السبب السادس: أن يستشعر العبد في نفسه مبادي البطر والطغيان بطول مدة الصحة، فيترك التداوي خوفًا من أن يعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان والتسويف في تدارك الفائت وتأخير الخيرات. فلما أن كثرت فوائد المرض رأى جماعة ترك الحيلة في زوالها، إذ رأوا لأنفسهم مزيدًا فيها، لا من حيث رأوا التداوي نقصانًا، وكيف يكون نقصانًا وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
والحاصل أن التداوي لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها، والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب ... (2) بل لا يتم حقيقة التوحيد - كما قال القيم - إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفها من حيث يظن معطلها: أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته: اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا ولا توكله عجزًا (3) .
ومما يدل على أن التداوي غير مناقض للتوكل - كما قال الغزالي - فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله وأمره به ... ولأن القائلين باستحباب التداوي أوجبوا على المتعالج (أن يعتقد أن الله تعالى هو الفاعل، وأن التداوي أيضًا من قدر الله تعالى، وهذا كالأمر بالدعاء وكالأمر بقتال الكفار وبالتحصين ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة مع أن الأجل لا يتغير والمقادير لا تتقدم ولا تتأخر عن أوقاتها ولا بد من وقوع المقدرات) (4) .
__________
(1) بتصرف من الإحياء، للغزالي: 4/276 - 282، وانظر: قوت القلوب: 2/21 - 27؛ والفتاوى الهندية: 5/355؛ وزاد المعاد: 4/14، 15.
(2) فتح الباري: 10/135، 136.
(3) الطب النبوي، لابن القيم: ص 105، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، وانظر: المنار: 4/171 - 175، ونحو ذلك في زاد المعاد: 3/480.
(4) طرح التثريب: 8/185.(7/1561)
والحاصل أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا، أمر مأمور به شرعًا لا ينافي التوكل على الله بحال، لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالًا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف، ومن ذلك قصة إبراهيم عليه السلام ومحاولة حرقه بالنار وكيف تحولت إلى برد وسلام، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض، وأنه بسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا.
وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة تدل على أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله تعالى، كما في قوله تعالى عن يعقوب: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] .
حيث أمر بنيه بتعاطي السبب خوفًا عليهم من أذى الناس لهم، ومع هذا التسبب قال: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67] .
فقد جمع بين التسبب {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} [يوسف: 67] وبين التوكل على الله {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} . [يوسف: 67] .
وفي قصة مريم عليها السلام (أمرها بهز الجذع مع أنه تعالى قادر على إسقاط الرطب إليها، لكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع) (1) .
وقد حسم الطبري مسألة التوكل والتداوي بقوله: (والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعًا لسنته وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ظاهر في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال الذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال: اعقلها وتوكل، فأشار إلى أن الاحتزاز لا يدفع التوكل) (2) .
__________
(1) أضواء البيان، للشيخ الشنقيطي: 4/250 - 253.
(2) فتح الباري: 10/212.(7/1562)
هل يكره المريض على التطبيب؟
إن هذه المسألة - كما لا يخفى - متفرعة من الاختلاف السابق بين الفقهاء في حكم التداوي، وذلك لأن من قال بحرمة التداوي، لا شك أنه يقول بعدم جواز إكراه المريض على التطبيب، ومن قال بوجوب التداوي، فحينئذٍ لا يحتاج إلى الإذن، إذ أن عدم تداويه يكون محرمًا، وحينئذٍ يجب أن يعان على أداء الواجب، ومن هنا يأتي هذا السؤال على ضوء بقية المذاهب الأخرى.
ونرى من نصوص الفقهاء من يقول بعدم إكراه المريض على التداوي والتطبيب حيث يقولون: إن الأصل هو إذن المريض، ولذلك لا بد أن يكون التداوي بإذنه وأنه لا يكره على الدواء وغيره (فلو امتنع حتى مات لم يأثم) (1) .
وهذا القول نابع من أن التداوي مباح أو مستحب، ولذلك لا يأثم على ترك المباح أو المستحب كما هو معروف في الأصول.
ويمكن أن يستدل لهؤلاء بما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن عائشة - رضي الله عنها - لددناه في مرضه، فجعل يشير إلينا: لا تلدوني فقلنا: كراهية المريض للدواء. فلما أفاق، قال: (ألم أنهكم أن تلدوني؟ قلنا: كراهية المريض للدواء، فقال: لا يبقى في البيت أحد إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم) (2) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الحديث بأنه لا يدل على المطلوب، حيث يقول الحافظ ابن حجر (3) : (لكن اللدود كان نهى عنه، ولذلك عاتب عليه، بخلاف الصب، فإن كان أمر به فلم ينكر عليهم، فيؤخذ منه أن المريض إذا كان عارفًا لا يكره على تناول شيء نهى عنه، ولا يمنع من شيء يأمر به) (4) .
وقال القسطلاني: (وإنما أنكر التداوي لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب، فداووه بما يلائمها ولم يكن به ذلك) .
وذهب آخرون إلى أن الدواء المقطوع به محرم عند خوف الموت (5) بناء على أنه بمثابة الانتحار المحرم الذي يمنع منه المسلم، بالإضافة إلى أنه إلقاء النفس في التهلكة دون تحقيق غرض منشود شرعًا: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
وبناء على هذا القول لا عبرة بإذن المريض.
__________
(1) المجموع: 5/103؛ والفتاوى الهندية: 5/354؛ وابن عابدين: 6/389.
(2) فتح الباري: 10/166، واللدود هو الدواء يصب في أحد جانبي فم المريض، وانظر: النووي على مسلم: 4/199.
(3) فتح الباري: 10/166، 167.
(4) إرشاد الساري: 8/376.
(5) الفتاوى الهندية: 5/355؛ والإحياء للغزالي: 4/276.(7/1563)
والذي يظهر لنا رجحانه هو القول بأن الإذن هو الأصل في التداوي ما دام المريض لم يصل إلى حالة الخطورة القصوى، أما إذا بلغ ذلك فلا عبرة بإذنه عملًا بقاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) وكذلك تدل نصوص الشرع ومقاصده على حماية النفس والبدن من المهالك، وأن الإنسان لا يملك نفسه.
وكذلك لا عبرة بإذن المريض في حالات كون مرضه معديًا خطيرًا ينتشر، ويعدي الغير، فحينئذٍ يجبر على التداوي حماية للمصلحة العامة والمجتمع الإسلامي ودفعًا للضرر، وحسمًا لمادة الأذى والضر، وكذلك في حالات الإدمان على المخدرات إذ تستوجب إنقاذه.
هل وصفات الرسول صلى الله عليه وسلم لازمة ومخالفتها مخالفة للسنة:
هذه المسألة فرع عن مسألة اختلف الفقهاء فيها قديمًا، وهي: هل السنة كلها تشريعية أم لا؟ وقد اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: وهو قول من يرى أن من السنة ما ليس تشريعًا، وقد انتصر لهذا القول جمع من العلماء منهم ابن القيم حيث بين أن كثيرًا من تلك الأحاديث الواردة في الطب مخصوصة بظرف معين أو مكان مخصوص، بل ربما صدرت عنه بمحض رأيه وتجربته البشرية (1) .
والقول الثاني: وهو قول من يرى أن السنة كلها تشريعية، إذ الحديث وحي غير متلو: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) . ولقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (3) . وهي السنة كما قال الشافعي، وقد انتصر لهذا الرأي صديقنا العلامة الدكتور القره داغي، وأطال النفس في الرد على المخالفين، يجمل بمن أراد الاستفادة الرجوع إليه (4) .
__________
(1) انظر: تفصيل القول فيه بحث أستاذنا الجليل الدكتور القرضاوي، في حولية مركز السنة والسيرة، العدد الثاني: ص362؛ والعدد الثالث: ص17 - 105؛ وتفسير المنار: 9/257؛ والشفاء لعياض: 2/418.
(2) سورة النجم: الآيتان 2، 3.
(3) سورة النساء: الآية 113.
(4) حولية مركز السنة والسيرة العدد الثاني: ص315 - 377.(7/1564)
أنواع التداوي
إن الإسلام حافظ على صحة الإنسان من طريقتين:
أحدهما: الحمية، وذلك بتجنب الإنسان ما يضر بصحته، وتتبع قواعد الصحة عملًا بالحكمة القائلة: درهم وقاية خير من قنطار علاج، هذه الوقاية التي وردت في السنة بأشكال شتى، منها كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يوردن ممرض على مصح)) (1) . ومنها على شكل تحذير من مخالطة أصحاب الأمراض المعدية كما عبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: (( ... وفر من المجذوم فرارك من الأسد)) (2) . ومنها ما يعمل على حصر المرض في موضعه والمنع من انتشاره بشكل جماعي، والذي إليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها وإذا سمعتم به في أرض فلا تأتوها)) (3) .
وثانيهما: أنه إذا ما قدر للإنسان أن تعتل صحته بعد تلك الاحتياجات فإنه يلجأ إلى التداوي لحماية النفس من المرض وتقصير طرقه وإعادة البدن إلى وضعه الطبيعي وذلك عن طريق التداوي، وهذا المرض الذي يصيب الإنسان نوعان (4) .
النوع الأول: مرض القلوب، وهو قسمان: مرض شبهة وشك وهو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (5) .
أما القسم الثاني منه فهو: مرض الشهوات وإليه الإشارة في قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (6) .
وعلاج هذا المرض بنوعيه موكل إلى الرسل، لأن صلاح القلوب يتوقف على ربطها بخالقها لتتوفر لها أركان الإيمان، وما يتبع ذلك من اتباع الأوامر واجتناب مساخطه ولا صحة ولا حياة البتة إلا بذلك، فالمسلم يأخذ علاج هذا النوع بالرجوع إلى صيدلية الإيمان وهو القرآن الذي جعله الله شفاء لما في الصدور.
فإن اتصال القلب بخالق الداء والدواء من أكبر الأدوية على دفع الداء وقهره (7) .
__________
(1) فتح الباري: 10/242؛ وصحيح مسلم: 4/1743، كتاب السلام.
(2) فتح الباري: 10/158، باب الجذام.
(3) فتح الباري: 10/178 - 192؛ والمصنف: 11/146، وانظر: الآداب الشرعية: 3/379 - 386؛ وابن تيمية: 24/284، وفيه حديث قول النبي صلى الله عليه وسلم للمجذوم: (ارجع فقد بايعناك) وكشاف القناع: 6/126، وفيه لا يصح للجذماء مخالطة الأصحاء.
(4) الطب النبوي لابن القيم: ص85 - 99؛ والمفردات للأصفهاني: ص466، كما عرف المرض فإنه الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان وذلك ضربان.
(5) سورة البقرة: الآية 10.
(6) سورة الأحزاب: الآية 32.
(7) إغاثة اللهفان: 1/44، وفيه القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه، وانظر كذلك: ص91 من نفس المصدر؛ وفتح القدير للشوكاني: 3/253، طبعة الحلبي.(7/1565)
وأما النوع الثاني: من الأمراض فهو: مرض الأبدان وإليه الإشارة في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (1) .
وأما طب الأبدان فنوعان:
الأول: نوع فطر عليه الإنسان والحيوان، فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب كطب الجوع والعطش والبرد والتعب بأضدادها وما يزيلها.
الثاني: ما يحتاج إلى فكر وتأمل واستدعاء أهل الاختصاص لمعالجته ومن يتتبع طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الطبية يجد أنه صلى الله عليه وسلم كان علاجه للمرض، ثلاثة أنواع (2) :
أحدها: بالأدوية الطبيعية وهي التي وضعها صلى الله عليه وسلم لصحابها أو استعملها لنفسه كوصف الماء البارد لعلاج الحمى (3) .
والثاني: بالأدوية الإلهية.
والثالث: بالمركب من الأمرين، وإليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي)) .
ولكن ينبغي أن نعرف أن حصر طرق الشفاء في هذه الطرق الآنفة الذكر غير مراد للنبي صلى الله عليه وسلم لأننا ضرورة نعلم أن هناك طرقًا وأدوية كثيرة جدًّا كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف في مناسبات أخرى غير هذه الثلاثة.
تؤيد هذا الرواية الثانية للحديث حيث وردت بلفظ: ((إن كان في شيء من أدويتكم أو يكون في شيء من أدويتكم، خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي)) .
ولذا قال النووي عن بعض الأطباء في قوله صلى الله عليه وسلم: شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار أنه إشارة إلى جميع ضروب المعافا (4) .
النوع الأول: التداوي بالشراب ونحوه:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تداوى بالعسل، والماء والزيت وألبان الإبل وغيرها (5) .
__________
(1) سورة النور: الآية 61.
(2) الطب النبوي: ص155.
(3) الطب النبوي: 117 - 128؛ وتخريج الدلالات السماعية: ص675.
(4) النووي على مسلم: 14/192 - 197.
(5) فيض الباري: 4/365 كما في قصة العرنيين؛ والنووي على مسلم: 14/192.(7/1566)
ففي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل) وقد ورد ذكر العسل في السنة كثيرًا وكذا في القرآن (1) واعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل الأدوية الشعبية في العرب.
وأما الأطباء فقد أجمعوا على أنه ذو فوائد علاجية في عديد من الأمراض، لاحتوائه على مواد مثبطة للجراثيم ومضادة للفطور العفنية (2) .
وقد ثبت أن رجلًا استطلق بطن أخيه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ((اسقه عسلًا)) فقال: إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلًا. فسقاه فبرأ)) (3) .
وهذا بالنسبة لما كان موجودًا في عصره صلى الله عليه وسلم ويقاس عليه كل دواء شراب مما يصفه الطبيب بقصد العلاج.
ثانيًا - التداوي عن طريق العمليات الجراحية:
وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أو شرطة محجم. في حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الشفاء في ثلاث: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار وأنا أنهى أمتي عن الكي)) (4) .
ففي قوله: ((شرطة محجم)) إشارة إلى الحجامة (وهي عبارة عن مص الدم بعد تشريط الجلد بالمشرط بواسطة آلة مجوفة ذات فوهتين كقرن الثور مثلًا) وكانت الحجامة من وسائل المعالجة الشائعة عند العرب منذ الجاهلية، ولقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه على المعالجة بها، فقد ثبت أنه احتجم وأوصى أصحابه بها ولكن نبههم إلى عدم المبالغة في استعمالهم للأدوية الشعبية، وأن تستعمل عند وجود الدواعي والحاجة إليها (5) . كما روي أن جابر بن عبد الله أوصى رجلًا كان يشتكي من خراج شق عليه فدعا له بحجام، فلما رأى تبرم الرجل من ذلك قال له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن كان في شيء من أدويتكم خير، ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أحب أن أكتوي)) ، قال: فجاء بحجام فشرطه فذهب عنه ما يجد (6) .
ومن تلك العمليات الجراحية ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع عرقًا ثم كواه عليه (7) .
ثالثًا - العمليات: ويلحق بتلك العمليات الجراحية الكي:
وقد كان التداوي بالكي من طرق المعالجة المعروفة عند العرب حتى جاء ذكرها في أشعارهم وأمثالهم، وطريقة التعالج بالكي أنهم يأتون بقضبان حديدية منتهية بأشكال مختلفة وبعد أن تحمى هذه القضبان على النار حتى تحمر، تكوى بها النواحي المختلفة، وقد تطورت المكاوي في عصرنا حتى اخترعت المكواة الكهربائية وهي أكثر تحكمًا فيها وأسهل استعمالًا (8) .
وقد استعمل الكي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قطع النزيف الدموي كما في قصة سعد بن معاذ الذي أصيب في أكحله؛ فكوى النبي صلى الله عليه وسلم مكان النزيف لإيقافه (9) .
وكذلك بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه (10) .
كما استعمل أيضًا في معالجة الألم الجنبي، أو ما يسمى قديمًا (بذات الجنب) وقد استعملها الصحابة ومنهم أنس بن مالك حيث قال: (كويت من ذات الجنب ورسول الله حي، وشهدني أبو طلحة، وأنس بن النضر وزيد بن ثابت، وأبو طلحة كواني) (11) .
ففي هذا الحديث أن ذات الجنب عولج بالكي فهو نوع من الجراحة الصغرى، كما عولجت اللقوة بالكي، وهي شلل العصب الوجهي والغالب في أحداثها هو البرد (12) .
__________
(1) سورة النحل: الآيتان 68، 69؛ وسورة محمد: الآية 15.
(2) الطب النبوي والعلم الحديث: 3/70، وقد أطال الكلام فيه عن فوائد العسل واستخداماته الطبية، وذكر أخبارًا تدل على استشفاء الصحابة بالعسل.
(3) الحديث في الصحيحين وغيرهما، انظر: فتح الباري: 10/139؛ وصحيح مسلم حديث رقم 2217.
(4) فتح الباري: 10/154؛ ونيل الأوطار: 8/212.
(5) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث: 3/91 - 104، وقد تحدث فيه عن أنواع الحجامة ودواعي استعمالها في الطب في الحديث.
(6) النووي على مسلم: 14/192، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي؛ وفتح الباري: 10/154.
(7) النووي على مسلم: 14/193.
(8) الطب والعلم الحديث: 3/106.
(9) النووي على مسلم: 14/194، واختلف في تداويه هو صلى الله عليه وسلم بالكي، انظر: فتح الباري: 10/156.
(10) النووي على مسلم: 14/194.
(11) فتح الباري: 10/172، باب ذات الجنب وهي وجع يحدث في الصدر أو الخاصرة.
(12) الموطأ: 2/944، وفيه (أن ابن عمر اكتوى من اللقوة ... ) .(7/1567)
وروى أبو داود في سننه أن امرأة ابن مسعود كانت تختلف إلى طبيب يهودي فيرقيها من ألم في عينها (1) ، ولذا ذهب الحنابلة في وجه إلى القول بجواز أن تستطب المسلمة ذمية إن لم تجد غيرها (2) .
والحنفية أجازوا للمريض أن يستطب بالكافر فيما عدا إبطال العبادة، وسئل الشافعي أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم، إذا رقوا بما يعرف من ذكر الله، وفي الموطأ أن أبا بكر قال لليهودية التي ترقي عائشة: ارقيها بكتاب الله (3) .
الرأي الثاني:
القول بالكراهة وهو مروي عن أحمد فقد روي عنه أنه كره شرب دواء المشرك، وقال المروزي: كان يأمرني أن لا أشتري ما يصف له النصارى ولا يشرب من أدويتهم.
وقد علل هؤلاء لرأيهم بأنه لا يؤمن أن يخلطوا بذلك شيئًا من النجاسات (4) .
وبالتأمل لا نجد فرقًا بين الرأيين إذ يحمل قول القائلين بالكراهة عند عدم الضرورة إلى الاستعانة بهم، وعدم الائتمان، أما عند الحاجة وثقة الناس في طبه فلا وجه للقول بالكراهة، ولذا قال الشيخ تقي الدين: إذا كان اليهودي أو النصراني خبيرًا بالطب، ثقة عند الإنسان، جاز له أن يستطب ثم ساق الأدلة السالفة الذكر من استعانة النبي صلى الله عليه وسلم بالمشركين، كما بين أن استطبابه ليس من باب ولاية اليهود والنصارى المنهي عنهما (5) .
__________
(1) جامع الأصول: 7/574. وانظر الحديث في عون المعبود: 10/367 كتاب الطب.
(2) الآداب الشرعية: 2/462.
(3) ذكرها الحافظ في الشرح، انظر فتح الباري: 10/197.
(4) الآداب الشرعية: 2/463.
(5) الآداب الشرعية: 2/463.(7/1568)
التداوي والتوكل:
يرى البعض أن التداوي ينافي التوكل على الله تعالى فيرد عليه بأت التداوي لا يناقض التوكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر به غير واحد من أصحابه. وأخبر عن حكمة الله تعالى فيه فقال: "ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلا السام" يعني الموت (1) . وقال: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله" وسئل عن الدواء والرقي هل يرد من قدر الله؟ فقال: "هو من قدر الله" (3) . والتداوي رخصة وسعة وتركه ضيق وعزيمة والله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وقد يؤجر المتداوي في ذلك إن نوى به اتباع السنة والأخذ برخصة الله وطلبًا لسرعة البدء للتفرغ لطاعة ربه سبحانه لأن العلل مشغلة للنفس عن الشغل بالآخرة. لأنه علم من سنته صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه بالتداوي والحمية، وقطع لبعضهم عرقًا وكوى آخر وقال لعلي رضي الله عنه وكان رمد العين: "لا تأكل من هذا- يعني الرطب- وكل من هذا فإنه أوفق لك" (4) . يعني سلقًا قد طبخ بدقيق أو شعير، وقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث من العقرب، وكان يغلف رأسه بالحناء (5) من الصداع، وهو أعلى المتوكلين وليس من شرط التوكل ترك التداوي، بل هو كصب الماء على النار لإطفائها ودفع ضررها عند وقوعها في البيت، وليس من التوكل الخروج عن سنة الوكيل أصلًا.. وما روي في تداويه وأمره بذلك كثير خارج عن الحصر.
ويتبين من ذلك أن الله تعالى أجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهارًا للحكمة، والأدوية أسباب مسخرة بحكم الله تعالى كسائر الأسباب ... وعلم السلف ذلك حتى الذين تداووا منهم لا ينحصرون.
__________
(1) نيل الأوطار: 8/208؛ ومجمع الزوائد: 5/84، وقال: رواه البزار والطبراني.
(2) رواه البخاري وأحمد وابن ماجه، نيل الأوطار: 8/208.
(3) تحفة الأحوذي: 6/360؛ ومجمع الزوائد: 5/85.
(4) تحفة الأحوذي: 6/187.
(5) تحفة الأحوذي: 6/212.(7/1569)
لكن يشكل على هذا ما ورد من أن جماعة من العلماء تركوا التداوي مما يظن أن التداوي نقصان في الدين، ومن هؤلاء الذين تركوا التداوي جماعة من الصحابة والسلف وغيرهم، فقد روي عن الصديق أنه قيل له: لو دعونا لك طبيبًا؟ فقال: الطبيب قد نظر إليَّ وقال: إني فعال لما أريد، وقيل لأبي الدرداء أندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب أمرضني، ونحو ذلك عن أبي ذر وابن خيثم.. وكذلك أحمد ابن حنبل كان به علل فلا يخبر الطبيب وكان يقول: أحب لمن اعتقد التوكل وسلك هذا الطريق ترك التداوي من شرب الدواء وغيره (1) .
ووجه الجمع بين ما سبق من فعل النبي صلى الله عليه وسلم من التداوي والأمر به، وبين أفعال هؤلاء يكون بمعرفة الصوارف عن التداوي.
وقد حصر الغزالي أسباب تركهم للتداوي في ستة أسباب نوجزها فيما يلي:
السبب الأول: أن يكون المريض قد علم بنهاية أجله إما بمكاشفة أو برؤيا صادقة وتارة بحدس وظن ويشبه أن يكون ترك الصديق (2) . التداوي من هذا السبب فإنه كان من المكاشفين فإنه قال لعائشة - رضي الله عنها - في أمر الميراث: إنما هن أختاك، وإنما كان لها أخت واحدة، ولكن كانت امرأته حاملًا فولدت أنثى، فعلم أنه كان قد كوشف بأنها حامل بأنثى فلا يبعد أن يكون قد كوشف أيضًا بانتهاء أجله وأن الدواء لا ينفعه وإلا فلا يظن به إنكار التداوي وقد شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر به.
السبب الثاني: أن يكون المريض مشغولًا بحاله وبخوف عاقبته فينسيه ألم المرض، وعليه يحمل كلام أبي ذر إذ قال: إني عنهما مشغول، وكلام أبي الدرداء.
السبب الثالث: أن تكون العلة مزمنة والدواء الموصوف موهوم النفع جار مجرى الكي والرقية، فيتركها المتوكل لعدم الوثوق بالدواء، وأكثر من ترك التداوي من العباد والزهاد هذا مستندهم.
السبب الرابع: أن يترك التداوي استبقاء للمرض لينال ثوابه بحسن الصبر على البلاء، أو ليجرب نفسه في القدرة على الصبر، وقد ورد في ثواب المرض أحاديث كثيرة.
السبب الخامس: أن يكون العبد قد سبق له ذنوب وهو خائف منها عاجز عن تكفيرها فيرى المرض إذا طال تكفيرًا، فيترك التداوي خوفًا من أن يسرع زوال المرض.
__________
(1) إحياء علوم الدين: 4/279.
(2) عارضة الأحوذي: 8/205 قال: وإذا تحقق العبد الموت كره التداوي، وعليه يحمل فعل الصديق.(7/1570)
السبب السادس: أن يستشعر العبد في نفسه مبادي البطر والطغيان بطول مدة الصحة، فيترك التداوي خوفًا من أن يعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان والتسويف في تدارك الفائت وتأخير الخيرات. فلما أن كثرت فوائد المرض رأى جماعة ترك الحيلة في زوالها، إذ رأوا لأنفسهم مزيدًا فيها، لا من حيث رأوا التداوي نقصانًا، وكيف يكون نقصانًا وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
والحاصل أن التداوي لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها، والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب ... (2) بل لا يتم حقيقة التوحيد - كما قال القيم - إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفها من حيث يظن معطلها: أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته: اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا ولا توكله عجزًا (3) .
ومما يدل على أن التداوي غير مناقض للتوكل - كما قال الغزالي - فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله وأمره به ... ولأن القائلين باستحباب التداوي أوجبوا على المتعالج (أن يعتقد أن الله تعالى هو الفاعل، وأن التداوي أيضًا من قدر الله تعالى، وهذا كالأمر بالدعاء وكالأمر بقتال الكفار وبالتحصين ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة مع أن الأجل لا يتغير والمقادير لا تتقدم ولا تتأخر عن أوقاتها ولا بد من وقوع المقدرات) (4) .
__________
(1) بتصرف من الإحياء، للغزالي: 4/276 - 282، وانظر: قوت القلوب: 2/21 - 27؛ والفتاوى الهندية: 5/355؛ وزاد المعاد: 4/14، 15.
(2) فتح الباري: 10/135، 136.
(3) الطب النبوي، لابن القيم: ص 105، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، وانظر: المنار: 4/171 - 175، ونحو ذلك في زاد المعاد: 3/480.
(4) طرح التثريب: 8/185.(7/1571)
والحاصل أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا، أمر مأمور به شرعًا لا ينافي التوكل على الله بحال، لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالًا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف، ومن ذلك قصة إبراهيم عليه السلام ومحاولة حرقه بالنار وكيف تحولت إلى برد وسلام، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض، وأنه بسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا.
وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة تدل على أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله تعالى، كما في قوله تعالى عن يعقوب: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] .
حيث أمر بنيه بتعاطي السبب خوفًا عليهم من أذى الناس لهم، ومع هذا التسبب قال: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67] .
فقد جمع بين التسبب {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} [يوسف: 67] وبين التوكل على الله {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} . [يوسف: 67] .
وفي قصة مريم عليها السلام (أمرها بهز الجذع مع أنه تعالى قادر على إسقاط الرطب إليها، لكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع) (1) .
وقد حسم الطبري مسألة التوكل والتداوي بقوله: (والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعًا لسنته وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ظاهر في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال الذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال: اعقلها وتوكل، فأشار إلى أن الاحتزاز لا يدفع التوكل) (2) .
__________
(1) أضواء البيان، للشيخ الشنقيطي: 4/250 - 253.
(2) فتح الباري: 10/212.(7/1572)
هل يكره المريض على التطبيب؟
إن هذه المسألة - كما لا يخفى - متفرعة من الاختلاف السابق بين الفقهاء في حكم التداوي، وذلك لأن من قال بحرمة التداوي، لا شك أنه يقول بعدم جواز إكراه المريض على التطبيب، ومن قال بوجوب التداوي، فحينئذٍ لا يحتاج إلى الإذن، إذ أن عدم تداويه يكون محرمًا، وحينئذٍ يجب أن يعان على أداء الواجب، ومن هنا يأتي هذا السؤال على ضوء بقية المذاهب الأخرى.
ونرى من نصوص الفقهاء من يقول بعدم إكراه المريض على التداوي والتطبيب حيث يقولون: إن الأصل هو إذن المريض، ولذلك لا بد أن يكون التداوي بإذنه وأنه لا يكره على الدواء وغيره (فلو امتنع حتى مات لم يأثم) (1) .
وهذا القول نابع من أن التداوي مباح أو مستحب، ولذلك لا يأثم على ترك المباح أو المستحب كما هو معروف في الأصول.
ويمكن أن يستدل لهؤلاء بما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن عائشة - رضي الله عنها - لددناه في مرضه، فجعل يشير إلينا: لا تلدوني فقلنا: كراهية المريض للدواء. فلما أفاق، قال: (ألم أنهكم أن تلدوني؟ قلنا: كراهية المريض للدواء، فقال: لا يبقى في البيت أحد إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم) (2) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الحديث بأنه لا يدل على المطلوب، حيث يقول الحافظ ابن حجر (3) : (لكن اللدود كان نهى عنه، ولذلك عاتب عليه، بخلاف الصب، فإن كان أمر به فلم ينكر عليهم، فيؤخذ منه أن المريض إذا كان عارفًا لا يكره على تناول شيء نهى عنه، ولا يمنع من شيء يأمر به) (4) .
وقال القسطلاني: (وإنما أنكر التداوي لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب، فداووه بما يلائمها ولم يكن به ذلك) .
وذهب آخرون إلى أن الدواء المقطوع به محرم عند خوف الموت (5) بناء على أنه بمثابة الانتحار المحرم الذي يمنع منه المسلم، بالإضافة إلى أنه إلقاء النفس في التهلكة دون تحقيق غرض منشود شرعًا: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
وبناء على هذا القول لا عبرة بإذن المريض.
__________
(1) المجموع: 5/103؛ والفتاوى الهندية: 5/354؛ وابن عابدين: 6/389.
(2) فتح الباري: 10/166، واللدود هو الدواء يصب في أحد جانبي فم المريض، وانظر: النووي على مسلم: 4/199.
(3) فتح الباري: 10/166، 167.
(4) إرشاد الساري: 8/376.
(5) الفتاوى الهندية: 5/355؛ والإحياء للغزالي: 4/276.(7/1573)
والذي يظهر لنا رجحانه هو القول بأن الإذن هو الأصل في التداوي ما دام المريض لم يصل إلى حالة الخطورة القصوى، أما إذا بلغ ذلك فلا عبرة بإذنه عملًا بقاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) وكذلك تدل نصوص الشرع ومقاصده على حماية النفس والبدن من المهالك، وأن الإنسان لا يملك نفسه.
وكذلك لا عبرة بإذن المريض في حالات كون مرضه معديًا خطيرًا ينتشر، ويعدي الغير، فحينئذٍ يجبر على التداوي حماية للمصلحة العامة والمجتمع الإسلامي ودفعًا للضرر، وحسمًا لمادة الأذى والضر، وكذلك في حالات الإدمان على المخدرات إذ تستوجب إنقاذه.
هل وصفات الرسول صلى الله عليه وسلم لازمة ومخالفتها مخالفة للسنة:
هذه المسألة فرع عن مسألة اختلف الفقهاء فيها قديمًا، وهي: هل السنة كلها تشريعية أم لا؟ وقد اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: وهو قول من يرى أن من السنة ما ليس تشريعًا، وقد انتصر لهذا القول جمع من العلماء منهم ابن القيم حيث بين أن كثيرًا من تلك الأحاديث الواردة في الطب مخصوصة بظرف معين أو مكان مخصوص، بل ربما صدرت عنه بمحض رأيه وتجربته البشرية (1) .
والقول الثاني: وهو قول من يرى أن السنة كلها تشريعية، إذ الحديث وحي غير متلو: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) . ولقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (3) . وهي السنة كما قال الشافعي، وقد انتصر لهذا الرأي صديقنا العلامة الدكتور القره داغي، وأطال النفس في الرد على المخالفين، يجمل بمن أراد الاستفادة الرجوع إليه (4) .
__________
(1) انظر: تفصيل القول فيه بحث أستاذنا الجليل الدكتور القرضاوي، في حولية مركز السنة والسيرة، العدد الثاني: ص362؛ والعدد الثالث: ص17 - 105؛ وتفسير المنار: 9/257؛ والشفاء لعياض: 2/418.
(2) سورة النجم: الآيتان 2، 3.
(3) سورة النساء: الآية 113.
(4) حولية مركز السنة والسيرة العدد الثاني: ص315 - 377.(7/1574)
أنواع التداوي
إن الإسلام حافظ على صحة الإنسان من طريقتين:
أحدهما: الحمية، وذلك بتجنب الإنسان ما يضر بصحته، وتتبع قواعد الصحة عملًا بالحكمة القائلة: درهم وقاية خير من قنطار علاج، هذه الوقاية التي وردت في السنة بأشكال شتى، منها كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يوردن ممرض على مصح)) (1) . ومنها على شكل تحذير من مخالطة أصحاب الأمراض المعدية كما عبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: (( ... وفر من المجذوم فرارك من الأسد)) (2) . ومنها ما يعمل على حصر المرض في موضعه والمنع من انتشاره بشكل جماعي، والذي إليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها وإذا سمعتم به في أرض فلا تأتوها)) (3) .
وثانيهما: أنه إذا ما قدر للإنسان أن تعتل صحته بعد تلك الاحتياجات فإنه يلجأ إلى التداوي لحماية النفس من المرض وتقصير طرقه وإعادة البدن إلى وضعه الطبيعي وذلك عن طريق التداوي، وهذا المرض الذي يصيب الإنسان نوعان (4) .
النوع الأول: مرض القلوب، وهو قسمان: مرض شبهة وشك وهو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (5) .
أما القسم الثاني منه فهو: مرض الشهوات وإليه الإشارة في قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (6) .
وعلاج هذا المرض بنوعيه موكل إلى الرسل، لأن صلاح القلوب يتوقف على ربطها بخالقها لتتوفر لها أركان الإيمان، وما يتبع ذلك من اتباع الأوامر واجتناب مساخطه ولا صحة ولا حياة البتة إلا بذلك، فالمسلم يأخذ علاج هذا النوع بالرجوع إلى صيدلية الإيمان وهو القرآن الذي جعله الله شفاء لما في الصدور.
فإن اتصال القلب بخالق الداء والدواء من أكبر الأدوية على دفع الداء وقهره (7) .
__________
(1) فتح الباري: 10/242؛ وصحيح مسلم: 4/1743، كتاب السلام.
(2) فتح الباري: 10/158، باب الجذام.
(3) فتح الباري: 10/178 - 192؛ والمصنف: 11/146، وانظر: الآداب الشرعية: 3/379 - 386؛ وابن تيمية: 24/284، وفيه حديث قول النبي صلى الله عليه وسلم للمجذوم: (ارجع فقد بايعناك) وكشاف القناع: 6/126، وفيه لا يصح للجذماء مخالطة الأصحاء.
(4) الطب النبوي لابن القيم: ص85 - 99؛ والمفردات للأصفهاني: ص466، كما عرف المرض فإنه الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان وذلك ضربان.
(5) سورة البقرة: الآية 10.
(6) سورة الأحزاب: الآية 32.
(7) إغاثة اللهفان: 1/44، وفيه القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه، وانظر كذلك: ص91 من نفس المصدر؛ وفتح القدير للشوكاني: 3/253، طبعة الحلبي.(7/1575)
وأما النوع الثاني: من الأمراض فهو: مرض الأبدان وإليه الإشارة في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (1) .
وأما طب الأبدان فنوعان:
الأول: نوع فطر عليه الإنسان والحيوان، فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب كطب الجوع والعطش والبرد والتعب بأضدادها وما يزيلها.
الثاني: ما يحتاج إلى فكر وتأمل واستدعاء أهل الاختصاص لمعالجته ومن يتتبع طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الطبية يجد أنه صلى الله عليه وسلم كان علاجه للمرض، ثلاثة أنواع (2) :
أحدها: بالأدوية الطبيعية وهي التي وضعها صلى الله عليه وسلم لصحابها أو استعملها لنفسه كوصف الماء البارد لعلاج الحمى (3) .
والثاني: بالأدوية الإلهية.
والثالث: بالمركب من الأمرين، وإليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي)) .
ولكن ينبغي أن نعرف أن حصر طرق الشفاء في هذه الطرق الآنفة الذكر غير مراد للنبي صلى الله عليه وسلم لأننا ضرورة نعلم أن هناك طرقًا وأدوية كثيرة جدًّا كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف في مناسبات أخرى غير هذه الثلاثة.
تؤيد هذا الرواية الثانية للحديث حيث وردت بلفظ: ((إن كان في شيء من أدويتكم أو يكون في شيء من أدويتكم، خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي)) .
ولذا قال النووي عن بعض الأطباء في قوله صلى الله عليه وسلم: شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار أنه إشارة إلى جميع ضروب المعافا (4) .
النوع الأول: التداوي بالشراب ونحوه:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تداوى بالعسل، والماء والزيت وألبان الإبل وغيرها (5) .
__________
(1) سورة النور: الآية 61.
(2) الطب النبوي: ص155.
(3) الطب النبوي: 117 - 128؛ وتخريج الدلالات السماعية: ص675.
(4) النووي على مسلم: 14/192 - 197.
(5) فيض الباري: 4/365 كما في قصة العرنيين؛ والنووي على مسلم: 14/192.(7/1576)
ففي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل) وقد ورد ذكر العسل في السنة كثيرًا وكذا في القرآن (1) واعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل الأدوية الشعبية في العرب.
وأما الأطباء فقد أجمعوا على أنه ذو فوائد علاجية في عديد من الأمراض، لاحتوائه على مواد مثبطة للجراثيم ومضادة للفطور العفنية (2) .
وقد ثبت أن رجلًا استطلق بطن أخيه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ((اسقه عسلًا)) فقال: إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلًا. فسقاه فبرأ)) (3) .
وهذا بالنسبة لما كان موجودًا في عصره صلى الله عليه وسلم ويقاس عليه كل دواء شراب مما يصفه الطبيب بقصد العلاج.
ثانيًا - التداوي عن طريق العمليات الجراحية:
وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أو شرطة محجم. في حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الشفاء في ثلاث: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار وأنا أنهى أمتي عن الكي)) (4) .
ففي قوله: ((شرطة محجم)) إشارة إلى الحجامة (وهي عبارة عن مص الدم بعد تشريط الجلد بالمشرط بواسطة آلة مجوفة ذات فوهتين كقرن الثور مثلًا) وكانت الحجامة من وسائل المعالجة الشائعة عند العرب منذ الجاهلية، ولقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه على المعالجة بها، فقد ثبت أنه احتجم وأوصى أصحابه بها ولكن نبههم إلى عدم المبالغة في استعمالهم للأدوية الشعبية، وأن تستعمل عند وجود الدواعي والحاجة إليها (5) . كما روي أن جابر بن عبد الله أوصى رجلًا كان يشتكي من خراج شق عليه فدعا له بحجام، فلما رأى تبرم الرجل من ذلك قال له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن كان في شيء من أدويتكم خير، ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أحب أن أكتوي)) ، قال: فجاء بحجام فشرطه فذهب عنه ما يجد (6) .
ومن تلك العمليات الجراحية ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع عرقًا ثم كواه عليه (7) .
ثالثًا - العمليات: ويلحق بتلك العمليات الجراحية الكي:
وقد كان التداوي بالكي من طرق المعالجة المعروفة عند العرب حتى جاء ذكرها في أشعارهم وأمثالهم، وطريقة التعالج بالكي أنهم يأتون بقضبان حديدية منتهية بأشكال مختلفة وبعد أن تحمى هذه القضبان على النار حتى تحمر، تكوى بها النواحي المختلفة، وقد تطورت المكاوي في عصرنا حتى اخترعت المكواة الكهربائية وهي أكثر تحكمًا فيها وأسهل استعمالًا (8) .
وقد استعمل الكي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قطع النزيف الدموي كما في قصة سعد بن معاذ الذي أصيب في أكحله؛ فكوى النبي صلى الله عليه وسلم مكان النزيف لإيقافه (9) .
وكذلك بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه (10) .
كما استعمل أيضًا في معالجة الألم الجنبي، أو ما يسمى قديمًا (بذات الجنب) وقد استعملها الصحابة ومنهم أنس بن مالك حيث قال: (كويت من ذات الجنب ورسول الله حي، وشهدني أبو طلحة، وأنس بن النضر وزيد بن ثابت، وأبو طلحة كواني) (11) .
ففي هذا الحديث أن ذات الجنب عولج بالكي فهو نوع من الجراحة الصغرى، كما عولجت اللقوة بالكي، وهي شلل العصب الوجهي والغالب في أحداثها هو البرد (12) .
__________
(1) سورة النحل: الآيتان 68، 69؛ وسورة محمد: الآية 15.
(2) الطب النبوي والعلم الحديث: 3/70، وقد أطال الكلام فيه عن فوائد العسل واستخداماته الطبية، وذكر أخبارًا تدل على استشفاء الصحابة بالعسل.
(3) الحديث في الصحيحين وغيرهما، انظر: فتح الباري: 10/139؛ وصحيح مسلم حديث رقم 2217.
(4) فتح الباري: 10/154؛ ونيل الأوطار: 8/212.
(5) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث: 3/91 - 104، وقد تحدث فيه عن أنواع الحجامة ودواعي استعمالها في الطب في الحديث.
(6) النووي على مسلم: 14/192، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي؛ وفتح الباري: 10/154.
(7) النووي على مسلم: 14/193.
(8) الطب والعلم الحديث: 3/106.
(9) النووي على مسلم: 14/194، واختلف في تداويه هو صلى الله عليه وسلم بالكي، انظر: فتح الباري: 10/156.
(10) النووي على مسلم: 14/194.
(11) فتح الباري: 10/172، باب ذات الجنب وهي وجع يحدث في الصدر أو الخاصرة.
(12) الموطأ: 2/944، وفيه (أن ابن عمر اكتوى من اللقوة ... ) .(7/1577)
ومما سبق يتبين لنا أن المعالجة بالكي جائزة للحاجة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان في شيء من أدويتكم شفاء.. أو لذعة نار..)) حيث نسب الشفاء إليه. والأولى تركه إذا لم يتعين لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((وما أحب أن أكتوي)) ، ولذا قال ابن حجر: وحاصل الجمع (بين أحاديث النهي والجواز) أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع، بل يدل على أن تركه أرجح من فعله، وكذا الثناء على تاركه، وأما النهي عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما لا يتعين طريقًا إلى الشفاء (1) .
ونحو هذا قال الخطابي في تعليل الأحاديث التي ظاهرها النهي ومنها حديث عمران بن الحصين قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا) ، وبيّن أن النهي يحتمل وجوهًا:
منها: أن يكون من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره ويقولون آخر الدواء الكي ويرون أنه يحسم الداء ويبرئه، وإذا لم يفعل ذلك عطب صاحبه وهلك، فنهاهم عن ذلك، إذا كان على هذا الوجه، وأباح لهم استعماله على معنى التوكل على الله سبحانه. فيكون الكي والدواء سببًا لا علة، وبين أن كثيرًا من الناس يخطئون في ظنونهم، فيقولون لو لم يخرج من بلده لم يهلك، ولو شرب الدواء لم يسقم ونحو ذلك من تجريد إضافة الأمور إلى الأسباب، وتعليق الحوادث بها دون تسليط القضاء عليها، وتغليب المقادير فيها، فتكون الأسباب أمارات لتلك الكوائن لا موجبات لها، وقد بين الله عز وجل في كتابه حيث قال: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (2) .
وقال حكاية عن الكفار: {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} (3) .
__________
(1) فتح الباري: 10/155، وانظر: الكي واستخدامات الطب النبوي والعلم الحديث: 3/105 - 128؛ والطب النبوي، لابن القيم: ص189، 190، طبعة دار الوعي، حلب 1406هـ.
(2) سورة النساء: الآية 78.
(3) سورة آل عمران: الآية 156.(7/1578)
أو يكون معنى نهيه عن الكي هو أن يفعله احترازًا عن الداء قبل وقوع الضرورة ونزول البلية، وذلك مكروه، وإنما أبيح العلاج والتداوي عند وقوع الحاجة ودعاء الضرورة إليه، ألا ترى أنه إنما كوى سعدًا حينما خاف عليه الهلاك من النزف.
وقد يحتمل أن يكون إنما نهى عمران خاصة عن الكي في علة بعينها لعلمه أنه لا ينجع، ألا تراه يقول فما أفلحنا ولا أنجحنا، والكي في بعض الأعضاء يعظم خطره وليس كذلك في بعض الأعضاء فيشبه أن يكون النهي منصرفًا إلى النوع المخوف منه (1) . وعلل ابن العربي النهي لأنهم كانوا يعظمون أمره، ورأوا أنه يبرىء ولا بد، ولأنهم كانوا يستعملونه على العموم بينما الأصل أنه يستعمل في داء مخصوص (2) .
وهكذا يتضح أن الكي يعتبر طريقًا من طرق العلاج، وقد عالج به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عند الحاجة، وعندما كان يتعين طريقًا للشفاء.
وأن النهي كان عن المغالاة في استعماله، أو أن يجري على يد غير الأطباء أو الاعتقاد بأنه يقي صاحبه من المرض أو التوهم بأنه يحسم العلة ويمنع تفاقمها أو لاعتقاد أن الشفاء يمنع النكس، ووضح لهم أن استعماله مشروط بموافقته للداء مع الاعتقاد أن الشفاء بإذن الله تعالى (3) ، وبهذا الاعتبار أجازه الجميع (4) .
وقد أحسن ابن القيم في التوفيق بين أحاديث الكي حيث قال: (فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع، أحدها: فعله، والثاني: عدم محبته له، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه، ولا تعارض بينها، بحمد الله تعالى، فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه، فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه. بل يفعل خوفًا من حدوث الداء) (5) .
ومن أنواع التعالج بالجراحات الصغرى أيضًا ما ثبت من أن فاطمة عليها السلام لما رأت الدم الذي ينزف من وجهه صلى الله عليه وسلم يزيد على الماء كثرة، عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقأ الدم (6) . وفي رواية للترمذي: فأخذ حصير فأحرق وحشي به جرحه.
__________
(1) معالم السنن للخطابي: 4/216 - 219، وهناك تأويلات أخرى، انظر: بهجة النفوس: 4/128 منها عدم التشبه بالجاهلية وأهل الكتاب أو كرهه من طريق الفأل.
(2) عارضة الأحوذي: 4/206 - 208.
(3) بتصرف من الطب النبوي والعلم الحديث: 3/108 - 109، 112، 114.
(4) انظر في جوازه ابن عابدين: 5/479؛ والفواكه الدواني: 2/440، 441؛ والمجموع: 9/53 - 54.
(5) زاد المعاد: 4/65.
(6) فتح الباري: 10/173، 6/69؛ وصحيح مسلم حديث 1790؛ والترمذي في الطب، باب التداوي بالرماد.(7/1579)
وسائل التداوي الروحي
في الجاهلية والبديل الإسلامي
نعلم أن البدن يمرض ووقايته تكون باتخاذ الأسباب التي تمنع طروء المرض من الخارج كما في المحاجر الصحية، وكذلك بتقوية البدن بالأغذية الجيدة والنظافة وبالأدوية إذا ألم به المرض.
وكذلك الأرواح تمرض، ويكون حمايتها بتقويتها بالإيمان بالله تعالى، لأن روح المؤمن بالله لا تؤثر فيه الوسوسة، وهذا هو معنى نفي سلطان الشيطان عنه {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] كما أن الميكروبات لا تجد لها مأوى في الأجساد النظيفة القوية، وإذا مرضت النفس فإنها تعالج كما يعالج الجسد بعد حدوث المرض فيه بتأثير الميكروبات فيه، بالأدوية التي تقتلها وتمنع امتدادها، ومن طرق معالجة النفس الأدوية الإلهية.
غير أن أكثر المؤمنين بالطب الروحي لا يقفون فيها عند حدود ما أنزل الله تعالى على رسوله، وما فهمه منه حملته من السلف الصالح بل زادوا عليه من الخرافات والبدع مثل اتباعهم الدجالين الذين يعتقدون بصلتهم بالشياطين وتأثيرهم على الروح والبدن وقدرتهم على شفاء المرضى وغير ذلك من الحب والبغض (1) بين الأزواج. ومثل هذه المعتقدات كانت شائعة عند العرب قديمًا ولما جاء الإسلام حارب كل هذه الوسائل من خلال العقيدة الحقة القائمة على تفويض الأمر كله خيره وشره إلى الله تعالى، وإن الجن أو الإنس ليسوا قادرين على النفع والضر إلا إذا كتب الله شيئًا من ذلك. فبذلك قضى على هذه الخرافات، وحرم الاستعانة بكل وسيلة تشم منها رائحة الشرك أو الاعتماد على غير الله.
ولكن مع ذلك أبقى الإسلام كعادته من الوسائل الروحانية ما لا يتعارض مع العقيدة الحقة، فأجاز الاستشفاء بالقرآن، وبأسماء الله تعالى وصفاته وبذلك أوجد بديلًا صحيحًا عن كل ذلك.
ونحن في هذه العجالة نتحدث عن هذين الأمرين وهما: وسائل التداوي الروحي المحرمة، والاستشفاء بالقرآن وذلك في فرعين:
الفرع الأول: وسائل التداوي المحرمة:
ونتحدث فيها عن المسائل الآتية:
__________
(1) راجع ما سبق: تفسير المنار: 8/325 - 329.(7/1580)
المسألة الأولى:
الكهانة والكاهن هو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار (1) .
فكان الناس في الجاهلية يتعقدون أن الأمراض تحدث بسبب غضب الآلهة عليهم أو بسبب سيطرة الأرواح الشريرة عليهم، فكانوا يستعينون بمن لهم القربة من الآلهة أو لهم القدرة على طرد تلك الأرواح وهم الكهنة، وقال القرطبي: ( ... وقد انقطعت الكهانة بالبعثة المحمدية، لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم) (2) .
ولما جاء الإسلام (جرد علم الطب من خرافاته وتعاويذه وسحرته وكهنته) (3) .
وجاءت آيات القرآن مقوية لإرادته مطمئنة لقلبه، دون أن نجد فيه ألفاظًا سحرية أو آيات تشير إلى اللجوء إلى التعزيمات وأقوال الكهنة لدفع الأمراض، وإنما بين لنا أن العلاج بالدواء لا بالكهان والمعزمين قال في وصف العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (4) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تداووا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء)) . وبينت السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتطبب، ويسأل عن أعلم الأطباء وأفضلهم، وشرع صلى الله عليه وسلم التداوي واستعمله في نفسه وأمر به غيره.
وهكذا ميز الإسلام بين الطب وبين الدجل الذي يدعيه بعض المشعوذين لاستدرار أموال الناس بالباطل (5) .
فمنع الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الطرق ومنها الكهانة، فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكهان فقال: ليس بشيء، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحيانًا بشيء فيكون حقًّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه، فيخلطون معها مائة كذبة)) (6) ، فبين لهم بطلان قولهم وأنه لا حقيقة له. كما نهاهم عن التكسب بمثل هذه الطرق حيث نهى صلى الله عليه وسلم ((عن حلوان الكاهن)) (7) بل منعهم من التعلق بالطرق الوهمية والاعتماد عليها. واعتبر ذلك كفرًا بالله تعالى، كما في حديث أبي هريرة رفعه: (من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد) (8) . وفي رواية لمسلم بلفظ: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) (9) . وهذا دليل على أن إتيان الكهنة ومن شابههم مذموم شرعًا، إذ أكذبهم كلهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإثباتهم (10) . كما قال القرطبي: (وثبت النهي عن إتيانهم فلا يحل إتيانهم ولا تصديقهم) (11) .
__________
(1) النهاية لابن الأثير: 4/215، والكهانة أنواع منها ما يتلقونه من الجن ومنها ما يخبر به الجن من يواليه ومنها ما يستند إلى ظن وتخمين ومنها ما يستند إلى التجربة والعادة وقد يعتقد بعضهم بالطرق والزجر والنجوم. انظر فتح الباري: 10/217.
(2) فتح الباري: 10/217.
(3) الطب النبوي: ص39 - 41.
(4) سورة النحل: الآية 69.
(5) الطب النبوي: ص39 - 41.
(6) فتح الباري: 10/216؛ والنووي على مسلم: 14/224؛ ومرقاة المفاتيح: 4/527.
(7) فتح الباري: 10/216؛ والنووي على مسلم: 14/224؛ ومرقاة المفاتيح: 4/527.
(8) أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم، ذكره الحافظ في الفتح 10/217، وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف، انظر: مجمع الزوائد: 5/117؛ وعون المعبود: 10/398، كتاب الكهانة وحمل الكفر على المستحل أو على التهديد والوعيد.
(9) النووي على مسلم: 14/227.
(10) فتح الباري: 10/217، 219؛ والنووي على مسلم: 14/223.
(11) فتح الباري: 10/219؛ وعون المعبود: 9/295.(7/1581)
المسألة الثانية:
العرافة والعراف هو المنجم الذي يدعي علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به - ويزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها، من كلام من يسأله أو فعله أو حاله (1) .
وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أتى عرافًا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) (2) .
المسألة الثالثة:
التميمة: وهي خرزات كانت العرب تعلقها على الصبيان يتقون بها العين بزعمهم (3) . ويقال: قلادة تعلق فيها العودة، ويرون أنها تدفع عنهم الآفات، فلما أرادوا دفع المقادير بذلك كان شركًا (4) .
وعن عقبة بن عامر قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يعلق تميمة فلا أتم الله له)) (5) . وفي رواية: ((من علق تميمة فقد أشرك)) (6) . وعن عمران بن الحصين أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه حلقة من شعر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: أيسرك أن توكل إليها؟ انبذها) (7) .
وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تعلق شيئًا وكل إليه)) (8) . وفي رواية: إن الرقي والتمائم والتولة شرك (9) .
وأما من تعلقها متبركًا بذكر الله تعالى فيها وهو يعلم أن لا كاشف إلا الله ولا دافع عنه سواه فلا بأس بها (10) ، ولذا كان سعيد بن المسيب يأمر بتعليق القرآن، ويقول لا بأس به (11) . وكذا جاءت الرخصة بتعليقه على الصبيان عن الباقر وابن سيرين مطلقًا، وقال الألوسي: وهو الذي عليه الناس قديمًا وحديثًا في سائر الأمصار (12) .
وأما ما أجاب به الإمام مالك عندما سئل عن تعليق التمائم والخرز، وقوله بأن ذلك شرك، وقال: بلغني أن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما يبالي ما أتى من شرب ترياقًا أو تعلق تميمة)) (13) . فإنه يحمل على ما كان بغير لسان العربية ولعله قد يدخله كفر، أو فيمن يعلقها وهو يرى تمام العافية وزوال العلة منها كالتي في الجاهلية (14) .
__________
(1) النهاية لابن الأثير: 3/218 و4/215؛ وغريب الحديث، لابن الجوزي: 2/86؛ والمفردات للأصفهاني: ص443، وعرفه بقوله: هو الذي يخبر بالأخبار المستقبلة بضرب من الظن ونحو ذلك عرفه الحافظ في الفتح: 10/217.
(2) مجمع الزوائد: 5/117، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.
(3) غريب الحديث لابن الجوزي: 1/112؛ وفيض القدير، للمناوي: 2/342 ومثلها الرتيمة وهو خيط كان يربط في العنق أو في اليد في الجاهلية لدفع المضرة عن أنفسهم على زعمهم، ابن عابدين: 5/232.
(4) السنن الكبرى: 9/350.
(5) رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم ثقات، انظر: مجمع الزوائد: 5/103؛ والسنن الكبرى للبيهقي: 9/350.
(6) رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات، مجمع الزوائد: 5/103.
(7) المجموع: 1/57، رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي بإسنادين في كل منهما من اختلف فيه، مجمع الزوائد: 5/103.
(8) تحفة الأحوذي: 6/239.
(9) عون المعبود: 10/367؛ ومعالم السنن: 4/225؛ والسنن الكبرى: 9/350.
(10) السنن الكبرى: 9/350.
(11) السنن الكبرى: 9/350.
(12) تفسير روح المعاني: 15/146؛ والمجموع: 9/56؛ وفيض القدير: 2/342، 6/107؛ وحاشية ابن عابدين: 5/232.
(13) رواه أبو داود وأحمد وأبو نعيم وهو حديث حسن، جامع الأصول: 7/576. ويلحق بالتميمة الودع وهو شيء أبيض يجلب من البحر يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم، وإنما نهى عنها لأنهم كانوا يعلقونها مخافة العين، النهاية، لابن الأثير: 5/168؛ ومجمع الزوائد: 5/103، ومن ذلك أيضًا الخرز وهي التي تنظم في سلك ليتزين بها، وقد سئل مالك عن تعلق التمائم والخرز فقال ذلك شرك، المعجم الوسيط: 1/226 وقد تقدم رأي مالك فيها.
(14) معالم السنن: 4/220؛ والسنن الكبرى للبيهقي: 9/350 - 351.(7/1582)
المسألة الرابعة:
التولة: ما يحبب المرأة إلى زوجها وهي من أنواع السحر (1) .
قال أبو عبيد: وذلك لا يجوز (2) .
وفي حديث ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك (3) .
قال القاري: والتِوَلَة بكسر التاء وبضم وفتح الواو نوع من السحر أو خيط يقرأ فيه من السحر، أو قرطاس يكتب فيه شيء من السحر للمحبة أو غيرها.
وسماها النبي صلى الله عليه وسلم شركًا لأنها قد تفضي إلى الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر، ويفعل خلاف ما قدره الله تعالى، وإما لأن المتعارف منها في عهده ما كان معهودًا في الجاهلية وكان مشتملًا على ما يتضمن الشرك (4) .
المسألة الخامسة:
النشرة: وهي ضرب من الرقية والعلاج، يعالج من كان يظن أن به سحرًا أو مسًّا من الجن، سميت بذلك لأنه يكشف عنه المرض (5) . وعرفها ابن الجوزي: بأنها حل السحر عن المسحور. وقال ابن الأثير: النشرة كالتعويذ والرقية، يقال: نشرته تنشرًا: إذا رقيته وعوذته، وإنما سميت نشرة، لأنها ينشر بها عن المريض، أي يحل عنه ما خامره من الداء (6) .
ومن طرقها ما ورد في قصة اغتسال العائن وهناك طرق أخرى ذكرها الحافظ في الفتح (7) .
وممن صرح بجواز النشرة المزني صاحب الشافعي وأبو جعفر الطبري وغيرهما، وسئل سعيد بن المسيب عن رجل به طب أخذ عن امرأته أيحل له أن ينشر؟ قال: (لا بأس، إنما يريد به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه) (8) .
__________
(1) غريب الحديث لابن الجوزي: 1/113؛ والنهاية لابن الأثير: 1/200، والحديث رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد وغيرهم.
(2) السنن الكبرى للبيهقي: 9/350.
(3) عون المعبود: 10/367؛ وجامع الأصول: 7/575.
(4) عون المعبود: 10/367.
(5) النهاية لابن الأثير: 5/54، ونحو ذلك عرفها الحافظ في الفتح: 10/233.
(6) جامع الأصول: 7/575.
(7) انظر التفصيل، فتح الباري: 10/204، في قصة سهل بن حنيف عندما نظر إليه عامر بن ربيعة وأصابه بعينه وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل ويصب ذلك الماء على سهل بن حنيف فبرىء، والحديث من رواية النسائي وأحمد وصححه ابن حبان، كذا في الفتح.
(8) فتح الباري: 10/232، 234، وأضواء البيان: 4/465.(7/1583)
وممن قال بجوازها أيضًا الإمام أحمد (1) .
ويؤيد مشروعية النشرة حديث ((العين حق)) (2) . ولما في الصحيح عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما سحره لبيد بن الأعصم: هلا تنشرت؟ فقال: ((أما والله فقد شفاني وكرهت أن أثير على الناس شرًا)) . والنفس تميل إلى رأي القائلين بأن ((استخراج السحر إن كان بالقرآن كالمعوذتين وآية الكرسي ونحو ذلك مما تجوز الرقيا به فلا مانع من ذلك وإن كان بسحر أو ألفاظ عجمية، أو بما لا يفهم معناه أو بنوع آخر مما لا يجوز فإنه ممنوع)) (3) . ومما أورده الحافظ في الشرح من قصة سهل بن حنيف وعامر بن ربيعة وأنه أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل وأن يصب ذلك الماء على سهل، ففعل، فشفي سهل.
ثم نقل الحافظ قول المازري من أنه لا يجوز رد مثل هذا لعدم إمكان تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، وكذلك قول ابن العربي: إن توقف فيه متشرع، قلنا له: قل الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة، وصدقته المعاينة، أو متفلسف فالرد عليه أظهر، لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله الخواص (4) . وما ورد من النهي عن النشرة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((النشرة من عمل الشيطان)) (5) ، فهو إشارة إلى أصلها (6) ، (أي النوع الذي كان عليه الجاهلية يعالجون به ويعتقدون فيه وأما ما كان من الآيات القرآنية والأسماء والصفات الربانية والدعوات المأثورة النبوية فلا بأس به) (7) .
__________
(1) فتح الباري: 10/233.
(2) فتح الباري: 10/204.
(3) أضواء البيان: 4/465.
(4) فتح الباري: 10/204.
(5) مجمع الزوائد: 5/102، وقال: رواه البزار والطبراني في الوسط.. ورجال البزار رجال الصحيح، ورواه أبو داود من حديث جابر، انظر: عون المعبود: 10/348؛ وجامع الأصول: 7/575؛ والسنن الكبرى: 9/351.
(6) فتح الباري: 10/233.
(7) عون المعبود: 10/348، وانظر: المجموع: 9/57؛ ومعالم السنن للخطابي: 4/219؛ ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للقاري: 4/506؛ والسنن الكبرى: 9/351.(7/1584)
المسألة السادسة:
السحر: وهو صرف الشيء عن وجهه، وقال القسطلاني: أمر خارق للعادة، صادر عن نفس شريرة لا تتعذر معارضته، وهو بتأثيره نوع من الأمراض، كما قال القرطبي: الحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرًا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم (1) .
وفي قصة اليهودي الذي سحر الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على حصول الضرر له صلى الله عليه وسلم بالسحر وأن ذلك الضرر ليس نقصًا فيما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما يجوز عليه من سائر الأمراض (2) .
وقد سبق أن قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التداوي بالمحرم سواء كان هذا العلاج روحيًّا أو بدنيًّا، ومن طرق العلاج الروحي المحرم ما كان بالاستعانة بالسحرة والشياطين والمشعوذين، ولما كانت هذه الطرق وسيلة لإفساد النفوس وتشويش العقيدة، وتشتيت الأذهان، حرم الإسلام هذا النوع من العلاج وما يلحق به مما كان معروفًا لدى العرب قديمًا من الكهانة والعرافة والطيرة (3) ، والطرق (4) ، والتنجيم (5) حماية لعقيدة المسلم من الدخل، وحفاظًا على عقله من أن يكون أسير الأوهام وإبعادًا لبدنه عن أن يكون موطنًا للشيطان، فحرم الإسلام السحر، وبين أنه من الكبائر (6) . وأن مستحله كافر، وأن المؤمن به محروم من الجنة وفي الحديث: (ثلاثة لا يدخلون الجنة) وعدَّ منهم: (ومصدق بالسحر) (7) ، ونفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الساحر من جماعة المسلمين وفي الحديث (وليس منا.. من تكهن له أو سحر أو سحر له) (8) . ولحديث (من أتى عرافًا أو ساحرًا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) (9) وفي ذلك تحذير شديد للمسلم من إتيان الساحر وتصديقه ومنع له من الوقوع في شراكه، ولأن السحر عقد بين الشيطان والساحر، ويترتب عليه الكفر بالله تعالى، فالتعالج به حرام (10) .
__________
(1) إرشاد الساري: 8/401.
(2) إرشاد الساري: 8/403.
(3) تقدم تعريف الكهانة والعرافة وأما الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن هي التشاؤم بالشيء، انظر: النهاية: 3/152؛ والنووي على مسلم: 14/220.
(4) الطرق هو الضرب بالحصا. النهاية: 3/121.
(5) أضواء البيان: 4/455، وفي بعض الأحاديث - سوف أذكرها - أن هذه الأشياء من السحر.
(6) إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم اجتنبوا السبع الموبقات ومنها السحر، فتح الباري: 10/232؛ وفتاوى ابن تيمية: 35/170. وقال: محرم بالكتاب والسنة والإجماع، انظر تفصيل الموضوع في زاد المعاد: 5/63، 4/124؛ والزواجر للهيثمي: 2/105؛ وأضواء البيان: 4/444؛ والفقه على المذاهب الأربعة للجزيري: 5/389؛ والآداب الشرعية: 3/93 - 95؛ وحاشية ابن عابدين: 1/31، 5/75؛ والطب النبوي والعلم الحديث: 3/39، 146، 265، 297.
(7) مجمع الزوائد: 5/74.
(8) مجمع الزوائد: 5/117.
(9) مجمع الزوائد: 5/118.
(10) أحكام القرآن للجصاص: 1/50؛ وأضواء البيان: 4/455 - 458، 465؛ وإرشاد الساري: 8/405 - 410؛ والفتح: 10/239؛ وابن عابدين: 2/594؛ وإعلام الموقعين: 4/396.(7/1585)
كيفية التعالج منه:
فمنه ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من تصبح سبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر)) (1) وقد يكون باستخراجه وتبطيله كما في الخبر (2) فهو كإزالة المادة الخبيثة بالاستفراغ، في المحل الذي يصل إليه السحر (3) وكذلك يكون علاجه بالقرآن كالمعوذتين، وآية الكرسي، والدعوات والأدعية المأثورة ونحو ذلك فما يجوز الرقيا به، فلا مانع من ذلك (4) ، وقال عنها ابن القيم: فهذا جائز بل مستحب (5) .
وقد تقدم في تعريف النشرة أنها ضرب من العلاج يعالج به من يظن أن به سحرًا أو شيئًا من الجن، وأن ابن المسيب قال: لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه، وعن قتادة: إنما نهى الله تعالى عما يضره ولم ينه عما ينفعه (6) . وفي حديث جابر عند مسلم مرفوعًا (من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل) (7) .
وقال الحافظ قلت: سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة (8) ، مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه، فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك، وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوي (9) ، ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية في الكمال (10) .
__________
(1) فتح الباري: 10/238 - 240، باب الدواء بالعجوة للسحر، ورجح القسطلاني خصوصية ذلك بتمر المدينة لكونه غرسه بيده الشريفة، إرشاد الساري: 8/410.
(2) فتح الباري: 10/232.
(3) الآداب الشرعية: 3/95 - 96.
(4) أضواء البيان: 4/465.
(5) إعلام الموقعين: 4/396. وهناك طرق أخرى لعلاج المسحور لا يتسع المجال لذكرها فارجع إليها في الفتح: 10/233؛ وابن عابدين: 2/594؛ وإرشاد الساري: 8/405.
(6) إرشاد الساري: 8/406.
(7) النووي على مسلم: 14/186.
(8) قصة سحر اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم فتح الباري: 10/221.
(9) إرشاد الساري: 8/407.
(10) فتح الباري: 10/228؛ وإرشاد الساري: 8/407؛ نقله عن الفتح.(7/1586)
وأما الممنوع فهو حل سحر بسحر مثله وهو الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من عمل الشيطان وعلى هذا النوع يحمل قول الحسن: (لا يحل السحر إلا ساحر) (1) .
وهناك طرق أخرى لعلاج المسحور ذكرها بعض المفسرين - تعتمد على المنامات - لم تقتنع نفسي إلى الأخذ بها (2) .
الفرع الثاني: الاستشفاء بالقرآن الكريم:
ثبت في الصحيحين (3) وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عالج بالقرآن الكريم، لأنه شفاء ورحمة كما بين الله تعالى ذلك في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} (4) .
ولفظ ((شفاء)) مطلق لم يقيد بكونه شفاء للقلوب فقط.
والاستشفاء إما أن يكون من الأمراض الروحانية وإما أن يكون من الأمراض البدنية.
أما عن الاستشفاء بالقرآن من الأمراض الروحانية فقد اتفقوا جميعًا على ذلك (5) . وعللوا رأيهم بأن الأمراض الروحانية نوعان: الاعتقادات الباطلة والأخلاق المذمومة، أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فسادًا الاعتقادات الفاسدة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر. والقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة فيها، ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخطأ في هذه المطالب والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب الباطنة لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني، وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة والأعمال المحمودة فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية (6) .
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فإن للعلماء في هذه المسألة اتجاهين:
الاتجاه الأول:
وهو رأي القائلين بأن القرآن يتضمن شفاء الأبدان كما تضمن شفاء الأرواح.
وقال الرازي في نصرة هذا الرأي (7) :
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرًا من الأمراض ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقى المجهولة والعزايم التي لا يفهم منها شيء آثارًا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد، فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه وتعظيم الملائكة المقربين وتحقير المردة والشياطين سببًا لحصول النفع في الدين والدنيا كان أولى ويتأكد ما ذكرنا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى)) (8) .
__________
(1) أعلام الموقعين: 4/396.
(2) فتح الباري: 10/233؛ وإرشاد الساري: 8/405؛ وابن عابدين: 2/594.
(3) فتح الباري: 10/209؛ وصحيح مسلم: 4/727، حديث رقم (2201) .
(4) سورة الإسراء: الآية 82.
(5) انظر: جميع التفاسير متفقة على ذلك.
(6) التفسير الكبير للرازي: 21/35؛ وانظر مدارج السالكين: 1/52 - 53.
(7) التفسير الكبير للرازي: 21/35، ومع هذا الاتجاه كذلك الألوسي في تفسيره: 15/145؛ وأبو حيان البحر المحيط: 6/74؛ وتفسير ابن عطية: 9/175؛ والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 9/316؛ وابن الجوزي في زاد المسير: 5/79؛ والشوكاني في فتح القدير: 3/253؛ والبرسوي في روح البيان: 5/194.
(8) لم أقف على تخريجه في كتب الحديث، وقال القرطبي في تفسيره: 9/318: هو من كلام رجاء الغنوي.(7/1587)
وأكثر من أيد هذا الاتجاه ابن القيم حيث قال: وأما تضمنها لشفاء الأبدان: فنذكر منه ما جاءت به السنة، وما شهدت به قواعد الطب، ودلت عليه التجربة.
فأما ما دلت عليه السنة: ففي الصحيح من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري: ((أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بحي من العرب فلم يقروهم، ولم يضيفوهم. فلدغ سيد الحي فأتوهم. فقالوا: هل عندكم من رقية، أو هل فيكم من راق؟ فقالوا: نعم، ولكنكم لم تقرونا فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلًا، فجعلوا لهم على ذلك قطيعًا من الغنم، فجعل رجل منا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب. فقام كأن لم يكن به قلبه. فقلنا: لا تعجلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأتيناه، فذكرنا له ذلك، فقال: ما يدريك أنها رقية؟ كلوا واضربوا لي معكم بسهم)) (1) . فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه. فأغنته عن الدواء. وربما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدواء.
هذا مع كون المحل غير قابل، إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين، أو أهل بخل ولؤم. فكيف إذا كان المحل قابلًا. ثم بين أنه جرب هذا الدواء شخصيًّا حينما أقام بمكة واستفاد منه فقال: (فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة، بحيث تكاد تقطع الحركة مني. وذلك في أثناء الطواف وغيره. فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط. جربت ذلك مرارًا عديدة، وكنت آخذ قدحًا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارًا. فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء والأمر أعظم من ذلك. ولكن بحسب قوة الإيمان، وصحة اليقين، والله المستعان (2) . وقال في زاد المعاد (3) : فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة وبنحو هذا ذهب البرسوي عند تفسيره هذه الآية ثم ذكر شواهد من التجربة تدل على ذلك، فقال:
واعلم أن القرآن شفاء للمرض الجسماني أيضًا روي أنه مرض للأستاذ أبي القاسم القشيري، قدس سره، ولدٌ مرضًا شديدًا بحيث أيس منه فشق ذلك على الأستاذ فرأى الحق سبحانه في المنام فشكا إليه فقال الحق تعالى: اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه واكتبها في إناء واجعل فيه مشروبًا واسقه إياه ففعل ذلك فعوفي الولد وآيات الشفاء في القرآن ست: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] ، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] ، {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] ، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] ، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] . (قال تاج الدين السبكي رحمه الله في طبقاته (4) : ورأيت كثيرًا من المشايخ يكتبون هذه الآيات للمريض ويسقاها في الإناء طلبًا للعافية وقوله عليه السلام: ((من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله)) يشمل الاستشفاء به للمرض الجسماني والروحاني) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) مدارج السالكين: 1/52، 57.
(3) الجزء الرابع: ص352.
(4) انظر: طبقات الشافعية الكبرى: 5/195 بتحقيق محمود الطناحي، وعبد الفتاح الحلوط عيسى الحلبي.(7/1588)
قال الشيخ التميمي رحمه الله في خواص القرآن: إذا كتبت الفاتحة في إناء طاهر ومحيت بماء طاهر وغسل المريض وجهه عوفي بإذن الله فإذا شرب من هذا الماء من يجد في قلبه تقلبًا أو شكًّا أو رجفًا أو خفقانًا يسكن بإذن الله وزال عنه ألمه وإذا كتبت بمسك في إناء زجاج ومحيت بماء ورد وشرب ذلك الماء البليد الذي لا يحفظ بشربه سبعة أيام زالت بلادته وحفظ ما يسمع، فعلى العاقل أن يتمسك بالقرآن ويداوي به مرضه وقد ورد (القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم أما داؤكم فذنوبكم وأما دوؤكم فالاستغفار) فلا بد من معرفة المرض أولًا فإنه ما دام لم يعرف نوعه لا تتيسر المعالجة وأهل القرآن هم الذين يعرفون ذلك فالسلوك بالوسيلة أولى (1) .
واختار الألوسي أن تكون "مِنْ" في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ} [الإسراء: 82] للتبعيض أي أنه باعتبار الشفاء الجسماني وهو من خواص بعض دون بعض، ومن البعض الأول الفاتحة وفيها آثار مشهورة (2) ، ولكن الأكثرية على خلاف رأيه.
والطب النفساني أو الروحاني لا ينكر أهمية المعالجة الروحية، إذ هي فرع من الطب يبحث في العلاقات المتبادلة بين الجسم والنفس، لأن الحالة النفسانية كثيرًا ما تؤثر في البدن (3) . لذا قال سقراط: ( ... وأن الخطأ الكبير في معالجة الجسم الإنساني في أيامنا هذه، هو أن الأطباء يفرقون بين الجسم والنفس) (4) .
ولقد سمي علم الأمراض النفسية في تراثنا الإسلامي القديم ((بطب القلوب)) ووصف ابن القيم (5) هذا النوع في وصفه للطبيب قائلًا: (أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان) .
وهكذا نجد أن علماءنا يربطون بين علل القلب والبدن، أي العلاقة بين الأمراض النفسية والأمراض العضوية، بل أدركوا أن المصاب بعلة بدنية حقيقية تتحسن حالته إذا ما رفعنا روحه المعنوية، وبشرناه بالشفاء العاجل، ولذا جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يرد شيئًا وهو يطيب بنفس المريض)) (6) . وقد شاهد الناس كثيرًا من المرضي تنتعش قواه بعيادة من يحبونه ورؤيتهم لهم ولطفهم ومكالمتهم إياهم، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزور المريض ويسأله عن شكواه وعما يشتهيه ويضع يده الشريفة على جبهته ويدعو له ويصف ما ينفعه ويدخل السرور على قلبه.
__________
(1) تفسير روح البيان للإمام إسماعيل حقي البرسوي: 5/194، 195 وإلى كون القرآن دواء للأمراض الروحانية والجسمانية ذهب المناوي، انظر: فيض القدير: 4/536. وذكر قصة القشيري مع ولده السبكي في طبقاته: 5/158.
(2) روح المعاني للألوسي: 15/145 كما ذكر في نفس الصفحة قصة الإمام القشيري مع ولده المريض.
(3) مدارج السالكين: 1/58 دار الكتاب العربي، بيروت؛ وفيض القدير: 1/341.
(4) الطب النبوي والعلم الحديث: 3/131.
(5) الطب النبوي لابن القيم: ص113.
(6) فيض القدير: 1/341، وفي سنده مقال، وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح، والطب النبوي: ص254.(7/1589)
وفي الدراسات النفسية الحديثة أثبت الدكتور تالبوت (أن هناك نسبة عالية من حالات الصداع سببها نفسي، ويكفي مثالًا لتلك الصلة بينهما أن تكون قرحة المعدة أو الاثني عشر بتأثير الانفعال ويبين الطب الحديث أن كثيرًا من أمراض التوتر العصبي؛ أو سوء الهضم أو الإمساك أو الصداع أو الشلل أو فقد حاسة ما، أو نوبات صرعية.. أو غيرها تعرف هذه الأعراض باسم ((الأعراض المحولة)) لأن أسبابها الحقيقية أسباب غير جسمية، بل انفعالية أو عقلية، ثم تحولت إلى أمراض جسمية) (1) . وهكذا نجد أن الأطباء - كما قال الألوسي - (معترفون بأن من الأمور والرقى ما يشفى بخاصية روحانية، ومن ينكر فلا يعبأ به) (2) .
وقد أجاز كثير من العلماء الاستشفاء بالقرآن بأن يقرأ على المريض أو الملدوغ الفاتحة، أو يكتب في ورق ويعلق عليه أو في طست ويغسل ويسقى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه كان يعوذ نفسه، وكذلك أجازوا أن يشد الجنب والحائض التعاويذ على العضد، إذ كانت ملفوفة ... )) (3) . ومع هذا الرأي - كما سبق - ابن المسيب وابن سيرين ومالك وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها (فقد روي أنها كانت تقرأ بالمعوذتين في إناء، ثم تأمر أن يصب على المريض) (4) .
وأما الاتجاه الثاني:
فقد ذهبوا إلى القول بأنه شفاء للقلوب فقط بزوال الجهل عنها وذهاب الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه، المقررة لشرعه (5) ، ومع هذا الاتجاه الحسن والنخعي ومجاهد (6) وأيدهم من المعاصرين الشيخ شلتوت رحمه الله وقال: (إن القرآن لم ينزل دواء للأمراض البدنية، لأن الله خلق لها عقاقير طبية فيها خاصية الشفاء، وأرشد إلى البحث عنها والتداوي بها، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى أن التداوي من الأمراض البدنية إنما يكون من طريق الطب البشري الذي يعرف الدواء، أما القرآن فلم ينزله الله دواء لأمراض الأبدان، وإنما أنزله كما قال دواء لأمراض القلوب، لأنها أمراض معنوية، وشفاؤها بأدوية معنوية، والقرآن قد عالج هذه الأمراض المعنوية وما التداوي في الأمراض البدنية بالقرآن إلا كقراءة البخاري والختمات للنصر على الأعداء في ميدان القتال، وهو وضع للعلاج المعنوي مكان العلاج المادي، وهو قلب لنظام الله تعالى في خلقه، وعروج بالقرآن عما أنزل لأجله) (7) .
__________
(1) الطب النبوي والعلم الحديث: 3/134.
(2) روح المعاني: 15/145.
(3) حاشية ابن عابدين: 5/232.
(4) روح المعاني: 15/145؛ وتفسير البحر المحيط: 6/74.
(5) نقل هذا الاتجاه الشوكاني في فتح القدير: 3/253؛ والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 9/316؛ وابن الجوزي في زاد المسير: 5/79؛ وأبو حيان في البحر المحيط: 6/74.
(6) روح المعاني: 15/145؛ والبحر المحيط: 6/74 وهو المفهوم من كلام ابن كثير في تفسيره: 4/342؛ والسيوطي في الدر المنثور: 4/199؛ والقرطبي في الجامع: 15/135.
(7) الفتاوى للشيخ شلتوت: ص209، 210.(7/1590)
كما أنكر ما يفعله البعض من كتابة الآيات القرآنية في إناء، ثم تمحى بالماء ثم يؤمر المريض بشربه، أو تعلق حجابًا وقال: إن هذا عبث بالقرآن وبالعقول الضعيفة (1) ، ويمكن أن يستدل لهم بما روى أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال حين سئل عن النشرة: ((هي من عمل الشيطان)) (2) . وبما روي عن النخعي أنه كان يقول: أخاف أن يصيبه من شرب ما محى به القرآن بلاء.
وبما قاله الحسن من أنه سأل أنسًا عن ذلك، فقال: ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها من الشيطان.
وقد تولى ابن عبد البر (3) الرد على ما استدل به هؤلاء، وقال: (وهذه آثار لينة ولها وجوه محتملة، وقد قيل: إن هذا محمول على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وعن المداوة المعروفة، والنشرة من جنس الطب فهي غسالة شيء له فضل، فهي كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، ومن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)) (4) .
وإن النفس لتميل مع رأي القائلين يكون القرآن شفاء للأمراض الروحانية والجسمانية ولكن نقول كما قال المناوي: (لا يحسن التداوي به إلا الموفقون) (5) .
والذي يظهر لنا رجحانه هو القول الأول لما ذكرناه من الأدلة، وذلك لأنه لا يلزم من هذا القول سلب كون القرآن كتاب هداية فهو بلا شك كتاب هداية للبشرية جمعاء، ولكنه مع ذلك لا مانع من أن يستشفى به لأمراض البدن.
ولكن ينبغي أن نعلم أن القراءة التي تشفي هي التي تكون مع الإخلاص وفراغ القلب من الأغيار والإقبال على الله تعالى بالكلية وعدم تناول الحرام، وعدم الآثام، فقراءة من هذا حاله مبرىء للأمراض وإن أعيت الأطباء، ولذا قال بعض الأئمة: متى تخلف الشفاء، (فهو إما لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المحل المنفعل أو لمانع قوي يمنع تخلفه أن ينجع فيه الدواء كما تكون في الأدوية الحسية شفاء لما في الصدور: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء: 82] فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية لكن لا يحسن التداوي به إلا الموفقون ولله حكمة في إخفاء سر التداوي به عن نفوس أكثر العالمين كما له حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم ... ) اهـ (6) .
__________
(1) الفتاوى للشيخ شلتوت: ص207، 208.
(2) عون المعبود: 10/348 وقد تقدم تخريجه بأبين من هذا.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 9/318.
(4) رواه مسلم وقد تقدم تخريجه.
(5) تقدم قول المناوي آنفًا.
(6) فيض القدير للمناوي: 4/536، 537.(7/1591)
التداوي بالمحظورات
اختلف الفقهاء في حكم التداوي بالمحرمات على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو القول بعدم جواز التداوي بالمحرمات - المطعوم والمشروب في ذلك سواء وهو قول المالكية (1) والحنابلة (2) والشافعية (3) في أحد القولين عندهم وفي وجه عند الحنفية (4) والزيدية (5) وهو قول جمهور العلماء (6) .
واستدلوا لقولهم بأدلة منها ما رواه مسلم عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر يصنعها للدواء؟ فقال: ((إنه ليس بدواء ولكنه داء)) (7) . وفي الصحيح عن ابن مسعود أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم (8) . وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث (9) .
وتمسكوا بظاهر هذه الأحاديث في القول بمنع التداوي بالمحرم لعموم النهي ولأن بعضها يدعو إلى بعض حتى أجاب ابن تيمية بالمنع لمن سأله عن التداوي بالخمر عند الضرورة كما أنهم لم يجعلوا المرض من الضرورات التي تبيح المحظورات، كما في تناول المضطر للميتة في المخمصة معللين قولهم بالافتراق بينهما بأن المضطر في حالة المخمصة يتعين الأكل طريقًا لإنقاذ حياته بخلاف حالة المرض فإن هذه المحرمات لا يتعين تناولها طريقًا للشفاء، والحاصل أن الضرورة عندهم لا تتحقق هنا.
القول الثاني: وذهب أصحابه إلى القول بجواز التداوي بالمحرمات وبه قالت الظاهرية (10) وبعض الفقهاء (11) ، وفي الأصح عند الشافعية جواز التداوي بجميع النجاسات سوى المسكر (12) ومجمل تعليلهم أن التداوي يعتبر من حالات الضرورة، والضرورات تبيح المحظورات واستدلوا بقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (13) .
فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه، كإباحته صلى الله عليه وسلم للعرنيين أبوال الإبل على سبيل التداوي من المرض وأول ما صح من أدلة خصومةٍ بأن المحرمات في حالى الاضطرار إلى التداوي بها تكون مباحة فلا تكون من الخبائث فلا يصدق عليها اسم الدواء الخبيث المحرم الممنوع التداوي به.
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/59؛ وحاشية الدسوقي: 4/353.
(2) زاد المعاد: 4/154 - 158؛ وفتاوى ابن تيمية: 24/275؛ والإفصاح لابن هبيرة/ 2/270، وذكر أن أحمد ومالكًا من القائلين بالمنع.
(3) المجموع: 9/42.
(4) المبسوط: 24/21.
(5) البحر الزخار: 4/351؛ وشرح الأزهار: 4/100.
(6) نيل الأوطار: 8/211.
(7) النووي على مسلم: 13/152؛ ومجمع الزوائد: 5/86؛ ومعالم السنن: 4/22.
(8) نيل الأوطار: 8/211.
(9) نيل الأوطار: 8/211؛ ومعالم السنن: 4/221.
(10) المحلى: 11/372، 1/170، 1/124.
(11) معالم السنن: 4/223؛ والفقه الإسلامي للزحيلي: 3/523.
(12) نيل الأوطار: 8/211.
(13) سورة الأنعام: الآية 119.(7/1592)
القول الثالث: وهو القول بجواز التداوي بالمحرم إذا تيقن طريقًا للشفاء وإلا فلا يباح التداوي به، وهو قول بعض الحنفية (1) وقول بعض الشافعية (2) وبعض المالكية (3) . ويستدل لهم بما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للعرنيين أن يتداووا بأبوال الإبل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّف شفاء أولئك بها على الخصوص، لذا قالوا بجوازه عندما يتعين المحرم طريقًا للشفاء، ولا يجد المريض دواء طاهرًا يقوم مقام الدواء المحرم، وأن يكون بإخبار الطبيب المسلم العدل (4) وبهذا يمكن الجمع بين أحاديث النهي وبين حديث العرنيين.
والراجح هو القول بجواز التداوي بالمحرم عند الضرورة وبالشروط التي ذكرها هؤلاء (لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للعرنيين التداوي بأبوال الإبل وهي محرمة إلا أنها لما كانت مما يستشفى بها في بعض العلل رخص لهم في تناولها) (5) .
الدكتور علي محمد يوسف المحمدي
__________
(1) بدائع الصنائع: 1/61، 62؛ وابن عابدين: 5/224.
(2) المجموع: 9/49؛ وقواعد العز بن عبد السلام: 1/81، 95؛ ونيل الأوطار: 8/211.
(3) أحكام القرآن لابن العربي: 1/56؛ وتفسير القرطبي: 2/231.
(4) وانظر ما سبق مجموعة بحوث فقهية د. عبد الكريم زيدان: ص150 - 175؛ ونيل الأوطار: 8/211.
(5) معالم السنن: 4/223. ملاحظة: أوردت هذا البحث هنا إتمامًا للفائدة، وبما أن للعلماء تفصيلات كثيرة لا يسع المقام لذكرها فقد قررت أن أفردها ببحث مستقل أذكر فيه أنواع المحرمات من مطعومات ومشروبات ومسمومات وما استجد منها كالمخدرات وأنواعها، والتداوي بالنجاسات وسائر المحرمات الأخرى.(7/1593)
المصادر والراجع
1- أحكام القرآن، للجصاص، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
2- إحياء علوم الدين للغزالي، طبعة عيسى الحلبي، مصر.
3- الآداب الشرعية لابن مفلح، طبعة بدون تاريخ.
4- إرشاد الساري للقسطلاني، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
5- الإصابة لابن حجر، طبعة دار صادر، بيروت.
6- أضواء البيان للشنقيطي، طبعة من مطبوعات المدرسة السلفية، مصر.
7- أعلام الموقعين بتحقيق محمد محيي الدين.
8- الإفصاح لابن هبيرة، طبعة المؤسسة السعيدية، الرياض.
9- البحر الزخار، للإمام أحمد بن المرتضي، مؤسسة الرسالة، بيروت.
10- البحر المحيط، لأبي حيان، الناشر مكتبة مطابع النصر الحديثة، الرياض.
11- بدائع الصنائع للكساني، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
12- بدائع الفوائد لابن القيم، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
13- بهجة النفوس للأندلسي، طبعة دار الجيل.
14- التاج الجامع الأصول، للشيخ منصور على ناصف، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
15- تخريج الدلالات السماعية للتلمساني، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة.
16- تحفة الأحوذي للمباركفوري، الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
17- التراتيب الإدارية للكتاني، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
18- تربية الأولاد في الإسلام، د. عبد الله علوان، طبعة دار السلام، طبعة الثالثة.
19- ترتيب القاموس المحيط، طبعة عيسى الحلبي.
20- تفسير فتح القدير للشوكاني، طبعة مصطفى الحلبي.(7/1594)
21- التفسير الكبير للرازي، طبعة دار الفكر، بيروت.
22- تفسير المنار، طبعة الهيئة المصرية.
23- التمهيد لابن عبد البر، طبعة وزارة الأوقاف المغربية.
24- تهذيب التهذيب لابن حجر، طبعة دار صادر، بيروت.
25- جامع الأصول لابن الأثير، تحقيق الأرناؤوط.
26- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
27- حاشية ابن عابدين، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
28- حاشية الدسوقي، طبعة عيسى الحلبي، مصر.
29- حواشي الشرواني وابن القاسم، طبعة بدون.
30- الدر المنثور للسيوطي، طبعة دار المعرفة، بيروت.
31- روح البيان للبرسوي، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
32- روح المعاني للألوسي، طبعة إحياء التراث العربي، بيروت.
33- الروضة الندية للقنوجي، طبعة دار إحياء التراث الإسلامي، الدوحة.
34- زاد المعاد لابن القيم، طبعة مؤسسة الرسالة.
35- زاد المسير، لابن الجوزي، طبعة المكتب الإسلامي.
36- الزواجر للهيثمي، طبعة دار المعرفة، بيروت.
37- سنن ابن ماجه، طبعة عيسى الحلبي.
