رأيت أئمة لا تابع لهم، ورأيت أخا يعادي أخاه، ورأيت نهارا لا غاية له، ولا هدف، ورأيت ليالي حالكة طويلة، لا يعقبها صباح مسفر، ونهار مشرق) (1) .
هذا التخلف أضعف الثقة بالنفس، وأوقف عجلة التقدم والانطلاق في الشعوب الإسلامية، وجعلها تعتمد في كل شيء على غيرها، إن التخلف العقلي لا يكمن في عدم الذهاب إلى الجامعات، واكتساب المعارف فقط، بقدر ما يمكن في التبلد والخمول، والنوم والرضاء بالدون، وموت الهمة (2) .
ومن المؤكد أن الأمة التي تفضل أو ترضى بالتواكل والاستجداء والكسل والتبعية أمة لا تستحق الحياة الكريمة، والحياة الحرة الكريمة لا تتأتى لأمة دون ثمن، والثمن هو التضحية، ولا يتأتى لأمة أن تشق طريقها في الحياة، وأن تستعيد وجودها وكرامتها، وتعيد صنع حياتها، دون أن تحاول جاهدة أن تبني نفسها بناء يتفق مع الاعتداد بالذات..
وقد يكون من المسلمات البديهية: أن ضعف الأمة في جوهره وجذوره، ليس ضعفًا في قوة الدفاع، أو في القوة العسكرية، وإنما يكمن في ذل النفوس، وشعورها بالضعف.
وقد يكون من المسلمات البديهية أيضًا أن فقر الأمة في جوهره وجذوره ليس فقرًا في السلاح والمعدات، أو فقرًا في المال والإمكانات، وإنما يكمن في فقر النفوس وعجزها، وضعف الإرادة واضطرابها (3) .
فالتخلف عن ركب التقدم والحضارة يعود بالمجتمعات الإسلامية إلى الانحطاط، ويقودها طواعية إلى الهلاك كما تقاد الشاة إلى حتفها بظلفها، ولذا كان هذا التخلف عاملًا من عوامل الغزو الفكري الذي اجتاح البلاد والعباد.
__________
(1) راجع الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 696؛ وانظر أبا الحسن الندوي، الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية: ص 35
(2) انظر الدكتور توفيق الواعي، الحضارة الإسلامية، مقارنة بالحضارة الغربية: ص 698
(3) انظر: الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح، معارك حاسمة في حياة المسلمين: ص 154، 155، طبعة دار اللواء بالسعودية 1409 هـ(7/2108)
سادسًا – الفراغ العقدي:
من المؤكد لدى الباحثين أن العقيدة هي الأمر الذي تثق به النفس، ويطمئن إليه القلب، ويكون يقينًا عند صاحبه، ولا يمازجه شك فيه، ولا يخالطه ريب. ويذكر العقاد: أننا نعني بالعقيدة الدينية طريقة حياة، لا طريقة فكر، ولا طريقة دراسة، إنما نعني بها حاجة النفس كما يحس بها من أحاط بتلك الدراسات، ومن فرغ من العلم والمراجعة، ليترقب مكان العقيدة من قرارة ضميره، إنما نعني بها ما يملأ النفس لا ما يملأ الرؤوس أو الصفحات. (1) .
إن العقيدة التي يصح أن توصف بالعقيدة الدينية، هي التي لا يستغني عنها من وجدها، ولا يطيق الفراغ منها من فقدها، ولا يرفضها من اعتصم منها، بمعتصم، واستقر فيها على قرار (2) .
ومن يتأمل العقيدة الإسلامية، ويتدبر ما جاءت به من مفاهيم تناولت معضلات الحياة، إن من يتأمل ذلك يحس بالإطمئنان، ويتخلص من الحيرة التي تواجه كثيرًا من المفكرين (3) .
والحقيقة التي أثبتتها مئات السنين الحافلة بالأحداث والخطوب والمحن حقيقة أن العقيدة الإسلامية هي العقيدة الشاملة، والعقيدة المثلى للإنسان والمجتمع رعاية للروح والجسد، وعمل للدنيا والآخرة، وجهاد في السلم والحرب، وتنظيم للعلاقات والصلات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات والأمم.
فالعقيدة ضرورة لا غنى عنها للفرد والجماعة.. ضرورة للفرد ليطمئن ويسعد، وتطهر نفسه.. وضرورة للمجتمع ليستقر ويتماسك، ويترفع وينهض..
فالفرد بغير عقيدة كالريشة في مهب الريح، تحوله يمينًا وشمالًا فلا يسكن له حال، ولا يستقر له قرار، وليس له جذور تثبته (4) .
والعقائد في الأمم تقف سدودًا بينها وبين الأفكار الوافدة أو المذاهب المقتحمة، وتعطي أعماقًا للصروح والمجتمعات والأفراد، كما تمنح استقرارًا وثباتًا للإنسان في الحياة.
أما إذا تركت الأمم عقائدها، وتخلت عن غذائها الروحي، وعن عمقها الإيماني (5) ، فإنها تصبح فريسة لمن هب ودب..
والباحث في أحوال الشعوب الإسلامية: يجد أنها لم تحسن التخطيط، ولم تستفد من الدروس , فانطلقت في سبيل الشهوات والملذات والطوائف والاختلاف، وتركت تعاليم الإسلام التي تدعو إلى الفكر والعلم والحضارة.. فكان ما كان..
لقد اتضح لنا، أن (الغزو الفكري) الذي تعرضت له شعوب الأمة الإسلامية - ولا زالت تتعرض - قام على أسباب وبواعث، دفعت بالغزو الفكري إلى تكالب مسعور، وكان في الإمكان أن ترد الهجمة الشرسة، ولكن كانت هناك عوامل تنتشر في المجتمعات الإسلامية، ساعدت على توغل الغزو الفكري، وانتشاره بين الناس.
__________
(1) عباس محمود العقاد، العقائد والمذاهب: مجلد رقم 11، ص 402، طبعة دار الكتاب اللبناني، بيروت
(2) المصدر السابق: ص 431
(3) انظر: الدكتور أحمد السايح، عباس محمود العقاد، فيلسوفًا رسالة (ماجيستير) ص 166
(4) انظر: محمد أمين حسن، خصائص الدعوة الإسلامية: ص 257، طبعة مكتبة المنار، الأردن؛ وانظر كذلك الدكتور أحمد السايح، العقيدة والإنسان، مجلة الخفجي، السنة العشرون، العدد الأول: ص 4، 5، إبريل 1990 م السعودية؛ وانظر: كذلك أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 218، طبعة دار الكتاب العربي 1404 هـ
(5) الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية، مقارنة بالحضارة الغربية، ص 701، 702(7/2109)
وقد سبق أن ذكرنا أن من عوامل وأسباب (الغزو الفكري) :
• العداء الصليبي للإسلام والمسلمين.
• الاستعمار الغربي الذي أصاب بعض المجتمعات الإسلامية.
• تقدم الغرب العلمي.
• الضعف الفكري والتفكك الاجتماعي الذي أصاب المسلمين.
• الفراغ العقدي الذي دلت عليه سلوكيات المسلمين.
وقد تكون هناك أسباب أخري: داخلية أو خارجية، عملت على تمزيق الأمة الإسلامية وقتل روح الأصالة فيها والتجديد، والقدرة على مواجهة التحدي.
ولا يخفي أن التعرف على الأسباب، قد يدفع بالعلماء، وقادة الفكر إلى تشخيص الداء، وبذل الدواء، وإذا عرف التحدي أمكنت المواجهة، وإذا كانت معرفة أسباب الغزو الفكري، تقف بالمسلمين على محطات انطلاق، فإن معرفة مظاهر الغزو الفكري، تساعد على التبصر بالمواقع والمواقف.(7/2110)
مظاهر الغزو الفكري
مظاهر الغزو الفكري كثيرة ومتعددة، وتكاد تشمل جميع جوانب الحياة، وهذه المظاهر لم تكن إلَّا بناء على دراسات دقيقة لأحوال المجتمعات الإسلامية..
لقد خطط أعداء الأمة الإسلامية، وتدارسوا الأمر فيما بينهم، ووضعوا مخططات تنفذ بكل دقة، وتوالت مظاهر الغزو الفكري تنتشر بين المسلمين، يساعد على ذلك أمران:
الأمر الأول: موالاة بعض حكام المسلمين للغرب.
والأمر الثاني: الدعاية للنظم الغربية والتغرير بها.
ولولا هذه المساعدة، لكان من الصعب على مظاهر الغزو الفكري أن يستشري خطرها، وقد نجح الغزو الفكري في إعداد بعض (كوادر) تتولى القيادة، وإدارة أمور المجتمعات. وكانت الدعاية للنظم الغربية والتغرير بها، تدفع الناس إلى قبول ما يأتي من الغرب – أيًّا كان -:
ومظاهر الغزو الفكري يلمسها المراقب والباحث في كثير من القضايا، مثل:
1- حملات التشويه.
2- إحياء النزعات الجاهلية.
3- إبعاد العلماء عن مراكز التوجيه والسلطة.
4- التعليم والثقافة.
5-الخدمات الاجتماعية.(7/2111)
أولًا – حملات التشويه:
فإذا ما بحثنا في حملات التشويه – والتي كانت مظهرًا من مظاهر الغزو الفكري – وجدنا أن هذه الحملات، مست كل ما يتصل بالإسلام من عقائد ونظم وتراث وتاريخ وفكر وحياة.
1- فهناك محاولة تشويه عقائد المسلمين بغير سند ولا دليل. يقول ريان الفرنسي، يصور عقيدة التوحيد في الإسلام (بأنها عقيدة تؤدي إلى حيرة المسلم. كما تحط به كإنسان إلى أسفل الدرك) (1)
ودائرة المعارف الإسلامية في طبعتها الجديدة التي لم تترجم إلى اللغة العربية، تعرض تحت مادة (ابن تيمية) أن ابن تيمية كان مسرفًا في القول بالتجسيد، ومن ثم كان يفسر كل الآيات والأحاديث التي تشير إلى الله بظاهر اللفظ، وقد تشبع بهذه العقيدة إلى درجة أن ابن بطوطة يروي عنه أنه قال من منبر جامع دمشق: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ثم نزل درجة من درج المنبر) (2) .
2- وهناك محاولة تشويه القرآن الكريم، وهي محاولة قديمة وحديثة، وهذه المحاولة كغيرها بعيدة عن العلم والمنطق. يقول المستشرق جب: (إن محمدًا قد تأثر بالبيئة التي عاش فيها، وشق طريقه بين الأفكار والعقائد الشائعة في بيئته. فالقرآن من صنع - محمد صلى الله عليه وسلم - ومن ملاءمات هذه البيئة التي عاش فيها) (3) .
__________
(1) انظر الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية، مقارنة بالحضارة الغربية: ص 708
(2) انظر: عبد العزيز علي المحويتي، مجلة المنهل: ع 485، ص 108، 109، جمادى الآخرة 1411 هـ، جدة – السعودية
(3) انظر: الدكتور علي عبد الحليم محمود، الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: ص 29، جامعة الإمام 1401 هـ(7/2112)
وهناك محاولة تشويه السنة النبوية، وهي محاولات ضارية، عميقة الجذور في تاريخ الحرب ضد الإسلام، وهي محاولات تستهدف ما تستهدفه محاولات تشويه القرآن الكريم، من عزل المسلمين عن دينهم، بتشويه مصدريه الأساسيين: القرآن والسنة.. وهي حرب دخلت على المسلمين حديثًا عن طريق الغزو الفكري، وقد جند أعداء الإسلام لتشويه السنة ما جندوا من أقلام، وكتب ومجلات، وبحوث، ومجمل محاولات الأعداء:
• الادعاء بأن هناك أحاديث لا يمكن أن تكون قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
• والادعاء بأن محاولة وجود شيء في الحديث النبوي يمكن القطع بصحة نسبته إلي النبي تاريخيًّا، محاولة فاشلة.
• الادعاء بأن الفرق الإسلامية عندما اختلفت في الآراء، أخذ كل منها يضع لنفسه الأحاديث التي يؤيد بها رأيه.
• الادعاء بأن الأحاديث النبوية ليست إلا سجلًا للجدل الديني في القرون الأول (1) .
4- وهناك محاولة تشويه شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهي محاولات قديمة وحديثة ومستمرة، تهاجم رسول الله، وتحاول أن تنال من شخصه، ونم هؤلاء الأعداء الحاقدين على الإسلام الذين تطاولوا على شخصية الرسول الصادق الأمين:
1-وليم موير في كتابه: (حياة محمد) .
2- هنري لامنس اليسوعي، في كتابه: (الاسلام) وقد بلغ من حقد هذا الرجل على الإسلام أن تخبط فيما يكتب إلى الحد الذي أزعج بعض المستشرقين أنفسهم.
3- الفرد جيوم في كتابه: (الإسلام) .
4- صمويل زويمر في كتابه: (الإسلام تحد العقيدة) .
5- كنبثكراج في كتابه: (دعوة المئذنة) .
6- أ. ج. أربري. في كتابه (الإسلام اليوم) .
7- جولد زيهر. في كتابه: (تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي) .
8- هـ أ. ر. جب. في كتبه:
(أ) طريق الإسلام.
(ب) الاتجاهات الحديثة في الإسلام.
(ج) المذهب المحمدي.
(د) الإسلام والمجتمع الغربي.
__________
(1) المصدر السابق: ص 39، 40(7/2113)
9 – أ. ج. فينسك. في كتابه: المستشرقون والإسلام.
10 – د. س. مرجليوث. في كتبه:
أـ محمد ومطلع الإسلام.
ب ـ التطورات المبكرة في الإسلام
ج ـ الجامعة الإسلامية.
د ـ قنطرة إلى الإسلام
11- ج. فون. جرونبام. في كتبه:
(أ) إسلام العصور الوسطى.
(ب) الإسلام.
(ج) الأعياد المحمدية.
(د) الوحدة والتنوع والحضارة الإسلامية.
(هـ) دراسات في تاريخ الثقافة الإسلامية.
12- د. ب. ماكدونالد. في كتابه (تطور علم الكلام والفقه والنظرية الدستورية في الإسلام) .
13- ر. أ. نيكلسون. في كتابه: (متصوفو الإسلام) .
14- ر. بل. في كتابيه:
(أ) أصول الإسلام في بيئته المسيحية.
(ب) مقدمة القرآن.
15- آثر جفيري. في كتابه (مصادر تاريخ القرآن) .
16- يوسف شاخت. في كتابه: (أصول الفقه الإسلامي) .
17- أرنولد توينبي. في كتابه: (دراسة في التاريخ) .
18- فيليب حتى، وهو مسيحي لبناني. في كتابه: (تاريخ العرب) .
19- مجيد خوري، وهو مسيحي عراقي. في كتابه: (الحرب والسلام في الإسلام) .(7/2114)
20- أبراهام كاش. في كتابه: (اليهودية في الإسلام) .
21- إدوارد فرمان. في كتابه (تاريخ المسلمين وفتوحاتهم) .
22- ج. س. آرثر. في كتابه: (العناصر الصوفية في محمد) .
23- د. بلاشير. في كتابه: (مقدمة القرآن) .
24- سنوك هورج رونجد. في كتابه: (الإسلام) (1)
وغير هؤلاء كثير.. وما أردنا الإحصاء أو الاستقصاء.. وكل هؤلاء حاولوا تشويه الإسلام، ونالوا من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما كتبوا، وافتاتوا على الحق وموَّهوا، وملأوا الدنيا ضجيجًا بأصوات الباطل، وهراء الجاهلين، وسموم الحاقدين (2) .
__________
(1) انظر: الدكتور علي عبد الحليم محمود، الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: ص 45، 46
(2) المصدر السابق: الدكتور علي عبد الحليم محمود، الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: ص 46(7/2115)
5- وهناك محاولة تشويه التاريخ الإسلامي, وهذه المحاولة من اخبث المحاولات ولا أكثرها خبثا ومكرا. فقد صور هؤلاء الحاقدون على الإسلام والمسلمين، أن الفتوحات الإسلامية فتوحات غزوا واستعمار، وأن الخلافة الإسلامية خلافة تآمر وسفك للدماء، وغير ذلك كثير مما لا يقره علق ولا دين.
6-وهناك محاولة تشويه التراث الإسلامي، ولا يخفي أن تشويه تراث الأمة، هو تشويه للأصالة التي تنطلق منها. وتراث المسلمين تعرض لانتهاك هؤلاء الحاقدين على كل ما هو إسلامي، فأصابه ما أصاب غيره من الافتراء والافتئات.
9- وهناك محاولة تشويه مجال الغيب في الإسلام، وهذه المحاولة أريد منها زعزعة الإيمان بالغيب عند المسلمين، ولذا جاءت المحاولة تشكك في كل ما لا تدركه الحواس وتفسر الجزاء عند المصدقين به.. بأنه جزاء روحي، والجنة والنار بأنها شعور نفسي.
10-وهناك محاولة تشويه نظام الحياة الإسلامية، وذلك بالإدعاء بأنه لا يوجد نظام للحياة معروف في الإسلام، والتهم التي وجهت إلى نظام الحياة الإسلامية كثيرة ولكن أبرزها وأخطرها:
(أولا) : اتهامهم للقوانين والنظم الإسلامية بالرجعية وعدم القدرة على مواكبة ركب التحضر والتقدم (1) .
(ثانيا) : اتهامهم النظم الإسلامية بالمحلية والقصور والإقليمية.
(ثالثا) : اتهامهم لها بأنها عند التطبيق والتنفيذ، تعتمد على وحشية أو همجية أو قسوة وبخاصة فيما يتصل بالرجم والقطع والجلد.
(رابعا) : اتهامهم للقوانين والنظم الإسلامية بأنها لم تحظ بإجماع المسلمين عليها، في عصر من العصور.
(خامسا) : اتهامهم لها بأنها تتجاهل الأقليات غير الإسلامية في ظل الدولة الإسلامية.
وهذه التهم قد أطلقها أعداء الإسلام من غير المسلمين، وشاركهم في إطلاقها بعض المسلمين المخدوعين بالفكر الغربي.
9- وهناك محاولات تشويهية أخري، تتصل بجوانب من الإسلام، إن هذه المحاولات في مجموعها، تشكل انقضاضًا على مبادئ الإسلام، وتعاليمه.
__________
(1) المصدر السابق: ص 78(7/2116)
ثانيًا: من مظاهر الغزو الفكري:
إحياء النزاعات الجاهلية التي لا تتفق مع تعاليم الإسلام كالدعوة إلى القومية، والدعوة إلى الفرعونية، والآشورية، والفينيقية، وما جرى مجرى هذا مما يتنافى مع الإسلام, الدعوة إلى التحلل والإباحية: وهذه دعوة خبيثة لأنها تطعن الأمة في أخلاقها وقيمها، وقد شاعت في المجتمعات الإسلامية أمور تعافها الفطر السليمة, ولكنه الانحراف الذي لا يعترف بالقيم الفاضلة.
ثالثا – إبعاد العلماء عن مراكز التوجيه والسلطة:
ولا يخفي أن إبعاد العلماء عن المراكز التوجيهية أمر له خطورته، وفي بعض المجتمعات تقلص دور العلماء، وأصبح قاصرًا على خطبة الجمعة، وبعض الأحاديث التي تخضع للعيون الساهرة والمراقبة الدقيقة، وأصبح بعض العلماء يجرون وراء المناصب جريًا تذل له الجباه، ويطلبون المناصب بما لهم من مآثر في الأتباع، وأياد في التصفيق والتأييد.
رابعًا – التعليم والثقافة:
ولا يخفي أن الغزو الفكري، ينتشر من خلال مدارس التعليم ومعاهده وجامعاته أفضل من أي مظهر آخر.
وقد دخل الغزو الفكري إلى العالم الإسلامي، من باب يخيل إلى السطحيين من الناس أنه الباب الطبيعي, إذ حمل اسم العلم والمعرفة والتمدن, يقول القس زويمر: (المدارس أحسن ما يعول عليه المبشرون في التحكم بالمسلمين) (1) .
ومن المعروف أن المسلمين أقبلوا على هذه المدارس بكثرة كاثرة، يزدردون مناهجها، ويلتهمون كل ما احتجنته من عقيدة وفكر، لا يميزون صحيحها من فاسدها، ونفعها من ضرها. (2)
وبما أن الثقافة ليست علومًا ومعارف وأدبًا وفنونًا فحسب، بل مناهج فكر وخلق تصطبغ حياة الأمة بصبغتها في شتى ضروب نشاطها، فإن (الغزو الفكري) استطاع من خلال الثقافة أن يلقي بمزيج من الأخلاط الغربية الملتمسة من الفكر الغريب المنحرف، والتوجيه الفاسدالقائم على التخطيط الشرير (3) .
ولذا قام الغزو الفكري بالدعوة إلى الأغراض الآتية:
1- الدعوة إلى إضعاف العلاقة بين المسلمين بقطع الروابط الثقافية وإحياء الثقافات الجاهلية.
2- الدعوة إلى العامية، وإلى تطوير اللغة.
3- إيجاد الشعور بالتبعية الثقافية، والشعور بمركب النقص.
4- دفع الجامعات إلى الاعتماد على كتب المستشرقين العلمية.
5- توهين جهود المخلصين الثقافية والإبداعية.
6- تمجيد القيم الغريبة، وتسفيه القيم الإسلامية، والدعوة إلى نبذها.
7- لفت المجتمعات إلى القشور، وإلهائها عما يفيد وينفع.
8- إحياء المذاهب الفلسفية والجدلية، والبعد عن الأساليب العلمية.
9- إنشاء الموسوعات التاريخية الإسلامية، وبذر الشكوك ولَيُّ الحقائق فيها.
10- الحرص على تكوين جيل مثقف يحمل راية الاستشراق والدعوة (4) .
11- الدعوة إلى تدريس العلوم الطبية وغيرها بلغات غير اللغة العربية، ليظل المسلم عنده إحساس بعجز اللغة العربية لغة القرآن.
__________
(1) محب الدين الخطيب، الغارة على العالم الإسلامي: ص 48، طبعة 1384 هـ
(2) إبراهيم النعمة، المسلمون أمام تحديات الغزو الفكري: ص 13
(3) انظر: عمر عودة الخطيب، لمحات في الثقافة الإسلامية: ص 167، 168
(4) انظر: الدكتور توفيق الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 722(7/2117)
خامسًا – الخدمات الاجتماعية:
والخدمات الاجتماعية مظهر من مظاهر الغزو الفكري، وقد وجد المخططون لغزو العالم الإسلامي، أن الخدمات الاجتماعية طريق يساعد على إمرار ما يراد إمراره من خلال الخدمات الاجتماعية، ولذلك أصبحت الملاجئ، والمستشفيات، والمستوصفات، والجمعيات الخيرية، ووكالات الإغاثة، ودور الأيتام والمسنين، وغيرها.. مراكز غزو!!
ومما يلاحظ أن (الغزو الفكري) لم يقتصر على المظاهر التي ذكرنا بعضًا منها، وإنما كانت هناك خطوات أخري محسوبة ومتعددة على كافة الجهات والطرق، ومن هذه المخططات:
1- الإرساليات التبشيرية التي قل أن يخلو مجتمع إسلامي منها.
2- الإعداد الصهيوني والتنسيق بينه وبين الفكر الغربي.
3- التصنيف والتأليف في المباحث الإسلامية , واستغلال قصور المسلمين فيها.
4- إلقاء المحاضرات في الجامعات أو الجمعيات الإسلامية.
5- إنشاء دوائر المعارف الإسلامية، والمعاجم المختلفة.. وغيرها..
6- استغلال البعثات العلمية والثقافية.
7- الامتيازات الأجنبية والحصانات الدبلوماسية واستغلالها.
8- استغلال الأقليات والطوائف والنعرات.
9- التعاون بين التبشير والسياسة.
10- استغلال الحركات الوطنية، والتطلعات السياسية.
11- استغلال فقر الشعوب، وحاجتها، وعريها، وربط الإحسان بالتبشير.
12- استغلال العواطف والجوع الجنسي، واستخدامه في خدمة الأهداف.
13- الرحلات، وجمعيات الصداقة، والدعوة إلى العالمية، والمجتمعات الكشفية.
14- المساعدات الاقتصادية، وربطها بتسهيلات، وتنازلات معينة.
15- الدعوة إلى الحوار الحر، مع نبذ العقائد والأفكار، والتجرد للوصول إلى الحقيقة (1) في زعم هؤلاء.
__________
(1) المصدر السابق: ص 723(7/2118)
تيارات الغزو الفكرى
ومما لا يخفى على باحث أو دارس أن الغزو الفكرى لكى يحقق أهدافه من إبعاد الأمة الإسلامية، عن أصالتها، وآدابها اتخذ له منافذ متعددة، وتيارات مختلفة، قد تبدو متباينة، ولكنها تلتقى جميعها في محاربة الإسلام، والمسلمين، ومن هذه التيارات والحركات:
(الاستشراق) ، (التبشير) ، (الصهيونية) ، (الماسونية) ، (أندية الروتاري) ، (العلمانية) ، (القوميات) ، (التغريب) ، (الوجودية) (1) ، (الفوضوية) ، (القاديانية) ، (البابية والبهائية) ... وغير ذلك.
إن هذه التيارات والحركات، صنعها (الغزو الفكرى) ، ليمر من خلالها إلى الشعوب الإسلامية، وقد استطاعت هذه التيارات أن تثبت أقدامها، وتوطد علائقها، وتقيم معاهدها، ومدارسها ...
وهناك مجتمعات إسلامية – جميع أبنائها مسلمون – بدت فيها ظاهرة لا ينتبه لها إلا أولئك الباحثون، وما أخطر هذه الظاهرة, ظاهرة إنتشار صورة الصليب في أشكال قد لا تلفت النظر لأول وهلة,
فقد يكون الصليب داخل مربع يضئ ليلًا أعلى قمة محل تجارى..
وقد يكون الصليب داخل إطار دائرى تتزين به حجر الاستقبال..
قلت لصديقى الذي تتزين حجرة جلوسه بثلاث من هذه الدوائر: ما هذا؟ قال: لا أدرى – والله – إنها أدوات زينة.
__________
(1) انظر: وراجع كتابنا، التيارات الفكرية والحركات المعاصرة، طبعه دار الطباعة المحمدية بالقاهرة 1412هـ(7/2119)
وقد يكون الصليب داخل إطار كتابى (شعارًا) لإحدى الشركات الكبرى.
وفى بعض المجتمعات الإسلامية لا يستطيع أحد أن يشير إلى أي ظاهرة من ظواهر الغزو الفكرى في المجتمع بأى إشارة كانت,
وهكذا تعيش بعض المجتمعات الإسلامية في ظواهر الغزو الفكرى، ولا أحد يرى، ولا أحد يتكلم، ولا أحد يسمع.
لقد نجحت الحملات التي قامت بها مؤسسات الغزو الفكرى الغربى في تحقيق أغراضها نجاحًا بعيدًا حين ضمت إليها فئات مثقفة من المسلمين، وجعلتها في صفها تحارب الإسلام وثقافته، وأكثر من هذا أن هؤلاء المثقفين صاروا يستنكرون الثقافة الإسلامية إذ تناقضت مع الثقافه الغربية, وصاروا يستمرئون الثقافة الغربية ويتتعشقونها، ويتجهون في الحياة طبق مفاهيمها (1)
لقد أقبل الكثير من المسلمين على ثقافة الغرب يدرسونها ويطبقونها ويتسابقون في الأخذ بها، وأستجاب المسلمون إلى الدعوات العنصرية حتى صارت على لسان الكثيرين، وحتى صارت الإقليمية الضيقة هي المرتكز لأى عمل في أي اتجاه سياسيًّا كان أم أقتصاديًّا أم فكريًّا. إن هناك حربًا تشن على العقائد الموروثة, وعلى المسلمات التي تتصل بالوحى والبعث, وهناك فلسفات مطروحة، ترمى إلى إلغاء القيم الثوابت، إقامة التطور المطلق، وتجاوزنا الروح وإقامة المادة وحدها، وإلغاء الضوابط الأخلاقية والمسؤولية الفردية ,ودعوة إلى رفع الوصاية عن الشباب، بل هناك دعوة صريحة أعلنت خطتها بإخراج العرب والمسلمين من إطارات الدين، ودعوتهم إلى علمنة الذات العربية, وهناك دعوات إلى إعادة طرح الأساطير، والإباحيات في أفق الفكر الإسلامي عن طريق القصة، والمسرح، والصحافة، وهناك دعوات تزين الباطل وتزخرفه ودعوات تحول الشر إلى صور براقة زاهية (2)
__________
(1) انظر: عز الدين الخطيب التميمى وآخرين، نظرات في الثقافة الإسلامية: ص46.
(2) أنور الجندى شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامى: ص 47 ,48، طبعة المكتب الإسلامي بيروت 1403 هـ(7/2120)
أهداف الغزو الفكرى
لا يمكن أن يتصور عاقل أن الحرب بين الإسلام وأعدائه قد وضعت أوزارها, ولا يمكن أن يتصور عاقل أن أعداء الإسلام قد سكتوا عن الإسلام بعد أن تحالفوا ضد أهل الإسلام فغلبوهم وجعلوا منهم أممًا بعد أن كانوا أمة, وفرقًا بعد أن كانوا وحدة. ولا زال أعداء الإسلام يدبرون لحربه كل يوم وسيلة. ويحشدون للوقوف في وجهة كل يوم قوة، وليس خطر الكلمة والفكرة بأقل من خطر الجندى والسلاح في المعركة الضارية التي يشنها أعداء الإسلام على الإسلام وأهله.
إن هؤلاء الأعداء قد سكتوا عن حرب الجنود والأسلحة، ليشنوا حرب التشويه والتخريب للإسلام: منهجه وتاريخه ورجاله وتراثه ولغته وقرآنه وتحالفوا وتآزروا وابتكروا حديث الوسائل، وخبث التيارات والأساليب, فغزوا المسلمين في قلوبهم، وأفكارهم، وأخلاقهم، وأزيائهم, وشنوا على العالم الإسلامي من الغارات مالا يخفى أمره (1) .
وإن أخص صفات عصرنا هي أنه ينتج من الأفكار بقدر ما ينتج من الأشياء، وليس من الضرورى أن نتطلب من الأفكار المنتجة أن تكون نافعه دائمًا كالأشياء فإن المجتمعات التي تصدر إلينا أشياء الحضارة، ترى في الأفكار سلعة ينبغى أن تتغير كل يوم كما تتغير طرز الأشياء، ولذلك يقف مثقفونا مبهورين أمام موجات الفكر الوارد من الخارج، ماذا يأخذون وماذا يدعون؟ بل قل: ماذا يقرؤون، ماذا يترجمون؟ ولا شيء أكثر من هذا يكفيهم أن يستطيعوا ملاحقة الأفكار، دون أن يكون عليهم أن يواجهون أو ينقدوها , فهم إلى أن يصوغوا نقدًا معينًا لأحد الاتجاهات الجديدة نسبيًّا يكون الوقت قد فات، وتقاوم بمرور الزمن ما ينقدون, وغطت عليه أفكار أخرى أشد لمعانًا وأكثر جاذبية وإشعاعًا.
ومما لا شك فيه أن العالم الإسلامي هدف ثمين من أهداف تصدير الأفكار، نظرًا إلى موقعه وخطورة موقفه، ليبقى هذا العالم مفتقرًا إلى الدول المصدرة وليحال بينه وبين أفكاره الأصيلة التي يمكن أن تغنيه عن الاستيراد.
وسوق الأفكار أخطر أسواق المنتجات، أكثرها تقبلًا للتزييف والإفساد, ومن ثم حفلت أسواقنا بما هو أشد فتكًا من السموم، وأعظم انتشارًا من الهواء, يتخلل كل خلية وينخر في كل بناء, أفكار ترتدى أثوابًا أو تحمل شعارات، أو ترفع مشاعل, ليس الثوب فيها أو الشعار أو المشعل إلَّا قناعا يستر الزيف الخطر (2)
__________
(1) انظر: الدكتور على عبد الحليم محمود، الغزو الفكرى والتيارات المعادية للإسلام: ص 6.5
(2) انظر: الدكتور عبد الصبور شاهين، مقدمه كتاب الإسلام يتحدى وحيد الدين خان: ص 9.8، طبعة المختار الإسلامى، 1397هـ، الطبعه السابعة، القاهرة(7/2121)
إن الغزو الفكرى الذي يحتاج الشعوب الإسلامية يهدف فيما يهدف إلى:
1- أن تظل الشعوب الإسلامية خاضعة لنفوذ القوى المعادية لها.. تلك القوى التي تتمثل في عدد محدود من الدول الكبيرة، التي يحمى بعضها بعضا، ويتبادل ساستها الدفاع عن المصالح، التي تهم أي طرف من أطرافها.
2- أن تظل بلدان العالم الإسلامي خصوصًا، والعالم النامى عمومًا تابعة لتلك الدول الكبيرة المتقدمة تبعية غير منظورة، وفى هذه التبعية يكمن دهاء تلك الدول المتبوعة وذكاؤها، فليس أقتل للشعوب من أن تحس بالحرية والاستقلال بينما هي ترسف في قيود الذل والتبعية. وليس أضيع لمستقبل أمه من الأمم أن تعجز عن أن تخطط لمستقبلها ومصيرها إلا وهى دائرة في فلك دولةٍ كبيرةٍ واهمةً ذاهلةً عن حقيقة ما تعانيه من تبعية.
3- أن تتبنى الأمة الإسلامية أفكار أمة أخرى من الأمم الكبيرة دون نظر فاحص، وتأمل دقيق، مما يؤدى إلى ضياع حاضر الأمة الإسلامية في أي قطر من أقطارها، وتبديد لمستقبلها، فضلًا عما في ذلك من صرف عن منهجا وكتابها، وسنة ورسولها.. وما يترتب على هذا الصرف من ضياع أي ضياع، إذ لا يوجد مذهب سياسى أو اقتصادى أو اجتماعى يغنى الأمة الإسلامية عن منهجها الإلهى، ونظامها الشامل المتكامل في كل زمان ومكان.
4- أن تتخذ الأمة الإسلامية مناهج التربية والتعليم لدولة من هذه الدول الكبيرة فتطبقها على أبنائها وأجيالها، فتشوه بذلك فكرهم، وتمسخ عقولهم، وتخرج بهم إلى الحياة وقد أجادوا بتطبيق هذه المناهج عليهم شيئًا واحدًا، هو تبعيتهم لأصحاب تلك المناهج الغازية أولًا, ثم يلبس الأمر عليهم بعد ذلك، فيحسبون أنهم بذلك على الصواب، ثم يجادلون عما حسبوه صوابًا ويدعون إليه، وهم بذلك يؤكدون تبعيتهم من جانب آخر، فيعيشون الحياة وليس لهم منها إلا حظ الأتباع والأذناب.
5- أن يحول العدو بين الأمة الإسلامية وبين تاريخها وماضيها وسير الصالحين من أسلافها، ليحل محل ذلك تاريخ تلك الدول الكبيرة الغازية وسير أعلامها وقادتها.
6- أن تزاحم لغة الغالب لغه المغلوب، فضلًا عن أن تحل محلها أو تحاربها بإحياء اللهجات العامية أو الإقليمية، ما دام الإنسان لا يفكر إلا باللغة فإن إضعاف لغة أمة هو إضعاف لفكرها.
7- أن تسود الأمة المغزوة أخلاق الأمة الغازية وعاداتها وتقاليدها (1) .
8- تصوير تراث الأمة الإسلامية بصورة التخلف، وعدم قدرته على إمداد الحضارة بشئ مفيد، وأنه لم يكن له فضل على الحضارات التي جاءت بعده.
__________
(1) انظر: الدكتور على عبد الحليم محمود، الغزو الفكرى والتيارات المعادية للإسلام: ص 8-10 بتصرف(7/2122)
9- إحياء الجوانب الضعيفة في التراث الإسلامي خاصة فيما يتعلق بالخلافات السياسية التي وقعت بين المسلمين أنفسهم، والتركيز على دعوات الحركات الباطنية، وإخراجها بصورة جميلة مضيئة، ووصف هذه الدعوات بأنها كانت تحمل فكرًا عاليًا، وفلسفة عميقة (1) .
10-إضعاف مثل الإسلام وقيمه العليا من جانب، وإثبات تفوق المثل الغربية وعظمتها من جانب آخر، وإظهار أي دعوة للتمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر.
11- تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضارى، بدعوى أن الحضارة الإسلامية منقولة عن حضارة الرومان، ولم يكن العرب والمسلمون إلا نقلة لفلسفة تلك الحضارة وآثارها.
12-إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف أقطارهم عن طريق إحياء القوميات التي كانت لهم قبل الإسلام، وإثارة الخلافات والنعرات بين شعوبهم (2) .
13-اقتلاع العقيدة الإسلامية من قلوب المسلمين، وصرفهم عن التمسك بالإسلام نظامًا وسلوكًا.
14-تفريغ العقل والقلب من القيم الأساسية المستمدة من الإيمان بالله، ودفع هذه القلوب عارية أمام عاصفة هوجاء تحمل معها السموم عن طريق الصحافة والمسرح والفيلم والأزياء والملابس.
__________
(1) إبراهيم النعمة، المسلمون أمام تحديات الغزو الفكرى: ص 30
(2) أنور الجندى، شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامى: ص 18(7/2123)
نقد الغزو الفكري ومواجهته
بعد أن اتضحت لنا أبعاد (الغزو الفكري) وتياراته، وحركاته، التي تعمل ليل نهار، يبقى أمامنا السؤال الكبير: ماذا فعلنا نحن؟ من موقفنا من الغزو الفكري؟ إن جزءًا كبيرًا من الغزو الفكري حركة فكرية هائلة، وما تنتجه هذه الحركة يخصنا نحن المسلمين، ويخص عقيدتنا، ولغتنا، وتراثنا، وتاريخنا، وذاتيتنا.
وإن جزءًا كبيرًا آخر من الغزو الفكري حركة عملية هائلة، تأخذ المواقع، وتسيطر على القلوب.
والغزو الفكري بحركته الفكرية والعملية من أخطر ما نواجه في حياتنا؛ لأن ما يقوم به من أهداف تقوض الدعائم يتعلق بأعمق أعماقنا عقديًّا، وفكريًّا، وحضاريًّا، وليس هناك أمام المسلمين من سبيل إلا المواجهة وقبول التحدي وإثبات الذات وإلا فلسنا جديرين بالحياة.
ولا يخفي على أحد أن السعي إلى إثبات الذات والعمل على مواجهة هذه التحديات والتيارات الغازية دليل صحة، ودليل صحوة..- إذن – لابد من منهج.
والمنهج الصحيح هو أن نواجه الفكر بالفكر، والعمل بالعمل، ولما كان التخطيط الاستشراقي منبعًا لكثير من التيارات, والتحرك التبشيري غزوًا علميًّا للمجتمعات، كان علينا أن نواجه هذين التيارين في قوة وحزم.(7/2124)
أولًا – مواجهة الفكر الاستشراقي:
لا شك أن الاستشراق كان ولايزال يشكل الجذور الحقيقية، التي تقدم المدد للتنصير والاستعمار، والعمالة الثقافية، ويغذي عملية الصراع الفكري، ويشكل المناخ الملائم، لفرض السيطرة الاستعمارية على الشرق الإسلامي وإخضاع شعوبه.
فالاستشراق هو المنجم، والمصنع الفكري، الذي يمد المنصرين والمستعمرين، وأدوات الغزو الفكري، بالمواد التي يسوقونها في العالم الإسلامي، لتحطيم عقيدته، وتخريب عالم أفكاره، والقضاء على شخصيته الحضارية التاريخية (1) .
لقد تطورت الوسائل، وتعددت طرق المواجهة الثقافية الحديثة، ويكفي أن نشير إلى مراكز البحوث والدراسات، سواء أكانت مستقلة أم أقسامًا للدراسات الشرقية، في الجامعات العلمية، والاختصاصات الدراسية تمثل الصور الأحدث فيتطور الاستشراق، حيث تمكن أصحاب القرار من الاطلاع والرصد لما يجري في العالم يوميًّا (2) .
ففي القارة الأمريكية وحدها حوالي عشرة آلاف مركز للبحوث والدراسات، القسم الكبير منها متخصص بشؤون العالم الإسلامي، ووظيفة هذه المراكز تتبع ورصد كل ما يجري في العالم، ومن ثم دراسته وتحليله، مقارنًا مع أصوله التراثية التاريخية ومنابعه العقدية، ثم مناقشة ذلك مع صانعي القرار، لتبني على أساسه الخطط، وتوضع الاستراتيجيات الثقافية والسياسية، وتحدد وسائل التنفيذ (3) .
__________
(1) انظر: عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب الأمة رقم 27: ص 22
(2) عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب الأمة، عدد 27: ص 9
(3) عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب الأمة، عدد 27 ص 9(7/2125)
وإن الباحث في مؤسسات الاستشراق ووسائله المختلفة يجد أنها استطاعت أن تؤثر في العقلية الإسلامية، فهذه دائرة المعارف الإسلامية تعد أكبر مصدر للمعلومات والحقائق الإسلامية، وأثمن ذخيرة لها، وتعتبرها بعض البلاد الإسلامية اليوم، أساسًا للمعلومات الإسلامية، وتقوم بترجمتها إلى لغاتها بنصها وروحها (1) .
ولقد نجحت العقلية الأوروبية الاستشراقية في فرض شكليتها وآليتها على التحقيق والتقويم والنقد والسيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، ويمكن القول بأن معظم الكتابات العربية المعالجة للتراث، قد سارت على هذا النهج في التاريخ، والأدب، وغيره.. ولم تتجاوزه إلا في القليل النادر، وانتهت إلى إيجاد ركائز عربية معبرة عنها، ومتبنية لوجهة نظرها، ومدافعة عن المواقع الثقافية التي احتلتها، حتى في الجامعات، والمؤسسات العلمية لا يزال الخضوع والاحتكام للقوالب الفكرية، التي اكتسبها بعض المثقفين العرب، من الجامعات الأوروبية (2) .
وبجانب كل هذا فإن الاستشراق يذهب إلى محاولة إلغاء النسق الإسلامي، ومحاولة تشكيل العقل المسلم، وفق النسق الغربي الأوروبي، وإنجاب تلامذة من أبناء العالم الإسلامي، لممارسة هذا الدور , والتقدم باتجاه الجامعات والمعاهد، ومراكز الدراسات والإعلام والتربية في العالم الإسلامي لجعل الفكر الغربي والنسق الغربي هو المنهج، والمرجع، والمصدر، والكتاب (3) .
ومما يلحظه الباحث بوضوح أن عمليات الاستشراق والتغريب، لم تستسلم، ولم تلق السلاح، لكن لما أعياها السعي، فبدل أن تقر بفساد نظرياتها، وطروحاتها، وعدم إمكانية القبول لها في العالم الإسلامي، تحاول اليوم أن تعتبر أن المشكلة والعلة في بنية العقل المسلم أصلًا، لتأتي على البنيان الإسلامي من القواعد، وترسب في النفوس أن السبب في التخلف، والعجز، والتخاذل الثقافي، وعدم القدرة على الإبداع، وقبول الفكر الغربي، هو في بنية هذا العقل، وتكوينه، وميراثه الثقافي.
فهو عقل مولع بالجزئية، وعاجز عن النظرة الكلية للأشياء، وهو عاطفي يحب الإثارة والانفعال، ويعجز عن الفعل، وهو محكوم أيضًا بموروث ثقافي، لا يستطيع الفكاك منه, فهو لا يفكر بطلاقة وحرية، لأنه محكوم بوحي مسبق، وهو يقوم على منهج التفكير الاستنتاجي، ويعجز عن التفكير الاستقرائي، وهو معجب بالمنهج البياني، وعاجز عن المنهج البرهاني، وهو يخلط بين الواقع المعاش والمثال الخيالي، وصاحبه يحب الثأر، ويغرق في الملذات، وإن الإسلام الذي يكون هذا العقل هو دين أمر ونهي، وزجر وكبت للحرية، وإلغاء للاجتهاد، الأمر الذي أدى إلى التقليد وفقدان الشخصية، والقدرة على الإبداع (4) .
ولابد أن نعترف بأن الاستشراق يستمد قوته من ضعفنا، ووجوده نفسه مشروط بعجز العالم الإسلامي عن معرفة ذاته، وينهض عن عجزه، ويلقي على كاهله أثقال التخلف الفكري والحضاري، يومها سيجد الاستشراق نفسه في أزمة وخاصة الاستشراق المشتغل بالإسلام، ويومها لن يجد الجمهور الذي يخاطبه، لا في أوروبا، ولا في العالم الإسلامي، ولا يجوز لنا أن ننتظر من غيرنا – أيًّا كان هذا – أن يساعدنا على النهوض من كبوتنا (5) .
وإذا كان علينا أن نضع عن أنفسنا أغلال الوصاية الفكرية فإن علينا من ناحية أخرى أن نتحرر من عقدة التخلف التي تسيطر علينا في جميع مناحي حياتنا والتي تسد علينا منافذ الأمل في الخروج من أزمتنا فقد تحرؤرنا من الاستعمار العسكري ولكننا لم نتحرر من القابلية للاستعمار , ولهذا فإن نظرتنا لكل ما يأتي من الغرب هي نظرة التقدير والإكبار، حتى وإن كان هذا الذي يرد إلينا متمثلًا في أزياء غريبة عن أذواقنا وتقاليدنا (6) .
وحتى نكون في مستوي الحوار الفكري، والتبادل المعرفي، ونوقف فعلًا الغزو الفكري والاختراق الاستشراقي، لابد أن نكون قادرين على امتلاك الشوكة الفعلية.. أن نكون قادرين على الإنتاج الفعلي لمواد ثقافية تمثل ثقافتنا وتأتي استجابة لها، وتغري الناس بها، وبذلك وحده نكون في مستوي الحوار والتبادل المعرفي، فالمواجهة لا تكون بإدانة الآخرين والنظر إلى الخارج دائمًا، وإنما تبدأ حقيقة من النظر إلى الداخل أولًا لملء الفراغ بعمل بناء مستمر، وتحصين الذات (7)
__________
(1) الشيخ أبو الحسن الندوي، الإسلام والمستشرقون، مجلة المنهل، عدد 471: ص 26
(2) الأستاذ عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب الأمة العدد رقم 27: ص 14
(3) المصدر السابق: ص 16
(4) المصدر السابق: ص 27، 28
(5) الدكتور محمد حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ص 127، 128
(6) المصدر السابق: ص 128
(7) عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب الأمة، العدد رقم 27: ص 29(7/2126)
وقد لا يكون المرء مجانبًا للصواب إذا قال: إننا إذا لم نتصد للتيار الاستشراقي بكل قوة فسوف نتعرض للانسلاخ والذوبان لا محالة , والمعركة بين الاستشراق والإسلام معركة فكرية هائلة، جند لها المستشرقون كل المعاول التي تحاول أن تهزم المسلمين وتبعدهم عن إسلامهم.
وإن الإنسان الذي يتابع النشاط الاستشراقي قد يلحظ بوضوح أن هذا النشاط يمثل قمة التحدي للفكر الإسلامي، وقد يكون معروفا لدى الباحثين: (أن التيارات الفكرية الأجنبية القديمة التي كانت تمثل تحديا للإسلام، والفكر الإسلامي الأصيل، في عصور الإسلام الزاهرة – كانت حافزًا للمسلمين، في تلك الأيام الخوالي للوقوف أمامها بقوة وصلابة (1) .
وقد رأى الإمام الغزالي في عصره أن التيارات الفلسفية يتردد صداها في الأرجاء وأنها تصول وتجول في تحد سافر للفكر الإسلامي والمسلمين , فلم قف الغزالي موقف المتفرج ولم يسب ويشتم ويصرخ ويولول، ولم يرغب أن يترك الأمر ويقول: لا شأن لي به، ولكنه عزم على خوض المعركة, فأعد العدة، واتخذ لها الأدوات من العلم والمعرفة بما عند هؤلاء.
وقد رأى أن يتقن الفلسفة ويتفرغ لقضاياها ويتعرف على مقاصد الفلاسفة، واستطاع في دقة وإتقان أن يخرج كتابه: (مقاصد الفلاسفة) , وكان ما قام به هو الخطوة الأولى في منهج المواجهة للفكر الفلسفي، ثم جاءت الخطوة الثانية بعد ذلك، بالكشف عما في (مقاصد الفلسفة) من تناقض للفكر، ومخالفة للمنطق والعقل، وتعثر في المقاصد، فكان كتاب (تهافت الفلاسفة) يمثل قمة المواجهة.
__________
(1) الدكتور محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص 124(7/2127)
واستطاع بهذا المنهج النقدي أن يواجه المعركة، ويخوض غمارها، في قوة ودقة، ويقول الغزالي معبرًا عن ذلك المنهج: (ثم إني ابتدأت – بعد الفراغ من علم الكلام – بعلم الفلسفة، وعلمت يقينًا: أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أهل ذلك العلم، ثم يزيد عليه، ويجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غوره وغائله، وإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقًّا، ولم أر أحدًا من علماء الإسلام، صرف عنايته وهمته إلى ذلك) (1) .
وإذا كان الغزالي، قد استطاع أن يواجه الفكر الفلسفي في عصره، فإن الأمر بالنسبة للاستشراق يحتاج إلى جهود أفراد ومؤسسات، فمكتبات العالم مليئة بإنتاج المستشرقين، وبشتى اللغات الإنسانية، وهناك عشرات المجلات ومئات المؤسسات التي ترعى الاستشراق، وتعمل لخدمة المستشرقين، وهناك أيضًا آلاف العلماء والباحثين من المستشرقين الذين يتفرغون لبحوثهم ودراساتهم , وهناك المؤتمرات الاستشراقية العالمية التي تعقد حسب الحاجة في العواصم العالمية.
ولقد كان لحركات الفكر الاستشراقي منذ القرن الثامن عشر قوة دفع ورواج واستقطاب، أثارت اهتمام رجال الفكر الإسلامي، بما كتبه المستشرقون عن الإسلام في الكتب والمجلات والموسوعات، وعن مصدرية الأساسيين: القرآن الكريم والسنة النبوية، وعن النبي الذي بعثه الله بهذا الدين الحنيف (2) ، ومواجهة التحديات الاستشراقية، ضرورة لابد منها، إن كنا نريد الحفاظ على عقائدنا التي جاء بها الإسلام، وكنا نريد الحفاظ على ذاتيتنا وشخصيتنا , ومواجهة الاستشراق في مجال العقيدة الإسلامية وغيرها يحتاج – كغيره – إلى بذل جهود صادقة ومخلصة لرد هذه الطعون المفتراة، حتى لا يأتي زمن نجد أنفسنا فيه بألسنة غير ألسنتنا، نردد ما يقوله المستشرقون دون وعي أو دون أن نحس أننا مسلمون لنا عقائدنا وشخصيتنا.
__________
(1) الإمام الغزالي، المنقذ من الضلال: ص 92، تقديم الدكتور عبد الحليم محمود، طبعة دار الكتاب اللبناني، بيروت 1985 م
(2) الدكتور التهامي نقرة، القرآن واالمستشرقون: ص 21، من كتاب (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية – الجزء الأول) طبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض 1985 م(7/2128)
ومنهج نقد الاستشراق في مجال العقيدة الإسلامية وغيرها مما تناوله الاستشراق لابد وأن يقوم من وجهة نظرنا على الأصول الأساسية التالية:
أولا: استيعاب شامل للإنتاج الاستشراقي في مختلف المجالات الإسلامية، وهذا الاستيعاب لابد منه، ومن حق الأمة الإسلامية، أن يعرف أبناؤه ما يقوله الآخرون عنها، في عقائدها وغير عقائدها، ليكون أبناء الأمة على بينة مما يقوله - أو يتقوله - هؤلاء المستشرقون.. ويلزم هذا الاستيعاب الشامل تحقيق الأمور التالية:
1- القيام بحصر شامل لكتاب المستشرقين في المجالات المختلفة في القرنين التاسع عشر والعشرين بصفة أساسية باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية والإيطالية والروسية , ويشمل هذا الحصر الكتب والمجلات والدوريات.
والقيام بعملية حصر هذه الأعمال الاستشراقية يحتاج إلى خبراء وعلماء مسلمين متخصصين، ويحتاج إلى عدد من المساعدين في مجال كل لغة نأخذ منها.
2- لابد من توفير كل الأعمال الاستشراقية، المشار إليها، عن طريق الشراء، إذا كانت متوفرة، أو عن طريق التصوير إذ لم يمكن شراؤها، وتشكل هذه الأعمال مكتبة استشراقية تكون تحت أيدي الخبراء والعلماء.
3- يقوم جهاز متعاون من الخبراء في اللغات المختلفة بتحضير المادة وتصنيف الموضوعات، وضم المادة التي يتكرر الحديث عنها في لغات مختلفة تحت موضوع واحد.
4- تقدم المادة للعلماء الذين سيقومون بإعداد النقود العلمية، ويراعى عند تقديم المادة للعلماء أن تترجم لهم الأفكار الأساسية للقضايا المعروضة، ليكون عند العلماء تصور شامل لكل ما قيل حول القضية المطروحة، وحتى يغطي التناول للموضوع وجهات النظر التي قيلت فيه (1) .
5- تذكر مع المادة التي تقدم للعلماء أسماء المستشرقين الذين تناولوها وأزمنتهم وبيئاتهم، والدوافع وراء مقولاتهم.
__________
(1) الدكتور محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص 134، بتصرف وإضافة واختصار(7/2129)
6- العمل على بيان المصادر التي اعتمد عليها المستشرقون في كتاباتهم عن قضايا المسلمين، وهل هي مصادر إسلامية أصيلة في الموضوع، أم مصادر غير إسلامية؟ لأن بعض المستشرقين يعتمد على ما ذكره المستشرقون السابقون كمصدر أساسي دون الرجوع إلى كتب المسلمين.
7- بيان المنهج الذي التزم به هؤلاء الكاتبون في العقائد والشرائع والتاريخ والحضارة والسيرة؛ لأن بيان مناهج المستشرقون سوف يكشف لنا عن أخطاء جسيمة في المنهج والنتائج، والدارس لمقولات المستشرقين في العقائد الإسلامية وغيرها يجد في هذه الكتابة تغربًّا عن المسلمات، وخروجًا صريحًا على البداهات، وما يمكن اعتباره محاولات متعمدة لإصابة هذه المسلمات والبداهات بالجروح والكسور، وهي لن تفعل فعلها في يقين المسلم إلا في حالات معينة، بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمها إلى الاشمئزاز والنفور.
هذا مع أن معالجة واقعة تمتد جذورها إلى عالم الغيب وترتبط أسبابها بالسماء , ويكون فيها الوحي همزة وصل مباشرة بين الله سبحانه ورسوله الكريم، ويتربى في ظلالها المنتمون على عين الله ورسوله ليكون تعبيرًا حيًّا عن إيمانهم، وقدوة حسنة للقادمين من بعده مواقع كهذه؛ لا يمكن بحال أن تعامل كما تعامل الجزئيات والذرات والعناصر في مختبر الكمياء , أو كما تعامل الخطوط والزوايا والمساحات على تصاميم المهندسين، بل ولا كما تعامل الوقائع التاريخية التي لا ترتبط بأي بُعد ديني أصيل. (1)
__________
(1) الدكتور عماد الدين خليل، المستشرقون والسيرة النبوية: ص6، طبعة دار الثقافة بالدوحة 1410 هـ 1989 م(7/2130)
إننا هنا بمواجهة تجربة من نوع خاص، وشبكة من العوامل والمؤثرات تند عن حدود مملكة العقل، وتستعصي على التحليل المنطقي الاعتيادي المألوف، ومن ثم فإن محاولة قسرها على الخضوع لمقولات العقل الصرف، ومعطيات المنطق المتوارثة لا يقود إلى نتائج خاطئة حينًا ولا تستعصي عليه بعض الظواهر حينًا آخر فحسب، بل إنه يقوم بما يمكن اعتباره جريمة قتل بشكل من الأشكال، أو محاولة لتفحص الجسد البشري، كما لو كان في حالة سكون مطلق بعيدًا عن تأثيرات الروح وتعقيدات الحياة (1) .
وإن الدين والغيب والروح والوحي والقضاء والقدر، وما اتصل بهذا من أمور العقائد ليس بمقدور الحس أو العقل أن يدلي بكلمته فيها إلا بمقدار، وتبقى المساحات الأكثر عمقًا وامتدادًا بعيدة عن حدود عمل الحواس وتحليلات العقل والمنطق.
ثانيًا: نقد المنهج الذي التزم به المستشرقون في معالجة قضايا العقيدة الإسلامية، ونقد المنهج هو خطوة حاسمة وضرورية قبل البدء في نقد ما جاء من أخطاء وافتراءات في مجال العقيدة؛ لأن: (مناقشة أي من المستشرقين على مستوى التفاصيل والجزئيات، لا تغني شيئًا لأنها ستكون بمثابة نقد موقوت يتحرك على السطح، ويستهلك نفسه في الجزئيات دون أن يبحث عن الجذور العميقة التي تظل تنبت الشوك والحسك.
والجذور العميقة هي المنهج الخاطئ الذي تقوم عليه أبحاث هؤلاء المستشرقون، فإذا استطعنا أن نضع أيدينا على عيوب المنهج وشروخه استطعنا معرفة المنبع الذي يتمخض عنه تيار الأخطاء الموضوعية، وخلخلة الأسس التي جاءت بهذه الثمار المرة، واقتلاعها (2) .
__________
(1) المصدر السابق: ص6
(2) المصدر السابق: ص8(7/2131)
ثالثًا: نقد الأخطاء التي وقع فيها المستشرقون في مجال الإسلاميات , وعملية نقد هذه الأخطاء والمزاعم تقتضي منا عرض الشبهات والمقولات، ونقدها نقدًا علميًّا بعيدًا عن النزعات الهجومية حتى يكون لهذا العمل العلمي أثره الإيجابي لدى المثقفين من المسلمين وغير المسلمين.. وحتى يكون كذلك دافعًا للمستشرقين إلى إعادة النظر في أقوالهم وعونًا لهم على تصحيح اتجاهاتهم، وفي النهاية يكون هذا العمل بمثابة تعريف بالإسلام، لكل راغب في التعرف عليه (1) .
ولا يخفى أن العمل العلمي القائم على النقد السليم يحمل العمل البنائي الذي يأخذ بالناس جميعًا إلى العلم والمعرفة، والعملية النقدية الهادفة جديرة بالممارسة والمتابعة لإثراء الفكر الإنساني بكل حق وبكل مفيد.
والنقد المطلوب لشبهات وأخطاء المستشرقين لابد وأن يتجاوز الدفاع المتشنج إزاء كل ما طرحه أولئك الذين تخصصوا في الاستشراق.
رابعًا: إبراز ما ردده بعض المستشرقين في نقدهم لمستشرقين آخرين، فإن هذه النقود العلمية التي ذكرها المستشرقون لها دلائلها، وقد تكون أبلغ في باب النقد والتصدي والمواجهة، وما أكثر ما جاء عن المستشرقين في باب النقد، إن ما ذكره بعض المستشرقين في هذا الباب، يشكل ثروة مفيدة، وليس من الكياسة أن نبتعد عن المنصفين.
خامسًا: إثبات أن المصادر التي اعتمد عليها رجال الاستشراق غير أصيلة في الموضوع, وقد رأى الباحثون أن المستشرقين قد يرجعون إلى آراء مستشرقين سابقين قد أعماهم التعصب فنفثوا سمومهم فيما كتبوه، وبعضهم يرجع إلى مصادر لا تتصل بالعقيدة الإسلامية من قريب أو بعيد، وبعضهم يعتمد على كتاب ألف ليلة وليلة, وكليلة ودمنة، وغيرهما من الكتب التي تجري مجراهما.
__________
(1) الدكتور محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص 132(7/2132)
سادسًا: يحسن أن تحاط النقود بيان ما وقع فيه بعض المستشرقين من أخطاء علمية، أو لغوية، أو تاريخية، عن جهل، أو عن سوء فهم وضيق نظر أو عن شطط في الافتراضات (1)
سابعًا: أن تقوم النقود التي توجه إلى الاستشراق على منهج يضم الأدلة العقلية والأدلة النقلية؛ لأن نقد الاستشراق هو بالدرجة الأولى للمسلمين حتى لا يخدعوا بهذه البحوث والدراسات التي تصل عن طريق الاستشراق، وحتى لا ينبهروا بهذا التيار.
كما أن نقد الاستشراق هو للمستشرقين وقد لا يعترفون بالدليل النقلي، فكان لابد من الدليل العقلي المقنع، الذي يجعلهم يفكرون كثيرًا، قبل أن يقدموا على تناول ما للمسلمين بغير المراد.
ثامنًا: أن تكون النقود التي توجه إلى الاستشراق شاملة لآراء السلف والخلف، في مسائل العقيدة من الأسماء والصفات، والتشبيه والتأويل، والقضاء والقدر، والحرية والجبرية، وقضية الألوهية والإسلام والإيمان، والنبوة والرسالة، والوحي والمعجزة، والبعث وما جرى مجرى هذا من مسائل العقيدة.
ومواجهة الفكر الاستشراقي بما ذكره السلف والخلف فيه تضييق وحصار لآراء المستشرقين.
تاسعًا: لابد من تفرغ عدد كبير من علماء الأمة الإسلامية المتخصصين والذين لهم اتصال بالبحوث والدراسات الاستشراقية للقيام بهذه النقود العلمية واستخراجها على ما ينبغي.
عاشرًا: أن تتوفر لهذا العمل الجدية والجهود المخلصة، لتتمكن الأمة من المواجهة والعمل.
وهناك أعمال أخرى تتصل بمنهج نقد الاستشراق وهي ضرورية ليكون هناك تكامل وحسم في المعالجة.
__________
(1) الدكتور التهامي النقرة، القرآن والمستشرقون، مناهج المستشرقين: 1/ 22(7/2133)
ونذكر من تلك الأعمال ما يلي:
1- أن يصاحب النقود التي توجه للاستشراق عمل موسوعة الرد على المستشرقين، وموسوعة الرد شاملة لكل ما تناوله الاستشراق، وفي هذا يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق: (إن المواجهة الفكرية الجادة هي الطريق الصحيح لمواجهة أية تيارات مناوئة للإسلام والمسلمين، ومن أجل ذلك ينبغي أن ننظر إلى حركة الاستشراق بكل جدية، ونأخذ في الحسبان أن لها آثارًا كبيرة على قطاعات عريضة من المثقفين في العالم الإسلامي في العالم الغربي على السواء، ولهذا لابد من التوفر على دراسة الاستشراق دراسة عميقة، ولما كان الفكر الاستشراقي مكتوبًا بشتى اللغات الحية ومنتشرًا انتشارًا واسعًا على مستوى عالمي، فمواجهته لابد أن تكون على المستوى العالمي نفسه) (1) .
وقد دعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وفي القاهرة في نهاية عام 1979 م إلى ندوة لمناقشة موضوع إعداد (موسوعة للرد على المستشرقين) وقد حضر الندوة عدد يزيد على عشرين من العلماء والمفكرين المهتمين بهذا الموضوع، وقد أعدت التقارير وقضي الأمر ونامت الفكرة. (2)
ولا يفوت الباحث أن يذكر أن (موسوعة الرد على المستشرقين) تختلف عن (منهج نقد الاستشراق في مجال العقيدة والسنة وغيرهما) لأن الموسوعة شاملة للفكر الإسلامي.
2- لابد من عمل دائرة معارف إسلامية، يقوم بعملها العلماء المسلمون (مشروع إصدار دائرة معارف إسلامية) من بين الأولويات العلمية الملحة، فلا يجوز أن نظل نقتات فكريًّّا من دائرة المعارف الإسلامية التي قام بإعدادها المستشرقون قبل الحرب العالمية الثانية؛ فقد تجاوزها المستشرقون وانتهوا منذ بضع سنوات من إصدار دائرة معارف إسلامية جديدة، وواجبنا نحن المسلمين أن نقوم بإصدار دائرة معارف إسلامية باللغة العربية واللغات الأوروبية تكون على الأقل في مستوي دائرة المعارف الإسلامية في شتى فروع الدراسات الإسلامية والعربية إلى المسلمين وغير المسلمين على السواء. (3)
__________
(1) الدكتور محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص 131
(2) الدكتور محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص131
(3) المصدر السابق: ص142(7/2134)
وقد لا يكون المرء مجانبًا للصواب إذا عرف أن تقاعس المسلمين حتى اليوم عن عمل (دائرة معارف إسلامية) يدل على الضعف، الذي يدب في النفوس، وأن مؤتمرات العلماء المسلمين، وقراراتهم تمثل مظاهرة صاخبة هاجت وماجت ثم نامت.. إن مشكلتنا أننا نتكلم أكثر مما نعمل، وإن شئت فقل: إننا نتكلم ولا نعمل.
ومهمتنا لنواجه الاستشراق أن نعمل على إصدار عدة موسوعات ودوائر معارف في التاريخ والعقائد والأدب والأخلاق والفقه والحديث ومختلف العلوم والفنون؛ لأن المعركة فكرية قوامها انتشار الكلمة.
3- من الضروري لمؤازرة منهج نقد الاستشراق في الأمور التي خاض فيها أن تكون هناك دوريات ومجلات ونشرات بمختلف اللغات تتناول ما يتصل بمواجهة الاستشراق لمحاصرة الفكر الاستشراقي، وصد هجومه والوقوف أمام زحفه.
4- من الضروري لنجاح التصدي لسوء ما جاء عن بعض المستشرقين أن تكون هناك مؤسسات علمية وأكاديمية ودعوية، ترعى شؤون النقد والمواجهة وإعداد الدوريات والمجلات والمؤتمرات.
وفي إمكان الأمة الإسلامية أن تُوجِد الهيئات العلمية العالمية، وتهيئ الأجواء المناسبة التي تكفل نجاح المواجهة، والتصدي للزحف الاستشراقي، وذلك أن أمتنا الإسلامية حباها الله سبحانه وتعالى بأعظم النعم، كما بها من الجامعات ما يمكن من وجود آلاف العلماء المتخصصين في مختلف العلوم والفنون..(7/2135)
5- أن نمد يد الصداقة والمودة للهيئات الاستشراقية العالمية، وأن يكون لنا دور بالمشاركة في المؤتمرات الاستشراقية التي تعقد في مختلف العواصم العالمية.
وهذه المشاركة لها أثر إيجابي في نفوس المستشرقين، فقد تجعل المستشرقين يشعرون بأننا لسنا منعزلين، وإننا نريد أن نفهمهم: من نحن، ومن نكون؟ ومن الكياسة أن ندعو بعض المستشرقين المنصفين لفكرنا وتراثنا إلى مؤتمراتنا ونداوتنا.
6- أن تقيم كل جامعة في مجتمعات الأمة الإسلامية معهدا للدراسات الاستشراقية، يمنح الدارسون في هذا المعهد درجات علمية عالمية، وقد لا يتصور الإنسان أن الأمة الإسلامية - وقد تعددت جامعاتها المختلفة - لم تعمل بعد على إنشاء معاهد أو أقسام للدراسات الاستشراقية، في حين أننا نجد أنه ما من جامعة في أوربا أو أمريكا إلا وملحق بها معاهد وأقسام لدراسة الإسلام والمسلمين حتى أصبحنا بحركاتنا وسكناتنا واقعين تحت سيطرة وأقوال وآراء الاستشراق.
7- أن تعمل كل جامعة وكل معهد وكل مؤسسة على تفرغ عدد معين من أساتذتها للدراسات الاستشراقية في مواضع محددة.
8- أن يكون هناك تنسيق وتخطيط بين المؤسسات الإسلامية وتكامل في الموضوعات المطروحة.
وبهذه الأعمال العلمية نستطيع أن نتصدى للتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية، وبهذه الأعمال العلمية نستطيع أن نكشف في وضوح أن جهود المستشرقين لا تستند على حجة ولا عقل ولا منطق، بل هي جهود مغرضة الهدف منها النيل من الإسلام وأهله، وقد اتسمت هذه الجهود بالكذب والافتراء والمغالطة.
ومن يتصفح كتب المستشرقين وموسوعاتهم ودوائرهم.. يجد مئات من الاتهامات والأباطيل، وآلاف التخريجات التي لا صلة لها بالعلم.
وإذا كان المسلمون يظنون أنهم في صحوة إسلامية ووعي إسلامي، فإن من مبادئ الصحوة الإسلامية وأولياتها: مواجهة الاستشراق والمستشرقين حتى لا يأتي وقت تكون فيه هذه الصحوات إرادة استشراقية وتجارب مرادة تجعل المسلمين يهتمون بالأشكال والقشور وكل من شأنه أن يبعث على الجمود والتأخر والتخلف.(7/2136)
ثانيًا: مواجهة التبشير:
كلمة (التبشير) من الكلمات التي أطلقت على المنظمات الدينية النصرانية التي تستهدف نشر الديانة النصرانية في المجتمعات الإسلامية والوثنية والإلحادية.
ومما يجدر أن نعرفه أن البعض من الدارسين والباحثين يستعملون في بحوثهم التي تتصل بنشر النصرانية كلمة (التنصير) بدلًا من كلمة (التبشير) ؛ لأن كلمة التبشير في المعاجم تعني: الخبر الذي يفيد السرور، والبعض الآخر يستعملون كلمة (التبشير) لأن كلمة التبشير هي لسانهم وعقيدتهم، ونحن نستعمل في بحوثنا كلمة الاستعمار والشيوعية والاشتراكية والعلمانية والديمقراطية كما ذكرها أصحابها، ولا مانع أن نذكر كلمة التبشير كما جاءت.
والتبشير – كما تذكره الموسوعات – حركة دينية سياسية استعمارية بدأت بالظهور إثر فشل الحروب الصليبية بغية نشر النصرانية في الأمم المختلفة في دول العالم الثالث بعامة, وبين المسلمين بخاصة، بهدف إحكام السيطرة على هذه الشعوب.
ويعتبر المبشر (ريمون لول) أول نصراني يتولى التبشير بعد فشل الحروب الصليبية في مهمتها، إذ أنه قد تعلم اللغة العربية بكل مشقة، وأخذ يجول في بلاد الشام مناقشًا علماء المسلمين، ومنذ القرن الخامس عشر الميلادي وأثناء الاكتشافات البرتغالية دخل المبشرون الكاثوليك إلى إفريقيا، وبعد ذلك بكثير أخذت ترد الإرساليات التبشيرية البروتستانتية إنجليزية وألمانية وفرنسية.
وقد اهتمت الكنيسة بتوجيه الجهود إلى التبشير في المجتمعات الإسلامية، تريد أن تقتلع الإسلام من نفوس المسلمين، أو تبعد المسلمين عن الإسلام حتى يمكن أن يعتز الإنسان بالقومية أو الحزبية أو الاشتراكية، أو ما جرى مجرى هذا دون أن يفكر في الإسلام.
ويكاد يجمع المبشرون فيما بينهم على أن القوة التي تخيف أوروبا وأمريكا هي قوة الإسلام والمسلمين، ولذا يعمل التبشير بكل ما يملك على تمزيق الأمة الإسلامية، ويصرح المبشر لورانس براون: بالهدف الحقيقي للمبشرين من عملهم في بلاد المسلمين فيقول: (إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصحبوا لعنة على العالم وخطرًا، أو أمكن أن يصبحوا أيضًا نقمة له، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير) .(7/2137)
ويعبر القس صمويل زويمر عن النوايا السيئة التي تحملها النصرانية للإسلام والمسلمين، فيقول: (لا ينبغي للمبشر المسيحي أن يفشل أو أن ييأس ويقنط عندما يرى أن مساعيه لم تثمر في جلب كثير من المسلمين إلى المسيحية، لكن يكفي جعل الإسلام يخسر مسلمين بذبذبة بعضهم، عندما تذبذب مسلمًا وتجعل الإسلام يخسره تعتبر ناجحًا يا أيها المبشر المسيحي، يكفي أن تذبذبه ولو لم يصبح هذا المسلم مسيحيًّا) .
وصمويل زويمر رئيس إرسالية التبشير العربية في البحرين ورئيس جمعيات التنصير في الشرق الأوسط، كان يتولى إدارة مجلة العالم الإسلامي الإنجليزية التي أنشأها سنة 1911 م، دخل البحرين عام 1890م، ومنذ عام 1894 م قدمت له الكنيسة الإصلاحية الأمريكية دعمها الكامل، وأبرز مظاهر عمل البعثة التي أسسها زويمر كان في حقل التطبيب في منطقة الخليج، ويعد زويمر من أكبر أعمدة التنصير في العصر الحديث، وقد وضع كتابًا تحت عنوان (العالم الإسلامي اليوم) جاء فيه:
1- يجب إقناع المسلمين بأن النصارى ليسوا أعداء لهم.
2- يجب نشر الكتاب المقدس بلغات المسلمين لأنه أهم عمل مسيحي.
3- تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها.
4- ينبغي للمبشرين ألا يقنطوا إذا رأوا نتيجة تبشيرهم للمسلمين ضعيفة؛ إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوروبيين.(7/2138)
ويقول صمويل زويمر في مؤتمر القدس التنصيري عام 1935 م: (لكن مهمة التبشير التي ندبتكم لها الدول المسيحية في البلاد الإسلامية ليست في إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريمًا، وإنما مهمتكم هي أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقًا لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها) .
ويقول أيضًا: (إنكم أعددتم نشئًا لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي فقد جاء النشء طبقا لما أراده الاستعمار، لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، فإذا تعلم فللشهوة، وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوة يجود بكل شيء) .
إن المبشرين كانوا يخططون لاختراق مجتمعات المسلمين في دقة وخبث ودهاء، فالمبشر لويس ماسينيون قام على رعاية التبشير والتنصير في مصر، وكان عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، كما أنه كان مستشارًا لوزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال إفريقيا، والمبشر (دون هك كري) كان أكبر شخصية في مؤتمر لوزان التبشيري، وهو بروتستانتي عمل مبشرًا في الباكستان لمدة عشرين سنة.
ولقد كان للمبشرين ولا يزال الكثير من المؤتمرات الإقليمية والعالمية التي يناقشون فيها خطط التبشير واتخاذ ما يرونه مناسبًا لهم، ومن تلك المؤتمرات المؤتمر التبشيري العالمي في أدنبره باسكتلنده عام 1328/ هـ- 1910م، وقد حضره مندوبون عن 159 جمعية تبشيرية في العالم، ومن أخطر المؤتمرات مؤتمر كولوراداو في 15 أكتوبر 1978 م، تحت اسم (مؤتمر أمريكا الشمالية لتنصير المسلمين) حضره مائة وخمسون مشتركًا يمثلون أنشط العناصر التنصيرية في العالم، استمر لمدة أسبوعين بشكل مغلق، وانتهى بوضع استراتيجية بقيت سرية لخطورتها.(7/2139)
وما أكثر مؤتمرات التبشير التي تعقد في أماكن متفرقة حسب الحاجة لعرقلة جهود المسلمين واقتلاعهم من الإسلام، ويتخذ المبشرون وسائل وأساليب متعددة تحيط بالإنسان ومن وسائلهم التطبيب، والتعليم والأعمال الاجتماعية والفتن والحروب، يقول الدكتور نجيب الكيلاني: (إن روح التعصب الأعمى ضد كل ما هو إسلامي لم تزل سائدة حتى أيامنا هذه، تلك الروح التي غذاها المبشرون، ورجال الدين من معتنقي الصليبية القديمة) .
وإن الباحث في أساليب التبشير التي أحاطت بالمسلمين يجد أن هذه الأساليب أضرت بالمجتمعات الإسلامية، وأصبحت عاملًا معوقًا لكل تقدم إسلامي، وقد نجح التبشير في مواقع كثيرة؛ لأن إمكاناتهم هائلة ويتحملون ويعلمون ويصيرون ويخططون ويتربصون، وإذا كنا تنبهنا أخيرًا إلى الأخطار المحدقة بالمسلمين من جانب المبشرين، فإن تنبهنا لم يأخذ بنا إلى الطريق السليم، وليس من الكياسة أن نكتفي بإنشاء مراكز للدعوة هنا وهناك، إن الأمر يقتضي قبل مراكز الدعوة أن نكون أقمنا الملاجئ والمستشفيات والمدارس والمعاهد ومؤسسات الإغاثة والإعاشة.
المواجهة الصحيحة تقتضي عملًا يُعمل لا كلامًا يقال: إن المبشرين يعملون ونحن لا نعمل، وإذا رغبنا في مواجهتهم لإنقاذ إخواننا المسلمين فلابد وأن يكون عملنا أزيد من عملهم، وتحركنا أسرع من تحركهم.
وإن المواجهة تحتاج إلى تخطيط وتنظيم واتساع المواقع، والتعرف الدقيق , فإذا ما فعلنا ذلك كان ذلك بداية في طريق طويل.
أما أن نترك المسلمين في قارة إفريقيا وآسيا وغيرهما تفترسهما النصرانية فإن ذلك أمر بالغ الخطورة.
وإذا كان للتبشير مؤتمرات دولية ومعاهد علمية وجمعيات تبشيرية، فلماذا لا تكون للمسلمين مؤتمرات للدعوة والمواجهة.
وهنا ربما يقول قائل: للمسلمين مؤتمرات للدعوة كثيرًا ما سمعنا وقرأنا عنها، نعم للمسلمين مؤتمرات، ولكن الناس يجتمعون فيها لينفضوا، فهي تساوي مظاهرة في الشارع، فيها تصفيق وكلام، ثم يدخل كل واحد بيته.
نحن نريد مؤتمرات لا تكون توصياتها وقراراتها حبرًا على ورق وإنما نريد عملًا يعمل في دقة وتخطيط وسرية.(7/2140)
إن المجتمعات الإسلامية تعاني من التسلط التبشيري في الصحافة وسائر وسائل الإعلام ووكالات الأنباء , وتعاني في البيت وفي الشارع وفي أمور كثيرة، قد يعرفها البعض ويسكت، وما أكثر الساكتين لأنهم لا يملكون أن يقولوا شيئًا، إنك ترى برنامجًا في التليفزيون ينطلق من دولة إسلامية عربية فيشدك إلى مزارع وحدائق خضراء بأندونيسيا ومستشفيات ومدارس أخذت بيد الأندونيسي يقال عنها أنها: (من صنع وإدارة وأعمال الكنيسة الكاثوليكية، هكذا تسمع وترى، ولا يخفى أن هذه الدعاية التبشيرية نصرانية، ومن الغريب والعجيب أنك تري في أسواق الصحافة في بعض البلاد الإسلامية ما هب ودب، وهو وهي، من المجلات والصحف، وتمنع من الدخول والوصول لبعض المجلات والصحف الإسلامية، لماذا؟ لأنها إسلامية، وكل ما هو إسلامي يقض مضاجع المبشرين، ومن المؤلم حقًّا أنك تجد عند باعة الصحف مئات المجلات في كل التخصصات ما عدا الإسلام، فمجلاته قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة. ويبدو أن هذا ربما تكون وراءه أجهزة تبشيرية، حتى لا يكون هناك التأثير الذي يمنع من التأثر بالتبشير، إن أمتنا الإسلامية مطالبة بأن تتبصر العواقب وتتعرف على خطواتها بحكمة وتدبر قبل أن يتسع الخرق على الراقع.
إن التبشير نجح في تنصير البعض، ونجح في أنه جعل المسلمين في موقف المدافع وهو موقف المهزوم، فهل نتدارك هذه المواقف، ونتخطاها إلى موقف المواجهة؟
أولًا: علينا أن ندرك تمامًا أن هؤلاء لا يبشرون بدينهم وعقائدهم أو يعملون على تحويل المسلم عن الإسلام، إلا في حالة إدراكهم أن المسلمين غير مهتمين بالإسلام سلوكًا وتطبيقًا، ومن هنا كان علينا أن تكون مواجهتنا لتبشير عملًا يُعمل ويهتم إنشاء المدارس والمستوصفات والملاجئ ورعاية الأيتام واللقطاء والمسنين، ويصاحب ذلك توعية إسلامية وتبشيرية بالإسلام.(7/2141)
ثانيًا: إن ما يقوم به التبشير النصراني في إفريقيا والمجتمعات الإسلامية المختلفة من بناء المستشفيات الخيرية والمدارس وغيرها مما يقدم للإنسان هو عمل خيري في الدرجة الأولى، لأن الإنسان في مثل هذه المجتمعات في حاجة إلى من يقدم له يد العون أو المساعدة بالعلم والخبز والعلاج، فإذا ما أراد المسلمون المواجهة العملية فعليهم أن يعلموا مثل ما يعمل المبشرون ويزيدون عليهم.
ثالثًا: يجب أن يدرك المسلمون أن التبشير يملك إمكانات هائلة: مادية وبشرية، فمواجهتنا للتبشير يجب أن تتوافر لها الإمكانات المادية والطاقات البشرية.
رابعًا: لابد وأن نواجه التبشير من خلال مخطط دقيق، ينفذ بحكمة وبصيرة، توزع الأدوار ليكون هناك التكامل الواعي.(7/2142)
خامسًا: يصاحب ذلك كله هجوم ونقد للأفكار الغربية والتبشيرية، لننتقل من مرحلة المواجهة – (الدفاع) – إلى مرحلة الهجوم والنقد.
ثالثًا: وإذا كنا عرفنا كيفيه مواجهة الاستشراق، وكيفية مواجهة التبشير – وهما أصلان رئيسيان لكل أدوات الغزو الفكري وتياراته في المجتمعات الإسلامية – فإن هذه المواجهة لا تتم إلا إذا قامت أجهزة الإعلام في الشعوب الإسلامية بأمرين.
الأمر الأول: أن تقف أجهزة الإعلام من (صحافة، وإذاعة، وتلفزيون، ومسرح، وسينما، وفيديو) عن تقديم أي شيء يتنافى مع مبادئ الإسلام، لأنه لا فائدة من مواجهة الفكر الاستشراقي والتبشيري في الوقت الذي نجد فيه أجهزة الإعلام، تمور بكل ما هو مخالف للإسلام من عري وخلاعة وتقاليد غريبة.
الأمر الثاني: أن تواكب مؤسسات مؤسسات الإعلام هذه المواجهة، فتتناولها وتقف من ورائها، وتعمل على مساعدتها بالتوجيه.
وقد لا يكون المرء مجانبًا للصواب إذا تأكد لديه أن مؤسسات الإعلام في بعض المجتمعات الإسلامية قد نجح الاختراق الاستشراقى والتبشيري في الوصول إليها عن طريق عملائه الذين يديرون شؤونها، ولذا كان لابد من تطهير مؤسسات الإعلام من هؤلاء العملاء الذين وقعوا فريسة الغزو الفكري وتربوا في مدارسه ومعاهده.
رابعًا:
أن تتوجه النقود إلى أي أثر من آثار (الغزو الفكري) الموجود بالمجتمعات الإسلامية دون مجاملة لهذه المجتمعات، وأقول هذا لأن كل مجتمع إسلامي يحب أن يمدح فقط، وقد يكون فيه البلاوي ما فيه.
ومشكلتنا: أننا نفرح بالمدح، ويجامل بعضنا بعضا على حساب ما يمس شخصيتنا وإسلامنا, يجب أن نضع في الحساب أن أي مجتمع إسلامي هو مجتمعنا دون عنصرية أو إقليمية أو قومية أو حزبية، وبهذا نستطيع أن نتمكن من المواجهة، وتقديم النصيحة.(7/2143)
خامسًا:
لابد وأن تتجه جهود المصلحين في المجتمعات الإسلامية إلى التربية لأن المبادئ الإسلامية بمفاهيمها الأساسية ومناهجها التربوية تصنع شخصية متميزة لها سماتها وغاياتها الخاصة.
ولعل أخطر ما أستهدفه الغزو الفكرى في برامجه التخريبية هو هدم شخصيتنا الإسلامية: عقديًّا، وثقافيًّا، وسلوكيًّا، وعاطفيًّا....
ولعل معاول (الغزو الفكرى) التي أصابت الكثير لم تؤثر إلا من جراء إنعدام الشخصية الإسلامية , ولهذا كان لابد من اتجاه فريق من المصلحين إلى التربية الأجيال تربية إسلامية تتولى المسؤولية والإدارة.
• تربية تجعل الإنسان إيجابيًّا يعيش في حركة فكرية، ونفسية، وجسدية، بناءة بعيدا عن السلوك التخريبى ... رافضًا التحجر والجمود ... لا يرضى بالسلوك الإنسحابى الذي يتهرب من نشاطات الحياة، ويبتعد من مواجهة الصعاب.
• تربية تؤهل الإنسان للعطاء، وتنمى فيه القدرة على الإنتاج والإبداع بما تفتح له من آفاق التفكير والممارسة.
• تربية تعد الإنسان إعدادًا إنسانيًّا ناضجًا لممارسة الحياة بالطريقة التي يرسمها ويخطط أبعادها الإسلام، لأن الحياة في نظر الإسلام عمل وبناء وعطاء وتنافس في الخيرات.
• تربية تجعل الشخصية الإسلامية شخصية متزنة، لايطغى على موقفها الإنفعال، ولا يسيطر عليها التفكير المادى، ولا الانحراف المتأتى من سيولة العقل وامتداد اللامعقول.
• تربية تبنى الإنسان على أساس وحدة فكرية وسلوكية وعاطفية متماسكة.. على أساس من التنسيق والتوافق الفكرى والعاطفى والسلوكى الملتزم، الذي لايعرف التناقض ولا الشذوذ.
• تربية تجعل الإنسان المسلم يشعر دومًا أنه مسؤول عن الإصلاح، وأنه يجب عليه أن ينهض بمسؤوليته، ويقود نحو شاطئ العدل والسلام.
• وإن أمتنا تتطلع إلى غد مشرق, والتطلع يحتاج إلى علم وعمل وجهود بناءة تكون علامات مضيئة في الطريق.
الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح(7/2144)
المصادر والمراجع
1- ابن نبي
مالك: إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، ط. دار الإرشاد، بيروت، 1969م.
2- أسد.
محمد الإسلام على مفترق الطرق، ط. دار العلم للملايين، بيروت 987م
3- البهى
الدكتور محمد البهى: الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامى، ط. دار الفكر 1972م
4- التميمى وآخرين.
عز الدين الخطيب التميمي: نظرات في الثقافة الإسلامية، ط. دار الفرقان، عمان 1404هـ.
5- الجندي.
أنور: إطار إسلامي للفكر المعاصر، ط.المكتب الإسلامي، 1980م، بيروت.
6- الجندي
أنور: شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، ط. المكتب الإسلامي 1403هـ.
7- الجندي
أنور الجندي: المد الإسلامي في القرن الخامس عشر، ط. دار الاعتصام بالقاهرة، 1982م.(7/2145)
8- حسن
محمد أمين حسن: خصائص الدعوة الإسلامية، ط. مكتبة المنار، الأردن
9- حسن
د. محمد إبراهيم، الاستشراق وأثره على الثقافة العربية، مجلة رسالة الخليج العربي، عدد رقم 23، ط. الرياض، مكتب التربية العربي، لدول الخليج.
10- حسين
د. محمد محمد: الإسلام والحضارة الغربية، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت 1402هـ.
11- خان
وحيد الدين خان: الإسلام يتحدى، ط. المختار الإسلامي.
12- الخربوطلي
على حسن: المستشرقون والتاريخ الإسلامى، ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1976م.
13- الخطيب.
د. عمر عودة: لمحات في الثقافة الإسلامية، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، 1397هـ 1977م.
14- الخطيب.
محب الدين الخطيب: الغارة على العالم الإسلامى، 1384هـ.
15- خليل.
د. عماد الدين: المستشرقون والسيرة النبوية، ط. دار الثقافة بالدوحة 1410هـ.(7/2146)
16- زقزوق.
د. محمود حمدي: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، ط. كتاب الأمة، دولة قطر، 1404هـ.
17- السباعي.
د. مصطفى: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامى، ط. المكتب الإسلامي بيروت 1398هـ - 1978م.
18- السباعي.
د. مصطفى: الاستشراق والمستشرقون، ط. المكتب الإسلامى، بيروت، 1975م.
19- السايح.
الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح: أضواء على الحضارة الإسلامية، ط. دار اللواء السعودية، 1401هـ.
20- السايح.
الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح: التيارات الفكرية والحركات المعاصرة ط. دار الطباعة المحمدية، بالقاهرة، 1990م.
21- السايح.
الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح: العلاقة بين الاستشراق والتبشير، ط. كلية أصول الدين والدعوة بشبين الكوم، مصر 1989م.
22- السايح.
د. أحمد عبد الرحيم السايح: معارك حاسمة في حياة المسلمين، ط. دار اللواء بالرياض، 1409هـ.
23- السايح.
د. أحمد عبد الرحيم السايح: هذا هو الإسلام، ط. دار الثقافة بالدوحة، 1989م.(7/2147)
24- سمايلوفتش.
د. أحمد، فلسفة الاستشراق، ط. دار المعارف بمصر.
25- ضياء الدين.
د. حسن: الاستشراق، مجله كليه الشريعة، العدد الخامس، مكة المكرمة، 1401هـ.
26- طه.
د. عزية: من افتراءات المستشرقين على أحاديث التوحيد، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، ع 13، رمضان 1409هـ، مجلس النشر العلمي بالكويت.
27- الطهطاوي.
المستشار محمد عزت إسماعيل، التبشير والاستشراق، ط. مجمع البحوث الإسلامية، بالأزهر، 1397هـ.
28- العقيقي.
نجيب: المستشرقون، ج1 وج2، ط. دار المعارف بمصر.
29- عمارة.
الدكتور محمد عمارة: الغزو الفكرى وهم أم حقيقه ط. الأمانة العامة للدعوة بالأزهر، 1988م.
30- العمري.
الدكتور نادية شريف العمري: أضواء على الثقافة الإسلامية، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت 1406هـ.
31- فروخ.
د. عمر فروخ والخالدي: التبشير والاستعمار، ط. المكتبة العصرية، بيروت.
32- فروخ.
د. عمر: الاستشراق في نطاق العلم وفى نطاق السياسة من كتاب المستشرقين والإسلام، ط. الهند.(7/2148)
33- قطب.
محمد قطب: واقعنا المعاصر، ط. مؤسسة المدينة، جدة، 1407هـ.
34- القارئ.
الشيخ عبد العزيز: المستشرقون في الميزان، من محاضرات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1393هـ.
35- الكيلاني.
د. نجيب: الإسلام والقوة المضادة، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، 1400هـ.
36-اللبان.
إبراهيم عبد المجيد: المستشرقون والإسلام، ط. إدارة الثقافة بالأزهر، 1968م.
37- لوبون.
الدكتور جوستاف لوبون، حضارة العرب، وترجمة عادل زعيتر، ط. الثانية، 1948م.
38- مجلة المنهل.
عدد مخصص: الاستشراق والمستشرقون، رمضان وشوال 1409هـ، عدد رقم 471، جدة السعودية.
39- محمود.
د. عبد الحليم: أوروبا والإسلام، ط. منشورات المكتبة العصرية، بيروت.
40- محمود.
الدكتور على عبد الحليم محمود: الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، ط. جامعة الإمام، 1401هـ.
41- الميداني.
عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني: أجنحة المكر الثلاثة، ط. بيروت، دار القلم، 1977م.(7/2149)
42- الندوة العالمية للشباب الإسلامى.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، ط. الرياض. 1409هـ
43- الندوي.
أبو الحسن على: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، ط. دار العلم الكويت، 1983م.
44- النعمة.
إبراهيم النعمة، المسلمون أمام تحديات الغزو الفكري، ط. شركة ومطبعه الزهراء، العراق، 1986م.
45- النقرة.
د. التهامي: القرآن والمستشرقون، مناهج المستشرقين، ج1، ط. مكتب التربية لدول الخليج العربي، 1985م.
46- الواعي.
الدكتور توفيق يوسف: الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية، ط. دار الوفاء، المنصورة، 1408هـ(7/2150)
المسلمون وتحديات الفكر المعاصر
إعداد
الشيخ القاسم البهيقي المختار
المدرس في الجامعة الإسلامية بالنيجر
بسم الله الرحمن الرحيم
المدخل الرئيسي:
يندهش الكثير من المؤرخين من السرعة الفائقة التي انتشر بها الإسلام في أقاليم شاسعة متباعدة من الأرض، قد اكتسح إمبراطورية الفرس، وهزم الروم في الشام ومصر وشمال إفريقيا، ولاحقهم حتى توقف مؤقتًا على أبواب القسطنطينية - التي سقطت فيما بعد ـ وتابع مده في شبه جزيرة أبريا، وواصل إلى جبال البرانس، واتجه شرقًا إلى تركستان وتوغل في الهند، وأصبح للمسلمين السيطرة على أجزاء كبيرة من حوض البحر الأبيض المتوسط، وعلى سواحل شمال إفريقيا حتى المحيط الأطلسي، واجتاز الصحراء جنوبًا، فهدت أنواره الركاب في متاهات الصحراء، وأضاءت الغابات، وسارت السفن بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهر السنغال ونهر النيجر.
ونرى هذا الدين الحنيف، هذا الدين الحق، هذا الدين السمح، قد استقر في البقاع، وأسس حضارة مزدهرة، وهذب أخلاقًا، وقوّم سلوكًا، وأنشأ علومًا وفكرًا وثقافة، وشيد جامعات ومدارس، وحول المساجد دورًا للعلم والعبادة، وصهر شعوبًا مختلفة جنسًا ولونًا ولسانًا، وعادات وأرضًا، وأنماط سلوك، في بوقته كادت أن تكون واحدة أزال الحواجز، ومهد سبل الاتصال، وشجع التفاعل المثمر، وحذر من التباغض والتخاصم والتشاحن، ودعا إلى التعاون والتضامن وتقوية أواصر المعرفة بين المسلمين، وألح على أهمية العلم والتفكير في ملكوت الله، والبحث عن المعرفة، ولو تجشم الطالب في سبيلها المشاق والمتاعب، وكانت أولى السور التي نزلت من الذكر الحكيم تصر على القراءة والعلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ}
رددها المسلمون، وفهموها فترة من التاريخ، فانكبوا على العلم، وبحثوا عن المعرفة في كل مظانها، وذللوا في سبيلها المشاق والأهوال، فصمدوا، فكان لهم ما أثبته التاريخ من ازدهار معرفة، وثراء حضارة، فكانت الجامعات والمدارس ودور الحكمة، فالبحث والمثابرة، فالإنتاج الضخم العملاق، فإذا بمشاعل الفكر والمعرفة الإنسانية مضيئة في أيديهم، يهدون بها البشرية ردحًا من الزمن، فاقتبست منهم الشعوب، وغرفت من معارفهم: في الطبيعة، والكيمياء، والرياضيات، والفلك، والفلسفة، والشريعة، والتاريخ، والجغرافيا، والرحلات، وفى مجالات أخرى من أنواع الفكر الإنساني وحضارته وآدابه.(7/2151)
الصراع المبكر:
إن هذه اللمحة التاريخية لم تشر إلا إلى ما كان معروفًا لدى كل متابع نزيه لمسيرة الإسلام، ذلك الدين الذي رغم مواجهته – منذ سطوع نوره – للفكر الوثنى الجاهلى، والكتاب المبدل، استطاع – بعون الله – أن يصمد أمام كل المواجهات الإضطهادية والحربية والنفسية والفكرية، حتى أن محمدا المصطفى صلوات الله عليه وسلامه لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا والدولة الإسلامية قد رست بأسسها في المدينة المنورة.
وكلما انتشر الإسلام واتسعت رقعته، وتباينت الشعوب التي أفاض الله عليها بنوره، وتنوعت ثقافاتها وعاداتها، وضخم تراثها الفكرى، وضحت قوة مبادئ الإسلام، وأصالتها، ومقدرتها على التأثير العميق الفعال في الشعوب، إذ ما لبث الإسلام أن احتوى أقدم الحضارات من فارسية ورومية ومصرية وهندية وغيرها، فهذبها ووجهها، واستوعب فكرها، وحفظه، وأضاف إليه، وكان الإسلام قد قوم قبل ذلك رعونة البدو، وأبطل الكثير من عاداتهم السيئة، وقادهم إلى الاستعصام بحبل الله المتين، فأصبحوا أمة رائدة، بعد أن كانوا قبائل متناحرة يتربص بعضها ببعض، تسفك بينها الدماء لآتفه الأسباب، وتجر فيها الحروب إذيالها عشرات السنين بلا وعى، ولا منطق مقبوول، يولد فيها الأبناء، ويموت الآباء، ولما جاء الإسلام ألف بين القلوب النافرة، المتنافرة، المتناحرة، قلوب لو أنفق البشر ما في الأرض جميعا ما تآلفت. ولكن الله ألف بينهم، وكان ذلك من معجزات الإسلام الخالدة.
وكان العصر العباسى الأول مثالًا لمتانة الإسلام وصلابة أسسه، فقد اشتبك على ميادين مكشوفة مع حضارات وفلسفات قديمة رسخت منذ قرون، وقام على فكرها وأيديولوجياتها شعوب ودول كانت آنذاك ذروة المد التاريخى والحضارات المعروفة، فهيمن عليها واحتواها، وهذبها ونقاها بعد أن عرضها على موازينه، موازين القسط، موازين عقيدة الإسلام، عقيدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) , عقيدة قامت على تحصين ضمير المسلم وجعله حيًّا يقظًا إلى درجة أنه لا يحتاج إلى عيون تتجسس عليه، ولا إلى عسس يترقبونه في حركاته وسكناته فأصبح قويًّا في ضميره، عزيزًا في نفسه، متواضعًا في سلوكه، بشوشًا في وجهه، سموحًا في معاملاته، جادًّا مخلصًا في عمله، يرجو به ثواب ربه في دنياه وآخرته، فلم يكن إمعة يسير بلا عدى وراء الأخرين، ولا يشعر في نفسه بأى مركب نقص، ولا يخاف إلا من الله خالقه.
فإنه رغم تدفق هذه الحضارات العريقة، وتشجيع خلفاء بنى العباس للحركة العلمية والفكرية وتنافس العلماء والشعراء والكتاب والترجمة، وتنافس الأعيان والوزراء في إقتناء الكتب وإنشاء المكتبات ودعم العلم والعلماء , ورغم حرية القول، وانتشار مجالس المحاورات والمناظرات بين العلماء والأدباء وأهل الملل من مختلف الأجناس والديانات من مسلمين وفرقهم، ونصارى ومذاهبهم المختلفه ويهود وصائبه وزادشتيين ومانويين.. إلخ.
فرغم كل هذا، فقد بقى الإسلام ثابت الأساس صامدًا صمود الحق لا يتزعزع، بل هيمن على كل علم وفكر , وكل ثقافة جرى معها في حلبة السباق، فإذا بأرسطو وأفلاطون وأبقراط وجالينوس وغيرهم ينطقون باللغة العربية بعد أن صارت لغة الذكر الحكيم لغة الإسلام الخالد، وفكره المزدهر، وحضارته الرائعة.(7/2152)
بصمات الإسلام على الفكر الإنسانى.
ولقد ترك الإسلام بصماته في كل مجالات المعرفة الإنسانية، فلم يكتف بالنقل، ولم يرض بحفظ الأسفار وحملها كالحمار، بل محص المعرفة الإنسانية فميز غثها من سمينها، ووضعها على موازينه، موازين عقيدته الصافية، فلم ينبهر ببهرجتها، ولم يقع في حبائلها، بل نقدها نقد العارف الفنان الواثق بنفسه، فتناولها علماؤه بالشرح والبيان ونموها وزادوا عليها فابدعوا على ربط الروح بالمادة ومزج الدين بالفكر وتوجيه المجتمع الإسلامي في إطار ينتظم الأخلاق والقيم الدينية في إنسجام وتناسق وتعاون وتكامل بين الدين والدنيا، وبين الحياة العاجلة المرحلية والحياة الآجلة الأبدية.
الإسلام منهج كامل للحياة البشرية:
فالإسلام نظم جميع نشاطات الإنسان في حياته الروحية والأخلاقية كما في حياته الاجتماعية والسياسية. (لم يتطلب الإسلام قناعة ببعض الحقائق فحسب، بل فرض مجموعة من الفرائض التي تحكم في التنظيم الزمنى لأمة المؤمنين، على هذا الوحى استندت حياة المسلم، ومن حوله انتظم – منذ حقبة قديمة – العالم الإسلامي الإمبراطوري وحضارته (1) .
(فالإسلام إذن لم يكن دينًا بالمعنى المحدود، أو المعنى اللاهوتى الصرف، ولم يكن ولن يكون ممثلًا للجانب الروحى الخاص بالعلاقة بين الله والإنسان على النحو الذي فهمه الغرب من الدين، وإنما الإسلام أشمل وأعم من ذلك، فهو منهج كامل شامل، وهذا الجانب اللاهوتى جزء منه لا ينفصل.
ومن هذا فإن كل ما يقال عن عزل الدين عن التربيه أو التاريخ أو الأدب أو الاجتماع أو الأخلاق أو السياسة، إذا جاز في عرف الغربيين فإنه لايجوز عند تطبيقه على الإسلام الذي ليس دينًا على النحو الذي عرفه الغرب) (2) .
"الإسلام منهج , منهج حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها , منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة الوجود ويحدد مكان الإنسان في هذا الوجود , كما يحدد غاية وجوده الإنساني , ويشمل النظم والتنظيمات الواقعية التي تنبثق عن ذلك التصور الاعتقادي , وتستند إليه , وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه والأسس التي تقوم عليها والسلطة التي يستمد منها , والنظام السياسي وشكله وخصائصه , والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته , والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته".
وهذه الشمولية هي جوهر مشكله الإسلام مع الأيديولوجيات والعقائد الأخرى وأذنابهم.
__________
(1) دومنيك وجانين سورديل: الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبى، الجزء الأول: ص 101 ترجمة ديمون بلوخ، طبعة دار الحقيقة، بيروت
(2) الأستاذ أنور الجندى: أصالة الفكر العربى الإسلامي في مواجهة الغزو الثقافى: ص 104 – كتب إسلامية – العدد 100 المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة(7/2153)
أثر عقيدة الإسلام:
وهذا الفهم العميق الشامل لعقيدة الإسلام وما انبثق عنها من فكر ومثل وأخلاق ونظم وحكم وسياسة وعلم واقتصاد وشريعة وثقافة وحضارة هو الذي حدا المسلمين أن يقوموا بدور رائد في الفكر الإنسانى وحضارته وثقافته، فهم رواد المعرفه الإنسانية بكل أبعادها , ومنقحي سلوك هذا الذي استخلفه الله في الأرض واستعمره فيها.
وبهذه العقيدة نشر المسلمون دين الله الحق، ودحروا الإمبراطوريات , ويكفينا دليلًا على أن قوة عقيدة الإسلام هي التي تجعل المؤمن يسعى إلى الشهادة وإلى العمل في سبيل الخير العام ما حدث في غزو بدر من (1) الصحابى الجليل عمير بن الحمام الأنصارى، فإنه لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، فقال: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟!)) ولما رد عليه الرسول بالإيجاب. قال: بَخ بَخ. قال رسول الله: وما حملك على القول: بخ بخ؟ قال: لا، والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. فقال: فأنت من أهلها.. فألقى تمرات كان يأكلها، إذ رأى أن الوقت الكافى لأكلها طويل، وهو في شوقه إلى لقاء ربه وتفضيل ما لديه من الرضا لم يعبأ بهذه الحياة الفانية , بل تعجل ما وعده به تصديقًا لنبيه فانطلق إلى الشهادة، انطلق إلى جنة عرضها السماوات والأرض، انطلق إلى الحياة الحقيقية فرحًا بما أتاه من فضله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (2)
__________
(1) انظر القصة في فقه السيرة، للداعية محمد الغزالى عند الحديث عن موقعة بدر الكبرى
(2) سورة آل عمران: الآيات 169-171(7/2154)
وإذا عاد الإنسان - أي إنسان - بهدوء ومن غير خلفيات، نظر من غير غشاوة، وتمعن في حروب المسلمين مع أعداء الإسلام، وجد أن القاعدة المحورية في إنتصاراتهم كانت تلك العقيدة الصادقه، وإلا كيف تعلل قيام حفنة من الناس عزل تقريبًا من السلاح للتصدى لألف مدججين بالسلاح، كما في غزو بدر الكبرى، وفى مواقع كثيرة: في القادسية، في اليرموك، وفى معركة طارق بن زياد مع الملك لذريق وفى غيرها كثير ... فالمسلمون انتصروا بقوة هذه العقيدة في نفوسهم وما تستلزمه من طاعة ربهم ورسولهم. وهذا واضح في كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه في وصاياه إلى سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد: (أما بعد فإنى آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك بأن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصى منكم من عدوكم , فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإن أستوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا) . (1)
والفيصل في هذا قوله تبارك وتعالى في الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) .
وأما عبدة الله على حرف الذين إذا أصابوا خيرا اطمأنوا به , وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، فهم الخاسرين دنياهم وأخراهم، وذلك هو الخسران المبين. وأخاف أن يكون هذا حال كثير من الذين يدعون الإسلام {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} (3)
__________
(1) انظر العقد الفريد
(2) سورة محمد: الآية 7
(3) سورة فصلت: الآية 49(7/2155)
مواجهة جديدة بين الإسلام والفكر الغازى.
أولًا – الغزو العسكرى:
إن صراع الحق مع الباطل سمة هذه الحياة، فمنذ قاسم الشيطان آدم وحواء يؤكد أنه لهما من الناصحين، فدلاهما بغرور، فأوقعهما، فأهبطوا جميعًا إلى الأرض مستقرًا لهم ومتاعًا إلى حين.
فالباطل بجنوده من الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، والنفس الأمارة بالسوء تروج وتزين وتجذب إلى مباهج الحياة وملاذها الخلابة.. واخترع لدعم الباطل من وسائل الدمار المادى والمعنوى خلال حياة الإنسان الطويلة على الأرض، وما وصل في تطوره إلى قمة الخيال، وإذا علمنا أن هذه الوسائل تسيطر عليها الرأسمالية العالمية الملحدة، والأيديولوجية المارقة، أدركنا مقدار ما نتعرض له من خطر وما يواجهنا من هجمة شرسة تستهدف تحطيم ديننا، تحطيم قيمنا، تحطيم مثلنا، تضليل فكرنا، ومسخ حضارتنا وإحلال محلها حضارة الآخرين لنكون ذيلًا نتبع ولا نُحترَم، ونُجر في إرضاء مصالح الغير.
إن الغزو العسكرى الذي بدأته الحروب الصليبية منذ قرون في الشرق الإسلامي وفى غربه لم يتوقف- كما يظن البعض- فهو صراع بين الحق والباطل، صراع بين التوحيد والضلال، صراع بين الحضارة الإسلامية التي رست أسسها على شهادة التوحيد، وعلى الذكر الحكيم، وعلى سنة خير الورى محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى التراث الإسلامي العظيم، وعلى فكره السامى الذي تناول كل جوانب الحياة البشرية مادية كانت أم روحية، وبين حضارات قامت في أساسها على الوثنية وعلى أيديولوجيات مادية، وعلى أديان محرفة.
إن الصراع لم يتوقف ولن يتوقف، وإنما يهادن لالتقاط أنفاسه، ويخاتل لإحكام خططه.
إن الفرنسيين بعد أن احتلوا الشام ولبنان، واحتلوا جزءًا من ليبيا، واحتلوا تونس والجزائر والمغرب وأجزاء كبيرة من غرب إفريقيا ووسطها، لم ينسوا قيادة ملكهم للحروب الصليبية، ووقوعه في أسر المصريين وسجنه في دار ابن لقمان بالمنصورة وقول شاعرهم بهذه المناسبة:
(وقل لهم إن أضمروا عودة لأخذ ثأر أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشى صبيح) (1)
والإنجليز لم ينسوا بعد احتلالهم العراق وفلسطين ومصر إحياء ذكرى قيادة ملكهم ريتشارد الأول قلب الأسد للحملة الصليبية الثالثة سنة 1191م ومعاركه مع المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبى، واللورد اللنبى لم ينس في القدس سنة 1918م بعد أن دخلها مع قوات الثورة العربية أن يقول: (الآن انتهت الحروب الصليبية) . وأن يقول في دمشق متشفيًّا يزهو كالطاووس وأوسمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس تلمع على صدره: (ها نحن قد عدنا إليك يا صلاح الدين) ! (2)
__________
(1) الأستاذ محمد مصطفى زياد. حملة لويس التاسع على مصر: ص 303، 304
(2) الأستاذ أنور الجندى. أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة الغزو الثقافى: ص 17(7/2156)
والمحزن أن تمر هذه المواقف علينا نحن المسلمين ونستصغرها , وهى عظيمة بعيدة المدى واضحة المعنى، قوية التعبير، تنم على الحقد والضغينة والكيد والمكر، وقد أثبتت تصرفات أعداء الإسلام، ومؤامراتهم ما تعنى كلمة اللورد اللنبى، فقد أخلفوا كل وعودهم، ونفذوا ما كانوا يبيتونه ويتواصون عليه أبًا عن جد، وجيلًا عن جيل، ويضحكون على طيبتنا وبلادتنا.
فبعد أن أغروا بعضنا ببعض وزودوا بالسلاح.. وخدعوا بالوعود الخلابة ... انتهوا من تقطيع أوصال أمة الإسلام، فها نحن اليوم بعد كل اللكمات لا زلنا نغط.. بلا وعى، ويتكالب بعضنا على بعض، تُحاك المؤامرات، وتشُن الحروب، ويستنجد بالأعداء الذين يراقبون عن كثب ما يجرى في الميدان، ويزيدون النار اشتعالًا ويزرعون الفتن، ويغرسون إسرائيل في قلب أمة الإسلام، ويسارعون إلى احتضانها بعد أن قضوا على آخر رمز للخلافة الإسلامية (فانفرط العقد) , فيؤججون القوميات الجاهلية التي اتخذت سلاحًا للفتك بالإسلام والمسلمين , وكأن هؤلاء المسلمين لم يعلموا بما فعل رسولهم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام عند وصوله إلى يثرب، وهو في صدد وضع أول نواة لدولة الإسلام ومجتمع الإسلام حين آخى بين المهاجرين والأنصار على أساس من رابطة الإيمان التي هي أقوى من رابطة الدم في الإسلام، ومعروف قوله لدى كثير من المسلمين في حجة الوداع: ((كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربى على عجمى، ولا لعجمى على عربى، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بتقوى الله)) . والذكر الحكيم صريح، ولا يحتمل أي تأويل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1)
ثم بعد هذا يعطى المسلم الفرصة لأعداء دينه أن يضلوه ويشحنوه بأيديولوجيات عُرفت معارضتها - بالضرورة - لدينه , فيتحول إلى آلة مدمرة تعمل لتقويض أمته، والقضاء على نفسه، فيخرب بيته بيده وبأيدى أعداء أمته.
__________
(1) سورة الحجرات: الآية 13(7/2157)
ثانيًا – الغزو الفكرى:
أدرك المستعمرون أن الغزو العسكرى محدود النتائج، ويصعب تأمينها، وبجانب كونها غير ثابتة هو باهظ التكاليف، ويربى الكراهية والأضغان.
فهزيمة جيش واحتلال أرض، وقتل وتعذيب الناس لا يغير من عقيدة الناس، بل يزيد الشعوب نفورًا، ويقوى فيهم عزيمة الدفاع عن الكرامه والشرف ولو أدى ذلك إلى العناء وسقوط أعداد كبيرة من الشهداء، وخاصة لدى السملم الراسخ العقيدة.
وثورة الحجارة – كما يسميها البعض – في أرض فلسطين الجريحة دليل صريح على ذلك. فالحياة مع الذل والمهانه لا يُزيل عارها, ويمحى هوانها إلا شرف الكفاح، وحتى الشهادة إن استدعى الأمر ذلك.
لعمرك ما للمرء خير في حياة إذ ما عد من سقط المتاع
وإذا كانت هذه الحياة لا بد أن ينهيها الموت طالت أم قصرت، فلم إذن يقبل الإنسان أن يعيشها مهانًا مركول الكرامة؟
وإنطلاقًا من هذا المنعطف لم يضيع الغزاة الوقت، بل أخذوا يخططون ويعملون لإبعاد المسلمين عن دينهم؛ للسيطرة على عقولهم، وإبعادهم عن مثلهم وتشويه حضارتهم، فالاحتفاظ بهم سوقًا استهلاكية ضخمة رابحة تروج فيها تجارتهم الواسعة، تجارة متع الحياة ونعيمها الرخو الناعم، تجارة السيارات الفارهة، تجارة السلاح، وهذا يتطلب مسخهم خلقًا جديدًا لا علاقة له بعقيدتهم وتاريخهم.
وللوصول إلى هذه الأهداف لا بد من خطة محكمة، خطة ذكية لا تُشم فيها رائحة الأهداف الخبيثة التي يرمون إليها, ولابد من إخفاء الفخ بإحكام لتقع فيه الضحية ... ولإنجاح العملية لابد من تأمينها، ولتأمينها لابد من إشعار الناس بالخوف بحيث يقتنعون بأنهم معرضون للخطر، وإدخال هذا الشعور في نفوسهم يجعلهم يقبلون بالاحتفاظ ببعض وسائل الاستعمار التقليدية في شكل اتفاقات أمن ودفاع ومستشارين ومدربين، ومرابطة قوات في أماكن حساسة، قوات سريعة الحركة على أهبة التدخل المباشر إذا اقتضت مصلحة المستعمر ذلك.(7/2158)
وبعد تأمين الخطة يبدأ التنفيذ وعلى مراحل، والتنفيذ يحتاج إلى ذكاء ومهارة فائقة, فيما أن الغزو لم يعد غزو قتل، بل غزو تخدير، غزو فكر لفكر، غزو ثقافة لثقافة، صراع حضارة وحضارة، فالأسلحة التي ستستعمل في الهجوم لابد أن تكون من جنس أسلحة الدفاع والمقاومة، أسلحة الفكر، وهى أسلحة لا تبيد هياكل الإنسان ولكنها تقتل فيه روح العزة والكرامة وتبقيه جاهزًا للاستغلال تمامًا كالأسلحة التي قيل إنها تقتل الحياة ولا تمس بأذى المدن , فتبقى صالحه للعمران.
فإذا بالمبشر الخبير , والطبيب المبشر، والكنيسة والمستشفى، وإذا بالمعلم والكتاب والمدرسة، وإذا بالصحافة والإذاعه فالتلفزة، فإذا بالمعونات والهبات والقروض المشبوهة المشروطة، والمؤسسات الثقافية، وأندية الترفيه، وإذا بالضغوط السياسية من وراء الكواليس ... جيوش جرارة تنطلق ومجموعه مصائد محكمة التصميم، محكمة التنفيذ، محكمة التضليل، محكمة الزخرفة، قوية اللمعان، براقة، تسحر العيون، وتجذب النفوس، وتضع الغشاوة على البصائر، وتخلط السم وبالعسل، وتقتل على مهل، وقد يأتى مفعولها بعد جيل أو جيلين:
وكل هذا لترويض عقلية الناس ومحو شخصيتهم بالقضاء على دينهم، على عقيدتهم؛ الصخر الصلد الذي تهشمت عليه معاولهم، ونبت عنه سيوف الوثنية الجاهلية من قبل، وصدع إمبراطورية الفرس والروم، ورد الصليبية المتعصبة وقادتها من ملوك أوروبا الكبار من أمثال ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، ولويس التاسع ملك الفرنسيين الذي ترك ذكريات لا تنسى بالمنصورة.
إن الذي جهله، أو يتجاهله بعض المسلمين أن الحرب الفكرية، الحرب الحضارية التي يخوضها الغرب المادى الرأسمالى الملحد ليست حربًا موجهة لدولة معينة أو لشعب معين من دول الإسلام وشعوبه، بل هي حرب عامة، حرب عقيدة، حرب فكر وحضارة، لايكون تركيزها على بلد أو على منطقة إلا خطة تكتيكية، إستراتيجية، مرحلية، فهى كمحاصرة حصن كبير عصى، فكل ثغرة وكل ثلمة تحدث فيه وفى أي مكان تهيه وتساعد على تدمير بقية أجزائه وإن طال الأمد.
فلتزل الغشاوة، وليرفع الحجاب، وليفكر أهل الفطنة ومن بقيت لديهم عقيدة الإسلام، أو لديهم غيرة على الإسلام، فليدرك الجميع أبعاد ما يتعرض له الإسلام من حرب شرسة تستعمل كل أنواع السلاح، وأخطر هذه الأنواع كلها سلاح الفكر، وأن السفينة إذ خرقت غرقت، غرقت بكل ما فيها، الخارقين والذين لم يأخذوا على أيديهم في الوقت المناسب.
فالهجوم الفكري الثقافي يهدف إلى ترويض عقلية الناس ومحو شخصيتهم بالقضاء على دينهم وتغيير منطقهم ليصبحوا هم أنفسهم المدافعين عن ساداتهم، هم أنفسهم الغيورين على ثقافة وحضارة جلاديهم، هم أنفسهم الناشرين لفكرهم، هم أنفسهم الساخرين من دينهم، هم أنفسهم العاملين لنقض كل شيء يتصل بحضارتهم وتراثهم، إذ يرون من ضلالهم، أن سبب شقائهم وتأخرهم ناتج عن حضارتهم، فهم يعملون بحماس ونشاط وفاعلية لهدم كل الأسس التي قامت عليها تاريخهم وفكرهم وحضارتهم، ولا يحتاجون إلى توجيه، فعملهم هذا يستند إلى رغبة جامحة لديهم، فبعد أن مسخوا أصبحوا خلقًا جديدًا.
والناس لا تختلف الاختلاف الحقيقي بأشكالها، فاختلافها الحقيقي يتمثل في أفكارها ومفاهيمها، وتصرفاتها التي هي رد فعل لما يعتمل في الأذهان ...
وهذه هي مرحلة الانهيار الكامل، وهى الانهزام الفكرى الحضارى، وهى أمل الغزو الفكرى، وهى الغاية التي يسعى إليها أعداء الإسلام، ويعملون ليلًا ونهارًا للوصول إليها.(7/2159)
المنطلقات المحورية للغزو الفكرى:
إن الاكتساح الفكرى يتم عن طريق مؤسسات معينة متخصصة في التعليم والتوجيه، ونشر الأكاذيب والافتراءات ضد الإسلام، وتلقينها وبثها في أوساط الشباب (خاصة) ، والترويج لها بوسائل وبطرق نفسية مدروسة.
أولًا – التعليم:
والتعليم هو الوعاء العام الذي حمل وسرب عن طريقه كل السموم الضارة، والجراثيم الوبائية القاتلة، والأفكار الهدامة الملحدة، والثقافة المائعة المنحلة، هو أصل الشجرة التي امتدات منها الفروع ومن الفروع الأغصان.
فعن طريق التعليم نشرت القوميات التي مزقت أمة الإسلام، وعن طريق التعليم رسخت أساسيات العلمانية، علمانية الدولة، علمانية التربية، علمانية الفكر، وعن طريقه انطلقت سهام الفكر الضال الذي يستهدف تحطيم المثل التي قام عليها الإسلام، وشيدت عليها حضارتها، وعن طريق التعليم انبثق من أمة الإسلام علماء ومفكرون وأدباء ومذيعون وفنانون وصحفيون كرسوا حياتهم لنقض الأسس التي قامت عليها حضارة الإسلام، أتوا بكل باطل مموه، فأفسدوا الأخلاق ومزقوا شعوب الإسلام، وأصابوا النفوس بالإحباط، ومركب النقص ...
وكان من الطبيعي أن يكون أول غرض لسهام الغزو الفكرى التعليم، وبمعناه العام أي بإدخال التربية فيه، بمعناها الخاص. فهم يدركون أهمية التعليم كسلاح فعال عند توجيهه إلى الخير، وعند توجيهه إلى الشر، فعن طريقه تتم السيطرة على الإنسان، وإذا تمت السيطرة على الإنسان، تمت السيطرة على الأرض واستغلالها بربح وفير ومن غير عناء.
والمثال التالي يأتي من مصر، وينسحب على كل بلاد الإسلام، بل في كل أرض فيها الاستعمار، وهو من تقرير "لورد كرومر" لسنة 1906م:
"التعليم الوطني عندما قدم الإنجليز إلى مصر كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين والتي كانت أساليبها الجافة القديمة تقف حاجزًا في طريق أي إصلاح تعليمي، وكان الطلبة الذين يتخرجون في هذه الجامعة يحملون معهم قدرًا عظيمًا من غرور التعصب الديني , ولا يصيبون إلا قدرًا ضئيلًا من مرونة التفكير والتقدير، فلو أمكن تطوير الأزهر عن طريق حركة تنبعث من داخله لكانت هذه خطوة جليلة الخطر.
ولكن إذا بدا أن مثل هذا الأمر غير متيسر تحقيقه، فحينئذ يصبح الأمل محصورًا في إصلاح التعليم الذي ينافس الأزهر نفسه أمام أحد أمرين: فإما أن يتطور، وأما أن يموت ويختفي" (1) . ويضيف المستشرق (جب) : "وفي أثناء الجزء الأخير من القرن التاسع عشر نفذت هذه الخطوة لأبعد من ذلك بإنماء التعليم العلماني تحت أشراف الإنجليز في مصر والهند ". (2) .
__________
(1) نقلا عن: الدكتور على محمد جريشة، ومحمد شريف الزيبق. في أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 62، 63. طبعة دار الاعتصام. سنه 1397 هـ / 1977 م
(2) نقلا عن: الدكتور على محمد جريشة، ومحمد شريف الزيبق. في أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 62، 63. طبعة دار الاعتصام. سنه 1397 هـ / 1977م(7/2160)
وهذا (زويمر) أحد زعماء التبشير يقول على جبل الزيتون في القدس إبان الاحتلال الإنجليزي لفلسطين سنة 1354 هـ / 1935 م: "لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، وإنكم أعددتم نشئًا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في الأخلاقية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقًا لما أراده له الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يعرف همه في دنياه إلا في الشهوات ... فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوء أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شئ". (1) وهذه النصوص تلقى الضوء على ما يختمر في عقول غزاة العالم الإسلامي وما بيتوه ـ في وقت مبكر ـ لاقتلاع أسس الفكر الإسلامي وحضارته. فقد كانت التربية والتعليم أول ميدان يتجهون عليه، وهم بلا شك يعملون أن هذا الميدان هو المصنع الخاص بتشكيل الإنسان وتوجيهه حيث يراد ... لم يقصروا، وقد وضعوا في الحسبان تكوين جيش مدرب مجهز بوسائل الغزو، ليضمنوا النجاح الباهر، فكان التركيز على التعليم لتكوين الناشئة على هواهم وعلى أسس تقوم على قطع صلتها بماضيها وحضارتها وثقافتها، فنشأ جيل وبعده أجيال لا تعرف من تاريخها إلا النقاط المظلمة. الافتراءات المضلة والأكاذيب المتعمدة فلم يروا إلا حكم الفرد والاستبداد والظلم وكبت الحريات وقصور الحريم والجواري ومجلس الخمر وسهرات الحشيش والغناء، ومع كل أنواع الانحراف الخلقي.
فجاءت الأجيال لا تعرف من دينها إلا أنه هو العائق لها، والحائل بينها وبين التقدم والازدهار واللحاق بركب حضارة الغرب. فهو دين همجي لا يصلح إلا للبدو في مفازة الصحراء، وإلا للرعاع في الأدغال والغابات, أما الحضارة، أما الرقى والازدهار، أما الفكر المهذب العالي فلا يعرف أي شيء من هذا.
__________
(1) نفس المصدر السابق(7/2161)
وبعد أن تأكد الغزاة من نجاح عملية التكوين، وتمت مراقبة هذه الأجيال المقطوعة الصلة بثقافتها وأعرافها، المشوه تاريخها وحضارتها، (وبعد أن أثبتوا جدارتهم وإخلاصهم لحضارة الغزاة وفكرها وثقافتها، وتأكدوا من شغفهم بها، وانبهارهم بمظاهرها وبهرجتها، سلموا لهم مقاليد الأمور من سياسة وتعليمية واقتصادية وتشريعية وتوجيهية، فصار مثلهم الأعلى أن يقتربوا ولو بشبر من حضارة سادتهم، إذ ما عداها ليس إلا رجعية وتأخرًّا وتزمتًا) . وقديمًا قال ابن خلدون رحمه الله: (إن المغلوب دائمًا مولع بتقليد الغالب) . فقد اندفع هؤلاء يبذلون كل جهد في (تغريب) الشباب وزرع عقدة الشعور بالنقص، وفقدان الشخصية الإسلامية, حتى برز من بين هؤلاء أعداد جمعوا كل قواهم، وطرحوا كل قناع، فتبجحوا بأفكارهم، أفكار كلها افتراء وتهجم على الإسلام وتشنيع عليه، محاولة مخططة لزعزعة عقيدته من قلوب الجماهير التي لم تزل تقدس عقيدتها، وتتمسك بكل ما يمت إليها بصله رغم ما تعرضت، وتتعرض له من حرب نفسية في المدرسة , في الشارع , في الصحافة , في الإذاعة، في التلفزة بل وفي كل وسائل التعبير الأخرى من مسرح وسينما ورسم ونحت ... (1)
__________
(1) القاسم البيهقي المختار. التحدي الفكري وآثاره في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. بحث قدم إلى ملتقى الفكر الإسلامي الثالث والعشرين. تبسه. الجزائر.(7/2162)
الغزو الخارجي والتحطيم الداخلي:
وهكذا نرى كيف مكن الغزاة لهذه الفئات الممسوخة بعد أن أجروا لها عملية غسيل المخ وفرغوها تمامًا من محتواها الفكري والحضاري القائم على عقيدة الإسلام، ووكلوا إليهم عملية التخريب الداخلي للنخر في جسم أمة الإسلام كالسوس. فهم يحاولون وبكل إلحاح نزع أو على الأقل زعزعة عقيدة الإسلام من قلوب الشباب في المدارس والجامعات والأندية، ويبثون في كافة وسائل الإعلام والتثقيف المختلفة، ويتولون التوجيه فيها ويقومون بعملهم هذا بلا كلل ولا ملل، وبدعم تام من الغزاة وأذنابهم في المجتمعات الإسلامية.
وسائل التوجيه في أيدي أعداء الإسلام:
ومن المحزن أن نرى كل وسائل التوجيه في العالم الإسلامي في أيدي هؤلاء المخربين، ولا يتولاها إلا من أقام فترة في أوروبا أو في أمريكا، أو أثبت أنه خادم أمين لقوى الشر التي تعمل ضد الإسلام. فهؤلاء وحدهم القادرون على التخطيط والتوجيه وإدارة المؤسسات التربوية والتوجيهية والفنية، وهم المتحضرون، أما نحن المسلمين فلا نبلغ كعب هؤلاء العمالقة خدام الغرب، حتى في لغة القرآن وتربية الإسلام مركب نقص خطير وإحساس بالدون يعصف بالمسلمين!! ...
فقد وصل تأثير الفكر العربي بهم أن فقدوا الثقة بأنفسهم، وإذا فقد الإنسان الثقة في نفسه ضاعت منه القدرة على العمل الجاد والمبدع، وعاد خاملًا لا تسمو به نفسه إلا لتقليد غيره والعيش على جهود الآخرين، وأما أن يشعر بأن الذي عمل وأبدع، وكد وأنتج، وثابر واخترع، معتمدًا على ما أنعم الله به عليه من قوى فاعلة ليس إلا بشرًا فغير وارد لما أصابه من تحطيم وإحباط.(7/2163)
وقد وصلت هذه الحالة المزرية بالمسلمين أن اختفي المنطق في تصرفات الكثير منهم، وإلا فكيف يترك المسلم مؤسسات التعليم والتربية في العالم الإسلامي ويذهب إلى مجتمع غير مسلم، وفي مؤسسات تحارب الإسلام علنًا أو من وراء أقنعة يختفي وراءها المكر والكيد، وتذر الرماد في العيون وتخدر العقول, ويذهب هذا لدراسة ماذا؟
لعلكم إخوة الإسلام، تقولون: إنه ذاهب لدراسة الهندسة الذرية، أو الإلكترونيات، أو شيء من هذا القبيل من تلك الأنواع لم يصل المسلمون فيها إلى مستوى مقبول ... وقد يصاب المسلم بغثيان من الألم إذا علم أن هذا ذهب ليدرس العربية أو ليدرس التربية الإسلامية!!. تربية إسلامية في باريس!!. تربية إسلامية في شيكاغو!!
"أسوأ البلايا ما يضحك". وقد أثبتت التجارب أن الكثير من هؤلاء المصابين بعبادة الغرب لا يعودون إلا بالقشور، قشور غير مهضومة، تتمثل في أفكار هدامة للأسس التي قام عليها الفكر الإسلامي، وأنهم لا يعرفون كما ينبغي لغة البلاد التي عادوا منها، ويجهلون لغة القرآن، ورغم أن بعضهم يدعي العروبة!!. فهم إن أرادوا أن يكتبوا بها شحت قرائحهم، وإذا سمحت منحت ما يثير السخرية والشفقة معا وإذا تباحثت مع أحدهم شاح بوجهه وورم أنفه لتغطية هزال فكره، وإذا قبل انكشفت ضحالته " فإذا بالجبل الشاهق يلد فأرًا " يمتاز عن جنس الفئران بأنه قزم يفتقد ذكاء هذا النوع من الفئران التي نجدها في مراكز الأبحاث.(7/2164)
من قضايا العصر ذات الأثر الخبيث: العلمانية:
العلمانية (Le Iairisme) من الأيديولوجيات التي يحيطها الغموض لدى الكثير من المطبلين لها، فأغلبهم يتخبط فيها من غير معرفة لحقيقة الهدف، يسير في الركب لا لشيء إلا لأن الغرب نادى بها , وكنت دائما ألتمس من أدعياء المعرفة أن يكشفوا لي حقيقتها ... وقد جرى حوار بيني وبين شخصية إسلامية كانت تتولى منصبًا إسلاميًّا ساميا. قلت للمسؤول الإسلامي ذي الثقافة الغربية: إن كثيرًا من دول العالم الإسلامي تقول: إنها ديمقراطية علمانية. والمفهوم السائر للديمقراطية (حكم أغلبية الشعب) فكيف تبرر ذلك في بلد قد تصل نسبة المسلمين فيه إلى القريب من مائة في المائة؟ بينما معنى لائك، الذي ترجم تضليلًا في اللغة العربية ـ بعلماني لا دينى ـ فكيف يكون الإنسان دينيًّا ولا دينيًّا في آن واحد؟ ولم أقتنع بما قاله ذلك السيد، ومن ضمنه القول بأن (دولة لائك) يعنى أن كل إنسان في البلد الذي تحكمه هذه الدولة حر في اعتناق ما يراه من دين. فقلت: ولو كانت أغلبية الشعب لا توافق على هذا المبدأ، فأين إذن مفهوم الديمقراطيه؟ أولا يكون هذا عين الدكتاتورية؟.
إن مسألة (علمانية الدولة) مسألة خطيرة يترتب عليها كثير من المضار في المجتمع الإسلامي، وأن مضارها ومنافعها ـ إذا كان فيها منافع ـ يجب أن تكون معلومة واضحة لدى الشعب، وأن تكون أهم نقطه بارزة في أي نظام سياسي في بلد إسلامي وذلك قبل نظام الحكم: ملكي، جمهوري، وبعد شرحها بوضوح من كل جوانبها، وإجراء الاستفتاء، وأختارها الشعب من غير تزوير لإرادته. فليعلم الجميع أنهم باختيار العلمانية قد انحرفوا عن الإسلام. فلا يمكن لإنسان أن يكون دينيًّا ولا دينيًّا في آن واحد.
هذا وقد ترجمت كلمة (Laique Laicism) إلى العربية بخبث واضح مثل ما ترجمت كلمة (Colonisation) باستعمار تضليلًا بينما معناها الاحتلال والاستعمار والاستذلال. وذلك لهدف إيقاع الناس في الشرك وخاصة المسلم إذ تقع عينه أول وهلة، ويخطف فهمه- وهو خالي الذهن- كلمة علم، والعلم عنده جذاب مغر إذ أول سورة نزلت في كتابه الذي يقدسه، تشمل على: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .(7/2165)
تقول دائرة المعارف البريطانية في تعريف كلمة (Secularism) (هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها، ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخرة. ومن أجل مقاومة هذه الرغبة طفقت ال ـ (Secularism) تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية ... حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعقلهم الشديد بالإنجازات الثقافية البشرية، وبإمكانية تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة القريبة ... وظل الاتجاه إلى الـ (Secularism) يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية) . (1) .
وفي المنهل قاموس عربي فرنسي تأليف الدكتور جبور عبد النور، والدكتور سُهيل إدريس. بيروت: (لائك لا ديني (Laique) مذهب أنصار اللادينية في المؤسسات، علمانية (Laicism) فنبذ الدين وإقصاؤه عن الحياة العلمية هو لب العلمانية) . (2) .
والعلمانية اصطلاح حديث يقصد به ما ليس دينيًّا أو كهنوتيًّا (3) . والذي لا يتطرق إليه الشك أن العلمانية (Liacism) كانت مصدر شر مستطير هدام في العالم الإسلامي وفي العالم أجمع, فقد أصبحت قاعدة في الحكم, فصارت الدولة لا دينية, ودخلت في التعليم، وهو رأيي أخطر مؤسسة وصل إليها الفكر البشرى لتشكيل الفرد ومن ورائه الجماعة، إذ الفرد ما هو إلا لبنة المجتمع، وكل بناء سواء كان ماديًّا أو معنويًّا يشاد على أساس ولبنات , فإن كانت هذه اللبنات سليمة وصالحة صار البناء قويًّا , وإن كان العكس أصبح ضعيفًا هشًّا. فلا دينية التعليم والتربية التي فرضت بالقوة ـ في البداية ـ على بلاد الإسلام هي التي سممت العقول والفكر وخلقت جيلًا ضلل , فأصبح أداة هدم من الداخل ومعاول تحطيم بما سلط وبث من فكر سام، فكر مبتور عن تاريخ الأمة الإسلامية وتراثها وحضارتها , ثم أصبح القادة من هذا الجيل فصاروا الأيدي التي تتحرك بعوامل الغزو الفكري الغربي، فمكنوا له في الدولة ونبذوا دين الله كما هو طلب المحركين لهم من وراء الحجاب, وأقصوه عن الحياة العلمية والعملية، وطردوه عن جميع المؤسسات، ومنعوه من الاقتراب من المجتمع، وضربوا عليه الحصار في كل مكان (ودروشوا) من يتظاهر به، وسخروا منه، وقرروا إيداعه في كهف قصي مظلم في متحف التاريخ.
__________
(1) عن الأستاذ محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة: ص445. دار الشروق
(2) مذاهب فكرية /عن الأستاذ محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة: ص445. دار الشروق
(3) الأستاذ فتحي رضوان. (اقرأ) 377: ص 184، دار المعارف، القاهرة(7/2166)
انظروا قول زويمر السابق: (لقد قبضنا أيها الأخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، وإنكم أعددتم نشئًا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقًا لما أراده الاستعمار المسيحي ... ) !
أي شهادة من هذا الداعية الخطير الذي لم يتعلثم في أن يقول للأغبياء والبلداء والأغرار والمنبهرين بحضارة الغرب والمخدوعين بحلاوة وطلاوة أحاديث المبشرين، وخاصة للذين يحاولون الفرق بين التبشير والاستعمار يقول لهم: هذا ما نخطط له، هذا ما نريده، نريد أن نحطمكم طبقا لما أراده لكم الاستعمار المسيحي!
إذا كان زويمر يكشف هذه الخطط، ويؤكد نجاحها سنه 1935م, وإذا كان يقول بفخر ما قاله فماذا عسى أن يقوله الآن يا ترى!!!
أنني لا أريد الاسترسال في التعليق على هذا التصريح الخطير, وفي الواقع لا يحتاج إلى تعليق، فوضوحه أغناه ... وقد أثبتت أحداث التاريخ ما تباهي به زويمر، وبنظره عامة نجد كثيرًا من أبناء المسلمين يكيدون للإسلام وينفذون خطط زويمر ويضطهدون كل داع إلى الإسلام. فكأن بعض الناس لم يعد لديهم عمل إلا ملاحقه الإسلام، ومحاولة مسخه، وخلق دين مرقع لا يمت إلى الإسلام بصله، دين مقبور في المساجد، مقطوع الصلة بالحياة، وبالمجتمع، وبشؤون الناس اليومية.
فليفعلوا ما يحلوا لهم، وليشكلوا ما يتصورونه دينًا يلهون به، ويظنون أنهم يخادعون المسلم، وما يخادعون إلا أنفسهم وهم لا يشعرون، فليفعلوا ما يريدون ولينفذوا رغبات الأسياد، وسيبقى الإسلام بخير بإذن الله ويبقى الخلط والضباب والظلمة في أذهان أعدائه.(7/2167)
إذا كان الغرب المسيحي قد عرف في تاريخه تسلط الكنيسة على الكادحين، وتحالفها مع الإقطاعيين ومع الملوك والنبلاء من ديوك وبارونات ودوقات؛ لاستعمار الطبقات الكادحة، وتاجرت في صكوك الغفران، ونصبت محاكم التفتيش وسجنت العلماء, فما جريرة الإسلام في أن يوضع مع الكنيسة في قفص اتهام واحد!!؟ ويعزل عن شؤون الحياة اليومية ويحبس بين جدران المساجد، ويتلقى الخطباء يوم جمع تعاليم صارمة تقص ألسنتهم , بل تشتت أفكارهم من هولها وتنتشر بين المصلين الشرطة السرية. وإذا تمرد متمرد غمرته كرامة الإسلام وأبت له أن يكون آلة لتخدير المسلمين، فانطلق لسانه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالتنديد بالظلم والظالمين، منع بعد ذلك من الوقوف خطيبًا، وهذا أهون عقاب، إن لم يزج في السجن متهمًا بالإخلال بالأمن العام أو حتى بالتآمر على أمن الدولة، وهي جريمة يعاقب عليها القانون.
إن فرض اللادينية = العلمانية، على الإسلام والمسلمين مجاف للإسلام ومناقض لأسسه وسيرته، وفصل الدين عن الدولة ليس من الإسلام في شئ، وانفصامية الدين والدولة يتعارض أساسًا مع شمولية الإسلام، وإذا فصل الدين عن الدولة صار شيئا آخر، وادعه ما تشاء..، أما أن يكون إسلامًا فلا.
فالإسلام لا تبتر أطرافه، وإذا بترت صار غير دين الله الحق الذي أنزله على عبده ورسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ واستمسك به عقيدة، وطبقه شعيرة وشريعة، وكان مسجده في المدينة المنورة منطلق دعوته، تقام فيه الصلوات وينبعث منه الفكر الهادي، وتعالج فيه جميع شؤون المسلمين، وتدبر فيه الخطط لنشر الإسلام والدفاع عنه. ولا أدرى هل هذا يسمى سياسة، ويمنعه دعاة اللادينية.(7/2168)
قوة الإسلام الذاتية:
فرغم كل التدابير التي اتخذت للقضاء على الإسلام لوضعه في متحف التاريخ ورغم كل أنواع الغزو الفكري، وهجمة الحضارة الغربية المادية، ورغم المطبلين للغرب ونفوذهم، ورغم الحروب البشعة التي أشعل نيرانها أعداء الإسلام داخليًّا وخارجيًّا, ورغم رايات الاضطهاد التي يرفعها بافتخار بعض أذناب الغرب وعباده في بلاد الإسلام، ورغم وقاحة الكتاب والمفكرين دعاة التغريب والتبعية خدام الغزو الفكري وأجرائه، ورغم انهزام كثير من أبناء المسلمين فكريًّا وحضاريًّا، ورغم وصول تأثير الفكر الغربي إلى درجة العمق في تصرفاتنا اليومية فكرًا وسلوكًا وتعليمًا وسياسة وتشريعًا واقتصادًا، وحتى في الأشياء البسيطة، أو التي تخضع للبيئة الطبيعية كالأزياء مثلًا. إذ قد نجد من يعيش في منطقه حارة وفي فصل الصيف، وتراه مشدود الرقبة، مشدود الوسط، يتصبب عرقًا من الصوف الذي يرتديه على الطريقة الغربية، ومن الجو الخانق الشديد الحرارة، ورغم كل هذا فقد فوجئ العالم أجمع بالإسلام يفيض من وراء كل السدود، ويتخطى كل الحواجز، وإذا بالجماهير من شباب الإسلام تتلقف الراية، راية التضحية والجهاد في سبيل الإسلام فيتحير الطغاة، ويتحير معهم خدام الفكر الغربي ودعاته، الذين خابت آمالهم في تحويل جماهير الشباب إلى دُمى تحركها أقلامهم المأجورة وتربيتهم الفاسدة، مكافأة للغرب على ما أولاهم من عناية وأوسع لهم من نعمة.
ففي الجامعة ارتَدَت الفتاة زيًّا محتشمًا، زيًّا إسلاميًّا وفي الشارع وفي المدرسة ... ظاهرة أقلقت جميع أعداء الإسلام وفزعت لها بعض الدول خارج العالم الإسلامي، حتى رأينا فرنسا موطن الحرية والمساواة والإخاء تثور من أقصاها إلى أقصاها، وتجفل مرعوبة هلعه أمام قطعة من القماش تضعها صبية على رأسها، فتقوم زوبعة تهتز لها جمهورية الحرية، حامية حقوق الإنسان، وتمنع الصبية من دخول مدرستها إلا بإلقاء خمارها!!.. بينما تسير لداتها عاريات إن شئن، وتتفاقم الزوبعة وتتطاول صاعدة إلى السماء وتصل رئيس الجمهورية ...
لماذا كل هذا الفزع؟! أخوفًا من متر قماش وضعته فتاة على رأسها؟! أو من الفتاة نفسها؟ ولماذا كل هذا؟!
إن الوثنية حاولت أن تئد الإسلام في مهده منذ ما يقارب من 1400 سنة، وقامت ضده بحرب شنيعة فرد الله كيدها في نحرها: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1)
وفي العصر الحديث وقف حلف الفجور غير المقدس من الوثنيات والدهريات والديانات المنحرفة والأيديولوجيات الضالة وعتاه الاستعمار المادي والثقافي، تآمر الجميع بينهم، ومع من استهووه من أبناء المسلمين وأضلوه وقَبِلَ أن يمد يد العون لهم لاستئصال شأفة هذا العدو اللدود، ففتحوا عليه جميع أبواب الشر بسخاء، ولم يدخروا أي جهد، فإذا بجميع قرون الشياطين تعود واهية، وبقى الإسلام يتابع سيره بثقة واطمئنان ... {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2) .
__________
(1) سورة التوبة: الآية 32
(2) سورة الصف: الآية 8(7/2169)
إن قوة الإسلام ذاتية, قوة جوهرية، قوته المتمثلة في كتابه العزيز وفي عقيدته الراسخة, فقد واجه الإسلام قديمًا وحديثًا أعتى المذاهب فصمد لها، وحسم الرأي في كل ما أثارته الفلسفات حول الإنسان والكون والحياة والفكر البشرى من قضايا وتحريفات.
وقد زيّف القرآن الكريم كما ما سوى عقيدة التوحيد الكاملة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} , لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وجاء بالشريعة لصالح البشر, فتعانقت العقيدة والشريعة بحيث لا تنفرد إحداهما عن الأخرى, فمن آمن بالعقيدة وألغى الشريعة، أو أخذ بالشريعة وأهدر العقيدة خالف دين الله الحق, فالإسلام عقيدة وشريعة، ودين ودولة.
وشهد التاريخ في كثير من أجزاء العالم لقوة الإسلام الذاتية التي حمته وأعطته فاعلية الانتشار بلا مبشرين وبلا قوى تدفعه وتساعده على الانتشار والصمود، فقد واصل الإسلام انتشاره منذ فجره إلى اليوم، ولم يتوقف عن الانتشار حتى في أشد أيام الصراع بينه وبين الاستعمار, وقد انتشر بقوته الذاتية، وبفضل مبادئه التي تحمل عنصري التوحيد والحرية.
يقول توماس آرنولد في كتابه (دعوة إلى الإسلام) : (إن كان دولة الإسلام قد انقسمت وانهارت وحدتها السياسية فإن فتوح الإسلام الروحية قد بقيت لا تحول دونها الحوائل، حدث هذا برغم إغارة المغول على بغداد، وقيام الحكام الأندلس بطرد المسلمين من الأندلس , كان ذلك يجرى والمسلمون يضعون أقدامهم في أرض جديدة، ويُدخلون أهلها في دين الله، تلك هي جزيرة سومطرة) . ويقول العلامة مونتيه في كتابه (حاضر الإسلام ومستقبله) : (في إفريقيا أناس من المرابطين هم دعاة تبشير حقيقيين، وهناك طرق دينية أخذت على نفسها نشر الإسلام، على أن الإسلام ينتشر بنفسه بواسطة المسلمين أنفسهم، لأن كل مسلم في البلاد الوثنية داعية دين بحد ذاته.. والمسلم ينشر دينه وهو متوفر على تجارته، أو عامل في صناعته، والإسلام ينتشر من نفسه بواسطة القوافل التي ترحل إلى البلاد الوثنية، ودعاة الإسلام فيما عرفوا من الغيرة يعمدون إلى ذرائع مختلفة تناسب كل حال بحسب الأقطار والشعوب التي يبثون دعوتهم بين أهلها) (1) .
ولا غرابة إذن في أن نرى المسلمين، والشباب منهم خاصة، يعودون إلى دينهم الحنيف بعد أن استفاقوا من هول الصدمة المضللة التي صرعت الكثير من الناس منذ بداية اشتباك الإسلام بالفكر الغربي وحضارته المادية.
ولا نسأم من تكرار الحقيقة الأبدية التي تتمثل في أن هذه القوة الذاتية الإسلامية المتجسمة في كتاب الله العزيز هي التي صمدت أمام كل الحروب القذرة، مادية وفكرية، تلك الحروب التي انطلقت منذ عاد محمد صلى الله عليه وسلم من الغار يحمل رسالة الله إلى البشرية قاطبة، بل وإلى الجن أيضًا حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
__________
(1) عن الأستاذ أنور الجندي. بتصرف إطار إسلامي للفكر المعاصر: ص 19، والمكتب الإسلامي، بيروت(7/2170)
حملات على القرآن الكريم.
وقد قامت حملات شعواء ضد الكتاب العزيز، حملات من كل نوع، ولكن الغزاة وأذنابهم وتساقطوا جميعًا وارتدت سهامهم في نحورهم، وبقى الذكر الحكيم مضيئًا الطريق لمن يريد السير في المحجة البيضاء، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1) .
وقد أزعج هذا النور قطاع الطرق والمفسدين في الأرض والجبابرة والطغاة، وكل من يريد أن يعمل في الظلام بعيدًا عن نور الحق، وأدركوا جميعًا أنه يستحيل عليهم القضاء على الإسلام وتدمير المسلمين إلا إذا انتزعوا هذه العقيدة والتي لا سبيل إلى نزعها إلا باجتثاث القرآن من الأيدي ومحوه من الصدور ومن الذاكرة، ولقد أدرك هذه الحقيقة كثيرًا من أعداء الإسلام وحاولوا بكل وسيلة تزييفه أو التشويش عليه، وقد دفع هذا (غلادستون) رئيس وزراء بريطانية إلى القول في مجلس العموم البريطاني عام 1883م، وهو يحمل المصحف: (ما دام هذا الكتاب باقيًا في الأرض، فلا أمل لنا في إخضاع المسلمين، بل نحن على خطر في أوطاننا) (2) .
__________
(1) سورة فصلت: الآية 42
(2) الأستاذ أنور الجندي. مرجع سابق(7/2171)
اللغة العربية ودعاة التغريب والهدم:
كانت اللغة العربية هدفًا أساسيًّا من أهداف التغريب والتشويش للحط من قدرتها على مجاراة الزمن واتهامها بالقصور عن التعبير عن مضامين الحضارة النامية المتوثبة, والفكر المتطور المتشعب, والتقدم العلمي الهائل.
(وقد بدأت الحملة على اللغة العربية منذ أواخر القرن الماضي، وامتدت على أيدي كتاب ومفكرين أجانب، ثم حمل لواءها كتاب من بلادنا. وبدأ هذه الحملة - في الأغلب - المبشر الإنجليزي وليم ويلكوكس سنة 1892م، في خطاب ألقاه في القاهرة جعل عنوانه: "لِمَ لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن؟ " وأجاب بأن السر في تأخرهم هو اللغة العربية, وأن المصريين لو اتخذوا لهم لغة إقليمية كما فعلت بريطانية مثلًا استطاعوا أن يتفرقوا ويخترعوا) . (1)
وتابعه ويلمور 1901م بحمله أخرى دعا فيها إلى ما سمّاه (لغة القاهرة) واقترح كتابتها بالحروف اللاتينية (2) .
وانطلق أعداء الإسلام يتابعون هجمتهم على لغة القرآن الكريم، يتهمونها بالعقم والقصور تارة، ويدعون إلى استبدالها باللهجات العامية تارة أخرى، واستبدال حروفها بحروف اللاتينية, وانبعث من أبناء بلاد الإسلام مخربون من الداخل أخذوا راية المؤامرة وفي أيديهم معاول الهدم، ولما عجزت محاولتهم في فرض لغة عامية، أو كتابه العربية بالحروف اللاتينية، تفتقت أذهانهم على فكرة عبقرية، موّهوها حتى لا تنكشف خططهم، يرجون من ورائها الوصول إلى هدفهم في استعمال العامية.
والخطة تتمثل في اعتماد اللغة الصحفية، فهي لغة لا هي فصحى ولا هي عامية، ولكنها تنزل درجة عن الفصحى، وهذا يجعلها عاجزة عن الوصول إلى فهم القرآن الكريم والتراث الحضاري الإسلامي. ولا يخفي على أحد أن هذه العملية التنازلية تؤدي في غير عجلة إلى استعمال العامية, وليست هذه آخر المؤامرات التي حيكت وتحاك ضد لغة الذكر الحكيم, فهناك ما أطلق عليه اسم (تطوير اللغة) وتعنى هذه التحلل من القوانين والأصول التي صانت اللغة العربية خلال خمسة عشر قرنًا.
__________
(1) انظر الأستاذ أنور الجندي. أضواء على الفكر العربي الإسلامي: ص 50ـ 51. المكتبة الثقافية ـ 149، الدار للتأليف والترجمة
(2) انظر الأستاذ أنور الجندي. أضواء على الفكر العربي الإسلامي: ص 50ـ 51. المكتبة الثقافية ـ 149، الدار للتأليف والترجمة(7/2172)
وقد يظن بعض البسطاء أن المسألة يراد بها سهولة الأداء اللغوي، ولكن أهداف كل هذه الخطط هي كتم أنفاس هذه اللغة, ووضعها في تابوت ثم ركنها في متحف اللغات التي شاخت وأدركها الوهن مثل اللاتينية.
ويقول الدكتور العناني تعليقًا على هذه الحملة الماكرة: (إن تغيير قواعد اللغة العربية صرفًا ونحوًا بالوضع فقط، أو الوضع والإزالة، معناه إحداث لغة جديدة بقواعد جديدة، وهذه اللغة العربية الجديدة إن صح اتصالها بالعربية الحالية المدونة اتصال اللهجة بالأم، فإنها تبعد عنها شيئًا فشيئًا حتى تختفي معالم الصلات بينهما، أو تكاد , وعندئذ تكون اللغة العربية الحالية من اللغات الميتة) (1) .
ولكن لماذا هذه الخطط لهدم اللغة العربية؟ إن كل هذه الشراك التي تلقى لصيد اللغة العربية، وهذه المؤامرات التي تحاك حولها تستهدف أبعد مما يتبادر إلى ذهن بعض الناس عندما يرى هذه الحيل المحبوكة التي ألبست ثياب الفنية، والرغبة في تسهيل اللغة للدارسين، لإخفاء الأهداف الحقيقة من الهجمة على الإسلام وفكره وحضارته، وبتر المسلمين عن دينهم، وضع عراقيل أمامهم في فهم كتابهم وسنة نبيهم وشريعة دينهم، وقطع الروابط الوثيقة التي تربط بينهم وبين ماضيهم.
فاللغة العربية منذ جاء وحي الله إلى نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلسان عربي مبين، وتوثقت بها جميع أصول دين الله، دين الحق، أصبحت لغة القرآن، لغة السنة النبوية، لغة كل مسلم في أي مكان في الأرض، ولم يعد للعرب منها أكثر ما لأي مسلم من أي جنس. فكما أن الإسلام دين الناس كافة، فلغة الكتاب والستة لغة المسلمين، لاحق لأي فرد أو مجموعة أن تدعى ملكيتها واحتكارها، والاستئثار بها, ولا يجوز لأي أحد أن يمد يده أو لسانه لإيذائها، فالذي يفعل ذلك قد اعتدى على جميع المسلمين.
وبما أن أعداء الإسلام في الخارج وأذنابهم في الداخل لا يألون جهدًا في سعيهم لإيجاد الوسائل الفعالة لغزو الإسلام فكرًا وحضارة، وتدميره من أساسه، وبما أن اللغة العربية هي الوسيلة الوحيدة الصحيحة لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وتراث الإسلام العظيم، استهدفوها وتآمروا عليها للوصول عن طريق هذه المؤامرات إلى بلبلة الأفكار، وتمييع مفاهيم اللغة، وتشويه كلماتها وتراكيبها وتفتيتها وتوزيعها إلى لهجات لا تتوفر فيها أسس اللغة، فيتصدع ما هو قائم الآن حولها من روابط ثقافية ودينية واجتماعية، فإذا بنا بدويلات اجتثت من أصولها، وحيل بينها وبين ماضيها وتراثها، ليسهل على الفكر الغربي الغازي ابتلاعها لقمة سائغة وتضيع كل النصوص التي كتبت بالعربية في ضباب، وبعد حين من الوقت يصير الإسلام تاريخًا مشوهًا ضاعت أصوله، ويدخل القرآن الكريم في المتحف مع التوراة والإنجيل، ولا يصل الإنسان إليه إلا عن طريق تراجم مشوهة مشبوهة , هذا ما يسعى إليه هؤلاء الغزاة وأذنابهم.
__________
(1) عن إطار إسلامي للفكر المعاصر ـ للأستاذ أنور الجندي. مرجع سابق: ص 291 ـ 298(7/2173)
انتشار العربية:
هذا وقد لاحظنا أن اللغة العربية نمت وانتشرت مع الإسلام، ولا زالت تنمو وتنتشر وتصعد مع دين الحق، وأنها تدرس الآن في كل أنحاء العالم، وخاصة حيث توجد مجتمعات إسلامية , وفي إفريقية مثلًا تنتشر المدارس العربية وتنتشر الكتاتيب وحلقات الدروس الدينية في البوادي والقرى وحتى في المدن التي طغت ثقافة الغرب الغازية وتدريس اللغات الاستعماريه وخاصة الفرنسية والإنجليزية. وتبذل الدول الاستعمارية جهودًا جبارة لنشر لغاتها وثقافتها وفكرها وحضارتها، فبجانب المساعدات المالية الضخمة، تُقدم الكتب والأدوات المدرسية على حسابها، وتُقدم المنح للمعلمين، وتتولى التدريب على جميع المستويات.
وأما اللغة العربية ومدارسها ومناهجها فإنها لا تتلقى إلا الشحيح الضنك من المساعدات , وتتساوى في هذا المدارس العربية الحكومية والمدارس الخاصة.
وكان من المتوقع أن تقوم الدول الإسلامية ذات الإمكانيات الفنية والمادية واللغوية التي تهتم باللغة العربية وفكرها وثقافتها، وبالقرآن الكريم والسنة النبوية، وبالدين الإسلامي، بواجب المساعدة للدول الأخرى الإسلامية في هذا المجال وتشجيعها في توسيع الدراسات الإسلامية واللغة العربية ما دامت هذه الدول مستعدة للمضي هذا المجال.
وأعود لأقول: إن اللغة العربية بوصفها لغة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفه، لغة كل مسلم, وانطلاقًا من هذا فحمايتها والدفاع عنها ونشرها واجب المسلمين جميعًا.(7/2174)
وهناك شعوب تنبش عن لغاتها بعد أن احتوتها الرموس أو كادت وتحاول نفخ الروح فيها من جديد، والمثال أمام أعيننا في اللغة العبرية التي فُرض تعليمها وتعلمها.. وأما نحن المسلمين فقد أهملنا لغة القرآن الكريم رغم ارتباطها العضوي بكتاب الله وسنة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) وبتراثنا الفكري والحضاري , ورغم حيويتها وثرائها وجمالها وطواعيتها للتعبير وسلاستها، انهزام فكرى في كل شيء حتى في أشياء كان من الواجب ومن العادة ارتباطها بالمحيط البيئي كأسماء الشوارع والطرق، فكثير منها في الدول الإسلامية يحمل أسماء استعمارية، والكتابة عليها بالحروف اللاتينية وحتى في البلاد التي لا تزال تستعمل العربية وتدعى أنها تنتمي إلى أرومتها, وقد زرت بعض الدول الأوربية فلم أر في يوم من الأيام بلدًا كتب أسماء الشوارع بالحروف العربية.
فإذا انهزم الإنسان فكريًّا تغير منطقه، وتغيرت رؤيته للأشياء وفقد إحساسه بالكرامة فيصير ميتًا في عداد الأحياء.(7/2175)
إسلام وإسلام:
بناء على المشاهد أصبح الإسلام إسلامين: إسلام العقيدة المتغلغة في النفوس المسيطرة على الشعور الموجه للسلوك الصامدة في وجه التيارات الفكرية المعادية للإسلام، إسلام السواد الأعظم من أبناء الإسلام.
إسلام بعض رجال السياسة الذين يرون الدين الحق خطرًا على مراكزهم ومصالحهم التي في معظمها لا تعكس ولا تستجيب لمصالح الجمهرة المسلمة الصحيحة الإيمان، فبعض الساسة في بلاد الإسلام سواء أكانوا حكامًا أو رؤساء أحزاب أو منظمات، يتوددون ويتملقون الجماهير المسلمة باسم الإسلام، وليس هذا إلا خداعًا بدليل أن الأحزاب الشيوعية تفعل نفس الشيء، وغير الشيوعية من تلك الزعامات كالشيوعية إذ لا يمكنها بحال أن تسير في ركب الإسلام، ولا أن تطبقه، وكل ما تفعل إذا تظاهرت بالإسلام أن تكتفي بأضعف الإيمان، وفي الواقع ليست لديها شجاعة المؤمن. إذ أن محاولة تطبيق الإسلام تجعلها تواجه الغزو الفكري وأعوانه على الطريق الواضح، وهذا ما لا يرغب فيه أحد منهم لأن مصالحهم ارتبطت بمصالح الغرب.
ومن أجل أن ينالوا رضاء سادة العالم المعاصر، ويحتفظوا بمناصبهم، عليهم أن يموّهوا على الشعور الإسلامي ويضللوا شعوبه، ويمثل إرضاءهم لأعداء الإسلام ما نراه من الملاحقات للجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي، واختلاق الأكاذيب ضدها، وافتعال مواقف معينه تآمرية لضربها أو وأدها في مهدها، أو حصارها في مواضع تختنق فيها. ومن الغريب أن في البلاد الإسلامية من يتشدق بحرية الرأي ويدعى الديمقراطية على سنة الغرب، ويتباهى بذلك، ويسمح بقيام بعض الأحزاب وحتى الشيوعية، ولكنه إذا فاحت رائحة الإسلام من تنظيم أزكمته، لأنها رائحة كريهة لا تتفق مع ذوق سيد متحضر، فيلجأ إلى جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة لضربه, وبعض دولنا تخاف أن تغضب سادة العالم المعاصر فتُتَّهم بالرجعية أن بالإرهاب إن هي سمحت بقيام أحزاب إسلامية، وللإنسان أن يتساءل: أحقا نحن مستقلون!؟
إن الغرب الذي يقلده بعض الناس، يتفانى بعض الحكام في إرضائه توجد فيه أحزاب دينية (مسيحية) ولكن لم نسمع في يوم من الأيام أن هذه الدول وصمت بالرجعية أو الإرهاب أو بالأصولية, أو أن حزبًا مسيحيًّا نجح في الانتخابات، فقامت القيامة قبل أوانها، وعصفت بإرادة الشعب. وهذا يدعو إلى سؤال عن مفهوم الديمقراطية، والحرية؟ وسؤال أخير: لماذا نحن المسلمين نمسح أحذية المستعمرين، وتتفانى في إرضائهم، فيركلوننا بأحذيتهم؟ ألا يتناقض هذا مع الإيمان بالله الواحد الأحد؟ أين الإسلام وكرامته؟ أين الإيمان وعزته؟ أين قول الله تبارك وتعالى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) .
__________
(1) سورة المنافقون: الآية 8(7/2176)
الإسلام وحده في الموجهة:
جرت أحداث خطيرة في السنوات الأخيرة, فقد سقط من علٍ صرح شاهق شغل العالم ما يناهز قرنًا من الزمن، قامت من أيديولوجيته دول، واعتنقتها شعوب , وضللت بها شعوب أخرى , وخُدرت ومُنيت فردوس الأرض، وتأكد وأكد مبشروها أنهم اهتدوا إلى بلسم يشفي البشرية من جميع أوجاعها والأمة، فانطلق الدعاة مسعورين يهيجون الشعوب ويقلبون الحكومات، يبشرون بالحياة الفاضلة, فقامت بوجه هذه الأيديولوجية، أيديولوجية أخرى تقاومها، وتصارعها، فدخلتا في سباق لاقتسام العالم المعاصر، واستعملت كلتاهما ما في جعبتها من حجج وكذب وخداع ومكر، وضغوط للاحتفاظ بمراكز النفوذ في العالم بعد أن انقسم فريقين, فعاشت الشعوب على أعصابها وهي تشاهد حربًا باردة بين العملاقين، متمزقة بين الأيديولوجيتين تتصارعان على قسمه العالم والاستعمار إلى أقصى حد.
فانطلقت أبواب الدعاية ووسائل الإعلام الخاصة بكل فريق تسمم الأفكار وتختال الشعوب وتخدرها، إما بالوعود بجنة الأرض الوارفة ذات القطوف الدانية، وإما بالحرية والديمقراطية والمساواة ذرًّا للرماد في العيون. إلا أن مبادئ العملاقين لا تختلف إلا في التكتيك، فكلاهما يرفع راية (العلمانية = لا دينية)
فالعالم الشيوعي بالشرق يرفعها ويقويها بفلسفة جدلية تحذف الإله الخالق للكون من حسابها، وتعمل في كل المؤسسات التابعة لها بمحو فكرته من ذاكرة الشعوب.
والعالم الحر يرفع، أيضًا، بدورة نفس الراية، ويطبق نفس المبدأ من عزل الدين عن حياة الناس، ولكنه فعل ذلك بخبث حين فصل الدين عن التعليم والتربية وجميع النظم المسيرة للحياه وقبره في دهاليز الكنيسة.
فرغم الصراع القائم بين العملاقين الشقيقين فقد كانا متفقين على تحطيم الإسلام وتقويض أسسه، حيث كان دائمًا صخرة صلبة ترتطم عليها معاول الهدم، فكانت مشكلة عويصة تسببت في فشل الكثير من هجماتهم الشرسة ضد المسلمين بدءًا من الحروب الصليبية ومرورًا بالهجمة الاستعمارية وتثليثًا بطوفان ملوث من الفكر المادي اللاأخلاقي الملحد الذي لا يعدو ـ في معظمه ـ أن يكون عملًا من أعمال الحروب البيولوجية التي قيل إن بعض الدول الكبرى تشنها من وقت لآخر لإفساد ونشر الأمراض.(7/2177)
هذا ليس غرضي من هذه الكلمة الخاطفة المقارنة بين العملاقين ولا يبان أكثرهما ضراوة وفسادًا في الأرض وإذابة للإسلام والمسلمين، ولا مناقشة الأسباب التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، ولا توقعات التغيرات المنتظرة في العالم خلال السنوات القادمة، وإن كانت تلوح في الأفق مؤشرات توحي بأن أوروبا المتحدة سترجح كفتها في السباق على النفوذ في العالم اقتصاديًّا وسياسيًّا، وأن الولايات المتحدة أخذت في مرحلة تنازلية، وأن اليابان سيكون لها دور خطير في مستقبل العلاقات الدولية.
فالذي أريد أن أنبه عليه أن أعداء الإسلام تفرغوا له بعد أن حُيّدَ العالم الشيوعي. صحيح أن الشيوعية لم يسقط جانبها الإلحادي، وإنما سلكت فقط طريق الغرب في تطبيق العلمانية = اللادينية، في الوقت الذي تخلت فيه عن فلسفتها الاقتصادية، وإن كان الوقت لا زال مبكرًا في التأكيد من أن (الثعبان) بعد قطع رأسه وقبل قطع ذيله، لا تؤثر الحركات العشوائية التي يقوم بها في إيجاد انحرافات أخرى قد تتولد عنها مفاهيم جديدة في السياسة والاقتصاد.
فالإسلام إذن يقف وحده في مواجهة أوروبا في حرب ضروس، حرب فكرية، حرب ثقافية، حرب حضارية، أوروبا المتحدة من موسكو إلى واشنطن، فالإسلام هو الوحيد الذي تتوفر فيه عناصر حيرت الغرب منذ الحروب الصليبية وحتى عصر النهضة الفكرية والتكنولوجية المتطورة. والأسلحة التي استعملت وتستعمل في محاولة تقويض أسس الفكر الإسلامي هي نفس الأسلحة التي تستعمل في متابعة الحرب، غير إنني أتوقع أن كون الاعتماد في المستقبل سيتركز على عناصر الاستقبال والإرسال المتمثلة في الجماعات التي انسلخت عن فكرها، واجتثت من أصولها، وصارت رسالتها التخريب وتحطيم الشعوب الإسلامية من داخلها, كما أتوقع أن تشتد الضغوط على كل فرد أو جماعة تحاول أن تخرج بالإسلام من المسجد وتنادى به كنموذج صالح لإنقاذ الشعوب الإسلامية، بل كشعاع من الأمل يضئ طريق النجاة للإنسانية المحطمة الحائرة الغارقة في أوضار حضارة مادية قاتمة لا يتخللها أي شعاع من الإيمان بالله (1) .
__________
(1) ليس من المستبعد أن تحصل ردة إلى الدين. فقد دعا البابا إلى تنصير أوروبا (Evangelisation de l’Europe)(7/2178)
نداء إلى أهل النوايا الصادقة:
إن هذا النداء موجه إلى أهل النوايا الصادقة من الساسة والعلماء والمفكرين، وإلى كل غيور على مستقبل دينه ومستقبل أمته ومستقبل فكره وثقافته وحضارته وشخصيته المتميزة وكرامته ... ليهبوا لحماية الإسلام. فإن أي مطلع على التاريخ، منذ بزوغ نور الإسلام بين جبال مكة المكرمة، وأمر الله سبحانه وتعالى عبده ورسوله محمد بن عبد الله أن يصدع بما يؤمر به، وأن يعرض عن المشركين، يرى أن الإسلام دخل في صراع مع الباطل، وتصدى محمد (صلى الله عليه وسلم) لكل أنواع الضلال، وواجه وحده الجماهير الضالة والزعامات الفاسدة، وصمد وانتصر بالحق، ولم يرحل إلى الرفيق الأعلى إلا والدولة الإسلامية قد قامت على أسس الإيمان، والعدل المطلق، وأصبحت مدينته موئل هذا الدين ومركزه النشط، وانطلق موكب الإسلام يضئ القلوب، ويهدى النفوس، ويزيل الظلم ويحقق العدل، ويكون ممالك وإمبراطوريات ويمتن الصلات بين الأجناس والشعوب المختلفة التقاليد واللغات والألوان وأنماط السلوك. فأصبح المسلم في وطنه الكبير لا يعوقه أي عائق, ففي كل مكان يرتفع الأذان يشعر بالطمأنينة والأنس، فكل مسلم له أخ وكل مسلمة لها أخت, ولكن أعداء الإسلام لم يلقوا السلاح ولن يلقوه، واستمر الإسلام في صموده أمامهم، فقابل التتار، وناضل الصليبين، فبرز من بين المسلمين رجال شهد لهم التاريخ في الدفاع عن عقيدة التوحيد. فبرز صلاح الدين الأيوبي، والمظفر قطز، والظاهر بيبرس، ويوسف بن تاشفين ...
وتابعت مسيرة الإسلام خطاها صامدة بفضل عقيدته المركزية، عقيدة تشمل كل جوانب الحياة البشرية، وهذا الشمول جعل الإسلام يتعرض لخطط غزو جهنمية متصلة الحلقات منذ الحروب الصليبية وحتى يومنا الحاضر، وستستمر إلى ما شاء الله، ومن المؤسف أن ضعف المسلمين في هذا العصر كشفهم لغزو فكرى عميق تغلغل في حياتهم بعد سقوطهم في يد الاستعمار, واستفاد من وسائل العصر التكنولوجي، فوسائل الإعلام العملاقة من إذاعة وتلفزة وصحافة، وإمكانيات النشر، وما تحمله من فكر وغير مسموم تتسلل ـ برضا منا أو بغير رضا ـ إلى حياتنا اليومية. وفي الماضي كان الغزو الثقافي يتحرك ببطء ويصل بعد زمن، وقد يكون تأثيره بعد مدة طويلة، وبوسائل الغزو العسكري أو بالتبادل التجاري.(7/2179)
أما اليوم فالإنسان أنّى وُجد وحتى في البراري والقفار وقمم الجبال لا يستطيع تفادى ما يسلط عليه الفكر وثقافة, ففي كل لحظة من ليل ونهار تنطلق أمواج الأثير وتحمل الأقمار الصناعية, وتقذف المطابع وتفرغ الطائرات والسفن ملايين الأطنان من حصاد الفكر الإنساني, أراد الإنسان أم لم يرد، فهو معَّرض لآثارها.. فقد صارت كالهواء الذي يستنشقه.
غير أن هذا لا يدعونا إلى اليأس وإلقاء السلاح والاستسلام الخائن الذليل، والتبعية الحقيرة التي تتناقض مع كرامة المؤمن، بل وتتعارض مع كرامة الإنسان. فإيماننا بالله يمنعنا من ذلك، فلنكن إذن على مستوى عقيدتنا ولنقتد بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي واجه الأرض كلها وليس معه من البشر إلا زوجه، واجه الشرك والظلم والفساد بهذه العقيدة التي تدعو المسلم المؤمن بها أن يواجه الشرك والكفر والنفاق، ودعاة التغريب، وشهوات الدنيا التي روَّجت لها الحضارة المادية اللادينية، واللاأخلاقية، التي تعشش الفساد وتنشره بسخاء في الأرض. والنفس مجبولة على حب الشهوات وإنها لأمارة بالسوء.
ولا تهولنا هذه الحضارة المادية الشرسة، ولا يذهلنا تغلغل آثارها الضارة في المجتمعات الإسلامية، ولا سيطرة فكرها على عقلية بعض المفكرين الذين أصبحوا أداة هدم في يدى أعداء الإسلام {وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (1) .
فرغم أن الإحباط الكثير من أبناء الإسلام وأن بعض المفكرين من أبناء المسلمين لعبوا نفس الدور الذي لعبه المنافقون في صدر الإسلام أو أشد, فرغم أن كل حقيقة إلا أن من الثابت تاريخيًّا وبالتجربة، أن الحقائق النسبية أي التي ترتبط بظروف معينة ليست لها صفة الديمومة إلا بقدر توافر الظروف التي أوجدتها. انظروا جيدًا، وأمعنوا النظر من يستطيع منكم أو من غيركم أن يتخيل أن حقيقة هائلة دوخت العالم المعاصر بأجمعه منذ ما يقرب من قرن تزول من الوجود، وتصبح بين ليلة وضحاها تاريخًا يذكر؟ من لا يعرف منكم الاتحاد السوفيتي الركيزة الثابتة التي قامت عليها السياسة العالمية المعاصرة. أليس هذا كان حقيقة؟ أين هذه الحقيقة الآن؟!
__________
(1) سورة يوسف: الآية 87(7/2180)
فنحن المسلمين, نحن المؤمنين بالله الحقيقة الأزلية الخالدة، علينا أن نعود إلى ديننا الحنيف، دين القيم، ففيه صلاح دنيانا وصلاح آخرتنا، وفيه حماية شخصيتنا المتميزة، وفيه وحدتنا التي هي قوتنا. فقد جعل الله رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم نهاية الرسالات، وجعل شريعته باقية بقاء الإنسان على الأرض، وجعل أسسها صالحة لمواجهة ما استجد ويستجد من تعقيدات حياة البشر، ونموها الحضاري، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتعمر الأرض بالعدل والعمل الصالح، وجعلها وسطًا لتكون شاهدة على الناس.
