للاجتهاد. كذلك خيار المجلس فإنه ليس محددا لأنه ما داما في المجلس. ولذلك هناك في خيار المجلس أمر يمكن أن يستأنس به في هذا الموضوع وهو بيع العربون، فإن خيار المجلس ينتهى بأحد أمرين، إما بالتفرق وإما بالتخاير، أما التفرق فهو مغادرة أحدهما للآخر – تفرقا بالأبدان – وأما التخاير فهو أن يقول أحدهما للآخر – أو يقول البائع للمشتري -: اختر، فيطالبه بحسم الأمر. وهذا ينفعنا في بيع العربون، فإذا لم تحدد فيه مدة أمكن للبائع أن يخاطب المشتري ويقول له: اختر فإما أن تمضي البيع ويكون هذا العربون جزءا من الثمن، وإما ألا تمضيه فحينئذ ينتهي الأمر. فتحديد المدة ليس من أحكام العربون الذاتية، ولذلك نجد أن أصل الفقه الحنبلي لم يتعرض له وإنما تعرض له بعض المتأخرين.
المسألة الثانية: تشبيه بيع العربون بالاختيارات، كما أشار فضيلة الشيخ الصديق، هذا التشبيه ليس سليما، وأن الاختيارات ليس فيها مبيع، إنما هو إرادة ومشيئة محضة يتم التعاود عليها بين ارتباط بسلعة معينة، وأما في بيع العربون فهناك سلعة معروضة للبيع ومعينة فهي من مقدمات البيع الفعلي وليس البيع الوهمي.(8/522)
المسألة الثالثة: مسألة التعويض عند النكول عن البيع فإن هناك ثلاثة اتجاهات:
الأول: أن يدع البائع العربون ولا يأخذه وهذه لم يتعرض لها بشكل مفصل، وقد يقول قائل: ما فائدة العربون ههنا؟ العربون ههنا لتأكيد الجدية، وهذه – يعني – قضية يلجأ إليها كثير من التجار، يأخذ عربونا وليس في نيته أن يأخذ هذا العربون إذا نكل المشتري ولكن يريد أن يؤكد جدية هذا الشراء، فيأخذه كأنه يأخذ مقدما من الثمن على عزم تمام البيع. فهذا أيضا يشكل لنا ثلاثة آراء. إذن الرأي الأول: أخذ العربون كله، والرأي الثاني: أن يعيد العربون كله للمشتري حتى لو نكل. والرأي الثالث: أن يأخذ بمقدار الضرر الفعلي، وهذا أعدل الأقوال وهذا كما ذكرنا بعض الإخوان يتناسب مع قرار المجمع في مسألة المرابحة للآمر بالشراء والوعد حيث أن نص القرار على أنه يؤخذ تعويض بمقدار الضرر الفعلى …
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر فضيلة الأستاذ الدكتور الصديق الضرير على بحثه القيم وعلى عرضه القيم الأمين الذي لخص جميع البحوث بدقة وأمانة وإن كان قد أطال، فهذا الصنيع أي الأمانة والدقة ينبغي الاقتداء به؛ بعد ذلك لي بعض الملاحظات البسيطة بعدما ناقش الأساتذة الكرام فضيلة الدكتور مناقشات جادة، هذه الملاحظات تتلخص فيما يأتي:
أولا: في حديث النهي لم يحرر أستاذنا الفاضل بيان قوة الحديث تحريرا وافيا من الناحية الحديثية، فكما أشار أستاذنا القرضاوى في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كلام كثير، وقضية إيهام الثقة أيضا فيه كلام كثير في هذه المسألة، حتى في قضية الثقة الذي أراد به الإمام مالك فيه اختلاف فابن عبد البر قال: وابن لهيعة، وهو ضعيف جدا كما قال العلماء. وقال غيره: المراد بالثقة هنا هو عبد الله بن عامر الأسلمي وهو ضعيف لا يحتج به، ولذلك يقول الصنعاني: وفيه راو لم يسم، وسمي في رواية. فإذا هو ضعيف وله طرق لا تخلو عن مقال.
ثانيا: لم يحرر لنا أستاذنا الفاضل دلالة النهي هنا، هل يقتضي الفساد أم البطلان أم غير ذلك كما هو معروف.(8/523)
ثالثا: القول بعدم صحة الحديث أو عدم حمل النهي على الفساد ما فعله عمر – رضي الله عنه – ولذلك لما قيل للإمام أحمد: هل تذهب إلى بيع العربان؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر- رضي الله عنه -. وكذلك قال به ابن عمر، إضافة إلى الأدلة الطيبة التي ذكرها فضيلة الشيخ عبد الله، وكذلك ما ذكره الإمام البخاري وما رواه عن شريح في جواز الشرط الجزائي أنه قال: قال إنسان لكريه: إذا لم آت كذا فلك مئة درهم، فقال: هو كما قال، فقد أخذ بذلك. وذكر ذلك عن شريح وذكر روايتين في صحيح البخاري عن الإمام شريح في هذه المسألة.
رابعا: أصر فضيلة الدكتور على أن مذهب الإمام أحمد لا يشمل بيع العربون في حالة تحديد المدة، وقد أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ عبد الله في أن بعض الحنابلة ذكروا تحديد المدة، ولكن حينما نظرت إلى نصوص كتب الحنابلة وجدت أن هذه النصوص مطلقة، مثلا في المغني وكذلك في المقنع، في كثير من الكتب وجدت أن هذه النصوص مطلقة، فتشمل تحديد المدة وتشمل غير تحديد المدة، فليس في النصوص التي ذكرها القدماء أي تقييد، فإذا كان مطلقا فيشمل الصورتين تحديد المدة وعدم تحديد المدة، ولذلك تحديد المدة في اعتقادي حتى لو لم يكن هناك نص كما ذكر فضيلة الشيخ عبد الله من صاحب المرتضى كان هذا يعني النصوص المطلقة كافية في أن يدخل في هذه النصوص تحديد المدة وعدم تحديدها.
والخلاصة أنني أرى وأضم صوتي إلى صوت الإخوة الثلاثة، والحمد لله أن ثلاثة من الباحثين قد ذهبوا إلى جواز بيع العربان أو العربون، وإن كانوا هم حددوا شرطا واحدا وهو تحديد المدة يمكن أن يضاف إلى هذا الشرط شرط وهو مراعاة العدل، الذي أشار إليه فضيلة أخي الدكتور عبد الستار أبو غدة، وحينئذ قضية العدل بحيث لا يكون العربون كبيرا أو تكون هذه النسبة التي يأخذها البائع تكون بقدر الضرر المادي أو المعنوي الذي أصابه، وفي اعتقادي أن أصل النكول كما تفضل الشيخ عبد الله أصل العدول ينقص قيمة البضاعة وقد يفوت عليه فرصة ولا سيما في وقتنا الحاضر، حتى قضية لم يفوت عليه فرصة ولكن يبيع والثمن قد نزل، فالمسألة من كان في أي بلد من بلادنا في الأردن كان سعر الدينار حوالى عشرة ريالات غدا صدر قرار وأصبح خمسة ريالات أي بنسبة 50 % وقضايا التضخم مسألة خطيرة حتى ليست هذه في العملة العادية حتى في العملة الدولية. الدولار خلال فترة وجيزة أو دقائق معدودة 40 % نقصت قيمة الدولار أمام الين الياباني وبقية العملات، والعام الماضى الجنيه الاسترليني بنسبة 30 – 35 % نقصت. هذه الاعتبارات كلها لا بد أن تكون ملحوظة، فأي ضرر مادي أو معنوي فهو معتبر، ولهذين الشرطين نجيز أو نرجح رأي بيع العربان أو جواز بيع العربان.(8/524)
خامسا: أرجو أن يذكر في القرار الصور التي ذكرها فضيلة الشيخ الصديق حيث في الحقيقة ذكر صورا بل هي بدائل جيدة يستفاد منها من الناحية العملية..
هذا ما أردت أن أذكره. وشكرا، والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بيع العربون وقد تفضل فضيلة الشيخ الصديق الضرير مشكورا بتحليل كل جوانبه وبتحليل آراء من يرجح جوازه ومن يرجح منعه، بل الذي وصلت إلى الاقتناع به هو أنه لا يمكن أن يعتمد لا على حديث الإجازة ولا على حديث المنع وكلاهما لم يصل إلى درجة يحصل معها الاطمئنان إلى الاستناد إلى هذا الحديث أو إلى الحديث الآخر. وهنا لا بد أن يعود المؤمن لا إلى قاعدة واحدة من القواعد ولكن إلى أن ينظر إلى مجموعة التشريع الإسلامي ليطمئن على المنهج الذي يتخذه لبيان حكم الله. فالاعتماد فقط على قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] هكذا على عمومه هو أضعف ما يستند إليه، نظرا إلى أن هذا العموم قد وقع تخصيصه بمخصصات لا حد لها. فإذا رجعنا إلى النصوص الشرعية في هذه القضية فإنا نجد بجانب قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم)) نجد أيضا الآية الناهية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] والباطل هو أخذ المال بغير حق وبغير وجه. فإن شأن الإنسان ألا يأخذ المال إما تبرعا وإما لأنه قد لحقه نقص يأخذ بمقدار ما نقصه، فأنا أبيع السلعة وأقبض الثمن فمعنى ذلك أنه ما لحقني من فوات السلعة من يدي آخذ بدله ثمنا، وكذلك إذا تعدى أحد على أحد في ماله فإنه يأخذ تعويضا عما ذهب من ماله، ويكون التعويض بالقيمة الحقيقية لا أكثر من ذلك.
في قضية بيع العربون فسد البيع الأول، قد يتضرر البائع لأنه لا يحصل على نفس الثمن، وفوت عليه المشتري وقد يربح وقد يبيع بنفس الثمن ونعلم أن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – لما أجريت عليه اليمين فأبى من اليمين وقد باع العبد بثمانمائة درهم وقد باعه على البراءة فطلب منه عثمان أن يحلف وأن يقسم بأنه لا يعرف به عيبا فامتنع من ذلك ثم باعه بألف وخمسمئة، فهنا نجد أن البيع الثاني ليس ضروريا أن يكون أقل من قيمة البيع الأول فقد يكون مساويا وقد يكون أكثر. ولهذا لا وجه إلى جعل وضع حالة من الحالات وهي حالة الخسارة هي الحالة العامة فيكون فيها ظلم المشتري. فنحن لا نظلم المشتري ولا نظلم البائع ولكن الحل الأعدل الذي ذكره فضيلة الدكتور الضرير هو الحل الذي يتناسب في نظري مع القواعد الشرعية.(8/525)
بعد هذا عندي بعض التعليقات البسيطة ولا أريد أن أطيل فيها:
أولا: فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع – أكرمه الله – أراد أن يخرج بيع العربون فقال: إن تخريج بيع العربون على أن المتبايعين اتفقا على الثمن وأن العربون جزء من الثمن وإذا رغب المشتري في العدول فإنه يبيع السلعة على مالكها الأول بسعرها الذي اشتراه به ناقصا قدر العربون، وهذا غريب فهو يتعقب على هذا من عدة وجوه، الأول: أن القبض لم يتم، قد لا يتم، ولا يجوز بيع ما لم يقبض عند الحنابلة باتفاق. الثاني: بيع العربون عقد واحد لا عقدان. فهذا التخريج هو تخريج مكيف تكييفا يدويا وليس هو تعبير عن الواقع.
ثانيا: ما سمعته اليوم من أن قضية التضخم واعتبارها، انتهينا من هذه القضية منذ سنوات وكان القرار واضحا، وأن قضية التضخم لم تعتبر لا في الإسلام ولا في القرار الذي وصل إليه المجمع وهى غير معتبرة في كافة أنحاء العالم فلا يمكن أن تكون ههنا عاملا من العوامل التي ينظر إليها لأنه عامل مبهم.
ثالثا: الأمر الآخر الذي أريد أن أذكره هو أنه لا زالت لدي تعقيبات كثيرة وكثيرة جدا على ورقة الدكتور رفيق المصرى لكن وبكل أسف لم يحضر معنا، لكن هناك ناحية: ورد في أثناء كلامه ولا بد من التنبيه إليه هو أنه وهو يتحدث عن العربون في البيوع التي هي غير جائزة ويذكر من ذلك شركات الهوائيات ويقول عن شركات الهوائيات هي شركات محرمة ولا يجوز للإنسان أن يشترك فيها وأن نصب الهوائي فوق الدار هو حرام. التحريم والتحليل هما حكمان وليس من هو متورع ولا يعتبر متورعا من حرم ما أحله الله كما لا يعتبر متورعا من أحل ما حرمه الله. فهوائي التلفاز وهوائي وكالة الطباعة والهوائي هو كالسيف والبندقية فقد يستعملها الإنسان في الخير وقد يستعملها في الشر، فهذه مما عبر عنه الفقهاء وخاصة في مذهب مالك الذي قال هو أكثر من غيره بقاعدة سد الذرائع هو كذلك ألغاها الشارع بهذا الاعتبار كزراعة العنب، فكون بعض الناس يستعمل الهوائي للنظر لبعض الأفلام الخليعة فالأفلام الخليعة توجد إما بالهوائي وإما بغير الهوائي فلا يصح أن نقول شركات الهوائيات أو الشركات التي تبيع التلفزة أن نقول يمنع على المسلم أن يشترك فيها.(8/526)
فهذا الذي أردت قوله في هذه القضية وهي لا بد أن ننبه عليها.
وأنتهي إلى أن بيع العربون جرى به العمل في جميع البلدان الإسلامية وأن الأخذ بقول الجمهور من أنه ممنوع هو عبارة عن تحريف الشريعة والابتعاد عنها، ولذلك كلما وجدنا من طريق إلى ربط الإنسان بدينه مع أن له أصل ومع أنه قول محترم وأن له وجهة نظر، هذا ما يجعلني أؤكد على هذا الحل الوسط الذي هو أنه يستحق من العربون بمقدار ما وقعت له من الخسارة ولا يزيد على ذلك. الشيخ صديق الضرير في بحثه قال: إن قدم العربون على أنه إن تم البيع احتسبه من الثمن وإن لم يتم البيع استرجع ما أخذه، هذا جائز بشرط تحديد مدة الخيار، زيادة على ما تحدث عليه فضيلة الدكتور من أن قضية الخيار لا تشترط فيه المدة وأنه أمر مختلف فيه لكن بهذه الناحية لا بد أيضا أن يشترط الخصم على العربون حتى لا يكون العربون مترددا بين السلفية وبين الثمنية، وأنه لا يجوز في الفقه أن يكون الثمن جزءا من المقدم مترددا بين السلفية والثمنية، وخروجا من هذا لا بد من القضاء عليه.
هذا ما أردت أن أقوله وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ وهبة مصطفي الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم وبعد.
فإنه يعز علي أن أخرج عن مسلكي واتجاهي في الترجيحات بين الآراء الفقهية علي ما انتهجته في كتابي (منفعة الفقه) لأن الغالب أن ألتزم ترجيح ما عليه كافة الفقهاء أو جمهورهم، إلا أنني في هذا الجانب رجحت في كتابي من مدة طويلة مذهب الحنابلة وارتأيت أن هذا هو المتعين. الشيء الآخر، يعز علي أيضا أن زميلي في الدراسة الدكتور الصديق وقد زاملته سنوات في الدراسات العليا أن أعارضه في هذا الموضوع، فهو لا شك متمكن في علمه واستدلاله واتجاهاته سواء فيما يتعلق بمراعاة ما عليه الفقهاء وما تقتضيه الظروف المعاصرة، لكن في هذا الرأي يظهر أنه جنح إلى الالتزام وكونه في هذا الموضوع من المحافظين،واستند في قضية الترجيح والمنع على رأي الجمهور باعتبار أن هذا الحديث صححه الشيخ أحمد شاكر. وهذا إذا قيس تصحيح أحمد شاكر بما عليه أئمة الحديث كما ذكرنا وهو الإمام ابن حجر والإمام النووي وابن حبان وغيرهم لا يقاس تصحيح أحمد شاكر بتصحيح هؤلاء أو تضعيفهم فلذلك لا أرى وجها للأخذ بالتصحيح، وأؤكد أن كلا الحديثين في المنع والجواز لا يصح الاعتماد عليهما. وإذا خرجنا من دائرة الاعتماد على دليل نصي في هذا الموضوع حينئذ نلجأ إلى أمور أخرى. فالأمر الأول الواضح وهو فعل سيدنا عمر – رضي الله عنه – وعلى إجماع السكوت من قبل بقية الصحابة على ما ارتآه عمر في شراء دار السجن من صفوان بن أمية، والحادثة كما هي مذكورة في أدلة الحنابلة ومذكورة في البحوث كلها. فإذا عندنا أولا: إجماع سكوت. ثانيا: هناك أيضا ما ذكره الإخوة الكرام بأن البخاري سكت عن تضعيف هذه الرواية، وكذلك أيضا موضوع القاضي شريح ورأيه في أن من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه.(8/527)
فلذلك أول شيء يفاجئنا في هذا الموضوع قضية أكل أموال الناس بالباطل. الحقيقة هذه ليست من قبيل أكل أموال الناس بالباطل.
أولا: أصبح العرف الشائع بين الناس في المعاملات أن المشتري حينما يقدم جزءا من الثمن على سبيل العربون يفهم بالتأكيد أنه إذا نكل يخسر العربون، فإذًا هو رضا منه بتنازله عن هذا الجزء من الثمن، ولا أربطه بما يقوله الإخوة الكرام في قضية العدل ومعادلة الضرر وعدم الضرر فهي هبة ضمنية من هذا المشتري وقبول بالتنازل عن المبلغ عن طواعية واختيار ولا اعتراض لأحد عليه فهو رضي بذلك. فهذا متمش مع الشرط الجزائي الذي ارتآه شريح وسار عليه الناس. فإذا القضية ليست أكل أموال الناس بالباطل، فهي إما هبة من هذا المشتري أو تنازل ورضا مسبق في الموضوع.
أما قضية الغرر، فالحقيقة أيضا لا غرر في هذا الموضوع لأن المشتري والبائع اتفقا على العقد فالعقد قائم، ولا غرر فيه إشكالا، لأن الغرر إما أن يكون في المبيع أو في الثمن أو في الشروط التوثيقية أو في أمور أخرى، والحقيقة أنه لا يوجد أي غرر في هذا الموضوع.
أما قضية المدة وكونها مفتوحة للنكول عن العقد فهذا نجده فيما قرره الحنفية كما ذكر الدكتور عبد الستار، هناك مجموعة من الخيارات لا يحددون فيها أجلا بالإضافة إلى ما ذكره خيار العيب أيضا خيار الرؤية لا يذكرون فيه أجلا. كذلك خيار الفسخ في كثير من العقود لا يحددون له أجلا في فسخ العقد، فإذن أين الغرر؟ القضية لا غرر فيها على الإطلاق. أما قضية: أنه ينبغي أن ننظر إلى هذا العقد، الله تعالى يأمرنا بإيفاء العقود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فينبغي أن نلاحظ مدى الالتزام بالعقد والمشتري التزم والعقد قائم ولا اعتراض عليه، وإذا اعتبر دفع جزء من الثمن توثيقا للصفقة، فإذن قضية التوثيق قضية الالتزام بالعقود المأمور بها شرعا يتفق كل ذلك مع العمل بمبدأ البيع بالعربون وهو عرف عام وكما ذكرت، ونحن إذا أردنا أن نخرج عن هذا فالحقيقة فيه استهجان كبير، وعمل المسلمين على خلافه، في كل البلاد العربية والإسلامية عمل المسلمين على خلاف هذا الأمر.(8/528)
أما ما يتعلق بالقضايا الأخرى وهي مسألة الحجر مقدم على الإباحة، فهذا عند تساوي الدليلين وهنا لم يتساو الدليلان، بل على العكس هذه القضية وإن ذكرها الشوكاني أنه فيه حجر وإباحة وإذا تعارض الحجر والإباحة يقدم الحجر على الإباحة، هذا كله عند تساوي الدليلين، ولكن هنا لم يتساو الدليلان بل على العكس هناك مرجح وهو عمل الصحابة، وهذا كما ذكر العلماء من قبيل الإجماع السكوتي، وهو حجة عند الحنفية وحجة أيضا عند الحنابلة. فإذن هذه القضية تخرج من نطاق التساوي، أو من قاعدة، الحظر مقدم على الإباحة.
هذه أمور بالإضافة إلى ما تفضل به الشيخ عبد الله البسام وأيده الدكتور القرضاوي، أنا أؤيد كل قضية تكلما فيها في الأخذ بالنقاط المختلفة، وهي نقاط معمقة ومؤصلة فقهيا ولا اعتراض لي عليها إطلاقا، فأؤيد ما تكلم به هذان الأخوان الكريمان، وشكرا لكم.
الشيخ إبراهيم بشير الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
عندي ملاحظة مبدئية بسيطة وهي تتعلق بما ورد في البحث القيم للدكتور الضرير حينما أشار إلى القانون الوحيد في قوانين البلاد العربية الذي أخذ برأي الجمهور في منع العربون هو قانون المعاملات المدني السوداني. أود أن أوضح أنه في سنة 1970 م حينما قمنا بمراجعة القوانين ومنها القانون المدني في ليبيا وكنت عضوا باللجنة العليا التي أشرفت على هذا العمل كنا قد ألغينا النصوص المتعلقة ببيع العربون والشرط الجزائي في القانون المدني الليبي ضمن المراجعات لأنه تمت مراجعة القوانين المدينة والتجارية لتنقيحها وتنقيتها مما يتعارض مع الشريعة الإسلامية، وفى ذلك الوقت كانت قد أصدرت قوانين الحدود – أيضا – في الجانب الجنائي. الملاحظة الأخرى التي وددت أن ألاحظها – أيضا – نحن ذهبنا إلى ما ذهب إليه الدكتور رفيق لا على أساس أن جواز العربون هو كالشرط الجزائي، فحينما منعنا العربون منعنا الشرط الجزائي أيضا وألغيناه من القانون المدني الليبي. هذه هي الملاحظة التي وددت أن أبرزها والإبقاء ضمنيا على الاقتراح الذي قاله فضيلة الشيخ السلامي باعتبار أن التعويض في حالة وقوع الضرر تنظمه نصوص التعويض عن وقوع الضرر، فكلما كان نتيجة أي فعل من التصرفات مترتبا عليه ضرر، ففي القانون المدني هناك التعويض عن الضرر وبقدره حتى لا يكون هناك أكل لأموال الناس بالباطل.(8/529)
الملاحظة الأخيرة هي ما قيل عن قضية التضخم، هذه ليست حجة، وأنا طبعا رأيى في هذا المجمع سبق وأن أبديته بأن ثبات النقود وثبات المقياس النقدي أمر أساسي في الفقه الاقتصادي الإسلامي وهو يعتمد على النقدين (الذهب والفضة) وأعتبر أن مما تشيع به الأمة ويجب أن تكشف عن هذه الأمة أن يعاد إلى ثبات النقدين. وشكرا.
الشيخ عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أخي الرئيس، أفاد الإخوة العلماء الأجلاء في بحث حل العربون وعدم حله وناقشوا الأدلة في ذلك مما يجعلني أكتفي بما أوردوه، غير أني أؤيد أن العربون حلال اعتمادا على الإباحة الوسطية وخلوصا من تعارض الأدلة في ذلك والأصل في الأشياء الإباحة وفي المعاملات الإذن وما أوردوه قائم على التعليل والترجيح من حيث الغاية، ولذلك أذهب إلى الأمر وأقول في بعض ملاحظات بسيطة وأضيف معنى جديدا فيما يتعلق بالعربون، أولا: ما ذكره الأستاذ الكريم الشيخ الضرير في أنه لا حاجة إلى العربون، الواقع أن الحاجة إليه اليوم أكثر منها في أي يوم مضى، أولًا: لاضطراب الأسعار، واضطراب الأسعار كما هو معلوم صعودا ونزولا، ثانيا: فساد الناس وعدم الثقة فيما بينهم وكذلك قلة التقوى، ثالثا: لا بد من التوسع في البيع لأن العربون في الأصل هو لتوثيق البيع ودفع الضرر. والقانون المدني الأردني نص على جواز العربون، ومعروف أن القانون المدني الأردني مستمد كله من الفقه الإسلامي، ولم يبحث في القوانين الأخرى لإزالة التعارض فيما بين القوانين وبين الإسلام، وإنما ألغى قوانين المعاملات المدنية كلها ثم وضع في لجنة استمرت أكثر من ثلاث سنوات مع مشاركة العلماء والخبراء في وضع القانون المدني الأردنىيونوقش موضوع العربون نقاشا طويلا وانتهى إلى الأخذ به لاسيما لحاجة الناس إليه، وأيضا العرف انتشر في التعامل به، والعرف يؤخذ به ومعتبر ما لم يرد نص صريح في منعه، وليس هناك نص صريح في منع العربون في الأدلة التي وردت، وما اعترض بها على الأحاديث.(8/530)
وهناك نقطة أريد أن أذكرها وهي أني أرى جواز العربون في المنافع أيضا، أي في الخدمات، وإذا كان الإمام مالك أضاف الإجارة في داخل البيع فهو في الخدمات كلها لأن الخدمات منافع، فإذا جاز في الإجارة يجوز في غيرها، ونحن نرى أن هناك معاملات جديدة هذه المعاملات ليست في موضوع البيع أو الإجارة حتى في موضوع التوظيف، بعض الناس عندما يريدون أن يتوظفوا أو يعقد معهم عقود في الوظائف يطلبون من المتعاقد أن يدفع عربونا إما بكفالة، وإما أن يدفع هذا العربون في حالة ما إذا ترك العمل يؤخذ منه هذا المبلغ فهو عربون على استمراره في العمل. وهذا أمر ضروري جدا الآن في التعامل فلا بد من إباحة العربون في هذا، ثم إني أرى أن العربون كما قال الإخوان لدفع الضرر، هذا الضرر حقيقة يحصل فيما إذا ارتفعت الأسعار. وكثيرا ما يحصل، وأصل موضوع العربون إنما يدفع غالبا عند اضطرب الأسعار وارتفاعها وقد يحصل من وراء ذلك ضرر كبير وقد حدثت معي عدة حوادث، جاء بعض الإخوان في موضوع شراء أرض معينة فقال لي: أنا أشتريها – وهو من العلماء الأفاضل – بالثمن الذي قاله ذلك ثم بعدئذ لم يشتريها؟ ! ففوت علي فرصة في وقت كنت فيه في أمس الحاجة إلى بيع هذه الأرض. فأقول هنا: هو في مقابل الضرر والضرر يحصل ولا مانع من أن تقدر قيمة الضرر حتى يؤخذ من العربون بقيمته.
هذا ما أردت أن أبينه وأؤيد الاقتراح الثاني في التوصية التي قدمها الشيخ الضرير وهو إباحة العربون. وشكرا.
الدكتور درويش جستنية:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله.
انتهت البحوث التي أمامنا وتفضل لإعدادها مشايخنا الأفاضل إلى عدم جواز العربون في بيع النقد بجنسه وفى الصرف. كما تطرق بعضهم إلى المواعدة في الصرف، واعتبروها جائزة إذا كانت غير ملزمة.(8/531)
وأتوقف هنا أمام نقطتين:
الأولى: تتعلق بالعربون في الصرف، والثانية: تتعلق بالمواعدة في الصرف بدون عربون، وكلتاهما تعالجان قضية واحدة هي محاولة تغطية مخاطر التذبذب في أسعار صرف العملات الدولية بالنسبة للعملة الوطنية. ورغم أن هذه القضية هامة من الناحية الاقتصادية إلا أنه يجب أن نقرر هنا أن أهميتها لا تبلغ أبدا درجة الضرورة الشرعية، فالعمل التجاري جميعه هو في الحقيقة موازنة بين الأرباح والمخاطر المتوقعة وليس تذبذب أسعار الصرف إلا أحد هذه المخاطر، وما دامت هناك قيود شرعية تمنع جواز العربون في الصرف فلم يبق أمامنا سوى المواعدة في الصرف بدون عربون، لعل فيها حكما شرعيا يمكن المتعاقدين في الدول والمؤسسات الاقتصادية والبنوك الإسلامية من تغطية مخاطر الصرف في معاملاتهم التجارية. ولقد قرأت رأي ابن حزم حول التواعد في الصرف والذي ورد في بحث الشيخ الدكتور علي السالوس، لكننى فهمت من كلام ابن حزم – وهو واضح – أن التواعد ليس بيعا وهو جائز سواء تبايعا بعد ذلك أم لم يتبايعا، لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك. أما الدكتور السالوس فقد اعتبر أن المواعدة في الصرف تأخذ حكم العقد اللازم ولذلك اعتبرها حراما عند ابن حزم نفسه، وابن حزم لم يصرح بذلك بل إن عبارته: (كل ما حرم علينا فقد فصل باسمه) تؤكد أنه لا يريد المعنى الذي ذهب إليه الدكتور السالوس، وعلى كل حال هذه مسألة شرعية أتركها لرجال الاختصاص وهم أنتم، لذلك أتوقع أن يدقق علماؤنا الأفاضل في آراء ابن حزم وإمكانية الاستفادة منها في إجازة التواعد على الصرف في حالة كونه ملزما أو غير ملزم، وفي حالة الإلزام هل يلزم طرفا واحدًا أم طرفين؟ إن المواعدة ليست أكثر من مذكرة تفاهم واحدة تتم على أساسها عقود كثيرة لنقود الصرف، أي تبادل العملات، وبناء على ذلك فمذكرة التفاهم في رأيي لا تعد عقدا في حد ذاتها وإنما هي إطار ينظم العلاقة بين الطرفين بسعر محدد مسبقا، ومذكرة التفاهم هذه يترتب عليها استقرار الأمور الاقتصادية وعلاقات الاستثمار بين المستثمرين (المؤسسات والأفراد) أو بين الدول ذاتها والمستثمرين، فإذا رأى السادة العلماء أن مذكرة التفاهم ليست عقدا وإنما هي إطار عام تتم على أساسه عقود الصرف لاحقا وبدون عربون فإن ذلك سوف يؤدي إلى تيسير كبير خاصة إذا أخذنا بقاعدة (أن الأصل في المعاملات الإباحة، ما لم يرد نص في ذلك) .
وفي الختام أود أن أشير إلى أن بيع الخيارات المعمول به في السوق المالية العالمية المقصود منه المضاربة في سوق المال وليست الرغبة في شراء العملة للحاجة إليها. كما أنه يتضمن تقديم مبلغ العربون، وهذا يعني أن البيع قد تم ولم يتم التقابض، ولذلك فقد قرر المجمع في الدورة الماضية عدم إجازة بيع الخيارات، والصورة التي ذكرتها وهي التواعد على الصرف بدون عربون تختلف عن صورة بيع الخيارات.
والله أعلم وهو الموفق إلى الصواب. وشكرًا.(8/532)
الشيخ مجاهد الإسلام القاسمى:
بسم الله الرحمن الرحيم.
رئيس المجمع وأصحاب الفضيلة العلماء , نشكركم جزيلا على ما استفدت منه ومنكم في هذه الحفلة المباركة. وأنا في هذه القضية قضية بيع العربون أؤيد فضيلة الشيخ الصديق الضرير، وأرى ترجيح الجمهور في منع العربون وعدم إباحته. أولا: أنا لا أسلم أن العرف العام في جميع البلاد إباحة العربون، وهذا يمكن أن يكون في بلد ولكن ليس هذا في البلاد كلها لأن العرف ليس بعام شائع في جميع البلاد، كما نلاحظ في بلادنا الهند، الهند القديم الذي يشتمل على باكستان وبنجلاديش، والهند الذي كان فيه علماء وكان بلدا إسلاميا قرابة الثمانمئة سنة، المسلمون يتحرزون من هذا أبدا، أما الكفرة فيقبلون بهذا، هذا هو الفرق، هذا هو معيارنا؛ يعني إذا أخذ المسلم شيئا باسم العربون فهذا محض للتلصق، فإذا تم البيع فيحسم من الثمن وإذا لم يتم البيع فيبيع البائع لرجل آخر ثم يرد العربون إلى المشتري الأول. فهذا هو المعروف عندنا هناك نحن المسلمين. أما الكفرة فيأخذونه، هذا هو المعروف في بلادنا. والمهم في هذا أن الحديث قد بحثه العلماء كثيرًا ولا أستطيع أن أتكلم في هذا الموضوع شيئا لأنه والحمد لله المحدثون موجودون. ولكن حديث الإباحة الذي روي عن زيد بن أسلم فكما صرح فضيلة الشيخ الصديق الضرير أنه غير معروف عند المحدثين كما قال ذلك العلماء، وأيضا يعني لو فرضنا أن أي حديث لم يرد في هذا لا حديث إباحة ولا حديث تحريم فماذا نفعل في هذا؟ الأصل العام أن الله تعالى أحل البيع؟ فكما قال الشيخ السلامي إن فيها استثناءات كثيرة فعلينا أن نرى ما هو حقيقة هذا البيع؟ هل هو بيع أو فيه غرر أو فيه شائبة من الربا؟ فحينما رأينا أن هذا العربون الذي قدمه المشتري للبائع – هذا إذا لم يتم البيع – فيكون هذا شيئا زائدا يحصله البائع مجانا كما قال البعض، ومعنى مجانا أي بدون عوض، وهذا شيء مشروط في العقد، فهذا زيادة مشروطة في العقد بدون عوض، وتعرفون أيها السادة ما هو حكمه. هذا فيه شائبة من الربا.
وأيضا في هذا العصر التجارة والاقتصاد وجميع النشاطات الأجنبية الأوربية ينبني على الربا، وإذا تحققنا وتعمقنا في هذه القضية فتنبني كل نشاطاته على إباحة الربا أصلا فلذلك إنهم جعلوها ذريعة لأكل المال بالباطل، لماذا؟ لأنهم في هذه الأسواق المالية في العالم كله لا يريدون البيع ولا يريدون الشراء حقيقة، ولكنهم يستفيدون من زيادة الثمن أو نقصه. قضية التضخم، فالتضخم لا ريب تزيد فيه قيمة العملة أو تنقص ومعروف ومسلم بهذا، ولكن حينما يكون التضخم كبيرًا ستزيد قيمة الشيء وتنقص قيمة العملة فإذا نقص الدولار فيزيد ثمن هذا الشيء (هذا القرطاس) ، فالأشياء التي تباع تزاد قيمتها فالبائع يريد الثراء، ورأينا في بلادنا أن البائع يماطل في إتمام البيع لأنه يريد أكل العربون. فلذلك فأنا أؤيد فضيلة الشيخ الصديق الضرير على ترجيح رأى الجمهور في منع بيع العربون. وشكرًا.(8/533)
الشيخ عبد الله محمد:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أنا من وجهة نظري الخاصة لا أرى مانعا من الأخذ بالقول بجواز بيع العربون لأن معظم القوانين أخذت به، فطالما كانت هذه القوانين تتفق مع رأي فقهي فالمسألة بسيطة. إنما الذي أريد أن أتحدث فيه أن بيع العربون بالنسبة لمذهب الإمام أحمد من قراءتي وبحثي فترة في هذا الموضوع فوجدت في مذهب الإمام أحمد أن هناك رأيين: رأي يقول بجواز بيع العربون ورأي يقول بعدم الجواز. ولعل الخلاف بين مذهب الجمهور وبين مذهب الإمام أحمد يرجع إلى نظرية الشرط (اشتمال العقد على شرط) ، فمن لا يجيز الشرط في العقد يقول ببطلان بيع العربون ابتداء بصرف النظر عن المبلغ المدفوع هل يستحقه البائع أو لا؟ فإذا قلنا مثلا إن العقد باطل لأنه اشتمل على شرط باطل فهذا العقد باطل عندهم بصرف النظر عن ما سيؤول إليه أمر العربون أو المبلغ المدفوع، أما من يجيز الشرط (اشتمال العقد على شرط) فيبقى النظر في مسألة المبلغ المدفوع في هذا البيع، هل يستحقه البائع أو لا يستحقه؟. الذي أتذكره الآن أن مذهب الإمام أحمد يجيز اشتمال العقد على شرط، ولكن لا يجيز للبائع أن يستحوذ على المال المدفوع، حتى قيل للإمام أحمد أو سئل في هذا، فقال: بأي شيء يستحقه؟ ! فهو يجيز العقد بمعنى إنه لا يبطل العقد ابتداء لأنه اشتمل على شرط، ولكن لا يجيز للبائع أن – في حالة عدم إتمام العقد – يستحوذ على المبلغ أو يقبضه.
الرأي الآخر، وهو رأي ورد في بعض كتب الحنابلة أجازوا هذا. وأعتقد ربما اختاروا رأيا مرجوحا أو رأيا ليس هو المشهور في المذهب.
الحالة الأخرى: إذا اشتمل العقد على شرط أنه إن امتنع المشتري عن إتمام البيع لا يستحق هذا المبلغ المدفوع، هذه صورة. الصورة الثانية، أن يخلو العقد من هذا الشرط. هذه صورة أخرى.
الصورة الثالثة: ذكرها الدكتور رفيق المصرى وكل القوانين الآن تأخذ بها، أن يكون هناك تعادل من المتعاقدين إذا رغب المشترى عن إتمام العقد لن يستحق المبلغ المدفوع، وإذا كان عدم إتمام العقد من البائع رد مثل العربون إلى المشترى، هذا المبحث لم يبحثه السادة الباحثون ما عدا الدكتور رفيق المصرى، ولم يعطونا رأيا صريحا فيه، أحب أن يكون هناك تعادل كما تأخذ به القوانين الوضعية. وشكرا لكم.(8/534)
الشيخ ناجي عجم:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أكثر النقاط تفضل بعض الأخوة مشكورين بإبدائها، مع ذلك ألخصها، فإذا تقابل حديثا المانعين والمجوزين من حيث الكلام فيهما يبقى للمجيزين أدلة أخرى ترجح قولهم، هذه الأدلة متنوعة من المنقول والقياس والمعقول. فحديث نافع بن عبد الحارث لشرائه الدار وكالة عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يعتبر هذا فتوى صحابي وفتوى الصحابي أكثر العلماء قالوا بحجيتها وهي من النصوص، بالإضافة إلى الدليل الآخر يعني أكثر الصحابة ما أنكروا على فعل سيدنا عمر – رضى الله عنه – في دفعه للعربون. وأما الدليل الآخر من القياس فيمكن قياس العربون على الإقالة لأن العربون يكون بعد انعقاد العقد، والإقالة جائزة بأقل من الثمن بلا خلاف بين العلماء، وأما المعقول فواضح فيه تفويت مصلحة على البائع، وإذا لم يفت بالعربون فقد تكون فيها محاباة للمشتري، ثم تعارف كثير من الناس على العربون فإذا لم يكن في بلاد الهند ففي غير بلاد الهند تعارف الناس على دفع العربون وأنه من حق البائع، والعرف معتبر إذا لم يعارضه نص، كما تعتبر هناك نصوص ثابتة على فرض التكلم في حديث المانعين فلا يبقى هناك نص، والعرف إذا لم يعارضه نص فيكون معتبرًا عند الحنفية خاصة أنهم أخذوا بالعرف وكذلك عند الحنابلة.
أمر آخر أريد أن أوضحه أنه ينبغى تحديد مدة بيع العربون وإلا صار في الأمر جهالة وهذه فيها غرر. وإذا أجاز بعض العلماء الشرط الجزائي – بعض العلماء كما هو فتوى في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية أجازوا الشرط الجزائي – فمن باب أولى أن يجوز العربون. أرى جواز العربون في كل عقود المعاوضات طبعا إلا في الصرف فيشترط فيه التقابض وكذلك في المرابحة للآمر بالشراء، فالمرابحة للآمر بالشراء هذه ليست بعقد سواء يكون العربون بعد انعقاد العقد.
وأكتفى بهذا وشكرًا.
الشيخ محمد الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أشكر الدكتور الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير على بحثه القيم كما أشكر إخوانه الذين شاركوه في البحث حول هذا الموضوع.(8/535)
وقبل أن أبدي ملاحظتي أقول: إنى لست متعصبا لمذهب معين وإن كنت مالكيًّا، لأن جميع الأئمة نجلهم ونعترف لهم بجزيل الفضل فجزاهم الله أحسن الجزاء، فكما لا نفرق بين أحد من رسله لا نفرق بين أحد من الأئمة – رحمهم الله – فكلهم على الحق لا خلاف في ذلك. والذي أقول به هو ترجيح ما ذهب إليه الجمهور لمنع بيع العربون، أرجحه لا لأنه رأي الجمهور؛ بل لقوة دليله. وحديث عمرو بن شعيب وإن كان لم يصححه أهل الحديث فإن حديث زيد بن أسلم كذلك ضعف أيضا؛ ذكر ذلك ابن عبد البر في التمهيد والشوكاني في نيل الأوطار وغيرهما. بل إن الشوكاني ذكر أن حديث عمرو بن شعيب ورد من طرق يقوي بعضها بعضا. فعلى أن الحديثين ضعيفان فإن المنع يؤيده الحديث الصحيح، الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر)) وأخرجه مالك مرسلاً عن سعيد بن المسيب، ومعلوم أن مراسيل سعيد بن المسيب صحيحة أخرجه مالك بلفظ ((نهى رسول الله صلى الله عليه عن بيع الغرر)) . ما هو بيع الغرر؟ بيع الغرر هو ما جهلت عاقبته، وما كان مستور العاقبة هو تردد بين السلامة، وقال المازري: وعلة المنع في بيع الغرر أنه من أكل أموال الناس بالباطل على تقدير ألا يأخذ المبيع وهذا طبعا واقع في بيع العربون. وقد نبه صلى الله عليه وسلم على هذه العلة في بيع الثمار فقال: ((أرأيت إن منع الله ثمرة فيم يأكل أحدكم مال أخيه)) ولا خلاف بين الأئمة في منع بيع الغرر إذا كان الغرر فيه ظاهرا يمكن الاحتراز عنه، ذكر ذلك الباجي وابن قدامة في المغني والنووي في المجموع، وقال ابن رشد في المقدمات: ومن ذلك – يعني الغرر المنهي عنه – بيع العربان. وقال الحبيب: ومن الغرر المنهي عنه ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان)) . قال الحبيب: إنما صار الجمهور إلى منعه لأنه من باب الغرر والمخاطرة وأكل المال بالباطل. ذكر ذلك ابن عبد البر في (التمهيد) فقال: إنه من المخاطرة وأكل أموال الناس بالباطل. وقال: إن جميع ما روي في جوازه لم يصح حتى الأثر الذي روي عن عمر – رضي الله عنه – ثم أيضا نحن لا نمانع في قول الإمام أحمد في شيء عمت فيه البلوى لكن الذي عمت به البلوى لا يمت لبيع العربون بصلة إنما هي مواعدة فقط، فالعربون أو العربان الآن الذي يتطلبه أهل الشركات وأهل المؤسسات التي تعرض سلعها للبيع إنما تأخذ من هذا المبلغ لا لبيعه إنما ليكون من جملة الذين لهم الشراء في المستقبل، هذه حقيقة في هذه المسألة لو كان هذا الذي ذكره الإمام أحمد هو الجاري نقول: نعم وأهلا وسهلا، إمام جليل ونحن نتبعه ولا سيما في شيء عمت به البلوى ولكن الذي عمت به البلوى ليس بيع العربون.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الشيخ عبد القادر العماري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لا أريد أن أطيل عليكم. أقول: إن الشيخ الضرير هو أستاذي وهو من هو في العلم إلا أني أختلف معه هنا وأختلف مع من حرموا بيع العربون وأجد نفسي مضطرا أن أبين أن تصحيح عقود المسلمين واجب ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، وهو عرف عام في كل البلاد الإسلامية، ونحن هنا أفترض أن القضية أمامي في المحكمة وأنا أعرف أن من قواعد القضاء إذا جاء الخصمان أحدهما يدعي الصحة وأحدهما يدعي البطلان في العقد، ولم تقطع البينتان فالحكم لمدعي الصحة. أرى هنا أن الأدلة متوازنة ولكن مدعو الصحة هم الأولى بالترجيح لأنهم يريدون أن يقروا عقود المسلمين، لذلك أرى أن يرجح جواز بيع العربون، فإذا أجازوا بيع العربون معنى ذلك أنهم اتفقوا مع واقعهم، أما إذا منعوا فهم عزلوا أنفسهم عن مجتمعاتهم وأصبحوا يفتون فتاوى لا تنطبق أبدا مع الواقع. نحن ننظر إلى الأشياء المحرمة تحريما صريحا واضحا فنحرمها، أما الأمور التي اختلف فيها العلماء والتي فيها مجال للأخذ والرد فلا بد على العلماء أن ينحوا نحو الصحة وإلا دفعوا الناس للأخذ بالقوانين الوضعية وتركوا الشريعة كلها.
وأنا أريد من إخواني العلماء أن يتنبهوا لهذه الأمور وأن يأخذوا الأمر بجدية في أنهم ينظرون إلى واقع الناس، ولا أريد أن أطيل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/536)
الشيخ علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا السيد الرئيس بعد أن أشكر جميع الذين تقدموني.
أعتقد أن المنهج يقتضي منا أولًا أن نناقش هذا العقد على ضوء الإطلاقات والعمومات الشرعية فإذا تم انسجامه معها نظرنا إلى النصوص الخاصة الواردة في مورده، وهل تنسجم مع العمومات أو أنها تخصص هذه العمومات وتمنع؟. وبعد ذلك إن لم يتم لدينا دليل اجتهادي نرجع إلى هذه الأصول العملية تقديم الإباحة وأصالة الصحة كما جاء في مقابل مسألة الحظر. الحقيقة العمومات كلها منجسمة مع هذا العقد: شرط في عقد الخيار والثمن في مقابل خيار، يعني الشيء في مقابل حق الخيار، هذا الشرط لا يحلل حراما ولا يحرم حلالاً ومشمول لعموم ((المؤمنون عند شروطهم)) والعقد داخل تحت عموم {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] كل هذه العمومات تشمل مثل هذا العقد من حيث العموم العام، أما إذا نظرنا إلى النصوص الخاصة فهي متعارضة كما رأيناها ومتناقضة وضعيفة كلها كما رأينا، فهي لا تصلح، مخصصة أو مانعة؛ لانطباق الأصول على هذا العقد فهو عقد تنطبق عليه هذه العمومات. والأصول العملية التي ذكرت – تقديم الحاظر أو تقديم أصالة الصحة – هذه أمور تأتي بعد أن تبطل لدينا العمومات والنصوص الخاصة، وقد رأينا العمومات شاملة، والنصوص الخاصة لا تستطيع أن تخصص هذه العمومات. على هذا الضوء – على ضوء الاشتراط – لا مانع من أن ينظر الخيار للبائع والمشتري والذي أصر أستاذنا الشيخ الضرير عى أن يكون لخصوص المشتري؛ لا مانع من أن ينظر الاثنان، لا مانع من أن يشمل الأمر كل العقود ما عدا بعض العقود الخاصة كالصرف لشروطها. وحينئذ فالعقد بنفسه عقد تام منسجم. عدم تحديد المدة ربما لا يشكل غررًا بعد وضوح كل جوانب الموضوع، وبعد وجود خيارات أيضا غير محددة بالمدة كما سمعنا، ومع ذلك أنا أرى أن نضيف في الفتوى عبارة (تحديد المدة) للاحتياط أو للجمع بين الأقوال وما إلى ذلك.
أود أن أشير إلى شيء من أدلة المنع والتى لم يذكرها المانعون، بعضهم استدل بمسألة قياس العربون على مسألة الإقالة بوضيعة، وخلافا لما تفضل به الأخ الذي قال: بوضيعة، مرفوضة باعتبار لا كعقد جديد يتفق المشتري مع البائع على أن يبيعه وإنما الإقالة فسخ والفسخ معناه أن يعود كل شيء إلى وضعه السابق فقاسوا مسألة العربون على مسألة منع الوضيعة في الإقالة، وهناك أيضا روايات تمنع هذا المعنى، لكني أعتقد أن القياس أيضا غير صحيح، هما بابان مستقلان، ذاك عقد مطلق وهذا عقد اشترط فيه من الأول هذا المعنى، فهذا الدليل أيضا وإن كنت ذكرته تقوية للمانعين؛ هذا الدليل أيضا لا يتم. ومن هنا فأرى أننا ننسجم مع الموجود لا أننا نخضع للواقع وإنما نجد له طريقا شرعيا كاملا مع العمومات، وأيضا نجنى الفوائد المترتبة على مثل هذا العقد، وهى فوائد تثبيت برمجة المشتري والبائع والاطمئنان بالعقود، ولذلك أنا مع الإخوة الذين أباحوا هذا العقد هذا الشرط شرط تحديد المدة. وشكرا.(8/537)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
شكرا للجميع. موضوع المواعدة في الصرف هذا غدا إن شاء الله وليست المناقشة اليوم بالنسبة للدكتور درويش. بالنسبة لتصحيح الحديث ليس تصحيح الشيخ أحمد شاكر فقط لأننا تجاهلنا توثيق الإمام مالك لمن روى عنه، فتوثيق الإمام مالك لا يستهان به. نحن هنا لسنا أمام أصل واحد وإنما نحن أمام أصلين، الأصل في الأشياء الإباحة، والأصل في أكل أموال الناس بالباطل التحريم، فنحن أمام أصلين ولسنا أمام أصل واحد، عدم تحديد المدة كما هو واضح في بيع العربون فيه جهالة واضحة، والإخوة الذين أباحوا اشترطوا المدة؛ أي إنهم جميعا خالفوا الإمام أحمد – رضي الله تعالى عنه – عمل سيدنا عمر لم يأخذ العربون ويفسخ العقد، أو لم ينفذ وإنما أصبح جزءا من الثمن، ولذلك كلام ابن قدامة في المغني يبين كأنه يخرجه إلى مخرج آخر يتفق مع القائلين بالمنع، ولهذا لا يجوز أن نقول بأن رأي الحنابلة كذا، لأن من الحنابلة من يمنع ومنهم من نراه كأنه يمنع مثل ابن قدامة. الاختيارات ليس فيها مبيع، الاختيارات فيها مبيع مثل العربون أيضا. كون العربون هبة هذا لا يأتي في عقود المعاوضات، الهبة عن طيب نفس. من دفع العربون دخل في عقد معاوضة فلا يجوز أن نجعل عقود المعاوضات أن نخرجها على عقود التبرعات، هو ليس واهبا وليس متنازلا. المجمع عندنا يصدر قرارا بإباحة بيع العربون باعتبار أن هذا شيء سائد ماذا سنقول للمسلمين في السودان؟ وماذا سنقول للمسلمين في ليبيا؟ ثم ماذا سنقول للمسلمين في الهند الذين امتنعوا عن هذا بفطرتهم السليمة وليس بالقانون، ماذا سنقول لهم؟ القانون المدني الأردني جعل العربون لكل من المتعاقدين فلا أدري كيف أنه مأخوذ من الشريعة الإسلامية؟ ! مَنْ مِنَ الفقهاء قال بهذا؟ لا أعلم. القول بأن في كل مسألة خلافية لا ضير من الأخذ بأي رأي وعلى الأخص إذا صدر قانون من ولي الأمر هذا كلام يحتاج إلى وقفة طويلة لأنه هنا القوانين الوضعية التي تصدر من ولي الأمر في عصرنا لا ترجح رأيا، هي تلزم نعم إنما لا ترجح رأيا من الناحية الشرعية، وإنما المسائل الخلافية يرجع فيها إلى الأدلة وترجيح الأدلة. ولذلك لعل الرأي الذي يمكن أن يؤخذ به ليس هو بيع العربون وإنما قرار المجمع السابق الذي أشرت إليه، وأشار إليه وقلته للأخ الدكتور عبد الستار، والحمد لله أنه اقتنع بهذا وهو القرار السابق في المواعدة، وأن الوعد إذا تسبب الواعد في ضرر بالنسبة للموعود فإن الوعد يكون هنا ملزما، ويكون الإلزام – كما قال المجمع الموقر – إما بالتعاقد أو بتحمل الضرر. وهنا لا يكون أخذا بالعربون، وإنما أخذ بالوعد الذي أقره المجمع السابق.(8/538)
فهذه أعتقد أنها فتوى دقيقة ويمكن أن تحسم الخلاف، والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
شكرا. بقي عدد من المتكلمين إلا أن الوقت انتهى فننهي – إن شاء الله تعالى – الجلسة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
كما سمعتم فإن الاتجاهات التي حصلت من المناقشات هي ثلاثة:
- المنع.
- الجواز بقدر.
- الجواز المطلق.
وأكثر المداولات التي حصلت أو الآراء التي حصلت من الذين أخذوا الكلمة هي الجواز، ومع ذلك فقد رأيت تأليف اللجنة من العارض، والمقرر، ومن الشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ عبد الستار أبو غدة، والشيخ عبد الله البسام، والشيخ وهبة الزحيلي.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(8/539)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 76/ 3/ د8
بشأن
بيع العربون
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 – 27 يونيو 1993 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: " بيع العربون ".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:
1 – المراد ببيع العربون بيع السلعة مع دفع المشتري مبلغا من المال إلى البائع على أنه إن أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن وإن تركها فالمبلغ للبائع.
ويجري مجرى البيع الإجارة، لأنها بيع المنافع. ويستثنى من البيوع كل ما يشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد (السلم) أو قبض البدلين (مبادلة الأموال الربوية والصرف) ولا يجري في المرابحة للآمر بالشراء في مرحلة المواعدة ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة.
2 – يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود. ويحتسب العربون جزءا من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء.(8/540)
بيع المزايدة
إعداد
فضيلة الشيخ محمد المختار
مفتي الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، اللهم يسر وأعن.
بيع المزايدة
بيع المزايدة نوع من أنواع البيوع في اللغة والاصطلاح. إذ قيد البيع بالمزايدة والمزايدة مصدر زايد. يقول ابن مالك:
لفاعل الفعال والمفاعلة.
وأصل هذه الصيغة في كل حدث اشترك فيه أكثر من واحد.
بيع المزايدة في اللغة: تزايد أهل السوق إذا بيعت السلعة فيمن يزيد. (1) وعلى هذا فإن المعنى اللغوي في صيغة المزايدة جاء على الغالب. أي اشتراك اثنين فأكثر في أن كلا يحق له أن يزيد على الثمن الذي عرضه غيره.
بيع المزايدة في الاصطلاح: هو قريب من المعنى اللغوي مع إضافة قيود. عرفه ابن عرفة فقال: بيع لم يتوقف ثمن مبيعه المعلوم قدره على اعتبار ثمنه في بيع قبله إن التزم مشتريه ثمنه على قبول الزيادة (2) .
شرح التعريف:
بيع: جعل جنس التعريف لفظ بيع. باعتبار أنه نوع خاص من أنواع البيوع.
فوضعه أولا في إطار العقود التي تجمعه.
- لم يتوقف ثمن مبيعه المعلوم قدره على اعتبار ثمنه في بيع قبله. هذا هو الفصل الأول أخرج به بيع المرابحة. إذ بيع المرابحة يتوقف فيه الثمن المحدد للمبيع على معرفة الثمن السابق الذي بيع به. ودخل في ملك المشتري.
المعلوم قدره: فصل داخل الفصل الأول أخرج به بيع الاستئمان. إذ أن بيع الاستئمان يكون المبيع معلوما مقداره لأحدهما. وصورته كأن يأتي المشتري لبائع السمن ويطلب منه أن يعطيه بريال سمنًا. فيأخذ منه الوعاء ويعطيه مقدارًا من السمن غير مضبوط عند المشتري. وهو بيع جائز لجريان العرف به.
إن التزم مشتريه ثمنه على قبول الزيادة: أخرج بهذا الفصل بيع المساومة. إذ أن الثمن المبذول من المشتري قاطع.
وبتحصين الرسم من تناول بيع المساومة وبيع المرابحة وبيع الاستئمان، خلص التعريف لبيع المزايدة.
__________
(1) تاج العروس: (8 / 156)
(2) حدود ابن عرفة ص 390، عارضة الأحوذي: (5 / 224)(8/541)
بيع من يزيد:
بهذا سماه الترمذي. فعنون الباب العاشر من أبواب البيوع: ما جاء في بيع من يزيد. وروى فيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلسًا وقدحًا. وقال: ((من يشتري هذا الحلس والقدح)) فقال رجل: أخذتهما بدرهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يزيد على درهم؟)) فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه (1) . علق عليه الترمذي: هذا حديث حسن. وحسن الترمذي سنده جريًا على عادته في قبول المشاهير. ورواه النسائي في البيع فيمن يزيد (2) .
وعلى هذه التسمية جرى الحنفية في كتبهم. قال في الكنز أثناء حديثه عن البيوع المنهي عنها: (وتلقي الجلب وبيع الحاضر للبادي لا بيع من يزيد. وقال في تنوير الأبصار: لا يكره بيع من يزيد) . (3) .
حكم بيع المزايدة
1- نقل الإجماع على جواز بيع المزايدة أبو عمر بن عبد البر وابن قدامة قال: وهذا أيضا إجماع المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة.
2- جوازه في بيع المغانم والمواريث خاصة عند الأوزاعي وإسحاق. وإليه مال الترمذي إذ قال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لم يروا بأسا ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث. ونقله البخاري عن عطاء. (4) .
سند الأقوال:
التحليل مطلقًا:
1- عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] .
2- الحديث الذي رواه أصحاب السنن وأحمد المتقدم وفيه بسنده مقال، وبالحديث الذي أخرجه البخاري في باب بيع المزايدة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر فاحتاج فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: ((من يشتريه مني؟)) فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا) (5) . وإن اعترض الإسماعيلي الاحتجاج بهذا الحديث لأنه لم تذكر فيه المزايدة. إلا أن ابن بطال أجاب عن ذلك بأنه عرض للمزايدة استقصاء لحق المفلس حقيقة أو حكما.
وهذا بعض ما تمسكوا به من جهة النقل. وأما من جهة المعنى فقد قال ابن عربي: ذكر أبو عيسى عن بعضهم أنه يجوز في الغنائم والمواريث. والباب واحد والمعنى مشترك لا تختص به غنيمة ولا ميراث.
__________
(1) أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو يعلى الموصلي. كما رواه الترمذي أيضا في علله الكبير عن أنس عن رجل من الأنصار. وبهذه الرواية أخرجه ابن أبي شيبة. وقال ابن القطان: هذا اللفظ يعطي أن أنسا لم يشاهد القصة ولم يسمع فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالله أعلم أن تلك الرواية مرسلة أو لا؟ يقول الزيلعي: الحديث معلول بأبي بكر الحنفي فإني لا أعرف أحدا نقل عدالته فهو مجهول الحال. نصب الراية: (4 / 22-23)
(2) فتح الباري: (3 / 257) ، والمغني: (4 / 236)
(3) البحر الرائق: (5 / 88) ، ورد المحتار: (2 / 132)
(4) فتح الباري: (5 / 258)
(5) فتح الباري: (5 / 258)(8/542)
الجواز في بيع الغنائم والمواريث:
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحدكم على بيع أحد حتى يذر إلا الغنائم والمواريث) (1) . وعلق ابن حجر على هذا الحديث فقال: كأنه خرج على الغالب فيما يعتاد فيه بيع مزايدة وهي الغنائم والمواريث. يعني ابن حجر بكلامه هذا أن الحديث تضمن أمرين: نهيًا عن تسلط المؤمن على أخيه المؤمن عند رضا المتبايعين وقبل إنجازه، وإذنًا في بيع المزايدة. إلا أنه عبر عن بيع المزايدة بما يجري فيه غالبا. على أن في إسناده مقال. (2) .
2- الأثر الذي رواه البخاري إثر عنوان باب بيع المزايدة. وقال عطاء: أدركت الناس لا يرون بأسا ببيع المغانم في من يزيد. قال في الفتح: وصله ابن أبي شيبة. وروى هو وسعيد بن منصور عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (لا بأس ببيع من يزيد وكذلك كانت تباع الأخماس) . (3) .
ولا حجة في ذلك لأن أثر مجاهد لم يخص بيع من يزيد بشيء وإنما قال: لا بأس به. ثم أكد الجواز ببيع الأخماس بالمزايدة. ولا دليل في هذا على عدم جوازه في غير ذلك وكذلك أثر عطاء.
الكراهة مطلقا:
1- عن سفيان بن وهب الخولاني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع المزايدة وهذا الحديث وإن حسنه الهيثمي إلا أن في إسناده عبد الله بن لهيعة ولم يقبله كثيرون. ويوهنه أيضا معارضته لقوله وفعله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس.
2- كما استدل بالحديث الصحيح الذي ورد فيه النهي أن يسوم المسلم على سوم أخيه.
وهذا الحديث لا يؤيد مذهب الكراهة لأن الذي فهمه عليه الصحابة أن ذلك بعد المراكنة وقبول البائع بالثمن أو المشتري للسلعة وقبل إنجاز العقد والانفصال.
ملاحظة:
هذه المذاهب التي ذكرناها وألمحنا إلى أدلتها هي مذاهب انقرضت، والمذاهب الأربعة على جواز بيع المزايدة من حيث الأصل. بل صرح بالإجماع على ذلك كثير من المؤلفين.
ولا شك أن البيع بالمزايدة يحقق للبائع فوائد منها:
1- أن حظه في وجود مشتر جاد يكون أوفر خاصة إذا كان في حاجة لسيولة مالية يصرف بها شؤونه أو يخرج بواسطتها من أزمته.
2- يمكن أن يحقق ثمنًا أرفع لما تتيحه المنافسة بين المشترين في الفوز بالمعروض.
__________
(1) فتح الباري: (4 / 258،326-327)
(2) فتح الباري: (4 / 258،326-327)
(3) فتح الباري: (4 / 258، 326-327)(8/543)
ما يحتوي عليه هذا العقد من مفاسد:
إن بيع المزايدة من حيث الأصل لم أجد في كتب الفقهاء أي احتراز في جوازه، ولكن بعض التشريعات القانونية يفهم من التعمق في نصوصها ما يفيد أن هذا البيع لا يخلو من حيث الأصل من وجود جوانب سلبية. يفهم هذا من احتياطهم لتلكم النواحي السلبية في نصوص القوانين.
والقانون الفرنسي مثلا يمنع أي تاجر من اعتماد طريقة بيع المزايدة في ترويج سلعة. كما يمنع حتى بيع السلع الجديدة بالتفصيل بواسطة النداء سواء كان البيع بالزيادة أو النقص. ولو كان البيع بحضور المأمور القضائي بغير إذن من المحكمة.
إن هذا النص ما كان ليمنع التاجر من اختيار ترويج سلعته بهذه الطريقة إلا لأن هذه الطريقة فيها مضار خفية يحدثها بيع المزايدة للآخرين. خاصة إذا راعينا أن الأصل الذي تقوم عليه التجارة في الغرب هو حرية النشاط التجاري، قد يكون من هذه السلبيات التي أراد المشرع الفرنسي أن يصون حقوق الآخرين هي التالية:
1- إن بيع المزايدة قد يحدث ضررًا لتجار الجملة والتفصيل. فإن الإعلان والنداء وتجميع المشترين كل ذلك ظروف من فعل البائع قام بها ليحول المشترين إليه. وفي ذلك ضرر بزملائه التجار، يتمثل في كساد السوق لديهم. مع أن كل التجار لما انتصبوا للتجارة هم متساوون في الحقوق والواجبات التي منها الأداءات التي يدفعونها جميعًا إسهامًا منهم في تحصيل المال العام الذي ترتوي منه خزانة الدولة. فهذه ناحية لحماية التجار من آثار هذه الطريقة.
2- إن البيع بالمزايدة يدخل فيه عامل نفسي وهو عامل المنافسة وحب الغلبة فتكون ظروف البيع قد أحكمت بطريقة يتقدم فيها المشتري في ظروف غير طبيعية ويستغل البائع تلك الظروف في التسلط غير المشروع في أصله على المشتري وهذه ناحية تفرض حماية المستهلك.
وبناء على المصلحة المرسلة في أصل حفظ المال، فإن الفقيه عليه أن يحتاط لمثل هذه النواحي ولا يطلق القول بجواز بيع المزايدة. كما أن الحاجة إليه على ما سنبينه تدعو إلى ضبط أحكامه وعدم منعه أصلًا.
أقسام البيع بالمزايدة:
ينقسم البيع بالمزايدة إلى أقسام:
أولا: في طريقة تنفيذه:
1- أن يعرض المكلف بالبيع، كصاحب السلعة أو الدلال أو المأمور القضائي أو السمسار، السلعة للبيع فيسجل الثمن المعروض أولا من أحد الراغبين في الشراء ثم يطلب ممن له رغبة أن يزيد حتى ينتهي إلى ثمن تقف عنده المزايدة ولا يتقدم أحد بعده.
2- أن يعرض متولي البيع السلعة بثمن رفيع وما يزال ينادي مخفضًا الثمن من حد إلى حد حتى يتقدم من يقبل بالحد الذي وصل إليه.
والطريقة الأولى أكثر استعمالا في بيع المزايدة.
3- أن يقع العرض في ظرف مختوم وهي طريقة قد تأخذ بها الدوائر الحكومية أو الشركات في بيع الأشياء المستعملة كالسيارات والأثاث إذ تعلن الجهة الراغبة في البيع عن السلع المعدة للبيع ومواصفاتها، وتعين مكان وجودها والأوقات التي يقبل فيها الراغبون في السلعة ويحدد أجل عروض الأثمان للشراء الذي يجب أن توضع في ظرف مختوم ويحتفظ بذلك إلى اليوم المعلن عنه لفتحها. فيفوز بالسلعة من كان عرضه أوفر قيمة.(8/544)
ثانيا: الحالة التي عليها المبيع:
1- إلى بيع الأشياء الجديدة غير المستعملة وتشمل هذه المصنوعات. ويدخل فيها الثمار والخضر والمباني التي لم تسكن.
2- إلى بيع الأشياء المستعملة كالسيارات المستعملة والأجهزة الآلية أو الكهربائية أو الإلكترونية والأثاث واللباس والدور القديمة.
3- إلى بيع التحف والنفائس كاللوحات الزيتية الممتازة والطوابع البريدية والمخطوطات النادرة.
ثالثا: حسب العارض للبيع:
1- قد يكون العارض لبيع شيء بالمزاد المالك نفسه.
2- قد يكون العارض للبيع سلطة تتصرف في ملك المالك كالوسيط والقاضي والمقدم على التركة ليقسمها بين المستحقين.
أحكام هذه الأنواع
التقسيم الأول: أي عرض السلعة للبيع بالمزايدة أو بالتنقيص وهذا لم أجد له نصًّا في كتب الفقهاء. والظاهر أنه لا فارق بينهما. فكما يجوز بيع الشيء مزايدة يجوز بيعه مناقصة. ولعل الثاني أولى بالجواز لانتفاء السوم على السوم انتفاء تامًّا. أما النوع الثالث فهي صورة مستحدثة لم تعرف في أعراف المسلمين من قبل. وقد يترجح جوازها نظرًا إلى أن يوم الفتح هو يوم العرض في الحقيقة لا يوم كتابة العرض.
التقسيم الثاني من حيث الجدة أو الاستعمال:
1- المبيعات التي لم يسبق أن تملكها غير منتجها من المصنوعات والثمار والمساكن التي لم تسكن والخضر والفواكه. فهذه تجري على أصل العقود من وجوب الصدق وعدم إخفاء أي عيب يعلمه البائع. والأصل فيه الجواز إلا إذا تضرر التجار من بيع المزاد. فللسلطة أن تمنع التسويق بهذه الطريقة. كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما منع من يخفض في الأثمان تخفيضًا يضر بأهل السوق من الإقامة في السوق.
2- المبيعات التي تملكها غير منتجها أو استعملها المنتج في مرافقه. إن مواصفات السلع والمبيعات تتأثر قطعا بالاستعمال، وتكشف تجربتها عن نواحي النقص فيها فإخفاء العيوب فيها تدليس وأكل للمال بالباطل. والتدليس حرام، أما ما يترتب على ذلك من نفاذ البيع وعجز المشتري عن القيام بالعيب أو تخويله القيام بالعيب واسترجاع ما بذله. فذلك سنفصله في متولي البيع.
3- المبيعات ذات القيمة الفنية العالية.
إن هذه الأنواع من المبيعات تتضاعف فيها الأثمان أو تنزل إلى فوارق بعيدة جدا فلوحة لرسام شهير بريشته ثمنها قد يساوي ملايين الأضعاف لصورة مقلدة. والتمييز بين الحقيقي والزائف لا يدركه إلا أولوا البصر والمعرفة. فالحكومات التي تسهر على العدالة وحماية مواطنيها تخصص بيع المزايدة في هذه الأنواع بأمكنة خاصة تراقبها وتحمي فيها المتعاملين من الاحتيال والخديعة.
التقسيم الثالث:
1- أن يكون البائع هو المالك للشيء يختار هذه الطريقة في تسويق سلعته ويتولى ذلك إما بنفسه أو بواسطة السمسار أو الدلال أو الهيئة التي نصبت نفسها لذلك، وهنا فإن البائع غير ملزم بتفويت معروضه لآخر راغب بل هو مخير في قبول العرض أو رفضه.
2- أن يكون البائع غير المالك، وهذا كما إذا طلب أحد الشركاء تصفيق المشترك للبيع لأنه قد يلحقه غبن لو باع حقه وحده.
قال في التوضيح: كل ما لا يحكم فيه بالقسمة من ريع أو حيوان أو عرض إذا طلب أحدهما البيع وأبى غيره جبر الآبي على البيع إذا كانت حصته من طلب البيع تنقص بالبيع مفردة.
يقول صاحب العمليات العامة: وغير ما يقسم من كل متاع نادى عليه من دعا لأن يباع (1) .
وفى المدونة: إذا دعا أحد الشريكين إلى قسمة ثوب بينهما لم يقسم ويقال لهما: تقاوياه فيما بينكما أو بيعاه، فإن استقر على ثمن فلمن أبى البيع أخذه وإلا بيع. قال أبو الحسن الصغير: معنى تقاوياه تزايدا فيه (2) .
وكالبيع على المحجور والسفيه فإنه يجب على وليه أن يجتهد لتحقيق الأفضل للقاصر. فإذا كان في مثل ذلك جرى عرف بعرضه على المزايدة وإن هذه الطريقة أحظى فإنه يتعين البيع بها. رعيًا لحق اليتيم والسفيه والمفلس والمجبر.
__________
(1) شرح العمليات العامة فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد ص319
(2) شرح ميارة على التحفة: (2 / 69)(8/545)
لزوم بيع المزايدة:
1- إذا بلغ المتولي النداء على السلعة الثمن الذي يرتضيه، وصفق البيع للعارض الراضي بالشراء، فإن العقد ينبرم. ويجب على المشتري دفع الثمن، وعلى متولي البيع تمكينه من السلعة، ولا خيار لأحدهما إلا على القول بخيار المجلس أو ظهور غبن على ما سنفصله.
2- إذا بلغ بالنداء ثمنًا ولكن البائع لا يرغب في بيع متاعه للراغب الأخير ونفرض أنه بصدد بيع حصانه مزايدة، ويعرف قسوة المشتري الأخير أو العمل الذي يستخدم فيه الحصان أنه عمل شاق، وأن صاحب السوم الذي قبل الأخير هو أرفق بالحيوان وهو يبيع حصانه للحاجة. ويرضى تبعا لذلك أن يقبل بالثمن الأقل فهل له أن يلزم العارض السابق بالشراء؟
يقول ابن رشد: والحكم أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد إن أراد صاحبها أن يمضيها له. ما لم يسترد سلعته. فيبيع بعدها أخرى أو يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة. وهو مخير في أن يمضيها لمن شاء ممن أعطى فيها ثمنًا وإن كان غيره قد زاد عليه.
فابن رشد يرى أن كل من شارك في الزيادة ملزم بالثمن الذي أعطاه، ما لم يعرض البائع عن البيع، إما بانتهاء مجلس المناداة، أو التحول من بيع ذلك الشيء إلى بيع غيره. ومثله أن يصرح أنه أعرض عن بيعها.
ثم أن ابن رشد أراد أن يؤكد ما ذهب إليه بأنه ينقله عن الشيخ أبي جعفر ابن رزق، ثم يؤكده من حيث المعنى فيقول: وهو صحيح في المعنى لأن حق صاحب السلعة أن يقول للذي أراد أن يلزمها إياه إن أبى من التزامها، وقال له: بع سلعتك من الذي زاد علي فيها لأنك طلبت الزيادة وقد وجدتها: (أن يقول له) أنا لا أحب معاملة الذي زاد عليك، وليس طلب الزيادة فيها وإن وجدتها إبراء لك فيها (1) .
وربط الدسوقي إلزام المشارك في الزيادة بالشراء بالثمن الذي بذله وإن انفض المجلس ربط ذلك بالعرف. فإذا كان العرف جاريًا على إلزام المشارك في الزيادة بعقد البيع وإن طال ألزم وإلا فلا. يقول: وللبائع إلزام المشتري في المزايدة ولو طال الزمان أو انفض المجلس حيث لم يجر العرف بعدم إلزامه. كما عندنا بمصر أن الرجل إذا زاد في السلعة وأعرض عنه صاحبها أو انفض المجلس فإنه لا يلزمه بها وهذا ما لم تكن السلعة بيد المشتري وإلا كان لربها إلزامه بها. على معنى أن القرينة مقدمة على العرف (2) .
وأصل هذا الذي ذكره الدسوقي هو ما جاء في كتاب العيوب الأول. قال صاحب لمالك: أرأيت الرقيق يبعث إلينا بهم تصيح عليهم ثلاثا، فأصيح عليهم وأبين لهم أني أصيح ثلاثا، فأصيح يومين. فإذا كان اليوم الثالث شغل أهلوهم، فلم يرسلوهم إلينا اليوم واليومين والثلاثة، ثم يرسلونهم. فيقول الذين كانوا عليهم: قد حبسوا عنا وقد مضت أيام الصياح ولا حاجة لنا بهم. فقال مالك: إذا كان اليوم واليومان وما أشبه ذلك فأرى أن يلزمهم ذلك. وأما إذا كان العشرين ليلة وما أشبه ذلك فلا. وعلق ابن رشد على هذا: ولو كان الذي يصاح عليه في بيع المزايدة مما العرف فيه أن يمضي أو يرد في المجلس، ولا يشترط أن يصيح عليه أياما، لما كان له أن يلزمه الشراء بعد أن ينقلب بالسلعة عن المجلس (3) .
فالعرف محكم. وبناء على ذلك فإن انتهاء الزيادة ما لم يصرح صاحبها بالبيع لا يعتبر دليلا على انبرام العقد ما لم يكن العرف على ذلك.
وعلى هذا يفهم ما جاء في الفتاوى الهندية في الفرق بين المزايدة والاستيام على سوم الغير أن صاحب المال إذا كان ينادي على سلعته فطلبها إنسان بثمن فكف عن النداء وركن إلى ما طلب منه ذلك الرجل فليس للغير أن يزيد في ذلك، وهذا استيام على سوم الغير. وإن لم يكف عن النداء فلا بأس لغيره أن يزيد، وإن كان الدلال هو الذي ينادي على السلعة وطلبها إنسان بثمن فقال الدلال: حتى أسأل المالك. فلا بأس للغير أن يزيد. فإن أخبر الدلال المالك فقال: بعه واقبض الثمن. فليس لأحد أن يزيد بعد ذلك (4) .
ولما كان العرف هو الحكم في معرفة التزام المشتري بالثمن الذي عرضه في المزايدة. فإن ما جرى عليه القانون التونسي في بيع المعقول صحيح ومقبول شرعًا: ولا يتم التبتيت إلا بعد إطفاء ثلاثة أنوار تتم إضاءتها بالتوالي، وإذا وقعت مزايدة قبل انطفاء أحد الأنوار، فإنه لا يمكن التصريح بالتبتيت إلا بعد انطفاء نورين آخرين بدون مزايدات أثناء مدتها. المادة (425) .
__________
(1) البيان والتحصيل: (8 / 474-476)
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3 / 5)
(3) البيان والتحصيل: (8 / 281-282)
(4) الفتاوى الهندية: (3 / 210-211)(8/546)
الزيادة بعد تبتيت البيع
الأصل أنه إذا صرح المالك أو وكيله أو السلطة التي تصرفت في العرض للمزايدة إذا وقع التصريح بالتبتيت، فإن العقد ينبرم ولا تحل الزيادة كما أشار إليه صاحب الفتاوى الهندية.
ولكن إذا تبين أن البيع وقع فيه غبن لأحد المتعاقدين فهل تجوز الزيادة طردا للغبن أو لا؟
أثر الغبن في بيع المزايدة
هل أن بيع المزايدة هو كالبيع فتنسحب عليه أحكام الغبن، أو أن بيع المزايدة بيع قد طرد فيه الغبن بما توفر من إشهار وحضور المتزايدين وتسليمهم في الشراء، وهل يقوم بالغبن البائع والمشتري أو هو حق لأحدهما؟
إذا كان مدعي الغبن رشيدًا عقد لنفسه، فمشهور المذهب أنه لا حق له في القيام بالغبن. ففي التوضيح عن ابن عبد السلام قال: مشهور المذهب عدم القيام بالغبن وعليه درج خليل فقال: ولا يغبن ولو خالف العادة.
وذكر ابن عسكر في العمدة والطرطوسي أن له الخيار إذا غبن غبنا فاحشا (1) .
وذكر ابن عاصم أن العمل جرى في أيامه بالأندلس بحق المغبون أن يقوم إذا توفرت ثلاثة شروط:
1- أن يكون قيامه قبل مضي السنة من يوم العقد.
2- وأن يكون جاهلا بثمن المبيع لا يعرف ثمنه الذي يباع مثله به في السوق.
3- وأن يكون الغبن قد بلغ ثلث الثمن؛ يقول:
ومن لغبن في مبيع قاما
فشرطه أن لا يجوز العاما
وأن يكون جاهلا بما صنع
والنقص بالثلث فما زاد وقع
وبقريب من هذا أفتى الشيخ ابن عرفة في زوجة الفقيه البطرني: باعت زيتونًا بحلقة من البائعين عند باب دارها. واجتهد في ذلك السمسار حتى وقفت على آخر زائد فيه ووصف لها ذلك. وانقطعت المزايدة فيه. فباعت وقبضت. ثم جاءها من زادها في المبيع عن الثمن الذي باعت به زيادة لها بال. فأفتى بنقض البيع. محتجًّا بأن المرأة لا تعلم حقيقة ما تبيع. إذ لم تشاهد ذلك. ولا هناك من يصفه لها صفة تقوم مقام العيان. اهـ. قال البرزلي: وما علق به شيخنا الإمام ظاهر إلا أن تكون قدمت للبيع بصيرًا عارفا بالمبيع بما باع فلا يكون لها مقال بعد ذلك. لأن فعل وكيلها كفعلها (2) .فالشيخ ابن عرفة ربط القيام بالغبن بجهل المرأة. وبأن الزيادة لها بال ولا شك أنه لم يطل الزمن جدا. لأن الزيتون لا يباع في تونس على رؤوس الأشجار إلا عند نضجه. فكلامه رحمه الله يدل على أنه لا يشترط أن يكون الغبن بالثلث، بل المعول عليه أن يكون مما له بال أي مما لا يتسامح الناس بمثله.
وما علق به البرزلي على كلام ابن عرفة بأنها لو وكلت بصيرًا لا يكون لها مقال فيه نظر. ذلك أن أبا عمر بن عبد البر يقول: اتفقوا أن النائب عن غيره في بيع أو شراء من وكيل أو وصي إذا باع أو اشترى بما لا يتغابن الناس بمثله مردود (3) .وعلى أن النائب عن غيره فعله منقوص إذا كان غير ناظر لمن ناب عنه.
جاءت فتوى الشيخ المهدي الوزاني ناصة على عدم التفريق بين بيع المزايدة وغيره. إذ قال: الحمد لله ما احتج به المشتري من كون المبيع وقع في البلاد مزايد لا يفيد شيئا. لأن القيام بالغبن كما يكون في بيع المساومة يكون في بيع المزايدة. وأيد فتواه بما نقله عن ابن عرفة. قال ابن عات: إن أكرى ناظر الحبس على يد القاضي وبعد النداء عليه والاستقصاء، ثم جاءت الزيادة، لم يمكن نقض الكراء ولا قبول الزيادة إلا أن يثبت بالبينة أن في الكراء غبنا على الحبس فتقبل الزيادة ولو ممن كان حاضرًا (4) .
__________
(1) مواهب الجليل: (4 / 470-472)
(2) حاشية المهدي على شرح التحفة للتاودي: ج2 / كراس 60 / ص4-5
(3) التاج والإكليل: (4 / 468)
(4) حاشية المهدي على شرح التحفة للتاودي ج2 / كراس 60 / ص 5(8/547)
فالفتوى لم تفرق بين بصير وغير بصير، وإنما ربطت نقض البيع بتبين الغبن. ويلاحظ من ناحية أخرى أن كلام ابن عات لم يبين مقدار الغبن الذي يوجب القيام، وقد نقل الحطاب اختلاف المذهب في تقدير الغبن الموجب للقيام. قال ابن عبد السلام: حيث يكون للمغبون الرجوع بالغبن إما في محل الوفاق أو في محل الخلاف. فقيل: قدر الغبن بحق البائع أن يبيع ما ينقص عن ثمن المثل الثلث فأكثر، وفي حق المشتري أن يزيد على ثمن المثل قدر الثلث فأكثر. وقيل: لا يحد بالثلث ولا بغيره من الأجزاء سوى ما دلت العادة على أنه غبن. وقال ابن القصار: إذا زاد على الثلث (1) .فهي ثلاثة أقوال في المذهب، لا قيام إلا إذا بلغ الثلث. لا قيام إلا إذا زاد على الثلث. القيام فيما لا يتسامح الناس في مثله، ولعل هذا القول هو أعدلها. لأن من باع ثوبًا يساوي اثني عشر ريالا بتسع ريالات قد يظن به أنه أراد إكرام المشتري خاصة ومستوى الربح من تجارة التفصيل في كثير من البلدان الثلث. وأما إذا باع ما قيمته مائتا ألف دولار بمائة وثمانين ألفا فعشرون ألف دينار مما لا يتسامح الناس بمثله. ولذا فإن على ولي الأمر أن يضبط النقص المعتبر غبنًا حتى يقطع مادة الخصام.
وما تقدم يتبين أن الزيادة لا تقل وتخول للبائع حق الرجوع في العقد إلا إذا شك أن البيع فيه غبن. فلو تمت الزيادة بعد انعقاد البيع دون غبن فلا حق للبائع في نقض العقد.
التناكر في دعوى الجهل
إذا اختلف البائع والمشتري فادعى المغبون منهما أنه جاهل غير بصير بالثمن وأنكره الطرف الآخر بناء على أن العارف لا يحق له القيام بالغبن كما علله الإمام المازري بقوله: أما العارف بالقيمة فيما باعه فلا يختلف في إمضائه عليه لأنه إنما فعله لغرض. وأقل مراتبه أن يكون كالواهب ماله (2) فإن مدعي الجهل مدعى عليه ومدعي المعرفة مدع. والمدعي مطالب بالبينة. فإذا أثبت من لا يرغب في إبطال البيع أن الطرف الآخر بصير بالبيوع فإن بينته تقبل ويعمل بها، ولو أثبت الراغب في نقض البيع ببينة أيضا أنه جاهل؛ لأن الأصل في الإنسان أسبقية الجهل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] ومثبت العلم ببينة ناقلة. والبينة الناقلة مقدمة على البينة المثبتة للاستصحاب، يقول خليل: وبنقل على مستصحبة.
__________
(1) مواهب الجليل: (4 / 372)
(2) حاشية الشيخ المهدي على شرح التاودي ج 2 / كراس 60 / ص2(8/548)
حقيقة الرجوع في العقد بسبب الغبن
هل يعتبر رد المبيع نقضًا للبيع الأول أو يعتبر بيعًا جديدًا؟
قال ابن عاصم في باب الفلس:
وليس من رد البيع ما اشترى
أولى به في فلس أن اعترى
يقول الشيخ ميارة في شرحه لهذا البيت: من اشترى شيئا، ودفع ثمنه ثم وجد به عيبًا فرده على بائعه ففلس البائع قبل أن يرد للمشتري ثمنه فلا يكون المشتري أحق بذلك المعيب الذي رده في ثمنه بل هو أسوة الغرماء. وهذا بناء على أن الرد بالعيب نقض البيع. ولو قلنا: ابتداء بيع. لخير المشتري لكونه صار بائعًا وجد سلعته في التفليس – فهما نظريتان لم يرجح ميارة إحدهما (1) .
القيام بالعيب
إذا قبض المشتري المبيع فاطلع على عيب فيه. فهل يقوم بحقه وينقض البيع؟ في المقام تفصيل.
أولا – البيع على البراءة:
البيع على البراءة: قال ابن عبد السلام: معنى البراءة: التزام المشتري للبائع في عقدة البيع أن لا يطالب بشيء من سبب عيوب المبيع التي لم يعلم بها كانت قديمة أو مشكوكًا فيها (2) .
إذا باع صاحب السلعة على أنه برئ من كل عيب يظهر بالمبيع. أو باع على أن المبيع معيب بجميع العيوب. فقد اختلف الفقهاء في ذلك.
1- مذهب أبي حنيفة:
ذهب الحنفية إلى أن البيع على البراءة ماض. وانه لا حق للمشتري في الرد بالعيب، يقول في البحر: (ولو برئ من كل عيب به صح وإن لم يسم الكل. ولا يرد بعيب لأن الجهالة بالإسقاط لا تفضي إلى المنازعة) (3) .
ويقول ابن عابدين: (لا خصوصية للفظ البراءة في إسقاط الحق في القيام بالعيب، فمثله كل ما يؤدي معناه. ومنه ما تعورف في زماننا فيما إذا باع دارًا مثلا. يقول بعتك: هذه الدار على أنها كوم تراب. وفى بيع الدابة يقول: مكسرة محطمة، فإذا قبله المشتري فلا خيار له لأنه قبله بكل عيب يظهر فيه (4) .
__________
(1) شرح ميارة على التحفة 2 / 260
(2) مواهب الجليل: (4 / 439)
(3) البحر الرائق: (6 / 72)
(4) رد المحتار: (4 / 95)(8/549)
2- مذهب مالك:
المشهور من المذهب: أن بيع البراءة لا يجوز إلا في الرقيق ولا يجوز بغيره. فإذا باع عرضًا أو حيوانا غير رقيق على البراءة من العيوب، ثم اطلع المشتري على عيب قديم فيه، كان له رده ولا عبرة بشرط البراءة. بخلاف الرقيق إذا بيع على البراءة ثم اطلع المشتري على عيب فلا رد له (1) .
وليس للبائع أن يبيع رقيقا على البراءة إلا بشرطين:
1- أن تطول إقامة الرقيق عنده طولا يطمئن فيه لسلامته من العيوب التي تؤثر في رغبة الناس في المبيع.
2- أن يكون البائع فعلا جاهلا بالعيوب التي تبرأ منها.
والشرط الأول غير معتبر في بيع الحاكم. فللحاكم أن يبيع الرقيق على البراءة بعد موت صاحبه لخلاص الديون أو على المفلس لقضائها.
وكذلك في بيع الوارث إذا كان لخلاص الديون. وأما إذا كان للقسم فخلاف. فظاهر خليل أنه مانع من الخيار للمشتري لقول خليل: ومنع منه بيع حاكم ووارث رقيقا فقط بين أنه وارث. وفهم الباجي أنه ليس بيع براءة.
من المدونة قال مالك: لا تنفع البراءة مما لا يعلم البائع في ميراث أو غيره من السلع والحيوان إلا في الرقيق. قال ابن القاسم وهو الذي به آخذ من قول مالك: وكذا بيع السلطان على المفلس والمغانم وغيرها. قال ابن القاسم: بيع السلطان في الدين وفى المغنم وغيره وبيع الورثة إذا ذكروا أنه ميراث ذلك كله بيع براءة وإن لم يذكروا البراءة (2) .
وأما الشرط الثاني فهو شرط في بيع الحاكم والوارث وغيرهما. قال المتيطي: فإن علم السلطان بعيب فيما باعه كان للمبتاع رده. قاله مالك في كتاب محمد وكذلك إذا علم به من بيع عليه من مفلس. قال الباجي في شرحه: لأنا قد بينا أنها لا تثبت فيما علم به من العيوب ولا تؤثر فيه (3) .
والفرق بين بيع الحاكم والوارث وبين بيع الإنسان رقيقه أن يبيعهما محمول على البراءة نص عليه أو لم ينص، بخلاف بيع الإنسان مال نفسه فلا يحمل على البراءة إلا مع ذكرها (4) .
والقول الثاني أن بيع البراءة ماض في كل شيء، وبه كان يقول مالك ثم رجع عنه إلى القول السابق (حاشية ابن رحال على شرح ميارة) (5) .
يقول ابن عاصم:
وبعضهم فيها الجواز أطلقا
وهو قول ابن وهب ورواية ابن حبيب عن مالك.
والقول الثالث: أنها لا تجوز في شيء، وذكره القاضي عبد الوهاب.
والقول الرابع: أنها جائزة في الحيوان، عاقلا أو غير عاقل، وهو المذكور في الموطأ ونصه: والأمر المجمع عليه عندنا فيمن باع عبدًا أو وليدة أو حيوانًا بالبراءة من أهل الميراث أو غيرهم. فقد برئ من كل عيب فيما باع. علق عليه الزرقاني بأن أشهب قال لمالك: إنك ذكرت البراءة في الحيوان. قال: إنما أريد العبد ونحو ذلك. فبين مالك أن الحيوان دخل في درج كلامه. قاله أبو عبد الملك.
__________
(1) دسوقي: (3 / 113)
(2) التاج والإكليل: (4 / 439)
(3) العمليات العامة ص140
(4) المهدي ج 2 / كراس 53 / ص 2
(5) ج 1(8/550)
وقال ابن عبد البر: أفتى به مرة في سائر الحيوان ثم رجع إلى تخصيصها بالرقيق (1) .
والقول الخامس: هو ما جرى به العمل في الأندلس وهو ما نظمه ابن عاصم فقال:
وكل ما القاضي يبيع مطلقًا
بيع براءة به تحققا
والخلف فيما باعه الوصي
أو وارث ومنعه المرضي
فهذا الذي اعتمده ابن عاصم وجعله القول المعتمد، قد اعترضه غير واحد من شراحه وشرح بعضهم لفظه ولم يفنده. قال الشيخ المهدي: ما كان من حق التادوي أن يسلم كلام الناظم بسكوته عنه.
والذي يظهر لي أن القاضي ابن عاصم يرى أن ما تولى الحاكم بيعه فقد اتصل به قضاء. وشأن القضاء أن يكون قاطعًا للخصام، فلهذا رجح أن بيع القاضي هو بيع براءة. وهو الذي عليه العمل في الأندلس الذي التزم به في طالعة التحفة إذ يقول:
فضمنه المفيد والمقرب
والمقصد المحمود والمنتخب
نظمته تذكرة وحين تم
بما به البلوى تعم قد ألم
وحلل كلامه ميارة فقال: نظمته تذكرة وسميته بكذا حين كمل حال كونه ملمًّا أي مشعرًا بما البلوي تعم به القضاة ويتكرر وقوعه لديهم. (2)
3-مذهب الشافعي:
القول الأول: أن بيع البراءة يبرأ به البائع إذا باع حيوانًا عاقلًا أو غير عاقل من كل عيب باطن لم يعلمه البائع. فلا يبرأ عن عيب بغير الحيوان كالثياب والدور، ولا عن عيب ظاهر للحيوان علمه أو لم يعلمه. ولا عن عيب باطن للحيوان علمه.
والقول الثاني: أنه يبرأ عن كل عيب أيا كان المبيع عملًا بالشرط.
والقول الثالث: لا يبرأ عن أي عيب للجهل بما تبرأ منه. قال الخطيب: وهو القياس، وإنما ترجح القول الأول اعتمادا على ما أخرجه مالك في موطئه عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر باع غلاما له بثمانمائة درهم وباعه بالبراءة. فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر: بالغلام داء لم تسمه لي. فاختصما إلى عثمان بن عفان، فقال الرجل: باعني عبدا وبه داء لم يسمه. وقال عبد الله: بعته بالبراءة. فقضى عثمان بن عفان على عبد الله أن يحلف له: لقد باعه العبد وما به داء يعلمه. فأبى عبد الله أن يحلف، وارتجع العبد فصح عنده فباعه عبد الله بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم (3) .
ووجه الشافعي ذلك بأن الحيوان يتغذى في الصحة والسقم، وتحول طباعه فلا ينفك عن عيب خفي أو ظاهر، فيحتاج البائع لشرط البراءة ليثق بلزوم البيع فيما لا يعلمه من الخفي دون ما يعلمه مطلقًا للتلبيس. وما لم يعلمه من الظاهر لندرة خفائه (4) .
__________
(1) الزرقاني: (3 / 100)
(2) شرح ميارة على التحفة: 1/ 7
(3) الموطأ، باب العيب في الرقيق: ص 379
(4) مغني المحتاج: 2 / 53(8/551)
4- مذهب الحنابلة:
روي عن أحمد أنه لا يبرأ من العيب إلا إذا أعلم به المشتري. ونقل عن إبراهيم والحكم وحماد أنه لا يبرأ إلا مما سمى. وقال شريح القاضي: لا يبرأ مما أراه أو وضع يده عليه. وروي عن عطاء والحسن وإسحاق. ووجه هذا القول أنه مرفق من مرافق البيع لا يثبت إلا إذا شرطه. فلا يثبت مع الجهل كالخيار.
وروي عنه أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه. وتوجيهه حديث ابن عمر المتقدم، ولما روت أم سلمة رضي الله عنها: أن رجلين اختصما في مواريث درست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استهما وتوخيا. وليحلل كل منكما صاحبه)) (1) . فبرأ كل واحد منهما صاحبه في مجهول بإذن النبي صلى الله عليه وسلم. فدل ذلك على جواز البراءة من المجهول (2) .
هذا مختصر لآراء الفقهاء في المذاهب الأربعة.
والذي يترجح أن البائع إذا كان عالمًا بالعيب فإن شرط البراءة لا يرفع حق المشتري؛ لأنه مدلس أكل مال أخيه بالباطل.
وأما إذا كان البائع غير مدلس ولا علم له بالعيب فأعدل الأقوال أن ما باعه الحاكم لا قيام فيه بالعيب. لأن شأن القضاء أن يكون باتًّا. ولأن من أخذ حقه من يد القضاء فهو مطمئن لذلك. فإذا وزع الثمن على الغرماء تصرف كل واحد منهم فيما قبض، فالرجوع بالعيب وإبطال البيع وإلزام الغرماء برد الأثمان التي تصرفوا فيها بوجه مشروع ظلم لهم.
وكذلك الأمر في بيع الوصي مال الموصى عليه للإنفاق لأنه لا يتم إلا بإذن القاضي. وكذلك في بيع الورثة مال مورثهم لقضاء الديون أو لأجل القسم لأنه أن وقع بدون إذن حاكم فإن الشأن فيه أن يحكم به الحاكم إذا وقع خلاف بين المدينين والورثة أو الورثة فيما بينهم فوضعهم مع الخلاف لا يكون أقل من وضعهم مع الاتفاق.
أما ما باعه الشخص مزايدة باختياره فلا ينفعه شرط البراءة إذا اطلع المشتري على عيب.
ثانيا – البيع مع عدم اشتراط البراءة:
إذا اطلع المشتري على عيب بالمبيع ولم يكن البائع قد اشترط البراءة ولم يكن حاكمًا ولا وصيا ولا وارثا فهل يثبت له الخيار؟
1- مذهب الحنفية:
أن العيب هو ما يؤثر نقصًّا في الثمن ولو يسيرًا عند أهل البصر بالمبيع. وسواء كان العيب حاصلا قبل العقد أو حدث عند البائع قبل قبض المشتري للمبيع، وفي هذه الحال فالمشتري بالخيار إن شاء أمسك المبيع وإن شاء رده واسترجع الثمن وذلك بخمسة شروط:
1- أن يكون العيب حدث عند البائع.
2- أن لا يعلم به المشتري عند البيع.
3- أن لا يعلم به عند القبض.
4- أن لا يتمكن من إزالته بلا مشقة. فإن تمكن فلا رد، كإحرام الجارية ونجاسة الثوب الذي لا يفسده الغسل ولا ينقص من قيمته.
5- أن لا يزول العيب قبل الفسخ ويتحمل المشتري مؤونة الرد (3) .
__________
(1) أخرجه أحمد مطولا: (5 / 320)
(2) المغني: (4 / 197 –198)
(3) البحر الرائق: (6 / 39 – 40)(8/552)
2- مذهب المالكية:
يثبت للمشتري الخيار إذا شرط شرطا فيه غرض، عدمه يترتب عليه نقص في القيمة، وأما إذا شرط شرطًا فيه غرض إلا أنه لا يؤثر في قيمة المشتري ففيه قولان: أحدهما أن له الرد، وثانيهما: أنه إن بين وجهًا كان له الخيار وإلا فلا خيار. أما إذا شرط شرطًا ضمنه له البائع، ولما قبض المبتاع لم يجد شرطه متوفرًا مع أن هذا الشرط لا أثر له لا في القيمة المالية ولا غرضا صحيحا فيه فلا خيار.
كما يثبت الخيار للمشتري إذا وجد نقصًا جرت العادة بالسلامة منه سواء أثر في الثمن كما لو وجد السيارة بدون كابح، أو أثر نقص في المبيع كخصاء العبد، أو نقصًا في التصرف كعسر العبد، أو خوفًا في العاقبة كما إذا كان والد العبد مجذومًا. ومثله الدابة في الأمراض الوراثية (1) .
والعيب الموجب للخيار هو ما كان موجودًا قبل العقد، وأما ما حدث بعد العقد وقبل القبض فمصيبته من المشتري إلا ما تعلق به حق توفية (2) .
2- مذهب الشافعية:
إن الخيار يثبت للمشتري إذا اطلع على ما ينقص قيمة أو عينا أو يفوت مقصودًا للمشتري. ويعلم قصده إما بالتنصيص على اشتراطه أو جرى به العرف. ولا يثبت الخيار إلا إذا كان العيب حاصلا عند العقد، أو قبل القبض، ولم يتسبب فيه المشتري.
يقول الشربيني: والظاهر أنه لا فرق بين أن يكون العيب مما يقدر المشتري على إزالته أو لا. وإذا كان النقص في عين المبيع فإنه لا يوجب الخيار إلا إذا كان النقص يفوت غرضا صحيحًا. أما إذا كان النقص غير معتبر أو تافها فلا خيار. كقطع أصبع زائدة أو جزء يسير من فخذ أو ساق لا يورث شينا. وإذا حدث العيب بعد القبض إلا أن سببه وجد قبل القبض فللمشتري الخيار، ومثلوه بالعبد الذي جنى جناية ثم باعه سيده قبل القصاص. وأما المرض الذي يعقبه الموت. فإن ابتدأه المرض قبل القبض فلا خيار للمشتري لأن الموت ليس سببه بداية الإصابة، ولكن استفحاله إلى درجة يستلم البدن ويعجز عن المقاومة. وهذا الطور غير بداية المرض (3) .
4- مذهب الحنابلة:
يثبت الخيار للمشتري إذا اطلع على عيب من العيوب، وهي النقائص الموجبة حطًّا في القيمة المالية للمبيع. والمرجع إلى أهل الخبرة في كل نوع من أنواع المبيعات، وكذلك إذا تشارط المشتري صفة مقصودة له وإن لم يعتبر فقدها عيبا في العرف. فإذا لم تتوفر في المبيع فالمشتري له الخيار. فإن شرط صفة غير مقصودة عرفا فبان المبيع خاليا منها فلا خيار (4) .
وحاصل الفقه في هذا: أن المشتري إذا اطلع على عيب في المبيع موجودا قبل العقد، باتفاق، أو قبل القبض فيما يتعلق به حق توفيه باتفاق، أو قبل القبض في غيره عند أبي حنفية والشافعي، وكتمه البائع فإنه يثبت له الخيار، إلا في الرقيق عند المالكية، فإنهم يثبتون الخيار من كل عيب في الرقيق حدث خلال الثلاثة أيام التالية للبيع، كما يثبتون الخيار للمشتري من الجنون والجذام والبرص في السنة التالية للبيع. وهو مذهب الفقهاء السبعة، وعمل أهل المدينة. وفي الأيام الثلاثة يستوي في القيام بالرد الحادث والقديم من العيوب وحتى الموت. فقد جاء في المدونة: قلت: وإن غرق فمات أو فقئت عينه قال: قال مالك: دية الجراح للبائع لأن الضمان منه (5) .
يقول ابن راشد: وعهدة الثلاث عند المالكية بمنزلة أيام الخيار؛ النفقة فيها والضمان من البائع. وأما عهدة السنة فالنفقة فيها والضمان من المشتري إلا من الأدواء الثلاثة. ثم يعمم ابن رشد فيقول: إن عهدة الثلاث عن مالك في الرقيق، وهي أيضا واقعة في أصناف البيوع في كل ما القصد منه المماكسة والمحاكرة وكان بيعا لا في الذمة. وهذا ما لا خلاف فيه في المذهب (6) وهذا التعميم المذكور في البداية لم أجد أحدا من أهل المذهب يقول به. وقد يكون مما أدخله بعض النساخ في الأصل وذلك أن عهدة الثلاث لا يجوز تعجيل الثمن فيها لأن المبيع لا ينتقل إلى ضمان البائع إلا بعد انقضائها لتردد النقد بين السلف والبيع. فلو عمم لكان البيع الناجز الذي ليس في الذمة لا يجوز تعجيل الثمن فيه
تقدير ما هو عيب: يرجع فيه للعرف العام أو لأهل الخبرة فيما دق، والعيب الذي يقدر المشتري على إزالته بدون نقص للمبيع مختلف في تأثيره. والذي يترجح أن ما كان غير لازم للمعقود عليه ويمكن إزالته بدون ضرر لا يوجب خيارًا. ويرجح جميع المذاهب أنه إذا فقد شرطا لا يحقق غرضًا صحيحًا فالعقد نافذ ولا خيار.
__________
(1) الحطاب: (4 / 429) ، والزرقاني: (5 / 123)
(2) الكافي: (2 / 62)
(3) المغني: (2 / 50-52)
(4) المغني: (4 / 159 – 171)
(5) المدونة: (3 / 333)
(6) الهداية: (7 / 336)(8/553)
من تكون عليه العهدة عند القيام بحق خيار النقيضة
قد يكون مالك السلعة هو الذي ينادي عليها ويعقد الصفقة. فهو الذي يطالبه المشتري.
وقد يكون المتولي غير المالك كالقاضي والوصي والوكيل والفضولي والسمسار والشريك وعامل القراض.
أما الوكيل فإذا كان مفوضًا فالعهدة عليه. وإذا كان وكيلا بالبيع فالعهدة عليه إلا أن يبين عند البيع أنه وكيل.
وأما الوصي فإن تجر لنفسه فالعهدة عليه. وإن باع لنفقة وبين لم تكن عليه عهدة ورجع المبتاع في عين شيئه، فإن أنفقه عليه لم يكن عليه شيء.
وأما القاضي فلا شيء عليه وهي في مال اليتيم فإن هلك ماله لم يكن عليه شيء، وإن باعه لقضاء دين المفلس رجع على الغرماء مطلقا.
والفضولي يتحمل العهدة إلا أن يجيز المالك ما صنعه. فإن أجازه ففي انتقال العهدة قولان لابن القاسم وسحنون.
وأما السمسار فلا عهدة عليه بل هي على رب السلعة، فإن لم يعرف فهي مصيبة نزلت بالمشتري ويحلف ما يعرفه (1) .
وفي المدونة: أفرأيت من يستأجر الناس من النخاسين الذين يبيعون لهم الرقيق، ويجعلون لهم الجعل على ما يبيعون من ذلك، والذين يبيعون المواريث ومثل هؤلاء الذين يبيعون للناس، يجعل لهم في ذلك الجعل فيبيعون، والذي يبيع فيمن يزيد في غير ميراث يستأجر على الصياح، فيوجد من ذلك شيء مسروق أو خرق أو عيب؟ قال: ليس على واحد من هؤلاء ضمان، وإنما هو أجراء أجروا أنفسهم وأبدانهم، وإنما وقعت العهدة على أرباب السلع، فليتبعوهم، فإن وجدوا أربابها، وإلا لم يكن على هؤلاء الذين وصف لك تباعة (2) .
وإذا رد المبيع فهل يفوز السمسار بما أخذه أو يرده؟
السمسرة على نوعين: سمسرة ضبط فيها أجل النداء كأن يتفق صاحب السلعة مع السمسار على النداء عليها أسبوعا. وفي هذه الحالة فإذا ردت السلعة لا يرجع البائع على السمسار بشيء لأنها إجارة.
النوع الثاني: أن لا يحدد له أجلا، وإنما يتفق معه على النداء على السلعة حتى تنتهي المزايدة، وهذا عقد جعل.
ويجب على السمسار رد ما أخذه بثلاثة شروط:
1- أن لا يكون البائع مدلسًا. أما إذا تبين تدليسه فلا يعود على السمسار بما أخذه.
2- أن يكون رد المبيع بقضاء قاض فإن تم الرد بقبول البائع دون رفع للحاكم فلا. ويقول ابن عاصم:
وأجرة السمسار تسترد
حيث يكون للمبيع رد
(3) .
3- أن لا يكون السمسار عالما بالتدليس وتواطأ مع البائع على الكتمان، قال ابن القابسي: وإن علم السمسار بالعيب فهو مدلس أيضا إن رد المبيع فلا جعل له، وإن لم يرد فله جعل مثله (4) .
__________
(1) لب اللباب: ص 156
(2) المدونة: (3 / 339)
(3) ميارة (2 / 40) ، وحاشية المهدي ج 2 / كراس 59 / ص 4.
(4) مواهب الجليل: (4 / 45)(8/554)
من يدفع أجرة السمسار
الأصل أنه إذا كان هناك شرط عمل به. وأما إذا لم يكن هناك شرط فالأصل أنه يرجع فيه إلى العرف. وإن لم يوجد شرط ولا عرف فقال ابن عرفة: الذي يؤخذ من كلام المدونة أن الجعل على البائع (1) .
وتكلم صاحب اللامية في ما يبيعه القاضي من الرهن فذكر فيه خلافًا قال:
يبيع كما يدري ويقضي وإن يكن
بجعل ففي معطيه قولان اعملا
يقول التاودي في شرحه عليها:
القول الأول لابن القاسم: أن الجعل على طالب البيع. والثاني لعيسى: أن الجعل على الراهن. ورجح ابن رشد قول عيسى مستظهرا له، بأن الراهن مأمور بالقضاء واجب عليه فعله. فهو أولى بغرم ما يتوصل به إلى أداء الواجب عنه. ويلحظ ابن القاسم أن للراهن أن يقول: أنا لا أريد البيع للرهن لأني أرجو أن يتيسر لي الحق دون بيع، فإذا أردت تعجيله فأد الجعل (2) .
حكم طلب الضمان
جرى العرف في بيع الدوائر الحكومية وكذلك الشركات والمؤسسات أن من وقفت عليه المزايدة ملزم بأن يدفع عربونًا بنسبة مقدرة مقدمة من الثمن كعشر الثمن، وأنه مطالب في أمد محدد أن يكمل الإجراءات ويدفع باقي الثمن، وأنه إن لم يوف بالتزامه خسر العربون وتعاد البتة.
والعربون يدفع غالبا في صورة صك مضمون القيمة. فهل يجوز أخذ العربون؟
انفرد أحمد من بين المذاهب الأربعة بتجويز بيع العربون. يقول النووي: فرع: قال ابن المنذر: روينا عن ابن عمر وابن سيرين جوازه، قال: وقد روينا عن نافع ابن عبد الحارث أنه اشتري دارا بمكة من صفوان بن أمية بأربعة آلاف فإن رضي عمر فالبيع له، وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة.
قال ابن المنذر: وذكر لأحمد بن حنبل حديث عمر فقال: أي شيء أقدر أقول (3) .
والعربون لم يرد فيه حديث صحيح يمنعه. كما لم يرد فيه نص صحيح يجيزه. إذ أن فعل عمر خرجه ابن قدامة على صورة فقال: أما إن دفع إليه قبل البيع درهمًا وقال: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها فهذا درهم لك، ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ وحسب الدرهم من الثمن صح؛ لأن البيع خلا عن الشرط المفسد. ويحتمل أن الشراء الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه، فيحمل عليه جمعًا بين فعله وبين الخبر وموافقة للقياس؛ إذ لا يصح جعله عوضًا عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله، إذ لو كان عوضًا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء. ولأن الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه. ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة (4) .
ولا شك أن المخاطرة موجودة، إذ قد يعجز المشتري عن جمع المقدار المتبقي فيذهب العربون وقد يتمكن من الوفاء بالثمن فيعتبر العربون جزءا من الثمن.