38- السنن الكبرى للبيهقي، طبعة دار المعرفة، بيروت.
39- سنن النسائي، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
40- شرح الأزهار، لابن مفتاح، مكتبة اليمن، صنعاء.
41- شرح الزرقاني على الموطأ، طبعة دار المعرفة، بيروت.
42- الشفاء للقاضي عياض، طبعة مكتبة الفارابي، دمشق.
43- صحيح مسلم بتحقيق فؤاد عبد الباقي، طبعة عيسى الحلبي، مصر.
44- صفة الصفوة لابن الجوزي، نشر دار الوعي، حلب.
45- صفوة البيان للشيخ مخلوف، طبعة دار الكتاب العربي، مصر.
46- الطب عند العرب والمسلمين، د. محمود الحاج، الدار السعودية للنشر والتوزيع.
47- الطب النبوي لابن القيم.(7/1595)
48- الطب النبوي والعلم الحديث، د. محمود النسيمي، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت.
49- طرح التثريب، للحافظ العراقي، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
50- عارضة الأحوذي، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
51- عون المعبود للمباركفوري، الناشر المكتبة السلفية، بالمدينة المنورة.
52- غريب الحديث لابن الجوزي، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
53- فتاوى الشيخ شلتوت، طبعة دار الشروق، 1980م.
54- الفتاوى الكبرى لابن تيمية، مكتبة ابن تيمية، مصر.
55- فتاوى معاصرة للقرضاوي، طبعة المطبعة السلفية، مصر، الطبعة الأولى.
56- الفتاوى الهندية، طبعة باكستان.
57- فتح الباري لابن حجر، طبعة المطبعة السلفية، مصر.
58- الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي، طبعة دار الفكر.
59- الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري، الناشر دار الإرشاد.
60- الفواكه الدواني، طبعة مصطفى الحلبي.
61- فيض القدير للمناوي، طبعة دار المعرفة، بيروت.
62- قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، طبعة دار الجيل، بيروت.
63- قليوبي وعميرة، طبعة عيسى الحلبي.
64- قوت القلوب لأبي طالب المكي، دار صادر، بيروت.
65- كشاف القناع للبهوتي، دار الفكر، بيروت.
66- لامع الدراري، طبعة مكة المكرمة.
67- المبسوط للسرخسي، طبعة دار المعرفة، بيروت.
68- مجمع الزوائد للهيثمي، طبعة دار مكتبة القدسي، مصر.
69- مجموعة بحوث فقهية، عبد الكريم زيدان، طبعة مؤسسة الرسالة، 1976م.
70- المجموع للنووي، توزيع المكتبة العالمية.
71- المحلى لابن حزم، طبعة المكتب التجاري، بيروت.
72- مختصر الفتاوى المصرية للبعلي، طبعة دار الجيل.(7/1596)
73- مدارج السالكين لابن القيم، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
74- مرقاة المفاتيح للقاري، طبعة دار إحياء التراث.
75- مسند أحمد، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت.
76- المصنف، لعبد الرزاق، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت.
77- معالم السنن للخطابي، طبعة الأولى، المكتبة العلمية، بيروت.
78- معالم القربة في أحكام الحسبة، للشيخ محمد بن محمد القرشي، طبعة الهيئة المصرية للكتاب.
79- الموطأ، طبعة عيسى الحلبي.
80- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، الناشر المكتبة الإسلامية.
81- نيل الأوطار للشوكاني، طبعة مصطفى الحلبي.(7/1597)
العلاج الطبي
إعداد
الدكتور محمد عدنان صقال
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن علاقة المريض بالطبيب هي علاقة ثقة متبادلة وموقف الطبيب تجاه صحة المريض هو موقف شخصية ملتزمة تقدم النصح والدواء فالمطلوب من الطبيب ليس فقط معاينة العضو المصاب والاهتمام به حصرًا بل كذلك عليه أن يهتم ويعتني بكامل الحالة الصحية العامة لمريضه، أي أن المطلوب هو وجود شخصية إنسانية تقف أمام كلية المريض وليس أن يتصرف إزاء عضو المريض فقط ولا حتى إزاء الحالة كطبيب نفساني فقط.
إن ثمة سؤالاً يطرح نفسه دائمًا كيف يمكن للطبيب أن تكون مهمته عادلة ومنطقية أمام كثير من الأمراض وخاصة المستعصية منها، وذلك يقودنا بشكل منطقي إلى التساؤل ماذا تعني هذه الإنسانية الكاملة التي يجب على الطبيب أن يتعامل معها؟ ما هي الوسائل التي يمتلكها الطبيب لتمكنه من مساعدة هذا الإنسان المريض؟.
إن حياة الإنسان منذ بدايتها حتى نهايتها تكون مرتبطة بالأمل، الأمل في أن يأخذ مكانه تحت الشمس، الأمل الذي يجعله يكد ويعمل، الأمل الذي يجعله يؤمن بالشفاء، أما إذا فقد هذا الأمل فستكون الحياة عذابًا وشقاء.
إن الخطوة الأولى والتي تقود إلى اللقاء بين المريض والطبيب تحصل عادة بمبادرة من المريض عندما يذهب ((بطلب)) إلى الطبيب وأغلب المرضى يبحثون عن الطبيب الذي يساعدهم في العودة إلى صحتهم الجيدة ومضمون هذا ((الطلب)) رغم وضوح وعلنية صياغته فإنه يختلف من مريض إلى آخر وذلك حسب مفهوم كل مريض عن الصحة التي يبحث عنها.
لقد عرف ميثاق منظمة الصحة العالمية (WHO) الصحة بما يلي: ((هي حالة الاستقرار الكامل والشعور بالرضى التام في الحالات الجسمية والنفسية والاجتماعية)) .
وفي هذه الحالة فمن يستطيع منا أن يعتبر نفسه معافى. فحسب هذا التعريف فإن كل الناس دائمًا مرضى أي ((الإنسانية مريضة)) .(7/1598)
إن أصعب الأمور على الطبيب عندما يقف حائرًا أمام مريضه هو يرى أن إمكانية إنقاذ هذا المريض تبدو وكأنها مستحيلة ولكنه رغم ذلك لا يستطيع أن يبوح بهذه المعلومة المدفونة بصدره، وما أكثر مثل هذه الحالات الميؤوس منها.
كان لي زميل أصيب بتشمع الكبد زرته في بيته وكان هو رئيس أطباء المستشفى الذي كنت أعمل فيه بألمانيا قلت له: كيف حالك؟ فأجابني بابتسامة ملؤها السخرية تعلو شفتيه أتسألني أنت عن حالتي، لو سألني غيرك لأجبته بالجواب المعهود إنني بصحة جيدة، أما أنت، أنت الذي تعرف مرضي وتعرف عاقبة دائي، أما سمعت بتشمع الكبد، شكرًا على مجاملتك. كانت يداه ترتجفان، لن أنسى منظره ولن أنسى صوته المرتجف المتقطع ولم أنس تمتمته الأخيرة ((إنني أتمنى الموت)) .
مسكين أيها الطبيب ومسكين أيها المريض، كم سيكون المشوار صعبًا وكم سيكون الحوار عقيمًا وما أصعب على الإنسان من أن يقول غير ما يعتقد وأن يمنع من إظهار ما يعتلج بصدره.. فالمريض ينظر إلى الطبيب أنه الملاذ الأخير لإنقاذه ويبني الآمال والمعنويات عليه، وفي حقيقة الأمر لا يستطيع الطبيب فعل أي شيء تجاهه.
مريض آخر شاب أصيب بما يعرف عن موت الدماغ وبقي فترة طويلة يعيش هذا الإنسان على الأجهزة الاصطناعية كان كل شيء ساكنًا لا حراك ولا منعكس فيه إلا ذلك القلب الذي كان يدق ويدق ويدق، ومرت الأيام، ولن أنسى تلك الأم المسكينة التي كانت تزرع في كل زاوية من زوايا المستشفى دمعة وآهة وحسرة، أما الوالد المفجوع فكان ثمة سؤال يتردد على شفتيه، إلام سيبقى ولدي هكذا، إلام سنبقى معذبين؟ إنني أشعر أننا نسير إلى الهلاك قبله، وفي يوم من الأيام حضر والد المصاب لعيادتي وأخبرني أنه أصبح مقتنعًا أن حالة ابنه ميؤوس منها ووافق على نزع الأجهزة حتى تنتهي هذه المأساة.
مرت لحظات وكأنني أصبت بوجوم عميق أجل ولكن من هذا الفارس الذي سيطلق ما يسمونه خطأ رصاصة الرحمة، ولا أكتمكم سرًّا أنني كنت جبانًا كلما تقدمت لاقتلاع الأجهزة، شعرت برهبة وخوف شديدين ولن أنسى ذلك الصباح الذي دخلت غرفة المريض لأجد أن كل الأجهزة قد انتزعت منه وأن قلب هذا الشاب قد توقف ولم أعرف من الذي قام بهذا العمل وأن الذي أراحني فيما بعد هو القرار رقم (5) الذي صدر عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الذي جاء فيه:
((إذا تعطلت جميع وظائع دماغه تعطلًا نهائيًّا وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا العطل لا رجعة فيه وأخذ دماغه في التحلل وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلًا لا يزال يعمل آليًا بفعل الأجهزة المركبة والله أعلم)) .(7/1599)
أيها الأخوة الأفاضل:
هناك أمثلة كثيرة على حالات كثيرة ميؤوس علاجها وقد تضيق الصفحات إذا استرسلت بسرد كثير من الأوراق، فالسرطان المنتشر مثلًا مرض ميؤوس منه والإيدز (نقص المناعة المكتسبة) مرض ميؤوس منه أيضًا على الأقل حتى يومنا هذا.
ماذا سيفعل الطبيب، إن الأمر شائك وأن هناك تساؤلات عديدة قد يحار المرء في أن يجد الجواب وقلبه مطمئن كل الاطمئنان، ثم ما هو حكم الشرع، هل يجب الاستمرار بالعلاج رغم الحكم بانتهاء الأمل في الشفاء ((تداووا عباد الله فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له الدواء)) صدق رسول الله أو كمال قال.
أليس التداوي واجبًا أمن أنه مباح يجوز تركه وبذلك نكون قد حكمنا عليه - أي الجسد - بالذبول والفناء، وتركنا شرطًا شرعيًّا، حيث إننا لم نحافظ على هذا الجسم الذي خلقه الله في أحسن تقويم.
ماذا يستطيع الطبيب أن يفعل أمام هذه الحالات التي تمر أمامه كل يوم ليس لديه إلا مجال واحد أن يترك المريض يعيش بقناعات يوحيها إليه على أن مرضه بسيط وأن الشفاء قادم لا محالة ومن ثم يضطر لإعطائه صنفًا من الدواء حتى تكتمل الناحية الطبية والنفسية معًا، كما أن هناك أمرًا يجب أن لا نغفل عنه وأن يؤخذ بعين الاعتبار ألا وهو الشروط المادية والمعنوية التي يجب أن تنسجم مع قرار المجتمع الذي نعيش فيه.
فمثلًا بالغرب وعلى الأخص بأمريكا عندما تلد المرأة طفلًا مشوهًا، فتراهم جميعًا متفقين حتى يتخلصوا من هذا الوليد وأن لا يكون عالة عليهم، أما المجتمع الإسلامي فهو مؤمن بقدره مع الله وهو يعلم أنه إن أقدم على ذلك فجزاؤه النار ومن هنا كانت الطمأنينة والرضا بقدر الله.(7/1600)
ولن أنسى ذلك الأب لطفل أصيب بداء عضال حتى أوشك على الموت وأصبح ميؤوسًا منه، قلت له: إن ولدك يشرف على الهلاك فتبسم وقال: إنني على يقين أن الشافي هو الله وإنكم معشر الأطباء لن تستطيعوا أن تفعلوا شيئًا عندما تكون إرادة الله قد قضت وهو فعال لما يريد.
ومن هنا كانت نعمة الإيمان والتسليم لقضاء الله في المجتمع الإسلامي أمرًا يحل كثيرًا من الأمور التي يعاني منها كثير من المرضى والأطباء على سواء، في مجتمعات ثانية، إن التصرف في مثل هذه القضايا الحساسة يتطلب إلى جانب السند العلمي القاطع، الطمأنينة العاطفية والرضا الوجداني وقد كان هناك طبيب مرموق ومختص كان يرقد في مشفاه إنسان جَزَمَ هو وشلة من الأطباء بأنه قد مات موتًا دماغيًّا بالأدلة العلمية التي لا ريب فيها واتجه إلى أهله ينعاه لهم ويؤكد ذلك لهم بالأدلة العلمية المقنعة، ثم حاول أخذ موافقتهم للاستفادة من قلبه لإسعاف مريض آخر واقتنع الأهل ووافقوا، ولكن الأطباء ما أن باشروا بتهيئة الأسباب لاستخراج قلب قريبهم المتوفى دماغيًّا حتى ارتفع العويل والصراخ، وثار الأهل وهاجموا، ومن ثم حيل بين الأطباء وتنفيذ ما اتفقوا عليه. ذلك لأن هذه الدلائل العلمية للموت أقنعت عقول أقارب الميت ولكنها لم تهيمن على عواطفهم ووجدانهم. إن الناس كانوا ولا يزالون يعتدون بموت القلب دون أن يكتفوا بموت الدماغ الذي لا يدركه إلا أصحاب الاختصاص والشارع يؤيدهم في هذا الاحتياط والتأكد حتى لا تشيع أنها ميتة ظالمة بين الناس فتنبثق من ذلك الفتنة والظنون السيئة. وهذا كما هو واضح ليس تكذيبًا لقرار الأطباء كما أن القول بالموت الدماغي ليس تطورًا علميًّا لمعنى الموت بحيث تطور الأحكام الشرعية وفقًا لذلك ولكنه إيثار من الشارع لاتباع القناعات العامة إغلاقًا لباب الفتنة ودرءًا للظنون السيئة أن تشيع في الناس بعضهم البعض.
ويجب أن لا ننسى أن الأساس في كل ذلك هو مراقبة الله عز وجل في تنفيذ مثل هذه الأحكام والحرص على ممارستها وتطبيقها على الوجه الذي يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية والحكمة التي يتوخاها الشارع من شرع لعباده، فإن لم يتحقق هذا الأساس التنفيذي، فإن جهود الباحثين والمجتهدين تظل على الغالب نظرية، هذا إن لم نقل إنها قد تصبح وسائل تحت سلطان الكثيرين لتحقيق المآرب الدنيوية والوصول إلى كثير من المبتغيات غير المشروعة.(7/1601)
لقد قالوا إن الموت هو مفارقة الروح للبدن مفارقة تامة وبكلمة أهم هو انقطاع الحياة عن البدن انقطاعًا تامًّا (1) .
ولا شك في أن محاولة تحديد اللحظة التي تنتهي فيها حياة الإنسان في الدنيا تحديدًا دقيقًا من الناحية الشرعية أصعب من البحث في معرفة الزمن الذي تبدأ منه تلك الحياة ومن هنا نرى أن قضيتنا هذه ليس فيها نص من قرآن أو سنة يمكن اتخاذه منطلقًا للبحث (2) .
أيها الأخوة المحترمون:
هناك أمر آخر يجب أن يكون خاتمة بحثنا هذا وهو ((مدى توقف العلاج مع إذن المريض)) .
هل نحن الأطباء ملزمون بتحقيق رغبة المريض في إنهاء العلاج له أو الاستمرار فيه وبصورة أعم من ذلك هل يجب أن نحصل على إذن من المريض بتطبيق العلاج والكف عنه متى شاء؟ إن هناك أمورًا قد تكون خطيرة جدًّا فمثلًا طفل في السابعة من عمره تبين لنا بعد إجراء خزعة على ورم في ساقه بأنه مصاب بسرطان العظام ومن الناحية الطبية يجب استئصال الطرف قبل أن ينتشر الداء وعندها لا دواء له إن هذا المريض طفل لم يبلغ سن البلوغ وعليه فيتحتم علينا أخذ موافقة الأهل وعندما فوجئوا بالحقيقة تحكمت العاطفة على العقل ورفضوا بتر الطرف وبعد سنتين عم المرض وانتشر وتوفي هذا الطفل المسكين من هو المسؤول يا ترى؟ هل الطبيب الذي كان مقصرًا بإقناع الأهل، أو الأهل؟ كيف لنا أن نحدد المسؤول على التتابع عند اشتراك الجناة مع التتابع؟ إنني أرى أن المسؤول الأول والوحيد هو ذاك الأب الجاهل المسكين.
__________
(1) قاضيا فقهية معاصرة: ص126 البوطي.
(2) بداية الحياة الإنسانية - د. محمد نعيم ياسين: ص173.(7/1602)
فعندما يكون الإنسان لا يتمتع بأهلية كاملة يستقل بها بإدارة شؤون نفسه كالطفل والمجنون، فمن الثابت أن هذا الصنف من الناس لا يملك أن يستقل بالتصرف في هذا الأمر الذي هو أخطر شؤونه الشخصية. ثم ما هو موقف الشرع من هذا الأب الذي كان سببًا في موت ابنه. وإنني هنا لست بموطن المدافع عن الأطباء، فقد يخطئون وقد تكون الشهوة المادية دافعًا خطيرًا لاستعجال القرار. ولكن عندما يكون هناك إجماع من قبل عدد من الأطباء المختصين وأصدروا حكمًا بالإجماع فيجب أن يكون ثمة قوانين تدين مثل هؤلاء الناس الذين لا ينصاعون لأوامر الأطباء ويتسببون في حدوث ما لا يحمد عقباه، بل وأمر من ذلك عندما يكون المريض بالغًا وليس مجنونًا وخرج من إجماع الأطباء ثم كانت الكارثة، هل هذا يختلف عن الذي يلقي بنفسه في أتون من النار قصد الانتحار مع الفارق في القصد والهدف والجريمة والوضع النفسي.
إننا بحاجة يا أخوتي إلى طبيب مسلم يخشى الله كما أننا بحاجة إلى مجتمع يرقى بتفكيره إلى الشعور بالمسؤولية وأن يتمتع بقوة روحية عالية تبعده عن الجهل وتجعل منه فردًا يميز الخبيث من الطيب عندها يبقى المجال مفتوحًا لأن يلتقي الإنسان بأخيه الإنسان وعندها يتم تبادل مثل هذه العلاقة الإنسانية بشكلها المتكافىء والالتزام والشعور بالمسؤولية من كلا الطرفين عندها يحق للمرء أن يتساءل فيما إذا كانت الشخصية الطبية في حد ذاتها تتطور بشكل بشري ومبرر لتصبح قوة مخلصة بدون أن تتقمص شخصية الساحر العجيب أو حتى دون أن تقوم بأية إيحاءات موجبة أو تقدم أي تضليل وتزييف للحقائق.
والله المستعان أن يوفقنا باحثين ومنفذين لرعاية هذه الأسس على خير وجه، إنه نعم المستعان ونعم النصير والحمد لله رب العالمين.
الدكتور محمد عدنان صقال(7/1603)
العلاج الطبي
1– علاج الحالات الميئوس منها.
2– مدى توقف العلاج على إذن المريض.
جمع وترتيب
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
الكويت – محكمة التمييز
بسم الله الرحمن الرحيم
أولًا – علاج الحالات الميؤوس منها:
اليأس كما في لسان العرب القنوط وقيل: نقيض الرجاء وقيل: اليأس إحدى الراحتين (1) وعلى هذا فإن المفهوم من العنوان أن المطلوب هو حكم علاج من وصل إلى هذه المرحلة التي يئس فيها المريض من الشفاء أو يئس الطبيب نفسه من جدوى علاجه: هل يسوغ له ترك علاجه؟ وهل يعتبر الطبيب مقصرًا إن هو لم يقم بأي عمل إجابي نحوه؟ وأرى أن لهذه الحالات ثلاث صور:
الأولى: أن يصل المريض بسبب مرضه إلى هذه الحالة التي يعبر عنها الفقهاء بأنها حركة مذبوح فلا يبقى معه سمع ولا إبصار ولا حركة اختيار بالأسباب العادية من غير جناية عليه.
الثانية: أن يصل إلى حركة مذبوح بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار بالجناية عليه.
الثالثة: بالنسبة للأمراض التي لم يصل الطب إلى علاج لها.
والكلام عليها ينبغي أن تقدم لها مقدمة فتبين أولًا مذاهب العلماء في التداوي ثم نذكر مذاهب العلماء وأقاويلهم على الصور المشار إليها.
أولًا – مذاهب العلماء في التداوي:
1– التداوي جائز أي مباح.
2– فعل التداوي أفضل من تركه وبه قال بعض الشافعية، قال النووي في شرح مسلم إنه مذاهب الشافعية وجمهور السلف وعامة الخلف (2) وقطع به ابن الجوزي والقاضي وابن عقيل.
3– مذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يدانى به الوجوب.
4– مذهب مالك يستوي فعله وتركه.
وفى الحديث قال صلى الله عليه وسلم: عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدًا، فقالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: الهرم، رواه أبو داود والترمذي وصححه.
__________
(1) أساس البلاغة للزمخشري.
(2) شرح النووي على مسلم 14/191، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي.(7/1604)
وفى مسند الإمام أحمد عن عروة بن الزبير عن خالته عائشة الصديقة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه فكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم فيصفون له فنعالجه.
وفى المسند أيضًا عن أنس مرفوعًا: إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا.
وقيل: فعل التداوي واجب. زاد بعضهم: إن ظن نفعه.
قال شيخ الإسلام: ليس بواجب عند جماهير الأمة إنما أوجبه طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد.
وأحاديث الأمر بالتداوي للإباحة والإرشاد دون الوجوب كما فيه علة غير واحد.
وحرم الدواء بمحرم أو كان في مفرداته شيء محرم أبو حنيفة ومالك وكذا الشافعي في المسكر (1) .
ثانيًا: أما بالنسبة لمذاهب الفقهاء وأقوالهم فيمن وصل حالة يئس فيها المريض والطبيب من جدوى العلاج.
فقد فرق العلماء بين الصورتين الأولى والثانية المشار إليهما، فبالنسبة لمن أوصله مرضه إلى حالة اليأس فقد قالوا: إن من وصل إلى سكرات الموت وبدت أمارته عليه وتغيرت أنفاسه لا يحكم له بالموت فلا تشرع زوجته في العدة ولا تنتهى عدتها ولو ولدت حينئذ ولا تجب مؤنة تجهيزه ولا يجوز تجهيزه ولا تصح الصلاة عليه ولا يجوز دفنه ولا ينتقل ماله للوراث (2) .
أما من وصل إلى تلك الحالة بسبب الجناية عليه فقد نص الشافعية على أن من وصل إلى حركة مذبوح بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار بالجناية عليه أعطي حكم الأموات مطلقًا فيجوز تجهيزه ودفنه ويجوز تزوج زوجته حينئذ إذا انقضت عدتها كأن ولدت عقب صيرورته إلى هذه الحالة وأنه لا يرث من مات عقب هذه الحالة وتقسم تركته قبل موته (3) .
ورتبوا على ذلك أن من اعتدى على حياة الأول يعتبر قاتلًا يجب عليه القصاص وأن من اعتدى على الثاني لا يعتبر قاتلًا، بل يعتبر الأول الذي أوصله إلى هذه الحالة هو القاتل، أما الثاني فيعزر.
__________
(1) غذاء الألباب، للفارسي: 1/398.
(2) منهاج الطالبين: 4/103، 104.
(3) نهاية المحتاج: 7/250.(7/1605)
واختلف المالكية: فيمن وصل إلى حركة المذبوح على قولين:
الأول: يرث ويورث.
الثاني: لا يرث ولا يورث.
وقالوا: لو أجهز شخص على منفوذ القاتل من غيره فقيل يقتل به الأول ولا يرث ولا يورث.
والثاني يقتل به الثاني ويرث ويورث.
والثالث يقتص من الأول ويرث ويورث وهو أحسن الأقوال.
وفي سماع أبي زيد أنه يقتل به الثاني ولا يكون على الأول إلا الأدب لأنه من جملة الأحياء ويرث ويورث إلى أن قال: ولو قيل يقتلان به جميعًا لأنهما قد اشتركا في قتله لكان له وجه (1) .
الخلاصة:
أنت ترى أن المسألة خلافية سواء في التداوي وتعاطي العلاج أو في مدى جدوى العلاج فيمن وصل الحال به إلى درجة القنوط واليأس من علاجه ولكن الذي يظهر لي على ضوء ما كتب فيه الأئمة من الآداب التي ينبغي مرعاتها عند من وصل إلى حالة الاحتضار وذلك في الصورة الأولى أن تتبع معه تلك الآداب، منها:
أن يحضره إذ ذاك أحسن أهله وأصحابه هديًا وخلقًا ودينًا وسمتًا ووقارًا فيلقنه كلمتي التوحيد برفق بأن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله جهرًا ثم يسكت ساعة ثم يعيدها ثم كذلك إلى أن يقضي.
ومنها أن يكثر الدعاء له وللحاضرين لكن بخفض صوت وحسن سمت ووقار لأن الملائكة يحضرون ويؤمنون على دعاء الداعي وهذا من المواطن التي يرجى فيها قبول الدعاء. قالوا: وينبغي لمن يلقنه أن لا يضجر ولا يقلق إن طال الأمر عليه، وأنه لا يحسن البكاء بحيث يسمعه المحتضر.
__________
(1) الخرشي على خليل: 8/7، 8.(7/1606)
فإذا قضى الميت فليشتغل من حضره بحقه ويأخذ في إصلاح شأنه فمن ذلك أن يغمض عينيه إلى غير من الأمور التي ذكروها في كتبهم (1) .
الثالثة - أما بالنسبة للأمراض الأخرى التي لم يصل الأطباء إلى علاج لها عدا الحالتين المشار إليهما فإنه لا ينبغي للطبيب أن يدخل اليأس في نفس المريض فقد ذكر ابن الحاج في آداب الطبيب أنه وقع له مع بعض الأطباء أنه كان يتردد عليه في مرض كان به ويصف له أشربة وأدوية ينفق فيها نفقة جيدة فطال الأمر عليه قال: فقطعته وعوضت موضوع تلك النفقة خبزًا أتصدق به بنية امتثال الشفاء في دفع ذلك المرض فما كان إلا قليل وفرج الله عني وحصلت العافية فلما أن خرجت لقيت الطبيب فسألته عما كان يكتبه من الأشربة والأدوية وأي منفعة كانت فيها لذلك المرض فقال: والله ما فيها شيء إلا أنه يقبح بالطبيب أن يخرج من عند المريض ولا يصف له شيئًا لئلا يوحشه بذلك (2) .
أما بالنسبة للصورة الثانية وهي من وصل إلى حالة اليأس من علاجه لسبب جناية وقعت عليه وقرر الأطباء ذلك لا حرج على الطبيب ولا على ذويه أن كفوا عن علاجه لأنه في حكم الأموات كما سبق. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثانيًا – مدى توقف العلاج على إذن المريض:
إن الإجابة على هذا الاستفسار يتوقف على ما كتبناه في الموضوع السابق خاصة فيما يتعلق في حكم العلاج وقد ذكر صاحب منظومة الآداب في هذا الشأن قوله:
وترك الدواء أولى وفعلك جائز
ولم يتقن فيه حرمة مفرد
قال شارحها السفاريني: إن ترك التداوي أفضل من التداوي.
ونقل في رواية المروزي: العلاج رخصة وتركه أعلى درجة منه وأن تعاطي المريض الدواء جائز أي مباح لا حرام ولا مكروه وقد سبق أن بينا خلاف العلماء في هذه المسألة وأن الرأي الذي عليه جماهير العلماء أن فعل التداوي أفضل من تركه وعند مالك يستوي فعله وتركه. وعلى هذا فإن المريض أو وليه إذا طلب من الطبيب توقف العلاج فإنه لا شيء على الطبيب إن هو استجاب لهذه الرغبة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
__________
(1) المدخل لابن الحاج: 3/229، 233.
(2) المدخل لابن الحاج: 4/136.(7/1607)
المناقشة
العلاج الطبي
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
العلاج الطبي بمسائله التي طرقت بحثًا هو موضوع هذه الجلسة المسائية - بإذن الله تعالى - والعارض هو الأستاذ الدكتور محمد علي البار، والمقرر هو الشيخ يوسف المحمدي. فليتفضل الطبيب محمد علي البار.
أحدهم يقول:
المحمدي غير موجود.
الرئيس:
إذن المقرر هو الدكتور عدنان الصقال.
الدكتور محمد علي البار:
بسم الله الحمن الرحيم
أصحاب السماحة والفضيلة والسعادة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الحمد لله خالق الداء والدواء ومصرف الأسباب كيف يشاء، والصلاة والسلام على نبي الهدى وآله ومن اهتدى والقائل: ((ما أنزل الله داء إلا وأنزل له الشفاء)) [أخرجه البخاري والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه] ، وفي رواية عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علم ذلك من علمه وجهله من جهله إلا السام)) [أخرجه الحاكم] ، وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم وأحمد والنسائي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: ((نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا ووضع له الشفاء غير داء واحد. قالوا ما هو؟ قال: الهرم)) . وتداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بالتداوي والأحاديث في هذا الباب كثيرة ومستفيضة، ورغم ورود الأحاديث الكثيرة في الحث على التداوي وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تداوى وأمر صحابته وأهل بيته بالتداوي إلا أن الأمة مجمعة على جواز ترك التداوي في بعض الحالات، قال الإمام الذهبي في الطب النبوي: فصل: التداوي أفضل أم تركه؟ أجمعوا على جوازه - أي التداوي - وذهب قوم إلى أن التداوي أفضل لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((تداووا)) ، ولأنه كان يديم التطبب في صحته ومرضه، ثم قال: فالمنصوص عن أحمد أن تركه - أي التداوي - أفضل. نص عليه في رواية المروزي، فقال: العلاج رخصة وتركه درجة.(7/1608)
ثم قال: والدليل عليه ما رواه ابن عباس أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: ادع الله أن يشفيني. فقال: ((إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت صبرت فلك الجنة، فقالت: يا رسول الله أصبر)) [أخرجه البخاري ومسلم] . وقال صلى الله عليه وسلم ((سبعون ألفًا يدخلون الجنة لا حساب عليهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) ، وفي رواية: ((هم الذين لا يتطببون ولا يسترقون)) [أخرجه البخاري] .
قال الذهبي: ونقل علاء الدين بن البيطار - رحمه الله -: أجمع المسلمون أن التداوي لا يجب.. وعن أحمد وجه في الوجوب نقله أحمد ابن تيمية. ويحمل الحديث ((تداووا)) على الإباحة، وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قيل له: ألا ندعو لك طبيبًا؟ قال: قد رآني، قالوا فما قال؟ قال: إني فعال لما أريد، وقيل لأبي الدرداء: ما تشتكي؟ فقال: ذنوبي، قيل: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قيل: أفلا ندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب بطبه ودوائه لا يستطيع دفع مقدوراتي، قال الإمام الذهبي معلقًا على ذلك: التوكل اعتماد القلب على الله وذلك لا ينافي الأسباب ولا التسبب بل التسبب ملازم للتوكل فإن المعالج الحاذق يعمل ما ينبغي ثم يتوكل على الله في نجاحه، وكذلك الفلَّاح يحرث ويبذر ثم يتوكل على الله في نمائه ونزول الغيث. قال الله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اعقلها وتوكل)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أغلقوا الأبواب)) وقد اختفى الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا، ثم قد تكون العلة مزمنة ودواؤها موهومًا قد ينفع وقد لا ينفع. انتهى كلام الإمام الذهبي. وقد أجيب أن ما فعله أبو بكر الصديق وأبو الدراء - رضي الله عنهما - كان في مرض الموت وقد علما أن الطب لا يغني في ذلك شيئًا.(7/1609)
متى يجب التداوي؟
يبدو - والله أعلم - أن هناك بعض الحالات التي يجب فيها التداوي ونضرب لها بعض الأمثلة:
الأول: الأمراض الوبائية المعدية التي ينتقل ضررها إلى الآخرين والتداوي منها ممكن، ويغلب على الظن حصول البرء والشفاء، ومثال ذلك مرض السل الذي يمكن أن يقضي على المريض وينتقل للآخرين، بينما علاجه ممكن وخاصة في المراحل الأولى والمتوسطة، بل يمكن علاج كثيرٍ من الحالات المتقدمة وعلى أقل تقدير يمكن إيقاف المرض عند حده ومنع العدوى، وكذلك الجذام حيث يمكن إيقاف المرض عند حده ومنع العدوى، وهناك العديد من الأمراض التي تفرض الدول والمجتمعات القيود على المصاب بها، وتفرض عليه التداوي ومثالها الدفتريا (الخناق) والتيتانوس (الكزاز) والكوليرا والتيفوئيد والحمى الشوكية وغيرها، وتفرض الدول الغربية وبعض الدول الأخرى وجوب التبليغ عن الأمراض الجنسية التي كانت تسمى الزهرية، وفي هذه الحالات يتم التبليغ عمن اتصل بهم المريض جنسيًّا، وتقوم السلطات الصحية بالاتصال بهؤلاء لمداواتهم، وإذا تركنا جانبًا موضوع الأمراض الجنسية وأن هذه القوانين الغربية تكشف بعض الأسرار الخاصة لغرض الوصول إلى جميع الأفراد الذين اتصل بهم المصاب، ومحاولة مداواتهم ثم معرفة الأفراد الآخرين الذين كانت لهم علاقة جنسية بهؤلاء المصابين حتى تتسع الدائرة، فإننا لا نجد صعوبة في فهم القوانين والمراسيم الخاصة بالأمراض المعدية، والتي تفرض الدول التداوي والتبليغ عنها لوقاية المجتمع بأسره، ويجب التداوي في الحالات للأسباب التالية:
1- أن عدم التداوي في الحالات التي توفر دواؤها هو نوع من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة وهو أمر منهي عنه لقوله تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . [البقرة: 195] .
2- أن الضرر سينتقل إلى الآخرين وخاصة الأهل والمحيطين بالمريض حيث ينتقل الميكروب من المريض إلى السليم المخالط، وقد ورد النهي عن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، وبقوله: ((لا يورد ممرض على مصح)) .(7/1610)
3- المشقة التي تحصل له ولأهله ولذويه بتمريضه وتلبية حاجاته.
4- خسارة المجتمع لعضو عامل في المجتمع، وفقدان أيام العمل وإطالة أمد المريض.
كذلك يجب التداوي في الأمراض غير المعدية والتي يمكن التداوي منها، مثال ذلك: التهاب الزادة الدودية إذ أن تركها قد يؤدي إلى انفجارها وإلى حدوث ما لاتحمد عقباه مع أن إجراء العملية الجراحية أمر ميسر والبرء شبه متيقن، والمضاعفات من العملية والتخدير نادرة الحدوث، وهكذا كل مرض يمكن مداواته بالجراحة أو بالعقاقير أو غيرها من وسائل العلاج إذا تيقن أو غلب على الظن حصول البرء والشفاء بالتداوي، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير.
متى يجوز عدم التداوي؟
1- الأمراض التي لا دواء لها: هناك مجموعة من الأمراض التي ربما يظهر أنه يجوز فيها عدم التداوي، الأمراض التي لا دواء لها وأن دوائها فيه مخاطر كثيرة وأن فائدة التداوي مظنونة، ولا يغلب على الظن حصول الشفاء، بل إن الأمل في حصول الشفاء ضئيل، ومثالها حالات السرطان والأورام الخبيثة بعد انتشارها في الجسم، فإن التداوي بالجراحة أو العقاقير الكيماوية أو الأشعة لا يؤدي في هذه الحالات إلى الشفاء، بل ربما لا يؤدي ذلك إلى تخفيف المرض ولإيقافه عند حده، ولا منع الإعاقة وإيقاف الألم، وقد تكون كلفة التداوي على المريض وأهله مما يزيد في معاناتهم وحرجهم، وقد لا يستفيد من هذه المحاولات إلا المستشفيات وأصحابها.
2- الأمراض التي لا تضر إلا صاحبها ولا تؤدي في الغالب إلى إعاقة أو زمانة أو تعطيل وظائف الشخص، وبالتالي لا تشق على من حوله، فيتحملها راضيًا مطمئنًا محتسبًا للأجر والثواب ومثالها الشقيقة والصداع.(7/1611)
3- الأمراض التي لا تستطيع الوسائل الطبية المتاحة أن تقضي عليها، والتداوي بالتالي مشكوك الفائدة، وغاية الطبيب أن يخفف من الأعراض والآلام، ومع هذا فإن العقاقير المستخدمة ذات أضرار مع إدمان استخدامها، والمريض بالخيار في الصبر على الألم والبعد عن أضرار العقاقير أو تعاطي الدواء، مع توقع حدوث بعض الأضرار نتيجة الاستمرار في تعاطي هذه العقاقير، مع العلم أن حصول الشفاء أمر مستبعد وغير متوقع ومثالها الأمراض الرثية أي الروماتزمية والأمراض المناعية الذاتية.
من الذي يقرر التداوي من عدمه؟
1- في الأمراض المعدية والسارية التي يتعدى ضررها إلى الآخرين تحدد الدولة متمثلة في وزارة الصحة الأمراض التي يجب التبليغ عنها ومداواتها ومتابعتها، ويحتاج بعضها إلى الحجر الصحي في مستشفيات خاصة مثل مستشفيات الحميات.
2- حالات الجنون التي يتعدى فيها الضرر إلى الآخرين، أو أن المصاب قد يضر نفسه دون أن يعقل، ويلقي بها إلى التهلكة، وفي هذه الحالة هناك مراسيم خاصة لإدخال هذا المصاب مستشفى الأمراض العقلية.
3- في الحالات المرضية التي لا يتعدى ضررها إلى المخالطين للمجتمع فإن الذي يقرر قبول التداوي من عدمه هو المريض نفسه، إذا كان بالغًا، عاقلًا راشدًا ولا يجوز الاعتداء على هذا الحق بأي شكل من الأشكال إلا في حالات فقدان الوعي وحالات الإسعاف.
4- إذا كان المريض قاصرًا أو مختلًّا عقليًّا أو فاقدًا للوعي والإدراك، فإن هذا الحق ينتقل إلى وليه، ومع ذلك لا يجوز للولي أن يمنع القاصر أو المجنون أو المغمى عليه من تلقي العلاج إذا كان في ذلك إنقاذ لحياته.
5- يتعين على الطبيب أو الهيئة الطبية أن تقدم الشرح الكافي للمريض أو ولي أمره عن طبيعة العمل الطبي أو الجراحي الذي ينوي القيام به، وللأسف فإن الواقع العملي في معظم الحالات في العالم الثالث لا تلتزم بهذه النقطة، بل نجد أن الإجراءات الطبية بل والعمليات الجراحية تتم دون إذن المريض في بعض الأحيان، دون إذن المريض البالغ العاقل الراشد، ولا يتم تقديم الشرح الكافي للمريض أو ولي أمره عن طبيعة العمل الطبي أو الجراحي إلا فيما ندر، وعن أخذ التوقيع للموافقة على إجراء العملية أو التخدير فإن المريض يمضي على ورقة معدة سلفًا دون أن يذكر فيها نوع العملية ولا تفصيلها ولا نوعية التخدير وهو أمر مخالف للأنظمة.(7/1612)
وتقوم بعض الدول بانتهاك حقوق الإنسان بانتظام ومن ذلك تعقيم الرجال والنساء قصرًا في الصين والهند - في عهد ماوتسي تونج وأنديرا غاندي - ووضع اللولب دون إذن المرأة في مستشفيات مصر في عهد عبد الناصر.
ويشترك الأطباء والهيئة الطبية في السجون في ممارسات لا إنسانية في بعض بلدان العالم الثالث، كما يستخدم هؤلاء - أي المساجين - في حقل التجارب الطبية دون إذنهم.
إذن ولي القاصر أو المجنون أو المغمى عليه
لا بد من إذن ولي القاصر أو المجنون أو فاقد الوعي في الحالات التي لا تستدعي تدخلًا سريعًا لإنقاذ حياة المريض أو إنقاذ عضو من أعضائه، ولا يعتد بعدم إذن الولي في الحالات التي تهدد حياة القاصر أو المجنون أو فاقد الوعي، فإذا كان القاصر أو المجنون أو المغمى عليه يحتاج إلى إجراء عمليه جراحية لإنقاذه، أو يحتاج إلى نقل دم وكان الولي يرفض مثل ذلك الإجراء، فإن على الطبيب أن يقوم بهذا الإجراء الطبي ولا يلتفت إلى معارضة الولي، هذه هي الإجراءات السارية في كثير من البلدان، وفي مثل هذه الحالات ينبغي أن يؤكد ذلك طبيبان، ولا يحق للولي أن يمنع مداواة مولاه وخاصة إذا كان في ذلك خطر على حياته، ولكن قد لاتكون الخطورة على الحياة وإنما على الصحة، فهل يبقى للولي مثل هذا الحق وبالتالي يستطيع منع مداواة مولاه؟ وهناك حالات الولادات المتعسرة أو الولادات التي يصاب فيها الطفل أثناء الطلق بما يعرف طبيًّا (بحرج الجنين) ، وتستوجب هذه الحالات إجراء عملية قيصرية لإنقاذ الطفل، ومع ذلك يرفض الأبوان أو الأب إجراء هذه العملية، فهل يحق للأطباء في هذه الحالة إجراء العملية دون إذن لإنقاذ الجنين؟ وتقرر بعض الدول ذلك إذا وافق طبيبان مختصان على وجوب إجراء هذه العملية لإنقاذ الجنين، فما هو الموقف الفقهي في مثل هذه الحالة؟ وما هو الموقف عندما تكون الولادة متعسرة ويكون الخطر محدقًا بحياة الحامل ووليدها؟ وهناك حالة الطفلة المصابة بفشل كلوي ويرفض والدها أن يجري لها عمليات الغسيل الكلوي نتيجة تجربة سابقة معالجة أحد أبنائه أو أقاربه، ومن المعلوم أن الغسيل الكلوي ليس علاجًا شافيًا للفشل الكلوي، بل هو علاج يعطي المصاب فسحة من الوقت ليعيش حياة مع ما فيها من منغصات المرض بدرجة معقولة، وحتى يمكن إجراء عملية نقل الكلى التي تعتبر نسبة نجاحها عالية نسبيًّا، فهل يحق للولي أن يرفض علاج ابنته المصابة بالفشل الكلوي باعتبار أن ذلك ليس علاجًا شافيًّا وإنما هو إجراء مؤقت لإعطاء فسحة من الوقت؟(7/1613)
ومثلها أيضًا حالة سرطان في اليد أو القدم أو الأطراف ويمكن التداوي بالبتر ويرفض الولي ذلك؟. وهل من حق الولي أن يتبرع بكلية أو نخاع طفله لينقذ طفله الآخر مع العلم أن التبرع من الإخوة وخاصة التوائم المتماثلة يعطي أفضل النتائج؟ وليس في هذا التبرع خطر على حياة الطفل المتبرع منه بل هناك احتمال ضئيل بالإصابة بمستقبل الأيام، فهل يجوز للأب أن يتبرع بنخاع أو كلية طفله لإنقاذ طفله الآخر؟ هذا مع العلم أن مجمعكم الفقهي الموقر قد أفتى في دورته الرابعة بالقرار رقم 1 د 4/8/88 بشرط كون الباذل كامل الأهلية؟
من هو الذي لا يعتد برضاه؟
قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة، الصبي حتى يحتلم، والنائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق)) ، وعليه فإن معظم القوانين تجعل رضا القاصر والمجنون وفاقد الوعي لا يعتد به، ولكن هناك اختلافًا في تحديد سن القاصر، حيث نجد أن معظم قوانين الدول العربية والإسلامية تجعل السن القانونية ثمانية عشر عامًا، وبعضها يجعل سن الرشد واحدًا وعشرين عامًا. فعلى سبيل المثال، حدد القانون الكويتي المدني (الفقرة الثانية من المادة 96) سن الرشد بواحدٍ وعشرين عامًا ميلادية كاملة، ومع هذا فقد أباح القانون الكويتي للشخص العاقل الذي أتم ثمانية عشر سنة ميلادية أن يتبرع بإحدى كليتيه.
وتعتبر بعض البلاد البلوغ كافيًا لإعتبار رضا الشخص إذا كان عاقلًا، ونحن نعرف أن بلوغ الصبي يحدث فيما بين الثانية عشرة والخامسة عشرة، أما الصبية فقد تحيض في سن أقل من ذلك، قال الإمام الشافعي: أعجل من سمعت من النساء تحيض نساء تهامة يحضن لتسع، وهو مذهب الإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أحمد، وعند الأحناف أقل سن للحيض سبع سنوات، فهل إذا بلغت الصبية تسع سنوات وحاضت في تلك السن يعتبر رضاها كاملًا أم لا بد من إذن الولي في أمر التداوي حتى تبلغ سنًّا محددة؟ وثار في الغرب جدل حول ما يفعله بعض الأطباء من وصف وسائل منع الحمل مثل الحبوب للفتيات القاصرات أقل من ثمانية عشر عامًا، دون إذن مسبق من ولي أمر الفتاة والمشكلة لدينا أفظع حيث أن معظم الدول لا تفرض رقابة على الصيدليات، بل ويشجع كثير من الدول صرف حبوب منع الحمل بدون وصفه طبية، وهو أمر بالغ الخطورة ومناف للأعراف والأنظمة الطبية، ويعرِّض المستعملة لمخاطر مضاعفة في بعض الحالات ويستطيع - للأسف أي إنسان أن يشتري من أي صيدلية حبوب منع الحمل دون أي وصفة في معظم بلدان العالم الثالث ويستخدم بعض السجناء في عمليات التبرع بالدم قسرًا، كما يستخدمون أحيانًا في مجال التجارب الطبية دون إذنهم، وهذه كلها صور من الممارسات التي يعتدي فيها على حقوق الإنسان.(7/1614)
ومما يستتبع إذن المريض إذنه في التبليغ عن حالته إلى رب العمل، أو إلى شركة التأمين، أو إذنه في نشر المعلومات عنه في الصحافة أو في المجلات العلمية إذا كان ذلك فيه ما يشير إلى شخصية بصورته أو علامة من علاماته، ولا بد من إذن المريض البالغ العاقل الراشد في مجال إجراء التجارب الطبية مع وجوب شرح كافة الملابسات والمخاطر التي قد تنجم عن مثل ذلك الإجراء.
ولا يكتفى بإذن ولي القاصر أو المجنون أو فاقد الوعي في مجال التجارب الطبية بل لا بد من إذن الشخص ذاته، ولا يعتبر إذنه مالم يكن بالغًا عاقلًا راشدًا، وتفرض كثير من الأنظمة الإذن الكتابي مع الإشهاد في جميع الحالات التي تستوجب إجراء عملية جراحية وإعطاء المخدر وإجراء الفحوصات التي تدخل إلى جسم المريض، مثل المناظير ومثل أخذ عينة الكبد أو الكلى أو الأمعاء، ومثل قسطرة الشرايين، وكل إجراء فيه تدخل في جسم المريض، وأي علاج كيماوي لمعالجة السرطان أو المعالجة بالأشعة، في حالات تصوير المريض بالآلة أو الفديو ما عدا التصوير الذي لا يشمل الوجه بل يقتصر على المناطق التي لا يمكن أن يستدل بها على الشخص، ولا بد من إذن المريض حين الاستفادة من الإجراء والأنسجة التي تم إزالتها في أثناء عملية أو ولادة أو سقط، ولا حاجة للإذن في الأنسجة والإفرازات التي تشكل خطرًا على الصحة العامة، وبالتالي يجب التخلص منها.(7/1615)
علاج الحالات الميؤوس منها
كما أسلفنا يجوز للمريض أن يرفض التداوي - بالنسبة لأوضاع القوانين فأنا لا أتحدث من الناحية الفقهية لأن الأمر إليكم - يجوز للمريض أن يرفض التداوي وخاصة في الحالات التي لا يستطيع الطب فيها أن يفعل الكثير، وفي بعض الحالات يطيل الطب أمد المعاناة كما أنه قد يطيل عملية الموت والنزع، وقد أسلفنا القول في أن الأمة قد أجمعت على جواز ترك التداوي للأحاديث الوادرة في الباب، وخاصة إذا كان هذا المرض لا يتعدى إلى الآخرين، والأمل في شفائه محدود أو منعدم أو أن فائدة التداوي مظنونة موهوبة لا متيقنة ولا راجحة، وفي هذه الحالات يحق للمريض أن يرفض التداوي متى كان عاقلًا بالغًا راشدًا.
ولكن هل يحق لولي أمر ناقص الأهلية مثل الطفل أو المجنون أو المغمى عليه أن يقرر نيابة عن المريض ترك التداوي؟
وهل يحق للأطباء في المستشفيات وغيرها أن يقرروا أن هذه الحالة ميؤوس منها وأن الطب بوضعه الحالي لا يستطيع أن يقدم شيئًا وبالتالي يتوقف الأطباء عن محاولاتهم؟ وعلى سبيل المثال هناك طفل مصاب بعاهات شديدة وموه الدماغ - أي باستسقاء كبير جدًّا في دماغه - ومصاب بأنواع من الشلل ولا أمل في إجراء العملية لأن الدماغ قد ضمر، فهل تجري لمثل هذا الطفل العملية؟ وهل إذا أصيب هذا الطفل بالتهاب رئوي حاد يبادر إلى علاجه؟ ومعلوم أن الالتهاب الرئوي يمكن مداواته ولكن حالة المريض الخطيرة لا يمكن مداواتها، فهل يترك المريض دون علاج حتى يتخلص مما هو فيه؟ وهل إذا أذن الولي في مثل ذلك الإجراء وهو ترك التداوي من الالتهاب الرئوي أو التهاب المجاري البولية أو أي نوع من الحميات أو الإسهال، وكلها يمكن مدواتها يعتبر ذلك نوعًا من القتل؟
وهناك الشيخ الهرم المصاب بأنواع من الشلل وجلطة في القلب وفشل في وظائف الكلى فهل يدخل في برنامج الغسيل الكلوي وعدد الآلات محدود ويحتاج لها من هم في مقتبل العمر من الذين يعانون من الفشل الكلوي؟ وهل إذا أصيب مثل هذا الشخص بتوقف مفاجئ لضربات قلبه يبادر إلى إسعافه أم يترك مثل هذا الشخص ليستريح من هذه المعاناة؟ وهل إذا أصيب بالتهاب رئوي أو التهاب في المجاري البولية أو التهاب في الزائدة يبادر إلى مداواته طبيًّا وجراحيًّا حسبما تستدعي الحالة أم يترك دون تدخل؟(7/1616)
وهناك المريض الذي أصيب دماغه إصابات بالغة أدت إلى فقدان الوعي فقدانًا كاملًا ومع هذا لا يزال جزء من دماغه يعمل، وخاصة جذع الدماغ، وبالتالي لا يدخل في تعليق موت الدماغ، وهو يعيش عن طريق التغذية بالأنبوب عبر المعدة، والقسطرة لإفراز البول وقد يحتاج إلى المنفسة باستمرار أو من حين لآخر، ولا أمل في استعادته للوعي والإدراك ولا أمل في تحسن حالته، ويتعرض مثل هذا الشخص لالتهاب رئوي أو جلطة في القلب وتوقف في النبض، فهل يتم إسعافه أو يترك ليلاقي حتفه؟.
في بعض المستشفيات يقرر الأطباء بصورة جماعية ماذا سيفعلون في هذه الحالة وبالتالي توضح تعليماتهم إلى الأطباء المناوبين وهيئة التمريض ترك مثل هذا الشخص بدون علاج، وفي أماكن أخرى يتم تكوين لجان أخلاقية مكونة من بعض الأطباء وما يسمونه رجال الدين، وشخصيات اعتبارية، ولكل مستشفى لجنة من هذه اللجان تقرر ما ستفعله لكل حالة على حسبها، وفي هذة الحالات جميعًا لا يؤخذ رأي المريض لأنه لا يستطيع أن يبدي مثل هذا الرأي بسبب فقدان الوعي أوسوء حالته الصحية، كما لا يؤخذ في معظم هذه الحالات رأي ولي أمر- أي ولي أمر المريض - وإنما يتم الأمر بين الأطباء أو اللجان الطبية الأخلاقية.
وبعض الأسئلة المطروحة هي:
1- هل من حق المريض البالغ العاقل أن يقرر أنه لا يريد إجراء نوع معين من العلاج أو يرفض العلاج بكل أنواعه؟ وخاصة في الحالات التي ليس فيها مرض معدٍ وتلك الحالات التي لا يستطيع الطب أن يقدم فيها شيئًا كثيرًا؟
2- هل من حق الأطباء أن يقرروا التوقف عن العلاج ومنع إسعاف المريض المدنف إذا أصيب بجلطة في القلب أو توقف في قلبه أو أصيب بالتهاب في الرئة أو الزائدة أو غير ذلك؟
3- هل من حق ولي أمر المريض الميؤوس منه أن يتفق مع الأطباء على إيقاف العلاج ومنع الإسعاف في مثل هذه الحالات؟(7/1617)
4- هل من حق اللجنة الأخلاقية في المستشفى والمكونة من الأطباء ورجال مجتمع وما يسمونهم رجال دين أن يوقفوا العلاج للحالات الميؤوس منها؟ كما يكون من حقها إيقاف الإسعاف؟
هذه بعض الأسئلة المقدمة إلى أصحاب الفضيلة والسماحة راجين منهم أن يفيدونا ويعلمونا ما يفعل الأطباء في مثل تلك الإجراءات؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا وقبل طرح الموضوع للمناقشة نرحب بالفريق الطبي الذي حضر من جامعة أم القرى برئاسة الطبيب أمين صالح كشميري وفي الوقت الذي نرجو أن يستفيدوا، كذلك نرجوا ألا نعدم من تداخلاتهم في مجال الطب في هذا الموضوع.
وفي الواقع أن العرض الذي تفضل به الطبيب الأستاذ محمد علي البار هو، على عادته في شموله ودقته - جزاه الله خيرًا وأثابه - ولكن كثير من الأسئلة التي أوردها وأثارها غير مغطاة في هذه البحوث، والبحوث الثلاثة الموجودة تكاد تلتقي في عدة نقاط، والأسئلة التي أثارها العارض هي مهمة دقيقة، وأذكر أن مجموعة منها سبق وأن نوقش في منظمة الطب الإسلامي في الكويت، وربما كان الطبيب محمد علي البار موجودًا آنذاك في مظلة المنظمة، وعلى كل فهل ترون أن يتحدد النقاش فيما غطته البحوث أو أن يتناول الجوانب التي أثيرت؟
يترك هذا للمداولة. تفضل الطبيب الصقال.
الدكتور محمد عدنان صقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحقيقة شكرًا للدكتور محمد علي البار الذي أفاض في هذا الموضوع، ولكن لي ملاحظة: إن الدكتور محمد علي البار قد قرأ ما كتب فقط وكان حريًّا به أن يستعرض بقية الأراء التي وردت من بقية الزملاء، كالزميل علي محمد يوسف المحمدي. وإنني مضطر ألا أعيد ما قاله، ولكن أريد أن أضع بعض النقاط في هذا الموضوع، الموضوع الذي كتبنا فيه محصور فقط في الحالات الميؤوس منها، وتوقف العلاج على إذن المريض.(7/1618)
الحالات الميؤوس منها: حالات عديدة منها تموت الدماغ وفشل الكلية والسرطانات المنتشرة وتشميع الكبد، إلى آخره، وهناك عاملان، عامل علاجي وهو التداوي بوجوبه أو عدمه وقد شرحه الزميل أخي الدكتور محمد علي البار، ولكن هناك عامل نفسي كان يجب أن نقف عنده وهو عندما نقول للمريض: إن مرضك ميؤوس منه ولا علاج له فإنك قد أمته مرتين، المرة الأولى في المرض الذي هو فيه، والمرة الثانية لأنه يعلق الآمال على الطبيب، فهو بذلك يكون كمن يريد أن يتخلص من هذه الحياة.
التداوي وقد ذكره الدكتور البار، وإنه مال مع وجوب التدوي عملًا بالحديث الشريف ((تداووا عباد الله)) وكذلك أنه يجب أن نأخذ بالأسباب، فقصة مريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الآية [مريم:25] ، تعتمد على العمل. وكذلك سيدنا يعقوب عليه السلام عندما نصح أولاده. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اعقلها وتوكل)) .
أما بالنسبة لإذن المريض: فإنني أحب أن أسرد حادثة جرت معي في المشفى وهي أن هناك طفلًا صغيرًا كان في الثانية من عمره، وأن هذا الطفل كان مصابًا بورم في الساق، وعندما أجرينا له عملية ((خذع)) من هذا الساق فتبين أن هناك سرطانًا في العظام، وأبلغنا الأب بأنه يجب أن يبتر الطرف السفلي، طبعًا الأب لم يوافق على ذلك، وبكى وصاح ثم ذهب إلى الطبيب آخر وثالث ورابع وكان الجواب نفسه، لم يرض الأب ببتر هذا الطرف ثم بعد مرور سنتين توفي هذا الطفل، السؤال المطروح: من هو المسؤول يا ترى؟ - طبعًا الأب - ولكن ما هو حكم الشرع في هذه الحادثة؟ أو ما هو حكم القانون في مثل هذه الحوادث، قرأت في كتاب من نصائح الإمام الشافعي - رضي الله عنه - لتلميذه يونس بن عبد الأعلى، قال له: لا تسكن بلدة ليس فيها عالم أو ليس فيها طبيب. ومن هنا نرى وجوب التداوي، كثير من الناس يقول: إنه يتوكل على الله فكلنا متوكلون على الله، ولكن كما قال بعض غلاة الصوفية بأن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل الله عليه من بلاء! وقسم ثان قال: التداوي وتركه أفضل، ولا نريد أن ندخل في هذا الموضوع.
أنا أريد أن أركز على الناحية النفسية، وأخالف أخي الدكتور البار، بأنه مهما كانت الحالة ميؤوسًا منها فلا يجوز لنا نحن الأطباء أن نقول للمريض: إن مرضك ميؤوس منه والأفضل ألا نقول للمريض، بل ندعه أن يترك هكذا حتى يموت، يبقى المريض معلقًا بالطبيب حتى آخر لحظة من سكرات الموت، ويبقى الإنسان يعيش على الأمل، وأما إذا قطعنا هذا الحبل بين الطبيب والمريض فإننا حينذاك نكون كمن يسدد - وهذا خطأ - رصاصة الرحمة إليه أو يريد أن ينهي حياة المريض وهذا بالشرع غير جائز كما تعلمون.(7/1619)
هناك ناحية ثانية، حادثة ثانية: هناك طفل مجنون وهذا الطفل كان له أخ، والمراد أن تنقل الكلية من الأخ السليم إلى الأخ المريض، من المجنون إلى العاقل، وتم نقل هذه الكلية بموافقة ذوي المريض، ولكن المجنون لا يستطيع أن يقرر مثل هذه الأشياء الشخصية لأنه ليس عاقلًا، فأعتقد أن هذه أيضًا جناية، ولا يجوز شرعًا أن تمتد يد الطبيب حتى إذا وافق الأهل على انتزاع مثل هذا العضو لنقله إلى شخص آخر، فهذا ليس حقًّا مكتسبًا لذوي المريض.
هناك بعض الحالات التي تستدعي التدخل السريع، مثل الحوادث التي يكون فيها خطر على المريض، فيجب على الطبيب أن يتدخل دون إذن المريض، وقد ذكر ذلك أخونا الدكتور البار.
أخيرًا إنني أقول رفقًا بالأطباء، فلا تحرموهم من ضم صوتكم إليهم بوجوب التداوي لأن الجهل كبير وكبير جدًّا، فمنهم من يؤمن بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان وليست من الشرع في شئ، وهناك من يدوس على ظهر المريض حتى يخلصه من الدسك، وهناك أشياء كثيرة تعرفونها نعيشها هناك، وإننا نريد أن نكون واقعيين وأن تكون قراراتنا منسجمة مع الواقع الذي نعيشه. وشكرًا.
الشيخ عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع أن هذا الموضوع لم يكتب فيه مَن كنا نود أن يسهموا فيه، لما نعرفه عنهم من اطلاع واسع وقدرة على العطاء. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن المجتمع نفسه يظهر أنه لم يول هذا الموضوع اهتمامًا كبيرًا كما كان شأنه في الموضوعات الأخرى، حيث بسط القول وبين العناصر مفصلة في الموضوعات التي طلب من الخبراء والعلماء الكتابة فيها، بينما أجمل في هذا الموضوع واكتفى بعرض العنوان. وبناء على هذا العرض كان بحثي خاصًّا في جزئيات بسيطة ولهذا حصرتها في ثلاثة صور. والسيد العارض لفت نظري إلى موضوع أهم وهو الحالات المرضية المعدية أو التي يخشى منها على صحة الآخرين فمثل هذه الصورة أعتقد لا يختلف اثنان في أنه لا بد أن يعالج مثل هذا الإنسان حماية له وحماية لغيره، والقرارات الصادرة في بعض الدول نحت هذا المنحى، أما الصور التي عرضت لها وهو فهمي من العنوان علاج الحالات الميؤوس منها. فعلاج الحالات الميؤوس منها قسمتها إلى ثلاثة أقسام أو صورتها بثلاث صور.
الصورة الأولى: أن يصل الإنسان بمرضه العادي إلى هذا الحال أي إلى حالة الاحتضار، ففي مثل هذه الحالة - في حالة الاحتضار - لا نستطيع إلا أن نخضع لإرادة الله - عز وجل - وهنا الفقهاء أو العلماء الذين كتبوا في هذه الحالة بينوا الآداب التي تتبع مع المريض وهي تلقينه، والجلوس معه، وإبعاد الأطفال والنساء وما إلى ذلك، وفي مثل هذه الحالة إذا وصل إلى هذه الدرجة فما على الطبيب ولا على المريض الذي يكون فاقد الوعي ولا إرادة له، إنما بالنسبة لأهله وغيرهم لا عليهم إن هم طلبوا من الطبيب ترك العلاج.
الصورة الثانية: الذي وصل إلى هذه الحالة بالجناية عليه، أو بالاعتداء عليه كأن يكون في حادث سيارة أو مشاجرة أو كذا ووصل إلى درجة، والفقهاء في هذه الحالة يذكرون أن من وصل إلى (حركة المذبوح) ، بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار، فإذا كان بالجناية عليه فالواقع أن الشافعية لهم رأي غريب في هذا الموضوع ورأي جريء جدًّا، لا أعلم هل الأطباء يوافقون عليه أم لا؟ يعتبرونه في هذه الحالة ميتًا، ولو كانت فيه حركة حياة، قالوا: إنه يجوز دفنه والصلاة عليه، ولو كانت امرأته حاملًا ووضعت ففي هذه الحالة حلت الأزواج. واعتبروا الاعتداء عليه حتى لو جاء شخص وأجهز عليه لا يعتبر أنه أجهز على حي إنما يعتبر أنه مثل بميت، وإنما الذي أوصله إلى هذه الحالة هو الذي يعتبر جانيًا عليه. ولعلماء المالكية في هذه المسألة رأيان، رأي كالشافعية ورأي يعتبرونه حيًّا ويعتبرون من اعتدى عليه يعتبر معتديًا على حياة إنسان حي.
الصورة الثالثة: التي صورتها في بحثي هي الحالات المرضية التي لا علاج لها، والتي يقطع الأطباء بأنه لا علاج لها عندهم ففي مثل هذه الحالة في مدخل ابن الحاج ذكر صورة من هذه الصور، فإنه كان يتعاطى العلاج عند طبيب وأن الطبيب ظل معه مدة طويلة يصف له أدوية ويتقاضى منه أجرًا على هذا العلاج، حتى أن المريض نفسه يئس من علاجه وصرف الطبيب وقال: نويت أن أنفق بعض ما كنت أنفقه على الطبيب على الفقراء والمساكين طلبًا للسنة وطلبًا للعلاج، فما مضى وقت حتى شفي من هذا المرض، فوجدت الطبيب فسألته: لماذا كنت تصف لي هذه المدة ولم أكن أجد منفعه منه؟ قال: والله لم أكن أجد لمرضك هذا دواء إلا أنه يقبح بالطبيب أن يخرج من عند المريض ولا يصف له شيئًا لئلا يوحشه بذلك.(7/1620)
فمثل هذه الحالة، فكما أشار إليه الطبيب الفاضل أنه لا يحسن للطبيب أن يقطع المريض من الأمل، ويجب أن يعطيه أملًا والأعمار بيد الله سبحانه وتعالى. هذا ما ذكرته في هذا الشق من البحث. أما الشق الآخر وهو مدى توقف العلاج على إذن المريض.
في المبحث السابق بحثت كما بحث الأخ العارض حكم العلاج عند الفقهاء، فالقلة الذين ذهبوا إلى وجوب العلاج وإنما الأكثرية ومنهم المالكية. قالوا: يستوي العلاج وعدمه. والشافعية وجماعة من الفقهاء يقولون: إن العلاج أولى، وبعضهم قال: ترك العلاج أولى.
وعلى هذا فإن رغب المريض أو وليه أن يوقف الطبيب العلاج فإنه لا بأس على الطبيب إن هو استجاب لهذا الطبيب ووقف عن العلاج وشكرًا.
الشيخ محمد رأفت:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سبيلهم إلى يوم الدين.
وبعد:
ما ذكره الأستاذ الكريم الطبيب البار يجعلني أركز على بعض النقاط، منها ما ذكر من الأحاديث النبوية الشريفة والتي ظاهرها التعارض، وما ذكره من استنباط الإمام أحمد في قوله في التداوي، والواقع أن هذه الأحاديث يمكن الجمع بينها بسهولة ويسر، وكذلك يوجه الاستنباط الذي استنبطه الإمام أحمد وغيره من الأئمة في أن الشفاء من الله سبحانه: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] .
وهذا لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب وأن يسلك الإنسان سبيل العاقبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل الله العافية، وطلب منا أن نسأل العافية، فلا تعرض الأحاديث بالصورة التي يفهم منها أن يضرب بعضها بعضًا وإنما في جمعها وتوجيهها يجمع بينها دون تعارض.
الأمر الآخر في مسألة طلب الإذن من المريض أو من وليه.(7/1621)
في الواقع ليس هناك إنسان يرفض العافية، والإنسان إذا أصيب بنوع من الألم أو بنوع من المرض يريد الشفاء ويريد العافية ولكن المسألة في ثقة هذا الإنسان فيمن يتوجه إليه بطلب الدواء أو بطلب العافية، وفي هذه الحالة الإسلام جعل أمامنا تقدير الخبرة وتقدير العلم، والإنسان العادي لا يستطيع أن يقول بكلمة صواب في أمر العلاج، وإنما يقول ذلك الخبراء والأطباء المتخصصون، ولذلك فإن الثقة في الإنسان الطبيب هي التي ينبغي أن تكون محل العناية والتقدير، فنترك للمريض الفرصة في أن نجعل أمامه هذه الثقة في الخبراء المتخصصين، ولا بأس أن يعرض الأمر على أكثر من خبير متخصص في هذا الأمر الطبي، فإذا أجمع الخبراء المتخصصون في الطب، فلا مجال للتوقف عن العلاج لطلب إذن المريض أو إذن وليه، وإنما يصبح الواجب دفع الضرر، ودفع الضرر لا يقدره المريض وإنما يقدره الطبيب المختص الذي تتحقق فيه هذه الثقة.
أما مسألة القطع باليأس فأنا أضيف صوتي إلى صوت الأستاذ الكريم الذي ينبه الأطباء لخطورة هذه المسألة النفسية، الإنسان لا يقطع الأمل إلى آخر لحظة، والقرآن الكريم لما ضرب لنا المثل بأيوب - عليه السلام - وأنه وصل إلى حالة يمكن أن يقال فيها: إنها حالة ميؤوس منها، لم ييأس من رحمة الله، وعقب القرآن الكريم أن ما حدث لأيوب من هذا الإعجاز يمكن أن يحدث لكل عبد صالح، قال تعالى في سورة الأنبياء: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} . [الأنبياء:83،84]
فالأمل يظل مصاحبًا للإنسان إلى آخر لحظة، ولذلك فإن الأطباء لا نستطيع أن نقول لهم أوقفوا العلاج، وإنما من العلاج أيضًا عدم إعطاء الدواء إذا كان غير مفيد، فهم يفعلون ذلك بحكم الخبرة، يقدمون الدواء المناسب، ويتوقفون في الوقت المناسب، دون الدخول في تفصيل لا يفهمه المريض، ولا يفهمه أهل المريض، وإنما يقدمون ما تمليه الخبرة وما يمليه الموقف الذي لا يقدره إلا هم في هذه الحالة.
النقطة الأخيرة في مسألة التبرع بالأعضاء: مسألة التبرع بالأعضاء اتسع القول فيها الآن إلى درجة قد تخيف كثيرًا من الناس، وأن الإنسان إذا دخل إلى المستشفى في حالة حادث عارض، أو في حالة يقال فيها إنه أصيب بموت الدماغ، فإنه يخشى على نفسه أن يؤخذ منه، أو أن يسلك بعض الناس سبيل الإتجار بالأعضاء، وأن يشتهر في حياة الناس البنوك التي تبيع الأعضاء، وبدلًا من أن يباع الإنسان كما كان يباع رقيقًا يباع في صورة مقطعة بدلًا من الجملة، ولذلك أنا أحب أن يصدر التوجيه في أن تهتم الأمة - وقد عنينا بعقد الاستصناع بالأمس - أن تهتم الأمة أيضًا في توجيه أبنائها إلى الكشف والتصنيع للآلات والأدوات حتى نصل في وقت من الأوقات إلى التغطية التي نطمح إليها وتغنينا عن الأخذ لأعضاء الإنسان الذي يتعرض لحادث أو غيره. هذا ما أحببت أن أذكره وشكرًا.(7/1622)
الدكتور محمد نبيل غنايم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
فإنني أميل إلى الأخذ برأي جمهور العلماء في العمل بالتداوي والبحث عن الشفاء ما وسعنا إلى ذلك سبيلًا، وأقسم الأمور إلى ثلاث نقاط أو أربع.
أولًا: بالنسبة للأمراض المعتادة يحسن التداوي منها عملًا بالتوجيهات القرآنية الكريمة العديدة من مثل قوله تعالى {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} . [التوبة: 105]
من باب الأخذ بالأسباب، وقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . [البقرة: 195] .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير)) . ومما لا شك فيه أن الصحة والشفاء من الأمراض يساعد على العبادة وعلى طاعة الله والتقرب إليه عز وجل.
ثانيًا: المحافظة على النفس من جميع جوانبها تقع ضمن الضرورات الخمس المعروفة بمقاصد الشريعة، أو بالكليات، والتي من أجلها فرض الله تعالى الفرائض المعروفة وحد بسبب الاعتداء عليها الحدود والعقوبات المقررة.
ثالثًا: أما الحالات الميؤوس منها فأرى أنه لا يجوز التوقف فيها أو الاكتفاء فيها برأي طبيب واحد أو طبيبين أو نحو ذلك، وإنما يوكل الأمر في قرار أن هذا المرض وهذه الحالة وصلت إلى مرحلة اليأس إلى لجنة طبية من كبار المستشارين أو الاستشاريين وعدم الاكتفاء برأي طبيب خصوصًا إذا كان مبتدئًا في هذا المجال.
رابعًا: أما مسألة الاستئذان فغير واردة ولا تجوز في الحالات الشديدة أو في الحالات الطارئة، يعني مثل حوادث السيارات مثلًا، أما إذا كانت حالة المريض مستقرة، وهو في بيته فهذا أمره متروك إلى نفسه وهو مسؤول عن صحته وعن أحواله أمام الله عز وجل. وصلى الله على سيدنا محمد. وشكرًا.(7/1623)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
هناك نقطتان، النقطة الأولى: تتعلق بمسألة التداوي هل هو واجب أو جائز؟ أنا أميل في الحقيقة إلى أنه واجب إذا كان المرض مرضًا قد يؤدي إلى هلاك أو إلى شديد أذى، وهذا طبقًا للأصول العامة التي تحكم هذه القضية، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . [البقرة: 195] . ويقوم جل وعلا: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . [النساء: 29]
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي سأل الناس وقالوا له: لا بد أن يتوضأ لا بد أن يستعمل الماء فاستعمله فمات، قال: ((قتلوه قاتلهم الله فهلا سألوا إن جهلوا إنما دواء العي السؤال)) ... شدد في أمر هذا الرجل في الوضوء وفي الغسل في حالة تؤدي إلى موته، كل الأصول العامة في الشرع يفهم منها وجوب المحافظة على النفس، ووجوب المحافظة على الأعضاء ولأجل ذلك أوجب الله سبحانه وتعالى أكل الميتة للمضطر، والرخصة قد تصل إلى الوجوب، وهذا يدل على المحافظة على النفس، إذن الأصول العامة كلها تدل على الوجوب إذا كان التداوي مأمون العاقبة، وأيضًا مضمونًا ظنًّا قويًّا، فهنا يجب التداوي بلا شك، ويجب حمل كل الآثار وكل الأخبار التي وردت بسوى ذلك على أنها إما أن تكون قضايا عينية، وإما أنها تحض على التوكل على الله - سبحانه وتعالى - بالقلب، والتوكل - كما يقول أبو حامد الغزالي - هو فعل قلبي هو حالة نفسية، وليس معنى التوكل كما يقول: أن يكون الإنسان خرقة في مهب الرياح أو لحمًا على وضن، ليس هذا هو التوكل، فإن هذا المقام الجليل لا يحصل بمراغمة أمر الله - سبحانه وتعالى - فالله - سبحانه وتعالى - أمر بالعمل وكيف يطلب الولد من لم يتزوج؟ وكيف يطلب الحصاد من لم يبذر؟ كل هذا يدل على أن العمل واجب وأن العلاج واجب.
هذه القضية أعتقد أن الأولى أن نقول فيها بالوجوب، إذا كان المرض شديدًا يخاف على المرء من ذهاب النفس أو ذهاب عضو أو تلف وظيفة من وظائف الأعضاء، يعني إذا كان في مرتبة الضرورات.(7/1624)
ويجب أن نبين في نفس الوقت هنا حقيقة التوكل ونظهر أن التوكل ليس بترك الدواء، والنبي صلى الله عليه وسلم داوى وكوى - كي أسعد بن زرارة (رضي الله عنه) - وردت كثير من الأحاديث تتعلق بالدواء وقال للآخر: ((صف له داءك يصفه الحارث بن كلدة - وكان طبيبًا كافرًا)) . إذن لا بد من التداوي.
النقطة الثانية: هي مسألة الميؤوس منه وكما قال الأخ الذي تكلم قبلي: لا بد أن يقرر ذلك جمع من الأطباء، ألا يقرره طبيب واحد وفوق كل ذي علم عليم، وألا ييئسه فقد ورد في آداب عيادة المريض أن نقول له: لا بأس طهور، وقال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - إني أراك بارئًا يا خليفة رسول الله، قال: وإني مع ذلك لدنف قالها أبو بكر مجيبًا له. فهذا يدل على أن المريض ينبغي أن نعطيه أملًا وألا نقطع أمله وطمعه في الحياة.
النقطة الثالثة: هي إعطاء الأعضاء، أنا لا أرى أي شخص يمكنه أن يتبرع بعضو شخص آخر أو يبيعه، ولو كان أبًا ولو كان أخًا ولو كان المتبرع بعضوه قاصرًا، إن هذا الشخص لا يملك أعضاء هذا الشخص الآخر، ولو كان مجنونًا. لا يجوز أبدًا بحال من الأحوال أن يتبرع بعضو منه لشخص آخر، والقاعدة هي أنه لا ننزل ضررًا بشخص لفائدة شخص آخر (لا ضرر ولا ضرار) ، فإنزال الضرر بهذا الشخص ولو كان مريضًا أو متخلفًا عقليًّا لفائدة شخص آخر، هذا أمر حرام وملكية الأعضاء هي من ملكية الانتفاع والله - سبحانه وتعالى - سخر هذه الأعضاء للإنسان لينتفع بها وليست لتعطى لغيره، وقد أفتى المجمع فيما أعتقد في الأعضاء المزدوجة بجواز التبرع لشخص، وإن كان عندي توقف في هذا ولكن الأمر الآن يتعلق بتبرع شخص آخر، هذا الأمر لا يجوز، وهذه القضايا في غاية الدقة والطبيب عليه أن يراقب الله - سبحانه وتعالى - في معاملته مع المريض ولا يحتاج إلى إذن في الحالة الخطيرة كما قال الأخ الذي سبقني في الكلام.
خلاصة القول: أولًا: إن التداوي في الحالات الضرورية واجب شرعًا، وكل الأحاديث التي وردت بخلاف ذلك فإن الأصول العامة والأحاديث الأخرى تحكم عليها، والأصول العامة مقدمة على النصوص الجزئية، هذا أمر مسلم به ومقاصد الشريعة واضحة.
ثانيًا: أنه لا يجوز تبرع شخص بعضو شخص آخر ولو كان قاصرًا أو مجنونًا (وشتى أنواع القصور) .
ثالثًا: هو أن المريض لا يجب أن نحمله على اليأس من روح الله ومن رحمة الله: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف 87] و {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] . فيجب أن يبقى له أمل. وشكرًا.(7/1625)
الدكتور أمين صالح كشميري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أشكر فضيلة الدكتور بكر أبو زيد على ترحيبه بفريق جامعة أم القرى، وفي الواقع ليس منا طبيب ولذلك نجد أنفسنا في حل من أن نقول للأطباء رفقًا بالمرضى والمصابين، إنما شدنا إلى هذا الاجتماع الكريم كوننا نتعامل مع وظائف الأعضاء، وهو العلم الذي يعنى بمحور هذه القضايا التي نحن بصدد نقاشها فأقول وبالله التوفيق: إن أي رأي فقهي يجب أن يتوفر فيه عنصر الثبات، وكثير من الأمور التي طرحت في الأبحاث المقدمة التي تفضل بها الإخوة الكرام مشكورين، لا تراعي موضوع ثبات الفتوى الشرعية، التي في رأيي ينبغي أن تكون إحدى العناصر الهامة والأساسية، لأن المشكلات التي يتناولها البحث متغيرة وليست ثابتة، إذ ليس كل ما يقطع به الأطباء، أو كل ما يقطع الأطباء بعدم رجاء برئه لا يبرأ، وإذا لم يبرأ اليوم فإنه قد يبرأ غدًا، والذي يستعصي اليوم قد يصبح في الغد القريب أمرًا ميسورًا وفي متناول الطب والأطباء. والأبحاث تترى والإخوة الباحثون في هذا المجال يعرفون هذا، ولعل من أشد الحالات إلحاحًا في بيان جوانبها الفسيولوجية موضوع (المتوفى دماغيَّا والأجنة المشوهة) وهذه الأمور الآن، الأبحاث تشير إلى أنه ما كان يعتقد في السابق حتى الأمس القريب أن خلايا الدماغ - الخلايا العصبية - إذا تلفت لا تسترد ولا يمكن الاستعاضة عنها، الآن بالإمكان زرع - ولو في مستوى التجارب الحيوانية في المعمل - خلايا دماغية من أجنة الحيوانات غير البالغة - أقول الخلايا الدماغية غير الناضجة - إلى أدمغة الحيوانات التي أحدث فيها التلف مخبريًّا في المعمل وبالتالي نمت الخلايا وازدهرت والآن هذا الموضوع أصبح لا يشكل مفاجأة بالنسبة للمتعاملين مع هذه الأمور في هذا الخصوص، فتعرفون أيها الإخوة الكرام أن من مقاصد الشريعة أنها ترمي إلى إنقاذ النفس البشرية في كل مراحلها وتحت أي ظرف من الظروف وهذا يشكل جزءًا من القسم الذي يؤديه الطبيب عند تخرجه.(7/1626)
فهذا الذي طرح من حيث وجود ظروف معينة أو حالات مرضية معينة، يبحث الآن عن رآي فقهي للتوقف عن علاجها أو بذل الجهد في إنقاذها أو استنقاذها، هذا يتنافى مع هذه المقاصد ولا شك، وأميل إلى رأي الإخوة الأفاضل الذين تحدثوا قبلي بأن هذا لا ينبغي أن لا يعطى إلا القدر الذي نوليه إياه من حيث كونه يتعارض مع هذه المقاصد، خصوصًا وأن الأسباب التي أثيرت حول هذا الموضوع في جلها هي نسبية، مثلًا الشخص المتوفى دماغيًّا يقال أننا نتركه ليتوفى لتخفيف معاناته، والمعاناة نسبية، معاناته أو معاناة أهله، هي نسبية ما أراه أنا مجهدًا بالنسبة لي يراه الآخر غير مجهد، وقد يتحمله بصدر رحب، كأن يقال مثلًا توفير أجهزة غسيل الكلى لمرضى آخرين، هذه أيضًا أمور نسبية وما قد أجده مكلفًا الآن أنا يجده غيري غير مكلف أو في المستقبل القريب ويصبح في المتناول وبأيسر السبل وبأزهد الأثمان.
النقطة التي كنت أتطلع إلى إدخالها ضمن هذا النقاش وهي في الحقيقة تعتبر من النقاط التي يقف عندها الكثير، وهي موضوع (تطعيم الأطفال) إذ أنها جزء كبير من هذا النقاش الذي نحن بصدده، بل ربما تكون من أشد الأمور إلحاحًا وتضع الوالدين أمام حيرة إذ أن بعض التطعيمات التي تعطى للأطفال قد يترتب عليها بعض الحالات المرضية، والرأي غير وارد أن نقول: إنه رأي الشخص المعني هو وهو الطفل، إذ إنه في أغلب الأحوال يكون دون الستة شهور من العمر، إذ لا يملك أن يعطي رأيًا فضلًا عن أن يقطع بإعطائه تطعيمًا أو لا، حتى وإن كان بعضهم ما فوق السنتين أو الثلاث يظل الوالد أو الوالدة أو الوالدان معًا هما اللذان يقرران هل يعطى الطفل أو لا يعطى؟ ونحن نعرف جميعًا أن هناك بعضًا من ولاة الأطفال أو الوالدين أو الوالد في الغالب من يقرر ألا يعطي طفله التطعيم، إما إمعانًا في التوكل وقد أفاد الإخوة الكرام في هذا الصدد وأظهروا فيه ما يغني ويشفي، ولا أستطيع أن أدلي بدلوي في ذلك، إنما القول بأن بعض التطعيمات لها تأثير على الدماغ، وأضرب بذلك مثلًا (السعال الديكي) لا يزال هناك تساؤل حول إمكانية إحداث هذا التطعيم لهذا النوع من المرض تلف معين في الدماغ، صحيح أن النسبة متدنية لكنها لا تزال موجودة. من الذي يملك القرار في هذا؟ هو أحد الوالدين. فإذن المسألة جديرة بأن تؤخذ في الاعتبار وأن ينظر إليها وتوضع تحت الضوء للنقاش. وشكرًا لكم.(7/1627)
الشيخ الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
أشكر الباحثين على بحوثهم القيمة في هذا الموضوع، ولقد كنت أعددت عنه بحثًا مستعجلًا، فيما أن الجماعة قرأوا بحوثهم فأنا أذكر ملاحظاتي فقط، وهي تدور حول أربع نقاط:
أولًا: حكم التداوي (مشروعية التداوي) .
ثانيًا: حكم دواء الأجنبية للأجنبي والعكس.
ثالثًا: هل يجوز التداوي بالنجس؟
رابعًا: هل يجوز أو يمكن أن يشترى النجس للدواء؟
حول النقطة الأولى أقول وبالله أستعين: إن الأحاديث الصحيحة الواردة في الأمر بالدواء، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم له، كانت أحاديث كثيرة وصحيحة، أما الأحاديث التي منها: حديث البخاري ومسلم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره) ، وحديث مسلم (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى) أو كما قال. وهناك أيضًا أحاديث كثيرة في هذا المجال.
أما الأحاديث التي تقول بعدم التداوي، فهذه إنما هي للورع، وذكر البهيقي - رحمه الله - أنها تحمل على الورع فقط لمن علم أو لم يتيقن من أن المرض سيؤدي به إلى الموت، فحينئذ لا خلاف عند جميع الأئمة أن الدواء جائز، والإمام أحمد الذي قال: إن الأفضل غيره (لم يذكر منعه) .
ثانيًا: نتكلم عن النقطة الثانية وهي دواء الأجنبية لأجنبي أو العكس، هذا يجوز عند الضرورة، لأن نظر الأجنبي للأجنبية حرام وكذلك لمسه لها، فإذا لم يوجد طبيب من جنس المعالج، أو لم يوجد طبيب محرم للمرأة أو العكس، وكانت الضرورة ملحة جاز للمرأة أن تداوي المريض.
ثالثًا: المسألة الثالثة هي الدواء بالمحرم.
الدواء بالمحرم منعه الإمام مالك والحنابلة واستدلوا بحديث ((إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام)) رواه أبو داود وحديث أم سلمة ((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) رواه الطبراني وقال الهيثمي: إسناده منقطع ورجاله رجال الصحيح، وهذا كله في غير حالة الضرورة الملحة، أما عند الضرورة التي تهدد حياة المسلم فإنه لا مجال للتردد في إباحة التداوي بالنجس إذا لم يوجد دواء طاهر غيره، وذلك يتوقف على قول الأطباء المهرة المختصين، ولا سيما في شيء قد أثبتت التجربة الشفاء به كالإسعاف بالدم الذي أصبح لاغنى عنه في الطب الحديث، الأصل في ذلك قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . [الأنعام:119](7/1628)
قال القرطبي: والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيصير مباحًا، وعليه فإنه يجوز للمسلم أن يتبرع ببعض دمه لمضطر لذلك الدم إذا كان لا يضر بصحته وله الأجر في ذلك.
أما المسائل الأخرى كالأعضاء وغير ذلك فإن الحقيقة أن التجربة لم تثبت، لأن المسألة لا بد أن يكون شيئًا مجربًا فأما نقل عضو إلى مريض آخر ... اللهم إلَّا إذا كانت الكلية فإن الأطباء قد جربوا أنها لا تضر بمن انتزعت منه وتشفي الذي زرعت له ورأينا ذلك كثيرًا.
رابعًا: ثم بعد ذلك نتكلم عن بيع الدواء النجس: - مثلًا هذا الدم - لو افترضنا وهذا يفعله كثير من المستشفيات لأن المريض ربما يكون في حالة خطيرة وربما لا يوجد في ذلك الوقت الدم الذي ينقل له كما هو الواقع في كثير من البلاد خصوصًا حوادث السير - إذا لم يوجد ذلك فإنني أيضًا أرى أن من اضطر لبيع بعض دمه أنه يجوز له أن يبيعه لمضطر يعالج به، والدليل في ذلك أقوال عند المالكية، قول عند المالكية، قال الفقيه المالكي ابن عاصم - رحمه الله -:
ونجس صفقته محظورة
ورخصوا في الزبل للضرورة
قال التسولي: محظورة أي ممنوعة على المشهور وقيل بجواز بيعه وهي رواية ابن وهب، والمراد بالزبل هنا زبل محرم الأكل، وقال ابن القاسم: سمعت مالكًا يكره بيع رجيع بني آدم ولم أسمع منه في الزبل شيئًا وأرى أنه لا بأس به. وقال أشهب: أكره بيع رجيع بني آدم إلا من اضطر إليه، والمبتاع أعذر في شرائه من بيعه، بعد ذلك عقب الحطاب على هذا الكلام قال: ويتحصل في بيع العذرة أربعة أقوال: المنع لمالك، وعلى فهم الأكثر من أن الكراهة على التحريم، والكراهة على فهم أبي الحسن وهو ظاهر اللخمي من أن الكراهة على بابها، والجواز لابن الماجشون، والفرق بين الاضطرار فيجوز وعدمه فيمنع وهو قول أشهب، ومعلوم أن نجاسة العذرة أشد من نجاسة الدم إذ لا يعفى عن شيء منها عند الجمهور.
إذن هذه المسألة أريد أن تدرس لأنني مررت بها مرورًا عابرًا، وأرجوا أن تدرس لأنها في الحقيقة ملحة جدًّا. أقول قولي هذا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1629)
الشيخ ناجي محمد عجم:
بسم الله الرحمن الرحيم
كان الدكتور البار - جزاه الله خيرًا - طرح بعض الأسئلة وأراد الجواب عليها فالذي يحضرني من الجوانب لهذه الأسئلة، هل يحق للولي أن يرفض علاج ابنته المصابة بالفشل الكلوي؟، أقول استنادًا إلى قوله صلى الله عليه وسلم ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ومنها ((والرجل راع في بيته وهو مسؤول عن زوجه وولده)) فلا يجوز للولي أن يرفض علاج القصر الذين عنده سواء كانوا صغارًا أو مجانين، وإذا رفض العلاج فإنه.. يأثم، بل أقول: يعزل عن الولاية لأنه مهمل في رعاية من هم في ولايته وتنتقل الولاية إلى الأبعد، هذا بالنسبة لهذا السؤال. السؤال الآخر، يعني إذا كان بعض الصغار في المستشفى هل يجوز إهمالهم؟. أقول: ينتقل الواجب من واجب كفائي إلى واجب عيني، فلا يجوز إهمالهم ولا ينتظر إذن أوليائهم في معالجتهم.
طرح سؤالًا آخر: وهو إطالة النزع أو الموت ببعض العقاقير أو العلاجات، أقول: إن هذا من الرجم في في المستقبل في علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله، والأعمار بيد الله تعالى فيجب إعطاؤهم العقاقير التي يحتاجونها، وإن كان في قناعة الأطباء أن هذه العقاقير لا أمل منها في شفاء هذه الأمراض، وأما ما ذكره من أنه هل يجوز للجنة الطبية أن تقرر عدم معالجة بعض المهرمين؟. قضية الهرم هذا أمر نسبي فيختلف مفهوم الهرم من إنسان إلى إنسان فلا يجوز إهمالهم ولا يجوز أن يتركوا يعانون من ألم الأمراض.