أمة كهذه لديها القرآن الكريم والسنة المطهرة والتراث العظيم الذي قام صراحة على الإسلام، وازدهرت حضارتها واتسع فكرها، وسمت أخلاقها. أمة هذه صفتها, وهذه رسالتها، فهل يجوز لها أن تتخلى عن هذا؟! تتخلى عن عقيدتها، تتخلى عن قرآنها، تتخلى عن سنة نبيها، تتخلى عن شريعتها، تتخلى عن حضارتها وعن مثلها، تتخلى عن رسالتها تابعة ذليلة منهزمة أمام حضارة مادية فرغت الإنسان من كل معنى وسلبته كرامته بعد أن كرمه الله؟!(7/2181)
الإنسان يأخذ بعضه عن بعض:
إن أحدًا لا يستطيع أن يقول: إننا يجب علينا أن نوصد الأبواب أمام كل ما جاءنا من الخارج ـ ولا نستطيع ـ ولا أن نصم الآذان ونعمى العيون أمام الفكر الإنساني، فالإنسان منذ هبط على الأرض يتبادل المعرفة والخبرة حتى مع الحيوان، فقضية الغراب الذي كان يبحث في الأرض فأخذ عنه أحد الأخوين كيف يوارى سوأة أخيه معروفة, ولكن الحوار ليس الانهزام، وليس الاستسلام والخضوع، وليس التبعية الذليلة.
فيجب على علماء هذه الأمة ومفكريها أن يدفعوا عن دينهم، عن فكرهم، عن حضارتهم، عن عقيدتهم، عن أمتهم، عن شخصيتهم المتميزة، عن مثلهم وأخلاقهم وعاداتهم الطيبة, عليهم أن يضعوا كل ما يرد عليهم في مختبر التجربة، وتحت مجهر العقل، وعلى موازين الإسلام، موازين القسط، ليميزوا ما هو مفيد ومربح فيضاف إلى الفكر الإسلامي وتراثه العظيم الذي خلَّفه السلف الصالح، وما هو ضار ومؤذ فيلغى ويبعد لحماية المجتمعات والحضارة الإسلامية من شروره. فهذا واجبهم الأول: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) .
وكثيرًا ما أتساءل، لماذا نتدافع عميًا، بكمًا، صمًّا، وراء الحضارة الغربية المادية ونأخذ أسوأ ما فيها، نأخذ إلحادها، نأخذ فصلها الدين عن الدولة وما يترتب عليه فساد كل وسائل التربية والتعليم والإعلام، نأخذ عنها الانحلال الأخلاقي، وتفكك الأسرة وغير هذا من المفاسد.
هل نحن المسلمين نحتاج إلى هذا؟ وهل من مصالحنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه من الانهيار الخلقي، أليس الانهيار الخلقي يمثل عفونة الحضارات، وعلامة انحدارها إلى السقوط. أترضون أن يصل المجتمع الإسلامي إلى الحالة التي ساقها الدكتور كشاط مدير المركز الثقافي لمسجد الدعوة في فرنسا، ونقلها من دراسات وبحوث غربية، وساهم بها في ملتقى الفكر الإسلامي الثالث والعشرين في مدينة تبسه بالجمهورية الجزائرية سنة 1410 هـ / 1990م، وعنوانها: (حقائق عن المجتمع الغربي للاعتبار) . فإليكموها للاعتبار أيضًا فإنها تلقى الضوء على حياة من يراهم البعض منا مُثُلًا عليا.
يقول الباحث: (وحتى لا نبخس المجتمع الغربي أشياءه ـ إذ البخس بصورتيه الأدبية والمادية رذيلة يتنزه المسلم عن مقارفتها ـ فإننا نحيل الكلمة إلى مفكرين غربيين، فإنهم أعرف الناس بمجتمعاتهم ... وكانوا بمأمن عن الاتهام) . وجاء في الاستفتاء الذي أجرته (اليونسكو) بأن 60 % من الزوجات الأمريكيات والأوربيات يشعرن بخيبة، ويقض مضجاعهن الشقاء, وهل تعلم أن أعلى نسبة طلاق في العالم هي من نصيب الولايات المتحدة الأمريكية! وهل تعلم أن في مقاطعة لوس أنجلوس تحدث حالة طلاق مقابل كل حالة زواج!. وهل تعلم أن عدد الأطفال اللاشرعيين قد أصبه ثلاثة أضعاف الأعداد التي سجلت سنة 1938! وهل تعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية تستقبل سنوياُ 4 ملايين من الأطفال اللاشرعيين!. قالت مجلة لايف: لقد ضربت نسبة الطلاق في الولايات المتحدة الأمريكية رقمًا قياسيًّا، فكلما دار عقرب الساعة 90 ثانية هوى بيت أمريكي.
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 139(7/2182)
لقد حاول الباحثون من علماء النفس والاجتماع تعليل هذه الظاهرة. فهذا أرمسترونج يخاطبنا قائلًا: (قد تحس بالحرج إذا اعترفت بأنك تعيش في عالم مجنون بالجنس. فالأدب مترع بالجنس، لكن أي نوع من الجنس؟ لقد أصبحت أكشاك بيع الصحف والمجلات مجموعات ملونة من الجنس الساقط، إنها عناوين صارخة كصرخات الخيانة والجريمة الشذوذ والسادية والإيدز. ثم ما هي المواضيع التي يقرأها الأزواج باستمرار؟ ما هي برامج التي يشاهدونها من خلال شاشة التلفزيون؟ ما نوع الأفلام التي تعرضها لهم دور السينما؟ ما المجلات، ما الروايات، ما النكات التي تحشى بها عقولهم؟ الجواب في منتهى البساطة، أنه الجنس.. الجنس القذر، الشاذ، ... السابق للزواج، العفن والنجس ... صدِّق ما يحلو لك.. إن أهم عوامل المشاجرات والقتال التي تعصف بحياة الأزواج ... تنحدر بهم إلى درك الطلاق، هي ذلك الغذاء المستمر بالجنس والعنف) .
الشهادة الثانية: تلك التي أدلت بها الصحف الإنجليزي الصادرة في السبعينات: لقد اجتاحت إنجلترا عاصفة عاتية من الطلاق الذي ارتفعت نسبته بحيث سجلت حالة طلاق مقابل كل ثلاث زيجات ... وتكلمت لغة الأرقام فأكدت بأن سنة 1971م قد شهدت 625ألف أسرة يرعاها أحد الوالدين فقط. ولقد أجمع الباحثون على أنه في كل ثمانية أطفال أمريكيين يعثر على طفل ضحية لشذوذ جنسي من طرف ذوى رحمه ... وتتراوح نسبة العائلات التي تتعرض فيها البنت إلى هذه الجريمة الشنعاء بين 10 % إلى 40 % من العائلات الأمريكية. يتراوح عدد الأمريكيين الذين يمارسون هذه الفاحشة بين 10 إلى 30 مليونًا، أي خمس أو ست أسر أمريكية توجد عائله ترتكب هذه المنكرات.
والغريب أن هناك جمعية تسمى نفسها (جمعية مناصرة مضاجعة المحارم) أعضاؤها باحثون مشهورون في مختلف الأكاديميات الأمريكية ... وعلَّلوا هذه الظاهرة بفقدان الحنان الذي قوض أركان البيت الأمريكي ... قائلين بأن إدانتها من قبيل الخرافات الخلقية , وأكدوا بأنه آن الآوان أن ننظر إلى مضاجعة المحارم لا باعتبارها انحرافًا خلقيًّا، ولا على أنها من أعراض الاختلالات العقلية.
تقرير وزارة الشؤون الاجتماعية بهولندا: (توجد من بين ثلاث نساء امرأة قد اعتدى عليها جنسيًّا قبل 16 من عمرها والذي ارتكب هذه الجريمة معها أحد محارمها: الأب أو الجد أو العم أو الخال أو الأخ. نسبة اللائى وقعن في براثن هذه الوحوش الكاسرة امرأة من كل خمس نساء) .
شهادة كارمين فانتيميقليا، العالم الاجتماعي الإيطالي: (لقد أحصى خلال سنة واحدة 90 حالة من حالات مضاجعة المحارم من مجموعة 513 حالة اعتداء من هذا النوع) .(7/2183)
وبعد استعرضنا لهذه اللقطات ... ألا يحق لنا أن نعتبر المجتمع الغربي مجتمعًا مجرمًا؟ بلى إنه مجتمع مجرم. إنه خروج على الفطرة، ولكن الفطرة تنتقم لنفسها، وإنه مما لا ريب فيه أن الوباء الذي يعرف بـ (السيدا = الإيدز) يعبر عن انتقام الفطرة, وياله من انتقام ...
إن الذي يرصد أحوال المجتمع الغربي يلاحظ بأنه مجتمع غير مطمئن وينجلي عدم اطمئنانه في البحث عن مخرج من هذا الطريق المسدود، ولكنه قد ضل سواء السبيل. ويكفي أن نذكر لكم هذه الحقائق المتمثلة في انتشار الخرافة والشعوذة التي اجتاحت فرنسا بلد ديكارت:
عدد الأطباء: 49.000
عدد العرافين: 40.000
عدد الرهبان: 38.000
عدد السحرة: 30.000
عدد المعالجين الطبيعيين: 30.000
ما هي العبرة التي نستمدها من عرضنا لهذه الحقائق على المجتمع الغربي؟
1- إن أي مجتمع لا يمكنه أن ينعم بالسعادة إلا إذا صاغ حياته وفق المثل الإنسانية الرفيعة والمنبثقة من تعاليم السماء. قال رئيس بلدية مدينة كيفلند الأمريكية: إذا لم نكن واعين فسيذكرنا التاريخ باعتبارنا الجيل الذي رفع إنسانًا إلى القمر، بينما هو يغوص إلى ركبتيه في أوحال القاذورات.
2- إن المسلمين وحدهم الذين لديهم رصيد من القيم السماوية إذ هم الأمة التي مازالت تحتفظ بالوحي ممثلًا في مصدرية الأصليين: الكتاب والسنة. أهـ.
أعود فأقول، لماذا نتدافع وراء الغرب؟ ونمكن له السيطرة الكاملة في كل مجرى من مجارى حياتنا فكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وحضاريًّا وأخلاقيًّا، لماذا نسلم له قيادتنا وتوجيهنا لقمة سائغة؟ شيء محير!! أمه مسلمة ذات عقيدة إلهية، ذات كتاب محفوظ مصان من خالق الأرض والسماء، ذات رسول كريم يقودها إلى المحجة البيضاء، وترك لهم ما إن تمسكوا به لن يضلوا (كتاب الله وسنة نبيه) , أمة ذات شريعة ونظام هي نفسها عين موازين القسط، تقوم عليها الحياة الفاضلة المزدهرة، حياة متوازنة: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا) .
إذا كان العقلاء من الغربيين أنفسهم يستغيثون من الأوحال التي تردت فيها حضارتهم المادية اللادينية، فهل من العقل أن تسير وراء شخص فيقع في حفرة عميقة فيها هلاكه، وأنت تراه وترى الحفرة، فتقع بدورك في الحفرة؟! {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1)
, وفي الواقع إن فيضان الغزو الثقافي اقتلع الإيمان من بعض القلوب ومسخ بعض الناس. فوقعوا فريسة للغزو الغربي فأصبحوا أداة طيعة في أيدي الغزاة يحركونهم حسب رغباتهم ويتصرفون بهم في مصائر الشعوب الإسلامية، يخدمونهم بلا وعى فيما يبدو.
__________
(1) سورة الحج: الآية 46(7/2184)
شهادة مورو بيرجر، يقول الكاتب الأمريكي مورو بيرجر في كتابه: (العالم العربي اليوم) كلامًا خطيرًا، خطورة حقيقية، خطورة وباء ينتشر ويكتسح الأخضر واليابس، يكتسح ما تبقى من فكرنا ومثلنا وحضارتنا وشخصيتنا الإسلامية، بعد اكتساحه لتاريخنا الإسلامي، بتشويهه وتلطيخه بالمفتريات والمَيْنِ، ليزيل كل احترام وتقدير وافتخار به من قلوب الناشئة، فتفصل عن جذورها فتهيم في خواء حضاري عقائدي، فيلتقطها ويغرسها في أوحال حضارة قذرة، رأيتم منذ قليل النزر اليسير من الأمثلة لما تعوم فيه من وحل القاذورات.
يقول: (فبينما يترك الحكام الغربيون منطقة الشرق الأدنى تتحول هذه المنطقة فتصبح أكثر غربية. ويواجه الزعماء العرب طريقين فهم يطردون الغرب سياسيًّا، ويسحبون الكتل الشعبية إلى الغرب ثقافيًّا) . إذا قلت ثقافيًّا عنيت الإنسان كله, فالكائن البشرى وعاء, والوعاء يرشح بما فيه, ولم يقل هذا الأمريكي إلا حقًّا وليس قوله مبالغة. ومقالته هذه تنطبق على كل العالم الإسلامي، والمشاهد اليوم يؤكدها.
فإذا كانت مناهج التعليم والتربية وكل وسائل الإعلام قد سيطر عليها قوم تنكبوا طريق الإسلام، وشعروا بالدون نحو الغرب، وقاموا عنه بتمكين فكره وثقافته وحضارته في الناس، ونقشها في عقول الطفولة، وتعدوها بالرعاية في مرحلة الشباب. ماذا ترجون بعد ذلك؟
المحير في مشكله الصدام الفكري الحضاري مع الغرب يتمثل في موقف الذي يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم، الذين يمكنون الغزاة بالسيطرة على مصائر شعوبهم وأمتهم وتحطيم عقيدتهم وفكرهم، وترويج أكاذيب ومفتريات على تاريخهم وحضارتهم، فالغرب لولاهم ما تمكن من إشاعة الفوضى والتفرقة في صفوف المسلمين، الغرب لولاهم ما تمكن ممن تشويه فكر الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}
(1) .
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 118(7/2185)
كيف الخروج من المأزق؟
سؤال موجه إلى كل مؤمن بالله إيمان مخلص ...
أيها الأخ في الله إن التحديات الخطيرة التي تواجه الإسلام وفكره وثقافته وتاريخه وحضارته ماثلة للعين، بل يعيش المسلمون اليوم آثارها السيئة، وهذه التحديات والمؤامرات تأتى من كل مكان، وبأشكال مختلفة. تأتى من الخارج في شكل إعلام مسعور وفكر منحل هابط ملحد، وضغوط سياسية وحصار اقتصادي, وتهديدات عسكرية، وتجويع مقصود، ومعونات مشروطة , وقروض لا تفتأ تثبت حالة الفقر وتجعلها مزمنة لا تجد الدولة وسيلة للفكاك من أسرها , وهذه الصورة القاتمة نتيجة الغزو العسكري ثم الغزو الفكري الذي يجرى في كل شرايين الحياة في المجتمعات الإسلامية.
وطريق العلاج تستند أولًا إلى تشخيص المرض، والمرض قد شخص فعلينا إذن أن نبحث حتى نكون مجتمعًا إسلاميًّا مرتبطًا بدنيه الحنيف وبمثله وبحضارته. غير أن العلاج معقد لشعب العوامل التي أدت إلى الوضع السيئ الحاضر.
وإذا تأملنا العوامل التي وصلت بالمسلمين إلى ما وصلوا إليه من التفكك وفقدان الهوية حتى أصبحوا ضحية سهلة لكل مستغل من الخارج. وكل مخرب من الداخل. نجدها عوامل فكرية، وربما أن سلاح الفكر لا يقاومه إلا سلاح من جنسه، وبما أن أسس الفكر السليم متوفرة في ديننا، دين الحق، فلنعد إليها لتشييد مجتمع الإيمان والأخلاق والعلم والإخاء والتضامن. فالفكر الإسلامي قادر على تصحيح المسيرة وجعلها في الاتجاه السليم. وعامل العقيدة أساس الفكر الإسلامي. فالعقيدة هي الأساس الذي يقوم عليه فكرنا، وحضارتنا. وإذا تغلغلت هذه العقيدة في قلب الإنسان استولت على جميع كيانه. ووجهت تصرفاته، وأصبح قويًّا شجاعًا كريمًا لا يخاف إلا من الله الذي أبدعه وكرمه وفضله على كثير ممن خلق، وسخر له ما في السموات والأرض جميعًا.(7/2186)
وبهذه العقيدة قام سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم وحيدًا يدعو إلى كلمة التوحيد، يواجه بها الأوثان والأصنام وعبدتها. وبهذه العقيدة انتصر الإسلام وانتشر في الآفاق , وبسرعة أدهشت المؤرخين هزم أكبر قوتين تسيطران على العالم آنذاك.
وبضعف هذه العقيدة عند المسلمين تحطمت مقاومتهم وانهار الجدار الداخلي، وهوت صروح الإسلام من القلوب وسخر الساخرون من المسلمين ومن كل مقدساتهم، وتفتت المسلمون شيعًا وأحزابًا ودويلات تقوم بينها الحروب ويستعدى بعضها على البعض أعداء الإسلام. وبضعف هذه العقيدة أصبح المجتمع الإسلامي مكشوفًا من الخارج ومهلهلًا في الداخل, وبسبب ضعف هذه العقيدة جبن المسلمون وخارت قواهم وشعروا بالدون. وهذه حالة مشاهدة يعيشها مسلمو اليوم. فلنأخذ مثالين من عصرين مختلفين يصوران نفسية المسلمين:
1- بلغ المعتصم الخليفة العباسي أن امرأة صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم: (وامعتصماه) فأجابها: لبيك لبيك، فنهض من ساعته، وجهز جيشًا جرارًا وهزم الروم وانتصر لهذه المرأة المسلمة (1) .
2- وفي خلال عام 1989 م شاهدت وشاهد العالم كله، أو على الأقل معظمه على شاشة التلفزيون امرأة مسلمة تولول وتصرخ، والصهاينة ينهالون على وليدها، وهل تحرك أحد في العالم الإسلامي؟ نعم.. نعم نددنا، وشجبنا، واستنكرنا، ثم أخلدنا إلى السكون والدعة وفضلنا السلامة والعافية، والجلوس على الكراسي المريحة، والفرش الوثيرة.
والشاهدان غنيان عن البيان, فالمسلم عندما يشعر بعزة الإسلام لا يقبل الإهانة، فإن الكرامة وقوة الإيمان تجرى في كل شرايينه، وإذا أصابه الخور. وصار إسلامه وراثة وتقاليد خلت من حيوية الإيمان بالله عشش الوهن في كل مشاعره واكتفى بحياة الذل. ونسي أو تناسى قول ربه في كتابه الكريم: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (2) .
ونسي أو تناسى ما في الذكر الحكيم من قول رب العزة: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} (3) .
حقًّا إن المؤمن الصادق الإيمان يرجو من الله مالا يرجون. ورحم الله أمير المؤمنين عليًّا وأرضاه فلو رأي ما وصل إليه المسلمون اليوم لهاله الأمر. وقد صدق حين يقول: (فوالذي نفسي بيده ما غزى قوم قط في عقر دارهم إلا ذلو ... والذي نفسي بيده لقد بلغني أنه كان يُدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة فتُنتزع أحجالهما ورعثهما، ثم انصرفوا موفورين لم يكلم منهم أحد كَلْمًا. فلو أن أمرًا مسلمًا مات من دون هذا أسفًا ما كان عندي فيه ملومًا) (4) .
رضى الله عنك وأرضاك يا أمير المؤمنين، ماذا تقول فينا اليوم لو علمت أن الذي ينزع الأحجال والرعث، إنما الذي يقلع ويهان ويعذب هو فلذات الأكباد!! والقوم نيام أو هم أموات غير أحياء، عيون تحوم ولا ترى، وآذان مفتوحة ولا تسمع، (وما بجسم بعد الموت إيلام) .
__________
(1) وقعت هذه الأحداث سنة 293 هـ. ولا شك أن عشاق الأدب العربي يذكرون لأبى تمام قصيدته الرنانة التي قالها بمناسبة هذه الواقعة التي فتحت فيها (العمورية) . والقصيدة من عيون الأدب العربي: السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حفلا معسولة الحلب انظر: الدكتور حسن إبراهيم حسن. تاريخ الإسلام السياسي: 2/ 248، 249
(2) سورة المنافقون: الآية 8
(3) سورة النساء: الآية 104
(4) عن الكامل للمبرد(7/2187)
فالعقيدة، عقيدة الإسلام التي تحرر الإنسان من عبودية البشر إلى عبادة الله الواحد الأحد، عقيدة تربط الدنيا بالآخرة، عقيدة يصدقها العمل الصالح، وتستلزم متابعة محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، هذه العقيدة هي الأساس الذي يجب على المسلمين أن يتخذوه قاعدة لتشييد صرح الإسلام وفكره وشريعته وكل ما يتصل بحياتهم الدنيوية وحياتهم الآخروية، فرغم أن هناك حياتين إلا أن الإسلام ربط بينهما.
والسبيل لترسيخ عقيدة الإسلام هو التربية والتعليم القائمين على الإسلام ومثله السامية. وسبب الحالة السيئة التي يعيشها المسلمون اليوم كانت نتيجة بعدهم عن الإسلام بواسطة المدرسة الاستعمارية التي مكن لها الغرب الغازي وأذنابه.
فالعلاج إذن يكمن في العودة إلى الإسلام، إسلام الفرد، إسلام الجماعة، إسلام الدولة، إسلام التعليم والتربية، إسلام السياسة والاقتصاد، إسلام القانون، إسلام الإعلام، إسلام الفكر، إسلام كل ما يتصل بالإنسان المسلم ... ولكن العقبة الكئود تواجه العودة إلى الإسلام وتتمثل في الأعداء المترصدين للإسلام في الداخل والخارج. وإنني أتوقع أن تكون الهجمة على الإسلام أشد مما كانت عليه من قبل. في الماضي كانت الحرب ذات الأسلحة المتعددة الجنسيات مستعرة ضد الإسلام، ولكن رغم ذلك كان في الميدان أهداف أخرى، كان بجانب حرب الإسلام من الغرب الملحد ومن الشيوعية المارقة، كان هناك صراع بين ما يدعى العالم الحر وبين الشيوعية. كان المعسكران يتنافسان على مناطق النفوذ واقتسام العالم، صحيح أنهما كانا بالنسبة لعداوة الإسلام متفقين ولكن ذلك لأسباب تكتيكية، ومصالح تجارية، وأهداف سياسية، يبدو بينهما الصراع والتنافس.(7/2188)
واليوم وقد انهارت الشيوعية بكل أوهامها التي خدرت بها العالم المعاصر وبقى الإسلام وجهًا لوجه مع العملاق الآخر، وحالته النفسية تقول: أنا سيد الأرض والسماء لا أسمح لهذا القزم أن يفوز بالنجاح في أي ميدان من ميادين الحياة لا فكريًّا ولا اقتصاديًّا ولا سياسيًّا ولا علميًّا.
ولو استطاع الإسلام أن ينجح فإن خططه ستنهار من أساسها، إذن لا بدَّ من سحقه، ووسائلي كثيرة، وأعواني منتشرون في ديار الإسلام، سأتحرك في كل الجهات وفي طل مكان، وبكل الوسائل والغاية تبرر الوسيلة. إذا كانت الوسيلة الناجعة التشنيع أشنع، وإذا كان الضغط السياسي، الضغط الاقتصادي أفعل، وإذا لزم الحرب ولا أتردد. ولابد من قتل هذا المتمرد حتى أسحقه, ولن يعيش على الأرض إلا ذيلًا تابعًا ملبيًّا لإشاراتي, وسأحرك أعواني من المفكرين والكتاب العملاء والإذاعيين والتلفزيونيين والسينمائيين والفنانين والصحافيين والقادة السياسيين, وسأجعل حياة كل من ينادى بالإسلام جحيمًا لا يطاق، سأسلط عليه زبانيتي من أبناء جلدته.
إخوة الإسلام من المفكرين والعلماء ومن الساسة والقادة، ومن المعلمين والتربويين خذوا زمام المبادرة في الدفاع عن الإسلام عقيدة وفكرًا، وثقافة وشريعة، ودولة واقتصادًا وحضارة شيدها أجدادكم. وقبيح هوان الآباء والأجداد. كونوا في المقدمة (من وقف خلف جنوده فقد جعل عزائمها من خلفه) .
هذا وأسأل الله أن يقيض لهذا الدين قومًا آمنوا بربهم وزادهم هدى. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
الشيخ قاسم البهيقى المختار(7/2189)
الغزو الفكري في حياة المسلمين
منافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومته
إعداد
الدكتور عُمَر يُوسف حَمزة
كليه الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة قطر
قسم التفسير والحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأكرم المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بسنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.. وبعد:
فإن الغزو الفكري للعالم الإسلامي حقيقة واقعة تبدت في الماضي، وتتجلى في الحاضر، ويخطط لها في المستقبل.
فعشرات الأجهزة شرقية وغربية، سرية وعلنية، حكومية وأهلية، دينية وإلحادية، عسكرية ومدنية، تجمع صفوفها، وتحشد قواها لغزونا من الداخل بعد إنحسار مرحلة الغزو من الخارج، ومع أن الغزو الخارجي ليس مستحيلًا ـ وأفغانستان خير دليل وشاهد ـ إلا أن الغزو الداخلي أكثر إستقرارًا، وأرسخ دعائمًا وأعتى نفوذًا (1) .
ومن هنا يظهر لنا أن مقاومة الغزو الفكري ليست ترفًا فكريًّا، أو محاربة طواحين هواء، بل شرط وجود، وجوهر بقاء.
إن الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام من الموضوعات التي تشد اهتمام الواعين من أبناء الأمة الإسلامية، وتحتاج من الباحثين والدارسين إلى أن يبذلوا فيها من الجهد ما يكشف عن خباياها ويوضح أبعادها.
__________
(1) وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص7، د. حسان محمد حسان سلسلة دعوة الحق، والعدد 5 السنة الأولى. شعبان 1401 هـ(7/2190)
ولقد كان الإسلام في الماضي جولة مع أهل الباطل والضلال وأصحاب الأهواء والمتجبرين في الأرض، ولقد حقق المسلمون انتصارات كبيرة على جميع أعدائهم، ومن ثم عادى الإسلام كل ضال وكل ذي هوى، ووقف في وجه هديه ومنهاجه كل طاغية وكل ظالم، وقامت المعارك ضارية متعددة على مر التاريخ بين الإسلام وهؤلاء الأعداء.
يخطئ من يظن أن الحرب بين الإسلام وأعدائه قد وضعت أوزارها , إنما الحق أن أعداء الإسلام يدبرون لحربه كل يوم وسيلة، ويحشدون للوقوف في وجهه كل يوم قوة، وليس خطر الكلمة والفكرة بأقل من خطر الجندي والسلاح في المعركة الضارية التي يشنها أعداء الإسلام عليه. شنوا حرب التشويه والتخريب للإسلام منهجه وتاريخه، ورجاله وتراثه ولغته وقرآنه، وتحالفوا وتآزروا وابتكروا حديث الوسائل وخبيث التيارات والأساليب، فغزوا المسلمين في قلوبهم وأفكارهم وأخلاقهم وأزيائهم وشنوا على العالم الإسلامي من الغارات مالا يخفي أمره على كل ذى بصيرة، وقفت الصهيونية والتبشير والاستعمار , والمبادئ والنظريات والفلسفات يشد بعضها أزر بعض في حرب الإسلام وأهله. ومن مجموع تلك الوسائل والأساليب كان الغزو الفكري للمسلمين. (1) .
إن الغزو الفكري هو أن تتبنى أمة من الأمم ـ وبخاصة الأمة الإسلامية معتقدات وأفكار الأمة الأخرى من الأمم الكبيرة وهي غير إسلامية دائمًا ـ دون نظر فاحص وتأمل دقيق لما يترتب على ذلك التبني من ضياع لحاضر الأمة الإسلامية ـ في أي قطر من أقطارها ـ وتبديد لمستقبلها، فضلًا عما فيه من صرفها عن منهجها وكتابها وسنة رسولها ـ وما يترتب على ذلك الصرف من ضياع أي ضياع، إذ لا يوجد مذهب سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يغنى الأمة الإسلامية عن منهجها الإلهي، ونظامها الشامل المتكامل في كل زمان ومكان.
(2)
__________
(1) الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود 1401 هـ 1981م: ص 5 بتصرف، بحث أعده الدكتور / على عبد الحليم.
(2) الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود 1401 هـ 1981م ص9(7/2191)
لا ريب أن من يرى مؤسسات التبشير والاستشراق، وما يصدران من شبهات وتحديات، يحكم بما لا يدع مجالًا للشك بوجود الغزو الفكري الذي يرمى إلى خلق عقلية جديدة تعتمد على تصورات الفكر الغربي ومقاييسه، ثم تحاكم الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي من خلالها بهدف سيادة الحضارة الغربية وتسييدها على حضارات الأمم، ولا سيما الحضارة الإسلامية.
ولقد ذكر المبشرون والمستشرقون أن هدفهم هو خلق أجيال جديدة من العرب والمسلمين تحتقر كل مقومات الحياة الإسلامية بل الشرقية، وإبعاد العناصر التي تمثل الثقافة الإسلامية عن مراكز التوجيه (1) .
هذه هي بعض مفاهيم الغزو الفكري، وتلك هي تياراته المعادية للإسلام فيما يظهر لى، وسوف أتناول في ثنايا هذا البحث الغزو الفكري من خلال المحاور التالية:
المحور الأول: المنافذ التي يدخل منها الغزو الفكري:
1- الاقتصاد.
2- التعليم.
3- الصحة.
4- السياسة.
5- وسائل الإعلام.
المحور الثاني: أساليب الغزو الفكري في التشكيك:
1- الطعن في القرآن.
2- الطعن في السنة.
3- اعتماد ما جاء في كتب السيرة.
4- النظريات لبعض الفرق الإسلامية الشاذة.
5- محاربة الفكر الإسلامي والدعوة إلى فصله عن جذوره وقواعده.
المحور الثالث:
1- العلمانية والحداثة واتجاهاتهما الخطيرة في محاربة الإسلام.
2- الطريق الأنجع في دفع تحركاتهما العدوانية، ورد نشاطاتهما المتنوعة في المجالات: الفكرية، والتعليمية، والإعلامية.
وسوف أخص كل محور من هذه المحاور الثلاثة بشيء من التفصيل وسيكون حديثي عن عناصر هذه المحاور مستندا إلى الأدلة والبراهين التي تدعم أقوالي والله المستعان وهو ولى التوفيق.
__________
(1) شبهات التقريب في غزو الفكر الإسلامي: ص13، أنور الجندي، الطبعة الأولى 1398 هـ 1978 المكتب الإسلامي(7/2192)
المحور الأول
المنافذ التي يدخل منها الغزو الفكري
1- آثار الغزو الفكري في الاقتصاد:
2- يمر المسلمون اليوم بفترة من أقسى فترات التحدي الحضاري في تاريخهم الطويل، ويبلغ هذا التحدي مداه في مجال العلوم والتقنية حيث تخلفت الدول الإسلامية تخلفًا ملحوظًا، بينما تقدمت المعارف في هذين المجالين تقدمًا مذهلًا خلال القرن الحالي بصفة عامة. وفي النصف الأخير منه بصفة خاصة. مما ميز عصرنا بأنه عصر العلوم والتقنية، وهذا المجال لم تدخله الدول الإسلامية في معظمها بعد ـ أو دخلته بعضها بجهود فردية محدودة لا تكاد تساير تقدم العصر في ذلك، مما تسبب في وجود هوة شاسعة جعلت الدول الإسلامية (في زمرة الدول النامية) ، واستمرت النهضة العلمية والتقنية التي بدأت في القرن التاسع عشر في نموها، وظهرت الصناعات المتقدمة في السيارات والطائرات والصواريخ ورحلات الفضاء، كما ظهرت أقوى أسلحة الحرب وأفضل وسائل الانتقال المدنية وتطورت صناعة اللدائن والأنسجة الصناعية، وتمت ميكنة الزراعة، وتحسين المحاصيل عن طريق الأبحاث في كل من علم الوراثة وعلم كيمياء التربة. وأدخلت المخصبات الزراعية والمبيدات الحشرية كأساليب جديدة في تحسين الزراعة.
وفي غمرة هذا التقدم العلمي والتقني المذهل تخلف العالم الإسلامي تخلفًا شديدًا بعد أن حمل لواء المعرفة العلمية والفكرية والصناعية لعشرة قرون كاملة (من القرن السادس الميلادي إلى مشارف عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي) (1) فقد أسقطت الخلافة الإسلامية في سنة 1924م، بعد احتلال مساحات كبيرة من أرض المسلمين. كما تم تمزيق هذا الجسد الواحد إلى أكثر من خمسين دولة متباينة المساحة وتعداد السكان، بالإضافة إلى أقليات منتشرة في كل دولة من الدول غير الإسلامية، تفوق أعدادها مئات الملايين في بعض هذه الدول.
__________
(1) قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر، د. زغلول راغب النجار: ص23، كتاب الأمة، الطبعة الأولى صفر 1409هـ(7/2193)
كما أدى تفتيت العالم الإسلامي إلى انقسامه إلى دول متخمة الثراء إلى حد البطر، وأخرى معدمة إلى حد الفاقة، وبسبب انتشار الفقر أهملت عمليات التنمية البشرية والمادية, فقد أهمل التعليم، وبإهماله تفشت الأمية، وأهملت الرعاية الصحية، وبذلك تفشت الأمراض وساءت الأحوال الصحية، كما أهملت التنمية الزراعية والصناعية والاجتماعية، وبإهمالها تقلص الاقتصاد، وزادت الديون وغرقت الأمة في الربا، ولم يعد هناك مجال للأخذ بأسباب التقدم العلمي أو التقني, ويرجع السبب الرئيسي في فقر الدول الإسلامية إلى هذا التفتيت الذي لم يجعل لأي منها القدرة على القيام بذاتها، فغالبية الدول المعاصرة لا تمثل كيانات حقيقية نمت من خلال التفاعلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على المدى التاريخي الطويل كما تنمو الدول عادة, ولكن في غالبيتها كيانات رسمت حدودها الراهنة الاستعمارية العالمية، وحافظت عليها لتبقى الأمة على هذه الصورة من التفتيت الذي لا يمكن أيًّا منها من تشكيل وحدة اجتماعية اقتصادية متكاملة أو شبه متكاملة.
وبهدف الحيلولة دون قيام أدنى قدر من التعاون بين الأشقاء، ودون تحرك المال الإسلامي بين الدول الإسلامية على شكل استثمارات تعين على تنشيط عمليه التنمية، قامت الدول الكبرى بترتيب سلسلة من الانقلابات العسكرية، والانقلابات المضادة لتحدث جوًّا من عدم الاستقرار السياسي والفوضى الاقتصادية، التي لا تشجع على تحرك أية أموال بينها، حتى لاتجد فوائض الدول الغنية فيها طريقها إلا إلى خزائن وبنوك الدول الكبرى.
وقد أدى إفقار الدول الإسلامية إلى تفشى الأمية بين البالغين من أبنائها بصورة مزعجة، تتراوح نسبتها بين 50 % ـ 80 % بمتوسط حوالي 58 % بينما تقل نسبة الأمية في الدول الغنية عن 2 %، ولا تتعدى هذه النسبة 45 % في المتوسط في دول العالم الثالث ما يعنى بوضوح أن أعلى نسبة للأمية بين البالغين في العالم اليوم هي الدول الإسلامية.
(1) .
فالتخلف الاقتصادي الذي أحاط بالعالم الإسلامي لا يحتاج إلى جهد في بيان أسبابه الحقيقية في حياة الأمة.
نعم، لقد كانت هناك أسباب خارجية قوية أسهمت في هذا التخلف ولكنها وحدها لاتبرره وتفسره.
__________
(1) انظر: قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر، د. زغلول راغب النجار، كتاب الأمة، الطبعة الأولى صفر 1409هـ: ص26(7/2194)
لقد كانت أوروبا الصليبية تسعى ـ منذ القضاء على الدولة الإسلامية في الأندلس ـ إلى تطويق العالم الإسلامي، وإضعافه بكل الوسائل, وكان من بين الوسائل التي اتخذتها السعي الدائب لتحويل التجارة العالمية إلى أيديهم، وانتزاعها من يد المماليك، الذين كانوا يمسكون بزمامها عن طريق سيطرتهم على البحر الأحمر والبحر الأبيض، فتدر عليهم أموالًا طائلة، وعلى العالم الإسلامي كله كذلك.
ومنذ أن اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، بمعاونة بحارة من المسلمين وعلى هدى الخرائط الإسلامية، بدأوا يتجهون إلى الشرق الأقصى ليستولوا على أرضه وخيراته، وينقلوها على سفنهم عن طريق رأس الرجاء الصالح فيحرموا منها دولة المماليك، ويحرموا منها العالم الإسلامي كله.
وحدث ذلك بالفعل, وتأثرت اقتصاديات العالم الإسلامي تأثرًا بالغًا بما حدث (1) .
__________
(1) واقعنا المعاصر: ص179 فما بعدها، الأستاذ محمد قطب، الناشر، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1407هـ 1986م(7/2195)
ولكن هذا هو التفسير؟! أو هذا هو التدبير؟!
أين كانت مراكز القوة يوم قامت الدولة الإسلامية أول مرة، سواء القوة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية؟! ألم تكن كلها في يد فارس والروم؟
فما الذي حدث في التاريخ؟
لقد خرجت الأمة المؤمنة تنشر الإسلام في الأرض فأزالت قوى الباطل ودكتها دكًّا، وأقامت في مكانها دولة الإسلام، واستولت هي على مراكز القوة فأصبحت أكبر قوة في الأرض، وشملت قوتها كل جانب، فصارت في يدها القوة الحربية والسياسية والاقتصادية، وكان ذلك كله تحقيقًا لوعد الله للمؤمنين من هذه الأمة في قوله الكريم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)
فما الذي غير الحال بعد ذلك، وسلب مراكز القوة من يد المسلمين؟
ربما يقال: ضعفت قوتهم الحربية بينما ازدادت قوة أعدائهم فتغلبوا عليهم. فنقول: نعم، تلك هي الأسباب الظاهرة، ولا شك، ولكن قراءة التاريخ بالأسباب الظاهرة وحدها لا تؤدى إلى الحقيقة، بل قد تضلل عن الحقيقة ... يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) . {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3) .
والذي يشغل النفوس المؤمنة هو الأيمان.. والذي يتغير في النفوس هو حقيقة الإيمان.
فحين تكون الأمة (متقدمة) في الإيمان، يتحقق لها وعد الله بالاستخلاف والتمكين والتأمين، وحين تكون (متخلفة) يحدث تغيير النعمة (أي سلبها) ويذهب عن الأمة الاستخلاف والتمكين والتأمين.
فسلب التجارة من يد المسلمين، واستيلاء أوروبا الصليبية عليها، له أسبابه الكامنة في التخلف العقيدي الذي أصاب الأمة في مجموعها، والتقلص والضمور التي ترتب عليه في كل اتجاه.
فتضاؤل القوة الحربية الذي مكن الأعداء من أجزاء متزايدة من العالم الإسلامي هو ذاته، أثر من أثار التخلف العقيدي.
ولكن آثار التخلف العقيدي في الميدان الاقتصادي الخاص لا تحتاج إلى تأكيد.
__________
(1) سورة النور: الآية 55
(2) سورة الرعد: الآية 11
(3) سورة الأنفال: الآية 53(7/2196)
وإذا سلمنا بأن التجارة الخارجية قد سلبت من أيدي المسلمين لسبب قاهر لا يقدرون على رده، فهل تتوقف ثروة العالم الإسلامي على التجارة وحدها في ذلك الحين أو في أي حين؟
إنَّ بلاد المسلمين من أقصاها إلى أقصاها هي ـ بقدر من الله ـ أغنى بقعة في الأرض، وأكثرها خيرات، وقد كانت ـ وما تزال حتى هذه اللحظة ـ لم تستثمر الاستثمار الكامل، الذي يستغل كل مواردها.
والسبب في عدم الاستعمار هذه الثروات هو التقاعس، والتواكل، والضعف العلمي، ووهن العزم، والانصراف عن عمارة الأرض، والرضى بالفقر على أنه من قدر الله لا ينبغي السعي إلى تغييره خوفًا من الوقوع في خطيئة التمرد على قدر الله.
إن الأمة غير الإسلامية يمكن أن تنال القوة والتمكين في الأرض بالبعد عن الله, بل كلما زادت بعدًا عن الله زادت في القوة والتمكين.. كما هو الحال أوروبا الكافرة الجاحدة اليوم، لأن هذا من السنن الربانية في معاملة الكفار: قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (1) لفترة من الزمن يقدرها الله.. ثم يأتى التدمير:
{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) .
أما أمة الإسلام فإنها تعامل بسنة خاصة.. لا يمكَّنوا إلا على الإيمان، فإذا انحرفوا زال عنهم التمكين، ذلك لأن الله لا يريد لهم أن يفتنوا بالتمكين وهم منحرفون عن طريقه، فيزيدوا انحرافا حتى يصلوا إلى الكفر فتأخذهم سنة الكافرين: قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) .
فمن رحمته سبحانه بهذه الأمة أنه لا يمكنها أبدًا وهي منحرفة عن السبيل لكي تعود إليه، فيمكنها وهو راض عنها، ويدخر لها في الآخر ما يدخره لعباده الصالحين (4) .
__________
(1) سورة الأنعام: الآية44
(2) سورة الأنعام: الآية 44، 45
(3) سورة هود عليه السلام: الآيتان 15 ـ 16
(4) واقعنا المعاصر: ص 182(7/2197)
وإذا كان من أهداف الغزو الفكري، صرف المسلمين عن دينهم، وعن قرآنهم، وليكونوا بعد ذلك ما يكونون، فإذا عجزوا تنصيرهم كما كانوا يشتهون ويخططون في البدء، فينبغي على الأقل أن ينتزعوا من قلوبهم ذلك الشيء المرهوب الذي يزعجهم ويفزعهم حتى وهو كامن في قلب (الرجل المريض) , كما صرح أحد الكتاب في كتاب (الغارة على العالم الإسلامي) حيث قال: (إن أوروبا كانت تفزع من الرجل المريض لأن وراء ثلاثمائة مليون من المسلمين على استعداد للجهاد بإشارة من أصبعه) (1) .
وإذا كان المراد بالغزو الفكري الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية، وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام، مما يتعلق بالعقيدة وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك.
فإذا كان هذا هو هدف الغزو الفكري، فلا يمنع ذلك من وجود أطماع اقتصادية هائلة لأوروبا في الشرق الغني بالخامات والموارد، التي لا يكاد أصحابها يستثمرون منا إلا القليل، بينما تحترق أوروبا شوقا إلى شيء منها.
ولكن هذا لا ينبغي أن يخفي عنا مجموعة من الحقائق في هذا الشأن:
الأولى: أن الباعث الصليبي كان الباعث الأول الذي حرك أوروبا إلى الاستيلاء على العالم الإسلامي كما هو ثابت من رحلتي فاسكو دى جاما، وماجلان، والرحلات (الاستكشافية) الأخرى ـ في أفريقيا خاصة ـ التي حملت المبشرين بكميات هائلة إلى أماكن لم يكن الاستعمار الاقتصادي فيها محدود المعالم أول الأمر، وإن كان قد حدث على نطاق واسع فيما بعد, حين اكتشف المحتلون مصادر الثروة وأخذوا في الاستعمار.
الثانية: أن التحرك الاقتصادي الأول من أوروبا نحو الشرق كان هدفه الأول حرمان المسلمين من مصادر قوتهم لإضعافهم، وهو هدف صليبي واضح تتخذ له جميع الوسائل، وما الوسيلة الاقتصادية إلا واحدة من هذه الوسائل فحسب، وليس هي الغاية كما يزعمون، ويزعم معهم المستبعدون لهم من المثقفين، خاصة الذين يرددون في غير تفكير القول بأن الغرب لا يريد إلا تأمين مصالحة الاقتصادية فحسب، ولا يهمه شيء غير ذلك.
__________
(1) انظر: الغارة على العالم الإسلامي، تلخيص: محيي الدين الخطيب، مساعد اليافي، مكتبة أسامة بن زيد، بيروت(7/2198)
الثالثه: أنه حين برز العامل الاقتصادي في حياة أوروبا فيما بعد، وأصبح ـ في ظاهر الأمر ـ هو المحرك الأول لجميع تصرفاتهم، بقى هنا فارق واضح بين (الاستعمار الاقتصادي) في بلاد الإسلام، والاستعمار الاقتصادي في البلاد غير الإسلامية التي استولوا عليها في مرحلة التوسع وتكوين الإمبراطوريات (1)
فمع أن الاستعمار في جميع أحواله ظالم للبلاد المحتلة المستغلة، أناني النزعة، لا يهمه إلا تحقيق مصالحه الخاصة على حساب أهل البلاد الأصليين، مع ذلك كله فإنه في البلاد غير الإسلامية لا يتعرض لعقائد الناس وأفكارهم وتقاليدهم بشيء من العنف على الإطلاق، مكتفيًا بما يتسرب إلى حياتهم تدريجيًّا من التأثير الناشئ من رغبة المغلوب في تقليد الغالب, أما في البلاد الإسلامية فقد كانت هناك دائمًا تدبيرات وترتيبات يقصد بها قصدا إلى إزالة مظاهر الحياة الإسلامية، ومحاولة سحق الإسلام في نفوس المسلمين بالعنف، أو صرفهم عنه صرفًا خبيثًا بوسائل أخرى غير العنف.
وكان من أول هذه التدبيرات والترتيبات في كل بلد إسلامي وقع في قبضتهم تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم ووضع القوانين الوضعية بدلًا منها، وهو أمر لا علاقة له من قريب ولا بعيد (بالمصالح الاقتصادية) التي يزعم الغرب ويزعم معه أتباعه المستبعدون له أنها الهدف الأول والأخير من استيلائهم على العالم الإسلامي.
ومن هذا يتبين أن الدافع الصليبي كان موجودًا مع الغزو الأوروبي لبلاد الإسلام، سواء كان يعمل منفردًا كما كان في منطلقه الأول، أو متمزجًا بالدافع الاقتصادي كما حدث فيما بعد، ولكنه في جميع أحواله حاد النزعة لا يهدأ ولا يسكن، بل ازدادت حدته في القرن الأخير خاصة مع بروز حركات البعث الإسلامي (2) .
__________
(1) واقعنا المعاصر: ص194
(2) واقعنا المعاصر: ص195(7/2199)
2ـ آثار الغزو الفكري في التعليم:
لقد ترك الغزو الفكري أثارًا عصيبة في المجتمع الإسلامي في كافة نواحيه الثقافية والتعليمية والتشريعية والأخلاقية والاجتماعية.
وبذل المستشرقون والمبشرون كل ما في وسعهم وطاقتهم سائرين على الوسائل والطرق التي تحقق أهدافهم، فحاولوا استغلال حركات الإصلاح الإسلامية، يقول (كامفماير) المستشرق الألماني: إن الأب بانيرث المبشر الألماني يرى أن: حركة الإصلاح الإسلامي على النحو الذي يسير فيه الآن يجب أن تقابل من المسيحية الغربية بالتشجيع ,ويتساءل هذا المستشرق: هل يستطيع الإسلام أن يستعيد وحدته الداخلية في ظل التجزئة السياسية القائمة وتحت تأثير الآراء العصرية والعلوم الغربية؟
وهل سيكون الإسلام عند ذلك عدوًّا للغرب أم صديقًا وحليفًا، أم أن الإسلام في سبيله التي التفتت إلى وحدات قومية تعكس كل منها التأثيرات الأوروبية على طريقتها الخاصة وبأسلوبها المستقل؟
ويبرز الكاتب في إجابته على هذه الأسئلة ثلاث نقاط:
1- أهمية الكتلة العربية وخطورتها في نظره.
2- أهم العوامل التي تستمد منها هذه الأمة وحدتها هي الاشتراكية في اللغة العربية الفصحى واشتراكها في العناية بالتراث الإسلامي القديم وتاريخه وآدابه.
3- يتمنى أن يحدث في مصر ما حدث في تركيا من قطع كل صلة بالماضي الإسلامي واستبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية.
ويهتم الغربيون بأن يجرى التعليم في البلاد الإسلامية على الأسلوب الغربي والمبادئ الغربية والتفكير الغربي كوسيلة لفرنجة البلاد الإسلامية وتغريبها، يقول (جب) : هذا هو السبيل الوحيد فقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين وقليل من الزعماء الدينيين (1) .
ومن أقوى الوسائل التي تمكن بها (الغزو الفكري) من الوصول إلى هدفه:
هي التربية والتعليم والثقافة الأجنبية، إذ بواسطة ذلك تم الاتصال بالمسلمين.. وقد دخل الغزو إلى العالم الإسلامي من باب يخيل إلى السطحيين من النَّاس أنه الباب الطبيعي، إذ حمل اسم العلم والمعرفة والتمدن، ومن يحارب ذلك إلا الجاهل الأحمق؟
__________
(1) الغزو الفكري والتيارات الإسلامية المعادية للإسلام: ص 481(7/2200)
يقول (القس زويمر) : (المدارس أحسن ما يعول عليه المبشرون في التحكم بالمسلمين) (1) .
لقد أقبل المسلمون على هذه المدارس بكثرة كاثرة، يزدردون مناهجها، ولا يميزون بين صحيحها من فاسدها، وقد بنيت هذه المناهج على أسس تختلف عن أسس الإسلام الصحيحة في العقيدة والشريعة والنظرة إلى الكون والحياة والإنسان، على أن هذه المدارس كانت تساندها جمعيات كثيرة تمدها بالمال وبكل ما تحتاجه، ونستطيع أن ندرك أهمية هذه المدارس في أعمالها التخريبية باهتمام المستعمرين بها ,إذ أنهم ما دخلوا بلدًا إلا كان ما فعلوه أن فتحوا المدارس، وقد قال القائد الفرنسي (بيير كيللر) عن المعاهد الفرنسية في لبنان: (فالتربية الوطنية كانت بكاملها تقريبًا في أيدينا، وفي بداية حرب عام 1914 ـ1918م كان أكثر من اثنين وخمسين ألف تلميذ يتلقون دروسهم في مدارسنا، وكان بين هؤلاء فتيان وفتيات ينتمون إلى عائلات إسلامية عريقة) (2) .
وقد أدت هذه المدارس دورًا عجزت عن أدائه أجهزة التبشير والاستشراق كلها، ويكفينا أن نعلم أن مؤتمر (أدنبرج) التبشيري الذي عقد عام 1910م وحضره 1200 من مندوبيه كان مما قرره ما يأتي: "اتفقت آراء سفراء الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوروبيون كان لها تأثير على حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أوروبا كلها" (3) .
ويقول المبشر (تكلى) : "إن الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب شرقي مقدس أمرًا صعبًا جدًّا" (4) .
ويقول المستشرق (هاملتون جب) : "لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي من طريق المدرسة العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين ـ ولو من غير وعى منهم ـ أثرًا يجعلهم في مظهرهم العام (لا دينيين) إلى حد بعيد، ولا ريب أن ذلك هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار" (5) .
ولم يعد دعاة الشر يقنعون بالكلام فحسب، ولم يعد شرهم مقصورًا على محاولة نشر سمومهم بالدعاية لها, فقد نجحوا في التسلل إلى مناصب تمكنهم من أن يدسوا برامجهم ومناهجهم على المسؤولين من رؤسائهم وينفذونها في صمت، ودعاة الشر هؤلاء يعملون في ميادين كثيرة لا يكاد يخلو منهم ميدان, ولكن أخطر ما يكون إفسادهم إذا تسلل إلى ميدان التعليم، ولهم أساليب خبيثة في الوصول إلى أهدافهم (6) .
ولقد تغلغل الغزو الفكري إلى أجهزة التعليم، وتمت السيطرة على التعليم قلبًا وقالبُا وفلسفة وتنظيمًا، ومحتوى ومستوى، وتمويلًا وإرادة, ومناهجًا وطريقة، وتدريسًا ولغة، ومدرسين وإدارة.
__________
(1) الغارة على العالم الإسلامي: ص 48، الطبعة الثانية 1384هـ
(2) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، للدكتور محمد محمد حسين: 2/ 272، الطبعة الثانية
(3) الغارة على العالم الإسلامي: ص 57
(4) التبشير والاستعمار للأستاذين مصطفي الخالدي وعمر فروخ: ص88، الطبعة الثانية 1957
(5) من التبعية إلى الأصالة، للأستاذ أنور الجندي: ص 132، طبعة دار الاعتصام القاهرة 1977م
(6) انظر مزيدًا من التفصيل في كتاب: حصوننا مهددة من داخلها، الدكتور محمد محمد حسين، المكتب الإسلامي، الطبعة الخامسة(7/2201)
وخطورة هذه السيطرة أنها تضمن تشكيل الأجيال الناشئة وفق أهداف محددة تتلخص في النقاط التالية:
1-تشويه صورة الإسلام: وهذا التشويه لا يقتصر على جانب واحد ولا يشكك في نقطة بعينها، بل يشمل الإسلام بجميع جوانبه، وفي كل ركائزه.
2- التشكيك في تاريخ الأمة: لكى تبتر صلة هذه الأمة بتاريخها، فلابد من تشويه، والتشكيك في مفاخره، والتركيز على مباذله، بحيث تنمو أجيال لا تعرف منه إلا عصور الظلم والاستعباد وفترات القلق والاضطهاد، وبذلك كله يرى الناشئ تاريخ أمته مسلسًا من العذاب, وحلقات من السواد (1) .
3- التشكيك في حاضر الأمة: لا يقتصر الأمر على تاريخ بل يمتد إلى حاضر, فإذا شكل الشباب الجديد على كراهية لهذا الحاضر, ونفور من تخلفه واقشعرار من رجعيته، فالسلوك الطبيعي أن يبحث له عن مخرج، وأن يستطلع نافذة جديدة يستنشق منها الهواء الصحي والصحيح.
4- التشكيك في مستقبل الأمة: إذا كان الماضي رجعيًّا، والحاضر عفنًا، فكيف سيكون المستقبل؟!.... لابد أنه ظلام وبوار وخراب ...
إذن فلنغض البصر عن ماضينا, ولننصرف عن حاضرنا، ولنندمج في غيرنا لكى يأتى المستقبل مشرقًا زاهرًا وضاء.
فالتخلف الإسلامي لا علاج له إلا بالمستقبل الغربي أوالشرقي.
5ـ تشويه شخصية الأمة: بعد التشويه، والتشكيك، تتم مرحلة التذويب بحيث تفقد الأمة الإسلامية هويتها، وتذوب فيما يغاير طبيعتها، وينافر عقيدتها.
وتذويب شخصية الأمة من الممكن أن يتم بعشرات الوسائل مباشرة وغير مباشرة، وواضحة وضمنية.
6ـ إحلال عناصر ثقافية جديدة بعد التشويه, والتشكيك، والتذويب لا يبقى غير زراعة ثقافة جديدة توجه العقول، وتحكم السياسية، وتصنع القرارات، وتحرك الشخصيات، وتشوه الضمائر.. فلو ضمنت أجهزة الغزو أن المسلمين حملوا دينًا غير دينهم، أو فهموا دينهم فهمًا خاطئًا، وانحرفوا عن جادة الطريق فذلك هو الانتصار الكبير، وتلعب بالقيادات.
__________
(1) راجع تفاصيل التشويه في كتاب: الغزو الفكري وأثره في المجتمع الإسلامي المعاصر لمؤلفه: على عبد الحليم محمود، دار البحوث العلمية، الكويت / 1399هـ: ص 31ـ120 وراجع عباس محمود العقاد ما يقال عن الإسلام، موسوعة العقاد الإسلامية، المجلد الخامس، دار الكتاب العربي، بيروت 1391هـ(7/2202)
هذه كانت أهم أهداف الغزو الفكري بلورت في ست نقاط من تشويه، إلى التشكيك، إلى التذويب، إلى إحلال لعناصر جديدة (1) .
وهناك كثير من الأدلة على طريقة إحكام السيطرة على التعليم يكفي أن نُشير إلى بعضها:
1- فرض اللغة الأجنبية، فما من مرة وضع الاحتلال قدمه في بلد إلا وتحولت لغة التعليم والتدريس إلى لغته الأجنبية.. حدث هذا في جميع البلاد الإسلامية التي تعرضت للاستعمار، والأمثلة على ذلك كثيرة (2) .
2- تغيير جميع مناهج المواد الاجتماعية والإنسانية لكى تتواكب مع أهداف الغزو ومخططاته، ومن أكبر البراهين على ذلك ما حدث للمناهج الليبية إبان الاحتلال الإيطالي، وما حدث للمناهج الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي، وما حدث للمناهج التركية بعد إعلان العلمانية سنة 1924م، وما حدث للمناهج الإندونيسية إبان سيطرة الشيوعيين، وما حدث ويحدث في المدارس الفلسطينية تحت ضغط الاستيطان الصهيوني.. إلى غير ذلك من الأمثلة، ومن يتتبع ذلك يدرك مكان الخطورة، ومواطن الدس وقنوات السم.
3- إنشاء مؤسسات تعليمية لتوجية تعليمنا الوجهة المناسبة لغزوهم.. وهناك تفاصيل كثيرة عن مؤسسات التبشير والتغريب التعليمية التي أنشئت في فلسطين والشام، بدءًا من دور حضانة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت (3) والقاهرة، وإستانبول.. وتفاصيل عن كلية (غوردون) المنشأة بالسودان سنة 1902م وكلية (ماكريري) في يوغندا التي كان يرسل إليها أبناء جنوب السودان خاصة، لاستكمال دراستهم وفقًا للأهداف والتوجيهات الإنجليزية (4) , وغير ذلك من المؤسسات التعليمية التي أنشأها المبشرون والمستشرقون للقضاء على الإسلام.
ولقد استطاعت المناهج التعليمية الوافدة القائمة على النظرية المادية المنكرة للدين والأخلاق بناء على غير قيم الإسلام، وقام المبشرون والمستشرقون بفرض مناهج الغرب على المدارس الإسلامية , مما كان له أبعد الأثر في تدمير الشخصية الإسلامية الناشئة وحرمانها من التعرف على حقيقتها ودورها وهدفها.
فإن خطة السيطرة على المناهج التعليمية التي قام بها النفوذ الأجنبى (وورثها لمن جاء به من حكومات وقيادات نشأت في إطار الإيمان بالغرب والإعجاب به والتسليم له) قد شملت مختلف الميادين من السلوك الفردى والآداب الاجتماعية إلى الآداب والفنون.
وقد تحولت الأساليب من التبشير المباشر إلى التبشير الخفي الذي يتصل بالثقافة والصحافة حيث يقوم الكتاب التغربيون بأداء دور خطير في تحويل الأهداف الماسونية إلى حقائق مطبقة.
__________
(1) انظر: وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص67
(2) انظر: التعليم باللغات الأجنبية في المدارس الرسمية العربية، تاريخه، أسبابه، آثاره؛ القاهرة سنه 1400هـ
(3) راجع تفاصيل ذلك في: مصطفي خالدي وعمر فروخ، التبشير والاستعمار في البلاد العربية: ص76ـ112 وعلى عبد الحليم محمود، الغزو الفكري وأثره في المجتمع الإسلامي المعاصر: ص127 ـ140
(4) انظر: ضرار صالح ضرار، تاريخ السودان الحديث، مكتبة الحياة، بيروت الطبعة الرابعة، سنة 1968م: ص 246ـ247(7/2203)
وقد أسهمت المنظمات الدولية في هذا المجال بما في ذلك الأمم المتحدة، واليونسكو والتربية الأساسية على وجه الخصوص، والتي تعتبر امتدادًا لمخططات ترمي إلى فصل الدين عن الدولة، وتخريج شباب متميع منهزم خاضع للأهواء والشهوات, ولقد أدرك قسم من المسلمين الخطر الرهيب الذي يتمثل في غزو مناهج التعليم في بلاد المسلمين من قبل المستعمرين، فعملوا على أن يحتفظوا بتراثهم الإسلامي، وذلك ببناء مدارس وجامعات تدرس فيها العلوم الإسلامية، من غير أن يكون للفكر الدخيل تأثير فيها.. لكن المسلمين لم يستطيعوا التوصل إلى ما يريدون، ذلك أن الإرساليات التبشيرية كانت تتمتع بنفوذ قوى، وكانت الجامعات التبشيرية تساندها قوى مادية كبرى، فوق النفوذ الذي كان لدول الجامعات التبشيرية.
وهكذا نشأ في المجتمع الإسلامي تياران متعارضان في الثقافة والتعليم: التيار الإسلامي القديم وتيار الجامعات الأجنبية الجديدة.
أما مدارس الدولة، فكانت مناهجها قريبة جدًّا من مناهج الإرساليات التبشيرية والمدارس الأجنبية. (1)
فمن الوسائل الخبيثة التي سار عليها الغزو الفكري: فصل العلوم الدينية عن العلوم الأخرى فصلًا يجعل بينهما هوة سحيقة، واصطناع الخلاف والشقاق، ثم الخلاف والشقاق، ثم العداء بين علوم الدين وعلوم الدنيا، وبين علماء هذين القسمين، وتيسير سبل المال والمجد الدنيوى لمتعلمى علوم الدنيا، وحجبها عن نظرائهم من متعلمى علوم الدين، ولم تقتصر عملية الفصل هذه على مستوى التعليم التخصصى العالى، ولكن المكيدة كانت شاملة تهدف إلى عزل طلاب علم الدنيا عن الدراسات المتعلقة بعلوم الدين عزلًا تامًّا في الصيغة والطريقة والمضمون، وإلى عزل طلاب علوم الدين عن الدراسات المتعلقة بعلوم الدنيا عزلًا تامًّا أيضًا، لئلا تتكشف الملاءمة التامة بين الأصول الصحيحة لقسمى علوم الدين وعلوم الدنيا، فينصر الحق من كل منهما الحق من صاحبه، وينفي عنه الدخيل الدعي، ولئلا تتكامل منهما المعرف على صراط الله المستقيم، فيحتل المسلمون الصادقون مجد الدنيا والآخرة (2) .
ومن طبيعة هذا الفصل أن يولد مع الزمن تعصب كل فريق لنوع دراسته ولمنهج بحثه، ولطريقة تقصيه للحقائق، وإن كان فيها نقص لا يتأتى تكميله إلا بالتعاون والتآزر مع الفريق الآخر.
وبمرور الزمن يتم الفصل بين الدين والحياة، وحينئذ تجد الأمة نفسها مضطرة لأن تقتبس لنظام حياتها من الأنظمة المستوردة من صادرات أعدائها، وهي أنظمة قائمة على أسس لا صلة لها بالدين، ولا تعترف بشريعة الله.
وبذلك يحقق الغزاة هدفهم من غزو الأفكار والنفوس والقلوب، وهدفهم من غزو سلوك المسلمين، وهذا يمهد لعمليات الاحتلال الكامل، الذي تعدو به على الأمة عوادي الكفر.
(3) .
__________
(1) المسلمون أمام تحديات الغزو الفكري، إبراهيم النعمة، طبعة ثانية: ص 15
(2) انظر: بحث الأستاذ عبد الرحمن حسن حنبكة الميدانى: ص 510، ضمن كتاب الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، مرجع سابق
(3) بحث الأستاذ عبد الرحمن حسن حنبكة الميدانى: ص 511، ضمن كتاب الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام(7/2204)
3ـ آثار الغزو الفكري في الصحة:
حينما أيقن أعداء الله أنه لا سبيل إلى الإسلام وعقيدته حية في قلوب المسلمين فكان بداية التبشير مع نهاية الحروب الصليبية فشلًا في مهمتها، وهو ما يصرح به (ملخص تاريخ التبشير) (1)
يقول القسيس المبشر زويمر: إن جزيرة العرب التي هي مهد الإسلام لم تزل نذير خطر للمسيحية (2) . ويكمل وليم جيفور بالكراف المعنى فيقول: متى توارى القرآن ومدينة مكة وبلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربى يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه (3) .
واتخذ التبشير لدعوة المسلمين أساليب عديدة من أوضحها ما يأتى:
(أ) المدارس المختلفة التي فتحت في أرحاب العالم الإسلامي، وتحدثت عنها بشيء من التفصيل فيما تقدم (راجع آثار الغزو الفكري في التعليمِ) .
(ب) ومن أخطر هذه الوسائل البعثات المسيحية الغربية، وأول مثل لأثر البعثات ما حدث لرفاعة الطهطاوى الذي أقام في باريس من سنة 1242هـ (1826م) إلى سنة 1247هـ (1831م) فقد عاد ذلك الشيخ بغير العقل الذي ذهب به (4) وقس على الشيخ رفاعة.. من ذهبوا بعده (5) .
(جـ) ثم تأتى سائر وسائل التبشير؛ فتح المستشفيات، وبعث الإرساليات الطبية التي يقرر كثير من المبشرين في مؤتمرات وكتاباتهم.. أنها أدت إلى نتائج أسرع وأفضل من عمل القسس التبشيرية. يقول الطبيب بول هاريسون في كتابة (الطبيب في بلاد العرب) : لقد وُجدنا في بلاد العرب لنجعل رجالها ونساءها نصارى (6) .
__________
(1) كتاب ملخص التبشير لأدوين بلس، أشار إليه آرل شاتليه، نقلها إلى العربية محيى الدين الخطيب ومساعد اليافي، تحت عنوان: الغارة على العالم الإسلامي
(2) قالها زويمر في مؤتمر لكنو بالهند سنة 1329هـ (1911م) وكان هو رئيس المؤتمر لما له في التبشير من سجل حافل ـ الغارة على العالم الإسلامي: ص102
(3) قالها وليم جيفور في مؤتمر للتبشير المنعقد سنة 1324هـ ـ 1906م في منزل أحمد عرابى الذي صادره الإنجليز بعد ثورته
(4) انظر: مزيدًا من التفصيل لهذا الموضوع في أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 31، د. على محمد جريشة، ومحمد شريف الزيبق، دار الإعتصام
(5) راجع تحليلًا رائعًا للأستاذ الدكتور محمد محمد حسين ـ أستاذ الأدب الحديث بجامعة، الإسكندرية ـ في كتابة الإسلام والحضارة الغربية، نشر دار الفتح، ط2، سنه 1393هـ، والكتيب عبارة عن محاضرتين ألقاهما بالكويت سنة 1385هـ، وهو يتناول أثر التغريب وله في نفس الخط مؤلف آخر تحت عنوان (حصوننا مهدده من الداخل) مجموعة مقالات نشرها في مجلة الأزهر
(6) إبراهيم خليل أحمد، المستشرقون والمبشرون في العالم العربى والإسلامي، من مكتبة الوعى العربى بالقاهرة 1384هـ(7/2205)
ويذكر الأستاذ أبو الحسن الندوى في كتابه (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية) : أن الأفغانيين الذين خلعوا ملكهم
أمان الله خان لأنه سمح لزوجته أن تخرج سافرة قبلوا بعد ذلك أن يلغوا الحجاب، وتم ذلك عن طريق القابلات ودور الولادة الطبية التي أنشأها المبشرون. وقد صنف القسيس زويمر كتابًا جمع فيه بعض تقارير عن التبشير وسماه (العالم الإسلامي اليوم) .
جمع هذا الكتاب ونشره القسيس (فلمينغ) الأمريكي وكتب عليه هذه الكلمة (نشرة خاصة) بمعنى أنه طبع لينتقل في أيدي فئة خاصة من رجال التبشير لا ليطلع عليه كل الناس , وقد ضمّنه المباحث التي دارت في مؤتمر القاهرة واختتمه بنداءين استنهض بأحدهما همم رجال النصرانية ليجمعوا قواهم ويتضافروا بأعمال مشتركة وعمومية فيستولوا على أهم الأماكن الإسلامية، والنداء الثاني خاص بأعمال نسائية.
أما الفصل الأول من الكتاب فيبحث في الطريقة التي ينبغي انتهاجها في التبشير، وعما إذ كان مفيدًا ضم إرساليات تبشير المسلمين إلى إرساليات تبشير الوثنيين وفضّل بقاءهما منفصلين.
وفيه البحث أيضًا عما إذا كان الإله الذي يعبده المسلمون هو إله النصارى واليهود أم لا؟ وقد صرح (الدكتور لبسيوس) في مؤتمر القاهرة بأن إله الجميع واحد إلا أن القسيس زويمر خالفه في هذا الرأي فقال: إن المسلمين مهما يكونوا موحدين فإن تعريفهم لإلههم يختلف عن تعريف المسيحيين، لأن إله المسلمين ليس إله قداسة ومحبة.
وفي الفصل الثاني والثالث بحث في الصعوبات التي تحول دون تبشير المسلمين العوام, وذكر الوسائل التي يمكن استجلابهم بها وتحبيب المبشرين إليهم، وأهم هذه الوسائل العزف بالموسيقى الذي يميل إليه الشرقيون كثيرًا، وعرض مناظر الفانوس السحرى عليهم، وتأسيس الإرساليات الطبية بينهم ... إلخ، وقد بحث مؤتمر القاهرة التبشيرى الذي عقد سنة 1906م مسألة إرساليات التبشير الطبية، فقام المستر (هارير) وأبانَ وجوب الإكثار من الإرساليات الطبية، لأن رجالها يحتكون دائمًا بالجمهور، ويكون لهم تأثير على المسلمين أكثر مما للمبشرين الآخرين. وهنا ذكر (المستر ربر) حكاية طفلة مسلمة عني المبشرون بتمريضها في مستشفي مصر القديمة , ثم ألحقت بمدرسة البنات البروتستانية في باب اللوق، وكانت نهاية أمرها أن عرفت كيف تعتقد بالمسيح بالمعنى المعروف عند النصارى، إلى غير ذلك من الأمثلة.(7/2206)
ثم قام الدكتور أراهاس طبيب إرسالية التبشير في طرابلس الشام فقال: إنه قد مر عليه اثنان وثلاثون عامًا وهو في عمله لم يفشل إلا مرتين فقط وذلك عقب منع الحكومة العثمانية أو أحد الشيوخ لاثنين من زبائنه من الحضور إليه.
وأورد إحصاء لزبائنه فقال: إن 68 % منهم مسلمون ونصف هؤلاء من النساء.. وختم كلامه قائلا: يجب على طبيب إرساليات التبشير أن لا ينس ولا في لحظة واحدة أنه مبشر قبل كل شيء ثم هو طبيب بعد ذلك. (1) .
وقام بعده الدكتور تمبانى وذكر الصعوبات التي يلقاها الطبيب في التوفيق بين مهتني التبشير والطب كما حدث معه هو، إلا أن ما بذله من المجهودات قد أعانه على النجاح حتى تمكن من تأسيس مستشفي التبشير من طريق الاكتتابات , وكان أول مكتتب لهذا المستشفي التبشيرى رجلًا مسلمًا (2) .
وما تزال الإرساليات الطبية التي تعتبر من أخطر أدوات الغزو الفكري منتشرة في كثير من بلاد المسلمين. وتدخل إلى هذه البلاد الإسلامية تحت أسماء وشعارات متعددة.
__________
(1) الغارة على العالم الإسلامي: ص23
(2) الغارة على العالم الإسلامي: ص24(7/2207)
4- آثار الغزو الفكري في السياسة:
أما في عالم السياسة فلم يكن الأمر أقل سوءًا، بل ربما كان أشد خطورة.. لقد حاول نابيلون من قبل تنحية الشريعة الإسلامية، ووضع (قانون نابليون) بدلًا منها.
ومنذ أن تسلط الغرب الصليبي على الشرق الإسلامي.. أخذ يحدث التغيير السياسي اللازم.. لبقاء سيطرته أولًا ثم لتحقيق الهدف من هذه السيطرة ثانيًا فكان:
إحتلال فرنسا للجزائر سنة 1830، ولتونس سنة 1881م، ومراكش سنة 1912م، وللشام سنة 1920م، وكان احتلال بريطانيا سنة 1857م للهند إيذانًا بزوال إحدى الدول الإسلامية الكبرى التي قامت في مستهل القرن التاسع عشر، وإحتلالها لمصر سنة 1882م، وللعراق سنة 1914م، ولفلسطين سنة 1920م.
وقد كان هذا التوزيع نتيجة للاتفاق المبرم بين بريطانيا وفرنسا سنة 1322هـ 1904م عن جانب من سياسة تقطيع أوصال العالم الإسلامي (1) .
وصحب ذلك التقسيم إثارة القوميات المختلفة كالقومية الطورانية في تركيا،والقومية العربية في البلاد العربية، حتى اقتتل المسلمون تحت قيادة النصارى باسم القومية والتحرير.
وقد صحب ذلك دعوة خبيثة إلى العلمانية.. بمعنى فصل الدين عن الدولة تبنتها جماعات مشبوهة الصلات والأهداف ...
القومية العربية كبديل عن الإسلام:
وكان الشيء الخطير في هذه الدعوة إلى (القومية العربية) أنهم جعلوها بدلًا عن الإسلام ورسالة محمد (صلى الله عليه وسلم) (2) من أن العروبة بغير الإسلام، تصبح لفظًا بلا معنى، وجثة بلا روح.
وماذا يبقى في تاريخ العرب لو أننا فرغناه من تاريخ الإسلام، وأمجاد المسلمين, وما خلفه أعلامهم وعلماؤهم وأبطالهم من روائع؟ هل يبقى فيه إلا حرب البسوس وداحس والغبراء وغيرها من أيام العرب، وغارات بعضهم على بعض. مضافًا إليها بعض قصص الكرم والشجاعة والنجدة التي لا تكون تاريخًا له اعتبار (3) .
__________
(1) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص45
(2) بهذا العنوان (القومية العربية كبديل عن دين الله ورسالة محمد) قدم الدكتور محمد البهي بحثًا إلى المؤتمر الخامس لـ (مجمع البحوث الإسلامية) بالأزهر، هاجم فيه قومية ساطع الحصري ومشيل عفلق وجورج حبش
(3) الحلول المستوردة، وكيف جنت على أمتنا: ص 302، د. يوسف القرضاوى، مكتبة وهبة، الطبعة الثالثة، ربيع 1397هـ مارس 1977م(7/2208)
ولقد خطط أعداء الإسلام لوقف الزحف الإسلامي الذي كانت تقوده تركيا على أوروبا , ثم لما توقف المد الإسلامي، وانتقل البحث إلى كيفية تقطيع أوصال الخلافة.. ثم القضاء على الخلافة بعد ذلك.
ومهما يكن من أخطاء وقع فيها سلاطين تركيا, وفي مقدمتها التفرقة الظالمة بين بنى الدين الواحد، وتميز الأتراك على غيرهم من بنى الأوطان الأخرى، فبالرغم مما أخذ على هؤلاء السلاطين، فلقد كانت الخلافة تُظل المسلمين وتجمع شملهم، وترهب عدو الله وعدوهم.
ولم يكتف أعداء الإسلام بتقطيع أوصال دولة الخلافة، بل جاوزوا ذلك إلى القضاء على الخلافة نفسها.. ومنع قيامها بعد ذلك في أي بلد إسلامي.
لقد تم لهم ما أرادوا بإلغاء مصطفي كمال ـ الشهير بأتاتورك ـ الخلافه استجابة للتخطيط اليهودى الصليبي (1)
ولقد ترتب على ذلك نتيجة خطيرة ـ أصبحت منذ ذلك الحين جزءًا من واقع هذه الأمة ـ هي استيراد النظم والمبادئ ـ المسلمين ـ من عند أعداء الإسلام, فقد كانت هذه هي المره الأولى في حياة الأمة، التي تستورد فيها (المبادئ) من خارج الإسلام، وتستورد النظم ـ السياسية والاقتصادية والاجتماعية ـ من خارج الإسلام.
وتوالت جهود أعداء الله من اليهود والنصارى لحرب الإسلام والمسلمين على ما يقرب من قرنين من الزمان بلا هوادة ولا توقف، بل بعنف متزايد على الدوام.
__________
(1) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص46(7/2209)
وقد اتخذت هذه الجهود صورتين مختلفتين على فترتين متميزتين من الزمن، وإن كانت الفترة الثانية قد اعتمدت على الأولى اعتمادًا كبيرًا.
المرحله الأولى: تمتد بصفة عامة إلى الحرب العالمية الثانية، حيث كانت السيطرة الصليبية (اليهودية) في يد بريطانيا وفرنسا، وهما اللتان تقومان ـ أساسًا ـ بمحاربة الإسلام، وزحزحة الأمة الإسلامية عنه.
وتبدأ المرحله الثانية: من بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انتقلت السيطرة الصليبية (اليهودية) إلى أمريكا، وتولت هي ـ أساسًا ـ حرب الإسلام، وإن كان حرب الإسلام ـ دائمًا جهدًا مشتركًا بين كل أعدائه. يقوم كل منهم بنصيبه فيه. (1) .
وقد كان الشعار المرفوع في الفترة الأولى هو (الوطنية) من جهة و (الديمقراطية) من جهة أخرى، والذي يقوم باللعبة هو الأحزاب السياسية التي صنعها الغرب لتخدم أهدافه بعملية (التغريب) .
ولم يكن الإسلام في هذه الفترة يحارب حربًا دموية عنيفة ـ وإن كانت الحرب الدموية وقعت في نهاية هذه الفترة ـ وإنما تسلل أعداء الله إلى المسلمين عن طريق الغزو الفكري، وعن طريق الغزو الفكري، وعن طريق مناهج التعليم ووسائل الإعلام، وعن طريق إخراج المرأة إلى الشارع وإفساد أخلاقها وتحويلها في (فتنة) لنفسها وللرجل , وعن طريق إيجاد مؤسسات لا تحكم بما أنزل الله، وإعطائها ثقل (الأمر الواقع) الزعم بأنها هي الصورة الوحيدة الممكنة.
في تلك الفترة عني المخططون بعدم مهاجمة الدين هجومًا صريحًا مباشرًا ـ وإن هوجم تحت شعار محاربة (التقاليد) العتيقة البالية ـ وقد قلص الإسلام من الحياة العامة تقليصًا لعامة تقليصًا كبيرًا، ونحيت الشريعة الإسلامية عن الحكم.
__________
(1) واقعنا المعاصر: ص348(7/2210)
وحينما تسلمت أمريكا راية الحرب الصليبية اليهودية ضد الإسلام ـ تميز عهدها بتغيرات جذرية في (اللعبة) السياسية.
فقد استخدمت لحرب الإسلام في المنطقة العربية بالذات عنصرين جديدين تمامًا، ولا عهد للمنطقة بهما: أولهما الانقلابات العسكرية يتلخص في الآتى:
1- لأنها تلبى الأوامر الخارجية، وتلتزم بها حرفيًّا، وهذا راجع إلى ما تعلموه في الحياة العسكرية.
2- لأن سيطرتها على الحكم أقوى , وتستطيع أن تقضي على أي معارضة.
3- وقد أعدت إعدادًا خاصًّا يجعلها (علمانية) و (غربية) لا تنكر الإنحلال لنفسها ولا لغيرها، ومن ثم فهي أنسب الفئات لتنفيذ مخطط الإبعاد من الإسلام.
4- أنها تقطع الطريق على أي عناصر دينية تريد أن تصل إلى الحكم عن الطريق الشعبي العادي (1) .
... إلى غير ذلك من الوسائل التي يمكن بها السيطرة على الحكم في أي بلد ويظهر لنا من كل ما تقدم أن أعداء الإسلام قد اتفقوا على علمنة التعليم وعلمنة الإعلام، وعلمنة المجتمع كله عن طريق المرأه والشباب ... ليبتعد بذلك عن الإسلام. ونجد ذلك في الدول الإسلامية رغم اختلاف نظم الحكم الحاكمة.. لأن التغيير السياسي وإن اختلف أسلوبه.. فالهدف لا يختلف وهو التغيير الاجتماعي أو التغريب، أو بعبارة أوضح: الإبعاد عن الإسلام.
وهو في نفس الوقت أن تتجه الأمة الإسلامية إتجاهًا علمانيًّا وطنيًّا أو قوميًّا، وهو في بدايته ونهايته اتجاه دخيل، يتخذه الغرب قبلة وإماما في جل شؤون الحياة، وعلى هذا الأساس يمكن الإشارة إلى عناصر هذا الاتجاه كما طبقت في العالم الإسلامي؛ وأهم هذه العناصر والمقومات هي:
1- العلمانية، بمعنى فصل الدين عن الدولة.
2- النزعة الوطنية والقومية.
3- الاقتصاد الرأسمالي والإقطاعي.
4- الحرية الشخصية ـ بالمفهوم الغربي ـ وخاصة حرية في التبرج والاختلاط.
5- التمكين لقوانين الأجنبية الوضعية.
6- ظهور الحياة النيابية البرلمانية وإعلان أن الأمة مصدر السلطان.
وكان لهذه العناصر أثر بارز في حياة الأمة الإسلامية المادية والروحية، الفكرية والسلوكية، الفردية والاجتماعية (2) .
__________
(1) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 53
(2) الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا: ص46، انظر الإسلام والمدينة الحديثة: ص 23(7/2211)
5- آثار الغزو الفكري في وسائل الإعلام.
إن الغزو الفكري لم يقف على مناهج التعليم فحسب، في حربه مع الإسلام، وإنما تعدى ذلك إلى أداة أخرى لا تقل خطرًا إن لم تكن أخطر، تلك هي وسائل الإعلام على تنوعها واختلافها.
لقد أدرك المستعمرون ما لهذه الوسائل الإعلامية من خطر فاستخدموها إستخدامًا ناجحًا في غزوهم الفكري المنظم لأمة الإسلام.
يقول مؤلفا (التبشير والاستعمار في البلاد العربية) (1) التبشيرية الأجنبية: (إن الصحافة لا توجه الرأي العام فقط، أو تهيئه لقبول ما ينشر عليه بل هي تخلق الرأي العام) .
ووسائل الإعلام المتخلفة من صحافة وإذاعة وتليفزيون وسينما مسخرة لإشاعة الفاحشة، والإغراء بالجريمة، والسعي بالفساد في الأرض بما ترتب على ذلك من زعزعة للعقيدة في النفوس، وتحطيم للأخلاق والقيم والمثل.. وهما ـ العقيدة والأخلاق ـ أساس لبناء الإسلام فإذا انهدم الأساس فكيف يقوم البناء؟ وأجهزة الإعلام أشد خطرًا من المدارس والجامعات، فهي تخاطب جميع فئات الأمة؛ متعلمين وغير متعلمين، وصغارًا وكبارًا، ونساء ورجالًا، وحضريين ورييفين، وأغنياء وفقراء، وقد شكلت هذه الأجهزة وفق قيم ومناظر بعيدة عن الإسلام عقيدة وشريعة (2) .
وإذا كانت السيطرة على أجهزة التعليم والتشريع متعذرة في بعض البلاد فإن التغلغل إلى أجهزة إعلامه الداخلية، وإغراق سوقه بمنتجات إعلامية موجهة وجهة تغريبية يضمنان تطبيع أجياله تطبيعًا مدمرًا.
وإذا كانت المدارس تقوم بتدريس الدروس الدينية، والمساجد ما زالت عامرة بالمصلين فإن توجيه عشرات أجهزة الإعلام توجيهًا تغريبيًّا يضمن حدوث خلل نفسى, وتناقض وجدانى، وتمزق عقلى، وإزدواج في الشخصية.
وبذلك استطاع الغزو الفكري أن يخلق أجيالًا وفق قيم معينة تتصادم مع قيم أخرى مبثوثة هنا وهناك.
__________
(1) التبشير والاستعمار في البلاد العربية: ص213، الطبعة الثانية
(2) وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي , ص72(7/2212)
وهذه من أخبث حيل التشويه في فكر المسلمين وقيمهم، فإذا كانت المدارس تضم ملايين، فإن الإذاعة والتلفاز تتعامل يوميًّا مع ملايين أكثر عددًا، وأقل حصانة، وإذا كانت الدول الإسلامية تستطيع فرض رقابة على مدارسها وجامعاتها، إلا أنها لا تستطيع أن تفرض سلطتها على البرامج الإذاعية التي تبث من عواصم دول أجنبية، كما لا تستطيع أن تحكم في الأفلام السينمائية وأفلام الفيديو، وإن كثيرًا من الأفلام والشرائط تهرب بطرق بعيدة عن رقابة الدولة.
والعالم اليوم أصبح أشبه بقرية صغيرة، وزالت الحدود والحواجز أمام أجهزة الإعلام المتطورة في هذا العصر.
وإن كثيرًا من الإذاعات المسموعة والمرئية داخل الأقطار الإسلامية وخارجها إنما تجرى على سياسة إشباع الشهوات، لا التوجيه والإرشاد، والإرشاد كثيرًا من برامجها يفسد ولا يصلح، فقصصها المسلسلة مثار للفزع الذي يقلق النفوس ويسقم الناشئة ويجنح بطبائعهم إلى الانحراف.
وقد يكون تأثير مثل هذه البرامج والمسلسلات الملفقة والحوادث المصنوعة ضعيفًا على كبار النفوس وناضجى العقول من ذوى التجربة والمثقفين، لأنهم لا يندمجون فيما يسمعون، فهم دائمًا على ذكر من أن الذي يسمعونه هو مجرد أوهام لا تمت للواقع بصلة، ولكن الشباب والأطفال وضعاف العقول لا يفرقون بين ما يسمعونه في الإذاعة وبين ما يشاهدونه في الحياة, ولا يميزون بين القصة التي يشاهدونها على لوحة الخيال وبين واقع الأمر في الحياة, فهم يندمجون اندماجًا كاملًا فيما يرون وما يسمعون من ذلك كله. فتجذبهم الأحداث إلى الهياج تارة وإلى البكاء تارة أخرى، وتنطبع آثارها في نفوسهم فتصبح جزءًا أصيلًا من مشاهداتهم وتجاربهم، بل إنها تصبح أجمل من كل ما شاهدوا وما جربوا لما يحيطها من عوامل الإغراء والإقناع والتأثير التي افتن فيها مخرجوها وبلغوا في ذلك أقصى الطاقة والجهد (1) , والهدف من القصص والمسرحيات التي تنشر من خلال وسائل الإعلام ـ هو تحطيم القيم الإسلامية التي تمنع الاختلاط وتنفر من الفاحشة والتحلل الخلقي.. فقد كانت هذه القيم مع ضعفها في حياة المسلمين 0 عقبة ضخمة في سبيل الإفساد الخلقي الهائل الذي تهدف الصليبية إلى إحداثه في المجتمع الإسلامي.
وكذلك من وسائل الإعلام المدمرة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى لغات المسلمين , فترجمت كثير من كتب القصص الغرامي والفن، وقد كان الفن الذي يترجم هو الفن الذي تخلص تمامًا من القيم الدينية، وراح يدعو إلى إقامة مجتمع حر (طليق) من تلك القيم، مجتمع يهبط تدريجيًّا حتى يصبح مجتمعًا حيوانيًّا في النهاية، ولم تكن هذه النهاية واضحة في القرن الماضي كما هي واضحة اليو لكل ذى حس سليم، وقد كان هناك تشجيع خفي لنشر هذا الفن وترويجه بين الشباب خاصة. الهدف من ذلك واضح (2) .
__________
(1) حصوننا مهددة من داخلها، د. محمد محمد حسين، الطبعة الخامسة، المكتب الإسلامي
(2) واقعنا المعاصر: ص 137(7/2213)
أما الكتب التي تحمل الفكر (العلمانى) فالهدف من ترجمتها يوضحه (أ. شاتيليه) في مقدمة كتاب (الغارة على العالم الإسلامي) بقوله:
(ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانتية وكاثولوكية، تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية في قلوب منتحليها، ولم يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوروبية، فبنشرها اللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يحتك الإسلام بصحف أوروبا، وتمهد السبيل لتقدم إسلامي مادي وتقضي إرساليات التبشير لبناتها من هدم الفكرة الدينية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها) (1) .
أما الصحافة فشأنها أعظم في نشر الغزو الفكري، فقد استغل المبشرون الصحافة في كثير من بلاد المسلمين، وعلى الأخص في مصر، حيث قامت الصحافة بدور من أخطر الأدوار في حملة (التغريب) فإن مصر في نظر المخططين هي مركز التوجيه الروحي والثقافي بسبب موقعها الجغرافي ومكانتها التاريخية، وبسبب وجود الأزهر فيها.. فإذا أمكن إفسادها من الناحية الإسلامية كان ذلك عونًا كبيرًا للذين يخططون لإفساد العالم الإسلامي كله؛ لأن الفساد سيصدر يومئذ وعليه خاتم القاهرة، فيكون أفعل في الإفساد مما لو جاء وعليه خاتم لندن أو باريس (2) .
يقول المستشرق الإنجليزى المشهور (جب) في كتابه (وجهة الإسلام) متحدثًا عن أهمية الصحافه في مجال الغزو الفكري (3) : (والواقع أن المدارس والمعاهد العلمية لا تكفي، فليست هي في حقيقة الأمر إلا الخطوة الأولى في الطريق، لأنها لا تغنى شيئًا في قيادة الاتجاهات السياسية والإدارية) .
وللوصول إلى هذا التطور الأبعد ـ الذي بدونه تظل الأشكال الخارجية مجرد مظاهر سطحية ـ يجب ألا ينحصر الأمر في الاعتماد على التعليم في المدارس الابتدائية والثانوية، بل يجب أن يكون الاهتمام الأكبر منصرفًا إلى خلق رأي عام، والسبيل إلى ذلك هو الاعتماد على الصحافة. ويقرر (جب) : (أن الصحافة هي أقوى الأدوات الأوروبية وأعظمها نفوذًا في العالم الإسلامي) . كما يقرر (أن مديري الصحف اليومية ينتمون في معظمهم إلى التقدميين) ولذلك كان معظم هذه الصحف واقعًا تحت تأثير الأراء والأساليب الغربية.
ويستعرض الكاتب بعد ذلك صحافة العالم الإسلامي مشيرًا إلى ما بينها من فروق فيقول: (إن الصحافة التركية هي بطبيعة الحال وطنية لا دينية، وهي لا تجرؤ على أن تكون دينية، لأنها مراقبة من الحكومة مراقبه شديدة، أما الصحافة المصرية فهي على العكس من اتجاه الأول ـ الثورى ـ تتطور في بطء وتعرض طائفة من الآراء الجديدة، وهي على كل حال لا دينية في اتجاهتها.
__________
(1) راجع هذه المقدمة في كتاب الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة محيي الدين الخطيب
(2) واقعنا المعاصر: ص 239
(3) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: ص 202(7/2214)
وللأسباب التي ذكرتها وغيرها مما لم أتطرق إليه ـ فإن الدراسات الاجتماعية والتربوية المعاصره تعتبر (صناعة الإعلام) من أخطر وأهم الصناعات على الصغير والكبير، المتعلم والأمى، والمسلم وغير المسلم.
وإذا كانت الانقلابات العسكرية تستهدف أول ما تستهدف الاستيلاء على الإذعة والتلفاز، فإن أجهزة الغزو الفكري تستهدف ذلك بنفس الدرجة وبذات الأهمية، ولكن بطريق ذكية، وبناء على خطة بعيدة المدى.
وإذا كانت المجتمعات الإسلامية تشكو من ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية، فلتكن السيطرة الغازية إذن على المسموع والمشاهد، ولتستمر بذلك الأمية الأبجدية، ولتضاف إليها أمية دينية، وأمية ثقافيه، ولتحل محلها شخصيات ممسوخة قد تحللت من الدين عقيدة وشريعة.
وقد أوصى المؤتمر العالمى لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة المنعقد في عام 1397هـ الموافق 1977م بالمدينة المنورة ـ على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ وقد ندد هذا المؤتمر بحال الإعلام في البلاد الإسلامية: (ويندد المؤتمر بالهوة السحيقه التي تردى فيها إعلامنا ولا يزال يتردى، عن علم القائمين به أو عليه أو عن جهل منهم، فبدلًا من أن يكون الإعلام في البلاد الإسلامية منبر دعوة للخير، ومنار إشعاع للحق صار صوت إفساد وسوط عذاب.. وسكت القادة فأقروا بسكوتهم أو جازوا ذلك فشجعوا وحموا.. وزلزلوا الناس في إيمانهم وقيمهم ومثلهم، ولم يعد الأمر يحتمل السكوت من الدعاة إلى الحق) (1)
__________
(1) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 73(7/2215)
المحور الثاني
أساليب الغزو الفكري في التشكيك
وسوف أتناول الموضوع بشئ من التفصيل، حتى يتضح لنا مدى خطورة الغزو الفكري، وأثره في تشوية الإسلام، وزعزعة العقيدة الإسلامية عند ضعيفي الإيمان.
1- الطعن في القرآن الكريم:
إذا كان للمسلمين تراث يعتزون به فليس هناك أعز عليهم من القرآن الكريم، ذلك أن القرآن رسالة السماء إلى الأرض حملها المسلمون ليكونوا خلفاء الله في أرضه، وقادة هذا العالم، وبناة حضارته، وهداته الراشدين.
ومنذ تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم بدأت أولى خطواته في دنيا الناس ليأخذ مسيرته، وأخذ المسلمون إذ ذاك يرصدون حركته، ولقد كان لمعاصريه جلي السيرة واضح القسمات والمعالم، فقد شاهدوا كيف تلقاه النبى وحيًا منزلًا على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، لاتغيب عنهم شاردة ولا واردة، حتى يقسم ابن مسعود رضى الله عنه على أنه ما من آيه نزلت من كتاب الله إلا وهو يعلم فيمن نزلت: وأين نزلت.
قال ابن كثير: (قال عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره ما نزلت آيه من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته) (1) وسئل عكرمة عن آية من القرآن فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل وأشار إلى (سلع) (2) .
وحشد الصحابة جهدهم مع البنى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتلقوه عنه حفظًا في الصدور وتسجيلًا في السطور، حتى غدت أعمالهم في العناية به والدفاع عنه جزءًا من تاريخ الإسلام والمسلمين.
ومحاولة تشوية القرآن الكريم قديمة ممتدة في التاريخ الإسلامي، مواكبة لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم, حمل لواءها أعداء الإسلام من اليهود، ومن النصارى والوثنين أجيالًا بعد أجيال إلى يومنا هذا.
إن من أخطر ما يواجه المثقفين المسلمين اليوم أن يجدوا بين أيديهم موسوعات ومؤلفات تقدم لهم الفكر الإسلامي، من وجهة نظر (غربية نصرانية) تختلف اختلافًا أساسيًّا عن مفهوم الإسلام الأصيل، وقد كتبت هذه الدراسات والموسوعات من خلال هدف واضح هو (تغريب) الفكر الإسلامي وتزييف مفاهيمه وإثارة الشبهات حول حقائقه (3) .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 3، مطبعة عيسى البابى الحلبى، بدون تاريخ
(2) قارن بما جاء في كتاب مباحث في علوم القرآن. د. صبحى الصالح: ص 132
(3) سموم الاستشراق في العلوم الإسلامية، أنور الجندي: ص 16، دار الجيل، بيروت(7/2216)
ومن دوائر المعارف التي عبثت بالقرآن الكريم وتعمدت تشويهه كتاب (دائرة المعارف الإسلامية) وبخاصة من كَتَبَ منهم في التعريف بكلمة (الله) سبحانه وتعالى، وهو المستشرق الحاقد الخطر (ماكدونالد) حيث أساء هذا المستشرق وأخطأ وتخبط وأضر بنفسه وبالحقيقة العلمية أكثر مما أضر بالإسلام أو بالقرآن الكريم أو بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن المطلع على ما كتبه هذا المستشرق في دائرة المعارف (1) يرى ما تخبط فيه هذا الكاتب من جهل بتاريخ العقائد عند الجاهلين، ولا يعرف أصول التعبير العربى الصحيح، وقد أعماه تعصبه عن الحق، فقد اتهم هذا المستشرق القرآن بأنه من عند محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس من عند الله، وتلك هي الطعنة التي يوجهونها للقرآن ويلحون في إثباتها بقول (ماكدونالد) في حديثه ذاك: ( ... كما أنه من المحقق أن أهل مكة جعلوا بينه وبين الجِنة نسبًا.. وجعلوهم شركاء لله.. وقدموا لهم القرابين وكانوا يعوذون بهم، ولسنا نعلم علم اليقين: هل كانت قد وجدت لديهم فكرة عن الملائكة، أو أنهم جعلوهم شركاء لله، وربما كان هذا تفسيرًا من عند محمد) (2) .
والذي يعيننا من هذه العبارة ادعاؤه أن القرآن الكريم تفسير من عند محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والعجيب أنه بينما يدعى هذه الدعوة الباطلة تجده يعتمد في كلامه أحيانًا على آيات قرآنية. وممن قال بمثل رأي هذا المستشرق مستشرق آخر وهو (جب) فقد تحدث هو الآخر عن القرآن الكريم وأنه من تأليف محمد فيقول: (إن محمدًا ككل شخصية مبدعة قد تأثر بضرورات الظروف الخارجية المحيطة به من جهة، ثم هو من جهة أخرى قد شق طريقًا جديدًا بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه والدائرة في المكان الذي نشأ فيه) .
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 244، طبعة دار الشعب بالقاهرة.
(2) : دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 244، طبعة دار الشعب بالقاهرة(7/2217)
ثم يواصل (جب) حديثه عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقرآن فيقول: (إن مكة كانت في حياة زاخرة بالتجارة والسياسة والدين، وإنه وجدت فيها زعامة وزعماء، وإنه وجد ظلم اجتماعي بين سكانها، وإن الرسول محمدًا انطبعت في نفسه كل هذه الجوانب، وكان على وعي تام بها، ترى آثارها في حياته وفي قرآنه وفي كفاحه إلى أن مات) (1) .
وافتراءات (جب) واضحة البطلان بينة البهتان تفقد المنطق وتجانب الصواب، وخلاصة ما يرى (جب) أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تأثر بالبيئة التي عاش فيها وشق طريقه بين الأفكار والعقائد الشائعة في بيئته، فالقرآن كما يرى (جب) من صنع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن ملاءمات هذه البيئة التي عاش فيها.
وقمة الباطل عند (جب) ادعاؤه بأن القرآن الكريم كان أثرًا من آثار إحساس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالظلم الاجتماعي الذي ساد أهل مكة، وأن أثر هذا الإحساس وهو القرآن الكريم بدأ واضحًا في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي كفاحه إلى أن مات)
(2) .
وقد ردد نفس التهم المستشرق (هـ. ج. ويلز) والهدف من ذلك واضح وهو تشويه القرآن وتشويه الإسلام، فقد ردد هذا المستشرق أن القرآن الكريم من صنع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد ذكر ذلك في مواضع من كتابه الذائع الصيت: (معالم تاريخ الإنسانية) الذي ترجم إلى العربية، وطوف آفاق العالم الإسلامي، وحظي بالرضا والقبول من الدارسين (3) .
كما آثار المستشرقون ـ بمنهجهم الاستشراقي الذي يقوم على جمع الآراء والظنون والأوهام ـ شبهات أخرى حول القرآن، تحاول أن تجتث أصوله لتأتي على قواعد هذا الدين، وهم نصبوا أنفسهم للقضاء عليه.
__________
(1) جب: المذهب المحمدي: 25 وما بعدها
(2) قارن بما جاء في: الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: ص 30، مرجع سابق
(3) راجع ما كتبه: هـ. ج. ويلز: معالم تاريخ الإنسانية: 3/ 626 وما بعدها 640، 657(7/2218)
وبحسبي أن أذكر بعض هذه الشبهات حول تاريخ القرآن الكريم، على سبيل الإجمال دون الخوض في تفاصيلها لأن ذلك يحتاج إلى بحث منفصل وهي كما يلي:
(أ) روايات وشبهات حول تدوين القرآن:
ثبت في صحيح السنة أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ جمع القرآن حفظًا، ثم ظاهر الحفظ وأكده بكتابة النص القرآني، فاتخذ كُتّابًا للوحي بلغت عدتهم على ما جاءت به الروايات، ثلاثة وأربعين، وكان من بينهم الخلفاء الأربعة، والزبير بن العوام، وغيرهم، وكان زيد ألزم كتاب الوحي للنبي (1) .
وقد وردت روايات أخرى صحيحة تؤكد صحة ما دون من القرآن (2) . كما وردت روايات أخرى تتعلق بتدوين القرآن الكريم ـ وهي روايات هزيلة كتلك التي أوردها السيوطي في الإتقان عن زيد بن ثابت قال: (قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يكن القرآن قد جمع في شيء) وروايات أخرى في الإتقان (3) .
وقد نقد العلماء أسانيد السيوطي وبينوا أنها تشتمل على بعض الرواة الضُعفاء والمجهولين كما في كتب الرجال والطبقات (4) .
على الرغم من ضعف رواية السيوطي فهي أرجح في نظر المستشرقين لمطابقتها ما روي من خوف عمر، وأبي بكر، رضى الله عنهما، لما استحر القتل بالقراء في موقعة اليمامة فلو كان القرآن قد كتب وجمع لما كانت هناك علة لخوفهما (5) , كما أورد ابن أبي داود وغيره، بعض الروايات الضعيفة، التي تؤكد الروايات السابقة التي تعلق بها المستشرقون وراحوا يؤكدون من خلالها فكرة عدم تدوين الوحي في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (6) .
__________
(1) انظر: تاريخ القرآن لابن عبد الله الزنجاني: ص 42
(2) راجع: صحيح البخاري، 5/ 183؛ والترمذي: 11/ 225
(3) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي: 1/ 57
(4) دراسات في القرآن: د. السيد خليل: ص 88
(5) آثر جفري: كتاب المصاحف: ص5
(6) كتاب المصاحف: لابن أبي داود، آثر جفري: ص 8، 9، 20، وانظر: القرآن بلاشير ترجمة رضا سعادة: ص 29، 30(7/2219)
(ب) روايات وشبهات حول جمع القرآن:
وإذا انتقلنا من التدوين في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، طالعتنا روايات عدة في قضية من قضايا التسجيل في عهده تشير إلى أن زيدًا رضي الله عنه افتقد بعض آيات القرآن.. ومن تلك الروايات المنسوبة إلى زيد رضي الله عنه قوله: (دعاني أبو بكر رضي الله عنه أن أجمع القرآن.. فجعلت أتتبع القرآن ففقدت آية كنت أسمعها من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم أجدها عند أحد فوجدتها عند رجل من الأنصار وهي قوله تعالى: {مِنَ المُؤمِنينَ رِجَالُُ صَدَقُوا مَا عَهَدُوُا اللهَ عَلَيهِ ... } (1) فألحقتها في سورتها (2) . وجاء في رواية أخرى طويلة، يقول فيها زيد: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري (3) لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر) (4) .
وقد يقع قارئ هذا النص في إشكال منشؤه تصريح زيد بأنه لم يجد آخر سورة التوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري، ويزول هذا الإشكال سريعًا إذا علم القارئ أن غرض زيد أنه لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة (5) .
وقد كان ذلك كافيًا لقبوله إياها، لأن كثيرًا من الصحابة كانوا يحفظونها، ولأن زيدًا نفسه كان يحفظها: ولكنه أراد ـ ورعًا منه واحتياطًا ـ أن يشفع الحفظ بالكتابة، وظل ناهجًا هذا المنهج في سائر القرآن الذي تتبعه في عهد أبي بكر: فكان لابد لقبول آية أو آيات من شاهدين، هما الحفظ والكتابة (6) .
__________
(1) سورة الأحزاب: الآية 23
(2) راجع: تاريخ القرآن بين تساهل المسلمين وشبهات المستشرقين: ص 273، د. إسماعيل الطحان: بحث ضمن حولية كلية الشريعة، بجامعة قطر، العدد الثامن، 1404 هـ 1984م
(3) وفي رواية: (مع ابن خزيمة الأنصاري الذي جعل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ شهادته بشهادة رجلين) ، البرهان: 1/ 234؛ لكن الذي في تهذيب التهذيب: 3/ 140، أن خزيمة بن ثابت الأنصاري هو ذو الشهادتين، فهو غير أبي خزيمة، وفي البخاري (فضائل القرآن) أن زيدًا وجد عند خزيمة هذا آية من سورة الأحزاب، فهل اختلط الأمر على الرواة والمؤرخين؟
(4) صحيح البخاري: كتاب (فضائل القرآن) الباب الثالث والباب الرابع وكتاب الأحكام، الباب السابع والثلاثون، وفي مسند أحمد: 1/ 13 (وفي طبعة شاكر: 1/ 185 رقم الحديث 76 وقارن بما في (طبقات ابن سعد ج 3/ ق1/ ص 201)
(5) الإتقان: 1/ 101، وينقل السيوطي هنا عن أبي شامة قوله: (لم أجدها مع غيره أي لم أجدها مكتوبة مع غيره)
(6) قارن بما جاء في: مباحث علوم القرآن، د. صبحي الصالح: ص 76، دار العلم للملايين، ط 13، 1981م(7/2220)
وخلاصة القول في تلك الروايات: أن أبا بكر رضي الله عنه اتخذ الصحف المودعة في بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ركيزة جمعه، وطلب القرآن ممن عندهم محفوظًا أو مكتوبًا، ليعارض المفترق بالمجتمع، وليشترك الجميع في علم ما جمع فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يشك في أنه جمع عن ملأ منهم (1) وأن يشهد شاهدان من حفظ أو كتابة على ما يجيء مخالفًا لتلك الصحف أو مفقودًا منها.
أما عمل عثمان رضي الله عنه فهو لا يتعدى النسخ لمصحف أبي بكر المجمع عليه، في عدد من المصاحف لينشر النص القرآني المجموع في عهد أبي بكر المأخوذ مما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بإملائه حين دعت الضرورة إلى نص مكتوب يكون للناس إمامًا ليحسم الخلاف حول ما اعترى القرآن على ألسنتهم من تحريف بالزيادة والنقص واستبدال لفظ بلفظ، وليمتاز به التنزيل عما اختلط به من التأويل في المخطوطات المتداولة، وكما جرى على ألسنة العامة توهمًا أنه من الوحي المنزل، وليكون مرجع الناس في الأخذ بالمُستَيقَنِ المعلوم من نصوص الوحي المنزل، وكل نص خالف عنه ترفض قرآنيته، بل وكل مصحف عداه ليست له شرعية البقاء معه. ومن ثم وجب إحراقه وقاية من كل خلاف، وحماية من أي اختلاط (2) .
وقد جاء في رواية ضعف العلماء سندها أن حفصة ـ رضي الله عنها ـ حين أرسل عثمان ـ رضي الله عنه ـ يطلب منها أن ترسل إليه الصحف التي كانت عندها أبت أن تدفعها إليه حتى عاهدها ليردنها إليها , فبعثت بها إليه أخيرًا" (3) .
__________
(1) راجع البرهان: 1/ 238
(2) انظر تفصيلًا أكثر في كتاب: (من قضايا القرآن) ، د. إسماعيل الطحان: ص 77 ـ 79
(3) راجع كتاب المصاحف: ص(7/2221)
وعلل المستشرقون رواية الامتناع هذه بأن حفصة قد ورثت هذه الصحف عن أبيها ذمة مالية شخصية إذ أن المصحف الذي بدأه أبو بكر في حياته لم ينته إلا في عهد عمر لقصر حياة أبي بكر في الخلافة، ومن ثم رجحت لديهم رواية أن عمر هو أول من جمع القرآن على حد ما زعمه ابن سعد في (الطبقات) .. وأن دوافع هذا الجمع لدى أبي بكر، بمشورة عمر كانت الرغبة في تملك نسخة من القرآن حتى لا يكون رئيس الجماعة في وضع أقل من بعض الصحابة الذين يملكون نسخًا منه. فكلف أحد كتاب الوحي ممن سبق أن استخدمهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الوظيفة بأن يهيئه لهما. ولم يكن في ذهن أبي بكر وعمر أمر فرض مصحف إمام على جماعة المؤمنين (1) .
فلقد أراد المستشرقون، أن يضفوا طابع الشخصية على هذا العمل، ليجردوا هذا المصحف من كل ما تميز به من صفة التواتر وقطعية الثبوت، ليستوي مع غيره من مخطوطات الصحابة وبالتالي فليس هو أولى منها بالالتزام والمتابعة (2) حتى إذا جاء عثمان ليفرض مصاحفه التي حوت ما كان في مصحف أبي بكر وعمر، مع ما ضمه إليها من مقطوعات ظلت مبعثرة أو محفوظة غيبًا ـ لم يستطع ذلك دون مقاومة، فإن الصحابة الذين بذلوا أنفسهم في خدمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى التضحية بالنفس مثل ابن مسعود قد شعروا بالجور إذ تبينوا أن نصوصهم لم تعتمد أساسًا للمصحف الرسمي (3) .
__________
(1) انظر المدخل إلى القرآن: بلاشير: ص 33ـ36؛ وقارن بالقرآن لبلاشير: ص 30
(2) تاريخ القرآن، د. عبد الصبور شاهين: ص 110
(3) القرآن (بلاشير) : ص 34، 35(7/2222)
(ج) روايات وشبهات حول القراءات:
كما أورد المستشرقون بعض الشبهات حول القراءات، وقد استندت هذه الشبهات إلى روايات ضعيفة، وخلاصة هذه الشبهات: أن ما فعله عثمان بمصاحف الصحابة لم ينه مشكلة الاختلاف حول النص القرآني، لأن القرآن نزل على سبعة أحرف، وأن نص القرآن بحرفه ليس مهمًّا، وإنما المهم هو روحه وأن القراءة التي تقوم على الترداف المحض أمر لا بأس به (1) , فقد صور المستشرقون (قضية القراءات) على أنها اختيار محض، وتصرف غير مسؤول في ألفاظ القرآن ومعناه. وأثاروا من خلال هذا التصور شكوكًا حول النص القرآني المسجل في صحة معناه، وسلامة ألفاظه من التحريف والتبديل.
واعتمدوا في مزاعمهم هذه على روايات تصيدوها من هنا وهناك، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذابًا، أو عذابًا مغفرة)) . وقوله صلى الله عليه وسلم ((اقرءوا ولا حرج ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعد عذاب، ولا ذكر عذاب برحمة)) (2) , كما رووا عن أبي شامة قوله: أنزل القرآن أولًا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب الآخرين أن يقرأوه بلغاتهم على اختلافهم في الألفاظ والإعراب (3) .
ولو ذهبت أستقصي شبهات المستشرقين حول القرآن الكريم لما وسعتني مئات الصفحات لأن القرآن الكريم كتاب مقلق للغربيين، ومحيّر لهم ومبلبل لأفكارهم.
يقول (بلاشير) : (قلما وجدنا الكتب الدينية الشرقية كتابًا بلبل بقراءته دأبنا الفكري أكثر من القرآن) (4) .
ولكن الأمر في الواقع ليس مجرد قلق أو حيرة أو بلبلة فكرية، وإنما الأمر أبعد من ذلك بكثير، إنه الشعور بخطورة هذا الكتاب. وقد كان للاستشراق دوره في التحذير من خطورة القرآن على العالم الغربي، فقد تكفل بالكشف عن أخطار القرآن طائفة من المستشرقين الذين أخضعوا بحوثهم العلمية للأهواء الشخصية أو الأهداف السياسية والدينية فأعماهم ذلك عن الحق وأضلهم عن سواء السبيل.
__________
(1) راجع المدخل إلى القرآن (بلاشير) : ص 69، 70؛ وانظر: مقدمة المصاحف آثر جفري: ص 7
(2) هذه الروايات باطلة المعنى واهية الإسناد وهي مخالفة للمعقول، وما صح من المنقول، وما أجمع عليه المسلمون من عهد الصحابة إلى يومنا هذا، وقد اعتمدت هذه الروايات على كتاب (الأغاني: 3/ 61) ، وانظر: الرد على هذه الشبهة وغيرها في كتاب: المدخل لدراسة القرآن، د. محمد محمد أبو شهبة: ص 209، ط 2، فإنَّ هذه الأحاديث لم تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا إلى واحد من صحابته رضي الله عنهم.
(3) المرشد الوجيز، لأبي شامة: ص 95.
(4) بلاشير، القرآن: ص 41.(7/2223)
2ـ الطعن في السنة:
السنة النبوية هي المصدر الثاني للإسلام، وقد كان لها الفضل الأكبر في إظهار المراد من الكتاب، وفي إزالة ما قد يقع في فهمه من خلاف أو شبهة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) .
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) .
وبهذا كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مأمور بتبليغ ما أنزل الله عليه، ومطالبًا ببيانه.
وقد فعل الرسول ما أمره الله به، فكانت سنته المتمثلة في أقواله وأفعاله وتقريراته، بالنسبة للقرآن بمثابة (تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره) (3) .
وبذلك يكون الارتباط بين القرآن والسنة ارتباطًا لا يتصور أن ينفصم في يوم من الأيام، وقد أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك حين قال: ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي)) (4) .
ومن أجل ذلك اهتم المسلمون اهتمامًا عظيمًا بالسنة بوصفها الأصل الثاني للإسلام، ومصدرًا للأحكام الشرعية مع القرآن، وانعقد إجماعهم على ذلك، ومضى على ذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم قولًا وفعلًا.
وكذلك استمر الصحابة ومن تبعهم بإحسان وفي الرجوع إلى السنة بعد القرآن لمعرفة ما تعبد الله به عباده من الحلال والحرام، وسائر الأحكام في العبادات والمعاملات.
واستمر من بعد الصحابة والتابعين فقهاء الأمصار وأئمة المذاهب المتبوعة وأصحابهم وتلاميذهم، وغدت السنة للجميع المصدر الغني الخصب في كل أبواب الفقه (5) .
وقد أراد المستشرقون بعد محاولتهم الفاشلة للتشكيك في القرآن الكريم من جوانب مختلفة، وبعد أن أعياهم البحث ـ ولم يكن لهذه المحاولات أي أثر إيجابي لدى المسلمين المتمسكين بقرآنهم، وتبين أن هذه المحاولات لم تكن إلا كما قال الشاعر العربى:
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهي قرنه الوعل
أراد المستشرقون أن يوجهوا محاولات التشكيك إلى ناحية، وهي السنة النبوية مع الاستمرار في محاولاتهم السابقة الفاشلة (6) .
ومحاولة تشويه السنة عميقة الجذور في تاريخ حربهم للإسلام، وهي محاولات تستهدف حرب القرآن الكريم، وعزل المسلمين عن دينهم بتشويه مصدريه, وهي حرب تدخل حديثًا في الغزو الفكري للمسلمين، وقد جند أعداء الإسلام لتشويه سنة النبي صلى الله عليه وسلم أقلامًا وكتبًا ومجلات، ملأوا بهذا التشويه كثيرًا من الكتب والمجلات ودوائر المعارف التي تتحدث عن الإسلام، وتعتبر مراجع لفكره وثقافته عند كثير من الباحثين والدارسين الذين لا يستطيعون قراءة الكتب العربية، بل إن كثيرًا من هذه المراجع ترجم إلى اللغة العربية واعتبره كثير من أبناء العربية مراجع هامة عن الإسلام فكره وتاريخه وثقافته (7) .
__________
(1) سورة المائدة: الآية 67
(2) سورة النحل: الآية 44
(3) راجع: الموافقات، للشاطبي: 4/ 12
(4) رواه الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه
(5) المدخل لدراسة السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي: ص 45، مكتبة المدارس، الدوحة ـ قطر
(6) راجع ما كتبه، د. محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص 100، كتاب الأمة، الطبعة الأولى، صفر الخير 1404 هـ
(7) الغزو الفكري، والتيارات المعادية للإسلام: ص 37(7/2224)
وأول مستشرق قام بمحاولة واسعة شاملة للتشكيك في الحديث النبوي كان المستشرق اليهودي (جولدتسيهر) الذي يعده المستشرقون أعمق العارفين بالحديث النبوي.
ويلخص (بفانموللر) عمل (جولدتسيهر) في هذا المجال فيقول: (لقد كان (جولدتسيهر) أعمق العارفين بعلم الحديث النبوي، وقد تناول في القسم الثاني من كتابه (دراسات محمدية) موضوع تطور الحديث تناولًا عميقًا، وراح ـ بما له من علم عميق, واطلاع يفوق كل وصف ـ يبحث التطور الداخلي والخارجي للحديث من كل النواحي.
وقد قادته المعايشة العميقة لمادة الحديث الهائلة إلى الشك في الحديث، ولم يعد يثق فيه مثلما كان (دوزي) لا يزال يفعل ذلك في كتابه (مقال في تاريخ الإسلام) وبالأحرى كان (جولدتسيهر) يعتبر القسم الأعظم من الحديث بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الديني والتاريخي والاجتماعي في القرن الأول والثاني، فالحديث بالنسبة له لا يعد وثيقة لتاريخ الإسلام في عهده الأول: عهد طفولته، وإنما هو أثر من آثار الجهود التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصور المراحل الناضجة لتطور الإسلام، ويقدم (جولدتسيهر) مادة هائلة من الشواهد لمسار التطور الذي قطعه الإسلام في تلك العصور التي تم فيها تشكيله من بين القوى المتنقصة والتباينات الهائلة حتى أصبح في صورته النسقية.. ويصور (جولدتسيهر) التطور التدريجي للحديث، ويبرهن بأمثلة كثيرة وقاطعة كيف كان الحديث انعكاسًا لروح العصر وكيف عملت على ذلك الأجيال المختلفة، وكيف راحت كل الأحزاب والاتجاهات في الإسلام تبحث لنفسها من خلال ذلك عن إثبات لشرعيتها بالاستناد إلى مؤسس الإسلام، وأجرت على لسانه الأقوال التي تعبر عن شعارتها) (1) .
وهكذا تم اختراع كم هائل من الأحاديث في العصر الأموي عندما اشتدت الخصومة بين الأمويين والعلماء الصالحين، ففي سبيل محاربة الطغيان والخروج عن الدين راح العلماء يخترعون الأحاديث التي تسعفهم في هذا الصدد، وفي الوقت نفسه راحت الحكومة الأموية تعمل في الاتجاه المضاد، وتضع أو تدعو إلى وضع أحاديث تسند وجهات نظرها، وقد استطاعت أن تجند بعض العلماء الذين ساعدوها في هذا المجال.. ولكن الأمر لم يقف عند حد وضع أحاديث تخدم أغراضًا سياسية، بل تعداه إلى النواحي الدينية في أمور العبادات التي لا تتفق مع ما يراه أهل المدينة، وقد استمر هذا الحال في وضع الأحاديث في القرن الثاني أيضًا (2) .
هذا مجمل المزاعم التي روجها (جولدتسيهر) ليهدم بها الأصل الثاني للإسلام وهو السنة، ولسنا هنا في معرض الرد التفصيلي على هذه المزاعم، لأن ذلك يحتاج إلى بحث منفصل، وقد تكفل الرد على هذه الأباطيل كثير من أهل العلم، ومن أهم الكتب القيمة في هذا المجال كتاب (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) للدكتور مصطفي السباعي ـ رحمه الله تعالى ـ فمن أراد التفصيل فليرجع إليه.
ومن المستشرقين الذين تطاولوا على السنة النبوية، المستشرق (ماكدونالد) حيث جاء عنه قوله: (يجدر بنا الآن أن نتكلم على الآراء التي أسندها الحديث إلى محمد صلى الله عليه وسلم، على أننا إذا حاولنا أن نجد في الحديث ما نستطيع أن نقطع بصحة نسبه إليه من الوجهة التاريخية، فإن عملنا هذا يكون لاغنى فيه على الإطلاق. فمن الواضح أن هناك أحاديث كثيرة لا يمكن أن تكون قد صدرت عنه. كما أننا لن نستطيع أن نعرف أبدًا الأحاديث التي صدرت عنه حقًّا) ثم يستشهد بأقوال (جولدتسيهر) السابقة في الخلط والتشكيك (3) . وقد أورد (ماكدونالد) كثيرًا من الشبهات حول الحديث النبوي.
ثم يختم (ماكدونالد) كلامه عن الأحاديث النبوية بقوله: (ونستخلص مما تقدم أنه لا شك في أن الأحاديث في ذاتها لا تعتبر أساسًا يمكننا أن نبني عليه الحقائق التاريخية) (4) .
كما تهجَّمَ على السنة النبوية بقصد تشويهها والتشكيك فيها عدد من أعداء الإسلام من المستشرقين والمبشرين والصهيونيين.
وخلاصة القول في الاتهامات التي وجهت إلى السنة يمكن إجمالها فيما يأتي:
(أ) الادعاء بأن هناك أحاديث كثيرة لا يمكن أن تكون قد صدرت عن النبى صلى الله عليه وسلم.
(ب) لا يوجد حديث يقطع بصحة نسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
(ج) الادعاء بأن الفرق الإسلامية عندما اختلفت في الآراء أخذ كل منها يضع لنفسه الأحاديث التي يؤيد بها رأيه.
(د) الأحاديث النبوية ليست إلا سجلًا للجدل الديني في القرون الأولى، الأمر الذي يجعل لها من هذه الزاوية قيمة تاريخية على الرغم من أن هذا السجل مضطرب كثير الأغلاط التاريخية، مليء بالمعلومات المضللة التي لم تؤخذ من مصادرها الأولى.
__________
(1) الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص 102
(2) د. مصطفي السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 190، 191، بيروت سنة 1978 م
(3) دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 255، طبعة دار الشعب، القاهرة
(4) دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 256 ـ 257، طبعة دار الشعب، القاهرة(7/2225)
هذا مجمل للاتهامات التي وجهت إلى السنة المشرفة، وجميع هذه الادعاءات لا يستند إلى دليل ولا برهان.
ومن الأمور التي لا يختلف فيها اثنان من أهل العلم المحققين أن الأمة الإسلامية هي الوحيدة من بين أمم الأرض، التي حافظت على القرآن والسنَّة، ويشهد بذلك التاريخ نفسه والمنصفون من المؤرخين. يقول أحد العلماء في الرد على (ماكدونالد) وغيره من أعداء الإسلام: (وقد عني المسلمون بحفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة بما لم تعن به أمة قبلهم، فحفظوا أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة بما لم تعن به أمة قبلهم، فحفظوا القرآن ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترًا آية آية وكلمة كلمة وحرفًا حرفًا، حفظًا في الصدور، وإثباتًا بالكتابة في المصاحف حتى رووا أوجه نطقه بلهجات القبائل، ورووا طرق رسمه في المصحف، وألفوا في ذلك كتبًا مطولة وافية. وحفظ المسلمون أيضًا عن نبيهم كل أقواله وأفعاله وأحواله، وهو المبلغ عن ربه والمبين لشرعه والمأمور بإقامة دينه، وكل أقواله وأفعاله بيان للقرآن، وهو الرسول المعصوم والأسوة الحسنة، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (1) , وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) . وقال أيضًا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) . وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنهته قريش فذكر للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ((اكتب فوالذي نفسي بيده، ما خرج مني إلا حق)) (4) , ففهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن يحفظوا عن رسولهم كل شيء، وقد فعلوا وأدوا الأمانة على وجهها ورووا الأحاديث عنه بعضها متواترًا إما لفظًا ومعنى وإما معنى فقط، وبعضها يعرف بالأحاديث الصحيحة الثابتة مما يسمى الحديث الصحيح والحديث الحسن، ولم يحتجوا في دينهم بغير هذه الأنواع التي لا يعارض فيها إلا جاحد أو مكابر) (5) .
__________
(1) سورة النجم: الآيتان 3 , 4
(2) سورة النحل: الآية 44
(3) سورة الأحزاب: الآية 21
(4) رواه أبو داود بإسناد صحيح، وأحمد في مسنده.
(5) دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 274(7/2226)
ولعل في بعض ذلك رد على (جولدتسيهر) و (ماكدونالد) وأمثالهما من الحاقدين على الإسلام الراغبين في تشويه مصدريه الأساسيين القرآن الكريم والسنة النبوبة المشرفة، وصفوة القول: إن الأحاديث النبوية لم يتجه إلى دراستها إلا عدد قليل جدًّا من المستشرقين والذين كان لهم نتائج في هذا الميدان لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، ومع ذلك فإن بحوثهم لم تكن ناضجة، ومناهج بحثهم لم تكن علمية، ويمثل ذروة هذه الدراسة كتابات (شاخت) التي أصبحت من المصادر الأساسية لكتّاب الغرب بل ولكثيرين من كتاب الشرق أيضًا. وهؤلاء قاموا بأخطر دور في تاريخ البحث العلمي فيما يتعلق بالحديث النبوي وما يتصل به من موضوعات ومن ثم وجهت سهام الطعن إلى السنة النبوية من قبل مختلف الأشخاص ومن الزوايا المتعددة , وتناول كل فريق منهم جانبًا من جوانبها المختلفة ويمكن إجمال ذلك في النقاط التالية:
1- فمنهم من فسر السنة بمعنى (الأمر المجتمع عليه في الأوساط العلمية) وأنه ليس معناها سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
2- ومنهم من طعن في حجية السنة النبوية وقيمتها التشريعية.
3- ومنهم من ادعى أن الأحاديث النبوية لا يمكن الاعتماد عليها، لأن كتابتها تأخرت إلى قرن أو قرون، وربما تكون الذاكرة قد ضعفت في نقلها الأحاديث، وقصرت في الحفاظ عليها خلال هذه الفترة الطويلة.
4- ومن المستشرقين من شك في الأسانيد وقيمتها العلمية, ومنهم من أثار غير ما ذكرنا من الشبهات والأوهام (1) .
ولقد تجمع جل هذه الأفكار فتجسدت في كتابات (شاخت) الذي اكتشف بعد بحث مضن أنه ليس هناك حديث واحد صحيح وخاصة الأحاديث الفقهية وأنها في الواقع ـ على حد زعمه ـ كلام علماء المسلمين من القرن الثاني والثالث الهجريين وأقاويلهم وضعت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم زورًا وبهتانًا. ونظرًا لما أثير حول السنة النبوية من اعتراضات، وما بذر في طريقها من تشكيكات، أصبح البحث في الأحاديث النبوية ودواوينها أمرًا لازمًا وواجبًا محتمًا، لأن الإسلام وحضارته ومستقبله يقوم على هذا الأساس.
ونود أن نشير هنا إلى أننا لا ننكر وجود كثير من الأحاديث الموضوعة المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك لم يكن في يوم من الأيام خافيًا على علماء المسلمين في مختلف العصور ولكن الأمر الذي لا شك فيه أيضًا أن علماء المسلمين الذين اهتموا بجمع الحديث النبوي ولم يفرطوا فيه إطلاقًا , في ضرورة التدقيق الذي لاحد له في رواية الحقائق، فقد وضع القرآن أمامهم أهم قاعدة من قواعد النقد التاريخي، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (2) .
__________
(1) راجع: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه. ج1 ص (ل) ، د. محمد مصطفي الأعظمي، المكتب الإسلامي، سنة 1405 هـ 1985 م
(2) سورة الحجرات: الآية 6(7/2227)
وتتمثل هذه القاعدة في أن أخلاق الراوي تعد عاملًا هامًّا في الحكم على روايته، وقد أفاد المسلمون إفادة عظيمة من هذه القاعدة وطبقوها على رواة الأحاديث النبوية، وقد كان تطبيق هذا المنهج النقدي على رواة الأحاديث هو الذي تطورت عنه بالتدريج قواعد النقد التاريخي (1) .
إن الجهود التي بذلها العلماء للعناية بالحديث إنما كانت امتدادًا لجهود الصحابة رضوان الله عليهم في توثيق السنة والعناية بها، وحفظها من كل شائبة.
فقد تلقى الصحابة الكرام السنة على أساس أنها جزء من الدين الذي يدينون به، ففي القرآن الكريم الحث على طاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتحذير من مخالفته، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2) .
وقد أحَسَّ الصحابة بالحاجة الملحة إلى أخذ السنة والعناية بحملها وصيانتها وحفظها وتسليمها إلى من بعدهم من الأجيال، وحرصوا على عدم الغلط في الأخذ، وفي الأداء، لأنهم أدركوا خطورة الزيادة أو النقصان على حديث رسول الله القائل: ((من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده في النار)) (3) لهذا جدوا غاية الجد وأخذوا بكافة الوسائل التي تحقق لهم أخذ السنَّة أخذًا صحيحًا، وأداءها أداء سليمًا، لا تبديل فيه ولا تغيير، ولا زيادة فيه ولا نقصان. ومن هذه الوسائل.
1- الحرص على سماع الحديث.
2- التثبت في الرواية أخذا أو أداء:
وكانت لهم وسائل متعددة في التثبت من الرواية من أهمها:
(أ) المقارنة: فلقد كان أبو بكر أول من احتاط في قبول الأخبار، وخير شاهد على ذلك ميراث الجدة، وتثبته في قبول الخبر الذي ورد بشأنها (4) , وسن عمر للمحدثين التثبت في النقل (5) .
(ب) طلب إعادة الحديث مع الفاصل الزمني.
(ج) الرجوع إلى مصدر غائب: روى نافع قال: قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ((من تبع جنازة فله قيراط من الأجر)) فقال ابن عمر: أكثر علينا أبو هريرة، فبعث إلى عائشة فسألها، فصدقت أبا هريرة. فقال ابن عمر: (لقد فرطنا في قراريط كثيرة) (6) .
__________
(1) د. محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام: ص 160 وما بعدها
(2) سورة النساء: الآية 80
(3) متفق عليه، البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ 1/ 35 ـ 36؛ ومسلم، المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: 1/ 10
(4) تذكرة الحفاظ: 1 /2
(5) تذكرة الحفاظ: 1 /2
(6) متفق عليه، أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب فضل الجنائز: 2/ 89؛ ومسلم واللفظ له، كتاب الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها: 1/ 653(7/2228)
(د) الرجوع إلى المصدر الأول، وهو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ (1) .
(هـ) الإقرار: عن سماك عن جابر بن سمرة قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ((إن بين يدي الساعة كذابين)) قال: فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ (2) قال نعم.
(و) المواجهة: وهي أن الصحابة رضي الله عنهم كان إذا بلغهم حديث عن واحد منهم وشكوا فيه ذهبوا إليه واستيقنوا من روايته للحديث، والأمثلة على ذلك كثيرة (3) .
فهذه الآثار معلم واضح على تحري الصحابة، وما كانوا عليه من التثبت والتدقيق في قبول الأخبار صونًا لها من التحريف، وصيانة لها من التبديل، وليس في تمحيصهم للرواية وتشددهم في قبولها ما يفيد أنهم كانوا يكذّبون ناقل الحديث بل كانوا يخشون الخطأ في النقل، والغلط في الحفظ، والوهم في الضبط، فلا يؤدي الحديث على وجهه (4) .
وتسلم الراية من بعدهم التابعون وأتباعهم، وواصلوا جهد من سبقهم، رواية وحفظًا وتوثيقًا، فلسكوا ذات السبيل واستقاموا على المنهج نفسه، وأضافوا ما توصلوا إليه من دراساتهم وبحوثهم مما اقتضاه المقام وأوجبته الحال، فعنوا بالإسناد الذي يقوم عليه بنيان الحديث، ووقفوا على أحوال الرواة عدالة وضبطًا، وتكلموا فيهم وبينوا أمرهم، ووضعوا شروطًا للتحقق من استقامة الرواة وضبطهم، ودرسوا أحوال المروي ونظروا في ضروب التلقي والتحمل وكيفية الأداء، واتجهوا إلى معرفة علل الأحاديث الخفية والبينة، وميزوا الأحاديث الصحيحة من السقيمة وكشفوا انتحالها وزيفها فاستقام لهم المنهج الذي حفظ من أي تبديل أو تحريف (5) . كما وضع علماء الحديث شروطًا للراوي أجملها الإمام الشافعي بقوله: (ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة (الواحد) حتى يجمع أمورًا، منها: أن يكون من حدَّث به ثقة في دينه، معروفًا بالصدق في حديثه، عاقلًا لما يحدث به، عالمًا بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، حافظًا إن حدث من حفظه، حافظًا لكتابه إن حدث من كتابه، إذا شرك أهل الحفظ وافق حديثهم , بَرِيًّا من أن يكون مدلسًا ـ يحدث عمن لقي ما لم يسمع منه. ويحدث عن النبي ما يحدث الثقات خلافه عن النبي ـ ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهي بالحديث موصولًا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو إلى من انتهي به إليه دونه) (6) .
__________
(1) انظر: صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ 8/ 179 بشرح النووي
(2) أخرجه مسلم , كتاب الفتن وأشراط الساعة: 18/ 45 بشرح النووي
(3) راجع: ما أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ 8/ 179 بشرح النووي. والسنن الكبرى، للبيهقي، كتاب البيوع، باب تحريم التفاضل بالجنس الواحد ممن يجري فيه الربا مع تحريم النَّساء: 5/ 279
(4) أصول منهج النقد عند أهل الحديث: ص 47، عصام أحمد البشير، مؤسسة الريان للطباعة والنشر، بيروت، ط1، سنة 1410 هـ 1989 م
(5) أصول منهج النقد عند أهل الحديث: ص 56، عصام أحمد البشير، مؤسسة الريان للطباعة والنشر، بيروت، ط1، سنة 1410 هـ 1989 م
(6) الرسالة: ص 370ـ371، للإمام الشافعي.(7/2229)
وإذا كانت الحجج قد قامت على صحة الأحاديث النبوية فإن هؤلاء المنكرين المبطلين مطالبون بأن ينقضوا هذه الحجج أولًا، ثم يؤكد مزاعمهم بأدلة وبراهين وما هم بمستطيعين هذا، ولا هم بقادرين على ذلك، وقد غبروا في هذه المحاولات السنين وراء السنين، وتطاول زمن الحقد بهم فعجزوا وراحوا يتخبطون في غير هدى، لكنها الرغبة الملحة في تشويه المصدر الثاني للإسلام وهو السنة النبوية المشرفة كي لا يواجهوا بجيل جديد من المسلمين يحسن التمسك بالسنة المطهرة، فينصر الله بهم دين الإسلام، ويحسن إقامة الحق والميزان، ويزرع العدل والإحسان في البشرية كلها.
وهكذا لم يصل المستشرقون إلى ما يريدون من زعزعة اعتقادات المسلمين وخلخلة تمسكهم بإيمانهم وسنة نبيهم، وقد ردد بعض من المسلمين بعض الأفكار الاستشراقية (1) ولكنها لم تجد أيضًا آذانًا صاغية من المسلمين.
__________
(1) د. مصطفي السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 196(7/2230)
3- اعتماد ما جاء في كتب السيرة:
يعتمد جمهرة المستشرقين من أعداء الإسلام في تحرير أبحاثهم عن الشريعة الإسلامية على ميزان غريب بالغ الغرابة في ميدان البحث العلمي، فمن المعروف أن العالم المخلص يتجرد عن كل هوى وميل شخصي فيما يريد البحث عنه ويتابع النصوص والمراجع الموثوق بها، فما أدت إليه بعد المقارنة والتمحيص كان هو النتيجة المحتمة التي ينبغي عليه اعتقادها.
ولكن أغلب هؤلاء المستشرقين من مسيحيين ويهود يضعون في أذهانهم فكرة معينة يريدون تصيد الأدلة لإثباتها، وحين يبحثون عن هذه الأدلة لا تهمهم صحتها بمقدار ما يهمهم إمكان الاستفادة منها لدعم آرائهم الشخصية، وكثيرًا ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئية ومن هنا يقعون في مفارقات عجيبة لولا الهوى والغرض لربأوا بأنفسهم عنها، ومن الأمثلة على ذلك:
1- ما زعمه المستشرق (جولد تسيهر) بأن الحديث في مجموعه من صنع القرون الثلاثة الأولى للهجرة وليس من قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وادعى أن أحكام الشريعة لم تكن معروفة لجمهور المسلمين في الصدر الأول من الإسلام، وأن الجهل بها وبتاريخ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لاصقًا بكبار الأئمة، وقد حشد لذلك بعض الروايات الساقطة المتهافتة، من ذلك ما نقله عن كتاب الحيوان للدميري من أن أبا حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ لم يكن يعرف هل كانت معركة بدر قبل أحد أم كانت أحد قبلها (1) .
وهذا الكلام يرده أقل الناس معرفة بالتاريخ، فأبو حنيفة وهو من أشهر الأئمة في الإسلام الذين تحدثوا عن أحكام الحرب في الإسلام حديثًا مستفيضًا في فقهه الذي أثر عنه، وفي كتب تلامذته الذين نشروا علمه كأبي يوسف ومحمد، ويستحيل على العقل أن يصدق بأنه كان جاهلًا بوقائع سيرة الرسول ومغازيه وهي التي استمد منها فقهه في أحكام الحرب.
__________
(1) د. مصطفي السباعي: الاستشراق والمستشرقون، ما لهم وما عليهم: ص 44، المكتب الإسلامي(7/2231)
ويكفي أن نشير هنا إلى كتابين في فقهه في هذا الموضوع يعتبران من أهم الكتب المؤلفة في التشريع الدولي في الإسلام.
أولهما: كتاب الرد على سير (1) الأوزاعي لأبي يوسف رحمه الله تعالى.
ثانيهما: كتاب السير الكبير لمحمد رحمه الله، وقد شرحه السرخسي، وهو من أقدم وأهم مراجع الفقه الإسلامي في العلاقات الدولية، وقد طبع أخيرًا تحت إشراف جامعة الدول العربية.
ولا يخفى أمر هذين الكتابين على (جولدتسيهر) وكان بإمكانه لو أراد الحق أن يعرف ما إذا كان أبو حنيفة جاهلًا بالسيرة أو عالمًا بها من غير أن يلجأ إلى رواية (الدميري) في (الحيوان) , وهو ليس مؤرخًا , وكتابه ليس كتاب فقه ولا تاريخ، وإنما يحشر فيه كل ما يرى إيراده من حكايات ونوادر تتصل بموضوع كتابه من غير أن يعني نفسه البحث عن صحتها.
فقد أعرض (جولدتسيهر) عن كل ما دون عن تاريخ أبي حنيفة تدوينًا علميًّا ثابتًا، واعتمد رواية مكذوبة يردها طالب العلم المبتدئ في الدراسة.
وقد دعم (جولدتسيهر) بهذه الرواية المكذوبة ما تخيله من أن السنة النبوية من صنع المسلمين في القرون الثلاثة الأولى.. إلى غير ذلك من الأمثلة التي اعتمد فيها المستشرقون على روايات ضعيفة وردت في كتب السيرة وكتب الأدب، للتشكيك في الإسلام، وتشويه السنة النبوية، وسيرة المصطفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (2) .
إن كتابة السنة النبوية، وأحداث السيرة قد تأخر قليلًا، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهي عن هذه الكتابة حتى لا يختلط بالقرآن الكريم غيره، ولقد حاول المنافقون وأعداء الإسلام أن ينفذوا من خلال ذلك لتحقيق أحلامهم بهدم الإسلام من داخله، فاختلقوا أقوالًا، ونسبوها إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففطن إلى ذلك العلماء وبدأوا يكتبون السنة النبوية ويمحصون رواياتها بدقة بالغة.
أما التاريخ الإسلامي، وأحداث السيرة فبدأ المسلمون في تدوينه في منتصف القرن الثاني للهجرة، واكتفي المؤرخون بجمع الأخبار التي يسمعونها في عصرهم بجانب ما يجدونه من المخطوطات، واعتبروا أن الأمانة العلمية تقتضي كتابة ما سمعوه، ولو كان فيه أشياء لا يصدقها الإنسان، لأنهم على يقين أن المسلمين لا يأخذون هذه الروايات دون تمحيصها ومعرفة الصحيح من السقيم والمكذوب، طبقًا لقواعد الجرح والتعديل التي كانت سائدة، وهذا ما اعتذر عنه الطبري عما نقله من أخبار عن بعض الماجنين، حيث نبه أنه نقل ما سمع من شناعات لتخضع للتحقيق والتمحيص بمعرفته أو بمعرفة من بعده من المحققين، وهذا ما شرع فيه ابن العربي وابن خلدون.
__________
(1) راجع مزيدًا من التفصيل في كتاب السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 385 وما بعدها
(2) الغزو الفكري للتاريخ والسيرة، سالم علي البهنساوي: ص 7 وما بعدها، دار القلم بالكويت، ط1، 1406 هـ(7/2232)
إن بعض أتباع الفكر الغربي قد حاولوا استغلال هذه الأكاذيب لخدمة مذاهبهم، وتقديم السيرة وأحداثها وكذلك الأحاديث التاريخية، بصورة تطوع الإسلام لهذه النظم، بل منهم من صرف الأحداث ومعاني بعض النصوص في القرآن والسنة ليخدم مذهبه (1) . كما أن بعض كتب الأدب التي تحوي هذه الشناعات قد ترجمت إلى معظم لغات العالم، ليقدم صورة سيئة عن تاريخ الإسلام، وتصور أمراء المؤمنين في مجالس الخمر، وتحت تأثير المؤامرات النسائية، وغيرها، حتى أصبحت أسماء بعضهم عنوانًا للفحش والترف والانحطاط، ولقد تلقف بعض المثقفين هذه الأخبار وألفوا كتبًا، وهي تسيء إلى الإسلام والمسلمين، ومنهم من يدرك ذلك ومنهم من لا يدركه. إن السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي ترجمة عملية لعقيدة الإسلام، ولهذا عندما كتب هذا التاريخ بأيدي المستشرقين أو تلاميذهم، شاب هذه الدراسة أخطاء، ويرجع ذلك إلى أمرين:
الأول: أن هؤلاء لا يؤمنون بالإسلام وقيمه ومبادئه، ففسروا جهاد المسلمين وأعمالهم تفسيرًا نابعًا من عقيدة هؤلاء الكتاب عن القرآن والسنة النبوية.
والثاني: أنهم اعتمدوا على ما جاء في كتب السيرة من روايات ضعيفة ومكذوبة، ومن مصادرهم كتب الأدب مثل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وغيره من المصادر التي لم يوثقها أهل العلم.
ولقد استفاد خصوم الإسلام من عدم تحقيق روايات كتب السيرة والتاريخ، فنقلوها كما هي، ونسبوها إلى المؤرخين، ليضعوا عليها جملة من الأكاذيب، فمثلًا ينقل الطبري عن أبي مخنف خبرًا عن التحكيم، ثم نقله عنه ابن مسكون، وكذا ابن الأثير، ثم ابن كثير، وابن خلدون، ويخيل للقارئ أن الخبر قد رواه ستة من الرواة، وورد في ستة مصادر تاريخية، وهو في الحقيقة قد رواه شخص واحد وهو أبو مخنف الأزدي، ومصدر واحد هو الطبري، وهذا المصدر قد نبه صاحبه أنه نقل ما سمع من صحيح وسقيم للأمانة العلمية.
__________
(1) انظر: التاريخ الكبير، للبخاري: 1/ 252(7/2233)
وقد يخيل إلي القارئ، أن الراوي أبا مخنف الأزدي هو الصحابي الجليل مخنف بن سليم بن الحارث الأزدي (1) . الذي كان أميرًا على أصبهان من قبل الإمام علي رضي الله عنه، وقد روى له أصحاب السنن الأربعة (2) , ولكن بالبحث الدقيق والعميق يتضح غير ذلك، فأبو مخنف الأزدي يروي عن التابعين، فهو ليس من طبقة الصحابة، واسمه لوط بن يحيى، ويكنى أبو مخنف الأزدي، وهو حفيد الصحابي الجليل سالف الذكر، وهذا الحفيد أغفله المؤلفون وعلماء الرجال، فلم يرد اسمه ضمن الرواة الثقات أو الضعفاء (3) , بل تركه أبو حاتم لأنه ليس من الثقات، فلا يجوز والحال هذه توثيق روايته.
كما اعتمد أعداء الإسلام في حربهم للقرآن والسنة والإساءة إليهما على كتب الأدب؛ لقد ألف الأدباء المعاجم والكتب خلال العصر العباسي، وذلك لينالوا العطاء من الأمراء واتخذوا من الخلافات والأخبار المتناقضة سبيلًا لتسلية الناس، ولهذا اخترعوا القصص والروايات، لتكون مادتهم في التسلية، فأساءوا إلى أهل الفضل والتقوى من علماء المسلمين، فمثلًا تضمن كتاب البيان والتبيين للجاحظ كثيرًا من الخطب المنسوبة إلى علي، وإلى معاوية، وفيها من التجريح وبذاءة اللسان ما يعف عنها السفهاء فضلًا عن كبار الصحابة رضي الله عنهم.
وفي مجال الأدب، نجد هناك من لازال يعتبر كتاب (الأغاني) مرجعًا وكتاب (ألف ليلة وليلة) على الرغم من محاذير الاعتماد على مثل هذا النوع من التأليف أو غيرها من كتب المحاضرات، والمسلم في حاجة دائمة إلى التذكير بمصادر هذه الكتب, ومراجعة أمر الذين قاموا على كتابتها وإعدادها، فمؤلف الأغاني رجل تصفه المصادر بالإسفاف والاضطراب، وقد وصفت خلقه وصفًا يرده عن أن يكون مصدرًا أمينًا، وكان على غير مفهوم الإسلام الصحيح، وكان من الباطنية الذين يحقدون على الإسلام، وله جوانب حسية تبعده عن استواء الطبيعة، فضلًا عن أن مصادره أيضًا قد اتهمت (4) .
__________
(1) راجع: تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني: 1/ 78؛ وتقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني: 2/ 236
(2) انظر: العواصم من القواصم: ص 163، والمصادر السابقة
(3) سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية: ص 10
(4) شرح إحياء علوم الدين، المرتضى الزبيدي: 1/ 44(7/2234)
ويأتي بعد ذلك، كتاب (ألف ليلة وليلة) ، وكتاب (كليلة ودمنة) وهما كتابان فارسيان هنديان في الأصل، أضيف إلى الأول إضافات كثيرة مما يرويه الرواة من أساطير وأقاصيص وخرافات ليست هي عملًا محققًا، ولا علمًا موثقًا، فكيف يمكن أن تكون مصدرًا يستند إليه في فهم الحقائق والتاريخ؟!
ومن المصادر التي تحتاج إلى انتباه ويقظة: كتاب الإمامة والسياسة، وقد وصفه السيد محب الدين الخطيب بأنه كتاب لقيط مجهول النسب، وأن مؤلفه (ابن قتيبة) برئ منه، لأن المصادر التي ترجمت له لم تشير إلى نسبة هذا الكتاب له، كما أن أسلوبه يخالف أسلوب ابن قتيبة في سائر كتبه.
وكذلك كتاب (المضنون به على غير أهله) ، المنسوب إلى الإمام الغزالي، فهو مكذوب عليه، وقد صحح ذلك السيد المرتضى الزبيدي في شرح الإحياء (1) , وقد اشتمل الكتاب المكذوب على الغزالي على التصريح بقدم العالم، ونفي علم القديم بالجزئيات، وهو ما يخالف آراء الغزالي في صفوة كتبه.
ومن أخطر المصادر التي اعتمد عليها الغزو الفكري كتاب (أنساب الأشراف) للبلاذري، فهذا الكتاب طبع منه جزء في ألمانيا عام 1883م، ثم تولى اليهود طبع جزء آخر عام 1936 م طبع في أورشليم، وقدم له بالعبرية، ومن هنا جاءت شبهة هذا الكتاب المضطرب الذي اعتمد عليه بعض الباحثين أمثال طه حسين، في القول بأن شخصية (عبد الله بن سبأ) شخصية وهمية، وهذا يتفق مع مخططات اليهود في إنكاره والتهوين من شأنه، وهو ما جرى على القول به مؤلف الفتنة الكبرى (2) .
__________
(1) راجع: سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية: ص 15
(2) سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية: ص 14(7/2235)
أما كتاب (رسائل إخوان الصفا) فهو جدير بوقفة متأنية: ذلك أن هذا الكتاب قد خدع الكثيرين، وحاول دعاة التغريب إسباغ صورة من البطولة والكرامة على موضوعه وكاتبه، وهم ما زالوا يرددون القول عن أهمية هذه الرسائل هادفين إلى تصوير الفكر الإسلامي وهو مكبل بقيود الإغريق، وسلاسل اليونان، وأن هذه الرسائل كانت عصارة هذا التأثير البالغ.
وقد أكد الباحثون بأن فلسفة إخوان الصفا ليست مستمدة من المصادر الإسلامية الأصلية، ولكنها مستمدة من فلسفات اليونان من ناحية، وفلسفات المحبوس وعبدة النيران والكواكب، وجماع الزرادشتية والمانوية والمزدكية، وهم ينظرون إلى الأنبياء نظرة ملحدة فيرونهم كالحكماء، وقد ادعوا أنهم إنما يريدون إعادة الوحدة إلى المسلم والنصراني والمجوسي واليهودي والأفلاطوني والمشّائي والفيثاغوري، وهم في الأغلب يمجدون المجوسية ويجعلونها أفضل الأديان، ومن هنا يبدو خطرهم وإفسادهم من حيث إن الإسلام هو الدين الخاتم دين التوحيد الخالص، المحرر من الوثنيات القائم على النص الموثق (1) .
الحق أن المستشرقين ودعاة التغريب هم الذين ألحوا على هذه الكتب وأولوها الاهتمام، وأعادوا طبعها وأذاعوا بها، وحرضوا أولياءهم من التغريبيين أن يتحدثوا عنها، وأن يحرضوا الباحثين على اعتمادها مراجع وذلك لأنها تفسد الحقائق وترسم صورة غير صحيحة ولا صادقة للمجتمع الإسلامي.
__________
(1) راجع: الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: ص 131 وما بعدها، مرجع سابق.(7/2236)
4 ـ النظريات لبعض الفرق الإسلامية الشاذة:
لقد اعتمد الغزو الفكري على ركائز متعددة منها ما هو ظاهر، ومنها ما يخفي أمره على كثير من المسلمين، وسوف أكتفي بذكر هذه الركائز والإشارة إليها في إجمالها، ولعل في ذكرها ما يكشف لجمهور المسلمين عن أعدائهم وينير أمامهم الطريق، طريق العمل الجاد للإسلام، حتى تعود الأمة الإسلامية إلى وضعها الصحيح بين أمم الأرض , قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) .
وهذه الركائز منطلقات خطرة لشن الغارات المتتالية على الإسلام فكرًا وسلوكًا، وعلى المسلمين أفرادًا وهيئاتٍ، وعلى بلاد المسلمين وخيراتهم في الحاضر والمستقبل؛ وهذه الركائز بدت تتلخص في الآتي:
1- الصهيونية أو اليهودية
2- التبشير بالمسيحية في المسلمين أو التنصير وتلك هي التسمية الأكثر دقة.
3- الاستعمار المتحالف مع الصهيونية والتنصير.
4- المبادئ والنظريات المعادية للإسلام مثل:
(أ) الديمقراطية.
(ب) الشيوعية.
(ج) القوميات بأنواعها العديدة.
5- الفلسفات الهدامة التي تحركها وتتعاون معها في أغلب الأحيان ركيزة أو أكثر من تلك الركائز التي أشرنا إليها آنفا، وهذه الفلسفات أو المذاهب هي:
(أ) الوجودية.
(ب) الفوضوية.
(ج) القاديانية أو الأحمدية.
(د) البابية والبهائية.
(هـ) الماسونية والروتاري وغيرهما.
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 110(7/2237)
ولئن بدت هذه الركائز في نظر البعض متخاصمة، فقد يكون هذا صحيحًا حينًا وباطلًا وخداعًا حينًا آخر، ولكن الأمر الذي لا تختلف فيه ركيزة مع أخرى هو العداء الشديد للإسلام والمسلمين، والعداء الظاهر حينًا والمستتر حينًا آخر.
والعداء الذي تشنه علينا أجهزة هذه الركائز ورجالها غير المسلمين حينًا، والذي تشنه علينا أجهزة ورجال مسلمين في بعض الأحيان (1) وقد حرص أعداء الإسلام من المستشرقين ومن تأثر بفكرهم من المسلمين على التنويه ببعض الفرق الإسلامية الشاذة، ونحاول أن نشير هنا إلى بعض هذه الفرق، فمنها على سبيل المثال:
1- القرامطة: اهتم المستشرقون بالقرامطة وصوروهم بأنهم طلاب العدل والإصلاح، وهم الذين عجزوا عن أن يحققوا أي منهج يمكن أن يوصفوا به على أنهم دعاة حق حين امتلكوا زمام الحكم في القرن الرابع الهجري , بل انكشف باطلهم وزيفهم، وظهرت حقيقتهم أنهم صنائع لليهود وانقضوا على الدولة الإسلامية بالتآمر والتعاون مع أعداء المسلمين وخصومهم (2) فقد تعددت أبحاث في هذا العصر تحاول أن تصف حركة القرامطة بأنها حركة العدل الاجتماعي في الإسلام أشار إلى هذا الدكتور طه حسين في "مجلة الكاتب المصري" التي كان يصدرها لحساب اليهود في أواخر الأربعينيات وقد أضاف إليها حركة الزنج أيضًا وتحدث عن هذا الكاتب الفرنسي جارودي - قبل إسلامه - حين ربط بين نحلة القرامطة وبين العدالة الاجتماعية في الإسلام.
وقد كتب بعض أهل العلم في دحض هذه الشبهات المفتراة في مقدمتهم الدكتور محمود قاسم الذي قال: "إن دعوة القرامطة لم تكن تسعى في الحقيقة إلى تحقيق كرامة الإنسان وتمهد لاحترامها بل كانت حركة انفصالية تمت في عصر تحلل الدولة العباسية إلى دويلات , فكانت حركة القرامطة استمرارًا لثورة الزنج التي قامت قبل منتصف القرن الثالث الهجري , وكانت نوعًا من الأخذ بالثأر , وقد حرص هؤلاء العبيد الذين حرروا أنفسهم على إذلال العرب عن طريق استرقاقهم والتنكيل بهم, أما حركة القرامطة التي قامت في الشمال الغربي لبلاد العراق، فقد اتخذت مركزا لها في منطقة الكوفة، وفي بعض بلاد الشام وفي سواحل الجزيرة العربية المطلة على الخليج العربي، ثم استقرت آخر الأمر في البحرين) (3) .
__________
(1) قارن بما جاء في: أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص25، مرجع سابق
(2) سموم الاستشراق والمستشرقين: ص54
(3) سموم الاستشراق والمستشرقين: ص 56(7/2238)
2- الباطنية: بذل المستشرقون جهودًا في إحياء التراث الباطني المجوسي مستهدفين أصالة الفكر الإسلامي، ويبدو ذلك واضحًا في تركيزهم على إحياء كل المخطوطات التي تحمل هذه السموم, وخاصة ما يتصل بالإلحاد والإباحية، وما يتصل بوحدة الوجود والحلول والاتحاد، والمجون.. أمثال شعر بشار بن برد، وأبي نواس، وكتب ابن سبعين وغلاة الرافضة والإسماعيلية والفاطميين.
3- ثورة الزنج: ومن ناحية أخرى فقد استغل دعاة التفسير المادي للتاريخ بعض المواقف الهدامة في التاريخ الإسلامي، لمحاولة وصفها بأنها حركة تقديمية أو ثورية، ويولون (ثورة الزنج) نفس الاهتمام (بحركة القرامطة) , وقد جعلوا من (علي بن محمد) بطلًا، وهو الذي تجمع المصادر على عدم صحة ما ادعاه من نسب علوي، وقد خدع الناس بهذا النسب، وجعل من البصرة مركز نشاطه فجمع حوله (الزنج) في البصرة في ثورة عارمة , أشعل نارها سنة 255 هـ , وادعى خلال ذلك أنه المهدي المنتظر، كما ادعى بعد ذلك النبوة. ولا يمكن لمنصف ولا لمثقف أن يؤمن بأن مثل ثورة الزنج أو فئة القرامطة يمكن أن تمثل منهجًا إسلاميًّا أصيلًا.
وكانت لهم تفسيرات باطنية للقرآن والحديث، وقد لعب اليهود وراء هذه الحركات، وكانت الإسرائيليات مادة فكرهم, ويذهب بعض المؤرخين إلى أن القرامطة وغيرها من الدعوات الباطنية يهودية الأصل والفروع (1) .
4- رسائل إخوان الصفا ودعواهم: سبق الحديث عن إخوان الصفا ورسائلهم في الصفحات الماضية، ولكن الذي أود أن أنبه عليه هنا هو أن كثيرًا من الباحثين يرددون الإشادة برسائل إخوان الصفا على نحو يوحي بأنها جزء من التاريخ الثقافي الإسلامي، وقد أولى المستشرقون والمبشرون والدكتور طه حسين، مثل هذه الأعمال المشبوهة اهتمامًا، وأعادوا طبعها ونشرها، ودفعوا كثيرًا من الباحثين المسلمين الذين يسافرون إلى الغربـ على حساب بعثات التبشير والاستشراق إلى دراستها، وإلى تبني وجهة نظرهم فيها، واستغل ذلك لخدمة أهواء الفكر الليبرالي والماركسي على السواء.
وقد كشف الباحثون المنصفون فساد هذه الدعوى وأن العلاقة بين إخوان الصفا والباطنية وثيقة الصلة، حتى قال المستشرق كازنوفا: (إنني على أتم الثقة من أن آراء إخوان الصفا هي برمتها آراء الإسماعيلية , ومحور هذه الآراء يتصل بوحدة الكون أي وحدة الوجود وما يتصل بها من الاتحاد والحلول مما يتنافي مع مفهوم الإسلام الصحيح) (2) .
__________
(1) تاريخ الفرق الإسلامية، د. محمود محمد مزروعة: ص 184، دار المنار، ط1، 1412 هـ ـ 1991 م. وقارن بما جاء في الملل والنحل، للشهر ستاني: 1/ 191، دار المعرفة، بيروت 1402 هـ ـ 1982 م
(2) راجع مزيدًا من الشبهات في: أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 25 وما بعدها(7/2239)
ومن الأساليب التي سار عليها المستشرقون وهي أنهم كانوا يجمعون الشبهات المختلفة ويؤلفون بينما لإعطائها صورة كاملة. ومن الأمثلة على ذلك ما قام به المستشرق الألماني (ولهم هورنباخ ـ الأستاذ في جامعة بون بألمانيا) من جمع قطع ونتف بعض الأقوال من كتاب (الإصابة) للحافظ ابن حجر العسقلاني ثم نشرها على أنها كتاب (الردة) لابن حجر الذي ألفه أبو زيد ابن الفرات المتوفي سنة 237 هـ وهو فارسي الأصل. وقد ضاع هذا الكتاب، فاشار ابن حجر إليه في بعض المواضع، فما كان من المستشرق (ولهلم) إلا أن جمع هذه القطع على أنها تراجم لأشخاص ارتدوا عن الإسلام، ولا يقوم بمثل هذا العمل إلا مغرض صاحب هوى، لأنه يخالف منهج البحث العلمي السليم , إلى غير ذلك من الشبهات التي زعمها المستشرقون ولا أصل لها في الإسلام (1) .
5- القاديانية والبهائية: كما عمل أعداء الإسلام على تبني دعوات ضالة أخرى كالقاديانية والبهائية والادعاء بأنها حركات النهضة الإسلامية كذبًا وبهتانًا , واستعمالها لضرب الإسلام من الداخل، وتعمل القوى التغريبية جميعًا ممثلة في الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي عن طريق الصحيفة والثقافة والمدرسة إلى تبني هذه الحركات الهدامة , واحتضانها وخداع البلاد الإسلامية. ومن يراجع هاتين الدعوتين المبطلتين البهائية والقاديانية يعرف أنهما استهدفتا ضرب حركة اليقظة الإسلامية التي كانت قد قطعت مرحلة كبيرة في طريق التماس المنابع الأصلية وجوهر الإسلام بمفهوم التوحيد الخالص، وأن كلتا الحركتين قد نشأ في أحضان النفوذ الأجنبي، واستهدف ضرب الإسلام في أعظم قيمه الأساسية وهي فريضة الجهاد. وقد كشفت الأبحاث التاريخية عن علاقة أكيدة بين الدعوتين وبين الاستعمار والصهيونية والهندوكية (2)
__________
(1) المد الإسلامي في مطابع القرن الخامس عشر، أنور الجندي: ص 37، دار الاعتصام
(2) راجع: المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف: ص 346 وما بعدها، دار الثقافة للطباعة، ط1 عام 1384 هـ ـ 1965 م مكة المكرمة(7/2240)
يقول العلامة أبو الحسن الندوي في كتابه (القادياني والقاديانية) : (لقد ظهرت الديانية القاديانية في آخر القرن التاسع عشر المسيحي في الهند بعد استقرار الحكم الإنكليزي فيها، وهي ثورة على النبوة المحمدية ـ على صاحبها الصلاة والسلام ـ وعلى الإسلام، ومؤامرة دينية وسياسية، إن وجد لها نظير في الخطر والضرر على الإسلام ففي الحركة الإسلامية الباطنية التي تولى كبرها عبيد الله بن ميمون القداح في القرن الثالث الهجري، وأشك أنها بلغت مبلغ الأولى ـ القاديانية ـ في أصالة الفساد ودقة المؤامرة ومعاداة الإسلام.
وتبنتها الحكومة الإنكليزية واحتضنتها وساعدتها العوامل الاجتماعية والسياسية والفكرية الكثيرة التي توفرت في عصر ظهورها , فانتشرت على بعدها من الإسلام، وأصبحت طائفة كبيرة يحسب لها الحساب، وأصبحت (قاديان) مركز دعوة ودعاية وسياسة يدين لها ويؤم شطرها بعض كبار المثقفين ـ الثقافة العصرية ـ ورجال الدولة، ولا يرى نشاطها إلا في المناظرات، وإثارة الشكوك والشبهات في المسلمين وتأييد السياسة الإنكليزية، ونشر الدعاية لعقيدتها الخاصة في الهند وخارج الهند) ثم قال في موضع آخر: (أطبق العلماء على تضليل القاديانيين وتكفيرهم , وأصبح ذلك كلمة اجتماع لم يشذ منها إلا شاذ , وأفتوا وألفوا في ذلك مؤلفات كثيرة , وأصدرت مركز الفتوى فتاوى صريحة بكفرهم وارتدادهم عن دين الإسلام , وأصدرت محكمة بهاولبور سنة 1935 م ـ بعد مناقشة طويلة دامت عامين كاملين واشترك فيها كبار علماء أهل السنة وكبار علماء القاديانية ـ حكمها بكفر القاديانيين، وعدم صحة نكاح المسلمة بالقادياني. اهـ (1) .
وقد انتقلت ثمار هذه الدعوة الهامة إلى أفريقية بين المسلمين هناك، فسمى القاديانيون هناك أنفسهم (أحمدية) تمويهًا على الناس وإيهامًا لهم بأنهم منتسبون إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينما الحق أنهم ينتسبون إلى غلام أحمد القادياني.
ولقد تطاول القاديانيون على مقام الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وكذلك تخبطوا في فهم القرآن الكريم، مما يدل على جهلهم وضلالهم (2) . فالقاديانية ركيزة من ركائز الغزو الفكري للإسلام والمسلمين حتى يومنا هذا.
__________
(1) راجع: الحافظ إحسان إلهي ظهير، القاديانية: ص 6، 7، 26، 28، 31، 32
(2) الحافظ إحسان إلهي ظهير، القاديانية:: ص 31، 32(7/2241)
6ـ البابية والبهائية: البابية والبهائية من المذاهب الخطرة والفلسفات المعادية للإسلام، والتي كان لليهود فيها يد طولى، وإن اختيار بلاد فارس ليفرخ فيها هذان المذهبان لم يكن عبثًا من المدبرين والكائدين للإسلام.
وأثر اليهود في الحركتين الخبيثيتين واضح، وذلك أن زعيم البهائية في فترة ما من تاريخها كان أحد حاخامات اليهود، ومنشأ البابية ـ هي أصل البهائية ـ أن الميراز على محمد الشيرازي أغواه يهوديان فأوهماه أنه سيكون له شأن وأدخلا في روعه أنه سيصبح منقذ الإنسانية، فنادى بما ينادى به اليهود، فأنكر البعث والجنة والنار، وقال بوحدة الوجود كما يقول اليهود، وأودع ذلك في كتابه (البيان) ، وصادفت دعوة الميرزا هوى في نفوس بعض الضالين من الفرس، فاغتر ميرزا بهذا وسمى نفسه (الباب) أي الطريق الوحيد الذي يوصل الإنسان إلى الله، وسميت الفرقة التي تبعته (بالبابية) ثم زاد غرور هذا المخدوع فادعى انه (النقطة) أي منبثق الحق وروح الله، وجعل الباب إليه أحد مريديه المخلصين له واسمه (حسين يسرويه) من خراسان (1) .
ولقد ألغى الباب الصلوات الخمس وصلاة الجمعة والجماعة إلا في الجنازة، وأباح نكاح الأخت من أخيها.
وفي مؤتمر برشت 1264 هـ 1847 م أعلن البابيون انسلاخهم عن الإسلام، وحاربوا الإسلام واللغة العربية، ودخلوا مع الحكومة في فارس في حروب ومنازعات أدت في النهاية إلى إصدار الحكم بإعدام الميرزا (النقطة) وخبا صوت هذه الفلسفة الضالة والمذهب المعادي للإسلام حينًا غير طويل من الزمان، ثم أخذ أتباعه يعملون في الخفاء والسرية ودخل فيها عدد كبير من اليهود.
وفي عام 1285 هـ 1867 م خرجت البابية من عكا باسم جديد هو البهائية نسبة إلى زعيمها الجديد ميرزا حسين علي المازندراني الذي يلقب (بهاء الله) .
وقد رعى اليهود ـ ولا يزالون يرعون ـ البهائية، ودفعوا إلى أقطار الأرض يؤيدونها بالفكر والمال، فأصبحت حركة (صهيونية أمريكية) ، وظهر ذلك جليًّا حينما توفي (شوقي رباني) حفيد البهاء، حيث اجتمع المجلس الأعلى للطائفة البهائية في إسرائيل، وانتَخَبَ صهيونيًّا أمريكيًّا اسمه (ميسو) ليكون رئيسًا روحيًّا لجميع أفراد الطائفة في العالم كله.
__________
(1) قارن بما جاء في الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا: ص 37(7/2242)
5ـ محاربة الفكر الإسلامي والدعوة إلى فصله عن جذوره:
كان للغزو الغربي المنظم المخطط، الذي تساندت فيه كل القوى الاستعمارية واستخدمت فيه كل الوسائل والأساليب، آثاره ونتائجه الخطيرة في حياة المسلمين، تلك الآثار التي بدأت تبرز وتتسع يومًا بعد يوم، ومن أخطر نتائج هذا الغزو الفكري شيوع التبعية الفكرية للغرب، والعبودية الذليلة لكل ما يصدر عن الفكر الدخيل من مبادئ وقيم ومناهج وأنظمة وأخلاق وتقاليد وأفكار ومفاهيم.
وكان من مظاهر هذه العبودية بروز أناس يدعون إلى اتباع الغرب في كل شأن من شؤون حياته الفردية والأسرية والاجتماعية، والمادية والروحية والثقافية.
وبرز من بين ظهراني المسلمين من يدعو ـ في صراحة حينا، وبالتواء أحيانًا ـ إلى إطراح الإسلام، وشريعة الإسلام، وحضارة الإسلام.
رأينا ذلك في الهند ورأيناه في تركيا ومصر وفي غيرها من بلاد العرب والإسلام، ورأينا بعض المسلمين في هذه البلاد من يقول لأمته: انسلخي من دينك وتاريخك وشخصيتك، حتى لا تستعبدي للأجنبي. وأي استعباد أشد وأدهي من انسلاخها من ذاتيتها، واتباعها لهذا الأجنبي نفسه، وذوبانها فيه؟ (1)
ولو كان هؤلاء دعاة التغريب مؤمنين حقًّا ما رضوا لأنفسهم ولا لأمتهم بالتبعية والانصهار في خصومها الطامعين فيها، ولو كانوا مسلمين حقًّا لرفضوا كل منهج غير منهج الإسلام، ولم يقبلوا أن يبيعوا دينهم وملتهم ليتبعوا ملة اليهود أو النصارى، فيرضوا عنهم ويثنوا عليهم.
وما أروع القرآن وهو يجلي هذا الموقف إذ يقول: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) .
وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (3) .
__________
(1) الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا: ص 38
(2) سورة البقرة: الآية 135
(3) سورة البقرة: الآية 120(7/2243)
لقد بذل اليهود والنصارى ومن شايعهما كثيرًا من الجهود لمحاربته وفصله عن جذوره، وكان ذلك وفق مخطط بعيد المدى، جرى تنفيذه مرحلة بعد مرحلة في دقة متابعة خطيرة, وقد ارتبط هذا المخطط بخيوط مختلفة منها الإرساليات التي استقدمت إلى الشرق واستقرت في بيروت والقاهرة واستانبول، ومنها فئة 1860 ومنها مناهج كرومر وليوتن ولاتيمري ودنلوب، ودراكور وزويمر وهانوتو ولورنس وجلوب من بعد (1) , وهي المناهج التي وضعت ووصفت من بعد بأنها أعمال التغريب، وأشار إليها هاملتون جب المستشرق البريطاني ومعه أربعة في بحث مستفيض ظهر تحت عنوان (وجهة الإسلام) عام 1930 م.
ولقد اشترك الاستعمار والصهيونية والنفوذ الغربي جميعًا في مخطط واحد يستهدف وضع الفكر الإسلامي العربي تحت النفوذ التغريبي ومحاولة غزوه وتدميره والتشكيك فيه، وإثارة الشبهات من حوله من أجل القضاء على الذاتية العربية الإسلامية والتهام هذه الأمة وإذابتها في بوتقة النفوذ العالمي الذي تسيطر عليه اليهودية التلمودية بعد أن استوعبت الفكر الغربي المسيحي واحتوته.
إن أخطر ما يدعونا إليه الغزو الثقافي هو (التبعية) , وإن أخطر ركائز الفكر الإسلامي هو الأصالة والتميز واستحالة الاندماج أو الذوبان أو الاحتواء في الفكر الأممي.
فالإسلام هوالنموذج المتميز بالتكامل من ناحية بينما الفكر الغربي يتسم بالتجزئة والانشطار، وهو الجامع بين العقيدة والفكر في وحدة لا تفصل، وهو الذي يعتمد على الوحي والنبوة ورسالة السماء أساسًا له، ثم يكون العقل وسيلة من وسائلة والعلم منهجًا يجري في مجراه.
__________
(1) راجع مخططات هؤلاء الدعاة في كتاب (الإسلام والثقافات العربية في مواجهة تحديات الاستعمار) أنور الجندي(7/2244)
ومن أخطر الوصايا التي تجاهلها المسلمون، والتي كانت بعيدة الأثر في حمايتهم من ضربات الغزو الفكري والتغريب، لو أنهم حرصوا على التمسك بها، هي دعوة القرآن لهم إلى (الحذر) من الأوهام والشبوهات التي حفل بها التاريخ القديم، وذلك بعد أن كشف القرآن عن زيفها وأبان وجه الحق في مختلف القيم التي طرحت، وخالفت كلمة الله، وتعارضت مع الفطرة والعقل.
ولو أن المسلمين تمسكوا بهذا التحذير لكفاهم ذلك عن كثير مما وقعوا فيه من محاذير، وقد بين القرآن الكريم محاولة الاحتواء في أكثر من موضع، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (1) .
وقال جل شأنه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) .
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} (3) .
كما حذر الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الوقوع في خطر العقائد الزائفة وأن الله قد ختم به النبوة والرسالة وأمر المسلمين بما أمرهم به القرآن الكريم من النظر في ملكوت السموات والأرض، كما حثهم على طلب العلم، وبين لهم أن أي علم نافع أوتيه المسلم فهو أحق الناس به.
لقد كان لإحياء الفكر البشري القديم آثاره البعيدة في إثارة الشبهات وإحياء الزندقة والإباحية، غير أن علماء المسلمين وأئمتهم قد واجهوا هذه الأزمة الخطيرة، ودحضوا الشبهات وأبانوا وجه الحق في الأمور كلها.
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 100
(2) سورة البقرة: الآية 109
(3) سورة النساء: الآية 44(7/2245)
وفي العصر الحديث حاول الاستعمار الذي دخل إلى بلاد المسلمين وهو يحمل معه التغريب والغزو الثقافي وأداتيهما التبشير والاستشراق، أن يعيد هذه الشبهات من جديد ويقدمها في صورة مذاهب وفلسفات.
ومن أبرز هذه المفاهيم المخالفة للفطرة المعارضة للعقل المختلفة مع رسالة الإسلام ومفهوم القرآن الكريم:
1- الدعوة إلى إنكار الغيب والبعث والجزاء والجنة والنار.
2- الدعوة إلى سقوط التكليف عن كل من وصل إلى معرفة الله.
3- عبادة قوى الطبيعة.
4- نظريات الفيض والإشراق والاتحاد والحلول.
5- دعاوى الروحية الحديثة وتحضير الأرواح.
6- مذاهب البهائية والماسونية.
7- دعوات الإقليمية كالفرعونية والفينيقية.
8- فصل الدين عن المجتمع والدولة.
9- طرح المفاهيم الوافدة في القومية والعدل الاجتماعي والقانون.
10- الدعوة إلى العالمية والأممية.
11- ادعاء التعارض بين العروبة والإسلام.
12- طرح النظرية المادية المنكرة لوجود الخالق.
13- الدعوة إلى التحلل والإباحية والحرية الدينية والأخلاقية (1) .
وهذه الدعوات كلها قد وجدت في غير بلاد المسلمين، ونشأت هذه الدعوات لا تعرف التوحيد، وأنها هي القاتل التي صرعت الأمم والحضارات، والإسلام جاء ليمحوها ويقيم للإنسانية منهجًا ربانيًّا في مصدره، إنسانيًّا في تطبيقه , يقوم على العدل والحق والإيمان بالله تعالى.