ولكن العمل جري في القوانين والمحاكم تبعًا لذلك في البلدان الإسلامية بقبول مبدأ العربون، وأن البائع إما أن تتم البيعة فيقبض الثمن المتفق عليه، وإما أن ينكل فيعوض البائع عن تفويت الفرص التي تسبب فيها المشتري وذلك بفوزه بالعربون (5) .
__________
(1) مواهب الجليل: (4 / 452)
(2) حاشية التسولي على شرح ميارة للامية الزقاق: ص37 - 38
(3) المجموع: (9 / 335)
(4) المغني: (4/ 258)
(5) المدخل الفقهي: (1 / 495) ، فقرة 234، وإعلام الموقعين: (3 / 276)(8/555)
اشتراط رسم للدخول في المزايدة
إن رسوم الدخول في المزايدة أمر لم يعهد من قبل. وهو ما اقتضته أنظمة الدول والمؤسسات والشركات. فهي إذا أرادت عرض بعض ممتلكاتها للبيع بالمزايدة كلفت بذلك أولا خبراء يضبطون المبيع؛ ثم تكلف خبراء بضبط شروط البيع ضبطًا محكما ينفي كل نزاع ويضمن لكل طرف حقوقه، وهو المعبر عنه بكراس الشروط، ثم تقوم بطبع ذلك وإصداره في نشرة وهي بين من يمكن كل راغب في نسخة منه بدون مقابل ومن يبيع تلك النسخ للمشاركين في المزايدة.
إذا اشترط البائع أن لا يشارك في المزايدة إلا من تحصل على نسخة من كراس الشروط فإنه ليس القصد في فعله أن يبيع هذا الكراس؛ لأن تفاهة قيمته بالنسبة للمبيع لا تجعله مقصودًا بالثمن. وإنما هو يشترط ذلك لما بيناه من أن يكون كل مشارك على بينة من أمره في شروط العقد وضوابطه. ولذا فإن أصل بيع الكراس لا مانع منه إذ هو وثيقة مادية مسعرة بسعر محدد لم يلزم بها أي مشتر إلزاما ظالمًا، ولمن يشتريها بعد الاطلاع عليها الخيار في المشاركة أو عدم المشاركة في المزايدة واشتراط ذلك لا مانع منه نظرا إلى أنه شرط سائغ وليس له تأثير في العقد.
عمليات الاستثمار بالمزايدة
السؤال الوارد: هل تجوز عمليات الاستثمار بالمزايدة؟ وصورتها أن تطرح البنوك الإسلامية في المزايدة مشاريع استثمارية تكون قد أثبتت الدراسات جدواها الاقتصادية ووافق البنك على تقديم التمويل لمن يرغب في إنشائها. وعنصر المزايدة في ذلك هو سعي البنك للحصول على أعلى نسبة للمشاركة في الربح مع المستثمر في عقد مشاركة. وما الحكم إذا كان المستثمر عاملا في عقد مضاربة مع البنك؟ إن الصورة المقدمة غير واضحة والذي فهمته منها: أن البنك الإسلامي درس مثلا الجدوى الاقتصادية لبعث معمل للآجر. وأنتجت الدراسة الاقتصادية أن الطين المادة الأولية متوفرة في المكان الذي سيقام فيه المعمل، وأن الطلب على البضاعة متوفر باعتبارها عنصرًا أساسيا في البناء بتلك الجهة، وأن اليد العاملة متوفرة أيضا، وأن التكلفة بالنسبة للسعر في السوق يحقق أرباحًا… إلى آخر ما تقتضيه الدراسة.
وبذلك فإن البنك الإسلامي يعرض المشروع لمن يريد أن يقوم به على أساس المشاركة مع البنك. وإن من يتعاقد مع البنك لإدارة المشروع تعود له نسبة من الربح وللبنك نسبة من الربح. ولا يعين البنك نسبة ما يحصل عليه، وإنما يلقيه في السوق مزايدة على أن يتقدم الراغبون بعروضهم ومن كان عرضه أكثر عائدا للبنك هو الذي يفوز بالصفقة.
لقد نظرت في الصفقة إذا كان إنجازها على هذه الصورة فلم أجد ما يمنع منها لتوفر الرضا من الطرفين، ولأن المزايدة في المبيعات تهدف إلى تحقيق أفضل قيمة للبائع. فكذلك هذه.(8/556)
النجش
نجش ينجش نجشًا من باب نصر. والنجش بالتحريك لغة – نقله الصاغاني. أصل المعنى في إثارة الصيد. أو في مطلق الإثارة. أو فيما يترتب على الإثارة من الجمع، ومنه نجش الإبل: جمعها بعد تفرقة. إلى معان أخرى ذكرها في القاموس وشرحه (1) .
والنجش في البيوع عرف بتعاريف متقاربة: وهو البيع الذي يدخل فيه طرف ثالث ليغري غيره بالشراء فيرتفع ثمنها تبعًا لتدخله. ويتنزل منزلة الناجش صاحب السلعة إذا أخبر بثمن أعلى من الثمن الذي أعطيه، ومثله الدلال الذي يزيد في السلعة على الثمن الذي عرض عليه، أو الوكيل الذي يفعل ذلك. فقد أخرجه عبد الرزاق من طريق عمر بن عبد العزيز أن عاملا له باع شيئا، فقال له: لولا أني كنت أزيد فأنفقه لكان كاسدًا، فقال له عمر: هذا نجش لا يحل. فبعث مناديًا ينادي أن البيع مردود وأن البيع لا يحل (2) .
فتحصل أن النجش له صور:
1- الأصل أن يأتي طرف ثالث فيزيد في السلعة ليرفع من ثمنها ويغري المشتري بالزيادة.
2- أن يأتي طرف ثالث يظهر بصره بالسلعة ويمدحها مدحًا يغري المشترين.
3- أن يزيد صاحب السلعة على الثمن الذي أعطيه ليدلس على من يسومه.
4- أن يزيد الوكيل أو السمسار زيادة وهمية لم يعرضها أحد.
والأول والثاني هو النجش حقيقة والآخران مقيسان عليه.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش. فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ولا تناجشوا)) (3) ورد الحديث بصيغة النهي وهي تدل على التحريم. ولذلك قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله.
تحقيق ما هو داخل تحت النهي:
1- مذهب الحنفية:
ذهب الحنفية إلى أن النجش المنهي عنه هو ما كان غرض الطرف الثالث التغرير بالمشترين لتبلغ السلعة أكثر من ثمن مثلها.
فقد جاء في الفتاوى الهندية: (رجل استام من رجل بثمن مثله فزاد رجل آخر في الثمن لا يريد شراءه، وإنما فعل ذلك ليرغب المشتري في الزيادة. فذلك مكروه وهو النجش المنهي عنه. وإن كان الذي استام يطلب الشراء بأقل من قيمته فلا باس لغيره أن يزيد حتى يرغب المشتري بالزيادة إلى تمام قيمته. وهو مأجور في ذلك – فتاوى قاضيخان - وكذلك إذا أراد الرجل أن يبيع ماله لحاجة فطلب منه بدون قيمته فزاد رجل إلى تمام قيمته فلا بأس بذلك، وهو محمود غير مذموم – كذا في السراج الوهاج (4) .
ويقول ابن نجيم: (وحديث النهي ((لا تناجشوا)) في الصحيحين، وقيده أصحابنا كما في الجوهرة بما إذا كان السلعة إذا بلغت قيمتها: أما إذا لم تبلغ فلا مانع منه لأنه نفع للمسلم من غير إضرار بأحد) (5) .
__________
(1) تاج العروس: (17 / 402)
(2) فتح الباري: (5 / 258)
(3) نصب الراية:) 4 / 21)
(4) الفتاوى الهندية: (4 / 210)
(5) البحر الرائق: (6 / 107)(8/557)
3- مذهب مالك:
قال مالك في الموطأ: والنجش أن تعطيه بسلعته أكثر من ثمنها. وليس في نفسك اشتراؤها؛ ليقتدي بك غيرك (1) قول مالك: أكثر من ثمنها اختلف في فهمه؛ حمله معظم المتقدمين على أنه أكثر من الثمن المبذول فيها.
وهذا ما ذكره ابن عبد البر، فقد قال في الكافي: (والنجش أن يعطي الرجل في السلعة عطاء ليقتدى به، وهو لا يريدها؛ ليغتر المشتري بذلك. وذلك عند مالك عيب من العيوب) (2) .
وهو الذي يجب أن نفهم عليه كلامه في التمهيد (3) . وهو ما ذكره ابن الجلاب في التفريع: ولا يجوز النجش في البيوع، وهو أن يبذل الرجل في السلعة ثمنًا ليغري بذلك غيره ولا رغبة له في شرائها (4) ، وبه قال المازري: فصفة النجش عند الفقهاء أن يزيد في السلعة ليغتر بها غيره ليشتريها (5) .
وقال المتيطي: والنجش أن يزيد التاجر ثمن السلعة لا ليريدها لنفسه بل ليغر غيره.
وبمثل هذا الإطلاق جاء نص الجواهر الثمينة ومختصر ابن الحاجب والشامل (6) .
وحمله ابن عرفة على معنى أكثر من قيمتها. وأشاع تلاميذه ومن جاء بعده هذا الاحتمال كالأبي وابن ناجي والرصاع. حتى أن الأبي غير نص مالك إلى ما فهمه شيخه قال: قلت: قال مالك في الموطأ: والنجش أن تعطيه في سلعته أكثر من قيمتها. مع أن نص مالك هو ثمنها (7) .وقال الرصاع: قال الشيخ: وكلام المازري أعم من كلام مالك رحمه الله وهو حسن (8) .
وذهب ابن العربي من المالكية إلى أن الزيادة إذا كانت من الناجش يقصد من ورائها أن تبلغ السلعة قيمتها رفعا للغبن عن البائع فهو مأجور.
فتحصل أن نصوص المالكية تفيد حسب ظاهر كلام مالك ومن جاء بعده أن النجش حرام سواء كان قصده أن تبلغ السلعة قيمتها ونفع البائع دون إضرار بالمشتري، أو كان قصده التغرير بالمشتري والإضرار به.
وأن النجش حسبما فهمه ابن عرفة وتلاميذه من بعده ومن تأثر بهم أن مالكًا يفصل بين أن يكون قصده رفع الغبن عن البائع فهو جائز وأن يكون قصده التغرير فيكون حراما (9) .
وأن ابن العربي انفرد بأن قاصد رفع الغبن عن البائع مأجور. فهو موافق لمذهب الحنفية.
3- مذهب الشافعية:
يقول الشافعي: فمن نجش فهو عاص بالنجش إن كان عالما بالنهي (10) وذكر الشربيني أن شراح كلام النووي: (والنجش بأن يزيد في الثمن لا لرغبة بل يخدع غيره) قد اختلفوا في تحليل قوله: (ليخدع غيره) ، فذهب بعض الشراح إلى أنه لو زاد في السلعة لتبلغ قيمتها بزيادة، أنه جائز، ثم قال: والمتجه التحريم لما فيه من إيذاء للمشتري ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) (11) وأكد ابن حجر بأن الذي يريد النصيحة له مندوحة عن الزيادة بأن يعلم البائع أن قيمة سلعته أكثر مما أعطي (12) .
__________
(1) الموطأ: (425)
(2) الكافي: (2 / 86)
(3) (13 / 348)
(4) (2 / 167)
(5) المعلم: (2 / 92)
(6) الرهوني: (5 / 144)
(7) إكمال الإكمال (4 / 80)
(8) شرح حدود ابن عرفة ص 356
(9) شرح حدود ابن عرفة ص 356
(10) فتح الباري:) 5 / 259)
(11) المغني: (2 / 37)
(12) فتح الباري: (5 / 259)(8/558)
4-مذهب أحمد
النجش: أن يزيد في السلعة من لا يريد ليقتدي به المستام فيظن أنه لم يزيد فيها هذا القدر إلا وهي تساويه فيغتر بذلك فهذا حرام وخداع (1) .
وحاصل تتبع المذاهب أن النجش حرام، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، وإن النجش جائز إذا لم تبلغ السلعة قيمة مثلها. وهذا مذهب الحنفية. وفهم ابن عرفة ومن تبعه من كلام مالك. وقول عند الشافعية، أن النجش في هذه الحالة مأجور صاحبه، وهو ما نقل في كتب الحنفية ومذهب ابن العربي.
ويترجح عندي أن النجش حرام بدون تفصيل. وذلك لأن المتابعين يعمل كل واحد منهما على الفوز بما هو أحظى له، وهو مشروع لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فتغليب أحد الطرفين بدخول طرف ثالث خفية هو تغليب لأحد الطرفين على الآخر، ولأن شأن المخدوع بزيادة الطرف الأجنبي أن يجد في نفسه على الطرف الذي خدعه، وقد جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث - مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر اخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) (2) .
فما تقدم عن النجش وما تأخر عنه يؤكد تحريم تدخل طرف يترتب على تدخله تباغض وتدابر.
حكم العقد الذي وقع فيه نجش
إذا اطلع المشتري على أنه قد خدع بالنجش؛ فقد اختلف الفقهاء فيما يترتب على ذلك:
1-أن البيع باطل. وإليه ذهب أحمد واختاره أبو بكر؛ لأن النهي يقتضي الفساد (3) .
2- أن العقد صحيح ولا خيار للمشتري لأنه فرط وكان عليه أن يتحوط قبل العقد ويسأل إن كان غير خبير بالقيم. قال ابن نجيم: إن بيع النجش منهي عنه لمجاور، فكراهته كراهة تحريم مع الصحة (4) . وقال في المغني: والأصح أنه لا خيار للمشتري في تفريطه حيث لم يتأمل ولم يراجع أهل الخبرة.
والثاني: له الخيار للتدليس كالتصرية. ويحل الخلاف عند مواطأة البائع للناجش وإلا فلا خيار جزما (5) .
__________
(1) المغني: (4 / 234)
(2) إكمال الإكمال: (7 / 18 – 19)
(3) المغني: (4 / 234)
(4) البحر: (6 / 37)
(5) مغني المحتاج: (2 / 37)(8/559)
3- أن المشتري بالخيار إن شاء رد السلعة وإن شاء أمسكها. فإن فاتت رجع بالقيمة ما لم تكن القيمة أقل من الثمن قبل النجش، فإن نقصت لزمه الثمن لا القيمة ومثال ذلك أن يعطي فيها عشرة مثلا، ثم زاد فيها شخص لغيره فبيعت بخمسة عشر وفاتت السلعة بيد مشتريها فخير فاختار القيمة فقومت بثمانية مثلا، فإنه يلزم بدفع عشرة عند ابن عبد السلام، ولم يرتض ابن عرفة كلام ابن عبد السلام في هذه الصورة، ورجح الرهوني نظرية ابن عبد السلام لأن المشتري لما بذل العشرة طائعا فهو ملتزم بها فيسقط ما زاد على ما التزمه (1) .
وأعدل الأقوال ثبوت الخيار للمشتري؛ لأنه لا موجب لإبطال العقد من أصله،
لأن النهي ها هنا يمكن إعماله مع بقاء العقد. إذ هو عائد لا إلى أصل العقد بل لأمر خارج عنه مجاور له. ولأنه لا عدل في إلزام المشتري بما تآمر عليه البائع وظلمه فيه والظلم يزال، ولا يصح أن يقره الشارع الحكيم، فبان أن القول بفساد العقد هو كالقول بصحته، وأن خيار المشتري فيه العدل وإعمال لجميع الأدلة.
من أوجه النجش
إن التعريف الذي ارتضيناه هو أن بيع النجش هو الذي يدخل فيه طرف ثالث ليغري غيره بالشراء فيرتفع ثمن المبيع تبعا لتدخله. وهذا التدخل يشمل الزيادة ممن لا يرغب في الشراء، كما يشمل مدح السلعة والتأثير على المشتري ليغريه بالشراء، وفي المجتمع الاستهلاكي أخذت أجهزة الإعلام تقوم بدور مؤثر للإقبال أكثر فأكثر على الاستهلاك، ثم التلاعب بعواطف الجماهير واستغفالهم. وهذه الأساليب إن كانت صادقة كاشفة عن حقيقة المبيعات فإن تأثيرها على عقلية الأفراد والشعوب تأثير سيء إذ تجعلها مولعة بالإسراف.
وما كان الإسراف إلا منهجا مفسدا لا يرضى عنه الدين: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) } [الشعراء: 151 – 152] .
وأما إذا كانت كاذبة مخادعة، فهي من أنواع النجش الذي تحدثنا عنه، إذ تخدع المشتري فيبذل في السلعة أفضل من قيمتها، ولما كانت الدول الإسلامية تراقب أجهزة الإعلام فعليها أن تضبط بتشريع واضح حدود الإعلام والدعوة إلى الإقبال على الشراء والاستهلاك سواء كان البيع بيع مزايدة أو غيره من أنواع البيوع.
والله أعلم وأحكم وهو حسبي ونعم الوكيل.
__________
(1) الرهوني: (5 / 144 – 145)(8/560)
ملخص البحث
بيع المزايدة:
حقيقته:
أطلق على هذا البيع: بيع المزايدة والبيع فيمن يزيد.
وهو أن يعرض صاحب السلعة ما يريد بيعه على الراغبين، فيزيد بعضهم على بعض حتى تنقطع الزيادة فيصفق البائع إن شاء السلعة للعارض.
حكمه:
اختلف فيه المتقدمون. فذهب بعضهم إلى كراهته مطلقا، وذهب بعضهم إلى جوازه بدون كراهة في بيع المغانم والمواريث، وإلى جوازه مطلقا بضوابط البيع الشرعي.
وهذا الخلاف إنما هو خلاف تاريخي؛ إذ حصل الإجماع من الفقهاء على جوازه بعد ذلك.
مقارنة بين منافعه ومفاسده:
يستفيد من بيع المزايدة البائع باعتبار أن حظه من وجود مشتر جاد يكون أقوى، وهو في حاجة إلى السيولة النقدية. كما يتيح له تحقيق ثمن أرفع مما لو لم يناد عليه ويشهره للبيع.
ويستفيد منه المشتري بما يتيحه الإعلان من تمكينه من وجود ما يرغب فيه بيسر خاصة في الأشياء المستعملة.
ومن ناحية أخرى:
فقد يتضرر التجار من بيع المزايدة إذ يصرف الإشهار والنداء المشترين منهم إلى السلع المعروضة في سوق المزايدة كما يمكن أن يتضرر فيه المشترون، إذ أن الظروف النفسية لبيع المزايدة قد تغري المشتري بدفع ثمن أرفع.(8/561)
مقدمة القرار:
بيع المزايدة: هو البيع الذي يعرض فيه البائع سلعته على الراغبين فيها داعيًا لهم لزيادة بعضهم على بعض حتى تنقطع الزيادة فيعقد البائع إن شاء مع العارض.
وحكم هذا البيع الجواز بضوابطه الشرعية.
أقسام بيع المزايدة:
ينقسم بيع المزايدة بالنظر إلى طريقة إنجازه إلي:
1- أن تعرض السلعة في السوق وينادي عليها البائع بنفسه أو بواسطة سمسار، أو بواسطة المأمور القضائي إلى أن تنتهي الزيادة.
2- أن يعرض متولي البيع السلعة بثمن فإن وجد من يقبل وإلا خفضه وما يزال يخفض إلى أن يقبل به أحد المشترين فيفوز بالبضاعة.
3- أن يعلن عن بيع السلعة بالمزايدة. ويقدم الراغبون عروضهم في ظروف مختومة تفتح في أجل محدد، ويفوز بالسلعة من كان عرضه أوفر.
وينقسم بالنظر إلى الحالة التي عليها المبيع:
1- إلي بيع الأشياء الجديدة.
2- إلى بيع الأشياء المستعملة.
3- إلى بيع التحف والنفائس.
يجوز بيع الأشياء الجديدة ما لم يتضرر التجار من ذلك.
كما يجوز بيع الأشياء القديمة مع ضوابط الرجوع بالعيب.
كما ينبغي ضبط أماكن بيع التحف والنفائس حماية للمشتري والبائع من التحيل.
وينقسم بالنظر إلى متولي البيع:
1- أن يكون البائع هو المالك ولفائدته.
2- أن يكون البائع غير المالك، كما إذا دها أحد الشركاء إلى تصفيق ما لا يقسم أو يتضرر بيعه منفردا وكالبيع على المحجور.(8/562)
لزوم بيع المزايدة:
1- يلزم العقد إذا صفق البائع السلعة لآخر راغب بالثمن الذي بذله.
2- للبائع أن يصفق السلعة لأحد المتزايدين مفضلا له على باذل الثمن الأرفع لأن كل من زاد هو ملتزم بالثمن الذي عرضه ما لم يطل أو يجري عرف، وما لم تكن السلعة بيد المشتري بعد الطول.
للبائع أن يصرف المبيع عن الراغب الآخر إلى الذي سبقه.
الزيادة بعد تبتيت البيع:
إذا لم يظهر غبن لا تقبل الزيادة. وإذا ظهر في البيع غبن فالمشهور عدم قبول الزيادة. وجرى العمل بقبولها في الأندلس. ولذلك يتبع العرف.
وفى تقدير الغبن خلاف: هل هو ما يعتبر كثيرا، أو هو ما بلغ الثلث، أو ما يجاوزه؟
على ولي الأمر أن يضبط الغبن الموجب لقبول الزيادة.
خيار النقيصة:
1- البيع على البراءة:
إذا وجد المشتري عيبا بالمبيع:
الحالة الأولى: أن يكون قد باعه على البراءة أو ذكر أنه معيب بكل عيب؛ ذهب الحنفية إلى أن المشتري لا حق له في القيام بالعيب في هذه الحالة، وذهب المالكية إلى أن بيع البراءة لا ينفع إلا في الرقيق إذا كان البائع صاحب السلعة أو وكيله.
وأما إذا كان البائع الحاكم أو الوارث فله أن يبيع على البراءة بشرط أن لا يعلما بالعيب.
وذهب الشافعية في أصح الأقوال أنه ماض في بيع الحيوان والرقيق.
وذهب الحنابلة أن بيع البراءة لا يفيد البائع وللمشتري القيام بالعيب.
إذا علم البائع بالعيب وكتمه على المشتري فللمشتري القيام بالعيب.
وإذا كان غير عالم كبيع الحاكم والوارث والوصي لا قيام فيه بالعيب، وبيع غيرهم فالبائع متحمل لكل عيب قديم.
خيار النقيصة إذا باع لا على البراءة:
إذا طلع المشتري على عيب في المبيع موجود قبل العقد باتفاق أو قبل القبض فيما يتعلق به حق توفية باتفاق أو قبل القبض عند غير المالكية في غير ذلك فإن كان البائع قد كتمه فالمشتري بالخيار.
تقدير ما هو عيب يرجع للعرف العام أو لأهل الخبرة فيما دق من العيوب.
ويطالب القائم بحق الرد المالك إن تولى البيع، وكذا الوكيل إذا كان مفوضًا إليه، وكذلك وكيل البيع إذا لم يبين أنه وكيل وغير مالك.
وما باعه الوصي لنفقة من هم إلى نظره لا يرجع القائم إلا في عين شيئه، فإن أنفقه لم يكن له شيء.
وما باعه القاضي فإن كان على اليتيم فالقائم يأخذ حقه من مال اليتيم، فإن هلك فلا شيء له، وما باعه لقضاء الديون فللقائم مطالبة الغرماء.
والفضولي يتحمل العهدة إلا إذا أجاز المالك فعله.
والسمسار لا عهدة عليه.(8/563)
رد السمسار ما أخذه إذا لم يتم البيع:
إذا رد المشتري وكان قد تحمل بأجرة السمسار فهل يعود على السمسار؟
إذا كانت السمسرة إجارة فلا يرجع البائع على السمسار.
وإذا كانت جعلا وجب عليه رد ما أخذه إذا كان البائع غير مدلس وحكم القاضي بالرد، ويجب الرد أيضا إن كان السمسار مواطئا للبائع على الكتمان.
حكم طلب الضمان
الضمان:
طلب عربون عند عقد الصفقة يأخذه البائع إن نكل المشتري عن إتمام البيع وبجواز أخذ العربون قال أحمد، وهو ما جرى به العمل في البلاد الإسلامية.
اشتراط أن يكون المشارك في المزايدة قد تملك كراس الشروط:
لا يوجد ما يمنع البائع من اشتراط أن يكون المشارك في المزايدة قد اشترى كراس الشروط واطلع عليه. واشتراط ذلك لا مانع منه لهوان قيمته بالنسبة لأصل الصفقة عادة. إذ لو كان رفيع الثمن لكان عامل طرد للمزايدين، وهو عكس رغبة البائع ومصلحته.
عمليات الاستثمار بالمزايدة
لما كان الغرض من بيع المزايدة توفير الغنم للعارض فلا مانع من أن يعمد البنك الإسلامي في عرض مشروعه على المشاركين مزايدة على معنى أن يزيد بعضهم على بعض في النسبة التي يحصل عليها البنك من المشروع.
النجش
إذا كان القصد منه التغرير بالمشتري ليزيد في السلعة ويبلغ بها ثمنا أعلى من قيمتها فهو حرام بإجماع.
وإن كان للبلوغ بالسلعة المعروضة قيمتها فقد اختلف فيه الفقهاء والراجح منعه؛ لأنه خداع.
ويشمل النجش دخول طرف ثالث بالتواطؤ مع البائع أو بدون تواطؤ، ومنه ما تقوم به وسائل الإعلام في التنويه بالسلعة وكتمان نقائصها وعرضها عرضا مغريا بالدخول في المزايدة.
والله أعلم
الشيخ محمد المختار السلامي(8/564)
المصادر والمراجع
- القرآن العظيم.
التفسير:
- التحرير والتنوير – الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الدار التونسية للنشر
- الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد القرطبي دار الكتب المصرية
السنة:
الجامع الصحيح بشرح فتح الباري – الحافظ شهاب الدين ابن حجر مصطفى البابي الحلبي 1378
الجامع الصحيح بشرح إرشاد الساري للقسطلاني دار الفكر
صحيح الإمام مسلم بشرح إكمال الإكمال لأبي عبد الله محمد الأبي مطبعة السعادة 1327
صحيح الإمام مسلم بشرح المعلم لأبي عبد الله محمد المازري دار الغرب الإسلامي 1992
صحيح الإمام الترمذي بشرح تحفة الأحوذي للقاضي أبو بكر ابن العربي دار العلم للجميع
مسند الإمام أحمد بن حنبل المكتب الإسلامي
موطأ الإمام مالك بن أنس تحقيق فؤاد عبد الباقي
موطأ مالك بشرح التمهيد لأبي عمر بن عبد البر طبع وزارة الأوقاف بالمغرب
موطأ مالك بشرح الزرقاني المطبعة الكستلية المصرية 1279
نصب الراية – جمال الدين الزيلعي دار الحديث – القاهرة
الفقه الحنفي:
البحر الرائق بشرح كنز الدقائق – زين الدين بن نجيم المطبعة العلمية 1311
بدائع الصنائع - علاء الدين الكاساني مطبعة الإمام
رد المحتار على الدار المختار – محمد أمين بن عابدين إحياء التراث العربي
الفتاوى الهندي – جماعة من علماء الهند المطبعة الأميرية ببولاق
فتح القدير – كمال الدين بن الهمام إحياء التراث العربي(8/565)
الفقه المالكي:
بداية المجتهد مع الهداية من تخريج أحاديث البداية لابن رشد الغماري عالم الكتب 1987
البيان والتحصيل لأبي الوليد بن رشد دار الغرب الإسلامي 1934
تحفة الأحكام شرح التاودي وحاشية المهدي طبعة حجرية مغربية
تحفة الحكام شرح ميارة وحاشية ابن رحال المطبعة البهية المصرية 1304
التفريع لأبي القاسم بن الجلاب دار الغرب الإسلامي 1987
حدود ابن عرفة بشرح الرصاع وزارة الأوقاف المغربية 1992
فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد العلميات العامة لأبي عبد الله الغلالي مطبعة الدولة التونسية 1290
الكافي لأبي عمر بن عبد البر دار الهدي 1979
مختصر خليل بشرح التاج والإكليل لأبي عبد الله العبدري المواق دار الفكر
مختصر خليل بشرح مواهب الجليل لأبي عبد الله محمد الحطاب دار الفكر
مختصر خليل بشرح الزرقاني وحاشية البناني المطبعة البهية المصرية 1304
مختصر خليل بشرح حاشية الرهوني على الزرقاني والبناني المطبعة الأميرية بولاق 1306
مختصر خليل بشرح الكبير محمد الدردير والدسوقي دار إحياء الكتب العربية 1345
لامية الزقاق بشرح التاودي وحاشية التسولي المطبعة الرسمية التونسية 1303
لباب اللباب لأبي عبد الله محمد بن راشد القفصى المكتبة العلمية بتونس 1346
المدونة – الإمام مالك بن أنس دار الفكر 1978
المقدمات الممهدات – أبو الوليد محمد بن رشد دار الغرب الإسلامي
الفقه الشافعي:
المنهاج بشرح مغني المحتاج لأبي زكرياء النووي والخطيب الشربيني دار إحياء التراث العربي
المهذب بشرح المجموع لأبي زكرياء النووي دار الفكر
الفقه الحنبلي:
إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية مطبعة الكيلاني
الروض المربع شرح زاد المستنقع لعبد الرحمن النجدي توزيع الرئاسة العلمية
شرح منتهى الإرادات لمنصور البهوتي دار الفكر
مختصر الخرقي بشرح المغني لابن قدامة مكتبة الرياض الحديثة
المدخل الفقهي – الشيخ مصطفى الزرقاء
مجلة المرافعات المدنية المطبعة الرسمية التونسية(8/566)
عقد المزايدة
بين الشريعة الإسلامية والقانون
دراسة مقابلة
مع التركيز على بعض القضايا المعاصرة
إعداد
عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان
مكة المكرمة – المملكة العربية السعودية
فهرس البحث
الباب الأول
الدراسة الشرعية الفقهية للمزايدة
ويشتمل على ثلاث فصول، ومباحث
الفصل الأول
التعريف والمشروعية
وفيه أربعة مباحث
المبحث الأول: تعريف (المزايدة) في اللغة والشرع.
المبحث الثاني: دليل مشروعية (المزايدة) .
المبحث الثالث: الأحاديث والآثار المعارضة.
المبحث الرابع: بيوع محرمة تلتبس بـ (بيع المزايدة) .
الفصل الثاني
فقه المذاهب الأربعة في (المزايدة)
تمهيد:
المبحث الأول: مذهب الحنفية.
المبحث الثاني: مذهب المالكية.
المبحث الثالث: مذهب الشافعية.
المبحث الرابع: مذهب الحنابلة.
الفصل الثالث
الجامع في أحكام المزايدة
المبحث الأول: أحكام المزايدة.
المبحث الثاني: الدلال: سلوك وتصرفات، وأحكام.
المبحث الثالث: أحكام الدلال وأجرته.
المبحث الرابع: ضمان الدلال.(8/567)
الباب الثاني
المزايدة في العصر الحديث
الفصل الأول
الدراسة القانونية
ويشتمل على تمهيد، وأربعة مباحث
تمهيد:
المبحث الأول: تعريف المزايدة.
المبحث الثاني: الإجراءات المتبعة في عقد المزايدة.
المبحث الثالث: ركنا الإيجاب والقبول في المزايدة.
المبحث الرابع: دعوى الغبن في المزايدة.
الفصل الثاني
الدراسة التنظيمية
المبحث الأول: نموذج تطبيقي من النظام السعودي.
المبحث الثاني: أهم الشروط والمتطلبات في المزايدات في العصر الحديث.
المبحث الثالث: استعمالات اقتصادية حديثة لعقد المزايدة.
الفصل الثالث
الدراسة الفقهية المقابلة
المبحث الأول: الشكل.
المبحث الثاني: المضمون.
خاتمة البحث.
النتائج والخلاصة.
قائمة مصادر البحث.(8/568)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة البحث
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين… أما بعد.
فإن (المزايدة) من أساليب المعاملات المشروعة، في الفقه الإسلامي، وجرى بها التعامل في تجارات المسلمين وأسواقهم قرونا طويلة.
دَوَّنَ الفقهاء المسلمون رحمهم الله تعالى أحكامها، وبسطوا مسائلها في ضوء الكتاب والسنة، وقواعد الشريعة، وجاء العصر الحديث بتطوراته فشمل أنواع المعاملات، وأساليب التجارة، وكان للمزايدة من هذا التطور الحظ الأوفر؛ إذ أنها الأسلوب الشائع في المداولات التجارية المحلية، والعالمية.
لم يقتصر التغيير على الشكل والأسلوب بل تجاوزه إلى الأسس والمضمون.
أخذت الأمة الإسلامية بأساليب المزايدة ومضمونها في تنظيمها الحديث، وبدت بعض المسائل والمشاكل تطرح نفسها على الساحة الفقهية الإسلامية؛ من تلك الموضوعات على سبيل المثال لا الحصر:
1- الإجراءات المتبعة في المزايدة في الوقت الحاضر، هل هي مقبولة شرعا؟.
2- مدى صحة اشتراط الضمان البنكي من كل من يريد الدخول في المزايدة.
3- هل من الصحيح شرعا إجراء عمليات الاستثمار مزايدة؟
4- معرفة الصور الحديثة للنجش المنهي عنه في بيع المزايدة.
هذه الموضوعات ونظائرها مما لا عهد للفقه الإسلامي بها، جديرة بأن تكون موضع البحث والتأمل لمعرفة موقف الشرع الشريف تجاهها.
ليس من الفقه في شيء أن تدرس هذه الموضوعات، وأمثالها مستقلة عن إطارها الفقهي في صورته الكاملة، أو بمعزل عن أهدافها، ومقاصدها.
فمن ثم استوجب البحث عرضا كاملا لفقه المزايدة في الشريعة الإسلامية في الباب الأول: تعريفا، ومشروعية، واختيارًا لأهم القضايا، والمسائل، والأحكام التي يمكن الاسترشاد بها في مشاكل (المزايدة) في العصر الحاضر، في ثلاثة فصول، وخصص الباب الثاني للمزايدة في العصر الحديث في ثلاثة فصول رئيسة أيضا.
استقلت فصول الباب الثاني بالدراسة القانونية، تعريفا، والإجراءات المتبعة فيها، والأحكام المتعلقة بها، وأهم الشروط والمتطلبات، منتهية بعرض بعض الاستعمالات الاقتصادية، عرض الفصل الثاني منه نموذجا تطبيقيًّا من النظام السعودي.
انتهى هذا الباب في فصله الثالث بالدراسة الفقهية المقابلة بين الشريعة والقانون.
أخيرًا: أختتم البحث بتلخيص لأهم ما ورد في تلك الدراسة من نتائج وأحكام.
والله أسأل التوفيق، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل، إنه سميع قريب مجيب الدعوات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(8/569)
الباب الأول
الدراسة الشرعية الفقهية لعقد المزايدة
ويشتمل على ثلاثة فصول، ومباحث.
الفصل الأول
التعريف والمشروعية
ويشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف المزايدة في اللغة والشرع
(المزايدة) من الأساليب التي يتم بها إنجاز بعض عقود المعاملات، وهي من الأشكال الشائعة المعهودة التي تقع على عقد البيع، والإجارة.
اشتقاقها يدل على وصفيتها (مزايدة) ، ووزنها (مفاعلة) ، إذ فيها مشاركة بالزيادة من أطراف متعددين، والزيادة هنا برفع ثمن السلعة المعروضة في المزاد (الحراج) .
ورد التفسير للمزايدة ومشتقاتها لغويا كالآتي:
"زيد: الزاء، والياء، والدال؛ أصل يدل على الفضل، يقولون: زاد الشيء يزيد، فهو زائد……." (1) .
"وتزايد السعر، وتزيد، وتزايدوا في ثمن السلعة حتى بلغ منتهاه، وزايد أحد المتبايعين الآخر مزايدة (2) .
"زايده: نافسه في الزيادة، وفي ثمن السلعة: زاد فيه على آخر…. المزاد:
موضع الزيادة. و (بيع المزاد) : البيع الذي يتم بطريق الدعوة إلى شراء الشيء المعروض ليرسو على من يعرض أعلى ثمن. و (ثمن المزاد) : الثمن الذي رسا به المزاد" (3) .
فمن ثم جاءت تعريفات الفقهاء لـ (المزايدة) متطابقة مع المعنى اللغوي، ووصفا للواقع، والمشاهد، وفيما يلى عرض لبعض تعريفات مختارة منها:
ورد للمزايدة عدة تعريفات عند المالكية، وفي جميعها وصف لأسلوب البيع بها، وطريقته:
فمن هذه التعريفات تعريف العلامة أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي القرطبي:
"وأما المزايدة: فهي أن ينادي على السلعة، ويزيد الناس فيها بعضهم على بعض، حتى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها" (4) .
وعرف العلامة أبو عبد الله محمد بن عرفة (بيع المزايدة) بقوله: "بيع لم يتوقف ثمن مبيعه، المعلوم قدره على اعتبار ثمنه في بيع قبله، إن التزم مشتريه ثمنه على قبول الزيادة" (5) .
__________
(1) ابن فارس، أبو الحسن أحمد، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، (مصر: دار الفكر) ، مادة (زيد) ، 3 / 40
(2) الزمخشري، جار الله أبو القاسم محمود بن عمر، أساس البلاغة، الطبعة الأولى، تحقيق عبد الرحيم محمود (مصر: مطبعة أولاد أوقاند، عام 1372 هـ/ 1953م) ، مادة (زيد) ، ص 198.
(3) أنيس، إبراهيم – وزملاؤه، المعجم الوسيط، (معلومات النشر: بدون) ، مادة (زيد) ، (1 / 409)
(4) القوانين الفقهية، (ليبيا – تونس: الدار العربية للكتاب، عام 1982) ، ص 269)
(5) حدود ابن عرفة مع شرحها، الطبعة الأولى، تحقيق محمد أبو الأجفان، والطاهر المعموري (بيروت: دار الغرب الإسلامي) ، عام 1993 م، (2 / 383)(8/570)
وعرفها من المالكية أيضا محمد عرفة الدسوقي بالوصف قائلا: "المزايدة: أن تعطي السلعة للدلال ينادي عليها في السوق فيعطي زيد فيها عشرة، فيزيد عليه عمرو، وهكذا إلى أن تقف على حد فيأخذها به المشتري" (1) .
هذه التعريفات في جملتها وصف للجانب الشكلي لهيئة إنجاز المزايدة، وكيفيتها، وخص البيع فيها بالذكر والتمثيل في التعريفات والعناوين، لأنه الغالب والشائع، ولا يمنع ممارستها في غير البيع؛ ذلك أن المزايدة في حقيقتها لا تعدو أن تكون شكلا وهيئة تتناسب وتنسجم مع كل عقد تكون المماكسة فيه زيادة أو نقصانًا جائزة، ومشروعة، كالإيجارات، وعقود العمل، وأرباح الاستثمار في الشركات، وغير ذلك.
المبحث الثاني: دليل مشروعية المزايدة
تستمد (المزايدة) عمومًا، و (بيع المزايدة) خصوصًا مشروعيتها من أحاديث نبوية صحيحة مرفوعة، وآثار مروية عن الصحابة والتابعين وردت في دواوين السنة المطهرة بعناوين مختلفة:
في صحيح الإمام البخاري بعنوان (بيع المزايدة) وذكر تحته الآتي:
"وقال عطاء: أدركت الناس لا يرون بأسًا ببيع المغانم فيمن يزيد"، ثم أردف هذا الأثر بحديث رواه بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر (2) ، فاحتاج، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا" (3) .
ففي نداء النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك الرقيق بقوله: (من يشتريه مني) ليبلغ به قدرًا يقضي به حاجة صاحبه دليل على صحة بيع المزايدة؛ إذ أن في هذه الصورة يتحقق معنى المزايدة، وذلك أن يعطي به واحد ثمنًا، ثم يعطي به غيره زيادة عليه (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع) ، 3/ 159
(2) أي بعد وفاته، ويقال للرقيق يعتقه سيده بعد وفاته: (مدبر)
(3) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، تحقيق محمود النواوي وزملاؤه (مكة المكرمة: مكتبة النهضة الحديثة، عام 1376 هـ) (3 / 61)
(4) العيني، بدر الدين أبو محمد محمود، عمدة القاري في شرح البخاري، (بيروت: دار التراث العربي) مصورة عن الطباعة المنيرية، (11 / 261) ، وانظر: ابن حجر، أحمد بن علي، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، قسم أبوابه محمد فؤاد عبد الباقي، وصححه محب الدين الخطيب، (مصر: المطبعة السلفية، ومكتبتها) (4 / 355)(8/571)
وعقد الإمام الترمذي بابا بعنوان (باب ما جاء في بيع من يزيد) وعرض تحته حديثًا يرويه عن حميد بن مسعدة، حدثنا عبيد الله بن شميط بن عجلان، حدثنا الأخضر بن عجلان، عن عبد الله الحنفي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلسا وقدحًا، وقال: ((من يشتري هذا الحلس والقدح)) ؟ فقال رجل: أخذتهما بدرهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: ((من يزيد على درهم؟ من يزيد على درهم؟ فأعطاه رجل درهمين فباعهما منه)) .
قال الإمام الترمذي: "هذا الحديث حسن لا نعرفه إلا من حديث الأخضر ابن عجلان، وعبد الله الحنفي الذي روى عن أنس هو أبو بكر الحنفي، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم؛ لم يروا بأسا ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث، وقد روى هذا الحديث المعمر بن سليمان، وغير واحد من أهل الحديث عن الأخضر بن عجلان" (1) .
قال الإمام جمال الدين الزيلعي: "وإنما حسن حديثه (أبي بكر الحنفي) على عادته في قبول المشاهير…." (2) .
دلالة الحديث واضحة في "جواز الزيادة على الثمن إذا لم يرض البائع بما عين الطالب" (3) .
ويعلق العلامة أبو بكر ابن العربي على ما حكاه الإمام الترمذي عن بعض أهل العلم تخصيصهم جواز (بيع من يزيد) بأموال الغنائم والمواريث قائلا:
"لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث، فإن الباب واحد، والمعنى واحد، والمعنى مشترك" (4) .
وقد خرج العلماء هذا التخصيص على الغالب فيما يعتاد فيه البيع مزايدة في ذلك الوقت، حيث كان الجهاد الإسلامي على أشده، وكانت معظم الأموال من الغنائم والتركات، ولا يعني هذا منع بيع المزايدة فيما عداهما. بل يلتحق بهما غيرهما للاشتراك في الحكم، خصوصًا وأنه قد ثبت وقوع البيع في غيرهما مزايدة (5) .
__________
(1) سنن الترمذي، بشرح تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، مراجعة وتصحيح عبد الرحمن بن عثمان، (مصر: مؤسسة قرطبة) ، (4 / 409)
(2) نصب الراية لأحاديث الهداية، الطبعة الأولى، (مصر: مطبعة دار المأمون) عام (1357 / 1938 م) ، (4 / 23)
(3) المباركفوري، محمد بن عبد الرحمن، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، مراجعة وتصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، مصر: مؤسسة قرطبة) ، 4 / 409)
(4) عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي، الطبعة الأولى، (مصر: المطبعة الأزهرية، عام 1350 / 1931 م)
(5) انظر: ابن حجر، فتح الباري، (4 / 354) : المباركفوري، تحفة الأحوذي، (4 / 410 – 411)(8/572)
وعرض الإمام أبو داود سليمان الأشعث السجستاني حديثا كاملا صريحًا في بيع المزايدة تحت عنوان: (باب ما تجوز فيه المسألة) "1641 – حدثنا عبد الله بن مسلمة، أخبرنا عيسى بن يونس، عن الأخضر بن عجلان، عن أبي بكر الحنفي، عن أنس بن مالك: أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء. قال: ائتني بهما. فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: ((من يشتري هذين)) ، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: ((من يزيد على درهم)) ؟ مرتين، أو ثلاثا. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما للأنصاري، وقال: ((اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا فأتني به)) ، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده، ثم قال له: ((اذهب فاحتطب، وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما)) . فذهب الرجل يحتطب، ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، أن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع)) (1) .
يذكر العلامة أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي في معرض الأحكام المستنبطة من هذا الحديث قوله فيما يتصل ببيع المزايدة ومقارنًا ببيع الرجل على بيع أخيه:
"وفي الحديث من الفقه جواز بيع المزايدة، وأنه ليس بمخالف لنهيه أن يبيع الرجل على بيع أخيه؛ لأن ذلك إنما هو بعد وقوع العقد، ووجوب الصفقة، وقبل التفرق من المجلس، وهذا إنما هو في حال المراودة والمساومة، وقبل تمام المبايعة" (2) .
__________
(1) سنن أبي داود، ضبط وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد، (بيروت: دار إحياء التراث العربي) ، (2 / 120) ؛ وقد ورد ذكر هذا الحديث بطوله وبنصه مع اختلاف بسيط في الألفاظ في سنن ابن ماجه، الطبعة الأولى، تحقيق محمد مصطفي الأعظمي: (الرياض: شركة الطباعة العربية السعودية عام 1403 هـ / 1983 م)
(2) معالم السنن، الطبعة الأولى، (حلب: المطبعة العلمية، عام 1352 هـ / 1933 م) (2/ 69)(8/573)
الآثار المروية في مشروعية بيع المزايدة:
"أخرج عبد الرزاق من طريق عمر بن عبد العزيز أن عاملا له باع سبيًا، فقال له: لولا أني كنت أزيد فأنفقه لكان كاسدًا، فقال له عمر: هذا نجش لا يحل، فبعث مناديًا ينادي: أن البيع مردود، وأن البيع لا يحل" (1) .
وهذا يدل على أن التعامل ببيع المزايدة شائع، وإن مشروعيته محل اتفاق في المجتمع الإسلامي في عصوره المبكرة، والذي أنكره الخليفة الراشد في هذا البيع هو النجش لا غير.
ومن الآثار ما جاء في الموطأ عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه قال: "ولا بأس بالسوم بالسلعة توقف للبيع فيسوم بها غير واحد. قال: ولو ترك الناس السوم عند أول من يسوم السلعة أخذت بشبه الباطل من الثمن، ودخل على الباعة في سلعهم المكروه والضرر، قال: ولم يزل الأمر عندنا على هذا" (2) .
يذكر الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر تعليقا على هذا الأثر قوله: " قال أبو عمر: أقوال الفقهاء كلهم في هذا الباب متقاربة المعنى، وكلهم قد أجمعوا على جواز البيع فيمن يزيد، وهو يفسر لك ذلك" (3) .
المبحث الثالث: الأحاديث والآثار المعارضة
وقد عورضت الأحاديث والآثار السابقة بالأحاديث التالية:
أولا: ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن زيد بن أسلم قال: "سمعت رجلا سأل عبد الله بن عمر عن بيع المزايدة، فقال ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على بيع أخيه إلا الغنائم والمواريث" (4) . والحديث يدل ظاهره أن بيع المزايدة لا يجوز إلا في الغنائم والمواريث…. وقد أخذ بظاهره الأوزاعي، وإسحاق، فخصا الجواز ببيع المغانم والمواريث، وعن إبراهيم النخعي أنه كره بيع من يزيد" (5) .
__________
(1) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، (4 / 355)
(2) موطأ الإمام مالك بشرح تنوير الحوالك (مصر: عبد الحميد أحمد حنفي) ، (2 / 170)
(3) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، الطبعة الأولى، تحقيق أحمد أعراب، (المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، عام 1407 هـ / 1987 م) ، (18 / 191)
(4) الساعاتي، أحمد عبد الرحمن البنا، الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد مع مختصر شرحه بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، الطبعة الأولى، (مصر: طبع على نفقة المؤلف، عام 1370 هـ) (14 / 52)
(5) الساعاتي، أحمد عبد الرحمن البنا، بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، 14 / 52 – 53(8/574)
ثانيا: ما أخرجه البزار من حديث سفيان بن وهب: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع المزايدة ".
وقد أجاب المحدثون عن الحديثين السابقين بما يلي:
1- أن الاستثناء في حديث ابن عمر استثناء منقطع، إذ أن بيع الرجل على بيع أخيه نوع، والمزايدة نوع آخر؛ إذ الأول كما فسره الإمام مالك رحمه الله: " تفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يبع بعضكم على بعض)) . فيما نرى – والله أعلم – أنه إنما نهى عن أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى السائم، وجعل يشترط وزن الذهب، ويتبرأ من العيوب، وما أشبه مما يعرف به البائع؛ أراد مبايعة السائم فذلك الذي نهى عنه. والله أعلم" (1) .
فالنهي في الحديث محله عند الموافقة من البائع، والركون إلى المشتري، فأما البيع والشراء فيمن يزيد فإن الثمن لم يرض به صاحب السلعة، ولم يركن إلى المساوم، وحينئذ يجوز لغيره طلب شرائها قطعا، ولا يقول أحد: إنه يحرم السوم بعد ذلك قطعًا (2) .
وبالنسبة للحديث الذي رواه البزار من حديث سفيان بن وهب، يقول العلامة ابن حجر في شرحه لأحاديث الباب الذي عقده الإمام البخاري لبيع المزايدة قائلا: " وكأن المصنف أشار بالترجمة إلى تضعيف ما أخرجه البزار من حديث سفيان بن وهب: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع المزايدة، فإن في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف" (3) .
ولما لم يبلغ هذا الحديث في الصحة الدرجة التي وصلت إليها الأحاديث الدالة على جواز بيع المزايدة ومشروعيته فإنه لا يرقى إلى أن يكون معارضا لها؛ إذ من شروط التعارض المساواة في درجة الصحة، وهي منتفية في هذا الحديث.
__________
(1) ابن عبد البر، التمهيد، (18 / 191)
(2) انظر العيني، بدر الدين، عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري (11 / 260)
(3) فتح الباري، (4 / 354)(8/575)
المبحث الرابع: بيوع محرمة تلتبس بـ (بيع المزايدة)
لشدة المشابهة بين بيع المزايدة المشروع مع بعض أنواع من البيع ورد النهي عنها، ولصعوبة التفرقة بينها أحيانا – نتج عن هذا لبس لدى بعض العلماء فذهبوا إلى عدم مشروعية بيع المزايدة، أو كراهته كما سبق عرضه سابقا، فمن ثم استوجب البحث عرض هذه الأنواع بتفسيراتها، وتعليلاتها، والمقارنة بينها وبين (بيع المزايدة) المشروع ليتضح عنصر التحريم فيها، ويميز (ببيع المزايدة) منها.
أولا: بيع الرجل على بيع أخيه.
ثانيا: سوم الرجل على سوم أخيه.
ترجم الإمام البخاري في صحيحه بابًا بعنوان: "باب لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى يأذن، أو يترك " وأورد تحته حديثين بسنده:
الأول: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبيع بعضكم على بيع أخيه)) (1) .
والآخر: " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها" (2) .
يقول العلامة ابن حجر: " أشار (في العنوان) بالتقييد إلى ما ورد في بعض طرقه" (3) .
وقد روى هذا الحديث أيضا مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: "لا يبع بعضكم على بيع بعض"، وعنه أيضا: "لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته إلا أن يأذن له ".
وفي التفسير (البيع على البيع) يقول العلامة أبو عبد الله محمد بن خلفة الوشتاني الأبي المالكي: "البيع على البيع حقيقة إنما هو إذا انعقد الأول، ولما تعذرت الحقيقة حمل على أقرب المجاز إليها، وهي المراكنة، وإذا كانت العلة ما يؤدي إليه من الضرر فلا فرق بين السوم على السوم، والبيع على البيع في الصور التي ذكر، وهو أن يعرض بائع سلعته على مشتر راكن للأول، وكثيرا ما يفعله أهل الأسواق اليوم، يراكن صاحب الحانوت المشتري فينشر جاره بحانوته سلعة نظيرها بحيث يراها المشتري" (4) .
ويوضح العلامة بدر الدين العيني صورة البيعين كالتالي:
"… لا يبيع على بيع أخيه: وهو أن يقول في زمن الخيار: افسخ بيعك وأنا أبيعك مثله بأقل منه".
ويحرم أيضا الشراء: بأن يقول للبائع افسخ، وأنا أشتري بأكثر منه.
(قوله: ولا يسوم على سوم أخيه) هو السوم على السوم، وهو أن ينفق صاحب السلعة والراغب فيها على البيع، ولم يعقداه، فيقول آخر لصاحبها: أنا أشتريها بأكثر، أو للراغب: أنا أبيعك خيرا منها بأرخص، وهذا حرام بعد استقرار الثمن (5) .
__________
(1) (1 –2) صحيح البخاري بشرح فتح الباري (4 / 352 – 353) ، باب 58، حديث رقم 2139 - 2140
(2) (1 –2) صحيح البخاري بشرح فتح الباري (4 / 352 – 353) ، باب 58، حديث رقم 2139 - 2140
(3) فتح الباري، (4 / 353)
(4) إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم، (بيروت: دار الكتب العلمية) ، (4 / 178)
(5) عمدة القاري، (11 / 257)(8/576)
ويذكر العلامة أبو عمر بن عبد البر موقف مالك وأصحابه المتفق مع تفسيرات جمهور العلماء لهذه الأنواع من البيوع قائلا:
"قال أبو عمر: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وغيره: لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا بيع الرجل على بيع أخيه، ولا يسم على سومه، عند مالك وأصحابه، معنى واحد وهو:
أن يستحسن المشتري السلعة ويهواها، ويركن إلى البائع ويميل إليه، ويتذاكران الثمن، ولم يبق إلا العقد والرضى الذي يتم به البيع، فإذا كان البائع والمشتري على مثل هذه الحالة لم يجز أحد أن يعترضه، فيعرض على أحدهما ما به يفسد به ما هما عليه من التبايع، فإن فعل أحد فقد أساء، وبئسما فعل.
فإن كان عالما بالنهي عن ذلك فهو عاص لله، ولا أقول من فعل هذا حرم بيع الثاني، ولا أعلم أحدا من أهل العلم قاله إلا رواية عن مالك بذلك قال: لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ومن فعل ذلك فسخ البيع ما لم يفت، وفسخ النكاح قبل الدخول…، وقال الثوري في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبع بعضكم على بيع بعض)) : أن يقول عندي ما هو خير منه.
وأما الشافعي فقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبع بعضكم على بعض)) معناه عنده: أن يبتاع الرجل السلعة فيقبضها، ولم يفترقا وهو مغتبط بها غير نادم عليها، فيأتيه قبل الافتراق من يعرض عليه مثل سلعته، أو خيرا منها بأقل من ذلك الثمن فيفسخ بيع صاحبه؛ لأنه له الخيار قبل التفرق فيكون هذا فسادا…، ولا خلاف عند الشافعي وأبي حنفية أن هذا العقد صحيح، وإن كره له ما فعل، وعليه جمهور العلماء.
ولا خلاف بينهم في كراهة بيع الرجل على بيع أخيه المسلم، وسومه على سوم أخيه المسلم، ولم أعلم أحدا منهم فسخ بيع من فعل ذلك إلا ما ذكرت عن بعض أصحاب مالك بن أنس، ورواه أيضا عن مالك، وأما غيره فلا يفسخ البيع عنده، لأنه أمر لم يتم أولا، وقد كان لصاحبه أن لا يتمه إن شاء …. (1) .
وهذه جميعها وإن اختلفت تصويرًا، ولكنها تندرج معنى تحت مسماها.
والحكم فيها جميعا عدم الجواز، ذلك لأن البيع الثاني أو السوم الثاني ورد بعد استقرار الثمن، واتفاق المتبايعين، ولم يتبق إلا أن يأخذ العقد شكله الأخير، أما بيع المزايدة فالمشتري الثاني يزيد في السعر، ولما يرتض صاحب السلعة الثمن علانية، أو يركن إليه، فمن ثم اكتسبت المنافسة بالزيادة في العطاء الجواز والصحة (2) .
__________
(1) التمهيد: (14 / 317 – 318)
(2) انظر: العيني، عمدة القاري، (11 / 257)(8/577)
ومن الصور الحديثة الشائعة لبيع الرجل على بيع أخيه، ويمثل ظاهرة اجتماعية سيئة بين التجار: عندما يظفر البعض بوكالة بيع البضائع ذات الماركات الناجحة الرائجة في الأسواق المحلية أو العالمية، وتوزيعها، فيثير هذا منافسة غير شريفة من بعض التجار، تدفعه إلى مفاوضة مصدر تلك البضاعة، لإغرائه بسحب وكالة البيع والتوزيع عن التاجر الأول، في مقابل عمولة أقل، وتوزيع أعلى، وهو بهذا التصرف ينطبق عليه النهي في الحديث (لا يبيع الرجل على بيع أخيه) ، الأمر الذي يتنافى ومبادئ الشريعة الإسلامية وأخلاقياتها المستقيمة.
ثالثا: النجش: حالة طارئة، وظاهرة من مظاهر أسواق المزاد، حيث يعتمد هذا النوع من البيع على الناجش الذي يمارس أسلوبا لإثارة رغبات المزايدين للسلعة المعروضة في المزاد، متظاهرًا بالحرص على اقتنائها، وهو ليس راغبا فيها. فهو لا يفتأ يحمدها، ويزيد من ثمنها، ليستثير رغبات الآخرين، فيندفعوا في المزايدة، ومضاعفة السعر، ثم ينسحب الناجش في مرحلة من مراحل المزايدة فيرسو العطاء على أحد المزايدين المغرورين، هذا هو المعنى لغة من كلمة (النجش) ففي الزاهر: أصل النجش مدح الشيء، وإطراؤه..، وفي الجامع: أصله من الختل، يقال نجش الرجل: إذا اختل، ويقال: أصل النجش: الإثارة، وسمي الناجش ناجشًا؛ لأنه يثير الرغبة في السلعة، ويرفع ثمنها" (1) .
وقد ثبت تحريم هذا بالأحاديث الصحيحة:
روى البخاري بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه ((قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها)) (2) .
كما خصه الإمام البخاري بعنوان مستقل (باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع: وقال ابن أبي أوفي: ((الناجش آكل ربا خائن، وهو خداع باطل لا يحل…)) (3) .
وجرى شرعا تعريفه بأنه:
"الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، سمي بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة، ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع فيختص بذلك الناجش، وقد يختص به البائع: كمن يخبر بأنه اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها به ليغر غيره بذلك…".
__________
(1) العيني، عمدة القاري، (11 / 259)
(2) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (4 / 353، 355)
(3) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، (4 / 353 – 355)(8/578)
الآثار الشرعية المترتبة على النجش:
"قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر، ورواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة البائع، أو صنعه، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية قياسًا على المصراة، والأصح عندهم صحة البيع مع الإثم، وهو قول الحنفية…." (1) .
والناجش: " في ظاهر قول الإمام المازري وغيره: هو الذي يزيد في سلعة ليقتدي به غيره، وهو خلاف قول مالك رضي الله عنه في الموطأ: والنجش أن تعطيه في سلعة اكثر من ثمنها وليس في نفسك اشتراؤها، ليقتدي بك غيرك.
قال ابن عرفة: قول المازري وغيره أعم من قول مالك رضي الله عنه، وقال ابن العربي: الذي عندي أنه إن بلغها الناجش قيمتها، ورفع الغبن عن صاحبها فهو مأجور، ولا خيار لمبتاعها". (2) .
__________
(1) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، (4 / 355) .
(2) الآبي الأزهري: صالح عبد السميع، جواهر الإكليل شرح مختصر العلامة الشيخ خليل، (مصر: دار إحياء الكتب العربية) ، (2 / 26)(8/579)
الفصل الثاني
فقه المذاهب الأربعة في (المزايدة)
المبحث الأول: المذهب الحنفي.
المبحث الثاني: المذهب المالكي.
المبحث الثالث: المذهب الشافعي.
المبحث الرابع: المذهب الحنبلي.
الفصل الثاني
فقه المذاهب الأربعة في (المزايدة)
تمهيد:
استمد فقهاء المذاهب الأربعة مشروعية (المزايدة) وأحكامها في العقود المختلفة من الأحاديث والآثار الصحيحة المروية السابقة، متوخين في استنباط أحكامها مقاصد الشريعة وحكمتها، المبنية على مصالح العباد، سواء في حالات المشروعية والجواز، أو حالات المنع والحظر.
والإباحة تعتمد بشكل رئيسي على استمرار رغبة البائع في زيادة الثمن للحصول على ما هو أوفق له، وأرضى لنفسه، واحترام هذه الرغبة شرعا من إعلان رفضه الصريح، وعدم قبوله للثمن المعروض من أحد من المتزايدين، حتى يبلغ المزاد (الحراج) ما يحقق رغبته في الثمن، فيركن إليه، ويعلن رضاه به.
المبحث الأول: مذهب الحنفية
يذهب فقهاء الحنفية إلى جواز (المزايدة) ومشروعيتها في العقود. يقول العلامة أبو الحسن علي بن أبي بكر المرغياني: " ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش، وعن السوم على سوم غيره، وعن تلقي الجلب، وعن بيع الحاضر للبادي، وكل ذلك يكره، ولا يفسد به البيع، ولا بأس ببيع من يزيد…." (1) .
يذكر العلامة كمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام في تحليل هذه العبارة ما يأتي:
"وعن السوم على سوم غيره، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يستام الرجل على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه)) ، ولأن في ذلك إيحاشا وإضرارا، وهذا إذا تراضى المتعاقدان على مبلغ ثمن في المساومة، فأما إذا لم يركن أحدهما إلى الآخر فهو بيع من يزيد، ولا بأس به على ما نذكره…
قال: ولا بأس ببيع من يزيد، وتفسيره ما ذكرنا، وقد صح (أن النبي صلى الله عليه وسلم باع قدحًا وحلسا ببيع من يزيد) ، ولأنه بيع الفقراء والحاجة ماسة إليه (2) .
__________
(1) الهداية شرح بداية المبتدي، الطبعة الأخيرة، (مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي) ، (3 / 53 – 54)
(2) فتح القدير على الهداية شرح البداية، الطبعة الأولى (مصر: شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، عام 1389 هـ / 1970 م) ، (6 / 477 – 479)(8/580)
ويعلق العلامة أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي على قول صاحب الهداية (ولا بأس ببيع من يزيد) قائلا:
"وهو صفة البيع الذي في أسواق مصر المسمى بالبيع في الدلالة" (1) .
ويتجه هذا الاتجاه أحكاما وتعليلا العلامة فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي في شرحه لمتن كنز الدقائق عند قوله: (وكره النجش، والسوم على سوم غيره) والاستدلال لكراهتها قائلا:
"…… وإنما يكره النجش فيما إذا كان الراغب في السلعة يطلبها بثمن مثلها، وأما إذا طلبها بدون ثمنها فلا بأس بأن يزيد إلى أن تبلغ قيمتها، وكذا السوم إنما يكره فيما إذا جنح قلب البائع إلى البيع بالثمن الذي سماه المشتري، أما إذا لم يجنح قلبه ولم يرضه فلا باس لغيره أن يشتريه بأزيد؛ لأن هذا بيع من يزيد، وقد قال أنس: إنه عليه السلام باع قدحًا وحلسا فيمن يزيد، رواه أحمد والترمذي، ولأنه بيع الفقراء، والحاجة ماسة إليه" (2) .
وقد أضاف الإمام محمود العيني إلى التعليل السابق قوله: " وتوارثها الناس في الأسواق" (3) .
ويذهب نفس المذهب جمهور فقهاء الحنفية، وتتفق الآراء احكاما وتعليلا، يقول الإمام علاء الدين الكاساني في المقارنة بين بيع المستلم على سوم أخيه، وبيع من يزيد قائلا في معرض حديثه عن البيوع المكروهة:
"ومنها بيع المستام على سوم أخيه، وهو أن يساوم الرجلان: فطلب البائع بسلعته ثمنًا ورضي المشتري بذلك الثمن، فجاء مشتر آخر، ودخل على سوم الأول فاشتراه بزيادة، أو بذلك الثمن، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يستام الرجل على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه…)) والنهي لمعنى في غير البيع، وهو الإيذاء، فكان نفس البيع مشروعا، فيجوز شراؤه، ولكنه يكره، وهذا إذا جنح البائع بالثمن الذي يطلبه المشتري الأول، فإن كان لم يجنح فلا بأس للثاني أن يشتريه؛ لأن هذا ليس استيامًا على سوم أخيه، فلا يدخل تحت النهي، ولانعدام معنى الإيذاء أيضا، بل هو بيع من يزيد، وإنه ليس بمكروه لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع قدحا وحلسا له ببيع من يزيد، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبيع بيعا مكروها" (4) .
__________
(1) شرح العناية على الهداية، الطبعة الأولى مع شرح فتح القدير، (مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، عام 1389 هـ / 1970 م) ، (6 / 479)
(2) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، الطبعة الثانية بالأوفست، مصورة عن الطبعة الأولى، (بيروت: دار المعرفة) ، (4 / 67)
(3) البناية في شرح الهداية، الطبعة الأولى، تصحيح المولوي محمد بن عمر الشهير بناصر الإسلام الرامفوري، (بيروت: دار الفكر، عام 1401 / 1981 م) ، (6 / 469)
(4) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الطبعة الثانية، (بيروت: دار الكتب العلمية، عام 1394 / 1974) ، (5 / 232)(8/581)
المبحث الثاني: المذهب المالكي
قد أفسح المالكية مجالا واسعا لعقد المزايدة تعريفا، وأحكاما، ودراسة تفصيلية، ويقضي البحث بعرض نخبة من نصوصهم، واستخراج أحكامه من مدوناتهم المعتمدة.
وقد خصص له العلامة أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي فصلا مستقلا في كتابه المقدمات المهمدات ذاكرا فيه وصف هذا النوع من أساليب البيع، متضمنا لبعض الأمور التي تلابسه، وبيان أحكامها قائلا:
"وأما بيع المزايدة فيها أن يطلق الرجل سلعة في النداء، ويطلب الزيادة عليها فمن أعطى فيها شيئا لزمه، إلا أن يزاد عليه، فيبيع البائع من الذي عليه أولًا، يمضيها له حتى يطول الأمد، وتمضي أيام الصياح…." (1) .
وقد تعرض لحكمها في البيع، ودليل مشروعيتها وبعضا من أحكامها بقوله: ((قال محمد بن رشد: البيع على المزايدة جائز، خارج عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسوم الرجل على سوم أخيه، والأصل في جوازه ما روي أن رجلا من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الفاقة، ثم عاد فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد جئت من عند أهل بيت ما أرى أن أرجع إليهم حتى يموت بعضهم. قال: ((انطلق هل تجد من شيء)) )) ؟ فانطلق فجاء بحلس وقدح، فقال: يا رسول الله، هذا الحلس كانوا يفترشون بعضه، ويلتفون ببعضه، وهذا القدح كانوا يشربون فيه.
فقال: (( ((من يأخذها مني بدرهم؟)) فقال رجل: أنا، فقال: من يزيد على درهم؟ فقال رجل آخر: أنا آخذهما بدرهمين، فقال: هما لك، فدعا بالرجل، فقال: اشتر بدرهم طعاما لك ولأهلك، وبدرهم فأسا، ثم إيتني، ففعل، ثم جاء فقال: انطلق إلى الوادي فلا تدعن فيه شوكا، ولا حطبا، ولا تأتي إلا بعد عشر. ففعل، ثم أتاه فقال: بورك فيما أمرتني به. فقال: هذا خير لك من أن تأتي يوم القيامة في وجهك نكت من المسألة، أو خموش من المسألة (الشك من بعض الرواة) .
والحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له بما أعطى فيها، ما لم يسترد سلعته فيبيع بعدها أخرى، أو يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة، وهو مخير في أن يمضيها لمن شاء ممن أعطى فيها ثمنًا، وإن كان غيره قد زاد عليه)) .
وعلل هذا بقوله:
"لأن حق صاحب السلعة أن يقول للذي أراد أن يلزمها إياه إن أبى من التزامها، وقال له: بع سلعتك من الذي زاد علي فيها؛ لأنك إنما طلبت الزيادة، وقد وجدتها: أنا لا أحب معاملة الذي زاد في السلعة عليك، وليس طلبي الزيادة فيها وإن وجدتها إبراء مني لك فيها.
فمعنى قول ابن القاسم: أرى البيع لهما لازما، وأراهما شريكين فيها إذا أسلم البائع السلعة لهما، ولم يكن له اختيار في أن يلزمها أحدهما دون صاحبه.
وكذلك قال أصبغ: إنها للأول. معناه: إذا قال: قد أمضيتها لمن هو أحق بها.
وقول ابن القاسم هو القياس؛ لأن الأول لا يستوجب السلعة بما أعطى فيها إلا أن يمضيها له صاحبها، وكذلك الثاني فلا مزية فيها لأحدهما على الآخر.
وقول أصبغ استحسان، والوجه فيما ذكره من أنه طلب الزيادة، لا ما قد أعطي فيها، فالاختيار له لا يقبل الزيادة، فإذا قبل من الثاني ما أعطاه الأول كانا في وجه القياس سواء…" (2) .
__________
(1) المقدمات الممهدات، الطبعة الأولى، تحقيق سعيد أحمد عرابي وعبد الله بن إبراهيم الأنصاري، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1408 / 1988) ، (2 / 138)
(2) البيان والتحصيل، الطبعة الأولى، تحقيق أحمد الشرقاوي إقبال، ومحمد حجي، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1404 / 1984) ، (8 / 457)(8/582)
يذكر العلامة أبو عبد الله محمد الحطاب مذهب جمهور فقهاء المالكية حكم إلزام المزايد بما زاد، والأحوال التي ينقض فيها ذلك الالتزام بقوله:
" فتحصل من كلام ابن رشد، والمازري، وابن عرفة في بيع المزايدة: أن كل من زاد في السلعة فلربها أن يلزمه إياها بما زاد، إلا أن يسترد البائع سلعته، ويبيع بعدها أخرى، أو يمسكها حتى ينقطع مجلس المناداة، إلا أن يكون العرف اللزوم بعد الافتراق، أو يشترط ذلك البائع فيلزم المشتري البيع بعد الافتراق في مسألة العرف بمقدار ما جرى به العرف، وفي مسألة الشرط في الأيام المشروطة، وبعدها بقرب ذلك على مذهب المرونة، فإن شرط المشتري أنه لا يلزم البيع إلا ما دام في المجلس فله شرطه، ولو كان العرف بخلافه…" (1) .
المبحث الثالث: مذهب الشافعية
ذهب الشافعية إلى ما ذهب إليه الحنفية والمالكية من مشروعية بيع المزايدة… وهو المدون في كتب المذهب المعتمدة. ويأتي التعرض له في المقارنة بينه وبين بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سوم أخيه لبيان أسباب النهي في هذين النوعين، ومخالفة بيع المزايدة لهما في سبب النهي. فمن سياق ما يستفاد من حديث النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "وهذا يدل على أنه إنما ينهى عن البيع على بيع الرجل إذا تبايع الرجلان، وقبل أن يتفرقا، فأما في غير ذلك الحال فلا" (2) .
وقد وفى الإمام الماوردي المقارنة حقها في وضوح تام إذ خصها بفصل مستقل في كتابه (الحاوي الكبير) فقال:
"فصل: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه، وصورة سوم الرجل على سوم أخيه أن ينزل الرجل في السلعة ثمنا فيأتي آخر فيزيد عليه في ذلك الثمن قبل أن يتواجبا البيع، فإن كان هذا في بيع المزايدة جاز؛ لأن بيع المزايدة موضوع لطلب الزيادة، وأن السوم لا يمنع الناس من الطلب، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم باع قدحا وحلسا فيمن يزيد، وابتاع ثوبا مزايدة.
فأما إن لم يكن بيع مزايدة، وكان بيع المناجزة فلا يخلو حال بائع السلعة حين بذل له الطالب الأول ذلك الثمن من ثلاثة أحوال:
إما أن يقول: قد رضيت بهذا الثمن، أو يقول: لست أرضي به، أو يمسك. فإن قال: قد رضيت بهذا الثمن، حرم على غيره من الناس أن يسوم عليه، وإن لم ينعقد البيع بينهما؛ لما في ذلك من الفساد، وإيقاع العداوة والبغضاء، مع النهي الوارد عنه نصا.
وخالف بيع المزايدة؛ لأن المساوم فيه لا يتعين، ولذلك قال أصحابنا: لو أن رجلا وكل في بيع عبده في مكان، فباعه الوكيل في غير ذلك المكان؛ صح البيع، ولو وكل في بيعه من رجل فباعه من غير ذلك الرجل لم يصح البيع، لأنه قد يريد بيعه على ذلك الرجل مسامحته فيه، أو تلميكه إياه فلم يكن للوكيل تمليك غيره، وليس كذلك إذا أذن له في بيعه في مكان فباعه في غيره؛ لأنه لا غرض له فيه غير وفور ثمنه، فإذا حصل له غيره صح البيع.
كذلك في السوم إن كان في المزايدة لم يحرم؛ لأن الغرض وفور الثمن دون تعيين الملاك، وفي بيع المناجزة قد يكون له غرض في تعيين الملاك" (3) .
__________
(1) مواهب الجليل لشرح مختصر أبي الضياء سيدي خليل، الطبعة الأولى، (مصر: مطبعة السعادة، عام 1329) ، 4 / 239، وانظر أيضا، حاشية الإمام الرهوني، (مصر: دار الفكر) ، 5 / 19
(2) الأم، تحقيق محمد زهري النجار، (مصر: مكتبات الكليات الأزهرية) ، 3 / 92
(3) كتاب البيوع من الحاوي الكبير، دراسة وتحقيق محمد مفضل مصلح الدين، رسالة مقدمة إلى قسم الدراسات العليا الشرعية لنيل درجة الدكتوراة في الفقه – جامعة أم القرى عام 1408 / 1988، المجلد الثاني، ص 1186 – 1188(8/583)
وقد صرح بجوازه ومشروعيته كبار أئمة المذهب الشافعي، قال الإمام أبو إسحاق إبراهيم الشيرازي رحمه الله:
"… وأما إذا عرضت السلعة في النداء جاز لمن شاء أن يطلبها، ويزيد في ثمنها …." (1) ثم ذكر حديث الأنصاري عن أنس رضي الله عنهما.
اعتمد هذا فقهاء الشافعية المتأخرون، وأصبح المعروف مذهبا.
يقول العلامة شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي في معرض البيوع المنهي عنها:
"والسوم على سوم غيره، ولو ذميًّا، للنهي الصحيح عنه، ولما فيه من الإيذاء.. (إنما يحرم ذلك بعد استقرار الثمن) بأن يصرحا بالتوافق على شيء معين، وإن نقص عن قيمته" (2) .
واستثنى من حالة النهي السابقة بيع المزايدة بقوله: "بخلاف ما لو انتفى ذلك، أو كان يطاف به فتجوز الزيادة فيه لا بقصد إضرار أحد" (3) .
ويقرر العلامة شمس الدين الرملي نفس الرأي في معرض (السوم على سوم غيره) ، وأنه (إنما يحرم ذلك بعد استقرار الثمن) بتصريحهما بالتوافق على شيء معين فيقول:
" بخلاف ما لو انتفى ذلك، أو كان يطاف به رغبة في الزيادة فتجوز الزيادة فيه، لا بقصد إضرار أحد، لكن يكره فيما لو عرض له بالإجابة" (4) .
__________
(1) المهذب مع شرحه المجموع بقلم محمد بخيت المطيعي، الطبعة الأولى، (جدة: مكتبة الإرشاد) ، (12 / 34)
(2) تحفة المحتاج بشرح المنهاج (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع) ، (4 / 313 – 314)
(3) تحفة المحتاج بشرح المنهاج (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع) ، (4 / 313 – 314)
(4) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، (مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده) ، (3 / 468) ، وانظر: الشربيني، محمد الخطيب، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (بيروت: دار الفكر، عام (1398 / 1978) ، (2 / 37)(8/584)
المبحث الرابع: مذهب الحنابلة
يتفق الحنابلة المتقدمون والمتوسطون والمتأخرون على مشروعية البيع مزايدة، كما يتضح من النصوص التالية:
حكى العلامة موفق الدين ابن قدامة الإجماع على جوازه، وقد ذكر هذا في معرض تحليل حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يسم الرجل على سوم أخيه)) ، وأنه يعرض لهذا حالات قسمها إلى أربعة أقسام:
أحدها: أن يوجد من البائع تصريح بالرضا بالبيع فهذا يحرم السوم على غير ذلك المشتري، وهو الذي تناوله النهي.
الثاني: أن يظهر منه ما يدل على عدم الرضا فلا يحرم السوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع فيمن يزيد… (وذكر حديث الأنصاري الذي شكا الشدة والجهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم) (1) ، وهذا أيضا إجماع المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة.
الثالث: أن لا يوجد منه ما يدل على الرضا، ولا على عدمه، فلا يجوز له السوم أيضا، ولا الزيادة، استدلالا بحديث فاطمة بنت قيس حين ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم: (أن معاوية وأبا جهم خطباها، فأمرها أن تنكح أسامة) وقد نهى عن الخطبة على خطبة أخيه، كما نهى عن السوم على سوم أخيه فما أبيح في أحدهما أبيح في الآخر.
الرابع: أن يظهر منه الرضا من غير التصريح، فقال القاضي: لا تحرم المساومة، وذكر أن أحمد نص عليه في الخطبة، استدلالا بحديث فاطمة؛ ولأن الأصل إباحة السوم والخطبة، فحرم ما وجد فيه التصريح بالرضا، وما عداه يبقى على الأصل، ولو قيل بالتحريم ههنا لكان وجها حسنا… (2) .
وقد ذكر البهوتي في شرح منتهى الإرادات جواز البيع مزايدة إذا لم يكن ثمت تصريح من صاحب السلعة لدى بحثه سوم الرجل على أخيه، واستدلالا له بحديث:
((لا يسم الرجل على سوم أخيه)) قائلا: " فإن لم يصرح بالرضا لم يحرم؛ لأن المسلمين لم يزالوا يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة" (3) .
واتفق معه في هذا العلامة موسى الحجاوي قائلا: "فأما المزايدة في المناداة فجائزة " (4) .
علق العلامة منصور البهوتي على هذه الجملة قائلا: "إجماعا، فإن المسلمين لم يزالوا يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة" (5) .
__________
(1) وهو أصل مشروعية هذا الأسلوب في البيع
(2) المغني، الطبعة الثالثة، تعليق وتصحيح السيد محمد رشيد رضا، (مصر: دار المنار، عام 1367) ، ج 4 / ص 213 – 214
(3) شرح منتهى الإرادات للبهوتي: (2 / 156)
(4) الإقناع، تصحيح وتعليق عبد اللطيف محمد موسى السبكي، (مصر: المطبعة المصرية) ، (2 / 75)
(5) كشاف القناع عن متن الإقناع، راجعه هلال مصيلحي مصطفى هلال، (الرياض: مكتبة النصر الحديثة) ، (2 / 183)(8/585)
الفصل الثالث
الجامع في أحكام المزايدة
المبحث الأول: أحكام المزايدة.
المبحث الثاني: (الدلال) سلوك، وتصرفات، وأحكام.
المبحث الثالث: أجرة الدلال.
المبحث الرابع: ضمان الدلال.
المبحث الأول: أحكام المزايدة
تختص (المزايدة) باجراءات وشكليات في الفقه الإسلامي يترتب عليها أحكام شرعية تضم إلى الأركان والشروط في العقود التي تمثلها بيعًا، أو إجارة، أو مشاركة استثمارية، أو غير ذلك، وفيما يلي عرض للأحكام الخاصة بها.
الأصل في المزايدة في العقود بشروطها الشرعية الإباحة، وقد توجد أسباب فتكون مستحبة، وذلك مثل بيع الحاكم مال المدين لسداد دينه، والمفلس لرفع الحجر عنه، والميت في بيع تركته؛ استدلالا بفعله صلى الله عليه وسلم لما حجر على معاذ رضي الله عنه حين باع ماله في دينه، وقسم ثمنه بين غرمائه، لما في البيع بالمزاد من توقع زيادة الثمن وتطييب لنفوس الغرماء.
فإنه "يستحب للحاكم أيضا أن (يحضر الغرماء) ؛ لأنه لهم، وربما رغبوا في شيء فزادوا في ثمنه، وأطيب قلوبهم، وأبعد للتهمة، وربما يجد أحدهم عين ماله فيأخذها، (وإن باعه) الحاكم (من غير حضورهم كلهم) أي المفلس، والغرماء (جاز) لما تقدم، (ويأمرهم) أي المفلس والغرماء (الحاكم أن يقيموا مناديًا ينادي على المتاع) ؛ لأنه مصلحة، (فإن تراضوا بثقة أمضاه) الحاكم، وإن تراضوا بغير ثقة رده…
(وإن اختار المفلس رجلا) ينادي، (واختار الغرماء آخر أقر) الحاكم (الثقة) من الرجلين، (فإن كانا ثقتين) قدم الحاكم (المتطوع) منهما. (وإن كانا بجعل قدم أوثقهما، وأعرفهما) ، لأنه لا مرجح لأحدهما على الآخر.(8/586)
(فإن زاد في السلعة أحد في مدة الخيار لزم الأمين) ، أي أمين الحاكم (الفسخ) ؛ لأنه أمكنه بيعه بثمن فلم يجز إمضاؤه بدونه، كما لو زيد فيه قبل العقد، (وإن كان) زاد في السلعة (بعد لزومه) أي البيع (استحب له) أي الأمين الحاكم سؤال المشتري الإقالة، واستحب للمشتري الإجابة إلى الإقالة، لأنه معاونة على قضاء دين المفلس، فهذه الصورة إما مستثناة للحاجة، أو محمولة على ما إذا زاد غير عالم بعقد البيع" (1) .
* " بيع المزايدة يلزم كل من زاد في السلعة، ولو زاد غيره عليه خلافا للأبياني، وقد جرى العرف في مكة وكثير من البلاد على ما قاله الأبياني.
وظاهر ما تقدم عن ابن رشد أن لربها (السلعة) أن يلزم كل من زاد، ولو كان العرف بخلافه، وجرت العادة أيضا بمكة أن من رجع بعد الزيادة لا يلزمه شيء ما دام في المجلس، وهذا والله أعلم مبني على القول بخيار المجلس كما هو مذهب الشافعي والله أعلم" (2) .
* "قال ابن رشد في المذهب: إذا وقع النداء على السلعة، وأعطى فيها ثمنا لزمه، والخيار للبائع، فإن زاد عليه غيره انتقل اللزوم للثاني، وإن لم يزد عليه أحد فللبائع أخذه بذلك ما لم تطل غيبته، ورأيت للأبياني: أن الشراء لا يلزمه إذا زاد عليه غيره…… وظاهر كلام ابن رشد أن المذهب ما قاله ابن رشد……" (3) .
* "كل ما زاد في السلعة فلربها أن يلزمه إياها بما زاد، إلا أن يسترد البائع سلعته، ويبيع بعدها أخرى، أو يمسكها حتى ينقطع مجلس المناداة، إلا أن يكون العرف اللزوم بعد الافتراق، أو يشترط ذلك البائع فيلزم المشتري البيع بعد الافتراق في مسألة العرف بمقدار ما جرى به العرف، وفي مسألة الشرط في الأيام المشروطة، وبعدها بقرب ذلك على مذهب المدونة، فإن شرط المشتري أنه لا يلزم البيع إلا ما دام في المجلس فله شرطه، ولو كان العرف بخلافه" (4) .
* "إن تراخى القبول على الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزم البيع قطعا، وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عما كان المتبايعان منه حتى لا يكون كلامه جوابًا للكلام السابق في العرف فلا ينعقد البيع… إلا بيع المزايدة فللبائع أن يلزم السلع لمن زاد حيث اشترط البائع ذلك، أو جرى به عرف إمساكها حتى انقضى مجلس النداء، أو ردها وباع بعدها أخرى فإن لم يشترط ذلك، ولا جرى به عرف لم يكن له ذلك" (5) .
واستشهد العلامة الزرقاني على ما تقدم بما ذهب إليه بعض فقهاء المالكية مما جرى به العمل في بلادهم قائلا:
" قال المازري: وإنما نبهت على ذلك؛ لأن بعض القضاة ألزم بعض أهل الأسواق في بيع المزايدة بعد الافتراق، مع أن عادتهم الافتراق على غير إيجاب؛ اغترارًا بظاهر ابن حبيب، وحكاية غيره فنهيته عن هذا لأجل مقتضى عوائدهم.
ابن عرفة: والعادة عندنا أي بتونس، وكذا عندنا بمصر عدم اللزوم، وهو واضح إن بَعُدَ، ولم تكن السلعة بيد المبتاع، فإن كانت بيده فالأقرب اللزوم، كبيع الخيار بعد زمنه يلزم فيه البيع من البيع بيده.
__________
(1) البهوتي، منصور بن يونس، كشاف القناع عن متن الإقناع، (3 / 432 – 433)
(2) الحطاب، مواهب الجليل (4 / 239)
(3) الحطاب، أبو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، مواهب الجليل لشرح مختصر أبي الضياء سيدي خليل، (4 / 238)
(4) الحطاب، مواهب الجليل لشرح مختصر أبي الضياء سيدي خليل، (4 / 239)
(5) الزرقاني، سيدي عبد الباقي، شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل، (بيروت: دار الفكر، عام 1398 / 1978) ، (5 / 6)(8/587)
وعلى كلام المازري لو لم تكن عادة فالأقرب أن للبائع إلزام من زاد بعد التفرق ما لم يسترد السلعة، ويشتغل ببيع أخرى، أو يمسكها حتى ينقضي مجلس النداء" (1) .
* "إن اشتراط المشتري أن لا يلتزم البيع إلا ما دام في المجلس فله شرطه، ولو كان العرف بخلافه لتقدم الشرط عليه " (2) .
* "قال ابن رشد في المذهب: ولو أوقف المنادي السلعة بثمن على التاجر، وشاور صاحبها فأمره بالبيع، ثم زاد غيره عليه فهي للأول. قاله الأبياني… وسواء ترك السمسار الثوب عند التاجر، أو كان في يده، وجاء به إلى ربه فقال له ربه: بعه، ثم زاد فيه تاجر آخر، أنه للأول.
وأما لو قال له رب الثوب لما شاوره: اعمل فيه برأيك، فرجع السمسار، ونوى أن يبيعه من التاجر فزاد فيه تاجر آخر؛ فإنه يعمل فيه برأيه، ويقبل الزيادة إن شاء ولا يلزم البيع بالنية ".
ويذكر العلامة الحطاب إيضاحًا وتفصيلا لهذه المسألة قائلا:
" قلت: وهذا إذا لم تحصل الزيادة إلا بعد مشاورة ربه، وأمره السمسار بالبيع وأما لو زاده فيه شخص قبل مشاورة رب السلعة فقد تقدم في التنبيه السابع عن مالك من رواية ابن القاسم: أنه يخبر رب السلعة بالزيادة، ولم ير ذلك من السوم على سوم أخيه؛ لأن النهي عن ذلك إنما هو الركون، وصاحب السلعة هنا غائب لا يعلم إن كان يميل إلى البيع بذلك الثمن أم لا…" (3) .
* " وسئل ابن القاسم عن قوم يحضرون بيع الميراث فيمن يزيد، فيزيد الرجل في الثوب، فيقول المنادي، بدينار ودرهم، فينادي عليه بذلك ولا يصفق. ويطلب الزيادة، ثم يبدو للذي زاده؟
قال: البيع يلزمه" (4) .
* " قيل له: فالرجلان يزيدان في الثوب، فيقول هذا: بدينار. وهذا: بدينار، يقع عليهما بشيء واحد، فيطلب الصائح الزيادة فلا يزاد، فوجب لهما، فيبدو لهما؟
قال: أرى البيع لهما لازما وأراهما فيه شريكين.
وقال عيسى: لا يعجبني هذا من قوله، وأراه للأول، ولا أرى للصائح أن يقبل من أحد مثل الثمن الذي قد أعطاه غيره، وإنما يقبل الزيادة، ولهما ينادي حتى يزاد، إلا أن يكونا جميعا قد أعطياه دينارا معا هما فيه شريكان" (5) .
* لا يلزم الشراء من استقر عليه السعر في المزاد إذا انقلب صاحبها مما العرف فيه أن يمضي، أو يرد في المجلس، ولم يشترط أن يصيح عليه أيامًا.
"وقد روي ذلك عن ابن القاسم أنه سئل عن الرجل يحضر المزايدة فيزيد، ثم يصاح عليه، فينقلب بها أهلها، ثم يأتونه من الغد فيقولون له: خذها بما زادت، فهل يلزمه ذلك؟ فقال ابن القاسم: أما مزايدة أهل الميراث، أو متاع الناس فلا يلزم إذا انقلبوا بالسلعة، أو تركوها في المجلس، أو باعوا بعدها أخرى، وإنما يلزم هذا في بيع السلطان الذي يباع على أن يستشار السلطان فيلزمه إمضاؤه إذا أمضاه السلطان…. ومعنى قوله: يلزمه إذا أمضاه السلطان. يريد ما لم يتباعد ذلك……" (6) .
* تجوز الزيادة في الثمن بأكثر مما استقر عليه البيع في المزاد بعد إخبار الدلال صاحب السلعة بما استقر عليه الثمن إذا لم تحدث مواجهة بين البائع والمشتري، وإنما تمت الموافقة بطريق مواجهة البائع الدلال وواسطته.
__________
(1) الزرقاني، سيدي عبد الباقي على مختصر سيدي خليل، (بيروت: دار الفكر، عام 1398 / 1978) ، (5/ 6)
(2) الزرقاني، سيدي عبد الباقي على مختصر سيدي خليل، (بيروت: دار الفكر، عام 1398 / 1978) ، (5/ 6)
(3) الحطاب، مواهب الجليل، 4 / 239
(4) البيان والتحصيل، 8 / 475
(5) البيان والتحصيل، 8 / 475
(6) الحطاب، مواهب الجليل، 4 / 238(8/588)
قال العلامة عبد الحميد الشرواني:
" وقع السؤال في الدرس عما يقع كثيرا بأسواق مصر من أن مريد البيع يدفع متاعه للدلال فيطوف به، ثم يرجع إليه ويقول له: استقر متاعك على كذا، فيأذن له في البيع بذلك القدر هل يحرم على غيره شراؤه بذلك السعر، أو بأزيد، أم لا؟ فيه نظر.
والجواب عنه: بأن الظاهر الثاني: لأنه لم يتحقق قصد الضرر حيث لم يعين المشتري، بل لا يبعد عدم التحريم، وإن عينه؛ لأن مثل ذلك ليس تصريحا بالموافقة على البيع لعدم المخاطبة من البائع، والواسطة للمشتري" (1) .
* "من له حق في البيع المشترك الذي لا ينقسم إذا نودي على بيعه حتى وقف على ثمن، هل يباع له بما وقف عليه من الثمن، أو لا بد من زيادته عليه؟
فيه ثلاثة أقوال:
الأول: يأخذه مطلقا سواء كان هو طالب البيع أو لا.
الثاني: لا يأخذه إلا بزيادة على ما وقف به إن كان هو الطالب للبيع، لا إن كان آبيا فله أخذه بما وقف فقط.
الثالث: يأخذه الآبي والطالب للبيع أيضا بما وقف به إن لم يقصد إخراج الآبي، وإلا فلا يأخذه إلا بزيادة" (2) .
"بهذا القول الأخير عمل القضاة بما قاله عياض " (3) .
* " إذا باع القاضي على الميت، أو المفلس، وفارق المشتري البائع من مقامهما الذي تبايعا فيه، ثم زيد، لم يكن له رد ذلك البيع إلا بطيب نفس، وأحب للمشتري لو رده، أو زاد، وليس ذلك بواجب عليه، وللقاضي طلب ذلك إليه، فإن لم يفعل لم يظلمه وأنفذه له…" (4) .
__________
(1) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج، مع شرح التحفة، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع) ، 4 / 313
(2) الوزاني، أبو عبد الله محمد المهدي، تحفة الحذاق بنشر ما تضمنته لامية الزقاق، الطبعة الخامسة، (فاس: مطبعة المكينة المخزنية الفاسية، 1341) ، ص 147
(3) ابن سودة التاودي شرح لامية الزقاق، بهامش تحفة الحذاق، الطبعة الخامسة، (فاس: مطبعة المكينة المخزنية الفاسية، عام 1341) ، ص 147
(4) الشافعي، محمد بن إدريس، الأم، أشرف على طبعه محمد زهري النجار، (مصر: مطبعة الكليات الأزهرية) ، 3 / 210(8/589)
* "إن أكرى ناظر الحبس (الأوقاف) على يد القاضي ربع الحبس بعد النداء عليه، والاستقصاء، ثم وجدت زيادة، لم يكن له نقض الكراء، ولا قبول الزيادة إلا أن يثبت بالبينة أن في الكراء غبنا على الحبس فتقبل الزيادة ولو ممن كان حاضرا" (1) .
* يعد مالك السلعة ناجشا إذا زايد فيها في سوق المزايدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
" المالك إذا زاد في السلعة كان ظالما ناجشا، وهو شر من التاجر الذي ليس بمالك، وهو الذي يزيد في السلعة، ولا يقصد شراءها، ولهذا لو نجش أجنبي لم يبطل البيع، وأما البائع إذا ناجش، أو واطأ من ينجش ففي بطلان البيع قولان في مذهب أحمد وغيره، ومثل هذا ينبغي تعزيره" (2) .
* "جاز لمن أراد شراء سلعة في المزاد (سؤال البعض) من الحاضرين لسومها (ليكف عن الزيادة فيها ليشتريها السائل) .
قال ابن رشد: ولو في نظير شيء يجعله لمن كف عن الزيادة، نحو كف عن الزيادة ولك درهم.
(لا) سؤال (الجميع) ليكفوا عن الزيادة، فلا يجوز لما فيه من الضرر على البائع، مثل الجميع من في حكمهم الشيخ السوق، فإن وقع خير البائع في الرد والإمضاء، فإن فات فله الأكثر من الثمن والقيمة……" (3) .
وقد قرر مثل هذا من الأحكام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأنه يصح أن يطلب أحد التجار من آخر أن لا يزايد في السلعة المعروضة مزايدة، ويتفقا أن يكونا شريكين فيها بقصد أن لا يزيد عليه في ثمنها، ويدفعا ثمنها بالسوية، وذلك لأن "باب المزايدة مفتوح، وإنما ترك أحدهما مزايدة الآخر" (4) .
بخلاف ما إذا اتفق أهل السوق "على أن لا يزيدوا في سلع هم محتاجون لها ليبيعها صاحبها بدون قيمتها، ويتقاسمونها بينهم، فإن هذا قد يضر صاحبها أكثر مما يضر تلقي السلع إذا باعها مساومة؛ فإن ذلك فيه من بخس الناس ما لا يخفي" (5) .
__________
(1) الوزاني، أبو عبد الله محمد المهدي، تحفة الحذاق بنشر ما تضمنت لامية الزقاق، ص 303
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، الطبعة الثانية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، (الرياض: طبع الملك خالد، عام 1401 / 1981) ، ج 29، ص 358
(3) الدردير، أبو البركات أحمد بن محمد، الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب مالك، أخرجه ونسقه مصطفى كمال وصفي، (مصر: دار المعارف) ، ج 3، ص 106
(4) ابن تيمية، مجموع فتاوي شيح الإسلام، 29 / 304
(5) ابن تيمية، مجموع فتاوي شيح الإسلام، 29 / 304(8/590)
وقال العلامة أحمد سعيد المجليدي:
" ولا بأس بسؤال بعض الحاضرين ليكف عن الزيادة، ولا يقول ذلك للكل" (1) .
* دعوى الغبن في عقد المزايدة:
تقبل دعوى الغبن في عقد المزايدة. "قال ابن عرفة: قال ابن عات عن المشاور: إن أكرى ناظر الحبس (الوقف) على يد القاضي ربع الحبس بعد النداء عليه والاستقصاء، ثم جاءت زيادة لم يكن له نقض الكراء، ولا قبول الزيادة إلا أن يثبت بالبينة أن في الكراء غبنا على الحبس، فتقبل الزيادة، ولو ممن كان حاضرا….، وزعم التسولي: أن بيع المزايدة لا يقام فيه بالغبن اتفاقًا…" (2) . غير أن ما قاله التسولي رفضه بعض الفقهاء ونقضوه بأدلة عديدة.
قال العلامة المهدي بن عمر بن محمد بن الخضر الوزاني الحسني العمراني: "إن الاعتماد على كلام التسولي في هذه القضية غير صواب، وأنه من الخطأ بلا شك ولا ارتياب" (3) .
المبحث الثاني: (الدلال) سلوك وتصرفات وأحكام
الدلال: "محترف الدلالة، وهي المناداة على البضائع في الأسواق" (4) .
يتميز عقد المزايدة عن عقد البيع من الناحية الشكلية بوجود ما يسمى بـ (الدلال) ، أو السمسار (5) ، وهو عنصر رئيس في شكل هذا البيع، وهو وكيل عن صاحب السلعة عرضا، ومزايدة، وإيجابًا للبيع وكالة عن صاحب السلعة، وهذا يفرض عليه خصائص وصفات أخلاقية سلوكية يتوجب أن تتوافر فيه: كالديانة، والأمانة، والصدق؛ لتتماشي سلوكياته مع ما هو مطلوب شرعا في المعاملات، وتتأكد في هذا العقد لما لها من تأثير إيجابا وسلبا على المتبايعين، وعلى سلامة السوق، كما تتعلق به وبعمله أحكام شرعية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها، لأنها تؤثر على العقد صحة وبطلانا: كأن لا يزيد في السلعة من نفسه، وأن لا يزيد فيها لحسابه، أو مشاركة مع غيره، وغير ذلك مما ورد في مدونات الحسبة، وقد أتي على تعداد قسم منها العلامة محمد بن محمد بن أحمد القرشي المعروف بـ (ابن الأخوة) قائلا:
" ينبغي أن لا يتصرف أحد من الدلالين حتي يثبت في مجلس المحتسب ممن يقبل شهادته من الثقاة العدول من أهل الخبرة أنهم أخيار ثقاة من أهل الدين، والأمانة، والصدق في النداء؛ فإنهم يتسلمون بضائع الناس ويقلدونهم الأمانة في بيعها.
ولا ينبغي لأحد منهم أن يزيد في السلعة من نفسه، إلا أن يزيد فيها التاجر. ولا يكون شريكا للبزاز، ولا يقبض ثمن السلعة من غير أن يوكله صاحبها في القبض.
__________
(1) كتاب التيسير في أحكام التسعير، تقديم وتحقيق موسى لقبال، (الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع) ، ص 87
(2) انظر: الونشريسي، المعيار المغرب، 5 / 38
(3) تحفة الحذاق بنشر ما تضمنته لامية الزقاق، ص 303، 304
(4) المجيلدي، أحمد سعيد، كتاب التيسير في أحكام التسعير، ص93
(5) وهو في العرف العام مرادف الدلال ويذكر في تعريفه: "السمسار: محترف السمسرة، وهي الوساطة بين المتعاقدين، والسمسار من يسعى إلى التقريب بين الاثنين، وتعرف أجرته التي يتقاضاها على عمله بالسمسرة أيضا" المجيلدي، أحمد سعيد، كتاب التيسير في أحكام التسعير، ص 94(8/591)
ومنهم من يعمد إلى صناع الحاكة والتجار، ويعطيهم دراهم على سبيل القرض ويشترط عليهم أن لا يبيع لهم شيئا من متاعهم إلا هو، وهذا حرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة (1) .
ومنهم من يشتري السلعة لنفسه ويوهم صاحبها أن بعض الناس اشتراها منه، ويواطئ غيره على شرائها منه.
ومنهم من تكون السلعة له فينادي عليها ويزيد في ثمنها من قبله، ويوهم الناس أن هذا الثمن دفعه لها فيها بعض التجار وأنها ليست ملكه، وهذا غش وتدليس.
ومنهم من يكون بينه وبين البزاز شرط، ومواطأة على شيء معلوم من دلالته فإذا قدم على البزاز تاجر ومعه متاع يقول ها هنا سمسار، وهو رجل ناصح في السلعة فيستدعي ذلك المنادي بعينه ويسلم له المتاع، فإذا فرغ البيع وأخذ الأجرة أعطى البزاز ما كان شرطه له وواطأه عليه، وهذا حرام على البزاز فعله.
ومتى علم المنادي عيبا في السلعة وجب عليه أن يعلم المشتري بذلك العيب ويوقفه عليهِ.
وعلى المحتسب أن يعتبر عليهم جميع ذلك، ويأخذ عليهم أن لا يتسلم جعالته إلا من يد البائعِ، ولا يسقط عند المشتري شيئا فإن فيهم من يواطئ المشتري على جعالته فوق ما جرت به العادة من غير أن يعلم البائع شيء من ذلكِ، وهذا كله حرام (2) .
__________
(1) الحديث: عن علي رضي الله عنه بغير لفظه، رواه الحارث بن أبي أسامة ورواه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبى بن كعب، وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفًا عليهم. سبل السلام شرح بلوغ المرام 3 / 5
(2) كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة، تحقيق محمد محمود شعبان، وصديق أحمد عيسى المطيعي، (مصر: الهيئة المصرية للكتاب) ، ص 216 - 217(8/592)
وقد تكلم العلامة الإمام تاج الدين عبد الوهاب السبكي بالتفصيل على ما يجب على فئات الدلالين: دلالي الكتب والرقيق والأملاك، التحفظ عليه، والابتعاد عنه لدى مزاولة هذا العمل مع توضيح الأحكام الشرعية المترتبة على ممارستهم المنحرفة (1) .
المبحث الثالث: أحكام الدلال (2) وأجرته
1- أحكام الدلال:
* استفتاح الدلال أو شيخ السوق السلعة بثمن معين في بداية النداء عليها مشروع، ولا يعد من قبيل النجش، ذلك أنه يعد القاعدة الأساس في سعرها التي ينطلق منها المزاد، وتفاديًا لأن يأخذ المبادرة في فتح المزاد من لا يعرف قيمتها.
قال العلامة الزرقاني في احترازاته لبيع النجش، وإخراج المسائل التي لا تعد منه:
" وخرج بها استفتاح نحو شيخ سوق ليبني عليه غيره، فإنه جائز لئلا يستفتح من يجهل قيمتها. كما لابن عرفة" (3) .
* لا يجوز للدلال أن يبيع السلعة إلا بإذن صاحبها إلا أن يكون فوض إليه ذلك" (4) .
* "لا يجوز للدلال الذي هو وكيل البائع – في المناداة – أن يكون شريكا لمن يزيد بغير علم البائع؛ فإن هذا يكون هو الذي يزيد، ويشتري في المعني وهذا خيانة للبائع، ومن عمل مثل هذا لم يجب أن يزيد أحد عليه، ولم ينصح البائع في طلب الزيادة، وإنهاء المناداة.
* وإذا تواطأ جماعة على ذلك فإنهم يستحقون التعزير البليغ الذي يردعهم وأمثالهم عن مثل هذه الخيانة، ومن تعزيرهم أن يمنعوا من المناداة حتى تظهر توبتهم (5) .
* اشتراك الدلالين في بيع السلع:
يعرض في الأسواق أن يتضامن جماعة من الدلالين يكونون شركة للقيام بالمزايدة في السوق حسب برنامج محدد بينهم، يذهب صاحب السلعة إلى واحد منهم ليقوم بالمناداة عليه، فيناوله هذا إلى دلال آخر من بين مجموعهم، فالأمر يعتمد رضا صاحب السلعة موافقة، أو معارضة؛ ذلك "أن الدلال وكيل التاجر، وللوكيل أن يوكل غيره، وإنما تنازعوا في جواز توكيله بلا إذن الموكل، وإذا كان هناك عرف معروف أن الدلال يسلم السلعة إلى من يأتمنه كان العرف المعروف كالشرط …..) (6) .
__________
(1) انظر: مفيد النعم ومبيد النقم، الطبعة الأولى، تحقيق محمد علي النجار، وأبو زيد شلبي، (مصر: دار الكتاب العربي، عام 1367 / 1948) ، ص 143
(2) ألف العلامة أبو العباس الأبياني كتابا بعنوان (مسائل السماسرة) ، حققه محمد العروسي المطوي، طبع دار الغرب الاسلامى، بيروت، لخصه العلامة أحمد بن يحيى الونشريسي في كتابه المعيار بعنوان (هذه أسئلة مجموعة في السماسرة) 8/ 355
(3) الزرقاني، سيدي عبد الباقي، شرح الزرقاني على مختصر سيد خليل، (بيروت: دار الفكر، عام 1398 / 1378) 5 /90
(4) الونشريسي، أحمد بن يحيى، المعيار المغرب، 8 / 356
(5) ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الاسلام، 29 / 305
(6) ابن تيمية، أحمد عبد الحليم، مجموع فتاوى، 30 / 97 – 98(8/593)
" وإذا علم الناس أنهم شركاء، ويسلمون إليهم أموالهم جعلوا ذلك إذنًا لأحدهم أن يأذن لشريكه، وليس لولي الأمر المنع في مثل العقود، والقبوض التي يجوزها العلماء، ومصالح الناس وقف عليها، مع أن المنع من جميعها لا يمكن في الشرع، وتخصيص بعضها بالمنع تحكم" (1) .
2- أجرة الدلال:
من المناسب التعرض لأجرة الدلال والأحكام المتعلقة بها في الآتي:
• مدير المزاد أو (الدلال) يستحق أجره على عمله بحسب ما جرى به العرف، أو الشرط عند العقد، فيستحق من البائع إذا جرى به العرف، أو من المشتري إذا جرى اشتراطه عليه، وإذا لم يكن عرف فبحسب الشرط الذي تفرضه الإدارة المنظمة له، أو أطراف العقد، فالمؤمنون على حسب شروطهم.
• إذا رد المبيع على البائع بسبب شرعي كاستحقاق المبيع لغيره، أو رد بسبب عيب في السلعة فليس للبائع الرجوع على الدلال بما دفعه له، ولا تسترد الدلالة. قال العلامة محمود بن إسماعيل بابن قاضي سماوه:
" لو استحق المبيع، أو رد بعيب بقضاء، أو بغيره لا يسترد الدلالة، ولو انفسخ البيع؛ إذا لم يظهر أن البيع لم يكن فلا يبطل عمله" (2) .
• إذا فوض صاحب العين الدلال في بيع السلعة فليس له أخذ الدلالة من المشتري إذ هو العاقد حقيقة وتجب الدلالة على البائع إذا قيل بأمر البائع.
• إذا طلب صاحب السلعة من دلال أن يتولى عرضها للبيع، وحد له أجرا على إتمامه، ولكن لم يتم البيع، ثم أن دلالا آخر باع فللأول أجر بقدر عمله وعنائه. " قال أبو الليث: هذا قياس، ولا أجر له استحسانا إذ أجر المثل يعرف بالتجار، وهم لا يعرفون لهذا الأمر أجرا، وبه نأخذ" (3) .
"رجل دفع إلى دلال ثوبا ليبيعه على أن ما زاد على كذا فهو له فهو إجارة، ولو ضاع من يده ضمن" (4) .
__________
(1) ابن تيمية، مجموع فتاوى، 30 / 99
(2) جامع الفصولين، الطبعة الاولى، (مصر: المطبعة الأزهرية، عام 1300) ، 2 /211، وانظر: ابن عابدين، العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، الطبعة الثانية، (بيروت: دار المعرفة) ، 1 / 247
(3) ابن قاضي سماوة، محمود بن إسماعيل، جامع الفصولين، 2 / 211
(4) ابن غانم البغدادي، أبو محمد، مجمع الضمانات، ص 53(8/594)
المبحث الرابع: ضمان الدلال
خص العلامة أبو محمد بن غانم بن محمد البغدادي ضمان الدلال، ومسائل أخرى متعلقة به بدراسة مستقلة، يتم العرض هنا لجملة مختارة منها يسترشد بها في القضايا المعاصرة:
" الدلال أجير مشترك حتى لو ضاع من يده شيء بلا صنعه لا يضمن عند أبي حنيفة.
• أخذ الدلال الثمن لسلمه إلى صاحبه، أو كان يمسكه ليظفر بصاحبه فيسلمه فضاع منه، يصالح بينهما إلى النصف (1) . إذا هلك المتاع في يد الدلال فسئل فقال: لا أدري أهلك عن بيتي أم عن كتفي لا يضمن.
• إذا دفع الدلال الثوب إلى رجل يريد الشراء لينظر فيه، ثم يشتري، فأخذ الرجل الثوب وذهب، ولم يظفر به الدلال، قالوا: لا يضمن؛ لأنه مأذون بهذا الدفع عادة. قال قاضيخان: وعندي: إنما لا يضمن إذا وقع إليه الثوب ولم يفارقه، أما إذا دفع الثوب وفارقه يضمن، كما لو أودعه الدلال عند أجنبي، أو تركه عند من لا يريد الشراء.