ذكر سؤالًا آخر: من عنده ضمور بالدماغ ولا أمل من الاستمرار في حياته، هل يجب معالجته من الأمراض الأخرى كالفشل الكلوي وغير ذلك؟. أقول يكفيه ألم مرضه فلماذا يزاد في آلامه؟ وقد يكتب الله له الشفاء، فيجب أن يقدم له العلاج قدر الاستطاعة. والله أعلم وشكرًا.(7/1630)
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
هي بضع نقاط أولاها حكم التداوي:
ذكر بعض الإخوة الزملاء أن جمهرة الفقهاء يرون أن التداوي واجب، والذي أعرفه العكس، فإن جمهور الفقهاء يرون أنه مباح، وبعضهم ذهب إلى أنه واجب، والمسألة فيها تفصيل، هذا التفصيل نأخذه من نوع العلاج، هناك العلاج الوقائي أو الطب الوقائي فهذا واجب قطعًا لأنه من منع الإلقاء في التهلكة وتجنب التلف، وهذا الأدلة عليه كثيرة وواضحة وأبرزها حديث (الطاعون) ومنع الإنسان من الدخول إلى الأرض الموبوءة وأمر هذا معروف، فكل ما كان من وقاية الإنسان في الوقوع في التلف أو في المهلكة فهذا واجب لأن التقحم في ذلك يعتبر من باب قتل النفس أو الانتحار، ولا يفترق أو يبتعد كثيرًا عن امتناع الإنسان عن الطعام أو الشراب وسد الرمق، فذلك قطعًا واجب لأنه متيقن عادة أن الإنسان إذا لم يأكل يموت ويتلف نفسه فيجب عليه أن يأكل ويشرب، وكذلك يجب عليه أن يتقي المهالك، فينطبق هذا على كل ما يندرج تحت الطب الوقائي ومنه - كما قلنا - عدم الدخول إلى الأماكن الموبوءة ومنه تخريجا التطعيم، لأن تطعيم وتلقيح الصغار والأصحاء في حال الأوبئة يعتبر نوعًا من الحجر وعدم الدخول في تلك المناطق أو في تلك الظروف.
أما الطب العلاجي فينقسم إلى نوعين: نوع يتيقن عادة أن الإنسان إذا لم يعالج نفسه من المرض يموت ويتلف، وذلك كما مثل له الفقهاء بأن الإنسان إذا جرح ونزف دمه فيجب عليه أن يربط هذا الجرح ويرقأ هذا الدم، لأنه لو تركه سيؤدي به قطعًا إلى الموت فهو نظير الامتناع عن الطعام والشراب، فهذا أيضًا من الواجب.
يبقى عندنا دائرة ضيقة أو محدودة وهي العلاج المظنون، الذي لا يقطع ولا يتيقن بأنه يؤدي إلى البرء والشفاء، فهذا الذي اختلف فيه العلماء، والذي أعلمه أن أكثرهم يرون أنه من المباح، وبعضهم يرى أنه مندوب، ولعل القول بالندب هو أولى.(7/1631)
والدليل على أنه غير واجب أنه من باب الظنون، والظنون في الشرع تنقسم إلى أنواع، فالظنون في الاعتقادات ممنوع منعًا تامًّا، والظنون في العمليات واجب العمل بها، وهذا معروف لأن معظم الأحكام العملية الشرعية مأخوذ فيها بالظن الغالب، أما الظنون في الأمور العادية، فإن الأمر فيها يبقى على دائرة الاستواء، فلا يرقى إلى درجة الوجوب، والدليل على ذلك - أيضًا - عمل الصحابة، فكثير من الصحابة أصيبوا بأمراض وبعضهم إما لم يأت بالطبيب، وبعضهم امتنع، وبعضهم رد الطبيب، وهذه حوادث معروفة، ولنا أن نستشهد أو نستأنس بامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من أن يلد بالدواء حينما صار في حالة الاحتضار، فلا نستطيع أن نجزم في هذه الأمور المظنونة بأن نقول: إن المعالجة منها واجبة لأنها كما قلنا مظنونة والحديث نفسه يقول ((تداووا عباد الله فما من داء إلا أنزل الله له دواء، فإذا أصيب دواء الداء)) ، إذا أدرك ووقع الطبيب عليه. إذن الأمر في دائرة الظن، وأحيانًا التداوي فيه من المعاناة وفيه من الشدة أكثر من الداء، فكيف نجبر من به داء ممكن أن يحتمله ويعايشه أن يتداوى؟ نقول له: أنت مندوب لك ذلك، وكما قال الشاعر: وأخف من بعض الدواء الداء.
كذلك ينبغي أن يستثنى ما فيه تعدي الضرر إلى الغير، فإذا كان المرض معديًا أو متلفًا لغيره فهذا يجب عليه لأنه ((لاضرر ولا ضرار)) ، فإذا امتنع عن التداوي يجبر.
هناك أمر يجب أن يراعى أيضًا وهو الفرق بين الإنسان الذي يذهب إلى الطبيب بنفسه، (طبيب مثلًا خاص) ، والذي يتم في المستشفيات التي يعتبر فيها الأطباء موظفين وملزمين بعمل من ولي الأمر، حينما يأمر بالمباح يرقى هذا المباح إلى درجة الواجب، طبعًا ولي الأمر لا يستطيع أن يغير الأحكام وإنما طاعة ولي الأمر واجبة فيصبح هذا المباح في درجة الواجب، فإذا كان الأطباء ملزمين بحسب تعليمات ولي الأمر بأمور يجب أن يراعوا هذه الأمور من باب الواجب الوظيفي الذي يلزمهم.
نقطة ثانية: وهي مسألة بث الأمل في المريض وإبعاد شبح اليأس عنه، هذا طبعًا مطلوب حتى في الحالات التي يتيقن فيها أن سيتلف، وفي ذلك حديث شريف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل)) فإن ذلك يطيب نفسه ولا يغير من الأمر شيئًا - معنى الحديث - وهذا طبعًا قاعدة أساسية في هذا الباب، وهذا أيضًا متلائم ومنسجم مع عدم التيقن، فكما نتيقن بعدم الشفاء نتيقن بعدم التلف، فالطبيب هو رجل يبذل جهده، فهو لا يستطيع أن يقول: لا شفاء البتة، ولا يستطيع أن يقول: هناك تلف البتة، فلذلك ينبغي أن يفسح له في الأجل ويدخل عليه أو يديم لديه الأمل.(7/1632)
الحالات الميؤوس منها كما سمعت من الزميل الدكتور محمد عدنان صقال أن كثيرًا من الحالات التي كان يظن أو يجزم بأنها ميؤوس منها كالصرع مثلًا أصبحت الآن في نظر الأطباء مقدورًا على علاجها ومتمكنًا منها، وبعض هذه العلاجات قطعية، فهذه مسألة تحتاج إلى النظر، هل نجعلها في حكم تناول الطعام والشراب وسد الرمق، أم أنها تبقى في دائرة المظنون على النطاق الفردي؟ يعني هذه الحالة أصبحت غير ميؤوس منها كمبدأ، ولكن لا يخفى أن هناك أعراضًا ذاتية متفاوتة بين إنسان وآخر، فضلًا عن أخطاء الأطباء. وفي أخطاء الأطباء يقول أحد الشعراء ليخفف عنهم الحرج:
غلط الطبيب علي غلطة مورد
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنما
غلط الطبيب إصابة الأقدار
أخيرًا الإذن: ومسألة الإذن هذه، طبعًا، منظمة تنظيمًا كاملًا في الولاية، فهناك ما يسمى ((ولاية التطبيب)) ، ومعروف أن أحكام الولاية على ناقصي الأهلية أو عديميها أن لهم التصرفات النافعة، أو التي تدور بين النفع والضرر، وليس لهم أن يقدموا على تصرف ضار بهذا المولى عليه، فمثلًا هذا الأب الذي أذن بأن يؤخذ من ولده المجنون إلى ولده السوي، هذا مخطئ ومتصرف على عكس ما تقتضيه الولاية، لأن هذا تصرف ضار ضررًا محضًا وهذا ممنوع على الولي لأن مهمته الرعاية والنفع، أو ما يظن أنه فيه نفع ولو كان فيه احتمال الضرر، والله أعلم.
الشيخ عبد القادر العماري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر الإخوة الباحثين على هذه الأبحاث القيمة الطيبة. من ناحية حكم التداوي نستطيع أن نجمع بين الأحاديث - فاختلاف العلماء معروف - لأنه في حالة الخطورة إذا كانت حياة الإنسان مهددة، وهناك ظن غالب، يكون واجبًا، وفي غير ذلك يكون مباحًا، ولا داعي لأن نختلف كثيرًا في هذا الأمر، ونحن اجتمعنا مع بعض الإخوة وهم اتفقوا على هذا الكلام ومنهم علماء كبار.(7/1633)
مسألة أخرى: جاءت في بحث الدكتور محمد علي - حفظه الله - وهي مسألة هل يعتد برضا الإنسان البالغ بالاحتلام أو الحيض؟. هذه النقطة أيضًا في حاجة لبحث المجمع وفي حاجة إلى جواب فيها، لأن المرأة إذا بلغت الحيض على تسع سنوات مثلًا، اختلف العلماء في البلوغ معروف من ناحية السن، الأحناف والجمهور، لكن يلاحظ أن الفقهاء جميعًا أجمعوا على مسألة الاحتلام بالنسبة للذكر، والحيض بالنسبة للأنثى، أريد أن أسأل الأطباء: هل هناك ارتباط بين الإدراك وبين هذه العلامات؟ لأنه أمامنا - أيضًا - في المحاكم - ونحن نحتار - وحصلت حوادث فعلًا، فتاة حاضت وهي في سن تسع سنوات، وعليها مطالبة بالقصاص، عل نقيم حكم الإعدام عليها ونقتص منها وهي بنت تسع سنين؟ أو ذكر وهو ابن اثني عشرة سنة مثلًا؟ نريد من المجمع أن يبحث هذه النقطة ويخرج بقرار لأن هذا تترتب عليه أحكام خطيرة جدًّا.
المسألة التي أريد أن أقول فيها شيئًا وهي مسألة علاج المرأة للرجل وبالعكس الرجل للمرأة: هذه أيضًا عند الحاجة أجازها الفقهاء، وفي كتب الحنابلة أمر معروف ومشهور، ولكن الحاجة تقدر بقدرها، ماذا يرى؟ وماذا يلمس في الجسم؟ فحسب الحاجة ولا يمكن للطبيب أن يتجاوز الحاجة. هذان هما الأمران، وأركز على مسألة البلوغ والاحتلام وأريد من المجمع - إن شاء الله - أن يتوصل إلى رأي سديد في هذا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيح أحمد بن حمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد سمعت هذه المداولات والمداخلات في هذه القضية، وحضرني الحديث في بعض النقاط تتعلق ببعض ما سمعته.
أما قضية التداوي:: فأولى ما يصرف إليه نظر الفقهاء في وقتنا هذا هو ما ذهب إليه الأكثرون من أن التداوي ينحصر وجوبه فيما إذا كان ترك الدواء يفضي إلى إتلاف النفس لأن كل واحد أمين على نفسه، ومن أجل المحافظة على النفس أباح الله تبارك وتعالى تناول ما يضطر إليه الإنسان من المحرمات، وهذا الاضطرار لا يتقيد بالمخمصة وإن جاء في القرآن الكريم قوله سبحانه: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] .(7/1634)
ذلك لأن الاضطرار في المخمصة هو الغالب المعتاد وقد قال العلماء: إن المنطوق إذا ورد مورد الأغلب المعتاد فلا ينظر إلى مفهومه أي لا يحتج بمفهومه، والإنسان مأمور بأن يحافظ على حياته وعلى حياة غيره حسب إمكانه، فلو أن أحدًا أصابه نزيف بين أناس آخرين، أليس من الواجب عليهم أن يسعفوه بقدر طاقتهم وقدرتهم؟ فكذلك هذا الذي يتمكن من العلاج، عليه أن يحافظ على نفسه بقدر ما يقدر، ويدخل في هذا الباب كثير من المسائل التي نوقشت، منها معالجة المرأة للرجل ومعالجة الرجل لها، ومع ما ذكره أصحاب الفضيلة المشائخ من القيد، وهو أن يكون ذلك في حالة الضرورة، و ((الضرورة تقدر بقدرها)) ، أرى أن يضم إلى ذلك قيد آخر وهو وجود المحرم لها إن أمكن وجوده، لأجل العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا يخلو الرجل بامرأة إلا مع ذي محرم، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة إلا مع ذي محرم)) ، فلا بد من وجود ذي المحرم، هذا مع إمكان وجود ذي المحرم، أما إذا تعذر وجوده، فإسعاف الرجل أو إسعاف المرأة كل منهما أمر واجب مع الضرورة.
العلاج بالمحرمات أيضًا مما يدخل في هذا الباب: وما جاء في الروايات عن الرسول صلى الله عليه وسلم من منع التداوي بالمحرمات، إنما ذلك فيما كان حرامًا، ومع الاضطرار إلى الحرام لا يكون حرامًا عندما يضطر إليه المضطر هو في حقه حلال، بدليل الآية الكريمة {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . [الأنعام:119]
مسألة نقل الأعضاء: المجمع وصل إلى فتوى في هذه القضية، ولا أريد أن أعيد الكرة مرة أخرى فيها ولكنني أقول: لا بد من أن توضع لها ضوابط، لأن عدم وضع الضوابط لهذه القضية يفضي بكثير من الناس إلى بيع أعضائهم، والإنسان ليس مالكًا لجسمه إنما يملك منفعته، فلا يملك جسمه حتى يتصرف فيه، ومن المعلوم أن في بعض البلاد الفقيرة يبيع الناس أعضاءهم، فهذه القضية لا بد من أن يوضع لها ضوابط حتى لا يتجاوز الناس الحدود فيها، وحتى لا ينقلب الإنسان إلى رقيق يباع ويشترى في الأسواق، تباع أعضاؤه وتشترى في الأسواق، على أن إهمال وضع الضوابط قد يفضي إلى انتهاك حرمات الإنسان، كما سمعنا أن بعض الناس قد يتسرعون إلى أخذ أعضاء المريض عندما ييأسون من حياته، على أن اليأس من الحياة لا يعني موت ذلك المريض، فهناك كثير من الحوادث التي وصلت بالأطباء إلى اليأس، ولكن مع ذلك لطف الله - تبارك وتعالى - كان أدق من فهم الأطباء وإدراكهم، وأنا بنفسي جاءني ولي أمر فتاة يأمرني بأن أعقد زواجها لشاب، وكان الشاب والفتاة يدرسان معًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد خطبها وأصيبت بمرض سرطان الدم - والعياذ بالله - حتى تساقط شعر رأسها، ولكن من أجل وفاء ذلك الشاب لها أحب أن يقترن بها مع ذلك، فجاءني ولي أمرها وعقدت زواجهما، وقد سمعت أن أقارب الفتاة أخبروا بأنها لن تعيش أكثر من عام، وكان عقد هذا الزواج منذ عشرة أعوام وما سمعت عنها أنها ماتت بل سمعت عنها أنها ولدت أكثر من ولد، والأمر لله - سبحانه وتعالى - فلا ينبغي للأطباء أن ييئسوا أحدًا من الحياة، لأن الموت والحياة بيد الله - سبحانه وتعالى - فالطبيب يتكلم في حدود معرفته والغيب لله سبحانه وتعالى، إنما ينظر بحسب الأسباب التي هيئت له ولا يعرف ما وراء الأسباب إنما هو معروف لله سبحانه وتعالى الذي يخلق الأسباب والمسببات، فوضع ضوابط لمثل هذه القضايا لا بد منه، وأسأل الله تعالى التوفيق للجميع، شكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1635)
الرئيس:
شكرًا، وأذكر الشيخ على أن قرار المجمع الذي صدر بنقل الأعضاء هو مقرون بالضوابط التي توصل إليها المجمع ومنها ما أشرتم إليه.
وبهذا ترفع الجلسة لأداء صلاة المغرب، ثم نعود بعد الصلاة إن شاء الله تعالى.
الشيخ عابد بن محمد السفياني:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد استفدت مما عرضه المشايخ الفضلاء فيما يتعلق بالمسائل المطروحة، ولكني أرى أن هذه المسائل كثيرة، ولذلك هناك من المسائل فيما يتعلق بالتداوي وحكمه، ومن المسائل ما يتعلق بالإذن، وهناك من البحوث ما تطرق إلى مسألة الميؤوس من حياته، وذكرت هناك مسائل لهذه النقطة الثالثة، والظاهر أن منها ما يتعلق بالميؤوس من حياته، ومنها ما يتعلق بالميؤوس من علاجه في ذلك المرض على الخصوص.
ولذلك فإن الأستاذ البار لم يشر إلى هذه المسألة، وهي مسألة الميؤوس من حياته بمسألة موت الدماغ على الخصوص، لأن المجمع قد وصل فيها إلى حكم هو معلوم، ولذلك لا تدخل في مسائل البحث المعروض في هذا اليوم، وأما المسائل الميؤوس من شفائها فإنها لا تتعلق أيضًا بمسائل البحث وهو الميؤوس من حياته.
أما مسألة التداوي والإطالة فيها فإنها على ما فيها من الفائدة، فإن الإخوان عندما يتحدثون عن التداوي، لا بد من ملاحظة أمور كثيرة وهي أمور المسلمين عامة، فإن النصوص التي وردت في التداوي لها مقاصد كما هو معلوم، وتحدث الإخوان عن مسألة التداوي فيما يتعلق بالأمور الضرورية وما يتبعها، ولذلك ذهبوا إلى التفصيل، والرأي القائل بالتفصيل هنا والنظر فيه من حيث الضرورات وما يتبعها، يجعل المسألة واضحة ولا نحتاج إلى ترجيح كثير بين النصوص التي وردت في مسألة وجوب التداوي أو الدالة على أنه من الأمور المباحة.(7/1636)
أيضًا من الناحية العملية لا نحتاج إلى أن نطيل في هذه المسألة كثيرًا، لأننا ندرس من الناحية العملية حالات واقعية، والأصل في الناس طلب التداوي كما هو معلوم، فنحن ننظر في مسائل عملية يحتاجها الطبيب ويحتاجها الإنسان على وجه العموم.
النقطة المهمة في الموضوع هي: استكمال المباحث في مسألة الإذن من الناحية الفقهية الشرعية، فإن التساؤلات التي أثارها الأستاذ البار، تساؤلات مهمة جدًّا تتعلق بها أحكام كثيرة، لكن في الأبحاث التي قدمت ليس هناك تأصيل شرعي كامل فيما يتعلق بمسائل الإذن وما يحتاج إليه الناظرون في هذه المسألة من تقعيد وتأصيل واستكمال لكلام أهل العلم في هذا الباب.
هناك نقطة أشار إليها الدكتور البار وقرأتها في بحثه، ومن المستغرب أنها إلى الآن لم تحظ بالاهتمام المطلوب، وهي مسألة بيع حبوب الحمل، وأرجو أن يهتم الإخوان بها ويهتم المجمع بها، لأن الكفار قد اهتموا بهذه الحالة مع أننا نعلم أن شرائعهم في خصوص المحافظة على العرض ليست شيئًا يذكر في هذا الباب، ومع ذلك فإنهم قيدوها بقيود، وما زالت تباع بين المسلمين، وترتبت عليها مضار كثيرة، ولم يهتم بها العلماء الاهتمام المطلوب، مع أن الضرر الذي ينبني عليها في المال والعرض والنفس ضرر بالغ جدًّا، والشارع لا يهمل مثل هذه الأمور كما هو معلوم، فالذي تواطأ عليه الناس في العالم الإسلامي بيعها بأسعار زهيدة وبدون ضوابط، حتى الضوابط التي جعلها الكفار لأنفسهم لا يلتزم بها في التعامل مع هذه الحبوب، ومعلوم ما يترتب عليها من أخطار. فلا بد من النظر في تحديد الشروط التي تمكن الأفراد من شرائها، مع أن هناك من سيخرج عن هذه القيود وعن هذه الشروط، لكن على الأقل يكون توجه هام وتحديد شرعي بحيث لا يشتريها إلا من يحمل ورقة من الطبيب، وأن يكون بالغًا أو مأذونًا له بحيث تترتب هذه القيود الشرعية، حتى ينكف عن المسلمين من ذلك شر كثير بالغ لا حاجة لي أن أشير إلى كثير من مظاهره فهي معلومة وكثيرة جدًّا.(7/1637)
أكتفي بهذا المقدار، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشيخ أحمد علي طه ريان:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الموضوع الذي نتحدث عنه، موضوع العلاج الطبي، فيه جوانب متعددة وفيه نقاط كثيرة حاولت أن أجد الجواب لبعضها ومنها ما يلي:
النقطة الأولى: ما يتعلق بنقل الكلية من أخ مجنون مولى عليه إلى أخ سليم، هذه النقطة كان تكلم فيها الأخ الدكتور عبد الستار وعالجتها بالقاعدة الفقهية المعروفة وهي قاعدة ((المولى عليه إذا كان التصرف نافعًا نفعًا محضًا أو ضارًّا ضررًا محضًا أو كان بين النفع والضرر)) ، لكني أقول فيها تفصيل؛ لأن الولي قد يكون وليًّا أيضًا على الطفل الآخر وعن الأخ الآخر، ففي هذه الحالة تتغير القاعدة، بدل أن نجري عليه القاعدة العامة نجري عليه قاعدة ((ارتكاب أخف الضررين)) بمعنى إذا قال الأطباء: إن نقل الكلية من المجنون إلى الأخ السليم ليس فيه خطورة على الأخ المجنون، وفيها إنقاذ حياة الأخ الآخر الذي هو ليس بمجنون، حينئذ نبقى أمام القاعدة الهامة وهي قاعدة ((ارتكاب أخف الضررين لدفع أعظمهما)) . وكما قلت: هذا مقيد بما إذا كان الأطباء قد قالوا: إن نقل الكلية من المجنون إلى الآخر ليس فيه خطورة على حياته، أما إذا كان الأخ الآخر ليس في ولاية الولي بل قد يكون كبيرًا، حينئذ تنتفي هذه القاعدة ونطبق القاعدة التي طبقها الأخ الدكتور عبد الستار وهي القاعدة الثلاثية ((إذا كان التصرف ضارًّا ضررًا محضًا أو نافعًا نفعًا محضًا أو يتردد بين الضرر والنفع)) ، وهذا بالنسبة للنقطة الأولى.(7/1638)
أما النقطة الثانية: وهي حالة ما يقال فيه أو ما يقوله بعض الأطباء من اليأس من حالة الشفاء، هذا رأي طبي صحيح قد يصل إلى مرحلة اليقين بالنسبة للأطباء، لكن لا ينبغي لنا أن نقنط من رحمة الله، وهناك قاعدة شرعية تقول: ((لا يترك الأمر اليقيني إلى أمر ظني)) فحياة الإنسان أمر يقيني، مهما قال الأطباء من اليأس من حياته فهو لا يزال في نظري، وبناء عليه فيحافظ على هذه الحياة المؤكدة ويترك ما يقال من اليأس من الشفاء لأن هذه مظنة، والظن لا يلجأ إليه ويترك الأمر المؤكد اليقيني. هذا بالنسبة للنقطة الثانية.
أما النقطة الثالثة: وهي موضوع الاستئذان في التداوي، معلوم أن بعض الحالات لا يحتاج فيها إلى استئذان وهي الحالات التي يصعب أخذ إذن المريض فيها كالإسعافات الضرورية كما يحدث في الحوادث ونحوها. أما الحالات العادية التي يكون الإنسان فيها مريضًا مرضًا عاديًّا ونستطيع أن نأخذ رأيه، ينبغي أن نقف عند إذنه، لأنه قد يكون ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، في بعض صفاتهم ممن يدخل الجنة بغير حساب، وقال صلى الله عليه وسلم من صفاتهم أنهم: ((لا يرقون ولا يسترقون)) ، يعني قد يكون عند المريض استمساك بهذا، فينبغي أن يترك هذا لرأيه وإذنه. ومعلوم كما نحفظ عن سيدنا أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - حين قيل له في مرض موته: أنأتي لك بطبيب؟ فقال: إن الطبيب أمرضني، وأبى أن يؤتى له بطبيب. وكلام الإمام أحمد في ذلك معروف.
النقطة الأخيرة: وهي في حالة التداوي بالمحرمات، الواقع أن هذه المسألة فيها تفصيل عند الفقهاء، هناك نوع من المحرمات لا يجوز التداوي به قطعًا وهو الخمر - ينبغي التفصيل في موضوع المحرمات - الخمر هذه لا يجوز التداوي بها قطعًا، نعم في حالة الإساغة بالغصة معروف قول الفقهاء فيه، لكن في غير ذلك لا يجوز، وقال فيها الإمام عبد الرحمن بن قاسم راوي المدونة لما قيل له في التداوي بالخمر في حالة استعصاء المرض، رفض وقال: (لا تزيده إلا شرًّا) وكذلك روي مثل هذا القول عن الحافظ ابن حجر رحمه الله.
أما التداوي بغير الخمر من المحرمات ففيه الخلاف بين الفقهاء، فمنهم من قال بالجواز ومنهم من قال بعدم الجواز، وهذه يرجع فيها إلى الأطباء، والله تعالى أعلم.(7/1639)
الدكتور عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته الغر الميامين.
عندي أربع نقاط في هذا الموضوع:
أولًا: بالنسبة لحكم التداوي: معلوم أن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى إباحة التداوي، ومنهم الإمام مالك رضي الله عنه في قوله: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه، لكن نرى حديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قالت له الأعراب: يا رسول الله، ألا نتداوي؟ قال: ((نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدًا وهو الهرم)) ، فهذا الحديث - قول النبي صلى الله عليه وسلم ((تداووا)) يشير إلى استحباب التداوي، فهو أمر لكن صرفه عن الوجوب وقائع الأحوال وأقوال للنبي صلى الله عليه وسلم سمعنا بعضها من الزملاء الذين ألقوا أبحاثهم، لكن كلام الفقهاء تبعًا لقواعد الشرع أن التداوي يكون واجبًا إذا غلب على الظن الشفاء وتعين الدواء لهذا المرض، وأولى من هذا إذا قطع الأطباء بوجوب التداوي وإلا أدى إلى الوفاة أو قطعت العادة كحالة الضرورة، ولذلك لو امتنع المضطر عن أكل الميتة مع تمكنه حتى مات فإنه يموت آثمًا - والله أعلم، طبعًا الإثم أمره إلى الله - لأنه من باب إلقاء النفس في التهلكة. ولذلك من الخطأ ما عده كثير من الأصوليين، عدوا من أنواع الرخص، أي من نوع إباحة فعل المحرم (أكل الميتة) وهو في الحقيقة من العزائم لأنه في هذه الحال لا يوجد إلا حكم واحد وهو وجوب الأكل، فهو عزيمة. لكن لا بد أن نفرق بين هذه الحال وحال الامتناع عن العلاج، الامتناع عن العلاج لو غلب على الظن الشفاء به فترك المريض العلاج فمات فإنه يموت غير آثم - إن شاء الله - لأن العلاج والشفاء ليس يقينًا قاطعًا على سبيل الإطلاق. ولذلك لم يعتبره الفقهاء في هذه الحال منتحرًا.
ثانيًا: القضية الثانية قضية التداوي بالمحرم والنجس: الحقيقة أن الموافق لمقتضى القواعد الشرعية ومراعاة لأسلوب التطبيق في هذا العصر هو، قول الشافعية في جواز التداوي بالمحرم إذا تعين طريقًا للشفاء، يستدل لهذا بما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعرنيين بل أمرهم أن يتداووا بأبوال الإبل.(7/1640)
ثالثًا: القضية الأخرى وهي قضية - في تقديري - مهمة وتحتاج من المجمع إلى أن يدرسها بتفصيل وهي قضية أشار إليها الدكتور البار على طريقة الأسئلة، وهي ما يمكن أن نسميه بالتزاحم في أولوية العلاج، وهذا يحدث كثيرًا في حالات حوادث السيارات وما أشبهها. وذكر الدكتور سؤالًا يريد الجواب عنه وهو قضية الشيخ الكبير المصاب بأنواع من الشلل وجلطة في القلب ولم توجد أجهزة كافية للمحتاجين للعلاج. نقول - يعني - هنا تبعًا لاستحضارنا لبعض القواعد في هذه العجالة، إنه إذا كان الشيخ الكبير أو غيره تحت الأجهزة فهو أولى بالعلاج واستمراره، أما إذا لم يكن تحت العلاج وأحضر جمع من الأشخاص مرة واحدة، ولم يمكن تشخيص أحوالهم، فهنا تبعًا للقواعد إن كان بينهم رحم وعرف فتقدم الأم ثم الأب ثم الأبناء، وإن لم يكن بينهم رحم وأحضروا مرة واحدة فيقدم منهم الأسبق فالأسبق، لكن إن شخصت أحوالهم وغلب على الظن أن بعضهم ميؤوس منه فيقدم غير الميؤوس منه صغيرًا كان أو كبيرًا.
يمكن أن يبتنى هذا الاجتهاد السريع على عدة قضايا:
1- على أقوال الفقهاء في تقديم حق الأبوين على الزوج عند التعارض وذكروا هذا في حال مرض الأبوين أو أحدهما، ورفض الزوج فيقدم حق الأبوين.
2- يمكن أن يخرج أيضًا من وجه على تقديم المحافظة على حياة الأم، تقدم على الجنين إذا لم يمكن إخراجه حيًّا إلا بوفاتها لأن حياتها متيقنة وحياته متوهمة.
3- ممكن أن يخرج على قاعدة (يتحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد) .
4- ممكن أن يخرج - أيضًا - على قضية (يقدم اليقين على الظن) .
هذه بعض القضايا المهمة - في الحقيقة - والتي لم يسبق أن - كما أعلم - طرحت في مجمع الفقه، ربما أكثر القضايا المطروحة وكثير من الأسئلة سبق الإجابة عنها، ولذلك نقترح أن مثل هذه القضايا التفصيلية يستكتب بها الباحثون المتخصصون مرة ثانية وتعرض في دورة أخرى - والله أعلم -.
الشيخ محمد هشام برهاني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. وبعد:
الحقيقة هنا مداخلة بسيطة في هذا الموضوع تتعلق أولًا بمسألة العلاج الحرام. كل الصور التي سمعناها وذكرت في البحوث تناولت الواجب: المباح: المندوب: لكنها لم تتكلم عن العلاج الحرام، هناك عمليات جراحية تدخل في باب التجميل، جراحات التجميل التي يجريها كثير من الناس لبعض التشوهات أو لمجرد الزينة ولمجرد تغيير الخلق، فهنا يمكن أن يكون مباحًا ويمكن أن يكون مكروهًا ويمكن أن يكون حرامًا، هذا الجانب لم يغط في البحوث ولم تجر فيه مداخلة في هذه الجلسة.(7/1641)
هناك أمر آخر - أيضًا - أرى أنه لا بد أنه يذكر وهو حالة الضمان، حين يترتب على العلاج ضرر إما بسبب خطأ من الطبيب المعالج يقع في نفس المريض، أو بسبب تابع للمريض كالأم الحامل حين تتعاطى دواء فيؤثر على حملها وجنينها، فلا بد أن يذكر - أيضًا - هذا الأمر في جملة البحوث التي تدخل في هذا الموضوع، والله تعالى أعلم والحمد لله رب العالمين.
الشيخ عمر يوسف حمزة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحقيقة لا أريد أن أكرر ما ذكره من تحدث قبلي، وبخاصة في موضوع العلاج وحكم التداوي، لأنني أرى أن هذه المسألة قد شغلت حيزًا كبيرًا من وقت البحوث والمناقشات، ولكني أود أن أشير في هذه المسألة إلى أن حكم العلاج ينزل بحسب الأحوال المختلفة، والإخوة كثير منهم قال: إن العلاج واجب، وبعضهم قال: إن العلاج مباح، وهذا هو الأصل، الأصل في العلاج أنه مباح يعني يجوز الإقدام عليه ليس ممنوعًا منه، هذا في أصله، لكن تعتريه بعد ذلك أحكام معينة بحسب الأحوال، قد يكون مندوبًا وقد يكون واجبًا كما أشار إلى ذلك من سبقوني وبخاصة الأخ الدكتور عبد الستار أبو غدة، فمسألة العلاج لا ينبغي أن تكون مثار نقاش لأنها تنزل على أحوال مختلفة تأخذ في كل حال حكمًا معينًا، ثم مسألة الضرورات هذه ينبغي أن تقدر بقدرها وأن تضبط بحسب الحاجة التي تدعو إليها في مسألة التداوي بالأمور المحرمة عندما يتعين ذلك سببًا للعلاج.
فالموضوع الثاني الذي أريد أن أتحدث عنه بشكل مفصل نوعًا ما هو القضية التي أشار إليها الدكتور البار في مسألة علاج الحالات الميؤوس منها، وبخاصة عندما يصل هذا اليأس إلى درجة كبيرة كما في حالة موت الدماغ أو نحو ذلك.(7/1642)
الدكتور أثار قضية في رأيي أنها لم تحسم في مسألة ترك علاج من كانت هذه حاله، وعقب على ذلك الدكتور الصقال، والحقيقة أنني أثني على ما ذكره الدكتور الصقال وما عقب عليه وأيده أيضًا كلام الشيخ رأفت، لأن هذه المسألة تتعلق بمقاصد الشريعة في الحفاظ على الأنفس من ناحية، ومن جانب آخر - أيضًا - لها علاقة بالجوانب الخلقية وبالجوانب التي اهتمت بها الشريعة من تكريم بني آدم كما ذكر الله - تبارك وتعالى - في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} ، [الإسراء: 70] فإن من يطبق هذه الأمور، ومن ينظر في مسألة علاج الميؤوس منه من عدمه كما أشير إلى ذلك، وأن بعض الجهات تشكل لجنة للنظر في هذه الأمور، وبعض الجهات تتركها مفتوحة، هذه مسألة خطيرة في نظري، وأرى أن المجمع لا ينبغي أن يقول بحال من الأحوال بجواز هذه المسألة، ولا أن يجعلها محلًّا قابلًا للنظر، لأن من يطبقون هذه المسائل مختلفون، فيهم المتشدد وفيهم المتساهل، وفيهم صاحب الدين والخلق، وفيهم العاري من ذلك، والعياذ بالله، وفيهم المهتم وفيهم المتساهل، فإذا تركنا هذا الباب مفتوحًا على مصراعيه أفسدنا كثيرًا، وسنجد أن هناك حالات كثيرة يمكن أن تعالج، نجد أنها لسبب أو لآخر أو لأدنى ملابسة يترك علاجها، ونجد أيضًا في بعض الأحيان أن بني آدم يمتهنون لأقل الأسباب، قد يرى الممرض الذي ينقذ العلاج مثلًا أنه متعب أو منهك وأن هذا المريض الذي يقيم في المستشفى - مثلًا - قد أزعجهم وآذاهم وأنهم دائمًا في كل يوم يسهرون على راحته ويسهرون على علاجه، فقد يصل إلى ملل بسبب هذه الحال، وفيما لو فتحنا الباب فيترك علاجه، ومع اتساع مجال العلاج الطبي وكثرة المرضى وكثرة الطباء وكثرة الصيادلة وكثرة الممرضين، أخشى أننا نقع في مفسدة كبيرة، فلذلك نلتزم القول بعدم جواز ترك العلاج في مثل هذه الحالة حتى ينتهي هذا المريض إلى الموت الكلي الذي يعرفه الناس، وهو مفارقة الحياة ولهذا علامات ظاهرة، فأرجو أن نهتم بهذه القضية وألا نفتح الباب، ودرء المفاسد في الشريعة - كما يقولون - مقدم على جلب المصالح، وهذه قاعدة كلية. وقد جاء أيضًا في الحديث أن حرمة المسلم ميتًا كحرمته حيًا وكسر عظمه ميتًا ككسر عظمه حيًا، فلذلك لا ينبغي بحال من الأحوال أن نتساهل في مسألة علاج الميؤوس منه. هذه جوانب - ظاهرة عامة - لكن أريد - أيضًا - أن أضيف إليها ما أشار إليه كثير من الإخوة من أن الشفاء بيد الله - سبحانه وتعالى - وكثيرًا ما انتقلت حالات ميؤوس من علاجها إلى مرحلة الأمل، وخرج كثير من الناس من المراحل الحرجة الخطرة في العلاج بعد اليأس المطبق إلى مرحلة الأمل المشرق، وخرجوا من المستشفيات ونحن نعلم حوادث كثيرة في هذا، فلذلك لا ينبغي بحال من الأحوال فتح هذا الباب ولو لم نفتح الباب ولو لم نحصل من سده إلا على منع الفساد ودرئه، لكان هذا سببًا قويًّا يقتضي أن نقفل هذا الباب حتى لا يعم الفساد. وصلى الله على نبينا محمد.(7/1643)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يتبين من خلال المناقشات التي جرت في موضوع (العلاج الطبي) أنها على قسمين، قسم تناولته المناقشات بإفاضة أو باقتضاب، وهو حكم العلاج الطبي، والمريض الميؤوس منه، بحكم إخباره، وعلاج الرجل للمرأة، وعلاج المرأة للرجل، والعلاج بالمحرمات.
وقسم آخر وفيه قضايا مهمة جديدة وجديرة أن يعتني بها المجمع، كالطب التجميلي والتداوي بالروحيات، وحكم التداوي بالرقية من القرآن، أو من غير القرآن إلى غير ذلك من المسائل.
وقد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة من أصحاب الفضيلة المشائخ: الشيخ الخليلي، الشيخ عبد الستار، الشيخ عجيل، الشيخ حمزة، والطبيبان البار والصقال، وأن يأخذوا في الاعتبار هذين القالبين:
الأول: ما جرت فيه المناقشة فيستخلصوا ما يمكن الوصول إليه في القرار من خلال ما دار فيها.
والثاني: أن يجعلوا بيانًا في المسائل التي تعطى أولوية النقاش وإعداد البحوث فيها ومناقشتها في دورة أو في دورات لاحقة - إن شاء الله تعالى -.
هذا وإن ما ذكر من أن حكم العلاج فيه أقوال استغرقت أحكام التكليف الخمسة بين التحريم - وهذا قول لا اعتبار له - أو الكراهة أو الوجوب أو الندب أو الإباحة، قد يبدو في هذا وفي حكم إخبار الميؤوس أن هذا مما يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان ولكل حالة لبوسها وهذا مما يتقدر بقدره.
وبالنسبة للميؤوس منه فمعلوم أن الأطباء هم مجتهدون كغيرهم ممن يصدر الأحكام، وكالفلكيين الذين يصدرون الأخبار عن ولادة الشهر، والمجتهد معرض للخطأ والصواب، ولهذا طرق الفقهاء ضمان الطبيب على الخطأ، وكونت (لجان خطأ الأطباء) ومنها في المملكة لجنة قضائية في وزارة الصحة لخطأ الطبيب، وأذكر على سبيل المثال قضية مهمة كانت وقعت في إحدى الجهات، وهو أن طبيبًا قرر الأطباء فيه موت جذع المخ، من ثلاث لجان طبية متعاقبة على مستويات عالية، ثم بعد ذلك سأل الأطباء ورثته عن أن يأخذوا بعض أعضائه، فامتنعوا وأخذوا والدهم إلى بيتهم، وجلس قرابة شهر تحت علاجات بدون أجهزة إنعاش، ثم بعد ذلك شفاه الله - سبحانه وتعالى - وكنت على سبيل الصدفة دعيت إلى إلقاء محاضرة في زراعة الكلى - وبهذه المناسبة فاصلة بسيطة، لأنها كثيرًا ما دارت على ألسنة الإخوان: الكلية بضم الكاف وإن شئتم لضبطها هي كخصية، كلاهما بالضم - فقدر أن هذا المسؤول الكبير شفاه الله - سبحانه وتعالى - وأعرف أنه - خبري فيه من مدة عام - أنه لا يزال حيًّا سويًّا. فالطبيب كغيره هو مجتهد والأطباء - كما ذكر الشيخ حمزة - يختلفون في علمهم وفي أمانتهم إلى غير ذلك، فهذه الأمور ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار عندما يقرر رأي في هذا وأنهم كغيرهم ممن يجتهد في إصدار الأحكام من الأطباء والقضاة والمفتين إلى غيرهم ممن يصدرون الأحكام الاجتهادية. وبهذا ترفع الجلسة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1644)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 69/5/7
بشأن
العلاج الطبي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: ((العلاج الطبي)) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر:
أولًا - التداوي:
الأصل في حكم التداوي أنه مشروع، لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية والعملية، ولما فيه من ((حفظ النفس)) الذي هو أحد المقاصد الكلية من التشريع.
وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص:
- فيكون واجبًا على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية.
- ويكون مندوبًا إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى.
- ويكون مباحًا إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين.
- ويكون مكروهًا إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها.
ثانيًا - علاج الحالات الميؤوس منها:
(أ) مما تقتضيه عقيدة المسلم أن المرض والشفاء بيد الله عز وجل، وأن التداوي والعلاج أخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الكون وأنه لا يجوز اليأس من روح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء بإذن الله.
وعلى الأطباء وذوي المرضى تقوية معنويات المريض، والدأب في رعايته وتخفيف آلامه والنفسية والبدنية بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه.
(ب) إن ما يعتبر حالة ميؤوسًا من علاجها هو بحسب تقدير الأطباء وإمكانات الطب المتاحة في كل زمان ومكان وتبعًا لظروف المرضى.
ثالثًا - إذن المريض:
(أ) يشترط إذن المريض للعلاج إذا كان تام الأهلية، فإذا كان عديم الأهلية أو ناقصها اعتبر إذن وليه حسب ترتيب الولاية الشرعية ووفقًا لأحكامها التي تحصر تصرف الولي فيما فيه منفعة المولى عليه ومصلحته ورفع الأذى عنه.
على أنه لا يعتبر بتصرف الولي في عدم الإذن إذا كان واضح الضرر بالمولى عليه، وينتقل الحق إلى غيره من الأولياء ثم إلى ولي الأمر.(7/1645)
(ب) لولي الأمر الإلزام بالتداوي في بعض الأحوال، كالأمراض المعدية والتحصينات الوقائية.
(ج) في حالات الإسعاف التي تتعرض فيها حياة المصاب للخطر لا يتوقف العلاج على الإذن.
(د) لا بد في إجراء الأبحاث الطبية من موافقة الشخص التام الأهلية بصورة خالية من شائبة الإكراه (كالمساجين) أو الإغراء المادي (كالمساكين) . ويجب أن لا يترتب على إجراء تلك الأبحاث ضرر.
ولا يجوز إجراء الأبحاث الطبية على عديمي الأهلية أو ناقصيها ولو بموافقة الأولياء.
والله أعلم.
ويوصي مجلس المجمع:
الأمانة العامة للجميع بالاستكتاب في الموضوعات الطبية التالية لطرحها على دورات المجمع القادمة:
- العلاج بالمحرمات وبالنجس، وضوابط استعمال الأدوية.
- العلاج التجميلي.
- ضمان الطبيب.
- معالجة الرجل للمرأة، وعكسه، ومعالجة غير المسلمين للمسلمين.
- العلاج بالرقي (العلاج الروحي) .
- أخلاقيات الطبيب (مع توزيعها على أكثر من دورة إن اقتضى الأمر) .
- التزاحم في العلاج وترتيب الأولية فيه.
- بحث أنواع من المرض تنتهي غالبًا بعجز الأطباء أو ترددهم في العلاج، وأمثلة ذلك:
* شخص قد استشرى السرطان في جسمه فهل تتم معالجته أم يكتفى بالمسكنات والمهدئات فقط؟(7/1646)
* طفل مصاب باستسقاء كبير في الدماغ (موت الدماغ) مصحوب بأنواع من الشلل والدماغ قد ضمر (لا تزال مناطق من الدماغ تعمل) ، فهل تجري لمثل هذا الطفل العملية؟ وهل إذا أصيب هذا الطفل بالتهاب في الزائدة أو التهاب رئوي يتم علاجه أم يترك؟
* شيخ هرم قد أصيب بجلطة بالقلب ومصاب بنوع من الشلل ثم أصيب بفشل كلوي فهل تتم معالجة الفشل الكلوي بالديلزة (الإنقاذ) ؟ وهل إذا توقف قلبه فجأة تتم محاولة إسعافه أم يترك؟ وهل إذا أصيب بالتهاب رئوي يتم علاجه أم يترك؟
* الشخص الذي أصيب دماغه بإصابات بالغة ومع هذا لا تزال بقية من الدماغ تعمل (لم يدخل في تعريف موت الدماغ) وهو فاقد للوعي ولا أمل في تحسن حالته، فهل إذا أصيب مثل هذا الشخص بتوقف في قلبه يتم إسعافه أم يترك؟ وهل إذا أصيب بالتهاب رئوي يعالج؟ ومن هو الذي يقرر التوقف عن العلاج في مثل هذه الحالات أهي لجنة من الأطباء؟ أم لجنة أخلاقية أم الأطباء مع الأهل؟
- بيان موقف الشريعة والسنة من هذه الأحوال والأنواع.
والله ولي التوفيق.(7/1647)
الحقوق الدولية في الإسلام
إعداد
فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
أحكام الحرب والأسرى في الإسلام
بين الرحمة والمصلحة
مقدمة:
الإسلام دين واقعي، بالمعنى الإيجابي للواقعية، ذلك أنها قد تعني التسليم الكامل للواقع، والرضوخ لمقتضياته دونما فاعلية، وهذا معنى سلبي.
وقد تعني الاعتراف بالواقع، وأخذه بعين الاعتبار، مع الطموح للارتفاع به إلى المثل الأعلى، وهو ما كنا نعنيه عندما أطلقنا هذه الصفة على الإسلام.
بل يمكننا أن ندعي ـ بكل اطمئنان ـ أن هذه الصفة هي أعم الصفات التي يتصف بها الإسلام، وربما كانت باقي الصفات مظاهر لها: كالشمولية والإيجابية، والخلود، والمرونة، والترابط، وغير ذلك.
بل هي تعبير آخر عن فطرية الإسلام بمعنى أنه جاء منسجمًا ـ تمامًا ـ مع إمكانات الفطرة وأهدافها، عاملًا على إثارة دفائنها وطاقاتها، وهدايتها ـ على أفضل سبيل ـ لأفضل الأهداف الممكنة.
ولسنا نحاول ـ هنا ـ شرح أبعاد هذه الصفة، بقدر ما نريد أن ننفذ من خلالها إلى تجلي هذه الصفة، في التخطيط التشريعي الإسلامي للحياة، فأنت تجد هذه الصفة في كل نظام، سواء في المجال الحقوقي، أو الاقتصادي أو المجال السياسي، أو المجال المعرفي، أو أي مجال آخر.(7/1648)
ومن مظاهر الواقعية والمرونة الإسلامية؛ أنها عالجت الجانب المتأثر بمتغيرات الحياة علاجًا مرنًا إلى حد كبير.
(ومن الجدير بالذكر أننا نفرق ـ تمامًا ـ بين المرونة والميوعة، فإن هذه ـ أي الميوعة ـ تعني تقريبًا عدم وجود أي نظام يوضح المعالم. في حين أن المرونة تعني وجود نظم مركزية وأضواء هادية. إلا أن هذه النظم لها القابلية المناسبة على الامتداد والتقلص، بمقتضى مقتضيات الواقع والمثل التي يجب أن يسمو إليها) .
ونحن نعتبر أن كل الموارد التي يتم تسليم الأمر فيها إلى (ولي الأمر الشرعي) إنما هي من هذا القبيل. فعندما يتم إيكال أمر تنظيم التوازن الاقتصادي إلى وليّ الأمر، وعندما تتم إيكال بعض العقوبات إلى ولاة الأمر، وعندما يوكل أمر المباحثات ـ عمومًا ـ إلى ولي الأمر لينطلق فيها من منطلق المصالح الإسلامية العليا؛ فإن ذلك يقوم ـ أساسًا ـ على هذا المبنى الواقعي.
وإذا أردنا أن نركز على مثال هو من صميم موضوعنا، أمكننا ملاحظة موضوع (الرق وموقف الإسلام منه) لنكتشف هذه المرونة وضروراتها، بشكل واضح، وسنجد في هذا أن الإسلام راعى التوازن المطلوب بين (الرحمة) وهي النزعة الإنسانية الأصلية، و (المصلحة) وهي ما يحقق المثل التي يطمح إليها الإسلام، ويحافظ على عنصر تحقيقها، من قبيل السلطة الإسلامية، ووجود الأمة الإسلامية، وهيبة القانون الإسلامي.(7/1649)
الموقف من قضية الرق:
كان الاستعباد سنة عالمية تعمل بها البشرية كلها، وتقرها كل المبادئ والأديان السائدة، بما فيها المسيحية واليهودية.
وكان العبيد يشكلون العصب الحساس للمجتمع، وطبقة لها نفوذ لا بأس به في المجالات الحيوية، وكانت الطرق التي يتكون منها أفراد هذه الطبقة كثيرة، أهمها ما يلي:
1 ـ استرقاق العدو المحارب ومن ثم الأولاد.
2 ـ استرقاق الولي الظالم لمن هم تحت ولايته، ومثله استرقاق كل متغلب على من هم تحت سيطرته.
3 ـ تبعية الطفل للأم الرقيقة ولو كان الأب حرًّا.
4 ـ الهروب من الجيش والامتناع عن دفع الضرائب.
5 ـ الأشخاص الذين يعملون ضد الدولة، ويهربون إلى دولة أخرى فتسلمهم لدولهم.
6 ـ ارتكاب جرائم القتل.
7 ـ الغش في المعاملة.
8 ـ الفقر الذي يدعو الإنسان لبيع نفسه.
هذه بعض أسباب الرق:
وجاء الإسلام، ونظر إلى الأمر نظرة واقعية غير متسرعة، واستهدف أن يحقق الحرية ويلغي نظام الرق ـ كما يبدو من تصرفاته طبعًا - مع عدم الإخلال بالنظام الاجتماعي المرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعبيد ـ أولًا ـ وعدم الإخلال بالقانون العسكري الذي كان يقوم على استرقاق الطرف الآخر ـ ثانيًا ـ وهكذا نظر للأمر نظرة واقعية.(7/1650)
أما الأمور التي اتبعها الإسلام من أجل المعالجة الواقعية لهذه الظاهرة فهي:
أولًا: ـ انفتاح طريق التكامل المعنوي للجميع على حد سواء:
وهذه الفكرة إسلامية واضحة، وضحتها الآية القرآنية الشريفة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .
فالتقوى هي تقدير السمو والمنزلة في الإسلام، والعمل الصالح يؤثر في رفع درجات الإنسان، أيًّا كان لونه ومقامه وجنسه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] .
ولقد رأينا أن المجتمع الإسلامي قدر أشخاصًا كانوا عبيدًا، وجعلهم قادة، واقتدى بالكثير من سلوكهم وحكمهم. وبتعبير مختصر، فقد أمات الإسلام تلك النظرة السخيفة إلى العبد كمخلوق حقير، وكحيوان لا أكثر، بعد أن كانت شائعة بين الناس، وركز على أن لا فضل لأبيضكم على أسودكم، كما لا فضل لعربي على عجمي.
ثانيًا ـ الدعوة إلى جعل الخول كالإخوان، والمعاملة الحسنة:
فقد ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله:
((إخوانكم خولكم)) (1)
وهو تعبير جميل عن الأخوة الإسلامية، وأسلوب المعاملة التي يجب أن يتبعها الناس تجاه العبيد، ولا يترفعوا عليهم، وقد جاءت بعض الروايات التي تبين حسن الاستيعاب من العبد، وأن المال المعطى ـ في قبال ذلك ـ يجب أن يبقى في ملكه.
ففي الخبر عن الصادق (ع) كما رواه الصدوق عن إسحاق بن عمار:
" قلت لأبي عبد الله (ع) : ما تقول في رجل يهب لعبده ألف درهم أو أقل أو أكثر، فيقول: حللني من ضربي إياك من كل ما كان مني إليك. . . ثم إن المولى بعد أن أصاب الدراهم التي أعطاه في موضع قد وضعها فيه العبد فأخذها المولى، أحلال هي؟ فقال (ع) : لا، فقلت له: أليس العبد وماله لمولاه؟ فقال (ع) : ليس هذا ذاك، ثم قال (ع) : قل له فليردها عليه، فإنه لا يحل له، فإنه افتدى بها نفسه من العبد مخافة العقوبة والقصاص يوم القيامة". (2)
والكتب التاريخية طافحة بما كان يعامل به القادة عبيدهم، فقد روى الكليني في (الكافي) عن رجل من أهل بلخ قال: (كنت مع الرضا (ع) في سفره إلى خرسان فدعا يومًا بمائدة له فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت له: جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: "مه إن الرب ـ تبارك وتعالى ـ واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال") . (3) .
وقال نادر الخادم: كان أبو الحسن (ع) إذا أكل أحدنا لا يستخدمه حتى يفرغ من طعامه. (4) .
__________
(1) نهج الفصاحة: ص 20، ح 113
(2) وسائل الشيعة: 13/ 35، 36
(3) البحار: 49/ 101
(4) البحار: 49/ 102(7/1651)
ثالثًا ـ إغلاق كل المنافذ إلا منفذ الحرب بشروط معينة:
فقد رأينا أن العبيد كانوا يكثرون عن طرق عديدة، ولكن الإسلام أغلق كل الطرق إلا طريق الحرب. فالأسير في الغنيمة يقبل تطبيق أحد الأحكام التالية: إما العفو، وإما الإطلاق بفدية، وإما الاسترقاق، ولا معنى للاعتراض على الاسترقاق إذا عرفنا الحقائق التالية:
1 ـ إن ولي الأمر مسؤول عن تطبيق أفضل الحالات على الأسير، وأرفقها بالمصلحة العامة، كما صرح بذلك الفاضل والشهيد الثاني وغيرهما.
2 ـ إن الحرب في سبيل حمل الدعوة إلى بلاد الكفر لم يسمح بها الإسلام سماحًا عامًّا، وإنما سمح بها في ظرف وجود قائد عادل واشترط البعض العصمة. (1) .
3 ـ إن العدو ـ آنذاك ـ كان يتبع هذه الطريقة نفسها مع المسلمين فلا اعتراض أو نقد في معاملته بالمثل.
4 ـ إن البديل عن الاسترقاق ـ في حالة لزومه ـ ليس إلا القتل أو السجن. والأول لا نتصور من يفضله على حياة الرق على الشكل الإسلامي، كما لا نتصور أن الإسلام يهدر دم الإنسان هكذا بمجرد وجود بارقة من الأمل في نجاته.
أما السجين فيعني إهدار الكثير من الطاقات التي يتمتع بها الأسرى، بل وصرف الكثير من الأموال في سبيل الحفاظ على مثل هذه الطاقات المهدورة.
أما والمجتمع حاضر لأن يتكفل بهذه المهمة فإن الاسترقاق سيبقى هو الطريقة الأنجح في علاج هؤلاء، لضمان مراقبتهم أولًا، وللاستفادة من طاقاتهم الاجتماعية ثانيًا، ولكي يختلطوا مع المجتمع المسلم، فيتشبعوا شيئًا فشيئًا بالتعاليم الإسلامية، مما يمهد لهم طريق الهداية، وعلى أي حال فقد كانت هناك ضرورة لهذا المنبع ولذلك المقدار من العبيد.
__________
(1) اقتصادنا: ص 275، 276(7/1652)
رابعًا ـ التصرف الواسع للعبيد والتحرير السريع لهم:
وفي قبال هذا الباب فتح الإسلام الأبواب على مصراعيها للتحرير.
التحرير المستحب:
وقد جعل الإسلام هذا من أعظم المستحبات، فتحرير رقبة يعني رفعًا للعقبة في طريق الجنة، وما أكثر الروايات الواردة في هذا السبيل، ونحن نذكر بعضها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((من أعتق مسلمًا أعتق الله العزيز الجبار بكل عضو منه عضوًا من النار)) (1) .
وفي الخبر الصحيح الذي رواه الشيخ عن الإمام الصادق (ع) أنه قال في الرجل يعتق المملوك:
"يعتق الله ـ عز وجل ـ بكل عضو منه عضوًا من النار". (2) .
وفي خبر آخر عن الصادق (ع) :
"ولقد أعتق علي (ع) ألف مملوك لوجه الله ـ عز وجل ـ دبرت فيهم يداه". (3)
والأخبار كثيرة في شراء العبيد وإعتاقهم.
وقد جعلت بعض الروايات لتأكد استحباب العتق أوقاتًا خاصة.
ففي الخبر الصحيح عن الصادق (ع) : (يستحب للرجل أن يتقرب إلى الله عشية عرفة ويوم عرفة بالعتق والصدقة) . (4)
كما يستحب عتق العبد إن خدم سبع سنين، ويستحب إعطاؤه ما يكتسب به. (5)
التحرير الواجب:
فلم يكتف الإسلام بالدعوة إلى تحرير العبيد، وخصوصًا الذين اعتنقوا المبدأ الإسلامي، وأصبحوا من المؤمنين.
فقد روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال:
((من أعتق رقبة مؤمنة كان له بكل عضو فكاك عضو منه من النار)) . (6)
لم يكتف الإسلام بذلك، وإنما أدخل ذلك في صميم النظام، كواجب يترتب على الإنسان أن يقوم به في ظروف خاصة، وهذه بعض المنافذ التي فتحها الإسلام للتحرير، وهي:
1 ـ عتق الكفارة: فقد ورد لزوم تحرير العبد في الموارد التالية: الظهار والإيلاء (أي الحلف على عدم وطء الزوجة الدائمة أبدًا، أو أكثر من أربعة أشهر) ، والإفطار، وخلف النذر، والعهد، واليمين، والجزع المحرم في المصاب، والقتل.
2 ـ عتق المرضى: لحالات الإقعاد، العمى، والجذام، قال الصادق (ع) : "إذا عمي المملوك فقد عتق". (7)
3 ـ عتق الاستيلاد: فإن أم الولد تتحرر بموت المولى ولا يجوز له بيعها.
4 ـ عتق السراية: فلو عتق بعضه سرى العتق إلى الكل.
5 ـ إسلام المملوك في دار الحرب قبل مولاه.
6 ـ عتق التنكيل.
7 ـ العتق لتملك الذكر أحد العمودين أو المحارم من النساء.
8 ـ العتق لتملك الأنثى أحد العمودين.
9 ـ تبعية أشرف الأبوين.
10 ـ عتق التدبير: وهو تعليق عتق بعض عبده أو كله بوفاته.
11 ـ عتق المكاتبة: المشروط والمطلقة.
12 ـ وهناك قوانين أخرى لشراء العبيد وإعتاقهم. فالزكاة يشترى بها الأرقاء وهو قوله عز وجل: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] وغير ذلك.
__________
(1) وسائل الشيعة: 16 /3
(2) ن. م: ص 3
(3) ن. م: ص 3
(4) ن. م: ص 5
(5) ن. م: ص 36
(6) ن. م: ص 4
(7) الكافي: 6/ 189(7/1653)
التوازن بين الرحمة والمصلحة:
الإسلام دين التوازن الحكيم (1) في مختلف المجالات، ولكننا نستطيع القول ـ كما أسلفنا ـ بأن التوازن بين (الواقع) و (المثال) هو من أشملها جميعًا.
و (الواقع) في موضوعنا يتمثل في توفير كل المظاهر الإنسانية، والحقوق البشرية، من (الكرامة، والحرية، والحياة المستقلة) لا بل يتجاوز ذلك إلى مجالات الإيثار واللطف العميم. إلا أن (المثال) ـ هنا ـ يتطلب تحقيق المصلحة الإسلامية العليا، لكي نضمن للمنطلق الإسلامي وجوده القوي المتكامل الفاعل، على طريق تغيير الحياة الإنسانية كلها إلى حياة عابدة، مخلصة، تعبد ربها لا تشرك به شيئًا، آمنة مطمئنة، ويعني ذلك أن تقتلع كل الأشواك، وتحذف كل العقبات، وتصادر كل الموانع التي تقف عثرة أمام تحقق هذا الهدف الكبير.
وأين يتم التعارض بين هذا الواقع، الذي نعبر عنه فيما يلي بـ (الرحمة) ، وهذا المثال الذي نعبر عنه بـ (المصلحة) ؟
إنه يتم عندما يدفع الجهل، والتعصب، والطاغوت؛ أناسًا لمحاربة النبتة الإسلامية، والمسيرة الصاعدة، للقضاء عليها، ومصادرة الأمل الكبير، ربما دون وعي لما يفعلون، ويحدق الخطر بالوجود، وبالتالي يحدق الخطر بالمثال كله، أمام واقع مرير، جاهل طاغ، فماذا العمل؟
هنا ندعي أن الإسلام ـ رغم اهتمامه الكبير بـ (المصلحة) ـ لم ينس مطلقًا الواقع الإنساني، والحقوق البشرية (الرحمة) ، وإنما حاول ـ بكل ما في وسعه ـ أن يحقق التوازن بينهما، وإن كان الأهم هو المقدم بلا ريب، وهذا هو حكم منطق الوجدان.
والآن:
لنعد إلى أحكام الحرب والأسرى لنجد تطبيق هذا التوازن: التطبيق الذي لم تشهد البشرية له من سابقة، وحتى إنها لم تستطع أن تصل إليه في عصورنا الحاضرة التي تدعي التمدن.
__________
(1) راجع الكتاب (التوازن في الإسلام) للمؤلف، لملاحظة معنى التوازن، وضرورة قيد الحكمة فيه.(7/1654)
وهذا ما يمكن أن نلحظه في كثير من أحكامه ونصوصه، ونحن نقتطف منها ما يلي كأمثلة فقط على ما نقوله:
1 ـ التعليمات الحربية المسبقة:
فقد كانت عادة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقادة المسلمين أنهم إذا بعثوا سرية أو كتيبة حربية خصوها بالتعليمات اللازمة. فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا بعث سرية دعا أميرها فأجلسه إلى جنبه، وأجلس أصحابه بين يديه ثم قال:
(سيروا باسم الله، وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا صبيًّا ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرًا إلا أن تضطروا إليها، وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا بالله عليه) (1) .
وكان أمير المؤمنين علي (ع) يوصي أصحابه إذا صافوا العدو قائلًا:
"عباد الله! اتقوا الله، وغضوا الأبصار، وأخفضوا الأصوات، وأقلوا الكلام؛ ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة، والمبارزة والمنابذة، والمعانقة والمكارمة، وأنيبوا إلى ربكم، واذكروا الله لعكم تفلحون.
إن الله ـ تعالى ـ دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، وتسعى بكم إلى الخير، الإيمان بالله والجهاد في سبيله، وجعل ثوابه مغفرة الذنب، ومساكن طيبة في جنات عدن: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} فسووا صفوفكم كالبنيان، وقدموا الدرّاع، وأخروا الحاسر، وعضوا على النواجذ، فإنه أنبى للسيوف، والتووا على أطراف الرماح، فإنه أمرأ للأسنة، وغضوا الأبصار، فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات؛ فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، ولا تميلوا براياتكم، ولا تجعلوها إلا مع شجعانكم، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا سترًا، ولا تكشفوا عورة، ولا تدخلوا دارًا، ولا تأخذوا شيئًا من أموالهم، إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس والعقول.
رحم الله امرءًا واسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه، فيكتسب بذلك اللائمة، ويأتي بدناءة. . ." (2) .
__________
(1) انظر تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي: 6/ 139؛ والكافي للكليني: 5/ 27، ومحاسن البرقي: ص 455؛ وكنز العمال: 4/ 233 ـ 304؛ والكافي لأبي الصلاح: ص 36؛ ونيل الأوطار للشوكاني: 8 /72 و74
(2) الكافي في الفقه، لأبي الصلاح الحلبي، فصل في سيرة الجهاد(7/1655)
2 ـ الدعوى والتوعية أولًا، وعدم الهجوم المباغت دونما تثبت:
ـ كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر بانتظار المجموعات التي يحاربها، فإذا سمع الأذان منها امتنع، وإلا حمل عليها.
وكان يحمل عند صلاة الصبح، ليعرف هل يصلونها أم لا، وإذا حاصر انتظر حتى الصباح. (1)
ـ وقال علي (ع) :
(( ((بعثني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى اليمن فقال: يا علي! لا تقاتلن أحدًا حتى تدعوه إلى الإسلام، وايم الله، لأن يهدي الله ـ عز وجل ـ على يديك رجلًا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي)) .)) (2)
ـ وقد روي أن عليًّا (ع) كان يقول في كل موطن يتم فيه لقاء العدو:
"لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرًا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل" (3)
وهذا وقد تضافرت الروايات التي تؤكد هذه الحقيقة (4) . وقد جيء لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببعض الأسرى، وعلم إنهم أسروا قبل الدعوة فأمر بإطلاق سراحهم (5) .
كما أن كتب الفقه كلها ـ تقريبًا ـ تشير إلى ضرورة الدعوة والتوعية والانتظار حتى تتم الحجة، نذكر مثلًا:
ـ قول الحلبي في (الكافي) :
"ولا تبدأ العدو بالحرب بعد الإعذار، حتى يكونوا هم الذين يبدؤون به، لتحق الحجة، ويتقلدوا البغي" (6) .
ـ ويقول الشيخ الطوسي في (النهاية) :
"ولا يجوز قتال أحد من الكفار، إلا بعد دعائهم إلى الإسلام، وإظهار الشهادتين، والإقرار بالتوحيد والعدل، والتزام جميع شرائع الإسلام، فمتى دُعوا إلى ذلك فلم يجيبوا حل قتالهم، ومتى لم يُدعوا لم يجز قتالهم، والداعي يجب أن يكون الإمام أو من يأمره الإمام". (7)
ـ ويقول الصهرشتي في (إصباح الشريعة) :
"وكيفيته: أن يؤخر لقاء العدو، إلى أن تزول الشمس وتصلى الصلاتان، وأن يقدم قبل الحرب الإعذار والإنذار، والاجتهاد وفي الدعاء إلى الحق، وأن يمسك عن الحرب ـ بعد ذلك ـ حتى يبدأ بها العدو، لتحق الحجة عليه ويتقلد بذلك البغي". (8)
ـ ويقول القاضي الطرابلسي في (المهذب) :
"ومن لم تبلغه الدعوة فلا يجوز له قتاله، إلا بعد الإنذار والتعريف بما تتضمنه الدعوة". (9)
ـ ويقول الرواندي في (فقه القرآن) :
"وإذا قوتل البغاة فلا يبتدؤون بالقتال، إلا بعد أن يُدعوا إلى ما ينكرون من أركان الإسلام" (10) .
ـ ويقول حمزة بن علي الحلبي في (غنيمة النزوع) :
"وأن يقدم قبل الحرب الإعذار والإنذار والاجتهاد في الدعاء إلى الحق" (11) .
ولا نستطيع أن نستقصي الآراء، فالإجماع قائم على ذلك، وهي صفة حميدة تجعل الطرفين على بينة، وتتم الحجة والمنطقية في البين، وعلى هذا الأساس منعوا من التبييت (وهو الهجوم ليلًا) ولما فيه من فزع.
__________
(1) سنن الدارمي: 2/ 217؛ والسنن الكبرى: 9/ 108، ونيل الأوطار: 8/ 69
(2) وسائل الشيعة: 11/ 30
(3) الوسائل: 11/ 69
(4) يراجع مثلًا: مصابيح السنة: 2/ 149؛ ومسند ابن أبي شيبة: 14/ 264، والسنن الكبرى: 8/ 179
(5) البداية والنهاية: 4/ 315، وكنز العمال: 4/ 271
(6) الينابيع الفقهية: نقلًا عنه: ص 36
(7) ن. م: ص 51
(8) ن. م: ص 71
(9) ن. م: ص 91
(10) ن. م: ص 143
(11) ن. م: ص 159(7/1656)
3 ـ وسائل الحرب وأساليبها:
ويختار من بين هذه الوسائل والأساليب ما يحقق الغرض، ويتجنب إصابة الأبرياء والضعفاء ـ مهما أمكن ـ.
فقد جاء المنع عن استعمال المواد الكيميائية السامة، إلى حد يتصور معه المرء أنها ممنوعة مطلقًا، أي حتى في حالات الاضطرار، وحينئذ فإذا أضيفت لها معاهدات دولية تمنع منها على أي حال فإن المنع سوف يكون أشد وأقوى.
ـ عن الصادق (ع) عن الباقر (ع) عن علي (ع) :
((أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى أن يلقى السم في بلاد المشركين)) (1) .
وهكذا نهى الفقهاء عن اللجوء إلى وسائل من قبيل: الغارة، وفتح الماء لإغراق العدو، ما دامت هناك وسائل أخرى:
ـ يقول الشيخ الطوسي في (النهاية) :
"ويجوز قتال الكفار بسائر أنواع القتل وأسبابه، إلا السم؛ فإنه لا يجوز أن يلقى في بلادهم السم، ومتى استعصى على المسلمين موضع منهم كان لهم أن يرموهم بالمنجنيق والنيران، وغير ذلك مما يكون فيه فتح لهم" (2) .
ـ ويقول ابن أبي المجد الحلبي في (إشارة السبق) :
"وكل ما يرجى به فتح يجوز قتال الأعداء به إلا إلقاء السم في ديارهم" (3) .
ـ ويقول ابن إدريس في (السرائر) :
"ويجوز قتال الكفار بسائر أنواع القتل، إلا تغريق المساكن، ورميهم بالنيران، وإلقاء السم في بلادهم؛ فإنه لا يجوز أن يلقى في بلادهم السم" (4) .
والنصوص في هذا الباب كثيرة:
وربما منعوا ـ على هذا الأساس ـ من التبييت، وهو الغارة الليلية:
ـ يقول ابن البراج:
"وإذا كان المسلمون مستظهرين على المشركين كره تبييتهم ليلًا والإغارة عليهم" (5) .
ـ ويقول ابن إدريس في (السرائر) :
"وروى أصحابنا كراهية تبييت العدو حتى يصبح" (6) .
ـ ويقول العلامة الحلبي في القواعد:
"ويكره التبييت والقتال قبل الزوال لغير حاجة" (7) .
وهناك نصوص أخرى تنهى عن مثل هذه الأساليب:
فعن أبي هريرة أنه قال:
((بعثنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعث فقال: إن وجدتم فلانًا وفلانًا فأحرقوهما بالنار. ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أردنا الخروج: إني أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما)) (8) .
بل روي أن إحراق جسد الحيوان غير جائز:
ففي حديث المناهي:
((ونهى ـ أي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يحرق شيء من الحيوان بالنار)) (9) .
__________
(1) جامع الأحاديث: 38/ 153، نقلًا عن الكافي؛ والتهذيب: 6/143، والجعفريات: ص 88
(2) ن. م: ص 51
(3) ن. م: ص 186
(4) ن. م: ص 168
(5) الينابيع الفقهية: ص 143
(6) ن. م: ص 168
(7) ن. م ص 247
(8) صحيح البخاري: 4/ 75؛ والسنن الكبرى: 9/ 71؛ وسنن سعيد بن منصور: 2/ 243
(9) وسائل الشيعة12/ 220(7/1657)
ـ وذكر ابن قدامة في (المغني) ما يدل على منع إحراق العدو بالنار بعد النصر، بل وقبل النصر، إن كانت هناك وسيلة أخرى؛ لأنها قد تحرق النساء والأطفال (1) .
ومما منعت منه النصوص، وتابعها الفقهاء؛ مسألة (التخريب) وقد ذكرنا بعض النصوص فيما يخص ذلك:
ـ يقول أبو الصلاح الحلبي في (الكافي) :
"ولا يجوز قتل الشيخ الفاني، إلا أن يكون من أهل الرأي كدريد بن الصمة، ولا المرأة، ولا الصبي، ولا المريض المدنف، ولا الزَمِن، ولا الأعمى، ولا المؤوف العقل، ولا المتبتل في شاهق؛ إلا أن يُقاتِلوا فيحل قتلهم. . ولا يجوز حرق الزرع، ولا قطع شجرة الثمر، ولا قتل البهائم، ولا خراب المنازل، ولا التهتك بالقتلى" (2) .
كل هذا مع الإمكان ـ طبعًا ـ وإذا توقف الفتح على ذلك فللضرورات أحكامها ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ.
وكما رأينا، فإن قتل الضعفاء ـ ومنهم النساء ـ منهي عنه، بل حتى لو قاتلن فإنه يمسك عنهن، ما لم يحدث خلل.
فقد روي عن الإمام الصادق قوله في رواية:
((أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن قتل النساء الولدان في دار الحرب، إلا أن يقاتلن، وإن قاتلت ـ أيضًا ـ فأمسك عنها ما أمكنك ولم تَخَفْ خللًا)) (3) .
وقد استثنى الفقهاء ـ على خلاف كثير ـ من ذلك:
ـ ما لو أقدمت امرأة على قتل مسلم.
ـ ما لو اشتركن في الحرب وأعن على المسلمين.
وربما أفتى بعض العلماء بعدم جواز القتل مطلقًا، بل حرم المنجنيق لأن فيه ذلك (4) .
ـ يقول الشيخ الطوسي في (النهاية) :
"ولا يجوز قتال النساء، فإن قاتلن المسلمين، وعاون أزواجهن ورجالهن أمسك عنهن، فإن اضطروا إلى قتلهن جاز حينئذ قتلهن، ولم يكن به بأس" (5) .
ـ ويقول العلامة الحلي في (القواعد) :
"لا يجوز قتل المجانين، ولا الصبيان، ولا النساء منهم، وإن أعن إلا مع الحاجة" (6) .
__________
(1) المغني، لابن قدامة: 10 /211
(2) الينابيع الفقهية: ص 37
(3) تهذيب الأحكام: 6/ 156
(4) أحكام الأسرى في الإسلام، مخطوط للعلامة الأحمدي
(5) الينابيع الفقهية: ص 51
(6) ن. م: ص 247(7/1658)
4 ـ أحكام الأسرى وحقوقهم:
وهو باب واسع الأبعاد، إلا أننا نختار منه بعض اللقطات، بما يحقق لنا الغرض من هذا البحث، ونركز على الجوانب التالية:
(أ) الموارد التي يجوز فيها التأسير.
(ب) كيفية الاستئسار.
(ج) إطلاق سراح الأسرى.
(د) حقوق الأسرى.
(أ) الموارد التي يجوز فيها الاستئسار:
ويذكر فيها الفقهاء ـ عادة نوعين من المحاربين: الكافرين، والبغاة.
الكافرون:
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 67 ـ 69] .
ويقول تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] .
والآيتان واضحتان في حكم واقعي هو التفريق بين حالتين:
الحالة الأولى: فيما لو لم يتم الإثخان والتمكن في الأرض فإنه تقتضي المصلحة؛ القضاء على كل عنصر يمكنه أن يقلب الموازين لصالح العدو، ولا معنى ـ حينئذ ـ للتأسير، وإذا كانت الآية الكريمة تلوم المسلمين على تأسير بعض الكفار في هذه الحالة فهي تشير إلى المصلحة الآنفة، والتي لا يعدلها رجاء الفدية التي تتوقع بعد الأسر، وهي عرض دنيوي لا قيمة له في قبال النصر.
الحالة الثانية: وهي ما لو تم التمكن، وبدرت بوادر النصر، (حتى قبل انتهاء الحرب) فحينئذ يجوز الأسر بشد الوثاق، لئلا يهربوا. وحينئذ يختلف الفقهاء في موضوع الأسير بعد أسره والحرب قائمة فيرجح بعضهم أن الإمام مخير فيهم بين الفداء أو المن فقط، في حين يجيز بعضهم الآخر له القتل ـ أيضًا ـ إذا رأى المصلحة في ذلك، استنادًا للآيات الآمرة بقتل المشركين. (1) .
والحقيقة؛ أن الأمر في ذلك يتبع الخطر المحدق بالجيش الإسلامي، وليس هناك ما يمنع من قتله إذا كان فيه الخطر على المسلمين.
أما إذا تم الأسر بعد الحرب (فإن الإمام مخير في المن عليه، أو أخذ الفداء، أو الاستفادة من عمله. ولا يجوز ـ في هذه الحالة ـ قتل الأسير) (2) .
وفي الرواية عن الصادق (ع) :
"كان أبي يقول:. . . إذا وضعت الحرب أوزارها، وأثخن أهلها، فكل أسير أُخذ على تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار؛ إن شاء مَنَّ عليهم، وإن شاء فاداهم بأنفسهم، وإن استعبدهم فصاروا عبيد" (3) .
__________
(1) تراجع الكتب التالية:التذكرة: 1/ 425، والمنتهى: ص 927؛ والميزان: 18/ 242؛ومسالك الأفهام: 2/ 335؛ وكنز العرفان: 1 /365؛ وأحكام القرآن، للجصاص: 5/ 524، والتبيان في تفسير القرآن: 1/ 291
(2) يراجع: المبسوط: 2 /12 ـ 20؛ والتذكرة: 1/ 424؛والنهاية: ص 53؛ والجمل والعقود: 5/ 62؛ والإصباح: ص 73؛ والمهذب: ص 100؛ والسرائر: ص 171؛ وإشارة السبق: ص 187؛ والشرائع: ص 207؛ والمختصر النافع: ص 228؛ والجامع لابن سعيد: ص 236؛ والقواعد: ص 248، واللمعة الدمشقية: ص 274؛ والمسالك: 1/ 152؛ والمنتهى: 2/ 927؛ والتحرير: 1/ 140، والخلاف: 2/ 332؛ والمختلف: 1/ 331؛ والغنية: ص 158، و160؛ وفقه القرآن: ص 131
(3) تهذيب الأحكام: 6 /143(7/1659)
البُغاة:
والملاحظ هنا أن الأحكام تختلف ـ تمامًا ـ مع البغاة، باعتبارهم مسلمين خارجين على الإمام، فرغم أنهم يهددون كيان الدولة الإسلامية كله، إلا أن قبولهم (ولو لفظًا) للإسلام بغير الحكم عليهم، وخصوصًا في مجال الأسر. فهؤلاء البغاة لا يمكن قتالهم إلا بشروط:
منها: أن يعتصموا بقلعة وأمثالها، مما لا يتيسر معه تفريقهم، إلا بإرسال قطعات حربية إليهم.
وقد أشار صاحب الجواهر إلى هذا الشرط ـ بعد ذكر بعض النصوص ـ قائلًا: "ولعله لهذه النصوص ونحوها قال الشيخ وابنا إدريس وحمزة ـ فيما حكي عنهم ـ: أنه يعتبر في جريان الحكم كونهم في منعة، وكثرة، لا يمكن كفهم، وتفريق جمعهم، إلا بالاتفاق، وتجهيز الجيوش والقتال. فأما إن كانوا نفرًا يسيرًا ـ كالواحد والاثنين والعشرة ـ وكيدهم ضعيف، لم يجر عليهم حكم أهل البغي، وهو المحكي عن الشافعي، مستدلين بأن ابن ملجم لما جرح عليًّا ـ (ع) ـ وقبض عليه، أوصى أمير المؤمنين ـ (ع) ـ بالإحسان إليه، وقال: "إن برئت فأنا أولى بأمري، وإن مت فلا تمثلوا به". ولكن عن بعض الجمهور جريان حكم البغاة حتى على الواحد، إذا خرج بالسيف، بل في المنتهى والتذكرة أنه قوي، بل قيل إنه مقتضى إطلاق المتن (شرائع الإسلام والقواعد والإرشاد) وغيرها. وإن كان قد يناقش بانسياق غير ذلك من الإطلاق المذكور، خصوصًا بعد ذكرهم الفئة ونحوها، مما يظهر منه الاجتماع المعتد به، ولا أقل من الشك، فيبقى الأصل ـ حينئذ ـ بحاله. نعم يجري عليه حكم المحارب لو فرض إشهاره للسلاح أو غيره مما يندرج فيه". (1)
ومن هذا النص يظهر أنه يرى فعلية هذا الشرط، رغم ما نسب إلى الآخرين من الخلاف فيه.
ومنها: أن لا يكونوا تحت سيطرة الإمام، وإلا لم يعودوا من البغاة، واستند في ذلك إلى رواية جاء فيها:
"إن عليًّا (ع) كان يخطب، فقال رجل بباب المسجد: لا حكم إلا لله، ـ تعريضًا بعلي (ع) أنه حكم في دين الله الرجال ـ فقال علي (ع) : كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث:
ـ لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا اسم الله فيها،
ـ ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا،
ـ ولا نبدأكم بقتال". (2)
ورغم تشكيك صاحب جواهر الكلام في حجية هذه الرواية، إلا أنه يقول: "قد يقال: إن حكم البغاة لم يعلم إلا من فعله (ع) كما اعترف به الشافعي وغيره، ولم يثبت لنا شيء من فعله، فيما عدا الفرق الثلاث وقد كانوا كذلك" (3) .
ومنها: أن يكونوا ينطلقون ـ في انفصالهم عن السلطة الإسلامية ـ من معتقد يعتقدونه:
وربما استند في هذا إلى نصوص منها قول علي ـ (ع) ـ في نهج البلاغة:
"لا تقتلوا الخوارج بعدي؛ فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه". (4) .
__________
(1) جواهر الكلام: 21/ 331، 332
(2) ، أحكام القرآن للجصاص: 5/ 282، وجامع أحاديث الشيعة: 13/ 87، والسنن الكبرى: 8/ 148؛ والمبسوط، للسرخسي: 10/ 125؛ وابن أبي شيبة في المسند: 15/ 327؛ ومجمع الزوائد: 6/ 242، وأنساب الأشراف: 2/ 352؛ والمبسوط، للشيخ الطوسي: 7/ 265؛ وتاريخ بغداد: 14/ 365
(3) جواهر الكلام: 21/ 333
(4) نهج البلاغة، د. صبحي الصالح: 61/ 94(7/1660)
وعلى أي حال، فإن البغاة إن رجعوا إلى طاعة الإمام، ووضعوا أسلحتهم، أو هزموا، ولم ينحازوا إلى فئة مناوئة أخرى، لم يجز قتالهم، ولم يتعقب الفار منهم، ولا يقتل أسيرهم، ويداوى الجرحى منهم، والعلماء يجمعون على ذلك. وبدون ذلك، فالأمر يعود للإمام ليقوم فيهم بما يراه مصلحة للمسلمين.
وهنا ننبه إلى أن أحكام البغاة مأخوذة من سيرة علِيّ في الباغين، وها نحن نذكر طرفًا من ذلك:
ـ يقول عبد الرحمن بن الحجاج سمعت أبا عبد الله (ع) يقول:
"كان في قتال علي (ع) أهل قبلة بركة، ولو لم يقاتلهم علي (ع) لم يدر أحد بعده كيف يسير فيهم". (1)
ـ روى أبو أمامة أنه شهد صفين، فلم ير جريحًا يقتل، ولا مولى يقتل، ولا قتيلًا يسلب (2) .
ـ سأل أحد أصحاب أمير المؤمنين (ع) الإمام عما هو فاعل بأهل الجمل , فقال (ع) : بالمن كما سار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أهل مكة (3) .
ـ وأتي علي بأسير يوم صفين، فبايعه، فقال علي: "لا أقتلك إني أخاف الله رب العالمين". فخلى سبيله، وأعطاه سلبه الذي جاء به (4) .
ـ وعن أبي حمزة الثمالي قال: قلت لعلي بن الحسين (ع) : إن عليًّا (ع) سار في أهل القبلة بخلاف سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أهل الشرك، قال: فغضب، ثم جلس، ثم قال: "سار والله فيهم بسيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الفتح؛ إن عليًّا (ع) كتب إلى مالك ـ وهو على مقدمته في يوم البصرة ـ بأن لا يطعن في غير مقبل، ولا يقتل مدبرًا، ولا يجيز (يجهز) على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن" (5) .
والروايات هنا مفصلة.
والواقع أن سيرة علي ـ (ع) ـ رسمت أروع صورة للحاكم المسلم الذي يقيم ذلك التوازن المشار إليه في بحثنا بين الرحمة والمصلحة العليا.
وربما أمكنا ـ بالاستناد إلى الرواية التي ذكرناها للتو ـ القول إن الإمام يتعامل في حربه مع الكفار والبغاة على ضوء هذا التوازن، إلا أن الحرب مع الكفار فيها الخطر الكامن لإفناء الوجود الإسلامي كله، فتعصب الإجراءات، ولكن حينما ينتفي الخطر ـ كما في فتح مكة ـ يأتي المن العظيم. ولكن إذا كان البغاة يفرون إلى تجمع آخر لهم فخطرهم كبير، لذلك فهم يتابَعون بكل شدة.
__________
(1) وسائل الشيعة: 11/ 60
(2) السنن الكبرى: 8/ 182؛ ومسند ابن أبي شيبة: 12/ 424، والطبقات الكبرى: 7/ 411
(3) وسائل الشيعة: 11 /58
(4) ن. م: 11/54، نقلا عن التهذيب؛ والجامع: 13/ 176
(5) وسائل الشيعة: 11/ 55، نقلا عن الكافي والتهذيب؛ وبحار الأنوار: 32/ 210، نقلًا عن الكافي(7/1661)
(ب) كيفية الاستئسار:
تشير الآية الكريمة إلى شد الوثاق، وليس المراد إلا التأكد منه، لئلا يفر، وقد كانت هناك أساليب أخرى تستخدم لضمان عدم فرار الأسير؛ كأن يقسموا بين المسلمين، أو يوثقوا إلى أسطوانات المسجد، وما إلى ذلك.
ومع ذلك نجد الرسول العظيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحيانًا ـ يتألم، لأن أحد أسراه ـ وهو عمه العباس ـ موثق يئن (1) .
(ج) إطلاق سراح الأسرى:
وتتفق كتب الأحاديث، والتاريخ، والمغازي، على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يمن على الأسرى، فيطلقهم دونما فدية، أو مع فدية، ويبادلهم بأسرى المسلمين:
ـ فمن المشهورات قولته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأهل مكة: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) (2) .
ـ وهبط ثمانون من أهل مكة، من جبال التنعيم ـ صباحًا ـ على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليقتلوه، ولكنه أسرهم دون حرب، ثم أطلق سراحهم (3) .
وروي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يطلق كل الأسرى عند حلول شهر رمضان (4) .
ـ وقد أرسل رجالًا إلى نجد، وعادوا إليه بأسير من بني حذيفة، يدعى ثمامة بن أثال، وأوثقوه إلى المسجد فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) .
ـ وقد أطلق سراح مجموعة من أسرى بدر، شريطة أن يعلم كل منهم مسلمًا القراءة والكتابة (6) .
ـ ومنّ على أسرى هوازن في حنين ـ بعد القسمة ـ وطلب من المسلمين أن يطلقوا سراح أسراهم (7) .
والنصوص في هذا الباب كثيرة جدًّا.
هذا بالنسبة لأسرى الكفار. أما بالنسبة لأسرى البغاة فالأمر فيهم أكثر حنانا، ولطفًا.
وقد قال أصحاب علي (ع) له بعد معركة الجمل: اقسم بيننا أهل البصرة فنجعلهم رقيقًا، فقال: لا، فقالوا: كيف تحل لنا دماؤهم وتحرم علينا سبيهم؟ فقال (ع) : " كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة وإسلام، أما ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم، وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب فهو لأهله، ولا نصيب لكم في شيء منه ". (8) .
وهذا من أروع النصوص الدالة على رحمة الإسلام.
(د) حقوق الأسرى (9) :
يمكننا أن نلخص أهم هذه الحقوق بالنقاط التالية:
أولًا ـ العطف والرحمة بالأسير:
ـ ذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أقبل بالأسارى من بدر فرقهم بين أصحابه، وقال صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بهم خيرًا)) .
ـ وكان أبو عزيز بن عمير، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه، في الأسارى، قال أبو عزيز: "مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديك. قال أبو عزيز: فكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحيي فأردها فيردها عَلَيَّ ما يمسها". (10) .
وقال أبو العاص بن الربيع: كنت مستأسرًا مع رهط من الأنصار ـ جزاهم الله خيرًا ـ كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثرونا بالخبز وأكلوا التمر، والخبز عندهم قليل، والتمر زادهم حتى أن الرجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إليَّ، وكان الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد، قال: وكانوا يحملوننا ويمشون (11) .
ـ وقد روي ((أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يبعث الأسارى من المشركين ليحفظوا، وليقام بحقهم)) (12) .
وقد عاتب رسول الله بلالًا؛ لأنه مر بأسيرات يهوديات على أجساد أعزائهن، قائلًا له: ((أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهن)) (13) .
ثانيًا ـ إطعام الأسير وسقيه:
ـ فعن أبي بصير قال: سألت الصادق (ع) عن قول الله ـ عز وجل ـ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} فقال (ع) : هو الأسير. وقال: الأسير يطعم، وإن كان يقدم للقتل. وقال: إن عليًّا كان يطعم من خلد في السجن من بيت مال المسلمين (14) .
__________
(1) البداية والنهاية: 3/ 298
(2) الطبري: 3/ 61
(3) نيل الأوطار: 8/ 140، 141؛ ومشكاة المصابيح: ص 245 فما بعدها؛ ومناقب ابن شهر أشوب: 1/ 73؛ وحياة الصحابة: 2/ 37
(4) وسائل الشيعة: 7/ 229
(5) السنن الكبرى: 9/ 88؛ وصحيح البخاري: 1/ 125؛ ومشكاة المصابيح: ص 342؛ ومسند أبي عوانة: 4/ 157
(6) المستدرك، للحاكم: 3/ 23؛ ونيل الأوطار: 8/ 144؛ ومصنف عبد الرزاق: 5/ 352
(7) نصب الراية: 3/ 406؛ ومشكاة المصابيح: ص 345؛ والطبري: 3/ 87 ـ 89؛ وصحيح البخاري: 3/ 193، و9/ 89 منه
(8) شرح ابن أبي الحديد: 1/ 250
(9) حقوق الأسرى مفصلة، ونحن هنا نعتمد ـ إجمالًا ـ على تحقيق مخطوط لسماحة العلامة الشيخ الأحمد الميانجي ـ حفظه الله ـ.
(10) البداية والنهاية: 3/ 306؛ والطبري: 4/ 460؛ وآثار الحرب: ص 405
(11) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 13/ 189
(12) الإمام الرازي في تفسيره: 30/ 245
(13) بحار الأنوار: 1/ 5؛ والكامل: 2/ 221: والطبري: 3/ 14؛ وسيرة ابن هشام: 3/ 351؛ والبداية والنهاية: 4/ 197
(14) وسائل الشيعة: 11/ 69(7/1662)
ثالثًا ـ وجوب تأمين الظل للأسير:
ـ روى زرارة عن الصادق (ع) قوله: إطعام الأسير حق على من أسره، وإن كان يريد من الغد قتله فإنه ينبغي أن يطعم، ويسقى، (ويظل) ، ويرفق به كافرًا كان أو غيره (1) .
ويستفيد الشيخ الأحمدي من ذلك تأمين كل ضروريات الحياة.
ـ وقد ورد عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه عندما رأى أسرى بني قريظة في يوم حار أمر برشهم بالماء، لئلا يجتمع عليهم حر السلاح وحر الصيف (2) .