__________
(1) راجع: شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، أنور الجندي: ص 53، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1403 هـ ـ 1983 م(7/2246)
كما رسم الإسلام للحياة الدنيا طريقها الواضح إلى العمران في نطاق الأخلاق وإقامة المسؤولية الفردية، والالتزام الخلقي وربط الدنيا بالآخرة.
إن هدف أعداء الله هو (ذوبان الشخصية الإسلامية) وذلك بالقضاء على مقومات كيانها وعلامات القوة فيها، واحتوائها بأخلاق الضعف والانحلال والإباحة حتى لا تقوى على مواجهة التحديات.
ذلك أخطر أهداف العدو: بناء أجيال ذليلة ضعيفة، لا تؤمن بحقها، ولا تؤمن بربها، ولا تستطيع البقاء، ولا تصمد أما الخطر والتحدي.
إن إعادة بناء الفكر الإسلامي في إطار الإسلام وعلى قواعده الرئيسية من وحدانية الله، واستخلاف الناس في الأرض تحت حكم الله، إنما يمثل جوهر الأيديولوجية التي لم تتخلف طوال تاريخ الإسلام والتي لا يستطيع العرب والمسلمون أن ينحرفوا عنها.
لقد أثبت الفكر الإسلامي صلابته واستقلاليته وقدرته على البقاء فإنه في عديد من أزمانه لم يسقط ولم يتداع، ولم تضطرب أصول مقوماته، بل بقي محتفظًا بذاتيته في مواجهة الغزو
(1) .
إن محاربة الفكر الإسلامي وبذل الجهود المتتالية من أعداء الإسلام لفصله عن جذوره سوف تفشل وتتحطم على صرخة الإسلام، وذلك إذا ما تمسكنا بكتاب الله تعالى الذي رسم لنا الطريق المعبَّد بالأمن والاستقرار، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) .
إن الطريق الصحيح لمواجهة الغزو الفكري، هو طريق الشريعة الإسلامية والأخلاق الإسلامية، والعقيدة الإسلامية، وهو الطريق الذي يهدي إلى بناء الشخصية المؤمنة التي تبيع نفسها في سبيل الله، وتسترخص الموت والجهاد في سبيل نصرة الحق.
__________
(1) شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، أنور الجندي: ص 74، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1403 هـ ـ 1983 م
(2) سورة الأنعام: الآية 153(7/2247)
المحور الثالث
العلمانية والحداثة
أولًا: ـ اتجاهاتها الخطيرة في محاربة الإسلام.
ثانيًا: ـ الطريق الأنجح في دفع تحركاتهما العدوانية وردّ نشاطاتهما المتنوعة في المجالات الفكرية، والتعليمية والإعلامية
1- معنى العلمانية وأثرها في فكر المسلمين:
لفظ العلمانية ... قد تشعر الكلمة في اشتقاقها أنها تعني رفع شعار العلم، ومن ثم فلا تعارض بينها وبين الإسلام.. بل إنها إحدى وسائل الإسلام وبعض أهدافه.
وهو ما نحسب أنهم قصدوا إليه حين ترجموا معنى الكلمة في لغتها الأصلية.. ليقع المسلمون، في هذا الوهم (1) . فالعلمانية ترجمة خاطئة لكلمة (Secularism) في الإنجليزية، أو (Secularite) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ (العلم) ومشتقاته على الإطلاق. فالعلم في الإنجليزية والفرنسية معناه (Science) والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة (Scientism) (2) والنسبة إلى العلم هي (Scientific) أو (Scientifique) في الفرنسية.
والترجمة الصحيحة للكلمة هي (اللادينية) أو (الدنيوية) ، لا بمعنى ما يقابل الآخروية فحسب، بل بمعنى أخص هو: ما لا صلة له بالدين أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد، ومن ثم كانت العلمانية تعني اللادينية. فالعلمانية هي أول عناصر الاتجاه الليبرالي الديمقراطي الذي ساد حياة المسلمين بتأثير الاستعمار. وكان ذلك أخطر النتائج، وأعمق الآثار التي حفرها الاستعمار، وخلفها من بعده؛ عزل الإسلام عن الدولة, وعن توجيه الحياة العامة، وعن قيادة المجتمع.
وبعبارة أخرى: العمل على سيادة المفهوم الغربي لما يسمى دينًا، وما يسمى دولة، وتأكيد الفصل بينهما، حتى لا يعود في يوم قريب إلى الدين سلطانه، فيسيطر على الدولة ويوجهها.
يقول المستشرق الفرنسي (هانوتو) : (إن الإسلام دين وسياسة، وإن شعور المسلمين مبهم من حيث الجامعة السياسية أو الرابطة الوطنية، فالوطن عندهم هو الإسلام، وهم يقولون: إن السلطة مستمدة من الألوهية، فلا يجوز أن يتولاها إلا المسلمون) (3) .
ثم أشار (هانوتو) إلى نجاح فرنسا في فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، في تونس، وقال: (إنها قد استطاعت أن تحقق هذا الانقلاب العظيم بلباقة وحذق، دون أن تثير ضجيجًا أو تذمرًا، فتوطدت دعائم السلطة المدنية من غير أن يلحق بالدين مساس، وتسربت الأفكار الأوربية بين السكان بدون أن يتألم منها إيمان المحمدي (يعني المسلم) وبذلك انفصل الحبل بين هذا البلد والبلاد الإسلامية الأخري، الشديدة الاتصال بعضها ببعض) ودعا (هانوتو) في آخر كلامه إلى أن تتخذ تونس مثالًا يقاس عليها ونموذجًا ينسج على منواله.
__________
(1) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 59، مرجع سابق
(2) الكنز، معجم فرنسي عربي، جزءان، بيروت ـ لبنان.
(3) راجع: (تاريخ الأستاذ الإمام) ، للسيد رشيد رضا: 2/ 401 ـ 414(7/2248)
فالعلمانية: أوجدها اليهود لتقضي على نفوذ الكنيسة في أوروبا، وأول ثورة نجح بها في هذا الموضوع هي الثورة الفرنسية، ثم جاءت بعد ذلك ثورات أخرى في أقطار أوربية كثيرة، تمكنت أن تقوم بفصل الدين عن الدولة، وبدأ التعليم العلماني في الدول الغربية بعد تلك الخطوات، وفقدت الكنيسة مكانتها التي كانت تتبوؤها في التربية والتعليم.
هكذا عرف الفصل بين الدين والدولة في أمم الغرب، لقد حدث هذا، لأن رجال الدين عجزوا عن تقديم الحلول الصحيحة السليمة للمشكلات التي كان يعاني منها المجتمع.
أما الإسلام فإنه لا يعرف شيئًا من هذا الفصل المزعوم، والقرآن الكريم يدعو الناس إلى الإيمان بأحكامه الدينية والدنيوية، ويعتبر الإيمان ببعض القرآن والكفر ببعضها الآخر كفرًا، وأن القرآن أنزله الله تعالى ليكون الحاكم بين المسلمين، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} (1) .
والإسلام ينظم شؤون الفرد والأسرة والدولة، بل ينظم شؤون المجتمعات: قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) .
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت في هذا المعنى.
ولقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقوم بوظيفة الدعوة إلى الله تعالى، وتعليم الناس القرآن الكريم وأحكام الإسلام , في الوقت نفسه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيس الدولة والقائد لجيوش المسلمين، ذلك أن الإسلام يمثل ثلاثة عناصر:
1- العقيدة.
2- الشريعة.
3- الأخلاق.
__________
(1) سورة المائدة: الآية 49
(2) سورة المائدة: الآية 48(7/2249)
وإذا كان الغرب قد بذل جهودًا جهيدة في غزو الفكر الإسلامي، فإنه أراد من ذلك إيقاع العالم الإسلامي في براثن الاحتواء الغربي، إذ عند ذاك يتخلى الفكر الإسلامي عن مكانته، وفي ذلك نجاح كبير للصهيونية وأهدافها التي عملت ـ ولا تزال كذلك تعمل ـ من أجل البقاء في فلسطين.
إن الحضارة الغربية تعاني اليوم آلامًا كثيرة وساعة احتضارها ليست بالبعيدة، هذه حقيقة أقرها كثير من كتاب الغرب وفلاسفته الذين عرفوا الحضارة الغربية من الداخل لا من الخارج فقط. ومن أجل ذلك عقد في (إنكلترا) في أوائل القرن التاسع عشر مؤتمر خطير، قرر المؤتمرون فيه هذه الحقيقة ـ حقيقة انهيار الحضارة الغربية ـ لكنهم تواصوا أن يوجهوا سهامهم بعنف وقوة أشد من ذي قبل إلى هذا البديل الذي يحتمل أن يتبوأ مكان الحضارة الغربية، ويحل محلها، هذا البديل هو الأمة الإسلامية: بعقيدتها وشريعتها وقيمها وثقافتها وحضارتها، وقد عملوا منذ يومئذ إلى يومنا هذا على أن يضاعفوا من جهودهم ليفتنوا الأمة الإسلامية عن طريق الغزو الفكري ليتأخر زمن انهيار حضارتهم، وذلك بإذابة (الشخصية الإسلامية) واحتواء (الفكر الإسلامي) (1) .
__________
(1) راجع: المسلمون أمام تحديات الغزو الفكري، إبراهيم النعمة، ط2 ص6 وما بعدها(7/2250)
2- آثار العلمانية في التعليم:
كانت البلاد الإسلامية في العصور الماضية إسلامية التعليم، ولكن الاستعمار الغازي كبر عليه أن يترك للمسلمين دينهم بعد أن سلب منهم خيرات أرضهم، وسعى بكل وسائله ليحقق فيهم جهلهم بدينهم مما كان لهذا أعظم الأثر في حياة المسلمين سلبًا، ولقد تناولت هذا الموضوع بشيء من التفصيل في المحور الأول (الفقرة الثانية بعد الاقتصاد) .
3- آثار العلمانية في الإعلام:
العلمانية في التعليم أقدم وأخطر، والعلمانية في الإعلام أعم وأشمل.. ومن هنا تكمن خطورتها، فإذا كان التعليم يخاطب الآلاف بمناهجه، فإن الإعلام يخاطب الملايين ببرامجه؛ وأكثر هذه الملايين ساذجة تؤثر فيها الكلمة، مقروءة أو مسموعة، أو متطورة، وقد بذل الاستعمار جهده في السيطرة على أجهزة الإعلام في البلاد الإسلامية، واستطاع أن يوجه الصحافة والإذاعة المسموعة والمرئية والمسرح، وفنون الغناء، والتصوير، والهدف من ذلك هو تشكيل أجيال وفق قيم وأسس بعيدة عن الإسلام في عقيدته وشريعته، وقد فصلت القول في هذا الموضوع في المحور الأول (الفقرة الخامسة) .(7/2251)
أما الحداثة: إذا كان المراد منها المدنية الحديثة وما نجم عنها من أنظمة الحياة الإنسانية من مبادئ فاسدة منحرفة، جرت على العالم كثيرًا من العواقب الوخيمة وويلات الثبور والدمار، وسوف تتجرع الإنسانية غصص شرورها ومآسيها وتعاني منها الكثير من الآثار السيئة، والنتائج البشعة ما دامت تسير في ركابها وتتبع خطواتها.
فإن مثل هذه الحداثة والحياة العصرية المنحرفة يرفضها الإسلام، ويدعو إلى قيام المدينة الفاضلة التي تنبثق من أسسه وقواعده، وقد أقام للإنسانية أعظم مدينة عرفها التاريخ.
ونحن المسلمين لا نعيش بمعزل عن هذا العالم، لأننا جزء منه، وقد تأثر نفر من أبناء الشرق بمظاهر تلك المدينة المنهارة، ووقع في أسرها، وأصبح من عبيدها، فلم يعد الشعور بفساد مبادئها وسوء عاقبتها كافيًا لأن تكون بمنجاة منها، وصار من الضروري أن نعمل جاهدين للتخلص من نظام هذه المدينة وتحرير أنفسنا من ربقة قادتها من الغربيين وأتباعهم، وإلا واجهنا المصير السيئ بالسقوط في الهوة المرتقبة التي ينحدر إليها العالم كله يوما بعد آخر، وسيلقى حتفه فيها إن عاجلًا أو آجلًا.
فالحياة الإجتماعية الحاضرة تقوم على مبادئ الزيغ والضلال والنظريات الخاطئة , والأفكار الهدامة هي التي تسود انحاء العالم.
وأنظمة التعليم ووسائل التوجيه والإعلام تنضح بالشر، وتثير الغرائز، وتهتك الفضيلة وتقتل الأخلاق، وتدعو إلى الإباحية والتحلل، حيث سيطرت على العقول الآداب الماجنة والصحافة الفاجرة، والإذاعات اللاهية والأفلام الخليعة.
والنظام الاقتصادي الذي يتحكم في معيشة الناس نظام منحرف فاسد لا يعرف الخير من الشر، ولا يميز بين الحلال والحرام.
والسلطة القانونية التي توجه المدينة وتسخر إمكانياتها تستوحي تصوراتها للأخلاق والتمدن من المبادئ المادية البحتة.
ولهذا يتحتم على المسلمين مقاومة هذه النظم بعزم حديدي لا يعرف الوهن حتى يستبدلوا بها شرعة الله لإنقاذ العالم كله أولًا , من تلك العواقب الوخيمة، وإنقاذ أنفسنا بالتالي منها، وهذا أمر يحتاج إلى جهاد مرير متواصل للقضاء على أنظمة الحياة الفاسدة، وإقامة قواعد الحياة الإنسانية بشتى نظمها على شرع الله الذي نؤمن بصلاحه، ونثق في قدرته على إسعادنا وتوفير الرفاه والسلام لنا، ونعتقد أنه الوسيلة الوحيدة لنجاة الإنسانية كلها وخلاصها.
والمدنية الحديثة التي يقوم في ظلها نظام الحياة الحالي بمختلف فروعه العقائدية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية والثقافية ترتكز على دعائم ثلاث هي المبادئ الرئيسية الآتية:
1- العلمانية أو اللادينية (Sacularism) .
2- القومية (Nationalism) .
3- الديمقراطية (Democracy) .
وهذه المبادئ الثلاثة خاطئة فاسدة، وهي منبع الشرور والمصائب والمآسي التي تعاني الإنسانية من جرائها اليوم ما تعانيه.
أما كيف ننتقد هذه المبادئ؟ وما المنهج الذي نسلكه في نقدها فهذا يحتاج إلى بحث مستفيض، لا يتسع المقام للخوض فيه, راجع مزيدًا في التفصيل ـ في كتاب ـ الإسلام والمدنية الحديثة أبو الأعلى المودودي، ص 27 وما بعدها.(7/2252)
أسس ووسائل مقاومة الغزو الفكري
إن الغزو الفكري الذي عمت ضلالته، وكثرت اتجاهاته، إن لم نقف أمامه وقفة جادة فسوف تكون العاقبة أليمة، والخطب جسيمًا (ولات ساعة مندم) , ذلك أن نصر الله وتأييده يتوقف على مقدار تمسكنا بكتاب ربنا وسنة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن الهزائم التي تعرضنا لها كانت نتائج طبيعية لبعدنا عن القرآن والسنة، قال جل شأنه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (1) .
وقوله جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2)
فوسائل مقاومة الغزو يجب أن تشمل المباشرة وغير المباشرة، المدرسية واللامدرسية، والجماعية والفردية، والداخلية والخارجية، البشرية والمادية، التقليدية والمستحدثة، الدفاعية والهجومية.. وبذلك لا نترك وسيلة من غير استثمار، ولا أداة بغير توجيه.
__________
(1) سورة الشورى: الآية 30
(2) سورة الرعد: الآية 11(7/2253)
ومقاومة الغزو الفكري عمل كبير لا يمكن أن يقوم على الاجتهادات الفردية، بل لابد من تخطيط مدروس، وأسس عميقة لكي نستطيع مواجهة الغزو الفكري، مواجهة نشطة. ولا يمكن الإحاطة بكل وسائل المقاومة في مثل هذه العجالة لأن هذا موضوع يحتاج إلى بحوث متعددة، وسوف أشير إلى أهم هذه الوسائل بإيجاز كما بدا لي:
1- إنشاء لجان عملية متخصصة لرصد الكتب والدوريات القديمة والجديدة، في مجال الأدب والتاريخ والثقافة، والتي تحمل كثيرًا من السموم والشبهات حول الإسلام في جميع نواحيه والتي كتبها المبشرون والمستشرقون عن الإسلام بهدف التشكيك فيه.
2- إنشاء دوريات بلغات متعددة ونشرها في البلدان القريبة لتعريف الناس بالإسلام، وبيان الأخطاء التي وقعت في كتب المبشرين والمستشرقين عن الإسلام.
3- عقد المؤتمرات العلمية في البلدان الغربية، يشارك فيها العلماء المسلمون المتهمون بالغزو الفكري، ويدعى لها علماء الغرب المهتمون بدراسة الإسلام.
4- إقامة صلات علمية بالمبشرين والمستشرقين لبيان الجوانب التي أخطاوا في فهمها أو عرضها.
5- تبني إعداد الرسائل العلمية في الجامعات الإسلامية للرد على حملات الغزو الفكري، تترجم فيما بعد إلى لغات أخرى.(7/2254)
6- إدخال مادة الغزو الفكري كمقرر إجباري يدرسه جميع الطلاب في المرحلة الثانوية والجامعية لمعرفة هذا الخطر الذي يهدد كيانهم، ويقضي على الإسلام من داخله.
7- الشمول لكافة القطاعات والفئات: إذ كان الغزو موجهًا لجميع جوانب ونظم حياتنا، فلابد أن يكون الدفاع كذلك عن جميعها بحيث لا تترك جبهة يمكن للغزو الفكري أن يتسلل منها، أو يتغلغل فيها، فيشمل الرد على الغزو الثقافي في مجالات التعليم والإعلام والاقتصاد، فتكون هذه المجالات معبرة عن وجهة نظر الدولة الإسلامية.
لهذا كله يبدو (الشمول) كأول أساس في استراتيجية مواجهة الغزو الفكري بحيث لا يجد الغازي ـ الواضح أو المستتر ـ جانبًا يستطيع تحصنًا فيه، أو جيبًا يستطيع تحوصلًا في داخله (1) .
8- التنسيق بين الدول والهيئات: إذ كان للغزو الفكري بنوك معلومات، وغرف عمليات بين كافة دوله وهيئاته الرسمية والشعبية، العلنية والسرية، فكذلك ينبغي أن يكون الأمر في المقاومة، بل ينبغي أن يتجاوز ذلك ويعلو عليه.
فمن المستحيل على بلد إسلامي بمفرده ـ أيا كان حجمه، وأيا كانت إمكاناته ـ أن يواجه تيارات الغزو بمفرده، أو يتغلب على الطوفات بمعزل عن زملائه وإخوانه في الإسلام.
وإذا كان هذا التنسيق ضرورة وجود لجميع الدول الإسلامية، فينبغي أيضًا أن يكون ضرورة حياة لجميع الهيئات الإسلامية داخل البلد الواحد، بحيث تتكامل الجهود، وتتكاتف الإمكانات وتتآزر القوى.
أما الفرقة والتناحر، فلا نتيجة لها إلا تبديد الجهود، وتمزيق الصف، وتفتيت الشمل، ومن هنا لابد للدول الإسلامية ـ إن أرادت العزة والمنعة والتمكين في الأرض ـ أن تغلق باب الخلاف وتفتح باب الوفاق، وتوجه إمكاناتها وجهدها للعدو الأصلي. وللخطر الداهم في إطار من العقيدة والشريعة، وبذلك تصنع الحاجز الحقيقي، والسد المنيع ضد التسلل للغزو الفكري داخل ديار المسلمين، وهذا ما ندبهم إليه القرآن لكريم، ليتعاونوا على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) .
9- الاعتماد على الذات: من أنجع الوسائل في مقاومة الغزو الفكري، أن نعتمد على أنفسنا، ويظهر هذا الاعتماد في أمور مختلفة، وجوانب متعددة، من بينها الفكر، والمعلومات، والعاملون، والميزانية، فإذا كانت مقاومة الغزو الفكري تعتمد على أفكار مستوردة، ونظريات مستعارة، يستحيل أن تكون هذه المقاومة فعالة ولها نتائج إيجابية، ومن هنا فلابد أن نركز على الإسلام عقيدة وشريعة، نظريًّا وتطبيقيًّا، فلكي نستطيع مقاومة الغزو ـ ينبغي أن تكون مُثل الإسلام ومفاهيمه وقيمه ومضامينه واضحة في أذهان القيادات والدعاة والمسؤولين والولاة، ففاقد الشيء لا يعطيه.
10- تعدد وسائل الدفاع والهجوم: فالمقاومة التي يكتب لها النجاح والاستمرار يجب أن لا تقتصر على جانب دون آخر لأن البعض منا قد يتصور أحيانًا أن الخطبة والعظة، والدرس والتوجيه هي أفضل وسائل الدعوة، وأقوى وسائل الرد والكشف، بيد أن الأمر يتجاوز ذلك، ومن هنا كان لابد لوسائل الدفاع والهجوم أن تتجاوز ذلك إلى الكتاب والمجلة والصحيفة، والبرنامج الإذاعي، وبرنامج التلفاز، والمسرحية الإسلامية، والقصة والشعر، والنادي الإسلامي، والنشاط الرياضي والترويحي الموجه وجهة إسلامية، والمتحف والمعرض الإسلامي، والمكتبة والمرسم، والمختبر والمسجد فمن أخطر ما يكون أن نتصور أن مقاومة الغزو يمكن أن تكون بالكلمة وحدها، مع أن الهجوم بمختلف الأسلحة، وعلى سائر الجبهات.
__________
(1) راجع: وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 84، مرجع سابق
(2) سورة المائدة: الآية 2(7/2255)
11- دراسة نفسية المهاجمين والمقاومين: من وسائل مقاومة الغزو الفكري، الدراسة العميقة العلمية لنفسية المهاجمين من أعداء الإسلام، ومعرفة نفسية المدافعين عن الإسلام من أهل التوحيد.
فكيف لنا أن نعمل بطريقة علمية ومنظمة ونحن لا نعرف أهداف الغزو المعرفة الكافية؟ ومن المؤكد أنه لا تكفي المعرفة السطحية، أو المعرفة المبنية على سرعة حكم، كما أن المعرفة المبنية على معلومات قديمة وخبرات سالفة لا تكفي، لأن الغزو يغير من أساليبه وألوانه، كما قد يغير من أهدافه، ويبدل في ترتيب أولوياته، من هنا فلابد من دراسة متعمقة دونما تحيز أو انفعال لهذه الغزوات لتحليل أساليبها وتطورها، وللوقوف على أسرارها ودقائقها.
ومثل هذه الدراسة تقتضي حيطة ونزاهة، وموضوعية، وأمانة، وجلدًا ومثابرة، وطول نفس وأناة، ومعاشرة وفهم، وبذلك كله نستطيع اكتشاف الدوافع والاتجاهات والوسائل والغايات.
أما دراسة نفسية المدافعين من المسلمين، فلابد من دراسة عميقة لنفسية الجماعات الإسلامية في مختلف بقاعها ومناطقها, وأن تكون هذه الدراسة شاملة للاحتياجات والدوافع، وللمحركات والمثيرات، وللاستجابات وردود الفعل، فقد تكون المشكلة في جماعة إسلامية نقص خدمة طبية، أو نقص تموين أو مياه، وقد تكون المشكلة نقص مدارس وجامعات، أو ضعف تمويل أو ادخار، وقد تكون المشكلة في عدم وجود سوق للعمل، أو سوق لتصريف المنتجات، وقد تكون في الجهل والأمية بأنواعها ودرجاتها المختلفة.
من هذه الثغرات يتسلل الاستعمار، وتتغلغل الشيوعية، وتحاول الصهيونية والمؤسسات المرتبطة بها تدميرًا وتخريبًا لأصالتنا، وتفكيكًا لعرى ديننا ووحدتنا.
لهذا كله لا بد من الدراسة العميقة لنفسية وظروف ومتغيرات كل جماعة استهدفت أو تستهدف للغزو حتى نفهم الأرضية الثقافية، والنقص الموجود، والثغرة التي حاول الأعداء التسلل منها.
فالعدو يدرك نقطة الضعف ومركز الاهتمام وينهال عليه (1)
__________
(1) انظر: مزيدًا من التفصيل في وسائل مقاومة الغزو الفكري ص 132 وما بعدها(7/2256)
12- الدفاع والتبليغ: فمن بين الأسس الراسخة التي يجب اعتمادها في مقاومة الغزو الفكري أن المقاومة خير وسيلة للدفاع، والوقاية خير من العلاج، والتحصن المبكر أفضل من انتظار العدوى، لهذا من الطبيعي جدًّا أن تتحرك المقاومة في خطوط متواصلة، ودفاعات منتظمة بحيث لا تنتظر في قواعدها وخنادقها، بل تتقدم في نقاط أمامية، ومواقع تبادلية.
فبدلًا من انتظار وقوع الغزو علينا استخدام كل الوسائل التي تحول دون وقوعه.. كما ينبغي الانتقال إلى مواقع الأحداث لأن ذلك يتيح لنا متابعة ذكية، وصدًّا نشطًا واكتشافًا مبكرًا، وبذلك نتابع الأحداث فور وقوعها، ونتعقب التغييرات حال قيامها مما يجعلنا باستمرار على بينة بما يدور على المسرح وخلف ستائره، بما يجري عندنا وحولنا، ومثل هذه المتابعة لا تقتصر على مجرد رصد الأحداث، بل المشاركة أيضًا في صنعها.
فالقوة اليوم ليست في انتظار ماذا سيحل بنا من هجوم، أو يطرأ علينا من غزو، بل في تداركه قبل وقوعه، واكتشافه قبل بدايته.
لهذا كانت الدعوة الإسلامية دفاعًا وتبليغًا (1) .
13- التربية الإسلامية: لا سبيل إلى تحقيق تلك الأسس والوسائل التي تحدثنا عنها فيما مضى إلا بالتربية الإسلامية، والتنشئة الإسلامية، التي يمكن بها إعداد الإجيال إعدادًا صالحًا وسليمًا ومستقيمًا، وراسخًا وعميقًا، وبهذه التربية نضمن حصانة للأجيال يعصمها من الانحراف، ويمنعها من الانزلاق.
لقد انتصر المسلمون بالتربية الصالحة، وبناء الأجيال وصياغتها على الإيمان والرجولة، ثم إعادة صياغتها كلما واجهتهم الأزمات، وفي مختلف الأحداث الضخام، ففي مواجهة حملات الصليبيين والتتار والفرنجة أعاد المسلمون تكوين الفرد المسلم على أخلاق الإسلام، فاستطاعوا أن يحققوا النصر على نفس المستوى الذي حققه المسلمون الأوائل، أو قريبًا منه.
وقد فهم المسلمون أن التربية في مفهوم الإسلام تعتبر الفرد المسلم بناء متكاملًا , قوامه الروح والعقل والجسم، وتعني به وفق فهم شامل، أساسه الإيمان بالله، والعمل في الأرض من أجل النماء والبناء والإنشاء.
وتقوم التربية الإسلامية على بناء الفرد في البيت بالقدوة، وإقامة علاقة وطيدة بين البيت والمدرسة من خلال الأب والأستاذ والمتعلم جميعًا، كما أكد علماء التربية الإسلامية على ضرورة تلقي العلم من الأساتذة لا من الكتب وحدها، وربطوا بين التعليم والتربية على أساس أن العلم وحده لا يكفي، مالم تصحبه تربية الذوق والعقل والروح.
وقوام التربية الإسلامية أساسًا هو (الأخلاق) , ولا يقر الإسلام الفصل بين التعليم والتربية أو بين التربية والأخلاق.
وفي مفهوم الإسلام: أن العلم لابد أن تحميه وتظاهره قيمة أخلاقية واضحة، وذلك حتى لا ينحرف أو يفسد أو يتجه وجهة ضارة بالمجتمع الإنساني؛ لقد آمن المسلمون بأن العلوم الحديثة لا تنهض بالمسلمين نهوضًا حقيقيًّا إلا إذا حصلت ضمن دائرة لغتهم وتاريخهم ومشربهم.
__________
(1) وسائل مقاومة الغزو الفكري: ص 148 وما بعدها(7/2257)
ومن هنا حق عليهم أن يترجموا العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية، والتكنولوجية، والطبية جميعًا إلى لغتهم، ثم ينطلقوا من خلالها إلى بناء قوتهم الذاتية على مقتضى بناء الأجيال المسلمة المحصنة بالإيمان والتقى , المفطومة عن الشهوات، المندفعة لتحقيق رسالة المرابطة في الثغور في سبيل حماية الحدود مع الأعداد بالقوة لإرهاب العدو، ثم إقامة المجتمع الإسلامي على النحو الذي رسمه القرآن الكريم، وبينته السنة المشرفة (1) .
14- البعثات إلى خارج بلاد المسلمين: المسلمون كفُرادى وجماعات في المجتمع الإنساني لا يمكن أن يعيشوا بمعزل عن العالم من حولهم، فلابد من الاختلاط بالناس على مختلف مستوياتهم وتباين ثقافتهم وبلدانهم، وقد تضطرنا ظروف الدراسة والعمل إلى إرسال بعثات ومهمات للخارج تستغرق شهورًا أو سنينًا.
وهذا مطلب ضروري وهام لا يمكن التراجع عنه لصالح التنمية: إنتاجًا وخدمات، كما أن وجود شركات أجنبية كثيرة في مجتمعاتنا الإسلامية قد يلزمها ابتعاث عدد من خبراتنا وفنيِّينا وعمالنا للتدريب في مراكزها.
وهذا مطلب حيوي ونافع يسهم في إعداد رأس مال بشري قاعدة كل تنمية، وأساس كل تطوير إداري وتقني، وهذا أمر مشروع وعادل، لا غبار عليه.
إلا أن هذه البعثات والمهمات من غير توجيه وتحصين، واهتمام ورعاية قد ينفرط عقد بعض أصحابها: فقد لا يعودون إلى الوطن، أو يعودون وقد أصبحوا من الرافضين لكل ما هو إسلامي، ومن المنادين بكل ما هو غربي.
__________
(1) راجع: مزيدًا من التفصيل في: شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، ص 398 وما بعدها، أنور الجندي، مرجع سابق(7/2258)
وهؤلاء هم قادة الغد.. وهم الذين سيضعون، وينفذون خطط التنمية التي تنعقد عليها الآمال.. وهم الذين أنفقنا في سبيلهم كل غال ورخيص من أجل تعليمهم، وانتقائهم، وابتعاثهم، وهم الذين سيحتلون المراكز الهامة في الجامعات ومراكز البحث، والوظائف العليا.. وهم الذين سيديرون المؤسسات بعد تدريبهم وإعدادهم لشهور أو سنوات.. إلخ.
ويمثل هذا القطاع من المسلمين قلب التنمية والتقدم، لهذا كان مستهدفًا أكثر من غيره؛ وأجهزة الغزو تحاصر طلاب البعثات قبل ابتعاثهم، وبعد عودتهم إلى أوطانهم، وفي بعض الحالات تكون مسؤولة عن الانتقاء والإشراف على المبعوثين (1) .
ولاشك أنها تحاول اصطياد هؤلاء أثناء دراستهم وتدريبهم على أساس أنهم قادة المستقبل، وزعماء الغد، وهناك عشرات الأمثلة المشهورة والخفية لعملية الانتقاء، الإعداد، التجهيز، الابتعاث، الإشراف، العودة، التصعيد، والمؤازرة بالدعم.
ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أنه ليس كل مبعوث يتأثر بأجهزة الغزو الفكري، بل هناك آلاف مؤلفة أثناء بعثتهم وبعد عودتهم كانوا خير مثال للإسلام والمسلمين، وبعضهم كان من الدعاة إلى الله المخلصين، وقد عادوا إلى بلادهم أكثر تمسكًا بدينهم لأنهم عرفوا قيمة الإسلام، فالقضية ليست في البعثة، بل في المبعوث؛ ومع وجود هذه العناصر الطيبة بين المبعوثين، ولكي نضمن سلامة كل المبعوثين فلابد من مجهود إداري وبشري ومالي مضاعف لخدمة مبعوثينا بالدعوة الهادفة، والكلمة الطيبة، والمطبوعة الواضحة، واللقاء المثمر، والتوجيه الفعال، والنشاط المنتج، والإشراف الأبوي، والمشرفين الأكفاء، والتنظيم الجيد، والدعم المالي، وزيادة أقطار الدعوة والتنسيق بين الدول، والتعاون بين المنظمات، وعدم التطاحن، وانتقاء قيادات الإشراف، فبمثل ذلك التدعيم والتحصين يمكن لنا حماية بعثاتنا بقدر الطاقة والاستفادة منها بقدر الإمكان (2) .
__________
(1) في حالات كثيرة تختار شركات وهيئات عددًا من الطلاب والمتدربين، وبناء على المنحة أو حتى البعثة الحكومية تشرف هذه الهيئات على طلابنا وتتابعهم وتكتب عنهم تقريرها.
(2) انظر: وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 194(7/2259)
وختامًا: فلعل القارئ الكريم يجد فيما كتبنا المنبه الذي يلفت نظره إلى خطورة الغزو الثقافي، ويكفيه أن يفتح عينيه لكي يرى بنفسه أمارات هذا الغزو قائمة حوله، وربما يستطيع أن يستخلص من الوقائع المعروضة لنظره، نتائج لم تلفت انتباهنا، أو غفلناها عمدًا خلال هذا العرض احتياطًا من التطويل ورغبة في الموضوعية.
إن المسلم في هذا العصر مدعو لأن يفهم دينه فهمًا صحيحًا , ويجعل من نفسه قرآنًا يمشي على رجلين: يتمثل أوامر الله ونواهيه، منشرح الصدر، لا يجد في نفسه حرجًا مما قضى الله ورسوله، ويسلم به تسليمًا، ثم يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة عن بينة وبرهان، متبعًا أسلوب القرآن الحكيم في دعوة الناس إلى الهدى.. فهل في الوجود من هدي أعظم من هدي الإسلام؟
إن العالم ـ كله ـ اليوم، يخطط البرامج، ويضع المناهج من أجل إطفاء نور الشريعة أو حجب شمسها عن العالم.. فهل ينتبه المسلمون إلى ما يراد بهم وبدينهم؟
يقول الحق جل شأنه: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) .
وحين تتجه البشرية إلى الإسلام، فعندئذ فقط يصبح التقدم العلمي والتكنولوجي دافعًا إلى الأمام، ومعينًا على الخلافة الراشدة، بدلًا من وضعه الحالي، الذي يدفع البشرية إلى الإنحلال النفسي والخلقي، كما يدفعها إلى الدمار..
والدلالات التاريخية التي أبرزت الصحوة الإسلامية إلى الوجود اليوم، في الوقت الذي تميل فيه الحضارة المادية الغريبة إلى الهبوط، هي قدر الله الغالب، الذي يشير إلى المستقبل، وحين يقف العالم ـ كله ـ يحارب الإسلام الذي هو قدر الله تعالى، فمن يكون الغالب، ومن يكون المغلوب؟
قال جل شأنه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) . وقال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (3) .
وكل ما نتمناه هو أن تقوم في البلاد الإسلامية رابطة من المثقفين لكشف هجمات الغزو الفكري على الإسلام، ورد هجماتهم على حصوننا، وبذلك نكون قد أدينا بعض ما أوجب الله علينا، وسوف يكتب لنا في النهاية النصر على أعدائنا: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور عُمَر يُوسف حَمزة
__________
(1) سورة التوبة: الآية 32
(2) سورة المجادلة: الآية21
(3) سورة يوسف عليه السلام: الآية: 31
(4) سورة الحج: الآية 40(7/2260)
أهم مراجع البحث (1) .
مرتبة على حروف المعجم
1- الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، الطبعة الرابعة، دار المعرفة، بيروت، 1398 هـ 1978 م.
2- أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: د. علي محمد جريشة، ومحمد شريف الزيبق دار الاعتصام.
3- الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: د. محمود حمدي زقزوق، كتاب الأمة، الطبعة الأولى، صفر 1404 هـ.
4- الاستشراق والمستشرقون، مالهم وما عليهم، د. مصطفي السباعي، طبعة المكتب الإسلامي، بدون تاريخ.
5- الإسلام والثقافات العربية في مواجهة تحديات الاستعمار: أنور الجندي، دار الاعتصام.
6- الإسلام والحضارة الغربية: محمد محمد حسين، نشر دار الفتح، طبعة ثانية، 1393 هـ.
7- البرهان في علوم القرآن: الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة، الطبعة الثانية 1391 هـ ـ 1972 م، بيروت.
8- تاريخ السودان الحديث: ضرار صالح ضرار، مكتبة الحياة، بيروت، طبعة رابعة، 1968م.
9- تاريخ الفرق الإسلامية: د. محمود محمد مزروعة، دار المنار، طبعة أولى، 1412 هـ 1991 م.
__________
(1) هناك مراجع كثيرة في الهوامش لم أذكرها خشية التطويل(7/2261)
10- تاريخ القرآن: د. عبد الصبور شاهين، لبنان ـ بيروت.
11- تاريخ القرآن، لابن عبد الله الزنجاني، الكتاب العربى.
12- التاريخ الكبير: الإمام البخارى، الدار اللبنانية.
13- التبشير والاستعمار: مصطفي خالدي وعمر فروخ، دار صادر، بيروت.
14- تجديد التفكير الديني، الدكتور محمد إقبال، دار الكتب اللبنانية.
15- التعليم باللغات الأجنبية في المدارس الرسمية ... إلخ القاهرة سنة 1400 هـ.
16- تفسير القرآن العظيم، الإمام ابن كثير الدمشقي، دار الفكر، بيروت.
17- تقريب التهذيب، للإمام ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثانية 1395 هـ ـ 1975م.
18- تهذيب التهذيب، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية. الهند (مصورة بدار صادر، بيروت) .
19- حصوننا مهددة من داخلها: محمد محمد حسين، الطبعة الخامسة، المكتب الإسلامي، 1398 هـ 1978م.
20- الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا: د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، الطبعة الثالثة، ربيع 1397 هـ مارس 1977 م.
21- دراسات في الحديث النبوي، وتاريخ تدوينه، د. محمد مصطفي الأعظمي، المكتب الإسلامي، سنة 1405 هـ ـ 1985 م.
22- دراسات في القرآن: الدكتور السيد خليل، دار الفكر، بيروت.
23- دائرة المعارف الإسلامية، طبعة دار الشعب بالقاهرة.(7/2262)
24- سنن أبي داود، للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر.
25- السنن الكبري، للإمام البهيقي، أحمد بن الحسين بن على البهيقى، طبعة أولى، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية في حيدر آباد ـ الدكن ـ الهند 1344 هـ.
26- السنة ومكانتها في التشريع: الدكتور مصطفي السباعي المتوفى سنة 1964 م ـ طبعة ثانية ـ المكتب الإسلامي ـ بيروت 1398 هـ.
27- سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية، أنور الجندي، دار الجيل، بيروت، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة. الطبعة الثانية، 1405 هـ ـ 1985 م
28- شرح إحياء علوم الدين، المرتضى الزبيدي، دار الفكر، بيروت.
29- شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، أنور الجندي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، سنة 1403 هـ ـ 1983 م.
30- صحيح البخاري بحاشية السندي، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار الفكر، بيروت.
31- صحيح ابن حبان: ترتيب الأمير علاء الدين الفارسي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، مطبعة المجد، الطبعة الأولى سنة 1390 هـ ـ 1970م.
32- صحيح المسلم للإمام ابن الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
33- طبقات ابن سعد، للإمام محمد بن سعد بن منيع البصري، دار صارد، بيروت، 1376 هـ 1957 م.
34- العواصم من القواصم، لأبى بكر بن العربي بتحقيق محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، بالقاهرة، 1371 هـ.
35- الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة مساعد اليافي
ومحب الدين الخطيب منشورات العصر الحديث، الطبعة الثانية، جدة سنة 1387 هـ.(7/2263)
36- الغزو الفكري للتاريخ والسيرة: سالم على البهنساوي، دار القلم، الكويت، الطبعة الأولى، سنة 1406 هـ.
37- الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، (مجموعة بحوث) سنة 1401 هـ ـ 1981م.
38- قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر، د. زغلول راغب النجار، كتاب الأمة الطبعة الأولي، صفر 1409 هـ.
39- كتاب المصاحف، لابن داود: آثر جفري.
40- مباحث في علوم القرآن: الدكتور صبحي الصالح، دار العلم للملايين، طبعة 13، سنة 1981 م.
41- المدخل لدراسة السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة المدارس ـ الدوحة ـ قطر 1411 هـ ـ 1991 م.
42- المدخل لدراسة القرآن الكريم: محمد محمد أبو شهبة، الطبعة الثانية، الأزهر 1958.
43- المدخل إلى القرآن: بلاشير، ترجمة رضا سعادة.
44- المرشد الوجيز، لأبي شامة، دار الفكر، بيروت.
45- مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن حنبل الشيباني، بتحقيق أحمد محمد شاكر، طبع دار المعارف بالقاهرة.
46- المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله النيسابوري (الحاكم) طبع حيدر آباد، 1341 هـ.
47- المسلمون أمام تحديات الغزو الفكري، إبراهيم النعمة، طبعة ثانية.
48- المستشرقون والمبشرون في العالم العربي الإسلامي، مكتبة الوعي بالقاهرة سنة 1384 هـ.
49- ما يقال عن الإسلام، موسوعة العقاد الإسلامية، المجلد الخامس، دار الكتاب العربي، بيروت، 1391 هـ.
50- من قضايا القرآن، د. إسماعيل أحمد الطحان، المكتبة العربية، الدوحة ـ قطر.
51- الموافقات في أصول الأحكام، للإمام إبراهيم بن موسى الغرناطي المعروف بالشاطبي المتوفي 790 هـ، مكتبة محمد علي صببيح وأولاده، القاهرة.
52- وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي، تأليف الدكتور حسان محمد حسان، 1401 هـ.
53- واقعنا المعاصر: الأستاذ محمد قطب، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، الطبعة الأولى، سنة 1407 هـ ـ 1986 م.(7/2264)
المناقشة
الغزو الفكري
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الغزو الفكري هو موضوع هذه الجلسة المسائية والعارضان هما الشيخ محمد معروف الدواليبي والشيخ محمد نبيل غنايم، وحيث إن الشيخ محمد معروف قد تضمن عرضه اليوم في الجلسة الصباحية فإنا نرجو من الشيخ محمد نبيل غنايم أن يتفضل، والمقرر هو الشيخ البيهقي.
الدكتور محمد نبيل غنايم:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أيها الحضور الكرام. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
فالبحوث المقدمة في موضوع الغزو الفكري وبنوده تربو على العشرة، أولها ورقة مقدمة من معالي الدكتور معروف الدواليبي حول ندوة أمريكا والإسلام وتحديات التسعينات التي نظمها قبل أيام معهد دراسات الشرق الأوسط الأمريكي في واشنطن، وقد تفضل معاليه بالكلام عنها في الجلسة الصباحية.
والبحث الثاني تقدم به فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري، وقد قسم بحثه إلى خمسة فصول، تناول في الأول منها مقدمة عن الغزو الفكري وأهدافه بصفة عامة، وفي الثاني قدم نموذجًا تطبيقيًّا لآثار هذا الغزو في إيران، وفي الفصل الثالث تكلم عن كيفية مواجهة هذا الغزو وإحباط مخططاته بالرجوع للمصادر الإسلامية والعمل بها في جميع مناحي الحياة وليس بالإعلام السطحي المعتمد على الشعارات الجوفاء، وفي الفصل الرابع تناول شبهات أعداء الإسلام في مصدريه الرئيسين القرآن الكريم والسنة النبوية، من حيث التشكيك في حجة الاستدلال بالقرآن الكريم والاستدلال بالنسبة النبوية، وأثبت بطلان تلك الشبهات، ثم تناول في الفصل الخامس علاقة الإسلام بالحكم والدولة وأكد التحامها ورد على شبهات العلمانين في ضرورة فصل الدين عن الدولة وأبطلها بأسلوب جميل وعرض طيب.
أما البحث الثالث فهو لفضيلة الحاج شيت محمد ثان، وقد جاء مختصرًا وأشار فيه إشارات سريعة إلى معنى الغزو الفكري وخطورته ومنافذه، ثم أشار إلى عدد من مجمل من الشبهات التي أثيرت حول القرآن الكريم والسنة النبوية ولم يقم بالرد عليها، كما تحدث إجمالًا عن كل من العلمانية والقومية والصهيونية، وفي النهاية قدم عدة مقترحات وأساليب لمقاومة هذا الغزو والقضاء عليه.
والبحث الرابع من إعداد الدكتور أبو بكر دوكوري، وقد ركزه حول الشبهات التي أثيرت ضد التشريع الإسلامي والعمل على عدم تطبيقه لعدم مرونته ولعدم صلاحيته ومناسبته للعصر وأنه من آراء الفقهاء وابتكارهم، وأحكامه تتسم بالقسوة والوحشية، ومذاهبه الكثيرة , وفرق المسلمين العديدة , وقام بالرد على كل منها بما أبطلها وبين جمال التشريع الإسلامي وعظمته وصلاحيته لكل زمان ومكان لما فيه من المرونة والقواعد والثوابت والمتغيرات التي تناسب كل عصر وتلبي احتياجات كل أمة.(7/2265)
أما فضيلة الشيخ الحاج تيرنو عبد الرحمن فقد بين في مقدمة بحثه تعريفًا للغزو الفكري، ومفهومه ثم قسم بحثه إلى أربعة أبواب، تناول في الباب الأول منها الدعوة إلى القومية، وبين في فصول هذا الباب الخمسة آثارها في المجتمع العربي والإسلامي وموقف الإسلام منها، وفي الباب الثاني تحدث عن التبشير وآثاره في إفساد عقائد المسلمين وإعلامهم وثقافتهم وتربيتهم، أما الباب الثالث فقد تحدث فيه عن أساليب الغزو الفكري في التشكيك من طعن في القرآن إلى طعن في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم إلى طعن في الإسلام عقيدة وشريعة إلى طعن في المسلمين، وخصص الباب الرابع للكلام عن العلمانية ووسائل نشرها وآثارها في التعليم والقانون والإعلام.
أما الدكتور أحمد السايح فقد تحدث عن مفهوم الغزو الفكري وبين أسبابه المتمثلة في العداء الصليبي للإسلام والمسلمين والرغبة في استعمار بلادهم وعقولهم وتقدم الغرب العلمي وتخلف المسلمين فكريًّا واجتماعيًّا في العصر الحديث، ثم تكلم عن مظاهر الغزو الفكري من حملات تشويه إلى إحياء النزاعات الجاهلية والقومية وإبعاد العلماء عن مراكز التوجيه والسلطة والتعليم والثقافة والخدمات الاجتماعية، ومثّل لحملات التشويه ببعض المطاعن في القرآن الكريم والسنة النبوية وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وتشويه التاريخ الإسلامي والتراث الإسلامي وغير ذلك، ثم انتقل إلى تيارات الغزو الفكري وحركاته وتناول منها بالتعريف وبصفة خاصة الاستشراق والتبشير والصهيونية والماسونية والعلمانية والقومية والتغريب والوجودية وغيرها، ثم تناول أهداف الغزو الفكري في القضاء على الإسلام وتعاون جميع التيارات والحركات في تحقيق هذا الهدف الكبير عن طريق عدة أهداف جزئية يقوم كل تيار بتحقيقها، ثم عقد القسم الأخير لنقد الغزو الفكري ومواجهته مع التركيز على الاستشراق والتبشير باعتبار الاستشراق المنجم الفكري الذي يمد المبشرين والمستعمرين بأدوات الهدم ومعاول التخريب التي يعملون بها في تخريب الإسلام وأهله، وقدم لهذه المواجهة عدة أصول ومقترحات طيبة.(7/2266)
وأما بحث فضيلة الشيخ القاسم البيهقي المختار فقد جعل تحت عنوان (المسلمون وتحديات الفكر المعاصر) , تحدث في المدخل الرئيسي عن عظمة الإسلام وأثره وانتشاره، ثم عن المواجهة بين الإسلام والفكر الغازي منذ الحروب الصليبية وحتى وقتنا الحاضر حيث كان الغزو أولًا عسكريًّا ثم أصبح فكريًّا، وقد أخذ الغزو الفكري طريقه إلى المسلمين عبر عدة قنوات منها: التعليم والاقتصاد والسياسة والتشريع والإعلام والثقافة والأخلاق والحياة الاجتماعية وكل مظاهر الحياة، ثم تقدم تطبيقات لهذا الغزو فتحدث عن العلمانية وآثارها وعن حملات التشويه للقرآن الكريم واللغة العربية، وقدم نداء إلى المسلمين باليقظة والاعتزاز بالإسلام، ورسم طريقًا للخروج من المأزق بالعودة إلى العقيدة الصحيحة والشريعة الصافية في القرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الإسلامي الصحيح، ودعا إلى تطبيق الإسلام في كل مجالات الحياة.
وتناول فضيلة الدكتور عمر يوسف حمزة الغزو الفكري من حيث منافذ دخوله ووسائل مقاومته فالتقى مع البحوث السابقة في منافذ الغزو الفكري: في الاقتصاد والتعليم والصحة والسياسة ووسائل الإعلام، وبين آثار الغزو الفكري في كل منها، ثم انتقل إلى المحور الثاني وهو أساليب الغزو الفكري في التشكيك من طعن في القرآن الكريم إلى طعن في السنة إلى اعتماد ما جاء في بعض كتب السيرة ونظريات بعض الفرق الشاذة، وأخيرًا محاربة الفكر الإسلامي والدعوة إلى فصله عن جذوره وقواعده واستشهد لكل حقل من هذه الحقول بمثال أو اثنين، ثم رد على الشبهات بما يبطلها، أما المحور الثالث فقد خصصه للحديث عن العلمانية والحداثة، فبين اتجاهاتها الخطيرة في محاربة الإسلام والطريق الأنجع في دفع تحركاتها العدوانية ورد نشاطاتها المتنوعة في مجالات الفكر والتعليم والإعلام، واختتم بحثه ببيان أسس ووسائل مقاومة الغزو الفكري.
وقدم الدكتور عويد بن عياد المطرفي بحثًا عن ورقة بن نوفل حاول فيه أن يبطل مزاعم النصاري فيما نسبوه إليه من تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وسلم وتشويه صورة الإسلام ونقله من النصرانية , وأكد أن ورقة بن نوفل كان من الحنفاء ولم يكن نصرانيًّا في يوم من الأيام.(7/2267)
وللأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلامي، بين فيها بدايات هذا الغزو والدوافع التي كانت وراء ذلك وخطورته ووسائل مواجهته، وقد قدم فضيلته في هذا المجال عدة مقترحات طيبة.
أما فضيلة الشيخ مصطفي العلوي فقد قدم بحثًا عن الغزو الفكري وأثره في المجتمعات الإسلامية اليوم وكيف يمكن مواجهته وبين أفكاره حول المحاور السابقة التي يلتقي فيها مع الأفكار التي عرضناها من قبل، وقدم في نهاية بحثه عدة مقترحات لمواجهة هذا الغزو.
وقدم الأستاذ تيجاني صابون محمد تصوره عن خلفية الغزو الاستعماري الغربي المسلح للدول الإسلامية منذ صدور الإسلام، ثم تعرض للحملات التبشيرية الصليبية وأنواعها وأعوانها من المستشرقين ,ة ومثّل لهذه الحملات بمطاعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم ودعمهم للفرق الضالة المعادية للإسلام كالقاديانية والبهائية، ثم بين الوسائل الحديثة للغزو الفكري من اقتصاد وتربية وثقافة وإعلام.
أما الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور، فعنون بحثه (بالغزو الفكري في المعيار العلمي الموضوعي) ، وقد جعل بحثه في مدخل وأربعة أبواب وخاتمة، تناول في المدخل التعريف بالغزو الفكري وبيان خطره وأهدافه، وخصص الباب الأول للتيارات المعاصرة لدى المفكرين المسلمين في مواجهة مشكلة الغزو الفكري وجعله في فصلين، وفي الباب الثاني تناول في فصلين أساليب الغزو الفكري ومدارسه، وفي الباب الثالث تناول في ثلاثة فصول ظواهر الغزو الفكري، أما الباب الرابع فجعله في فصلين أحدهما لبيان أسباب قيام الغزو الفكري في العالم الإسلامي والثاني لبيان العوامل المساعدة لقيامه، وخصص الباب الخامس لبيان الوقاية والعلاج من هذا الغزو ثم القيام بالغزو الفكري المعاكس.(7/2268)
أما بحثنا بعنوان (من أساليب الغزو الفكري في مجال الطعن في القرآن الكريم) فقد اتفق مع البحوث السابقة في كثير من الأمور التي تخص التعريف بالغزو الفكري وأهدافه ووسائله وأنواعه ثم انفرد بالحديث عن الغزو الفكري في مجال الطعن في القرآن الكريم، وقد جعلته في ثلاثة فصول، تناول الفصل الأول منها التعريف بالغزو الفكري بصفة عامة في ماضيه وحاضره وأهدافه ووسائله وأنواعه، أما الفصل الثاني فجعلته لسرد مطاعن الغزاة في القرآن الكريم وقسمته طبقًا لهذه المطاعن إلى سبعة بنود تناول كل بند منها مجالًا من مجالات الطعن في القرآن، فبند عن ادعاء بشريته، وبند عن اقتباسه من الكتب السابقة، وثالث عن عدم إعجازه، ورابع عن وقوع التحريف فيه، وخامس عن الأخطاء العلمية واللغوية والتاريخية والتشريعية فيه، وسادس عن وقوع التناقض بين آياته، وسابع عن عجزه وعدم تقديمه للنظريات والمبادئ الحديثة. أما الفصل الثالث، وهو بيت القصيد، فقد خصصته لتفنيد تلك المطاعن والرد عليها وإبطالها، وقد تناولتها بندًا بندًا وناقشتها فكرة فكرة، وقدمت الآدلة النقلية والعقلية على إبطالها، ففي البند أولًا قدمنا أربعة عشر دليلًا منوعًا على أن القرآن الكريم وحي من عند الله تعالى وليس بشريًّا ولا من عمل محمد صلى الله عليه وسلم , وفي البند ثانيًا قدمت خمسة أدلة عامة وستة تطبيقية على أن القرآن الكريم ليس مقتبسًا من التوراة ولا الإنجيل ولا غيرهما، وفي البند ثالثًا قدمت خمسة أدلة على أن القرآن الكريم معجز بل هو أكبر معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وفي البند رابعًا قدمت سبعة أدلة على أن القرآن الكريم معافى من أي تحريف أو تبديل على عكس الكتب السابقة، وفي البند خامسًا ذكرت أربعة أدلة إجمالية على إبطال دعوى تناقض بين بعض آيات القرآن الكريم، ثم وضحت ذلك في اثني عشر موضعًا مما استندوا إليه وظنوه تعارضًا، وفي البند سادسًا ناقشت ما اسموه أخطاء القرآن الكريم فبينت أنهم هم المخطؤون وأن القرآن الكريم بريء من أي خطأ؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، وفي البند سابعًا ناقشت موضوع النظريات التي يتساءلون عنها وبينت ما قدمه القرآن الكريم في هذا المجال مما لم يسبق إليه ولم يلحق فيه، ودعمت ذلك كله بأقوال العلماء والمفكرين وبعض المنصفين من غير المسلمين.
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع بهذه البحوث وأن يجعلها جميعها خالصة لوجه الكريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وشكرا.(7/2269)
الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور:
شكرًا للسيد الرئيس، أتقدم بخالص الشكر والتقدير لأخي العارض حفظه الله تعالى حيث كان أمينًا على البحث العلمي وأمينًا على ما جاء فيه من دراسات جديدة وحديثة أو قديمة وعلى آراء الباحثين، ووددت لو أن أكثر العارضين أو كلهم مع احترامي وتقديري لهم اقتدوا بهذا الأخ الفاضل في حسن عرضه وفي حسن تقديمه لآراء زملائه.
هذه ناحية، والناحية الثانية هي أننا في هذه الأمسية الكريمة التي خصصت للغزو الفكري يجدر بنا أن نبحث عن الوسائل العلمية للوقوف في وجه الغزو الفكري، فالبحوث والخطب والمحاضرات والكلمات والكتب التي ألفت وصنفت وكتبت في هذا البحث تصنف مكتبة كاملة، يعني نستطيع أن نقول إننا اليوم نئن من التخمة في قضية البحث في هذه المسألة، نحن بحاجة ـ كما أرى والله سبحانه وتعالى الملهم الذي يشرح الصدور ـ إلى الأساليب العلمية. مثلًا أنا أرى أن تكون هناك ندوات فعلية للغزو الفكري، يعني أن ننزل إلى الميدان وأن يشكل المجمع بأمانته الكريمة ورئاسته الرشيدة منا لجانًا تنزل إلى الجامعات فتحاضر، فكلنا على مستوى أستاذ جامعة تقريبًا، لماذا لا نحاول في هذا الموضوع؟ لماذا لا ننزل؟ لماذا نبقى مقطورين ضمن نطاق المجمع فقط؟ وطبعًا هذا عمل كبير ومشرف ولكنه لا يكفي ولا يفي بالغرض، نحن نعد هذا المجمع منطلقًا إلى العمل كقاعدة ننطلق منها إلى العمل المنتج المثمر. إن الناس يريدون منا أن نتكلم لهم، أن نحاضر عليهم، أن نبحث معهم، أن نعقد معهم ندوات. الصحوة الإسلامية اليوم، يا سادة، تناشدنا وتهيب بنا، الشباب المسلم يغلي إيمانًا وإخلاصًا، يريد من يرشده إلى الحق إلى الخير، يريد من يخلصه من شبهاته. يرى الغزو الفكري والثقافي هاجمًا ولكن لا يرى ولا يستطيع ولا يجد الوسائل لدفع هذا الخطر الداهم, من الذي يوجد له هذه الوسائل، نحن خدام العلم وسدنة الشريعة المتشرفين بحمل هذه الأمانة، يجب علينا أن نذهب - لوجه الله عزَّ وجلّ - إلى أقصى الأرض ونحاضر ونخطب في المساجد، في الجامعات، في الكليات، في المنتديات، وفي المراكز الثقافية حيثما استطعنا ونكون رسل المجمع إلى العالم الإسلامي، هذه هي الوسائل العملية أو إحدى الوسائل العملية للوقوف في وجه الغزو الفكري. يا سادة أنا أتحرق ولا أقول هذا مجاملة، إنني أرى غيرنا من أصحاب الأديان الباطلة وأنتم تعلمون أن التبشير ماذا يصنع في إفريقيا، ماذا يصنع في الفلبين، وماذا يصنع في أندونيسيا، وماذا يصنع في أنحاء الأرض، المبشرون لا يتكلمون بالمجمع (الفاتيكان) ولكن يتكلمون في كل مكان، لقد بنوا أكبر كنيسة بالعالم حيث لا يوجد فيها في ذلك المكان أكثر من عشر آلاف نصراني، في جنوب أفريقيا أكبر كنيسة في العالم، الإرساليات التبشيرية تغزو الأرض، تغزو شعوب العالم، فماذا صنعنا نحن الدعاة إلى الحق , إلى الإسلام , ضعفاء لا نتقن إلا صناعة الكلام , فمتى نتقن صناعة العمل؟
أقول قولى هذا وأستغفر الله العظيم، وشكرًا.(7/2270)
الدكتور طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا شك أن فترة السنوات الثلاثة الماضية قد شهدت مرحلة انهيار التوازن العالمي الذي قام في العالم بعد الحرب العالمية الثانية وأدى بدوره إلى تفرد الولايات المتحدة الأمريكية نسبيًّا في الشؤون الدولية، ولا شك أن انهيارًا عربيًّا قد حدث خلال هذه الفترة , عبرت عنه تلك السياسة المعروفة التي كانت كارثة الخليج الثانية التعبير المتأخر عنه بقدر ما كانت كارثة الخليج الأولي تمهيدًا ضروريًّا له، وقد بدأ هذا الانهيار بوضوح بتجاوز كل ما كان متعارفًا عليه في ظل نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الدولي , أو ما يسمى بفترة الخمسينيات والستينيات كالجامعة العربية ومؤتمرات القمة ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من أطر ومحاور التفاهم والتنسيق خاصة في عالمنا الإسلامي.. , ومن الواضح أن النظام العالمي الجديد الذي يأخذ المسلمون فيه دور المفعول به والمفعول فيه بأجلى شك يقوم على قواعد ثلاث: الديمقراطية في المجال السياسي، الاقتصاد الحر الرأسمالي في المجال الاقتصادي، العلمانية كفلسفة فكرية وثقافية وإطار مرجعي لسائر قضايا الفكر والثقافة والنظم ومناهج الحياة.
الغزو الفكري بشكله المألوف قد تغير ليصبح الآن محاولة ذات ثلاث شعب تقوم على هذه الأسس الثلاث: الديمقراطية في النظام السياسي، الاقتصاد الحر الرأسمالي في المجال الاقتصادي، العلمانية كفلسفة فكرية وثقافية وإطار مرجعي لسائر قضايا الفكر والثقافة والنظم ومناهج الحياة.
أود أن أتجاوز المجالين الأول والثاني المجال السياسي والمجال الاقتصادي إلى المجال الثالث الذي هو المجال الفكري. العلمانية مصطلح من أكثر المصطلحات غموضًا وإبهامًا في لغتنا العربية، وقد رأيت الأخوة الباحثين الذين تناولوا هذا المصطلح ترددوا بين معان مختلفة لهذا المصطلح الغامض، ذلك لأنه مصطلح منقول من نسب حضاري مختلف، فدلالته الحقيقة لا يمكن تحديدها إلا بمعرفة ذلك النسب الحضاري بكل تفاصيله وبحل جوانبه , هذا النسب الحضاري فيه عدة تشكيلات فرعية , فهناك التشكيل الفرنسي الكاثوليكي وهناك التشكيل الإنجليزي والألماني والتشكيل الأمريكي مؤخرًا , وكل تشكيل له تعريفه ومصلحه الخاصة بالنسبة للعلمانية. ولقد خاضت هذه التشكيلات الحضارية تحولات مختلفة وتزايدت فيها معدلات العلمنة , واختلفت مواقفها من العلمانية باختلاف المرحلة التاريخية , وباختلاف الجماعة التي تقوم بعملية التعريف، ومع انتقال المصطلح إلى عالمنا العربي والإسلامي فإن المجال الدلالي للكلمة أصبح مجالًا شديد الاضطراب وسبّب اختلالًا في الفكرة المأخوذة عن هذا المجال. فمن المفكرين ومن بعض الباحثين من يرى أن أدق ترجمة للمصطلح هي العلمانية بكسر العين نسبة إلى العِلم أو بفتح العين نسبة إلى العالم، ويذهب البعض إلى تسميتها بالدنيوية، أي: الإقبال على الحياة الدنيا وحدها والإعراض عن الآخرة , وحسب هذه التسمية , فالعلمانية هي الظاهرة ـ باعتبارها ـ الزمنية أي أن كل الظواهر مرتبطة بالزمان وبالحياة الدنيا ولا علاقة لها بأي غيب، وأن كل ما يحدث في هذه الحياة لا يجوز نسبته إلى أي غيب , وأن هذه الحياة الدنيا هي الإطار المرجعي لكل شيء.(7/2271)
وأفضل تجاوز الترجمة ومصطلحات أهلها إلى النظر في المظاهر نفسها, فأقرب المصطلحات أو أقرب تعريف عربي آراه من خلال ملاحظة الظاهرة هو الدنيوية، فهي ليست عِلمانية بمعنى العلم وليست عَلمانية بمعنى العالم , لكنها دنيوية يعنى التركيز على الحياة الدنيا واتخاذ الحياة الدنيا وتجارب الإنسان وخبراته إطار مرجعيًّا لا يجوز تجاوزه في أي شيء من الأشياء، وفي هذه الحالة لا تعني العلمانية أن يتحول معتنقها إلى ملحد لكنه يكون دنيويًّا له حق الإلحاد وله حق الإيمان. تلك مسألة شخصية , لكن ليس له أن يحتم هذا الإيمان بأي شأن من شؤون الحياة، لا في سياسة ولا في اقتصاد ولا في تعليم ولا في اجتماع ولا في فكرة ولا في شيء من هذه الأسياء. هذه الدعامة التي بدأ النظام الدولى الجديد يبشر بها ويحاول أن يصوغ العالم أو يعلنه أو يدخله مرحلة هذا الدين الجديد الذي سماه بما شاء هو الوجه الجديد لهذا الغزو الفكري الذي يمكن أن نواجهه. إن المصطلح اكتسب مجالًا دلاليًّا أوسع بكثير وأصبح مصطلحًا يصف ظاهرة اجتماعية وتحولات دنيوية ليست لها علاقة محددة بأية حركة فكرية، ولو نظرنا في قواميس هؤلاء لوجدنا مصداق ذلك، إن الدنيوية ـ كما نود أن نشيع هذا المصطلح فيما بيننا ـ حركة كونية شاملة كاسحة تغطي كل جوانب الحياة، خطأ أن ننظر إليها على أنها لا تعني إلا فصل الدين عن الحياة أو فصل الدين عن الدولة , أو إعطاء مجال لحرية أو تحرك سياسي بعيد عن القيم الدينية, ليس هذا إطلاقًا هو مفهوم العلمانية ولكنها كما قلت حركة كونية شاملة كاسحة تغطي كل جوانب الحياة، وهي في وضعنا الحالي تشكل ثورة شاملة، ثورة في مجال المعرفة، وثورة في مجال النظم, فلقد تأسست على ضوء من هذه الدنيوية وعلى دعامة أساسية منها هذه العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تدخل عقولنا وأدمغتنا كعلوم نفس وتربية واجتماع واقتصاد وسياسة وقانون وإدارة وإعلام وغيرها , والتي من المؤسف أنها أصبحت المشكلة للعقل الإنساني كله وعلى مستوى عالمي والتي لم يستطع المسلمون حتى يومنا هذا أن يفكروا في مواجهتها واختراقها، اللهم إلا محاولات ضعيفة ضحلة لا تستطيع أن تواجه هذا التيار الكاسح.(7/2272)
إن هذا الغزو الجديد بأشكاله هذه يمكن أن نشير إلى أهم انعكاساته أو أهم المؤشرات عليه:
أولًا: إن أي مجتمع إنساني لا يمكن أن يخلو من إجراءات العلمنة؛ إذ إن على الإنسان مهما بلغ من التقوى والورع لابد له أن يتعامل مع الحياة الدنيا من خلال منطلقاته المعرفية , من خلال قيمه وعقيدته، لكن التعامل مع الدنيا مهما يبلغ من حركة واتساع كان دائمًا بالنسبة للأديان السماوية بصفة خاصة كان دائمًا يتم داخل إطار يشير إلى مرجع من خارج الإنسان مرجع نهائي , ذلك هو الدين يرجع الناس إليه ليضبطوا حركتهم ويضعوا لها الضوابط، حركة الدنيوية أو العلمانية المعاصرة ترفض هذه المرجع تمامًا وتنفيه وتستبعده استبعادًا تامًّا, هذه نقطة أساسية، وعلى الرغم من أن الحضارة الغريبة في العصور الوسطى كانت حضارة دينية إلا تراث الغرب الهيليني والروماني كان يحوي داخله نزعة مادية قوية تسوي بين الجسد والروح وتوحد بينهما.(7/2273)
ثانيًا: يذهب المؤرخون إلى أن تآكل نفوذ الكنيسة في العصور الوسطى وتزايد هيمنة الملوك عليها سبب نفورًا شديدًا من المؤسسات الدينية ونفورًا من الدين بصفة عامة، يشير ماكس فيبر إلى أن السمة الأساسية للحضارة الغربية المعاصرة هي نزوعها المتزايد نحو الترشيد وأنها تعبر عن هذا الترشيد بعملية العلمنة أو الدنيوية. الترشيد في أحد جوانبه يعني أن المفهوم الغربي تحويل الواقع إلى وسيلة، ولذلك قد صموا آذاننا بوجوب الرجوع إلى الواقع وتحتيم الواقع والنظر بالواقع والأخذ من الواقع، ولكن بهذا المفهوم، بمفهوم تحويل إلى وسيلة بحيث يمكن توظيفه في خدمات معينة. لكن عملية الترشيد هذه تتطلب قدرًا عاليًا من التجريد، إذ إن الإنسان إذا أدرك واقعه بشكله المعين فإنه لا يمكنه توظيفه ولا يمكن التحكم فيه ولابد أنه سيلتفت شاء أو أبي إلى ذلك الإطار المرجعي الذي هو من خارج الإنسان وخارج الحياة، مع تزايد انتشار ما يسمى بالاقتصاد العائلي والصناعات المرتبطة به زادت الحاجة لشراء المواد الخام ولدفع أجور العمال والتكاليف الأخرى، ولذلك تم البحث عن مصادر المعادن النفسية واكتشافها لتوفير العملة اللازمة للتبادل، فابتني الاقتصاد المعاصر كله على النقود، والنقود هي أكثر الأمور تجريدًا، فهي ليست سلعة ولا خدمة، وإنما هي علامة تشير إلى قيمة مجردة، كان هذا القطاع الاقتصادي الجديد من أول القطاعات التي انسلخت من نفوذ النظام الإقطاعي والكنيسة، بحيث أصبح قطاعًا مستقلًا إلى حد كبير يتحرك حسب قيمه المادية الكامنة فيه وقوانين حركته المجردة التي ترفض أن تقيد بأية ضوابط أو قيم أخلاقية، إذ كانت النقود دالًّا يشير إلى مدلول غامض، خدمات وسلع، فهو يصبح دالًّا دون مدلول أو هدف، وفي هذا قمة التجريد، وحين يدخل الاقتصاد الجديد مرحلة التراكم يصبح الإنسان جزءًا من عملية لا يحكمها تمامًا ثمثل بذاتها الغاية والوسيلة عملية تتحرك دون هدف واضح، ساهمت حركة الاكتشاف في توسيع آفاق الإنسان وظهور تعددية في الرؤيا تولد إحساسًا بنسبة الواقع مما قوى من دعائم الإيمان الديني، ولكن هذه النسبية جعلت العقل قادرًا على تجاوز المعطيات المتعينة التي يشاهدها ويشعر بها الإصلاح الديني البروتستاني الذي شكل أول خطوة نحو علمنة عقل الإنسان الغربي، إذ جعل الخلاص مسألة فردية , وجَعْلُ الدين أمرًا فرديًّا خاصًّا هو الذي ساعد على جعل عمليات التحول تتم من خلال قضايا سميت بقضايا التقشف والعمل المضني المستمر، وقد قضي الإصلاح الديني على أهم المؤسسات الوسيطة وهي الكنيسة بكل مؤسساتها، وظهرت الفلسفة الإنسانية التي وضعت الإنسان في مركز الكون بحيث يصبح هو الهدف النهائي لوجوده ولا هدف له بعد ذلك، وتطور العلم والفلسفات العلمية والمادية التي وضعت المادة في مركز الكون وحاولت أن تنظر لكل شيء من منظور دنيوي محض، هذه الفلسفة بكل تضاريسها، بكل أبعادها شهدت تصاعدًا ملحوظًا وتنمية لتجعل منها دينًا بديلًا يمكن أن يحل - أو يريد أن يحله أصحابه - محل سائر الأديان وليس الإسلام وحده.
وتتخذ العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية الإطار الذي تنطلق منه ومن خلاله هذه الدنيوية لفرض ذاتها على العالم الجديد، وما لم تتم عملية أسلمة مقابل علمنة لهذه العلوم الإنسانية والاجتماعية تجعل للمسلمين علومًا إنسانية واجتماعية من منطلق إسلامي تستمد من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاحظ تراثنا واحتياجاتنا وتلاحظ هذا العالم من منظور الإسلام لا من منظور الغرب ويكون لها مرجعها لا يمكن أن تواجه هذه الهجمة الجديدة للدنيوية وشكرًا.(7/2274)
الشيخ محمد الزياني:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
موضوع الغزو الفكري من المواضيع التي كانت ولا تزال السمة البارزة في كتابات هذا القرن منذ بدايته، ولكثرة ما كتب فيه من كتب ومقالات ولكثرة ما عمل حوله من ندوات على مدار هذا القرن، فقد خيل للبعض أن هذا الموضوع هو نوع من الوهم، ولذلك رأينا باحثًا إسلاميًّا يصدر في الفترة الأخيرة كتابًا بعنوان الغزو الفكري وهم أم حقيقة؟ وعلى أساس ذلك كان اطلاعي على بعض البحوث وليس على كلها اطلاعًا جزئيًّا لعدم وجود الوقت لذلك ,ولذلك أجدني أختلف مع معظم البحوث على الأقل في تحديد بدايات هذا الغزو، ومعظمها مال إلى أن هذا الغزو الفكري قد بدأ في أكثر الأحوال منذ الحروب الصليبية، وأنا أعتقد أن الغزو الفكري أمر استهدف العقيدة الإسلامية، ولذلك فهو قد بدأ منذ صدع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, الغزو الفكري مرحلته الأولي تبدأ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت أدواتها تتمثل في الشرك والنفاق إلى جانب اليهود، وحتى ما تناولته هذه البحوث التي نحن بصددها اليوم من قضية الطعن بالقرآن الكريم وأن المستشرقين يطعنون في القرآن الكريم بأشكال متعددة، فإن هذه أيضًا ليست جديدة، فلقد تم ذلك في الفترة المبكرة التي أشرت إليها وقد عبر عنها القرآن، ونظرًا لخطورتها وأثرها في الدعوة الإسلامية فقد تكفل القرآن بالرد عليها وكان الرد قويًّا لدرجة أنه لا يمكن أن يتحمل أي طعن جديد {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} ليس هناك طعن أكثر من هذا الطعن في مصدرية القرآن وليس هناك رد أبلغ من هذا الرد، ولذلك كل محاولات المستشرقين بعد ذلك في تناول القرآن بالطعن تعتبر ثانوية إذا ما قيست بهذه القضية، ثم بعد ذلك توالت صور الغزو الفكري في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، من تلك الفتن التي أثارها المنافقون وتلك الأسئلة التي كان يثيرها اليهود أيضًا من حين لآخر مستهدفين بها خلخلة أفكار المسلمين وخلخلة عقائدهم، وأنتم أعلم بهذا مني ولا داعي للتذكير بها، بعد ذلك جاءت المرحلة الثانية، وهي مرحلة ما بعد الخلافة الراشدة والتي توسعت بها صور الغزو الفكري وشملت تدخل اليهود في الفكر الإسلامي من خلال بعض المفاهيم التي سربت إلى هذا الفكر والتي نتج عنها كما تعلمون ما يسمى بالإسرائليات، ونتج عنها في الإطار الآخر تجديد الطائفية والفرقة والتنازع بين المسلمين، ثم تأتي المرحلة الثالثة والتي أشارت لها بعض البحوث وهي مرحلة ما بعد الحروب الصليبية، ومرحلة ما بعد الحروب الصليبية كانت نتيجة لتاريخ مطول أو تاريخ طويل من الصراع بين الإسلام والكفر، هذا الصراع اتخذ مظهرًا مسلحًا عبر كل اللقاءات التي لقي المسلمون فيها أعداءهم، وهذا النوع من الصراع كانت الغلبة فيه دائمًا للمسلمين على الرغم من قلة العدد والعدة في كل المعارك الإسلامية، ولذلك جاءت ثمرة الحروب الصليبية أن تعطي مؤشرًا بأن هؤلاء المسلمين لا يمكن لأي إنسان أن يتغلب عليهم لأن في دينهم شيء يسمى الجهاد، فالجهاد لابد أن يطمس من حياتهم حتى يمكن التغلب عليهم، من هنا حصل التحول الخطير في تاريخ العلاقات الإسلامية الغربية أو اليهودية، وبدأ المشركون بجميع أشكالهم يخططون لما يمكن أن يسمى بالغزو الفكري اليوم، تعلمون أن موضوع الجهاد من أخطر المواضيع، ويوم أن ابتعد المسلمون عن الجهاد فإن الخط الحضاري الذي كان يصعد بدأ ينحدر , وهذه المشكلة مشكلة الجهاد لا زالت حتى هذه اللحظة تعد من أخطر المسائل التي إذا بحث فيها المسلمون دق ناقوس الخطر عند أعدائهم، وحتي في صراعاتنا الحالية تتولى وكالات الأنباء بجميع أنواعها وصورها طمس هذا المفهوم، حتى إذا تحدثت عن قتلى المسلمين فلا تقول استشهد من المسلمين كذا أو استشهد في فلسطين كذا وإنما تقول قتل.(7/2275)
تأتي بعد ذلك المرحلة الرابعة ربما، وهي المرحلة ما بعد استعمار العالم الثالث، تلك المرحلة التي قسم بها العالم الإسلامي، قسمت فيها دول العالم الإسلامي، هذه المرحلة استهدفت شيئًا آخر، استهدفت وضع الحدود بين دول العالم الإسلامي كما تعلمون، كان المسلمون يتواصلون , وكان الإنسان المسلم يذهب من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق يدرس ويتزوج ويمتلك ويعيش ولا أحد يتعرضه ولا أحد يتوجس خيفة منه، ولنا في العلماء الكبار صور كثيرة أنتم أعلم بها أيضًا , فبعد استعمار العالم الثالث وضعت الحدود بين دول العالم الإسلامي , وبوضع الحدود تم قطع التواصل بين أفراد العالم الإسلامي، وخاصة بين مثقفيه. والنتيجة أننا لا نعلم شيئًا عن الآخر , ولولا هذه المؤتمرات التي تجمعنا فإننا لا نعلم عن بعضنا شيئًا إلَّا ما يقال عبر إذاعات الغرب، لا أحد يعلم بما في الشرق من إصدارات ثقافية , ولا أحد يعلم بما في الغرب من إصدارات ثقافية أيضًا، وبقطع التواصل الثقافي تم إدخال الريبة والتوجس من المسلمين بعضهم ببعض، وبدأنا نشك في كل كلمة يقولها إنسان مسلم آخر ونحورها إلى مناحٍ شتى نتيجة عدم علمنا بما يجري بداخل هذه الأمة، أنا أشك في جاري التونسي، وجاري التونسي يشك فيَّ أنا كذلك، وهكذا بقية العالم الآخر الذي أدت هذه الحدود نهائيًّا ما يدور في العالم الإسلامي بين أجزائه، ثم تأتي المرحلة المعاصرة، وهي التي دخلت فيها الصهيونية كطرف في الصراع قوي جدًّا والتي أدت إلى نشوء التيارات الفكرية المختلفة , وأدت إلى ظهور الحركات الهدامة، ونعرف اليوم في جميع أنحاء العالم الإسلامي كثيرًا من الحركات الهدامة كالليونز والروتاري وشهود يهوه وما إلى ذلك، ويتم الإعلان عنها في دول العالم الإسلامي في كل مكان وبصورة واضحة، هذه في تصوري تاريخ هذه المرحلة مرحلة الغزو الفكري، أما جناحاه فإنني أحصرهما في شيئين اثنين الجناح الذي تعامل مع العالم الإسلامي أكاديميًّا، وكما يقولون علميًّا ولا أعتقد بأنه علمي، وهو الاستشراق، والاستشراق تعهد للعالم الغربي بأن يعرف الغرب بالعالم الإسلامي بأن يعرفه بكل شيء ثم يتولى بعد ذلك مهمة تسريب كل الأفكار التي يريدها الغربيون كما تحدث فضيلة الدكتور طه ـ حفظه الله ـ لكن هذا الاستشراق الآن قد أدى إلى أن يكتسب منه المسلمون حساسية معينة، ولذلك في المؤتمرات الأخيرة للاستشراق أعلنوا عن موت الاستشراق، ولم يعد هناك كما يتصورون استشراقًَا، بينما تدل الإحصاءات على أن اثني عشر في المائة من ميزانية التعليم يخصص لتكون المستشرقين الذين هم خبراء شرق أوسطيين الآن , وإذا حولنا هذا الرقم اثنا عشر في المائة إلى رقم عددي فإنه ما يقرب من أربعين ألفًا كما تدل المصادر، أما الجناح الآخر وهو التنصير، وهنا أنبه إلى أن مصطلح التبشير مصطلح خاطئ، ولا أعتقد أن له أصلًا لغويًّا, التنصير وهو ذلك الذي تولى الدخول إلى بلدان العالم الإسلامي في تلك المناطق التي لا يستطيع الفكر أن يدخلها دخل بآلياته المختلفة , وأنا لا يهمني فيه الشكل القديم الذي كما تعرفون يعتمد على الخبز والدواء والعلاج، وإنما يهمني به الشكل المعاصر الآن، ومن الشكل المعاصر أذكر تلك الخطة الجهنمية التي يحاول المنصرون الآن استخدامها في مواجهة المناطق التي يسمونها مغلقة أمام العمل التنصيري، هذه المناطق التي يقصدون بها دول العالم الإسلامي التي لا يمكن للتنصير أن يدخل فيها علنًا، هذه الخطة يسمونها بالجوالون، والجوّالون هم أولئك النفر من الناس الذين يدخلون إلى العالم الإسلامي تحت ستار العمل في الشركات والمؤسسات التجارية المختلفة، وهؤلاء يتم اختيارهم بصورة دقيقة، وتدل المصادر على أن بعض الدول الإسلامية قد أخذت بعض العاملين من مصر، وكان التخطيط أن يتم أخذهم كلهم من الأقباط وبتخطيط من الكنيسة، وهذه الفكرة فكرة الجوالون يستهدف منها محاولة الوصول إلى ما لم تصل إليه جحافل المنصرين علانية. إذا انتقلنا إلى نقطة أخرى، ما هو حجم الغزو الفكري؟(7/2276)
أعتقد أن حجم الغزو الفكري أكب من أن يكون حجم فرد، وأكبر من أن يكون حجم كتاب أو صحيفة أو ما إلى ذلك، إنه حجم دول، دول كاملة، العالم الغربي كله وأمريكا معه، كلها تشترك في هذا الغزو الفكري المعاصر، وتخصص له من الإمكانيات المادية ما لو استعرضناها لأصحبنا في خجل من أمرنا حين نتكلم عن الاتفاقات التي ننفقها في مجال التعليم أو حتى في مجال الدعوة الإسلامية. النقطة التي بعدها، ما هي آثاره؟ ما هي آثار هذا الغزو الفكري في عالمنا المعاصر الآن؟ أعتقد أن آثاره تبرز فيما نحن عليه الآن من وضع في كل مناحي حياتنا على المستوى السياسي، نحن كمسلمين الآن نقبل بالديمقراطية الغربية ونقبل بالتعددية الحزبية ونصر عليها ونعتبرها مظهرًا من مظاهر التقدم والحضارة، ولا أعتقد أن أحدًا منكم يستطيع أو على الأقل يمكن أن يدلني على تأصيل التعددية الحزبية تأصيلًا إسلاميًّا. المظهر الثاني في النشاط الاقتصادي، أصبحنا نحن الآن ندعو ونتمسك ونتعامل بالنظام الاقتصادي الحرّ، ولا أعتقد أن هذا له علاقة بنظامنا الاقتصادي الإسلامي الذي يدعو إلى توزيع الثروة بالعدالة , ويدعو إلى كل ما يمكن أن يحقق للفرد كرامته ويبعد عنه سرقة أمواله، كان لذلك أيضًا آثاره في مظاهرنا السلوكية، أصبحنا نميل إلى أن نقلد الغرب في كل مظهر سلوكي ابتداء من ملابسنا وبطرق أكلنا ومواصلاتنا ومسكننا وما إلى ذلك، وهذا ربما نعذر فيه لأنه يعتبر من تقليد المغلوب للغالب كما يقول بعض العلماء، من مظاهره أيضًا أننا أصبحنا ننفتح على الفكر الغربي انفتاحًا كبيرًا لدرجة أنه تسربت من ذلك كل القضايا التي تحدثت عنها هذه البحوث، وأصبحنا نتحرج من أن ننفتح على الفكر الإسلامي، وحتي أولئك الذين درسوا في الغرب وتعلموا لغته لم يستطيعوا أن ينفتحوا على فكرنا الإسلامي وأن يقدموه للعالم، وتركوا المجال للآخرين أن يقدموا الفكر الإسلامي بالصورة التي يريدها. الذين ملكوا اللغة العربية يتحرجون حتى من تحقيق كتاب أو من نقله إلى لغة أخرى لأن ذلك يعتبر مظهرًا من مظاهر التأخر كما يقولون، الأثر الكبير هو اختفاء الشعور الإسلامي، هذا هو الأثر الخاتم لهذه الآثار التي غزانا بها الفكر الغربي. نحن نعيش اليوم في عصر يذبح فيه المسلمون في كل مكان ويقتلون بأبشع صور، ونشاهد ذلك أمام أجهزة الإعلام ولا نحرك ساكنًا بل نتندر أحيانًا بما نفعل، وأحسن حال أن يقول بعضنا: لا حول ولا قوة إلَّا بالله، هذه هي في تصوري آثار الغزو الفكري الذي نحن نعيشه الآن، والسؤال المهم والخاتم، ما العمل؟ هل يمكن بكتابة كتاب حول الغزو الفكري أن نفعل شيئًا؟ هل يمكن بإقامة ندوة أن نفعل شيئًا؟ أعتقد أنه كما أن الحجم حجم دول فإن المجابهة يجب أن تكون مجابهة دول، ما لم تتبنى الحكومات الإسلامية وعدتها الشعوب الإسلامية خطة تستهدف تحسين العالم الإسلامي بتربية إسلامية نقية تدخل كل مدارسنا ومؤسساتنا العلمية فإننا لن نستطيع أن نخلق النموذج المسلم الذي يستطيع أن يجابه هذا الفكر الغازي وشكرًا.(7/2277)
الشيخ عبد القادر العماري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
نشكر الأخوة الذين قدموا هذه البحوث القيمة، وإن شاء الله يكون لها أثرها في العمل، الغزو الفكري له مطايا، لم يأت إلينا بدون مطايا يركبها، من هم هؤلاء المطايا؟ إنهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والغزو في المجال الثقافي وفي المجال القضائي وفي مجال الأسرة والمرأة وفي الحكم وفصل الدين عن الدولة، من يقوم بذلك هنا في العالم الإسلامي غير أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا؟ أجهزة الإعلام مفتوحة أمامهم، الصحف أمامهم كل يوم نقرأها والمجلات الأنيقة الجميلة فيها المقالات التي تطعن في القرآن وتطعن في السنة، الكاتب الذي هو في موقف وفي مركز مرموق يتكلم ويطعن في القرآن ويقول إن تَّبت، سورة تبت هذه وضعها الأمويون، يقوله بصراحة في مجلات تنشر بأموال الحكومات ويقول عن الحديث الشريف، ويعلق على حديث ((كل بدعة ضلالة)) يقول: هذا الحديث لا يمكن أن يصح وليس صحيحًا؛ لأنه يمنع الإبداع , يقوله في مجلات تصدر في بلاد إسلامية وبأموال إسلامية ولا أحد ينتقده , ويطعن في علماء المسلمين ويطعن في الرموز من الصحابة، حزب من الأحزاب اليسارية الذين أفلسوا وأرادوا أن يلجأوا إلى فكر يريدون أن يلبسوا على الناس بأنه من التاريخ الإسلامي، هو فكر القرامطة، ويصدر كتابًا يسميه الثقافة الإسلامية، يطعن في سيدنا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، ويقول إنه كان يجامل ابن عمه عبد الله بن العباس ويهيئ له الاستقلال، ويطن في الخلفاء االراشدين جميعًا، في البلاد الإسلامية هذا يجري، ولكن ماذا نعمل نحن؟
الحكم في القضاء، أي دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية؟ وللزوج أن يتنازل في القضية أمام المحكمة إذا زنت امرأته ويعتبر الأمر كأن لم يكن، أليس هذا مصادم لنصوص شرعية في الكتاب والسنة، ألسنا مسلمين؟ نقول نحن مسلمون ولكن بالكلام، والعمل لا شيء من ذلك، كيف يقولون الآن في جميع الجرائد وفي جميع المجلات: هناك إسلام سياسي؟! هم يريدون إسلامًا سياحيًّا، إسلامًا يعتني بالزخرفة وبالمنائر والتراث، بالأغاني والخيام والتراث القديم والحديث، إسلام سياحي لا يريدون إسلامًا سياسيًّا، يقولون: هؤلاء الأصوليون دعاة الإسلام السياسي، دعاة تطبيق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , يقولون: إنهم دعاة الإسلام السياسي، هذه في كل المجالات في كل العالم الإسلامي يقال ذلك، أين الذين يتصدون؟ أجهزة إعلامنا كلها ضحايا للغزو الفكري، هناك ممسوخون، يجب علينا أولًا ـ قبل أن نحارب أولئك البعيدين الذين أرسلوهم والذين يمولونهم، الدول الغربية كلها لها عملاء في عالمنا الإسلامي ـ أولًا علينا أن نحارب العملاء ونعريهم , ثم بعد ذلك نتقوى ونكون أقوياء ونكون وحدة واحدة على أولئك البعداء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وشكرًا.(7/2278)
الدكتور عدنان صقال:
بسم الله الرحمن الرحيم.
إنني كطبيب أرى أن السادة الباحثين في موضوع الغزو الفكري أغفلوا ناحية مهمة جدًّا وهي الغزو عن طريق الناحية الصحية , وأقصد بها المستشفيات والبعثات الطبية والمدربة تدريبًا جيدًا على التبشير، أما التركيز على الناحية الطبية فهم أصابوا قلب المشكلة، إن الأمراض التي تفتك بالعالم الثالث ـ إن صحّت التسمية ـ كثيرة، فجاءت البعثات الطبية تريد أن تمسح آلام هؤلاء الناس كما كان المسيح يمسح آلام الناس ـ كما هم يقولون ـ فأعطوهم الدواء والمريض كالغريق، فكما أن الغريق لا يهمه الكلام عن النجاة بل يحتاج إلى من يمد له يد السلامة، فكذلك المريض. والمريض كالجائع، فكما أن الجائع لا يشبعه التكلم عن أنواع الطعام فكذلك المريض لا يرتاح إلَّا لقطعة من دواء أو لمسة يمسحها الطبيب على جبينه، هناك زميل مسلم يعمل في إحدى الدول الإسلامية بشركة بترول، وهذه الشركة كانت شركة أمريكية، حدثني هذا الزميل وهو يحمل الجنسية الأمريكية أنه حضر فريق من أمريكا إلى الشركة، وأعلن عن اجتماع مغلق للأمريكان، وأثناء الإجتماع تقدم قس وقال لهم: يجب أن تعلموا أن لكم مهمتين؛ الأولى أن تقوموا بالأعمال الفنية الموكلة إليكم، أما الثانية، فلا تنسوا أنكم مبشرون، ونعلم ـ والكلام للقس ـ أعلم أنكم لا تستطيعون أن تقولوا للمسلم: أترك دينك وكن مسيحيًّا ,ة فإنه غباء ويجب أن لا نتصرف بمثل ذلك، ولكن عليكم أولًا بدعوتهم إلى ترك الدين بصورة عامة لأنه لا يتلائم مع هذا العصر، ثانيًا إشراكهم بالحفلات الماجنة المغلقة، ثالثًا تبيان أن الخمر مفيد للجسم وخاصة بالبلاد الحارة، رابعًا أن تدخلوا إلى بيوتهم عن طريق الطب والتطبيب وإعطاؤهم الأدوية وإرسالهم على حسابنا إلى أمريكا لإجراء بعض المداخلات الجراحية إن لزم ذلك.
أخيرًا هناك طبيب أفريقي كان يحضر مؤتمرًا في لندن أخبرني أن في أفريقيا أرسلت إسرائيل أئمة علم وخطباء للجوامع لوعظ المسلمين الأفارقة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وشكرًا.(7/2279)
الدكتور محمد علي الرفاعي:
بسم الله والحمد لله والسلام على رسول الله.
احترامًا لوقتكم ولفضل علمكم فإن مداخلتي ألخصها بنقاط محددة إن شاء الله تعالى.
الفكرة الأولى: أحسب أن الغزو الفكري هو وسيلة من وسائل التدافع الدولي وهذه الوسيلة يسخرها البعض لإضعاف أو تغيير طرف لحساب طرف آخر يسعى للهيمنة على القرار الدولي ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وبعبارة أخرى إن الغزو الثقافي هو وسيلة من وسائل الصراع الحضاري بين الدول والثقافات والأديان.
الفكرة الثانية: إن قضية الغزو الفكري أو الثقافي قضية قديمة والجديد فيها ما سخر لها من وسائل وامكانات وما سخر لها من استراتيجيات دولية ضخمة تقف وراءها دول ومنظمات دولية ذات شأن كبير، أما عن قدمها فهو في قول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ؛ {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}
هذا أمر محسوم قرآنيًّا وبالتالي ما ينبغي أن نطيل به الحديث إلَّا إذا أردنا أن نتعرف على الوسائل لنحاكيها بوسائل مكافئة إن لم تكن متفوقة.
الفكرة الثالثة: نحسب أن قضيتنا الرئيسية مع الغزو الثقافي أو الغزو الفكري هي: كيف نتعامل مع هذا الغزو ما دام أن قضية الغزو هي قضية قديمة وقد واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم وواجهها النهج الإسلامي , فكيف نحن نواجه هذا الغزو في تاريخنا المعاصر؟ نحسب أن هذه هي الإشكالية الكبرى التي يجب أن نبحث عن أسبابها ومقوماتها وإمكانياتها التي نواجه بها هذا الغزو، وهذا هو بتقديري موضوع الجهاد البياني في نهجنا الإسلامي، أنا أقول أن الجهاد ذو شقين شق بياني وشق قتالي , وأن الشق القتالي هو طارئ في منهجية الجهاد الإسلامي، الأصل في الجهاد هو جهاد البيان كما جاء في قول الله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}(7/2280)
الأصل بيننا وبينهم هو جهاد بيان وجهاد أديان وجهاد عقائد وجهاد ثقافات، ويوم نحن نرتقي بأنفسنا لمثل هذه المواجهة الثقافية الفكرية نكون نحن قد تعاملنا مع منهجنا، كيف نواجه هذا الزحف الثقافي ونحن نتمنى أن يبقى الصراع بيننا وبينهم صراعًا ثقافيًّا وفكريًّا؟ إلَّا أن الإشكالية التي نواجهها هو أن هذا الغزو الثقافي عندهم هو مقدمة لغزو عسكري وغزو هيمني على الأمة، إلَّا أننا نحن عندما نتحدث عن تحركنا الثقافي نتكلم عن ذلك ونحن معزولون عن أي استراتيجية تكمل خطوات توجهاتنا أو خطوات ما نريد في مواجهة هذا الغزو، وهذا ما أشار إليه الإخوة بأن ذاك الغزو تدعمه قوى وتدعمه منظمات ونحن أمة لا بواكي لها، إلَّا أنه هذا لا يجعلنا نقف مكتوفي الأيدي ولا ينبغي أن يكون مبعثًا لليأس في نفوسنا، فلا بد أن نورث أجيالنا استراتيجية أو منطلقات أو ثوابت أو مفاهيم محددة بين يدي استراتيجية عمل إسلامي، لعل أجيالنا المستقبلية أن تجد ما يعينها بإذن الله تعالى على مواجهة هذا الغزو الحضاري أو الثقافي أو الديني، وهنا اسمحوا لي أن أحدد بعض النقاط التي تشكل أساس استراتيجيتنا أو أساس استراتيجية إسلامية مضادة لهذا الغزو الذي أطلعنا عنه الحديث وعن تفصيلاته، أحسب أن أول مقوم وأساس هذه الاستراتيجية يقوم على وحدة فهم الأمة لأساسيات وكليات الإسلام , إن غياب وحدة مفهوم الأمة حول أساسيات وكليات الإسلام هو مبعث تمزق هذه الأمة ومبعث فرقتها وبالتالي لا بد أن نركز، وهذا المجمع الطيب المبارك يعتبر القاعدة الأساسية للأمة، بأن يخرج من بين أيديكم ما يوحد مفهوم هذه الأمة ومفهوم أجيالها في أساسيات وكليات الإسلام في التعامل مع مجتمعاتنا القائمة، وبالتعامل ما بين مجتمعنا الإسلامي المنتظر والمجتمعات الغير الإسلامية القائمة، واسمحوا لي كذلك أن أشير إلى بعض ثوابت فهمنا لاستراتيجيتنا الإسلامية التي لو استطاع المجلس أو هذا المجلس الفقهي المبارك أن يشكل لجنة طويلة الأمد تبحث هذه الثوابت وتجمعها وتشكل منها قاعدة لوحدة فهم إسلامي، أحسب أنه سيكون هذا العمل هو عمل مبارك سيجعلنا نتحول بأنفسنا من الأقوال إلى الأعمال.(7/2281)
أما ثوابت فهمنا فألخصها بالنقاط التالية:
أولًا لابد أن يكون واضحًا أن الدين عند الله الإسلام، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ؛ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ؛ {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} ؛ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ؛ {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} ؛ {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ؛ {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . وهناك نصوص من السنة والسيرة تشير إلى أدبيات وقيم تعاملنا مع غير الإسلام، مثل ما جاء في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف الفضول , ومثل ما جاء من طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة بالهجرة الأولى أن يذهبوا إلى رجل لا يظلم عنده أحد وهو نصراني، مثل كذلك ما جاء في وثيقة صلح الحديبية، وكذلك في محاور التحرك يوم الأحزاب، وكذلك ما جاء في وثيقة المدينة المنورة ثم جاء من أقوال على لسان أئمة هذه الأمة، وأذكر منها مثلًا في إطار دراسات ولا سيما في ما جاء على لسان الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، إذ يقول في السياسة الشرعية كلامًا أقف أمامه وأجد أنه قابل لأن يعتبر منطلقًا من منطلقات التعامل الدولي، يقول ابن تيمية: إن الله لينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الجائرة، وقفت عند هذا النص وقلت هل يوجد دولة كافرة عادلة؟ وهل يتحقق العدل بغير الإسلام؟ وقفت أمام هذا الكلام وأطلت النظر به ثم رجعت إلى كتب وإلى أقوال، فوجدت مع مقابلة النصوص ومقابلة الأقوال فوجدت بالفعل أنه يمكن لدولة كافرة أن تقيم عدلًا، لكن هذا العدل لا يقوم على أساس إيمان إسلامي أو عقدي، إنما يقوم هذا العدل على أساس فطرة الإنسان ونزوعه نحو الخير ونزوعه لإلحاق الحق في حياته الخاصة، فقلت: إذن العدل هو قضية الإسلام الأولى، ومادام العدل هو قضية الإسلام الأولى وأن الله سبحانه وتعالى وصف الشرك بالظلم {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إن أكبر قضية وأساس قضية الإسلام في الأرض هي إقامة العدل ومن هنا لا بد في الحقيقة أن تجمع هذه النصوص، وهناك قول آخر جاء كذلك بفتاوى ابن تيمية رحمة الله عليه، يقول: الشريعة جاءت لتحسين المصالح وتكميلها وإلغاء المفاسد أو تقليلها. هذا القول بالإضافة إلى أقوال كثيرة لأئمة المسلمين ولسلفهم وللتابعين أجدها كلها تشكل موضوعًا متكاملًا لو شكلت لها لجنة من هذا المجمع الطيب المبارك لاستطاعت أن توفق بين هذه النصوص وتخرج لنا باستراتيجية تنظيرية أولًا، ثم استراتيجية عملية كيف نواجه فيها هذا الغزو.(7/2282)
ثانيًا: بعد هذا التفصيل الموجز أقول: إخواني إن الإسلام كما تعلمون عقيدة وفكرة ومنهج ونظام، وهذه الرباعية المتسقة تتمحور كلها حول قضية العقيدة، إذا صححت مفاهيم العقيدة في الأمة اتضحت فكرة الأمة , ومن ثم اتضح مسارها المنهجي , ومن ثم اتضحت هويتها النظامية. والسؤال الذي هنا أطرحه على نفسي ويطرح علينا في كثير من الملتقيات الأوربية وفي كثير من الملتقيات الثقافية خارج البلدان الإسلامية، وهذه الأسئلة ألخصها إليكم وأعتبرها هي مثار سؤال واحد ينبغي أن يكون موضع اهتمامكم، يقول لنا غير المسلمين: هل المسلمون يصرون على أن السيادة الكاملة الشاملة في الأرض ينبغي أن تكون للإسلام عقيدة وفكرة ومنهاجًا ونظامًا فحسب أم أن المسلمين في إطار معاني لا إكراه في الدين يقبلون بسيادة النظام الإسلامي وهيمنته دون عقيدته على حياة الناس مع قبول استمرار كيانات سياسية غير مسلمة؟ ثم يقولون سؤالا ثالثًا: هل المسلمون يخولهم إسلامهم بقبول مبدأ المشاركة الدولية لتحقيق مصالح عليا للإنسانية , لتحقيق تعايش بشري على أساس من العدل والأمن والاستقرار؟ وهل المسلمون يصرون على أن لا يحقق العدل إلَّا بالسيادة السياسية من خلالهم أم أنهم يقبلون بكل ظاهرة تحقق العدل في الإنسانية ويصحبون هم شركاء في إقامة العدل بالأرض ويقبلون بالتعددية السيادية للكيانات السياسية من غير المسلمين؟ هذه أسئلة أيها الإخوة، أسئلة نواجهها ونحن نلتقي مع غير المسلمين بملتقياتنا وندواتنا وفي مؤتمراتنا ونجد أنفسنا، لا أقول عاجزين، ولكن مضطربين في الإجابة الدقيقة عليها؛ لأننا إذا رجعنا إلى كتبنا المرجعية نجد اختلافًا كبيرًا، والبارحة سهرت سهرة طويلة مع ما قدم في قضايا العلاقات الدولية وفي قضايا الغزو الفكري، مع تقديري لكل ما قدم من جهود، لكل ما قدم وبذل من إمكانيات ودراسات موضوعية وعلمية، لكن عندما يقترب الأخ من قضية العلاقات الدولية يصبح متحفظًا ويتحدث كلامًا مقننًا صغيرًا لا يستطيع أن يقول فيه شيئًا، فكأنه يرى أن هذه النقطة إما أنه غير مؤهل أو أنه محرج أدبيًّا أن يقول كلامًا أو يقول قناعاته، فأرجو أيها الأحباب في مثل هذا المجلس أن نكون صرحاء وأن نواجه القضايا بجرأة وبجدية وبموضوعية، وأن نكون موضوعيين مع أنفسنا حتى نستطيع أن نكون موضوعيين مع غيرنا وهذه قضية، قضية ثانية الحقيقة أريد أن أختم بها حديثي، عندما تحدث الأخ الكتور طه العلواني وهو يعيش الآن في الغرب وكنت أحسب أنني سأسمع منه كلامًا يشفي غليلي إلَّا أنني للأسف صدمت، صحيح أنه قال معاني كثيرة هي موضع اتفاق لاشك في ذلك , إلَّا أنني صدمت أنه قال معاني أحسبها أنها موضع نظر وتحتاج منه إلى مراجع لأنها تشكل أساسيات في الفهم الإسلامي في مواجهاتنا الدولية مع الآخرين، وبالتالي ما ينبغي نحن أن نواجه القضايا بعاطفية وأن نواجهها باستعلاء إيماني معزول عن واقعية، نعم الاستعلاء الإيماني عندنا شيء أساسي لاشك في ذلك , لكن هذا الاستعلاء الإيماني كيف تعامل من خلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعدائه ومع خصومه ومع غير المسلمين؟ نجد أن السيرة في الحقيقة تكتنز لنا كثيرًا من المآثر التي تجعلنا أن نعيد النظر في قضية تعاملنا مع غيرنا مع الحفاظ على الثوابت والمنطلقات ومع الحفاظ على الاستعلا الإيماني في إطار قوله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .
هذه مداخلة متواضعة ورؤوس أقلام ما أردت أن أفصل بها والتفصيل بها يطول , وشكرًا لكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/2283)
الشيخ مصطفي الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم.
إخواني الأساتذة الكرام، أنا لا أريد أن أكرر أو أخوض في الموضوعات الأساسية التي عرضها الأساتذة الكرام وأوفوا فيها على الغرض، ولكني أريد أن ألفت الأنظار إلى ناحية هي في ذاتها فرعية من مئات فروع قاعدة الغزو الفكري وأساليبه ووسائله، ولكنها في نظري هي أهم في عصرنا هذا وحياتنا الواقعية من الجوانب الأخرى الأساسية في هذه القاعدة، تلك هي قضية التلفاز، وكنت أحب أن يركز عليها الكلام بالقدر الذي تستححقه قضية التلفاز، تعلمون ولا أريد أن أطيل فكلّكم يعلم التفاصيل وكلكم أو معظمكم ومعظم المسلمين أصبح هذا الجهاز في بيته يغزو عائلته وأولاده وبناته وزوجته وما إلى ذلك , وكل هذا ينقل الحياة الغربية بما فيها من أمور تتنافي تمامًا مع الإسلام ومن سلوكيات انحلالية، وتعرفون مدى هذه الكلمة ومدلولها كل هذا ينقل، كان ينقل قديمًا قبل التلفاز عن طريق السينما وكان للإنسان أن يمنع أولاده أو أسرته عن السنيما فلا يأذن لهم، ولكنه لم يعد يستطيع أحد أن يخلي بيته من التلفاز الذي أصبح وسيلة معشوقة لدى أولاده ولو كانوا طلابا بالمدارس ويلهيهم عن دروسهم وكذا وكذا، وخاصة سلوك النساء الذي يراه في التلفاز، هناك غزو دخل بيوتنا يعنى الكتب والأساليب والمستشفيات، وكل ما تحدث عنه الإخوان إنها في مجال خارجي ولكن هذا الجهاز وما أسس عليه في برامجه التي معظمها برامج يهودية إخراجاتها السينمائية مخططة من قبل اليهود هذا خصص خصيصًا لهذا التهديم الأخلاقي والسلوكي وما إلى ذلك مما تعلمون ونشر الانحلالية، هذه الانحلالية هي التي تسهل بعد ذلك كل وسائل الغزو الفكري الأخرى أن تنفذ بلا معارض ولا حاجز، لا أريد أن أكثر الكلام لأنكم تعلمون من واقعه مثلما أعلم ولكني أيضًا في الوقت نفسه أحب أن ألفت النظر إلى ظاهرة نأسف لها، وهي أنه في البلاد الموثرة وخاصة في بلاد الخليج أصبحت هناك وسيلة لتعميم الاطلاع على جميع محطات وقنوات التلفاز، ذلك الهوائي الراداري الذي هو شبيه برادار الأقمار الصناعية، وقد بلغ خمسة أمتار وقد يبلغ مترًا واحدًا وينقل إلى صاحب البيت وأسرته وأولاده وبناته وزوجته، ينقل إليهم القنوات التلفازية وبرامجها التي تعمل وخاصة في أمريكا على مدي أربع وعشرين ساعة، ينتقل فيها من برنامج إلى برنامج ومن محطة إلى محطة ويعرض فيها في منزله وفي بيته وتعرض فيها الأفلام الماجنة والخلاعية التي لا تعرض عادة في السهرات العادية وحدودها من الليل، كل هذا أصبح موجودًا ومنتشرًا، وتعلمون ما وراءه من مآسٍ وما أنتج من سلوكيات ومن انحلاليات، أنا أرى وأريد أن أوجز جدًّا أن يصدر عن هذا المجمع الكريم توصية وترسل إلى حكومات البلاد الإسلامية جميعها عربية وغير عربية، نظرًا لأن هذا الجهاز وهذه الهوائيات المتطورة جدًّا والتي تساعد على نجاح الغزو الفكري في كل آفاقه وسلوكياته هو بيد الحكومات، يعني اليوم في العالم الإسلامي كله والعربي قضية التلفاز والبث وما يتبعها، كلها في يد وسائل الإعلام في حكومات البلاد الإسلامية.(7/2284)
لذلك أقول أن يتوجه هذا المجمع الكريم بتوصية إلى حكام البلاد الإسلامية جميعًا بأن يتقوا الله في توسعة وتوسيل اقتناء هذه الرادارات على الأقل وأن يهتموا بالأفلام التي يستوردونها ويبثونها من محطاتهم المحلية، أن يهتموا بتنقيتها وأن لا يسمحوا فيها لكل ما يراد، فهناك من العروض التي عرضت في التلفاز في البلاد الإسلامية والعربية في مدى الحقب الماضية ما يندي له الجبين من المناظر الانحلالية والدعوات الانحلالية، ولا أريد أن أذكر بلدًا بعينه، جاء هذا الجهاز الهوائي المتطور فزاد الطينة بلة، فأرجو أن يصدر توصية بأن تتقي الحكومات الله في أخلاق رعيتها وأن يراقبوا الأفلام المستوردة، فلا يسمحوا لكل فيلم وإن كانت هذه المراقبة حاصلة ولكنها ضعيفة جدًّا، والأفلام الانحلالية كثيرة الوقوع في كثير من البلاد دون اكتراث فأن يدعوهم إلى ذلك وأن يعطوا توصية في منع الهوائيات المتطورة هذه الرادارية، ومنعها على الأسر والعائلات وأن لا تكون في البيوت، هذه يجب أن تبقي في يد الحكومة لتلتقط ما تشاء باعتبار أنها تحتاج أن تعرف كل شيء عما يجري , ولكن لا يسمح بها للبيوت فتكون مثالًا، على أن هذه الأمة كلما زاد ثراء أحدها يزداد إقبالًا وانهماكًا وشهوة عارمة في أن يستجلب إلى بيته وأسرته كل مظاهر الغرب وانحلالياته والسلام عليكم.(7/2285)
الشيخ عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أود يا فضيلة الرئيس بهذه الكلمة أن أنوه بأمور ربما لم يتعرض لها الإخوة الكرام، نحن نعلم أن الغزو الفكري هو أشد خطرًا من غزو السلاح وأن الاتحاد السوفاتي لم يسقط بالقنبلة النووية ولا بالسلاح الذري النووي وإنما سقط بغير ذلك، ولهذا خشيتنا من هذا الغزو أن نزداد سقوطًا، لذلك أحببت أن أقول لإخوتنا الذين تناولوا الأبحاث ـ وهم مشكورون ـ ولم يتناولوا الغزو الصهيوني الفكري في الإذاعات، في التلفزيونات، في الكتب، في المجلات، في الأندية، في الدعوات المشبوهة مثل شهود يهوه، مثل ثورة المسيح، مثل الماسونية، مثل كذلك النوادي التي ثبت الغزو الفكري من خلال الطرق الكثيرة مثل نادي الروتاري، مثل الليونز، وأمثالها، فاستكمالًا للغزو الفكري الإسرائيلي الذي بدأ في مطلع فجر الإسلام من أيام عبد الله بن سبأ وبعد ذلك استمر في التفسير وغيره.
الأمر الثاني أن هناك غزوًا فكريًّا عانينا منه وما زلنا نعاني يتسلل من خلال الأحزاب سواء كانت هذه الأحزاب مسلحة أو غير مسلحة وسواء توصلت إلى الحكم أم لم تتوصل إليه، وأذكر على سبيل المثال أننا عرفنا في المنظمات المسلحة التي كانت في الأردن وفي بعض البلاد العربية أثناء ما يسمي بالنضال ضد الصهيونية دخلت علينا منظمات تحمل الفكرة الماركسية وتحمل الفكر التبشيري، واسمحوا لي أن أكون صريحًا في هذا الأمر فقد عاينت منه الكثير وحاولوا اغتيالي، وعلى سبيل المثال منظمة جورج حبش ومنظمة نايف حواتمه وأمثالهم الذين كانوا يدعون صراحة وعلانية إلى هدم الإسلام، أذكر أنه في منتدى عام في مجمع النقابات في عَمّان مرة ومرات وقف أحدهم يخطب ويقول: إن أول ثورة عربية هي ثورة مسيلمة ضد الإمبريالي أبي بكر، فهذه دخلت وأفسدت كثيرًا من شبابنا، ومازلنا نذكر حزب البعث العربي استكمالًا للأحزاب التي تولاها القوميون النصرانيون مثل قسطنطين زيريف وأنطون سعادة وأمثلهم استطاعوا أن يعبثوا في بلاد عربية وأن يفسدوا شبابها، ولقد علمت مؤخرًا ولا أدري إن كان هذا الخبر موثوقًا أم لا، لكن في نشرة وصلت إليَّ قبل ستة أيام أن ميشيل عفلق أصله يهودي من اليونان وأن زوجته هي ابنة جولدا مائير، نعم هذا علمته أخيرًا فإذن هذه ينبغي أن ننتبه إليها وأن نطلع عليها.(7/2286)
هذه الناحية لكن أيضًا هناك مؤسسات كثيرة ولعل بعض الأخوة يعرفون عن مؤسسة أريد أن أعرف بها لأننا وقعنا في مواجهة صريحة وخفية معها، هذه المؤسسة هي في نيويورك تسمي مؤسسة الأديان العالمية في نيويورك، هذه المؤسسة هي إحدي المؤسسات للحركة التوحيدية وقد تأسست في منتصف القرن الحالي على يد رجل كوري يُدعى الأب مون ويلقب بآدم الثالث والمسيح، وهذا الرجل حسب تعبيرهم جاءه الوحي منذ ثلاثين عامًا وتركت روحه الأرض وصعدت إلى العالم الروحي وهناك التقي بسيدنا آدم وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء وقد باركوا خطواته في نشر تعاليم الحركة التوحيدية في الأرض، ويقول مون: بأن الوحي طلب منه أن يبدأ بنشر دعوته في أمريكا لأنها مركز الفساد والانحلال في العالم ومن خلال إصلاحها يصلح العالم كله، ولهذه الحركة أتباع يصل عددهم إلى خمسة ملايين يتركزون في أمريكا وكوريا واليابان، يعتقد مون أن كوريا هي إسرائيل الثالثة التي ستحقق رسالة موسى وعيسى عليهما السلام، وكلمة التوحيد لديهم تعني أن يتوحد الإنسان مع ربه وكذلك أن تتوحد جميع الأديان تحت مظلة هذه الحركة، العقيدة في هذا الدين الجديد كما يزعم مبنية على أرضية من التاريخ اليهودى النصراني المأخوذ من التوراة والإنجيل، وهذا في نظرهم هو التاريخ الأساسي أما تاريخ الأمم الأخرى بما فيها التاريخ الإسلامي فيعتبر هامشيًّا، هذه الحركة تحرم على أتباعها التدخين وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير والزنا، وتعتبر العائلة من أهم مرتكزاتها حتى يستجلبوا الناس والمسلمين بصورة أخص، فقد حدثت عن أعضاء منهم يحفظون القرآن الكريم ويحفظون البخاري ويناقشون على أساس هذه الحركة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وعلى كل من ينضم إليها أن يتزوج وينجب أطفالًا، ومون هذا هو الذي يختار الزوجة أو الزوج، وغالبًا ما يكون الزواج بين عرقين مختلفين، وهو الذي يحدد للزوجين متى ينجبان الأطفال؟ ويتلخص تاريخ الإنسانية في نظرهم كالآتي:(7/2287)
خلق الله سبحانه وتعالى آدم لأنه كان بحاجة إلى الحب وكان على آدم أن يقيم ملكوت الله بالأرض، ولكن الخطيئة التي ارتكبتها حواء يإغوائه بأكل الثمرة المحرمة ثم عندما ارتكبت الخطيئة مع الشيطان أسقطته وأفشلت مهمته وأورثت الخطيئة لذريته وحواء. عندما جاء عيسى عليه السلام أراد الله سبحانه وتعالى أن يقيم الملكوت وأن يرفع الخطيئة عن البشر، لكن عيسى عليه السلام فشل في مهمته لأنه لم يتزوج ولم يولد له ولد، فنجاح المهمة مرهون بشروط ثلاثة: أن يبلغ الإنسان الكمال في نفسه وأن يتزوج ويتكاثر وأن يسيطر على الكون، فمون هذا حقق الشرطين الأولين وهو بصدد تحقيق الشرط الثالث كما يزعم وهو أن يسيطر على الكون، ومن ضمن معتقدات أتباع هذه الحركة أن جميع الأنبياء والأديان بما فيهم الإسلام كانوا عبارة عن تمهيد لقدوم آدم الثالث والمسيح المنتظر وهو كما يسمي نفسه الأب مون الذي حلت عليه روح المسيح وأنه عاد ليكمل رسالته في تحقيق ملكوت الله في الأرض وإحلال السلام في العالم، أما عن مفهوم الثواب والعقاب لديهم فهم لا يؤمنون به، ويقولون إن الجنة والنار ما هي إلَّا رموز، وخاصة عندما ذكر القرآن الكريم أن الجنة هي الملكوت في الأرض والنار هي بعد الإنسان عن ربه. لهذه الحركة مشاريع اقتصادية ضخمة يستغلون عددًا كبيرًا من الناس ومن المسلمين بالذات في أنحاء العالم، ولدي أسماء بعضهم في الأردن ولا أدري في البلاد الأخرى وهم من وزراء وأصحاب مشاريع، ولمؤسسة الأديان العالمية مسرح في منهاتن واستديوهات لتسجيل أغاني الروك أندرول ومزارع لتربية الخيول وإقامة مباريات القفز عن الحواجز، ولها أيضًا مؤسسات عالمية منتشرة مثل مؤسسة الأديان العالمية وتحالف الحرية الأمريكي ومنظمة كاوزا لمحاربة الشيوعية وأكاديمية السلام العالمي للأساتذة ومجلس القمة للسلام العالمي وغيرها، يؤكد مسؤولون في هذه الحركة بأن مون كان له دور كبير في إسقاط الشيوعية وتفتيت الاتحاد السوفياتي وأنه سعى جاهدًا أثناء أزمة الخليج ألا تتحول الحرب إلى حرب دينية، وقد بدأ الآن اهتمام هذه الحركة ينصب على العالم العربي والإسلامي، ويؤكد بعض أعضاء هذه الحركة بأن حل القضية الفلسطينية موجود لدى مون وسوف يعرضه في الوقت المناسب وله فندق في نيويورك من عشرات الطوابق لا ينزل فيه نزلاء بالأجرة وإنما ينزل فيه الناس الذين يستضيفهم، ويستضيف مجموعات متعددة شهريًّا من أنحاء العالم العربي والإسلامي وغيرهم من مجموعات من الشباب والفتيان والفتيات لدعوتهم إلى هذه الدعوة الحركة الصهيونية التبشيرية الجديدة. وشكرًا.(7/2288)
الشيخ معروف الدواليبى
بسم الله الرحمن الرحيم.
سيدى الرئيس أحاول أن تكون كلمتى مختصرة ولكنها في جوهر القضية، وذلك حول مفهوم العلمانية. من درس الكهنوت دراسة ليتعرف على التشريع الكنسي يجد أن الكهنوت يقسم الشعب إلى طبقتين؛ طبقة تتصل مع الله وهي طبقه الكهنوت؛ ثم طبقة الشعب التي تأخذ الأوامر من الكهنوت وتسمى الشعب , والتعبير الأصلى اليونانى: (لايوس، والله: تيوس) ولذلك نشأ عنها ما يسمى بالدول التيوقراطية الذين لا تصح رئاستهم في استعمال السلطة - الملك ورئيس جمهورية ونحو ذلك، أو الأصح الملك - إلا بعد أن يأخذ السلطة من الكهنوت؛ لأن الكهنوت يمثل الله، وأما الشعب فلا يمثل الله، ولذلك يخضع الشعب والملوك إلى الكهنوت لتزويدهم بالسلطة , وعندئذ يكون للملك حق الملك.. وكان مما يؤخذ على الملوك منذ نشأت الكثلكة وحتى الآن في مختلف العقائد الفرعية عن الكثلكة عندما يتوج الملك يتوج نكاية في إسرائيل الذين يعتقدون أن إسرئيل صلبت المسيح فيتوجونه، فملك إنجلترا في الصيغة الرسمية حتى الآن يتوج ملك إسرائيل نكاية في إسرائيل التي تقول إنها صلبت المسيح، ويقولون إن الإسرائيليين أصبحوا هم إسرائيليين الروح، فمن آمن بالمسيح وأنه صلب فهو إسرائيلى , وأما من لم يؤمن بالمسيح وبأنه لم يصلب فهو ليس بإسرائيلى، ولذلك يتوج الملك ملك إنكلترا حتى الآن بملك إسرائيل، ومن الغريب منذ سنتين كنت اجتمعت مع بعض الإخوان الذين كانوا في زيارة لملك إسبانيا فقال الملك إسبانيا الحاضر كارلوس مع إخوان من الفلسطينيين: أنا توجت أيضًا باسم ملك إسرائيل، فالصيغة قامت اليهودية لأن يتولى عندما يتوج يطلب منه منع لعن اليهود، ولذلك الحركة اليهودية قامت واستطاعت أن تتوصل في معنى لأخذ السلطة من الشعب لا من الكهنوت أي لا من الله، وتوفقت إليها، غير أن النهضة الصناعية والعلمية التي ابتدأت منذ الخامس عشر حتى الثامن عشر وظهر علماء ومنهم جاليليه الذي قال بدوار الأرض فكفرته الكنيسة وحكمت عليه بالطرد ومنهم من حرقتهم، فانفصل العلم عن الدين عندئذ , ووضعوا معرفة بالمعرفة العلمية , فيقولون المعرفة العلمية هي كل معرفه خضعت للحس والتجربة، ولما كان القول بالله لا يخضع بالحس والتجربة فليس القول به من العلم، ومن هنا تمكنت العلمانية من معنى آخر وتبنتها الأنظمة الدولية خاصة عن طريق اليونيسكو أنه لا يجوز أن يكون تعريف المعرفة العلمية إلا ما يسمى بالمعرفة التجريبية أي التي خضعت للحس والتجربة، وما لا يخضع للحس والتجربة لا يجوز أن يدرس في المدارس العالمية كلها، وهذا التعريف موجود في مدارسنا , في كليات التريبة حتى في البلاد الإسلامية بأجمعها، المعرفة العلمية ما خضع للحس والتجربة وما لا يخضع للحس والتجربة ليس القول به من العلم، ولكن في التعريف الكامل في الكتب الشيوعية يقولون: لما كان الله لا يخضع للحس والتجربة فليس القول به من العلم، فالعلمانية إذن نشأت من معنيين معنى كانت اليهودية تريد أن تقاوم السلطة حتى تتخلص من نفوذ الملوك ليتلقوا من الكهنوت اللعن وكان واجبًا في كل أسبوع أن تخطب الكنيسة بلعن اليهود وبأمر الملك وإذا لم يخطبوا فإنهم يكونون ملعونين، فاليهودية تخلصت بذلك فأصدرت المعنى الأخير في المعرفة العلمية التجريبية بالاتفاق مع العلماء بإقصاء الدين كله، هذا معنى ثان وليس هو المعنى الأول لكن المعنى الثاني أصبح أخطر لأنه يمشى ليس على أساس عداء ما بين اليهود والكنيسة وإنما أصبح دستورًا في نظام اليونيسكو، ولا يجوز أن يسمح للمدارس ابتدائية وثانوية وعالية أن يدرس فيها الدين باسم العلمانية، ومن الأسف أن هذا التعريف موجود في كل الكليات التربية بدون استثناء في جميع الجامعات بالعالم الإسلامي، ومن الواجب أن يتفرغ مؤتمر المجمع الفقهي للتنبيه على هذا التعريف وضرورة تعديله، كما كنت اقترحته في مجتمع دولى عام عقد في سنة تسعمائة وثمانية وسبعين في هيروشيما بطلب من مائة عالم من علماء الذرة المتطورة وأرادوا أن يعقدوا ذكرى إلغاء القنبلة الذرية في هيروشيما في نفس الموعد تحت عنوانه " أما آن للعلم أن يصطلح مع الدين " ودعا هؤلاء العلماء ممثلوا الأديان الثلاثة دعوا البابا فأرسل كردينالًا ودعوا أيضا البوذية فأرسلت أكبر عالم عندهم ودعوا المملكة السعودية بإعتبارها تمثل الإسلام فانتدبت فكان لى شرف أن أمثل باسم الإسلام وعن طريق المملكة بأن أحضر هذه الندوة، فأنا ذهبت وليس عندى من عنوان وخلفيات غير العنوان الذي وضعوه: (أما آن العلم أن يصطلح مع الدين) فتوليت كتابة كلمة الإسلام، وبنيت بأن الإسلام يولى العلم أهمية قصوى حيث يعرض كل شيء على العقل والفكر والعلم، وقد جاء في غير آية من القرآن، لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، لقوم يعلمون.......إلخ(7/2289)
فأما الكردينال فحضر ولم يتكلم طول الاجتماع وكذلك البوذى حضر ولك يتكلم طول الاجتماع، أما مندوب الإسلام والمتمثل في شخصى، فأنا أرسلت كلمتى مسبقًا فوجدوا أن الديانتين الأخريين ما كتبوا شيئًا ولذلك جعلوا كلمة الإسلام تلقى في الافتتاح الذي يعى إليه عادة جمهرة من مختلف الجامعات، ولكن بعد الافتتاح يبقى المجلس مغلقًا خاصًّا بمن دعي من حوار فألقيت كلمة الإسلام أمام الجميع وأنها هي المتفقة مع المفهوم الدينى الإسلامي يقول كل شيء عنده , حتى ذات الله سبحانه وتعالى لا يعرفه إلا العلماء {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} فدهشوا من هذا التعريف، ولما افتتحت جلسة المناقشات مائة عالم من علماء الذرة وكان في مقابلهم الكردنيال ورئيس البوذية وأنا الذي أمثل الإسلام، فالمائة عالم كانوا يحملون على الكنيسة يقولون: إنكم بحرق العلماء وتفكيرهم أجبرتمونا على أن نتخذ تعريفًا للعلم هذا التعريف التجريبى وأن كل معلوم خضع للحس والتجربة، ولذلك أبعدنا الدين نكاية بكم عن العلم.(7/2290)
الشيخ أبو بكر دوكورى:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
شكرًا يا سيدى الرئيس، أساتذتى الكرام، لا يخفي عليكم أن هذا الموضوع-أعنى الغزو الفكري- موضوع هام وخطير؛ لأنه أفتك سلاح سلط على شعوبنا الإسلامية حتى الآن؛ لأنهم استطاعوا بهذا السلاح أن يحققوا ما لم يستطيعوا تحقيقه بأسلحتهم الفتاكة والمتطورة، فالصواريخ والقنابل تستطيع أن تحرق وأن تقتل وأن تدمر الشعوب الإسلامية، ولكنها لا تستطيع أن تغير عقائد المسلمين، بل أثبتت التجارب أنه كلما حورب المسلمون بهذا السلاح كان تشبثهم بعقيدتهم أكثر وتمسكهم بدينهم أقوى، وقد أدرك الأعداء هذه الحقيقة بعد تجارب عديدة وكثيرة؛ ولذلك لم يعودوا يعولون كثيرًا على هذا السلاح، وإنما ركزوا على الغزو الفكرى الذي أعطاهم نتائج إيجابية تتمثل في تشكيك المسلمين في عقيدتهم، احتقارهم لقيمهم الدينية وحضاراتهم التاريخية، وربما انتهي الأمر بهم إلى الارتداد عن الإسلام والعياذ بالله، إذن فلو خصصت دورة بأكملها لهذا الموضوع الخطير موضوع الغزو الفكري لما كان ذلك كثيرًا.(7/2291)
وأنا وإن كان موضوع بحثى عن الشبه التي تثار حول تطبيق الشريعة الإسلامية إلَّا أننى أدرك أن أخطر أنواع الغزو الفكري تمكن أعداء الإسلام من الهيمنة على التعليم في عالمنا الإسلامي أسلوبًا ومنهجًا، فهنا مكمن الشر كله حيث فرضوا التعليم المختلط بين الرجال والنساء , فانتهي الأمر إلى وقوع بنات المسلمين في أحضان المشركين أو النصارى يفجرون بهن ويتزوجون منهن على مرأي ومسمع من آبائهن وأقاربهن، فلا يستطيعون فعل شئ، فهذه الفتاة المسكينة وإن كانت مسلمة إلَّا أنها لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، فأهلها ليس لهم الثقافة الإسلامية الكافية لتثقيفها وحمايتها وتحصينها، فإذا وقعت في غرام مع زميل لها في الدراسة وتطور الغرام إلى قرار الارتباط التزاوجى بينهما وتقدم الشاب إلى أهلها بإعلان الخطبه فإن الأهل طبعًا سيرفضون لأن الإسلام لا يقر على التزاوج بينهما، ففي هذه الحالة فإما أن يكون أبو البنت قوى الشخصية أو ضعيفها , فإن كان قوى الشخصية ضحكوا عليه وتظاهر الشاب بالإسلام وتسمى باسم إسلامي أمام الناس لكي يتمكن من الزواج منها , وينتهي كل شيء فلا هو لايصلى ولا يصوم ولا يتغير شيء من سلوكه، وإن كان ضعيف الشخصية ففي هذه الحالة إما أن يستمر التعاشر بينهما بدون زواج وينجبون من الأولاد ما شاء الله أن ينجبا أو أن يرفع قضيتهما أمام محكمة مدنية لعقد الزواج بينهما، وهما أمران أحلاهما مر، والغريب في الأمر أن هذه الفتاة لا تزال تحتفظ بغيرتها الدينية، فعندما يولد لها مولود ويسميه الوالد باسم نصرانى تصر أن تسمى ولدها باسم إسلامي هي الأخرى.(7/2292)
وكثيرا ما نرى في مجتمعاتنا من يحملون أسماء إسلامية ونصرانية مزدوجة، فإذا سألت أحدهم عن سبب ذلك قال لك إن أبويه وجميع أهله مسلمون وقد سموه بهذا الاسم الإسلامي بعد ولادته ولكنه تنصر في المدرسة وأخذ اسما نصرانيًّا إضافيًّا إلى اسمه الإسلامي الأصلي، فهذه الظاهرة متفشية كثيرًا في مجتمعاتنا الإفريقية، فالمدارس عندنا نوعان مدارس حكومية ومدارس خاصة أهلية، فالمدارس الحكومية ينتدب لها المعروفون بالكوبرا أي المعانون، يمكن كل الذين ينتمون إلى هذه الدول يعرفون هذا الاصطلاح , فهؤلاء الكبرى يرسلون من الدول الغربية ويغدق عليهم الأموال بدعوى أنهم خبراء يوكلون بوضع مناهج دراسية لهذه الدول، ولا يكتفون بذلك بل يقومون بتدريس المواد الأساسية في المدارس الحكومية، فهذا يتيح لهم فرصة نشر وبث سمومهم كما يحلو لهم، والمدارس الخاصة الأهلية معظمها كما تعلمون مدارس تبشيرية، فهذه المدارس التبشيرية ـ مع الأسف الشديد لا يتقدم أحد إلى المدارس الحكومية إلا بعد العجز عن تسجيل اسمه بهذه المدارس لماذا؟ أولًا لأن الدراسة فيها بدون مقابل، فالوالد الذي يعانى من أعباء الحياة والمشاكل الاقتصادية الحادة عندما تتاح فرصة لولده للتعلم دون أن يدفع مليمًا واحدًا فإنه لا يتردد إلا إن كان عنده إيمان أبي بكر وعمر، وأيضًا فإن هذه المدارس تمتاز بجودة مدرسيها وكذلك باستقامة مناهجها وتفوقها على المناهج الحكومية، كل ذلك جعل الإقبال على هذه المدارس إقبالًا شديدًا جدًّا، فهذه مشكلتنا ولعل وعسى أن نجد من مجمعنا هذا الموقر حلًّا لهذه المشكلة فإنها جد خطيرة، ولا يفوتنى أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى أستاذنا ووالدنا الشيخ عبد العزيز الخياط الذي قدم لمحة موجزة عن حركة مون الخبيثه، فهذا المذهب الجديد بدأ يهدد هو الآخر مجتمعنا الإسلامي، وقد وصل إلى بلادنا في هذه السنة رجل يابانى جاء خصيصًا للتبشير بهذا المذهب الجديد ووجهوا دعوة إلى زعيم إسلامي بارز لحضور مؤتمرهم السنوى في نيويورك، والزعيم الكبير له ما لا يقل عن مليون من الأتباع فكان مشغولًا فأرسل أخاه الصغير الذي يدير مدرسة إسلامية، طبعًا تعلم في العالم العربى وأنا لا أشك في إيمان هذا الشاب وإخلاصه، ولكن غرر به؛ لأن المسلم عندما يسمع كلمه التوحيد في إصطلاحنا الإسلامي، التوحيد معروف طبعًا ولكن حركة مون يقصدون بالتوحيد توحيد الأديان الثلاثة، فهذا الشاب عندما رجع وقدم لي تقريًرا عن رحلته هذه استغربت لوجود شخصيات إسلامية كثيرة في هذه الندوة أو في هذا المؤتمر السنوى، والعجيب أن وزيرًا من وزراء الشؤون الدينية في دولة إسلامية شارك في هذا المؤتمر، فإن كان هو الآخر قد غرر به، كما غرر بذاك الشاب , وإلا فلا يسعنا إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وشكرًا سيدى الرئيس.(7/2293)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين اللهم صلَّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. أحاول أن أعلق بجملة من النقاط وإن كان الموضوع قد يحتاج إلى كلام كثير وهو موضوع يهم جميع المسلمين في حياتهم وفي معادهم ألا وهو موضوع الغزو الفكري، هذه النقاط تتمثل أولًا بتعريف بسيط ومختصر للغزو الفكري، ثانيًا في تفاوت الغزو الفكري وألوانه. ثالثًا بعض المقترحات التي تتعلق بمواجهة الغزو. أولًا الغزو الفكري هو عبارة عن أفكار واردة إلى الساحه الإسلامية عمدًا تحاول أن تنافس الإسلام وأن تحل مساحة من المساحات التي يشغلها الإسلام في حياة الناس سواء في ما يتعلق بالعقيدة أو يتعلق بالتشريع والمعاملات والعلاقات بين المسلمين، وهو مرادف تقريبًا للإحداث في الأمر وهذه الإحداث يكون من أصغر الأمور التي تدخل إلى الإسلام وأكبرها وهو الكفر، ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، إذن الغزو الفكري هو إحداث في أمرنا هذا، هو أن يحدث شيء في أمرنا وليس منه، قد يكون كبيرًا وقد يكون صغيرًا يتفاوت طبعًا، يتفاوت انطلاقًا من هذا التعريف، فإن الغزو الفكري قد يأخذ أشكالًا وألوانًا تتفاوت خطورة وإلحاحًا، ولهذا فعلينا أن نرتب الأولويات، بعض مظاهر الغزو الفكري تحاول اجتذاذ، أو بعض نواحى الغزو الفكري تحاول اجتذاذ شجرة الإسلام من أصلها، حيث تقدم نظامًا حياتيًّا متكاملًا كبديل للإسلام سواء كان دينًا كالمسيحية أو اليهودية أو المجوسية في الهند أو نظامًا بشريًّا كالعلمانية التي هي إلحاد للدين عن شؤون الحياة والماركسية كذلك التي نرجو أن تكون قد ماتت إلى غير رجعة، وتارة يأخذ شكلًا أكثر خبثا ودهاء كتقديم النزعة القومية لتفريق المسلمين وتجميد الأقوام سواء كانوا عربًا أو فرسًا أو تركًا طورانيين أو بربرًا وتقديم العنصرية كبديل للدين حيث عاشت الأمة العربية تحت الديانة التي تسمى بالقومية العربية فبنوا عليها ما يسمى بالاشتراكية العربية. وفي إفريقيا أيضًا انتحلوا اسم الإسلام الإفريقى وألف عن ذلك بعض الباحثين الفرنسين كتبًا سموها (إسلام أفريكا) يعنى الإسلام الإفريقى ويريدون بذلك أن الإسلام في أفريقيا هو إسلام آخر ليس الإسلام العربى وليس الإسلام كما نعرفه وكما جاء في التعريف من الله ورسوله، {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} .(7/2294)
وسائل الغزو الفكري كثيرة، وأنتم تعرفونها يا سيدى الرئيس ويعرفها كل الذين درسوا هذا الموضوع، وتتمثل في مناهج التعليم، وتتمثل في المساعدات الغذائية، في برامج عندنا في إفريقيا، برنامج الفاو، وهو برنامج تابع للأمم المتحدة للغذاء، وهو برنامج يقوم عليه منصرون في شكل مساعدين يجولون كل القرى الإفريقية بما فيها تلك الواقعة في غرب أفريقيا وفي شمالها، وكذلك يكون في شكل مساعدات طبية. وأحكى لكم هنا قصة ذكرها لى بعض المسؤولين في أفريقيا أخيرًا بعد مؤتمر القمة الإسلامي الذي انعقد في داكار، قام البابا بزيارة لأفريقيا كانت مبرمجة كان يريد أن يمحو آثار هذا المؤتمر الذي أظهر انتساب إفريقيا للعالم الإسلامي، فقام البابا بزيارة لجملة من الدول في غرب إفريقيا، في إحدى هذه الدول جاء ترافقه سفينة، هذه السفينة تقدم المساعدات للناس كمساعدات بريئة ولكنها في نفس الوقت تقدم لهم كتبًا مسيحية كما أخبرنى أحد المسؤولين في غرب أفريقيا بعد مؤتمر الأخير للقمة الإسلامية في داكار , حيث قام البابا بزيارة لجملة الدول الإفريقية الواقعة على المحيط الأطلسى، هذا مثال لطريقة الغزو، تقديم المساعدات الغذائية، تقديم المساعدات الطبية، أهم وسائل هذا الغزو هي الإعلام الذي أصبحت مهمته كبيرة جدًّا، ونعرف أن بعض الإذاعات الدولية الموجهة إلى العالم الإسلامي بجميع اللغات هذه الإذعات تابعة، بعضها تابع لوزارة الخارجية مباشرة وأنا أعرف ذلك، في بعض الدول الغربية وزارة الخارجية هي التي توجه هذه الإذاعات، وتقدم في هذه الإذاعات تعليقات بعد النشرة يقوم بها خبراء على أعلى مستوى من المسؤولية سواء كان في وزارة الخارجية أو في معاهد الدفاع، ونحن سمعنا عن هؤلاء الخبراء كثيرًا الذين يتحركون كلما برقت بارقة من ظهور الإسلام في منطقة أو إقدام المسلمين في منطقة من المناطق على قرار تطبيق شريعتهم في شؤونهم الخاصة، فإنه تقوم قيامة هذه الإذعات وتكيل لهم السباب والشتم وتدعى أن القيامة قد قامت وأن الأصوليين قد قاموا في المكان الفلانى وأن غرقًا وطوفانًا قادمًا لا محالة في وجود هؤلاء. هذه الإذاعات موجهة إلى العالم الإسلامي تشكل أخطر سلاح في الغزو الفكري يوجهه إلى العالم الإسلامي، حيث - ونحن نعلم أن العالم الإسلامي مستهدف الآن - وردت تصريحات أخيرًا تشير إلى هذا وتقول من ركاب المسؤولين في الغرب تقول: إن الحضارة اليهودية المسيحية مهددة من طرف العالم الإسلامي , واليهود بذلك يريدون أن يقولوا للمسيحيين: حضارتنا هذه واحدة وإن العالم الإسلامي يمثل تهديدًا لهذه الحضارة هذه أمور معروفه لدينا، أعتقد أنه يجب على جميع المسلمين أن يواجهوا هذا المد وهذا الغزو الفكري المتنامى، مواجهة عاقله ذكية حكيمة لا أقول أن يحملوا السلاح , طبعًا حمل السلاح هو وسيلة من الوسائل {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(7/2295)
تلك أمور، في البوسنة يحملون السلاح، في أفغانستان حملوا السلاح، في كشمير أيضًا حملوا السلاح وهذه وسيلة من الوسائل ليست مستبعدة أبدا عندما يضطهد المسلم وعندما يفتن في أعز شيء عنده وهو دينه، ولكن نحن كعلماء أو كطلبة علم علينا أن نحاول أن نقدم صورة واضحة عن هذا الغزو الفكري، يمكن أن نتبنى إنشاء موسوعة إسلامية حول مشكلة الغزو والانحرافات التي وقعت على هذه الأمة، يمكن أيضًا أن نقدم إلى الجهات الفكرية والمرجعية والحكومات الإسلامية تقريرًا واضحًا يحدد ما يراد بالعالم الإسلامي من استلاب، حيث يفقد بالتدريج كل مناعة , فيسقط بسهولة ضحية لهذا الغزو، لنحاول إلهام المسؤولين في العالم الإسلامي هذا الوضع الجديد الذي نعيشه، يمكن أيضًا - وهذا اقتراح مهم جدًّا - إنشاء مرصد فكرى لدراسة تفاصيل خريطة الغزو الفكري وتضاريسها، ووضع الخطوط البيانية لهذا الغزو، هذا المرصد الفكري يمكن أن يكون تابعًا لمنظمة المؤتمر الإسلامي أو رابطة العالم الإسلامي أو أي جهة أخرى، يقدم هذا المركز إستراتيجية متكاملة تواجه هذا الغزو الفكري ويقدم النصح لمن يريد أن يستمع إليه، يجب أن نقدم كذلك للعالم كله وجهًا صحيحًا وجميلًا للإسلام الذي لا يدعو إلى الحرب ولكنه يدعو إلى الإسلام يدعو إلى الحوار يدعو إلى الجدال {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} .
يجب في النهاية أن نحاول ترتيب البيت الإسلامي لتجنيب المسلمين حروبًا أهلية يكونون هم حطبها: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} ، إن العالم الإسلامي يا سيدى الرئيس يقف اليوم على مفترق الطرق في كل أنحاء العالم الإسلامى أصبح الجدل أكثر حدة وإلحاحًا التيار الغربي فيه أصبح ملحًّا ومحاولًا متحفزًا، وأكاد أقول أصبح عدوانيًّا أكثر من ذى قبل لفرض قطيعة مع الإسلام وفي نفس الوقت أصبحت قوة الرفض في العالم الإسلامي أيضًا شديدة في مقابل هذا التيار، إن هذا الوضع يحتاج إلى ترشيد وللرجوع إلى منطق الشرع والعقل، ولا بد أن يقوم العلماء والمفكرون بدور أساسى للمصالحة مع النفس وللسير في الطريق الصحيح لبناء الحضارة الصحيحة:
فقلت أدعي وأدعو إن أَندى لصوت أن ينادى داعيان
وخلاصة القول، سيدى الرئيس، إن مدخل أي إصلاح ينطلق من المصالحة بين المسلمين والمسلمين، فيجب أن نكوّن لجنة لتقديم المنهج الوسط في جميع نواحى الحياة للمسلمين حتى يتجنبوا خطورة الحروب الأهلية والقفزات للمجهول. والسلام عليكم ورحمة الله.(7/2296)
الشيخ معروف الدواليبى:
بسم الله الرحمن الرحيم،
سيدى الرئيس، كما قلت، ما كنت أريد أن أتكلم، أما وقد أثير التعريف فقلت أولًا: التعريف للعلمانية، وبالنسبة للكنيسة يراد به الشعب يقسم إلى طبقتين الكهنوت والشعب، والكهنوت هو يتصل مع الله والشعب هو تابع الكهنوت، فالعلمانية هو إلغاء الاتصال، ولا يجوز تعيين الملك ولا يجوز أن يمارس أي سلطة ما لم يباركه البابا عندئذ بإذن من الله، فقامت الثورة حتى تخلصوا من أن يكون للكهنوت سلطة في الدولة، وكلمة علماني هي ترجمة لكلمة لايوس اليونانية بمعنى الشعب، ولذلك ليست اللفظة هي علمانية وإنما هو من العَلْم في بعض اللغات العربية يراد بها الشعب، أما المعنى الثاني الذي طرأ فهو عندما اصطدم العلماء في القرن الثامن عشر مع الكنيسة عندما حرقت بعض العلماء مثل جاليليه وغيره الذين قالوا في بعض الاكتشافات، فأرادوا أن يخرجوا عن الكنيسة ويقصوا تدريس الدين من أساسه تحت ستار العلمانية، ولذلك قالوا: لا يجوز أن يدرس في المدارس الابتدائي والثانوية والعالية إلا ما يقر به تعريف المعرفة العلمية. أرجو من بعض الإخوان الذين ينتقدون لفظة المعرفة أن لا يدخلوا في متاهات، نحن نترجم الآن ما يقولون، لا يجوز أن يدرس في المدارس الابتدائي والثانوية والعالية إلا ما كان خاضعًا لتعريف المعرفة العلمية , والمعرفة العلمية التي وضعوها هي ما تؤدى إلى المعلوم الخاضع للحس والتجربة، ولما كان الله سبحانه وتعالى ـ كما يقولون ـ لايرى ولا يمكن أن نحدث عليه تجربة، ولذلك القول به ليس من العلم.(7/2297)
فأولًا نحن نترجم , ولما كان كلام يتعلق بلفظ (الله) يصعب على أن أقول الله ـ ونحن كمسلمين ـ بدون ما نقول سبحانه وتعالى أو نحل محله الشخص الإلهي ونقول الذات الإلهية، ولكن لسنا في مقام التجسيم، فهذا ما أردت أن أنبه إليه، فلما دعينا من قبل العلماء الآن , علماء الذرة ومائة عالم من أمريكا ومن كندا الذين يشرفون على تطوير الذرة المتطورة وقالوا نحن الآن مدركون أنا ـ لسنا ببعيد ـ سنصل إلى إحداث قنبلة واحدة يكفي لأن تنفجر الآن نظام الكون كله، وليست هنالك سلطة تقضى على الإنسان في استعمال هذه القنبلة إذا كان لا يؤمن بالله، لذلك ندعوكم ـ والخلاف كان مع الكنيسة ـ إلى أن يصطلح العلم مع الدين، فلم يجب الكردنيال وأمضوا المدة كلها لم يتكلموا لا سلبًا ولا إيجابًا، ولذلك فكنت أنا المتدخل باسم الإسلام، فقلت: العلم بوجود الله عندنا يخضع إلى قواعد العلم، نفسر الآيات: لقوم يعقلون، لقوم يعملون، لذلك عندنا ليس هناك تناقض ما بين الإيمان بوجود الله وما بين العلم وما بين العقل- فانشرحت صدورهم- ولكنكم لا تستفيدون من هذا المؤتمر بالعودة إلى الإيمان ما لم نعدل تعريف المعرفة العلمية والتي تتكفل اليونسكو بتطبيقها في الجامعات وفي المدارس الابتدائية والثانوية، ولا تسمح أن تدرس العقائد الدينية لأنها ترجع إلى الإيمان بالله الذي لا يمكن أن يرى، فلا بد من تعديل هذا التعريف، فكان في جانبى بعض الشخصيات الإسلامية، بكل أسف الدارس لعلم التربية، وقال: أرجوك لا تهدم لنا هذا التعريف التجريبى لأنه إذا هدمنا المعرفة العلمية التي تعرف بعلم التربية وعلم النفس بأنها المعرفة التجريبية عندئذ فقدنا الوصول إلى الحقائق، قلت له: يا أخى أريد أن أصحح، فعندما تقول المعرفة العلمية هي كل معلوم خضع للحس، معنى ذلك أن المعلوم المتفق على الإيمان به لا بد أن يكون مرئيًّا، فأنا أقول عوض أن نقول: خضع المعلوم دل عليه العلم، فأنتم لماذا تدرسوننا في المدارس أن الأرض خاضعة تمسكها الجاذبية؟ فهل الجاذبية تخضع للمخبر؟ هل نراها؟ قال: لا، قلت له: لماذا غيبكم يدرس على أنه علمي؟ نحن نقول إن يمسكها إلا الله، أسألكم الجاذبية هل ترى؟ قال: لا، هل تبصر؟ لا، هل لها عقل؟ منطقنا يقول الله، نصفه بجميع صفات الكمال، لذلك أعدل المعرفة العلمية المنتشرة في كتب التربية في جميع كليات التربية من قولكم: هي ما خضع المعلوم فيها إلى العلم وإلى الحس والتجربة، ونقول: هي ما دل عليه الحس والتجربة، ما دامت الأرض واقفة وليس هناك شيء يحملها، الأفلاك واقفة، إذن هناك من يمسكها، والله سبحانه وتعالى علمنا في قرآنه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} .(7/2298)
إذن تعريفكم كان تضليلًا ويجب تعديله، لأنكم تدرسوننا الجاذبية وهي لاتخضع للحس والتجربة فيجب أن يعدل هذا التعريف ويطلب إلى اليونسكو بتعديله وتوزيعه حتى نستطيع أن ندخل الإيمان بالله في جميع مدارس العالم، فوافق المؤتمر بإجماعه بكبار العلماء , وصدر القرار وطلعت التوصية، ولكن اليهودية العالمية المسيطرة من وراء اليونسكو تحول حتى الآن في هذا التعديل، وعلينا نحن معشر المسلمين أن نعدل في جامعاتنا المعرفة العلمية ونقول: هي كل معلوم دل عليه الحس والتجربة وليس خضع المعلوم للحس والتجربة.
وشكرًا سيدى.(7/2299)
الشيخ عجيل جاسم النشمى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا الهادى الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
ما ذكره الإخوة فيه الكفاية، لكن أنوه تنويهًا إلى بعض القضايا التي لم يتطرق إليها أو أذكرها من باب تأكيدها، قبل هذا تعليق على كلمة العلمانية مجمع اللغة العربية طلب استبدال كلمة عَالَمانية بزيادة الألف على العين عالمانية بكلمة علمانية يعنى نستبدل كلمة العلمانية بالعالمانية، أما القضايا فأولًا: لا يمكن أن نواجه الغزو الفكري قبل توحيد جبهتنا الداخلية، وأهم ما يحتاج إلى التنبيه عليه في هذه الجبهة الداخليه أمران، أولا: ما زال هناك فجوة فيما بين الجماعات الإسلامية، فما زالت هذه الجماعات مشغولة بالجزئيات دون الكليات بحيث أصبحت تنميتها الفكرية تنمية إن صح التعبير تآكلية، فتُنَمِّى كل جماعة فكرها على حساب الطعن في منهجية غيرها، ويقع على الجامعات دور كبير في هذه الإشكالات بالتوجيه والتأصيل الشرعى السليم، ثانيًا: مازال هناك فجوة فيما بين بعض الحكومات والجماعات الإسلامية، وهذه الفجوة تغذيها الدول المعادية للإسلام، فكل من يرفع شعار الإسلام يواجه بأنه أصولى وأنه إرهابى ولو كان أسلوب دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، ولو كان أيضًا تحقيقه لمكاسبه بطريق ـ كما يقولون ـ ديمقراطى، ومن يتكلم نصرة لإخوانه قالوا هذه قضايا داخلية، لكن ماذا كان الأمر يتعلق بالمصالح الأجنبية فليس هناك شيء اسمه داخلي وخارجي، الغزو الفكري اليوم أصبح عبارة عن هجمات منظمة ترعاها دول، وهي بالتالى تحتاج إلى جهود الدول، وهذا يحمل دولنا المسؤولية , فمثلًا
أهم واجهتين تحتاجان إلى جهود الدول أولا: الاستشراق الذي تكلم عنه الزملاء، فنريد أن نواجه الاستشراق بإنشاء المراكز لا للاستشراقية وإنما مراكز الاستغراب إن صح التعبير، وتعنى هذه المراكز بدراسة المناهج والفلسفات الغربية وتفنيدها ليكون موقفنا ليس موقف المدافع وإنما موقف الهجوم إن صح التعبير، القضيه الثانية التبشير الذي تكلم عنه الإخوة بما فيه الكفاية نريد مواجهة هذا التبشير بجهود الدول، ما زالت الدعوة الإسلامية تعتمد بعد الله تبارك وتعالى على جهود الأفراد في كل أنحاء العالم بأجمعه خاصة في إفريقيا تقوم على جهود الأفراد والجماعات، ونحن نؤمن بأن الله تبارك وتعالى يبارك هذه الجهود: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
والغرب يدرك الآن أن المستقبل للإسلام، وكل دراساته تشير إلى أن الإسلام قادم، فجهودهم الآن هي في تعطيل مجئ الإسلام وكل هذا طبعًا فتح باب الأمل، لكن لا يخلينا من السمؤولية، هذا ما أحببت أن أضفيه وأقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.(7/2300)
الشيخ الخليلى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد،
فقد سمعنا الكثير عن الغزو الفكري وأساليبه ولا أريد أن أضيف شيئًا جديدًا، وإنما هي خواطر خطرت بالبال تدفعنى إلى أن أترجمها في هذا المقال المختصر، العالم الإسلامي في هذا الوقت بالذات كان حريًّا أن يقود البشرية ويخرجها من حيرة وقعت فيها، إذ أفلست القيم المادية في هذا الوقت، ولا أدلُّ على ذلك من انهيار الشيوعية التي صورت للناس أنها الفردوس الذي يحلمون به، وما إفلاس الشيوعية إلا إفلاس للرأسمالية في حقيقة الأمر، فإن لجوء الذين كانوا يعتنقون الشيوعية إلى الرأسمالية لتحل لهم مشكلاتهم ما هو إلا هروب من الجحيم إلى الهاوية، والعياذ بالله، وما كانت الشيوعية في يوم من الأيام إلا إفرازًا للرأسمالية لأنها كانت كردة فعل للظلم الرأسمالى، ومن الذي يستطيع أن يخلص هؤلاء من حيرتهم التي وقعوا فيها ما بعد أفلست مبادئهم، إنما هم المسلمون الذين يحملون أمانة الله تبارك وتعالى في أعناقهم، وقد تحدث قبل ما يقرب من نصف قرن أحد مفكرى الأمة الإسلامية عن فشل الرأسمالية وعن فشل الشيوعية، وقال بهذا النص أو بهذه الترجمة: سيأتى بلا شك اليوم الذي تتحجر فيه الشيوعية في موسكو نفسها بدون أي ملجأ، وتتدهور فيه الرأسمالية في واشنطن نفسها بدون أي ملجأ، وتهيم فيه المادية في جامعات لندن وباريس بدون أي منقذ، وتتلاشى فيه العنصرية حتى عند البراهمة والألمان، وإنما تبقى عبرة في التاريخ قصة من يحمل عصا موسى تحت إبطه وهو يخشى من الحبال والخشب، إننا نتحدث عن واقع نعيش فيه الآن، فنحن نخشى من الحبال والخشب ونحمل عصا موسى تحت إبطنا، لأن في يدنا كتاب الله سبحانه وتعالى , والله سبحانه وعد بأن يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون.(7/2301)
فما أجدر هذه الأمة أن تعتز أولًا بقيمها، فما دامت الشيوعية التي تعتمد المادية أفلست، فإن هذا الفراغ الذي تركته لا يمكن أن يملأها إلا الإسلام الذي يعطى كل شيء من جوانب الحياة البشرية حقه، فيعطى الجانب الروحى حقه ويعطى الجانب المادي حقه، والذي جاء لما يحل مشكلات الناس إلى أن تقوم الساعة، سواء من ناحية اقتصادية أو ناحية اجتماعية أو ناحية ثقافية أو ناحية إعلامية أو أي ناحية أخرى، ولكن هل المسلمون اليوم يطبقون الإسلام، إن الفراغ العظيم الذي عند المسلمين أنفسهم هو المصيبة الكبرى، فهناك فجوة كبيرة بين قيم الإسلام وواقع الأمة الإسلامية، فإذا نظر أحد إلى الناحية السياسية أو الناحية الإعلامية أو الناحية الاجتماعية أو الناحية الثقافية أو الناحية التربوية يجدها بعيدًا عن الإسلام، فالإعلام الذي في بلاد الإسلام يغزو المسلمين في عقر ديارهم، يتخطى الحدود ويقتحم السدود ليغزو المسلمين في بيوتهم، ومناهج التربية والتعليم هي أيضًا بعيدة عن قيم الإسلام، عن غرس الروح الإسلامية في نفوس المسلمين، ثم من ناحية أخرى فإن أعداء الإسلام قد توصلوا إلى زعزعة ثقة المسلمين بموارثهم الفكرية والتاريخية، وهم بذلك قد أحرزوا نصرًا تحدثوا عنه بأنفسهم، فالمنصرون كانوا قبل كل شيء يهمهم أن يُنَصِّروا المسلمين، والمجتمعات التنصيرية أو المؤتمرات التنصيرية التي انعقدت كلها ينصب أهمها في ذلك , فالمؤتمر التنصيري الذي انعقد في مصر برئاسة زويمر في عام 1906م، ثم تلاه بعد ذلك المؤتمر التنصيري في أدنبرج ثم المؤتمر في عام 1910 , ثم المؤتمر التنصيري في لاكتيو في عام 1911م، كلها كانت تصب همها في هذا الإطار، وفي المؤتمر الذي انعقد في مصر وضعوا حدًّا لتنصير المسلمين في مدة خمسة وعشرين عامًا، وكان من كلام زويمر: إننا واثقون بأن المسلمين سيتلقون التعاليم النصرانية تلقائيًّا ما داموا يتلقون المعارف الأوروبية، وقال: بأنه يجب أن تقطع الشجرة ببعض أغصانها أي أن يحارب السملمون بأبنائهم الذي يتلقون المعارف من الأوروبين، إلا أن المدة التي حددوها انتهت وتحطمت آمالهم على صخرة الإسلام، فأفضى بهم الأمر أخيرًا إلى محاولة إبعاد المسلمين عن الإسلام، وبهذا يرون بأنهم يحققون أعظم المكاسب، وقد تحدث زويمر عن ذلك أيضًا في مؤتمر القدس في عام 1935م، إذ قال في هذا المؤتمر: إن مهمة التبشير التي ندبتكم من أجلها الدول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست في تنصير المسلمين، لأن في ذلك هداية لهم وتكريمًا، وإنما هي في إخراج المسلم من الإسلام وجعله مخلوقًا لا صلة له بالله وبالتالى لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبهذا تكونون بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعمارى في الممالك الإسلامية. وهم حققوا نصرًا لا يستهان به في هذا المجال، لأنهم زهدوا المسلمين في مواردهم الفكرية والتاريخيه، فأصبح المسلم اليوم يرى أن مجده وعزه وشرفه في تقليد الآخرين، مع أن الدين الحنيف جاء بغرس اعتزاز المسلمين بالقيم الإسلامية وعدم تأثر المسلمين بسلوك الآخرين، كما جاء أيضًا بما يغرس في نفوس المسلمين الثقة بالعقيدة الإسلامية، وحذر الإسلام الحنيف من أية موالاة لأعداء الإسلام، فالله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ} إلى أن قال سبحانه: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} .
هذه أمنية كل كافر.(7/2302)
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} .
أي أن هذه الموالاة لا تنجم إلا عن مرض نفسانى، وفي هذا السياق نفسه حذر الله تبارك وتعالى من الارتداد؛ إذ قال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
هذا كله يدل على أن هذه الموالاة والاسترسال فيها تؤدى والعياذ بالله إلى الردة، لأن المسلم يزهد في قيم الإسلام شيئًا فشيئًا، قد يزهد أولًا في ما يسميه في الشكليات ثم ينتهي به المطاف إلى الزهد في الجوهريات، والمسلم الواثق بالله سبحانه وتعالى عليه أن يشعر أن أي مسلم كان على ظهر هذه الأرض هو حارس أمين، أولًا: هو حارس أمين يقف على ثغرة من ثغور هذا الدين يخشى أن يؤتى الإسلام من قبله. ومن ناحية ثانية هو مبلغ لأمانة الله إلى عباد الله، مبلغ لدعوة هذا الدين، والمسلمون الذي انطلقوا من صحراء الجزيرة العربية وكانوا كما يصفهم أحد الكاتبين كأنما جاء هذا القرآن ولفظ هذه الصحراء تحت شعاع الشمس فتفرقت ذرات هذه الصحراء في الأرض، ووقعت وراء كل ذرة عربية من هداية القرآن، أولئك المسلمون ساسوا الممالك التي كانت من قبل تساس من قبل أباطرة الأرض مع أنه لم يسبق للعرب قبل هذا الإسلام الذي شرفهم الله تعالى به أن ساسوا أمة من الأمم، لم يبسق لهم أن بنوا لأنفسهم دولة، اللهم إلا بعض الدويلات في بعض الأماكن، فكيف أمكن هؤلاء الذين خرجوا من صحراء الجزيرة العربية أن يسوسوا ممالك كسرى وممالك الروم على ضوء القرآن لولا أن الله تبارك وتعالى غرس في نفوسهم الإيمان، وكان أحدهم يقول: إن الله قد ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، والآن ونحن غزينا هذا الغزو ومع كوننا غزينا هذا الغزو نثق في وعد الله بأن ينصر هذا الدين ونثق بأن أية قوة في الأرض لا يمكنها أن تقف في وجه انتشار هذا الإسلام وظهور هذا الإسلام، كما لا يمكن لأي قوة في الأرض أن تمنع الشمس أن تطلع وأن تمنع النهار بأن يسطع، إلَّا أننا مع ذلك ما الذي أعددناه، إنما علينا أن نعد العدة، عملًا بقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} .(7/2303)
أولًا: علينا أن نقوى جبهتنا الداخلية كما سمعنا من بعض الإخوة، وذلك باجتماع شمل المسلمين ورأب صدعهم وتوحيد صفهم، دين الإسلام جاء داعيًا للوحدة كما جاء داعيًا إلى التوحيد نهي عن التفرق كما نهي عن الإشراك بالله تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ، ثم بجانب ذلك علينا أن نغرس أيضًا في نفوسنا ونفوس أبنائنا الثقة بهذا الدين وأن نغرس هذه الثقة في حكامنا، بحيث لا يتصورون الإسلام شبحًا مخيفًا وخطرًا رهيبًا، كما يحاول أعداء الإسلام أن يصوروه لهم، علينا أن نعرفهم بأن عزتهم إنما تكمن بهذا الإسلام، وذلتهم إنما هي في البعد عن الإسلام الحنيف، وقد حرص أعداء الإسلام ـ كما سمعنا ـ أن يصوروا كل شاب مسلم يتمسك بدين الله خطرًا يهدد الأمن في البلاد، فوصموا المتمسكين بالإسلام بشتى التهم وألبسوهم أثواب الدعايات الفاجرة المختلفة، وحاولوا أن ينبزوهم بشتى الألقاب المنفرة منهم، كل ذلك لأنهم يعملون بأن تمسك المسلم بالإسلام هو الذي سيزلزل الأرض من تحت أقدامهم ما داموا معرضين عن هدى الله تبارك وتعالى، وعلينا أن نسعى لنشر المعارف الإسلامية، ونشر المعارف الإسلامية إنما يتم بوسائله المعروفة , ومن أهم هذه الوسائل نشر اللغة العربية، فاللغة العربية يجب أن تنشر في أوساط المسلمين جميعًا من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وإذا كان المستعمر في كل البلاد يفرض لغته لأجل أن تنقل هذه اللغة إلى أبناء تلك البلدة أدبه وأفكاره فكيف بلغة الدين الحنيف لا تنشر في أوساط المسلمين، مع أن هذه اللغة لم تعد لغة العرب وحدهم بعد ما كانت وعاء لكلام الله سبحانه وتعالى، وقد خاطب الله تبارك وتعالى بها عباده في كتابه المبين، كما أن العباد المسلمين عندما يمثلون بين يدى الله تعالى يخاطبونه بها عندما يقولون: إياك نعبد وإياك نستعين، وقد قلت غير مرة إن من العار والخزى أن يحسن المسلم ـ أيًّا كانت جنسيته وأيًّا كان جنسه ـ اللغة الأجنبية لغة المستعمر الدخيل ولا يحسن اللغة التي خاطبه الله تبارك وتعالى بها، نحن معاشر المسلمين علينا أن نسعى إلى نشر هذه اللغة حتى لا نحتاج إلى ترجمة فيما بيننا، يجب أن تزول التراجم في بلاد الإسلام من أقصاها إلى أقصاها، ولا ترشح لغة لربط المسلمين بعضهم ببعض غير لغة القرآن بعدما كانت وعاء لكلام الله وكانت أيضًا وعاء لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يفهم المسلم الإسلام الصحيح على أصوله وهو لا يفهم هذه اللغة، وعلينا أن نردم أو نسعى إلى ردم هذه الهوة السحيقة ما بين قيم الإسلام ومبادئ الإسلام وبين واقع الأمة الإسلامية، وعلينا أن نعرف أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، بحيث نعتد بموراثنا الفكرية وتاريخنا العظيم، ولا نحاول أن ننفصل عن ماضينا، ونحن فصلنا عن ماضينا في كثير من القضايا على الأقل قضية التاريخ، الآن مع الأسف الشديد تسأل المسلم عن اليوم فيجيب بالشهر الأفرنجى عن الشهر غير الإسلامي، ولا يتحدث عن الشهر الإسلامي، مع أن الله تبارك وتعالى يقول {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} .(7/2304)
ويقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} ، جعلها من الدين القيم، والتاريخ الهجرى تاريخ أجمع عليه المسلمون في عهد الخلافة الراشدة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه واستمروا على هذا التاريخ طيلة ثلاثة عشر قرنًا ونصف القرن، وإنما تأثروا من بعد عندما غزوا من قبل أعداء الإسلام، هذا مثال من ضمن الأمثلة التي يجب علينا أن لا نتهاون بها وأن لا نهون من أمرها، هذا ما أردت أن أقوله. وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق للجميع وشكرًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/2305)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
مع اعتذارنا الشديد عن كلمات بعض أصحاب الفضيلة ننهي هذه الجلسة المباركة بتأليف لجنة من أصحاب الفضيلة المشايخ: الشيخ الخليلى، الشيخ طه، الشيخ العجيل، الشيخ محمد الزيادى، الشيخ عبد القادر العمارى، الأستاذ الجناحي والعارضان والمقرر، ونرجو أن يتفضلوا بالتنسيق مع الشيخ عبد السلام قبل انصرافهم من هذه القاعة نظرًا لأنه لا بد من إنهاء القرار إعدادًا وصياغة قبل الصباح بإذن الله تعالى، ونرجو من الله سبحانه وتعالى التوفيق للجميع، وثمت أمران، الأمر الأول هناك الجلسة الصباحية مغلقة وتقتصر على الأعضاء ممثلى الدول والأعضاء الرسميين لهذا المجمع، وأما الجلسة الختامية إن شاء الله تعالى فهي في المساء بعد صلاة المغرب أي في الساعة السابعة والنصف تمامًا، والله ولى التوفيق، وبه ترفع الجلسة والسلام عليكم ورحمة الله وبركات.(7/2306)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 71/ 7/ 7
بشأن
الغزو الفكري
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9ـ14 مايو 1992م.
بعد إطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الغزو الفكري) ، والتي بينت بداية هذا الغزو وخطورته وأبعاده وما حققه من نتائج في بلاد العرب والمسلمين، واستعرضت صورًا مما أثار من شبه ومطاعن، ونفذ من خطط وممارسات، استهدفت زعزعة المجتمع المسلم ووقف انتشار الدعوة الإسلامية، كما بينت هذه البحوث الدور الذي قام به الإسلام في حفظ الأمة وثباتها في وجه هذا الغزو وكيف أحبط كثير من خططه ومؤامراته.
وقد اهتمت هذه البحوث ببيان سبل مواجهة هذا الغزو وحماية الأمة من كل آثاره في جميع المجالات وعلى كل الأصعدة،
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول هذه البحوث يوصى بضرورة ما يلى:
1- العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية واتخاذها منهجًا في رسم علاقاتنا السياسية المحلية منها والعالمية.
2- الحرص على تنقية مناهج التربية والتعليم والنهوض بها بهدف بناء الأجيال على أسس تربوية إسلامية معاصرة وبشكل يعدهم الإعداد المناسب الذي يبصرهم بدينهم ويحصنهم من كل مظاهر الغزو الثقافي.
3- تطوير مناهج إعداد الدعاة من أجل إدراكهم لروح الإسلام ومنهجه في بناء الحياة الإنسانية بالإضافة إلى إطلاعهم على ثقافة العصر ليكون تعاملهم مع المجتمعات المعاصرة عن وعى وبصيرة.
4- إعطاء المسجد دوره التربوى الكامل في حياة المسلمين لمواجهة كل مظاهر الغزو الثقافي وآثاره وتعريف المسلمين بدينهم التعريف السليم الكامل.
5- رد الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام بطرق علمية سليمة بثقة المؤمن بكمال هذا الدين دون اللجوء إلى أساليب الدفاع التبريري الضعيف.
6- الاهتمام بدراسة الأفكار الوافدة والمبادئ المستوردة والتعريف بمظاهر قصورها ونقصها بأمانة وموضوعية.
7- الاهتمام بالصحوة الإسلامية ودعم المؤسسات العاملة في مجالات لدعوة والعمل الإسلامي لبناء الشخصية الإسلامية السوية التي تقدم للمجتمع الإنساني صورة مشرقة للتطبيق الإسلامي على المستوى الفردى والجماعى وفي كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.(7/2307)
8- الاهتمام باللغة العربية والعمل على نشرها ودعم تعليمها في جميع أنحاء العالم باعتبارها لغة القرآن الكريم واتخاذها لغة التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات في البلاد العربية الإسلامية.
9- الحرص على بيان سماحة الإسلام وأنه جاء لخير الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة, وبحيث يكون ذلك على المستوى العالمي وباللغات الحية جميعها.
10ـ الاستفادة الفاعلة والمدروسة من الأساليب المعاصرة في الإعلام مما يمكن من إيصال كلمة الحق والخبر إلى جميع أنحاء الدنيا ودون إهمالٍ لكل وسيلة متاحة.
11ـ الاهتمام بمواجهة القضايا المعاصرة بحلول إسلامية والعمل على نقل حلول الإسلام لهذه المشكلات إلى التنفيذ والممارسة لأن التطبيق الناجح هو أفعل طرق الدعوة والبيان.
12ـ العمل على تأكيد مظاهر وحدة المسلمين وتكاملهم على كل الأصعدة وحل خلافاتهم ومنازعتهم فيما بينهم بالطرق السليمة وفق أحكام الشريعة المعروفة إفسادًا لمخططات الغزو الثقافي في تفتيت وحدة المسلمين وزرع الخلافات والمنازعات بينهم.
13ـ العمل على بناء قوة المسلمين واكتفائهم الذاتى اقتصاديًّا وعسكريًّا.
14ـ مناشدة الدول العربية والإسلامية مناصرة المسلمين الذين يتعرضون للاضطهاد في شتى بقاع الأرض ودعم قضاياهم ودرء العدوان عنهم بشتى الوسائل المتاحة.
كما يوصى المجلس أيضًا الأمانة العامة للمجمع باستمرار الإهتمام بطرح أهم قضايا هذا الموضوع في لقاءات المجمع وندواته القادمة نظرًا لأهمية موضوع الغزو الفكري وضرورة وضع إستراتيجية متكاملة لمجابهة مظاهره ومستجداته ويمكن البدء بقضيتى التنصير والاستشراق في الدورة القادمة.
والله ولى التوفيق.(7/2308)
القَرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 65/1/7
بشأن
الأسواق المالية
إن مجلس الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9-14 مايو 1992م.
بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: " الأسواق المالية " الأسهم، الاختيارات، السلع، بطاقة الائتمان.
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولًا – الأسهم:
1- الإسهام في الشركات:
(أ) بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
(ب) لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها.
(ج) الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.(7/2309)
2- ضمان الإصدار (UNDER WRITING) :
ضمان الإصدار: هو الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم، أو جزء من ذلك الإصدار، وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره وهذا لا مانع منه شرعًا إذا كان تعهد الملتزم بالاكتتاب بالقيمة الاسمية بدون مقابل لقاء التعهد، ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه – غير الضمان – مثل إعداد الدراسات أو تسويق الأسهم.
3- تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب:
لا مانع شرعًا من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه وتأجيل سداد بقية الأقساط، لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه، والتواعد على زيادة رأس المال، ولا يترتب على ذلك محذور لأن هذا يشمل جميع الأسهم، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير، لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاملين مع الشركة.
4- السهم لحامله:
بما أن المبيع (السهم لحامله) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعًا من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها.(7/2310)
5- محل العقد في بيع السهم:
إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة.
6- الأسهم الممتازة:
لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح أوتقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح.
ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية.
7- التعامل في الأسهم بطرق ربوية:
(أ) لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وثوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.
(ب) لا يجوز أيضًا بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعدًا من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم، لأنه من بيع ما لا يملكه البائع، ويقوي المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض.(7/2311)
8- بيع السهم أو رهنه:
يجوز بيع السهم أو رهنه مع مراعاة ما يقتضي به نظام الشركة، كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقًا أو مشروطًا بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء، وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة.
9- إصدار أسهم مع رسوم إصدار:
إن إضافة نسبة معينة مع قيمة السهم، لتغطية مصاريف الإصدار، لا مانع منها شرعًا ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديرًا مناسبًا.
10- إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم (خصم) إصدار:
يجوز إصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم القديمة (حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة) أو بالقيمة السوقية.