• السمسار إذا خلط أموال الناس، وأثمان ما باعه ضمن إلا في موضع جرت العادة بالإذن بالخلط… فالوكيل ضامن، وكذا المتولي إذا كان في يده أوقاف مختلفة، وقد خلط غلاتها كان ضامنًا، وكذا البيع والسمسار إذا خلط أموال الناس.
• لا ضمان على الدلال إذا وقع الثوب من يده وضاع، وقال: لا أدري كيف ضاع، ولو قال: نسيت، ولا أدري في أي حانوت وضعته يكون ضامنًا" (2) . يضمن الدلال فيما فرط فيه أو فعل شيئا لم يؤذن له فيه لفظا أو عرفا (3) .
• ليس على الدلال (المنادي) تبعة، أو مسئولية لما يبيعه في عقد المزايدة إلا إذا لم يبين عيبها، أو أخفاه، أو سكت عنه، مثله مثل الوكيل، والأجير، والوصي، والسلطان.
قال أبو عمير يوسف بن عبد البر:
" ومتي تبرأ الوكيل أنه يبيع؛ أو يشتري لغيره فهو كالمنادي، أو الأجير، أو الوصي، أو السلطان؛ لاتباعة على واحد من هؤلاء، وإن لم يبين الوكيل وسكت فالعهدة عليه" (4) .
__________
(1) يذهب المالكية إلى التفصيل: يضمن الدلال إذا استلم الثمن بدون أمر من البائع، ولا ينبغي النقد في الخيار، وِأما لو ابتدأ التاجر بتسليم الثمن دون طلب من الدلال على أساس دفعها للبائع أن رضي الثمن، وإلا رده، فذهب ليشاور فتسقط منه النقود فلا ضمان، لأنه أمين، إلا أن يصنع أو يفرط – الونشريسي، المعيار المغارب، 8 / 357
(2) مجمع الضمانات، الطبعة الأولى، (بيروت: عالم الكتب، عام 1407 / 1987) ، ص 52 - 54
(3) انظر: ابن تيمية، مجموع فتاوى، 30 / 389
(4) كتاب الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، الطبعة الثانية، (الرياض: مكتبة الرياض الحديثة، عام 1400 / 1980) ، 2 / 77، وانظر: الونشريسي، المعيار المغرب، 8 / 357(8/595)
الباب الثاني
المزايدة في العصر الحديث
الفصل الأول
الدراسة القانونية
المبحث الأول: تعريف المزايدة قانونًا.
المبحث الثاني: الإجراءات المتبعة في البيع بالمزايدة.
المبحث الثالث: ركنا الإيجاب والقبول في المزايدة.
المبحث الرابع: دعوى الغبن في المزايدة قانونًا.
الباب الثاني
المزايدة في العصر الحديث
تمهيد:
عقد المزايدة في العصر الحديث من العقود الشائعة المنتشرة محليا وعالميا، تضاعفت أهميته نظرا لشدة الحاجة اليه؛ إذ أنه لم يصبح (بيع الفقراء) ، أو (بيع من كسدت تجارته) كما عبر عنه بعض الفقهاء قديما، بل أصبح عقد المؤسسات والإدارات الحكومية، له نظمه، وقوانينه، ولوائحه المتطورة، فمن ثم انتظم قانونا بين (العقود الإدارية) التي "يكون أحد أطراف العقد شخصا من أشخاص القانون العام، كالدولة مثلا، أو الهيئات والمؤسسات العامة ذات الشخصية المعنوية (1) . له استقلاله الموضوعي، ودراساته المتخصصة.
أضحى لكل دولة أنظمتها ولوائحها فيما يخص (عقد المزايدة) ، تشترك في المبادئ والأسس، وتختلف في الإجراءات والتنظيمات حسب العرف، والبيئة المحلية.
ومن أجل التعريف بالمزايدة قانونا، وتوضيح المقابلة الشرعية والقانونية التنظيمية لهذا الأسلوب في إنجاز العقود يتطلب البحث التعريف بها قانونا، ودراستها شكلا وموضوعا، وتقديم نموذج لها من البلاد الإسلامية في العصر الحديث.
__________
(1) نجيم، أحمد بن سالم، وعبد اللطيف بن صالح العبد اللطيف، (العقود الإدارية ومشكلات تنفيذها؛ بحث ميداني مقدم في ندوة العقود الإدارية في المملكة العربية السعودية) ، (الرياض: معهد الإدارة العامة، عام 1401) ، ص 20(8/596)
الفصل الأول
الدراسة القانونية
المبحث الأول: تعريف المزايدة قانونًا
المزايدة والمناقصة من عقود المنافسة في القانون الإداري، يثبت لكل واحد منهما من الإجراءات والتنظيمات ما يثبت للآخر في الجملة، ويخضع كل منهما لما يخضع له الآخر، فيما عدا بعض الأمور والشروط التي تتلاءم وطبيعة كل واحد منهما على انفراد؛ فإنه " إذا كان شراء الأصناف، أو تنفيذ الأعمال يتم عن طريق المناقصة، فإن بيع الأصناف والمهمات الحكومية يتم عن طريق المزايدة للوصول إلى أكبر عطاء، وكذلك بالنسبة إلى إيجار أملاك الحكومة، أو بيعها، وما يماثل ذلك من التصرفات، والاصل في المزايدات أن تتم وفقا لمجموعة الإجراءات التي تتبع عند طرح المناقصات العامة بقصد الوصول إلى المزايد الذي يتقدم بأعلى سعر للتعاقد معه…" (1) . لهذا جرى التعريف بهما قانونا في عبارة واحدة في العبارة التالية:
" المناقصة أو المزايدة العامة: هي طريقة بمقتضاها تلتزم الإدارة باختيار أفضل من يتقدمون للتعاقد معها شروطا، سواء من الناحية المالية، أو من ناحية الخدمة المطلوب أداؤها" (2) .
والعلاقة بين المزايدة والمناقصة من الناحية اللغوية علاقة تباين وتضاد كما هي أيضا من الناحية الموضوعية.
فالزيادة ضد النقص، ومن ثم جاءت التفرقة بينهما في العقود: أن المناقصة تستهدف اختيار من يتقدم بأقل عطاء، ويكون ذلك عادة إذا أرادت الإدارة القيام بأعمال معينة كأشغال عامة مثلا، أما الثانية: (المزايدة) فترمي إلى التعاقد مع الشخص الذي يقدم أعلى عطاء، وذلك إذا أرادت الإدارة مثلا أن تبيع، أو تؤجر شيئا من أملاكها، والأحكام القانونية للنوعين واحدة…." (3) .
تستخدم المزايدة في العصر الحديث لأغراض وعقود عديدة "أهم هذه العقود البيع، والإيجار، فالبيع الجبري عن طريق القضاء، أو عن طريق الإدارة يتم بالمزاد، وكذلك البيوع التي تجريها المحاكم المحاسبية، وقد يقع البيع الاختياري كذلك بطريق المزاد إذا اختار البائع هذا الطريق.
وكثيرا ما تؤجر الجهات الحكومية، ووزارة الأوقاف أراضي وعقارات بطريق المزاد" (4) .
تعتمد كل من المزايدة، والمناقصة "على أساس المنافسة الحرة، والمساواة بين المتنافسين …" في إتاحة المعلومات المتوافرة لدى الجهة الإدارية وإتاحة الفرصة في الدخول في المنافسة.
__________
(1) درويش، حسين، شرح التشريعات المنظمة للمناقصات والمزايدات والمستودعات في دولة الإمارات العربية المتحدة (معلومات النشر: بدون) ، ص 18
(2) اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، مصطلحات قانونية، (العراق: مطبوعات المجمع العلمي العراقي، 1394 / 1974، ص 178
(3) الطماوي، سليمان محمد الأسس العامة للعقود الإدارية دراسة مقارنة، الطبعة الرابعة، (مصر: مطبعة عين شمس، 1984) ، ص 213؛ وانظر: اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، مصطلحات قانونية، ص 178
(4) السنهوري، عبد الرزاق، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، (مصر: جامعة الدول العربية، معهد البحوث والدراسات العربية، 1967) ، 2 / 61(8/597)
المبحث الثاني: الإجراءات المتبعة في عقد المزايدة
عقد المزايدة في العصر الحديث شكلا وهيئة جديدة، تعتمد الإعلان في الصحف ووسائل الإعلام، وتتم إجراءاتها كتابيا، أو مناداة علنية وفق أنظمة وإجراءات محددة، في صورة وهيئة تختلف في بعضها تماما عن الصورة التقليدية (الحراج) (1) .
(الأولى: التقدم بالعطاءات من جانب الأفراد.
والثانية: فحص العطاءات وإرساء المزاد.
والثالثة: إبرام العقد) (2) .
وفيما يلي بيان طبيعة كل مرحلة ووظيفتها، وأهم الإجراءات في خطوط عريضة وعناصر رئيسة:
المرحلة الأولى: التقدم بالعطاءات من جانب الأفراد، ويتم وفق التالي:
أولا: الإعلان عن المزايدة في الصحف ووسائل الإعلام لتحقيق المنافسة الحرة، والمساواة بين المتنافسين، "وهذا الإعلان ضروري حتى يكون هناك مجال حقيقي للمنافسة بين الراغبين في التعاقد مع الإدارة لأن بعض الراغبين في التعاقد قد لا يعلم بحاجة الإدارة إلى ذلك، ومن ناحية أخرى فإن الإعلان يحول بين الإدارة وقصر عقودها على طائفة معينة من المواطنين بحجة أنهم وحدهم الذين تقدموا" (3) .
__________
(1) (حراج – بوزن سحاب – مكررة كلمة ينطق بها البائع مرتين، أو مرارا قبل أن يبيع ببيعا تاما ما بيده، فالحراج إذن وقوف البضاعة مع الدلال عند ثمن لا يزاد عليه، ومنه سوق الحراج في المدن الكبيرة) الشرباصي، أحمد، المعجم الاقتصادي الإسلامي (مصر: دار الجبل عام 1401 / 1981) (حراج) ، ص 113
(2) الطماوي، محمد سليمان، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 255
(3) الطماوي، محمد سليمان، الأسس العامة للعقود الإدارية دراسة مقارنة، ص 217(8/598)
ثانيا: "بعد الإعلان عن المناقصات، أو المزايدات العامة يجب بطبيعة الحال أن تحدد مهلة معقولة لكي يفكر فيها من يريد التقدم، وليزن عطاءه، وظروفه جيدًا قبل التقدم …" (1) .
المرحلة الثانية: فحص العطاء وإرساء المزاد:
"وهي مرحلة تمهيدية تستهدف اختيار أفضل المتقدمين وفقا لنوع المناقصة، (أو المزايدة) ……، ويقوم بهذه العملية… لجنتان هما لجنة فتح المظاريف، ولجنة البت….
ومهمة اللجنة (لجنة فتح المظاريف) كما هو واضح من تسميتها تنحصر في فتح مظاريف العطاءات المتقدمة، تمهيدًا لفحص العطاءات، والتأكد من مطابقتها للشروط المعلن عنها، واستبعاد العطاءات التي لا تستوفي الشروط لسبب أو لأخر، ومهمة لجنة البت في العطاءات إتمام الإجراءات بقصد الوصول إلى تعيين أفضل المناقصين، أو المزايدين حسب القانون ……
وتختص بإتمام الإجراءات المؤدية إلى تعيين من ترسو عليه المناقصة – المزايدة – بعد تحقيق شروطها توطئة لاضطلاع جهة الإدارة بمهمتها الخاصة بإبرام العقد، واختصاص اللجنة في هذا الصدد اختصاص مقيد تجري فيه على قواعد وضعت لصالح الإدارة والأفراد على السواء بقصد كفالة احترام مبدأ المساواة بين المتناقصين (أو المزايدين) …، وينتهي عمل هذه اللجنة بتقرير أصلح العطاءات…، ثم يأتي بعد ذلك دور جهة التعاقد، وهي الجهة المختصة بإبرام العقد مع المناقص، (أو المزايد) الذي وقع عليه اختيار لجنة البت" (2) .
المرحلة الثالثة: إبرام العقد
ويختص به هيئة أخرى غير (لجنة البت) "قد تكون رئيس المصلحة، أو رئيس الإدارة المركزية، أو الوزير المختص……".
والمسلم به أن التزامات الإدارة لم تبدأ إلا من هذه اللحظة، أما قبل ذلك فإن التعاقد يكون في دور التكوين، وكل ما يترتب على قرار لجنة البت نتيجة واحدة، وهي التزام الإدارة بأن لا تتعاقد إلا مع من يرسو عليه المزاد، أو المناقصة، وهذا هو ما يعرف بآلية المزاد (أو المناقصة) (3) .
__________
(1) الطماوي، محمد سليمان، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 239
(2) الطماوي، محمد سليمان، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 239
(3) الطماوي، محمد سليمان، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 271(8/599)
المبحث الثالث: ركنا الإيجاب والقبول في المزايدة قانونًا
التكييف القانوني لركني الإيجاب والقبول في عقد المزايدة كالتالي: التقدم بالعطاء، من قبل المزايد بمثل الإيجاب في العقد بيعًا، أو إجارة، أو غير ذلك.
إرساء المزاد يمثل القبول فيه.
يقدم العلامة عبد الرزاق السنهوري خلاصة المبادئ القانونية فيما يتعلق بهذين الركنين من أحكام في الفقرات التالية:
"أولا: في بيع المزاد – ولنفرض التعاقد بيعًا – الإيجاب ليس هو طرح الصفقة في المزاد، وإنما هو التقدم بعطاء، والقبول هو إرساء المزاد على متقدم بعطاء. وبإرساء المزاد يتم البيع لمن رسا عليه المزاد، ولو تقدم بعد ذلك شخص آخر بعطاء أكبر.
ثانيا: من تقدم بعطاء، اعتبر عطاؤه إيجابا كما قدمنا. وهو هنا إيجاب ملزم؛ لأن ظروف الحال تدل على أن من تقدم بعطاء أراد أن يتقيد به ولا يرجع عنه، ويبقي مقيدا بعطائه إلى أن يسقط هذا العطاء بعطاء أزيد على الوجه الذي قدمناه، أو حتى تنتهي جلسة المزاد دون أن يرسى عليه المزاد. أما إذا أرسي عليه المزاد في الجلسة فقد تم البيع على ما ذكرنا.
ثالثا: العطاء اللاحق يسقط العطاء السابق، فمن تقدم بعطاء يزيد على عطاء سابق يسقط بعطائه هذا العطاء السابق، ويبقى عطاؤه اللاحق هو العطاء القائم. ويلاحظ أن التقدم بعطاء هو تعبير عن إرادة تتجه لإحداث أثر قانوني، فهو إذن تصرف قانوني. ولكن العطاء اللاحق إنما يسقط العطاء السابق، لا باعتباره تصرفًا قانونيًا، بل باعتباره واقعة مادية. ومن ثم يسقط العطاء اللاحق العطاء السابق، حتى لو كان العطاء اللاحق باطلا، كعطاء يتقدم به قاض في بيع عين متنازع عليها، ويقع نظر النزاع في اختصاصه، أو كان قابلا للإبطال، كعطاء يصدر من قاصر، أو محجور عليه.
رابعا: لا يتحتم إرساء المزاد على من يتقدم بأكبر عطاء، وإن كان هذا هو المفروض ما لم يشترط خلافه. فقد يشترط صاحب السلعة أن من حقه ألا يرسى المزاد حتى على من يتقدم بأكبر عطاء؛ لأن هذا العطاء لا يجزيه في السلعة، أو لأنه لا يحب التعامل مع صاحب أكبر عطاء، أو لأي سبب آخر يذكره، أو لغير ما سبب يبديه. وقد يشترط أن من حقه أن يرسي المزاد على أي شخص يتقدم بعطاء يختاره، ولو كان عطاؤه لا يزيد على عطاء غيره، أو يقل عنه، مع إبداء سبب ما" (1) .
المبحث الرابع: دعوى الغبن في المزايدة
جرى القانون على نفي الغبن فيما بيع في المزاد العلني إذا اشترطت المحكمة بيعه بالمزاد العلني، وتم البيع فعلا بالمزاد كنص القانون، وفي ملخص موجز للأحوال التي لا يقبل فيها الطعن بالغبن في المزايدة، يقول العلامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري:
" ويخلص مما قدمناه أنه لا يجوز الطعن بالغبن في الأحوال الآتية:
(1) إذا بيع عقار غير كامل الأهلية في المزاد العلني تنفيذًا لدين.
(2) إذا بيع عقار غير كامل الأهلية في المزاد العلني تنفيذ لأمر المحكمة التي أذنت في البيع.
(3) إذا بيع عقار غير كامل الأهلية في المزاد العلني لعدم إمكان قسمته عينا" (2)
__________
(1) مصادر الحق: 2 / 62
(2) الوسيط في شرح القانون المدني (4) العقود التي تقع على الملكية، البيع والمقايضة، (بيروت: دار إحياء التراث العربي) ، المجلد الأول، ص 395.(8/600)
الفصل الثاني
الدراسة التنظيمية
المبحث الأول: نموذج تطبيقي من النظام السعودي
من المناسب تقديم نموذج تطبيقي من أنظمة المزايدة القائمة في بعض الدول الإسلامية من المملكة العربية السعودية، فقد مر نظام المزايدات والمناقصات بالمملكة العربية السعودية بمراحل عديدة تضمنت تغيرات شكلية، وموضوعية:
"ففي عام 1361 هـ صدر نظام المناقصات العلنية ليضع قواعد خاصة لعقود الإدارة، وتلاه نظام المشتريات العامة في سنة 1364 هـ ……، ثم نظام (المناقصات والمزايدات الذي صدر بالمرسوم الملكي رقم 6، وبتاريخ 24/2/1386 هـ وأخيرا صدر نظام تأمين مشتريات الحكومة، وتنفيذ أعمالها بالمرسوم الملكي رقم 4، وتاريخ 1 / 7 / 1397 هـ، وتلاه بعض الأوامر السامية، والتعاميم التي نظمت بصورة شاملة كيفية اختيار الإدارة للمتعاقد معها، وطرق إبرام عقودها، وأحكام، وآثار هذه العقود" (1) .
وسيتم العرض هنا لما يخص عقد المزايدة من (نظام تأمين مشتريات الحكومة) في المملكة العربية السعودية الصادر بالمرسوم الملكي رقم 4، وتاريخ 1 / 7 / 1397 هـ الجاري به العمل في الوقت الحاضر
__________
(1) نجيم، أحمد بن سالم، وعبد اللطيف بن صالح العبد اللطيف، العقود الإدارية ومشكلات تنفيذها في المملكة العربية السعودية، ندوة العقود الإدارية في المملكة العربية السعودية، ص 21 - 22(8/601)
القواعد الأساسية:
وهي قواعد مشتركة بين عقود المزايدات والمناقصات، والتوريدات، وقد وردت في النظام في المواد التالية:
"مادة (1) : يراعي في تأمين مشتريات الحكومة، وتنفيذ ما تحتاجه من مشروعات وأعمال القواعد الأساسية التالية:
أ- لجميع الأفراد والمؤسسات الراغبين في التعامل مع الحكومة ممن تتوفر فيهم الشروط التي تؤهلهم لهذا فرص متساوية، ويعاملون على قدم المساواة.
م / 1 / ب توفر للمتنافسين معلومات كاملة، وموحدة عن العمل المطلوب، ويمكنون من الحصول على هذه المعلومات في وقت واحد، ويحدد ميعاد واحد لتقديم العروض.
م / 1 / جـ تتعامل الحكومة في سبيل تأمين مشترياتها، وتنفيذ مشروعاتها، وما تحتاجه من أعمال من الأفراد والمؤسسات المرخص لهم بممارسة العمل الذي تقع في نطاقه الأعمال، أو المشتريات اللازمة طبقا للأنظمة والقواعد المتبعة".
ثم استمر النظام يعرض لبعض الشروط والخصائص المحلية الواجب توافرها في المتقدمين مما ليس له صفة العموم بالنسبة للمزايدات، مستمرا في هذه المادة حتى م / 1 / ز.
وفي المادة الثانية تعرض إلى قواعد تقديم العروضِ، وهي في موادها تطبيق للمرحلة الأولى التي نص عليها القانون في المبحث الثاني من الفصل الثاني، والذي يهم الباحث منه؛ بصفة خاصة الفقرات التالية:
"م / 2 / د: يقدم مع العرض ضمان ابتدائي يتراوح بين 1و2 % من قيمته وفقا لما تحدده الشروط والمواصفات، ولا يلزم تقديم هذا الضمان في حالة الشراء المباشر، أو العروض المفتوحة المشار إليها فيما بعد".
كما تعرض في هذه المادة إلى قواعد فتح المظاريف في م / 2 / هـ.
وفي م / 2 / هـ توضيح للآتي:
"م / 2 / هـ: لا يجوز للمتنافسين في غير الحالات التي يجوز التفاوض فيها وفقا لأحكام هذا النظام تعديل أسعار عروضهم بالزيادة، أو النقصان بعد تقديمها".
أما المواد التي تخص المزايدات في النظام ولائحته التنفيذية فهي ما يأتي:
"المادة (11) : يجوز بيع ما يزيد من المنقولات عن حاجة الجهة الإدارية، ولا تحتاجه غيرها من الجهات بعد تقدير قيمتها بمعرفة لجنة من ثلاثة من الموظفين على الأقل، تسترشد في ذلك بأسعار السوق، على أن لا يقل ثمن البيع عن تقرير اللجنة المذكورة، فإذا زادت قيمة هذه المنقولات عن مائة ألف ريال فلا يتم البيع إلا بمزاد علني وفقا للإجراءات التي تنص عليها اللائحة التنفيذية لهذا النظام.
ولا يجوز لموظفي الحكومة شراء أصناف مما تبيعه الحكومة إلا إذا كان البيع بمزايدة علنية، وكانت الأصناف المشتراة لأستعمال المشتري خاصة".(8/602)
قواعد المزايدات:
"المادة (38) : مع عدم الإخلال بما تقضي به المادة (11) من النظام يتم بيع المنقولات الزائدة عن حاجة الجهة الإدارية بمزاد علني ينشر عنه في الصحف، وفي مقار الجهة الإدارية، والبلدية قبل ميعاد المزاد بخمسة عشر يومًا على الأقل.
المادة (39) : على من يشترك في المزاد العلني أن يقدم ضمانًا، يبلغ واحدة في المائة من قيمة عرضه، يزاد إلى خمسة في المائة بالنسبة لصاحب أفضل عطاء عند انتهاء المزاد، وعليه أن يدفع باقي القيمة عند اعتماد الترسية.
المادة (40) : تعتمد نتيجة الترسية من الوزير، أو رئيس الدائرة إذا بلغت القيمة خمسمائة ألف ريال فأكثر، ومن الوكيل إذا قلت".
المبحث الثاني: أهم الشروط والمتطلبات
في المزايدات في العصر الحديث
عقد المزايدة في هيئته الحديثة وبصورته الإدارية الحكومية يخدم مصلحة عامة، يحرص النظام على مراعاتها، والمحافظة عليها، وفي سبيل ذلك وضعت الضوابط والشروط التي من شأنها تحقيق تلك المصلحة وضمانها، ومن هذه الضوابط والشروط العامة ما يلي:
أولا: "التأكد مقدما من صلاحية المناقصين، أو المزايدين، فيتعين على هؤلاء أن يثبتوا قيامهم في عهود قريبة بأعمال تشبه في نوعها الأعمال المطروحة في المناقصة، أو المزايدة، حتى لا تتعاقد الإدارة مع بعض المغامرين فتضار المصلحة العامة " (1) .
ثانيا: اشتراط رسم للدخول في المزايدة والمناقصة، مثل تحديد سعر للوثائق الخاصة بكل واحدة منها.
ثالثا: "تقديم تأمين مؤقت لا يقل عن 1 % من مجموع قيمة العطاء… ولا يقل عن 2 % من قيمة العطاء" (2) . والهدف من هذا "ضمان جدية المتقدم" (3) .
هذا وقد تفرض كل دولة شروطها وإجراءات مختلفة لا تمت بصلة إلى العقد مباشرة، "وإنما تستهدف أغراضا متعددة أهمها الضغط على راغبي التعاقد من الشركات حتى تخدم الالتزامات التي تفرضها التشريعات الاجتماعية، والعمالية …." (4) .
__________
(1) الطماوي، محمد سليمان، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 221
(2) الطماوي، محمد سليمان، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 223
(3) الطماوي، محمد سليمان، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 223
(4) الطماوي، محمد سليمان، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 238(8/603)
المبحث الثالث: استعمالات اقتصادية حديثة لعقد المزايدة
المزايدة في الشركات:
ألف الناس المزايدة في البيوع والإجارات، ومع تطور المعاملات التجارية، وتطور أساليبها وأدواتها تبين عمليا إمكانية استخدام (المزايدة) في عقود أخرى غير ما سبق، وذلك هو توظيف طريقة (المزايدة) للحصول على أعلى نسبة للمشاركة في الربح مع المستثمر في عقد مشاركة، وصورة ذلك:
"أن تطرح البنوك الإسلامية في المزايدة مشاريع استثمارية تكون قد أثبتت جدواها الاقتصادية، ووافق البنك على تقديم التمويل لمن يرغب في إنشائها:
وعنصر المزايدة في ذلك هو سعي البنك للحصول على أعلى نسبة للمشاركة في الربح مع المستثمر في عقد مشاركة" (1) .
الفصل الثالث
الدراسة الفقهية المقابلة
يتضح من خلال العرض السابق لعقد المزايدة تعريفًا، وأحكاما في الشريعة والقانون، والأنظمة الحديثة – وجود نقاط اختلاف واتفاق في الشكل والمضمون يقتضي البحث إبرازها ودراستها في مبحثين (2) .
المبحث الأول: الشكل
يختلف عقد المزايدة شكلا في بعض صوره وهيئته في الأنظمة والقوانين الحديثة عنه في مصادر الشريعة والفقه الإسلامي، وبالتحديد في الأسلوب التحريري الكتابي والتنظيمي السري أحيانا في مراحله الثلاث، في حين أن الثابت والوارد في الشريعة الإسلامية المناداة والإعلان الشفهي (الحراج) .
وهو اختلاف في الأسلوب، والأدوات والتنظيمات التي من شأنها الحرص على سلامة المزايدة، وضمان نزاهتها، تشملها بعض مدلولات القاعدة الفقهية المشهورة: (العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني) .
هذه التنظيمات تستهدف في حقيقتها المحافظة على أهداف المزايدة، وتحقيق المقاصد الشرعية المتوخاة من إيجاد منافسة شريفة في رفع السعر وزيادته لصالح صاحب السلعة، أو المؤسسة، أو الإدارة الحكومية. بل يتعين هذا الأسلوب في الشريعة الإسلامية إذا كان الغرض منه مساعدة صاحبه على سداد عوزه، أو قضاء دينه، أو رفع الحجر عنه، أو تحقيق ريع أو غلة أكبر للموقوف عليهم من فقراء، أو مرافق عامة كالمدارس، ودور الأيتام والعجزة، أو تحقيق دخل اكبر لمصلحة حكومية تنفقه على مرفق عام من مرافق الأمة.
والمزايدة أسلوبا وشكلا يرد على عقود عديدة مثل البيع، والإجارة، والشركات وغير ذلك من أنواع المعاملات، وكما يمارس من قبل الأفراد فإنه يمارس من قبل الهيئات والإدارات.
__________
(1) الطماوي، محمد سليمان، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 238
(2) ورقة العمل المقدمة من المجمع(8/604)
ركزت الدراسات الفقهية الإسلامية على المزايدة بالمناداة في سوق الحراج (المزاد) ؛ لأن هذا هو الأسلوب والشكل السائد في القرون الماضية، في حين أن القانون والأنظمة الحديثة تتناول الجانب التحريري الكتابي، وهو أسلوب متطور تتسع له قواعد الشريعة الإسلامية، وتتبناه ما دام أنه يحقق الغرض المطلوب من دون خروج أو معارضة للقواعد الشرعية وأصول المعاملات.
المبحث الثاني: المضمون
يتفق القانون والأنظمة الحديثة مع الشريعة الإسلامية وفقهها أن هذا العقد قائم على المنافسة النزيهة بين المتقدمين في المزاد، وإفساح المجال لهم على قدم المساواة. كما يتفقان على مشروعية رغبة صاحب السلعة فردا، أو جهة استثمارية، أو هيئة، أو إدارة حكومية في الحصول على ثمن أو ربح أعلى من خلال أسلوب المزايدة، وكما يضمن تحقيق هذه الرغبة بين الأفراد بعضهم مع بعض، وفق الصور التقليدية البسيطة للمزايدة فإنها متحققة وموجودة في الصور التنظيمية الحديثة، ولا توجب معارضة شرعية.
* أوجبت الشريعة الإسلامية سلوكيات وأخلاقا وأحكاما على المتقدمين في المزاد من هذا تحريم التغرير والخداع مطلقا سواء من البائعين، أو المشترين، أو أطراف خارجية، أو بواحد من هؤلاء ضمانا للمنافسة الحرة النزيهة.
اتفقت الأنظمة والقوانين الحديثة مع الشريعة الإسلامية على مراعاة تلك الجوانب، وقننت لها أساليب تتناسب وأحجام المعاملات وتطورها في العصر الحاضر، خصوصا فيما يتصل بالمؤسسات والإدارات، فقد حاولت أن تضع بعض القيود والشروط للحد من الممارسات المنحرفة من أطراف المزايدة، بما يخدم المصلحة العامة، ويسد الطريق امام المحتالين والمختلسين.
* يتمثل ركن الإيجاب في الفقه الإسلامي في عقد المزايدة في عطاء المزايد وهو ملزم له في العقد سواء رسا العطاء عليه وتوقفت عنده الزيادة، أم لا.
ركن القبول يمثله البائع صاحب السلعة في إعلانه الرضى بالثمن الذي انتهى إليه المزاد، أو رضاه بما هو أدني منه من شخص معين؛ إذ أن له الخيار في إمضاء البيع مع من شاء من المزايدين، بصرف النظر عن مقدار العطاء، وسواء وجد شرط بذلك أم لا.(8/605)
يتفق القانون مع الفقه الإسلامي في بعض هذه العناصر، ويختلف عنه في أخرى. أما الاتفاق فهو في ركن الإيجاب المتمثل في عطاء المزايد’ والقبول المتمثل في رضا البائع جملة، لا تفصيلا، يتضح هذا من الاختلاف في النقاط التالية:
أولا: العطاء اللاحق لا ينسخ العطاء السابق في الفقه الإسلامي، فكل مزايد ملزم بعطائه سواء كان سابقا أو لاحقا، هذا إذا كان البيع على الفور، قال المواق: "وأما إن تنوع الوقت فلا يتفق هذا عندنا في الحاجة الموقوفة يأتي صاحبها بعد الموسم، يحمل الناس على عوائدهم ومقاصدهم" (1) .
ثانيا: أن المبدأ السابق ينسجم تماما مع آثاره الشرعية المترتبة عليه، وهو إعطاء صاحب السلعة الحرية في اختيار من يبيع له السلعة من المزايدين، دون أن يكون للثمن الأعلى التزاما مفروضا على البائع، وهذا حق شرعي إذا لم يوجد شرط بخلافه.
في حين أن القانون يعطي هذا الحق لصاحب السلعة في حالة واحدة إذا اشترط أن من حقه أن لا يرسى المزاد على من يتقدم بأكبر عطاء… وقد يشترط أن من حقه "أن يرسى المزاد على أي شخص يتقدم بعطاء يختاره…" (2) .
* دعوى الغبن في المزايدة مقبولة في الشريعة الإسلامية وليس الأمر كذلك في القانون. ولعل الاتجاه القانوني في منع دعوى الغبن في المزايدة كما هو مذهب فريق من الفقهاء المسلمين هو: "أن قيمة الشيء بعد المناداة عليه في الأسواق وشهرته هي ما وقف عليه…" (3) . ومعني هذا "أنه لا يتصور فيه غبن" (4) .
ولكن الحقيقة أن " قيمة الشيء ما يقومه به أهل معرفته، وهي تابعة لصفته، فإن كانت - أي صفته - جيدة كثرت قيمته، وإن كانت رديئة حطت، أي قيمته…" (5) .
وقد تتحكم بعض الأسباب في تقليص المزايدة وعدم بلوغ السلعة ثمنها، ويتضح مستقبلا وجود الغبن غير المعتاد، ففي قبول الدعوى إنصاف لصاحبها إن كان فردًا، وحماية للمصلحة العامة إن كانت وقفا، أو جهة حكومية، أو مرفقا عاما.
* ومن أهم ما تنفرد به القوانين والأنظمة عن الشريعة المطهرة في عقد المزايدة من ناحية المضمون أيضا الأمور التالية:
أولا: إثبات المتقدمين للمزايدة "قيامهم في عهود قريبة بأعمال تشبه في نوعها الأعمال المطروحة في المناقصة أو المزايدة" (6) .
__________
(1) الونشريسي، أحمد بن يحيى، المعيار المغرب، 5 / 38
(2) السنهوري، عبد الرزاق، مصادر الحق، 2 / 62
(3) الوزاني، أبو عبد الله محمد المهدي، تحفة الحذاق بنشر ما تضمنته لامية الزقاق، ص 304
(4) الوزاني، أبو عبد الله محمد المهدي، تحفة الحذاق بنشر ما تضمنته لامية الزقاق، ص 304
(5) الوزاني، أبو عبد الله محمد المهدي، تحفة الحذاق بنشر ما تضمنته لامية الزقاق، ص 304
(6) الطماوي، محمد سليمان، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 221(8/606)
ثانيا: اشتراط رسم للدخول في المزايدة والمناقصة يختلف مقداره بين مزايدة، أو مناقصة وأخرى (1) .
ثالثا: اشتراط التأمين المالي، أو الضمان الابتدائي والانتهائي (2) . وفيما يلي تتم مناقشة هذه الموضوعات ودراستها في ضوء القواعد العامة في الشريعة الإسلامية:
أولا: إثبات المتقدمين كفاءتهم ووفاءهم في أعمال سابقة هو إجراء إداري، المقصود منه أن لا تقدم الإدارة أو المؤسسة على التعاقد مناقصة، أو مزايدة إلا وهي واثقة من كفاءة المتقدم وقدرته على تنفيذ ما وكل إليه، حتى لا تتغير أعمالها، وتتأخر مشاريعها، أصبح هذا من الحاجيات التي يتطلبها الاضطلاع بأي مشروع عاما كان أو خاصا، حتى لا تتعرض المصلحة العامة أو الخاصة للضياع والإهمال، وفي هذا حماية المصلحة العامة من عبث العابثين، وأخذ الحيطة في مثل هذه الأمور مسئولية شرعية يتوجب التحقق منها، والتأكد من سلامتها.
ثانيا: اشتراط رسم الدخول في المزايدة، أو المناقصة مثل تحديد سعر للوثائق. لا بد من البداية من التفرقة بين المناقصة، والمزايدة في هذا الأمر، إذ أن رسم الدخول غالبا ما يكون مطلوبا في المناقصة، وفي المزايدة أحيانا نادرة، ذلك أن المناقصة عبارة عن قائمة احتياجات من مشاريع، أو منقولات يحتاجها المعلن بمواصفات معينة تسد حاجته، وتشبع رغبته، قد يتطلب هذا توظيف بعض الخبرات والاستشارات الموسعة، التي يحتاج أن ينفق عليها المعلن مقدارا من المال يرتفع وينخفض حسب أهمية المطلوب في المناقصة، وحين يعلن عن المناقصة المسهمين في المناقصة بمجموع المواصفات والدراسات التي أكملها في الصورة التي يرغب تنفيذ المشروع على ضوئها، أو تأمين المنقولات حسب مواصفاتها، فيحسب مقدار تكلفة تلك الدراسات والأعمال المكتبية ليستعيدها من مجموع تلك الرسوم من المتقدمين لتنفيذ المطلوب.
ومن جهة أخرى فإن تلك المواصفات والدراسات ستوفر على المتقدم في المناقصة الكثير، بحيث لا يحتاج إلا التنفيذ بموجبها عندما يرسو عليه العطاء.
وفي ضوء هذا التفصيل يمكن القول بأن هذا صحيح بالنسبة لمن رسا عليه عطاء المناقصة؛ لأنه سيفيد منها، أما الآخرون الذين لم يرس عليهم العطاء فإنهم يدفعون تلك الرسوم دون مقابل، ولا يستعيدونها؛ إذ يقضي العدل والإنصاف أن تكون مسئولية دفع التكاليف جميعها من قبل من ظفر بعطاء المناقصة، وإذا كان هذا معلوما لديه مسبقا فإنه سيحتسب تكلفة تلك الدراسات ضمن تكاليف المشروع التي يتقدم لها لإدارة ذلك المشروع أو المؤسسة، ذلك أن من رسا عليه عطاء المناقصة هو المستفيد الوحيد دون أحد آخر، أو تكون التكلفة من مسئوليات الإدارة وواجباتها فتتحمل تكاليفها دون المسهمين، وفي كلا الحالتين فليست هي مسئولية من لم يظفر بالعطاء في المناقصة، وبهذا نستطيع أن تخلص معاملاتها من شبهة أكل أموال الناس بغير حق.
__________
(1) ورقة العمل المقدمة من مجمع الفقه الإسلامي بجدة
(2) ورقة العمل المقدمة من مجمع الفقه الإسلامي بجدة(8/607)
أما المزايدة فإنها غالبا ما تكون على أشياء فائضة عن حاجة صاحبها، أفرادا، أو إدارات تدفعها إلى المزاد بقصد التخلص منها، وفي الغالب لا يشترط في الدخول فيها إلى دفع رسوم إلا حيث تكون تحت أعمال مكتبية، أو استشارات خاصة أو غير ذلك.
وفي جميع الحالات فرسوم الدخول سواء في المناقصة، أو المزايدة إذا كانت موجباتها ما سبق فالأولي والأحق بدفعها من رسا عليه العطاء في المناقصة، أو المزايدة لأنه المستفيد الوحيد وسيحتسبها ضمن تكاليف المشروع مناقصة، أو مزايدة، وربما يكون هذا من واجباته ومسئولياته لو لم تقم المؤسسة أو الإدارة بتجهيزها، ومن ثم تقدمها له، وليس من سبب شرعي أن يكلف بدفع التكلفة كلها، أو جزء منها من أصبح مؤكدا خروجه من العقد، وعدم استفادته منه.
ثالثا: يشترط القانون الوضعي، والنموذج التطبيقي للمزايدات ضمانا ماليا بـ 1 %، ويزاد إلى 5 % لصاحب أفضل عطاء عند انتهاء المزاد، وعليه أن يدفع باقي القيمة عند اعتماد الترسية كما نصت عليه المادة (39) اللائحة التنفيذية لنظام المشتريات الحكومية.
وهذا ليس موجودا ضمن أحكام الشريعة الإسلامية وموادها في عقد المزايدة والغرض من هذا الضمان المالي هو التأكد من جدية المزايد وضمان صدق رغبته.(8/608)
والإجراء المتبع في هذا؛ هو إعادة الضمان المالي لمن لا يرسو عليه العطاء، ومضاعفته إلى 5 % على من يرسو عليه العطاء محتسبا له في النهاية من قيمة العطاء، هذا هو بيع العربون في المعني والجوهر، وهو بهذه الصورة من الصور الجائزة الصحيحة في المذهب الحنبلي فحسب، قال العلامة منصور البهوتي:
" (و) يصح (بيع العربون) …، (و) يصح (إجارته) أي العربون. قال أحمد وابن سيرين: لا بأس به، وفعله عمر، وعن ابن عمر أنه أجازه، و (هو) أي بيع العربون (دفع بعض ثمن) في بيع عقداه، (أو) أي وإجارة العربون: دفع بعض (أجرة) بعد عقد إجارة (ويقول) مشتر، أو مستأجر (إن أخذته) أي المبيع أو المؤجر احتسبت بما دفعت من ثمن، أو أجرة، وإلا فهو لك، (أو) يقول: أن (جئتك بالباقي) من ثمن، أو أجرة، وإن لم يعين وقتا، (إلا فهو) أي ما قبضته (لك لما روي عن نافع بن عبد الحارث، أنه أشتري لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر، وإلا فله كذا وكذا، قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر، وضعف حديث ابن ماجه، أي أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع العربون) …، (وما دفع في عربون فلبائع) في بيع، (و) لمؤجر في إجارة (إن لم يتم) العقد…". (1) .
والضمان المالي الذي يقدمه المزايدون في هذا العقد راجع وعائد لهم في النهاية إذا رسا العطاء دون استثناء.
قد يكون التأمين المالي ضمانا بنكيا متمثلا في خطاب الضمان يصدره البنك، يتحمل فيه مسئولية ما ينجم من تقصير المزايد تجاه مسئوليته وواجباته حيال الطرف الآخر، مقابل نسبة مئوية يتحصل عليها من صاحب الخطاب فلهذا الإجراء تعلقان:
1- التعلق الأول: العلاقة بين المزايد (أو المناقص) وصاحب السلعة، ولهذا الأخير أن يشترط في العقد لضمان جدية المزايد، وصدق رغبته ما يكفل طمأنينته، ويضمن حقوقه، سواء في صورة ضمان، أو كفالة، أو رهن، يختار من الوسائل والأدوات المشروعة المالية، أو الشخصية ما يضمن حقوقه، ويحافظ على مصلحته (والمؤمنون عند شروطهم) ، فإذا طالب بضمان بنكي فهو حق له، ولا غبار عليه أن يختار هذا النوع من الضمان.
__________
(1) شرح منتهي الإرادات، ج 2، ص 165، انظر: البهوتي منصور بن إدريس، كشاف القناع عن متن الإقناع، ج 3، ص 195(8/609)
2- التعلق الثاني: العلاقة بين المزايد (المضمون) والبنك الذي يصدر خطاب الضمان، وما يتحصل عليه في مقابل ذلك من فوائد مالية فقد قرر حكمه تفصيلا مجمع الفقه بجدة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم 12 وتاريخ 1 – 16 ربيع الثاني سنة 1406 هـ، 22 – 28 ديسمبر سنة 1985 م في النص التالي:
(1) – أن خطاب الضمان بأنواعه الابتدائي، والانتهائي لا يخلو إما أن يكون بغطاء، أو بدونه، فإن كان بدون غطاء فهو ضمن ذمة الضامن إلى ذمة غيره فيما يلزم حالا، أو مالا، وهذه هي حقيقة ما يعني في الفقه الإسلامي باسم (الضمان) ، أو (الكفالة) .
وإن كان خطاب الضمان بغطاء فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مصدره هي (الوكالة) ، والوكالة تصح بأجر، أو بدونه مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد (المكفول له) .
(2) - أن الكفالة هي عقد تبرع للإرفاق والإحسان، وقد قرر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض على الكفالة، لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جر نفعا على المقرض، وذلك ممنوع شرعا، ولذلك فإن المجمع يقرر ما يلي:
أولا: أن خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عليه لقاء عملية الضمان (والتي يراعي فيها عادة مبلغ الضمان ومدته) سواء أكان بغطاء أم بدونه.
ثانيا: أما المصاريف الإدارية لإصدار الخطاب الضمان بنوعيه فجائزة شرعا، مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل، وفي حالة تقديم غطاء كلي أو جزئي يجوز أن يراعي في تقرير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء، والله أعلم (1) .
__________
(1) منظمة المؤتمر الإسلامي، مجمع الفقه الإسلامي قرارات وتوصيات، 1406 – 1409 / 1985 – 1988، (جدة: شركة دار العلم للطباعة والنشر) ، ص 22(8/610)
في ضوء هذا التفصيل يكيف المزايد وضعه الشرعي مع البنك الذي يصدر خطاب الضمان، دون أن يكون لصاحب السلعة تعلق، أو علاقة بالوضع بين المزايد والبنك ما دام يحصل على ضمان حقوقه بطريقة شرعية فيما بينه وبين المزايد.
* أما المزايدة في الحصول على نسبة ربح أعلى في مشاريع استثمارية تكون قد أثبتت جدواها الاقتصادية، ووافق البنك على تمويل من يرغب في إنشائها فإن المضاربة، ومعناها شرعا:
"أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه على أن ما حصل من الربح بينهما حسب ما يشترطانه" (1) .
فالعقد مشروع إذا استكمل أركانه وشروطه، والمزايدة في نسبة الربح، ومحاولة كل من الطرفين الحصول على أعلى نسبة منه أمر مشروع يعود إلى ما اتفقا عليه في العقد.
والمزايدة في الربح حسب الصورة السابقة سواء في شركة المضاربة، أو غيرها من أنواع الشركات لها أصل شرعي تقاس عليه في البيوع والإجارات، ذلك أن لجوء صاحب السلعة، بقصد البيع أو الإجارة، إلى المزايدة للحصول على أعلى ثمن في حدود الأحكام والضوابط الشرعية جائز، وقصد معتبر في الشرع، كذلك الأمر بالنسبة للربح بين المضارب ورب المال.
كذلك لجوء الشريك الممول في المضاربة أو غيرها من الشركات إلى المزايدة في الحصول على نسبة أعلى من الربح بقصد تنمية ماله، وزيادة ربحه عن طريق المزايدة، يجتمع مع البيع والإجارة في المعني، ويتفق معهما في القصد ما لم تكن مخالفة شرعية، أو تجاوزات للأركان والشروط وأسباب الصحة في أصل العقد.
ولا تتجاوز المزايدة بصورتها المشروعة أن تكون أسلوبا شكليا، وطريقا من الطرق المشروعة للربح وتنمية المال تقع على العقود المتوخاة لتنمية الأموال التي ترك الشرع صياغتها، وتحديد أسلوبها رحمة بالناس، لتكييفها حسب احتياجاتهم واختلاف بيئاتهم وأزمانهم.
يأخذ هذا الحكم عموم جواز استعمال المزايدة في جميع العقود المباحة المعلومة، وغير المعلومة، إذا التزم المزايدون فيها أركان الصحة وشروطها، وتفادوا ما يفسدها، أو يتعارض مع مقصد من مقاصد الشريعة وقواعدها.
وليس في الشريعة ما يمنع صاحب راس المال أن يدخل في أكثر من عقد مع المضارب في مشاريع استثمارية أخرى، إذا تحقق قدرته وكفاءته على الاضطلاع بها، ويعد كل عقد قائما بذاته، مستقلا عن الآخر بشروطه وواجباته.
__________
(1) ابن قدامة، أبو محمد عبد الله بن أحمد، المغني، 5 / 22(8/611)
خاتمة البحث
الخلاصة والنتائج
إن العرض السابق لعقد المزايدة تعريفا، وبسطا لأحكامه ومسائله في الشريعة الإسلامية والقانون، ومن خلال النموذج التطبيقي في دراسة تحليلية موجزة خلص إلى الأحكام والنتائج التالية:
أولا: أن عقود المعاملات في الشريعة الإسلامية من المرونة بحيث يمكن أن تتقبل الأشكال، والأساليب في المعاملات بما يحقق المصلحة العامة، ويحفظ حقوق المتعاقدين ما لم تعارض قاعدة شرعية، أو تناقض قصدا مرعيا، ذلك " أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني ".
فإذا سلم أصل العقد وحقق أغراضه الشرعية فالشكل مقبول وصحيح ما سلمت أصول العقد، وقعت عليه المزايدة.
ثانيا: أن الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي، وتنظيم إداري أن لم يكن من (الضروريات) فهو من (الحاجيات) في الوقت الحاضر، ومراعاتها معلومة في الشريعة الإسلامية، ولو قيل إنها من التحسينيات "وهي التي تقع موقع التحسين، والتيسير للمزايا، ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات" (1) ، "وهي ما به كمال الأمة في نظامها… فإن لمحاسن العادات مدخلا…" (2) .
__________
(1) ابن عاشور، الطاهر، مقاصد الشريعة، (تونس: الشركة التونسية للتوزيع) ، ص 82
(2) ابن عاشور، الطاهر، مقاصد الشريعة، (تونس: الشركة التونسية للتوزيع) ، ص 82(8/612)
وأهمية واعتبارا في الشرع، وهي مقصد مهم من مقاصد الشريعة المطهرة يتوجب توخيها.
ثالثا: أن الضوابط والشروط الإدارية في عقد المزايدة في جملتها لا تتعارض ومبادئ الشريعة الإسلامية، خصوصا ما يتصل منها بتحديد القدرات والكفاءات والإنجاز بما يخدم المصلحة العامة، ويقطع على المتهاونين سبل الخلل والإهمال.
رابعا: أن لزوم الإيجاب من قبل المزايد، ومنح البائع الخيار في القبول كما في الشريعة الإسلامية منسجم تمامًا مع أهداف هذا العقد، وملائم لطبيعته؛ ذلك أن المقصد الأساس أن يكون لصاحب السلعة الكلمة الفصل في إنجاز العقد، والرضي بالسعر الذي يريده، ولمن يختاره.
خامسا: رسم الدخول (قيمة وثيقة المواصفات) التي تعد من قبل صاحب المزايدة، أو المناقصة، موضحًا فيها الشروط المطلوب تنفيذها والتقيد بها تمثل في الحقيقة تكاليف الخبرات والاستشارات ومجموع الأعمال والجهود للوثائق المعدة ينبغي أن لا يتحملها من لم يرس العطاء عليه، فإذا أخذت منه أخذت بغير مقابل، وبدون وجه حق، وهي جديرة بأن تكون مسئولية الجهة صاحبة المصلحة.
سادسا: الضمان المالي الابتدائي الذي يرد في النهاية إلى صاحبه هو بيع العربون وهو نموذج عادل، حيث لا يحق أخذه من قبل صاحب المناقصة، أو المزايدة في جميع الأحوال، ظفر المزايد بالعطاء، أو لم يظفر به.
سابعا: الضمان النهائي معتبر للمزايد، أو المناقص إذا وفي بمسئولياته، ويخصم لحسابه، وهو بيع العربون الجائز صورة وحقيقة، ولا يخالف في صحته المعارضون لصحة بيع المعربون.
ثامنا: الضمان البنكي صورة من صور الضمان المالي، وهو بصوره الصحيحة، أو الفاسدة لا يؤثر على العقد الصحيح، بل هو خارج عن العقد، وليس من مسئوليات الجهة صاحبة العقد أن تتحقق صحته، أو فساده.
تاسعا: صحة الضمان وإباحته في عقد المزايدة مسئولية المضمون، وهو بالتحديد: العلاقة بين المضمون والضامن تحكمها المبادئ والأسس الشرعية، وتحدد علاقتهما في ضوء القواعد، والقرارات المجمعية الفقهية.
عاشرا: استعمال عقد المزايدة توصلا للحصول على نسبة ربح أعلى في مشاريع استثمارية بالمشاركة استعمال جديد يتفق مضمونا وأهدافا مع استعماله المعتاد في البيوع والإجارات، وغيرها من عقود المعاملات المبسوطة في الفقه الإسلامي، المعلوم صحتا وجوازها.
حادي عشر: قبول دعوى الغبن في المزايدة كما هو الراجح في المذهب المالكي إنصاف للأفراد، وحماية للمصلحة العامة ينسجم مع تعاليم الشريعة الإسلامية القائمة على العدل والإنصاف.
ثاني عشر: يحمل الناس على عوائدهم ومقاصدهم فيما يجزي فيه اختلاف في عقد المزايدة.
كما أنه يلجأ إلى قرائن الأحوال فيما ينشأ عنه من نزاع بين المتبايعين (1) .
في الختام أتوجه إلى المولى الكريم أن يجنبنا الزلل في القول والعمل، وأن يغفر ما قد زل به القلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خيرته من خلقه، أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان
__________
(1) انظر: الونشريسي، المعيار المغرب، 5 / 38(8/613)
مصادر البحث
- الآبي الأزهري، صالح عبد السميع.
جواهر الإكليل شرح مختصر العلامة خليل.
مصر: دار إحياء الكتب العربية.
- الأبي، أبو عبد الله محمد بن خلف الوشتاني.
إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم.
بيروت: دار الكتب العلمية.
- اتحاد المجامع العلمية العربية
مصطلحات قانونية.
العراق: مطبوعات المجمع العلمي العراقي، عام 1394 هـ / 1974 م.
-ابن الأخوة، محمد بن محمد بن أحمد القرشي.
معالم القربة في أحكام الحسبة.
تحقيق محمد محمود شعبان، وصديق أحمد عيسى المطيعي.
مصر: الهيئة المصرية للكتاب.
- أنيس، إبراهيم، وعبد الحليم منتصر، وعطية الصوالحي، ومحمد خلف الله أحمد.
المعجم الوسيط.
معلومات النشر: بدون.
- البابرتي، أكمل الدين محمد بن محمود.
شرح العناية على الهداية.(8/614)
الطبعة الأولى مع فتح القدير.
مصر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، عام 1389 هـ / 1970 م.
- البخاري، محمد بن إسماعيل.
صحيح البخاري.
تحقيق محمود النواوي، محمد أبو الفضل إبراهيم، ومحمد خفاجي.
مكة المكرمة: مكتبة النهضة الحديثة.
- البهوتي، منصور بن يونس.
شرح منتهي الإرادات.
المدينة المنورة: مكتبة محمد عبد المحسن الكتبي.
* كشف القناع متن الإقناع
راجعه وعلق عليه هلال مصيلح مصطفى هلال.
الرياض: مكتبة النصر الحديثة.
- ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم.
فتاوى ابن تيمية.
الرباط: مكتبة المعارف، طبع على نفقة الملك خالد، 1401 / 1981م.
- ابن جزي، محمد بن أحمد(8/615)
القوانين الفقهية.
ليبيا وتونس: الدار العربية للكتاب.
- الحجاوي، موسى.
الإقناع.
تصحيح وتعليق عبد اللطيف محمد موسى السبكي.
مصر: المطبعة المصرية.
- ابن حجر، أحمد بن علي.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
رقّم أبوابه محمد فؤاد عبد الباقي، وصححه محب الدين الخطيب.
مصر: المطبعة السلفية ومكتبتها.
- الحطاب، محمد بن عبد الرحمن المكي.
مواهب الجليل على مختصر أبي الضياء سيدي خليل.
الطبعة الأولى
مصر: مطبعة السعادة، عام 1328 هـ.
- الخطابي، أبو سليمان حمد بن محمد.
معالم السنن.
الطبعة الأولى
حلب: المطبعة العلمية، عام 1325 هـ / 1933 م.
- أبو داود، سليمان الأشعث السجستاني.
سنن أبي داود.
ضبط وتعليق محمد محيى الدين عبد الحميد.
بيروت: دار إحياء التراث العربي.
- الدردير، أبو البركات، أحمد بن محمد.
الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب مالك.
أخرجه مصطفى كمال وصفي.
مصر دار المعارف.
- درويش، حسين.
شرح التشريعات المنظمة للمناقصات والمزايدات والمستودعات في دولة الإمارات العربية المتحدة.
معلومات النشر: بدون.
- الدسوقي، محمد عرفة.
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير.
بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
- ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد القرطبي.
المقدمات الممهدات.
الطبعة الأولى، تحقيق سعيد أحمد عراب، وعبد الله الأنصاري.(8/616)
بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1408 هـ / 1988 م.
* البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة.
الطبعة الأولى.
تحقيق أحمد الشرقاوي إقبال، ومحمد حجي.
بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1404 هـ / 1984 م.
- الرملي، شمس الدين محمد بن أحمد.
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج.
مصر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، عام 1386.
- الزرقاني، سيدي عبد الباقي.
شرح الزرقاني على مختصر سيدي الخليل
بيروت: دار الفكر، عام 1398 هـ / 1978 م.
- الزمخشري، جار الله أبو القاسم محمود بن عمر.
أساس البلاغة
الطبعة الأولى: تحقيق عبد الرحيم محمود.
مصر: مطبعة أولاد أوقاند، عام 1372 هـ/ 1953 م.
- الزيلعي، فخر الدين عثمان بن علي.
نصب الراية لأحاديث الهداية.
الطبعة الأولى
مصر: مطبعة دار المأمون، عام 1357 هـ / 1938 م.
* تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق.
الطبعة الثانية بالأوفست، مصورة عن الطبعة الأولى.
بيروت: دار المعرفة.
- الساعاتي، أحمد عبد الرحمن البنا.
الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد.
الطبعة الأولى.
مصر: طبع على نفقة المؤلف، عام 1370 م.(8/617)
* بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، مع الفتح الرباني.
الطبعة الأولى. مصر: طبع على نفقة المؤلف، عام 1370 هـ.
- ابن السبكي، تاج الدين عبد الوهاب.
مفيد النعم ومبيد النقم.
الطبعة الأولى. تحقيق محمد علي النجار، وأبو زيد شلبي.
مصر: دار الكتاب العربي، عام 1367 هـ / 1948 م.
- السنهوري، عبد الرزاق.
مصادر الحق في الفقه الإسلامي
جامعة الدول العربية: معهد البحوث والدراسات العربية، عام 1967 م.
* الوسيط في شرح القانون المدني (48) العقود التي تقع على الملكية، البيع والمقايضة.
بيروت: دار إحياء التراث العربي.
- ابن سودة، أبو عبد الله محمد التاودي.
شرح لامية الزقاق.
بعد أن طبع أربع مرات قبلها.
فاس: مطبعة المكتبة المخزنية الفاسية، عام 1341 هـ.
- الشافعي، محمد بن إدريس.
الأم.
تحقيق محمد زهري النجار.
مصر: مكتبة الكليات الأزهرية.(8/618)
- الشرباصي، أحمد
المعجم الاقتصادي الإسلامي.
بيروت: دار الجيل، عام 1401 هـ/ 1981م.
- الشرواني، عبد الحميد.
حاشية على تحفة المحتاج بشرج المنهاج، مع شرح التحفة.
بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
- الشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم.
المهذب، مع شرحه المجموع.
الطبعة الأولى
جدة: مكتبة الإرشاد.
- الطماوي، سليمان محمد.
الأسس العامة للعقود الإدارية دراسة مقارنة.
الطبعة الرابعة.
مصر: مطبعة عين شمس، عام 1948 م.
- ابن عاشور، الطاهر
مقاصد الشريعة الإسلامية.
الطبعة الأولى
تونس: الشركة التونسية للتوزيع. 1978 م.
- ابن عبد البر. أبو عمر يوسف.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد.
الطبعة الأولى. تحقيق أحمد أعراب.
المغرب: وزارة الأوقاف والشئون الدينية، عام 1407 هـ / 1987 م.
* كتاب الكافي في فقه أهل المدينة المالكي.
الطبعة الثانية: الرياض: مكتبة الرياض الحديثة، عام 1400 هـ /1980م.(8/619)
- ابن عرفة، أبو عبد الله محمد.
حدود ابن عرفة مع شرحها للرصاع.
الطبعة الأولى. تحقيق محمد أبو الأجفان، والطاهر المعموري.
بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1993 م.
- العيني، بدر الدين أبو محمد محمود.
عمدة القاري شرح صحيح البخاري
بيروت: دار التراث العربي. مصورة عن الطباعة المنيرية.
* البناية في شرح الهداية.
الطبعة الأولى. تصحيح المولوي محمد بن عمر، الشهير بناصر الإسلام الرامفوري.
بيروت: دار الفكر، عام 1401 هـ / 1981 م.
- ابن غانم البغدادي، أبو محمد.
مجمع الضمانات.
الطبعة الأولى
بيروت: عالم الكتب، عام 1407 هـ/ 1987 م.
- ابن فارس، أبو الحسين أحمد.(8/620)
معجم مقاييس اللغة.
تحقيق عبد السلام هارون، مصر: دار الفكر.
- ابن قاضي سماوة، محمود بن إسماعيل.
جامع الفصولين.
الطبعة الأولى، مصر: المطبعة الأزهرية، عام 1300 هـ.
- ابن قدامة، موفق الدين أبو محمد.
المغني.
الطبعة الثالثة. تعليق وتصحيح السيد محمد رشيد رضا.
مصر: دار المنار، عام 1367 هـ.
- الكاساني، علاء الدين.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع.
الطبعة الثانية.
بيروت: دار الكتب العلمية، عام 1394 هـ / 1974 م.
- مالك بن أنس.
الموطأ، مع شرح تنوير الحوالك.
مصر: عبد الحميد أحمد حنفي.
- ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني.
سنن ابن ماجه
الطبعة الأولى. تحقيق محمد مصطفى الأعظمي
الرياض: شركة الطباعة العربية السعودية، عام 1403 هـ.
- الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب.
"كتاب البيوع من الحاوي".
دراسة وتحقيق محمد مفضل مصلح الدين. رسالة دكتوراه.
مكة: جامعة أم القرى، قسم الدراسات الشرعية، عام 1408 هـ / 1989 م.
- المباركفوري، محمد عبد الرحمن
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي.
مراجعة وتصحيح عبد الرحمن محمد عثمان.
مصر: مؤسسة قرطبة.
- المجليدي، أحمد سعيد(8/621)
كتاب التيسير في أحكام التسعير.
تقديم وتحقيق موسى إقبال.
الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع.
- المرغيناني، أبو الحسن علي بن أبي بكر.
الهداية شرح بداية المبتدي.
الطبعة الأخيرة.
مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
- نجيم، أحمد بن سالم وعبد اللطيف بن صالح.
" العقود الإدارية ومشكلات تنفيذها" بحث ميداني مقدم في ندوة العقود الإدارية في المملكة العربية السعودية.
الرياض: معهد الإدارية العامة، عام 1410 هـ.
- ابن الهمام، كمال الدين محمد بن عبد الواحد.
فتح القدير على الهداية شرح البداية.
الطبعة الأولى: مصر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، عام 1389 هـ / 1970 م.
- الهيتمي، شهاب الدين أحمد بن حجر.
تحفة المحتاج بشرح المنهاج.
بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
- الوزاني، أبو عبد الله محمد المهدي بن محمد بن الخضر الشريف العراني.
تحفة الحذاق بنشر ما تضمنته لامية الزقاق.
أعيد طبعه بعد أن طبع أربع مرات.
فاس: مطبعة المكينة المخزنية الفاسية، عام 1341 هـ.
- الونشريسي، أحمد بن يحيى.
المعيار المغرب.
الطبعة الأولى، تحقيق محمد حجي.
بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1410 هـ / 1981 م.(8/622)
المناقشة
البيع بالمزايدة
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
لعلي قد كلفت بتقديم هذه العروض لأن عرضي كان أصغر العرضين؛ عرضي وعرض لفضيلة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان وعبر عنه بالبيع بالمزايدة، فبحث الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان اشتمل على واحد وسبعين صفحة، وعرضي اقتصر على تسع وثلاثين صفحة. وهذا البيع اختلفنا أيضا في التعبير عنه، فالدكتور عبد الوهاب أبو سليمان لقبه بالبيع بالمزايدة، وعبرت عنه ببيع المزايدة أخذا من تعبير الفقهاء وتعريف ابن عرفة. سوف أقتصر أولا على الملخص الذي كتبته للبحث ثم أقوم بمقارنة بيني وبين زميلي بذكر النواحي التي نختلف فيها فقط، أما فنحن على اتفاق، وفي ذكر النواحي التي أهملها بعضنا وذكرها البعض الآخر، وابتداء أريد أن أبين وأذكر بموضوع وهو هذا الموضوع الثالث البيع بالمزايدة، أنواعه، الجهات التي تحتاج إليه، الإجراءات المتبعة الآن في البيع بالمزايدة، حكم طلب الضمان البنكي لكل من يريد الدخول في المزايدة، اشتراط الرسم للدخول في المزايدة كتحديد السعر للوثائق الخاصة بالمزايدة، هل تجوز عمليات الاستثمار بالمزايدة؟ وصورتها أن تطرح البنوك الإسلامية في المزايدة مشاريع استثمارية تكون قد أثبتت الدراسات جدواها الاقتصادية ووافق البنك على تقديم التمويل لمن يرغب في إنشائها، وعنصر المزايدة في ذلك هو سعي البنك للحصول على أعلى نسبة للمشاركة في الربح مع المستثمر في عقد المشاركة، وما الحكم إذا كان المستثمر عاملا في عقد مضاربة مع البنك؟ الصور الحديثة للنشر المنهي عنها في بيع المزايدة، وأقول قبل الافتتاح إني غطيت كل ما طلب مني إلا الفقرة الثانية وهو الإجراءات المتبعة الآن في البيع بالمزايدة لأني لم أفهم حسب توقعي أن كاتبا يتحدث عن الإجراءات المتبعة في بلده أو في كافة البلدان الإسلامية وإذا كانت في كافة البلدان الإسلامية فهو فوق طاقتي، وإذا كان في بلدي فقط فإنه لا يفيد نظرا إلى أن المجمع هو مجمع للعالم الإسلامي كله.(8/623)
بيع المزايدة:
حقيقته: أطلق على هذا البيع: بيع المزايدة والبيع في من يزيد، وهو أن يعرض صاحب السلعة ما يريد بيعه على الراغبين فيزيد بعضهم على بعض حتى تنقطع الزيادة فيصفق البائع أن شاء وقف السلعة للعرض. وهذا التعريف أخذته من تعريفات الفقهاء وذكرت في الأصل تعريف ابن عرفة بقيوده، ولكن كما نعلم تعاريف ابن عرفة هي تعاريف يسير فيها على الطريقة المنطقية، فيها كثير من الالتواءات واللبس المنطقي فأخذت خلاصة حكمه وعبرت عنه بهذا التعبير الجديد.
حكمه: اختلف فيه المتقدمون فذهب بعضهم إلى كراهته مطلقا وذهب بعضهم إلى جوازه بدون كراهة من بيع المغانم والمواريث فقط.
وذهب آخرون إلى جوازه مطلقا بضوابط البيع الشرعي، وهذا الخلاف إنما هو خلاف تاريخي إذ حصل إجماع من الفقهاء على جوازه بعد ذلك.
مقارنة بين منافع هذا العقد ومفاسده:
يستفيد من بيع المزايدة البائع باعتبار أن حظه من وجود مشتر جاد يكون أقوى، وهو في حاجة إلى السيولة النقدية، كما يتيح له تحقيق ثمن أرفع مما لو لم يناد عليه ويشهره للبيع، ويستفيد منه المشتري بما يتيحه الإعلان من تركيبه من وجود ما يرغب فيه بيسر خاصة من الأشياء المستعملة، ومن ناحية أخرى فقد يتضرر التجار من بيع المزايدة إذ يصرف الإشهار والنداء المشترين عنهم إلى السلع المعروضة في سوق المزايدة، كما يمكن أن يتضرر فيه المشترون، إذ أن الظروف النفسية لبيع المزايدة قد تغري المشتري بدفع ثمن الأرباح. ولذلك بينت في الأصل أنه لا بد من أن يأخذ ولي الأمر والدول الإسلامية من الضوابط ما يحول دون هذه المفاسد التي يمكن أن تكون في بيع المزايدة.(8/624)
أقسام بيع المزايدة:
ينقسم بيع المزايدة بالنظر إلى طريقة إنجازه إلي:
أولا: أن تعرض السلعة في السوق وينادي عليها البائع بنفسه أو بواسطة سمسار أو بواسطة المأمور القضائي إلى أن تنتهي الزيادة.
ثانيا: أن يعرض متولي البيع السلعة بثمن رفيع فإن وجد من يقبل وإلا خفضه وما يزال يخفضه إلى أن يقبل به أحد المشترين فيفوز بالبضاعة وهو أقل ما يستعمل ولكنه موجود وخاصة في أمريكا.
ثالثا: أن يعلن عن بيع السلعة بالمزايدة ويقدم الراغبون عروضهم في ظروف مختومة تفتح في أجل محدد ومن طرف هيئة محددة ويفوز بالسلعة من كان عرضه أوفر وعلى هذه الطريقة تجري الشركات والبيع الصادر عن الدولة.
وينقسم بالنظر إلى الحالة التي عليها البيع:
أولا: إلى بيع الأشياء الجديدة.
ثانيا: إلى بيع الأشياء المستعملة.
ثالثا: إلى بيع التحف والنفائس.
ويجوز بيع الأشياء الجديدة ما لم يتضرر التجار من ذلك، كما يجوز بيع الأشياء القديمة مع ضوابط الرجوع بالعيب، كما ينبغي ضبط أماكن بيع التحف والنفائس حماية للمشتري والبائع من التحايل.
وينقسم بالنظر إلى متولي البيع:
أولا: أن يكون البائع هو المالك ولفائدته.
ثانيا: أن يكون البائع غير المالك كما إذا دعا أحد الشركاء إلى تصفيق ما لا يقسم أو يتضرر ببيعه منفردا، وكالبائع على المحجور، وقد بينت اختيار الفقهاء في هذا ودليل كل فريق من الفقهاء الذين ذهبوا إلى أنه يجبر الشريك على البيع إذا كان الشريك يتضرر من بيع قسطه وحده بلزوم بيع المزايدة ينبرم العقد إذا صفق البائع السلعة لآخر راغب بالثمن الذي بذله.
ثالثا: للبائع أن يصفق السلعة لأحد المتزايدين مفضلا له على باذل الثمن الأرفع؛ لأن كل من زاد هو ملتزم بالثمن الذي عرضه ما لم يطل أو يجر عرف وما لم تكن السلعة بيد المشتري بعد الطول وفي البحث تفصيل هذه الأحكام.
الزيادة بعد تثبيت البيع: إذا لم يظهر غبن لا تقبل الزيادة، وإذا ظهر في البيع غبن فالمشهور عدم قبول الزيادة، وجرى العمل بقبولها في الأندلس، ولذلك قد يترجح أنه يتبع العرف، وفي تقدير الغبن خلاف هل هو ما يعتبر كثيرا أو هو ما بلغ الثلث أو ما يجاوزه وما معنى ما يعتبر كثيرا؟ فإذا افترضنا أن البيع بمائة ألف دولار فعشرة آلاف دولار هي عشر الثمن. فتقدير الكثرة والقلة هو اعتبار بنسبة ضخامة البيع أو حقارته.
قلت هنا: على ولي الأمر أن يضبط الغبن الموجب لقبول الزيادة حتى يضبط الأمور وقطعا لباب الخلاف.(8/625)
خيار النقيصة حالة البيع بالبراءة:
وخيار النقيصة كما يجري في بيع المزايدة يجري في غيره من البيوع، وقد نص على هذا كثير من الفقهاء، وذكرت نصوصا في أصل البحث إذا وجد المشتري عيبا بالمبيع وباعه على البراءة، الحالة الأولى أن يكون قد باعه على البراءة أو ذكر أنه معيب بكل عيب. ذهب الحنفية إلى أن المشتري لا حق له في القيام بالعيب في هذه الحالة، وذهب المالكية إلى أن بيع البراءة لا ينفع إلا في الرقيق إذا كان البائع صاحب السلعة أو وكيله، وأما إذا كان البائع الحاكم أو الوارث فله أن يبيع على البراءة بشرط أن لا يعلم بالعيب وذهب الشافعية في أصح الأقوال إلى أنه ماض في بيع الحيوان والرقيق، وذهب الحنابلة إلى أن بيع البراءة لا يفيد البائع، وللمشتري القيام بالعيب مطلقا، إذا علم البائع العيب وكتمه عن المشتري، فللمشتري القيام بالعيب مطلقا، وإذا كان غير عالم كبيع الحاكم والوارث والوصي لا قيام فيه بالعيب، وبيع غيرهم البائع متحمل لكل عيب قديم.
خيار النقيصة إذا باع لا على البراءة:
إذا اطلع المشتري على عيب في المبيع موجود قبل العقد في اتفاق أو قبل القبض في ما يتعلق به حق التوقيف باتفاق أو قبل القبض عند غير المالكية في غير ذلك، فإن كان البائع قد كتمه فالمشتري بخيار، تقدير ما هو عيب يرجع للعرف العام أو لأهل الخبرة فيما دق من العيوب، ويطالب القائم بحق الرد المالك أن تولى البيع، وكذلك الوكيل إذا كان مفوضا إليه، وكذلك وكيل البائع إذا لم يبين أنه وكيل، وغير المالك، وما باعه الوصي لنفقة من هم إلى نظره لا يرجع القائم إلا في عين شيئه فإن أنفقه لم يكن له شيء، وما باعه القاضي فإن كان على اليتيم فالقائم يأخذ حقه من مال اليتيم فإن هلك فلا شيء له وما باعه لقضاء الديون فللقائم مطالبة الغرماء. والفضولي يتحمل العهدة إلا إذا أجاز المالك فعله، والسمسار لا عهدة عليه.
هل يرد السمسار ما أخذه إذا انتقص البيع؟ إذا رد المشتري البيع وكان قد تحمل بأجرة السمسار فهل يعود على السمسار؟ إذا كانت السمسرة إجارة فلا يرجع البائع على السمسار بأن يتفق معه على أن ينادي على السلعة يوما أو يومين أو مدة معلومة، وإذا كان فعلا قد اتفق معه على البيع يوما أو يومين أو عشرة متى انتهى ووصل المبيع إلى غاية ثمنه فإنه يتم البيع، وإذا كان جعلا وجب عليه رد ما أخذه إذا كان البائع غير مدلس وحكم القاضي عليه بالرد، ويجب الرد أيضا إذا كان البائع غير مدلس وحكم القاضي عليه بالرد، ويجب الرد أيضا إذا كان السمسار مواطئا للبائع على الكتمان.(8/626)
من الأسئلة حكم طلب الضمان:
الضمان هو طلب عربون عند عقد الصفقة يأخذه البائع إن نكل المشتري عن إتمام البيع، وهذا يرتبط بآخر العربون وهو الذي قال به أحمد، وهو ما يجري به العمل في البلاد الإسلامية، فيكون القرار في هذا مرتبطا بقرارنا في جلسة الصباح كما وصل إليه القرار في جلسة الصباح، يسري على بيع المزايدة.
اشتراط أن يكون المشارك في المزايدة قد تملك كراسة الشروط:
لا يوجد ما يمنع البائع من اشتراط أن يكون المشارك بالمزايدة قد اشترى كراس الشروط واطلع عليه واشتراط ذلك لا مانع منه لهوان قيمته بالنسبة لأصل الصفقة عادة؛ إذ لو كان رفيع الثمن، لكان عامل طرد للمزايدين، وهو عكس رغبة البائع ومصلحته، لعل فضيلة الدكتور أبو سليمان خالفني في هذا وقد ذكر في بحثه عند قوله.
خامسا: رسم الدخول، يرى أن قسيمة ورسم المواصفات التي تعد من قبل صاحب المزايدة أو المناقصة موضحا فيها الشروط المطلوب تنفيذها والتقيد بها يمثل في الحقيقة تكاليف الخبرات والاستشارات ومجموع الأعمال والجهود والوثائق المعدة ينبغي ألا يتحملها من لم يرس العطاء عليه، فإذا أخذت منه أخذت بغير مقابل وبدون وجه حق، وهي جديرة بأن تكون مسئولية الجهة صاحبة المصلحة، يرى فضيلة الدكتور أبو سليمان أنه لا يجوز بيع هذه الوثائق وأنه يجب أن تقدم بدون مقال. ورأيي أن هذه الوثائق هي وثائق تمثل معلومات تبيعها الدولة أو تبيعها الشركة، لها أن تبيعها، ولم تلزم أحدا بشرائها، فإذا قال: إني لا أقبل إلا من يمسك هذه الوثائق حتى يكون على بينة تامة من إقدامه على العقد، أرى أنه لا مانع من ذلك، وهذه كلها قضايا جديدة، ونبهت في الأصل على أنها قضايا جديدة لا عهد بها ولا توجد من قبل ولم يتكلم فيها الفقهاء من قبل.(8/627)
عمليات الاستثمار بالمزايدة:
لما كان الغرض من بيع المزايدة توفير الغنم للعارض فلا مانع من أن يعمد البنك الإسلامي في عرض مشروعه على المشاركين مزايدة على معنى أن يزيد بعضهم على بعض في النسبة التي يحصل عليها البنك من المشروع، هكذا تصوري للقضية.
النجش:
إذا كان القصد منه التغرير بالمشتري ليزيد في السلعة ويبلغ بها ثمنا أعلى من قيمتها فهو حرام بالإجماع، وإن كان للبلوغ بالسلعة المعروضة قيمتها فقد اختلف فيه الفقهاء والراجح الذي أطمئن إليه منعه لأنه خداع، وبينت آراء الحنفية في هذا وأنهم يرون وكذلك ابن العربي الذي يرى أن دخول شخص لتبلغ السلعة قيمتها إذا رأى أنها ستباع بدون قيمة؛ أنه عمل طيب، بل يرى ابن العربي أنه مأجور ويشمل النجش دخول طرف ثالث بالتواطؤ مع البائع أو بدون تواطؤ، ومنه ما تقوم به وسائل الإعلام في التنويه بالسلعة وكتمان نقائصها وعرضها عرضا مغريا بالدخول في المزايدة، فهذه كلها اعتبرها أنا أنها من أنواع النجش.
هذا ملخص البحث كما قدمته وكما هو موجود بين أيديكم، بقي أنه عندما أقوم بمقارنة بين ما كتبته وبين ما تفضل به أخي الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان.
أولا: الدكتور أبو سليمان أفاض القول في الإجراءات المتبعة الآن بالبيع بالمزايدة الذي تركته أنا. وتعرض في ذلك فقط إلى بيع المزايدة في المملكة العربية السعودية وتتبع القوانين وتواريخها والإجراءات وكيف تتم، فعلا بالنسبة للتفصيلات ما ذكرت منها إلا ما كان متصلا ببيع المزايدة، أما ما كان عاما فلم أتعرض له، سيادة الدكتور أبو سليمان تعرض للدلال وكذلك الإعلان بالصحف وكذلك إلى آخره، من القضايا التي توسع فيها ولم أتوسع فيها أنا باعتبار أني رأيت أنها تعود إلى قواعد فقهية عامة. في الصور الحديثة للنجش الشائعة لبيع الرجل على بيع أخيه يقول فضيلة الدكتور أبو سليمان ويمثل ظاهرة اجتماعية سيئة بين التجار عندما يعرف البعض بوكالة بيع بعض البضاعة، أتعلمون ما يتحدث فيه فعلا؟ أنا ذكرت القضية هي أنه يتحدث الدكتور أبو سليمان في صور النجش في النيابة إذا كان الشخص ينوب عن شركة من الشركات ليتولى البيع عنها فيأتي شخص آخر إلى تلك الشركة ويعرض عليها أنه يبيع لها بأخفض من النسبة التي يأخذها الآخر، فهذه ذكر أنها مما يتنافي مع مبادئ الشريعة، ثم تحدث عن الشخص الموجود في المعروض وفي نجش التقليد.
هذا ملخص عام لما اطلعت عليه من بحث زميلي ومن ملخص بحثي، وشكرا لكم على حسن الاستماع.
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته(8/628)
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد الشكر للباحثين، استوقفتنا ملاحظة عجيبة أن الباحثين مرّا بموضوع ولم يقفا عنده، وهو في قول من قصر صحة بيع النجش على الغنائم والمواريث لحكمة، لم لم يتوقف أمامها الباحثان؟ هذا واحد، أمر آخر تحرير مذهب فقهاء الحنفية، الحقيقة هو ليس في مستوى الفقيهان في إباحة هذا العقد وإليكم العبارات.
عبارات الأحناف: أولا: ما قاله أبو الحسن علي بن أبي بكر المرغناني، أورد ذكر هذا العقد في مساق البيوع المنهي عنها حيث قال: ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش - أو النجش برواية – وعن السوم على سوم غيره، وعن تلقي الجلب، وعن بيع الحاضر للبادي وكل ذلك يكره ولا يقصد به البيع، ولا بأس ببيع من يزيد، هذه من بحث الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان؛ إذن هنا المناسبة للبيوع المنهي عنها، هو ألحق بها بيعا لقوله لا بأس، وكلمة لا بأس عند فقهاء الحنفية ما كان تركه أولى، هذا شيء متفق عليه، أمر آخر في لو تنزلنا تاريخيا نجد عند صاحب الكلف؟ الكنز وشارحه يقول: وكذا السوم إنما يكره فيما إذا جنح قلب البائع إلى البيع بالثمن الذي سماه المشتري أما إذا لم يجنح قلبه ولم يرضه فلا بأس لغيره أن يشتريه بأزيد، إذن ليس الإطلاق ولكن هنا قال: علقها على ميل القلب هكذا أما إذا لم يجنح قلبه فلا بأس لغيره أن يشتريه بأزيد لأن هذا بيع من يزيد، وقال أنس وأتي بالحديث والأمر العجيب لم يتركوا الحديث هكذا بل قال أنس: إنه عليه الصلاة والسلام باع قدحا وحلسا في من يزيد – رواه أحمد والترمذي، والتعليق: ولأنه بيع الفقراء والحاجة ماسة إليه كأن هنا أمرين يفرزان قناة هذا الأمر، ثم يتنزل إلى قول الكاساني والعبارة هنا عنده يقول: فإن كان لم يجنح فلا بأس للثاني أن يشتريه لأن هذا ليس سوما على سوم أخيه، ولا يدخل تحت النهي بل هو بيع من يزيد وأنه ليس بمكروه.
تأملوا كيف العبارة بدأت تتغير وأنه ليس بمكروه؛ لم؟ علل لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع قدحا وحلسا له ببيع من يزيد، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيع بيعا مكروها، إذن وكأن الشارح بهذا توقف أمام الحديث فهو ما بين أمرين؛ ما بين الحديث الذي ثبت وما بين الرضا الذي تشوبه شائبة في هذا البيع فيحرم. وشكرا.
والسلام عليكم
الشيخ محمد الشيباني:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أشكر الباحثين العارض وزملاءه، الحقيقة أن بيع المزايدة بمعناه الصحيح هو بيع صحيح عند جميع العلماء، والذي أعلق عليه ولا أريد أن أرجع إلى الوراء، هو أن العربان أو العربون الذي يقبله عارض السلع أنه يختلف عن ما قال الإمام أحمد، الإمام أحمد رحمه الله جعل البيع بين اثنين فقط، أما هذه الشركات أو المؤسسات التي تعرض سلعها للبيع فإن العربون قد يصل أصحابه إلى مائة فمع أي هؤلاء نتعاقد معه.
أنا أريد أن أقول هذا للأمانة، أرى أننا إما أن نقول مصيبة عمت بها البلوى ولا ننسب ذلك للإمام أحمد رحمه الله، الإمام أحمد رحمه الله جعل الأمر بين اثنين فقط، بائع ومشتر، وإن المشتري له الخيار فيما بعد، نحن الآن قبل أن يكون البائع له الخيار قبل هذا إذا كان البيع وقع لا يجوز البيع الآخر وإذا كان لم يقع لا يجوز لآخر وآخر، فقط، أنا أريد أن أنبه إلى السبب الذي نتكلم فيه هو اقتران بيع المزايدة بالعربون وهو أصبح اليوم سائدا في كثير من البلاد، أرجو أن تتأملوا هذا الموضوع ولا تنسبوا للعلم إلا ما هو الحق.
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته(8/629)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
لعل تسمية بيع المزايدة يوضحها ما عليه تسميات القانونيين أن هذا البيع معروف باسم البيع بالمزاد العلني، وهذا النوع من التعاقد سليم من الناحية الشرعية والفقهية وفيه مراعاة لحوائج الناس المتعددة، بل هو طريق لإرخاص السلع خصوصا عن الناس الذين لا يعرفون الأسعار فيدخلون في هذه المناقصات، في النهاية يستقر البيع على الذي زاد أخيرا، فالذي يرسو عليه المزاد وهو دون أن يكون هناك محاولة زيادة من الآخرين بشرط أن تكون زيادة جدية لا نجش فيها، خلافا لما يعمل بعض هؤلاء من ما رأيته بعيني في سوق الموسكى بمصر؛ يحضر اثنين أو ثلاثة الشركة أو المحل التجاري يزيدون وهميا لإيقاع الآخرين في الغرر، وما رايته بعيني في النهاية عندما يرسو المزاد على المستأجرين يمرر القماش من الجانب الآخر ويدخلها إلى المحل الأصلي ثم يعاد عرض هذا القماش مرة أخرى ولأناس آخرين فوقفت حوالي نصف ساعة أو أكثر ثم أعيدت نفس السلعة وهؤلاء المستأجرون يقومون بالزيادة الوهمية لتغرير الآخرين، فإذا كان هناك جدية في الأمر ثم رسا الثمن على واحد منهم دون إشكال فالبيع جائز، وقد نص الفقهاء على أنه جائز عند جمهور الفقهاء، ما عدا زين العابدين بن علي بن الحسين فهذا لم يجزه مما يدل على أن بقية الفقهاء أجازوه، وأما ما ذكره الأخ الشيخ خليل أن الحنفية يعبرون أحيانا لا بأس به ويريدون بذلك أن هذا خلاف الأولى فهذا ليس في كل الأحوال، هذا الإطلاق ليس مرادا عندهم في كل الأحوال، وإنما هذا تعبير بالجواز والإباحة، خصوصا وأن الحديث واضح بيع النبي صلى الله قد باع قدحا وحلسا ثم قال: من يزيد؟ قال: علي درهمان، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال لهِ: خذ هذا الدرهم واشتر به لأهلك. وأن الآخر اشترى به قدوما وبارك الله له في صفقته.
فالأدلة واضحة ولا أدري ما الحاجة الشديدة إلى هذه الإطالة في البحوث إلا أن يكون هناك محاولة تغطية لأوضاع جزئية، خصوصًا وأن القضية قضية دفتر الشروط ودفتر الشروط ينبغي أن يكون بثمن ودائما العارض والشركة والدولة تقول أن الذي يريد أن يشارك في هذه المناقصة عليه أن يدفع ثمن هذا الدفتر، ولماذا الشركة تخسر شيئا أنفقت عليه من الخبرة والمعلومات ثم يضيع الأمر ثم تطالب أيضا هذه الجهات التي تعرض بالمزاد العلني أن يكون هناك جدية في العرض أن يوضع عربون يأخذه في النهاية إذا لم يرس الثمن عليه، فلا أجد إشكالا في قضية إباحة هذا النوع من المبايعات وأن الفقهاء يصرحون ببيعه وجوازه، لذلك أن القضية أسهل من أن تثار فيها غبار في قضية مشهورة، وشكرا.
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
هذا الموضوع لم نجد شيئا نناقشه فيه، لأنه موضوع متفق عليه بين العلماء وبين الأئمة وأمره ولله الحمد واضح ولا زال المسلمون يتبايعوون بالمزايدة من أول الإسلام وحتى الآن، لأنه ما فيه شيء من غموض ولا في – والحمد لله – ما يوجب بحثه ونقاشه، أنا ارى لو كان بحث البيع بالمزايدة بأطرافه التي فيها إشكالات وفيها خلافات بين أهل العلم وهي أشياء مستجدة طرأت على المسلمين وغير المسلمين لو كان البحث اختصر على هذا يكون أفضل، ومن ذلك أولا يكون: كيف يتم البيع بواسطة الاتصالات الحديثة من الفاكس والتليفون والبرقية؟ متى ينعقد البيع ومتي ينتهي مجلس العقد؟ هذه أمور طرأت على الناس وأصبح الناس يتبايعون ويشترون بواسطة هذه الآلات الحديثة، وهو شيء طرأ على المسلمين وهم الآن لا يشترون ولا يبيعون إلا بواسطة هذه الأمور، وهذا نوع من أنواع بيع المزايدة، أي يجوز العقد، لو بحث هذا الأمر وأعطي حقه من البحث لكان من الأفضل.(8/630)
أيضا من النواحي التي - وإن كانت قديمة – إلا انها أيضا تستحق العناية، مثلا: البيع على بيع المسلم اختلف فيه العلماء، هل هو من البيع بالمزايدة؟ هل بعد أن ينعقد البيع؟ هل هو شرط باختيار المجلس؟ فيه خلافات بين أهل العلم، وكذلك خيار الشرط، النجش هل يصح معه البيع؟ ويكون للناجش أو صاحب السلعة الخيار أو لا يصح، بيع الغبن وما هو تحديد الغبن؟ من ذلك مثلا، خيار الشرط مدته وانتهاؤه، هذه كلها متعلقة ببيع المزايدة وكلها داخلة في البيوع وهي التي تحتاج إلى مثل هذه البحوث، أما مثلا أقول: من الأفضل أن يحدث تعديل في البحث ويؤجل إلى الدورة الآتية، لهذا، أما هذا فالحمد لله ما فيه شيء بين الأخوان ولا فيه شيء بين الأئمة ونحن استفدنا من هذه البحوث، استفدنا لأن المشايخ الذين كتبوا تعرضوا لأشياء مفيدة، استفدنا منها إنما هي أشياء واضحة ومقيدة والمسلمون يعملون فيها وليس فيها أي نوع من أنواع الإشكال. وشكرا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع الذي ذكره الشيخ عبد الله أحب أن أذكر على أنه سبق أن طرح في الدورة السادسة، وهو البيع بواسطة الآلات الحديثة، ولما لم يتوصل المجمع فيه إلى شيء أجل إلى وقت لاحق، فجمعًا بين الأمرين، لو رأيتم على أن يكون من موضوعات الدورة القادمة إن شاء الله تعالى هو البيع بالآلات الحديثة بأنواعها، قرار نهائي أنا أذكر فيها عددا من الفقرات لم يصدر فيها قرار، لكن من الأحسن أن يستحضر القرار وننظر فيه، لكن هنا في بحث الشيخ عبد الوهاب لعل أبرز نقطة في مسألة البيع بالمزايدة وهي ذكرها الشيخ المختار والشيخ عبد الوهاب هي مسألتان: الضمان المالي والضمان البنكي، بالنسبة للضمان البنكي أنا أحب أن أذكر الشيخ عبد الوهاب بأن المجمع قد أصدر فيه قرارا ولعله في الدورة الثالثة التي انعقدت في عمان أو في الدورة الرابعة، وتبقى قضية الضمان المالي حيث إن الضمان المالي من صورها أنه لا يرد في المزايدات الحكومية.
الشيخ محمد المختار السلامي:
لا يمكن أن يكون الضمان المالي لا يرد قد يكون المشاركون مائة.
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
فضيلة الرئيس، ممكن تسمح لي، الضمان ضمانات في المزايدات والمناقصات الحكومية ضمان ابتدائي أولي وهو من واحد إلى اثنين، هذا بمثابة العربون كل مساهم أو مزايد أو مناقص يدفع هذا الضمان ومن وقعت عليه المزايدة أو المناقصة يرد الضمان لجميع أهله، وهذا الذي وقعت عليه المزايدة أو المناقصة يطالب بضمان 5 %، 5 % هذه تحتسب من قيمة الشيء إذا وفى بجميع التزاماته وتحسب عليه إذا لم يلتزم، فالضمان الأولي مردود إلى أصحابه لإثبات جدية المزايدين والمناقصين، وهو مثال نموذجي عادل، هذا لضمان عدم دخول من في دخولهم إضرار بالمزايدة هذا واحد، وهو يعود إلى الجميع فيما إذا وقعت المزايدة أو المناقصة على شخص واحد يعود الضمان هذا لجميع أهله.
الرئيس:
شكرا، على كل، الشيخ مختار أو غيره له الحق في أن يقول كل ما يملك.(8/631)
الشيخ محمد المختار السلامي:
جرينا على قاعدة من أول هذا الاجتماع، والاجتماعات الأخرى أن يعرض العارض ما يريد أن يعرضه، أن يناقش المناقشون، أن يتولى العارض بيان النقاط الغامضة إثر ذلك للجميع، فما بالنا أصبحنا اليوم عند التدخلات، شخص يقول إنه لم يفهم شيئا، وآخر يرينا أنه زايد، يتكلم كل واحد بما يشاء، مع أنه لم تقع هناك زيادة، وأن القضية معروفة من جميع الفقهاء، وهو لم يطلع على البحوث، القضية فيها بحث علمي صحيح ودقيق وبدون دعوى ليس سهلا، فإذا كان عرضه عرضا سهلا فليس ذلك أنه ميسور حتى أصبح تافها. وشكرا.
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أولا: نشكر فضيلة المفتي شيخنا المختار السلامي على بحثه القيم وعرضه الطيب، جزاه الله خيرا، فالأخوان الباحثان أتيا بمسائل قديمة ومعاصرة ومسائل قانونية طيبة جدا وهي شاملة وكافية في نظري، عشت معها قبل ما تأتي وهنا قرأت أكثرها ففيها كثير من الأبحاث وكثير من القضايا الجيدة والممتازة وإن كان كما قال الشيخ المختار أنه لم يعرض كل الأشياء لأنه أراد أن يعرض معظم هذه الأشياء، أما البحثان فيغطيان ويزيدان فهو فعلا تتناسى حتى مع الاسم، البيع بالمزايدة أن فيها الزيادة وهذه القضية لا بد من الإشارة إليها والتنويه بها، قضية ثانية، حقيقة كنا نريد أن نقف عند بعض المسائل التي تناولها هذان البحثان ولكنها تحتاج للمناقشة لإصدار قرار، منها: قضية اشتراط البراءة من العيوب ولا سيما هذه القضية ملازمة لقضية البيع بالمزاد والمسألة خلافية كما أشار البحثان إلى ذلك وهل بإمكان المجمع الموقر إصدار قرار بهذه المسألة بعد المداولة والمناقشة التي لا بد أن توجه إلى هذه المسائل العملية، وليست المسائل الشكلية؟ هذه قضية، قضية أخرى مسألة فيما لو كانت أجرة السمسار نسبة مئوية كما هو الآن معهود مثلا 1 % أو5 % أو 10 % هذا معهود في كل المزادات أن السمسار أو الشركة، والآن أصبحت شركات تأخذ نسبة بالمائة، وهذه النسبة مجهولة نوعا ما، وإن النسبة أو الثمن لم يتحدد بعد وبالتالي هذه النسبة غير معلومة، وأنا حقيقة اطلعت على ابن عابدين فوجدت في حاشية الدر المختار عفوا رد المحتار يتكلم عن هذه المشكلة ويقول: ما دامت قد جرت به العادة والعرف فإن تحديد نسبة السمسار بـ 10 % حتى بهذه الصورة موجود في الجزء الثاني فإن هذه النسبة جائزة ويمكن هذه أن تعرض للمناقشة وليست للفتوى، هذه مسألة ثانية. المسألة الثالثة هي خطيرة جدا وهي قضية إعطاء خيار المشتري، لا شك كما قال الأساتذة الكرام أن الخيار خيار المجلس مسألة مختلف فيها والرِأي الراجح حسب نظرنا رأي الحنابلة والشافعية للحديث الصحيح، لكن في مقابل هذين الإمامين هناك إمامان آخران ذهبا إلى عدم الخيار.(8/632)
وفي قضية البيع بالمزاد، نحتاج أن لا يكون هناك خيار لأنه إذا وجد خيار المجلس انتهت فائدة المزاد، الآن رجل جالس وقائم وبعد ذلك يقول: يا أخي أنا مش عائز، طيب نعيد المزاد مرة أخرى وقد يقول المجلس: هذه المسألة لا بد أن تناقش. هل يعقد بالنسبة للمزاد لطبيعته كما يقولون بالنسبة للنواحي القانونية، يقال الإيجاب ملزم للطرفين اصبح خطرا بالنسبة للشخص الذي يعرف الإيجاب، مثل الإيجاب الذي يوجه للجماهير أصبح ملزما بهذا الإيجاب، كذلك الثاني يصبح ملزما به، فهل نقول بهذا الراي رغم أن هذا خلاف ما رجحناه في الكتب. فهذه المسألة تحتاج للمناقشة والمجلس الموقر مفروض يناقش هذه القضية، في نظرى مسألة بيع النجش فيما لو حدث نجش مثل ما أشار إليه بعض المتداخلين لو تم المزاد عن طريق النجش لا شك العلماء قالوا: أن البيع ينعقد أو أن البيع منعقد، لكن قالوا: يعطي لصاحبه الخيار، وربما هذا رأي وجيه لكنه أيضا معروض للمناقشة.
هذا ما أردت حقيقة أن أذكر أن هناك مسائل أخرى، فأرجو من الأخوة الأساتذة الكرام أن يوجهوا موضوعاتهم نحو هذه المسألة، والمسألة جزئية ولا نحتاج لمثل: نؤجلها أو غير ذلك، نعم بيع المزاد جائز بالاتفاق، ولكن نضع بعض الضوابط حتى لا يقع هناك بعض المحظورات، فيمنع مثلا النجش بعض الضوابط التي يراها السادة الكرام، ثم بعد ذلك يمكن أن نصدر بها قرارا، والله أعلم. وشكرا.
الدكتور/ إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
في الواقع عندما نناقش بعض البحوث أو نرد عليها ليس معنى هذا أن ننال منها أو من أصحابها، بل هذا دليل على عمق الدراسة واهتمام الباحث وقدرته، ولكن مهما بلغ الإنسان لا بد أن تكون هناك مسائل تفوقه يجب أن يذكر فيها هذه البحوث على قدرها وجلالتها واتساعها، أخرت بعض الأمور ربما هي تقيدت بالمطلوب منها ولكن هنالك أمور أخرى غير عقد البيع، مثلا عقد الايجار من العقود المستجدة الآن، تطرق لها الدكتور عبد الوهاب في بحثه عن المناقصات الحكومية وتأجير أملاك الحكومة في عقود الاستصناع وفي عقود أخرى، هل يمكن القياس عليها أو تطبيق نفس القواعد في بيع المزايدة، إذ كان ينبغي تناول هذه الأمور وخاصة هي الآن معمول بها وهناك قواعد وقوانين الدول كلها تنص على المناقصات في البيع وفي التأجير، كنا نود أن تشمل هذه البحوث الموضوعات المستجدة، وشكرا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(8/633)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
الشكر للأخوة الكرام الباحثين لبحوثهم القيمة، الواقع كنت أحب أن يكون مع هذا الموضوع موضوع آخر وهو المناقصات هناك اتصال بين الموضوعين. موضوع المناقصات فيه مشكلات كثيرة في المناقصة أحيانا يتعهد بتوريد أشياء خلال عام مثل طعام للجيش مثل أشياء كثيرة فالمشكلات هناك أكثر من مشكلات هذا الموضوع، ولذلك الموضوع هنا مر بسرعة لقلة مشكلاته وليس لعدم عمق أبحاثه، فلو ضم إليه موضوع المناقصات لكان هذا الموضوع أجل وبحث الاثنان معا لأنه هناك مشكلات كثيرة.
شيء آخر يعني هل يسمح بالمناقشة أم نترك المناقشة هناك نقطة، نريد اشتراط رسم للدخول في المزايدة، فالأمر هنالك متعلق بثمن كراسة الشروط كما عبر فضيلة الشيخ وهبة، وإنما هو رسم وهذا الرسم قد تنتج عنه مبالغ كبيرة جدا، وقد تلغى المناقصة لأنه يعلن فيها، ومن حق الشركة أو حق كذا رفض المناقصة بدون إبداء الأسباب فيقوم بعمل مزايدة ويجمع مبلغا كبيرا ثم انتهت المزايدة بغير أن ترسو على أحد، باي حق تأخذ هذه الشركة المبالغ التي حصلتها، هذه نقطة، أرجو في إصدار القرار أن نلاحظ هنا لو أن الأمر يتصل بثمن كراس الشروط فهذا لا مانع منه، أما إذا كان مجرد رسم ومن حق الشركة الرفض أو القبول وقد تلغي وتأخذ الشركة هذه المبالغ الكبيرة فبأي حق تأخذها؟ وشكرا.
الشيخ تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم
الواقع أنه كما ذكر الأخوة أن موضوع إباحة بيع المزايدة ليس موضوعا تختلف فيه الأنظار وإنما أجمع على جوازه الفقهاء، وما ذكره الشيخ خليل الميس من بعض العبارات الفقهية في الكتب الحنفية فإنها لا تنفي الجواز، والجواز ثابت وليس هناك مجال للاختلاف في هذا الموضوع ولكن هناك بعض الجزئيات التي جاءت من خلال المداولات يجب التنبه لها، منها ما ذكرت في كلام بعض الأخوة قبلي، والذي أريد أن أوضح، هي نقطة واحدة، قد جاء في خلال المداولات موضوع ضمان وموضوع الضمان هل يرد إلى العارضين أو لا يرد؟ فالواقع مما فهمت من هذه العملية أن هناك شيئين، الأول: رسوم الدخول، والثاني: العربون، فأما رسوم الدخول فهي لا ترد إلى أصحابها أبدا فمن شاء أن يشارك في هذه المزايدة فإنه يدفع بعض المبالغ كرسوم للدخول في هذه العملية، ولو رفض عرضه فإن هذه الرسوم لا ترد إليه بعد ذلك، أما العربون فقد اختلف فيه العمل في شتى البلاد، ففي بعض البلاد مبلغ العربون يرد إلى صاحبه إذا رفض عرضه، وإنما يرصد إذا وقع على عرضه البيع، أما إذا رفض العرض فهذا المبلغ يرد إليه ولكن في بعض البلاد وجدت في بعض اتفاقيات المزايدة وبعض النشرات التي صدرت من قبل أصحاب المزاد العلني فإنهم يشترطون مبالغ جسيمة كعربون، ويشترط في نفس ذلك الإعلان أن هذا المبلغ لا يرد إلى صاحبه أبدا ولو رفض عرضه. ومن الواجب علينا حين إصدار القرار أن ننص على هذا أن كل مبلغ يؤخذ قبل العرض يجب رده إذا لم يقبل ذلك العرض، هذه واحدة.(8/634)
والمسألة الثانية هي مسألة شرط البراءة من كل عيب كما تفضل به أخونا الدكتور محيى الدين حفظه الله، شرط البراءة من كل عيب، هذا الموضوع لو استبعدنا هذا الشرط بتاتا فربما لا تبقى أية فائدة في هذه المزايدات أو المناقصات والمزايدات خاصة وعندنا مخرج أن بعض الفقهاء ذهبوا إلى جواز شرط البراءة من كل عيب وفي الواقع عندما يشترط البائع البراءة من كل عيب، فإنه ينقل العهدة إلى المشتري أنه لا يدخل في هذه العملية إلا بعد تثبته بأن المبيع سيكون سليما، فهذا أرى أنه لا مانع منه في بيع المزايدة، والمسالة الثانية تتعلق بمذهب خيار المجلس، وكما تفضل به بعض الأخوة فإنه لو أثبتنا خيار المجلس هنا لذهبت فائدة المزايدة رأسا، وإني مع الأخوة الذين يرجحون حديث خيار المجلس وقد أثبتوا في كتاب شرح مسلم أن أدلة الجمهور في ذلك أقوى، ولكن مع ذلك ربما يكون هناك مخرج أضعه أمام أصحاب الفضيلة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أثبت خيار المجلس قال: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يختارا" ولقد فسر الشافعية كلمة أو يختار بأن إذا قال البائع فور إتمام البيع اختر فإن ذلك البيع يكون لازما حتى قبل انقضاء المجلس، فلو كان هذا الأمر مسبقا من قبل الإعلانات أن هذا البيع لا يكون فيه خيار المجلس، هل يدخل ذلك في مثل قول البائع اختر لم يقلها بعد تمام البيع ولكنه قال ذلك قبل تمامه. وحينئذ يكون هناك، مخرج لنفي خيار المجلس في هذه البيعة.
هذه نقاط ثلاث كنت أريد أن أنبه عليها والله سبحانه وتعالى أعلم. وشكرا.
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
شكرا سيدي الرئيس، أود أن أقول كما هو معروف لدى الفقهاء والأصوليين: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلا بد في البداية من تصور نظام المزايدات والمناقصات كما هو جار ومتبع في صوره الحديثة. ومعرفة ذلك من أصحاب الشأن وذوي الاختصاص وهذا ما حاولت أن أفعله وما حاولت أن أعرضه، والاستفهام عن كل نقطة نقطة هذا ما بينته في البحث فجعلت فصلا مستقلا للدراسة القانونية كما هو المنفذون له، وهذا ما جرى عرضه في فصل مستقل أيضا، ثم تكيف هذه الأمور على الأحكام الشرعية والفقهية، هذه النقطة الأولى وهي ما حاولت أن أفصلها وأعرضها عرضا مفصلا كما يفهمها المنفذون والقانونيون أولا. ثانيا: أن المجمع عرض بعض إشكالات ونقاط هي التي كانت تهم هذا المجمع ولذلك لا يمكن أن تدرس هذه الموضوعات منفصلة مستقلة عن إطارها الفقهي الكامل وهو بيع المزايدة، فالأساس هي تلك النقاط الأربع أو الست وحبذا لو كان النقاش ركز على هذا.(8/635)
النقطة الأولى: الإجراءات المتبعة في المزايدة في الوقت الحاضر، المزايدة في العصور الإسلامية كانت مشافهة وعلانية، الإجراءات المتبعة كتابيا وسريًّا وبغير الطرق المعروفة في الشرع الإسلامي، هذا أولا وهذا ما سأل عنه أو ما ضمنته ورقة العمل.
ثانيا: مدى صحة اشتراط الضمان البنكي، وهنا أود أن أذكر كما ذكرت في البيان السابق أن الضمان البنكي ضمانان، ضمان ابتدائي وضمان نهائي، الضمان الابتدائي كما هو معروف في البلاد العربية وما جرت به القوانين ومشى عليه المنفذون لذلك وبالاحتكاك والمناقشة مع المنفذين لهذا النوع على أن هذا الضمان الأولى يعود لأصحابه، فهو نموذج رفيع من بيع العربون وهذا باتفاق بين كافة المذاهب، الضمان الأخير الواقع، إنما هو ضمان لصحة التنفيذ، فإذا تم التنفيذ كاملا سيحتسب له ذلك من قيمة تلك المزايدة والمناقصة، ثالثا: هل من الصحيح شرعا إجراء عمليات الاستثمار مزايدة؟ المعروف لدينا أن المزايدة تجري في البيوع وفي الإيجارات، وبعد ذلك هل يمكن لمثل هذا النوع من العقود أن يسري على كافة بقية أنواع المعاملات؟ الواقع أن بيع المزايدة هو ليس بيع مزايدة، أنا قلت عقد مزايدة لأن المزايدة هي هيئة وشكل لا أقل ولا أكثر، هذا الشكل وهذه الهيئة يمكن أن تنطبق على كثير من أنواع المعاملات ولا حرج في هذا، وهذا ما ذكرته.
إذن النقطة التي عرضها المجمع وهي هل يصح إجراء المزايدة في نسبة ربح المشاركة أو الشركات أم لا؟ وهذا ما تعرض له البحثان، بحث فضيلة العلامة الشيخ السلامي، كما تعرضت له أيضا، هذا الأمر الثالث،الأمر الرابع المعروف عن الصور الحديثة للنجش هذا أولا: ولكن أود أن أعلق على بعض هذه التعليقات، فضيلة الشيخ الميس يقول: أن هذه البحوث لم تذكر لماذا قصر بيع المزايدة على الغنائم والمواريث، أظن فضيلته لو تأمل البحث، وقراه قراءة تأملية سيجد الجواب في ثنايا البحث وهو ليس جوابي، أيضا جواب بقية العلماء الآخرين، فعملية اقتصار القائلين بأن بيع المزايدة خاص بالغنائم والمواريث وذلك لأن أكثر المتاع، كما جاء في النص، الغنائم والمواريث في ذلك الوقت، وهم بحاجة للبيع، من ذلك الجماعة الذين قالوا فقط في الغنائم والمواريث، والشيخ ابن العربي في عارضة الأحوذي ذكر أنه لا معني لتخصيص هذا بالغنائم والمواريث، هذا ما ذكره الشيخ ابن العربي، وهو عرض عرضا سريعا، بعد ذلك أورد بعض الاعتراضات في الحقيقة ما عرفتها، ماذا يقصد من ذلك. عرض كلام الأحناف في هذا وكان كلامهم صريحا فالواقع أن النصوص التي نقلتها من كتب معتمدة لم أخبط خبط عشواء من أي كتاب في المذاهب وإنما اعتمدت على كتب المذاهب المعتمدة في كل بحث ولم ألجأ إلى كتاب غير معتمد إلا إذا وجدت فيه معلومة أخرى غير موجودة في تلك، موضوع أنه لا بد من ضم المناقصات إلى المزايدات.(8/636)
المناقصة والمزايدة أحكامها القانونية واحدة لا تختلف وهذا مذكور في البحث وبالتفصيل، اقتران بيع المزايدة بالعربون على أنه نمط جديد وهو كلام فضيلة الشيخ الشيباني فأعتقد إذا صح في الإيجار وهي أهم العقود من باب أولي أن تصح، وهو لا زال بيع مزايدة، ولا زال إيجارة مزايدة فهو كما صح في البيع وصح في الإيجارة فإنه يصح في ما عد ذلك، متى ينتهي مجلس العقد أظن أننا ذكرنا أين ركن الإيجاب وأين ركن القبول، في موضوع بيع المزايدة أو عقد المزايدة وفي موضوع الغبن أيضا والفرق بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية في موضوع الإيجاب والقبول وظهر أن الشريعة الإسلامية هنا أكثر سماحة وأكثر مرونة وتتمشى تعاليمها في موضوع الإيجاب والقبول مع الغرض من هذا البيع، وكما سبق أن قلنا أن العلماء قديما كانوا يسمونه بيع الفقراء وبيع المساكين وبيع من كسدت بضاعته، ولكنه الآن يعتبر بيع الإدارات والمؤسسات الحكومية وبيع الأغنياء وليس بيع الفقراء، أيضا اشتراط البراءة من العيوب، أظن فضيلة الشيخ السلامي غطى هذا الموضوع تغطية وافية حتى أني أشعر بالقصور في بحثي من هذا الجانب أمام ما عرضه عرضا مستفيضا. ما يقال في أجرة السمسار بنسبة معينة أظن أني ذكرت هذا وذكر فضيلة الشيخ السلامي هذا عن موضوع أجرة السمسار وجعلنا له إعطاء الخيار للمشتري، الواقع هو ليس الخيار للمشتري في بيع المزايدة، الخيار للبائع وليس الخيار للمشتري لأنه إذا زاد فكان ذلك بمثابة الإيجار له فالخيار للبائع وليس للمشتري، وأظن هنا يتفق القانون مع الشريعة الإسلامية في هذا إذا رضي الثمن معنى ذلك قبولا منه، إذا لم يرض فهو لا زال في حاجة إلى زيادة، الموضوعات التي أوردتها أنا في الخلاصة، الحقيقة ذكرت أنا موضوع الضوابط والشروط الإدارية في عقد المزايدة في جملتها لا تتعارض ومبادئ الشريعة الإسلامية خصوصا ما اتصل منها بتحديد القدرات والكفاءات لزوم الإيجاب من قبل المزايد ومنح البائع فيه صفة القبول هذا أيضا، رسم الدخول، الواقع فهم الممارسين لهذا العمل، رسم الدخول قيمة الدفتر تختلف وليس ثابتة وليس القيمة الدفترية وإنما تكاليف الخبرات والاستشارات، ولذلك نجد من مناقصة ومواصفة تختلف قيمة الدفتر عن الدفتر الآخر، الواقع أن من رست عليه المناقصة أو من رست عليه المزايدة هو المستفيد، فإذا كان رسم الدخول هذا الهيئات التي تصدر دفتر رسم الدخول هي تريد أن تستعيد قيمة تلك الخبرات والاستشارات عن طريق فرض قيمة معينة لذلك الدفتر، ومن خلال البيع تستعيد أجرة تلك الاستشارات والخبرات وليست القيمة على قدر الصغر أو الكبر وليست القيمة محددة وإنما على قدر قيمة الخبرات والأموال التي أنفقت في تلك الخبرات والاستشارات فهي تريد أن تجمع من قيمة هذا الدفتر ما أنفقته في تلك الرسوم.