رابعًا ـ توفير اللباس اللائق بالأسير:
وهو ما يستفاد من عموم الإحسان بهم وما طبقه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنسبة للعباس، حيث جلب الأصحاب له ثوب عبد الله بن أبي (3) .
خامسًا ـ احترام الأسير ذي المرتبة ومراعاة كرامته ومنزلته:
وهذا ما نرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد فعله مع ابنة حاتم طيء (4) . وكما تعامل المسلمون مع نساء يزدجرد ملك فارس (5) .
سادسًا ـ توفير الدواء والعلاج اللازم:
وذلك بمقتضى عموم الإحسان:
وقد نُقل أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بالمن على جرحى الكفار وإطلاق سراحهم (6) . كما ذُكر أن عليًّا أمر بمعالجة أربعين رجلًا من جرحى النهروان في الكوفة، ثم فسح لهم المجال ليذهبوا أينما يشاءون أو سلمهم إلى قبائلهم (7) .
سابعًا ـ هدايته إلى الحق:
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70] .
__________
(1) وسائل الشيعة: 11/ 68، إلا أنه ليس فيها (ويظل)
(2) آثار الحرب: ص 405، نقلًا عن شرح السيد الكبير: 2/ 264
(3) جامع الأحاديث: 8/ 511 ـ 516؛ وأبو داود: 3/ 179؛ وأعيان الشيعة: 1/ 629
(4) الطبري: 3/ 112، 113: البداية والنهاية: 5/ 64
(5) بحار الأنوار: 32/ 357، نقلًا عن نصر بن مزاحمم في صفين
(6) كشف الأستار: 2/ 288
(7) أنساب الأشراف، للبلاذري: 2/ 486؛ وكشف الأستار: 2/ 288(7/1663)
ثامنًا ـ تحريم قتل النساء والأطفال:
وقد مر بنا تحريم قتل النساء والأطفال والضعفاء:
تاسعًا ـ عدم قتل الأسير من البغاة:
كما مر بنا أنه لا يجوز قتل الأسير الباغي عند انكساره، وعدم عودته إلى فئة، بل يمكن للإمام أن يعفو عمن له فئة.
عاشرًا ـ أخذ البيعة من الأسير القوي:
وإن كان الأسير الباغي قويًّا جلدًا، وأهلًا للقتال تُطلب منه البيعة، فإن بايع قبل انتهاء الحرب أطلق سراحه (1) .
وإن لم يبايع يسجن، فإن انتهت الحرب وتاب العدو وألقى سلاحه، أو لم يلجأ هو إلى فئة يطلق سراحه.
حادي عشر ـ عدم معاملة أسرى البغاة بالمثل:
لا معنى للمعاملة بالمثل بالنسبة لأسرى البغاة، فلو أنهم قتلوا أسرى المسلمين؛ لأنه لا يجوز قتل أسراهم.
ثاني عشر ـ عدم قتل الأسير إن أسلم قبل النصر:
إذا أسلم الأسير قبل النصر لم يجز قتله بالإجماع، بلا فرق بين كون إسلامه عن خوف أو رغبة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم:
((أمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبائحنا؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها)) (2) .
__________
(1) المبسوط: 7/ 271؛ والمنتهى: 2/ 987؛ والمغني: 10/ 61
(2) انظر: السنن الكبرى: للبيهقي: 9/ 49 ,7/ 403؛ وكنز العمال: 1/ 76ـ 77؛ وسنن الدارمي: 3/ 218؛ وسنن ابن ماجه: 2/ 1295؛ وصحيح مسلم: 1/ 53؛ والأموال، لأبي عبيد: ص 27، 28؛ ومسند أحمد: 2/ 435 و439 و475 و482 و502. . .؛ وصحيح البخاري: 1/ 120 و109؛ وبحار الأنوار: 6/ 243(7/1664)
الخاتمة
وفي ختام هذا البحث، لا بد من الإشارة لبعض النقاط، لكي يمكن أن تكتمل الصورة ـ إلى حدٍّ ما ـ في الأذهان:
النقطة الأولى:
إننا نلاحظ أن الموقف ـ في النهاية ـ يعود إلى قائد الأمة الإسلامية، والمفروض به أنه يمتلك أسمى درجات الالتزام بالشريعة الإسلامية، وهي شريعة الرحمة واليسر، لكي يقرر أفضل الحالات المطروحة أمامه، موازنًا بين عنصري الرحمة والمصلحة العليا، فيرفض أي تعذيب أو تخريب، أو تفريق بين الأم وولدها، أو تبييت للإغارة وأمثال ذلك، وليغتنم كل الفرص لتقوية الجبهة الإسلامية، ويسد كل ثغرات الضعف فيها، محققًا الهدف الكبير وهو خدمة مصالح الأمة الإسلامية العليا، والحفاظ على وجودها، محترمًا للعهود والمواثيق، وملاحظًا مدى تطبيقها، مائلًا إلى السلام والصلح ـ مهما أمكن ـ وإلى الاحتفاظ بالطاقات النافعة لمستقبل الإسلام، متجنبًا أي تفريط بها، مهتمًا بالإسلام، وهداية الآخرين، بل ويكفيه الإسلام الظاهري؛ لأنه لا سبيل للتعرف على حقيقته، وأخيرًا مهتمًا بتعميق أهداف الحرب في قلب الجندي المسلم ـ كما رأينا في مطلع البحث ـ.(7/1665)
النقطة الثانية:
الملاحظ: أن الفقهاء ـ على اختلاف مشاربهم ـ حاولوا أن يستنبطوا كثيرًا من الأحكام، على ضوء تقرير أو تعامل خاص قام به الرسول أو أحد القادة الإسلاميين، تجاه موقف معين، والحقيقة هي: أن هناك خطرًا يسميه المرحوم الإمام الصدر (خطر التجريد في دليل التقرير) ويتلخص في تجريد السلوك المعاصر لعهد التشريع عن خصائصه وقرائنه، واستنباط موقف إسلامي عام (مع أن من الضروري ـ لكي يكون الاستدلال بدليل التقرير موضوعيًّا ـ أن ندخل في حسابنا كل حالة من المحتمل تأثيرها في موقف الإسلام من ذلك السلوك، فحين تتغير بعض تلك الحالات والظروف يصبح الاستدلال بدليل التقرير عقيمًا، فإذا قيل لك مثلًا: إن شرب الفقاع في الإسلام جائز، بدليل أن فلانًا ـ حين مرض على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرب الفقاع، ولم ينه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك، كان لك أن تقول: إن دليل التقرير هذا ـ وحده ـ لا يكفي دليلًا على سماح الإسلام بشرب الفقاع لكل فرد، ولو كان سليمًا؛ لأن من الممكن أن تكون بعض الأمراض مجوزة لشربه بصورة استثنائية، فمن الخطأ أن نعزل السلوك المعاصر لعهد التشريع عن ظروفه وخصائصه" (1) .
والحقيقة أننا نستطيع أن نعبر بهذه الحقيقة: عن مجال دليل التقرير إلى مجال الأوامر الإدارية والعسكرية بكل وضوح، بل ربما أمكننا القول بأن العبور هنا أولى؛ باعتبار أن الأوامر الولائية موقتة تمامًا، يلاحظ فيها ولي الأمر المصلحة المطلوبة، اللهم إلا أن يصرح بقاعدة عامة يكنها أن تشكل قانونًا عامًا، وللبحث هذا تفاصيله.
ومن هنا نرى أن الكثير من الموارد التي استند إليها الفقهاء لا يمكنها أن تشكل بنفسها أدلة مقنعة، إلا أن هناك حقيقة أخرى هي: أننا نستطيع من خلال استقراء المواقف المتنوعة (حتى ولو كانت ولائية) ، أن نستنبط حكمًا يقينًا؛ أو ـ على الأقل ـ نكتشف (مورد إضاءة) وحكمًا يقدم إلى ولي الأمر ليلاحظه، ويأخذه بعين الاعتبار، في تعامله مع المواقف المشابهة.
فالأمر ـ إذن ـ يتوقف على تعدد الحالات ووضوحها، ليكشف لنا ـ يقينًا ـ عن موقف عام تتبناه الشريعة، بعد إلغاء الخصوصيات التي نطمئن بعدم دخلها في الموضوع.
والذي نريد أن نخلص إليه هو أننا نعتقد أن منطق التوازن بين النزعة الإنسانية والمصلحة العليا والروح السائدة التي يمكن أن نستنبطها من مجمل ما مر من نصوص وأحكام، وهي التي يجب أن يلحظها الإمام في تعامله مع المواقف المتنوعة، ومنها المواقف التي تنتجها الحرب.
__________
(1) اقتصادنا: 2/ 374(7/1666)
النقطة الثالثة:
إنه كثيرًا ما يبدو التزاحم بين النزعتين آنفتي الذكر، وحينئذ فالذي تشير إليه النصوص هو ترجيح النزعة الإنسانية مهما أمكن، إلا أن يتوجه خطر كبير للمصلحة العليا، وحينئذٍ فهي المقدمة.
فمن الأحكام المشهورة والمسلم بها، أن الأسير إذا عجز عن المشي ولم تكن هناك وسيلة لحمله أطلق سراحه؛ لأنه لا يعلم رأي الإمام فيه.
وقد روي عن الإمام علي بن الحسين السجاد قوله:
"وإذا أخذت أسيرًا فعجز عن المشي، ولم يك معك محمل، فأرسله ولا تقتله، فإنك لا تدري ما حكم الإمام فيه، والأسير إذا أسلم فقد حقن دمه وصار فيئًا " (1) .
وقد صرح به الكثير من الفقهاء؛ كالطوسي في (المبسوط) و (النهاية) ، والحلي في (السرائر) و (المختصر النافع) ، وابن قدامة في (المغني) (2) .
والملاحظ هنا أن هناك تزاحمًا بين الجانب الإنساني (الرحمة) ، والجانب المصلحي (وهو الاحتفاظ بالأسير) ، بعد أن لم يمكن الجمع بينهما، وتم تغليب جانب الرحمة وإطلاق الأسير، وعلى هذا الغرار نلاحظ مسألة الامتناع عن قتل النساء، حتى ولو عاونَّ أزواجهن، إلا أننا نجد ـ في قبال ذلك ـ أحكامًا أخرى:
منها: أنه لا يقبل الاستئسار قبل أن تتم السيطرة الإسلامية على الموقف، خوفًا من تغير الموقف لصالح العدو.
ومنها: أنه لو تترس الكفار بالمسلمين الأسرى، أو حتى لو تترسوا بالنساء والأطفال، وتوقف الفتح النهائي ـ تمامًا ـ على اقتحام هذه العقبة، وجب الإقدام ـ مهما كانت النتائج ـ إذعانًا للمصلحة العليا:
ـ يقول الشيخ الطوسي في (النهاية) :
"ومتى استعصى على المسلمين موضع منهم؛ كان لهم أن يرموهم بالمناجيق، والنيران، وغير ذلك مما يكون فيه فتح لهم، وإن كان في جملتهم قوم من المسلمين النازلين عليهم، ومتى هلك المسلمون فيما بينهم، أو هلك لهم من أموالهم شيء لم يلزم المسلمين ولا غيرهم غرامتهم من الدية والأرش، وكان ضائعًا " (3) .
ـ ويقول القاضي عبد الجبار بن البراج في (المهذب) :
"وإذا تترس المشركون بأسارى المسلمين، وكانت الحرب ملتحمة لم يقصد الأسرى بالرمي، فإن أصيب لم يكن على من رماه شيء، وإن لم تكن الحرب ملتحمة لا يجوز رميه، فإن رماه ـ ولم يقصده ـ فإن أصابه كان ذلك خطأ وعليه ديته" (4) .
ـ ويقول ابن إدريس في (السرائر) :
"وإذا تترس المشركون بأطفالهم، فإن كان ذلك حال التحام القتال جاز رميهم، ولا يقصد الطفل، بل يقصد من خلفه؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لأدى إلى بطلان الجهاد، وكذلك الحكم إذا تترسوا بأسارى المسلمين، وكذلك إذا تترسوا بالنساء. . ." (5) .
والملحوظ هنا تقديم المصلحة العليا على النزعة الإنسانية ولكن هذه نظرة ابتدائية.
ذلك أن المصلحة العليا للمسلمين هي مصلحة الإنسانية جمعاء ـ كما يراها الإسلام ـ وإن الإسلام هو صوت العدالة الإنسانية كلها، وبه يمكن إنقاذها من براثين الوثنية، والضياع، والكفر. فكل عمل لصالح الإسلام هو لصالح الإنسانية ـ في الحقيقة ـ فلا يمكن التفريط بهذه المصلحة الإنسانية العليا لصالح رحمة موقتة.
__________
(1) الكافي: 5/ 35؛ وتهذيب الأحكام: 6/ 153
(2) التذكرة: 1/ 425، والمغني: 10/ 299، وغيرهما
(3) الينابيع الفقهية: ص:51
(4) ن. م: ص 90
(5) الينابيع الفقهية: ص 168(7/1667)
النقطة الرابعة:
ونقصد هنا أن ننبه إلى أن اختلاف بعض الأحكام في مجال الحرب ضد الكفر، عنها في مجال مكافحة البغي، ربما أمكن تعليله بأن حاكمية الكفر أشد خطرًا ـ بلا ريب ـ من حاكمية البغي، رغم ما فيه من انحراف وأخطار جسيمة.
النقطة الخامسة:
من الطبيعي أن نشير هنا ـ أيضًا ـ إلى تركيز الإسلام على عنصر العقد والعهد، كمنبع أساسي للالتزام.
فإذا افترضنا أن الدولة الإسلامية دخلت مع المجتمع الدولي ـ أو مع دولة أخرى ـ في معاهدة دولية أو ثنائية، أو وقّعت بروتوكولًا معينًا فهي ـ في الواقع ـ تضيف إلى تعهداتها الأصلية تعهدات قانونية، عليها الالتزام بها، على أي وجه كان، حتى أنه يمكن القول بأن للمعاهدة نفسها موضوعيتها، دون النظر إلى مقتضيات المصلحة العامة.
والحمد لله رب العالمين.(7/1668)
الخلاصة
وخلاصة ما قلناه حول أحكام الحرب والأسرى في الإسلام هي:
أننا تحدثنا في المقدمة عن واقعية الإسلام ومرونته وضربنا لذلك مثلًا موقفه من قضية (الرقيق) , واستعرضنا بإجمال خطواته لإلغائها، ولكن دون الإخلال بالنظام الاجتماعي والقانون العسكري.
ثم انتقلنا إلى صميم الموضوع لنجد أن عملية التوازن بين خطي (الرحمة) و (المصلحة) يمكنها أن تؤطر كل أحكام الإسلام في قضية الحرب والأسرى بل إننا نستطيع أن نمتد بهذا الأصل ليشمل مجمل الأحكام الإسلامية وللتدليل على هذا الأصل استعرضنا ما يلي:
1 ـ التعليمات الحربية المسبقة للرسول الأكرم والقادة الإسلاميين وكلها تؤكد هذه الحقيقة.
2 ـ التأكيد على عنصر الدعوة والتوعية أولًا وعدم الهجوم المباغت دون تثبت.
3 ـ ملاحظة وسائل الحرب وأساليبها الإنسانية كما يجيزها الإسلام حيث نهى الفقهاء ـ مثلًا ـ عن اللجوء إلى وسائل من قبيل: الغارة وفتح الماء لإغراق العدو ما دامت هناك وسائل أخرى.
4 ـ ملاحظة أحكام الأسرى وحقوقهم وقد شملت هذه الملاحظة بيان:
(أ) الموارد التي يجوز فيها الأسر.
(ب) كيفية الأسر.
(ج) أساليب إطلاق سراح الأسرى.
(د) حقوق الأسرى.
وهذه الحقوق يمكن تلخيصها بما يلي:
1 ـ العطف والرحمة بالأسير.
2 ـ إطعام الأسير وسقيه.
3 ـ تأمين الظل للأسير.
4 ـ توفير اللباس اللائق به.
5 ـ احترام الأسير ذي المرتبة ومراعاة كرامته ومنزلته.
6 ـ توفير الدواء والعلاج اللازم.
7 ـ هدايته إلى الحق.
8 ـ تحريم قتل النساء والأطفال.
9 ـ عدم قتل الأسير من السفلة.
10 ـ أخذ البيعة من الأسير القوي.
11 ـ عدم معاملة البغاة بالمثل.
12 ـ عدم قتل الأسير إن أسلم قبل النصر.(7/1669)
وفي خاتمة البحث لاحظنا النقاط التالية:
الأولى: أن الموقف يعود في النهاية إلى قائد الزحف الإسلامي والمفروض أنه يمتلك أسمى درجات الالتزام بالشريعة الرحيمة الميسرة لكي يقرر أفضل الحالات المطروحة أمامه.
الثانية: أن الكثير من الموارد التي استند إليها الفقهاء لا يمكنها أن تشكل بنفسها أدلة مقعنة؛ لأنها اعتمدت على دليل التقرير مع فقدان بعض شرائطه.
الثالثة: عند التعارض بين حالتي المصلحة والرحمة نجد الإسلام يرجح الجانب الإنساني مهما أمكن كما إذا عجز الأسير عن المشي ولم تكن هناك وسيلة لحمله فإنه يطلق سراحه؛ لأنه لا يعلم رأي الإمام فيه.
الرابعة: ملاحظة اختلاف بعض الأحكام في مجال الحرب ضد الكفار عنها في مجال محاربة البغاة.
الخامسة: ملاحظة أن الإسلام ركز تمامًا على عنصر العهد كأساس للالتزام فإذا دخلت الدولة الإسلامية مع المجتمع الدولي أو مع دولة أخرى في عقد كان عليها الالتزام على أي وجه كان.
الشيخ محمد علي التسخيري(7/1670)
المعاهدات والاتفاقات
من
العلاقات الدولية في أثناء السلم
إعداد
سماحة الدكتور عبد العزيز الخياط
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخير المعلمين المبعوث رحمة للعالمين وبعد:
فهذا بحث في موضوع من موضوعات " العلاقات الدولية في الإسلام" وهو مع مقدمته "العلاقات الدولية في أثناء السلم ـ المعاهدات والاتفاقات".
وأدعو الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يوفق لما فيه الخير، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأرجو أن يجد لدى أخوتنا الأساتذة الفضلاء في مجمع الفقه الإسلامي قبولًا حسنًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1671)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
المقصود بالعلاقات الدولية (1) . ما يكون بين الدول من روابط تقوم على أساس من قواعد عامة، وضوابط تحكم تعاملها فيما بينها باعتبارها مستقلة ذات سيادة.
والعلاقات الدولية تتناول:
(أ) حالات السلم.
(ب) حالات الحرب.
أما حالات السلم، فتتناول ما يلي:
1 ـ السيادة الداخلية للدولة: وتشمل: حكم الإسلام لبلاد المسلمين، أي تدبير شؤون الدولة لرعاياها المسلمين وغير المسلمين في رقعة الأرض التي تحكم بالإسلام، ولذلك كان مفهوم السياسة عند المسلمين واضحًا كل الوضوح، سواء ضيقنا مشمولاتها ومضامينها، أو وسعناها، فهي تتناول قواعد الحكم الإسلامي، وقوانينه، وتنظيماته وشؤون الخلافة والوزارة، والقضاء وإقامة الحدود، وتنظيم المعاملات والفصل بين الخصومات، وعلاقة الدولة مع الناس، والحسبة والطاعة، والمراقبة الأمنية، ويجمعها شؤون الحكم والتنفيذ وشؤون التشريع وشؤون القضاء.
كما تشمل تعامل الدولة مع غير المسلمين (أهل اذمة) .
2 ـ السياسة الخارجية: وتشمل مظاهر السياسة في المجال الدولي وعلاقة الدولة الإسلامية مع الدول الأخرى في التجارة، والمعاهدات، والتمثيل الدبلوماسي، ونظرة الإسلام في تسمية بلاده بدار الإسلام، وتسمية البلدان الأخرى التي تحكمها دول لا تحكم بالإسلام بدار الحرب أو دار الكفر، أو دار العهد. كما تتناول العلاقات الإنسانية.
وسنقتصر في هذا البحث على ما يتعلق بالمعاهدات والاتفاقات.
وأما حالات الحرب فتشمل موضوع الجهاد وأحكامه، وهو ما يطلق عليه الفقهاء "أحكام السير أو أحكام المغازي".
كما يشمل توضيح الفرق بين معنى الجهاد ومعنى الحرب، ويتناول موضوع الصلح والهدنة والمعاهدات الحربية، ومعنى الجزية والغنائم، والفيء، والخراج، وآداب الحرب، ومعاملة المدنيين، وأحكام الأسرى.
__________
(1) الدولية: نسبة إلى الدولة، لا إلى الدول، ولذلك تكون بفتح الدال، وتسكين الواو، لا بضمها فالنسبة تكون إلى الفرد لا إلى الجمع(7/1672)
القواعد الإسلامية العامة التي تحكم القواعد الدولية:
للإسلام قواعد عامة تقوم عليها العلاقات في الإسلام نذكرها فيما يلي:
1 ـ كل الناس سواسية في الحقوق الإنسانية بغض النظر عن اختلاف الدين أو القومية، أو الجنس وليس في الإسلام نظرة عرقية ولا تمييز شعب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)) (2) .
2 ـ العدالة: ففي وقت السلم تحترم كل الحقوق التي تكتسبها الدول الأخرى ويكتسبها رعاياها، وأما في الحرب فلا يجوز تعدي ضرورات الحرب سواء في صد العدوان أو الهجوم، فلا يجوز التمثيل بالجثث ولا قتل الأسرى ولا سفك دماء المدنيين، ولا تخريب العامر أو قتل الحيوان إلا لمنع تمويل العدو، كما لا يجوز التعرض لغير المقاتلين.
3 ـ احترام المعاهدات بين الدولة الإسلامية وغيرها فهي عقود ملزمة يجب الوفاء بها.
4 ـ لا يجوز إعلان الحرب فجأة قبل توجيه الإنذار للعدو، لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (3) .
5 ـ عدم السماح بإنشاء تكتلات حزبية أو عسكرية ضد دولة أخرى، أو لصالح دولة أخرى، في داخل الدولة الإسلامية، لقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (4) .
6 ـ المعاقبة بالمثل، قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (5) .
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (6) .
7 ـ الدوران مع مصلحة الأمة الإسلامية القائمة على تحقيق الدعوة الإسلامية، وعلى ذلك فللإمام أن يطالب إعادة حالة السلام مع الأعداء، أو عقد هدنة إذا رأى ذلك أكثر تحقيقًا للمصلحة الإسلامية من حالة استمرار القتال.
__________
(1) سورة الحجرات: الآية 13
(2) رواه أحمد بن حنبل في المسند
(3) سورة الأنفال: الآية 58
(4) سورة الممتحنة: الآيتان: 8، 9
(5) سورة البقرة: الآية 194
(6) سورة البقرة: الآية 190(7/1673)
8 ـ حقوق العباد مقدمة على حقوق الله، فلا تشترك المرأة في القتال مثلًا إلا بإذن الزوج، أو الولي إلا في حالة النفير العام.
9 ـ يختار أخف الضررين في المجال الدولي، فإذا تقدم الأعداء ضد المسلمين متترسين بأفراد مسلمين، فلقائد الجيش الإسلامي أن يطلق النار على الأعداء ولو أصابت المسلمين.
10 ـ حجر الرحى في العلاقات الدولية هو الدعوة الإسلامية؛ لأن الدولة الإسلامية مهمتها أن تحمل الدعوة الإسلامية للناس كافة، والرسالة الإسلامية رسالة إنسانية عامة شاملة للناس أجمعين، لكل الناس في كل زمان، وكل مكان، بما فيها من ثبات الأصول وحركة الفروع، وقدرة على مواجهة التطور وحلول المشكلات المستجدة.
وعلى ضوء هذه الرسالة يكون عمل الأمة في الداخل والخارج وتكون علاقاتها مع الدول أو الشعوب، ومن خلالها تنظر إلى الناس أجمع وتعالج المسائل الدولية والمحلية. وهذا مستوحى من سياسة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتوجيهه الرسائل المتعددة إلى دولتي الفرس والروم والدول العربية والقبائل العربية المجاورة يدعوهم فيها إلى الإسلام.
11 ـ التزام القيم الإسلامية العليا، وأعلاها رضوان الله ـ عز وجل ـ فأي عمل يقوم به المسلم إنما يبتغي به مرضاة الله ـ عز وجل ـ قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ} (1) .
وقال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (2) .
أي ذلك الرضوان لمن خشي ربه. وعن هذا الرضوان تنشأ قيم الطمأنينة والأمن والتحرر من الخوف والاستقرار، وطلب الشهادة في سبيل الله، ثم القيم الأخرى كالحرص على الحياة والأولاد والمال وغيرها، وهي تتبع القيمة العليا، ويضحى بها من أجل القيمة العليا وهي رضوان الله. قال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (3) .
__________
(1) سورة القصص: الآية 77
(2) سورة البينة: الآية 8
(3) سورة التوبة: الآية 24(7/1674)
12 ـ أساس العلاقات الدولية في الإسلام (السلم) ، والحرب أمر طارئ على البشرية، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء ومنهم الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي، وأحمد بن حنبل وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا بعث بعثًا أو سرية قال لهم: ((تألفوا الناس، وتأنوا بهم، ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل مدر ولا وبر، إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم)) (1) .
قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (2) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (3) .
وقال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (4) .
13 ـ الحرب مشروعة في الإسلام وهي جهاد في سبيل الله، لنشر دعوة الإسلام، ودفع الظلم وإقامة الحق والعدل، وحفظ التوازن، وتمكين أرباب العقائد والعبادات من أداء عباداتهم والبقاء على عقيدة التوحيد، وهذا الذي أخذ من قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (5) .
فهذه الآية صريحة في أن الجهاد له غاية وأن سنة الله في الكون درءُ الظلم ومنع الفساد ونشر العقيدة السمحة، والفضيلة، ولا يتم ذلك إلا بالجهاد قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} (6) .
وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (7) .
فهذه الآية واضحة في أن الجهاد والقتال مشروع لغاية هي دفع الفتنة ونشر الدين الحق، وتمكين الحرية الدينية للآخرين وأننا لا نقاتل معتدين ولا ظالمين (8) . لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (9) .
ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (10) .
ولقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (11) .
__________
(1) النظم الإسلامية، للدكتور صبحي الصالح، نقلًا عن شرح السير الكبير، لمحمد بن سهل السرخي: ص 59، ومعنى المدر: الطين اللزج المتماسك، ويعنى بأهل المدر أي سكان البيوت المبنية خلاف البدو سكان الوبر (أي سكان الخيام المصنوعة من صوف الإبل ونحوها)
(2) سورة الأنفال: الآية 61
(3) سورة البقرة: الآية 208
(4) سورة النساء: الآية 90
(5) سورة الحج: الآيات 39، 41، والصوامع: معابد الرهبان، والبيع: كنائس النصارى، والصلوات كنائس اليهود
(6) سورة البقرة: الآية 190
(7) سورة البقرة: الآية 193
(8) القرآن والقتال، للشيخ محمود شلتوت: ص 30
(9) سورة الأنفال: الآية 61
(10) سورة البقرة: الآية 208
(11) سورة النساء: الآية 90(7/1675)
العلاقات في أثناء السلم:
يرى بعض الفقهاء أن الأصل في العلاقات الدولية هو الحرب أي أن الإسلام ذو نزعة حربية باعتبار أن الجهاد مشروع؛ لأنه طريق الدعوة إلى الإسلام، ما لم يطرأ ما يوجب السلم والأمان، واستندوا إلى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (1) .
لأن هذه الآية متضمنة رفع العهود والذمم التي كانت بين النبي والمشركين (2) .
ولذلك سميت بآية السيف، وإلى قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ,
وإلى قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (4) .
ويستفاد من هذه الآيات وغيرها ومما قرره الفقهاء أن الجهاد فرض كفاية على المسلمين لنشر الدعوة ابتداء من غير انتظار لبدء العدو بالحرب لأننا مأمورون بنشر الدعوة وحملها إلى الناس كافة؛ ولأن الجهاد شرعًا هو الدعاء إلى دين الحق وقتال من لم يقبله (5) .
أو هو بذل الوُسع في القتال في سبيل الله مباشرة أو معاونة بمال أو تكثير سواد أو غير ذلك (6) .
وقد قرر هؤلاء الفقهاء أن قتال الكفار واجب وإن لم يبدأوا للعمومات (7) . في الآيات الواردة في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (8) .
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (9) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)) (10) .
__________
(1) سورة التوبة: الآية 36
(2) أحكام القرآن، للجصاص: 3/ 137
(3) سورة التوبة: الآية 5
(4) سورة التوبة: الآية 29
(5) رد المحتار على الدر المختار: 3/ 236
(6) شرح الكمال بن الهمام على الهداية: 5/ 189
(7) شرح الهداية، للمرغيناني: 2/ 100
(8) سورة التوبة: الآية 5
(9) سورة البقرة الآية: 193
(10) شروح الهداية: 5/ 187، وروى الحديث البخاري ومسلم، وراجع السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف: ص 63 ـ 66؛ ومبادئ نظام الحكم في الإسلام، لعبد الحميد متولي: ص 728. والحديث صحيح رواه البخاري وأصحاب السنن(7/1676)
ويرى فقهاء آخرون أن الأصل في العلاقات الدولية هو السلم وأنه لا يُجنح للحرب إلا في حالة الضرورة والدفاع عن النفس وحماية الدولة والنظام، وأنه لا يبيح للمسلمين قتال مخالفيهم في الدين وإنما يسمح بقتالهم، إذا اعتدوا على المسلمين فحينئذٍ يصبح الجهاد فرض عين دفعًا للعدوان، وكذلك إذا وقفوا في وجه الدعوة الإسلامية وحالوا دون نشرها وإقناع الناس , واعتبروا أن حالة السلم تجعل موضوع التعاون وتبادل المنافع والمصالح والتجارة مع الدول الأخرى قائمًا، واحتجوا بالنصوص من القرآن والسنة، ومعظمها يبين السبب الذي من أجله فرض القتال، إما لدفع ظلم، أو لحماية الدعوة وقطع الفتنة، لا سيما وأن الكفار في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشركون وأهل كتاب ـ أمعنوا في إيذاء المسلمين بألوان من العذاب، وقاطعوهم وأخرجوهم من ديارهم وصادروا ممتلكاتهم، وغايتهم إخماد الدعوة ومنع انتشارها وإقامة دولتها (1) .
قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) .
وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (3) .
وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (4) .
وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (5) .
ويقول عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (6) .
ويقول تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} (7) .
ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (8) .
ويقول: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (9) .
ويقول: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (10) .
ويفهم من هذه الآيات جميعًا ما ذهب إليه أصحاب الرأي بأن السلم هو الأصل في العلاقات الدولية بأن آيات القتال منسجمة مع هذا الأصل، فقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} متصل بقوله: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فنحن نقاتلهم كما يقاتلوننا فإن كفوا عن قتالنا كافة، كففنا عن قتالهم بالمقابل، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ} الآية، وهذا أمر بقتال أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... إلخ" فمن لم يؤمن برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يكون له إيمان صحيح بأحد من الرسل ولا بما جاءوا به، وإنما يتبعون أهواءهم وآراءهم (11) . وهذا لا يتنافى مع أصل السلم؛ لأن قتالهم هو قتال من أجل تحقيق السلم وتوحيد الناس وجعلهم مع المسلمين أمة واحدة، لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ومعناها في قوله: حتى يدفعوا الجزية "أي مقابل الزكاة" إذا لم يسلموا ويخضعوا لأحكام الإسلام (12) . وهذا ينسحب على بقية الآيات التي تأمر بالقتال، فالقتال لمنع الفتنة، والقتال لدعوة الإيمان، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحماية الدعوة لا يتنافى مع أصل السلم في العلاقات الدولية، فإذا أقروا بذلك كانوا مسلمين، وإلا كانوا أهل ذمة أو معاهدين، وهذا استقرار وسلام، والذمة بمعنى العهد والأمان فتشمل المواطنين الذين يقيمون مع المسلمين في سلام في بلاد المسلمين، وتشمل المستأمنين، وهم أصحاب الأمان المؤقت الذي يعطي للحربيين لكي يتمكنوا من الدخول إلى دار الإسلام لتجارة أو زيادة أو أي حاجة مشروعة، وذلك بشروط خاصة (13) .
__________
(1) السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف: ص 70
(2) سورة الحج: الآيتان: 39، 40
(3) سورة الأنفال: الآية 39
(4) سورة البقرة: الآية 190
(5) سورة النساء: الآية 75
(6) سورة البقرة: الآية 256
(7) سورة البقرة: الآية 191
(8) سورة البقرة: الآية 208
(9) سورة الأنفال: الآية 61
(10) سورة النساء: الآية 90
(11) تفسير ابن كثير: 2/ 347
(12) تفسير الألوسي: 3/ 294، وقال الشافعي رحمه الله: " إن الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم "
(13) شروح الهداية: 5/ 196 ـ 210(7/1677)
والآيات المطلِقة في القتال تحمل على المقيِّدة له وهو القتال في حال الاعتداء أو إزالة العقبات في وجه دعوة الإسلام (1) . كما يدل لذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) .
يقول الدكتور محمد البهي: "ولأن جماعة المسلمين جماعة مستقلة، في هدفها وغايتها وفي منهجها في الحياة، وفي ترابط أفرادها بعضهم ببعض؛ ولأنه مطلوب منها أن تحرص على استقلالها، برد العدوان عليها، وعدم التهاون في ذلك ـ كان من المترقب لهذه الجماعة أن يحتك بها غيرها من الجماعات الإنسانية التي تطمع في التوسع، أو تتعصب لفكرتها، ومبدأها في الحياة، لذلك طلب الإسلام من " الجماعة الإسلامية " أن تكون دائما على حذر، واستعداد مادي وروحي معًا، لمقاومة من يحتك بها، قاصدًا إضعافها وإذهاب استقلالها، ولكن هذه التعبئة المادية والروحية التي يطلبها الإسلام من المؤمنين به يضعها دائمًا في خدمة السلام لا للغزو والاعتداء". (3)
ويقول أصحاب هذا الرأي: إن آية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (4) ، لم تنسخها آية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (5) ، لاتفاق جمهور العلماء على إحكام هذه الآية، فقد حكى ابن تيمية اتفاق العلماء على أن آية الإكراه ليست منسوخة، ولا منصوصة وإنما النص عام فلا تكره أحدًا على الدين، والقتال لمن حاربنا". (6) .
يقول الإمام الرازي في تفسيره الكبير بعد أن ذكر أن الله تعالى بين دلائل التوحيد بيانًا شافيًا قاطعًا للمعذرة: "إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل عذر للكافر في الإقامة على كفره إلا أن يُقسر على الإيمان ويجبر عليه، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء؛ إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان، ونظير هذا قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (7) .
وقال في سورة أخرى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (8) .
وقال في سورة الشعراء: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (9) .
ويستشهدون للسلم بالحديث الذي ذكرناه في أول البحث وهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلما بعث بعثًا أو أرسل سرية قال: ((تألفوا الناس، وتأنوا بهم، ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت من مدر ولا وبر إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم)) (10) .
__________
(1) العلاقات الدولية في الإسلام، للدكتور وهبة الزحيلي: ص 96
(2) سورة الأنفال: الآيتان 60، 61
(3) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: ص 235
(4) سورة البقرة: الآية 256
(5) سورة التوبة: الآية 73
(6) رسالة القتال في مجموعة رسائل ابن تيمية: ص 123
(7) سورة الكهف: الآية 29
(8) سورة يونس: الآية 99
(9) سورة الشعراء: الآيتان 3، 4. تفسير الرازي: 2/ 319، ويؤكد هذا المعنى ابن كثير في تفسيره: 3/ 331. وانظر: كذلك النظم الإسلامية، للدكتور صبحي الصالح: ص 518، وعنه نقلت نص الرازي.
(10) شرح السير الكبير: 1/ 59(7/1678)
والذي أختاره هو أن الإسلام يجعل العلاقة الدولية بينه وبين الدول الأخرى وشعوبها هو السلم لكن على أساس أن يدعوهم إلى الإسلام، وعلى أساس أن لا يحولوا بين شعوبهم وبين رؤية الإسلام الحق مطبّقًا، فإذا حالوا بين شعوبهم وبين الإسلام، وعملوا على تشويه صورته وإيذاء دعاته، ومنعهم من الوصول إلى الشعوب، كان الجهاد والقتال، ومن هنا كان حض الإسلام على الجهاد والقتال في سبيل الله في الآيات والأحاديث الكثيرة، وهذا نص الآيتين الكريمتين: قال تعالى في سورة النساء: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (1) .
وقال: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (2) .
يقول الشيخ محمد الصادق عرجون: "فهو قتال مأمور به لرد الاعتداء، والدفاع عن النفس، ومقاومة الظلم، والقضاء على عوامل الفتنة ورد المؤمنين عن دينهم، وتخليص المستضعفين من النساء والولدان وعجزة الشيوخ من الرجال، والمرضى والضعفاء، وإنقاذهم من وطأة الاستبداد والظلم وتحريرهم من نير الطغيان، وربقة الفجور، وتأمين الطريق أمام كلمة الحق والهدى، وهي تسري إلى العقول والقلوب دون أن يعوق سيرها بإقامة العقاب بين يديها.
وإذا لم يكن بدء قتال من المشركين للمؤمنين, وإذا لم يكن منهم اعتداء عليهم, وإذا لم يكن منهم ظلم لهم, وإذا لم تكن فتنة للمؤمنين عن دينهم بالإيذاء والتعذيب, وإذا لم يكن تعويق لسير الدعوة إلى الله تعالى, وإذا لم يكن صد عن الحق والهدى والخير والنور, وإذا ترك المستضعفون في أرض الله يتنسمون نسائم الحرية في تفكيرهم وعقائدهم وما يختارون لأنفسهم من عقيدة ودين لا تمتهن في ظله العقول الإنسانية, وإذا كف أعداء الله وأعداء دينه أيديهم عن قتال المؤمنين وألقوا إليهم السلم، وكان الدين كله لله؛ وجب على المؤمنين حينئذٍ أن يكفوا أيديهم عن القتال وأن يدخلوا في السلم ويشغلوا أنفسهم بطاعة الله وذكره، والدعوة إلى دينه بالحجة النيرة والبرهان الواضح والموعظة الحسنة". (3) .
على أن من يتابع تطورات الدول قديمها وحديثها، وتطور علاقاتها، يرى أنها ترتكز على ظاهرة النزاعات المسلحة، أكثر من ارتكازها على السلم، وأن التقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي زاد من التناقضات بين الدول، فتوسعت رقعة المنازعات، وسخر الإنسان كل طاقاته لتمكين نفسه من خوض الحروب وتدمير الشعوب (4) .
ولكننا في الإسلام على غير هذا، فالأصل السلام، والمنازعات ينبغي أن تفض بالطرق السلمية، وإلا فالحرب آخر الدواء.
__________
(1) سورة النساء: الآية 90
(2) سورة النساء: الآية 91
(3) الموسوعة في سماحة الإسلام، للشيخ محمد الصادق عرجون: 2/ 834
(4) العلاقات الدولية، للدكتور كاظم هاشم نعمة: ص 185، طبعة فرنسا عام 1979م(7/1679)
المعاهدات والاتفاقات
المعاهدات: جمع معاهدة: والمعاهدة لغة: من عاهد، إذا أعطى عهدًا أي ميثاقًا فيكون معنى المعاهدة لغة: الميثاق يكون بين اثنين أو جماعتين.
قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (1) .
أي إذا كان بينكم وبينهم معاهدة وميثاق
وهي اصطلاحًا: "اتفاق دولتين أو أكثر لتنظيم علاقات بينهما، أو هي: الاتفاق الذي يعقد بين دولتين أو أكثر لتنظيم علاقات قانونية أو دولية وتحديد القواعد التي تخضع لها" (2) .
أو هي: "اتفاق دولي يبرم بين دول في صياغة مكتوبة، ويحكمه القانون الدولي سواء احتوته وثيقة واحدة أو أكثر وأيًّا كان مسماه" (3) .
والأصل في القانون الدولي أن المعاهدات تكون سياسية، أما إذا كانت غير سياسية فتسمى: "اتفاقًا أو اتفاقية ".
والمعاهدات كانت قبل الإسلام في صورة أحلاف كحلف الفضول بين بني هاشم، وبني عبد المطلب وزهرة وتميم، وهو حلف تعاهدوا فيه على نصرة بعضهم بعضًا في الحق ونصرة المظلوم.
أو في صورة اتحادات بين القبائل، أو في صورة مساندة في أعمال الغزو والحرب، أو في صورة موادعة وهي وفاق يتعهد فيه الطرفان بعدم الاعتداء أو الاستشارات بعضهم على بعض.
__________
(1) سورة النحل: الآية 91. وانظر: المعجم الوسيط، مادة عهد
(2) الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، لعلي علي منصور: ص 370
(3) كما عرفتها إتفاقية فيينا للمعاهدات. انظر: كتاب قانون السلام في الإسلام، للدكتور محمد طلعت الغنيمي: ص 458، وكتاب مبادئ القانون الدولي العام، للدكتور إبراهيم أحمد شلبي. ص 256(7/1680)
مشروعية المعاهدات:
المعاهدات في الإسلام مشروعة مع الأعداء التي ليس بيننا وبينها حرب، لقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} (1) .
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (2) .
ولقوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (3) .
فهذه الآيات وأمثالها تدل على جواز عقد المعاهدات بين الدولة الإسلامية وغيرها، وعلى ضرورة الوفاء بها والالتزام بما تضمنته من موضوعات وتعهدات.
ولما روي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاهد أهل مكة عام الحديبية على أن توضع الحرب عشر سنين، جاء في سنن أبي دواود عن المسود بن مخرمة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج عام الحديبية، وذكر الحديث بطوله وفيه ((هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو: على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض)) . (4) . قال الصنعاني: "الحديث دليل على جواز المهادنة بين المسلمين وأعدائهم من المشركين مدة معلومة لمصلحة يراها الإمام" (5) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) (6) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)) (7) .
وسواء أكانت معاهدات أو اتفاقيات أو أمانًا، أو صلحًا، فهذه الأدلة تشملها وتقع تحت عموم قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} .
يضاف إلى ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأمان: ((ويسعى بذمتهم أدناهم)) (8) ، وقوله عليه الصلاة والسلام ((: ((أيما رجل من أقصاكم أو أدناكم، من أحراركم أو عبيدكم، أعطى رجلًا منهم أمانًا أو أشار إليه بيده، فأقبل بإشارته، فله الأمان حتى يسمع كلام الله، فإن قبل فأخوكم في الدين، وإن أبى فردوه إلى مأمنه، واستعينوا بالله)) )) (9) والإجماع قائم على جواز المعاهدات، وطبيعة الحياة، ومنطق العقل السليم يقر اللجوء إليها تمكينًا للدعوة من الوصول إلى معانديها، أو حقنًا للدماء، أو نشرًا للسلم وإعطاء الفرصة للمسلمين لأخذ الحيطة والاستعداد.
__________
(1) سورة النساء: الآيتان 89، 90
(2) سورة التوبة: الآية 4
(3) سورة التوبة: الآية 7
(4) شرح سبل السلام على بلوغ المرام: 4/ 101
(5) شرح سبل السلام على بلوغ المرام: 4/ 101
(6) أخرجه البخاري، وروى مثله أبو داود والنسائي والترمذي
(7) رواه أبو داود والبيهقي
(8) رواه البخاري
(9) الروض النضير: 4/ 239(7/1681)
الوفاء بالعهد:
إذا عقد الصلح أو أبرمت المعاهدة، أو أعطي الأمان أو غيره، فالالتزام بمضمون المعاهدات واجب والوفاء فرض، ولا يجوز نقض العهد إلا بسبب من خيانة، أو غدر أو مظاهرة علينا بمال أو سلاح أو برأي وتدبير، فإن العهد يفقد حرمته ويصبح المسلمون في حل من ذلك دون إنذار أو إعلان كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صلح الحديبية حين نقضت قريش معاهدة الصلح بإعانتها على حلفاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتوجه إلى فتح مكة دون إنذار وفتحها بفضل الله، وذلك لقوله ـ تعالىـ: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (1) .
فإن الآية تدل بمفهومها على أن المسلمين في حل من مهاجمة الكافرين إذا نقضوا العهد بمخالفة بنوده أو المظاهرة عليهم (2) ، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (3) .
وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (4) .
وقال سبحانه: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (5) .
وقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (6) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له)) (7) . وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى كل مدينة صالح أهلها ولم يستطع صد الروم عنهم، وفاء منه لما عاهدهم عليه:"إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم , وإنا لا نقدر على ذلك وقد رددنا عليكم ما أخذنا ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم" (8) .
__________
(1) سورة التوبة: الآية 4
(2) النظم الإسلامية، لأبي محمد أحمد موسى: 2/ 173
(3) سورة النحل: الآية 91
(4) سورة الإسراء: الآية 34
(5) سورة التوبة: الآية 7
(6) سورة البقرة: الآية 177
(7) رواه أحمد وابن حبان. وصححه ورواه السيوطي في الجامع الصغير
(8) كتاب الخراج، لأبي يوسف: ص 150(7/1682)
أنواع المعاهدات:
1 ـ المعاهدات:
تتنوع المعاهدات بحسب موضوعاتها وأهدافها، وكما يقول الدكتور وهبة الزحيلي:"فقد يكون الغرض منها تنظيم التجارة أو نشر الإسلام والثقافة أو لأغراض اجتماعية وإنسانية كتبادل الأسرى، ومعالجة المرضى، أو لتقرير السلم والأمن، وتثبيت دعائمه، أو لدعم روابط الجوار والتعاون مع المجاورين". (1)
فمنها:
(أ) المعاهدات التجارية:
وهي تنظيم التجارة الخارجية، أي لتأمين التبادل التجاري بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى في حرية التجارة وعدم التعرض لها بالمصادرة أو السلب أو النهب أو القرصنة، وهذا مما يجيزه الإسلام. وقد تسمى هذه المعاهدات معاهدات الصداقة، وقد أوجب الإسلام على التجار المسلمين التقيد بأحكام الإسلام في عقود التجارة من حيث شروط الصحة وأنواع التجارة، فلا يجري فيها الربا ولا بيع الخمر والخنزير ولا يفرض عليهم العشر؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((في العهود وفاء لا غدر، لا أحل لكم شيئًا من أموال المعاهدين إلا بحق)) (2) . أما إذا كانوا أجانب أي غير مسلمين فيتقيدون كذلك بما يتقيد به تجار المسلمين ويؤخذ منهم ضريبة على تجارتهم معاملة بالمثل مع المسلمين. (3) .
(ب) المعاهدات السياسية:
وأعني بها المعاهدات ذات الأجل الطويل كصلح الحديبية الذي حدد بعشر سنوات، أو الدائمة، وهي جائزة أخذًا من عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (4) .
ومن فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المعاهدات التي أبرمها مع عدد من الدول منها: معاهدته مع اليهود في المدينة وكانت معاهدة دائمة غير موقوتة ومنها معاهدته مع أهل أيلة وفيها ((هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة: سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيب لمن أخذه من الناس. وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقًا يريدونه من بر أو بحر)) . (5) ومعاهدته مع أهل جرباء وأذرح، وأهل مقنا (6) ومعاهداته مع نصارى نجران (7) . وأخذًا من فعل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في المعاهدات ـ لتجديد أبي بكر العهد للنجرانيين ومعاهدة عمر بن الخطاب مع نصارى المدائن وفارس. ومعاهدة حذيفة بن اليمان مع أهل ماه دينار (بفارس) ومعاهدة النعمان بن مقرن مع أهل ماه بهراذان (بفارس) ومعاهدة عبد الله بن قيس مع أهل أصفهان (بفارس) ، وغيرها من المعاهدات (8) . ويقول الشيخ محمد أبو زهرة: "ولقد ادعى بعضهم لهذا أن الصلح الدائم لا يجوز في الشرع الإسلامي، وما جاء به من النصوص يسوغ هذا الصلح بإطلاق قد نسخ وغير حكمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد جاء في شرح السير الكبير للسرخسي عند الكلام في قوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} .
__________
(1) العلاقات الدولية في الإسلام: ص 150
(2) المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون العام، للدكتور محمود الديك: ص 143
(3) فتح القدير: 3/ 224
(4) سورة البقرة: الآية 208
(5) مجموعة الوثائق السياسية، لحميد الله: ص 34، طبع القاهرة سنة 1941
(6) جرباء وأذرح في جنوب الأردن من محافظة معان، ومقنا بلدة كانت جنوب العقبة
(7) مجموعة الوثائق السياسية: ص 80
(8) يراجع كتاب الوثائق السياسية، لحميد الله(7/1683)
واختلف المفسرون، فقال بعضهم: الآية منسوخة، وقال قوم: إنها غير منسوخة. وقد اعتبر الذين قالوا إن آية منع قتال المسالمين غير منسوخة هم الأكثرية" (1) ، وجاء في الهداية: "ولا يقتصر الحكم على المدة المروية (2) لتعدي المعنى إلى ما زاد عليها" (3) . قال الكمال بن الهمام في شرحه على الهداية: "وبهذا يندفع ما نقل عن بعض العلماء من منعه أكثر من عشر سنين وإن كان الإمام غير مستظهر وهو قول الشافعي، ولقد كان في صلح الحديبية مصالح عظيمة، فإن الناس لما تقاربوا انكشف ما سن الإسلام للذين كانوا متباعدين لا يعقلونها من المسلمين لما قاربوهم وتخالطوا بهم". (4)
والخلاف بين من يقول بجواز الصلح الدائم، ومن يقول بعدم جوازه، هو الخلاف في أساس العلاقات الدولية في الإسلام، هل هو السلم أو الحرب، فمن قال هو السلم أجاز المعاهدة الدائمة، ومن قال هو الحرب منع المعاهدة الدائمة. علمًا بأن قومًا قالوا بعدم جواز المعاهدة أصلًا مستشهدين بقوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (5) .
وهذا مدفوع بما ذكرناه من آيات السلم وفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأوضاع الدولية في أيامنا هذه، واختلاف الزمان والأحوال يجعلنا نميل إلى اعتبار السلم هو أساس العلاقات الدولية وإلى جواز المعاهدات الدائمة ما كانت خيرًا للإسلام والمسلمين.
ويشترط للمعاهدة الدائمة أن لا تكون مع مشركي العرب فإنه لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، بقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (6) .
وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (7) .
أما أهل الكتاب فالمعاهدة معهم جائزة على أساس دفع الجزية، ويلحق بهم المجوس "والفرق بين مشركي العرب ومشركي العجم أن مشركي العجم (ومثلهم أهل الكتاب) إنما تركوا بالذمة وقبول الجزية لا لرغبة في أن يؤخذ منهم أو طمع في ذلك، بل الدعوة إلى الإسلام، ليخالطوا المسلمين فيتأملوا في محاسن الإسلام وشرائعه، وينظروا فيها فيروها مؤسسة على ما تحتمله العقول وتقبله فيدعوهم ذلك إلى الإسلام، فيرغبون فيه، فكان عقد الذمة لرجاء الإسلام، وهذا المعنى لا يحصل بعقد الذمة لمشركي العرب" (8) . ونقول بأن هذا الشرط لا معنى له في أيامنا هذه، وقد انتهى الشرك من جزيرة العرب، ومن العرب، وإن كان حل محله الإلحاد، ولذلك نقول: لا معاهدة مع عرب ملاحدة، ولا يقبل منهم إلا الإسلام، أو السيف، لما مر معنا من الآيات.
__________
(1) مقدمة طبعة جامعة القاهرة، لكتاب السير الكبير: ص 5
(2) أي مدة السنين العشر في صلح الحديبية
(3) الهداية، للمرغيناني: 2/ 103
(4) شرح فتح القدير: 5/ 205
(5) سورة آل عمران: الآية 139، وانظر: كتاب الشريعة الإسلامية، والقانون الدولي لعلي علي منصور: ص 378
(6) سورة الفتح: الآية 16
(7) سورة التوبة: الآية 5
(8) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر علاء الدين الكاساني: 9/ 4329(7/1684)
ومنها:
(ج) المعاهدات العسكرية:
سبق أن بينا أن المعاهدة في الإسلام هي: عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمها كل منهم (1) . وأنها في القانون اتفاق مكتوب بين شخصين أو أكثر من الأشخاص الدولية مِن شأنِه أن ينشئ حقوقًا والتزامات متبادلة في ظل القانون الدولي (2) . أو أنها اتفاقات تعقدها الدول بغرض إيجاد علاقات قانونية بينها أو تعديلها، أو إنهائها (3) . وأن هذه المعاهدات قد تكون تجارية أو غيرها.
غير أن من هذه المعاهدات ما هو عسكري، تعقد بين دولتين أو أكثر لغايات عسكرية كالدفاع عن أرض دولة أو مهاجمة دولة أخرى، أو لحماية الدولة من اعتداءات آخرين أو لدفع أذى إحدى هاتين الدولتين أو لأي مصلحة أخرى.
وهذه المعاهدات إذا كانت لصالح المسلمين وتحت راية المسلمين، فهي جائزة، وإن كان الأصل أن يكون المسلمون في دولة واحدة وخلافة واحدة، لكن عند انقسامات تحصل بين المسلمين كما حصل في دول الأمراء والسلاطين في ظل الخلافة العباسية أو عندما تعددت الخلافات الإسلامية إلى ثلاث: الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في مصر، والخلافة الأموية في الأندلس، أو في تعدد الممالك الإسلامية كدولة المماليك في مصر، ودولة المغول في شرق آسيا والهند، وكدولة الصفويين في فارس، ودولة العثمانيين في تركيا، إن كانت المعاهدات العسكرية بين دول الإسلام لدفع العدوان أو للجهاد في سبيل الله فمثل هذه المعاهدات جائزة شرعًا؛ لأنها تعاون على البر والتقوى ولتقوية المسلمين، وإن كانت للتعاون مع الأجنبي ضد المسلمين أو أي دولة من دول الإسلام؛ فالمعاهدة غير جائزة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تستضيئوا بنار المشركين)) ، والمعاهدات أو الاتفاقات في الإسلام يجب أن تخضع لأحكام الإسلام، فإذا خالفتها فليس لها إلزام على المسلمين بخلاف المعاهدات الدولية بين الدول الأخرى، فإنها تخضع لمبادئ القانون الدولي وأعرافه (4) ، ومن هنا فإن الاتفاقات العسكرية التي تعقد بين المسلمين وغير المسلمين تنقسم إلى قسمين:
(أ) المعاهدات التي تعقد بين المسلمين وبين غير المسلمين لدرء خطر متوقع أو اتقاء ضرر محتمل ولا يمكن أن يدفع ذلك إلا بمعاهدة مع غير المسلمين، فيجوز ذلك شريطة أن لا يكون المسلمون تحت راية الكفر، أو أن يقاتلوا مع الكفار، أخوة لهم من المسلمين والدليل على ذلك عقد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المعاهدة مع بني قريظة لاتقاء شر هجوم قريش الكافرة، وذهب إلى هذا الرأي الحنفية والشافعية، بشرط أن تكون الاستعانة على قتال المشركين لا البغاة وقالوا: إن ما ورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ من رد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمشرك كان ذا جرأة ونجدة أراد أن يحارب مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم بدر، وقال له: ((ارجع فلن نستعين بمشرك)) منسوخ، بدليل استعانته ببني قينقاع، وقسم لهم من الغنيمة. واستعانته بصفوان بن أمية في حرب هوازن.
(ب) المعاهدات العسكرية التي تقضي على قوة المسلمين، أو تجعلهم يخضعون لحكم الأعداء، أو يقاتلون من أجل مصلحة الأعداء، أو لقتال المسلمين الآخرين، فهذه معاهدات غير جائزة، لقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5) .
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (6) .
__________
(1) شرح السير الكبير: 4/ 154
(2) القانون الدولي العام، للدكتور محمد عزيز شكري: ص 369
(3) القانون الدولي العام، لعلي صادق أبو هيف: ص 526
(4) يراجع كتاب الوثائق السياسية، لحميد الله
(5) سورة المائدة: الآية 51
(6) سورة المائدة: الآية 57(7/1685)
وقد ورد النهي عن القتال تحت راية الكفار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تستضيئوا بنار المشركين)) (1) . والنار كناية عن الحرب. وقال: ((أنا بريء من كل مسلم مع مشرك)) ، فقيل: "لم يا رسول الله؟ " فقال: ((لا تراءى نارهما)) (2) .
والنهي ينصب على الاستعانة بالكفار دولة وكيانًا، وأما الاستعانة بالأفراد فجائزة، فقد قاتل قزمان من مشركي الأنصار مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في معركة أحد، أما عدم الاستعانة بأهل الكتاب، فلما ورد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج يوم أحد فإذا كتيبة حسناء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من هؤلاء؟)) ، قال أبو خشناء (أحد الصحابة) : يهود كذا وكذا، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا نستعين بالكفار)) ، وعن أبي حميد الساعدي قال: خرج ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى إذا كان خلف ثنية الوداع إذا كتيبة، قال: ((من هؤلاء؟)) قالوا: بنو قينقاع رهط عبد الله بن سلام "قال: ((أو تسلموا!)) ! قالوا: لا"، فأمرهم أن يرجعوا، وقال: ((إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين)) (3) .
والأحلاف العسكرية تدخل في حكم المعاهدات والاتفاقات العسكرية، من حيث الجواز وعدم الجواز.
على أن من الفقهاء من يرى الاستعانة بالمشركين من غير اتفاق أو معاهدة أو حلف أي إذا خرجوا طوعًا مع المسلمين، قال الشافعي: "فلا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعًا" (4) .
__________
(1) رواه أحمد والنسائي عن أنس بن مالك، وانظر جمع الجوامع: 1/ 892
(2) أحكام القرآن للجصاص، 2/10، ومعنى تراءى نارهما: أي لا ينزل بالموقع الذي إذا أوقعت فيه ناره تظهر لنار المشرك، إذا أوقدها، ولكنه ينزل مع المسلمين دارهم
(3) رواه أحمد بن حنبل , والبخاري في كتاب التاريخ
(4) الأم، الشافعي، طبعة دار الشعب: 4/177(7/1686)
شروط المعاهدات:
يشترط في المعاهدات لصحتها من وجهة نظر الإسلام ما يلي:
1 ـ الأهلية:
إن من يملك عقد المعاهدات هو الإمام أي رأس الدولة الإسلامية، أو من ينيبه، جاء في المغني:"ولا يجوز عقد الهدنة إلا من الإمام أو نائبه؛ لأنه عقد مع جملة الكفار، وليس ذلك لغيره؛ ولأنه يتعلق بنظر الإمام، وما يراه من المصلحة (1) . وجاء في الشرح الصغير "وجاز للإمام أو نائبه للكافرين" (2) . وهذا عند جميع المذاهب. أما في الاتفاقات الجزئية فقد يبرمها قائد الجيش أو مع الأفراد كما سيأتي في موضوع "الأمان" لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ويسعى بذمتهم أدناهم)) . ويشترط أن يرد ذلك إلى الإمام فإن كان صحيحًا أمضاه وإلا لم يصح، إذ قد يكون فيه شرط يتعارض مع تعاليم الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)) . (3) . كأن يشترط نزع سلاح المسلمين أو التنازل عن إقليم من أقاليم بلاد المسلمين، أو اشترط بسط السيادة على إقليم من بلاد المسلمين.
إلا أنه عند الضرورة القصوى يجوز أن يدفع المسلمون مالًا للعدو إذا خافوا على أنفسهم أو الخطر على بلد من بلادهم أو مقابل انسحاب العدو من أرض المسلمين، أو مقابل افتداء الأسرى (4) .
وشرط العاقد أن يكون مسلمًا مميزًا أو بالغًا.
2 ـ الرضا:
أن يتم عقد المعاهدة بالرضا، لا بالإكراه، وهو ارتياح النفس وانبساطها عن العمل ترغب فيه وتستحسنه (5) وعادة ما يكون عقد المعاهدات بعد تحضير ذلك من المختصين وعرضه على الإمام وإن كان هناك مجلس شورى، أو مجلس نواب، فتعرض عليهم ثم يبرمها الإمام أو نائبه، أو مجلس الوزراء إن وجد.
__________
(1) المغني لابن قدامة: 9/ 98
(2) الشرح الصغير على أقرب المسالك، للشيخ الدردير: 3/ 283
(3) انظر بدائع الصنائع: 9/ 4324؛ والمبسوط للسرخسي: 10/ 87؛ وروضة الطالبين: 10/ 435؛ والشرح الصغير: 3/ 308؛ وانظر كتاب المعاهدات: ص 197
(4) المعاهدات، للدكتور محمود الديك: ص 173
(5) المعاهدات، للدكتور محمود الديك: ص 173(7/1687)
ومنها:
(د) الأمان:
الأمان عقد يفيد ترك لقتال مع الحربيين، أو هو رفع استباحة دم الحربي، ورقِّّه وماله حين قتاله أو العزم عليه مع استقراره تحت حكم الإسلام مدة ما (1) .
والأمان: من الأمن، وهو نوعان: ـ باعتبار من يعطي الأمان ـ: خاص، وعام.
(أ) فالأمان الخاص: بفرد من الحربيين يجوز لآحاد المسلمين أن يؤمِّنوا آحادًا من المحاربين الكفار بشرط أن لا يتعطل الجهاد بأمانهم في ناحية كالواحد والعشرة والمائة، وأهل حصن. لقوله عليه الصلاة والسلام: ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم)) (2) . ويصح من كل مسلم مكلف مختار يستوي فيه الحر والعبد والغني والفقير والرجل والمرأة؛ لقوله عليه السلام لأم هانئ: ((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)) (3) ؛ ولأن زينب بنت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمنت زوجها أبا العاص، وأجازه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال صلى الله عليه وسلم: ((ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) (4) ، وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: "إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز". ويرى أن عبدًا مسلما أعطى أمانًا لأهل حصن تحصنوا به فأرسل أمير الجيش إلى عمر يستعينه، فكتب إليه عمر: "إن عبد المسلمين من المسلمين ذمته ذمتهم". (5) .
__________
(1) مغني المحتاج: 4/ 276، ومواهب الجليل، شرح مختصر خليل: 3/ 360
(2) حديث حسن، أخرجه أبو داود
(3) أخرجه البخاري تحت عنوان "باب أمان النساء وجوارهن" , ورواه مسلم، ومالك في الموطأ، وأبو داود، وانظر البدائع: 9/ 4320
(4) نيل الأوطار: 8/ 28
(5) النظم الإسلامية، لأبي الحمد موسى: 2/ 208(7/1688)
(ب) الأمان العام: وهو عقد مع العدو الذي لا يُحصر، وهذا الأمان لا يكون إلا من الدولة، من الإمام أو من نائبه، مع أن الإمام له أن يعطي الأمان للجميع وللآحاد؛ لأن ولايته على الأمة جميعها. قال محمد بن الحسن في كتابه (السير الكبير) : " لو حاصر المسلمون حصنًا فليس ينبغي لأحد منهم أن يؤمِّن أهل الحصن إلا بإذن الإمام؛ لأنهم أحاطوا بالحصن فعلًا، ولأن كل مسلم تحت طاعة الأمير.. ولأن ما يكون رجعة إلى عامة المسلمين في النفع والضرر فالإمام هو المنصوب للنظر فيه". (1) ، ومع ذلك، فلو أعطى أحد المسلمين الأمان العام بغير إذن الإمام فهو جائز لأن عليه صحة الأمان، وهو حق لكل مسلم لكن لضرورة التنظيم، ولضبط الأمور، ولتقدير الموقف العام للدولة؛ لا بد من الرجوع للإمام، وقد أعطي الحق للمسلم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويسعى بذمتهم أدناهم)) .
وركن الأمان: اللفظ الدال على الأمان مثل أجرتك وأمّنتك، ولقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} (2) .
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)) (3) .
وتعتبر الإشارة كالعبارة، لما ورد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قوله: "أيما رجل دعا رجلًا من المشركين وأشار إلى السماء فقد أمنه، وإنما نزل بعهد الله وميثاقه"، وقوله: " لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك فنزل بأمانه فقتله لقتلته به". (4) .
وحكم الأمان: ثبوت الأمن للحربي غير مسلم (5) . وهذا خلاف ما عليه القانون الدولي العام، وما عليه الدول المعاصرة من قطع العلاقات السلمية بين الدولتين المتحاربتين إذ يحظر كل اتصال بينهما إلا لمصلحة ضرورية مثل تأمين الأطباء والمرضى لإغاثة الجرحى (6) . والسبب في هذا الاختلاف، أن دولة الإسلام في حربها هي للدعوة الإسلامية فدخول الحربي بأمان إلى بلاد المسلمين واختلاطه بهم قد يؤدي به إلى اعتناق الإسلام، ولا يخشى على المسلمين من تجسسهم فعيونهم يقظة وتماسكهم وحرصهم على مصلحة الإسلام تمنع المتجسس من اختراق المسلمين ومعرفة أسرارهم الحربية.
وصفة الأمان: أنه عقد غير لازم فلو رأى الإمام المصلحة في النقض نقضه (7) لكن لا بد أن يخبر الحربي بذلك حتى لا يكون غدر في عهد الأمان. وإذا كان الأمان بوقت معلوم فصفته أن يستمر إلى نهاية المدة.
ومدة الأمان للمستأمن غير محدودة إلا أن بعض الأئمة حددها بمدة أقصاها سنة، فإن تجاوزها أصبح ذميًّا متى قبل الجزية.
وواجب المستأمن: أن يحافظ على الأمن والنظام العام وأن يتقيد بأحكام الإسلام، وأن لا يكون عينًا أو جاسوسًا علينا وإلا فيعاقب على ذلك بما يوازي جريمته. (8)
والأمان قد يكون مؤقتًا وغير مؤقت، فالأمان غير مؤقت هو عقد الذمة، وغير المؤقت هو الأمان الذي يعطى للحربي (ويدخل فيه المعاهد) ، لفترة من الوقت، لغرض من الأغراض التجارية أو لزيادة الأقارب، أو المطالبة بحق معين. وقد أصبح له الآن إجراءات أمنية كإعطاء تأشيرة الدخول من السفارات والإذن بالإقامة ومراجعة الشرطة، والإقامة المؤقتة، ويعتبر هذا الأمان أمانًا سلميًّا.
وهناك أمان غير سلمي يعطى للمحاربين في أثناء الحرب للجند المحصورين للتسليم والأمان غير الموادعة والهدنة (9) .
__________
(1) انظر: كتاب الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام: ص 348
(2) سورة التوبة: الآية 6
(3) شرح المواهب اللدنية للزرقاني: 2/ 313، المطبعة الأزهرية: سنة 1325هـ
(4) الشرح الصغير على أقرب المسالك للدردير: 2/ 288؛ ومنتهى الإرادات: 1/ 325
(5) بدائع الصنائع: 9/4320
(6) المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، للدكتور محمود الديك: ص 153
(7) بدائع الصنائع: 9/ 4321
(8) الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام: ص 349
(9) الشرح الصغير، للدردير، التعليق: 2/ 283(7/1689)
الموادعة:
الموادعة لغة: من وادع بمعنى صالح وسالم، وهي من ودع يدع ودعا سكن واستقر أي صار إلى الدعة، وهي السكون. يقال توادع الفريقان، أي تعاهدا على أن لا يغزو أحدهما الآخر.
والموادعة شرعًا هي المعاهدة، والصلح على ترك القتال، وهي نوع من أنواع الأمان والمعاهدة، فهي أعم من الأمان المؤقت، وأخص من المعاهدة لأن المعاهدة تشمل أنواعًا أخرى من المعاهدة، ونستطيع أن نقول: إن الموادعة هي: "معاهدة صلح بين الفريقين المتحاربين على ترك القتال".
والموادعة لها ركن، وشرط وحكم وصفة:
أما ركنها: فهو لفظ الموادعة أو ما في معناها كالمسالمة أو المصالحة.
وأما شرطها: فالضرورة؛ لأن ترك الجهاد وهو فرض لا يجوز إلا في حال أن يقع وسيلة إلى استئناف الجهاد، وذلك لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} .
وقد وادع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل مكة، ولا يشترط إذن الإمام بالموادعة، ولا بأس أن يأخذ المسلمون جُعْلًا مقابل الموادعة، والجعل: المال.
وحكم الموادعة: الأمان على أنفس الموادعين وأموالهم وذراريهم ونسائهم وبلدانهم حتى لو خرجوا إلى بلد أخرى غير بلدتهم، فيبقى حكم الموادعة ساريًا عليهم، ولو دخل إلى دارهم رجل آمن بأمانهم فهو آمن منا بموادعتنا لهم.
وأما صفة الموادعة: فهو عقد غير لازم محتمل للنقض، لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (1) .
فيقاتلون بعد ذلك. هذا إذا كان النبذ منا، وإذا كان النبذ من الأعداء فيقاتلون كذلك.
وإذا وادعهم الإمام على مال ثم بدا له أن ينقضه أرجعه إليهم بحصة ما بقي من المدة.
وإذا كانت الموادعة على أن يجري عليهم أحكام الإسلام فالعقد لازم لا يحتمل النقض كما وادع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل جرباء وأذرح والعقبة (2) .
ونقول: هل الموادعة هدنة؛ لأن معنى الهدنة الصلح المؤقت وتستمر حالة الحرب بين الطرفين المتحاربين حتى تعقد معاهدة دائمة، أو يستأنف القتال، والموادعة هي المعاهدة على ترك القتال لفترة معينة أو لمدة أطول؟ ورأيي أن الموادعة هدنة لاتفاقهما في المعنى.
__________
(1) سورة الأنفال: الآية 58
(2) بدائع الصنائع: 9/ 4324، والاختيار: 4/ 120؛ والمبسوط: 10/ 86، والأم، للشافعي: 4/ 190، وأغلب العبارات للكاساني صاحب البدائع(7/1690)
والموادعة قد تكون محددة بمدة وقد لا تكون:
والمدة عند الشافعية، تكون أربعة أشهر إلى أقل من سنة، إذا كان بالمسلمين قوة، لقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} (1) .
ولأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هادن صفوان بن أمية أربعة أشهر عام الفتح؛ ولأن الجزية تجب سنويًّا. فقد رأى الشافعي أن مدة الموادعة على سنة (2) .
وأما غير الشافعي من الجمهور، فإنهم لم يحددوا للموادعة مدة إنما تركوا لاجتهاد الإمام وبقدر الحاجة، والحاجة تقدر بقدرها. علمًا بأنه لا يجوز أن تكون الموادعة مطلقة إلى الأبد إلا إذا كانت الموادعة على الأموال، فتكون أبدية عند الشافعية، جاء في الفتاوى الهندية (العالمكيرية) : "وتجوز مدة الموادعة أكثر من عشر سنين على ما يراه الإمام من المصلحة " (3) .
وجاء في الاختيار لتعليل المختار، قوله: "وتجوز الموادعة أكثر من عشر سنين على ما يراه الإمام من المصلحة لأن تحقيق المصلحة والخير لا يوقت بمدة دون مدة". (4) وذلك لقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (5) .
والأصل في الموادعة أن لا تكون إذا كان بالمسلمين قوة، إلا لمصلحة يراها الإمام أو الدولة أما إذا لم يكن بالمسلمين قوة فالموادعة جائزة، وذلك لضعف يعجزون معه عن القتال، أو لكي يتفرغوا لأعداء آخرين، أو لقمع فتنة بين المسلمين، أو خشية من ضياع جزء من بلاد المسلمين، أو أي مصلحة معتبرة شرعًا (6) .
والله سبحانه وتعالى الموفق الهادي إلى سواء السبيل.
الدكتور عبد العزيز الخياط
__________
(1) سورة التوبة: الآيتان 1، 2
(2) الأم، الشافعي: 4/ 190
(3) الفتاوى الهندية: 2/ 197
(4) الاختيار، للمودودي: 4/ 121
(5) سورة النساء: الآية 90
(6) المعاهدات، للدكتور محمود الديك: ص 298(7/1691)
قائمة المراجع
بحسب ورودها في البحث
1 ـ النظم الإسلامية، للدكتور صبحي الصالح.
2 ـ القرآن والقتال، للشيخ محمود شلتوت، طبع دار الكتاب العربي بمصر سنة 1951م.
3 ـ أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد علي، الرازي الجصاص، طبع المطبعة البهية بمصر سنة 1347هـ.
4 ـ رد المحتار على الدر المختار، لمحمد أمين المعروف بابن عابدين، المطبعة الأميرية، سنة 1326هـ.
5 ـ شرح فتح القدير، لكمال الدين المعروف بابن الهمام، طبع دار إحياء التراث العربي، بالقاهرة.
6 ـ الهداية شرح بداية المبتدي لأبي الحسن علي بن أبي بكر المرغيناني، مطبعة الحلبي، سنة 1936م.
7 ـ السياسة الشرعية لعبد الوهاب خلاف ـ المطبعة السلفية، بالقاهرة.
8 ـ مبادئ نظام الحكم في الإسلام، لعبد الحميد متولي طبع دار المعارف سنة 1966م.
9 ـ تفسير القرآن العظيم، لابن كثير القرشي، طبع دار إحياء الكتب العربية.
10 ـ تفسير روح البيان، للآلوسي.
11 ـ العلاقات الدولية في الإسلام، للدكتور وهبة الزحيلي، مؤسسة الرسالة، سنة 1981م.(7/1692)
12 ـ الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، للدكتور محمد البهي، نشر مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الرابعة.
13 ـ مجموعة رسائل ابن تيمية.
14 ـ تفسير الرازي.
15 ـ شرح السير الكبير للإمام محمد بن الحسن الشيباني.
16 ـ الموسوعة في سماحة الإسلام، للشيخ محمد الصادق عرجون، نشر مؤسسة سجل العرب بالقاهرة، سنة 1972م.
17 ـ العلاقات الدولية، للدكتور كاظم هاشم نعمة. طبع فرنسا، عام 1979م.
18 ـ المعجم الوسيط.
19 ـ الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، لعلي علي منصور، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، سنة 1965م.
20 ـ دولة الإسلام والعالم، لمحمد حميد الله، طبع القاهرة، سنة 1962م.
21 ـ قانون السلام في الإسلام، للدكتور محمد طلعت الغنيمي، طبع الإسكندرية، سنة 1989م.
22 ـ مبادئ القانون الدولي العام، للدكتور إبراهيم أحمد شلبي، نشر الدار الجامعية بالقاهرة، سنة 1986م.
23 ـ سبل السلام شرح بلوغ المرام، للصنعانيِ، طبع المكتبة التجارية الكبرى، بالقاهرة سنة 1357هـ.
24 ـ الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير، لشرف الدين السياغي، مكتبة المؤيد بالطائف.
25 ـ النظم الإسلامية، للشيخ أبو الحمد موسى، دار الطباعة المحمدية بالقاهرة.
26 ـ المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، للدكتور محمود الديك، طبع مطابع البيان، بدبي، سنة 1983م.(7/1693)
27 ـ كتاب الخراج لأبي يوسف، طبع المطبعة السلفية. سنة 1392هـ.
28 ـ مجموع الوثائق السياسية، لحميد الله، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، سنة 1941م.
29 ـ بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني، نشر زكريا يوسف سنة 1972م.
30 ـ القانون الدولي العام، للدكتور محمد عزيز شكري.
31 ـ الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي، للدكتور فتحي عبد الكريم مكتبة وهبي بالقاهرة.
32 ـ المغني، لابن قدامة.
33 ـ الأم، للشافعي، طبعة دار الشعب.
34 ـ الشرح الصغير على أقرب المسالك، للشيخ الدردير، طبع دار المعارف، بمصر سنة 1392هـ.
35 ـ المبسوط، للسرخسي.
36 ـ مواهب الجليل شرح مختصر خليل.
37 ـ مغني المحتاج.
38 ـ الاختيار شرح المختار، للمودودي.
39 ـ الفتاوى الهندية.(7/1694)
أصول العلاقات الدولية
بين الإسلام والتشريعات الوضعية
إعداد
الدكتور محمد الدسوقي
أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
يختلف الإسلام عن سائر الأديان السماوية بأنه دعوة عالمية، بُعث بها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وقد وردت في الكتاب العزيز آيات كثيرة، ونقل الرواة الثقات أحاديث عدة، وكل هذه الأحاديث وتلك الآيات بيان صريح عن عالمية الإسلام، وأنه رسالة عامة خالدة، جاءت لتخاطب في الإنسان فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومن ثَمَّ كانت صالحة للتطبيق الدائم إلى يوم الدين.
وفضلًا عما ورد في القرآن الكريم من آيات تتحدث عن عالمية الإسلام وأيضًا عما اشتملت عليه كتب السنة من أحاديث تبين أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين، فإن هناك مسألتين تؤكدان عموم رسالة الإسلام، وأنها آخر الرسالات الإلهية، وهما:
أولًا: طبيعة المعجزة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: تعاليم الإسلام.
أما المسألة الأولى فإن معجزة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تحدى بها العرب هي القرآن الكريم، وقد اقتضت مشيئة الله أن يكون لكل نبي معجزة تثبت أنه رسول الله صادق فيما يدعو إليه، وليس دَعِيًّا أو متنبئًا، وكانت معجزات الأنبياء الذين بعثوا قبل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حسية مادية، كما أنها معجزات شخصية بمعنى أن وجودها وبقاءها مرتبطة بشخصية الرسول، فإذا توفاه الله أصبحت هذه المعجزة خبرًا يروى، وأثرًا ينقل كمعجزات عيسى وموسى وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه، ولكن معجزة القرآن ليست كذلك، فهي عقلية غير حسية، وهي أيضًا غير شخصية , فهي باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والناس بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرون معجزته كمن شاهدوا محمدًا وخاطبوه. (1) فهي من ثم معجزة الدهر وصوت الحق إلى الخلق، حتى يقوم الناس لرب العالمين.
وتؤكد تعاليم الإسلام عالمية هذا الدين، فهذه التعاليم تخاطب الفترة الإنسانية، وتنظر إلى الإنسان نظرة واقعية، وتحترم العقل البشري، وتسوي بين الناس كافة في الحقوق والواجبات، لهذا لا تعرف الإقليمية أو العنصرية، فهي إنسانية عامة، تلبي حاجة كل المجتمعات على اختلاف الأزمان والبلدان.
__________
(1) انظر القرآن المعجزة الكبرى، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 15، طبعة دار الفكر العربي، القاهرة(7/1695)
إن بقاء معجزة الإسلام، وحفظها من التحريف والتبديل، واشتمالها على تلك التعاليم التي صلح عليها أمر الدنيا والآخرة، لدليل واضح على أن دعوة الإسلام دعوة عالمية، وأنها خاتمة الرسالات الإلهية، ومهيمنة عليها , ولا ينكر هذا أو يماري فيه إلى من ألغى عقله، أو سيطر التعصب عليه، وبغى علوًّا في الأرض وفسادًا.
وما دام الإسلام دعوة عالمية ورسالة الله الخاتمة إلى الناس جميعًا فإنه في أحكامه لا يعرف حدودًا مكانية أو زمانية، ولكن لأن هذا الدين القويم لا يعرف الإكراه في الإيمان به اقتضت الظروف أن يكون الإسلام إقليميًّا من حيث التطبيق، وإن كان في الأساس عالميًّا لا يخص قومًا دون قوم، ولا عصرًا دون عصر، فالعالم كله مخاطب به، وهكذا يصبح الإسلام رسالة عالمية إذا نظرنا إليه من الوجهة العلمية، وإقليميًّا إذا نظرنا إليه من الوجهة العملية (1) .
على أن إقليمية الإسلام من الوجهة العملية لا تأثير لها عليه من الوجهة العلمية؛ لأن لهذا الدين مبادئه العادلة التي تحكم علاقته بغير المؤمنين به سواء أكانوا مقيمين في دياره أم كانوا مقيمين في ديار خاصة بهم، وهذه المبادئ التي أصبحت تعرف في العصر الحديث بالقانون الدولي، تؤكد عالمية الإسلام، وأنه أقوم منهاج لحياة الإنسان في كل مكان، وأن الفكر البشري مهما يبدع من آراء ونظريات فإنه لن يبلغ مبادئ الإسلام وتعاليمه: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (2) .
وعن تلك المبادئ التي تحكم علاقة المسلمين بغيرهم تعرض هذه الدراسة في إيجاز مع الاهتمام بالأصول الكلية والقواعد العامة دون تشقيق القول في الفروع والجزئيات.
ويقوم منهج هذه الدراسة على ما يلي:
أولًا: أصول القانون الدولي في التشريعات الوضعية.
ثانيًا: أصول القانون الدولي في الإسلام.
ثالثًا: الموازنة بين الإسلام وتلك التشريعات حول هذه الأصول.
وأخيرًا خاتمة تحتوي على أهم نتائج الدراسة وبعض ما ترشد إليه من توصيات.
__________
(1) انظر التشرع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالتشريع الوضعي، للأستاذ عبد القادر عودة: 1/ 275، طبعة دار التراث القاهرة
(2) سورة البقرة: الآية 138(7/1696)
أولًا:
أصول القانون الدولي في التشريعات الوضعية
يراد بالقانون الدولي في التشريعات التي تنظم علاقة الدول بعضها ببعض، كما تنظم علاقة الأفراد المختلفي الجنسية في دولة من الدول، ومن هنا ينقسم هذا القانون قسمين: القانون العام، والقانون الدولي الخاص، ولكل منهما عدة تعريفات تختلف من حيث الصياغة، بيد أنها لا تختلف غالبًا من حيث المضمون.
ومن التعريفات التي وضعت للقانون الدولي العام أنه "مجموعة من القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول، وتحدد حقوق كل منها وواجباتها في حالتي السلم والحرب" (1) .
وهذا التعريف وإن امتاز بعدم النص على مسائل هي محل جدل بين فقهاء القانون وشراحه، ومنها وصف تلك القواعد بأنها ملزمة للدول، وأنهاعرفية أو اتفاقية، وأن الدول التي تأخذ بها هي المتمدنة (2) دون غيرها، أغفل الإشارة إلى الهيئات الدولية التي تتولى الإشراف على تنفيذ مبادئه، ولذلك عرفه بعض فقهائه بأنه القانون الذي يحتوي من ناحية على القواعد والمبادئ التي تحكم التزامات الدول في علاقاتها المتبادلة، وهو يبين لنا من جهة أخرى القواعد الخاصة بالتنظيم الدولي؛ أي بنظام وكيفية سير الهيئات التي أنشئت لمصلحة الجماعة الدولية، وحدد سلطاتها واختصاصاتها، وذلك مثل هيئة الأمم ومكتب العمل الدولي. (3)
وأما القانون الدولي الخاص فمن التعريفات الجامعة لهذا القانون أنه "مجموع القواعد القانونية التي يطبقها القضاء بأمر صريح أو ضمني من المشروع لتحديد اختصاص محاكم الدولة إزاء محاكم الدول الأخرى بالحكم في القضايا المدنية ذات العنصر الأجنبي التي تقع بين الأفراد، وإسنادها إلى القانون الذي يجب أن يحكم فيها بمقتضاه". (4) .
__________
(1) الشريعة الإسلامية، والقانون الدولي العام، للأستاذ علي علي منصور: ص 80، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية القاهرة
(2) الشريعة الإسلامية، والقانون الدولي العام، للأستاذ علي علي منصور: ص 80، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية القاهرة
(3) مبادئ القانون الدولي العام، للدكتور محمد حافظ غانم: ص 23، طبعة ثانية، القاهرة
(4) انظر القانون الدولي الخاص، للدكتور علي الزيني: ص 44، طبعة الاعتماد، القاهرة(7/1697)
من تاريخ القانون الدولي في التشريعات الوضعية:
يجدر بنا قبل الحديث عن أصول القانون الدولي بقسميه الإشارة إلى طرف من تاريخ هذا القانون، وكيف تطور عبر التاريخ حتى وصل إلى ما وصل إليه في العصر الحديث.
مما لا جدال فيه أن الدول تقوم بينها علاقات مختلفة منذ أقدم العصور وأن هذه العلاقات كانت تخضع لبعض القواعد والضوابط بصرف النظر عن مصدرها، أو عدم الأخذ بها في أغلب الأحيان.
وقد سجل التاريخ في عهد الفراعنة معاهدة صلح بين رمسيس الثاني فرعون مصر، وبين أمير الحيثيين في أسيا الصغرى بعد حرب طاحنة بين الدولتين، ويمكن أن تكون شروط هذه المعاهدة أقدم ما عرف من القواعد الدولية التي أخذت بها الدول في بعض علاقاتها (1) .
ولم تعرف أوروبا حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي قانونًا دوليًّا ينظم العلاقات بين الدول، وذلك أن الحاجة إلى هذا القانون لم تظهر إلا بعد انهيار الإمبراطورية الجرمانية الرومانية، وانتهائها بوفاة آخر أباطرتها فردريك الثالث سنة 1493م، فقد تفرقت أوروبا بعد انتهاء هذه الإمبراطورية التي ظلت زهاء خمسمائة عام إلى دول كثيرة مستقلة، وقامت بين هذه الدول الناشئة علاقات وخلافات متباينة بسبب الحدود والحروب، ومن ثم ظهرت الحاجة ملحة إلى قانون دولي ينظم هذه العلاقات.
واتجه العلماء نحو القانون الروماني يستوحونه، ونشأت حركة علمية ـ شجعتها ملابسات عصر النهضة وحركة الإصلاح الديني ـ غرضها بيان ما يجب على الدول وعلى رؤسائها اتباعه من قواعد في شأن قيام العلاقات بينهم، وتزعم هذه الحركة الرعيل الأول من علماء القانون الدولي (2) ، ويذكر في مقدمة هؤلاء ميكافيلي الإيطالي، وجرتيوس الهولندي، لأثرهما الكبير في تطور القانون الدولي الوضعي.
__________
(1) انظر نصوص المعاهدة في كتاب "مصر القديمة" للدكتور سليم حسن: ص 287، طبعة القاهرة
(2) أصول القانون الدولي، للدكتور حامد سلطان، وعبد الله العريان: ص 23، طبعة القاهرة(7/1698)
أما ميكافيلي فقد ظهر له كتاب "الأمير" في سنة 1513م، وجاءت فيه عبارته الشهيرة "لا محل للأخذ بقواعد الأخلاق في أمور الدول"، وهذه العبارة اتخذت قاعدة لدى الأمراء والقواد فاتسمت العلاقات بين الدول بالقسوة والهمجية في حالة الحرب، والخداع والوقيعة في حالة السلم.
ومع أن ميكافيلي توفي سنة 1527م فقد ظلت نظرياته وتعاليمه تحظى باهتمام من حكام أوروبا؛ استجابة لمآربهم الشخصية، وقد نجم من ذلك وقوع حروب كثيرة أثارت الفزع والفوضى بين الناس، بيد أنها مع هذه أثارت المفكرين والعلماء لمقاومة تلك التعاليم والنظريات، محاولين إخراج العلاقات الدولية من الفوضى التي كانت تحيط بها.
وتبلورت تلك النزعة المضادة لكتاب ميكافيلي في كتاب "في قانون الحرب والسلم" للعالم الهولندي جروتيوس، وقد ظهر هذا الكتاب في سنة 1625م وتضمن تنظيمًا يكاد يكون كاملًا لما قد يكون بين الدول من روابط وعلاقات وامتاز بالدراسة المنطقية المنظمة، وبالنظريات التي لاقت احترامًا وتقديرًا من المفكرين في ذلك العصر. وقد هاجم مؤلفه آراء ميكافيلي ونظرية الرئاسة العليا في الشؤون الدينية التي كانت للبابا.
ولأهمية هذا الكتاب وأثره في العلاقات الدولية التزمته الدول دستورًا لعلاقاتها الخارجية مدى قرنين من الزمان، واعتبر مؤلفه أبا القانون الدولي، وارتبط اسم جروتيوس بنشأة هذا العلم لدى فقهاء هذا القانون الغربيين.
وفي سنة 1648م وقعت معاهدة وستنغاليا التي يؤرخ الأوروبيون فيها بدء العصر الحديث للقانون الدولي؛ لأنها وضعت آراء جروتيوس موضع التنفيذ الفعلي بين الدول، ولكن ظروفًا شتى جدت بعد هذه المعاهدة ساعدت على نمو القانون الدولي، وانفساح مجاله، فذاعت مبادئه وتأكدت ضرورة وجوده، ورسخت في حكم علاقات الدول قواعده (1) , ومن ذلك ظهور عدة دول جديدة بعد الثورة الفرنسية في سنة 1789م بسبب انتشار الحركات القومية، واستقلال كثير من الشعوب الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، وقد ترتب على ذلك أن أصبحت العائلة الدولية تنظم عددًا كثيرًا من الدول المستقلة المتساوية، لكل منها سيادتها وجيوشها وأساطيلها مما دعا إلى ازدياد الشعور بالحاجة إلى إيجاد قواعد خاصة بتنظيم علاقات الدول في وقت السلم والحرب.
وأدت كثرة استقلال الدول والحاجة إلى قانون ينظم علاقاتها إلى عقد مؤتمرات دولية من أجل تنظيم قواعد قانونية وتدوينها في اتفاقيات دولية كما حدث في مؤتمر جنيف في سنة 1864م الذي وضع قواعد الحرب البرية، وفي مؤتمر لاهاي المنعقد في سنتي 1889م، 1907م الذي توصل إلى وضع ست عشرة اتفاقية دولية في مختلف المسائل ومنها حقوق الأسرى، هذا بالإضافة إلى بعض المعاهدات التي نظمت حقوق المحايدين وواجباتهم مثل معاهدة باريس المنعقدة في سنة 1856م (2) .
__________
(1) الشريعة الإسلامية والقانون الدولي: ص 49، وانظر القانون الدولي العام، للدكتور سامي جنينة: ص 63، طبعة الاعتماد، القاهرة
(2) القانون الدولي العام، للدكتور سامي جنينة: ص 68(7/1699)
ولما كانت النهضة الصناعية في أوروبا قد أتاحت للدول ألوانًا جديدة من الأسلحة الحربية، وهيأت لبعضها فرصة احتلال الشعوب الضعيفة واستغلالها، ولما كانت الدول القوية قد حدث بينها صراع حول مناطق النفوذ والاحتكار، بحيث يمكن القول بأن الحروب العديدة التي عرفها العصر الحديث العالمية منها والمحلية تكمن أسبابها الجوهرية كلها وراء نزعات الاستعمار وبسط النفوذ، ونهب خيرات الشعوب وثرواتها وبخاصة المتخلفة منه في آسيا وأفريقيا، لما كان كل ذلك لجأت الدول القوية إلى عقد اتفاقات ومعاهدات دولية جديدة تتلاءم مع ظروف العصر، وأهمها معاهدة فرساي المنعقدة في سنة 1919م عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقد تمخضت هذه المعاهدة عن إنشاء أول تجمع دولي أطلق عليه عصبة الأمم.