11- ضمان الشركة شراء الأسهم:
يرى المجلس تأجيل إصدار قرار في هذا الموضوع لدورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
12- تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة:
لا مانع شرعًا من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة.
كما لا مانع شرعًا من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام. وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودو المسؤولية.(7/2312)
13- حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقها:
يجوز للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم بأن لا يتم إلَّا بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة.
وكذلك يجوز اشتراط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة.
14- حق الأولوية:
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
15- شهادة حق التملك:
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
ثانيًا – بيع الاختيارات
صورة العقد:
إن المقصود بعقود الاختيارات الاعتياض عن الالتزام ببيع شيء محدد موصوف أو شرائه بسعر محدد خلال فترة زمنية معينة أو في وقت معين إما مباشرة أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين.(7/2313)
حكمه الشرعي:
إن عقود الاختيارات – كما تجري اليوم في الأسواق المالية العالمية – هي عقود مستحدثة لا تنضوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماة.
وبما أن المعقود عليه ليس مالًا ولا منفعة ولا حقًّا ماليًّا يجوز الاعتياض عنه فإنه عقد غير جائز شرعًا.
وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداءً فلا يجوز تداولها.
ثالثاً- التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة:
1- السلع:
يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي التالية:
الطريقة الأولى: أن يتضمن العقد حق تسليم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه.
وهذا العقد جائز شرعًا بشروط البيع المعروفة.
الطريقة الثانية: أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق.
وهذا العقد جائز شرعًا بشروط البيع المعروفة.(7/2314)
الطريقة الثالثة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطًا يقتضي أن ينتهي فعلًا بالتسليم والتسلم.
وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين. ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة. فإذا استوفى في شروط السلم جاز.
وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلمًا قبل قبضها.
الطريقة الرابعة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرط أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين بل يمكن تصفيته بعقد معاكس.
وهذا هو النوع الأكثر شيوعًا في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلًا.
2- التعامل بالعملات:
يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربع المذكورة في التعامل بالسلع.
ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة.
أما الطريقتان الأولى والثانية فيجوز فيهما شراء العملات وبيعها بشرط استيفاء شروط الصرف المعروفة.(7/2315)
3- التعامل بالمؤشر:
المؤشر هو رقم حسابي يحسب بطريقة إحصائية خاصة يقصد منه معرفة حجم التغير في سوق معينة. وتجري عليه مبايعات في بعض الأسواق العالمية.
ولا يجوز بيع وشراء المؤشر لأنه مقامرة بحتة وهو بيع شيء خيالي لا يمكن وجوده.
4- البديل الشرعي للمعاملات المحرمة في السلع والعملات:
ينبغي تنظيم سوق إسلامية للسلع والعملات على أساس المعاملات الشرعية وبخاصة بيع السلم والصرف والوعد بالبيع في وقت آجل والاستصناع وغيرها.
ويرى المجمع ضرورة القيام بدراسة وافية لشروط هذه البدائل وطرائق تطبيقها في سوق إسلامية منظمة.
رابعًا – بطاقة الائتمان:
تعريفها:
بطاقة الائتمان هي مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري – بناء على عقد بينهما – يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند دون دفع الثمن حالًا لتضمنه التزام المصدر بالدفع. ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف. ولبطاقات الائتمان صور:(7/2316)
- منها ما يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف وليس من حساب المصدر فتكون بذلك مغطاة. ومنها ما يكون الدفع من حساب المصدر ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية.
- ومنها ما يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع خلال فترة محددة من تاريخ المطالبة. ومنها ما لا يفرض فوائد.
- وأكثرها يفرض رسمًا سنويًّا على حاملها ومنها ما لا يفرض فيه المصدر رسمًا سنويًّا.
وبعد التداول قرر المجلس تأجيل البت في التكييف الشرعي لهذه البطاقة وحكمها إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
والله أعلم(7/2317)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 66/2/7
بشأن
البيع بالتقسيط
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 – 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجممع بخصوص موضوع: " البيع بالتقسيط ".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر:
1- البيع بالتقسيط جحائز شرعاً، ولو زاد فيه الثمن المؤجل على المعجل.
2- الأوراق التجارية (الشيكات – السندات لأمر – سندات السحب) من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة.
3- إن حسم (خصم) الأوراق التجارية غير جائز شرعًا، لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم.
4- الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين، (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق. وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية. فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذٍ حكم حسم الأوراق التجارية.
5- يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسرًا.
6- إذا اعتبر الدين حالًّا لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته، فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي.
7- ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار: ألَّا يكون للمدين مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقداً أو عيناً.
والله أعلم.(7/2318)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 67/3/7
بشأن
عقد الاستصناع
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "عقد استصناع".
وبعد استماعه للمناقشات التي دارت حوله، ومراعاة لمقاصد الشريعة في مصالح العباد والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، ونظرا لأن عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة، وفي فتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإسلامى.
قرر:
1– إن عقد الاستصناع - وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة - ملزم للطرفين إذا توفرت فيه الأركان والشروط.
2– يشترط في عقد الاستصناع ما يلي:
(أ) بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة.
(ب) أن يحدد فيه الأجل.
3– يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة.
4– يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطا جزائيا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.
والله أعلم.(7/2319)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 68/4/7
بشأن
بيع الوفاء
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: ((بيع الوفاء)) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول بيع الوفاء، وحقيقته: ((بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع)) .
قرر:
1- إن حقيقة هذا البيع ((قرض جر نفعًا)) فهو تحايل على الربا، وبعدم صحته قال جمهور العلماء.
2- يرى المجمع أن هذا العقد غير جائز شرعًا.
والله أعلم.(7/2320)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 69/5/7
بشأن
العلاج الطبي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: ((العلاج الطبي)) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر:
أولًا - التداوي:
الأصل في حكم التداوي أنه مشروع، لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية والعملية، ولما فيه من ((حفظ النفس)) الذي هو أحد المقاصد الكلية من التشريع.
وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص:
- فيكون واجبًا على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية.
- ويكون مندوبًا إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى.
- ويكون مباحًا إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين.
- ويكون مكروهًا إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها.
ثانيًا - علاج الحالات الميؤوس منها:
(أ) مما تقتضيه عقيدة المسلم أن المرض والشفاء بيد الله عز وجل، وأن التداوي والعلاج أخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الكون وأنه لا يجوز اليأس من روح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء بإذن الله.
وعلى الأطباء وذوي المرضى تقوية معنويات المريض، والدأب في رعايته وتخفيف آلامه والنفسية والبدنية بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه.
(ب) إن ما يعتبر حالة ميؤوسًا من علاجها هو بحسب تقدير الأطباء وإمكانات الطب المتاحة في كل زمان ومكان وتبعًا لظروف المرضى.
ثالثًا - إذن المريض:
(أ) يشترط إذن المريض للعلاج إذا كان تام الأهلية، فإذا كان عديم الأهلية أو ناقصها اعتبر إذن وليه حسب ترتيب الولاية الشرعية ووفقًا لأحكامها التي تحصر تصرف الولي فيما فيه منفعة المولى عليه ومصلحته ورفع الأذى عنه.
على أنه لا يعتبر بتصرف الولي في عدم الإذن إذا كان واضح الضرر بالمولى عليه، وينتقل الحق إلى غيره من الأولياء ثم إلى ولي الأمر.(7/2321)
(ب) لولي الأمر الإلزام بالتداوي في بعض الأحوال، كالأمراض المعدية والتحصينات الوقائية.
(ج) في حالات الإسعاف التي تتعرض فيها حياة المصاب للخطر لا يتوقف العلاج على الإذن.
(د) لا بد في إجراء الأبحاث الطبية من موافقة الشخص التام الأهلية بصورة خالية من شائبة الإكراه (كالمساجين) أو الإغراء المادي (كالمساكين) . ويجب أن لا يترتب على إجراء تلك الأبحاث ضرر.
ولا يجوز إجراء الأبحاث الطبية على عديمي الأهلية أو ناقصيها ولو بموافقة الأولياء.
والله أعلم.
ويوصي مجلس المجمع:
الأمانة العامة للجميع بالاستكتاب في الموضوعات الطبية التالية لطرحها على دورات المجمع القادمة:
- العلاج بالمحرمات وبالنجس، وضوابط استعمال الأدوية.
- العلاج التجميلي.
- ضمان الطبيب.
- معالجة الرجل للمرأة، وعكسه، ومعالجة غير المسلمين للمسلمين.
- العلاج بالرقي (العلاج الروحي) .
- أخلاقيات الطبيب (مع توزيعها على أكثر من دورة إن اقتضى الأمر) .
- التزاحم في العلاج وترتيب الأولية فيه.
- بحث أنواع من المرض تنتهي غالبًا بعجز الأطباء أو ترددهم في العلاج، وأمثلة ذلك:
* شخص قد استشرى السرطان في جسمه فهل تتم معالجته أم يكتفى بالمسكنات والمهدئات فقط؟(7/2322)
* طفل مصاب باستسقاء كبير في الدماغ (موت الدماغ) مصحوب بأنواع من الشلل والدماغ قد ضمر (لا تزال مناطق من الدماغ تعمل) ، فهل تجري لمثل هذا الطفل العملية؟ وهل إذا أصيب هذا الطفل بالتهاب في الزائدة أو التهاب رئوي يتم علاجه أم يترك؟
* شيخ هرم قد أصيب بجلطة بالقلب ومصاب بنوع من الشلل ثم أصيب بفشل كلوي فهل تتم معالجة الفشل الكلوي بالديلزة (الإنقاذ) ؟ وهل إذا توقف قلبه فجأة تتم محاولة إسعافه أم يترك؟ وهل إذا أصيب بالتهاب رئوي يتم علاجه أم يترك؟
* الشخص الذي أصيب دماغه بإصابات بالغة ومع هذا لا تزال بقية من الدماغ تعمل (لم يدخل في تعريف موت الدماغ) وهو فاقد للوعي ولا أمل في تحسن حالته، فهل إذا أصيب مثل هذا الشخص بتوقف في قلبه يتم إسعافه أم يترك؟ وهل إذا أصيب بالتهاب رئوي يعالج؟ ومن هو الذي يقرر التوقف عن العلاج في مثل هذه الحالات أهي لجنة من الأطباء؟ أم لجنة أخلاقية أم الأطباء مع الأهل؟
- بيان موقف الشريعة والسنة من هذه الأحوال والأنواع.
والله ولي التوفيق.(7/2323)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 70/ 6 / 7
بشأن
الحقوق الدولية في نظر الإسلام
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 ـ 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: " الحقوق الدولية في نظر الإسلام".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، رأى ما يلي:
أولا:
يثني المجلس على الجهود المشكورة التي بذلت في البحوث التي قدمت ونوقشت في دورته السابعة حول هذا الموضوع، وقد رأى أن الموضوع من الأهمية والسعة بحيث يدعو إلى مزيد من البحث والدراسة في الجوانب المتعددة التي ما زال الموضوع في حاجة إليها.
ثانيًا:
يتقرح المجلس تشكيل لجنة تحضيرية لإعداد ورقة عمل لندوة متخصصة تعقد لمعالجة تفاصيل هذا الموضوع والخروج بمشروع لائحة للحقوق الدولية في الإسلام تعرض على المجلس في دورته القادمة.
ثالثًا:
يقترح المجلس أيضًا أن يكون من محاور ورقة العمل ما يلي:
1 ـ مصادر القانون الدولي الإسلامي والعلاقات الدولية وهي: القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتطبيقات العملية عند الخلفاء الراشدين، كما يستفاد من اجتهادات الفقهاء في هذا.
2 ـ المقاصد والخصائص العامة للشريعة الإسلامية، والتي تترك أثرها العملي على المواقف كلها:
(أ) المقاصد الشرعية.
(ب) الخصائص العامة.
3 ـ مفهوم الأمة ووحدتها في الإسلام.
4 ـ مذاهب الفقهاء في أقسام الديار.
5 ـ الجذور التاريخية للحالة القائمة في العالم الإسلامي.
6 ـ علاقات الدولة الإسلامية في داخلها (الشعب والأقليات) .
7 ـ علاقات الدول الإسلامية بالدول الأخرى.
8 ـ موقف الدولة الإسلامية من المواثيق والمعاهدات والمنظمات الدولية.
رابعا:
يقترح المجلس على اللجنة التحضيرية أن تقوم بوضوع أوراق شارحة يسترشد بها الباحثون في تفصيل هذه المحاور وأن يكون ذلك في خلال الأشهر القادمة.
والله ولي التوفيق.(7/2324)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 71/ 7/ 7
بشأن
الغزو الفكري
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9ـ14 مايو 1992م.
بعد إطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الغزو الفكري) ، والتي بينت بداية هذا الغزو وخطورته وأبعاده وما حققه من نتائج في بلاد العرب والمسلمين، واستعرضت صورًا مما أثار من شبه ومطاعن، ونفذ من خطط وممارسات، استهدفت زعزعة المجتمع المسلم ووقف انتشار الدعوة الإسلامية، كما بينت هذه البحوث الدور الذي قام به الإسلام في حفظ الأمة وثباتها في وجه هذا الغزو وكيف أحبط كثير من خططه ومؤامراته.
وقد اهتمت هذه البحوث ببيان سبل مواجهة هذا الغزو وحماية الأمة من كل آثاره في جميع المجالات وعلى كل الأصعدة،
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول هذه البحوث يوصى بضرورة ما يلى:
1- العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية واتخاذها منهجًا في رسم علاقاتنا السياسية المحلية منها والعالمية.
2- الحرص على تنقية مناهج التربية والتعليم والنهوض بها بهدف بناء الأجيال على أسس تربوية إسلامية معاصرة وبشكل يعدهم الإعداد المناسب الذي يبصرهم بدينهم ويحصنهم من كل مظاهر الغزو الثقافي.
3- تطوير مناهج إعداد الدعاة من أجل إدراكهم لروح الإسلام ومنهجه في بناء الحياة الإنسانية بالإضافة إلى إطلاعهم على ثقافة العصر ليكون تعاملهم مع المجتمعات المعاصرة عن وعى وبصيرة.
4- إعطاء المسجد دوره التربوى الكامل في حياة المسلمين لمواجهة كل مظاهر الغزو الثقافي وآثاره وتعريف المسلمين بدينهم التعريف السليم الكامل.
5- رد الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام بطرق علمية سليمة بثقة المؤمن بكمال هذا الدين دون اللجوء إلى أساليب الدفاع التبريري الضعيف.
6- الاهتمام بدراسة الأفكار الوافدة والمبادئ المستوردة والتعريف بمظاهر قصورها ونقصها بأمانة وموضوعية.
7- الاهتمام بالصحوة الإسلامية ودعم المؤسسات العاملة في مجالات لدعوة والعمل الإسلامي لبناء الشخصية الإسلامية السوية التي تقدم للمجتمع الإنساني صورة مشرقة للتطبيق الإسلامي على المستوى الفردى والجماعى وفي كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.(7/2325)
8- الاهتمام باللغة العربية والعمل على نشرها ودعم تعليمها في جميع أنحاء العالم باعتبارها لغة القرآن الكريم واتخاذها لغة التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات في البلاد العربية الإسلامية.
9- الحرص على بيان سماحة الإسلام وأنه جاء لخير الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة, وبحيث يكون ذلك على المستوى العالمي وباللغات الحية جميعها.
10ـ الاستفادة الفاعلة والمدروسة من الأساليب المعاصرة في الإعلام مما يمكن من إيصال كلمة الحق والخبر إلى جميع أنحاء الدنيا ودون إهمالٍ لكل وسيلة متاحة.
11ـ الاهتمام بمواجهة القضايا المعاصرة بحلول إسلامية والعمل على نقل حلول الإسلام لهذه المشكلات إلى التنفيذ والممارسة لأن التطبيق الناجح هو أفعل طرق الدعوة والبيان.
12ـ العمل على تأكيد مظاهر وحدة المسلمين وتكاملهم على كل الأصعدة وحل خلافاتهم ومنازعتهم فيما بينهم بالطرق السليمة وفق أحكام الشريعة المعروفة إفسادًا لمخططات الغزو الثقافي في تفتيت وحدة المسلمين وزرع الخلافات والمنازعات بينهم.
13ـ العمل على بناء قوة المسلمين واكتفائهم الذاتى اقتصاديًّا وعسكريًّا.
14ـ مناشدة الدول العربية والإسلامية مناصرة المسلمين الذين يتعرضون للاضطهاد في شتى بقاع الأرض ودعم قضاياهم ودرء العدوان عنهم بشتى الوسائل المتاحة.
كما يوصى المجلس أيضًا الأمانة العامة للمجمع باستمرار الإهتمام بطرح أهم قضايا هذا الموضوع في لقاءات المجمع وندواته القادمة نظرًا لأهمية موضوع الغزو الفكري وضرورة وضع إستراتيجية متكاملة لمجابهة مظاهره ومستجداته ويمكن البدء بقضيتى التنصير والاستشراق في الدورة القادمة.
والله ولى التوفيق.(7/2326)
البيان الختامى
الصادر عن الدروة السابعة
لمؤتمر مجلس مجمع الفقه الإسلامي
بجدة ـ المملكة العربية السعودية
في الفترة ما بين 7ـ12 ذى القعدة 1412هـ
9ـ14 من شهر مايو أيار 1992م
بسم الله الرحمن الرحيم
(صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)
في ظل كتاب الله الكريم وقوله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .
وتحت الإشراف الملكي السامي لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود, ملك المملكة العربية السعودية ـ أعزه الله ـ وبرعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عيد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة انعقدت برحاب جامعة الملك عبد العزيز بمدينة جدة الدورة السابعة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي المتفرع عن منظمة المؤتمر الإسلامي في الفترة ما بين 7ـ12 من شهر ذي القعدة 1412هـ (9ـ14 من شهر مايو (أيار) 1992م) .
وقد تميزت الجلسة الافتتاحية بكلمة خادم الحرمين الشريفين ـ أعزه الله ـ فهي إلى جانب ما تناولته من توجيهات سديدة، وحددته من أهداف عالية، تضبط رسالة المجمع ودوره بقوله: وإن هذا المجمع وما يضمه من صفوة علماء وحكماء الأمة الإسلامية لهو دليل تضامنها وتوحيد كلمتها وندعو إخواننا المسلمين حكامًا وشعوبًا أن يطرحوا ما لديهم من تساؤلات أو اختلافات على هذا المجمع الفقهي وعلينا أن نتقبل بالرضا والتأييد ما يصدر عنه، فإنه يمثل إجماع علماء الأمة الإسلامية.
وقد شارك في هذه الجلسة أصحاب المعالي والسعادة:
الدكتور حامد الغابد، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والدكتور التجينى الهدام، عضو المجلس الأعلى للدولة في الجزائر، وعدد من مديري الجامعات بالمملكة العربية السعودية وبعض رؤساء المنظمات الإسلامية وممثلو المؤسسات المتفرعة عن منظمة المؤتمر الإسلامي وأعضاء المجمع الممثلون لأكثر من اثنتين وثلاثين دولة وأغلب الأعضاء المعينين.(7/2327)
ثم ألقى معالي الدكتور حامد الغابد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي كلمة حيَّا فيها الحاضرين، وتوجه فيها بالخطاب إلى المجاهدين الأفغان داعيًا إياهم لتوحيد صفوفهم وبناء دولتهم.
وتناول الكلمة بعد ذلك معالي رئيس مجلس المجمع الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، وتبعه الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي سماحة الشيخ محمد المختار السلامي بإلقائه كلمة الأعضاء.
وعقدت بعد ذلك الجلسة التنظيمية التي جرت فيها الانتخابات بين الأعضاء، وأسندت فيها من جديد رئاسة مجلس المجمع لفضيلة الشيخ العلامة بكر أبو زيد، كما تم انتخاب السادة الشيخ محمد المختار السلامي والقاضى محمد تقى العثمانى والدكتور عمر جاه، نوابًا للرئيس.
وتم إثر ذلك انتخاب أعضاء مكتب المجمع الممثلين للدول الست التالية: أندونيسا ـ ماليزيا ـ الإمارات العربية المتحدة ـ المملكة المغربية ـ جمهورية تشاد وجمهورية النيجر.
ثم نظر المجلس في جدول أعمال الجلسات وأقره معينًا بالإجماع فضيلة الدكتور عبد السلام العبادي مقررًا عامًّا للدورة.
وامتدت بعد ذلك على مدى ستة أيام جلسات المجمع الصباحية والمسائية وتمت مناقشة الأسواق المالية في جلسات يومي السبت والأحد واستمع إلى عروض كثيرة تتعلق بالقضايا المطروحة في هذا الباب وهي الأسهم والاختيارات والسلع وبطاقات الائتمان. وبعد مناقشة هذه العروض تكونت لجنة لصياغة القرارت المتعلقة بها، وصباح يوم الاثنين تمت دراسة موضوع البيع بالتقسيط، واستمع إلى العروض والمناقشات وتشكلت لجنة ثانية لصياغة القرارات المتعلقة بها. وفي عصر هذا اليوم بحث موضوع عقد الاستصناع على النحو الذي تم في بقية الموضوعات، وفي يوم الثلاثاء نوقشت العروض المتعلقة ببيع الوفاء وبعد العصر قضايا العلاج الطبى وتكونت لكل واحد من الموضوعين لجنة لصياغة القرار.
وفي يوم الأربعاء صباحًا بحث مجلس المجمع موضوع الحقوق الدولية في نظر الإسلام فاستمع إلى العروض ونوقشت البحوث وكفلت لجنة للصياغة وبعد عصر هذا اليوم طرحت قضية الغزو الفكري وجرى النقاش حول العروض وعينت لجنة أخرى للصياغة. وفي كامل يوم الخميس، استمع المجلس إلى صياغة القرارات فناقشها وأقرها في صورتها الأخيرة وتولى بعد ذلك النظر في مشاريع المجمع: المجلة ـ وتيسير الفقه ـ والموسوع الفقهية الاقتصادية ـ ومعجم مصطلحات الفقه المالكى ـ ومَعْلَمَة القواعد الفقهية وتقنين الشريعة، مكونًا لجانًا لمتابعة إنجاز هذه المشاريع على نحو يكفل النجاعة ويحقق الغاية من الغاية من هذه الجهود.
ثم وقع النظر في ميزان المجمع وتمت ـ بعد مناقشته ـ المصادقة عليه بالإجماع.
ومن المفيد أن نذكر هنا بأن البحوث التي قدمت في هذه الدورة للمجلس تبلغ ستين (60) بحثًا وكان عدد العارضين اثنى عشر (12) عارضًا وكذلك المقررون.(7/2328)
ولا يسعنا في ختام هذه الدورة إلا أن نرفع من جديد إلى خادم الحرمين الشريفين كل الثناء والشكر على ما يلقاه مجمع الفقه الإسلامي من تشجيع من لدنه ودعم ورعاية سامية، ولم لقيه المشاركون من كرم الضيافة وحسن الوفادة مما يسر انعقاد الدورة السابعة ومكنها من أسباب النجاح.
وقد عبر المشاركون عن عميق تقديرهم لمبادرة خادم الحرمين الشريفين بتمويل مشروع ترميم قبة الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين، وهو ما يؤكد مرة أخرى اهتمامه بالمقدسات الإسلامية، وحرصه المتواصل على إعمارها والحفاظ على معالم الحضارة الإسلامية وتخليدها.
وإزاء ما يتعرض له المسلمون من حملات تهدد عقيدتهم ومن ممارسات قمعية واضطهاد وتشريد في فلسطين وفي البوسنة والهرسك وكشمير، وبورما وغيرها من البلاد، دعا المجلس إلى توحيد جهود الأمة الإسلامية وتراص صفوفها وتوحيد كلمتها للقضاء على الظلم والعدوان أينما كان، وتحقيق العزة للمجتمع الإسلامي قاطبة.
كما أعرب المجلس عن عميق تقديره لمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور حامد الغابد، لما يلقاه المجمع لديه من دعم وتوجيه، ولإشرافه بنفسه على اجتماع مكتب المجمع ومساهمته في مداولاته.
كما أعرب المجلس عن خالص مشاعر العرفان لمعالي الدكتور رضا محمد سعيد عبيد، مدير جامعة الملك عبد العزيز ومسؤولي الجامعة لما لقيه المشاركون من ترتيبات ممتازة ساهمت مساهمه فعالة في نجاح هذه الدورة المتميزة.
ولا يسعني هنا إلا أن أتوجه بالشكر الخالص لمعالي الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس المجمع على ما قام به من جهود في إدارة الجلسات ومناقشة الموضوعات بروح علمية وأخلاق زكية تمكن المجمع من المضي قدمًا في تحقيق رسالته النبيلة كما أنوه بما قام به أعضاء المجلس والخبراء والعارضون والمقررون من جهود بينة واصلوا بها ليلهم بنهارهم اضطلاعًا بأشغال الدورة ووفاء بمتطلباتها العلمية.
وأشيد بما قامت به أجهزة الإعلام في المملكة وخارجها من تغطية شاملة لهذه الدورة وللمباحث التي عرضت فيها مخصصًّا بالذكر أجهزة الإعلام السعودى من تلفزة وإذاعة وصحافة سهرت على تنفيذ ذلك بتوجيه كريم من معالى الأستاذ على بن حسن الشاعر وزير الإعلام في المملكة , ولا يفوتنى كذلك أن أنوه بالجهود الكبيرة المتواصلة التي قامت بها بعزم وجد مثاليين الأمانة العامة المتابعة للدورة , وكذلك المشرفون على قاعات الاجتماعات وعلى الفندق وعلى نقل المشاركين.
وفي ختام هذا البيان أدعو الله العلى القدير أن يرزقنا التوفيق والتسديد في أعمالنا ويمدنا بحسن عونه وكريم عنايته لنحقق أهداف المجمع ونبلغ بذلك خدمة ديننا ومستقبل أمتنا إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
صدر في جدة في: 12 ذى القعدة 1412هـ
الموافق: 14 مايو (أيار) 1992م(7/2329)
العدد الثامن(8/1)
تقديم
كلمة معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
الدكتور حامد الغابد
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه الغر الميامين وسلم تسليمًا وبعد،
يطيب لي أن أقدم هذا العدد الثامن من المجلة العلمية التي يصدرها مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة إلى قادة دولنا ورجال الفكر، والباحثين والقراء والمستفتين خاصة، وإلى الأمة الإسلامية عامة.
وقد اشتمل هذا العدد من مجلة المجمع على دراسات وقضايا هامة جدًّا يحتاج إليها كل مسلم في علاقاته مع خالقه وفي معاملاته مع المخلوقين؛ لأنها لا تتضمن فقط أمورًا تتعلق بالعبادة مثل: موضوع أحكام الرخص الشرعية ونحوها، بل استوفت كذلك جوانب تهم المسلم في حياته اليومية مع المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، ومن أمثلة ذلك: حكم بطاقات الائتمان، وأخلاقيات الطبيب، وسائر الموضوعات التي بحثت في هذه الدورة.
وقد طلع علينا المجمع – كعادته – بقرارت وتوصيات ممحصة ومتقنة تتناسب مع روح العصر ومتطلباته.
ولم يقتصر دور المجمع على عقد مؤتمراته السنوية ونشر بحوثها ودراساتها في مجلدات بلغت الآن (21) واحدًا وعشرين مجلدًا، بل امتدت نشاطاته إلى مجالات أخرى، حيث تعقد هذه المؤسسة ندوات كثيرة متخصصة وتنظم مجالس علمية عدة. وإلى جانب هذه وتلك مشاريع المجمع العلمية التي قطعت كلها شوطًا كبيرًا من الإنجاز، مثل: إحياء التراث، الموسوعة الفقهية الاقتصادية، ومعلمة القواعد الفقهية.
ولعل من حسن الصدف – للإنجاز الأول – أن يتزامن صدور هذا العدد الثامن مع انتهاء تحقيق وطبع " عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة " لابن شاس، هذا الكتاب الذي يعد من أهم مصادر الفقه المعتمدة في المذهب المالكي لدى الأئمة وهو يطبع لأول مرة، وذلك على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، جازاه الله خير الجزاء وأكمله، وجعل هذا العمل الجليل في ميزان حسناته.(8/2)
وإني لأرى لزامًا علي في نهاية الكلمة أن أؤدي حق الشكر والامتنان إلى حكومة خادم الحرمين الشريفين، والشعب السعودي الكريم لما تلقاه منظمة المؤتمر الإسلامي وجميع أجهزته من دعم سخي ورعاية كريمة.
ولا يفوتني كذلك أن أخص بالشكر والتقدير فضيلة الشيخ الدكتور / محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، الذي نما المجمع وترعرع على يديه، والذي لم يدخر أي جهد طوال عشر سنوات مضت من عمر المجمع، في سبيل النهوض بالمؤسسة، فجزاه الله كل خير.
كما أنوه بجهود رئيس مجلس المجمع فضيلة الشيخ الدكتور / بكر بن عبد الله أبو زيد الذي قام بدور كبير في دفع عجلة إنجازات المجمع، وأوجه شكري أيضا لجميع الفقهاء والباحثين والخبراء، وجميع العاملين بالمؤسسة الذين ساهموا كل حسب موقعه في رفعة مستوى هذا الركن العظيم وشهرته، فجزاهم الله جميعًا أحسن الجزاء.
واللهَ أسألُ أن يوفق علماء هذه الأمة وخبراءها لخدمة الإسلام والمسلمين.
إنه ولي التوفيق والسداد.
الدكتور / حامد الغابد(8/3)
تقديم
كلمة معالي أمين عام المجمع
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
كلمة معالي رئيس مجلس المجمع
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على النبي الأمين، الذي أرسله الله شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
مما لا يخفى أن من أهم الأهداف العظيمة، التي أنشئ من أجلها مجمع الفقه الإسلامي الدولي، حشد طاقات فقهاء الأمة وعلمائها ومفكريها، في شتى حقول المعرفة: من فقهية وثقافية، واقتصادية واجتماعية، وطبية، في أنحاء العالم الإسلامي، لمواجهة مشكلات الحياة المعاصرة المعقدة بالاجتهاد فيها اجتهادًا جماعيًّا فاعلاً، لتقديم الحلول الناجعة لتلك المشكلات مهما تعقدت، وذلك على ضوء فقه أصول الشريعة الغراء المعتبرة وقواعدها العامة.
وقد وفق المجمع، ولله الحمد والمنة، ومنذ تأسيسه، للسير خطوات مباركة طيبة في سبيل تحقيق أهدافه، فعقد مؤتمراته السنوية الدولية، واحدًا بعد الآخر في عدد من الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي حتى بلغ هذه المرة دورته الثامنة، التي عقدت في جنوب شرق آسيا، بعاصمة بروناي دار السلام بندر سيري بجوان، وذلك في فاتح الشهر المبارك، شهر محرم الحرام، أول شهور السنة الهجرية، لعام أربعة عشر وأربعمائة وألف، الموافق واحدا وعشرين يونيو لعام ثلاثة وتسعين وتسعمائة وألف للميلاد.
ولقد ظفرت هذه الدورة بسامي إشراف وحضور جلالة السلطان، حاج حسن البلقية، سلطان سلطنة بروناي، واستضافة كريمة منه، وقد نوه جلالته - حفظه الله - في الخطاب الذي ألقاه في افتتاح الدورة بدور المجمع العظيم، وبرسالته السامية وبأهميته البالغة، في توجيه الأمة خصوصًا في زمن تطورت فيه الحضارة وتعقدت، وكثرت فيه الشبهات، وعمت الخلافات والنزاعات بين المسلمين، فالمسلمون يحتاجون اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى وجود هذا المجمع ليقوم بدراسات مستفيضة وتحليلات شاملة بقصد الوصول إلى حل جذري لقضايا ومشكلات المسلمين العديدة المعقدة، والملحة التي أفرزتها الحياة المعاصرة في أوساط المجتمعات الإسلامية، طبقًا لأحكام الشريعة الإسلامية السمحة.(8/4)
فجزى الله جلالة السلطان، وولي عهده، ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، وحكومته، وشعب سلطنة بروناي عن الإسلام والمسلمين، والعلم وذويه، خير الجزاء.
وإن هذه الدورة الثامنة المتميزة، والتي شارك فيها ثلة من علماء الأمة وخبرائها ومفكريها؛ من فقهاء واقتصاديين، وأطباء واجتماعيين، وباحثين مقتدرين، بجانب أعضاء المجمع المنتدبين، قد عقدت فيها للعرض والمناقشة عدة جلسات، وقدمت فيها مجموعة من الأبحاث القيمة التي تناولها العرض (39) بحثًا، مع جملة وثائق للندوات الفقهية الاقتصادية التي ضمت إليها.
وقد خصصت هذه الدورة لبحث ودراسة القضايا التالية:
1- الأخذ بالرخص وحكمه.
2- حوادث السير.
3- بيع العربون.
4- البيع بالمزايدة.
5- تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية.
6- بطاقات الائتمان.
7- أخلاقيات الطبيب، مسؤوليته وضمانه، الأحكام المتعلقة ببعض ذوي الأمراض المستعصية.
8- السنة النبوية في العصر الحديث بين أنصارها وخصومها.
9- وثائق وتوصيات الندوات الفقهية الاقتصادية.
10- القرارات والتوصيات.(8/5)
وبناء على الأبحاث المعروضة وما تلاها من مناقشات ومقارنات وتحليلات ومداولات، اتسمت بتلاقح المذاهب الفقهية الإسلامية، ونضج الآراء والمفاهيم، وتحري الدقة، واعتماد مبدأ الاستقراء لاستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة، ومظانها الموثوقة، لإيجاد الحلول الشرعية للقضايا المبحوثة، اتخذ مجلس المجمع قرارًا مجمعيًّا شرعيًّا في كل قضية طرحت، وتوصيات توجت في مبتداها بدعوة المسلمين قادة وشعوبًا في كل مكان إلى جمع الكلمة والتضامن، والالتزام بالحلول الإسلامية لمشكلاتهم، وتقديم الإسلام للعالم قاطبة بصورته الناصعة البياض، ليلها كنهارها.
وإنا لنرجو أن نكون قد جمعنا في هذا العدد الثامن ذي المجلدات الثلاثة ما يفيد العلماء والباحثين وطلاب العلم، وخاصة المسلمين وعامتهم.
واللهَ تعالى نسألُ، رب العرش العظيم، أن يمدنا بالتوفيق والسداد والإخلاص في جميع أعمالنا، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معالي الدكتور / محمد الحبيب ابن الخوجة. الأمين العام المجمع الفقه الإسلامي بجدة
معالي الدكتور / بكر بن عبد الله أبو زيد. رئيس المجمع.(8/6)
القسم الأول
الجلسة الافتتاحية
كلمات الافتتاح
- كلمة سلطان بروناي دار السلام
جلالة الملك الواثق بالله السلطان الحاج: حسن البلقيه معز الدين والدولة.
- كلمة معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
الدكتور: حامد الغابد.
- كلمة معالي رئيس مجلس المجمع
الدكتور: بكر بن عبد الله أبو زيد.
- كلمة معالي أمين عام المجمع
الدكتور: محمد الحبيب ابن الخوجة.(8/7)
كلمة
جلالة سلطان بروناي دار السلام
جلالة الملك الواثق بالله السلطان
الحاج: حسن البلقيه معز الدين والدولة
ابن المرحوم السلطان الحاج: عمر علي سيف الدين والدولة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
- معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
- الإخوة الكرام أعضاء مجمع الفقه الإسلامي، أعضاء وخبراء وباحثين.
- الإخوة الحضور.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أحمد الله سبحانه وتعالى، وأشكره إذ أشارككم في حفل افتتاح المؤتمر الثامن لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وإنه لشرف عظيم أن يعقد هذا المؤتمر العظيم في سلطنة بروناي دار السلام،
ولا يسعني في هذا الافتتاح إلا أن أحيي وأرحب بالسادة العلماء والخبراء والمتخصصين، وأقول لهم: أهلا وسهلا ومرحبا بكم، على تفضلكم بالاشتراك في هذا المؤتمر متمنيا لكم طيب الإقامة طوال وجودكم في هذا البلد العزيز.
إنه لمن دواعي الفخر والاعتزاز أن يمنح لسلطنة بروناي دار السلام شرف انعقاد مؤتمركم هذا على أرضها، وخصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أن بروناي هي ثالث دولة غير المملكة العربية السعودية (دولة المقر) تستضيف مثل هذا المؤتمر، وهذا له معنى كبير لبروناي دار السلام، تلك الدولة الصغيرة والنائية عن آسيا الغربية وأفريقيا.
أفادني المسؤول عن المجمع بأن لمجمع الفقه الإسلامي منذ نشأته أهدافًا كبرى عديدة منها العمل على تحقيق الوحدة الإسلامية، وتوجيه الأمة إلى التمسك بالعقيدة الصحيحة ودراسة قضاياها المعاصرة والتوصل إلى حلها وعلاجها.
ومن هنا يبدو لنا أهمية المجمع ودوره الرائد في توجيه الأمة، وخصوصا في زمن كثرت فيه الخلافات والنزاعات بين المسلمين، فالمسلمون يحتاجون اليوم أكثر من أي يوم مضى إلى وجود هذا المجمع ليقوم بدراسات مستفيضة وتحليلات شاملة بقصد الوصول إلى حل جذري طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية.(8/8)
إن الأمة الإسلامية في غنى عن هذه الخلافات التي تفضي في بعض الأحيان إلى اشتعال حروب بين الأشقاء، بينما يحذر ديننا الحنيف عن الاقتتال فيما بيننا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول في نص صريح ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) .
فالأمة الإسلامية على اختلاف جنسياتها، لا ينبغي لها الإفراط ولا التفريط، فتقدم السياسة على الشرع، والعكس صحيح؛ فإن السياسة لابد وأن يراقبها الشرع ويقيدها بقيود شرعية عادلة، وذلك لأنه ليس كل ما يحلو في نظر الحس والهوى فهو حسن، ولكن الحسن ما رآه الدين حسنا، وإن كان مرًّا لا يكاد يتجرعه أي إنسان.
وفي نظري أن الضعف أو الوهن الذي تخلل إلى جسم الأمة الإسلامية اليوم ليس ناتجًا عن المؤامرات التي خططها أعداء الإسلام، إنما هو نابع عن تصرفات هذه الأمة نفسها، وذلك لفقدان ثقتها بالإسلام وقلة رغبتها في الانقياد لأحكامه وتعاليمه، بل العكس إنها مؤمنة بالأفكار والثقافات المنبثقة من تيارات أو اتجاهات هدامة.
وهذا في الواقع من أكبر العوامل التي جعلت الأمة الإسلامية عاجزة عن تقديم ما يرجع بالنفع إلى أنفسهم، وبالأولى إلى المجتمع الإسلامي على المستوى الدولي.
وما نشاهده اليوم هنا وهناك من قضايا ومشكلات متناثرة ومتراكمة، كقضية فلسطين والخليج والبوسنة وكشمير والصومال وغيرها كثير، تتطلب وحدة الأمة الإسلامية وتماسكها فيما بينها دون الاعتماد على غيرها، فكان من الواجب علينا ألا نسمح لأعدائنا أن يستولوا على أي شبر من أراضينا فيجزئوها كيف يشاؤون، في حين يتعرض شعبها المسلم للهلاك دون أن يجدوا من يمد إليهم يد العون والمساعدة، وحتى من إخوانهم في الدين، مع أن المسلمين فيما بينهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وإنني متأكد من أن الأمة الإسلامية إذا اتحدت وتعاطفت وتعاضدت، فإن المكائد والمؤامرات التي تتستر وراء المساعدات الدولية الخادعة والتي دبرها أعداء الإسلام لن تؤثر فيها ولن تجد إليها سبيلا.(8/9)
فالأمة الإسلامية تملك كل القدرات التي تمكنها من الاستقلال عن غيرها، فالعالم الإسلامي يتمتع بثروة هائلة وكفاءات عالية في كل المجالات ونواحي الحياة، ففي مجال الاقتصاد مثلا قام علماء الإسلام بإنشاء قسم خاص سمي بالاقتصاد الإسلامي، ثم تولد عنه البنوك الإسلامية التي تتخذ الشريعة الإسلامية أساسًا لتعاملها، خلفا للبنوك الربوية التي تتعامل بالربا المحرم، وهذا لخير دليل على صحة العبارة المشهورة القائلة: " الإسلام صالح لكل زمان ومكان ".
وانطلاقًا من هذا الواقع، فإننا على يقين بأن مستقبل العالم سيشهد تطبيقًا إسلاميًّا في آفاقه الواسعة؛ لأن الإسلام نهج ونظام كامل وشامل لجميع جوانب حياة الإنسان.
وعلى هذا فإن حكومة سلطنة بروناي دار السلام تعمل الآن بجد ونشاط نحو أسلمة دستورها وقوانينها.
وإنني أوجه النداء الخالص إلى جميع الجهات المعنية بالأمة الإسلامية، وعلى الأخص مجمع الفقه الإسلامي لمساعدتي ومساعدة حكومة بروناي دار السلام من أجل تحقيق هذه الأهداف النبيلة، التي يتطلع إليها كل مسلم غيور على دينه.
وختامًا: أهنئكم أيها الحفل الكريم، وأحيي هذا المؤتمر.
وأخيرًا ف بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أعلن افتتاح المؤتمر الثامن لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
وبالله التوفيق والهداية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/10)
كلمة
معالي الدكتور حامد الغابد
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
. صاحب الجلالة السلطان: حسن البلقيه
سلطان بروناي دار السلام،
صاحب معالي وزير الشؤون الدينية
في سلطنة بروناي،
صاحب الفضيلة الشيخ: بكر بن عبد الله أبو زيد.
رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي.
صاحب الفضيلة الشيخ: محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي.
أصحاب السعادة،
أيها الأخوة الكرام.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
إنه لشرف عظيم وسعادة غامرة تلكم التي أشعر بها وأنا أشارك في الدورة الثامنة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي، التي تنعقد في سلطنة بروناي دار السلام، في هذا الجزء الذي يمثل أقصى شرق العالم الإسلامي، تحت سامي إشراف جلالة السلطان حسن البلقيه، حفظه الله.
وبهذه المناسبة السعيدة أود أن أغتنم هذه الفرصة الطيبة لأزجي إلى مقام جلالة السلطان حسن البلقيه، وإلى حكومته الموقرة، وشعبه الوفي أسمى آيات الامتنان لحفاوة الاستقبال الأخوي ولكرم الضيافة الغامر الذي حظي به كافة المشاركين في الدورة الحالية. إن في هذه المكارم لأبلغ دليل على تعلق هذا البلد الشقيق وقادته بقيم الإسلام الأصيلة، من تضامن وأخوة لا تنفصم عراها. كما لا يفوتني أن أجدد لهم الشكر والعرفان للدعم المعنوي والمادي النفيس الذي ما انفكوا يحيطون به منظمة المؤتمر الإسلامي، ولمساهمتهم في الدفاع عن القضايا الإسلامية انتصارًا للحق والعدل ومن أجل تعزيز السلم والأمن الدوليين.(8/11)
وفي نفس المقام أرى من واجبي أن أخص بالإشادة مسؤولي مجمع الفقه الإسلامي، وخاصة منهم فضيلة الشيخ بكر أبو زيد، وفضيلة الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة لما يبذلانه من جهد دؤوب على رأس هذه المؤسسة الإسلامية الهامة.
إن هذا الصرح الإسلامي العظيم، مجمع الفقه الإسلامي، الذي تلتقي فيه اجتهادات فقهاء الإسلام وعلمائه وحكمائه كي تقدم للأمة الإسلامية الإجابة الشافية على كل تساؤل تطرحه الحياة المعاصرة؛ فإن منجزاته ومشاريعه العلمية الضخمة التي حققها في فترة زمنية قياسية لم تقتصر على دراسة مشكلات وقضايا الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها وإيجاد حلول ناجعة لها، بل امتد الأمر كذلك إلى تبصير المسلمين بأمور دينهم، سواء أكان هؤلاء المسلمون في الدول الأعضاء أم في الدول غير الأعضاء، هذا إضافة إلى سعي المجمع لترسيخ الفكر الإسلامي الأصيل في شتى مجالات المعرفة: فقهية وثقافية، وعلمية واقتصادية، وغير ذلك.
جلالة السلطان،
أصحاب المعالي والفضيلة
حضرات الإخوة الكرام،
إن الدارس للمجتمعات الإسلامية والتاريخ الإسلامي يقف على حقيقة من حقائق الإسلام تكشف عن أسراره، وهي أن الفقه الإسلامي كان ولا يزال من أهم الأسس والعوامل التي ساهمت في بناء الأمة الإسلامية، وتكوين حضارتها واتساع عمرانها وامتداد سلطانها؛ لأنه فقه يقوم على العدالة، ويشرع الحقوق ويصونها، ويكفل الحرية، ويلائم الفطر السليمة، ويزيل الفوارق، ويساير التطور، ويمسك بالأصول والقواعد العادلة.
وما ذلك إلا لأنه مستمد من شرع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وإرشاد من رسول أمين، لا ينطق عن الهوى ولا يحيد عن الحق، فجاء أول ما جاء ثابت القواعد، راسخ الأساس، سليم المبادئ، صحيح النتائج، متفقا مع الأعراف الصحيحة والعادات الحسنة والأخلاق الكريمة، يهدي إلى الإصلاح، ويدعو إلى السمو، وينأى بجانبه عن الركود والقعود.(8/12)
ومن هنا كان واجب علماء الأمة الإسلامية أفرادا وجماعات، الاجتهاد في كل عصر، بل الواجب أن لا يخلو منهم جيل كي يستنبطوا من نصوص الشرع أحكام ما يستجد من حوادث ووقائع، ولكي يصلحوا التحريف، ويحقوا الحق ويزيلوا الزيغ حتى يعود الفكر الإسلامي غضا طريا كما كان، خصوصا وأن الاجتهاد الجماعي في هذا العصر متيسر بفضل تطور وسائل الاتصالات، وأن دواعي الاجتهاد قائمة وملحة أكثر من أي عصر مضى.
لقد وجد المجتمع الدولي في عصر التكنولوجيا نفسه متلامسا تتصل الأمور فيه وتتشابك وتتعقد أكثر من ذي قبل، فلابد من القوة للصمود أمام ما يتحاوره من الأفكار والأيديلوجيات والمصالح المتنافسة إن لم تكن متعارضة متناقضة.
فعلى الأمة الإسلامية ممثلة في علمائها أن يهبوا للدفاع عن دينهم الحنيف وأن يجتهدوا اجتهادا جماعيا لمواجهة قضايا الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية برد كل جديد منها إلى الأصول الشرعية من الكتاب والسنة.
ولا يفوتني في هذا السياق، أن أؤكد على أهمية دور الدعوة الإسلامية التي يجب أن تبنى على أسس علمية عصرية وتجريبية مع أخذ الخصوصيات الثقافية لكل شعب بعين الاعتبار، وخاصة في آسيا حيث تتكالب التيارات المعادية للإسلام لتأخذ حجما ما انفك يتزايد يوما بعد يوم.
صاحب الجلالة
أصحاب المعالي
أصحاب الفضيلة
أيها الإخوة الكرام.
إننا نشهد اليوم صارعات مأساوية، معظمها يدور داخل حدود وطننا الإسلامي الكبير، كذلك فإن المجتمع الدولي الذي له وسائل وضع حد لهذه الصراعات أصبح يفضل الكيل بمكيالين بمجرد أن تكون مصالحه غير مهدده مباشرة. وهكذا تستمر معاناة الشعب الفلسطيني بفعل تعنت إسرائيل التي تتمادى دون وازع في تحدي القرارات الدولية وتقتيل المئات من شباب الانتفاضة المباركة، وطرد المواطنين العرب من الأراضي المحتلة، وفرض الحصار الكامل على هذه الأراضي بهدف تركيع المناضلين الفلسطينيين.
وفي البوسنة والهرسك يبدو أن المجازر الرهيبة التي تذكر في جنونها بأبشع الجرائم النازية، لا تحرك ساكن ضمير المسؤولين عن المجتمع الدولي. إن سياسة التطهير العرقي، واغتصاب النساء المسلمات، وتقتيل الأبرياء، وإقامة المحتشدات وغيرها من الجرائم التي يرتكبها الصرب ضد شعب البوسنة ما تزال متواصلة بنفس النسق بينما يركن المجتمع الدولي للتردد والتخاذل مما شجع المعتدي الصربي على الدوس على كل القرارات الرامية إلى وضع حد لمجزرة البوسنة.(8/13)
إن منظمة المؤتمر الإسلامي، وطبقا لأهدافها النبيلة قد قدمت دعمها الكامل إلى قضيتي فلسطين والبوسنة والهرسك، كما أنها مستمرة في بذل الجهود للإبقاء على ضغط الأمم المتحدة وخاصة مجلس الأمن من أجل فرض احترام الشرعية الدولية بنفس المعايير وتطبيق القرارات الدولية دون تمييز.
وفي أماكن أخرى من العالم، فإن حقوق الشعوب المسلمة تتعرض للانتهاك يوميا. تلكم هي الحال في كشمير والفلبين وقبرص وبورما. بينما يتحارب الأشقاء في بلاد إسلامية أخرى باسم مصالح ليست دائما مصالح للشعوب التي يدعون الدفاع عنها. وهكذا فإن الوضع في الصومال وأفغانستان مستمر في التدهور بشكل مثير للقلق، حيث يصر الأشقاء الأعداء على إفشال كل محاولات إعادة المصالحة الوطنية.
ورغم هذا الوضع المتردي فإن أملي عريض في أن تتمكن الأمة الإسلامية من تعزيز وحدتها، وفرض وزنها على كل الأحداث التي تشغل بال المسلمين بالدرجة الأولى. كما أن ثقتي كبيرة في أن العلماء والفقهاء والمثقفين المجتمعين هنا سينظرون في هذه المشاكل وسيتقدمون باقتراحات عملية من شأنها تعزيز التضامن والأخوة الإسلامية في مواجهة التحديات المحدقة بالعالم الإسلامي.
صاحب الجلالة،
أصحاب المعالي،
أصحاب الفضيلة،
أيها الأخوة الكرام.
لا يفوتني في ختام هذه الكلمة أن أتوجه بأسمى آيات العرفان والتقدير إلى حكومة المملكة العربية السعودية، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك: فهد بن عبد العزيز آل سعود، للدعم المادي والمعنوي التي ما انفكت تقدمه لمنظمة المؤتمر الإسلامي عامة، وللأمانة العامة ومجمع الفقه الإسلامي على وجه الخصوص.
واسمحوا لي أيضا أن أجدد الشكر والتقدير إلى صاحب الجلالة السطلان: حسن بلقيه، وإلى حكومة بروناي دار السلام، وشعبها لتفضلهم باستضافة هذه الدورة للمجمع، ولما اتخذ من تدابير من شأنها أن تضمن نجاحها.
كما يسعدني أن أتوجه بالشكر إلى المسؤولين، وأعضاء المجلس، والخبراء والعلماء والباحثين في المجمع، وكافة الموظفين للعمل الإيجابي الذي قاموا به بتفان لجعل هذه المؤسسة المنتمية لمنظومة منظمة المؤتمر الإسلامي أداة فعالة في خدمة الأمة.
قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]
صدق الله العظيم،
أشكركم،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/14)
كلمة
فضيلة الدكتور: بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجلس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، قيوم السموات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى صلى الله وسلم عليه وعلى آله وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
ففي ضيافة حكومة جلالة السلطان: حسن بلقيه سلطان بروناي دار السلام، تعقد الدورة الثامنة لمجمع الفقه الإسلامي، وإن من يمن الطالع وسعده أن تنعقد هذه الدورة الثامنة على عدد أبواب الجنة الثمانية على أرض دارس السلام، تفاؤلا بأن تكون أعمالنا هذه طريقًا إلى دخول الجنة دار السلام من أي أبوابها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فاللهم اجعل عملنا كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا.
صاحب الجلالة،
أصحاب الفضيلة العلماء،
أصحاب المعالي الوزراء،
أيها الجمع الكريم،
اسمحوا لي – حفظكم الله تعالى – في هذه النوبة أن أنقل خطابة المنابر في الجوامع إلى ردهات المجامع، وأن أنقل مجالس الذكر في الخلوات في أدبار الصلوات إلى أمثال هذه المنتديات والردهات، فأقول:
أما بعد، فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعلموا – رحمكم الله تعالى – أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الأمة حق جهاده، فجزاه الله عن أمته أحسن الجزاء وأوفاه، ثم إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقوا هذا الدين بتولية الله لهم عليه وتزكيته وتعديله لهم بنص كتاب الله وتنزيله، فنقلوا لنا الكتاب والسنة تماما على الذي أنزل، ثم إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نشروا هذا الدين، فطاروا من جزيرة العرب مع شعاع الشمس كل مطار إلى كل بقعة ودار، فنشروا دين الله ونشروا الإسلام ومكنوه في نفوس الناس، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء وأوفاه، ولهذا صار من أصول اعتقاد الملة وأصول الديانة وجوب احترام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظمتهم وتقديرهم في نفوس المسلمين، وأنهم أصل في بلاغ هذه الرسالة إلى الناس، فهم أبر الأمة قلوبا وأعمقها في دين الله، وأقلها تكلفا فقد نشروا هذا الدين، وبلغوا البلاغ المبين، ولهذا فقد تتابع علماء الشريعة العلماء الهداة في القديم والحديث، عقد أهل العلم والإيمان قلوبهم على محبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى توقيرهم وتقديرهم وتبجيلهم ووقفوا حصنا منيعا ضد من يريد أن ينال من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكننا في هذا الزمان نعايش لوثة مؤلمة، ووضعا معديا من طحالب نبتت في عرض الدولة الإسلامية فأخذوا يكتبون ويقولون وينشرون كتبا ورسائل ومقالات تحمل قدحا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تحمل تفسيقا وتكفيرا لعدد من وجوه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنرى قدحا في الخلفاء الأربعة الراشدين في كتاب يأتي بهم على نسق واحد، ونرى قدحا في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ثم يأتي أحد الكاتبين المجتهدين فيعالج البلية ببلية أخرى، فيكف عن عرض أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم يقع في بلية أخرى بالوقيعة في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وهذا كاتب آخر ينشر كتابا من المسلمين في أوساط المسلمين ينكر فيه مائتين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم شخصيات خيالية وهمية وفي مقدمتهم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، راوية الإسلام أبو هريرة رضي الله عنه، وهذه من المكائد العظيمة والمصائب الكبيرة.(8/15)
وأما الصعقة الغضبية التي يتناثر الصبر دونها، وبلية لا لعلها، وفتنة وقى الله شرها، فهو وجود كتاب ببسطة اليد يحمل مائة وخمسين لعنة بثلاث من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمسون إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ونحو خمسين إلى عمر رضي الله تعالى عنه، ونحو خمسين إلى عثمان ذي النورين رضي الله عنه.
وهكذا في عدد من أصقاع العالم الإسلامي من المنتسبين إلى الإسلام يخرجون بهذه اللوثات على وجوه الصحابة وعلى كتب رسائل، ثم لا نرى قلما يحرك ساكنا لرد هذه القباحات عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، إن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم هم الشهود على هذه الشريعة وهم الذين بلغوها، وهؤلاء الأعداء العلمانيون إذا قدحوا في شهود الشرع يريدون أن يسقطوا الشرع بين أيدي المسلمين، ولهذا فإننا نهيب بعلماء المسلمين وبرجال هذا المجمع خاصة أن يقوموا قومة صادقة، وأن يجردوا نياتهم وأقلامهم في سبيل الله دفاعًا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظًا لكرامتهم، وحفظا لبيضة الإسلام، وحفظا لحوزة الإسلام.
وإننا نعرض على معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أن تثار هذه القضية في منظمة المؤتمر الإسلامي لتتخذ الدول قرارا في حماية جناب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نعقد القلب على محبتهم والإيمان بهم، ونعقد الولاء والبراء على محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أحبهم وقام بقدرهم وما أوجب الله عليه فهو أخونا في الله، ومن عادى واحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نبغضه ونكرهه ولا نواليه.
ولهذا فإنه يجب أن نأخذ بهذا الملحظ العظيم الذي أخذت تلك الطحالب تدب إلى العالم الإسلامي في عدد من الدول وعدد من البلدان تعلن فيها سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهكذا يرضى المسلمون؟!.
إن علماء الإسلام قد قاموا بجهود وافرة في رد أمثال هذه الشناعات، ولكن المسلمين ينتظرون جهودكم أيضا في رد هذه الشناعات والقبائح عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا من أنصار دينه وأن يحيينا على الإسلام ويميتنا عليه.
هذا، يا صاحب الجلالة إننا نشكر جلالتكم على هذه الاستضافة، وما لقيناه من كرم الوفادة ممثلا في شخصكم الكريم، وفي رجال حكومتكم، وفي مقدمتهم معالي وزير الشؤون الإسلامية الشيخ: محمد الزين، فجزاكم الله خيرا وشكر سعيكم، وأسأل الله الكريم، رب العرش العظيم أن يوفقنا جميعا لكل عمل صالح مبرور، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/16)
كلمة
معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أقام لنا معالم الهداية، وأوضح لنا سبيل المتقين، وجعلنا من عباده المخلصين الداعين للحق والخير، السائرين على نهج سيد الأولين والآخرين رسول رب العالمين وخاتم النبيين والمرسلين سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
* حضرة صاحب الجلالة: كباوه دولي ينغ مها مليا بادوكا سري بكندا سلطان حاج حسن البلقية معز الدين والدولة ابن المرحوم سلطان حاج عمر علي سيف الدين سعد الخير والدين، سلطان دان يغ دفر توان نكارا بروني دار السلام،
* صاحب المعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
* أصحاب السمو الملكي.
* أصحاب المعالي والسماحة والسعادة والفضيلة، ضيوفنا الكرام،
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد
فمن مؤتمر الحج الأكبر برحاب بيت الله الحرام بمكة المكرمة الذي دعا الله إليه عباده على لسان خليله إبراهيم، ولسان عبده ورسوله وصفيه محمد عليهما الصلاة والسلام إلى هذا المؤتمر، مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي، في دورته الثامنة الذي يخدم دينه، وينشر هديه، ويوضح أحكامه، ويقيم عدله، ويطبق شريعته.
وإنه لمن أمارات الخير واليمن والبركة أن يلتئم هذا الجمع، وتنعقد هذه الدورة الثامنة لمجمع الفقه الإسلامي بعاصمة بروني دارالسلام الجميلة بندر سير بجوان، وبسامي إشراف جلالة السلطان وحضوره في فاتح هذا الشهر المبارك محرم الحرام أول شهور السنة الهجرية لعام أربعة عشر وأربعمائة وألف، جعلها الله سنة فتح ونصر، وعزة وقوة للإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
وإن هذا الحضور المشهود من أطراف العالم الإسلامي لأعضاء المجمع وخبرائه الوافدين من جميع أطراف المعمورة، ليعلن شكره وتقديره ويرفع إلى جلالة السلطان الحاج حسن البلقيه آيات الامتنان والعرفان لدعوته الكريمة له، واستضافته دورة مجمع الفقه الإسلامي بعاصمة دار السلام قاعدة حكمه وحاضرة دولته.
ولا بدع في ما نلقاه من جميل رعايته وبالغ عنايته: فدين الدولة الإسلام، وجلالة السلطان حامي حمى الدين، والمحاكم الشرعية تتولى الفصل بين المسلمين فيما يعود إليها بالنظر من القضايا. وقد واصل جلالته عمل والده في خدمة بلاده وإحيائها، وبعث أنواع النشاط بأطرافها، وأقام توازنا حكيما بين النمو الروحي والنمو المادي، فبنى المساجد والمدارس الدينية والمعاهد العليا ومراكز الدعوة الإسلامية، ونشر تعليم العربية وحفظ القرآن ببلده، وأنشأ بالعاصمة مؤسسة مالية إسلامية.(8/17)
حضرة صاحب الجلالة.
إن موضوعات الدورة التي تشرفونها بمشاركتكم الكريمة، وافتتاحكم لأعمالها تتضمن محاور عدة:
منها: ما له علاقة بالسنة النبوية الشريفة، الأصل الثاني من أصول التشريع الإسلامي وعنوانه: دور السنة النبوية في بناء الإسلام، وما تعرض له هذا الأصل من هجومات الخصوم.
ومنها: ما له ارتباط بالعمل الاجتهادي وموضوعه: الأخذ بالرخصة الشرعية وحكمه. وهو قضية أصولية فقهية أملتها الحنيفية السمحة التي جاء بها الدين الإسلامي، ولها جانبان: الأول: بحث الرخص الشرعية، وأنواعها، وضوابطها، ومدى جواز تتبعها والأخذ بها، والجانب الثاني: التلفيق بين الأراء الفقهية والمذاهب الاجتهادية، عندما تتطلب ذلك الظروف والأحوال الطارئة، والضرورات والحاجات العامة والخاصة. والمؤمل أن يتضح من الدراسات المقدمة في هذا الغرض ما ينبغي أن يكون عليه عمل الفقهاء والمفتين في هذا العصر، وما يتأكد قيام المجامع الفقهية به في هذا المجال من وجوب الالتزام بثوابت الشريعة وأصولها وأحكامها الأساسية، ومن التيسير على الناس في المتغيرات من الأحكام القياسية والمصلحية على وجه يصون الشريعة ويحقق أهدافها، ولا يفضي إلى تعطيلها أو نقض أحكامها أو تفويت مقصادها عن الخلق.
ومن الموضوعات ما له صبغة اجتماعية كحوادث السير، وما ينبغي أن يؤخذ به فيها من الأحكام في هذا العصر، بعد إمعان النظر في الجزئيات والمسائل التي بحثها الفقهاء قديما في هذا المجال.
ومنها ذو الطابع التجاري المتطور كبيع العربون والبيع بالمزايدة.
ومنها قضايا اقتصادية مستجدة مثل: بطاقات الائتمان. والتطبيقات الشرعية لإقامة السوق المالية الإسلامية المشتركة، والقضايا التي بحثتها الندوات الفقهية الاقتصادية الثلاثة التي عقدها المجمع بالاشتراك مع معهد البحوث والتدريب خلال الشهور القليلة الماضية بجدة، وما صدر عنها من توصيات بشأن الموضوعات التالية:
- آثار تغير قيمة أو أساسيات التقييس.
- مشاكل البنوك الإسلامية.
- المشاركة في أسهم الشركات المساهمة المتعاملة بالربا
ومن الموضوعات ما له علاقة بالطب كأخلاقيات الطبيب وتحديد مسؤوليته، والأحكام المتعلقة ببعض ذوي الأمراض المستعصية.(8/18)
ولبحث هذه الموضوعات المطروحة للدرس والنظر استكتب المجمع عددا من الشيوخ والأساتذة الأعضاء والخبراء، وبلغت حصيلة ما تجمع لدينا من دراسات أكثر من ستين بحثا ووثيقة وثلاث توصيات.
ونحن إذ نشكر جهود العلماء العاملين وما قدمه الدارسون والباحثون في مجالات الاختصاص المختلفة والمتنوعة التي أومأنا إليها، ننوه برعاية حكومة جلالة السلطان ببروني دار السلام لهذا اللقاء العلمي المجمعي الفقهي، كما نشيد بما نجده من تأييد متواصل وعناية خاصة بمجمع الفقه الإسلامي من معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
ولا يفوتني في ختام هذه الكلمة أن أتقدم إليكم جميعا بخالص الشكر، وجزيل الثناء على ما تجشمتموه من مشاق، وتحملتموه من نصب من أجل حضور أعمال الدورة الثامنة لمجمعكم هذا. فأهلا وسهلا بكم ببندر سيري بجوان في رعاية جلالة السلطان راعي هذه الدورة العلمية لمجمعكم.
وإنكم لباذلون بإذن الله ما عودتمونا به مما أنتم أهله من كمال التبصر وحصافة الرأي، وعمق العلم في كل ما تتناولون به القضايا المطروحة على هذه الدورة تناولا يصحبكم فيه من الله العلي القدير التوفيق والتسديد، وتظهر دلائل النصح والإخلاص فيه لدين الله فيما يصدر عنكم من قرارات أو فتاوى أو تتقدمون به للمجتمعات الإسلامية في الشرق والغرب من توجيهات وتوصيات.
بارك الله جمعكم، وبارك عليكم جهودكم. والله ولينا ووليكم يدعو إلى الحق، وهو يتولى الصالحين. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(8/19)
الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه
إعداد
الدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
بجامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:
فإن الأخذ بالرخص الشرعية هو حديث العصر، ومحل عناية وسؤال الكثيرين من الناس الذين يؤثرون العمل بالأيسر والأسهل، ما دامت الشريعة قامت على مبدأ اليسر والسماحة ودفع الحرج، ولأن تعقد الحياة المعاصرة وتشابك المصالح والعلاقات الاجتماعية في التعامل يدفع إلى البحث عن الرخصة في حال الضرورة أو الحاجة، فضلا عن ضعف الهمم والعزائم في التمسك بالأحكام الشرعية العامة، وهي التي تسمى عند الأصوليين بالعزيمة.
لذا وقع اختياري على بحث هذا الموضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه " وهو الموضوع الأول من مواضيع الدورة الثامنة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي. ويحتاج إلى جمع شتاته وقضاياه التي بحثها الأصوليون في مجالين: الحكم الشرعي الوضعي، والتقليد، وهو من الناحية العملية حري بالبحث والتحقيق في ضوء النتائج المتوخاة منه، المتمثلة في الأخذ بالراجح، والأجدر بالاتباع، ويلاحظ أن خطة البحث المطلوبة من أمانة المجمع جمعت بين ثلاث مواضيع أصولية، كان الأجدر بحث كل منها على حدة: وهي الرخصة، وتتبع الرخص، والتلفيق، فهو إذن موضوع شامل موضوعات ثلاثة.
خطة البحث:
1- الرخصة، تعريفها، أنواعها، مع بيان فقهي لأمثلة كل نوع، ضوابط الأخذ بالرخصة.
2- تتبع الرخص، ورأي الفقهاء والأصوليين فيه.
3- التلفيق ورأي الفقهاء والأصوليين فيه.
4- ترجيح ما هو أحق بالاتباع، وخاصة في عصرنا الحاضر.(8/20)
(1) الرخصة، تعريفها، أنواعها
مع بيان فقهي لأمثلة كل نوع، ضوابط الأخذ بالرخصة
تعريف الرخصة:
تطلق الرخصة عند محققي علماء الأصول في مواجهة ما يسمى بالعزيمة، وما للرخصة فيه بحال لا يطلق عليه اسم العزيمة، فهما اسمان متقابلان متلازمان مفهوما وعملا. أما العزيمة عند الأصوليين: فهي ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء لتكون قانونا عاما لكل المكلفين في جميع الأحوال، كالصلاة والزكاة وسائر الشعائر الإسلامية الكلية (1) . وتتنوع العزيمة إلى الأحكام الخمسة: وهي الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح.
ومعنى شرعية العزيمة ابتداء: أنها لم تسبق في شريعتنا بأحكام أخرى في موضوعها، ويعد الحكم الشرعي الذي جاء ناسخا لحكم آخر كالحكم الابتدائي، من حيث إنه رفع الحكم الأول المنسوخ، وجعله كأن لم يكن.
ويدخل تحت العزيمة: ما شرع لسبب اقتضى تشريعه؛ إذ لا وجود لهذا الحكم إلا بعد وجود سببه، فكان تشريعه ابتدائيا، كتحريم سب الأنداد: (الأصنام والأوثان ونحوها) في قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] . فإنها نزلت لما قال المشركون للمسلمين: "لتنتهن عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهكم ".
وكذلك يدخل تحت العزيمة: ما دعت المصلحة العامة إلى تشريعه من أول الأمر، كالبيع والإجارة والمضاربة والقصاص والحدود.
__________
(1) كشف الأسرار على أصول البزدوي: 1 / 618؛ مرآة الأصول لمنلاخسرو: 2 /390؛ الموافقات للشاطبي: 1 / 300؛ شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: 2 / 8؛ أصول الشاشي: ص 113 وما بعدها؛ الأحكام للآمدي: 1 / 68؛ شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع: 1 / 94؛ شرح الإسنوي للمنهاج: 1 / 91؛ روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه لابن قدامة: 1 / 171؛ المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران: ص 71.(8/21)
وكذلك يدخل فيها المستثنيات من العموميات، كما في قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] فإن الله تعالى حرم أخذ شيء من المهر المستحق للمرأة إلا في حال الخوف من التقصير في حقوق الله تعالى، فيكون الأخذ في هذه الحال عزيمة.
وأما الرخصة: فهي في اللغة العربية: التيسير والتسهيل، قال الجوهري في الصحاح: الرخصة في الأمر: خلاف التشديد فيه، ومن ذلك: رخص السعر: إذا سهل وتيسر، وأرخصه الله فهو رخيص، وأما الرخصة – بفتح الخاء -: فهو الشخص الآخذ بالرخصة، كما قال الآمدي. والرخصة عند الأصوليين: هي الأحكام التي شرعها الله تعالى بناء على أعذار (1) العباد، رعاية لحاجاتهم، مع بقاء السبب الموجب للحكم الأصلي (2) .
وعرفها الشاطبي بقوله: هي ما شرع لعذر شاق، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه (3) .
وذكر الشافعية تعريفها بقولهم: هي الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر (4) . وقيد: "على خلاف الدليل " احتراز عما أباحه الله تعالى من الأكل والشرب وغيرهما، فلا يسمى رخصة؛ لأنه لم يثبت على المنع منه دليل. والعذر: هو المشقة والحاجة.
وأمثلتها: التلفظ بالكفر عند الإكراه، والأكل من الميتة عند الضرورة، فالعذر في الأول: هو الإكراه، وفي الثاني: هو ضرورة حفظ النفس، مع بقاء سبب الحكم الأصلي، وهو في الأول: وجود أدلة وجوب الإيمان وحرمة الكفر، وفي الثاني: هو ضرر الميتة. أما إذا لم يبق السبب الموجب للحكم الأصلي، كحل ترك المسلم الثبات لعشرة من الكفاربعد أن كان ممنوعا، فلا يسمى رخصة؛ لأن الحكم الأصلي: وهو وجوب الثبات للعشرة قد زال سببه، وهو قلة المسلمين، وحين أبيح لهم ترك هذا الثبات، وألزموا بالثبات أمام اثنين فقط، لم يكونوا قلة، وإنما كانوا كثرة.
__________
(1) الأعذار: كالاضطرار ومشقة السفر، والحاجة إلى ثمن الغلات قبل إدراكها، وإباحة ترك الجماعة في الصلاة لمرض أو نحوه (غاية الوصول شرح لب الأصول لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري: ص 18.
(2) مرآة الأصول: 2 / 394؛ التقرير والتحبير: 2 / 146؛ فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: 1 / 116؛ شرح العضد على مختصر المنتهى لابن الحاجب: 2 / 8؛ الإبهاج للسبكي: 1 / 51؛ روضة الناظر: 1 / 172؛ المدخل إلى مذهب أحمد: ص 71.
(3) الموافقات: 1 / 301.
(4) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1 / 68؛ المستصفى للغزالي: 1 / 63؛ شرح المحلي على جمع الجوامع: 1 / 92؛ شرح الإسنوي: 1 / 89.(8/22)
أنواع الرخصة:
للعلماء منهجان في بيان أنواع الرخصة، وهما منهج الشافعية والحنابلة، ومنهج الحنفية.
المنهج الأول: للشافعية والحنابلة: قسم علماء الأصول من الشافعية والحنابلة الرخصة إلى أربعة أنواع (1) :
الأول – واجبة: كأكل الميتة للمضطر؛ فإنه واجب لعذر هو حفظ الحياة، ودليله قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
الثاني – مندوبة: كقصر الصلاة للمسافر إذا قطع مسافة ثلاثة أيام فصاعدًا، بوسائط النقل القديمة، وإنما كان القصر مندوبا لقول عمر رضي الله عنه: " صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته ".
الثالث – مباحة: كعقد السلم (السلف) وهو بيع آجل بعاجل، والعرايا، والإجارة، والمساقاة، وشبه ذلك من العقود؛ فإنها رخصة بلا نزاع؛ لأن السلم والإجارة عقدان على معلوم مجهول، فالمسلم فيه غير موجود عند التعاقد، ومنفعة المأجور غير قائمة عند العقد، وإنما تستوفى مع مرور الزمن، وكلاهما مجهول غير معروف تماما. والعرايا: بيع الرطب على رؤوس الأشجار خرصًا بالتمر القديم، جوزت للحاجة إليها استثناء من شرط التماثل أو المساواة في البيوع الربوية، والتمر مال ربوي، والرطب ينقص إذا جف، فلم تتحقق المماثلة المطلوبة شرعا. أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن سهل بن أبي حثمة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر، ورخص في العرايا أن يشتري بخرصها، يأكلها أهلها رطبا)) . وأخرج أحمد والبخاري عن زيد بن ثابت: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا)) (2) . والخرص: التخمين والتقدير. قال الإمام مالك: العرية: أن يعري الرجل الرجل النخلة، أي يهبها له أو يهب ثمرها، ثم يتأذى بدخوله عليه، ويرخص الموهوب له للواهب أن يشتري رطبها منه بتمر يابس. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: العرايا (جمع عرية) : أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا. أي بتقديرها تمرا.
وإنما كانت هذه الأنواع رخصة؛ لأن طريق كل منها غير متعين لدفع الحاجة؛ إذ يمكن الاستغناء عنه بطريق آخر، فالسلم مثلا يمكن الاستغناء عنه بالقرض.
الرابع – خلاف الأولى: كفطر المسافر الذي لا يتضرر بالصوم. وإنما كانت هذه الرخصة خلاف الأولى أخذا من قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] فالصوم مأمور به في السفر أمرا غير جازم، وهو يتضمن النهي عن تركه، وما نهي عنه نهيا غير صريح، فهو خلاف الأولى.
والخلاصة: إن مدار تقسيم الشافعية والحنابلة للرخصة هو العذر، كما لا حظنا في تعريفهم الرخصة.
وقال الشاطبي مبينًا حكم الرخصة عند المالكية: حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة، وأما وجوب تناول المحرمات في حال الاضطرار، فيرجع إلى عزيمة أخرى هي المحافظة على الحياة، كما دل عليه قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] . واستدل الشاطبي بأدلة كثيرة لتأييد رأيه، أفاض فيها في الجزء الأول من الموافقات.
__________
(1) المستصفى: 1 / 63؛ الإبهاج للسبكي: 1 / 52؛ شرح جلال الدين المحلي على جمع الجوامع: 1 / 52؛ شرح الإسنوي: 1 / 90؛ الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 75.
(2) نيل الأوطار: 5 / 200، ط العثمانية المصرية.(8/23)
المنهج الثاني، للحنفية: قسم الحنفية الرخصة إلى أربعة أنواع (1) :
الأول – إباحة الفعل المحرم عند الضرورة أو الحاجة، ومثاله: التلفظ بالكفر عند الإكراه عليه بالقتل، أو بقطع بعض الأعضاء، مع اطمئنان القلب بالإيمان، ودليله قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .
ومثل الإفطار في رمضان عند الإكراه، والجناية على الإحرام بحج أو عمرة، وإتلاف مال غيره عند الإكراه، وحل الأكل من الميتة عند الجوع الشديد، وإباحة شرب الخمر عند الظمأ الشديد. وحكمه: الجواز إلا إذا خاف الشخص هلاك نفسه أو ذهاب عضو من أعضائه، فحينئذ يصير العمل بالرخصة واجبا، فإذا لم يعمل بها حتى مات، كان آثمًا، لتسببه في قتل نفسه، وهذا ينطبق على البدعة الجديدة وهي الإضراب عن الطعام، حتى الموت، والله تعالى يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ويقول سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .
ولكن الحنفية قالوا: إن الأخذ بالعزيمة أولى في حال الإكراه عن الكفر، ولو قتل كان مأجورا (2) . واستدلوا عليه بما يروى: أن مسيلمة الكذاب أخذ اثنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للأول: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول في؟ قال: وأنت أيضا، فخلى سبيله، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول في: قال: أنا أصم لا أسمع، فأعاد عليه ثلاثا، فأعاد جوابه، فقتله. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أما الأول فأخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فصدع بالحق، فهنيئا له)) (3) .
الثاني – إباحة ترك الواجب إذا كان في فعله مشقة تلحق المكلف، كإباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فهذا النص يقضي بأن المسافر والمريض لا يجب عليهما الصوم في حال السفر والمرض. ومثله قصر الصلاة الرباعية في السفر؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] .
الثالث – إباحة العقود والتصرفات التي يحتاج الناس في مخالفتها للقواعد المقررة، كعقد السلم ونحوه، كما تقدم بيانه عند الشافعية؛ فإن السلم من قبيل بيع المعدوم، وبيع المعدوم باطل، ولكن الشارع أجازه لحاجة الناس إليه. ومثله عقد الاستصناع: وهو طلب العمل من الصانع في شيء مخصوص، كاستصناع المفروشات الخشبية والكراسي والحلي، والثياب والأحذية ونحوها على ثمن معلوم. الشيء المصنوع معدوم عند التعاقد، وأجيز العقد للحاجة استحسانًا.
الرابع – رفع الأحكام الشاقة التي كانت مشروعة في الشرائع السابقة، والتخفيف فيها عن الأمة الإسلامية، كاشتراط قتل النفس للتوبة من العصيان فيما كان مقررا في ظرف زمني معين على اليهود، كما حكى القرآن الكريم في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وتطهير الثوب بالقرض: قطع موضع النجاسة، وإيجاب ربع المال في الزكاة، وبطلان الصلاة في غير موضع العبادة المخصوص من البيع والكنائس، ونحو ذلك مما أشار إليه القرآن الكريم جملة في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] وقوله سبحانه في بيان خصائص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومهامه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] والإصر: الثقل، أي العبء الثقيل، وهو التكاليف الشاقة.
__________
(1) التقرير والتحبير: 146/2؛ فواتح الرحموت: 1 / 116 – 119؛ كشف الأسرار: 1 / 635 وما بعدها؛ مرآة الأصول: 2 / 395 وما بعدها..
(2) فواتح الرحموت: 171؛ مرآة الأصول: 2 / 395: التقرير والتحضير: 2 / 147؛ كشف الأسرار: 1 / 63.
(3) التلخيص الحبير لابن حجر: 4 / 103.(8/24)
وهذا النوع رخصة مجازا؛ إذ لا شبه بينه وبين الرخصة؛ لأن الأصل لم يبق مشروعا في حق المسلمين، فلا عزيمة تواجه هذا النوع حتى يطلق عليه أنه رخصة في مقابلتها، إلا أنه لما ترتب على انتفاء هذه التكاليف من شريعتنا اليسر والسهولة في حقنا بالنسبة للأمم السابقة، أطلق عليها عند الحنفية اسم الرخصة تجوزا وتوسعا، أما عند غير الحنفية، فلا يعتبر هذا النوع من باب الرخصة (1) .
ويظهر مما ذكر أن الرخصة عند الحنفية تنقسم إلى قسمين: مباح وواجب.
وذكر الشاطبي إطلاقات أربعة للرخصة، منها ما هو خاص ببعض الناس، ومنها ما هو عام للناس كلهم، ثم قال كما تقدم: حكم الرخصة الإباحة مطلقا، من حيث هي رخصة، وأقام الأدلة على ذلك (2) .
تقسيم آخر للرخصة: قسم الحنفية الرخصة أيضا قسمين: رخصة ترفيه، ورخصة إسقاط (3) . ورخصة الترفيه هي الرخصة الحقيقية: وهي التي يكون حكم العزيمة معها باقيا ودليله قائما، ولكن رخص في تركه تخفيفا عن المكلف، كما بينا في النوع الأول، كالتلفظ بالكفر عند الإكراه، وإتلاف مال غيره، أو الفطر في رمضان عند الإكراه. وهي نوعان:
النوع الأول – هو الكامل في الرخصة: وهو ما أباحه الشارع مع قيام الدليل المحرم وقيام حكمه جميعا. مثل إجراء كلمة الكفر على اللسان عند الإكراه عليه بالقتل أو القطع، دليل الحرمة الدال على وجوب الإيمان قائم أبدا، ولكن رخص للمكره النطق بالكفر تفاديا لما قد يلحقه من ضرر في نفسه صورة بخراب بدنه، ومعنى بزهوق روحه، وأما حق الله فيفوت صورة ظاهرًا بالتلفظ بكلمة الكفر باللسان، ولا يفوت معنى؛ لأن قلبه مطمئن بالإيمان. فرخص التلفظ لعذر، وجاز للمكره تقديم حق نفسه وتكريما من الله وفضلا ورحمة. ومثله أيضا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا خاف الشخص القتل، فله مراعاة حق نفسه. وينطبق هذا أيضا على ترك الصلاة المفروضة عينا، والصوم المفروض عينا، وأكل مال الغير، كل ذلك يجوز تركه عند الخوف من القتل أو القطع بالإكراه.
النوع الثاني – ما أبيح فعله مع قيام الدليل المحرم دون حكمه، كإفطار المسافر في رمضان؛ فإن دليل الحرمة قائم وهو شهود شهر رمضان، أما الحكم فغير قائم؛ لأن الشارع رخص في الإفطار لعذر السفر، لكن الأخذ بالعزيمة الأولى، لقيام الدليل إلا إذا أدى السفر لضعف الصائم، فيكون الأخذ بالرخصة أولى.
وأما رخصة الإسقاط وهي الرخصة المجازية: فهي التي لا يكون حكم العزيمة معها باقيا، كإباحة أكل الميتة أو شرب الخمر عند الجوع الشديد أو الظمأ الشديد؛ فإن حرمة الأكل أو الشرب سقطت حال الاضطرار. وهي نوعان أيضًا:
النوع الأول – وهو أتم في المجاز من النوع الثاني: وهو ما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، كقتل النفس لصحة التوبة، وقرض موضع النجاسة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وإيجاب ربع المال. ويسمى هذا النوع رخصة مجازا؛ لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعا، فلم يكن رخصة إلا مجازا من حيث هو نسخ، تمحض تخفيفا، أي أنه لما ترتب على عدم تشريع هذه الأحكام في شريعتنا اليسر والسهولة، أطلق عليه اسم الرخصة تجوزا وتوسعا.
النوع الثاني – وهو أقرب إلى الحقيقة من النوع الأول: وهو ما سقط عن العباد مع كونه مشروعا في الجملة، كإباحة العقود التي يحتاج إليها الناس مع مخالفتها للقواعد العامة، كعقد السلم، فنظرًا لسقوط الحكم الأول أصلا، سمي الثاني رخصة مجازا، ومن حيث بقي الحكم الأول مشروعًا في الجملة: وهو بطلان بيع المعدوم، كان الحكم الثاني هو السلم شبيها بالرخصة الحقيقية.
والظاهر ألا معنى لهذه التفرقة بين رخصة الترفيه ورخصة الإسقاط؛ لأن النصوص الشرعية لم تفرق بين حال الإكراه وحال الاضطرار؛ لأن الإكراه نوع من الاضطرار، وفي الحالتين أبيح المحظور للضرورة. وإن كل الرخص شرعت للترفيه والتخفيف مع بقاء حكم الحظر ودليله، كل ما في الأمر أنه لا إثم في فعل المحظورات.
والرخصة من أنواع الحكم الوضعي؛ لأن الضرورة سبب في إباحة المحظور، وطروء العذر سبب في التخفيف بترك الواجب، ودفع الحرج سبب في تصحيح بعض العقود.
__________
(1) الإبهاج شرح المنهاج للعلامة تاج الدين السبكي: 1 / 51.
(2) الموافقات: 1 / 307 وما بعدها.
(3) كشف الأسرار مع نور الأنوار: 1 / 635 – 644(8/25)
ضوابط الأخذ بالرخصة:
تبين من تعريف الرخصة وأنواعها: أن العذر أو المشقة هو سبب الترخيص، عملا بقاعدة " المشقة تجلب التيسير " وما يتفرع عنها من القواعد مثل: " إذا ضاق الأمر اتسع " و " الضرورات تبيح المحظورات " و " الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة".
والمكلف هو الذي يقدر ما يتعرض له من المشاق، فتكون الصعوبة التي يجدها في تطبيق الحكم الشرعي العام سببا شرعيًّا للتسهيل والتخفيف.
والعذر: هو المشقة والحاجة، والمراد بالمشقة: هي المشقة الزائدة غير المحتملة أو المتجاوزة للحدود العادية، أما المشقة المعتادة المحتملة فلا تسوغ التخفيف؛ لأن جميع الأعمال والتكاليف الشرعية لا تخلو من المشقة، إلا أنها محتملة، كأداء العبادات من صلاة وصيام وحج، وإيتاء النفقة للمستحق، والجهاد لدفع شر الأعداء، وأعمال المكاسب المعيشية، فكل ذلك يستلزم نوع مشقة عادية، لا تنافي التكليف، ولا تبيح الترخيص، أو التخفيف.
وأمثلة العذر: حال الضرورة والحاجة والإكراه، والسفر والمرض، والخوف الشديد.
أما الضرورة: فضابطها: هي التي يترتب على عصيانها خطر، كما في الإكراه الملجئ، وخشية الهلاك جوعا.
وأما الحاجة: فهي ما يترتب على عدم الاستجابة إليها عسر وصعوبة، وكونها عامة، أي تشمل جميع الأمة، وكونها خاصة: هي التي يحتاج إليها طائفة من الناس، كأهل بلد أو حزمة، وليس المراد أن تكون فردية (1) . هذا في نطاق التشريع العام.
ولكن قد تكون الضرورة أو الحاجة شخصية في نطاق العبادات، كالمصلي الذي لا يقدر على القيام، فيصلي قاعدا أو مضطجعا، والمريض الذي يعجز عن أداء العبادة، فيصلي إيماء. وهذا يرجع لمعيار المشقة في الواقع التي تختلف بين العبادات والمعاملات.
__________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء: ف / 603.(8/26)
ففي العبادات: لكل عبادة مرتبة معينة من المشاق المؤثر فيها إسقاطًا أو تخفيفًا.
وأما المعاملات فإنها تتأثر بمرتبة واحدة من المشاق، وهي أدنى المشاق فيها.
والفرق بين العبادات والمعاملات: هو أن المصالح في كل منها تختلف عن الأخرى، فالمصالح المترتبة على العبادات باقية إلى الأبد مع الفوز برضاء الله تعالى، فلا يليق تضييع تلك المصالح بأقل مشقة مع يسر احتمالها. قال العز بن عبد السلام: الأولى في ضبط مشاق العبادات: أن تضبط مشقة كل عبادة بأدنى المشاق المعتبرة في الشرع، في تخفيف تلك العبادة، فإن كانت مثلها أو أزيد منها ثبتت الرخصة بها، وإن كانت أدنى أو أقل منها لم يثبت الترخيص بها (1) .
وأما الإكراه: فهو حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار مباشرته لو ترك ونفسه. أي إنه التهديد بإلحاق ضرر بالنفس أو العرض أو المال، كالتهديد بالقتل أو الضرب، أو الجرح أو القطع، أو الحبس أو أخذ مال يضره، أو الاعتداء على عرضه، ونحو ذلك. وهو يختلف عن الضرورة.
قال البزدوي: إن حال الضرورة أشد على النفس من حال الإكراه، فهي تبيح الفعل مطلقا، أما الإكراه فقد يبيح الفعل، وقد لا يبيحه، فإذا ثبتت الإباحة في حال الإكراه، عرف أن الاضطرار قد تحقق (2) .
والاضطرار: الوقوع في الحرج أو المشقة إذا فعل الإنسان شيئا أو ترك شيئا، مثل أكل الميتة عند الجوع الشديد، وشرب الخمر عند العطش الشديد، وزيادة المرض إذا أدى الإنسان العبادة بكيفيتها المعتادة.
والسفر: هو الخروج من الموطن على قصد المسير إلى موضع بينه وبين ذلك الموطن مسيرة ثلاثة أيام فأكثر، بسير الإبل ومشي الأقدام، وتقدر بعشرين ساعة وثلث، أو بمسافة 86 كم في رأي الحنفية، أو 96 كم في رأي الشافعية.
المرض: هو هيئة غير طبيعية في بدن الإنسان ينجم عنها بالذات آفة في الفعل، كالتيمم بالتراب للصلاة عند وجود مشقة باستعمال الماء، كالخوف على النفس أو العضو، أو زيادة المرض، أو بطء البرء، أو حدوث شين قبيح في عضو ظاهر.
والخوف الشديد: هو الذعر الذي يتملك الإنسان بسبب عدو أو حيوان مفترس مثلا، فيجوز ترك الواجب عنده، كترك صلاة الجمعة والجماعة إذا خاف الإنسان من عدو يترقبه، أو وحش يفترسه.
__________
(1) قواعد الأحكام: 2 / 112.
(2) كشف الأسرار: 4 / 1056، 1518.(8/27)
تفاوت المشاق:
كل هذه الأمثلة للأعذار فيها مشقة تبيح التخفيف أو الترخيص، والمشقة متفاوتة بحسب الأحوال. قال الشاطبي (1) : إن سبب الرخصة المشقة، والمشاق تختلف بالقوة والضعف، وبحسب الأحوال، وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال، فليس سفر الإنسان راكبا مسيرة يوم وليلة، في رفقة مأمونة، وأرض مأمونة، وعلى بطء، وفي زمن الشتاء وقصر الأيام، كالسفر على الضد من ذلك، في الفطر والقصر. وكذلك الصبر على الجوع والعطش يختلف باختلاف هذه الأحوال.
وإذا كان كذلك، فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص، ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة، فاعتبر السفر؛ لأنه أقرب إلى مظان وجود المشقة، وترك كل مكلف على ما يجد، وبحسب الاجتهاد، كالمرض، كثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر، وهذا لا مرية فيه.
فإذًا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي. ولا ضابط مأخوذ باليد، بل هو إضافي (أي نسبي) بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه.
وهناك وجه آخر: وهو أن المكلف قد يحمله دافع على العمل حتى يخفف عليه ما يثقل على غيره من الناس، من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا الشدائد وتحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم؛ فإنهم اعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم، بل لذة لهم ونعيم، فالمشاق تختلف بالنسب والإضافات.
وهناك وجه ثالث دل عليه الشرع، كوصال الصيام؛ فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد، ثم فعله من فعله بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن سبب النهي – وهو الحرج والمشقة – مفقود في حقهم.
__________
(1) الموافقات: 1 / 314، ط المكتبة التجارية بمصر.(8/28)
تصادم المشقة مع النص:
قال ابن نجيم المصري (1) : المشقة والحرج إنما يعتبر في موضوع لا نص فيه، وأما مع النص بخلافه، فلا يجوز التخفيف بالمشقة، ولذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله بحرمة حشيش الحرم المكي وقطعه إلا الإذخر (نبات طيب الرائحة) . وكذلك يقول أبو حنيفة بتغليظ نجاسة الأرواث، لقوله عليه الصلاة والسلام – فيما رواه البخاري وغيره – "إنها ركس " أي نجس. ويقول أبو حنيفة أيضا بنجاسة بول الإنسان المنصوص على نجاسته، فهذا وإن كان فيه مشقة وعمت به البلوى، فلا يعفى عنه. وعلى هذا فالمشقة هنا لم تجلب التيسير، بسبب وجود النص على النجاسة.
صحة الفعل مع المشقة:
ذكر الزركشي في قواعده (2) هذا الحكم، فقال: من خفف عليه للمشقة لو تكلف وفعل، صح إذا لم يخش الهلاك أو الضرر العظيم، كالمريض يتحمل المشقة في حضور الجمعة، والفقير يتحمل المشقة بحضور عرفات، وسقط عنه الفرض. فإن خشي ذلك، وهو بهذه الحالة، فيجب عليه الفطر إذا كان صائمًا في رمضان، فإن صام عصى. قال الغزالي: ويحتمل ألا ينعقد؛ لأنه عاص به، فكيف يتقرب بما يعصي، ويحتمل أن يقال: إنما عصى لجنايته على الروح التي هي حق الله تعالى، فيكون كالمصلي في الدار المغصوبة، يعصي لتناوله حق الغير، وكذلك هذا لم يعص من حيث إنه صائم، بل من حيث سعيه في الهلاك.
وقال القرافي (3) : إذا كان المريض يخشى على نفسه أو عضو من أعضائه أو منفعة من منافعه، فهذا يحرم عليه الصوم.
ويجري هذا بالنسبة لفقير عاجز عن المشي لأداء الحج، أو مريض يقوم حال أداء الصلاة ونحوهما.
__________
(1) الأشباه والنظائر: 1 / 117؛ رسائل ابن عابدين: 2 / 120.
(2) مخطوط قواعد الزركشي: ق 196 ب.
(3) الفروق: 2 / 23.(8/29)
(2) تتبع الرخص
ورأي الفقهاء والأصوليين فيه
إن الكلام السابق عن الرخصة تصنيف بارع لعلماء الأصول، متعلق بما قرره الشرع بنصوص صريحة أو بالقياس على النص الشرعي، وهذا لا خلاف فيه.
أما تتبع الرخص فالغالب استعماله في تتبع رخص المذاهب الفقهية، وهو محل خلاف بين العلماء. ومعناه: أن يأخذ الشخص من كل مذهب ما هو أهون عليه وأيسر فيما يطرأ عليه من المسائل. وقد شرط متأخرو العلماء في التقليد ألا يؤدي إلى تتبع الرخص.
وللأصوليين آراء ثلاثة فيه: " مشدد ومضيق ومتوسط (1) ، ومنشأ الخلاف كما ذكر الشعراني في كتابه " الميزان الكبرى ": وهو فقه مقارن، أن آراء العلماء تتردد بين تشديد وتخفيف، فتراه يذكر في مئات المسائل الفقهية آراء أئمة المذاهب، ثم يردها إلى مرتبتي الميزان، مخفف ومشدد.
1- أما المشدد فهم قوم كثيرون منهم النووي في فتاويه والغزالي، والمالكية والحنابلة في الأصح عندهم قالوا: يمتنع تتبع الرخص في المذاهب؛ لأنه ميل مع أهواء الناس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فلا يصح رد المتنازع فيه إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة. فلو اختار من كل مذهب ما هو الأهون عليه، قال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق.
__________
(1) البحر المحيط للزركشي: 6 / 325 وما بعدها، ط وزارة الأوقاف بالكويت: شرح المحلي على جمع الجوامع: 2 / 328؛ المستصفى: 2 / 125؛ شرح الإسنوي: 3 / 266؛ مسلم الثبوت: 2 /356؛ تبصرة الحكام: 1 / 59؛ الموافقات للشاطبي: 4 / 133 وما بعدها؛ فتاوى الشيخ عليش: 1 / 58؛ المدخل إلى مذهب أحمد: 195.(8/30)
قال ابن عبد البر وابن حزم: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا. والسبب أنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها.
2- وأما المخفف فهم بعض المالكية كالقرافي وأكثر أصحاب الشافعي، والراجح عند الحنفية، قالوا: يجوز تتبع رخص المذاهب؛ لأنه لم يوجد في الشرع ما يمنع منه؛ إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه، إذا كان له إليه سبيل، بأن لم يكن عمل بآخر، بل إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية والقولية تقتضي جوازه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام ((ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما)) (1) ، ((وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف على أمته)) (2) وقال: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) (3) . وقال الشعبي: " ما خير رجل بين أمرين، فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله تعالى ".
وقد أخذ بهذا الرأي الكمال بن الهمام في التحرير، وصاحب مسلم الثبوت: محب الله بن عبد الشكور.
3- وأما المتوسط فهو القرافي قال: يجوز تتبع الرخص بشرط ألا يترتب عليه العمل بما هو باطل عند جميع من قلدهم، كما إذا قلد الإمام مالك في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة بغير شهوة، وقلد الإمام الشافعي في عدم وجوب ذلك الأعضاء في الوضوء، أو عدم وجوب مسح جميع الرأس، فإن صلاته تكون باطلة عند الإمامين لعدم صحة الوضوء عند كل منهما. ومضمون هذا الرأي ألا يؤدي تتبع الرخص إلى التلفيق.
والذي أراه: أن القيد الذي ذكره القرافي وهو: ألا يترتب على تتبع الرخص بما هو باطل لدى جميع من قلدهم " لا دليل عليه من نص أو إجماع، وإنما هو قيد ذكره بعض المتأخرين، كما قرر الكمال بن الهمام في تحريره، فإذا جاز للشخص مخالفة بعض المجتهدين في كل ما ذهب إليه، جازت مخالفته في بعض ما ذهب إليه من باب أولى، كما قال صاحب تيسير التحرير.
__________
(1) أخرجه الترمذي، وفي آخره (ما لم يكن مأثما) والبخاري بلفظ (بين أمرين قط) ومالك (في أمرين) .
(2) رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها.
(3) أخرجه أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله، ومن حديث أبي أمامة، وأخرجه الخطيب، ورواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث عائشة رضي الله عنها (المقاصد الحسنة للسخاوي: ص 109) .(8/31)
وأما ما نقل عن ابن عبد البر: أنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعا، فلا نسلم صحة النقل عنه، ولو سلمنا ذلك لا نقر بوقوع الإجماع؛ لأن في تفسيق متتبع الرخص عن أحمد روايتين. وحمل القاضي أبو يعلي الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد. قال ابن أمير الحاج في التقرير على التحرير: وذكر بعض الحنابلة: أنه إن قوي الدليل، أو كان عاميًّا لا يفسق، وفي روضة النووي والبحر المحيط للزركشي أن ابن أبي هريرة قال: لا يفسق.
شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام: وللعامي أن يعمل برخص المذاهب، وإنكار ذلك جهل ممن أنكره؛ لأن الأخذ بالرخص محبوب، ودين الله يسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج (1) . وحاصل ما جاء في أمالي عز الدين المذكور: أنه ينظر إلى الفعل الذي فعله المكلف: فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم، وإلا لم يأثم (2) .
وأرى أن الراجح جواز تتبع الرخص للضرورة أو الحاجة، دون تعمد التتبع أو قصد العبث والتلهي، وبشرط ألا يؤدي ذلك إلى التلفيق الممنوع الآتي بيانه؛ لأن تتبع الرخص أمر واقعي لا مهرب منه في واقع الإفتاء والاستفتاء، حيث يجوز للإنسان أن يعمل بما أفتاه به المفتي دون السؤال عن المذهب، فلو تعدد الاستفتاء لعالمين أو أكثر من علماء المذاهب، وأفتى كل عالم بمذهبه وجب على السائل العمل بالفتوى، وقد يقع في التلفيق من حيث لا يدري، وإن درى فهو معذور، إذ لا دليل على المنع.
__________
(1) فتاوى الشيخ عليش: 1 / 78.
(2) البحر المحيط للزركشي: 6 /326(8/32)
(3) التلفيق
ورأي الفقهاء والأصوليين فيه
أجاز أكثر المحققين من أتباع أئمة المذاهب تقليد المجتهد في المسائل الفرعية العملية التي تثبت بطريق اجتهادي ظني، لا في مسائل العقائد أو الأصول العامة، كمعرفة الله وصفاته ودلائل النبوة، وكل ما علم من الدين بالضرورة (البداهة) من جميع التكاليف الشرعية، كأركان الإسلام , وحرمة الربا والزنى، وحل البيع والزواج ونحوها.
وانتشرت ظاهرة التقليد بعد عصر أئمة المذاهب الاجتهادية في أوائل القرن الرابع الهجري، واستمرت إلى عصرنا، وكان من أثر انتشار التقليد بين المسلمين: أن أكثر العلماء المتأخرين بعد انتهاء القرن العاشر الهجري شرطوا لجواز تقليد مذهب الغير ألا يؤدي إلى التلفيق بين المذاهب، فحكموا ببطلان العبادة المركبة، بالاعتماد على أحكام متغايرة بين الأئمة، حتى إن بعض الحنفية حكى فيه إجماع المسلمين، والتزمه الشافعية حكما مقررا في مسائل الفقه، ولم يظهر كلام في التلفيق قبل القرن السابع الهجري.
قال ابن حجر وغيره من الشافعية: القول بجواز التلفيق خلاف الإجماع.
وأرى أن ادعاء الإجماع يحتاج إلى حجة ودليل، ولا دليل.
تعريف التلفيق:
التلفيق: هو الإتيان بكيفية لا يقول بها المجتهد. ومعناها أن يترتب على العمل بتقليد المذاهب، والأخذ في قضية واحدة ذات أركان أو جزئيات بقولين أو أكثر: الوصول إلى حقيقة مركبة، لا يقرها أحد، سواء الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه، فكل واحد منهم يقرر بطلان تلك الحقيقة الملفقة في العبادة.
ويتحقق التلفيق إذا عمل المقلد في واقعة بالقولين معا، أو بأحدهما مع بقاء أثر الثاني. مثل أن يقلد شخص مذهب الشافعي في الاكتفاء بمسح بعض الرأس في الوضوء، ثم يقلد الذي صلى به على هذا النحو، لم يقل به هؤلاء الأئمة إذا عرض على كل واحد منهم على حدة، فالشافعي يعتبره باطلا لنقضه باللمس، وأبو حنيفة لا يجيزه لعدم مسح ربع الرأس، ومالك لا يقره لعم مسح جميع الرأس، أو لعدم دلك أعضاء الوضوء، وأحمد لا يصححه لترك مسح جميع الرأس، ونحو ذلك (1) .
ومن أمثلة التلفيق في الأحوال الشخصية: أن يتزوج امرأة بلا ولي ولا صداق (مهر) ولا شهود، مقلدا كل مذهب فيما لا يقول به الآخر. لكن هذا من التلفيق المؤدي إلى المحظور، فلا يجوز كما سنبين؛ لأنه يخالف الإجماع، ولم يقل أحد بهذه الصورة (2) .
__________
(1) شرح الإسنوي: 3 / 266؛ عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني: ص 91.
(2) شرح التنقيح للقرافي: ص 386.(8/33)
وأمثلة التلفيق الممنوع أيضًا: أن يطلق شخص زوجته ثلاثا، ثم تتزوج بابن تسع سنين بقصد التحليل مقلدا زوجها في صحة الزواج للشافعي، فأصابها، ثم طلقها مقلدا في صحة الطلاق وعدم العدة للإمام أحمد، فيجوز لزوجها الأول العقد عليها (1) . قال الشيخ علي الأجهوري الشافعي: إن مثل هذا ممنوع في زماننا، ولا يجوز ولا يصح العمل بهذه المسألة؛ لأنه يشترط عند الإمام الشافعي أن يكون المزوج للصبي أبًا له أو جدًّا، وأن يكون عدلا، وأن يكون في تزويجه مصلحة للصبي، وأن يكون المزوج للمرأة وليها العدل بحضرة عدلين، فإذا اختل شرط، لم يصح التحليل، لفساد الزواج.
ومن أمثلة التلفيق: لو استأجر شخص مكانا موقوفا تسعين سنة فأكثر، من غير أن يراه، مقلدًا في المدة للشافعي وأحمد، وفي عدم الرؤية لأبي حنيفة، فيجوز.
مجال التلفيق:
إن قضية التلفيق مثل التقليد مجالهما كما نوهت سابقا في المسائل الاجتهادية الظنية، أما العقائد وكل ما علم من الدين بالضرورة من متعلقات الحكم الشرعي، وهو ما أجمع عليه المسلمون ويكفر جاحده، فلا يصح فيه التقليد، فضلا عن القول بالتلفيق. وعليه فلا يجوز التلفيق المؤدي إلى إباحة الحرام كالنبيذ والزنا مثلاً.
والمقصود بالنبيذ: كل شراب مسكر متخذ من غير العنب، وهو حرام باتفاق العلماء في الرأي المفتى به عند الحنفية وهو رأي محمد بن الحسن رحمه الله، ويحد عند جمهور العلماء غير الحنفية من شرب من النبيذ ما لا يسكر؛ لأن ما أسكر كثيره، فقليله حرام، والحرام فيه الحد.
__________
(1) عمدة التحقيق، المرجع السابق: صـ101.(8/34)
مشروعية التلفيق:
للعلماء رأيان في التلفيق: رأي أكثر المتأخرين: المنع أو عدم الجواز، ورأي جماعة آخرين: الجواز.
ودليل القائلين بمنع التلفيق: هو التخريج على ما قاله علماء الأصول في الإجماع من منع إحداث قول ثالث إذا اختلف العلماء فريقين في حكم مسألة، فقال الأكثرون: لا يجوز إحداث قول ثالث ينقض ما كان محل اتفاق، كعدة الحامل المتوفى عنها زوجها، فيها رأيان: وضع الحمل، وأبعد الأجلين، فلا يجوز إحداث قول يقول: إن عدتها بالأشهر فقط.
والواقع هناك فرق بين الحالتين:
أولاً – لأن موضوع إحداث القول الثالث مرفوض في حال اتحاد المسألة، بينما في التلفيق تكون المسألة متعددة.
ثانيًا – بناء على الرأي المختار، لم يكن في مسألة التلفيق ناحية متفق عليها، فالدلك في الوضوء مسألة كانت موضع اختلاف بين الأئمة، والنقض باللمس مسألة أخرى، وكلا المسألتين موضع خلاف، فالتلفيق فيهما لا يؤدي إلى خرق مجمع عليه، فالقياس مع الفارق (1) .
ويمكننا بالإضافة لذلك مناقشة دعوى بطلان التلفيق بطريقتين: طريقة المنع أو النفي، وطريقة إثبات العكس (2) .
أما طريقة المنع: فهي أن التلفيق مبني على واقع التقليد، وكل من التلفيق والتقليد من وضع المتأخرين، ولم يعرف التلفيق عند السلف، لا في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته ولا في عهد أئمة المذاهب وتلامذتهم. أما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا مجال للتلفيق قطعا؛ لأنه عهد تبليغ الوحي الذي لا حاجة فيه للاجتهاد. وأما في عصر الصحابة والتابعين، فكذلك لم يعرف بينهم، وإنما كان السائل يسأل من شاء منهم، فيفتيه دون أن يلزمه بقوله، أو يحجر عليه العمل بفتوى غيره، مع علمه بكثرة تباين أقوالهم.
__________
(1) بحوث المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامي في الأزهر بمصر: ص 95.
(2) راجع كتاب عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق: ص 92 – 110 بتصرف.(8/35)
وكذلك الأئمة الأربعة وغيرهم من أصحاب الاجتهاد، لم ينقل عن أحدهم منع العمل بمذهب غيره، بل كان كل منهم يقتدي خلف الآخر، مع اطلاعه على مخالفته له في الاجتهاد الظني، فدل هذا على أن المستفتي كان يأخذ بأقوال العلماء في مسألتين أو أكثر، ولا يقال: إنه لفق أو وصل إلى حقيقة لم يقل بها المفتون، وإنما يعد ذلك من قبيل تداخل أقوال المفتين، بعضها في بعض بالنسبة إلى هذا المستفتي تداخلا غير مقصود، كتداخل اللغات بعضها ببعض في لسان العرب.
وأكثر من هذا، فإن القول بمنع التلفيق يؤدي إلى عدم جواز التقليد الذي أوجبوه على العوام – من ناحية المبدأ – وإن كان التقليد غالبا ليس تلفيقا، ويناقض المبدأ القائل بأن اختلاف الأئمة رحمة للأمة، ويعارض الأساس الذي قامت عليه الشريعة من اليسر والسماحة، ورفع الحرج ودفع المشقة.
وأما الاستدلال بطريقة إثبات العكس بعد افتراض صحة قولهم بمنع التليفق والتسليم بما قالوا، فيظهر مما قرره أولئك العلماء، وهو أنه لا يجب التزام مذهب معين في جميع المسائل، ومن لم يكن ملتزما مذهبا معينا، جاز له التلفيق، وإلا أدى الأمر إلى بطلان عبادات العوام، إذ لا يكاد أحدنا يجد عاميا يفعل عبادة موافقة لمذهب معين.
وأما اشتراطهم ضرورة مراعاة الخلاف بين المذاهب إذا قلد أحدهما مذهبا، أو ترك مذهبه في مسألة، فهو أمر عسير، سواء في العبادات أو المعاملات، وهو يتنافى مع سماحة الشريحة ويسرها ومسايرتها لمصالح الناس.
فمن توضأ مثلاً، ومسح بعض رأسه مقلدا للشافعي، فوضوءه صحيح فإذا مس عضوه (ذكره) بعدئذ مقلدا أبا حنيفة، جاز له الصلاة؛ لأن وضوء هذا المقلد صحيح بالاتفاق؛ لأن لمس الفرج غير ناقض عند أبي حنيفة،فإذا قلده شخص في عدم نقض ما هو صحيح عند الشافعي، استمر الوضوء على حاله بتقليده لأبي حنيفة، وحينئذ لا يقال: إن الوضوء غير صحيح لبطلانه في كلا المذهبين؛ لأن المسألتين قضيتان منفصلتان؛ لأن الوضوء قد تم صحيحا بتقليد الشافعي، ويستمر بعد اللمس بتقليد أبي حنيفة، فالتقليد لأبي حنيفة إنما هو في استمرار الصحة، لا في ابتدائها.
وأما ما ادعاه بعض الحنفية (1) من قيام الإجماع على منع التلفيق، فهو إما باعتبار اتفاق أهل المذهب، أو باعتبار الأكثر والغالب، أو باعتبار السماع، أو بالنسبة للظن، إذ لو كانت المسألة مجمعا عليها لنص فقهاء المذاهب الأخرى على الإجماع؛ لأن المجمع عليه لابد من أن يكون بين أهله مشهورًا ظاهرا منصوصًا عليه، فلا يكفي السكوت والاحتمال. ولا أدل على عدم الإجماع من مخالفة كثير من العلماء المتأخرين صراحة (2) .
__________
(1) رسم المفتي في حاشية ابن عابدين: 1 / 69 وما بعدها؛ الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: 250 وما بعدها.
(2) عمدة التحقيق: المرجع السابق، 106 وما بعدها(8/36)
وقال الكمال بن الهمام في التحرير، وتابعه تلميذه ابن أمير الحاج (1) : إن المقلد له أن يقلد من شاء، وإن أخذ العامي (أي غير المجتهد) في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه، لا أدري ما يمنعه من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتتبع ما هو الأخف عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرائع ذمه عليه ((وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته.))
وأما أن الإمامين اتفقا على بطلان عمل الملفق: فهذا قول لا تنهض به حجة، فإن المقلد لم يقلد كلًّا منهما في مجموع عمله، وإنما قلد كلًّا منهما في مسألة معينة غير التي قلد فيها غيره، ولا حرج في هذا، ومجموع العمل لم يوجب أحد النظر إليه، لا في اجتهاد ولا في تقليد، وإنما هو اختراع لحكم شرعي ممن ليس أهلا للقول به، ولله سبحانه خطابه، ولكل خطاب أثره.
جاء في تنقيح الحامدية لابن عابدين: ما يدل على أن في مُنْيَةِ المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب، وأن الشيخ الطرسوسي مشى على الجواز، كذلك أفتى العلامة أبو السعود في فتاويه بالجواز، وجزم العلامة ابن نجيم في رسالته (في بيع الوقف بغبن فاحش) بأن المذهب جواز التلفيق، ونقل الجواز عن الفتاوى البزازية.
وصحح الجواز ابن عرفة المالكي في حاشيته على الشرح الكبير، وأفتى العلامة العدوي وغيره بالجواز؛ لأنه فسحة (2) .
وذهب الجمهور، ومنهم بعض الشافعية إلى أن الإجماع المنقول بالآحاد، كهذا الإجماع المدعى هنا، لا يوجب العمل، لأن الإجماع قطعي، فيتطلب في نقله مستندا مناسبا له.
هذا فضلا عن أن دعوى الإجماع ممنوعة، فقد حكى الثقات الخلاف، كالفهامة الأمير والفاضل البيجوري. قال الشفشاوني في تركيب مسألة من مذهبين أو أكثر: إن الأصوليين اختلفوا في هذه المسألة، والصحيح من وجهة النظر جوازه.
والخلاصة: إن دين الله يسر، لا عسر، وإن القول بجواز التلفيق من باب التيسير على الناس. قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) (3) .
__________
(1) التحرير وشرحه: 3 / 350 وما بعدها.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 20/1.
(3) سبق تخريجه، وهو حديث صحيح.(8/37)
التلفيق الممنوع:
ليس القول بجواز التلفيق مطلقا، وإنما هو مقيد في دائرة معينة، فمنه ما هو باطل لذاته كما إذا أدى إلى إحلال المحرمات كالخمر والزنى ونحوهما، ومنه ما هو محظور لا لذاته بل لما يعرض له من العوارض، وهو ثلاثة أنواع (1) :
أولها – تتبع الرخص عمدا: بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ما هو الأخف أو الأهون عليه، بدون ضرورة أو عذر، وهذا محظور سدًّا لذرائع الفساد بالانحلال من التكاليف الشرعية.
قال الغزالي: " ليس لأحد أن يأخذ بمذهب المخالف بالتشهي، وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده، فيتوسع ... " إلخ (2) . ويندرج تحت هذا النوع بالأولى تتبع الرخص للتلهي والأخذ بالأقوال الضعيفة من كل مذهب اتباعًا للملاذ والأهواء.
الثاني – التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف درءًا للفوضى.
الثالث – التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدا، أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده.
مثال الحال الأولى: ما نقل عن الفتاوى الهندية: لو أن فقيها قال لامرأته: أنت طالق ألبتة. وهو يرى أن الطلاق يقع ثلاثا، فأمضى رأيه فيما بينه وبينها، وعزم على أنها حرمت عليه، ثم رأى بعدئذ أنها تطليقة رجعية، أمضى رأيه الأول الذي كان عزم عليه، ولا يردها إلى أن تكون زوجته، برأي حدث من بعد.
وكذلك لو كان في الابتداء يراها تطليقة رجعية، فعزم على أنها امرأته، ثم رأى بعدئذ أنها ثلاث، لم تحرم عليه، ولكن ينبغي الانتباه إلى أن الرجوع بعد العمل لا يجوز إذا كانت في حادثة واحدة، لا في مثلها، بدليل ما ذكر في الفتاوى الهندية: أنه لو كان يرى في قوله لامرأته: " أنت طالق ألبتة" أنها تطليقة رجعية، فله مراجعتها، ثم قال لامرأة أخرى: " أنت طالق ألبتة" وهو يرى يوم قال ذلك أنها ثلاث، حرمت عليه المرأة الأخرى بهذا القول. وهذا ما صرح به الإمام السبكي وتبعه عليه جماعة. ويلاحظ أن الرجوع عن التقليد بعد العمل باطل، كما صرح الأصوليون، مقيد فيما إذا بقي من آثار الفعل السابق أثر يؤدي إلى تلفيق العمل بشيء، لا يقول به كل من المذهبين.
__________
(1) رسم المفتي لابن عابدين: 1 / 69؛ الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: ص 79؛ فتاوى الشيخ عليش: 1 / 68، 71.
(2) المستصفى: 2 / 125.(8/38)
ومثال الحال الثانية: لو قلد رجل أبا حنيفة في الزواج بلا ولي، فيستلزم العقد صحة إيقاع الطلاق؛ لأن صحة الطلاق لازم لصحة الزواج إجماعًا، فلو طلقها ثلاثا، ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق، لكون عقد الزواج بلا ولي (1) ، فليس له ذلك، لكونه رجوعا عن التقليد في أمر لازم إجماعا (2) .
وأرى أن القول بهذا أمر حتمي؛ لأنه يحتاط في قضايا الأنساب أكثر مما يحتاط في غيرها، وإلا ترتب عليه أن تكون العلاقة السابقة علاقة محرمة، وأن الأولاد أولاد زنى. وينبغي سد كل باب يؤدي إلى مثل هذا التحايل في كل أمر خطير كالزواج مثلا، أو في كل ما يتوصل به إلى العبث بالدين، أو الإضرار بالبشر، أو الفساد في الأرض.
وأما في مجال العبادات والتكاليف التي لم يجعل الله بها حرجا على عباده، فلا يكون التلفيق ممنوعا، ولو استلزم الرجوع عما عمل به أو عن أمر لازم لآخر إجماعا، ما لم يفض إلى الانحلال من ربقة التكاليف الشرعية، أو إلى الذهاب بالحكمة الشرعية باتباع الحيل التي تغاير الشريعة أو تضيع مقاصدها.
حكم التلفيق في التكاليف الشرعية:
تبين مما سبق أن مجال التلفيق هو في الفروع الاجتهادية الشرعية الظنية، أي المختلف فيها، أما في العقائد والإيمان والأخلاق وكل ما علم من الدين بالضرورة، فليس داخلا في التلفيق؛ لأنه لا يجوز فيها التقليد اتفاقا، بل وليست مجالا للاجتهاد، حتى تكون محلًّا للخلاف الذي يبنى عليه التقليد والتلفيق
وحيث إن التلفيق يتأتى في المسائل الفرعية، فليزم تفصيل الحكم فيها.
تنقسم الفروع الشرعية إلى ثلاثة أنواع (3) :
الأول – ما بني في الشريعة على اليسر والسماحة، مع اختلافه باختلاف أحوال المكلفين.
الثاني – ما بني على الورع والاحتياط.
الثالث – ما يكون مناطه مصلحة العباد وسعادتهم.
__________
(1) إذ أن الطلاق لم يصادف محلا، وأراد الزوج أن يعقد على المرأة عقدا جديدا
(2) أي إن القول بعدم جواز هذا ليس من أجل التلفيق وحده، بل بسبب الرجوع عما قلده فيه بعد العمل به، مع بقاء أثره.
(3) عمدة التحقيق: ص 127 وما بعدها.(8/39)
أما النوع الأول: فهو العبادات المحضة، وهذه يجوز فيها التلفيق للضرورة أو للحاجة؛ لأن مناطها امتثال أمر الله تعالى والخضوع له مع عدم الحرج، فينبغي عدم الغلو بها؛ لأن التنطع يؤدي إلى الهلاك.
أما العبادات المالية، فإنها مما يجب التشدد بها احتياطا، خشية ضياع حقوق الفقراء، فينبغي على المزكي ألا يأخذ بالقول الضعيف، أو يلفق من كل مذهب ما هو أقرب لإضاعة حق الفقير. وعلى المفتي أن يفتي في هذا النوع بما هو الأحوط والأنسب، مع مراعاة حال المستفتي، وكونه من أصحاب العزائم أم لا.
وأما النوع الثاني: فهو المحظورات، وهي مبنية على الاحتياط والأخذ بالورع (1) أو التلفيق إلا عند الضرورات الشرعية؛ لأن الضروروات تبيح المحظورات، وورد في الحديث الصحيح: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) (2) فالأمر قيده بالاستطاعة، والنهي أطلقه، لدفع ضرر المنهي عنه.
وكون المحظورات لا يسوغ فيها التلفيق؛ لأنها مبنية على الورع والاحتياط، مستند إلى حديث ابن مسعود: ((ما اجتمع الحرام والحلال، إلا غلب الحرامُ الحلالَ)) (3) وحديث ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (4) .
وأما أن المحظورات المتعلقة بحقوق العباد لا يجوز فيها التلفيق؛ فلأنها قائمة على أساس صيانة الحق ومنع الإيذاء أو العدوان، فلا يباح التلفيق فيها؛ لأنها نوع من الاحتيال للاعتداء على الحق وإضرار العباد.
__________
(1) الورع: الكف عن الشبهات تحرجا وتخوفا من الله تعالى، ثم استعير للكف عن الحلال أيضًا.
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. شرح صحيح مسلم: 9 / 101؛ رياض الصالحين: ص 83.
(3) رواه البيهقي من حديث ابن مسعود، وفيه ضعف وانقطاع، وقال الزين العراقي: لا أصل له. المقاصد الحسنة: ص 362.
(4) رواه الترمذي والنسائي عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.(8/40)
وأما النوع الثالث: فهو المعاملات والحدود وأداء الأموال من خراج وعشر وخمس المعادن، والمناكحات. فالمناكحات وما يتعلق بها من المفارقات مبناها سعادة الزوجين وأولادهما، ويتحقق المبنى بالحفاظ على الرابطة الزوجية، وتحقيق الحياة الطيبة فيها. كما قرر القرآن الكريم في قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فكل ما يؤيد هذا الأصل يعمل به، ولو أدى في بعض الوقائع إلى التلفيق، إلا أنه ينبغي ألا يتخذ التلفيق ذريعة لتلاعب الناس بأقضية الزواج والطلاق، مراعاة للقاعدة الشرعية، وهي أن " الأصل في الأبضاع التحريم " صيانة لحقوق النساء والأنساب، وحينئذ يكون التلفيق ممنوعًا.
وأما المعاملات، وأداء الأموال، والحدود المقررة، وصيانة الدماء ونحوها من التكاليف المراعى فيها مصالح البشرية والمرافق الحيوية، فيجب الأخذ فيها من كل مذهب: ما هو أقرب إلى مصلحة العباد وسعادتهم، ولو لزم منه التلفيق، لما فيه من السعي وراء تأييد المصلحة التي قصدها الشرع، ولأن مصالح الناس تتغير بتغير الزمان، والعرف وتطور الحضارة والعمران، ومعيار المصلحة: هو كل ما يتضمن صيانة الأصول الكلية الخمسة وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل (النسب) ، والمال؛ وصيانة كل مصلحة مقصودة شرعا من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وهي المصالح المرسلة المقبولة.
والخلاصة: إن ضابط جواز التلفيق وعدم جوازه: هو أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها، فهو محظور، وخصوصا الحيل، وأن كل ما يؤيد دعائم الشريعة، وما ترمي إليه حكمتها وسياستها لإسعاد الناس في الدارين بتيسير العبادات عليهم، وصيانة مصالحهم في المعاملات، فهو جائز مطلوب.
والتلفيق الجائز في تقديري: هو عند الحاجة أو الضرورة، وليس من أجل العبث، أو تتبع الأيسر والأسهل عمدًا بدون مصلحة شرعية. وهو مقصور على بعض أحكام العبادات، والمعاملات الاجتهادية، لا القطعية.(8/41)
(4) ترجيح ما هو أحق بالاتباع
وخاصة في عصرنا
المذاهب الفقهية الإسلامية ثروة علمية خصبة لا نظير لها ولا مثيل في العالم، وهي تدل على ثراء الفكر الإسلامي ونضجه وعمقه وسعة أفق الفقهاء، وإسهامهم الشامل في خدمة الإسلام وبقائه حيًّا مرنًا صالحًا للتطبيق في كل زمان ومكان، إذ لم يتركوا جانبًا من جوانب الحياة في عصرهم إلا وجدوا له حلًّا وحكمًا بالحل أو الحرمة، فجزى الله سادتنا أئمة المذاهب خير الجزاء، ولن يخلفهم التاريخ لابتكارهم أصول الاجتهاد، واقتفائهم سيرة الصحابة والتابعين.
وقد استفاد المسلمون من فقههم واجتهادهم فوائد لا تنكر، فوجب علينا تقديرهم، وطلب الرحمة الإلهية لهم، ويعد المساس بواحد منهم إنكارًا للجميل، وتنكرا للمعروف الواجب الوفاء به، وظلما واضحا، بل ويأثم كل من نالهم بسوء؛ لأنهم - رضوان الله عليهم - بذلوا أقصى ما في وسعهم بالاجتهاد، وكانوا على جانب عظيم من العلم والتقوى والورع، بل إنهم لم يقصدوا باجتهادهم ما سمي بعدهم بالمذاهب؛ لأن كل إمام منهم كان ينهى الناس عن اتباعه، ويأمر بالاجتهاد، ويمنع التقليد.
لكن ما قدموه من ثمار يانعة وحلول عظيمة هو اجتهاد أمر به الشرع، وهم على حق فيما عملوا، وأدوا به واجبهم العلمي، وفريضة الاجتهاد المطلوبة شرعا، وكل اجتهاد حق، قد يخالف الصواب، وقد يخطئ، ومن اطلع على أسباب اختلاف الفقهاء عذرهم، ومن قرأ أدلة كل إمام فيما ذهب إليه اقتنع بوجهة نظره.
إلا أن الحق لا يتعدد، ونظرًا لأننا لا ندري ما هو الحق والصواب بين الاجتهادات لانقطاع الوحي جاز لنا تقليد أئمة الاجتهاد والثقات والذين دققت آراؤهم وتبلورت اجتهاداتهم وثبت النقل عنهم وأبان تلامذتهم الراجح منها من المرجوح، والصحيح من الضعيف.
غير أننا إذا تمكنا من الترجيح بين آراء المجتهدين، وتوافرت لدينا مُكْنَةُ النظر ودقة الفهم، خلافا لأدعياء الاجتهاد الذين هم أشبه بالجهلاء، فعلينا الترجيح وألا نركن إلى كابوس التقليد المذهبي والتعصب الضيق؛ فإن التعصب أيضا ضرر وجهل، وحماقة وغباء؛ لأن العالم مطالب بالعمل بما صح دليله، وترجح برهانه، وكان أنسب لمقتضيات المصلحة، ومعايير مقاصد الشريعة العامة بالحفاظ على الدين والنفس والعقل، والنسب أو العرض والمال.(8/42)
كما يلزمنا مراعاة الظروف الاستثنائية والأحوال الطارئة والضرورات والحاجات العامة للناس أو الخاصة بطائفة معينة غير محصورة؛ لأن ذلك من أصول الشريعة وضوابطها وقواعدها العامة أيضًا.
ولا يستطيع أحد إنكار قانون التطور والتجديد، ولكن في المجال المقرر شرعا وهو الأحكام القياسية والمصلحية. أما الثوابت التي جاءت بها النصوص التشريعية أو الأحكام الأساسية، فلا تقبل التبدل والتغير، مثل أصول الحلال والحرام التي وردت بها النصوص القطعية لإصلاح الأزمان والأجيال، ومبادئ الشريعة العامة، مثل: مبدأ الرضائية في العقود، وسريان الإقرار على المقر نفسه دون غيره، وضمان الضرر، ومنع الاعتداء، وسد الذرائع إلى المفاسد والشرور، ورعاية المصالح والحقوق والواجبات التي قامت عليها أحكام الشريعة، وإن اختلفت وسائل حمايتها ورعايتها. مع التزام مبدأ إحقاق الحق وإبطال الباطل. ورعاية القاعدة الشرعية والقانونية " لا مساغ للاجتهاد في مورد النص " أي النص القطعي أو الصريح أو الإجماع. أما النص الظني فهو مجال الاجتهاد.
وإذا كنا نريد الخير لأنفسنا وشريعتنا، ونخلص لديننا واتباع أحكام ربنا، فعلنيا إزاء الآراء الاجتهادية المحضة التزام الخطة التالية في الترجيح والاتباع، علما بأن الاتباع: هو سلوك التابع طريق المتبوع، وأخذ الحكم من الدليل بالطريق التي أخذ بها متبوعه، فهو اتباع قائم على العمل بالقول الذي صح دليله. وأما التقليد: فهو الأخذ بقول الغير من غير حجة، وهذا سبيل العوام.
والترجيح يكون على وفق ما يلي:
اتفق العلماء على وجوب العمل بالنصوص القطعية الثبوت أو الدلالة أو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة أو البداهة، مثل: وجوب الصلوات الخمس، والصيام، والزكاة، والحج، وأصول الإيمان والإسلام كالنطق بالشهادتين، وتحريم جرائم الزنى، والربا، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل وعقوبتها المقدرة لها، والكفارات المقدرة، ونحو ذلك مما دلت عليه آيات القرآن الكريم والأحاديث المتواترة كأحاديث الزكاة، والرجم في رأي بعض العلماء، واتفقوا على العمل بإجماع العلماء. وهذا كله لا مجال للاجتهاد فيه.(8/43)
أما ما يجوز الاجتهاد فيه: وهو الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدلالة، أو ظن أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها نص قاطع ولا إجماع، كالأحكام القياسية والمصلحية، والعرفية، فهو مجال الترجيح.
وعلى العلماء أن يأخذوا بما دل عليه ظاهر النص، أو الحديث الصحيح، أو كان محققا لمصلحة تتفق مع جنس المصالح التي بنى الشرع الأحكام عليها، أو تعارف الناس عليها دون تصادم مع نص شرعي.
ولا يجوز للمفتي أو المجتهد أن يفتي برأي ضعيف أو بما يصادم الحديث الصحيح؛ لأن رائده طلب الحق والصواب، دون تأثر بعصبية مذهبية أو انتماء لمدرسة فكرية معينة، مع كون الحق يظهر في اتباع رأي آخر؛ لأن الشرع والعقل يوجبان العلم بالدليل الراجح.
قال شيخ الإسلام: عز الدين بن عبد السلام (1) : ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، وهو مع ذلك يقلد فيه، ويترك من شهد له الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم، جمودا على تقليد إمامه، بل يتحايل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة، نضالا عن مقلده.
وقال الإمام أبو شامة في خطبة: " الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول ": ينبغي لمن اشتغل بالفقه ألا يقتصر على مذهب إمام معين، بل يرفع نفسه عن هذا المقام، وينظر في مذهب كل إمام، ويعتقد في كل مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة، وذلك سهل عليه، إذا كان قد أتقن علوم الاجتهاد، وليتجنب التعصب والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة؛ فإنها مضيعة للزمان، ولصفوه مكدرة (2) .
وأكد القرافي هذا الاتجاه الصحيح في العمل بآراء المذاهب، فقال: إن الحاكم إن كان مجتهدا، فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده؛ وإن كان مقلدا، جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به، وإن لم يكن راجحا عنده، مقلدا في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي يقلده، كما يقلده في الفتيا. أما الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح، فخلاف الإجماع (3) .
__________
(1) قواعد الأحكام: 2 / 135، ط الاستقامة.
(2) الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض للسيوطي: ص 61؛ وفي معنى ذلك انظر إعلام الموقعين: 4 / 412.
(3) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 79، 80؛ تبصرة الحكام: 1 / 66؛ فتاوى الشيخ عليش: 1 / 64، 68.(8/44)
خاتمة البحث
يتبين لنا من خلال البحث ما يلي:
1- العمل بالرخصة (وهي ما شرع من الأحكام استثناء لعذر) أمر مباح مساو للعمل بالعزيمة (وهي الأحكام الأصلية الكلية) وقد تكون مندوبة لحاجة، أو واجبة إذا كانت سببا للحفاظ على الحياة، أو خلاف الأولى عند عدم الحاجة.
2- العذر المبيح للأخذ بالرخصة: هو الضرورة أو الحاجة أو المشقة أو الإكراه، أوالسفر أو المرض أو الخوف الشديد ونحو ذلك مما يتلاءم مع سماحة الشريعة ويسرها.
3- وضابط المشقة في العبادات يختلف بحسب كل عبادة تؤثر فيها إسقاطا أو تخفيفا، وأما في المعاملات فهي مرتبة واحدة من المشاق، وهي أدنى المشاق فيها.
4- والمشقة أو دفع الحرج إنما يعتبر في موضع لا نص فيه. ويصح الفعل مع المشقة إلا إذا أدت إلى الضرر أو احتمال الوقوع في الهلاك بحسب غلبة الظن أو اليقين.
5 – لا مانع من تتبع الرخص أو الأخذ بما هو أهون وأيسر على المكلف للضرورة أو الحاجة، دون تعمد التتبع أو قصد العبث والتلهي، وبشرط ألا يؤدي إلى التلفيق الممنوع.
6- التلفيق الممنوع ثلاثة أنواع: تتبع الرخص عمدًا، والذي يستلزم نقض حكم الحاكم، والذي يستلزم الرجوع عن الحكم بعد العمل به، أو بعد الأمر اللازم لأمر آخر مجمع عليه.
7- التلفيق جائز للضرورة أو الحاجة في أحكام الشريعة المبنية على اليسر والسماحة كالعبادات المحضة، وفي الأحكام المبنية على مصالح العباد وسعادتهم كالمعاملات والعقود، وبناء الأسرة، ولا يجوز في العبادات المالية كالزكاة، ولا في المحظورات المبنية على الورع والاحتياط كقضايا الزواج هدما، والعلاقات المشبوهة بين الرجل والمرأة، والمحظورات المتعلقة بحقوق العباد صونا للحق ومنعا للاعتداء.
ويكون ضابط جواز التلفيق ومنعه: هو أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها، فهو محظور، وكل ما أيد دعائم الشريعة وصان حكمتها وسياستها لإسعاد الناس في الدراين بتيسير العبادات عليهم، وصيانة مصالحهم في المعاملات، فهو جائز مطلوب.
8- على المفتي أو المجتهد التزام ثوابت الشريعة وأحكامها الأساسية، وفي المتغيرات يلزمه اتباع ظاهر الكتاب والسنة، والإفتاء بالراجح من آراء أئمة المذاهب، والترجيح يكون باتباع الحديث الصحيح، ثم مراعاة المصالح الزمنية، والأعراف الصحيحة التي لا تصادم نصوص الشريعة، وملاحظة مبدأ سد الذرائع إلى الفساد والشرور والنزاع؛ لأن العمل بالراجح أمر يوجبه الشرع والعقل.
9- آن للمقلدين أن يتخلوا عن العصبية المذهبية التي تفرق ولا تجمع، وتضر ولا تنفع؛ لأن الله تعالى إنما تعبدنا بالعمل بالكتاب والسنة وما يرد إليهما.
والحمد لله رب العالمين(8/45)
ملخص البحث
إن موضوع " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه " من أهم مواضيع العصر التي يسأل عنها كثير من الناس بسبب ميلهم للأخذ بالأخف والأيسر أو الأهون، مع مراعاة قواعد الشريعة وأحكامها العامة، وهو يتناول موضوعات ثلاثة هي: الرخصة وحكمها، وتتبع الرخص، والتلفيق.
أما الرخصة: فهي الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر، والعذر: هو المشقة أو الحاجة، وتطلق في مقابل العزيمة: وهي ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء؛ لتكون قانونا عامًّا لكل المكلفين في جميع الأحوال.
ومنشأ الترخيص أو التخفيف في الشريعة الإسلامية: هو الأخذ باليسر والسماحة ودفع الحرج الذي امتازت به على الشرائع السابقة، مراعاة لأحوال الملكفين من الناس، وضمانا لخلود الشريعة وديمومتها وبقائها مع اختلاف الأزمان والعصور.
والأخذ بالرخصة أمر مباح، وقد يصبح مندوبا كقصر الصلاة الرباعية في حال السفر، في رأي الجمهور أو واجبًا في رأي الحنفية، وقد يصبح واجبًا إذا ترتب على الرخص الحفاظ على النفس كضرورات تناول الأطعمة والأشربة في حال الإضرار أو الإكراه. وقد تكون الرخصة حقيقية وهي رخصة الترفيه: وهي التي يكون حكم العزيمة معها باقيا، والدليل قائما كالتلفظ بالكفر في الظاهر عند الإكراه، وإتلاف مال الغير مكرهًا، وقد تكون مجازية: وهي التي لا يكون حكم العزيمة معها باقيا، وإنما يسقط الحكم كإباحة تناول المحرمات، وشرب الممنوع عند الضرورة، وتعاطي المخدرات في حال العلاج أو الدواء، كالعمليات الجراحية. وأمثلة العذر المبيح للترخيص أو التخفيف: الضرورة، والحاجة، والإكراه، والسفر، والمرض، والخوف الشديد نحو ذلك.
وضابط المشاق في المعاملات مرتبة واحدة وهي أدنى المشاق فيها، وفي المعاملات متفاوتة، فلكل عبادة مرتبة معينة من المشاق المؤثرة فيها إسقاطا أو تخفيفا، وتختلف المشاق بالقوة والضعف، وبحسب الأحوال، وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال، وكذلك الصبر على الجوع والعطش يختلف باختلاف هذه الأحوال، لذا أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة، كالسفر والمرض. وتعتبر المشقة والحرج في موضع لا نص فيه. ويصح الفعل مع تحمل المشقة إلا إذا خشي المكلف الهلاك أو الضرر العظيم. فيجب حينئذ الأخذ بالرخصة، ويعصي إن لم يأخذ بها.(8/46)
ويباح للإنسان تتبع الرخص أو الأخذ بالأهون والأخف للضرورة أو الحاجة، بشرطين: ألا يتتبع الرخص عمدا، ولا يقصد العبث والتلهي، وألا يؤدي إلى التلفيق الممنوع؛ لأن تتبع الرخص أمر واقع لا مهرب منه في واقع الإفتاء والاستفتاء، حين يسأل الشخص عن حكم مسائل متعددة علماءَ المذاهب، فيفتونه بحسب مذاهبهم.
ومجال التلفيق كالتقليد في المسائل الاجتهادية الظنية، لا في العقائد والأصول التشريعية العامة، وكل ما علم من الدين بالضرورة من متعلقات الحكم الشرعي، وهو كل ما أجمع عليه المسلمون ويكفر جاحده.
وقد ناقشت دعوى إبطال التلفيق من ناحيتين: طريقة المنع، وطريقة إثبات العكس، أما المنع: فإن القول بعدم مشروعية التلفيق يؤدي إلى عدم جواز التقليد الواجب على العوام غير المجتهدين، وإنه لم يثبت على منع التلفيق دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته الكرام، ولا عن أئمة المذاهب، حيث إن التلفيق ظهر الكلام فيه في العهود المتأخرة بعد انتهاء القرن السابع الهجري، ولم ينقل عن الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد منه العمل بمذهب غيره. وأما إثبات العكس: فهو أنه إذا لم يجب على أحد التزام مذهب معين، كما قرر العلماء، جاز لغير الملتزم التلفيق، وإلا بطلت عبادات العوام وهم أكثر المؤمنين، كل ذلك متفق مع سماحة الشريعة ويسرها.
وأما اشتراط ضرورة مراعاة الخلاف بين المذاهب، فهو أمر عسير على أغلب الناس، سواء في العبادات أو المعاملات، بل هو أمر يتنافى مع سماحة الشريعة ويسرها.(8/47)
ولم يقم دليل على وجود الإجماع على منع التلفيق، وأيد جواز التلفيق جماعة ثقات من العلماء كالكمال بن الهمام، وابن نجيم المصري، وصاحب الفتاوى البزازية، والشيخ الطرسوسي، وأبو السعود، وابن عرفة، والعلامة العدوي، والفهامة الأمير، والفاضل البيجوري، والشفشاوني وغيرهم.
وأما مجموع العمل المركب من مسألتين، فلم يوجب أحد النظر إليه، في الاجتهاد أو التقليد، وإنما هو اختراع لحكم شرعي ممن ليس أهلا للقول به، ويكون تقليد كل عالم في مسألة منفصلة عن المسألة الأخرى التي قلد فيها عالما آخر. وإنما يعد ذلك من قبيل تداخل أقوال المفتين.
والتلفيق الممنوع ثلاثة أنواع: تتبع الرخص عمدا، والذي يستلزم نقض حكم الحاكم، والذي يؤدي إلى الرجوع عن الأمر بعدما عمل به تقليدا لمجتهد.
ويكون التلفيق جائزا للضرورة أو الحاجة في العبادات المبنية على التسامح، وأحكام العقود والمعاملات القائمة على رعاية المصالح وتحقيق سعادة العباد. وضابط التلفيق: هو أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياساتها وحكمتها، فهو محظور، وكل ما أيد دعائم الشريعة، وصان حكمتها وسياستها لإسعاد الناس في الدارين، فهو جائز مطلوب.
ثم ذكرت أن ما أنجزه أئمة المذاهب ثروة فقهية خصبة لا نظير لها ولا مثيل في التاريخ، وأن هؤلاء الأئمة بذلوا أقصى جهودهم لإصابة الحق والصواب، فجزاهم الله عن الأمة خير الجزاء، لكن الحق لا يتعدد، وكل اجتهاد عرضة للخطأ والصواب، ويجب علينا العمل بما يتفق مع ظواهر القرآن والسنة وإجماع الأمة، وبما كان الاعتماد في الرأي على حديث صحيح، لا ضعيف، وفي غير ذلك نعمل بما يلائم المصلحة والعرف، ويتفق مع الحاجات الزمنية المتجددة، مع التزام مبدإ إحقاق الحق وإبطال الباطل، ورعاية مضمون القاعدة الشرعية " لا مساغ للاجتهاد في مورد النص ".
الدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي(8/48)
التوصية المقترحة
الصادرة عن المجمع في موضوع البحث
أ – لا حرج ولا جناح على أحد بالعمل بالرخص الشرعية لعذر أو مشقة غير محتملة عادة، ويترك أمر تقدير المشقة في العبادات للمكلف، ويكتفى في المعاملات بأدنى المشاق، وقد تصير الرخصة أمرا مندوبا أو واجبا أو خلاف الأولى.
ب – ولا مانع من تتبع رخص المذاهب الشرعية والأخذ بالأهون والأيسر أو الأخف للضرورة أو الحاجة، دون قصد تتبع الرخص عمدا من غير مسوغ، وبشرط ألا يؤدي ذلك إلى التلفيق الممنوع شرعا، لإخلاله بواجب احترام أحكام الشريعة.
ج – التلفيق الممنوع: هو ما أدى إلى تتبع الرخص عمدا، أو استلزم نقض حكم الحاكم، أو الرجوع عما عمل به تقليدا، أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده معتبر شرعًا.
د – التلفيق جائز للضرورة، أو الحاجة في أحكام الشريعة المبنية على اليسر والسماحة كالعبادات المحضة غير المالية، وفي أحكام المعاملات القائمة على مبدإ رعاية المصالح ودفع المضار والمفاسد، ما لم يؤد كل ذلك إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها لإسعاد الناس في الدارين.
هـ – على المفتي أو المجتهد أو المقلد التزام ثوابت الشرعية وأحكامها الأساسية، وله في مجال الأحكام القياسية المصلحية أو العرفية مراعاة المصالح الزمنية، والأعراف التي لا تصادم نصا شرعيًّا، وملاحظة سد الذرائع إلى المفاسد والمضارِّ، ولا بد في الترجيح بين الآراء من التزام ظاهر القرآن والسنة، والعمل بالحديث الصحيح، وعدم الخروج عن الإجماع. ولا داعي للعصبية المذهبية بعدئذ.(8/49)
أهم المصادر
- كشف الأسرار على أصول البزدوي ومعه نور الأنوار، طبع مكتب الصنايع، 1307هـ.
-مرآة الأصول في شرح مرقاة الوصول، مطبعة البوسنوي، 1302 هـ.
- شرح عضد الملة والدين على مختصر المنتهى لابن الحاجب، المطبعة الأميرية.
- الموافقات للشاطبي، المكتبة التجارية بمصر.
- فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت في أصول الفقه، مطبعة بولاق 1322 هـ.
- أصول الشاشي، طبع دلهي، 1303 هـ.
- الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، مطبعة صبيح بالقاهرة، 1347 هـ.
- الفروق للقرافي، الطبعة الأولى: 1345 هـ.
- الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي، ط حلب، سوريا.
- قواعد الأحكام في مصالح الأنام لشيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، ط الاستقامة.
- تبصرة الحكام، ط البابي الحلبي بمصر.
- فتاوى الشيخ عليش، طبع مصر.
- غاية الوصول شرح لب الأصول لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، مطبعة البابي الحلبي، 1354 هـ.
- حاشية البناني على شرح جلال الدين المحلي على جمع الجوامع لابن السبكي، المطبعة الأميرية.
- نهاية السول شرح منهاج الوصول إلى الأصول، مطبعة صبيح.
- رسائل ابن عابدين، طبع محمد هاشم الكتبي بدمشق.
- الأشباه والنظائر للسيوطي، المكتبة التجارية بمصر.
- المستصفى للغزالي، المكتبة التجارية بمصر.
- الإبهاج للسبكي، مطبعة التوفيق الأدبية.
- التقرير والتحبير لابن أمير الحاج، مطبعة بولاق، 1316 هـ.
- إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، تحقيق محيي الدين عبد الحميد.
- روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه، المطبعة السلفية بمصر، 1342 هـ.
- الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض للسيوطي، طبع الجزائر، 1325 هـ.
- مخطوط قواعد الزركشي في المكتبة الظاهرية بدمشق.
- البحر المحيط للزركشي، طبع وزارة الأوقاف بالكويت.
- المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران، إدارة الطباعة المنيرية بمصر.
- المدخل الفقهي العام للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء، الطبعة السابعة بدمشق.
- أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي، مطبعة دار الفكر بدمشق.
- الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب للدكتور وهبة الزحيلي، دار الهجرة بدمشق.
- عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للشيخ محمد سعيد الباني، مطبعة حكومة دمشق، 1341 هـ.
- بحوث المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية بمصر.(8/50)
الأخذ بالرخصة وحكمه
إعداد
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
عضو اللجنة الاستشارية العليا
للعمل على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بالكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الرخصة
الحمد رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإن مبحث الرخصة من المباحث التي عني بها الفقه الإسلامي وأصوله، وهو يمثل جانبا مهما من جوانب الشريعة الغراء التي اتسمت بالرحمة والسماحة واليسر كما قال جل وعلا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] فالشريعة عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، ... فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه (1) .
ويحتل مبحث " الرخصة " مساحة واسعة من كتب الفقه والأصول إذ كان مبنى الأحكام في الشريعة الغراء على رفع الحرج عن المكلفين واليسر بهم.
فرفع الحرج يتمثل في إزالة كل ما يؤدي إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال في البدء والختام، والحال والمآل، وهو أصل من أصول الشريعة ثبت بأدلة قطعية لا تقبل الشك (2) .
وأما اليسر فهو كما قال عز شأنه في آية أخرى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] ومراده من ذلك التيسير وهو خلاف الشدة والمشقة وهذا جاء في الأحكام كلها كما صححه القرطبي (3) .
وسنتناول الرخصة حسب الخطة الموضوعة لها في الفصول التالية:
الفصل الأول: في تعريفها.
الفصل الثاني: في أنواعها.
الفصل الثالث: في ضوابط الأخذ بالرخصة ومواطنها.
الفصل الرابع: في تتبع الرخص ورأي الفقهاء والأصوليين.
الفصل الخامس: في التلفيق.
الفصل السادس: في ترجيح ما هوأحق بالاتباع وخاصة في عصرنا الحديث.
__________
(1) إعلام الموقعين: 3 / 14.
(2) الموافقات: 1 / 14.
(3) الجامع الأحكام القرآن: 5 / 149.(8/51)
الفصل الأول
معنى الرخصة
أ – في اللغة:
تأتي مادة رخص في اللغة وتفيد ثلاثة معان:
أحدها: اللين والنعومة. والثاني: ضد الغلاء. والثالث: خلاف التشديد.
قال في مقاييس اللغة:
الراء والخاء والصاد أصل يدل على لين وخلاف شدة، من ذلك اللحم الرخص، وهو الناعم، من ذلك الرخص خلاف الغلاء، والرخصة في الأمر خلاف التشديد، وكذلك في الصحاح مادة رخص، وهذه المعاني لصيقة بالرخصة، ويضيف صاحب اللسان معنى جديدًا وهو الإذن بعد النهي.
قال: ورخص له في الأمر: أذن له فيه بعد النهي عنه، والاسم الرخصة. والرخصة، والرخصة: ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه، والرخصة في الأمر: هو خلاف التشديد. وقد رخص له في كذا ترخيصا فترخص هو فيه، أي: لم يستقص. وتقول: رخصت فلانًا في كذا وكذا، أي: أذنت له بعد نهيي إياه عنه (1) .
ب – في الاصطلاح:
بحث علماء الأصول مسألة الرخصة والعزيمة عند الكلام على الحكم، واختلفوا هل هي من أقسام الحكم، أو من أقسام الفعل.
ذهب تاج الدين الأرموي في كتابه الحاصل، وتبعه البيضاوي في كتابه منهاج الوصول، وتقي الدين الأرموي في كتابه التحصيل، وتاج الدين ابن السبكي صاحب جمع الجوامع، والكمال ابن الهمام في التحرير، وحجة الله بن عبد الشكور صاحب مسلم الثبوت، والقرافي، والغزالي؛ إلى أنهما قسمان للحكم.
وذهب الآمدي وابن الجاجب والإمام الرازي في المحصول وآخرون إلى أنها من أقسام الفعل الذي هو متعلق الحكم.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة والصحاح للجوهري؛ ولسان العرب- مادة رخص.(8/52)
ورجح صاحب جمع الجوامع رأي الفريق الأول وقال: تقسيم البيضاوي وغيره الحكم إلى الرخصة والعزيمة أقرب إلى اللغة من تقسيم الرازي وغيره الفعل الذي هو متعلق الحكم إليها (1) .
وبيان ذلك أنه يلزم من تقسيم الفعل الذي هو متعلق الحكم إلى رخصة وعزيمة أن ينقسم الحكم أيضا إلى رخصة وعزيمة؛ فإن الحكم المتغير من عسر إلى يسر هو صفة الفعل الذي هو موصوفه ومتعلقه، وهو فعل المكلف. فتقسيم الفعل هنا إلى رخصة وعزيمة كتقسيم الفعل الذي هو متعلق الحكم إلى واجب ومندوب وأخواتهما (2) . واختلفوا أيضا في اندراجها في الحكم التكليفي أو في الحكم الوضعي فالآمدي وابن الحاجب يريان أنهما من خطاب الوضع، والغزالي وصاحب الحاصل والبيضاوي قالوا: إنها من أقسام الحكم التكليفي.
وحجة من أدرجها في خطاب الوضع أن الرخصة في حقيقة أمرها: وضع الشارع وصفًا من الأوصاف سببا في التخفيف، وأما حجة من أدرجها في خطاب التكليف قال: إن الرخصة تحمل معنى التخيير، ورجح الزركشي في البحر هذا الرأي وقال: إن الرخصة من خطاب الاقتضاء، ولهذا قسموها إلى واجبة ومندوبة ومباحة (3) .
وفيما يلي بعض تعاريف الرخصة؛ فقد ذكر الآمدي والزركشي وغيرهما جملة من التعريفات نورد بعضا منها، ثم نختار التعريف المناسب منها:
أولاً – الآمدي:
قال: أما في الشرع فقد قيل: الرخصة ما أبيح فعله مع كونه حرامًا.
وقيل: ما رخص فيه مع كونه حرامًا.
وقال أصحابنا: الرخصة ما جاز فعله لعذر مع قيام السبب المحرم.
ثم نقد هذه التعاريف وقال عن الأول: وهو تناقض ظاهر، وعن الثاني بأنه عرف الرخصة بالترخيص المشتق من الرخصة، وهو غير خارج عن الإباحة فكان في معنى الأول.
__________
(1) البحر المحيط للزركشي: 1 / 327؛ نهاية السول شرح منهاج الأصول للإسنوي 1 / 129؛ الأحكام للآمدي: 1 / 100؛ القواعد والفوائد الأصولية للبعلي ص 116؛ التمهيد للإسنوي ص 70.
(2) سلم الوصول للشيخ المطيعي حاشية نهاية السول: 1 / 129.
(3) البحر المحيط: 1 / 327، إضافة إلى سلم الوصول للشيخ المطيعي حاشية نهاية السول: 1 / 129.(8/53)
وعن التعريف الأخير بأنه غير جامع؛ فإن الرخصة كما قد تكون بالفعل قد تكون بترك الفعل كإسقاط وجوب صوم رمضان والركعتين من الرباعية في السفر.
ثم أدخل تعديلا عليه حتى يستقيم فقال:
الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام السبب المحرم. وقال: إن هذا التعريف يعم النفي والإثبات.
ثم أورد عليه الاحتمالات التالية فقال:
القدر المرخص لا يخلو إما أن يكون راجحا على المحرم، أو مساويا، أو مرجوحا. فإن كان الأول: فموجبه لا يكون رخصة بل عزيمة، وإلا كان كل حكم ثبت بدليل راجح مع وجود المعارض المرجوح رخصة، وهو خلاف الإجماع.
وإن كان مساويا، فإن قلت بتساقط الدليلين المتعارضين من كل وجه والرجوع إلى الأصل، فلا يكون ذلك رخصة، وإلا كان كل فعل بقينا فيه على النفي الأصلي قبل ورود الشرع رخصة، وهو ممتنع.
وإن لم نقل بالتساقط فالقائل قائلان:
قائل يقول بالوقف على الحكم بالجواز وعدمه إلى حين ظهور الترجيح. وذلك عزيمة لا رخصة.
وقائل يقول بالتخيير بين الحكم بالجواز، والحكم بالتحريم، ويلزم من ذلك أن لا يكون أكل الميتة حالة الإضطرار رخصة ضرورة عدم التخيير بين جواز الأكل والتحريم؛، لأن الأكل واجب جزما، وقد قيل بكونه رخصة، فلم يبق إلا أن يكون الدليل المحرم راجحا على المستبيح. ويلزم من ذلك العمل بالمرجوح ومخالفة الراجح، وهو في غاية الإشكال. وإن كان هذا القسم هو الأشبه بالرخصة لما فيها من التيسير والتسهيل بالعمل بالمرجوح ومخالفة الراجح (1) .
__________
(1) الإحكام للآمدي 1 / 101، 102.(8/54)
ثانيًا – الزركشي:
أورد الزركشي في البحر عدة تعريفات للرخصة.
قال: وأما في الاصطلاح فقد اختلف فيه:
فقال الإمام الرازي: ما جاز فعله مع قيام المقتضي للمنع.
وقال القرافي: طلب الفعل مع السالم عن المانع المشتهر.
وقال الهندي: ما جاز فعله أو تركه مع قيام المانع منه.
وقيل: ما لزم العباد بإيجابه تعالى.
وقيل: ما خرج عن الوضع الأصلي لعارض.
وقال ابن الحاجب: المشروع لعذر مع قيام المحرم لولا العذر.
وقيل: استباحة المحظور مع قيام المحرم.
وقيل: الحكم مع المعارض؛ أي مع قيام الدليل الدال على المنع.
وقيل: الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر مع كونه حراما في حق غير المقدور.
ومعظم هذه التعاريف التي ذكرها لم تسلم من اعتراض ومناقشة.
ولعله ارتضى التعريف الأخير حيث لم يورد عليه اعتراضا قال: هو المراد بقول الفقهاء: ما ثبت على خلاف القياس أي الشرعي لا القياس المصلحي؛ لأنه عدل به عن نظائره لمصلحة راجحة هذا في جانب الفعل، وفي جانب الترك أن يوسع للمكلف تركه مع قيام الوجوب في حق غير المقدور تخفيفا وترفها سواء كان التغيير في وصفه أو حكمه.
وهو نوعان:
أحدهما: أن يتغير الحكم مع بقاء الوصف الذي كان عليه، بأن يكون في نفسه محرما مع سقوط حكمه، كإجراء كلمة الكفر على لسانه حالة الإكراه مع قيام التصديق بالقلب.
والثاني: أن يسقط الخطر والمؤاخذة جميعًا كأكل الميتة عند المخمصة حتى لو امتنع ومات؛ فإنه يؤاخذ (1) .
__________
(1) البحر المحيط للزركشي: 1 / 327.(8/55)
ثالثًا: يورد موفق الدين ابن قدامة والبعلي الحنبليان جملة من التعريفات أحدها:
ما ثبت على خلاف دليل شرعي لعارض راجح.
ومن التعريفات التي ذكرها البعلي: ما حكاه عن بعضهم معبرًا عنه بقيل:
استباحة المحظور مع قيام السبب الحاضر.
ثم نقل تعريف الآمدي الذي سبق أن بيناه، وتعريف القرافي الذي عرف الرخصة بأنها جواز الإقدام على الفعل، مع اشتهار المانع منه شرعا.
قال: والمعاني متقاربة (1) .
رابعًا: بعض التعريفات التي ذكرها الأحناف في كتبهم عرفها صدر الشريعة:
بأنها ما استبيح مع قيام المحرم والحرمة، وقال: إن ذلك أحد إطلاقين حقيقيين للرخصة عند الأحناف.
والإطلاق الثاني: هو ما استبيح مع قيام المحرم دون الحرمة (2) .
وعرفها صاحب مسلم الثبوت: بأنها ما تغير من عسر إلى يسر بعذر (3) .
__________
(1) القواعد والفوائد الأصولية ص 115، روضة الناظر وجنة المناظر: 1 / 171 – 173.
(2) التوضيح: 3 / 83.
(3) 1/ 38.(8/56)
نظرة عامة في التعاريف السابقة:
إن معظم التعريفات السابقة لم تسلم من إبهام أو قصور، وقد وضحت المراجع المشار إليها ما يتجه من النقد إلى كل تعريف منها، وبقي تعريفان أحدهما للإمام الشاطبي المالكي والآخر للإمام البيضاوي الشافعي. خامسًا – أما الإمام الشاطبي فقد عرف الرخصة في موافقاته فقال: الرخصة ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه. ويشرح هذا التعريف فيقول: فكونه مشروعًا لعذر هو الخاصة التي ذكرها علماء الأصول.
وكونه شاقًّا فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودة فلا يسمى ذلك رخصة، كشرعية القراض مثلاً لعذر في الأصل وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض، ويجوز حيث لا عذر ولا عجز، وكذلك المساقاة والقرض والسلم ... وكون هذا المشروع لعذر مستثنى من أصل كلي يبين لك أن الرخص ليست بمشروعة ابتداء، فلذلك لم تكن كليات في الحكم.
وكونه مقتصرًا به على موضع الحاجة خاصة من خواص الرخص أيضا لابد منه وهو الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكلية وما شرع من الرخص؛ فإن شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة؛ فإن المصلي إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وكذلك سائر الرخص (1) .
سادسًا – والآخر تعريف الإمام البيضاوي وهو ما عبر عنه بأنه: الحكم الثابت بدليل على خلاف الدليل لعذر.
فهذا التعريف قد خلا من المطاعن التي وجهت إلى التعريفات الأخرى كتعريف الآمدي وابن الحاجب اللذين عرفا الرخصة بأنها: المشروع لعذر مع قيام المحرم. كما بينا عند الكلام على التعريفات التي ساقها الآمدي.
شرح التعريف وإخراج محترزاته:
قوله: " الثابت بدليل " أشار به إلى أن الرخصة لابد لها من دليل وإلا لزم ترك العمل بالدليل السالم عن المعارض، فنبه عليه بقوله الثابت؛ لأنه لو لم يكن لدليل لم يكن ثابتًا بل الثابت غيره.
وقوله: " على خلاف الدليل " ولم يقيده بالمحرم كما فعل الآمدي وابن الحاجب ليشمل ما إذا كان الترخيص بجواز الفعل على خلاف الدليل المقتضي للتحريم كأكل الميتة وما إذا كان بجواز الترك، إما على خلاف الدليل المقتضي للوجوب كجواز الفطر في السفر، وإما على خلاف الدليل المقتضي للندب كترك الجماعة بعذر المطر والمرض ونحوهما؛ فإنه رخصة بلا نزاع.
__________
(1) الموافقات: 1 / 300.(8/57)
وأخرج بهذا القيد عدة أمور:
الأول: الحكم الثابت بدليل راجح في مقابلة حكم ثبت بمرجوح؛ فإن المرجوح لا يسمى دليلا وحينئذ فالحكم الثابت بالدليل الراجح لا يسمى رخصة؛ لأنه لم يثبت على خلاف الدليل مثل إيجاب الوضوء من مس الذكر مع عدم إيجاب الوضوء منه لحديث ((إن هو إلا بضعة منك)) فإيجاب الوضوء لا يسمى رخصة؛ لأن عدم الوضوء ثبت بدليل مرجوح.
الثاني: الحاكم الثابت بدليل ناسخ لحكم ثبت بمنسوخ فإن المنسوخ لا يسمى دليلا مثل إيجاب ثبات الواحد من المسلمين أمام اثنين من الكفار في الحرب؛ فإنه ثبت بقوله تعالى: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] وهذا الدليل الناسخ لوجوب ثبات الواحد أمام العشرة، فإيجاب ثبات الواحد أمام الاثنين لا يعتبر رخصة؛ لأنه لم يثبت على خلاف الدليل.
الثالث: الأحكام الثابتة على وفق الدليل مثل إباحة الأكل والشرب أو النوم؛ فإنه لم يثبت دليل على منع هذه الأشياء حتى تكون إباحتها ثابتة على خلافه فمثل هذه الأحكام لا تسمى رخصة.
وقوله: " لعذر " يعني المشقة والحاجة أو الضرورة فلا يدخل المانع في العذر كالحيض؛ لأن المشروعية لا تتحقق معه، فلا يسمى إسقاط الصلاة عن الحائض رخصة؛ لأن الحيض مانع من المشروعية، كما يخرج بهذا القيد التكاليف كلها كالصلاة والصوم والزكاة والحج؛ فإنها أحكام ثابتة على خلاف الدليل، ومع ذلك ليست برخصة؛ لأنها لم تثبت لأجل المشقة وإنما ثبتت بأدلتها الخاصة على خلاف الدليل، وهو الأصل والأصل من الأدلة الشرعية (1) .
__________
(1) نهاية السول في شرح منهاج الأصول للإسنوي: 1 / 120.(8/58)
الفصل الثاني
أنواع الرخصة
للعلماء وجهات مختلفة في تقسيم الرخصة فمنهم من نظر إلى حكم الرخصة فقسمها من هذا الاعتبار إلى عدة أقسام ومنهم من نظر إلى ما يصدق عليه اسم الرخصة فقسمها إلى قسمين: رخصة حقيقية، ورخصة مجازية.
أما الفريق الأول فقد تباينت آراؤهم في تقسيم الرخصة من حيث النظر إلى حكمها، فمنهم من قسمها إلى ثلاثة أقسام ومنهم من زاد على هذا العدد ومنهم من نقص، ولما كان الكلام يتشعب لدى هذا الفريق فنرجئ الكلام عليه بادئين بتقسيم الفريق الثاني، وهم جمهرة الحنفية، ويتفق معهم نفر من غيرهم كالإمام الغزالي.
قسم الحنفية الرخصة إلى أربعة أنواع:
نوعان يطلق عليهما اسم الرخصة حقيقة، وأحدهما أحق باسم الرخصة من الآخر. ونوعان يطلق عليهما اسم الرخصة مجازًا، وأحدهما أتم في المجازية أي أبعد عن حقيقة الرخصة من الآخر.
النوع الأول: الذي هو رخصة حقيقية وهو – أحق بكونه رخصة – ما أباحه الشارع مع قيام الدليل المحرم وحكمه الذي هو الحرمة معا.
مثاله: إجراء كلمة الكفر على اللسان مع الإكراه عليه بالقتل، ومثل هذا ما كان من العبادات مفروضا عينا كالصلاة والصوم الفرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ففي هذه الصور أباح الشارع العمل بالرخصة حقيقة بفعل ضدها لكن إذا أخذ ب العزيمة وبذل نفسه كان أولى؛ لأنه لو لم يرخص للمكره في هذه الحالة لزم أن يفوت حق العبد صورة ومعنى بهلاكه، أما في حالة الأخذ بالرخصة فإنه يفوت حق الله تعالى صورة بإجراء كلمة الكفر على اللسان، ولا يفوت معنى؛ لأن قلبه مطمئن بالإيمان.
حكم هذا النوع: الأخذ بالعزيمة في هذا النوع وبذل النفس حسبة لله تعالى في دينه أولى ويثاب لقيام الحرمة ودليلها ولكن يباح له العمل بالرخصة حقيقة بفعل ضدها.(8/59)
النوع الثاني: وهو ثاني رخصة حقيقية ولكن الأول أحق منه لكونه رخصة ما أباح الشارع، مع قيام الدليل المحرم دون حكمه الذي هو الحرمة.
مثاله: إفطار المسافر في رمضان؛ فإن المحرم للإفطار وهو الدليل الذي أوجب الصوم عند شهود الشهر قائم، وشهود الشهر قائم لكن حرمة الإفطار غير قائمة؛ لأن الشارع رخص في الإفطار لعذر السفر بناء على أن سبب وجوب الصوم تراخي حكمه لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ومثله فطر المريض.
حكم هذا النوع: العزيمة في هذا النوع أولى ما لم يستقر بها نظرا إلى قيام السبب، وأما إذا استقر فلا أولوية للعزيمة، فإن مات بها أثم لقتله نفسه بلا مبيح.
النوع الثالث: وهو الذي هو رخصة مجازا وهو أتم في المجازية أي أبعد عن الحقيقة من النوع الآخر؛ ما وضعه الشارع عنا في شريعتنا من الأغلال والأحكام الشاقة التي شرعت على من قبلنا من الأمم كقتل النفس في صحة التوبة وأداء الربع في الزكاة والقصاص في القتل عمدا أو خطأ، وإحراق الغنائم، وتحريم الطيبات بسبب الذنوب.
النوع الرابع: وهو الذي رخصة مجازا لكنه أقرب من حقيقة الرخصة من النوع الذي قبله؛ ما سقط عنا مع كونه مشروعا في الجملة، فمن حيث إنه مشروع في حقنا في الجملة كان شبيها بالرخصة الحقيقية بخلاف النوع الثالث؛ فإنه لما لم يكن مشروعا في حقنا أصلا وكان سببه معدوما أيضا كان أبعد من الرخصة الحقيقية.
مثاله: بيع السلم وهو بيع آجل بعاجل سقط اشتراط ملك المبيع فيه مع اشتراطه فيما عداه من البياعات إجماعًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تبع ما ليس عندك)) وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة أو السنتين فقال: ((من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) تيسيرا وتخفيفا؛ لأنه من بيع المفاليس فكان رخصة مجازا لا حقيقة؛ لأن السبب المحرم قد انعدم في حقه شرعًا، فلو لم يبع سلما وتلف جوعا أثم لإلقائه بنفسه إلى التهلكة غير ملجئ. واكتفي في صحة السلم بالعجز التقديري، عن المبيع بأن يكون المسلم فيه في ملكه ولكنه مستحق الصرف إلى حاجته ودليل الحاجة إقدامه عليه؛ فإنه لا يرضى بأرخص الثمنين إلا لحاجة فلم يشترط العجز الحقيقي وهو أن لا يكون في ملكه حقيقة (1) .
__________
(1) تيسير التحرير 2 / 228، 233. المستصفى للغزالي 1 / 98.(8/60)
التقسيم الثاني وهم الذين نظروا إلى الرخصة من حيث حكمها:
قسم الشافعية الرخصة من حيث النظر إلى حكمها إلى الوجوب، والندب والإباحة، وخلاف الأولى وبعضهم قصرها على الثلاثة الأول.
فمثال الرخصة الواجبة أكل الميتة للمضطر؛ فإن هذا الحكم ثبت بدليل وهو قوله تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] مع قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وهذا الدليل يخالف الدليل الدال على حرمة أكلها وهو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فوجوب أكل الميتة للمضطر رخصة؛ لأنه حكم ثبت بدليل آخر لعذر وهو الاضطرار إلى الأكل لحفظ الحياة.
ومثال الرخصة المندوبة قصر الصلاة الرباعية إذا توفرت شروطه؛ فإن هذا الحكم ثبت بقوله صلى الله عليه وسلم ((هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) (1) وهذا الدليل الدال على وجوب الإتمام مثل قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 77] مع فعله عليه السلام المبين لعدد الركعات، فندب القصر رخصة؛ لأنه حكم ثبت بدليل على خلاف دليل آخر لعذر وهذا العذر هو المشقة.
ومثال الرخصة المباحة، إباحة العرايا أو السلم؛ فإن إباحة العريا حكم ثبت بقوله عليه السلام ((وأرخص في العرايا)) وهذا الدليل مخالف للدليل الدال على حرمة الربا – مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وهذه المخالفة لعذر وهو حاجة الفقراء.
ومثال الرخصة التي هي خلاف الأولى الفطر في نهار رمضان بالنسبة للمسافر الذي لا يتضرر بالصوم فإن هذا الحكم ثابت بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وهذا الدليل مخالف لدليل آخر وهو قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وهذه المخالفة لعذر وهو مشقة السفر، وإنما كان الفطر لمن لا يتضرر بالصوم خلاف الأولى لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] . (2)
__________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري، نيل الأوطار 3 / 227 أبواب صلاة المسافر.
(2) جمع الجوامع 1 / 121. غاية الوصول شرح لب الأصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 18 البحر المحيط للزركشي 1 / 329.(8/61)
وقد يكون الحكم الأصلي الكراهة كترك صلاة الجماعة؛ فإن حكم تركها الكراهة الصعبة لما في الاجتماع عليها من إظهار شعائر الإسلام، ولكن يباح تركها لمرض أو نحوه (1) .
ويقسم البعلي من الحنابلة الرخصة إلى أقسام يتفق مع الشافعية في الأقسام السابقة ويزيد حكما آخر وهو الكراهة قال: ومن الرخص ما هو مكروه كالسفر الترخيص (2) ومثل له السيوطي كالقصر في أقل من ثلاثة مراحل (3) . ومن الرخص ما لا يباح ولا يرخص أصلا لا بالإكراه ولا بخلافه بل هو حرام كقتل المسلم، أو قطع عضو منه، وضرب الوالدين (4) .
وقال الزركشي: جميع الأصوليين يقسمون الرخصة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة. وكان بعض الفضلاء يثير في ذلك بحثا، وهو أنه إما أن يكون مقصودهم ذكر ما وقع به الترخيص، أو ذكر الحالة التي صارت إليها العبادة بعد الترخيص، فإن كان الأول فالظاهر أن الرخصة إنما هي مجرد الإحلال، لأن الإحلال هو الذي جعل له التيسير والسهولة وكون ذلك الذي حل يعرض له أمر آخر يصيره واجبا ليس في الرخصة في شيء، فالترخيص للمضطر من أكل الميتة إنما هو إحلالها بعد أن كانت حراما، وكونها يجب عليه أمر آخر نشأ عن وجوب حفظ النفس فلا يكون عذر التحقيق إلا بمجرد الإحلال.
وإن كان مرادهم ذكر الأحوال التي صارت إليها العبادة بعد الترخيص فتقسيمها إلى ثلاثة فيه نظر، فإنها تنقسم إلى أربعة عشر نوعا؛ لأن الأحكام خمسة. وكل منها إذا صار إلى حكم آخر يخرج منه خمسة أقسام في الخمسة السابقة، فهي خمسة وعشرون قسما، يسقط منها انتقال كل حكم إلى نفسه فهو محال؛ صارت عشرين. يسقط منها الترخيص في المباح إلى الأربعة وهو محال؛ لأنه لا شيء أحق من الإباحة، فلا رخصة فيها؛ صارت ستة عشر. ويسقط منها تخفيف المستحب إلى الواجب فإنه لا تسهيل فيه، وكذلك تخفيف المكروه إلى الحرام محال أيضا فيبقى أربعة عشر قسما.
__________
(1) غاية الوصول شرح لب الأصول ص 18. وجمع الجوامع 1 / 122.
(2) القواعد والفوائد شرح لب الأصول ص 18. وجمع الجوامع 1 / 122.
(3) الأشباه والنظائر ص 82.
(4) شرح الأتاسي على المجلة 1 / 55، 56.(8/62)
الأول: رخصة واجبة أصلها التحريم كأكل الميتة للمضطر.
الثاني: رخصة مستحبة أصلها التحريم كالقصر في السفر بعد ثلاثة أيام.
الثالث: رخصة مكروهة أصلها التحريم كالقصر دون ثلاثة أيام والترخيص في النقل عن التحريم إلى الكراهة.
الرابع: رخصة مباحة أصلها التحريم كالتيمم عند وجود الماء بأكثر من ثمن المثل، وكذلك عند بذل الماء له، أو بذل آلة الاستقاء أو إقراض الثمن، وكذلك إذا وجد المضطر المحرم صيدا فذبحه وميتة فيتخير بينهما.
الخامس: رخصة مستحبة أصلها الوجوب كإتمام الصلاة قبل ثلاثة أيام وكالصوم في السفر للقوي والترخيص في النقل في العقود (1) .
وقال الشيخ محمد الجوهري في حاشيته على شرح شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي الموسوم بلب الأصول عند قوله: (وقد بينت في الحاشية كمية أقسام الرخصة الحاصلة بالانتقال من حكم إلى آخر) حيث قال فيها: وعلى ظاهر كلام الماوردي فأقسام الرخصة خمسة عشر حاصلة من الانتقال من حرام إلى الخمسة الباقية ومن واجب إلى ما عداه والحرام، ومن مندوب إلى مباح، ومن مكروه إلى خلاف الأولى إلى مباح إلى مندوب، ومن خلاف الأولى إلى مباح إلى مندوب وعلى ما قاله المصنف ثلاثة عشر. ثم قال: والمراد بما قاله المصنف أنها لا توصف الرخصة بالكراهة فيسقط أن الرخصة لا تكون محرمة ولا مكروهة (2) .
وقد ذكر بعضهم أن الرخصة قد تكون حراما ومثلوا له بالاستنجاء بذهب أو فضة، وأجيب عنه بأن الحرمة ليست لخصوص الاستنجاء حتى تكون رخصة بل لعموم الاستعمال. وأما أن تكون الرخصة مكروهة فقد سبق بيانه. ومثل له بالفطر دون ثلاث مراحل (3) .
__________
(1) البحر المحيط 1 / 330. وغاية الوصول ص 18 – لم يذكرا الباقي.