فحينئذ الشخص المستفيد هو الذي رست عليه المناقصة أو المزايدة، فالمفروض أن يدفعها هو ويحتسبها من قيم المناقصة أو من قيمة المزايدة، أما الآخرون الذين دخلوا على أمل أن ترسو عليه المزايدة أو المناقصة ولم ترس عليهم فبأي حق يدفعون ذلك، إذا كان قيمة الدفتر ألف ريال أو ثلاثة آلاف ريال بينما هو لا يتجاوز الثلاثين أو الأربعين صفقة وتريد أن تجمع العطاء حينئذ دفع مالا بغير حق، أو أخذ منه مال بغير حق؛ إذن في هذه الحالة الذي يتحمل مصاريف هذا الدفتر أو هذه الخبرات والاستشارات واحد من الاثنين، إما الشخص الذي رسا عليه العطاء وهو سيحتسب هذا من قيمة المناقصة أو المزايدة، أو المؤسسة أو الإدارة التي أنفقت على ذلك هي التي تتكلف بهذا، وهي أيضا تحتسبها من قيمة العطاء، إذن الأشخاص الآخرين المتزايدين في هذا أخذ قيمة الدفتر منهم بهذا الغلاء وبهذا الثمن أخذ بغير حق، وهذا هو الذي توصلت إليه. وشكرا.(8/637)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أولا: أشكر الإخوة الأفاضل الذين قاموا بإعداد هذه البحوث القيمة، كما أشكر فضيلة الشيخ المفتي جزاه الله خيرا على عرضه المختصر والجامع، في الواقع عندي جزئيات أحببت أن أشارك في إبداء رأيي فيها، هذه الجزئيات أولا ما يتعلق بوثائق المبيع وهو ما يسمى بدفتر الشروط، في الواقع لا أرى ما يمنع من بيعه وعندئذ تكون قيمته تجميعا لما خسر عليه أو ما أنفق على تهيئته، وإن كانت لما قيمته لا تساوي مائة ريال مثلا، ويباع بألف ريال فالغرض من ذلك هو ألا يدخل في المزايدة من يريد أن يضيع فرصة انتهاء هذه المزايدة بما يرسو عليه، لأنه قد يدخل فيها من ليس لها أهل ثم بعد أن ترسو عليه المزايدة يكون عنده شيء من المكور أو عدم الجدية، ومعني ذلك أن تضيع الفرصة ثم يرجع إلى الذي يليه فيقول ذهب الأمر لست موكلا أو لست ملزما إلا حينما كانت كلمتي معروضة عليكم فهكذا فتضيع الفرصة، فأرى أن أخذ قيمة ومرتفعة نسبيا عن تكاليفها الدفترية قد يكون هذا من المصلحة المعتبرة.
الأمر الثاني: ما يتعلق بالدعاية على البضاعة، في الدعاية على البضاعة إذا كانت صادقة وليس فيها تضليل وإنما كل ما يقال من محامد في هذه البضاعة صحيح، فما الذي يمنع من اعتبار هذه الدعاية؟ نعم لو صار فيها تضليل صار فيها كذب وتزوير لا شك أن هذا كله ممنوع. أما إذا كانت صادقة فذكر محامدها ولم يذكر عيوبها، فالبضاعة أمامه معروضة، يستطيع أن يرى ما فيها من المساوئ، والمحامد ذكرها صاحبها، كذلك ما يتعلق بأخذ الضمان رأيت أو سمعت من بعض الأخوة الخلط بين هذا الضمان والعربون واعتبارها نوعًا من العربون وليس كذلك، وأنا أثني على ما ذكره الشيخ الشيباني بأن هذا ليس من العربون في شيء وإنما هو ضمان بجدية الدخول في المزايدة فمتى تم إرساء هذه المزايدة على أحد المزايدين وتعين إرجاع هذا الضمان على الآخرين الذين لم يتم إرساء هذه المزايدة عليهم، وهذا هو العدل، أما أن يأخذ هذه الضمانات صاحب البضاعة فهذا يعتبر من الظلم ومن أكل أموال الناس بالباطل، وإنما أخذ هذا الضمان هو في قوة حماية هذه المزايدة من أن يدخلها من ليس لها أهلا أو من ليس جادا فيها.(8/638)
كذلك أثني على ما ذكره فضيلة الشيخ عبد الله البسام من أن الموضع في الواقع أولا، أنا لا أهون من أمر البحثين الذين قدما لنا فهي بحوث ذات قيمة وأشارت إلى مسائل لها اعتبارها وقيمتها، لكن المزايدة في حد ذاتها ليست من الأهمية بمكان يجعلها في صدارة ما ينبغي أن نبحثه من المواضيع التي نحن في أمس الحاجة إلى بحثها، فالمزايدة إذا تمت هي في الواقع وليس فهيا غرر ولا جهالة ولا استرسال لأنها مزايدة أمام مجموعة كبيرة، نعم، إذا تبين لمن رست عليه أن هناك ناجشين فله حق الدعوى بهذا العيب، وله حق مقاضاة صاحب البضاعة التي باعها عليه بطريق النجش، كذلك لو تبين فيها من العيب ما تبين فله حق التقاضي عند القضاء في حال عدم الوصول إلى حل يرضيه فيما بينه وبين مالك البضاعة، كذلك ما يتعلق بالخيار ولا شك أن خيار المجلس وإن وقف منه من وقف من أئمتنا الأفاضل في القديم والحديث، فهو كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإمام مالك رحمة الله عليه روى في موطأه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) فلا شك أن خيار المجلس ثابت بنص صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن فيما يتعلق بالمزايدة هل يمكن أن يدخل خيار المجلس في المزايدة، في الواقع رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى المزايدة في القدح والحلس ولم يثبت لمن باعه هاتين السلعتين، لم يثبت له الخيار، إذن ممكن أن يكون البيع بالمزايدة مخصصا بعموم خيار المجلس بمعنى أنه لا خيار لمن اشترى عن طريق البيع بالمزايدة، لأنه حينما يختار الرد فمعني ذلك أن يفوت هذه الفرصة التي قد توجد المشقة في إعادتها مرة ثانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا ضرر ولا ضرار)) ولنا من فعله صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة، كذلك القول بأن المزايدة في البيع وهذا ما تفضل به فضيلة الدكتور عبد الوهاب قد تطورت عما كانت عليه في العصور السابقة فصارت الآن لها نوع تنظيم وكذا، فهذا ليس على إطلاقه فنحن نرى ونشاهد في مجموعة كبيرة من بلدان العالم أسواق مزايدة شفهية وما أكثرها من الأموال المنقولة والثابتة، الحيوانات، السيارات، الآلات وغير ذلك، ففي أسواق مخصوصة بالمزايدات فإذن حقيقة هناك مزايدات محكمة بطريق منظمة وهناك مزايدات بطريقة مكشوفة وكذلك ليس فيها كلفة وليس فيها شيء من التعقيد، ما يتعلق بالبيوع، والقول بأن يكون هذا الموضوع مضموما إليه – الذي هو المزايدة – المناقصة، في الواقع لا يتصور بيوع بالمناقصة وإنما البيوع كلها بالمزايدة، وأما المناقصة فهي خاصة بالمقاولات وما يتعلق بهذا، نعم، إن قيل أن المقاولات نوع من البيوع فيمكن أن يكون هذا على سبيل التجوز لكن في الواقع المزايدات لها وضع والبيوع دائما وأبدا لا تكون إلا بمزايدات وأما المقاولات على كل حال لها وضع آخر، وشكرا للجميع ولسماحة الرئيس والسلام عليكم.(8/639)
الشيخ علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا سيدي الرئيس، هناك نقطتان فقط أريد أن أطرحهما وعندي اقتراح بعدهما، النقطة الأولى: مسألة عموم مشروعية المزايدة بالعقود، اعتقد أن المزايدة حتى لو لم تصلنا هذه النصوص المجوزة لها فهي منسجمة مع القواعد العامة، وما دام الإبرام يتم عند العرض الأخير، أكرر أقول في مسألة تعميم حكم مشروعية المزايدة بكل العقود الذي أعتقده أن المزايدة هي طبق القواعد العامة وطبق الشروط العامة، فحتى لو لم نكن نملك هذه النصوص المجوزة لقلنا بصحة المزايدة ما دامت كل هذه الأمور مقدمات إلى العرض الأخير حيث يتم العقد ويتم ربط الإيجاب بالقبول في العرض الأخير الزايد أو الناقص في المناقصات فهذا عقد منسجم مع القواعد العامة ومن هنا نستطيع أن نعمم مثل هذا الموضوع بمختلف العقود بلا حاجة حتى إلى القياس بأن نقيس باقي العقود على هذا المورد الذي صرحت به النصوص، والنقطة الأخرى التي أود أن أشير لها هي مسألة خيار المجلس الذي أشار الشيخ المنيع. يعني هذه النصوص التي تحدثت عن عمل الرسول عليه الصلاة والسلام لم تقل أن الرسول نفى خيار المجلس حتى يمكن أن تكون هذه النصوص مخصصة لعموم خيار المجلس للبيعتين والمتعاقدين إذا عممنا، فالعموم باق على حاله، الرسول ما قال إنه أسقط حق الخيار في هذه العين عمل هذا العمل دون أن نعلم أنه أسقط حق الخيار حتى تخصص عموم خيار المجلس، فخيار المجلس باق على حاله، ولا يمكننا تخصيصه بمثل هذا النص.
في ختام هذه الإشارة أعتقد أن النقاش قد أعطي الموضوع حقه بمقدار ما يستحق، وأعتقد أننا لو شكلنا لجنة لتراجع هذه الأمور، هو أصل الموضوع ثابت فهذه الأمور المرتبطة والفرعية يمكنها أن تصاغ في هذه اللجنة، وحبذا لو لم تدم المناقشة لأن الموضوع يكاد يكون واضحا وشكرا.(8/640)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
نستأنف الجلسة والكلمة للشيخ أحمد الكبيسي.
الشيخ أحمد الكبيسي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
في البداية، أود أن أشكر المجمع الموقر حيث قبلني عضوا منتدبا فيه أشارك في جلساته لأول مرة، أرجو أن تكون لي من خلال هذه المشاركة خبرة أستطيع بها المساهمة الجادة في أعماله في المستقبل إن شاء الله، لا أعتقد أن الباحث بحاجة إلى الدفاع عن جدوى بحثه أمام السادة أصحاب الفضيلة العلماء حيث لم يبادر بالبحث بنفسه بل كلف من قبل المجمع الموقر، والمجمع هو الذي وضع مفردات البحث، فإذا كان هناك نقد على بحث موضوع فليكن لمن كلف به لا لمن كلف، كما نرجو أن نخرج بتوصية وقرار بيع المزايدة حيث تضمن بحوثه جزئيات ومسائل هامة، وأمتنا الإسلامية بحاجة إلى أي جهد في هذا السبيل وهي تنتظر أي ثمرة من المجمع الكريم. وشكرا.(8/641)
الشيخ المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
وصلا للحديث الذي بدأت به والذي تخلل كلامي الأول وكلامي الآخر، المناقشات الكريمة التي تفضل بها الإخوان والتي معظمها تدل على الاهتمام، أثار فضيلة الشيخ المفتي خليل الميس أنه لا بد من تخريج وبيان هذه الأقوال، ولماذا قصر ذلك على الغنائم والمواريث؟ وإن هذه النقطة لا بد أن تبين وأن توضح، وفي هذه النقطة قد أعذر الشيخ خليل أنه لم يجد الوقت الكافي للرجوع إلى البحث ولو رجع إليه لوجد في ثناياه سند الأقوال، التحليل مطلقا أولا، ثم الجواز في بيع الغنائم والمواريث، أولا: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحدكم على بيع أحد حتى يذر إلا الغنائم والمواريث وعلق ابن حجر على هذا الحديث فقال: كأنه خرج على الغالب فيما يعتاد فيه بيع المزايدة وهي الغنائم والمواريث، وقلت: يعني ابن حجر بكلامه هذا أن الحديث تضمن أمرين نهيا عن تسلط المؤمن على أخيه المؤمن عند رضا المتبايعين وقبل إنجازه، وإذنا في بيع المزايدة إلا أنه عبر عن بيع المزايدة بما يجري فيه غالبا؛ على أن في سند هذا الحديث مقالا. ثانيا: الأثر الذي رواه البخاري إثر عنوان باب بيع المزايدة قال وقال عطاء: أدركت الناس لا يرون بأسا ببيع الغنائم في من يزيد، قال في الفتح: وصله ابن أبي شيبة، وروى هو وسعيد بن منصور عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد، وكذلك كانت تباع الأخماس، ولا حجة في ذلك؛ لأن أثر مجاهد لم يخص بيع من يزيد بشيء وإنما قال: ولا باس به، ثم أكد الجواز ببيع الأخماس بالمزايدة، ولا دليل في هذا على عدم جوازه في غير ذلك، وكذلك أثر عطاء. ثم تعرض لقضية النجش، وقضية النجش سأتعرض لها مع الشيخ وهبة الزحيلي وستسمع، الشيخ الشيباني، تفضل البيع أو أن هذا يرد من قبل العربون في بيع المزايدة أكثر من وضع، فقد يطلب البائع عربونا ممن رسا عليه زيادة إلا أن تتم إجراءات البيع، وإن تمت إجراءات البيع اعتبر ذلك من الثمن، وإن لم تتم إجراءات البيع فإنه يجري عن الكلام في بيع العربون مطلقا أكان ذلك في البيع بالمزايدة أم في غيره من أنواع البيوع، فهذا هو الذي تحدثنا عنه.(8/642)
الشيخ وهبة الزحيلي تفضل وقال: إن هذا النوع سليم، وبشرط وجود عدم النجش ولا بد من التنبيه على هذا، فقد قلنا في البحث حكم العقد الذي وقع فيه نجش إذا اطلع المشتري على أنه قد خدع بناجش فقد اختلف الفقهاء فيما يترتب على ذلك. أولا: أن البيع باطل وإليه ذهب أحمد واختاره أبو بكر لأن النهي يقتضي الفساد. ثانيا: أن العقد صحيح ولا خيار للمشتري لأنه فرط وكان عليه أن يتحوط قبل العقد ويسأل أن كان غير خبير بالقيم. قال: قال ابن نجيم أن بيع النجش منهي عنه لمجاور فكراهته كراهة التحريم مع الصحة، وقال في المغني: والأصح أنه لا خيار للمشتري في تفريطه حيث لم يتأمل، ولم يراجع أهل الخبرة، والثاني له الخيار في التدليس كالتصريح، ومحل الخلاف عند مواطأة البائع بالناجش، وإلا فلا خيار جزما، تفصيلات واضحة ودقيقة ومبين المراجع فيها في الأسفل، فالشيخ عبد الله البسام يقول: أن هذا الموضوع لا نقاش فيه لأنه واضح والأولى أن لا يبحث، أولا: ما قسمه الله للناس مختلف، فإذا كان هو قد قسم له رب العزة ما كان هذا البحث الذي أمضيت فيه أكثر من شهر بحثا وتنقيبا مضافا إلى ذلك ما عندي من قبل من مدخر، إذا كان هو يراه أمرا سهلا فهذا فتح من الله إنه يفتح على من يشاء، ثانيا: إن هذا الموضوع لم أختره أنا لأقدمه ولم تختره أمانة المجمع فقط، ولكن المجمع يسير على قانون، وهذا القانون هو أن المجمع له لجانه الخاصة التي جاءت به، ومن اللجان لجنة التخطيط التي تنظر في المواضيع التي يبحث فيها وتحيل مجموعة من المواضيع على الأمانة لتتولى الأمانة إنجاز تلك المواضيع التي وردت إليها من لجنة التخطيط، والأمر من الأمانة بالاشتراط مع الرئاسة، تختار في كل مرة من المرات مجموعة من القضايا وتستكتب فيها من تشاء، فأعتقد أنه إذا كان هناك نظرة جديدة في طريقة تركيب المجلس وسيره فلا يقدم هذا في بيع المزايدة، ولكن يقدم كطريقة جديدة لم تبحث في أصل تركيب المجلس وفي طرق تسييره، كما أنه تمني لو وقع الاختصار على الأشياء المختلف فيها، في الحقيقة أعتقد أن فضيلة الشيخ البسام لم يطلع على الموضوع وما استمعتم إليه وهي بعض أسطر تدل على أنها أشياء مختلف فيها اختلافات، وهناك رجوع إلى النصوص الأصلية من الكتاب والسنة ثم محاولة التعمق في النص ثم ترجيح أحد المحامل على المحامل الأخرى، فبالنسبة لي القضية ليست ممن السهولة بمكان وتطلب مني، كما قلت أكثر من شهر في الأوقات التي كان عندي فيها فراغ، فضيلة الشيخ القره داغي جزاه الله خيرا تعرض إلى اشتراط براءة العيوب، اشتراط براءة العيوب هذه أتخمته بحثا لكن تعرض إلى نسبة أجرة السمسار وما حكمها إذا كانت نسبة وأجرة السمسار إذا كانت نسبة ما تعرضت لها لأن حكمها معلوم فهي جائزة عند الحنابلة والحنفية، ثم أثار قضية خيار المجلس أنا أسأل كل الحاضرين من منهم يعمل بخيار المجلس اليوم في الساحات الكبرى التي تبيع إذا دفعت الثمن وقبضه منك القابض أهناك خيار المجلس؟(8/643)
ولذلك مالك عندما روى الحديث هو رواه، وهنا لا يصح أن يقال: أن حديث رسول الله وقع هكذا، بإثارة كبرى حديث رسول الله على الرأس والعين ورواه مالك هو أمير المؤمنين بالحديث معلوم فضل مالك، ولا أريد أن أبين قيمته وأنتم تعلمون قيمة مالك أكثر مني، فمالك روى الحديث ثم قال: وليس لهذا عندنا حد معلوم، بمعني أن إجراء الحديث هو يوقع في جهالة كبرى التي جاءت نصوص يقينية ثم توافرت تلك النصوص فأصبح قاعدة من القواعد فهو ترك العمل به لأنه يقع في تناقض إذا ما عمل به غيره لم ير هذا التناقض فقال به وتعمق مالك في فهم الحديث وهو مما لا يذكر به. فقضية خيار المجلس لا عمل به عندنا الآن في العالم الإسلامي ولا عمل به في عهد مالك في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمل به، ورأى بعضهم أنه إذا اتسع الحديث وأخذ به وهي قضية أشبعت بحثا في كتب الخلاف ولكل رأيه ولا يمكن أن نحتج برأي على رأي آخر، والقضية ليست في رد الحديث ولكن في حمل الحديث على محامله.
بيع النجش: البيع على النجش ورد في البحث، وبينت وما زال أكثر ما قرأته في بيع النجش وماذا طرأ عند بيع النجش، الإجارة كما تحدث فيها الشيخ عبد الله، الإجارة هي بيع منافع وبيع المنافع يجري فيه ما يجري في بيع الأعيان، فضيلة الشيخ علي السالوس تمني لو أن هذا الموضوع موضوع آخر وهو المناقصة، التمني شيء لكن لم توافق لجنة التخطيط أن تجمع بينهما، والأمانة العامة هي أسيرة لجنة التخطيط وما تقدمه، وإذا بحث موضوع فلا يمنع هذا من بحث موضوع آخر، في مناسبة أخرى على أن قضية طعام الجيش وغيره، هذه من القضايا الكبرى التي وقع التعارض لها في السنة الماضية والتي اتخذ فيها قرار وكنت أنا غير موافق حتى آخر لحظة؛ لأن المناقصات التي تجري في مثل هذه البيوع، إما لطعام الجيش أو لكسوة الجيش والتي هي من نوع بيع السلم والتي في السلم لا بد من اشتراط دفع الثمن كاملا، والذي لا تطبقه أي دولة من الدول ولا تستطيع ذلك، وقد أثرت هذه القضية ولم يؤخذ برأيي، فهذه القضية أخذ فيها المجمع قراره من السنة الماضية وانتهينا.(8/644)
فضيلة الشيخ تقي العثماني يتحدث عن رسوم الدخول، ورسوم الدخول حسب ما رجعت إلى أهل الخبرة قالوا لي: هذه الرسوم لا يجوز هذه الرسوم الدخولية؛ ولكن هي ما يريده صاحب السلعة الذي عرض المتاع للبيع بالمزايدة من الشركات ومن الدولة. يريد جدية المشتري في أنه اطلع على جميع شروطه فيكتب الكراس، هو لا يستطيع أن يقدر ثمن الخدمات كما قال أخونا الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان: لا؛ لأن الخدمات والبحوث وقعت من موظفين موجودين في الدولة، الموظفون المكلفون بالبيع هم يدرسون القضية من كل جوانبها ويضعون كراسة الشروط ووقوع ذلك على مرتباتهم موقع شيء كبير، فكراس الشروط ليس المقصود منها جمع النفقات ولكن في الحقيقة بيع أوراق لاطمئنان الدولة أو الشركات الكبرى على أن من يدخل المزايدة يعلم كل شروطها وكل مواصفاتها حتى لا يقع بعد ذلك في مشاكل، فهذه هي سببها؛ فما ذكره الشيخ تقي الدين العثماني جزاه الله خيرا، من أنه اطلع على أن هناك رسوما كبيرة قد تكون تقع هذا، لكن أن الواقع ينفيه أن من يريد أن يقوم ببيع المزايدة يرغب في أكثر من مزايد لا في أقل من مزايد فلو وضع معوقات برفع ثمن كراسة الشروط لما أقدم الناس على ذلك. فاشتراط مبالغ جسيمة قد يصد الناس.(8/645)
شروط البراءة من كل عيب، هذا تحدثت عنه في البحث، وبينت فيه كل ما وقع في يدي من أقوال الفقهاء ومن تفصيلاتهم، فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع تحدث عن الدعاية في البضاعة وأنها إذا كانت صادقة ما تحدثت أنا على الدعاية حتى أقول إنها محرمة ولكن أعود إلى ما ذكرته من أوجه النجش، أن التعريف الذي ارتضيناه هو أن بيع النجش هو الذي يدخل فيه طرف ثالث ليغري غيره بالشراء فيرتفع ثمن المبيع تبعا لتدخله، وهذا التدخل يشمل الزيادة ممن لا يرغب في الشراء كما يشمل مدح السلعة والتأثير على المشتري ليغريه بالشراء، وفي المجتمع الاستهلاكي أخذت أجهزة الإعلام تقوم بدور مؤثر للإقبال أكثر وأكثر على الاستهلاك، ثم التلاعب بعواطف الجماهير واستهتارهم وهذه الأساليب أن كانت صادقة كاشفة عن حقيقة المبيعات كان تأثيرها على عقلية الأفراد والشعوب تأثيرا سيئا إذ تجعلها مولعة بالإسراف، وما كان الإسراف إلا منهجا مفسدا لا يرضى عنه الدين: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 151 – 152] وأما إذا كانت كاذبة خادعة فهي من أنواع النجش الذي تحدثنا عنه إذ تخدع المشتري فيبذل في السلعة أفضل من قيمتها ولما كانت الدول الإسلامية تراقب أجهزة الإعلام فعليها أن تربط بتشريع واضح حدود الإعلام والدعوة والإقبال على الشراء والاستهلاك سواء أكان البيع بيع مزايدة أو غيره من أنواع البيوع. وما أظن أن المصلحة العامة لا بد من الحديث عنها. جاء في كلامه أنه يثني على ما ذكره الشيخ عبد الله البسام وأن المزايدة ليس من الأهمية للتحدث فيها ولا لبس فيها ولا استرسال، كلمة الاسترسال في البيع وكيف يتصور في بيع المزايدة بيع الاسترسال لا يمكن أن يتصور هذا، أظن أنه ساق إليه الكلام وهو يثني ويثني، وخيار المجلس كما قلت بينه العلماء واختلفوا فيه ولا وجه لأن ترجح كلمة أحدهم على الآخر ولا يكون انتساب الإنسان إلى مذهب محددا رأيه في طريقة واحدة، هذا ما أردت أن أضيفه إلى الكلمة التي لخصت بها موضوعي وموضوع إخواني، وشكرا للذين شاركوا في النقاش والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/646)
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا أعتذر من فضيلته أن يكون رأى مني شيئا من الخشونة، البحثان اللذان قدما يعني هو الواجب مني أن أقول أن أشكر صاحبيهما أولا على بحثيهما وأننا استفدنا منهما ثم بعد هذا إذا كان رأي صوابا أن هذه القضية ثبت أن بيع المزايدة أن المسألة والحمد لله حصل فيها الإجماع من العلماء إلا أنه لا تحتاج إلى كل هذه العناية وإنما أطرافها هي التي تبحث، هذه من ناحية أنا أعتذر إليك.
الأمر الثاني: أريد أن أعلق تعليقا بسيطا جدا إن شاء الله لو تحمل هو أو غيره نعم، لم نقصد به إلا الفائدة، والحديث حديث خيار المجلس، هذا رواه الإمام مالك، هو أول من رواه وقبل أن يرويه البخاري ومسلم ومعروف منزلة الإمام مالك رضي الله عنه، ولكن الإمام مالكا رضي الله عنه حين نحتج عليه لقوله هو نفسه يقول: كل يؤخذ عليه من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، فإذا وجدنا أن هذا الحديث صحيح والإمام مالك نفسه صححه على كل حال أظن ما نستطيع أن نقول: أن الرأي المخالف لهذا الحديث أن هذا هو الصواب، يعني ندع قول النبي صلى الله عليه وسلم ونأخذ قول عالم من العلماء، ما يمكن هذا، كما قال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، هذه ناحية، الناحية الثانية: أن خيار المجلس موجود في صدر الإسلام ليجزم في هذا البيع حتى يلزم نفسه بالعقد الذي أجراه؛ كل هذا محافظة على إتمام العقد لئلا يحصل خلاف في هذا. الأمر الثاني: أن البيع دائما يقع في حالات مباغتة وبحالات ما فيها تروّ ولا فيها تأن؛ لأن مع كثرة المداولة البائع والمشتري يقع منهما هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو المشرع الأعظم جعل له هذه الفرصة حتى يستدرك إذا كان أي البيع ما وافقه في نفس المجلس حتى أنه يترك له فسحة من الأمر، فهذا فائدته موجودة ولا يزال الآن معروفا خيار المجلس في هذا المكان يتبايعون ويشترون حتى أنهم يتفرقون وإذا تفرقوا لزم البيع وما دام في المجلس فلكل منهم فسحة ما لم يسقط أحدهم خياره أو يسقط كلا الطرفين الخيار، فهذا في رضاه، وبناء عليه فهو لله الحمد مسألة وقضية ثابتة بالنص الشرعي ومعمول بها في صدر الإسلام ولا يزال وفائدتها وثمرتها معروفة وموجودة، وأظن إن شاء الله ما فيها أي شيء. أما الإمام مالك فلا نقول فيه شيئا ولو لم يره، هذا رأيه ورأيه لا يؤنب عليه، كما أنب الإمام مالكا بعض المعاصرين في تركه الحديث وأخذه بهذا لكن نحن لا نقول هذا. الإمام مالك رضي الله عنه معروف المقام ومعروف علمه ومعروف أتباعه، فالإمام مالك جمع بين العلم والعقل فهو عالم وعاقل ولهذا لا يزال الناس يرددون كلامه، فأهل السنة والجماعة يرددون كلامه في الصفات وهو أول من سن الوقوف في صفات الله تعالى، الإمام مالك يقول: لا يصلح آخر هذا الأمر إلا ما صلح به أوله؛ والإمام مالك يقول: كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر؛ هذه كلمات جامعة نافعة لم يرو مثلها عن غير الإمام مالك رضي الله عنه، وكونه رضي الله عنه لم يأخذ بهذا الحديث فهذا عذره، ولكن مع هذا لا يمكن أن نطرح حديثا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أي واحد حتى ولو كان من الخلفاء الراشدين والخلفاء الراشدون نجد لهم قولا مخالفا، نقول: اختلفوا وشكرا.(8/647)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
في الواقع العنوان هو رسول البحث، فلو كان العنوان هو الجوانب المعاصرة في بيع المزايدة أو بيع المزايدة قديما وحديثا لتجلت فيه المسائل التي ركز عليها في المناقشة، وعلى كل إن شاء الله لعل لجنة الصياغة أو إعداد القرار سوف تتولى هذا وهو من العارض والمقرر والشيخ تقي، الشيخ وهبة، الشيخ علي السالوس، الشيخ القره داغي، مناسب. وبهذا ترفع الجلسة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(8/648)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 77 / 4 / 85
بشأن
عقد المزايدة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 – 27 يونيو 1993 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (عقد المزايدة) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
وحيث أن عقد المزايدة من العقود الشائعة في الوقت الحاضر، وقد صاحب تنفيذه في بعض الحالات تجاوزات دعت لضبط طريقة التعامل به ضبطا يحفظ حقوق المتعاقدين طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، كما اعتمدته المؤسسات والحكومات، وضبطته بتراتيب إدارية، ومن أجل بيان الأحكام الشرعية لهذا العقد.
قرر ما يلي:
1- عقد المزايدة: عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداء، أو كتابة للمشاركة في المزاد ويتم عند رضا البائع.
2- يتنوع عقد المزايدة بحسب موضوعه إلى بيع وإجارة وغير ذلك، وبحسب طبيعته إلى اختياري كالمزادات العادية بين الأفراد، وإلى إجباري كالمزادات التي يوجبها القضاء، وتحتاج إلى المؤسسات العامة والخاصة، والهيئات الحكومية والأفراد.
3- أن الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي، وتنظيم، وضوابط وشروط إدارية أو قانونية، يجب أن لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.(8/649)
4-طلب الضمان ممن يريد الدخول في المزايدة جائز شرعًا، ويجب أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه العطاء، ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز بالصفقة.
5- لا مانع شرعا من استيفاء رسم الدخول (قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) لكونه ثمنا له.
6- يجوز أن يعرض المصرف الإسلامي، أو غيره، مشاريع استثمارية ليحقق لنفسه نسبة أعلى من الربح، سواء أكان المستثمر عاملا في عقد مضاربة مع المصرف أم لا.
7- النجش حرام،ومن صوره:
أ – أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شراءها ليغري المشتري بالزيادة.
ب – أن يتظاهر من لا يريد الشراء بإعجابه بالسلعة وخبرته بها، ويمدحها ليغرّ المشتري فيرفع ثمنها.
ج- أن يدعي صاحب السلعة، أو الوكيل أو السمسار، إدعاء كاذبا أنه دفع فيها ثمنا معينا ليدلس على من يسوم.
د- ومن الصور الحديثة للنجش المحظورة شرعا اعتماد الوسائل السمعية، والمرئية، والمقروءة، التي تذكر أوصافا رفيعة لا تمثل الحقيقة، أو ترفع الثمن لتغرّ المشتري، وتحمله على التعاقد.
والله أعلم(8/650)
قواعد ومسائل
في
حوادث السير
إعداد
القاضي محمد تقي العثماني
القاضي بالمحكمة العليا بكراتشي
وعضو المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
قواعد ومسائل في حوادث المرور
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فإن موضوع "حوادث السير" من الموضوعات الفقهية التي تحتاج إلى دراسة متقنة ودقيقة، بالنظر إلى الظروف المعاصرة التي تنوعت فيها صور الحوادث وجزيئاتها، وكثرت واقعاتها للتوسع في استخدام الوسائل الجديدة السريعة السير، وبالرغم من قواعد المرور المنضبطة والمطبقة في أكثر البلاد.
وإن الشريعة الإسلامية التي تضمن العدل والسلامة في أحكامها لم تغفل هذا الجانب المهم، بل وضعت لها أصولا وقواعد نستطيع أن نعرف في ضوئها أحكام هذه الحوادث الجديدة. وإن فقهاءنا المتقدمين قد تحدثوا عن أحكام هذه الحوادث في ضوء القرآن والسنة في باب الديات، وذكروا فيه أصولا وفروعا تدل على مدى توسعهم في تصوير الحوادث وتعمقهم في الفرق بين حادثة وأخرى. والذي يبدو من دراسة المذاهب الفقهية المختلفة أن هذا الباب من الأحكام الفقهية من أقل ما وقع فيها الاختلاف بين الفقهاء. ويشاهد الباحث خلال دراسته لمختلف جزئياته في كتب المذاهب المختلفة أن جميعها قد خرجت من مشكاة واحدة، ونسجت على منوال واحد، والخلاف بينها في ذلك قليل.(8/651)
ولكن من الطبيعي أن العصر الذي دون فيه الفقهاء هذه المسائل لم يكن يعرف هذه المراكب السريعة من السيارات والقطر والطائرات وهذا النظام الجديد للمرور. ولذا فإنهم إنما تكلموا عن المراكب المعروفة في عهدهم من الدواب والعجلات والسفن ووسائل السير التي كانت تستخدم في البيئة التي يعيشون فيها. ولكن كلامهم المبني على مآخذ الشريعة الأصلية من القرآن والسنة والإجماع والقياس قد أوضح لنا أصولا عامة يمكن تطبيقها على كل ما وجد، أو سيوجد، من الوسائل الجديدة للسير. فمهمة الفقيه المعاصر اليوم هي أن يعرف هذه الأصول العامة ويطبقها على الحياة المعاصرة، مع الاعتناء بالفوارق في نظام السير الجديد التي تميزه عن النظام القديم، ويشرح جزيئاته على ذلك الأساس شرحا واضحا، ليتبين حكم كل جزئية من حوادث السير على حدة من غيرها.
وبما أن الموضوع لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث في كتابات العلماء المعاصرين، فإنه جدير بالاهتمام، وإن بحثي هذا يهدف إلى مساهمة متواضعة في الجهود التي يقوم بها مجمع الفقه الإسلامي لسد هذا الفراغ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني للحق والصواب، ويبعدني عن الزلل والخطل، وهو المستعان وعليه التكلان.(8/652)
الضرر وضمانه في الشريعة الإسلامية:
الأصل في الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز لأحد أن يفعل فعلا يضر بآخر، فإن أضر بفعله أحدًا، فالأصل أنه ضامن، إلا في حالات سيجيء تفصيلها وإن هذا الأصل ثابت بنصوص القرآن والسنة.
فأما القرآن الكريم، فأوضح ما يستدل به على ذلك قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 – 79] .
النفش: هو الرعي بالليل. وروى ابن جرير في تفسيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الحرث المذكور كان كرما قد أنبت عناقيده، فافسدته الغنم. فقضى داود عليه السلام بالغنم لصاحب الكرم، يعني قضى بتمليكه الغنم تعويضا عما أتلفه له، ونقل القرطبي في تفسيره أن سيدنا داود عليه السلام رأى قيمة الغنم تقارب قيمة الغلة التي أفسدت، وذهب سليمان عليه السلام إلى رأي آخر، فقال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها.
وقد أشارت الآية الكريمة إلى أنه قد اختلف نظر كل من داود وسليمان عليهما السلام في وجه الحكم في هذه القضية، دون أن يذكر القرآن الكريم تفصيل حكمهما، وقد صرح باستحسان رأي سليمان عليه السلام.
ويستفاد من التفاسير أن المقصود في رأي كل من داود وسليمان عليهما السلام هو تضمين الذي أضر بالكرم بما يقع به التعادل بين الضرر والعوض، ثم اختلفت أنظارهما في صورة هذا التعادل، ومع قطع النظر عن خصوص صورة التعادل، فإن القصة التي ذكرتها الآية الكريمة تنبئ عن مبدأ عام، وهو أن الذي يحدث ضررا بنفس الآخر أو بماله، فإنه يضمن له ذلك الضرر.
وأما السنة النبوية، على صاحبها السلام، فإن أصرح ما ورد في هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) أخرجه ابن ماجة (1) وأحمد في مسنده (2) ، وأخرجه مالك في موطئه مرسلا (3) ، وقال البوصيري (4) : إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع لأن إسحاق بن الوليد قال الترمذي وابن عدي: لم يدرك عبادة بن الصامت – اهـ، ونحوه في مجمع الزوائد (5) ، ولكنّ للحديث طرقا أخر سوى ما تقدم كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (6) .
وإن هذا الحديث الشريف قد قرر مبدأ هاما من مبادئ الشريعة الإسلامية من نفي الضرر وحرمة ما يسببه. وإن الحديث إذا تأملنا فيه، لا يكتفي بتحريم إضرار الغير فقط، بل يشير إلى وجوب الضمان على من سببه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هذا الأصل بصيغة النهي الذي يدل على التحريم فقط، بل إنه صلى الله عليه وسلم ذكره بصيغة نفي الجنس، وفيه إشارة لطيفة إلى أنه كما يجب على الإنسان أن يجتنب من إضرار غيره، كذلك يجب عليه، إن صدر منه شيء من ذلك، أن ينفي عن المضرور الضرر الذي أصابه، إما برده إلى الحالة الأصلية إن أمكن، وإما بتعويضه عن الضرر وأداء الضمان إليه، ليكون عوضا عما فاته.
__________
(1) كتاب الأحكام رقم (2340)
(2) المسند 5 / 327
(3) الموطأ، باب القضاء في المرفق، 2 / 122، مع تنوير الحوالك
(4) الزوائد، 3 / 48
(5) مجمع الزوائد 4 / 205
(6) المقاصد الحسنة، ص 468، رقم (1310)(8/653)
ومما يدل على وجوب تعويض المصاب أحكام الديات المبسوطة في الكتاب والسنة، ومن جملتها فيما يخص موضوعنا: ما أخرجه مالك في الأقضية من موطئه (1) عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها.
وإن هذا الحديث من أصرح الأدلة على أن من سبب ضررا لآخر، فإنه ضامن لما أصابه، وكذلك أخرج الدارقطني في سننه (2) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فأوطأت بيد أو رجل، فهو ضامن)) . وهذا الحديث، وإن كان في إسناده كلام، لضعف سري بين إسماعيل الهمداني الكوفي (3) ولكن مضمونه مما اتفق عليه جمهور الفقهاء قديما وحديثا.
__________
(1) الموطأ، ص (664)
(2) سنن الدارقطني، كتاب الحدود والديات: 3 / 179، حديث (285)
(3) راجع التهذيب 3 / 459(8/654)
وعلى أساس هذه المبادئ حكم فقهاء الصحابة والتابعين وقضاتهم بالضمان على من أضر الآخر بفعله، وإن أقضيتهم وفتاواهم في هذا الباب كثيرة يمكن مراجعتها في كتب الحديث.
وفي ضوء هذه المبادئ والأقضية والفتاوى، استخلص الفقهاء المتأخرون قواعد فقهية في هذا الباب، وأرى من المناسب أن أذكر هذه القواعد بشيء من شرحها، وكيفية تطبيقها على حوادث المرور.
قواعد فقهية تتعلق بالضرر والضمان
القاعدة الأولى: المرور في طريق العامة مباح بشرط السلامة:
هذه القاعدة ذكرها غير واحد من الفقهاء. وحاصلها أن السير في طريق العامة حق لكل إنسان ولكن استعمال هذا الحق مقيد بأن لا يحدث ضررا بغيره فيما يمكن التحرز عنه. وقال العلامة خالد الأتاسي رحمه الله:
"والأصل أن المرور في طريق المسلمين مباح بشرط السلامة، بمنزلة المشي؛ لأن الحق في الطريق مشترك بين الناس، فهو يتصرف في حقه من وجه، وفي حق غيره من وجه، فالإباحة مقيدة بالسلامة.
وإنما تقيدت بها فيما يمكن التحرز عنه، دون ما لا يمكن التحرز عنه، لأنا لو شرطنا عليه السلام عما لا يمكن التحرز عنه، يتعذر عليه استيفاء حقه، لأنه يمتنع عن المشي والسير مخافة أن يبتلى بما لا يمكن التحرز عنه. والتحرز عن الوطء والإصابة باليد أو الرجل، والكدم، وهو العض بمقدم الأسنان، والخبط وهو الضرب باليد، والصدم، وهو الضرب بنفس الدابة وما أشبه ذلك في وسع الراكب إذا أمعن النظر في ذلك، وأما ما لا يمكن التحرز عنه كما إذا نفحت برجلها، يعني ضربت بحافرها أو ذنبها، فلا تضمن" (1) .
__________
(1) شرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي: 3 / 494، مادة (932)(8/655)
القاعد الثانية: المباشر ضامن، وإن لم يكن متعديا:
وحاصل هذه القاعدة أن من باشر الإضرار بالغير، فهو ضامن للضرر الذي أصابه بالمضرور بفعله، وإن لم يكن المباشر متعديا، بمعني أنه لم يكن فعله محظورا في نفسه، وهذا كالنائم الذي انقلب على آخر فقتله، فإنه قد باشر القتل، مع أن نومه لم يكن محظورا في نفسه، ولذلك يضمن دية المقتول.
وإن هذه القاعدة قد ذكرها الفقهاء بعبارات متقاربة، واتفقوا على مضمونها، وهي من أهم القواعد المتبعة في مسئلة ضمان الضرر، ولكن ربما وقع هناك اشتباه في فهمها وخطأ في تطبيقها على بعض الجزئيات، فيجب أن تدرس القاعدة بدقة في مفهومها الصحيح.
1- فالاشتباه الأول إنما وقع من جهة أن بعض الفقهاء ذكروا القاعدة بلفظ " المباشر ضامن، وإن لم يتعمد " وقد وقعت القاعدة بهذه اللفظ في "مجلة الأحكام العدلية" (مادة 92) وشرحها بعض العلماء بأنه لا يشترط لتضمين المباشر أن يكون متعمدا، ولكن بشرط أن يكون متعديا، فقال الشيخ أحمد الزرقاء (1) :
"المباشر للفعل… ضامن لما تلف بفعله، إذا كان متعديا فيه" وهذا ظاهر في أنه يشترط لتضمين المباشر أن يكون متعديا، مع أن معظم الفقهاء ذكروا أنه لا يشترط التعدي لتضمين المباشر، فمثلا قال الزيلعي (2) :
"وغيره تسبيب، وفيه يشترط التعدي، فصار كحفر البئر في ملكه وفي المباشرة لا يشترط".
وقال ابن غانم البغدادي رحمه الله (3) :
__________
(1) في كتابه القيم "شرح القواعد الفقهية" ص (385) ، قاعدة (92)
(2) تبيين الحقائق للزيلعي: 6 / 149
(3) مجمع الضمانات، ص (165) ، باب (12) ، فصل (1)(8/656)
" المباشر ضامن، وإن لم يتعمد، ولم يتعد، والمتسبب لا يضمن إلا أن يتعدي ".
وقد رفع فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء حفظه الله تعالى هذا التعارض (1) بما حاصله أن التعدي يستعمل في معنيين يجب التمييز بينهما:
فالمعني الأول للتعدي: هو المجاوزة الفعلية إلى حق الغير أو ملكه المعصوم.
والمعني الثاني: هو العمل المحظور في ذاته شرعا، بقطع النظر عن كونه متجاوزا على حدود الغير أو لا. فالتعدي بالمعني الأول يشترط لتضمين المباشر أيضا. أما التعدي بالمعني الثاني، فلا يشترط في تضمين المباشر. فمن أكل طعام غيره في حالة المخمصة بدون إذنه لدفع الهلاك عن نفسه فإن فعله جائز، بل واجب، فلم يصدر منه التعدي بالمعني الثاني، ولكن حصل التعدي من حيث أنه تصرف في ملك الغير، فوجب عليه الضمان، وكذلك لو زلق إنسان أو أغمي عليه، فوقع على مال غيره فأتلفه، فإنه ضامن، وإن لم يأت عملا محظورا.
وإن هذا التمييز الذي ذكره الشيخ مصطفى الزرقاء حفظه الله تعالى جيد وواضح. وبه يرتفع التعارض بين من اشترط التعدي لضمان المباشر ومن لم يشترطه. والحاصل إذن: أن المباشر كلما أحدث ضررا في نفس معصوم، أو في بدنه أو في ماله فإنه ضامن، ولو صدر ذلك منه عند مباشرة فعل مباح في نفسه بدون تعمد.
__________
(1) في كتابه القيم "الفعل الضار والضمان فيه" ص (78 و79)(8/657)
2- والاشتباه الآخر الذي ربما يقع في فهم هذه القاعدة، هو أن بعض الفقهاء ذكروا قاعدة أخرى ربما تبدو معارضة لقاعدة " المباشر ضامن وإن لم يكن متعديا " وهي قاعدة " الجواز الشرعي ينافي الضمان " وهي مذكورة في المادة 91 من قواعد المجلة.
وظاهر هذه القاعدة معارض لتضمين المباشر إذا أضر أحدا بفعل مباح، ولكن هذه القاعدة إنما تعمل في ممارسة حق من الحقوق المطلقة التي لا تتقيد بوصف السلامة. أما الحقوق التي تتقيد بوصف السلامة، كحق المرور في الطريق، فمجرد كون الفعل جائزا في نفسه لا ينفي الضمان، وقد ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى هذا الفرق في مسألة من قعد في المسجد فحدث به ضرر لآخر، قال رحمه الله:
"وإذا قعد الرجل في مسجد لحديث، أو نام فيه في غير صلاة، أو مر فيه فهو ضامن لما أصاب، كما يضمن في الطريق الأعظم في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا ضمان عليه، لأنه لو كان مصليا في هذه البقعة لم يضمن ما يعطب به، فكذلك إذا كان جالسا فيه لغير الصلاة، بمنزلة الجالس في ملكه … فيكون ذلك مباحا مطلقا، والمباح المطلق لا يكون سببا لوجوب الضمان على الحر. وأبو حنيفة يقول: المسجد معد للصلاة، والقعود والنوم فيه لغير الصلاة مقيد بشرط السلامة ….. وإن كان ذلك مباحا أو مندوبا إليه" (1) .
__________
(1) مبسوط السرخسي: 27 / 25، باب ما يحدث في المسجد والسوق(8/658)
ما هي المباشرة؟
وبعد إيضاح هاتين النقطتين، لا يشترط لتضمين المباشر إلا أن تتحقق منه مباشرة الإضرار في محل معصوم، سواء كان بفعل مباح في نفسه، أو بفعل محظور.
ولكن لا بد ههنا من التنبه لنقطة مهمة أخرى، وهي أنه يجب لتطبيق هذه القاعدة أن تتحقق المباشرة بمفهومها الصحيح، فيجب أن نفهم معني المباشرة، وقد عرفها الفقهاء بما يلي (1) :
"حد المباشر أن يحصل التلف بفعله من غير أن يتخلل بين فعله والتلف فعل مختار".
فلا يضمن المرء إذا صح نسبة الضرر أو التلف إلى فعله، دون أن يتخلل بينه وبين التلف فعل مختار. فإن تخلل، لم تتحقق المباشرة فلا يضمن، وإن ذلك يتضح بعدة فروع ذكرها الفقهاء في باب الجنايات:
1- قال العلامة خالد الأتاسي رحمه الله في شرح المجلة (2) :
"إن الدابة إذا وطئت بيدها أو رجلها، وهو راكبها يضمن ولو في ملكه؛ لأن هذا مباشرة يضاف التلف إلى تسييره وعدم ضبطه، إلا إذا جمحت بحيث ليس في إمكانه ردها".
__________
(1) شرح الأشباه والنظائر للحموي: 1 / 196 عزوا إلى الولوالجية
(2) شرح المجلة للأتاسي: 1 / 260، مادة (94)(8/659)
وأصل هذه المسائلة ذكرها البغدادي في مجمع الضمانات، قال (1) :
"سئل الإمام أبو الفضل الكرماني: سكران جمح فرسه فاصطدم إنسانا فمات، أجاب: إن كان لا يقدر على منعه فليس بمسير له، فلا يضاف سيره إليه، فلا يضمن.
قال: وكذا غير السكران إذا لم يقدر على المنع".
وذكر ابن مفلح من الحنابلة (2) :
"إن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن".
وذكره المرداوي (3) فقال: "جزم به في الترغيب، والوجيز، والحاوي الصغير". وقال الكاساني من الحنفية (4) :
"ولو نفرت الدابة من الرجل أو انفلتت منه، فما أصابت في فورها ذلك فلا ضمان عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((العجماء جبار)) ، أي البهيمة جرحها جبار، لأنه لا صنع له في نفارها أو انفلاتها، ولا يمكنه الاحتراز عن فعلها، فالمتولد منه لا يكون مضمونا".
وفي مذهب الشافعية في هذه المسألة قولان، ذكرهما النووي رحمه الله تعالى، قال (5) :
"ولو غلبتهما الدابتان، فجرى الاصطدام والراكبان مغلوبان، فالمذهب أن المغلوب كغير المغلوب كما سبق. وفي قول أنكره جماعة أن هلاكهما وهلاك الدابتين هدر، إذ لا صنع لهما ولا اختيار، فصار كالهلاك بآفة سماوية، ويجري الخلاف فيما لو غلبت الدابة راكبها أو سائقها".
__________
(1) مجمع الضمانات للبغدادي، ص (189) ، باب (2) ، فصل (5)
(2) الفروع لابن مفلح: 6 / 6
(3) الإنصاف 10 / 36
(4) بدائع الصنائع للكاساني: 7 / 273
(5) روضة الطالبين للنووي رحمه الله: 9 / 331(8/660)
ونرى في هذه الجزئية أن راكب الدابة لا يضمن بما وطئته دابته، لأنها بعد الجموح والانفلات صارت مستقلة في سيرها، فلا يمكن أن تنسب المباشرة إلى الراكب.
2- وكذلك ذكر الفقهاء أنه إذا نخس الدابة رجل غير الراكب، فالضمان على الناخس، دون الراكب، قال صاحب الهداية (1) :
(ومن سار على دابة في الطريق، فضربها رجل أو نخسها، فنفحت رجلا، أو ضربته بيدها، أو نفرت فصدمته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب) وهو المروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ولان الراكب والمركب مدفوعان بدفع الناخس، فأضيف فعل الدابة إليه، كأنه فعله بيده، ولأن الناخس متعد في تسبيبه، والراكب في فعله غير متعد، فيترجح جانبه في التغريم للتعدي حتى لو كان واقفا دابته على الطريق يكون الضمان على الراكب والناخس نصفين لأنه متعد في الإيقاف أيضا (وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا) لأنه بمنزلة الجاني على نفسه … (ولو وثبت بنخسة على رجل أو وطئته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب) لما بيناه.
وقد ورد فيه أثر لابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2) ، قال: "أقبل رجل بجارية من القادسية، فمر على رجل واقف على دابة، فنخس الرجل الدابة، فرفعت رجلها، فلم تخطئ عين الجارية، فرفع إلى سلمان بن ربيعة الباهلي، فضمن الراكب، فبلغ ذلك ابن مسعود، فقال: على الرجل، إنما يضمن الناخس" وأخرجه أيضا عبد الرزاق في مصنفه (3) ، وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن شريح والشعبي، وراجع نصب الراية للزيلعي (4) والمسألة هي هي عند الشافعية أيضا (5) .
__________
(1) الهداية مع فتح القدير: 9 / 267
(2) مصنف ابن أبي شيبة: 9 / 429
(3) مصنف عبد الرزاق: 9 / 423
(4) نصب الراية للزيلعي: 4 / 388 – 389
(5) مغني المحتاج 4 /204(8/661)
ففي هذه المسألة أيضا لم يضمن الراكب؛ لأن ما فعلته دابته لا ينسب إليه فلم تتحقق منه مباشرة الإتلاف.
3- وكذلك قال البغدادي رحمه الله في مجمع الضمانات (1) :
"جاء راعي أحمر ليعبرها (أي النهر) وجاء من جانب آخر صبي غير بالغ مع العجلة، فقال له الراعي: أمسك الثور مع العجلة حتى تمر الأحمرة، فلم يمكنه إمساكه، فمضي ووقع الحمار في النهر لم يضمن، وكذا الراعي إذا لم يمكنه إمساكه الحمار، وإلا يضمن".
وهنا أيضا لم يضمن الصبي ما حصل من عجلته من وقوع الحمار في النهر لأنه بالرغم من كونه راكبا، لا تصح نسبة رمي الحمار إليه، فلم تتحقق المباشرة".
4- وكذلك ذكر الفقهاء أنه إذا سقطت الدابة المركوبة ميتة فتلف بسقوطها شخص أو شيء، فلا ضمان على الراكب، قال الشربيني الخطيب رحمه الله (2) :
"لو سقطت الدابة ميتة، فتلف بها شيء لم يضمنه، وكذا لو سقط هو ميتا على شيء وأتلفه، لا ضمان عليه. قال الزركشي: وينبغي أن يلحق بسقوطها ميتة سقوطها بمرض أو عارض شديد ونحوه".
وهنا لم يضمن الراكب لأن موت الدابة أو موت نفسه ليس فيه صنع لفعله، ولا اختيار، فلم تتحقق منه مباشرة الإتلاف. وكذلك إذا حصل السقوط بآفة سماوية كالمرض أو الريح الشديدة كما قال الزركشى.
__________
(1) مجمع الضمانات للبغدادي، ص (148)
(2) مغني المحتاج للشربيني: 4 / 204 و405(8/662)
5- وكذلك ذكر الفقهاء مسألة اصطدام السفينتين، وأنه كاصطدام الراكبين في أن على كل واحد منهما ضمان الآخر، لكن قال الشربيني الخطيب رحمه الله (1) :
"محل هذا التفصيل إذا كان الاصطدام بفعلهما، أو لم يكن وقصرا في الضبط، أو سيرا في ريح شديد، فإن حصل الاصطدام لغلبة الريح فلا ضمان على الأظهر، بخلاف غلبة الدابة (أي على أحد قولي الشافعية) فإن الضبط ثم ممكن باللجام ونحوه … وإن تعمد أحدهما أو فرط دون الآخر، فلكل حكمه".
والمسالة المذكورة أيضا في كتاب الأم (2) ، وروضة الطالبين (3) ، وتحفة المحتاج (4) ، وجاء في الإنصاف للمرداوي (5) :
"إن اصطدمت سفينتان فغرقتا، ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر وما فيها، هكذا أطلق كثير من الأصحاب قال المصنف وغيره: محله إذا فرط. قال الحارثي: إن فرط ضمن كل واحد سفينة الآخر وما فيها، وإن لم يفرط فلا ضمان على واحد منهما … وإن كانت إحداهما منحدِرة، فعلى صاحبها ضمان المصعَدة إلا أن يكون غلبه ريح، فلم يقدر على ضبطها… وقال في المغني: إن فرط المصعد، فإن أمكنه العدول بسفينته، والمنحدر غير قادر ولا مفرط، فالضمان على المصعد؛ لأنه المفرط".
وراجع أيضا الشرح الكبير لابن قدامة مع المغني (6) .
ومحصل المسألة عند المالكية ما ذكره الحطاب رحمه الله تعالى، قال (7) :
"قال أبو الحسن: مسألة السفينة والفرس على ثلاثة أوجه: إن علم أن ذلك من الريح في السفينة، وفي الفرس من غير راكبه، فهذا لا ضمان عليهم، أو يعلم أن ذلك من سبب النواتية في السفينة، ومن سبب الراكب في الفرس، فلا إشكال أنهم ضامنون، وإن أشكل الأمر حمل في السفينة على أن ذلك من الريح، وفي الفرس أنه من سبب راكبه".
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 92
(2) الأم 6 /86
(3) روضة الطالبين 9 / 336
(4) تحفة المحتاج 9 / 22
(5) الإنصاف للمرداوي: 6 / 244، كتاب الغضب
(6) الشرح الكبير لابن قدامة مع المغني: 5 / 456
(7) مواهب الجليل للحطاب: 6 / 243(8/663)
فاتفق هؤلاء الفقهاء على أن ملاح السفينة لا يضمن ما تلف بسفينته إذا لم يفرط في ضبطها؛ لأن السفينة الشراعية لا تتمحض مقدورة بيد الملاح، بل للرياح دور كبير في تسييرها، فلو غلبتها الرياح، فإن الإتلاف لا ينسب إلى الملاح، فلا تتحقق منه المباشرة.
وإن هذه النصوص الفقهية تدل على مدى تعمق الفقهاء في التثبت من تحقق المباشرة، وإن هذه النقطة مهمة جدا، وسوف تفيد في عدة مسائل من حوادث السيارات وغيرها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
القاعدة الثالثة: المسبب ضامن إن كان متعديا:
وإن هذه القاعدة ذكرها البغدادي في مجمع الضمانات (1) بقوله "المتسبب لا يضمن إلا أن يتعدى" وقد ذكرنا عبارة الزيلعي في تبيين الحقائق عند الكلام على القاعدة الثانية.
وتعريف المسبب ما ذكره الحموي رحمه الله (2) :
"حد المسبب هو الذي حصل التلف بفعله، وتخلل بين فعله والتلف فعل مختار".
ومثاله: من حفر بئرا، فسقط فيها رجل، فالحافر مسبب لسقوطه، فيضمن أن كان متعديا في الحفر، وإن لم يكن متعديا، فلا ضمان عليه.
وقد وقع ههنا تسامح في التعبير في مجلة الأحكام العدلية، حيث ذكرت هذه القاعدة في المادة (93) بلفظ: " المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد " وهذا خلاف ما ذكره جمهور الفقهاء، فإن تعمد الإضرار ليس بشرط لتضمين المسبب، ولذلك من حفر بئرا في غير ملكه، وسقط فيها رجل، فإن الحافر ضامن، ولو لم يحفرها بنية أن يتردى فيها رجل. فالصحيح من عبارة هذه القاعدة ما ذكرنا من أن المسبب لا يضمن إلا بالتعدي، ولو لم يكن متعمدا بالضرر أو بالتعدي.
__________
(1) مجمع الضمانات، ص (165)
(2) شرح الأشباه والنظائر 1 / 196(8/664)
وقد نبّه على هذا الخطأ في تعبير المجلة فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء (1) ، حفظه الله تعالى، وذكر أن التعبير الصحيح هو أن المسبب لا يضمن إلا بالتعدي، وهو موافق لسائر الكتب الفقهية، وقد ذكرت عند الكلام على القاعدة الثانية أنه، حفظه الله، قد فرق بين معنيين للتعدي بتمييز دقيق، وأن كلامه في موضوع المباشرة موفق قد أزاح كثيرا من الإشكالات، فجزاه الله تعالى خيرا، ولكن لي مآخذ جوهرية على ما ذكره في موضوع التسبيب، فإنه حفظه الله تعالى ذكر أن التعدي الذي يشترط لتضمين المسبب هو عين التعدي الذي يشترط لتضمين المباشر، وهو التعدي بمعنى المجاوزة إلى ملك الغير أو حقه، سواء كان بفعل مباح في نفسه.
والواقع أنه على ما ذكره الشيخ الزرقاء، حفظه الله تعالى، لا يبقى هناك أي فرق بين المباشر والمسبب، مع أن الفقهاء قاطبة، فرقوا بينهما بأن المباشر يضمن وإن لم يتعد، والمسبب لا يضمن إلا بالتعدي، فالصحيح الذي يتبلور من كلام الفقهاء أن التعدي الذي يشترط لتضمين المسبب هو التعدي بالمعنى الثاني، وهو أن يكون فعله المسبب للضرر محظورا في نفسه، وإن التعدي بهذا المعنى لا يشترط في تضمين المباشر.
__________
(1) شرح الأشباه والنظائر 1 / 196(8/665)
القاعدة الرابعة: إذا اجتمع المباشر والمسبب، أضيف الحكم إلى المباشر:
هذه القاعدة ذكرها ابن نجيم (1) بهذا اللفظ وقد أخذت في مجلة الأحكام العدلية (مادة 90) من الأشباه وشرحها ابن نجيم بقوله:
"فلا ضمان على حافر البئر تعديا بما أتلف بإلقاء غيره".
فهنا حافر البئر مسبب، والذي ألقى الشيء فيها مباشر، فيقدم المباشر على المسبب ويضاف الإتلاف إليه، فيصير ضامنا.
ولكن هذه القاعدة لها مستثنيات كثيرة، وتتلخص في نقطتين فيما يتعلق بموضوعنا:
النقطة الأولى: إذا كان تأثير المسبب أقوى من تأثير المباشر أضيف الحكم إلى المسبب، وهذه القاعدة ليست مذكورة بهذا اللفظ في كتب القواعد الفقهية، ولكنها تستخلص من عدة جزئيات ذكرها الفقهاء في مستثنيات القاعدة الرابعة. فيقول العلامة علي حيدر رحمه الله في شرحه للمجلة (2) :
"أما إذا كان السبب مما يفضي مباشرة إلى التلف، فيترتب الحكم على المتسبب، مثال ذلك لو تماسك شخصان، فأمسك أحدهما بلباس الآخر، فسقط منه شيء، كساعة مثلا، فكسرت، فيترتب الضمان على الشخص الذي أمسك بلباس الرجل رغما من كونه متسببا، والرجل الذي سقطت منه الساعة مباشر. لأن المسبب هنا قد أفضى إلى التلف مباشرة، دون أن يتوسط بينهما فعل فاعل آخر".
والمثال الأوضح لذلك ما ذكره الفقهاء الحنفية من أن من أكره إنسانا على قتل الآخر إكراها ملجأ، فالقصاص على المكره (بكسر الراء) دون المكره (بفتح الراء) ، قال الكاساني (3) رحمه الله:
" فأما المكرَه على القتل فإن كان الإكراه تاما، فلا قصاص عليه عند أبي حنيفة ومحمد، ولكن يعزر، ويجب على المكرِه ".
وظاهر أن المكره (بالفتح) هو المباشر للقتل، والمكرِه لا يعدو من أن يكون مسببا، ولكن الضمان هنا على المسبب دون المباشر، وذلك لأن تأثير فعل المسبب أقوى من تأثير المباشر، لكونه أصبح آلة في يد المكرِه.
وكذلك قدمنا أن من نخس دابة مركوبة فوطئت رجلا، فإن الضمان على الناخس، دون الراكب، مع أن الناخس مسبب، والراكب مباشر في الظاهر، ولكن تأثير الناخس أقوى من تأثير الراكب في القتل، ولذلك قدم المسبب على المباشر.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: 1 / 196، قاعدة (19)
(2) درر الحكام لعلي حيدر: 1 / 81
(3) بدائع الصنائع 7 / 179(8/666)
إن هذه الجزئيات تبدو خارجة عن القاعدة الرابعة، ولكننا إذا تأملناها في ضوء ما قدمنا في القاعدة الثانية من تفسير المباشرة، وأن تحقق المباشرة بمفهومها الصحيح شرط للتضمين بدون التعدي، ربما يتبين أن الذي أطلق عليه لفظ " المباشر" في الأمثلة الثلاثة المذكورة، ليس مباشرا في الحقيقة، بحيث تصح نسبة الإتلاف إليه بوجه معقول، وإنه لم يضمن الإتلاف من هذه الجهة، لا من حيث أن المسبب مقدم على المباشر.
فإن من سقطت ساعته بإمساك الآخر ثوبه، لا يصح أن يسمى مباشرا لإسقاط الساعة؛ لأن المباشرة تقتضي عملا، وهذا الرجل لم يعمل شيئا، فيبقى الممسك سببا للإسقاط بدون مزاحم، وربما أنه متعد في الإمساك، فلا يبرأ من الضمان. وكذلك المكره (بفتح الراء) وإن كان مباشرا للقتل، ولكنه بحكم كونه ملجئًا من قبل المكره (بالكسر) وآلة محضة في يد المكرِه، لم تعتبر مباشرته في إيجاب الضمان، وإن كان مباشرا لغويًّا.
ومثل ذلك يقال في الناخس، فإنه هو الذي سبب ركض الدابة التي خرجت عن قدرة الراكب، وصار الراكب لا فعل له ولا اختيار، فلا يصح أن يسمى مباشرا، فبقي المسبب بدون مزاحم، فنسب التلف إليه، وصار ضامنا.
ثم رأيت للعلامة خالد الأتاسي رحمه الله تعالى بحثا نفيسا في الموضوع يؤيد ما قلنا، فنورده بلفظه (1) :
"المباشر: هو الذي حصل التلف مثلا بفعله بلا واسطة، فكان هو صاحب العلة يضاف إليه التلف - والمتسبب: ما حصل التلف لا بمباشرته وفعله، بل بواسطة هي العلة، لحصول المعلول، وهو فعل فاعل مختار، وأما فعله فلا تأثير له سوى أنه مفض إليه. فإن اجتمعا فكما صرحت المادة يضاف الحكم إلى المباشر، لأنه صاحب العلة، وهي أقوى….
__________
(1) شرح المجلة (1 / 249 – 250، رقم المادة (90)(8/667)
واعلم أنه متى كان المتوسط بين السبب والمعلول صالحا لإضافة المعلول إليه، يكون السبب حينئذ سببا حقيقيا، أي سببا محضا، بمعنى أنه لا مزية له سوى الإفضاء إلى حصوله – وعرفوه بأنه ما توسط بينه وبين الحكم علة، وذلك المتوسط هو العلة، وهذا هو المبحوث عنه في القاعدة. ومتى كان المتوسط غير صالح لذلك، فالحكم يضاف إلى السبب، ويكون حينئذ في معنى العلة، ومعرفة هذا الضابط ينفعك في كثير من الوقائع.
وصورة اجتماعهما ما ذكر في المادة: فإن ملقي الحيوان مباشر تلفه بالذات، وحافر البئر متسبب؛ لأن حفره أفضى إلى التلف، فالضمان على المباشر ……
وإذا انفرد السبب – وذلك فيما لو كان الحائل المتوسط بينه وبين الحكم، أعني المعلول، غير صالح لإضافة الحكم إليه – يكون في معنى العلة المؤثرة، فيضاف الحكم إليه، ويكون المتسبب ضامنا – كسوق الدابة، فإنه غير موضوع للتلف، ولا هو مؤثر فيه، بل طريق للوصول إليه، والعلة للتلف التوسط بينه وبين السوق، وهو وطء الدابة إنسانا أو مالا بقوائمها وثقلها، ولكن لما لم يكن هذا المتوسط فعل فاعل مختار أضيف الحكم إلى السبب، وهو السوق الواقع من السائق، فكأنه دافع للدابة على ما وطئت عليه، فيضمن، لأنه سبب فيه معنى العلة".(8/668)
النقطة الثانية: إذا كان المسبب متعديا، والمباشر غير متعد:
والنقطة الثانية في مستثنيات القاعدة الرابعة التي ذكرها بعض الفقهاء هي أنه إذا كان المسبب متعديا، والمباشر غير متعد في فعله، فالحكم يضاف إلى المسبب المتعدي، وإن هذه القاعدة ذكرها صاحب الهداية في مسألة من نخس دابة فقتلت رجلا، فإن الضمان على الناخس دون الراكب، وقد ذكرنا عبارته في القاعدة الثانية بتمامها، وفيها (1) :
"ولأن الناخس متعد في تسبيبه، والراكب في فعله غير متعد، فيترجح جانبه في التغريم للتعدي".
وقد اعترض عليه صاحب العناية بأن كون المباشر غير متعد لا يبرئه من الضمان، فهذا التعليل الذي ذكره صاحب الهداية غير صحيح فيما إذا وطئت الدابة أحدا، ولكن يمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن المباشر يضمن، وإن لم يكن متعديا فيما إذا كانت مباشرته هي السبب الوحيد في التلف. أما إذا كان هناك مسبب آخر، وهو متعد في تسبيبه، والمباشر غير متعد في فعله، فحينئذ يقدم المسبب على المباشر. نعم، إن كان كل من المباشر والمسبب متعديًا، فالمباشر مقدم على المسبب. وربما يتأيد هذا بمسألة أخرى ذكرها البغدادي في مجمع الضمانات، قال (2) :
"قصار أوقف دابة في الطريق، وعليها ثياب، فصدمها راكب ومزق بعض الثياب التي كانت على الدابة، قال الشيخ أبو بكر البلخي: إن رأى الراكب الدابة الواقفة ضمن، وإن لم يبصر لم يضمن. ولو مر رجل على ثوب موضوع في الطريق وهو لا يبصره فتخرق، لا يضمن".
فالقصار الذي أوقف دابته في الطريق مسبب لتخرق الثياب، وهو متعد، لأنه أوقف دابته في الطريق، وراكب الدابة الأخرى مباشر، فلو لم يبصر الدابة الواقفة لم يكن متعديا، فلا ضمان عليه، وينسب التمزيق إلى المسبب وهو القصار، فكأنه مزق ثيابه بنفسه، فلا يضمنه أحد. أما إذا أبصر الراكب الدابة الواقفة، ومع ذلك صدمها فإنه متعد، ومتى اجتمع تعدي المسبب وتعدي المباشر، فالمباشر أولى بالضمان، ولذلك ضمن الثياب للقصار، وكذلك من وضع ثوبا في الطريق، فإنه مسبب لتخرقه، وهو متعد من حيث إن الطريق غير موضوع لوضع الثياب، والرجل المار مباشر لتمزيق الثياب، فإن كان قد أبصر الثياب، فإنه متعد، فيضمن، وإن لم يكن أبصرها، فليس متعديا فلا يضمن.
وكذلك ذكر البغدادي مسألة أخرى، قال (3) :
"مر بحمار عليه حطب، وهو يقول: إليك إليك، إلا أن المخاطب لم يسمع ذلك حتى أصاب ثوبه وتخرق يضمن، وإن سمع إلا أنه لم يتهيأ له التنحي بطول المدة فكذلك. وأما إذا أمكنه ولم يتنح لا يضمن".
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 9 / 267
(2) ص 154
(3) مجمع الضمانات (ص 154)(8/669)
فصاحب الحمار هنا مباشر على قول من يعد السائق والقائد مباشرا، وهو غير متعد، إذ نادى " إليك إليك " فصار ضامنا عند عدم سماع المخاطب، وكذلك إذا لم يجد المخاطب فرصة للتنحي، أما إذا لم ينتح وقد أمكنه ذلك، فهو المسبب المتعدي فأضيف التلف إليه.
فبناء على قول صاحب الهداية، ونظرا إلى هذه الجزيئات، تتحصل صور آتية:
1- إذا كان المباشر هو السبب الوحيد في الإتلاف، فهو ضامن، سواء كان متعديا، أو غير متعد، بمعنى أنه لم يفعل فعلا محظورا في نفسه.
2- إذا اجتمع المباشر والمسبب، وليس أحد منهما متعديا (بالمعنى المذكور) فالضمان على المباشر.
3- إذا اجتمع المباشر والمسبب، والمباشر متعد والمسبب غير متعد، فالضمان على المباشر.
4- إذا اجتمع المباشر والمسبب، وكل واحد منهما متعد، فالضمان على المباشر أيضا.
5- إذا اجتمع المباشر والمسبب، والمسبب متعد، والمباشر غير متعد، فالضمان على المسبب.
هذا ما تنقح لي من ضوابط الضمان المتعلقة بحوادث السير مستخلصة من كتب الفقهاء، والله سبحانه وتعالى أعلم.(8/670)
حوادث السيارات
وبعد تمهيد هذه القواعد وشرحها، نرجع إلى أحكام حوادث السيارات، ونذكرها في ضوء ما شرحنا من القواعد والجزئيات الفقهية المتعلقة بها:
مدى مسؤولية السائق بسيارته:
الأصل: أن سائق السيارة مسؤول عن كل ما يحدث بسيارته خلال تسييره إياها، وذلك لأن السيارة آلة في يده، وهو يقدر على ضبطها، فكل ما ينشأ عن السيارة، فإنه مسؤول عنه. والذي يظهر لي أن هناك فرقا كبيرا بين الدابة والسيارة من حيث إن الدابة متحركة بنفسها بخلاف السيارة، فإنها لا تتحرك إلا بفعل من السائق. ومن هذه الجهة أرى أن ما ذكره الفقهاء من الفرق بين ما أصابته الدابة بفمها أو يدها وبين ما نفحته برجلها أو بذنبها، لا يتأتى في السيارة، فإنهم ضمنوا الراكب في الحالة الأولى، ولم يضمنوه في الحالة الثانية؛ لأن راكب الدابة لا يمكنه التحرز عما تفعله الدابة برجلها أو بذنبها.
أما السيارة، فلا تتحرك بنفسها، فجميع السيارة آلة للراكب، وهو يقدر على ضبط جميع أجزائها؛ لأن أجزاءها متماسكة بعضها مع بعض، ليس لجزء منها حركة مستقلة عن حركة الآخر، ولذا فيجب أن يضمن سائق السيارة لكل ضرر ينشأ عنها، سواء نشأ ذلك الضرر من أجزاء السيارة المتقدمة، أو من أجزائها المؤخرة، أو من أحد جانبيها. لأن كل ذلك تحت تصرف السائق، وليس شيء منها يتحرك بنفسه.
إذن، فالأصل أن سائق السيارة ضامن لكل ضرر ينشأ من عجلاتها، أو من مقدمها، أو من خلفها، أو من أحد جانبيها؛ لأن السيارة آلة محضة في يد السائق، فتنسب مباشرة الإضرار إليه.
فإن كان سائق السيارة متعديا في سيره بمخالفة قواعد المرور، مثل أن يسوق السيارة بسرعة غير معتادة في مثل ذلك المكان، أو لم يلتزم بخطه في الشارع، وما إلى ذلك من قواعد المرور الأخرى، فلا خفاء في كونه ضامنا؛ لأن الضرر إنما نشأ بتعديه، والمتعدي ضامن في كل حال.
أما إذا لم يكن متعديا في السير، بأن ساق سيارته ملتزما بجميع قواعد المرور، فهل يضمن الضرر الذي أصاب رجلا آخر بسيارته في هذه الحالة؟ قد اختلف فيها أنظار العلماء في عصرنا، فمنهم من يقول: إنه يضمن لكونه مباشرا، والمباشر يضمن ولو لم يكن متعديا. ومنهم من يقول: لا يضمن لأن ما يحدث بعد الالتزام بقواعد المرور حادثة سماوية لا يمكن الاحتراز عنها، والمباشر إنما يضمن فيما يمكن الاحتراز منه، لا فيما لا يمكن الاحتراز منه.(8/671)
والذي يظهر لي في ضوء القواعد والجزئيات الفقهية التي ذكرتها فيما قبل – والله سبحانه وتعالى أعلم – أن السائق يضمن الضرر الذي باشره، وإن لم يكن متعديا لأنه قد تقرر بإجماع الفقهاء أن المباشر لا يشترط لتضمينه أن يكون متعديا، ولكن يجب أن تتحقق منه مباشرة الضمان على الوجه الذي ذكرناه في تفسير القاعدة الثانية، فيجب لتضمينه أن تصح نسبة المباشرة إليه بدون مزاحم على وجه معقول. وعلى هذا الأساس لا يضمن في الصور الآتية:
1- إذا كان السائق يسوق سيارته ملتزما بجميع قواعد المرور، ولكن دفع شخص رجلا آخر أمام سيارته فجأة بحيث لم يمكن له أن يوقف السيارة قبل أن تدهسه، فدهسته السيارة. فهنا لا يضمن السائق، وإنما يضمنه الدافع، وهذا كما نخس أحد دابة فقتلت رجلا، فالضمان على الناخس دون الراكب؛ لأن نسبة المباشرة لا تصح إلى سائق السيارة في هذه الصورة؛ لأن تأثير الدافع ههنا أقوى من تأثير الراكب، أو كما قال صاحب الهداية: الدافع متعد، والسائق غير متعد.
2- إذا أوقف السائق سيارته أمام إشارة المرور منتظرا إشارة فتح الطريق فصدمته سيارة من خلفه ودفعتها إلى الإمام فصدمت سيارته أحدا، فليس الضمان على سائق السيارة الأمامية، بل الضمان على سائق السيارة التي صدمتها من خلفها؛ لأنه لا تصح نسبة المباشرة إلى السيارة الأمامية، فإنها مدفوعة بمنزلة الآلة للسيارة الخلفية. وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية في قراراتها المنشورة في مجلة البحوث الإسلامية (1) .
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية، عدد (26) 1409 و1410 هـ(8/672)
وإن هذه الصورة منطبقة تماما على ما ذكره الفقهاء فيما إذا نخس أحد دابة فأصابت أحدا، فإن الضمان على الناخس دون الراكب. ومما يؤيده أيضا ما ذكره البغدادي رحمه الله في مجمع الضمانات، قال (1) :
"فإن عثر بما أحدثه في الطريق رجل فوقع على آخر فمات، كان الضمان على الذي أحدثه في الطريق، وصار كأنه دفع الذي عثر به، لأنه مدفوع في هذه الحالة، والمدفوع كالآلة".
فالظاهر في هذا المثال أن الرجل الذي وقع على آخر، هو المباشر للإهلاك، ولكن وقع الضمان على المسبب لكونه متعديا ولكون تأثيره أقوى بحيث لم يبق للرجل الواقع صنع ولا اختيار، فلم تنسب المباشرة إليه. فكذا في مسألتنا.
3- إذا كانت السيارة سليمة قبل السير بها، وكان السائق يتعهدها تعهدا معروفا، ثم طرأ عليها خلل مفاجئ في جهاز من أجهزتها، حتى خرجت السيارة من قدرة السائق ومكنته من ضبطها، فصدمت إنسانا فقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة العربية السعودية، بأنه لا ضمان على السائق، وكذلك لو انقلبت بسبب ذلك على أحد أو شيء فمات أو تلف، فلا ضمان عليه.
ويمكن أن تخرج هذه الفتوى على ما قدمنا في القاعدة الثانية من نص الفقهاء على أن الدابة إن جمحت وخرجت من قدرة الراكب، فلا ضمان عليه. وذلك لأن ما حصل بالسيارة بعد خروجها من ضبط السائق بحادثة حدثت بجهاز من أجهزتها لا تصح نسبتها إلى السائق، ولا يقال: إن السائق مباشر للإتلاف، وغاية ما يقال فيه: إنه مسبب للهلاك، فإنه هو الذي سير السيارة في مبدأ الأمر، وبما أنه مسبب، فيشترط لتضمينه التعدي. فإن كان يتعهد السيارة تعهدا معروفا، ويسيرها ملتزما بقواعد المرور سيرا عاديا، فلا ضمان عليه لعدم التعدي، نعم! إن أخل بشرط من هذه الشروط، مثل عدم تعهده للسيارة أو تسييرها مع خلل ظاهر في جهاز من أجهزتها، أو سوقها سوقا عنيفا، فإنه يضمن في كل ذلك، وإن خرجت السيارة من ضبطه، لأنه مسبب لانفلات السيارة بتعديه.
__________
(1) مجمع الضمانات (ص 176) ، باب (12) ، فصل (2)(8/673)
وربما تشهد لهذه الفتوى جزئية ذكرها الكاساني رحمه الله في البدائع، قال (1) :
"وكذلك (يضمن) إذا كان مشى في الطريق حاملا سيفا، أو حجرا، أو لبنة، أو خشبة، فسقط من يده فقتله، لوجود معنى الخطأ فيه، وحصوله على سبيل المباشرة، لوصول الآلة لبشرة المقتول، ولو كان لابسا سيفا، فسقط على غيره فقتله، أو سقط عنه ثوبه، أو رداؤه، أو طيلسانه، أو عمامته وهو لابسه، على إنسان فتعقل به فتلف، فلا ضمان عليه أصلا؛ لأن في اللبس ضرورة، إذ الناس يحتاجون إلى لبس هذه، والتحرز عن السقوط ليس في وسعهم، فكانت البلية فيه عامة، فتعذر التضمين، ولا ضرورة في الحمل، والاحتراز عن سقوط المحمول ممكن أيضا. وإن كان الذي لبسه مما لا يلبس عادة فهو ضامن".
ويؤيده أيضا ما ذكرنا في القاعدة الثانية أنه لو سقطت الدابة ميتة أو بمرض أو عارض ريح شديد ونحوه، وتلف بسقوطها شيء لم يضمنه الراكب (2) .
4- إذا ساق إنسان سيارة في شارع عام ملتزما السرعة المقررة، ومتبعا خط السير حسب النظام، ومتبصرا في سوقه حسب قواعد المرور، فقفز رجل أمامه فجأة، فصدمته السيارة رغم قيام السائق بما وجب عليه من الفرملة ونحوها، فإن اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة العربية السعودية أبدت في هذه الصورة احتمالات مختلفة ولم تبت فيها بشيء، ونص قرارها في هذه الصورة كما يلي (3) :
"أمكن أن يقال بتضمين السائق من مات بالصدم أو كسر مثلا بناء على ما تقدم من تضمين الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت الدابة بيديها. وقد يناقش بأن كبح الدابة وضبطها أيسر من ضبط السيارة، ويمكن أن يقال بضمان كل منهما ما تلف عند الآخر من نفس ومال بناء على ما تقدم من الحنفية والمالكية والحنابلة ومن وافقهم في تضمين المتصادمين. ويمكن أن يقال بضمان السائق ما تلف من نصف الدية أو نصف الكسور، لتفريطه بعدم احتياطه بالنظر لما أمامه من بعيد، وبضمان المصدوم نصف ذلك باعتدائه بالمرور فجأة أمام السيارة دون الاحتياط لنفسه، بناء على ما ذكره الشافعي وزفر وعثمان البتي ومن وافقهم في تضمين المتصادمين، ويحتمل أن يقال: إنه هدر، لانفراده بالتعدي".
__________
(1) بدائع الصنائع الكاساني: 7 / 271
(2) مغني المحتاج للشربيني: 4 / 204 – 205
(3) مجلة البحوث الإسلامية، عدد (26) ، 1409 و1410 هـ(8/674)
والذي يظهر لي في هذه الصورة – والله سبحانه أعلم – أن الرجل الذي قفز أمام السيارة إن قفز بقرب منها بحيث لا يمكن للسيارة في سيرها المعتاد في مثل ذلك المكان أن تتوقف بالفرملة، وكان قفزه فجأة لا يتوقع مسبقا لدى سائق متبصر محتاط، فإن هلاكه أو ضرره في مثل هذه الصورة لا ينسب إلى سائق السيارة، ولا يقال: إنه باشر الإتلاف، فلا يضمن السائق، ويصير القافز مسببا لهلاك نفسه، وذلك لوجوه:
أولا: لو قلنا بضمان السائق في هذه الصورة، لزم منه أنه لو عزم رجل على قتل نفسه، فقفز أمام سيارة أو قطار بقصد إهلاك نفسه، فإن السائق يضمنه، وهذا مخالف للبداهة.
ثانيا: قد قررنا في القاعدة الثانية أنه يجب لتضمين المباشر أن تتحقق منه مباشرة الإتلاف بدون شك. وحيث كان تأثير المسبب أقوى من تأثير المباشر، أو انعدم اختيار المباشر بفعل رجل آخر، كما في مسألة نخس الدابة، فإنه لا يعد مباشرا للإتلاف، فلا يجب عليه الضمان.
ثالثا: إذا كان المباشر ملجأ من قبل الآخر، كما في صورة الإكراه، فإنه لا يعد مباشرا حقيقيا للقتل والإتلاف، وإنما ينسب الإتلاف إلى من أكرهه على ذلك، فصار كما إذا أكره رجل آخر على قتل نفسه، فقتله المكرَه في حالة الإكراه الملجئ، فلا ضمان على القاتل المكرَه، لأنه لا ينسب مباشرة القتل إلى المكره (بالفتح) بل لا تنسب مباشرة الإتلاف إلى السائق في مسألتنا بالطريق الأولى؛ لأن الإكراه لا يعدم القدرة على التحرز من الفعل الذي وقع الإكراه عليه، فيمكن للمكرَه أن يتحرز عن القتل على قيمة نفسه، ولذلك يستحق التعزير على قتله.(8/675)
بخلاف السائق في صورتنا، فإنه لم يبق له اختيار ولا قدرة على صيانة القافز من صدم السيارة.
رابعا: قدمنا عن صاحب الهداية أنه لو كان المسبب متعديا والمباشر غير متعد، فالمسبب أولى بالضمان من المباشر، ولا شك في تعدي القافز في مسالتنا، وعدم تعدي السائق، فليكن القافز هو المسئول عن فعل نفسه.
خامسا: لا أقل من أنه قد وقع الشك في كون السائق مباشرا للإتلاف وفي كونه ضامنا، ومن أكبر الشواهد على ذلك أن اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء السابق ذكرها قد ترددت في ضمان السائق، وفي صورة الشك لا يجب الضمان، قال البغدادي في مجمع الضمانات (1) :
"رجل حفر بئرا في الطريق، فسقط فيها إنسان ومات، فقال الحافر: إنه ألقى نفسه فيها، وكذبته الورثة في ذلك، كان القول قول الحافر في قول أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد؛ لأن الظاهر أن البصير يرى موضع قدمه، وإن كان الظاهر أن الإنسان لا يوقع نفسه، وإذا وقع الشك، لا يجب الضمان بالشك ".
وربما يستدل على تضمين السائق في هذه الصورة بما يأتي:
أ- اتفق الفقهاء على تضمين راكب الدابة ما وطئته خلال سيرها، ولم يستثنوا من ذلك صورة قفز الرجل أمام الدابة، فهذا يدل على أنهم يقولون بتضمينه في هذه الصورة أيضا.
__________
(1) مجمع الضمانات للبغدادي (ص 180) ، باب (17) ، فصل (2)(8/676)
وهذا الدليل ليس بصحيح؛ لأن الفقهاء لم يذكروا هذه الصورة لا نفيا للتضمين فيها ولا إثباتا لها، ومجرد سكوتهم عن ذلك لا يدل على التضمين، لأنه لا ينسب لساكت قول، وخاصة حينما ذكروا أصولا في ضمن جزئيات أخرى تدل على عدم التضمين في هذه الصورة، ولعلهم لم يذكروها من جهة أن ذلك كان نادرا في عهدهم؛ لأن ضبط الدابة أيسر من ضبط السيارة، ولأن الدابة متحركة بنفسها، فربما تتنحى في سيرها بنفسها برؤية من يعرض لها في الطريق، بخلاف السيارة، ولأن الطرق المدنية في ذلك الزمان كانت موضوعة في الأصل للمشاة، فلم تكن الدواب تسرع فيها المشي، بخلاف السيارات فإنها تسير على طرق معبدة وضعت في الأصل للمراكب السريعة.
ب- وقد يقال: إن النائم الذي ينقلب على الرجل الآخر يضمن ما أصابه من ضرر، وبالرغم من أن النائم لا تكليف عليه فإنه حكم عليه الفقهاء بالضمان إجماعا، فتبين أن المباشر يضمن، ولو صدر منه الفعل بغير اختياره، فينبغي أن يضمن السائق أيضا، ولو صدر منه الإهلاك بدون اختياره.
والجواب عن ذلك: أن المباشر لو كان هو السبب الوحيد في هلاك شخص، فإنه يضمن الهلاك، ولو صدر منه ذلك بدون اختيار (ويستثنى منه ما لا يمكن الاحتراز منه، وما عمت به البلوى، كما قدمنا عن البدائع أنه لو سقط السيف عن لابسه، فإنه لا يضمن) ولكن إذا كان هناك شخص آخر مختار يزاحمه في نسبة الإهلاك إليه، وتأثير فعله أقوى من تأثير المباشر، فإن الهلاك يضاف إلى ذلك الشخص الآخر، كما قدمنا في غير واحد من الأمثلة، ولا سيما في مسألة الناخس، وفي مسألة من وقع على غيره بعثرة حصلت له بوضع حجر في الطريق، فإنه لا يضمن، بل يضمن واضع الحجر.(8/677)
ففي مسألة النائم، ليس هناك من يزاحمه في نسبة الإهلاك إليه، بخلاف مسألتنا في السيارة، فإن القافز هنا يزاحم السائق في نسبة الإهلاك إليه، وهو أولى بهذه النسبة لتعديه من السائق الملتزم الذي لا اختيار له.
ولذلك لو رأى زيد مثلا أن عمرا نائم، هو على وشك أن ينقلب فوضع صبيا تحته حتى انقلب النائم عليه فأهلكه، فلا شك أن الضمان في هذه الصورة ليس على النائم، بل على الرجل الذي وضع الصبي تحته، مع أن النائم هو المباشر في الظاهر، وذلك لأن واضع الصبي يزاحمه في نسبة الإهلاك إليه، وتأثير فعله أقوى من تأثير فعل النائم، لأنه مختار ومعتد، بخلاف النائم، فكذا في مسألتنا.
وإلى هنا قد ذكرت بتوفيق الله سبحانه وتعالى المسائل المهمة التي قد يقع فيها الاشتباه في عصرنا في حوادث المرور، والقواعد التي تنبني عليها مثل هذه المسائل، ويمكن على هذا الأساس أن تستخرج المسائل الأخرى في هذا الباب، وما تمكنت في هذه العجالة من استقصاء الجزئيات التي تتصور في عهدنا من حوادث المرور على الرغم من رغبتي لذلك، وذلك لضيق الوقت وارتباطي بالمهام الأخرى، ولكن أرجو أن ما ذكر في هذه العجالة سيكون عونا بإذن الله تعالى لاستخراج أحكام الصور الأخرى.
والله سبحانه وتعالى أعلم وعلمه أتم وأحكم.
القاضي محمد تقي العثماني.(8/678)
حوادث السير
إعداد
د. عبد الله محمد عبد الله
عضو اللجنة الاستشارية العليا
للعمل على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بالكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
حوادث السير:
1- مسؤولية السائق في حوادث السير.
2- أثر هذه المسؤولية في التعويض والزجر والكفارة.
نتناول هذا الموضوع في فصول:
الفصل الأول: مسؤولية السائق جزائيًّا.
الفصل الثاني: مسؤولية السائق مدنيا.
الفصل الثالث: أثر المسؤولية في التعويض والزجر.
الفصل الرابع: أحكام الكفارة.(8/679)
الفصل الأول
مسؤولية السائق جزائيا
مقدمة في معنى كلمتي المسؤولية والجزاء ومدلولهما:
تعني كلمة المسؤولية في أصلها اللغوي معنى المطالبة والمؤاخذة، جاء في التنزيل في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] ومعناه تطلبون حقوقكم به. وفي قوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10] قال الزجاج: إنما قال سواء للسائلين؛ لأن كلا يطلب القوت ويسأله (1) ، وفي قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] أي: يسأل كل واحد منهم عما اكتسب؛ فالفؤاد يسأل الإنسان عما افتكر فيه واعتقده، والسمع والبصر عما رأى من ذلك وسمع. والمعنى الآخر هو أن الله سبحانه وتعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) .
فالإنسان راع على جوارحه، فكأنه قال: كل هذه كان الإنسان عنها مسؤولا (2) .
وفى الاصطلاح لا يختلف المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.
فإن الإنسان يسأل عما جنته يداه وعما ألحقه بالغير من ضرر في النفس أو المال، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه من العهد هو القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضي إلا إذا دل دليل خاص على جواز النقض، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] فالمسؤول هنا هو صاحبه (3) . وتعريف المسؤولية في القانون: هي المؤاخذة والتبعة (4) ، وفي تعريف آخر: إنها اقتراف أمر يوجب مؤاخذة فاعله (5) ، وفي الفقه الإسلامي تأتي المسؤولية بمعنى الضمان.
__________
(1) لسان العرب مادة (سأل)
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 10 / 259 – 260
(3) فتح البيان لصديق خان: 5 / 254
(4) المسؤولية المدنية في القانون المصري لمصطفى مرعي
(5) المسؤولية المدنية التقصيرية والعقدية للمستشار حسين عامر ص 3(8/680)
ويعرف الشيخ محمود شلتوت الضمان بقوله: " تضمين الإنسان عبارة عن الحكم عليه بتعويض الضرر الذي أصاب الغير من جهته" (1) .
معنى الجزاء:
أما الجزاء فهو المكافأة على الشيء. والجزاء يكون ثوابا وعقابا.
قال تعالى: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74 – 75] .
جاء في اللسان أن معناه: عقوبته إن بان كذبكم بأنه لم يسرق، أي ما عقوبة السرقة عندكم إن ظهرت عليه؟ قالوا: جزاء السارق عندنا من وجد في رحله، أي الموجود في رحله؛ كأنه قال: جزاء السرق عندنا استرقاق السارق الذي يوجد في رحله، وكانت سنة آل يعقوب (2) .
وفي العرف المستقر عليه إطلاق قانون الجزاء على العقوبات، ويطلق عليها أيضا الجنايات (3) والجراح (4) والجرائم، ومن ثم أطلق على من يقوم بملاحقة المجرمين ومعاقبتهم: والي الجرائم (5) .
__________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة ص 392
(2) لسان العرب مادة (جزى)
(3) الشرح الصغير: 4 / 387
(4) مغني المحتاج: 4 / 2، وحاشية الجمل: 5 / 2
(5) الأحكام السلطانية للماوردي ص 275(8/681)
مسؤولية السائق جزائيا
الشريعة الإسلامية لم تأخذ بمبدأ تحديد العقوبة إلا في عدد قليل من الجرائم كالردة والقتل والحرابة والزنى والسرقة والقذف وشرب الخمر، وتركت فيما عدا ذلك لولي الأمر من الحكام والقضاة ومن ينتدبون لذلك سلطة التعزير بالعقوبة المساوية حسب كل حالة، وهو اتجاه يحبذه بعض رجال القانون في أوروبا – وخاصة في إيطاليا (1) - ولكن لا يمنع ولي الأمر من إصدار قانون يحدد فيه العقوبة على كل جريمة لم يرد بشأنها عقوبة محددة من الشارع، وقد بين ابن القيم في الطرق الحكمية ذلك فقال:
"والمعاصي ثلاثة أنواع: نوع فيه حد ولا كفارة فيه؛ كالزنى والسرقة وشرب الخمر والقذف فهذا يكفي فيه الحد عن الحبس والتعزير.
ونوع فيه كفارة ولا حد فيه؛ كالجماع في الإحرام ونهار رمضان، ووطء المظاهر منها قبل التكفير، فهذا يكفي فيه الكفارة عن الحد، وهل تكفي عن التعزير؟ فيه قولان للفقهاء.
ونوع لا كفارة فيه ولا حد؛ كسرقة ما لا قطع فيه، واليمين الغموس عند أحمد وأبي حنيفة، والنظر إلى الأجنبية ونحو ذلك، فهذا نوع فيه التعزير وجوبًا عند الأكثرين وجوازا عند الشافعي " (2) .
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي: 1 / 159
(2) الطرق الحكمية ص 106، 107(8/682)
ومن الأمثلة الحية لجرائم التعزير قوانين المرور ولوائحها التنفيذية المتعلقة بحوادث السير. ولنضرب على ذلك مثلا: قانون المرور بدولة الكويت ولائحته التنفيذية: صدر مرسوم بقانون رقم 67 / 1976 في شأن المرور. وجاء في المذكرة الإيضاحية لهذا القانون أنه استرشد في إعداده بالمشروع الموحد لقواعد المرور على الطرق في الدول العربية الذي أعدته الجامعة العربية، وكذلك بقوانين الدول العربية الأخرى، وبما هو متخذ في الخارج من إجراءات حديثة للتقليل ما أمكن من حوادث المرور.
واشتمل هذا القانون على ستة أبواب:
جاء في الباب الأول الأحكام العامة، ومنها نطاق سريان هذا القانون على المشاة والحيوانات، كما تضمن تعاريف العبارات الفنية الخاصة بالمرور، وبين أنواع المركبات التي ينطبق عليها.
وتضمن الباب الثاني القواعد الخاصة بترخيص تسيير المركبات الآلية، واستلزم توافر شروط الأمن والمتانة في أية مركبة يرخص لها، على أن تبين هذه الشروط اللائحة التنفيذية، وبين قواعد نقل الملكية، وأعطت وزير الداخلية تحديد عدد المركبات التي يرخص من جميع الأنواع فيما عدا السيارات الخاصة وذلك تفاديا لزيادة عدد المركبات.(8/683)
واشتمل الباب الثالث على أحكام رخص قيادة المركبات، فحظر قيادة أية مركبة آلية بغير رخصة قيادة. ونص على ضرورة الاختبار قبل الحصول على الرخصة، واستحدث نصا خاصا بتنظيم أندية السيارات التي تصرف الرخص الدولية.
وبين الباب الرابع قواعد المرور وآدابه.
وبين الباب الخامس العقوبات التي توقع على مرتكبي المخالفات لأحكام هذا القانون.
وتناول الباب السادس أحكاما عامة خاصة بحجز السيارات والمركبات، وبين سلطات رجال المرور في القبض والتحقيق والادعاء.
ثم أصدر وزير الداخلية القرار رقم 81 / 76 باللائحة التنفيذية لقانون المرور، وتضمنت التفصيلات لما ورد ذكره إجمالا في القانون سالف البيان.
إضافة إلى هذا القانون توجد أحكام أخرى تتعلق بحوادث المرور؛ مثل حوادث القتل الخطأ والإصابة الخطأ المنصوص عليها في قوانين الجزاء. وأنه إضافة إلى العقوبات المنصوص عليها في قانون الجزاء، أعطى قانون المرور في المادة 42 لمدير إدارة المرور أن يأمر إداريا بسحب رخصة القيادة، أو ترخيص المركبة مع لوحاتها المعدنية، أو كليهما، لمدة أقصاها أربعة أشهر؛ وينتهي السحب الإداري بصدور الحكم في الدعوى العمومية.
وليس هذا القانون بدعا؛ فإن المسلمين عرفوا ذلك منذ القرون الأولى للهجرة؛ فهذه كتب الحسبة على اختلافها تحتوي على كثير من الأبواب والفصول، وتتناول كثيرا من الحرف والصناعات، ودور المحتسب في الرقابة عليها، ومعاقبة المخالفين. يقول صاحب معالم القربة في افتتاح كتابه: وبعد؛ فقد رأيت أن أجمع في هذا الكتاب من أقاويل العلماء، مستندا به إلى أحاديث النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، ما ينتفع به من استند لمنصب الحسبة، وقلب النظر في مصالح الرعية، وكشف أحوال السوقة وأمور المعيشة على الوجه المشروع؛ ليكون ذلك عمادا لسياسته وقواما لرئاسته… إلى أن يقول: وجعلته في سبعين بابا يشتمل كل باب منها على فصول شتى، يخصص الباب الرابع والخامس في الحسبة على أصحاب السفن والمراكب، والباب الخمسين في الحدود والتعزيرات. وكذلك الشيرازي في نهاية الرتبة، وابن بسام المحتسب في كتاب نهاية الرتبة أيضا، ويخصصان الباب الثاني من كتابيهما في النظر في الأسواق والطرقات وحمولات المراكب والتعازير؛ يقول ابن بسام في الباب السادس عشر والمائة في ترتيب التعزير: التعزير على قدر أحوال الناس، وعلى قدر الجناية، فمن الناس من يكون تعزيره بالقول والتوبيخ، ومنهم من يضرب بالسوط ولا يبلغ أدنى الحدود، ومنهم من يضرب بالدرة ويلبس الطرطور ويركب على جمل أو حمار.(8/684)
فهذه جملة صالحة من الأحكام التي يتعين مراعاتها على كل قائد مركبة بحيث يترتب على مخالفته لهذه الأحكام المساءلة والعقاب، فبعض هذه الأحكام تتعلق بمدى صلاحية المركبة للاستعمال وشروط الأمن والمتانة، وبعضها تتعلق بقواعد المرور وآدابه، ورعاية إشارات المرور وأماكن الوقوف ونحو ذلك، ويترتب على مخالفتها تعريض حياة الأشخاص والأموال للخطر، هذا فضلا عن الحوادث التي تقع بالفعل ويترتب عليها إصابات أو إتلاف الأموال، وحددت القوانين لها عقوبات محددة، وهي من قبيل التعازير التي أسلفت الكلام عنها.
أما القوانين الوضعية، والفقه الحديث فإنه يعتبر المساءلة المدنية فرع المساءلة الجزائية، فللحكم الجزائي حجته أمام المحاكم المدنية. يقول السنهوري في الوسيط: (وإنما يرجع تقييد القضاء الجنائي للقضاء المدني إلى اعتبارين: أحدهما قانوني والآخر عملي. أما الاعتبار القانوني فهو أن الحكم الجنائي له حجية مطلقة، فهو حجة بما جاء فيه على الناس كافة، ومنهم الخصوم في الدعوى المدعية. والاعتبار العملي هو أنه من غير المستساغ – والمشاكل الجنائية من النظام العام – أن يقول القاضي الجنائي شيئا فينقضه القاضي المدني؛ فإذا صدر حكم جنائي بإدانة متهم أو براءته كان مؤذيا للشعور العام. فإن الحكم الجنائي إذا قضى بأن المتهم مجرم، لا يسوغ للقاضي المدني أن يقول: إن المتهم بريء، ولا يحكم عليه بالتعويض.وكذلك إذا قال: إن المتهم بريء، فيقول القاضي المدني: إنه مجرم. ويحكم عليه بالتعويض (1) .
__________
(1) الوسيط: 1 / 946، 947(8/685)
الفصل الثاني
مسؤولية السائق مدنيا
أخذت حوادث السير تتفاقم ويتضاعف عددها في سرعة فائقة، وأصبحت في نصف القرن الأخير في طليعة المسائل التي تشغل بال المهتمين في مختلف بلاد العالم.
ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها:
أولا - النهضة الصناعية الكبرى التي انتشرت في مختلف بلاد العالم، وكثر بسببها استعمال الآلات الميكانيكية والكهربائية.
ثانيا – ذيوع التأمين على المسؤولية، وما أدى إليه من زيادة الحوادث الضارة نتيجة الإهمال والتهاون، اعتمادا على قيام شركات التأمين لتغطية الضرر الذي ينجم عن حوادث السير في النفس والمال.
ثالثا – انتشار النزعة المادية التي اجتاحت العالم نتيجة لرواج الصناعة والتجارة وزيادة الأرباح وتضخم الثروات، وما صاحب ذلك من حرص وجشع، فلم يعد يطيق الإنسان أن تفلت منه فرصة للربح، ولا يحتمل أن يحل به ضرر دون أن يبحث عمن يحمله مسؤولية هذا الضرر ويطالبه بالتعويض.
كل هذه الأسباب وغيرها أدت إلى تضخم عدد قضايا المسؤولية المدنية.
يقول السنهوري: من الميادين التي يتسع فيها المجال لوقوع الخطأ حوادث النقل، فقد زادت أخطار النقل بقدر ما تعدد من وسائله وما امتد من نشاطه. ويقع كل يوم من حوادث النقل ما يوجب المسؤولية، وهي حوادث متنوعة تنجم عن وسائل النقل المختلفة من الدواب إلى المركبات إلى السيارات إلى السفن إلى الطائرات في البر والبحر والجو (1) .
__________
(1) الوسيط: 1 / 813، 814(8/686)
وأساس مسؤولية السائق في حوادث السير في القانون هو الفعل الضار، ويطلق عليه أيضا العمل غير المشروع أو المسؤولية التقصيرية، حيث يعتبر أحد مصادر الالتزام بل يعد أوسع المصادر القانونية للالتزام.
وأركان هذه المسؤولية ثلاثة: الخطأ والضرر والعلاقة السببية أو الرابطة السببية (1) . ومن الأمثلة المألوفة لحوادث السير: أن يقود شخص سيارة ويسير بها بسرعة ينجم عنها الخطر، أو أن يسير في الليل دون أن يوقد مصباح السيارة، أو أن يسير على الجانب الأيسر من الطريق، أو أن يدخل من شارع جانبي إلى شارع رئيسي دون أن ينتظر مرور السيارات التي تسير في الشارع الرئيسي، أو أن يخالف لوائح المرور ونظمها.
وفي كل هذه الحالات يكون الساق مسؤولا عن الخطأ لانحرافه عن السلوك العادي في استعمال الرخصة المخولة له قانونا، وقد انبنى على ضوء كثرة حوادث المرور تعديل في القوانين اقتضتها الزيادة الهائلة في الإصابات، فلم يعد مطلوبا من المضرور إثبات الضرر، فقد أصبح الخطأ مفترضا على أساس حراسة الأشياء التي تتطلب حراستها عناية خاصة، ومن ثم فإن السائق باعتباره حارسا مسؤولا عما تحدثه وسائل النقل من ضرر، ما لم يثبت أن وقوع الضرر كان بسبب أجنبي عنه لا يد له فيه (2) ؛ كأن يكون نتيجة قوة قاهرة أو حادث فجائي أو فعل المضرور أو خطأ الغير.
__________
(1) المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الكويتي، انظر التعليق على المادة 227 من القانون
(2) الوسيط 1 / 817، 819، 880، 987؛ والمذكرة الإيضاحية للقانون المدني الكويتي في تعليقها على المادة 233(8/687)
والفقه الإسلامي يتفق في كثير من مسائله مع ما هو مقرر في الفقه الوضعي، إلا أن ما يصيب الإنسان في ماله يبحث فيه في باب الإتلاف، أو ما يصيب الشخص في نفسه وبدنه؛ فيبحث فيه في باب الجنايات والديات.
قال في مجمع الضمانات: الجناية اسم لما يجتنيه المرء من شرٍّ اكتسبه، وفي الشرع اسم لفعل محرم سواء كان في مال أو نفس، لكن في عرف الفقهاء يراد بإطلاق اسم الجناية فعل محرم في النفس والأطراف (1) .
أركان المسؤولية في حوادث السير:
بينا أن أركان المسؤولية في الفقه الوضعي والقوانين بصفة عامة هي: الخطأ، والضرر، والعلاقة أو الرابطة السببية.
وفي الفقه الإسلامي يشترط تحقق هذه الأركان:
الركن الأول – الخطأ:
وتعريفه في القانون بأنه إخلال بالتزام قانوني، والالتزام القانوني الذي يعتبر الإخلال به خطأ في المسؤولية التقصيرية، هو الالتزام ببذل عناية بأن يصطنع الشخص في سلوكه اليقظة والتبصر حتى لا يضر بالغير، فإذا انحرف عن هذا السلوك كان هذا الانحراف خطأ يستوجب مسؤولية تقصيرية (2) .
وعرف الفقهاء الخطأ بأنه فعل يصدر من الإنسان بلا قصد إليه عند مباشرة أمر مقصود سواه (3) .
ويعرفه الكمال بن الهمام بأن يقصد بالفعل غير المحل الذي يقصد به الجناية (4) .
وحكم الخطأ في الشريعة الإسلامية بالنسبة لحقوق العباد أنه لا يسقط بالخطأ بل يجب ضمان المتلفات والديات وكل ما يتعلق بحقوق العباد، ولكن لا يجب القصاص؛ كما لو رمى إنسانا على ظن أنه صيد فقتله (5) .وقد اعتبر الفقهاء حوادث الطريق من قبيل الخطأ، يقول ابن قدامة في شرحه على قول المتن: "وإن تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عائلة كل واحد منهما دية الآخر" قال: ولا يجب القصاص سواء كان اصطدامهما عمدا أو خطأ؛ لأن الصدمة لا تقتل غالبا، فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ، وكذلك الحكم في اصطدام السفينتين، وكذلك بالنسبة لاصطدام الفارسين.