وحاولت الجمعية العامة لهذه العصبة تدوين القانون الدولي فشكلت لجنة لهذه الغاية، وقدمت اللجنة تقريرها إلى العصبة في سنة 1927م، وتضمن التقرير موضوعات مختلفة ذكرت اللجنة أنها صالحة للتدوين وهي: الجنسية، المياه الإقليمية، مسؤولية الدولة عن الأضرار التي تلحق بأشخاص الأجانب وأموالهم في إقليمها، والامتيازات والحصانة الدبلوماسية، وإجراءات المؤتمرات الدولية، وإجراء عقد المعاهدات وصياغتها، واستغلال منتجات البحار (1) .
وقرر مجلس العصبة وجوب الدعوة إلى مؤتمر يعقد في لاهاي تكون مهمته تدوين الموضوعات الثلاثة الأولى الواردة في تقرير اللجنة، وعقد هذا المؤتمر في سنة 1930م، ولكنه لم يصل إلى اتفاق بشأن المياه الإقليمية ومسؤولية الدولة عن الأجانب في إقليمها.
وبعد الحرب العالمية الثانية عقدت اتفاقية سان فرنسيسكو في سنة 1945م وبمقتضاها أنشئت هيئة الأمم المتحدة التي حلت محل عصبة الأمم، وقد نصت المادة: 13 في الفقرة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة على ما يأتي: تنشئ الجمعية العامة دراسات وتشير بتوصيات بقصد إنماء التعاون الدولي في الميدان السياسي، وتشجيع التقدم المطرد للقانون الدولي وتدوينه، ولذلك عهدت الجمعية العامة إلى لجنة القانون الدولي ببحث موضوعات شتى تتعلق بالشؤون الدولية.
ويبدو أن اشتباك مصالح الدول وتعارضها في عصر الذرة والصواريخ العابرة للقارات، وما يسمى بحرب النجوم جعل الأحداث الدولية تتوالى بسرعة، وتتناقض تناقضًا بينًا متلاحقًا، بالإضافة إلى وجود قوتين عالميتين تتنازعان السيطرة على العالم فكرًا واقتصادًا ونفوذًا، وهذا كله جعل من العسير إن لم يكن من المستحيل وضع قانون دولي عام ملزم لجميع الدول قبل أن يكون هناك قوة دولية كوسيلة لإلزام من يخرق القانون باحترامه، وتنفيذ كل ما يصدر عن الهيئات الدولية من قرارات وأحكام (2) .
__________
(1) أصول القانون الدولي: ص 25
(2) أصول القانون الدولي ص: 25(7/1700)
أصول القانون الدولي العام:
بعد هذه اللمحة التاريخية عن نشأة القانون الدولي في الفكر الإنساني وتطوره، ما هي أصوله التي انتهى إليها فقهاؤه، والتي يرون أنها تحمي الحقوق، وتمنع الاعتداء وتصون السلام؟
وقبل الإجابة عن هذا أود الإشارة إلى أن هؤلاء الفقهاء يختلفون من حيث الأسس التي تقوم عليها أصول هذا القانون، ولذلك جدت نظريات متباينة، فكل فقيه نظر إلى الموضوع من زاوية خاصة، فهناك نظرية قواعد الأخلاق، ونظرية المجاملات الدولية، ونظرية الرضا العام الفردي، والرضا العام الجماعي، ونظرية القانون الطبيعي، ومذهب القانون الوضعي الناشئ عن شروط المعاهدات المكتوبة، ونظرية القومية والجنسية التي تمخضت عن حق تقرير المصير، ونظرية الديانة المسيحية (1) .
ومع تباين آراء الفقهاء في هذا يكاد ينعقد الإجماع (2) بينهم على أن العرف والمعاهدات هما المصدران المهمان للقانون الدولي العام، وذلك لأن القاعدة القانونية تنشأ وليدة الحاجة، فإن ثبت وجودها عن طريق تكرر استعمالها أصبح العرف مصدرها، وإن ثبت وجودها عن طريق تدوينها في اتفاق أو معاهدة فإنه يكون مصدره في هذه الحالة.
وقد دعت لجنة القانون الدولي التابعة لهيئة الأمم المتحدة في 21 نوفمبر سنة 1947م إلى إعداد مشروع إعلان حقوق الدول وواجباتها؛ ليصبح القانون الذي تأخذ به الدول في علاقاتها في أوقات السلم والحرب.
وقدمت هذه اللجنة مشروعها إلى الجمعية العامة سنة 1948م فقررت صلاحيته، وأحالته إلى الدول الأعضاء لتبدي كل منها رأيها فيه، وضربت لذلك موعدًا غايته شهر يوليو سنة 1950م، ولكن الدول جميعها أمسكت عن الرد عليه.
ولأن هذا المشروع يمثل أحدث ما وصل إليه الفكر القانون الدولي في تنظيم العلاقات بين الدول، وتحديد حقوقها وواجباتها رأيت الاكتفاء به في بيان الأصول الوضعية للقانون الدولي العام.
لقد بين المشروع حقوق الدول في أربع مواد، على حين خصص عشر مواد للحديث عن واجبات الدول، وكأنه بهذا يؤكد أن السلام الدولي يفرض واجبات كثيرة، وأن على الدول أن تبذل وتضحي من أجل أمن المجتمع الدولي واستقراره.
__________
(1) الشريعة الإسلامية والقانون الدولي: ص 74
(2) انظر أصول القوانين، لأحمد كامل مرسي وسيد مصطفى: ص 92، المطبعة الرحمانية، القاهرة(7/1701)
والمواد التي تضمنت حقوق الدول هي:
مادة (1) : لكل دولة الحق في الاستقلال وفي ممارسة اختصاصاتها، ومنها اختيار شكل حكوماتها بمنتهى الحرية.
مادة (2) : لكل دولة الحق في ممارسة قضائها على كل ما على إقليمها من أشخاص وأشياء.
مادة (5) لكل دولة حق المساواة القانونية مع الدول الأخرى.
مادة (12) لكل دولة حق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي ضد كل اعتداء مسلح (1) .
فهذه المواد تقرر لكل دولة حق الاستقلال، وحق ولاية القضاء في إقليمها، وحق المساواة مع الدول الأخرى، وحق الدفاع الشرعي، حماية لاستقلالها وسيادتها، ودفعًا لكل اعتداء يقع عليها، وهذه الحقوق الأربعة هي المجمع عليها بين علماء القانون الدولي سواء أكانوا طبيعيين أم وضعيين (2) .
وأما المواد التي حددت واجبات الدول فهي:
مادة (3) : مراعاة الدولة لأحكام القانون الدولي في علاقاتها مع الدول الأخرى.
مادة (4) فض الخلاقات الدولية بالوسائل السلمية، وطبقًا لأحكام القانون الدولي.
مادة (6) الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية والخارجية للدول الأخرى.
مادة (7) الامتناع عن مساعدة أية دولة تلجأ إلى الحرب، أو استخدام آخر غير مشروع للقوة، وكذلك أية دولة تتخذ الأمم المتحدة ضدها إجراءات القسر أو الإكراه.
مادة (8) : الامتناع عن الاعتراف بأية زيادات إقليمية قد تحصل عليها إحدى الدول، نتيجة للحرب، أو أي استخدام غير مشروع للقوة.
مادة (9) : الامتناع عن تشجيع الثورات الأهلية في أقاليم الدول الأخرى.
مادة (10) : ضمان أن تكون الأحوال في إقليمها على نحو لا يهدد السلام والنظام الدوليين.
مادة (11) : جميع الأشخاص الخاضعين لولايتها على أساس احترام حقوق الإنسان والحريات الرئيسية لهم جميعًا دون تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، وبدون تفريق بين الرجال والنساء.
مادة (13) : تنفيذ الدولة بحسن نية لالتزاماتها الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي.
مادة (14) : عدم الالتجاء للحرب أو أي استخدام غير مشروع للقوة (3) .
ويلاحظ أن هذه المواد تركز على أمرين هما:
أولًا: رفض اتخاذ الحرب وسيلة للسيطرة أو التوسع، والدعوة إلى حل المشكلات الدولية بالطرق السلمية.
ثانيًا: احترام سيادة كل دولة، واحترام الإنسان دون نظر إلى جنسيته أو عقيدته.
__________
(1) الشريعة الإسلامية والقانون الدولي: ص 172
(2) أصول القانون الدولي: ص 576
(3) أصول القانون الدولي، ص: 575(7/1702)
ولا مراء في أن تنفيذ هذه المبادئ بإخلاص وإيمان صادق بها يجنب البشرية كثيرًا من المشكلات والأخطار، ويقضي على كل ألوان الاستغلال والامتهان لكرامة الإنسان , فلماذا مسكت الدول عن الإعراب عن رأيها فيه، وكأن هذا رفض منها له، وبخاصة أنها كانت حديثة العهد بحرب طاحنة كلفت البشرية الملايين من الأنفس والأموال؟
إن موقف الدول من هذا المشروع يدل على أن الرغبة الصادقة في السلام الدولي العادل لا تتوافر لدى بعض الدول، ولا سيما الدول الكبرى؛ لأنها لو شاءت قبوله لقادت الدول الصغرى إلى الموافقة عليه.
على أن ذلك المشروع في نصه على عدم استخدام القوة في المنازعات الدولية إنما يحاول وضع ميثاق الأمم المتحدة موضع التنفيذ، فقد جاء الميثاق بمبادئ جديدة كل الجدة في العلاقات الدولية، كمبدأ عدم استخدام القوة، ومبدأ الأمن الجماعي (1) .
وقد نصت الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على ما يلي:
يمتنع أعضاء الهيئة جميعًا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي، أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.
كذلك نصت الفقرة الأولى من المادة الأولى من هذا الميثاق على ما يلي:
والغرض الأول من مقاصد الأمم المتحدة هو: حفظ السلام والأمن الدوليين وتحقيقًا لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة والفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرع بالوسائل السلمية، وفقًا لمبادئ العدل والقانون الدولي لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها. (2) .
وهذا يعني أن الحرب التي كانت مشروعة في القانون قبل الحرب العالمية الثانية قد أصبحت محظورة بعد هذه الحرب من الناحية القانونية، ولكن البشرية ما زالت تصطلي بنار الحروب العدوانية في مختلف بقاع العالم، وما زال منطق القوة هو السائد في فض المنازعات بين الدول، وما زالت الدول الضعيفة أو الصغيرة تتعرض للإرهاب والضغط، وما زال الخوف من نشوب حرب عالمية ثالثة لا تدع حيوانًا ولا نباتًا إلا أتت عليه يسيطر على الجميع، ومرد هذا كله إلى الحضارة المادية المعاصرة التي جعلت الحياة صراعًا بين الدول من أجل الاستغلال والنفوذ , وإلى أن القوانين الوضعية مبتوتة الصلة بضمائر الساسة والقادة ولا تلقى منهم احترامًا أو تقديرًا، ولا ينزلون على أحكامها إلا إذا اقتضت مصلحتهم ذلك.
__________
(1) القانون الدولي العام، للدكتور حسن الجلبي: ص 165، طبعة بغداد
(2) انظر النسخة العربية من ميثاق الأمم المتحدة(7/1703)
القانون الدولي الخاص:
وأما القانون الدولي الخاص فهو كما أسلفت في تعريفه يتناول القضايا ذات العنصر الأجنبي، وهي التي يتصل أحد عناصرها بأي شكل من الأشكال ببلد أجنبي كأن يتخاصم مصريان مثلًا على مال موجود في إيطاليا، أو مصري وأجنبي أو أجنبيان من جنسية واحدة، أو من جنستين مختلفتين أمام محكمة مصرية (1) .
وهناك خلاف بين العلماء حول نوعية القضايا التي تخضع للقانون الدولي الخاص، فيرى البعض أنه خاص بالمسائل المدنية دون الجنائية، لأن هذه من اختصاص القانون الدولي العام، ويرى غيرهم أن هذه المسائل تدخل في نطاق القانون الدولي الخاص (2) .
وهناك خلاف أيضًا حول النظرة إلى هذا القانون واعتباره علمًا مستقلًا بذاته، فيذهب بعض الفقهاء إلى أن القانون الدولي الخاص علم مستقل بذاته، على حين يذهب آخرون إلى غير ذلك، فالإنجليز مثلًا لا يرون أنه يوجد قانون دولي خاص واحد مشترك لكل الدول، ولهذا فهو لديهم معتبر من القوانين الداخلية.
وهذا القانون حديث العهد، وإن كانت له جذور قديمة ترجع في رأي بعض فقهائه إلى العصر الروماني وإلى العصور الوسطى.
وقد ازدادت أهمية القانون الدولي الخاص في العصر الحديث، بسبب سهولة المواصلات، واتساع نطاق التجارة بين الأمم، وكذلك السياحة، وهجرة العقول والأيدي العاملة.
وكل قواعد أو أصول هذا القانون تدور في نطاق شخصية القوانين ومحليتها، بمعنى أن القانون في سريانه هل يطبق بالنسبة للأشخاص الخاضعين له دون سواهم كأن يطبق القانون المصري مثلًا على المصريين وليس على الأجانب الذين يقيمون في مصر، أو أن تطبيق القانون مرتبط أولًا بالمكان الذي ينتمي إليه القانون دون نظر إلى الأشخاص الذين يقيمون فيه، فالقانون المصري يطبق على جميع الموجودين في مصر سواء كانوا مصريين أو غير مصريين.
وهناك سوى نظرية شخصية القوانين ومحليتها مسائل يهتم بها هذا القانون مثل الجنسية وطرق الحصول عليها، والموطن وأنواعه، إلى غير ذلك مما لا مجال هنا لتفصيل القول فيه (3) .
ولكن قواعد هذا القانون وموضوعاته ما زالت حتى الآن موضع خلاف بين الفقهاء على العكس من قواعد القانون الدولي العام.
__________
(1) انظر مقدمة القانون، للأستاذ أحمد صفوت: ص 95، طبعة القاهرة
(2) انظر القانون الدولي الخاص: ص 72
(3) انظر القانون الدولي الخاص: ص 72(7/1704)
ثانيًا:
أصول القانون الدولي في الإسلام
أومأت في مستهل هذه الدراسة إلى عالمية الإسلام، وأن هذه العالمية تثبتها المعجزة القرآنية، والأحكام التي اشتملت عليها هذه المعجزة.
وقد أسلفت أيضًا أن الإسلام يقرر الحرية الدينية، وأنه يرفض مبدأ الإكراه في اعتناقه، وقد تمخض عن هذا إن كان الإسلام إقليميًّا في تطبيق أحكامه، وإن كان عالميًّا من حيث أصوله وتعاليمه، وذلك أن المسلمين الأوائل لإيمانهم الصادق بعموم دينهم ومسؤوليتهم عن تبليغه إلى الناس قاطبة حملوا أرواحهم على أكفهم وانساحوا في الأرض لا يخشون إلا الله، لقد جاهدوا في الله حق جهاده، فنصرهم الله نصرًاعزيزًا، وفتح عليهم بلادًا كثيرة، ولهذا انتشر الإسلام في فترة زمنية وجيزة في بقعة شاسعة من العالم، ومع هذا ظلت هناك شعوب وجماعات وأفراد لا ترتضي الإسلام دينًا.
وقد نجم عن هذا الانتشار السريع للإسلام، وبقاء أمم وأفراد أبت أن تؤمن به مشكلات مختلفة تتعلق بالعلاقة بين هؤلاء الذين رفضوا الإسلام دينًا وبين المؤمنين به.
وإذا كانت هذه المشكلات تختلف من حيث الزمان والمكان فإن أصول معالجتها كما قررها الإسلام واحدة. ويقتضي بيان هذه الأصول الحديث في إيجاز عما يلي:
(أ) الحرب في الإسلام.
(ب) أنواع الديار.
(ج) أصول العلاقات الدولية الإسلامية.(7/1705)
الحرب في الإسلام:
إذا كانت الإسلام دعوة عالمية، وكان مع هذا ينهى عن الإكراه في الدين، فلماذا أباح الحرب، وحض على الجهاد، وأعد في سبيله الأجر الجزيل، والنعيم المقيم؟
إن الحرب في الإسلام ليست أصلًا من أصوله، ولا يمكن أن تكون وسيلة لحمل الناس على الإيمان به؛ لأن الإقناع الصادق القائم على الوجدان والبرهان عماد اليقين الراسخ، ولا يتسنى لأية قوة في الأرض أن تفرض على إنسان عقيدة يأباها قلبه وينفر منها عقله، فما هي الغاية إذن من الحرب في الإسلام؟
إن من رحمة الله بعباده أنه لا يسألهم عما كتبه عليهم إلا بعد الإنذار إليهم: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (1) .
وقد بلغ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسالة ربه إلى قومه، كما بلغها إلى الأمراء والملوك في عصره عن طريق رسله وكتبه، وفي هذا تأكيد لمبدأ عالمية الإسلام، وأنه رسالة الله الخاتمة إلى الناس كافة. وتوفي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد أن ترك قومه على المحجة البيضاء، وكان على هؤلاء العرب الذين اصطفى الله منهم خاتم رسله أن يحملوا هذا الدين إلى غيرهم من الأمم، فالشرائع لا تلزم إلا بعد السماع (2) ، ومن ثم فإن غير العرب إذا لم تصل إليهم دعوة الإسلام فلا حجة عليهم، وإنما تقع الحجة على الذين بلغتهم هذه الدعوة، ثم قصروا في تبليغها إلى سواهم.
فمن أجل تبليغ الإسلام إلى الناس في كل زمان ومكان، وحماية الدعوة إليه من القاسطين والمفسدين فرض الجهاد، وكان ماضيًا إلى يوم القيامة، إنه جهاد من أجل حماية التبليغ، فمن شاء بعد ذلك فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فقد برهنت أحداث التاريخ على أن الطغاة لا يتركون الناس أحرارًا فيما يدينون به، أو يسمعون له، وفي حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ المثل الحي على ذلك فقد دعا قومه إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام فآذوه واضطهدوه، وعذبوا من صدقه واتبعه، ثم أخرجوه وأصحابه من مكة.
إن مشركي مكة أرادوا الحجر على القلوب والعقول، وأبوا أن يدعوا للناس الحرية في التفكير والاختيار، فهم بهذا يحمون مبدأ الإكراه في الدين، فلو ترك هؤلاء الكفار وشأنهم لطغى الباطل على الحق، ولطمس النورَ الظلامُ، فكان الإذن بالقتال وإعداد القوة لدفع هذا الظلم الذي تعرض له المؤمنون لأنهم قالوا ربنا الله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) .
فغاية الحرب الأولى في الإسلام تنحصر في تحرير الناس من الطغاة، وحماية الضعفاء من الأقوياء، حتى لا يكون في الأرض سلطان غير سلطان الحق تبارك وتعالى، فلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ولأن غاية الحرب في الإسلام هي تحقيق الحرية الدينية، وإنقاذ المستضعفين من براثن المتجبرين فإن هذا الدين قد لطف من حدتها وجعل لها قانونًا عادلًا ونظامًا محكمًا وآدابًا لم تعرفها البشرية في تاريخها الطويل، وأكبر ما يسجل له من أمرها أنه لم يشرعها لنيل المغانم وفرض المغارم، ولكنه جعلها وسيلة عند الضرورة لتبليغ كلمة الله ونشرها بين الأمم، كما جعلها وسيلة لرد الاعتداء والدفاع عن عقيدة الأمة وحريتها وعزة المؤمنين واستقلال وسلامة أوطانهم.
__________
(1) سورة الإسراء: الآية 15
(2) انظر شرح السير الكبير، للسرخسي: 4/ 291، طبعة الهند
(3) سورة الحج: الآيتان 39، 40(7/1706)
وما دامت الحرب ليست أصلًا من أصول الإسلام، وليست غاية في ذاتها فإن أول ما يجب على المسلمين إذا ساروا إلى غيرهم هو البدء بالدعاء إلى الإسلام، وهذا الدعاء قد يكون (1) موجهًا لقوم لم تبلغهم الدعوة فيجب إعلامهم حتى يكونوا على بينة من أمرهم، وقد يكون موجهًا لقوم بَلَغَتْهُم الدعوة، ودعاؤهم مرة ثانية أمر مطلوب، ففيه مبالغة في الإنذار بما ينفع، وإشارة إلى أن الإسلام يؤثر السلم على الحرب في تبليغ دعوته، فإذا استجاب هؤلاء طوعًا واختيارًا لما دعاهم إليه المسلمون فهم إخواننا لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإن أبوا ولم يستجيبوا فإن على المسلمين أن يدعوهم إلى الدخول معهم في عهد وميثاق؛ ليصبحوا أهل ذمة لا يتعرض لهم في عقائدهم الدينية، ويتمتعون بكل حقوق الحماية والرعاية في مقابل ضريبة مالية يسيرة لا تجب إلا على الرجال البالغين الأصحاء القادرين ماديًّا، وذلك لغاية واحدة، وهو أن يأمن المسلمون لهؤلاء، فلا يظاهروا غير المسلمين على المسلمين، فإن أبوا أن يدخلوا مع المسلمين في عهد وميثاق فقد جاهروا بهذا الرفض بالعداء، وأعلنوا وقوفهم ضد رسالة التبليغ، فكان قتالهم في هذه الحالة لتحرير الناس من التسلط والقهر، ولتأمين طريق الدعوة إلى الله، روي عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: ((اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ... )) (2) .
__________
(1) انظر المبسوط، للسرخسي: 10 /6
(2) رواه مسلم وابن ماجه والترمذي، وانظر نيل الأوطار، للشوكاني: 8/ 51، طبعة الدمشقي(7/1707)
وجاء في شرح السير الكبير للإمام السرخسي: "إن الكفر وإن كان من أعظم الجنايات فهو بين العبد وربه جل وعلا، وجزاء مثل هذه الجناية يؤخر إلى دار الجزاء، فأما ما عجل في الدنيا ـ وهو قتال الكفار ـ فهو مشروع لمنفعة تعود إلى العباد". (1)
وما قاله الإمام السرخسي يشير إلى أن القتال في الإسلام ليس للإكراه في الدين، ولكن لتحقيق مصالح العباد بإنقاذهم من الطغاة المستبدين؛ حتى يكون الطريق أمام دعوة الله خاليًا من الأشواك والعقبات يسلكه من يشاء، ويعرض عنه من أبى.
وإذا كان القتال في الإسلام لدفع فتنة الكفر وشر الكفار فإنه لا يجوز قتال إلا هؤلاء الذين يمثلون الفتنة، ويمكنون للشر بالفعل أو بالقول، ولهذا لا ينبغي قتل النساء والأطفال والمجانين والذين لا يخالطون الناس وترهبوا في الأديرة وكذلك الشيوخ الفانين، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} .
وهؤلاء لا يقاتلون، فإذا شارك أحد منهم برأيه أو فعله في الحرب فقد أصبح مقاتلًا يجوز قتاله وقتله فيما عدا المعتوه ونحو فإن على المسلمين أخذه ومنعه من المشاركة في الحرب (2) .
وكما جاء النهي عن قتل غير المحاربين جاء النهي أيضًا عن الغدر والمثلة وحمل الرؤوس وقطع الأشجار وتخريب الديار، وذبح المواشي إلا لضرورة إطعام الجند.
قال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في وصيته لجيش أسامة: "لا تمثلوا ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له". (3)
إن وصية الخليفة الأول تعبير عن مبادئ الإسلام وآدابه في الحرب، الحرب الإنسانية الخالصة لله، الحرب التي لا تعرف ظلمًا ولا قسوة ولا دمارًا، ولا غدرًا ولا غلولًا، الحرب التي تكفل حرية العقيدة للناس جميعًا، وتحمي أماكن العبادة لكل الديانات، إنها حرب العدل والرحمة والوفاء (4) .
__________
(1) شرح السير الكبير: 3/ 182
(2) شرح السير الكبير: 3/ 194 ـ 197
(3) انظر من روائع حضارتنا للدكتور مصطفى السباعي، ص 98، طعبة المكتب الإسلامي
(4) انظر من روائع حضارتنا للدكتور مصطفى السباعي: ص 98، طبعة المكتب الإسلامي(7/1708)
والحرب إذا وضعت أوزارها وانتهت فإنها تنتهي بأحد أمرين: إما الصلح (1) , وإما النصر، أما الصلح فالعهود فيه محترمة، والوفاء بما تضمنته واجب {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (2)
وأما النصر فهو انتصار الجماعة التي غضبت للحق، واستشهدت في سبيله فلن تفعل حين انتصارها إلا ما يوطد أركان الحق في الأرض، ويمنع البغي والفساد بين الناس: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3) .
إن الانتصار نعمة تقابل بالشكر عليها، وذلك بإقامة شرع الله في دنيا الناس، شرع الطاعة الموصولة، والتعاون على البر والخير، ومكافحة الفساد والشر، وكفالة العدالة للجميع.
ومن إقامة شرع الله في الأرض احترام آدمية الإنسان، ومن ثم لا يلقى المهزوم عنتًا وإهدارًا لكرامته، فالفار لا يتبع، والجريح لا يذفف عليه بل يعالج ولا تساء معاملته، والأسير لا يقتل، ولا يكره بوسائل غير مشروعة للاعتراف بما لديه من معلومات عن العدو، ويخير ولي الأمر فيه بما يراه أوفق لمصلحة المسلمين (4) , وأكثر انسجامًا مع العرف الدولي في شأن الأسرى، ما دام هذا العرف لا يتعارض مع المقررات الإسلامية في رعاية المصلحة العامة، وحماية العزة والكرامة، وتحقيق الوئام والسلام بين الناس.
وبهذا يتضح أن الحرب في الإسلام ضرورة، وأنها تخضع لقانون العدل والإنصاف واحترام آدمية الإنسان، وليست لإكراه الناس على الإيمان، وما يذهب إليه جمهور المستشرقين ومن سلك سبيلهم من الباحثين من أن الإسلام دين انتشر بالسيف زعم باطل يرده انتشار الإسلام في بلاد كثيرة لم تدخلها الجيوش الإسلامية، ثم انتشاره في العصر الحاضر في كل دول العالم.
إن الحرب في الإسلام حرب تعمير لا تدمير، وهي في جوهرها ترسي دعائم السلم الدائم بين الناس؛ لأنها تنقذهم من تجار الحروب، والطامعين في خيرات الشعوب، وأولئك الذين يكرهون سواهم على ما لا يبتغون.
__________
(1) قد يكون الصلح موادعة أو هدنة مؤقتة أو دائمة أو عقد ذمة
(2) سورة النحل: الآية 91
(3) سورة الحج: الآية 41
(4) انظر الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبلي الزحيلي: 6/ 471، طبعة دار الفكر، دمشق(7/1709)
(ب) أنواع الديار:
تواضع الفقهاء على تقسيم الديار ثلاثة أقسام (1) : دار الإسلام، ودار العهد، ودار الحرب، وهذا التقسيم هو بحكم الواقع لا بحكم الشرع؛ لأن الإسلام لم يقيد الدولة الإسلامية بحدود جغرافية أو مكانية، فهو كما ذكرت من قبل دعوة عالمية، ولكن تطبيق أحكامه مرتبط بسلطان المسلمين، فكلما اتسعت دار الإسلام اتسع تطبيق أحكام هذا الدين، ومن هنا اقتضت الظروف أن يكون الإسلام إقليميًا حتى تعم دار الإسلام العالم بأسره (2) .
والذي لا خلاف عليه بين الفقهاء أن الدار التي تحكم بسلطان المسلمين، وهم حماتها وأهل المنعة فيها هي دار الإسلام، وأن دار العهد هي غير دار المسلمين ارتبطوا مع المسلمين بعهد (3) .
وأما تعريف دار الحرب فقد اختلف فيه الفقهاء على رأيين: أحدهما أن دار الحرب هي الدار التي لا يكون فيها السلطان للحاكم المسلم، ولا تنفذ فيها أحكام الإسلام، وليس بين المسلمين وأهلها عهد، وهذا رأي الصاحبين وجمهور الفقهاء.
والرأي الثاني يذهب إلى أن كون السلطان لغير المسلمين لا يجعل الدار دار حرب، بل لا بد من تحقيق شروط ثلاثة مجتمعة لتصير الدار دار حرب وهي:
أولًا: ظهور الأحكام غير الإسلامية:
ثانيًا: أن يكون الإقليم متاخمًا للديار الإسلامية بحيث يتوقع منه الاعتداء على دار الإسلام (4) .
ثالثًا: ألا يأمن المسلم ولا الذمي فيها بحكم الإسلام، بل يأمن فيها بعهد يعقده، وهذا رأي أبي حنيفة والزيدية وبعض الفقهاء (5) .
__________
(1) انظر نظرية الحرب في الإسلام للشيخ محمد أبو زهرة: ص 30، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، ويضيف بعض الفقهاء دارًا رابعة وهي دار البغي يكون الأمر فيها للبغاة، وهم الخارجون على الإمام الحق بغير الحق؛ وانظر تبيين الحقائق، للزيلعي: 3/ 293
(2) انظر من الفقه الجنائي المقارن للمستشار أحمد موافي: ص 90، طبعة الجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة
(3) نظرية الحرب في الإسلام: ص 30؛ والعلاقات الدولية في الإسلام، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 53، طبع بالقاهرة
(4) إن اشتراط المتاخمة لتوقع الاعتداء أصبح في عصرنا غير ذي موضوع، فقد تطورت أسلحة الحروب، ولم يعد القتال في حاجة إلى متاخمة، وجاء تفسير المنار: 6/ 409، أن دار الحرب في بلاد غير المسلمين وإن لم يحاربوا، وكان القاعدة أن كل من لم يعاهدنا على السلم يعد محاربًا
(5) انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 54(7/1710)
ويرى بعض المعاصرين (1) أن رأي الإمام أبي حنيفة أرجح من رأي الصاحبين وجمهور الفقهاء؛ لأنه ناط الحكم على الدار بأنها دار حرب بزوال أمن المسلمين فيها ويتوقع الاعتداء عليهم منها، وهذا يوافق الأصل في فكرة الحرب الإسلامية وأنها لدفع الاعتداء، وحماية الضعفاء ونشر الأمن والسلام.
ويبدو ذلك من التقسيم أن الدار تكون دار إسلام بسيطرة المسلمين عليها وظهور أحكام دينهم فيها، فلا تحكم بغير ما شرعه الله، ولا يكون لغير المسلمين سبيل عليها، فإذا لم يتوافر لها الاستقلال والحكم بما أنزل الله فإنها لا تكون دار إسلام بالمعنى الصحيح.
ولا فرق بين دار العهد ودار الحرب إلا من حيث إن الأولى بينها وبين المسلمين معاهدة سلام، على حين لا يوجد هذا بالنسبة للثانية فكانت دار الحرب يتوقع منها الاعتداء في أي وقت، وهما عدا هذا دار واحدة تقابل دار الإسلام، فهما لا يعترفان بهذا الدين، ولا عبرة بما يكون من تفاوت في العقائد بين أهل دار العهد ودار الحرب، فهذا لا يؤثر في أنهما دار واحدة غير إسلامية.
وإذا كان الإسلام يحمي الحرية الدينية، ولا يكره أحدًا على الإيمان به فإن دار الإسلام قد تضم غير مسلمين، وهؤلاء قد يقيمون في هذه الدار إقامة دائمة، وقد يقيمون فيها إقامة مؤقتة.
والذين يقيمون إقامة دائمة في دار الإسلام هم أهل الذمة، وهم يتمتعون بهذه الإقامة؛ طوعًا لعقد يتم بناءً على توافق إرادتي ولي الأمر، ومن يرغب في الإقامة مع المسلمين، وبمقتضاه يحصل الذمي على جنسية الدولة الإسلامية، ويصبح رعية إسلامية له كل حقوق المواطنة في هذه الدولة وعليه من مقابل ذلك بعض الالتزامات والواجبات، ويجمعها الشرطان التاليان:
أولهما: أن يلتزم الذميون إعطاء التكليفات المالية على القادرين؛ لكي يسهموا في بناء الدولة، ويشتركوا في تكوين ميزانها المالي.
ثانيهما: أن يلتزموا أحكام الإسلام في المعاملات المالية، وفي الخضوع للعقوبات الإسلامية، ليكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. (2)
قال السرخسي: "الذمي ملتزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات". (3) ، وجاء في مقدمة ابن رشد الجد: "ولا يجوز بين المسلم والذمي في التعامل إلا ما يجوز بين المسلمين". (4) .
__________
(1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 54
(2) العلاقات الدولية في الإسلام: ص 62
(3) المبسوط: 10/ 84
(4) مقدمات ابن رشد: 2/ 159، تحقيق سيد أحمد غراب، طبعة دار الغرب الإسلامي(7/1711)
فأهل الذمة إذن يخضعون للأحكام الإسلامية في الحدود والمعاملات المالية، وما سوى هذا لا يسألون عنه مثل الشعائر الدينية الخاصة بهم وأحكام النكاح فيما بينهم. وما دام أهل الذمة رعية إسلامية، أو جزء من المجتمع الإسلامي (1) ، ولهم ما للمسلمين من حقوق الرعاية والحماية والإنصاف مع ضمان الحرية الدينية لهم، فإنهم لهذا خارجون عن نطاق المعاملات الدولية بمفهومها الخاص والعام.
أما الذين يقيمون في دار الإسلام إقامة مؤقتة فهم المستأمنون الذين يدخلون البلاد الإسلامية على غير نية الإقامة المستمرة فيها، ويسمح لهم بذلك لمدة معلومة يجوز تجديدها، فالقاعدة هي عدم الإقامة الدائمة، وإلا تحول المستأمن إلى ذمي، وأصبح رعية إسلامية (2) .
والإسلام وهو دين الإخاء الإنساني، ودين العدل والحرية والسلام، عامل المستأمن الوافد على دياره معاملة كريمة لا تعرفها القوانين الوضعية، فهو ما دام محافظًا على عقد الأمان، أو شروط الإذن بالإقامة لمدة محددة في دار الإسلام له الحرية الكاملة في التنقل ومباشرة نشاطه الذي وفد من أجله كالتجارة أو السياحة أو الدراسة، وهو آمن على نفسه وماله حتى ولو كان ينتمي إلى دولة نشب القتال بينها وبين المسلمين.
ويذهب جمهور الفقهاء إلى أكثر من هذا فيرون أن مال المستأمن الذي اكتسبه في دار الإسلام يبقى على ملكه، ولا تزول عنه ملكيته، ولو عاد إلى دار الحرب وقاتل المسلمين (3) .
__________
(1) الذمي وإن كان مواطنًا يحمل جنسية الدولة الإسلامية لا يطالب بالجهاد مع المسلمين، ولكنه ليس محظورًا عليه، أو ممنوعًا منه، فهو اختياري بالنسبة له، ولولي الأمر الحق في أن يشرك الذميين في صفوف الجيش إذا رأى في ذلك مصلحة للأمة
(2) انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 68
(3) انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 68(7/1712)
قال ابن قدامة في المغني: "وإذا دخل حربي دار الإسلام بأمان فأودع ماله مسلمًا أو ذميًّا أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب، نظرنا فإن دخل تاجرًا أو رسولًا أو متنزهًا أو لحاجة يقضيها ثم يعود إلى دار الإسلام فهو على أمانه في نفسه وماله؛ لأنه لم يخرج عن نية الإقامة في دار الإسلام فأشبه الذمي لذلك، وإن دخل مستوطنًا بطل الأمان في نفسه وبقي في ماله؛ لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان ثبت الأمان في ماله الذي معه، فإذا بطل الأمان في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله، لاختصاص المبطل بنفسه فيختص البطلان به" (1) .
وإذا كان هذا هو موقف الفقه الإسلامي من المستأمن وماله فإن التشريعات الدولية الوضعية كانت قبل القرن الثامن عشر تبيح للدول اعتقال رعايا العدو الموجودين في إقليمها بمجرد قيام الحرب، وتحجزهم كأسرى حرب، كما كانت تصادر أموالهم، ثم جنحت تلك التشريعات إلى منع أسر رعايا العدو، وكذلك إلى منع مصادرة أمولهم، ولكن ظل القانون الدولي يجيز طرد رعايا العدو من إقليم الدولة بمجرد نشوب الحرب، وإن لم تكن هناك جريرة منهم. (2) .
والمستأمن الذي يتمتع بحريته في التنقل في دار الإسلام، وممارسة نشاطه الذي وفد من أجله، كما يتمتع بحرمة ماله يخضع لأحكام الشريعة فيما يتعلق بالمعاملات المالية، سواء جرت هذه المعاملات بينه وبين مسلم أو بينه وبين ذمي، أو مستأمن مثله، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء.
أما ما يتعلق بالحدود فقد اختلف فيه الفقهاء، فيرى بعضهم إقامة جميع الحدود عليه (3) . ويذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا يقام من الحدود على المستأمن إلا ما فيه من حق العباد، وذلك لأنا ندبنا إلى معاملته معاملة تحمله على الدخول في دارنا ليرى محاسن الإسلام فيسلم، وهو بالأمان التزام حقوق العباد، فالتزم أن يُنْصِفَهم كما يُنْصَف وأن لا يُؤْذِيَ أحدًا كما لا يُؤْذَى.
وأما حقوق الله فلا تلزم؛ لأنه لم يلتزمها، ألا ترى أنه لم يضرب عليه الجزية، ولم يمنع من رجوعه إلى دار الحرب (4) .
والرأي الذي أخذ به جمهور الفقهاء هو عدم التفريق بين حقوق الله وحقوق العباد وأن المستأمن يخضع لأحكام الشريعة في جميع الحدود، وهذا الرأي أكثر اتساقًا مع المبادئ الإسلامية، لأنه يتفق مع ما ينبغي أن تكون أمور الدولة من منع الفساد وكمال السيادة على كل من يقيم في ربوعها. (5) .
على أن رأي أبي حنيفة في عدم تطبيق الحدود الشرعية على المستأمن والمستأمنة إلا حد القذف كان سندًا للامتيازات الخاصة للأجانب في عصر الاحتلال، وكم جرت هذه الامتيازات على المسلمين من نكبات (6) .
__________
(1) المغني: 10/ 437، طبعة المنار
(2) انظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي، للدكتور وهبة الزحيلي: ص 507 ـ 510، طبعة دمشق
(3) انظر الأم، للشافعي: 7/ 325، 326، طبعة مصورة عن طبعة بولاق
(4) انظر تبيين الحقائق، للزيعلي: 3/ 182، طبعة القاهرة
(5) انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 71
(6) انظر التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالتشريع الوضعي، للأستاذ عبد القادر عودة: 1/ 285، طبعة التراث بالقاهرة(7/1713)
ومن المستأمنين طائفة تتمتع ببعض المزايا الخاصة التي تكفل لها القيام بمهمتها التي وفدت من أجلها، وهي طائفة الممثلين السياسيين، أو ما كان يطلق عليهم قديمًا الرسل.
هذه الطائفة أعطاها القانون الدولي المعاصر حصانة في أمور ثلاثة:
أولها: الحصانة لشخص الممثل فلا يتعرض له، ولا يعتدى عليه، حتى يستطيع أداء عمله السياسي من غير حرج، ولا يتعرض لسكنه أو أمتعته الشخصية.
ثانيها: حصانة تتعلق بالمال فيعفى من الضرائب والرسوم في حدود معينة.
ثالثها: الحصانة القضائية، ومن شأنها حماية المبعوث من الملاحقات الجنائية ومن الملاحقات المدنية الخاصة بعمله الرسمي. (1) .
فهل هذه الأمور الثلاثة التي أعطاها القانون الدولي المعاصر للممثلين السياسيين يقبلها الإسلام أو يرفضها؟
إن تقرير العرف في الشرع في استنباط الأحكام يقضي بأن كل ما يتعارف عليه المجتمع الدولي من وسائل التعاون والتآلف لا يرفضها الفكر القانوني الإسلامي ما لم تعارض نصًّا أو قاعدة، فالحصانة الشخصية والمالية ما دامت تقوم على أساس المعاملة بالمثل ولا يوجد من أحكام الشريعة ما يعارضها فإن تطبيقها على الممثلين السياسيين لا حرج فيه.
ولكن الحصانة القضائية ليست كالحصانة الشخصية والمالية، فكل من يرتكب حدًّا في دار الإسلام ينبغي أن يعاقب، وفقًا للأحكام الشرعية، ولا يجوز أن يحاكم على أساس قانون آخر، ففي هذا تعطيل لأحكام الله في أرض الإسلام.
__________
(1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 72(7/1714)
أما الذين يرتكبون ما يوجب عقوبة تعزيرية، وهي العقوبة غير المقدرة في الكتاب والسنة، ويتولى ولي الأمر تقدير العقاب فيها، أو يترك تقديرها للقاضي المختص، فهذه العقوبة في نظر بعض المعاصرين يصح أن تدخل في ضمن حصانة الممثلين السياسيين، وحجته أن تقديرها من حق ولي الأمر، فيجوز له أن يدع العقاب عليها لدولة الممثل أو الرسول. ولكن ما الذي يضمن أن تطبق دولة المممثل هذه العقوبة، وهل تطبيقها سيكون وفقًا لأحكام الله؟
إن التفاوت بين القوانين وكذلك التفاوت في النظر إلى أنواع الجرائم والعقوبات يمكن أن يجعل ما هو جريمة في دار الإسلام ليس بجريمة في غير هذه الدار، وأن يكون العقاب مختلفًا في حالة وحدة الجريمة في الإسلام والقوانين الوضعية، ولهذا أرجح الرأي الذي يذهب إلى أن الحصانة القضائية لا ينبغي أن تكون على حساب شرع الله، وأن العرف الدولي لا ينبغي أن يكون حاكمًا على هذا الشرع، وإنما يجب أن يكون محكومًا به. (1)
ويبدو من الحديث عن غير المسلمين في دار الإسلام أنهم جميعًا سواء لا فرق بين ذمي ومستأمن في وجوب تطبيق أحكام الشريعة عليهم فيما يتعلق بالمعاملات المالية والحدود، والفرق بينهما أن الذمي أمانه مؤبد أو يحمل جنسية الدولة الإسلامية على حين أن المستأمن أمانه مؤقت وليس رعية إسلامية، وبديهي أن هذا كالذمي في التمتع بالحرية الكاملة فيما يدين به دون أن يكون في هذا فتنة للمسلمين.
هذا ما يتعلق بالعلاقات الإسلامية بالنسبة لغير المسلمين في دار الإسلام.
أما دار العهد أو الموادعة فإن أول فقيه إسلامي تحدث عنها هو الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت: 189هـ) الذي كتب في العلاقات الدولية الإسلامية كتابة علمية جامعة لم يُسبق بها، وذلك أن كل من كتب قبله من الفقهاء في موضوع السير كانوا يتحدثون عن دار الإسلام ودار الحرب فقط، وكانت العهود تبرم إما بين المسلمين وأهل الذمة الخاضعين لهم، أو بينهم وبين الحربيين المستأمنين، ولكن الإمام الشيباني تحدث (2) عن دار لا تخضع لحكم المسلمين فأهلها إذن ليسوا بأهل ذمة، ثم هم دخلوا مع المسلمين في عهود موادعة ومسالمة فخرجوا بهذا عن أن يكونوا حربيين.
__________
(1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص 73
(2) انظر المبسوط: 10/ 85؛ وشرح السير الكبير: 4/ 1، وما بعدها(7/1715)
وإذا كان بين الفقهاء اختلاف حول الأسباب التي تدعوا إلى موادعة غير المسلمين فإنه مهما تكن الظروف التي تدفع بالمسلمين إلى مسالمة سواهم فإن العلاقة بينهم وبين أهل دار الموادعة تقوم على احترام العهود المكتوبة وغير المكتوبة إلى أقصى حد، وعدم الغدر والخيانة مطلقًا، والتعاون المتبادل في كل شيء إلا فيما يكون سببًا لتقوية غير المسلمين من السلاح ونحوه فإن على المسلمين ألا يمكنوا غيرهم موادعين أو حربيين من الحصول على ما يزيدهم قوة وبأسًا (1) .
والكلام في وجوب احترام العهود والتحرز عن الغدر مع الموادعين ذو شجون، وتكفي الإشارة إلى أن الفكر الإسلامي الدولي قد شقق القول في هذا الموضوع على نحو إنساني (2) بديع أبرز سمو النظرة الإسلامية في معاملة غير المسلمين، وأن هذه النظرة تفردت بقيم الأخوة والمساواة والعدالة والفضيلة.
وأما غير الموادعين الذين ليست بينهم وبين المسلمين حرب فعلية ولا تربطهم بالمسلمين رابطة ما فإنهم ما داموا لا يؤذون المسلمين ولا يحرضون على إيذائهم فإن العلاقة التي تربط المسلمين بهم تقوم على نفس الأسس التي تقوم عليها العلاقة بين المسلمين والموادعين من الإحسان إليهم والبر بهم، وتبادل المنافع معهم إلا فيما يكسبهم قوة ومنعة، وإذا أردنا السير إليهم لتبليغهم دعوة الإسلام فلا بد من إعلامهم وعدم الاعتداء عليهم أو الغدر بهم وأخذهم على غرة (3) . وقد بينت في الكلام عن الحرب في الإسلام ما يجب على المسلمين من القيام به نحو هؤلاء الذين ساروا إليهم قبل أن يشهروا السلاح عليهم، ويدخلوا معهم في قتال وجهاد.
__________
(1) انظر شرح السير الكبير: 3/ 75، 177، 276
(2) انظر شرح السير الكبير: 4/ 7
(3) انظر شرح السير الكبير: 3/ 109، و 4/ 16، 23(7/1716)
(ج) أصول العلاقات الدولية الإسلامية:
يتضح بجلاء من الحديث عن الحرب في الإسلام وأنواع الديار أن نظرة الإسلام إلى غير المسلمين لا تعرف العداء والتعصب والاستعلاء، وإنما تقوم على التسامح والتعاون والإخاء واحترام العهود والوفاء بها مهما تكن الظروف والأسباب , وصدق الله العظيم إذ يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) .
فهاتان الآيتان تلخصان الدستور الإسلامي في العلاقات الدولية. وهو دستور يقوم على السلم ويؤثر المودة على العداوة، حتى مع من عادوه ما ضمن كفهم من الاعتداء، استحياء للمودة الإنسانية، وتوثيقًا للروابط البشرية، فقبل الآيتين قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
والحاصل أن أصول العلاقات الدولية الإسلامية تقوم على ما يلي:
أولًا ـ المساواة بين الناس:
يقرر الإسلام أن الناس جميعًا أمة واحدة وأن المساواة بينهم في الكرامة الإنسانية وفي المسؤولية، مصدرها وحدة النشأة ووحدة المصير: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .
وما دامت المساواة حقيقة لا مراء فيها؛ لأنها ترجع إلى هذا المصدر الواحد، ((فكلكم لآدم وآدم من تراب)) .
فإن كل الأبحاث والدراسات التي يقوم بها علماء الاجتماع والأجناس وغيرهم ممن يصنفون الناس تصنيفًا عرقيًّا، وما يتمخض عن هذا التصنيف من أن يكون لبعض الناس من الامتيازات ما ليس لغيرهم، ليست عملًا علميًّا صحيحًا، لأنه غفل عن الأصل الذي يرجع إليه الجميع، وأن ما بينهم من تفاوت أيًّا كان لونه لا يعني على الإطلاق تقسيمًا عرقيًّا يجعل منهم طبقات يستعبد بعضها بعضًا.
إن النزاعات العرقية، أو ما يسمى بالتفرقة العنصرية قد جلبت على البشرية في الماضي والحاضر الويلات والمشكلات، والإسلام بمبادئه التي تقرر المساواة في الإنسانية بين الناس جاء لإنقاذ البشرية من تلك النزاعات الفاسدة، وبين أن التفاوت في الألوان والألسن والطاقات ليس سبيلًا لاستعلاء الأقوياء، وامتهان الضعفاء، فهذا التفاوت آية من آيات الله في خلقه، ومظهر من مظاهر حكمته في كونه، ووسيلة من وسائل الابتلاء لعباده، {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (3) .
ثانيًا ـ السلم أصل العلاقة بين الناس:
يتفرع على تقرير مبدأ المساواة، وأنه لا طائفية ولا عنصرية ولا مفاضلة بالألوان والأجناس والأوطان وإنما بتقوى الله والعمل الصالح، قيام العلاقة بين الناس على المحبة والمودة والسلام والوئام، لأن معنى المساواة يفقد مدلوله إذا لم يلغ كل أسباب الاستغلال والامتهان لكرامة الإنسانية.
إن خلق الناس من ذكر وأنثى وجعلهم شعوبًا وقبائل من أجل أن يتعارفوا ويتعاطفوا ويتعاونوا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (4) .
وبذلك كان السلم هو العلاقة الطبيعية بين الشعوب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (5) .
__________
(1) سورة الممتحنة: الآيتان 8 و9
(2) سورة النساء: الآية 1
(3) سورة الروم: الآية 22
(4) سورة الحجرات: الآية 13
(5) سورة البقرة: الآية: 208(7/1717)
ثالثًا ـ الحرب من أجل السلام:
إذا كان الإسلام قد قرر أن أصل العلاقة بين الناس السلم، فإن هذا لا يتعارض مع إذنه بالحرب وحضه على الجهاد، فالحرب التي أباحها أو التي شرعها هي في جوهرها حماية للسلم، وتمكين له في دنيا الناس، إنها حرب إنسانية لا تقر إذلال الشعوب، ولا تسعى لنهب الأموال؛ لأنها حرب في سبيل الله، حرب تدافع عن العقيدة والحرية والسلم.
وبون شاسع بين حرب تنصر الحق، وتقاوم الشر، وبين حرب تبغي الفساد في الأرض {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (1) .
ولأن الحرب الإسلامية حرب حقٍّ وخيرٍ كانت لهما قيمها ومبادئها التي تلتقي مع مهمتها في تحقيق السلام والذود عنه.
رابعًا ـ العدالة:
يحرم الإسلام الظلم في كل صوره وأشكاله ويأمر بالعدل مع الأصدقاء والأعداء في كل الأحوال {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (2) .
فالعدل في الإسلام حق لكل إنسان بوصفه إنسانًا دون تفرقه بين مؤمن وكافر وصديق وعدو وقريب وغير قريب {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (3) .
فالقرابة قد تضعف الإنسان حين يقف موقف الشاهد أو القاضي فلا يعدل في قوله أو حكمه، ولذا ينبه القرآن إلى هذا مؤكدًا دعوته إلى قول الحق والعدل ومراقبة الله وحده، فهو أقرب إلى المرء من حبل الوريد.
وإذا كان من العدل أن نرد الاعتداء بمثله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (4) .
فإن الإسلام كما تنص الآية الكريمة لا يجعل رد الاعتداء بمثله أمرًا مطلقًا، بل يقرن به تقوى الله، ومن هنا يكون العدل في الإسلام عدلًا إنسانيًّا رحيمًا لا يعرف التشفي، ولا يمتهن الكرامة والفضيلة، ولا ينزل إلى مستوى الهمجية والوحشية، ولو كان غيرنا قد هبط إلى هذا المستوى، ومن أجل ذلك كان الإسلام دين القوة، قوة الإيمان، والأبدان، والإنتاج، والإعداد للجهاد حتى نرهب أعداء الله، وأعداء الحياة، ونكون دائمًا أباة حماة، أذلة على أنفسنا أعزة على غيرنا.
__________
(1) سورة النساء: الآية 76
(2) سورة المائدة: الآية 8
(3) سورة الأنعام: الآية 152
(4) سورة البقرة: الآية 194(7/1718)
خامسًا ـ احترام العهود والوفاء بها:
للعهود والمواثيق في الإسلام حرمة مقدسة، يجب احترامها، وعدم التفريط فيها، والنصوص في ذلك كثيرة يمكن الاجتزاء منها بقوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إذا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (1) .
هذا النص القرآني الكريم يحتم الوفاء بالعهد وعدم نقضه، ويحذر من الخديعة والدخل في المواثيق، أي اتخاذها ذريعة للغش والغدر والمكر، ويشبه الذين يعقدون العهد ثم ينقضونه بالحمقاء التي تغزل غزلًا محكمًا وبعد ذلك تنقضه، وفي هذا إشارة إلى أن نقض العهد لا يفعله إلا الحمقى ويومئ النص إلى أن الرغبة في زيادة الأرض أو القوة لا يصح أن يكون شيء من هذا سببًا لنقض العهد، فالعدالة الإسلامية لا تجعل مصلحة الدولة سبيلًا لنقض العهد ما دامت شروطه مصونة من قبل الأعداء، ولذلك يحذر القرآن الكريم من نقض العهد حين يستنصر المسلمون إخوانهم ليجاهدوا معهم في الدين فإن عليهم أن يحترموا ما بينهم وبين غيرهم من مواثيق {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (2) .
ولم تكن هذه المبادئ القومية في رعاية العهود مُثلًا نظرية، وإنما كانت سلوكًا واقعيًا في حياة المسلمين وفي صِلاتهم الدولية، ومن ذلك ما جاء عن حذيفة بن اليمان قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أنني خرجت أنا وأبو الحسيل، فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا ما نريده وما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننطلق إلى المدينة ولا نقاتل مع محمد فأتينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبرناه الخبر فقال: ((انصرفا..نفي بعهودهم ونستعين بالله عليهم)) .
قال أبو رافع مولى رسول الله: ((بعثتني قريش إلى النبي، فلما رأيت النبي وقع في قلبي الإسلام فقلت، يا رسول الله لا أرجع إليهم، قال: إني لا أخيس العهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع)) (3) .
وبعد، فهذه في إجمال أصول العلاقات الدولية في الإسلام، وهي أصول لُحمتها وسداها الإخاء الإنساني، والسلام العالمي، والتعاون الدولي وهي وحدها التي تكفل للبشرية الحياة الآمنة المطمئنة، الحياة التي تجدر بالإنسان الذي كرمه خالقه، وجعله خليفة في الأرض، واسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
__________
(1) سورة النحل: الآيتان 91، 92
(2) سورة الأنفال: الآية 72
(3) انظر مجلة "المسلمون" شوال سنة 1372هـ: ص 23(7/1719)
ثالثًا
بين الإسلام والتشريعات الوضعية
إن الموازنة العلمية بين أصول العلاقات الدولية في الإسلام والتشريعات الوضعية من خلال الحديث عنها فيما سبق يمكن أن تعطي النتائج التالية:
أولًا: إن أصول هذه العلاقات في الإسلام بعيدة كل البعد عن الطائفية والعنصرية وتحترم الإنسان لذاته لا لجنسه أو لغته أو عقيدته، فالناس جميعًا أمة واحدة، متساوون في الحقوق والواجبات، وواجب القوي نحو الضعيف المعاونة والمساعدة لا التحكم والإذلال، ومن ثَمَّ كانت أصولًا تحقق السلام العالمي بين البشر تحقيقًا عادلًا لا يعرف المحاباة وعدم الإنصاف.
أما قواعد القانون الدولي في صورته الراهنة ـ على الرغم من تطور الفكر القانوني، وتطلعه نحو أفق رحب من الإنسانية والعالمية ـ فإنها لا تستجيب لمبادئ المساواة بين مختلف البشر من غير تمييز بين أديانها وأجناسها وألوانها.
ويلاحظ أن انقسام العالم انقسامًا سياسيًّا بين المذاهب الرأسمالية والشيوعية والحيادية قد ساعد من جديد على ظهور الطائفية في نطاق القانون الدولي، وبدأت ظواهر هذه الطائفية في التكتلات الدولية الحديثة (1) .
ثانيًا: أصل العلاقة بين الناس هو الأخوة والسلم والألفة والمودة والتعاون على البر والتقوى، هذا ما قرره الإسلام ودعا إليه وحذر من التفريط فيه. وإذا كان هذا الدين قد أباح الحرب فإنه أباحها فقط لدفع الظلم ورد العدوان وتأمين البلاغ إلى الله، فهي لذلك حرب إنسانية لا تعرف الهمجية أو الوحشية ولا تقوم من أجل استغلال الشعوب وامتهان كرامتها.
أما قواعد القانون الدولي فقد انتهى أخيرًا إلى نبذ الحرب في فض المنازعات الدولية وقد كان هذا بسبب الدمار المروع الذي تعرضت له البشرية في الحرب العالمية الثانية، ومع هذا فإن ما انتهى إليه القانون لا يعبأ به ولا يلقى من الدول الرعاية والتقدير، وما زالت الحرب القانون الذي يلجأ إليه في المشكلات الدولية، وما زالت القاعدة التي تعيش عليها وهي: القوة، تخلق الحق وتحميه وتضع حدًّا لكل نزاع هي المُعَوِّل عليها في إنهاء الخلافات بين الأمم على الرغم من وجود المنظمة الدولية وجمعيتها العامة، وما تصدره من قرارات.
__________
(1) انظر القانون الدولي في وقت السلم، للدكتور حامد سلطان: ص 42(7/1720)
ثالثًا: ترتبط أصول العلاقات الدولية الإسلامية ارتباطًا وثيقًا، فهي جزء منها لا يكمل الإيمان إلا بها، ومن هنا تلقى من الدولة والأفراد في المجتمع الإسلامي كل الاحترام والإقناع الذاتي بها.
أما القوانين الوضعية ـ ومنها القانون الدولي ـ فإنها مبتوتة الصلة بعقائد الأفراد والدول، ولا تلقى الاحترام غالبًا بدافع ذاتي، ويزداد الأمر بالنسبة للقانون الدولي أنه غير ملزم في رأي بعض الفقهاء (1) ، وأنه يحول بين أطماع الدول السياسية والاقتصادية، وهي أطماع لا يردعها غير القوة الحربية، وليس ما يجري في العالم في العصر الحاضر من عدوان على الضعفاء إلا دليلًا ملموسًا على أن القانون الدولي لا يلقى ـ مع قصوره ـ الاحترام والصدق في تطبيق قواعده.
وإذا نظرنا إلى المعاهدات بين الدول فإننا نجد أن الإسلام يدعو إلى الوفاء بها ورعاية شروطها، ويحذر أبلغ الحذر من الغدر والدخل فيها، وينهى عن الأخذ بمبدأ مصلحة الدولة في نكث العهود، وذلك كله تحقيقًا لمبادئ العدالة ونشر السلام بين الناس.
ولكن الأمر بالنسبة للعرف الدولي يختلف كل الاختلاف، فالمعاهدات لدى هذا العرف وسيلة القوي ينال بها من الضعيف، وهي لا تعدو أن تكون قصاصة ورق يمكن نكثها قبل أن يجف مُداها، ففي مطلع القرن الميلادي الحالي اتفقت بعض الدول على حياد بلجيكا، وأرادت ألمانيا أن تمر بجيوشها من الأراضي البلجيكية حتى تحارب فرنسا، ورفضت بلجيكا ذلك، واحتجت إنجلترا على تصرف ألمانيا وأنذرتها بالحرب إذا لم تعدل عن خرق حياد بلجيكا، وقال المستشار الألماني في رده على إنجلترا: " إنه من الهول ما تنويه حكومة جلالة الملك البريطاني، ومما يعز علي أن أتصور جلالته قابلًا دخول حرب مراعاة لقصاصة ورق يسمونها معاهدة، واتفقا على حياد أرض". (2) .
فالمعاهدات قصاصات ورق لا قيمة لها إذا تعارضت مع مصلحة الدولة والمصلحة هنا تشمل الغزو والاحتلال، وهذا يؤكد أن قواعد القانون الدولي ـ وهي تحض على المحافظة على المعاهدات ـ مبتوتة الصلة بضمائر الأفراد والجماعات.
__________
(1) انظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي، للدكتور وهبة الزحيلي: ص 10
(2) انظر قيام الحرب في الإسلام، للأستاذ جمال الدين عياد: ص 37، طبعة القاهرة(7/1721)
رابعًا: إن أصول العلاقات الدولية في الإسلام تعرف ما يسمى اليوم بشخصية القانون، فغير المسلم في دار الإسلام يلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية في المعاملات والحدود دون غيرها مما يتصل بعقيدته الدينية فلا يخضع فيها لأحكام الإسلام وهذا باب الحرية الدينية التي كفلها الإسلام للجميع.
ويتحدث فقهاء القانون الدولي الخاص عن وجوب مراعاة شخصية القانون في بعض الحالات، ولكن الدول حتى الآن لم تتفق على وجوب هذا، وقد استغلت الدول الاستعمارية نظرية شخصية القانون فتحولت إلى امتيازات باسم القانون تسلب الدولة سيادتها وكرامتها كما حدث في عهد الاحتلال الإنجليزي بمصر.
خامسًا: سبق الإسلام القانون الدولي في تقريره لأصول العلاقات الدولية فما عرفت البشرية هذا القانون إلا حديثًا، وإن كانت له بعض الجذور القديمة، بيد أنها لا تمثل في الواقع تفكيرًا قانونيًّا صحيحًا.
لقد ظهر الإسلام والناس فوضى لا يحتكمون إلى قانون، وكانت في وقت ظهور الإسلام ـ وبقيت بعده فترة طويلة ـ تعيش في ظلمات الفكر والتشريعات والسياسة فكان الإسلام المنهج الإلهي الذي أعاد للبشرية كرامتها وحريتها وأمنها واستقرارها وسعادتها في الدارين.
ومن هذه الموازنة الموجزة يبدو الفارق جليًّا بين تشريع الله وقانون البشر، وأن هذا التشريع دون سواه هو الصراط المستقيم للناس في كل زمان ومكان، وأنهم إن حادوا عنه ضلوا طريق الحياة الإنسانية واكتنفتهم الأخطار من كل جانب، وعاشوا في صراع نفسي ومادي يسلبهم السلام والأمن: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .
__________
(1) سورة الأنعام: الآية 153(7/1722)
خاتمة
وأخيرًا ما أهم ما انتهت إليه هذه الدراسة الموجزة من نتائج، وماذا ترشد إليه من توجيهات؟
إن أهم هذه النتائج ما يلي:
1 ـ إذا الإنسان في تفكيره ما لم يكن محكومًا بتشريع إلهي يسدد خطاه فإنه يزل ويضل، ولا يكون لما يصل إليه من آراء ـ وإن جاءت صحيحة ـ جدوى في مجال التطبيق العملي.
2 ـ وهذا بيّن في مجال الفكر القانوني الدولي، فقد تعثر هذا الفكر عبر رحلته التاريخية الطويلة؛ لأنه فقد الغاية المقدسة، ولهذا لم ينته إلى تشريع يدرأ الظلم، ويحمي العدل، ويحقق الأمن والرخاء، وما زالت البشرية حتى الآن تعيش في دياجير القلق والاضطراب والأطماع الدولية المختلفة.
3 ـ إن الإسلام ـ وهو منهج إلهي متكامل ـ جاء بالتشريعات في كل المجالات، وهذه التشريعات دون سواها تصون الحياة من عبث الطغاة وترسي دعائم السلام على أسس من الأخوة والمساواة، وستظل البشرية تعاني مما تعاني منه ما لم تعتصم تلك التشريعات وتستجيب لحكم الله في كل شيء {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) .
4 ـ إذا كان الأوروبيون يعدون جروتيوس الهولندي مؤسس القانون الدولي فإن هذا خطأ علمي تاريخي؛ لأن الإمام محمد بن الحسن الشيباني وقد سبق جروتيوس بأكثر من ثمانمائة عام قد كتب في القانون الدولي الإسلامي في تفصيل وشمول لم يسبق به، ومن ثم يعد هذا الإمام مؤسسًا للقانون الدولي في العالم كله.
على أن هناك من الباحثين (2) من يرى أن جيروتيوس قرأ ما كتبه الشيباني في كتابه "السير الصغير" و "السير الكبير" ونقل منهما ما عزاه إلى نفسه.
__________
(1) سورة المائدة: الآية 50
(2) انظر مجلة منبر الإسلام ربيع الآخر سنة 1386: ص 5(7/1723)
5 ـ وليس فضل الشيباني في أنه أول من كتب في العلاقات الدولية فحسب وإنما يظهر فضله أيضًا في مجال الفكر القانوني أن القانون الدولي المعاصر لم يأت بجديد بالنسبة لما كتبه الإمام محمد.
6 ـ وقد تنبه إلى هذه الحقيقة العلمية والتاريخية فقهاء فرنسا، فأنشأوا في سنة 1932م، جمعية الشيباني للقانون الدولي، ثم حذا حذوهم فقهاء ألمانيا، فأسست في غوتنجن جمعية شيباني للقانون الدولي، وضمت هذه الجمعية علماء القانون الدولي والمشتغلين به في مختلف أنحاء العالم وانتخب رئيسًا لها الفقيه المصري، أحد أعلام القانون الدولي المعاصرين الأستاذ عبد الحميد بدوي (ت: 1965م) رحمه الله.
وأما ما ترشد إليه الدراسة من توجيهات فيتخلص في أن كل فكر مهما يكن صالحًا للحياة وأولى من سواه في التطبيق إذا لم يكن له حماة يؤمنون به ويذودون عنه فإنه يظل كصرخة في واد. والمسلمون أصحاب عقيدة وشريعة وفكر لا نظير له، ولكن يبقى ما لدى المسلمين من مبادئ وقيم وفكر بعيدًا عن التأثير الفعلي في واقع الحياة ما دام أهله لا يلتزمون به التزامًا كاملًا أولًا، وما داموا ثانيًا لا يملكون القدرة على التمكين له والدفاع عنه، ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى إعداد القوة بمفهومها الشامل، فهذا الإعداد هو السبيل لأن يصبح الفكر النظري واقعًا مطبقًا. فقوة المسلمين عقيدة وإعدادًا هي مناط إرهاب أعداء الله وتطبيق شرعه وإعلاء كلمته، فالضعف دائمًا يقود إلى الهزيمة المعنوية والمادية.
الدكتور محمد الدسوقي(7/1724)
السلم، والحرب، والعلاقات الدولية
في الإسلام
إعداد
الدكتور محمد رأفت سعيد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد، وبعد.
فإن موضوع السلم والحرب والعلاقات الدولية في الإسلام من الموضوعات الجديرة بالعناية والدراسة، لإبراز الحقائق التي تعمد خصوم الإسلام إخفاءها في هذا الموضوع، حتى ألبسوا الباطل ثوب الحق، وقدموا الإسلام في المجال الدولي على أنه دعوة إلى الإرهاب وسفك الدماء، وأن المسلمين لا يستريحون في إقامة علاقات دولية سامية مع غيرهم؛ لأنهم دعاة حرب وعصبية.
فكان لا بد من تناول هذا الموضوع تناولًا علميًّا موثقًا يقدم الحق مدعمًا بدليله ليدحض الشبهات والمفتريات التي لا أساس لها، ولبيان حاجة البشرية إلى السلام لما تجنيه من آثارالحروب المدمرة؛ ولأن التقدم البشري مرتبط بأمن الإنسان وسلامه، كما أن سلامه النفسي مرتبط بسلامه الاجتماعي والاقتصادي، وكل ذلك يمثل في عالمنا المعاصر وحدة مترابطة في التأثير والتأثر ومن إحقاق الحق فإن الإسلام ـ كما يعرفه المنصفون، وكما سنتبينه بالدليل في المباحث الآتية ـ هو السبيل الوحيد لتحقيق السلم الدولي في عالمنا المعاصر.
إنه شرع الله لخلقه، ورحمة الله للعالمين، به تحمى مقومات الحياة فلا يمس الدين أو النسل أو العقل أو النفس أو المال في ظل توجيهاته وتشريعه.
واتخاذ الإسلام بعقائده وأخلاقه وعبادته ومعاملاته، وتوجيهاته جميعًا، سبيلًا لتحقيق السلم الدولي له ما يميزه عن قرارات المنظمات الدولية في أن الاستجابة لأوامره تكون دينًا ملزمًا لا مجال فيه للتحايل في التطبيق، ولا المخادعة؛ لأن الله شهيد على عباده؛ ولأن أحكامه تهدف خير عباده جميعًا دون ميل أو هوى، فعند التطبيق الصحيح يجد الجميع السلم والأمن المؤسس على الحق والعدل والمساواة بين الجميع.
ولذلك فإننا سنلتزم في موضوعنا ما يجلي حقيقة الإسلام في نصوصه التي تمس سلم الناس وحربهم وعلاقاتهم الدولية في ستة فصول وخاتمة.(7/1725)
الفصل الأول: السلام في الإسلام:
وسنتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ مفهوم السلام، وتقرير مبدأ السلام في الكتاب والسنة واعتباره الأصل، وآراء علماء السلف في حقيقة السلام، وتطبيقات الخلفاء والقادة لمفهوم السلام من واقع التاريخ الإسلامي، وضمانات الإسلام لتحقيق السلام.
الفصل الثاني: الجهاد في الإسلام:
وسنتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ مدلولي الجهاد والحرب، وحكم الجهاد ومراحل تشريعه، وبواعثه وأهدافه، وفضله، ومنهج الإسالم في حقن الدماء، والدعوة أولًا، والإعداد للجهاد (ماديًّا ومعنويًّا) .
الفصل الثالث: خلق الجهاد في الإسلام:
وسنتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ نظام الإسلام الخلقي الذي يتناول السلم والحرب، وأخلاق القائد من الرفق بالجند والنصح لهم والمشاورة، وأخلاق الجند من الطاعة للقائد في المعروف.
وخلق الصبر والمصابرة والثبات وعدم الفرار.
والظهور بالقوة مع عدم الغرور، والرحمة ومظاهرها والوفاء بالعهود والمواثيق، والشكر مع النصر وعدم اليأس عند الهزيمة ومحاسبة النفس، والطاعة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم والتنزه عن المعاصي.(7/1726)
الفصل الرابع: الآثار المترتبة على الجهاد:
وسنتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ المصطلحات الآتية وما يتعلق بها: دارالإسلام ـ دار الحرب ـ المعاهدون حقوقهم وما يجب عليهم، الهدنة والأمان، والصلح، والغنائم وأحكامها (الأموال المنقولة ـ الأسارى ـ الأرض) .
وتوجيهات الإسلام في حالة وقوع الهزيمة بالمسلمين.
الفصل الخامس: العلاقات الدولية في الإسلام:
وسنتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ ضرورة الاتصال بين الأفراد والدول، وأن الإسلام أقام العلاقات الداخلية بين أفراد الأمة على المودة والرحمة، الأسس التي تقوم عليها علاقة الدولة المسلمة بالدول الأخرى.
السبيل العملي في بيان العلاقتين ـ الكتاب الذي وادع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود وعاهدهم ـ موقف الإسلام من المنظمات الدولية.
الفصل السادس: شبهات في موضوع السلم والحرب في الإسلام:
وسنتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ:
ـ الغرض من إثارة الشبهات.
ـ الرد الموضوعي على الشبهات.
ـ شبهة الإكراه في الدين ونشره بالسيف.
ـ شبهة الجزية وما يتعلق بها.
ـ شبهة اعتبار الرق غاية من الجهاد.
الخاتمة:
وسنبرز فيها ـ إن شاء الله أهم النتائج التي نتوصل إليها من تناولنا لهذه المباحث:
والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.(7/1727)
الفصل الأول
السلام في الإسلام
مفهوم السلام:
السلام مبدأ من المبادئ التي عنى بها الإسلام عناية واضحة في اسمه الدال عليه، وفي مضمونه وما يدعو إليه، فالإسلام والسلام يشتركان في مادة "سلم" وهي مادة تعني في اللغة الخلوص والنجاة من الآفات، وتعني الصلح (1) ، وهذه المادة مثل مادة "أمن" وزنًا ومعنى، وما يتضمن هذا من سكون القلب (2) ، والطمأنينة والسكينة.
من أجل هذا وجدنا احتفاء الإسلام بالسلام، وما يشيعه في النفس الإنسانية في الأسرة البشرية من معاني المودة والرحمة، ووجدنا تعميق الإسلام لهذا المبدأ المحقق لهذه المعاني في توجيهات القرآن الكريم وفيما وجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم واعتبار هذا المبدأ أصل العلاقات البشرية فعليه تقوم، وإن ابتعدت عنه تصارعت، ولا بد من إزالة أسباب الصراع للعودة إليه تحقيقًا للأمن وإرساء للطمأنينة، وهذا معنى الصلح الذي تدل عليه المادة "سلم".
فأما تقرير السلام لهذا المبدأ وتعميقه وإزالة ما يعكر صفوه فنجده في الكتاب والسنة على ما يلي:
أولًا: الدين الذي ارتضاه الله لنا جعل عنوانه من مادة السلام فسماه الإسلام قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) .
ثانيًا: والله سبحانه الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينًا من أسمائه الحسنى السلام. قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4) .
ثالثًا: وإذا كان السلام ـ كما مر بنا في بيان مفهومه ـ قرين الأمن والسكينة والطمأنينة، وأن هذه المعاني قرينة الرحمة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصف بأنه للعالمين رحمة مهداة فيقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (5) .
ويقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (6) .
رابعًا: وإذا كان هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أمته فإن الله تعالى جعل مفتاح المعاملات بين الناس، وبداية العلاقات واللقاءات فيما بينهم في لفظة السلام فتحية الإسلام السلام.
__________
(1) انظر المصباح المنير: ص 287؛ ومختار الصحاح: ص 311
(2) انظر المصباح: ص 24
(3) سورة المائدة: الآية 3
(4) سورة الحشر: الآية 23
(5) سورة الأنبياء: الآية 107
(6) سورة آل عمران: الآية 159(7/1728)
خامسًا: الذين يعيشون مستجيبين لهدي ربهم في حياتهم الدنيا فيتحقق لهم الأمن والسلام سيحظون يوم القيامة بتحية الله لهم وهي السلام. قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} (1) .
وسيحظون كذلك بتحية الملائكة لهم في الآخرة وهي السلام قال تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ، سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (2) .
سادسًا: سمى الله الدار التي ينعم فيها المؤمنون المستجيبون لله وللرسول بدار السلام وهي الجنة، قال تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (3) .
سابعًا: وأحلى ما يسمع أهل الجنة في دار السلام كلمة السلام، قال جل شأنه: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (4) .
ثامنًا: ولترغيب المؤمنين للدخول في السلم دعاهم ربهم إلى دار السلام، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (5) .
تاسعًا: ويجعل النبي صلى الله عليه وسلم ارتباط دخول دار الإسلام بإفشاء السلام فيما بين المؤمنين فيقول صلى الله عليه وسلم: ((لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)) (6) .
عاشرًا: ويجعل الإسلام لكلمة السلام قوة لا تدع في النفس مجالًا للظن أو الوهم، فيقول تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (7) .
وبذلك تكون كلمة السلام التي أرسى دعائمها الإسلام للمسلمين وينال من خيرها كذلك غيرهم، وهكذا نرى تضافر الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية في إفشاء روح السلام بين العالمين، وأن هذا ما ينبغي أن تكون عليه الحياة وأول من يستجيب لهذا الروح بين المؤمنين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (8) .
وإن أصيبت هذه الروح بما يعكر صفوها بنزاع أو قتال وجد الناس خطره وذاقوا مرارته وبدأ فيهم ميل للعودة إلى الأصل وهو السلام فإن المؤمنين أسرع الناس استجابة إلى هذا حتى ولو كان الميل ميل مخادعة , فإن الله حسبهم ويكفيهم شر خداعهم، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (9) .
__________
(1) [الأحزاب: 44]
(2) سورة الرعد: الآيات 23 و 24
(3) سورة الأنعام: الآية 127
(4) سورة الواقعة: الآية 26
(5) سورة يونس: الآية 25
(6) رواه مسلم وأخرجه أبو داود والترمذي، وانظر رياض الصالحين كتاب السلام: ص 336
(7) سورة النساء: الآية 94
(8) سورة البقرة: الآية 208
(9) سورة الأنفال: الآيات 61 و62(7/1729)
بهذه الروح الواعية لمبدأ السلام والمحققة له في حياة الناس انطلق قادة الفتوح الإسلامية فمع مواجهتهم لأقوام استعبدوا الناس بالباطل، وطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد كان تطبيقهم العملي في ميادين الجهاد محافظًا على مبدأ السلام وآثاره في حياة الناس ونستطيع أن نقدم دليلًا على ذلك من واقع التاريخ الإسلامي ومن تطبيقات الخلفاء الراشدين وهم خير سلف هذه الأمة وأصفاهم فهمًا لحقيقة ما قرره الإسلام من مبادئ.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم وقف في جيش أسامة خطيبًا فقال: "أيها الناس، أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكتلم شيئًا بعد الشيء فاذكروا اسم الله عليه، وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رؤسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقًا.. اندفعوا باسم الله". (1) .
والاستشهاد بأقوال القادة وقت الحرب خير دليل على فهم هؤلاء القادة لمفهوم السلام، فقد يكون التعبير عن مفهوم السلام من غير وقت اللقاء مع الأعداء مشوبًا بكثير من الادعاء والظهور في صورة مثالية، أما الوصية من القائد إلى جنده عند اللقاء، وامثال الجند لمجموعة من المبادئ والقيم التي تمثل مفهوم السلم في أحلى صوره فإنه دليل على عمق هذا المفهوم وتأصله في النفوس. ومن هنا نقول أن القادة المسلمين يجعلون مبادئ السلام وثيقة الارتباط بدينهم فلا تنازل عنها في أي وقت من الأوقات، وأن القتال في الإسلام ـ كما سينجلي لنا في مباحثه ـ ليس إلا تدعيمًا لهذا الأصل العظيم الذي أسس الإسلام حياة الناس عليه. فالفاتحون دعاة إلى الله يستهدفون هداية الناس إلى الحق ويزيحون العوائق من طريق الشعوب، ويخرجون الناس من عبادة الحكام إلى عبادة الرحمن، ومن ظلم الحكام إلى عدل الإسلام، ويبذلون في سبيل ذلك أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، ولذلك فإن صلاحهم مستمر في لقائهم مع عدوهم فلا خيانة، ولا غلول ولا غدر، ولا يقاتلون إلا المقاتلة فلا قتل لطفل صغير ولا لشيخ كبير ولا امرأة. وإذا قوتل المقاتلة فلا تمثيل. وفتحهم للعمارة والنماء فلا عقر لنخل ولا إحراقه ولا قطع لشجرة مثمرة ولا ذبح لشاة ولا بقرة ولا بعير إلا للأكل. وهكذا يتجلى في توجيهات أبي بكر رضي الله عنه لجيش أسامة رضي الله عنه امتداد مفهوم السلم ليكون مستمرًا في جميع الأحوال ,وأن هذا المعنى إذا كان يحقق عند لقاء العدو فإنما لكونه مرتبطًا بعقيدة المسلم الذي ينطلق في أمره كله باسم الله سبحانه واستجابة لأمره ونهيه، وأما لدى غير المسلمين فإن أوقات الحروب تستباح فيها الأنفس ويمتهن معها كل معنى كريم.
ويمتد هذا المعنى للسلام ليجد التطبيق لدى القادة المسلمين قديمًا وحديثًا وإذا كنا أعطينا مثالًا لتوجيهات أول الخلفاء الراشدين فهذا ـ كذلك ـ القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي يحقق هذا المفهوم بعد أن استعاد بيت المقدس من أيدي الصليبيين بعد تسعين سنة من مجزرة الصليبيين الذين استولوا على بيت المقدس في 15/ 7/ 1099م فذبحوا سبعين ألف مسلم ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء في مذبحة استمرت ثلاثة أيام، ولم تنته إلا بعد إجهادهم من القتل، وحطموا رؤوس الصبيان على الجدران، وألقوا الأطفال الرضع من أسوار المعاقل والحصون، وشووا الرجال على النار، وبقروا بطون الحوامل ليروا هل ابتلع أهلها الذهب؟
ـ بعد هذه المجزرة لم يعامل صلاح الدين الصليبيين بالمثل. فلما سلمت له الحامية النصرانية أمنهم على حياتهم، وكانوا أكثر من مائة ألف وأعطاهم مهلة للخروج في سلام، لم يقتل أحد منهم بعد أن بذل لهم وعده بالأمان، ولم يفعل كما فعل "ريكاردوس" الإنجليزي الذي قتل أمام معسكر المسلمين ثلاثة آلاف سلموا أنفسهم إليه بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم (2) .
__________
(1) تاريخ الطبري: 2/ 463، وقادة فتح الشام ومصر محمود شيت خطاب: ص 42
(2) انظر محاضرة الأستاذ الدكتور عبد المجيد محمود عن تعامل المسلمين مع مخالفيهم في الدين، مطبوعات قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: ص3 و4(7/1730)
ضمانات الإسلام لتحقيق السلام:
وليجعل الإسلام مفهوم السلام واقعًا يعيشه الناس ويجنون ثماره ويستمتعون من وضع الإسلام أمام الناس بمجموعة من التدابير والضمانات التي تكفل تحقيق السلام في حياة الناس، ويمكن أن نقسم هذه الضمانات والتدابير إلى قسمين:
الأول: ضمانات نفسية.
الثاني: معالجة الصراع إذا وقع بين البشر معالجة موضوعية.
فأما الضمانات النفسية فقد بسط القرآن الكريم أمام الناس قصة الصراع بين ابني آدم لتجنب الأسباب التي أدت إليه، فحكى لنا القرآن الكريم ما حدث بين ابني آدم حيث تفوق أحدهما بتقواه وحظي بقبول عمله، وأما الآخر فبدلًا من أن يشغل نفسه بإصلاح شأنها ليقبل عمله مثل أخيه شغل نفسه بالحقد عليه، والحسد له، وتهديده بالقتل، وطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، ويبصرنا القرآن الكريم بأثر هذا الصنيع من الندم الذي أصاب القاتل، والمظلمة الشديدة التي وقع فيها بهذه الخبائث النفسية وبتزيين الشيطان للإنسان عمل السوء ومقارفة المظالم، كما يضع الناس بعد هذه القصة أمام القاعدة المستخلصة منها في أن من قتل نفسًا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أحدهما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} . (1)
__________
(1) سورة المائدة: الآيات 27 – 32.(7/1731)
فمن هذه البداية التي نضع أيدينا عليها وما تبعها من صراعات، نستطيع أن نستخلص أهم العوامل المؤثرة على السلم في حياة الناس، والتي يهتم بها كثير من الباحثين، والتي تتصل بالعامل النفسي، والذي نبرز أوضح مظاهره فيما يأتي:
(أ) حب الاستعلاء في الأرض بالتسلط على الآخرين.
(ب) استغلال ثروات الآخرين.
(جـ) سرور النفس بالشبع مع وجود الجوع عند الآخرين.
(د) ترتيب الناس ورفع بعضهم على بعض باعتبارات لا صلة لهم فيها.
(هـ) استيفاء النفس لحظوظها ولو كان ذلك على حساب الآخرين.
(و) إهمال النفس الإنسانية في التهذيب الصحيح والتقويم المستمر.
هذه مجموعة العوامل النفسية وراء الصراعات الفردية التي بدأت بابني آدم، والصراعات الدولية التي تصحب بدم بشري دافق يصرخ في وجه الإنسانية يطلب الإيقاف ليسري في عروق بانية، وليؤدي وظيفته في بشرية سوية ترفرف عليها رايات الحب والسلام.
وأما الضمان الثاني: والذي يتمثل في معالجة الصراع إذا وقع بين البشر فإن الإسلام يعالج قضايا الصراع معالجة موضوعية متكاملة تأخذ بالمنهج المتكامل الذي يعالج المشكلة من جذورها فيبدأ بمعالجة الأهواء النفسية التي أشرنا إليها من قبل.
كما يعالج الأسس التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية ويتمثل ذلك فيما يلي:
(أ) النظرة الصحيحة إلى الإنسان لاعتباره مخلوقًا لله سبحانه وقد كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق وجعله مسؤولًا ومحاسبًا ومجزيًّا عن عمله، وأقام الإسلام كيان الإنسان على حسن الصلة بخالقه وواهب النعم له، وتنمية مكوناته الروحية والبدنية والعقلية، وصيانة نفسه ودينه وعقله وماله وعرضه.
(ب) النظرة الصحيحة إلى العلاقات الإنسانية وإقامتها على الأسس التالية:
1 ـ المساواة الإنسانية.
2 ـ العدل.
3 ـ التكافل الإنساني.
4 ـ الأساس المتصف للتفاصيل بين الناس والذي يدفع بالإنسانية إلى الخير والتنافس في مجالاته.
5 ـ السلم النفسي والسلم العالمي.
ومجموع هذه الضمانات تؤمن الفرد والجماعات وتحول بينهم وبين الصراعات الدموية، فإذا ما تغلبت نوازع السوء ودفع الصراع فإن المعالجة تأخذ بالمشكلة من جذورها فإن لم يستجيب الأفراد والجماعات لهذه الضمانات السابقة، فإن للإسلام نظرته في اتخاذ الجهاد سبيلًا لتحقيق هذا السلم الذي يعده أصلًا في حياة الناس، وهذا ما سنتناوله إن شاء الله في الفصل الثاني.(7/1732)
الفصل الثاني
الجهاد في الإسلام
مدلولا الجهاد والحرب:
وإذا كانت كلمة الحب تحمل ظلالًا قاتمة من المعاني التي تثير الإنسان وينفعل بها الأدباء شعرًا ونثرًا قديمًا وحديثًا، لما تحدثه من مظاهر التدمير والتخريب والقتل، وفي هذا نجد قول زهير بن أبي سلمى:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها وتلقح كشافًا ثم تنتج فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
إذا كانت الحرب ـ كذلكـ في سوآتها فإن القرآن الكريم يذكر الحرب بهذه الآثار الثقيلة في مثل قوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (1) .
ولما كانت الحرب بين الناس تقوم على أسس باطلة ـ سبق الإشارة إليها ـ ويتعرض الناس مع الحرب لظلم الظالمين المحاربين، ووقوف المعاندين في وجه الحق، وتسلطهم على غيرهم والوقوف في طريق دعوتهم إلى الحق والخير كان الإذن من الله سبحانه بمقاتلة هؤلاء الظالمين، والوعد من الله بنصرهم قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (2) .
وقال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (3) .
__________
(1) سورة محمد: الآية 4
(2) سورة الحج: الآيتان 39، 40
(3) سورة الحج: الآية 40(7/1733)
ولكي يبقى معنى القتال الذي أذن فيه واضحًا في أهدافه، وفي أبعاده، وفيما يلتزم فيه من مبادئ وقيم، وجدنا في الإسلام مصطلحات أخرى لتؤدي المعنى المراد مصحوبًا بالمفاهيم الإسلامية كمصطلح الجهاد وكذلك المغازي والسيرة , فالجهاد: مصدر جاهد جهادًا ومجاهدة، وجاهد: فاعل، مِنْ جهد: إذا بالغ في قتل عدوه وغيره، ويقال: جهده المرض وأجهده، إذا بلغ من المشقة، وجهدت الفرس وأجهدته: إذا استخرجت جهده، والجهد بالفتح: المشقة، وبالضم: الطاقة: وقيل: يقال: بالضم وبالفتح في كل واحد منهما. فمادة "ج. هـ. د" حيث وجدت ففيها معنى المبالغة. وهو في الشرع: عبارة عن قتال الكفار خاصة (1) بالوجه الذي سنبينه في هذا لموضوع، والمعنى اللغوي للجهد من استفراغ الوسع وبذل الطاقة وتحمل المشاق في مقاتلة العدو ومدافعته هو ما يعبر عنه بالحرب في العرف الحديث فالحرب هي القتال المسلح بين دولتين فأكثر (2) .
وإذا كان البشر قد خاضوا الحروب ظلمًا واستعلاء في الأرض فإن الإسلام قد جعل الجهاد لوقف هذا الظلم والاستعلاء , فالجهاد كما سيتضح من مفهومه في الإسلام لتحقيق السلام والوقوف في وجه كارهي هذا السلام، والعجيب أن تجد المفهوم المخرب للحريات لدى من ينتسب إلى دين عبثت به نفوسهم الشريرة فحرفوا وبدلوا ووضعوا ما لم يأذن به الله في العلاقات بين خلقه فنجد في أسفار التوراة التي يتدالوها اليهود تقرير شريعة الحرب والقتال في أبشع صورة من صور التخريب والتدمير والإهلاك والسبي فقد جاء في سفر التثنية ... في الإصحاح العشرين عدد 10 وما بعده: "حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيه يكون لك بالتسخير، وسيتعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربًا، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف وأما النساء، والأطفال، والبهائم، وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًّا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريمًا؛ الحيثيين والأموريين، والكنعانيين، والفرزيين، والجويين، واليوبوسيين، كما أمرك الرب إلهك".
__________
(1) المطلع على أبواب المقنع، للإمام أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي، مجموعة المبدع: 11/ 209؛ والروض الندي شرح كافي المبتدي، لأحمد بن عبد الله البعلي: ص 198
(2) انظر فقه السنة، للاستاذ سيد سابق: 2/ 618(7/1734)
وفي إنجيل متى المتداول بأيدي النصارى في الإصحاح العاشر عدد 24 وما بعده يقول: "لا تظنوا إني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا، بل سيفًا، فإنني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته , مَنْ أحب أبًا أو أمًّا أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنًا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني، ومن وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها" (1) .
فهكذا يكون التسلط البشري المخرب الذي يلبس ثوب دين فصله الهوى للتخريب والاستعلاء في الأرض بغير الحق.
ولكن المسلم الذي يلتزم مفهوم الجهاد في الإسلام يبذل الوسع والطاقة في سبيل الله بالنفس واليد واللسان (2) .
ويتضمن هذا المعنى عناصر الجهاد في المقاتل من جهة إعداده معنويًّا وماديًّا , والعدد , وما يبذل فيها , والخطط وما يرسم لها من أفكار , وغير ذلك مما يرتبط بهذه العناصر والتي تقتضي جهاد النفس في مدافعة الجبن والبخل والتربية على الشجاعة والإقدام وحسن التدريب، والسهر لمعرفة ما يكون لدى العدو حتى لا يكون المؤمن دونه.
وأما المغازي والسير فإنها ترتبط كذلك بالمعاني السابقة في معنى الجهاد , واستعملت بهذا المفهوم , جاء في الحديث: ((الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكرمية واجتنب الفساد فإن نومه ونبهته أجر كله، وأما من غزا رياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لم يرجع بالكفاف)) (3) .