(2) غاية الأصول: ص 18، 19.
(3) المصدر ذاته، وينظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص 82.(8/63)
موقف الإمام الشاطبي من الرخصة:
يرى الإمام الشاطبي أن حكم الرخصة الإباحة مطلقا ويسوق لمذهبه طائفة من الأدلة نجملها في الآتي:
الأول: موارد النصوص عليها كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] وقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وأشباه ذلك من النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا لقوله {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وقوله {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ولم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة وهو الإثم والمؤاخذة على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل كقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح وبجواز الإقدام خاصة.
الثاني: أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه حتى يكون من ثقل التكليف في سعة، واختيار بين الأخذ بالعزيمة، والأخذ بالرخصة، وهذا أصله الإباحة كقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 32] بعد تقرير نعم كثيرة.
وأصل الرخصة السهولة، ومادة رخص للسهولة واللين، كقولهم: شيء رخص بين الرخوصة، ومنه الرخص ضد الغلاء، ورخص له في الأمر فترخص هو فيه: إذا لم يستقص له فيه فمال هو إلى ذلك، وهكذا سائر استعمال المادة.
الثالث: لو كانت الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا لكانت عزائم الأرخص، والحال يفيد ذلك، فالواجب هو الحتم اللازم الذي لا خيرة فيه، والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات أنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها، فإذا كان كذلك ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين، وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من حيث هي رخصة (1) .
__________
(1) الموافقات 1 / 307، 309.(8/64)
معنى الإباحة:
ويقصد الشاطبي بالإباحة أحد معنييها وهو رفع الحرج، ولا يقصد المعنى الآخر وهو التخيير بين الفعل والترك، ويستدل على ما ذهب إليه بجملة من النصوص الدالة على الرخص، وما تدل عليه ظواهر هذه النصوص، فيقول: فالذي يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى رفع الحرج لا بالمعنى الآخر، وذلك ظاهر في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وقوله في الآية نفسها: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] فلم يذكر في ذلك أن له الفعل والترك، وإنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم وكذلك قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ولم يذكر لفظا يدل على التخيير بين الفعل والترك، بل ذكر نفس العذر، وأشار إلى أنه إن أفطر فعدة من أيام أخر وكذلك قوله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] ولم يقل: فلكم أن تقصروا، أو فإن شئتم فاقصروا.
ويستطرد في سوق الأدلة على أن التخيير غير مراد وأن الجمهور أو الجميع يقولون: من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الإكراه مأجور وفي أعلى الدرجات، والتخيير ينافي ترجيح أحد الطرفين على الآخر (1) .
__________
(1) الموافقات 1 / 318، 319.(8/65)
الفصل الثالث
ضوابط الأخذ بالرخصة
وضع الفقهاء والأصوليون مجموعة من القواعد التي تعين على معرفة مواطن الأخذ بالرخصة نجملها بعد أن نلم إلمامة سريعة بما قرره الإمام الشاطبي في هذا الشأن، تناول الشاطبي بإسهاب متى يجوز الأخذ بالرخصة ومتى يمتنع وبين أن هناك مجالا للترجيح بين العزيمة والرخصة، ووازن بينهما ليظهر أيهما أحق بالأخذ، وأفاض في ذكر الأدلة التي ترجح الأخذ بالعزيمة، ثم أتبعها بذكر الأدلة التي ترجح جانب الأخذ بالرخصة (1) .
وينتهي إلى القول بأن الأدلة في ترك الرخص إذا تعين سببه بغلبة الظن أو قطع، وقد يكون الترخص أولى في بعض المواضع وقد يستويان. وإما إذا لم يكن غلبة الظن فلا إشكال في منع الترخص (2) .
ويؤكد على أن الرخصة إضافية لا أصلية وأن كل مكلف فقيه نفسه في الأخذ بها ما لم يحد فيها حد شرعي فيتوقف عنده (3) .
أما القواعد التي وضعها الفقهاء والأصوليون للأخذ بالرخصة في مواطنها فمدارها على هذه القواعد الخمسة نسردها أولا، ثم نجمل بكلمة موجزة على كل واحد منها حتى ينقشع الغموض ويزول الالتباس.
1- قاعدة: المشقة تجلب التيسير، وفي معناها: الأمر إذا ضاق اتسع.
2- قاعدة: لا ضرر ولا ضرار.
3- قاعدة: يتحمل العذر الخاص لدفع الضرر العام.
4- قاعدة: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة.
5- قاعدة: ما جاز لعذر بطل بزواله.
__________
(1) الموافقات 1 / 323، 330.
(2) الموافقات 1 / 345.
(3) الموافقات 1 / 314.(8/66)
أولاً – قاعدة " المشقة تجلب التيسير:
الأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) – رواه أحمد في المسند من حديث جابر بن عبد الله وأخرج أحمد في مسنده والطبراني والبزار وغيرهما عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله، أي الأديان أحب إلى الله، قال: ((الحنيفية السمحة)) . وأخرجه البزار من وجه آخر بلفظ: ((أي الإسلام)) . وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)) .
وروى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة وغيره: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) وحديث: ((يسروا ولا تعسروا)) .
وروى الشيخان عن عائشة رضى الله عنها ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما)) .
قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته، وعقب واضعوا مجلة الأحكام العدلية على هذه المادة: يعني أن الصعوبة تصير سببا للتسهيل ويلزم التوسيع في وقت المضايقة، ويتفرع عن هذا الأصل كثير من الأحكام الفقهية كالقرض والحوالة والحجر والوصية والسلم والإقالة والرهن والإبراء والشركة وغير ذلك، وما جوزه الفقهاء من الرخص والتخفيفات في الأحكام الشرعية مستنبط من هذه القاعدة.
ويقول السيوطي في الأشباه وكذا ابن نجيم: أسباب التحقيق في العبادات وغيرها سبعة:
الأول: السفر قال النووي ورخصه ثمانية: منها ما يختص بالطويل قطعًا وهو القصر والفطر والمسح أكثر من يوم وليلة. ومنها ما لا يختص به قطعًا وهو ترك الجمعة وأكل الميتة. ومنها ما فيه خلاف والأصح اختصاصه به وهو الجمع. ومنها ما فيه خلاف والأصح عدم اختصاصه به وهو التنفل على الدابة وإسقاط الفرض بالتيمم.
الثاني: المرض، ورخصه كثيرة: التيمم عند مشقة استعمال الماء، والقعود في صلاة الفرض والتخلف عن الجماعة والجمعة، والفطر في رمضان، والانتقال من الصوم إلى الإطعام في الكفارة، والاستنابة في الحج وفي رمي الجمار، وإباحة محظورات الإحرام مع الفدية، والتداوي بالنجاسات وبالخمر على وجه، وإساغة اللقمة إذا غص بالاتفاق، وإباحة النظر للطبيب حتى العورة والسوأتين.(8/67)
الثالث: الإكراه.
الرابع: النسيان.
الخامس: الجهل.
السادس: العسر وعموم البلوى، كالصلاة مع النجاسة المعفو عنها كدم القروح والدمامل، والبراغيث، والقيح والصديد، وقليل دم الأجنبي، وطين الشارع، وأثر نجاسة عسر زواله، وذروق الطير إذا عم في المساجد، والجمع في المطر، وترك الجماعة والجمعة بالأعذار، ولبس الحرير للحكة والقتال، وبيع نحو الرمان والبيض في قشره، والموصوف في الذمة بالسلم، مع النهي عن بيع الغرر، والاكتفاء برؤية الصبرة وأنموذج المتماثل، وبارز الدار عن أسسها ومشروعية الخيار، لما كان البيع يقع غالبا من غير مسرة، ويحصل فيه التبرم فيشق على العاقد، فسهل الشارع ذلك عليه بجواز الفسخ في مجلسه، وشرع له أيضا شرطه. ومشروعية الرد بالعيب والتحالف، والإقالة والحوالة، والرهن والضمان والإيراد، ومن التخفيف جواز العقود الجائزة؛ لأن لزومها يشق ويكون سببا لعدم تعاطيها، ومنها إباحة النظر عند الخطبة وللتعليم، والإشهاد والمعاملة والمعالجة، ومشروعية التخيير بين القصاص والدية تيسيرًا على هذه الأمة على الجاني والمجني عليه، ومنه إسقاط الإثم عن المجتهدين في الخطأ والتيسير عليهم بالاكتفاء بالظن، ولو كلفوا الأخذ باليقين لشق وعسر الوصول إليه.
قال: وقد بان بهذا أن هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه.
السابع: النقص، فإنه نوع من المشقة إذ النفوس مجبولة على حب الكمال فنسابه التخفيف في التكليفات، فمن ذلك عدم تكليف الصبي والمجنون، وعدم تكليف النساء بكثير مما يجب على الرجال كالجماعة والجمعة، والجهاد والجزية، وتحمل الفعل وغير ذلك (1) .
__________
(1) الاشباه والنظائر للسيوطي ص 76، 80 – ولابن نجيم ص 75، 82.(8/68)
المشقة التي تقتضي التخفيف:
ولا ينبغي أن يفهم أن كل مشقة داعية للتخفيف، فالمشاق على قسمين.
1- مشقة لا تنفك عنها العبادة غالبا كمشقة البرد في الوضوء والغسل، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد، ومشقة الحدود فلا أثر لهذه في إسقاط العبادات في كل الأوقات.
وأما المشقة التي تنفك عنها العبادات غالبا فعلى مراتب:
الأولى: مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأعضاء، فهي موجبة للتخفيف والترخيص؛ لأن حفظ النفوس والأطراف لإقامة مصالح الدين أولى من تعريضها للفوات في عبادة. وكذا إذا لم يكن للحج طريق إلا من البحر وكان الغالب عدم السلامة لم يجب.
الثانية: مشقة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع في الرأس فهذا لا أثر له ولا التفات إليه، لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها.
الثالثة: متوسطة بين هاتين المرتبتين: فما دنا من المرتبة العليا أوجب التخفيف أو من الدنيا لم يوجبه (1) .
ثانيًا – قاعدة " لا ضرر ولا ضرار ":
هذه القاعدة مأخوذة من الحديث الشريف الذي يرويه أبو سعيد الخدري (2) .
يقول السيوطي: هذه القاعدة ينبني عليها كثير من أبواب الفقه، من معناها " الضرر يزال ".
ويتعلق بها قواعد مثل " الضرورات تبيح المحظورات " (3) .
ويقول الأتاسي في تعليقه على هذه المادة: هذه قاعدة أصولية مأخوذة من النص وهو قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] إلا أنه ينبغي ألا تفهم على عمومها بل يخرج عن دائرتها كثير من الأحكام فهي من قبيل العام المخصوص.
ويقول الشيخ علي حيدر: هذه القاعدة وإن كانت عامة فهي من نوع العام المخصوص لا تصدق إلا على قسم مخصوص مما تشمله؛ لأن التعازير الشرعية ضرر ولكن إجراءها جائز (4) .
__________
(1) الاشباه والنظائر للسيوطي ص 79، 80 – ولابن نجيم 80، 82.
(2) شرح المجلة للشيخ خالد الأتاسي 1 / 24.
(3) الأشباه للسيوطي ص 82، شرح الأتاسي 1 / 54.
(4) شرح علي حيدر على نصوص المجلة 1 / 33.(8/69)
ثالثًا – قاعدة " تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ":
هذه قاعدة مهمة من قواعد الشرع مبنية على المقاصد الشرعية في مصالح العباد استخرجها المجتهدون من الإجماع ومعقول النصوص ومن أمثلة هذه القاعدة:
إنكار المنكر وإزالته، فإذا ترتب على إزالته وقوع منكر أعظم أو يعم ضرره بترك الإنكار، فهذه القاعدة تجري في كل مسألة تدور بين ضررين خاص وعام، وكثير من الأوامر والنواهي الشرعية والحدود والعقوبات مشروع لهذا المعنى. ومنها التسعير بسعر معتدل بمعرفة أهل الخبرة عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش دفعًا للضرر العام.
ومنها بيع الطعام عند الحاجة جبرًا على صاحبه إذا امتنع عن بيعه (1) .
رابعًا – قاعدة "الحاجة تنزل منزلة الضرورة "
عامة كانت أو خاصة:
ومعناها أن الضرورة وإن كانت أشد إلا أن الحاجة عامة كانت أو خاصة تنزل منزلتها في تجويز الممنوع شرعًا، والفرق بين الضرورة والحاجة أن ما جاز للضرورة يقدر بقدرها وليس كذلك للحاجة، كذلك ما جاز للضرورة منها ما يتغير بسببها الحكم من الحرمة إلى الإباحة كأكل الميتة، ومنه ما لا تسقط حرمته بحال، ولكن يرخص عند الضرورة كإجراء كلمة الكفر بالإكراه الملجئ مع اطمئنان القلب بخلاف الحاجة (2) .
ومن أمثلة هذه القاعدة تجويز بيع الوفاء حيث إنه لما كثرت الديون على أهل بخارى مست الحاجة إلى ذلك.
والقياس يقتضي عدم جوازه لوجود شرط فيه نفع لأحد العاقدين لكن جوازه للحاجة بسبب كثرة الديون على أهل بخارى وهكذا بمصر وسموه بيع الأمانة، والشافعية يسمونه الرهن المعاد.
وكذلك بيع المعدوم باطل لكن جوز في الإجارة والسلم بالنص وفي الاستصناع بالإجماع لحاجة الناس (3) .
خامسًا – قاعدة " ما جاز لعذر بطل بزواله ":
وفي معناها قاعدة " الضرورات تقدر بقدرها "، ومؤدى هاتين القاعدتين أن كل فعل أوترك جوز للضرورة فالتجويز على قدرها ولا يتجاوز عنها، فمن أصابته مخمصة فاضطر لأكل الميتة أو مال الغير يتناول مقدار ما يسد الرمق لدفع الهلاك.
ويتخرج على القاعدة المشار إليها كثير من أحكام العوارض على أهلية الإنسان سواء كانت سماوية أو مكتسبة كعذر السفر المؤدي إلى إباحة الفطر وقصر الصلاة وترك الجمع، فإذا زال العذر يرتفع ذلك، وكأعذار الصغر والجنون والعته والسفه والمماطلة الموجبة للحجر على الصغير والمجنون والسفيه والمديون المماطل، يرتفع الحجر بزوالها (4) . هذه أهم القواعد والضوابط التي تعرض لها الفقهاء القدامى والأصوليون ويردها الفقهاء المعاصرون إلى أمرين هما الضرورة ورفع الحرج والمشقة (5) .
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 1 / 26، وشرح علي حيدر 1 / 36.
(2) شرح الأتاسي 1 / 56 – 57.
(3) شرح الأتاسي 1 / 76. علي حيدر 1 / 38. الأشباه لابن نجيم ص 92.
(4) شرح الأتاسي 1 / 76. علي حيدر 1 / 38. الأشباه لابن نجيم ص 92.
(5) أصول الفقه للشيخ أبي زهرة ص 51، وأصول الفقه للشيخ بدران أبو العينين ص 367.(8/70)
الفصل الرابع
في تتبع الرخص وآراء الفقهاء والأصوليين
تباينت أنظار العلماء في تتبع الرخص على أقوال: فمنهم من لم ير في تتبع الرخص بأسا، ومنهم من فصل القول فيه، ومنهم من قيده بقيود، ومنهم من منع ذلك.
والمراد بالرخصة هنا الرخصة بمعناها اللغوي وهي السهولة، سواء انطبق عليها حد الرخصة اصطلاحا أم لا، وذلك بأن يختار الأهون عليه والأخف له (1) .
كما بنى الأصوليون الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في وجوب الاستمرار على مذهب واحد، يقول الشيخ نجيب المطيعي: ويتخرج على القول بأنه لا يجب الاستمرار على مذهب واحد جواز اتباعه رخص المذاهب. ونقل عن فتح القدير قوله: لعل المانعين للانتقال إنما منعوا لئلا يتتبع أحد رخص المذاهب (2) .
وفيما يلي مذاهب العلماء واتجاهاتهم في هذه المسألة:
الاتجاه الأول – وهم المجوزون:
ذهب الكمال بن الهمام وابن أبي هريرة، وأستاذه أبو إسحاق المروزي إلى أنه يجوز للمقلد أن يتتبع رخص المذاهب، بمعنى أن يأخذ من كل مذهب ما هو أهون عليه وأيسر؛ لأنه لم يوجد في الشرع ما يمنع من ذلك، بل ربما كان فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله معضدين لذلك، ((فإن الرسول صلى الله عليه وسلم – ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما)) وقد ورد في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها – ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب ما تخفف عن أمته.)) وقال عليه السلام: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) (3) . وهي رواية عن الإمام أحمد، ذكر بعض الحنابلة أن هذا مذهب أحمد بن حنبل، فإنه قال لبعض أصحابه: لا تحمل الناس على مذهبك فيخرجوا، دعهم يترخصوا بمذاهب الناس. وسئل عن مسألة من الطلاق فقال: يقع يقع، فقال له السائل: فإن أفتاني أحد أنه لا يقع يجوز؟ قال: نعم (4) .
__________
(1) جمع الجوامع 2 / 400.
(2) سلم الوصول لشرح نهاية السول 2 / 619. فواتح الرحموت مع المستصفى للغزالي 2 / 406. تيسير التحرير 4 / 254.
(3) تيسير التحرير 4 / 254. مسلم الثبوت 2 / 504. جمع الجوامع 2 / 400.
(4) إرشاد الفحول للشوكاني ص 272.(8/71)
الاتجاه الثاني – وهم المقيدون، وهؤلاء لهم عدة اتجاهات:
الأول – لابن عبد البر وقد نقل أنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص، وقد حكي الإجماع في ذلك.
ولم يسلم له حكاية الإجماع، قالوا: إن في تفسيق المتتبع للرخص روايتين عن أحمد، وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد (1) .
الثاني – وذهب القرافي إلى أنه يجب أن لا يترتب على تقليد الغير ما يمنعانه بإيقاع الفصل على وجه يحكم ببطلانه المجتهدان معا لمخالفته الأولى فيما قلد فيه غيره، والثاني في شيء فيما يتوقف عليه صحة ذلك العمل عنده، كمن قلد الشافعي في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل، وقلد مالكا في عدم نقض اللمس بلا شهوة للوضوء وصلى فإن صلاته باطلة عندهما. إلا أن هذا الرأي لم يسلم أيضا من النقاش وذلك بمنع بطلان الصورة المذكورة، فإن مالكا لم يقل إن من قلد الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل، ولم يقل الشافعي أن من قلد مالكا في عدم الشهود أن نكاحه باطل.
وكون أحد المجتهدين لا يجد في صورة التلفيق جميع ما شرط في صحتها، بل يجب في بعضها دون بعض، وهذا الفارق لا يكون موجبا للحكم بالبطلان، والمخالفة في بعض الشروط أهون من المخالفة في الجميع، فيلزم الحكم بالصحة في الأهون بالطريقة الأولى، ومن يدعي وجود فارق أو وجود دليل آخر على بطلان صورة التلفيق على خلاف الصورة الأولى فعليه بالبرهان.
وقد توزع كون المخالفة في البعض أهون من المخالفة في الكل، لأن المخالفة في الكل تتبع مجتهدا واحدا في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل وههنا لم يتبع واحدا.
ورد هذا النقاش بأنه يتم هذا إذا كان ثمة دليل من نص أو إجماع أو قياس قوي يدل على أن العمل إذا كان له شروط يجب على المقلد اتباع مجتهد واحد في جميع ما يتوقف عليه ذلك، وليس ثمة دليل عليه (2) .
الثالث – وقال الروياني: يجوز تقليد المذاهب بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن لا يجمع فيهما على صورة تخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد.
الشرط الثاني: وأن لا يتتبع رخص المذاهب.
__________
(1) البحر المحيط 6 / 325. تيسير التحرير 4 / 254.
(2) تيسير التحرير 2 / 254.(8/72)
وتعقب القرافي هذا بأنه إن أراد بالرخص ما ينقض فيه قضاء القاضي وهو أربعة: ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي فهو حسن متعين، فإن ما لا نقره مع تأكيد بحكم الحكم فأولى أن لا نقره قبل ذلك، وإن أراد بالرخص ما فيه سهولة على المكلف كيفما كان يلزمه أن يكون من قلد مالكا في المياه والأرواث، وترك الألفاظ في العقود؛ مخالفًا لتقوى الله، وليس كذلك.
وتعقب الشرط الأول: بأن الجمع المذكور ليس بضائر فإن مالكا مثلا لم يقل إن من قلد الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل وإلا لزم أن تكون أنكحة الشافعية عنده باطلة، ولم يقل الشافعي أن من قلد مالكًا في عدم الشهود أن نكاحه باطل وإلا لزم أن تكون أنكحة المالكية بلا شهود عنده باطلة (1) .
ووافق ابن دقيق العيد الروياني على اشتراط أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها، وأبدل الشرط الثالث بأن لا يكون ما قلد فيه مما ينقض فيه الحكم لو وقع. واقتصر العز بن عبد السلام على اشتراط هذا قال: وإن كان المأخذان متقاربين جاز (2) .
الشرط الثالث: انشراح صدره للتقليد المذكور وعدم اعتقاده لكونه متلاعبا بالدين متساهلا فيه ودليل هذا الشرط، قوله صلى الله عليه وسلم: ((والإثم ما حاك في الصدر)) فهذا تصريح بأن ما حاك في النفس ففعله إثم (3) .
__________
(1) حاشية الشيخ المطيعي على نهاية السول للإسنوي 4 / 627.
(2) حاشية الشيخ المطيعي على نهاية السول 4 / 629.
(3) حاشية الشيخ المطيعي على نهاية السول 4 / 629.(8/73)
الاتجاه الثالث: وهم المانعون:
جاء في سنن البيهقي عن الأوزاعي أن من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام.
وروي عنه أنه قال: يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف، ومن قول أهل المدينة السماع، ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة، ومن قول أهل الكوفة النبيذ. وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قوله: من جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه (1) .
ونقل الزركشي الجزم عن النووي بأنه لا يجوز تتبع الرخص (2) .
هذا مجمل ما قاله العلماء في هذه المسألة. والحق أنه من منعه بإطلاق فيه إجحاف بالفقه الإسلامي وبجهود فقهائه الذين أفنوا أعمارهم بنية صادقة وجهود مخلصة في الوقوف على أسرار التشريع واستخراج عيون المسائل والأحكام من أدلته، كما لا يمكن مجاراة المجوزين بإطلاق؛ فإن في ذلك انحلالاً من ربقة التكاليف ولذلك لابد من القصد في ذلك والتوسط بين الأمرين، فلا يكون التتبع لمجرد التشهي أو التلهي كما نص على ذلك وبين نظام الدين الأنصاري في فواتح الرحموت كعمل حنفي بالشطرنج على رأي الشافعي قصدا إلى اللهو، وكشافعي شرب المثلث للتلهي به، ولعل هذا حرام بالإجماع؛ لأن التلهي حرام بالنصوص القاطعة (3) ، ومثله ما ورد عن الإمام أحمد قوله: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا (4) .
وقال سليمان الثيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.
فعلى هذا ينبغي ألا يؤدي الأخذ بالرخص بحيث يؤدي إلى انحلال الدين، ذلك أن نوادر العلماء كما يقول الشيخ محمد سعيد الباني (5) نوعان:
النوع الأول: الأقوال المرجوحة فهذه يسوغ الترخص بها فيما يظهر عند الضرورات والدواعي الموجبة ويمتنع الأخذ بها على سبيل التشهي والاسترسال مع عواصف الأهواء وتيار الملاذ، لأن ذلك يفضي إلى التلاعب بالدين والخروج من عهدة التكاليف الشرعية.
النوع الثاني: الأقوال الشاذة التي تدعى بزلات العلماء كجواز إعارة الجواري للوطء، وجواز الأكل للصائم في رمضان ما بين الفجر والإسفار، فأمثال هذه الأقوال على فرض صحة نسبتها إلى أصحابها لا يجوز الأخذ بها البتة لأنها من الشواذ المخالفة لأصول الشريعة وقواعدها.
وأفضل بدل إطلاق تتبع الرخص عليها أن نسميها بتتبع زلات العلماء أو هفواتهم حتى تكون عنوانا على ما لا يسوغ الأخذ به فضلا عن تتبعه، والله أعلم.
__________
(1) إرشاد الفحول للشوكاني ص 272.
(2) البحر المحيط 6 / 325.
(3) 2 / 406
(4) إرشاد الفحول للشوكاني ص 272.
(5) عمدة التحقيق ص 120. وينظر أيضا الموسوعة الفقهية مصطلح رخصة 22 / 164.(8/74)
الفصل الخامس
التلفيق ورأي الفقهاء والأصوليين
مسألة التلفيق تعتبر من المسائل التي لم يبدأ الخوض فيها إلا في العصور الإسلامية المتأخرة. وقد ظهرت العناية بها واضحة في نطاق العبادات ومسائل الزواج والطلاق، ثم إنه منذ ظهور الاتجاه إلى تخير الأحكام من المذاهب الفقهية والحاجة تقوى وتشتد في بحث المسألة والاهتمام بها.
والمعنى اللغوي لهذه الكلمة هو: ضم الأشياء والملاءمة بينها لتكون شيئا واحدا أو لتسير على وتيرة واحدة، وإن هذا المعنى لها هو الأكثر استعمالا، وهو مراد الفقهاء والأصوليين عند استعمالهم لها (1) .
ويذكر صاحب عمدة التحقيق تعريفا له بأنه الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد، وذلك بأن يلفق في قضية وحجة بين قولين أو أكثر يتولد منها حقيقة مركبة لا يقول بها أحد، كمن توضأ فمسح بعض شعر رأسه مقلدا للإمام الشافعي، وبعد الوضوء مس أجنبية مقلدا للإمام أبي حنيفة فإن وضوءه على هذه الهيئة حقيقة مركبة لم يقل بها كلا الإمامين، ونحو ذلك من الصور التي لا تحصى، سواء كانت حقائقها مركبة من قولين أو أكثر (2) .
وقريب من هذا التعريف ما ذكرته الموسوعة الفقهية بأن المراد بالتلفيق بين المذاهب أخذ صحة الفعل من مذهبين معا بعد الحكم ببطلانه على كل واحد بمفرده (3) . ويذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى أن التلفيق بالمعنى السابق يمكن حصره في:
1- التلفيق في الاجتهاد.
2- التلفيق في التقليد.
3- التلفيق في التشريع.
ويقصد بالتلفيق في الاجتهاد هو أن يختلف المجتهدون في عصر في مسألة فيكون لهم فيها قولان أو أقوال. ثم يأتي من بعدهم من يجتهد في الموضوع نفسه ويؤدي اجتهاده إلى الأخذ من كل قول ببعضه ويكون مجموع ذلك مذهبه في المسألة المجتهد فيها (4) وهذا النوع من التلفيق تناولته كتب الأصول في مبحث أنواع الإجماع وعنه جملة مسائل نذكر بعضا منها.
__________
(1) أساس البلاغة للزمخشري مادة لفق. الموسوعة الفقهية مصطلح تلفيق 13 / 286.
(2) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ص 91، 92.
(3) الموسوعة الفقهية مادة لفق 13 / 293، 294.
(4) من بحث للمرحوم الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري بعنوان: التلفيق بين أحكام المذاهب مقدم لمجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الأول نشر مقتطفات منه بمجلة الأزهر عدد ذي القعدة سنة 1383 هـ – إبريل سنة 1964 م.(8/75)
المسألة الأولى: إحداث قول ثالث بعد قولين في المسألة، وقريب منها إذا أفتى المجتهدون في عصر بحكم واحد في مسألتين بدون تفصيل فهل يجوز لمن بعدهم أن يفرق بينهما فيه؟ وهي المسألة الثانية.
المسألة الثالثة: إذا اختلف المجتهدون في العصر الواحد في حكم المسألة على قولين فهل يجوز لمن بعدهم الاتفاق على أحد القولين؟ فنتكلم على كل واحدة من هذه المسائل الثلاث بإيجاز:
أما عن المسألة الأولى:
وهو أن يختلف المجتهدون في عصر من العصور في مسألة من المسائل على قولين فهل لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟
اختلف الأصوليون في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
الأول: لا يجوز إحداث قول ثالث مطلقًا وهو الأكثر على ما قاله الإمام الآمدي وقال في التيسير: نص عليه الإمام محمد والشافعي في الرسالة.
الثاني: يجوز مطلقا وهو قول أهل الظاهر وبعض الحنفية.
الثالث: التفصيل وهو إن لم يرفع شيئا مما أجمع عليه القائلان الأولان جاز إحداثه، وإن رفعه فلا يجوز وهو المختار للرازي والبيضاوي والآمدي.(8/76)
مثال ما لا يرفع شيئًا مما أجمع عليه السابقون:
اختلافهم في جواز أكل المذبوح بلا تسمية.
قال بعضهم: يحل مطلقا سواء كان الترك عمدا أو سهوا.
وقال بعضهم: لا يحل مطلقا.
فالتفصيل بين العمد والسهو ليس رافعا لشيء أجمع عليه القائلون بل هو موافق في كل قسم منه لقائل.
ومثال ما يرفع متفقا عليه:
ميراث الجد مع الإخوة، قيل: يرث المال كله، وقيل: يقاسم الإخوة. فالقول بأنه لا يرث أصلاً قول ثالث، وقد رفع ما أجمع عليه أصحاب القولين السابقين.
والخلاف في هذه المسألة يثبت إن كان المجتهدون جميعهم تكلموا في المسألة واختلفوا فيها على قولين كما صرح به الإمام الغزالي في المستصفى، وأما مجرد نقل القولين في عصر من الأعصار فإنه لا يكون مانعا من إحداث القول الثالث، لأنا لا نعلم هل تكلم الجميع فيها أم لا؟
وقد استدل المانعون بأن أهل العصر الواحد حينما يختلفون في المسألة على قولين فقط، يكون ذلك اتفاقا منهم على أنه لا يجوز إحداث قول ثالث فيها، فإحداث قول ثالث يكون مخالفًا لاجتماعهم ومخالفة الإجماع غير جائزة. واستدل المجوزون بأن اختلاف المجتهدين الأولين في المسألة على قولين مشعر بأنها مسألة اجتهادية والمسألة الاجتهادية لا يكلف فيها المجتهد إلا بما وصل إليه اجتهاده.
وإن اختلاف الأولين دليل على عدم الإجماع ومن ثم لا يوجد ما يمنع من الاجتهاد في المسألة.
واستدل المفصلون: بأن القول الثالث إذا كان رافعا لما اتفق عليه الأولون يكون إحداثه مخالفًا للإجماع ومخالفة الإجماع غير جائزة، أما إذا لم يكن رافعا لما اتفق عليه لم يكن فيه مخالفة للإجماع فيجوز إحداث القول الثالث (1) .
قال الإمام الغزالي: إذا اجتمعت الأمة في المسألة على قولين كحكمهم في الجارية المشتراة إذا وطئها المشتري، ثم وجد بها عيبا فقد ذهب بعضهم إلى أنها ترد مع العقر. وذهب بعضهم إلى منع الرد، فلو اتفقوا على هذين المذهبين كان المصير إلى الرد مجانا خرقا للإجماع عند الجماهير إلا عند شذوذ من أهل الظاهر، والشافعي إنما ذهب إلى الرد مجانًا، لأن الصحابة بجملتهم لم يخوضوا في المسألة، وإنما نقل فيها مذهب بعضهم، فلو خاضوا فيها بجملتهم واستقر رأي جميعهم على مذهبين لم يجز إحداث مذهب ثالث (2) .
__________
(1) نهاية السول في شرح منهاج الأصول للإسنوي 3 / 883، 886. البحر المحيط 4 / 540، 542. تيسير التحرير 3 / 250، 252. فواتح الرحموت 2 / 235.
(2) المستصفى 1 / 198، 199.(8/77)
المسألة الثانية:
وهي إذا أفتى المجتهدون في عصر بحكم واحد في مسألتين بدون تفصيل فهل لمن بعدهم أن يفرقوا بينهما؟
مثاله: أن يقول بعضهم بعدم وجوب الزكاة في مال الصبي ولا في الحلي المباح، وأفتى البعض الآخر في العصر نفسه بحكم مخالف لهذا، فقال: تجب الزكاة في مال الصبي والحلي المباح، ولم يعرف من أهل عصرهم من فرق بين المسألتين، فهل يجوز لمن بعدهم أن يفرق بينهما فيه، بأن يقول: تجب الزكاة في مال الصبي ولا تجب في الحلي المباح.
اختلف الأصوليون في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: ومحل النزاع إذا لم ينصوا على عدم الفرق بينهما، فإن نصوا على ذلك فلا خلاف في عدم جواز التفرقة بين المسألتين في الحكم.
القول الأول: يجوز مطلقا اتحد الجامع بين المسألتين أو اختلف.
- الثاني: لا يجوز مطلقا.
- الثالث: تجوز التفرقة عند اختلاف الجامع – ولا تجوز عند اتحاده، وهو اختيار البيضاوي.
مثاله: كتوريث العمة والخالة، فإن علة توريثهما أو عدم توريثهما كونهما من ذوي الأرحام، وكل من ورث واحدة أو منعها قال في الأخرى كذلك، فصار ذلك بمثابة قولهم: لا تفصلوا بينهما، فلا يجوز التفرقة بينهما بأن تورث إحداهما دون الأخرى.
المسألة الثالثة:
إذا اختلف المجتهدون في العصر الواحد في حكم المسألة على قولين، فهل يجوز الاتفاق منهم بعد ذلك على أحد القولين:
اختلفوا فيها فمنهم من جوز الاتفاق بعد الاختلاف وهو اختيار ابن الحاجب والرازي والبيضاوي، ومنهم من منعه وهو اختيار الصيرفي والباقلاني.
وقال إمام الحرمين والآمدي: يجوز إن لم يستقر الخلاف، ولا يجوز عند استقراره (1) .
المسألة الرابعة:
في جواز اتفاق العصر اللاحق على أحد قولين للعصر السابق.
إذا اختلف المجتهدون في عصر واحد على قولين في مسألة فهل يجوز للمجتهدين بعدهم أن يتفقوا على قول واحد من هذين القولين ويكون العمل بالقول الآخر ممتنعا؟
ذهب الآمدي والصيرفي وإمام الحرمين وأحمد بن حنبل إلى المنع، وأجازه الإمام الرازي والبيضاوي وقالا بحجيته إذا وقع.
مثاله: اتفاق التابعين على تحريم بيع أم الولد، بعد اختلاف الصحابة في ذلك.
وتحريم التابعين لنكاح المتعة بعد القول بجوازه من ابن عباس (2) .
وقد استدل كل فريق لما ذهب إليه، ولم يسلم من المناقشة من الفريق الآخر، ومن ثم تميل إلى المطولات لمن أراد المزيد من التفصيل.
__________
(1) تيسير التحرير 3 / 896 – 900.
(2) لم يرتض الإسنوي هذين المثالين فنقل اعتراض الآمدي على المثال الأول حيث أنكر حصول الإجماع من التابعين بشأنه كذلك قال في فواتح الرحموت: وأما إجماعهم على حرمة بيع أم الود فلم يصح فيه ولم ينقل بوجه يقبله العقل وقوانين الصحة. أما المثال الثاني فقد قال الشيخ بخيت المطيعي في حاشيته على سمع الإسنوي على منهاج الأصول 3 / 901. يحتمل أن يكون المراد متعة الحج، أما متعة النساء فلا يصح التمثيل به كما قال الإسنوي.(8/78)
التلفيق في التقليد
مر في الفصل السابق عند الكلام على تتبع الرخص وآراء الفقهاء والأصوليين فيه مجمل آرائهم في هذه المسألة بما لا حاجة لإعادته هنا، ونقتصر هنا على بيان ما لم نذكره هناك:
أ- المقلد إما أن يكون عاميا صرفًا وهذا الصنف من المقلد لا مذهب له، وأن مذهبه في كل نازلة هو مذهب من أفتاه فيها ولكن ليس معنى هذا أنه مسلوب الاختيار معدوم الإرادة، وإنما له مجال لإعمال رأيه بأن يتخير بين المجتهدين أو يتخير من أقوالهم ما يلائمه للعمل بها، وذهب بعضهم إلى أن المجتهد بالنسبة للمقلد بمنزلة الأدلة المعارضة بالنسبة إلى المجتهد فلا يجوز للمقلد العمل بأحد الأقوال بدون ترجيح، كما لا يجوز للمجتهد العمل بأحد الأدلة دون الترجيح (1) وإنما يقصد من عرف علمه وعدالته بأن يراه منتصبًا لذلك والناس متفقون على سؤاله والرجوع إليه، واختلف فيمن جهل حاله. قال الزركشي: وممن حكى الخلاف في استفتاء المجهول: الغزالي والآمدي وابن الحاجب، ونقل في المحصول الاتفاق على المنع فحصل طريقان (2) فلو سأل جماعة فاختلفت فتاويهم فقال قوم: يجب عليه الاجتهاد في أورعهم وأعلمهم، وقال آخرون: لا يجب ذلك ولعل مبنى الخلاف هنا مبني على الخلاف في جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل وهو الأولى بالأخذ وذلك لعموم قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] ولإجماع الصحابة على قبول فتوى المفضول مع وجود الفاضل في الواقع وفي اعتقادهم (3) ومن المسائل التي لها صلة بالتلفيق هو هل يجب على العامي التزام تقليد مذهب معين في كل واقعة؟ ذكر الزركشي ثلاثة مذاهب:
الأول: يلزمه وهو رأي الكيا الهراسي.
والثاني: لا يلزمه ورجحه النووي قال: وهو الصحيح لأن الصحابة رضوان الله عليهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تقليد، وذكر بعض الحنابلة أن هذا مذهب أحمد، وحكى الرافعي عن أبي الفتح الهروي أن مذهب عامة أصحابنا أن العامي لا مذهب له.
والثالث: وهو لابن المنير قال: الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأئمة الأربعة لا قبلهم، والفرق أن الناس كانوا قبل الأئمة الأربعة لم يدونوا مذاهبهم ولا كثرت الوقائع عليهم، أما بعد أن فهمت المذاهب ودونت واشتهرت وعرف المرخص من المشدد في كل واقعة فلا ينتقل المستفتي من مذهب إلى مذهب إلا ركونًا إلى الانحلال والاستسهال (4) .
__________
(1) تيسير التحرير 4 / 252.
(2) البحر المحيط 6 / 309.
(3) نهاية السول للإسنوي 4 / 612، 613.
(4) البحر المحيط 6 / 319، 320.(8/79)
واختلفوا فيمن التزم مذهبا معينا كمالك والشافعي واعتقد رجحانه من حيث الإجمال فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر؟ على ستة مذاهب حكاه الزركشي في البحر (1) أصحها الجواز لأن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين والثالث أنه كالعامي الذي لم يلتزم مذهبا معينا (2) . وقال صاحب تيسير التحرير: بل قيل: لا يصح للعامي مذهب لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر وبصيرة بالمذاهب أو لمن قرأ كتابا في فروع مذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وإلا فمن لم يتأهل لذلك بل قال: أنا حنفي أو شافعي لم يعد من أهل ذلك المذهب بمجرد هذا (3) .
ب- وأما أن يكون ذا نظر وبصر بالمذاهب لم يبلغ به مرتبة الاجتهاد فإن هذا الصنف إذا تمذهب بمذهب إمام معين كان معنى هذا أنه متبع له في المعرفة والاستدلال وفي العمل إذا ما دعت إليه الحاجة، ولا يلزمه ذلك بالتزام هذا المذهب بعينه بل له الانتقال عنه كلية أو في بعض الأحكام، وقد نقل عن كثير من العلماء تحولهم عن المذاهب المقلدين لها إلى الأخذ بغيرها، فليس من واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يثبت أن الله أوجب على أحد من الناس التمذهب بمذهب رجل معين من الأمة بحيث يقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره.
قال الإمام صلاح الدين العلائي: والذي صرح به الفقهاء مشهور في كتبهم جواز الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهبه إذا لم يكن على وجه التتبع للرخص.
وقيل: الملتزم كمن لم يلتزم بمعنى أن عمل بحكم تقليد المجتهد لا يرجع عنه عن ذلك الحكم أما في غير ذلك الحكم فله تقليد غيره من المجتهدين (4) .
ويتخرج على القول بجواز اتباع غير مقلده الأول جواز اتباعه رخص المذاهب وهو ما ألمحنا إليه في الفصل الرابع.
__________
(1) 6 / 320، 321
(2) تيسير التحرير 4 / 253. البحر المحيط 6 / 32.
(3) 4 / 253.
(4) تيسير التحرير 4 / 253، 254.(8/80)
الأخذ بمذهب الصحابة:
ذهب فريق من العلماء إلى أنه ليس لمن جاء بعد عصر الصحابة أن يتعلقوا بمذهب الصحابة، وبنى الإسنوي المنع على جواز الانتقال في المذاهب، والصحيح أن مبناه التدوين وعدمه. ونقل عن إمام الحرمين في البرهان إجماع المحققين على منع العوام أن يتعلقوا بمذهب أعيان الصحابة رضي الله عنهم بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا فنظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل لأنهم أوضحوا طرق النظر وهذبوا المسائل وبينوها جمعوها. وبنى ابن الصلاح على ما قاله إمام الحرمين قوله بوجوب تقليد واحد من الأئمة الأربعة لأن مذاهب هؤلاء الأربعة قد انتشرت وعلم تقييد مطلقها وتخصيص عامها ونشرات فروعها بخلاف مذهب غيرهم.
وفيما قال الاثنان نظر وقد رده جمع من العلماء قال القرافي.
انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء ومن غير حجر، وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر له أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهم من غير نكير، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه البيان. قال صاحب الفواتح: فقد بطل بهذين الإجماعين قول إمام الحرمين، ونقل المطيعي في حاشيته على نهاية السول عن عز الدين بن عبد السلام: أنه لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة بل إن تحقق مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وفاقًا وإلا فلا. وقال أيضًا: إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم يجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله هذا (1) .
وقال الشيخ نجيب المطيعي: الحق، أنه إنما منع من تقليد غيرهم لأنه لم تبق رواية مذاهبهم محفوظة حتى لو وجد رواية صحيحة عن مجتهد آخر يجوز العمل بها، ألا ترى أن المتأخرين أفتوا بتحليف الشهود إقامة له مقام التزكية على مذهب ابن أبي ليلى. ثم قال: وحاصل هذا أنه امتنع تقليد غير هؤلاء الأئمة الأربعة من الصحابة وغيرهم لتعذر نقلب حقيقة مذاهبهم وعدم ثبوته حق الثبوت؛ لا لأنه لا يجوز تقليدهم حتى لو نقل مذهب واحد من المجتهدين غير أولئك الأربعة بطريق صحيح جاز العمل به بلا فرق بين الصحابة وبين غيرهم من سائر المجتهدين.
__________
(1) نهاية السول وحاشية المطيعي 2 / 630. تيسير التحرير 4 / 255، 256.(8/81)
التلفيق في التشريع
ويقصد بالتلفيق في التشريع تخير ولي الأمر من أحكام مختلف المذاهب الفقهية المعتبرة مجموعة من الأحكام لتكون قانونا يقضى ويفتى به بين الناس في إقليم دولته وأول من عزم على وضع قانون شامل من الخلفاء فيما علم كان في زمن الإمام مالك أراد حمل الناس في الآفاق على مذهبه فمنعه مالك واحتج بأن الله فرق العلم في البلاد بتفريق العلماء فيها فلم ير الحجر على الناس (1) حتى كان في زمن العباسيين حملوا الناس على فقه أبي حنيفة في القضاء فكانوا لا يولون القضاء إلا من تفقه على هذا المذهب إلا أنهم كانوا في بعض الأحايين يخالفونه إخمادا لفتنة، كالذي حكاه الماوردي في زمن الرشيد أنه رفع إلى أبي يوسف القاضي مسلم قتل كافرا فحكم عليه بالقود فأتاه رجل برقعة فألقاها إليه فإذا فيها مكتوب.
يا قاتل المسلم بالكافر
فجرت وما العادل كالجائر
يا من ببغداد وأطرافها
من علماء الناس أو شاعر
استرجعوا وابكوا على دينكم
واصطبروا فالأجر للصابر
جار على الدين أبو يوسف
بقتله المؤمن بالكافر
فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر وأقرأه الرقعة فقال له الرشيد: تدارك هذا الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة فخرج أبو يوسف وطالب أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها فلم يأتوا بها فأسقط القود.
وعلق الماوردي على هذه الواقعة: بأن التوصل إلى مثل هذا سائغ عند ظهور المصلحة فيه (2) . ذلك أن القود عند الشافعي مرهون بتكافؤ الدين بأن لا يفضل القاتل على المقتول بحرية ولا إسلام فإن فضل القاتل عليه بأحدهما فقتل حر عبدًا، أو مسلم كافرا فلا قود عليه، وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بهذا التكافؤ فيقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر كما يقتل العبد بالحر والكافر بالمسلم (3) .
ثم قال: وما تتحاماه النفوس من هذا وتأباه قد منع القائلين به من العمل عليه. ومن ثم ساغ القول بأن التلفيق في التشريع قد يكون ضرورة من الضرورات التي لا يستغنى عنها خاصة في عصرنا، وأول عمل من هذا القبيل كان في عهد الأتراك العثمانيين عندما أصدروا المجلة العدلية كقانون للمعاملات في الدولة، وهذه المجلة وإن كان جل موادها مأخوذًا من مذهب أبي حنيفة إلا أنه قد روعي اختيار بعض المسائل وإن كانت مرجوحة في هذا المذهب لمناسبتها روح العصر، مثل عدم رجوع المستصنع في عقد الاستصناع إذا وجد المصنوع موافقا للصفات التي بينت في العقد أخذًا بقول أبي يوسف خلافًا لأبي حنيفة، كذلك الأخذ بقول الإمام محمد بن الحسن بجواز بيع المعدوم كالخضروات والفواكه التي يتلاحق ظهور محصولاتها، فقد جوز بيع هذا استحسانا وقال: اجعل الموجود أصلا والمعدوم تبعًا، وذلك طبقًا لما جاء في المادة السابعة بعد المائتين وكذلك الأخذ بقول الصاحبين في بيع الصبرة كل بكذا فعند أبي حنيفة يصح البيع في مد واحد فقط وعند الصاحبين يصح في جميع الصبرة مهما بلغت.
__________
(1) البحر المحيط 6 / 319.
(2) الأحكام السلطانية ص 288.
(3) الأحكام السلطانية ص 288(8/82)
كذلك أخذ بقولهما في أكثر مدة خيار الشرط، ذلك أن مدة الخيار عند الإمام ثلاثة أيام وعند الصاحبين تكون المدة على قدر ما شرط المتعاقدان من الأيام، ولما كان قولهما أوفق للحال والمصلحة وقع عليه الاختيار كما جاء في المادة الثلاثمائة.
كذلك الحال بالنسبة في خيار النقد أخذ بقول الإمام محمد الذي يقول بصحة تقييدها بأكثر من الثلاثة الأيام مراعاة لمصلحة الناس كما جاء في المادة الثالثة عشر بعد الثلاثمائة. وقد أخذ أيضا بأقوال غير أئمة الحنفية، بل خارج المذاهب الأربعة، فقد أخذ بقول ابن شبرمة في صحة الشروط المتعارفة بين الناس في العقود (1) .
وقد وقع التخيير من أحكام المذاهب الأربعة في مصر 1920م، وصدر القانون رقم 25 سنة 1920 وأخذ فيه برأي محمد في التطليق للعيوب وليس هذا رأيا راجحا في المذهب وأخذ فيه برأي مالك في نفقة المعتدة، وفي التطليق للإعسار، وضرب الأجل لزوجة المفقود لتعتد بعد بعدة وفاة وتتزوج.
وفي الأجل المضروب في القانون للمفقود بجميع أنواعه أخذًا بآراء واردة في مذهب مالك (2) . ثم اتسع نطاقه بعد ذلك حتى شمل مختلف التقنينات ومختلف البلاد الإسلامية.
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الاحكام لعلي حيدر 1 / 10 – 12.
(2) بحوث في التشريع الإسلامي للشيخ محمد مصطفى المراغي ص 39.(8/83)
الفصل السادس
في ترجيح ما هو أحق بالاتباع في العصر الحاضر
أهمية هذا النوع من التلفيق:
إن الزمان تغير تغيرًا عظيمًا وإن الحياة الاجتماعية تطورت تطورًا واسعًا وإن المصالح قد تضاربت وتشابكت وإن الأوضاع المستحدثة قد كان من ورائها مشكلات متكاثرة، هي أحوج ما تكون إلى المواجهة السريعة التي ترعى المصالح أتم رعاية وترفع الحرج وتستنبط الحلول الميسرة في نطاق الفقه الإسلامي.
وإن في الفقه الإسلامي كنوزًا عظيمة ترتفع فوق كل تقويم، وفيه ثروة ضخمة لا تدانيها أي ثروة فقهية أخرى، وفيها الكفاية وما هو فوق الكفاية للوصول إلى شتى المقاصد والغايات إذا أحسن استعمالها، ولن يتم ذلك إذا وقفنا عند أحكام مذهب بعينه، ولن يكون إلا إذا كان التخير من أحكام المذاهب المعتبرة فهذا يحقق المصالح ويهدي إلى الحلول الموفقة وهو في الوقت نفسه يقي الفقه الإسلامي شر المزاحمة العاتية والصراع العنيف مع الشرائع الوضعية، ويحمي الأقطار الإسلامية من الاستعمار التشريعي الذي تغلغل في أحشائها جميعها.
وإن تخير الأحكام على النحو الذي ذكرت يختلف عن التلفيق في التقليد عملا وما ثار حوله من جدل حتى لو قيل إنه منه فإن المسألة خلافية، وليس العمل بقول المانعين أولى من العمل بقول المجوزين ولكل دليله، وإن رعاية المصلحة للأفراد والجماعة المسلمين مطلوبة وفيها الخير كل الخير للإسلام والمسلمين، وإن هذا التخير لا يكون له صفة الإلزام إلا إذا أمر ولي الأمر باتباعه وأمره مرجح قوي، ولذلك وجبت طاعته فيما يأمر به متى كان في صالح الرعية ووفق ضوابطها الشرعية.
والله سبحانه وتعالى أعلم
د. عبد الله محمد عبد الله(8/84)
خلاصة البحث
اشتمل البحث على ستة فصول.
تناولت في الفصل الأول التعريف من حيث اللغة والاصطلاح واشتمل التعريف الاصطلاحي على طائفة من تعريفات الفقهاء والأصوليين وما دار حولها من نقد ومناقشة وأخذت من بينها تعريف الإمام الشاطبي وتعريف الإمام البيضاوي وبين موقف الأصوليين من الرخصة، وهل هي من أقسام الحكم أو من أقسام الفعل، وهل هي من قبيل الحكم التكليفي أو الحكم الوضعي.
وتناولت في الفصل الثاني أنواع الرخصة عند الحنفية وعند غيرهم واتجاهات هؤلاء في التقسيم حيث نظروا في تقسيم الرخصة من حيث الحكم فقسموه إلى الوجوب والندب والإباحة وخلاف الأولى وأضاف بعضهم الحرمة والكراهة واقتصر الشاطبي على الإباحة وبينت وجهة نظره في المراد من الإباحة وأنه لا يقصد إلا أحد معنيي الإباحة وهو رفع الحرج، وقد مثلت لكل قسم.
أما الفصل الثالث فقد تناولت فيه ضوابط الأخذ بالرخصة وبينت القواعد التي بنى عليها الأصوليون والفقهاء وأنها ترجع إلى خمس قواعد تناولتها بالشرح مع التمثيل وأن الأصل فيها كما قرره الشاطبي أن الإنسان فقيه نفسه في الأخذ بالرخصة بقيودها وضوابطها.
وبينت في الفصل الرابع تتبع الرخص وآراء الفقهاء والأصوليين واتجاهاتهم والشروط التي ينبغي تحققها عند الأخذ بالرخص.
وفي الفصل الخامس: وهو الخاص بالتلفيق وقد بينت معناه في اللغة والاصطلاح، واتبعت طريقة بعض الفقهاء المعاصرين الذين قسموه إلى ثلاثة أقسام: الأول التلفيق في الاجتهاد، والثاني: التلفيق في التقليد، والثالث: التلفيق في التشريع، وبينت ما ينطوي عليه كل قسم من مسائل أصولية وفقهية مع التمثيل.
وتناولت في الفصل الأخير في ترجيح ما هو أحق بالاتباع، وأهمية هذا النوع من التلفيق وأنه المناسب حسب ظروف العصر ومقتضياته.(8/85)
الأخذ بالرخصة وحكمه
إعداد
الشيخ خليل محيي الدين الميس
مفتي البقاع ومدير أزهر لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي المصطفى محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
فإن موضوع (الرخص) وبالتالي التقليد، هما من مباحث الاجتهاد عند علماء الأصول، فكما أن الرخص هي الوجه المقابل للعزيمة. فإن التلفيق إحدى مظاهر وصور تتبع الرخص سواء من مسائل المذهب الواحد أو من مذاهب متعددة.
وهنا يصل بنا الكلام إلى الاجتهاد والتقليد وما دام الأمر كذلك فإن نافذة الحوار لم تغلق، كما أن باب الاجتهاد لم ولن يوصد. كيف لا وإن جميع الأئمة الفقهاء كانوا يأمرون أتباعهم بالاجتهاد ويحذرونهم من التقليد.
ولذلك نرى في مذهب الإمام أبي حنيفة قد خالفه أصحابه في العديد من المسائل.
وكان للفقهاء المجتهدين في المذاهب ترجيحات واختيارات أكثر من أن تحصى.
لا تقلدني ولا تقلد مالكا.. كذا قال الإمام الشافعي رضي الله عنه. وإذا كانت الرخصة مشروعة في الكتاب والسنة في مقابل العزيمة.. ففي الوضوء عزيمة ورخصة.. وفي الصلاة عزيمة ورخصة، بل في المحرمات عزيمة ورخصة.. وإذا كانت العزيمة أو الرخصة يلحظ فيها حال المكلف على وجه الانفراد كذلك يمكن النظر إلى مجموع المكلفين في زمن من الأزمان أو مكان من الأمكنة.. وهكذا يطرح الموضوع للنظر وعلى مستوى هذا المجمع الفقهي لينظر علماء الأمة في التماس الحلول المناسبة لمشاكل الأمة والتي ترى نفسها وجهًا لوجه أمام قضايا كبيرة لا بد من التماس الرخصة حينًا والتلفيق أحيانًا.
مثلاً بمناسبة أداء مناسك الحج بالذات يتعذر لمجموع الحجيج أداء النسك على مذهب فقيه واحد. ولكن عندما يطالعنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك المناسبة (لاحرج) لكل من سأله بتقديم الحلق على الذبح، وترخيصه للرعاة والضعفة أن يتقدموا من سواهم بالنسك في طواف الإفاضة؛ نلحظ رفع الحرج حتى في عبادة العمر وهو الحج.. وكذلك الشأن في جمع الصلاة عند من يقول بها من الأئمة في السفر والمطر وغير ذلك أنها رخصة..
فالرخصة يقول بها جميع الفقهاء وإن اختلفت أقوالهم في محالها.. لكنها مجمع على مشروعيتها بالكتاب والسنة.. وهنا يأتي دور التلفيق وإن كان الفقهاء لم يتعاطوا معه بالمرونة التي نراها في الرخصة، بل كانوا أقرب إلى الحذر معه من الإقدام.. وبخاصة الفقهاء الذين لا يقولون أصلا بالتقليد لذلك أسقطوا هذه المسألة كلية من دائرة البحث.. ولكنها لم تسقط.. بل أدرجت كما ذكرنا في نطاق إحداث القول الثالث من مباحث الأصول، وأفتى بمقتضاها الفقهاء المتقدمون منهم والمتأخرون.. ولكل دليل ووجه استدلال.. والله تعالى نسأل التوفيق والسداد في القول والعمل.. عليه توكلنا إنه نعم المولى ونعم النصير.(8/86)
بسم الله الرحمن الرحيم
الرخصة في اللغة: عبارة عن التوسعة واليسر والسهولة.
والرخصة: ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه، والرخصة في الأمر وهو خلاف التشديد ... (1) .
الرخصة في الشريعة: أورد الأصوليون غير تعريف لها: منها: هي اسم لما تغير عن الأمر الأصلي لعارض، إلى تخفيف وتيسير ترفيهًا وتوسعة على أصحاب الأعذار.. (2) .
وقيل: هي ما بني أعذار العباد، أي ما استبيح للعذر مع قيام الدليل المحرم (3) .
وعرفها الشافعية بقولهم: هي الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر (4) . وقيل: هي اسم لما شرع من الأحكام متعلقا بالعوارض.
وقال صاحب التحرير: فالرخصة بهذا الاعتبار: ما شرع لعذر شاق، أو استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة.
فكونه مشروعًا لعذر: الخاصية التي ذكرها علماء الأصول.
وكونه شاقًّا: فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودة فلا يسمى ذلك رخصة شرعية، كالقراض والمساقاة، ونخلص من ذلك كله إلى القول:
بأن الشريعة جاءت من حيث الأمر والنهي – على مرتبتي تخفيف وتشديد، لا على مرتبة واحدة؛ لأن جميع المكلفين لا يخرجون عن قسمين قوي وضعيف، من حيث إيمانه أو جسمه في كل عصر ومكان.
فمن قوي منهم من حيث إيمانه وجسمه خوطب بالتشديد والأخذ بالعزائم.
ومن ضعف منهم خوطب التخفيف والأخذ بالرخص. وكل منهما حينئذ على شريعة من ربه وتبيان.
فلا يؤمر القوي بالنزول إلى الرخصة، ولا يكلف الضعيف بالصعود للعزيمة، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] خطابًا عامًّا، وقال صلى الله عليه وسلم ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) أي كذلك، فلا يؤمر القوي المذكور بالنزول إلى مرتبة الرخصة والتخفيف وهو يقدر على العمل بالعزيمة والتشديد لأن ذلك كالتلاعب بالدين.
وكذلك لا يكلف الضعيف المذكور بالصعود إلى مرتبة العزيمة والتشديد والعمل بذلك مع عجزه، ولكن لو تكلف وفعل ذلك لا نمنعه إلا بوجه شرعي.
فليس لمن قدر على استعمال الماء حسا أو شرعًا أن يتيمم بالتراب، وليس لمن قدر على القيام بالفريضة أن يصلي جالسًا، وليس لمن قدر على الصلاة جالسًا أن يصلي على جنب وهكذا في سائر الواجبات.
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب 8 / 306، فصل الراء. باب الصاد.
(2) السمرقندي: ميزان الأصول (ص 55) .
(3) السرخسي: أصول 2 / 117، والنسفي: كشف الأسرار 1 / 448.
(4) الغزالي: المستصفى 1 / 98. والآمدي: الأحكام 1 / 68.(8/87)
وليس من الأدب أن يفعل المفضول مع قدرته على الأفضل فيقدم الأفضل على المفضول ندبًا مع القدرة، ويقدم الأولى شرعًا على خلاف الأولى، وإن جاز ترك الأفضل والمفضول أصالة.
ومن المعلوم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الناس على قدر عقولهم ومقامهم في حضرة الإسلام أو الإيمان أو الإحسان.))
تأمل قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وخطابه صلى الله عليه وسلم للأكابر مع خطابه لأجلاف العرب، وأين مقام من بايعه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والمعسر والميسر ... فمن طلب أن يبايعه صلى الله عليه وسلم على صلاة الصبح والعصر فقط دون غيرهما من الصلوات ودون الزكاة والحج والصيام والجهاد وغيرها.
وقد تبع الأئمة المجتهدون ومقلدوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك.. فما وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شدد فيه عادة شددوا فيه أمرًا كان أو نهيًا، وما وجدوه خفف خففوا فيه.
وإنما تكون الرخصة للعاجز عن فعل العزيمة - بل وتكون الرخصة في حقه عزيمة وعلى كل مقلد أن لا يعمل برخصة قال بها إمام مذهبه إلا إذا كان من أهلها وإن ذلك من فعل الرخصة بشرطها، أو المفضول بشرطه فهو على هدى من ربه في ذلك ولو لم يقل به إمامه (1) .
وقال بدر الدين الزركشي في آخر كتابه القواعد: الأخذ بالرخص والعزائم في محل كل منها مطلوب راجح.
فإذا قصد المكلف بفعل الرخصة قبول فضل الله تعالى عليه كان أفضل، كما أشار إليه الحديث الصحيح: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (2) .
__________
(1) الشعراني: الميزان الكبرى 1 / 7 – 16 بتصرف.
(2) هذا الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس.. الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 3 / 341.(8/88)
فإذا ثبت هذا الأصل فليعلم أن مطلوب الشرع الوفاق ورد الخلاف إليه ما أمكن كما عليه عمل الأئمة من أهل الورع والتقوى كأبي محمد الجويني وأضرابه.. فإنه صنف كتابه (المحيط) ولم يلتزم فيه المشي على مذهب معين، قال: وذلك في حق أهل الورع والتقوى من باب العزائم، كما أن العمل بالمختلف فيه عندهم من باب الرخص.
فإذا وقع العبد في أمر ضروري وأمكنه الأخذ فيه بالعزيمة فله فعل ذلك وله تركه، وكان ذلك الفعل الشديد من باب القوة والأخذ بالعزائم إن كان راجحًا.
ون لم يمكنه الأخذ فيه بالعزيمة أخذ بالرخصة، كما أن له الأخذ بالقول الضعيف في بعض المواطن فلا يكون ذلك من باب المخالفة المحضة. إذا علمت هذا، فحينئذ تعرف أن أحدًا من الأئمة الأربعة أو غيرهم لم يتقلد أمر المسلمين في القول برخصة أو عزيمة إلا على حد ما ذكرنا من هذه القاعدة، فينبغي لكل مقلد للأئمة أن يعرف مقاصدهم (1) .
هذا وكان يفتي الناس بالمذاهب الأربعة كل من الشيخ الإمام الفقيه المحدث المفسر الأصولي الشيخ عبد العزيز الديراني صاحب كتاب: الدرر الملتقطة في المسائل المختلطة وشيخ الإسلام عز الدين ابن جماعة المقدسي، والشيخ العلامة الشيخ شهاب الدين البرلسي الشهير بابن الأقيطع، رحمهم الله، والشيخ على النبتيتي الضرير.
ونقل الشيخ الجلال السيوطي رحمه الله عن جماعة كثيرة من العلماء أنهم كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لاسيما العوام الذين لا يتقيدون بمذهب ولا يعرفون قواعده ونصوصه، ويقولون حيث وافق فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به (2) .
وعقب الشعراني على ذلك بالقول: كانوا – أولئك العلماء – يأمرون قويا برخصة، لا ضعيفا بعزيمة.
وإن الشيخ عز الدين بن جماعة كان إذا أفتى عاميًّا بحكم على مذهب إمام يأمره بفعل جميع شروط ذلك الإمام الذي أفتاه بقوله ويقول له: إن تركت شرطًا من شروطه لم تصح عبادتك على مذهبه ولا غيره. إذ الملفقة من عدة مذاهب لا تصح إلا إذا جمعت شروط تلك المذاهب كلها. وذلك منه احتياطًا للدين وخوفًا من أن يتسبب في نقض عبادة أحد من المسلمين.
ومن حسن القول ما جاء في الميزان: ... تفتي كل أحد بما يناسب حاله ولو لم تفعل أنت به كذلك لأنه هو الذي خوطبت فيه فاعلم ذلك واعمل عليه.. وأفت غيرك بما هو أهله. فليس لمن قدر على سهولة الطهارة أن يمس فرجه إذا كان شافعيا ويصلي بلا تجديد طهارة تقليدًا لأبي حنيفة – كما أنه ليس له أن يصلي فرضًا أو نفلاً بغير فاتحة الكتاب مع قدرته عليها، أو أن يصلي بالذكر مع قدرته على القرآن (3) .
__________
(1) الزركشي: المنثور في القواعد 3 / 396.
(2) الشعراني: الميزان الكبرى 1 / 17.
(3) الشعراني: الميزان الكبرى 1 / 18.(8/89)
أنواع الرخص
لما كانت الرخص مبنية على أعذار العباد، وأعذارهم مختلفة؛ اختلفت أنواع الرخص فانقسمت على أنواع أربعة.
نوعان من الحقيقة، أحدهما أحق من الآخر.
ونوعان من المجاز أحدهما أتم من الآخر.
منشأ هذا التقسيم وحقيقته: لما كانت الرخصة ما تغير من عسر إلى يسر بعارض عذر، والرخصة الحقيقية هي التي تبقى عزيمته معموله. فكلما كانت العزيمة ثابتة، كانت الرخصة أيضا في مقابلتها حقيقة من جميع الوجوه.
أما النوع الأول: وهو أحق نوعي الحقيقة: فهو ما استبيح مع قيام السبب المحرم وقيام حكمه جميعا وهو الحرمة، أي عومل معاملة المباح، لأن الحرمة لما كانت قائمة مع سببها ومع ذلك شرع للمكلف الإقدام عليه من غير مؤاخذة في الدار الآخرة – بناء على عذره – كان في أعلى درجات الرخص، لأن كمال الرخصة بكمال العزيمة.
مثاله: الترخص بإجراء كلمة الكفر على اللسان بعذر الإكراه التام مع قيام التصديق بالقلب.
حكمه: الأخذ بالعزيمة (في الصبر) والامتناع عن الكفر حتى يقتل أولى؛ لأن حرمة الكفر والتكلم به لا تحتمل الإباحة بحال. ويكون شهيدًا، هذا أبيح لمن خاف التلف على نفسه عند الإكراه إجراء كلمة الكفر على لسانه رخصة له.
وجه المسألة: لأن في الامتناع حتى يقتل تلف نفسه صورة بتخريب البنية، ومعنى بزهوق الروح؛ فكان الامتناع عزيمة، لأن الممتنع مطيع ربه مظهر للصلابة في الدين وما ينقطع عنه طمع المشركين وهو جهاد يكون أفضل. والمترخص بإجراء كلمة الكفر يعمل لنفسه من حيث السعي في دفع سبب الهلاك عنها فهذه رخصة له – إن أقدم عليها لم يأثم، والأول عزيمة حتى إذا صبر حتى قتل كان مأجورا (1) .
النوع الثاني: (من نوعي الحقيقة) هو ما استبيح بعذر مع قيام السبب المحرم موجبا لحكمه وهو الحرمة، غير أن الحكم متراخ عن السبب لمانع اتصل بالسبب فمنعه من أن يعمل عمله.
فمن حيث إن السبب الموجب قائم كانت الرخصة حقيقة، والاستباحة ترخصا للعذر.
__________
(1) السرخسي: الأصول 1 / 118.(8/90)
ومن حيث إن الحكم متراخ عن السبب غير ثابت في الحال كان غيره أحق فكان هذا القسم دون الأول، فإن كمال الرخصة يبتنى على كمال العزيمة، فإذا كان الحكم ثابتًا مع السبب كان في العزيمة أقوى مما إذا كان الحكم متراخيًا عن السبب.
بمنزلة البيع بشرط الخيار مع البيع البات، والبيع بثمن مؤجل مع البيع بثمن حالٍّ، فإن الحكم وهو الملك في المبيع، والمطالبة بالثمن ثابت في البيع البات المطلق، ولكن الحكم متراخ عن السبب في البيع بشرط الخيار أو الأجل.
وبيان هذا النوع في الصوم في شهر رمضان للمسافر والمريض.
فإن السبب الموجب شرعًا وهو شهود الشهر قائم، ولذا لو أديا كان المؤدى فرضا – لكن الحكم متراخ إلى إدراك عدة من أيام أخر، ولهذا لو ماتا قبل الإدارك لم يلزمهما شيء، ولو كان الوجوب ثابتا للزمهما الأمر بالفدية عنهما، لأن ترك الواجب بعذر يرفع الإثم ولكن لا يسقط الخلف وهو القضاء أو الفدية (1) .
والتعجيل بعد تمام السبب مع تراخي الحكم صحيح كتعجيل الدين المؤجل.
حكم هذا النوع: أن الأخذ بالعزيمة أولى لكمال سببه وهو شهود الشهر ولتردد في الرخصة، حتى صارت العزيمة تؤدي معنى الرخصة من وجه، إذ الرخصة لليسر، والصوم في السفر يسر من وجه لأجل موافقة المسلمين وشركته مع سائر الناس يصومون.
أما إذا أضعفه الصوم فحينئذ الفطر أولى بالاتفاق.
وأما النوع الثالث: وهو أتم نوعي المجاز، فما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وقال تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] .
فإن ذلك يسمى رخصة مجازًا لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعًا فلم يكن رخصة إلا مجازًا من حيث هو فسخ لمحض تخفيفًا.
وذلك لما وجبت على غيرنا فإذا قابلنا أنفسنا بهم كان السقوط في حقنا توسعة وتخفيفًا، فحسن إطلاق الرخصة عليه باعتبار الصورة تجوزًا لا تحقيقًا، لأن السبب الموجب للحرمة مع الحكم معدوم أصلاً بالرفع والفسخ والإيجاب على غيرنا لا يكون تضييقا في حقنا، والرخصة فسحة في مقابل التضييق.
__________
(1) السرخسي 1 / 118، والبزدوي 2 / 586، وكشف الأسرار على المنار 1 / 466، والميزان للسمرقندي (ص 86) .(8/91)
أما النوع الرابع: فما سقط عن العباد مع كونه مشروعا في الجملة.
أي في بعض المواضع سوى موضع الرخصة.
فمن حيث إنه لم يبق في موضع الرخصة أصلاً كان من قسم المجاز.
ومن حيث إنه بقي في موضع آخر ... أي بقي السبب والحكم مشروعًا في الجملة. أخذ شبهًا في الحقيقة فضعف وجه المجاز فكان دون القسم الثالث، ولكن جهة المجاز غالبة على شبه الحقيقة لأن جهة المجاز بالنظر إلى محل الرخصة – وشبه الحقيقة بالنظر إلى غير محلها فكان جهة المجاز أقوى.
وبيان هذا النوع في فصول: منها السلم: روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان حيث قال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (1) ورخص بالسلم. والسلم نوع بيع واشتراط العينية في المبيع المشروع قائم في الجملة ثم سقط هذا الشرط في السلم أصلاً حتى كانت العينية في المسلم فيه مفسدة للعقد لا مصححة، وكان سقوط هذا الشرط للتيسير على المحتاجين حتى يتوصلوا إلى مقاصدهم من الأثمان قبل إدراك غلاتهم، ويتوصل صاحب الدراهم إلى مقصوده من الربح فكانت رخصة من حيث إخراج السبب من أن يكون موجبًا اعتبارا العينية فيه مع بقاء هذا النوع من السبب موجبًا له في الجملة. وكذلك المسح على الخفين رخصة مشروعة لليسر، وكذلك المكره على شرب الخمر أو الميتة أو المضطر إليهما رخصة مجازًا لأن الحرمة ساقطة، حتى إذا صبر حتى مات صار آثما لأن حرمته ما ثبتت إلا صيانة لعقله ودينه عن فساد الخمر ونفسه عن الميتة فإذا خاف به فوات نفسه لم يستقم صيانة البعض بفوات الكل فسقط المحرم وكان إسقاطا لحرمته (2) .
ومن ذلك قصر الصلاة في السفر، إنه رخصة إسقاطًا لا يصح أداؤه من المسافر وإنما جعلناها إسقاطًا استدلالاً بدليل الرخصة ومعناها.
أما الدليل: فما روي عن عمر رضي الله عنه قال: أنقصر ونحن آمنون؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) ، سماه صدقة والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد وإن كان المتصدق ممن لا يلزم طاعته كولي القصاص إذا عفا فممن تلزم طاعته أولى.
__________
(1) رواه الترمذي في البيوع باب الكراهية 3 / 534 رقم 1232، وأبو داود في الإجارة باب الرجل يبيع ما ليس عنده 3 / 281 رقم 3513، وابن ماجه في التجارات. وغيرهم.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 176، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 54، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 128، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 294.(8/92)
وأما المعنى فوجهان:
أحدهما: أن الرخصة لليسر وقد تعين اليسر في القصر بيقين فلا يبقى الإكمال إلا مؤنة محضة ليس فيها فضل ثواب، لأن الثواب في أداء ما عليه، فالقصر مؤنة السفر من الإكمال، كقصر الجمعة مع إكمال الظهر، فوجب القول بالسقوط أصلاً.
الثاني: أن التخيير إذا لم يتضمن رفقًا كان ربوبية، وإنما للعباد اختيار الأرفق فإذا لم يتضمن رفقا كان ربوبية ولا شركة له فيها (1) .
وجاء في المنثور في القواعد للزركشي:
تنقسم الرخص إلى أقسام:
أحدها – رخصة واجبة:
كحل الميتة للمضطر، وقيل: لا يجب الأكل بل له الصبر حتى الموت.
قال (الكيا الهراسي) الطبري في أحكام القرآن: الصحيح عندنا أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، كالإفطار في رمضان للمريض (أحكام القرآن 1 / 74) وكذلك إساغه اللقمة بالخمر إن لم يجد غيرها.
ومنه: استدامة لبس الخف إن لم يجد من الماء ما يكفيه، كما لو كان المحدث لابس خف بشرائطه ودخل وقت الصلاة ووجد من الماء ما يكفيه لو مسح على الخف، ولا يكفيه لو غسل رجليه فإنه يجب عليه المسح على الخف قطعًا – كما نقله صاحب البحر في باب التيمم – لأنه قادر على الطهارة من غير حذر..
ومنه التيمم لفقد الماء أو للخوف من استعماله إذا جعلناه رخصة، وهو ما أورده الإمام والرافعي.
والثاني: أنه عزيمة وهو ما أورده البندنبجي.
والثالث: التفصيل بين التيمم لعدم الماء فعزيمة، أو للمريض، أو بعد الماء عنه أو بيعه بأكثر من الثمن فرخصة وهو ما أورده الغزالي في المستصفى..
الثاني – رخصة فعلها أفضل:
وقال النووي: مستحبة: كقصر الصلاة في السفر، والفطر لمن شق عليه الصوم. وعد بعضهم منه مسح الرأس في الوضوء أفضل في الغسل مع أنه رخصة.
وعد النووي منه – في كتاب الأصول والضوابط – الإبراد بالظهر في شدة الحر.
__________
(1) البزدوي: كشف الأسرار 2 / 596.(8/93)
الثالث – رخصة تركها أفضل:
كالمسح على الخف، والتيمم لمن وجد الماء يباح بأكثر من ثمن المثل وهو قادر عليه.
والفطر لمن لم يتضرر بالصوم.
وعد المتولي والغزالي من هذا – الجمع بين الصلاتين في السفر للخروج من الخلاف، فإن أبا حنيفة رحمه الله يوجب القصر ولا يوجب الجمع إلا بعرفة والمزدلفة.
قال الإمام الغزالي: وفرقوا بوجهين:
أحدهما: أن في القصر خروجًا من الخلاف، وفي ترك الجمع خروجًا من الخلاف أيضًا.
فإن أبا حنيفة وآخرين يوجبون القصر، ويبطلون الجمع.
والثاني: أن الجمع يلزم منه إخلاء لوقت العبادة الأصلي عن العبادة - بخلاف القصر.
قالوا: والأحاديث الواردة في الجمع ليست نصوصًا في الاستحباب بل فيها ما يجوز فعله، ولا يلزم منه الاستحباب. اهـ
كيف ومتى يؤخذ بالرخص:
لما كانت الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يجد فيها حدًّا شرعيًّا فيتوقف إذ ذاك عنده.
بيانه: تقرر أن سبب الرخصة المشقة، هذا والمشاق تختلف بالقوة والضعف وبحسب الأحوال، وبحسب قوة العزائم وضعفها، كما تختلف بحسب الأزمان وبحسب الأعمال.
مثلاً: إن سفر الإنسان راكبًا مسيرة يوم وليلة في رفقة مأمونة وأرض مأمونة، وعلى بطء وفي زمن الشتاء وقصر الأيام – ليس كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر.(8/94)
وليس للمشقة – المعتبرة في التحقيقات – ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد وفي جميع الناس، لذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة – فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة – وترك كل مكلف على ما يجد أي إن كان قصر أو أفطر في السفر.
وترك كثيرًا منها موكولاً إلى الاجتهاد كالمرض، فكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر – فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر. وبذلك يتحقق المبدأ بأن الرخص إضافية لا أصلية (1) .
سؤال: هل الإباحة المنسوبة إلى الرخصة – هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج، أم من قبيل الإباحة بمعني التخيير بين الفعل والترك.
الجواب: الظاهر من نصوص الرخص، في الكتاب والسنة أن الإباحة بمعنى رفع الحرج، لا بالمعنى الآخر.. كما يظهر من قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] نلاحظ أنه لم يذكر في ذلك بأن له الفعل والترك – إنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم.
وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106] . فالتقدير: أن من أكره فلا غضب عليه، ولا عذاب يلحقه إن تكلم بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولم يقل: فله أن ينطق، أو إن شاء فلينطق – وفي الحديث: أكذب امرأتي؟ قال: (( ((لاخير في الكذب)) )) . قال: أفأعدها وأقول لها؟ قال: لا جناح عليك. ولم يقل له نعم ولا افعل إن شئت.
ويبتنى على ذلك: أن المترخص بالعذر يرفع عنه الإثم باختياره بانتقاله من العزيمة إلى الرخصة (2) .
__________
(1) الموافقات 1 / 315.
(2) الموافقات 1 / 319.(8/95)
الترخص المشروع
الترخص المشروع ضربان:
أحدهما: أن يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها (طبعًا أو شرعًا) .
أما طبعًا: كالمرض الذي يعجز معه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها مثلا، أو عن الصوم لفوت النفس.
وأما شرعًا: كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على الحضور في الصلاة أو على إتمام أركانها.
الثاني: أن يكون الترخص في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها وأمثلته ظاهرة:
فأما الأول فهو راجع إلى حق الله تعالى والترخص فيه مطلوب ومن هنا جاء قوله صلى الله عليه وسلم ((ليس من البر الصيام في السفر)) وكذلك النهي عن الصلاة بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان، قال صلى الله عليه وسلم ((إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء)) أخرجه في التفسير عن الشيخين. وفي رواية أخرى عن الستة إلا النسائي ((إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء)) والرخصة هنا جارية مجرى العزائم (1) .
وأما الثاني فراجع إلى حظوظ العباد لينالوا من رفق الله وتيسيره بحظ ولو لم يكن فيه مشقة كالجمع بعرفة والمزدلفة.
هذا: وإن كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجًا، فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء، كما جاء في الرخص شرعية المخرج من المشاق، فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك على الوجه الذي شرع له كان متمثلاً لأمر الشارع، وإن لم يفعل خالف قصد الشارع وسد أبواب التيسير عليه. والشارع جاء بالشريعة لمصالح العباد، والمكلف في طلب التخفيف مأمور أن يطلبه من وجهه المشروع، ويكفيه في حصول التخفيف طلبه من وجهه والقصد إلى ذلك يمن وبركة، هذا وإن طالب المخرج من وجهه طالب لما ضمن له الشارع النجاح فيه، والرجوع إلى الوجه الذي وصفه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة والتخفيف على الكمال (2) .
__________
(1) الموافقات 1 / 321.
(2) الشاطبي: الموافقات 1 / 366.(8/96)
تتبع الرخص
إن هذه المسألة تتخرج على أصل واحد وهو:
جواز الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهب إمامه الذي يقلد مذهبه.
أي أخذه من كل مذهب ما هو الأهون عليه فيما يقع من المسائل ولا يمنع منه مانع شرعي، إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، وذلك أن يأخذ بقول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، وما علمت من الشرع من ذمة عليه. ((لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحب ما خفف على أمته)) (1) .
قلت: بل إن تتبع الرخص يتفرع على أصلين في مسائل الأصول وهما:
(1) التلفيق بين المذاهب.
(2) هل يصح للعامي مذهب ولو تمذهب؟.
أما قضية التلفيق بين المذاهب فقد أفردت بالبحث، لذلك ينبغي أن نقدم لمسألة تتبع الرخص بمبحث تحت عنوان:
هل يجب الالتزام بمذهب معين أم لا؟
وهل يجوز للعامي أن يقلد غير إمامه أم لا؟
قال فقهاء الحنفية:
قال ابن أمير حاج (879) في التقرير على التحرير.
قد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بوجوب الالتزام بمذهب معين، بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به، لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال ونظر بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتابا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله. وأما من لم يتأهل لذلك البتة بل قال: أنا حنفي أو شافعي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد هذا القول.
يوضحه: أن قائله يزعم أنه متبع لذلك الإمام، سالك طريقه في العلم والاستدلال؛ فأما مع جهله وبعده جدا عن سيرة الإمام وعمله بطريقته فكيف يصح الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة، والقول الفارغ من المعنى (2) .
وقال الإمام صلاح الدين العلائي:
والذي صرح به الفقهاء مشهور في كتبهم: جواز الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهبه إذا لم يكن على وجه متبع الرخص (3) .
__________
(1) الكمال بن الهمام: التحرير 3 / 350.
(2) ابن أمير حاج: التقرير على التحرير 3 / 351.
(3) أمير باد شاه: تيسير التحرير 4 / 253.(8/97)
مذهب الحنابلة
هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء؟
إن كان العامي منتسبًا إلى مذهب معين انبنى على أن العامي هل له مذهب؟ فيه وجهان: حكاهما أبو الحسين:
أحدهما: لا، فله أن يستفتي من شاء من أهل المذاهب.
والثاني: وهو أصح عند القفال والمروزي – له مذهب فلا يجوز له إن كان شافعيًا أن يستفتي حنفيًا، ولا يخالف إمامه.
قال أبو عمر: إن المفتي المنتسب لا يجوز له مخالفة إمامه، وإن لم يكن قد انتسب إلى مذهب معين – انبنى على أنه هل يلزمه التمذهب بمذهب معين؟ فيه وجهان ذكرهما ابن برهان.
- أحدهما: لا يلزمه ذلك.
- والثاني: يلزمه ذلك.
ذهب بعض علماء الحنابلة وبعض الشافعية إلى أن العامي إذا انتحل مذهبًا لا يجوز له الانتقال عنه في سائر الأشياء.
والذي عليه الجمهور (منا أي فقهاء الحنابلة) ومن سائر العلماء أن العامة أي الأقاويل أخذوا فلا حرج في ذلك.(8/98)
الشافعية
ومن قلد إماما من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك؟
فيه خلاف، والمختار التفصيل.
فإن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض فيه الحكم فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه، فإنه لم يجب نقضه إلا لبطلانه.
فإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال، لأن الناس لم يزالوا من زمن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره، ولو كان ذلك باطلاً لأنكروه.
وكذلك لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى، لأنه لو وجب تقليده لما قلد الناس الفاضل والمفضول في زمن الصحابة والتابعين من غير نكير، بل كانوا مسترسلين في تقليد الفاضل والأفضل، ولم يكن الأفضل يدعو الكل إلى تقليد نفسه، ولا المفضول يمنع من سأله عن وجود الفاضل، وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل (1) .
ونقل الشيخ عليش عن العز بن عبد السلام قال:
وللعامي أن يعمل برخص المذاهب، وإنكار ذلك جهل ممن أنكره. لأن الأخذ بالرخص محبوب، ودين الله يسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج (2) .
وقال العز بن عبد السلام في فتاويه: لا يتعين على العامي إذا قلد إمامًا في مسألة أن يقلده في سائر مسائل الخلاف، لأن الناس من لدن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب يسألون فيما يسنح لهم العلماء المختلفين من غير نكير سواء تتبع الرخص في ذلك أو العزائم ...
وأما ما حكاه بعضهم عن ابن حزم من حكايته الإجماع على منع تتبع الرخص من المذاهب فلعله محمول على تتبعها من غير تقليد لمن قال بها، أو على الرخص المركبة في الفعل الواحد، نقله عن السيد السمهودي.
فيؤخذ من مجموع ما ذكرناه: جواز التقليد وجواز تتبع الرخص، لا على الإطلاق بل لابد من مراعاة ما اعتبره المجتهد في المسألة التي وقع التقليد فيها بما يتوقف على صحتها كي لا يقع في حكم مركب من اجتهادين، كما إذا توضأ ومسح بعض الرأس على مذهب الشافعي ثم صلى بعد لمس مجرد عن الشهوة عند مالك على عدم النقض – وهذا عمل من منع التلفيق في التقليد. فإن معناها التلفيق في أجزاء الحكم لا في جزئيات المسائل فإنه جائز (3) .
__________
(1) العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام 2 / 135.
(2) فتاوى الشيخ عليش 1 / 78.
(3) السبكي: جمع الجوامع 2 / 442.(8/99)
قال الإمام النووي في المجموع:
مسألة: هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء؟ قال القاضي حسين في العامي المنتسب إلى مذهب هل له مذهب أم لا؟ في المسألة قولان:
أحدهما: لا مذهب له، لأن المذهب لعارف الأدلة؛ فعلى هذا: له أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما.
والثاني: وهو الأصح عند القفال: له مذهب فلا يجوز له مخالفته..
وهنا سؤال طرحه العلماء وأجابوا عليه: في أن العامي هل يلزمه أن يمتذهب بمذهب معين يأخذ برخصه وعزائمه؟
قولان للعلماء:
أحدهما: لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأول أن يخص بتقليده علما يعينه. فعلى هذا: هل له أن يستفتي من شاء؟ أم يجب عليه البحث عن أشد المذاهب وأصحها أصلاً ليقلد أهله؟ فيه وجهان..
الثاني: يلزم العامي أن يمتذهب معين وبه قطع أبو الحسن الكيا (الهراسي) وهذا الحكم جار أيضا في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء ...
وجه هذا القول: أنه لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا هواه، ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز.
ثم أشار إلى المحظور المترتب على ذلك بقوله: وذلك يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف ...(8/100)
ثم سارع إلى بيان الفرق بين عصر المؤلف وعصر الصحابة والتابعين حيث لا تمذهب إذ ذاك بقوله:
بخلاف العصر الأول، فإنه لم تكن المذاهب وافية بأحكام الحوادث مهذبة.. وعرفت (1) .
وقال السيوطي: الأصح جواز الانتقال مطلقا فيما عمل به وفيما لم يعمل به.
كذا صححه الرافعي لكن بشرط عدم تتبع الرخص.
فمقلد الشافعي إذا غسل نجاسة الكلب على مذهبه وأراد بعد ذلك أن ينتقل ويقلد غيره فيها فله ذلك، لكن بشرط مراعاة ذلك المذهب في جميع شروط الطهارة والصلاة من مسح كل الرأس أو الربع، والدلك ومراعاة الترتيب في قضاء الصلوات، فإن أخل بشيء من ذلك كانت صلاته باطلة باتفاق المذهب (2) .
الجواب: إن هذا الاعتراض مندفع لعدم اتحاد المسألة، لأن الإجماع على نفي القول الثالث إنما يكون إذا اتحدت المسألة حقيقة أو حكمًا، ولأنه لو تم لزم استفتاء مفت بعينه وإلا احتمل الوقوع فيما ذكر، هذا والله أعلم بحقيقة الحال (3) .
المالكية
وقيد القرافي المالكي في شرح المحصول: جواز تقليد العامي غير إمامه، بأن لا يترتب على تقليده ما يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه.
صورته: من قلد الشافعي في عدم فرضية دلك الأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل – وقلد مالكا في عدم نقض اللمس بلا شهوة – فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى.
الحكم: إن كان الوضوء بدلك صحت صلاته عند مالك.
وإن كان الوضوء بلا دلك بطلت صلاته عند كل من مالك والشافعي (4) .
__________
(1) النووي: المجموع 1 / 91.
(2) السيوطي: الحاوي 1 / 296.
(3) مسلم الثبوت (ص 356) .
(4) الإسنوي، بهامش التقرير 3 / 350.(8/101)
القائلون بجواز تتبع الرخص
قال الكمال بن الهمام:
لا يمنع مانع شرعي من جواز اتباع المقلد رخص المذاهب، بأن يأخذ من كل منها ما هو الأهون عليه فيما يقع من المسائل، إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان إليه سبيل بأن لم يكن عمل بآخر فيه.
والغالب أن مثل هذه الإلزامات من الفقهاء لكف الناس عن تتبع الرخص وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه.
وقال ابن أمير حاج معلقا: وأنا لا أدري ما يمنع هذا من العقل والسمع وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد – ما علمت من الشرع ذمه عليه.
واستدل ابن الهمام بقوله: ((كان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عليهم – أي عن أمته.))
مقالة ابن عبد البر والرد عليها: قال ابن أمير حاج:
قلت لكن ما عند ابن عبد البر: من أنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا – إن صح احتاج إلى جواب.
ويمكن أن يقال: لا نسلم صحة دعوى الإجماع.
نقول ... لماذا؟ بل ما يترتب على صحتها.. يجب: إذ في تفسيق المتتبع للرخص عند الإمام أحمد روايتان.
قلت: ولا يخفى أن دعوى الإجماع بعد مقالة الإمام أحمد لا تصح..
وهنا يورد ابن أمير حاج: أن القاضي أبا يعلى حمل الرواية المفسقة على غير متأول.
وذكر بعض الحنابلة: إن كان قوي الدليل، أو كان عاميا لا يفسق.
ثم استدل ابن أمير حاج بما ورد عن الإمام النووي الشافعي في الروضة قال: وفي روضة النووي (الشافعي) وأصلها – أي تلك الرواية – عن حكاية الحناطي وغيره عن أبن أبي هريرة: أنه – أي متتبع الرخص – لا يفسق به.(8/102)
ثم لعله محمول على ما يجتمع له من ذلك ما لم يقل بمجموعه مجتهد.
ثم قال الكمال بن الهمام: قيد جواز تقليد غير إمامه متأخر – وهو العلامة القرافي المالكي – بأن لا يترتب على تقليد غيره ما يجتمع على بطلانه كلا الإمامين.
وصورته: من قلد الشافعي في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء بالغسل وقلد مالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة للوضوء فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى: إن كان الوضوء بدلك صحت صلاته عند مالك. وإن كان الوضوء بلا دلك بطلت عند كل من الإمام مالك والشافعي.
ثم خرج ابن باد شاه على هذه المسألة صورة مسألة أخرى قال:
جاء في غير ما كتاب من الكتب المذهبية المعتبرة:
إن المستفتي إن أمضى قول المفتي لزمه وإلا فلا، حتى قالوا: إذا لم يكن الرجل فقيهًا فاستفتى فقيهًا فأفتاه بحلال أو حرام ولم يعزم على ذلك حتى أفتاه فقيه آخر بخلافه فأخذ بقوله وأمضاه، لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه ويرجع إلى ما أفتاه به الأول؛ لأنه لا يجوز له نقض ما أمضاه مجتهدًا كان أو مقلدًا.
وجه هذا القول: لأن المقلد متعبد بالتقليد.
كما أن المجتهد متعبد بالاجتهاد.
ثم كما لم يجز للمجتهد نقض ما أمضاه، فكذا لا يجوز للمقلد. لأن اتصال الإمضاء بمنزلة اتصال القضاء يمنع النقض فكذا اتصال الإمضاء (1) .
وقال صاحب مسلم الثبوت في تتبع الرخص الممنوع (2) : إنما يحظر تتبع الرخص للتلهي. مثاله: عمل حنفي بالشطرنج على رأي الشافعي – قصد اللهو. كشافعي شرب المثلث للتلهي به.
ولعل هذا حرام بالإجماع، لأن التلهي حرام بالنصوص القاطعة.
وعليه:
اختلف العلماء في حكم تتبع الرخص: قال أبو إسحاق المروزي: يفسق. وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق.
قال الإمام أحمد بن حنبل: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا.
__________
(1) أمير باد شاه: على هامش التحرير 3 / 353.
(2) البهاري: مسلم الثبوت 356.(8/103)
وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذ لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها العامي العالم بها من غير تقليد لإخلاله بفرضه وهو التقليد.
فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق؛ لأنه قلد من سوغ اجتهاده.
وقال ابن عبد السلام: ينظر إلى الفعل الذي فعله، فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم وإلا لا يأثم.
وفي السنن للبيهقي عن الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام.
وروي عنه أنه قال: يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف، ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن، ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة، ومن قول أهل الكوفه النبيذ (1) .
المانعون من تتبع الرخص
لعل الإمام الشاطبي هو حامل لواء المنع مطلقًا ... وبسط القول في الموافقات شارحًا وجهة نظره ومستدلاً لها ومدافعًا عنها؛ حتى يخيل للقارئ أن الأبواب والنوافذ قد أوصدت جميعًا في وجه الترخيص والقائلين به. ولا غرو فقد انفرد دون سائر الأصوليين والفقهاء في بسط القول واستقصاء الأدلة وضرب الأمثلة؛ كيف لا والقسم الأكبر من كتابه الموافقات قد بناه على هذه المسألة.
ويبدو واضحًا أنه في عرضه ذلك تراه مدافعًا عن الشريعة الإسلامية بالشريعة الإسلامية.. وكأني به لاحظ شطر القضية ألا وهي الشريعة.. وبقي أن نلاحظ الشطر الثاني ألا وهو المكلف بالشريعة.
فيا ترى ونحن نوصد الباب في وجه تتبع الرخص بقطع النظر عن أحوال المكلفين.. كأننا قد واجهنا أيضا نصًا شرعيًا {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وما دام الأمر منوطًا بالمجتهدين قبولاً وردًا.. استدلالاً ومناقشة.. فلنتوجه إليهم لنقف على أقوالهم في المسألة.. ولنبدأ بالإمام الشاطبي حيث يقول:
1- متى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار وهذا مناقض لقصد الشريعة.
__________
(1) الشوكاني: إرشاد الفحول ص 272.(8/104)
فلا يصح القول بالتخيير على حال، فاختيار أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل، وأيضا فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها.
وجه هذا القول: لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير – أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء، وهو عين إسقاط التكليف. بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل فلا يكون متبعا للهوى ولا مسقطًا للتكليف (1) .
- إن الفقيه لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد، ولا أن يفتي به أحدًا.
- والمقلد في اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتي الذي ذكر. إن المتخير بالقولين بمجرد موافقة الفرض: إما أن يكون حاكمًا به، أو مفتيًا، أو مقلدًا عاملاً بما أفتاه به المفتي.
1- أما الحاكم المتخير بين القولين: لا يصح له ذلك على الإطلاق.
وجه هذا القول: لأن الحاكم إن كان متخيرًا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر. إذ لا مرجع عنده بالغرض إلا للتشهي، فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر.
2- وأما المفتي: إذا أفتى بالقولين معًا على التخيير فقد أفتى في النازلة بالإباحة وإطلاق العنان له أن يعمل بأحدهما وهذا قول ثالث غير نفس القولين الدائرين بين النفي من قائل: والإثبات من القائل الآخر، وهذا لا يجوز له.
__________
(1) الشاطبي: الموافقات 4 / 134.(8/105)
ثانيًا: أن المفتي أقام المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه به، فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا.
أما إن كان المتخير عاميًا: فبتخييره بين القولين قد استند بفتوى نفسه حيث تتبع الرخص إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع.
وجه هذا القول: لأن العامي إنما حكم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي فهو قائل له: أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق – فلا يمكن والحال هذه أن يقول له: في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت، فإن معنى هذا تحكم الهوى دون الشرع، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى – بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه – رمي في عماية وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة، وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره (1) . وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي ثابتًا من أصول الشريعة؛ بل تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى ومضاد لقوله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة وهي تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه.
ومن المفاسد في اتباع رخص المذاهب:
- الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] إلى اتباع الخلاف.
- الاستهانة بالدين: إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط فلا يحجز النفوس عن هواها ولا يقفها عند حد.
- ترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم.
- احترام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف.
- إفضاؤه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم.
يؤدي إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة، فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة ولذلك سميت تكليفًا من الكلفة وهي المشقة.
فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل لزم ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك، ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف، وهذا محال (2) .
الشيخ خليل محيي الدين الميس
__________
(1) الشاطبي: الموافقات 4 / 140 – 144، بتصرف.
(2) الشاطبي: الموافقات 4 / 148 – 149.(8/106)
وخلاصة القول
ما قاله العز بن عبد السلام: إن الأولى التزام الأشد والأحوط له في دينه، أي من كل مذهب (1) . وكذا في الإفصاح لابن هبيرة.
واتفق العلماء على الاستحباب للخروج من الخلاف.
وإن كان بين التحريم والجواز فالاجتناب أفضل.
وإن كان في الإيجاب والاستحباب فالفعل أفضل.
وإن كان في المشروعية وعدمها فالفعل أفضل.
كقراءة البسملة في الفاتحة، فإنها مكروهة عند الإمام مالك، واجبة عند الشافعي، سنة عند أبي حنيفة وأحمد رضي الله عنهما: وعند الإمام مالك رضي الله عنه، السنة تركها.
ففي مثل هذا: " الأولى اتباع الأكثر. وعلى هذا أرى ما استمر من الخلفاء الراشدين من ترك الجهر بها في الجوامع، مع أن الخطباء قد يكون منهم من يعتقد مذهب الشافعي، إلا أنهم استمروا على الإسرار بها كما ذكر، وهو المانع من الجهر، لأني مع الأكثر فلولا ذلك لجهرت ". انتهى كلام ابن هبيرة (2) .
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 14.
(2) العقد الفريد – من مجلة الفكر الإسلامي ص 121، تحقيق الباحث.(8/107)
الرخصة (التلفيق)
إعداد
الشيخ خليل محيي الدين الميس
مفتي البقاع ومدير أزهر لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
(التلفيق)
جاء في تعريف التلفيق: بأنه الإتيان بكيفية لا يقول فيها مجتهد.
بيانه: بأن يلفق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر يتولد منهما حقيقة مركبة لا يقول فيها أحد، سواء الإمام الذي كان على مذهبه أو الإمام الذي انتقل إليه، فكل واحد منهم يقر ببطلان تلك الحقيقة الملفقة في العبادة.
قلت باستقراء المسائل التي عرض فيها الأصوليون والفقهاء لصور مسألة التلفيق أمكن حصرها في الصور التالية:
أولًا: التقليد بعد الفعل. ويقصدون بهذه العبارة: إذا عمل العامي بقول مجتهد في حادثة، هل الرجوع عنه أو لا؟ أو بعبارة أخرى: إذا قلد العامي إمامًا من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك؟.
ثانيًا: إذا تعدد المجتهدون وتفاضلوا هل يجب على العامي تقليد الأفضل أو المفضول؟
ثالثًا: هنالك مسألة أصولية مفادها: إذا اختلف الفقهاء في مسألة على قولين هل يجوز إحداث قول ثالث؟
رابعًا: التلفيق الذي يترتب عليه نقض حكم الحاكم هل يجوز أم لا؟
خامسًا: جواز الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهب إمامه (1) .
بعد هذا كله هل مبدأ التلفيق يقول به العلماء؟ وما هي الصور التي يجوزون فيها التلفيق – إن إجازوه – ومتى يمتنع التلفيق مطلقا؟
وهنا تختلف أقوال الفقهاء والأصوليين:
فمن حيث المبدأ.. ترى الفقهاء الذين لا يقرون التقليد لا في الأصول ولا في الفروع أسقطوا هذه المسألة من حسابهم جملة وتفصيلاً.. كالشوكاني ومن سار على نهجه، لأن التلفيق ضرب من التقليد المذهبي، وهذا ما نراه واضحا في غير مصنف لهم، ومن ذلك على سبيل المثال في (إرشاد الفحول) (والقول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد) كما لا نرى لهذه المسألة ذكرًا في كتب الظاهرية. (وأما القائلون بجواز التقليد هم الذين أوردوا هذه المسألة في كتبهم.. وبخاصة كتب أصول الفقه بمناسبة بحث (الاجتهاد أو المفتي والمستفتي) .
__________
(1) ابن أمير حاج: التقرير 3 / 351.(8/108)
ولذلك يمكن إجمال أقوالهم في المسألة على الوجه التالي:
- أكثر المتأخرين اشترطوا لصحة التقليد عدم التلفيق.
- وأجازه قوم مطلقًا.
- وقيد بعضهم بشرط عدم تتبع الرخص المفضية إلى الانحلال والفجور.
وهنا يصل بنا الكلام أن موقف المجتهدين من التقليد الذي يبتني عليه التلفيق فنقول: الاجتهاد على قسمين: اجتهاد مطلق، واجتهاد مقيد.
- أما أهل الاجتهاد المطلق: فلا يجوز لهم تقليد غيرهم مطلقًا، وإنما الواجب عليهم العمل باجتهادهم (1) .
- أما أهل الاجتهاد المقيد: فيجب عليهم تقليد أهل الاجتهاد المطلق في أصول مذاهبهم فقط دون الفروع.
- أما غير المجتهدين: فهم عامة الناس، فلا يجب عليهم التزام العمل بمذهب معين من المذاهب الأربعة على القول الراجح. إنما مذهبه مذهب مفتيه فأي فقيه أفتاه جاز له العمل بقوله (2) .
لمحة تاريخية
لم يكن التلفيق بهذا الوصف معهودًا عند السلف ليقرروا أحكامه، كما أن الأئمة وأصحابهم لم يدرجوه في مدوناتهم وأمهات كتبهم. وإنما هو من مخترعات الخلف ومحدثاتهم، ولا يبعد أن يكون حدوث هذا البحث في القرن الخامس حيث اشتد التعصب المذهبي.
قال ابن أمير حاج: انطوت القرون الفاضلة على عدم التمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره، حتى قال ابن حزم: أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا مفت تقليد رجل فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله؛ بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به؛ لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال وبصر بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتابا في فروع ذلك المذهب وعرف ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله.
وأما من لم يتأهل لذلك البتة، بل قال أنا حنفي أو شافعي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول.
__________
(1) الغزالي: المنخول (ص 476) .
(2) ابن نجيم: البحر الرائق 2 / 60، باب قضاء الفوائد. والكمال بن الهمام 7 / 25، والدهلوي: الاجتهاد (ص 6 – 7) .(8/109)
يوضحه: أن قائله يزعم أنه متبع لذلك الإمام سالك طريقه في العلم والمعرفة والاستدلال.. فأما مع جهله وبعده جدًا عن سيرة الإمام وعلمه بطريقته فكيف يصح الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من المعنى؟! (1)
والحال ليس ما سموه بالتلفيق إلا عين التقليد من كل الوجوه، لذلك كان لابد لكل من أجاز التقليد أن يجيز التلفيق.
والصحابة رضوان الله عليهم مع اجتهادهم وتخالفهم في الأحكام كان يصلي بعضهم خلف بعض مع حكم المؤتم منهم – حسب اجتهاده بعدم صحة صلاة إمامه واشتراطه صحة صلاة المأموم بصحة صلاة الإمام.
وهذا مجتهد يصلي خلف مجتهد.. وجريًا على منهج العلماء في تصنيف المجتهدين.. يعتبر كل صحابي مجتهدًا مطلقًا، كما يوصف كل من الأئمة الأربعة ومن في مرتبتهم بأنه مجتهد مطلق..
وإذا كان كذلك.. فقد قلد المجتهد المجتهد فيما يرى خلافه. وهل يتوهم مسلم أن أبا حنيفة كان يمتنع أن يأتم بالإمام مالك، بل كانوا أجل قدرًا من أن يخطر لهم هذا التعصب على بال (2) .
وهذا أبو حنيفة ومثاله رحمهم الله تعالى كانوا أفضل من أن يعتقدوا في أنفسهم الأفضلية على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومع ذلك خالفوهما في كثير من الأحكام الاجتهادية.
وفقهاء كل مذهب من المذاهب لم يزالوا يجوزون الأخذ تارة بقول الإمام وتارة بقول أحد أصحابه مع أن ذلك هو عين التلفيق.
ثم ما زال عوام كل عصر يقلد أحدهم لهذا المجتهد في مسألة، وللآخر في أخرى ولثالث في ثالثة وكذلك إلى ما لا يحصى. ولم ينقل إنكار ذلك عليهم ولم يؤمروا بتحري الأعلم والأفضل في نظرهم.
وقال الكمال بن الهمام: يجوز لكل أحد من العامة أن يعمل في عبادة أو معاملة مع أي مذهب شاء، لكن بعد استيفاء جميع الشروط التي يشترطها ذلك المذهب، وإلا كان عمله باطلًا.
والعامي لا عبرة لما يقع في قلبه من صواب الحكم وخطئه، ويخرج على هذا الأصل إذا استفتى مجتهدين فاختلفا عليه فالأولى أن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما.
وقال: وعندي – لو أخذ بقول الذي لا يميل إليه قلبه جاز لأن ميله وعدمه سواء.
__________
(1) ابن أمير حاج: التقرير والتحبير (ص 365) .
(2) الكمال بن الهمام: شرح فتح القدير 7 / 257 أدب القاضي.(8/110)
وأضاف: إن مثل هذه إلزامات من الفقهاء لكف الناس عن تتبع الرخص، وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه. وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع الذم عليه، ((وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته)) (1) .
وقال الشرنبلالي في صحة جواز التلفيق (2) :
يجوز التقليد من غير تقييد بالعذر مجانبا للتلفيق.
صورة المسألة: يصح تقليد الإمام مالك رضي الله عنه في عدم النقض للوضوء بما يسيل من الدم والقيح؛ سواء كان من المخرج أو غيره، وسواء كان التقليد بعد العمل بما يخالفه من مذهب أبي حنيفة، أو كان قبل العمل به.
لكن شرط لصحة ذلك: أن يأتي المقلد بما هو مسنون أو مستحب عند الإمام أبي حنيفة وهو شرط عند مالك: كأن يتوضأ ناويًا، مرتبًا، مواليًا غسله، مدلكًا جسده.
بذلك صدر رسالته الفقهية (العقد الفريد) ثم أورد اعتراضا مفاده:
فإن قلت: كيف هذا مع قول العلامة – الشيخ الكمال بن الهمام في تحريره: سأله: لا يرجع فيما قلد فيه – أي عمل فيه اتفاقا (3) .
أجاب: قلت: لا يمنع ذلك ما قلته من صحة التقليد، بمجمل المنع على خصوص الجنس وهذه المسألة ذكرها الآمدي وابن الحاجب وتبعه صاحب جمع الجوامع.. ثم استقصى الأقوال والأدلة مما سنعرض له في حينه إن شاء الله تعالى.
ولكن هل يجوز التلفيق عند القائلين به على الإطلاق أم لهم شروط..؟
القائلون بجواز التلفيق قالوا: إن لصحة تقليد المذهب المخالف شروطًا:
الأول: ما ذكره ابن الهمام في تحريره: أنه إن عمل المقلد بحكم من أحكام مذهبه الذي تقلده لا يرجع عنه ويقلد مذهبًا أخر، وفي غير ما عمل به له أن يقلد غيره من المجتهدين (4) .
الثاني: ما نقله ابن الهمام عن القرافي واعتمد عليه في تحريره: أن لا يترتب على تقليد من قلده أولاً ما يجتمع على بطلان كلا المذهبين (5) .
وصورته: أن من قلد الشافعي رحمه الله تعالى في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل، وقلد مالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة للوضوء، فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى؛ إن كان الوضوء بدلك صحت صلاته عند مالك رحمه الله تعالى. وإن كان بلا دلك بطلت عندهما (مالك والشافعي) (6) .
__________
(1) الكمال بن الهمام: التقرير والتبحير 3 / 351.
(2) الشرنبلالي: العقد الفريد – مجلة الفكر الإسلامي العد 81 ص 34.
(3) الكمال بن الهمام: التقرير والتحبير 3 / 351.
(4) الكمال بن الهمام: التقرير والتحبير 3 / 350.
(5) الكمال بن الهمام: 2 / 351.
(6) ابن الهمام (التقرير والتحبير) 3 / 352.(8/111)
الثالث: أن لا يتبع الرخص ويلتقطها.
وهذا الشرط اعتبره الإمام النووي وغيره. لكن ابن الهمام لم يعتبره ولم يلتفت إليه.
وبعضهم شرط: أن يكون ما قلده مخالفًا للكتاب والسنة وإن قال به مجتهد.
وأضاف بعضهم: أن لا يجتمع من تقليده حالة مركبة ممتنعه الإجماع، أي ما يجتمع على بطلانه كلا المذهبين، وهذا ما قاله جمهور الفقهاء.
مثاله: كمن صلى بخروج الدم من غير السبيلين تقليدا للإمام الشافعي والمقلد حنفي المذهب ولم يزل النجاسة القليلة عن بدنه أو ثوبه بناءً على مذهبه، فصلاته باطلة اتفاقًا.
أما على مذهبه فلخروج النجاسة من البدن، وأما على مذهب من قلده، فقليل النجاسة مانعة عند الشافعي رحمه الله (1) .
هذا وإن المبتلى ديان نفسه وحكمها وأعلم بها من غيره، لهذا كثيرًا ما يفوض العلماء المسائل إلى رأي المبتلى.
والمستفتي إذا كان من أرباب العزائم وتحمل المشاق والتفرع للعبادات يفتى بالأحوط أخذًا بالورع والكمال ما لم تحق به نازلة تقتضي التخفيف، فإنه حينئذ يفتى بالأخف عليه من كل مذهب خشية العجز عن أداء التكليف فيما إذا شدد عليه بالمنع من التلفيق.
ثم إن كل طبقة من طبقات العوام المتفاوتة تفتى بما يناسبها تشديدًا أو تخفيفًا وفاقًا لمقتضى اتساع الشريعة وحكمتها، وأجرد الناس بالتسامح الضعفاء بدنًا كالمصابين بالعلل، ويلحق بهم أرباب الأعمال الشاقة ومن على شاكلتهم ...
قال العيني في شرح البخاري في حديث ((يسروا ولا تعسروا)) ما نصه: وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ وتاب من المعاصي، يتلطف بجميعهم بأنواع الطاعة قليلاً قليلاً، كما كانت أمور الناس على التدريج في التكليف شيئًا بعد شيء؛ لأنه متى يسر على الداخل في الطاعة المريد للدخول فيها سهلت عليه وتزايد فيها غالبًا، ومتى عسر عليه أوشك أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم أو يستحملها (2) .
__________
(1) المناوي: فيض القدير 1 / 210، والعقد الفريد – مجلة الفكر الإسلامي، عدد 8 / 55، تحقيق الباحث.
(2) العيني على البخاري 2 / 47 باب العلم.(8/112)
هذا وفي المحظورات لا يسوغ للعلماء التلفيق بها سواء كان بالنسبة لهم، أو من يستفتيهم إلا في مواطن الضرورة، إذ الضرورات تبيح المحظورات، لكن ما أبيح للضرورة يتقدر بقدرها.. وإنما لم يسغ التلفيق في المحظورات لكونها على الورع لحديث ابن مسعود (ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام الحلال) (1) وقد بنى الفقهاء عليه قاعدتين:
الأولى: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام الحلال.
والثانية: إذا اجتمع المحرم والمبيح غلب المحرم.
أما المحظورات العائدة إلى حقوق العباد: فمبناها صيانة الحق ومنع الإيذاء لذلك لا محل فيها للتلفيق بها لأنه ضرب من الاحتيال للعدوان على الحق، وتطرق إلى إيذاء العباد، وذلك للحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) وحديث ((كل مسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) .
أما في المناكحات والمفارقات: فالأصل في الأبضاع التحريم صيانة للفروج والأنساب، لذلك لا يسوغ أن يتخذ التلفيق ذريعة لتلاعب الناس بأقضية النكاح والطلاق؛ وقد مر بعض وجوه المنع في هذا الباب.
وأما أحكام المعاملات وأداء الأموال وإنزال العقوبات وغير ذلك من التكاليف: ينبغي الرجوع فيه إلى أصول الشرعية وقواعدها العامة في استنباط أحكامها.. فيؤخذ من كل مذهب ما هو أقرب إلى مصلحة العباد وسعادتهم ولو لزم من ذلك التلفيق لما فيه من السعي وراء تأييد المصلحة التي يقصدها الشارع وهي كما قال غير واحد من العلماء خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم.
فكل ما يضمن صيانة هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يضيعها فهو مفسدة ودفعه مصلحة.
__________
(1) الجراحي: كشف الخفاء حديث رقم 2186 – رواه جابر الجعفي عن ابن مسعود وفيه ضعف وانقطاع.. وقال العراقي: لا أصل له.(8/113)
الضابط في جواز التلفيق
ونخلص إلى القول بأن ضابط جواز التلفيق وعدم جوازه هو: أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياساتها وحكمتها فهو محظور.
وأما إذا كان التلفيق يؤيد دعائم الشريعة وما ترمي إليه حكمتها وسياساتها الكفيلتان بسعادة الدارين تيسيرًا عليهم في العبادات وصيانة لمصالحهم في المعاملات فهو مطلوب (1) .
قال يحيى الزناتي والروياني: " يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط:
1- أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع. مثاله: من تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود. فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد.
2- أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه ولا يقلد أميًا في عماية.
3- أن لا يتتبع رخص المذاهب.
ثم قال: والمذاهب كلها مسالك إلى الجنة، وطرق إلى الخيرات فمن سلك منها طريقا وصله " (2) .
ثم عقب على ذلك بقول غيره (الزناتي) : يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه حكم الحاكم وهو أربعة:
ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي.
فإن أراد – رحمه الله – بالرخص هذه الأربعة فهو حسن متعين، فإن ما لا نقره مع تأكده بحكم الحاكم فأولى أن لا نقره قبل ذلك ... (3) .
وإن أراد بالرخص: ما فيه سهولة على المكلف كيفما كان، يلزمه أن يكون من قلد مالكًا في المياه والأرواث، وترك الألفاظ في العقود – مخالفًا لتقوى الله تعالى وليس كذلك.
قال الإسنوي:
وتعقب الأول: بأن الجمع المذكور ليس بضائر.
فإن مالكًا لم يقل: من قلد الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل، وإلا لزم أن تكون أنكحة الشافعي عنده باطلة.
ولم يقل الشافعي: إن من قلد مالكًا في عدم الشهود أن نكاحه باطل، وإلا لزم أن تكون أنكحة المالكية بلا شهود باطلة.
__________
(1) الباني: عمدة التحقيق بتصرف (ص111 – 220) .
(2) القرافي: شرح تنقيح الفصول (ص 432) .
(3) أمير بادشاه على التحرير 3 / 352.(8/114)
قال الإسنوي: لكن في هذا التوجيه نظر غير خاف.
ووافق ابن دقيق العيد الروياني على اشتراط أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها، وأبدل الشرط الثالث، بأن لا يكون ما قلده فيه ممما ينقض فيه الحكم لو وقع.
واقتصر الشيخ عز الدين بن عبد السلام على اشتراطه قال: وإن كان المأخذان متقاربين جاز.
والشرط الثاني: انشراح صدره للتقليد المذكور وعدم اعتقاده لكونه متلاعبًا بالدين متساهلاً فيه.
دليل هذا الشرط: قوله صلى الله عليه وسلم ((والإثم ما حاك في الصدر)) فهذا التصريح بأن ما حاك في النفس ففعله إثم، اهـ.
قال الإسنوي: أما عدم اعتقاد كونه متلاعبًا بالدين متساهلاً فيه فلا بد منه.
وأما انشراح صدره للتقليد فليس على إطلاقه، كما أن الحديث كذلك أيضا وهو بلفظ (والاثم ماحاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) في صحيح مسلم، وفي مسند أحمد بلفظ (والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) (1) .
قال الحافظ المتقن ابن رجب في الكلام على هذا الحديث مشيرًا للأول: إنه إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجًا وضيقًا وقلقًا واضطرابًا فلم ينشرح له الصدر، ومع هذا فهو عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه وهو ما استنكر الناس فاعله وغير فاعله.
ومن هذا قول ابن مسعود (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح) . ومشيرًا إليه باللفظ الثاني (ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم، وإن أفتاه غيره بأن ليس بإثم فهذه مرتبة ثانية، وهو أن يكون الشيء مستنكرًا عند فاعله دون غيره، وقد جعله أيضا إثمًا، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره للإيمان. وكان المفتي له يفتي بمجرد الظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي.
__________
(1) الإسنوي: نهاية السول 4 / 627.(8/115)
فأما ما كان مع المفتي به دليل فالواجب على المستفتي الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره، وهذا كالرخص الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدر كثير من الجهال فهذا لا عبرة فيه.
((وقد كان صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا ينشرح به صدور بعضهم فيمتنعون فغضب من ذلك، كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فكره من كرهه منهم.))
وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه، وكرهوا مفاوضته لقريش على أن يرجح من عامه وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم.
وبالجملة: فما ورد به النص فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضى، فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الرضى والإيمان به والتسليم له كما قال تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
وأما ما ليس فيه نص عن الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة – فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين شيء وحاك في صدره لشبهة موجودة ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعمله ولا دينه بل هو معروف باتباع الهوى – فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره وإن أفتاه هؤلاء المفتون، وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا (1) . اهـ. (جامع العلوم والحكم 240 الحديث السابع والعشرون) .
والحق في مسألة التلفيق أنها كمسألة إحداث قول ثالث فيما إذا اختلفوا على قولين فقط – فكما أن الحق أن المجتهد لا يجوز أن يحدث قولاً ثالثًا إذا خرق إجماع المجتهدين في عصر، كمسألة الجد مع الإخوة، حيث اختلفوا في أن يشارك الأخوة أو يختص هو بالميراث ويحجب الأخوه، فهذا إجماع منهم على عدم حرمانه.
كذلك الحق هنا أن المقلد إذا قلد لا يجوز أن يلفق بين مذهبين في صورة لا يقول بها أحد من المجتهدين كافة، بأن تكون المسألة واحدة، حقيقة أو حكما، أي بحيث لو لفق العمل بصورة لا يقول بها أحد منهم ويكون العمل فيها على خلاف إجماعهم.
ولذلك قال في مسلم الثبوت وشرحه بعد أن نقل جواز تتبع رخص المذاهب ما نصه: إنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا. فأجيب بمنع هذا الإجماع إذ في تفسيق متتبع الرخص عن الإمام أحمد روايتان فلا إجماع، ولعل رواية التفسيق إنما هو فيما إذا قصد التلهي فقط لا غيره (2) .
__________
(1) الإسنوي: نهاية السول. 3 / (626 – 629) .
(2) فواتح الرحموت بهامش المستصفى 2 / 206.(8/116)
وقال في (التقرير على التحرير) : وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد (1) .
وذكر بعض الحنابلة: إن قوي الدليل أو كان عاميا لا يفسق.
وفي روضة النووي: واصلها عن حكاية الحناطي وغيره عن ابن أبي هريرة أن لا يفسق به.
ثم لعله محمول على نحو ما يجتمع له من ذلك ما لم يقل بمجموع مجتهد. فأين الإجماع بعد هذا؟ !
وما أورد أنه يلزم على تقدير جواز الأخذ بكل مذهب احتمال الوقوع في خلاف المجمع عليه إذ ربما يكون المجموع الذي عمل به لم يقل به أحد فيكون باطلاً إجماعًا.. كمن تزوج بلا صداق عملاً بقول الإمامين أبي حنيفة والشافعي: ولا شهود، اتباعًا لقول الإمام مالك ولا ولي، على قول الإمام أبي حنيفة – فهذا النكاح باطل اتفاقًا. أما عندنا فلانتفاء الشهود، وأما عند غيرنا فلانتفاء الولي، فهو مندفع لعدم اتحاد المسألة، وإن الإجماع على نفي القول الثالث إنما يكون إذا اتحدت المسألة حقيقة أو حكمًا.
ولأنه لو تم لزم استفتاء مفت معين وإلا احتمل الوقوع فيما ذكر.
فأنت ترى أن يؤخذ من هذا أن مسألة التلفيق مبنية على مسألة إحداث قول ثالث، فهو إنما يمتنع إذا تحقق أن المجموع الذي عمل به مخالف لإجماع جميع المجتهدين بحيث لو وجد مجتهد لم يجز له أن يقول بهذا المجموع، وهيهات أن يتحقق ذلك.
(فصل)
التقليد بعد الفعل
قال ابن الهمام: (لا يرجع فيما قلد فيه (أي عمل فيه) اتفاقا) .
قال الشرنبلاني: قلت: لا يمنع ذلك ما قلته من صحة التقليد بحمل المنع على خصوص الجنس، معناها الرجوع في خصوص العين لا خصوص الجنس بما فعله مقلدًا في فعله إمامًا كصلاة ظهر يمسح ربع الرأس له إبطالها باعتقاده بعدم إتمام للزوم مسح كل الرأس.
وهذه المسألة ذكرها ابن الحاجب والآمدي وتبعه في جمع الجوامع وغيره ونصه: (المراد بالعامي من لم يكن مجتهدًا) .
أي العامي غير المجتهد إذا عمل بقول مجتهد في حكم مسألة فليس له الرجوع اتفاقا.
وجه هذا القول: لأن المقلد قد التزم ذلك القول بالعمل به، أما قبل العمل فله الرجوع إلى غيره من المجتهدين.
__________
(1) التقرير 3 / 351.(8/117)
الرد:
لكن شارح التحرير (ابن أمير حاج) وابن بادشاه في الحاشية نقلا عن الزركشي تعقبه على الآمدي وابن الحاجب حيث قال: ليس كما قالا، ففي كلام غيرهما ما يقتضي جريان الخلاف بعد العمل أيضا (1) .
وهنا يقول الشرنبلالي: وعليه نقول باتباع القائل: يجوز التقليد بعد العمل بقول من قلده وعمل به. له إبطالها باعتقاده بعدم التمام للزوم مسح كل الرأس.
وجه القول: لأن الرجوع بمعنى منع الشخص من تقليد غير إمامه في شيء يفعله مخالفًا لما صدر منه، كصلاة يوم على مذهب أبي حنيفة، وصلاة يوم آخر على مذهب غيره.
وإن كان المراد بالرجوع، العمل في نظير ما مضى بخلاف معتقد من قلده كما يتراءى من متن التحرير وشرحه ففي كليهما خلافه.
ومع ذلك فقد قيده بأن يبقى أثر يمنع من الفعل لا مطلقا.
وعلى كل من الأمرين يثبت المدعى وهو: جواز تقليد الإمام مالك رضي الله عنه أو غيره فيما يفعل مخالفًا لما فعله على مذهب أبي حنيفة.
وقال الكمال بن الهمام في باب التحكيم: قال: وفي الفتاوى الصغرى يحكم المحكم في الطلاق والمضاف ينفذ لكن لا يفتى به،
وفيها روى عن أصحابنا ما هو أوسع من هذا وهو أنه إذا استفتى أولاً فقيهًا فأفتاه ببطلان اليمين وسعه إمساك المرأة. فإن تزوج أخرى وكان حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها فاستفتى فقيهًا آخر فأفتاه بصحة اليمين فإنه يفارق الأخرى ويمسك الأولى عملا بفتواهما (2) .
وفي الذخيرة: فيمن تزوج امرأة بغير ولي فطلقها ثلاثًا، فبعث القاضي إلى شافعي ليحكم بينهما ببطلان ذلك النكاح وببطلان الثلاث يجوز، وكذا لو حكما بذلك حكمًا يجوز، ولا يفتي به خشية تجاسر العوام على هدم المذهب.
وكذا من غاب عن امرأته غيبة منقطعة ولم يخلف لها نفقة، فبعث إلى شافعي ليحكم بفسخ النكاح لعجز النفقة يجوز (3) .
قال: الشرنبلالي: واعلم أنه يصح التقليد بعد الفعل.
__________
(1) الكمال بن الهمام: التقرير – 3 / 350. الشرنبلاني: العقد الفريد، مجلة الفكر تحقيق الباحث السنة الثامنة ص 55.
(2) شرح فتح القدير 7 / 319.
(3) شرح فتح القدير 7 / 319.(8/118)
وصورة المسألة: إذا صلى ظانًّا صحتها على مذهبه ثم تبين بطلانها في مذهبه وصحتها على مذهب غيره – فله تقليده – ويجزى بتلك الصلاة. على ما قاله في البزازية: روى الإمام الثاني وهو أبو يوسف رحمه الله أنه صلى يوم الجمعة مغتسلا من الحمام وصلى من خلفه بصلاته وتفرقوا ثم أخبر بوجود فأرة في بئر الحمام فقال: إنا نأخذ بقول إخواننا أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا.
قلت: هذا تقليد مجتهد.
ويؤخذ من قول أبي يوسف هذا، جواب حادثة لرجل من العوام طلق زوجته بلفظ الحرام وأراد عودها إلى عصمته فاستفتى فقيها مالكيًا فأفتاه بالجواز، وعقد عليها بناء على ما نقله بعض فقهاء المالكية أن العمل جرى بالمغرب بأنه يلزم طلقة واحدة بائنة. ثم أفتاه آخر بأن هذا القول لا يجوز به الفتوى في بلاد مصر فاستفتى حنفيا فأفتاه بصحة هذا العقد فإنه يستمر على معاشرتها.
وجاء في (يتيمة الدهر) للخجدني:
شافعي المذهب ترك صلاة سَنَةً أوْ سَنَتَيْنِ ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة كيف يجب عليه القضاء؟ أيقضيهما على مذهب الشافعي أو على مذهب أبي حنيفة؟
فقال: يقضيهما على أي المذهبين قضى بعد أن يعتقد جوازها جاز (1) .
قال الشرنبلالي: وهذا نص في صحة التقليد بعد العمل بخلاف ما عمل من جنسه.
فتحصل مما ذكرناه أنه لا يجب على الإنسان التزام مذهب معين.
وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غير إمامه مستجمعًا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثين لا تعلق بواحد منهما، ليس للمقلد إبطال فعله بتقليد إمام آخر.
وليس للمقلد إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر، لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض (2) .
وقال محمد في أماليه: لو أن فقيها قال لامرأته: أنت طالق البتة، وهو ممن يراها ثلاثا، ثم قضى قاض بأنها رجعية وسعه المقام معها.
__________
(1) الدهلوي: حجة الله البالغة 1 / 159.
(2) الشرنبلالي: العقد الفريد – مجلة الفكر الإسلامي العدد 8 / ص 55 تحقيق صاحب البحث.(8/119)
العامي الذي لم يلتزم مذهبا معينا
قال الآمدي وابن الحاجب:
لا يرجع المقلد فيما قلد أحد المجتهدين فيه، أي عمل به اتفاقًا.
وجه هذا القول: أن المقلد العامي بالتزامه مذهب إمام مكلف به ما لم يظهر له غيره، والعامي لا يظهر له بخلاف المجتهد حيث ينتقل من إمارة إلى إمارة (1) .
وقال الزركشي: خالف الآمدي وابن الحاجب فيما ذهبا إليه حيث قال: ليس كما قالا، وفي كلام غير الآمدي وابن الحاجب ما يقتضي جريان الخلاف بعد العمل أيضًا، وأضاف: كيف يمتنع الرجوع إذا اعتقد صحته.
وفصل بعضهم فقال: التقليد بعد العمل – إن كان من الوجوب إلى الإباحة ليترك؛ كالحنفي يقلد في الوتر. أو كان التقليد بعد العمل من الحظر إلى الإباحة ويترك؛ كالشافعي يقلد في أن النكاح بغير ولي جائز – والفعل والترك لا ينافي الإباحة. واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج عن العمل وحاصل قبله فلا معنى للقول بأن العمل فيه مانع من التقليد.
وإن كان بالعكس: فإن كان يعتقد الإباحة يقلد في الوجوب أو التحريم فالقول بالمنع أبعد، وليس إلا هذه الأقسام (2) .
ورجح الإمام العلائي القول بالانتقال في صورتين:
أحدهما: إذا كان مذهب غير إمامه أحوط: كما إذا حلف بالطلاق الثلاث على فعل شيء، ثم فعله ناسيًا أو جاهلاً، وكان مذهب إمامه عدم الحنث، فأقام مع زوجته عاملاً به ثم تخرج بقول من يرى فيه وقوع الحنث، فإنه يستحب الأخذ بالأحوط والتزام الحنث.
الثانية: إذا رأى للقول المخالف لمذهبه دليلاً قويا وراجحًا، إذ المكلف مأمور باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهذا موافق لما روي عن الإمام أحمد والقدوري وعليه مشى طائفة من العلماء، منهم ابن الصلاح وابن حمدان (3) .
قال الآمدي: مسألة:
إذا اتبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث، وعمل بقوله فيها.
اتفقوا على أن ليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم بعد ذلك إلى غيره.
سؤال: وهل لهذا العامي اتباع غير ذلك المجتهد في حكم آخر؟.
اختلفوا فيه: فمنهم من منع منه، ومنهم من أجازه وهو الحق، نظرًا إلى ما وقع عليه إجماع الصحابة من تسويغ استفتاء العامي لكل عالم في مسألة، وإن لم ينقل عن أحد من السلف الحجر على العامة في ذلك، ولو كان ذلك ممتنعًا لما جاز من الصحابة إهماله والسكوت على الإنكار عليه، ولأن كل مسألة لها حكم نفسها، فكما لم يتعين الأول للاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله فكذلك في المسألة الأخرى.
- أما إذا عين مذهبًا معينًا كمذهب الشافعي أو أبي حنيفة أو غيره وقال: أنا على مذهبه وملتزم به، فهل له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره في مسألة من المسائل؟
__________
(1) الكمال بن الهمام: تيسير التحرير 4 / 253 وعليه أمير باد شاه.
(2) الكمال بن الهمام: تيسير التحرير 4 / 253 وعليه أمير باد شاه.
(3) أمير باد شاه: تيسير التحرير 4 / 255.(8/120)
اختلفوا فيه: فجوزه قوم نظرًا إلى أن التزامه لمذهب معين غير ملزم مذهبه في حكم حادثة معينة. والمختار، إنما هو التفصيل: وهو أن كل مسألة من المذهب الأول اتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غيره فيها (1) .
وقال السبكي من الشافعية:
وإذا عمل العامي بقول مجتهد في حادثة: هل له الرجوع عنه أم لا؟ .
المذهب: ليس له الرجوع عنه إلى غيره في مثلها.
وجه القول: لأنه قد التزم ذلك القول بالعمل به، بخلاف ما إذا لم يعمل.
وقيل: يلزمه العمل به بمجرد الإفتاء فليس له الرجوع إلى غير المفتي فيما أفتاه فيه.
وقيل: يلزمه العمل به بالشروع في العمل بخلاف إذا لم يشرع.
وقضية ذلك: أنه لو شرع في العمل ثم أبطله جاز له الرجوع عنه كما أن قضية الاكتفاء بالشروع.. لو أبطله لم يجز له الرجوع لحصول الشروع.
وقيل: يلزمه العمل به إن التزمه، أي صمم على التمسك به. وقال السمعاني: يلزمه العمل به إن وقع في نفسه صحته وإلا فلا.
وقال ابن الصلاح: يلزمه العمل به إن لم يوجد مفت آخر، فإن وجد تخير.
والأصح: جواز الرجوع إلى غيره في حكم آخر.
وقيل لا يجوز: لأنه بسؤال المجتهد والعمل بقوله التزم مذهبه.
والأصح: أنه يجب على العامي وغيره – ممن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد – التزام مذهب معين من مذاهب المجتهدين يعتقده أرجح من غيره أو مساويًا له (2) ...
__________
(1) الآمدي: الأحكام 4 / 458.
(2) السبكي: جمع الجوامع 2 / 439.(8/121)
وقال العز بن عبد السلام:
ومن قلد إمامًا من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك؟
فيه خلاف والمختار التفصيل:
فإن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض فيه الحكم، فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه فإنه لم يجب نقضه إلا لبطلانه. فإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال، لأن الناس لم يزالوا من زمن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره، ولو كان ذلك باطلاً لأنكروه.
وكذلك لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى، لأنه لو وجب تقليده لما قلد الناس الفاضل والمفضول في زمن الصحابة والتابعين من غير نكير. بل كانوا مسترسلين في تقليد الفاضل والأفضل، ولم يكن الأفضل يدعو الكل إلى تقليد نفسه. ولا المفضول يمنع من سأله عن وجود الفاضل، وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل (1) .
قال التفتازاني:
1- عمل العامي بقول مجتهد في حكم مسألة فليس له الرجوع عنه إلى غيره اتفاقا.
2- وأما في حكم مسألة أخرى، فهل له أن يقلد غير المجتهد الذي استفتاه؟ المختار جوازه.
لنا القطع بوقوعه في زمن الصحابة وغيره، فإن الناس في كل عصر يستفتون المفتين كيف اتفق، ولا يلتزمون سؤال مفت بغية هذا، وقد شاع وتكرر ولم ينكر.
فلو التزم مذهبًا معينًا – وإن كان لا يلزمه كمذهب مالك ومذهب الشافعي وغيرهما – ففيه ثلاثة مذاهب.
أولها: يلزم.
وثانيها: لا يلزم.
وثالثها: أنه كالأول وهو من لم يلتزم. فإن وقعت واقعة يقلده فيها فليس له الرجوع، وأما غيرها فيتبع فيها من شاء (2) – اهـ
القائلون بمنع التلفيق وأدلتهم
استدل القائلون بمنع التلفيق مطلقًا بقاعدة أصولية مفادها أن الإجماع يمنع إحداث قول ثالث إذا اختلف الفقهاء في حكم مسألة على قولين.
فعند الأكثرين لا يجوز إحداث قول ثالث ينقض ما كان محل اتفاق، كعدة الحامل المتوفى عنها زوجها فيها قولان:
وضع الحمل، وأبعد الأجلين. أي وضع الحمل أو أشهر العدة المنصوص عليها في القرآن الكريم.. أو ثلاثة قروء..، فلا يجوز إحداث قول ثالث: إن عدتها بالأشهر فقط.
الرد: بعد التأمل يتبين أن هذه القاعدة والمثال ليست محل النزاع، لأن موضوع إحداث القول الثالث يفترض اتحاد المسألة بينما في التلفيق المسألة متعددة.
ثم بناء على الرأي المختار لم يكن في مسألة التلفيق ناحية متفق عليها، فالدلك في الوضوء مسألة كانت موضع اختلاف بين الأئمة، أما النقض باللمس فمسألة أخرى، ومع ذلك أن كلا المسألتين محل اختلاف.. وعليه فالتلفيق فيهما لا يؤدي إلى ما هو المحظور – وهو خرق الإجماع إذ لا إجماع تحقق حتى يقال بالتلفيق قد خرق.
__________
(1) العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام 2 / 159.
(2) التفتازانى: على ابن الحاجب 2 / 306.(8/122)
مسألة
تقليد المفضول
إذا تعدد المجتهدون وتفاضلوا فلا يجب على العامي تقليد الأفضل بل له أن يقلد المفضول.
وعن أحمد وابن شريح منعه، بل يجب عليه النظر في الأرجح منهما، ويتعين الأرجح منهما عنده للتقليد.
ولنا قد علم قطعًا أن المفضولين في زمن الصحابة وغيرهم كانوا يفتون، وقد اشتهر عنهم ذلك وتكرر ولم ينكر أحد، فدل على أنه جائز، وأيضا قال صلى الله عليه وسلم ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) .
خرج العوام لأنهم المقتدون، وبقي معمولاً به في المجتهدين منهم من غير فصل.
واستدل: بأن العامي لو كلفناه الترجيح لكان تكليفًا بالمحال لقصوره عن معرفة مراتب المجتهدين وترجيح الفاضل والمفضول منهم.
الجواب: إن معرفة الترجيح ليست مستحيلة من العامي لأنه يظهر له بالتسامح من الناس وبرجوع العلماء إليه وعدم ورجوعه إليهم وغيره ككثرة المستفتين وتقديم سائر العلماء له والاعتراف بفضله (1) .
مسألة
إذا أمضى المستفتي قول المفتي:
جاء في غير ما كتاب من الكتب المذهبية – أي الحنفية المعتبرة – أن المستفتي إن أمضى قول المفتي لزمه وإلا فلا.
وقالوا: إذا لم يكن الرجل فقيها فاستفتى فقيها فأفتاه بحلال أو حرام ولم يعزم على ذلك – أي لم يعمل به – حتى أفتاه آخر بخلافه فأخذ بقوله وأمضاه، لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه ويرجع إلى ما أفتاه الأول.
وجه هذا القول: لأنه لا يجوز له نقض ما أمضاه مجتهدا كان هذا المستفتي أو كان مقلدا، لأن المقلد متعبد بالتقليد، كما أن المجتهد متعبد بالاجتهاد.
ثم كما لم يجز للمجتهد نقض ما أمضاه، فكذا اتصال الإمضاء.
الأمثلة: من ذلك ما قاله محمد في أماليه: لو أن فقيها قال لامرأته: أنت طالق البتة، وهو ممن يراها ثلاثًا، ثم قضى عليه قاض بأنها رجعية – لا يدع المقام معها، وكذا كل قضاء يختلف فيه الفقهاء من تحريم أو تحليل أو أخذ مال أو غيره – ينبغي للفقيه المقضي عليه الأخذ بقضاء القاضي ويدع رأيه ويلزم نفسه ما ألزمه القاضي ويأخذ ما أعطاه ...
وقال محمد: وكذلك رجل لا علم له ابتلي ببلية فسأل عنها الفقهاء فأتوه فيها بحلال أو بحرام، وقضى عليه قاضي المسلمين بخلاف ذلك وهو مما يختلف فيه الفقهاء، فينبغي أن يأخذ بقضاء القاضي، ويدع ما أفتاه الفقهاء.
__________
(1) التفتازاني على ابن الحاجب 2 / 309.(8/123)
التلفيق الممنوع
القول بجواز التلفيق ليس على إطلاقه وفي جميع صوره ولكنه مقيد في دائرة معينة.
فمنه ما هو باطل لذاته – كما إذا أدى إلى إحلال المحرمات كالخمر والزنى ونحوهما.
ومنه ما هو محظور لا لذاته بل لما يعرض له من العوارض وهو ثلاثة أنواع.
أولها: تتبع الرخص عمدًا، بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ما هو الأخف عليه بدون ضرورة ولا عذر، وهذا محظور سدا لذرائع الفساد بالانحلال من ربقة التكاليف الشرعية.
قال الغزالي: ليس لأحد أن يأخذ بمذهب المخالف بالتشهي.
وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده (1) ويندرج تحت هذا النوع تتبع الرخص للتلهي والأخذ بالأقوال الضعيفة من كل مذهب اتباعًا للهوى واقتناصًا للملاذ.
الثاني: - التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم لأن حكمه يمنع الخلاف درءا للفوضى.
الثالث: التلفيق الذي يستلزم الرجوع عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده.
فلو قلد رجل أبا حنيفة في النكاح بلا ولي – دخل فيه صحة إيقاع الطلاق، لأنها لازمة لصحة النكاح إجماعًا.
فلو طلقها ثلاثًا ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق لكون النكاح بلا ولي فليس له ذلك، لكونه رجوعا عن التقليد في اللازم الإجماعي، ومنع التلفيق المستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا أو في لازمه الإجماعي ضروري في نحو ما كان من هذا القبيل، إذ يحتاط في مسائل الفروج أكثر مما يحتاط في غيرها.
وكما لا يسوغ التلفيق المستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا أو لازمه الإجماعي في قضايا الفروج والأنساب كذلك لا يسوغ في كل ما يكون وسيلة وعبثا بالدين، أو ذريعة لمضرة البشر أو الفساد في الأرض.
وأما ما كان من قبيل العبادات والتكاليف التي لم يجعل الله تعالى بها حرجا على عباده – فلا يكون التلفيق فيها ممنوعًا ولو استلزم الرجوع المذكور لم يفض إلى الانحلال من ربقة التكاليف أو الذهاب بالحكمة الشرعية باقتراف الحيل التي تقلب الشريعة الإسلامية.
هذا: ومن الصور التي يمتنع فيها التلفيق هو ما تتبعه الشرنبلالي في رسالته حيث قال: إذا بقي من آثار الفعل السابق أثر يؤدي إلى تلفيق العمل بشيء مركب من مذهبين لقول المحقق الشهاب ابن حجر في (شرح المنهاج) : يتعين حمل ما قاله ابن الحاجب والآمدي على مابقي من آثار العمل الأول ما يلزم عليه مع الثاني تركه حقيقة لا يقول بها كل من الإمامين.
__________
(1) الغزالي: المستصفى 2 / 125.(8/124)
صورة المسألة: كتقليد الإمام الشافعي في مسح بعض الرأس، والإمام مالك رضي الله عنه في طهارة الكلب؛ في صلاة واحدة.
ومن تلك الصور: لو أفتى ببينونة زوجته في نحو تعليق، فنكح أختها، ثم أفتي بأنه لا بينونة، فأراد أن يرجع الأولى ويعرض عن الثانية من غير إبانتها.
ومن تلك الصور: إذا أخذ الشفعة بالجوار تقليدًا للإمام أبي حنيفة رحمه الله، ثم استحقت عليه فأراد أن يقلد الإمام الشافعي رحمه الله في تركها – فيمتنع فيهما؛ لأن كلا من الإمامين لا يقول به حينئذ (1) .
ومن تلك المسائل: ما جاء في شرح الرملي:
كأن أفتي لشخص ببيونة بطلاقها. ثم نكح بعد انقضاء عدتها أختها مقلدًا أبا حنيفة بطلاق المكره، ثم أفتاه شافعي بعدم الحنث.
الحكم: يمتنع عليه أن يطأ الأولى مقلدًا الشافعي، وأن يطأ الثانية مقلدًا لأبي حنيفة؛ لأن كلاً من الإمامين لا يقول به حينئذ. كما أوضح ذلك الرملي رحمه الله تعالى في فتاويه.
ثم خلص الشرنبلالي إلى القول: إن المراد بالمنع، المنع في خصوص العين، أو بقاء أثر من الفعل السابق يؤدي إلى ما يقول به كل من الإمامين وهو المعبر عنه بالتلفيق.
ثم قال: هكذا قد علمت به جواز التقليد بعد العمل في جنس ما عمل بخلافه.
وأضاف: ثم رأيت موافقة هذا في مؤلف للسيد الإمام الشريف علي السمهودي الشافعي سماه (العقد الفريد في أحكام التقليد) (2) .
المختار: أن كل مسألة اتصل بها فلا مانع من اتباع غير مذهب الأول، وبه يعلم ما في حكاية إطلاق الاتفاق على المنع. ولعل المنع اتفاق الأصوليين.
التلفيق الجائز: هو ما كان عند الحاجة والضرورة، وليس من أجل العبث أو تتبع الأيسر والأسهل عمدًا بدون مصلحة شرعية، وهو مقصور على بعض أحكام العبادات والمعاملات الاجتهادية، لا القطعية..
وهكذا فإن الضابط في جواز التلفيق وعدم جوازه هو: أن كل ما أفضى إلى تقويض الشريعة ودعائمها والقضاء على سياستها وحكمتها فهو محظور، وخصوصًا الحيل.
وأن كل ما يؤيد دعائم الشريعة وما ترمي إليه حكمتها وسياستها لإسعاد الناس في الدارين بتيسير العبادات عليهم، وصيانة مصالحهم في المعاملات فهو جائز مطلوب (3) .
__________
(1) ومثله في التقرير 3 / 350 – 352، والشرنبلالي في العقد الفريد – مجلة الفكر الإسلامي السنة التاسعة، العدد 11 – 36، تحقيق الباحث.
(2) الشرنبلالي: العقد الفريد لبيان الراجح من الخلاف في جواز التقليد – مجلة الفكر الإسلامي، السنة التاسعة العدد 11 / 36.
(3) الزحيلي: الأصول 2 / 134.(8/125)
وخلاصة القول
إن العلماء كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لا سيما العوام منهم – على ما نقل السيوطي – ويقولون حيث وافق فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به.
أو كما قال الشعراني في ميزانه: تفتي كل واحد بما يناسب حاله ولو لم تفعل أنت به كذلك لأنه هو الذي خوطبت فيه.
وهناك من الرخص ما يجب العمل بها كحل الميتة للمضطر إحياء للنفس.. وإن كانت الرخص بالجملة مشروع الأخذ بها لأن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصة كما يجب أن تؤتى عزائمه.. لينال العباد من رفق الله تعالى وتيسيره بحظ ولو لم يكن فيه مشقة (كما قال الشاطبي) كالجمع بعرفة والمزلفة، وإن كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجًا، وطالب المخرج من وجهه طالبه لما ضمن له الشارع النجاح فيه، والرجوع إلى الوجه الذي وصفه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة والتخفيف على الكمال.
وتتبع الرخص مشروع بالجملة.. قال العز بن عبد السلام: للعامي أن يعمل برخص المذاهب، وإنكار ذلك جهل ممن أنكره، لأن الأخذ بالرخص محبوب، ودين الله يسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج.. ولكن ليس ذلك على الإطلاق.. بل لابد من مراعاة ما اعتبره المجتهد في المسألة التي وقع التقليد فيها بما يتوقف على صحتها كي لا يقع في حكم مركب من اجتهادين – كذا في الجوامع للسبكي – حيث قال: التلفيق في أجزاء الحكم لا في جزئيات المسائل، وإنما المحظور ما يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف.
وجوز السيوطي الانتقال من المذهب مطلقًا فيما عمل به وما لم يعمل العامي.
لكن الغزالي يحظر على العامل أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيوسع، وبه قال ابن عبد البر، لكن تتبع ابن عبد البر بذلك.
وأما القرافي المالكي فقد قال بجواز تقليد العامي غير إمامه على ألا يترتب على تقليده ما يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه والإمام الذي انتقل إليه.
ولكن الكمال بن الهمام من فقهاء الحنفية قال: لا يمنع مانع شرعي من جواز اتباع المقلد رخص المذاهب، بأن يأخذ من كل منها ما هو الأهون عليه فيما يقع من المسائل.. وبه قال تلميذه ابن أمير حاج، وتبعه ابن بادشاه حيث منع من تفسيق متتبع الرخص وبين الصورة المحظورة منها..
لكن الإمام الشاطبي حمل لواء منع تتبع الرخص بالمطلق في الموافقات.. وقد بسطنا قوله ودليله.. لأن تتبع الرخص في رأيه يؤدي إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة..
وخلاصة القول في المسألة ما أورده العز بن عبد السلام أن الأولى التزام الأشد والأحوط له في دينه أي من كل مذهب.. وأورد نماذج لتلك المسائل.. هذا في تتبع الرخص.
أما في التلفيق:
فليس على إطلاقه إجماعًا.. وإنما يشترط في المقلد الملفق ألا يترتب على تقليد من قلده أولًا ما يجتمع على بطلان كلا المذهبين ... وألا يكون التلفيق في المحظورات لكونها على الورع.
والضابط في جواز التلفيق: أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتهما فهو محظور.
وأما إذا كان التلفيق يؤيد دعائم الشريعة وما ترمي إليه حكمتها وسياستها الكفيلتان بسعادة الدارين تيسيرًا عليهم في العبادات وصيانة لمصالحهم في المعاملات فهو مطلوب.
وهو ما أشار إليه العلماء بقولهم بأن التلفيق الممنوع ما خالف الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي.. وهذا ما يجري على تتبع الرخص أيضًا.
لأن ما ورد فيه النص فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله. وبالجملة فإن التلفيق يصدق عليه ما يصدق على الكلام حول مسألة إحداث القول الثالث. هذا وللتقليد بعد الفعل صلة بالتلفيق، بل التلفيق هو أحد صوره.. وصححه غير واحد من الفقهاء.
والتلفيق الممنوع باتفاق هو الذي يستلزم نقض حكم الحاكم أو يستلزم الرجوع عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده.
والله أعلم بالصواب
الشيخ خليل محيي الدين الميس(8/126)
التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهما
إعداد
حجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري
جمهورية إيران الإسلامية
باسمه تعالى
الأخذ بالرخص وحكمه
معنى الأخذ بالرخص:
تطلق الرخصة في قبال العزيمة..
ويراد بها كما قيل: ما شرعه الله من الأحكام تخفيفًا على المكلف في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف في قبال العزيمة (وهي ما شرعه الله أصالة من الأحكام العامة التي لا تختص بحال دون حال ولا بمكلف دون مكلف) (1) .
ولا ريب في أن المراد من الرخصة في هذا البحث لا يركز على هذا المعنى، ذلك أن المقصود هنا من العزيمة هو الحكم المجعول للشيء بعنوانه الأولى، أما الرخصة فهي الحكم المجعول للشيء بعنوانه الثانوي (كما في حالة الاضطرار، والإكراه) .
وهذا اصطلاح أصولي لا يمكننا أن نحمل عليه ما جاء في الحديث النبوي الشريف (إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه) (2) أو ما جاء عن الإمام محمد ابن علي الجواد (ع) ((إن الله يغضب على من لا يقبل رخصته)) (3) .
وإنما المتبادر منها في الفهم العرفي الأحكام غير الإلزامية في قبال الأحكام الإلزامية وهذا هو المقصود من أكثر التعبيرات الواردة في الروايات وإن كان البعض منها يشير بقرينة ما إلى الأحكام الثانوية في قبال الأحكام الأولية.
وعلى أي حال فلا ريب في أن المراد هنا هو المعنى العرفي، يقول الألباني: " لا يخفى أن المراد بالرخصة في هذا الباب هو المعنى العام وهو ما رخص الله للعبد فيما يخفف عنه وهذا أعم مما اصطلح عليه الأصوليون من التعريف والتقسيم، فيشمل ما يستباح مع قيام المحرم، وما انتقل من تشديد إلى تخفيف وتيسير ترفيها وتوسعة عن الضعفاء فضلاً عن أصحاب المعاذير، فكل تخفيف يقابل تشديدًا فهو رخصة شرعها الله لأربابها. كما شرع العزائم لأصحابها " (4) .
__________
(1) أصول الفقه المقارن للسيد الحكيم نقلاً عن علم أصول الفقه لخلاف ص 138.
(2) مسند أحمد باب 2، ح 108.
(3) سفينة البحار، 1 / 17 – 25 مصطلح رخص.
(4) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ص 114.(8/127)
والمقصود من مصطلح الأخذ بالرخص أو تتبع الرخص ليس ما يتبادر لأول وهلة وهو العمل بالرخصة الشرعية في مواردها فهذا أمر لا يختلف عليه أحد، بل هو مما يحبه الشارع ويندب إليه وربما كان ترك العمل به – أحيانا – حرامًا، كما في الترخيص في الإفطار بالسفر – إذا صح أن نطلق عليه (رخصة) . فإنه يحرم الصوم فيه على رأي بعض المذاهب كالمذهب الإمامي مثلاً.
بل المقصود به هنا هو استعراض الفتاوى في الموارد المختلفة واتباع تلك التي تخلو من عنصر الإلزام في محاولة من المكلف للجمع بين أمرين.
الأول: الالتزام بالإطار الشرعي والفرار من المعصية.
الثاني: تسهيل الأمر على نفسه إلى أقصى ما يمكن؛ بملاحظة أي الفتاوى أخف وأسهل فيتبعها في مختلف الموارد.
متى يمكن تصور النزاع:
والحقيقة هي أن مسألة تتبع الرخص إنما تتم في إطار عملية أوسع منها هي عملية (التلفيق بين الفتاوى) ذلك أن التلفيق قد يتم بين إلزاميين أيضًا، بل وربما جلب على المكلف مؤنة أكبر تميل نفسه إليها فيتبع هذا المنهج لإلزام نفسه بها أو ربما كانت الفتويان منسجمتين في التعبير عن خط واحد، كما سيأتي في فوائد التلفيق إن شاء الله تعالى.
فليستا إذن عمليتين متطابقتين. على أنه لا معنى لتصور التلفيق من قبل المجتهد؛ إذ لا ريب في أن المتجهد عندما يصل إلى تحديد مواقفه من المواضيع على ضوء استنباطاته فإنما يجب عليه العمل بما توصل إليه، ولا يجوز له حينئذ اتباع رأي الآخرين، وإنما يمكن تصور التلفيق وبالتالي تتبع رخص الفتاوى من قبل غير المجتهدين، ولا يتم هذا إلا إذا قلنا بجواز التقليد ولم نلتفت لما قيل في عدم جوازه من قبل الحشوية وغيرهم ومع جواز التقليد فإن مسألتنا هذه لا تتصور إذا قلنا بلزوم تقليد الأعلم بكل شروطه دون منافس، وحينئذ فلا مجال للرجوع إلى غيره ولا معنى حينئذ للتلفيق وتتبع الرخص.
أما مجال القيام بذلك فهو فيما إذا لم نقل بضرورة تقليد الأعلم أيا كان، أو توفر هناك فردان أو أكثر مع التساوي في المرتبة العليا (الأعلمية) فالمجال واسع لهذه المسألة (1) .
فلنسر إذن مع مقدمات الموضوع حتى نصل إلى المقصود.
الاجتهاد والتقليد في الفروع ومعرفة التشريع:
إن الاجتهاد إذا فسرناه بعملية استفراغ الوسع لاستنباط الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية (شرعية أو عقلية) من أدلتها التفصيلية، أو أنه عملية إرجاع الفروع إلى الأصول المعتمدة شرعًا أو ما يقرب من هذه المعاني دونما نظر إلى الاجتهاد بمعنى العمل بالآراء الظنية غير المعتبرة، إذا فسرناه كذلك فإنا لا نجدنا بحاجة للحديث مفصلا عن لزومه – باستمرار – بعد وضوح قيام الشريعة بوضعه انسجامًا مع خلودها والاجتهاد واجب كفائي – بلا ريب – حفاظًا على أحكام الإسلام من الاندراس والضياع حيث حثت الشريعة على تحصيل العلوم الشرعية؛ قال تعالى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:] .
والآية واضحة في الوجوب الكفائي للاجتهاد دون العيني منه – وهو ما نسب إلى علماء حلب – بالإضافة إلى ما في الواجب العيني من عسر عظيم، وكذلك قيام السيرة في الرجوع إلى فتوى الأصحاب والرواة.
أما التقليد فجوازه لغير المجتهدين يكاد يكون بديهة حتى عبر صاحب (كفاية الأصول) أنها حالة فطرية جبلية (2) وقد قامت عليه السيرة العقلانية وهذه هي حالة المجتمعات في صدر الإسلام مما يحقق الإمضاء الشرعي لهذه الحالة، وهناك أدلة من النصوص القرآنية والنبوية على ذلك.
__________
(1) ربما يقال: بأنه يمكن تصور التلفيق مع القول بانحصار الرجوع إلى الأعلم فيما لو علم باختلاف المجتهدين في الفتوى. أما لو لم يعلم بالوفاق أو الاختلاف فهو مخير بينهما. إلا أنه قد يقال: إن مفروض المسألة هو ما لو علم باختلافهما فهو يتبع الفتوى المرخصة دون الملزمة.
(2) كفاية الأصول 2 / 359.(8/128)
عدم جواز رجوع المجتهد إلى رأي غيره:
وإذا حصل الباحث على رتبة الاجتهاد لم يجز له الرجوع إلى غيره وذلك لما أفاده الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في رسالته الموضوعة في الاجتهاد والتقليد من دعوى الاتفاق على عدم الجواز لانصراف الإطلاقات الدالة على جواز التقليد عمن له ملكة الاجتهاد واختصاصها بمن لا يتمكن من تحصيل العلم بها.
وقد فصل المحقق القمي صاحب القوانين المحكمة بين القادر على إعمال الملكة وغير القادر فأجاز للثاني أن يقلد غيره فقال: " ودليل المانع (للمجتهد من التقليد مطلقًا) وجوب العمل بظنه إذا كان له طريق إليه إجماعًا، خرج العامي بالدليل وبقي الباقي وفيه منع الإجماع فيما نحن فيه ومنع التمكن من الظن مع ضيق الوقت فظهر أن الأقوى الجواز مع التضييق، واختصاص الحكم به " (1) .
ويقول السيد الخوئي معلقًا على كلام المرحوم الشيخ الأنصاري (رحمه الله) وما أفاده (قد) يكون هو الصحيح وذلك لأن الأحكام الواقعية قد تنجزت على من له ملكة الاجتهاد بالعلم الإجمالي أو بقيام الحجج والأمارات عليها في محلها وهو يتمكن من تحصيل بتلك الطرق، إذا لا بد له من الخروج من عهدة التكاليف المنتجزة في حقه ولا يكفي في ذلك أن يقلد الغير إذ لا يترتب عليه الجزم بالامتثال (2) .
والظاهر أن بناء العقلاء في مجال رجوع الجاهل إلى العالم يشمل حالة المجتهد الذي يمنعه مانع من الاستنباط كضيق الوقت وغيره ويتجلى هذا بشكل أكثر وضوحًا فيما لو افترضنا وجود مساحة كبرى لم يستطع استنباطها بعد.
__________
(1) القوانين المحكمة 2 / 143.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى (الاجتهاد والتقليد) ص 30.(8/129)
اعتبار الأعلمية في المقلد:
والمراد بالأعلمية هو أن يكون صاحبها أقوى ملكة من غيره في مجالات الاستنباط (1) .
وهذا الشرط هو المشهور بين علماء الشيعة وخصوصًا في العصور الأخيرة (2) وهو مذهب أحمد وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الأصوليين وقد اختاره الغزالي المستصفى 2 / 125. كما نقل عن محمد بن الحسن (3) .
وقد ذهب جماعة من علماء الإمامية ممن تأخر عن الشهيد الثاني إلى عدم الاشتراط (4) .
وليس لنا في هذا المقام إلا الإشارة إلى بعض الأدلة في المقام ويترك البحث المفصل إلى محله.
وقد استدل لعدم اشتراط الرجوع إلى الأعلم حتى في حالة العلم بالخلاف بينه وبين غيره بوجوه:
منها: التمسك بإطلاق الأدلة الواردة في جواز الرجوع إلى الفقيه بل قد يقال: إن الغالب فيمن كان الناس يرجعون إليهم عدم الأعلمية مع العلم باختلاف الفتاوى بل شكل هذا سيرة عامة عبر القرون منذ صدر الإسلام.
ومنها: أن هذا الأمر متعسر جدا.
ومنها: بناء العقلاء.
ومنها: تطابق الصحابة وإجماعهم على ذلك.
وقد نوقش في هذه الأدلة:
أما الأول: فلأن محل الكلام هو ما لو علم بالمخالفة بين العالم والأعلم ونحن لا نعلم أن الرجوع كان في هذه الصورة لتكون الروايات نصا في ذلك فلا يبقى إلا الإطلاق والإطلاق لا يشمل المتعارضين لأن شموله لهما يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين، ولا مجال للقول بالتخيير باعتبار أن رفع اليد عن إطلاق الدليلين المتعارضين أولى من رفع اليد عن أصليهما، وذلك أن الدليلين هنا – كما يقول السيد الخوئي (رحمه الله) – ليس لهما نص وظاهر بل دلالتهما بالظهور والإطلاق فلا مناص من الحكم بتساقطهما، بعد أن لم يكن الجمع العرفي بينهما، وقد نوقشت الأدلة الباقية بإنكارها.
__________
(1) الأصول العامة للفقه المقارن ص 459 نقلاً عن إحكام الأحكام – للآمدي 3 / 173، ويقول صاحب العروة " المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر اطلاعًا " لنظائرها وللأخبار وأجود فهما " للأخبار والحاصل أن يكون أجود استنباطًا " (العروة الوثقى المسألة 17) .
(2) يقول صاحب المعالم ابن الشهيد الثاني ص (388) " وإن كان بعضهم أرجح في العلم والعدالة من بعض تعين عليه تقليده وهو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم وحجتهم عليه أن الثقة بقول الأعلم أقرب وأوكد، ويحكى عن بعض الناس القول بالتخيير ".
(3) عمدة التحقيق ص 54.
(4) مستمسك العروة الوثقى 1 / 24.(8/130)
وقد استدل لوجوب الرجوع إلى الأعلم بأدلة:
الدليل الأول – أن مشروعية التقليد إنما تم إثباتها بالكتاب والسنة أو بالسيرة.
أما المطلقات الشرعية فهي لا تشمل المتعارضين (وهو موردنا إذ نتحدث في حالة ما إذا علمنا بالتنافي بين فتوى العالم وفتوى الأعلم) .
وأما السيرة العقلائية فهي تجري على الرجوع للأعلم عند العلم بالمخالفة وهي ممضاة وإذا سقطت فتوى غير الأعلم عن الحجية تعين الرجوع إلى الأعلم بعد أن علمنا بعدم وجوب الاحتياط لأنه غير ميسور.
وأما السيرة العقلائية فهي تجري على الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة وهي ممضاة وقد اعتمد المرحوم السيد الخوئي هذا الوجه وحده على الظاهر (1) .
وربما يناقش في هذا الاستدلال بما سنذكره عند طرح مسألة التبعيض من أنه يمكن تصور شمول الإطلاقات للفتويين المتعارضتين. على أننا لا نعلم بوجود سيرة عقلائية ممضاة في هذا المجال بعد أن وجدنا العقلاء يرجعون إلى المتخصصين خصوصًا المتقاربين منهم – مع علمهم إجمالاً بوجود تخالف بينهم وبين من هم أشد منهم تخصصًا – باعتبارات منها موضوع التسهيل من جهة والاحتمال العقلائي بمطابقة الواقع وإن كانوا يرجحون ذلك.
وبتعبير آخر ليس هناك علم بالإلزام العقلائي بالرجوع إلى الأعلم مع كون الطرف الآخر حائزًا للشروط المطلوبة (2) ونحن نتحدث في مجال تشريعي علم فيه أن الاجتهاد هو طريق شرعي مقبول، وهو متوفر في كليهما حسب الفرض فلا معنى لتشبيه المورد بمجالات التردد الفردي بين المتخصصين في الأمور الخطيرة كما نراه عادة في كتابات العلماء. على أننا لا نعلم بالإمضاء الشرعي وخصوصًا إذا لاحظنا هذه السيرة المتشرعية العامة في الرجوع إلى الصحابة أيا منهم أو الرجوع إلى العلماء من أتباع الأئمة دونما نكير ودونما منع معتبر من مثل هذه الظاهرة المتسعة في عرض الزمان وطوله. بل كان الأئمة يرجعون إلى العلماء دونما اشتراط للأعلمية (3) .
__________
(1) التنقيح: كتاب الاجتهاد والتقليد تقريرات الغروي ص 142.
(2) يطرح الإمام الخميني كما في (تهذيب الأصول) 2 / 550 هذه الفكرة فيقول " ثم إنه ينبغي البحث عن بناء العقلاء في تقديم رأي الأعلم – لمخالفة إجمالاً أو تفصيلاً هل هو على نحو اللزوم أو من باب حسن الاحتياط؟ لا يبعد الثاني لكون الرأيين واجدين للهلاك وشرائط الحجية والأمارية ولكنه يعود فيناقش ما طرحه باعتبار أن أمر الشرع عظيم لا يتسامح فيه
(3) وتشهد لذلك روايات كثيرة يرجع فيها الإجماع إلى محمد بن مسلم الثقفي وأبي نصير ويونس بن عبد الرحمن، ومعاذ بن مسلم وأمثالهم دونما ملاحظة لهذا الشرط ولا معنى للقول: والإمام كان يعلم أنهم لا يختلفون في الفتوى بل يمكن ادعاء اليقين باختلافهم جريًا على طبيعة الحال. وكمثال لذلك نقل عن معجم الرجال للشيخوني (رحمه الله) 1 / 94 نقلاً عن المرحوم الكني في باب فضل الرواية والحديث الرواية التالية: عن جعفر بن وهب قال حدثني أحمد بن حاتم عن ماهويه قال: كنت معه (يعني أبا الحسن الثالث) عليه السلام أسأله عمن آخذ منه ديني؟ وكتب أخوه أيضًا: " لذلك نكتب إليهما: فهمت ما ذكرتما فاعتمدا في دينكما على كبير في حبنا، وكل كثير التقدم في أمرنا فإنهم كافوكما إن شاء الله تعالى ".(8/131)
على أن مسألة العسر تبدو صحتها يومًا بعد يوم خصوصًا مع افتراض سعة المساحة الإسلامية وتكاثر العلماء إلى حد كبير، والإسلام ينظر للأمور نظرته العامة الشاملة. وذلك يتضح بالخصوص إذا لاحظنا التصوير الذي نقلناه عن صاحب العروة عن الأعلمية.
ومن المناسب أن ننقل ما ذكره العلامة الكبير النجفي في هذا الصدد؛ إذ يقول:
إنما الكلام في نواب الغيبة بالنسبة إلى المرافعة إلى المفضول منهم وتقليده مع العلم بالخلاف وعدمه، والظاهر الجواز لإطلاق أدلة النصب المقتضي حجية الجميع على جميع الناس، وللسيرة المستمرة في الإفتاء والاستفتاء منهم مع تفاوتهم في الفضيلة ودعوى الرجحان بظن الأفضل يدفعها.. (مع إمكان منعها في كثير من الأفراد المنجبر نظر المفضول فيها في زمانه بالموافقة للأفضل في الأزمنة السابقة وبغيرها) .
إنه لا دليل عقلاً ونقلاً في وجوب العمل بهذا الرجحان في خصوص المسألة، إذ لعل الرجحان في أصل شرعية الرجوع إلى المفضول وإن كان الظن في خصوص المسألة بفتوى الفاضل أقوى نحو شهادة العدلين.
ومع فرض عدم المانع – عقلاً فإطلاق أدلة النصب بحاله ونفوذ حكمه في خصوص الواقعة يستلزم حجية ظنه في كليها وأنه من الحق والقسط والعدل وما أنزل الله فيجوز الرجوع إليه تقليدًا أيضًا.
بل لعل أصل تأهل المفضول وكونه منصوبًا يجري على قبضه وولايته مجرى قبض الأفضل، من القطعيات التي لا ينبغي الوسوسة فيها خصوصًا بعد ملاحظة نصوص النصب الظاهرة في نصب الجميع الموصوفين بالوصف المذكور لا الأفضل منهم وإلا وجب القول انظروا إلى الأفضل منكم لا (رجل منكم) كما هو واضح بأدنى تأمل.
ومن ذلك يعلم أن نصوص الترجيح أجنبية عما نحن فيه من المرافعة ابتداءً أو التقليد لذلك مع العلم بالخلاف وعدمه ومن الغريب اعتماد الأصحاب عليها في إثبات هذا المطلب حتى أن بعضًا منهم جعل مقتضاها ذلك مع العلم بالخلاف الذي عن جماعة دعوى الإجماع على تقديمه حينئذ لا مطلقًا فجنح إلى التفصيل في المسألة بذلك.(8/132)
وأغرب من ذلك الاستناد إلى الإجماع الحكمي عن المرتضى في ظاهر الذريعة والمحقق الثاني في صريح حواشي الجهاد من الشرائع على وجوب الترافع ابتداءً إلى الأفضل وتقليده بل ربما ظهر من بعضهم أن المفضول لا ولاية له أصلاً مع وجود الأفضل ضرورة عدم إجماع نافع في أمثال هذه المسائل، بل لعله العكس فإن الأئمة (ع) مع وجودهم كانوا يأمرون الناس بالرجوع إلى أصحابه من زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وغيرهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولى لقضاء بعض أصحابه مع حضور أمير المؤمنين (ع) الذي هو أقضاهم قال في الدروس " لو حضر الإمام في بقعة وتحوكم إليه فله رد الحكم إلى غيره إجماعًا ".
على أنه لم نتحقق الإجماع عن المحقق الثاني وإجماع المرتضى مبتنى على مسألة تقليد المفضول الإمامة العظمى مع وجود الأفضل.
وأخيرًا يقول: (فيجوز حينئذ نصبه والترافع إليه وتقليده مع العلم بالخلاف وعدمه) (1) .
ويقول المرحوم الحر العاملي وهو إخباري في معرض رده على الأصوليين: " إنه – أي القول بالتقليد – يستلزم وجوب معرفة المقلد بأن الذي يقلده مجتهد مطلق ولا سبيل له إلى ذلك كما لا يخفى فيلزم تكليفه بما لا يطيق وكذلك تكليفه بمعرفة الأعلم بين المجتهدين مع التعدد" (2) .
يقول صاحب كتاب ولاية الفقيه " وللقائل بعدم الاعتبار (للأعلمية) أن يستدل بـ ... استقرار السيرة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة على الرجوع والإرجاع إلى آحاد الصحابة من غير لحاظ الأعلمية مع وضوح اختلافهم في الفضيلة" (3) .
__________
(1) جواهر الكلام 2 / 24.
(2) الفوائد الطوسية للشيخ الحر العاملين ص 211.
(3) ولاية الفقيه 2 / 179 ورغم أنه يتحدث في باب القضاء إلا أن عبارته كعبارة صاحب الجواهر (رحمه الله) تشمل باب الفتوى أيضًا، وإن كانت عبارة صاحب الجواهر أصرح وهي تؤكد على حالة العلم بالخلاف أيضًا.(8/133)
ويقول الفاضل التوني (رحمه الله) المتوفى سنة 1021هـ في الوافية:
التقليد: وهو قبول قول من يجوز عليه الخطأ (1) من غير حجة ولا دليل ويعتبر في المفتي الذي يستفتى منه، بعد الشرائط المذكورة، على النحو المذكور، وأن يكون مؤمنًا ثقة (2) ولم يتعرض مطلقًا لشرط الأعلمية.
الدليل الثاني – مما استدلوا به على وجوب الرجوع إلى الأعلم دليل الإجماع وهذا الاستدلال باطل على أي نحو فسرنا الإجماع، فسواء أردنا به اتفاق الآراء أو أردنا به الاتفاق الكاشف عن رأي المعصوم فإنه هنا غير تام بعد وضوح عدم اتفاق الآراء فيه بل ربما يدعى الاتفاق على عدمه في بعض العصور وكذلك وضوح عدم كشفه عن رأي المعصوم (عليه السلام) .
الدليل الثالث – بعض الروايات منها مقولة عمر بن حنظلة (3) الدالة على تقديم حكم الأفقه، ولكنها واردة في مقام القضاء لا الفتوى.
ومنها ما جاء في عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر (اختر للحكم بين الناس أفضل عريتك) (4) وهي أيضا في باب القضاء.
ومنها: ما في كتاب الاختصاص من قوله صلى الله عليه وسلم ((إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها فمن دعى الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) (5) .
ولكنها مرسلة بالإضافة إلى أنها تتحدث عن مجال الولاية والحكومة.
ومنها: ما جاء عن الإمام محمد بن علي الجواد من قوله لعمه " يا عم إنه لعظيم عند الله أن تقف غدًا بين يديه فيقول لك / لما تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الأمة من أعلم منك " (6) .
وهي مرسلة لا يحتج بها بالإضافة إلى تركيزها على عدم علم المفتي.
__________
(1) الإخراج المعصوم. وهذا التعريف هو ما نص عليه الغزالي في المستصفى ج 2 ص 387.
(2) الوافية، الطبعة الجديدة بقم ص 299.
(3) وسائل الشيعة الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
(4) نهج البلاغة 4 / 30 طبعة بيروت.
(5) بحار الأنوار 2 / 110.
(6) نهج البلاغة 4 / 30 طبعة بيروت.(8/134)
الدليل الرابع – أن فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع فلا مناص من الأخذ بها.
وأجاب عنها السيد الخوئي (رحمه الله) بأن الأقربية إن أريد منها أن فتواه بالفعل أقرب فهذا لا نسلمه وإن أريد أن من شأن فتاواه أن تكون أقرب قلنا إن الأقربية الطبيعية لم تجعل ملاكًا للتقليد ولا لوجوبه (1) .
الدليل الخامس – هو الرجوع إلى الأصل العقلي في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير (بين الأعلم وغيره) .
ولكن بعد أن تم لدينا الدليل الاجتهادي (السيرة) فإنه ليس هناك مجال للرجوع إلى الأصل العقلي في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير باعتبار ما له من رتبة متأخرة. والغريب أن البعض من العلماء رجعوا إليه مباشرة وقبل مناقشة أي من الأدلة الاجتهادية المدعاة على أن في كون إنتاج هذا الأصل هو التعيين (للأعلم مثلا) كلاما لا مجال للتفصيل فيه (2) .
على أي حال فقد قلنا إن المشهور شهرة عظيمة بين المتأخرين من علماء الإمامية هو القول بالاشتراط (3) .
حكم التبعيض والتلفيق:
ونقصد بالتلفيق: عدم التقيد بفتوى مجتهد واحد والرجوع في مقام العمل إلى فتوى أكثر من واحد سواء كان ذلك في العمل المركب الارتباطي أو في الأعمال المستقلة عن بعضها.
__________
(1) التنقيح ص 147.
(2) يراجع بحوث المرحوم الشهيد الصدر في كتابه (دروس في علم الأصول) الحلقة الثالثة الجزء الأول ص 185 – 187.