قال عند تعليقه على المتن: "وإذا اصطدم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر".
__________
(1) حاشية رد المحتار 6 / 527، مجمع الضمانات للبغدادي ص 165
(2) الوسيط 1 / 777، 779
(3) التلويح: 2 / 195، الموسوعة الفقهية، مصطلح (خطأ) : 19 / 129
(4) تيسير التحرير: 2 / 305
(5) الموسوعة الفقهية، مصطلح (خطأ)(8/688)
قال: وجملته أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال، سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلتين أو حمارين أو جملين، أو كان أحدهما فارسا والآخر غيره، سواء كانا مقبلين أو مدبرين، ويتفق معه في ذلك الشيرازي من الشافعية في المهذب (1) . وللمالكية تفصيل، حيث حملوا تصادم السفينتين إذا تصادمتا وجهل الحال على عدم المقصد من رؤسائهما، فلا قود ولا ضمان؛ لأن جريهما بالريح من عمل أربابهما كالعجز الحقيقي بحيث لا يستطيع كل منهما أن يصرف دابته أو سفينته عن الآخر؛ فلا ضمان بل هو هدر. لكن الراجح أن العجز الحقيقى في المتصادمين فيه ضمان الدين في النفس، والقيمة في الأموال، بخلاف السفينتين فهدر، وحملا عليه عند جهل الحال، وأما لو قدر أهل السفينتين على الصرف ومنعهم خوف الغرق أو النهب أو الأسر، حتى أهلكت إحدى السفينتين الأخرى؛ فضمان الأموال في أموالهم والدية على عواقلهم، لأنهم لا يجوز لهم أن يسلموا بهلاك غيرهم (2) .
فإذا انتفى الخطأ فلا مسؤولية، كما إذا كان أحدهما واقفا والآخر يسير فصدم الواقف فلا شيء على الواقف والضمان على الصادم، فإذا مات هو أو دابته فهو هدر لأنه أتلف نفسه ودابته. أما إذا كان الواقف متعديا بوقوفه، مثل أن يقف في طريق ضيق، فالضمان عليه دون السائر لأن التلف حصل بتعديه (3) .
وتحقيق ذلك كما قاله السرخسي في المبسوط: هو أن السير على الدابة في الطريق العام مباح مقيد بشرط السلامة بمنزلة المشي، فإن الحق في الطريق العام لجماعة المسلمين، وما يكون حقا للجماعة يباح لكل واحد استيفاؤه بشرط السلامة، لأنه حقه في ذلك يمكنه من الاستيفاء، ودفع الضرر عن الغير واجب عليه، فيقيد بشرط السلامة ليعتدل النظر من الجانبين، ثم إنما يشترط عليه هذا القيد فيما يمكن التحرز عنه دون ما لا يمكن التحرز عنه؛ لأن ما يستحق على المرء شرعا يعتبر فيه الوسع، ولأنا لو شرطنا عليه السلامة عما لا يمكن التحرز عنه تعذر عليه استيفاء حقه لأنه يمتنع من المشيء والسير على الدابة مخافة أن يقتل بما لا يمكن التحرز عنه، فأما ما يستطاع الامتناع عنه لو شرطنا عليه صدق السلامة من ذلك لا يمتنع عليه استيفاء حقه وإنما يلزم منه نوع احتياط في الاستيفاء (4) .
__________
(1) المغني 9 / 173 – 175، المهذب 2 / 164
(2) حاشية الصاوي على أقرب المسالك (4/ 346)
(3) المغني: 9 / 179؛ المهذب 2 / 164
(4) المبسوط 26 / 188(8/689)
ولما كان السير في الطرق العام مباحا لكل أحد من الناس سيرا على الأقدام أو استعمالا لأية وسيلة من الوسائل التي يتيحها العصر، فإن الإنسان لا يسأل إلا عن فعل غير مأذون فيه ويترتب عليه أذى للغير.
أنواع الخطأ:
الخطأ نوعان: 1- مباشر. 2- تسبب.
المباشر: هو الذي يحصل التلف من فعله دون أن يتخلل بينه وبين التلف فعل فاعل آخر؛ لأن المباشرة علة، والعلة مقارنة للحكم، ولذا فإن كل شخص مسؤول عن فعله سواء وقع منه قصدا أو خطأ خلافا للتسبب (1) .
المتسبب: هو من يصدر عنه من الأفعال ما كان طريقا لتلف مال أو نفس أو عضو وليس علة للتلف، لأنه من الأفعال الصالحة للضدين أو هو ما وقع التلف بفعله مع حلول فعل فاعل آخر بين الفعل الواقع والتلف، وهو المتسبب بالتلف، ولا يضمن المتسبب إلا إذا كان معتديا بفعله وكان الفعل الواقع بسببه دون مباشر.
وقد عرفت المادة 887 من مجلة الأحكام العدلية الإتلاف مباشرة: بأنه إتلاف الشيء بالذات، ويقال لمن فعله: فاعل مباشر.
وعرفت المادة 888 الإتلاف سببا بأنه التسبب لتلف شيء؛ يعني إحداث أمر في شيء يفضي إلى تلف شيء آخر على جري العادة، ويقال لفاعله: متسبب؛ كما أن قطع حبل قنديل معلق يكون سببا مفضيا لسقوطه على الأرض وانكساره، ويكون حينئذ قد أتلف الحبل مباشرة والقنديل تسببا. ومن الأمثلة التي ذكرها صاحب مجمع الضمانات للتسبب: رجل وضع في الطريق حجرا أو جذعا أو بنى فيه بناء أو أخرج من حائطه جذعا أو صخرة شاخصة… فإن عثر بما أحدثه في الطريق رجل فوقع على آخر فمات كان الضمان على الذي أحدثه في الطريق، وصار كأنه دفع الذي عثر به؛ لأنه مدفوع في هذه الحالة، والمدفوع كالآلة، ولو نحى رجل شيئا من ذلك عن موضعه فعطب بذلك إنسان كان الضمان على الذي نحاه ويخرج الأول من الضمان (2) .
__________
(1) مجمع الضمانات ص 165، شرح المحاسني للمادة 92، وشرح علي حيدر للمادة نفسها
(2) مجمع الضمانات ص 176؛ والفروق للقرافي في الفرق السابع عشر بعد المائة؛ الأشباه والنظائر للسيوطي ص 162(8/690)
وقد ذكرت المجلة في المادة الثانية والتسعين حكم المباشر فقالت: المباشر ضامن وإن لم يتعمد، ويقول الأتاسي في شرحه لها: لأن المباشرة علة للتلف اسما لإضافة الحكم إليها لأنها مؤثرة فيه، وحكما لعدم تراخي الحكم عنها، فيضمن وإن كان مخطئا؛ سواء كان الخطأ في نفس الفعل، نحو أن يقصد صيدا فأصاب شاة لإنسان، أو في ظن الفاعل، نحو أن يظن الشاة حجرا فأصابها بسهمه، أو لم يكن هذا ولا هذا، كما لو انقلب وهو نائم على مال فأتلفه، قال: وإن لم يتعمد لأنه مع التعمد من باب أولى وعليه الإثم وبدونه ضمان ولا إثم (1) .
كما بينت المادة 93 حكم المتسبب فنصت على أن المتسبب لا يضمن إلا إذا كان متعمدا أو متعديًا، ويتحقق التعمد أو التعدي إذا كان يعلم أن فعله سيؤدي إلى الضرر الذي وقع، فجعل العلم دليلا على التعمد قائما مكانه (2) .
ويقول صاحب درر الحكام: "ويشترط في ضمان المتسبب شيئان:
1- أن يكون متعمدا.
2- أن يكون معتديًا" (3) .
ويقول الأتاسي موضحا معنى المتسبب: المتسبب ما كان فعله مفضيا إلى الحكم كالتلف مثلا من غير تأثير، وإنما المؤثر هو العلة المتوسطة، لكن تلك العلة قد لا يصح إضافة الحكم إليها، فيضاف إلى السبب، فعند ذلك ينظر: إن كان نحو التلف حاصلا عن فعل المتسبب بغير حق، كحفر البئر في الطريق العام أو في ملك الغير يضمن ما تلف فيه وإن لم يتعمد؛ لأنه متعمد بنفس الفعل. وإن حصل عن فعل مباح له في ذاته إلا أنه تعمد بقصد إيجاد العلة المؤثرة التي حصل منها التلف، ولا تصلح لإضافة الحكم إليها، يقال: متسبب متعمد فيضمن، ويضرب مثلا لذلك: لو حفر أحد في الطريق العام بئرا بلا إذن ولي الأمر ووقعت فيها دابة لآخر تلف، يضمن، وأما لو وقعت الدابة في بئر كان قد حفرها في ملكه وتلفت لا يضمن؛ أي لزم الضمان لحفر البئر بغير حق، وعدمه لحفرها بحق، وهو التصرف في ملكه؛ كذلك لو هدم بيته بنفسه فانهدم به بيت جاره، لا يضمن؛ لأنه غير متعد.
__________
(1) شرح المجلة للأستاذ خالد الأتاسي: 1 / 255
(2) شرح الأتاسي: 1 / 257
(3) درر الأحكام شرح مجلة الأحكام: 12 / 83(8/691)
وبينت المادة التسعون حكم ما إذا اجتمع المباشر والمتسبب، فتنص على أنه إذا اجتمع المباشر والمتسبب أضيف الحكم إلى المباشر، ومثاله: لو حفر رجل بئرا في الطريق العام، فألقى أحد حيوان شخص في ذلك البئر، ضمن الذي ألقى الحيوان ولا شيء على حافر البئر؛ لأن حفر البئر بحد ذاته لا يستوجب تلف الحيوان لو لم ينضم إليه فعل المباشر – وهو إلقاء الحيوان في البئر – لما تلف بحفر البئر فقط (1) .
وهذه القواعد يتفق عليها فقهاء المذاهب، يقول ابن عبد السلام في قواعده: يجب الضمان بأربعة أشياء: اليد والمباشرة والتسبب والشرط (2) .
ويقول السيوطي في قاعدة: إذا اجتمع السبب أو الغرر والمباشرة قدمت المباشرة (3) ، ويسوق أمثلة كالأمثلة التي ذكرناها.
ويذكر صاحب الفروق في المالكية في الفرق السابع عشر بعد المئتين: أسباب الضمان ثلاثة: أحدهما التفويت مباشرة، وثانيها: التسبب للإتلاف، وثالثها: وضع اليد غير المؤتمنة (4) .
وفي قواعد ابن رجب: إذا استند إتلاف أموال الآدميين إلى مباشرة وسبب تعلق الضمان بالمباشرة دون السبب؛ إلا إذا كانت المباشرة مبنية على السبب وناشئة عنه.. ثم إن كانت المباشرة والحالة هذه لا بد وأن فيها بالكلية استقل السبب وحده بالضمان. وإن كان فيها عدوان شاركت السبب الضمان، ويضرب جملة من الأمثلة لذلك منها: إذا حفر واحد بئرا عدوانا، ثم دفع غيره فيها آدميا معصوما أو مالا لمعصوم، فسقط فتلف، فالضمان على الدافع وحده. ومنها: لو رمى معصوما من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقتله به، فالفاعل هو الثاني دون الأول (5) .
الركن الثاني – الضرر:
يعرف القانونيون الضرر بأنه: الأذى الذي يصيب الشخص في حق من حقوقه أو في مصلحة مشروعة له؛ سواء كان ذلك الحق أو تلك المصلحة متعلقة بسلامة جسمه أو عاطفته أو بماله أو حريته أو شرفه واعتباره أو غير ذلك؛ فهو شرط ضروري لقيام المسؤولية التقصيرية وإمكان المطالبة بالتعويض،لأن التعويض لا يكون إلا عن ضرر أصاب طالبه، ولأن مدعى المسؤولية لا تكون له مصلحة في الدعوى إلا إذا كان قد أصابه ضرر يطالب بتعويضه (6) .
__________
(1) درر الأحكام شرح مجلة الأحكام: 12 / 83
(2) قواعد الأحكام: 2 / 155
(3) الأشباه والنظائر: ص 162
(4) الفروق للقرافي: 4 / 27
(5) القواعد لابن رجب، القاعدة السابعة والعشرون بعد المائة
(6) الوسيط: 1 / 310(8/692)
والضرر وما يترتب عليه من تعويضات قد لا يكون بهذا العموم في الفقه الإسلامي، إلا أنه بما لا شك فيه أن الضرر الذي يلحق الإنسان في بدنه أو في ماله، أفرد الفقهاء لكل نوع من هذين النوعين أبوابا خاصة في كتب الفقه، وإن كانت أسباب الوجوب واحدة هي التعدي والتقصير كما بينا فيما تقدم. ويعرف بعض الفقهاء الضرر بأنه إلحاق مفسدة بالغير مطلقا (1) . وقد وردت عدة قواعد تعالج مشكلة الضرر.
القاعدة الأولى: " لا ضرر ولا ضرار " وهذا نص الحديث، قال عنه الهيثمي: "رجاله ثقات"، وقال النووي في الأذكار: "هو حسن".
قال المحاسني في شرحه لهذه المادة: ومعناه نفي وقوع الضرر ونفي المقابلة بالضرر فلا يحق لمن تلف ماله أن يتلف مال من أتلف ماله؛ لأن الإتلاف لا يجبر ما أتلف أولًا، ولا يعوض عنه شيئا، وإنما الجابر هو التعويض على من أتلف ماله بالمثل أو بالقيمة. قال: ولقد أسس هذا الحديث قاعدتين عظيمتين عليهما مدار استخراج أكثر الأحكام، كالغصب والإتلاف والحيطان والجيران وأحكام الطرق والمسيل والمرور. وهو من جوامع الكلم.
ويقول علي حيدر: وتشتمل هذه القاعدة على حكمين:
الأول: أنه لا يجوز الإضرار ابتداء، أي لا يجوز للإنسان أن يضر شخصا آخر في نفسه وماله؛ لأن الضرر هو ظلم والظلم ممنوع في كل دين، وجميع الكتب السماوية قد منعت الظلم…
والثاني: وهو أنه لا يجوز مقابلة الضرر بمثله وهو الضرار.
والقاعدة الثانية: " الضرر يزال ". والقاعدة الثالثة: "الضرر لا يزال بمثله". ومعنى القاعدتين أنه لو وقع فعل من أحد على غيره سواء كان غير مشروع أصلا، أو كان مشروعا لكنه أضر بالغير، يزال، لكن لا يزال بالطريق الذي حصل به ذلك الضرر.
وقد يستعمل الفقهاء تعبيرات أخرى مرادفة للضرر كالإتلاف والإفساد.
الركن الثالث – العلاقة السببية أو الرابطة السببية:
يقول الأستاذ السنهوري: إن علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر معناها أن توجد علاقة مباشرة ما بين الخطأ الذي ارتكبه المسؤول، والضرر الذي أصاب المضرور، والسببية هي ركن مستقل عن ركن الخطأ، وآية ذلك أنها قد توجد ولا يوجد الخطأ، ويسوق لذلك أمثلة نقتصر على مثال واحد منها: شخص يقود سيارة دون رخصة ثم يصيب أحد المارة وتكون الإصابة بخطأ يقع من هذا المصاب؛ فهنا خطأ وهو قيادة السيارة دون رخصة، وضرر وهو إصابة أحد المارة، ولكن الخطأ ليس هو السبب في الضرر بل هناك سبب أجنبي هو خطأ المصاب فوجد الخطأ دون أن توجد السببية (2) … إلى أن يقول: فحيث تنعدم السببية ينعدم في الوقت ذاته الضرر، ومن هذا الوجه يكون الضرر والسببية متلازمين (3) .
__________
(1) فيض القدير: 6 / 431
(2) الوسيط: 1 / 872، 873
(3) ذات المصدر ص 884(8/693)
العلاقة السببية في الفقه الإسلامي:
يشترط كذلك في الفقه الإسلامي أن توجد علاقة سببية بين التعدي أو الخطأ وبين الضر الذي لحق بالمصاب حتى تكون هناك مسؤولية عن حد الضرر، فلو وضع إنسان سُمًّا في طعام أحد وقبل سريان السم فيه أتى شخص آخر وقتله؛ فهنا خطأ وهو وضع السم، وضرر وهو موت المصاب، ولكن لم تتحقق رابطة السببية، إذ الموت حصل من إطلاق النار لا من وضع السم، فوجد الخطأ ولكن انقطعت رابطة السببية: فلا مسؤولية على الفاعل. ومن الأمثلة التي ساقها الزيلعي ويتحقق فيها انعدام الرابطة السببية لو أن رجلا طرح رجلا أمام سبع فقتله السبع فليس على الطارح شيء (1) .
انعدام الرابطة أو انتفاؤها:
ينبغي أن يكون الخطأ هو السبب في إحداث الضرر، فإذا كان الضرر بسبب أجنبي انعدمت السببية أو كان السبب غير منتج أو غير مباشر فتخصص لكل منهما فقرة: انتفاء الرابطة السببية لقيام سبب أجنبي كقوة قاهرة أو حادث مفاجئ أو فعل المضرور نفسه أو فعل الغير (2) .
فإذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب من هذه الأسباب كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر.
أ- القوة القاهرة والحادث الفجائي:
كلاهما يجب أن يكون غير ممكن التوقع ويستحيل دفعه، هذا في القانون، وفي الفقه الإسلامي قال بعضهم: هو أن يحصل التلف بقوة لا يستطيع الإنسان دفعها وليس في إمكانه أن يحترز عنها (3) ، أو هما كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان (4) .
فإذا حصل التلف بآفة سماوية فلا ضمان؛ لأن القاعدة الفقهية تقضي: كل ما لا يمكن الاحتراز منه لا ضمان فيه" (5) .
__________
(1) شرح الزيلعي: 6 / 153
(2) المادة 233 مدني كويتي، والمادة 165 من القانون المدني المصري
(3) المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية ص 32
(4) النظرية العامة للموجبات والعقود 1 / 288
(5) نظرية الضمان ص 35(8/694)
ومن الأمثلة الفقهية التي ذكرها صاحب مجمع الضمانات: إذا غرقت السفينة، فلو من ريح أصابها أو موج أو جبل صدمها من غير مد الملاح وفعله لا يضمن بالاتفاق، وإن كان بفعله؛ يضمن سواء خالف بأن جاوز العادة أو لم يخالف. ولو دخلها الماء فأفسد المتاع فلو بفعله ومده يضمن بالاتفاق، ولو بلا فعله إن لم يمكن التحرز عنه لا يضمن إجماعا، وإن كان بسبب يمكن التحرز عنه لا يضمن عند أبي حنيفة، وعندهما يضمن (1) . ويذكر ابن قدامة صورا مختلفة لتصادم السفينتين ويقول: وإن لم يكن من واحد منهما تفريط، لكن هاجت ريح أو كان الماء شديد الجرية فلم يمكنه ضبطها، فلا ضمان عليه؛ لأنه لا يدخل في وسعه ضبطها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها (2) .
وفي مجمع الضمانات: سكران جمح به فرسه فاصطدم إنسانا فمات، أجاب: إن كان لا يقدر على منعه فليس عليه ضمان، فلا يضاف سيره إليه فلا يضمن، قال: وكذا غير السكران إذا لم يقدر على المنع (3) .
ب- فعل المضرور وخطؤه:
من الأمثلة التي وردت في مجمع الضمانات والتي تدل على أن الضرر الذي وقع إن كان من فعل المضرور نفسه فليس على الطرف الآخر مسؤولية ذلك الفعل، مثل أرباب السفن إذا أوقفوها على الشط، فجاءت سفينة فأصابت السفينة الواقفة، فانكسرت السفينة الواقفة؛ كان ضمان الواقفة على صاحب السفينة الجائية، فإن انكسرت الجائية لا يضمن صاحب الواقفة؛ لأن الإمام أذن لأرباب السفن بإيقاف السفن على الشط فلا يكون تعديا (4) .
__________
(1) مجمع الضمانات ص 48
(2) المغني: 9 / 175
(3) مجمع الضمانات ص 189
(4) مجمع الضمانات ص 150(8/695)
كذلك لو عثر السائر بالواقف، قدم الماشي هدر وعلى عاقلته دية الواقف؛ لأن السائر هو المتلف، فكان الضمان عليه، فإن مات هو أو دابته فهو هدر، لأنه أتلف نفسه ودابته (1) .الصورة الأخرى لفعل المضرور هو اشتراكه مع الآخر في إحداث الضرر، أما في الصورة الأولى فكان الخطأ كله من جانب المضرور نفسه، أما في هذه الصورة فإن الاثنين يشتركان في الخطأ وفي إيقاع الضرر، ومثاله: أن يصطدم الفارسان فيتلفان أو تتلف دابتاهما. يقول ابن قدامة في هذه الصورة ويذكر مذاهب العلماء فيها، وجملته: أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال، سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين، أو كان أحدهما فرسا والآخر غيره، سواء كانا مقبلين أو مدبرين، وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه وإسحاق، وقال مالك والشافعي: على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر؛ لأن التلف حصل بفعلهما، فكان الضمان منقسما عليهما كما لو جرح إنسان نفسه وجرحه غيره فمات منها (2) .
ويقول صاحب المهذب من الشافعية في هذه الصورة: لأن كل واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه، فهدر النصف بفعله ووجب النصف بفعل صاحبه، كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرحه صاحبه (3) . وللمزني تفصيل يقول: إن استلقى أحدهما فانكب الآخر على وجهه وجب على المكب دية المستلقي وهدر دمه؛ لأن الظاهر أن المنكب هو القاتل والمستلقي هو المقتول (4) .
__________
(1) المغني 9 / 173، 174
(2) المغني: 9 / 173
(3) المهذب: 2 / 194
(4) ذات المرجع – ومجمع الضمانات ص 189(8/696)
والصورة الثالثة:
أن يكون فعل المضرور وخطؤه يفوق في جسامته خطأ الآخر وفي هذه الحالة لا يستحق أي تعويض. ونص القانون المدني الكويتي في المادة 257 على صورتين، إحداهما إذا تعمد المضرور إصابة نفسه، والأخرى أن تكون الإصابة قد لحقته نتيجة سوء سلوك فاحش ومقصود من جانبه، وتقول المذكرة التفسيرية: فالشخص الذي يتعمد أن يلحق بنفسه الأذى يعتبر أنه أهدر دمه بنفسه، ويأخذ الحكم العمد سوء السلوك الفاحش المقصود. ومن أمثلة سوء السلوك الفاحش ما جاء في مجمع الضمانات: رجل ساق حمارا وعليه وقر حطب، وكان رجل واقفا في الطريق أو يسير فنبهه السائق فلم يسمع حتى أصابه الحطب فخرق ثوبه، أو سمع ولكن لم يتهيأ له أن يتنحى عن الطريق لضيق المدة ضمن. وإن سمع وتهيأ لكن لم ينتقل لا يضمن، ولا فرق في هذا بين الأصم وغيره.
وكذا رجل جلس على الطريق فوقع عليه إنسان ولم يره فمات الجالس لا يضمن (1) .
__________
(1) مجمع الضمانات ص 190(8/697)
جـ- خطأ الغير:
ومن أمثلة خطأ الغير الهارب الخائف إذا وطئ أو صدم شيئا فذلك على الذي فعل به، وكذلك لو نخس أجنبي دابة لها سائق أو قائد أو راكب، ونشأ عن نخسها شيء، فعلى الناخس دون من معها من سائق أو قائد أو راكب، حتى لو قَتلت بنخسها لوجبت دية على عاقلة ذلك الناخس (1) .
أما ما تسببه البهائم المرسلة من حوادث على الطرقات فقد قال النووي بالضمان مطلقا لأنه مفرط بإرسالها (2) . وذهب آخرون إلى أن ما تتلفه البهائم من غير الزرع لا يضمن مالكها ليلا أو نهارا ما لم تكن يده عليها، مستدلين بحديث: ((العجماء جرحها جبار)) متفق عليه، لكن هذا ليس على إطلاقه؛ بل هو مقيد بأن لا ينشأ ذلك عن قصد منه أو تقصير، قال علي حيدر في شرحه للمادة 94 (جناية العجماء جبار) : لو ترك إنسان حيوانه مطلقا في الطريق العام، وهو مما لا يطلق في الشوارع، فأتلف مالا أو قتل إنسانا فتلزمه دية القتيل أو قيمة المال المتلف. وقد ورد في المادة 929 أن صاحب الثور النطوح والكلب العقور يكون ضامنا بما أتلفاه فيما إذا تقدم إليه أحد من أهل محلته أو قريته (3) .وفي الفتح عن بعض الشافعية: وأنه لو وجدت عادة قوم إرسال المواشي ليلا وحبسها نهارا انعكس الحكم على الأصح (4) .
__________
(1) الفواكه الدواني: 2 / 269 – مجمع الضمانات ص 187، 188
(2) المغني: 9 / 170، 171
(3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1 / 84
(4) فتح الباري: 15 / 283(8/698)
الفصل الثالث
أثر المسؤولية في التعويض والزجر
أولا – أثر المسؤولية في التعويض
يقصد بالتعويض في القانون جبر الضرر الذي لحق بالمصاب، وهو مختلف عن العقوبة التي يقصد بها مجازاة الجاني على فعلته للردع والزجر، والتعويض يقدر بقدر الضرر، أما العقوبة فتقدر بقدر خطأ الجاني ودرجة خطورته، والتعويض يكون عينيًّا ونقديًّا؛ فالتعويض العيني كما لو كسر شخص لوحا من الزجاج مملوكا للغير، فحكم عليه بإعطائه لوحا غيره من نوعه …… وهكذا غير أنه يتعذر في أحوال كثيرة، فيتعين التعويض النقدي. والقاعدة في تقدير التعويض النقدي: أن يقدر بقدر الضرر من مراعاة الظروف الملابسة، ويشمل ما لحق المصاب من خسارة وما ضاع عليه من كسب؛ بشرط أن يكون ذلك نتيجة طبيعية للفعل الضار.
ويكون تقدير مبلغ التعويض داخلا في سلطة القاضي (1) .
هذا في الفقه الوضعي وما يجري عليه العمل في المحاكم. أما في الفقه الإسلامي فإن التعويض بالمعنى السابق لا يكاد يكون معروفا في كتب الفقه الإسلامي إلا في القليل النادر، وإنما المستعمل لفظة (الضمان) يقال: ضمان المتلفات؛ وإبدال المتلفات، أو بدل المتلفات وقيم المتلفات بالنسبة للأموال، وضمان الجناية في حق الأبدان، وفارقت الأبدان الأموال في أن ضمان الأبدان مقدر من قبل الشارع، إلا في حالات قليلة تقديرها من قبل العدول وتسمى حكومة العدل، بخلاف الأموال فلم يأت في تقديرها شيء من قبل الشارع، بل ترك أمر التقدير فيها إلى الناس وتختلف باختلاف المواضع.
يقول السرخسي: وضمان الجناية إنما يفارق ضمان المتلفات في كونه مقدر شرعا، وأدن ذلك أرش الموضحة، فما دون ذلك بمنزلة ضمان المتلفات (2) .
__________
(1) الوسيط: 1 / 669، 971، والمذكرة التفسيرية للقانون المدني الكويتي ص 239 وما بعدها في تعليقها على المواد 245 – 274
(2) المبسوط: 26 / 84(8/699)
ووردت كلمة التعويض في المبسوط معطوفة على الضمان في تقديرات حكومة العدل لجراح الأبدان التي لا تقدير فيها من قبل الشارع، وأن دور القاضي في تقدير أروشها كتقدير المتلفات من الأموال المضمونة، يقول السرخسي: ولكن أظهر ما يكون معنى الضمان والتعويض هو في حكومة العدل، فإن تقدير القاضي فيها شبيه بتقدير المتلفات من الأموال المضمونة (1) .
ومن هنا يصح إطلاق التعويض على ما يجيز القدر الذي يلحق بالبدن مما لم يرد بشأنه تقدير من الشارع، أما ما عدا ذلك فتبقى المصطلحات الفقهية التي استعملها الشارع على ما هي عليه وتبقى إطلاقاته واستعمالاته في محلها، وقد استعمل الشارع لفظة الدية في مقابل هلاك النفس وبعض الحواس والأعضاء في البدن مما ورد بشأنه تقدير من الشارع، كإتلاف بعض المعاني والحواس والأعضاء في بدن الإنسان. كما أطلق لفظة الأرش على بدل الشجاج والجراح التي تلحق بالبدن، وبعضها ورد فيها تقدير من الشارع فتجب فيها تلك المقادير، وبعضها ليس فيها تقدير وإنما تجب فيها حكومة العدل. وقد استعمل القانون المدني الكويتي لفظة التعويض بحيث يشمل سائر عناصر التعويض بما فيها الدية والأرش؛ تقول المادة 248: إذا كان الضرر واقعا على النفس، فإن التعويض عن الإصابة ذاتها يتحدد طبقا لقواعد الدية الشرعية، من غير تمييز بين شخص وآخر، وذلك دون إخلال بالتعويض عن العناصر الأخرى للضرر.
__________
(1) المبسوط: 26 / 84(8/700)
وتشرح المذكرة التفسيرية هذه المادة بقولها: وتأتي المادة 248 لتقضي سلفا، وهو ما يتمثل في الدية الشرعية نفسها، والمشرع إذ يفعل ذلك يخالف الأصل العام المقرر في القانون المعاصر المتمثل في ترك تحديد التعويض للمحكمة لينحو منحى الفقه الإسلامي القاضي بأن يكون التعويض بقدر الدية كاملة كانت أم في جزء منها.
والتعويض عن ذات إصابة النفس يتحدد بالدية طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وحاصل هذا أن ذاك التحديد لا يكون إلا حينما تكون إصابة النفس مما يمكن أن تقوم عنها الدية والأرش، فإن لم تبلغ الإصابة مبلغ ما تدفع عنه الدية والأرش، وفق ما تقضي به أحكام الشرع الإسلامي وينص عليه جدول الديات، فإن التعويض عنها وفق ما يقدره القاضي حسب ما يراه جابرا للضرر، ويتفق هذا الحكم مع ما يقول به الفقه الإسلامي من أن قطع الأعضاء والجراح التي تصيب الإنسان فتنتقص من المنفعة أو الجمال، والتي لا يوجد فيها قصاص وليس لها دية أو أرش مقدر شرعا تجب فيها غرامة متروكة لتقدير القاضي، مثال ذلك: كسر غير السن من العظام وما كان بسيطا من الخدوش والجراح.(8/701)
وتمضي المذكرة في بيانها أحكام الدية بالنسبة إلى التعويضات الأخرى فتقول: والدية لا تتمثل تعويضا إلا عن ذات إصابة النفس، وهي بهذه المثابة لا تمنع من التعويض وفق ما يقدره القاضي من كافة عناصر الضرر الأخرى، إن وجدت كالضرر الناشيء عن القعود عن الكسب، وفقد العائل، ومصروفات العلاج، والآلام حسية كانت أم نفسية، وغير ذلك كله من كافة صنوف الأذى التي تلحق الناس في أنفسهم أو في أموالهم.
وجوب الدية على من ألحق الضرر بالغير:
الأصل في وجوب الدية قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] .
وبينا فيما سبق أن القتل الحاصل من التصادم هو من قبيل الخطأ، ومع القصد يكون من قبيل عمد الخطأ عند الحنابلة كما يقول موفق الدين بن قدامة (1) .
ويرى الحنفية أن جناية السائق وجناية الناخس من قبيل القتل الجاري مجرى الخطأ وفيه الدية ولا كفارة ولا يحرم من الميراث (2) .
__________
(1) المغني: 9 / 174، المهذب 2 / 194
(2) درر الحكام: 2 / 90 – 91، شرح القدير: 10 / 214، حاشية رد المحتار: 6 / 531(8/702)
ويقول العلامة الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك: إن تصادم المكلفين أو تجاذبهما حبلا أو غيره فسقطا راكبين أو ماشيين قصدا فماتا فلا قصاص لفوات محله، وإن مات أحدهما فحكم القود يجري بينهما، أو حملا على القصد عن جهل الحال لا على الخطأ، عكس السفينتين إذا تصادمتا وجهل الحال فيحملان على عدم القصد لكنه يستدرك ويقول: إن الراجح أن العجز الحقيقي في المتصادمين فيه ضمان الدية في النفس والقيمة في الأموال (1) . ويقول الشافعية: إن في اصطدام الفارسين إذا ماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر، إلا ما جاء عن المزني أنه إذا استلقى أحدهما فانكب الآخر على وجهه وجب على المكب دية المستلقي وهدر دمه؛ ولكن الراجح الأول. وأما اصطدام السفينتين فإن كان بتفريط من الملاحين بأن قصرا في آلتيهما أو قدرا على ضبطهما أو سيرا في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها، وإن كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها ويهدر النصف، وإن كانت لغيرهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها، ونصف سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها. وإن قصدا الاصطدام وشهد أهل الخبرة أن مثل هذا يوجب التلف وجب على كل واحد منهما القصاص لركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه. وإن لم يفرطا ففي الضمان قولان: أحدهما يجب في اصطدام الفارسين إذا عجزا عن ضبط الفرسين، والثاني لا يجب لأنها تلفت من غير تفريط منهما، فأشبه ما إذا تلفت بصاعقة. واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال: القولان إذا لم يكن من جهتهما فعل، فإن كانت السفن واقفة فجاءت الريح فقلعتها، فأما إذا سيرا ثم جاءت الريح فغلبتهما ثم اصطدما وجب الضمان قولا واحدا؛ لأن ابتداء السير كان منهما فلزمهما الضمان كالفارسين. وقال أبو إسحاق (2) .
__________
(1) حاشية الصاوي على أقرب المسالك: 4 / 346
(2) هو إبراهيم بن أحمد المروزي، أبو إسحاق المروزي، فقيه شافعي انتهت إليه رياسة الشافعية بالعراق بعد ابن سريج، ولد بمرو الشاهجان، فقيه خراسان، وتوفي بمصر الموسوعة الفقهية، الجزء الثاني ص 421(8/703)
وأبو سعيد (1) القولان في الحالين (2) .
ونخلص من ذلك أن التصادم وما ينتج عنه من حوادث السير هو من هذا القبيل، وتجب الدية في الأنفس والأطراف وضمان المتلفات من الأموال.
والقاعدة في لزوم الدية في هذه الأحوال ومسؤولية السائق هو أن تكون الجناية قد وقعت نتيجة لخطئه بحيث يكون الخطأ هو العلة التي أدت إلى الوفاة، وتحقق رابطة السببية بين الخطأ والوفاة علاقة السبب بالمسبب، فإذا انعدمت رابطة السببية فلا مسؤولية على الجاني، وقد سبق بيان كل هذا فيما تقدم من الأمثلة فلا نعيدها هنا. وسبق أن بينا أيضا مذاهب العلماء في حالة التصادم وأنهم افترقوا فريقين:
فريق ذهب إلى أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال، سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين، أو كان أحدهما فرسا والآخر غيره سواء كانا مقبلين أو مدبرين، وهذا مذهب أبي حنيفة وصاحبيه وإسحاق.
وقال مالك والشافعي: على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر؛ لأن التلف حصل بفعلهما، فكان الضمان منقسما عليهما، كما لو جرح إنسان نفسه وجرحه غيره فمات منهما (3) .
كما بينا حالات انعدام السببية أو الرابطة بين الفعل والضرر؛ كأن يكون نتيجة قوة قاهرة، أو حادث فجائي، أو فعل المضرور أو الغير مع الأمثلة، ولكن لا بد من الإشارة إلى الاشتراك في الخطأ وله حالات:
الأولى: أن يجتمع المباشر مع المتسبب، فالمسؤولية تسند إلى المباشر دون المتسبب ولا يكون المتسبب مسؤولا عن جبر الضرر إذا كان السبب لا يعمل بانفراده في الإتلاف كراكب الدابة وسائقها، فالراكب يعتبر مباشرا لما وطئت الدابة، أما السائق فيعتبر متسببا، لكن في حوادث السيارات يتعين أن يكون العكس فيعتبر السائق مباشرا.
__________
(1) هو الحسن بن أحمد بن يزيد المعروف بالاصطخري، فقيه من شيوخ الشافعية، كان من نظراء ابن سريج، ولي قضاء قم ثم حسبة بغداد، من كتبه أدب القضاء، قال ابن الجوزي: لم يؤلف مثله. والفرائض، والشروط والوثائق والمحاضر والسجلات – الموسوعة الفقهية: 1 / 341، و15 / 303
(2) المهذب: 2 / 194
(3) المغني لابن قدامة: 9 / 173، المهذب: 2 / 194(8/704)
الثانية: أن يجتمع سببان مختلفان وكانا مرتبين وتلف بهما شيء فالضمان على صاحب أسبق السببين جناية، كما لو حفر شخص بئرا في الطريق بغير إذن الحاكم أو في ملك غيره بدون إذنه، ووضع بعد ذلك شخص حجرا إلى جانب تلك البئر فعثرت دابة بالحجر ووقعت في البئر، فالضمان على واضع الحجر لأنه بمنزلة الدافع، ويمكن أن تقاس حوادث السيارات في مثل هذه الصورة، فلو كان الحفر في ملكه فالضمان على واضع الحجر لاختصاصه بالعدوان.
الثالثة: إذا اجتمع سببان وتفاوتا قوة وضعفا فالاعتداد بالسبب الأقوى، ويجب عليه الضمان وحده دون النظر إلى السبب الضعيف. فلو كانت دابة مقيدة وجاء آخر وفتح الباب فقفزت الدابة فالضمان على الفاتح؛ لأن فتح الباب سبب أقوى للفرار (1) .
وفي مجمع الضمانات: رجل وضع في الطريق حجرا أو جذعا أو بنى فيه بناء أو أخرج من حائطه جذعا أو صخرة شاخصة فعطب به إنسان كان ضامنا، فإن عثر بما أحدثه في الطريق رجل فوقع على آخر فمات كان الضمان على الذي أحدثه في الطريق، وصار كأنه دفع الذي عثر به؛ لأنه مدفوع في هذه الحالة والمدفوع كالآلة (2) ، ولو نحى رجل شيئا من ذلك عن موضعه فعطب بذلك إنسان كان الضمان على الذي نحاه ويخرج الأول من الضمان (3) .
__________
(1) شرح المجلة للمحاسني - جامع الفصوليين 2 / 84
(2) مجمع الضمانات ص 176
(3) مجمع الضمانات ص 176(8/705)
الرابعة: أن يوجد قتيل في طريق أو في محلة لا يعرف قاتله ونرى في هذه الحالة أن تؤدى الدية من بيت المال.
ولا نقول بالقسامة لتباين أقوال الائمة فيها وهل يجب فيها الحكم أم لا؟ وإذا قيل بالوجوب، هل يجب بها الدم أم الدية؟ أو دفع مجرد الدعوى؟ وهل يشترط فيها اللوث؟ وما يعد لوثا وما لا يعد كذلك (1) ؟ ومستندا في ذلك على ما جاء في فتح الباري في تعليقه على حديث بشير بن يسار أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حتمة أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا… الحديث.
وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه مائة من إبل الصدقة. "قال ابن حجر: أو المراد بقوله: "من عنده" أي بيت المال المرصد للمصالح، قال: وقد حمله بعضهم على ظاهره فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة واستدل بهذا الحديث وغيره – ثم قال ابن حجر: قلت: وتقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة في الكلام على حديث أبي موسى قال: حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة في الحج، وعلى هذا فالمراد بالدية كونها تحت أمره وحكمه (2) ، والأخذ بتحمل بيت المال كما جاء في هذا الحديث أرفق وأبعد عن المشقة، وقد صار بهذا الاتجاه التقنين المدني الكويتي فقضى بالتزام بيت المال بدفع دية من يتعذر معرفة المسؤول عن دمه قصاصا أو دية (3) .
__________
(1) المحلى لابن حزم: 8 / 84، المغني لابن قدامة: 8 / 484، وبداية المجتهد: 2 / 391
(2) فتح الباري: 5 / 257
(3) المذكرة التفسيرية للقانون المدني الكويتي ص 146(8/706)
أحكام الدية
يتعلق بالدية جملة من الأحكام في الشريعة مبنية في الكتب الفقهية من حيث النظر في موجبها، ونوعها، وقدرها، وفي الوقت الذي تجب فيه، وعلى من تجب وسنقتصر هنا على بعض المهمات من مسائلها مما له صلة وثيقة في هذا البحث.
المسألة الأولى – في أصول الدية وبيان ما تجب فيه:
اتفق الفقهاء على أن الإبل أصل في الدية، واختلفوا فيما سوى الإبل.
ذهب المالكية وأبو حنيفة إلى أن أصول الدية، أي ما تقضي منه من الأموال ثلاثة أجناس: الإبل، والذهب، والفضة، لحديث: ((إن في النفس مائة من الإبل)) (1) .
أما على أهل الذهب والورق فقال مالك: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم، وقال أهل العراق: على أهل الورق عشرة آلاف درهم. وقال الشافعي بمصر: لا يؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت. وقوله بالعراق مثل قول مالك (2) . وعند الحنابلة وهو قول الصاحبين من الحنفية: أن أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والورق والبقر والغنم، وزاد عليها أبو يوسف ومحمد من الحنفية وهو رواية عن أحمد: الحلل (3) .
__________
(1) من حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن، أخرجه النسائي (8: 58، 59) وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17، 18) وتكلم على أسانيده، ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء – انظر الموسوعة الفقهية 21 / 46
(2) بداية المجتهد: 2 / 376
(3) الموسوعة الفقهية: 21 / 58(8/707)
المسألة الثانية في مقدار الدية:
أولا: بالنسبة للرجل والمرأة ذهب جمهور الأئمة والعلماء على أن دية المرأة على نصف دية الرجل، مستدلين بأحاديث وآثار وبالمعقول، تفيد أن دية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس وفيما دونها، والمعقول أن ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل، فكذلك ديتها. وحكي عن ابن علية وأبى بكر الأصم أن دية المرأة كدية الرجل مستدلين بحديث عمرو بن حزم ((في النفس المؤمنة مائة من الإبل)) (1) .
ثانيا: بالنسبة للإسلام والكفر ذهب الحنفية إلى أن دية الذمي والمستأمن كدية المسلم، فلا يختلف قدر الدية بالإسلام والكفر؛ لتكافؤ الدماء.
وقال الشافعية: إن ديتهم ثلث دية المسلم، وأما غير أهل الكتاب فقالوا: ديتهم ثلثا عشر دية المسلم (2) .
والذي نميل إليه ونرى أنه يتفق مع حال العصر والأفكار السائدة فيه هو المساواة بين الذكر والأنثي والمسلم وغير المسلم، وقد أخذ القانون المدني الكويتي بهذا الاتجاه (3) .
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته: 6 / 310، 312، الموسوعة الفقهية 21 / 59 – 60
(2) الفقه الإسلامي وأدلته: 6 / 310، 312، الموسوعة الفقهية 21 / 59 – 60
(3) المذكرة التفسيرية ص 241(8/708)
المسألة الثالثة – على من تجب:
تجب الدية في القتل الخطأ على العاقلة لحديث أبي هريرة رضى الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها "فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها" (1) .
والحكمة في ذلك أن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة فإيجابها على الجاني في ماله إجحاف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفا (2) .
المسألة الرابعة:
صدر مرسوم بلائحة جدول الديات بينت ما يجب فيها الدية كاملة وما يجب فيها نصف الدية، ونصت المادة الأولى على أنه تستحق الدية كاملة عن فقد النفس، وفقد العقل أو فقد الذاكرة، وفقد البصر ولو من عين وحيدة، وفقد السمع ولو من أذن وحيدة، وفقد الشم، وفقد الذوق، وفقد الصوت أو النطق، وكسر العمود الفقري المانع من القيام، وفقد القدرة الجنسية أو فقد الإنجاب لدى الرجل أو المرأة.
وبينت المادة الثانية ما تجب فيه نصف الدية، فنصت على أنه تستحق نصف الدية عن قطع اليد إلى الرسغ، وقطع القدم إلى المفصل وفقد أو وفقء أحد العينين المبصرتين وفقد إحدى الأذنين السامعتين، وفقد ثدي المرأة أو قطع حلمته، وفقد الخصية، ويعتبر في حكم قطع أو فقد العضو: الفقد الدائم لوظيفته.
ونصت المادة الثالثة على استحقاق جزء من الدية في:
أ - فقد السن الدائمة 5 % من الدية.
ب - فقد الإبهام 15 % من الدية.
جـ- فقد الأصبع عند الإبهام 10 % من الدية.
د - فقد سلامي الإبهام 7.5 من الدية.
هـ- فقد سلامى ما عدا الإبهام 3.5 من الدية.
__________
(1) أخرجه البخاري – الفتح: 12 / 252
(2) كشاف القناع: 6 / 6، يراجع التشريع الجنائي الإسلامي في هذا الموضوع - الجزء الأول ص 674 وما بعدها(8/709)
ونصت المادة الرابعة على أنه تستحق كل من الإصابات التالية الجزء المحدد لها من الدية دون إخلال بالحق في التعويض عما يترتب عنها من إتلاف أعضاء أخرى في الجسم:
أ - الجرح الواصل إلى التجويف البطني أو الصدري (الجائفة) : ثلث الدية.
ب - كسر الجمجمة المؤدي إلى ظهور غشاء المخ (الآمة) : ثلث الدية.
جـ- كسر العظم ونقله من أصل مكانه (المنقلة) : 15 % من الدية.
د - كسر العظم الهاشمة: 10 % من الدية.
هـ- موت الجنين في بطن أمه أو إجهاضه: 10 % من الدية.
و الجرح الكاشف للعظم دون كسره (الموضحة) : 5 % من الدية.
ونصت المادة الخامسة على أنه تعد الديات كاملة أو مجزأة بتعمد فقد الأعضاء والحواس أو المنافع أو الجروح، ونصت على أنه لا تتعدد الديات إذا أدت الإصابات إلى فقد النفس، هذه أهم مسائل الديات وهي مأخوذة من الفقه الإسلامي، وخاصة من المذهب المالكي.(8/710)
ب- تحديد العاقلة:
العاقلة عند الأحناف: هم أهل الديوان، فإن لم يكن القاتل من أهل الديوان فعاقلته أقاربه، وكل من يستنصر بهم. وقال جمهور الفقهاء: هم قرابته من أبيه. ومن لم تكن له عاقلة عقل عنه بيت المال على تفصيل ليس هنا محل إيراده (1) .
العاقلة في زماننا:
ناقش المرحوم عبد القادر عودة هذا الموضوع وانتهى إلى رأي أرى موافقته عليه خلاصته: هو أن تتحمل الدولة بالنسبة لمن لا يستطيع أداء الدية، وذلك عن طريق فرض ضريبة عامة خصص دخلها لهذا النوع من التعويض، وكذلك أن تفرض ضريبة خاصة على المتقاضين لهذا الغرض. وإذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعانة الفقراء والعاطلين فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين. وأضاف: الدول الأوربية أنشأت صندوقا لتعويض المجني عليهم في الجرائم، إيراده المبالغ المتحصلة من الغرامات التي تحكم بها المحاكم (2) . مع الأخذ بنظام التأمين مجاراة للقائلين بجوازه.
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته: 6 / 322؛ بداية المجتهد: 2 / 378
(2) التشريع الجنائي الإسلامي: 2 / 99، المحلى لابن حزم: 8 / 56 وما بعدها؛ المغني: 8 / 374 وما بعدها(8/711)
ثانيا – أثر المسؤولية في الزجر
بينا فيما سبق مسؤولية السائق جزائيا وما يترتب على هذه المسؤولية من أحكام في الفقه الإسلامي والفقه الوضعي الحديث، وأنه إذا ثبت هذه المسؤولية ترتبت عليها المسؤولية المدنية والحقوق الأخرى مما عسى أن يكون قد لحق المضرور في بدنه أو ماله.
وبينا أن لولي الأمر أن يسن من التقنيات والتعازير ما يحفظ على الناس مصالحهم في حماية أرواحهم وأموالهم والمحافظة على الضرورات الخمس التي هي محل نظر مختلف الشرائع، وأن الفقه الإسلامي يجد موردا لا ينقطع ولا ينضب في سد كل ثلمة أو نقص في التشريع، وهو مجال السياسة الشرعية. يقول الشيخ عبد الرحمن تاج باشا: "السياسة الشرعية: يستطيع ولاة الأمر أن يسنوا من القوانين ما يحقق مصلحتها ويستجيب لداعي حاجاتها العارضة ومطالبها المتجددة، مما لا نجد له دليلا خاصا من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولا نظيرًا سبق لبعض هذه الأدلة الحكم فيه حتى يمكن أن نربطه ونقيسه به" (1) . ويضرب أمثلة مختلفة ووجوها من السياسة التشريعية، وينتقد قول صاحب معين الحاكم بأن السياسة شرع مغلظ، ويحصر أحكام الشريعة كلها في خمسة أقسام، ويقول في القسم الخامس الذي خصه بالحدود والتعازير: إنه هو المقصود، شرع للسياسة والزجر. ويعقب على ذلك بقوله: ونحن إذا قصرنا السياسة على هذا النوع من الأحكام والتصرفات فقد حبسناها في دائرة ضيقة، على حين أن مجالها أوسع والمواطن التي تتجلى فيها آثارها أفسح وأرحب، فهي تدخل في جميع أعمال السلطات وتستخدم في كل المرافق العامة، تدخل في محيط السلطة التشريعية، وأثرها فيه لا يصح إغفاله أو التهوين من أمره (2) .
ويبين ابن القيم أهمية دور السياسة الشرعية في تحصيل المصالح ودرء المفاسد وما يترتب على إغفاله من شرور فيقول: وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب مفرط فيه طائفة؛ فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له (3) .
__________
(1) السياسة الشرعية ص 29
(2) السياسة الشرعية ص 28
(3) الطرق الحكمية ص 13(8/712)
وكذلك يقول ابن فرحون في التبصرة: السياسة نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها؛ وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرا من المظالم وتردع أهل الفساد ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية، فالشريعة توجب المصير إليها (1) .
ومن ثم كان لزاما على الحكومات أن تبادر إلى تشريعات وتقنينات بمعاقبة المستخفين بأرواح الناس، ووضع ضوابط لقيادة المركبات، ووضع مواصفات خاصة تشتمل على أسباب السلامة، وتضع الأسس والقواعد التي تحدد من يخالفها لتحمل المسؤولية والتبعة جزائيا ومدنيا، وتعويض المضرورين نتيجة ذلك. وقد سبق بيان ذلك في الفصل الأول ونقلنا أهم ما اشتمل عليه قانون السير في دولة الكويت الذي هو خلاصة ما اشتملت عليه القوانين في البلاد العربية والأجنبية، وأنه بذلك يمكن حصر حوادث السير التي أخذت بالتفاقم، وكل هذا لا ينال من العقوبات التي قررتها الشريعة الغراء من عقوبات؛ فقد سنت للقتل الخطأ عقوبات أصلية تتمثل في الدية والكفارة، ومنها ما هو بدل كالتعزير والصيام، ومنها ما هو تبعي وهو الحرمان من الميراث والوصية (2) . هذا عدا ما يتعلق بضمان الأموال والممتلكات.
__________
(1) تبصرة الأحكام لابن فرحون – هامش فتح العلي المالك: 2 / 133
(2) الفقه الإسلامي وأدلته: 6 / 328 وما بعدها؛ التشريع الجنائي الإسلامي بجزئيه؛ الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي للشيخ محمد أبو زهرة(8/713)
الفصل الرابع
في أحكام الكفارة
تعريفها:
هي عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع؛ قال الشافعية فيه قولان: أحدهما: يلزمه إطعام ستين مسكينا كل مسكين مدا من الطعام، لأنه كفارة يجب فيها العتق أو صيام شهرين فوجب فيها إطعام ستين مسكينا قياسا على كفارة الظهار والجماع في رمضان. والقول الثاني: لا يلزمه الإطعام لأن الله تعالى ذكر العتق والصيام ولم يذكر الإطعام، ولو وجب ذلك لذكره كما ذكره في كفارة الظهار (1) .
__________
(1) المهذب: 2 / 217(8/714)
فيمن تجب:
وقالوا: تجب الكفارة في قتل من يحرم عليه قتله من مسلم أو كافر له أمان خطأ وهو من أهل الضمان لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، وقوله تعالى: {فإن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} [النساء: 92] .
مذاهب العلماء فيها:
وتجب عندهم في القتل بسبب يضمن فيه النفس، كحفر البئر، وشهادة الزور، والإكراه، وكذلك إذا ضرب بطن المرأة فألقت جنينا ميتا وجبت عليه الكفارة لأنه آدمي محقون الدم، لحرمته، فضمن بالكفارة كغيره.
وإن اشترك جماعة في قتل واحد وجب على كل واحد منهم كفارة، وقال بعض الشافعية: إنه يجب على الجميع كفارة واحدة لأنها كفارة تجب بالقتل، فإذا اشترك جماعة وجبت عليهم كفارة واحدة. والمشهور الأول (1) . وقال أبو حنيفة: تجب في قتل الخطأ الدية والكفارة والحرمان من الميراث، وكذلك ما في معنى الخطأ وهو أن يكون على طريق المباشرة مثل النائم ينقلب على إنسان فيقتله فتجب فيه الدية والكفارة والحرمان من الميراث (2) ، بخلاف ما يكون من طريق التسبب مثل الحافر وجناية السائق وجناية الناخس ومن يحرث في الطريق وجناية الحائط، فإنه لا تجب في هذه الصور الكفارة ولا يحرم من الميراث (3) .
وعند المالكية تجب الكفارة في قتل الخطأ لا العمد ولا إطعام فيها، وتستحب في قتل الجنين خلافا لأبي حنيفة، وأوجبها الشافعي (4) .
والخلاصة أن الكفارة في قتل الخطأ محل إجماع الفقهاء إلا ما جاء عن أبي حنيفة من عدم وجوبها بالتسبب (5) .
__________
(1) المهذب: 2 / 217
(2) بدائع الصنائع: 10 / 4658 – 4659، شرح فتح القدير: 10 / 213
(3) بدائع الصنائع: 10 /4710
(4) القوانين الفقهية: ص 228
(5) بدائع الصنائع: 10 / 4709؛ شرح الخرشي: 8 / 49، كشاف القناع: 5 / 514(8/715)
خلاصة البحث
اشتمل البحث على أربعة فصول:
الفصل الأول تحدث عن مسؤولية السائق جزائيا، وتناول بالشرح معنى المسؤولية والجزاء، ثم تناول فلسفة الفقه الإسلامي في العقوبة، وأنه لم ينص إلا على عقوبة عدد محدود من الجرائم، وترك الباب مفتوحا لولي الأمر ومن ينتدبون من القضاة في فرض العقوبة المناسبة حسب كل حالة، وإن هذا الاتجاه يحبذه رجال الفقه الحديث، وضربت مثلا للعقوبة التعزيرية قانون السير أو ما يسمى بقانون المرور في دولة الكويت ومذكرته التفسيرية ولوائحه التنفيذية.
وتناول الفصل الثاني مسؤولية السائق المدنية، وبينت أن حوادث المرور آخذة في التفاقم بقدر ما تعددت وسائله في العصر الحديث، وأن الفقه الإسلامي يأخذ في الاعتبار في مسائلة السائق توافر أركان المسؤولية وهي الخطأ والضرر والعلاقة السببية، وضربت الأمثلة من المصادر الفقهية لتحقق هذه الأركان، وبينت أن الخطأ منه ما هو مباشر ومنه ما هو تسبب، وبينت أحكام القسمين وأمثلتهما، وأنه يشترط في التسبب أن يكون متعمدا أو معتديا، وأن القواعد السابقة محل اتفاق بين فقهاء المذاهب، وأن انتفاء المسؤولية تكون حيث تختفي أو تنعدم الرابطة السببية بأن تكون نتيجة قوة قاهرة أو حادث فجائي أو خطأ الفرد أو خطأ الغير أو بهيمة أو وسيلة، وبينت مذاهب العلماء في ذلك وأن الإمام الثوري يقول بالضمان مطلقا إذا أرسلها صاحبها لأنه مفرط في إرسالها.(8/716)
وتحدثت في الفصل الثالث عن التعويض، وبينت الفرق بين التعويض والعقوبة المالية، وبينت الفرق بين التعويض والضمان وهو الاصطلاح الفقهي، وبينت أن القتل الحاصل نتيجة تصادم السيارات هو من قبيل الخطأ وتجب فيه الدية، والحنفية يرون حوادث التصادم من قبيل الجاري مجرى الخطأ تجب الدية فيه، ولكن لا تجب الكفارة ولا يكون مانعا من الميراث، وبينت موقف الفقه الإسلامي من حوادث التصادم وما يجب في الإصابات وأن بعضهم قال: يضمن كل واحد من المتصادمين ما تلف من الآخر من نفس أو مال. ومنهم من قال: يضمن نصف قيمة ما تلف من الآخر، وبينت حالة اشتراك المتصادمين في حصول الضرر، وله أربع صور بينت حكم كل صورة مع المثال، وإنه في حالة حصول حادث قتل دون معرفة الفاعل يتحمل بيت المال الدية، ولا نقول بالقسامة لمشقتها على الناس، وقد أخذ القانون المدني الكويتي بذلك، وهو رأي له أنصاره في الفقه الإسلامي، وله سند من الشريعة الغراء وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم بينت أحكام الدية ومذاهب العلماء فيها، وأخذت بقول القائلين بمساواة الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم في مقدار الدية، وهو موقف تبناه القانون الكويتي وهو قول لبعض العلماء، وبينت الأحكام لائحة الديات ومسائلها في دولة الكويت لاشتمالها على كل مسائل الدية في النفس والأطراف والحواس ومنافعها، وتعرضت لأحكام العاقلة، وأميل إلى القول بأن تتحمل الدول في العصر الحاضر هذه المهمة، وذلك بفرض ضرائب لهذا الغرض، كما يمكن الأخذ بقواعد التأمين لاختلاف الفقهاء المسلمين فيها، وبينت دور العقوبة في انزجار الناس وكفهم عن التهور في القيادة.
وختمت البحث الرابع في أحكام الكفارة ومذاهب العلماء فيها وتعريفها.
والله سبحانه وتعالى أعلم(8/717)
حوادث السير
إعداد
الشيخ عبد القادر محمد العماري
قاضي المحكمة الشرعية بالدوحة – قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
لا ريب أن حوادث السير وما تحدثه المركبات الميكانيكية من سيارات ونحوها من أضرار بالأرواح والممتلكات أثناء سيرها بالطرق العامة بقيادة سائقها والتي لم تكن موجودة في السابق، وما يحدثه الإنسان عن طريق الخطأ يندرج تحت ما يسميه القانونيون جرائم الإهمال، ومع الأسف إن بعض القانونيين المسلمين يجهلون أن فقهاءنا الأوائل رحمهم الله قد بحثوا في جرائم الإهمال بحسب ما كان يحدث في بيئتهم وقرروا فيها أحكاما شرعية مأخوذة من النصوص العامة والخاصة في شريعة الإسلام، ولم يكلف هؤلاء القانونيون أنفسهم للبحث في كتب الفقه الإسلامي، بل اعتمدوا على ما يقوله الأجانب على تراثهم، من ذلك ما جاء في كتاب (جريمة الإهمال) للدكتور أبو اليزيد علي المتيت نقلا عن (ليون بوشيه) الفرنسي عن تطور جرائم الإهمال في مصر في العصور المختلفة، فقد جاء تحت عنوان: العصر الإسلامي (وبعد الفتح الإسلامي لمصر سنة (641 م) تغيرت القوانين المصرية بما يتلائم مع الدين الجديد، دين الإسلام، فطبقت القواعد الواردة في القرآن الكريم، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء بالقرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] كما يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أن يَصَّدَّقُواْ فإن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92] .(8/718)
يبين ذلك أن مصر بعد أن انتقلت من ولاية رومانية إلى ولاية إسلامية، أخضعت لقواعد أحكام الدين الإسلامي، وقد اتخذ الدين الإسلامي جزاء إنسانيا واجتماعيا في نفس الوقت عتق عبد، ودفع تعويض للمجني عليه أو لذويه، فإن لم يكن لدى الجاني عبد، وليس من الميسور عليه أن يعوض المجني عليه أو ذويه عما أصابهم من ضرر، فعليه أن يصوم شهرين، وعلق المؤلف على ذلك بقوله: من ذلك يتبين أن القرآن الكريم لم يذكر صراحة إلا القتل بإهمال، لذلك يجب أن نتبع القياس والاجتهاد في حالات الضرب أو الجرح بإهمال، ونلاحظ أن القانون الإسلامي جعل التعويض اختياريا وليس إجباريا، فإن كان اختياريا بالنسبة للمجني عليه أو ذويه لهم أن يطلبوه أو لا يطلبونه، فقد كان كذلك اختياريا بالنسبة للجاني فله أن يدفعه وإن لم يستطع فصيام شهرين. معنى ذلك أن العصر الإسلامي كان يتميز بأنه عصر ديني يؤمن فيه الناس بالله ورحمته ويطلبون غفرانه.
ثم قال بعد ذلك: ظلت مصر متبعة التشريع الإسلامي حتى ظهرت تشريعاتنا الحديثة سنة (1883) ميلادية وعدلت سنة (1937) ميلادية متبعة التشريع الفرنسي، آخذة بالمواد (319 – 320) "ملغاة" عقوبات، وأصبح الإهمال جريمة يعاقب عليها في مصر، وللمجني عليه أن يرفع الدعوى المدنية مطالبا بالتعويض عما أصابه من أضرار، كما للنيابة العامة أن تحرك الدعوى العمومية لمؤاخذة الفاعل جنائيا عن خطته (المادة 238، 244 / عقوبات على القتل والجرح بالإهمال … إلخ) والدكتور عفا الله عنه وإن حرص على أن ينوه بحكمة التشريع الإسلامي في عتق الرقبة ونظرته الإنسانية في ذلك، إلا أنه وقع في خطأ كبير في متابعته للأستاذ الفرنسي الذي فهم من الآية أن التعويض اختياري، فإن شاء الجاني أن يدفعه للمجني عليه، أو لا يدفعه، ويصوم بدلا من ذلك شهرين متتابعين، إذا عجز عن عتق الرقبة، والآية لا تقتضي ذلك، فالدية المسلمة إلى أهل المجني عليه ليس مختارا في دفعها الجاني، أو عدم دفعها، بل هو حق ثابت لأهل المجني عليه، لا تقبل الإسقاط، إلا إذا تنازلوا عنها باختيارهم، كما أنه لو كان للمجني عليه ورثة صغار، لا يستطيع أحد أن يتنازل عن حقهم في التعويض، وهذا أمر معروف في الفقه الإسلامي، فالأمر ليس راجعا إلى حقهم في التعويض، وهذا أمر معروف في الفقه الإسلامي، فالأمر ليس راجعا إلى اختيار الجاني، والآية بينت أن في قتل الخطأ دية وكفارة، وكل ذلك ملزم به الجاني، فالدية حق المجني عليه، والكفارة حق الله، ولو رجع المؤلف إلى المراجع الإسلامية لما وقع في الخطأ، الخطأ الآخر الذي وقع فيه المؤلف هو أنه قرر أن الإهمال لم يكن جريمة يعاقب عليها في مصر إلا بعد أن طبق في مصر التشريع الفرنسي وقد ظن أنه لا نصوص فقهية إسلامية تعرضت لجريمة الإهمال، إلا ما جاء في الآية الكريمة، التي تبع في تفسيرها ليون بوشيه، الذي أساء فهم الآية، وجعل التعويض في الإسلام على الجاني اختياريا، فإن شاء دفعه، وإن لم يشأ لم يدفعه.(8/719)
والمعروف أن القرآن الكريم ليس فيه تفصيلات الأحكام الفقهية، وإنما فيه بعض الأحكام يذكرها لمناسبتها ليقاس عليها، وتؤخذ تفاصيل الأحكام من السنة، واجتهادات الفقهاء، إذ القرآن ليس كتاب قانون قضائي، حتى تقتصر عليه في الأحكام القضائية، إذ مهمة القرآن أعم وأشمل، وهو كتاب هداية وإرشاد، وليس من مهمته أن يأتي بتفصيلات الأحكام، وهذه الأحكام القضائية تعتمد على اجتهادات العلماء حسب الوقائع والأحداث، فيستنبطون الحكم من الكتاب والسنة، والإجماع والقياس، والسوابق القضائية في أحكام السلف وأقوالهم من الصحابة والتابعين.
والذي يجب أن نعترف به أن غلق باب الاجتهاد اثر على حيوية الفقه الإسلامي ونشاطه، ومع ذلك فإن الفقهاء على مر التاريخ بحثوا في كل المسائل التي تعرض عليهم، وأصدروا فيها أحكاما مناسبة لزمانهم مستندين على نصوص عامة وخاصة، غير أنه ليس هناك حصر وتنظيم وتقنين للأحكام والفتاوى، مما جعل بعض الباحثين يتيه في الكتب، ولا يستطيع أن يستخلص منها ضالته، ورحم الله عبد القادر عودة الذي قام بجهد مشكور، عندما ألف في القانون الجنائي الشرعي مجلدين، كانت بحق فتحا عظيما في مجال تقريب الأحكام الشرعية الجنائية، من فهم الباحثين المعاصرين، ومقارنتها بالقوانين الوضعية، فكان هذان المجلدان من اهم المراجع الآن للقضاة والباحثين، فقد غاص رحمه الله في التراث الفقهي الإسلامي، واستخرج لآلئ هي أعظم من أصالتها وبريقها ولمعانها، مما أتت به القوانين الوضعية من نظريات. وأعتقد أن مؤلف كتاب (جرائم الإهمال) الذي حظي بشهادة دكتوراه الدولة في العلوم القانونية من جامعة باريس، ودبلوم معهد العلوم الجنائية من جامعة نانسي بفرنسا، لو كلف نفسه بالاطلاع على كتاب عبد القادر عودة، أو كتاب الشيخ محمد أبو زهرة (الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي) ؛ لسهل عليه معرفة حكم الفقه الإسلامي في جريمة الإهمال، ولعرف كيف سبقت الشريعة الإسلامية أحدث النظريات فيما يتعلق بالموضوع الذي يبحثه.(8/720)
كيف يدعي أن الإهمال لم يكن جريمة يعاقب عليها في مصر إلا بعد أن أخذت بالقانون الفرنسي، وهذه نصوص الفقهاء كلها تؤكد وتنص على مسؤولية المهمل في الشرع الإسلامي، إذا ترتب على إهماله ضرر بالغير، ومن جملة نصوص الفقهاء مثلا أنه يؤاخذ الذي يترك غريقا يغرف ولا ينقذه، ويعتذر بصلاته، ويحق عليه العقاب، لأنه يترك اللازم يعمل ما دونه لزوما، كذلك نصوا على مسؤولية الطبيب الذي يتسبب بإهماله في وفاة المريض، أو إلحاق الضرر به.
وإننا هنا نذكر ما قاله العز بن عبد السلام فيما يتعلق بالغريق في كتابه (قواعد الأحكام) وقد كان ابن عبد السلام رئيسا للقضاة في مصر في عهد المماليك، قال: (تقديم إنقاذ الغرقى المعصومين عند الله أفضل من الصلاة، والجمع بين المصلحتين ممكن، بأن ينقذ الغريقُ، ثم يقضي الصلاة، ومعلوم أن ما فاته من أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ إلا بالفطر، فإنه يفطر وينقذه، وهذا أيضا من باب الجمع بين المصالح؛ لأن في النفوس حقا لله تعالى، وحقا لصاحب النفس، فقدم ذلك على أداء الصوم) .
وجاء في كتاب المحلى لابن حزم، أن رجلا استسقي على باب قوم فلم يسقوه، حتى مات من العطش، فضمنهم عمر بن الخطاب ديته، ومعلوم أن الحكم بالدية إذا كانوا قد امتنعوا عن سقيه إهمال، أما إذا كان الامتناع متعمدا من اجل قتله فإن عليهم القصاص، كمن يحبس شخصا ويمنعه الطعام والشراب حتى يموت، فإن هذا يقول عنه الفقهاء ترك قصد به القتل، فهو ترك يحمل معني الإيجاب، ونص الفقهاء أن الأم إذا منعت ولدها الرضاع حتى مات فقد قتلته، أن قصدت ذلك، وكذلك إذا تركت الأم سرة ولدها من غير ربط، ولا يخفى أن الفقهاء لهم وجهات نظر مختلفة في مثل هذه الأمور، كغيرها من الموضوعات التى تختلف فيها الاجتهادات وفي مثله جرائم الترك، وجرائم الفعل.(8/721)
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: (وإنه بعد استعراض الآراء المختلفة والمناهج المختلفة، ننتهي بلا ريب إلى أن فقهاء المسلمين قد سبقوا إلى دراسة الموضوع دراسة وافية من كل ناحية، حتى الأمثلة التي يسوقها العلماء في الفقه الحديث هي بعض الأمثلة التي ذكرها فقهاء المسلمين قديما، ولعل النقل الذي نقلناه عن ابن حزم يوضح تمام التوضيح كيف كان يربط ابن حزم بين الترك والجريمة ربطا يجعله سببا بها، وكيف يكون بفرض العمد والخطأ، وهو نص لم نظفر بمثله موضحا مبينا محررا في الكتب التي تصدت لبيان وضع هذه الجريمة في القوانين الحديثة، وأنا لهذا اسجل سبق المسلمين إلى تحرير هذه الجريمة بما لم يسبقوا بمثله، وأنه بالمقارنة بالفقه الحديث والفقه الإسلامي، نجد الفقه الحديث يتلاقي مع مذهب أبي حنيفة في الجملة، فأبو حنيفة لم يعتبر أن الجريمة بالترك تكون عقوبتها كعقوبة الجريمة بالفعل، وإن كان يفرض لها عقوبة، ولا يخليها من معني الإجرام، ولذلك يقرر فقهاء المذهب الحنفي، أن من يكون في بادية، ومعه فضل ماء، وبجواره شخص لا ماء معه، ويغلب على ظنه أنه سيموت أن لم يشرب من ماء صاحب الماء، وامتنع الآخر عن سقيه فقاتله فقتله، فإنه لا دية له؛ لأن المنع اعتداء، فكان طالب الماء حاله حال المعتدي عليه، وهذا يدل على أن أبا حنيفة يعتبر الترك إجراما، وإن لم تكن عقوبته هي عقوبة الفعل في الجريمة. والفقه الألماني يتقارب مع مذهب مالك والظاهرية، وإن كان دونهما لأنه اعتبر الترك جريمة إذا كان تركا لواجب قانوني، بينما هذان المذهبان وغيرهما لا يفرقان على تركه تعريض حياة للتلف، يتحول إلى واجب قضائي، وإن ذلك مقرر حتى في مذهب أبي حنيفة، فإرضاع الأم لولدها واجب ديني عليها؛ ولكن إذا كان الولد لا يلقم إلا ثديها، أو لم يكن للولد ولا لأبيه مال يستأجر به ظئرا لترضعه. ويخشى على الولد الهلاك، فإن ذلك الواجب ينتقل من الواجب الديني المجرد إلى الواجب القضائي الذي يحكم به القضاء، ونرى من هذا تعميما في الفقه الإسلامي لم يسبقه سابق ولم يلحقه لاحق) (1) .
يلاحظ أن القوانين الوضعية في هذا المجال تفرق بين واجبات إنسانية خلقية، وواجبات قانونية، فإذا كان الذي ترك يملك الترك بحكم القانون لا يعد قاتلا، وإن كان الذي ترك لا يملك الترك بحكم القانون، كترك السرة من غير ربط، يعد قاتلا، إما في الشريعة الإسلامية فإن من يرى إنسانا متعرضا للأذى عليه أن يعمل كل ما في طاقته لمنع الأذى، لا فرق بين الماء والزاد والافتراس، وقد ثبت ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)) ، ويقول الراوي: ثم أخذ يعدد الأصناف حتى ظننا أنه ليس لنا حق في فضل أموالنا، وكان ذلك في سفر. فالإسلام أوجب التعاون، وأوجب كل فعل فيه إنقاذ للنفس البشرية، ودفع الأذى عنها.
__________
(1) الجريمة للشيخ أبو زهرة(8/722)
إن التراث الفقهي الإسلامي يجب أن يكون محل اهتمام الحقوقيين العرب، وليس من واجبهم أن يدرسوه فقط، بل واجبهم أن يقوموا بنشره باللغات الحية، فإن ذلك واجب ديني ووطني وحضاري، وقد رأينا كيف أن عدة محاضرات ألقيت في المؤتمر الدولي بباريس قبل حوالي ثلاثين عاما، جعلت المؤتمرين يعترفون بسمو الفقه الإسلامي، وإنه لا يقل أهمية عن القوانين الحديثة، ونلاحظ مع الأسف أن كثيرا المثقفين العرب من الحقوقين والأدباء والفنانين وغيرهم ممن هم يهتمون بالثقافة الغربية، أكثر من اهتمامهم بتراثهم، بل لا يلقون بالا لما عندهم، فترى كثيرا منهم يحمل أرفع الشهادات من الجامعات الغربية في الأدب والتربية والفن والتاريخ والقانون، وغيرها من العلوم النظرية، وتراه ملما بكل صغيرة وكبيرة في حياة الغرب وتاريخه وثقافته وجغرافيته، وإذا تحدث تجد نصف كلامه باللغة الأجنبية من كثرة ما يستشهد به من الثقافة الغربية، ويذكر أسماء الأدباء والقادة والمسرحيين والفنانين وغيرهم، واسماء المناطق والبلدان والجبال والأنهار والمسارح والمتاحف، ولكنه لا يعرف شيئا عن بلادهن ولا عن تراثه جاهلا بأبسط المعلومات في الثقافة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي، ولا أدل على ذلك مما يذكر بأن إحدى الجامعات السعودية استدعت خبيرا في التعليم من إحدى البلاد العربية لمراجعة المناهج التي وضعت للجامعة، وأرادوا تكريم الخبير بتنظيم زيارة له للأماكن المقدسة، فبعد أن انتهى إلى العمرة، والطواف بالكعبة، قالوا له: غدا أن شاء الله ستسافر إلى المدينة المنورة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، والصلاة في الحرم النبوي، فقال: لم إذا نذهب المدينة أليس الرسول مدفونا هنا في الكعبة؟ فقد كان يظن أن قبر الرسول داخل الكعبة، وأن الناس إنما يطوفون حول الكعبة من أجل أن القبر داخلها… أليس هذا الموقف مما يثير الحزن والأسى؟(8/723)
إننا ندعو المثقفين العرب والمسلمين أن يلتفتوا إلى ما عندهم، ولا يتركوا منا عند غيرهم، مما فيه فائدة لأمتهم، فليس ما عند غيرهم كله مفيد، كما أنه ليس كل ما عندنا مفيد، ومع الأسف أننا لا نهتم إلا بما يجب أن نتركه، ونهيل عليه الترابِ.
وإننا نرى أن الاهتمام بالإيجابي من تراثنا ونشره، وخاصة في مجال الفقه أمر تتطلبه الحضارة العالمية، ففوق أنه واجب ديني وطني، فهو متطلب وعمل حضاري، والجهل بتراثنا خزي وعار.(8/724)
نصوص من كتب فقهاء الإسلام عن حوادث السير
ووسائل النقل في عصرهم
1- في فقه الحنفية (1) :
من كتاب المبسوط – لشمس الدين السرخسي – عن كتاب ظاهر الرواية لمحمد بن الحسن الشيباني – المتوفى (189) هجرية:
(وإذا سار الرجل على دابة – أي الدواب كانت – في طريق المسلمين، فوطئت إنسانا بيد أو رجل وهي تسير فقتلته، فديته على عاقلة الراكب. والأصل في هذا أن السير على الدابة في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة، بمنزلة المشي فإن الحق في الطريق لجماعة المسلمين، وما يكون حقا للجماعة يباح لكل واحد استيفاؤه بشرط السلامة؛ لأن حقه في ذلك يمكنه من الاستيفاء، ودفع الضرر عن الغير واجب عليه، فيقيد بشرط السلامة ليعتدل النظر من الجانبين، ثم إنما يشترط عليه هذا القيد فيما يمكن التحرز عنه؛ دون ما لا يمكن التحرز عنه تعذر عليه استيفاء حقه؛ لأنه لا يمتنع من المشي والسير على الدابة مخافة أن يقتل بما لا يمكن التحرز عنه فأما ما يستطاع الامتناع عنه لو شرطنا عليه صفة السلامة من ذلك لا يمتنع عليه استيفاء حقه وإنما يلزمه به نوع احتياط في الاستيفاء.
__________
(1) المبسوط، الجزء (26) ، المجلد (13) طبع دار المعرفة(8/725)
إذا عرفنا هذا فنقول: التحرز عن الوطء على شيء في وسع الراكب إذا أمعن النظر في ذلك، فإذا لم يسلم كان جانيا، وهذه جناية منه بطريق المباشرة؛ لأن القتل إنما حصل بفعله حين كان هو على الدابة التي وطئت، فتجب عليه الكفارة وعلى عاقلته الدية، وإن نفحته برجلها وهي تسير فلا ضمان على الراكب لقوله عليه الصلاة والسلام: ((الرجل جبار)) أي هدر والمراد: نفحة الدابة بالرجل وهي تسير، وهذا لأنه ليس في وسعه التحرز من ذلك؛ لأن وجه الراكب أمام الدابة لا خلفها، وكذلك النفحة بالذنب، ليس في وسعه التحرز. عن ذلك وقال ابن أبي ليلى: هو ضامن لجميع ذلك، وقاس الذي يسير على الدابة بالذي أوقف دابته في الطريق فنفحت برجلها أو يدها، فكما أن هناك يجب ضمان الدية على عاقلته فكذلك هنا، ولكنا نقول في الفرق بينهما هو ممنوع من إيقاف الدابة على الطريق؛ لأن ذلك مضر بالمارة، ولان الطريق ما أعد لإيقاف الدواب فيه فيكون هو في شغل الطريق بما لم يعد الطريق له متعديا والمتعدي في التسبب يكون ضامنا، فلهذا يسوى فيه بين ما يمكن التحرز عنه وبين ما لا يمكن وهذا لأنه أن كان لا يمكن، التحرز عن النفحة بالرجل والذنب فهو يمكنه التحرز عن إيقاف الدابة؛ بخلاف الأول، فإن السير على الدابة في الطريق مباح له؛ لأن الطري معد لذلك، ولأنه لا يضر بغيره وهو محتاج إلى ذلك فربما لا يقدر على المشي فيستعين بالسير على الدابة، وإذا لم يكن نفس السير جناية قلنا لا يلزمه ضمان ما لا يستطاع الامتناع منه، (ألا ترى) أن الماشي في الطريق لا يكون ضامنا لما ليس في وسعه الامتناع منه بخلاف الجالس والنائم في الطريق.
ولو كدمت أو صدمت أو خبطت أو ضربت بيدها إنسانا وهو يسير عليها فذلك كله مما يمكن التحرز عنه فيكون موجبا للدية على عاقلته بمنزلة ما لو وطئت، إلا أن هذه الأسباب لا تلزمه الكفارة عندنا؛ لأن الكفارة جزاء مباشرة القتل فلا تجب بالتسبب على ما نبينه، وإن ضربت بحافرها حصاة أو نواة أو حجرا أو شبه ذلك فأصاب إنسانا وهي تسير فلا ضمان عليه؛ لأن هذا لا يمكن التحرز عنه فهو بمنزلة التراب والغبار المنبعث من سنابكها إذا فقأ عين إنسان إلا أن يكون حجرا كبيرا فيضمن؛ لأن ذلك مما يستطاع الامتناع منه وإنما ينبعث الحجر الكبير بخرق منه في السير. ولو راثت أو بالت في السير فعطب إنسان بذلك لم يكن عليه ضمان لأنه لا يمكنه التحرز عن ذلك، قالوا: وكذلك إذا وقفت لتبول أو لتروث؛ لأن من الدواب ما لا يفعل ذلك حتى يقف فهذا مما لا يستطيع الامتناع عنه، وكذلك اللعاب يخرج من فيها. ولو وقع سرجها أو لجامها أو شيء محمول عليها من أداتها أو متاع الرجل الذي معه يحمله فأصاب إنسانا في السير كان ضامنا؛ لأن هذا مما يمكن التحرز عنه وإنما سقط لأنه لم يشد عليها أو لم يحكم ذلك، فكأنه ألقاه بيده على الطريق، وكذلك من عطب به بعدما وقع على الأرض فإن عثر به أو تعرقل فهو ضامن له، بمنزلة ما لو وضعه بيده على الطريق.(8/726)
والراكب والرديف والسائق والقائد في الضمان سواء؛ لأن الدابة في أيديهم وهم يسيرونها ويصرفونها كيف شاؤوا وذلك مروي عن شريح رحمه الله إلا أنه لا كفارة على السائق والقائد فيما وطئت لأنهما مسببان للقتل، والكفارة جزاء مباشرة القتل، فأما الراكب والمرتدف فمباشران القتل بفعليهما فعليهما الكفارة، كالنائم إذا انقلب على إنسان فقتله، وإذا أوقف دابته في طريق المسلمين أو في دار لا يملكها بغير إذن أهلها فما أصابت بيد أو رجل أو ذنب أو كدمت أو سال من عرقها أو لعابها على الطريق فزلق به إنسان فضمان ذلك على عاقلته، لأنه متعد في هذا التسبب فإنه ممنوع من إيقاف الدابة في ملك غيره بغير إذنه، وكذلك في طريق المسلمين هو ممنوع من إيقاف الدابة خصوصا إذا كان يضر بالمار ولكن لا كفارة عليه لانعدام مباشرة القتل منه.
وإذا أرسل الرجل دابته في الطريق فما أصابت في وجهها فهو ضامن له كما يضمن الذي سار به ولا كفارة عليه، لأنه سائق لها ما دامت تسير على سنن إرساله، فإذا عدت يمينا أو شمالا فلا ضمان عليه؛ لأنها تغيرت عن حالتها وأنشأت سيرا آخر باختيارها فكانت كالمنفلتة؛ إلا أن لا يكون لها طريق غير الذي أحدثت فيه، فحينئذ يكون ضامنا على حاله؛ لأنه إنما سيرها في الطريق الذي يمكنه أن يسير فيه وإنما سارت في ذلك الطريق، فكان هو سائقا لها ووقفت ثم سارت فيه برئ الرجل من الضمان إذا، لأنها لما وقفت فقد انقطع حكم إرساله ثم أنشأت بعد ذلك سيرا باختيارها فهي كالمنفلتة، فإن ردها فالذي ردها ضامن لما أصابت في فورها ذلك، لأنه سائق لها في الطريق الذي ردها فيه، وإذا حل عنها وأوقفها ثم سارت هي فلا ضمان عليه لأن حكم فعله قد انقطع بما أنشأت من السير باختيارها.
قال: وإذا اصطدم الفارسان فوقعا جميعا فماتا، فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه عندنا استحسانا، وفي القياس على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه، وهو قول زفر والشافعي، وجه القياس أن كل واحد منهما إنما مات بفعله وفعل صاحبه لأن الاصطدام فعل منهما جميعا، فإنما وقع كل واحد منهما بقوته وقوة صاحبه، فيكون هذا بمنزلة ما لو جرح نفسه وجرحه غيره، ولكن استحسنا لما روي عن علي رضي الله عنه أنه جعل دية كل واحد من المصطدمين على عاقلة صاحبه، والمعنى فيه أن كل واحد منهما موقع لصاحبه فكأنه أوقعه عن الدابة بيده، وهذا لأن دفع صاحبه إياه علة معتبرة لإتلافه في الحكم، فأما قوة المصطدم فلا تصلح أن تكون علة معارضة لدفع الصادم. فهو بمنزلة من وقع في بئر حفرها رجل في الطريق، يجب الضمان على الحافر وإن كان لولا مشيه وثقله في نفسه لما هوى في البئر.(8/727)
وكذلك لو دفع إنسان غيره في بئر حفرها رجل في الطريق فالضمان على الدافع دون الحافر، وإن كان لولا حفره لذلك الموضع لما أتلفه بدفعه. وعلى هذا الأصل قالوا: لو أن رجلين تجاذبا حبلا فانقطع الحبل فماتا جميعا، فإن مات كل واحد منهما بفعل صاحبه بأن وقع على وجهه، فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه، لأنه إنما وقع على وجهه بجذب صاحبه إياه، وإن وقع كل واحد منهما على قفاه فلا شيء على واحد منهما: لأن سقوطه على قفاه بقوة نفسه لا بجذب صاحبه إياه، وإن سقط واحد منهما على وجهه والآخر على قفاه فدية الساقط على وجهه على عاقلة صاحبه، ولو قطع إنسان الحبل بينهما فسقط كل واحد منهما على قفاه ومات فديتهما على عاقلة القاطع للحبل لأنه كالدافع لكل واحد منهما، ولو كان الصبي في يد أبيه فجذبه رجل من يده فمات فديته على عاقلة الجاذب؛ لأن الأب محق في إمساكه والجاذب متعد في تسبيبه، وكذلك لو تجاذبا صبيا يدعي أحدهما أنه ابنه والآخر يدعي أنه عبده فالدية على عاقلة الذي يدعي أنه عبده؛ لأن الشرع جعل القول قول من يدعيه ابنه، فيكون هو محقا في إمساكه والآخر متعديا في جذبه.
ولو جذب ثوبا من يد إنسان وهو يدعي أنه ملكه فتخرق الثوب من جذبهما، ثم أقام المدعي البينة أنه كان له فله نصف قيمة الثوب على صاحبه، لأنه كان يكفيه الإمساك باليد وما كان يحتاج إلى الجذب فيجعل التخريق مجالا به على فعلهما جميعا، ولو عض ذراع إنسان فنزع ذراعه من فيه فسقطت أسنان العاض فهو هدر، ولو انقطع لحم صاحب الذراع فأرش ذلك على العاض، لأنه محتاج إلى جذب الذراع من فيه فإن العض يؤلمه وهو إنما قصد دفع الألم عن نفسه فيكون محقا في الجذب والآخر متعديا في العض، ولو أخذ بيد إنسان فجذب صاحب اليد يده فعطبت يده، فإن كان أخذه بيده ليصافحه فلا ضمان على الذي أخذ؛ لأن الجاذب ما كان يحتاج إلى ما صنع فيكون هو الجاني على يد نفسه، وإن كان أخذ يده ليعصره فالضمان على الآخذ؛ لأن الجاذب محتاج إلى الجذب لدفع الألم عن نفسه. ولو جلس على ثوب إنسان فقام صاحبه فتخرق الثوب من جذبه فالضمان على الجالس عليه، لأنه متعد في الجلوس على ذيل الغير بغير إذنه.(8/728)
والذي بينا في اصطدام الفارسين فكذلك الجواب في اصطدام الماشيين، فإن كان أحدهما حرا والآخر عبدا فقيمة العبد على عاقلة الحر، ثم يأخذها ورثة الحر؛ لأن كل واحد منهما صار قاتلا لصاحبه فيجب على عاقلة الحر قيمة العبد، ثم إن تلف العبد الجاني وأخلف بدلا فيكون بدله لورثة المجني عليه وهو الحر، وإذا أوقف الرجل دابته في ملكه فما أصابت بيد أو رجل أو غير ذلك فلا ضمان عليه فيه لأنه غير متعد في إيقافها في ملكه، وكذلك إن كان الملك له ولغيره؛ لأن لكل واحد من الشريكين أن يوقف دابته في الملك المشترك، ويستوي إن قل نصيبه أو كثر، (أرأيت) لو قعد في الملك المشترك أو توضأ فعطب إنسان بوضوئه أكنت أضمنه ذلك؟ لا أضمنه شيئا من هذا.
وإذا سار الرجل على دابته فضربها أو كبحها باللجام فنفحت برجلها أو بذيلها لم يكن عليه شيء لأنه يحتاج إلى ضربها أو كبحها باللجام في تسييرها، ولا يمكنه التحرز عن النفحة بالرجل والذنب، ولو خبطت بيد أو رجل أو كدمت أو صدمت فقتلت إنسانا فالضمان على الراكب سواء كان يملكها أو لا يملكها؛ لأن التحرز عن هذا كله ممكن، ولو سقط عنها ثم ذهبت على وجهها فقتلت إنسانا لم يكن عليه شيء لأنها منفلتة فالذي سقط منها ليس براكب ولا قائد ولا سائق والمنفلتة جرحها جبار لأنها عجماء، بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه أنه قال: ((العجماء جبار)) . هي المنفلتة عندنا، ذكره في الأصل، والله أعلم.(8/729)
2- من فقه المالكية:
في المدونة: (قلت) : أرأيت إذا اصطدم فارسان فقتل كل واحد منهما صاحبه؟ (قال) مالك: عقل كل واحد منهما على قبيل صاحبه وقيمة كل فرس منهما في مال صاحبه. (قال) : أرأيت لو أن سفينة صدمت سفينة أخرى فكسرتها فغرق أهلها؟ (قال) : قال مالك: إن كان ذلك من الريح غلبتهم - أو من شيء - ولا يستطيعون حبسها منه فلا شيء عليهم وإن كانوا لو شاؤوا أن يصرفوها فهم ضامنون.
وفي بداية المجتهد لابن رشد اختلفوا في الفارسين يصطدمان فيموت كل واحد منهما فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة: على كل منهما دية الآخر، وذلك على العاقلة. وقال الشافعي وعثمان البتي: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه؛ لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه.
قال أحمد الدردير في شرحه الكبير لمختصر خليل: وإن تصادما أي المكلفان أو غيرهما (أو تجاذبا) حبلا أو غيره، كأن جذب كل منهما يد صاحبه فسقطا (مطلقا) سواء كانا راكبين أو ماشيين أو مختلفين أو بسفينتين على الراجح (قصدا) منهما (فماتا) معا، فلا قصاص لفوات محله، (أو) مات (أحدهما فقط) (فالقود) جواب للمسألتين وهو على حذف مضاف؛ أي: فأحكامه أنه إذا كان أحدهما بالغا والآخر صبيا فلا قصاص على الصبي، أو كان أحدهما حرا والآخر رقيقا فلا يقتص للرقيق من الحر.(8/730)
ويحكم بحكم القود أيضا فيما لو قصد أحدهما التصادم أو التجاذب دون الآخر، وهو داخل في قوله قصدا (وحملا عليه) أي على القصد عند جهل الحال لا على الخطأ، وإنما يظهر في موت أحدهما فقط للقصاص من الحي (عكس السفينتين) إذا تصادمتا فتلفتا أو إحداهما، وجهل الحال فيحملان على عدم القصد، فلا قود ولا ضمان؛ لأن جريهما بالريح وليس من عمل أربابهما، وهذه العلة تدل على أن المراد بعدم القصد هو العجز لا الخطأ، وهو كذلك على الراجح،وأما الخطأ ففيه الضمان؛ فظهر أن لقوله: عكس السفينتين فائدة حيث حمل على العجز. وأما المتصادمان ففي العمد القود كما قال وفي الخطأ الضمان. ولو سفينتين فيهما ولا شيء في العجز بل هدر، ولو غير سفينتين كما أشار إليه بقوله: (إلا لعجز حقيقي) أي إلا أن يكون لصادمهما لعجز حقيقي لا يستطيع كل منهما أن يصرف نفسه أو دابته عن الآخر فلا ضمان بل هدر، ولا يحملان عند الجهل عليه بل على العمد كما تقدم؛ لكن الراجح أن العجز الحقيقي في المتصادمين كالخطأ، فيه ضمان الدية في النفس والقيم في الأموال بخلاف السفينتين فهدر، وحملا عند الجهل عليه؛ لأن جريهما بالريح كما تقدم (لا لخوف غرق أو ظلمة) فخرج من قوله: عكس السفينتين أي فإنهما يحملان على العجز عند الجهل فلا قود ولا ضمان (إلا لخوف غرق أو ظلمة) فالضمان: أي لا أن قدروا على الصرف فلم يصرفوا خوفا من غرق أو نهب أو أسر أو وقوع في ظلمة حتى تلفتا أو إحداهما أو ما فيهما من آدمي أو متاع، فضمان الأموال في أموالهم والدية على عواقلهم؛ لأن هذا ليس من العجز الحقيقي لقدرتهم على الصرف، وليس لهم أن يسلموا من الهلاك بهلاك غيرهم (وألا) يكون التصادم في غير السفينتين أو فيهما أو التجاذب قصدا، بل خطأ (فدية كل) من الآدميين (على عاقلة الآخر) للخطأ وقيمة فرسه مثلا، وإنما خص الفرس لأن التصادم غالبا يكون في ركوب الخيل (في مال الآخر) لا على عاقلته؛ لأن العاقلة لا تحمل غير الدية (كثمن العبد) ، أي قيمته لا يكون على عاقلة لأنه مال بل في مال الحر، ودية الحر في رقبة العبد حالة، فإن تصادما فماتا؛ فإن زادت دية الحر على قيمة العبد لم يضمن سيده الزائدة، لأنها تعلقت برقبة العبد، ورقبته زالت، ولو زادت قيمة العبد على دية الحر أخذ سيده الزائد من مال الحر حالا. اهـ.(8/731)
قال محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق في شرجه التاج والإكليل لمختصر خليل (1) : (وإن تصادما أو تجاذبا مطلقا قصدا فماتا أو أحدهما فالقود. قال مالك: إذا اصطدم فارسان فمات الفرسان والراكبان فدية كل واحد على عاقلة الآخر وقيمة فرس كل واحد في مال الآخر. قال مالك: ولو أن حرا وعبدا اصطدما فماتا جميعا فقيمة العبد في مال الحر، ودية الحر في رقبة العبد. فإن كانت قيمة العبد أكثر من دية الحر كان الزائد لسيد العبد في مال الحر، وإن كانت دية الحر أكثر لم يكن على السيد من ذلك شيء. وقال في رجلين اصطدما وهما يحملان جرتين فانكسرتا: غرم كل واحد ما كان على صاحبه، وإن انكسرت إحداهما غرم ذلك له صاحبه.
قال مالك في السفينتين تصطدمان فتغرق إحداهما بما فيها فلا شيء في ذلك على أحد؛ لأن الريح تغلبهم إلا أن يعلم أن النواتية لو أرادوا صرفها قدروا فيضمنوا وإلا فلا شيء عليهم، قال ابن القاسم: ولو قدروا على حبسها إلا أن فيها هلاكهم وغرقهم فلم يفعلوا فليضمن عواقلهم دياتهم ويضمنوا الأموال في أموالهم، وليس لهم أن يطلبوا نجاتهم بغرق غيرهم، وكذلك لو لم يروهم في ظلمة الليل وهم لو رأوهم لقدروا على صرفها فهم ضامنون لما في السفينة، ودية من مات على عواقلهم، ولكن لو غلبتهم الريح أو غفلوا لم يكن عليهم شيء) انتهى.
__________
(1) شرح التاج والإكليل لمختصر خليل، لمحمد بن يوسف العبدري (الشهير بالمواق) : 6 / 243(8/732)
عن ابن يونس وابن عرفة قال ابن شاس: وسواء كان المصدومون راكبين أو ماشين أو بصيرين أو ضريرين أو أحدهما ضريرا وبيده عصا، وإن تعمد الاصطدام فهو عمد محض فيه حكم القصاص، ولو كانا صبيين ركبا بأنفسهم أو أركبهما أولياؤهما فالحكم فيهما كما في البالغين إلا في القصاص، ولو جذبا حبلا فانقطع فتلف فكاصطدامهما، وإن وقع أحدهما على شيء فأتلفه ضمناه. ابن عرفة يؤيد هذا ما في المدونة والمجموعة: إن اصطدم فرسان فمر أحدهما على صبي فقطع أصبعه ضمناه – انظر هنا في ابن عرفة القصاص، من قتل خارجة، ولم يلتفت لإثبات قوله: أردت عَمْرًا وأراد الله خارجة، ومن قتل رجلا عمدا يظنه غيره ممن لو قتله لم يكن فيه قصاص، ومن رمى رجلا بحجر فاتقاها المرمي عليه فقتلت آخر، كما لو هرب أمام القاتل فسقط على طفل فقتله كالأربعة الذين تعلق بعضهم ببعض، وسقطوا على الأسد فقتلهم، (وحملا عليه عكس السفينتين إلا لعجز حقيقي إلا كخوف غرق أو ظلمة) قد تقدم جميع ما نقل ابن يونس عن ابن القاسم في اصطدام السفينتين والراكبين، وقال ابن الحاجب: ولو اصطدم فارسان عمدا فأحكام القصاص، وإلا فعلى عاقلة كل واحد دية الآخر، ثم قال: فإن اصطدم سفينتان فلا ضمان بشرط العجز عن الصرف، والمعتبر العجز حقيقة لا لخوف غرق أو ظلمة، ابن عبد السلام: قول ابن الحاجب يوهم أن حكم الفارسين مخالف لحكم السفينتين، وليس كذلك؛ لأن الفارسين إذا جمح بهما فرساهما فكان تلف لم يضمنا، إلا أن الفارسين إذا جهل أمرهما حمل على أنهما قادران على إمساكهما، وفي السفينتين على العجز. ابن عرفة: قوله: إذا جمح الفرس ولم يقدر راكبه على صرفه أنه لا يضمن، يرد بقولها: أن جمحت دابة براكبها فوطئت إنسانا فهو ضامن، وبقولها: إن كان في رأس الفرس اعتزام فحمل بصاحبه فاصطدم فصاحبه ضامن؛ لأن سبب جمحه من راكبه وفعله به، إلا أن يكون إنما نفر من شيء مر به في الطريق من غير سبب راكبه فلا ضمان عليه (وإلا فدية كل على عاقلة الآخر وفرسه في مال الآخر كثمن العبد) .(8/733)
3- في الفقه الشافعي:
من روضة الطالبين – للإمام النووي – المتوفى سنة (676 هـ) ما يلي:
الطرف الرابع في اجتماع سببين متقاومين وفيه مسائل:
إحداهما: إذا اصطدم حران ماشيان، فوقعا وماتا، فكل واحد مات بفعله وفعل صاحبه، فهو شريك في القتلين، ففعله هدر في حق نفسه مضمون في حق صاحبه، فالصحيح أن في تركة كل واحد منهما كفارتين بناء على أن الكفارة لا تتجزأ، وأن قاتل نفسه عليه كفارة، وأما الدية، فتسقط نصف دية كل واحد، ويجب نصفها، ثم إن لم يقصدا الاصطدام بأن كانا أعميين، أو في ظلمة، أو في برين، أو غافلين، فهو خطأ محض، فعلى عاقلة كل واحد نصف دية الآخر. وإن تعمدا الاصطدام فوجهان أحدهما: أن الحاصل عمد محض، ويجب في مال كل واحد نصف دية الآخر؛ قاله أبو إسحاق، واختاره الإمام الغزالي وأصحهما عند الأكثرين وهو نصه في الأم: أن الحاصل شبه عمد لأن الغالب أن الاصطدام لا يفضي إلى الموت، فلا يتحقق فيه العمد المحض، ولذلك لا يتعلق القصاص إذا مات أحدهما دون الآخر، فيجب على عاقلة كل واحد نصف دية الآخر مغلظة.
الثانية: إذا كان المصطدمان راكبين، فحكم الدية والكفارة كما ذكرنا، فلو تلفت الدابتان، ففي تركة كل واحد نصف قيمة دابة صاحبه، ولو غلبتهما الدابتان، فجرى الاصطدام والراكبان مغلوبان، فالمذهب أن المغلوب كغير المغلوب كما سبق، وفي قول أنكره جماعة أن هلاكهما وهلاك الدابتين هدر؛ إذ لا صنع لهما ولا اختيار، فصار كالهلاك بآفة سماوية، ويجري الخلاف فيما لو غلبت الدابة راكبها أو سائقها، وأتلف مالا هل يسقط الضمان عنه؟(8/734)
فرع: سواء في اصطدام الراكبين اتفق جنس المركوبين وقوتهما، أم اختلف، كراكب فرس، أو بعير مع راكب بغل أو حمار، وسواء في اصطدام الرجلين اتفق سيرهما، أو اختلف، بأن كان أحدهما يمشي والآخر يعدو، وسواء كانا مقبلين، أم مدبرين، أو أحدهما مقبلا والآخر مدبرا، قال الإمام: لكن لو كانت إحدى الدابتين ضعيفة بحيث يقطع بأنه لا أثر لحركتها مع قوة الدابة الأخرى، لم يتعلق بحركتها حكم، كغرز الإبرة في جلدة العقب مع الجراحات العظيمة، وسواء وقع المصطدمان مقبلين أو مستقلين، أو أحدهما مستلقيا والآخر مكبا، وعن المزني أنه إذا وقع أحدهما مكبا والآخر مستلقيا، فالمكب مهدر وعلى عاقلته ضمان المستلقي، وعن ابن القاص مثله تخريجا، وعنه أن المكبين مهدران، والمذهب الأول وبه قطع الجمهور: ولو اصطدام ماش وراكب لطول الماشي وهلكا، فالحكم ما سبق.
فرع: تجاذب رجلان حبلا فانقطع، فسقطا وماتا، وجب على عاقلة كل واحد نصف دية الآخر ويهدر النصف، سواء وقعا مكبين أو مستقلين، أو أحدهما هكذا، والآخر كذلك، لكن قال البغوي: إن أكب أحدهما، واستلقى الآخر فعلى عاقلة المستلقي نصف دية المكب مغلظة، وعلى عاقلة المكب نصف دية المستلقي مخففة، وهذا إن صح اقتضى أن يقال مثله في الاصطدام، هذا إذا كان الحبل لهما أو مغصوبا، فإن كان لأحدهما والآخر ظالم، فدم الظالم هدر، وعلى عاقلته نصف دية المالك، ولو أرخى أحد المتجاذبين، فسقطا الآخر وماتا، فديتاهما جميعا على عاقلة القاطع.(8/735)
فرع: ما ذكرنا أنه يهدر نصف قيمة الدابة ويجب النصف الآخر هو فيما إذا كان الدابة للراكب، فإن كانت مستعارة أو مستأجرة لم يهدر منها شيء؛ لأن العارية مضمونة، وكذا المستأجر إذا أتلفه المستأجر.
الثالثة: إذا اصطدم صبيان أو مجنونان؛ نظر، إن كانا ماشيين، أو راكبين ركبا بأنفسهما فهما كالبالغين إلا أنا إذا أوجبنا هناك دية مغلظة، فهي هنا مخففة، إلا إذا قلنا: عمد الصبي والمجنون عمد، وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما، لم يهدر شيء من ديتهما، ولا من قيمة الدابتين ولا شيء على الصبيين، ولا على عاقلتهما، بل إن كان المركب واحدا، فعليه قيمة الديتين، وعلى عاقلته دية الصبيين، وإن أركب هذا واحدا وذاك آخر، فعلى كل واحد نصف قيمة كل دابة، وكذا يضمن ما أتلفته دابة من أركبه بيدها أو رجلها، وعلى عاقلة كل واحد نصف ديتي الصبيين، هذا هو الصحيح المعروف الذي قطع به الأصحاب، وقال الداركي وابن المرزبان: يلزم عاقلة كل مركب دية من أركبه، قال الشيخ أبو حامد: هذا غلط، قال في (الوسيط) : فلو تعمد الصبي والحالة هذه، احتمل أن يحال الهلاك عليه إذا قلنا: عمده عمد؛ لأن المباشرة مقدمة على التسبب، وهذا احتمال حسن، فإن قيل به، فحكمه كما لو ركبا بأنفسهما، والاعتذار عنه تكلف، ولو وقع الصبي فمات، فقد أطلق الشيخ أبو حامد أنه يتعلق بالمركب الضمان، وقال المتولي: إن كان مثله لا يستمسك على الدابة، ولم يقعده وجب الضمان، وإن كان يستمسك، فإن كان ينقله من موضع إلى موضع، فلا ضمان، سواء أركبه الولي أو غيره، لأنه لا يخاف منه الهلاك غالبا، وإن أركبه ليتعلم الفروسية، فهو كما لو تلف في يد السباح، وفي كل واحد من الإطلاق والتفصيل نظر، أما إذا أركبهما ولياهما لمصلحتهما فوجهان، أصحهما: لا ضمان على الولي، كما لو ركبا بأنفسهما إذ لا تقصير، والثاني قول القفال: يجب الضمان؛ لأن في الإركاب خطرا، هكذا أطلق جماعة الوجهين، وخصهما الإمام بالإركاب لزينة أو حاجة غير مهمة، قال: فأما إذا مست حاجة أرهقت إلى إركابه للانتقال إلى مكان، فلا ضمان قطعا، ثم الوجهان مخصوصان بما إذا ظهر ظن السلامة، فأما إذا أركبه الوالي دابة شرسة جموحا، فلا شك أنه يتعلق به الضمان.(8/736)
الرابعة: اصطدام المرأتين كالرجلين، فإن اصطدم حاملان فماتتا ومات جنيناهما، وجب في تركة كل واحدة منهما أربع كفارات على الصحيح، وهو إيجاب الكفارة على قاتل نفسه، وعدم تجزئة الكفارة، فإن لم نوجبها على قاتل نفسه، وجب ثلاث كفارات، وإن قلنا بالتجزئة، وجب ثلاثة أنصاف كفارة، وعلى عاقلة كل واحدة نصف دية صاحبتها ونصف غرة كل جنين.
الخامسة: اصطدم عبدان، فمات أحدهما، وجب نصف قيمته متعلقا برقبة الحي، وإن ماتا فمهدران؛ لأن ضمان جناية العبد تتعلق برقبته سواء اتفقت قيمتهما أم اختلفت، وإن اصطدم حر وعبد ومات العبد، فنصفه هدر، وتجب نصف قيمته، وهل تكون على الحر أم على عاقلته؟ فيه الخلاف في تحمل العاقلة قيمة العبد، وإن مات الحر، وجب نصف ديته متعلقا برقبة العبد، وإن ماتا معا، فإن قلنا: قيمة العبد لا تحملها العاقلة، وجب نصفها في تركة الحر، ويتعلق به دية الحر؛ لأنه بدل رقبته وإن قلنا: تحمل العاقلة القيمة، فنصف قيمة العبد على عاقلة الحر، ويتعلق به نصف دية الحر، فيأخذ السيد من العاقلة نصف القيمة، ويدفع نصف الدية إلى ورثة الحر، إما من عين المأخوذ وإما من غيره، قال الإمام: والوجه أن يثبت لورثة الحر مطالبة عاقلته بنصف المبلغ، وإن كان ملكه السيد ليتوثقوا به وكذا إذا تعلق أرش برقبة عبد، فقتله أجنبي ثبت للمجني عليه مطالبة قاتل الجاني بالقيمة، ويثبت للمرتهن مطالبة قاتل المرهون بالقيمة ليتوثق بها، وليكن هذا مبنيا على أن المرتهن هل له أن يخاصم الجاني؟ وفيه خلاف سابق؟ الأصح: المنع وبتقدير أن يخاصم ويأخذ، فإن لم يصر المأخوذ ملكا للراهن، لم يصح التوثق، وإن صار فجعل المرتهن نائبا عنه قهرا بعيد.(8/737)
السادسة: اصطدم مستولدتان لرجلين فماتتا، أهدر نصف قيمة كل منهما، ووجب نصف قيمة كل واحدة على سيد الأخرى؛ لأن ضمان جناية المستولدة على سيدها، كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، والمذهب أنه يضمن أقل الأمرين من أرش الجناية وقيمة مستولدته؛ وإن كانتا حاملين فماتتا، وأجهضتا جنينيهما، فحكم القيمة ما ذكرنا، وأما ضمان الجنينين، فإن كانا رقيقين، فعلى سيد كل واحدة مع نصف القيمة الأخرى نصف عشر قيمتها لنصف جنينيها، وإن كانتا حاملين بحرين غرة لجنين الأخرى، وإن كانتا حاملين بحرين من السيدين، فنصف كل جنين هدر؛ لأن المستولدة إذا جنت على نفسها وألقت جنينا كان هدرا، وعلى كل واحد من السيدين نصف غرة جنين الأخرى، وتصير الصورة من صور التقاص، وإذا فضل لأحدها شيء أخذه؛ وإن كانت إحداهما حاملا فألقت جنينها ميتا، فنصف الغرة على سيد الحامل، فإن كان للجنين أم وارثة، فلها نصف سدس الغرة، والباقي لسيد الحامل، وعليه للجدة نصف سدس أيضا ليكمل لها سدس الغرة.