ولذلك ارتبطت المغزي بالمعارك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ لإعلاء كلمة لله. واستعملت كتب التفسير والحديث والفقه مصطلحات الجهاد والمغازي والسير لمعالجة ما يتصل بالقتال والحرب، بل ألفت كتب تحمل هذه العناوين مثال ذلك:
ـ المغازي والسير لابن عبد البر.
ـ السير للأوزاعي.
ـ والمغازي للواقدي.
ولذلك وجدنا الفقهاء يتناولون موضوع الجهاد فيتكلمون عن حكمه وفضله، ومراحل تشريعه، وبواعثه وأهدافه، ومنهج الإسلام في حقن الدماء، والدعوة قبل الدخول فيه، والإعداد له ماديًّا ومعنويًّا. وسنتناول في هذا الفصل ـ إن شاء الله ـ هذا المباحث.
__________
(1) انظر فقه السنة، للاستاذ سيد سابق: ص 618، و 619
(2) انظر نيل الأوطار، للشوكاني: 7/ 208، وانظر الحرب والسلام في الفقه الدولي الإسلامي، د. محمد كمال إمام: ص 42
(3) رواه أبو داود، والدارمي، والموطأ، وانظر شريعة الإسلام في الجهات والعلاقات الدولية، للمودودي: ص 185(7/1735)
حكم الجهاد ومراحل تشريعه:
يتفق علماء الأمة على أن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن باقيهم ولم يأثموا بتركه (1) .
وقال صاحب المجموع: "والجاهد فرض , والدليل عليه قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} .
وقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
وهو فرض على الكفاية إذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين لقوله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} , ولو كان فرضًا على الجميع لما فاضل بين من فعل وبين من ترك؛ ولأنه وعد الجميع بالحسنى فدل على أنه ليس بفرض على الجميع، وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان وقال: ليخرج من كل رجلين رجل ثم قال للقاعدين: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج؛ ولأنه لوجعل فرضًا على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش فيؤدي ذلك إلى خراب الأرض وهلاك الخلق)) (2) .
ولكن يتعين الجهاد - أي يصبح فرض عين - في حالات تضطر فيها الأمة كلها إلى مواجهة العدو ذكر منها ابن قدامة ثلاثة مواضع:
أحدها: إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف , وتعين عليه المقام لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَابِرِينَ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتاله ودفعهم.
الثالث: إذا استنفر الإمام قومًا لزمهم النفير معه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا استنفرتم فانفروا)) (3) .
__________
(1) انظر الإفصاح: لابن هبيرة: 2/ 273
(2) كتاب المجموع شرح مهذب الشيرازي: 18/ 43، و 44
(3) المغني، لابن قدامة: 8/ 346، و347(7/1736)
وأما ابن عبد البر في كتابه الكافي في فقه أهل المدينة المالكي فيقسم الجهاد تقسيمًا آخر يشمل ما ذكر من الفرضية بنوعيها (فرض الكفاية وفرض العين) ولكنه يضيف إلى الفرضية فرضًا آخر يجعله على الإمام، ويذكر في تقسيمه كذلك جهاد النافلة فيقول:"الغزو غزوان: غزو فرض، وغزو نافلة"، والفرض في الجهاد ينقسم أيضًا قسمين:
أحدهما: فرض عام متعين على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محاربًا لهم فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافًا وثقالًا وشبابًا وشيوخًا ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعددهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا قلوا أو كثروا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عددهم وعلم أنه يذكرهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضًا الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم حتى إذا قام بدفع العدو أهل البلد التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين، ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضًا الخروج إليه.
والقسم الثاني: من واجب الجهاد فرض أيضًا على الإمام إغراء طائفة إلى العدو، وكل سنة مرة يخرج معهم بنفسه أو يخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام ويرغبهم ويكف أذاهم ويظهر دين الله عليهم ويقاتلهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية فإن أعطوها قبلها منهم وإن أبوا قاتلهم وفرض على الناس بأموالهم وأنفسهم الخروج المذكور حتى يعلم أن في الخارجين من فيه كفاية بالعدد، وقام به، وفإذا كان ذلك سقط الفرض عن الباقين وكان الفضل للقائمين على القاعدين أجرًا عظيمًا وليس عليهم أن ينفروا كافة". (1) .
__________
(1) كتاب الكافي، لابن عبد البر: 1/ 395 و396(7/1737)
وابن عبد البر يتفق مع جمهور العلماء في حكم الجهاد الفرض بقسميه ولكنه يقرر هذه الفرضية بوصف عملي ينظر فيه إلى الأمة المسلمة باعتبارها أمة واحدة في عزتها ومنعتها، وكذلك ينظر في قوله إلى وجود الإمام للأمة والذي يحمل على كتفيه مسؤولية الدعوة وتبليغها للعالمين وإنقاذ الناس من الشرك ومظاهره، ومن الظلم وآثاره، وهو يذكر واجب الإمام في هذا يطبق معه كذلك حكم الجهاد العين وجهاد الكفاية، ليذكر بعد ذلك النوع الثاني من الغزو وهو غزو النافلة فيقول: وأما النافلة من الجهاد: فإخراج طائفة بعد طائفة وبعث الرايات في أوقات العزة وعند إمكان الفرصة والإرصاد لهم بالرباط في مواضع الخوف، وسأل العمري العابد وهو عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله، أيضًا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله ـ عز وجل ـ وحكم بغيرها؟ فقال مالك: الأمر في ذلك إلى الكثرة والقلة، قال أبوعمر: جواب مالك هذا ـ وإن كان في جهاد غير المشركين ـ فإنه يشمل ويجمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأنه يقول: من علم أنه إذا بارز العدو قتلوه ولم ينل منهم شيئًا جاز له الانصراف عنهم إلى فئة من المسلمين ولم يجز له إباحة دمه لمن لا يقوى عليه ولا يمكنه ولا ينفع المسلمين بما يحاوله فيه، وقول مالك هذا يشبه عندي ما رواه سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجحي عن عطاء عن ابن عباس قال: من فر من رجلين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر , يعني في القتال. قال سفيان: فحدثت به ابن شبرمة فقال: هكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يسأل عن القوم يلقون العدو أو يكونون في محرس يحرسون فيأتيهم العدو وهم يسير أيقاتلون أو ينصرفون فيؤذنون أصحابهم؟ قال: إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فأذنوهم (1) .
فهذا هو حكم الجهاد لدى جمهور العلماء فرض كافية إلا إذا تعين بأسباب تجعله على كل مستطيع نفسًا ومالًا، وقد ذكر ابن عبد البر تطبيق هذا الحكم عمليًّا على الأمة كلها بإمامها وارتباط حكم الجهاد بالقوة والضعف والقلة والكثرة على ما ذكره (2) .
__________
(1) الكافي، لابن عبد البر: 1/ 396
(2) انظر تفصيل هذا في الروض الندي شرح كافي المتبدي، لأحمد بن عبد الله البعلي: ص 198، والمقنع، لابن قدامة: 1/ 483، والمبدع في شرح المقنع، لابن مفلح: 3/ 307 و 308، وموسوعة فقه عمر بن الخطاب، د. محمد قلعة: ص 230، وبداية المجتهد، لمحمد بن رشد القرطبي: 1/ 380، و 381: وأحكام القرآن للإمام الشافعي: 2/ 29، وما بعدها؛ والوجيز في فقه الشافعي، للغزالي: 2/ 113(7/1738)
ويقول مجد الدين أبو البركات في المحرر: "وأقل ما يفعل مرة في كل عام، إلا أن تدعو الحاجة إلى تأخيره لضعف المسلمين ... وللإمام تأخيره ـ أيضًا - مع القوة والاستظهار لمصلحة رجاء إسلام العدو ونحوها (1)
ومعنى ذلك أن الحكم مرتبط كذلك بغايات الجهاد التي تجعل اللجوء إلى القتال ضرورة وصولًا إلى الحق، وتحقيقًا للعدل ودفعًا للفساد وتبليغًا لكل ما يحقق في الناس هذه القيم وهو الإسلام الذي ينقذ العالمين.
وقد نبه علماؤنا إلى هذا وقضوا عليه وهم يذكرون حكم الجهاد فيقول صاحب كتاب اللباب في شرح الكتاب الشيخ عبد الغني الميداني الدمشقي: "الجهاد فرض على الكفاية لأنه لم يفرض لعينه إذ هو فساد في نفسه , وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الفساد عن العباد , وكل ما هو كذلك فهو فرض كفاية إذا حصل المقصود بالبعض وإلا ففرض عين". (2) .
ويتضح هذا المعنى لدى الباحثين المعاصرين ـ أيضًا ـ في اعتبار الحرب في الإسلام شرًّا ولكن لا بد منه لدفع الفساد فيقول الأستاذ عبد الكريم الخطيب: "إن الحرب في الإسلام شر وبلاء فلا يدخل المسلمون الحرب إلا دفعًا للشر والعدوان، وعندئذ يكون هذا الشر خيرًا، ويصبح البلاء عافية.. وفي هذا يقول الشاعر:
والشر إن تللاقه بالخير ضيقت به ذرعًا وإن تلقه بالشر ينحسم
ويقول الآخر:
وفي الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان
إن الشر الذي يدفع به الشر، هو في غايته خير، إذ لو ترك الشر دون أن يؤخذ على يد فاعليه، لاستشرى، ولأتى على كل خير في هذه الحياة , والله تعالى يقول: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (3) .
فمن فضل الله تعالى على الناس، ورحمته بهم أنه أقام من عباده الصالحين المحسنين من يتصدى للشر وأهله، وحتى يقضي على هذا البلاء، الذي لو ترك لأهلك الحرث والنسل.
ويقول سبحانه: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) .
__________
(1) المحرر في الفقه، لمجد الدين أبو البركات: 2/ 170
(2) كتاب اللباب في شرح الكتاب في فقه الحنفية: لعبد الغني الميداني الدمشقي: ص 367
(3) سورة البقرة: الآية 251
(4) سورة الحج: الآية 40، انظر الحرب والسلام في الإسلام، للأستاذ عبد الكريم الخطيب: ص 16(7/1739)
مراحل تشريعه:
ويرتبط حكم الجهاد كذلك بسيرة الدعوة حيث عاش المسلمون فترتها الأولى يواجهون تحديات شتى , ويفتنون في أبدانهم وأموالهم , ويقابلون هذا بالصبر الجميل والرد الفردي عند الاستطاعة ممن كانت له قوة أو يأوي إلى ركن شديد، وكذلك بالتحرك بعيدًا عن مواطن الفتنة بالهجرة إلى الحبشة ثم الهجرة إلى المدينة المنورة، ثم أذن للمسلمين بالقتال , وأبيح لهم ردًّا للعدوان مع عدم الاعتداء، ثم فرض القتال تحقيقًا للغايات التي سنفصل القول فيها إن شاء الله بعد ذلك.
وقد أجاد الشافعي ـ رحمه الله ـ في وصف هذه المراحل بأدلتها في كتابه أحكام القرآن , فقال رحمه الله: "ففرض عليه إبلاغهم، وعبادتهم، ولم يفرض عليه قتالهم، وأبان ذلك في غير آية من كتابه، ولم يأمره بعزلتهم، وأنزل عليه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون] .
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}
وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} مع أشياء ذكرت في القرآن في غير موضع في مثل هذا المعنى.
وأمرهم الله عز وجل بأن لا يسبوا أندادهم , فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية، مع ما يشبهها.
ثم أنزل جل ثناؤه ـ بعد هذا ـ في الحال الذي فرض فيها عزلة المشركين فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
وأبان لمن تبعه ما فرض عليهم بما فرض عليه قال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} الآية (1) .
__________
(1) أحكام القرآن، للشافعي: 2/ 9 ـ 11(7/1740)
ثم يقول الشافعي: "وكان المسلمون مستضعفين بمكة زمانًا لم يؤذن لهم فيه بالهجرة منها، ثم أذن الله لهم بالهجرة، وجعل لهم مخرجًا , فيقال: نزلت {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} .
فأعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد جعل الله لهم بالهجرة مخرجًا , قال: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} وأمرهم ببلاد الحبشة فهاجرت إليها منهم طائفة.
ثم دخل أهل المدينة في الإسلام فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة هاجرت إليهم ـ غير محرم على من بقى وترك الهجرة. وذكر الله ـ عز وجل ـ أهل الهجرة فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} .
وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} .
وقال: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
قال: ثم أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة منها فهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
ولم يحرم في هذا على من بقي بمكة المقام بها ـ وهي دار شرك ـ وإن قالوا بأن يفتنوا ولم يأذن لهم بجهاد.
ثم أذن الله ـ عز وجل ـ لهم بالجهاد، ثم فرض بعد هذا عليهم أن يهاجروا من دار الشرك.
ثم يقول رحمه الله: "فأذن لهم بأحد الجهادين: بالهجرة، قبل أن يؤذن لهم بأن يبتدئوا مشركًا بقتال".
ثم أذن لهم بأن يبتدئوا المشركين بقتال , قال الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} .
وأباح لهم القتال بمعنى أبانه في كتابه فقال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} .
إلى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} .(7/1741)
قال الشافعي ـ رحمه الله ـ يقال: "نزل هذا في أهل مكة وهم كانوا أشد العدو على المسلمين ـ ففرض عليهم في قتالهم ما ذكر الله عز وجل".
ثم يقال: نسخ هذا كله، والنهي عن القتال حتى يقاتلوا، والنهي عن القتال في الشهر الحرام بقول الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ونزول هذه الآية بعد فرض الجهاد.
ثم يقول: "ولما فرض الله ـ عز وجل ـ الجهاد على رسوله صلى الله عليه وسلم جهاد المشركين، بعد إذ كان أباحه، وأثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل مكة ورأوا كثرة من دخل في دين الله ـ عز وجل ـ اشتدوا على من أسلم منهم ففتنوهم عن دينهم ... ".
فعذر الله ـ عز وجل ـ من لم يقدر على الهجرة من المفتونين فقال {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} .
ثم يقول: "ولما مضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة من هجرته، أنعم الله فيها على جماعات باتباعه ـ حدثت لهم بها مع عون الله عز وجل ـ قوة بالعدد لم يكن قبلها، ففرض الله عز وجل عليهم الجهاد بعد إذ كان أباحه لا فرضًا , فقال تبارك وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} (1) الآية.
وقال جل ثناؤه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} .
وقال تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
وقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} .
وقال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} .
وقال تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} إلى {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} .
وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) .
__________
(1) وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة
(2) أحكام القرآن، للشافعي: 2/ 11ـ 19(7/1742)
وهكذا تتبع الإمام الشافعي رحمه الله بهذه الأدلة القرآنية أصل فرض الجهاد ومراحل تشريعه حتى استقرت فرضيته بالصورة التي ذكرت، وارتبط حكمه ببواعثه وأهدافه والتي أشير إليها في كلامنا السابق والذي نبرزه في النقاط الآتية:
بواعثه وأهدافه:
إن الهدف الأسمى من الجهاد الذي يقره الإسلام هو الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا؛ لأن تحقيق هذا الهدف يحقق للناس سلمهم الحقيقي ويضمن لهم سلامة أنفسهم وصيانة أعراضهم وحفظ أموالهم، ولذلك فإن هذه الغاية هي التي تجعل الجهاد في سبيل الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر ,والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟.
فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله العليا، فهو في سبيل الله)) .
وإذا قلنا إن إعلاء كملة الله هو هدف المؤمن، والأمة المؤمنة فإن الذي يبعث الأمة على الجهد هو كل سبيل يحقق هذا الهدف، وإزاحة كل معوق في هذا السبيل. ومن هذه السبل:
ـ إخراج المؤمنين من الفتنة ونصرة المستضعفين، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (1) .
وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} . (2) .
ـ ومن هذه الصور الباعثة على الجهاد رد الاعتداء الذي يقع من الظالمين الذين يقفون في طريق الدعاة فإن الأمة المسلمة أمة تحمل رسالة ربها وتدعو الناس أجمعين إليها فقيام الأمة بواجب الدعوة أمر لا بد منه، فإذا تعرض أحد المخالفين للدعاة إلى الله على بصيرة ووقف في سبيل الدعوة فعذب الداعي أو من آمن وصده عن الدخول فيها فإن هذه الصورة أنواع من الاعتداء على الناس يجب دفعه حتى يرتفع الظلم والإكراه من الظالمين ولتكون كلمة الله هي العليا.
وهذه الصورة هي التي تجعل الباحثين يقررون أن الجهاد في مثل هذه الحالات جهاد دفاعي لرد الاعتداء. قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [سور البقرة الآيات 190 ـ 191] .
__________
(1) سورة البقرة: الآية 193
(2) سورة النساء: الآية 75(7/1743)
ـ ومن هذه الصورة الدفاعية كذلك رد العدوان على الديار والعرض والنفس والمال. قال تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} (1) .
وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)) (2) .
والذي يؤكد ما قررناه من أن بواعث الجهاد تمثل صورا دفاعية لا يكون معها اعتداء أن المعتدي إذا أوقف اعتداءه وجب وقف قتاله , قال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (3) .
وقال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (4) .
والذي يضبط هذا ما ذكرناه من هدف الجهاد في سبيل الله وهو إعلاء كلمة الله تعالى فبها يتحقق السلم والأمن ويقاوم الفساد في الأرض.
والذي يدعم ما ذهبنا إليه من ذكر أهداف الجهاد وبواعثه التطبيق العملي الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولذلك فإن البواعث والأهداف ـ كما قلنا ـ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمراحل تشريع الجهاد.
__________
(1) سورة البقرة: الآية 246
(2) ورواه أيضًا ابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، الترتيب: 2/ 339، وانظر جمع الفوائد: 2/ 16
(3) سورة النساء: الآية 90
(4) سورة الأنفال: الآيتان 61، و 62(7/1744)
وإذا كانت البواعث والأهداف بهذا النبل والسمو في تحقيق السلم الدولي الصحيح فإن لهذا الجهاد فضله الذي يقدر الإسلام على النحو التالي:
فضل الجهاد:
لقد تنوعت الأساليب القرآن الكريمة في بيان فضل الجهاد في سبييل الله ففي استفهام يغري ويحث على الطلب يأتي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (1) .
فالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس من المنجيات من العذاب الأليم ومن أسباب مغفرة الذنوب ودخول الجنات والمساكن الطيبة في جنات عدن وهذا فوز عظيم في الأخرى.
وبالجهاد في سبيل الله يتحقق نصر الله والفتح القريب والبشرى للمؤمنين، قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (2) .
وفي عدم التسوية بين الجهاد وغيره من الأعمال وبيان أن الجهاد في سبيل الله أعظم يقول الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (3) .
وفي تهديد ووعيد لمن يسوي بين حب الله ورسوله مع الجهاد في سبيله وأقرب الناس إلى الإنسان من الآباء والأبناء والإخوة والأزواج والأقارب والأموال قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (4) .
فإذا ما صحب هذا الجهاد بحصول الشهادة كان بيان الفضل من الله على الشهداء في أنهم أحياء عند ربهم يرزقون , وأن الله سبحانه اشترى منهم أنفسهم وأموالهم ومنحهم الجنة قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (5) .
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (6) .
__________
(1) سورة الصف: الآيات 10ـ 13
(2) سورة آل عمران: الآية 195
(3) سورة التوبة: الآيتان 19، 20
(4) سورة التوبة: الآية 24
(5) سورة آل عمران: الآيتان 169 ـ 171
(6) سورة التوبة: الآية 111(7/1745)
فهذا بعض ما ورد من فضل الجهاد في سبيل الله في كتاب الله تعالى، وأما ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كما يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار: "والأحاديث في فضل الجهاد كثيرة جدًّا لا يتسع لبسطها إلا مؤلَّف مستقل ". (1) .
ولكن يكفي أن نذكر بعضها على سبيل المثال:
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَغَدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)) متفق عليه (2) .
وعن أبي عيسى الحارثي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)) [رواه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي] (3) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)) [رواه أحمد والترمذي] .
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)) رواه أحمد ومسلم والترمذي , وعن سهل بن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)) متفق عليه. (4)
والأحاديث في فضل الجهاد ـ كما ذكر ـ كثيرة تبين ما ذكره القرآن الكريم من فضل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، ويرتبط هذا الفضل بأهمية الجهاد في سبيل الله في حماية الدين الذي هو عصمة أمر الإنسان والأمة وسبب نهضتها وسعادتها وسبب الأمن والسلم والرخاء العالم، وهو الطريق إلى إرساء مبادئ الحق والعدل في العالمين.
__________
(1) نيل الأوطار: 8/ 28
(2) نيل الأوطار: 8/ 24
(3) نيل الأوطار: 8/ 24
(4) نيل الأوطار: 8/ 24(7/1746)
منهج الإسلام في حقن الدماء:
إن الإسلام يصون النفس الإنسانية ويحرم الاعتداء عليها إلا إذا استوجبت هذه النفس عقوبة تستحقها، كما يعد الإسلام الاعتداء على النفس اعتداء على الناس جميعًا تبشيعًا وتنفيرًا ومن باب بيان خطورة سفك دم نفس واحدة والذي يؤدي إلى مزيد من سفك الدماء قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1) .
وفي تفصيل نبوي كريم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم بعض هذه الموجبات لقتل النفس والتي تمثل اعتداء من هذه النفس على غيرها كالقتل أو ارتكاب جريمة الزنا أو الردة ومفارقة الجماعة التي تمثل معنى الخيانة العظمى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) .
فإذا علم ذلك رأينا حرص الإسلام على عدم سفك الدماء وبذلك كل السبل التي تحول بين المجاهد في سبيل الله وسفك دماء العدو وذلك يتمثل فيما يلي:
أولًا: يطلب الإسلام من أتباعه أن يعدوا ما استطاعوا من القوة (ماديًّا ومعنويًّا) لإلقاء الرعب في قلوب الأعداء فلا يجرؤون على المقاتلة. والنص على الغاية من الإعداد وأنه لتحقيق هذه الرهبة بيان لحرص الإسلام على عدم الدخول في حرب تسفك فيها الدماء فإن الرهبة ستمنع العدو من الهجوم والدخول في القتال قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (2) .
وعلى ذلك فإن الخطوة الأولى يستطيعها المؤمنون، ويحققون به جانبًا من منهج الإسلام في حقن الدماء.
ثانيًا: إن كان العدو قد بلغت به الجرأة إلى الهجوم والاعتداء فإن الإسلام يحجم الحرب حتى لا يتوسع في سفك الدماء فيكون الرد على قدر العدوان فحسب ولا يتمادى في إيقاع المزيد عليه قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة: الآية 32
(2) سورة الأنفال: الآية 60
(3) سورة البقرة: الآية 194(7/1747)
ومن مظاهر هذا التحجيم كذلك قصر القتال على المقاتلة فحسب وعدم التوسع ليشمل غيرهم , فجاء النهي عن قتل النساء إلا إذا باشرن القتال , وكذلك النهي عن قتل الشيخ الفاني الذي لا يقوى على القتال ولا يقوى على المشورة والكيد والتدبير , كما جاء النهي عن قتل الصبيان والرهبان , ومعنى ذلك أن القتل قاصر على من يباشر القتال ويخشى شره، وقد عالج الشوكاني رحمه الله هذا الني معالجة موضوعية ذكر فيها ما ورد من النصوص عن النهي والإباحة وخرج بما قررناه ـ هنا ـ في هذه المسألة ـ وذلك في باب الكف عن قصد النساء والصبيان والرهبان والشيخ الفاني بالقتل , فذكر رواية ابن عمر قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. رواه الجماعة إلا النسائي، وعن رباح بن ربيع أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها وعلى المقدمة خالد بن الوليد فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها يعني وهم يتعجبون من خلفها حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فافرجوا عنها , فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما كانت هذه لتقاتل فقال لأحدهم الحق خالدًا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا)) (1) . رواه أحمد وأبو داود وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلًا صغيرًا ولا امرأة , ولا تغلوا وضحوا غنائمكم , واصلحوا واحسنوا إن الله يحب المحسنين)) [رواه أبو داود] .
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: ((اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله , لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع)) .
وعن ابن كعب بن مالك عن عمه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان)) وعن الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتلوا الذرية في الحرب , فقالوا: يا رسول الله أو ليس هم أولاد المشركين؟ قال: أو ليس خياركم أولاد المشركين)) [رواه أحمد] (2) .
__________
(1) العسيف: الأجير
(2) نيل الأوطار، للشوكاني 8/ 71، و72(7/1748)
وبعد ذكر الشوكاني لهذه الروايات يذكر ما يخالفها ثم يوجه الروايات ويستخلص ما يتفق مع ما ذكرناه فيذكر رواية سمرة عن أحمد والترمذي وصححه بلفظ ((اقتلوا شياخ المشركين واستحيوا شرخهم)) ويقول الشوكاني: وأحاديث الباب تدل على أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان وإلى ذلك ذهب مالك والأوزاعي فلا يجوز ذلك عندهما بحال من الأحوال حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم، ذهب الشافعي والكوفيون إلى الجمع بين الأحاديث المكذورة , فقالوا: إذا قاتلت المرأة جاز قتلها، وقال ابن حبيب من المالكية: لا يجوز القصد إلى قتلها إذا قاتلت إلا إذا باشرت القتل أو قصدت إليه ويدل على هذا ما رواه أبو داود في المراسيل عن عكرمة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين , فقال:من قتل هذه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفي , فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها. فلم ينكر عليه رسول الله)) صلى الله عليه وسلم ووصله الطبراني في الكبير وفيه حجاج بن أرطأة وأرسله ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن يحيى الأنصاري، ونقل ابن بطال أنه اتفق الجميع على المنع من القصد إلى قتل النساء والولدان , إما النساء فلضعفهن وأما الولدان فلقصورهن عن فعل الكبار، ولما في استبقائهم جميعًا من الانتفاع إما بالرق أو الفداء فيمن يجوز أن يفادي به، قال في الفتح: وقد حكى الحازمي قولًا بجواز قتل النساء والصبيان على ظاهر (1) حديث الصعب وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي وهو غريب.
كما يذكر الشوكاني رحمه الله ما يستخلص من ذكر العسيف في الأحاديث أنه لا يجوز قتل من كان مع القوم أجير أو نحو لأنه من المستضعفين. (2) ولكن إذا سلك الأعداء في هذه الأيام مسلك استيجار المرتزقة للقتال فإنهم ـ دون شك ـ يخرجون عن هذا الحكم لأنهم يستأجرون لمباشرة القتال.
__________
(1) نيل الأوطار: 8/ 73
(2) نيل الأوطار: 8/ 73(7/1749)
ويقول الشوكاني: قوله: لا تقتلوا شيخًا فانيًا؛ ظاهره أنه لا يجوز قتل شيوخ المشركين، ويعارضه حديث: اقتلوا شيوخ المشركين الذي ذكرناه , وقد جمع بين الحدثين بأن الشيخ المنهي عن قتله في الحديث الأول هو الفاني الذي لم يبق فيه نفع للكفار ولا مضرة على المسلمين وقد وقع التصريح بهذا الوصف بقوله ((شيخًا فانيًا)) والشيخ المأمور بقتله في الحديث الثاني هو من بقي فيه نفع للكفار ولو بالرأي كما في دريد بن الصمة , فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من حنين بعث أبا عامر على جيش أوطاس فلقي دريد بن الصمة وقد كان نيف على المائة وقد أحضروه ليدبر لهم الحرب فقتله أبو عامر، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى.
قال أحمد بن حنبل في تعليل أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الشيوخ: إن الشيخ لا يكاد يسلم , والصغير أقرب إلى الإسلام.
وفي كلام الشوكاني عن أصحاب الصوامع يقول: فيه دليل على أنه لا يجوز قتل من كان متخليًا للعبادة من الكفار كالرهبان لإعراضه عن ضر المسلمين، والحديث وإن كان فيه مقال لكنه معتضد بالقياس على الصبيان والنساء بجامع عدم النفع والضرر وهو المناط ولهذا لم ينكر صلى الله عليه وسلم على قاتل المرأة التي أرادت قتله، ويقاس على المنصوص عليهم بذلك الجامع من كان مقعدًا أو أعمى أو نحوهما ممن كان لا يجرى نفعه ولا ضره على الدوام (1) .
وعلى ذلك يكون حرص الإسلام على تحجيم سفك الدماء وقصر هذا على الفئة المباشرة للقتال فحسب، وإذا جنحت للسلم جنح المسلمون وتوقف القتال كما سبق ذكره.
__________
(1) نيل الأوطار: 8/ 74، وانظر: وصية عمر رضي الله عنه في ذلك في الأموال: ص 37؛ والمغني: 8/ 477، وقوله في الفلاحين: "اتقوا الله في الفلاحين فلا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب" سنن البيهقي: 9/ 91. وانظر موسوعة فقه عمر: ص 236(7/1750)
ثالثًا ـ ومن أسباب تحجيم سفك الدماء كذلك وحقن الدماء ما اشترطه الإسلام من توجيه الدعوة أولًا قبل القتال , فإن استجابوا جميعًا أو استجاب بعضهم فقد عصم دمه , ولذلك يذكر ابن رشد القرطبي شرط الحرب وأنه بلوغ الدعوة، ويحكي الاتفاق على هذا، ويفسر ذلك بقوله "أعني أنه لا يجوز حرابتهم حتى يكونوا قد بلغتهم الدعوة، وذلك شيء مجتمع عليه بين المسلمين؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (1) .
ودليل ذلك رواية ابن عباس قال: ((ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا قط إلا دعاهم)) [رواه أحمد] .
وكذلك رواية سليمان بن بريد عن أبيه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا , ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال: أو خلال، فأيهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم؛ ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإنه هم أبوا فلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم، وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن وأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا.)) [رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وصححه] (2) .
__________
(1) بداية المجتهد: 1/ 386
(2) نيل الأوطار: 8/ 51، و 56(7/1751)
ولقد حقق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في سيرهم العملي أخذًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا عمر رضي الله عنه يقول لسلمة بن قيس: "سر باسم الله، فقاتل في سبيل الله من كفر بالله، فإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال: ادعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا فاختاروا دارهم فعليهم في أموالهم الزكاة، وليس لهم من فيء المسلمين نصيب، فإن اختاروا أن يكونوا معكم ـ أي في عداد المجاهدين ـ فلهم مثل الذي لكم ـ أي من العطاء ـ وعليهم مثل الذي عليكم، فإن أبوا ـ أي الدخول في الإسلام ـ فادعوهم إلى إعطاء الجزية، فإن أقروا بالجزية فقاتلوا عدوهم من ورائهم، وفرغوهم لخراجهم، ولا تكلفوهم فوق طاقتهم، فإن أبوا ـ أي دفع الجزية ـ فقاتلوهم، فإن الله ناصركم عليهم، وإن تحصنوا منكم في الحصن فسألوكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله فلا تنزلوهم على حكم الله ولا حكم رسوله، فإنكم لا تدرون ما حكم الله ورسوله فيهم، وإن سألوكم أن تنزلوهم على ذمة الله وذمة رسوله فلا تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله، واعطوهم ذمم أنفسكم، فإن قاتلوكم فلا تغدروا، ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا ". (1) .
وأما ما ذكر من رواية نافع عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون)) فإنه جعل في المسألة ثلاثة مذاهب يحسن الإشارة إليها:
الأولى: أنه يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الإسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه، وبه قال مالك وغيره، وظاهر الحديث معهم.
المذهب الثاني: أنه لا يجب مطلقًا ويستدل أصحاب هذا المذهب بحديث نافع عن ابن عمر وغيره (2) .
المذهب الثالث: أنه يجب لمن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب، قال ابن المنذر وهو قول جمهور أهل العلم: وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه , وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث (3) .
وعلى كل حال فإن تقديم الدعوة أولًا سواء على جهة الوجوب لمن لم تبلغه أو الاستحباب لمن بلغته يدل على حرص الإسلام على تجنب سفك الدماء بالقتال.
__________
(1) الخراج، لأبي يوسف: ص 230، وانظر موسوعة فقه عمر بن الخطاب د. محمد رواس قلعجي: ص 233
(2) راجع نيل الأوطار: 8/ 55، و 56
(3) راجع نيل الأوطار: ص 53، وانظر بداية المجتهد: 1/ 387(7/1752)
رابعًا: فإن لم يستجب الأعداء إلى الدعوة وأصروا على القتال فإن الإسلام في هذه الحالة يحجم سفك الدماء بما يشرعه من كتمان الأمر والتورية وغير ذلك من الأمور التي تحقق المفاجأة للعدو ومُسَلِّم أمره بلا إسراف في سفك الدماء؛ لهذا جاء عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها)) [متفق عليه وهو لأبي داود وزاد: والحرب خدعة] .
وعن جابر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحرب خدعة)) , وعن أبي هريرة قال: ((سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة)) , وعن جابر قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأتيني بخبر القوم؟ يوم الأحزاب , فقال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري وحواري الزبير)) متفق عليه.
وعن أنس قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسًا (1) عينًا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان فجاء فحدثه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فقال: إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرًا فليركب معنا. فجعل رجال يستأذنون في ظهرهم في علو المدينة , فقال: لا إلا من كان ظهره حاضرًا. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا ركب المشركين إلى بدر)) [رواه أحمد ومسلم] .
ولقد أخذ ابن المنير من هذه الأحاديث هذا المعنى فقال: معنى الحرب خدعة أي الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة وذلك لخطر المواجهة ولحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر. (2)
وبهذه العناصر وغيرها يحقق الإسلام غايته في حقن الدماء، فلا سفك منها إلا ما يضطر إليه إحقاقًا للحق وإعلاء لكلمة الله سبحانه.
__________
(1) انظر نيل الأوطار: 8/ 58
(2) نيل الأوطار: 8/ 57، و 58(7/1753)
الفصل الثالث
خلق الجهاد في الإسلام
ولقد أقام الإسلام نظامه الخلقي الذي يتناول السلم والحرب حيث جعل التخلق بمكارم الأخلاق غاية من الغايات التي بعث من أجلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) فليست الأخلاق في الإسلام أمرًا ثانويًّا بل هي أساس من أسس هذا الدين كما أن الإسلام لم يربط التخلق بمكارم الأخلاق بحصول المنفعة منها , بل التحلي بها واجب في كل وقت وعلى كل حال , ثم حث الإسلام على الترقي في درجات الكمال الخلقي حتى يحسن المسلم الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيها , والذي وصف بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .
وتتجلى في الجهاد مجموعة من الصور الخلقية التي يحتاجها الموقف ومنها ما يتعلق بالقادة ومنها ما يتعلق بالجند وهذه الصورة تنسجم مع نظرة الإسلام للجهاد، واعتبار المجاهدين يقومون بأشرف الأعمال وأعظمها ويقدمون في سبيلها أنفسهم وأموالهم.
فمن هذه الصور الخلقية التي تتعلق بالقادة:
ـ رفق القائد بجنده ونصحه لهم ومشاورته لجيشه، وهذه الأخلاق تجعل القائد قريبًا من جنده يحبهم ويحبونه ويأمرهم ويطيعونه، كما تعطي صورة حقيقة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدعوة التي جاء المجاهدون لإعلائها , وهذا يغري الأعداء بالتفكير في شأن هذا الدين والإقبال عليه ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معلمًا بتوجيهاته وسنته العملية في هذا الخلق , فعن أنس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه , فقام سعد بن عبادة فقال: "إيانا تريد يا رسول الله والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانطلقوا)) [رواه أحمد ومسلم] .
وعن أبي هريرة قال: ((ما رأيت أحدًا قط أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) [رواه أحمد والشافعي] .
ففي هذا تعليم من الرسول الكريم للقادة في المشاورة وعملًا بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(7/1754)
وعن معقل بن يسار قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) [متفق عليه] .
فهذا تحذير من رذيلة خلقية وهي الغش للرعية ليكون محلها النصح للرعية.
وفي لفظه: ((ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة)) [رواه مسلم] .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فأرفق به)) [رواه أحمد ومسلم] .
وفي هذا الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم ترغيب وترهيب في رفق القائد بالأمة وبعده عن المشقة عليهم.
وفي السيرة العملية للرسول القائد صلى الله عليه وسلم يأتي ما رواه جابر رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم)) [رواه أبو داود] .
وعن سهل بن معاذ عن أبيه قال: ((غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا فضيق الناس الطريق فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًّا فنادى من ضيق منزلًا، أو قطع طريقًا فلا جهاد له)) [رواه أحمد وأبو داود] (1) .
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني: 8/ 45 ـ 48(7/1755)
ومن حرص القائد على جنده أن يحافظ عليهم وألا يوردهم موارد الهلكة , وأن يتخذ لكل أمر عدته حتى لا يزج بجيشه فيما يغلب فيه الهلاك.
فعن أنس أن عمر سأله: إذا حاصرتم المدينة كيف تصنعون؟ قال: "نبعث الرجل إلى المدينة، ونصنع له هيئة من جلود، قال: أرأيت إن رمى بحجر؟ قال: إذن يقتل، قال: فلا تعقلوا فوالذي نفسي بيده ما يسرني أن تفتحوا مدينة فيها أربعة آلاف مقاتل بتضييع رجل مسلم ". (1) .
وروى زيد بن وهب قال: خرج عمر ويداه في أذنيه وهو يقول: يا لبيكاه.. يا لبيكاه.. قال الناس: ماله؟ قال: جاءه بريد من بعض أمرائه أن نهرًا حال بينهم وبين العبور، ولم يجدوا سفنًا، فقال: أميرهم: اطلبوا لنا رجلًا يعلم غور الماء فأتى شيخ , فقال: إني أخاف البرد ـ وذلك في البرد ـ فأكرهه فأدخله الماء، فلم يلبثه البرد فجعل ينادي: يا عمراه يا عمراه.. فغرق، فكتب عمر، إلى القائد فأقبل، فمكث أيامًا معرضًا عنه، وكان إذا وجد على أحد أعرض عنه، ثم قال: ما فعل الرجل الذي قتلته؟ قال: يا أمير المؤمنين ما تعمدت قتله، لم نجد شيئًا نعبر فيه، وأردنا أن نعلم غور الماء ففتحنا كذا.. وكذا.. وأصبنا كذا وكذا.. فقال عمر: "لرجل مسلم أحب إلي من كل شيء جئتَ به". (2) .
ـ ومن رفق القائد بجنده ألا يحبس جنديًّا عن أهله أكثر من أربعة أشهر , ولقد اتخذ عمر هذا الموقف لما سمع امرأة ذات ليلة تنشد:
تطاول هذا الليل وازور جانبه وليس إلى جنبي خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره لززع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكفني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
فسأل عمر النساء: كم تصبر المرأة عن الزوج؟ فقلن: شهرين، وفي الثالث يقل الصبر، وفي الرابع ينفذ الصبر. فكتب إلى أمراء الأجناد: لا تحبسوا رجلًا عن امرأته أكثر من أربعة أشهر (3)
__________
(1) سنن البيهقي: 9/ 42
(2) سنن البيهقي: 8/ 323
(3) المغني: 7/ 301، وسيرة عمر، لابن الجوزي: ص 71؛ وموسوعة فقه عمر: ص 236(7/1756)
وإذا كان القائد على هذا المستوى من النصح والرفق والمشورة فإن مما يرتبط بهذا ارتباطًا وثيقًا ما يتعلق بخلق الجند فيما يلي:
ـ الطاعة للقائد: وطاعة الجند خلق لا بد منه فيما يحب الجندي وفيما يكره، إلا إذا أمر بمعصية، فإن القاعدة لا تتخلف فلا طاعة لملخوق في معصية الخالق سبحانه.
وفي تدعيم هذا الخلق جاء حديث معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الغزو غزوان، فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر كله , وأما من غزا فخرًا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف)) [رواه أحمد وأبو داود والنسائي] .
وفي تعظيم خلق الطاعة للأمير والقائد يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الخلق من طاعته فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني)) متفق عليه.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
قال: "نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية" [رواه أحمد والنسائي] .
((وعن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلًا من الأنصار , وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شيء فقال: اجمعوا لي خطبًا فجمعوا , ثم قال: أوقدوا لي نارًا فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانوا كذلك حتى سكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا، ذكروا ذلك لرسول صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدًا وقال: لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف)) [متفق عليه] (1) .
__________
(1) نيل الأوطار، للشوكاني: 8/ 49(7/1757)
ـ الصبر والمصابرة والثبات وعدم الفرار:
وهذه من الأخلاق التي لا غنى عنها لدى المجاهدين؛ لأنهم يواجهون عدوًّا قد يكون أكثر عددًا وأقوى , من أجل ذلك كان الأمر الصريح بهذه الأخلاق في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
بل إن الإسلام يعد نفاد الصبر والتولي يوم الزحف من الموبقات التي يحذر منها , فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) متفق عليه.
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} ، فكتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين، ثم نزلت: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآية فكتب أن لا تفر مائة من مائتين [رواه البخاري وأبو داود] .
وعن ابن عمر قال: " كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاص الناس صيصة (2) . وكنت ممن صاص فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا: لو عرضنا نفوسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل الصلاة الغداة، فخرج فقال: ((من الفرارون؟ فقلنا: نحن الفرارون. قال: بل أنتم العكارون (3) أنا فئتكم وفئة المسلمين، قال: "فأتيناه حتى قبلنا يدهط)) [رواه أحمد وأبو داود] (4) .
وهذا الشعور من هؤلاء يدل على أن خلق الثبات والصبر وعدم الفرار صار من أخلاق المجاهدين من أصحاب النبي رضوان الله عليهم.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي بالصبر والمصابرة فكتب إليه أبو عبيدة بن الجراح يذكر له جموعًا من الروم، وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد: فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجًا، وأنه لن يغلب عسر يسرين، وأن الله يقول في كتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
وقال عمر: "إذا لقيتم فلا تفروا ". (5) .
وكتب إلى عامل له: ثلاثٌ من الكبائر: الجمع بين الصلاتين إلا من عذر، والفرار من الزحف، والنهي (6) .
ولكن لا يعد من الفرار التحيز إلى فئة، والذي ذكر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا فئتكم)) ، فإذا وجد القائد أو المجاهد أن الانسحاب إلى مكان آخر لمعاودة القتال بصورة أحسن وأقوى فليس هذا من الفرار، وهذا يمثل الاستثناء المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أو مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (7) .
وقد استعمل عمر رضي الله عنه أبا عبيد الثقفي على جيش، فخاض معركة غير متكافئة مع العدو، وظن أن انسحابه منها هو الفرار من الزحف، فاستمر فيها، فقتل هو وجيشه في أرض فارس، فقال عمر: رحم الله أبا عبيد، لو كان تحيز إلي لكنت له فئة. (8) وقبل ذلك فعل خالد بن الوليد يوم مؤتة فلم يعده الرسول صلى الله عليه وسلم فارًّا من الزحف.
ـ الظهور بالقوة مع عدم الغرور: وذلك لإرهاب أعداء الله:
فعن جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من الغيرة ما يحب الله , ومن الغيرة ما يبغض الله، وإن من الخيلاء ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله , فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله فالغيرة في غير الريبة، والخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل بنفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، والخيلاء التي يبغض الله فاختيال الرجل في الفخر والبغي)) [رواه أحمد وأبو داود والنسائي] (9) .
فإذا كان الاختيال لتحقيق الرهبة، عند العدو وتنشيط المجاهدين فهذا من الخلق المطلوب في الجهاد، ومنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي دجانة رضي الله عنه لما رآه يختال عند القتال: ((إن هذه مشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموطن)) (10) .
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 200
(2) أي حادوا حيدة
(3) إذا حاد الإنسان عن الحرب، ثم عاد إليها يقال قد عكر، وهو عاكر وعكار ـ انظر: القاموس مادة عكر؛ ونيل الأوطار: 8/ 80
(4) الموطأ: 2/ 446
(5) المحلى: 7/ 294، وموسوعة فقه عمر: ص 234
(6) سنن البيهقي: 3/ 169
(7) سورة الأنفال الآيتان 15، و 16
(8) مصنف عبد الرزاق: 5/ 251؛ والمغني: 8/ 485؛ وموسوعة فقه عمر: ص 235
(9) نيل الأوطار: 8/ 68
(10) نيل الاوطار: 8/ 68(7/1758)
ـ الرحمة ومظاهرها:
والمجاهد الذي خرج لإعلاء كلمة الله تتجلى أخلاقه في كل وقت، وخاصة في أوقات الشدة التي ترتكب فيها الحرمات، فإذا كان القتال مصحوبًا بسفك الدماء، فإن خلق المجاهد في سبيل الله الرحمة؛ لأنه لا يحب سفك الدماء ـ كما سبق ـ بل يضطر إليه اضطرارًا للحفاظ على حياة الآخرين في أمن وسلام. ولذلك لا يتخلى عن الرحمة التي تمثل خلقًا عامًا له في وقت الحرب، ومن مظاهر هذه الرحمة عدم المثلة والتحريق، وقطع الشجر، وهدم العمران إلا لحاجة.
فعن صفوان بن عسال قال: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية , فقال: سيروا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدًا)) [رواه أحمد وابن ماجه] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: إن وجدتم فلانًا وفلانًا - لرجلين - فاحرقوهما بالنار. ثم قال حين أردنا الخروج: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما)) [رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وصححه] .
وعن يحيى بن سعيد أن أبا بكر بعث جيوشًا إلى الشام فخرج جيش مع يزيد بن أبي سفيان، وكان يزيد أمير ربع من تلك الأرباع , فقال: إني موصيك بعشر خلال: لا تقتل امرأة ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطع شجرًا مثمرًا، ولا تخرب عامرًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تعقرن نخلًا ولا تحرقه , لا تغلل، ولا تجبن [رواه مالك في الموطأ عنه] (1) .
__________
(1) نيل الأوطار: 8/ 74(7/1759)
ـ الوفاء بالعهود والمواثيق:
وإذا أبدى العدو رغبته في الصلح فعلى المجاهدين أن يقبلوا الصلح ـ كما أشرنا ـ وعليهم الوفاء بما تم التعاهد عليه، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (1) .
وإذا خاف المجاهدون من عدوهم خيانة فلا ينقضون عهدهم بل عليهم أن يخبروهم بانتهاء العهد الذي بينهم وبين عدوهم قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (2) .
ـ الشكر مع النصر وعدم اليأس عند الهزيمة ومحاسبة النفس فالمجاهد يعلم أن النصر من عند الله عندما يجعل المجاهد نفسه على المستوى الذي يؤهله لنصر الله استجابة لأمره وطاعة له واستغاثة به، وإعلاء لكلمته، وإخلاصًا في توجيهه، فإذا نصره الله شكر ولم يتكبر، وراقب نفسه وحاسبها حتى تظل على نقائها.
وإذا ابتلي بالهزيمة لتقصير وقع فيه، فإنه يحاسب نفسه أيضًا، ويستدرك أمره، ويثوب إلى رشده، ويجمع شمله ويتوكل على الله في جولة أخرى.
فهكذا يكون خلق المجاهد في الحالتين، وعلى هذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقدم دليلًا على ذلك ما حدث في بدر وأحد.
ففي بدر كانت النتيجة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3) .
__________
(1) سورة النحل: الآية 91
(2) سورة الأنفال: الآية 58
(3) سورة آل عمران: الآية 123(7/1760)
ومع النصر ومع الشكر كان التوجيه القرآني الكريم الذي يعينهم على محاسبة النفس فكشف القرآن الكريم لهم ما كانوا يودونه من الحصول على أموالهم التي أخذها المشركون في مكة قبل الهجرة , والأَوْلَى أن يجردوا خروجهم لكي يكون إعلاء لكلمة الله فحسب، وإحقاق الحق، وقطع دابر الكافرين، قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (1) .
وكان التوجيه لهم كذلك بعد المعركة في تقسيم الأنفال، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: ((خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرًا فالتقى الناس، فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون , وأكبت طائفة على الغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، وليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم أحق بها منا.. نحن نحينا منها العدو وهزمناه. وقال الذين أحدقوا برسول الله: خفنا أن يصيب العدو منه عثرة فاشتغلنا به. فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، فقسمها رسول الله بين المسلمين)) (2) .
وفي الموقف من الأسرى ((استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليًا فقال أبو بكر: يا رسول الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة، والإخوان, وأني أرى أن تأخذ منهم الفدية , فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت: والله ما أرى ما رأي أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه وتمكن عليًّا من عقيل بن أبي طالب، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان ـ أخيه ـ فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولهم يهو ما قلت , وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان, فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء قد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة ـ شجرة قريبة ـ وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} )) (3) .
فكانت المحاسبة التي تدعو إلى معاقبة هؤلاء الكفار على أنهم مجرمو حرب لهم من الجرائم ما يستوجب القتل، وليس الفداء.
__________
(1) سورة الأنفال: الآية 7
(2) حديث صحيح أخرجه أحمد والحاكم، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وانظر فقه السيرة، للأستاذ الغزالي: ص 252
(3) سورة الأنفال: الآيتان 67، و 68 والحديث صحيح أخرجه مسلم وأحمد والبيهقي من حديث عمر ـ وانظر فقه السيرة، للغزالي: ص 254(7/1761)
وأما أُحد فإن حدوث الإنكار نتيجة المخالفة من الرماة مع ما كان من موقف المنافين جعل المحاسبة مع التماسك النفسي يؤدي إلى معالجة الأمر والنهوض من الكبوة، وعالج القرآن الكريم كذلك هذه الكبوة بما يعينهم على النهوض والانتفاع مما وقع بهم فكان قوله تعالى في ذلك: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (1) .
وكان ذلك بيانًا لما وقع من الرماة.
وقال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2)
, فكان مسحًا للأحزان ودفعًا إلى الأمام.
وقال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (3) .
ولما عجب المسلمون للكارثة وقد كانوا متقومين كان التنبيه على ما بدر من بعضهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) .
ولذلك بعد أن حدث ما حدث من انكسار رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد تنظيم رجاله على عجل وأن يتحامل الجريح مع السليم على تكوين جيش جديد يخرج في أعقاب قريش ليطاردها ويمنع ما قد يجد من تكرار عدوانها , فكانت معركة أحد في يوم السبت لخمسة عشر من شوال، وكان خروج هذا الجيش في الأحد لستة عشر منه، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا "حمراء الأسد".
وعسكر المسلمون بحمراء الأسد وفكر المشركون في القتال، ولكنهم آثروا النجاة بأنفسهم وعادوا إلى مكة، وعاد المسلمون إلى المدينة ليدخلوها أرفع رؤوسًا وأعز جانبًا (5) .
ونزلت الآيات الكريمة: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (6) .
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 152
(2) سورة آل عمران: الآيات 137 ـ 139
(3) سورة آل عمران: الآية 140
(4) سورة آل عمران: الآية 165
(5) انظر تفصيل ذلك في فقه السيرة، للغزالي: 291، و 292
(6) سورة آل عمران: الآيات 172 ـ 174(7/1762)
ـ ومن الأخلاق الجامعة التي لا غنى للمجاهد عنها الطاعة الكاملة لله ورسوله والتنزه عن المعاصي التي تكون سببًا في سخط الله وغضبه. وقد تنبه القادة المسلمون إلى أهمية هذا الخلق فأوصوا به جيوشهم فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنهما ـ ومن معه من الأجناد فيقول: "أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعملوا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لمّا عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدًا مفعولًا، اسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم , أسأل الله ذلك لنا ولكم" (1) .
الجهاد والإرهاب:
وإذا كان الجهاد في الإسلام ملتزمًا بهذا الخلق الكريم في الطاعة والرحمة بمظاهرها من عدم المثلة والكف عن المرأة والصبي والراهب ومن لا يباشر القتال، والمحافظة على العمران، وإذا كانت غايته إعلاء كلمة الله التي يتحقق بها الأمن والسلام الحقيقي لجميع البشر , فكيف يقرن الجهاد بالإرهاب بالمعنى الذي يكون معه من التخريب والفساد في الأرض؟!
إن الإرهاب المذكور مع إعداد القوة هو ـ كما بينا ـ إرهاب أعداء الله المفسدين في الأرض، وليس الإرهاب الذي يعيث في الأرض فسادًا، ويهلك الحرث والنسل، فإن الله سبحانه لا يحب الفساد، وما شرع الجهاد إلا لدفع الفساد.
__________
(1) فقه السنة، للأستاذ سيد سابق: 2/ 642(7/1763)
الفصل الرابع
الآثار المترتبة على الجهاد
وإذا وضعت الحرب أوزارها فإنها تنتج مجموعة من الآثار التي تتصل بالمجاهدين والمحاربين، وسيرًا على قواعد الحق والعدل التي أرساها الإسلام وجدنا فقهاؤنا وعلماءنا قد وضعوا لها المصطلحات المناسبة وعالجوا فيها ما لنا وما علينا، ولذلك سنذكر من هذه الآثار ما يتعلق بالمصطلحات الآتية:
دار الإسلام، ودار الحرب.
والمعاهدون وما يجب عليهم من واجبات ليستمتعوا بما لهم من حقوق.
والهدنة والأمان الحربي والصلح، والغنائم وأحكامها (الأموال المنقولة ـ الأسارى ـ الأرض) ، وتوجيهات الإسلام في حالة وقوع الهزيمة بالمسلمين.(7/1764)
دار الإسلام ودار الحرب:
الدنيا كلها ـ كما يذكر الإمام الشافعي رحمه الله ـ بحسب الأصل دار واحدة (1) . وأرض الله الواسعة لخلق الله جميعًا واحدة، لا يحظر على أحد مكان منها إلا بسبب يوجب ذلك ـ على ما فصل في أبواب الفقه.
فالكفر من الأسباب التي تجعل من بلاد الإسلام تجاه الكفار ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الحرم فلا يدخله الكافر ذميًّا كان أو مستأمنًا ودليل ذلك قوله: {يا أيها الذين آمنواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (2)
وبه قال الشافعي، وأحمد، ومالك. وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم بإذن الإمام أو الخليفة أو نائبه في الحكم، ويقيم فيه مقام المسافر ولا يستوطنه.
ويجوز عند أبي حنيفة دخول الواحد منهم الكعبة (3)
القسم الثاني: الحجاز: ولا يجوز لأحد منهم سكن الحجاز , وبهذا قال مالك والشافعي , إلا أن مالكًا قال: أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)) .
وروى أبو داود بإسناده عن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب , فلا أترك فيها إلا مسلمًا)) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وعن ابن عباس قال: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء؛ قال: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالث)) [رواه أبو داود] .
وجزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن قاله سعيد بن عبد العزيز , وقال الأصمعي وأبو عبيد: هي من ريف العراق إلى عدن طولًا، ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضًا، وقال أبو عبيدة: هي من حفر أبي موسى إلى اليمن طولًا ومن رمل برين إلى منقطع السماوة عرضًا.
قال الخليل: إنما قيل لها جزيرة: لأن بحر الجيش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها ونسبت إلى العرب؛ لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها.
وقال أحمد: جزيرة العرب المدينة وما والاها. يعني أن الممنوع من سكنى الكفار المدينة وما والاها. وهو مكة واليمامة وخيبر والينبع وفدك ومخاليفها.
وما والاها، وهذا قول الشافعي لأنهم لم يجلو من تيماء ولا من اليمن، وقد روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: إن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أخرجوا اليهود من الحجاز)) فأما إخراج أهل نجران منه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على ترك الربا فنقضوا عهده، فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز، وإنما سمي حجازًا لأنه حجز بين تهامة ونجد , ولا يمنعون ـ أيضًا ـ من أطراف الحجاز كتيماء وفيد ونحوهما؛ لأن عمر لم يمنعهم من ذلك.
__________
(1) انظر تأسيس النظر، للدبوسي: ص 58، وانظر العلاقات الدولية في الإسلام، د. وهبة الزحيلي: ص 104
(2) سورة التوبة: الآية 28
(3) ـ أيضًا ـ[فقه السنة 2/ 670 و 671 وانظر المغني لابن قدامة 8/ 531] .(7/1765)
ويجوز لهم دخول الحجاز للتجارة؛ لأن النصارى كانوا يتجرون إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه وأتاه شيخ بالمدينة فقال: أنا الشيخ النصراني، وإن عاملك عشرني مرتين. فقال عمر: وأنا الشيخ الحنيف. وكتب له عمر أن لا يعشروا في السنة إلا مرة. ولا يأذن لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيام على ما روي عن عمر رضي الله عنه، ثم ينتقل عنه. وقال القاضي: يقيم أربعة أيام حد ما يتم المسافر الصلاة والحكم في دخولهم إلى الحجاز في اعتبار الإذن كالحكم في دخول أهل الحرب دار الإسلام، وإذا مرض بالحجاز جازت له الإقامة؛ لأنه يشق الانتقال على المريض وتجوز الإقامة لمن يمرضه؛ لأنه لا يستغني عنه، وإن كان له دين على أحد وكان حالًا أجبر غريمه على وفائه , فإن تعذر وفاؤه لمطل أو تغيب عنه فينبغي أن يمكن من الإقامة ليستوفي دينه؛ لأن التعدي من غيره، وفي إخراجه ذهاب ماله، وإن كان الدين لم يكن من الإقامة، ويوكل من يستوفيه له؛ لأن التفريط منه، وإن دعت الحاجة إلى الإقامة ليبيع بضاعته، احتمل أن يجوز؛ لأن في تكليفه تركها أو حملها معه ضياع ماله، وذلك مما يمنع من الدخول بالبضائع إلى الحجاز فتفوت مصلحتهم وتلحقهم المضرة بانقطاع الجلب عنهم، ويحتمل أن يمنع من الإقامة؛ لأن له من الإقامة بدًّا، فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر من الحجاز جاز، ويقيم فيه أيضًا ثلاثة أيام أو أربعة الخلاف فيه، وكذلك إذا انتقل فيه إلى مكان آخر جاز ولو حصلت الإقامة في الجميع شهرًا , وإذا مات بالحجاز دفن به؛ لأنه يشق نقله، وإذا جازت الإقامة للمريض فدفن الميت أولى. بالمغني لابن قدامة: 8/ 529 و 531] .
ولا يخفى ما في هذه الأحكام من سماحة وحرص على تحقيق المصالح، وتأكيد لإقرار الإسلام لمبادئ الحق في العلاقات بين الناس.
القسم الثالث: سائر بلاد الإسلام، ويجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم عند الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز دخولها لهم من غير إذن. وقال مالك وأحمد: لا يجوز لهم الدخول بحال (1) .
ومن هذه الأسباب قيام الحرب، وما يتبعها من آثار فيحظر على المسلم أن يقيم في دار فيها القتال بينهم وبين المسلمين لما يترتب على ذلك من تعريضهم للمخاطر والقتل، فعن جرير بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم العقل، وقال: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا يا رسول الله: ولم؟ قال: "لا تتراءى ناراهما")) [رواه أبو داود والترمذي وأخرجه أيضًا ابن ماجه ورجال إسناده ثقات ولكن صحح البخاري وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم ورواه الطبراني موصولًا] .
ومعنى "لا تتراءى نارهما" يعني لا ينبغي أن يكونا بموضع بحيث تكون نار كل واحد منهما في مقابلة الأخرى على وجه لو كانت متمكنة من الأبصار لأبصرت الأخرى (2) .
__________
(1) انظر فقه السنة: 2/ 672
(2) نيل الأوطار: 8/ 176، و 1772(7/1766)
فإذا كان وجود المسلم في دار يكون مستضعفًا فيها أو معرضًا للفتنة، أو معرضًا للقتل حظرت عليه هذه الدار، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . الآية.
فهذا في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها. إلا أن الماوردي رحمه الله يرى أنه إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام , فالإقامة فيها أفضل من الرحلة عنها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام. (1) .
فالماوردي نظر إلى المقيم على أنه من الدعاة وعلى ذلك لم يره مخالفًا للنهي عن الإقامة في دار الكفر.
وعلى هذا نجد تقسيم العلماء للأرض على القسمين: دار الإسلام ودار الحرب نشأ من الآثار المترتبة على وقوع الحرب.
فأما دار الإسلام فيقصد بها البلاد التي تحكم بالإسلام، وتظهر فيها شعائره ويأمن فيها المسلمون.
ومثل هذه الدار يحافظ عليها ويرد العدوان عنها بالجهاد باعتباره فرض كفاية أو فرض عين (2) .
وأما دار الحرب فهي البلاد التي لا تحكم بالإسلام ولا تظهر فيها شعائره , فالسلطان فيها لغير المسلمين.
وينشأ كذلك من آثار الحرب وجود دار ثالثة تسمى بدار العهد: وهي الدار التي لم يظهر عليها المسلمون حتى تطبق فيها أحكام الإسلام , ولكن أهلها دخلوا في عقد المسلمين وعهدهم على شرائط تشترط وقواعد تعيّن فهذه تسمى بدار العهد (3) .
وهي دليل على ما قررناه ـ من أن الإسلام لا يكره أحدًا على اعتناقه , وأن الجهاد لإزالة المعوقات التي تقف في طريق نشر الدعوة أمام العالمين وتبليغها.
__________
(1) نيل الأوطار: 8/ 18
(2) انظر العلاقات الدولية في الإسلام، د. وهبة الزحيلي: ص 104، و 105
(3) انظر العلاقات الدولية في الإسلام، د. وهبة الزحيلي: ص 107(7/1767)
والذي ينظر فيما اتجه إليه الإسلام في معاملة المعاهدين يتأكد من هذا المعنى , لقد فصل الإسلام في الحقوق والواجبات التي تتعلق بالمعاهدين على النحو التالي:
أولًا: التحذير من نقض العهود بصورة عامة.
قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (1) .
وقال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (2) .
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به)) [متفق عليه] .
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة)) [رواه أحمد ومسلم] .
يقول الشوكاني معلقًا على الحديثين: "وفي حديث أنس وحديث أبي سعيد دليل على تحريم الغدر وغلظه لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير؛ ولأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء، قال القاضي عياض: المشهور أن هذا الحديث ورد في ذم الإمام إذا غدر في عهود لرعيته أو لمقابلته أو للإمامة التي تقلدها والتزم القيام بها فمن حاف فيها أو ترك الرفق فقد غدر بعهده.." (3) . فالغدر ونقض العهد من الأخلاق المذمومة والتي حذر الإسلام منها بصورة عامة.
__________
(1) سورة النحل: الآية 91
(2) سورة الأنفال: الآية 58
(3) نيل الأوطار: 8/ 180، و 181(7/1768)
ثانيًا: المعاهدون الذين قبلوا شروط المسلمين ودخلوا في الطاعة قبل الحرب أو أثناء الحرب يعاملون طبقًا لشروط الصلح التي أبرمت معهم , يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعلكم تقاتلون قومًا فتظاهرون عليهم , فيتقونكم بأموالكم دون أنفسهم وأبنائهم)) .
وفي حديث آخر: ((فيصالحونكم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك , فإنه لا يصلح لكم)) (1) .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا من ظلم معاهدًا , أو انتقصه , أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)) [رواه أبو داود] (2) .
وكما يذكر الأستاذ المودودي تعليقًا على الحديثين: "وألفاظ هذين الحديثين ألفاظ عامة تستنبط منها حكم عام , وهو: لا يجوز أبدًا الإخلال بأية شروط تم الاتفاق عليها في المعاهدة المبرمة مع أي معاهد ذمي، ولا يمكن زيادة الضرائب عليه أو الاستيلاء على أرضه، أو سلب داره، ولا يمكن تطبيق قوانين عسكرية عليه، أو التدخل في دينه، أو المساس بشرفه , ولا يمكن ارتكاب أي عمل يدخل في حدود الظلم كالانتقاص من قدره أو تحميله ما لا يطاق" (3) .
وهذه نماذج من المعاهدات التي تبين ما للمعاهدين وما عليهم، فهذه معاهدة نجران وقعت حين دخل العرب جميعًا في الإسلام، وخشي أهل نجران على أنفسهم , فأرسلوا سيدهم يطلب الصلح فعقدت معه تلك المعاهدة، وجاء فيها بعد أن حدد الرسول صلى الله عليه وسلم مقدار الخراج: ((ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد رسول الله على أنفسهم وملتهم وأرضهم، وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعيرهم وبعثهم وأمثلتهم (الصلبان والصور وغيرها مما هو موضوع في الكنائس) لا يغير ما كانوا عليه ولا يغير حقًّا من حقوقهم وأمثلتهم، لا يفتن أسقف عن أسقفيته , ولا راهب عن رهبانيته , ولا دهقان عن دهقانيته على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم رهق ولا دم جاهلية , ولا يحشرون ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش , من سأل منهم حقًّا فبينهم النَّصَف غير ظالمين، ولا مظلومين بنجران , ومن أكل منهم الربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة , ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، ولهم على ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد النبي أبدًا حتى يأتي أمر الله ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم)) (4) .
__________
(1) أبو داود كتاب الجهاد، انظر شريعة الإسلام في الجهاد والعلاقات الدولية، للمودودي: ص 213و 214
(2) الخراج: ص 35؛ وأبو داود كتاب الجهاد، انظر شريعة الإسلام في الجهاد والعلاقات الدولية: للمودودي: ص 214
(3) انظر شريعة الإسلام في الجهاد، للمودودي: ص 214
(4) شريعة الإسلام في الجهاد، للمودودي: ص 215(7/1769)
وهذه المعاهدة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه عقدها خالد بن الوليد رضي الله عنه مع أهل الحيرة , قرر فيها خراجًا سنويًّا قدره ستون ألف درهم على جميع السكان , تصرف على المحتاجين والفقراء , ثم عشرة دارهم على كل شخص من بقية السكان , وفي المقابل ذلك تتعهد الحكومة الإسلامية بما يلي:-
" لا تهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا قصر من قصورهم التي كانوا يتحصنون فيها إذا نزل بهم عدو لهم، ولا يمنعون من ضرب النواقيس , ولا من إخراج الصلبان في يوم عيدهم". (1)
ويقول الإمام أبو يوسف: أن عمر رضي الله عنه قد نفذ هذه المعاهدة (2)
. وهذه المعاهدة أبرمها عمر رضي الله عنه مع أهل القدس؛ أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريِّها وسائر ملتها , ألا يسكن كنائسهم , ولا تهدم ولا ينتقص منها , ولا من خيرها , ولا من صلبهم , ولا من شيء من أموالهم , ولا يكرهون على دنيهم , ولا يضر أحد منهم , وهذا نص معاهدة التي أبرمها عمر رضي الله عنه مع أهل دمشق: " أعطاهم أمانًا على أنفسهم وعلى أموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم , لا يهدم ولا يسكن شيء من دورهم، ولهم بذلك عهد الله وذمة رسوله ... لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية ". هذه معاهدة أخرى عقدها خالد بن الوليد من أهل عاتات: " لا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة , وعلى أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار إلا في أوقات الصلاة , وعلى أن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم".
والمعاهدة التي عقدها أبو عبيدة مع أهل بعلبك جاء فيها: "هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها , على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم , داخل المدينة وخارجها , وعلى أرحامهم.. من أسلم فله ما لنا وعليه ما علينا , ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها , وعلى من أقام منهم الجزية والخراج ".
وكتب حبيب بن مسلمة في معاهدة الصلح مع أهل دبيل: " هذا كتاب من حبيب بن مسلمة لنصارى أهل دبيل ومجوسها ويهودها , شاهدهم وغائبهم؛ أني أمنتكم على أنفسكم وأموالكم , وكنائسكم وبيعكم وسور مدينتكم , فأنتم آمنون , وعلينا الوفاء لكم بالعهد ما وفيتم وأديتم الجزية والخراج ".
وكتب حذيفة بن اليمان في معاهدة الصلح مع أهل أذربيحان: (الأمان على أنفسهم وأموالهم وملكهم وشرائعهم) .
وكتب حذيفة كذلك ـ في معاهدة الصلح مع أهل جرجان: " مد لهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وملكهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك" (3) .
__________
(1) انظر شريعة الإسلام في الجهاد للمودودي ص216
(2) انظر شريعة الإسلام في الجهاد للمودودي ص84
(3) انظر المعاهدات في شريعة الإسلام للمودودي: ص 216 و 217(7/1770)
فهذه المعاهدات تنطبق بما ألزم الإسلام به أتباعه من الوفاء بالعهد , وأن ما يشترط في المعاهدات هو الحق والعدل والمساواة , وليس فيها إلا ما يغري من به عقل باتباع الحق والدخول في دين الله ليغمر الجميع بعدله وسماحته. ونستطيع أن نجعل ما جعله الإسلام من حقوق المعاهدين إذا نصحوا ووفوا والتزموا فيما يلي:
1 ـ حماية النفس والمال من أي اعتداء سواء من المسلم أو غيره، ووفاء الخليفة المسلم بذلك , فهذا عمر كان بالجابية وأتاه رجل من أهل الذمة يخبره أن الناس قد أسرعوا في عنبه , فخرج عمر حتى لقي رجلًا من أصحابه يحمل ترسًا عليه عنب، فقال عمر: وأنت أيضًا؟! فقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا مجاعة، فانصرف عمر، فأمر لصاحب الكرم بقيمة عنبه. (1)
2 ـ إذا غزا العدو بلاد المسلمين فغنم شيئًا من أموال أهل الذمة ثم أظهر الله المسلمين على عدوهم واستردوا هذه الأموال فعليهم إعادتها إلى أصحابها من أهل الذمة دون مقابل. (2)
3 ـ لهم الحق في المحافظة على عقائدهم الدينية وممارسة عباداتهم، وعلاقاتهم الشخصية بينهم كالزواج وغيره حسب دياناتهم (3)
4 ـ لهم أن يمارسوا من عاداتهم ما لا يتعارض مع آداب الإسلام العامة , فعن عبد الله بن قيس قال: كنت فيمن تلقى عمر مقدمه من الشام، فبينما عمر يسير إذ لقيه المقلسون ـ وهم الذين يلعبون بلعبة لهم بين يدي الأمراء إذا قدموا إليهم ـ من أهل أذرعات بالسيوف والريحان، فقال عمر: صه، ردوهم وامنعوهم. فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين هذه سنة العجم، وإنك إن تمنعهم منا يروا أن في نفسك نقضًا لعهدهم. فقال عمر: دعوهم. (4)
ويظل لهم الوفاء بما كلفه الإسلام من هذه المعاملة الكريمة ما لم ينقضوا عهدهم بأمر من الأمور التي تدل على تمرد ونكوص عن أداء ما يجب عليهم من حق مالي للدولة، أو تنفذ ما يحكم به الحاكم، أو الاجتماع على قتال المسلمين منهم، أو بالتظاهر مع أهل الحرب، أو الغدر، أو انتهاك حرمة أحد من المسلمين، أو الطعن على المسلمين في دينهم أو رسولهم صلى الله عليه وسلم أو كتابهم أو ربهم سبحانه، قيل لابن عمر رضي الله عنه: "إن راهبًا يشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطه الأمان على هذا". (5)
__________
(1) الأموال: ص 151
(2) موسوعة فقه عمر، دكتور محمد رواس قلعجي: ص 324
(3) موسوعة فقه عمر، دكتور محمد رواس قلعجي: ص 324
(4) الأموال: ص 152؛ موسوعة فقه عمر، دكتور محمد رواس قلعجي: ص 324
(5) فقه السنة: 2/ 670(7/1771)
الهدنة:
ومن الآثار المترتبة على الجهاد كذلك أن يطلب الأعداء ترك القتال فترة من الفترات قد تنتهي إلى صلح، وهذا يسمى بعقد الهدنة , والموادعة إذا تم الاتفاق عليه، بل يضعها الإسلام موضع الوجوب في حالين يدلان على حرص الإسلام على إرساء السلم الدولي ـ كما أشرنا من قبل ـ.
أما الحالة الأولى فتكون مع طلب العدو فيجب أن يجاب إلى طلبه عملًا بقوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (1) .
وقد هادن الرسول صلى الله عليه وسلم مشركي مكة ووادعهم مدة عشر سنين في غزوة الحديبية , وكان ذلك حقنًا للدماء، ورغبة في السلم (2) .
فعن البراء رضي الله عنه قال: ((لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم ثلاثًا، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح، السيف وجرابه (3) , ولا يخرج بأحد معه من أهلها، ولا يمنع أحدًا يمكث بها ممن كان معه)) .
قال ((الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي اكتب الشرط بينا: بسم الله الرحمن الرحيم (4) : "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فقال له المشركون: "لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فأمر عليًّا أن يمحوها فقال: "لا والله لا أمحوها" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرني مكانها" فأراه مكانها فمحاها وكتب ابن عبد الله، فأقام بها ثلاثة أيام.
فلما كان اليوم الثالث، قالوا لعلي: هذا آخر يوم من شرط صاحبك، فمره فليخرج فأخبره بذلك، فقال: "نعم" فخرج)) .
وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا أسلال ولا أغلال (5) .
والحالة الثانية التي تجب فيها المهادنة: الأشهر الحرم فلا يحل فيها البدء بالقتال إلا إذا بدأ فيها العدو بالقتال، فإنه يكون دافعًا للاعتداء، أو جاء وقت الأشهر الحرم وكان القتال مستمرًا ولم يستجب العدو لقبول الموادعة فيها، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (6) .
__________
(1) سورة الأنفال: الآيتان 61 و 62
(2) فقه السنة: 2/ 659
(3) بيان لجلبان السلاح
(4) وفي رواية: ما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم
(5) رواه البخاري ومسلم وأبو داود، والعيبة دعاء الثياب، ومكفوفة مربوطة محكمة، ولا أسلال ولا أغلال، أي لا سرقة ولا خيانة ـ انظر فقه السنة: 2/ 660
(6) سورة التوبة: الآية 36(7/1772)
الأمان:
ومن الآثار المرتبة على الجهاد ـ كذلك ـ أن يطلب فرد من الأعداء المحاربين الأمان , وعندئذ يقبل منه ويصير آمنًا، لا يجوز الاعتداء عليه في أي صورة من صور الاعتداء.
قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (1) .
فطالب الأمان قد يطلبه لأغراض شتى , يحسن أن نتعرف عليها وكيف عومل فيها، فقد يطلب الأمان ليتعرف على الإسلام، وهذا يبذل له الأمان ويدخل بلاد المسلمين، ويطلع على الإسلام، وإن شاء دخل فيه وأقام في بلاد المسلمين، وإن شاء بقي على دينه وأقام في بلاد المسلمين إقامة دائمة ـ إن وافق إمام المسلمين على ذلك، وعندئذ يعقد له عقد الذمة، الذي سبقت الإشارة إليه ـ ويدفع الجزية، وإن أراد العودة إلى بلاده سهل له ذلك، عملًا بالآية الكريمة السابقة. (2) .
ـ وقد يطلب الأمان ليتمكن من الدخول إلى بلاد المسلمين للتجارة، وهذا متروك الإذن فيه لأمير المؤمنين فإن شاء سمح له بذلك، وعندئذ يلزم بدفع العشر إلى الدولة الإسلامية، كما تحدد مدة إقامته فيها، وقد مر بنا ما قاله شيخ نصراني لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو بالمدينة المنورة، فقال له: أنا الشيخ النصراني، وإن عاملك عشرني مرتين. فقال عمر: وأنا الشيخ الحنيف. وكتب إليه عمر أن لا يعشروا في السنة إلا مرة، ولا يؤذن لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيام. أي في الإقامة في الحجاز.
__________
(1) سورة التوبة: الآية 6
(2) انظر موسوعة فقه عمر: ص 120؛ وانظر فقه السنة: 2/ 694(7/1773)
ـ وقد يطلب الأمان ليبلغ أمير المؤمنين رسالة يحملها إليه من أمير بلاده، وهذا يعامل معاملة الرسل وقد حدث أن أرسل مسيلمة الكذاب برسولين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملان كتابًا منه جاء فيه: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت بالأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرسولين حين قرأ الكتاب ((فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال. فقال رسول الله: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما)) [أخرجه أحمد وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود] .
وأوفدت قريش أبا رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع الإيمان في قلبه فقال: يا رسول الله لا أرجع إليهم، وأبقى معكم مسلمًا: فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد , فأرجع إليهم آمنًا، فإن وجدت بعد ذلك في قلبك ما فيه ـ الآن ـ فارجع إلينا)) [أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وصححه] .
ـ وقد يطلب الأمان ليحفظ دمه. فإن أعطى الأمان في صورة من هذه الصور وغيرها فقد عصم دمه من أن يراق، وحفظ ماله من أن يسلب، وشخصه من أن ينال بأذى، ودينه من أن يكره على تركه، فإن تعرض له أحد بشيء من ذلك عوقب.
فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض المجاهدين قال لمحارب من الفرس: "لا تخف. ثم قتله، فكتب رضي الله عنه إلى قائد الجيش: أنه بلغني أن رجالًا منكم يطلبون العلج حيًّا , إذا اشتد في الجبل وامتنع يقول له: "لا تخف" فإذا أدركه قتله, وإني والذي نفسي بيده لا يبلغني أن أحدًا فعل ذلك إلا قطعت عنقه".
وروى البخاري في التاريخ، والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أمّن رجلًا على دمه فقتله؛ فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرًا)) .
وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة)) .
وهذا الأمان الفردي أعطاه الإسلام للرجال والنساء فمن حق أي فرد أن يؤمن أي فرد من الأعداء يطلب الأمان باستثناء الصبيان والمجانين.
روى أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم يد على من سواهم)) , وروى البخاري وأبو داود والترمذي عن أم هانئ بنت أبي طالب ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: ((قلت يا رسول الله, زعم ابن أم يعلي أنه قاتل رجلًا قد أجرته؛ فلان (ابن هبيرة) . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانيء")) (1)
__________
(1) فقه السنة: 2/ 694 و 695(7/1774)
وأما الأمان الذي يعطى للجماعة فإنه من شأن أمير المؤمنين لتحري المصلحة , ولو جعل ذلك لآحاد الناس لصار ذريعة إلى إبطال الجهاد (1) . ويتقرر الأمان صورة بأي من الصور التي تدل عليه , بالعبارة، أو الإشارة، فلما حاصر المسلمون " تستر " ونزل الهرمزان على حكم عمر بعث به أبو موسى الأشعري على وفد فيهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس إلى عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا هرمزان، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله، فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية، كان الله قد خلى بيننا وبينكم، فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا. فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا.. ثم قال: ما عندك وما حجتك في إنقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك، فاستقى الهرمزان ماء فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشًا لم أستطع أن أشرب في هذا، فأتي به في قدح آخر يرضاه، فلما أخذه جعلت يداه ترتعد، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب. فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه , فأكفأه , فقال عمر: أعيدوه عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش. فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأنس. فقال له عمر: إني قاتلك، فقال: إنك أمنتني. قال: كذبت، فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين. فقال عمر: ويحك يا أنس، أنا أؤمن من قتل مجزأة والبراء؟! قال: قلتَ: لا بأس عليك حتى تخبرني، وقلتَ: لا بأس عيك حتى تشرب. وقال له من حوله مثل ذلك، فامتنع عمر عن قتله , ثم أسلم الهرمزان. (2) .
ويبقى المستأمن مستحقًا بحقه في الأمن ما دام محافظًا على الأمن والنظام العام ولم يخرج عليهما بأن يكون عينًا أو جاسوسًا، وتطبق عليه القوانين الإسلامية في المعاملات المالية، وكذلك العقوبات. (3) .
وإذا عاد إلى دار الحرب فإنه يبطل الأمان بالنسبة لنفسه ويبقى بالنسبة لماله , قال ابن قدامة في المغني: " إذا دخل حربي دار الإسلام بأمان فأودع ماله مسلمًا أو ذميًّا أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب نظرنا فإن دخل تاجرًا، أو رسولًا، أو متنزهًا أو لحاجة يقضيها، ثم يعود إلى دار الإسلام، فهو على أمانه في نفسه، وماله؛ لأنه لم يخرج بذلك عن نية الإقامة في دار الإسلام، فأشبه الذمي لذلك، وإن دخل دار الحرب مستوطنًا، ثبت الأمان لماله، فإذا بطل الأمان في نفسه بدخوله دار الحرب، بقي في ماله، لاختصاص المبطل بنفسه فيختص البطلان به". (4) .
وبعد أن تناولنا المعاهدين، والهدنة والأمان باعتبارها من آثار الجهاد نشير إلى أنه قد نعقد الصلح بين المسلمين وبين أقوام دون حصار، كما صالح عمر بني تغلب، فقد قال له عبادة بن النعمان التغلبي، أو أبوه: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قد علمت شوكتهم، وأنهم بإزاء العدو، فإن ظاهروا عليك العدو اشتدت مؤونتهم، فإن رأيت أن تعطيهم شيئًا فافعل. فصالحهم عمر على ألا يغمسوا أولادهم في النصرانية، ويضاعف عليهم الصدقة. (5)
كما يجوز أن يتضمن عقد الصلح أمورًا أخرى يتم الاتفاق عليها بين الطرفين.
__________
(1) الروضة الندية: ص 408؛ وانظر فقه السنة: 2/ 696
(2) البداية والنهاية لابن كثير: 7/ 87، والأموال: ص 113؛ والمغني: 8/ 489 و 398؛ وسنن البيهقي: 9/ 96؛ وانظر موسوعة فقه عمر: ص 121
(3) فقه السنة: 2/ 698
(4) المغني: 8/ 400 و 401
(5) موسوعة فقه عمر: ص 318(7/1775)
الغنائم:
ومن الآثار المترتبة على الجهاد كذلك ما يتعلق بالغنائم.
والغنائم جمع غنيمة، وهي في اللغة ما يناله الإنسان بسعي، قال الشاعر:
وقد طوفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
وشرعًا تطلق الغنيمة على المال المأخوذ من أعداء الإسلام عن طريق الحرب والقتال وتشمل الأنواع الآتية:
1 ـ الأموال المنقولة.
2 ـ الأسرى.
3 ـ الأرض.
وتسمى ـ كذلك ـ الأنفال ـ جمع نفل ـ لأنها زيادة في أموال المسلمين (1) .
والمال المأخوذ من الأعداء كان يقسم من قبل الإسلام على المحاربين على الطريقة التي ذكرها أحد الشعراء بقوله مخاطبًا رئيس القوم:
لك المرباع منها والصفايا
وحكمك والنشيطة والفضول
فإن المرباع وهو الربع من الغنيمة، وما يستحسنه ويصطفيه لنفسه (الصفايا) ، وما يحكم به وما يقع في أيدي المقاتلين قبل الموقعة (النشيطة) ، وما يفضل بعد القسمة (الفضول) .
ولكن بعد أن من الله على الناس بالإسلام وأصبح الجهاد محكومًا بأسسه ووسائله وغاياته التي فصلنا القول فيهاـ لإحقاق الحق وإرساء قواعد العدل وإحلال السلام ـ وخاصة أن مرحلة الجهاد الفرض كانت قد سبقت بمصادرة أموال المسلمين في مكة من قِبَل المشركين وحوربوا اقتصاديًّا بالمقاطعة والمغالاة في الأسعار ـ أحل الله لهذه الأمة الغنائم، وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
وروى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وبعثت إلى الناس عامة)) .
كما إن الإسلام جعل من توزيعها ما يحقق النفع للأمة جميعًا، ففي أول تجربة مع الغنائم بعد غزوة بدر وقد ترك المشركون المنهزمون وراءهم أموالًا كثيرة , تساءل المسلمون: كيف تكون قسمة هذه الأموال؟ وكانت إجابة القرآن الكريم في أن تقسيم الغنائم يرجع إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (3) .
__________
(1) فقه السنة: 2/ 673
(2) سورة الأنفال: الآية 69
(3) سورة الأنفال: الآية 1(7/1776)
وقال تعالى في بيان هذه القسمة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) .
فخمس الغنيمة يصرف على المصارف التي ذكرت في الآية الكريمة وهي: الله ورسوله وذو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
فذكر الله سبحانه وتعالى في بيان المصارف تنبيه إلى أن ما يخص رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون له ولغيره من الأمة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤثر أمته ـ دائمًا ـ ويتضح هذا المعنى من حديث النبي صلى الله عليه وسلم والذي رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن عبسة قال: "صلى بنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، ولما سلم أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: ((لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم)) . ومعنى الرد فيهم أن ينفق منه على الفقراء وفي الإعداد للجهاد. فهذا مصير الخمس في الأصناف المذكورة. وأما الأربعة الأخماس الباقية فتعطى للجيش.
ويشترك في العطاء الجميع القوي منهم والضعيف، روى أحمد رحمه الله عن سعد بن مالك قال: " قلت: يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم، ويكون سهمه وسهم غيره سواء. قال: ((ثكلتك أمك ابن أم سعيد، وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم)) .
ولكن يبقى للأمير أن يقدر من بذل جهدًا أكبر , فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسهم للفارس وفرسه ثلاثة أسهم، وللراجل - أي الذي قاتل على رجليه - سهمًا. (2) .
كما أن مَنْ غيبه الأمير في مصلحة كالبريد وغيره وإن لم يحضر الواقعة يستوي مع الحاضرين. فعن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يعني يوم بدر فقال: إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله , وأنا أبايع له فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم، ولم يضرب لأحد غاب غيره)) [رواه أبو داود] .
وعن ابن عمر قال: ((لما تغيب عثمان عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لك أجر رجل وسهم)) [رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه] (3) .
كما يجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش ببعض الغنيمة إذا كان له من العناية والمقاتلة ما لم يكن لغيره (4) .
فعن سعد بن أبي وقاص قال: ((جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف، فقلت: يا رسول الله إن الله قد شفى صدري اليوم من العدو فهب لي هذا السيف، فقال: إن هذا السيف ليس لي ولا لك , فذهبت وأنا أقول يعطاه اليوم من لم يبل بلائي , فبينا أن إذ جاءني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أجب، فظننت أنه نزل في شيء بكلامي , فجئت, فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إنك سألتني هذا السيف وليس هو لي ولا لك وإن الله جعله لي فهو لك , ثم قرأ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى آخر الآية)) [رواه أحمد وأبو داود] (5) .
وفي الوقت الذي تكون الغنيمة بهذا التقسيم العادل والذي يسع الجميع يأتي التحذير من الغلول وهو السرقة من الغنيمة , قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (6) .
وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: ((كان على ثقل ـ أي متاع ـ النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هو في النار" فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها)) (7) .
__________
(1) سورة الأنفال: الآية 41
(2) انظر فقه السنة: 2/ 678؛ وانظر نيل الأوطار للشوكاني: 8/ 115
(3) نيل الأوطار: 8/ 119
(4) نيل الأوطار: 8/ 106
(5) نيل الأوطار: 8/ 105
(6) سورة آل عمران: الآية 161
(7) نيل الأوطار: 8/ 136(7/1777)
الأسارى:
من الغنائم التي تكون كذلك بعد الحرب أن يقع في يد المجاهدين أسرى من المقاتلين أحياء.
وقد يكون من هؤلاء الأسرى النساء والصبيان.
فأما الرجال المقاتلون فإن الحاكم له الحق في أن يتصرف معهم بما يكون أولى بالحق وأنفع، فله أن يمن أو الفداء أو القتل والمن أن يطلق سراحهم بلا مقابل. والفداء يكون بالمقابل، وقد يكون المقابل مالًا وقد يكون تبادلًا بالأسرى المسلمين.
قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (1) .
وقد من الرسول صلى الله عليه وسلم على أهل مكة يوم الفتح , وقال لهم: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) .
وروى مسلم من حديث أنس رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق سراح الذين أخذهم أسرى، وكان عددهم ثمانين، وكانوا قد هبطوا عليه وعلى أصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم وفي هذا نزل قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} )) (2) .
وقد راعى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يقدمه بعض الأسرى من أعمال نافعة ومفيدة فعندما بعث أبا موسى الأشعري في بعض الغزوات فأصاب سبيًا قال عمر: "خلوا سبيل كل أكار وزراع" (3) .
وأما شواهد الفداء العملية، فقد ((فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر رجلين من أصحابه برجل من المشركين من بني عقيل)) [رواه أحمد والترمذي وصححه] .
ومعنى ذلك أن الفداء قد يكون بالمال وقد يكون بغيره ـ أيضًا ـ.
وأما القتل فإنه من حق الحاكم باعتبار القتل عقوبة يستحقها مجرمو الحروب الذين لا يناسبهم المن ولا الفداء , وقد قتل النضر بن الحارث وعقبة بن معيط يوم بدر، وقتل أبو عزة الجمحي يوم أحد (4) وفي هذا يقول الله سبحانه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (5) .
__________
(1) سورة محمد: الآية 4
(2) الفتح: 24، وانظر نيل الأوطار: 8/ 140
(3) الأموال: ص 136، وانظر موسوعة فقه عمر: ص 74
(4) انظر فقه السنة: 2/ 686
(5) سورة الأنفال: الآيتان 67 و 68(7/1778)
هذا ما يخص الرجال المقاتلين وأما النساء والصبيان فليس عليهم القتل الذي يمكن أن يكون وجهًا من الوجوه مع مجرمي الحرب.
فقد جاء في الصحاح في شأن أسرى غزوة بني المصطلق ـ وكان من بينهم جويرية بنت الحارث ـ أن أباها الحارث بن أبي ضرار حضر إلى المدينة ومعه كثير من الإبل ليفتدي بها ابنته، وفي ودي العقيق، قبل المدينة بأميال، أخفى اثنين من الجمال أعجباه في شعب بالجبيل، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا محمد أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها. فقال عليه الصلاة والسلام: ((فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق في شعب كذا؟)) فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله. وأسلم الحارث وابنان له، وأسلمت ابنته أيضًا، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها وتزوجها، فقال الناس: لقد أصبح هؤلاء الأسرى بأيدينا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنوا عليهم بغير فداء.
وتقول أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ معلقة على هذا الموقف:
"فما أعلم أن امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية، إذ بتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم إياها أعتق مائة من أهل بيت بني المصطلق".
كما يعلق الأستاذ سيد سابق على هذا بقوله:
"ولمثل هذا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من جويرية، لا لشهوة يقضيها، بل لمصلحة شرعية يبتغيها، ولو كان يبغي الشهوة لأخذها أسيرة حرب بملك اليمين". (1) .
وإذا كانت الحروب تتمخض عن وقوع أسرى لدى كل فريق من المتحاربين , فإننا رأينا كيف تكون المعاملة الرقيقة الإنسانية الحانية من الإسلام نحو الأساري رجالًا ونساء وذرية، وينص على ذلك في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى مبينا على من يكرمهم: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (2) .
وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((فكوا العاني (والعاني هو الأسير) وأجيبوا الداعي، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض)) .
__________
(1) فقه السنة: 2/ 687
(2) الدهر: 9(7/1779)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة , فربطوه بسارية من سواري المسجد , فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك , إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك , إن تنعم تنعم على شاكر , وإن تقتل تقتل ذا دم , وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , يا محمد والله ما كان على الأرض أبغض علي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين إلي أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد إلي أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي , وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة , فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر , فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا والله لا تأتيكم من يمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم)) [متفق عليه] . (1) .
__________
(1) نيل الأوطار: 8/ 140 و 141(7/1780)
الأرض:
وأما القسم الثالث من الغنائم والذي يتمثل في الأرض التي تؤخذ نتيجة الحرب والقتال فإن الإمام مخير فيها بين أمرين:
الأول: أن يقسمها على المجاهدين.
الثاني: أن تصبح وقفا على المسلمين.
وإذا اختار الحالة الثانية فإنه يضرب على الأرض خراجًا مستمرًا يؤخذ ممن هي في يده سواء أكان مسلمًا أو ذميًّا، ويؤخذ هذا الخراج (الأجرة) كل عام ويقدر الخراج اجتهادًا بما يناسب المكان والزمان.
وأصل الأمرين السابقين ما كان من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر حيث قسمت من المجاهدين بعد أحد ضمها لله وله (1) . عملًا بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فهذه آية الغنيمة.
وما كان من فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عملًا بقوله تعالى: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} وهذه آية الفيء.
ولذلك فإن عمر تأول الآية حين ذكر الأموال وأصنافها فقال: استوعبت هذه الآية الناس.
روى أبو عبيدة في الأموال أن عمر بن الخطاب قدم الجابية فأراد قسمة الأرض بين المسلمين , فقال له معاذ: والله ليكونن ما تكره، إنك لو قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد والمرأة، ثم يأتي بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدًّا، وهم لا يجدون شيئًا، فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم، فصار عمر إلى قول معاذ (2) .
وذكر أبو يوسف في الخراج أن الذي اشار على عمر بترك قسمة أراضي العراق والشام هو عبد الرحمن بن عوف (3) .
ولا يمنع أن يكون الصحابيان قد أشارا بهذا الرأي السديد والمفيد وأخذ بقوليهما عمر، وهذا دليل على اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم وتحريهم ما ينفع المسلمين في كل عصر، وقد دربهم الرسول الكريم وعلمهم ذلك.
وكتب عمر بذلك إلى سعد بن أبي وقاص: انظر ما جلب عليك إلى العسكر من كرائم أو مال فأقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار لعمالها فيكون ذلك من أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لم نبقي بعدهم شيء. (4) .
ووقف عمر جميع الأراضي التي فتحت عنوة، الشام والعراق، ومصر، وسائر ما فتحه، وقال: "لولا آخر الناس لقسمت الأراضي كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ". (5)
واجتهاد عمر والصحابة ـ في هذا الموقف ـ قائم على مراعاة المصلحة وتغير بعض الظروف، وظل مراعيًا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته فقد ثبت أنه جمع مع هذا الوقف استطابة نفوس القائمين باعتبار أن هذا حقهم كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في خيبر.
__________
(1) سيرة ابن هشام: 2/ 349
(2) الأموال: ص 59؛ والمغني: 2/ 716، وموسوعة فقه عمر: ص 62
(3) خراج أبي يوسف: ص 26
(4) خراج يحيى: ص 48؛ وسنن البيهقي: 9/ 134؛ وموسوعة فقه عمر: ص 62
(5) المغني: 2/ 718؛ وسنن البيهقي: 9/ 138؛ وموسوعة فقه عمر: ص 63(7/1781)
وقد ذهب إلى هذا جماعة منهم ابن حزم فقالوا: إن عمر لم يوقف هذه الأرض إلا بعد أن استطاب نفوس القائمين وأرضاهم، واستدلوا على ذلك بأن جرير بن عبد الله البجلي لما قدم على عمر من قومه يريد الشام وجهه عمر إلى الكوفة بعد مقتل أبي عبيدة، وقال له: هل لك في الكوفة، وانفلك الثلث بعد الخمس، من كل أرض أو شيء؟ قال: نعم، فبعثه. (1)
وكانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية، فجعل عمر لهم ربع السواد، فأخذوه سنتين أو ثلاثا , فوفد عمار بن ياسر إلى عمر، ومعه جرير بن عبد الله البجلي , فقال عمر لجرير: يا جرير، لولا أني قاسم مسؤول لكنتم على ما جعل لكم، وأرى الناس قد كثروا فأرى أن ترده عليهم، ففعل جرير ذلك، فأجازه عمر بثمانين دينارًا (2) .
وقالت أم كرز البجلية: يا أمير المؤمنين إن أبي هلك وسهمه ثابت في السواد، وإني لن أسلم، فقال لها عمر: يا أم كرز إن قومك قد صنعوا ما قد علمت. فقالت: إن كانوا صنعوا ـ أي سلموا أراضيهم ـ فإني لست أسلم حتى تحملني على ناقة ذلول عليها قطيفة حمراء، وتملأ كفي ذهبًا، ففعل عمر، فكان الذهب الذي أعطاها نحوا من ثمانين دينارا. (3) .
قال ابن حزم: فهذا أصح ما جاء عن عمر في ذلك، وهو قولنا، فإنه لم يوقف حتى استطاب نفوس القائمين وورثة من مات منهم (4) .
وعلى ذلك يكون عمر قد جمع بين الدليلين، ولا يهتم بمخالفته لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل روى الإمام أحمد في مسنده وذكر ابن حزم في المحلى رجوع عمر بن الخطاب عن هذا التصرف ـ وهو إيقاف الأراضي ـ وأنه قال: لو عشت إلى هذا العام المقبل، لا تفتح للناس قرية إلا قسمتها بينهم كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر (5) .
فهذا ما كان من الحكم في الأرض التي تؤخذ أثناء الحرب أو بعده، وأما ما يتبع الآن استرشادا بما ذكر من أحكام فإن المجاهدين يحصلون في البلدان الإسلامية على رواتب ثابتة سواء حاربوا أم لم يحاربوا، وعلى ذلك فإن الغنيمة تدخل بيت المال لتجد طريقها إلى الإنفاق العام على الأمة كلها.
__________
(1) الأموال: 62؛ والمحلى: 7/ 341؛ والمغني: 8/ 379؛ وموسوعة فقه عمر: ص 63
(2) أموال أبي عبيدة: ص 61؛ وخراج يحيى: ص 45؛ والمحلى: 7/ 344؛ وسنن البيهقي: 9/ 135
(3) الأموال: ص 61؛ وسنن البيهقي: 9/ 195؛ وموسوعة فقه عمر: ص 64
(4) المحلى: 7/ 344
(5) مسند أحمد: 1 /31؛ والمحلى: 7/ 343(7/1782)
وهذه الأحكام التي تتعلق بالآثار المترتبة على الجهاد وفي حالة انتصار المسلمين، أما إذا حدث تقصير من قبل المجاهدين في جانب من الجوانب وأصابهم القرح وحدثت فيهم الهزيمة؛ فإن الإسلام يوجه أتباعه بتوجيهات سبق ذكرها في خلق الجهاد من الثبات والصبر وعدم اليأس ومحاسبة النفس وتدارك التقصير، وجمع الشمل ومواصلة الجهاد.
وأما الجديد الذي يمكن أن يحدث فقد يقع في يد العدو أسرى من المسلمين، وفي هذه الحالة ينبغي أن يبذل الإمام كل الجهد في تخليص الأسرى حتى لا يفتنوا في دينهم، وحتى لا يتعرضوا للأذى وهم في قبضة عدوهم.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لأن أستنقذ رجلًا من المسلمين من أيدي الكفار أحب إلي من جزيرة العرب" (1) .
وقد يكون ذلك الإنقاذ بتبادل الأسرى، أو بالفداء، فإن اقتداه بالمال كان فداؤه من بيت مال المسلمين؛ لأنه كان يدافع عنهم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كل أسير في أيدي المشركين من المسلمين ففكاكه من بيت مال المسلمين " (2) .
__________
(1) خراج أبي يوسف: ص 233
(2) خراج أبي يوسف: ص 233؛ وموسوعة فقه عمر ص 76(7/1783)
الفصل الخامس
العلاقات الدولية في الإسلام
إذا كان الإنسان اجتماعيًّا بفطرته ولا يستطيع العيش وحده، فإن الجماعات البشرية التي تأخذ مسميات تدل على حجم كل جماعة من بطن وعشيرة وقبيلة ودولة؛ لا تستطيع كذلك العيش دون روابط تلتقي بها وتتبادل المنافع فيما بينها، فهذه سنة الله في خلقه، ولترشيد هذه العلاقات بين الأفراد والجماعات كانت التوجيهات والأحكام المفصلة في وحي الله لتكون الروابط قوية ولتتكامل المنافع في أحسن صورة.
ولهذا وجدنا عناية الإسلام بالأمة التي استجابت لوحي ربها، وأسلمت وجهها له تصل بالأمة إلى تحقيق الوحدة العضوية التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق تعبير في قوله: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)) (1) .
وقامت هذه الوحدة العضوية على الأسس الآتية:
ـ الأخوة في الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .
وهي أخوة أقوى من أخوة النسب.
ـ ما يصحب هذه الأخوة من حقوق ومظاهر منها الحب في الله، ومنها التراحم والتكافل والتكامل الذي يحقق وحدة الأمة في أحسن صورها: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (2) .
وكما جاء في وصفها: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (3) .
__________
(1) متفق عليه واللفظ لمسلم , وعند البخاري بلفظ: " ترى المؤمنين.." أخرجه البخاري في كتب الأدب باب رحمة الناس والبهائم: 10/ 438؛ ومسلم في كتاب البر والصلة والأدب باب تراحم المؤمنين، وتعاطفهم وتعاضدهم
(2) سورة الأنبياء: الآية 92، والمؤمنون: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
(3) سورة الفتح: الآية 29(7/1784)
وعلى ذلك نقول: "إن الأسس التي جعلها الله تعالى في العلاقة بين الإنسان وغيره لا تمثل كما يزعم المغرضون "تكوين عنصرية جديدة تقوم على أساس العقيدة" ولكن تحقيق مفهوم الوحدة الحقيقية بين المؤمنين يأتي ثمرة طبيعية لاستجابة المؤمنين وليست تكوينًا عنصريًّا، وتتجه الأمة المؤمنة نحو غيرها من الجماعات البشرية الأخرى لتحقق معها علاقات يؤسسها الإسلام على ما يلي: "أسس العلاقات بين الجماعات البشرية".
1 ـ التذكير بالأصل الواحد الذي يرجع إليه البشر جميعا، فعلى الرغم من وجود هذه الحقيقة إلا أن الناس تطغى عليهم نزعات كثيرة نفعية تنسيهم هذا الأصل، ويتعاملون بمنطق العداوة والبغضاء، ولذلك فإن الإسلام يُذكر الناس بأنهم لآدم: ((كلكم بنو آدم وآدم من تراب)) (1) .
ويأتي هذا التذكير مقرونًا بما يجعله تذكيرًا مؤثرًا إيجابيًّا فيصحب بالأمر بتقوى الله التي هي جماع كل خير فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيبًا} (2) .
فالخطاب ـ هنا ـ للناس جميعًا أن يتقوا الله، وتكرار التقوى مع ما يتبع الأمر بها في الموضعين له دلالة أخرى في أنه لن يستطيع هذا الإنسان أن يفيد من هذا التذكير بالانتماء إلى الأصل الواحد إلا إذا حقق هذه القيمة في نفسه واستجاب لهدي ربه.
فالتذكير الأول بالخلق بنفس واحدة، ومنها ليس بعيدا عنها كان الخلق لزوجها، تأكيدًا لوحدة الأصل، منهما كان البعث والانتشار. ولما كان هذا الانتشار نقيض التفرق المكاني في أرض الله الواسعة كان الأمر الثاني والذي سبق أيضا بتقوى الله أن تبقى الناس قطيعة الأرحام، ويجعل الإسلام صلة الرحم من الفرائض التي لا غنى للمجتمع عنها فيبشر الواصلين لأرحامهم بالوصل من الله لهم، ويحذر من القطيعة ويعدها فسادًا في الأرض قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (3) .
__________
(1) أخرجه البزار في مسنده كتاب الأدب باب التفاخر ـ كشف الأستار للهيثمي: 2/ 434 و 435
(2) سورة النساء: الآية 1
(3) سورة محمد: الآيتان 22 و 23(7/1785)
2 ـ الحق: فيقيم الإسلام هذه العلاقة على هذا المبدأ العظيم الذي يقوم عليه أمر هذه العلاقة، فلا يسمح للباطل أن يتسرب إليها؛ لأن الباطل يتبعه مفاسد أخرى في علاقة الإنسان بغيره.
فالتصورات الباطلة، والعقيدة الفاسدة تقسم الناس على معايير ظالمة لا أساس لها من الحق والواقع، فمن هذه المعايير الباطلة: أن يميز الفكر البشري إنسانًا على آخر على أساس جنسه ـ مثلًا ـ كما حدث في الفكر الروماني الذي نظر إلى الجنس الروماني على أنه جنس مقدس، وما عداه فليسوا إلا عبيدًا له، وكذلك الحال مع الجنس الآري، وامتد هذا الباطل وهذا الفساد لنجد له صدى لدى ورثة الفكر الروماني واليوناني من الأوروبيين والأمريكيين حيث تقسم الجنسيات تقسيما يتفق مع التقسيم السابق في درجات الجنسيات، ولم تسلم من هذه النظرة الباطلة الديانات التي عبثت فيها أيدي البشر، فاليهود ـ مثلا ـ في مقولاتهم التي ابتدعوها بهذا المنطق الباطل يرون أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم شعبه المختار، وما عداهم فإنهم من الأميين الذي يستباحون في كل شيء.
ومن العناصر الباطلة كذلك أن يقسم الناس على أساس بيئي أو قومي، فالذي ينتمي إلى أثينا ـ مثلا ـ انتماء أصيلًا كان يمثل العنصر السيد، ومن ينتمي إليها انتماء يقل عن ذلك يعد من الأجانب الذين لا يتمتعون بحقوق الطبقة الأولى.
ومنها اعتبار اللون أساسًا لهذا التقسيم الباطل فلا يسند هذا التقسيم واقع تشريعي، ولا نتائج لبحوث تفيد أن اللون يكسب الإنسان خصائص معينة.. وعلى هذا الأساس الباطل وجدنا من آثار الفكر البشري الوضعي التفرقة بين البيض والسود، بل بين البيض والملونين ـ قديمًا وحديثًا ـ إلى صورة مزرية، يسقط فيها الفكر البشري عندما يغلف بالباطل هذا التقسيم، فيقول "منسكيو": "حاشا لله أن يجعل في هذا البدن الأسود ذي الأنف الأفطس روحًا".
ومن هذه العناصر الظالمة التي لا سند لها ـ كذلك ـ من عقل نجد أرسطو الذي لقب بالمعلم من قبل الفلاسفة يبرر تقسيم البشر تبريرًا يدل على اتباع الهوى في الفكر فيرى: إن الله خلق الناس من فصيلتين: فصيلة مزودة بالعقل والإرادة، وفصيلة مزودة بالأجساد، ومقتضى هذا التقسيم أن الفصيلة الأولى تفكر، والفصيلة الثانية تنفذ، وامتد هذا الفكر السقيم لنجد أثره لدى الأوروبيين الذين يقسمون العالم هذا التقسيم بين عالم متقدم يمثل عالمه، وعالم متخلف، وقد يلقب تواضعا بالعالم النامي، فالعالم المتقدم هو الذي يفكر ويرسم السياسات، ويضع البرامج الاقتصادية، بل يفصل القيم الخلقية، وعلى العالم الآخر أن يستجيب وأن ينفذ وليس له أن يفكر، فضلًا عن أن يصدر فكرا، وهذا النظر الباطل يفسر لنا ظاهرة الإعراض العام من قبل هؤلاء عن التفكير في المبادئ التي يحملها أبناء هذا العالم المتخلف على الرغم من أنها وحي الله تعالى، ولا دخل بها للبشر.(7/1786)
3 ـ العدل: وهو من الأسس التي جعلها الإسلام ركيزة العلاقات بين الناس؛ لأن الظلم سبيل الشحناء والبغضاء وتمزيق هذه العلاقات.. وهذا العدل واجب التحقيق في التصور الإسلامي مهما اختلفت الجنسيات أو تباعدت الأماكن، أو اختلفت العقائد، وهذا ما يميز هذا التصور الإسلامي عن غيره من الأفكار البشرية التي تتورط في هذا الظلم نتيجة الوقوع في الباطل الذي سبق ذكره، فإن الظلم نتيجة حتمية للتصورات الباطلة، وتشقى البشرية عندما تصلى نار هذا الظلم , ففي البيئة الجاهلية وجدنا شاعرها زهير بن أبي سلمى يصور هذه القاعدة من الظلم في العلاقات في قوله: "ومن لا يظلم الناس يظلم".
ولذلك تبع هذا الظلم كثير من التجاوزات نحو الضعفاء والفقراء ومن لا ينتمي إلى عصبية تدفع عنه هذا الظلم، والبيئات الأخرى ليست بأسعد حالًا من البيئة العربية في جاهليتها، فالتقسيمات السابقة في المجتمع اليوناني، والمجتمع الروماني، أوقعت هذا الظلم الفادح على طبقة المستضعفين، وقسمت الناس إلى سادة وعبيد، ووصل الأمر إلى حد التحريض من أرسطو على إحكام قبضة السادة على العبيد وألا تأخذهم الرأفة في إطلاق سراحهم إلا إذا حلت الآلة محلهم، كما لا يخفى أن الإنسان الذي يستعيد بسبب لونه أو بسبب انتمائه إلى جنس معين أو بيئة معينة قد وقع عليه ظلم كبير؛ إذ لا حيلة له في اختيار لونه أو جنسيته أو بيئته التي ولد فيها , فكيف يكون هذا أساسًا للتمايز بين البشر؟!(7/1787)
4 ـ أساس التفاضل في الإسلام: وأما أساس التفاضل في الإسلام فهو أساس عادل يتمثل فيما يستطيعه الإنسان من أعمال تسعده وتقدمه في حياته، فالإسلام واقعي في نظرته إلى الأشياء؛ لأنه وحي الله فلا يلقى وجود التفاضل والتمايز بين الناس، فالناس في الواقع ليسوا سواء , ولكن لا يجعل التفضيل قائمًا على الأسس السابقة الظالمة التي لا دخل للإنسان فيها، وإنما يجعله في قيمة جامعة لكل خصال الخير والبر ظاهرًا وباطنصا، وهي قيمة التقوى، فيقول جل شأنه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) .
فمن أراد أن يكون فاضلًا فإن فضله ورقيه وقربه من ربه بمقدار ما يحصل من معاني التقوى، ولا شك أن هذا الأساس يدفع البشرية إلى التسابق في الخيرات وترك المنكرات، وهذا في صالحها، وفي الوقت الذي يدعم فيه الإسلام هذه القيمة يرد على الادعاءات الباطلة في التفاضل الظالم , مثال ذلك قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (2) .
ومن مجموعة هذه الأسس وغيرها يتضح لنا كيف يهدف الإسلام في علاقة الإنسان بغيره إلى تحقيق الأمن والسلم والحياة الطيبة للأفراد والجماعات , فيحيل المجتمعات البشرية من العداوة والبغضاء إلى أن يكونوا بنعمة الله إخوانًا.
__________
(1) سورة الحجرات: الآية 13
(2) سورة النساء: الآية 123(7/1788)
السبيل العملي في بيان علاقة الدولة المسلمة بغيرها:
ولقد سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم السبيل العملي في بيان علاقة الدولة المسلمة بغيره من الدول المخالفة في الدين ليتضح أمام العالمين أن دولة الإسلام تتسع لعلاقات سلمية مع الدول المخالفة، بل وتتسع الدولة الإسلامية نفسها للتعايش مع المخالفين في الدين ما داموا مسالمين قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) .
وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهودًا وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم، وهاذ نص الكتاب:
((بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانهيم (2) . بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وأن المؤمنين لا يتركون مقرحًا (3) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، وأن لا يحالف مؤمن قول مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة (4) ظلم أو إثم، أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافر على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة , يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصرين عليهم، وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء عدل بينهم، وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا، وأن المؤمنين يبنئ بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه من اعتبط (5) مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم القيام عليه، وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله , وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين , لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم، وأنسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ (6) إلا نفسه، وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف , وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن حفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وأن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وأن البر دون الإثم، وأن موالي ثعلبة كأنفسهم، وأن بطانة يهود كأنفسهم، وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، إلا من ظلم، وأن الله على أبر هذا (7) , وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم أمرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله ـ عز وجل ـ وإلى محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا مَن نَصَرَها، وأن بينهم النصر على دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وأن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذا الصحيفة مع البر المحصن من أهل هذه الصحيفة)) .
__________
(1) سورة الممتحنة: الآية 8
(2) أسيرهم
(3) المقرح المثقل بالدين، والكثير العيال
(4) الدسيعة، العظيمة
(5) قتل بلا جناية
(6) يوتغ: يهلك
(7) يعني على الرضا به(7/1789)
قال ابن هشام: ويقال: مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة.
قال ابن إسحاق: "وأن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد بالمدينة، إلامن ظلم أو أثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1) .
فهذه الصحيفة التي كتبت عند قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وثيقة تحكم العلاقات بين جميع أفراد الأمة من ناحية، وبين الأمة المسلمة ورعاياها المقيمين داخل الدولة المسلمة، وبين الدولة المسلمة والدول الأخرى من المخالفين في الدين من ناحية أخرى.
لقد حددت الصحيفة عناصر قيام الأمة، وعناصر قيام الدولة، وبينت طبيعة الروابط التي يمكن أن تقوم بينها، وطبيعة العلاقة بين المسلمين وغيرهم ممن يعيشون معهم في المدينة وهم اليهود. كما اهتمت بتنظيم عنصر السلطة والسيادة في الدولة الناشئة وحددت معالم هذه السيادة (2) .
كما حددت الصحيفة في وقت مبكر العلاقات التي يجب أن تكون بين أهل الصحيفة وبين الوحدات الأخرى ذات الطبيعة الدولية , وأن هذه العلاقات علاقات سلم ما عدا الأعداء من قريش لما كان منهم من محاربة وعداء وإصرار على فتنة المؤمنين عن دينهم، وسلب أموالهم، ولذلك منعت الصحيفة التعامل معهم، أو إجارتهم في المدينة.
__________
(1) السيرة النبوية، لابن هشام: 2/ 106 ـ 108
(2) انظر وثيقة إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة، إعداد د. جعفر عبد السلام علي: ص 4(7/1790)
لقد بينت الصحيفة ـ باعتبارها أول وثيقة لتحديد صورة العلاقات بين عناصر الدولة المسلمة في داخلها وعلاقتها بالدول الأخرى ـ المكانة التي يتمتع بها المخالفون في الدين داخل الدولة المسلمة، وبعبارة أخرى مكانة الأقليات داخل المجتمعات المسلمة، فإن نصوص الصحيفة تذكر المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب وتذكر معهم من تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم , وأنهم أمة واحدة من دون الناس. ويفهم من هذا النص أن اللحاق والتبعية تفي الدخول في الإسلام، وتتسع كذلك لتشمل من يلحق بهم ويتبعهم وإن لم يسلم، والدليل على ذلك ما جاء في الصحيفة ـ أيضا ـ من أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وفصلت النصوص التالية لهذا التقرير المساواة بين فرق اليهود المذكورة ويهود بني عوف في كافة الحقوق.
فالطوائف التي تعيش بالمدينة تلحق بالأمة المسلمة ولها حقوقها وعليها واجباتها فما ذكر في الصحيفة:
ـ من تبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
ـ لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج من المدينة آمن، ومن قعد آمن، إلا من ظلم وأثم.
ـ أن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
فهذه النصوص تدل بصراحة على اتساع الدولة المسلمة للمخالفين لها بهذا البيان ما داموا مسالمين وليسوا ناقضين لما يتفق عليه مما لهم ومما عليهم.
ويبقى هذا الكلام مع ديار الإسلام جميعًا مع مراعاة التفصيل الذي ذكرناه في حكم مكة والمدينة (1) .
وإلى هذه النتيجة التي نقررها يصل الأستاذ عبد المجيد محمود في محاضرة قيمة ألقاها بقسم الثقافة الإسلامية تحت عنوان: تعامل المسلمين مع مخالفيهم في الدين فيقول: " ومن هذا نرى أن الطوائف غير المسلمة تتمتع في الدولة الإسلامية، بما يتمتع المسلمون فيها من الحقوق المدنية، والدينية، يساسون بالعدل والرحمة ما وفوا بعهودهم، ولا تحول مخالفتهم في الدين دون العدل معهم والرحمة بهم، ومنحهم حريتهم الدينية والشخصية.
__________
(1) وانظر ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال: ص 237(7/1791)
وقد روى البخاري ((أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن يزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها، فأرسل إليهم عبد الله بن رواحة ليخرص النخل، ويقدر الأوساق الواجبة عليهم، فأراد اليهود أن يعطوا عبد الله بن رواحة هدية أو رشوة ليخفف عنهم، ويقلل ما يأخذه من خراج أرضهم فقال عبد الله مستنكرا صنيعهم: تطعمونني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ولا أنتم أبغض إلي من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم على ألا أن أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض)) (1) .
ويقول: "ومن هذا يتبين أن الذمي مواطن في الدولة الإسلامية تكفل له الدولة حفظ ماله ونفسه، وتضمن له حريته الدينية والشخصية، وسلامة أماكن العبادة التي يتعبد فيها".
وبلغ من الاهتمام بالمحافظة على حريته الدينية والشخصية أن تقررت بين الفقهاء قاعدة تقول: " أمرنا أن نتركهم وما يدينون ".
كما بلغ من عناية الإسلام بحريتهم الدينية أن ترك لهم نظام الأسرة من زواج وطلاق وميراث يتبعون فيه ما يعتقدونه دينًا لهم، ولو كان مخالفًا لأحكام الإسلام في نظام الأسرة.
لقد كتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري مستفتيًا: "ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذمة وما هم عليه من نكاح المحارم واقتناء الخمور والخنازير؟ " فأجابه الحسن البصري: "إنما بذلوا الجزية ليتركوا وما يعتقدونه، وإنما أنت متبع لا مبتدع".
وهذه الميزات التي يتمتع بها الذمي في دولة الإسلام لا يوجد لها نظير في قوانين العالم الحديث فضلًا عن القديم، فالمسلم المقيم في فرنسا أو إنجلترا أو روسيا أو غيرها ويتجنس بجنسيتها، يخضع في الأحوال الشخصية للقانون المحلي ـ هناك ـ فإن تزوج مسلم أكثر من واحدة فزواجه باطل، وقديحاكم على ذلك كمجرم.
والدول المعاصرة جميعًا لا تجعل لأي طائفة من طوائفها ميزة خاصة في تعاملها، وخصوصًا في نظام الأسرة؛ لأن نظم الأسرة فيها تتعلق بالنظام العام، لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها، ولكن الدول الإسلامية لا تزال تعطي رعاياها حق التقاضي على مقتضى دينهم بالنسبة للأسرة، وهذه الميزة لا توجد إلا في البلاد الإسلامية والقوانين الإسلامية، ولا تعامل الدولة الإسلامية غيرها بالمثل في هذا الشأن؛ لأن نظامها ينبع من تعاليم الدين وسماحته لا من نزوات النفوس وحماقة العصبية (2) .
__________
(1) المحاضرة رقم 12، للأستاذ الدكتور عبد المجيد محمود
(2) المحاضرة السابقة: ص 111(7/1792)
وأما علاقة الدولة المسلمة بالدول الأخرى فإنها كذلك علاقات تقوم على أساس السلم، وتشهد الصحيفة على ذلك وأما ما ذكر من العداء لقريش فباعتبارها عدوًّا للمسلمين حاربتهم وصادرت أموالهم وتصر على دوام المحاربة، من أجل هذا كان النص في الصحيفة وأنه "لا يجير مشرك مالا لقريش، ولا يحول دونه على مؤمن".
وأما النص الذي في الصحيفة وفيه دلالة على ما نقول لهو: " ... وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين ".
ومعنى ذلك أن المسلمين عليهم أن يقبلوا التحالف مع اليهود وقبائل من غير المسلمين إذا ما وافق اليهود على محالفة حلفاء المسلمين من غير المسلمين، ولا يكون هذا التحالف إلا إذا كان الإسلام يجيز التعامل مع غير المسلمين ممن لا يقيمون في الدولة الإسلامية (1) .
وقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم هدايا من أمراء الدول الكافرة، وبادل المسلمون والكفار الهدايا، فقد روى أحمد والترمذي عن علي رضي الله عنه قال: ((أهدى كسرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منه، وأهدى له قيصر فقبل منه، وأدت له الملوك فقبل منها)) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال فيما رواه أبو داود: ((ألم تر إلى الركائب المناخات الأربع؟ فإن لك رقابهن وما عليهن، فإن عليهن كسوة وطعامًا، أهداهن إلي عظيم فدك فاقبضهن واقض دَيْنَك)) .
وأهدى صاحب أيلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء.
وأهدى أمير القبط إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاريتين وبغلة، فكان يركب البغلة بالمدينة، وأخذ إحدى الجاريتين لنفسه فولدت له إبراهيم، ووهب الأخرى لحسان.
وكذلك تبادل المسلمون والكفار الهدايا.
((فقد رأى عمر حلة من حرير تباع، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفد. فقال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل فأرسل إلى عمر منها بحلة , فقال عمر: كيف ألبسها وقد قلتَ فيها ما قلت؟ قال: إني لم أكسكها لتبسها، تبيعها أو تكسوها. فأرسل عمر بها إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم.)) [رواه البخاري] .
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: ((أتتني أمي راغبة في عهد قريش، وهي مشركة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: أَصِلُها؟ قال: نعم)) متفق عليه.
وجاء في روايات أخرى أن أم أسماء قدمت بهدايا من أقط وخباب، وأن أسماء توقفت عن قبولها حتى تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لها (2) .
فهذا موقف الإسلام من العلاقات الدولية بين الدول المسلمة وغيرها؛ إنه يجعلها علاقات قائمة على السلم ومحققة للعدل والمساواة؛ لأن الإسلام ينظر إلى المخالفين على أنهم في حاجة إلى هداية وإرشاد وتوجيه، وخير سبيل لهذا التوجيه والإرشاد والدعوة أن تكون العلاقات آمنة وأن يكون السلم قائما.
__________
(1) انظر وثيقة إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة، د. جعفر عبد السلام: ص 36
(2) انظر محاضرة، الأستاذ الدكتور عبد المجيد محمود: ص 8، و9(7/1793)
موقف الإسلام من المنظمات الدولية:
وإذا كان الإسلام يؤسس العلاقات الدولية على الأسس العادلة السابقة فإنه يرحب ويشجع كل ما يحقق للمجتمعات البشرية أمنها وسلمها الحقيقي فإذا أدرك الناس خطورة الحرب فيما بينهم ووجدوا أن السبيل إلى تحجمها في تكوين منظمات تضم مجموعة الدول التي ترتضي فيما بينها ما يحقق قواعد العدل والحق والمساواة فإن الإسلام يربط على أيديهم ويعينهم على ذلك بمنهجه الرشيد وكماله الذي لا يشوبه الهوى.
وننطلق في تقريرنا لهذه القاعدة من موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام تجمع تحقق قبل الإسلام ليحقق أغراضًا يقرها الإسلام في نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم، وشارك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيّن أنه لو دعي إليه في الإسلام لأجاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)) (1) .
ويشترط لمثل هذه المنظمات أن تكون في أسس قيامها، وفيما ترتضيه من مبادئ وقيم تسير عليها موافقة لما جاء به الإسلام من مبادئ الحق والعدل والمساواة وما يحقق الأمن الحقيقي والسلم في حياة الناس دون استثناء.
ولهذا فكل عمل تلتقي فيه الجهود لتحقيق السلام العادل والتقدم المتوازن والسعادة للبشرية فإن الإسلام يمد يده إليه ويزيده ترشيدًا بما يحقق الخير في الدنيا والآخرة.
__________
(1) السيرة النبوية، لابن هشام: 1/ 123، و 124(7/1794)
منظمة الأمم المتحدة:
وإذا كان حلف الفضول نتيجة بما تفشى في العصر الجاهلي من ظلم الأقوياء للضعفاء , وشارك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة , فإن الحروب التي صلى الناسَ نارها في العصر الحديث ومنها الحربان العالميتان جعلت الدول تفكر في إنشاء منظمة دولية عالمية تعمل على حفظ السلم والأمن الدولي، وإنما العلاقات الودية بين الأمم، وتحقيق التعاون الدولي في جميع المجالات، وجعل الأمم المتحدة مركزًا لتنسيق أعمال الأمم. فكانت هذه هي الأهداف التي أنشئت من أجلها منظمة الأمم المتحدة، وبدأ هذا التنظيم من التصريح الذي تم توقيعه في 12 يونيو 1941م في لندن بالمملكة المتحدة وفي أواخر عام 1941م أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية تصريحًا يحمل اسم تصريح الأمم المتحدة في صورة اتفاق دولي قامت بتوقيعه 1942م ست وعشرون دولة، وفي 31 أكتوبر 1947م قررت الجمعية العامة اعتبار 24 أكتوبر من كل عام العيد السنوي لميلاد الأمم المتحدة باسم يوم الأمم المتحدة (1) .
فإذا كانت نشأة الأمم الممتحدة مقترنة بالحروب الدامية، وقامت لتحقق الأهداف السابقة فإنها تجد من الإسلام التأييد والموافقة مع ترشيد عملها، وبيان منهجه الذي يزيد على ذلك ـ كما أشرنا ـ في أن الأخذ به يحقق خيري الدنيا والآخرة.
كما أن الإسلام يحذر من أن تكون المبادئ والأهداف المعلنة منفصلة عن التطبيق العملي فإذا كان من المبادئ المعلنة:
ـ المساواة في السيادة بين الدول.
ـ التسوية السلمية للمنازعات الدولية.
ـ خطر استخدام القوة في العلاقات الدولية.
ـ معاونة الأعضاء للأمم المتحدة.
ـ عدم التدخل في الشؤون التي تكون من السلطان الداخلي للدول الأعضاء (2) . وإذا كانت هذه المبادئ النظرية فإن الإسلام لا يفصل بين النظرية والتطبيق.
ولما كان واقع الدول البعيدة عن هداية الإسلام تغليب المصالح الخاصة وجدنا قصورًا في التطبيق في كثيرة من القضايا التي تتعلق بتحرير الشعوب الضعيفة والفقيرة من سيطرة الدول المستعمرة مما جعل منظمات دولية أخرى تنشأ لتحقيق مصالح تخص هذه المنظمات.
فمن هذه المنظمات:
1 ـ منظمة المؤتمر الإسلامي.
2 ـ منظمة الوحدة الأفريقية.
__________
(1) انظر التنظيم الدولي ـ النظرية العامة للأمم المتحدة، د. بطرس غالي. ود. إبراهيم محمد العناني: ص 174 ـ 177
(2) التنظيم الدولي، د. بطرس غالي: ص 181(7/1795)
منظمة المؤتمر الإسلامي:
ولقد نشأ التفكير في إنشاء منظمة تجمع الدول الإسلامية وسط المحاولات الجادة والمغرضة في احتواء العالم الإسلامي, وتكبيله وجعله تابعًا للقوى الكبرى في عالمنا المعاصر، فكانت الأهداف ـ التي جعلت التفكير ينمو حتى تم إنشاء المنظمة يتلخص فيما يلي:
ـ تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في المجالات المختلفة، والتشاور بين الدول الأعضاء في المنظمات الدولية.
ـ العمل على محو التفرقة العنصرية والقضاء على الاستعمار في جميع أشكاله.
ـ اتخاذ التدابير اللازمة لدعم السلام والأمن الدوليين القائمين على العدل.
ـ تنسيق العمل من أجل الحفاظ على سلامة الأماكن المقدسة وتحريرها ودعم كفاح الشعب الفلسطيني ومساعدته على استرجاع حقوقه وتحرير أراضيه.
ـ دعم كفاح جميع الشعوب الإنسانية.
ـ إيجاد المناخ لتعزيز التعاون والتفاهم بين الدول الأعضاء والدول الأخرى (1) .
وأما المبادئ التي قامت عليها منظمة المؤتمر الإسلامي فتتمثل فيما يلي:
ـ المساواة التامة بين الدول الأعضاء.
ـ احترام حق تقرير المصير وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
ـ احترام سيادة واستقلال ووحدة أراضي كل دولة عضو في المنظمة.
ـ حل ما قد ينشأ من منازعات فيما بين الدول الأعضاء في المنظمة بحلول سلمية.
ـ إقناع الدول الأعضاء في علاقتها عن استخدام القوة ضد وحدة وسلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة عضو.
فهذه الأهداف مع تلك المبادئ تتفق مع توجيهات الإسلام وينقصها الجمع بين النظرية والتطبيق.
وإذا كانت هذه المنظمة قد جمعت الدول الإسلامية على أساس أنها تلتقي جميعًا على الإسلام فكما رأينا ليست الغاية تحقيق عنصرية أو عصبية، ولكن كان من بين الأهداف تعزيز العلاقات بين الدول الإسلامية الأعضاء والدول الأخرى، وأن العلاقة تقوم على أصل السلم وهذا ما يتفق مع ما قررناه من منهج الإسلام في العلاقات الدولية.
__________
(1) انظر المنظمات الدولية المتخصصة والإقليمية، د. مصطفى عبد الرحمن: ص 26، و 27(7/1796)
منظمة الوحدة الأفريقية:
وهناك منظمة أخرى تقوم على الرابطة الجغرافية إذ إنها تربط بين دول تقع كلها في قارة واحدة وهي قارة أفريقيا.
وتعود فكرة إنشاء هذه المنظمة إلى كون القارة الأفريقية قد وقعت فريسة للسيطرة الاستعمارية التي طمعت في ثرواتها وفرقت شعوبها، وكان من أهداف هذه المنظمة:
ـ دعم تضامن الشعوب الأفريقية والتشجيع على وحدة الدول الأفريقية.
ـ دعم وتشجيع التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ...
ـ الحفاظ على استقلال الدول أعضاء المنظمة وسلامة أراضيها.
ـ التعاون مع الدول غير الأفريقية والمنظمات الدولية الأخرى وبخاصة الأمم المتحدة (1) .
وأما المبادئ التي قامت عليها المنظمة فتتخلص فيما يلي:
ـ المساواة بين الدول الأعضاء.
ـ احترام سيادة كل دولة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
ـ حل المنازعات بين الأعضاء بالطرق السلمية.
ـ دعم الجهود لاستقلال الدول الأفريقية.
ـ رفض أعمال الاغتيال السياسي وصور النشاط الهدام (2) .
وهكذا نجد أن أي تجمع يحقق مبادئ سليمة ويهدف إلى غايات فيها الخير للإنسان يلقى من الإسلام الموافقة مع ترشيده واكتمال منهجه، وهو يؤيد ـ دائمًا ـ العمل الجماعي , فيد الله مع الجماعة وثمرات العمل الجماعي أعظم وأبقى، ولهذا اتجهت إليها أنظار الناس فقامت لهذا ـ أيضًا ـ جامعة الدول العربية.
كما نشأت المنظمات الدولية المتخصصة بمقتضى اتفاقيات بين الدول بقصد رعاية مصالح مشتركة دائمة بينها في مجال متخصص , ومنها منظمة العمل الدولية لتحسين أحوال العمل ورفع مستوى معيشة العمال واستقرار أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية.
__________
(1) المنظمات الدولية الإقليمية والمتخصصة، د. مصطفى عبد الرحمن: ص 39
(2) المنظمات الدولية الإقليمية والمتخصصة، د. مصطفى عبد الرحمن: ص 43 و 44(7/1797)
الفصل السادس
شبهات في موضوع السلم والحرب في الإسلام
الحقائق في سرعة انتشار الإسلام:
لقد تناولنا في الفصول السابقة ما يبين حقيقة الإسلام في السلام , وكيف يجعله أصلًا في حياة الناس، وكيف يقاوم من أراد تعكير صفو الناس مع سلمهم وأمنهم، ولو كان ببذل النفس والمال جهادًا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، فإذا ما اضطر أبناء الإسلام إلى القتال لتحقيق هذه الغاية فإنهم يحرصون على أداء هذا الواجب بقدره وحجمه فإذا عاد المحاربون إلى الصواب أسرع المجاهد إلى قاعدة السلام وتوكل على الله. والمجاهد يحرص أثناء القتال على الالتزام بما ألزمه الإسلام من عدم قتل النساء والأطفال والشيوخ، والحرص على العمران والأشجار، فإذا ما انتصر كان لله شاكرًا وللعدل محققًا، وعاش الناس في ظل سيادة الإسلام آمنين, من دخل في الإسلام، ومن بقي على ما كان عليه ليفكر في هدوء ويصل إلى القناعة الكاملة في أن الإسلام هو الحق الذي يتبع.
وهذا المسلك في دعوة الناس إلى الإسلام أثار في نفوس الحاقدين ضغنهم على الإسلام والمسلمين، وعدُّوا هذا المسلك نوعًا من المكر والدهاء يقول الدكتور حسين مؤنس في وصف هذه الحالة: "لقد كان العرب (1) يفتحون البلد من البلاد ويعرضون الإسلام على أهله ثم يدعونهم وشأنهم حتى يقتنعوا بفضائله الإنسانية على هينة، حتى لقد ذهب بعض الشانئين للعرب إلى أنهم لم يكونوا يهتمون بنشر دينهم، وأن الجزية كانت أحب إليهم من الإسلام وما إلى ذلك مما نجده مسطورًا في كتب أعاء الملة. وما كان ذلك من عدم حرص من العرب على نشر الإسلام، وإنما كان سيرًا على أسلوب الدعوة في عهدها الأول: أسلوب عرض الدين على الناس وتركهم بعد ذلك أحرارا إلى أن يهدي الله منهم من يشاء.
ومن غريب ما حدث في بلاد مثل مصر والأندلس أن كان مسلك العرب هذا أدعى إلى دخول الناس في الإسلام؛ لأنهم تعودوا ممن يتغلب على بلادهم أن يكون شديد الحرص على إدخالهم في دينه، فما بال أولئك العرب لا يلحون على الناس في الدخول في الإسلام، ولا يستخدمون القوة في ذلك كما كان رجال دولتي الرومان والروم يفعلون؟ قال "يولوج" الراهب القرطبي المبغض للإسلام: "فكان من مكر العرب أن تظاهروا بأنهم لا يهتمون بدخول الناس في الإسلام، فتطلعت نفوس الناس إلى ذلك الإسلام وودوا لو يتعرفون عليه لعلهم يعرفون السبب في اختصاص العرب أنفسهم به وضنهم به على غيرهم، فما زالوا يفعلون ذلك ويسألون عن الإسلام ويستفسرون حتى وجدوا أنفسهم مسلمين دون أن يدروا".
__________
(1) الأولى استعمال "المسلمون" بل هو في الواقع الصواب(7/1798)
ولقد قال الراهب القبطي "يوحنا النقبوس" شيئا من ذلك، وكان متأسفًا؛ لأن العرب لم يلجأوا إلى القوة في فرض الإسلام، إذ لو أنهم فعلوا ذلك لزاد تمسك الأقباط بعقيدتهم ـ على مذهب العقائد ـ وإباء كل ما يفرضه بالقوة، ولما وجد الإسلام هذا الطريق السهل الميسر إلى القلوب في مصر والأندلس وإنك لتحاول أن تدرس كيف أسلم أقباط مصر، وكانوا من أشد الناس استمساكًا بعقيدتهم , لقد استشهدت في سبيلها منهم جماعات بعد جماعات على أيدي عتاة الرومان من أمثال "دقلديانوس" وطغاة الروم من أمثال "قرس"، فلا تجد على تساؤلك جوابًا، لأن التحول إلى الإسلام في هذين البلدين ـ مصر والأندلس - تم في هدوء وسكون: انسابت العقيدة في قلوب الناس كما ينساب الماء في أرض الزرع فتخضر وتزهر وتثمر بإذن ربها.
وفي بلاد المغرب أسلمت قبائل البربر مبهورة بما رأت من روعة إيمان عقبة بن نافع وأصحابه، فهذا الرجل الفريد في بابه، الذي وهب نفسه للإسلام كان يلقى رئيس القبيلة ويحدثه ثم يدعو إلى الإسلام فيسارع إلى الإيمان ليكون من قوم عقبة، ثم يتبعه بعد ذلك قومه.
إن مداخل الإسلام إلى القلوب هي سماحته ويسره وإنسانيته، أنه يقدم للمؤمن به الاطمئنان وهدوء البال، ويفتح له إلى الله سبحانه بابًا واسعًا للمغفرة والأمل وثواب الآخرة، وكل ذلك دون مقابل. وفي أديان أخرى تعرض عليه أموال وهدايا وقرابين، ويلزم بطاعة رهبان وقساوسة، ويراقب ويعاقب ويحرم من نعمة الله بقرار من رئيس الكنيسة , لا شيء من هذا في الإسلام , من هنا كان مدخله إلى النفوس سهلًا ذلولًا (1) .
__________
(1) الإسلام الفاتح، د. حسين مؤنس: ص 15 و 16(7/1799)
شبهة الإكراه والجزية:
وعلى الرغم من وضوح هذه الحقائق نجد الشائنين على الإسلام يثيرون شبهاتهم أمام من لا يعرف هذه الحقائق , ويلبسون ما يثيرونه أثوابا من الخداع الذي يصور الباطل وكأنه شيء، فمن هذه الشبهات التي أثيرت قولهم إن الإسلام انتشر بحد السيف , ويقدمون لتبرير دعواهم قائمة بالحروب التي ذكرت أسماؤها حتى ليخيل للقارئ أو السامع أن الإسلام محب لسفك الدماء وأنه لا يستطيع الانتشار بغير القهر والإكراه.
وهذه الدعوى وتلك الشبهة مردودة بما تنطق به نصوص الإسلام أولا فـ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} .
ثم من التطبيق العملي في مسيرة الدعوة فلا يستطيع هؤلاء أن يقدموا لنا أسماء من أكرهوا على دخول الإسلام، ولم يسجل لنا التاريخ حالة واحدة تسندهم في دعواهم بل كان العكس هو الذي يقع أن يلقى المسلمون العنت من الكافرين عندما يعلنون إسلامهم، ويواجهون بالفتنة في الأبدان والأموال ويواجهون السخرية والاستهزاء والمساومة والأغراء، وأما ما دار في حروب فقد عرفنا في الصفحات السابقة أهدافها وأخلاق المجاهدين.
ثم إن نتيجة هذه الحروب تكذب هؤلاء الشانئين في دعواهم , فقد رأينا كيف يكون التعامل مع الأسرى، فإذا كان الإسلام ـ كما يزعمون ـ يفرض بالسيف فما كان النص القرآني الحكيم في شأن الأسرى يقول: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} , فالمن أو الفداء رد عليهم (1) .
كما أن وجود أهل الديانات الأخرى واستمرارهم في البلد المفتوحة رد واقعي عليهم كذلك.
__________
(1) انظر الإسلام والمستشرقون ـ مجلة البعث الإسلامي المجلد السابع والعشرين: ص 160(7/1800)
ويذكر ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} : أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه , بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مُكرهًا مقسورًا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عامًّا.
وقال ابن جرير: حديثنا ابن يسار حديثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولدا أن تهوده , فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا تدع أبناءنا , فأنزل الله عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به ومن وجوه أخر عن شعبة بن نحوه، وقد رواه ابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد عن ابن عباس قوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني , كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلًا مسلمًا فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا استكرهما , فإنهما قد أبيا إلا النصرانية)) فأنزل الله فيه ذلك [رواه ابن جرير] .
وروى السدي نحو ذلك، وزاد: وكانا قد تنصرا على أيدي تجار قدموا من الشام يحملون زبيبًا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث في آثارهما فنزلت هذه الآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أسبق، قال: كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًّا لعمر بن الخطاب فكان يعرض على الإسلام فآبي فيقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ويقول: يا أسبق لو أسلمت لاستعنا بك في بعض أمور المسلمين.. (1) .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 310 و 311(7/1801)
وأشار ابن كثير إلى ما ذهب إليه طائفة كثيرة من العلماء من أن هذه محمولة على أهل الكتاب، وذكر القرطبي في معنى الآية الكريمة ستة أقوال: (1) يرجح فيها ما رواه أبو داود عن ابن عباس في أنها نزلت في الأنصار، كانت تكون المرأة مقلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار، قالوا: لا ندع أبناءنا. فأنزل الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} .
قال أبو داود: والمقلات التي لا يعيش لها ولد. في رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه. فنزلت: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام. وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد إلا أنه قال: كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع.
ودليل ترجيح القرطبي لقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ إيراده لقول النحاس: "قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي". (2) .
وذهب إلى هذا ـ أيضا ـ ابن جرير وكذلك الزمخشري في تفسيره والرازي.
__________
(1) انظر تفسير القرطبي: 3/ 280و 281
(2) انظر تفسير القرطبي: 3/ 280(7/1802)
ويرتبط بشبهة الإكراه ما قيل في أمر الجزية , ولقد سبق الكلام عنها ولكن نضع في هذا المقام النقاط على الحروف دفعًا لما أثير فيها من دعاوى.
ليس القدر المالي الذي يؤخذ ممن يتمتع بحقوق الرعوية مع المسلمين الفاتحين مغريًا حتى يكون الغاية من الفتوحات الإسلامية، فمقاديرها ضئيلة ولا تقارن بما يؤخذ من أموال المسلمين من الزكاة.
كما أن هذا القدر الضئيل يراعى فيه قدرة من سيدفع ولذلك فهي على مستويات: أعلاها 48 درهما في السنة على الأغنياء مهما بلغت ثرواتهم (1) .
وقدرت بـ 240 قرش مصري تقريبًا.
وأوسطها 24 درهما في السنة على المتوسطين من تجار وزراع.
وأدناها 12 درهما في السنة على العمال المحترفين الذين يجدون عملًا.
كما يعفى من دفع الجزية تمامًا الفقير والصبي والمرأة والراهب المنقطع للعبادة والأعمى والمقعد وذوو العاهات (2) . جاء في عهد خالد لصاحب قس الناطف: "إني عاهدتكم على الجزية والمنعة على كل ذي يد، القوي على قدر قوته والمقل على قدر إقلاله" ويدفع هذا القدر اليسير مع المقدرة عليه ليجد الدافع الحماية في ماله وعقيدته وعرضه وكرامته فقد جاء في عهد خالد بن الوليد لصاحب قس الناطف: " إني عاهدتكم على الجزية والمنعة.. فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا حتى نمنعكم" (3) .
ولذلك رد خالد بن الوليد على أهل حمص، وأبو عبيدة على أهل دمشق، وبقية القادة المسلمين على أهل المدن الشامية المفتوحة ما أخذوه منهم من الجزية حين اضطر المسلمون إلى مغادرتها قبل معركة اليرموك؛ لأن الجزية أخذت منهم على المنعة والحماية فإذا لم تتحقق ردت الأموال.
فإذا قيل: ولماذا لا يكلفون بحماية أنفسهم؟ قلنا: إنه من الإكراه لهم أن نطلب منهم أن ينتظموا في صفوف جيش يدافع عن مبادئ لم يؤمن هذا الإنسان بها.
أما إذا رضي أن يتطوع في الجيش الإسلام قبل ذلك منه وسقطت عنه الجزية (4) .
__________
(1) انظر هذا هو الإسلام، د. مصطفى السباعي: ص 35؛ وانظر موسوعة فقه عمر: ص 183
(2) انظر هذا هو الإسلام. د. مصطفى السباعي: ص 35، وانظر موسوعة فقه عمر: ص 186
(3) هذا هو الإسلام، د. مصطفى السباعي: ص 34؛ وتاريخ البلاذري.
(4) هذا هو الإسلام، د. مصطفى السباعي: ص 37(7/1803)
كما أن ما يدفعه الواحد منهم من الجزية يعود عليه عند حاجته , فقد جاء في عهد خالد بن الوليد لأهل الحيرة: "أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وأعيل من بيت مال المسلمين وعياله (1) .
مر عمر بباب قوم وعليه سائل، شيخ كبير ضرير البصر، يسأل فضرب عضده من خلفه , وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم". (2)
كما يجوز للإمام أن يعفى عن الجزية جميعًا، كما فعل أبو عبيدة رضي الله عنه حين أسقط الجزية عن أهل السامرة بالأردن وفلسطين (3) . وكما أسقط عمر رضي الله عنه الجزية على ملك شهربراز وجماعته لقاء اتفاقه معهم على قتال العدو، وكما أسقط معاوية رضي الله عنه الجزية عن سكان أرمينية ثلاث سنوات.
ويحسن أن ذكر في هذه النقاط المتعلقة بأمر الجزية الفهم الذي يناسب التطبيق العملي الذي تم في أخذ الجزية، فقد فهم أن الجزية تحمل معنى الإذلال في قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
ولكن الفهم الذي ينسجم مع ما ذكر من حقيقة التطبيق الصحيح لأخذ الجزية هو أن تفسير "يد" في الآية الكريمة يعني ما جاء في عهد خالد رضي الله عنه لصاحب قس الناطف والذي ذكر منذ قليل: "إني عاهدتكم على الجزية والمنعة على كل ذي يد، القوي على قدر قوته والمقل على قدر إقلاله" فاليد ـ هنا ـ تعني القدرة.
وأن تفسير قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
فإن الصغار ـ هنا ـ بمعنى الخضوع وليس الذلة والمهانة وقد ذكر الشافعي ـ رحمه الله ـ في قوله عز وجل: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} : أي يجري عليهم حكم المسلمين" (4) . فهو يفسرها ـ إذن ـ بمعنى الخضوع لحكم المسلمين. ويذهب إلى هذا الدكتور مصطفى السباعي ـ رحمه الله ـ فيقول: "يتحتم تفسير الصغار هنا بالخضوع لا بالذلة والمهانة، ومن معاني الصغار في اللغة الخضوع، ومنه أطلق "الصغير" على الطفل لأنه يخضع لأبويه ولمن هو أكبر منه، والمراد بالخضوع حينئذ الخضوع لسلطان الدولة، بحيث يكون في دفع الجزية معنى الالتزام من قبل أهل الذمة بالولاء للدولة، كما تلتزم الدولة لقاء ذلك بحمايتهم، ورعايتهم واحترام عقائدهم، وليس في الخضوع لقوانين الدولة وسلطانها غضاضة على المواطنين مهما اختلفت عقائدهم (5) .
وإذا حدث نوع من التجاوز في زمن الأزمان في التطبيق فإن ملابسات التطبيق على مر العصور والتصرفات الخاصة من بعض المنفذين لا تحسب على الإسلام في نظامه العادل، وإنما تحسب على فاعليها.
__________
(1) الخراج، لأبي يوسف: ص 144
(2) خراج أبي يوسف: ص 150، وانظر موسوعة فقه عمر: ص 185
(3) هذا هو الإسلام، د. مصطفى السباعي: ص 38؛ وانظر: فتوح البلدان، للبلاذري
(4) انظر لسان العرب: لابن منظور: 4/ 459
(5) هذا هو الإسلام: ص 43(7/1804)
شبهة الرق:
وإذا وصلنا إلى تقرير أن الجزية ليست غاية من الجهاد فإننا نقرر كذلك حقيقة أخرى هي أن الرق ليس غاية من الجهاد في الإسلام كما يدعى المبطلون، بل إن هذا القول دليل على عدم الفهم لحقيقة الإسلام وغاياته ووسائله في الوصول على هذه الغايات.
فإن الإسلام هو الذي يقرر كرامة الإنسان وحريته فلا يعرف العبودية إلا لله سبحانه، وقد جاء الإسلام وكان الرق نظامًا متبعًا في العالم كله، ويعامل الرقيق معاملة لا تليق بالإنسان وتكريم الله له فقدم الإسلام للناس ما يعيد صوابهم في نظرتهم إلى الإنسان ليجتث الداء ويعالج المشكلة معالجة واقعية وموضوعية فقدم ما يحقق المساواة بين الناس "بعضكم من بعض" جاء ليقول: ((من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن أخصى عبده أخصيناه)) جاء ليقرر وحدة الأصل والمنشأ والمصير: ((أنتم بنو آدم، وآدم من تراب)) وأنه لا فضل لسيد على عبد لمجرد أن هذا سيد وهذا عبد وإنما الفضل للتقوى: ((ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى)) جاء ليأمر السادة أمرًا أن يحسنوا معاملتهم للرقيق: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (1) . وليقرر أن العلاقة بين السادة والرقيق ليست علاقة الاستعلاء والاستعباد أو التسخير أو التحقير، وإنما هي علاقة القربى والأخوة، فالسادة (أهل الجارية) يستأذون في زواجها: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) .
وهم إخوة للسادة: ((إخوانكم خولكم.. فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)) وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق يقول الرسول الكريم: ((لا يقل أحدكم: هذا عبدي وهذه أمتي وليقل: فتاي وفتاتي)) . ويستند على ذلك أبو هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يجري: "احمله خلفك، فإنه أخوك، وروحه مثل روحك" (3) .
والإسلام بهذه التوجيهات والتشريعات قد قدم التهيئة الواقعية للتحرير العملي الصحيح.
__________
(1) سورة النساء: الآية 36
(2) سورة النساء: الآية 25
(3) انظر شبهات حول الإسلام. أ. محمد قطب: ص 37 و 38(7/1805)
ثم دعا وشجع على العتق والمكاتبة فأصبح العتق من كفارات الذنوب وإذا طلب الرقيق منح الحرية مقابل ما يتفق عليه من مال منح ذلك.
وسلك الرسول صلى الله عليه وسلم المسلك العملي مع أصحابه في تنفيذ ما سبق أخذًا بيد الناس إلى التحرير الكامل الصحيح , فكان يؤاخي بين بعض الموالي وبعض الأحرار من سادة العرب فآخى بين بلال بن رباح وخالد بن رويحة الخثعمي، وبين مولاه زيد وعمه حمزة، وبين خارجة بن زيد وأبي بكر.
وزوج بنت عمته زينب بنت جحش من مولاه زيد، وأرسل مولاه زيدا على رأس جيش فيه الأنصار والمهاجرون من سادات العرب , فلما استشهد ولي ابنه أسامة بن زيد قيادة الجيش وفيه أبو بكر وعمر , فلم يعط المولى مجرد المساواة الإنسانية بل أعطاه حق القيادة والرئاسة على "الأحرار" (1) .
وهو الذي قال: ((اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل علكيم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله تبارك وتعالى)) وعمر بن الخطاب يقول وهو يستخلف: "لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا لوليته".
وهكذا كانت الواقعية في التحرير الصحيح الذي تربى فيه فنوس الأرقاء وتهذب فيه نفوس السادة ليكون الجميع بهذه التربية إخوانًا.
والإسلام الذي سلك هذه المسلك حرم كل الصور التي تمثل مصادر الرق، ولكن بقي مصدر يضطر إليه المسلمون اضطرارًا لا يتعلق بهم وحدهم وهو الحرب وما يكون من أسرى الحرب , وقد كان الأسرى المسلمون يسترقون عند أعداء الإسلام فتسلب حرياتهم ويعامل الرجال منهم بالعسف والظلم الذي كان يجري يومئذ على الرقيق، وتنتهك أعراض النساء لكل طالب، يشترك في المرأة الواحدة الرجل وأولاده وأصدقاؤه ممن يبغي الاستمتاع منهم بلا ضابط ولا نظام ولا حترام لإنسانية أولئك النساء أبكارًا كن أو غير أبكار.
أما الأطفال ـ إن وقعوا أسرى، فكانوا ينشأون في ذل العبودية البغيض (2) .
فكان من باب المعاملة بالمثل أن يظل هذا الباب مفتوحًا ولكن مع فارق المعاملة على ما قدمنا في الصفحات السابقة من معاملة الإسلام للأسرى.
والذي ينبغي أن ننبه إليه مع ما سبق من أن الآية الكريمة التي تعرضت لأسرى الحرب قد ذكرت المن والفداء، ولم تذكر الاسترقاق للأسرى، حتى لا يكون هذا تشريعًا دائمًا للبشرية، وعلى ذلك يكون أخذ المسلمين بمبدأ الاسترقاق في الحروب خضوعًا لضرورة قاهرة لا فكاك فيها.
فالجهاد في سبيل الله سبحانه لم يكن رغبة في استعباد الناس أو أخذ أموالهم، أو التوسع والسيطرة الغاشمة إنما كان جهادا لتكون كلمة الله هي العليا؛ لأن تحقيق هذه الغاية يضمن للمجتمعات البشرية أمنها وسلمها وحريتها وكرامتها وسعادتها في الدنيا والآخرة.
__________
(1) شبهات حول الإسلام: ص 48
(2) شبهات حول الإسلام: ص 51(7/1806)
الخاتمة
وبعد أن عشنا في مباحث هذا الموضع الخطير نبرز أهم نتائجه فيما يلي:
ـ لقد وقفنا على حاجة البشرية إلى تحقيق السلام في حياتها لما تحدثه الحروب من آثار مدمرة لا تستقيم حياة الإنسان بها، وقدمنا الأدلة على حرص الإسلام وضماناته لحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. وأن الإسلام يتميز على قوانين البشر في ذلك بأنه يربي الناس على احترام القوانين احترامًا ذاتيًّا دون حاجة إلى رقيب بشري؛ لأن المسلم ينطلق في أعماله كلها من قاعدة الإخلاص لله سبحانه في كل شؤونه.
ـ كما تناولنا مفهوم السلام في الإسلام , وأنه مبدأ من مبادئ التي برزت عناية الإسلام بها في اسمه الدال عليه، وفي مضمونه، وما يدعو إليه, وأنه يشيع هذا المبدأ ليشيع في النفس الإنسانية وفي الأسرة البشرية معاني المودة والرحمة.
وقد جعل الإسلام السلام أصل العلاقات البشرية، وإن ابتعدت عنه تصارعت، وأنه لا بد من إزالة أسباب الصراع لتحقق العودة إليه تحقيقًا للأمن وإرساءً للطمأنينة.
ولقد وعى سلف هذه الأمة هذه الحقائق فانطلق قادة الفتوح الإسلامية يطبقون هذه المبادئ تطبيقًا عمليًّا في ميادين الجهاد، وأن الوثائق التاريخية تشهد لهم بذلك.
ـ كما تناولنا ضمانات الإسلام لتحقيق السلام وجعله واقعًا يعيشه الناس ويجنون ثماره، وهي مجموعة التدابير التي تكفل هذا ووجدناها تنقسم إلى قسمين: ضمانات نفسية، ومعالجة الصراع إذا وقع بين البشر معالجة موضوعية.
فوضع الإسلام أيدينا على بداية الصراع في حياة البشر، وأهم العوامل المؤثرة على السلم في حياة الناس، وتتصل بالعامل النفسي كحب الاستعلاء في الأرض، واستغلال ثروات الآخرين، والنظرات العنصرية، والأثرة، وضعف التربية على الوازع الديني.
وأما العلاج فإن الإسلام يتناوله بمنهج متكامل يعالج المشكلة من جذورها فيعالج الأهواء النفسية كما يعالج الأسس التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية في: النظرة الصحيحة إلى الإنسان وإقامة العلاقات الإنسانية على المساواة الإنسانية، والعدل، والتكافل الإنساني، والأساس المنصف للتفاضل بين الناس , والذي يدفع بالإنسانية إلى الخير والتنافس في مجالاته.(7/1807)
فهذه الضمانات تؤمن الفرد والجماعات وتحول بينهم وبين الصراعات الدموية، فإذا تغلبت نوازع السوء ووقع الصراع فإن الإسلام يتخذ الجهاد سبيلًا لتحقيق هذا السلم الذي يعده أصلًا في حياة الناس.
ـ كما تناولنا مدلولي الجهاد والحرب، وكيف يكون مصطلح الجهاد معبرًا عن المعنى الذي يريده الإسلام من القتال، وأن كتب التراث استعملت مصطلح الجهاد وكذلك المغازي والسير.
ـ ثم تناولنا حكم الجهاد ومراحل تشريعه، فهو فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن باقيهم، ولم يأثموا بتركه، ويتعين الجهاد في حالات تضطر فيها الأمة كلها إلى مواجهة العدو، إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، وإذا نزل الكفار ببلد، وإذا استنفر الإمام قومًا لزمهم النفير.
كما وجدنا ابن عبد البر يتفق مع جمهور العلماء في حكم الجهاد والفرض بقسميه , ولكنه يقرر هذه الفرضية بوصف عملي ينظر فيه إلى الأمة المسلمة باعتبارها أمة واحدة في عزتها ومنعتها، وكذلك ينظر في قوله إلى وجود الإمام للأمة والذي يحمل على كتفيه مسؤولية الدعوة , وتبليغها للعاملين , وإنقاذ الناس من الشرك ومظاهره ومن الظلم وآثاره، فيذكر غزوًا أخر يسميه غزو النافلة، ويتمثل في إخراج طائفة بعد طائفة، وبعث الرايات في أوقات العزة.
ووجدنا أن الحكم الذي ذكره العلماء للجهاد مرتبط بغايات الجهاد التي تجعل اللجوء إلى ضرورة وصولًا إلى الحق وتحقيقًا للعدل ودفعًا للفساد وتبليغًا لكل ما يحقق في الناس هذه القيم وهو الإسلام الذي ينقذ العالمين.
ـ كما رأينا كذلك أن حكم الجهاد مرتبط بمسيرة الدعوة حيث عاش المسلمون فترتها الأولى يواجهون تحديات شتى ويفتنون في أبدانهم وأموالهم، ويقابلون هذا بالصبر الجميل والدفع الفردي عند الاستطاعة وبالتحرك عن مواطن الفتنة بالهجرة، ثم الإذن بالقتال وأبيح لهم ردًّا للعدوان مع عدم الاعتداء، ثم فرض القتال تحقيقًا لغاياته.
ـ كما وجدنا ارتباط حكم الجهاد ببواعثه وأهدافه، فالهدف الأسمى من الجهاد والذي يقره الإسلام هو الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا؛ لأن تحقيق هذا الهدف يحقق للناس سلمهم الحقيقي ويضمن لهم سلامة أنفسهم وصيانة أعراضهم وحفظ أموالهم، كما أن الجهاد لرد الاعتداء الذي يقع من الظالمين الذين يقفون في طريق الدعاة.
وكذلك لرد العدوان على الديار والعرض والنفس والمال، فإذا أوقف المعتدي اعتداءه وجب وقف قتاله.(7/1808)
ـ وبعد أن وجدنا هذا السمو في البواعث والأهداف لبيان فضل الجهاد وطلبه فهو تجارة منجية من عذاب الله، وهو من أسباب المغفرة الذنوب، ودخول الجنان والمساكن الطيبة في جنات عدن، وهو الفوز العظيم، وبه يتحقق النصر والفتح القريب، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وقد اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
ـ كما تناولنا منهج الإسلام في حقن الدماء، فهو يصون النفس الإنسانية ويحرم الاعتداء عليها إلا إذا استوجبت هذه النفس عقوبة تستحقها، كما يعد الإسلام الاعتداء على النفس اعتداء على الناس جميعًا.
ومن حرص الإسلام على سفك الدماء وجدنا توجيهات الإسلام في إعداد ما استطاع المسلمون من قوة لإلقاء الرعب في قلوب الأعداء فلا تحدث مقاتلة.
كما يجعل الإسلام الرد على العدوان بقدره ولا يتمادى في إيقاع المزيد عليه.
كما يقصر القتال على المقاتلة فلا قتل للنساء، أو الشيخ الفاني أو الصبي أو الرهبان.
ومن باب تحجيم سفك الدماء كذلك ما اشترطه الإسلام من توجيه الدعوة أولا قبل القتال.
فإن أصر الأعداء على القتال فإن الإسلام يشرع كتمان الأمر والتورية لتحقيق المفاجأة التي تدعو العدو إلى التسليم دون سفك الدماء، وقد وجدنا التطبيق العملي في حروب المسلمين لهذه الضوابط.
ـ وتناولنا بعد ذلك خلق الجهاد في الإسلام، وكيف جعل الإسلام نظامه الخلقي يتناول السلم والحرب حيث جعل التخلق بمكارم الأخلاق من الغايات التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف تتجلى الصور الخلقية في القادة من رفق القائد بجنده ونصحه لهم ومشاورته لجيشه، وما يتعلق بالجند من الطاعة للقائد في المعروف.
ومن الصور الخلقية للمجاهدين جميعًا الصبر والمصابرة والثبات وعدم الفرار.
ومنها الظهور بالقوة مع عدم الغرور وذلك لإرهاب أعداء الله وتحجيم سفك الدماء.
ومنها الرحمة وما يتبعها من عدم المثلة والتحريق وقطع الأشجار وهدم العمران ومنها الوفاء بالعهود والمواثيق.
ومنها الشكر مع النصر وعدم اليأس عند الهزيمة ومحاسبة النفس ورأينا تطبيقات عملية لهذه الأخلاق في الغزوات.
ومن هذه الأخلاق الجامعة الطاعة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم والتنزه عن المعاصي التي تكون سببًا في سخط الله وغضبه.
وإذا كان الجهاد في الإسلام ملتزمًا بهذه الأخلاق الكريمة فكيف يقرن بالإرهاب؟!(7/1809)
ـ كما تناولنا الآثار المترتبة على الجهاد. ووجدنا أن الحرب إذا وضعت أوزارها تنتج مجموعة، من الآثار التي تتصل بالمجاهدين والمحاربين، وتناولنا من هذه الآثار ما يتعلق بدار الإسلام، ودار الحرب، والمعاهدين وما يجب عليهم من واجبات ليستمتعوا بما لهم من حقوق، والهدنة، والأمان الحربي، والصلح، والغنائم، وأحكامها (الأموال المنقولة ـ الأسارى ـ الأرض) وتوجيهات الإسلام في حالة وقوع الهزيمة بالمسلمين.
وقد وجدنا أن الدنيا كلها ـ بحسب الأصل ـ دار واحدة، وأرض الله الواسعة لخلق الله جميعًا واحدة، لا يحظر على أحد مكان منها إلا بسبب يوجب ذلك.
ومن هذه الأسباب قيام الحرب وما يتبعها من آثار فيحظر على المسلم أن يقيم في دار يقوم فيها القتال بينهم وبين المسلمين لما يترتب على ذلك من تعريضهم للمخاطر والقتل.
وتقسيم العلماء للأرض على قسمين نشأ من الآثار المترتبة على وقوع الحرب.
فيقصد من دار الإسلام البلاد التي تحكم بالإسلام تظهر فيها شعائره ويأمن فيها المسلمون.
وأما دار الحرب فهي البلاد التي لا تحكم بالإسلام ولا تظهر فيها شعائره , فالسلطان فيها لغير المسلمين.
كما ينشأ من آثار الحرب دار ثالثة تسمى بدار العهد وهي التي لم يظهر عليها المسلمون ولكن أهلها دخلوا في عقد المسلمين وعهدهم على شرائط تشترط وقواعد تعين فهذه تسمى بدار العهد وهي دليل على الإسلام لا يكره أحدًا على اعتناقه.(7/1810)
وفي بيان ما للمعاهدين وما عليهم وجدنا:
التحذير من نقض العهود بصورة عامة، كما يعامل المعاهدون الذين قبلوا شروط المسلمين ودخلوا في الطاعة قبل الحرب أو أثناء الحرب، يعاملون طبقا لشروط الصلح التي أبرمت معهم كما قدمنا نماذج من هذه المعاهدات.
فإذا ما نصح المعاهدون ووفوا والتزموا فلهم:
1 ـ حماية النفس والعرض من أي اعتداء سواء من المسلم أو غيره.
2 ـ إذا غزا العدو بلاد المسلمين فغنم شيئًا من أموال أهل الذمة ثم أظهر الله المسلمين على عدوهم واستردوا هذه الأموال فعليهم إعادتها إلى أصحابها من أهل الذمة دون مقابل.
3 ـ لهم المحافظة على عقائدهم وعباداتهم، وعلاقاتهم الشخصية.
4 ـ لهم أن يمارسوا من عاداتهم ما لا يتعارض مع آداب الإسلام العامة.
ـ كما رأينا من الآثار المترتبة على الجهاد كذلك الهدنة وهي أن يطلب الأعداء ترك القتال فترة من الفترات قد تنتهي إلى الصلح وهذا يسمى بعقد الهدنة والموادعة. إذا تم الاتفاق عليه فإذا طلب العدو ذلك فيجب أن يجاب إلى طلبه.
وكذلك إذا كانت الأشهر الحرم فلا يحل فيها البدء بالقتال إلا إذا بدأ فيها العدو بالقتال.
ـ وأما الأمان فهو كذلك من الآثار المترتبة على الجهاد ـ كذلك ـ وهو أن يطلب فرد من الأعداء المحاربين الأمان وعندئذ تقبل منه ولا يجوز الاعتداء عليه.
وطالب الأمان يطلبه لأغراض شتى ويعامل على حسب حاله وهذا الأمان الفردي أعطاه الإسلام للرجال والنساء، فمن حق أي فرد أن يؤمّن مِنَ الأعداء مَنْ يطلب الأمان باستثناء الصبيان والمجانين.
وأما الأمان الذي يعطى للجماعة فإنه من شأن أمير المؤمنين لتحري المصلحة.
ويبقى المستأمن مستمتعًا بحقه في الأمن ما دام محافظًا على الأمن والنظام العام ولم يخرج عليهما بأن يكون عينًا أو جاسوسًا، وتطبق عليه القوانين الإسلامية في المعاملات المالية والعقوبات.
ـ كما أنه يقعد الصلح بين المسلمين وبين أقوام دون حصار.(7/1811)
ـ ومن الآثار ـ كذلك ـ الغنائم وهي المال المأخوذ من أعداء الإسلام عن طريق الحرب وتشمل:
1 ـ الأموال المنقولة.
2 ـ الأسارى.
3 ـ الأرض.
وتسمى كذلك الأنفال.
وقد أحل الله لهذه الأمة الغنائم، وزعت توزيعا يحقق النفع للأمة جميعًا. وعرضنا للتجربة الأولى في تقسيم الغنائم في بدر، ومع تحقيق العدل في التقسيم يأتي التحذير من الغلول.
ومن هذه الغنائم الأسارى وهم المقاتلون الذين يقعون في أيدي المجاهدين أحياء، وقد يكون من الأسرى النساء والصبيان، فأما الرجال المقاتلون فللحاكم أن يتصرف معهم بما هو أنفع وأولى بالحق من المن أو الفداء، أو القتل لمجرمي الحرب, وأما النساء والصبيان فليس عليهم القتل.
وإذا كانت الحروب تتمخض عن وقوع أسرى لدى كل فريق من المتحاربين فإننا رأينا كيف تكون المعاملة الرقيقة الإنسانية الحانية من الإسلام نحو الأسارى رجالًا ونساء وذرية.
ـ وأما ما يتعلق بالأرض فإن الإمام مخير فيها بين أمرين:
الأول: أن يقسمها على المجاهدين.
الثاني: أن تصبح وقفا على المسلمين.
وإذا اختار الحالة الثانية فإنه يضرب على الأرض خراجًا مستمرًا، ويقدر الخارج اجتهادًا بما يناسب المكان والزمان.
هذا من جانب الآثار المترتبة على الجهاد في حالة انتصار المسلمين، أما إذا حدث تقصير من قبل المجاهدين في جانب من الجوانب وأصابهم القرح، وحدثت الهزيمة فإن الإسلام يوجه اتباعه إلى ما سبق ذكره من أخلاق المجاهدين، وإذا وقع في يد العدو أسرى من المسلمين ينبغي أن يبذل الإمام كل الجهد في تخليص الأسرى حتى لا يفتنوا في دينهم وحتى لا يتعرضوا للأذى وهم في قبضة العدو.
ـ وتناولنا في العلاقات الدولية في الإسلام ضرورة الاتصال بين الأفراد والدول وأن الإسلام أقام العلاقات الداخلية بين أفراد الأمة على المودة والرحمة لتتحقق معهم الوحدة العضوية والتي قامت على الأخوة في الله سبحانه، وما يصحب الأخوة من حقوق ومظاهر منها الحب في الله، ومنها التراحم والتكافل والتكامل.(7/1812)
والأسس التي جعلها الله سبحانه في العلاقة بين الإنسان وغيره لا تمثل ـ كما يزعم المغرضون ـ تكوين عنصرية جديدة تقوم على أساس العقيدة، ولكن تحقيق مفهوم الوحدة الحقيقية بين المؤمنين يأتي ثمرة طبيعية لاستجابة المؤمنين، وليست تكوينًا عنصريًّا، وتتجه الأمة المؤمنة نحو غيرها من الجماعات البشرية الأخرى لتحقق معها علاقات يؤسسها الإسلام على:
1 ـ التذكير بالأصل الواحد.
2 ـ الحق.
3 ـ العدل.
4 ـ أساس التفاضل في الإسلام فيما يستطيعه الإنسان من أعمال تسعده وتقدمه في حياته.
واتضح لنا من تناول هذه الأسس أن الإسلام يهدف في بيان علاقة الإنسان بغيره إلى تحقيق الأمن والسلم والحياة الطيبة للأفراد والجماعات.
ورأينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلك السبيل العملي في بيان علاقة الدولة المسلمة بغيرها من الدول المخالفة في الكتاب الذي كتبه عند قدومه المدينة بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم، وبين العلاقة بين الدول المسلمة، والمخالفين في الدين خارج الدولة، مما يبرهن على أن دولة الإسلام تتسع لعلاقات سليمة مع الدول المخالفة، بل وتتسع الدولة الإسلامية نفسها للتعايش مع المخالفين في الدين ما داموا مسالمين.
ـ كما تناولنا موقف الإسلام من المنظمات الدولية، ووجدنا أنه يرحب ويشجع كل ما يحقق للمجتمعات البشرية أمنها وسلمها الحقيقي فإذا أدرك الناس خطورة الحرب بينهم ووجدوا أن السبيل إلى تحجيمها في تكوين منظمات تضم مجموعة من الدول التي ترضى فيما بينها ما يحقق قواعد العدل والحق والمساواة فإن الإسلام يربط على أيديهم ويعينهم على ذلك بمنهجه الرشيد وكماله الذي لا يشوبه الهوى.
وقد أشاد الرسول الكريم بحلف الفضول وآثاره وأنه لو دعي به في الإسلام لأجاب.
وقد قدمنا الظروف الدولية التي دعت إلى إنشاء المنظمة الدولية العالمية لتعمل على حفظ السلم والأمن الدولي، وإنماء العلاقات الودية بين الأمم، وتحقيق التعاون الدولي في جميع المجالات، وجعل الأمم المتحدة مركزًا لتنسيق أعمال الأمم، كما ذكرنا المبادئ المعلنة لها، وكيف يحذر الإسلام في مبادئه من الفصل بين المبادئ النظرية والتطبيق العملي.
كما بينا الدوافع التي جعلت منظمات دولية أخرى تنشأ لتحقيق مصالح تخص هذه المنظمات، ومنها منظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الوحدة الأفريقية، والمبادئ والأهداف لهذه المنظمات.(7/1813)
ـ كما تناولنا الشبهات في موضوع السلم والحرب في الإسلام وقد بينا كيف كان العرض السابق لمباحث هذا الموضوع هو الرد الموضوعي لما أثير من شبهات مغرضة لا تستند إلى واقع , بل هي من أوهام المشككين وحقد المغرضين على الإسلام والمسلمين.
وذكرنا من هذه الشبهات شبهة الإكراه في الدين ونشره بالسيف وكيف إنها متهافتة بتصريح النصوص في أنه (لا إكراه في الدين) . ومن الواقع العملي في مسيرة الدعوة والفتوحات، واستمرار وجود المعاهدين وأهل الديانات الأخرى إلى الآن في البلدان المفتوحة.
ـ كما تناولنا ما يتصل بهذه الشبهة من شبهة الجزية والرد عليها وهي القدر المالي الذي يؤخذ ممن يتمتع بحقوق الرعوية من المسلمين الفاتحين ولم يكن مغريًّا حتى يكون الغاية ـ كما يزعمون ـ من الفتوحات فأعلاها 48 درهما وأدناها 12 درهما وأوسطها 24 درهما , ويعفى منها الفقير والصبي والمرأة والراهب المنقطع للعبادة والأعمى والمقعد وذوو العاهات.
ويدفع هذه القدر اليسير مع القدرة عليه ليدافع عنه في ماله وعقيدته وعرضه وكرامته، وإن لم يستطع الفاتحون تحقيق هذا لسبب من الأسباب وردوا هذا القدر اليسير إليه وما يدفعه الواحد منهم يعود عليهم عند حاجته.
وقد ناقشنا ما معنى الإذلال في إعطاء الجزية وأنه ينصرف إلى معنى الخضوع للنظام وأن تكون عن قدرة.
ـ كما تناولنا شبهة أخرى في اعتبار الرق غاية من الجهاد في الإسلام، وكيف أن هؤلاء لم يفهموا حقيقة الإسلام الذي يقرر كرامة الإنسان وحريته فلا يعرف العبودية إلا لله سبحانه، وكيف عالج الإسلام الرق الذي كان شائعًا معالجة موضوعية صحيحة فقدم ما يحقق المساواة بين الناس وما بين النفوس على القيم والمبادئ التي تحقق للإنسان الشعور بكرامته ثم أغلق جميع المصادر للرق، ووسع طرق العتق، مع استمرار المعاملة الكريمة، معاملة الأخوة بين السادة وإخوانهم، كما آخى بين بعض الأحرار من سادة العرب وبين بعض الموالي ومنحهم الرسول مراكز قيادة لجدارتهم، وأمر بطاعتهم.
وأما المصدر الذي يضطر المسلمون اضطرارًا فهو يتعلق بغيرهم من الأعداء الذين يسترقون الأسرى من المسلمين فيسلبونهم حريتهم ويعاملونهم بالعسف والظلم، ولذلك فإن هذا الباب ظل مفتوحًا مع فارق المعاملة.
كما أن الآية الكريمة التي تحدثت عن الأسرى قد ذكرت المن والفداء فقط حتى لا يكون الاسترقاق للأسرى تشريعًا دائمًا للبشرية.
وعلى ذلك يكون أخذ المسلمين بمبدأ الاسترقاق في الحروب خضوعًا لضرورة قاهرة لا فكاك منها.
فالجهاد في سبيل الله سبحانه لم يكن رغبة في استعباد الناس أو أخذ أموالهم، أو التوسع والسيطرة الغاشمة، إنما كان جهادًا لتكون كلمة الله هي العليا؛ لأن تحقيق هذه الغاية يضمن للمجتمعات البشرية أمنها وسلمها وحريتها وكرامتها وسعادتها في الدنيا والآخرة.
الدكتور محمد رأفت سعيد.(7/1814)
المصادر والمراجع
1 ـ القرآن الكريم.
2 ـ أحكام القرآن، للإمام أبي عبد الله بن إرديس الشافعي المتوفى سنة 204هـ، جمعه الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي صاحب السنن الكبرى المتوفى سنة 458هـ، عرف الكتاب الشيخ محمد زاهد الكوثري، كتب هوامشه الشيخ عبد الغني عبد الخالق، بيروت، دار الكتب العلمية.
3 ـ الإسلام الفاتح، للدكتور حسين مؤنس، سلسلة دعوة الحق، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، العدد 4 سنة 1401هـ.
4 ـ الإسلام والمستشرقون، مقال، للدكتور محمود محمد الطنطاوي في مجلة البعث الإسلامي ندوة العلماء (الهند) عدد ممتاز 1402هـ ـ 1982م.
5 ـ الإفصاح عن معاني الصحاح، لأبي المظفر يحيى بن هيبرة المتوفى سنة 560هـ، المؤسسة السعيدية بالرياض توزيع مكتبة الحرمين بالرياض.
6 ـ كتاب الأموال، للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ، تحقيق دكتور محمد خليل هراس، قام بطبعه ونشره الشيخ عبد الله الأنصاري إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر.
7 ـ بداية المجتهد ونهاية المقتصد، للإمام محمد بن رشيد القرطبي 520 ـ 595هـ، طبعة سابق 1405هـ ـ 1985م.
8 ـ البداية والنهاية في التاريخ، للإمام ابن كثير المتوفى 774هـ، مطبعة المتوسط، بيروت.
9 ـ تاريخ الأمم والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، طبعة أولى، المطبعة الحسنية المصرية.(7/1815)
10 ـ تأسيس النظر، لأبي زيد الدبوسي، طبعة أولى بالمطبعة الأدبية بمصر.
11 ـ الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، للحافظ المنذري 581 ـ 556هـ، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، طبعة أولى 1381هـ ـ 1961م.
12 ـ تفسير القرآن الكريم، للحافظ ابن كثير، المتوفى 774هـ، دار المعرفة، بيروت.
13 ـ التنظيم الدولي، دكتور بطرس غالي، القاهرة، 1956م.
14 ـ الجامع لأحكام القرآن الكريم، لأبي عبد الله القرطبي، مصورة من مطبعة دار الكتب، دار الكاتب العربي، القاهرة 1387هـ ـ 1967م.
15 ـ جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد، للإمام محمد بن محمد بن سليمان، طبعة السيد عبد الله هاشم اليماني المدني بالمدينة المنورة.
16 ـ الحرب والسلام في الإسلام، للأستاذ عبد الكريم الخطيب، دار نجد للنشر والتوزيع، طبعة أولى 1301هـ ـ 1981م.
17 ـ الحرب والسلام في الفقه الدولي الإسلامي، د. محمد كمال الدين إمام ـ طبعة أولى 1399هـ ـ 1979م.
18 ـ الخراج، لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم (ضمن موسوعة الخراج) طبعة دار المعرفة ـ بيروت 1399هـ ـ 1979م.
19 ـ الخراج، ليحيى بن آدم القرشي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر (ضمن موسوعة الخراج) .
20 ـ الروض الندي شرح كافي المبتدي في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل الشيباني، للإمام أحمد بن عبد الله البعلي، منشورات المؤسسة السعودية بالرياض، أشرف على تصحيحه الشيخ عبد الرحمن حسن محمود.
21 ـ رياض الصالحين، للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي 631 ـ 676هـ، تحقيق عبد العزيز رباح وأحمد يوسف الدقاق، دار المأمون للطباعة، طبعة رابعة 1401هـ ـ 1981م.(7/1816)
22 ـ سنن البيهقي لأحمد حسين، المتوفى سنة 458هـ، طبعة الهند 1355هـ.
23 ـ السيرة النبوية لابن هشام المتوفى 213هـ، تعليق طبعة عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية.
24 ـ شبهات حول الإسلام، للأستاذ محمد قطب، الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية 1398هـ ـ 1978م.
25 ـ شريعة الإسلام في الجهاد والعلاقات الدولية، للأستاذ أبي الأعلى المودودي، طبعة أولى 1406هـ ـ 1985م، دار الصحوة، القاهرة.
26 ـ صحيح البخاري (بحاشية السندي) للإمام البخاري، دار إحياء الكتب العربية، مكتبة زهران.
27 ـ صحيح مسلم بشرح النووي، للإمام مسلم، تحقيق وإشراف عبد الله أحمد أبو زينة، من كتاب الشعب.
28 ـ العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، للدكتور وهبة الزحيلي، طبعة أولى 1401هـ ـ 1981م مؤسسة الرسالة.
29 ـ فقه السنة، للأستاذ سيد سابق، دار الكتاب العربي، طبعة ثالثة 1397هـ ـ 1977م.
30 ـ فقه السيرة، للأستاذ محمد الغزالي، دار الكتب الإسلامية، طبعة ثامنة 1402هـ ـ 1982م.
31 ـ قادة الشام ومصر، اللواء الركن محمود شيت خطاب، دار الفكر.
32 ـ القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، بيروت، المؤسسة العربية للطباعة والنشر.
33 ـ الكافي فقه أهل المدينة المالكي، للحافظ أبو عمر بن عبد البر، المتوفى سنة 463هـ، تحقيق د. محمد بن محمد أحيد الموريتاني 1399هـ ـ 1979م.(7/1817)
34 ـ اللباب في شرح الكتاب، على كتاب الإمام أبي الحسن القدوري في فقه السادة الحنفية، للعلامة الشيخ عبد الغني الميداني الدمشقي، طبعة 1346هـ، سنة 1927م.
35 ـ لسان العرب، للإمام ابن منظور، دار صادر، بيروت.
36 ـ المبدع في شرح المقنع، لأبي إسحاق بن مفلح الحنبلي، المتوفى سنة 884هـ، المكتب الإسلامي 1980م.
37 ـ المجموع شرح مهذب الشيرازي، تحقيق وتكملة محمد نجيب المطيعي، طبعة أولى، توزيع المكتبة العالمية بالفجالة.
38 ـ مجموع المبدع: المطلع على أبواب المقنع ومعه معجم ألفاظ الفقه الحنبلي، للإمام أبي عبد الله محمد أبي الفتح البعلي الحنبلي، المتوفى سنة 709هـ، صنع محمد بشير الأدلبي، المكتب الإسلامي 1401هـ ـ 1981م.
39 ـ محاضرة: تعامل المسلمين مع مخالفيهم في الدين، للأستاذ الدكتور عبد المجيد محمود، قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض 1400هـ.
40 ـ المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للإمام مجد الدين أبي البركات، المتوفى سنة 652هـ، طبعة ثانية 1404هـ ـ 1984م.
41 ـ المحلى، لابن حزم، المتوفى سنة 456هـ، المطبعة المنيرية 1352هـ.(7/1818)
42 ـ المسند، للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق أحمد شاكر، دار المعارف بالقاهرة 1949م.
43 ـ المصنف، للحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المتوفى سنة 211هـ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمى، طبعة ثانية 1403هـ ـ 1983م، المكتب الإسلامي، بيروت.
44 ـ المغني، لابن قدامة، المتوفى سنة 620هـ، مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
45 ـ المقنع في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل الشيباني، رضي الله عنه، لابن قدامة، طبعة ثانية، منشورات المؤسسة السعيدية.