(3) كما أن هذا هو رأي أكثرية أعضاء مجمع فقه أهل البيت (ع) بمدينة قم.(8/135)
وقد عرفه الألباني بأنه (هو الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد. وذلك بأن يلفق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر يتولد منها حقيقة مركبة لا يقول بها أحد كمن توضأ فمسح بعض شعر رأسه مقلدًا للإمام الشافعي وبعد الوضوء مس أجنبية مقلدًا للإمام أبي حنيفة فإن وضوءه على هذه الهيئة حقيقة مركبة لم يقل بها كل من الإمامين) (1) ومن الواضح أنه يتحدث عن عمل واحد في هذا المثال دون أن يكون التلفيق في الأجزاء الارتباطية وإنما قلد فردًا في جزء الوضوء وآخر في عدم ناقضية مس الأجنبية، ومن الطبيعي أن القائل بجواز التلفيق في عمل مركب ارتباطي يقول به – من باب الأولى – في أعمال مستقلة.
وقد عبر عن عملية التلفيق هذه في كتب الفقه الإمامي بالتبعيض وهو ما أرجحه باعتبار ما في مصطلح التلفيق من إيحاءات سلبية.
يقول المرحوم اليزدي في (العروة الوثقى) :
مسألة 33: " إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلد تقليدًا أيهما شاء ويجوز التبعيض في المسائل ".
ويقول في المسألة 45:
" في صورة تساوي المجتهدين يتخير بين تقليد أيهما شاء كما يجوز له التبعيض حتى في أحكام العمل الواحد حتى أنه لو كان – مثلاً – فتوى أحدهما وجوب جلسة الاستراحة واستحباب التثليث في التسبيحات الأربع، وفتوى الآخر بالعكس؛ يجوز أن يقلد الأول في استحباب التثليت والثاني في استحباب الجلسة ".
ويقول الإمام الخميني (رحمه الله) إذا كان المجتهدان متساويين في العلم يتخير العامي في الرجوع إلى أيهما، كما يجوز له التبعيض في المسائل يأخذ بعضها من أحدهما وبعضها من الآخر (2) .
__________
(1) عمدة التحقيق ص 91 – 92.
(2) تحرير الوسيلة 1 / 4.(8/136)
الآراء في المسألة وتاريخها:
حاول الشيخ الألباني استعراض جملة من الآراء فأكد على أن التلفيق وإن لم يكن في عصره صلى الله عليه وسلم باعتباره من العوارض التي لا يمكن وجودها حين التبليغ والتشريع، ولكنه كان ساريًا في عصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فقد كان المرء يستفتي بعضهم في مسألة ثم يستفتي غيره في غيرها، ولم ينقل عن أحد منهم قوله بوجوب مراعاة أحكام مذهب من قلده، ولم يؤثر ذلك عن الأئمة الأربعة وغيرهم من المجتهدين بل نقل عنهم ما يشير إلى خلاف ذلك.
ويستطرد فيقول " فظهر من هذا أن أخذ المستفتي في عهد السلف بقول أحد علماء الصحابة في مسألة وأخذه بقول غيره من الصحابة أو التابعين في مسألة ثانية لا يقال له تلفيق، ولو أدى إلى تركب حقيقة لم يقل بها المفتيان؛ بل هو من قبيل تداخل أقوال المفتين بعضها في بعض تداخلا طبيعيًّا غير ملحوظ ولا مقصود، وكتداخل اللغات بعضها ببعض في لسان العرب" (1) .
وهكذا اعتبر طرح مسألة التلفيق بهذا النحو أمرًا مستحدثًا. ونقل عن العلامة الكواكبي في كتابه (أم القرى) الإنكار على منكري جواز التلفيق وقوله: " والحال ليس ما يسموه التلفيق إلا عين التقليد " وأضاف " وكل مقلد عاجز طبعًا عن الترجيح بين مراتب المجتهدين فبناء عليه يجوز له أن يقلد في كل مسألة دينية مجتهدًا ما، ويضيف: وهل يتوهم مسلم أن أبا حنيفة كان يمتنع أن يأتم بمالك أو يأبى أن يأكل ذبيحة جعفر، كلا بل كانوا أجل قدرًا من أن يخطر لهم هذا التعصب على بال ".
ثم نقل عن ابن تيمية ما ملخصه (إن تكليف العامي بتقليد الأعلم في الأحكام فيه حرج وتضييق، ثم ما زال عوام كل عصر يقلد أحدهم لهذا المجتهد في مسألة، وللآخر في أخرى، ولثالث في ثالثة، وكذلك إلى ما لا يحصى. ولم ينقل إنكار ذلك عليهم ولم يؤمروا بتحري الأعلم والأفضل في نظرهم) .
ثم إنه استند إلى ما هو الشائع من أنه لا يجب التزام مذهب معين وهكذا استمر في تأييد هذا المنحى بنقل مختلف الأقوال.
ومن المناسب أن ننقل هنا نصا للشيخ عبد العلي الأنصاري في فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت لابن عبد الشكور إذ يقول " وقيل: لا يجب الاستمرار ويصح الانتقال، وهذا هو الحق الذي ينبغي أن يؤمن به ويعتقد به لكن لا ينبغي أن يكون الانتقال للتلهي، فإن التلهي حرام قطعًا في التمذهب كان أو في غيره؛ إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله تعالى والحكم له، ولم يوجب على أحد أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة، فإيجابه تشريع جديد. ولك أن تستدل عليه بأن اختلاف العلماء رحمة بالنص وترفيه في حق الخلق) .
__________
(1) عمدة التحقيق ص 94.(8/137)
أما الإمامية: فرغم أننا نقلنا عن إمام كبير من فقهائهم جواز التبعيض وهو منقول عن غيره أيضًا. إلا أنه لم يكن معروفًا لديهم باعتبار مشهورية فتوى ضرورة تقليد الأعلم شهرة عظيمة، وقلة الموارد التي يعلم فيها بالتساوي في المرتبة العلمية حتى ينطرح مثل هذا الموضوع.
وعلى أي حال فالمهم هو الاستدلال للأمر والرجوع إلى أدلة الاجتهاد والتقليد لمعرفة الحق في البين، أما الأقوال فإنما يستأنس بها إذا لم تصل إلى حد الإجماع الكاشف عن نظر الشارع (1) .
رأي المرحوم السيد الحكيم (رحمه الله) :
فالإمام الحكيم يقول في مستمسكه في ذيل المسألة 33 من مسائل (العروة الوثقى) ما يلي:
" قد عرفت أنه مع اختلاف المجتهدين في الفتوى تسقط إطلاقات أدلة الحجية عن المرجعية، وينحصر المرجع بالإجماع، فمشروعية التبعيض تتوقف على عموم الإجماع على التخيير بينهما لصورة التبعيض ولم يتضح عموم الإجماع ولم أقف عاجلاً على من ادعاه، بل يظهر من بعض أدلة المانعين عن العدول في غير المسألة التي قد قلد فيها المنع عن التبعيض، فراجع كلماتهم ومثلها دعوى السيرة عليه في عصر المعصومين، فالتبعيض إذًا لا يخلو من إشكال.
نعم بناء على كون التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين لا مانع من التبعيض لإطلاقه أدلة الحجية " (2) .
وقد وضح هذا في موضع آخر فقال ما ملخصه: إن التقليد هو العمل اعتمادًا على رأي الغير، فإن اتفق المجتهدون أمكن تقليدهم جميعًا ولا يشترط التعيين، وإن اختلفوا امتنع أن يكون الجميع حجة للتكاذب الموجب للتنقاض ولا واحد معين لأنه بلا مرجح ولا التساقط لأنه خلاف الإجماع والسيرة، فالحجة ما يختاره وهو الالتزام فالالتزام مقدمة للتقليد لا عينه (3) .
__________
(1) ذيل المستصفى من علم الأصول 2 / 4.
(2) مستمسك العروة الوثقى 1 / 42.
(3) مستمسك العروة الوثقى، ص 11 – 13.(8/138)
وذكر في ذيل المسألة 45 من (العروة الوثقى) :
" إنه قد يشكل في العمل الواحد الارتباطي الذي تم العمل فيه بفتويين فهو أمر تخالفه الفتويان معًا. وأجاب: إننا بعد البناء على جواز التبعيض لا نقدح مخالفة كل مجتهد على حدة في غير مورد التقليد لهما " وأضاف:
" فإن قلت: المجتهد المفتي بعدم وجوب جلسة الاستراحة إنما يفتي بذلك في الصلاة المشتملة على التسبيحات الثلاث، كما أن المفتي بالاقتصار على تسبيحة واحدة إنما يفتي بذلك فيما اشتمل على جلسة الاستراحة، فترك جلسة الاستراحة والاقتصار على تسبيحة واحدة ليس عملاً بفتوى المجتهدين ولو على نحو الانضمام.
قلت: الارتباط بين الأجزاء في الثبوت والسقوط لا يلازم الارتباط بينهما في الفتوى ".
فالمرحوم السيد الحكيم لا يجد هذا إشكالاً وإنما الإشكال في نظره هو سقوط الأدلة عن شمول الفتويين المتعارضتين من المجتهدين المتساويين ولا إجماع أو سيرة تشملهما فتمنحهما الحجية.
وهذا المعنى يمكن إسراؤه إلى حالة ما لو أفتينا بعدم اشتراط الأعلمية في التقليد وتعارضت فتويا العالمين.
إلا أننا حتى لو قبلنا مبناه في أن التقليد هو العمل وليس الالتزام بالعمل، أمكننا أن نقول بشمول الأدلة لحالتي التعارض بين الفتويين من باب ما أشرنا إليه من السيرة الجارية في كل العصور الأولى على الرجوع إلى المجتهدين والإرجاع إليهم. وطبيعي أن ذلك كان يتم مع العلم بالمخالفة بينهم؛ الأمر الذي يقرر الشمول لهذا المورد أيضًا.
رأي المرحوم السيد الخوئي:
وهو يرى أن التقليد هو الاستناد إلى رأي الغير في مقام العمل مستندًا في ذلك إلى أنه الذي تؤكده اللغة وما يتبادر من الأخبار (1) .
وعندما يعالج (رحمه الله) مسألة المجتهدين المتساويين المختلفين في الفتوى وموضوع شمول أدلة الحجية لكلتا الفتويين يؤكد أن التخيير بينهما – رغم أنه المعروف بين الأصحاب – مرفوض.
__________
(1) التنقيح – الاجتهاد والتقليد – تقريرات المرزا الغروي ص 77 – 81.(8/139)
فالإطلاقات لا يمكنها أن تشمل المتعارضين. والسيرة العقلائية الجارية على التخيير بينهما غير ثابتة؛ بل العقلاء يعتمدون الاحتياط وسيرة المتشرعة لم يحرز كونها متصلة بزمان الشارع، والإجماع منقول بخبر الواحد، ولا يمكننا الاعتماد عليه من جهة، ومن جهة أخرى فإنها مسألة مستحدثة لم يتعرض لها الفقهاء في كلماتهم.
هذا وقد قلنا بإمكان ادعاء السيرة المتشرعية؛ بل القطع بها لمن يلاحظ هذه الحالة الشائعة في كل العصور وخصوصًا في عصر صدر الإسلام.
على أنه من الممكن أن نتصور شمول أدلة الحجية للفتويين المتعارضتين، لا من باب اعتبار المكلف عالمًا بمضمون الفتويين معًا ليلزم منه الجمع بين الضدين أو النقيضين؛ بل من باب الجامع بين الفتويين. ولا مانع من تعلق الشوق المولوي بأحد فردين يحقق كل منهما غرضه، أو يقال: إن مصلحة التسهيل على المكلفين بإرجاعهم إلى المجتهدين – رغم العلم باختلافهم – تولد شوقًا إجماليا لعمل المكلفين بإحدى الفتاوى التي تمت من خلال عملية مشروعة، ولا نجد في هذا ضيرًا ومخالفة لأي أمر عقلي.
فقد توجه الدولة مثلاً مراكز متنوعة لتصدير الأوامر، وهي تعلم أن اجتهادات هذه المراكز قد تختلف في تفسيرها للقوانين واكتشاف مرادات الحاكم؛ إلا أنها تتغاضى عن ما يحدث نتيجة ذلك من مخالفات غير مقصودة تحقيقًا للمصلحة العليا وهي تطبيق قوانينها إلى أقصى حد ممكن. ولكي يتوضح هذا الأمر لنلاحظ إمكان أن يصرح الحاكم بهذا الموضوع دونما إحساس بأي نقص أو مشكلة في تقبل ذلك.
أما لغة الاحتياط فقد لا نجد لها مجالاً في كثير من الأحوال القانونية العامة خصوصًا إذا لاحظنا الأمر على الصعيد البشري العام.
وقد أشار السيد الخوئي رحمه الله في نهاية بحثه هنا إلى أننا قد نتصور جعل الحجية لكل منهما مشروطًا بالأخذ به، وهو أمر معقول ثبوتًا؛ إلا أنه ناقش فيه إثباتًا بأن الأدلة جعلت الحجية لفتوى الفقيه دون تقييد بعنصر الالتزام بها.
وهنا نقول بإمكان أن يدعي أحد بأنه رغم عدم التقييد بالالتزام في الموارد العادية فقد يمكن أن يدعي أن الفهم العرفي الذي يواجه حالة التخالف بين الموردين يلجأ إلى هذا التقييد.
ويتوضح هذا الفهم العرفي عندما نلاحظ ما جاء في الأخبار الدالة على التوسعة في الخبرين المتعارضين، وأن المكلف له أن يأخذ بأيهما شاء من باب التسليم طبعًا؛ إذا تغاضينا عن ما في سندها وعممنا دلالتها لغير الروايتين المتعارضتين؛ بل حتى لو لم نعمم ولم يتم إسنادها فإنها تكشف عن حالة عرفية في الفهم.(8/140)
وعلى أي حال، فقد يقال إن القائلين بأن التقليد هو الالتزام لا يواجهون هذه المشكلة وفيهم من أمثال صاحب الكفاية (رحمة الله عليه) وصاحب العروة حيث يقول " التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين وإن لم يعمل بعد ".
إلا أنه قد يقال هنا: إن الملحوظ في البين هو الطريقية – حتى على رأي هؤلاء – وليس المراد أخذ الالتزام بنفسه موضوعًا حتى يمكن أن تشمله الإطلاقات.
ثم إنه على رأي غالب علماء المذاهب الأربعة لابد من الصيرورة إلى جواز التلفيق أو التبعيض بعد أن لم يشترطوا الأعلمية من جهة، وبعد أن اعتبروا أنها جميعًا موصلة إلى الحق، ولم نعثر على حجة قوية للقائلين برفض التبعيض.
ثم إن السيد الخوئي (رحمه الله) في ذيل هذا البحث فرق بين حالتين: حالة عدم العلم باختلاف الفتويين، وحالة العلم بالاختلاف في مجال العمل بهما في عمل مركب واحد ارتباطي، فأجازها في الأولى ولم يجزها في الثانية حتى على تقدير التعميم في الدليل باعتبار أن صحة الأجزاء الارتباطية ارتباطية أيضًا، فإذا أتى بجزء طبق فتوى واحتمل بطلان ما أتى به واقعًا، وأتى بالجزء الآخر طبق فتوى الآخر واحتمل البطلان؛ فهو يشك في صحة صلاته ولا حجة معتبرة لديه في صحتها، ولا يفتي أي من المجتهدين بصحتها فلا بد من الإعادة وهو معنى البطلان.
والظاهر أن ما قاله المرحوم السيد الحكيم أمتن في البين.
ولم نستطع أن نتبين الفرق بين الحالتين بالنسبة لهذا المورد.
تتبع الرخص:
قلنا: إن هذه المسألة فرع لمسألة التلفيق، فإذا تم ما قيل في جوازه كان هناك مجال للحديث عن موضوع تتبع الرخص، يقول صاحب فواتح الرحموت: " ويتخرج منه، أي مما ذكر أنه لا يجب الاستمرار على مذهب، جواز اتباعه رخص المذاهب. قال في فتح القدير: لعل المانعين للانتقال إنما منعوا لئلا يتتبع أحد رخص المذاهب وقال هو رحمه الله تعالى: ولا يمنع منه مانع شرعي إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان إليه سبيل بأن لم يظهر من الشرع المنع والتحريم ... " (1) .
وأضاف صاحب الفواتح: " لكن لابد أن لا يكون اتباع الرخص للتلهي، كعمل حنفي بالشطرنج على رأي الشافعي قصد إلى اللهو، وكشافعي شرب المثلث للتلهي به. ولعل هذا حرام بالإجماع لأن التلهي حرام بالنصوص القاطعة" (2) .
__________
(1) العروة الوثقى، المسألة الثامنة من أبواب التقليد ص 4، من طبعة المكتبة العلمية بطهران.
(2) حاشية المستصفى للغزالي 2 / 404، طبعة دار صادر.(8/141)
فما هو الموقف من هذه الحالة؟
إن مقتضى جواز التلفيق جواز اتباع الرخص حتى ولو كان ذلك عن قصد، فما الداعي الذي دعى بعض العلماء إلى رفضه؟.
ما يمكن أن يذكر من دواعي الرفض هو:
أولاً: أن فتح هذا الباب يؤدي إلى التحلل فالإنسان ميال لتخفيف أعباء التكاليف، فإذا ما تتبع الرخص فقد صفة المؤمن الملتزم.
ثانيًا: إنه يؤدي إلى التحايل على الشرع وفتح منافذ لتطبيق الحرام بالتركيب بين ترخيصين مثلاً.
ثالثًا: أنه يؤدي إلى مخالفة حكم الحكم الشرعي.
رابعًا: أنه يؤدي إلى المضرة والمفسدة.
خامسًا: أنه يؤدي إجمالاً إلى حالة مقطوع بفسادها وحرمتها.
سادسًا: تفسيق متتبع الرخص على المرسل على ما جاء عن الإمام أحمد في رواية عنه.
سابعًا: أنه لا ينسجم مع حصر المذاهب بالمذاهب الأربعة والإجماع على لزوم اتباع أحدها بمفرده.
ومن الجدير بالذكر أن ما جاء في الأمر السابع أمر غريب جدًّا، فإن تتبع الرخص لا يتنافى في نفسه مع حصر المذاهب، ولا إجماع على لزوم اتباع أحد المذاهب الأربعة بمفرده؛ بل ليس هناك إجماع على لزوم حصر المذاهب بالأربعة. على أن كل الدواعي التي دعت إلى حصرها لا تجد لها ما يبررها إن قبلنا أنها كانت مبررة سابقًا – وهذا ما نرفضه أيضًا" كما رفضه الكثير من العلماء والمحققين (1) .
والذي أعتقد بأن هذه الدوافع المذكورة توجد بنحو الإجمال في بعض الحالات. الأمر الذي دفع العلماء إلى تحريم أصل هذا التتبع من باب سد الذرائع وتحريم مقدمة الحرام؛ بل إن بعض هذه الدواعي والموانع يشكل دليلاً – لو تحقق – على رد كل الموارد، وهو ما ذكر في الداعي الثالث حيث يتشكل علم إجمالي يمنع من العمل بأطرافه.
والحق هو أننا لا نستطيع أن نغلق بابًا ينسجم مع القواعد الشرعية – لو تمت – لمجرد أنه أمر يسهل فيه التحايل، أو قد يؤدي إلى المفسدة، أو مخالفة الحكم الشرعي إلا إذا غلبت هذه الأمور عليه وبشكل استثنائي.
__________
(1) يمكن هنا الرجوع إلى ماكتبه أستاذنا السيد محمد تقي الحكيم في (أصول الفقه المقارن ص 599.(8/142)
والحقيقة هي أنه يقل من يتتبع الرخص شخصيًّا وبقصد التلهي.. ودعنا من شعر الشعراء وقصص القاصين.. فالباب بنفسه مفتوح.
بعض الفوائد التي تتصور لانفتاح باب التبعيض والاستفادة من الرخص:
وما يمكن أن يذكر هنا من فوائد لانفتاحه يمكن تصويره بما يلي:
أولاً: ليس لنا أن نغلق بابًا للتسهيل تفتحه القواعد، فلماذا نمنع فردًا يستطيع الاستفادة من رخصة مذهب يعتبر بشرعيته إجمالاً، وربما كانت هناك حالات تؤثر فيها هذه الرخصة أثرًا كبيرًا كما في أمور الزواج والطلاق مثلاً.
ثانيًا: قد يتطلب التخطيط لبرنامج إسلامي موحد لتنظيم شؤون جانب حياتي اللجوء إلى فتوى معينة – ولا نصر على كونها ترخيصية – تنسجم مع المصلحة العامة وتشكل مع غيرها مجموعة متكاملة، وهو ما يسمى أحيانا بالدافع الذاتي في انتقاء الفتوى، وهذا ما يمكن أن يطرح مثلاً في مسألة توحيد أوائل الشهور القمرية أو مسألة عدم الاعتبار بطلاق الغضبان وغيرها.
ثالثًا: ربما يجد الباحث المسلم لكي يكتشف مذهبًا حياتيًّا كالمذهب الاقتصادي الإسلامي، أو المذهب الاجتماعي فتاوى منسجمة مع بعضها لدى مفتين متعددين لكنها تشكل وجهًا واحدًا لخط عام، فإنه يستطيع أن يطرح ذلك الخط كصورة اجتهادية عن المذهب المذكور؛ وهذا ما فعله المرحوم الشهيد الصدر – وهو من كبار المجتهدين – في كتابه (اقتصادنا) وقال مبررًا ذلك: " إن اكتشاف المذهب الاقتصادي يتم خلال عملية اجتهاد في فهم النصوص وتنسيقها والتوفيق بين مدلولاتها في اطراد واحد وعرفنا أن الاجتهاد يختلف ويتنوع تبعًا لاختلاف المجتهدين في طريقة فهمهم للنصوص وعلاجهم للتناقضات التي قد تبدو بين بعضها والبعض الآخر، وفي القواعد والمناهج العامة للتفكير الفقهي التي يتبنونها. كما عرفنا أيضا أن الاجتهاد يتمتع بصفة شرعية وطابع إسلامي ما دام يمارس وظيفته، ويرسم الصورة ويحدد معالمها ضمن إطار الكتاب والسنة ووفقًا للشروط العامة التي لا يجوز اجتيازها ...
وينتج عن ذلك كله ازدياد ذخيرتنا بالنسبة إلى الاقتصاد الإسلامي، ووجود صور عديدة له كلها شرعي وكلها إسلامي، ومن الممكن حينئذ أن نتخير في كل مجال أقوى العناصر التي يجدها في تلك الصورة وأقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام، وهذا مجال اختيار ذاتي يملك الباحث فيه حريته ورأيه " ويضيف:
" إن ممارسة هذا المجال الذتي ومنح الممارس حقًّا في الاختيار ضمن الإطار العام للاجتهاد في الشريعة قد يكون أحيانا شرطًا ضروريًّا من الناحية الفنية لعملية الاكتشاف".
ويضيف متسائلًا: " هل من الضروري أن يعكس لنا اجتهاد كل واحد من المجتهدين – بما يتضمن من أحكام – مذهبًا اقتصاديًا متكاملاً وأسسًا موحدة منسجمة مع بناء تلك الأحكام وطبيعتها؟
ونجيب على هذا السؤال بالنفي لأن الاجتهاد الذي يقوم على أساسه استنتاج تلك الأحكام معرض للخطر. وما دام كذلك فمن الجائز أن يضم اجتهاد المجتهد عنصرًا تشريعيًّا غريبًا على واقع الإسلام.. ولهذا يجب أن نفصل بين واقع التشريع الإسلامي كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وبين الصورة الاجتهادية كما يرسمها مجتهد معين (1) .
وهكذا يقول بأن فتح باب التبعيض وحتى باب اتباع الرخص – ولكن بشكل يبعده عن الابتذال – أمر مرغوب فيه.
والله أعلم
محمد علي التسخيري
__________
(1) اقتصادنا 2 / 380.(8/143)
الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه
إعداد
محمد رفيع العثماني
رئيس جامعة دار العلوم – كراتشي – والمفتي بها
باكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله الذي رفع الحرج بهذا الدين؛ الإسلام، فقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، والصلاة والسلام على نبينا محمد المصطفى المبعوث بالشريعة الحنيفية السمحة، وعلى آله وصحبه الذين قال لهم نبيهم الكريم – عليه الصلاة والسلام -: ((إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)) (1) وعلى من حذا حذوهم واتبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيلائم لنا قبل الخوض في البحث أن نقدم شيئًا من استحباب اليسر والرفق والتخفيف عند الله الكريم وعند نبيه الرؤوف الرحيم – عليه الصلاة والسلام.
بيان يسر هذا الدين وسماحته ورفع الحرج عنه:
فاعلم أن الله – سبحانه وتعالى – يحب الرفق واليسر في الأمر كله، ورد به كثير من نصوص الآيات والأحاديث نذكر بعضها نحو ما يلي:
1- آيات اليسر ورفع الحرج:
أما الآيات، فقال الله تعالى في القرآن العظيم:
1- {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
2- {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
3- {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [المؤمنون: 62] .
4- {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233] .
5- {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] .
6- {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] .
7- {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .
8- {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] .
9- {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
__________
(1) هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأداب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا) وكان يحب التخفيف على الناس، رقم 5752، وفي الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، رقم 219، والنسائي في المياه، باب التوقيت في الماء، رقم 330، والترمذي في الطهارة، رقم 147، وأحمد في مسنده 2 / 239، 282.(8/144)
2- أحاديث الرفق واليسر:
وأما الأحاديث فمنها ما يأتي:
1- عن عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله)) (1) .
2- وعنها أيضًا، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارفقي، فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء قط إلا شانه)) (2) .
3- وروى عبد الله بن مغفل – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله رفيق يحب الرفق)) (3) .
4- وروى أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن ... ثم قال: ((يسرا ولا تعسرا، بشرا ولا تنفرا)) (4) .
5- وعن عائشة – رضي الله تعالى عنها – أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سددوا وقاربوا ويسروا)) (5) .
6- وعن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا)) (6) .
7- وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه)) (7) .
8- وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، وبشروا)) (8) إلخ.
9 – وعن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)) (9) .
10- وعن محجن بن الأدرع – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره)) ثلاث مرات (10) .
11- وعنه أيضًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم أمة أريد بكم اليسر)) (11) .
12- وعن أبي هريرة –ر ضي الله عه عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن دين الله – عز وجل – في يسر)) ثلاثًا (12) .
13- وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا)) (13) .
__________
(1) هذا الحديث أخرجه البخاري في الأدب، باب كيف يرد على أهل الذمة السلام، رقم 5878، وباب الرفق في الأمر كله، رقم 5654، والترمذي في الاستيذان، باب ما جاء في كراهية التسليم على الذمي، رقم 2844، والدارمي في الرقاق، باب في الرفق، رقم 2797، وأحمد في مسنده 6 / 37، 85، 199، وابن ماجه في الأدب، باب الرفق رقم 3689.
(2) أخرجه مسلم في البر والصلة، باب في فضل الرفق، رقم 2574، وأبو داود في الأدب، باب في الرفق، رقم 4808، وفي الجهاد باب ماجاء في الهجرة، رقم 2478، وأحمد في مسنده 6/ 58، 112، 125، 171، 206، 222.
(3) أخرجه مسلم في البر والصلة، باب فضل الرفق، رقم 2593، وأبو داود في الأدب، باب في الرفق، رقم 4807، والدارمي في الرقاق، باب في الرفق، رقم 2796، وأحمد في مسنده 87/4، وأخرجه عن علي بن أبي طالب – رضي الله تعالى عنه – أيضا في 1 / 112، وابن ماجه في الأدب، باب الرفق، رقم 3688.
(4) أخرجه البخاري في المغازي، باب بعث أبي موسى.. إلخ، رقم 4341، 4342، وفي الأحكام، باب أمر الوالي إذا وجه أميرين.. إلخ، رقم 6732.
(5) أخرجه أحمد في مسنده 6 / 125.
(6) أخرجه البخاري في الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا) ... إلخ، رقم 5749، وأحمد في المسند عنه 3 / 131، 209 وعن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – 1 / 365.
(7) أخرجه البخاري في الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا) ... إلخ، رقم 5750، وأبو داود في الأدب، باب العفو والتجاوز في الأمر، رقم 4785، وأحمد في مسنده 6 / 116..
(8) أخرجه البخاري، رقم 38، والنسائي في الإيمان، باب الدين يسر، رقم 5034
(9) أخرجه البخاري في الإيمان في ترجمة باب (الدين يسر) وأحمد في مسنده 1 / 236 بلفظ: عنه (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة) وعن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه - 1 / 236، 5 / 266 بلفظ: (إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة) وعن عائشة – رضي الله تعالى عنها - 6 / 116 بلفظ: (إني أرسلت بحنيفية سمحة) وراجع فتح الباري 1 / 93 – 94.
(10) أخرجه أحمد في مسنده 4 / 338 و 5 / 32 عنه وعن أعرابي 3 / 479 إلا أن جملة: (إن خير دينكم أيسره) وردت في حديثه مرتين.
(11) أخرجه أيضا أحمد في المسند 5 / 32.
(12) أخرجه أيضا أحمد في المسند 5 / 69.
(13) أخرجه مسلم في الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إلا بالنية، رقم 1478، وأحمد في مسنده 3/ 328.(8/145)
فهذه النصوص من الآيات والأحاديث كلها تنادي بأعلى نداء أن الدين الإسلامي يسر لا عسر فيه ولا حرج، وليس في أحكامه ما يجاوز قوى الإنسان، أو ما يعنته.
ومن ضوء هذه النصوص استنبط الفقهاء – رحمهم الله تعالى – القواعد المشهورة المعروفة المذكورة في كتب " القواعد الفقهية " وجعلوها بمثابة نبراس يستضيئون به عند النوازل والوقائع، ويعالجون كثيرًا من المسائل والقضايا على أساسها – وهي كما يلي:
القواعد الفقهية الدالة على اليسر ورفع الحرج:
1- " المشقة تجلب التيسير " (1) .
2- " لا ضرر ولا ضرار " (2) .
3- " الضرر يزال " (3) .
4- " الضرورات تبيح المحظورات " (4) .
5- " يختار أهون الشرين " (5) .
6- " يتحمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام " (6) .
7- " الضرر الأشد يزال بالأخف " (7) .
8- " إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما " (8) .
9- "درء المفاسد أولى من جلب المنافع " (9) .
10- " إذا ضاق الأمر اتسع " (10) .
11- " إن ما عمت بليته خفت قضيته " (11) .
12- " لو كان أحدهما أعظم ضررًا من الآخر، فإن الأشد يزال بالأخف " (12) .
فهذا بعض ما تيسر لي إيراده من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والقواعد الفقهية، فيه ما يبين أن الدين يسر ورحمة لنا، قد رفع عنا العسر والحرج، كيف وقد سمى الله – سبحانه وتعالى – نفسه بـ " الرحمن " و "الرحيم " وسمى نبيه – عليه الصلاة والسلام – بـ " الرؤوف " وأرسله رحمة للعالمين، وأنزل كتابه بالرحمة، فقال خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] . وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) } [النمل: 76] .
معنى رفع الحرج:
فوضح أن الشرع لم يأت ولم يكلف بما لا يطيقه الإنسان أو يعنته؛ بل شرع من الأحكام الأصلية ورخص ما يناسب أحوال المكلفين.
ولكن ليس معنى أن الشرع أطلق العنان للمكلفين، ومنح لكل أحد الحرية لأن يترك كل عمل يحسبه عسيرًا، وإنه لو كان كذلك لانفتح باب الإباحة، وانغلق باب التكليف، وتعطلت الشرائع، وانسد باب العمل الذي خلق له الإنسان، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
والظاهر أن المقصود من الشرع تزكية النفس، وانتظام الأمور الدنيوية والأخروية، ورضى الحق – سبحانه وتعالى – وذلك لا يحصل إلا بالعمل بالشريعة، ويعلم كل من له أدنى شعور أنه لا يخلو عمل مطلوب شرعًا من نوع كلفة، ومن هنا سمي تكليفًا، لأن فيه نوع مشقة، ولو لم يكن فيه إلا مخالفة الهوى لكن كافيًا في كونه شاقًّا على النفس، لكن هذا القدر من المشقة ليس مانعًا من التكليف.
فالكلفة والمشقة التي توجد في كثير من المطلوبات الشرعية هي كلفة معتادة لا يمنع التكليف معها، وهي داخلة في حدود الاستطاعة والوسع المذكور في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
كما أن الأعمال الدنيوية ككسب المعاش فيها كلفة، بل كثير من أعمال النزهة والتفرج لا يخلو من مشقة وكلفة أيضًا: ومع هذا لا يعد شاقا، ولا يتقاعس الناس من أجلها عن ذلك العمل لكون الكلفة والمشقة فيه عادية، بل أهل العقول يعدون المنقطع عنه كسلان، والناس يذمونه بذلك، فكذلك المعتاد في التكاليف.
وهذا كما قاله العلامة الشاطبي – رحمه الله تعالى -: " وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة والتي تعد مشقة، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه، أو من وقوع الخلل في صاحبه في نفسه أو ماله، أو حال من أحواله، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة، وإن سميت كلفة (13) .
فعلى هذا ليس كل مشقة تجلب التيسير والتخفيف والرخص، بل المشقة غير المعتادة هي التي تجلب التيسير والتخفيف، وهذه هي المرادة من النصوص والقواعد الفقهية التي ذكرناها آنفًا.
__________
(1) القاعدة الرابعة في الأشباه والنظائر لابن نجيم، والقاعدة الثالثة في أشباه الإمام السيوطي، وغيرهما من كتب القواعد الفقهية.
(2) مجلة الأحكام، رقم 19.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم، القاعدة الخامسة، وأشباه السيوطي، ومجلة الأحكام، رقم 20، وشرح القواعد الفقهية ص 125.
(4) أشباه ابن نجيم تحت القاعدة الخامسة، ومجلة الأحكام، رقم 21، وشرح القواعد ص 131.
(5) مجلة الأحكام، رقم 29.
(6) أشباه ابن نجيم، والمجلة، رقم 26، وشرح القواعد ص 143.
(7) مجلة الأحكام، رقم 27.
(8) أشباه ابن نجيم تحت القاعدة الخامسة، ومجلة الأحكام، رقم 28، وشرح القواعد ص 147.
(9) أشباه ابن نجيم تحت القاعدة الخامسة، والمجلة، رقم 30.
(10) شرح القواعد الفقهية ص 111، والمجلة رقم 18، وأشباه ابن نجيم تحت القاعدة الرابعة.
(11) أشباه ابن نجيم.
(12) أشباه ابن نجيم.
(13) الموافقات 2 / 122 – 125.(8/146)
الأخذ بالرخص وحكمه
قبل أن ندخل في صلب الموضوع يجدر بنا أن نذكر تعريف الحكم الشرعي وأقسامه فإن الحكم الشرعي هو الذي يتضمن العزيمة والرخصة
الحكم الشرعي:
فالحكم الشرعي هو ما ثبت بخطاب الله تعالى المتعلق بفعل العباد بالاقتضاء (كوجوب الصلاة وحرمة الخمر) أو التخيير (كإباحة أكل اللحم) أو الوضع (ككون الزنى سببًا لوجوب الحد) .
لا يقال هذا التعريف لا يشمل ما ثبت بالسنة والإجماع والقياس. لأنه لا يصدق عليه أنها خطاب الله، ولأنا نقول: إن كلا من السنة والإجماع والقياس كاشف ومظهر عن خطاب الله تعالى، فالثابت بها ثابت بخطاب الله تعالى، وهو معنى كون كل منهما دليل الحكم.
والحكم الشرعي على قسمين: الحكم الوضعي، والحكم التكليفي (1) .
الحكم الوضعي وأقسامه:
فالحكم الوضعي هو ما وضعه الشارع لإضافة الحكم إليه، لتعرف به الأحكام تسهيلاً علينا، فهو لا يتعلق بطلب فعل أو ترك له، وهو ثلاثة:
1- السبب؛ كجعل الزنا سببًا لوجوب الحد، والوقت المخصوص لوجوب الصلاة والصوم.
2- والشرط؛ كجعل القدرة على تسليم المبيع شرطًا لصحة البيع، والطهارة لصحة الصلاة.
3- والمانع؛ كجعل الأبوة مانعة للقصاص مع وجوب السبب، وهو القتل العمد ظلمًا.
الحكم التكليفي واقسامه:
والحكم التكليفي ما ثبت بخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، والمراد بالاقتضاء طلب الفعل مع المنع عن الترك، وهو الإيجاب أو بدونه، وهو الندب، أو طلب الترك مع المنع من الفعل وهو التحريم، أو بدونه وهو الكراهة. ومعنى التخيير إباحة الفعل والترك.
وتنقسم الأحكام التكليفية التي شرعها الله تعالى لعباده إلى عزيمة ورخصة (2) .
__________
(1) تسهيل الوصول إلى علم الأصول لفضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن المحلاوي القاضي رحمه الله تعالى ص 242 – 245.
(2) تسهيل الوصول إلى علم الأصول للمحلاوي رحمه الله تعالى ص 247.(8/147)
العزيمة وأقسامها:
أما العزيمة: فهي لغة: القصد المؤكد، كما قال الله تعالى عن آدم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] . أي: قصدًا مؤكدًا، وسمى بعض الرسل " أولي العزم " لتأكد قصدهم في طلب الحق (1) ، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] . أي: أولو الجد والثبات والصبر.. إلخ (2) .
وشرعًا: فهي ما شرع ابتداء غير مبني على أعذار العباد، سواء كان متعلقًا بالفعل، كالمأمورات، أو متعلقًا بالترك، كالمحرمات. وهي على ستة أنواع عند الحنفية: الفرض، والواجب، والسنة، والنفل (المندوب) ، ووالحرام، والمكروه تحريمًا.
قال النسفي – رحمه الله تعالى – في شرحه على المنار: وقيل: إن النفل ليس بعزيمة، لأنه شرع جبرًا لنقصان ما يمكن في العزيمة، وهي الفريضة – قلنا: ذاك في قصد الأداء لا في الشرعية فهو مشروع ابتداءً كسائر العزائم.
والمراد بالعزيمة ما يترتب عليه الجزاء من العزائم، فليس المياه منها، والمكروه تنزيهًا أدخله بعضهم في المباح (3) .
الرخصة في اللغة:
والنوع الثاني من الأحكام التكليفية، الرخصة، وهي بضم الراء المهملة وتسكين الخاء، وحكي بضمتين مشتقة من الرخص، (بضم الراء المهملة وسكون الخاء) وهو ضد الغلاء والعزيمة.
فهي عبارة عن اليسر والسهولة، يقال: "رخص السعر " إذا اتسعت السلع وكثرت، وسهل وجودها، وتيسرت إصابتها (4) لكثرة وجود الأشكال وقلة الرغائب فيها (5) و " رخص الشارع لنا في كذا " إذا يسره وسهله (6) .
__________
(1) المستصفى للإمام الغزالي 1 / 62.
(2) كشف الأسرار على المنار للمصنف النسفي 1 / 448، ط دار الكتب.
(3) تسهيل الوصول إلى علم الأصول للمحلاوي رحمه الله تعالى ص 247.
(4) أصول الإمام السرخسي 1 / 117.
(5) أصول الإمام السرخسي 1 / 148.
(6) انظر القاموس 2 / 304، وشرحه " تاج العروس " للزبيدي 4 / 397، ولسان العرب 8 / 306، وصحاح الجوهري 3 / 1041، والقاموس الفقهي ص 146، ومجموعة قواعد الفقه ص 305، والتعريفات للجرجاني ص 97، وشرح المنار لابن ملك 1 / 593، وأصول الإمام البزدوي ص 136.(8/148)
الرخصة في عرف اللسان:
والرخصة في عرف اللسان تستعمل في الإباحة على طريق التيسير، يقول الرجل لغيره: " رخصت لك في كذا " أي: أبحته لك تيسيرًا عليك (1) .
الرخصة في الاصطلاح:
وأما الرخصة في الاصطلاح فعرفها الأصوليون بعبارات مختلفة لكنها متقاربة المعنى، كما يأتي:
1- قال المحقق ابن الهمام – رحمه الله تعالى- في التحرير آخرًا: " الرخصة ما تغير من عسر إلى يسر من الأحكام " (2) .
2- ويقول العلامة نظام الدين الشاشي – رحمه الله تعالى -: " الرخصة في الشرع: صرف الأمر من عسر إلى يسر بواسطة عذر في المكلف " (3) .
4- وقيل: " هي ما بني على أعذار العباد " (4) .
4- " ما تغير من عسر إلى يسر " (5) .
5- وقال في رد المحتار: " هي ما بني على أعذار العباد، ويقابلها العزيمة، وهي ما كان أصلها غير مبني على أعذار العباد " – وقال -: " وهو الأصح في تعريفهما " (6) .
6- وقيل: " إن الرخصة اسم لما تغير عن الأمر الأصلي إلى تخفيف ويسر ترفيهًا وتوسعة على أصحاب الأعذار " (7) .
7- ويقول العلامة الشاطبي – رحمه الله تعالى -: " وأما الرخصة فما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه " (8) .
8- وعرفها البيضاوي – رحمه الله تعالى – بقوله: " الحكم إن ثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة، وإلا فعزيمة " (9) .
9 – وقال ابن السبكي – رحمهما الله تعالى -: " الحكم الشرعي إن تغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي فرخصة، وإلا فعزيمة " (10) .
10 - ويقول المحلاوي – رحمه الله تعالى -: " وأما الرخصة ... اصطلاحًا (فهي) السهولة في الحكم المتغير إليه لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي المتغير" (11) .
11- وعرفها المحقق ابن الهمام – رحمه الله تعالى – " بما شرع تخفيفًا لحكم مع اعتبار لدليله قائم الحكم لعذر، أو متراخيًا عن محلها، كفطر المسافر " (12) .
__________
(1) أصول الإمام السرخسي 1 / 117.
(2) التحرير 2 / 148.
(3) انظر آخر أصوله ص 105.
(4) التعريفات للجرجاني ص 97.
(5) مجموعة قواعد الفقه للمفتي عميم الإحسان الداكوي ص 305.
(6) رد المحتار، باب المسح على الخفين 1 / 264.
(7) تسهيل الوصول إلى علم الأصول للمحلاوي ص 248.
(8) الموافقات 1 / 301.
(9) المنهاج مع شرحه " نهاية السول " على هامش التقرير والتحبير 1 / 52 – 53، ومع شرحه "الإبهاج " 1 / 81.
(10) جمع الجوامع مع شرح الجلال المحلي وحاشية العطارعلى جمع الجوامع 1 / 160 – 165.
(11) تسهيل الوصول ص 248.
(12) التحرير مع التقرير والتحبير 2 / 146، 147.(8/149)
12- وعرفها السيرفي – رحمه الله تعالى – " بما تغير من عسر إلى يسر لعذر مع بقاء الأصل مشروعًا " (1) .
13- وقال الجرجاني: " إن الرخصة في الشريعة اسم لما شرع متعلقًا بالعوارض، أي: بما استبيح بعذر مع قيام الدليل المحرم " (2) . وبه عرفها المفتي عميم الإحسان الداكوي – رحمه الله تعالى – أيضا (3) .
14- ويقول الإمام فخر الإسلام البزدوي – رحمه الله تعالى – " إن الرخصة اسم لما بني على أعذار العباد، وهو ما يستباح بعذر مع قيام المحرم " (4) .. وزاد عليه الإمام السرخسي – رحمه الله تعالى -: " وللتفاوت فيما هو أعذار العباد يتفاوت حكم ما هو رخصة " (5) .
15- وعرفها الآمدي – رحمه الله تعالى – بقوله: " الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام الدليل المحرم " (6) . وبه عرفها العلامة ابن الحاجب (7) والتفتازاني (8) – رحمهما الله تعالى.
تنبيهات:
1- المراد بقيام الدليل كونه سالمًا من النسخ والمعارضة المسقطة.
2- إن الرخصة لابد لها من دليل شرعي فوق العذر، وإلا لزمت مخالفة الدليل الشرعي القائم من غير دليل.
3- ذهبت طائفة من الأصوليين إلى أن الرخصة من أقسام الحكم التكليفي، كما فعلناه فيما سبق حيث قسمنا التكليفي إلى عزيمة ورخصة، وذهبت طائفة منهم إلى أنها من أقسام الحكم الوضعي.
والذي فهمته من كلامهم أن الرخصة من أقسام الحكم التكليفي من وجه، ومن أقسام الحكم الوضعي من وجه، فمن حيث كونها واجبة، أو مندوبة، أو مباحة هي من الحكم التكليفي، ومن حيث كونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف هي من الحكم الوضعي، ولا مانع من اجتماع التكليف والوضع في الرخصة من جهتين، كما حققه ابن أمير الحاج في شرحه على التحرير (9) . فإن إيجاب الجلد للزاني مثلاً من أحكام التكليف من وجه وهو ظاهر، ومن أحكام والوضع من حيث كونه مسببًا عن الزنا (10) . فالخلاف في هذا لفظي لا يترتب عليه ثمرة.
__________
(1) فتح الغفار للعلامة ابن نجيم 2 / 68.
(2) التعريفات ص 97.
(3) مجموعة قواعد الفقه ص 305.
(4) كنز الوصول إلى معرفة الأصول ص 136.
(5) أصول الإمام السرخسي 1 / 117.
(6) الإحكام في أصول الأحكام 1 / 122.
(7) مختصر ابن الحاجب 2 / 8.
(8) التلويح على التوضيح 2 / 613.
(9) التقرير والتحبير 2 / 153.
(10) تسهيل الوصول ص 251 و 252.(8/150)
حاصل ما مر من تعريفات الرخصة:
إذا نظرنا فيما مر من تعريفات الرخصة لدى العلماء ظهر لنا أنهم متفقون على معنى الرخصة اصطلاحًا، وإن اختلفت عباراتهم.
وحاصله: " أن الرخصة هي الحكم الذي تغير من عسر إلى يسر توسعة على أصحاب الأعذار مع قيام الدليل للحكم الأصلي " إلا أن طائفة منهم سكتوا عن قيد: " مع قيام الدليل للحكم الأصلي " وما في معناه، كما رأيته في التعريفات الثمانية الأول، وطائفة منهم ذكروا هذا القيد، كما في التعريفات الباقية.
ولعل سبب هذا أن من أراد إدخال الرخصة المجازية في التعريف لم يقيده بهذا القيد، ومن لم يرد إدخالها فيه وخص التعريف بالرخصة الحقيقية فقط قيده بهذا، كما سيتضح لك في بيان أنواع الرخصة الآتية عند الحنفية.
أنواع الرخصة:
للأصوليين في بيان أنواع الرخصة منهجان: منهج الحنفية، ومنهج الشافعية وموافقيهم.
أنواع الرخصة عند الحنفية:
أما الحنفية فقسموها إلى نوعين: رخصة حقيقية، ورخصة مجازية، ثم قسموا الحقيقية أيضا إلى نوعين، أحدهما أحق من الآخر، أي: أقوى في كونه رخصة حقيقية. وكذا المجازية عندهم نوعان، أحدهما أتم من الآخر، أي: أكمل في كونه مجازا، فالرخصة عندهم أربعة أنواع (1) .
__________
(1) نور الأنوار مع كشف الأسرار: 1 / 463.(8/151)
النوع الأول:
وهو أحق نوعي الحقيقة، أي: أقوى وأثبت في كونها رخصة حقيقية، وهي ما عوملت معاملة المباح في سقوط المؤاخذة عن من عمل بها (1) مع أن الحكم الأصلي، وهو الحرمة قائم، لقيام الدليل.
مثاله: سقوط المؤاخذة عن من أكره بما يخاف على نفسه بالقتل أو على عضو منه بالقطع (2) على إجراء كلمة الكفر، فإنه يرخص له إجراء قول الكفر على لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، فالحكم الأصلي، وهو حرمة قول الكفر قائم لم ينسخ، ودليله قائم أيضًا، وهو النصوص الدالة على حرمة الكفر، سواء كان باللسان أو بالقلب، لكن جاء العذر، وهو الإكراه بالقتل أو القطع، فرخص له إجراء كلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، ودليل الرخصة قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .
ولأن حقه في نفسه يفوت بالامتناع من إجراء كلمة الكفر صورة ومعنى، أما صورة فبتخريب البنية، وأما معنى فبزهوق الروح، وفي الإجراء لا يفوت حقه تعالى لقيام الركن الأصلي، وهو التصديق بالقلب، واستدامة الإقرار باللسان في كل وقت ليس بركن إلا أن في إجراء كلمة الكفر هتك حرمة حق الله تعالى صورة، وفي الامتناع من الإجراء مراعاة لحقه صورة ومعنى.
فحرمة إجراء كلمة الكفر عزيمة، فلو صبر وامتنع من الإجراء حتى قتل، أو قطع عضو منه كان مأجورًا، وسقوط المؤاخذة بإجراء كلمة الكفر على لسانه مع كونه حرامًا رخصة بمعنى أنه لا يعاقب فاعله إذا أكره عليه، لا بمعنى أنه صار مباحًا، لأن حرمة الكفر قائمة أبدًا، لقيام الدليل المحرم، فلا يلزم من سقوط المؤاخذة ثبوت الإباحة وسقوط الحرمة، كمن ارتكب كبيرة فعفي عنه، فإن العفو لا يصير الكبيرة مباحة (3) .
فهذه الرخصة تشبه المباح في سقوط المؤاخذة عن من عمل بها، ويخالفه في كون التارك لها مأجورًا، لأن حقيقة المباح ما استوى طرفاه، أي: فاعله وتاركه سواء لا يعاقب ولا يثاب.
__________
(1) أي لا أنه يصير مباحًا في نفسه، كما في المصدر السابق.
(2) لا بما دونه، كما في المصدر السابق.
(3) تسهيل الوصول ص 248، ونور الأنوار مع كشف الأسرار 1 / 462.(8/152)
ومثاله أيضًا: سقوط المؤاخذة بالإفطار في رمضان عن الصائم إذا أكره عليه، مع أن الحكم الأصلي، وهو حرمة الإفطار قائم لم ينسخ، لقيام الدليل، وهو قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . لكن جاء العذر، وهو الإكراه، فرخص له في الإفطار، ودليل الرخصة: أن حق الله تعالى لا يفوت لإمكان تداركه بالقضاء، وحق المكره في نفسه يفوت بالامتناع من الإفطار، لا يمكن تداركه، فجاز له الإفطار بمعنى أنه سقط المؤاخذة عنه.
وكذلك إذا أكره على إتلاف مال الغير، فإنه يرخص له ذلك مع أن الحكم الأصلي قائم، وهو حرمة الإتلاف، لقيام الدليل المحرم، وهو النصوص الدالة على حرمة مال الغير، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا)) (1) ودليل الرخصة أن حق المكره في نفسه يفوت، ولا يمكن تداركه، وحق الغير يمكن تداركه بضمان المثل أو القيمة.
وكذا إذا ترك الخائف على نفسه الأمر بالمعروف جاز له ذلك بشرط أن يكون كارهًا لذلك بقلبه، مع أن الحكم الأصلي قائم، وهو حرمة ترك الأمر بالمعروف، لقيام الدليل، وهو النصوص الدالة على حرمة الترك، كقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } [العصر] .
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم 1218. وأبو داود في المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم 1905، 1907، 1908، 1909. والنسائي في الحج، باب الكراهية في الثياب المصبغة للمحرم، وباب ترك التسمية عند الإهلال، وباب الحج بغير نية يقصده المحرم، وباب العمل في الإهلال، وباب إهلال النفساء، وباب سوق الهدى، وباب كيف يطوف، وغيرها من مواضع شتى 5 / 143، 144 وأخرجه أيضا ابن ماجه في المناسك، باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم 3074.(8/153)
ودليل الرخصة قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (1) ولأن حق المكره يفوت رأسًا إذا أقدم على الأمر بالمعروف.
وحق الله تعالى باق غير فائت تداركه اعتقاد حرمة الترك (2) ، ولهذا النوع أمثلة كثيرة (3) .
وهذا القسم الرخصة فيه أكمل، لأن العزيمة في مقابلتها أكمل، فإن الحكم الأصلي، وهو الحرمة، ودليله قائمان، وأكملية الرخصة لأكملية العزيمة، وهذا كما قيل: " وبضدها تتبين الأشياء ".
حكم هذا النوع:
حكم هذا النوع من الرخصة أن الأخذ بالعزيمة أولى مطلقًا، لبقاء الدليل المحرم والحرمة، حتى لو تحمل ما أكره به وامتنع عما هو الرخصة وقتل كان شهيدًا، لكونه باذلاً نفسه لإقامة حق الله تعالى، وقد روي (4) أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – فقال لأحدهما: " ما تقول في محمد "؟ قال: " رسول الله " قال: " فما تقول في "؟ قال: " أنت أيضا " فخلاه، وقال لآخر: " ما تقول في محمد "؟ قال: " رسول الله " قال: " فما تقول في؟ " قال: " إنما أنا أصم " فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم – فقال: ((أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئًا له ")) (5) .
النوع الثاني:
أما النوع الثاني من الرخصة فما استبيح فعله مع قيام السبب المحرم الموجب لحكمه إلا أن الحكم، وهو الحرمة، متراخ عن السبب إلى زمان زوال العذر، فقد اتصل بالسبب عذر مانع منعه أن يعمل عمله في الحال.
فهذا النوع أهون من الأول، لأنه من حيث إن سبب الحرمة قائم فهو من الرخص الحقيقية، ومن حيث أن حكم السبب، وهو الحرمة تراخى عنه كان غيره أحق، لأن كمال الرخصة مبني على كمال العزيمة المقابلة لها، فإذا كان الحكم الأصلي وهو العزيمة ثابتًا مع سببه؛ أي من غير تراخ كان في كونه عزيمةً أقوى مما إذا كان متراخيًا عن السبب، كالبيع بشرط الخيار مع البيع الثابت، فحكم البيع وهو الملك في المبيع للمشتري ثابت في الحال من غير تراخ بالبيع الثابت، متراخ عن السبب، وهو العقد، في البيع بشرط الخيار.
__________
(1) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – في الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم 49، وتمامه: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيد، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وأخرجه أيضا الترمذي في الفتن، باب ما جاء في تغيير المنكر باليد، رقم 2173، وأبو داود في صلاة العيدين، باب الخطبة يوم العيد، رقم 1140، وفي الملاحم، باب الأمر والنهي، رقم 4340، والنسائي في الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان 8 / 111، وابن ماجه في الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم 4013.
(2) تسهيل الوصول ص 284 بزيادة إيضاح وتفصيل، وكشف الأسرار مع نور الأنوار 1 / 118 – 119.
(3) انظر أصول السرخسي 1 / 118، 119.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة قال: حدثنا إسماعيل بن علية عن يونس عن الحسن، (أن عيونًا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين، فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: " نعم " قال: "أتشهد أني رسول الله؟ " فأهوى إلى أذنيه، وقال: "إني أصم" فأعاد عليه، فقال مثله:، فأمر بقتله. وقال للآخر: "أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ " قال: "نعم " قال: "أتشهد أني رسول الله؟ " قال: "نعم " فأرسله. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هلكت "، فقال: " وما شأنك؟ " فأخبره بقصته وقصة صاحبه، فقال: " أما صاحبك فمضى على إيمانه، وأما أنت فأخذت بالرخصة".) وأخرجه عبد الرزاق في التفسير عن معمر، قال: "سمعت أن مسيلمة أخذ رجلين " فذكره بنحوه. وذكر الواقدي في المغازي أن اسم المقتول: حبيب بن زيد عم عباد بن تميم، واسم الآخر: عبد الله بن وهب الأسلمي. قال: وكان فسقًا. وذكروا أنه قطعه عضوًا عضوًا وأحرقه بالنار. كذا في الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف للحافظ ابن حجر العسقلاني، مع الكشاف 2 / 637 تحت تفسير آية: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] .
(5) تسهيل الوصول ص 248 – 249. وكشف الأسرار 1 / 464، وأصول السرخسي 1 / 118 - 119.(8/154)
مثاله رخصة الإفطار للمسافر والمريض في رمضان، فإن السبب الموجب للصوم المحرم للفطر قائم، وهو شهود الشهر، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ، لكن تراخى حكمه في حقها – وهو وجوب أداء الصوم وحرمة الإفطار – إلى إدراك عدة من أيام أخر ترخيصًا لهما وتيسيرًا، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] .
ولقيام السبب الموجب صح أداؤهما لو صاما، ولتراخي الحكم لو ماتا قبل إدراك عدة من أيام أخر لم يكن عليهما شيء من القضاء أو الفدية، كما لو ماتا قبل رمضان. ولو كان وجوب أداء الصوم ثابتًا للزمهما الوصية بالفدية، لأن ترك الواجب لعذر وإن كان رافعًا للإثم ولكنه لا يسقط الخلف، وهو القضاء أو الفدية.
بخلاف المكره على الإفطار في رمضان، إذا أفطر ومات قبل إدراك زمان القضاء، فإنه يلزمه الوصية بالفدية قبل موته، لأن الحكم وهو وجوب أداء الصوم وحرمة الإفطار قائم في حقه غير متراخ، لكن سقوط المؤاخذة عنه رخصة له كما قدمناه في النوع الأول (1) .
حكم هذا النوع:
1- إن الأخذ ب العزيمة أولى إذا لم يضعفه الصوم، فالصوم أفضل من الإفطار.
2- والأخذ بالرخصة أولى إذا ضعف عن الصوم في السفر أو فات منه أمر أهم كالجهاد، فالإفطار أولى.
3- والأخذ بالرخصة واجب إن خاف الهلاك على نفسه، فيلزمه الفطر. لأنه لو صبر وصام فمات كان قتيل الصوم، وهو المباشر لفعل الصوم فيصير قاتلاً نفسه، تحري عدم التناقض.
فيأثم، لأنه يجب عليه الاحتراز عن قتل نفسه، بخلاف ما إذا أكرهه ظالم على الفطر فلم يفطر حتى قتله فإنه يثاب؛ لأن القتل هنا مضاف إلى الظالم، وبصبره أظهر الطاعة لله تعالى، وذلك عمل المجاهدين.
واعلم أن النوع الأول والثاني هو ما يطلق عليه اسم الرخصة حقيقة، لأن الرخصة الحقيقية هي التي تكون العزيمة المقابلة لها ثابتة معمولاً بها في الشريعة، وهذا ظاهر في النوعين المتقدمين، والنوع الأول أثبت وأقوى من النوع الثاني في صدق لفظ الرخصة عليه حقيقة (2) .
__________
(1) كشف الأسرار مع نور الأنوار 1 / 464 – 465. وأصول السرخسي 1 / 119. وتسهيل الوصول إلى علم الأصول ص 249.
(2) تسهيل الوصول ص / 249 – 250. وانظر كشف الأسرار مع نور الأنوار 466/1.(8/155)
وأما النوع الثالث:
فهو ما وضع عنا ولم يشرع في حقنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا في الشرائع كما قال الله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] ، وذلك كالقضاء بالقصاص عمدًا كان أو خطأ من غير شرع الدية والعفو، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض الثوب إذا أصابه نجاسة، وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريم السبت، وأداء ربع المال للزكاة، وعدم جواز الصلاة إلا في المسجد، وحرمة الجماع في أيام الصوم بعد العتمة والنوم، وحرمة الطعام بعد النوم.
فيسمى ذلك رخصة مجازًا، لأن الحكم الأصلي لم يبق مشروعًا في حقنا (1) وإنما أطلق عليه اسم الرخصة باعتبار ما فيه من التخفيف واليسر عند مقارنة حالنا بحالهم، فحسن إطلاق اسم الرخصة عليه باعتبار الصورة تجوزًا لا تحقيقًا، فإن حقيقة الرخصة في الاستباحة إنما تتحقق إذا ثبتت مع قيام السبب المحرم وهو هنا معدوم أصلاً بالرفع والنسخ (2) .
حكم النوع الثالث:
وحكم هذا النوع أننا إذا عملنا بالحكم الأصلي المنسوخ، وتركنا هذا النوع من الرخصة التي شرعت لنا في مقابلته أثمنا وعوتبنا (3) .
النوع الرابع:
أما النوع الرابع وهو الثاني من نوعي الرخصة المجازية فهو ما سقط عن العباد بإخراج سببه من أن يكون موجبًا للحكم في محل الرخصة مع كون الساقط مشروعًا في بعض الأوقات، أي في غير صورة العذر، فهو غير مشروع لأهل الأعذار من هذه الأمة، ومشروع في حق من ليس له عذر منها.
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 467.
(2) الحكم الوضعي لسعيد علي محمد ص 338.
(3) نور الأنوار مع الكشف 1 / 467.(8/156)
فهو من حيث انعدام السبب الموجب للحكم الأصلي يشبه النوع الثالث، فكان مجازًا، لأن العزيمة لم تكن في مقابلتها، ومن حيث إنه بقي مشروعًا علينا في الجملة يشبه النوع الثاني، فكان معنى الرخصة فيه حقيقة من وجه دون وجه (1) بخلاف النوع الثالث لأن الحكم سقط فيه ولم يبق مشروعًا في حقنا بوجه من الوجوه، فكان في غاية البعد عن حقيقة الرخصة (2) فكان أتم في كونه مجازًا من النوع الرابع.
ومثلوا لهذا النوع من الرخصة بأكل الميتة وشرب الخمر إذا خاف الهلاك على نفسه من الجوع أو العطش، أو أكره على ذلك، فإنه يجب عليه التناول ولا يسعه الامتناع في ذلك، حتى لو صبر حتى مات، أو قتل أثم، لأن السبب غير موجب للحكم عند الضرورة للاستثناء المذكور في قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، فالمستثنى، لا يتناوله الكلام موجبًا لحكمه، ولكن السبب بهذا الاستثناء لم ينعدم أصلاً، فكانت الرخصة ثابتة باعتبار عذر العبد خرج به السبب من أن يكون موجبًا للحكم في حقه ويلتحق الحرام في هذه الحالة في حقه بالحلال، لما انعدم سبب الحرمة في حقه، فكأنه قال إنها محرمة في حالة الاختيار، مباحة في حالة الاضطرار، ومن امتنع من تناول الحلال حتى يتلف نفسه يكون آثمًا.
يوضحه: أن سبب الحرمة وجوب صيانة عقله عن الاختلاط أو الفساد بشرب الخمر، وصيانة بدنه عن ضرر تناول الميتة، وصيانة البعض لا يتحقق في إتلاف الكل، فكان الامتناع في هذه الحالة إتلافًا للنفس من غير أن يكون فيه تحصيل ما هو المقصود بالحرمة، فلا يكون مطيعًا لربه، ويكون متلفًا نفسه بترك الترخص، فيكون آثمًا.
ولهذا النوع أمثلة غيرها ذكرها السرخسي في أصوله، إن شئت التفصيل فراجعه (3) .
__________
(1) أصول السرخسي 1 / 120 – 121.
(2) تسهيل الوصول ص 250.
(3) أصول السرخسي 1 / 121 – 122. وكشف الأسرار شرح المنار للمصنف النسفي 1 / 471.(8/157)
أقسام الرخصة عند الشافعية وغيرهم:
قسم الشافعية الرخصة بحسب ورود العذر وقوة الطلب فيها إلى أربعة أقسام:
1- رخصة واجبة: كأكل الميتة للمضطر في حالة المخمصة لمن خاف الهلاك على نفسه بغلبة الجوع، فإن ذلك واجب لحفظ النفس، لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . ولذلك فلو صبر ولم يأكل حتى مات يكون تاركًا للواجب، آثمًا.
2- رخصة مندوبة: كقصر الصلاة الرباعية في السفر إذا بلغ ثلاثة أيام فصاعدًا عند من يقول بندبية القصر.
3- رخصة مباحة: كالسلم والإجارة والعرايا ونحو ذلك من العقود الثابتة على خلاف القياس، لأن القياس يقتضي عدم جواز مثل هذه العقود، لما فيها من الجهالة والغرر، ولكنها جوزت للحاجة إليها، وقد جاء التصريح بذلك في بعض الأحاديث كقوله (أي الراوي) : " وأرخص في السلم وأرخص في العرايا (1) " ونحوها.
4- رخصة على خلاف الأولى: كما في الجمع بين الصلاتين في السفر في غير عرفة ومزدلفة، إن الإفراد أولى خروجًا من خلاف من لا يجوز الجمع الحقيقي إلا في عرفة ومزدلفة.
ومن هذا القبيل التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه، فإن الأفضل عدمه والتزام الثبات والمصابرة على الدين (2) .
__________
(1) متفق عليه، انظر فتح الباري 4 / 377. وشرح النووي على مسلم 10 / 183.
(2) انظر أشباه الإمام السيوطي ص 83 – 84. ورفع الحرج ص 149، والحكم الوضعي ص 328 – 330.(8/158)
أسباب التخفيف والرخص:
قال الفقيه العلامة ابن نجيم – رحمه الله تعالى – في أشباهه تحت القاعدة الرابعة- وهي " المشقة تجلب التيسير " (1) – قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته، واعلم أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة: (ثم ذكرها وفرع الجزئيات الفقهية تحت كل سبب، ونحن نلخصها فيما يلي بزيادة إيضاح في بعض المواضع) :
الأول السفر، وهو نوعان: الأول منه: ما يختص بالطويل، وهو مسيرة ثلاثة أيام ولياليها. والثاني: ما لا يختص به، والمراد به مطلق الخروج من المصر.
ومن الأحكام المختصة بالسفر الطويل: جواز المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها، وقصر الصلاة الرباعية المفروضة، والفطر في رمضان (وغير ذلك) .
ومن الأحكام المختصة بالسفر القصير: ترك الجمعة والعيدين، والجماعة والنفل على الدابة (ونحوها) .
الثاني: المرض؛ ورخصه كثيرة: كالتيمم عند الخوف على نفسه، أو على عضوه، أو من زيادة المرض أو بطئه (ونحو ذلك) .
والثالث: الإكراه (أقول: وهو على نوعين: إكراه ملجئ، وهو الإكراه التام، وإكراه غير ملجئ، وهو الإكراه الناقص – وأمثلتهما مبسوطة في كتب الفقه والأصول، والموضع لا يتحملها) .
والرابع: النسيان – وهو عدم استحضار الشيء وقت الحاجة – فيشمل السهو عند الحكماء – وهو لا ينافي الوجوب لكمال العقل، وليس عذرًا في حقوق العباد، حتى لو أتلف مال إنسان يجب عليه الضمان. وفي حقوقه تعالى عذر في سقوط الإثم – كما قاله الحموي " في شرحه على الأشباه لابن نجيم "، وذكر حكمه مفصلاً في الجزئيات الفقهية – فليراجع -.
الخامس: الجهل. أما النسيان والجهل ففيهما أيضا مباحث وتفاصيل، لم يذكرها العلامة ابن نجيم – رحمه الله – في هذا الموضع، وإنما ذكرها في الفن الثالث من أشباهه، وهناك قسم الجهل إلى أربعة أقسام مع بيان أحكامها وبسط مباحثها - فليراجع.
السادس: العسر وعموم البلوى؛ كالصلاة مع النجاسة المعفو عنها، كما دون ربع الثوب من المخففة، وقدر الدرهم من المغلظة، ونجاسة المعذور التي تصيب ثيابه، وكان كلما غسلها خرجت – ونحوها كثير -.
السابع: النقص، كعدم تكليف الصبي والمجنون، وعدم تكليف النساء بكثير مما وجب على الرجال، كالجماعة والجمعة والجهاد والجزية، وما إلى ذلك (2) .
__________
(1) ملخصًا من الأشباه والنظائر لابن نجيم الفن الأول ص 105 – 115.
(2) ملخصًا من الأشباه والنظائر لابن نجيم – الفن الأول، من ص 116 (إلى) 117.(8/159)
طرق الرخص وكيفياتها:
ثم اعلم أن لتخفيفات الشرع ورخصه طرقًا ذكرها الفقيه ابن نجيم – رحمه الله – وسماها أنواعًا، وهي سبعة أيضًا:
الأول: تخفيف إسقاط، كإسقاط العبادات عند وجود أعذارها.
والثاني: تخفيف تنقيص، كالقصر في السفر على القول بأن الأصل إتمام، وأما على قول من قال إن الأصل في الفرض ركعتان ونزيد ركعتان في الحضر، فلا تخفيف فيه إلا صورة.
والثالث: تخفيف إبدال، كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، وإبدال القيام في الصلاة بالقعود والاضطجاع، وإبدال الركوع والسجود بالإيماء، وإبدال الصيام بالإطعام.
والرابع: تخفيف تقديم، كالجمع بعرفات، وتقديم الزكاة على الحول، وزكاة الفطر في رمضان، وقبله على الصحيح بعد تملك النصاب في الأول ووجود الرأس بصفة المؤنة والولاية في الثاني.
والخامس: تخفيف تأخير، كالجمع بمزدلفة، وتأخير صوم رمضان للمريض والمسافر، وتأخير الصلاة عن وقتها في حق مشتغل بإنقاذ غريق ونحوه.
والسادس: تخفيف ترخيص، كصلاة المستجمر مع بقية النجو، وشرب الخمر للغصة.
والسابع: تخفيف تغيير، كتغيير نظم الصلاة للخوف (1) .
المشقة على ثلاث مراتب:
الأولى: مشقة عظيمة فادحة: كمشقة الخوف على النفوس أو الأطراف أو منافع الأعضاء، فهي موجبة للتخفيف والرخص. كما في الإكراه الملجئ، والاضطرار.
الثانية: متوسطة بين العظيمة والخفيفة، كمشقة مريض في رمضان يخاف من الصوم زيادة المرض، أو بطء البرء، فيجوز له الفطر، وهكذا في المرض المبيح للتيمم.
الثالثة: مشقة خفيفة، كمشقة البرد من الوضوء، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار لغير المريض والمسافر، وكأدنى وجع في إصبع، أو أدنى صداع في الرأس أو سوء مزاج خفيف، فهذه لا أثر لها ولا التفات إليها، لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من رفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها (2) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم – الفن الأول ص 116 و 117.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم – الفن الأول ص 116. بتصرف وزيادة واختصار.(8/160)
قسم آخر للمشقة:
وهنا قسم للمشقة: وهي المشقة التي لا انفكاك عنها إلا بترك الأعمال المطلوبة في الشرع من غير بدل، وإلا بترك ما هو المقصود بتشريعها. كالمشقة التي تصيب أصحاب الجرائم كألم الحدود، ورجم الزناة، وقتل الجناة، وقتال البغاة، فإنه لا أثر لها، فإنه لو رخص لهم، أو خفف عنهم لفاتت المصالح التي بنيت عليها تلك العقوبات. وكذا مشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، فإنه لو أسقط السفر لانعدما رأسًا (1) .
الضرورة والحاجة المرخصة:
وقد أبان علماء قواعد الفقه مراتب الرغبة، فقالوا: المراتب خمسة: ضرورة، وحاجة، ومنفعة، وزينة، وفضول (2) .
فالضرورة أن يبلغ الإنسان حدا إن لم يتناول الممنوع هلك، أو قارب الهلاك. وهذه الحالة تبيح له الحرام شرعًا، بقدر الضرورة كالمضطر للأكل أو اللبس، بحيث لو بقي جائعًا أو عريانًا، لمات، أو تلف منه عضو، ولا يشترط أن يتيقن المرء من الوقوع في الموت أو الهلاك، وإنما يكفي أن يغلب على ظنه ذلك.
والحاجة: أن يكون الإنسان في حالة من الجهد والمشقة التي لا تؤدي إلى الهلاك إذا لم يتناول المحرم شرعًا – وهذه الحالة لا تبيح المحرم وإنما تبيح الفطر للصائم، مثل الجائع الذي لو لم يجد ما يأكله، لم يهلك، وإنما يكون في ضيق وجهد ومشقة؛ فهي في مرتبة دون الضرورة.
والمنفعة: أن ينتفع المرء بشيء أساسي كخبز البر ولحم الغنم والطعام الدسم.
والزينة: أن يشتهي المرء شيئًا من الكماليات في عرفنا الحاضر، كمن يشتهي أكل الحلويات والفواكه، أو يرغب في لبس الثياب الفاخرة المنسوجة مثلاً من حرير وكتان.
والفضول: وهو التوسع باستعمال ما لا ينفعه، كمن يريد استعمال أواني الذهب والفضة، وشرب الخمر (3) .
والحاصل: أن الرخصة إنما هي مشروعة لدفع الضرورة أو الحاجة، لا لجلب المنفعة والزينة أو الفضول.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم – الفن الأول ص 115. بتصرف وزيادة واختصار.
(2) شرح الحموي على الأشباه لابن نجيم 1 / 119 تحت القاعدة الخامسة من الفن الأول، والأشباه والنظائر للسيوطي، في آخر القاعدة الرابعة " الضرر يزال " ص 86.
(3) الضرورة الشرعية، للدكتور وهبة الزحيلي: ص 246 وص 347.(8/161)
ضوابط الأخذ بالرخصة
أما ضوابط الأخذ بالرخص فلم أجدها في كتب الفقه والأصول مضبوطة مرتبة في موضع واحد، والسبب أن المشقة تختلف باختلاف الطبائع والأشخاص، والأزمان والأحوال وقوة العزائم والتحمل، فليس للرخصة حكم واحد، بل يختلف حكمها وطرقها وقدرها باختلاف أسبابها وأنواعها ومحالها، كما رأيته فيما سبق من البحث. فضبط الضوابط غير يسير.
لكن يمكن استنباطها وضبطها مما مر في هذا البحث من بيان يسر هذا الدين، والآيات والأحاديث والقواعد الفقهية فيه، وبيان معنى رفع الحرج، وتقسيم المشقة إلى العادية وغير العادية، وتعريف الرخصة، وبيان أنواعها، واختلاف أحكامها وأسبابها، وطرقها، وكيفياتها، وبيان مراتب المشقة الجالبة للتيسير والرخص، وبيان الضرورة والحاجة.
وهذا الفقير إلى الله سبحانه وتعالى وإن لم يكن أهلاً لمثل هذا الاستنباط، فلا بعد في أن يوفقه الله لشيء من ذلك، فإنه على كل شيء قدير، فرجاءً لتوفيقه تعالى أقول وبه أستعين وعليه التكلان:
1- إن الرخصة لا بد لها من دليل شرعي من الأدلة الأربعة، ولا يكفي فيها وجود العذر فقط، كما ذكرته في أوائل البحث في "التنبيهات". وإلا لزمت مخالفة الدليل الشرعي القائم الموجب للحكم الأصلي، من غير دليل.
2- لابد أن تكون الضرورة الملجئة إلى ارتكاب المحرم موجودة محققة في الحال، لا موهومة أو منتظرة في المآل – كالجائع الذي لم يصل جوعه إلى حد الاضطرار، فتناوله الميتة في هذه الحال بناءً على تيقنه أنه سوف لا يجد غيرها في المآل، لا يجوز. لأن الضرورة منتظرة غير موجودة في الحال.
3- لابد للعامل برخصة أن يعلم شروطها وحدودها حسبما قررها الفقهاء – رحمهم الله – فيحافظ عليها ولا يتجاوز عنها.
توضيحه: أن الفقهاء ذكروا مع كل رخصة شروطها وحدودها، وهي تختلف باختلاف أنواع الرخصة وأسبابها وطرقها، وباختلاف الأزمان والأحوال والأشخاص، وباختلاف قدر المشقة وما إلى ذلك كالمريض إذا لم يضعفه الصوم فالفطر له خلاف الأولى وإن ضعفه فالفطر أولى وإن خاف الهلاك على نفسه فالفطر واجب – وكالمضطر لا يجوز له التناول من الميتة أو الخمر فوق ما يدفع الهلاك عن نفسه، لأن الضرورة تتقدر بقدرها – فلابد من المحافظة على الشروط والحدود.
4- لا يجوز للمضطر والمكره الترخص للحرام إلا أن يتعين عليه ارتكابه، أي لا يجد هنالك لدفع الهلاك عن نفسه وسيلة أخرى، ويغلب الظن أن دفع الهلاك إنما يمكن بارتكاب المحرم.(8/162)
5- إن أعمال القلب الاختيارية المحرمة لا يرخص لها أبدًا، كالكفر بالقلب عند الإكراه، وكترك تغيير المنكر بالقلب، إذا لم يستطع تغييره باليد وباللسان، وكالكبر والحسد وما إلى ذلك من الأعمال الباطنة المحرمة.
6- إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتي عزائمه (1) فالرخصة حكم الله كما أن العزيمة حكمه، فقد تكون الرخصة واجبة وقد تكون مندوبة أو مباحة أو خلاف الأولى، فعلى العبد أن يأتي منهما ما تقتضيه الحالة على وفق الشريعة، ولا يستنكف عن الأخذ بالرخصة إذا توفرت شروطها ودعت الشريعة إليها.
7- إن المشقة والحرج إنما يعتبر في موضع لا نص فيه، أما مع النص بخلافه فلا (2) . فلا يجوز القصر في الصلاة للزراع والعمال ولمن اشتغل في الأكساب الشاقة، مع أن مشقتهم أشد من المسافر المترفه ظاهرًا، لأن كثيرًا من الصحابة رضي الله عنهم كانوا مشتغلين في مثل هذه الأكساب ولم يرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رخص للمسافرين.
8- لا يجوز تتبع الرخص، أي أن يأخذ من كل مذهب فقهي مباحه على سبيل التشهي والتلهي، فإنه اتباع للهوى وهو حرام (3) لقوله تعالى {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} [النساء: 135] وقوله تعالى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ} [القصص: 50] .
أما عند الضرورة والحاجة جاز الإفتاء بما هو أيسر على المستفتي أو المجتمع بمذهب من المذاهب الفقهية الأربعة المتبوعة المنقولة عن المجتهدين نقلاً يعتمد عليه، بشرط أن يلتزم المفتى جميع ما يوجبه ذلك المذهب المرجوع إليه في تلك المسألة من الشروط والقيود، فإن الحكم الملفق باطل بالإجماع (4) .
هذا ما أختم به بحثي، مع أني كنت حريصًا على البحث عن " تتبع الرخص " و " التلفيق " وما يتعلق بهما، لتتم الفائدة، لكن سدتني عما كنت أريد كثير من العوائق، فاقتصرت على تقديم هذه الأوراق إلى المجلس على قاعدة " ما لا يدرك كله، لا يترك كله "، راجيًا من الله سبحانه وتعالى أن يقبلها ويجعل لها حظًّا ما في المشاركة لدراسة موضوع الرخص – والله سبحانه وتعالى أعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وله الحمد أولاً وآخرًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد المصطفى وعلى آله وأصحابه ومن بهم اقتدى
محمد رفيع العثماني
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما، ورواه الطبراني عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم مرفوعًا، لكن وقفه على ابن مسعود أصح – فيض القدير: 2 / 292.
(2) الأشباه والنظائر مع شرحه للحموي، تحت القاعدة الرابعة من الفن الأول: ص 117.
(3) الموافقات للعلامة الشاطبي: 4 / 145.
(4) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين رحمه الله قبيل باب الأذان: 1 / 382 – 383.(8/163)
حكم
الرخصة وتتبع الرخص
في الفقه الإسلامي
إعداد
سعادة الدكتور إبراهيم كافي دونمز
كلية الإلهيات – جامعة مرمرة – استنبول
خطة البحث
التمهيد: ما يشمله موضوع الرخصة.
الباب الأول
الرخصة في معناها الاصطلاحي في أصول الفقه
1- نظرة عامة لمفهومي العزيمة والرخصة.
2- أنواع الرخصة.
3- أسباب الرخصة وضابط العذر المسبب للرخصة.
4- حكم الرخصة.
5- مفاهيم وقضايا ذات صلة وثيقة بمفهوم الرخصة أو التي قد تؤدي إلى الالتباس.
الباب الثاني
التلفيق وتتبع الرخصة
1- الأسس التاريخية والفكرية لاتباع المذاهب.
2- التزام مذهب معين.
3- التلفيق.
4- تقويم حول التلفيق وتتبع الرخص.
الخاتمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد
ما يشمله موضوع الرخصة
إن تحديد حقيقة مفاهيم كل علم له أهمية كبيرة في معالجة مسائل ذلك العلم والتوصل إلى نتائج سليمة بشأنها. أهمية هذا الأمر يتجلى لنا بصورة أكثر وضوحًا في التحليلات والتقويمات الفقهية وخاصة في مسائل علم أصول الفقه.
وهكذا مفهوم الرخصة من المفاهيم التي يجب فهمها جيدًا وتحديد مضمونها بشكل دقيق للتوصل إلى نتائج سليمة في المسائل الفقهية المتعلقة بهذا المفهوم (الرخصة) .
نقرر بادئ ذي بدء أن مفهوم الرخصة له مجال استعمال واسع في الأبحاث الفقهية انطلاقًا من معناه اللغوي إلى جانب معناه الاصطلاحي. ومن الملاحظ هنا أن النقطة المتفق عليها في جميع تلك الاستعمالات هي اعتمادها أساسًا على فكرة التيسير المنبثقة من مبدأ التيسير في الإسلام. ولكن عدم تحديد هذه الاستعمالات من جهة وعدم تحديد المضمون المتصور لهذا المفهوم بصورة دقيقة حسب كل استعمال من جهة أخرى تحمل في طياتها بعض المحاذير من الناحية المنهجية ومن حيث التفكير الحقوقي (الفقهي) .(8/164)
ومما تبين لنا من خلال دراستنا أن مفهوم الرخصة تستعمل في الأبحاث الفقهية في ثلاثة معان هي:
1- بمعنى مبدأ اليسر والتيسير في التشريع الإسلامي. والرخصة بهذا المعنى لها مضمون واسع جدًا حيث يمثل هذا المعنى أساس مبدأ من مبادئ الفقه الإسلامي وخاصة في الاجتهاد الاستصلاحي الذي يستفاد منه في جميع أنواع الاجتهاد الهادف إلى إيجاد الحلول المناسبة للمسائل الفقهية.
2- بمعنى ما شرع من الأحكام للتيسير على العباد بناء على الأعذار المعتبرة شرعًا. وهذا المعنى هو مقابل العزيمة. والعزيمة هي ما شرع ليكون قانونًا عامًا لكل الملكفين في الأحوال العادية. وهذا الاستعمال هو الاستعمال الاصطلاحي لمفهوم الرخصة في أصول الفقه.
3- بمعنى اختيار ما هو أيسر وأهون على الشخص من الاجتهادات المختلفة للمذاهب الفقهية. وهذا هو التلفيق بالمعنى الأعم. أما التلفيق بمعناه الأخص كما سنرى فهو جمع آراء مذاهب مختلفة في مسألة معينة حتى لا يمكن اعتبار هذا الجمع مقبولاً في أي مذهب من المذاهب.
قد اهتم الأصوليون ببيان المعنى الثاني من هذه المعاني في مؤلفاتهم الأصولية اهتمامًا كبيرًا. ونحن سنقوم بدراسة هذا النوع من الرخصة لابراز الفرق بينها وبين استعمالات الرخصة الأخرى من جهة ولكون هذا الموضوع هو الموضوع الرئيسي للجلسة التي سنعرض فيها بحثنا هذا من جهة أخرى.
وقد تناول العلماء المعنى الثالث من هذه المعاني بالبحث والتدقيق بعد مضي حقبة معينة من تاريخ التشريع الإسلامي وألف في ذلك مؤلفات متخصصة. وسنحاول تقويم الرخصة بهذا المعنى (تتبع الرخص) في الباب الثاني من بحثنا هذا لكون هذا الموضوع من الموضوعات المقررة تناولها في هذه الجلسة أيضًا.
أما الرخصة بالمعنى الأول مما كتب حولها متوزعة في مواضع شتى من أدب الفقه الإسلامي لكون الرخصة بهذا المعنى ذات مضمون واسع جدًا، إلا أنا نرى في بعض مؤلفات قواعد الفقه الكلية محاولة جمع شتات هذا الموضوع إلى حد معين.
ونحن لن نقوم في بحثنا هذا بتعداد النصوص المؤكدة على مبادئ التيسير والتي تشكل نقطة الانطلاق للأحكام المتعلقة بحكم الرخصة (بمعناها المقابل للعزيمة) وكذلك للآراء القائلة بالاستفادة من المذاهب المختلفة ولن نقوم أيضا بتعداد القواعد الكلية المتعلقة بهذا الموضوع لكون تلك القواعد والنصوص معلومة لدى جميع الباحثين.
من ناحية أخرى سنكتفي فقط ببيان النزعات المختلفة لعدم إطالة البحث ولن نقوم بنسبة الآراء إلى قائليها كما نتجنب ذكر الآراء المتعلقة بالتفاصيل مع إمكان الإكثار من ذكر أسماء العلماء في كل مسألة واعتناء علماء الأصول بدراسة هذه المواضيع بشكل واسع. وسنشير إلى المصادر عند لزوم ذلك ونذكر هذه الإحالات في التعليقات في نهاية البحث.(8/165)
الباب الأول
الرخصة في معناها الاصطلاحي في أصول الفقه
نظرة عامة لمفهومي العزيمة والرخصة
العزيمة في اللغة هي القصد على وجه التأكيد. والرخصة بمعناها اللغوي هي اليسر والتيسير.
أما اصطلاحًا فقد عرفت العزيمة والرخصة بتعاريف كثيرة (1) ، ونحن نكتفي بذكر تعريف لكل منهما يوضح المقصود بهما دون سرد هذه التعاريف كلها وذكر الاعتراضات الواردة عليها.
العزيمة: هي الأحكام المشروعة دون اختصاص بأحوال معينة أما الرخصة: فهي الأحكام المشروعة المخالفة للأحكام الأصلية والخاصة بالأعذار المعتبرة شرعًا.
وفي الحقيقة أن نشوء مفهومي العزيمة والرخصة نتيجة للزوم توصيف الأحكام التكليفية باعتبارين من حيث الظروف المحيطة بالمكلف. فالأحكام المشروعة لجميع المكلفين في الحالات العادية تسمى بالعزيمة، أما في حالة قبول حكم مختلف للمكلف بسبب بعض الظروف المحيطة به والتي يعتبرها الشارع أعذارًا على أن يكون الحكم مقتصرًا على هذه الحالة، فنتحدث عن الرخصة.
لقد قام الشاه ولي الله الدهلوي بتحليل العامل الرئيسي وراء توصيف الأحكام التكليفية تحليلاً جيدًا من حيث فلسفة التشريع، حيث نبه في هذا الموضوع إلى النقاط التالية (سنحاول عرض الفكرة المطلوب تأكيدها دون نقل عبارة المؤلف) (2) .
من المعلوم في سياسة التشريع أن حفظ فكرة النظام يتحقق قبل كل شيء بتأمين مراعاة الأوامر والنواهي بالصورة المثلى ولكن هناك بعض العقبات الضرورية التي تقف أمام القيام بهذه المهمة (بالرغم من تحقيق مراعاة المكلفين للأوامر والنواهي بصورة مثالية) .
__________
(1) انظر لهذه التعاريف والاعتراضات عليها: النملة، الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس، ص: 12 – 49.
(2) الدهلوي، حجة الله البالغة، 1 / 102 – 104.(8/166)
فالمكلف حينئذ أمام أمرين:
1) أن يطالب بما يقتضيه هذا التكليف من الحرج والمشقة. وهذا أمر لا يمكن قبوله في التشريع الإسلامي لتعارضه الواضح مع مبدأ التيسير المقرر في النصوص الشرعية.
2) أن ينبذ فكرة التكليف وراء الظهر بالكلية وهذا يؤدي حتمًا إلى اعتياد الشخص لعدم مراعاة التشريع فيفقده فكرة الانضباط (يدرك هذا الأمر أحسن إدراك المشتغلون بالرياضة الروحية أو تربية الأطفال أو ترويض الحيوانات لتعويدهم القيام ببعض الأعمال) . لذلك نرى أن هذا الخيار معارض أيضا للتشريع الإسلامي كالخيار الأول، لما ذكرناه من أنه يؤدي إلى إزالة فكرة الطاعة والنظام. لذلك ينبغي العدول في هذه الحالات الخاصة إلى التمسك بأحكام هي بمثابة بدائل عن الحكم الأصلي المتروك، تمسكًا يشعر بالبقاء في إطار المشروعية وفي هذه الحالة أي في حالة ترك أحكام العزيمة والأخذ بأحكام الرخصة عند تحقق الأعذار المبيحة لذلك، يبقى المكلف متصرفًا في إطار التشريع ولا يؤدي ذلك إلى الإضرار بفكرة الالتزام بالأحكام الشرعية.
وقد لفت النظر الإمام الشاطبي إلى الناحية نفسها بالعبارات التالية (1) :
كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجًا، فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء، كما جاء في الرخصة الشرعية المخرج من المشاق. فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك على الوجه الذي شرع له. كان متمثلاً لأمر الشارع، آخذًا بالحزم في أمره، وإذ لم يفعل ذلك وقع في محظورين: أحدهما مخالف لقصد الشارع؛ والثاني سد أبواب التيسير عليه وفقد المخرج عن ذلك الأمر الشاق، الذي طلب الخروج عنه بما لم يشرع له.
مع ذلك الأصوليون لم يتفقوا على استعمال هذين المفهومين (العزيمة والرخصة) على وجه حصر الأحكام على هذين القسمين (2) .
كما لم يتفق الأصوليون على استعمال كلمة العزيمة بحيث يشمل جميع الأحكام التكليفية، فبينما يرى الجمهور أن الأحكام التكليفية الخمسة (الواجب، المندوب، الحرام المكروه، المباح) يمكن تسميتها بالعزيمة، يرى بعض الأصوليين أن العزيمة تطلق على الواجب فقط، والبعض الآخر يطلقها على الواجب والمندوب في حين يقصد البعض بالعزيمة جميع الأحكام التكليفية باستثناء الحرام (3) .
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1 / 346.
(2) البخاري، كشف الأسرار، 2 / 298.
(3) انظر لأصحاب الآراء: أبو النور زهير، أصول الفقه، 1 / 87 – 88؛ النملة، الرخص الشرعية، ص: 46 – 49؛ سليم، الرخص وأسباب الترخيص في الفقه الإسلامي، ص: 17 – 19.(8/167)
لم يرد مفهوما العزيمة والرخصة في القرآن الكريم. أما السنة النبوية فمع ورودهما فيها في بعض الأحاديث إلا أننا لا نرى فيها توضيحًا لمضمون هذين المفهومين.
وبناء على ذلك لا نرى حاجة للخوض بالمناقشات التي دارت حول معنى العزيمة والرخصة الاصطلاحي ونكتفي ببيان ترجيحنا بأن الأحكام العامة المشروعة للأحوال العادية كلها من قبيل العزيمة وأنه لا حاجة إلى استعمال مصطلح العزيمة بالحالات التي لا توجد بمقابلها أحكام الرخصة – كما أكد ذلك كثير من الأصوليين – أخذًا في عين الاعتبار أن استعمال هذين المفهومين إنما هو نتاج الحاجة إلى تقويم التصرفات حسب الظروف المحيطة بالمكلف. فمن الطبيعي أن هذا يؤدي في نفس الوقت إلى قبول بقاء الحكم الأصلي المقابل للرخصة (العزيمة) في جميع الحالات التي يتحدث فيها عن الرخصة حيث لم يكن الحكم مؤقتًا ولم يوجد ظرف خاص يحيط بالمكلف.
من المسائل المتعلقة بمفهومي الرخصة والعزيمة هي مسألة كونهما صفات للفعل أم صفات للحكم، للأصوليين رأيان مختلفان في هذه القضية. فمن يرى أنهما من صفات الفعل. يعتبر قيام المسافر بصوم رمضان وعدم تأخير هذا الصوم (أي فعل الصوم) عزيمة بينما يعتبر تأخير الصوم (أي فعل التأخير) رخصة، أما من يرى أنهما من صفات الحكم، فيكون حكم عدم تأخير المسافر لصوم رمضان هو العزيمة وحكم تأخيره هو الرخصة (1) . ولا نرى حاجة للخوض في مناقشة هذه الآراء لكونها خلافات يغلب فيها الجانب النظري ولأنه ليس لها دور توجيهي في دراستنا هذه.
كما لا نرى حاجة في عرض الآراء المختلفة في مسألة كون العزيمة أو الرخصة من أقسام الحكم التكليفي أو الوضعي.
__________
(1) أبو النور زهير، أصول الفقه، 1 / 85. 86.(8/168)
2- أنواع الرخصة
يمكننا أن نتناول التقسيمات الموضوعة لبيان أنواع الرخص في المؤلفات الأصولية في مجموعتين رئيسيتين:
(1) الطريقة المتبعة في كتب الأصول لدى الأحناف.
(2) الطريقة المتبعة في كتب الأصول لدى غير الأحناف وخصوصًا الشافعية.
فيما يلي سنحاول تعريف هاتين الطريقتين بخطوطهما الرئيسية:
(1) الطريقة المتبعة في كتب الأصول لدى الأحناف (1) .
في المصادر الأساسية لأصول المذهب الحنفي ركز على التقسيم الرئيسي المبين أدناه في الفقرة (أ) ، ونتيجة لما يقال هنا تتكون التقسيمات التي سنبين في الفقرتين (ب) و (جـ) الآتيتين.
وعلى هذا سنتناول التقسيمات الواردة في مؤلفات الأصوليين الأحناف تحت ثلاثة عناوين هي:
أ) التقسيم الرئيسي (الرخصة من حيث كونها حقيقة أو مجازًا) .
ب) الرخصة من حيث إفادتها إباحة الفعل أو المنع من الفعل.
ج) الرخصة من حيث بقاء الحكم المقابل (العزيمة) وبقاء دليله أو عدم بقائها.
__________
(1) الشاشي، أصول الشاشي، ص: 383 – 387: السرخسي، أصول السرخسي، 118/1 وما بعدها؛ البزدوي، كنز الوصول، 298/2 وما بعدها؛ البخاري، كشف الأسرار، 2 / 298 وما بعدها: سليم، أسباب الرخص، ص: 21 وما بعدها.(8/169)
أ) التقسيم الرئيسي (الرخصة من حيث كونها حقيقة أو مجازًا) :
يقسم المؤلفون الأحناف الحالات التي يمكن إدخالها في إطار الرخصة إلى قسمين هما:
أ) الرخصة الحقيقة
ب) الرخصة المجازية.
ثم يقسمون هذين إلى نوعين آخرين فينتج بذلك أربعة أنواع من الرخص.
النوع الأول: إباحة التصرفات مع قيام الدليل المحرم لها وقيام حكمها جميعًا لعذر يقتضي ذلك.
وهذا النوع أجدر الأنواع باسم الرخصة في رأي المؤلفين الأحناف. يعد التلفظ بكلمة الكفر تحت الإكراه والإفطار في رمضان مكرهًا وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفًا من القتل،وانتهاك المحرم حظر الاصطياد بسبب الإكراه وأخذ مال غيره دون إذنه خوفًا من القتل وإتلاف مال غيره وهو مكره، وأمثال هذه التصرفات من هذا النوع. كما هو واضح من الأمثلة يقصد بالتصرفات التي يتعلقُ بها التحريمُ " الفعل" (مثل التلفظ بكلمة الكفر) و "الترك" (مثل الفطر في رمضان) معًا.
حكم هذا النوع: إباحة ارتكاب الشخص لهذه الأفعال الممنوعة. لكن ذلك الشخص لو أصر على عدم الاستفادة من الرخصة، وقتل بسبب ذلك لم يكن آثمًا بل يؤجر على ذلك. لأنه في هذه الحالات جميعها ما يزال دليل وحكم التحرير المتعلقان بحرمة ارتكاب ذلك الفعل باقيين، فذلك الشخص إنما يختار القيام بواجب العبودية لله، ويظهر متانة إيمانه وعقيدته.
لكن مما يجب التنبه إليه في هذا المقام أن الشخص إذا ألقى بنفسه إلى التهلكة بصورة تتجاوز حدود التمسك بحكم العزيمة كما إذا هجم على العدو مع علمه بأنه لا يضر العدو شيئًا، وقتل بسبب ذلك فإنه لا يؤجر على ذلك بل يكون آثمًا.
النوع الثاني: إباحة تصرف مع قيام الدليل المحرم إلا أن الحكم متراخ إلى ما بعد زوال العذر.
إن المؤلفين الأحناف مع عدهم هذا النوع من الرخصة، الحقيقة يذكرون أن هذا النوع في مرتبة أدنى من النوع الأول من حيث تسميته بالرخصة.
يشكل إباحة الفطر في حالة وجود السفر وأمثاله من الأعذار بسبب تراخي حكم حرمة الفطر في رمضان مثالاً لهذا النوع من الرخصة.(8/170)
حكم هذا النوع هو إباحة ارتكاب الشخص لهذا الفعل الممنوع (الفعل الممنوع في مثالنا هو الفطر في رمضان) لكن إذا لم يتضرر الشخص بالصوم، فالأولى في حقه الأخذ بالعزيمة، وإذا تضرر فالأولى هو الأخذ بالرخصة. أما إذا علم الشخص أن الصوم سيؤدي به إلى الهلاك ومع ذلك أصر على الصوم ولم يأخذ بالرخصة ومات نتيجة ذلك فإنه يكون آثمًا. في هذه الحالة بخلاف الأمثلة التي في النوع الأول، لا يمكن القول بأن الشخص يختار القيام بواجب العبودية لله سبحانه وتعالى لأن الله سبحانه وتعالى قد أجل واجبه هذا إلى وقت قادم. فذلك الشخص يكون قد ابتدع هذا الواجب بنفسه. فهذا التصرف شبيه بقتل الشخص لنفسه أثناء القتال مع العدو.
النوع الثالث: إباحة تصرف بسبب عدم وجود الدليل المقتضي للحرمة وبسبب ارتفاع حكم الحرمة عن ذلك التصرف.
إن إباحة الأفعال التي كانت ممنوعة في الشرائع السابقة كالمحافظة على العضو الذي به ارتكب الإثم وعدم قطعه ولبس الملابس المتنجسة بعد غسلها بسبب نسخ هذه الأحكام الشاقة من مثل قطع العضو الذي ارتكب به الإثم وقص الجزء المتنجس من اللباس في الشريعة الإسلامية تعد أمثلة لهذا النوع من الرخصة.
هذه الأحكام التي تعد من الرخص من ناحية التأكيد على التيسير المراعي للأمة الإسلامية تشكل أحق الأنواع بالتسمية بالرخصة المجازية، حكم هذا النوع هو الأخذ بما يوصف به رخصة لعدم وجود حكم عزيمة يقابل هذا النوع من الرخصة أصلاً.
النوع الرابع: إباحة تصرف تعلق به حكم الحرمة بسبب خروج الدليل عن كونه مقتضيًا لحكم الحرمة مع بقاء حكم الحرمة مشروعًا في الجملة.
يشكل إباحة عقد السلم مع تحريم بيع المعدوم وجواز أكل وشرب المحرم في حالة الاضطرار أمثلة على هذا النوع من الرخصة.
في هذا النوع الذي يشكل الدرجة الثانية من الرخصة المجازية على ما يقول المؤلفون الأحناف، ليس من الصعب أن نفهم وصف السلم وما يشبهه من الأمثلة على أنها رخصة مجازية؛ إلا أن عد أكل الشخص المضطر وشربه الأطعمة المحرمة من نوع الرخصة المجازية يمكن أن يجرنا إلى نوع من التساؤل.(8/171)
وإيضاح ذلك كالآتي: في رأي أكثر الأحناف: الأكل والشرب من الطعام المحرم في حالات الاضطرار ليس حرامًا بل هو مباح أي أن حكم الحرمة يعتبر ساقطًا. لأن الآية الكريمة تقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . إذن حرمة الأشياء التي أخبرنا الشرع بحرمتها إنما تكون في الحالات التي لا يوجد فيها اضطرار. أما في حالة الاضطرار فتكون هذه الأشياء مباحة. وهذه الإباحة من الممكن إيضاحها من وجهين:
أ) عملاً بقاعدة الأصل في الأشياء الإباحة. (عند من يقول بمبدأ الإباحة الأصلية) .
ب) القول بأن حكم الإباحة في حالة الاضطرار أفادته الآية الكريمة بطريق الاستثناء من حكم التحريم (وهذا عند من يقول بأنه لا يمكن العلم بحل شيء أو حرمته إلا بتوقيف من الشرع) (يجب أن نبين أن المؤلفين تنبهوا إلى أنه يمكن أن يوجه اعتراض بأنه يلزم على هذا، القول بإباحة الكفر في قوله تعالى " إلا من أكره " وأجابوا عن ذلك الاعتراض بأن الاستثناء في هذه الآية ليس استثناء من حكم التحريم وإنما هو استثناء من " الغضب") .
يعتبر قصر المسافر الصلاة الرباعية عند الأحناف داخلاً في هذا النوع من الرخص.
ب) الرخصة من حيث إفادتها إباحة الفعل أو المنع من الفعل:
تنقسم أحكام الرخصة من هذه الحيثية إلى قسمين هما رخصة الفعل ورخصة الترك.
1- رخصة الفعل: إذا كان حكم العزيمة الذي يقابل الرخصة مقتضيًا المنع من الفعل وكانت الرخصة مبيحة لارتكاب هذا الفعل الممنوع سميت هذه الحالات برخصة الفعل. فمثلاً الرخصة المبيحة للتلفظ بكلمة الكفر والرخصة المبيحة لأكل لحم الخنزير في بعض الحالات مع كون هذه التصرفات محرمة في الحالات الأخرى تعد من هذا القسم.
2- رخصة الترك: إذا كان حكم العزيمة الذي يقابل الرخصة مقتضيًا للقيام بفعل والرخصة تبيح ترك ذلك الفعل الذي يجب القيام به سميت هذه الحالات برخصة الترك. فمثلاً الرخصة المبيحة للفطر في حالة السفر (وقضاء الصوم في أيام أخر) والرخصة المبيحة لقصر الصلاة الرباعية مع فرضية الصوم في رمضان وفرضية إتمام الصلاة الرباعية في الحضر تعد من هذا النوع. (قد أشرنا أعلاه إلى أن وصف الأحناف لقصر الصلوات الرباعية في السفر بأنها رخصة مجازًا والقصر في هذه الحالة إنما هو واجب لا مباح) .(8/172)
ج) الرخصة من حيث بقاء الحكم المقابل وبقاء دليل أو عدم بقائهما:
تنقسم أحكام الرخصة من هذه الحيثية إلى قسمين هما رخصة الترفيه ورخصة الإسقاط.
1- رخصة الترفيه: إذا لم يسقط حكم العزيمة ودليلها عن الاعتبار سميت الرخصة برخصة الترفيه. في الرخص التي تدخل في هذا القسم يمكن للمكلف أن يختار (يأخذ بالعزيمة أوبالرخصة) وهذه الرخصة على نوعين:
أ) بقاء حكم العزيمة وبقاء دليلها مع عدم تراخي الحكم. هذا النوع يطابق النوع الأول في التقسيم الرئيسي.
ب) بقاء حكم العزيمة وبقاء دليلها مع تراخي الحكم. وهذا النوع يطابق النوع الثاني في التقسيم الرئيسي.
2- رخصة الإسقاط: في حالة سقوط حكم العزيمة ودليلها عن الاعتبار سمى الرخصة برخصة الإسقاط وهذا القسم يطابق النوع الثالث والرابع في التقسيم الرئيسي.
(2) الطريقة المتبعة في كتب الأصول لدى غير الأحناف وخصوصًا الشافعية (1) .
لقد قام المؤلفون من الشافعية بتقسيم الرخصة من حيث أحكامها. فالرخصة في هذه الحيثية أربعة أنواع.
1- الرخصة الواجبة: مثل أكل لحم الخنزير في حالة الاضطرار. فإذا أصر الشخص على عدم الأكل ومات بسبب ذلك فإنه يأثم. ومن الأمثلة على هذا النوع الفطر إذا خيف الهلاك من الجوع والعطش ولو كان الشخص مقيمًا وصحيحًا.
2- الرخصة المندوبة: مثل قصر الصلوات الرباعية في السفر وفطر المسافر الذي يشق عليه الصوم ليقضيه في أيام أخر.
3- الرخصة المباحة: مثل بيع السلم والعرايا
__________
(1) الغزالي، المستصفى، 63/1 وما بعدها؛ الآمدي، الأحكام، 1 / 68 وما بعدها؛ سليم، أسباب الرخص، ص: 53 وما بعدها.(8/173)
4- الرخصة التي هي خلاف الأولى: مثل فطر الشخص المسافر إذا لم يضره الصوم والمسح على الخفين وجمع الصلوات إذا تحققت الشروط.
يضيف بعض الشافعية إلى هذه الأنواع نوعًا خامسًا هو الرخصة المكروهة ويمثلون له بقصر الصلاة في مسافة أقل من مسافة السفر المحدودة. لكن المؤلفين الآخرين يذكرون هذا المثال في النوع الرابع أي الرخصة التي هي خلاف الأولى.
يذكر الشاطبي (1) أن كلمة الرخصة تستعمل في أربعة معان هي:
1- ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي التحريم مع الاقتصار على موضع الحاجة فيه (الحالات الناشئة من العذر) .
2- ما استثنى من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا من غير اعتبار لكونه لعذر شاق: كعقدي السلم والقراض.
3- ما وضع عن الأمة الإسلامية من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة.
4- أحكام الإباحة عمومًا والتي شرعها الله تعالى للتوسعة على عباده مع الأخذ بعين الاعتبار أنهم لم يخلقوا أساسًا إلا لعبادته سبحانه وأنه لا حق على الله واجبًا نحوهم.
ثم إن الشاطبي يذكر أن النوع الثاني والثالث من الرخص هذه لا يترتب على البحث فيها نتيجة، وأن الرخص بالمعنى الرابع يمكن أن تكون معتبرة لدى أرباب الأحوال ولذلك فالرخصة التي تبحث في أصول الفقه هي الرخصة بالمعنى الأول.
وهناك بعض المؤلفين يقسمون الرخصة من حيث سببها إلى قسمين:
1- الرخصة ذات السبب الاختياري كالسفر.
2- الرخصة ذات السبب الاضطراري مثل العطش المؤدي إلى الهلاك.
وأيضًا فإن بعض المؤلفين قد قسموا الرخصة إلى قسمين من ناحية بقاء التكليف أو عدم بقائه إلى ما بعد وقت الرخصة:
1- الرخصة الكاملة: وهي ما لا يبقى فيها التكليف إلى ما بعد وقت الرخصة، مثل قصر الصلاة في السفر.
2- الرخصة الناقصة: وهي تلك التي يجب فيها القضاء من بعد. مثل الإفطار للمسافر (2) .
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1 / 300 وما بعدها.
(2) الطوفي، شرح مختصر الروضة، 1 / 466؛ النملة، الرخص الشرعية، ص: 143 – 145.(8/174)
3- أسباب الرخصة وضابط العذر المسبب للرخصة
إن استعمال مفهوم الرخصة بمعنى مبدأ التيسير وتطبيقاته في التشريع الإسلامي انطلاقًا من معنى اليسر في كلمة الرخصة يمكننا من زيادة إعداد أسباب الرخصة. لقد بين العلماء هذه الأسباب تحت عنوان " أسباب التخفيف " في حالات سبع هي:
1- السفر.
2- المرض.
3- الإكراه.
4- النسيان.
5- الجهل.
6- المشقة وعموم البلوى.
7- النقص.
لكن يجب تناول أسباب الترخص بنظرة مختلفة في حالة استعمال مفهوم الرخصة بمعناها الاصطلاحي في أصول الفقه. لأنه حتى يمكن التحدث عن الرخصة بهذا المعنى فإنه يجب أن يكون هناك عذر يتيح للمكلف عدم الأخذ بحكم العزيمة، واتباع حكم الرخصة محدد باستمرار حالة العذر هذه. أما التخفيف فيقصد به الأحكام التي شرعت للتيسير على جميع المكلفين في بعض الأحوال دون اشتراط وجود عذر خاص للمكلف، مع هذا فالأحوال التي تعد أعذارًا في مجال الرخص هي في نفس الوقت أسباب للتخفيف. لذلك يمكن القول بأن التخفيف سواء كان من حيث أسبابه أم من حيث المجالات المتعلقة به مفهوم أكثر مشمولاً من الترخص.
وعلى هذا فالأحوال التي ذكرت كأسباب للتخفيف ليست جميعها أسبابًا للترخص بالمعنى الاصطلاحي. (فمثلاً لا يمكن عد النسيان والجهل سببًا للترخص بهذا المعنى) .
فأسباب الترخص يمكن جمعها في أربعة مواد هي:
1- السفر.
2- المرض.
3- الإكراه.
4- الاضطرار.
إن هذه الأسباب جميعها تشترك في كونها تهدف إلى التيسير، وكونها حالات تنطوي على مشقة.
(إن الغاية من قول بعض المؤلفين " إن سبب الرخصة المشقة" (1) الإشارة إلى الباعث على تشريع حجم الرخصة. أما نحن فنقصد " بأسباب الرخصة " هنا الحالات التي يمكن أن يتحقق فيها حكم الرخصة لا الباعث على تشريع حكم الرخصة) .
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1 / 314.(8/175)
لكن حالة السفر فقط من بين هذه الأسباب لم يشترط لها بالضرورة وجود المشقة من حيث الأحكام المتعلقة بهذه الحالة. واتفق العلماء على جواز تطبيق الأحكام الخاصة بالسفر متى وجد السفر بالشروط المحددة من قبل الشارع. إن أحكام الترخص المتعلقة بحالة السفر قد بحثت بشكل واسع في المؤلفات القديمة والحديثة. لذلك لن نقوم بالبحث هنا في هذه الأحكام، أما الحالات الثلاثة الأخرى فهي حالات يمكن أن تقوم بتقويمات مختلفة تبعًا لدرجة المشقة التي تحتوي عليها.
المرض من بين هذه الحالات له مجال ضيق من التطبيق ولا حاجة لدراسة الأحكام الخاصة المتعلقة بهذه الحالة في بحثنا هذا (1) .
بالنسبة إلى السببين الآخرين (الاضطرار والإكراه) فهذا السببان لهما مجالات واسعة جدًا تتيح الفرصة لوجهات نظر مختلفة من حيث أحكام الرخصة. إن الإكراه مع أنه يمكن عدة نوعا من الاضطرار إلا أننا هنا نرى – كما هو واضح من عنوان " أنواع الرخص " – أن بعض العلماء يرتبون نتائج مختلفة على هاتين الحالتين.
هذه التقويمات المختلفة يمكن أن نوضحها كما يلي:
إن الفكرة التي تبناها جمهور العلماء (الأحناف في ظاهر الرواية، والشافعية على الأصح، والمالكية والحنابلة في المختار عندهم) في موضوع الأكل أو الشرب من المحرمات في حالة الاضطرار هي ارتفاع حكم الحرمة بالنسبة لذلك الشخص وبالتالي لزوم اعتبار ذلك كمن يقتل نفسه بسبب امتناعه عن فعل مباح (كالأكل والشرب) ووجهة نظرهم في قولهم هذا، إدراكهم لمقصد الشارع من التحريم ونتيجة لإدراكهم هذا إفادتهم بأن القيمة المستهدفة حفظها بهذا التحريم هي " النفس " أيضا ولا يتحقق الحفاظ عليها إلا بالإقدام على ذلك الفعل المحرم. هناك فريق آخر من العلماء (أبو يوسف والظاهرية وبعض الشافعية والحنابلة) يذهبون إلى أن الشخص الذي يتجلد ويصبر على عدم الأكل والشرب من المحرم ويرضى بالموت إنما يظهر مدى تمسكه بدينه، كما قد ذكرنا أن الحنفية في النوع الأول من الرخصة الحقيقة من التقسيم الرئيسي للرخصة يرون بأن الشخص الذي يصر على الصوم أو على عدم الأكل من مال غيره رغم الإكراه لا يأثم، بل يكسب الأجر بسبب قيامه بواجبه الديني. وهذا يبين لنا أن الفقهاء مع اتفاقهم على أن " الدين " يمثل أعلى المراتب عند ترتيب القيم الضرورية، فإنهم يبدون آراء مختلفة بشأن اعتبار أي التصرفات وفي أي الحالات يتحقق بها حفظ الدين. وبعبارة أخرى يختلفون في شأن تطبيق المبدأ على الأحداث.
__________
(1) انظر: سليم، الرخص، ص: 56 وما بعدها.(8/176)
فمن هذا القبيل أي الاختلاف في التقويم عند تطبيق المبدأ على الأحداث أن الشخص الذي يصر على الصوم ويجابه الإكراه يؤجر ولو مات بسبب ذلك (ويعتبر أنه مات في سبيل القيام بواجب العبودية له تعالى لغيرته الدينية) لكن الشخص الذي يموت نتيجة إصراره على الصوم في حالة وجود السفر أو عذر شرعي آخر يعتبره الشارع مبيحا ًللفطر ومؤجلاً لوجوب الصلاة إلى عدة من أيام أخر (وهو يعلم أن هناك خطرًا على نفسه) يكون آثمًا.
لقد وضع العلماء المسلمون بعض المعايير المتعلقة بأحوال الإكراه والضرورة (الضرورة والاضطرار مشتقة من الضرر بحسب المعنى اللغوي وتستعمل إحداهما في مكان الأخرى عند الفقهاء. لكن الضرورة تعبير عن حالة مجردة وعامة أما الاضطرار فهو عبارة عن ظهور هذه الحالة إلى الوجود في شكل أحداث واقعية) (1) . وتناولوا الإكراه خصوصًا كنظرية. ولكنهم قد اهتموا أثناء دراستهم – بشكل أزيد – بالنتائج الفقهية والحقوقية لهاتين الحالتين أي بالأحكام الموضوعة التي هي موضوع النزاعات الحقوقية ولذلك عند معالجتهم لهذه القضية نظروا إليها من حيث حقوق العباد أيضا (2) .
وفي الحقيقة فإن مفهوم الرخصة إنما يخاطب جانب التدين عند الشخص غالبًا. أي أنها مفهوم يحقق الطمأنينة للشخص من حيث عدم تصرفه مخالفًا لمرضاة الله سبحانه حتى في حالات العذر التي يواجهها خلال قيامه بواجب العبودية لله تعالى ولذلك يجب تقويم هذه الحالات بحسب ظروف كل مكلف وبحسب درجة تأثير المشقة وكذلك بحسب التوازن بين المشقة التي تسببها حالة العذر وبين مدى أهمية حكم العزيمة الذي سيترك لوجود ذلك العذر. إذن يلزم القبول لعدم وجود حدود وقواعد قطعية للعذر الذي يشكل سببًا لحكم الرخصة كما يرى كثير من المؤلفين ويجب ترك ذلك لتقدير المكلف. من المؤكد أن هذا التقدير ليس اتباعًا للهوى وإنما هو حق تقدير يجب استعماله في ضوء المبادئ التي أوجدت الشروط المذكورة لحالات الإكراه والضرورة.
وتجدر الإشارة إلى أن جمهور الفقهاء قد ذهبوا إلى أن الرخص المنصوص عليها إذا كانت مما يعقل معناها يمكن أن يقاس عليها غيرها من الجزئيات التي تشاركها في علة الحكم. وأما أبو حنيفة وأصحابه – باستثناء أبي يوسف – فقد ذهبوا إلى منع القياس على الرخص.
__________
(1) انظر: موسوعة الفقه الإسلامي، 14 / 61 وما بعدها.
(2) انظر في هذا الموضوع: الزحيلي، نظرية الضرورة الشرعية.(8/177)
قبل أن نختم هذا العنوان نريد أن نشير إلى تقسيم ذكره محمد الطاهر بن عاشور بشأن العلاقة بين العزيمة والرخصة حيث قام ابن عاشور بتقسيم الضرورة إلى هذا التقسيم الثلاثي (1) :
1- ضرورة خاصة مؤقتة: أي حالات الرخصة التي يدرسها الفقهاء والأصوليون.
2- ضرورة عامة مطردة: أي حالات الضرورة والحاجة التي تحمل صفتي العموم والاطراد (مثل حالة تجويز عقد السلم) .
3- ضرورة عامة مؤقتة: أي حالات الضرورة والحاجة المؤقتة والتي لها صفة العموم. ويشكو ابن عاشور من عدم الاهتمام بهذا القسم الثالث أنه وإن كان من الممكن عند التحقيق اعتبار الأمثلة التي ذكرها هنا داخلاً في القسم الثاني (بالاستفادة من مناهج الاستحسان والاستصلاح) فإننا نرى أن لهذا التقسيم أهمية كبيرة وأن مؤسسات الإفتاء يجب عليها القيام بتحديد الضرورات في هذا الإطار وبإنارة الطريق أمام المجتمعات المسلمة.
4- حكم الرخصة
يرى جمهور الفقهاء أن في حالة الاضطرار يصبح ارتكاب بعض الأفعال المحرمة (مثل أكل لحم الخنزير) واجبًا. مع هذا فإن هناك فريق من هؤلاء العلماء يعتبر هذه الرخصة رخصة إسقاط وإن تسميته بالرخصة من باب المجاز وليس من باب الحقيقة. فعلى هذا الرأي يكون ارتكاب ذلك الفعل من العزيمة أساسًا. أما إذا تناولنا القضية من وجهة نظر العلماء القائلة باعتبار هذه الحالات من الرخصة فإن حكم الرخصة يكون واجبًا في بعض الأحوال. إذا صرفنا النظر عن هذه الحالات ونظرنا إلى الرخصة على إطلاقها دون بحث لخصوصيات كل مسألة على حدة وكذلك دون بحث لحالة كل مكلف على حدة فإن القاعدة أن حكم الرخصة هي الإباحة. أي أنه إذا تحققت شروط الرخصة (أي في حالة وجود عذر يعتبره الشارع مسوغًا لترك العزيمة) فإنه يصبح ارتكاب فعل يحرم ارتكابه في الأحوال العادية مباحًا وكذلك يصبح أداء فعل يجب فعله في الأحوال العادية مباحًا. وفي هذه الحالة فإنه يكون من الأولى إذا تحققت شروط الرخصة إباحة ارتكاب فعل يكره ارتكابه في الأحوال العادية وكذلك إباحة ترك فعل يندب فعله في الأحوال العادية.
__________
(1) ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: 90 – 91.(8/178)
يقول الشاطبي (1) مشيرًا إلى معنى الإباحة في هذا الاستعمال " الإباحة المنسوبة إلى الرخصة هل هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج، أم من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك؟ فالذي يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى رفع الحرج لا بالمعنى الآخر".
وفي الصفحات التالية لهذه الصفحات يوضح الشاطبي (2) الفرق بين وجهتي النظر هاتين قائلاً:
" إذا فرعنا على أن الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين العزيمة، صارت العزيمة معها من الواجب المخير؛ إذ صار هذا المترخص يقال له: إن شئت فافعل العزيمة وإن شئت فاعمل بمقتضى الرخصة. وما عمل منهما فهو الذي واقع واجبًا في حقه، على وزان خصال الكفارة. فتخرج العزيمة في حقه عن أن تكون عزيمة.
وأما إذا فرعنا على أن الإباحة فيها بمعنى رفع الحرج، فليست الرخصة معها من ذلك الباب؛ لأن رفع الحرج لا يستلزم التخيير. ألا ترى أن رفع الحرج موجود مع الواجب. وإذا كان كذلك تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود للشارع. فإذا فعل العزيمة لم يكن بينه وبين من لا عذر له فرق، لكن العذر رفع الحرج عن التارك لها إن اختار لنفسه الانتقال إلى الرخصة. وقد تقرر قبل أن الشارع إن كان قاصدًا لوقوع الرخصة، فذلك بالقصد الثاني. والمقصود بالقصد الأول هو وقوع العزيمة "
لقد تبنى العلماء آراء مختلفة حول الإجابة على سؤال أيهما أفضل: استعمال هذا الإذن أم عدم استعماله (أيهما أولى الأخذ بالعزيمة أم الأخذ بالرخصة) . مع أن القاعدة في حكم الرخصة هي إباحة ارتكاب الفعل المحرم وترك الفعل الواجب؟ والشاطبي بعد عرضه لأدلة كلا الرأيين وتعليلاتها بتوسع لا يبدي رأيًا واضحًا على صورة قاعدة وإنما يفيد أن هذا يتغير تبعًا لنظر المجتهد وأنه يجب تقديم المسألة في إطار الإيضاحات التي تذكر حول مفهوم المشقة (3) .
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1 / 318.
(2) الشاطبي، الموافقات: 1 / 350 – 351.
(3) الشاطبي، الموافقات: رأي " الأخذ بالعزيمة أولى " 1 / 323 – 338، رأي " الأخذ بالعزيمة ليس بأولى " 1 / 339 – 345؛ تقويم الشاطبي، 1 / 344.(8/179)
عند دراسة الآراء حول هذه المسألة والأمثلة التي يذرها جمهور الأصوليين في أنواع الرخصة المندوبة والرخصة التي هي خلاف الأولى يمكن أن نستنتج أن الذين توصلوا إلى نتائج مختلفة في هذا الموضوع انطلقوا من النقاط الآتية:
1- وجود أدلة خاصة (نصوص) حول بعض المسائل.
2- إمكان تقويم عدم الأخذ بالرخصة بأنه إظهار للغيرة الدينية.
3- لزوم التقويم من حيث قوة التأثير العذر المعدود سببا للرخصة على المكلف.
وعلى هذا إذا لم يكن الرأي القائل بالمفاضلة بين الرخصة والعزيمة مستندًا إلى السبب الأول من الأسباب الثلاثة المشار إليها أعلاه أي على وجود دليل خاص فإنه يجب تقويم الحالة في كل حادثة ولكل مكلف على حدة. حول هذا المعنى يقول الشاطبي " إن الرخصة إضافية لا أصلية ما لم يحد فيها حد شرعي فيوقف عنده " ثم يعطي أمثلة تحمل أوجهًا إضافية تختلف حسب الأحداث والأمثلة (1) .
5- مفاهيم وقضايا ذات صلة وثيقة بمفهوم الرخصة
أو التي قد تؤدي إلى الالتباس
المصلحة: إن المصلحة هي ما يجب جلبه من المنافع ودفعه من المضار لحفظ القيم التي يقصد الشارع المحافظة عليها وتحقيق المبادئ التي حددها الشارع أو التي لا تخالف تلك المبادئ. إذن فالمصلحة مفهوم أشمل من الرخصة وهي شاملة لها أيضًا.
المانع: هو ما يلزم من وجوده عدم الحكم ولا يلزم من عدم وجود الحكم. أما العذر الذي نتحدث عنه عند موضوع الرخصة فيقصد منه: " ما تتحقق معه مشروعية الحكم مثل المشقة والحاجة والضرورة فلا يدخل المانع في العذر كالحيض لأن المشروعية لا تتحقق معه، ومن هنا لا يسمى إسقاط الصلاة عن الحائض رخصة لأن الحيض مانع من المشروعية ".
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1 / 314.(8/180)
الورع – الأخذ بالأحوط: كما بينا سابقًا فإن أكثر أسباب الرخصة (الحالات التي يمكن التحدث فيها من وجود الرخصة) قابلة للتقدير بحسب الأحداث والمكلفين. وهكذا فإن مفهومي الاحتياط والورع مع كونهما من المفاهيم التي فيها واسع من التطبيق فكذلك لها دور بارز في تحديد دخول الأفعال المحرمة في الأصل في إطار الرخصة أو عدم دخولها. من ناحية أخرى فإنه يمكن تفسير تطبيق بعض الصحابة والسلف الصالح للأحكام الشاقة على أنفسهم بأنه (النظر إلى الرخصة على أنها صلاحية) وعدم استعمال الحق المعطى لهم بالرخصة وكذلك محاولة تعويد النفس على المشاقة وتجنب الميوعة والتساهل.
الاستحسان: حتى يمكن التحدث عن الرخصة يجب:
أ) وجود حكم أصلي عام في تلك المسألة، ب) والإشارة إلى حكم مؤقت بدل ذلك الحكم الأصلي العام بسبب الحالات الخاصة المحيطة بالمكلف (التي يمكن اعتبارها أعذارًا) . وينتهي حكم الرخصة عندما ترتفع هذه الحالة. في مقابل ذلك على سبيل المثال مع حكم الفقهاء بعدم صحة العقد بسبب الجهالة (القياس) فإن في بعض الحالات قرر الفقهاء ارتفاع الجهالة وعلة النهي (احتمال النزاع) بسبب وجود عرف مستقر مثلاً، ولذلك أفتوا أيضا بجواز ذلك العقد (الاستسحان) . ونوع الحكم في كلتا الحالتين هو العزيمة. أي أن حكم التحريم في الحالات التي يوجد فيها سبب التحريم وكذلك حكم الجواز في الحالات التي قد زال فيها هذا السبب يعتبر داخلاً في حكم العزيمة وفي أحكام نافذة في حق جميع المكلفين.
حالة الاضطرار وحقوق الآخرين: إن فتح باب الرخصة في الشريعة الإسلامية أمام الشخص المضطر للحفاظ على حياته وتخلصه من بعض المشاق لا يعني إعطاء الصلاحية المطلقة (أن يتصرف كما يريد) . فقبل كل شيء لم يجوز الإسلام قتل الشخص لنفس مصونة أخرى لإنقاذ حياته هو كما حكمت الشريعة الإسلامية بوجوب الضمان في مقابل الأضرار المادية التي يسببها الشخص المضطر للآخرين.
الاستفادة من الرخصة في حالات المعصية: هناك رأيان رئيسيان في مسألة الاستفادة من الرخصة في حالات الاقتران بالمعصية. يرى الأحناف أن هذه الحالة لا تمنع الاستفادة من الرخصة بينما يرى الشافعية والحنابلة والظاهرية عدم جواز الاستفادة من الرخصة في هذه الحالة. أما المالكية فعندهم قولان يوافقان الرأيين المذكورين.(8/181)
الباب الثاني
التلفيق وتتبع الرخص
1- الأسس التاريخية والفكرية لاتباع المذاهب
حتى يمكن تحليل قضية المذاهب في تاريخ التشريع الإسلامي جيدًا يجب التفريق بين العناوين الثلاثة الآتية: 1 – ظهور المذاهب وتكونها. 2 – استقرار المذاهب (تقبل المجتمع لقانون المذهب) . 3 – انتشار المذاهب في مناطق معينة وتمسك أهلها بها.
ليست هناك حاجة إلى دراسة العنوان الأول والثالث من هذه العناوين الثلاثة في بحثنا هذا. ويكفي أن نقول حول العنوان الأول ما يلي:
إن كل من عنده ذوق حقوقي (ملكة فقهية) يقبل أن القضاة أو الفقهاء (الحقوقيين) يمكن أن يسلكوا طرقًا مختلفة في استنباط الأحكام من مصدر يمكن فهمه على أوجه متباينة. من ناحية أخرى عند تذكرنا لحقيقة وجود وجهات نظر متباينة وهامة في تحديد مادة السنة التي هي المصدر الرئيسي الثاني للتشريع الإسلامي (وصول الحديث إلى يد عالم مع عدم وصوله إلى يد عالم آخر قبل تدوين السنة، وتصحيح عالم لحديث مع رد عالم آخر لصحة ذلك الحديث قبل تدوينها أو بعد تدوينها وبالتالي اعتبار الأول أن الموضوع منظم بالنص واعتبار الآخر أن هناك فراغًا تشريعيًّا في هذا الموضوع) وندرك بسهولة أن اختلاف الآراء يكتسب بعدًا جديدًا. أما فيما يتعلق بالعنوان الثالث فلن نقوم بعد العوامل التي ساعدت على انتشار المذاهب في المناطق المختلفة والمذكورة في كتب تاريخ التشريع الإسلامي (كحصول مذهب ما على دعم من الدولة في حقبة معينة من الزمن) .
حتى يمكن إيجاد الإجابة السليمة على سؤال " هل يلزم اتباع مذهب معين وهل يوجد محذور في الاستفادة من مذاهب متعددة "؟ يجب أن ندرس العنوان الثاني المذكور أعلاه أي أن نحاول تحديد الحاجة التي أدت إلى استقرار المذاهب. كما هو معلوم فإن المذاهب لم تكن موجودة في عهد الصحابة الكرام والتابعين. كان المرء المسلم إذا عرضت له مسألة يرجع إلى رأي عالم يثق فيه ويتصرف طبقًا لذلك. وكان القضاة يحلون المنازعات التي يواجهونها حسب اجتهاداتهم أو حسب اجتهاد من سيتبعون من المجتهدين الآخرين.(8/182)
ويتبين لنا أن بعد مضي حقبة من الزمن بدأت تظهر في المجتمع مشاكل مهمة من إجراء تطبيق أحكام متعارضة في مناطق القطر الإسلامي المختلفة.
هناك مسائل كثيرة قد أبدى الفقهاء فيها آراء مضادة بسبب اختلاف الدليل ووجهات نظر متباينة. وقد لا يصعب القيام بإيضاح هذه الخلافات من الناحية العلمية. فمثلاً يمكن لفقيه أن يحكم بإيجاب ضمان في حادثة بينما يحكم فقيه آخر بعدم إيجاب ضمان في نفس الحادثة. كما يمكن أن يحكم فقيه بلزوم إجابة الزوجة إلى طلبها التفريق بينها وبين زوجها بينما يحكم فقيه آخر بعدم التفريق في تلك القضية. كذلك من الممكن أن يحكم فقيه بوجوب القصاص في حادثة في حين يحكم فقيه آخر بعدم القصاص، ويمكن أن يوجد لجميع تلك الاجتهادات تفسيرات علمية مقنعة، فكتب الفقه مليئة بأمثال هذه الاختلافات وما زال العلماء يدافعون عن هذه الآراء المختلفة حتى يومنا هذا.
وهكذا ليس من الصعب أن تحافظ هذه الحلول المتضادة على وجودها دون الإضرار بمشاعر العدالة لدى الأفراد في دول مختلفة أو في أزمنة مختلفة، وكذلك في داخل الدولة نفسها عند اختيار أحد هذه الحلول وتطبيقه على جميع الناس حتى لو كانت النتيجة صعبة التحمل لأحد الأطراف. والمثل القائل " الأصبع الذي تقطعه الشريعة لا يؤلم " يعكس هذا الفهم.
ولكن إذا أبيح تطبيق أحكام مختلفة على أفراد يعيشون في نفس المجتمع، فإن ذلك يؤدي إلى توليد مشاكل هامة في مدة قصيرة كما يسبب في نشوء فوضى تشريعية.
وهكذا فإن عبد الله بن المقفع الذي كان من كتاب الدولة العباسية تنبه إلى تطور الأحداث نحو هذا الاتجاه في العالم الإسلامي في أوائل عهد العباسيين وشعر بالحاجة إلى اقتراح التدابير الكفيلة بإنهاء الفوضى التشريعية في تقريره الهام الذي قدمه للخليفة العباسي.
وباختصار فإن المقفع كان يقترح سلوك منهج التقنين بصورة شاملة لكافة أراضي الدولة.
ولا شك أنه كانت هناك بعض المحاذير في تدوين الأحكام الفقهية إلى جانب فوائدها العديدة. من ناحية أخرى فإن عدم تدوين السنة التي هي إحدى المصادر الرئيسية للتشريع الإسلامي حتى ذلك الوقت كان من أهم العوامل التي يجب أخذها بعين الاعتبار في هذا المقام. لهذا السبب نرى الإمام مالكًا لم يوافق على اقتراح الخليفة بالتقنين (1) .
والخلاصة نرى أن المحاولة الأولى للتقنين في العالم الإسلامي لم تكلل بالنجاح لكن هذا لا يعني أن الحاجة التي دفعت هذه المحاولة إلى الظهور قد ارتفعت بل إن الشعور بالحاجة إلى التقنين قد ازداد بتقدم الزمن.
__________
(1) محمصاني، مقدمة في إحياء علوم الشريعة، ص: 95 وما بعدها.(8/183)
هكذا فإن المجتمعات الإسلامية تجاه هذا المأزق (وهو قيام الحاجة لوجود قانون موحد مع عدم استطاعة تحقيق ذلك) قامت بمعالجة هذه المشكلة بحل تلقائي وكان هذا الحل هو استقرار المذاهب الفقهية والاعتماد على مذهب معين وتوظيفه كقانون أساسي.
وبذلك فإن حلول مذهب معين وإن اعتبرت ضعيفة في بعض المسائل بالنسبة إلى حلول المذاهب الأخرى من حيث استجابتها لحاجات المجتمع، وقوتها في نظر الفقيه أو القاضي وكذلك من حيث طمأنتها لمشاعر العدالة، فإن تحقيق وحدة التشريع قد غطى على المحاذير الأخرى.
وهكذا فالعالم الإسلامي بغض النظر عن بعض التنظيمات الجزئية والمحدودة لم ينجح في وضع قانون يحتوي على أحكام فقهية مستفادة من مذاهب مختلفة إلا في أوائل القرن العشرين الميلادي (بوضع قانون الأحوال الشخصية في الدولة العثمانية قيد التنفيذ في عام 1917) وبعبارة أخرى أولت المجتمعات الإسلامية اهتمامًا أكبر لوظيفة الأمن الحقوقي من وظائف الحقوق الأخرى (وظيفة العدالة ووظيفة موافقة المقصد) .
إذن فالسبب الرئيسي وراء الالتزام بمذهب معين التزامًا متشددًا، - بغض النظر عن أدوار التعصب - - هو البحث عن التناسق التشريعي وعدم التناقض.
فإن كان من الممكن القول بأن المذاهب الفقهية مناهج تشريعية لها من الأصول والمبادئ ما يضمن التناسق والانسجام بين اجتهاداتها، يمكن اعتبار الالتزام بمذهب معين من أحسن الوسائل المتبعة في سبيل تحقيق ذلك المطلب، فإذا أمعنا النظر في الاتجاهات التي برزت إلى الوجود في العهود المتقدمة التي بدأت فيها كتابة المؤلفات الأصولية (وخاصة بالنظر في المناقشات الدائرة والآراء المطروحة حول أصول المذهب الحنفي) نستطيع القول بأن العلماء ينظرون إلى المذاهب (وخاصة إلى مذاهب أنفسهم) بهذه النظرة أي بأنها عبارة عن مجموعة من القواعد والمبادئ المتناسقة فيما بينها داخل إطار المذهب الواحد.
مع هذا لا يمكن إنكار وجود جوانب من هذا القبيل معرضة للانتقاد في كل مذهب. بغض النظر عن ذلك ليس من الممكن اعتبار الاستفادة من آراء المذاهب الأخرى (مع كون القواعد الأصولية للمذهب المتبع متناسقة فيما بينها نظريا) والتي يلجأ إليها نتيجة الاحتياجات التي تحدث في الحياة العملية والتغيرات في ظروف الحياة والمجتمع أو نتيجة لإعادة النظر في الأدلة المستندة إليها (وخاصة السنة النبوية) ، حيث يقوم المختصون في مجال الفقه باقتباس أحكام المذاهب الفقهية الأخرى في بعض المسائل – مع التزامهم أساسًا بمذهب معين – أو يقومون بدراسة كل مسألة من جديد بغية التوصل إلى حل أمثل لا يمكن اعتبار تلك الاستفادة بهذه الصورة إضلالاً لفكرة تحري عدم التناقض.
في ظروفنا المعاصرة ليس من الصعب تلبية هذه الحاجة من حيث المسائل التي هي موضوع المنازعات القانونية والقرارات القضائية إذ من الممكن إحالة الموضوع إلى أهل الاختصاص (الخبراء) لإيجاد الحل الأمثل، المؤيد بالدليل الأقوى، يلبي احتياجات المجتمع وطموحاته. ونتيجة لذلك يمكن كشف صلاحية هذه الحلول وتوحيد تطبيقاتها بآلية الاجتهاد القضائي.(8/184)
وهكذا من الممكن القيام بتغيير ما يجب تغييره من هذه الحلول المطروحة بتغير الظروف والأوضاع ويدل هذا الأمر على عدم وجود ما يبرر وجوب التزام بمذهب معين في مجال التشريع (التقنين) .
ومن ناحية أخرى يلزم تناول هذا الموضوع من جانب الفرد المسلم أيضا إذا أخذنا بعين الاعتبار تنظيم الفقه الإسلامي لواجبات الشخص نحو ربه بالإضافة إلى المجالات القانونية المعهودة في العصر الحاضر. فرغبة الفرد المسلم تطبيق القواعد المتناسقة فيما بينها في حياته الدينية بمعناه الضيق (في مسائل العبادات ومسائل الحلال والحرام) يعتبر من الأمور الطبيعية.
فكما أن معايشة الفوضى التشريعية بسبب تطبيق أحكام مختلفة لمسائل متشابهة في البلاد التي ليس فيها قانون موحد، مؤد إلى الانزعاج، فكذلك تنظيم الشخص لحياته الدينية وفق قواعد متغيرة غير متزنة يسبب انزعاجًا أكثر (لكون دائرة الحياة الدينية أوسع نطاقًا) من فوضى النزاعات الدنيوية كما هو الحال في قرارات المحاكم.
فيمكننا من هذا الوجه القول بأن التزام مذهب معين طريقة آمنة للشخص، ولكن ليس معنى هذا أنها هي الطريقة التي يجب اتباعها أو أنها أحسن الطرق.
عند بحث القضية من حيث عوام الناس، لا يمكن أن ننتظر من العامي في حالة اختياره حكمًا من الأحكام من مذهب آخر، النظر في الأدلة التي استنبطت منها هذا الحكم ولا المعرفة فيما إذا وقع في التناقض باختياره هذا الحكم أم لا من الناحية الأصولية. لذلك يجب إيجاد بديل لهذا الشخص يجعله يشعر بنفس الثقة التي يشعر بها عند التزامه مذهبًا معينًا، وذلك ليتسنى للشخص القيام بواجب العبودية لله تعالى بنفس مطمئنة، لتحقيق ذلك يمكن اقتراح طريقتين إحداهما عامة والأخرى خاصة:
أما طريقة الأمان العامة فهي قبول جواز العمل برأي أي مجتهد من المجتهدين شريطة أن لا يكون مخالفًا للإجماع (حين يتعذر التوفيق بين هذه الصورة المطبقة وبين رأي أي عالم من العلماء) . فالشخص الذي يتبع هذه الطريقة سيكون نقطة انطلاقه هي كون المجتهدين قد بذلوا ما في وسعهم للتوصل إلى الصواب (الحق) عند الله تعالى، وكون مصادرهم واحدة وأنه لا يوجد دليل واضح يدل على أن أحد هذه الآراء هو الموافق لما هو الحق في علم الله سبحانه تعالى.(8/185)
إن هذا التصرف يعد متناسقًا (منسجمًا) من ناحية أساسه الفلسفي (بنظرة كلية) لكون مصادر الاجتهاد واحدة وكذلك الهدف من الاجتهاد واحد. أما عند النظر إلى جزئيات الموضوع، فليس من السهل اعتبار هذا العمل منسجمًا في نفسه، لأنه لا يؤمن الشخص بهذه الطريقة من أن يعمل في مسألة ما بقول مجتهد لا يجيز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، بينما يعمل في مسألة أخرى بقول مجتهد آخر يجيز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، كما لا يؤمن من أن يختار رأي مجتهد يعطي الحديث المشهور (وهو ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صحابي ثم تواترت في الطبقات المتلاحقة) قيمة إضافية من الناحية الأصولية في حين يختار رأي عالم آخر في مسألة أخرى يرى أن الحديث المشهور من أخبار الآحاد ويستفيد منه من الناحية الأصولية بهذا الاعتبار.
مع ذلك يمكن اعتماد الشخص على بعض المبادئ (كالضرورة والحاجة – وهما من مبادئ الفقه المتفق عليها) عند قيامه بجميع أحكام المذاهب المختلفة في حياته الدينية، يمكن عد ذلك الاعتماد ضمانًا يزيل الخوف من اختيار الآراء عشوائيًا دون رجوع إلى معايير سليمة.
أما طريقة الأمان الخاصة فهي اعتماد ما يرجحه الأشخاص أو المؤسسات – المتأهلة للترجيح – من الاجتهادات بناء على قوة دليله وملاءمته لظروف العصر. والغالب في مثل هذه الترجيحات بعدها عن التناقض الأصولي إذ الأغلب أنها تعتمد على مراجعة درجة الأحاديث من حيث الصحة وعدمها أو تعتمد على التفسيرات المتنوعة للعلماء أو أنها عبارة عن تقويم لبعض الآراء المختلفة المتعلقة بالمصلحة من حيث مراعاتها للظروف الراهنة.
يمكن القول بأن هذه الطريقة الثانية هي أسلم الطرق للعوام لأنها تحقق لهم استدامة حياتهم الدينية دون السقوط في تناقضات، كما أن المضي في هذا الطريق بمتابعة النشرات التي يذكر فيها أدلة الرأي الراجح مع مناقشة الآراء الأخرى مما يساعد الشخص على تنمية ثقافته الفقهية وهذا يؤدي بالطبع إلى رفع مستوى الأمة الثقافي.
ومن الواضح أنه يقع على عاتق المؤسسات الإسلامية من أمثال مجمع الفقه الإسلامي مسؤوليات كبيرة في مجال إنارة العقول المسلمة وبيان الترجيحات الفقهية التي سيتبعونها عن ثقة واطمئنان.
وبتناول الآراء المتعلقة بمسألة التزام مذهب معين ثم بمسألة التلفيق باختصار انطلاقًا من هذه التحليلات نختم بحثنا هذا.(8/186)
2- التزام مذهب معين (1)
قبل دراسة قضية التلفيق يجب تناول آراء العلماء حول مسألة التزام مذهب معين لكونها ذات صلة وثيقة بموضوع التلفيق.
بعد الإشارة مقدمًا إلى مجال الحديث هنا هو حال المكلف الذي ليس من أهل الاجتهاد، علينا أن نبين أننا نسعى للإجابة على سؤال " هل يجب على الشخص الالتزام بمذهب معين في المسائل الشرعية العملية؟ " وقد سبقت الإشارة إلى الأسس الفكرية والتاريخية التي أوجدت الحاجة إلى اتباع مذهب معين على ساحة الأفراد أو الدول. ولكننا نشاهد بعد أن وصلت أتباع المذاهب إلى درجة التعصب لها، ظهور آراء يقول أصحابها بوجوب الالتزام بمذهب معين، بل وجوب الاستمرار على هذا المذهب (حتى فوج منهم يقول بوجوب تعزير من يفارق مذهبه إلى مذهب آخر) . وفي المقابل نرى العلماء المحققين يسعون إلى إثبات فقدان دليل شرعي يوجب على من ليس من أهل الاجتهاد، التزام مذهب من المذاهب بصفة مستمرة، بل قرر هؤلاء العلماء بأن الواجب على مثل هذا الشخص سؤال من يراه أهلاً للسؤال من العلماء والتعلم منهم ومن ثم التصرف حسب أقوالهم.
3- التلفيق
التلفيق لغة: هو خيط طرفي الثوب بضم أحدهما على الآخر. وانطلاقًا من هذا المعنى استعملت هذه الكلمة في علمي الفقه والأصول بمعنى الجمع بين الأحكام المختلفة. علاوة على هذه النقطة المتفق عليها، تجدر الإشارة إلى أن كلمة " التلفيق " يتم استعمالها في كتب الفقه والأصول في ثلاثة معان:
1- في كتب الفقه نرى أحيانا استعمال كلمة التلفيق بمعنى الجمع بين حكمين مختلفين لا ينبثق الاختلاف من الخلافات الاجتهادية. فمثلاً يقصد هذا المعنى إذا قيل: " لا يجوز في كفارة اليمين إطعام بعض الفقراء وكسوة البعض الآخر ".
2- وقد تطلق كلمة " التلفيق " في كتب أصول الفقه على إبداء رأي جديد في المسألة لم يقل به أحد من المجتهدين السابقين والذي يتعارض مع النقطة المشتركة للاجتهادات السابقة في تلك المسألة. ومن الواضح أن هذه القضية التي يتم تناولها غالبًا في مبحث الإجماع تحت عنوان " إحداث قول ثالث " لا تتعلق بالتقليد بل تتعلق بالاجتهاد، ويمكن تسميتها بـ " التلفيق في الاجتهاد ".
3- وتستعمل كلمة التلفيق غالبًا في كتب الفقه والأصول بالمعنى التالي:
- العمل بالآراء الاجتهادية المتعددة مجتمعة في مسألة معينة (أو كالمجتمعة في حالة العمل برأي قبل زوال " تأثير " الآخر) بصورة مركبة لا يقول بها أي واحد من المجتهدين هؤلاء. وهذا هو المعنى الأخص للتلفيق، ويمكن تسميته بـ " التلفيق في التقليد ".
__________
(1) انظر في هذا الموضوع وفي موضوع التلفيق: - الدهلوي، الإنصاف في بيان سبب الاختلاف، مصر 1372. - محمد بن عبد العظيم المكي، القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد، مصر 1412هـ – 1992م. - محمد أحمد فرج السنهوري، التلفيق بين أحكام المذاهب، مجلة البحوث. - الاجتهاد في الفقه الإسلامي) KARAMAN (Hayreddin) , Islam Hukukun-da Ictihad, Ankara 1975(8/187)
لقد بدأت المناقشة حول هذه المسألة منذ القرن السابع الهجري وتعددت الآراء حولها، فهناك من يرى عدم جوازه مطلقًا وفي مقابل ذلك ذهب بعض العلماء إلى جواز هذه الفعلة. مع ذلك نجد أن العلماء المحققين وأخص بالذكر الباحثين المعاصرين يشترطون لجواز العمل بالتلفيق مراعاة بعض القيود التي يمكن تلخيصها كما يلي:
(1) وجود الحاجة إلى التلفيق.
(2) عدم تعريض الحياة الدينية لتحكم الأهواء بتتبع الرخص دائمًا.
(3) عدم الاستخدام من هذه الطريقة بغرض التحايل على القانون.
(4) مراعاة الاحتياط في مسائل الحلال والحرام.
4- تقويم حول التلفيق وتتبع الرخص:
إن التلفيق بمعناه الأعم يعني الاستفادة من أحكام المذاهب المختلفة وبالتالي اختيار ما هو أيسر على الشخص من اجتهادات المذاهب الفقهية أيضًا.
وإذا قيل بتجويز التلفيق معناه الأخص (بمعنى جمع اجتهادات مختلفة في مسألة واحدة بصورة مركبة لا يقرها أحد من أصحاب هذه الاجتهادات) فيكون من مقتضى الأولوية القول بتجويز هذا الأمر (أي الاستفادة من آراء المذاهب المختلفة دون إحداث حالة مركبة) ضمن الشروط المذكورة للتلفيق بمعناه الأخص.
ولكن ينبغي التنبه إلى أن احتمال عدم مراعاة الشرط المذكور في الفقرة "2" قوي جدًا. لأن العامل الموجه للشخص عند اختياره الأحكام السهلة من المذاهب المختلفة هو ميل النفس إلى الأسهل في غالب الأحيان. ولا يتم تحقيق الهدف المنشود من مبدأ التيسير في الشريعة الإسلامية إلا باستعمال هذا المبدأ موافقًا للمقاصد الكامنة وراءه (مطابقًا لما يراد الإشارة إليه بقاعدة " إذا ضاق الأمر اتسع") . أما استعمال هذا المبدأ وفق الأهواء والشهوات فيؤدي إلى إبعاده عن هدفه الأساسي، وبذلك تتحكم الرغبات والميول النفسية في الحياة الدينية.
كما ذكرنا عند بياننا الأسس التاريخية والفكرية لاتباع المذاهب إن الموضوع الذي يتحدث حوله هنا ليس مسألة الأحكام التي يستفاد منها في حل الاختلافات القضائية (القانون والتقنين) بل موضوع حديثنا هو القواعد التي لها مؤيدات أخروية فقط والتي يتبعها المسلم لينال سعادة الدنيا والآخرة، أي – باختصار – مسألة تنظيم الحياة الدينية.
ومن هذه الحالة يمكن أن نقول بأنه يجب على الشخص الاهتمام بفكرة (مبدأ) التناسق، والعلم بأنه سيخدع نفسه في الحقيقة عند عدم تقيده بالشروط الموضوعة للتلفيق، وكذلك التصرف كفقيه نفسه عند قيامه بترجيح بين العزيمة أو الرخصة كما ذكر ذلك الإمام الشاطبي.(8/188)
الخاتمة
إن التنظيمات التي تهدف إلى القضاء على الاختلاف بين قواعد الحقوق المطبقة في نفس الدولة بقدر الإمكان وإلى تحقيق وحدة التشريع وبالتالي المنع من حدوث الفوضى التشريعية، وإن المبادئ والتصورات من مثل مبدأ " لا جريمة ولا عقوبة بلا نص " الذي يؤكد على لزوم معرفة الأفراد مقدمًا كيفية معاملة القانون لهم منذ ارتكابهم للأفعال التي يعتبرها القانون من الجرائم ولزوم عدم ترك هذه القضية إلى التقديرات الشخصية المتكونة عقب حدوث تلك الأفعال، وكذلك مبدأ " الحكم العادي " القائل بوجوب النظر في القضية في المحاكم العادية وليس في المحاكم الاستثنائية المشكلة بعد ارتكاب الشخص للجريمة، كل ذلك يعتبر من فروع فكرة "الأمن الحقوقي" بشكل عام. إن الفكرة الأساسية التي تعتمد عليها مثل هذه الأفكار وفكرة " دولة القانون" التي يهتم بها الباحثون في القانون العام في يومنا هذا اهتمامًا بالغًا هي فكرة المشروعية (الشرعية) . وبعبارة أخرى فإن النقطة التي تركزت فيها الجهود الفكرية للبشرية بغية توصيل القانون (الحقوق) الذي هو مجموعة القواعد المنظمة لحياة المجتمع المؤيدة بقوة الدولة إلى الصورة المثلى كانت فكرة المشروعية.
أما الشريعة الإسلامية فهي نظام لا يكتفي بتنظيم علاقات أفراد المجتمع فيما بينهم بل يتجاوز ذلك إلى تنظيم واجبات الفرد نحو خالقه. كما لا تقتصر الشريعة على دعم قواعدها بقوة الدولة بل تهدف من جانب آخر إلى الحفاظ على هذه القواعد بالمؤيدات الأخروية.
وفي هذه الحالة يمكن التحدث عن تصرفات للشخص (القيام ببعض الأفعال واجتناب بعض الأفعال الأخرى) سيحاسب عليها أمام خالقه تعالى وإن لم تكن تلك التصرفات موضوعًا للدعوى في الدنيا. ومؤيدات مثل هذه التصرفات ذات صبغة دينية.
فكما تحمل فكرة المشروعية المتعلقة بتطبيق القواعد الموضوعة قيد التنفيذ في حياة المجتمع أهمية عظمى فكذلك من المهم وجود تنظيم للأحكام المتعلقة بحياة الأفراد قائم على أساس المشروعية ومريح لضمير الفرد.(8/189)
وهكذا فإن العلماء المسلمين الذين أولوا اهتمامًا كبيرًا لفكرة المشروعية، أرادوا أن يقعدوا التغيرات الحاصلة في بعض الحالات في وصف أفعال المكلف التي توصف داخل نظام معين بالفرض أو الواجب والمندوب والحرام والمكروه (أحكام العزيمة) أرادوا أن يقعدوا تلك النظريات بالفكرة نفسها ضمن نظام معين وحاولوا تكوين نظرية متعلقة بهذا الموضوع بتناول هذه الحالات في إطار مفهوم الرخصة.
ويمكن اعتبار موقف العلماء المسلمين من هذه المسألة في نفس الوقت ضرورة ونتيجة للتمسك بفكرة التناسق وعدم التناقض التي تلهمها وتوجه إليها نصوص كثيرة من مثل الآية الكريمة {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] نتيجة لاعتقادهم بأن الشريعة الإسلامية نظام يحتوي على كل فكر ولا ينطوي على تناقضات داخلية.
عندما ندرس هذه الحالات الخاصة وأحكامها نرى أنه ليس للشخص صلاحية الإخلال بأحكام الأحوال العادية مهما كانت الظروف، فمثلاً لا يجوز للشخص أن يقتل غيره لينقذ حياة نفسه. إن القيام ببعض الأفعال التي تحرم في الأحوال العادية في حالة الاضطرار (كأكل لحم الخنزير) واجب عند جمهور العلماء بينما يرى فريق من العلماء أن حالة العذر هذه لا تخرج الفعل عن كونه حرامًا بل يسقط العقوبة فقط، ولذلك فارتكاب هذا الفعل إنما هو مباح وليس بواجب، كما أوضحنا في بحثنا هذا فإن هناك اختلافًا في تقويم بعض الحالات الواقعية وتطبيق المبادئ على الأحداث كهذا الاختلاف وأمثاله.
من الممكن اعتبار التزام مذهب معين لشخص ليست عنده القدرة على الاطلاع على أدلة الأحكام وتقويمها، يمكن اعتباره طريقة أكثر أمانًا لتحقيق انتظام الحياة الدينية وتناسقها لدى ذلك الشخص. إلا أن العلماء المحققين لم يروا بأسًا بتطبيق أحكام مذاهب مختلفة عند الحاجة إلى ذلك دون أن يؤدي ذلك إلى تصرف الأشخاص حسب أهوائهم ومع الأخذ بعين الاعتبار مبدأ الأخذ بالأحوط في مسائل الحرام. إن هناك وظائف هامة تقع على عاتق الأشخاص والمؤسسات التي تتولى القيام بعملية الإفتاء وواجب البحث الإسلامي من حيث القيام بالتوصيات اللازمة وإنارة أفكار المجتمعات الإسلامية وذلك بالتوصل إلى الآراء التي تستجيب لحاجات المجتمع حسب ظروف الحياة المعاصرة أحسن استجابة والأكثر موافقة لمقاصد الشارع والأقوى دليلاً للوجوه المذكورة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سعادة الدكتور إبراهيم كافي دونمز
كلية الإليهات – جامعة مرمرة – استنبول(8/190)
المراجع
* ابن عاشور (محمد الطاهر)
- مقاصد الشريعة الإسلامية، تونس، 1978.
* أبو النور زهير (محمد)
- أصول الفقه، القاهرة، 1412 – 1992.
* الآمدي (سيف الدين)
- الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة، 1968.
* البخاري (عبد العزيز)
- كشف الأسرار، استانبول، 1308 هـ.
* البزدوي (علي بن محمد)
- كنز الوصول إلى علم الأصول، استانبول، 1308هـ.
* الدهلوي (أحمد بن عبد الرحيم)
- حجة الله البالغة، 1322 هـ. (المطبعة الخيرية) .
- الإنصاف في بيان سبب الاختلاف، مصر 1372.
* الزحيلي (وهبة) .
- نظرية الضرورة الشرعية، بيروت، 1402 – 1982.
* السرخسي (شمس الأئمة)
- أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفاء الأفغاني، حيدر أباد، 1372 هـ.
* سليم (محمد حسني إبراهيم)
- الرخص وأسباب الترخيص في الفقه الإسلامي، القاهرة، 1407 – 1987.
* الشاشي (أبو علي) .
- أصول الشاشي، بيروت، 1402 – 1982.
* الشاطبي (أبو إسحق إبراهيم بن موسى) . - الموافقات في أصول الشريعة، دون تاريخ (المطبعة الرحمانية) .
* الطوفي (نجم الدين)
- شرح مختصر الروضة، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، بيروت، 1402 – 1982.
* الغزالي (محمد بن محمد)
- المستصفى من علم الأصول، مصر، 1324 هـ.
* محمد أحمد فرج السنهوري
- التلفيق بين أحكام المذاهب، مجلة البحوث.
* محمد بن عبد العظيم المكي
- القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد، مصر 1412 هـ – 1992 م.
* محمصاني (صبحي)
- مقدمة في احياء علوم الشريعة، بيروت، 1962.
* موسوعة الفقه الإسلامي، مادة " الاضطرار "، 14 / 61 – 105، مصر 1975.
* الموسوعة الفقهية، مادة " الرخصة "، 22/ 151 – 165، الكويت 1412 – 1992.
* النملة (عبد الكريم بن علي بن محمد)
- الرخصة الشرعية وإثباتها بالقياس، الرياض، 1410 هـ.
- (الاجتهاد في الفقه الإسلامي)
KARAMAN (Hayredding) , Islam Hukukunda Ictihad, Ankara 1975.(8/191)
الأخذ بالرخصة
إعداد
أ. د. حمد عبيد الكبيسي
عميد المعهد الإسلامي لإعداد الدعاة
بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخذ بالرخصة
1- تعريف الرخصة:
أما في اللغة: فالرخصة في الأمر خلاف التشديد، والرخص ضد الغلاء. ورخصت في كذا أذنت بعد نهي. والرخص الناعم اللين (1) .
ونقل الآمدي عن أهل اللغة أن الرخصة التيسير والتسهيل (2) .
وأما في الاصطلاح: فهي: "الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر " (3) .
فـ " الحكم ": جنس في التعريف.. و " الثابت على خلاف الدليل ": قيد أول، أشير فيه " بالثابت " إلى أن الترخيص لا بد له من دليل وراء العذر، وإلا لزمت مخالفة الدليل السالم من المعارض، وأريد بالدليل: الدليل الشرعي القائم، أي السالم من النسخ والمعارضة المسقطة. ويحترز بهذا القيد عن الحكم الذي لم يخالف دليلاً شرعيا أصلاً. أو يخالف دليلاً شرعيا لكنه منسوخ، أو عام لحقه تخصيص.
وتصوير النوع الأول بأن لم يرد دليل على المنع أصلاً لا عام ولا خاص. كحل المنافع التي ورد الشرع بإباحتها من أكل وشرب ولبس وما إليها بناء على الراجح من أن الأصل في المنافع الحل.
وتصوير النوع الثاني بأن يرد دليل على المنع لكنه منسوخ كما في جواز فرار الواحد من أكثر من مقاتلين في الجهاد. أو بأن يكون هناك عام معارض بخاص، كما في منع قتل المستأمن على خلاف ما يقضي به عموم الآية. {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] .
فهذا كله ليس ثابتًا على خلاف الدليل القائم بل على وفقه. فليس من الرخصة في شيء.
وورد في التعريف قيد ثان وهو "العذر " أعم من الضرورة كما في أكل الميتة. أو المشقة كما في فطر المسافر، أو الحاجة كما في بيع السلم.
__________
(1) لسان العرب 8 / 306.
(2) الإحكام في أصول الأحكام: 1 / 188.
(3) الإسنوي على المنهاج: 70/1، وأصول السرخسي: 1 / 117.(8/192)
وقد احترز به عن:
أ- جميع التكاليف، فإنها ثابتة على خلاف الدليل. إذ الأصل عدم التكليف لكن ثبوتها لا لعذر بل للابتلاء.
ب- كل حكم ثبت لمانع لا لعذر. كما في ترك الحائض الصوم ونحوه، إذ العذر لدينا في المشروعية، كالسفر والمرض مع الصوم (1) .
وقد عرف بعض الأصوليين الرخصة بأنها: ما تغير من عسر إلى يسر لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي (2) . أو: ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه (3) . وهم بهذا إنما يريدون وضع تعريف يعم الرخصة الحقيقية والمجازية. وهل الرخصة من أقسام الحكم الوضعي؟ إلى هذا ذهب بعض الأصوليين (4) . وذهب بعضهم إلى أنها من أقسام الحكم التكليفي، بينما ذهب فريق إلى أنها تدخل في تقسيم فعل المكلف.
والتحقيق أن الخلاف في هذا لفظي لا تترتب عليه ثمرة سوى المنهجية في الكتابة والتبويب (5) .
فالعزيمة والرخصة ينقسم الحكم إليهما باعتبار كونه على وفق الدليل القائم أو على خلافه. وفي كل من الرخصة والعزيمة يوجد من الشارع جعل الشيء (العذر أو عدمه) سببًا في حكم تكليفي.
فمن نظر إلى الجعل ذهب إلى أن الرخصة قسم للحكم الوضعي، ومن نظر إلى الحكم المسبب ذهب إلى أنها قسم للحكم التكليفي.
وفي هذا يقول (الكمال بن الهمام) : "وقيل للشارع في الرخص حكمان: كونها وجوبًا أو ندبًا أو إباحة وهو من أحكام الاقتضاء والتخيير. وكونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف يناسب تخفيف الحكم عليه مع قيام الدليل على خلافه؛ وهو من أحكام الوضع لأنه حكم بالمسببية ولا بدع في جواز اجتماعهما في شيء واحد من جهتين " (6) .
__________
(1) الإسنوي 1 / 71. والقرافي.
(2) جمع الجوامع: 1 / 119 – 120. التقرير والتحبير: 2 / 148. المستصفى: 1 / 98. ومسلم الثبوت 10/ 119.
(3) الموافقات: 1 / 301.
(4) الموافقات: 1 / 187.
(5) كتابنا أصول الأحكام: 198.
(6) التقرير والتحبير: 2/ 153.(8/193)
2- أنواع الرخص:
لما كانت الرخص مبنية على أعذار العباد، وأعذارهم مختلفة؛ اختلفت أنواع الرخص فانقسمت بالاستقراء لأنواع أربعة:
الأول: إباحة الفعل المحظور عند الضرورة أو الحاجة، كإباحة التلفظ بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان إذا أكره المؤمن على ذلك. لقول الله تعالى {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] .
والعمل بالعزيمة في هذه الحالة أولى من العمل بالرخصة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأسيرين اللذين أخذهما مسيلمة الكذاب (1) : ((أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئًا له)) .
ومن هذا أيضًا: إباحة أكل الميتة عند الضرورة لدفع المخمصة لقول الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
وقد اختلف الفقهاء في حكم الميتة والخمر والخنزير ونحوها في حالة الاضطرار أنها تصير مباحة أو تبقى على الحرمة ويرتفع الإثم.
فذهب بعضهم إلى أنها لا تحل ولكن يرخص الفعل في حالة الاضطرار إبقاء للمهجة كما في الإكراه على الكفر وأكل مال الغير. وهو رواية عن أبي يوسف وأحد قولي الشافعي. وذهب أكثر الأصوليين من الحنفية إلى أن الحرمة ترفع في هذه الحالة ويصير الأكل مباحًا (2) .
الثاني: إباحة ترك الواجب وتأخير أدائه عن وقته، كإباحة الفطر في رمضان لمن كان مسافرًا أو مريضًا.
والعمل بالعزيمة في هذا النوع أولى. إلا أن يؤدي العمل بها إلى الضرر فيكون الأخذ بالرخصة أولى (3) .
والإباحة المذكورة في هذين النوعين لا يراد بها الإباحة الاصطلاحية، بل يراد بها رفع الحرج وتجويز الفعل – أعم من أن يكون بطريق التساوي بين الفعل والترك أو بدونه، فيشمل الإباحة الاصطلاحية والوجوب والندب بطريق الرجوع إلى عزيمة أصلية لا إلى الرخصة بعينها (4) .
وقد بين الإسنوي وجه الشمول فقال: " الرخصة واجبة ومندوبة ومباحة ".
__________
(1) كشف الأسرار على البزدوي 2 / 316، والقرطبي: 10 / 189 من رواية الحسن البصري مرسلاً.
(2) كشف الأسرار على البزدوي: 2 / 322.
(3) كشف الأسرار: 2 / 30. والتلويح: 2 / 128.
(4) الموافقات للشاطبي: 1 / 307 – 318.(8/194)
فالواجبة كأكل الميتة للمضطر على الصحيح المشهور في مذهبنا (الشافعي) .
والمندوبة فكالقصر للمسافر بشرطه المعروف.
وأما المباح فالصواب تمثيله بالسلم والعرايا والإجارة والمساقاة وشبه ذلك من العقود فإنها رخصة بلا نزاع، لأن السلم والإجارة عقدان على معدوم مجهول، والعرايا بيع الرطب بالتمر فجوزت للحاجة إليها، فهي مباحة لا طلب في فعلها ولا في تركها (1) .
الثالث: تصحيح بعض العقود والتصرفات بطريق الاستثناء من أصل كلي يقتضي المنع. كما في السلم. فبالرغم من أنه بيع لما ليس عند الإنسان الذي ورد النهي عنه بقوله عليه السلام: ((ولا يحل بيع ما ليس عندك)) (2) فقد ورد الترخيص فيه استثناء من القاعدة العامة في البيوع لحاجة الناس إلى هذا النوع من العقود.
وهذا النوع عدة الحنفية مما يطلق عليه اسم الرخصة مجازًا وهو إلى حقيقة الرخصة أقرب (3) .
الرابع: إطلاق الرخصة على ما وضع عن أمتنا من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي كانت مشروعة على الأمم السالفة.
وهذا الإطلاق مجازي وهذا النوع بعيد عن حقيقة الرخصة الاصطلاحية (4) . وفيه يقول البزدوي: " وأما أتم نوعي المجاز فما وضع عنا من الإصر والأغلال. فإن ذلك يسمى رخصة مجازًا. لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعًا فلم يكن رخصة إلا مجازًا من حيث هو نسخ تمحض تخفيفًا " (5) .
وقد قسم بعض الأصوليين من الحنفية الرخصة إلى قسمين: رخصة ترفيه ورخصة إسقاط. وفرقوا بينهما بأن رخصة الترفيه يكون حكم العزيمة فيها باقيًا ودليله قائمًا. مثل الفطر في رمضان بسبب السفر والتلفظ بعبارات الردة بسبب الإكراه.
أما رخصة الإسقاط فلا يكون حكم العزيمة معها باقيًا. بل إن الحال التي اقتضت الترخيص أسقطت حكم العزيمة وجعلت الحكم المشروع فيها هو الرخصة فقط. مثل قصر الصلاة في السفر. إذ المسافر سقطت عنه الأربع. ولو صلاها كانت الركعتان الأخيرتان نافلة (6) .
__________
(1) شرحه على منهاج البيضاوي: 1 / 71 – 72. وجمع الجوامع: 1 / 121.
(2) جزء من حديث أصحاب السنن وصححه الترمذي. راجع الموافقات: 1 / 304.
(3) البزدوي: 3 / 321.
(4) المستصفى: 1 / 98.
(5) أصوله مع كشف الأسرار: 2 / 320. والموافقات 10 / 304.
(6) كشف الأسرار: 2 / 322 – 325. والتلويح: 2 / 129 – 130.(8/195)
وإذا كنا في عرضنا لتقسيمات الرخصة عرضًا أوليًّا تختفي معه الاختلافات فإن هذا لا يعني أن المسألة اتفاقية وأن الخلاف معدوم؛ إذ قضية كهذه، للاصطلاح فيها دخل، وللمنهجية والذوق فيها اعتبار: لا يمكن إلا أن تكون محل خلاف وتفاوت.
وقد وجدنا الأصوليين تتفاوت طريقتهم في قضية تقسيم الرخصة وبيان أنواعها. وحسبي أن أستوفي طرائق أربعة منهم هم: البزدوي، والغزالي، والبيضاوي، والشاطبي.
فالبزدوي يرى أن الرخص أربعة:
نوعان من الحقيقة أحدهما أحق من الآخر.
ونوعان من المجاز أحدهما أتم من الآخر.
1- أما أحق نوعي الحقيقة فما استبيح مع قيام المحرم وقيام حكمه جميعًا. فهو الكامل في الرخصة مثل المكره على إجراء كلمة الكفر أنه يرخص له إجراؤها والعزيمة في الصبر. وكذلك الذي يأمر بالمعروف إذا خاف القتل.
2- وأما الثاني فما يستباح بعذر مع قيام السبب موجبًا لحكمه غير أن الحكم متراخ. مثل المسافر رخص له أن يفطر بناء على سبب تراخي حكمه.
3- وأما أتم نوعي المجاز فما وضع عنا من الإصر والأغلال، فإن ذلك يسمى رخصة مجازًا لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعًا فلم يكن رخصة إلا مجازًا من حيث هو نسخ تمحض تخفيفًا.
4- وأما القسم الرابع فما سقط عن العباد مع كونه مشروعًا في الجملة. فمن حيث سقط أصلاً كان مجازًا. ومن حيث بقي مشروعًا في الجملة كان شبيهًا بحقيقة الرخصة (1) . ومثل له برخصة السلم.
والغزالي يرى أن الرخصة تطلق حقيقة ومجازًا.
1- فالحقيقة في الرتبة العليا كإباحة النطق بكلمة الكفر بسبب الإكراه.
2- وأما المجاز البعيد عن الحقيقة فتسمية ما حط عنا من الإصر والأغلال التي وجبت على من قبلنا في الملل المنسوخة رخصة.
3- ويتردد بين هاتين الدرجتين صور بعضها أقرب إلى الحقيقة وبعضها أقرب إلى المجاز (2) . وذكر منها القصر والفطر في حق المسافر.
والبيضاوي يرى أن الرخصة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: واجبة. ومندوبة، ومباحة. فالواجبة كأكل الميتة للمضطر. وأما المندوبة فكالقصر للمسافر بشرطه. وأما المباحة فكالفطر للمسافر. وعقب الإسنوي على التمثيل للمباح فقال: والصواب تمثيله بالسلم والعرايا (3) .
__________
(1) أصوله مع كشف الأسرار: 2 / 315 – 322.
(2) المستصفى: 1 / 98.
(3) الإسنوي على المنهاج: 1 / 71 – 72.(8/196)
والشاطبي يرى أن الرخصة تطلق بإطلاقات أربعة:
الأول: ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه.
الثاني: ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا من غير اعتبار بكونه لعذر شاق.
الثالث: ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة.
الرابع: ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقًا مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم. فإن العزيمة الأولى هي التي نبه عليها قول الله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فإذا وهب لهم حظًا ينالونه فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود، واعتناء بغير ما اقتضته العبودية (1) .
ولعل الفرق بين هذه التقسيمات يعود إلى أسباب مصلحية رآها المجتهدون في آحاد المسائل وأحكام النوازل (2) ، واعتبارات فنية في التبويب ومنهجيته.
3- ضوابط الأخذ بالرخصة:
تكمن هذه الضوابط في ثبوت دليل الرخصة وقيام أسبابها وعللها مع التثبت من تحقق دواعيها أعم من أن تكون هذه الدواعي ضرورة أو حاجة أو ترفيها.
ومن هذا السلم مثلاً. فإنه رخصة تستند إلى دليل من السنة بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال ((من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) (3) . في مقابل النهي عن بيع ما ليس عند البائع الوارد في حديث حكيم بن حزام قال: قلت يا رسول الله، يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق؛ فقال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (4) .
وما ورد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) (5) .
ومثل هذه الرخص المنصوص عليها بأعيانها يقاس عليها عند أغلب القائلين بالقياس. فقد قاسوا صحة بيع العنب بالزبيب على بيع العرايا المرخص بها في الحديث. ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا أن يشترى بخرصها يأكلها أهلها رطبًا)) (6) .
__________
(1) الموافقات: 1 / 301 – 305.
(2) المستصفى: 1 / 99.
(3) حديث صحيح. رواه الجماعة.
(4) حديث صحيح. رواه الجماعة.
(5) صححه النسائي وابن ماجه. انظر نيل الأوطار: 5 / 252.
(6) متفق عليه.(8/197)
ومنع بعض الحنفية القياس على الرخص بأنها منح من الله تعالى فلا تتعدى فيها مواردها (1) .
والراجح جواز القياس إذا وجدت أركانه وشرائطه بأن الأدلة الدالة على حجية القياس غير مختصة بنوع من الأحكام دون نوع (2) .
على أن الخلاف في حقيقة الأمر يعود إلى التسمية والتلقيب، حيث أجرى هؤلاء الحنفية القياس فيما يسميه الجمهور رخصة، وقالوا: هذا ليس من القياس، وإنما من باب ما في معنى الأصل (3) .
ومن ضوابط العمل بالرخصة أن لا يكون الحرج الداعي لها ناتج عن معصية فإن الرخصة نعمة وتيسير، والنعمة لا تناط بالمعصية.
ومن أجل هذا الضابط اختلف الفقهاء في تناول المحرمات للضرورة وقصر الصلاة وفي الرخص بالفطر في سفر المعصية.
فذهب الحنابلة والشافعية وغيرهم إلى اعتبار هذا الضابط: قال ابن قدامة ليس للمضطر في سفر المعصية الأكل من الميتة كقاطع الطريق. وقال سعيد بن جبير: إذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له. فإن تاب وأقلع عن معصيته حل له الأكل (4) .
ويقول ابن حزم: "ومن كان في سبيل معصية كسفر لا يحل أو قتال لا يحل فلم يجد شيئًا يأكله إلا الميتة لم يحل له أكله حتى يتوب" (5) .
ويقول ابن قدامة في أبواب القصر: ولا تباح هذه الرخص في سفر المعصية. نص عليه أحمد. وهذا قول الشافعي (6) .
والمالكية والحنفية لم يفرقوا بين سفر المعصية وغيره. وخالف ابن حزم مسلكه – الذي قدمناه في قصر الصلاة للعاصي بسفره؛ إذ القصر عنده واجب – ونص على أنه يقصر المسافر ولو كان لمعصية (7) وذهب إلى فرض الفطر في السفر طاعة أو معصية (8) .
والراجح اشتراط أن لا يكون في معصية. لأن الله سبحانه قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
__________
(1) الإسنوي على المنهاج: 3 / 35.
(2) الإسنوي على المنهاج: 3 / 34.
(3) الإسنوي على المنهاج: 3 / 35.
(4) المغني: 9 / 414.
(5) المحلى: 8 / 331.
(6) المغني: 2 / 216.