السابعة: إذا اصطدمت سفينتان، وغرقتا بما فيهما، فإما أن يحصل الاصطدام بفعلهما، وإما لا، فهما حالان:
الأول: بفعلهما، فينظر إن كانت السفينتان وما فيهما ملكا للملاحين المجريين لهما، فنصف قيمة كل سفينة وما فيها مهدر، ونصف قيمتها ونصف قيمة ما فيها على صاحب الأخرى، فإن هلك الملاحان أيضا، فهما كالفارسين يموتان بالاصطدام، وإن كانت السفينتان لهما وحملا الأموال والأنفس تبرعا أو بأجرة، نظر إن تعمدا الاصطدام بما يعد أهل الخبرة مفضيا إلى الهلاك، تعلق بفعلهما القصاص حتى إذا كان في كل سفينة عشرة أنفس مثلا يقرع بينهم لموتهم معا، فمن خرجت قرعته، قتل به الملاحان، وفي مال كل واحد منهما نصف ديات الباقين، فيكون على كل واحد تسع ديات ونصف مع القصاص، وفي مال كل واحد من الكفارات بعدد من في السفينتين من الأحرار والعبيد، وعلى كل واحد منهما نصف قيمة ما في السفينتين لا يهدر منه شيء، ونصف قيمة سفينة صاحبه، ويهدر نصفها، ويجري التقاص في القدر الذي يشتركان فيه، وإن تعمدا الاصطدام بما لا يفضي إلى الهلاك غالبا وقد يفضي إليه، فهو شبه عمد، والحكم كما ذكرنا إلا أنه لا يتعلق به قصاص، وتكون الدية على العاقلة مغلظة، وإن لم يتعمدا الاصطدام بل ظنا أنهما يجريان على الريح فأخطأا، أو لم يعلم واحد منهما أن بقرب سفينته سفينة أخرى، فالدية على العاقلة، وإن كانت السفينتان لغير الملاحين، وكانا أجيرين للمالك، أو أمينين، لم يسقط شيء من ضمان السفينتين بل على كل واحد منهما نصف قيمة كل سفينة، وكل واحد من المالكين مخير بين أن يأخذ جميع قيمة سفينته من أمينه، ثم هو يرجع بنصفها على أمين الآخر، وبين أن يأخذ نصفها منه ونصفها من أمين الآخر، وإن كان المجريان عبدين، فالضمان يتعلق برقبتهما.(8/738)
الحال الثاني: أن يحصل الاصطدام لا بفعلهما، فإن وجد منهما تقصير بأن توانيا في الضبط فلم يعدلاهما عن صوب الاصطدام مع إمكانه، أو سيرا في ريح شديدة لا تسير في مثلها السفن، أو لم يكملا عدتهما من الرجال والآلات، وجب الضمان على ما ذكرنا. وإن لم يوجد منهما تقصير، وحصل الهلاك بغلبة الرياح وهيجان الأمواج، ففي وجوب الضمان قولان، أحدهما: نعم، كالفارسين إذا غلبتهما دابتاهما، وأصحهما: لا، لعدم تقصيرهما، كما لو حصل الهلاك بصاعقة بخلاف غلبة الدابة، فإن ضبطهما ممكن باللجان، وقيل: القولان إذا لم يكن منهما فعل، بأن كانت السفينة مربوطة بالشط أو مرساة في موضع، فهاجت ريح فسيرتها، فأما إذا سيراهما، ثم غلبت الريح، وعجزا عن ضبطهما، فيجب الضمان قطعا، والمذهب طرد القولين في الحالين، فإن قلنا: يجب الضمان، فهو كما لو فرطا، ولكن لم يقصدا الاصطدام، وإن قلنا بالأظهر: لم يجب ضمان الأحرار، ولا ضمان الودائع والأمانات فيهما، ولا ضمان الأموال المحمولة بالأجرة إن كان مالكها أو عبده معها يحفظها، وإن استقل المجريان باليد، فعلى القولين في أن يد الأجير المشترك هل هي يد ضمان؟ وإن كان فيهما عبيد، فإن كانوا أعوانا أو حفاظا للمال لم يجب ضمانهم، وإلا فهم كسائر الأموال، وعلى هذا لو اختلف صاحب المال والملاحان، فقال صاحب المال: كان الاصطدام بفعلكما، وقالا: بل بغلبة الريح، صدقا بيمينهما، ومتى كان أحدهما مفرطا أو عامدا دون الآخر، خص كل واحد منهما بالحكم الذي يقتضيه حاله على ما ذكرنا، ولو صدمت السفينة المربوطة بالشط فكسرتها فالضمان على مجري السفينة الصادمة.(8/739)
فرع: إذا خرق واحد سفينة، فغرق ما فيها من نفس ومال، وجب ضمانه، ثم إن تعمد الخرق بما يفضي إلى الهلاك غالبا كالخرق الواسع الذي لا يدفع، وجب القصاص والدية المغلظة في ماله، وإن تعمده بما لا يحصل به الهلاك غالبا، فهو شبه عمد، وكذا لو قصد إصلاح السفينة فنفذت الآلة في موضع الإصلاح فغرقت به السفينة، وإن أصابت الآلة غير موضع الإصلاح، أو سقط من يده حجر، أو غيره، فخرقت السفينة، فهو خطأ محض.
4- في فقه الحنابلة:
من كتاب مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الشيباني:
الفصل الثالث:
فيما يحدث في الطريق العام ونحوه:
مادة (1434)
لكل إنسان حق المرور بجمله ودابته في الطريق ولو محملة بحطب ونحوه بشرط السلامة من العدوان والضرر الذي يمكن التحرز منه، فلو عثر برجله في المشي المعتاد إنسان آخر فلا ضمان عليه، أو اصطدم بدابته عاقل بصير يراها أو صاح فيها له، وهو مستدبر، ويجد له منحرفا فتلف بذلك أو تلف ثيابه بما عليها من حطب ونحوه لا ضمان عليه، أما لو كان أعمى أو طفلا أو مجنونا أو لا منحرف له أو كان مستدبرا ولم ينبهه فعليه الضمان (1) .
__________
(1) ش: ج 2، ص 379، الأولى / جـ 2، ص 431، الجديدة. ك: ج 2، ص 372، الأولى / جـ 4، ص 129، الجديدة(8/740)
مادة (1435)
ربط الدابة وإيقافها في الطريق عدوان فيضمن رابطها أو موقفها ما تتلفه أو يتلف بسبب فعلها، فلو وطئت بيد أو رجل، أو كدمت بفم أو صدمت مارا، أو جفلت بسببها دابة مارة، أو بالت أو راثت فزلق بذلك إنسان فالضمان لازم (1) .
مادة (1436)
الحفر في الطريق العام لغير مصلحة الناس عدوان، فلو حفر لنفسه، أو حفر قنه بأمره بئرا أو نحوها، ولو في فناء داره، ضمن ما يتلف بها، وكذا لو حفرها حر بإذنه سواء كان بأجر أو لا، جاهلا أنها ليست ملكه، أما لو علم بأنه طريق عام فالضمان على الحافر، أما لو حفر بئرا في سابلة واسعة لانتفاع الناس بلا ضرر عليهم لا ضمان عليه، لكن لو كانت الطريق ضيقة أو يتضرر الناس بحفرها ففيه الضمان (2) .
__________
(1) ش: جـ 2، ص 371، الأولى / جـ 2، ص 426، الجديدة ك: جـ 2، ص 366، الأولى / جـ 4، ص 119، الجديدة – الفروع: جـ 2، ص 815، الجديدة
(2) ش: جـ 2، ص 373، الأولى / جـ 2، ص 427 – 428، الجديدة: ـ ك: جـ 2، ص 367، الأولى / جـ 2، ص121 – 122، الجديدة(8/741)
الفصل الخامس:
في أحكام الاصطدام:
(مادة 1452)
إذا اصطدم ساعيان أو فارسان ضمن كل منهما ما فات على الآخر من نفس ومال (1) .
مادة (1453)
لو اصطدمت سفينتان واقفتان أو سائرتان في بحر بتفريط القيمين ضمن كل منهما سفينة الآخر وما فيها من نفس ومال، وإن كان التفريط من أحدهما فعليه الضمان، وإن (لم) يكن تفريط؛ كما لو هاجت ريح شديدة غلبتهما على ضبطها وتحريفها، فلا ضمان؛ وإن كانت إحداهما واقفة ضمنها مع ما فيها قيم السائرة إن فرط وإلا فلا ضمان (2) .
كلمة (لم) ليست موجودة بالأصل والسياق يوجبها، وقد ذكر المؤلف رحمه الله تهميشه إلى جانب هذه المادة قوله: (تركت صفة المصعدة والمنحدرة لندرتها) وقد وردت هذه الأوصاف في نصوص المصادر السابقة.
__________
(1) ش: جـ 2، ص 380، الأولى / جـ 2، ص 431، الجديدة – ك: جـ 2، ص 373، الأولى جـ 4، ص 130، الجديدة. الشرح الكبير 5 / 456
(2) ش: جـ 2، ص 380، الأولى / جـ 2، ص 431، الجديدة – ك: جـ 2، ص 373، الأولى / جـ 4، ص 130، الجديدة. الشرح الكبير 5 / 456(8/742)
مادة (1454)
عدم استعداد اليم بحمل الآلات اللازمة عادة من أدوات وعمال تفريط وكذا نومه مع تركها سائرة (1) .
مادة (1455)
يقبل قول قيم السفينة بيمينه في عدم تفريطه وفي أنه غلب عن ضبطها (2) .
مادة (1456)
السفينة المشرفة على الغرق يجب إلقاء ما يظن بإلقائه نجاتها، فلو ألقى متاعه ومتاع غيره لا ضمان عليه، لكن لو امتنع صاحب المتاع من إلقائه، فألقاه آخر ضمنه (3) .
وفي المغني لابن قدامة – رحمه الله (4) :
مسألة: قال (وإذا اصطدم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر) وجملته: أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال، سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين، أو كان أحدهما فارسا والآخر غيره، سواء كانا مقبلين أو مدبرين، وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه وإسحاق.
وقال مالك والشافعي: على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر؛ لأن التلف حصل بفعليهما، فكان الضمان منقسما عليهما، كما لو جرح إنسان نفسه وجرحه غيره فمات منهما، ولأن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر ضمانها، كما لو كانت واقفة بخلاف الجراحة، إذا ثبت هذا فإن قيمة الدابتين إن تساوتا تقاصا وسقطتا، وإن كانت إحداهما أكثر من الأخرى فلصاحبها الزيادة، وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها، وإن نقصت فعليه نقصها.
__________
(1) ش: جـ 2، ص 380، الأولى / جـ 2، ص 431، الجديدة – ك: جـ 2، ص 373، الأولى جـ 4، ص 130، الجديدة. الشرح الكبير 5/ 456
(2) ش: جـ 2، ص 381، الأولى / جـ 2، ص 432، الجديدة – ك: جـ 2، ص 373، الأولى / جـ 4، ص (130) الجديدة.
(3) ش: جـ 2، ص 381، الأولى جـ 2 ص 381، الجديدة – ك: جـ 2، ص 374، الأولى / جـ 4، ص 132، الجديدة
(4) المغني لابن قدامة: 4 / 89(8/743)
فصل: فإن كان أحدهما يسير بين يدي الآخر، فأدركه الثاني فصدمه، فماتت الدابتان أو إحداهما، فالضمان على اللاحق لأنه الصادم والآخر مصدوم فهو بمنزلة الواقف.
مسألة: قال: (وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر قيمة دابة الواقف) نص أحمد على هذا لأن السائر هو الصادم المتلف فكان الضمان عليه، وإن مات هو أو دابته فهو هدر لأنه أتلف نفسه ودابته، وإن انحرف الواقف فصادفت الصدمة انحرافه فهما كالسائرين لأن التلف حصل من فعلهما، وإن كان الواقف متعديا بوقوفه مثل أن يقف في طريق ضيق فالضمان عليه دون السائر لأن التلف حصل بتعديه فكان الضمان عليه كما لو وضع حجرا في الطريق أو جلس في طريق ضيق فعثر به إنسان.
مسألة: قال: (وإن تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) روي هذا عن علي رضى الله عنه، والخلاف فيها في الضمان، كما الخلاف فيما إذا اصطدم الفارسان إلا أنه لا تقاص ههنا في الضمان، لأنه على غير من له الحق لكون الضمان على عاقلة كل واحد منهما. وإن اتفق أن يكون الضمان على من له الحق مثل أن تكون العاقلة هي الوارثة، أو يكون الضمان على المتصادمين تقاصا، ولا يجب القصاص سواء كان تصادمهما عمدا أو خطأ؛ لأن الصدمة لا تقتل غالبا فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ، وإلا فرق بين البصيرين والأعميين والبصير والأعمى. فإن كانتا امرأتين حاملتين فهما كالرجلين، فإن أسقطت كل واحدة منهما جنينا فعلى كل واحدة نصف جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها؛ لأنهما اشتركا في قتله، وعلى كل واحدة منهما عتق ثلاث رقاب: واحدة لقتل صاحبتها، واثنتان لمشاركتهما في الجنين، وإن أسقطت إحداهما دون الأخرى اشتركتا في ضمانه وعلى كل واحدة عتق رقبتين.
وإن أسقطتا معا ولم تمت المرأتان ففي مال كل واحدة ضمان نصف الجنين بغرة إذا سقطا ميتين. وإن اصطدم راكب وماش.(8/744)
فصل: وإن اصطدم عبدان فماتا هدرت قيمتهما؛ لأن قيمة كل واحد منهما تعلقت برقبة الآخر فسقطت بتلفه، وإن مات أحدهما تعلقت قيمته برقبة الحي، فإن هلك قبل استيفاء القيمة سقطت لفوات محلها، وإن تصادم حر وعبد فماتا تعلقت دية الحر برقبة العبد ثم انتقلت إلى قيمة العبد، ووجبت قيمة العبد في تركة الحر فيتقاصان، فإن كانت دية الحر أكثر من قيمة العبد سقطت الزيادة – لأنها لا متعلق لها – وإن كانت قيمة العبد أكثر أخذ الفضل من تركة الجاني، وفي مال الحر عتق رقبة، ولا شيء على العبد لأن تكفيره بالصوم فيفوت بفواته، وإن مات العبد وحده فقيمته في ذمة الحر؛ لأن العاقلة لا تحمل العبد، وإن مات الحر وحده تعلقت ديته برقبة العبد وعليه صيام شهرين متتابعين، وإن مات العبد قبل استيفاء الدية سقطت، وإن قتله أجنبي فعليه قيمته، ويتحول ما كان متعلقا برقبته إلى قيمته لأنها بدله وقائمة مقامه وتستوفى ممن وجبت عليه.
مسألة: قال: (وإذا وقعت السفينة المنحدرة على الصاعدة فغرقتا، فعلى المنحدرة قيمة السفينة الصاعدة أو أرش ما نقصت إن أخرجت؛ إلا أن يكون قيم المنحدرة غلبته الريح فلم يقدر على ضبطها) وجملته أن السفينتين إذا اصطدمتا لم تخلوَا من حالين، أحدهما: أن تكونا متساويتين كاللتين في بحر أو ماء واقف، أو كانت إحداهما منحدرة والأخرى صاعدة فنبدأ بما إذا كانت إحداهما منحدرة والأخرى صاعدة؛ لأنها مسألة الكتاب ولا يخلوان من حالين:
أحدهما: أن يكون القيم بها مفرطا بأن يكون قادرا على ضبطها أو ردها عن الأخرى فلم يفعل، أو أمكنه أن يعدلها إلى ناحية أخرى فلم يفعل، أو لم يكمل آلتها من الحبال والرجال وغيرهما، فعلى المنحدرة ضمان الصاعدة؛ لأنها تنحط عليها من علو فيكون ذلك سببا لغرقها، فتنزل المنحدرة بمنزلة السائرة والصاعدة بمنزلة الواقف. وإن غرقتا جميعا فلا شيء على المصعد، وعلى المنحدر قيمة المصعد أو أرش ما نقصت إن لم تتلف كلها؛ إلا أن يكون التفريط من المصعد بأن يمكنه العدول بسفينته والمنحدر غير قادر ولا مفرط فيكون الضمان على المصعد لأنه المفرط، وإن لم يكن من واحد منهما تفريط، لكن هاجت ريح أو كان الماء شديد الجرية فلم يمكنه ضبطها فلا ضمان عليه لأنه لا يدخل في وسعه ضبطها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.(8/745)
الحال الثاني: أن يكونا متساويتين، فإن كان القيمان مفرطين ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر بما فيها من نفس ومال، كما قلنا في الفارسين يصطدمان، وإن لم يكونا مفرطين فلا ضمان عليهما، وللشافعي في حال عدم التفريط قولان: عليهما الضمان لأنهما في أيديهما فلزمهما الضمان كما لو اصطدم الفارسان لغلبة الفرسين لهما. ولأن الملاحين لا يسيران السفينتين بفعلهما ولا يمكنهما ضبطهما في الغالب ولا الاحتراز من ذلك، فأشبه ما لو نزلت صاعقة أحرقت السفينة، ويخالفان الفرسين فإنه ممكن ضبطهما والاحتراز من طردهما، وإن كان أحدهما مفرطا وحده فعليه الضمان وحده، فإن اختلفا في تفريط القيم، فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم التفريط وهو أمين فهو كالمودع، وعند الشافعي أنهما إن كانا مفرطين فعلى كل واحد من القيمين نصف سفينته ونصف سفينة صاحبه، كقوله في اصطدام الفارسين على ما مضى.
فصل: فإن كان القيمان مالكين للسفينتين بما فيهما تقاصا، وأخذ ذو الفضل فضله، وإن كانا أجيرين ضمنا ولا تقاص ههنا؛ لأن من يجب به غير من يجب عليه، وإن كان في السفينتين أحرار فهلكوا وكانا قد تعمدا المصادمة، وذلك مما يقتل غالبا فعليهما القصاص، وإن كانوا عبيدا فلا ضمان على القيمين إذا كانا حرين؛ وإن لم يتعمدا المصادمة أو كان ذلك مما لا يقتل غالبا وجبت دية الأحرار على عاقلة القيمين، وقيمة العبيد في أموالهما، وإن كانا القيمان عبدين تعلق الضمان برقبتيهما، فإن تلفا جميعا سقط الضمان، وأما مع عدم التفريط فلا ضمان على أحد، وإن كان في السفينتين ودائع ومضاربات لم تضمن لأن الأمين لا يضمن ما لم يوجد منه تفريط أو عدوان، وإن كانت السفينتان بأجرة فهما أمانة أيضا لا ضمان فيهما، وإن كان فيهما مال يحملانه بأجرة إلى بلد آخر فلا ضمان لأن الهلاك بأمر غير مستطاع.(8/746)
فصل: وإن كانت إحدى السفينتين قائمة والأخرى سائرة، فلا ضمان على الواقفة، وعلى السائرة ضمان الواقفة إن كان مفرطا، ولا ضمان عليه إن لم يفرط على ما قدمناه. اهـ.
وذكر أبو الفرج في شرحه الكبير للمقنع نحو ما تقدم.
وفي الفروع لابن مفلح رحمه الله (1) :
وإن اصطدم راجلان أو راكبان أو ماش وراكب - قال في الروضة: بصيران أو ضريران أو أحدهما – فماتا أو دابتاهما ضمن كل واحد متلف الآخر، وقيل: نصفه، وقدم في الرعاية: وإن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن، وجزم به في الترغيب. وإن اصطدما عمدا ويقتل غالبا فهدر، والأشبه عمد، وما تلف للسائر منهما لا يضمنه واقف وقاعد، في المنصوص: وقيل: بلى، مع ضيق الطريق، وفي ضمان سائر ما أتلف لواقف وقاعد في طريق ضيق وجهان، وإن اصطدم قنان ماشيان فهدر، لا حر وقن فقيمة قن، وقيل: نصفها في تركة حر، ودية حر، ويتوجه الوجه أو نصفها في تلك القيمة. وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا ضمن كل واحد متلف الآخر، وفي المغني: إن فرطا؛ وقاله في المنتخب، وأنه ظاهر كلامه، ولا يضمن المصعد منهما بل المنحدر إن لم يغلبه ريح؛ نص عليه. وفي الواضح وجه: لا يضمن منحدر، وفي الترغيب: السفينة كدابة، والملاح كراكب، ويصدق ملاح في أن تلف مال بغلبة ريح، ولو تعمد الصدم فشريكان في إتلاف كل منهما ومن فيهما فإن قتل غالبا فالقود وإلا شبه عمد، ولا يسقط فعل المصادم في حق نفسه مع عمد ولو خرقها عمدا وأو شبه عمد أو خطأ عمل على ذلك، وهل يضمن من ألقى عدلا مملؤا بسفينة ما فيها أو نصفه أو بحصته؛ يحتمل أوجها، وإن أركب صبيين غير وليهما فاصطدما ضمن – وفى الترغيب: تضمن عاقلته ديتهما، وإن ركباها فكالبالغين مخطئين، وكذا أن أركبهما ولي المصلحة، قال ابن عقيل: ويثبتان بأنفسهما، وفي الترغيب: إن صلحا للركوب وأركبهما ما يصلح لركوب مثلهما وإلا ضمن، ويضمن كبير صدم الصغير، وإن مات الكبير ضمنه من أركب الصغير. نقل حرب: إن حمل رجل صبيا على دابة فسقط ضمنه إلا أن يأمره أهله بحمله. اهـ.
__________
(1) الفروع: 6 / 6 – 8(8/747)
وفي الإنصاف على المقنع (1) :
قوله: (وإن اصطدم نفسان) قال في الروضة: بصيران أو ضريران أو أحدهما، قلت: وكذا قال المصنف والشارح (فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) هذا المذهب جزم به الخرقي والمحرر والمفتي والشرح والزركشي والنظم والوجيز والمنور ومنتخب الآدمي وغيرهم في الرعايتين والحاوي الصغير والفروع، وقيل: يجب على عاقلة كل منهما نصف الدية وهو تخريج لبعضهم.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف أنه سواء كان تصادمهما عمدا أو خطأ وهو صحيح وهو المذهب وعليه أكثر الأصحاب، وقيل: إذا كان عمدا يضمنان دون عاقلتيهما وقال في الرعاية وهو أظهر: (قوله: وأن كانا راكبين فماتت الدابتان فعلى كل واحد منهما قيمة دابة الآخر) وهذا المذهب جزم به في المغني والشرح الكبير والمحرر وغيرهم وقدمه في الفروع وغيره، وقيل: على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الآخر، وقدم في الرعايتين: إن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن، وجزم به في الترغيب والوجيز والحاوي الصغير. وقوله: (وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر ضمان الواقف ودابته، إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا فلا ضمان عليه، وعليه ضمان ما تلف به) . ذكر المصنف هنا مسألتين:
إحداهما: ما يتلف السائر إذا كان الآخر واقفا أو قاعدا فقطع بضمان الواقف ودابته على السائر، إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا فلا ضمان عليه، وهو أحد الوجهين وهو المذهب منهما، ونص عليه وجزم به في المغني والشرح والوجيز، وهو ظاهر ما جزم به في الرعاية والحاوي، وقيل: يضمنه السائر سواء كان الواقف في طريق ضيق أو واسع، وقدمه في المحرر والنظم والزركشي وهو ظاهر كلام الخرقي وأطلقهما في الفروع.
المسألة الثانية: ما يتلفه الواقف أو القاعد للسائر في الطريق الضيق فجزم المصنف هنا أنه يضمنه، وجزم به في الشرح وشرح ابن منجا واختاره المصنف، والصحيح من المذهب أنه لا يضمن؛ نص عليه وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين والحاوي الصغير الفروع. وأما ما يتلف للسائر إذا كان الطريق واسعا فلا ضمان على الواقف والقاعد على الصحيح من المذهب، وقطع به كثير منهم وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين والحاوي والفروع وغيرهم، وقيل: يضمنه ذكره الزركشي وغيره.
__________
(1) 10 / 35(8/748)
تنبيهان:
أحدهما: قوله: (فعلى السائر ودابته ضمان الواقف يكون على عاقلة السائر، وضمان دابة الواقف يكون على نفس السائر، صرح به الأصحاب، فظاهر كلام المصنف غير مراد.
الثاني: قوله: (إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفاِ) قال ابن منجا: لا بد أن يلحظ أن الطريق الضيق غير مملوك للواقف أو القاعد، لأنه إذا كان مملوكا لم يكن متعديا بوقوفه فيه، بل السائر هو المتعدى بسلوكه ملك غيره بغير إذنه. اهـ.
استنتجت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية من أقوال الفقهاء السابقين الحكم في بعض قضايا سير المركبات الحديثة وفيما يلي نص ما قالته اللجنة (1) :
أولا: إن تصادمت سيارتان وكان ذلك من السائقين عمدا فإن ماتا فلا قصاص لفوت المحل، وتجب دية كل منهما ودية من هلك معه من النفوس، وما تلف معه من السيارة والمتاع في مال صاحبه، بناء على عدم اعتبار اعتدائه وفعله في نفسه ومن هلك معه، واعتبار ذلك بالنسبة لصاحبه ومن هلك أو تلف معه، أو يجب نصف ديته ونصف دية من هلك معه ونصف قيمة ما تلف في مال صاحبه بناء على اعتبار اعتدائه وفعله في حق نسفه وحق صاحبه. وإن مات أحدهما دون الآخر اقتص منه لمن مات بالصدمة لأنها ما يغلب على الظن القتل به. وإن كان التصادم منهما خطأ وجبت الدية أو نصفها لكل منهما ولمن مات معه على عاقلة صاحبه، وتجب قيمة ما تلف من سيارة كل منهما أو متاعه أو نصفها في مال صاحبه بناء على ما تقدم، من الاعتبارين، وإن كان أحدهما عامدا والآخر مخطئا فكل حكمه على ما تقدم ومن كان منهما مغلوبا على أمره فلا ضمان عليه إلا إذا كان ذلك بسبب تفريط منه سابق.
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية، العدد (26) ، 1409 – 1410 هـ(8/749)
ثانيا: إذا صدمت سيارة سائرة واقفة في ملك صاحبها أو خارج طريق السيارات أو على جانب طريق واسع ضمن سائق السيارات ما تلف في الواقفة من نفس ومال بصدمته لأنه المتعدي، فإن انحرفت الواقفة فصادف ذلك الصدمة فالضمان بينهما على ما تقدم في تصادم سيارتين، وإن كانت واقفة في طريق ضيق غير مملوك لصاحبها فالضمان على صاحب الواقفة لتعديه بوقفه، ويحتمل أن يكون الضمان بينهما لتفريط كل منهما وتعديه، وإن صدمت سيارة نازلة من عقبة مثلا سيارة صاعدة فالضمان على سائق المنحدرة إلا إذا كان مغلوبا على أمره فلا ضمان عليه، أو كان سائق الصاعدة يمكنه العدول عن طريق النازلة فلم يفعل فالضمان بينهما. وإن أدركت سيارة سيارة أمامها فصدمتها ضمن سائق اللاحقة ما تلف من النفوس والأموال في سيارته والسيارة المصدومة، لأنه متعد بصدمه لما أمامه، والأمامية بمنزلة الواقفة بطريق واسع، إلا إذا حصل من سائق الأمامية فعل يعتبر سببا أيضا في الحادث، كأن يوقف سيارته فجأة أو يرجع بها إلى الخلف أو ينحرف بها إلى ممر اللاحق ليعترض طريقها، فالضمان بينهما على ما تقدم من الخلاف في حكم تصادم سيارتين.
ثالثا: وإذا وقف سائق سيارة بسيارته أمام إشارة المرور مثلا ينتظر فتح الطريق فصدمت سيارة مؤخرة سيارته صدمة دفعتها إلى الإمام، فصدمت بعض المشاة مثلا فمات أو أصيب بكسور؛ ضمن من صدمت سيارته مؤخرة السيارة الأخرى كل ما تلف من نفس ومال، لأنه متعد بصدمه، والسيارة الأمامية بمنزلة الآلة بالنسبة للخلفية فلا ضمان على سائقها لعدم تعديه.
هذا فيما يتعلق بالتصادم بين السيارتين أو أن تصدم سيارة أخرى، أما فيما يتعلق بحوادث دهس الأشخاص أو انقلاب السيارة أو سقوط شيء منها ونحوه فقد استنتجت اللجنة الأحكام الآتية:
أولا: إذا ساق إنسان سيارة في شارع عام ملتزما السرعة المقررة ومتبعا خط السير حسب النظام، فقفز رجل فجأة أمامه فصدمته السيارة ومات أو أصيب بجروح أو كسور، رغم قيام السائق بما وجب عليه من الفرملة ونحوها، أمكن أن يقال بتضمين السائق من مات بالصدم أو الكسر مثلا بناء على ما تقدم من تضمين الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت الدابة بيديها، وقد يناقش بأن كبح الدابة وضبطها أيسر من ضبط السيارة، ويمكن أن يقال بضمان كل منهما ما تلف عند الآخر من نفس ومال بناء على ما تقدم عن الحنفية والمالكية والحنابلة ومن وافقهم في تضمين المتصادمين، ويمكن أن يقال بضمان السائق ما تلف من نصف الدية أو نصف الكسور لتفريطه بعدم احتياطه بالنظر لما أمامه من بعيد، وبضمان المصدوم نصف ذلك لاعتدائه بالمرور فجأة أمام السيارة دون الاحتياط لنفسه بناء على ما ذكره الشافعي وزفر وعثمان البتي ومن وافقهم في تضمين المتصادمين، ويحتمل أن يقال: إنه هدر. لانفرداه بالتعدي ولو قدر أنه اصطدم بجانب السيارة فمات أو كسر والسيارة على ما ذكر من الحال كان الضمان بينهما على ما تقدم من الاحتمالات.(8/750)
ثانيا: إذا مر إنسان أو حيوان أمام سيارة (ونيت) مثلا، فاستعمل سائق السيارة الفرملة تفاديا للحادث، فسقط أحد الركاب، وقفز آخر، فماتا أو أصيبا بكسور، علما بأن باب السيارة قد أحكم إغلاقه؛ ضمن السائق دية من سقط، أو أرش إصابته؛ لأن سقوطه كان بعنف الفرملة، وقد كان عليه أن يعمل لذلك احتياطا من قبل فيهدئ من السرعة وليس له أن يتسبب في قتل شخص ليسلم آخر، ويحتمل ألا يضمن إذا كان متبعا للنظام في سرعته لأنه مأمور بالفرملة تفاديا للحادث؛ أما من قفز فهو كاسر لنفسه أو قاتلها فلا يضمنه السائق.
ثالثا: إذا تعهد السائق سيارته قبل السير بها، ثم طرأ عليها خلل مفاجئ في جهاز من أجهزتها مع مراعاة النظام في سرعته وخط سيره، وغلب على أمره فصدمت إنسانا أو حيوانا أو وطئته فمات أو كسر مثلا؛ لم يضمن السائق دية ولا قيمة، ولو انقلبت بسبب ذلك على أحد أو شيء فمات أو تلف فلا ضمان عليه لعدم تعديه وتفريطه، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
وإن فرط السائق في تعهد سيارته أو زاد في السرعة أو في حمولتها أو نحو ذلك ضمن ما أصاب من نفس ومال، وإن سقط شيء من السيارة ضمنه إن كان في حفظه بأن كان موكولا إليه إلا أن عليه شده بما يصونه ويضبطه، وإن سقط أحد منها لصغره وليس معه قيم فأصيب ضمن ذلك لتفريطه.(8/751)
رابعا: إن سقط شيء من السيارة فأصاب أحدا فمات أو كسر، أو أصاب شيئا فتلف؛ ضمن ما أصاب من نفس أو مال لتفريطه، وإن سقط منها مكلف لازدحام يخالف نظام المرور فمات ضمن السائق لتعديه، ويحتمل أن يكون الضمان على السائق ومن هلك بالسقوط مناصفة لاشتراكهما في الاعتداء.
وأقرت اللجنة الدائمة مبدأ حق ولي الأمر في إصدار أنظمة ولوائح السير والمرور، وتفرض العقوبات على المخالفين بحسب ما يؤديه إليه اجتهاده انطلاقا من واجب ولي الأمر نحو رعاياه، والمحافظة على أرواحهم وممتلكاتهم، والسعي لتحقيق مصالحهم ودفع الضرر عنهم، وأن من عصى ولي الأمر في ذلك يعتبر من المعتدين ويستحق التعزير بما تقرره الأنظمة التي يضعها ولي الأمر من حبس وسحب رخصة القيادة وغرامة مالية أخذا برأي بعض العلماء في جواز التعزير بالمال.
وفيما يتعلق باشتراك أكثر من واحد في تحمل مسؤولية الحادث وتوزيع المسؤولية بين المسؤولين عن الحادث استنتجت اللجنة من أقوال الفقهاء الأحكام الآتية:
أولا: إذا صدمت سيارة إنسانا عمدا أو خطأ فرمته إلى جانب وأصابته سيارة أخرى مارة في نفس الوقت فمات:
(أ) فإن كانت إصابة كل منهما تقتله لو انفردت وجب القصاص، منهما له أو الدية عليهما مناصفة على ما تقدم من الخلاف والشروط في مسألة اشتراك جماعة في قتل إنسان سواء تساوت الإصابات أو كانت إحداهما أبلغ من الأخرى ما دامت الدنيا منها لو انفردت قتلت.(8/752)
(ب) وإن تتابعت الإصابات وكانت الأولى منها تقتل، وجب القصاص أو الدية على سائق الأولى ويعزر سائق الثانية، وإن كانت الأولى لا تقتل ومات بإصابة الثانية فالقصاص أو الدية على سائق الثانية، ويجب على سائق الأولى جزاء ما أصاب من قصاص أو دية أو حكومة.
ثانيا: إذا أصابت سيارة إنسانا بجروح أو كسور وأصابته أخرى بجروح أو كسور أقل أو أكثر من الأولى، وكل من الإصابتين لا تقتل إذا انفردت، فمات المصاب من مجموع الإصابتين، وجب القصاص أو الدية على السائقين مناصفة.
ثالثا: إذا دفع إنسان آخر فسقط، أو أوثقه في طريق فأدركته سيارة ووطئته فقتلته أو كسرته مثلا، فقد يقال: على السائق ضمان ما أصاب من نفس أو كسر ويعزر الدافع أو الموثق بعقوبة دون الموت أو بحبس حتى يموت؛ لأن السائق مباشر والموثق أو الدافع متسبب، ويحتمل أن يكون الضمان عليهما قصاصا أو دية أو حكومة لأن كليهما مشترك مع السائق في ذلك.
رابعا: إذا أصابت سيارة إنسانا أو مالا وأصابته أخرى في نفس الوقت أو بعده، ولم يمت، وتمايزت الكسور أو الجروح أو التلف، فعلى كل من السائقين ضمان ما تلف أو أصيب بسيارته قل أو كثر.(8/753)
خامسا: إذا أصابت سيارتان إنسانا بجروح أو كسور ولم تتمايز ولم يمت، أو أصابت شيئا أو أتلفته، فعليهما القصاص في العمد وضمان الدية والمال بينهما مناصفة.
سادسا: إن استعمل السائق المنبه (البوري) من أجل إنسان أمام سيارته أو يريد العبور فسقط من قوة الصوت أمام سيارته، ووطئته سيارة فمات أو كسر مثلا ضمنه السائق، وإن سقط تحت سيارة أخرى ضمنه سائقها؛ لأنه مباشر ومستعمل المنبه متسبب، ويحتمل أن يكون بينهما لاشتراكهما كالممسك مع القاتل، وإن سقط فمات أو كسر مثلا بمجرد سماعه الصوت ضمنه مستعمل المنبه.
سابعا: إذا خالف السائق نظام السير المقرر من جهة السرعة أو عكس خط السير وأصاب إنسانا أو سيارة أو أتلف شيئا عمدا أو خطأ ضمنه، وإن خرج إليه إنسان أو سيارة من منفذ فحصل الحادث ففي من يكون عليه الضمان احتمالات: الأول: أن يكون على السائق المخالف للنظام لاعتدائه ومباشرته، ويحتمل أن يكون على من خرج من المنفذ فجأة لأنه لم يتثبت ولم يحتط لنفسه ولغيره، وعلى من خالف نظام المرور التعزير بما يراه الحاكم أو نائبه، ويحتمل أن يكون الضمان عليهما للاشتراك في الحادث، وإن اعترضته سيارة في خطها النظامي أو زحمته فإن كان ذلك عمدا منه، فالضمان عليه وإن كان خطأ فالضمان عليهما، وعلى مخلف النظام الحق العام وهو التعزير بما يراه الحاكم.(8/754)
إذا كان من المسلَّم به في الفقه الإسلامي، أن لولي الأمر حق وضع الأنظمة والقوانين التي تنظم حياة الناس وتحفظ أرواحهم وممتلكاتهم. ألا يكون من الحق أن تحدد تلك الأنظمة والقوانين الحالات التي يكون فيها سائق السيارة مسؤولا عن الحادث، والحالات التي لا يكون فيها مسؤولا، بدلا من أن يترك الأمر للاحتمالات؟ أليس من الواجب أن تكون الأحكام حاسمة وقاطعة وعلى منهج واحد ونسق واحد ولا يختلف فيها الحكم بين قاض وقاض؟
فبعض القضايا لا يسوغ فيها اختلاف وجهات النظر بحجة أن هذا مباشر. وأن هذا متسبب في الحادث، فلا مجال للاحتمالات والاختلاف في وجهات النظر، في مثل قضية سائق ملتزم السير الصحيح حسب النظام. فقفز رجل أمامه فجأة فصدمته السيارة ومات أو أصيب بجروح أو كسور. أليس من العدل أن نقول: إن الرجل الذي قفز أمام السيارة قد جنى على نفسه، ولا يتحمل سائق السيارة مسؤولية في الحادث؟ لم إذا لا يتحمل كل إنسان مسؤولية الخطأ الذي يرتكبه ويترك القاضي تحديد الخطأ ونسبته من وقائع القضية وظروفها؟(8/755)
الذي جعل بعض القضاة يحكم بمسؤولية سائق السيارة وتضمينه دية الرجل في مثل هذه القضية أن هناك قاعدة فقهية تقول: " إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر "، وهناك قاعدة أخرى تقول: " المباشر ضامن وإن لم يتعمد "، وأخرى تقول: " المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد "؛ لكن الذي لم يتنبه له هؤلاء هو أن الفقهاء قد ذكروا أن السبب قد يتغلب على المباشرة، وذلك في حالة إذا لم تكن المباشرة عدوانا (1) وهنا لم تكن المباشرة عدوانا فيتغلب السبب عليها إذا اجتمع مع المباشرة، فيتعين الحكم ببراءة المباشر، وعدم تضمينه في هذه الحالة، ومثل ذلك لو أن سائق السيارة يسوق سيارته في الشارع الرئيسي العام ملتزما نظام السير، فخرجت أمامه سيارة من شارع فرعي فاعترضت طريق السيارة الأولى فصدمت الأولى الثانية، فإن المسؤول في هذه الحالة سائق السيارة الثانية الذي لم يتوقف حتى تمر السيارة الأولى، ولا شيء على سائق السيارة الأولى، وإن كانت هي المباشرة للصدم ما دام سائقها ملتزما بأصول السواقة.
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية، المواد (90، 92، 93)(8/756)
فالشرط في تحميل المباشر المسؤولية هو أن تكون مباشرته للضرر ذاتية مستقلة غير ملجئة، أي لا تكون المباشرة مبنية على السبب وناشئة عنه. فإذا وقع شخص آخر نحو سيارة أثناء سيرها فسقط تحت عجلاتها ودهسته، فإن السيارة في هذه الحالة هي التي باشرت الضرر من الوجهة المادية البحتة، ومع ذلك فلا يمكن مساءلة قائد السيارة وتضمينه باعتباره مباشرا، إذ لا دخل له في وقوع الحادث الذي يرجع في الحقيقة إلى فعل الشخص الدافع، وإن كان فعله هذا يظهر كمجرد سبب، إلا أن الضرر ينسب إليه لأنه هو الذي ألجأ السيارة إلى مباشرة الضرر. فالأول متسبب، والثاني مباشر، ومع أن القاعدة الشرعية تقول: " إنه عند اجتماع المتسبب والمباشر تعلق الضمان بالمباشر دون المتسبب " إلا أن المباشرة هنا ناشئة عن المسبب لذلك يتعلق الضمان بالمتسبب لأن القاعدة هذه مقيدة بألا يكون الفعل المؤدي إلى التلف مباشرة مبنيا على الفعل المتسبب ملجئا إلى الفعل المباشر، كما هو الحال هنا فيتحمل المتسبب هنا كامل المسؤولية إذا كان الفعل المباشر لا عدوان فيه، أما إذا كان الفعل المباشر فيه عدوان اشترك المتسبب والمباشر في الضمان، والمتسبب لا يضمن مع المباشر، إذا كان هذا السبب شيئا لا يعمل بانفرداه في الإتلاف، أما إذا كان الإتلاف نتيجة اجتماعهما كان الضمان عليهما.(8/757)
ولا يخفى ما لحركة السيارات من دور لا ينكر في حوادث السير مما يحتم على القاضي تحمل مسؤولية الموازنة والمقارنة ليتبين إلى من ينسب الحادث حقيقة. فقد يسند الحادث منطقيا وعقليا إلى عاملٍ وسببٍ شارَكَ السيارة ودفعها إلى مباشرة الحادث، وقد يكون كل من السيارة والعامل الآخر مباشرا للضرر كما يحدث في حالات التصادم، ولا يعني ذلك أن كل سبب يشترك مع السيارة في وقوع الحادث يرفع بالضرورة الضمان عن قائد السيارة، والمهم أن يكون هناك استقصاء، وبحث كل العوامل والأسباب التي أدت إلى الحادث ومعرفة دور كل طرف فيه ومدى تأثيره في الحادث.
وهنا نذكر بعض أمثلة لحوادث السيارات التي قد تختلف حولها وجهات النظر، ولكن الرأي الأجدر بالترجيح يكون واضحا لمن أراد أن يتجرد عن التقليد:
1- وقع تصادم بين سيارة (أ) وسيارة (ب) نتيجة إقدام قائد سيارة (أ) على قيادتها بسرعة، وعدم التهدئة عند التقاطع وانحرافه جهة اليسار مما أدى إلى اصطدامه بالسيارة (ب) التي كان قائدها وقت وقوع الاصطدام متخذا الوضع العادي المرعي في السير، وفي الجانب الأيمن من الطريق، ولم يقع فيه أي فعل أثر في التلف وحصله، وجلب الضرر بذاته دون واسطة وكان علة له، فإن قائد السيارة الثانية لا يكون قد أتى بفعل متلف بذاته، ومن ثم لا يعد مباشرا لتدخل أمر بين سير هذه السيارة وبين الضرر الناجم عن هذا الأمر، هو الصدمة التي أحدثتها السيارة الأولى بتلك السيارة مما يجعل قائدها متسببا في الضرر وليس مباشرا.(8/758)
2- كان قائد السيارة (أ) يسير على يمين الطريق بسرعة معتدلة بينما كان يسير خلفه قائد السيارة (ب) والذي عند اقترابه منه حاول أن يتجاوزه، ولم يسلك في ذلك السلوك المعتاد بأن يتم التجاوز من جهة اليسار بل على العكس من ذلك حاول أن يتخطاه من اليمين، وإذا كانت تلك السيارة على يمين الطريق تحرك قائدها يمين الطريق العام وسار في الجزء الترابي منه وحاول تجاوز السيارة الأخرى أيضا فاصطدم بها فوقع الحادث، فإنه يكون المباشر لهذا الحادث، ويقتصر دور قائد السيارة الثانية على كونه متسببا فلا يسأل.
3- إذا تحرك قائد السيارة (أ) إثر إضاءة النور الأخضر وفي وسط التقاطع أقبلت السيارة (ب) بالرغم من أن إشارة المرور لم تكن تسمح له بالسير فصدم السيارة نتيجة خطئه ومخالفته لإشارة المرور الحمراء، فإن هذه السيارة تكون هي الصادمة ومن ثم المباشرة للضرر. أما السيارة الأولى فلا تعد إلا مجرد ظرف هيأ لوقوع الحادث لوقوع الحادث، ولكنه لم يحصله بذاته بدون واسطة فلا يعد قائدها مباشرا للضرر لتدخل أمر بين فعلها وبين الضرر الناجم، وهذا الأمر هو الصدمة التي أخذتها السيارة الثانية.(8/759)
4- بينما كان قائد السيارة يقود سيارته بسرعة كبيرة في اتجاه مضاد لاتجاه سيارتين، وكانتا تلتزمان يمين الطريق في اتجاهما، إذ بقائد السيارة الأولى ينحرف تجاه السيارتين فصدم بهما على التوالي حيث وقع الحادث وانتهى بوفاته، لا بد هنا أن يقال: إنه هو الذي باشر الصدم ونجم القتل نتيجة لاصطدام فهو المسؤول وهو المباشر، فلا يتحمل سائقها أي مسؤولية مع المباشر لأن الضرر لم ينجم مباشرة عن حركة السيارتين لتدخل أمر بين حركتهما وبين الضرر الناجم، وهو الصدمة التي أحدثتها سيارة المتوفى بهما.
5- كانت السيارة (أ) يقودها سائقها ويركب معه شخص آخر فحصل تصادم بين هذه السيارة والسيارة (ب) فتوفي قائد السيارة (أ) مع الراكب الذي معه، وكان الصدم نتيجة انحراف السيارة (أ) من الناحية اليمنى إلى الناحية اليسرى من الطريق انحرافا حادا بآثار فرامل ظاهرة طولها عشرون ياردة تقريبا، في الوقت الذي كانت فيه السيارة الثانية آتية من الاتجاه المقابل في خط سيرها الطبيعي، فلا شك أن الذي يتحمل المسؤولية في هذا الحادث هو سائق السيارة (أ) لأنه يعتبر هو المباشر، أما سائق السيارة الأخرى فلا يصدق عليه وصف المباشرة، وإنما هو مجرد متسبب لا يلزمه الضمان إلا إذا كان متعديا.
6- بينما كان قائد سيارة نقل عام يسير في الطريق العام ملتزما الجانب الأيمن من الطريق كما يمليه واجب القيادة؛ إذ بسيارة نقل خاص قادمة من الاتجاه المضاد تنحرف نحوه تاركة الجانب الأيمن المخصص لها ومقتحمة عليه طريقه، فكان لا بد من اصطدامها به، وترتب على ذلك تهشمها وانقلاب السيارة الأولى ووفاة سائق سيارة النقل الخاص وشخص آخر يركب معه، ولا ريب أن سبب الحادث هنا هو انحراف المتوفى بسيارته النقل الخاص التي كان يركبها المجني عليه الثاني معه من مسارها إلى مسار السيارة النقل العام الذي لم يرتكب خطأ، وإن اعتراض المجني عليه لسيارة النقل العام والاصطدام بها يرتفع إلى مقام الخطأ الجسيم من قبل المجني عليه.(8/760)
هذه الأمثلة مع وضوح الحكم فيها إلا أن هناك من القضاة من تبنى فكرة المباشرة بصورة جامدة، ويتأثر نتيجة الضرر إذا كان جسيما وخاصة في حالة الوفاة فيحرص بعض القضاة أن يحكموا بالدية في حالة الوفاة نتيجة حوادث السيارات انطلاقا من مبدأ "لا يبطل دم في الإسلام" وهو مبدأ صحيح، ولكن ليس من عدل الإسلام أن يتحمل الدية من ليست عليه مجرد المباشرة. وبعضهم يحتج بأن النائم إذا وقع على إنسان فقتله يضمن الدية مع أنه ليس له اختيار. وواضح أن هذه المسألة تختلف عن حوادث السيارات، فإن هذه مباشرة بدون واسطة، وفى إمكان النائم قبل أن ينام أن يتحرى ما يمكن أن يحدث لما يصدر منه أثناء نومه فلا يؤذي أحدا، والقتيل في حالة وقوع النائم عليه لم يكن من قبله نشاط أدى إلى حدوث القتل، ونستطيع أن نطبق مبدأ "لا يبطل دم في الإسلام" في حالة ما إذا كان فاعل القتل مجهولا وتعذرت معرفته أو تعذر الحصول عليه، فعند ذلك تتحمل الدولة أو بيت المال الدية، فالأصل أن يتحمل الجاني أو عاقلته الدية فإذا تعذر ذلك يتحمل بيت المال الدية، فلو أن سيارة مجهولة صدمت شخصا ولم يتعرف عليها فإن الدولة هي التي تضمن الدية.
ففي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل رجل في زحام فاستشار عمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي: (لا يبطل دم في الإسلام) فوداه عمر من بيت مال المسلمين وحول وجوب الدية على بيت المال. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: الكلام في هذا يحتاج إلى بحث ثلاثة أمور:
الأمر الأول: إذا كانت الدية على العاقلة ولم يكن ثمة عاقلة، لا من عصبة نسبية ولا سببية ولا موالاة – عند من يقول به – أتجب الدية في بيت المال باعتباره عاقلة من ليس له عاقلة، قال بعض التابعين وأبو حنيفة والشافعي تجب الدية في بيت المال، وبنوا ذلك على ثلاثة أمور:
أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع دية الأنصاري الذي قتل بين اليهود من بيت المال، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودى رجلا قتل في زحام من بيت المال، وقد أشار عليه بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال له: (لا يبطل دم في الإسلام) .
ثانيها: أن ميراث من لا وارث له يؤول إلى بيت المال، فيكون عليه تبعة بهذا الاعتبار، إذ أن الغرم بالغنم، وحيث آل ماله إذا مات يكون مسؤولا عما يرتكب مما ولا يعترض على هذا بأن تركات أهل الذمة تؤول إليه، فهل يتحمل دياتهم؟ ونجيب عن ذلك بالإيجاب فإنه لا يبطل أيضا دم أحد ممن يستظلون بالراية الإسلامية، ويتحمل التبعة عن كل فعل لا يتحمل تبعته أحد ويكون فيه تعويض للأرواح المقتولة، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما دفع دية الأنصاري كان يدفع الدية عن الذين تحملوها من اليهود.
ثالثها: أن الدولة مسؤولة بمقتضى التكافل الاجتماعي عن كل دم، حتى لا يذهب دم هدرا.
والذين أوجبوا الدبة عن بيت المال أوجبوها في بيت مال الضوائع التي تؤول إليه التركات التي لا يعرف لها وارث، فكانت ضامنة بهذا الاعتبار، وهذا رأي أبي حنيفة، والشافعي، والحنابلة لا يوجبون ذلك وقولهم غير راجح.
الأمر الثاني: الذي يجب بحثه، أنه إذا لم يمكن أداء من بيت المال أيذهب الدم هدرا؟ قال بعضهم: يذهب الدم هدرا، إذ لا يوجد من يلتزم، ولكن الحق أنه لا يسقط، وهو القول الآخر، بل يستمر الوجوب عن بيت المال وغيره؛ لأن التقصير في الأداء لا يسقط الدين، بل تجب الدية عن القاتل، وإن لم يكن عنده استمرت عن بيت المال، والأداء واجب عليه حتى يؤدي.(8/761)
الأمر الثالث: الذي يجب بحثه إذا كان الأداء عن القاتل بسبب عفو ولي الدم، وعجز عن أداء ما وجب عليه، أتجب الدية على بيت المال؟ إن الذين قالوا: إن ما يجب من مال يكون بصلح، يعتبرونه دينا كسائر الديون يكون الأداء فيه عند الميسرة، لقوله تعالى في شان الديون: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .
والذين قالوا: إن الواجب هو الدية، وتكون على الجاني لا ينقلونها إلى بيت المال، ولكن تكون نظرة إلى ميسرة، وهم لا يقررون انتقال الدين إلى بيت المال في حال ما إذا كان الأداء واجبًا على العاقلة، فأولى ألا ينتقل الأداء إليه، عندما يكون الوجوب عن الجاني نفسه، والأمر في هذا يرجع إلى الذين عفوا، فعليهم الانتظار حتى يتيسر، والله تعالى يقول: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وليس من الاتباع بالمعروف اتباع المعسر، كما أنه ليس من الأداء بإحسان المطل.
ويصح أن يكون الأداء من بيت مال الزكاة من سهم الغارمين المذكور في القرآن الكريم، وقد بينا ذلك في بحث الزكاة فارجع إليه (1) .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم – رئيس القضاء السابق بالمملكة العربية السعودية – رحمه الله: ما يجب على بيت المال دفعه من الديات والديون في حالات:
الأولى: إذا مات أحد المسلمين وعليه دين دية أو غيرها من الديون، ولم يخلف له وفاء فعلى ولي الأمر قضاؤه من بيت المال كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة.
الثانية: إذا جنى إنسان على آخر فقتله وكانت الجناية خطأ أو شبه عمد ولم يكن له عاقلة موسرة، فالمشهور من المذهب أن الدية تكون في بيت المال، وإن كان له عاقلة موسرة فعليها الدية إن صدقته.
الثالثة: إذا حكم القاضي بالقسامة في قضية القتل، فنكل الورثة على حلف أيمان القسامة ولم يرضوا بيمين المدعى عليه وداه الإمام من بيت المال.
الرابعة: كل مقتول جهل قاتله: كمن مات في زحمة أو طواف أو نحو ذلك فديته في بيت المال، أما الدية التي يحكم بها على الجاني لكون القتل عمدا فتجب عليه في ماله حالة، وتكون من ضمن الديون في ذمته: إن كان موسرا ألزمه الوفاء، وإن كان معسرا فنظرة إلى ميسرة، ويسوغ أن يدفع له في حالة إعساره من الزكاة ما يوفي به هذه الدية لأنه من الغارمين الذين هم أحد أصناف الزكاة الثمانية، فإن مات مدينا فعلى ولي الأمر قضاء دينه من بيت مال المسلمين. قال الشيخ تقي الدين: وتؤخذ الدية من الجاني الخطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء إذا رأى الإمام المصلحة فيه، ونص على ذلك الإمام أحمد، ويتوجه أن يعقل ذوو الأرحام عند عدم العصبة إذا قلنا: تجب النفقة عليهم (2) .
__________
(1) العقوبة في الفقه الإسلامي (ص 633 – 634)
(2) الاختيارات الجلية للشيخ البسام بأسفل نيل المآرب: 4 / 413 – 414(8/762)
الحوادث التي تسببها البهائم للسيارات:
ومن المعلوم أن الدول قد خصصت طرقا للسيارات لا يمر فيها المشاة، ولا تسمح لمالكي المواشي أن يتركوا مواشيهم مهملة عند هذه الطرق، وذلك لما يترتب من حوادث السير عندما تمر الماشية أمام السيارة ويحصل الاصطدام، ويؤدي ذلك إلى تلف في الأرواح والممتلكات، فإذا خالف أرباب المواشي التنبيهات والأوامر التي يصدرها ولي الأمر، وتركوا مواشيهم ترعى بالقرب من طريق السيارات ولم يحفظوها ويمنعوها عن الذهاب إلى طرق السيارات، فما الحكم إذا حصلت الأضرار بسبب اعتراض البهيمة لطريق السيارة وحصول الاصطدام؟
لا شك أننا لم نجد نصا فقهيا واضحا يتعلق بهذا الموضوع، وفقهاؤنا معذورون في ذلك لعدم وجود السيارات في عصرهم، وقد اقتصر بحثهم على ما تتلفه البهائم مستندين إلى حديث البراء بن عازب ((قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية على أهل الماشية)) ، وحديث ((العجماء جبار)) وبسبب تعارض هذين الحديثين اختلفت وجهات نظر الفقهاء، وبعضهم وفق بين الحديثين، فتكون جنايتها جبار في حال وغير جبار في حال أخرى، فذكر الفقهاء مسائل فضمنوا المالك ما تتلفه بهيمته إذا فرط في حفظها، كما ضمنوا راكب البهيمة المتصرف فيها، وكذا السائق والقائد جناية يدها وفمها ووطئها برجلها، ولا يضمن من نفحت برجلها أو بذنبها، لأنه لا يمكنه أن يمنعها منه، ومن نفر البهيمة أو نخسها ضمن وحده جنايتها دون المتصرف فيها لأنه المتسبب، ومن ذلك أيضا لو حل رباطا عن نحو فرس أو حل قيدا عن مقيد فذهب ما فيه أو تلف ما فيه شيء ضمنه، لأنه تلف بسبب فعله كربط دابة في طريق ضيق أو طرح نحو حجر بها فيضمن ما تلف بذلك، وكذا لو ربط دابة أو أوقفها بطريق واسع ويده عليها فأتلفت شيئا أو جنت بيدها أو رجلها أو فمها ضمن، ومثله لو اقتنى كلبا عقورا فيضمن إذا عقر.(8/763)
هذه الأمثلة ذكرها الفقهاء، ونتساءل: فهل في إمكاننا على ضوء ذلك أن نجعل إهمال صاحب الناقة مثلا لناقته التي تركها تذهب إلى طريق السيارات أن يتحمل مسؤولية ما يترتب على اعتراضها للسيارات وما تسببه من حوادث، ويغرم الديات والأورش، وقيمة الأموال التي تلفت بسببها، حيث تصطدم بها السيارة ولا يستطيع قائدها أن يتلافى الحادث خاصة في الطرق الطويلة التي تسرع فيها السيارات؟
وهنا نجد قرارا لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية نقله فضيلة الشيخ عبد الرحمن البسام في تعليقه على كتاب (نيل المآرب) ونصه ما يلي:
عدم ضمان البهائم التي تعترض الطرق العامة المعبدة بالأسفلت إذا تلفت نتيجة اعتراضها الطريق المذكورة، فصدمت فهي هدر، وصاحبها آثم بتركها وإهمالها لما يترتب على ذلك من أخطار جسيمة تتمثل في إتلاف الأنفس والأموال، وتكرار الحوادث المفجعة، ولما يترتب على حفظها وإبعادها عن الطرق العامة من أسباب السلامة وأمن الطرق، والأخذ بالحيطة، وحفظ الأموال والأنفس تحقيقا للمقتضى الشرعي وتحريا للمصالح العامة، وامتثالا لأوامر ولي الأمر (1) .
هذا القرار حل جزءا من المشكلة، وهو إهدار البهيمة على صاحبها، وعدم استحقاقه لشيء مقابل تلفها، وهذا يعني أن هيئة كبار العلماء ضمنت مالك البهيمة قيمة بهيمته عندما قررت أنها هدر، ألا يمكن أن نقول: إنه أيضا يضمن ما سببته بهيمته بسبب إهماله لها من أضرار أخرى ترتبت على الحادث فيما لو أدى الحادث إلى موت سائق السيارة فيضمن الدية، ويضمن التلف الذي حصل بالسيارة؟
__________
(1) الاختيارات الجلية: 3 / 179 – 180(8/764)
وما الذي يمنع من ذلك خاصة إذا أمر ولي الأمر أصحاب المواشي أن يحفظوا مواشيهم ولا يهملوها وأنذرهم بأنهم يتحملون المسؤولية في حالة دخول أي بهيمة إلى الطريق العام الذي تسير فيه السيارات، وإذا كانت هيئة كبار العلماء قد صرحت بأن مالك البهيمة يأثم في هذه الحالة، ألا يمكن أن يترتب على هذا الإثم مسؤولية حقوقية نحو الآخرين الذين تضرروا بسبب هذا الإثم؟ أعتقد أن علماء الإسلام في مجمع الفقه الإسلامي من واجبهم شرعا أن يحسموا هذه المشكلة بقرار فقهي يضمن أولئك الذين خالفوا أوامر ولي الأمر، وأهملوا مواشيهم تذهب إلى طريق السيارات، تعرض حياة الناس وأموالهم للخطر، وأمر طبيعي أن يكون ذلك بعد أن يتأكد القاضي أن سائق السيارة كان ملتزما نظام السير، ولم يصدر منه أي تهور أو تقصير، وليس في إمكانه تلافى الحادث.
والذي نراه أن النقابات في هذا العصر يمكن أن تقوم مقام العاقلة في البلدان التي فيها النقابات، كما أن التأمين التعاوني أيضا يمكن أن يقوم مقام العاقلة، لكن إذا لم تكن هناك نقابات، وليس هناك تأمين تعاوني فهل يجوز للمسلم أن يؤمن ضد الحوادث في شركات التأمين التجارية باعتبار أن ذلك ضرورة ملحة تقتضيها حاجات الإنسان الحياتية في هذا العصر خاصة في حالة إلزام الدولة بالتأمين لكل من يريد أن يسوق سيارة؟ أعتقد أن ذلك جائز للفرد لأنه لا حيلة له إذا كانت هناك مسؤولية فهي على المسلمين جميعا بوقوفهم موقفا سلبيا، ولم يضعوا حلولا مناسبة تتفق مع شريعتهم من كل النواحي، ونرى من المناسب هنا أن ننقل فتوى الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود – التي تجيز التأمين ضد حوادث السيارات ونصها:
(التأمين على السيارات)
إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه بين الحلال والحرام بيانا واضحا فقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، وقال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] ، وقال: {أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] .(8/765)
وفي البخاري ومسلم: عن النعمان بن بشير، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) .
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الحلال المحض بين واضح لا مجال للشك فيه، وأن الحرام المحض بين لا يختلج في القلب الجهل به، ولكن بينهما أمور مشتبهات لا يعلم أكثر الناس حقيقة الحكم فيها، هل هي من الحلال أو من الحرام؟ ومفهوم الحديث أن القليل من الناس وهم أهل العلم والمعرفة يعرفون حكم الله في هذه المشتبهات، فيلحقون الحلال بنظيره من الحلال، والحرام بنظيره من الحرام.
فالذين يخاف عليهم من الوقوع في الحرام عند مقاربتهم للمشتبهات هم العوام الذين تحفى عليهم غوامض الأحكام، ويتجاسرون على الأشياء المشتبهات بدون سؤال عن الحلال والحرام، كان أن العلماء ينبغي أن يتركوا المشتبهات عندما يخفى عليهم طريق الحكم فيها، لحديث: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) .
ثم إن هذه المشتبهات تقع في العقود والشروط والمبايعات، والأنكحة والأطعمة والرضاع، وقد ترجم عليها البخاري في صحيحه، فقال: (باب تفسير المشتبهات) ، ثم ساق بسنده عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بن أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء فقالت: إني قد أرضعتكما، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف وقد قيل؟ ففارقها عقبة ونكحت زوجا غيره، ثم ذكر حديث عبد الله بن زمعة مع عتبة بن أبي وقاص، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الولد لك يا عبد الله بن زمعة واحتجبي منه يا سودة)) . فأمر سودة أن تحتجب عنه مع أنه محكوم بكونه أخاها، لكن لما رأى قرب شبه بعتبة بن أبي وقاص أمرها أن تحتجب عنه، وهو من باب اتقاء الشبهات.
فمن هذه المشتبهات ما قع مشكلا مشتبها في وقت إلى أن يتصدى له من يخرجه من حيز الاشتباه والغموض إلى حيز التجلي والظهور حتى يصير واضحا جليا لا مجال فيه للاشتباه.
فمن هذا النوع قضية التأمين على السيارات فهي وإن أشكل على الكثير من الناس حكمها من أجل تجدد حدوثها وغموض أمرها، وعدم سبق الحكم من الفقهاء فيها باسمها، فإن لها في الفقه الإسلامي أشباها ونظائر ينبغي أن ترد إليها ويؤخذ قياسها منها، كما يرد الفرع إلى أصله والنظير إلى نظيره.
وهذا يعد من القياس الصحيح الذي نزل به الكتاب والسنة وعمل به الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها، ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها، ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سنة تحقيقه وتطبيقه، كما سيأتي بيانه.(8/766)
(الأصل في العقود الإباحة حتى يقوم دليل التحريم)
ذهب الإمام أبو حنيفة – رحمه الله – إلى أن الأصل في العقود والشروط الحظر إلى أن يقوم دليل الإباحة، وهذا هو مذهب الظاهرية وعليه تدل نصوص الإمام الشافعي وأصوله، وذهب الإمام مالك إلى أن الأصل في العقود الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه، وعليه تدل نصوص الإمام أحمد وأصوله، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله.
فقد قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: "إن الأصل في العقود الصحة والجواز، ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل الشرع على إبطاله وتحريمه بنص صحيح أو قياس صريح". قال: "وأصول الإمام أحمد المنصوصة عنه تجري على هذا القول ومالك قريب منه" – انتهى (1) .
وقد نهج هذا المنهاج العلامة ابن القيم – رحمه الله – قال: (الخطأ الرابع: فساد اعتقاد من قال: إن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملتهم على البطلان حتى يقوم دليل الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة عقد أو شرط أو معاملة، استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك عقودا كثيرة من معاملات الناس وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة، حتى يقوم الدليل على البطلان، وهذا القول هو الصحيح، فإنه لا حرام إلا ما حرم الله ورسوله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله) (2) .
إذا ثبت هذا، فإن صفقة عقد التأمين على حوادث السيارات، وهو أن يتفق الشخص الذي يريد التأمين على سيارته مع شركة التأمين، سواء كان التأمين كاملا أو ضد الغير، فيدفع قدرا يسيرا من المال على تأمينها مدة معلومة من الزمان، كعام كامل بشروط وقيود والتزامات معروفة عند الجميع. من أهمها: كون السائق يحمل رخصة سياقة، فمهما أصيبت هذه السيارة أو أصابت غيرها بشيء من الأضرار في الأنفس والأموال خلال المدة المحددة، فإن الشركة ملزمة بضمانه بالغا ما بلغ.
__________
(1) الفتاوى القديمة: 2 / 326
(2) إعلام الموقعين: 2 / 34(8/767)
ويستفيد المؤمِّن على سيارته حصول الأمان والاطمئنان على نفسه وعلى سيارته التي يسوقها بنفسه، أو يسوقها رجل فقير لا مال له ولا عاقلة، فيستفيد عدم المطالبة والمخاصمة في سائر الحوادث التي تقع بالسيارة متى كان التأمين كاملا، وتقوم شركة التأمين بإصلاحها عند حدوث شيء من الأضرار بها، ومثل هذا الأمان والاطمئنان يستحق أن يبذل في حصوله نفيس الأثمان.
وليس فيه من المحذور سوى الجهالة بالأضرار التي قد تعظم في بعض الأحوال فتقضي بهلاك بعض النفوس والأموال وقد لا تقع بحال.
وهذه الجهالة مغتفرة من سائر الضمانات، فقد ذكر الفقهاء صحة الضمان عن المجهول وعما لا يجب.
قال في المغني: ويصح ضمان الجنايات، سواء كانت نقودا كقيم المتلفات أو نفوسا كالديات؛ لأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع جوازه بالالتزام قال: ولا يشترط معرفة الضمان عنه ولا علمه بالمضمون به لصحة ضمان ما لم يجب… اهـ.(8/768)
وهذه هي نفس قضية التأمين على ضمان حوادث السيارات، ثم إن هذه الجهالة في عقد التأمين لا تفضي إلى نزاع أبدا، لتوطين الشركة أمرها في عقدها على التزام الضمان بالغا ما بلغ فلا تحس بدفع ما يلزمها من الغرامة في جنب ما تتحصل عليه من الأرباح الهائلة.
وقد دعت إليها الحاجة والضرورة في أكثر البلدان العربية، بحيث لا يمنح السائق رخصة السياقة إلا في سيارة مؤمنة وإلا اعتبروه مخالفا لنظام سير البلد، وهذه مما يزول بها شبهة الشك في إباحتها وتتمخض للجواز بلا إشكال.
وفي هذا التأمين مصلحة كبيرة أيضا، وهي أن المتصرفين بقيادة السيارات هم غالبا يكونون من الفقراء الذين ليس لهم مال ولا عاقلة، فمتى ذهبت أرواح بعض الناس بسببهم وبسوء تصرفهم فلن تذهب معها دياتهم لورثتهم، بل يجب أن تكون مضمونة بهذه الطريقة.
إذ من المعلوم أن حوادث السيارات تقع دائما باستمرار، وأن الحادثة الواحدة تجتاح هلاك العدد الكثير من الناس، ومن الحزم وفعل أولي العزم ملاحظة حفظ دماء الناس وأموالهم.
وهذا التأمين وإن كان يراه الفقير أنه من الشيء الثقيل في نفسه ويعده غرامة مالية عليه حال دفعه لكنه يتحمل عنه عبئا ثقيلا من خطر الحوادث، مما يدخل تحت عهدته ومما يتلاشى معها ما يحس به من الغرامة لكون المضار الجزئية تغتفر في ضمن المصالح العمومية… والله أعلم.(8/769)
(إزالة الشبهات اللاحقة لتأمين السيارات)
إن العقود والشروط والشركات والمبايعات كلها مبنية على جلب المصلحة ودرء المفسدة، بخلاف العبادات، فإنها مبنية على التشريع والاتباع لا على الاستحسان والابتداع. والفرق بينهما هو أن العبادات حق الله، يؤخذ فيها بنصوص الكتاب والسنة. أما المعاملات، فإنها مبنية على جلب المصلحة ودرء المفسدة، إذ هي من حقوق الآدميين بعضهم مع بعض، بحيث يتعامل بها المسلم مع المسلم، والمسلم مع الكافر، فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإنه ليس عندنا نص صحيح ولا قياس صريح يقتضي تحريم هذا التأمين يعارض به أصل الإباحة أو يعارض به عموم المصلحة المعلومة بالقطع. إذ العقود والشروط عفو حتى يثبت تحريمها بالنص أو بالقياس الصحيح.
والتحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازما كما حققه أهل الأصول، وهذه الشركة المنعقدة للتأمين إن رأت في نفسها من مقاصدها أو رآها الناس أنها تجارية استغلالية. لكن حقيقة الأمر فيها والواقع منها أنها يتحصل منها اجتماع المنفعتين منفعتها في نفسها في حصول الأرباح لها ومنفعة الناس بها، فهي شركة تعاونية محلية اجتماعية تشبه شركة الكهرباء والأسمنت وغيرهما، فكل هذه الشركات تدخل في مسمى التعاون بين الناس؛ لأن الشخص غني بإخوانه قوي بأعوانه، ويد الله مع الشريكين، ما لم يخن أحدهما صاحبه، فهي من جنس المشاركة بالوجوه ومشاركة الأبدان ومشاركة المفاوضة. وقد حصل الخلاف قديما بين الفقهاء في جواز هذه المشاركات، فمنهم من قال بجوازها، ومنهم من قال بمنعها، كما حصل الخلاف في شركة التأمين على حد سواء، ثم زال الخلاف عن هذه الشركات كلها واستقر الأمر على إباحتها على اختلاف أنواعها.(8/770)
ووجه الإشكال دعوى دخولها في مسمى الجهالة والغرر الذي نهى عنه الشارع. كما روى مسلم في صحيحه: قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر) .
وفسر هذا الغرر المنهي عنه بثلاثة أمور:
(أحدها) المعدوم: كبيع حبل الحبلة، وبيع ما في بطون الأنعام، وبيع ما ليس عندك ونحوه.
(الثاني) بيع المعجوز عن تسليمه: كبيع الآبق.
(الثالث) المجهول المطلق: كبعتك عبدا من عبيدي أو ما في بيتي، ومنه بيع الحصاة وبيع الملامسة والمنابذة، وضربة الغائص، وبيع الحظ والنصيب المسمى باليانصيب، فكل هذه داخلة في بيع الغرر المنهي عنه شرعا، لكونها يقع فيها النزاع غالبا نظير ما يقع في القمار، فإن هذا العبد الآبق إنما يبيعه صاحبه بدون ثمن مثله مخاطرة، فإن تحصل عليه قال البائع: غبنتني، فإن لم يجده قال المشتري: غبنتني رد علي ثمني.
وهذا المعنى منتف في هذه المشاركة التي مبناها على التعاون الاجتماعي الصادر عن طريق الرضاء والاختيار بدون ضرر ولا خداع.
فجواز المشاركة هذه أشبه بأصول الشريعة، وأبعد عن كل محذور، إذ هي مصلحة محضة للناس بلا فساد.
غير أن فيها تسليم شيء من النقود اليسيرة في توطيد تأمين السيارة، ومن السهل أن يختصرها الشخص من زائد نفقته كذبيحة يذبحها لأدنى سبب أو بلا سبب؛ لأن كل عمل كهذا فإنه يحتاج بداعي الضرورة إلى مال ينظمه ويقوم بالتزام لوازمه، وليس عندنا ما يمنع بذل المال في التزام الضمان كما قالوا بجواز: اقترض لي ألفا ولك منه مائة، وأنه جائز، ومنه ضمان الحارس بأجره.(8/771)
فصحة هذا الضمان، والتزام لوازمه يتمشى مع نصوص الإمام أحمد وأصوله.
قال في المغني: (دلت مسألة الخرقي على ضمان المجهول كقوله: ما أعطيته فهو علي، وهذا مجهول، فمتى قال: أنا ضامن لك ما على فلان، أو ما يقضي به عليه، أو ما تقوم به البينة، أو ما يقر به لك، أو ما يخرجه الحساب، صح الضمان بهذا كله، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك) .
قال: (وفيه صحة ضمان ما لم يجب، وصحة الضمان عن كل من وجب عليه حق، وفيه صحة الضمان في كل حق من الحقوق المالية الواجبة، أو التي تؤول إلى الوجوب) اهـ.
وقال في المغني أيضا:
(ويصح ضمان الجنايات، سواء كانت نقودا كقيم المتلفات أو نفوسا كالديات؛ لأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع جوازه بالالتزام) . قال: (ولا يشترط معرفة الضمان للمضمون عنه ولا العلم بالمضمون به) .
وهذه هي نفس قضية ضمان التأمين على السيارات، فإن شركة التأمين تلتزم ضمان الديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات، كما ذكر جوازه صاحب المغني والشرح الكبير والإقناع، ولا يقدح في صحته جهل الضامن للمضمون به ولا المضمون عنه، فنصوص الإمام أحمد وأصوله تتسع لقبولها كنظائرها من الضمانات وكذلك الإمام مالك وأبو حنيفة كما ذكرنا موافقتهما على ذلك.(8/772)
غير أن الإمام أحمد أكثر تصحيحا للعقود والشروط من سائر الأئمة، ونصوص مذهبه تساير التطور في العقود المستحدثة.
وإنما وقع اللبس فيها على من قال بتحريمها من علماء هذا العصر، كابن عابدين وغيره من جهة أنهم اعتقدوها قمارا أو جهالة أو غررا، أو التزام ما لا يلزم، أو كونها على عمل مجهول قد يفضي إلى غرامات باهظة.
ويتمسكون بما بلغهم من العمومات اللفظية، والقياسات الفقهية التي اعتقدوا شمولها لمثل هذا العقد، يظنونها عامة أو مطلقة وهي لا تنطبق في الدلالة والمعنى على ما ذكروا، أو يعللون بطلان مثل هذا العقد بكونه لم يرد به أثر ولا قياس.
والله سبحانه قد أمر عباده بالوفاء بالعقود في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وهو شامل لكل عقد يتعاقده الناس فيما بينهم ويلتزمون الوفاء به، ولم يكن قمارا ولا ربا ولا خديعة.
إذ الأصل في العقود الصحة والإباحة إلا ما قام الدليل على تحريمه، لكون العقود والشروط والمشاركات من باب الأفعال العادية التي يفعلها المسلم مع الكافر، وليست من العبادات الشرعية التي تفتقر إلى دليل التشريع.(8/773)
فمن أعطى الشركة مالا على حساب التزام ضمان سيارته بطيب نفس منه والتزمت الشركة لوازمه، فإن مقتضى الشرع يحكم بصحة هذا الضمان، أخذا من قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، ومن قوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وفي الحديث: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)) ، وهذا العوض قد خرج عن طيب نفس من مالك السيارة ومن الشركة، فثبت بذلك إباحته، وقواعد الشرع لا تمنعه لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، وربما يجبرون بطريق النظام عليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه؛ لأن المال عزيز على النفوس لا تسخو ببذله إلا في سبيل منفعتها، وفي هذا النظام هو في حاجة إلى تأمين سيارته لحصول الاطمئنان والأمان عما عسى أن ينجم عنها من حوادث الزمان.
وبما أن هذه الشركة هي من ضمن العقود التي أمر الله بالوفاء بها ومن حسن التجارة الواقعة بين الناس بالتراضي، ومن جنس المشاركة بالأبدان، والوجوه والمفاوضة، فإنها أيضا من جنس الصلح الجائز بين المسلمين، لما روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم)) . وكثير بن زيد قال يحيى بن معين: هو ثقة، وضعفه في موضع آخر، وروى الترمذي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا)) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذا الحديث يترقى إلى الصحة بتعدد طرقه، مع العمل عليه بإجماع أهل العلم.(8/774)
فهذا الاشتراك الاجتماعي الأهلي المنعقد للضمان في تأمين حوادث السيارات يعتبر من التعاون المباح، وما ينتج عنه من الأرباح فحلال لا شبهة فيه، أشبه بشركات الكهرباء والأسمنت ونحوها، ويدخل في عموم الصلح الجائز بين المسلمين وإباحته تتمشى على ظاهر نصوص مذهب الإمام أحمد.
قال في الإقناع: (وهو من الكتب المعتمدة عند الحنابلة لمؤلفه – موسى الحجاوي) : ويصح ضمان أروش الجنايات نقودا كانت كقيم المتلفات أو حيوانا، كالديات، لأنها واجبة أو تؤول إلى الوجوب …. اهـ.
وسبق قول صاحب المغني:
وهذه تشبه قضية ضمان التأمين على السيارات، حيث تلتزم الشركة ضمان الديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات، كأضرار السيارات ونحوها من كل ما هو واجب بالضمان أو يؤول إلى الوجوب، ولا يشترط معرفة المضمون ولا المضمون به.
ولا يقدح في صحة هذا الضمان كون المؤمن على سيارته يدفع شيئا من المال، فإن هذا لا يقدح في صحة الضمان والحالة هذه، إذ ليس عندنا ما يمنعه.
ولا يقدح في صحة هذا الضمان تبرع الشركة بدفع الديات وقيم الأضرار والمتلفات بدون رجوع فيه إلى الحد، فإن هذا كله جائز على قواعد المذهب، إذ من المعلوم شرعا وعرفا أن الجناية تتعلق بالجاني المباشر لها في خاصة العمد، وعلى العاقلة في قتل الخطأ فيما زاد على الثلث من الدية؛ غير أن التزام الشركة بضمان هذه الجنايات، وإن عظم أمرها وعدم الرجوع على أحد في غرمها أنه صحيح جائز، وهو مما يجعل الجاني الذي لم يتعمد وكذا عاقلته في راحة عن المطالبة والغرامة، وهو خير من كونهم يتكففون الناس في سؤال هذه الغرامة أعطوهم أو منعوهم.(8/775)
وغاية ما يدركون عليها في الجهالة عن قدر الغرامة، وهي مغتفرة فيها كسائر أمثالها من الضمانات والشركات التي لا تخلو من الجهالة كشركة الأبدان والوجوه والمفاوضة، فإن فيها كلها شيئا من الجهالة، وقد تكلم بعض الفقهاء المتقدمين بعدم جوازها من أجله، ثم استقر الأمر على أن مثل هذه الجهالة مغتفرة.
قال في الإقناع: "ويصح ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول كضمان السوق، وهو أن يضمن ما يجب على التاجر للناس من الديون، وهو جائز عند أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة وأحمد " اهـ.
وقال في الاختيارات: "ويصح ضمان المجهول، ومنه ضمان السوق، وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقبضه من عين مضمونة وتجوز كتابته والشهادة به لمن لم ير جوازه؛ لأن ذلك محل اجتهاد " اهـ.
فهذه المشاركات وما يترتب عليها من الالتزامات التي هي بمعنى الضمانات كلها من الأشباه والأمثال والنظائر، التي يجب أن يقاس بعضها على بعض في الإباحة كشركة الأبدان وشركة الوجوه وشركة المفاوضة، ومثله شركة الكهرباء والأسمنت، ولأن حمل معاملة الناس وعقودهم وشروطهم على الصحة حسب الإمكان أولى من حملها على البطلان بدون دليل ولا برهان … والله أعلم (1) .
الديات والكفارة
إذا أدى حادث السير إلى الوفاة فإن المخطئ يتحمل الدية، وعليه الكفارة باعتباره قتل خطأ من قبله، وقد تقدم أن الدية تكون على العاقلة، والعاقلة عند جمهور الفقهاء هم العصبة من الذكور، وعند الأحناف ورواية للمالكية هم أهل الديوان، إن كان الجاني من أهل الديوان، وإلا فعاقلته عصبته، والديوان هو: الزمام الذي يجمع فيه الإمام أفراد الجند على عطاء يخرج لهم من بيت المال في أوقات معلومة.
__________
(1) من كتاب أحكام عقود التأمين ومكانتها من شريعة الدين، الطبعة الأولى(8/776)
وقال أبو بكر الأصم وابن علية: إن دية قتل الخطأ يتحملها الجاني نفسه ولا شيء على العاقلة، ودليلهما أن تحرير الرقبة المؤمنة في الآية واجب على القاتل، فكذلك الدية في الموضعين (1) .
وعلى الرغم من أن حجة الجمهور هي الأقوى حيث ورد في السنة أحاديث صحيحة في ذلك إلا أنه في العصر الحاضر يتعذر من الناحية العملية الحكم على العاقلة، وفي إمكاننا هنا أن نعتمد على قول شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات حيث قال: (وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء، ولا يؤجل على العاقلة إذا رأى الإمام المصلحة فيه، ونص على ذلك الإمام أحمد) (2) .
وإذا لاحظنا أن الأئمة اختلفوا في من يتحمل الدية ابتداء هل هو الجاني أو العاقلة، ورجحنا القول أن الذي يتحملها ابتداء هو الجاني كما يقول أبو حنيفة ومالك، والمذهب عند الحنابلة، استطعنا أن نقول: إنه يحكم على الجاني بالدية، ثم له الحق أن يطالب عاقلته إن كانت له عاقلة.
ويقول الأستاذ عبد القادر عودة (3) – رحمه الله -: "إن نظام العاقلة على ما فيه من عدالة لا يمكن أن يقوم في عهدنا الحاضر؛ لأن أساسه وجود العاقلة، وهي ليس لها وجود الآن إلا في النادر، والنادر لا حكم له، فلا محيص من الأخذ بأحد الرأيين اللذين أخذ بهما الفقهاء من قبل؛ إما الرجوع على الجاني بكل الدية، أو الرجوع على بيت المال، والرجوع على الجاني يؤدي إلى إهدار دماء أكثر المجني عليهم لأن المتهمين فقراء، وهذا لا يتفق مع أغراض الشريعة التي تقوم على حفظ الدماء وحياطتها، وعدم إهدارها، والرجوع إلى بيت المال يرهق الخزانة العامة، ولكنه يحقق المساواة والعدالة، ويحقق أغراض الشريعة، والخوف من إرهاق الخزانة لا يقف حائلا دون تحقيق المساواة والعدالة، ولا يصح أن يحول دون تحقيق أغراض الشريعة، فالحكومة تستطيع أن تدبر أمرها بفرض ضريبة عامة يخصص دخلها لهذا النوع من التعويض، وتستطيع أن تفرض ضريبة خاصة على المتقاضين لهذا الغرض، وإذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعانة الفقراء أو العاطلين فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين، ولقد سبقتنا بعض البلاد الأوربية إلى هذا العمل فأنشأت صندوقا - لتعويض المجني عليه في الجرائم - إيراده المبالغ المتحصلة من الغرامات التي تحكم بها المحاكم، وهذا هو بالذات ما قصدته الشريعة الإسلامية من نظام العاقلة ".
__________
(1) انظر الجصاص: 2 / 223، القرطبي: 5 / 531، وكتاب العاقلة في الفقه الإسلامي للدكتور يوسف رجب
(2) الاختيارات الفقهية - ص (294) ط / دار الفكر، وانظر كتاب نيل المآرب: 4 / 463
(3) التشريع الجنائي: 2 / 199(8/777)
مقدار الدية
كانت دية النفس في الجاهلية مائة من الإبل، وجاء الإسلام فأقر هذا القدر من الإبل وفرض إلى جانبها الفضة والذهب والبقر والشياه والحلل حسب البيئات، قال ابن أبي ليلى: وكانت الدية في الجاهلية مائة من الإبل فأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه فرض على أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشياه ألفي شاة، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل اليمن الحلل مائة حلة (1) .
وفي هذا العصر قررت الدولة الإسلامية التي تحكم بالشريعة في القتل مبلغا مناسبا حسب الظروف الاقتصادية لكل دولة باعتبار أن ذلك المبلغ يقابل قدر الدية في الفقه الإسلامي، وبعض الدول ساوت بين المسلمين وغير المسلمين في الدية اعتمادا على قول الإمام أبي حنيفة، ولعل هذا الرأي هو الأجدر بالتطبيق، فقد قال سيدنا علي رضي الله عنه: "إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا" ويؤيد ذلك ظاهر الآية: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] .
دية المرأة
يكاد الفقهاء يجمعون على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، ولم ينقل عن أحد من الفقهاء أنها مثل الرجل إلا ما نقل عن ابن علية والأصم، وحجتهما أن الآية لم تذكر أن دية المرأة على النصف من دية الرجل فهي عامة، فالمرأة تدخل في تعبير المؤمن كما هو المعهود في نصوص الشرع.
فالآية عامة، وليس هناك مخصص لهذا العموم لا آية قرآنية ولا حديث نبوي صحيح، بل يؤكد ذلك ما جاء في حديث عمرو بن حزم في أوله: ((وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل)) وكلمة نفس تطلق على الذكر والأنثى، كما أن الرجل يقتل بالمرأة فتعين أن تكون ديتها كديته، وكتاب عمرو بن حزم هذا الذي قال فيه: إن دية المرأة على النصف من دية الرجل، هذه الجملة في بعض الروايات وليست في كل الروايات، وهو حديث لم يبلغ من قوة السند ما يمكن به التخصيص.
__________
(1) انظر كتاب الدية للدكتور عوض إدريس(8/778)
ولكن قد يقال: من حيث المعقول، إن المرأة في الغالب ليس في فقدها على أهلها خسارة مادية كما هو في فقد الرجل المكلف بمسؤوليات أكبر من متطلبات الأسرة المادية؛ فجاءت ديتها أقل من دية الرجل، وليس ذلك لأنها أقل إنسانية منه؛ لأن الدية ليست هي مقابل الإنسان ولكنها تعويض للأسرة عما فقدوه بموت مورثهم الذي يكون في الغالب هو عائل الأسرة.
دية الجنين
إذا سقط الجنين ميتا بجناية على أمه عمدا أو خطأ فيه غرة، وهي نصف عشر دية الأب أو عشر دية الأم (1) .
ويرى الفقهاء أنه لا تتحقق الجناية على الجنين إلا إذا انفصل من أمه وعللوا ذلك بأنه هناك شك في وجود الجنين قبل أن ينفصل عن أمه، ولكن بعد تقدم الوسائل الطبية كما يقول الأستاذ عبد القادر عودة: نستطيع أن نقول: إن الرأي الذي يجب العمل به هو مسؤولية الجاني إذا تبين بصفة قاطعة أن الانفصال ناشيء عن فعل الجاني سواء انفصل في حياة أمه أو بعد وفاتها (2) .
ديات الأعضاء والمعاني والأروش
الأعضاء التي تجب فيها الدية أربعة أنواع:
الأول – الذي لا نظير له في البدن: وهي الأنف واللسان والذكر والصلب ومسلك البول ومسلك الغائط، وهذه في كل منها دية كاملة في المذاهب الأربعة، أما الجلد فالشافعي يرى فيه الدية إن سلخ جميعه، ويرى مالك أن الدية تجب في الجلد إذا فعل الجاني فعلا كأن جذمه أو برصه أو سوده، أما أبو حنيفة وأحمد فيريان في الجلد حكومة، أما شعر الرأس فيرى أبو حنيفة أن الدية تجب في شعر الرأس للرجل والمرأة إذا لم ينبت، وفي شعر اللحية وحدها الدية، وما عدا ذلك من الشعور كشعر الشاربين والحاجبين ففيه حكومة، وكذلك يرى أحمد ويزيد أن الدية في الحاجبين، أما مالك والشافعي فلا يجب عندهما في الشعور إلا الحكومة لأنه إتلاف جمال دون منفعة، والدية لا تجب إلا في ما كان فيه منفعة، كما تجب الدية في اليدين، وفي أحد اليدين نصف الدية، واختلفوا في معنى اليد، فرأى البعض أن لفظ اليد يطلق على كل الذراع إلى المنكب، ورأى البعض أنه يطلق على الكف فقط.
__________
(1) انظر عمدة السالك في المذهب الشافعي، ونيل المآرب في المذهب الحنبلي: 4 / 455
(2) انظر التشريع الجنائي: 2 / 297(8/779)
ويجب في كل أصبع عشر الدية (10 %) لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب إلى أهل اليمن بأن في كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشرا من الإبل، ولا يفضل أصبع على أصبع، لما روى عمرو بن شعيب عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الأصابع كلها سواء، عشر عشر من الإبل)) ولأنه جنس تجب الدية فيه فيقسم على أعداده، وفى كل أنملة من غير الإبهام ثلث دية الأصبع، وفي كل أنملة من الإبهام نصف دية الأصبع؛ لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع قسمت دية الأصبع على عدد أنامله، وإن جنى على يد فشلت، أو على أصبع فشلت، أو على أنملة فشلت وجنى بشللها ما يجب في قطعها لأن المقصود بها هو المنفعة فوجب في إتلاف منفعتها ما وجب في إتلافها، وإن قطع يدا شلاء، أو أصبعا شلاء، أو أنملة وجبت فيها الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة، وفي مذهب أحمد رأى بأن فيها ثلث الدية.
ويجب في الرجلين الدية لما رواه معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وفي الرجلين الدية)) وفي أحد الرجلين نصف الدية لما رواه عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((في الرجل نصف الدية)) وفي الرجل نفس الخلاف الذي في اليد، فالبعض يرى أن لفظ الرجل يشمل القدم حتى نهاية الفخذ، والبعض يرى أنه يطلق على القدم فقط، وترتب على هذا الخلاف نفس ما ذكرناه في اليدين.(8/780)
ويجب في كل أصبع من أصابع الرجلين عشر الدية، ويجب في كل أنملة غير أنملة الإبهام ثلث دية الأصبع، وفي كل أنملة من الإبهام نصف دية الأصبع لما ذكر في اليد، وتجب الدية في قدم الأعرج ويد الأعسر إن كانتا سليمتين؛ لأن العرج إنما يكون من قصر أحد الساقين، وذلك ليس ينقص فيه القدم، والعسر لقصر العضد أو الذراع أو اعوجاج الرسغ، وذلك ليس ينقص في الكف فلا يمنع هذا كمال الدية في القدم والكف.
وتجب في العينين الدية لقوله عليه السلام من كتاب عمرو بن حزم: ((في العين خمسون من الإبل)) . يدل ذلك على أن في العينين مائة من الإبل، وعين الأعور فيها نصف الدية عند أبي حنيفة والشافعي وفيها الدية كاملة عند مالك وأحمد، وتجب الدية بقلع العينين، كما تجب بذهاب الإبصار مع بقاء العينين قائمتين.
وتجب الدية في الأذنين وفي إحداهما نصف الدية لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزم: ((وفي الأذن خمسون من الإبل)) . فأوجب في الأذن خمسين، فدل على أنه يجب في الأذنين الدية كاملة، وإن قطع بعضها من نصف أو ثلث أو ربع وجب في الدية بقسطه، وفي قطع الأذنين الدية، ولو كان السمع سليما، وهذا ما يراه أبو حنيفة والشافعي وأحمد وبعض فقهاء مذهب مالك، ولكن بعض فقهاء مالك يرى في قطع الأذنين مع بقاء السمع سليما حكومة.(8/781)
وفي الشفتين الدية لما في كتاب عمرو بن حزم قال: ((وفي الشفتين الدية)) ، وفي إحداهما نصف الدية كالعينين والأذنين، وإن قطع بعض الشفة وجب فيه بقدره، فإن جنى عليهما فشلتا وجبت فيهما الدية كاملة، وإن تقلصتا مع بقاء منفعتهما ففيها حكومة.
وفي الحاجبين الدية عند أبي حنيفة وأحمد، وفى أحدهما نصف الدية إذا أزيل الشعر بحيث لا ينبت، ويرى مالك والشافعي أن في إزالة شعر الحاجبين حكومة.
الثديان والحلمتان
تجب الدية في ثديي المرأة لأن فيهما جمالا ومنفعة، وتجب في إحداهما نصف الدية، وتجب الدية أيضا كاملة في الحلمتين إذا قطعتا دون الثديين، وفي إحداهما نصف الدية لأن في الحلمتين منفعة الثديين، ويشترط مالك لوجوب الدية في الحلمتين أن ينقطع اللبن أو يفسد، فإن لم يتوفر هذا الشرط ففي الحلمتين حكومة، أما باقي الأئمة فلا يشترطون هذا الشرط ويرون الدية في الحلمتين مطلقا.
أما ثديا الرجل فليس فيها إلا الحكومة عند مالك والشافعي لأن في ذهابهما ذهاب جمال، من غير منفعة، وفي مذهب الشافعي من يرى في ثدي الرجل وحلمتيه الدية، ولكن هذا الرأي ليس المذهب، ولكنه يتفق مع مذهب أحمد فهو يرى أن في ثديي الرجل وحلمتيه الدية، وحجته أن ما وجب فيه الدية من المرأة وجب فيه من الرجل، ولأنهما عضوان يحصل بهما الجمال وليس في البدن غيرهما.
ويرى أبو حنيفة أن في ثديي الرجل وحلمتيه حكومة، وقد بنى رأيه على أن ثديي الرجل وحلمتيه ليس فيهما جمال ولا منفعة (1) .
الأنثيان
تجب الدية في الأنثيين لما روي أن في كتاب الرسول لعمرو بن حزم: ((وفي البيضتين الدية)) ولأن فيهما جمالا ومنفعة، فإن النسل يكون بهما، وهما وكاء المني، وفي كل واحدة منهما نصف الدية؛ لأن وجوب الدية في شيئين يوجب نصفها في أحدهما، وإن أشل الأنثيين فعليه الدية كاملة حيث أذهب منفعتهما، فإن قطعهما لم تجب فيهما إلا دية واحدة، ويرى أبو حنيفة ومن يقول من فقهاء مذهبي مالك وأحمد بأن ذكر الخصي والعنين فيه حكومة، ويرى هؤلاء أنه إذا قطع الأنثيان مع الذكر مرة واحدة ففيهما ديتان، دية للأنثيين ودية للذكر، وكذلك الحكم لو قطع الذكر مرة واحدة ففيهما ديتان، دية للأنثيين ودية للذكر، وكذلك الحكم لو قطع الذكر قبل الأنثيين، أما إذا قطع الأنثيان قبل الذكر، ففي الأنثيين الدية وفي الذكر حكومة؛ لأنه يصبح بعد قطع الأنثيين ذكر خصي وذكر الخصي فيه حكومة، أما القائلون بأن ذكر الخصي والعنين فيه الدية وهم الشافعية وبعض فقهاء مذهبي مالك وأحمد فيوجبون في قطع الذكر والأنثيين ديتين سواء قطعت الأنثيان قبل الذكر أم بعده (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 7 / 311 – 323، شرح الدردير: 4 / 243، المهذب: 2 / 223، المغني: 9 / 623
(2) المغني: 9 / 628 – 629، المهذب: 2 / 223، بدائع الصنائع: 7 / 324، مواهب الجليل: 6 / 261(8/782)
الشفران
الشفران أو الأسكتان: هما اللحم المحيط بالفرج من جانبيه إحاطة الشفتين بالفم، وفي الشفرين دية كاملة إذا قطعا حتى ظهر العظم، وفي أحدهما نصفها؛ لأن فيهما جمالا ومنفعة في المباشرة وليس في البدن غيرهما من نوعهما، فإن جنى عليهما حتى أشلهما ففيهما الدية لأنه أزال المنفعة كما لو أنه قطعهما (1) .
الأليتان
يرى أبو حنيفة والشافعي وأحمد أن الدية تجب في الأليتين، وأن نصف الدية يجب في الألية الواحدة؛ لأنهما عضوان من جنس واحد ليس في البدن نظيرهما، ولأن فيهما جمالا ظاهرا ومنفعة كاملة. والأليتان همها ما علا وأشرف من الظهر عن استواء الفخذين، وفيهما الدية إذا أخذتا إلى العظم الذي تحتهما، وفي ذهاب بعضهما بقدره؛ لأن ما وجبت الدية فيه كله وجب في بعضه بقدره، فإن جهل مقدار البعض وجبت حكومة لأنه نقص تعذر تقديره.
ويرى بعض فقهاء مذهب مالك أن في الأليتين حكومة فقط سواء أخذتا إلى العظم الذي تحتهما أو ذهب بعضهما، ويرى البعض الآخر أن فيهما الدية (2) .
__________
(1) المغني: 9 / 639، المهذب: 2 /223، البحر الرائق: 8 / 307، مواهب الجليل: 6 /261
(2) المغني: 9 / 620، المهذب: 2 / 222، البحر الرائق: 8 / 307، المدونة: 6 /113، مواهب الجليل: 6 / 262(8/783)
اللحيان
ويرى الشافعي وأحمد أن في اللحيين الدية، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى لأن فيهما نفعا وجمالا وليس في البدن مثلهما، فكانت فيهما الدية كسائر ما في البدن منه شيئان في أحدهما نصف الدية، وإن قلنا بما عليهما من الأسنان وجبت ديتهما ودية الأسنان ولم تدخل دية الأسنان في ديتهما (1) .
أشفار العينين
تجب الدية في أشفار العينين – أي جفونهما – عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد لأن فيهما جمالا ظاهرا ونفعا كاملا، وهي أربعة ليس مثلها في البدن، فيجب ربع الدية في كل واحد منهما ويرى مالك أن في الأشفار الاجتهاد أي الحكومة؛ لأنه لم يرد نص بأن فيها شيئا مقدرا، والتقدير لابد فيه من نص ولا يثبت بالقياس كما يرى بقية الأئمة (2) .
أهداب العينين
يرى أبو حنيفة وأحمد أن في أهداب العينين الأربعة الدية كاملة؛ لأن فيها جمالا ظاهرا أو نفعا كاملا، وفي كل واحد منها ربع الدية، لكن إذا قطعت الأهداب مع الأجفان ففيها كلها دية واحدة؛ لأن الأهداب تابعة للأجفان كحلمة الثدي مع الثدي والأصابع مع الكف.
ويرى مالك والشافعي أن في الأهداب حكومة لأنها جمال لا منفعة فيه، وإذا قطعت الأهداب مع الأجفان ففي مذهب الشافعي رأيان: رأي يرى أن لا شيء في الأهداب لأنها شعر نابت في العضو وهو الجفن، ورأي يرى أن في الجفنين الدية، وفي الهدب الحكومة لأن فيه جمالا (3) .
__________
(1) المغني: 9 / 619، المهذب: 2 / 220
(2) المغني: 9 / 592، المهذب: 2 / 215، بدائع الصنائع: 7 / 324 و311، مواهب الجليل: 6 / 247
(3) مواهب الجليل: 6 / 247، بدائع الصنائع 7 / 311 و344، المهذب: 2 / 219، المغني: 9 / 593(8/784)
الأسنان
يجب في كل سن خمس من الإبل لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم: ((في السن خمس من الإبل)) ولما رواه عمرو بن شعيب عن الرسول: ((في الأسنان خمس خمس)) ويستوي السن بالناب والناب بالضرس فأرشها سواء لما روى أبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في الأصابع سواء، والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء)) .
ويجب الضمان في سن من قد ثغر: وهو الذي أبدل أسنانه وبلغ حدا إذا قلعت سنه ولم يعد بدلها، فأما سن الصبي الذي لم يثغر فلا يجب بقلعها في الحال شيء لأن العادة عود سنه، فإن مضت مدة ييأس من عودها وجب أرشها، وإذا عادت لم يجب فيها أرش، ولكن إن عادت قصيرة أو مشوهة ففيها حكومة، وإن عادت خارجة عن صف الأسنان بحيث لا ينتفع بها ففيها الدية، وإن كان ينتفع بها ففيها حكومة.
وإن قلع سن من أثغر وجبت ديتها في الحال، فإن عادت لم تجب الدية وعليه ردها وإن كان قد أخذها، وهذا رأي أبي حنيفة وأحمد ويرى مالك أنه لا يرد شيئا لأن العادة أنها لا تعود، فإن عادت فهي هبة مجردة، وفي مذهب الشافعي يأخذ البعض برأي مالك والبعض بالرأي المضاد.
وتجب دية السن فيما ظهر من اللثة لأن ذلك هو المسمى سنا، وما في اللثة يسمى سنخا، فإذا كسر السن ثم جاء آخر فقلع السنخ ففي السن أرشها وفي السنخ حكومة، كما لو قطع إنسان أصابع رجل ثم قطع آخر كفه، وإن قلعت السن بسنخها لم يجب فيها أكثر من الأرش، وإن كسر بعض السن ففيه من أرشه بقدر ما كسر.(8/785)
وإن قلع سنا مضطربة لكسر أو مرض وكانت منافعها باقية من المضغ وضغط الطعام وجب أرشها، وكذلك إذا ذهب بعض منافعها وبقي بعضها في رأي أحمد، أما مذهب الشافعي ففيه رأيان: رأي يرى الأرش، ورأي يرى أن مقدار النقص يجهل قدره فيكون فيها الحكومة، أما إذا ذهبت منافعها كلها ففيها حكومة أو ثلث ديتها على رأي في مذهب أحمد.
وإن قلع سنا فيها داء أو أكلة فإن لم يذهب شيء من أجزائها ففيها دية السن الصحيحة لأنها كاليد المريضة، وإن سقط من أجزائها شيء سقط من أرشها بقدر الذاهب ووجب الباقي.
وإن جني عليه فتغير لون السن إلى السواد أو الخضرة أو الحمرة أو الصفرة ففي مذهب مالك فيها الأرش إن كان التغير إلى الخضرة والحمرة والصفرة يساوي التغير إلى السواد وإلا فحكومة، ومذهب أبي حنيفة فيها الأرش إذا كانت الصفرة بمنزلة السواد، وعند الشافعي يجب فيها حكومة في جميع الحالات في رأي، وفي رأي تجب الدية في السواد إذا زالت المنفعة وإلا فحكومة، وهذا أحد الرأيين في مذهب أحمد، والرأي الثاني في التسويد الدية (1) .
وإذا جنى على أسنانه كلها دفعة واحدة ففيها مائة وستون من الإبل بحساب كل سن خمس من الإبل وهذا رأي مالك وأبي حنيفة وأحمد – ولو أن هذا المقدار يزيد عن دية كاملة لأن النص جعل أرش كل سن خمسا من الإبل، وفي مذهب الشافعي رأيان: أحدهما يأخذ بما يراه الأئمة الثلاثة، وهو الرأي الراجح وحجته أن ما ضمن على انفراد لا ينقص ضمانه بانضمام غيره إليه، وثانيهما أنه لا يجب في الأسنان كلها إذا قلعت دفعة واحدة إلا دية واحدة لأنه جنس ذو عدد فلا يضمن بأكثر من دية كأصابع اليدين (2) .
__________
(1) مواهب الجليل: 6 / 263، بدائع الصنائع: 7 / 310، المهذب: 2 / 219، والمغني: 9 / 611
(2) التشريع الجنائي الإسلامي – الأستاذ عبد القادر عودة: ص (269 – 274)(8/786)
الكفارة
تجب الكفارة في قتل الخطأ – قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) } [النساء: 92] .
وتجب الكفارة في مال القاتل لا يشاركه فيها أحد لأنها عبادة، وتجب ولو كان المقتول ذميا عند الجمهور، وقال المالكية: لا تجب بقتل الذمي، وهي كما في الآية عتق رقبة وإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، واختلفوا في الإطعام إن لم يستطع الصيام فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى روايتيه: إنه لا يجزئ الإطعام، والرواية الأخرى عند أحمد: يجزئ الإطعام، وللشافعي في ذلك قولان، الأصح عنده أنه لا إطعام، ولا تجب الكفارة بالتسبب عند أبي حنيفة، وتجب عند الجمهور (1) .
وللأستاذ عبد القادر عودة – رحمه الله – رأي يقول: "إن الكفارة بعد إلغاء الرق لا تكون بعتق رقبة، وإنما تكون بالتصدق بقيمة الرقبة إذا كان لدى القاتل ما يفيض عن حاجته، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وتقدير قيمة الرقبة يترك لأولياء الأمور" (2) .
وتجب الكفارة عند الشافعي وأحمد على القاتل إذا كان بالغا أو غير بالغ عاقلا أو مجنونا مسلما أو غير مسلم لا يستثنى من ذلك إلا الحربي، فتجب على الذمي والمعاهد والمستأمن، ويرى مالك أنها تجب على الصبي والمجنون ولكنها لا تجب إلا على مسلم، أما أبو حنيفة فلا تجب عنده إلا على المسلم البالغ العاقل فلا تجب على الصبي ولا على المجنون ولا على غير المسلم.
__________
(1) انظر في ذلك: رحمة الأمة ص (348) ، والمغني لابن قدامة 12 / 228 تحقيق التركي والحلو
(2) التشريع الجنائي: 2 / 228(8/787)
وتعدد الكفارة بتعدد الجناة في قتل يوجب الكفارة، وهناك رواية عند أحمد وقول عند الشافعي بأن على الجميع كفارة واحدة، واختلف في قاتل نفسه فرأى الشافعي أن على قاتل نفسه الكفارة في ماله لأن القتل محرم، والنص عام يدخل فيه قاتل النفس، وعند أحمد روايتان، أما الإمام مالك وأبو حنيفة فلا كفارة عندهما على قاتل نفسه؛ لأن النص مقصود به قتل الغير بدليل قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وقاتل نفسه لا تجب فيه دية، كما أن عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة (1) .
العقوبات التبعية
القتل الخطأ: لا يحرم القاتل من الميراث، وإنما يحرمه فقط من الدية عند مالك، وعند أبي حنيفة يحرم قاتل الخطأ من الميراث إذا كان مباشرا فإن كان بالتسبب فلا يحرمه من الميراث.
والرأي الراجح عند الشافعية أنه يحرم من الميراث مطلقا، أما الحنابلة فيرون أن القتل المضمون هو القتل المانع من الميراث، أما القتل غير المضمون فلا يمنع من الميراث كالقتل دفاعا عن النفس والقتل قصاصا.
التعزير والزجر
الأصل في الشريعة أن التعزير لا يكون إلا إذا ارتكب الإنسان معصية ليس فيها حد، ولكن يجوز التعزير للمصلحة العامة وإن لم يرتكب معصية (2) .
قال الأستاذ عبد القادر عودة: والوصف الذي جعل علة للعقاب هو الإضرار بالمصلحة العامة أو النظام العام، فإذا توفر هذا الوصف في فعل أو حالة استحق الجاني العقاب، وإذا تخلف الوصف فلا عقاب، وعلى هذا يشترط في التعزير للمصلحة العامة أن ينسب إلى الجاني أحد أمرين:
1- أنه ارتكب فعلا يمس المصلحة العامة أو النظام العام.
2- أنه أصبح في حالة تؤذي المصلحة العامة أو النظام العام.
__________
(1) المغني: 1 / 38 -39، والتشريع الجنائي: 2 / 175
(2) تحفة المحتاج: 9 / 178(8/788)
ويستدل الفقهاء على مشروعية التعزير للمصلحة العامة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حبس رجلا اتهم بسرقة بعير، ولما ظهر فيما بعد أنه لم يسرقه أخلى سبيله، ووجه الاستدلال أن الحبس عقوبة تعزيرية، والعقوبة لا تكون إلا عن جريمة وبعد ثبوتها، وقد يحتج بذلك على السجن خلال التحقيق ليتبين صحة التهمة من عدمها.
ويستدلون أيضا بما فعل عمر رضي الله عنه عندما نفى نصر بن حجاج خشية افتتان النساء به، ونظرية التعزير للمصلحة العامة تسمح باتخاذ أي إجراء لحماية أمن الجماعة وصيانة نظامها من الأشخاص المشبوهين والخطرين ومعتادي الإجرام، ودعاة الانقلابات والفتن، والنظرية بعد ذلك تقوم على قواعد الشريعة العامة التي تقضي بأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف (1) .
لا ريب أن الخطأ ليس عليه عقوبة، لكن إذا وقع ولي الأمر أنظمة وقوانين للمحافظة على حياة الناس وأموالهم مثل قوانين المرور التي تفرض على الناس التقيد بها من أجل السلامة، فإذا خالف الشخص هذه الأنظمة، وارتكب خطأ بأن تسبب في وفاة شخص أو صدمه فإنه يعاقب عقوبة تعزيرية إلى جانب إلزامه بالتعويض من دية أو أرش، فالعقوبة التعزيرية هنا بسب مخالفته تعليمات ولي الأمر، وولي الأمر تجب طاعته في غير معصية كما هو معروف في الشرع. كما أن الإهمال والتهور وعدم التبصر والتحرز الذي يسبب الضرر بالغير يستحق العقوبة المناسبة كما تنص بذلك القواعد العامة للشريعة.