(7) المحلى: 4/ 264.
(8) المحلى: 6 / 243.(8/198)
ومن الضوابط أن لا يتوسع فيما يستند من تناول المحظور إلى الضرورة لأن الضرورة تقدر بقدرها (1) .
فذهب الحنفية والحنابلة وأكثر الشافعية وبعض المالكية إلى عدم إباحة ما زاد على ما تدعو إليه الحاجة ويسد به الرمق ويندفع الهلاك.
وذهب جمهور المالكية ورواية عند الحنابلة إلى إباحة التناول إلى الشبع.
يقول ابن قدامة: وفي الشبع روايتان: أظهرهما لا يباح وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحد القولين للشافعي ... لأنه بعد سد الرمق غير مضطر. والثانية يباح له الشبع ... ويحتمل أن يفرق بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال (2) .
وهناك ضابط انفرد الشاطبي بالتصريح به وهو طمأنينة نفس المترخص للعمل بالرخصة. فقال: إن الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يوجد فيها حد شرعي فيوقف عنده (3) .
ويوضح الشاطبي مقصده بأن " المشاق تختلف بالقوة والضعف وبحسب الأحوال، وبحسب قوة العزائم وضعفها. وبحسب الأمان وبحسب الأعمال ...
ولذلك أقام الشرع في جملة منها (الرخص) السبب مقام العلة (ويقصد بالعلة الحكمة) فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة. وترك كل مكلف على ما يجد. وترك كثيرًا منها موكولاً إلى الاجتهاد ...
فإذًا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي ولا ضابط مأخوذ باليد، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه. فمن كان من المضطرين معتادًا للصبر على الجوع ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب وكما ذكر عن الأولياء، فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك " (4) .
وهذا الذي رآه الشاطبي دقيق وسديد حيث أناط الأخذ بالرخصة وترك العزيمة إلى فقه الآخذ وطمأنينة قلبه وذمته ودينه.
وكأن الشاطبي في هذا الذي انفرد به إنما يأخذ مذهبه من فقه الحديث النبوي عن وابصة بن معبد قال: ((جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله عن البر والإثم فقال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ فقلت والذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيره، فقال: البر ما انشرح له صدرك، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس)) (5) .
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي: 84.
(2) المغني: 412 – 413 والبجيرمي على المنهج 4 / 307، والدسوقي: 2 / 115، وتفسير القرطبي: 2 / 210، والإباحة عند الأصوليين للأستاذ سلام مدكور: 350.
(3) الموافقات: 1 / 314.
(4) الموافقات: 1 / 315.
(5) مسند الإمام أحمد: 4 / 194 و 224. وسنن الدارمي: 2 / 246.(8/199)
4- تتبع الرخص:
لم يختلف الفقهاء والأصوليون في جواز تتبع الرخص الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة إذا تحققت دواعيها:
لعمومات قول الله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
وقول الله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] .
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) (1) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: من حديث ابن عباس: ((إن الله عز وجل يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه)) (2) .
لكنهم اختلفوا في تتبع رخص المذاهب الاجتهادية وما يتصل بها من استحسانات وحيل شرعية جلبًا لليسر ودفعًا للعسر عن المكلفين.
فذهب بعضهم إلى الجواز، وبعضهم إلى المنع، وبعضهم إلى الجواز بشروط.
أ- مذهب جواز الرخص:
ذهب بعض الحنفية إلى جواز اتباع رخص المذاهب. لعدم وجود مانع شرعي يمنع منه، ولأن الإنسان له أن يسلك المسلك الأخف عليه إن كان له إليه سبيل. يقول ابن أمير الحاج: إن مثل هذه التشديدات التي ذكروها في المنتقل من مذهب إلى مذهب إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص وإلا فأخذ العامي بكل مسألة بقول مجتهد يكون قوله أخف عليه لا أدري ما يمنع منه عقلاً وشرعًا (3) .
وإلى الجواز ذهب العز بن عبد السلام من الشافعية. فهو يقول: لا يتعين على العامي إذا قلد إمامًا في مسألة أن يقلده في سائر مسائل الخلاف لأن الناس من لدن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب يسألون فيما يسنح لهم العلماء المختلفين من غير نكير، سواء اتبع الرخص في ذلك أو العزائم (4) .
ب – مذهب منع تتبع الرخص:
ذهب جمهور الفقهاء إلى منع تتبع الرخص في المذاهب. يقول الإمام الغزالي: إن العامي ليس له أن ينتقي من المذاهب من كل مسألة أطيبها عنده (5) .
ويرى ابن السبكي أنه: " يمتنع تتبع الرخص في المذاهب بأن يأخذ من كل منها ما هو الأهون فيما يقع من المسائل ". وحكى الجلال المحلي الخلاف في تنسيق هذا المتتبع (6) .
ويقول الشوكاني: "أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه والأخف له فقال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق لأنه متأول " (7) .
__________
(1) أخرجه البخاري. انظر الفتح 1 / 93 سلفه.
(2) معجم الطبراني: 11/ 255 ط ثانية والحديث حسنه المنذري في الترغيب ووثق رجاله صاحب مجمع الزوائد.
(3) العطار على جمع الجوامع: 2 / 442.
(4) العطار على جمع الجوامع: 2 / 442.
(5) المستصفى: 2 / 391.
(6) جمع الجوامع مع حاشية العطار: 2 / 441.
(7) إرشاد الفحول 253.(8/200)
والشاطبي أحد الأعلام الذين ذهبوا إلى منع تتبع الرخص حيث خصص صفحات من كتابه الموافقات لهذا الغرض. فيقول: ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة. فلا يصح القول بالتخيير على حال (1) .
وكشف عن وجه المنع من تتبع رخص المذاهب فقال: وقد أدى إغفال هذا الأصل (منع المقلد من أن يتخير في الخلاف) إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال اتباعًا لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق، ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلاً عن زماننا، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعًا للغرض والشهوة فيما لا يتعلق به فصل قضية، وفيما يتعلق به ذلك " (2) .
وأورد الشاطبي بعد ذلك نماذج ووقائع لهذين النوعين من تخير رخص المذاهب واتباع الحيل الشرعية (3) .
ونقل عن رجل من فقهاء هذا الصنف أنه كان يقول: إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه.
وذكر أن كثيرًا ما يسأل من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها: لعل فيها رواية أو لعل فيها رخصة.
ثم قال بعد ذلك: " وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل " (4) .
ونقل الشاطبي اعتراض بعض المتأخرين على من منع من تتبع رخص المذاهب وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) يقتضي جواز ذلك لأنه نوع من اللطف بالعبد، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد. فرد هذا الاعتراض بقوله: إن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدًا بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها. بل تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى (5) .
__________
(1) الموافقات: 4 / 131
(2) الموافقات: 4 / 135.
(3) الموافقات 4 / 135 – 139.
(4) الموافقات: 4 / 140.
(5) الموافقات: 4 / 145.(8/201)
ثم أعقب الشاطبي هذا كله بجملة مما في اتباع الرخص من المفاسد: كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف. وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط. وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم. وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف. وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم. وغير ذلك من المفاسد الأخرى (1) .
وإلى المنع من تتبع الرخص ذهب ابن القيم. فقال: وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به ويفتي ويحكم به. ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر (2) .
ثم يقول: ولا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة. ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه. فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه (3) . وحكى ابن حزم الإجماع على منع تتبع الرخص (4) .
جـ – مذهب التفصيل في تتبع الرخص:
يرى أصحاب هذا المذهب أن الأخذ بالرخص لا يعني تتبعها والبحث عنها قصدًا للتحلل من التكاليف وإنما يعني الانتقال من تكليف أشد إلى تكليف أخف لسبب شرعي.
في ضوء هذا اختار العطار من الشافعية جواز تتبع الرخص لا على الإطلاق بل مع مراعاة ما اعتبره المجتهد في المسألة التي وقع التقليد فيها مما يتوقف عليه صحتها كي لا يقع في حكم مركب (ملفق) من اجتهادين، كما إذا توضأ ومسح بعض الرأس على مذهب الإمام الشافعي، ثم صلى بعد لمس مجرد عن الشهوة على مذهب الإمام مالك في عدم النقض. فهذا تلفيق في أجزاء الحكم " وهو ممنوع " (5) .
__________
(1) الموافقات: 4 / 147.
(2) إعلام الموقعين: 4 / 211.
(3) أعلام الموقعين: 4 / 222.
(4) مراتب الإجماع: 175 نقلاً عن موسوعة الفقه الإسلامي.
(5) انظر حاشيته على جمع الجوامع: 2 / 442.(8/202)
ونقل عن القرافي في شرح المحصول القول بجواز تتبع الرخص بشروط:
الأول: أن لا يكون التتبع موقعًا في أمر يجمع على إبطاله إمامه الأول وإمامه الثاني.
الثاني: أن يكون التتبع في المسألة المدونة للمجتهدين الذين استقر الإجماع عليهم دون من انقرضت مذاهبهم.
الثالث: أن لا تترك العزائم رأسًا بحيث يخرج عن ربقة التكليف الذي هو إلزام ما فيه كلفة (1) .
ومن هذا الفريق الإمام ابن تيمية، فإنه فرق بين حالتين:
الأولى: اعتقاد الشيء واجبًا أو حرامًا ثم يعتقده – بطريق تتبع الرخص – غير واجب ولا حرام. وقد مثل لهذه الحالة بما نص عليه بقوله: " مثل أن يكون طالبًا لشفعة الجوار فيعتقد أنها حق له، ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقد أنها ليست ثابتة. أو مثل من يعتقد إذا كان أخًا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد، فإذا صار جَدًّا مع أخ اعتقد أن الجد ينفرد بالميراث دونهم ... فمثل هذا ممكن في اعتقاده حل الشيء وحرمته، ووجوبه وسقوطه بحسب هواه. هو مذموم بخروجه، خارج عن العدالة. وقد نص الإمام أحمد وغيره على أن هذا لا يجوز " (2) .
الثانية: أن يكون تتبع الرخص بطريق الانتقال من قول فقهي إلى قول فقهي آخر إذا تبين للمتتبع ما يوجب رجحان قول على قول: وهذا الرجحان يكون بأحد طريقين كما نص على ذلك الإمام ابن تيمية بقوله: " إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها وإما بأن يرى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله، فيرجع عن قوله إلى قول هذا. فهذا يجوز، بل يجب. وقد نص الإمام أحمد على ذلك " (3) .
__________
(1) انظر حاشيته على جمع الجوامع: 2 / 442.
(2) الفتاوى: 20 / 220.
(3) الفتاوى: 20 / 221.(8/203)
وزاد الإمام ابن تيمية الأمر توضيحًا بأن جعل أصل الانتقال من حكم اجتهادي إلى آخر يعود إلى أن العامي هل عليه أن يلتزم مذهبًا معينًا يأخذ بعزائمه ورخصه؟ وحكى الأوجه في المسألة عند الأئمة المجتهدين. ثم قال بعد ذلك: " لا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني مثل أن يلتزم مذهبًا لحصول غرض دنيوي ... فهذا مما لا يحمد عليه، بل يذم عليه في نفس الأمر، ولو كان ما انتقل إليه خيرًا مما انتقل عنه. وهو بمنزلة من لا يسلم إلا لغرض دنيوي. وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني مثل إن تبين رجحان قول على قول فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله: فهو مثاب على ذلك " (1) .
وعلى العموم فإن قضية الانتقال من مذهب إلى مذهب مسألة هي ذاتها موضع خلاف الفقهاء.
والرأي الراجح أن العامي إذا عمل بقول مجتهد في حادثة فليس له الرجوع عنه في مثلها لأنه قد التزم ذلك القول بالعمل به بخلاف ما إذا لم يعمل به.
وقيل يلزمه العمل به بمجرد الإفتاء، وقيل يلزمه بالشروع بالعمل، وقيل يلزمه إن وقع في نفسه صحته بأن ينشرح له صدره وأن لا يكون قاصدًا للتلاعب وقيل لا يجب عليه التزام مذهب معين فله أن يأخذ فيما يقع له بهذا المذهب تارة وبغيره أخرى (2) .
5- التلفيق ورأي الفقهاء والأصوليين فيه:
بحث الأصوليون مسألة التلفيق في نطاق بحثهم لقضية التقليد والانتقال من مذهب إلى آخر.
فذهب الشيخ عبد القادر الورديفي المغربي إلى " أن الانتقال من مذهب إلى آخر جار في سائر الأمصار وفيما تقدم من الأعصار إلا فيما قل من الأقطار. وحكمه الجواز ولا قائل بمنعه إلا جاهل أو متعصب " (3) .
وذكر أن الأصوليين اختلفوا في تركيب مسألة من مذهبين أو أكثر. ورأى " أن الصحيح من جهة النظر جوازه. فمن ذلك ما ذكره الشعبي عن أصبغ من أن جميع ما يضطر الناس إليه ولا يجدون منه بدًّا ولا محيدًا – مثل حارس الزرع يستأجر من يحرسه بجزه منه ولا يجد من يحرس له إلا بذلك الوجه – فأرجو أن لا يكون به بأس (4) .
__________
(1) الفتاوى: 20 / 222.
(2) راجع الفتاوى: 20 / 220. والعطار على جمع الجوامع: 2 / 439 و 442. والموافقات: 4 / 144 وإرشاد الفحول: 253.
(3) انظر سعد الشموس والأقمار ص 258.
(4) انظر سعد الشموس والأقمار ص 259.(8/204)
ونسب الخلاف في التلفيق إلى أصل مذهب الإمام مالك. وبين المقصود به نقلاً عن ابن عرفة، ونصه: إعمال دليل الخصم في لازم مدلوله الذي أعمل في نقيضه دليل آخر (الضمير في مدلوله يعود على الدليل، والضمير في نقيضه يعود على المدلول) .
وذلك كالعقد الباطل يحكم له بحكم الصحيح بعد الفوات. ومثاله: الإمام مالك يقول بفساد نكاح المرأة نفسها للحديث ((أيما امرأة نكحت ... )) وقال الإمام أبو حنيفة يجوز قياسًا على البيع. فأعمل مالك دليله في الحياة وهو الفسخ متى غير عليه الحاكم.
وأعمل دليل أبي حنيفة في لازم مدلوله بعد الممات فأوجب توارثهما. أو مثاله: إعمال الإمام مالك دليل مخالفه الإمام أبي حنيفة رحمهما الله القائل بعدم فسخ صريح الشغار في لازم مدلوله، ومدلوله عدم فسخه، ولازمه ثبوت الإرث بين الزوجين، وهذا المدلول، وهو عدم الفسخ، عمل في نقيضه دليل آخر وهو دليل فسخه.
فمالك يرى فسخه مطلقًا، وإن حدث موت أو كان ولد فإن الولد يلحق بأبيه ويثبت الإرث بين الزوجين ويفسخه بطلاق (1) .
ويخلص الشيخ المغربي إلى القول: فتحصل مما ذكر أن التلفيق موجود بشروطه وهو الانتقال من عزيمة إلى ما هو أعزم منها، أو مصلحة دينية دنيوية إلى ما هو أصلح منها أو إلى رخصة بشروطها. وما عدا ذلك كله مروق من الدين من شر الأنفس والأهواء والشياطين الملحدين (2) .
وفسر العطار التلفيق في التقليد بالتلفيق في أجزاء الحكم. ومثل له بالمتوضئ يمسح بعض الرأس اتباعًا لمذهب الإمام الشافعي، ثم يصلي بعد لمس مجرد من الشهوة اتباعا لمذهب الإمام مالك. ففي هذا تلفيق في أجزاء حكم واحد وهو صحة صلاته التي أداها بهذا الوضوء وهذا غير جائز. أما تتبع الأحكام الاجتهادية في جزئيات المسائل فإنه جائز (3) .
ويتبين من نص ابن عابدين وتمثيله أنه يريد بالتلفيق في التقليد التلفيق في أجزاء الحكم. إذ قال: وإن الحكم الملفق باطل بالإجماع. مثاله " متوضئ سال من بدنه دم ولمس امرأة ثم صلى، فإن صحة صلاته ملفقة من المذهب الشافعي والحنفي، والتلفيق باطل فصحته منتفية " (4) .
__________
(1) انظر سعد الشموس والأقمار ص 259 – 260.
(2) انظر سعد الشموس والأقمار ص 264.
(3) حاشية العطار على جمع الجوامع: 2 / 442.
(4) رد المحتار على الدر المختار 1 / 77.(8/205)
أما تتبع المذاهب في جزئيات المسائل فإن ابن عابدين لا يرى وجود مانع منه فهو يقول: أما لو صلى يومًا على مذهب وأراد أن يصلي يومًا آخر على غيره لا يمنع منه. فيحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غير إمامه مستجمعًا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر، لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض " (1) .
بل إن ابن عابدين ذهب إلى أبعد من هذا في أمر الانتقال من مذهب إلى مذهب فأجازه بعد العمل إذا لم يؤد إلى نقضه. كما إذا صلى ظانًّا صحتها على مذهبه. ثم تبين بطلانها في مذهبه وصحتها على مذهب غيره، فله تقليده ويجتزئ بتلك الصلاة (2) . ونسب إلى الشرنبلالي قوله: " لو أفتى مفت بشيء من هذه الأقوال الضعيفة في المذهب في مواضع الضرورة طلبًا لليسر كان حسنًا ".
ونسب ابن أمير حاج إلى الروياني القول بجواز تقليد المذاهب والانتقال إليها بشرط أن لا يجمع بينها على صورة تخالف الإجماع، كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد. ووافق ابن دقيق العيد الروياني في هذا الاشتراط (3) .
والآمدي اختار أن الشخص إذا حدثت له حادثة وأراد الاستفتاء عن حكمها فهو مخير في سؤال من شاء من العلماء سواء تساووا أو تفاضلوا (4) .
وعرض الآمدي قضية من اتبع بعض المجتهدين في حكم حادثة وعمل بقوله فيها، فهل له اتباع غير ذلك المجتهد في حكم آخر.
فحكى الخلاف في هذا. ورأى أن الحق جوازه نظرًا إلى ما وقع عليه إجماع الصحابة من تسويغ استفتاء العامي لكل عالم في مسألة، وأنه لم ينقل عن أحد من السلف الحجر على العامة في ذلك، ولو كان ذلك ممتنعًا لما جاز من الصحابة إهماله أو السكوت عن الإنكار عليه. ولأن كل مسألة لها حكم نفسها (5) .
أما إذا عين الشخص مذهبًا معينًا وقال أنا على مذهبه وملتزم به، فهل له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره في مسألة من المسائل؟ فإن الآمدي ذكر فيها الخلاف فقال: جوزه قوم نظرًا إلى أن التزامه لمذهب معين غير ملزم له. ومنع من ذلك آخرون لأنه بالتزامه المذهب صار لازمًا له. والمختار إنما هو التفصيل: وهو أن كل مسألة من مذهب الأول اتصل عمله بها فليس له تقليد الغير فيها. وما لم يتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غيره فيها (6) .
__________
(1) رد المحتار: 1/ 77.
(2) رد المحتار: 1 / 78.
(3) التقرير والتحبير: 3 / 352.
(4) الأحكام: 4 / 316 – 318.
(5) الأحكام: 4 / 318.
(6) الأحكام: 4 / 319.(8/206)
ومنع الشاطبي القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم (1) .
والإمام ابن تيمية منع من التلفيق بمنعه تخير الأحكام بالهوى والتشهي واعتقاد الشيء واجبًا وغير واجب بالرجوع من قول إلى قول.. ومثل له بمن يعتقد إذا كان أخًا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد فإذا صار جَدًّا مع أخ اعتقد أن الجد يحجبهم.
أما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول بالأدلة أو استفتاء الأعلم والأتقى فإن الرجوع جائز بل واجب (2) .
6- الترجيح:
بعد استعراض آراء الفقهاء والأصوليين في تتبع الرخص والتلفيق في الأحكام الشرعية، والرغبة في الوصول إلى ما هو أحق بالاتباع وخاصة في عصرنا الحاضر؛ ينبغي أن يفرق بين أمرين:
الأول: تتبع الرخص والتلفيق من آحاد الناس سواء كان فتوى للغير أو أن يعمل بها بنفسه.
الثاني: أن يكون التتبع والتلفيق في نطاق عمل المجامع الفقهية ولجان الفتوى. فبالنسبة لآحاد الناس نرى أن الراجح هو القول بمنع تتبع رخص المذاهب والقول بالمنع من التلفيق بين فتاوى المذاهب على وجه يخرق إجماعهم لما في ذلك من مفسدة اتباع الهوى والتخير بالتشهي والتحايل على حدود التكليف وخرم ضوابط التعبد بشرع الله، وهذا القسم هو الذي بحثه الأصوليون والفقهاء واختلفوا فيه، ورأى جمهرتهم منعه، منعًا للفساد والعدوان على شرع الله؛ خاصة في العصور التي يقل بها الفقهاء الورعون، والمفتون المؤهلون لهذا المنصب.
__________
(1) الموافقات: 4 / 148.
(2) الفتاوى: 20 / 220.(8/207)
وقد سجل الشاطبي موقفًا للمازري في الامتناع من الأخذ برخص المذاهب أو التلفيق بين الأحكام جديرًا بالاعتبار في عصرنا هذا. وذلك في قوله: ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه، لأن الورع قل بل كاد يعدم وكثرت الشهوات وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه. فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب لاتسع الخرق على الراقع وهتكوا حجاب هيبة المذاهب. وهذا من المفسدات التي لا خفاء فيها. " ويعقب الشاطبي على كلام المازري فيقول: " فانظر كيف لم يستجز – وهو المتفق على إمامته – الفتوى بغير مشهور المذهب ولا بغير ما يعرف منه، بناء على قاعدة مصلحية ضرورية، إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلوم والفتوى، فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب بل جميع المذاهب " (1) .
أما إذا كان تتبع رخص الفقهاء أو التلفيق بين فتاوى المذاهب في نطاق عمل المجامع الفقهية ولجان الفتوى: فإن الظاهر جوازه. بل وجوبه في عصرنا هذا. لأمن الفتنة من التخير بالأهواء والتشهي ولتوفر ضمانة الموضوعية. والحياد المجرد من فساد الغرض وسوء القصد، بوجود فقهاء أتقياء في المجامع ولجان الفتوى يحول اجتماعهم دون اللعب بالأحكام والعبث بشرع الله.
خاصة ونحن في عصر تشابكت فيه العلاقات وكثرت الوقائع وتداخلت التصرفات. فكلما أمكن ردها إلى حكم شرعي أو تخريجها عليه كان في ذلك خير وبركة لأمتنا وإبراز لشخصيتها وتحقيق لاستقلالها في تشريعها.
وقد وجدت ابن عابدين يذهب إلى أن المقلد لا ينفذ قضاؤه بخلاف مذهبه ولاسيما في زمانه حيث اعتاد السلطان أن ينص في منشوره على نهيه عن القضاء بالأقوال الضعيفة، فكيف بخلاف مذهبه. ولا يفرق ابن عابدين في هذا بين المفتي والقاضي.
فكان سند ابن عابدين في النهي هو توجيه السلطان (السلطة العليا) نحو وجهة معينة في القضاء (2) .
وفي ضوء توجيه السلطات الآن في أكثر البلاد العربية والإسلامية أن لا يلتزم بمذهب معين، ولتحقيق شيوع الاحتكام إلى الفقه الإسلامي: يكون الاعتماد على فتاوى المذاهب أو تتبع الرخص – بتخير المجامع الفقهية ولجان الفتوى – أمرًا مطلوبًا لا مندوحة منه.
والله من وراء القصد ...
أ. د. حمد عبيد الكبيس
__________
(1) الموافقات: 4 / 146.
(2) رد المحتار على الدر المختار 1 / 76 – 78.(8/208)
الأخذ بالرخصة وحكمه
إعداد
الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بالهند
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخذ بالرخص وحكمه:
الحمد لله الذي شرح لنا الصدر، ووضع عنا الوزر، وأراد بنا اليسر ولم يرد بنا الحرج والعسر، والصلاة والسلام على سيدنا النبي الأمي الذي بعث إلينا بالحنيفية السمحة البيضاء النقية، والذي كان عزيزًا عليه ما عنتنا، حريصًا علينا، وبالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، أما بعد:
فقضية " الأخذ بالرخص " قضية مهمة من قضايا الشريعة فإن الإنسان خلق ضعيفًا، وربما لا يستطيع أن يتحمل المشاق، وله أعذار تعوقه عن أداء واجباته والتحرز عما حرم عليه، والدين دين الفطرة، والله يعلم القوي من الضعيف، والصحيح من المريض، والمستطيع من المعذور، فكان من فطرة دين الفطرة أن تراعي تلك الأحوال المختلفة، ويحكم في كل حال ما يناسبه لأن الله تعالى قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . فإذا لم يجد المكلف قدرة على عزائم الأمور أذن له أن يعمل بما فيه تخفيف ويسر، فهذا من نعمة الله تعالى على عباده الذي نظر إلى ضعفهم وأمرهم بما هو في وسعهم.
فحكم الله منه ما هو عزيمة ومنه ما هو رخصة والرخصة ضد العزيمة، ونحن ما دمنا بصدد دراسة الرخصة علينا أن نعرف العزيمة، لأنه بضدها تتبين الأشياء.
العزيمة والرخصة لغة واصطلاحًا:
العزيمة: لغة " الجد والإرادة الجادة للعمل " قال ابن منظور: العزم: الجد، عزم على الأمر عزما وعزيمة: أراد فعله، وقال الليث: العزم ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله ... وفي الحديث قال لأبي بكر: متى توتر؟ فقال: أول الليل، وقال لعمر: متى توتر؟ قال: من آخر الليل، فقال لأبي بكر: أخذت بالحزم، وقال لعمر: أخذت بالعزم. أراد أن أبا بكر رضي الله عنه حذر فوات الوتر بالنوم، فاحتاط وقدمه، وأن عمر رضي الله عنه وثق بالقوة على قيام الليل فأخر، ولا خير في عزم بغير حزم، فإن القوة إذا لم يكن معها حذر أورطت صاحبها ... وتقول ما لفلان عزيمة أي لا يثبت على أمر يعزم عليه.. إلخ (1) .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور – 4 / 2932.(8/209)
وقال الآمدي في الأحكام:
العزيمة في اللغة: الرقية، وهي مأخوذة عن عقد القلب المؤكد على أمر ما، ومنه قوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (1) [طه: 115] .
وقال الغزالي في المستصفى:
اعلم أن العزم عبارة عن القصد المؤكد، قال الله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} أي قصدًا بليغًا، وسمى بعض الرسل أولي العزم لتأكيد قصدهم في طلب الحق (2) .
فالحاصل أن العزيمة فيها الجد والقوة والصبر والوكادة،
أما الرخصة:
فهي في اللغة النعومة والخفة، وقال ابن منظور:
الرخص الشيء الناعم اللين، والرخص: ضد الغلاء، رخص السعر يرخص رخصًا. والرخصة: ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه (3) .
وقال في المصباح:
" رخصة وزان " غرفة " وتضم الخاء للإتباع، ومثله " ظلمة " و " قربة" و " جمعة ". والرخصة: التسهيل في الأمر والتيسير – يقال: رخص الشرع لنا في كذلا ترخيصًا وأرخص إرخاصًا إذا يسره وسهله (4) .
وقال الآمدي:
التيسير والتسهيل، ومنه يقال رخص السعر إذا تيسر وسهل، وبفتح الخاء عبارة عن الأخذ بالرخص (5) .
وقال السبكي:
الرخصة بإسكان الخاء وضمها مع ضم الراء: التسهيل: فرخصة الله تسهيله على عباده، هكذا يقتضيه كلام أهل اللغة (6) .
وقال القرافي:
الرخصة مشتقة من الرخص، والرخص هو اللين فهو من حيث الجملة من السهولة والمسامحة واللين (7) .
فالحاصل أن الرخصة لغة هي جانب السهولة والمسامحة واليسر والعزيمة هي جهة الأحوال العادية يقتضي الجد والجلادة والصبر والوكادة.
__________
(1) الأحكام للآمدي 1 / 113.
(2) المستصفى: 116.
(3) لسان العرب 11 / 1616.
(4) المصباح 1 / 323.
(5) الأحكام 1 / 113.
(6) الإبهاج في شرح المنهاج لشيخ الإسلام علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى 756 هـ – 1 / 81.
(7) شرح تنقيح الفصول 85.(8/210)
العزيمة في الاصطلاح:
المعنى اللغوي مراعى في الإطلاق الاصطلاحي الشرعي لهذين اللفظين.
قال الآمدي:
العزيمة عبارة عما لزم العباد بإلزام الله تعالى كالعبادات الخمس ونحوها (1) .
وقال ابن أمير حاج في شرح تحرير الأصول:
والعزيمة ذلك الحكم المعبر عنه بقوله تخفيفًا لحكم (فيتقيد) ذلك الحكم (بمقابلة رخصة، وقد لا يتقيد بمقابلة رخصة فيقال) أي حكم (شرع ابتداء غير متعلق بالعوارض) أي غير مبني على أعذار العباد، وهو إيضاح لابتدائية شرعية الحكم (2) .
وقال الغزالي معرفًا للعزيمة " عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى " (3) .
فالحاصل أن ما شرع الله تعالى من الأحكام لعباده ابتداء كقانون عام للمكلفين بدون ملاحظة الأحوال المتجددة والعوارض الحادثة والأعذار الناشئة والحاجات الملجئة هو عزيمة كفرضية الصلاة والزكاة وغيرهما من المأمورات وكحرمة الخمر والميسر والزنا وغيرها من المناهي، وما شرعه الله تعالى من معاملات الناس كالبيع والإجارة والمضاربة وغيرها، وما شرع من الحدود والكفارات وغيرها من الزواجر.
أما الرخصة اصطلاحًا:
فالأصل أنه معروف ومعلوم بداهة، وقد يكون اللفظ بديهيًا يدل على معناه دلالة واضحة جلية، حتى أنه يفهمه كل أحد ولا يمكن أن يعرف تعريفًا علميًا واحدًا منطقيًا، كما قال محب الله بن عبد الشكور البهاري أن لفظ " العلم " من أجلى البديهيات، كذلك قال القرافي في بيان حد الرخصة:
" وهاهنا إني عاجز عن ضبط الرخصة بحد جامع مانع، أما جزئيات الرخصة من غير تحديد فلا عسر فيه إنما الصعوبة في الحد على ذلك الوجه " (4) .
ومع هذا عرف الأصوليون الرخصة بتعريفات مختلفة فحكى الآمدي عدة تعريفات، فقال:
قيل: إنه ما أبيح فعله مع كونه حرامًا.
وقيل: ما رخص فيه مع كونه حراما.
وقيل: إن الرخصة ما جاز فعله لعذر مع قيام السبب المحرم (5) .
__________
(1) الأحكام 1 / 113.
(2) التقرير والتحبير 2 / 148.
(3) المستصفى 116.
(4) شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول للقرافي 85 – 87.
(5) الأحكام 1 / 114.(8/211)
واعترض الآمدي على التعريف الأخير أنه غير جامع، فقال: " إن التعريف الأخير غير جامع، لأن الرخصة قد تكون بالفعل وقد تكون بالترك " واختار الآمدي أن "الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام السبب المحرم " (1) .
وقال الشاطبي:
" الرخصة ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه " (2) .
وأما البيضاوي فقد قال في المنهاج:
" الحكم إن ثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة، كحل الميتة للمضطر والقصر والفطر للمسافر واجبًا ومندوبا ومباحًا وإلا فعزيمة (3) .
وقال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول:
إن ما جاز فعله مع قيام المقتضي للمنع رخصة (4) .
وللعلماء انتقادات على هذا التعريف وقد أجاب عنها الأصفهاني في كتابه الكاشف عن المحصول.
وقال الشاشي في أصوله:
" الرخصة: صرف الأمر من عسر إلى يسر بواسطة عذر في المكلف " (5) .
وقد حكى الإمام عبد العزيز البخاري عن الإمام علاء الدين أبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي من كتابه " ميزان الأصول في نتائج العقول في الفقه " أنه قال: الرخصة اسم لما تغير من الأمر الأصلي إلى تخفيف ويسر ترفيهًا وتوسعة على أصحاب الأعذار" (6) .
وقال في تيسير التحرير حكاية عن بعض الحنفية: إن الرخصة ما تغير من عسر إلى يسر من الأحكام (7) .
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي المتوفى 641 هـ – 1 / 114.
(2) الموافقات 1 / 330.
(3) منهاج الوصول إلى علم الأصول بهامش التقرير والتحبير 1 / 52 – 53.
(4) المحصول للرازي تحقيق – ط جابر الجزء الأول القسم الأول 154.
(5) أصول الشاشي 385.
(6) كشف الأسرار 2 / 299.
(7) تيسير التحرير 2/ 229.(8/212)
فكل هذه التعريفات وإن اختلفت ألفاظها لكنها كلها متقاربة المعنى ولكن التعريف الذي اختاره البيضاوي هو أحسن وأجمع عندي لأن لفظ " الحكم " المذكور في التعريف " جنس" يدخل فيه الرخصة والعزيمة، وأما لفظ " الثابت" فالثبوت يحتاج إلى دليل فالمراد أن الرخصة لابد لها من ثبوت ودليل، وأما قوله: " على خلاف الدليل " فالدليل عام يشمل المحرم والموجب وما يدل على الندب – فخرج منه العزيمة لأن العزيمة ما يقتضيه الدليل الأصلي، وأيضا يخرج منه كل ما ثبت موافقًا للدليل ولم يوجد دليل على منعه فلا تكون إباحتها ثابتة على خلاف الدليل وأيضا خرج منه الحكم الثابت بدليل ناسخ لحكم منسوخ، لأن المنسوخ ليس بدليل فليس هذا الحكم الثابت بدليل ناسخ حكمًا ثابتًا على خلاف الدليل وأيضا لم يدخل في هذا التعريف الحكم الثابت بدليل راجح على خلاف المرجوح لأن المرجوح ليس بدليل، وأيضا قول البيضاوي " لعذر" لفظ عام يتناول الضرورة والحاجة كلتيهما وهذا على خلاف ما اشترطه الشاطبي " بعذر شاق" وهذا أصح، لأن الرخصة كما تكون في حالة الضرورة قد تكون في الحاجة أيضًا، وأيضا قد خرج منها الموانع الشرعية كالحيض لأن هذه الموانع تمنع المشروعية فلا يسمى إسقاطًا.
مشروعية الرخصة:
الأصل الكلي أن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها وهو خبير بعباده بصير بأحوالهم – فما جعل في الدين من حرج، وهذا التسامح واليسر في الدين هو المبدأ الذي يبتنى عليه حكم الرخصة ولذلك أجمع العلماء على اعتبار الرخصة في الشريعة، وكتاب الله تعالى يدل على اعتبار الحرج كسبب للتخفيف والتيسير، فيقول الله تعالى:
1- {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] .
2- {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 87] .
3- {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 28] .
4- {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور: 61] و [الفتح: 17] .
5- {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] .(8/213)
فهذه الآيات لها دلالات واضحة على أن رفع الحرج في الدين معتبر عند الشرع، وأيضا على أن التيسير والتخفيف أمر مشروع ومطلوب، قال تعالى:
1- {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
2- {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .
وايضًا، السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام – تدل على اعتبار هذا المبدأ العظيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((بعثت بالحنيفية السمحة)) (1) .
وقالت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها:
((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا)) (2) .
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (3) .
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في الدين، فقال: ((إن هذا الدين يسر ولا يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا)) (4) وأيضًا: قال النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع عديدة آمرًا بالتيسير وناهيًا عن التعسير، " فقال: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)) (5) و ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) (6) .
فالحاصل أن مشروعية الرخصة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
أنواع الرخصة وأمثلتها:
الأصوليون بينوا أنواع الرخصة وقسموها باعتبارات شتى، منها تقسيمها باعتبار تنوع أحكامها الشرعية – ومنها تقسيمها باعتبار الحقيقة والمجاز، ومنها تقسيم الرخصة من حيث الكمال والنقص، والرابع تقسيمها باعتبار كونه اختياريا أو اضطراريا، والخامس تقسيمها باعتبار أنواع التخفيف من حيث كونه إسقاطًا أو إبدالاً أو غير ذلك؛ فهذا بيان هذه التقسيمات مفصلاً مع ذكر الأمثلة.
التقسيم الأول
أنواع الرخصة باعتبار أحكامها الشرعية:
هذا ما اختاره عامة الأصوليين من السادة الشافعية والمالكية والحنابلة ويسمى تقسيم الشافعية – ولكن حينما اتفقوا على تقسيمها باعتبار الأحكام اختلفوا في التفصيل – فذهب بعضهم إلى أنها على ثلاثة أقسام: واجب، ومستحب، ورخصة تركها أفضل من العمل بها.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله ومن حديث أبي أمامة.
(2) رواه البخاري في المناقب باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في الفضائل باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله، وأبو داود في الأدب باب في التجاوز في الأمر ومالك في الموطأ وأحمد.
(3) رواه أحمد والبيهقي عن ابن عمر والطبراني عن ابن عباس.
(4) أخرجه البخاري والنسائي عن أبي هريرة.
(5) أخرجه البخاري ومسلم.
(6) أخرجه البخاري ومسلم.(8/214)
فقال النووي:
المسألة السابعة في بيان أقسام الرخص، وهي ثلاثة أقسام: أحدها رخصة يجب فعلها كمن غص بلقمة ولم يجد ما يسيغها به إلا خمرًا، يجب إساغتها بها، وكالمضطر إلى أكل الميتة وغيرها من النجاسات يلزمه أكلها على الصحيح الذي قطع به الجمهور، وقال بعض أصحابنا: يجوز ولا يجب. الثاني: رخصة مستحبة كقصر الصلاة في السفر، والفطر لمن شق عليه الصوم، وكذا الإبراد من شدة الحر على الأصح. الثالث: رخصة تركها أفضل من فعلها كمسح الخف والتيمم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمن مثله، والفطر لمن لا يتضرر بالصوم – وعد أبو سعيد المتولى والغزالي في البسيط من هذا القسم الجمع بين الصلاتين في السفر ونقل الغزالي الاتفاق على أن ترك الجمع أفضل بخلاف القصر (1) .
والقاضي البيضاوي رحمه الله اختار التقسيم الثلاثي كما يظهر من عبارته فإنه قال:
السادس: الحكم إن يثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة كحل الميتة للمضطر والقصر والفطر للمسافر واجبًا ومندوبًا ومباحًا وإلا فعزيمة (2) .
الإمام النووي والقاضي البيضاوي مع اتفاقهما على التقسيم الثلاثي اختلفا في أنواع التقسيم – فالنووي رحمه الله جعل " خلاف الأولى " النوع الثالث، والقاضي البيضاوي ذكر مكانه " المباح " وليس هذا الاختلاف اختلافًا لفظيا، لأن المباح لا يرادف " خلاف الأولى " كما لا يخفى على أصحاب الفقه والإفتاء، وبعضهم زاد قسمًا رابعًا فقال إنها واجبة – أو مندوبة – أو مباحة أو خلاف الأولى.
فقال صاحب شرح الجلال:
والرخصة إما أن تكون وجوبًا، أو ندبًا، أو إباحة أو خلاف الأولى؛ فالأول: نحو وجوب أكل الميتة للمضطر والحكم الأصلي الحرمة وسببها خبث الميتة وهو لا يزال قائمًا عند الاضطرار الذي هو العذر، ووجوب أكلها حينئذ أسهل من حرمته لأنه وإن كان مثل الحرمة في الإلزام لكن فيه بقاء النفس وفي الحرمة تلفها، وبقاء النفس موافق للغرض فكان أسهل ... والثاني: كندب القصر للمسافر سفرًا يبلغ ثلاثة أيام فصاعدًا وإلا كان الإتمام أولى خروجًا من خلاف أبي حنيفة رحمه الله بالقول بوجوبه، والحكم الأصلي حرمة القصر وسببه دخول وقت الصلاة وهو قائم في السفر، والعذر مشقة السفر، والثالث: كإباحة السلم الذي هو بيع غائب موصوف في الذمة وحكمه الأصلي الحرمة، وسببه الغرر وهو قائم، والعذر الحاجة إلى ثمن الغلات قبل إدراكها، والرابع: كمخالفة الأولى في فطر المسافرين في رمضان، وحكمه الأصلي الحرمة وسببه شهود الشهر وهو قائم، والعذر مشقة السفر (3) . والسيوطي رحمه الله زاد قسمًا خامسًا وهو المكروه – حيث قال: " الرخص أقسام، ما يجب فعلها كأكل الميتة للمضطر لمن خاف الهلاك بغلبة الجوع والعطش، وإن كان مقيمًا صحيحًا، وإساغة الغصة بالخمر، وما يندب كالقصر في السفر والفطر لمن يشق عليه الصوم في السفر أو المرض، والإبراد بالظهر والنظر إلى المخطوبة. وما يباح كالسلم. وما الأولى تركها، كالمسح على الخف، والجمع والفطر لمن لا يتضرر والتيمم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمن المثل وهو قادر عليه. وما يكره فعلها كالقصر في أقل من ثلاثة مراحل (4) .
__________
(1) الأصول والضوابط للنووي 37 – 39.
(2) الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي 1/ 81.
(3) شرح الجلال على الجمع 1 / 123.
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي 171 تحقيق وتعليق محمد معتصم بالله البغدادي – طبع 1407 هـ / 1987 م – دار الكتاب العربي ببيروت.(8/215)
واعلم أن هذا التقسيم للرخصة باعتبار أحكامها الشرعية والخلاف في عدد أنواع هذا التقسيم لا يبتنى على أسس عميقة فالذين ذكروا خمسة أنواع استوعبوا في القسمة، والذين ذكروا ثلاثة أنواع أو أربعة أنواع ليس عندهم هذا الاستيعاب بل اكتفوا على الأنواع الهامة وتركوا بعض الأنواع التي يندر وجودها.
وبعض المحققين من الشافعية ذهبوا إلى أن الواجب ليس من أنواع الرخصة لأن الرخصة حقيقة هي الإباحة والتسهيل – والوجوب فيه وكادة تقتضي أن يكون عزيمة وهذا ما أشار إليه إمام الحرمين وتردد في كون الوجوب رخصة – وصرح الكيا الهراسي بكونه عزيمة وقال: وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيًا، وقال: وليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلق بالسفر، بل هو من نتائج الضرورة سفرًا كان أو حضرًا، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضًا – وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء وهو الصحيح عندنا (1) .
وبحث الزركشي هذه القضية مفصلاً فقال:
وقال ابن دقيق العيد، وهذا يقتضي أن تكون عزيمة لوجود اللزوم والتأكيد، قال: لا مانع أن يطلق عليه " رخصة " من وجه، و "عزيمة " من وجه، فمن حيث قام الدليل المانع نسميه " رخصة "، و – من حيث الوجوب نسميه "عزيمة " (2) . وهذه نكتة دقيقة من ابن دقيق العيد – فإن الحقيقة أن ارتفاع حكم الحرمة وإباحة ما حرم فيه تغير العسر إلى اليسر مع أن الدليل لحرمة قائم، وهذا هو عين الرخصة – وأما وجوب أكل الميتة للمضطر حذرًا من تلف النفس – فهذا مبني على أصل آخر فما صار مباحًا الآن تغير إلى الوجوب صيانة للنفس – فصارت عزيمة.
قال الزركشي بعد حكاية قول ابن دقيق العيد: وهذا التردد الذي أشار إليه، سبقه إليه إمام الحرمين في " النهاية " وتردد في أن الواجبات هل يوصف شيء منها بالرخصة، قال في باب صلاة المسافر من " النهاية ": يجوز أن يقال إن أكل الميتة ليس برخصة فإنه واجب، ولأجله قال صاحبه الكيا الهراسي في "أحكام القرآن": الصحيح عندنا أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، كالفطر للمريض في رمضان، يتحصل بذلك في مجامعة الرخصة للوجوب ثلاثة أقوال، والظاهر أن الوجوب والاستحباب يجامعها، ولا يكون داخلاً في مسماها (3) .
__________
(1) أحكام القرآن للفقيه عماد الدين بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهراسي المتوفى 504 هـ.
(2) البحر المحيط للزركشي.
(3) البحر المحيط في أصول الفقه لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المتوفى 794 هـ: 1 / 328.(8/216)
وكما قلنا أولاً: إن ارتفاع حكم الحرمة فيه رفع الحرج وتغير العسر إلى اليسر ثم بعد ذلك إذا لم يتناول المحرم فمات فلم يؤد ما كان عليه واجبًا من صيانة النفس فصار عاصيًا ومعاقبًا، وجزى الله الإمام الغزالي رحمه الله فقال في " المستصفى " ما هو القول الأعدل في هذه القضية فقال: فإن قيل فالرخص تنقسم إلى ما يعصى بتركه كترك أكل الميتة والإفطار عند خوف الهلاك، وإلى ما لا يعصى كالإفطار والقصر وترك كلمة الكفر وترك قتل من أكره على قتل نفسه، فكيف يسمى ما يجب الإتيان به الرخصة وكيف فرق بين البعض والبعض، قلنا: أما تسميته رخصة وإن كانت واجبة فمن حيث إن فيه فسحة، إذ لم يكلف إهلاك نفسه بالعطش وجوز له تسكينه بالخمر وأسقط عنه العقاب، فمن حيث إسقاط العقاب عن فعله هو فسحة ورخصة، ومن حيث إيجاب العقاب على تركه هو عزيمة (1) .
التقسيم الثاني
تقسيم الرخصة باعتبار الحقيقة والمجاز:
قسم الحنفية الرخصة إلى قسمين: رخصة حقيقية، والثاني رخصة مجازية، ثم قسموا الرخصة الحقيقة إلى نوعين، والمجازية إلى نوعين، فتفصيل الأنواع أربعة؛ قال الإمام جلال الدين أبو محمد عمرو بن محمد بن عمرو الخبازي الحنفي في كتابه المغني في أصول الفقه: وأما الرخص فأربعة أنواع، نوعان من الحقيقة أحدهما أحق من الآخر، ونوعان من المجاز أحدهما أتم من الآخر فأما أحق نوعي الحقيقة فما يرخص ارتكابه مع قيام المحرم والحرمة بمنزلة العفو عن الجناية بعد استحقاق العقوبة كإجراء المكره كلمة الكفر على اللسان، وإفطاره في رمضان، وإتلافه مال الغير، وجنايته على الإحرام، وتناول المضطر مال الغير، وترك الخائف على نفسه الأمر بالمعروف، وإنما يرخص في هذا القسم لأن في الامتناع إتلاف نفسه صورة ومعنى، وفي الارتكاب إتلاف حق الشرع أو حق العبد صورة لا معنى ... بخلاف النوع الثاني وهو ما يرخص فيه مع قيام السبب وتراخي حكمه بمنزلة تأجيل الدين كفطر المريض والمسافر، وحكمه أن الصوم أفضل عندنا لكمال سببه وتردد في الرخصة، فالعزيمة تؤدي معنى الرخصة من حيث تضمنها يسر موافقة المسلمين ...
__________
(1) المستصفى للغزالي 1 / 99 طبع بولاق 1322 هـ.(8/217)
وأما أتم نوعي المجاز فما وضع عنا من الإصر والأغلال لانعدام سببه فلم يكن رخصة إلا مجازًا من حيث هو نسخ تمحض تخفيفًا، وأما النوع الرابع فما سقط عن العبد بخروج السبب من أن يكون موجبًا لحكمه في حقه مع بقائه موجبًا لذلك في الجملة كسقوط حرمة تناول الخمر والميتة عن المكره والمضطر للاستثناء حتى لا يسعهما الصبر عنهما، وسقوط اشتراط العينية في المسلم فيه أصلاً صار مفسدًا له بعد أن كان مصححًا في الجملة (1) .
هذا هو التقسيم السائد عند الحنفية في الكتب الأصولية – فالإمام حافظ الدين النسفي رحمه الله المتوفى 710 ذكر في كتابه " المنار" وشرحه كشف الأسرار " هذه الأنواع الأربعة مع بيان أحكامه فقال: " ورخصة وهي أربعة أنواع، نوعان من الحقيقة، أحدهما أحق من الآخر، ونوعان من المجاز، أحدهما أتم من الآخر ... أما أحق نوعي الحقيقة فما استبيح مع قيام المحرم وقيام حكمه كالمكره على إجراء كلمة الكفر ... وإفطاره وجنايته على الإحرام ... وتناول المضطر مال الغير ... وحكمه أن الأخذ بالعزيمة أولى، حتى لو صبر وقتل كان شهيدًا.. والثاني ما استبيح مع قيام السبب لكن الحكم تراخى عنه كالمسافر رخص له الفطر ... وحكمه أن الأخذ بالعزيمة أولى، لكمال سببه، وتردد في الرخصة، فالعزيمة تؤدي معنى الرخصة من وجه ... إلا أن يضعفه الصوم.. وأما أتم نوعي المجاز فما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا ... فيسمى ذلك رخصة مجازًا لأن الأصل لم يبق مشروعًا ... والنوع الرابع ما سقط عن العباد مع كونه مشروعًا في الجملة كقصر الصلاة في السفر....
اعلم أن النوع الرابع، وهو الثاني من نوعي الرخصة، ما سقط عن العباد مع كونه مشروعًا في الجملة، فمن حيث أن السبب لم يبق موجبًا للحكم وسقط الوجوب أصلاً – كان مجازًا ومن حيث إنه بقي مشروعًا في الجملة كان شبيهًا بحقيقة الرخصة، وذلك مثل قصر الصلاة في السفر، فإنه إسقاط للواجب حقيقة لما لم يبق له حكم بوجه، وسمي رخصة مجازًا حتى لا يجوز للمسافر أن يصلي الظهر أربعًا، ولو صلى أربعًا كان كمن صلى الفجر أربعًا لأن السبب لم يبق في حقه موجبًا إلا ركعتين فكانت الأخريان نفلاً (2) .
الأصوليون من الأحناف كلهم متفقون على هذا التقسيم الرباعي باعتبار الحقيقة والمجاز، ليس بينهم خلاف في أصل هذا التقسيم ولا في أنواعه، إلا في بعض الأمثلة، أما تقسيم الرخصة باعتبار الأحكام الشرعية فلا يوجد عند الأحناف بالاستقلال، بل يذكرون أحكام الرخصة ضمن الأمثلة للتقسيم الرباعي السائد بينهم.
__________
(1) المغني في أصول الفقه للخبازي الحنفي 87 إلى 89 الطبع الأولة 1403هـ.
(2) كشف الأسرار على المنار 1 / 300 – 305 المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر 1316 هـ.(8/218)
خلاصة القول أن الأصوليين الشافعية وتبعهم الحنابلة والمالكية اهتموا اهتمامًا بالغًا بالتقسيم الأول، أعني تقسيم الرخصة باعتبار أحكامها الشرعية من الوجوب والندب، والإباحة والكراهة ثم بعضهم ثلث القسم كالنووي في الأصول والضوابط، وبعضهم ربع القسم كالجلال في شرحه على الجمع، وبعضهم خمس القسم كالسيوطي في "الأشباه والنظائر " واختلافهم في عدد أنواع هذا التقسيم نشأ من استقصاء التتبع وعدمه، وهذا التقسيم للرخصة يوجد عند الأحناف أيضًا، لكن لا مستقلاً بل في ضمن الأمثلة المتقدمة في بحث الرخصة، فعندهم أيضا بعض أفراد الرخصة واجب وبعضها مندوب، وبعضها مباح وبعضها خلاف الأولى كما هو ظاهر من تتبع كتبهم وما اطلعت على مثال للمكروه ضمن أمثال الرخصة عند الأحناف، وأما الحرام فليس من أنواع الرخصة عند أحد كما هو الظاهر لأن الحرمة تنافي الرخصة.
التقسيم الثالث
الرخصة باعتبار الكمال والنقصان:
حينما لاحظنا الرخصة من حيث الكمال والنقص فوجدنا أن بعض الرخص لها حكم خاص باعتبار أن الشرع حينما رخص في تلك المسألة وأباح الترك فلم يوجب قضاء هذا العمل في وقت آخر، يعني هذا عفو كامل من الشرع كما أن الشرع أباح ترك الوضوء لفقد الماء وأمر بالتيمم فذهبت فرضية الوضوء من الأصل بخلاف ما إذا أباح الشرع ترك الصوم للمريض والمسافر في شهر رمضان وأباح لهما الإفطار ولكن لم تذهب فرضية الصيام بأصلها بل بقي وجوب القضاء في أيام أخر فالرخصة التي لم يبق فيها شيء، هي " رخصة كاملة" مثاله مسح الخف والتيمم، والرخصة التي بقي معها شيء كرخصة الإفطار فهذه رخصة ناقصة.
قال الإمام بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي الزركشي (المتوفى 794هـ) :
تنقسم الرخصة إلى: كاملة وهي التي لا شيء معها كالمسح على الخف، وناقصة، وهي بخلافه، وهذا تلمحته من كلام الشافعي في "الأم"، فإنه قال: والمسح رخصة كمال؛ وعلى هذا فالتيمم لعدم الماء فيما لا يجب معه القضاء رخصة كاملة، ومع ما يجب فيه القضاء رخصة ناقصة (1) .
__________
(1) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي 1 / 331 – الكويت.(8/219)
التقسيم الرابع للرخصة
باعتبار كون سبب الرخصة اختياريًا أو اضطراريًا، ذكر الزركشي أن سبب الرخصة قد يكون اختياريًا كالسفر، وقد يكون اضطراريًا كالاغتصاص باللقمة الذي يبيح شرب الخمر.
التقسيم الخامس للرخصة
للرخصة تقسيم خامس، وعبر عنها ابن نجيم بالتخفيفات، فقال: تخفيفات الشرع أنواع، ويمكن لنا أن نسميها أنواع الرخص الشرعية.
الأول: تخفيف الإسقاط كإسقاط العبادات عند وجود أعذارها.
الثاني: تخفيف التنقيص كالقصر في السفر على القول بأن الإتمام أصل.
الثالث: تخفيف إبدال كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، والقيام في الصلاة بالقعود، والاضطجاع والركوع والسجود بالإيماء، والصيام بالإطعام.
الرابع: تخفيف التقديم، كالجمع بعرفات، وتقديم الزكاة على الحول، وزكاة الفطر في رمضان.
الخامس: تخفيف التأخير، كالجمع بمزدلفة، وتأخير رمضان للمريض والمسافر وتأخير الصلاة عن وقتها في حق مشتغل بإنقاذ غريق ونحوه.
السادس: تخفيف ترخيص كصلاة المستجمر مع بقية النجو، وشرب الخمر للغصة.
السابع: تخفيف تغيير كتغيير نظم الصلاة للخوف (1) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم 83 – القاهرة 1387 هـ.(8/220)
مسألة تتبع الرخص:
قبل الخوض في قضية تتبع الرخص لابد أن نعرف أن " الرخصة " في هذا البحث ليس في معنى " الرخصة المعروفة عند الأصوليين " التي هي ضد العزيمة، فإن تلك الرخصة المعروفة عند الأصوليين ثابتة بالكتاب والسنة وليس فيها خلاف بين الأصوليين والفقهاء فإنها منصوصة ومصرحة في الكتاب والسنة وكتب الفقهاء والأصوليين، بل المراد " بتتبع الرخص " "أن يختار الإنسان من أقوال الفقهاء والمجتهدين ومذاهبهم في كل مسألة ما يكون أسهل وأخف وأيسر " ولا يتقيد بمذهب إمام من الأئمة المعروفين، ولا يكون مدار اختياره قوة الدلائل أو التورع والاحتياط بل يكون مدار اختياره الأقوال والآراء، التخفيف واليسر والسهولة.
فالفقهاء القدامى والمتأخرون جعلوا هذه القضية موضوع أبحاثهم في ثنايا كتبهم، فبعضهم رأوا أن الأمور الاجتهادية والمسائل المجتهد فيها، فيها ما هي متقارب المدارك وليس فيها شذوذ فلم يمنع من العمل بقول واحد من الأئمة أو آخر لأن المجتهدين ليس منهم من يدعي أن الحق محدود في قوله – بل القول الحق هو أن كل رأي محتمل الخطأ والصواب ولكن كل مجتهد يظن أن ما هو عليه حق بغلبة الظن مع احتمال كونه خطأ – والرأي المخالف له خطأ على غالب الظن مع احتمال كونه صوابًا – أما أن المبتلى به قد اختار الأسهل والأيسر له فليست في هذا الاختيار أي مندوحة؛ لأن الله تعالى هو الذي رفع الحرج وأراد بعباده السهولة واليسر.
وبعض الفقهاء ذهبوا إلى أن تتبع الرخص ممنوع قطعًا لأن المقصود به التشهي واتباع هوى النفس فلا يريد المبتلى به اتباع الشرع بل يقصد به ما تشتهيه النفس، والقول الثالث لبعض العلماء هو أنه لا يجوز في عامة الأحوال، نعم إذا كانت الضرورة داعية أو العذر القوي قائمًا فيجوز للمبتلى به أن يختار قولاً فيه يسر وسهولة.(8/221)
هذه هي خلاصة أقوال الفقهاء في هذه المسألة على الإجمال – الآن نذكر أقوال الفقهاء والأصوليين في هذه المسألة بالتفصيل. قال الإمام ابن الهمام الفقيه الأصولي الحنفي:
وإذا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع ذمه عليه، ((وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته)) (1) .
وقال الشوكاني ناقلاً أقوال الفقهاء في تتبع رخص المذاهب:
أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه والأخف له فقال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق، قال الإمام أحمد بن حنبل: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا، وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها العامي العامل بها من غير تقليد لإخلاله بفرضه وهو التقليد، فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق لأنه قلد من سوغ اجتهاده، وقال ابن عبد السلام: ينظر إلى الفعل الذي فعله، فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم، وإلا لم يأثم (2) .
قال محمد أمين المعروف بأمير بادشاه الحسيني الحنفي في كتابه تيسير التحرير شرح كتاب التحرير لابن الهمام: (يتخرج) أي يستنبط (منه) أي من جواز اتباع غير مقلده الأول وعدم التضييق عليه (جواز اتباعه رخص المذاهب) أي أخذه من المذاهب ما هو الأهون عليه فيما يقع من المسائل (ولا يمنع منه مانع شرعي، إذ للإنسان أن يسلك) المسلك (الأخف عليه إذا كان له) أي للإنسان (إليه) أي ذلك المسلك الأخف (سبيل) ؛ ثم بين السبيل بقوله: (بأن لم يكن عمل بآخر) أي بقول آخر مخالف لذلك الأخف (فيه) ، أي في ذلك المحل المختلف فيه ((وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عليهم)) . في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها بلفظ ((عنهم)) ، وفي رواية بلفظ ((ما يخفف عنهم)) : أي أمته، وذكروا عدة أحاديث صحيحة دالة على هذا المعنى، وما نقل عن ابن عبد البر: من أنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا، فلا نسلم صحة النقل عنه ولو سلم فلا نسلم صحة دعوى الإجماع، كيف وفي تفسيق المتتبع للرخص روايتان عن أحمد، وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد (وقيده) أي جواز تقليد غير مقلده (متأخر) وهو العلامة القرافي (بأن لا يترتب عليه) أي على تقليد الغير (ما يمنعانه) بإيقاع الفعل على وجه يحكم ببطلانه المجتهدان معًا لمخالفته الأول فيما قلد فيه غيره ... والثاني في شيء فيما يتوقف عليه صحة ذلك العمل عنه، (فمن قلد الشافعي في عدم) فرضية (الدلك) للأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل (و) قلد (مالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة) للوضوء (وصلى إن كان الوضوء بذلك صحت) صلاته عند مالك (وإن لا) أي وإن لم يكن بذلك (بطلت عندهما) أي مالك والشافعي (3) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 340 – 341. مطبعة الميمنية بمصر – كتاب أدب القاضي.
(2) إرشاد الفحول الشوكاني، 272 طبع دار المعرفة – بيروت.
(3) تيسير التحرير 4 / 254 مطبعة مصطفى البابي الحلبي.(8/222)
بعد ذلك ناقش محمد أمين المعروف بأمير بادشاه الشرط الذي اشترطه القرافي وانتقد عليه، وذلك الاعتراض على قول القرافي، وقال: إن القول بالبطلان في الصورة المذكورة عند الإمامين كليهما غير مسلم؛ لأن مالكًا مثلاً لم يقل إن من قلد الشافعي في عدم الصداق، أن نكاحه باطل " وكذلك لم يقل الشافعي: " إن من قلد مالكًا في عدم الشهود أن نكاحه باطل ". وأجيب عنه أن في ما ذكر القرافي " الرجل قلد الإمامين وخالف كلًّا منهما في شيء " بخلاف ما في الصورة المذكورة في الاعتراض؛ لأن في هذه الصورة قلد الرجل إمامًا وراعى مذهبه في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل، فبينهما فرق واضح فلا يوجب الحكم بالصحة في صورة، والحكم بالصحة في صورة أخرى.
ثم نقل أقوال بعض العلماء في قضية انتقال المقلد إلى مذهب غير إمامه فقال:
ورجح الإمام العلائي القول بالانتقال في صورتين أحدهما: إذا كان مذهب غير إمامه أحوط.. ,الثانية: إذا رأى للقول المخالف لمذهب إمامه دليلاً قويا راجحًا، إذ المكلف مأمور باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا موافق لما روي عن الإمام أحمد والقدوري وعليه مشى طائفة من العلماء منهم ابن الصلاح وابن حمدان (1) .
الإمام الشاطبي لا يبيح بحال تتبع رخص المذاهب وينهى عنها أشد النهي ويقول:
واعترض بعض المتأخرين على من منع تتبع رخص المذاهب وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله، فقال: إن أراد المانع ما هو على خلاف الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي فمسلم، وإن أراد ما فيه توسعة على المكلف فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك، بل قوله عليه الصلاة والسلام ((بعثت بالحنيفية السمحة)) يقتضي جواز ذلك، لأنه نوع من اللطف بالعبد، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد بل بتحصيل المصالح، وأنت تعلم بما تقدم ما في هذا الكلام لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدًا بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها، فما قاله عن الدعوى، ثم نقول: تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه ومضاد أيضا لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وموضع الخلاف موضع تنازع فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس " وإنما يرد إلى الشريعة وهي تبين الراجح من القولين الذي يجب اتباعه لا الموافق للغرض ".
__________
(1) تيسير التحرير لأمير بادشاه 4 / 255.(8/223)
وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض، حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح والخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب؛ فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم، فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر ومحال الضرورات معلومة من الشريعة فإن كانت هذه المسألة منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذًا عن صاحب الشرع فلا حاجة إلى الانتقال عنها، وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش ودعوى غير مقبولة (1) .
فما يظهر من تتبع أقوال الفقهاء والأصوليين أنهم في هذه القضية على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: منع تتبع رخص المذاهب مطلقًا سواء كان هذا التتبع للتشهي والتخفيف أو كان لأعذار وأمراض.
المذهب الثاني: تسويغ تتبع الرخص مطلقًا بدون قيد أو شرط.
المذهب الثالث: منع تتبع الرخص في عامة الأحوال وتسويغه في أحوال خاصة للضرورة أو المرض أو عذر آخر، فالمذهب السائد بين عامة الفقهاء هو عدم جواز تتبع الرخص حتى أن بعضهم ادعى الإجماع على هذا – ودليلهم أن تتبع الرخص ليس إلا للتشهي واتباع الهوى، وحرمة اتباع الهوى والتشهي مصرحة في الكتاب والسنة ومجمع عليها بين الفقهاء، وعلاوة على ذلك لو أبحنا تتبع الرخص ارتفع التكليف مع أن الشريعة كلفت الإنسان بأحكام تشق على نفسه. قال الشاطبي في الموافقات: تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه.
المحظور الثاني في إباحة تتبع الرخص مطلقًا أن الدين يكون لعبة للاعبين وعبثًا للعابثين، ولو عم هذا المرض في المجتمع الإسلامي يؤدي إلى الانحلال والفجور وتعطل مصالح الشريعة بل مقاصدها الكلية.
وجماعة من الفقهاء والأصوليين ذهبوا إلى إباحة تتبع الرخص مطلقًا وحجتهم أن تتبع الرخص ليس إلا طلب اليسر والسهولة في الشريعة وأن الكتاب والسنة حافلان بأدلة طلب السهولة واليسر ولا مانع من أن يقلد الإنسان مجتهدًا في مسألة ويقلد مجتهدًا آخر في أخرى، وأدلة طلب اليسر والسهولة أكثر من أن تحصى – الفقيه الأصولي ابن الهمام رأس هذا المذهب، فإنه في كتابه " فتح القدير " أباح تتبع الرخص مطلقًا، وفي كتابه " التحرير " قيد هذه الإباحة بأنه " لم يكن عمل بقول إمام آخر في ذلك المحل الذي يريد فيه التخفيف ".
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي 4 / 145 طبع دار المعرفة، بيروت – لبنان.(8/224)
القول الراجح:
القول الذي أميل إليه هو التفصيل في هذه المسألة وهو أن تتبع الرخص لا يجوز في عامة الأحوال للتشهي أو التلهي أو اتباع الهوى، أما لو كان تتبع الرخصة في أحوال خاصة للضرورة أو العذر أو المرض يجوز بشروط مخصوصة؛ تفصيل هذا الرأي أن الشريعة كما أنها نهت عن اتباع الهوى والتلهي، هكذا راعت جانب اليسر والسهولة في الأحكام {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وبعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، فلا بد من رعاية هذين الجانبين في هذه المسألة والذي يظهر لي – والله أعلم – أن تتبع الرخص الممنوع الذي ادعى البعض الإجماع على منعه أن يأخذ الإنسان من كل مذهب ما هو الأخف عليه لمحض اتباعه هوى نفسه بدون ضرورة وعذر؛ لأنه لو فتح هذا الباب يكون ذريعة للانحلال من التكاليف الشرعية ويصير الدين هزؤا، ويدخل في هذا النوع من تتبع الرخص أن يختار الإنسان أقوال مختلف الفقهاء في مختلف المسائل للتشهي والتهلي:
مثلاً: رجل أراد الفجور مع امرأة لكنه خاف إقامة حد الزنا عليه فنكح هذه المرأة بدون ولي ولا شهود فأخذ بقول أبي حنيفة في صحة نكاح المرأة البالغة بدون إذن ولي، وأخذ بقول مالك في صحة النكاح بدون شهود ولا شك أن مثل هذه الأعمال من تتبع الرخص تلاعب بالشريعة واستهزاء بها، لا يرضاها أحد من العقلاء فضلاً عن الفقهاء، فإنهم أعقل الناس وأدراهم بمقاصد الشريعة – أما الاستفادة برخص المذاهب في أحوال خاصة مثلاً: اختيار فقهاء الأحناف قول الإمام مالك رحمه الله في مسألة المفقود وفي بعض المسائل الأخرى – واختيار فقهاء الشافعية بعض الآراء من الفقه المالكي أو الفقه الحنفي فلا بأس به، فإن المعضلات المتجددة والقضايا المعاصرة لا يمكن حلها إذا قيدنا العمل بقول مجتهد واحد – خاصة في المعاملات التجارية الحديثة، ولا ينبغي أن يرخص لكل مكلف أن يختار ما شاء من أقوال على ما تشتهيه نفسه في مجال حياته حتى أنه يعمل يومًا في مسألة واحدة بقول الشافعي رحمه الله حينما وافق غرضه، ويختار قول أبي حنيفة رحمه الله غدا في عين هذه المسألة لما رأى أن قول الشافعي رحمه الله لا يوافق غرضه المطلوب اليوم، ولا يخفى أن اتباع الشريعة هو تكليف وتحمل المشاق – فلا يخلو أي حكم من أحكام الشريعة من المشقة كليًّا – بل شيء من الكلفة موجود في كل حكم – نعم {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فالحرج والعسر والمشقة مرفوعة.(8/225)
فعلينا أن نقرر ضابطًا لاختيار الأسهل من أقوال الأئمة لئلا يصل هذا إلى الإباحية الهالكة – أو إلى تضييق منفر – فنقول:
1- الأصل أن الأمر إذا ضاق اتسع، فإذا ظهر للمبتلى به ضيق وحرج وعسر لا يستطيع تحمله فيجوز له أن يختار قولاً لإمام آخر فيه دفع الحرج والمشقة.
2- وعليه أن يستفتي أهل الذكر وأصحاب العلم وأرباب الفتوى الذين هم عمدة الدين وأعمق الناس علمًا وأورعهم قلبًا لئلا يقع في كيد الشيطان وما زينه له هوى النفس؛ لأن المكلف العامي كثيرًا ما لا يميز بين الضرورة واتباع الهوى.
3- وعليه أن لا يخرج من مذاهب الأئمة الأربعة المدونة المنقحة المخدومة من القرون لأن مذاهب غيرهم المنقولة في ثنايا الكتب عامتها ليست مروية برواية الثقات أو متواترة قرنًا بعد قرن على ألسنة العلماء والفقهاء الثقات الأثبات – ولا يعرف الشروط والقيود المعتبرة عندهم.
4- أما إذا صارت القضية اجتماعية لعموم البلوى بها أو قضية نشأت بسبب تغير الأحوال وتجدد العوائد وحدوث العرف الجديد، خاصة في معاملات الناس من التجارة والصنعة وعادات التجار والصناعيين وأهل الحرف خاصة في المعاملات في ما بين الدول فيجوز بل يجب على العلماء الراسخين وأصحاب العلم والتقوى من الفقهاء، الاجتهاد الجماعي في مثل تلك القضايا وحل تلك القضايا المعضلة طبقًا لمقاصد الشريعة وقواعدها الكلية ووفقًا لما تقتضيه الأحوال المتجددة والعوائد الحادثة، ويجوز لهم العدول من قول إمام بعينه إلى قول إمام آخر من أئمة الهدى بشرط:
- أن لا يكون قولاً شاذًّا.
- وأن لا يكون مصادمًا للنص.(8/226)
مسألة التلفيق وحكمه
التلفيق لغة واصطلاحًا:
التلفيق مأخوذ من " لفقت الثوب ألفقه لفقًا وهو أن تضم شقة إلى أخرى فتخيطها ولفق الشقتين يلفقهما لفقًا ولفقهما – ضم إحداهما إلى الأخرى فخاطهما (1) والتلفيق مصدر لفق ضم شقة إلى أخرى (2) . أما في اصطلاح الفقهاء والأصوليين فالتلفيق كما قال الرواس قلعجي هو " القيام بعمل يجمع فيه بين عدة مذاهب، حتى لا يمكن اعتبار هذا العمل صحيحًا في أي مذهب من المذاهب " (3) فالتلفيق هو " الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد " وذلك بأن يلفق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر يتولد منها حقيقة مركبة لا يقول بها أحد كما لو توضأ فمسح بعض شعر رأسه مقلدًا للإمام الشافعي رحمه الله وبعد الوضوء مس أجنبية مقلدًا للإمام أبي حنيفة رحمه الله فإن وضوءه على هذه الهيئة حقيقة مركبة لم يقل بها كلا الإمامين (4) .
حكم التلفيق:
الأصل أن هذه القضية الهامة التي صارت مثار بحث بين العلماء المتأخرين مرتبطة بمسألة التقليد بجوازه أو منعه، وأيضا بمسئلة التزام مذهب معين، فمن أجاز التقليد وأوجب الالتزام بمذهب معين منع التلفيق، ومن لم يوجب الالتزام جوزه – ولذلك اختلف الفقهاء في الحكم فذهب أكثر الفقهاء إلى أن التلفيق ممنوع لأن التقليد لا يصح مع التلفيق، وطائفة من الفقهاء ذهب إلى جواز التلفيق مطلقًا مستدلين بأنه ليس هنا أي مانع من الكتاب والسنة – وبعض من الفقهاء قد اختار القول الثالث وهو أنه يجوز التلفيق بشرط أن لا يتأدى إلى تتبع الرخص المفضي إلى الانحلال والفجور، والذين جوزوه بشروط ذكروا له شروطًا شتى.
فقال في الدر المختار: " وإن الحكم الملفق باطل بالإجماع، وإن الرجوع عن التقليد بعد العمل باطل اتفاقًا – وهو المختار في المذهب – وإن الخلاف خاص بالقاضي المجتهد، وأما القاضي المقلد فلا ينفذ قضاؤه بخلاف مذهبه أصلاً كما في القنية (5) .
مثاله: متوضئ سال من بدنه دم ولمس امرأة ثم صلى، فإن صحة هذه الصلاة ملفقة من مذهب الشافعي والحنفي، والتلفيق باطل فصحته منتفية (6) .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور 5 / 4056.
(2) معجم لغة الفقهاء، وضع محمد رواس وحامد صادق 144.
(3) معجم لغة الفقهاء 144.
(4) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق 91 – 92.
(5) الدر المختار مع حاشية رد المحتار لابن عبادين 1 / 75.
(6) الدر المختار مع حاشية رد المحتار لابن عابدين 1 / 75.(8/227)
وقال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار:
(قوله: وإن الرجوع......إلخ) صرح بذلك المحقق ابن الهمام في تحريره، ومثله في أصول الآمدي وابن الحاجب وجمع الجوامع، وهو محمول كما قال ابن حجر والرملي في شرحيهما على المنهاج وابن قاسم في حاشيته على ما إذا بقي من آثار الفعل السابق أثر يؤدي إلى تلفيق العمل بشيء لا يقول به أحد من المذهبين، كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس، ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة، وكما لو أفتى ببينونة زوجته بطلاقها مكرها ثم نكح أختها مقلدًا للحنفي بطلاق المكره – ثم أفتاه شافعي بعدم الحنث، فيمتنع عليه أن يطأ الأولى مقلدًا للشافعي والثانية مقلدًا الحنفي – أو هو محمول على منع التقليد في تلك الحادثة بعينها لا مثلها كما صرح به الإمام السبكي وتبعه عليه جماعة ... على أن في دعوى الاتفاق نظر فقد حكي الخلاف فتحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غير إمامه مستجمعًا شروطه – ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر (1) .
فالحاصل أن القول ببطلان الرجوع عن التقليد بعد العمل ليس بمتفق عليه بل فيه خلاف – وأن التزام مذهب معين ليس بلازم. وحكى الزركشي مذاهب العلماء في هذه المسألة فقال:
هل يجب على العامي التزام تقليد مذهب معين في كل واقعة فيه وجهان – قال الكيا: يلزمه – وقال ابن برهان –: لا – ورجحه النووي في (أوائل القضاء) وهو الصحيح، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تقليد ... وقد رام بعض الخلفاء زمن مالك حمل الناس في الآفاق على مذهب مالك فمنعه مالك، واحتج بأن الله فرق العلم في البلاد بتفريق العلماء فيها فلم الحجر على الناس ... وذكر بعض الحنابلة أن هذا مذهب أحمد فإنه قال لبعض أصحابه: لا تحمل الناس على مذهبك فيحرجوا – دعهم يترخصوا بمذاهب الناس ... وقد كان السلف يقلدون من شاؤوا قبل ظهور المذاهب الأربعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه)) .
__________
(1) الدر المختار مع حاشية رد المحتار لابن عابدين 1 / 75.(8/228)
وتوسط ابن منير فقال: الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأئمة الأربعة لا قبلهم – والفرق أن الناس كانوا قبل الأئمة الأربعة لم يدونوا مذاهبهم ولا كثرت الوقائع عليهم (1) .
وبعد ذلك قال الزركشي:
فلو التزم مذهبًا معينا كمالك والشافعي واعتقد رجحانه من حيث الإجمال فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر؟ فيه مذاهب:
أحدها: المنع، وبه جزم الجيلي في الإعجاز لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع، فلا ضرورة إلى الانتقال إلى التشهي، ولما فيه من اتباع الترخص والتلاعب بالدين.
والثاني: يجوز – وهو الأصح في (الرافعي) ، لأن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين؛ لأن السبب وهو أهلية المقلد للتقليد عام بالنسبة إلى أقواله، وعدم أهلية المقلد مقتض لعموم هذا الجواب – ووجوب الاقتصار على مفت واحد بخلاف سيرة الأولين (2) .
وحينما ذكر هذا القول وقال: إن الانتقال إلى مذهب الغير يقوى في صورتين: الأولى إذا كان مذهب الغير فيه شدة، فانتقال يدعو إليه الورع والاحتياط – والثانية إذا رأى أن للقول المخالف لمذهبه دليلاً صحيحًا، ولم يجد في مذهب إمامه دليلاً قويا عنه ولا معارضًا راجحًا عليه؛ فلا وجه لمنعه من التقليد. ثم قال:
واعلم أنا حيث قلنا بالجواز فشرطه أن يعتقد رجحان ذلك المذهب الذي قلد في هذه المسألة، وعلى هذا فليس للعامي ذلك مطلقًا، إذ لا طريق له إليه.
__________
(1) البحر المحيط للزركشي 6 / 319.
(2) البحر المحيط 6 / 320.(8/229)
والثالث: أنه كالعامي الذي لم يلتزم مذهبًا معينًا، فكل مسألة عمل فيها بقول إمامه ليس له تقليد غيره، وكل مسألة لم يعمل فيها بقوله فلا مانع فيها من تقليد غيره.
والرابع: إن كان قبل حدوث الحوادث فلا يجب التخصيص بمذهب، وإن حدث وقلد إمامًا في حادثة وجب عليه تقليده في الحوادث التي يتوقع وقوعها في حقه، واختاره إمام الحرمين؛ لأن قبل تقرير المذاهب ممكن، وأما بعد فلا، للخبط وعدم الضبط.
والخامس: إن غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب غير مقلده أقوى من مقلده جاز – قاله القدوري الحنفي.
والسادس: واختاره ابن عبد السلام في القواعد، التفصيل بين أن يكون المذهب الذي أراد الانتقال عنه بما ينقض الحكم أو لا – فإن كان الأول فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه لبطلانه، وإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال، لأن الناس لم يزالوا كذلك في عصر الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة، من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره.
والسابع: واختاره ابن دقيق العيد – الجواز بشروط:
أحدها: أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها.
والثاني: أن لا يكون ما قلد فيه مما ينقض الحكم ولو وقع به.
والثالث: انشراح صدره للتقليد المذكور (1) .
فهذا ما قاله العلماء في مسألة التزام مذهب معين والعدول عن مذهب إمام معين إلى مذهب إمام آخر، ومما سرد من الأقوال في هذه المسألة يفهم أن الأصل أن الالتزام لتقليد إمام معين ليس بواجب، ولكن قد منعه العلماء سدا لباب الذريعة، لما أن الماجنين يتفحصون كل آن ما يحلون به الحرام، فيختارون الأقوال الشاذة أو ما كان من رخص المذاهب موافقًا لأغراضهم الفاسدة – وكما عرف أن مسألة التلفيق لها علاقة بمسألة التقليد، أولاً نقدم لنصوص الفقهاء على مسألة التلفيق ثم نستخلص المذاهب ثم نبين الراجح من آراء الفقهاء.
__________
(1) البحر المحيط 6 / 321.(8/230)
قال العلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين في كتابه: "العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية ": " لو فرضنا أن حاكمًا حنفيا حكم بصحة وقف الدراهم على النفس، هل ينفذ حكمه؟ فنقول: النفاذ مبني على القول بصحة الحكم الملفق، وبيان التلفيق أن الوقف على النفس لا يقول به إلا أبو يوسف وهو لا يرى وقف الدراهم، ووقف الدراهم لا يقول به إلا زفر، وهو لا يرى الوقف على النفس؛ فكان الحكم بجواز وقف الدراهم على النفس حكمًا ملفقًا من قولين، كما ترى، وقد مشى شيخ مشائخنا العلامة زين الدين قاسم في ديباجة تصحيح القدوري على عدم نفاذه، ونقل فيها عن كتاب " توفيق الحكام في غوامض الأحكام" أن الحكم الملفق باطل بإجماع المسلمين. ومشى الطرطوسي في كتابه " أنفع الوسائل " على النفاذ مستندًا في ذلك لما رآه في قنية المفتى فلينظر من أراد (أقول) رأيت بخط شيخ مشائخنا منلا على التركماني في مجموعته الكبيرة ناقلاً عن خط الشيخ إبراهيم السوالاتي بعد هذه المسألة المنقولة عن فتاوى الشلبى ما نصه: أقول وبالجواز أفتى شيخ الإسلام أبو السعود في فتاواه وأن الحكم ينفذ وعليه العمل والله تعالى الموفق، أو ما رأيته بخطه عن الشيخ إبراهيم المذكور (وأقول أيضًا) قد يوجه ذلك بأنه ليس من الحكم الملفق الذي نقل العلامة قاسم أنه باطل بالإجماع لأن المراد بما جزم ببطلانه ما إذا كان من مذاهب متباينة كما إذا حكم بصحة نكاح بلا ولي بناء على مذهب أبي حنيفة وبلا شهود بناء على مذهب مالك بخلاف ما إذا كان ملفقًا من أقوال أصحاب المذهب الواحد فإنها لا تخرج عن المذهب فإن أقوال أبي يوسف ومحمد وغيرهما مبنية على قواعد أبي حنيفة رحمه الله أو هي أقوال مروية عنه فإنما نسبت إليهم لا إليه لاستنباطهم لها من قواعده أو لاختيارهم إياها" (1) .
قال العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه " الفتاوى الكبرى ":
ثم شرط الانتقال أن لا يعلم بمذهب في واقعة مع بقائه على تقليد إمام آخر في تلك الواقعة وهو يرى فيها خلاف ما يريد العمل به، وأن يكون ذلك الحكم مما ينقض فيه قضاء القاضي – قاله ابن عبد السلام وتابعه عليه ابن دقيق العيد، وألحق بما ينقض ما خالف ظاهر النص، بحيث يكون التأويل مستكرها، وزاد شرطين آخرين كما في الخادم: أحدهما أن لا تجتمع صورة يقع الإجماع على بطلانها كما إذا افتصد ومس الذكر وصلى، الثاني انشراح صدره للتقليد وعدم اعتقاده لكونه متلاعبًا بالدين لحديث ((الإثم ما حاك في نفسك)) قال: بل أقول إن هذا شرط جميع التكاليف وهو أن لا يقدم إنسان على ما يعتقده مخالفًا لأمر الله عز وجل؛ وبالأول عزم القرافي، ومثله من قلد مالكًا في عدم النقض باللمس بلا شهوة فلا بد أن يكون قلد مالكًا في تلك الطهارة التي مس فيها ويمسح جميع رأسه وإلا فصلاته باطلة عند الإمامين، ونقله عنه الإسنوي وأقره وذكر من فروعه ما لو نكح بلا ولي ولا شهود فإنه يحد – كما قاله الرافعي – لاتفاق أبي حنيفة ومالك على بطلان النكاح (2) .
__________
(1) " العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية " للعلامة ابن عابدين الشامي 1 / 109 – طبع دار المعرفة، ببيروت – لبنان.
(2) الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي 4 / 306. طباعة دار الفكر.(8/231)
قال الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي:
اعلم أنه قد ذهب كثير من العلماء إلى منع جواز التقليد، حيث أدى إلى التليفق من كل مذهب، لأنه حينئذ كل من المذهبين أوالمذاهب يرى البطلان، كمن توضأ مثلاً ومسح شعرة من رأسه مقلدًا للشافعي ثم لمس ذكره بيده مقلدًا لأبي حنيفة فلا يصح التقليد حينئذ، وكذا لو مسح شعرة وترك القراءة خلف الإمام مقلدًا للأئمة الثلاثة، أو افتصد مخالفًا للأئمة الثلاثة ولم يقرأ مقلدًا لهم، وهذا وإن كان ظاهرًا من حيث العقل، والتعليل فيه واضح؛ لكنه فيه الحرج والمشقة على المسلمين خصوصًا على العوام الذين نص العلماء على أنه ليس لهم مذهب معين، وقد قال غير واحد: لا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب معين كما لو يلزم في عصر أوائل الأمة. والذي أذهب إليه واختاره القول بجواز التقليد في التلفيق لا بقصد تتبع ذلك، لأن من تتبع الرخص فسق، بل من حيث وقع ذلك اتفاقًا، خصوصًا من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك فلو توضأ شخص مثلاً ومسح جزءًا من رأسه مقلدًا للشافعي فوضوؤه صحيح بلا ريب، فلو لمس ذكره بعد ذلك فقلد أبا حنيفة جاز ذلك؛ لأن وضوء هذا المقلد صحيح بالاتفاق، ولمس الفرج غير ناقض عند أبي حنيفة، فإذا قلده في عدم نقض ما هو صحيح عند الشافعي استمر الوضوء على حاله بتقليده لأبي حنيفة، وهذه هي فائدة التقليد، وحينئذ فلا يقال: الشافعي يرى بطلان هذا الوضوء بسبب مس الفرج والحنفي يرى البطلان لعدم مسح ربع الرأس فأكثر لأنهما قضيتان منفصلتان لأن الوضوء قد تم صحيحًا بتقليد الشافعي ويستمر صحيحًا بعد اللمس بتقليد الحنفي، فالتقليد لأبي حنيفة إنما هو في استمرار الصحة لا في ابتدائها (1) .
انتقد العلامة الفاريني الحنبلي تلميذ الشيخ العلامة الحنبلي على رأي أستاذه انتقادًا شديد فقال:
والذي أراه وأقول به معتمدًا على ما قرره الأشياخ، والعقل والنقل يساعده ببطلان ذلك كله لأن فيه مفاسد كثيرة، وموبقات غزيرة، وهذا باب لو فتح لأفسد الشريعة الغراء ولأباح جل المحرمات، وأي باب أفسد من باب يبيح الزنا وشرب الخمر وغير ذلك، فإن قلت: فما وجه إباحة الزنا؟ قلنا: يمكن أن يصدق الرجل امرأة لازوج لها ولا عدة أو بنتًا بالغة عاقلة فيراودها عن نفسه فتجيبه لذلك فيقلد أبا حنيفة في صحة عقدها على نفسها فإنه لا يشترط الولي فقد صحت ولاية هذه على رأي أبي حنيفة، ثم يقلد الإمام مالكًا في عدم اشتراط الشهود، فإنه لا يشترط الشهود كما نقل عنه، فهذا الرجل قد أمكنه أن يزني بامرأة ولا جرم عليه، كما قرره الأستاذ طيب الله ثراه، وهذا لا يمكن أن يقول به عاقل، فإن قلت: هذا ليس كالذي قرره الشيخ، قلت: بل عينه من غير نزاع، وكل من نازع سفسطة، ولقد كان بعض أشياخي أعزهم الله تعالى توقف في بطلان التلفيق فنازعته في ذلك ثم إني أتيته بعد بهذه الصورة فرجع عن قوله، وقال. التلفيق باطل. والقاعدة أن كل ما أدى إلى محظور فهو محظور وكل قول يلزم فيه إباحة محرم فهو مردود، والشيخ قدس الله تعالى سره وإن كان عظيم الشأن ثاقب الذهن والفطنة التامة لكنه قد يكبو الجواد، ومن خصائص هذه الأمة أن لا يوقر الصغير الكبير في الحق (2) .
__________
(1) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للعلامة محمد سعيد الباني ص 100، طبع المكتب الإسلامي – بيروت 1401هـ.
(2) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ص 101 – 102.(8/232)
قال الإمام جوار الدين الإسنوي الشافعي في كتابه " نهاية السول في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول:
إذا قلد مجتهدًا في مسألة فليس له تقليد غيره فيها اتفاقًا، ويجوز ذلك في حكم آخر على المختار، فلو التزم مذهبًا معينًا كالطائفة الشافعية والحنفية ففي الرجوع إلى غيره من المذهب ثلاثة أقوال؛ ثالثها: يجوز الرجوع فيما لم يعمل به – ولا يجوز في غيره (فائدتان) إحداهما: ذكر القرافي في شرح المحصول أن تقليد مذهب الغير حيث جوزناه فشرطه أن لا يكون موقعًا في أمر مجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه والإمام الذي انتقل إليه. فمن قلد مالكًا مثلاً في عدم النقض باللمس الخالي عن الشهوة فصلى فلابد أن يدلك بدنه ويمسح جميع رأسه وإلا فتكون صلاته باطلة عند الإمامين (1) .
وقال العلامة المحقق ابن أمير الحاج في كتابه التقرير والتحبير شرح التحرير لابن همام:
(مسألة لا يرجع المقلد فيما قلد) المجتهد (فيه) أي عمل به (اتفاقًا) ذكره الآمدي وابن الحاجب؛ لكن قال الزركشي: وليس كما قالا ففي كلام غيرهما ما يقتضي جريان الخلاف بعد العمل أيضًا، وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته؟ ! لكن وجه ما قالاه أنه بالتزامه مذهب إمام مكلف به، ما لم يظهر له غيره، والعامي لا يظهر له، بخلاف المجتهد حيث ينتقل من أمارة إلى أمارة، وفصل بعضهم فقال: التقليد بعد العمل إن كان من الوجوب إلى الإباحة ليترك كالحنفي يقلد في الوتر، أو من الحظر إلى الإباحة ليترك كالشافعي يقلد في أن النكاح بغير ولي جائز والفعل والترك لا ينافي الإباحة، واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج عن العمل وحاصل قبله، فلا معنى للقول بأن العمل فيها مانع من التقليد ... وقال أيضًا: وهل يقلد غيره، أي غير من قلده أولاً في شيء (في غيره) أي غير ذلك الشيء؛ كأن يعمل أولاً في مسألة في قول أبي حنيفة وثانيًا في أخرى بقول مجتهد آخر (المختار) كما ذكره الآمدي وابن الحاجب (نعم للقطع) بالاستقراء التام (بأنهم) أي المستفتين في كل عصر من زمن الصحابة وهلم جرّا (كانوا يستفتون مرة واحدًا ومرة غيره غير ملتزمين مفتيًا واحدًا، فلو التزم مذهبًا معينًا لأبي حنيفة أو الشافعي) فهل يلزمه الاستمرار عليه فلا يعدل عنه في مسألة من المسائل (فقيل يلزم) لأنه بالتزامه يصير ملزمًا به كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة (وقيل لا) يلزم وهو الأصح كما في الرافعي وغيره (2) .
__________
(1) نهاية السول في شرح منهاج الوصول على هامش التقرير والتحبير.
(2) التقرير والتحبير 3 / 350، دار الكتب العلمية – 1403 هـ.(8/233)
قال العلامة زين العابدين إبراهيم الشهير بابن نجيم المصري الحنفي المتوفى 970هـ في رسالته " في صورة بيع الوقف ":
أما مسألة بيعه بغبن فاحش فقال مولانا قاضيخان في فتاواه: ولو باع أرض الوقف بثمن فيه غبن فاحش لا يجوز بيعه في قول أبي يوسف وهلال لأن القيم بمنزلة الوكيل فلا يملك البيع بغبن فاحش ولو كان أبو حنيفة يجوز الوقف بشرط الاستبدال لا يجيز بيع القيم إذا كان بغبن فاحش كالوكيل بالبيع، ويمكن أن تؤخذ صحة الاستبدال من قول أبي يوسف وصحة البيع بغبن فاحش من قول أبي حنيفة بناء على جواز صحة التلفيق في الحكم من قولين؛ قال في الفتاوى البزازية من كتاب الصلاة من فصل زلة القارى: ومن علماء خوارزم من اختار عدم الفساد بالخطأ في القراءة آخذًا بمذهب الإمام الشافعي فقال الباقوهجي: مذهبه من غير الفاتحة، فقال: أخذت من مذهبه الإطلاق وتركت القيد لما تقرر في كلام محمد أن المجتهد يتبع الدليل إلى القائد حتى صح القضاء بصحة النكاح بعبارة النساء على الغائب.
وما وقع في تقرير أن همام منع التلفيق فإنما عزاه إلى بعض المتأخرين وليس هذا المذهب (1) .
فقضية التلفيق نشأت في عصر التقليد، فإن الفقهاء من المذاهب المعروفة لما رأوا في المجتمع الإسلامي قلة الورع واتباع الهوى وميلاً شديدًا إلى أهواء النفوس ذهب كثير منهم إلى إيجاب التقليد الشخصي سدًا للذريعة ومنعًا للتشهي والفجور والانحلال، وللأصوليين والفقهاء في قضية التلفيق ثلاثة مذاهب، كما ظهر من نصوص الفقهاء التي قدمناها في هذا البحث.
المذهب الأول: جواز التلفيق مطلقًا.
المذهب الثاني: منع التلفيق مطلقًا.
المذهب الثالث: إباحة التلفيق بشروط.
لا شك أن المذهب الأول – إباحة التلفيق بإطلاق – خطير جدًّا خاصة في عصرنا هذا الذي قد تغلب فيه الهوى وقل فيه الورع، ولو اخترنا هذا المذهب في هذا العصر عصر الإباحية والفوضى – لأدى إلى تعطيل الشريعة وجعله للناس ذريعة للتلاعب بالدين وانجر إلى الاستهزاء بالدين.
__________
(1) رسائل ابن نجيم ص 239 – 240، طبع دار الكتب العلمية – بيروت.(8/234)
وعلى ضد ذلك اختيار المذهب الثاني – منع التلفيق بإطلاق – مع كونه غير ثابت من الكتاب والسنة لا يلائم مقتضيات هذا العصر، لأن القضايا الفقهية المتجددة لا يمكن لنا أن ننجح بحلها الشرعي إذا تقيدنا بمذهب فقهي خاص – فإن هذا التقييد كثيرًا ما يؤدي إلى ضيق وحرج – وإن تعدد المذاهب الفقهية رحمة وفسحة من الله، وكل هذه المذاهب مصدرها الكتاب والسنة فلا مانع من أن نستفيد في حل القضايا العصرية المعقدة سواء كانت في مجال الاقتصاد أو السياسة أو في أي ميدان سواهما من آراء مختلف الفقهاء والمجتهدين لا لتتبع الرخص بل لدفع الحرج والمشقة عن الأمة.
خلاصة القول: أن التلفيق ممنوع للتخلص من الواجبات وتجاوز المحرمات أو للتشهي والتلهي، ولكنه مباح لأغراض صحيحة بشروط آتية:
الأول: أن لا يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا مثلاً: لو قال لامرأته أنت طالق البتة وهو يراها ثلاثًا فأمضى رأيه فيها بينه وبينها وعزم على أنها حرمت عليه ثم رأى بعد ذلك أنها تطليقة رجعية فأراد أن يراجعها ويبقيها في زوجتيه.
الثاني: لا يستلزم الرجوع عن لازمه الإجماعي – أي عن لازم ما عمل به تقليدًا – مثلاً: لو قلد رجل أبا حنيفة في النكاح بلا ولي ونكح امرأة بالغة بلا ولي فلا شك أن صحة النكاح يستلزم صحة إيقاع الطلاق عليها فلو طلق هذا الرجل هذه " المرأة المنكوحة بدون ولي " ثلاثًا ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق لكون النكاح بلا ولي فليس له ذلك لأنه رجوع عن التقليد في اللازم الإجماعي.
الثالث: أن لا يختار قولاً من نوادر العلماء وشواذهم؛ فإن نوادر العلماء وشواذهم التي رفضتها الأمة وما تلقتها بالقبول، الأخذ بها لا يجوز، قال الإمام الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام، وقال سليمان التيمي: " إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله " والمراد بشواذ العلماء ونوادرهم الأقول التي تدعى بالزلات – والحاصل أنا لو أبحنا التلفيق وتتبع الرخص مطلقًا لكان فتنة وابتلاء للأمة وهتكت هيبة الشريعة، لأنهما يؤديان إلى الإباحية والانحلال والتشهي والتلهي، نعم لو احتاج الفقهاء المعتمدون لحل القضايا المعقدة المتجددة إلى اختيار الرخصة أو إلى التلفيق حسب شروطه المعتبرة لإزالة الضيق والحرج عن الأمة فلا يكون فيه بأس كما أرى؛ خصوصًا إذا كان هذا العمل باجتهاد جماعي من العلماء الراسخين، والله أعلم.
مجاهد الإسلام القاسمي(8/235)
قائمة المصادر
1- لسان العرب لابن منظور.
2- المصباح.
3- الأحكام للآمدي.
4- المستصفى للغزالي.
5- الإبهاج في شرح المنهاج.
6- شرح تنقيح الفصول للقرافي.
7- التقرير والتحبير شرح تحرير الأصول.
8- الموافقات للشاطبي.
9- المحصول للرازي.
10- أصول الشاشي.
11- كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري.
12- تيسير التحرير لأمير بادشاه.
13- مسند أحمد بن حنبل.
14- الجامع الصحيح للبخاري.
15- الصحيح لمسلم.
16- السنن لأبي داود.
17 – الموطأ لمالك.
18- السنن للبيهقي.
19- الطبراني.
20- سنن النسائي.
21- الأصول والضوابط للنووي.
22- شرح الجلال على الجمع.
23- الأشباه والنظائر للسيوطي.
24- أحكام القرآن للكيا الهراسي.
25- البحر المحيط للزركشي.
26- المغني في أصول الفقه للخبازي.
27- كشف الأسرار على المنار.
28- الأشباه والنظائر لابن نجيم.
29- فتح القدير شرح الهداية لابن همام.
30- إرشاد الفحول للشوكاني.
31- معجم لغة الفقهاء وضع محمد رواس قلعجي وحامد صادق.
32- عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق محمد سعيد الباني.
33- الدر المختار للحصكفي.
34- رد المحتار لابن عابدين الشامي.
35- العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية.
36- الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيثمي.
37- نهاية في شرح منهاج الوصول.
38- رسائل ابن نجيم.(8/236)
الأخذ بالرخصة وحكمه
إعداد
أ. د. عبد العزيز عزت الخياط
نائب رئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت) عمان – الأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد اخترت أن أكتب في الموضوع الأول من موضوعات الدورة الثامنة، وهو الأخذ بالرخص وحكمه. وقد تناول بحثي الموضوعات التالية:
1- العزيمة، تعريفها ومعناها وأحكامها.
2- الرخصة، تعريفها لغة وشرعًا.
3- أنواع الرخص مع بيان فقهي لأمثلة من كل نوع.
4- ضوابط الأخذ بالرخصة.
5- تتبع الرخص ورأي الأصوليين والفقهاء فيه.
6- التلفيق ورأي الفقهاء والأصوليين فيه.
7- ترجيح ما هو أحق بالاتباع وخاصة في عصرنا الحديث.(8/237)
الرخصة
لابد عند بيان معنى الرخصة من بيان معنى العزيمة لغة وشرعًا: أما لغة: فالعزيمة: القصد المؤكد ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] . قال الجوهري: عزمت على كذا عزمًا (بفتح العين) وعزمًا (بضم العين) وعزيمة وعزيمًا، إذا أردت فعله وقطعت عليه (1) ، قال الله تعالى {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] ، أو جد في الأمر، وعزم الأمر نفسه عزم عليه، وعلى الرجل أقسم، وأولو العزم من الرسل: الذين عزموا على أمر الله فيما عهد إليهم، أو هم أولو الجد والثبات والصبر، وعزائم الله: فرائضه (2) ، ويقال: عزم الأمر إذا جد ولزم، قال تعالى {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21] (3) .
والرخصة في الأمر: خلاف التشديد (4) ، والتشديد لا يحصل إلى من الواجب فعلاً أو كفًّا كما قال ابن منظور. والرخصة: السهولة، ومنه رخص السعر إذا سهل ولم يبق في السعر تشديد، وهو من رخص يرخص رخصًا ورخوصة ورخاصة ورخصانًا، والرخصة (بضمة وبضمتين) ترخيص الله للعبد فيما يخففه عليه، وأيضا بمعنى التسهيل (5) .
ورخص له في الأمر: سهله ويسره، وأذن له فيه بعد النهي عنه، والرخصة: التسهيل في الأمر والتيسير (6) .
وللعزيمة والرخصة لغة معان أخرى لم نذكرها لعدم صلتها بالمعنى الشرعي، بل ذكرنا المعنى اللغوي المتصل بالمعنى الشرعي كما سنرى.
الرخصة شرعًا:
للرخصة معان شرعية متعددة، وإطلاقات مختلفة بحسب الموضوع وبحسب تنوعها، وبحسب اختلاف الفقهاء في تعريفها:
فالرخصة عند المحدثين نوعان: الأول: الإجازة والمناولة، فإن كان عالمًا بما في الكتاب يجوز، والمستحب أن يقول أجاز، ويصح أن يقول أيضا: " أجيز "، وإن لم يكن عالمًا بما في الكتاب لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، خلافًا لأبي يوسف، ورأي أبي حنيفة أصح، لأن أمر السنة أمر عظيم مما لا يتساهل فيه، وتصحيح الإجازة من غير علم فيه من الفساد ما فيه، وفيه فتح لباب التقصير في طلب العلم (7) .
والنوع الثاني: الرخصة كتابة الحديث، وقد كانت العزيمة في ضبط الحديث حفظه، ثم أصبحت الرخصة عزيمة صيانة للعلم (8) .
__________
(1) الصحاح للجوهري / مادة عزم.
(2) القاموس 4 / 149 – 150.
(3) المعجم الوسيط مادة عزم.
(4) لسان العرب مادة رخص 10 / 49.
(5) القاموس المحيط للفيروز أبادي 2 / 304، ولسان العرب 10 / 49.
(6) المعجم الوسيط 1 / 336 مادة رخص.
(7) شرح التلويح للتفتازاني على شرح التوضيح لصدر الشريعة 2 / 12.
(8) شرح التلويح للتفتازاني على شرح التوضيح لصدر الشريعة 2 / 12.(8/238)
الرخصة عند الأصوليين والفقهاء:
الرخصة عند الأصوليين مقابل العزيمة، ولابد من بيان معنى العزيمة قبل الخوض في معنى الرخصة وأنواعها وأحكامها مما هو مطلوب بحثه في الدورة الثامنة لمجمع الفقه الإسلامي.
فالعزيمة عند الأصوليين الأحناف: " الأخذ بالحكم الأصلي غير مبني على أعذار العباد "، وهي إما فرض، أو واجب، أو سنة ونفل ومندوب، أو حرام، أو مكروه، أو مباح
فالعزيمة: ما إذا كان الفعل أولى من الترك مع عدم جواز الترك بدليل قطعي. مثل فرض الصلاة والجهاد والزكاة.
والعزيمة الواجبة: هي ما إذا كان الفعل أولى من الترك مع جواز الترك بدليل ظني (وهذا عند الحنفية، وإلا فعند غيرهم الفرض والواجب بمعنى واحد) .
والعزيمة النفل أو المندوبة أو السنة وهي ما إذا كان الفعل أولى من الترك مع جواز الترك.
والعزيمة لترك الحرام هي: ما إذا كان الترك أولى من الفعل مع منع الفعل.
والعزيمة لترك المكروه هي: ما إذا كان الترك أولى من الفعل مع جواز الفعل.
وإذا استوى الأمران: الترك والفعل، كانت العزيمة في المباح.
والحكم في كل هذه حكم أصلي والأخذ به عزيمة على أي وجه كان (1) .
والعزيمة عند الحنابلة هي " الحكم الثابت لدليل شرعي خال عن معارض " أو " هي الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي " (2) .
فالحكم الثابت لدليل شرعي يتناول الواجب (الفرض) والمندوب وتحريم الحرام وكراهة المكروه وذكر الدليل الشرعي احترازا عن الدليل العقلي.
والعزيمة عند المالكية هي " طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه منع شرعي"، قال القرافي " وإنما قلت طلب الفعل ليخرج أكل الطيبات ونحوها الداخل في تعريف الإمام فخر الدين الرازي الذي يعرف العزيمة بجواز الإقدام مع عدم المانع، فإنه يقتضي أن أكل الطيبات ولبس الثياب ونحوها عزيمة، لأن الإقدام عليه جائز والمانع منه منتف (3) .
__________
(1) التوضيح لصدر الشريعة 2 / 142.
(2) شرح مختصر الروضة 1 / 457 لنجم الدين الطوفي – تحقيق الدكتور عبد المحسن التركي – طبع الرسالة 1410 هـ – 1990 م.
(3) شرح مختصر الروضة 1 / 459.(8/239)
وعرف الآمدي من الشافعية العزيمة بأنها " عبارة عما لزم العباد بإلزام الله تعالى، فهي ما لزم بإيجاب الله تعالى (1) ، وهي على هذا تختص بما هو أشبه بالواجبات كما يقول الطوفي (2) . كما عرفها البزدوي بأنها اسم لما هو أصل من الأحكام غير متعلق بالعوارض" (3) .
والشاطبي عرف العزيمة بأنها " ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء" ومعنى الكلية أنها لا تختص ببعض الملكفين من حيث هم مكلفون دون بعض، كالصلاة مثلاً فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم في كل شخص وفي كل حال، ومثلها سائر شعائر الإسلام الكلية (4) . ومعنى كونها شرعية ابتداء، أن الشارع قصد بها إنشاء الأحكام التكليفية على العباد من أول الأمر من غير أن يسبقها حكم شرعي قبل ذلك (5) .
وقد تطلق العزيمة على الأخذ بالتكاليف الغليظة والأعمال الشاقة.
ومما سبق يتضح أن العزيمة منها ما يتعلق بالفعل مثل العبادات، وهي أربعة أنواع:
1- فريضة: وهي ما لا يحتمل زيادة ولا نقصانًا: وهي ما ثبت بدليل شرعي قطعي (لا شبهة فيه) كالإيمان والأركان ويكفر جاحدها ويفسق تاركها بلا عذر.
2- واجب: وهو ما ثبت بدليل فيه شبهة كصدقة الفطر والأضحية، فإن كلا منهما ثبت بخبر الواحد، وحكمه اللزوم عملا لا اعتقادًا فإن جاحدها لا يكفر، ويفسق تاركه إذا استخف بأخبار الآحاد جملة.
3- سنة: وهي الطريقة المسلوكة في الدين، ويطالب المكلف بإقامتها من غير افتراض ولا وجوب، وهي عند الشافعي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو المتبع على الإطلاق، والسنة نوعان: سنة هدي كالجماعة والأذان والإقامة، وتاركها يستوجب الإساءة، وسنة زوائد وهي التي لا يستوجب تاركها أي إساءة كسير النبي صلى الله عليه وسلم في لباسه وقيامه وقعوده.
4- وهو العبادة المشروعة لنا لا علينا، وهو ما يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه (6) .
ومن العزيمة ما يتعلق بالترك، وهي ترك الحرام، فيثاب تاركه ويعاقب فاعله، وترك المكروه، فيثاب تاركه ولا يعاقب فاعله.
__________
(1) التلويح للتفتازاني 2/ 127، والمستصفى للغزالي 1 / 98، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 / 98.
(2) مختصر الروضة 1 / 458.
(3) التلويح 2 / 127.
(4) الموافقات للشاطبي 1 / 204، طبعة صبيح بالقاهرة.
(5) الموافقات للشاطبي 1 / 204، طبعة صبيح بالقاهرة.
(6) شرح منار الأنوار في أصول الفقه للمولى عبد اللطيف الشهير بابن ملك، على المنار للنسفي 194 وما بعدها، طبع إستانبول سنة 1314هـ.(8/240)
الرخصة
عرف الأحناف الرخصة تعريفات مختلفة، فمنها ما ذكره صدر الشريعة بأنها " ما لا يكون حكمًا أصليا، أي يكون مبنيا على أعذار العباد، وذلك مثل إباحة الكفر على اللسان للمكره (1) ، ومنها تعريف السرخسي بأنها " ما استبيح للعذر مع بقاء الدليل المحرم " (2) ، ومنها تعريف الكمال بن الهمام " ما شرع تخفيفًا لحكم مع اعتبار دليله " (3) ، ومثل تعريف الأحناف تعريف فخر الإسلام البزدوي حيث قال " الرخصة اسم لما بني على أعذار العباد ".
وعند الشافعية الرخصة: " ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام المحرم لولا العذر لثبتت الحرمة" وبهذا يخرج المباح فليس برخصة أي هو عزيمة. وهذا معنى تعريف الآمدي لها وهو " ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام السبب المحرم " (4) ، وعرفها أبو اليسر من الشافعية بأنها " ترك المؤاخذة بالفعل مع قيام المحرم، وحرمة الفعل وترك المؤاخذة بترك الفعل مع وجود الموجب والوجوب " (5) .
وعرفها الشعراني في الميزان بأنها " اسم لما تغير عن الأمر الأصلي إلى تخفيف ويسر ترفها وتوسعها على أصحاب الأعذار " (6) .
وعرف الحنابلة الرخصة بأنها " ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح" وهذا خلاف ما ثبت على وفق الدليل فلا يكون رخصة بل عزيمة كالصوم في الحضر (7) .
وقيل: إن الرخصة هي " استباحة المحظور مع قيام الحاظر " مثل أكل الميتة في المخمصة، فإنه استباحة للميتة المحرمة شرعًا مع قيام السبب المحرم وهو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، وهذا الدليل راجح على سبب التحريم وهو قوله سبحانه {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] ، فإن هذا خاص، وسبب التحريم عام، والخاص مقدم على العام (8) .
والمالكية عرفوا الرخصة بأنها " جواز الإقدام على الفعل مع اشتهار المانع منه شرعًا " (9) ، كما عرفها الشاطبي بأنها " ما شرع لعذر شاق، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه " (10) ، ويتضح من هذه التعريفات أن من الأصوليين من جعل الرخصة اسمًا على الحكم نفسه، أي جعلها من أقسام الحكم، ومنهم القرافي والشاطبي والبيضاوي والغزالي، ومنهم من أطلقها على الفعل نفسه ومنهم ابن الحاجب والرازي.
__________
(1) التوضيح لصدر الشريعة 2 / 126.
(2) أصول السرخسي 1 / 117.
(3) التقرير والتمييز، شرح التحرير للكمال بن الهمام 2 / 146.
(4) التلويح للتفتازاني 2 / 127، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 / 188.
(5) التلويح للتفتازاني 2 / 127.
(6) الميزان 1 / 12 ملخص رأيه في الرخصة.
(7) شرح مختصر الروضة 1 / 459.
(8) شرح مختصر الروضة 1 / 459.
(9) التنقيح في أصول الفقه للقرافي.
(10) الموافقات 1 / 305.(8/241)
أنواع الرخصة:
من العلماء من جعل الرخصة أنواعًا كالأحناف، ومنهم من سمى أنواع الرخصة إطلاقات كالشاطبي، ومنهم من جعل بعضها واجبًا وبعضها الآخر غير واجب، ومنهم من جعلها رخصة فعل، ورخصة ترك، مما نبينه تفصيلاً فيما يلي:
جعل الأحناف الرخصة أنواعًا من حيث كونها حقيقية أو مجازًا، ومعنى كونه حقيقة: أنه أبيح مع وجود الحرمة في فعله أو تركه، ومعنى كونه مجازًا أنه سهل علينا ما شدد على الأمم السابقة، رفقًا من الله سبحانه وتعالى بنا، مع جواز إيجابه علينا كما أوجبه عليهم، ولأنه بعيد عن حقيقة الرخصة لأن الأصل لم يكن مفروضًا علينا، كما أن بعض هذه التعريفات اقتصر على الدليل المحرم مع أنه قد يكون دليلاً على الوجوب كالصوم، كما قيد بعضهم الرخصة بجواز الفعل مع أنها قد تكون بجواز الترك.
أ- النوع الأول:
1- أن يكون رخصة حقيقة، وهو " ما استبيح مع قيام المحرم والحرمة " كإجراء كلمة الكفر تحت الإكراه الملجئ، أي الذي يخشى منه فوات النفس كالقتل، أو فوات العضو كقطع اليد، وهو الإكراه التام؛ فيجوز له أن ينطق بكلمة الكفر تقاة من المكرهين الظالمين مع بقاء قلبه مطمئنًا بالإيمان، وذلك من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 105 – 106] فحرمة الكفر قائمة أبدًا، للأدلة الموجبة للإيمان، وهذا أعلى أنواع الرخص، لأنه لو أخذ بالعزيمة لكان حسبة لله تعالى، ولو قتل لكان شهيدًا (1) ، ومثله الكره على إتلاف مال الغير أو المكره على الإفطار في رمضان (2) .
2- أن يكون رخصة حقيقة وهو " ما استبيح مع قيام المحرم دون الحرمة " كإباحة إفطار المسافر، فإن المحرم للإفطار قائم، لكن حرمة الإفطار غير قائمة، فالرخصة كانت بناء على سبب تراخي كلمة وهو شهود الشهر، وحكمه وجوب الصوم وقد تراخى حكمه لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
__________
(1) التلويح للتفتازاني على التوضيح لصدر الشريعة 2 / 130.
(2) المنار / 198.(8/242)
وهذا النوع أدنى من النوع الأول، لأن الحكم فيه متراخ، ففيه شبهة كونه حكمًا أصليًا في حق فاعله كالمسافر في رمضان، بخلاف النوع الأول فإن المحرم والحرمة قائمان، والحكم الأصلي ليس فيه شبهة، كونه حكمًا أصليا مثل استباحة الكفر للمكره (1) ، والأخذ بالعزيمة أولى لقوله تعالى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] .
3- ما كان رخصة مجازًا، وهو ما وضع عنا من الإصر والأغلال، فالإصر مثل اشتراط قتل النفس في صحة التوبة، الذي كان على بني إسرائيل كما ذكر تعالى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ، ومثل الأغلال وهي الأحكام الشاقة التي كانت في شرائع ما قبل الإسلام، كالقصاص للقاتل العمد أو الخطأ، ومثل قطع الأعضاء الخاطئة، ومثل قرض موضع النجاسة من الثوب دون غسله. وهذه كانت واجبة على بعض من سبقنا، ولم تجب علينا، فالحكم في حقنا ليس مشروعًا أصلاً. والمجازية فيه بعيدة عن حقيقة الرخصة، لأن أصله لم يبق مشروعًا، وهو أتم في المجازية (2) .
4- ما سقط حكمه مع كونه مشروعًا في الجملة، فهو بهذا شبيه بحقيقة الرخصة وأقرب إليها، فهو أقل مجازية من النوع الثالث، ومثاله ترخيص بيع السلم، فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم)) (3) . ومثل أكل الميتة وشرب الخمر ضرورة، فإن حرمتهما ساقطة هنا، مع كونها ثابتة في الجملة وذلك لقوله تعالى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، فإنه استثناء من الحرمة، والنص غير محرم في حال الضرورة والمحرم غير قائم عند وجودها كذلك، وهذا فرق ما بينه وبين النوع الثاني، ومثل قصر الصلاة في السفر في حالة الأمن، مع أن الآية الكريمة تنص على أن القصر إنما يكون في حالة الخوف، قال تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . وقد روى مسلم عن يعلى بن أمية قال: " قلت لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قول الله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] ، فقال: " عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ((صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) (4) ، فقد فهم عمر رضي الله عنه أن التعليق بالشروط يوجب انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، فأخذ الأحناف من ذلك أن التعليق بالشرط لا يدل على العدم عند عدم الشرط، خلافًا لغيرهم كفخر الإسلام البزدوي الذي قال: " إن انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لازم ألبتة" (5) .
__________
(1) التلويح 2 / 128 – 129.
(2) التلويح 2 / 129، وشرح منار الأنوار 201.
(3) حديث مركب من حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان وقد رواه أصحاب السنن الأربعة ومن حديث " ورخص في السلم " (فتح القدير 6 / 205) .
(4) رواه مسلم.
(5) شرح مختصر الروضة 1 / 461، والتلويح 2 / 130.(8/243)
إطلاقات الرخصة:
سمى الشاطبي أنواع الرخصة إطلاقات وجعلها إطلاقات أربعة بناها على الأسباب الموجبة للرخصة، وهي إطلاقات أربعة:
أولها: ما استثنى من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا من غير اعتبار لكونه بعذر شاق، وهو ما استند إلى أصل الحاجيات كالقرض والقراض والمساقاة وبيع العرية بخرصها تمرا، وضرب الدية على العاقلة، ويدل عليه قوله ((: نهى عن بيع ما ليس عندك وأرخص في السلم)) أو ما استند إلى أصل التكميلات كصلاة المأمومين جلوسًا اتباعًا للإمام المعذور، وصلاة الخوف المشروعة بالإمام كذلك (1) .
ثانيها: قد تطلق الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة كما دل عليها قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . وقد سبق وذكرنا أمثلة لهذه التكاليف والأعمال الشاقة. ويدخل في الإطلاق كل ما جاء في ملة الإسلام من المسامحة واليسر (2) .
وثالثها: ما كان من المشروعات توسعة على الناس مما هو راجع إلى قضاء مآربهم ونيل حظوظهم وتحقيق مصالحهم، والعزيمة هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي إطلاقًا، فالإذن بأخذ الحظ توسعة يعتبر رخصة هي حظ العباد من لطف الله. وهنا يدخل الشاطبي المباحات من الرخص لما فيه من التيسير والتوسعة ورفع الحرج (3) (خلافًا للحنفية الذين يجعلون المباح عزيمة) .
ورابعها: ما شرع من الأحكام لعذر شاق كصلاة الإنسان جالسًا لأنه لا يقدر على الصلاة قائمًا إلا بمشقة. وكأكل الميتة للمضطر في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ، ويقتصر بالرخصة على موضع الحاجة فقط، وهو من خواص الرخص. ويفترض بهذا عما شرع من الحاجيات الكلية فإنها مشروعة مستثمرة، بينما الرخصة هنا إذا زال سببها زالت مشروعيتها في حق المرخص له (4) .
__________
(1) الموافقات 1 / 207.
(2) الموافقات 1 / 207.
(3) الموافقات 1 / 208.
(4) الموافقات 1 / 209.(8/244)
الرخصة بين الوجوب وعدم الوجوب:
الرخصة تتنوع من حيث حكمها إلى نوعين:
الأول: الوجوب، وذلك عند الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، مثل أكل الميتة، فلا يجوز للمسلم المضطر أن يتأبى عن أكل الميتة، لأن النفس حق الله، وهي أمانة يجب حفظها للقيام بالعبادات والتكاليف، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] (1) .
الثاني: عدم الوجوب، فله أن يأتي بالرخصة، إما تقية كالنطق بكلمة الكفر عند الإكراه حفظًا لنفسه مع طمأنينة الإيمان، وإما تخييرًا كالفطر في السفر، وإما أفضلية كقصر الصلاة في السفر عند الجمهور، وقد يأخذ بالعزيمة في عدم نطق كلمة الكفر عند الإكراه، أو بالصوم في السفر أو إتمام الصلاة عند الجمهور (2) .
أنواع الرخصة من حيث أداؤها:
والرخصة من حيث أداؤها تنقسم إلى قسمين:
الأول: رخصة فعل، وذلك بحسب حكم العزيمة، فإن كان فعل العزيمة يوجب تركًا، فالرخصة رخصة فعل، مثل ما إذا كان الحكم الأصلي نهيًا يفيد التحريم، وتكون الضرورة أو الحاجة تسوغ فعله رخصة، مثل أكل لحم الميتة أو الخنزير عند الضرورة أو شرب الخمر عند الغصة أو الإكراه الملجئ، ومثل المكره على نطق الكفر لأن فيه تلف النفس.
الثاني: رخصة ترك، إذا كان حكم العزيمة يوجب فعلاً، فالرخصة رخصة ترك مثل ترك الصيام للمريض في رمضان، ومثل ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان الحاكم بطاشًا ظالمًا فالرخصة السكوت، ومثل سقوط فرض الصلاة على المعذور (3) .
__________
(1) شرح مختصر الروضة 1 / 465.
(2) شرح مختصر الروضة 1 / 466، أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة ص 51.
(3) أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة 53.(8/245)
أنواع الرخصة من حيث التخفيف:
قسم بعض الأصوليين الرخصة من حيث التيسير على الناس والتخفيف عنهم إلى قسمين:
الأول: رخصة إسقاط، عندما يكون الأخذ بالرخصة واجبًا كأكل الميتة أو رفع التكاليف الشاقة التي كانت على الأمم قبلنا؛ فقد أسقط الحكم عنا.
الثاني: رخصة ترفه، عندما يكون الحكمان ثابتين، فله أن يأخذ بالرخصة وله أن يأخذ بالعزيمة كأكل المتولي من مال الوقف إذا كان محتاجًا أو أكل ولي الأيتام من مالهم إذا نمَّى أموالهم وكان محتاجًا، فلكل منهما أن يأكل من مال الوقف أو اليتيم أو لا يأكل، قال تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] .
وقد تكون الرخصة عامة للناس كلهم وهي في الأنواع الثلاثة التي بيناها، تكون خاصة لبعض الناس كما في النوع الرابع (1) .
دليل إباحة الرخص:
استدل لإباحة الرخص بالأدلة التالية:
أولاً – من النصوص:
قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ، وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] ، وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] ، وقوله {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، فكل هذه الآيات وغيرها دالة على إباحة الرخصة ورفع الحرج والجناح وجواز الإقدام على فعلها.
وقوله صلى الله عليه وسلم ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (2) ، وورد في الحديث ((كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا المقصر ومنا المتم)) (3) ، وروي عن عائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم)) (4) .
وثانيًا:
التسهيل، التخفيف على المكلفين ورفع الحرج عنهم والتيسير عليهم، فيكون المكلف مخيرًا بين الأخذ بالرخصة أو العزيمة، وهذا أصله الإباحة في قوله تعالى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، وقوله {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، وقوله {وفَاكِهَةً وأَبًّا (31) مَتَاعًا لَّكُمْ ولأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 31 – 32] ، وقال سبحانه {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] (5) .
__________
(1) الموافقات للشاطبي 1 / 207 – 211.
(2) رواه أحمد ابن حنبل والبيهقي.
(3) الموافقات 1 /211.
(4) رواه الدارقطني والبيهقي.
(5) الموافقات للشاطبي 1 / 210 – 211.(8/246)
أسباب الرخص:
تعددت الأسباب التي أبيحت من أجلها الرخصة، فمنها:
1- الضرورة: كأن يكون في حالة مخمصة ويخشى على نفسه الهلاك مثل أكل الميتة أو النطيحة أو شرب البول ولا يجد ما يأكله أو يشربه، لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] .
2- رفع الحرج والمشقة: كإفطار العجوز الفاني في رمضان أو رؤية الطبيب عورة المرأة لمعالجتها؛ والحرج المعتبر في مشروعية الرخصة أن يكون مؤثرًا في المكلف، أو أن لا يكون له صبر عليها كالمرض الذي يعجزه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها.
استنادًا إلى قوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، والقاعدة الشرعية تقول " المشقة تجلب التيسير" (1) .
والمشقة – كما يقول ابن نجيم – قسمان: مشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، ومشقة ألم الحد ورجم الزنا، وقتل الجناة، وقتال البغاة " فلا أثر لها في إسقاط العبادات في كل الأوقات". ومشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأعضاء فهي موجبة للتخفيف (2) . ولكننا نقول بأن المشقة التي ذكرها يمكن أن تكون فيها الرخص في الإفطار عند عدم الإطاقة في الحر والسفر، قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس من البر الصيام في السفر)) (3) . وعند من اعتبر التيمم رخصة فهو بدل الوضوء في حالة الضرر من الغسل في البرد أو الغسل عند الجراحة.
حكم الرخصة:
وحكم الرخصة جواز العمل بها في مواضع الجواز، والإنسان مخير بين الأخذ بالعزيمة، كالصبر على العذاب وعدم النطق بكلمة الكفر، وبين الأخذ بالرخصة كالنطق بكلمة الكفر، ومثل الأخذ بالعزيمة في الصوم في السفر أو الإفطار.
والحديث النبوي الشريف وهو قوله صلى الله عليه وسلم ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (4) ، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم ((إنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)) (5) ، جعل الرخصة في موضع الإباحة والتخيير بعد الطلب الجازم بالفعل، تيسيرًا على الناس، ورحمة بهم وهو مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، كما استشهدنا بآيات اليسر ورفع الحرج (6) .
__________
(1) الموافقات للشاطبي 1 / 217.
(2) غمز عيون البصائر في شرح كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 245 وما بعدها.
(3) متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله.
(4) أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة ص 54، والحديث رواه أحمد والبيهقي.
(5) أخرجه البخاري.
(6) التقرير على التحبير 3 /351.(8/247)
ضوابط الأخذ بالرخص:
1- أن لا يكون الأخذ بالرخصة لغرض فاسد، ومن هنا جاء منع تتبع الرخص (عند جماعة من العلماء كما سنذكر) لكف الناس عن الجري وراء الأسهل من غير دليل، والأصل أنه يجوز للعامي أن يأخذ في كل مسألة بقول مجتهد هو أخف عليه، لما روي عن عائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب ما خفف على الناس)) (1) .
2- أن لا يجمع بين الرخص على صورة تخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقبل بها أحد من العلماء.
3- أن لا يأخذ برخص متناقضة في الأمر الواحد (من اختلاف الفقهاء في اجتهاداتهم) كأن يأخذ بعدم نقض الوضوء بلمس المرأة (وهو رأي أبي حنيفة) ويأخذ بعدم نقض الوضوء بنزول الدم (وهو رأي الشافعي) الذي يرى انتقاض الوضوء باللمس، ويرى أبو حنيفة انتقاض الوضوء بنزول الدم عن موضعه.
4- لا يجوز الأخذ بالأهون من كل مذهب مجتهد بحيث تنحل ربقة التكليف من عنق المكلف (2) .
تتبع الرخص في المذاهب ورأي الفقهاء والأصوليين فيه
هل يجوز تتبع الرخص في المذاهب؟
والرخصة هي الأخذ بالأسهل والأيسر، وتتبعها هو أن يأخذ من كل مذهب أخف الأحكام وأسهلها.
اختلف العلماء في ذلك:
1) فبعضهم ذهب إلى تحريمه: فقد نقل ابن حجر في تحفته الإجماع على منع تتبع الرخص.
وأباحه بعضهم بقيود كالقرافي الذي قال: إنما يجوز تقليد غير من قلده أولاً بشروط: كما إذا لم يترتب على تقليد ذلك الغير ما يجتمع على بطلانه عند الأول والثاني، مثال ذلك لو قلد الشافعي في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل، وقلد مالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة للضوء فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى، إن كان الوضوء بدلك صحت صلاته عند مالك وإن كان بدونه بطلت عندهما (3) .
2) والروياني اشترط في التقليد ثلاثة شروط كما نقل القرافي في تنقيح الفصول:
1- أن لا يجمع بينها على صورة تخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد من المجتهدين، وإلى هذا ذهب العز بن عبد السلام (4) .
2- أن يعتقد فيمن يقلده الفضل.
3- عدم تتبع الرخص، وقد تعقب العلماء دعوى الإجماع بأنها غير صحيحة لأنها إجماع المتأخرين، وهم غير مجتهدين، وإجماع غير المجتهدين غير معتبر؛ على أن دعوى إجماع المتأخرين فيه نظر لأنهم لم يجمعوا جميعهم، والمجتهدون لم يصرحوا بشيء من هذا، ثم إن هذا الإجماع منقول بالآحاد وهو لا يوجب العمل عند الأحناف وعند بعض الشافعية، كما ذكر ذلك ابن ملك في شرح المنار (5) .
__________
(1) التقرير على التحبير 3 / 351 والحديث أخرجه البخاري.
(2) خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق للشيخ عبد الغني النابلسي (ص 4) طبع استنبول سنة 1406هـ – سنة 1986م.
(3) التقرير والتحبير 3 / 352.
(4) الفواكه العديدة 2 / 138، والتقرير على التحبير 3 / 352.
(5) مخطوطة القول السديد صـ 32، والمنار لابن ملك صـ 259.(8/248)
وتعقب القرافي قول الروياني بأنه إذا أراد بالرخص ما ينقض فيه قضاء القاضي وهو ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي فهو حسن، أما إذا أراد بالرخص ما فيه سهولة على المكلف كيف كان، يلزمه أن يكون من قلد مالكًا في المياه والأرواث وترك الألفاظ في العقود مخالفًا لتقوى الله، وليس كذلك، ثم الشرط الأول ليس بضائر فإن مالكًا لم يقل فيمن قلد الشافعي في عدم الصداق إن نكاحه باطل، وإلا لزم أن تكون أنكحة الشافعية بلا صداق باطلة عنده، ولم يقل الشافعي أن من قلد المالكية في عدم الشهود في النكاح باطلة أنكحتهم. وكيف نقول بصحة أنكحة الكفار إذا اعتقدوا صحتها في دينهم الباطل، ولا يقول الشافعي أو المالكي بصحة نكاح من قلد أحدهما.
وأما اعتقاد الفضل فمبني على منع تقليد المفضول، وهو مردود، لأنه ليس على العامي البحث على الأرجح من المجتهدين، إذ ليس له القدرة على ذلك، إلا إذا كان الرجحان من حيث ميل العامي إليه (1) ، قال الكمال بن الهمام " إن أخذ العامي بما يقع في قلبه أنه صواب أولى " (2) .
3) والرأي الثالث إباحة تتبع الرخص وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء والمحققين كالكمال بن الهمام والقرافي وغيرهما، قال العز بن عبد السلام: " لا يتعين على العامي إذا قلد إمامًا في مسألة أن يقلد غيره في سائر مسائل الخلاف لأن الناس من لدن الصحابة إلى أن ظهرت المسائل يسألون فيما يسنح لهم العلماء المحققين من غير نكير، وسواء اتبع في ذلك الرخص أو العزائم " (3) .
__________
(1) تحفة القول السديد صـ76.
(2) المخطوطة صـ 16، والتقرير على التحبير 3 / 53.
(3) الفواكه العديدة في المسائل المفيدة لأحمد بن محمد النجدي، من منشورات المكتبة الإسلامية الجزء الثاني / ص 128.(8/249)
وذلك للآيات والأحاديث الواردة في قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقوله {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وحديث عائشة في البخاري ((كان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عنهم)) (1) ، وحديث ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (2) .
قال العلماء: ولا يمنع من ذلك مانع شرعي لأن للإنسان أن يسلك الأخف الأسهل فيما يقع له من المسائل إذا وجد إليه سبيلاً بأن لم يكن عمل بآخر فيه.
ويحمل المنع على تتبع الرخص لغرض فاسد، وقد روي عن أحمد ابن حنبل في إحدى روايتيه جواز ذلك، ولا يلتفت إلى رأي من فسق متتبع الرخص فهو تشديد لا مبرر له وليس عليه من دليل. إذ المفروض أن يتبع الإنسان من القول أحسنه.
وقال عليه السلام فيما رواه الشيخان وغيرهما: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) ، ولأحمد حديث بسند صحيح ((دينكم أيسره)) . وروى الشيخ نصر المقدسي في كتاب" الحجة " مرفوعًا ((اختلاف أمتي رحمة)) ، وفي المنهل عن البيهقي عن القاسم بن محمد أنه قال: " اختلاف أمة محمد رحمة "، وللبيهقي في " المدخل " عن عمر بن عبد العزيز قال: " ما يسرني أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن رخصة "، وأخرج البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنه ((.. أن أصحابي بمنزلة النجوم فبما أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة)) .
وقد روى السيوطي في الجامع الصغير عن عمر مرفوعًا: ((أفضل أمتي الذين يعملون بالرخص)) . وقد رد شارح التحرير (السيد بادشاه) على دعوى ابن عبد البر الإجماع على عدم تتبع الرخص.
__________
(1) أخرجه البخاري.
(2) رواه ابن حنبل 2 / 108، والبيهقي 3 / 140، وابن حبان.(8/250)
التلفيق
التلفيق لغة: هو ضم شقتي الثوب إلى الأخرى وخياطتها، يقال: لفق الثوب (من باب ضرب) يلفقه لفقًا وهو أن يضم شقة إلى أخرى فيخيطهما، وقد لفقت بين ثوبين ولفقت أحدهما بالآخر إذا لاءمت بينهما بالخياطة، والتلفيق أعم. كما جاء في لسان العرب والصحاح للجوهري والقاموس للفيروزأبادي.
وهذا المعنى اللغوي هو أقرب المعاني للكلمة ما يوافق ما أراده الاصطلاحيون " بالتلفيق " فهو عند علماء الحديث (كما في كشف الظنون) " علم يبحث فيه عن الملاءمة والتوفيق من الأحاديث المتنافية ظاهرًا، إما بتخصيص العام تارة وإما بتقييد المطلق تارة أخرى، أو بالحمل على تعدد الحادثة، إلى غير ذلك من وجوه التأويل. وشراح الحديث يرددون كثيرًا لفظة التلفيق، قد يريدون بها التلفيق بين متون لأحاديث مختلفة ليتكون من مجموعها خبر واحد، كما صنع كل من البخاري وابن إسحاق في حديث الإفك " (1) .
وهو عند الفقهاء والأصوليين: " أن يأتي بكيفية لا يأتي بها مجتهد " (2) ، أو الجمع بين تقليد إمامين أو أكثر في فعل له أركان وجزئيات لها ارتباط ببعضها، لكل منها حكم خاص كان موضع اجتهادهم وتبيان آرائهم فيقلد أحدهم في حكم وآخر في حكم آخر فيتم التلفيق.
وهو ضربان: أحدهما:
تخير الأحكام الكلية للعمل والمعرفة والاطمئنان إلى الأرجحية من غير نظر إلى جزئيات تلك الأحكام وما يمكن أن يترتب عليها في النوازل المختلفة. وقد أجيز هذا النوع من غير تقييده بشرط (3) .
والنوع الثاني تلفيق التقليد في العمل وهو:
أن يكون هذا التخير للعمل به في نازلة معينة، وهو النوع الذي تكلم العلماء في جوازه أو عدم جوازه، وهو نوع من التقليد ومن شرط جوازه أن لا يلفق بين قولين تتولد منهما حقيقة واحدة مركبة لا يقول كل من الإمامين بها (4) .
وقد جاء في الدر المختار أن الحكم الملفق باطل بالإجماع (5) .
وأكثر العلماء على جواز التلفيق ودعوى الإجماع غير واردة فالبيجوري على جوهرة التوحيد وابن الهمام على أنه لم يثبت نص في تحريم التلفيق.
صورة التلفيق أن يقلد إمامًا في رأي في نازلة معينة، ويقلد إمامًا آخر في نفس النازلة كأن يقلد الشافعي في وضوئه من حيث عدم فريضة الدلك ويقلد مالكًا في لمس المرأة بشهوة فلا يصح وضوءه على مذهبيهما، وكأن يقلد أبا حنيفة في صحة الزواج بعبارة النساء، وحال قيام الزوجية طلق الزوجة بلفظ من ألفاظ الكنايات التي يقع بها البائن عند أبي حنيفة وقلد الشافعي في وقوعه طلقة رجعية فيكون عاملاً بقولين معًا في قيام زوجية واحدة. وكمن قلد أبا حنيفة في التزوج بلا ولي، ثم قلد الشافعي في ضرورة التزويج بولي يبقى عقد نكاح الأول صحيحًا.
فالتلفيق العملي لا يتحقق إلا حين العمل بالقولين أو بأحدهما مع بقاء الآثار اللازمة للآخر.
__________
(1) انظر مقالاً للشيخ محمد أحمد فرج السنهوري في النشرة الأولى لمجمع البحوث 1 / 67.
(2) تحفة الرأي السديد صـ 23.
(3) مقال الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري في مجلة البحوث 1 / 76.
(4) شرح المنهاج للإسنوي 3 / 350.
(5) رد المحتار 3 / 407، 4 / 648.(8/251)
والتلفيق مسألة نشأت عند المتأخرين ولم تكن عند الأئمة المجتهدين ولا عند أهل التخريج، وأول من تكلم بها كما يقول الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري هو القاضي نجم الدين بن علي الطرسوسي سنة 758 هـ إذ نقل أنه وقف على حكم لحسام الدين الراوي المنفي في سنة 681هـ حكم فيه بصحة وقف المحجور للسفه، ونفذ هذا قضاة من الحنابلة، وأن هذا الحكم أشكل عليه لأن القضية صارت مركبة من مذهبي أبي حنيفة وأبي يوسف. وأنه رأى في " منية المفتي " مثل هذا الواقعة المركبة من مذهبين وقد مضى فيها على الجواز، ثم أجازه العلامة أبو السعود العمادي سنة 983هـ وهو مفتي الروم ثم تبعهم العلماء في ذلك، وقد أجازه الكمال بن الهمام، والسيد الشريف محمد أمين الشهير بأمير بادشاه شارح التحرير المتوفى سنة 972 هـ.
وعندي رسالة مخطوطة للشيخ منيب هاشم مفتي مدينة نابلس، انتهى من تأليفها سنة 1307هـ عرضها على شيخ الشيوخ عبد الرحمن البحراوي الحنفي الذي كتب عليها " إن المؤلف قد بين الحق على الوجه الصحيح "، وهي مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم 403 وقد وجدها الشيخ السنهوري وبين أنه انتصر فيها للتقليد انتصارًا موفقًا.
وقد أثار مسألة التلفيق من المالكية الشيخ الزناتي ونقل عنه القرافي المتوفى سنة 680هـ وكذلك الشاطبي وقد ذهبوا إلى منع التلفيق وتتبع الرخص، والشافعية تناولوا التلفيق كالقفال والمروزي والماوردي والشيرازي والغزالي والرافعي والنووي والسبكي، واختلفوا بين المنع والإجازة، فابن دقيق العيد أجازه شرط أن لا يقع في صورة يجمع على أنها باطلة.
وعز الدين بن جماعة المتوفى سنة 767 هـ يرى أن العبادة الملفقة من عدة مذاهب لا تجوز، وإلى ذلك ذهب الغزالي وأحمد بن حجر سنة 974هـ وادعى الإجماع على منعه (وهو غير صحيح) ، وإلى ذلك ذهب شهاب الدين أحمد بن عماد الدين الأقفهي في كتابه " تنبيه الحكام إلى أن التلفيق باطل بإجماع المسلمين".
والباجوري من الشافعية (شيخ الأزهر السابق) يقول في حاشيته على جوهرة التوحيد: فإن قلت: هل يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب؟ قلت: فيه ثلاثة أقوال: "يمتنع مطلقًا"، وقيل: " يجوز مطلقًا "، وقيل: " إن لم يجمع بين المذهبين على صفة تخالف الإجماع كمن تزوج بلا صداق ولا ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لا يقول بها أحد " (1) .
__________
(1) مقال الشيخ فرج السنهوري، مجلة مجمع البحوث – السنة الأولى سنة 1383هـ الموافق سنة 1946م.(8/252)
وقد ناقش العلماء دعوى الإجماع وانتهوا إلى جواز التلفيق لعدم دليل يدل على المنع (1) من نص أو إجماع، وإلى هذا الرأي مال العلماء الكثيرون من الحنفية، ومن المتأخرين الشيخ السنهوري والشيخ عبد الرحمن القلهود من علماء مجمع البحوث الإسلامية؛ مستندين إلى إجازات العلماء في ذلك وإلى أن التلفيق أمر ضروري لاسيما ونحن على أبواب عمل تشريعي لتقنين الفقه والأخذ فيه بأيسر الآراء اعتمادًا على قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، قال القلهود: " ومما تقدم يتضح أن تقليد أئمة المذاهب المعتبرة وعدم التقيد بتقليد مذهب أو قول معين أمر جائز، كما أن التلفيق بين أقوال المذاهب لا محذور فيه؛ وهذا بلا شك من اليسر في الدين " (2) .
ترجيح ما هو أحق بالاتباع
الترجيح: إثبات الفضل في أحد جانبي المتقابلين أو جعل الشيء راجحًا، ونحن بعد استعراض أقوال العلماء وأدلتهم في موضوع تتبع الرخص أو عدم تتبعها، وموضوع التلفيق بين الأحكام الاجتهادية أو عدم التلفيق؛ بين أمرين: التتبع أو عدم التتبع، وجواز التلفيق أو عدم جواز التلفيق؛ أرى الذهاب إلى جواز تتبع الرخص وهو الأخذ من كل مذهب بما هو الأخف والأسهل فيما يقع من المسائل، للأسباب والشروط التالية:
1- أن يكون تتبع الرخص للعامي لا للمجتهد أو المرجح.
2- أن لا يرتكب ما اشتهر تحريمه في الشرع فإن فعل يأثم، وأن لا يكون قد عمل بحكم آخر في نفس المسألة.
3- أن لا يجمع بين الآراء التي يؤدي العمل بها إلى أن يكون عمله باطلاً في كل مذهب كأن يتزوج من غير ولي ولا شهود ولا إعلان. أو يأخذ بالآراء المتناقضة والنوادر كأن يعمل بالمتعة على رأي الشيعة، وبالسماع على رأي أهل المدينة، وإتيان النساء في أدبارهن على رأي بعض الفقهاء، وبأن يشرب النبيذ على رأي أهل الكوفة (3) .
4- الحكمة من الرخصة التخفيف والتيسير والتوسعة على العباد شرعًا، وقد جاءت الأحكام الكثيرة المقررة لهذا، استنادًا إلى الآيات والأحاديث التي تقرر هذه الحكمة، وقد تعرضنا لها في أثناء البحث، بل إن الأحناف اعتبروا الترفيه على الناس من حكم الرخصة (4) .
__________
(1) مقال للشيخ عبد الرحمن القلهود ص 96 من المجلة المذكورة.
(2) مقال القلهود في الجزء الأول من نشرة مجمع البحوث ص 97.
(3) إرشاد الفحول للشوكاني ص 272.
(4) ميزان الأصول في نتائج العقول للسمرقندي ص 55.(8/253)
5- الضرورة اقتضت تشريع أحكام تخفيفية على الناس كالتيمم، أو ترخيصًا كإفطار المسافر، وذلك تيسيرًا على الناس ولا سيما ذوي الأعذار منهم.
6- أسقط الله تبارك وتعالى المؤاخذة على من أخذ بالرخصة مع قيام الحرمة أو الوجوب، أو قيام السبب المحرم أو الموجب، فالأخذ بالرخص وتتبعها للتسهيل على الناس، لاسيما في أيامنا هذه، وقد خف فهم الناس للقواعد والأصول، وتأثروا بالثقافات الأجنبية فمالوا إلى التخفف من أحكام الشرع، وأصبحوا يعتمدون على العقل في الحكم على الأشياء، فإجراء أعمالهم على مقتضى الاجتهادات والأحكام الشرعية المخففة أولى.
7- أجاز الفقهاء الاتباع للعالم (وهو التقليد عن دليل) وأجازوا التقليد للعامي، والعامي يعرف الحكم بسؤال العلماء ولا يعرف الدليل، ويأخذ برأي مفتيه ويعمل به، وقد يتعدد المفتون في الموضوع الواحد، وقد يفتي بما هو رخصة في كل مذهب ولا ضير عليه، شريطة ما ذكرنا من عدم ارتكاب ما هو مشهور بالتحريم.
8 – أجاز الكمال بن الهمام تتبع الرخص وهي جزئيات المسائل لا أجزاؤها (1) ، واعتمد في إجازته ذلك على أنه لم يرد أي نص من أي مجتهد على منع ذلك، والكمال بن الهمام من أهل الترجيح بل قد بلغ رتبة الاجتهاد، وهو أدرى بمذاهب المجتهدين، ولو كان هناك نص في مذهب أبي حنيفة لنسبه إليه، ويبعد كل البعد أن يكون كذلك ويجهله (2) ، وقد جاء في كتاب التحرير: "ولا يمنع منه مانع شرعي بأن كان في غير ما عمل به، إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان إليه سبيل، إن لم يكن عمل بآخر فيه، وكان عليه السلام يحب ما خفف عليهم " (3) ، وقال في فتح القدير " وأخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه، لا أدري ما يمنعه من العقل والنقل " (4) .
__________
(1) اعترض الشرنبلالي من علماء الحنفية على تخصيص الرخص بجزيئات المسائل لا بأجزائها بأنه تخصيص من غير مخصص، إذ الرخصة السهولة، وهي تكون في جزئيات المسائل كالوضوء لقلة فروضه عند أبي حنيفة، وتكون في أجزائها أي متعلقاتها كعدم نقض الوضوء بالدم عند الشافعي وباللمس عند أبي حنيفة.
(2) القول السديد في أحكام التقليد للشيخ منيب هاشم مفتي نابلس ص 25.
(3) التحبير للكمال بن الهمام 3 / 351.
(4) فتح القدير 6 / 361.(8/254)
9- ما نقل عن ابن عبد البر أنه لا يجوز تتبع الرخص إجماعًا، غير مسلم به، إذ شك العلماء في صحة ما نقل عنه، كما لم يسلم له بصحة الإجماع (1) وقد سبق أن ذكرنا أن للإمام أحمد روايتين في الموضوع، ولسنا مع ما ذهب إليه الروياني من أن شرط التقليد أن لا يتتبع الرخص إذا كان المقصود بها اتباع ما فيه سهولة على المكلف لا في مسائل القضاء.
وأما التلفيق فإني أرى جوازه اتباعًا لمن قال به من العلماء للأسباب التالية:
1- لم يثبت نص في منع التلفيق من أحد المجتهدين أو أهل التخريج.
2- الذين منعوا التلفيق هم عدد من العلماء المتأخرين، ولم يوافقهم على ذلك عدد آخر من العلماء كشيخ الإسلام أبو السعود، والكمال بن الهمام، وصاحب تنقيح الحامدية، وابن نجيم الذي جزم في رسالته في بيع الوقف بجواز التلفيق، ويشترط فيه ما اشترط في تتبع الرخص، أن لا يرتكب ما اشتهر بحرمته عند جمهور العلماء أو ما هو باطل في جميع المذاهب إذا ترك كل تقييدات وشروط المذاهب كلها.
وأختم بحثي بقول صاحب (القول السديد في أحكام التقليد) بعد أن استعرض أقوال المخالفين وأدلتهم: " وحيث لم يقم للمخالف على التقليد بعدم التلفيق استدلال، فاتق الله في تحريم ما دل إطلاق الدليل على أنه حلال، وكن ممن يعرف الرجال بالحق لا ممن يعرف الحق بالرجال، فماذا بعد الحق إلا الضلال " (2) .
وهذا هو الأوفق الأيسر في زمننا هذا، من جواز تتبع الرخص، وجواز التلفيق.
والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين.
أ. د. عبد العزيز عزت الخياط
__________
(1) التحبير للكمال بن الهمام 3 / 351.
(2) القول السديد في أحكام التقليد ص 25.(8/255)
الرخصة
إعداد
الشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد
المفتي الشرعي بدائرة القضاء الشرعي – أبو ظبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين القائل: ((إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا)) (1) . صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فإن الله عز وجل قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا..)) (2) وقال صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) (3) .
ومن هذا المنطلق شرعت الرخصة التي هي موضوع بحثنا وعنوانه الأخذ بالرخصة وحكمه.
ويتضمن هذا البحث النقاط الآتية:
1- تعريف الرخصة لغة واصطلاحًا، مع تعريف العزيمة التي هي في مقابلها.
2- أنواع الرخص عند الأصوليين مع بيان فقهي بالأمثلة لكل نوع منها.
3- ضوابط الأخذ بالرخص.
4- تتبع الرخص ورأي الفقهاء والأصوليين فيه.
5- التلفيق بين المذاهب ورأي الفقهاء والأصوليين فيه.
6- خاتمة البحث وتتضمن ملخصًا وجيزًا للبحث، وذكر ما هو المرجح عند الفقهاء والأصوليين في تتبع الرخص والتلفيق وما هو أحق بالاتباع.
__________
(1) أخرجه مسلم في حديث طويل لجابر، صحيح مسلم 2 / 1105.
(2) صحيح البخاري 1 / 23.
(3) أخرجه الإمام أحمد عن ابن أمامة؛ المسند 5 / 266.(8/256)
أولاً: تعريف الرخصة:
الرخصة في اللغة تطلق على معان منها أنها ضد الغلاء، ومنها النعومة والتسهيل، قال في تاج العروس: (الرخص – بالضم – ضد الغلاء وقد رخص السعر ككرم رخصًا: انحط) قال: (والرخص – بالفتح – الشيء الناعم اللين.
وقال عن ابن دريد: امرأة رخصة البدن إذا كانت ناعمة الجسم، وأصابع رخصة غير كزة، وقال الليث: إن وصفت بها المرأة فرخاصتها نعومة بشرتها ورقتها، وكذلك رخاصة أناملها) .
قلت: ومن هذا القبيل قول النابغة الذبياني:
بمخضب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد
والرخصة بضمة وبضمتين: ترخيص الله للعبد فيما خففه عليه، وهو التسهيل وهو مجاز ومنه: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تترك معصيته)) (1) والجمع رخص.
ثم قال: وأرخصه الله فهو رخيص جعله رخيصًا قال الشاعر:
نغالي اللحم للأضياف نيئًا ونرخصه إذا نضج القدور (2)
أما تعريف الرخصة شرعًا فهي أنها: (عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه، مع قيام السبب المحرم) قاله في المستصفى (3) .
وقال في الموافقات: (وأما الرخصة فما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه، فكونه مشروعًا لعذر هو الخاصة التي ذكرها الأصوليون) (4) .
مثال ذلك ما أبيح للمضطر من تناول الميتة، وما أبيح للمسافر والمريض من الفطر في رمضان، وما أبيح للمريض من التيمم.
__________
(1) حديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه) أخرجه أحمد عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) ورجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني في الأوسط والبزار بإسناد حسن؛ قاله في مجمع الزوائد 3 / 162.
(2) تاج العروس للزبيدي مادة (رخص) .
(3) المستصفى للغزالي 1 / 98.
(4) الموافقات للشاطبي 1 / 301 – 302.(8/257)
ولا يسمى ما لم يوجبه الله علينا رخصة، وإن كان فيه سعة كعدم وجوب صوم شوال وصلاة الضحى، كما أن ما أباحه الله أصلاً من الأكل والشرب وغيرهما من المباحات، لا يسمى رخصة (1) .
ومقابل الرخصة العزيمة، قال في مراقي السعود:
للعذروالرخصة حكم غيرا إلى سهولة لعذر قررا
مع قيام علة الأصلي وغيرها عزيمة النبي (2)
والعزيمة في اللغة: القصد المؤكد (3) ، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] وقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] وقوله عز وجل: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] .
وفي اصطلاح الأصوليين: هي الحكم الثابت على وجه ليس مخالفًا لدليل شرعي (4) . وبعبارة أخرى: هي ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء، ومعنى كونها كلية أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون بعض كالصلاة مثلاً، فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم في كل شخص وفي كل حال، وكذلك الصوم والزكاة والحج والجهاد، وسائر شعائر الإسلام الكلية (5) .
ومعنى كونها مشروعة على الإطلاق أنها شرعت ابتداء، وأن قصد الشارع إنشاء الأحكام التكليفية بها على العباد من أول الأمر دون حكم شرعي سابق مخالف غير منسوخ، فإن سبقها حكم شرعي ثم نسخ كان الناسخ كالحكم الابتدائي.
وعليه فإن أحكام الشريعة منقسمة إلى قسمين: عزائم وهي الأصل، ورخص وهي التي شرعت للتيسير ورفع المشقة عن المكلفين، قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .
__________
(1) المستصفى 1 / 98 نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر 1 / 173.
(2) نشر البنود على مراقي السعود 1 / 55 – 57.
(3) المصباح المنير مادة (عزم) .
(4) المستصفى 1 / 98.
(5) الموافقات 1 / 300.(8/258)
وهكذا فإن الله عز وجل رفع الحرج عن هذه الأمة، وجعل المشقة تجلب التيسير، وهذا من القواعد التي بني عليها الفقه، قال العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي في " مراقي السعود ":
قد أسس الفقه على رفع الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر (1)
قال في نشر البنود: (قد أسس الفقه، أي بنيت مسائله على أربعة أصول أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (2) .
والقاعدة الثانية أن المشقة تجلب التيسير، وهو المراد بالوطر لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
ومن مسائلها الأخذ بالأخف والرخص كجواز القصر والجمع والفطر في السفر (3) .
والمشقة التي تجلب التيسير هي المشقة الخارجة عن المعتاد وهي التي من شأنها أن تؤدي إلى خلل في جسم المكلف أو عقله أوتؤدي إلى ما لا يحمد عقباه في المستقبل (4) .
وقد نص الشارع على الترخيص فيها مثل قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ومثل ترك الجماعة في المطر، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: ألا صلوا في الرحال)) .
__________
(1) نشر البنود على مراقي السعود 2 / 270.
(2) حديث (لا ضرر ولا ضرار) أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً عن يحيى المازني – الموطأ 2 / 745 – وقد وصله أحمد عن ابن عباس – فيض القدير شرح الجامع الصغير 6 / 431. ووصله ابن ماجه عن عبادة – سنن ابن ماجه 2 / 784. ووصله الحاكم عن أبي سعيد وصححه – المستدرك 2 / 57.
(3) نشر البنود على مراقي السعود 2 / 270.
(4) الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي 2 / 134 – 135.(8/259)
وترجم له البخاري بباب الرخصة في المطر (1) .
أما المشقة المعتادة فلا تجلب التيسير لأنه لا يخلو عمل مطلوب منها، ولذلك لا تمنع التكليف، فتناول الطهارة في البرد والصلاة في الجماعة وقت الفجر في شدة البرد، والصيام في فصل الحر، كل هذه أعمال لها مشقة لكنها مشقة معتادة لا تجلب التيسير، ولا تستوجب الترخيص (2) .
وفي ذلك يقول الشيخ محمد العاقب بن مايابى الشنقيطي في نظمه لنوازل سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي:
وألغيت خفيفة كبرد ماء الطهارة أوان البرد
ثانيًا: أقسام الرخصة:
للرخصة مجالات مختلفة قسمها الأصوليون باعتبارها، ومن أهم تلك التقسيمات تقسيمها باعتبار حكمها الشرعي وهي بهذا الاعتبار أربعة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومباحة، وخلاف الأولى؛ وهذا التقسيم للشافعية ذكره الجلال المحلي في شرحه لجمع الجوامع لابن السبكي (3) ، ونقله أبو إسحاق الشاطبي عن العلماء، وإن كان غير مرتض له، فقال: (إن العلماء قد نصوا على رخص مأمور بها، فالمضطر إذا خاف الهلاك وجب عليه تناول الميتة وغيرها من المحرمات الغاذية، ونصوا على طلب الجمع بعرفة والمزدلفة، وأنه سنة، وقيل في قصر المسافر، وإنه فرض أو سنة أو مستحب، وفي الحديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه)) .
وقال ربنا تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] إلى كثير من ذلك، فلم يصح إطلاق القول بأن حكم الرخص الإباحة دون التفصيل (4) فالشاطبي نقل هذا الكلام ليرد عليه، لأنه يرى أن حكم الرخصة الإباحة مطلقًا، وإن ما لم يكن حكمه الإباحة فهو عزيمة (5) .
وأشار ابن عاصم في " مرتقى الوصول إلى معرفة علم الأصول " في كلامه على الرخصة إلى التقسيم الذي ذكره الجلال المحلي فقال:
وأصلها الجواز وهي تنتهي للندب والوجوب والأخذ به (6)
وقال الحطاب في حاشيته: (وكون الرخصة تنتهي للوجوب هو ما عليه المحققون كابن الحاجب وغيره من المتأخرين في تقسيمهم إياها للواجب والمندوب والمباح، زاد بعضهم، وخلاف الأولى) (7) .
وحديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه..)) ورد بطرق مختلفة إحداها تقدم تخريجها عن الإمام أحمد والطبراني في الأوسط والبزار، وله طريقة أخرى باللفظ الآتي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) . أخرجه البطراني في الكبير والبزار، ورجالهم ثقات، قاله في مجمع الزوائد (8) . أما باقي طرقه فلا نذكرها لضعفها (9) .
وهذه أقسام الرخص نوردها بالتفصيل مع ذكر مذاهب الأئمة حولها.
__________
(1) صحيح البخاري 1 / 137 وصحيح مسلم 1 / 484.
(2) الموافقات للشاطبي 2 / 156.
(3) حاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع 1 / 162.
(4) الموافقات للشاطبي 1 / 310 – 312.
(5) الموافقات للشاطبي 1 / 310 – 312
(6) نيل السول على مرتقى الوصول للشيخ محمد يحيى الولاتي الشنقيطي ص 93.
(7) مواهب الجليل لحطاب 1 / 325 – 326.
(8) مجمع الزوائد 3 / 162.
(9) مجمع الزوائد 3 / 162.(8/260)
القسم الأول:
الرخص الواجبة: وهي التي شرعت للضرورة الشديدة التي تهدد حياة المسلم مثل أكل الميتة والدم ولحم الخنزير – لمضطر يهدد الجوع حياته. فقد شرع الله له ذلك لقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] .
واتفق الأئمة الأربعة في مشهور مذاهبهم على وجوب أكل المضطر للميتة والدم ولحم الخنزير إن خشي الهلاك علمًا أو ظنًّا، ذكر ذلك أبو بكر الجصاص والكيا الهراسي – في أحكام القرآن، والقرطبي في تفسيره (1) .
كما ذكره الحطاب في حاشيته، والنووي في شرح المهذب (2) ، والمرداوي في الإنصاف (3) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه (4) ، والحجة في ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] وقوله عز وجل: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
القسم الثاني:
من أنواع الرخص: رخص مندوبة وتشمل ما كان سنة وما كان الأخذ به أفضل من غيره، كالقصر في السفر الذي لا تقل مسافته عن أربعة برد، أي حوالي (80) كم، وهذا هو قول الجمهور (5) ، وقال الحنفية: لا تقل مسافته عن ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام (6) .
وقال ابن حزم: كل ما يسمى سفرًا تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه الصائم، وهذا القول ذكر العلامة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي أنه أقوى دليلاً (7) ، ولا عبرة بعدم وجود مشقة في السفر لأن القصر في السفر صدقة تصدق الله بها على عباده، كما في حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) أخرجه مسلم (8) . إلا أن الصوم في السفر أفضل لمن لا يشق عليه الصوم – كما سيأتي في القسم الرابع من أقسام الرخص – أما من يشق عليه الصوم فالفطر أفضل له لحديث: ((ليس من البر الصوم في السفر)) أخرجه الشيخان عن جابر مرفوعًا (9) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 28، وأحكام القرآن للكيا الهراسي 1 / 42، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 232.
(2) مواهب الجليل 3 / 232 – 233، والمجموع للنوي 9 / 39 – 40.
(3) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 10 / 370.
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 21 / 81.
(5) مختصر خليل ص 19، والمجموع للنووي 4 / 325، والمغني 2 / 255.
(6) الهداية 1 / 80.
(7) المحلى 5 / 2، وأضواء البيان 1 / 470.
(8) صحيح مسلم 1 / 478.
(9) صحيح البخاري 2 / 687، وصحيح مسلم 2 / 786.(8/261)
ومن الرخص التي يندب الأخذ بها: فطر المريض الذي يخاف زيادة المرض أو تماديه، فيندب له الفطر إذا لم يخش الهلاك، وإلا وجب عليه، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] قال القرطبي: (للمريض حالتان: إحداهما ألا يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجبًا، الثانية أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل) (1) .
القسم الثالث:
من أقسام الرخص رخص مباحة، وهي التي تطلق على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا، من غير اعتبار بكونه لعذر شاق. قال الشاطبي: (فيدخل فيه القرض والقراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام في مسألة المصراة، وبيع العرية برخصها تمرًا، وضرب الدية على العاقلة، وما أشبه ذلك.. وعليه يدل قوله: ((نهى عن بيع ما ليس عندك، ورخص في السلم)) ، وكل هذا مستند إلى أصل الحاجيات) (2) . لأن الحاجة إذا عمت تنزلت منزلة الضرورة، والضرورات تبيح المحظورات.
وقوله: (ويدل عليه قوله: ((نهى عن بيع ما ليس عندك)) يشير به إلى ما أخرجه أصحاب السنن عن حكيم بن حزام قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي أفأبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ فقال: " لا تبع ما ليس عندك ".)) (3) . قال الخطابي: (قوله: لا تبع ما ليس عندك، يريد بيع الدين دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال) (4) .
ومن الرخص الجائزة: المسح على الخفين في الحضر والسفر، فلا خلاف عند جميع الأئمة في جوازه لوروده في الموطأ والصحيحين (5) . ولأنه رواه سبعون صحابيا (6) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 276.
(2) الموافقات في أصول الشريعة 1 / 303 – 304.
(3) سنن أبي داود 3 / 768، وعارضة الأحوذي على جامع الترمذي 5 / 341، وسنن النسائي بشرح السيوطي 7 / 289، وسنن ابن ماجة 2 / 737.
(4) معالم السنن 3 / 140.
(5) الموطأ 1 / 36، وصحيح البخاري 1 / 151، وصحيح مسلم 1 / 151.
(6) إكمال إكمال المعلم 2 / 47.(8/262)
القسم الرابع:
من أقسام الرخص رخص على خلاف الأولى. من ذلك التلفظ بالكفر لمن أكره عليه وقلبه مطمئن بالإيمان، فيجوز له التلفظ بالكفر إذا خشي الهلاك، لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .. هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، أخذه المشركون فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف تجد نفسك؟)) قال: مطمئن بالإيمان. قال: ((إن عادوا فعد)) . أخرجه ابن جرير في تفسيره، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين (1) . هذا دليل الترخيص في الكفر، إلا أن من صبر على البلاء حتى قتل كان ذلك أولى وأعظم أجرًا.. ذكر ذلك الجصاص وابن العربي (2) وحكى القرطبي عليه الإجماع (3) .
ومن الرخص التي هي خلاف الأولى:
فطر المسافر في رمضان حيث كان الصوم لا يشق عليه، وهذا رأي الجمهور (4) . لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 148] . وقال أحمد: إن الفطر أفضل مطلقًا قوي على الصوم أم لا (5) . واستدل بحديث جابر الآنف الذكر ((ليس من البر الصوم في السفر)) لكن هذا الحديث ورد في شأن رجل أجهده الصوم حتى أضر به، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر ((ليس من البر الصوم في السفر)) .
قال في الفتح: أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس من البر الصوم السفر)) ما ذكر من المشقة.
قال: (والحاصل أن الصوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل، وأن من لم يتحقق المشقة خير بين الصوم والفطر) (6) . اهـ.
__________
(1) جامع البيان في تفسير القرآن 14 / 122، المستدرك 2 / 357.
(2) أحكام القرآن للجصاص 3 / 192، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1179.
(3) الجامع لأحكام القرآن 10 / 188.
(4) اللباب شرح الكتاب 1 / 169، ومواهب الجليل 2 / 401، وفتح الباري 4/ 159.
(5) المغني 3 / 150.
(6) فتح الباري 4 / 159.(8/263)
وقد قسمت الرخص أيضا على أساس اعتبار الحقيقة والمجاز، وهذا التقسيم للحنفية (1) وهي بهذا الاعتبار على قسمين:
رخص حقيقية، ورخص مجازية.
فالرخص الحقيقية هي التي تقع في مقابلة عزائم ما يزال العمل بها جاريًا لقيام دليلها، وهي على نوعين:
- نوع أباحه الشرع مع قيام السبب المحرم، وهو أعلى درجات الرخص، مثاله النطق بكلمة الكفر لمن أكره عليها، فقد رخص لمن أكره على الكفر وخاف على نفسه الهلاك أن يتلفظ بكلمة الكفر عندما يكون قلبه مطمئنًا بالإيمان.
ومع ذلك فله أن يرفض ذلك ويصبر حتى يقتل شهيدًا، بل إن الصبر أفضل له، وقد ذكرنا ذلك سابقًا وأتينا بكلام العلماء حوله.
ومن هذا النوع أكل الميتة لمضطر يخشى الهلاك، فإن الشارع قد رخص له في أكلها وقد ذكرنا سابقًا أن مشهور مذاهب الأئمة أنه إذا خشي التلف وجب عليه أكلها لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]
النوع الثاني من القسم الأول هو ما رخص فيه مع قيام السبب المحرم إلا أن الحكم فيه على التراخي كالفطر في رمضان للمسافر فإن السبب المحرم للإفطار هو رمضان وهو قائم بذاته إلا أن المسافر مشروع له التراخي في أداء هذا الفرض لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] .
وعليه فإنه من حيث إن السبب الموجب للصوم قائم كانت الرخصة حقيقية، ومن حيث إن الحكم متراخ غير لازم في الحال كان هذا النوع دون النوع الأول (2) .
القسم الثاني من هذا التقسيم هو الرخص المجازية وتسمى أيضا برخص الإسقاط وهي نوعان:
أ- نوع أسقطه الله عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كالإصر والأغلال التي على أمم قبلنا، مثل قتل النفس لصحة التوبة فمن ارتد عن دينه لم يكن له من توبة إلا قتل نفسه.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ومن الإصر والأغلال أي الأثقال والمشاق التي كانت على من قبلنا – أن النجاسة إذا أصابت ثوبًا أو جسدًا قطع محلها من ذلك الثوب أو الجسد. كما أن مجالسة الحائض ومواكلتها ومضاجعتها كانت ممنوعة، وكانوا إذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها (3) ، لأن الغنائم لم تحل لأحد قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح البخاري من حديث جابر مرفوعًا: ((وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)) (4) .
__________
(1) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام للبزدوي 2 / 315 – 321.
(2) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام للبزدوي 2 / 315 – 321.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 300.
(4) صحيح البخاري 1 / 128.(8/264)
ولم تكن الدية فيمن قبلنا وإنما كان فيهم القصاص فقط (1) .
ب- النوع الثاني هو ما شرع للأمة من المعاملات التي الأصل فيها المنع، كالسلم والقراض والمساقاة وبيع العرايا وهو ما تكلمنا عنه آنفًا تحت عنوان الرخص المباحة.
فكما أن هذا النوع قد أدرج تحت الرخص المباحة من أجل حاجيات المجتمعات إليها – فإنه أيضا أدرج في عداد الرخص المجازية، فسميت عند الشافعية بالرخص المباحة، كما أسلفنا، وسميت عند الحنفية بالرخص المجازية (2) .
ثالثًا: ضوابط الأخذ بالرخصة:
الأخذ بالرخصة التي نص الشارع عليها – محبب كما تقدم في حديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (3) وقد وردت به أحاديث متعددة، منها حديث: ((عليكم برخصة الله الذي رخص لكم)) أخرجه مسلم عن جابر مرفوعًا (4) .
غير أن للأخذ بالرخصة ضوابط لابد من مراعاتها لكل من يريد الأخذ بها، ومن هذه الضوابط.
1 – وجود مشقة تؤدي إلى الانتقال من حكم العزيمة إلى الأخذ بالرخصة، وهذه المشقة تختلف من شخص إلى شخص، وقد ذكرنا سابقًا أن المشقة التي تستوجب الأخذ بالرخصة هي المشقة غير المعتادة.
أما المشقة المعتادة فإنها مقترنة مع التكاليف الشرعية لأن التكليف في حقيقته هو إلزام المكلف بما فيه كلفة ومشقة، قال في " مراقي السعود ":
وهو إلزام الذي يشق أو طلب فاه بكل خلق (5)
وذلك لأن مراد الشارع إخراج المكلف عن دائرة هواه بالانقياد إلى أوامر مولاه، وقال في مرتقى الوصول:
القصد بالتكليف صرف الخلق عن داعيات النفس نحو الحق (6)
لأن اتباع الهوى هو سبب الخسران والضلال، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 300.
(2) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام للبزدوي 2 / 315 – 316.
(3) تقدم تخريج هذا الحديث في الحاشية رقم (1) ص 368.
(4) صحيح مسلم 2 / 786.
(5) نشر البنود على مراقي السعود 1 / 25.
(6) نيل السول على مرتقى الوصول ص 112.(8/265)
وليس معنى هذا أن الشهوات كلها ممنوعة على المسلم، وإنما معناه أن لا يكون الإنسان متبعًا هواه في الشهوات.
أما أخذ الشهوة من حيث أبيحت فلا إثم فيه، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال فإن له أجرًا)) (1) .
فالضابط أن يكون الهوى تابعًا للشرع، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) (2) .
2- أن تكون الرخصة فيما أذن فيه شرعًا، مثال ذلك أن يكون السفر في غير معصية، كالسفر في الجهاد والحج وطلب العلم والتجارة في المباح، أما إذا كان السفر في معصية كالسفر لقطع الطريق، أو للتجارة بالمحرمات كالخمر ونحوها، فلا يؤخذ فيه بالرخصة عند الجمهور.
قال السيوطي: " الرخص لا تناط بالمعاصي ومن ثم لا يستبيح العاصي بسفره شيئًا من رخص السفر كالقصر والجمع والفطر " (3) مع أن في المسألة اختلافًا بين العلماء، قال العلامة سيدي عبد الله في " مراقي السعود ":
وهي في المأذون شرعًا توجد وغيره فيه لهم تردد
وذكر في نشر البنود أن الخلاف في أخذ العاصي بالترخيص سببه اختلاف المفسرين في قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] هل هو الأكل، أو السبب الموصل للاضطرار؟ (4) وممن قال من المالكية بأخذ العاصي بالرخصة: القرطبي وسند وابن عبد السلام وابن مرزوق، وهو المذهب عند الحنفية (5) .
وممن قال بعدم أخذ العاصي بالرخصة من المالكية ابن العربي وابن عبد السلام وخليل (6) وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة (7) .
3- أن يكون سبب الرخصة قطعيا أو ظنيا لا مشكوكًا فيه، لأن الشك لا تناط به الأحكام، أما الظن فقد أجريت عليه الأحكام مجرى القطع، قال الشيخ محمد الخضري بك: " فقد قام الدليل القطعي على أن الأدلة الظنية تجري في فروع الشريعة مجرى الأدلة القطعية متى ثبت أن غلبة الظن معتبرة فلتعتبر في الرخص" (8) .
__________
(1) صحيح مسلم 2 / 697 – 698.
(2) هذا الحديث هو 41 من الأربعين النووية، قال النووي: رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
(3) الأشباه والنظائر ص 260.
(4) نشر البنود على مراقي السعود 1 / 57.
(5) نشر البنود على مراقي السعود 1 / 57 وأحكام القرآن لابن العربي 1/ 58، والمجموع للنووي 4 / 343 – 344.
(6) نشر البنود 1 / 58، ومختصر خليل ص 20، 44.
(7) المجموع للنووي 4 / 343، والمغني 3 / 261 – 262.
(8) أصول الفقه للشيخ محمد الخضري بك ص 73.(8/266)
أما الشك فليس كذلك، قال السيوطي " الرخص لا تناط بالشك " قال: " ومن فروعها لزوم الغسل لمن شك في جواز المسح ووجوب الإتمام لمن شك في جواز القصر، وذلك في صور متعددة " (1) .
4- أن يكون سبب الرخصة واقعًا بالفعل لا متوقعًا، ومثلوا لذلك بامرأة عادتها أن تحيض في يوم معين فقالت في نفسها: غدًا يوم حيضتي فأصبحت مفطرة في رمضان قبل أن تحيض، وشخص عادته أن يحم في يوم معين فقال: غدًا هو اليوم الذي تصيبني فيه الحمى وأصبح مفطرًا قبل أن يحم (2) .
فهذان عملا بالرخصة قبل موجبها فعملهما مخالف للشرع؛ بل إن عليهما الكفارة في مشهور المذهب المالكي، ولو وقع لهما ما كانا يتوقعان. قال ابن القاسم في المدونة " ما رأيت مالكًا يجعل الكفارة في شيء من هذا الوجه على التأويل إلا امرأة قالت: غدًا أحيض فأفطرت أول النهار وحاضت آخره، والذي قال: اليوم أحم فأفطر ثم حم ". قال ابن يونس: " لأنهما تأولا أمرًا لم ينزل بهما بعد، وقد يكون ولا يكون، وأصلهم في هذا أن لا حكم له، قال ابن يونس الأقيس قول ابن عبد الحكم أنهما يعذران " نقله المواق عنهما (3) .
5- الاقتصار بالرخصة على مورد النص مع اختلاف العلماء في ذلك. قال القرافي: " يجوز القياس عند الشافعي على الرخص خلافًا لأبي حنيفة، وحكى المالكية عن مذهب مالك قولين في جواز القياس على الرخص. وخرجوا على القولين فروعًا كثيرة في المذهب، منها: لبس خف على خف، وغير ذلك " وذكر حجة المانعين والمجيزين للقياس عليها (4) .
والظاهر أن أصح الروايات عند أحمد أن الرخص لا يقاس عليها. ذكر ذلك ابن مفلح في كلامه على الرخصة في بيع العرايا قال: " واختاره الأكثر اقتصارًا على مورد النص" (5) .
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 264.
(2) أصول الفقه للشيخ محمد الخضري ص 73.
(3) التاج والإكليل للمواق 2 / 439.
(4) شرح تنقيح الفصول ص 415 – 416.
(5) المبدع في شرح المقنع 4 / 143.(8/267)
رابعًا: تتبع الرخص ورأي الفقهاء والأصوليين فيه:
تتبع الرخص هو أن يأخذ الإنسان من مذهب كل إمام ما هو الأسهل والأخف عليه من المسائل التي اجتهد فيها الأئمة. أما الرخص التي نص الشارع عليها والتي بينا أنواعها آنفًا – فلا حرج على من عمل بها باستمرار، إذ الآخذ بها لا يعتبر متتبعا للرخص، لأن الشارع رغب في الأخذ بها كما تقدم في حديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) .
وقبل أن نتكلم على رأي الفقهاء والأصوليين في تتبع الرخص نجد أمامنا سؤالاً يطرح نفسه: هل يجوز لمن التزم مذهبًا معينًا أن يخالفه ويعمل بغيره من المذاهب الأخرى؟
في المسألة خلاف: قيل: يجوز، وقيل: لا يجوز، قيل: إن كان قد عمل بالمسألة لم يجز أن يخالف ما عمل به فيها، وقيل: إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهب إمامه جاز، وقيل: إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض الحكم به لم يجز، وإلا جاز؛ واختاره ابن عبد السلام، ذكر ذلك الشوكاني (1) .
وذكر العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي أن الأصح في هذه المسألة التفصيل الآتي فقال:
وذو التزام مذهب هل ينتقل أو لا وتفصيل أصح ما نقل
ومن أجاز للخروج قيدا بأنه لابد أن يعتقدا
فضلاً له وأنه لم يبتدع بخلف الإجماع وإلا يمتنع
وعدم التقليد فيما لو حكم قاض به بالنقض حكمه يوم
ومعنى ذلك كما في الشرح أن العامي (2) يجوز له ذلك بثلاثة شروط:
أحدها: أنه لابد أن يعتقد فضل المنتقل إلى مذهبه ولو بوصول أخباره إليه، ولا يقلد في عماية.
الشرط الثاني: أن لا يبتدع المنتقل بمخالفة الإجماع، كأن يجمع بين مذهبين على وجه يخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بجوازها أحد.
الشرط الثالث: عدم تقليد المذهب المنتقل إليه فيما ينقض فيه حكم الحاكم، وهو أربعة جمعها قوله:
إذا قضى حاكم يومًا بأربعة فالحكم منتقض من بعد إبرام
خلاف نص (3) وإجماع (4) وقاعدة
كذا قياس جلي دون إيهام (5)
__________
(1) إرشاد الفحول للشوكاني ص 272.
(2) المراد العامي: المقلد، أي غير المجتهد.
(3) مثال مخالفة النص أن يحكم بتسوية الذكر والأنثى في الميراث، لأنه مخالف لقوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11] .
(4) مثال مخالفة الإجماع أن يحكم بالميراث كله للأخ دون الجد لأنهما إما أن يشتركا في الميراث أو يكون الميراث للجد كله، أما حرمان الجد فلم يقل به أحد.
(5) القياس الجلي هو ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، فقد يكون من باب أولى كقياس الضرب على التأفيف في قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [الإسراء: 23] ، وقد يكون مساويًا كقياس إتلاف مال اليتيم على أكله في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] .(8/268)
قال: (وفسر بعضهم تتبع الرخص بأن يأخذ من كل مذهب ما هو أسهل عليه، وإن كان لا ينقض فيه حكم الحاكم) – اهـ (1) .
وأصل هذا في شرح التنقيح للقرافي نقله عن الزناتي، وعقب عليه بما مفاده. أن الممنوع في تتبع الرخص هو التلفيق بين قولي إمامين فأكثر في مسألة واحدة بحيث تكون في صورة لا يقول بها أي أحد من الأئمة.
أما إذا اختار من أحد المذاهب ما فيه سهولة، كتقليد مالك في طهارة أبوال النعم، وتقليده في الاكتفاء بالمعاطاة في البيع دون التلفظ بكلمة البيع أو الشراء فلا يمنع ذلك (2) .
وقال ابن عابدين في حاشيته: (ليس على الإنسان التزام مذهب معين وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه، مقلدًا فيه غير إمامه مستجمعًا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في مسألتين منفصلتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض) (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أن جمهور الشافعية والحنابلة لا يوجبون على العامي أن يلتزم مذهبًا معينًا، قال: (والذين يوجبونه يقولون: إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزمًا له، أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام) (4) .
أما تتبع الرخص في المسائل الاجتهادية من غير ضرورة ملحة، فأكثر العلماء على منعه، قال الشيخ محمد أحمد عليش في فتاواه: (أما قولكم: والأخذ بالرخص مطلوب ودين الله يسر {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فجوابه أن ذلك في الرخص المعهودة العامة كالقصر في السفر الطويل والفطر فيه، والجمع في السفر وليلة المطر، والمسح على الخفين، وأشباه ذلك.
وأما تتبع أخف المذاهب وأوفقها لطبع الصائر إليها والذاهب فمما لا يجوز، فضلاً عن كونه محبوبًا مطلوبًا، قاله الرياشي وغيره. وقال ابن عبد البر في كتابه " بيان العلم ": عن سليمان التميمي أنه قال لخالد بن الحارث: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله، قال أبو عمر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا. ونقل ابن حزم أيضا الإجماع على أن تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل فسق لا يحل) اهـ (5) .
وقال المحلي في شرحه لجمع الجوامع: (والأصح أنه يمنع تتبع الرخص في المذاهب بأن يأخذ من كل منها ما هو الأهون فيما يقع من المسائل، وخالف أبو إسحاق المروزي فجوز ذلك) (6) .
__________
(1) نشر البنود على مراقي السعود 2 / 348 – 350.
(2) شرح تنقيح الفصول ص 432 – 433.
(3) رد المحتار على الدر المختار: حاشية ابن عابدين 1 / 75.
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 20 / 222.
(5) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك 1 / 77.
(6) حاشية العطار على شرح جمع الجوامع 2 / 441.(8/269)
ونقل من حاشية الشيخ حسن العطار عن الشرنبلالي الحنفي عن السيد بادشاه في شرح التجريد: " يجوز اتباع رخص المذاهب ولا يمنع منه مانع شرعي، إذ للإنسان أن يسلك المسالك الأخف عليه إن كان له إليه سبيل بأن لم يكن عمل بقول آخر مخالف لذلك الأخف " (1) .
كما نقل عن الشافعية ما قاله ابن عبد السلام في فتاواه وهو أن ما حكاه بعضهم عن ابن حزم من حكاية الإجماع على منع تتبع الرخص من المذاهب، لعله محمول على من يتتبعها من غير تقليد لمن قال بها أو على الرخص المركبة في الفعل الواحد. ثم قال العطار: " فيؤخذ مما ذكرناه جواز التقليد وجواز تتبع الرخص لا على الإطلاق " قال: " بحيث لا يقع تتبع الرخص في التلفيق بين مذهبين في مسألة واحدة " (2) وهذا الكلام يتفق مع ما تقدم عن القرافي أن الممنوع من تتبع الرخص هو ما كان فيه تلفيق بين مذهبين فأكثر في مسألة واحدة.
فتبين من هذا أن تتبع الرخص فيه خلاف في المنع والجواز وأن المنع هو رأي الجمهور.
وكما أن تتبع الرخص منهي عنه في حق من يعمل به فإنه منهي عنه في حق من يحكم أن يفتي به، وقد ينشأ ذلك من التساهل في الحكم والفتوى، وربما يقع ذلك رغبة في نفع قريب أو مسؤول.
قال ابن القيم: " لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق، وحرم استفتاؤه، فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي من حرج جاز، بل استحب، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا فيضرب به المرأة ضربة واحدة ".
ثم قال: " وأحسن المخارج ما خلص من المأثم: وأقبح الحيل ما وقع في المحارم أو أسقط ما أوجب الله ورسوله من الحق اللازم " (3) .
وقال القرافي " إذا كان في المسألة قولان: أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تسهيل فلا يفتى للعامة بالتشديد، وللخواص بالتسهيل، وذلك قريب من الفسوق والخيانة، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى والحاكم كالمفتي في ذلك " نقله الحطاب (4) .
ومثله في كتاب " أدب المفتي والمستفتي " لأبي عمرو بن الصلاح. نقله ابن فرحون (5) .
__________
(1) حاشية العطار على شرح جمع الجوامع 2 / 441 – 442.
(2) حاشية العطار على شرح جمع الجوامع 2 / 441 – 442.
(3) إعلام الموقعين 4 / 222.
(4) مواهب الجليل 1 / 32.
(5) تبصرة الحكام 1 / 51.(8/270)
خامسًا: التلفيق:
أ – معنى التلفيق:
التلفيق هو الجمع بين تقليد إمامين فأكثر في مسألة واحدة بحيث تكون هذه المسألة في صورة لا تقبل في أي مذهب من المذاهب (1) .
مثال ذلك رجل توضأ فمسح أقل من ربع رأسه مقلدًا الشافعي، ثم لمس زوجة أو أجنبية مقلدًا أبا حنيفة في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة وصلى فإن صلاته على هذه الحالة لا يقبلها كل من الأئمة، فلا يقبلها أبو حنيفة لعدم مسح ربع الرأس ولا يقبلها الشافعي لأن لمس الزوجة أو الأجنبية ينقض الوضوء عنده مطلقًا، ولا يقبلها مالك ولا أحمد لعدم مسح الرأس كله.
ومثل ذلك أن يقلد مالكًا في عدم نقض الوضوء بالقهقهة ويقلد أبا حنيفة في عدم النقض بمس الذكر ثم يصلي فهذه الصلاة لا تصح عند أبي حنيفة لأن القهقهة تنقض الوضوء عنده، كما أنها لا تصح عند مالك، ولا تصح عند الشافعي وأحمد لأن مس الذكر ينقض الوضوء عندهم.
ومثال التلفيق في غير العبادات أن يطلق رجل زوجته ثلاث تطليقات مكرهًا على طلاقها – فيفتيه حنفي بلزوم طلاق المكره، ثم يتزوج أختها بعد انقضاء عدتها، ثم يفتيه شافعي بعدم مضي طلاق المكره، فيحرم عليه أن يطأ الأولى مقلدًا للشافعي ويطأ الثانية مقلدًا لأبي حنيفة.
أي يحرم عليه أن يجمع بينهما، أما إذا أعرض عن الثانية فإن له وطء الأولى تقليدًا للشافعي (2) .
ب – حكم التلفيق:
التلفيق منعه أكثر الفقهاء، وأجازه بعضهم ففي المذهب الحنفي قال في الدر المختار: " وحاصل ما ذكره الشيخ قاسم في تصحيحه أنه لا فرق بين المفتي والقاضي إلا أن المفتي مخبر عن الحكم والقاضي ملزم به، وأن الحكم بالقول المرجوح جهل وخرق للإجماع وأن الحكم الملفق باطل بالإجماع. قال ابن عابدين في حاشيته: " مثاله متوضئ سال من بدنه دم ولمس امرأة " فإن هذه الصلاة ملفقة من مذهب الشافعي والحنفي والتلفيق باطل وصحته منتفية " اهـ (3) .
وللمالكية طريقتان في التلفيق في العبادة الواحدة؛ إحداهما تمنعه وهي طريقة المصريين، والأخرى تجيزه وهي طريقة المغاربة ورجحت. هذا ما نقله الدسوقي عن شيخه العدوي (4) .
ونقل محمد سعيد الباني في عمدة التحقيق أن المعتمد عند الشافعية والحنفية والحنابلة عدم جواز التلفيق، لا في العبادة ولا في غيرها، وأن القول بجوازه ضعيف جدًّا، حتى حكى ابن حجر وغيره أنه خلاف الإجماع، قال: " وأراد بالإجماع اتفاق الأكثر " (5) .
__________
(1) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق لمحمد سعيد الباني ص 91 – 92.
(2) نهاية المحتاج وحاشية أحمد بن عبد الرزاق المعروف بالمغربي الرشيدي 1 / 47 – 48، وعمدة التحقيق في التقليد والتلفيق لمحمد سعيد الباني ص 92.
(3) رد المحتار على الدر المختار: حاشية ابن عابدين 1 / 74 – 75.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 20.
(5) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ص 110.(8/271)
سادسًا: خاتمة البحث:
وتتضمن ملخصًا وجيزًا لنقاط البحث وذكر ما هو المرجح عند العلماء في تتبع الرخص والتلفيق.
أ – تعريف الرخصة:
الرخصة شرعًا عبارة عما وسع في فعله لعذر مع قيام السبب المحرم والاقتصار على مواضع الحاجة.
ومقابل الرخصة العزيمة وهي الحكم الثابت على وجه ليس مخالفًا لدليل شرعي.
ب – أنواع الرخصة باعتبار حكمها الشرعي أربعة:
وهذا التقسيم هو الذي تبنته الشافعية.
رخص واجبة: وهي التي شرعت للضرورة الشديدة كوجوب أكل الميتة والدم لجائع خشي الهلاك.
رخص مندوبة: أو سنة أو هي أفضل من غيرها مثل القصر في السفر وفطر المريض والمسافر في رمضان إذا كان الصوم يشق عليه.
رخص مباحة: وهي التي تطلق على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع لحاجة المجتمعات إليها كالقرض والقراض والمضاربة والسلم وبيع العرايا.
رخص على خلاف الأولى: كالتلفظ بكلمة الكفر لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فالتلفظ بالكفر في هذه الحالة جائز ولكن الصبر على البلاء أفضل. ومن هذا النوع فطر المسافر في رمضان إذا كان الصوم لا يشق عليه فالصوم أفضل له عند الجمهور.
وهناك تقسيم آخر تبنته الحنيفة وهو قسمان:
رخص حقيقية: وهي التي تقع في مقابلة عزائم ما يزال العمل بها جاريًا لقيام دليلها. مثل النطق بالكفر للمكره عليه، وأكل الميتة لمضطر يخشى الهلاك.
وهذا النوع من هذا القسم أعلى درجات الرخصة.
والنوع الثاني من هذا القسم هو فطر المسافر في رمضان، فمن حيث إن السبب الموجب للصوم وهو رمضان – قائم كانت الرخصة حقيقية، ومن حيث إن الأمر على التراخي كانت الرخصة دون النوع الأول.
رخص مجازية: وتسمى أيضا برخص الإسقاط، وهي أيضا نوعان:
نوع أسقطه الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا من قتل النفس للتوبة وقطع محل النجاسة من الثوب والجسد ونحو ذلك.
والنوع الثاني من هذا التقسيم هو ما شرع للأمة من المعاملات التي الأصل فيها المنع كالقرض والسلم وغيرهما مما تقدم ذكره.(8/272)
ج – ضوابط الأخذ بالرخصة:
- وجود مشقة تؤدي إلى الانتقال من حكم العزيمة إلى الأخذ بالرخصة وهي المشقة غير المعتادة، أما المشقة المعتادة فمقترنة بالتكليف.
- أن تكون الرخصة فيما أذن فيه شرعًا، لأن الرخص لا تناط بالمعاصي ولذلك فإن العاصي بسفره لا يأخذ بالرخصة عند الجمهور.
- أن يكون سبب الرخصة قطعيًا أو ظنيًا، لا مشكوكًا فيه، لأن الرخص لا تناط بالشك فمن شك في جواز القصر وجب عليه الإتمام.
- أن يكون سبب الرخصة واقعًا بالفعل لا متوقعًا. فمن ترقب الحمى في يوم من رمضان لا يحل له الفطر قبل أن تصيبه الحمى.
- الاقتصار بالرخصة على مورد النص، فلا يقاس عليها عند الحنفية والحنابلة وهو أحد قولي المالكية.
- تتبع الرخص:
المنهي عنه هو الأخذ بأخف أقوال الأئمة وأسهلها من غير استناد لدليل شرعي، وهذا ممنوع عند أكثر العلماء وأجازه بعضهم إن سلم من التلفيق.
أما الرخص التي نص الشارع عليها. فلا يعد الآخذ بها متتبعًا للرخص لأن الله يحب الأخذ بها كما أسلفنا.
هـ – التلفيق:
هو الجمع بين تقليد إمامين فأكثر في مسألة واحدة، وأكثر الفقهاء على منعه، وللمالكية قول بجوازه في العبادة ورجح.
وعليه فإن الذي ترجح عندي من كلام العلماء الآنف الذكر في مختلف المذاهب أن الجمهور على منع تتبع الرخص والتلفيق، وأن تتبع الرخص دون تلفيق أخف من تتبعها بالتلفيق، لذلك أرى أن لا يعمل بالتلفيق إلا لضرورة.
ولا يعمل بتتبع الرخص الاجتهادية إلا فيما بين العبد وربه، ويكون ذلك في حالات نادرة.
أما الحقوق التي تكون بين العباد فلا يحكم فيها ولا يفتى بالتلفيق ولا بتتبع الرخص؛ بل يجب أن يكون الحكم والفتوى فيها بالراجح أو المشهور.
والله ولي التوفيق..
محمد الشيباني بن محمد بن أحمد(8/273)
مراجع البحث
أولاً: كتب التفسير مرتبة ترتيبًا زمنيا:
1- جامع البيان في تفسير القرآن: لابن جرير الطبري (ت 310 هـ) : الطبعة الأولى ببولاق 1323 هـ.
2- أحكام القرآن: للجصاص (ت 370 هـ) – دار الكتاب العربي – بيروت مصورة عن الطبعة الأولى سنة 1325 هـ.
3- أحكام القرآن: للكيا الهراسي (ت 504 هـ) – الطبعة الأولى 1403 هـ / 1983م – دار الكتب العلمية – بيروت.
4- أحكام القرآن: لأبي بكر بن العربي (ت 543 هـ) – تحقيق محمد علي البخاري – دار المعرفة – بيروت (بدون تاريخ) .
5- الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي (ت 671 هـ) الطبعة الثانية – دار الكتاب العربي – القاهرة 1386 هـ / 1966م.
6- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (ت 911 هـ) – دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 1411هـ.
7- أضواء البيان: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393هـ) عالم الكتب – بيروت (بدون تاريخ) .
ثانيًا: كتب الحديث:
1- الموطأ: للإمام مالك (ت 179 هـ) – (رواية يحيى الليثي) – دار إحياء الكتب العربية – مصر – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
2- الجامع الصحيح: للإمام البخاري (ت 256 هـ) – تحقيق: مصطفى ديب البغا – اليمامة للطباعة والنشر – دمشق – الطبعة الأولى 1401 هـ / 1981 م.
3- صحيح مسلم: للإمام مسلم بن الحجاج (ت 261 هـ) – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي – دار إحياء التراث العربي – بيروت.
4- سنن ابن ماجه: محمد بن يزيد القزويني (ت 373 هـ) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي – دار إحياء التراث العربي 1975 م.
5- سنن أبي داود: سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ) إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس – الطبعة الأولى 1388 هـ.
6- المسند: للإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) المكتب الإسلامي للطباعة والنشر – دار صادر – بيروت.
7- سنن النسائي بشرح السيوطي: أحمد بن شعيب النسائي (ت 303 هـ) – الطبعة الأولى 1930 م – دار إحياء التراث العربي – بيروت.
8- المستدرك: للحاكم النيسابوري (ت 405 هـ) – الطبعة الأولى 1406هـ / 1986م – دار المعرفة – بيروت.
9- السنن الكبرى: للبيهقي (ت 458 هـ) – الطبعة الأولى 1344هـ.
10- معالم السنن: حمد بن محمد الخطابي (ت 388 هـ) – الطبعة الأولى 1401هـ.
11- عارضة الأحوذي على صحيح الترمذي – أبو بكر بن العربي المالكي (ت 543 هـ) – دار العلم للجميع (بدون تاريخ) .
12- صحيح مسلم بشرح النووي – محيي الدين بن شرف النووي (ت 676 هـ) – الطبعة الثانية 1392 هـ / 1972 م – دار إحياء التراث العربي – بيروت.
13- صحيح مسلم مع شرحه المسمى: إكمال إكمال المعلم – محمد بن خلفة الأبي (ت 827 هـ) – دار الكتب العلمية – بيروت.(8/274)
14- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين الهيثمي (ت 807 هـ) – دار الكتاب العربي – بيروت.
15- فيض القدير شرح الجامع الصغير – عبد الرؤوف المناوي – دار المعرفة – بيروت.
16- بلوغ المرام من أدلة الأحكام – الحافظ: أحمد بن حجر العسقلاني – دار الكتب العلمية – بيروت.
17- فتح الباري شرح صحيح البخاري: لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) الطبعة الأولى ببولاق 1300 هـ.
18- تلخيص الحبير (تخريج أحاديث الرافعي الكبير) للحافظ ابن حجر – تحقيق عبد الله هاشم اليماني – المدينة المنورة 1384هـ.
19- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار – محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) – دار الجيل – بيروت.
20- زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم وشرحه فتح المنعم – الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي – دار إحياء التراث العربي – بيروت.
ثالثًا: كتب الأصول والقواعد:
1- المستصفى: أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) – بولاق – مصر 1322 هـ.
2- كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام: البزدوي (ت 730 هـ) طبعة جديدة بالأوفست سنة 1394 هـ.
3- شرح تنقيح الفصول – شهاب الدين القرافي (ت 684 هـ) – دار الفكر – بيروت – 1972 م.
4- حاشية العطار على جمع الجوامع لابن السبكي – دار الكتب العلمية – بيروت – بدون تاريخ.
5- الموافقات في أصول الشريعة- أبو إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ) – الطبعة الثانية 1395 هـ / 1975 م – دار المعرفة.
6- الأشباه والنظائر للسيوطي: تحقيق وتعليق البغدادي – الطبعة الأولى 1407هـ / 1987 م – بيروت.
7- إرشاد الفحول للشوكاني – دار المعرفة – بيروت 1399هـ – دار الكتاب العربي.
8- نشر البنود على مراقي السعود – الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي – مطبعة فضالة المحمدية (المغرب) .
9 – نيل السول على مرتقى الوصول – الشيخ محمد يحيى الولاتي الشنقيطي (ت 1330هـ) الطبعة الأولى بفاس 1327 هـ.
10- أصول الفقه – الشيخ محمد الخضري بك – الطبعة السادسة سنة 1389 هـ المكتبة التجارية الكبرى – مصر.
(أ) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق: محمد سعيد الباني – الطبعة الأولى – المكتب الإسلامي 1981م.
(ب) نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر: عبد القادر بدران – دار الكتب العلمية بيروت.(8/275)
رابعًا: كتب الفقه (مرتبة أبجديًّا) :
أ- الفقه الحنفي:
1- بدائع الصنائع: علاء الدين الكاساني – دار الكتاب العربي – بيروت 1402هـ.
2- رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) الطبعة الثانية 1346هـ – مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
3- اللباب في شرح الكتاب: عبد الغني الميداني – دار الحديث: حمص – بيروت.
4- الهداية: أبو الحسن المرغيناني – المكتبة الإسلامية – الطبعة الخيرة – مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
ب- الفقه المالكي:
1- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام: ابن فرحون المالكي – الطبعة الأولى بالمطبعة العامرة الشرفية بمصر المحمية 1301هـ.
2- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لأحمد الدردير: محمد عرفة الدسوقي – دار الفكر للطباعة والتوزيع.
3- فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك: عليش – دار الفكر – بيروت.
4- شرح الزرقاني وبهامشه حاشية البناني: عبد الباقي الزرقاني؛ محمد البناني – دار الفكر ببيروت.
5- مختصر خليل: خليل بن إسحاق – دار الفكر للطباعة والتوزيع – بيروت.
6- مواهب الجليل وبهامشه التاج والإكليل: محمد بن عبد الرحمن الحطاب، محمد بن يوسف المواق – الطبعة الثانية 1398 هـ / 1978 م – القاهرة.
ج – الفقه الشافعي:
1- المجموع شرح المهذب للنووي – دار الفكر – بيروت.
2- مغني المحتاج شرح المنهاج: محمد الخطيب الشربيني – دار التراث العربي بيروت.
3- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين محمد بن شهاب الرملي الشهير بالشافعي الصغير – شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – الطبعة الأخيرة 1386هـ.
د – الفقه الحنبلي:
1- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف لعلاء الدين المرداوي – دار إحياء التراث العربي – بيروت.
2- الروض المربع: منصور بن يونس البهوتي، تحقيق محمد عبد الرحمن عوض – دار إحياء التراث العربي.
3- المبدع في شرح المقنع: برهان الدين بن مفلح – الكتب الإسلامي 1394 هـ.
4- المغني لموفق الدين بن قدامة – مكتبة الرياض الحديثة.
5- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم – تصوير الطبعة الأولى 1398هـ.
6- إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم – دار الجيل – بيروت (بدون تاريخ) .
هـ – المذهب الظاهري:
1- المحلى لابن محمد بن حزم – منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت.(8/276)
الأخذ بالرخصة وحكمه
تتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيه
إعداد
فضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
لما كانت العزيمة والرخصة من الأحكام الشرعية كان من المناسب أن نتعرض بإيجاز لبيان الحكم الشرعي الذي عرفه علماء الأصول، بأنه: "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع ".
وإذا كان الحكم الشرعي وهو خطاب الشارع لم يكن خطاب غيره حكمًا شرعيا، لأن سلطة التشريع لمن بيده الخلق والأمر وحده، وتشريع غيره لا يعني إنشاء الحكم الشرعي، وإنما يعني الكشف عنه، ووضع القواعد التي تظهر حكم الله.
ومعنى تعلق خطاب الشارع بأفعال المكلفين، هو ارتباط كلامه سبحانه بهذه الأفعال على وجه يبين صفاتها، من ناحية أنها مطلوبة الفعل أو مطلوبة الترك أو مباحة.
ومعنى " على سبيل الاقتضاء " أي على سبيل الطلب سواء كان طلبًا للفعل أو لتركه، على سبيل الإلزام أو الترجيح، وهو: الواجب والمندوب والمحرم والمكروه.
ومعنى المتعلق بأفعال المكلفين بالتخيير هو التسوية بين جانبي الفعل والترك وهو إباحة كل منهما من غير ترجيح.
ومعنى المتعلق بأفعال المكلفين بالوضع أي الجعل، وهو جعل الشارع الشيء سببًا لشيء آخر، أو شرطًا له، أو مانعًا منه، وهو المعروف بخطاب الوضع، كوضع الدلوك سببًا لوجوب الصلاة، والطهارة شرطًا في الصلاة، والأبوة مانعًا من القصاص للابن من والده.
وقد اعتبر جمهور الأصوليين العزيمة والرخصة من الأحكام الشرعية، ولكنهم اختلفوا: هل هما من الأحكام الوضعية، أو هما من الأحكام التكليفية؟
فرأى البعض، ومنهم البيضاوي والبزدوي (1) ، أنهما: يدخلان في خطاب التكليف، وهو تقسيم آخر للحكم باعتبار كونه على وفق الدليل أو خلافه.
واحترز بكونه وفق الدليل أو خلافه من الأكل والشرب وغيرهما من الأشياء المباحة، فلا يسمى رخصة لأنه لم يثبت على المنع منه دليل.
وإنما كانت الرخصة والعزيمة من خطاب التكليف لأنهما لا يخرجان عن أحكام التكليف الخمسة، فكانتا حكمًا تكليفيا لذلك، ولأن الرخصة عبارة عن الانتقال من حرمة إلى إباحة، ومن وجوب إلى جواز، وكل من الحرمة والوجوب اقتضاء، والإباحة والجواز تخيير، وهو انتقال من حكم تكليفي إلى آخر؛ فالخطاب يأتي إذا باقتضاء الفعل والترك.
__________
(1) الأسنوي على المنهاج للقاضي البيضاوي: 1 / 87 – 89. وكشف الأسرار على أصول البزدوي: 1 / 618.(8/277)
فإذا طرأت للمكلف حالة غير عادية لا يمكن له معها أن يقوم بفعل الواجب أو ترك الحرام، فإن الشارع رخص له في ذلك بناء على العارض غير المعتاد، فلذلك أدرجوا العزائم والرخص في القسم الأول من الحكم، وهو خطاب التكليف. وإلى هذا الرأي ذهب كثير من المتأخرين (1) .
وذهب آخرون، كابن السبكي والغزالي (2) إلى اعتبارهما حكمين وضعيين، إذ العزيمة عندهم تتصور في جعل الشارع الأحوال الاعتيادية للناس سببًا لاستمرار الأحكام الأصلية العامة.
أما الرخصة فتتصور في جعل الشارع الأحوال الطارئة عليهم كالسفر والمرض والإكراه والضرورة سببًا للتخفيف عنهم، أو مانعة من التكليف بحكم العزيمة. والسبب هو من الأحكام الوضعية لا التكليفية، لأنه لا طلب فيه ولا تخيير، بل فيه وضع وجعل واعتبار. والبحث في هذا الموضوع ينصب عادة على أسباب الترخص التي تعد أسبابًا لإباحة الفعل الذي كان ممنوعًا، ونفي صفة الجريمة والمعصية عنه، أو أسبابًا لعدم التكليف بهذا الفعل، وهذه كلها أحكام وضعية (3) . وفي هذا يقول ابن أمير الحاج: وقيل: للشارع في الرخص حكمان:
- كونها وجوبًا أو ندبًا أو إباحة، وهو من أحكام الاقتضاء والتخيير.
- كونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف يناسب تخفيف الحكم عليه، مع قيام الوضع لأنه حكم بالمسببية. ولا بدع في جواز اجتماعهما في شيء واحد من جهتين مختلفتين (4) .
- وذهب فريق ثالث إلى أن الرخصة والعزيمة قسمان للحكم باعتبار عمومه وعدم عمومه، أو باعتبار تغيره من صعوبة إلى سهولة أو عدم تغيره. فما كان عاما ثابتًا يدعى: العزيمة. وما كان خاصا متغيرًا فهو: الرخصة (5) .
والتحقيق أن الخلاف في هذه المسألة لا ينجر عليه أثر عملي، لأنه خلاف لفظي لا تترتب عليه ثمرة سوى المنهجية في الكتابة والتبويب، لأنهما بالفعل من أحكام التكليف، باعتبار، ومن أحكام الوضع، باعتبار ثان.
العزيمة والرخصة
قبل أن نبدأ بتعريف العزيمة والرخصة لا بد أن نبين أولاً أن أحكام الشرع الأصل فيها العموم، فلا تختص ببعض المكلفين دون بعض. فكانت الواجبات والمحرمات هي واجبة أو محرمة على كل المسلمين إذا توفرت شروطها. فإذا عرض ما يجعل العمل بالحكم الكلي شاقًا أو متعذرًا فإن الشارع يعتبرها ضرورة تبيح مخالفة الأحكام الكلية، واستبدالها بأحكام أخرى استثنائية، بها يتمكن المكلف من تأدية ما وجب عليه ولو في الجملة، وتزول هذه الأحكام الاستثنائية بزوال أسبابها. فيرخص الله تعالى للمكلف أن يترك الفعل المطالب به، كأن يرخص للمريض في رمضان الإفطار على أن يقضيه بعد أيام أخر. وقد تعارف الأصوليون على تسمية الأحكام الكلية العامة التي يمكن تطبيقها في الأحوال العادية بالعزائم، وعلى تسمية الأحكام الطارئة تيسيرًا ورفعًا للمشقة بالرخص.
__________
(1) كتاب أصول الفقه للأستاذ العربي اللوة: ص 71 – 72، كتاب أصول الفقه الإسلامي للأستاذ محمد أبو زهرة: ص 49.
(2) كتاب جمع الجوامع لابن السبكي: 1 / 109، والمستصفى للغزالي: ج 1 / 98 أصول التشريع الإسلامي لعلي حسب الله ص 328، أصول الفقه للدكتور حسين حامد: ص 111، الموافقات للشاطبي 1 / 304.
(3) أصول الفقه للدكتور حسين حامد حسان: ص 111، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت: 1 / 116.
(4) التقرير والتحبير: 1 / 159.
(5) المحلي على جمع الجوامع: 1 / 119 – 120.(8/278)
تعريف العزيمة:
العزيمة لغة: القصد المصمم، والطلب المؤكد، قال في القاموس (1) :
عزم على الأمر يعزم عزمًا ومعزمًا كمقعد ومجلس، وعزمًا بالضم، وعزيمًا وعزيمة. وعزمه واعتزم عليه، وتعزم: أراد فعله وقطع عليه، أو جد في الأمر وعزم الأمر. وأولو العزم من الرسل: الذين عزموا على أمر الله فيما عهد إليهم، كنوح وإبراهيم وموسى محمد عليهم الصلاة والسلام.
وفي ميزان الأصول (2) : العزيمة عبارة عن النية المؤكدة. فإن خطر بباله شيء من الأفعال يحتاج إلى تحصيله، فإنه ينوي مباشرته بقلبه، فإذا أكد النية يقال: عزم عليه، وإذا أكد العزم يقال: أجمع عليه رأيه.
وقال الراغب الأصفهاني (3) : العزيمة قصد الشيء والتصميم عليه تصميمًا مؤكدًا. وهو عقد القلب على إمضاء الأمر.
وقال الشيخ ابن عاشور (4) عن العزيمة: إمضاء الرأي، وعدم التردد بعد تبين السداد.
وقال ابن منظور (5) : العزم ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله....
وفي الحديث (6) الشريف ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: متى توتر؟ فقال: أول الليل. وقال لعمر: متى توتر؟ فقال: من آخر الليل. فقال لأبي بكر: أخذت بالحزم. وقال لعمر: أخذت بالعزم)) . قال ابن منظرو: أراد أن أبا بكر حذر فوات الوتر بالنوم فاحتاط وقدمه، وأن عمر وثق بالقوة على قيام الليل فأخره. ولا خير في عزم بغير حزم، فإن القوة إذا لم يكن معها حذر أورطت صاحبها.
وقال الزجاج في قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} [محمد: 21] فإذا جد الأمر، ولزم فرض القتال؛ هذا معناه. وقال العرب: تقول: عزمت الأمر، وعزمت عليه. قال الله تعالى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] . ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [ال عمران: 159] . وقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] .
العزيمة في اصطلاح الأصوليين:
عرف الإمام علاء الدين شمس النظر السمرقندي (7) العزيمة بأنها: اسم للحكم الأصلي في الشرع، لا لعارض أمر، وهي من الفرض والواجب والسنة ونحوها، ومن الحلال والحرام ونحوهما.
وعرفها الإمام الغزالي، فقال: والعزيمة في لسان حملة الشرع عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى (8) .
وعرفها الآمدي بنفس التعريف السابق (9) .
وعرفها العلامة محمد الفتوحي المعروف بابن النجار (10) بقوله: العزيمة في حكم أهل الشرع: حكم ثابت بدليل شرعي خال من معارض راجح.
__________
(1) القاموس المحيط للفيروز أبادي 1 / 149.
(2) ميزان الأصول في نتائج العقول لعلاء الدين السمرقندي: ص 54.
(3) غريب القرآن: 3/ 111.
(4) تفسير التحرير والتنوير: 4 / 190.
(5) لسان العرب، حرف العين: ص 769.
(6) رواه أبو داود في الوتر وابن ماجه في الإقامة. وأحمد في مسنده: 3 / 309.
(7) ميزان الأصول في نتائج العقول للإمام علاء الدين شمس النظر السمرقندي: ص 55.
(8) المستصفى للإمام الغزالي: 1 / 98.
(9) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ص 68.
(10) شرح الكوكب المنير للعلامة محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي: 1 / 476.(8/279)
فشمل الأحكام الخمسة، لأن كل واحد منها حكم ثابت بدليل شرعي. فيكون في الحرام والمكروه على معنى الترك، فيعود المعنى في ترك الحرام إلى الوجوب (1) .
وقوله: بدليل شرعي احتراز عن الثابت بدليل عقلي، فإن ذلك لا يستعمل فيه العزيمة والرخصة.
وقوله: خال عن معارض احتراز عما يثبت بدليل لكن لذلك الدليل معارض، كتحريم الميتة عند عدم المخمصة. فالتحريم فيها عزيمة. فإذا وجدت المخمصة حصل المعارض لدليل التحريم، وهو راجح عليه، فجاز الأكل، وحصلت الرخصة.
وعرفها الشاطبي في الموافقات (2) ، بأنها: ما شرع من الأحكام الكلية ابتداءً. ومعنى: كلية الأحكام: أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون بعض، ولا ببعض الأوقات والحالات دون بعض، بل إنها مشروعة على الإطلاق والعموم؛ كالصلاة، فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم، وعلى كل شخص، وفي جميع الأحوال. وكذلك الصوم والزكاة، وغيرها من الفرائض الواجبات والسنن، وسائر شعائر الإسلام، وما شرع من الأحكام للتوصل بها إلى إقامة مصالح العباد، كالبيع والإجارة وسائر العقود، وكذلك أحكام الجنايات والقصاص والضمان وغير ذلك.
ومعنى: شرع هذه الأحكام ابتداء: أنها لم تسبق بأحكام شرعية قائمة، بل هي إنشاء أحكام تكليفية من أول الأمر، كالصلاة والزكاة والصوم، أو سبقت بأحكام منسوخة بها، كالتوجه إلى الكعبة، فإنه عزيمة لا رخصة؛ لأنه وإن سبق بحكم شرعي هو التوجه إلى بيت المقدس، إلا أن هذا الحكم ليس قائمًا. فالعزيمة ليست استثناءً من أحكام سابقة، بل إنها حكم شرعي ابتداء، وبذلك تفارق الرخصة.
وقد اعتمد هذا التعريف غالب من كتبوا في الأصول من المتأخرين (3) .
__________
(1) قال الطوفي: " إن العزيمة تشمل الواجب والحرام والمكروه ". وقال الآمدي وابن قدامة: إن العزيمة تختص بالواجب. وقال القرافي: تختص بالواجب والمندوب. وقال الحنفية: العزيمة تشمل الفرض والواجب والسنة والنفل. (انظر: القواعد والفوائد الأصولية: ص 114 وما بعدها. الأحكام، للآمدي: 1 / 131. الروضة: ص 32. شرح تنقيح الفصول: ص 87. فواتح الرحموت: 1 / 119. التوضيح على التنقيح: 3 / 82. كشف الأسرار 2 / 300. حاشية البناني على جمع الجوامع وتقريرات الشربيني: 1/ 123. تيسير التحرير 2/ 229) . وانظر مناقشة التفتازاني للقرافي والحنفية في "التلويح على التوضيح: 3 / 83 ".
(2) الموافقات للشاطبي: 1 / 204.
(3) انظر: علي حسب الله، في كتابه: أصول التشريع الإسلامي: ص 328. - أحمد الكبيسي ومحمد جميل، في كتاب: أصول الأحكام وطرق الاستنباط: ص 198. - الأنموذج في أصول الفقه: ص 42. - أصول الفقه لحسين حامد حسان: ص 115. - أصول الفقه لأبي زهرة: ص 49. - أصول الفقه، للعربي اللوة: ص 73.(8/280)
وقد عرف البيضاوي (1) وابن قدامة (2) العزيمة، بأنها: الحكم الثابت لا على خلاف الدليل، كإباحة الأكل والشرب، أو على خلاف الدليل، لكن لا لعذر، كالتكاليف كلها. وفي ذلك تندرج الأحكام الخمسة: الواجب والمندوب والمباح والحرام والمكروه فكانت العزيمة اسمًا للحكم الأصلي في الشرع بقطع النظر عن كونه مطلوب الفعل، أو مطلوب الترك. وإلى هذا الاتجاه ذهب غالب علماء الأصول، مثل: السرخسي في أصوله (3) والأنصاري في لب الأصول وغايته، ومنلا خسرو في مرآة الأصول (4) وجلال الدين المحلي على جمع الجوامع (5) وغيرهم. والعزيمة تشمل الأحكام الخمسة، وتطلق على أربعة أنواع:
أولها: الحكم الذي لم يتغير، كوجوب الصلوات الخمس.
ثانيها: الحكم الذي تغير إلى ما هو اصعب منه، كحرمة الاصطياد بالإحرام في غير الحرم، بعد إباحته قبل الإحرام.
ثالثها: الحكم الذي تغير إلى سهولة لغير عذر، كحل ترك الوضوء لصلاة ثانية مثلاً لمن لم يحدث، بعد حرمته، والحل هنا بمعنى خلاف الأولى.
رابعها: الحكم الذي تغير إلى سهولة، لعذر، مع عدم قيام السبب للحكم الأصلي، كإباحة ترك ثبات الواحد من المسلمين مثلاً للعشرة من الكفار بعد حرمته؛ وسببها قلة المسلمين، ولم تبق حال الإباحة لكثرتهم حينئذ (6) .
وقد ذهب بعض الأصوليين إلى أن العزيمة خاصة بالواجبات دون غيرها، لأنها من العزم المؤكد. كما ذهب الإمام القرافي إلى قصر العزيمة على الواجب والمندوب، إذ عرفها بأنها: طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه مانع شرعي. واستعمل كلمة: طلب، بدل: الوجوب، ليندرج المندوب والواجب، أخذًا من قول المالكية: إن الآيات التي يندب السجود عند تلاوتها: عزائم، حيث تقرر عندهم أن عزائم القرآن إحدى عشرة سجدة (7) .
ويرى البزدوي (8) وصدر الشريعة (9) والكمال بن الهمام (10) وغيرهم من علماء الحنفية: أن العزيمة هي الحكم الأصلي الذي يشمل الفرض والواجب والسنة والنفل، وهذه التي تشمل العزيمة المشروعة في نظرهم، ولم يذكروا المباح والحرام والمكروه من أقسامها (11) .
__________
(1) الأسنوي على المنهاج: 1 / 91.
(2) روضة الناظر وجنة المناظر: ص 58.
(3) الأصول للسرخسي: 1 / 117.
(4) شرح مرقاة الوصول: 2 / 390.
(5) المحلي على جمع الجوامع 1 / 124.
(6) شرح الجلال على الجمع: 1 / 123.
(7) شرح تنقيح الفصول: ص 76 – 77.
(8) أصول البزدوي، شرح البخاري: 1 / 620.
(9) التوضيح على التنقيح: 3 / 82.
(10) التحرير بشرح ابن أمير الحاج 2 / 48.
(11) فواتح الرحموت 1 / 119.(8/281)
تعريف الرخصة
الرخصة في اللغة:
هي اليسر والسهولة، جاء في مختار الصحاح (1) : الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه. ومنه رخص السعر إذا تيسر وسهل، ضد الغلاء.
وفي لسان العرب (2) : تطلق الرخصة على معان كثيرة أهمها:
1- نعومة الملمس. يقال رخص البدن رخاصة ورخوصة إذا نعم ملمسه ولان، فهو رخص (بفتح فسكون) ورخيص، وهي رخصة ورخيصة. وتقول العرب: أمرأة رخصة البدن إذا كانت ناعمة الجسم.
2- انخفاض الأسعار. يقال: رخص الشيء رخصًا (بضم فسكون) فهو رخيص، من باب قرب قربًا: ضد الغلاء.
وقال في المصباح والقاموس (3) . رخص الشارع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا إذا يسره وسهله. وفلان يترخص في الأمر إذا لم يستقص. ورخص له في الأمر إذا أذن له فيه. قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)) (4) .
والرخصة بفتح الخاء: المكثر من الأخذ بها، مثل: طلقة وضحكة ولعنة وكذلك همزة ولمزة وصرعة (بضم ففتح) وهي صيغة تدل على كثرة صدور الفعل الذي اشتق منه كثرة تنبئك بأنه صار عادة لصاحبة (5) قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] لمن يكثر من همز الناس ولمزهم.
الرخصة في اصطلاح الأصوليين:
يبدو أن الخلاف في مفهوم الرخصة كان ناجمًا عن اختلاف علماء الأصول في تحديد مفهوم العزيمة للعلاقة القائمة بينهما باستمرار، حتى أن إحداهما لا تطلق إلا فيما يقابل الأخرى (6) . كما أن هناك فروعًا فقهية كثيرة للعلماء وأقوالاً مختلفة في إدراج كل منها تحت أي من القسمين، وهذا الاختلاف ناجم عن إطلاق اسم العزيمة أو الرخصة على الفرع المختلف فيه، فكل يطلق منهما ما يعتبره الأقرب لاصطلاحه.
__________
(1) التقرير والتحبير: 1 / 148.
(2) لسان العرب لابن منظرو حرف الراء ص 1146.
(3) المصباح المنير: 1 / 342 – 343، القاموس المحيط: 2 / 316.
(4) رواه أحمد وابن حبان والبيهقي والطبراني (فيض القدير: 2 / 296) .
(5) التمهيد لابن عبد البر: 6 / 296.
(6) ابن القاسم: هداية العقول.(8/282)
مفهوم الرخصة عند الحنفية:
قال الشيخ علاء الدين السمرقندي في ميزان الأصول (1) : الرخصة اسم لما تغير عن الأمر الأصلي، لعارض، إلى تخفيف وتيسير، ترفيهًا وتوسعة على أصحاب الأعذار. سواء كان التغيير في وصفه أو في حكمه.
ثم إنهم يقسمون الرخصة باعتبار الحقيقة والمجاز إلى قسمين رئيسيين، اعتمادًا على ما ذكره السرخسي في أصوله، والشيخ علاء الدين السمرقندي في ميزان الأصول، وغيرهما.
القسم الأول: رخص حقيقية، ويسمونها أيضًا: رخصًا ترفيهية، وهي التي تقع في مقابلة عزائم ما يزال العمل بها جاريًا، لقيام دليلها. وهذا القسم ينقسم إلى قسمين فرعيين:
1- ما يتغير حكمه مع بقاء الوصف الذي كان عليه من قبل. وبذلك يكون المشرع أباحه مع قيام السبب المحرم والحرمة معًا، وهو أعلى درجات الرخص. فكمال الرخصة كمال العزيمة، فكلما كانت هذه حقيقة كاملة من كل وجه كانت الرخصة في مقابلتها كذلك (2) ، وذلك كاستباحة التلفظ بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان، عند الإكراه على ذلك، أخذًا من قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] . لأن في امتناعه عن الفعل إتلاف ذاته صورة ومعنى، وفي إقدامه عليه إتلاف حق الشرع صورة لا معنى، حيث إن التصديق الذي هو الركن الأصلي في الإيمان باق على حاله. ومع ذلك فقد نص العلماء على تخييره بين الفعل والترك، بل رجح الحنفية الأخذ بالعزيمة، لأن إحياء النفس هنا وإن كان من الرخص الواجبة إلا أن ما يقابله، وهو التمسك بالعزيمة يعتبر من مواقف السمو والإباء والتمسك بالحق.
وقد جاء في السنة ما يؤيد الموقفين. فقد ورد أن مسيلمة الكذاب أكره رجلين من المسلمين على الكفر، فنطق أحدهما بكلمته فنجا، وأصر الآخر على الجهر بالحق فهلك، فقال صلى الله عليه وسلم فيهما: ((أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئًا له)) (3) . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر لعمار بن ياسر، بعد أن عذب وأجبر على شتم النبي والإشادة بآلهتهم: ((كيف تجد قلبك يا عمار؟)) قال: مطمئنًا بالإيمان. فقال صلى الله عليه وسلم: ((فإن عادوا فعد)) (4) .
__________
(1) ميزان الأصول في نتائج العقول: ص 55.
(2) الخبازي: المغني في أصول الفقه: ص 87.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة – التفسير الكبير للرازي 5 / 356، التلويح على التوضيح 3/ 58.
(4) أخرجه ابن جرير الطبري والبيهقي، واستشهد به غالب المفسرين.(8/283)
2- ما يسقط فيه الحظر والمؤاخذة جميعًا، وبذلك يكون المشرع استباح ترك الواجب إذا شق فعله، كاستباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض، أخذًا من قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] . واستباحة قصر الصلاة من قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] . وكذلك استباحة الصلاة من قعود، إذا تعذر القيام وأخذًا من السنة – على أن الحنفية يرون أن قصر الصلاة في السفر عزيمة لا رخصة؛ أخذًا من حديث عائشة رضي الله عنها: ((فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر)) (1) . ويرى الحنفية أيضا أن العمل بالعزيمة في هذا النوع الثاني أولى من العمل بالرخصة؛ لأن في الأخذ بالعزيمة نوع يسر، بناء على أن الصوم مع المسلمين في شهر رمضان أيسر من التفرد به بعد مضي الشهر. فإذا أضفنا إلى هذا اليسر ثوابًا يختص بالعزائم ترجح العمل بالعزيمة ما لم يضعفه الصوم، فإذا أضعفه كان الفطر أولى.
وهذا التقسيم الأول ليس خاصًا بالحنفية ولكن الخلاف في التسمية.
القسم الثاني: رخص مجازية، وتسمى رخص الإسقاط. وقسمها الحنفية إلى قسمين فرعيين:
1- ما وضع عن هذه الأمة، رحمة بها، وإكرامًا لها، من الأحكام الشاقة التي كانت مفروضة على الأمم السابقة، فشابهت الرخصة، فسميت بها. وذلك كقتل النفس لصحة التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وإيجاب ربع المال في الزكاة، وإحراق الغنائم، وتحريم الطيبات بسبب الذنوب، واشتراط الماء للتطهر من الجنابة والحدث، واشتراط مكان معين لقبول الصلاة (2) .
ونحو هذا مما فيه إصر وأغلال (3) وهو ما أشار إليه القرآن بقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . فتسمية هذه الأشياء رخصًا مجازًا، من حيث إنها كانت واجبة على غيرنا ولم تجب علينا، رحمة وتخفيفًا، فشابهت الرخصة، فسميت بها مجازًا. ولما كان الحكم غير مشروع في حقنا أصلاً لم تكن رخصة حقيقية بل مجازًا (4) على اعتبار إضافة إلى الشرائع الماضية.
2- ما شرع من العقود استثناءً من قواعدها العامة، دفعًا للحرج عن الناس (5) وذلك كعقدي السلم والاستصناع فكل منهما شرع للحاجة إليه على خلاف القايس، لأنه بيع المعدوم، وبيع المعدوم غير صحيح. فقد جاء في الحديث: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان لما ليس عنده ورخص في السلم))
فعقود هذا القسم من حيث إنها مشروعة في الجملة كانت شبيهة بالرخص الحقيقية، ومن حيث استثنائها مما ذكر كانت رخصًا مجازية؛ إذ ليس في مقابلتها عزائم. ومن أجل ذلك اعتبر هذا القسيم أقرب إلى الرخص الحقيقية من القسم الأول المتمحض للمجازية.
وبذلك يظهر أن هذه الأقسام الأربعة التي ذكرناها: نوعان من الحقيقة، الأول منهما أحق بكونه رخصة؛ ونوعان من المجاز، الأول منهما أتم في المجازية من الآخر.
__________
(1) فتح الباري: 2 / 269، المنتقى: 1 / 260، نيل الأوطار: 3 / 200.
(2) الرخص الفقهية في القرآن والسنة النبوية.
(3) المغني في أصول الفقه: ص 88.
(4) البخاري: كشف الأسرار 1 / 641، التلويح على التوضيح 3 / 86.
(5) انظر أصول السرخسي: ص 120.(8/284)
مفهوم الرخصة عند الشافعية:
عرف الغزالي (1) الرخصة بأنها عبارة عما وسع للمكلف لعذر وعجز عنه، مع قيام السبب المحرم. فإن ما لم يوجبه الله تعالى علينا من صوم شوال، وصلاة الضحى، لا يسمى رخصة. ويسمى تناول الميتة، وسقوط صوم رمضان عن المسافر – رخصة.
وذكر الآمدي (2) تعريفًا آخر، فقال: وقال أصحابنا: الرخصة ما جاز فعله لعذر، مع قيام السبب المحرم. وعلق عليه بأنه غير جامع، لأن الرخصة كما تكون بالفعل قد تكون بترك الفعل، كإسقاط وجوب صوم رمضان، والركعتين من الرباعية في السفر. ولهذا أتى بتعريف جديد للرخصة فقال: من الواجب أن يقال: " الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر، مع قيام السبب المحرم حتى يعم النفي والإثبات".
وقد اعتمد الأسنوي (3) التعريف الذي ذكره البيضاوي، وهو: " الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر ".
وقد انتقد الأسنوي التعريف الذي عدله الآمدي وارتضاه، بأنه غير جامع، لأن الحكم الثابت للرخصة أعم من أن يكون ثابتًا على خلاف الدليل المقتضي للتحريم، كأكل الميتة للمضطر، أو ثابتًا على خلاف الدليل المقتضي للندب، كترك الصلاة الجامعة بعذر المطر والمرض ونحوهما، فإنه رخصة بلا نزاع، وكالأبواد عند من يقول: أنه رخصة (4) .
ويبدو أن التعريف الذي ارتضاه الإسنوي ومتأخرو الشافعية يمكن أن يكون التعريف الجامع المانع، وإن لم يسلم من الانتقاد. وتكون الرخصة بهذا المعنى الذي ارتضاه الشافعية لا تختلف كثيرًا من حيث الجملة عن التعاريف التي اختارها الحنفية وتقدمت الإشارة إليها في عرض مفهوم الرخصة عندهم.
__________
(1) المستصفى للغزالي: ص 98.
(2) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ص 68.
(3) الأسنوي على المنهاج: 1 / 89.
(4) الرخص الفقهية من القرآن والسنة النبوية لمحمد الشريف الرحموني: ص 117 – 118.(8/285)
مفهوم الرخصة عند الحنابلة:
لا يكاد يختلف عن مفهوم الرخصة عند الشافعية في جوهره (1) . فقد عرف الشيخ محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي، المعروف بابن النجار، الرخصة بقوله: والرخصة شرعًا: (ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح) (2) . فقوله: (ما ثبت على خلاف دليل شرعي) احتراز عما ثبت على وفق الدليل، فإنه لا يكون رخصة بل عزيمة، كالصوم في الحضر.
وقوله: (لمعارض راجح) : احتراز عما كان لمعارض غير راجح، بل إما مساو فيلزم الوقف على حصول المرجح، أو قاصر عن مساواة الدليل الشرعي، فلا يؤثر وتبقى العزيمة بحالها – وهذا الذي ذكره الطوفي في مختصره.
ورغم أن الشافعية والمالكية والحنابلة لا يختلفون عادة في الاتجاه الأصولي؛ إلا أن المالكية في باب العزيمة والرخصة أبرزوا اهتمامًا كبيرًا، واعتمدوا فيه على كثير من فروع مذهبهم، لذا رأيت من المستحسن أن أتعرض إلى بعض آراء علمائهم في موضوع الرخصة الذي هو محل حديثنا.
معنى الرخصة عند المالكية:
يقول القرافي (3) : الرخصة: فسره الإمام الرازي في المحصول بجواز الإقدام مع قيام المانع. وذلك مشكل؛ لأنه يلزم منه أن تكون الصلوات الخمس رخصة، والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة؛ لأن ذلك جميعه يجوز بجواز الإقدام عليه.
والذي يتابع ما وضعه القرافي في تعريف معنى الرخصة يشعر بالعمق الفكري وأثر الجهد الذي بذله في تتبع الرخص وخاصيتها والتفرقة بين الرخصة والعزيمة حتى يتمكن من الظفر بالتعريف الجامع المانع للرخصة.
فإنه وإن لم يخرج عن منهج المذهب الشافعي إلا أنه خالف هذا المذهب في مناسبات متكررة، وقد تقدمت الإشارة إلى رأيه في تعريف العزيمة التي قصر دلالتها على الواجب والمندوب.
__________
(1) انظر القواعد والفوائد الأصولية: ص 114، مختصر الطوفي: ص 34، الروضة: ص 32، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 71. شرح الكوكب المنير لمحمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي: 1 / 477.
(2) انظر تعريف الرخصة في نهاية السول: 1 / 87. المستصفى: 1 / 98، الأحكام للآمدي: 1 / 132. شرح العضد على ابن الحاجب 2 / 7، كشف الأسرار: 2 / 298، تيسير التحرير: 2 / 228، الموافقات: 1 / 205، التعريفات ص 115، شرح تنقيح الفصول: ص 85.
(3) شرح تنقيح الفصول في الأصول للقرافي المالكي المتوفى سنة 684 هـ مع حاشية منهج التحقيق والتوضيح للشيخ محمد جعيط المتوفى 1337هـ 1 / 309.(8/286)
معاني الرخصة عند الشاطبي:
المعنى الأول: عرف الشاطبي (1) الرخصة بأنها ما شرع لعذر شاق، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه.
فكونه مشروعًا لعذر هو الخاصة التي ذكرها علماء الأصول.
وكونه شاقًا: احتراز عن العذر لمجرد الحاجة من غير مشقة موجودة، فلا يسمى ذلك رخصة، كشرعية القراض مثلاً، فإنه لعذر في الأصل، وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض، ويجوز حيث لا عذر ولا عجز. وكذلك المساقاة والقرض والسلم، فلا يسمى هذا كله رخصة، وإنما يكون مثل هذا داخلاً تحت أصل الحاجيات الكلية، والحاجيات لا تسمى عند العلماء باسم الرخصة.
وقد يكون العذر راجعًا لأصل تكميلي، فلا يسمى رخصة، كما إذا كان المترخص إمامًا عجز عن القيام فصلى قاعدًا، فصلاة المؤتمين به قاعدين وقع لعذر، إلا أن العذر في حقهم ليس المشقة، وإنما هي متابعة الإمام، لما جاء في الحديث الشريف: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه. فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله من حمده فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون)) (2) . فهذه الموافقة للإمام، أو عدم المخالفة عليه، لا تسمى رخصة.
ثم يقول الشاطبي: وكونه مقتصرًا على مواضع الحاجة: خاصة من خواص الرخص لابد منها، وهي الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكلية وما شرع من الرخص، فشرعية الرخص جزئية، يقتصر فيها على موضع الحاجة؛ لأن المصلي – مثلاً – إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل، من إتمام الصلاة، وإلزام الصوم.
والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصل قاعدًا، وإذا قدر على مس الماء لم يتيمم. وكذلك سائر الرخص؛ بخلاف القرض والقراض والمساقاة فهي ليست برخصة في حقيقة هذا الاصطلاح.
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 1 / 204.
(2) رواه البخاري في الأخلاق - فتح الباري 2/ 209 ورواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم في الصلاة. (جامع الأصول في أحاديث الرسول: 6 / 400 -401) .(8/287)
وبين الشاطبي أن الرخصة كما تطلق على المعنى الذي كنا نقرره تطلق على معان أخرى:
المعنى الثاني: ما استثنى من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا، من غير اعتبار لكونه لعذر شاق. فيدخل فيه القرض والقراض والمساقاة وضرب الدية على العاقلة، وما أشبه ذلك. وعليه يدل حديث ((لا تبع ما ليس عندك)) (1) وأرخص في السلم (2) .
المعنى الثالث: ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] . وقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .
المعنى الرابع: ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقًا، مما هو راجع إلى نيل حظوظهم، وقضاء أوطارهم. وعزيمته قضاء الوقت في عبادة الله سبحانه، وهي التي نبه عليها المولى تبارك وتعالى بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] .
فالعزيمة في هذا الوجه هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم، سواء كانت الأوامر وجوبًا أو ندبًا؛ والنواهي كراهة أو تحريمًا، وترك ما يشغل عن ذلك من المباحات، فضلاً عن غيرها، لأن الأمر من الآمر مقصود أن يمتثل على الجملة. والإذن في نيل الحظ الملحوظ من جهة العبد رخصة، فيدخل في الرخصة على هذا الوجه كل ما كان تخفيفًا وتوسعة على المكلف، وبذلك كانت العزائم حق الله على العباد، والرخص حظ العباد من لطف الله. فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب، من حيث كانا توسعة على العبد، ورفعًا للحرج عنه.
والذي يظهر من كل التعاريف المتقدمة في تحديد معنى الرخصة في اصطلاح الشرع، على اختلاف مذاهب الفقهاء، أن خصائص الرخص ثلاث:
1- إنها أحكام جزئية خاصة، شرعت على أحكام؛ فجواز الفطر للمريض والمسافر، وإباحة الميتة للمضطر، والنطق بكلمة الكفر للمكره – كلها أحكام جزئية خاصة؛ لأنها تطبق في شأن بعض المكلفين في بعض الحالات، وهي حالات السفر والمرض والإكراه والضرورة. وهذه الأحكام الجزئية الخاصة تعد استثناءً من أحكام كلية عامة تمنع الفطر في رمضان، وأكل الميتة، والنطق بكلمة الكفر؛ وتطبق على وجه العموم والإطلاق.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند: 3 / 402 (جامع الأصول: 1 / 382 - 383) . العارضة: 5 /241 - 242 , نيل الأوطار: 5 / 155
(2) لفظ هذا الجزء من كلام الفقهاء وليس من الحديث (ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 2 / 529(8/288)
2- إن هذه الأحكام الجزئية الخاصة قد شرعت لعذر شاق، أي يتعذر على بعض الناس القيام به؛ وليس لمجرد الحاجة أو لمشقة يسيرة. فالفطر قد شرع لعذر شاق هو السفر والمرض، وهما مظنة المشقة؛ وأكل الميتة قد شرع لعذر شاق هو حالة الضرورة؛ والنطق بكلمة الكفر شرع لعذر شاق هو الإكراه. إذ في التكليف مع الإكراه، بإتلاف نفس أو عضو؛ أو مع الضرورة، بخوف الهلاك – مشقة شديدة.
3- إن هذه الأحكام يقتصر فيها على موضع الحاجة. ذلك أنها أحكام جزئية خاصة، فهي أحكام تخص بعض المكلفين دون بعض، وتطبق في حالات خاصة، وبذلك كانت دائرة مع أسبابها وجودًا وعدمًا، فإذا وجدت أسباب الترخص جازت مخالفة التكليف الكلي العام، وإذا انتفت هذه الأسباب وجب الرجوع إلى هذه الأحكام. فأسباب الترخص تمنع من التكليف ببعض الأحكام الكلية العامة، أو تجيز مخالفته مع قيامه، وتمنع من العقاب على هذه المخالفة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تقسيم الحكم إلى عزيمة ورخصة ليس من خاصيات المذاهب المتقدمة، بل هي مسائل تعرضت إليها بعض المذاهب الإسلامية الأخرى، كالزيدية والإمامية والإباضية التي تقسم الحكم إلى عزيمة ورخصة، وتعرفها بتعاريف لا تختلف كثيرًا عما ذهب إليه أصحاب تلك المذاهب في مفهوم كل من الرخصة والعزيمة، وإن اختلفت التقسيمات والعناوين الثانوية التي أعطيت لهذه التقسيمات.
الأدلة العامة للعزائم والرخص:
في اعتقادي أن العزائم لا تحتاج إلى تقصي أحكامها، والبحث عن أدلة مشروعيتها؛ لأن كل حكم في الشرع الإسلامي لابد له من دليل من كتاب الله أو سنة رسوله، أو الإجماع، أو القياس؛ إذ ليس لأحد أن يحلل أو يحرم، ولا أن يوجب حكمًا؛ بغير دليل من قرآن أو سنة أو إجماع أو نظر.
ولذلك فلا فائدة في البحث عن دليل كل حكم يعتبر عزيمة، لأن هذا العمل هو من خصائص علم الفقه. فهذا العلم تكفل بالبحث عن كل دليل لأي حكم من الأحكام.
أما الرخص فهي على عكس ما في العزائم من صفات، فقد اجتمع في الرخص الخفاء مع الدقة، والخصوص مع الاستثناء، والاعتدال مع اليسر. وإذا كان لابد من إقامة الدليل على أصل تشريع كل رخصة، فلا بد للمستدل أن لا يهمل ما فهمه الأولون من الأدلة التي يقدمها، وأن لا يستغني عن التعرف على ما كانوا عليه في العمل بها، وتقصي أحكامها.
والذي مارس كتب الفقه يعلم علم اليقين أن أدلة ثبوت الرخص ومشروعيتها بلغت مبلغ القطع في غالب الأحيان، إذ هي تعتمد على أدلة نقلية من القرآن والسنة وآثار الصحابة والقواعد العامة، وعلى نتائج استقراء النوازل التي تمت في العصور المختلفة.(8/289)
أدلة الرخص من القرآن:
هي أربعة أنواع (1) :
النوع الأول: آيات التيسير والتخفيف:
- كقوله تعالى تعقيبًا على أحكام الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقد ورد هذا النص مباشرة بعد النص على الترخيص وكان كاصلة لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .
والمراد باليسر: العمل الذي لا يجهد النفس وليست فهي مشقة زائدة لا يستطيع أن يتحملها عامة الناس. والمراد بالعسر: هو ما فيه إجهاد للنفس، وضرر للجسم، وفيه مشقة زائدة لا يتحملها عامة الناس.
- وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] هو تذكير بأن الله يوالي رفقه بهذه الأمة، وإرادته بها اليسر دون العسر، وأن الضعف المشار إليه في الآية هو ضعف الإنسان أمام الشهوة الجنسية، وفي الخبر: لا خير في النساء، ولا صبر عنهن، يغلبن كريمًا ويغلبهن لئيم.
والذي رجحه المفسرون: عموم التخفيف في الشريعة، بناءً على ضعف الإنسان أمام رغباته وأمام مغريات الحياة، بالرحمة واليسر ورفع المشقة، وإزالة الضرر (2) .
- وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] . المراد بالوسع هو: الطاقة والاستطاعة. والمستطاع ما اعتاد الناس فعله دون مشقة بالغة.
النوع الثاني: آيات في نفي الحرج والضيق:
- قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . والحرج يطلق ويراد به الضيق والشدة. وجاءت الآية لبيان تفضيل هذا الدين عما سواه بنفي الحرج عنه، الأمر الذي يسهل العمل به، والمداومة عليه، فيسعد أتباعه بسهولة امتثاله (3) . فما ألزم الله عباده بشيء يشق عليهم إلا جعل لهم فرجًا ومخرجًا. فقد رخص لهم في المضائق، وفتح عليهم باب التوبة على مصراعيه، وشرع لهم الكفارات في حقوقه، والديات في حقوق العباد (4) .
- وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] .
هذا الجزء من الآية جاء تعليلاً لرخصة التيمم.
والمراد هنا: نفي الحرج الحسي. فلم يكلفوا بالضوء والاغتسال مع المرض والسفر إذا فقدوا الماء في السفر وعجزوا عن استعماله في المرض، وكذلك نفي الحرج المعنوي لو منعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضر، أو لفقدانه في السفر (5) .
وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] . هذه الآية تمثل إعذارًا من الله للضعفاء، وهم العاجزون عن تحمل المشاق، كالشيخ، والصبي، والمرأة، والهزيل خلقًا لا علة. والمرضى (وهم العاجزون بأمر عرض لهم لحقهم منه ضرر، كالعمى والعجز والزمانة: وسائر الأمراض التي تعوق صاحبها عن القيام بما أمر به) والفقراء الذين يعجزون عن تجهيز أنفسهم للقتال (6) .
__________
(1) الرخص الفقهية من القرآن والسنة النبوية: محمد الشريف الرحموني: ص 135.
(2) الألوسي: روح المعاني: 5 / 14 – 15.
(3) التحرير والتنوير: 17 / 349.
(4) روح المعاني: 17 / 210.
(5) التحرير والتنوير: 6 / 13.
(6) ابن العربي: أحكام القرآن: 1 / 406.(8/290)
النوع الثالث: نفي العنت:
- كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220] . ورد في نزول هذه الآية أنه لما نزلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152 – والإسراء: 34] . انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] (1) فأذن الله بهذه الآية بمخالطة اليتامى، وأن الغرض الأصلي هو إصلاحهم، والقيام بشؤونهم وتربيتهم، وحفظ أموالهم؛ ولم يرد العنت لسعة رحمته، إذ لا يكلف نفسًا إلا وسعها. ولذلك أباح مخالطتهم، مع عفوه عما جرى العرف على التسامح فيه لعدم استغناء الخلطة عنه.
النوع الرابع: النهي عن الغلو في الدين:
- كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] .
في هذه الآية خطاب موجه إلى النصارى واليهود بأنهم خالفوا كتابهم، بالإفراط فيه والزيادة عليه، ونهوا عن الغلو بالذات، لأنه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصادقين، وهو سبب تجاوزهم الحد الذي طلبه دينهم من اتباع الإنجيل والتوراة، ومحبة رسولهم – ببغض محمد عليه الصلاة والسلام. كما تجاوز النصارى محبة رسولهم بدعوى إلهيته أو كونه ابن الله.
وإذا كان الغلو في الدين موجهًا في هذه الآية إلى النصارى واليهود فإن فيه عبرة واعتبارًا للمسلمين، فهم أولى بالانتهاء عن الغلو من غيرهم، وأحق بهذا الخطاب من سواهم، حيث إن دينهم دين الرحمة واليسر والعدل والاعتدال.
__________
(1) ابن الأثير: جامع الأصول في أحاديث الرسول: 2 / 129.(8/291)
أدلة الرخصة من السنة:
تشمل ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أحاديث يستفاد منها سماحة هذا الدين ويسره. وذلك كالحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أحب الأديان إلى الله فقال: ((الحنيفية السمحة)) (1) .
والمراد بالحنيفية: المائلة عن الباطل إلى الحق، أو المائلة عن دين اليهود والنصارى إلى الاستقامة.
والمراد بالسمحة: الميسورة التي لا تتطلب ما فيه كثافة وغلظة وجمود، ولا تدعو إلى ما ينجر عنه عصيان وطغيان وسماجة.
يقول الإمام ابن عاشور (2) : " والحكمة من السماحة في الشريعة أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة، وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها، ومن الفطرة النفور من الشدة والإعناق".
وما روي من أن عروة الفقيمي رضي الله تعالى عنه قال: كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلى فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه: يا رسول الله: أعلينا من حرج في كذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يا أيها الناس إن دين الله عز وجل في يسر – إن دين الله عز وجل في يسر – إن دين الله عز وجل في يسر)) قالها هكذا ثلاثًا (3) . وقد تكررت كلمة اليسر في أحاديث كثيرة (4) .
النوع الثاني: أحاديث تفيد في جملتها خشية النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون قد شق على أمته، ومنها:
- ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج من عندها وهو قرير العين، طيب النفس، ثم رجع إليها وهو حزين، فقال: ((إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت. إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي)) (5) ، إن رسول الله يعلم أن أمته ستقتفي آثاره، وتتبع سنته، فلما دخل الكعبة تذكر أنه ربما تسبب بهذا الدخول في مشقة أفراد أمته ممن كتب له زيارة بيت الله العتيق، فتمنى لو أنه لم يفعل (6) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 1 / 236 و 3 / 442، فتح الباري 1 / 93.
(2) كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية ص 61 – 62.
(3) رواه الإمام أحمد وأبو علي الطبراني في الكبير.
(4) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث: 5 / 295.
(5) رواه الخمسة في المناسك، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(6) ابن العربي: العارضة: 4 / 102.(8/292)
- ما رواه أصحاب الصحاح في شأن صلاة التراويح، حيث ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم. فلما أصبح قال: ((قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم)) (1) . وفي رواية أخرى: ((فتعجزوا عنها)) ؛ فلم يكن المانع من خروجه إليهم نهيه عن ذلك، وإنما كان خشيته من أن تفرض عليهم هذه الصلاة، فتنهك قواهم، وتستنفد طاقتهم، فيقل بذلك نشاطهم لإنجاز أعمال أخرى تنتظرهم. فإذا زالت العلة بانقطاع الفرضية بعده عليه الصلاة والسلام، ذهب المانع، وثبت جواز الاجتماع لقيام رمضان، وهذا ما فهمه عمر رضي الله عنه، ونفذه في خلافته.
النوع الثالث: أحاديث يأمر أصحابه فيها بالتخفيف، وينكر عليهم فيها التشدد والغلو. مثلا:
- ما أخرجه البخاري وغيره من قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري، لما بعثهما إلى اليمن: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)) (2) .
- ومن هذا النوع ما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان للنبي صلى الله عليه وسلم حصير وكان يحجره بالليل)) (3) فيصلي فيه، ويبسطه بالنهار فيجلس عليه، فجعل الناس يثوبون على النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بصلاته حتى كثروا، فأقبل فقال: ((يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا. وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)) (4) .
- ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)) : (5) .
__________
(1) متفق عليه (جامع الأصول: 7 / 79) المنتقى: 1 / 205. النووي على مسلم: 6 / 40 – فتح الباري: 4 / 251 – نيل الأوطار: 3 / 51.
(2) أخرجه البخاري في المغازي والأدب، ومسلم في الأشربة (فتح الباري: 8 / 60 و 10 / 524) والنووي: 13 / 171.
(3) يحجره: يجعله لنفسه دون غيره.
(4) جامع الأصول: 1 / 209 – 212، فتح الباري: 4 / 206.
(5) ابن الأثير: جامع الأصول من أحاديث الرسول: 6 / 383 – 384.(8/293)
الأدلة الخاصة بالرخص من القرآن والسنة (1) :
إن الأدلة الخاصة بالقرآن والسنة قد استوعبت غالب الرخص التي جاءت في الشريعة الإسلامية، ناهيك أن الرخص شطر هذه الشريعة السمحة، حيث اتفق العلماء على أنها إحدى المرتبتين الكبيرتين اللتين تعود إليهما جميع الأحكام، وهما: مرتبة التشديد، ومرتبة التخفيف. لذلك أردت أن أتعرض إلى بعض الآيات والأحاديث كنماذج حية لدلالتها صراحة على حجية الرخصة.
وهي أنواع ثلاثة:
1- آيات رفع الجناح ومنها:
- قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] .
والمراد بالضرب في الأرض: السفر برا أو بحرًا أو جوًا. وقصر الصلاة: النقص منها. وتشير هذه الآية إلى أن العزيمة في هذا الموضوع هي تأدية الصلاة تامة، وإن التزام هذه الحالة قد يوقع المسافرين العاديين في حرج ومشقة، فما بالك بالمسافرين للجهاد؟ ولذلك خفف الله عن هؤلاء جميعًا، ورخص لهم في أن يصلوا الصلوات الرباعية ركعتين ركعتين.. وقد استفدنا هذا الترخيص من نفي الجناح عمن قصر في الصلاة في الحالة المذكورة.
- وقول الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] .
فالآية ظاهرة في تعظيم أمر أخذ العوض عن الطلاق الذي هو حرام. وإنما رخص الله في أخذ العوض إذا كانت الكراهة والنفرة من المرأة في مبدأ المعاشرة، دفعًا للإضرار عن الزوج في خسارة ما دفعه من الصداق وتكاليف الزواج الذي لم ينتفع منه بمنفعة (2) .
2- آيات نفي الإثم:
وذلك كقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] .
والمضطر هو الذي ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات فإن فعل مع هذا الوصف فلا إثم عليه (3) .
فالضرورة لها سببان:
- أحدهما الجوع الشديد مع عدم وجود المأكول الحلال لسد الرمق عند مالك وأبي حنيفة.
- ثانيهما الإكراه على الأكل من هذه المحرمات (4) . وحد الضرورة عند مالك حتى يشبع، ولا يمنع من التزود من المحرم خوفًا على نفسه من الهلاك إن هو فرط فيه، فإن وجد غنى عنه طرحه.
__________
(1) كتاب: الرخص الفقهية من القرآن والسنة محمد الشريف الرحموني: ص 216.
(2) التحرير والتنوير: 2 / 407 – 412.
(3) أحكام القرآن: 2/ 91.
(4) التفسير الكبير: 2 / 81 – 82.(8/294)
3-آيات نفي المؤاخذة:
وذلك كقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225] .
ولغو اليمين هو أن يحلف على شيء يستيقنه كذلك ثم يتبين خلاف ما استيقنه (1) .
ومعنى الآية أن الله جعل المؤاخذة على كسب القلب في اليمين، ولا تكون المؤاخذة إلا عن حنث لا على أصل القسم، إذ لا مؤاخذة لأجل مجرد الحلف لا سيما بعد البر، فتعين أن يكون المراد كسب القلب وتعمده الحنث، فهو الذي فيه المؤاخذة.
4- آيات الاستثناء:
كقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .
أي إلا من أكرهه المشركون على الكفر، فأظهره بالقول، تقية ومصانعة، فهو ترخيص من الله.
وحدد الفقهاء الإكراه بأنه إذا خاف على نفسه أو على عضو من أعضائه التلف، أو عذب عذابًا لا يستطيع أن يتحمله الإنسان عادة. وقد دل الحديث الشريف على جواز النطق بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنًا بالإيمان.
وقد ورد ((أن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال، بعد أن عذب عذابًا شديدًا: يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير. فقال صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ فقال: مطمئنًا بالإيمان. فقال عليه الصلاة والسلام: إن عادوا فعد)) (2) .
5- آيات الإبدال:
والمراد بالإبدال هو إبدال فعل مطلوب على وجه العزيمة بفعل آخر أخف منه، لعذر؛ كإبدال الطهارة المائية بنوعيها بالطهارة الترابية. وذلك كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43] .
فقد دلت الآية على إبدال الطهارة المائية بنوعيها، إذا طرأ على المكلف ما يوجبها بالتيمم، في حالتي المرض وفقد الماء.
__________
(1) قول مالك في الموطأ.
(2) التحرير والتنوير: 14/ 294.(8/295)
أدلة من السنة النبوية وهي كثيرة (1) :
وتناولت غالب أحكام التشريع، ومختلف تصرفات الإنسان. وقد حاول عدد كبير من المؤلفين تقسيم هذه الأحاديث إلى عناوين مختلفة حسب الحاجيات التحسينية والفروع الفقهية المتعددة. ويمكن حصر جانب منها في هذه العناوين:
1- أحاديث ترخص في النطق بالقول الباطل: عند الضرورة والحاجة:
وذلك كالحديث الذي رواه الإمامان أحمد ومسلم، ونصه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، يقول خيرًا وينمي خيرًا)) . ولم أسمع يرخص في شيء يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها (2) . رغم أن الكذب من قبائح الذنوب وفواحش القلوب، وآفات اللسان، ومن علامات عدم الإيمان، بشهادة القرآن نفسه: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] . وبتأكيد من النبي نفسه، فقد رخص المشرع الحكيم في الحالات الثلاث التي نص عليها الحديث؛ لما فيها من جلب مصلحة أو درء مفسدة.
2- أحاديث تفيد جواز المسح على العمامة والخفين وما يلحق بهما:
- ما رواه عمرو بن أمية الضمري قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه)) (3) .
- وروي أن بلال بن رباح قال: ((مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين والخمار)) (4) (العمامة) .
- وقال المغيرة بن شعبة: ((توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسح على الخفين والعمامة)) (5) .
الأصل أن العزيمة في الغسل والمسح هو غسل ما يغسل من أعضاء الوضوء، ومسح ما يمسح مباشرة. لكن قد تدعو الضرورة أو الحاجة إلى مخالفة هذا الأصل، تخفيفًا على الناس بالمسح على العمامة بدل الرأس، والمسح على الخف بدل غسل الرجل.
__________
(1) الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص 320.
(2) مسند أحمد: 6 / 403 – 404، النووي على مسلم: 16 / 157.
(3) فتح الباري: 1 / 108، جامع الأصول: 8 / 137، نيل الأوطار: 1 / 164.
(4) نيل الأوطار: 1 / 164، النووي على مسلم: 3 / 174، جامع الأصول: 8 / 135. والمراد بالخمار العمامة.
(5) المنتقى: 1 / 76، النووي على مسلم: 3 / 172، جامع الأصول: 8 / 130.(8/296)
3- أحاديث تفيد الإبراد بصلاة الظهر، وهي كثيرة:
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل)) (1) .
- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) (2) .
- وقال أبو ذر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أبرد)) . ثم أراد أن يؤذن فقال: ((أبرد)) ، حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة)) (3) .
فهذه الأحاديث تدل على مشروعية هذا التأخير، وعلى أنه رخصة إلى حين الإبراد، ما لم يخرج الوقت (4) .
وأكتفي بهذه الأحاديث للدلالة على أن السنة اشتملت على أحاديث كثيرة في تحديد الرخص التي شرعت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أخرجه النسائي (عن جامع الأصول: 6 / 164) . نيل الأوطار: 1 / 304.
(2) فتح الباري: 2 / 15 – 18، نيل الأوطار: 1 / 304، جامع الأصول: 6 / 163.
(3) جامع الأصول: 6 / 163، فتح الباري: 2 / 20، نيل الأوطار: 1 / 305.
(4) الشوكاني، نيل الأوطار 1 / 304 – 305، الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص 330.(8/297)
حكم الرخصة
الرخصة باعتبار متعلقها الذي هو فعل المكلف، تكون واجبة ومندوبة ومباحة وخلاف الأولى (1) ، وهو رأي جمهور الأصوليين الذين يقولون: إن الرخصة قد تكون مطلوبة الفعل على وجه اللزوم، أو على وجه الندب والاستحباب (2) .
1- فتكون واجبة كأكل الميتة للمضطر، وأصل حكمها الحرمة. والحكم هنا وإن تغير من صعوبة، وهي الحرمة، إلى صعوبة وهي الوجوب؛ إلا أن وجوب الأكل موافق لغرض النفس في بقائها، ففيه سهولة من هذه الناحية. وسبب الحكم الأصلي: الخبث، ولذلك كان حرامًا.
2- تكون مندوبة كالقصر في السفر إذا بلغت المسافة ثلاثة أيام. والحكم الأصلي حرمة القصر. وعذر القصر المشقة، وسببه دخول الوقت. فقد تغير الحكم الأصلي من صعوبة وهي حرمة القصر إلى سهولة وهي ندب القصر لعذر المشقة مع قيام السبب وهو دخول الوقت.
- ومن هذا القبيل: الفطر في رمضان بالنسبة إلى المسافر الذي يشق عليه الصوم والإبراد بالظهر، والنظر إلى المخطوبة، ومخالطة اليتامى في أموالهم (3) .
3- وتكون الرخصة مباحة كالسلم الذي هو بيع موصوف في الذمة. ومثله الإجارة، وكل ما فيه عقد على معدوم أو مجهول، كالقراض والمساقاة. والأصل في ذلك المنع، ولكن أجيز للضرورة، مع قيام سبب الحكم الأصلي.
4- تكون الرخصة خلاف الأولى، كفطر مسافر في رمضان لا يشق عليه الصوم مشقة قوية، والتيمم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمن الأصل وهو قادر عليه، وقراءة القرآن على غير طهارة (4) . فالحكم الأصلي حرمة الفطر مثلاً، لكن أبيح لعذر المشقة، مع قيام السبب للحكم الأصلي.
ويقول الشاطبي: وحكم الرخصة الإباحة مطلقًا من حيث هي رخصة. والدليل على ذلك أمور (5) :
أحدها: ورود النصوص عليها، كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] . و {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] . و {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] .
- وفي الحديث: ((كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا المقصر ومنا المتم، ولا يعيب بعضنا على بعض)) (6) .
__________
(1) المحلى على جمع الجوامع: 1 / 122 – أصول الفقه للعربي اللوة: ص 74، الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص 392.
(2) أصول الفقه للدكتور حسين حامد حسان: ص 130.
(3) ابن عبد البر: التمهيد: 2 / 171.
(4) المعيار للونشريسي 1 / 87.
(5) الشاطبي: الموافقات: 1 / 209.
(6) التمهيد لابن عبد البر: 2 / 169 – 170.(8/298)
فهذه النصوص تدل على رفع الحرج والإثم عن مخالفة التكاليف، وذلك بالعمل بالرخصة وترك العزيمة، أو تقرر مغفرة ما يترتب على هذه المخالفة من إثم وذنب. وليس في هذه النصوص ما يدل على طلب الرخصة، طلبًا جازمًا أو غير جازم.
الثاني: أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف، ورفع الحرج عنه، حتى يكون من ثقل التكليف في سعة، واختيار بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة. وهذا أصله الإباحة. كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] .
الثالث: أنه لو كانت الرخص مأمورًا بها ندبًا أو وجوبًا لكانت عزائم لا رخصًا، والحال بضد ذلك، إذ الواجب هو: الحتم واللازم الذي لا خيرة فيه، والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر. ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات: إنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها. فإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين (1) .
وبهذا يظهر أن دليل الرخصة عند الشاطبي: يقتصر على إباحة مخالفة الحكم الكلي العام، وهو العزيمة، ويرفع الحرج والإثم عن هذه المخالفة، أو يقرر العفو والمغفرة عن المخالف، دون أن يتعرض لطلب الرخصة، طلبًا جازمًا أو غير جازم. وفي الحالات التي يجب العمل فيها بالرخصة، بحيث يعد ترك العمل بها إثمًا ومعصية، يقرر الشاطبي أن هذا الوجوب لم يؤخذ من دليل الرخصة، إذ الرخصة من حيث هي رخصة حكمها الإباحة دائمًا، وإنما استفيد الوجوب من دليل آخر، فوجب تناول المحرمات في حالة الضرورة (2) .
وهذا لم يؤخذ من أدلة الرخصة، لأن هذه الأدلة لا تفيد إلا الإباحة، ورفع الإثم والحرج؛ وإنما استفيد الوجوب من قاعدة حفظ النفس التي استفيد حكمها من نصوص أخرى تفيد في مجموعها وجوب الحفظ.
ولهذا فإن الفعل الواحد يمكن وصفه بالرخصة وبالوجوب، إذا اختلف الاعتبار، ولم تتحد الجهة. فإساغة الغصة بالخمر، وتناول الميتة للمضطر، ونحو ذلك كله واجب، فهو من هذه الجهة عزيمة، ولا يسمى رخصة، لأنه راجع إلى أصل كلي، وهو وجوب المحافظة على النفس، ويعتبر رخصة من جهة رفع الحرج الذي يقتضيه الدليل المانع.
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 1 / 210.
(2) أصول الفقه لحسين حامد حسان: ص 131، سلم الوصول إلى نهاية السول: 1 / 121، الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام: 1 / 69.(8/299)
وقد قصر بعض أئمة الشافعية الرخصة على الثلاثة الأول: الواجب والمندوب والمباح؛ كالإمام البيضاوي.
ومنهم من لم يذكر المباح من هذه الأقسام، كالنووي (1) . واتفق الفقهاء على أن الرخصة لا تكون مكروهة ولا محرمة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)) (2) .
تقسيمات الرخصة
لقد ذكر الأصوليون عدة تقسيمات للرخصة باعتبارات معينة. ونذكر بهذا البحث أهمها:
1- باعتبار الفعل والترك:
تنقسم الرخصة أولاً بالنسبة لما يقتضيه الأصل الكلي الذي جاءت الرخصة على خلافه قسمين:
أولاً: رخصة فعل: وهي ما اقتضت إباحة فعل على خلاف أصل كلي يقتضي المنع منه، كأكل الميتة ولحم الخنزير حالة الضرورة، والنطق بكلمة الكفر حالة الإكراه.
فالأصل الكلي في هذه الأحكام يقتضي المنع من تناول الميتة ولحم الخنزير، والنطق بكلمة الكفر، والرخصة خالفت الأصل وأجازت الفعل.
ثانيًا: رخصة ترك: وهو ما اقتضت إباحة ترك الفعل على خلاف أصل كلي يقتضي طلبه، كإباحة الفطر والقصر للمسافر، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حالة الخوف على النفس أو أحد الأعضاء.
فالأصل الكلي هنا يقتضي الصيام وإتمام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرخصة أباحت ترك هذه الأشياء، لأن حق الله يفوت صورة لا معنى، لبقاء اعتقاد الفرضية؛ بينما حق الشخص في ذاته يفوت صورة ومعنى بهلاكه (3) .
2- باعتبار عموم الضرورة وخصوصها:
جاء في كتاب مقاصد الشريعة للشيخ ابن عاشور انتقاده علماء الأصول في إغفالهم قسمًا كبيرًا من الرخص لم يتعرضوا إليها، ولم يجعلوا لها حظا ملحوظًا في مباحثهم. فقال في مبحث الرخصة:
" كان حقا علينا أن نفي مبحث الرخصة حقه من البيان، لأني وجدت بعض أنواع الرخص مغفولاً عن اعتبارها عند الفقهاء" (4) ثم يقول: " ورأيتهم لا يحتفلون إلا بالرخصة العارضة للأفراد في أحوال الاضطرار" (5) .
ويستفاد من كلام الشيخ الإمام هنا، أن الرخص تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: رخص عامة ومطردة: وهي الرخص المبنية على ضرورات عامة مطردة كانت سبب تشريع عام، في أنواع من التشريعات، مستثناة من أصول كان شأنها المنع، مثل السلم والمغارسة والمساقاة. فهذه مشروعة باطراد. وكان ما تشتمل عليه من الضرر وتوقع ضياع المال مقتضيًا منعها، لولا أن حاجات الأمة داعية إليها، فدخلت في قسم الحاجي.
__________
(1) نهاية السول شرح منهاج الأصول: 1 / 122.
(2) المسند 2 / 108، فيض القدير: 2 / 286، مجموع الفتاوى: 21 / 62.
(3) المغني في أصول الفقه: ص 87.
(4) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 132.
(5) المقاصد: ص 133.(8/300)
الثاني: رخص خاصة ومؤقتة: وهي الرخص العارضة للأفراد في حال الضرورة أو عند المشقة أو عند الحاجة، وهي الرخص التي اعتنى بها الفقهاء، بل اقتصروا عليها في تمثيل الرخصة، اعتمادًا على الكتاب والسنة. كقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] . في إباحة أكل الميتة للمضطر.
وقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] في إباحة الإفطار في رمضان بالنسبة للمريض والمسافر.
وما ورد في الصحاح من ((أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يمسح على الخفين عوضًا عن غسل الرجلين في الوضوء)) .
الثالث: رخص عامة مؤقتة: وهذا القسم هو الذي أشار الشيخ ابن عاشور إلى أنه قسم مغفول عنه، وهو الضرورة العامة المؤقتة. وذلك كأن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها يستدعي الإقدام على الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي من سلامة الأمة أو إبقاء قوتها أو نحو ذلك. ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة (1) وأنها تقتضي تغييرًا للأحكام الشرعية المقررة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة. وأمثلتها كثيرة منها:
1- الكراء المؤبد في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع، لما تحتاجه الأرض من قوة الخدمة، ووفرة المصاريف لطول تبويرها؛ وزهدوا في كرائها للغرس والبناء، لقصر المدة التي تكترى أرض الوقف لها، ولامتناع الغارس أو الباني من أن يغرس أو يبني لمدة قصيرة ثم يجبر على أن يقلع ما أحدثه في الأرض.
في مثل هذه الحالة جرت فتوى لابن السراج وابن منظور من علماء الأندلس في أواخر القرن التاسع بجواز الكراء على التأبيد، واعتبروا هذا الكراء المؤبد لا غرر فيه، لأن الأرض باقية غير زائلة، ولأن طول المدة من شأنه أن يحقق مصلحة عامة منجرة من وفرة إنتاجها، وهي راجحة على ما يمكن أن يخالط الآماد الطويلة من خطر (2) . وكراء أرض الحبس على التأبيد قد أجازه التسولي (3) إلى ما شاء الله من السنين. وقد جرى العمل بكراء أرض الحبس على التأبيد في المغرب ومصر والبلاد التونسية، وهو المعروف بالإنزال في تونس في اصطلاح المالكية، والكردار في اصطلاح الحنفية.
وقد جاء في مجلة العقود (4) والالتزامات التونسية ما يدل على اعتمادها هذا الاتجاه عندما عرفت الإنزال بأنه: عقد يحيل به المالك أو ناظر الوقف حوز العقار والتصرف فيه إلى الأبد، على أن يلتزم له المستنزل بأداء مبلغ معين سنوي أو شهري لا يتغير.
2- الترخيص في تغيير الحبس الذي تعطلت منفعته تحصيلاً للمنفعة من وجه آخر. وقد ذكر الونشريسي في المعيار (5) فقال:
أما مسألة دار الوضوء، فإن بطلت منفعتها، وتعذر إصلاحها، ولم ترج عودتها في المستقبل، وجاز أن تتخذ فندقًا. ولذلك جاز للناظر أن يستغلها في أي شأن يعود على المسجد الجامع بالنفع البين.
3- وكذلك أجازوا أن يستغل ناظر الوقف غلات الحبس الذي يتعطل عمله فيحقق بها مصلحة أخرى مشابهة. ويعتبر هذا العمل من الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة، لتحقيق مقصد شرعي فيه سلامة الأمة.
__________
(1) مقاصد الشريعة: ص 133.
(2) مقاصد الشريعة: ص 134، الحطاب: رسالة في بيع الوقف وما يتعلق بمدة الكراء، المعيار للونشريسي: 7 / 138.
(3) البهجة في شرح التحفة: 2 / 165.
(4) مجلة العقود والالتزامات: ص 348.
(5) المعيار للونشريسي: 5 / 149 – 150.(8/301)
4- وكذلك أجازوا للناظر أن يصرف من أموال الأحباس على المساجد، إذا كانت زائدة على الحاجة، في بعض وجوه البر كالتدريس، وإعانة طلبة العلم، وتحفيظ القرآن العظيم، لنفس الرخصة المتقدمة، ولنفس الضرورة.
5- وأجازوا أيضا بيع العقار الحبس وتعويضه بآخر. وجاء في المعيار للونشريسي (1) " وفي نوازل سحنون: لم يجز أصحابنا بيع الحبس، إلا دارًا جوار مسجد ليوسع بها، ويشترى بثمنها دارا مثلها تكون حبسًا. وقد أدخل في مسجده صلى الله عليه وسلم دورًا كانت محبسة " (2) .
وذكرت عدة أنقال عن ابن القاسم وابن رشد وكذلك عن مالك (3) تفيد جواز الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة لتحقيق ما هو أكثر صلاحًا وسدادًا للأمة.
6- ورخصوا في معاوضة الحبس للضرورة، وجاء في المعيار (4) : الحبس الذي لا منفعة فيه يباع. وقد سئل سيدي أبو عبد الله الحفار من أعلام غرناطة عن فدان حبس على مصرف لا منفعة فيه، هل يباع ويشترى بثمنه ما يكون به منفعة؟ فأجاب:
" إذا كان الفدان الذي حبس لا منفعة فيه فإنه يجوز أن يباع ويشترى بثمنه فدان يحبس وتصرف غلته في المصرف الذي حبس عليه الأول، على ما أفتى به كثير من العلماء في هذا النوع الذي هو من الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة، لتحقيق ما هو أكثر صلاحًا وسدادًا للأمة ".
7- الترخيص في بيع الخلو. وقد ذكر الشيخ ابن عاشور في المقاصد (5) أن فتوى الشيخ ناصر الدين اللقاني في مصر (6) قامت على نفس المبدأ الذي قامت عليه فتوى علماء الأندلس التي أشرنا إليها سابقًا. وبذلك أجاز بيع الخلو، كما صدرت فتاوى مشابهة (7) في تونس، وتسمى هذه العقود بالنصبة والخلو والمفتاح. وفي فاس بالجلسة والجزاء.
وقد بينت مجموع هذه الفتاوى صورة بيع الخلو بأن يدفع الكاري مالاً مسبقًا زيادة عن الكراء باتفاق مع المالك أو ناظر الوقف مقابل تهيئة المحل من طرف المستأجر لقبول حرفة معينة تقتضي التغيير والزيادة في العقار.
وهذه الزيادة في المال التي دفعها الكاري في مقابل الترخيص لتهيئة الدكان لحرفة معينة، تمكنه من البقاء في المحل على وجه لا يملك معه صاحب الريع إخراجه منه، ولا إزالة يده عنه.
__________
(1) المعيار: 1 / 245.
(2) المعيار: 1 / 245.
(3) المعيار: 245 – 246.
(4) المعيار: 199 – 200، الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص 417 – 418.
(5) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 134.
(6) صدر مجموع فتاوى في تونس سنة 1316 – 1897 يتضمن مسائل الإنزالات والكردار وما يتبع ذلك من النصبة والجلسة والحزقة ومن بيع الوقف الخرب على مشهور مذهب الحنفية ومذهب مالك بن أنس، ومن جملة المجموع رسالة الشيخ إسماعيل التميمي في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة فتوى الشيخ اللقاني المصري – كما وقعت الإشارة إليها في كتب كثيرة.
(7) صدر مجموع فتاوى في تونس سنة 1316 – 1897 يتضمن مسائل الإنزالات والكردار وما يتبع ذلك من النصبة والجلسة والحزقة ومن بيع الوقف الخرب على مشهور مذهب الحنفية ومذهب مالك بن أنس، ومن جملة المجموع رسالة الشيخ إسماعيل التميمي في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة فتوى الشيخ اللقاني المصري – كما وقعت الإشارة إليها في كتب كثيرة.(8/302)
وقد بينت هذه الفتاوى أنه بتمكين التجار وأصحاب الصنائع من هذا الحق تم إحياء أملاك الوقف، وراجت التجارة، وانتفع نظار الوقف وأصحاب الأملاك الخاصة من ربح كثير. وهذا الذي يرمي إليه العلامة ابن عاشور بقوله: " إن التفويت في بعض حق الوقف إذا جر منفعة أكبر للوقف نفسه وللمنتفعين به، فهو من باب الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة، لتحقيق مقصد شرعي فيه نفع أكبر. وقد مكن الفقهاء الكاري الذي أصبح يتمتع بهذا الحق من أن يكون مالكًا له، يورث عنه، ويباع، ويوهب، وإن مات وليس له وارث يصبح ملكًا لبيت المال.
8- الترخيص في بيع الوفاء (1) . وقد صدرت فتوى من علماء بخارى من الحنفية في جواز بيع الكروم لحاجة غارسيها إلى النفقات عليها قبل إثمارها كل سنة، فاضطروا إلى اقتراض ما ينفقونه عليها.
9- إباحة رمي الأسرى المسلمين الذين تترس بهم العدو متى علمنا أن الكف عنهم نتيجته انهزام المسلمين وإيقاف المد الإسلامي. وهذا يعتبره الغزالي من باب الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة لتحقيق مقصد شرعي فيه سلامة الأمة. وهو مدعو إليه من أجل المحافظة على الإسلام وعموم المسلمين.
قال الغزالي: وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدًا منهم لنجوا، وإلا غرقوا بجملتهم. لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين (2) .
__________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 134.
(2) المستصفى: 1 / 141.(8/303)
إباحة الرخصة لرفع الحرج
الإباحة المنسوبة إلى الرخصة هل هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج، أو من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك؟
الشاطبي يرجح معنى رفع الحرج على المعنى الآخر (1) ويستدل بجملة آيات من القرآن، ويقول: وذلك ظاهر في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ، وفي آية أخرى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115] ؛ فلم يذكر في ذلك أن للمترخص الفعل والترك، وإنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم عنه.
وكذلك قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ولم يقل فله الفطر، ولا فليفطر. وأشار إلى أنه إن أفطر فعدة من أيام أخر.
وكذلك قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] . ولم يقل فلكم أن تقصروا من الصلاة، أو: فإن شئتم أن تقصروا.
والمراد برفع الحرج: كل ما أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال، حالاً أو مآلاً (2) . وقد نبه الفقهاء: أن المشقة إذا كانت معارضة بما هو أشد منها مما يتعلق بحقوق الله والمصالح العامة، فإنه لا يكون حرجًا شرعيًّا بالنظر إلى ما هو أشد منه، وذلك كالجهاد في سبيل الله دفاعًا عن بيضة الإسلام، أو نشرًا لدينه، لأن الله لما طلبه وحض عليه، أعقبه بنفي الحرج، وذلك في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فالحرج اللاحق بالمجاهد ليس من الحرج الشرعي الموجب للترخيص، نظرًا لسمو غايته وما يترتب عليه من عظيم المصالح في حماية الدين وأهله.
ومثال ذلك أيضا المشقة المقارنة للحدود والعقوبات الشرعية (3) .
ويتبين لنا من هذا النقاط التالية:
أولاً: إن رفع الحرج أصل كلي من أصول الشريعة، ومقصد من مقصادها، والرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف، وكلاهما أصل كلي، والعامل بهذه أو بتلك لابد أنه قد اس
تند إلى دليل قطعي؛ والآيات الدالة على رفع الحرج قد بلغت مبلغ القطع، والتيسير من أصول الشريعة الإسلامية. (4)
ثانيًا: رفع الحرج عن هذه الأمة قاعدة عامة أجمع المجتهدون على اعتبارها ومراعاتها في مناهجهم الاجتهادية.
ثالثًا: الحرج مرفوع من الأحكام ابتداء وانتهاء، في الحال والمآل، بينما الرخص تشمل عادة أحكامًا مشروعة بناء على أعذار العباد، وتنتهي بانتهائها؛ وأخرى تراعى فيها أسباب معينة تتبعها وجودًا وعدمًا.
__________
(1) الموافقات: 1 / 216.
(2) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: ص 47.
(3) ابن حميد: رفع الحرج: ص 48.
(4) الموافقات للشاطبي: 1 / 217.(8/304)
رابعًا: ليس كل ما كان من التشريع رفعًا للحرج يسمى رخصة، وما كل حرج يرخص لأجله، ويمكن أن نؤكد أن الرخص تعني: تيسير ما شق من تلك الأحكام الميسرة ابتداء.
خامسًا: رفع الحرج لا يستلزم تخيير المكلف بين الفعل والترك، لأنه لا يمكن أن يكون موجودًا مع الواجب، مثلاً، بينما الرخصة تقتضي التخيير ابتداء بينهما.
الترجيح بين العزيمة والرخصة من الرخص ما يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها طبعًا، كالمرض الذي يعجز معه من استيفاء أركان الصلاة على وجهها، أو عن الصوم لخوف فوت النفس، أو لا صبر عليها شرعًا، كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على إتمام أركان الصلاة.
وهذا القسم راجع إلى حق الله. فالترخص فيه مطلوب (1) . ومن هنا جاء الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما: ((ليس من البر الصيام في السفر)) (2) .
فالرخصة في هذا جارية مجرى العزائم، باعتبار رجوعها إلى أصول كلية ابتدائية. ولذلك قال الفقهاء بوجوب أكل الميتة خوف التلف، وإن لم يفعل كان آثمًا؛ إلا إذا عارضت ذلك مصلحة أخرى راجحة على حفظ النفس، كحفظ الدين مثلا.
ومن الرخص ما يكون في مقابلة مشقة، وللمكلف قدرة على الصبر عليها، وهذا راجع إلى حقوق العباد، لينالوا حظا من رفق الله وتيسيره. فالمقام في هذه الحالة الأخذ بالعزيمة وإن تحمل في ذلك مشقة، وله الأخذ بالرخصة؛ أي أن المشرع يهدف إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك، وأنهما على السواء في قصده، فلا فرق عنده بين هذه أو تلك. ويتفرع على هذا أن المكلف يكون مخيرًا بين الإتيان بالعزيمة وبين الإتيان بالرخصة، وللترجيح بين الأمرين هناك عدة مرجحات.
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 1 / 217 – 218. أصول الفقه للخضري ص 87.
(2) البخاري، فتح الباري: 4 / 83، مسلم، شرح النووي: 7 / 233، المسند لأحمد: 4 / 299 – 317 – 319.(8/305)
ترجيح العزيمة على الرخصة:
أما الأخذ بالعزيمة عند تخيير المكلف، فله مرجحات:
أولها: أن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف على مقطوع به ومتفق عليه، وورود الرخصة وإن كان مقطوعًا به لكن سبب الترخص لا تحقق له، لأن مقدار المشقة المباح من أجله الترخص غير منضبط، وكل مجال للظنون لا مجال فيه للقطع، فاقتضى هذا ألا يقدم المكلف احتياطًا على الرخصة مع بقاء احتمال السبب (1) .
ثانيها: أن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف كلي، لأنه مطلق عام لجميع المكلفين. والرخصة راجعة إلى جزئي بحسب بعض المكلفين ممن له عذر، وبحسب بعض الأوقات وبعض الأحوال في أهل الأعذار لا في كل وقت، ولا في كل حالة، ولا لكل أحد. فهو كالعارض الطارئ على الأمر الكلي. والقاعدة التي جرى عليها العمل: أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي فالكلي هو المقدم، لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية، والكلي يقتضي مصلحة كلية، ولا ينخرم نظام العالم بانخرام المصلحة الجزئية، بخلاف ما إذا قدم اعتبار المصلحة الجزئية على المصالح الكلية، فإن النظام يختل باختلالها.
وفي هذا السياق فإن العزيمة أمر كلي ثابت لكل مكلف، والرخصة دون ذلك، لأن مشروعيتها أن تكون جزئية، وحيث يتحقق الموجب فالأولى لمن أراد أن ينجو من العهدة الرجوع إلى الكلي، وهو العزيمة (2) .
ثالثها: ما جاء في الشريعة من الأمر بالوقوف مع مقتضى الأمر والنهي مجردًا، والصبر على حلوه ومره، وإن انتقض موجب الرخصة: من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] . فهذا مظنة التخفيف، فأقاموا على الصبر والرجوع إلى الله، فأثنى عليهم بقوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] .
ومنه قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] وبعد أن ذكر المشهد كاملاً مدح الصابرين على هذا كله بقوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] .
فقد مدحهم الله بالصدق والثبات مع حصول الزلزال الشديد والأحوال الشاقة التي بلغت القلوب فيها الحناجر، وهي حالات يدخل بها المكلف في منطقة التخفيف عادة، ولكن أولئك الرجال ثبتوا على الحق، وماتوا عليه، فرفعهم الله بهذا الثبات، وهو يدل على أن الأخذ بالعزيمة يترجح على الأخذ بالرخصة. وأمثال ذلك كثير في مدح الصابرين الثابتين على الامتثال في المواضع التي أجاز الله فيها اتباع الرخص، وسماهم الله صادقين، لأخذهم بالعزيمة دون الرخصة (3) .
رابعها: أن العوارض الطائرة وأشباهها مما يقع للمكلفين من أنواع المشاق هي مما يقصده الشارع في أصل التشريع، وذلك لأن المقصود في أصل التشريع من المشقة ما هو جار على توسط مجاري العادات.
وكونه شاقا على بعض الناس أو في بعض الأحوال مما هو علي غير المعتاد، فإن هذه المشقة لا تخرجه تمامًا عن أصل وضعه من أن يكون مقصودًا له، لأن الأمور الجزئية لا تخرم الأصول الكلية، وإنما تستثنى بحسب الحاجيات. والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول للمجتهد، والخروج عنه لا يكون إلا لسبب قوي. ولذلك لم يعمل العلماء بمقتضى الرخصة الخاصة بالسفر في غيره كالصنائع الشاقة في الحضر مع وجود المشقة التي هي العلة الحقيقة في مشروعية الرخصة.
__________
(1) ابن عبد البر: التمهيد: 2 / 172 – 173.
(2) الموافقات للشاطبي: 1 / 220، أصول الفقه للخضري: ص 88 و 89، الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص 646 – 647.
(3) مختصر تفسير ابن كثير: 2 / 176 – 177 – الموافقات: 1 / 220 – 221.(8/306)
وإذًا لا ينبغي الخروج عن حكم العزيمة مع عوارض المشقات التي لا تطرد ولا تدوم، لأن ذلك أيضا جار في العوائد الدنيوية، ولم يخرجها عن أن تكون عادية. فصار عارض المشقة إذا لم يكن كثيرًا ودائمًا فلا يدعو إلى الخروج عن الأصل (1) . قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] . فإن المترخص في هذه الأحوال على الإطلاق يكون كالمضاد لما قصده الشارع من تكميل للعزيمة.
خامسها: أن الترخص إذا أخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلف في التعبد على الإطلاق، فأما إذا أخذ بالعزيمة كان حريا بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه؛ وهذا مشاهد محسوس لا يحتاج إلى إقامة دليل. فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة بالنسبة إليه شاقة حرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها، وطلب الطريق إلى الخروج منها (2) .
ويظهر أن هذه المسائل التي رجح بها الشاطبي الأخذ بالعزائم على الأخذ بالرخص هي في الواقع راجعة إلى مبحث الاحتياط أو الأخذ بالأحوط التي تكون موضع شك المكلف، وهو مبحث أصولي هام، له اتصال بمسائل الحلال والحرام، وقواعد الذرائع والحيل، تناوله ابن حزم في كتابه الإحكام " (3) . وتعرض إليه ابن القيم في فوائده (4) كما تعرض إليه بتفصيل الشيخ صالح بن حميد في كتابه " رفع الحرج " وبين فيه كل مجالات الاحتياط، وأفرده بفصل سماه: رفع الحرج والاحتياط (5) .
__________
(1) الموافقات: 1 / 222 – 224.
(2) الموافقات: 1 / 224.
(3) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 6 / 162.
(4) بدائع الفوائد: 3 / 257 و 279.
(5) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: ص 329 – 346، الرخص الفقهية في القرآن والسنة: ص 653.(8/307)
ترجيح الرخصة على العزيمة:
يرى فريق من العلماء (1) أنه في حالة رفع الحرج عن المكلف في الأخذ بالعزيمة أو في الأخذ بالرخصة يترجح الأخذ بالرخص للأمور الآتية:
أولها: أن أصل العزيمة وإن كان قطعيا فأصل الترخص قطعي أيضا بالإضافة إلى المظنة، حيث وجدت وكيف كانت؛ فإن المشرع قد أجرى الظن في ترتب الأحكام مجرى القطع، فمتى وجد سبب الحكم كان مستحقًا للاعتبار. وقد قام أكثر من دليل قطعي على أن الدلائل الظنية تعامل في فروع الشريعة معاملة الدلائل القطعية، فإن غلبة الظن تنسخ حكم القطع السابق؛ لذلك إذا غلب على ظن الصائد أن موت الصيد بسبب ضرب الصائد وإن أمكن أن يكون بغيره، أو يعين على موته غيره، فالعمل على مقتضى الظن صحيح (2) . وبهذا الاعتبار يسقط الوجه الأول من مرجحات العزيمة.
ثانيها: أن أصل الرخصة وإن كان جزئيًا بالإضافة إلى عزيمتها فذلك غير مؤثر، وإلا لزم أن نقدح فيما أمر به من الترخص؛ بل الجزئي إذا كان مستثنى من كلي فهو معتبر في نفسه، لأنه من باب التخصيص للعموم، أو من باب التقييد للإطلاق. ويصح تخصيص القطعي بالظني، فهذا منه.
وقد تقرر أيضا أن الكلي لا ينخرم بانخرام بعض جزئياته، فسقط الوجه الثاني.
ثالثها: أن الأدلة على رفع الحرج عن هذه الأمة قد بلغت مبلغ القطع، وأن الأدلة على مشروعية الرخص بلغت كذلك مبلغ القطع، وما دامت الرخصة مباحة وفيها سهولة ويسر ومراعاة لحق العبد والشارع، فهي أولى من العزيمة التي يراعى فيها حق الشارع وحده (3) .
__________
(1) الموافقات: 1 / 230- 231، أصول الخضري: ص 91، الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص 653 – 654.
(2) الموافقات: 1 / 231.
(3) الموافقات: 1 / 231.(8/308)
رابعها: أن مقصود الشارع من مشروعية الرخصة: الرفق بالمكلف عن تحمل المشاق. فالأخذ بها مطلقًا موافقة لقصده، بخلاف الأخذ بالعزائم فإنه مظنة التشديد والتكلف والتصلب، وقد تقدم ما ورد من وعيد ونهي عن هذه الصفات في كتاب الله وفي سنة نبيه.
روي عن ابن عباس في قصة بقرة بني إسرائيل: ((لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم)) (1) .
وفي الحديث ((هلك المتنطعون)) (2) . ((ونهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل، وقال: من رغب عن سنتي فليس مني)) (3) بسبب من عزموا على صيام النهار وقيام الليل واعتزال النساء.
خامسها: أن ترك الترخص مع ظن سببه قد يؤدي إلى الانقطاع والسآمة والملل والتنفير من الدخول في العبادة وكراهية العمل وترك الدوام عليه. فالإنسان إذا توهم التشديد أو طلب منه، كره ذلك ومله، وربما عجز عنه في بعض الأوقات، فإذا لم يفتح له باب الرخص، وسد عنه ما سوى ذلك عد الشريعة شاقة، وربما ساء ظنه بما تدل عليه دلائل رفع الحرج، خاصة وقد قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] ألا يكون تجنب العنت مرجحًا للترخص (4) .
ويظهر أن الترجيح لجانب العزيمة أو لجانب الرخصة لا ينبغي أن ينظر فيه إلى ذات العزيمة أو ذات الرخصة، وإنما ينظر فيه إلى المكلفين الذين ستطبق هذه الأحكام عليهم أو سيطبقونها من تلقاء أنفسهم، فينبغي أن لا تخرج عن مرتبتي العزيمة والرخصة، ولكل من المرتبتين في حال مباشرة الأعمال رجال، من قوي منهم خوطب بالتشديد والالتزام بالعزائم، ومن ضعف منهم خوطب بالرخصة (5) .
__________
(1) قال الآلوسي في تفسيره: 1 / 238: أخرجه ابن جرير بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا – وأخرجه سعيد بن منصور في سند عن عكرمة، مرفوعًا مرسلاً.
(2) أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن مسعود.
(3) رواه الشيخان والنسائي (وهذا الجزء من آخر حديث الثلاثة الذين سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقالوها) .
(4) الموافقات: 1 / 233.
(5) كشف الغمة عن جميع الأمة: 1 / 108 – 109.(8/309)
الرخصة أمر اعتباري إضافي:
إن الرخص إضافية أي أن كل واحد من المكلفين فقيه نفسه في الأخذ بها أو في عدمه، وبيان ذلك:
أولاً: إن الرخص لها أسباب متعددة. وإذا أخذنا من جملة الأسباب المشقة التي تعتبر سببًا هامًا فلا يمكن أن نعتبر المشقة بمثابة واحدة، إذ هي تختلف قوة وضعفًا بحسب الأحوال والأزمان والأعمال والأشخاص والعزائم، فليس من يسافر وحده راجلاً في مفازة وحر شديد كمن يسافر راكبًا في رفقة وأرض مأمونة واعتدال هواء؛ وليس قوي الجسم والشجاع كضعيف الجسم والجبان، وكذا المرضى تختلف أحوالهم وتحملهم وصبرهم، إلى غير ذلك مما لا يمكن ضبطه وتحديده بحدود يصح اطرادها في جميع الناس.
لذا أقام الشارع في جملة منها السبب مقام العلة فاعتبر السفر وأقامه مقام المشقة لأنه أقرب مظان وجود المشقة، وترك كثيرًا منها موكولاً إلى الاجتهاد كالمرض، لأن أسباب الرخص ليست داخلة تحت قانون أصلي ولا ضابط محصور، فاعتبر الشارع كل مكلف في الأخذ بالرخص فقيه نفسه (1) . فإن من الناس من يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الشخصين دون الآخر. وإذًا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي مطرد، فهو إضافي بالنسبة لكل مكلف. ورب مضطر قد اعتاد الصبر على الجوع والخصاصة فلا تختل قواه ومداركه بفقد الطعام، بل تلحقه المشقة فقط، في حين تختل بفقده حال غيره؛ فهذا يجب عليه الترخص، والأول يكون مخيرًا فيه إذا خلا عن المرجح.
ثانيًا: ومما يدل على أن الرخص إضافية ما جاء في وصال الصيام، وقطع الأزمان في العبادات؛ فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد، ثم فعله النبي صلى الله عليه وسلم، علمًا بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حق الأنبياء، ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا تصدهم هذه العبادة عن حوائجهم، ولا تقطعهم عن سلوك طريقهم؛ فلا حرج في حقهم، وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج، حتى يصده عن ضروراته وحاجاته. وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الوصال، لما روي أنه كان يواصل الصيام أربعين يومًا، وأراد أصحابه الاقتداء به، فأنكر عليهم ذلك، فقال له رجل: إنك تواصل يا رسول الله، فقال: " وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ")) (2) . واعتبر هذا الصيام خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ما يؤيد أن الرخص إضافية تختلف قوة وضعفًا بحسب الأحوال والأزمان والأشخاص والعزائم.
ويشهد لهذا الرأي الذي جعل لكل من المرتبتين رجالاً: ما ثبت من أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنهم الصائم ومنهم المفطر، فلا يعيب هذا على هذا، وفي رواية مالك عن أنس، قال: ((سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.)) (3)
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 1 / 213 – 214، أصول الفقه للعربي اللوة: ص 74.
(2) استشهد به صاحب المنار حافظ الدين النسفي، وخرجه الشيخ محمد عبد الحليم اللكنوي: 1 / 36.
(3) التمهيد لابن عبد البر: 2 / 169 – 170.(8/310)
تتبع الرخص وموقف العلماء منه
لقد تقدم لنا في أول البحث أن رفع الحرج هو من مقاصد الشريعة الإسلامية، وأن الشرع لم يأت بما يشق أو يعنت، بل شرع من الأحكام الأصلية والرخص ما يتناسب مع أحوال المكلفين، وأن المشقة التي تستوجب الرخص ليست هي المشقة المعتادة المألوفة، وإنما هي المشقة غير المعتادة التي تشوش على النفوس في تصرفها – كما يقول الشاطبي – ويقلقها هذا العمل بما فيه من هذه المشقة (1) .
ورفع الحرج أو اليسر في الإسلام وإن كان شاملاً لجميع أحكام الشريعة، وفي كافة مجالاتها إلا أنه ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة واقعة في طريق الامتثال لأوامر الله، تعين على تحقيق الغاية. فالإسلام هو الاستسلام لأوامر الله، والانصياع لشرعه، وتحقيق مراد الشرع كذلك، من جلب المصالح ودرء المفاسد، فإن المقصد العام من التشريع هو حفظ نظام العالم، واستدامة صلاحه بصلاح المستخلفين فيه، وفي عقيدتهم، وعبادتهم، وكافة شؤون حياتهم، وما بين أيديهم من موجودات العالم الذي يعيشون فيه.
فالذي يتلمس التخفيفات ويتتبع مواطن الرخص ورفع الحرج بعيدًا عن الغاية الحقيقية من تمام العبودية وخالص الخضوع والطاعة لله وحده والسعي في جلب المصالح ودرء المفاسد، وغايته أن يأخذ بالسهل من الأمور الذي قد يؤدي إلى الانسلاخ من الأحكام والابتعاد عن الشرع، والتهاون بمسائل الحلال والحرام في المطاعم والمشارب والمعاملات، مدعيًا أن لا حرج في الدين، فقد أخطأ وضل السبيل، لأنه لا يجوز أن تنقلب الوسائل غايات أو تتغلب الوسائل على الغايات (2) .
ولا شك أن الرخص المباحة المتفق على صحتها، وسلامتها من التهاون والتلاعب وسوء النية أو الجهل وعدم التحري، هي مخارج من الحرج، ورخص تفضل الله بها على عباده للتخفيف عنهم من مشقة التكاليف وقت الاحتياج لذلك، وإزالة الحرج عنهم في الدين تحقيقًا لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 2 / 84.
(2) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: صالح بن حميد: ص 14.(8/311)
أما الرخص المختلف فيها فيمكن الأخذ بها عند الضرورة والحرج الشديد إن ترجح دليلها وتساوى مع دليل بطلانها، خصوصًا للمضطر المحرج، فيجوز الإفتاء بها له لإخراجه من الضيق والحرج، ولإبقاء حرمة الدين في نفسه. وهذا مقصد هام من مقاصد الشرع وهو المحافظة على حرمة الدين في نفوس الناس.
فينبغي أن يكون عند
المسلم من الموانع ما يثنيه عن الإقدام على مواطن الرخص، والأخذ بالأيسر في كل مسألة. فإن هذا يوشك أن يتخذ آيات الله هزؤًا.
قال سليمان التميمي لمن سأله في هذا الباب: " إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله ". قال ابن عبد البر: " هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا " (1) . وقال الشاطبي: " وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين ممن يعتد بهم في الإجماع، أنه لا يجوز ولا يسوغ لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه وسخطه من سخطه. وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه، فلا يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به أو أوجبه، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] .
فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي، أو بما يرضي المستفتي؟ (2) .
وهذا الكلام وما سبقه يدل على أن تتبع الرخص قد يحصل من الشخص نفسه، وقد يحصل من المفتي الذي لا يتقصى مقاصد من يستفتيه، فيبدي له في كل قضية أيسر ما قيل به فيها، وفي هذا وذلك نوع من التحيل على الشرع؛ وقد اتفق العلماء على حرمته.
وقد أعطى ابن قيم الجوزية قضية الحيل الشرعية حقها من البيان في كتابه " إعلام الموقعين " وأنهى كتابه بإرشادات قيمة وفوائد جليلة تتعلق بالإفتاء والمفتين وقال في الفائدة التاسعة والثلاثين: " لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه".
فإن حسن قصده في تخريج جائز لا شبهة فيه ولا مفسدة، لتخليص المستفتي بها من حرج، جاز ذلك، بل استحب. وقد أرشد الله تعالى نبيه أيوب إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا (قبضة ريحان أو قضبان) فيضرب بها المرأة ضربة واحدة. وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيع التمر بدراهم ثم يشتري بالدراهم تمرًا آخر فيتخلص من الربا.
__________
(1) الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 3 / 179. مراتب الإجماع: ص 175.
(2) الموافقات: 4 / 90.(8/312)
فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم (1) .
ونقلوا عن الإمام أحمد، أنه قال: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، كان فاسقًا (2) .
كما نقلوا عن إسماعيل القاضي أنه قال: دخلت على المعتضد فرفع إلي كتابًا لأنظر فيه، وقد جمع فيه صاحبه الرخص من زلل العلماء، وما احتج له كل منهم. فقلت: مصنف هذا الكتاب زنديق. فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر. وما من عالم إلا وله زلة. ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه (3) .
وبهذا نرى أن للرخص مقاصد وأهدافًا، هي: التخفيف ونفي الحرج في الدين. وقد شرعت لأجل ما يطرأ على المكلف من عجز أو مشقة يتعذر عليه معها الإتيان بالأحكام الأصلية بسهولة ويسر، فينتقل إلى الأحكام التي شرعت لأهل الأعذار. فهذه مجالات الرخص.
ويتبين أن الإغراق في تتبع الرخص، والأخذ بالأقوال الضعيفة من كل مذهب، دون تفريق بين غثها وسمينها، ودون نظر إلى ما فوت مقصد الشارع منها وما لم يفوته وبدون تقيد بالنيات والمقاصد التي هي روح العمل الخالص لوجه الله، في شأنه أن يؤدي إلى إلغاء الشريعة ونقضها بالتحيل عن طريق تتبع الرخص. فإن كل ممنوع يمكن التحيل عليه لإخراجه في صورة الجائز، وهذا ما لا يمكن السماح به.
إن تتبع الرخص يمكن أن يرادف في بعض الأحيان ما تعارف الفقهاء على تسميته بالحيل. لأن الرخصة إذا وجد سببها، سواء كان ضرورة أو مشقة أو مرضًا أو غير ذلك، فهي مشروعة لا تتقيد بعدد ولا مكان أو زمان.
فإذا سافر المكلف مثلاً في رمضان قصد الإفطار مدة الصيام، والقضاء بعد ذلك في المدة التي تناسبه، فهذا لا يعتبر صاحب مشقة، وإنما يعتبر فارًا من أداء رمضان في وقته، وقد اتخذ السفر ذريعة للإفطار، وحيلة لعدم القيام بهذا الواجب في وقته. ومذهب الإمام مالك صريح بأن السفر المبيح للإفطار في رمضان إنما هو سفر الطاعة، وهذا السفر ليس بسفر طاعة، فلا يجوز به الفطر في رمضان، فهو من التحيل الممنوع الذي أريد به إخراجه في صورة الجائز، إذ هو يؤدي إلى إلغاء الشريعة ونقضها (4) .
__________
(1) إعلام الموقعين: 4 / 222.
(2) الأحكام: 6 / 179.
(3) الأحكام: 6 / 179.
(4) الحيل الفقهية في المعاملات المالية: ص 117.(8/313)
وإذا قلد المكلف بعض أقوال من المذهب الحنفي التي تبيح شرب نبيذ غير العنب فهذا لا يسمى اصطلاحًا رخصة، ولكنه تخير المقلد من أحكام المذاهب ما فيه سهولة تبيح له ما كان ممنوعًا في مذهبه.
قال الشاطبي: فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرم عليه، بوجه من الوجوه، حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر، والمحرم حلالاً في الظاهر، فهذا التسبب يسمى حيلة وتحيلاً. كما لو دخل في وقت صلاة عليه في الحضر، فإنها تجب عليه أربعًا، فأراد أن يتسبب في إسقاطها كلها، بشرب خمر أو دواء مسبت، حتى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه (1) ، أو أراد أن يسقط بعضها اثنتين، بإحداث سفر قصر.
ولهذا اعتبر الفقهاء أن تتبع الرخص مما يتنافى مع مقصد الشارع من شرع التخفيف عمومًا، والرخص بصفة خاصة، ولا يكون ذلك إلا من ضعيف الإيمان، غير المتفهم لمقاصد الشريعة وأهدافها ومراميها. لأن التذبذب بين المذاهب للأخذ من كل مذهب أسهله وأيسره أو تخفيفه أو ترخيصه؛ كل ذلك يعتبر عبثًا في الدين، لا يقره دين الله الذي جاء لمصلحة العباد في المعاش والمعاد (2) .
وقال الإمام الشاطبي: فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب، وكل قول فيها وافق هواه، فقد خلع ربقة التقوى، وتمادى في متابعة الهوى، ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه (3) .
وهكذا رأينا أن الحيل وتتبع الرخص التي قامت على هدم أصل شرعي، أو نقض مصلحة شرعية، قد ذمها علماء الدين قاطبة، وإن يكن بينهم خلاف فيها فإنما هو في مدى انطباق ضابط ما يحرم من الحيل على مسائلها، وفي أنها إذا وقعت تكون نافذة أم لا مع القول بالتحريم في حال النفاذ.
ويمكن القول على وجه كلي، بأن الكل قائل بالتحريم. وأن مالكًا وأحمد يضمان إبطال الحيل في أحكام الدنيا، وأن أبا حنيفة والشافعي وإن قالا بالتحريم فذلك لا يلتزم الإبطال وعدم النفاذ دائمًا. فالخلاف بين الفريقين في دائرة ضيقة هي نفاذ هذه التصرفات في أحكام الدنيا ظاهرًا، على ما يقول الحنفية والشافعية، أو إبطالها وعدم نفاذها على ما يقوله المالكية والحنابلة. ولهذا قال ابن تيمية في إقامة الدليل: ولا يجوز أن تنسب هذه الحيل إلى أحد من الأئمة، ومن نسبها إلى أحد منهم فهو جاهل بأصولهم ومقاديرهم ومنزلتهم في الإسلام.
__________
(1) الموافقات للشاطبي: ج 2 – ص 280.
(2) الموافقات للشاطبي: ج 2 – ص 272.
(3) الموافقات للشاطبي ج 2 صـ 272(8/314)
ولا يخفى أن فريقًا من الفقهاء أطلق لفظ الحيل على كل ما يحتال به توصلاً إلى مقصد، سواء كان مرغوبًا عنه في الشريعة الإسلامية أو مرغوبًا فيه. فالأول هو الاحتيال على الشريعة المؤدي إلى تعطيلها، بإسقاط حقوق الله تعالى، أو إضاعة حقوق عباده. والثاني هو التوسل بالطرق المشروعة للتخلص من الحرام، والتوصل إلى الحلال. ومنع الفريق الثاني من العلماء هذا الإطلاق على مطلق النوعين، وجعل كل منهما اسمًا، دلالة على اختلاف المدلول باختلاف الدال. وأحسن عنوان للمرغوب عنه لفظ الحيل، وللمرغوب فيه لفظ المخارج. وضابط التفرقة بينهما:
إن كل ما يتوسل به المرء لتطبيق الأحكام الفقهية تطبيقًا صوريًا غير حقيقي، يستلزم إغفال العلة التي بني عليها الحكم، وضياع حكمته الشرعية، فرارًا من أداء التكليف الشرعي، أو توصلاً إلى إبطال حقوق العباد الشرعية وقلبها ظهرًا لبطن. فهو من النوع المرغوب عنه، المسمى بالحيل.
وإن كل ما يتذرع به الإنسان للتخلص من الحرام، والتواصل إلى الحلال بمسوغ دفع الضرر وسد الذرائع أو جلب المصالح، بشرط الاحتفاظ بكيان الشرع، والمصلحة التي بني عليها الحكم، وحكمة تشريعه، صونًا لحقوق الله تعالى وحقوق عباده، فهو من النوع المرغوب فيه، المسمى بالمخارج الشرعية التي شرعها الله لعباده (1) .
التلفيق ورأي الأصوليين والفقهاء فيه
التلفيق في اللغة: في لسان العرب (2) وفي الصحاح وأساس البلاغة:
لفق الثوب، من باب ضرب يلفقه لفقا، وهو أن يضم شقة إلى أخرى، فيخيطها، وتستعمل بمعنى الملاءمة. إذا لاءمت بينهما بالخياطة، بضم إحداهما إلى الأخرى.
وأحاديث ملفقة أي أكاذيب مزخرفة، واللفاق الذي لا يدرك ما يطلب، ولفق الصقر إذا أرسل فلم يصطد، أما لفق بالكسر فمعناه: أصاب وأخذ وهو أيضا بمعنى طفق.
وفي اصطلاح الفقهاء يستعمل الفقهاء التلفيق بمعنى الضم، كما في المرأة التي انقطع دمها، فرأت يوما دما ويوما نقاء أو يومين، بحيث لا يجاوز التقطع خمسة عشر يوما عند غير الأكثرين، وهو الأظهر عند الشافعية (3)
__________
(1) انظر عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، لمحمد سعيد الباني: ص 241 – 242.
(2) لسان العرب: 382/3
(3) روضة الطالبين: 162/1(8/315)
وكإدراك الجمعة بركعة ملفقة وهو ما يراه الشافعية والحنابلة " أن الجمعة تدرك بركعة ملفقة من ركوع الأولى وسجود الثانية. وقد ذكر الشافعية ذلك في المزحوم الذي لم يتمكن من السجود في الركعة الأولى حتى شرع الإمام في ركوع الركعة الثانية من الجمعة، فقد ذكروا أن المزحوم يراعي نظم صلاة نفسه، في قول، فيسجد الآن ويحسب ركوعه الأول في الأصح، لأنه أقر به في وقته (1) .
وكالتلفيق في مسافة القصر لمن كان بعض سفره في البحر وبعضه في البر يرى المالكية على القول الذي لا يفرق بين السفر في البحر والسفر في البر في اعتبار المسافة، إنه إذا سافر وكان بعض سفره في البر وبعضه في البحر فإنه يلفق.
أي يضم مسافة أحدهما لمسافة الآخر مطلقا، من غير تفصيل. وجاء في الزرقاني أنه: يلفق بين مسافة البر ومسافة البحر إذا كان السير في البحر بمجداف، أو به وبالريح، فإذا كان يسير فيه بالريح فقط لم يقصر في المسافة المتقدمة وهي دون مسافة قصر، فلا تليق (2) .
ولم يفرق الشافعية وكذلك الحنابلة، على الصحيح في المذهب عندهم، في مسافة القصر بين البر والبحر، بل لو سار في البحر وقطع تلك المسافة في لحظة فإنه يقصر (3) .
وعند الحنفية لا يعتبر السير في البر بالسير في البحر، ولا السير في البحر بالسير في البر، وإنما يعتبر كل موضع منهما بما يليق بحاله. والمختار للفتوى عندهم أن ينظر كم تسير السفينة في ثلاثة أيام ولياليها إذا كانت الرياح مستوية معتدلة، فيجعل ذلك هو المقدر لأنه يليق بحاله (4) .
وقال الفقهاء: إن من حلف ألا يدخل على أهله شهرا وكان الشهر تسعا وعشرين ثم دخل. فإن كان حلفه في غرة الشهر لا يحنث اتفاقا، وإذا كان حلفه في أثناء الشهر هل يجب تلفيق الشهر ثلاثين، أو يكتفي بتسع وعشرين؟ الجمهور على وجوب التلفيق (5) .
__________
(1) روضة الطالبين: 19/2-21. والموسوعة الفقهية: 290/13
(2) الدسوقي: 359/1. الزرقاني: 38/2.
(3) روضة الطالبين: 385/1.
(4) الفتاوى الهندية: 138/1. الموسوعة الفقهية: 292/13
(5) القسطلاني شرح البخاري: 440/9(8/316)
في مختصر خليل وشرحه الكبير في كفارة اليمين: لا تجزئ الكفارة حال كونها ملفقة من نوعين فأكثر، كإطعام مع كسوة، وأما من صنفي نوع فيجزي في الطعام، فيجوز تلفيقا من الأمداد والأرطال والشبع (1) .
وعلى هذا المنهج استعمل الفقهاء كلمة التلفيق فقالوا: التلفيق في التقليد، وقالوا: المسألة الملفقة، أو تلفيق في الاجتهاد، وقالوا: التلفيق في التشريع.
الأول: التلفيق في الاجتهاد:
التلفيق في الاجتهاد، ويسمى: الاجتهاد المركب: هو أن يجتهد اثنان أو أكثر في موضوع، فيكون لهم فيه قولان، ثم يأتي من بعدهم من يجتهد في الموضوع نفسه، ويؤدي اجتهاده إلى الأخذ من كل قول ببعضه، ويكون مجموع ذلك مذهبه في الموضوع، فيكون اجتهاده هذا اجتهادا مركبا بالنظر إلى ما سبقه من اجتهاد. ويمكن أن يتحقق ذلك في كثير من الصور منها:
1- ما إذا اختلف الصحابة أو مجتهدو عصر في مسألة على قولين أو على أقوال، وانقرض العصر وهم على ذلك، فهل يجوز لمن يأتي بعدهم من المجتهدين إحداث قول ثالث؟ أو قول جديد؟
2- ما إذا اختلف الصحابة أو مجتهدو عصر في مسألتين على قولين. فهل لمن يجتهد بعدهم أن يأخذ في إحدى المسألتين بقول طائفة، وفي المسألة الأخرى بقول الطائفة الأخرى، أو لا يجوز؟
وقد ذكر الغزالي (2) في المستصفى محل الخلاف في المسألة الأولى، فقال: إن صورة المسألة المختلف فيها: أن يعرف أن مجتهدي العصر جميعا قد تكلموا في المسألة واختلفوا فيها. أما مجرد نقل الأقوال من عصر من العصور فإنه لا يكون مانعا من إحداث قول ثالث، لأننا لا نعلم هل تكلم الجميع فيها أو لا. ومتى كان تحرير محل الخلاف في المسألة على الوضع فقد أصبح الأمر هينا جدا، إذ من العسير أن يتوصل إلى ذلك، وخاصة فيما بعد عصر الصحابة.
__________
(1) خليل 132/2
(2) المستصفى: 1 /199(8/317)
أما الأصوليون من الأحناف فقد تناولوا المسألة الأولى وحدها ولم يتناولوا المسألة الثانية كما صنع شمس الأئمة السرخسي في أصوله، وأبو البركات النسفي في المنار، وغيره، وذهبوا إلى منع إحداث القول الثالث مطلقا.
وقالوا: إن الأصل هو أن السكوت يدل على الوفاق وينعقد به الإجماع. وعلى هذا الأصل تتخرج المسألة. فإذا اختلف مجتهدو عصر على قولين أو أقوال، فقد أجمعوا على حصر الأقوال في المسألة، وفي ما عداها، فإحداث قول ثالث أو جديد فيها يكون خرقا للإجماع السابق.
قال السرخسي: ومن هذا الجنس ما إذا اختلفوا في حادثة على أقاويل محصورة، فإن المذهب عندنا أن هذا يكون دليل الإجماع منهم على أنه لا قول في هذه الحادثة سوى هذه الأقاويل، حتى ليس لأحد أن يحدث قولا آخر برأيه. وعند بعضهم هذا من باب السكوت الذي هو محتمل أيضا. فكما لا يدل على نفي الخلاف لا يدل على نفي قول آخر في الحادثة. فإن ذلك نوع تعيين لا يثبت بالمحتمل (1) ….
أما صاحب المنار فيقول: " والأمة إذا اختلفوا في مسألة على أقوال في أي عصر كان، كان إجماعا منهم على أن ما عداها باطل، ولا يجوز لمن بعدهم إحداث قول آخر، كما في الحامل المتوفى عنها زوجها.
وقيل تعتد بعدة الحامل، وقيل بأبعد الأجلين، وقيل هذا في الصحابة خاصة، فإنهم إن اختلفوا على قولين كان إجماعا منهم على بطلان القول الثالث. والحق أن بطلان القول الثالث مطلق، يجري في اختلاف كل عصر " (2) .
وقد رد هؤلاء على من ذهب إلى جواز ذلك استنادا إلى أن هذا سكوت عن غير ما أبدوه. فلا يكون إجماعا. كما ردوا على من قال إن الاختلاف في المسألة دليل على أنها مسألة اجتهادية فيسوغ الاجتهاد فيها.
أما أبو إسحاق الشيرازي الشافعي (3) فقد أورد المسألتين منفصلتين، وجعل وضع كل منهما في اختلاف الصحابة وحده، وقال في الأولى بالمنع، ورد على من ذهبوا إلى الجواز. وقال في المسألة الثانية أنه لم يصرح المختلفون بالتسوية بين المسألتين جاز للتابع أن يأخذ في إحدى المسألتين بقول طائفة وفي الأخرى بقول الطائفة الأخرى، وقال: إن من الناس من زعم أن هذا إحداث قول ثالث، وهذا خطأ، لأنه وافق في كل واحدة من المسالتين فريقا من الصحابة.
__________
(1) أصول السرخسي: 1 /310
(2) المنار: 2 /112
(3) اللمع: ص 61- 62(8/318)
وقد ذكر الفخر الرازي المسألتين منفصلتين في المحصول، ونقل القول فيهما بالجواز، والقول بالمنع مطلقا – وهو رأي أكثر المحققين – وقال: إن الحق هو التفصيل، وقد أطال في بيان هذا التفصيل، وخلاصته (1) :
إن الحكم المختلف فيه، إما أن يكون متعلقا بمحل واحد، أو متعلقا بأكثر من محل، وبين المحلات ارتباط، وأحد القولين هو ثبوت الحكم في أحد المحلين وعدم ثبوته في المحل الأخر، والقول الثاني بعكسه، أو متعلقا بأكثر من محل، وأحد القولين ثبوت الحكم في المحلين، والقول الآخر عدم ثبوته فيهما، أو متعلقا بأكثر من محل، وأحد القولين ثبوت الحكم في محل وعدم ثبوته في المحل الآخر، والقول الثاني هو ثبوت الحكم في كل من المحلين، أو عدم ثبوته فيهما، ويمثل هذا التفصيل تقدم صدر الشريعة في التنقيح والتوضيح (2) .
ومن أمثلة الحكم المختلف فيه، المتعلق بمحل واحد:
1- ميراث الجد مع الإخوة. اختلف فيه على قولين: أحدهما أن له الميراث وحده، والثاني إنه يقاسم الإخوة.
والقولان مشتركان في أمر واحد حقيقي شرعي مجمع عليه، وهو ميراث الجد وعدم حجبه بهم، فالقول بحجبه بهم، إبطال لما أجمعوا عليه.
2- امرأة الغائب إذا أخبرت بوفاة زوجها، فتزوجت بآخر وولدت منه، ثم ظهر زوجها الأول. قال أبو حنيفة يثبت نسبه من الأول. الشافعي: يثبت نسبه من الثاني.
فالقول بعدم ثبوت نسبه منهما، أو بثبوت نسبه منهما مخالف لما أجمع عليه من ثبوت نسبه من أحدهما.
ومن أمثلة الحال الأولى من أحوال تعدد المحل: احتجام المتوضئ ومسه المرأة بلا شهوة، وقال أبو حنيفة ينتقض وضوؤه بالاحتجام ولا ينتقض بالمس، وقال الشافعي بالعكس، فالقول بعدم الانتقاض بهما، أو القول بالانتقاض بهما قول ثالث ليس فيه إبطال لحكم شرعي مجمع عليه، وهو موافق لكل من المذهبين في حكم، واتفاق القولين على افتراق الحجامة والمس ليس اتفاقا على أمر شرعي، وإن قيل: إن القولين قد اتفقا على بطلان الطهارة، وعدم جواز الصلاة ممن احتجم ومس المرأة، قيل له: إنه إجماع مركب، إذ فيه الاتفاق على الحكم مع الاختلاف في العلة، فلا تجوز عند الحنفية للاحتجام، وعند الشافعي للمس، فكل من الحكمين منفصل عن الآخر، لا تعلق له به.
ومن أمثلة الحال الثانية من أحوال هذا التعدد: ميراث الأم مع الأب وأحد الزوجين. فقد اختلف في قدره، فقيل: للأم ثلث الكل قبل فرض أحد الزوجين، وهو قول ابن عباس. وقيل: إن لها ثلث الباقي بعد هذا الفرض، وهو قول عامة الصحابة. فالقول بأن للأم ثلث الكل مع الزوج، وثلث الباقي مع الزوجة، قول ثالث، وهو قول ابن سيرين. والقول بأن لها ثلث الباقي مع الزوج وثلث الكل مع الزوجة قول ثالث أيضا، وهو قول شريح.
ومن أمثلة الحال الثالثة من أحوال هذا التعدد: الصلاة في جوف الكعبة. اختلف فيها. فقال الشافعي بجواز النفل دون الفرض، وقال أبو حنيفة بجوازهما. فجواز النفل حكم مجمع عليه، فالقول بعدم جوازهما أو بجواز الفرض دون النفل – مخالف لحكم مجمع عليه، وهو جواز النفل.
__________
(1) المحصول في علم أصول الفقه. القسم الأول من الجزء الثاني: ص 179 إلى 210.
(2) التنقيح والتوضيح: 2/ 328. مقال لأحمد فرج السنهوري حول التقليد والتلفيق.(8/319)
ومن كل ما سبق تتلخص لنا الأمور الآتية:
أولا: إن المسألتين الأصوليتين السابقتين سواء أبقيتا منفصلتين أم جعلتا مسألة واحدة، هما محل اختلاف بين العلماء. فقالت طائفة فيهما بالجواز مطلقا، وقالت طائفة بالمنع مطلقا، وقالت طائفة بالتفصيل الذي سبق بيانه.
ثانيا: إن المانعين بإطلاق استندوا إلى أن سكوت المجتهدين المختلفين يكون إجماعا منهم على نفي ما لم يقولوا به، وإن المفصلين استندوا في الحالات التي قالوا فيها بالمنع إلى إجماع المختلفين على حكم مشترك ناشئ عن أقوالهم، وكل من هذين الإجماعين لا يمكن القول بحصوله إلا إذا عرف أن كل مجتهدي العصر قد خاضوا في الموضوع واختلفوا فيه. أما مجرد نقل أقوال لبعضهم فلا يدل على تحقق أي من الإجماعين.
ثالثا: إذا تعددت محال الحكم المختلف فيه لا ينظر إلا إلى الحكم المشترك بين القولين أو الأقوال. فلا ينظر إلى ما يسمونه الحقيقة المركبة التي تجمع محال الحكم، كالطهارة أو الصلاة ممن احتجم أو مس المرأة التي يطلق عليها الحنفية في كتب الفقه الفصلين الاجتهاديين (1) .
الثاني: التلفيق في التقليد:
ما دام الحديث في هذا المسألة عن التلفيق في التقليد، كان من الواجب أن أبين من هو المقلد والمستفتي في اصطلاح الأصوليين والفقهاء، حتى يسهل بعد ذلك الحديث عن التلفيق في التقليد.
والمقلد هو العامي الصرف، أو من له نظر وبصر بالمذاهب، غير أنه لم يبلغ مرتبة الاجتهاد فيجب عليهما تقليد مجتهدين، واجتهاد المجتهد بالنظر لهما كالأدلة الإجمالية بالنسبة للمجتهد.
والعامي الصرف لا يصح له مذهب ولو تمذهب به، ومذهبه في كل نازلة هو مذهب من أفتاه فيها.
أما من كان له نوع بصر بالمذاهب، وتأهل للنظر والاستدلال فيه، فإنه إذا تمذهب بمذهب إمام بعينه، فمعنى ذلك أنه متبع له في العلم والمعرفة والاستدلال في العمل إذا ما دعت إليه الحاجة.
__________
(1) التنقيح والتوضيح 2 /328 – مقال لأحمد فرج السنهوري حول التقليد والتلفيق.(8/320)
ومن التزم بمذهب إمام بعينه فالأصح أنه لا يلزمه، لأن التزامه به غير ملزم، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولم يوجب الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره. وإذا التزم بمذهب معين فله الانتقال عنه كلية إلى مذهب آخر، وله أن ينتقل منه في بعض الأحكام في آحاد المسائل.
أما أهل الاجتهاد المقيد، فيجب عليهم تقليد أهل الاجتهاد المطلق في أصول مذاهبهم فقط، دون الفروع.
وأهل الاجتهاد المطلق لا يجوز لهم تقليد غيرهم مطلقا، وإنما الواجب عليهم العمل باجتهادهم (1) .
وقد نقل الثقات عن عدد عظيم من العلماء أنهم تحولوا من المذاهب التي كانوا يقلدونها إلى غيرها. كما نقلوا عن غيرهم أنهم ما كانوا يلتزمون مذهبا معينا فيما يؤلفون من الكتب الفقهية وفي إفتاء العامة، وهؤلاء كانوا خلقا كثيرا في عصور مختلفة، ولم ينكر عليهم أحد تحولهم أو عدم التزامهم بمذهب معين. ثم ما زال عوام كل عصر يقلد أحدهم هذا المذهب في مسألة والآخر في أخرى والثالث في ثالثة، وكذلك إلى ما لا يحصى، ولم ينقل إنكار ذلك عليهم، ولم يؤمروا بتحري الأعلم والأفضل في نظرهم.
التلفيق في التقليد على ضربين:
الأول: تلفيق بين الأحكام الكلية للعمل والمعرفة والاطمئنان إلى الأرجحية، من غير نظر إلى جزئيات تلك الأحكام وما يمكن أن يترتب على العمل بها في النوازل المختلفة. والظاهر أن هذا النوع من التخيير والتقليد جائز، ولا أثر لخلاف معتبر فيه. وصورته أن من كان مقلدا لأبي حنيفة مثلا وتزوج بلا ولي، ثم رجع عن تقليده في أحكام الأنكحة وقلد الشافعي من غير نظر إلى هذه الجزئية، بقي زواجه صحيحا ولا يحتاج إلى تجديد، ويعمل بأحكام الشافعي حال بقاء هذه الزوجية، وإن بقيت آثار العقد التي تمنع من التقليد. فالممنوع هو الرجوع عن المذهب في خصوص الجزئية التي قلد فيها مع إرادة الاستمرار على العمل بالآثار. أما لو رجع عنه إلى غيره من غير ملاحظة تلك المسألة بخصوصها لم يمتنع الاستمرار على الآثار، وإذا أدى إلى تلفيق لم يكن قادحا.
__________
(1) فتح القدير: 5 /456. الشعراني: 1 /14-38. الغزالي: المنخول ص 476. فتاوى عليش: 1 /51. التقرير والتحبير: 3 /350.(8/321)
الثاني: التخيير والتلفيق للعمل به في نازلة معينة، وهو النوع الذي تكلموا في منعه، والفقهاء في هذا النوع على مذاهب. فالمجيزون للتلفيق في التقليد يشترطون شروطا ثلاثة لهذا الجواز:
1- ألا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع، كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد (1) وهذا ما قاله جمهور الفقهاء.
2- أن لا يكون موقعا في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه (2) ، وهذا الشرط نقله ابن الهمام عن القرافي، واعتمد عليه في تحريره.
3- أن لا يلفق بين قولين تتولد منهما حقيقة واحدة مركبة لا يقول بها كل من الإمامين، وصورته أن من قلد الشافعي رحمه الله تعالى في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء الغسل، وقلد مالكا في عدم نقض اللمس بلا شهوة للوضوء، فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى، إن كان الوضوء بدلك صحت صلاته عند مالك رحمه الله تعالى وإن كان بلا دلك بطلت عند مالك والشافعي (3) .
وقال جماعة: هذا الشرط لا تنهض به حجة، فإن المقلد لم يقلد كلا منهما في مجموع عمله، وإنما قلد كلا منهما في مسألة معينة غير التي قلد فيها غيره. ولا حرج في هذا. ومجموع العمل لم يوجب أحد النظر إليه، لا في اجتهاد ولا في تقليد، وإنما هو اختراع لحكم شرعي ممن ليس أهلا للقول به، ولله سبحانه خطابه، ولكل خطاب أثره في محله، والمجتهدون قد اختلفوا في كل حكم مختلف فيه على حدة، وقد جرى الناس منذ كان الاجتهاد على تقليد مجتهد في حكم، ومجتهد ثان في غيره، ومجتهد ثالث في حكم آخر، من غير نظر إلى العمل الذي يجمع مسائل الاختلاف. فما ذهبوا إليه ليس إلا إحداثا لأمر في دين الله.
وبعضهم اشترط أن لا يتبع الرخص ويلتقطها. وهذا الشرط وإن اعتبره الإمام النووي وغيره، فإن ابن الهمام وغيره: لم يعتبروه ولم يلتفتوا إليه.
وذكر ابن الهمام أن المقلد لا يجوز له أن يتبع غير مذهبه في غير ما عمل به. أما إذا عمل بمذهبه في أي قضية ما، فلا يجوز أن يقلد غيره فيها (4) . فالقول بعدم جواز هذا ليس من أجل التلفيق وحده، بل بسبب الرجوع عما قلد فيه بعد العمل به. أما إذا لم يعمل بالقولين معا، بل عمل بهما على التعاقب ولا أثر للقول، لم يكن هذا من التلفيق، وإنما يكون رجوعا عما عمل به. فمن قلد أبا حنيفة في صحة الزواج بلا ولي، ثم طلق هذه الزوجة ثلاثا فعمد إلى تقليد الشافعي في بطلان هذا الزواج، وأن الطلاق لم يصادف محلا، وقد عقد عليها عقدا جديدا، لا يكون عاملا بالقولين معا، بل عمل بالأول ثم رجع عنه مع بقاء أثره، فالقول بعدم جواز هذا ليس من أجل التلفيق وحده، بل بسبب الرجوع عما قلد فيه بعد العمل، مع بقاء أثره.
__________
(1) شرح التنقيح للقرافي: ص 386.
(2) شرح المنهاج للإسنوي: 3 /350. التقرير والتحبير: 3 /350.
(3) تحفة ابن حجر: 4/ 266.
(4) ابن الهمام: التقرير والتحبير: 3 /35.(8/322)
وإذا عمل بالقولين معا في حادثتين، لم يكن هذا من التلفيق الممنوع في شيء، كمن طلق امرأته ثلاثا بلفظ واحد فأفتاه مفت بأنها بائنة منه بينونة كبرى، فأمضي ذلك وفارقها، ثم طلق أخرى ثلاثا بلفظ واحد، فأفتاه آخر بأنه طلاق رجعي فراجعها وأمسكها، يكون له امرأتان قد قال لهما قولا واحدا ومع هذا تحل له إحداهما وتحرم عليه الأخرى، ولكن هذا ليس من التلفيق القادح لتعدد النازلة.
والذين أجازوا التلفيق قالوا: لابد من بقاء الخلاف قائما فيهما حين العمل في الحادثة. والذي يرفع الخلاف في الحادثة هو حكم الحاكم المستوفي شرطه إذا كان في مسألة اجتهادية، فيكون واجب النفاذ عندئذ، ومثال ذلك إن الرجل إذا قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق ثلاثا، ثم تزوجها، ورفع الأمر إلى قاض حنفي أو مالكي فقضى بصحة هذا التعليق وبطلاقها منه ثلاثا، كان قضاؤه رافعا للخلاف في هذا العقد، وليس لأحد نقضه. لكنه لو عقد عليها نفسها بعد ذلك عقدا جديدا، وكان هذا الزواج مختلفا فيه، فلا يرجع هذا الخلاف إلى القضاء الأول، لأنه في نكاح آخر، فلو رفع إلى شافعي فقضى بصحته، كان قضاؤه صحيحا. وكذلك لو رضع كبير من امرأة ثم تزوج بنتها نسبا أو بنتها من الرضاع ورفع الأمر إلى من يرى الحرمة بهذه الرضاعة، فقضى بينهما بالتفريق ولم يقض بتأبيد الحرمة، كان قضاؤه رافعا للخلاف في هذا العقد وحده دون غيره. فلو أنه عقد عليها ثانيا، ورفع الأمر إلى من لا يرى الحرمة بهذه الرضاعة، وقضى بصحة الزواج صح قضاؤه، ولا يمنعه القضاء الأول، إذ أنه كان في نكاح غير هذا النكاح (1) .
ومن المجيزين للتقليد يحيي الزناتي. قال القرافي (2) نقلا عن الزناتي: يجوز تقليد المذاهب في النوازل، والانتقال من مذهب إلى مذهب، بثلاثة شروط لا تختلف كثيرا عن الشروط التي ذكرناها قبل قليل في هذا الفصل نفسه، وهي:
1- أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع.
2- أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلد أميا في عماية.
3- أن لا يتتبع رخص المذاهب. ثم قال القرافي وغيره: يجوز تقليد المذاهب، والانتقال إليها في كل مالا ينقض فيه حكم الحاكم، وهو أربعة: (1) ما خالف الإجماع. (2) والقواعد. (3) والنص. (4) والقياس الجلي.
والذي يفهم من كلام المانعين أنهم تارة يمنعون التلفيق كلية. قال ابن حجر الهيثمي في تحفة المحتاج: إن ما قاله الآمدي وابن الحاجب من أن من عمل في مسألة بقول إمام لا يجوز له العمل فيها بقول غيره اتفاقا. ويظهر أن هذا الاتفاق إنما هو في صورة ما إذا بقى من آثار العمل الأول في ما يلزم عليه مع الثاني تركيب حقيقة لا يقول بها كل من الإمامين. كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس، ومالك في طهارة الكلب، في صلاة واحدة (3) .
أما إذا كان التركيب في قضيتين، فالذي يظهر إن ذلك غير قادح في التقليد.
__________
(1) الهداية: 3 /87. الفروق للقرافي: 2 /103. الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 156..
(2) شرح التنقيح: ص 386.
(3) تحفة المحتاج: 1 /13.(8/323)
وحاصل القول: إن بطلان الرجوع عن التقليد بعد العمل، ليس بمتفق عليه، بل فيه خلاف. وإن التزام مذهب معين ليس بلازم. فقد ذكر الزركشي مذاهب العلماء في هذه المسألة، فقال:
هل يجب على العامي التزام التقليد مذهبا معينا في كل واقعة؟ فيه وجهان: قال فريق: يلزمه، وقال ابن برهان: لا، ورجحه النووي في أوائل القضاء، وهو الصحيح، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تقليد. وقد رام بعض الخلفاء زمن مالك حمل الناس في الآفاق على مذهب مالك، فمنعه مالك واحتج بأن الله فرق العلم في البلاد بتفريق العلماء فيها، فلم الحجر على الناس؟
وذكر بعض الحنابلة أن هذا هو مذهب أحمد، فإنه قال لبعض أصحابه: لا تحمل الناس على مذهبك فيحرجوا، دعهم يترخصوا بمذاهب الناس. وقد كان السلف يقلدون من شاؤوا قبل ظهور المذاهب الأربعة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه)) . وتوسط ابن المنير فقال: الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأئمة الأربعة، لا قبلهم. والفرق: أن الناس كانوا قبل الأئمة الأربعة لم يدونوا مذاهبهم ولا كثرت الوقائع عليهم (1) .
ثم قال الزركشي: فلو التزم مذهبا معينا كمالك والشافعي، واعتقد رجحانه من حيث الإجمال، فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل، ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر؟ فيه مذاهب:
أحدهما: المنع، وبه جزم الجيلي في الإعجاز، لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع، فلا ضرورة إلى الانتقال إلا للتشهي، ولما فيه من اتباع الترخص والتلاعب بالدين.
الثاني: الجواز، وهو الأصح، لأن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين، لأن السبب، وهو أهلية المقلد للتقليد، عام بالنسبة إلى قوله، وعدم أهلية المقلد مقتض لعموم هذا الجواب، ووجوب الاقتصار على مفت واحد يخالف صيغة الأولين (2) .
__________
(1) البحر المحيط للزركشي: 6 / 319..
(2) البحر المحيط للزركشي: 6 /320.(8/324)
ثم قال: واعلم أنا حيث قلنا بالجواز، فشرطه أن يعتقد رجحان ذلك المذهب الذي قلد في هذه المسألة. وعلى هذا فليس للعامي ذلك مطلقا، إذ لا طريق له إليه.
الثالث: أنه كالعامي، الذي لم يلتزم مذهبا معينا، فكل مسألة عمل فيها بقول إمامه ليس له تقليد غيره، وكل مسألة لم يعمل فيها بقوله فلا مانع فيها من تقليد غيره.
الرابع: إن كان قبل حدوث الحوادث فلا يجب التخصيص بمذهب. وإن حدث وقلد إماما في حادثة، وجب عليه تقليده في الحوادث التي يتوقع وقوعها في حقه. وهو اختيار إمام الحرمين، لأنه قبل تقرير المذاهب ممكن، أما بعده فلا، للخبط وعدم الضبط.
الخامس: إن غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب غير مقلده أقوى من مقلده جاز، قاله القدوري الحنفي.
السادس: وهو اختيار ابن عبد السلام في القواعد، التفصيل بين أن يكون المذهب الذي أراد الانتقال عنه بما ينقض الحكم أولا. فإن كان الأول ليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه لبطلانه، وإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال، لأن الناس لم يزالوا كذلك في عصر الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة.
السابع: واختاره ابن دقيق العيد، وهو الجواز بشروط، وهي نفس الشروط التي ذكرها يحيى الزناتي من قبل.
ويظهر في كل ما تقدم أن الالتزام بمذهب معين ليس بواجب وليس في الشريعة نصوص تدل على هذا الوجوب. لكن العلماء خوفا من التلاعب بالدين وتقويض دعائم الشريعة، والقضاء على سماحتها وحكمتها، حكموا بمنع التلفيق في التقليد، سدا للذريعة لما رأوا قلة الورع، واتباع الهوى. ومنهم من أجازه بكامل الاحتياط واشترط شروطا من شأنها أن تضمن المحافظة على حكمة الشريعة وسياستها.
وعلى هذا فإن إباحة التلفيق مطلقا خطير جدا، ولاسيما في هذا العصر الذي تغلب فيه الهوى، فضعف فيه الوازع الديني، وانحط فيه مستوى الالتزام بمبادئ الشريعة وأحكامها، وكثر دعاة الإباحية والعلمانية والعقلانية. مع العلم أن غالب المتخرجين من أصحاب الشهادات لا يعتمدون على أصول صحيحة , وليس لهم تطلع بعلم الفروع ولا باع يمكنهم من الإفتاء في الدين.(8/325)
وجميع هذه الاعتبارات لا يمكن أن تكون مبررا للقول بمنع التلفيق، ومنع الناس من أن ينالوا من رفق الله تعالى وتيسيره بحظ، ولو لم يكن فيه مشقة. وعلى المستفتي إذا كان من أرباب العزائم، وتحمل المشاق، والمقتنع بأسرار الشريعة ومقاصدها، أن يفتي بالأحوط أخذا بالورع والكمال ما لم تحق به نازلة تقتضي التخفيف فإنه يفتي بالأخف عليه من كل مذهب خشية العجز عن التكليف، فيما إذا شدد عليه بالمنع من التلفيق ومع كونه خاليا من دليل من الكتاب والسنة، يؤيد القول بهذا المذهب، فهو في الآن نفسه يتنافى مع يسر الإسلام ومرونته، ولا يتلاءم مع حاجيات هذا العصر وتطور الحياة الاجتماعية، لأن القضايا الفقهية المتجددة لا يمكن لها أن تحل إذا تقيدنا بمذهب فقهي واحد. وهذا التقيد يقف حجر عثرة أمام المسلمين لأن تعدد المذاهب الفقهية رحمة لهذه الأمة، فلا مانع من أن نستفيد من آراء مختلف الفقهاء والمجتهدين لدفع الحرج والمشقة.
ثم إن كل طبقة من طبقات العوام تفىي بما يناسبها تشديدا أوتخفيفا وفاقا لمقتضى اتساع الشريعة وحكمتها، مع العلم أن مواطن المحظورات لا يسوغ للعلماء التلفيق بها، سواء بالنسبة لهم أو لمن يستفتيهم، إلا في مواطن الضرورة، إذ الضرورات تبيح المحظورات، لكن ما أبيح للضرورة يتقدر بقدرها. وإنما لم يسغ التلفيق في المحظورات للقاعدة المقررة: إن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وعلى قاعدة أنه ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام على الحلال.
أما المحظورات العائدة إلى حقوق العباد فمبناها صيانة الحق، ومنع الإيذاء. لذلك لا محل فيه للتلفيق لأنه ضرب من الاحتيال، والعدوان على الحق، وتطرق إلى إيذاء العباد. وذلك للحديث الوارد ((لا ضرر ولا ضرار)) وحديث ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) .
كما لا يجوز للمقلد أو المفتي أن يختار للفتوى أقوالا أو أفعالا من نوادر العلماء وشواذهم الذين لم تبن أقوالهم وآراؤهم على قواعد شرعية واضحة، وإنما حكم عليها من أول يوم بالضعف، وأجمعوا على عدم الاعتماد عليها.
التلفيق في التشريع
والتلفيق في التشريع إنما يكون عادة من تخير ولي الأمر من أحكام مختلف المذاهب الفقهية المعتبرة مجموعة من الأحكام تكون قانونا في ميدان واحد من ميادين التشريع، كالأحوال الشخصية أو أحوال الميراث أو ميدان العقود والالتزامات أو غيرها.
وقد ألفت في غالب البلاد الإسلامية لجان لاختيار القوانين المناسبة لهذا العصر من مختلف المذاهب الإسلامية. وأول محاولة كانت في عهد الأتراك العثمانيين بإصدار المجلة العدلية كقانون. وهذا المجلة وإن لم يكن فيها خروج عن المذهب الحنفي إلا أن اختيارات داخل المذهب وخروجا عن قول الإمام إلى أقوال أصحابه وهو نوع من الاجتهاد الجماعي.
وألفت لجنة في تونس من علماء المذهبين المالكي والحنفي في حدود سنة 1951 برئاسة شيخ الإسلام المالكي الشيخ عبد العزيز جعيط لإصدار مجلة في الأحوال الشخصية تكون عمدة لأهل القضاء الشرعي ولا تعتمد على مذهب معين بل كانت اللجنة مخيرة في اختيار فصولها من المذهبين الحنفي والمالكي المنتشرين بالبلاد التونسية. ويدل هذا العمل على أنه لا مانع من أن يفضي الأمر إلى التلفيق في الأمور الجزئية إذا دعت المصلحة إلى ذلك.
وأعتقد أن مجمعنا هذا لم يقم إلا لاختيار الأقوال الملائمة لحياة العصر، ولا تخرج عن نصوص الشريعة الإسلامية وقواعدها. وهذا هو الحال في كل المجامع التي أسست في بلاد العالم الإسلامي والتي تعمل على مراجعة الأحكام وتنقيحها في حدود النصوص، واختيار أنسب الأقوال لملاءمة مشاكل ومستجدات هذا العصر.
وهذا نوع من التلفيق لم ير فيه العلماء ما يمس بروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها.
والسلام
مصطفى كمال التارزي.(8/326)
الأخذ بالرخص وحكمه
إعداد
الشيخ الطيب سلامة
عضو المجلس الإسلامي الأعلى
تونس
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل
تأصيل الرخصة في التشريع الإسلامي
الشريعة هي ما شرعه الله تعالى وخاطب به الأمة، فلا يسمى شرعا أو شريعة إلا شرع الله، ولا يسمى شارعا أو مشرعا إلا الله تعالى، وهذه حقيقة إيمانية لا خلاف فيها بين أولي العلم من المؤمنين، والله تعالى يقول: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] .
وما يعمد إليه البعض من إطلاق كلمة (تشريع أو شرع) على القوانين الوضعية وكذلك إطلاق كلمة (مشرع أو شارع) على واضع القوانين الوضعية، هو منكر يأباه الإيمان الصحيح، وتأباه الأخلاق، زيادة على التحريف اللغوي، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] . ومن التحريف اللغوي الصارخ استعمال فعل (خلق) – الذي هو فعل خاص بمقام الرب تعالى، خالق الأكوان – في أفعال العباد، وهكذا يفعل الذين لا يعلمون أن الخلق معناه الإيجاد من عدم، ومن يخلق من عدم غير الله؟ وهل يقدر الإنس والجن مجتمعين أن يخلقوا ذبابا واحدا؟ قال الحق تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) } [الحج: 73-74] فهل ينتهي المتخمون فنا وثقافة (بالمفهوم المعاصر) من التجني على اللغة العربية وعلى القيم والمقدسات؟
هذه هي الشريعة بإجمال … فهل يكفي العلم بها وإبقاؤها في الدفاتر؟ لقد أجمع أرباب النظر من علماء المقاصد على أن وجود الشريعة التي شرع الله للأمة لا يتم إلا باتباعها , وبترك الأهواء، ولا يحصل اتباعها إلا بتيسير العمل بها , وإقامة نفوذها في الأمة.(8/327)
التيسير مسلك لدعم نفوذ الشريعة:
نفوذ الشريعة، أو بعبارة أخرى: نفاذها إلى القلوب واستهواؤها للنفوس، لا يكون إلا بعد العلم والاقتناع، والتصميم على الطاعة، والالتزام بالاتباع، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((… فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (1) .
ولا يحصل التصميم – بالاختيار – لدى المكلف، ولا الالتزام – بمحض الرغبة – في اتباع تعاليم الشرع، ما لم يحصل لدى هذا المكلف الشعور بالاستطاعة، والإحساس باعتدال هذا الشرع، ووسطيته وسماحته، بحيث تتحقق سهولة المعاملة والتطبيق لأحكامه، وتقوم على ذلك الأدلة، بمثل ما قامت في أحكام شرع الإسلام.
وقد دل استقراء الشريعة على أن التيسير والسماحة والرحمة من مقاصد هذا الدين الحنيف، وليست الشريعة نكاية، ولا تشتمل على نكاية بالأمة، ولعل هذا من خصائص شريعة الإسلام، يدل على ذلك ما حدث للأمم السابقة ولم يحدث نظيره في شريعة الإسلام، مثل ما حدث من تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل عقابا لهم على مخالفة الشريعة وإصرارهم على العصيان. قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160 – 161] .
إن الله خلق الخلق من عباده وفطرهم على الفطرة الحسنة، قال تعالى {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] . وجعل أمور هذه الفطرة راجعة إلى الجبلة الكامنة في النفس، ومن رحمته تعالى بخلقه أن جعل شريعته التي شرع لهم على دين الفطرة، وجعل السماحة واليسر أول أوصاف هذه الشريعة وأكبر مقاصدها، وبذلك يتفق مقصد التشريع والديانة مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، ويستجيب شرع الله لداعي الفطرة الحسنة ويجاريها: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138] .
لقد نوه حكماء المسلمين وعلماء الشريعة بما اتسم به الشرع الإسلامي من يسر أزاح كل عسر، ومن سماحة محمودة نفت كل جرح، ومن وسطية جلبت النفع والاعتدال ودفعت الضر والشطط.
وقد كانت هذه الأوصاف الثابتة في الشريعة خير ضمان لتحقيق أمور ثلاثة:
1- قبول المكلفين لأحكام الشرع عن اقتناع ورغبة، وإدراكهم لما نالهم من رحمة الخالق تعالى وهو القائل: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .
2- عموم الشريعة إذ وافقت الطباع ولاءمت النفوس وحققت المصالح لكافة الناس على السواء في حالي التفرد والاجتماع.
3- ديمومتها، لأنها لم تبن على اختيارات بشرية، ولم تقم من أجل مصالح طائفية أو حزبية، أو منافع ظرفية، وإنما قامت على اعتبار مصالح العباد الثابتة فأمرت بها تنصيصا وبصورة ثابتة لا تقبل شكا ولا جدالا، وعلى اعتبار المفاسد الثابت ضرها للعباد فنهت عنها نهيا صريحا مؤكدا لا يقبل شكا ولا جدالا، ثم تركت مجالا فسيحا للاجتهاد وللعقل لينظر فيما دون ذلك من أمور معيشة الإنسان التي تعتريها شوائب من المصالح والمفاسد، أو ما يجد في الحياة من الأمور التي لم يسبق أن عرفها المسلمون الأوائل حين كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لها حكم على التحديد وإنما لها قاعدة تدخل تحتها أو عدة قواعد ترشد إلى الحكم المتعين أو الراجح.
__________
(1) هو من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) المتفق عليه. وأوله: (دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا …)(8/328)
أدلة التيسير ورفع الحرج بلغت في الأمة مبلغ القطع:
لقد أصبح معلوما من تضافر الأدلة الواردة في الكتاب والسنة، أن من خصائص الشريعة الإسلامية ومن الأصول التي قام عليها تشريعها، عدم النكاية بالأمة وتيسير العمل بأحكامها على المكلفين، تحصيلا لاقتناعهم بهذا الدين، ولإقبالهم عليه دون حرج ولا ملل، لأن النفوس – عموما – قد فطرت على كره ما يشق أو يعسر لديها، كما جلبت على النفور من كل ما يضنيها أو يوقعها في العنت والحرج.
من أجل هذا جاءت أحكام هذا الدين على وفق الفطرة الحسنة، ومن أجل هذا أيضا صح أن يسمى الحنيفية السمحة، كما جاءت هذه التسمية في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)) (1) . والمراد أن أحب الدين إلى الله دين الإسلام الذي هو الحنيفية السمحة، والحنيفية السمحة، هكذا بهذا الوصف المكون من وصفين، أحدهما: الحنيفية وتعني ملة التوحيد، والميل عن الشركة وعبادة الأوثان، والتمسك بملة التوحيد التي هي الإسلام وهو الحنيف وجمعه حنفاء، وفي التنزيل قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135] . وقال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95] . وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125] . وقال أيضا: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) } [النحل: 120 – 123] . قال في المصباح المنير: " والحنيف المسلم لأنه مائل إلى الدين المستقيم " (2) . وبناء على قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] .
وثاني الوصفين: السمحة وتطلق بإزاء معنيين: الجود والسهولة وفي المعنى الثاني جاء في القاموس المحيط قوله: " والسمحة = … الملة التي ما فيها ضيق …. وتسامحوا = تساهلوا … وأسمحت الدابة = لانت بعد استصعاب … وعود سمح = لا عقدة فيه " (3) .
وجاءت السماحة بمعنى الرفق والسهولة واللين، في الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلا سمحا إذا باع، سمحا إذا أشترى، سمحا إذا اقتضى)) (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح تعليقا وفي الأدب المفرد مسندا
(2) انظر كلامه في مادة حنف
(3) انظر: مادة سمح
(4) أخرجه البخاري والترمذي في البيوع وابن ماجه في التجارات(8/329)
والحاصل من وصف الشريعة بالسماحة، أنها شريعة تجمع بين معان ثلاثة هي: الاعتدال والتوسط والعدل – لأنها شريعة تميل إلى سهولة المعاملة في حدود الاعتدال، ولأنها شريعة تلتزم الوسطية بين التضييق والتساهل، ولأنها بالتالي شريعة نبذت طرفي الإفراط والتفريط اللذين يدعو إليهما الهوى وحذرت منهما في مواطن كثيرة من التنزيل الحكيم، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] . وقوله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] .
فما أضر بأهل الكتاب غير أهواء نفوسهم وغلوهم في الدين، وما حكاه القرآن من حالتي إفراطهم وتفريطهم كان المراد منه موعظة أمة الإسلام، ليتجنبوا الأٍسباب التي أوجبت غضب الله على الأمم السابقة وهلاكها. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر اليهود فيما أمرهم الله بذبح بقرة: ((لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم)) (1) .
ولقد جزم علماء الأمة وحكماؤها الذين عنوا بتفحص أحوال النفوس والعقول بأن قوام الصفات الفاضلة هو الاعتدال، ومن يقل الاعتدال يقل التوسط ويقل العدل، لأن معاني الأوصاف الثلاثة لا تكاد تنفك عن بعضها، ليتكون من مجموعها نسيج فريد خص الله به دينه المعتبر عنده {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] . والدين الذي لا يقبل سواه من أحد {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .
ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وتوافرت في هذا الشأن، حتى بلغت مبلغ القطع، وصارت دليل الأئمة ومرتكزهم في استنباط قواعد التشريع، فاستنبطوا لهذا الأصل العظيم من الأصول التي انبنت عليها أحكام الشريعة قاعدة أصلية، هي قاعدة: " المشقة تجلب التيسير "، بما حوت من قواعد متفرعة عنها وبما اشتملت عليه من مباحث الرخصة باعتبارها قسيما لمباحث العزيمة.
__________
(1) هكذا عده شيخ الإسلام ابن عاشور حديثا ولم يذكر راويه ولا من أخرجه. انظر: مقاصد الشريعة ص 60. وذكره الشاطبي باعتباره من كلام ابن عباس رضي الله عنهما قاله في قصة بقرة بني إسرائيل. انظر الموافقات: 1 /204. وذكره ابن كثير في التفسير بلفظ مقارب منسوبا لابن جرير رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر تفسير ابن كثير(8/330)