__________
(1) التشريع الجنائي: 2 / 152(8/789)
ولولي الأمر أن يفرض في هذا الإطار عقوبات مالية انطلاقا من جواز التعزير بالمال في الشريعة كما يرى كثير من الفقهاء في مختلف المذاهب الإسلامية، ومن الأدلة على ذلك إباحته صلى الله عليه وسلم سلب من يصطاد في حرم المدينة للذي يجده، وأمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفه، وأمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين، وتضعيفه الغرامة على من سرق من غير حرز، وسارق ما لا قطع فيه الثمر والكثر، وكاتم الضالة، وأمر عمر وعلي رضي الله عنهما بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، وأخذ شطر مال مانع الزكاة (1) .
الخلاصة
يتلخص هذا البحث في أن حوادث السير الناتجة عن السيارات والمركبات الميكانيكية مسألة جديدة لم يتعرض لها الفقهاء السابقون، ولكنها تدخل في جرائم الخطأ والإهمال وما تحدثه السفن والبهائم عند تصادمها، وقد ذكرت ما قاله فقهاء المذاهب في هذا الشأن، وما يمكن أن نستخلصه من أحكام فيما يترتب على الحوادث من قتل الخطأ الذي تفرض بسببه الدية والكفارة وما يستطيع الحاكم أن يفرضه من تعزير في حالة التهور أو عدم التبصر، وبينت كيف أن الحكم على العاقلة في هذا الزمان غير عملي، وأن الواجب أن تفرض الدية على الجاني نفسه، والحالات التي يمكن أن يرجع بها إلى بيت المال، وفي نظرى أن ذلك يجب أن ينحصر في حالة عدم تبين الجاني انطلاقا من مبدأ (لا يبطل دم في الإسلام) .
__________
(1) انظر الحسبة في الإسلام لابن تيمية ص (4) ، والطرق الحكمية ص (250) ، وكتاب التعزير في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد العزيز عامر ص (396) وما بعدها(8/790)
تعرضت لما ذكره الفقهاء عن المباشرة والتسبب في الحوادث، وبينت ما لحركة السيارات من دور مما يتحتم على القاضي تحمل المسؤولية الموازنة والمقارنة ليتبين إلى من ينسب الحادث حقيقة، وذكرت بعض الأمثلة التي قد تختلف فيها وجهات النظر ووضوح الرأي الأجدر بالترجيح فيها.
وفيما يتعلق بالحوادث التي تسببها البهائم المهملة باعتراضها طرق السيارات، وما جرى في هذه المسألة من اختلاف وجهات النظر، ورأيت أن يتحمل أصحاب البهائم المسؤولية في دفع التعويضات بسبب إهمالهم لمواشيهم، وعدم امتثال تعليمات أولياء الأمور فيما يتعلق بالمحافظة على أرواح الناس وممتلكاتهم، ولا يصح أن نكتفي بالقول: إنهم يأثمون.
وبحثت في مسألة التأمين ضد حوادث السيارات، وبينت أن الرأي الأمثل أن يكون هناك تأمين تعاوني، ولكن في حالة عدم وجود تأمين تعاوني، أليس من الأجدر أن يباح التأمين التجاري فيما يتعلق بحوادث السيارات للحاجة الماسة إلى ذلك؟!
وأوردت فتوى الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في مسألة إباحة التأمين ضد حوادث السيارات.(8/791)
وتعرضت لكفارة القتل الخطأ وبينت اختلاف العلماء في مسألة الإطعام التي لم تذكر في الآية وهل يمكن قياسها على كفارة الظهار، وذكرت رأي الأستاذ عبد القادر عودة فيما يتعلق بعتق الرقبة وأن الأولى في هذا العصر أن نقول: أن يتصدق بقيمة الرقبة، وتقديرها من جهة أولياء الأمور.
وتوصلت في هذا البحث بأن من حق ولي الأمر في الدولة الإسلامية أن يضع من الأنظمة والقوانين ما يكفل المحافظة على سلامة الناس وأملاكهم، وأن يضع من العقوبات التعزيرية ما يردع المخالفين بما في ذلك فرض العقوبات المالية.
وختاما، فإن هذا جهد متواضع، فما كان فيه من الصواب فمن الله، وما كان فيه من الخطأ فمني ومن الشيطان.
وأرجو من الله سبحانه وتعالى المغفرة، ونسأله تعالى أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الشيخ عبد القادر محمد العماري(8/792)
المراجع
أولا: الفقه الحنفي:
1- المبسوط.
2- بدائع الصنائع.
3- رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) .
4- فتح القدير.
ثانيا: الفقه المالكي:
1- الشرح الصغير للدردير.
2- المدونة.
3- فتح العلي المالك.
4- منح الجليل.
ثالثا: الفقه الشافعي:
1- روضة الطالبين للنووي.
2- تحفة المحتاج – لابن حجر الهيتمي.
3- كفاية الأخيار للحصني.
4- المجموع.
5- الأحكام السلطانية للماوردي.
رابعا: فقه الحنابلة:
1- المغني لابن قدامة.
2- كشاف القناع على الإقناع.
3- مجلة الأحكام للقاري.(8/793)
4- نيل المآرب.
5- الطرق الحكمية.
6- إعلام الموقعين.
1- التشريع الجنائي للأستاذ عبد القادر عودة.
2- الدية بين العقوبة والتعويض للدكتور عوض أحمد إدريس – ط. دار مكتب الهلال بيروت – لبنان.
3- الملتزم بتعويض الضرر الناجم عن حوادث السيارات للدكتور إبراهيم الدسوقي أبو الليل – طبع دار السلاسل.
4- العاقلة في الفقه الإسلامي للدكتور سيف رجب قزامل – الطبعة الأولى.
5- التعزير في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد العزيز عامر.
6- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
7- التشريع الجنائي – عبد الخالق النووي.
8- مجلة البحوث الإسلامية – الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالسعودية.(8/794)
حوادث السير
إعداد
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
الأستاذ بالجامعة الإسلامية بماليزيا وممثل السودان
بسم الله الرحمن الرحيم
حوادث السير
(1) مسؤولية السائق في حوادث السير (2) أثر هذه المسؤولية في التعويض والزجر والكفارة
ذكر الله تعالى نوعين من القتل في كتابه الكريم:
القتل العمد:
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] .
وبين عقوبته حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) } [البقرة: 178 – 179] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدا لهذا المبدأ القرآني العظيم: ((العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول)) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفدي)) .
وقد اتفق فقهاء المذاهب الإسلامية على تعريف واحد للعمد المحض الذي يكون فيه الفاعل عامدا في فعله قاصدا النتيجة الضارة، وهو أن يكون القاتل بالغا عاقلا قاصدا إلى القتل وإلى المقتول، أي عامدا في فعله وقصده. وللحنفية آراء في نوع القتل بحسب السلاح الذي يستعمل في القتل، فإن كان بما يقتل به عادة فهو عمد وإلا فهو قتل شبه العمد.(8/795)
القتل الخطأ:
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) } [النساء: 92] .
القتل شبه العمد:
وأثبتت السنة نوعا ثالثا من أنواع القتل وهو شبه العمد. جاء في المغني ما نصه: "شبه العمد أحد أقسام القتل: وهو أن يقصد ضربه بما لا يقتل غالبا، إما لقصد العدوان عليه، أو لقصد التأديب له، فيسرف فيه؛ كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير والوكز واليد، وسائر ما لا يقتل غالبا إذا قتل فهو شبه عمد؛ لأنه قصد الضرب دون القتل. ويسمى عمد الخطأ، وخطأ العمد لاجتماع العمد والخطأ فيه، فإنه عمد الفعل وأخطأ في القتل فهذا لا قود فيه، والدية على العاقلة في قول اكثر أهل العلم. وجعله مالك عمدا موجبا للقصاص، ولأنه ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ، فمن زاد قسما ثالثا زاد على النص، ولأنه قتله بفعل عمده فكان عمدا كما لو غرزه بإبرة فقتله. وقال أبو بكر من أصحابنا: تجب الدية في مال القاتل، وهو قول ابن شبرمة؛ لأنه موجب فعل عمد فكان في مال القاتل كسائر الجنايات.(8/796)
ولنا ما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان في هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها، متفق عليه. فأوجب ديتها على العاقلة والعاقلة لا تحمل عمدا، وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في قتيل خطأ العمد - قتيل السوط والعصا والحجر - مائة من الإبل)) . وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه)) رواه أبو داود، وهذا نص، وقوله: هذا قسم ثالث، قلنا: نعم، هذا ثبت بالسنة والقسمان الأولان ثبتا بالكتاب، ولأنه قتل لا يوجب القود فكانت ديته على العاقلة كقتل الخطأ (1) .
نفى فقهاء المذهب المالكي والظاهرية وجود القتل شبه العمد (2) ، وقال به الجمهور من الشافعية والحنابلة والحنفية. وتوسع الحنفية في حالات القتل شبه العمد ذلك لعدم اعتبارهم القتل بالمثقل وغير المحدد والحجر والضرب بالعصا عمدا (3) . والشافعية والحنابلة مع أنهم قد أخذوا بمبدأ القتل شبه العمد إلا أنهم قد ضيقوا من حالاته (4) . وتجب الدية في مثل هذا القتل على العاقلة عند الجمهور.
__________
(1) المغني لابن قدامة: 9 / 237 – 238، طبعة دار الكتاب العربي
(2) المدونة الكبرى. كتاب الجراحات. ص 106، المحلى: 10 / 342
(3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 10 / 4617
(4) مغني المحتاج: 4 / 3، وانظر نيل المآرب بشرح دليل الطالب: 2 / 100(8/797)
ورجح بعض العلماء مذهب المالكية في عدم الأخذ بالقتل شبه العمد وقالوا: إن القتل شبه العمد هو القتل في عمية أو عصبية مع استعمال الحجارة أو السوط والعصا. وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من قتل في عمية أو عصبية بحجر أو سوط أو عصا فعقله عقل الخطأ)) (1) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قتل في عمياء أو رمياء فهو خطأ وديته دية خطأ)) (2) .
والقتل في عمية أو عصبية هو أن يصاب المجني عليه في معركة جماعية من شخص غير معلوم لكثرة المشتركين في المعركة وبشرط أن يكون بحجر أو سوط أو عصا أما إذا حمل سلاحا فهو عمد إذا عرف القاتل.
الجروح:
الأصل في حكم الجروح قول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) } [المائدة: 45] .
والواجب أخذ القصاص إذا طالب المجروح، ولكن يجوز القصاص في بعض الجروح والكسور دون بعض، ويجوز أن يعفو من له حق القصاص أو أن يعفو في مقابل الدية. وقد فصلت السنة الشريفة الدية تفصيلا كاملا شاملا حددت فيه مقدار دية النفس في العمد وشبه العمد والخطأ، وكذلك الدية لكل جزئية من أجزاء الإنسان. ومن السنة أن لا يؤخذ القصاص أو الدية إلا إذا استقر الضرر نهائيا وعرف نطاقه، وبالتالي معرفة مقدار الدية بتحديد نهائي واضح. وفي الأضرار البدنية ما يكون مستقرا منذ وقوعه مثل القتل وقلع سن الكبير، وبالتالي فإن الدية أو الأرش تكون واجبة منذ وقوع الضرر.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، حديث رقم (2635)
(2) أخرجه الدارقطني، حديث رقم (41، 42، 43، 46)(8/798)
والجروح وخلع سن الصغير الذي لم يثغر بعد تعتبر جروحا غير مستقرة، وذلك لاحتمال سراية الجرح للنفس أو اتساع نطاقه وانتهائه إلى ضرر أكبر. وأساس هذا المبدأ أن رجلا طعن رجلا بقرن فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أقدني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى تبرأ، فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: دعه حتى تبرأ، فأقاده به، ثم عرج المستقيد فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عرجت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم آمرك أن لا تستقيد حتى يبرأ فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان به جرح أن لا يستقيد حتى يبرأ جرحه. فالشريعة الإسلامية بهذا قد اعترفت بالضرر المحتمل وبينت حكمه.
بعد هذا البيان الهام لأنواع القتل والجراحات في الفقه الإسلامي وما يجب أداؤه نتيجة كل منها نتعرض الآن لحوادث السير.(8/799)
حوادث السير
تحدث فقهاء المذاهب الإسلامية عن حوادث السير تحت عناوين مختلفة، بعضهم تحدث عنها تحت عنوان مسؤولية السائق، والبعض الآخر تحدث عنها تحت عنوان جناية البهائم، وآخرون تحدثوا عنها تحت عنوان ما يحدثه الرجل في الطريق. وقد اختلفوا في مسؤولية راكب الدابة عما تحدثه الدابة وهي تسير في الطريق العام من وطء وكدم وصدم وهل يضمن الراكب أم لا؟ قال جمهور الفقهاء: إن الراكب يضمن لما أصابت الدابة، واحتجوا في ذلك بقضاء سيدنا عمر رضي الله عنه على الذي أجرى فرسه فوطئ فرسه آخر بالعقل. وخالف أهل الظاهر فلم يوجبوا الضمان على الراكب أو السائق لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((جرح العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس)) (1) . وقد حمل الجمهور الحديث على أنه إذا لم يكن للدابة راكب ولا سائق وهذا هو الصحيح، فإذا وجد الراكب فهو الذي سبب الضرر. وقد بين ذلك الإمام محمد بن الحسن الشيباني حيث قال: "العجماء: الدابة المنفلتة ليس لها سائق ولا راكب، تطأ رجلا فتقتله فذلك هدر" (2) .
واختلف الفقهاء في ما أصابت الدابة برجلها أو بذنبها، قال الشافعي رحمه الله: "إن الراكب يضمن ما أصابت دابته برجلها أو بيدها. وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى، وسويا بين الضمان برجلها أو بغير رجلها، وقال مالك: إن الراكب أو السائق ضامن لما أصابت الدابة إلا أن ترمح الدابة من غير أن يفعل بها شيء ترمح له، وقد قضى عمر بن الخطاب في الذي أجرى فرسه بالعقل" (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري وغيره
(2) الآثار للإمام محمد بن الحسن الشيباني، (ص 100)
(3) المنتقى في شرح الموطأ: 7 / 109(8/800)
والرأي الغالب: هو أن راكب الدابة ضامن لما وطئت الدابة وما أصابت بيدها أو برجلها أو برأسها، أو كدمت، أو ضبطت، أو صدمت، ولا يضمن إذا نفحت الدابة برجلها أو بذنبها إلا إذا أوقفها في الطريق فإنه يضمن النفحة برجلها أو بذنبها لأن الإيقاف يمكن التحرز منه فصار متعديا بالإيقاف وشغل الطريق (1) .
أما النفحة فقد قال أكثر فقهاء المذهب الحنفي بعدم ضمان الراكب لها لعدم إمكانية التحرز من ذلك، إذا كانت برجلها أو بذنبها إذ ليس على رجلها ما يمنعها به بخلاف الكدم لإمكان كبحها بلجامها. وقد خالفهم في ذلك الشافعي، وقال بضمان الراكب النفحة بالرجل أيضا (2) .
وخلاصة قول الفقهاء: إن المرور في طريق المسلمين العام سواء أكان مشيا أو سيرا بالدابة وخلافها مباح ولكنه مقيد بشرط سلامة العاقبة وذلك من حق المار والمستعملين الآخرين للطريق العام. وقيد أكثرهم حق الضمان على الراكب بما يمكن الاحتراز منه ولا ضمان فيما لا يمكن الاحتراز منه. والنفحة وهي الرفس بالرجل والذنب لا يمكن الاحتراز عنها في حالة سير الدابة لأنها من خلفها فلا يتقيد بشرط السلامة (3) .
__________
(1) الهداية: 4 / 111، حاشية ابن عابدين: 5 / 530، المنتقى شرح الموطأ: 7 / 109
(2) الهداية: 4 / 111، الاختيار: 5 / 67
(3) الاختيار بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد: 5 / 66. شرح درر المختار للأسكفي (ص 467) ، حاشية ابن عابدين: 5 / 529، درر الحكام في شرح غرر الأحكام 2 / 111، الهداية: 4 / 111، حاشية عميرة 4 / 148، بدائع الصنائع: 10 / 4070(8/801)
ومن أهم ما اعتمد عليه فقهاء المذاهب الإسلامية في ترتيب هذه المسؤولية هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) . ووجه الاستدلال به أن الذي يمارس حقه عليه مراعاة ما يمكن احترازه من الإضرار بغيره.
وأيضا الأحاديث التي تضع قواعد خاصة باستعمال الطريق العام والأماكن العامة كالمساجد والأسواق، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين أو في أسواقهم فأوطأت بيدها أو رجلها فهو ضامن)) (2) .
وجاء في كتاب الوافي: روى السكوني في الموثق عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أخرج ميزابا أو كنيفا، أو أوتد وتدا أو أوثق دابة، أو حفر بئرا في طريق المسلمين فأصاب شيئا فعطب فهو له ضامن)) (3) .
وروى الإمام محمد بن الحسن الشيباني في كتابه الآثار ما نصه: قال محمد: أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن إبراهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العجماء جبار، والقليب جبار، والرجل جبار، والمعدن جبار)) . وشرح محمد بن الحسن رحمه الله هذا الحديث فقال: الجبار الهدر إذا سار الرجل على الدابة فنفحت برجلها، وهي تسير فقتلت رجلا أو جرحته فذلك هدر، ولا يجب على عاقلة ولا على غيرها. والعجماء الدابة المتفلتة ليس لها سائق ولا راكب تطأ رجلا فتقتله فذلك هدر. والمعدن والقليب الرجل يستأجر الرجل ليحفر له بئرا أو معدنا فيسقط عنه فيموت فذلك هدر ولا شيء على المستأجر ولا على عاقلته (4) .
__________
(1) حديث صحيح أخرجه البخاري، الدارقطني، سنن ابن ماجه، وغيرهم
(2) أخرجه الدارقطني والبيهقي
(3) كتاب الوافي: 2 / 268
(4) كتاب الآثار للإمام محمد بن الحسن الشيباني (ص100)(8/802)
والحديث الذي شرحه الإمام محمد أخرجه كما ذكرنا من قبل أصحاب السنن الصحيحة كمسلم والبخاري وابن ماجه.
وهذا الحديث له أهمية كبيرة هنا إذ يفهم منه أن خلاف هذه الحالات مضمونة والمسؤولية على عاتق محدثها. واستدل المالكية زيادة كما ذكرنا بقضاء عمر بن الخطاب على من أجرى فرسه فوطئ (1) ، قال الإمام مالك: "فالقائد والسائق والراكب أحرى أن يغرموا من الذي أجرى فرسه" (2) .
وبناء على ما ذكره العلماء الأجلاء نستطيع أن نتوصل إلى ما يأتي:
1- يتضح أن حوادث السير والحركة في الطريق العام لا تقاس على القتل والجرح الخطأ مطلقا بل لها قواعد خاصة بها كما ظهر في معرض آراء الفقهاء أعلاه.
والقتل الخطأ إما أن يكون خطأ إيجابيا مباشرا وهو الذي يقع مباشرة بفعل إيجابي من الجاني كإطلاق الرصاص نحو صيد فيصيب آدميا، وإما أن يكون خطأ إيجابيا غير مباشر؛ وهو إحداث الضرر عن طريق التسبب كمن حفر حفرة في طريق المسلمين فتؤدي إلى ضرر بشخص، وهنا كما ذكرنا تتراخي النتيجة عن السبب.
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ: 7 / 109
(2) المنتقى شرح الموطأ (ص 109)(8/803)
وهذان النوعان يختلف الفقهاء في وجوب الدية أو الأرش فيهما. وحوادث السير والحركة في الطريق العام أقرب ما تكون إلى نوعين أخريين من الخطأ وهو الخطأ السلبي المباشر، وهو الضرر الذي يحدث من الدابة في الطريق بما يمكن التحرز منه، وفي هذا الضمان، وما لا يمكن التحرز منه فلا ضمان فيه كما بينا. وهنالك أيضا الخطأ السلبي غير المباشر وهو التقصير عن القيام بواجب معين يترتب عليه ضرر للغير. والرأي الغالب هو وجوب الدية أو الأرش إذا كان التلف الناتج عن سقوط الحائط هو قتل آدمي معصوم الدم أو جرحه، وتجب الدية على العاقلة إذا شهد بذلك الشهود ولكن إذا كان إقرارا فقط من الجاني فالدية في ماله (1) .
2- إذا اتضحت براءة السائق في حوادث السير من أي إهمال أو تقصير من جانبه في حادثة لا يمكن التحرز منها فليس على السائق ضمان ألبتة؛ لأنه مستعمل لحق ثابت له ولم يكن خطأ أو تقصير من جانبه.
3- وإذا نتج الموت أو الضرر نتيجة خطأ بين من السائق؛ كأن يخالف قواعد الحركة والمرور المعمول بها، كأن يتعدى السرعة القانونية أو يجتاز النور الأحمر أو يلف لفة خطأ، فهو مخطئ خطأ جنائيا يعاقب عليه تعزيرا بما تحدده القوانين من عقوبة رادعة.
والجانب الأول وهو ما سببه من ضرر مادي وبدني فيكون ضمان الضرر المادي كتكسير عربة الشخص الآخر في ماله ولا يتعداه إلى غيره.
والجانب الثاني هو ما سببه من موت أو جرح أو تكسير فيجب فيه الضمان. ذهب بعضهم إلى أن الضمان يكون في ماله، وذهب بعضهم أن تتحمله العاقلة، ونرجح أن يكون الضمان في ماله في هذه الحالة.
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 10 / 4735(8/804)
4- إذا لم يخالف السائق أيا من قوانين المرور ولكن صدم بعربته عربة أخرى أو إنسانا أو وطئت عربته إنسانا، وكان ذلك مما يمكن التحرز منه وإن لم تكن هناك مخالفة لقواعد المرور فإن الواجب هو دفع الدية إذا كانت النتيجة الضارة هي قتل شخص والأرش إن كانت دون ذلك (1) . وذهب كثير من الفقهاء أن الدية تتحملها العاقلة، أما إذا وقع الضرر على غير إنسان كتهشيم عربة أو مرفق فإن جبر الضرر يكون من مال السائق، وعلى السائق الكفارة في حالة القتل، وفي رأي يحرم من الميراث إذا كان المجني عليه مما يرثهم السائق.
5- إذا أخطأ السائق في حوادث المرور خطأ سلبيا غير مباشر، كأن أوقف عربته في مكان غير معهود، فتدحرجت فأحدثت حادثا؛ فإن كان هذا التدحرج نتيجة عطب في فرامل العربة ولم يصلحها أو لم يثبت الفرامل بالطريقة المطلوبة في حالة الوقوف في مكان متدحرج، فقد استحسن كثير من الفقهاء دفع الدية أو الأرش أو جبر الضرر المادي غير البدني الناتج عن الحادث. والدية والأرش مما تتحمله العاقلة، وجبر ما عدا ذلك يكون في ماله.
6- كلمة أخيرة: وهي أن الفقهاء عرفوا العاقلة بتعريفات مختلفة فقال بعضهم إنهم أهل ديوان الجاني أو حرفته وبالعدم عشيرته، وقال فريق: عاقلة الجاني هم عشيرته وقبيلته، وقال فريق: أن عاقلة الجاني هم عصبته، وقال فريق: إنها أهل حرفة الجاني وأهل مهنته (2) .
وكما هو معلوم فإن مبدأ العاقلة يكون أساسا لشركات التأمين الإسلامية المعمول بها في عدد من البلدان الإسلامية. وهذه الشركات طالما أن المقصود منها التعاون والتعاضد عند الحاجة وأنها خالية من شبهة الربا أو المقامرة أو التكسب فإنها تكون حلالا مقبولا، بل مبدأ يحث عليه حتى تطمئن قلوب الناس، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه المركبات الخاصة والعامة وأصبحت على الأرض ومن فوقها وفي البحار، بل إن بعض البلدان لجأت إلى مبدأ التأمين الإجباري بأخذ مبلغ معين كل عام من كل مالك لعربة، وهو أيضا مبدأ مقبول وزيادة في التأمين والطمأنينة.
أما الكفارة فتكون بصيام شهرين متتابعين على السائق توبة من الله عليه، وهذا أمر متروك بينه وبين ربه عالم السر وأخفى. وكما هو معلوم فإن عتق النفس المؤمنة وهو المطلب القرآني الأول غير متيسر الآن.
والله ولي التوفيق
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
__________
(1) حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد: 2 / 284، الجوهرة المنيرة: 2 / 136
(2) البحر الرائق: 8 / 456(8/805)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
حوادث السير
العارض: عبد القادر العماري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد.
فأحيي هذه الدولة المضيافة ملكا وحكومة وشعبا، وأحيي الرئاسة والأمانة العامة على مجهودهم لعقد هذه الدورة. البحث كما هو في عنوانه: حوادث السير، وأعتذر مع الأسف عن الأخطاء المطبعية واللغوية الكثيرة بسبب ذلك الاستعجال وعدم التمكن من المراجعة، كما أعتذر للإخوة المشاركين بأبحاثهم في نفس الموضوع عن عدم الإلمام بأبحاثهم، لأنها جاءت متأخرة ولم أجد الفرصة الكافية، ولكن كلنا جميعا كما جاء في الحديث، حواليها ندندن.
تعرضت في المقدمة إلى ما وقع فيه بعض القانونيين العرب تبعا لأساتذتهم الفرنسيين من خطأ عندما زعموا أن الفقه الإسلامي ليس فيه شيء عن قضايا الخطأ والإهمال، وأن الآية الكريمة التي ذكرت قتل الخطأ قد خيرت الجاني بين أن يدفع التعويض أو يصوم شهرين، وأرادوا أن يجاملوا فقالوا: لأن العصر الإسلامي يتميز بأنه عصر ديني يؤمن فيه الناس بالله ورحمته ويطلبون غفرانه، وأن البلاد الإسلامية ومصر خاصة لم تعرف محاكمها قضايا الخطأ والإهمال إلا بعد التشريعات الفرنسية، وفندت هذه الدعوى، وكيف أن العز بن عبد السلام قد كان رئيسا للقضاة في مصر إذ ألف كتابا في الأحكام وتعرض لمثل هذه القضايا.(8/806)
وأدخل في البحث فأقول: لا شك أن حوادث السير التي تسببها المركبات الميكانيكية في الطرق العامة هي من الأمور المحدثة في المجتمعات بعد أن اخترعت تلك المركبات لتكون وسيلة للنقل بدلا من الدواب التي كانت وسائل للنقل في تلك العصور السابقة، وقد ترتب على سير هذه المركبات في الطرقات العامة أحداث وإصابات جسمانية ومادية، مما وطد الحكم بالديات والأروش والتعويضات والكفارات والتعزيرات بحسب كل حادثة على حدة، ومن الواضح أن هذه الحوادث تندرج في أغلبها تحت عنوان الخطأ والإهمال، فإذا أدى الحادث مثلا إلى موت شخص بصدمة بالسيارة نقول هنا: إن سائق السيارة قد قتل الشخص الخطأ فيغرم الدية وعليه الكفارة، وهذا الحكم واضح في الآية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] إلى آخر الآية، والذي ينبغي أن نعرض له في هذه العبارة هي المواضيع الآتية، ولذلك أعرضت عن كثير مما جاء في البحث؛ لأن هذه المواضيع هي المهمة وهي التي نريد فيها توصيات من المجمع الموقر:
أولا: العاقلة، ثانيا: الكفارة، ثالثا: دية غير المسلم، رابعا: التسبب والمباشرة، خامسا: اعتراض البهائم للسيارات في الطرق العامة، سادسا: تحمل بيت المال للدية في بعض الحالات، سابعا: جواز وضع نظام للعقوبات فيه التعزير بالمال أو غرامات مالية كما تسمى.
أولا – العاقلة:
العاقلة عند جمهور الفقهاء: هم العصبة من الذكور، وعند الأحناف ورواية للمالكية: هم أهل الديوان إن كان الجاني من أهل الديوان، وإلا فعاقلته عصبته، لقد أصبح من الصعوبة بمكان في هذا العصر أن تؤخذ الدية من العاقلة، وإذا قلنا: إنها تؤخذ من الجاني عند تعذر العاقلة، فأغلب الذين يرتكبون قتل الخطأ في حوادث السيارات هم من الفقراء الذين لا يستطيعون دفع الديات، كما أنه ليس في الإمكان أن نقول: أن تقوم الدولة بدفع الديات اعتمادا على القول بأن يدفع بيت المال الدية عند تعذر العاقلة.(8/807)
ويرى الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله أن تقوم الحكومة بفرض ضريبة عامة يخصص دخلها لهذا النوع من التعويض، وتستطيع أن تفرض ضريبة خاصة على المتقاضين لهذا الغرض. وقال: إذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعانة الفقراء والعاطلين فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين، وقد سبقتنا بعض البلاد الأوروبية إلى هذا العمل فأنشأت صندوقا لتعويض المجني عليهم في الجرائم، ويأتي في إيراده من المبالغ المتحصلة من الغرامات التي تحكم بها المحاكم، وهذا هو بالذات ما قصدته الشريعة الإسلامية من نظام العاقلة، والذي نراه أن النقابات في هذا العصر يمكن أن تقوم مقام العاقلة في البلدان التي فيها نقابات. وتقبل أن تقوم بذلك، كما أن التأمين التعاوني أيضا يمكن أن يقوم مقام العاقلة، لكن إذا لم يكن هناك تأمين تعاوني هل يجوز للمسلم أن يؤمن ضد حوادث السيارات عند شركات التأمين التجارية باعتبار أن ذلك ضرورة وحاجة ملحة تقتضيها حاجات الإنسان الضرورية في هذه الحياة، خاصة في حالة إلزام الدولة بالتأمين لكل من يريد أن يسوق سيارة؟ أعتقد أن ذلك جائز للفرد، لأنه لا حلية له، وإذا كانت هناك مسؤولية فهي على المسلمين جميعا، بوقوفهم موقفا سلبيا، فلم يضعوا حلولا مناسبة عملية تتفق مع شريعتهم، وأعتقد أن هذا لا يتعارض مع ما اتخذه المجمع من قرارات فيما يتعلق بعدم جواز التأمين التجاري، فهذا أمر محصور للحاجة في حالة معينة، هذا عن العاقلة.(8/808)
ثانيا – الكفارة:
فكفارة قتل الخطأ – كما هو معروف وموضح في الآية الكريمة: عتق رقبة فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع الصيام فليس فيها إطعام إلا في رواية للإمام أحمد، وقول الشافعي قياسا على كفارة الظهار، وللأستاذ عبد القادر عودة رأي يقول: إن الكفارة بعد إلغاء الرق لا تكون بعتق رقبة، وإنما تكون بالتصدق بقيمة الرقبة إذا كان لدى القاتل ما يفيض عن حاجته، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين؛ لأن معنى عدم الاستطاعة هي عدم توفر المال عنده لشراء الرقبة فيكون عليه الصيام بعد ذلك، أي إذا لم يستطع قيمة الرقبة، ويقوم ولي الأمر بتحديد قيمة الرقبة بمبلغ معين، وليكن مثلا نصف الدية، والسؤال هنا: هل يمكن أن نقول بالإطعام قياسا على الظهار في حالة عدم استطاعة الصيام، بأن تكون الكفارة إطعام ستين مسكينا أو نقول برأي الأستاذ عودة في موضوع الرقبة فتكون قبل الصيام؟ هذا الموضوع الثاني.
ثالثا – دية غير المسلم:
من المعروف أن هناك خلافا بين الفقهاء في دية الذمي، فقال الأحناف: إن دية الذمي مساوية لدية المسلم سواء بسواء، سواء كان من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب، وقال المالكية والحنابلة والزيدية والإباضية: إن دية الكتابي على المسلم مثل دية المسلم، وغير الكتابي كالمجوسي ثمانمائة درهم، أي ثلث خمس دية المسلم، وقال الشافعية: أن دية الكتابي ثلث دية المسلم، والمجوسي ثلث خمس دية المسلم، أي ثمانمائة درهم، وقال الشيعة الإمامية: إن دية اليهودي والنصراني والمجوسي ثمانمائة درهم بلا تفرقة بين الكتابي والوثني، ولعل القول الأجدر بالترجيح هو قول الأحناف بأنه لا فرق بين دية المسلم وغير المسلم؛ لأن هذا القول يتفق مع ظاهر الآية وهو قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . إذ المراد حسب الظاهر بقوله تعالى في قتل المؤمن: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، أما الآثار والأحاديث الواردة في هذا الموضوع، فكل له أثر أو حديث يؤيد رأيه الذي يحتج به، لكنها لم تبلغ مبلغ الصحة بحيث يتفق الأئمة على صحتها، ما عدا حديث: ((لا يقتل مسلم بكافر)) ، وقد حمل أبو حنيفة الكافر هنا على الكافر الحربي، كما أن السياسة الشرعية إظهار عدالة الإسلام يقتضيان أن نقول بهذا الرأي.(8/809)
رابعا – السبب أو المباشرة:
لا يخفى ما في حركة السيارات من دور لا ينكر في حوادث السير مما يحتم على القاضي تحمل مسؤولية الموازنة والمقارنة ليتبين إلى من ينسب الحادث حقيقة، فليس من العدل أن يتحمل السائق المسؤولية لمجرد المباشرة. فبعض القضايا لا يسوغ فيها اختلاف وجهات النظر بحجة أن هذا متسبب وهذا مباشر، فلا مجال للاحتمالات واختلاف وجهات النظر في مثل أن تأتي سيارة من شارع فرعي وتدخل فجأة إلى الشارع العام الذي تكون فيه السيارة آتية في طريقها الصحيح. فتعترضها السيارة الآتية من الشارع الفرعي فيصدم سائق السيارة التي تسير في الشارع العام السيارة التي اعترضتها والتي خرجت من شارع فرعي، فإنما القضاة لم يعتبروا الصادم هو المسؤول باعتباره المباشر للصدم اعتمادا على القاعدة الفقهية التي تقول: إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر، والمباشر ضامن وإن لم يتعمد.
إذا كان من المسلم به في الفقه الإسلامي أن لولي الأمر حق وضع الأنظمة والقوانين التي تنظم حياة الناس وتحفظ أرواحهم وممتلكاتهم، ألا يكون من الحق أن تحدد تلك الأنظمة والقوانين الحالات التي يكون فيها سائق السيارة مسؤولا عن الحادث؟ !(8/810)
خامسا – اعتراض البهائم للسيارات في الطرق العامة:
لا نجد نصا فقهيا واضحا في هذا الموضوع، وفقهاؤنا في ذلك معذورون، لعدم وجود السيارات في عصرهم، وقد اقتصر بحثهم على ما تحدثه البهائم مستندين إلى حديث البراء بن عازب: ((قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية على أهل الماشية)) ، وحديث: ((العجماء جبار)) وعلى ضوء ذلك نتساءل: هل بإمكاننا أن نجعل إهمال صاحب الناقة مثلا لناقته بتركها تذهب إلى طريق السيارات سببا لأن يتحمل مسؤولية ما يترتب على اعتراضها للسيارات وما تسببه من حوادث؟
نجد هنا قرارا لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية يقول: "عدم ضمان البهائم التي تعترض الطرق العامة المعبدة بالأسفلت إذا تلفت نتيجة اعتراضها الطريق المذكورة، فصدمت فهي هدر، وصاحبها آثم بتركها وإهمالها، لما يترتب على ذلك من أخطاء جسيمة تتمثل في إتلاف الأنفس والأموال، وتكرار الحوادث، ولما يترتب على حفظها وإبعادها عن الطرق العامة من أسباب السلامة وأمن الطرق والأخذ بالحيطة، وحفظ الأموال والأنفس تحقيقا للمقتضى الشرعي وتحريا للمصالح العامة، وامتثالا لأوامر ولي الأمر".
هذا القرار حل جزءا من المشكلة، وهو إهدار البهيمة على صاحبها، وعدم استحقاقه لشيء مقابل تلفها، وهذا يعني أن هيئة كبار العلماء ضمنت مالك البهيمة قيمة بهيمته عندما قررت أنها هدر، ألا يمكن أن نقول: إنه أيضا يضمن ما سببته بهيمته بسبب إهماله لها من أضرار أخرى ترتبت على الحادث، فيما لو أدى الحادث إلى موت سائق السيارة فيضمن الدية، ويضمن التلف الذي حصل بالسيارة؟ وما الذي يمنع من ذلك خاصة إذا أمر ولي الأمر أصحاب المواشي أن يحفظوا مواشيهم ولا يهملوها، وأنذرهم بأنهم يتحملون المسؤولية في حالة دخول أي بهيمة إلى الطريق العام الذي تسير فيه السيارات؟ وإذا كانت هيئة كبار العلماء قد صرحت بأن مالك البهيمة يأثم في هذه الحالة، ألا يمكن أن يترتب على هذا الإثم مسؤولية حقوقية نحو الآخرين الذين تضرروا بسبب هذا الحادث؟ !(8/811)
سادسا – تحمل الدولة للدية:
فكثيرا ما تراق الدماء في حوادث السير وتذهب هدرا، وبما أنه لا يبطل دم في الإسلام، كما قال سيدنا علي رضي الله عنه، فإن الواجب أن تتحمل الدولة دية القتيل في مثل هذه الحوادث، فمثلا لو أن سيارة مجهولة صدمت شخصا ولم يتعرف عليها فالدية على الدولة، ففي خلافة عمر رضي الله عنه دفع دية رجل قتل في زحام ولم يعرف قاتله، ودفع النبي صلى الله عليه وسلم دية الأنصاري الذي قتل بين اليهود.
فالمطلوب من المجمع الموقر أن يؤكد هذا الحكم.
سابعا – التعزير بالمال أو العقوبات المالية:
إذا قلنا: إن لولي الأمر أن يضع الأنظمة والقوانين التي تكفل تنظيم السير للمحافظة على أرواح الناس وممتلكاتهم، فهل له أن يضع عقوبات مالية، وبالمعنى الفقهي: هل يجوز التعزير بأخذ المال؟
بينت في بحث الأدلة التي تجيز التعزير بالمال ولا داعي لتكرارها هنا، غير أني ألفت النظر أن هناك مخالفات لا ينبغي أن يكون التعزير لها بالسجن أو الجلد، وإذا كان الفقهاء الذين منعوا التعزير بالمال قالوا: إن السبب في ذلك هو حرمة مال المسلم نرى أن حرمة المسلم نفسه أعظم من ماله، فإذا ارتكب خطأ بسيطا فلا ينبغي أن تنتهك حرمته بالسجن أو الجلد، وكل شخص يفضل أن يدفع قدرا من ماله فلا يدخل في السجن ولا يجلد، فالسجن والجلد ينبغي أن يقتصر على الجرائم التي يستحق مرتكبها العقوبة الشديدة، ومن هنا تجدني في اختلاف مع الزميل المشارك الأستاذ محمود شمام الذي قال في بحثه: إن هناك إجماعا على عدم جواز التعزير بالمال، ونقل عن بعض فقهاء المالكية الإجماع.
أردت أن ألخص وأقتصر حتى يشترك الإخوة في النقاش والوصول إلى حل لهذه المسائل المهمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/812)
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
نشكر فضيلة الشيخ عبد القادر العماري على ما تقدم به، وكنا نتمنى لو كان حرفه كنطقه، ولو كان حرفه في الطباعة كنطقه لاستفدنا أكثر فأكثر.
هنالك استدراك وحيد في الحقيقة لا بد منه، ما دمنا قد تطرقنا إلى العاقلة لا بد من تحديدها حتى لا نبقى في فراغ؛ لأن العاقلة شرعت مرجعًا في الفقه الإسلامي، وهذا المرجع قد تغير والمفهوم قد تغير، وحبذا لو كان هناك تحديد من هو المسؤول في هذه الحالة. وأمر آخر، هذا إذا كان السائق مسلما وفي بلده، أما إن كان في غير بلده ما الحكم؟ وإن كان السائق غير مسلم فما الحكم؟ هناك ملاحظة أخرى: بالنسبة لقيمة الرقبة لأول مرة أسمعها، ولم نقرأها: أنه يعدل عن الرقبة إلى قيمتها، بينما الشرع ينتقل من الرقبة إلى أمر آخر، ولم يقل في قيمتها أحد من الفقهاء على ما أعرف، ولكن لاحظت – وقد تصفحت – لا أقول عقوبة بل استدراكا لما فاتنا في الجلسة الأولى في كل الأبحاث فأقول:
أولا: بالنسبة للأستاذ شمام، حكم القتل الناجم عن حوادث السير هل يعتبر قتل عمد أو شبه عمد أو خطأ؟ هذا مغفل عنده، وحكم الدية في القتل لم يرد على ما ذكره الدكتور محمد عطا السيد في البند الثالث عنده، لم يذكر موجب القتل بالنسبة للصوم، هل يصوم هذا السائق أم لا؟ فذكر وجوب الضمان المادي والزجر وسكت عن حكم الصوم ما دام القتل خطأ.(8/813)
ثانيا: عندما ذكر العاقلة وأقوال العلماء فيها كان ينبغي أن يميز بين السائق المحترف والسائق غير المحترف، وهنا أود أن ألفت الانتباه، عندنا سائق وظيفته القيادة، أي قيادة السيارات، وعندنا سائق ليست له وظيفة، إذ قلنا: إن نقابة السائقين هي عاقلة السائق المسجل بأنه سائق محترف فيبقى السائق غير المحترف مالك السيارة كأي أحد منا وهو لا ينضم إلى هذا، وهل تعتبر نقابة السائقين عاقلة السائق المحترف أم لا؟ لذلك اقتضى التفكير.
ثالثا: ما حكم من أصيب بعطل دائم أو من مات معه في السيارة وكان السائق أحد الورثة لذلك الميت في الحادث؟ هذا مسكوت عنه.
رابعا: ما الحكم إذا مات السائق المخطئ في الحادث، وأفاد الخبراء أنه لا يتحمل كامل المسؤولية؟ في الحقيقة: كنا نتمنى أن يكون بين يدي الباحثين أمران: أحدهما: الأحكام التي صدرت في المحاكم التي أوردها بعض الإخوة، أمر آخر: أيضا أن يكون بتصرفهم قوانين السير، السير له قوانين تحكمه، فيبدو أن جميعنا أو الإخوة الباحثين قرؤوا كل ما في الفقه الإسلامي، وربما لم يتمكنوا من قراءة قوانين السير، وهذا شيء مهم؛ لأن الذي يخالف قوانين السير ما الذي يحصل له؟ وهو شيء مهم، حتى أن أخانا الشيخ العثماني فاتته هذه، رغم عمق بحثه.(8/814)
خامسا: لم يميز كافة الباحثين عن أوجه الفرق بين حوادث السير فيما يعرف بالطرقات الدولية والطرقات الخاصة، وإن ذكر البهائم التي وردت أظن أن ذلك في الطرقات الدولية، سواء في المملكة أو في الجزيرة، لأنها طرقات واسعة، ومعروف أن الدولة تقوم ببعض الصيانة للطرقات حتى لا تصل إليها البهائم، فإذن تكلم عن هذا ولم يتكلم عنها في مكان آخر، وكان يحسن الاطلاع على قوانين السير كما ذكرت، وهل مخالفة قوانين السير بمثابة مخالفة الأحكام الشرعية أم لا؟. نعرف أن الخبراء يقيسون، يأتي الخبير ويقيس المسافات ويحكم بما تمليه القوانين عندهم، ومن المعلوم في كل القوانين الدولية أنه عند حصول أي حادث سير يستدعى الخبراء لتحديد المسؤولية أولا، ولا يستدعى الفقهاء، ولا نقول: إن هذا يخرج الموضوع عن نطاق مسؤولية الفقهاء.
سادسا: هناك فروق عديدة وواضحة بين السيارة والدابة، ولا تخفى على أحد، ويمكن إجماله بأن السيارة إنما يضاف تحركها إلى السائق بكل وجه، بخلاف الدابة كما هو معروف. كما تكلم في مقدمته وما إلى ذلك.
بالنسبة للدكتور العثماني: فوجهت دراسته القيمة بشيء من التفصيل إلى المسؤولية المادية وسكت عن حكم القتل الناجم عن ذلك التسبب أو المباشرة ولزوم الدية، كما سكت عن حكم الكفارة، وكذلك لم يشر إلى نماذج من قوانين السير، كما أحاط إلى حد كبير بقواعد فقهية من مظانها والتي نص عليها الفقهاء بسير الدواب، وما إلى ذلك وشكرا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/815)
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر فضيلة المحاضر الشيخ عبد القادر على محاضرته، وأؤيد رأيه من أن على المجلس أن يتخذ قرارا، وهذا القرار يدين أصحاب البهائم التي تعترض الطرق البرية، لأنه يحصل في هذا فجائع في إتلاف الأنفس قبل إتلاف الأموال. فيحسن بالمجلس أن يصدر قرارا بهذا، بأن أصحاب البهائم التي تعترض بهائمهم لسير السيارات ولا سيما بالليل أنهم غارمون، وأنهم يجب عليهم تسليم الديات، هذا من ناحية، أما بخصوص العاقلة وما نقله من الشيخ الأستاذ عبد القادر عودة هذا في رأيي فيه ملاحظات:
الأولى: نعم في صدر الإسلام لما كانت العاقلة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة كان الإسلام محصورا في الجزيرة العربية وهي قبائل، أما بعد تدوين الفقه من العلماء فحال المسلمين لا تختلف عن حالها، فيهم ناس ينتسبون إلى قبائل واسعة وكبيرة، وفيهم أيضا جهات لا تنتسب وإنما هي عشائر معروفة وإن كانت من غير العرب فهي كذلك عشائر معروفة، وبناء عليه فإني أرى ما يراه الجمهور، جمهور أهل العلم من أن العاقلة تبقى هي العاقلة، وإن العاقلة لا تكون فيمن يشتركون مثلا في مهن أو يشتركون في أعمال، هذا يصلح أن يكون مثلا تأمينا تعاونيا فيما بينهم ولكننا لا نسميها عاقلة، فالعاقلة باقية على حكمها، والعاقلة يلاحظ فيها أمور: ملاحظ فيها العصبية فيما بين الأقارب، فإنهم يأسو بعضهم بعضا ويتعصب بعضهم لبعض، الأمر الآخر: إن فيها لحمة نسبية، ولحمة النسب لها جذورها ولها أصولها، وهذا كلمه مفقود في المشاركين في المهن والأعمال.(8/816)
الثانية: أنه ملاحظ فيها صلة الرحم، وصلة الرحم عبادة، والله جل وعلا يقول – في الحديث القدسي -: ((والله لأصلن من وصلك ولأقطعن من قطعك)) فالعاقلة هذه أيضا من صلة الرحم فيما بين الأقارب، وملاحظ فيها أمور كثيرة كلها متعلقة بالقرابة ولا تتعلق بالمهن، أما أصحاب المهن وأصحاب الحرف ليس بينهم هذه الروابط، وليس بينهم هذه العلاقات وليس بينهم هذه الجذور والأنساب أبدا، هذه أشياء مؤقتة، وإنما فيما أرى أن المجلس الموقر يصدر أمره في ذلك بأن العاقلة هي العاقلة، والآن والحمد لله، حتى في غير جزيرة العرب ومصر والشام وفي غيرها من البلدان في آسيا وأفريقيا أسر معروفة، وتستطيع أن تتحمل العاقلة، والعاقلة تحميلها أمر معروف، القاضي إذا أراد أن يحمل العاقلة رأى إلى الأدنين من الإخوان والأعمام، فإن حملت ووسعت الدية أحوالهم أخذها منهم، وإلا اتسع إلى ما فوقهم من أعمام الأعمام وأبناء العم البعيدين إلى آخره حتى تتم لهم الدية، يحمل كل إنسان بما يطيقه.
أنا أرى أننا نبقي هذا الحكم، وهو أن العاقلة النسبية العصبية هي التي تتحمل دية الجاني الخاطئ، وشكرا.(8/817)
الرئيس:
أرجو السماح لي بالتدخل في موضوع أثاره الشيخ عبد القادر وثنى عليه فضيلة الشيخ عبد الله في قضية تغريم صاحب الدابة، لا شك أن هذا الموضوع من الأهمية بمكان، وأنه ينبغي أن يخرج من المجمع سواء في هذه الدورة أو في دورة لاحقة بقرار لأهميته وكثرة الاختلافات التي تحدث بسببه، لكن هل يصح هذا على إطلاقه؟ فمثلا لو كان الجمل شاردا وأثبته مالكه، أثبت شروده فما رأي الشيخ؟
الشيخ عبد الله البسام:
هذه المسائل تعرض على القضاء ويصدر فيها حكم شرعي من القاضي ومن بعد القاضي هيئة التمييز وهكذا.
الرئيس:
المهم أن الموضوع ليس على إطلاقه.(8/818)
الدكتور محمد عطا السيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك.
أولا: أحمد الله عز وجل الذي وفقنا في إدراج هذا الموضوع – وهو موضوع هام وحساس جدا ويهم كثيرا من الناس – من ضمن موضوعات هذه الدورة.
وأبدأ فأقول: إن كثيرا من الفقهاء أو كثيرا من الناس الذين يبحثون في هذا المجال كلما تعرضوا لحوادث الحركة أو حوادث السير في الطريق يقيسون قياسا مطلقا على قتل الخطأ، ولكن بالرجوع إلى كتب البحث، والكتب التي كتبت في هذا المجال نجد أن السابقين من الفقهاء فرقوا بين قتل الخطأ مطلقا وبين هذه الحوادث وتكلموا عنها كأنما هي شيء منفصل، وشبهوها بأنها أقرب ما تكون إلى الخطأ السلبي المباشر والخطأ السلبي غير المباشر، وأخرجوها من مجال الخطأ الإيجابي المباشر أو الخطأ الإيجابي غير المباشر، ولذلك أرى أن من أهم الأشياء لكي نكون واقعيين في هذا المجمع ونخرج بقرار يفيد الناس في هذا المجال أن نتعرض للحالات التي تحدث فيها الحوادث.
أبدأ فأقول: هذه الحوادث اتضح الآن أن سائق العربة أو اللوري أو الحافلة يكون أحيانا بريئا كليا من أي مسؤولية، لم يخطئ قط، مثل السائق الذي يقود بالسرعة المطلوبة في الطريق، ففجأة يخرج أمامه شخص أو يأتي أمامه طفل، فيصيب ذلك الشخص أو ذلك الطفل، فيجرحه أو يقتله، هذه مسألة واضحة جدا أنه لا يمكن تفاديها مهما كانت قدرته البشرية، وكذلك سائق الباص مثلا الذي يقود وحصل في الطريق شيء غير متوقع ولم يكن من جانبه أي خطأ ولا تقصير، فحصل فيه وفاة أو جرح أو ضرر، فهل في هذه الحالة يكون على السائق مسؤولية؟(8/819)
أنا وجدت لحسن الحظ أنه من خلال البحوث أن الفقهاء ذكروا أنه إذا اتضحت براءة السائق في حوادث السير من أي إهمال أو تقصير من جانبه في حادث لا يمكن التحرز منه، فليس على السائق الضمان ألبتة، لأنه مستعمل لحقه الثابت له ولم يكن من جانبه الخطأ أو تقصير يعرف.
فأنا أرجو أن نولي هذه المسألة اهتمامنا؛ لأن هذه المسألة – كما ذكرت – تحدث كثيرا، وكثيرا ما يظلم الناس سائق العربة ويقولون: هذا قتل خطأ فيجب أن يدفع الدية، ويجب أن يقوم بالكفارة، وهذا في رأيي يحتاج إلى إعادة نظر وإلى تفكير.
النقطة الثانية: ما ذكره الأخ فضيلة الشيخ خليل الميس بأننا ما تعرضنا له، هذا غير صحيح، وهو مرجع حوادث السير، مثلا في بحثي تعرضت لهذه المسألة فذكرت فيه: (وإذا نتج الموت أو الضرر نتيجة خطأ بين من السائق كأن يخالف قواعد الحركة والمرور المعمول بها، كأن يتعدى السرعة القانونية أو يجتاز النور الأحمر أو يلف لفة خطأ فهو مخطئ خطأ جنائيًّا يعاقب عليه تعزيرا بما تحدده القوانين من عقوبة رادعة، في رأيي هذا السائق يكون مسؤولا مسؤولية كاملة عن كل ما ينتج من ضرر سواء كان بدنيا أو ماديا، كان دية أو كان أرشا؛ فإذن معنى ذلك نحكم قوانين الحركة، إذا كان السائق مخطئا خطأ بينا بأن يتعدى هذه القوانين زيادة على الخطأ الجنائي، فإنه لا بد من التعزير له في هذه المسألة، أنا في رأيي يكون متحملا لهذه المسألة تحملا كاملا، ولا نلحقه في هذا الموضوع بموضوع قتل الخطأ.(8/820)
النقطة الثالثة: وهي جديرة بالاهتمام، في هذه المسألة إذا لم يخالف السائق أيا من قوانين الحركة، وكان يسوق وكان يحترم النور الأحمر وكل قواعد السير ولكن صدم بعربته أو أحدث ضررا بدنيا أو ماديا أو عقليا، وكان ذلك مما يمكن التحرز منه ففي هذه الحالة يجب الضمان، ولكن الرأي الراجح أن الدية والأرش في هذه الحالة مما تتحمله العاقلة، وغيرهما من الضرر المادي يكون في ماله. هذا الذي أراه إذا كان السائق يقود واتبع قواعد الحركة وكان متحرزا، ولكن مع ذلك صدمت العربة، وهذه المسألة تحصل وكان يمكن التحرز من هذا الضرر، ففي هذه الحالة – في رأيي – يجب الضمان لا شك ويدخل فيه موضوع العاقلة، أفرق بين هذا وبين الحال الخطأ، إنني أحمله هناك المسؤولية الجنائية والمدنية تحميلا كاملا، في هذه الحالة ليست عليه مسؤولية جنائية، ولكن المسؤولية المدنية يكون مسؤولا عنها وتدخل فيها مسألة العاقلة، وأرد أيضا على الشيخ خليل الميس: إنني ما ذكرت في بحثي موضوع الكفارة، أرجو أن تنظر في السطرين الأخيرين من البحث: وعلى السائق الكفارة التي نص الله تعالى عليها في كتابه في حالة قتل الخطأ، وهو مما تلحق به هذه الحالة، فإذن قد ذكرنا ذلك، وقد تعرضنا له، أما تفصيله فهذا مجال طويل، وإذا ثبت خطؤه في هذه المسألة وكان بغير قصد فلا بد من الدية.(8/821)
ناقش المجمع من قبل موضوع تعدد القتيل أي إذا قتل شخصين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر، هل تتعدد الكفارة أم لا؟. هذه المسألة بدأنا النقاش فيها في دورة سابقة ولكن لم نتابع ذلك النقاش، أرجو أيضا أن يخرج المجمع فيه بقرار واضح، لأنه من الأشياء التي يجب الناس أن يعرفوا رأي الفقهاء فيها.
نقطة أخيرة: ولا أريد أن أطيل، وهي موضوع العاقلة، هذا الموضوع بكل أسف أختلف مع فضيلة الشيخ عبد الله البسام، هذا الموضوع صحيح أثبتته الشريعة أي تحمل العاقلة للدية، وهي في أصلها مخالفة لموضوع المسؤولية: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] وهذا هو المبدأ العام، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى ما في الجاهلية من تكاتف وتعاضد في موضوع العاقلة أجاز هذا الأمر، ولكن في عصرنا الحاضر، كما تعلمون أن هذه الصلات الصلة العصبية والصلة بين الناس والصلة القبلية، قد ضعفت هذه الصلات ضعفا شديدا، فاليوم لا يمكن أن تأتي لإنسان يعمل حادثا في بلد من البلاد تمشي لقريبه فيرد عليك بأنني لا أعرف إلا قريبي، لا أعرف إلا الذي لي علاقة معه، وأحيانا بعضهم يقول لك: أنا علاقتي معه سيئة وكيف أدفع؟.. ولذلك نرى أنه من المصلحة، وهذا من واجبنا كفقهاء في هذا المجال أن نرتقي لموضوع العاقلة إلى موضوع مهم جدا وهو موضوع التأمين.
ولذلك قلت في نهاية البحث: إن الفقهاء عرفوا العاقلة بعدة تعريفات منهم من عرفها بأنهم أهل ديوان الجاني، ومنهم من عرفها بأن العاقلة أهل حرفته وبالعدم عشيرته، وقال فريق: إن العاقلة هم أهل المهنة أيضا. وقلت: وكما هو معلوم فإن مبدأ العاقلة يكون أساسا للشركات الإسلامية المعمول بها في عدد من البلدان الإسلامية. وهذه الشركات لا بأس بها طالما أن المقصود منها التعاون والتعاضد عند الحاجة وأنها خالية من شبه الربا والمقامرة أو التكسب فإنها تكون حلالا مقبولا، بل مبدأ يحث عليه الدين حتى تطمئن قلوب الناس، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه المركبات الخاصة والعامة، وتنوعت وازدحمت بها الطرقات، وينبغي أن تعممه البلدان الإسلامية لما فيه من فوائد جمة وموافقة لروح الشرع، بل إننا نؤيد ما ذهب إليه بعض البلدان من جعله إجباريا بأخذ مبلغ معين كل عام من كل مالك لعربة أو غيرها من سبل المواصلات ونرى فيه الزيادة في التأمين والطمأنينة، وشكرا للسيد الرئيس.(8/822)
الشيخ تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإني أشكر فضيلة الشيخ عبد القادر العماري حفظه الله تعالى على بحثه القيم والذي أعترف أنه أكثر البحوث المقدمة في هذا الموضوع استيعابا للجوانب المهمة المتعلقة بالموضوع، وكذلك أشكره على عرضه الطيب والقيم الذي حرر لنا موضوع البحث في هذا اللقاء.
أما أنا فقد ركزت بحثي لأسباب ذكرتها على نقطة واحدة فقط، وهو موضوع الحالات التي يحمل فيها السائق ما حدث من ضرر بقيادة سيارته، والذي استمع إليه جميع أصحاب البحوث في الموضوع: هو أن سائق السيارة لا يضمن إلا إذا كان مخطئا متعديا في قيادة سيارته، مثلا يخالف نظام المرور أو القواعد المتبعة في القيادة، ولكن هناك نقطة ذكرها الشيخ عبد القادر العماري: أن كثيرا من القضاة وكثيرا من الفقهاء والمفتين ربما لا يقبلون هذا الحكم ويقولون: إن الفقهاء رحمهم الله قد ذكروا بأن المباشر ضامن وإن لم يكن متعديا، وإنما يشترط التعدي للمتسبب وليس للمباشر، وكذلك يقولون: إذا اجتمع المباشر والمسبب فالحكم للمباشر والضمان على المباشر، فلم أر في البحوث الموجودة بين أيدينا ما يشرح هذه القاعدة ويطبق ما اقترحه أصحاب البحوث على هذه القاعدة التي ذكرها الفقهاء، وقد حاولت في ذلك محاولة أريد أن أعرضها على أصحاب الفضيلة هنا ليقرروها أو لينقدوها، وهي: أن ما ذكره الفقهاء – رحمهم الله – من المباشر والمسبب حينما يجتمعان فإن الحكم للمباشر، إنما يختص ذلك إذا كان المباشر السبب الوحيد للإتلاف، أما إذا كان المسبب هو المتعدي أو كان تأثير المسبب أقوى من تأثير المباشر فحينئذ لا تتأتى هذه القاعدة في نظري، وهذا مما يتضح بكثير من الجزئيات التي ذكرها الفقهاء، ربما أنني لم أطلع على هذه القاعدة بهذا اللفظ، ولكن الذي اتضح بعد دراسة جزئيات عدة هو أن المباشر إنما يكون ضامنا عند عدم التعدي إذا كان هو السبب الوحيد، أما إذا كان هناك مسبب ومباشر، وتأثير المسبب أقوى من تأثير المباشر والمسبب متعد والمباشر غير متعد، فهذه القاعدة لا تجري في مثل هذه المسائل، فالذي أرى أنه إذا كان السائق ملتزما بأحكام المرور ولم يصدر منه أي تقصير فحينئذ لا ينبغي أن يحمل الضمان ولا الدية ولا شيء ولا الكفارة.(8/823)
والموضوع الثاني الذي تطرق إليه الشيخ العماري: هو موضوع العاقلة، وهو موضوع مهم جدا يحتاج إلى النظر والدراسة، الواقع أن العاقلة إذا كانت هناك حياة قبلية، وربما توجد في بعض البلاد كالمملكة العربية السعودية فلا مشكلة في تطبيق نظام العاقلة، أما إذا لم تكن هناك حياة قبلية كما في سائر البلدان الإسلامية غير المملكة العربية السعودية، فهنا تنشأ مشكلة، والاقتراح الذي ذكره الشيخ العماري عن الشيخ عبد القادر عودة رحمه الله تعالى ليس من الميسور تطبيقه في زمننا هذا، أن تفرض ضريبة جديدة على كل المواطنين، هذا لا يكون قابلا للعمل في أكثر البلاد الإسلامية، والحل كما أرى أنه إذا كانت هناك حياة قبلية فالعاقلة من قبيلة الجاني تتحمل الدية، أما إذا لم يكن هناك حياة قبلية فحينئذ تستطيع النقابات، نقابات المهن أن تقوم مقام العاقلة، والذي ذكره فضيلة الشيخ عبد الله البسام مع كل إجلالي وتقديري لكلامه ولعلمه وفضله، فإني أخالف في ذلك الرأي؛ فإن سيدنا عمر – رضي الله تعالى عنه - قد جعل الدية على أهل الديوان وأهل الديوان لم يكونوا من قبيلة واحدة، فهذا يجعلنا نجزم بأن العلة الحقيقية في تعيين العاقلة هي التناصر والتعاون، وإذا حدث التعاون والتناصر بأي شيء آخر يمكن أن نقول: إنها هي العاقلة، فالنقابة إذا كان هناك نقابة فيمكن أن تحمل الدية، أما إذا لم يكن هناك نقابة ولا قبيلة فالدية يتحملها الجاني نفسه.(8/824)
مسألة دية الذمي التي أشار إليها الشيخ العماري، أنا أؤيده في هذا، ولو لم أكن حنفيا لقلت بهذا القول، وذلك لأن الآية القرآنية الكريمة: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] هي مساوية للمسلمين وأهل الذمة جميعهم، وهناك حديث صحيح أيضا أخرجه الإمام الترمذي رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودى العامريين بدية المسلمين، وهذا حديث أصح إسنادا من الحديث الذي يذكر في تصنيف دية الذمي.
ومسألة الحوادث التي تنشأ من تطرق البهائم إلى الشوارع، هذه مسألة نجد فيها أيضا حديثا واضحا، ربما يكون أصرح شيء في هذا الباب، الذين يقولون بأن صاحب البهيمة ليس عليه الضمان ربما يستدلون بالحديث المعروف الذي قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العجماء جرحها جبار)) ، ولكن في نفس الوقت هناك حديث أخرجه الإمام مالك في موطئه أن ناقة للبراء بن عازب رضي الله تعالى عنه دخلت بستانا فأفسدت ما فيه فضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الناقة، وفي نفس ذلك الحديث نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن على أهل الدواب حفظها بالنهار)) فهذه الجملة التي نجدها في هذا الحديث ربما توضح لنا العلة في الضمان. يعني أصحاب البهائم أو أصحاب الدواب هم المسؤولون عن حفظ تلك البهائم والدواب، ما دام الحفظ عليهم، وهم قصروا في ذلك، فإنهم أصحاب الضمان أما إذا كان هناك حالة ذكرها فضيلة الرئيس، أنه إذا كان هناك بعير شارد وانفلت إلى الشارع العام أو إلى الطريق المعبد، فحين ذلك مالك البعير لم يقصر في حفظه، فلذلك لم توجد العلة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يضمن الدية والضمان.
وأخيرا مسألة التعزير بالمال أو التعزير بالعقوبات المالية، فأنا أؤيد فضيلة الشيخ العماري، إنه وإن كان هناك كثير من الفقهاء قد منعوا التعزير بالمال، ولكن هناك جمع كثير من الفقهاء كالإمام أبي يوسف رحمه الله قد أجاز التعزير بالمال، وهناك أدلة كافية على جوازه، فلا بأس بالأخذ بالتعزير بالمال في مسألة مخالفة نظام المرور.
وهذا ما كنت أريد أن أدلي به في هذا الموضوع، والله سبحانه وتعالى أعلم، وشكرا.(8/825)
الشيخ القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.
أولا: نشكر الشيخ عبد القادر العماري حفظه الله على بحثه القيم حيث جمع بين العلم والتطبيق لما هو قائم منذ فترة طويلة، فعاش هذه المعاملة بالتأكيد، وضمن، بحثه هذه المعاملة التي يلاقيها دائما في القضايا التي تعرض على فضيلته في قطر. هناك بعض الأمور نريد من مجمعنا الموقر أن يحدد خلال هذه البحوث قضية حوادث السير وأن تقسم هذه الحوادث وتنزل على الواقع، حقيقة بعض البحوث يتحدث عن شبه العمد وعن الخطأ، عن قضايا الفقه التي هي موجودة في الكتب، أما كيف تنزل هذه القضية على الواقع فهذا هو السؤال.(8/826)
أكثر البحوث تتكلم عن هذه القضايا أن هذا شبه العمد وأنه عمد وأنه قضية الدية، ولكن نحن نريد الآن أن تكون قواعد المرور واضحة مثل ما قال الشيخ خليل، والأمور كلها واضحة، هناك حالات كثيرة جدا، كيف يمكن أن تكون حادثة السير تعتبر من باب الخطأ أو تعتبر من باب شبه العمد أو تعتبر من حالات العمد أيضا في بعض الحالات؟ أكثر البحوث لم تتحدث عن قضية العمد، وإنما أتحفت بقضية الخطأ أو شبه العمد، بينما الحقيقة يمكن أن يكون بعض حوادث السير تتوفر فيها جميع أركان الجريمة العمدية، فمن هنا نريد أن نضع ضوابط لهذه المسألة كقاعدة أساسية ونحدد متى يكون السائق مخطئا أو متعمدا أو شبه متعمد؟ هذه مسألة ومتى تأتي قضية الأوامر وقوانين السير؟ هذه لا بد من رعايتها، كذلك السائح العادي الذي يسير ملتزما بقوانين المرور ثم يطلع بعد ذلك في غير الخطوط المخصصة والأماكن المخصصة لسير المشاة، ما حكم هذه المسائل؟ نفصل هذه التفصيلات ونضع بجانب كل جزئية من هذه الجزئيات الحكم المناسب حتى تكون الأحكام واضحة، كذلك حكم من يموت في السيارة، هل إذا كان للسائق دور أو إذا لم يكن للسائق دور؟ إذا كان الشخص الآخر متعد ولكن السيارة أيضا تجاوز حدود السير المسموح بها في السرعة، مثلا حدود ستين كيلو مترا أو سبعين كيلو مترا، والشخص الثاني أيضا مقصر أيضا في أنه دخل مثل ما قال فضيلة الشيخ عبد القادر من الفرع إلى الشارع العام، يعني ننظر إلى هذه القضايا بنظرة واسعة مفصلة، وبعد ذلك ننزل الأحكام الفقهية على هذه الوقائع العملية، هذا من ناحية الملحوظة الأولى.
ثانيا: العاقلة، أنا أثني على رأي الشيخ عبد القادر، ولكن حسب التسلسل الذي ذكره فضيلة الشيخ العثماني، بحيث يرتب حسب التسلسل، إذا وجدت القبائل فالقبائل هي الأساس، وإذا لم توجد القبائل، وليس بالضرورة المملكة العربية السعودية، هناك بعض الدول لا تزال تسير على قضية القبائل، فحصرها على المملكة العربية السعودية ربما لم يكن دقيقا، وننتقل بعد ذلك إلى قضية النقابات ثم الهيئات وحتى الأحزاب السياسية الآن، العصبية الموجودة بين الأحزاب السياسية أكبر من العصبية الموجودة بين النقابات، فمثلا الحزب الفلاني والحزب الفلاني كذلك، أو الجماعات الإسلامية التعصب أو الحاجات الموجودة فيها ربما تدخل في الحساب، فهذه قضية أيضا مع ملاحظتها حسب التسلسل المطلوب.(8/827)
وأنا في اعتقادي انتقال سيدنا عمر من العصبية القبلية إلى عملية الديوان، هذه إشارة خضراء لنا بأنه فتح لنا الباب؛ لأن قضية العاقلة يراد بها تحقيق الهدف المنشود وهو ألا يخل دم في الإسلام إما عن طريق الأشخاص المتعاونين، ثم بعد ذلك عن طريق الدولة.
ثالثا: في قضية رأي الشهيد الشيخ عبد القادر عودة رحمه الله فرأي وجيه ما دامت الرقبة غير موجودة في وقتنا الحاضر، فعصرنا اليوم يختلف عن العصر السابق، العصر السابق كان الرجل لا يجد المال لشراء الرقبة، وبالتالي ما دام ليس عنده مال فينتقل إلى الصوم، فلذلك لم يأت إلى قضية الطعام؛ لأن هناك أمرين: هناك مال وهناك عبادة بدنية، أي إذا كان له مال فيعتق ربة، وإذا لم يكن عنده مال فحينئذ يصوم، أما اليوم يوجد مال لكن لا يوجد رقبة أساسا، ألغي حسب نظام الأمم المتحدة.
فأنا في رأيي، رأي الشيخ عبد القادر عودة شبيه، أي يقاس على رأي الشافعية وغير الشافعية الذين جعلوا الإبل أصلا في الدية، ومع ذلك إذا فقدت الإبل في منطقة من المناطق تقوم الإبل بقيمتها ولا ننتقل إلى ألف دينار، كما هو اعتبار الأصل، فالرقبة لم توجد فحينئذ تقوم قياسا، كما أن الإبل لا توجد بالنسبة للدية فتقوم ولا ننتقل إلى ألف دينار إلى إلى اثني عشر ألف درهم، ولذلك الأحاديث في هذه المسألة واردة بين ألف دينار وبين ثمانمائة دينار وبين ثمانية آلاف درهم وبين اثني عشر ألف درهم، كما لا يخفى على حضراتكم، فلذلك رأي الشيخ عبد القادر عودة وجيه، وإن لم يسبق؛ لأن عدم السبق ناتج عن أن هذه الحالة ما كانت متصورة في عصرهم، أي عملية الرقاب.(8/828)
رابعا: قضية اعتراض البهائم، نحن لا بد أن نجعل الأصل أن صاحبها مسؤول كقاعدة أساسية، الإبل طبعا معروفة كما لا يخفى على حضراتكم بعلاماتها فتنسب إلى أصحابها، وبالتالي صاحبها مسؤول كقاعدة إلا إذا اثبت بالعكس بأن هذا الرجل قد شرد عنه هذا البعير، وبالتالي نضع الأصل ثم نستثني عنه الاستثناء.
خامسا: قضية التعزير بالمال، فعلا أنا أثني على رأي الشيخ عبد القادر في هذه المسألة، وشيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة فصل فيها تفصيلا طيبا، فجزاه الله خيرا، والتعزير بالمال أهون من التعزير بالجلد، ولذلك الإمام أبو حنيفة لا يجيز الحجر على الإنسان بسبب السفه في المال، قال: المال خادم للإنسان، وليس الإنسان خادما للمال، فالمال غاد ورائح، فكيف الآن نحن نجيز الضرب والجلد؟ يبدو هذا متفق مع ما نعيشه نحن في بلادنا الإسلامية، حيث ليس هناك للإنسان وربما القيمة الكبيرة للمال ونحو ذلك.
سادسا: دية غير المسلم، وحقيقة حينما يتكلم الشيخ عبد القادر عن دية غير المسلم ويدافع عن مساواة غير المسلم بالمسلم كنت أعيش – والله شاهد - مع إخواننا في البوسنة والهرسك، قلت: سبحان الله الذي جزى الله الإسلام خيرا لعدالته، يتحدث عن مساواة المسلم بغير المسلم في ديته، وغير المسلمين ماذا يفعلون بالمسلمين؟
هذا ما كنت أريد أن أتكلم عنه من باب أن نتذكر مأساة الأندلس الجديدة، ولو كان في الفقه لا تنسى هذه المأساة الكبيرة، وكذلك مآسينا، أشكركم يا سيدي الرئيس على إتاحة الفرصة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/829)
الشيخ محمد الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أشكر الشيخ عبد القادر محمد العماري على بحثه القيم، قد أجاد وأفاد.
أولا: الحقيقة إن حوادث السير ليست بجديدة في عصرنا، فقد تكلم عنها العلماء في وسائل السير والنقل الذي كان في عهدهم، تكلموا عن تصادم الفارسين والسفينتين إلى غير ذلك، ثم فرقوا بين اصطدام السفينتين وتصادم السيارتين، وأنا أرى أن السيارة تقاس على الفرس لأن من يحسن السياقة أقدر على كبح سيارته من الفارس على فرسه، وهذا أقوله عن تجربة، لأنني كنت في البدو وكان عندي فرس، وبعد ذلك انتقلت إلى المدن وكانت عندي سيارة، والحقيقة إنني أقدر على كبح السيارة من الفرس، هذه مسألة معروفة.
ثانيا: فيما يخص ما أتلفته البهائم، هذا تكلم عنه العلماء، أما تبيين المخطئ من المعتمد، فهذا أعتقد أننا نرجع فيه إلى قوانين السير؛ لأن هذه القوانين لا تخالف الشرع أو معظمهما لا يخالف الشرع، فهي تندرج تحت الشرع العام، وهو المصالح المرسلة، فالمصالح المرسلة هي التي لم يأمر بها الشرع بإهمال ولا يأمر، لم يأمر بها الشرع ولم ينه عنها وفيها مصلحة، مثلا ننظر هناك في المعتدي وغيره وذلك لنعلم مسائل عدم الالتزام بالسرعة المحددة التي باستطاعة السائق أن يتحكم في سيارته إذا التزم بها، وإلى من له الأسبقية في الطريق وما إلى ذلك، إذن هذه القوانين يمكن أن ندرجها في المصالح المرسلة.
ثالثا: نتكلم عن مسائل وملاحظات عليها، وهي:
أولا: فيما يخص الكفارة، الكفارة أمرها واضح، فالله تبارك وتعالى قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [النساء: 92] هذه تتناول من لم يجد الرقبة أو لم يجد ثمنها، ليس فيها تحديد أن من لم يجد ثمن الرقبة، فمن لم يجد فيها فصيام شهرين متتابعين، إذن ليس هناك إلا صيام شهرين متتابعين، ومن لم يقدر على ذلك، من لم يستطيع فإطعام ستين مسكينا، هذا هو الصحيح في أمرها.(8/830)
ثانيا: فيما يخص الدية، كما أن الجمهور يجعل الدية على العاقلة، وهي العصبة، عصبة الجاني، الأقرب فالأقرب، وإن القول بأنها تكون على الديوان أي الذين يعملون مع القاتل في قطاع واحد أولى عندي في هذا الزمن، وهو ما صرح به الإمام أبو حنيفة، وهو أحد قولي الإمام مالك، وصدر به خليل في مختصره فقال: وبدئ بالديوان، وإن كان غير مشهور مذهبه، وخصوصا في بلد ليست فيه قبائل مترابطة فيما بينها؛ لأن القبلية أصبحت اليوم شبه معرض عنها في هذا الزمن، فالبلد الذي فيها قبائل تتناصر فيما بينها نجعلها عليها، والبلد – وهو الأكثر – الذي ليست فيها القبلية وخصوصا المدن الكبيرة، نجعلها على الديوان، تكون على الذين يعملون مع القاتل في قطاع واحد، وهو معنى الديوان.
أما ما يخص دية غير المسلم هو طبعا الجمهور مثل الإمام مالك والإمام أحمد قالا: إن الكتابي ديته نصف دية المسلم، ولكن مذهب أبي حنيفة هو الذي يعمل به اليوم في الإمارات، أي يسوون بين دية المسلم وغيرهن الحقيقة أنه ليس هناك ذمي اليوم في الإسلام فلا نتحدث عن الذمي؛ لأن الذمي هو الكافر الذي تحت السيطرة، وليس هذا موجودا وإنما الموجود هو المستأمن، وسواء عند الإمام أبي حنيفة كان المستأمن كتابيا أو يهوديا أو بوذيا أو مجوسيا فإن ديته تساوي دية المسلم، وهذا ربما يكون أحسن في هذا الزمان؛ لأن الناس تستورد كثيرا من هؤلاء الفنيين، وهذا لا مانع عندي منه.
ثالثا: أما ما يخص البهائم التي تعترض الطرق، أنا أرى أن يفرق بين البلاد، فبعض البلاد كالمملكة العربية السعودية قد قامت الحكومة فيها بعمل جيد، لكن هناك بلاد أخرى وهي البلاد التي أسكن فيها الآن على العكس من هذا، يقولون: أن الإبل تحترم ويعطون إشارات في هذا البلد: خذ انتباهك فيها الإبل، وحتى أن هناك في الغالب صاحب الناقة يكون له جانب عظيم في التعويض، إذن ينبغي أن تكون المسألة ذات شأن أعلى من مؤتمرات إسلامية، لكي توحد الدول قوانينها تجاه هذا الموضوع، لأننا الآن إذا تكلمنا عن هذا الموضوع، لازم أن نعرف قوانين الدولة، يقولون ذلك لا تمش في هذا البلد، وهنا كثير من الناس ماتوا لهذا السبب، هذه المسألة ينبغي أن ننظر فيها بما هو الأحسن.(8/831)
رابعا: فيما يخص التعزير بالمال كما قال الشيخ عبد القادر – جزاه الله خيرا – صحيح قال به بعض العلماء، من المالكية قال به ابن فرحون، وقال به ابن القيم، إذا لا مانع منه ومن الأحسن أن يعمل به؛ لأن لكل زمن ما يخصه في هذه الموضوع، وكما قال بعض الجماعة: إن التعزير في الزمان الأول يكون بنزع العمامة، خلع عمامة الإنسان هذا كان تعزيرا، استيقاف إنسان أمام الناس هذا أيضا كان تعزيرا، ومعنى ذلك أن لكل زمن خصوصية مما نص الشارع عليه، ولا مانع من ذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الشيخ خالد المذكور:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
لا شك أن هذا الموضوع من المواضيع المهمة ومن التي تقلق دول العالم جميعا، ولا شك أن الفقه الإسلامي سباق إلى مثل هذه المواضيع، ولكني كنت أود في هذه الجلسة أو في هذه الدورة بمناسبة بحث هذا الموضوع أن يتطلب من خبراء المرور كتابة بحث فيما يتعلق بتنظيم المرور الحديث، وفيما يتعلق بالسيارات وغيرها، وبما يتعلق بالراكب والراجل على وجه الخصوص؛ إذ أن كثيرًا من نظم المرور وتنظم المرور لراكب السيارة وتحمله الأخطاء وتعاقبه على خطئه، ولكن غالبها لا ينظم للراجل غير البهائم، ولا ينظم للراجل الإنسان كيف يستفيد من العلامات والإرشادات، وما هي العقوبة التي يوقعها عليه نظام المرور إذا خالف هذه العلامات وهذه الإرشادات على الطرق، فحتى نكون عمليين وحتى نستطيع أن نستفيد من هذه الأبحاث التي كتبت ومن هذه المناقشات التي ذكرت حبذا لو أن هناك من الخبراء من يعطينا مبحثا عن تنظيم المرور؛ لأن تنظيم المرور عالمي، يعني الإشارات والخطوط، هذه نجدها في كل دولة من هذه الدول حتى نستطيع أن نواكب ما هو موجود، وبالتالي نستطيع كذلك أن نضمن نظم المرور، هذه الأمور الشرعية التي نبحثها الآن. وجزاكم الله خيرًا.(8/832)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك الكثير من المسائل التي كنت أود أن أتحدث بها سبقني إليها الإخوة الكرام، وأريد أن أؤيدهم في هذا لما تبين جانب الصواب من غيره في هذه القواعد، ففيما يتعلق بالمسؤولية عن حوادث السير وهي بيت القصيد والعنصر الأهم في هذا الموضوع، ولا شك أنه ينبغي أن يكون التأصيل الشرعي مراعا فيه ما عليه أحوال الناس وأعرافهم في الوقت الحاضر؛ لأن تلك الأعراف إنما نسجت من أوضاع القوانين والأنظمة المعروفة للناس، كما أشار الدكتور خالد، ولذلك أصبحت تلك القوانين بمثابة أعراف محكمة في هذه القضايا، وفقهنا لا يعارض هذه الأعراف ولا تلك الأوضاع، لأنها تقوم على أساس توجيه المسؤولية بناء على وجود إما الخطأ وإما تلك الأوضاع، لأنها تقوم على أساس توجيه المسؤولية بناء على وجود إما الخطأ وإما التقصير وإما الإهمال، وأما إذا لم توجد هذه العناصر فإنه لا مسؤولية، هذا شيء. الشيء الثاني: كنت أود من الإخوة الكرام أن يستفيدوا في قضايا حوادث السير مما كتبه فقهاء الحنفية والمالكية عن تصادم الفارسين وتصادم السفينتين، فلهم كلام طويل وواضح في هذا الموضوع يمكن أن يعد ذلك أصلا في قضية حوادث السير، ولا يمكن أن نستبعد وجود الفرق بين السيارة والسفينة، فكلاهما يقومان على أساس المحركات المعروفة، فلذلك لم أجد أحدا تنبه إلى هذا وأشار إليه، ولذلك الاستفادة من موضوع تصادم السفن وما بحثه فقهاؤنا في هذا المجال يعد أصلا لكثير من المسائل التي تقع.(8/833)
أما القضايا الأخرى التي بحثها الأساتذة الكرام أو قضية العاقلة، فلا شك أن هناك مذهبين في هذا الموضوع: مذهب الجمهور ومذهب الحنفية، وقد جلى الموضوع الأستاذ الشيخ تقي في قضية وجود عنصر القبيلة وعدم وجود عنصر القبيلة، والحقيقة عالمنا العربي والإسلامي ما يزال منقسما في هذا الموضوع، فهناك أنظمة اجتماعية ما يزال للقبيلة والعشيرة تأثير فيها كدول الخليج والأردن في الشام، ولكن ما عدا الأردن مثل مصر وسورية لا تأثير لهذه الظاهرة على الإطلاق، ولهذا ينص ابن عابدين في هذا الموضوع حيث أن رابطة القبيلة والعشيرة قد زالت، والديوان لم يعد موجودا، فلذلك أرتأي ما ارتآه متأخرو الحنفية أن تكون المسؤولية على الفاعل أو الجاني أو المتسبب، هذا واضح في كلامه، بقية الفقهاء غير الحنفية ما يزالون يقررون أن المسؤولية في قضايا الخطأ هي على الجاني، وهذا رأي جمهور الفقهاء، ولكن ينبغي ألا ننسى أن ما يتعلق بقضية العاقلة القاعدة الشرعية المأخوذة من الأحاديث هي: أن العاقلة لا تعقل عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا، فإذا وجد الاتفاق والإقرار أو الصلح عندئذ لا مجال لدور العاقلة، وهذا يخفف البحث عن تحميل العاقلة كثيرا من القضايا التي تقع في العصر الحاضر.(8/834)
أما ما يتعلق بقضية التغريم المالي فلا شك أن الاتجاه الحديث هو الأخذ بهذا المبدأ، وقد وجدت رسائل دراسات عليا في هذا الموضوع، وإن كان الغالب عند جمهور الفقهاء في الماضي عدم القول بهذا المبدأ فقد أصبح الاتجاه الحديث مناصرا لهذا المبدأ وأن العدالة وأن الأيسر على الناس هو أن يدفع شيئا من ماله ولا يتحمل شيئا من العقوبات الجسدية أو التأديبية.
أما قضية تطرق البهائم إلى الشوارع؛ أيضا أؤيد الشيخ تقي العثماني في هذا الموضوع، وأعتبر أن قضية الحديث في ناقة البراء بن عازب تصلح أساسا لكثير من القضايا، بالإضافة إلى الحديث الآخر: ((العجماء جبار والمعدن جبار والبئر جبار)) ، هذه القضايا عن هدر، هذه في الواقع لم تكن في الحوادث بالكثرة التي تقع الآن، فلذلك حديث البراء يعد ألصق بالموضوع في تحديد المسؤولية عن حوادث البهائم في الوقت الحاضر.
أخيرًا ما يتعلق بالقتل الخطأ كأني وجدت اختراقا في هذا الموضوع لدى سماعي للحديث في هذه القضايا، النص القرآني واضح؛ لأن قضية القتل الخطأ وكل حوادث الخطأ إنما فيها الدية أو فيها الأرش المالي لأنه قد لا يكون هناك قتل وإنما فيها الأرش، والأرش إما مقدر أو غير مقدر، والحكومة العدل وهي ما يقرره الخبراء، يمكننا أن نجعل الآية أصلا في هذا الموضوع، في قضية الدية أو حوادث الأرش، وأما فيما يخص القتل بعينه فلا بد من إصلاح العلاقة بين الإنسان وربه، وذلك عن طريق الكفارة، والكفارة القرآن واضح فيها في أنها هي صيام شهرين متتابعين، وانفرد فقهاء الشافعية بأنه إذا عجز عن الصيام فيمكن أن يأخذ بمبدأ إطعام ستين مسكينا، وهذا لم يقل به غير فقهاء الشافعية.
فقضية ما ينقل عن المرحوم الشيخ عبد القادر عودة وغيره في هذا الموضوع لا أجد له تلامسا صحيحا مع الدقة الفقهية التي نحن بأشد الحاجة إليها.
هذا ما ارتأتيه، فنرجو الله تعالى أن يوفقنا لما فيه الصواب.(8/835)
الشيخ عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم
أولا: أشكر الباحثين والأستاذ عبد القادر العماري عما قدموا، والاعتذار عنهم في إغفال بعض الأمور التي تتعلق بالسير؛ لأن الأمر جديد، وهو جديد من حيث كثرة الحوادث وتنوع المركبات المنتشرة في العالم والتي اهتم بها العالم، ثم رأيت أن الإخوة الباحثين اهتموا بما يتعلق بالأشخاص، ولم يكن ثمة اهتمام فيما يتعلق بالمركبات نفسها، أو بما يتلف من الأموال الخاصة والعامة من حوادث السير، ولذلك لا بد من التعرض لها، وسأتناولها بإيجاز نقطة نقطة، وكنت أتمنى صدوره من الباحثين – ولعل هذا أسلوب من الأساليب في البحث – وسأعمد إلى استخلاص ذكر القواعد العامة من أبحاث الفقهاء ثم أرتب عليها أو أستخرج الأحكام الشرعية التي نستنبط منها حتى يتبين الدليل المستخلص.
أولا: من المسائل التي تناولت، أنا مع تأييدي لما تناوله الإخوة الكثيرون مما كنت سأتناول بعضها، أولا: لا أقول بقيام النقابات العامة وإحلالها محل العاقلة، العاقلة إذا وجدت في بلد يمكن أن تكون كما ذكر الإخوة فهذا مطلوب، وأما غير ذلك فنحن أمام أمرين أو جهتين: أؤيد من قال بالتأمين، التأمين في هذا الأمر ربما يكون من أوسع أو من أفضل الأمور في دفع هذا الموضوع، وفي بعض البلدان ترجع الحكومة نفسها أو الحكومات نفسها إلى وضع التعويضات للناس في هذا الأمر إذا لم يتيسر التعويض من جهة معينة، كذلك أؤيد ما رآه الدكتور العماري في رأي الأحناف في تساوي الدية بالنسبة للمسلم وغير المسلم.
ثم لم يكن فيما قرأت من الأبحاث التفريق بين القتل العمد والقتل شبه العمد ورأي الأحناف في تنوع أنواع القتل وأرى أن ينظر فيها، ثم لم يتعرض الباحثون إلا قليلا لما يتعلق بإصابات العمل الناجمة عن حوادث السيارات إلا ما ذكره ونبه عليه الأستاذ الزحيلي في آخر الأمر، هناك إصابات تتعلق – كما هو معلوم – ليست بالقتل وإنما بإصابات وعاهات في هذا الأمر.(8/836)
وموضوع الأروش يمكن أن يستخلص من قواعدها العامة ما يطبق على حوادث السير إذا ثبت تعمد السائق أو الخطأ المتعلق بالسائق، أيضا أنا لا أفرق بين السيارة والدابة، نعم قد يكون هناك فرق، هذه آلة وذلك حيوان إلا أن خطأ الدابة أحيانا مثله قد يقع في السيارة عن غير رغبة من السائق، فإذا تلفت آلة حديد بالسيارة دون رغبة السائق فهو تماما خارج عن إرادته في هذا الموضوع. الإخوة أيضا لم يتعرضوا إلى مقارنة أو استعراض لأحكام السير في القوانين الحاضرة ورأي الشريعة فيها؛ لأن بعض هذه الأحكام قد تكون مخالفة للشريعة الإسلامية، ولذلك لا بد من التعرض لهذا الأمر.
ثم لم يحدث تعرض في الأبحاث فيما يتعلق بالمركبات الفضائية في النقل، ثم نقل الطائرات وحوادث الطائرات، وما يحصل لها من تصادم، ثم إذا سقطت هذه الطائرات، وطاقم الطائرة هل يكون مسؤولا أو لا؟ وهل يعتمد على الصندوق الأسود في بيان حوادث الطائرات أم لا؟ لأن في كل طائرة كما تعلمون صندوقا أسود يبين الخلل الذي حصل أو المتسبب في سقوط الطائرة أو الحوادث لها.
ثم أيضا مع أننا نتحدث عن السير أشار بعض الإخوان إلى سير الناس، لم تنظم هذه الأمور ونحن نعلم ما حدث في بلدان كثيرة ويحدث من تصادم الناس بعضهم ببعض، ما حدث في نفق المعيصم وما حدث مثلا في الطواف حول الكعبة في هذا العام من تزاحم هل يعتبر هذا ويطبق عليه أحكام السير أم لا؟. هذه أمور عامة.
ثم أمر آخر أقول به، لم يتعرض للمال العام الذي يصاف، يعني إذا أصابت السيارة مالا عاما، كأعمدة الكهرباء أو أتلفت الطريق، فهل يغرم السائق أم لا؟ بعض قوانين السير لم تتعرض لهذا، وهل من الضرورة أن نبين حكم الشريعة فيه أم لا؟ ونعلم أن بعض الطائرات تسقط على أموال عامة، كما تسقط أيضا على بيوت خاصة، من يدفع تعويض هذا؛ هل الدولة أم التأمين أم من تسبب في هذا الحادث؟(8/837)
هذه نقاط أحببت أن أنبه إليها، وأقترح في التوصيات أن يبين الحكم بالنسبة للمقتولين والمصابين من حوادث السير وما يتعلق بضمان المتلفات والجهة التي تدفع التعويض، ثم التعرض كذلك لموضوع الميراث عندما يتوفى أعداد من الطائرة، كيف يكون التوارث فيما بينهم؟ إذا كانت السيارة فيها إخوة أو فيها أقارب فمات بعضهم، والبعض الآخر لم يمت، هل يرث بعضهم البعض في مثل هذه الحالة؟ ومن يرث إذا ماتوا معها، نعم الفقهاء تعرضوا لهذا في حوادث الزلزال وحوادث الدفن الجماعي، لكن لا بد أن نتعرض لها في هذا الأمر.
هذه أمور أحببت أن أبينها، وأخيرا أقول: بالنسبة للتعزير بالمال أعتقد أن التركيز على التعزير بالمال وحده لا يكفي، أقول أن نترك الأمر كما تركه الفقهاء؛ لأن التعزير متعدد وأن مرجعه إلى القاضي، يرى حسب الظروف، وفي رأيي أن العقوبة البدنية ينبغي ألا تغفل؛ لأن التعزير وحده لا يكفي، ونحن نحتاج خاصة في كثرة حوادث السير في هذه الأيام واستهتار الكثيرين بحوادث السير واستهتار أبناء الأغنياء، وهذا يحدث في كثير من البلدان، وقد يكون سكران أو سهران إلى آخر ذلك مما يؤدي إلى وفاة أو إتلافات، فالتعزير بالمال وحده لا يكفى، فلا بد من التعزير بالعقوبات الجسدية.
وشكرا أخي الرئيس، والسلام عليكم ورحمة الله.(8/838)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
شكري لمقدم الموضوع ولمن تقدمني، فقد أغنوني عن كثير من القضايا التي كنت أريد أن أبسطها وإن بقيت بعض المسائل.
أولا: من ناحية التقعيد، فإني أرى أن قضية قتل الخطأ في الشريعة الإسلامية هي قضية سلكت فيها مسلكا خاصا لا نجده في غير هذه القضية من القضايا؛ لأن من شأن الخطأ أنه معفو عنه وأنه إذا ترتب منه ضرر للغير تحمل المخطئ جبر الضرر بمقدار الضرر، هذه القواعد التي سارت عليها الشريعة لا نجدها تسير هذا المسلك في القتل، وفي قتل الخطأ سلكت الشريعة أن الشخص الذي قتل يجبر الضرر حبرا يختلف عن البقية؛ لأن قيمة الإنسان أو قيمة الحياة هي كما قال تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .
الأمر الثاني: أنه لا يتحمل هو نتيجة الخطأ، ولكن تتحمله العاقلة أو العائلة الكبرى، وهما مسلكان انفرد بهما الخطأ وأحكامه، ولذلك عندما يعمل مثل المفتي في قياس القضايا قتل الخطأ أو التعدي خطأ بالنسبة للأنفس وبالنسبة للجوارح، عليه ألا يند به جماح القياس، فيقيس هذه القضية على بقية قضايا الخطأ.(8/839)
الأمر الثالث: هو أن المخطئ تارة يبقى حيا وتارة يموت هو أيضا، فإذا مات المخطئ فلا بد من البحث في القضية هذه وفي أحكامها.
الأمر الرابع: الذي تقدمني به الدكتور الخياط، وهو لا بد من تقسيم وسائل النقل إلى وسائل تسير في البر وفي البحر وفي الجو، وهي متحدة الأحكام ومختلفة الأحكام، فقضية القتل أو التعدي أو الخطأ تتناول المحاور الآتية:
أولا: الدية وقد كثر الكلام في الدية ومن يتحملها. لما جاء الإسلام كان هناك نظام اجتماعي أقره الإسلام، هذا النظام الاجتماعي موجود في الوضع الإسلامي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه غير ما هو موجود في بقية المجتمعات الأخرى، إن تطور الزمن وظهور ظاهرتين، هما التحرر من ناحية، ثم وسائل النقل المساعدة على تجرؤ العائلات وانتقالها من مكان إلى مكان؛ أفقد من معظم بلاد العالم الإسلامي العاقلة أو الأسرة الكبيرة، ولم يبق إلا في بعض المناطق أو في بعض البلدان، إذا قيست بمليار مسلم كان جزءا قليلا، فلا تهمل العاقلة حيث وجدت، إذا بقي النظام الاجتماعي في بلد من البلدان على الترابط فلا بد من نظام العاقلة، فالعاقلة أمر قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمر الأمر عليها في كل بلد من البلدان عليه، فإذا انتهى من بلد أو أن النظام الاجتماعي لا يقوم على أساس الأسرة الكبيرة وعلى أساس الترابط فأعتقد أنه لا وجه للحديث عن العاقلة هنا، ولا يمكن أن أجعل أو أقيس قضية العاقلة على النقابات، لأنه ما قتل شخص ولو خطأ إلا ولا بد أن هناك من تقصير، تقصير ولو جزئي، وشأن الأسرة أنها تترابط فيما بينها حتى بتأديب الشخص، هذا غير موجود في النقابات.
بالنسبة لما نقل عن الشيخ عبد القادر عودة رحمه الله تعالى، فإجلالنا أو إكبارنا لهذا الشخص وجهاده واستشهاده، هذا الرجل لا يسبغ عليه جهاده أن يصبح فقيهًا مجتهدا يرجع إلى كلامه، ولا موته يعطيه هذه القيمة، فما أظن أن الشيخ عبد القادر عودة قد وصل إلى درجة الاجتهاد حتى يصبح كلامه بعد موته مرجعا يرجع إليه، وإن ذكره في كتبه، فإن وضعنا الاجتماعي ووضعنا الحضاري ألزم ألا تهدر الأرواح البشرية وألا تضيع العائلات؛ لأن شخصا ملك سيارة فقتل رب العائلة أو قتل الزوجة وأبقى البنين يتامى، لا بد من حل لهذه المشكلة، والحل ظفر به الغرب في التأمين، لكن كانت الصورة للتأمين في الغرب فيها كثير من الباطل وفيها شيء من الحق، فقد وصل علماء المسلمين في عصرنا هذا إلى التأمين التعاوني، فلو أخذت الدول بالتأمين التعاوني الإلزامي لكل من يملك سيارة يسير بها حفظا لحقوق العائلات وحفظا للأيتام من التعدي عليهم، لكان ذلك صوابا وأمرا مؤكدا.(8/840)
ثانيا: الكفارة، والكفارة من الأشياء التي سلك بها التشريع الإسلامي بالنسبة للخطأ غير المسالك الموجودة في الأخطاء الأخرى في بقية أنواع القضايا، فقد يخطئ الإنسان فيفسد مال غيره، وقد يخطئ الإنسان فيتصل جنسيا بزوجة غيره وأنواع الخطأ كثيرة لكن ليس هناك إلزام بكفارة إلا هنا؛ لأن النفس البشرية أو الحياة قيمتها قيمة خاصة، وبذلك يشعر الإنسان دائما في ضميره وفي ذاته وفي باطنه أنه قتل نفسا وإن كان خطأ، ولهذا حتى تجد النفس اللوامة ذلك النقص كان من حكمة الشريعة أن وضعت في مقابل النفس المقتولة نفسا تحرر من الأسر، ولذلك وقعت البشرية في نظري عند حدود إما القتل وإما إحياء نفس بتحريرها وإما بتنظيف باطن الإنسان بصورة الصيام، ولا يمكن أن نجعل القضية المالية أو دفع المال مساويا لما ذكرت، لأني قلت: إن مسلك الشريعة في قتل الخطأ والتعدي خطأ على الإنسان هو غير مسلكها في غيره.
التعزير، الحقيقة إن التعزير لا يكون إلا إذا كان هناك تعمد بمعنى أنه يندر صدوره في القتل الخطأ، فإذا كان يندر صدوره في قتل الخطأ ولكن هناك من ناحية أخرى التقصير، تقصير معتمد من صاحب السيارة أو من صاحب المركبة أو من صاحب الطائرة أو من شركة الطيران أو من شركة البواخر، فهنا يأتي التعزير، بما يمنع المستعملين لهذه الوسائل من التحرر بهذه الوسائل الفتاكة بالبشرية، والتعزير أراه واجبا ومؤكدا وأن يقنن تقننيا واضحا، وهذا التعزير قد يكون بالمال وقد يكون بالسجن وقد يكون بما يراه من ينظر في المصلحة العامة، ما يراه أولى وأجدر بردع الناس في تجاوزهم لحدود استعمال هذه الوسائل.
أمر آخر: وهو السائر في الطريق، إذا تسبب في الحادث، قطع الطريق في مكان ليس له الحق أن يقطعه فإذا بالسائق يضغط على الكابح فصدم وجهه أو الذي بجانبه على البلور الأمامي فمات، فإذا وقعت مثل هذه الواقعة فم إذا يتحمل السائر في الطريق الذي تسبب في موت السائق في السيارة؟ وهو من النواحي التي ينبغي أن تبحث في نظري.(8/841)
ثالثا: من القضايا التي ينبغي أن تبحث وهي: السيارة نفسها إذا انفجرت فتسببت في المشاكل التي عرض لها الدكتور الخياط – جزه الله خيرا – وكذلك القضية التي تعرض لها فضيلة السيد الرئيس، وهو: ما هو الحكم إذا انفلتت وشردت؟ أي إذا كانت السيارة اصطدمت بسبب الشرود، وكثيرا ما وقع، يسوق السيارة بقوة أو هو يضغط على المنبه بقوة فتشرد السيارة فتشرد الدابة فترتطم بالسيارة فيموت السائق أو بعض من يحمله أو يعطب له عطب، هذه قضية لا أقول فيها حكمي، لكن لا بد أن تبحث وأن يعطي لها حكم في مثل هذا.
الأمر الآخر: وهو أنه قد يكون المتسبب في حوادث السير الدولة، بما أن الدولة هي المحافظة على الطريق، وهذا نجد له أثرا في مقالة عمر: أنه يخشى على نفسه "لو عثرت دابة" وإهمال الدولة هذا يجب أن يبحث أيضا، وأن يعطي له أحكام، وأن تعرف الدولة أنها مسؤولة، وأن القضاء يحاكمها إذا كانت هي السبب في الحادث الذي وقع للسيارة فمات بها السائق أو مات بها من معه، ولهذا أرى في موضوع كهذا الذي وقعت دراسته من كثير ممن تقدمنا أو خاصة عن استعمال هذه الوسائل من قبلنا وأعطوها صورا كثيرة وأحكاما كثيرة، فأعتقد أنه لا بد من تتبع قانوني ثم تسوية الحكم الشرعي على الصورة التي أبرزها القانونيون عبر قرن كامل.
هذا ما أردت أن أعقب به وشكرا لكم على الاستماع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/842)
الدكتور درويش جستنيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
النقطة الأولى: فيما يتعلق بموضوع المتسبب في الحادث، والمتسبب - كما ذكر الدكتور الخياط وغيره – إما أن تكون له ثروة بحيث إنه لا يهمه التعزير المالي ويعيث في الأرض فسادا، فلذلك ينبغي أن نقول: أن التعزير المالي والبدني في حوادث السير وغيرها ينبغي أن يكون بالشكل الذي يرضاه الدين الإسلامي.
النقطة الثانية: لم يتعرض كثير من السادة الأفاضل في بحوثهم عن مسؤولية الشركات والمؤسسات الناقلة لأن الاتجاه الحديث الآن النقل الجماعي بالأوتوبيسات بالقطار وبالسفن والنقل السياحي إلى آخره، هذه الوسائل تختلف عن العربة التي يملكها الشخص، وهناك أصحاب السيارات والسائقون وأولياء الأمور والأطفال الذين يقودون برخص قيادة إلى آخره، مشاكل كثيرة ومسؤوليات كثيرة، فلا بد أن تكون هذه محصورة، أقصد أن تكون ملاحظة في كتابات الذين يتحدثون عن مشاكل وحوادث السير؛ لأن المسؤوليات لو وجدت في شركة النقل، هل نقول: هي مسؤولية السائق، فالسائقون فقراء وليس لدهم مال حتى لو ألزمناهم، فهل نلزم الشركة أن تؤمن؟ وبالتالي نخرج من هذه المشكلة، مشكلة التأمين، فنقول بإلزامية التأمين، تفاديا لهذه الحوادث، أرجو أن يكون محور الحديث يدور حول أشياء أوسع من المسؤولية المباشرة لسائق سيارة الركوب العادية.(8/843)
النقطة الثالثة: ينبغي أن يقودنا الكلام عن حوادث السير إلى موضوع هام جدا، أقترح أن يدرس في إحدى دورات المجمع إن شاء الله، وهو عن المخاطر الصناعية، والمخاطر التجارية، والمخاطر العمالية، والحوادث الصناعية التي تقع، وهدم المنازل؛ هذه مسائل مهمة، هذه المصانع والصناعات الكبيرة سمة من سمات العصر، فلو تصورنا مثلا أنه حدث فيها انفجار كبير من المسؤول؟ المصنع أو الشركة؟ وكيف يتم هذا أو كيف تتم معالجته؟ وعلى أي أساس؟ أيضا هدم المنازل، هل المسؤول أو المالك أو المقاول أم المهندس أم المخطئ أم الحكومة التي اطلعت على المخططات قبل الإنشاء؟ أيضا هذه مشاكل مهمة تتعلق بأرواح الناس ومتلكاتهم، المخاطر الصناعية كثيرة منها المباشر مثل التلوث ومنها غير المباشر، فأرجو أن تتاح الفرص لمثل هذه الأشياء.
مسألة أخرى أيضا مهمة، أريد أن أوجه إليها، وهي الغش التجاري الذي يؤدي أحيانا إلى التسمم والهلاك؛ إما بطريق الغذاء أو عن طريق الاستعمالات الأخرى، وإما أن تؤدي إلى الهلاك أو الإصابات بالأمراض المختلفة، فإذن هذه مسائل لا بد أن نلاحظها في إحدى دورات المجمع ونتكلم فيها.
لذلك أقترح أن تدرس المخاطر والمسؤوليات الجنائية كوحدة واحدة، وفي النهاية تصل إلى شيء، هل نقول بإلزامية التأمين على أساس أن هذا يحقق مسألة شرعية معتبرة أم لا؟ أي ننتهي إلى هذه النتيجة وبعدها ندرس هذه الأشياء، ولا شك أننا جميعا نشعر بأهمية هذه المسائل للعمل التجاري والصناعي وهذه الأمور المتقدمة، وحوادث السير جزء من هذه الأمر.
وأرجو الله التوفيق وأشكركم على إتاحة الفرصة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/844)
الدكتور عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
أشكر فضيلة الرئيس وأشكر للمشائخ والعلماء الذين كتبوا في هذا الموضوع، وأشكر للذين تدخلوا وعلقوا تعليقات جيدة، ومما لا شك فيه أن الذين تدخلوا قبلي أغنوني عن كثير من النقاط التي كنت أود أن أتناولها في هذا التعليق الموجز، لكنني أود أن أشير إلى أن وسائل المرور التي تكلم عنها الفقهاء تطورت وتنوعت وتشعبت، وقد أضيفت إليها الآن وسائل أخرى، فالنقل الجوي والمرور الجوي لم يتناولهما العلماء لأنهما غير معروفين في زمنهم، ومن الملاحظ أن الفقهاء الذين تناولوا البحث في هذا الموضوع ركزوا على جوانب معينة ولعل عامل الوقت لم يسعفهم للتنبه إلى جوانب أخرى من الأهمية بمكان، فالنقل ومشاكل المرور تتعلق به أشياء كثيرة تمس حياتنا كدول وكشركات وأفراد، فالنقل يعتمد عليه اقتصاديات الدول والتعامل التجاري والاقتصادي، والتعامل الصناعي يعتمد اعتمادا كليا على النقل.
ومما لا شك فيه أن دولنا الإسلامية التي كلفتنا بالنظر في هذه المسائل الشرعية للخروج بحلول من الممكن استعمالها، هذه الدول التي كونت المجمع والتي نمثلها والدليل على ذلك أن كل واحد منا يجلس أمام علم من الأعلام، وهذه الأعلام تشير إلى الدول، فهذه التكلفة تشمل أشياء كثيرة، وأن هذه الدول قننت ووضعت أنظمة للمرور، هي قوانين ينبغي أن نستأنس بها وأن نستنير بها في كل فتوى نصدرها من هنا، وقد سبقني في هذا مشائخ، الشيخ خليل أشار إلى هذا، والشيخ الخياط أشار إليه كذلك وغيرهما من المتكلمين، ولكنني أريد أن أضيف إضافات بسيطة هذا مما تفضلوا بها، فقوانين المرور في الوقت الحاضر هي قوانين دولية معروفة لدى الجميع، تقنن وتحمل المسؤولية على ثلاث جهات مختلفة، هناك الشيخ السلامي جزاه الله خيرا أشار إلى مسؤولية الدولة، فالطريق لها اعتبارات في تحميل المسؤولية، والمركب له اعتبارات والسائق عليه المسؤولية، ولذلك نرى أن الدول في قوانينها المرورية سواء المرور البحري أو الجوي أو البري تؤهل السائق؛ لأن هذا السائق يخضع لاختبارات متعددة وشائكة لكي يضمن أنه يستحق المؤهل لكي يسوق، وأما المركب فينبغي أن يكون في حالة جيدة، وأن الطريق ينبغي أن يكون في حالة جيدة.(8/845)
ويقولون: ما من حادث حدث إلا ووراءه خطأ، فينبغي أن يكون هناك من يتحمل مسؤولية هذا الخطأ، إذا كان السائق لا يجيد السياقة فهو مخطئ أو إذا كانت حالته غير جيدة أو سكران أو غير ذلك، وأن المركب ينبغي أن يصان ويؤكد أنه صالح للسير، وأن الطريق الذي يسلكه صالح أيضا. ومن هنا ينبغي، قبل إصدار أي فتوى أن نكون على بينة من القوانين التي تطبقها دولنا فيما يخص هذه المسألة، لأنه من الواضح البين أننا كلفنا بالبحث عن مشاكل شكلية نستطيع أن نقدم فيها حلولا لدولنا، وكيف نستطيع أن نقدم فتوى إلى دولة من الدول الإسلامية إذا لم نكن ملمين ومستنيرين بقوانين المرور التي تستعمل في هذه الدول؟
ولذلك وددت أن أضيف هذه الإضافات البسيطة إلى ما تفضل به العلماء الذين سبقوني في التعليق على هذا الموضوع الهام، والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
توضيحات قليلة؛ لأن الإخوة شكر الله لهم وجزاهم خيرا، أفادوا في هذا الموضوع، بالنسبة للذين رفضوا تحمل النقابات وأجازوا التأمين، أقول هنا بأن تحمل النقابات هو نوع من التأمين التعاوني، النقابة عندما تتحمل هي تأخذ أصولا من أعضاء النقابة، هذا نوع من التأمين التعاوني فهو أولى، أما التأمين التجاري فقرار المجمع فيه واضح ولا يجوز أن نلجأ إليه إلا عند الضرورة. يعني الإنسان إذا كان غنيا قادرا على أن يتحمل الدية لا يلجأ إلى التأمين، إنما إذا كان - كما تفضل الشيخ عبد القادر العماري – لا يستطيع أن يتحمل الدية ومن هنا يباح له في هذه الحالة أن يؤمن تأمينا تجاريًّا.
بالنسبة للنقابات والوزارات والهيئات، أنا أعتقد أن المجمع عندما يصدر قرارا أو توصيات يجب أن يدعو هؤلاء إلى أن يجعلوا من ضمن أهداف التأمين عندهم حوادث المرور.(8/846)
بالنسبة للكفارة: أعتقد أن عتق الرقبة فيه معنى الإحياء مقابل الموت وليست المسألة مادية بحتة، فتحرير الرقبة هنا فيه معنى الإحياء، ولذلك وجدنا أن فك الرقبة والإطعام والصيام والمال المنصوص عليه، إذن المسألة ليست مسألة مال فقط، وأرجو أن يوضع في قرارنا الحالات التي يكون فيها السائق غير مسؤول؛ لأن هذا يكاد يقطع الآن المعروف بين الناس، واحد يسير بسيارته يخشى أن يركب معه أحد حتى لا تحدث حادثة فيصبح مسؤولا، لذلك أرجو أن نوضح هذا جيدا، ويكون واضحا بارزا.
وفي المقابل كذلك نوضح الحالات الأخرى، وجدنا من يتسابق في الشوارع العامة، يتسابقون بسيارات في الشوارع العامة، هؤلاء هل يعتبر قتلهم قتل خطأ أم يعتبر عمدا أو شبه عمد؟ هي نقطة أرجو أيضا أن توضح.
بالنسبة كذلك للبهائم، وهذه حوادثها كثيرة في بعض البلاد، أرجو أن يكون القرار واضحا بالنسبة لمسؤولية صاحب هذه البهائم، متى كان مستطيعا أن يمنعها من أن تتسبب في الحوادث.
بالنسبة للمتسبب والمباشر، أرجو أيضا أن يكون واضحا؛ لأن أحيانا كثيرة يكون المباشر غير مسؤول ويكون المتسبب هو المسؤول.
تصادم السفن والفارسين، بعض الإخوة أشاروا إليه في أبحاثهم – جزاهم الله خيرا – ووضحوه توضيحات طيبة. ونشكرهم ونكتفي بهذا، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.(8/847)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على نبينا محمد، وبعد:
أقدر لإخوتي الأعزاء الباحثين: الدكتور عبد القادر العماري، والشيخ تقي العثماني، والدكتور عبد الله محمد، والأستاذ محمود شمام، ومحمد عطا؛ أقدر لهم هذه المجهودات الجيدة التي أثرت الموضوع ثراء علميا، نعتز باقتنائه والحصول عليه، فجزاهم الله خيرا.
في الواقع: محبكم أحد أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، والدكتور عبد القادر العماري أشار إلى ما صدر من الهيئة، وأحب أن أذكر حقيقة ما صدر من الهيئة أو حقيقة الأمر الذي جرى عند هيئة كبار العلماء.
في الواقع موضوع حوادث السير عرضت على الهيئة وأعد فيها بحث، هذا البحث تناول ما ذكره الفقهاء من تصادم السفن والخيول والإبل وغيرها من المراكب، وتأملوا في الموضوع وقارنوا بين هذه الصور التي ذكرها فقهاؤنا الأجلاء القدماء وبين حوادث السير الناتجة عن مخالفات وتجاوزات، فوجد أن هناك فارقا كبيرا بين الصور التي ذكرت في السابق وبين حوادث السير، ذلك أن حوادث السير في الواقع تحكمها أنظمة، هذه الأنظمة صدرت من جهات مختصة بالسير والمرور تعنى بنظام الطريق وتعنى بنظام منح رخصة السير، وتعنى بما يجب أن تكون عليه آلة السير من صلاحية كاملة لا تكون سببا من أسباب التفريط والتعدي والتقصير في تسليطها على هذه الطرق وبالتالي تسليطها على من يتأذي بسيرها والحال أنها غير مؤهلة لذلك؛ الهيئة بحثت الموضوع ولكنها رأت أن حوادث السير في الواقع ليست منضبطة حتى يصدر فيها قرار، وإنما هي محكومة بهذه الأنظمة، وكل قضية من قضايا حوادث السير لها في الواقع أحوالها الخاصة، فهذه القضية أحد المتسببين يتحمل نسبة كبيرة من حيث خطؤه وتقصيره، والآخر قد لا يتحمل نسبة صغيرة، فقد وكل الأمر إلى القضاة أنفسهم وإلى ما يقدم إليهم من قرارات فنية من الجهات المعنية بالمرور.(8/848)
هذا جانب، وجانب آخر بحثته هيئة كبار العلماء وهو ما يتعلق بتضمين أصحاب المواشي الذين يطلقون مواشيهم، فبحثوا الموضوع وانتهوا إلى القرار الذي تفضل بالإشارة إليه فضيلة الدكتور عبد القادر، وهو أن الدابة ضمانها هدر، ثم نظروا هل يمكن أن يضمن صاحب الدابة ما تلف من هذا الحادث فترددوا في إصدار قرار، ورأوا أن ذلك ينبغي أن يعود إلى القضاء نفسه، فالقضاء هو الذي يقدر المسؤولية، وبالفعل وجه هذا التوجيه إلى بعض القضاة الذين أثاروا الموضوع لدى هيئة كبار العلماء، وفي نفس الأمر صدرت قضايا من القضاة في المملكة بتضمين بعض ملاك المواشي، وجاءت هذه القضايا أو هذه الأحكام إلى محكمة التمييز وأيدت هذا.
والأمر كما تفضل به فضيلة الرئيس من أن الأمر بتضمين الملاك ليس على إطلاقه، ولكن ينبغي أن يلاحظ أن لديهم من التفريط وعدم الاهتمام بمواشيهم ما يجعلهم مسؤولين من حيث الجملة.
هذه ناحية، وناحية أخرى وهي ما يتعلق بالتردد في قبول العقوبة المالية، وبعض الإخوة المعلقين قالوا بهذا التردد، في الواقع إن العقوبة – كما هو معروف – تكون عقوبة جسدية من حيث الجلد أو الحبس وتكون عقوبة مالية، وللإمامين الكريمين رحمهما الله، شيخ الإسلام ابن تيمية وتليمذه ابن القيم مجال واسع في توضيح هذه المسألة وفي ذكر مجموعة كبيرة من الأمثلة التي تدل دلالة واضحة لا غبار عليها في أن العقوبة المالية معتبرة، فيمكن أن يصادر مال ويمكن أن يحرق مال، ويمكن أن يغرم المتسبب، وتكون هذه الغرامة لمن تضرر بهذا السبب، وفي الطرق الحكمية وفي الحسبة الشيء الكثير مما ذكرت.(8/849)
نقطة سمعتها كذلك من الإخوة – جزاهم الله خيرا – وهي: إثارة بدل الرقبة، الرقبة الآن في الكفارة غير موجودة أو متعسرة، يتعسر الحصول عليها، وقال بعض الإخوة: يمكن أن نأخذ بالبدل المالي، ولكن لو نظرنا إلى ما ذكره علماؤنا الأفاضل حدثا وسلفا، لا نجد أحدا فيما أعلم قال بهذا القول، وهذا يذكرنا بفتوى صدرت وصارت مجال تندر، وقد صدرت من أحد الفقهاء في الأندلس حينما كان من الوالي جماع زوجته في نهار رمضان، فأفتاه بأن عليه أن يصوم ولا يعتق رقبة، ولفتواه شيء من النظر، لكنها مخالفة للإجماع فهي مردودة، وقال في فتواه: إن لديه الاستعداد أن يعتق مئات من الأرقاء في سبيل إشباع شهوته وانتهاك حرمة رمضان، فرأى أن يعاقب بالصوم، ولكن هذه النظرة بالرغم من أن لها من حيث ما يبررها، أو لها ما يجعلها مقبولة من حيث العاطفة لا من حيث الدلالة الشرعية، فهو يقول: يمكن أن يعتق مئات الأرقاء ويتمتع بشهوته، ولكنه لا يستطيع أن يصوم شهرين أو يصوم لكل واقعة شهرين، فأفتاه بالصيام دون الإعتاق، ولا يخفى أن الكفارة مبنية على الترتيب: عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فكانت هذه الفتوى مجال تندر، والحاصل أنه لا ينبغي لنا أن نأتي بشيء لم يقل به أحد من أهل العلم، فقد كفينا، لكن حينما نختار بعض آراء لعلمائنا الأفاضل ونقول: إن المقتضى يقتضي الأخذ بها، هذا يمكن أن يكون، أما أن نأخذ بشيء لم يقل به أحد، وهو مخالف للنص، فهذا لا يجوز أن نأخذ به، وإن كنا نستحسنه من حيث العاطفة ومن حيث انشراح الخاطر له، وعلى كل حال، نحن بشر، والله تعالى حكيم حميد، وقد مَنَّ علينا بهذا التشريع المبارك، وهو أعلم بنا وبما يصلح أحوالنا.
فهذا ما أحببت أن يشار إليه، وشكرا يا فضيلة الرئيس وأيها الإخوة الأعزاء.(8/850)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من هذه المداولات التي تمت في حوادث السير تناولت الجوانب الآتية:
الجانب الأول: ترتيب المسؤولية في حوادث السير، والاتجاه الآن إلى نسبة التسبب.
والملحظ الثاني في العاقلة، والثالث في الكفارة، والرابع في التعازير المالية، والخامس في تغريم صاحب الدابة.
وعلى الرغم من أن البحوث لم تتناول هذه المسائل الخمسة بأكملها، وإنما تناولت عددا منها، إلا أن المناقشة تجاوزت إلى هذه المسائل وإلى مسائل فرعية أخرى، إضافة إلى أن التوجه العام الذي تفيده المداولة في هذه المسائل هو أنها أو عددا منها بحاجة إلى مزيد من البحث واستقطاب النظر وإحضار الدارسات المتخصصة في هذا الموضوع، وبجانب ذلك يوجد بعض المسائل يمكن أن يوضع فيها التقعيدات الفرعية الشرعية التي اتضحت من خلال المداولات وأن يبت فيها بالرأي، والمقرر والعارض على بصيرة بذلك.
ويمكن تأليف اللجنة لهذا من أصحاب الفضيلة: الشيخ عبد الله البسام، والشيخ تقي العثماني، والشيخ وهبة الزحيلي، والشيح علي التسخيري، والدكتور عبد الله محمد؛ بالإضافة إلى العارض والمقرر. مناسب، وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(8/851)
القرار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين
وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 75 / 2 / د8
بشأن
حوادث السير
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 – 27 يونيو 1993 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "حوادث السير".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
وبالنظر إلى تفاقم حوادث السير وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم، واقتضاء المصلحة سن الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات بما يحقق شروط الأمن كسلامة الأجهزة وقواعد نقل الملكية ورخص القيادة والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن والقدرة والرؤية والدراية بقواعد المرور والتقيد بها وتحديد السرعة المعقولة والحمولة.
قرر ما يلي:
1- أ- أن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجب شرعا، لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناء على دليل المصالح المرسلة، وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال.(8/852)
ب- مما تقتضيه المصلحة أيضا سن الأنظمة الزاجرة بأنواعها، ومنها التعزير المالي، لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور لردع من يعرض أمن الناس للخطر في الطرقات والأسواق من أصحاب المركبات ووسائل النقل الأخرى أخذا بأحكام الحسبة المقررة.
2- الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة السلامية، وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ، والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار سواء في البدن أو المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية:
أ- إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان.
ب- إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيرا قويا في إحداث النتيجة.(8/853)
ج- إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية.
3- ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها، والفصل في ذلك إلى القضاء.
4- إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر كان على كل أحد منهما تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال.
5- أ – مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل، فإن الأصل أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعديا، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعديا أو مفرطا.
ب- إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعديا والمباشر غير متعد.
ج- إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر، فعلى كل واحد من المتسببين المسؤولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر، وإذا استويا أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما على السواء.
والله أعلم(8/854)
التطبيقات الشرعية
لإقامة السوق الإسلامية
التطبيقات الشرعية
لإقامة السوق الإسلامية
إعداد
الدكتور علي محيي الدين القره داغي
جامعة قطر – كلية الشريعة(8/855)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين. وبعد:
فإذا كانت الشعوب المسلمة قد خطت خطوات جادة في سبيل عودتها إلى نظامها الإسلامي، ولا سيما في نطاق الاقتصاد من خلال إنشاء المصارف والشركات الإسلامية، حيث أدت دورا جيدا في جذب أموال المسلمين وتدفقها عليها واتساع آفاق التمويل؛ فإن الحاجة ملحة جدا لأن تخطو الدول الإسلامية خطوة جادة أخرى لإيجاد سوق ثانوية لتغطية رؤوس أموالها، لها أدواتها المشروعة وآلياتها الفعالة تكون بمثابة رئتها التي تتنفس فيها شهيقا وزفيرًا، وذلك لأن البنوك الإسلامية اليوم كأنها تسير على رجل واحدة تمثل في السوق الأولوية، أما رجلها الثانية المتمثلة في السوق الثانوية (البورصة) فلا تزال لم تكتمل على الرغم من أهميتها القصوى وحاجتنا الماسة إليها وذلك لأنها الوعاء المتكامل للفائض من سيولة البنوك الإسلامية وامتصاص حاجتها.
فالبنوك الإسلامية إذا لم تحقق لنفسها سوقا إسلامية ثانوية ستظل أسيرة النظام المالي العالمي المتحكم في تدوير أموال الشعب (1) .
لذلك سيكون من أولى الواجبات البحث عن هذه السوق المالية الإسلامية وعن مجموعة كبيرة من آلياتها المشروعة وأدواتها المباحة شرعًا.
__________
(1) د. سامي حسن حمود: بحثه عن تطبيقات بيوع المرابحة المقدم إلى ندوة مؤسسة آل البيت عن خطة الاستثمار، عمان 22 شوال – 25 شوال 1407 هـ ص 18(8/856)
إضافة إلى أن عالمنا الإسلامي قد حباه الله تعالى بوفرة موارده وثرواته ومعادنه ومواده الخام وكثرة السيولة النقدية حتى أن الاستثمارات العربية الخليجية في الغرب تقدر بأكثر من سبعمائة مليار دولار، ومن هنا فإعادة توطين هذه الأموال المهاجرة إلى خارج البلاد تتطلب تعاون الدول الإسلامية لإيجاد سوق إسلامية لرأس المال الإسلامي وتسييله وتدويره لخدمة الأهداف التنموية وتحقيق التكافل والتوازن والتكامل، وفي حالة عدم قيام الدول الإسلامية بهذا الواجب فإن على البنوك الإسلامية والمجامع والهيئات الفقهية أن تبذل كل جهودها للوصول إلى هذا الهدف ولا تألو بأي جهد فكري أو مالي لتحقيق هذا الغرض الملح.
وللإحساس بهذه الأهمية قام مجمع الفقه الإسلامي الموقر بعقد عدة ندوات في المغرب وفي البحرين لبحث الأسواق المالية الإسلامية ضمت عددا كبيرا من الخبراء والباحثين والمتخصصين في مجال الاقتصاد والفقه الإسلامي، بل ناقش المجمع في دورته السابقة مجموعة من البحوث حولها ووصل فيها إلى عدة حلول مرجئا بقية موضوعاتها إلى دورته الثامنة المقبلة إن شاء الله، وكذلك عقدت ندوات فرعية من قبل بعض البنوك حول السوق المالية وأدواتها الشرعية.
وتأتي عناية مجمع الفقه الإسلامي الموقر بالأسواق المالية من خلال تخصيص كل هذه الجهود العلمية السابقة لدراستها دراسة تحليلية دقيقة من قبل المتخصصين في الفقه الإسلامي والاقتصاد. للوصول إلى الهدف المنشود وهو إقامة السوق المالية التي خصص لها حلقة خاصة لبحثها وكيفية تحقيقها في دورته الحالية (الثامنة) .
ونحن بدورنا المتواضع نحاول جاهدين أن نعطي صورة لأدوات السوق الإسلامية التي يمكن تطبيقها، ولذلك سنخصص هذا البحث لأهم الأدوات والآليات للسوق وهي الأسهم والسندات، وكيفية الإفادة من العقود الخاصة، كالسلم والاستصناع والمرابحة، والمشاركة، والإجارة، والوعد ونحوها.(8/857)
تصور شامل
لسوق المال الإسلامية
إذا أردنا النجاح لسوق المال الإسلامية فلا بد أن يكون لدينا تصور شامل لها يستوعب جميع جوانبها وآلياتها، وعقودها، بحيث نقدم الحل الإسلامي والبديل العملي الإسلامي لها.
وأعتقد أن مجمع الفقه الموقر يسير في ندواته ودوراته لتحقيق هذا التكامل، وهذه الصورة المتكاملة.
ولذلك نعرض في هذا البحث آليات السوق وأدواتها من الأسهم والسندات، وبدائلهما الإسلامية من خلال عامل ما يحل من الاسهم، وما يمكن أن يكون بديلا عن السندات مثل صكوك المضاربة والمشاركة ونحوهما من العقود التي يمكن أن تصاغ منها الصكوك، ثم أتبعنا ذلك بمباحث هامة للاستفادة العملية من العقود؛ لأن سوق المال (البورصة) لا تقتصر الآن على التعامل بالأسهم، والسندات، وإنما تتعامل أيضا عن طريق مجموعة من العقود النمطية وغيرها، ومن هنا جاء بحثنا في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الأسهم.
المبحث الثاني: السندات وبدائلها.
المبحث الثالث: الإفادة العملية من العقود الشرعية في سوق المال الإسلامية.
والله نسأل أن يوفقنا لخدمة الإسلام ونظامه الاقتصادي وأن يعصمنا من الخطأ والزلل في القول والعقيدة والعمل.(8/858)
المبحث الأول
سوق الأسهم: أنواعها وحكم كل نوع منها
الأسهم هي جمع سهم، وهو لغة له عدة معان منها: النصيب، وجمعه: "السهمان" بضم السين، ومنها العود الذي يكون في طرفه نصل يرمى به عن القوس، وجمعه: السهام، ومنها: بمعنى القدح الذي يقارع به، أو يلعب به في الميسر، ويقال: أسهم بينهم أي أقرع، وساهمه أي باراه ولاعبه فغلبه، وساهمه أي قاسمه وأخذ سهما، أي نصيبا، جاء في المعجم الوسيط: "ومنه شركة المساهمة " (1) ، وفي القرآن الكريم: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] أي قارع بالسهام فكان من المغلوبين (2) . والاقتصاديون يطلقون السهم مرة على الصك، ومرة على النصيب، والمؤدى واحد، فباعتبار الأول قالوا: السهم هو صك يمثل جزءا من رأس مال الشركة، يزيد وينقص تبع رواجها.
وبالاعتبار الثاني: قالوا: السهم هو نصيب المساهم في شركة من شركات الأموال، أو جزء الذي على قيمته مجموع رأس مال الشركة المثبت في صك له قيمة اسمية، حيث تمثل الأسهم في مجموعها رأس مال الشركة، وتكون متساوية القيمة (3) .
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمعجم الوسيط مادة (سهم)
(2) النكت والعيون للماوردي، ط. أوقاف الكويت (3 / 426) ، ويراجع: أحكام القرآن لابن العربي، ط. دار المعرفة بيروت (4 / 1622)
(3) يراجع: د. علي حسن يونس: الشركات التجارية، ط. الاعتماد بالقاهرة ص (539) ود: شكري حبيب شكري، وميشيل ميكالا: شركات الأشخاص وشركات الأموال علما وعملا، ط. الإسكندرية ص (184) ، ود: صالح بن زابن المرزوقي البقمي، ط. جامعة أم القرى 1406 هـ ص (332) ، ود: أبو زيد رضوان: الشركات التجارية في القانون المصري المقارن، ط. دار الفكر العربي، القاهرة 1989، ص (526)(8/859)
وتتميز الأسهم بكونها متساوية القيمة، وأن السهم الواحد لا يتجزأ وأن كل نوع منها – عاديا أو ممتازا – يقوم من حيث المبدأ – على المساواة في الحقوق والالتزامات وأنه قابل للتداول، ولكن بعض القوانين – مثل النظام السعودي – استثنى الأسهم المملوكة للمؤسسين حيث لا يجوز تداولها قبل نشر الميزانية إلا بعد سنتين ماليتين كاملتين – كقاعدة عامة – وكذلك لا يجوز تداول أسهم الضمان التي يقدمها عضو مجلس الإدارة لضمان إدارته طوال مدة العضوية وحتى تنقضي المدة المحددة لسماع دعوى المسؤولية (1) .
__________
(1) د. صالح البقمي: المرجع السابق ص (337 – 338)(8/860)
حكم تقسيم رأس مال الشركة:
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن تقسيم رأس مال الشركة إلى حصص وأجزاء واشتراط الشروط السابقة لا يتنافى مع المبادئ العامة للشريعة الإسلامية، والقواعد العامة للشركة في الفقه الإسلامي، إذ ليس فيها ما يتنافى مع مقتضى عقد الشركة، بل فيها تنظيم وتيسير ورفع للحرج، الذي هو من سمة هذه الشريعة، وداخل ضمن الوفاء العام بالعقود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وتحت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم)) (1) وفي رواية: ((… المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما)) (2) . قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" (3) .
فهذه النصوص وغيرها تدل على أن كل مصالحة وكل شرط جائزان إلا ما دل الدليل على حرمته، وعلى أن الأصل فيهما هو الإباحة، والحظر يثبت بدليل خاص، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا المعنى هو الذي يشهد عليه الكتاب والسنة.." (4) .ويقول أيضا: "إن الأصل في الشروط الصحة واللزوم إلا ما دل الدليل على خلافه… فإن الكتاب والسنة قد دلا على الوفاء والعهود، وذم الغدر والنكث ….. والمقصود هنا: أن مقتضى الأصول أن الشرط يلزم إلا إذا خالف كتاب الله…" (5) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه – تعليقا بصيغة الجزم – كتاب الإجارة (4 / 451)
(2) سنن الترمذي – مع شرح تحفة الأحوذي – كتاب الأحكام (4 / 584) ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى 29 / 147) : "وهذه الأسانيد، وإن كان الواحد منها ضعيفا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا"
(3) مجموع الفتاوى – ط. الرياض (29 / 150) ويراجع لإثبات أن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة: مبدأ الرضا في العقود، ط. دار البشائر الإسلامية (2 / 1148)
(4) مجموع الفتاوى (29 /346، 351)
(5) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص (315) . ومجموع الفتاوى لابن تيمية (29 / 320 – 331)(8/861)
ولا يخفى أن هذه القواعد السابقة تجعل الفقه الإسلامي يقبل بكل عقد، أو تصرف، أو تنظيم مالي أو إداري ما دام لا يتعارض مع نصوص الكتاب والسنة، وقواعدها العامة، وأن الشريعة الغراء تجعل كل حكمة نافعة ضالة المؤمن دون النظر إلى مصدرها أو اسمها، وإنما الأساس معناها ومحتواها، ووسائلها وغاياتها، وما تحققه من مصالح ومنافع، أو مضار ومفاسد.
أنواع الأسهم:
للأسهم أنواع كثيرة وأسماء مختلفة متنوعة، لذلك لا يكون الحكم دقيقا حتى نعرض لكل نوع منها، ثم نبين حكمه مع التوجيه؛ لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره.
وهذه الأنواع باعتبارات مختلفة، قد يتداخل بعضها مع بعض، وقد يكون نوع واحد يعتريه عدة أحكام باعتبار حالاته المختلفة التي تحددها الشركة في نظامها الأساسي، لذلك نحاول أن نذكر كل ذلك بشيء من الإيجاز (1) .
__________
(1) يراجع: المراجع السابقة نفسها(8/862)
أ- أنواع الأسهم من حيث الحقوق: العادية والممتازة:
لا يخفى أن جميع الأسهم قيمتها متساوية، وهذا يقتضي تساويها في الحقوق والواجبات، وتكون مسؤولية المساهمين بحسب قيمة السهم، ولذلك فالأصل أن تكون الأسهم عادية لا ميزة لأحدها على الآخر، ولكن بعض القوانين تبيح إصدار أسهم ممتازة، وهذه الميزة قد تكون بمنح أصحابها الأولوية في الأرباح، أو في أموال الشركة عند التصفية، أو بغير ذلك.
فحكم الأسهم العادية الجواز من حيث المبدأ إلا إذا كان محلها حراما وحينئذ لا يجوز – كما سبق تفصيلها -.
وأما أسهم الامتياز فحكمها يختلف باختلاف نوعية الامتياز فيها:
1- فإذا كان امتيازها بضمان نسبة مثل 5 % من قيمة السهم، ثم يوزع باقي الأرباح على جميع الأسهم بالتساوي، أو استيفاء فائدة سنوية سواء ربحت الشركة أم لا.
فإن هذا النوع لا يجوز ألبتة في الشريعة الإسلامية، لأنه يتضمن الربا المحرم شرعا. ولأن هذا الشرط مخالف لمقتضى عقد الشركة في الشريعة الغراء، فمبنى الشركة على المخاطرة، والمشاركة الحقيقية في الغرم والغنم على قدر الحصص، وعلى ذلك إجماع الفقهاء (1) .
__________
(1) يراجع: المراجع السابقة نفسها(8/863)
2- وإذا كان امتياز السهم بإعطاء الأولوية في الأرباح، أي يعطى لصاحبه الربح، ثم إن بقي يعطى لأصحاب الأسهم العادية…. فهذا الامتياز أيضا مخالف لمقتضى عقد الشركة، فلا يجوز.
3- وإذا كان هذا الامتياز بأن يعطى لصاحب السهم حق استعادة قيمة الأسهم بكاملها عند تصفية الشركة، ثم تعطى البقية الباقية لأصحاب الأسهم العادية، حيث قد يخسرون وهو لا يخسر، فهذا أيضا كسابقه لا يجوز للسبب نفسه.
4- وأما إذا كان امتياز السهم يعود إلى إعطاء ضمان مالي لصاحبه دون غيره. فإن هذا الضمان مخالف لمقتضى عقد الشركة – كما سبق -.
5- أما إذا كان الامتياز في حدود الأصوات بأن يتنازل صاحبه عن صوته، بأن لا يكون له حق التصويت في الجمعية العمومية في مقابل أن يعطى له حق دفع قيمة أسهمه بالأقساط.
فلا أرى مانعا من ذلك، لأنه يعود إلى القضايا الإدارية التي يتحكم فيها الاتفاق، وليس فيه أي مخالفة لنصوص الشرع، ولا لمقتضى عقد الشركة، ولا يعود هذا الامتياز إلى الجوانب المالية، وإنما أعطي له نوع من التيسير في مقابل تنازله عن صوته، وكل ذلك قد تم برضا الطرفين، ولا يتعارض هذا الرضا من نصوص الشرع ولا مقتضى العقد، حيث يعود الأمر في ذلك إلى تنازل أحد الشركاء لأن يدير الشركة بعضهم دون الآخرين، وقد أجاز جماعة من الفقهاء استبداد أحد الشريكين بالعمل (1) .
وكذلك الأمر لو تم الاتفاق على أن يعطى لبعض الأسهم صوتان لكل سهم، فلا أرى أنه محرم شرعا – وإن كان فيه خوف من الاستغلال – وذلك لأن هذا الامتياز ليس في نطاق الحقوق المالية، وإنما يعود إلى الجوانب الإدارية والإشراف على العمل – كما سبق -.
ولكن يشترط أن يكون هذا الامتياز منصوصا عليه في قانون الاكتتاب، وبعيدا عن الاستغلال.
وكذلك يجوز أن يكون الامتياز بإعطاء حق الأولوية في الاكتتاب بأسهم جديدة لأصحاب الأسهم القدامى بناء على أن الشركة قد انعقدت بالإيجاب والقبول، فإذا أرادوا توسيع أعمال الشركة فلهم أن يقرروا ذلك، إضافة إلى حق الشفعة (2) .
__________
(1) يراجع: فتح العزيز بهامش المجموع (10 / 425 – 437)
(2) د. الخياط: المرجع السابق (2 / 224)(8/864)
ب- أنواع الأسهم من حيث ما يدفع (نقدا أم عينا) :
وبهذا الاعتبار تقسم إلى قسمين:
1- أسهم نقدية، وهي الأسهم التي تدفع قيمتها نقدا.
2- وأسهم عينية، وهي التي تدفع قيمتها من الأموال العينية.
وقد اتفق الفقهاء على جواز المشاركة بالنقود، يقول ابن رشد: "فاتفق المسلمون على أن الشركة تجوز في الصنف الواحد من العين، أعني الدنانير والدراهم، وإن كانت في الحقيقة بيعا لا تقع فيه مناجزة، ومن شرط البيع في الذهب وفي الدراهم المناجزة، لكن الإجماع خصص هذا المعنى في الشركة" (1) .
وأما المشاركة بالأعيان – أو كما يعبر عنه الفقه الإسلامي بالعروض أي غير النقود – فمحل خلاف بين الفقهاء على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: جواز الشركة بالعروض مطلقا – أي اتفقت جنسا أو اختلفت – حيث تنعقد الشركة بقيمتها يوم عقد الشركة، وهذا مذهب مالك (2) وإحدى الروايتين عن أحمد، اختارها أبو بكر الخلال، وأبو الخطاب، وابن تيمية، وبه قال ابن أبي ليلى، وبه قال في المضاربة طاوس والأوزاعي، وحماد بن أبي سليمان (3) .
وقد استدلوا بقياس العروض على النقود. حيث إنها عند تقويمها أصبحت بمثابة النقود، يقول ابن قدامة: "لأن مقصود الشركة جواز تصرفهما في المالين جميعا، وكون ربح المالين بينهما وهذا يحصل في العروض كحصوله في الأثمان". "ويرجع كل واحد منهما عند المفاصلة بقيمة ماله عند العقد، كما أننا جعلنا نصاب زكاتها قيمتها" (4) .
الرأي الثاني: صحة الشركة بالمثليات كالحبوب، والأدهان، ونحوها، وهذا الرأي الراجح عند الشافعية (5) ، وبه قال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة (6) ، وذلك لأن المثلي إذا اختلط بجنسه ارتفع معه التمييز فأشبه النقدين، ولذلك اشترطوا الخلط.
__________
(1) بداية المجتهد، ط. مصطفى الحلبي (2 / 252) ، وفتح العزيز بهامش المجموع (10 / 407) ، والمغني لابن قدامة (5 / 16)
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3 / 349)
(3) المغني لابن قدامة (5/ 17) ، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (30 / 91)
(4) المغني (5 / 17)
(5) فتح العزيز بهامش المجموع، (10/ 407 – 408)
(6) فتح القدير (5 / 16، 17) ، وحاشية ابن عابدين (3 / 340)(8/865)
وقالوا في الرد على من أجاز في العروض: "وليس المثلي كالمتقوم لأنه لا يمكن الخلط في المتقومات، وربما يتلف مال أحدهما ويبقى مال الآخر، فلا يمكن الاعتداد بتلفه عنهما، وفي المثليات يكون التالف بعد الخلط تالفا عنهما جميعا، ولأن قيمتهما ترتفع، وتنخفض، وربما تنقص قيمة مال أحدهما دون الآخر، وتزيد، فيؤدي إلى ذهاب الربح في رأس المال، أو دخول بعض رأس المال في الربح (1) .
الرأي الثالث: عدم صحة الشركة بالعروض مطلقا، سواء كانت من الطرفين، أو من طرف بحيث يعطى الآخر النقد، وهذا رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (2) ، وظاهر مذهب أحمد، وكره ذلك ابن سيرين، ويحيى بن كثير، والثوري (3) ؛ غير أن الحنفية وصلوا إلى ما وصل إليه الرأي الأول عن طريق حيلة، وهى أن يبيع كل واحد من الشريكين – مثلا – نصف عرضه بنصف عرض الآخر، ثم عقداها مفاوضة أو عنانا، قال الحصكفي: (وهذه حيلة لصحتها بالعروض، وهذا إن تساويا قيمة، وإن تفاوتا باع صاحب الأقل بقدر ما تثبت به الشركة" (4) .
__________
(1) (فتح العزيز 10 / 407)
(2) حاشية ابن عابدين (3 / 340)
(3) المغني لابن قدامة (5 / 17)
(4) در المختار مع حاشية ابن عابدين (3 / 340)(8/866)
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بما يأتي:
أولا: أن العروض يمتنع وقوع الشركة على أعيانها، أو قيمتها، أو أثمانها، أما امتناع وقوعها على أعيانها فلأن الشركة تقتضي الرجوع عند المفاصلة برأس المال أو بمثله، وهذه العروض لا مثل لها حتى يرجع إليه، وقد تزيد قيمة جنس أحدها دون الآخر فيستوعب بذلك جميع الربح، أو جميع المال، وقد تنقص قيمته فيؤدي إلى أن يشاركه الآخر في ثمن ملكه الذي ليس بربح.
وأما امتناع وقوعها على قيمتها فلأن القيمة غير متحققة القدر فيفضي إلى التنازع، وقد يقوم الشيء بأكثر من قيمته، ولأن القيمة قد تزيد في أحدهما قبل بيعه فشاركه الآخر في العين المملوكة له.
وأما امتناع وقوع الشركة على أثمان العروض فلأنها معدومة حال العقد، ولا يملكانها، ولأنه إن أراد ثمنها الذي اشتراها به فقد خرج عن مكانه وصار للبائع، وإن أراد ثمنها الذي يبيعها به فإنها تصير شركة معلقة على شرط وهو بيع الأعيان، وهذا لا يجوز (1) .
ثانيا: إن وقوع الشركة على العروض يؤدي إلى أن يشترك أحد الشريكين في حصة الآخر المالك للعرض إذا ظهر ربحه قبل التصرف فيه، بمقتضى عقد الشركة، مع أن الشريك غير المالك، كيف يستحق هذا الربح الذي هو زيادة فيما لا ملك له فيها ولا ضمان ولا تصرف (2) .
المناقشة والترجيح:
يمكن أن نناقش أدلة الرأي الثاني والثالث بأنها جميعا تنطلق من منطلق أصحابها في النظرة إلى الشركة في العروض باعتبار ذاتها، ومن منطلق عدم تحقق الضمان إلا بعد التصرف فيها، وكلتا النظرتين تدخل في منطق المصادرة، وإلزام الغير بمقتضيات ومسلمات لا تعتبر مسلمة عنده.
وذلك لأن القائليلن بصحة الشركة في العروض مطلقا يقولون بأن الشركة فيها لا تتم إلا بعد تقويمها، والاتفاق على القيمة، ثم تصبح القيمة هي محل الشركة، وإذا لم يتم الاتفاق على القيمة لم تنعقد، وعلى ضوء ذلك يتحقق الضمان بعد هذا التقويم، وما يحدث للعروض من زيادة أو نقصان يكون من نصيب الشركاء، وحينئذ تطبق عليهما قاعدتا الغرم بالغنم، والخراج بالضمان (3) .
__________
(1) المغني لابن قدامة (5 / 17)
(2) المبسوط (11 / 161)
(3) القاعدة الأخيرة حديث صحيح رواه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح، انظر: مسند أحمد (6/ 49، 208، 237) وسنن أبي داود - مع عون المعبود - (9/ 415، 417، 418) والترمذي - مع التحفة - (4/ 517) والنسائي (7/ 223) وابن ماجه (2/ 754) والتلخيص الحبير (3/ 23)(8/867)
وبذلك يتضح رجحان القول الأول، وقوة مسلكه ومناطه، ولا سيما أن المخالفين لم يجدوا لأنفسهم دليلا من الكتاب والسنة الثابتة يدعم اجتهادهم، وحينئذ تبقى المسألة في دائرة المصالح المرسلة وهي تتحقق بالقول الأول الذي يفتح باب الشركة على جميع الموجودات بضوابطها الشرعية – والله أعلم-.
جـ- أنواع الأسهم من حيث الاسم وعدمه:
تقسم الأسهم بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام:
1- أسهم أسمية، وهي التي يكتب عليها اسم صاحبها، وهذا هو المطلوب حفاظا على الحقوق، وضمانا لعدم خلط حق شخص بحق آخر، وهذا النوع تنتقل ملكيته بنقل قيده في سجل المساهمين الذي تحتفظ به الشركة (1) .
2- أسهم لحاملها، أي يصدر السهم دون ذكر الاسم، فيكون حامله هو صاحبه. وهذا النوع لا يجوز في الفقه الإسلامي بدون خلاف – نعلمه – بين الفقهاء المعاصرين (2) ، والسبب أن عدم كتابة اسم صاحب السهم يؤدي إلى عدم معرفة الشريك، وبالتالي إلى النزاع والخصومة، كما أنه يؤدي إلى إضاعة الحقوق؛ لأن أي شخص وقعت يده عليه، سواء كان عن طريق السرقة، أو الغصب، أو غير ذلك فإنه يعتبر صاحبه، وأحد الشركاء في الشركة بحكم القانون، ولا شك أن كل ما أفضى إلى النزاع والضرر ممنوع شرعا، إضافة إلى أنه قد يصبح فاقد الأهلية حامل السهم، مع أنه لا يصح اشتراكه بنفسه (3) ،وحتى من الناحية القانونية فإن القانون المصري، والسوري، والكويتي يمنع هذا النوع (4)
__________
(1) د. أبو زيد رضوان: الشركات التجارية في القانون المصري المقارن، ط. دار الفكر العربي ص (533)
(2) جميع المراجع السابقة.
(3) د. الخياط: المرجع السابق (2 / 221) والمراجع السابقة
(4) د. أبو زيد رضوان: المرجع السابق ص (534)(8/868)
3- أسهم للآمر، وهي الأسهم التي يكتب عليها اسم صاحبها، ولكن تضاف عبارة "لأمر أو لإذن" وحينئذ يكون تداولها عن طريق التظهير – أي يكتب على ظهر الصك تحويله إلى آخر مع التوقيع وحينئذ يصبح الثاني مباشرة صاحبه – دون الرجوع إلى الشركة.
وهذا النوع نادر الوقوع، وكذلك نادر في التشريعات حيث لم تتناوله أكثرها (1) .
ومن الناحية الفقهية فإن بعض الباحثين (2) لا يرى فيه أي مانع شرعي، وذلك لأن الشريك الأول معروف للشركة وقد أجازت له حق نقل سهمه عن طريق التظهير من خلال النظام والعقد التأسيسي للشركة (والمؤمنون عند شروطهم) ، ثم إن الشريك الأول يتخلى عن حقه بنقل مالية السهم إلى الثاني، وهذا النوع من انتقال الحصة إلى شريك آخر، وهو جائز شرعا، سواء أكان بعوض كالبيع ونحوه، أم بدونه كالهبة.
الأسهم قبل تكوين أصول الشركة:
الأسهم إذا كانت نقدية (أو دفعت قيمتها نقدا أو مقطعة) فلا يجوز تداولها بالبيع والشراء إلا بتطبيق قاعدة الصرف، (أي التقابض في المجلس مع التماثل عند اتحاد الجنس، والتقابض فقط عند اختلافه) .
أما إذا تكونت الشركة كلها، أو غالبها من العينيات فيجوز حينئذ التصرف في أسهمها مباشرة بعد تكوينها على ضوء قواعد البيع.
وبعد تكوين الشركة فإذا كانت نقودها تحولت كلها، أو غالبها إلى أصول، أو يتاجر بها في العروض والسلع فإن أسهمها يجوز تداولها وتملكها على ضوء الضوابط العامة للتصرفات في الفقه الإسلامي بناء على أن العبرة بالغالب والأصل، وليس بالقليل والتابع – كما سبق -.
__________
(1) المرجع السابق، ود. أكثم الخولي: دروس في القانون التجاري (2 / 160)
(2) د. الخياط: المرجع الساق (2 / 221)(8/869)
وأما إذا كانت الشركة أساسا تتعامل في النقود والصيرفة فقط، أو كان غالب أعمالها، فإنه لا بد حينئذ من ملاحظة ضوابط الصرف في الفقه الإسلامي عند تداول أسهمها، وتملكها.
وهذا التقسيم والحكم للشركات التي تتعامل في نطاق المباحات، ولا تزاول الأعمال المحرمة، كالخمر والربا ونحوها.
وكذلك لا مانع شرعا من بيع السهم قبل الوفاء بقيمته كاملة على ضوء القواعد السابقة من العلم بعدد الأسهم، ومقدار رأس مال الشركة، وقيمة السهم ونحو ذلك (1) .
د- أنواع الأسهم من حيث إرجاع قيمتها:
تنقسم بهذا الاعتبار إلى نوعين:
1- أسهم رأس المال: وهي التي تبقى قيمتها إلى حين التصفية النهائية، فهذه الأسهم حكمها من حيث المبدأ الجواز مع ملاحظة ما ذكرناه، وما سنذكره من حكم كل نوع، وهي الأصل والقاعدة في الشركات.
2- أسهم تمتع: وهي الأسهم التي ترد قيمتها تدريجيا، أو مرة واحدة قبل انقضاء الشركة، أو بعبارة الاقتصاديين: تستهلك قيمتها في حياة الشركة دون انتظار لانتهاء أجلها وتصفية موجوداتها، ويعتبر استهلاك السهم عملية استثنائية.
وهذا النوع في الغالب يكون في الشركات التي تكون محددة بفترة زمنية محددة ثم تفنى أصولها كشركات السفن، أو التي لا يتوقع أن تبقى عند انقضائها أصول توزع على المساهمين، مثل شركات الامتياز للبترول أو المعادن التي يعطى لها حق الامتياز لفترة محددة، والتزمت بأيلولة ما تملك إلى الحكومة مثلا، وحينئذ تعمل على تعويض المساهمين بإعادة القيمة الاسمية إليهم قبل انقضاء الشركة إضافة إلى الأرباح إن وجدت.
وهذه الأسهم لا تسمح بإنشائها كثير من القوانين الوضعية إلا إذا كان غرض الشركة يتعلق باستغلال موارد الثروة الطبيعية أو مرفق عام ممنوح لمدة محدودة، أو كانت أصولها مما يستهلك بالاستعمال، أو يزول بعد مدة معينة (2) ، وهذا النوع لصاحبه حق التصويت في الجمعية العمومية، والحصول على نصيب من الأرباح، بل وموجودات الشركة إن بقيت.
__________
(1) د. الخياط: المرجع السابق (2 / 221)
(2) د. أبو زيد رضوان: المرجع السابق ص (538) ود. أكثم الخولي: المرجع السابق (2 / 160) . ود: الخياط (2 / 224) ود: محمد القري ص (15)(8/870)
وقد اختلف القانونيون في تكييف هذا الاستهلاك، فبعضهم يرى أنه عبارة عن توزيع الأرباح، وبعضهم يقول: إنه رد لرأس المال الذي قدمه المساهمون، وثالث يقول: إنه يعتبر "وفاء معجلا" لنصيب المساهم في رأس مال الشركة (1) إلى غير ذلك مما لا يسع المجال لطرح أدلة كل فريق ومناقشته.
وهناك تفاصيل كثيرة لأسهم التمتع في قوانين الشركات، لذلك لا نخوض فيها، وإنما نبين الصور الشرعية – حسب نظرنا – لأسهم التمتع على ضوء التفصيل الآتي وهو:
1- إن أسهم الشركة إذا جعلت جلها على هذا الشكل (أي ما يسمى بأسهم التمتع) ونص النظام الأساسي لها على هذا التفصيل، ثم مع انقضاء كل سنة يوزع ما حصلته الشركة من النقود على جميع المساهمين بالتساوي حسب الحصص، فهذا جائز لا غبار عليه، وأن ذلك يكيف شرعا على أن ما يعطى يمثل جزءا من الأصول، والأرباح، أو بعبارة أخرى: غن ذلك كان بمثابة تصفية جزئية مستمرة في كل سنة إلى أن تنتهي، وتنتهي معها موجودات الشركة.
لكنه إذا بقي من أصول الشركة يوزع على هؤلاء المساهمين حسب حصصهم، إن كان نظامها ينص على ذلك، كما في شركات السفن ونحوها مما يبلى، أو تفنى، وأما إن كانت الشركة شركة امتياز يعود ملكية ما يتبقى من المكائن للحكومة التي منحتها الامتياز فلا مانع منها أيضا ما دام الشركاء قد أخذوا حقوقهم، ووافقوا في النظام الأساسي على إعطاء ما تبقى للحكومة بناء على أن ذلك كان وعدا بالتنازل ثم يتحقق التنازل الفعلي في الأخير، أو من باب الهبة للدولة.
والخلاصة أن المساواة بين حقوق جميع المساهمين مطلوبة لا يجوز لصاحب حق أن يأخذ أكثر من الآخر، وأن الفقه الإسلامي لا ينظر إلى الأسهم، وإنما إلى المسمى والمقصد، ولذلك يعتبر ما سبق جائزا شرعا، سواء أكان سمي بأسهم التمتع أم لا.
__________
(1) المراجع السابقة(8/871)
2- أما إذا كانت أسهم الشركة نوعين: أسهما عادية، يبقى أصحابها ملتزمين بالتزامات الشركة، وأسهم تمتع يستهلكها أصحابها، ويتخلصون من خسارتها، فهذا لا يجوز، لأنه مخالف لمقتضى عقد الشركة من المساواة بين الجميع، واحتمال المخاطرة للجميع، فلا يجوز أن ينجو مساهمون من تحمل الخسارة حين يأخذون قيمة أسهمهم، ويتحمل الباقون الخسارة كلها، فهذا ظلم وإجحاف وضرر لا يجوز شرعا (1) .
ويمكن أن يعوض عن هذه الفكرة بالمضاربة، وصكوك المضاربة لأجل محدد، أو أن تنشئ الشركة فرعا خاصا لهذا النوع من الشركات تكون جميع أسهمها أسهم تمتع.
أنواع القيم وحكمها:
هناك ثلاث قيم للأسهم:
1- القيمة الاسمية: وهي القيمة التي تحدد للسهم عند إنشاء الشركة، بمعنى أن مجموع القيم الاسمية تساوي رأس مال الشركة عند إنشائها.
فهذه في الواقع حصة الشريك في رأس مال الشركة، فالصك الذي سجلت عليه هذه القيمة بمثابة وثيقة لإثبات المشاركة بهذا القدر، فيجب أن يكون مطابقا للمبلغ الذي ساهم به الشريك حقيقة في رأس المال (2) .
وهذه المساواة مطلوبة شرعا حتى تتحقق العدالة في توزيع الأرباح والخسائر.
2- القيمة الحقيقية (الدفترية) : هي نصيب من صافي أصول الشركة بعد إعادة تقديرها وفقا للأسعار الجارية، وبعد إعادة تقدير الخصوم، لإظهار الالتزامات الحقيقية للشركة (3) .
فالقيمة الحقيقية للسهم هي المقدار الذي يساويه من موجودات الشركة بعد ملاحظة الأرباح والخصوم، فهي بمثابة المؤشر الحقيقي لأرباح الشركة أو خسارتها، وهذا هو المطلوب فقها لمعرفة أرباح الشركة أو خسارتها.
3- القيمة السوقية: وهي القيمة التي يباع بها السهم، وهي ترتبط بنجاح الشركة، أو فشلها، وبحسب رأس مالها الاحتياطي، والظروف، والأزمات المالية والسياسية، وبحسب الرغبة، والدعاية ونحوها (4) .
__________
(1) د. الخياط: المرجع السابق (2 / 226)
(2) المراجع السابقة، ود. الخياط، المرجع السابق (2 / 212) ؛ ود. محمد الحبيب الجراية: بحثه المقدم إلى مجمع الفقه في دورته السادسة ص (17) ؛ ود. صالح بن زابن: المرجع السابق ص (357)
(3) المراجع السابقة، ود. الخياط، المرجع السابق (2 / 212) ؛ ود. محمد الحبيب الجراية: بحثه المقدم إلى مجمع الفقه في دورته السادسة ص (17) ؛ ود. صالح بن زابن: المرجع السابق ص (357)
(4) المراجع السابقة، ود. الخياط، المرجع السابق (2 / 212) ؛ ود. محمد الحبيب الجراية: بحثه المقدم إلى مجمع الفقه في دورته السادسة ص (17) ؛ ود. صالح بن زابن: المرجع السابق ص (357)(8/872)
ومراعاة هذه القيمة، وتداول الأسهم على ضوئها لا تتعارض مع الشريعة الغراء، إذ للإنسان الحق في بيع ماله (المفرز والمشاع) حسب أسعار السوق، بل هو المطلوب.
الإصدار:
بالنظر إلى هذا المصطلح نجد أنه يطلق على معنيين: أحدهما إطلاقه على نسبة محدودة مثل 5 % مما يدفع للأسهم، تتطلبها الشركة عند تأسيسها لمصاريف الإصدار الإدارية والحكومية والدعائية ونحوها، حتى تبقى قيمة الأسهم صافية لرأس مال الشركة.
فهذه لا بأس بها، ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديرا مناسبا، ثم يودع ما يتبقى منها في احتياطي الشركة.
الثاني: إطلاقه على أسهم الإصدار، ولذلك أرى أن يسمى هذا: قيمة أسهم الإصدار.
فهذه الأسهم تصدرها الشركة لزيادة رأس مالها عندما تتوسع في المشاريع، فتحتاج إلى مصادر مالية طويلة الأجل لدعم توسعاتها، وحينئذ تصدر أسهما جديدة للاكتتاب فيها، قد تكون مساوية لقيمة الأسهم الاسمية، وقد تكون أعلى، أو أقل من ذلك.
والحكم الشرعي في هذه المسألة هو أن هذه القيمة لتلك الأسهم الجديدة إن كانت مساوية لقيمة الأسهم الحقيقية أو السوقية؛ فهذا لا مانع منه شرعا سواء كانت مساوية لقيمة الأسهم الاسمية، أو أعلى منها، أو أقل؛ لأن العبرة بالواقع، وبسعر السوق؛ لأن الشركة قد تخسر، وقد تربح – كما لا يخفى -.
أما إذا كانت هذه القيمة أقل من القيمة الحقيقية لأسهم الشركة، فهذا لا يجوز؛ لأن ذلك يضر بحقوق المساهمين حيث يؤدي إلى إنقاص قيمة أسهمهم، أو حرمانهم من حقهم في هذا المال، وكل ما يؤدي إلى ضرر بين، وحرمان من حقوق فعلية لا يجوز شرعا، تطبيقا للقاعدة الشرعية: ((لا ضرر ولا ضرار)) إلا إذا عوضوا عن حقوقهم تعويضا عادلا من خلال منح أسهم جديدة بقدر حقوقهم، أو دفع الفروق نقدا أو مقسطا، أو نحو ذلك.
أما إذا كانت أعلى من القيمة الحقيقية فحينئذ إذا كانت تعبر عن سعرها السوقي فهذا جائز ما دامت الشركة لم تستعمل أية وسيلة محرمة من الخداع والتغرير ونحوهما مما حرمه الإسلام.
هـ – أنواع الأسهم من حيث المنح وعدمه:
تقسم إلى قسمين:
1- أسهم يدفع صاحبها قيمتها.
2- وأسهم منح: وهي الأسهم التي تمنحها الشركة للمساهمين مجانا في حالة زيادة رأس مال الشركة على شكل ترحيل جزء من الأرباح المحتجزة، أو الاحتياطي إلى رأس المال الأصلي، ويتم توزيعها حسب قدر الأسهم.
وهذا لا غبار عليه شرعا ما دام المنح يتم بالتساوي حسب الأسهم؛ لأن ذلك مال المساهمين، فلهم الحق في الحصول عليه بأي طريق مشروع.(8/873)
حصص التأسيس:
وهي عبارة عن نصيب مقدر من أرباح الشركة على شكل صكوك قابلة للتداول تصدرها شركات المساهمة بغير قيمة اسمية، لأولئك الذين قدموا خدمات جليلة أثناء تأسيس الشركة، مثل براءة اختراع، أو تحصيل التزامات من شخص اعتباري عام.
هذه صكوك يعطى لأصحابها نصيب من أرباح الشركة، وتقبل التداول، وبذلك تتفق مع الأسهم، لكنها تختلف جوهريا من حيث إنها تصدر بدون قيمة اسمية على عكس الأسهم، ولا تمثل أي حصة من رأس المال، ولا تخول لأصحابها أي حق لإدارة الشركة، فضلا عن أنه يمكن إلغاؤها (1) .
يقول د. أبو زيد: "لقد ظهرت حصص التأسيس لأول مرة سنة 1858 م بمناسبة تأسيس شركة " قناة السويس البحرية " كوسيلة لشراء ذمم رجال السياسة … ونتيجة لطبيعة الأهداف التي تسعى إليها حصص التأسيس، وما أدت إليه من نتائج بالغة السوء وقفت الكثير من التشريعات منها موقف العداء، فحرمها المشروع الفرنسي في قانون الشركات الصادر سنة 1966 م … كذلك فعل المشروع السوري..، وتجاهلها القانون العراقي والكويتي (2) . وأقرها قانون الشركات بمصر الصادر لسنة 1981 م، في مادته 34، وكذلك نظام الشركات في السعودية في مواده 112، 113، 114، 115.
وقد ثار جدل قانوني حول تكييف حصص التأسيس، فيرى البعض أن صاحبها بمثابة الدائن، لا المساهم (3) ، ويرى آخرون إلى أنه في مركز خاص بحيث لا يعتبر دائنا، ولا شريكا (4) .
__________
(1) د. رضوان أبو زيد: المرجع السابق ص (559) والمراجع السابقة
(2) المرجع السابق ص (559 – 560) .
(3) د. كامل ملش: الشركات ص (268)
(4) د. علي يونس: الشركات ص (546)(8/874)
وحكم هذا النوع على ضوء قواعد الفقه الإسلامي غير جائز؛ لأن صاحب حصة التأسيس ليس شريكا حتى باتفاق القانونيين لأنه لم يقدم حصة نقدية ولا عينية، لا عملا مستمرا مع أن العمل لا يجوز الاشتراك به في شركات المساهمة، والشركات ذات المسؤولية المحددة، حتى عند القانونيين (1) .
وحصة التأسيس تكيف فقها على أن صاحبها قدم للشركة خدمة غير محددة ولا مبينة، ثم تمنحه الشركة عدة صكوك في مقابلها، وهي صكوك غريبة لا هي مثل الأسهم حيث ليس لصاحبها الحق في موجودات الشركة، وإنما في أرباحها، ولا هي مثل السندات، كما أن الشركة لها الحق في إلغائها وإن كان بتعويض.
ولذلك فلا يمكن تكييفها على البيع أي أن الشركة تبيع عدة صكوك في مقابل خدمات صاحبها لجهالة الثمن والمثمن معا، إذ الخدمة التي قدمها ليست محددة حتى يرد عليها عقد البيع، كما أن الصك أيضا غير محدد من حيث ما يأخذه صاحبه، لأنه مقيد بنسبة الربح الذي هو معدوم عند العقد، أو مجهول يظهر في المستقبل.
كذلك لا يمكن تكييفها على عقد الإجارة لأن مقدار الأجرة المتمثلة في الصك مجهول لا يعلم قدره، ولا على عقد الجعالة لنفس السبب السابق، ولا هبة؛ لأن طبيعتها أنها في مقابل عمل، والهبة بعوض يشترط فيها ما يشترط في البيع كمبدأ عام (2) .
إضافة إلى أن فتح هذا الباب سيؤدي إلى فتح أبواب المجاملات، والمحاباة على مصراعيها، وحتى معظم القانونيين قد هجموا عليها هجوما عنيفا، وكشفوا عن عوارها، وعيوبها، وأخطائها، وبينوا نتائجها السلبية جدا، فطالبوا بإلغائها (3) .
ويمكن أن تستبدل بهذه الفكرة فكرة المكافأة النقدية أو العينية لهؤلاء الذين قدموا خدمات فعلية، أو براءة اختراع، كما يمكن تحويل قيمة هذه المكافأة بعد تحديدها بأسهم عادية تتساوى معها في جميع الحقوق والالتزامات (4) .
ملحوظة:
لقد صدر قرار من مجمع الفقه الموقر (التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي) في دورته السابعة أوضح كثيرا من أحكام الأسهم، وأنواعه، فنحيل القارئ الكريم إليه.
__________
(1) المراجع السابقة نفسها
(2) د. صالح بن زابن، المرجع السابق ص (381) ، ود. الخياط (2 / 230)
(3) المصادر القانونية السابقة.
(4) المراجع الفقهية السابقة(8/875)
المبحث الثاني:
التعريف بالسندات وخصائصها
السندات لغة جمع السند وهو: بمعنى الاعتماد والركون إليه والاتكاء عليه، وما ارتفع من الأرض من قبل الوادي أو الجبل، والجمع أسناد، ولكن حينما أصبح السند علما لنوع معين من الأوراق المالية جاز جمعه على السندات (1) .
وأما السندات في عرف الاقتصاد الحديث فهي عبارة عن: وثيقة بقيمة محددة يتعهد مصدرها بدفع فائدة دورية في تاريخ محدد لحاملها (2) .
فهي في حقيقتها حصة إقراض للبنك أو الشركة أو الدولة مع التزام المصدر بنصيب من الفائدة (الربا) دون أن يكون العقد منصبا على الاستثمار ونتائجه من الربح أو الخسارة، وقد عبر كثير من القوانين عن أن السندات تمثل قروضا تعقدها أو تصدرها الشركة متساوية القيمة وقابلة للتداول وغير قابلة للتجزئة (3) .
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمعجم الوسيط، مادة (سند)
(2) يراجع د. سامي حسن حمود، بحثه في الأدوات المالية الإسلامية المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة ص (6) ، والدكتور صالح بن زابن البقميك شركة المساهمة في النظام السعودي، الجزء الأول، جامعة أم القرى ص (386) . والدكتور علي حسن يونس: الشركات التجارية، طبعة الاعتماد بمصر ص (558) . والدكتور أبو زيد رضوان: الشركات التجارية، طبعة دار القلم العربي ص (563)
(3) يراجع على سبيل المثال: نظام الشركات السعودية، المادة 116(8/876)
وكما تصدر الحكومة السندات كذلك تصدرها بعض المؤسسات والشركات الخاصة في كثير من الدول.
والتكييف المتفق عليه عند الاقتصاديين للسندات هو أنها وثيقة بدين، ولذلك يعامل مالكها كمقرض وليس كمالك وتسري عليه القوانين المنظمة للعلاقة بين الدائن والمدين.
والسندات تشترك مع الأسهم في تساوي الاسمية لكل فئة وقابليتها للتداول حسب كونها اسمية وللآمر أو لحاملها وفي عدم قابليتها للتجزؤ، غير أن السندات تتميز عن غيرها بالخصائص الآتية:
1- إن السند يعتبر شهادة دين على الشركة وليس جزءا من رأس المال كما هو الحال في الأسهم.
2- حصول صاحبه على الفائدة الدورية المقررة له دون النظر إلى أن الشركة ربحت أم خسرت أم كانت الأرباح كثيرة.
3- عدم مشاركة صاحبه في إدارة الشركة.
4- تحديده بوقت محدد على عكس الأسهم وبالتالي يحصل صاحبه على قيمة سنده وفوائده في التاريخ الذي حدد له دون النظر إلى تصفية الشركة، ومدده مختلفة أقصرها تسعون يوما وبعضها يمتد إلى مائة عام على أن بعض السندات تستمر لحين قيام المصدر باستدعائها أو شرائها من السوق:
5- يحصل حامله على ضمان خاص على بعض موجودات الشركة وقد يكون الضمان عاما على أموالها، ولذلك يحصل على حقه في حالات التصفية قبل أن يحصل حامل السهم على أي شيء (1) .
__________
(1) المراجع القانونية السابقة: ويراجع الدكتور محمد القري، بحثه السابق(8/877)
أنواع السندات
للسندات أنواع كثيرة (1) ، ولا تزال الأفكار الاقتصادية تبتكر الكثير، ونحن نذكر أهمها مع حكمها:
أنواعها من حيث مصدرها وهي:
1- سندات الدولة حيث تصدرها لتمويل الإنفاق العام.
2- سندات الهيئة الدولية – كالبنك الدولي للإنشاء والتعمير – حيث تصدرها لتمويل مشاريعها.
3- سندات المؤسسات الحكومية المحلية التي تصدرها لتمويل إنفاقها ومشاريعها.
4- سندات الشركات التجارية والصناعية والخدمات التي تصدرها بضمان بعض أموالها أو جميعها لتمويل مشاريعها.
ولا يخفى أن جميع هذه الأنواع تصدر بفائدة دورية على رأس المال، ولذلك فهي محرم إصدارها وتداولها، ولصاحبها إن عاد إلى رشده رأس ماله {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] .
__________
(1) الدكتور أبو زيد رضوان: المرجع السابق ص (565 – 566) . والدكتور صالح بن زابن: المرجع السابق ص رقم (391) . وبقية المراجع السابقة(8/878)
أنواع السندات باعتبار فوائدها:
1- سندات مستحقة الوفاء بعلاوة إصدار، حيث تصدر الشركة سند الإصدار بمبلغ تسعين ريالا – مثلا – ولكنها تحسبه بمائة ريال إضافة إلى فوائد منخفضة نسبيا عن غيرها.
2- سندات النصيب: وهي السندات التى تخول لصاحبها الحصول على فوائد سنوية ثابتة، إضافة إلى اليانصيب المخصص لها، والذي يمكن أن يكون من نصيب السندات التي يحالفها الحظ حسب القرعة.
3- سندات عادية ذات الاستحقاق الثابت التي ليس لها سوى قيمة واحدة وتعطى عليها فوائد ثابتة فضلا عن قيمة السند عند نهاية مدة القرض.
4- سندات مضمونة، وهي مثل النوع السابق لكنها مضمونة بضمان شخصي أو عيني، والسندات وإن كان جميع أنواعها مضمونة بأصل الشركة لكن هذا النوع يتميز بضمان شخصي أو عيني أيضا.
5- السندات القابلة للتحول إلى الأسهم التي تعطى للمساهمين بقرار من الجمعية العامة غير العادية، وتعطي هذه السندات لحاملها الحق في طلب تحويلها إلى أسهم حسب القواعد المقررة لزيادة رأس المال. وهذا النوع قد أقره القانون المصري للشركات (م 51 / 1) لسنة 1981 م. والقانون الفرنسي والألماني بينما لم تقره كثير من التشريعات (1) .
6- سندات الاستثمار أو شهادات الاستثمار: هذه السندات يصدرها البنك الاهلى المصري لتكون حجة لمن حررت له على أنه أودع لديه مبلغا من ماله مبينا بها شروط الاسترجاع والفوائد التي تعطى له أو الجوائز وهي ثلاثة أنواع وفئات (2) .
__________
(1) الدكتور أبو زيد رضوان: المرجع السابق ص (565 – 566) . والدكتور صالح بن زابن: المرجع السابق ص رقم (391) . وبقية المراجع السابقة
(2) يراجع في تفصيل ذلك الشيخ علي الخفيف: حكم شهادات الاستثمار، بحث مقدم للمؤتمر السابع لمجمع البحوث الإسلامية ص (4) إلى (6) . والدكتور علي السالوس: المعاملات المالية المعاصرة، طبعة مكتبة الفلاح، الكويت، ص (67) والدكتور حسن عبد الله الأمين: الودائع المصرفية النقدية، طبعة دار الشروق بجدة، ص (290) . والموسوعة العلمية والعملية، البنوك الإسلامية (ص 166)(8/879)
1- فئة (أ) وهي التي تعرف بالشهادات ذات القيمة المتزايدة، حيث يبقى المبلغ عشر سنوات لدى البنك ثم يسترده صاحبه مع فوائده التي تراكمت خلال السنوات العشر، تبدأ قيمتها من (5) جنيهات مصرية إلى (500) جنيه مصري وبفائدة 5 % أو أكثر. وهذا النوع وإن كان قد سمي بالاستثمار لكنه في الواقع قرض مضمون مع فوائده المحددة، وحينئذ يدخل في الربا كما أقرت ذلك المجامع الفقهية الثلاثة (مجمع البحوث – ومجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي – وكذلك مجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي) .
2- فئة (ب) وهي الشهادات ذات العائد الجاري حيث يمكن سحب فوائدها كل ستة أشهر وتبدأ هذه الفئة بعشرة جنيهات مصرية إلى خمسة آلاف جنيه ومدة استغلالها عشر سنوات بفائدة 5 %. وحكم هذه الفئة كسابقتها حيث إنها في حقيقتها ربا واضح وإن سميت بالاستثمار فالعبرة بالحقائق والمعاني والمقاصد لا بالألفاظ والمباني.
3- فئة (ج) وهي الشهادات ذات الجوائز التي لا تعطي ربحا محددا كل سنة، ولكنها خصصت جوائز نقدية لأصحابها حسب القرعة. وهذه الفئة تدخل في القرض المشروط بمنفعة محددة تكيف على أن ما يرد هو القرض وما يخصص للجوائز هي جزء من الفوائد المخصصة لرأس المال في مقابل إبقائه فترة زمنية محددة (1) .
__________
(1) المراجع السابقة(8/880)
7- شهادات ادخار العملة المركبة (سلة العملات) : يقوم بنك مصر بإصدار شهادات سماها شهادات ادخار العملة المركبة (سلة العملات التي تتكون من دولار أمريكي وجنيه استرليني ومارك ألماني وفرنك سويسري) .
يضمن البنك باسترداد قيمة الشهادة في تاريخ الاستحقاق بالعملات المكونة للشهادة أو بنفس العملة التي يتم الاشتراك بها مع فوائدها.
ونص نظامه على ما يأتي:
1- الشهادة اسمية وتصدر لأجلين ثلاثة شهور أو ستة شهور.
2- الحد الأدني للاشتراك 500 وحدة قيمتها 1300 دولار أمريكي أو ما يعادلها من العملات المكونة للشهادة.
3- يمكن زيادة الاشتراك بمضاعفات مائة وحدة وبدون حد أقصى.
4- يمكن الاشتراك بأي عملة أجنبية يقبلها البنك ويتم استبدالها لحساب العميل بالدولار أو بإحدى عملات الوحدة المركبة.
5- العائد معوم ومرتبط بأسعار يوم الشراء ويسري على العملات الأربعة المكونة للشهادة.
6- يعلن البنك دوريا عن معدل العائد للشهادات ثلاثة شهور أو ستة شهور كل على حدة. والربا في هذا النوع واضح حيث هو مرتبط بالربا العالمي دون النظر إلى قواعد المضاربة أو المشاركة الشرعية (1) .
__________
(1) هذه المعلومات نشرت هكذا في الصحف المصرية وهي ضمن النظام أو القرار الذي صدر من خلاله هذا النوع من السندات(8/881)
__________(8/882)
8- شهادات الادخار الدولارية: وهذا النوع مثل النوع السابق لكنه خاص بالدولار وينص نظامه بوضوح على الربا حيث نص على أنه "يعلن البنك دوريا عن معدل العائد حتى يتمشى مع آخر تطورات المعدلات العالمية". وجاء في نشرة لاحقة بأن هذه الشهادة تضمن لك أعلى سعر فائدة في سوق المال المصرية وهي 16 % صافيا سنويا.(8/883)
9-شهادات التوفير ذات الجوائز: هذا النوع من السندات يتضمن الفائدة المخصصة للتوفير إضافة إلى جوائز تسحب لأصحابها من حين لآخر، فهي بذلك تجمع بين الربا والقمار وهذه صورة من هذا النوع:(8/884)
10-سندات الدخل حيث يكون لها فوائد ثابتة إضافة إلى نسبة محددة من أرباح الشركة بينما غيرها تكون فائدتها دورية دون مشاركتها في أرباح الشركة.
أنواع السندات من حيث التملك:
حيث توجد سندات اسمية وسندات لحاملها.
أنواع السندات من حيث الرد:
لها ثلاثة أنواع:
1- سداد نقدي في موعد الاستحقاق وحينئذ قد تكون القيمة التي تسترد هي نفس ما دفع وقد تكون أعلى فترد بعلامة الإصدار.
2- ردها عن طريق تحويلها إلى أسهم كما سبق.
3- ردها عن طريق الإحلال حيث تقوم الشركة عند تاريخ استحقاقها بإحلالها بسندات أخرى جديدة وبمزايا حسب نظام الشركة (1) .
أنواع أخرى جديدة في كل يوم:
لا تزال المؤسسات الاقتصادية ودور المال تفكر في المزيد من أنواع السندات وغيرها وتتفنن في كيفية جلب أصحاب الأموال وشدهم وجذبهم إلى إيداع مدخراتهم في تلك المؤسسات بأية وسيلة مجدية في نظرها.
وتكاد أبصارنا تقع كل يوم على نوع جديد وابتكار جديد في الأوراق المالية وأدوات السوق وآلياتها وفي العمليات البنكية، ونحن هنا نذكر بعض أنواع السندات التي هي جديدة نوعا ما وهي:
1- سندات بفائدة ثابتة وشروط متغيرة حيث تعطي لصاحبها حرية أكثر من ناحية انتقال الملكية والاستفادة منها.
2- سندات مسترجعة حيث يعطى لحاملها الحق في استرجاع قيمتها الاسمية بعد فترة محددة مثل ست سنوات، ثم تقوم الشركة المصدرة بإعطاء شروط أحسن من السابق في حالة إبقاء قيمتها فترة أخرى.
__________
(1) الدكتور محمد الحبيب الجراية: بحثه السابق(8/885)
3- سندات ذات أصوات تعطي صاحبها حق التصويت في الجمعية العمومية للشركة.
4- سندات بفائدة عائمة تتغير كل سنة أو ستة أشهر على أساس سعر الفائدة الدولية مثلا أو أي أساس آخر إضافة إلى حق صاحبها من تحويلها إلى سندات ذات فائدة ثابتة حسب رغبته.
5- سندات مربوطة بالقوة الشرائية للنقود، أي يحدد النقد الذي دفع بسعره يوم الدفع حتى يتفادى صاحبها التضخم الذي قد يكون أكثر من نسبة الفائدة.
6- سندات بشهادة حق حيث تعطي صاحبها الحق في شراء أوراق مالية طيلة فترة محددة وبسعر محدد مسبقا (1) .
الحكم الشرعي لهذه السندات:
إذا كان هناك خلاف طفيف سابق حيث أباحها البعض، فإن هذه الإباحة في نظري تعود إلى عدم فهم طبيعة هذه السندات في وقتها واعتبارها مضاربة أو تكييفها على الضرورة (2) ، ولذلك لا داعي لمناقشة هؤلاء لأنه الآن قد ظهر بما لا يوجد أدنى شك أن السندات حتى في نظر القانونيين (3) تكيف على أنها قروض بفوائد كما رأينا في جميع أنواعها، وأن صاحبها دائن للحكومة أو الشركة يستحقها في وقتها إضافة إلى فوائدها دون النظر إلى خسارة الشركة وأرباحها وبذلك يظهر جليا بعدها - بعد المشرقين – عن المضاربة والمشاركة في الشريعة الإسلامية الغراء.
__________
(1) المراجع السابقة ود. محمد القري بحثه ص (21)
(2) يراجع الدكتور الخياط: المرجع السابق (2 / 150) حيث ذكر آراء هذا البعض وتوجيهاته
(3) د. أبو زيد رضوان: المرجع السابق ص (565) والمراجع القانونية السابقة(8/886)
وهذه الفوائد هي عين ربا النسيئة الذي لا خلاف في حرمته كما أنه لا توجد ضرورة في شراء هذه السندات أو تداولها بل إن بعض أنواعها عبارة عن الربا والقمار كما في سندات اليانصيب (1) .
هذا هو ما عليه واقع السندات اليوم بجميع أنواعها لكنها لو غير واقعها وأطلقت على عقد مشروع مثل سندات المقارضة فالعبرة بالمضمون والمدلول وإن كان الأفضل تسميتها بغير السند لأنه اشتهر في الأعراف الاقتصادية إطلاق السند على القروض بالفوائد التي هي محرمة، ولذلك فالأولى إطلاق لفظ الصكوك أو نحوها على أوراق مالية لو وجدت دفعا للالتباس والغموض والاشتباه.
وقد صدر قرار من المجمع الفقهي حول السندات، وهذا نصه:
قرار رقم (62 / 11 / 6) بشأن السندات
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 – 23 شعبان 140 هـ الموافق 14 – 20 مارس 1990 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات والنتائج المقدمة في ندورة (الأسواق المالية) المنعقدة في الرباط 20 – 24 ربيع الثاني الموافق 1410 هـ 20 – 24 أكتوبر 1989 م. بالتعاون بين هذا المجمع والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، وباستضافة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية.
__________
(1) د. الخياط المرجع السابق (2 / 228) ويراجع في خطورة الربا كتب التفاسير كالقرطبي والرازي وابن كثير في تفسير آيات سورة البقرة (275 وما بعدها) وكذلك كتب الصحاح والسنن في باب الربا(8/887)
وبعد الاطلاع على أن السند شهادة يلتزم المصدر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الاسمية عند الاستحقاق مع دفع فائدة متفق عليها منسوبة إلى القيمة الاسمية للسند أو ترتيب نفع مشروط سواء أكان جوائز توزع بالقرعة أم مبلغا مقطوعا أم خصمة.
قرر
1- إن السندات التي تمثل التزاما بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعا من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول لأنها قروض ربوية سواء كانت الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة، لا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكا استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحا أو ريعا أو عمولة أو عائدا.
2- تحرم أيضا السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضا يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها خصما لهذه السندات.
3- كما تحرم أيضا السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضا اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين أو لبعضهم لا على التعيين فضلا عن شبهة القمار.
4- من البدائل للسندات المحرمة – إصدارا أو شراء أو تداولا – السندات أو الصكوك القائمة على أساس المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين بحيث لا يكون لمالكيها فائدة أو نفع مقطوع وإنما تكون لهم نسبة من ربح هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك – ولا ينالون هذا الربح إلا إذا تحقق فعلا ويمكن الاستفادة في هذا من الصيغة التي تم اعتمادها بالقرار رقم: 5 للدورة الرابعة لهذا المجمع بشأن سندات المقارضة.(8/888)
البدائل الإسلامية:
بخصوص الأسهم فهي كما رأينا حلال وجائز تملكها وتداولها ما دامت تصدرها شركات لا تزاول نشاطا محرما ولا تتعامل في المحرمات وليس لبعض أسهمها ميزة مالية لا تمنح لجميعها كما سبق. ومن هنا فباب الأسهم مفتوح على مصراعيه بهذه الضوابط السابقة.
وأما السندات فهي كما رأينا صكوك تتضمن القرض وفوائده، ولذلك فهي محرمة لأنها تدخل في ربا النسيئة الذي حرمه الكتاب والسنة وأجمع على حرمته العلماء كما سبق.
والبديل عنها يكمن في إصدار صكوك المضاربة سواء كانت لفترة طويلة الأجل أو لمشروع معين أو صكوك المشاركة لمشروع معين وسواء أكانت هذه الصكوك ترد قيمتها في الأخير مرة واحدة أم بالتدريج.
وفي نظري أن الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين تقع عليهم مسؤولية كبيرة في إبداع مجموعة من البدائل الإسلامية المتطورة تتناسب مع حجم التطور الهائل لدى الاقتصاديين الغربيين؛ حيث توصلوا إلى استنباط أساليب عمل وطرق وآليات لتسهيل الأموال وتغطية الإصدارات الجديدة. كما أن على الحكومات وأصحاب الأموال توفير السوق الثانوية لتسهيل مهمة تبادل الأوراق المالية، فالمسؤولية مشتركة بين الجميع ولن تتحقق المهمة إلا إذا قام الجميع بمسؤوليته أمام الله ثم أمام الأمة (1) .
__________
(1) المراجع السابقة، والدكتور مصطفى النابلي: بحثه عن الأسواق المالية والتجربة التونسية ص (5)(8/889)
ولذلك فإن الاقتصار على الأسهم - مهما كان السبب - غير مجد ولا سيما في العالم يأتي فيه الفكر المالي كل يوم بجديد في نطاق السوق الأولية أو في الآليات والأساليب المالية، ولهذا السبب نحاول أن نذكر أنواعا من أوراق مالية مقبولة شرعًا وهي ما يأتي:
- سندات المقارضة أو صكوك المقارضة (1) وقد وضع المجمع الفقهي الموقر في دورته الرابعة ضوابط هذا النوع وشروطه وهذا هو نص قراره:
القرار رقم 5 بتاريخ 4 / 8 / 1988 بشأن
سندات المقارضة وسندات الاستثمار
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة سنة 1408 هـ. الموافق6 - 11 فبراير عام 1988 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة في موضوع " سندات المقارضة وسندات الاستثمار"، التي كانت حصيلة الندوة التي أقامها المجمع بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بتاريخ 6 - 9 محرم 1408 هـ للمجمع وشارك فيها عدد من أعضاء المجمع وخبرائه وباحثي المعهد وغيره من المراكز العلمية والاقتصادية وذلك للأهمية البالغة لهذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه للدور الفعال لهذه الصيغة في زيادة القدرات على تنمية الموارد العامة عن طريق اجتماع المال والعمل.
وبعد استعراض التوصيات العشر التي انتهت إليها الندوة ومناقشتها في ضوء الأبحاث المقدمة في الندوة وغيرها.
__________
(1) الأولى استعمال صكوك المضاربة دون سندات ... ؛ لأن الأخيرة ارتبط مفهومها في الأذهان بالقروض ذات الفوائد، كما سبق، لكن العبرة بالمسمى والواقع(8/890)
قرر ما يلي:
أولا: من حيث الصيغة المقبولة شرعا لصكوك المقارضة:
1- سندات المقارضة هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضابة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصا شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه. ويفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية: (صكوك المقارضة) .
2- الصورة المقبولة شرعا لسندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيها العناصر التالية:
العنصر الأول:
أن يمثل الصك ملكية شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته.
ويترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعا للمالك في ملكه من بيع وهبة ... ورهن وإرث وغيرها مع ملاحظة أن الصكوك تمثل رأس مال المضاربة.
العنصر الثاني:
يقوم العقد في صكوك المقارضة على أساس أن شروط التعاقد تحددها (نشرة الإصدار) وأن (الإيجاب) يعبر عنه (الاكتتاب) في هذه الصكوك وأن (القبول) تعبر عنه موافقة الجهة المصدرة.(8/891)
ولا بد أن تشتمل نشرة الإصدار على جميع البيانات المطلوبة شرعا في عقد القراض (المضاربة) من حيث بيان معلومية رأس المال وتوزيع الربح مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار على أن تتفق جميع الشروط مع الأحكام الشرعية.
العنصر الثالث:
أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك مأذونا فيه من المضارب عند نشوء السندات مع مراعاة الضوابط التالية:
أ - إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودًا فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه أحكام الصرف.
ب- إذا أصبح مال القراض ديونا تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول التعامل بالديون.
ج- إذا صار مال القراض موجودات مختلطة من النقود والديون والأعيان والمنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضى عليه على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا ومنافع، أما إذا كان الغالب نقودًا أو ديونا فتراعى في التداول الأحكام الشرعية التي ستبينها لائحة تفسيرية توضع وتعرض على المجمع في الدورة القادمة.(8/892)
العنصر الرابع:
إن من يتلق حصيلة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها وإقامة المشروع بها هو المضارب أي عامل المضاربة ولا يملك من المشروع إلا بمقدار ما قد يسهم به بشراء بعض الصكوك، فهو رب مال بما أسهم به بالإضافة إلى أن المضارب شريك في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة الإصدار وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس.
وأن يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية.
3- مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول:
يجوز تداول المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت بالضوابط الشرعية وذلك وفقا لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة العاقدين. كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك من ربح مال المضاربة بسعر معين، ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع كما يجوز الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة من مالها الخاص على النحو المشار إليه.
4- لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا بطل شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة المثل.
5- لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع ولو كان معلقا أو مضافا للمستقل وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدا بالبيع، وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء وبرضاء الطرفين.(8/893)
6- لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا الصكوك المصدرة على أساسها نصا يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح فإن وقع كان العقد باطلا. ويترتب على ذلك:
أ- عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك أو صاحب المشروع في نشرة الإصدار وصكوك المقارضة الصادرة بناء عليها.
ب- إن محل القسمة هو الربح بمعناه الشرعي وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة، ويعرف مقدار الربح إما بالتنضيض أو بالتقويم للمشروع بالنقد وما زاد عن رأس المال عند التنضيض أو التقويم فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة وفقا لشروط العقد.
ج- أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلنا وتحت تصرف حملة الصكوك.
7- يستحق الربح بالظهور ويملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلا بالقسمة وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيرادا أو غلة فإنه يجوز أن توزع غلته وما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) فإنه يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب.
8- ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة إما من حصة حملة الصكوك في الأرباح في حالة وجود تنضيض دوري وإما من حصصهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت حساب، ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال.
9- ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين. على أن يكون التزاما مستقلا عن عقد المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطا في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد.
- انتهى قرار المجمع -(8/894)
أ- صكوك المضاربة:
هذا وقد كانت وزارة الأوقاف الأردنية قد بدأت بإجراء دراسات اقتصادية وشرعية لإصدار سندات المقارضة وتوفقت في إصدار قانون سندات المقارضة من قبل الحكومة الأردنية عام 1981 م، ثم إن صكوك المضاربة يمكن أن تتفرع عنها عدة أنواع:
1- صكوك مضاربة طويلة الأجل (عشر سنوات، عشرين مثلا) غير مخصصة لمشروع معين، وإنما تخول مستثمرها (المضارب) حق الاستثمار المطلق (المضاربة المطلقة) ويبين في كل سنة (مثلا) الأرباح التي تحققت أو الخسارة التي لحقت فينال كل صك حصته من الأرباح أو الخسائر وفي حالة الأرباح يمكن صرفها أو إضافتها إلى عملية المرابحة فيعطي في مقابلها صك أو صكوك حسب قدرها وحسب الضوابط السابقة التي بينها المجمع الفقهي.
وحينئذ قد يكون مصدرها الحكومة أو شركة معينة أو بنكا إسلاميا فيكون المضارب وصاحب الصك هو (رب العمل) ، ويأخذ كل واحد منهما نسبته من الربح المتفق عليها.
2- صكوك المضاربة لمشروع معين (سواء أكان صناعيا أم زراعيا أم تجاريا..) وتكون محددة بمدة معينة حسب عمر المشروع.
وذلك بأن يقسم ما يحتاج إليه المشروع على صكوك متساوية محددة القيمة فيصدرها البنك - مثلا - ثم تطرح في الأسواق فيقوم البنك (المضارب) باستثمار قيمة هذه الصكوك في المشروع نفسه، ويمكن أن توزع الأرباح كل سنة حسب الميزانية ولا مانع من ترحيل جزء منها للاحتياطي الذي سوف يوزع على أصحاب الصكوك والبنك حسب النسب المتفق عليها وعلى ضوء الضوابط التي بينها المجمع الموقر حيث أجاز أن يقوم طرف ثالث بالوعد بالتربع - دون مقابل - بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين إلى آخر فقرة 9 من القرار السابق.
وهذه الصكوك تمتاز بعدة مميزات:
وجود نوع من الاطمئنان للمكتتب من خلال وعد الطرف الثالث بجب الخسران لو حدث، وعدم وجود ذلك أكبر عقبة في سبيل التشجيع على المضاربة.(8/895)
قابلية هذه الصكوك للتداول - كما أقر ذلك المجمع الموقر- ولا مانع شرعا من أن تكون هذه الصكوك (أو شهادات الاستثمار) محددة بمدة طويلة أو قصيرة حسب قدرة البنك (أو الشركة) فيمكنها أن تصدر صكوك المضاربة أو شهادات الاستثمار لمدة ثلاثة أشهر وحينئذ يمكن استثمارها في المرابحات والمعاملات قصيرة الأجل ويمكن أن يكون لمدد مختلفة.
ومن هنا يتنوع من هذا النوع أنواع مختلفة مما يعطي المصرف مرونة وسيولة جيدة وقدرة على النمو والازدهار.
3- صكوك المضاربة (أو شهادات الاستثمار) المستردة بالتدرج:
وذلك بأن ترد قيمة الصكوك مع أرباحها (إن وجدت) في مدة زمنية محددة فمثلا أن ترد نسبة معينة مثل (العشر أو الربع) بعد سنتين مثلا وهكذا.
4- صكوك المضاربة المستردة في آخر المشروع:
وذلك بأن يكون رد المبلغ مع ملاحظة الخسائر والأرباح إن وجدت في آخر المشروع. ويمكن أن توزع الأرباح ويبقى أصل المال لآخر المشروع.(8/896)
5- صكوك المضاربة (الاستثمار) المنتهية بتمليك المشروع:
ويمكن أن يكون رد قيمة صكوك المضاربة من خلال التعويض عنها بجزء من المشروع وذلك بأن تطرح فكرة مشروع معين كبناء عمارة ويصدر له مجموعة من الصكوك (أو شهادات الاستثمار) بحصص متساوية ويكون رد قيمتها في الآخر من خلال تمليك المشروع لأصحاب هذه الصكوك حسب حصصهم وشهاداتهم، ولا شك أن البنك المصدر يأخذ نسبته من الأرباح السنوية وهكذا.
6- صكوك المضاربة على شكل فئات متنوعة مثل 100 دولار أو أكثر أو أقل لمدة محددة لثلاث سنوات قابلة للتجديد ويصرف الربح إن وجد كل ستة أشهر مثلا.
ب- شهادات الاستثمار للبنك الإسلامي للتنمية:
حيث قام البنك بإصدار شهادات تمثل ملكية المستثمرين، وجاء وصف شهادات الاستثمار في محفظة البنوك الإسلامية التي يديرها البنك الإسلامي للتنمية بأنها "المستندات التي تمثل نصيبا في ملكية المحفظة، ويصدرها البنك الإسلامي للتنمية وتسجل في سجل الشهادات بأسماء مالكيها".(8/897)
وتخصص هذه المحفظة لتمويل تجارة الدول الإسلامية، وتكون موجوداتها تحت يد البنك بصفته مضاربا (1) .
ويوجد لهذه الشهادات نوعان:
النوع الأول:
شهادات الإصدار الأساسي:
وهي مجموع الشهادات التي تصدر عند تأسيس المحفظة وتقتصر ملكيتها على البنك الإسلامي للتنمية والبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية الأخرى.
النوع الثاني:
شهادات الإصدارات اللاحقة:
وهي مجموع الشهادات التي تصدر بعد تأسيس المحفظة وتطرح للاكتتاب العام. وهذه الشهادات تتمتع بإمكانية التسييل بإحدى الوسيلتين:
1- البيع إلى مؤسسة مصرفية إسلامية بالسعر الذي يتفق عليه (وذلك بعد فترة الاكتتاب والتشغيل الفعلي)
2- شراء البنك الإسلامي للتنمية حيث تعهد بشراء ما قد تعرض البنوك الإسلامية بيعه مما تملكه من شهادات وذلك بحد أقصى 50 % مما يملكه البنك الواحد من الإصدار الأساسي (2) .
ج- أسهم المشاركة دون التصويت:
القاعدة العامة في الأسهم هي الحل إلا إذا كان مجال نشاطها المحرمات - كما سبق تفصيله - وإلا أسهم امتياز يكون الامتياز فيها عائدا إلى ميزة مالية - كما سبق -.
__________
(1) د. محمد فيصل الأخوة: بحثه عن الأدوات المالية الإسلامية والبورصات الخليجية، قدم إلى مجمع الفقه في دورته السادسة
(2) د. المنصف شيخ روحه: بحثه في أسواق الأوراق المالية، المقدم إلى المجمع الفقهي في دورته السادسة(8/898)
ونظرا لحاجة المؤسسات الإسلامية إلى هذا النوع وبعد نظرها في عدم هيمنة من لا يرغب فيه على مقدرات الشركة، فإن هذه المؤسسات بالتعاون مع الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين قد وفقوا إلى أسهم امتياز يكون لصاحبها جميع الحقوق الممنوحة للأسهم العادية ما عدا حق التصويت في الجمعية العمومية، وقد يسر الله تعالى عملية نقل الأفكار من الإطار النظري إلى الواقع العملي من خلال تأسيس شركة التوفيق للصناديق الاستثمارية في 5 / 1 / 1987 م، وشركة الأمين للأوراق المالية في 28 / 6 / 1987 في دولة البحرين، وهما تهدفان إلى طرح أدوات مالية جديدة لجمهور المكتتبين. كما تتخذ الصناديق الاستثمارية أشكالا متنوعة من حيث الربحية والمخاطرة والمدة، حيث يمكنها أن تكون صناديق مرابحات أو تأجير أو سلم أو مشروعات، وقد صدر بذلك قرار وزاري رقم 17 في البحرين لسنة 1986 يسمح بتأسيس شركات مساهمة إسلامية (1) .
__________
(1) د. محمد فيصل: المرجع السابق ص (11) ، والمراجع السابقة أيضا(8/899)
وكذلك قام بنك التقوى (الذي أسس في بهاما عام 1988) بتطبيق هذا النوع حيث يصدر نوعين من الأسهم؛ يخصص النوع الأول للأسهم العادية، والنوع الثاني لأسهم الامتياز التي ليس لصاحبها حق حضور الجمعية العامة، أو التصويت فيها ويمكن دفع قيمتها على ثلاثة أقساط متساوية بين كل قسط وآخر ستة أشهر ويدفع أولها من الاكتتاب.
وقد كان لهيئة الرقابة الشرعية للبنك دور كبير في الوصول إلى هذه الصيغة كما نص على ذلك النظام الأساسي (1) .
وإعطاء هذه الميزة (أي التقسيط) لهذا النوع من الأسهم لا يخالف الشريعة الغراء لأنه لا يحسب له الربح إلا بقدر قسطه المدفوع وإنما هو نوع من التيسير أعطوه برضا المساهمين، ثم إن التكييف الشرعي لهذه المسألة يكمن في أن صاحب الأسهم الممتازة حينما دفع القسط الأول لهذا أصبح مشتركا بهذا القدر ثم وعد بأن يكمل البقية، فمثلا لو دفع شخص الأقساط الأولية لثلاثين سهما فهو قد شارك فعلا بعشرة أسهم وبالقسط الثاني قد شارك في العشرة الأخرى وبالقسط الثالث قد أكمل الثلاثين، أي أنه اشترى أولا عشرة ووعد أن يشتري البقية المتفق عليها، وهذا لا مانع منه شرعا.
__________
(1) حيث كتب في النظام الأساسي له: ملاحظة: عدلت الإدارة عما سبق إعلانه من مميزات كلا النوعين من الأسهم، لما ارتأته هيئة الرقابة الشرعية تجنبا لأي تعارض مع المباح شرعا(8/900)
أما قضية التصويت في الجمعية العمومية فهي عملية إدارية يجوز لأي واحد من الشركاء أن يتنازل عن حقه في هذه المشاركة الإدارية - كما سبق -.
د- شهادات التأجير أو الإيجار المتناقصة:
وهي شهادات اهتدى إليها بيت التمويل التونسي السعودي بفضل استشارات وتوصيات رقابته الشرعية، اشتراها من الشركة التونسية للتأجير، وذلك كالآتي:
تقتني الشركة التونسية للتأجير معدات وتؤجرها إلى زبائنها بسعر كراء معين، وتنقل ملكية المعدات إلى الزبون عند انتهاء العقد ودفع كل أقساط الكراء، وطوال مدة الإيجار تصدر الشركة التونسية للتأجير شهادات لصالح مشترين بقيمة معينة تمثل قسطا من ثمن شراء المعدات، ويتقاضى المشترون للشهادات نصيبا من دخل الكراء.
ويقول الدكتور المنصف: ويبدو أن هذا النوع من التمويل يحترم السلامة الاقتصادية فلا يوزع ثروة (صورية) ، كما يراعي قواعد الشريعة الإسلامية ويساهم في تنشيط سوق الأوراق المالية ويفتح المجال أمام تداولها في أسواق الإصدار أو الأسواق الثانوية (1) .
وهذه الشهادات تشبه شهادات الاستثمار المخصص، لكنها تختلف عنها في أنها تمثل نوعا من المساهمة المتناقصة حيث تشمل أقساط الإيجار أرباح المؤجر إضافة إلى استهلاك رأس المال؛ وعلى هذا فإن شهادات الإيجار هذه سوف تصفى تدريجيا حتى تنتهي تماما مع آخر الأقساط (2) .
__________
(1) د. المنصف شيخ روحه: بحثه في أسواق الأوراق المالية المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة
(2) د. معبد الجارحي: بحثه عن المصارف الإسلامية، والأسواق المالية ص (44)(8/901)
وبالإضافة إلى هذا النوع الذي رأى النور فليس هناك ما يمنع من إصدار شهادات إيجار غير متناقصة القيمة تقدم كاملها معدل ربح أعلى من الشهادات المتناقصة نتيجة لإمكان إعادة استثمار الأقساط المدفوعة، وذلك لأن المصرف (مثلا) يستثمر حصيلة الأقساط المدفوعة في عقود إيجارات جديدة.
وهذا النوع يمكن تسميته بشهادات الإيجار الثابتة (1) .
هـ – صكوك المشاركة:
إذا نظرنا إلى فلسفة الاقتصاد الإسلامي لوجدنا أنها تقوم على أساليب للمشاركة بمختلف صورها من المشاركة بالأموال، ثم المشاركة الحقيقية في أرباحها وخسائرها، أو المشاركة بالمال من جانب والعمل والخبرة من جانب آخر ثم مشاركة الطرفين في الربح وفى الخسارة حيث خسر صاحب المال ماله أو جزءا منه وخسر صاحب العمل عمله وضاع عليه الوقت دون أن يربح، وهكذا فالمشاركة في الربح والخسارة وفي الغرم والغنم وفي المخاطرة هي أساس الاقتصاد الإسلامي.
وهذا الأساس (أي المشاركة) هو الذي يمكن الاقتصاد من ربط الدورة الاقتصادية (أي إنتاج السلع والخدمات) بالدورة المالية (أي النقود) وحينئذ يتقلص خطر الانزلاق بين هاتين الدورتين، ذلك الانزلاق الخطير الذي سبب كوارث مختلفة للبنوك والمؤسسات الاقتصادية والأسواق المالية (2) .
وإذا كانت المشاركة ضمانا لتقليص خطر الانزلاق فإن هذا المبدأ يكمله مبدأ آخر إسلامي وهو التكافل والتعاون من خلال تخصيص جزء معين من أرباح الشركة للمخاطر وذلك بأن يتنازل المساهمون عن نصيب ضئيل من أرباحهم يكمل به الخسارة التي تلحق بعض الصفقات أو في بعض السنوات.
وهذا بلا شك لا مانع منه شرعا بالنسبة للمساهمين؛ لأن الشركة أولا وأخيرا لهم، وهذا القدر يرحل إلى احتياطي الشركة وهو بدوره جزء منها.
__________
(1) د. معبد الجارحي: بحثه عن المصارف الإسلامية، والأسواق المالية ص (44)
(2) د. المنصف: بحثه السابق(8/902)
ولكن المشكلة من الناحية الشرعية تظهر بالنسبة للمودعين المستثمرين، حيث إن هؤلاء لا يتحملون الخسارة إلا بقدر الخسارة التي تحققت لأموالهم وحسب سنوات المشاركة؛ ولذلك فالعلاج يمكن أن يتم في إحدى الصور التالية:
1- أن يعد طرف ثالث بالتربع لمثل هذه الخسارة إن تحققت كما في البند 9 من قرار المجمع بخصوص صكوك المضاربة - كما سبق -.
2- أن يتم تحديد مشروع معين يشترك فيه المضاربون ويلتزمون بالمدة المحددة له وحينئذ يتفقوا على تخصيص جزء من الأرباح لمثل هذه المخاطر ثم يتم توزيع الأرباح جميعا بما فيها الاحتياطي على الجميع حسب النسب المتفق عليها.
وهذا العمل يكيف فقها بأن المضاربة أو المشاركة لم تنته إلا بإتمام المشروع، أو بعبارة أخرى: إن البضاعة لم تنضض إلا بانتهاء المشروع، ومن هنا فجميع الأرباح والخسارة محسوبة حسب المشروع كله، وما عمل من الميزانيات السنوية فهي من باب التنضيض الجزئي والحكمى.
وصكوك المشاركة - غير المضاربة - لها صور:
1- الأسهم بجميع أنواعها المباحة - كما سبق -.
2- شهادات المشاركة في مشروع معين والإدارة لمصدرها وذلك بأن يطرح المصرف الإسلامي (أو الشركة) مجموعة من الشهادات بحصص متساوية تخصص لمشروع معين يشترك المصرف نفسه بنسبة محددة (كالنصف والربع مثلا) فيكون الجميع شركاء بما فيهم المصرف مصدر الشهادات، وسواء أكان المشروع صناعيا أم زراعيا أم تجاريا أم نحو ذلك من هذا كله.
ثم يقوم المصرف بإدارة هذا المشروع لقاء نسبة من الأرباح.(8/903)
وهذه الشهادات بهذه الصورة تختلف عن الأسهم في عدة صور؛ من أهمها أن أصحابها لا يشتركون في إدارة المشروع، ومنها أنها محددة بمدة معينة ولا تنطبق عليها مواصفات شركة المساهمة.
3- شهادات المشاركة في مشروع معين تكون الإدارة لجهة أخرى.
وهذا النوع هو مثل النوع الأول لكن إدارة المشروع المشترك بين المصرف (مصدر الشهادات) وأصحاب الشهادات تكون لجهة أخرى نسبة من الأرباح.
4- ومن جانب آخر يمكن إصدار صكوك أو شهادات المشاركة بالطرق التالية:
* صكوك المشاركة الدائمة.
* صكوك المشاركة المؤقتة بفترة زمنية محددة.
* صكوك المشاركة المنتهية بالتمليك. أما النوع الأول (صكوك المشاركة الدائمة) فله تطبيقاته من خلال الأسهم بجميع أنواعها المباحة، وكذلك يمكن للبنك أن يطرح صكوكًا لمشروع معين يشترك فيه البنك بنسبة معينة ويطرح الباقي على شكل صكوك سواء أكانت الإدارة للبنك المصدر أم للمجموعة المشاركة أم لجهة ثالثة كما سبق.
وأما النوع الثاني (صكوك المشاركة المؤقتة بفترة زمنية محددة) فله عدة صور:
1- صكوك المشاركة المستردة بالتدرج:
وهذا النوع قد تبناه بنك التقوى بعد إقرار هيئة الرقابة الشرعية (1) ، وإجراء التعديلات والضوابط المطلوبة، وخلاصة هذه الفكرة أن تدفع القيمة الدفترية لشراء هذه الأسهم إلى جانب مصاريف الإصدار، ثم تعامل معاملة الأسهم التي ليس لها حق التصويت في الجمعية العمومية ولا حق الحضور إليها، ثم يسترد قيمتها على خمسة أقساط متساوية، ويصرف لحاملها سنويا ما يتقرر توزيعه من حساب الربح أو الخسارة مثله مثل حاملي الأسهم الأخرى على أن يكون فقط بنسبة الرصيد الذي لم يحن موعد استرداده.
ولهذا النوع مميزات بالنسبة للمضاربة، حيث يكون لأصحاب هذا النوع من الأسهم نسبة أرباح تساوي بقية الأسهم الأخرى، أي يكون لهم نسبة ربح أموال البنك من المضاربة إضافة إلى المشاركة في أرباح البنك (كمضارب) أي أنهم كحاملي الأسهم العادية في هذه المسألة، ولذلك تكون نسبة أرباحهم أكثر من أصحاب المضاربة.
__________
(1) هيئة الرقابة الشرعية تتكون من الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور عبد الستار أبو غده والدكتور علي محيي الدين القره داغي، وقد قدم الباحث هذه الفكرة من قبل إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة في بحثه عن الأسواق المالية في ميزان الفقه الإسلامي(8/904)
وأما مميزاتها بالنسبة للأسهم الأخرى فتكمن في أن هذه الأسهم القابلة للاستراد سترد في الفترات المحددة، أي البنك ملزم برد قيمتها مع ملاحظة أنهم سيكونون في حاجة إلى أموالهم بعد بضع سنين ولا يستطيعون الاستمرار في استثمارها في رأس مال البنك.
وأما سلبياتها بالنسبة للمضاربة فهي أنها لا يمكن سحب قيمتها إلا حسب الجدول المذكور في حين أن أموال المضاربة يمكن سحبها بإخطار قبل سنة ميلادية تبدأ في أول يناير.
وأما سلبياتها بالنسبة للأسهم الأخرى فهي أنها ليس لها صوت ولا حضور في الجمعية العمومية للبنك وأن نسبة زيادة قيمتها حسب الرصيد الباقي سنويا (1)
ويمكن طرح هذا النوع للمشروعات الخاصة أو العامة.
2- صكوك المشاركة المستردة خلال زمن محدود كأن يصدر البنك صكوكا للمشاركة في مشروع معين أو في مشروعات عامة دون تخصيص ويحددها بخمس سنوات أو عشر أو أكثر أو أقل ويشترك فيه البنك بنسبة معينة ثم يصفى المشروع ويأخذ كل واحد نصيبه أو يبقى المشروع ويتفق فيه على أن ينتهي بأن يتملكه الطرف الأول أو الثاني حسب الاتفاق.
3- صكوك المشاركة المنتهية بالتمليك:
والمشاركة المنتهية بالتمليك لها عدة صور؛ من أهمها ما أقره مؤتمر المصرف الإسلامي الذي انعقد بدبي عام 1399 هـ وهي:
الصورة الأولى: أن يتفق المصرف مع عميله على تحديد حصة كل منهما في رأس مال المشاركة وشروطها، وقد رأى المؤتمر أن يكون بيع حصص المصرف الى العميل بعد إتمام المشاركة بعقد مستقل بحيث يكون للعميل شريك المصرف حرية التصرف ولا يلتزم بأن يبيع حصصه للبنك خاصة؛ بل يكون له الحق في بيعها للمصرف أو لغيره، وكذلك يكون الأمر بالنسبة للمصرف بأن تكون له حرية بيع حصصه للعميل شريكه أو لغيره.
الصورة الثانية: أن يتفق المصرف مع عميله على المشاركة في التمويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس اتفاق المصرف مع الشريك الآخر لحصول المصرف على حصة نسبية من صافي الدخل المتحقق فعلا مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي من الإيراد أو أي قدر منه يتفق عليه ليكون ذلك الجزء مخصصا لتسديد أصل ما قدمه المصرف من تمويل.
الصورة الثالثة: يحدد نصيب كل من المصرف وشريكه في الشركة في صورة أسهم تمثل قيمة الشيء موضوع المشاركة (عقار مثلا) ، يحصل كل من الشريكين (المصرف والشريك) على نصيبه من الإيراد المتحقق من العقار.
__________
(1) أصدر بنك التقوى المحدود (البهاما) نشرة حول التعريف بهذه السلسلة من الأسهم أو الصكوك(8/905)
وللشريك إذا شاء أن يقتني من هذه الأسهم المملوكة للمصرف عددا معينا كل سنة بحيث تكون الأسهم الموجودة في حيازة المصرف متناقصة إلى أن يتم تمليك شريك المصرف الأسهم بكاملها، فتصبح له الملكية المنفردة للعقار دون شريك آخر (1) .
و سندات الخزينة المخصصة للاستثمار الإسلامي:
وقدم الدكتور سامي حمود هذه الفكرة، وأسس فكرة إصدارها على القواعد التالية:
1- إصدار سندات الخزينة للمشاركة في المشاريع المنتجة للدخل وذلك على أساس بيع المشروع المعين، وجملة من المشروعات مقابل إعطاء سندات تمثل حصص امتلاك وانتفاع بريع المشروع أو المشروعات المعينة.
2- إصدار الخزينة الإيجارية لمشاريع مملوكة لمؤسسات وشركات مساهمة ذات نفع عام، وذلك باعتبار أن هذه السندات تمثل حصص امتلاك قابلة للتأجير.
3- إصدار سندات الخزينة البترولية بطريق السلم، وذلك على أساس بيع الإنتاج المستقبل مع تنظيم بيوع السلم الأول والبيوع الموازية من أجل الموازنة بين الكميات المسلم فيها بالبيع والمطلوبة بالشراء.
__________
(1) يراجع د. علي السالوس: المعاملات المالية المعاصرة، طبعة الفلاح الكويت ص (148) ؛ والدكتور سيد الهواري: الطبعة المميزة للبنوك الإسلامية، بحثه المقدم الى ندوة الاستثمار والتمويل التي انعقدت بجامعة الملك عبد العزيز في 23 محرم - 4 صفر 1401 هـ؛ ونصر الدين فضل المولى محمد: المصارف الإسلامية، طبعة دار القلم بجدة ص رقم 35(8/906)
ويقول الدكتور سامي: "وتعتبر هذه الإدارة واحدة من أنجح الوسائل الملائمة للدول البترولية حيث يساعد الإنتاج البترولي الضخم على اجتذاب آلاف الملايين من الدراهم والدنانير والريالات التي لا تجد طريقها للمشاركة في التنمية الوطنية" (1) .
غير أن هذه السندات (أو الصكوك أو الشهادات) لا بد من ملاحظة القواعد الشرعية فيها؛ من حيث المشاركة وعدم ضمان المصدر لرأس المال (أي وجود المخاطرة) وعدم تحديد أية نسبة من الفوائد، وإنما ربطها بالأرباح الحقيقية؛ إضافة إلى شروط عقد السلم من حيث المواصفات، ومن حيث تسليم الثمن في مجلس العقد عند الجمهور أو في خلال أيام عند مالك (2) .
ز- صكوك المرابحة:
وقد طرح هذه الفكرة الدكتور سامي حمود في ندوة البركة الثانية التي عقدت بتونس من 4 إلى 7 نوفمبر سنة 1984 م، وقال: "وقد كان بيع المرابحة من أبرز الأمثلة المختارة لبيع الحصص الاستثمارية باعتبار أن بيع المرابحة بعد أن يتم يمكن فيه تماما معرفة الربح وموعد تحققه ونسبة ما يستحق من الزمن وما يتبقى لما هو باق من الأيام، وإذا كانت الديون بحد ذاتها لا تباع إلا مثلا بمثل، فإن هذه الديون إذا كانت جزءا من موجودات مختلطة مع النقود والأعيان فإنها تصبح قابلة للبيع؛ ولذا جاز في المخارجة (3) .
وقد كانت هذه الفكرة متمثلة في إنشاء شركة تابعة لبنك البركة الإسلامي في البحرين تكون متخصصة في تمويل المرابحة وتكون أسهمها قابلة للبيع والشراء وفق أسعار معلنة مقدما على أساس محسوب تبعا للعمليات المنفذة والأرباح المستحقة في بيوع المرابحة القائمة، وذلك باعتبار أن السهم في الشركة التابعة يمثل جزءا شائعا في موجودات الشركة بكاملها، وقد صدر قرار وزاري بالبحرين لإنشاء شركة إسلامية مساهمة تمارس الإصدارات المختلفة في صناديق المرابحة والإيجار والسلم والمشروعات وإيجاد أدوات مالية إسلامية تتمتع بالسيولة والربحية والقابلية للتسويق المنظم على أساس السعر المعلن والمكشوف (4) .
__________
(1) بحثه بعنوان: الأدوات المالية الإسلامية، المقدم الى مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة
(2) يراجع في ذلك شرح الخرشي (5 / 203) ؛ وبلغة السالك (2 / 538) ؛ وحاشية ابن عابدين (4 / 208) والغاية القصوى (1 / 497) ؛ والمغني لابن قدامة (4 / 328)
(3) د. سامي حسن حمود: تطبيقات بيوع المرابحة للآمر بالشراء من الاستثمار البسيط إلى بناء سوق رأس المال الإسلامي مع اختيار تجربة بنك البركة في البحرين كنموذج عملي المقدم إلى ندوة عن خطة استراتيجية الاستثمار في البنوك الإسلامية في عمان بتاريخ 22 شوال - 25 شوال 1407 هـ
(4) د. سامي حسن حمود: تطبيقات بيوع المرابحة للآمر بالشراء من الاستثمار البسيط إلى بناء سوق رأس المال الإسلامي مع اختيار تجربة بنك البركة في البحرين كنموذج عملي المقدم إلى ندوة عن خطة استراتيجية الاستثمار في البنوك الإسلامية في عمان بتاريخ 22 شوال - 25 شوال 1407 هـ(8/907)