46 ـ المنظمات الدولية المتخصصة والإقليمية، د. مصطفى سيد عبد الرحمن، كلية الحقوق، جامعة القاهرة.
47 ـ موسوعة فقه عمر بن الخطاب، للدكتور محمد رواس قلعجي، مكتبة الفلاح، طبعة أولى 1401هـ ـ 1981م.
48 ـ الموطأ، للإمام مالك رواية محمد بن الحسن الشيباني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار القلم، طبعة أولى.
49 ـ نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، للإمام محمد بن علي الشوكاني، المتوفى 1255هـ.
50 ـ هذا هو الإسلام، سلسلة رسائل الدكتور مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، طبعة أولى 1400هـ ـ 1979م.
51 ـ وثيقة إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة (بحث) مقدم لمؤتمر السنة والسيرة بالقاهرة، إعداد. جعفر عبد السلام علي، كلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر.
52 ـ الوجيز في فقه الإمام الشافعي، للإمام الغزالي، مطبعة حوش قدم.(7/1819)
المناقشة
الحقوق الدولية في نظر الإسلام
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحقوق الدولية في نظر الإسلام هي موضوع البحث في هذه الجلسة الصباحية. والعارض له الشيخ محمد علي التسخيري، والمقرر الأستاذ محمد الدسوقي. هل الشيخ محمد رأفت موجود؟ إذن هو المقرر. تفضل يا شيخ علي.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء محمد وآله الطاهرين وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نرغب إليك في مستقبل كريم تعز به الإسلام وأهله، وتذل به النفاق وأهله، وتجعلنا فيه من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا به كرامة الدنيا والآخرة، وبعد.
فقد قُدمت في موضوع العلاقات الدولية في الإسلام تسعة بحوث تفاوتت في الطول والقصر إلا أنها والحمد لله بحوث قيمة ومفيدة، أحاول هنا أن أستعرضها بإيجاز شديد متبعًا المنهج المطروح في ورقة العمل.
فالشيخ محمد علي عبد الله ذكر في بحثه عن حقوق الدولة في الإسلام مقدمة استعرض فيها بعض خصائص قادة الأمة في صدر الإسلام، ثم أعطى المفهوم الإسلامي عن الدولة وأنماطها التطبيقية، وانتقل للحديث عن حقوق الدولة وواجباتها على ضوء القانون الدولي ثم على ضوء النظرة الإسلامية، فذكر منها حقوق المساواة، والبقاء، والصيانة، والأمن، والاستقلال، شارحًا إياها مؤكدًا على أن هذه الأمور لم تتحقق دوليًّا، وإنما نادى بها الإسلام بكل صدق وسعى لتطبيقها، وقد امتاز بحثه بذكر بعض المصاديق الحاضرة وتبرير ما حدث أخيرًا من أحداث في المنطقة.(7/1820)
أما الدكتور محمد الدسوقي في بحثه عن أصول العلاقات الدولية بين الإسلام والتشريعات الوضعية بعد أن قدم مقدمة تحدث فيها عن الصفة الواقعية للإسلام عرض تعريفًا للقانون الدولي العام الذي ينظم العلاقات بين الدول، وآخر للقانون الدولي الخاص والذي يحدد اختصاص محاكم الدولة إزاء محاكم الدول الأخرى، وعرض فكرة تاريخية عن تطور القانون الدولي، ثم أكد على أن كلًّا من العرف والمعاهدات هما المصدران المهمان للقانون الدولي العام، ثم استعرض أهم مواد مشروع إعلان حقوق الدول، وواجباتها الذي قدم إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة سنة 1948م، فقررت صلاحيته وأحالته إلى الدول الأعضاء لتبدي رأيها فيه، إلا أن الدول جميعها أمسكت عن الرد عليه، ومن ثم انتقل إلى أصول القانون الدولي في الإسلام وقدم لها بالحديث عن الحرب في الإسلام وأنواع الديار وذكر بعض أحكامها، أما الأصول التي ذكرها فهي المساواة بين الناس، السلام أصل العلاقة بينهم، الحرب من أجل السلام، العدالة، احترام العهود، وأخيرًا قارن بين الإسلام والتشريعات الوضعية مبيِّنًا التفوق الإسلامي في هذا المجال.
أما الأستاذ الدكتور الخياط ذكر بدوره القواعد الإسلامية التي تحكم العلاقات الدولية بما يشمل المساواة، والعدالة، واحترام العهود، والإنذار قبل الحرب، وعدم السماح بإنشاء تكتلات ضد الدول، والمعاقبة بالمثل، وملاحظة مصلحة الأمة، وتقديم حقوق العباد على حقوق الله، واختيار أخف الضررين، والتركيز على الدعوة والتزام القيم الإسلامية العليا، وأن السلام أساس العلاقات، وأن الحرب مشروعة في الإسلام. ثم راح يتحدث عن العلاقات أثناء السلم رادًّا على من أكد أصالة الحرب بذكر الآيات الدالة على جعل السلام هو الأصل شريطة أن يسمح للدعوة الإسلامية أن تطرح رؤيتها بحرية. ثم انتقل حفظه الله إلى المعاهدات والاتفاقيات فبيّن تعريفها، ومشروعيتها، ولزوم الوفاء بها، وأنواعها فهي تجارية وسياسية وعسكرية، وما يترتب على ذلك من أحكام إسلامية مشترطًا أمرين: الأهلية، فلا يملك عقد المعاهدات إلا الإمام أو نائبه إلا لضرورة، ثم الرضا. وتعرّض إلى عقد الأمان الخاص الصادر من آحاد المسلمين، والعام الذي تعطيه الدولة وكنههما وحكمهما, وصفتهما ومدتهما وما يترتب عليهما. ومن أنواع الأمان التي تعرض لها: الموادعة وركنها اللفظ وشرطها الضرورة وحكمها الأمان على لنفوس والأموال والذراري والبلدان.
أما الأستاذ الشيخ رجب التميمي ـ حفظه الله ـ ركز في بحثه على أن الإنسانية أمة واحدة دعاها الإسلام إلى التعاون والتسامح والحرية والتمسك بالفضيلة والعدالة والسلام والوفاء بالعهد، أما المصالح الإنسانية العليا فتكمن في المحافظة على الدين والنفس والنسل والعقل والمال. وقد استعرض الشيخ الآراء الإسلامية في مجالات السلم والحرب وذكر الديار التي عرفها الإسلام. كما تعرض لأحكام الذمة والاستئمان.(7/1821)
وفي مجال العلاقة بين المسلمين وغيرهم كتب الأستاذ محمد الحاج الناصر بحثه المفصل مقدمًا بذكر نبذة عن كلمات الدولة والأمة والشعب لينتقل لبيان معالم العلاقات السلمية بين المسلمين وغيرهم، وتتمثل في:
أولا: التمييز في التعامل بين حقوق المواطنة وبين مسألة الركون القلبي وله فيه بحث علمي مفصل.
ثانيا: ضبط قواعد ومبيحات للتعامل مع من لا يتعايش معهم مواطنًا أو جارًا.
وقد حدد الفرق بين المواطن والمجاور، وما يترتب عليه من أحكام مع الإشارة إلى الوثيقة التي واثق بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غداة هجرته إلى المدينة بين سكانها , وأخذ منها أحكام أهل الذمة، وقد تم خلال ذلك البحث التمييز بين المهادنة والمعاهدة والمواثقة. كما جاء الحديث عن قضية الحرب وأنها مما لا يلجأ إليه إلا لرد الاعتداء، وكذلك الحديث عن الديار التي يعرفها الإسلام والعلاقات بين المسلمين وغيرهم. وقد ذكر الأستاذ أن هذا البحث مقدمة لبحث أكثر تفصيلًا له في المستقبل مكانه.
أما الأستاذ محمد رأفت سعيد تحدث أولًا عن قضية السلام في الإسلام واعتبره أصلًا مع ذكر آراء علماء السلف، وتطبيقات القادة، ثم ركز على عنصر الجهاد ومراحله وبواعثه وأهدافه، مارًّا بأخلاق الجهاد ومنتهيًا إلى الآثار المترتبة عليه، ومنتقلا بعد هذا إلى موضوع العلاقات الدولية إذ أكد ضرورة الاتصال بين الأفراد والدول وأن الإسلام أقام العلاقات الداخلية على المودة والرحمة، كما وضع أسسًا للعلاقة بين الدولة المسلمة والدول الأخرى. وأخيرا كتب بحثًا يرد فيه شبهات الإكراه في الدين والجزية والرق.
هذا وقد جاء بحث الأستاذ الشيخ محمد عبده أيضًا مُركِّزًا على العلاقات بين المسلمين وغيرهم أثناء السلام ومؤكدًا على أن السلام في الإسلام هو الأصل، ومبيِّنًا أهداف الإسلام من الحرب والنظرة الإسلامية للمعاهدات على أنها عهد يجب الوفاء به، ومؤكدًا ـ أيضًا ـ على أن الحرب إنما شرعت لدفع الاعتداء وتأمين الدعوة الإسلامية، ومستعرضًا بعض المبادئ والأحكام التي تحكم عملية الحرب هذه ثم أحكام الأسرى بما فيها من جوانب للرحمة.
وهكذا بين الشيخ آدم عبد الله على - أيضًا - أحكام الأسرى كموضوع قتل الأسير وبعض تطبيقاته في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام حيث لم يقتل من الأسرى إلا من أحدث أمرًا خطيرًا قبل أسره في إيذاء المسلمين، وموضوع المن على الأسير دون مقابل، وتطبيقاته أيضا، وحكم الفداء، وحكم الاسترقاق، وحكم من ادعى الإسلام من الأسرى، وحكم التفريق بين الأم وولدها، والأسير المتزوج، ثم التعامل مع الأسرى.
أما بحثي المتواضع، فقد ركز على هذا الجانب بالخصوص مؤكِّدًا على التوازن الحكيم الذي راعاه الإسلام بين عنصري الرحمة والمصلحة الإسلامية من خلال بيان نوع التعليمات الحربية قبل القتال والتركيز على عنصر الدعوة وعدم الهجوم المباغت ونوع الوسائل التي يختارها والموارد التي يجوز فيها التأسير، وكيفية وعملية إطلاق سراح الأسرى وحقوقهم التي تشمل العطف بهم وإطعامهم وسقيهم وتوفير ألبستهم واحترام مراتبهم وتوفير الدواء لهم والعمل على هدايتهم إلى الحق وعدم قتل الأسير من البغاة وأخذ البيعة من الأسير القوي ثم إطلاق سراحه، وعدم معاملة أسرى البغاة بالمثل، وعدم قتل الأسير إن أسلم قبل النصر. وقد أكدت في الختام على أن الموقف في النهاية يعود إلى قائد الدولة الإسلامية، وهو يتصف فرضًا بأسمى درجات الالتزام بالشريعة. كما لاحظت أن بعض الأحكام التي استنبطها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ ربما لم يراع فيها نوعية الظروف التي جرت الحادثة فيها , وأكدتُ على حقيقة هامة هي أنه متى تم التزاحم بين نزعتي الرحمة والمصلحة فالذي تشير إليه النصوص الإسلامية هو ترجيح النزعة الإنسانية مهما أمكن إلا أن يتوجه خطر كبير للمصلحة العليا وحينئذ فهي المقدمة.(7/1822)
هذا استعراض سريع للبحوث. وختامًا أود أن أبدي الملاحظتين التاليتين مُتْبِعًا ذلك باقتراح عام:
أولا: إن هذه البحوث رغم قيمتها العلمية لم تستوف في رأيي جوانب هذا الموضوع المهم، وربما كان ذلك لسعته في نفسه بحيث لا يمكن أن يستوعبه مقام حتى ولو كان ذلك بشكل مفهرس، فموضوع مبدأ تأليف القلوب هذا المبدأ له أثر كبير في العلاقات الدولية، ومبدأ التعامل بالمثل إلا قليل أشير إليه، ومبدأ تعبئة كل الطاقات {وَأَعِدُّواْ لَهُم} ومبدأ الموقف الإسلامي الموحد من القضايا الدولية، لم تجد مكانها اللائق في البحوث.
ثانيا: إنها لم تتحدث بشكل نظري عن المفروض في الصورة الإسلامية ثم الواقع القائم حيث تفترض في الأرض دوائر ثلاث هي: دار الحرب، ودار العهد، ودار الإسلام، ثم تنظم العلاقات العامة بينها وبشكل ينطبق والتعبيرات الحديثة والمستجدات , ثم ينتقل بعد هذا إلى الواقع القائم الممزق في عالمنا الإسلامي لتنظم العلاقات بين الحكومات فيه كواقع استثنائي , وهي علاقات تتفاوت عن غيرها.
وهنا أقترح تشكيل لجنة تضع لائحة للحقوق الدولية كما يتصورها الإسلام خلال العام الآتي لعرضها على الدورة القادمة بعد أن نرسم لها هنا الخطوط العريضة لعملها أو تقام ندوة متخصصة لذلك، فإذا أمكننا أن نقدم صورة متكاملة كان من الممكن أن نطرحها في مؤتمرات دولية ذلك أن الأمم المتحدة اعتبرت السنوات العشر الأواخر من القرن العشرين عَشْرَ العلاقات والحقوق الدولية , لعلنا نعوض عن النقص الذي عانينا منه طويلًا نتيجة عدم اشتراكنا في تنظيم هذه الحقوق المعمول بها اليوم كأمة إسلامية ونظرية إسلامية إنسانية لها خصائصها.
والله الموفق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1823)
الدكتور معروف الدواليبي:
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي الرئيس، إخواني السادة العلماء.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الذي أنزل عليه القرآن رحمة للعالمين، وبعد:
فإنه ليسرني أن تنتدبني الرئاسة الموقرة لأكون العارض الثاني بعد العرض الأول الهام الجامع الشامل من قبل فضيلة الأستاذ الجليل محمد علي التسخيري حول الحقوق الدولية في الإسلام، وأرجو أن يكون عرضي متمًّا لعرضه الأول، وذلك لأنني ألفت فيه النظر إلى الندوة التي أقيمت في الشهر الماضي في واشنطن تحت عنوان " أمريكا والسلام وتحديات التسعينيات" والتي أردت أن يطلع عليها مؤتمركم الآن؛ لأن الحدث كان في الشهر الماضي وهو خطير جدًّا , وإليكم تلخيصه:
ففي هذه الندوة التي أقيمت في الشهر الماضي في واشنطن تحت عنوان "أمريكا والإسلام وتحديات التسعينيات" والتي نظمها معهد دراسات الشرق الأوسط الأمريكي في واشنطن، وقد جاء فيها توصيات أعدتها لهذه الندوة لجنة العمل الأمريكية الإسرائيلية (EPC) وهي أعظم منظمة إسرائيلية تهاجم الإسلام والمسلمين في كل مكان, وقد اعتبرت ـ كما نشرت الصحافة هذه التوصيات وفي هذا الوقت بالذات الذي يدعو العالم إلى نظام عالمي جديد ـ اعتبرت تلك التوصيات تصعيدًا جديدًا مقصودًا لتشويه حقائق الإسلام العالمية الإنسانية، وذلك بالزعم بأن الإسلام يهدد الحضارة الغربية وأن الإسلام قد أصبح بعد سقوط الشيوعية هو العدو الأول بل التحدي الوحيد للغرب وليس هذا من عندي وإنما أنقل ما جاء في هذه الأخبار، وكما رفعت نسخة عن هذه النشرة الدولية إلى مقام الرئاسة، ولذلك لست أتكلم من عندي وإنما أنقل ما جاء بالحرف حيث قالوا: إن الإسلام قد أصبح بعد سقوط الشيوعية هو العدو الأول بل التحدي الوحيد للغرب، وقالوا: إن الكثيرين من الأمريكيين قد أصبحوا ينظرون إلى المسلمن كأعداء وأنهم شعوب غير متحضرة وأنهم دمويون وأنهم غير منطقيين، كما نقلت كل ذلك جريدة الشرق الأوسط العربية الدولية بتاريخ الأحد الأسبق تمامًا في الأسبوع الماضي وذلك في اليوم السادس من الشهر الخامس الميلادي (مايو) 1992م، وقد جاء في هذه التوصيات الصراحة بالدعوة إلى مواجهة الدعاة المصممين على الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية، والمصممين على أن الإسلام دين ودولة، وأضافت أيضًا بأنه يجب أن نساند الحركة العلمانية في هذه البلاد.
ولذلك فقد سارعت فور وصولي إلى جدة وما كنت أريد أن أتكلم في هذا الموضوع وإنما أكون مستمعًا , ورفعت نسخة إلى الأمانة العامة الموقرة عما جاء في الأخبار العالمية عن هذه الندوة الأمريكية في واشنطن من تشويه حقائق الإسلام وشريعته الدولية الإنسانية العقلانية الخطاب والعلمية الحوار ليتخذ المجمع في دورته هذه ما يراه مناسبًا وحكيمًا تجاه تلك التشويهات والتوصيات المشوهة لحقائق الإسلام، وذلك لا بالرد الصحفي والإعلامي المثير للأحقاد، فالإسلام داعية للسلام وإنما فيما أرى بدعوة معهد الدراسات المذكور الذي أقام هذه الندوة وكذلك بعض الشخصيات الكبرى التي ساهمت في هذا التشويه للإسلام وذلك بدعوتهم جميعًا إلى حوار علني ودي ضمن أدب الحوار القرآني الإسلامي من أجل السلام العالمي الذي أمرنا به الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم , حيث قال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .(7/1824)
وحيث قال أيضا: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .
وذلك ـ يا سيدي ـ من أجل التعارف الذي دعا إليه القرآن الكريم بقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} .
ويقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
وهذه الآية بالذات إنما نزلت بعد صلح الحديبية عندما وجد المسلمون بعد صلح الحديبية أنفسهم مع من سلبوا أموالهم وطردوهم، فكان في قلبهم شيء من الحقد على من أوجب عليهم أن يلتقوا بهم فنزل الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
فانظروا هذا الجديد في الإسلام أعداء مشركون ولكن بعد إقامة الصلح قال: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يحملنكم {شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
هذا شيء جديد لم يكن قبل الإسلام وحتى الآن غير موجود فيما بين الأديان والأقوام، وندعوهم ـ أيضًا ـ من أجل التعريف بحقائق الإسلام السامية ورسالته العالمية الإنسانية العقلانية الخطاب والعلمية في الحوار والداعية لجميع الأمم والشعوب قبل أربعة عشر قرنًا إلى نظام عالمي جديد إنساني يقوم على التعاون والتكافل في شؤون الحياة الكريمة فيما بين جميع بني الإنسان على اختلاف الأعراق والأجناس والأوطان والأديان وكل ذلك جديد لم تعرفه الحقوق الدولية العالمية لا من قبل ولا حتى الآن. وعلى أساس أن الخلق كلهم عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله، كما أعلنه رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام ما لم يقاتلون في الدين أو يخرجونا من ديارنا.
ويسرنا أن نعلن أن كل ما عدا ذلك هو جهل بحقائق الإسلام بل افتئات عليه وداع إلى الإفساد في الأرض وإننا بدعوة معهد دراسات الشرق الأوسط في واشنطن لهذا الحوار لمنتظرون إن كانوا لخير الأسرة البشرية عائدين: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} .(7/1825)
ويسرني في هذا المقام أن أنوه بالمنهج الذي انتهجته المملكة العربية السعودية وعلماؤها في مثل هذه الحملات أن أذكر بما قد كان من استجابتهم عام 1974م. في وفد علمي رأسه المرحوم الشيخ محمد الحركان بعضوية الشيخ محمد بن جبير والشيخ راشد بن خنين وأحد كبار العلماء لا يحضرني الآن اسمه فقد شرفت بمرافقتهم في باريس وجنيف وروما والفاتيكان والمجلس الوزاري الأوروبي في سراسبو للحوار العلمي الهادئ الذي كان له أطيب الأثر في أوروبا كلها حينذاك.
ولقد استجاب وفد العلماء لبيان الحقائق حول جميع ما كان لدى الأوروبيين من معلومات خاطئة ومشوهة للإسلام، كما يسرني في هذه الكلمة أن أوجز هنا حقيقة الإسلام وشريعته الإنسانية العالمية العقلانية والعلمية وأنها - في جملة - نقلة من قومية الأديان المتناحرة سابقًا في كل أدوار التاريخ إلى عالمية الإسلام في شريعته التي قامت على دعوة إيمانية وفق مبادئها الإنسانية كما لخصتها صحيفة المدينة النبوية الدستورية والتي جاء فيها الدعوة الصريحة، وهذه صحيفة المدينة بحق أول دستور مكتوب ظهر في العالم لم يكن له مثل من قبل ولم يلحق به فيما بعد. ظهرت الدعوة في هذه الصحيفة إلى التعايش السلمي والتعاون الإنساني ما بين مختلف الأعراق والأجناس والأديان على أساس كلمة سواء ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا , وعلى أساس أنه لا إكراه في الدين وعلى أساس البر بمن يخالفنا في الدين ما لم يقاتلون في الدين أو يخرجونا من ديارنا، وعلى أساس التعاون على البر والتقوى ما بين الجميع، وعلى أساس أنهم كلهم عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله , وأن الله كرم بني آدم جميعهم من غير فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود , وكان الإسلام بذلك وحده الذي أقام السلام في الأرض عملا بمنهاجه ونظامه العالمي الجديد وشريعته التي احترمت حرية العقيدة لجميع من هم تحت راية الإسلام , ولا ننسى صحيفة المدينة حيث جاء في هذه الصحيفة في هذا الموضوع: المسلمون من قريش والمسلمون من أهل يثرب ومن قاتل مع أهل يثرب قتالهم وجاهد جهادهم وعددهم. وكانوا تسع طوائف من اليهود فقال: لليهود دينهم ولنا ديننا، ولهم النَّصَفُ والمساواة بالمسلمين ولا أحد يلتفت إلى معنى النَّصَف هذه الكلمة كانت معروفة في ذلك الوقت ـ وقت البعثة النبوية ـ باعتبار أنني من جملة ما لخصت فيه بعض الدراسات الاختصاصية في الجامعات الغربية حول الحقوق الكنسية التي تتطلب من الدارس التعمق في دراسة الإنجيل والتوراة وتاريخ التشريع الكنسي مدى الأدوار حتى الآن، فكان علي وأنا المسلم ورغبت أن أدرس، فعندما رجعت إلى هذا التشريع فوجدت عجبًا، ففي إنجيل متى ونصه العالمي حيث جاء عن المسيح عليه الصلاة والسلام عندما كان يقوم بدعوته لبني إسرائيل وقد كفروا به رغم ما قام به من معجزات لم يشف المرضى بل أحيى أحيانًا الموتى فلحقته امرأة كنعانية عربية وتقول له ـ كما جاء في إنجيل متى ـ إن ابنها يموت وما عندها غيره وتبكي وتطلب منه أن يأتي ويساعدها وينقذ ابنها فلم يرد عليها المسيح ـ كما جاء في الإنجيل لا نقول كما هو الواقع، لا ندري ـ فلم يرد عليها والحواريون وراءه فرقت قلوب الحواريين فأخذوا يستنجدون بالمسيح عليه الصلاة والسلام ويقولون: يا سيدنا أجبها، وإذا بالمسيح ـ كما يقولون والعهدة عليهم فيما نقوله ـ يقول: إنما أرسلت لخراف بني إسرائيل الضالة، وإليه الإشارة في القرآن الكريم {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} .
وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .
وقوله: {وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} .
أما الإسلام فقد جاء فيه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ} .(7/1826)
ولأول مرة تخرج الدعوة في الدين من نطاق قوميتها التي قال عنها المسيح كما نقلوا عنه: إنما أرسلت لخراف بني إسرائيل الضالة، ثم نقلوا عنه الكلمة التالية: إننا لا نعطي خبزًا لأولاد الكلاب.
هذه هي الشرائع القومية الدينية المنتشرة حتى الآن , وكلنا نعرف الآن المذابح ما بين الهندوس والمسلمين من أجل هدم المسجد البابري , وكذلك اليهودية من أجل هدم المسجد الأقصى , بينما الإسلام لأول مرة في تاريخ الأديان جاء في نص القرآن الكريم {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} .
لأول مرة ينتصب الإسلام على أساس حرية الأديان ليدافع عن الكنائس وتعلمون عهدة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنصارى نجران بالمحافظة على كنيستهم وذلك بعد المحرقة التي عملتها اليهود كما اطلعت عليها في دراستي لتاريخ الكنيسة قامت في نجران وحرقوا ثلاثين ألف شخص فقام العالم المسيحي في الدولة الرومانية عندئذ بطبيعة الحال لم تكن لهذه الأخبار سرعة الفاكس والتلكس اليوم فأخذت سنوات حتى عرفت روما ما فعله اليهود الذين هودوا بعض ملوك اليمن فقتلوا فرقة كانت تؤمن ببشرية المسيح وبأنه رسول الله هاربة من نظام الكثلكة , فحرقوا ولكن روما أرادت أن تنتصر لهم بأنهم مسيحيون ولم تكن تعرف الطريق من فلسطين إلى اليمن والمساحات الشاسعة في الصحراء فانتدبت ـ وكان أيضا في مصر الدولة الرومانية ـ الحبشة فقامت الحبشة وتعاونوا ضد الحبشة وقتلت اليهود , ولكن العرب لم يكونوا كلهم يهودًا فقاموا وتعاونوا ضد الحبشة , فعرفت أن لهم معبدًا وهو في مكة , وأرادت أن تهدمه وإليه الإشارة في سورة الفيل بعد الإشارة الأولى في سورة البروج عن تلك المحرقة: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} الآية.(7/1827)
فالإشارة الأولى إلى المحرقة المذكورة في القرآن، والإشارة الثانية نتيجة هذه الحرب الدولية اشتركت فيها روما مع الحبشة ضد اليهود فعندئذ جاءوا إلى مكة لهدم الكعبة وردوا عنها بمعجزة أشار إليها في سورة الفيل , ولكن روما لم تقف فعندئذ افتتحت الحرب ما بين روما وما بين فارس التي انتصرت حينذاك لليهود فقامت الحرب ما بين الروم وبين فارس وإليه الإشارة: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} .
فكان أول ما فعل اليهود بعد محرقتهم التي حرقوا فيها المسيحيين في نجران فجميع اليهود الذي كانوا في فلسطين وصلتهم الأخبار قبل أن تصل للحكومة الرومانية فإذا بهم يهربون قبل نحو قرن ونصف من مجيء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة ليعتصموا فيها خشية من أن ينتقم منهم بالحريق، لذلك لما دخل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: ((المسلمون من قريش والمسلمون من أهل يثرب ومن قاتل قتال أهل يثرب - وعددهم تسعة قبائل بالأسماء - من اليهود. وقال: لليهود دينهم ولنا ديننا ولهم المناصرة والمساواة بالمسلمين)) ، أفيدونا متى كان مثل هذا الاعتقاد في حرية الأديان على المستوى الدولي والإنساني والعالمي من قبل ومن بعد؟ هذه أشرت إليها في دراساتي ولو لم أكن درست حبًّا بالاطلاع على الشرائع المسيحية والعداء القائم بين المسيحية واليهود لما اطلعت على هذه القصة ولما استطعت أن أجد لها التفسير ـ كلمة المناصرة ـ المناصرة على من؟ وإذا بهم هاربون من فلسطين خشية أن ينتقم منهم، وهكذا كان الإسلام في ذلك وحده الذي أقام السلام في الأرض عملًا بمنهاجه ونظامه العالمي الحديث وشريعته التي احترمت حرية العقيدة لجميع من هم تحت راية الإسلام وضمنت لهم المساواة بالمسلمين في الحياة الكريمة فقد حمى نصارى نجران عندما خاف أن تتكرر عليهم المذبحة من اليهود، ولكنه من قبل حمى اليهود أيضًا من غزو الدولة الرومانية إلى المدينة وتقتيلهم، كما قد كان أعلنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لليهود اللاجئين إلى المدينة هربًا من مذابح دولة الرومان النصرانية في فلسطين حينذاك إذ قال لهم: ((لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ولليهود المناصرة والمساواة بالمسلمين)) ، وهكذا يكون الإسلام هو أول نظام عالمي إنساني يقوم على الإيمان وضمان حقوق الإنسان.(7/1828)
واسمحوا لي أن أختم بكلمة خادم الحرمين الشريفين الذي توجه بها , وأكرر على مسامعكم الكلمة القيمة التي وجهها إلى مجمعكم الكريم حيث قال بجرأة المسؤول والمؤمن الصادق: إن الإسلام يغزى اليوم في كل ميدان - هذه الكلمة جاءت بعدما انتشرت هذه الأخبار في الهجوم على الإسلام في قلب واشنطن - إن الإسلام يغزى اليوم في كل ميدان سياسيًّا وفكريًّا وعداوة أعدائه له عداوة شرسة دائمة لن تنقضي إلى يوم الدين مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} . ثم يضيف ـ حفظه الله ـ: فلا بد من حشد جميع القوى والطاقات لمواجهة أعداء المسلمين الحقيقيين لا إزهاقها في خلافات جانبية أو فتح جبهات في الصف الإسلامي تذهله عن معركته الكبرى وتغشي بصره عن عدوه الحقيقي الذي لا تغفو عيناه لحظة واحدة. وإلى أن قال: ونخشى أن تشتد ضراوة المسلمين بعضهم على بعض وأن يقسو بأسهم فيما بينهم إذا اختلفوا في رأي أو فتيا بل في أمر ثانويٍّ ليس من أسس العقيدة أو أركانها ونسمع عندئذ صيحات التكفير والتفسيق والتجهيل والتضليل والقذف والتبديع. وكما أشار إلى مثل ذلك أيضا منذ شهر تقريبًا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عندما أشار بهذه المناسبة وأذاع بيان ودعا المسلمين إلى أن لا تؤدي السرعة في اختلافات الاجتهاد إلى التكفير والتضليل.
وإلى أن ختم خادم الحرمين كلمته: وإنا ندعو على بصيرة إلى ما فيه توحيد الأمة الإسلامية لا تفريق كلمتها وتشتيت رأيها وصدع صفها وندع الكلام فيما اختلف فيه ما دام ليس من جوهر العقيدة ونركز على مواطن الاتفاق أخذًا بقاعدة أولويات الدعوة، نحترم آراء الأئمة الكبار المشهود لهم منذ قرون الإسلام الأولى غير مغلقين باب الاجتهاد متى ما استوفيت شروطه ومؤهلاته. فإلى خادم الحرمين الشرييفين الشكر على هذه الكلمة؛ لأننا لا ننسى أن اختلاف المسلمين في القضايا الثانوية قد كانت نقطة ارتكاز لمهاجمي الإسلام وهذا ما يجب أن يأخذ ويلفت النظر إليه مجمعكم الكريم كما أشار إليه خادم الحرمين الشريفين، واغفروا لي إن أطلت عليكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1829)
الرئيس:
وعليكم السلام ورحمة الله. شكرًا، أحب أسأل الشيخ معروف هل الأسس التي تفضلتم بها تضمنت الإيمان بنسخ الإسلام لجميع الأديان وأن الإسلام هو آخرها كما أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو خاتم الأنبياء والرسل؟
الدكتور معروف الدواليبي:
نعم، حرية الأديان تركت ولكن قلت دعوة إيمانية إلى الإسلام، دعوة الإيمان على أساس حرية العقيدة، لا نكره أحدا.
الرئيس:
المهم هو خير إن شاء الله تعالى.
الدكتور محمد عطا السيد:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك وأهل بيته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أريد أن أعبر عن أمر اختلج في نفسي ولا زال يختلج ويهز وجداني كما أراه يهز وجدان كل مسلم مخلص لربه ولدينه ولأمته، ولعل هذه الفرصة المناسبة للتعبير عن ذلك.
تعلمون يا سيادة الرئيس ويا أيها الإخوة العلماء ما حصل من محنة أليمة قاسية في خليجنا العربي أصابت أماتنا في الصميم وانتكست محاولات جادة طويلة بذلت من قبل لتوحيد هذه الأمة وجمع شتاتها، هذه الحادثة الأليمة وما تبعها من فرقة وانقسام أحدثت في نفوسنا آثارا سلبية مؤلمة للغاية.
كانت الحوادث سريعة وخطيرة للغاية جزعت لها النفوس وتحيرت إزائها الأفكار واختلطت بالمقاييس والمنطلقات والمعايير التي توزن بها الأمور، وهذا التشتت في الأفكار والمواقف أمر طبيعي متوقع إزاء مثل هذه الحوادث الخطيرة لما نعلم من قصور البشر وانفعالاتهم، واختلاف أفهامهم ومنطلقاتهم: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} .
إن الوضع الذي تعيشه أمتنا اليوم وضع انقسامي لا يرضي الله بحال من الأحوال، ولم يستفد منه إلا أعداء الله تعالى وهم أعداء هذه الأمة ودينها الذين حذر الله منهم في كتابه الكريم، وذكرهم سمو الأمير ماجد بن عبد العزيز ـ حفظه الله تعالى ـ في خطابه عندما قال: هم الذين لا تنام أعينهم لحظة واحدة عن الكيد للمسلمين.
بعد هذه الحادثة المفجعة هان أمرنا عند الأعداء وزالت هيبتنا من نفوسهم زوالًا كاملًا وأصبحوا لا يترددون ولا يتخوفون من الكيد لنا بما شاءوا وصاروا الآن يتناولوننا أمة بعد أمة، دولة بعد دولة، يدعون العالم للكيد لنا والقطيعة.
هذا الذي نعيشه اليوم يا سيادة الرئيس ويا أيها الإخوة، أمر محرم من أكبر المحرمات مخالف لما دعانا الله إليه حيث قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} .
وقال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
ونهانا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم وفساد ذات البين)) . وهي الوحدة التي من الله تعالى بها على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام حيث قال: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
هذا الأمر، يا سيادة الرئيس، أخطر بكثير جدًّا من المسائل التي تكلمنا فيها وناقشناه باستضافة من خيارات وأسواق مالية والتداوي وما إلى ذلك. ولذلك أرى أنه ليس جديرًا بهذا المجمع أن يخرج من دورته هذه دون أن يبدي رأيه إزاء هذه المحنة ويدعو حكام المسلمين لما هو أحسن، لا أريد أن نلوم أحدًا بخطئه ولا نثني على من أصاب , ولكن أريد أن يخرج هذا المجمع بعبارة جامعة شاملة تدعو حكام المسلمين إلى نبذ الخلاف وراءهم وأن يبدأوا فورا في توحيد الصف , ورأب هذا الصدع الكبير وأن يفوتوا الفرصة على أعداء الله، أعداء الأمة.(7/1830)
ولذلك أقترح على هذا الجمع الكريم أن يكون لجنة عالية للخروج بصيغة هامة في هذا الأمر كما ذكرت وهذا يكون من صميم واجباتنا وهو تقديم النصح الهادئ، وكذلك تنوير الناس بحكم الله تعالى فيما يجِدّ من مثل هذه النوازل وفيما نحن فيه من فتنة ومحنة، ويقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .
كما أرجو من إخواني العلماء عند مناقشتهم ومداخلاتهم في هذا الأمر أن يضعوا وحدة الأمة وما يرضي الله تعالى نصب أعينهم , وأن ينبذوا كل دواعي الهوى والخلاف والأحقاد. ونحن، يا سيادة الرئيس، مع هذا الذي حصل، وحدة المسلمين بعد الذي حصل ليست مستحيلة، فهذه هي أوروبا التي تدعي اليوم أنها قد اتحدت مرت بأسوأ الحروب وأشنع الحروب في تاريخ البشرية , والقرون الوسطى تشهد بأشنع الفعائل وأشنع الحروب , فهذه الكنيسة تشن حملة وحروبًا مئات السنين على الدولة ويتحاربون بينهم قبائل، وجماعات حروبًا تخزي منها جبين البشرية. ولذلك بعد ذلك أمعنوا الفكر والعقل واستطاعوا أن يحققوا درجة من الوحدة.
فلذلك، يا سيادة الرئيس، أنا لا أرى أن هذا الذي حصل وأن الوحدة بعده وتماسك المسلمين واتحادهم ليس مستحيلًا، ولذلك أدعو هذا المجمع وأرى أن هذا من واجبنا أن نخرج بصيغة تدعو حكام المسلمين إلى الاجتماع وإلى التشاور وإلى التفكير في هذا الأمر؛ لأننا نحن كأمة مسلمة نتألم الآن أشد الألم وشعوبنا متألمة أشد الألم وتحيط بنا مخاطر لا حد لها.
يا سيادة الرئيس، هذه هي مثال ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية، أعداء أشد العداوة وفي حرب شديدة عسكرية وفكرية سنحت لهم الفرصة فإذا بهم يتحدوا ويحققون الوحدة، ما كانت تخطر ببال أحد من الناس.
أنا، يا سيادة الرئيس، أقول هذا الحديث وأشهد الله تعالى أن هذا الأمر الذي تكلمت فيه لم تمله على دولة ولا أحد من الناس ولا جماعة من الجماعات , إنما أعبر عنه برأيي كمسلم من المسلمين يحس ما يحسون وأدعو إلى ما يدعون إليه، ولنذكر قول الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} .
وبالله التوفيق والهداية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1831)
الدكتور عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكرًا فضيلة الرئيس، وبهذه المناسبة فقد قدمت بحثًا عرضه فضيلة أخي الشيخ محمد علي التسخيري مع البحوث الأخرى عرضًا وافيًا يشكر عليه , ولكنني قبل أن أتساءل عن بعض الأسئلة التي لا بد أن أتساءل عنها في هذا المقام ونحن نبحث الحقوق الدولية أرجو أن يأذن لي فضيلة الرئيس وقد أثار دولة الرئيس الأستاذ معروف الدواليبي والأستاذ محمد عطا السيد أثارا في نفسي كوامن وكوامن وبعثا في من العواطف ما لا أستطيع كتمانه، نعم إننا نحن هنا في مجتمع فقهي , ولكن الفقه في الإسلام والفقه الأكبر يقتضي منا أن نستجيب لدعوة الأستاذ محمد عطا فنوافق على أن نشكل لجنة، وبهذه المناسبة ونحن نبحث في الحقوق الدولية في الإسلام والحقوق الدولية الأخرى فأولى بنا أن نبحث في حقوقنا كأمة في وحدة الصف والكلمة واليد وأن نتأسى بما فعله المسلمون فيما مضى فقد اختلفوا ثم اتحدوا وكانوا في وجه العدو يدًا واحدة ولا سيما في أيام الحروب الصليبية التي اتحدت فيها كلمة المسلمين , وقاد فيها نور الدين زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي قادا الأمة الإسلامية إلى إنقاذ المسجد الأقصى المبارك.
وهذا يدعوني، أيضًا، إلى أن أطلب أن تكون كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حفظه الله والتي ألقاها في هذا المجمع نيابة عنه سمو الأمير ماجد، وثقة لهذا المجمع يحتفظ بها كوثيقة لما فيها من الدعوة الكاملة إلى التناصر وأن تكون يدًا واحدة، وأن نقف صفًّا واحدا أمام الغزو الجديد، أو في ثوبه الجديد، للإسلام كما علمنا وعرفنا وأكد هذا ما ذكره دولة الأستاذ معروف الدواليبي من الندوة التي عقدت في واشنطن وصرحوا فيها في مؤتمر وندوة دولية عامة صرحوا فيها بعداواتهم ضد الإسلام وبتجديد الحرب ضد الإسلام، فأطلب وأقترح أن تكون وثيقة لهذا المجمع الفقهي لما فيها من معنى الفقه والفهم الأكبر للإسلام.(7/1832)
والأمر الثاني وقد أثار عواطفي وأثلج صدري أن يبادر خادم الحرمين الشريفين إلى تعمير قبة الصخرة، وقبة الصخرة مع المسجد الأقصى هي ثالث الحرمين الشريفين مسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء العليا، فالمبادرة في إعمار قبة الصخرة في هذا الوقت الذي نذكر فيه حديث النبي صلى الله عليه سلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) .
وقد كانت مآثره الكبرى في توسعة الحرمين الشريفين فأضيفت إليها هذا المأثرة أيضا إلى إعمار قبة الصخرة فينضم مع الرعيل العظيم الذي قاموا بإعمارها أولًا ثم بترميمها وتجديدها بعد الحروب الصليبية ثم كذلك في إعمارها في أيام الانتداب البريطاني وفي أيام وحدة الضفة الغربية مع الشرقية، ولذلك تعتبر هذه مأثرة كريمة تمسح عن هلال المسجد الأقصى دمعة الأسى في الشقوق والتصدعات التي أصابت هذه القبة العظيمة درة الدنيا في البناء والمعمار؛ ولأنها قبلة المسلمين الأولى نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسلمين دائما إلى الخير.(7/1833)
ثم بعد ذلك، أرجو وقد عرض الإخوة البحوث وهي بحوث وافية وإن لم تستوف ـ كما قال الأستاذ التسخيري ـ جميع أنواع البحث في هذا الأمر إلا أنني وقد تحدثت عن أن الأصل في الإسلام في العلاقات الدولية السلم لا يعني هذا أن الجهاد غير قائم، وأن الجهاد مطلوب، فنحن مطلوب منا أن نظل نجاهد , وأن نبذل كل غال ونفيس في سبيل الله ـ عز وجل ـ وفي سبيل مقاومة العدوان المتكرر الجديد، ولا يزال من ورائه الصهيونية العالمية، ولا يمكن أن ننسى كما ذكر الإخوة فيما مضى في البحوث الماضية ما يفعل بالمسلمين في أنحاء العالم لكننا لا يمكن أن ننسى أطفال المسلمين في فلسطين وفي القدس وفي المسجد الأقصى والاعتداء عليهم كما تعلمون بالتكسير والتهشيم، والاعتقال والضرب والأذى ومصادرة الأموال وغير ذلك. هذا لا يمكن أن ننساه واليهود من طبيعة دينهم الموجود في كتبهم - ولا أقول الديانة الأولى - هي قتل الشعوب واستعبادها وأنهم شعب الله المختار، ومن يقرأ التوراة ثم شروح التوراة في التلمود يجد الكثير والكثير في اعتبارهم المتميزين وأن جميع الشعوب هم عبيد لهم وأنه تستباح أموالهم ونساؤهم وأطفالهم وأراضيهم وكل ذلك، ولا سيما عندما يكره الإنسان التوجيهات التي وجهت إلى يوشع في التوراة - وهي ليست طبعًا من دين الله في التوراة - عندما أبيح قتل الناس بقتل الأطفال بقتل الرجال بقتل النساء وباستبعادهم وبأسرهم وبتحريق بيوتهم وبتحريق مركباتهم إلى آخر ذلك. ولذلك ونحن نذكر هذا أيضًا نؤكد أن الإسلام يدعو إلى الجهاد , ولكن العلاقات الدولية تقوم على أساس السلام {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} .
غير أني ولا أحب أن أطيل على الإخوة، فالبحوث بين أيديهم، أتساءل وقد تحدثت عن المعاهدات والاتفاقيات والأمان والموادعة، والموادعة تشمل الهدنة كذلك، أحببت أن أسأل عدة أسئلة لعلنا نخرج أيضًا برأي فقهي فيها أو نؤجلها إلى موعد آخر أو جلسة أخرى أو ندوة أخرى، وقد تحدثنا أقول: هل يجب أن تحدد للمعاهدة أيًّا كان نوعها مدة معينة؟ صلح الحديبية حدد بعشر سنوات لكن الفقهاء اختلفوا في تحديد المدة , وبعضهم أشار وذكر كذلك ما يتعلق بالنسبة إلى دوام المعاهدات والصلح الدائم فيها ما فعل النبي ـ صلى لله عليه وسلم ـ مع يهود بني قريظة وبني قينقاع ,وكذلك بني النضير في أنه لم يحدد في عهوده معهم مدة معينة، ثم كذلك صلح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أهل أيلة العقبة وأهل حربة جرباء وأذرع ومقنة في جنوب الأردن أو في جنوب بلاد الشام وكذلك معاهدته مع نصارى نجران وكذلك تجديد العهد من سيدنا أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ للنجرانيين، لم يكن هناك مدة معينة للصلح والفقهاء ـ كما ذكرت في البحث وربما ذكر غيري أيضا في هذا كما قرأت لبعضهم ـ قالوا بجواز ذلك وبجواز أن تكون المدة غير محددة. هذا السؤال الأول. وذهب إلى عدم تحديد المدة عدد كبير من العلماء منهم الميرغناني في كتب الحنفية، ومن المحدثين الشيخ محمد أبو زهرة رحمهم الله جميعا.(7/1834)
السؤال الثاني: هل تكون معاهدة أو صلح مع من اغتصب أرض المسلمين وأزالهم عنها وشردهم وأخذ أموالهم كاليهود، هل يكون معهم صلح؟ أن أقول هنا الرأي الفقهي ولا أريد أن نخوض في أمر سياسي كما هو حاصل الآن وإن كان هذا ربما يكون للإنسان رأي يستند فيه إلى أدلة، فصلاح الدين الأيوبي ـ مثلًا وليس دليلًا وإنما يستأنس به ـ عمل صلحًا مع ريتشارد قلب الأسد وقد احتل في الحملة الصليبية الثاثة عددًا كبيرا من مدن فلسطين وعمل صلحًا معه على أن يتنازل له عن عكا ويأخذ بدل عكا اللد، وهكذا كان رحمة الله عليه قد دمر عسقلان حتى لا يأخذها ريتشارد تدميرًا كاملًا وأرسل أهلها إلى مصر والسودان وكان عددهم ينوف عن خمسين ألفا من السكان كما أنه غور المياه في طريقه إلى القدس حتى لا يستولي عليها الأعداء ومع ذلك كان رأيه هو عدم الصلح لكن القادة والفقهاء في ذلك الوقت رأوا الصلح لتعب المسلمين وعدم قدرتهم على مواجهة هذه الحملة. على كل حال هذا استئناس لكن نريد رأيًّا في هذا الأمر، هل إذا اغتصبت أراضينا وذهبت أموالنا وشرد أهلنا واستولى اليهود على أرض فلسطين وأقاموا فيها دولة ـ كما تعلمون ـ هل يجوز الصلح معهم أم لا؟ هل يجوز الصلح لمدة مؤقتة؟ أنا أعتقد أنه ليس هناك سلم دائم أبدًا حتى ولو عقدت معاهدات دائمة مع الناس؛ لأن الدنيا تتغير والأحوال تتبدل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} .
والله سبحانه وتعالى أخبرنا من طريق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام حتى في نص القرآن في فهم بعض آيات القرآن أننا سنقاتل اليهود وأننا سندمر اليهود ولكن متى؟ وأين؟ وكيف؟ هذا علمه عند الله سبحانه وتعالى، بعد أن نرجع إلى ديننا والعمل بالجهاد في سبيل الله ومن أجل استرداد المسجد الأقصى.(7/1835)
السؤال الثالث: هل يجوز أن تعقد اتفاقات مع الدول الأجنبية ضد دولية إسلامية أي بمعنى دولة تطبق الإسلام أما إذا كانت دولة تتظاهر بالإسلام أو لا تطبق الإسلام فالأمر والشأن فيها شأن آخر. السؤال هنا هل يجوز أن تعقد اتفاقات يعني هل يجوز أن نستضيء بنار المشركين ضد المسلمين؟ هل يجوز أن نستعين بهم؟ هذا تعرضت له في بحثي بعض التعرض وفصلت بعض التفصيل في هذا الأمر وإن كانت القاعدة أننا إذا اعتدي على أراضينا وكنا أمة إسلامية واحدة فينبغي أن نتعاون ضد العدو ولكن نرد العدوان بعضنا عن بعض ولا نقبل بالأذى والعدوان من دولة أو من شعب أو من فئة في بلد من بلاد المسلمين على فئة أخرى لغايات ومصالح ليست هذه المصالح مما دعا إليه الإسلام أو أدى إليه الإسلام. هذا هو السؤال الثالث، ويتبعه هل إذا كانت الدولة الإسلامية معتدية يجيز ذلك عقد المعاهدات العسكرية مع الدولة الأجنبية لدفع الاعتداء؟ هذا أيضًا سؤال ينبغي أن نخرج فيه أيضًا برأي واضح وألا نتحرج من ذكر الآراء فنحن في مجمع فقهي وكلكم علماء بارك الله فيكم ولكن النظرة الإسلامية والفقهية في هذا الأمر. أشكر فضيلة الرئيس وأشكركم على حسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1836)
الشيخ محمد علي عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم. الصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم. اللهم يسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
أيها الجمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
لأول مرة آخذ الكلمة وأشكر سيادة الرئيس لإعطائي هذه الفرصة والمشاركة في هذه الندوة الكريمة. الموضوع المعروض علينا هو موضوع " الحقوق الدولية في الإسلام"، وشخصيًّا اعتبرت أن هذه الحقوق لا تكتفي فقط في النظر الإسلامي لأن الإسلام حاليًا في هذه المدة الأخيرة يتعرض إلى تهديدات عالمية وهجمات من الدول غير الإسلامية يهودية ومسيحية حتى الوثنية، ولهذا أردت في بحثي أن أبلوره في نظر القانون الدولي اعتمادًا على الأصول الإسلامية، ولقد طلب المجمع الكريم ببحث هذا الموضوع منذ سنتين وهذا يدل على قوة النظر في المجمع الكريم؛ لأننا لم نكن ننتظر أن هناك حوادث مؤثرة خلال هاتين السنتين، ولقد هز العالم عدة حوادث تتمثل في المعركة التي دارت بين دولتين إسلاميتين إحداهما الحرب الإيرانية العراقية، وقد خرجت إيران من طغيان عدوان الإمبريالية وعدوان القوة المضادة للإسلام , خرجت وهي ضعيفة مما وقع عليها من اعتداء من طرف دولة إسلامية أخرى. وسيكون جوابي على السؤال الذي طرحه المتحدث السابق وذلك ما يخص الاتفاقات مع دولة إسلامية، بقول الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} .
فدستورنا السماوي كافٍ وكل ما نحتاج إليه نجده في كتاب الله العزيز وفي سنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام , يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أمتي، أمتي)) ، ولا شك أنه يقول إلى الآن أمتي أمتي. فإن كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخاف علينا فما بالنا فنحن المسلمون، لا ننسى، نحن المسلمون أمة واحدة وإخوة كأسنان المشط وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، فإذا اختل سن المشط اختلت العزيمة والتوازن.(7/1837)
أقول إننا مررنا بقضيتين هما قضية إيران وقضية الكويت ثم مسألة تحرير أفغانستان، لهذا تعرضت في بحثي لمسألة الحرب، وأرى أنه من واجب الدول الإسلامية أولًا فيما يخص الحقوق وحاولت الإبقاء على الاستقلال، الاستقلال لا يتم إلا بأشياء عديدة منها: ألا تكون السياسة الخارجية تحت أي ضغط كان، وأن تكون معاملتنا للشعوب وفقا لما جاء في خطبة الوداع والتي تعتبر أول دستور وتشريع لحقوق الإنسان في الإسلام وأظن أن الدول الأوروبية اقتبست من هذه. ولهذا لا بد أن نشعر بالعزة؛ لأننا أول أمة تنادي بحقوق الإنسان. ولهذا، المسلم دائما لا بد أن يعتز بما أعطاه الله وبما أعطاه إيانا هذا الدين الحنيف من قوة. أقول إن من واجب المسلمين قبل أن نتودد إلى الكفار ـ صحيح أنها دول عظيمة نحتاج إليها من الناحية الاقتصادية ولكن عملًا بما جاء في القرآن الكريم ـ لا بد أن نساعد الدول الإسلامية حتى ولو كان ضعيفة؛ لأن الاتحاد قوة، لا مانع أن نحاول إيجاد ما يجعلنا أن نتحد في منظمة إسلامية حتى نقوم حتى نقوم نحن بحل مشاكلنا الإسلامية , لا عن طريق الدول غير الإسلامية والتي لا تعرف شيئا عن شؤوننا أو أنها تتجاهل ذلك , وبالعكس فإنها تحاول وضع العقبات لكي لا نصل إلى حل؛ لأن هذا يسعدها , وسمعنا ما قيل في هذا الموضوع وما قاله الشيخ الآن من أن أمريكا رغم مساعدتها للدول العربية؛ فإنها لم تتردد ولا دقيقة واحدة في إعلان الحرب صريحًا على الإسلام.
ثانيا: أقول لابد للدول الإسلامية من أن تحاول عدم الاعتداء ـ وهذا واجب؛ لأن القرآن صريح في هذا الشأن ـ على الدول الإسلامية الأخرى؛ لأن لنا أعداء من الكفار كثيرون فكيف يكون الاعتداء بيننا؟ ولهذا لا بد أولًا من التسليم بهذه القاعدة فإذا كان هناك مشاكل بين دولتين إسلاميتين فنجد أن الإسلام أعطانا الشورى فعندنا مجلس شورى وعندنا منظمة المؤتمر الإسلامي لكي يتم الاحتكام إليها. فإذن لا بد من تتبع العقبات الناشئة قبل وصول إعلان الحرب.(7/1838)
الدكتور طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، نستغفره ونستعينه ونستهديه ونصلي ونسلم على سيدنا محمد خاتم رسل الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد.
في بداية حديثي هذا أود أن أنوه بطريقة عرض البحوث فلأول مرة يشهد المجمع عارضًا يلخص أبحاث جميع الباحثين ويدرج بحثه ضمن أبحاثهم ويكون عارضًا أمينًا وهو الشيخ التسخيري ـ جزاه الله خيرًا ـ وكنقطة نظام أرجو أن أقترح على مقام الرئاسة أن تنبه سائر العارضين لأن يأخذوا بهذا المنهج فلا يحمل الباحثين الآخرين على أن يقرأوا أبحاثهم كتعليقات؛ لأنهم يشعروا بأن بحوثهم قد غبنت.
الأمر الثاني: عرض دولة الدكتور الدواليبي اشتمل على خبر واقتراح وتعليق وملخص محاضرة ولي عليه عودة.
أما الكلمة الطيبة التي تفضل بها الدكتور محمد عطا السيد فهي كلمة طيبة تستحق الالتفات وكذلك الأمنية والأسئلة الثلاثة التي تقدم بها معالي الدكتور الخياط.
الذي أود أن أشير إليه هنا في نقاط: أن المؤتمر الذي أشار إليه دولة الدكتور الدواليبي هو واحد من سلسلة مؤتمرات تعقد أحيانًا سنويًّا وتعقد أحيانا كل ستة أشهر ويحضرها عدد كبير من أبناء العالم الإسلامي وأساتذة الجامعات فيه، وتقوم المناقشات في الغالب على بحوث ودراسات تعد محاورها مسبقًا من قبل أساتذة وخبراء من الموجودين في الجامعات الأمريكية والمستضافين من الخارج. والغربيون لا تنقصهم معرفة الإسلام والمسلمين إطلاقًا فهم يعرفوننا أكثر بكثير مما نعرف أنفسنا، وأذكر أن الرئيس الأمريكي كارتر حين سمع إلى تعليق من أحد القيادات الإسلامية المشهورة بأن أمريكا تحتاج إلى توبة وما لم تتب أمريكا فإن العالم الإسلامي لن يستطيع الصفح عنها، دعا مجموعة من علماء المسلمين، وأساتذة الدراسات الإسلامية في الجامعات الأمريكية ليقضي معهم يومًا كاملًا يشرحون له فيه مفهوم التوبة في الإسلام، ما هي التوبة؟ ما شروطها؟ كيف تتم؟ ما هو الذنب؟ إلى غير ذلك. فهم من هذه الناحية ليسوا بحاجة إلى محاضرات نقدمها عن الإسلام وفضائل الإسلام وحقوق الإنسان في الإسلام وغير ذلك، هم يعرفوننا معرفة دقيقة جيدة بقدر ما نجهلهم. فيعرفون أن الإسلام دين عالمي لا يمكن أن يحده إقليم، ولا يمكن أن ينحصر في دائرة ضيقة، وأنه عقيدة وشريعة، وإن عقيدته نابذة لشركهم كله وَضْعِيِّهِ والسماوي الذي حرفوه، وخلطوه، ويدركون هذا حق الإدراك وحين يقول لهم عالم مسلم أو باحث شيئًا غير ذلك يستهينون به ويعتبرونه إنسانًا مجاملًا يحاول أن يقدم لهم كلمة مجاملة لا أكثر ولا أقل.(7/1839)
ثانيا: بالنسبة للشريعة الإسلامية هم يعرفون أنها شريعة ناسخة لغيرها من الشرائع وأنها شريعة مهيمنة لا تقبل غير الهيمنة , وأنها ديانة مهيمنة على ما سبقها من الديانات , وأن الإسلام قد احتضن الديانات الإبراهيمية وحافظ على أصالتها , واعترف بسائر النبوات قبله وحافظ على نقائها وتوحيدها , وهو يريد أن يقدمها من خلال الإسلام الذي لا يقبل سواه التقديم الصحيح. هذه أمور تعتبر بديهية ومدركة إدراكًا تامًّا، فأما أن نخاطبهم بمنطق من يجهلهم ويجهل أنهم يعرفون ونقدم لهم كلمات مجاملة لن تعدو أن تجعلهم يستهينون بنا أكثر ويدركون أننا إنما نتحدث من حالة ضعف ولأننا في حالة ضعف نحاول أن نتحدث بهذا، وهم لديهم بحوث ودراسات في هذا المؤتمر وفي غيره، درسوا قضية ديار الحرب وديار الإسلام، كيف يقسم الفقهاء المسلمون الدار إلى دارين: دار حرب، ودار إسلام، ودار عهد، وهل لدى المسلمين استعداد لأن يتنازلوا عن هذه القسمة ويعترفوا بالنظام العالمي الجديد؟
ثالثا: الشريعة الإسلامية في نظرهم تنافي حقوق الإنسان، هي شريعة فيها حدود وفيها تعازير، وهذه الحدود والتعازير تعتبر مهينة في نظرهم للإنسان المعاصر. هل لدى المسلمين استعداد؛ لأن يتنازلوا عن الشريعة ويعلنوا ذلك صراحة؟ وقد طالبوهم فعلًا بهذا وقد أجابهم بعض من لا خلاق له بأن الإسلام على استعداد لأن يتفاهم حول هذه القضايا كلها وأنه يمكن أن تعاد قراءة الإسلام قراءة جديدة وتقرأ نصوصه قراءة جديدة ويعاد تفسيرها بشكل يجعل المسلمين قادرين على أن ينضموا إلى النظام العالمي الجديد، النظام العالمي الجديد ليس نظامنا إنه نظام الحضارة الغربية المهيمنة المسيطرة التي تريد أن تضم كل شيء تحت جناحيها وتريد أن تنفي كل ثقافة غير ثقافتها وأن تنبذل كل فكر غير فكرها فهي لا تقبل عملية مهادنة ولا تعترف لسواها إلا بأن يكون تابعًا تستفيد منه كما تستفيد من سائر الحضارات والتراث والفلكور الشعبي، هذه حقيقة لا بد من الوعي عليها لكي نتعامل مع الغربيين حين نريد التعامل معهم من منطلقات واضحة مهفومة.(7/1840)
رابعًا: طبيعة الحضارة الغربية هي طبيعة صراعية تنابذية تقوم على ثنائيات متقابلة لا تفهم إلا الطرد والنبذ للآخر، وإن هي احتوته فإنما تحتويه فردًا، هي على أتم استعداد لأن تتقبل دعاتنا يذرعون أمريكا طولًا وعرضًا بل تدعوهم في بعض الأحيان لإلقاء محارات عن الإسلام في السجون الأمريكية وفي غيرها وتوعية هؤلاء الذين أدمنوا المخدرات وسواهم على القيم الإسلامية , ولا مانع لديها أيضًا بأن يسلموا أو يدخلوا الإسلام، ولكن في هذا الإطار، الإطار الذي يغير من أخلاقهم ومن طبيعتهم بحيث يوظف الإسلام توظيفًا في إطار حضاري شامل يشمل كل وسائل التربية بما فيها الإسلام , فإذا اغتررنا بهذا وشعرنا بأن هذا يعني أننا سوف نحول أمريكا بعد سنوات أو عقود إلى دولة إسلامية كما يحلم البعض فإن ذلك تجاهل لأبسط خصائص الحضارات ولأبسط خصائص الأمم.
إن عالمية الغرب المعاصرة لها جذور تاريخية لا يمكن أن تتخلص منها، أهمها: أنها بنيت على الحضارتين الهيلينية والرومانية، الهيلينية قد استوعبت كافة حضارات الشرق التقليدية الإقليمية وشمال المتوسط منذ غزوات الإسكندر المقدوني عام 356 إلى 322 قبل الميلاد، ثم ورثتها العالمية الرومانية إن صح التعبير والتي بلغ توسعها حوض البحر الأبيض المتوسط وسيطرت على الشرق كله. الحضارتان الهيلينية والرومانية تراثهما الديني تراث وثني غير سماوي , وما دخل إليهم من تراث سماوي حرفوه وطوعوه وحولوه إلى جزء من الوثنية، وهذا النظام العالمي الجديد بحضارته الفكرية وتراثه هو عبارة عن وريث لتلك الحضارات ومشتمل عليها ويقوم على أساس منها، هم قد بدأوا بناء عالميتهم المعاصرة منذ سقوط عالميتنا الإسلامية سواء في بغداد إثر الاجتياح المغولي عام 656م، أو في الأندلس إثر الاجتياح الأوروبي لها أو ما تلا ذلك من حروب ونزاعات بيننا وبينهم حتى فرضوا هيمنتهم الجديدة على أرض الإسلام كلها ما بين المحيطين ـ الأطلسي غربًا والهادي شرقًا ـ وانتشروا إلى ما وراء ذلك وسادوا العالم بأكمله فأصبحت الحضارة الغربية المعاصرة ذات الجذور الوثينة الرومانية من بعد الهيلينية هي عالمية العالم الجديد، تكاد تستوعبه في تفاصيله الحياتية والعقائدية، إنها تريده عالمًا على صورتها ـ صورتها الفكرية وصورتها العقائدية وصورتها النظمية ـ وهي تعرف الإسلام وما فيه وتحاول أن تطوعه عقيدة وفكرًا وثقافة وحضارة وشريعة ونظامًا لكي يصبح المسلمون بعد كل ذلك التحول أو لنسميها الردة ليمكن أن يصبحوا جزءًا مما يسمى بهذا النظام العالمي الجديد.(7/1841)
فأحبذ أن يكون لدينا نوع من الوعي على أن المسألة ليست مسألة حوار نقوله ولا مسألة مديح نكيله إلى الإسلام , وإنما مسألة وعي على الآخر. إن هناك آلاف المستشرقين الذين درسوا كل شيء يتعلق بنا، فكرنا، ديننا، معتقداتنا، عاداتنا، تقاليدنا في كل شيء، وخبروا كل شيء فينا وعرفوا كيف يخاطبوننا، لكن لا نجدد في العالم الإسلامي كله مُسْتَغْرِبًا واحدًا خبر الغرب وعرفه وعرف نواياه واطلع على خططه ويعرف كيف يتعامل معه أو كيف يتخاطب معه في هذه الحالة.
إننا في حاجة إلى إدراك لهذا إلى أن يكون عندنا جمع من الخبراء من العلماء الذين يعرفون الخلفية التاريخية والواقع المعاصر وأهداف هذه الحضارة، وأساليبها، وكيف تتعامل مع كل جزئية. إنها بالفعل اليوم لم يعد لها من خصم إلا الإسلام ولم يعد لهم من هدف إلا المسلمون، وهي ماضية في طريق تجريدهم من إسلامهم وإيجاد فصامٍ بينهم وبين الإسلام كاملٍ، وهم يعتمدون في ذلك شتى الوسائل ولديهم هذه الأجهزة العملاقة، هم من خلال الغزو الإعلامي الذي ينتهجونه والذي سوف يدخل إلى بيت كل منا تسعين قناة تلفزيونية تبث كل شيء كالإذاعات التي نستمتع إليها في الراديو، سوف يحولون ويغيرون كل أجهزة التربية والتعليم , وهم ماضون في محاولة إقناع الجميع بقبول برامجهم ونموذجهم في الحياة والتربية والتعليم , هم أحيانًا يعقدون ندوة ويتنادون لمؤتمر فقط لأنهم شاهدوا فتاة قد ارتدت غطاء رأس في حارة من حواري أية مدينة إسلامية , قد يتنادون إلى ندوة لمجرد أنهم رأوا شابًا جامعيًّا قد أطلق لحيته في أي ركن من أركان الأرض، لماذا؟ لأنهم أناس يعرفون من هو العدو ويعرفون حقيقة هذا المنافس الخطر الذي يؤمن كل واحد من حملته بأن الله قد حتم ظهوره على الدين كله، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ صحيح قد طمأننا في آيات ثلاث إلى حتمية ظهور هذا الدين لكن أن يشرفنا بالجندية لتحقيق هذا الأمر هو ما ينبغي السعي إليه. إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد وعد ـ وهو الصادق المصدوق ـ في عشرة أحاديث صحاح بظهور هذا الدين على الدين كله تأييدًا لما في القرآن الكريم وتوضيحًا له، وهذا أمر مسلم لا بد منه ويعرفه الغربيون كذلك ويعرفون أننا نؤمن به ويريدون أن يحطموا هذا الشعور فينا أو هذا الإيمان فينا، ولكن نحن مطالبون بشيء أكثر من هذا، مطالبون بدراسات متعمقة، مطالبون بمراكز أبحاث كثيرة لو أحصينا ما في ثلاثة آلاف جامعة أمريكية في طول أمريكا وعرضها مخصصة في الدراسات الإسلامية لوجدنا أن هناك ما يزيد عن مائتي مركز دراسات إسلامية متخصصة في هذا. فنحن نحتاج إلى هذا النوع من الوعي لكي نتمكن من مواجهة هذا التيار وليست المسألة مسألة حوار وليست المسألة مسألة محاضرات أو شيء نقدمه لهم، إنهم على وعي كامل بنا , فعلينا أن نكون على وعي وإدراك لأنفسنا ولهم. والله سبحانه وتعالى هو مولانا، نعم المولى ونعم النصير.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
مع تقدير البالغ للمداولات التي حصلت لكن منها ما يتعلق بأكمله في موضوع الغزو الفكري وسيكون الموضوع المسائي ـ إن شاء الله تعالى ـ ومنها ما هي أحاسيس متبادلة لدينا جميعًا ولله الحمد، لكن الذي أرجوه أن يكون طلب الكلمة يتعلق في الموضوع ذاته.(7/1842)
الشيخ البيهقي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة في الإسلام:
نحن في الحقيقة نتحدث عن العلاقات الدولية في الإسلام، ونحن ننظر إلى عالمنا ـ عالم اليوم ـ وأنا شخصيًّا حسب ما ألاحظه أن في هذا العالم ليست فيه علاقات قائمة على القانون ولكن فيما يخص العالم الإسلامي، كل العلاقات الموجهة إلى العالم الإسلامي علاقات قوة وجبروت وقد رأينا دولة كبرى الآن هي التي ترى أنها تسيطر على العالم تقوم بتصرفات لا أظن أن أحدًا في العالم ولا في التاريخ يمكن أن يربطها بالقانون، وقد رأينا في سنة 1988م، أو في هذه السنة رأيناها قد هاجمت على دولة عربية إسلامية فقتلت الأبرياء وقتلت حتى الأطفال أنها ادعت أن هذه الدولة وراء تفجير مكان ما في ألمانيا وفيها جنودهم، ثم اتضح بعد ذلك أن هذه الدولة لا علاقة لها بهذه الحادثة التي مات ضحيتها كثير من أبناء تلك الدولة العظيمة، ثم نراها في هذه الأيام تعيد الكرة بنفس الدولة وتحاصرها وتهددها , والشيء الذي يحزنني في هذا الأمر كله أننا نحن المسلمين نرى الأمور كلها ونتفرج عليها وكأن الأمر لا يعنينا.
تحدث السيد الرئيس بأن التعليقات التي جرت الآن هي متعلقة بالغزو الثقافي، وهذا في اعتقادي صحيح، ولكن أريد أن أقول شيء واحد هو أن بيننا وبين الغرب صراع حضاري , وهذا الصراع الحضاري لا يقصد دولة معينة وإنما يقصدها باستراتيجية، يريد أن يقضي عليها ثم بعدما تنتهي الضجة يأتي إلى دولة أخرى أيضًا ويقضي عليها. الهدف منها القضاء على العالم الإسلامي, الصراع القائم الآن خصوصا بعد سقوط الشيوعية وما لها من ضلالات الآن من موسكو إلى واشنطن كل هؤلاء ضد الإسلام، وهذا كل ما أريد أن نتنبه له، وأنا أثني على الاقتراح الذي قدمه الأخ محمد عطا السيد من أنه ينبغي تكوين لجنة دائمة للمتابعة، والمسألة في غاية الخطورة، وينبغي عليكم أنتم علماء الإسلام أن تنبهوا المسلمين بما يواجههم من الخطر وهذا الخطر لا يعني دولة واحدة ولا مجموعة دول ولكن يعني كل المسلمين جميعًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1843)
الشيخ الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أشكر الباحثين على بحوثهم القيمة، كما أشكر رئيس الندوة على حسن إدارته لهذه الجلسات، فجزى الله الجميع خيرًا.
موضوع مداخلتي لاأدري هل يدور حول هذا الموضوع وهو أن العلاقات ربما تكون علاقات مسيحية إسلامية، إن هناك حوارًا يقع بين رجال الكنيسة النصرانية وبين رجال المسلمين، وحسب ما علمت أن هذا الحوار لم يستفد منه المسلمون أي نتيجة، إذ لم يبلغنا أن أي أحد من رجال الكنيسة اعتنق الإسلام إثر هذا الحوار بعدما أوضح لهم المسلمون أن الدين الذي ينجي البشرية ويسعدها في الدنيا والآخرة إنما هو دين الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} .
وإن الكتاب الذي أنزل على سيدنا عيسى عليه السلام الذي تعتقد النصرانية أنهم على ملته أخبرهم أن سيدنا عيسى عليه السلام مبشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فهم يعلمون ذلك وإن كانوا قد بدلوا وحرفوا، ولا يزيدهم الحوار إلا تمسكًا بالنصرانية وبغضًا للإسلام، والإسلام ذكر ذلك. ذكره الله ـ عز وجل ـ فقال عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} .
وهذا الحوار قد تستفيد منه النصرانية للتغلغل في بلاد المسلمين لنشر أفكارهم مستعملين جميع الوسائل المادية فيأتون بأموال سخية , لِمَ لا يتم محاربتهم بنفس الطريقة؟ فيطلب من الدول الإسلامية أن تتخذ أموالًا سخية لهذا لغرض , فالتغلغل النصراني - أو التبشير النصراني كما يسمونه هم - أصبح خطرا عظيما يهدد الأمة الإسلامية، ونرجو الله تعالى أن ينجي المسلمين من هذه الكارثة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1844)
الشيخ محمد الحاج الناصر:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أود بادئ الأمر أن أشكر الصديق العزيز الأخ الغالي فضيلة الأستاذ الشيخ محمد علي التسخيري على المنهج الذي رسمه لمن سيأتي بعده في الدورات المقبلة للمجمع الذي نأمل له عُمْرًا طويلًا حافلًا بالإنجازات ليقتدي به ويهتدي، فذلك الذي صنعه اليوم هو العرض وما كان يصنع من قبل ليس بعرض، فحبذا لو تعلمنا المنهجية ونحن نعمل في عمل علمي وليس في عمل إعلامي. ومن هذه المنهجية أننا إذ نعقب نعقب في الموضوع ولا خارج الموضوع ونعقب ما يقتضيه العلم لا بما يريده الإعلام، إذا كنت أحسن الفهم فهذا مجمع الفقه الإسلامي، والفقه علم وليس إعلامًا، وكم نوفر من وقت لو استطعنا أن نقف عند حدود ما نعقب عليه أو نعقب به.
ثم كم نوفر علينا من متاعب عاطفية لو تذكرنا أننا جميعا شركاء في أشجان وشجون لكن ما كان ينبغي ونحن نواجه واقعًا يثير أشجانًا ماضية تنكأ قروحًا في القلب ما تزال تثغب دمًا دون أن يكون من نكثها ما يفيد في الواقع أو في المستقبل.
أشياء كثيرة ينبغي أن ننساها أو نتناساها على الأقل، ونواجه مستقبلنا إخوة متضامنين متعاونين، فإن لم نفعل فسنفشل وتذهب ريحنا. وأخرى حيث المجمع مجمع فقهي وموضوع اليوم موضوع العلاقات الدولية في الإسلام أو الإسلام والحقوق الدولية.
ومسائل قد تكون قريبة من هذه العلاقات أو الحدود مما تناوله الفقهاء والمجتهدون من قبل بل وفيه نصوص قرآنية وحديثية لكن ليس من الحكمة أن تثار في هذا الواقع , فلماذا نحاول إثارتها وقد جاءت فيها نصوص صريحة حاسمة لا تقبل الاجتهاد وليست بحاجة إلى متفقه؟ فإن يكن قد وقع بعض التجاوز فما كان ينبغي أن يتخذ ذريعة إلى إثارة أشجان، إنما هو السماح، إنما هو العفو بين الإخوة وإلا فلن تعود الوحدة، ثم إن الذي نريده أن نبحثه اليوم هو كيف نواجه بواقعنا الراهن التوفيق بين مقتضيات الأحكام الإسلامية في العلاقات الدولية ومقتضيات ما تقوم عليه العلاقات بين الدول اليوم؟ ينبغي أن ندرك أننا في حالة ضعف صنعناها لأنفسنا لأننا لم نقف حيث يريد الله أن نقف، إنما اندفعنا وراء المحاكاة والتقليد وحسبنا الإسلام هوية سياسية ونسينا أنه صبغة الله، وشتان بين الصبغة والهوية نحن إذن في حالة ضعف وعلينا أن نواجه وضعًا دوليًّا خطيرًا صنعناه بأنفسنا، فعلينا أن نواجه أخطاءنا , وأن نحاول أن نجد من تعاليم الإسلام ما يكيف مسارنا المتطور مع هذه العلاقات أو الأوضاع إلى أن نتبوأ المقام الذي يريده الله إن نصرناه فنصرنا، ولن ينصرنا إن لم ننصره، ليس من نصرنا له أن نخلط الوثنية بالله , فإن جاهدنا في سبيل الله حقًّا نَصَرَنَا , وإن خلطنا بسبيله أخرى فالله أغنى الشركاء عن الشركة. أوضاعنا الضعيفة في الفقه الإسلامي القديم ما يواجهها أوما يوجد فيه مَعْلَم لما نريد أن نتخذه اليوم لمواجهتها.(7/1845)
لقد أباح بعض الفقهاء أن يعطي إمام المسلمين مالًا كالجزية لمن غلبه إذا كان لا مناص من ذلك، بيد أن عليه أن يستعد ويعمل إلى أن يتحرر من هذه الرقة وأن يصبح نِدًّا ثم أن يعمل بسلم أو بحرب على هيمنة الإسلام. فنحن اليوم في مثل هذه الحالة، لا نعطي الدنية من أنفسنا ولا نرضى الدنية في ديننا، لكن ألم يوقع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اتفاقية الحديبية وفيها الكثير مما جعل مثل عمر ـ رضي الله عنه ـ يوشك أن يرتاب لولا أن رده أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى صوابه؟ إن اتفاقية الحديبية باءت بالنصر على الإسلام والمسلمين، فلنا فيها العبرة لنواجه اليوم ما نواجه ونحن في مثل الوضع الذي كان عليه المسلمون محاصرين في الحديبية أو في الخندق حين أراد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعطي نصف تمر المدينة لبعض القبائل، لنواجه اليوم مثل ذلك الموقف، فعلينا أيضًا أن نقتدي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما فعل بعد ذلك الموقف والاقتداء به عملًا وليس قولًا.
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينشئ الصحابة ويقويهم ولم يكن يبث الدعايات وحدها هنا وهناك عند خصومه من المشركين، بل كان العمل الأول هو صناعة المسلم القوي الذي يستطيع أن يواجه به، أما الدعوة إلى الإسلام فكانت منطلقة من صناعة المسلم القوي الذي إذا بعثه سفيرًا له كان بسلوكه داعية أكثر منه بلسانه.
إن الذي يجب أن نعمله اليوم هو أن نصنع أنفسنا، قلوبًا وأرواحًا وتقنية، يجب أن نتعلم كل ما نستطيع وأن نستعين بكل إخواننا المسلمين في كل مكان أيًّا كانت علاقتنا سابقًا بهم وأيًّا كان رأينا سابقا بهم، ما كانت لديهم معارف نحن بحاجة إليها، وأن نعمل بقدر ما يمكننا أن نعمل وأن ننتهز الفرص ونتحين المناسبات، لكن دون أن نعطي الدنية. إن نصالح اليهود اضطرارًا فهم ليسوا بإخوة لنا ولابني عمومة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .
وإن نصانع غيرهم محالفة أو معاهدة أو تعاونًا فاضطرارًا إن كانوا ممن أخرجونا من ديارنا أو ظاهروا على إخراجنا اضطرارًا إلى أن نستطيع، أما أن نبرهم ونقسط إليهم بقلوبنا، وأن نركن إليهم ونسكن إليهم فذلك ما يجعلنا منهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} .
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} .(7/1846)
لا مناص من المواجهة نقولها صريحة جاهرة ساطعة شادخة لبعض القلوب والنفوس، لا مناص من المواجهة بين الإسلام وبين الصليبية والوثنية , وللمواجهة ألوان منها السيف أو ما في مقام السيف , ومنها الدعوة القوية المنطلقة من السلوك ثم من الإقناع. فلنسلك السبيل التي تتيسر، ولنتهيأ لتتيسر تلك التي لم تتيسر لكن دون خنوع أو خضوع {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} .
أيها الأخوة، هذا منطلقنا إلى علاقات بين المسلمين وغيرهم في هذا الوضع الذي نحن فيه وييسر الله لنا أوضاعًا أحسن إن انطلقنا من كتابه وسنة نبيه. هذه واحدة. وأخرى أرتد بها قليلًا إلى الوراء، ما كان أكثر ما نقوله اعتمادًا على خرافة (الضرورة والاضطرار) واعتمادا على خرافة (عموم البلوى) ، وما كان أكثر ما نعتمد فيما نستنبط على مقالات بشر، وكان حقًّا علينا ولزامًا ألا نعتمد إلا على قول الله وقول رسوله وعلى فعل رسول الله وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى السلام، أما مقولات البشر أيًّا كانوا فنستأنس بها ولا نتخذها منطلق الاستنباط. وحكاية الضرورة والاضطرار. وخرافة ما يعتمد عليه البعض من مقولة (الضرورة تبيح المحظورة) فقد بينها الله سبحانه وتعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} ، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، وللضرورة حدود ولها أسباب تنطلق منها حتى لقد منعوا التقصير، منع بعض الفقهاء التقصير في السفر والإفطار في السفر والتقوت بالميتة أو الدم أو لحم الخنزير عند الاضطرار على من سافر في معصية، فكيف نلجأ في أقل الأشياء إلى دعوى الضرورة فكيف بدعوى الحاجة؟(7/1847)
أيها الناس، إننا هنا مسؤولون على كل كلمة نقولها وعلى كل قرار نقرره، فاتقوا الله أن تأتي الأجيال المقبلة فتقرأ ما نتركه أو نقرره وتتخذه أيضا كما اتخذناه نحن أساسًا للاستنباط فنتحمل وزرًا ما كان أغنانا عنه، أخشى أن ينطبق علينا قوله، سبحانه وتعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} .
أيها السادة تذكروا ثقل المسؤولية واتقوا الله في أنفسكم وأجيالكم، وفقنا الله إلى كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ محمد الأمين الإسماعيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
عندما ننظر إلى نوع العلاقات الدولية التي ينظمها الإسلام أو القوانين المسنة في ضوء الشريعة الإسلامية نجد قرارات هيئة الأمم المتحدة أمامنا ونجد النظام الذي أسسه العالم ووافق عليه في اجتماعات هيئة الأمم المتحدة، ونجد نظامًا متكاملًا متميزا الذي هو التشريع الإسلامي كذلك في الطرف الآخر، ولكننا نجد قواسم مشتركة ما بين ما وافق عليه هذا العالم وما بين ما هو مثبت في شريعتنا، وإذا نظرنا إلى الأسس الأربعة التي هي أساس التجمع الغربي وما قام عليها أساس تشريعه ونظرنا إلى أساس التشريع في الشريعة الإسلامية نجد في الطرف الآخر أركان أربعة: الأرض، الجنس، اللغة، الآمال المشتركة. هذه الأسس الأربعة تنظر إليها شريعتنا ولكن تجعل من أساس وحيد هو لب تشريعها وهو العقيدة الإسلامية، عقيدتنا الإسلامية عندما تنظر إلى هذه الأسس الأربعة لا تجافيها، ولكنها تنظمها فهي تعترف بالأرض وتعترف بالجنس وتعترف باللغة وتعترف بالآمال المشتركة ولكنها عندما تتحول هذه القضايا الأربع إلى حدود وتتحول هذه الأسس الأربعة إلى سدود آنذاك تتدخل العقيدة الإسلامية لتقف موقفها بالنسة لهذه القضايا. إذن معنى هذا أن هناك أساسًا وحيدًا في شريعتنا الذي هو العقيدة الإسلامية. هذه العقيدة التي هي أساس تكوين الأمة المسلمة وأساس تجمعها , وهي الأساس الذي تنظر به من وراء الحدود وتتعامل مع الناس به.(7/1848)
إذن هناك أهل الكتاب ومن يدور في فلكهم وهناك العقيدة الإسلامية الصافية البعيدة عن الشوائب التي ترتكز على الكتاب والسنة وترتكز على السماحة وترتكز على القدرات التي أسسها عليها الوحي. إذن نحن أساس تجمعنا الشرعي هو العقيدة الإسلامية وحدها، هو الأساس الذي يجتمع عليه الطرف الآخر هي القواعد الأربع. إذن نحن عندما ننظر إليها ننظرإليها بهذا المنظار، وهذا المنظار هو وحده الذي يمكمن أن يساعدنا في وجود تشريعات تقوم عليها علاقتنا مع النظام العالمي الجديد والذي يمكننا أن نتعامل معه بناء على هذه السماحة العقدية. وقديمًا كان علماء الغرب الإسلامي عندما يكتبون في الفقه يبدأونه بباب التوحيد (باب العقيدة) فكأنهم يريدون أن يقولوا للعالم: إن هذه التشريعات ما لم تخالف هذه العقيدة فهي سليمة وإذا خالفتها فليست سليمة، إذن معنى هذا ينبغي أن ننظر إلى تشريعنا وأن ننظر إلى النظام الدولي من خلال هذه العقيدة , وإذا نظرنا إليه من خلال هذه العقيدة فسوف نجد القواسم المشتركة التي تساعدنا على التفاهم بناء على النظام العالمي الجديد. وشكرًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1849)
الشيخ عابد السفياني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ما تحدث به كثير من الإخوة الفضلاء كان حديثًا جيدًا، ولي تعليق على بعض البحوث لكنني لا أحدد منها شيئًا وإنما أذكر بعض المسائل التي تحتاج إلى تنبيه.
وهذا الموضوع تختلط كثير من أموره بموضوع الغزو الفكري، وذلك ما تحدث به سعادة الدكتور طه جابر العلواني هو في الحقيقة من صميم الموضوع لأن الغزوالفكري قد دخل إلى قضية العلاقات وأفسد جانبًا من التصور الإسلامي الصحيح في هذا الأمر. لعلنا ـ إن شاء الله ـ نخرج في هذه المرحلة الجديدة بالتعاون مع ما يسمى بالنظام العالمي الجديد على الأصول الثابتة العلمية ولذلك ستكون كلمتي مهتمة بالتقعيد الذي ذكره الفقهاء في هذا الباب، ولست أحجز نفسي في الواقع المعاصر فإننا إذا اجتمع أهل العلم والفكر فإنهم إنما يتحدثون عن ثوابت الإسلام وأصوله؛ لأننا نتحدث عن تصحيح مسار هذه الأمة، وأما الحالات الاستثنائية فهي موضع نظر وبحث ولكنها ليست هي الأصل, والحديث عن الحالات الاستثنائية لا يجيز لنا بحال من الأحوال أن نغفل الأصول التي هي الطريق الوحيد لتصحيح مسارنا. المرحلة السابقة وصل الكلام فيها في حرية الأديان ـ كما هو معلوم ـ وفي التقارب بينها وتمكن من ذلك الغزو الفكري حتى صرح كثير من المشتغلين بالدراسات الإسلامية، كما صرح جمال الدين الأفغاني بأن الأديان يكمل بعضها بعضًا مع أن المعلوم من إجماع علماء المسلمين في جميع القرون أن الأديان لا يكمل بعضها بعضًا وإنما فيها شيء منسوخ ومنها شيء مبدل محرف، والغزو الفكري قد تمكن من هذا الباب، ولذلك نحن بحاجة إلى وعي بالغ في هذه القضية حتى نضع للمسائل الاستثنائية حكمها ونثبت القواعد دون تغيير لعل الأجيال القادمة تأتي وتجد قواعد ثابتة لا يحكم علينا فيها بتزييف أو تضييع لها.(7/1850)
نريد أن نقول دائمًا ـ ومن حقنا أن نقول ـ: إن الإسلام أو نقول: لا إكراه في الدين، ومن حقنا أن نقول: إنما القتال هو لرفع البغي والظلم، ومن حقنا أن نتحدث عن الجهاد وأهدافه السامية، لكن ليس من حقنا أن نتحدث في خارج الأطر الثابتة الشرعية التي قررها علماء الإسلام.
القانون الدولي وتحقيق مقاصده العامة كما يراها الذين وضعوه مع الناحية الواقعية التطبيقية لا يحتاج إلى كثير من الكلام، ومقاصد القانون الدولي الوضعي ـ أيضًا ـ لا يحتاج إلى كثير من الكلام فقد صرح أحد الكبار وهو (جب) في كتابه: (وجهة الإسلام) فقال: المقصد من الغزو الفكري هو إبعاد سلطان الدين عن النفوس. والغزو الفكري قد اختلط بالقانون الدولي والقوانين الوضعية.
أما مقاصد الشريعة الإسلامية فهي معلومة لدى الجميع، لكن ما هو المدخل الصحيح لدراستها؟
دراسة منهج الفقهاء , وهو موضوع هذه الجلسة يحتاج أن ندخل له أولا بتحديد صحة النقل عنهم. الأمر الثاني: الاستقلال في الانطلاقة وعدم الالتزام أو الخضوع للواقع المرير. الأمر الثالث: ملاحظة مقاصد الإسلام جميعًا دون تفريق.
وفي هذه الأطر والثوابت نستطيع أن نتحدث ونخرج الصورة الصحيحة. من هذه الأطر ـ وأشير إليها بإيجاز.
أولا: لا ولاء بين الكفار والمسلمين ولا مودة، وهذه قضية أشار لها بعض الإخوان لكنها تختلط عند بعضهم في بعض البحوث فيخلطون المودة بما جاز في الشرع من البر والقسط والتعامل. والفرق بين المودة واضح وبين البر والقسط والتعامل. ولذلك أشار الأستاذ محمد الناصر إلى ملاحظة جيدة في هذا الباب وبينها وبين أنه لا مودة في نصوص الإسلام ولا يمكن أن تكون هناك ـ كما يقال ـ أمور نفسية أو شيء من المودة أو المودة كما تطلق في بعض الأحيان ولا يمكن أن يختلط هذا المصطلح بمصطلح البر والقسط والتعامل.
فالبر والقسط والتعامل مع الكفار شيء آخر غير المودة وغير الآمال المشتركة.
الأمر الثاني: الإطار الذي بنى عليه الصحابة والفقهاء والأئمة والتابعون ومن بعدهم من أئمة الإسلام أن الجهاد مع كل بر وفاجر خلافًا للقول بأن الجهاد إنما يكون مع العادل أو إنما يكون مع الإمام المعصوم.
الأمر الثالث: أن مقصد الجهاد كما ذكر أيضا الشيخ محمد الناصر في بحثه وهو كلام الفقهاء وإنما أشرنا إليه؛ لأنه نبه إلى ذلك، مقصد الجهاد هو إخضاع دور الكفار للإسلام، وقد يتعجب الناس من هذا القول ويقولون: تتكلم في أي واقع أنت؟! فنقول إن الإسلام تحدث عن عالميته وهو في شعاب مكة وتحدث عن قضاياه الأصلية الصحيحة دون تلبيس وكان ذلك أمرًا واضحًا ثم يستطيع المسلمون بمشيئة الله بما يبذلونه من جهد وصدق لتحقيق أصول الإسلام وشرائعه.(7/1851)
من المقاصد التي نص عليها الفقهاء وهي من خصوص بحثنا ـ في الجهاد ـ قولهم كما نص علماء الحنفية أن الجهاد المقصود به إخلاء العالم من الفساد يساوي قولهم: رفع الفتنة، وقولهم: إن الدين كله لله.
الأمر الرابع: الذي ينبغي التنبيه إليه هو أن القرآن من أوله إلى آخره والسنة النبوية ونصوص الفقهاء دالة على أن الأصل والقاعدة أن تقوم هذه الأمة بنصرة الدين وتحكيم الشريعة ونصرة العقيدة وتخيير الكفار عند القدرة في ثلاثة خصال: الإسلام، أو الجزية وهي الخضوع لسلطان الإسلام، أو القتال.
الأمر الخامس: الفقهاء تحدثوا عن المهادنة وجعلوا لها شروطًا، وجملة شروطهم تعود أنه لا يجوز أن يكون العهد والمهادنة موجب أو يعود على الجهاد بالإبطال، ونصوص الفقهاء واضحة في هذا ولا يمكن أن يضرب بعضها ببعض ولذلك لم يقولوا بشرط دوام المدة، والقول بعدم تحديد العهد لا يعني دوام المدة، فإن العهد إذا لم يكن محدَّدًا حققت شروطه فلا يعني أنه مؤبد. دع عنك مسائل السلام والتطبيع وغير ذلك.
الأمر السادس: وهو إطار مهم جدًّا ونحن نتحدث عن الإسلام والمسلمين ونتحدث للأجيال القادمة أن تقسيم الدور الأصلية ثابت عند الفقهاء ومحل إجماع وليس له علاقة بقضية الحرب والسلم حتى يمكن أن تتغير الأوصاف فإن الأوصاف التي تتغير من الحرب إلى السلم هي الأوصاف التبعية أما الأوصاف الأصلية وهي دار الإسلام ودار الكفر، فلا تزال ما دام هناك مسلمون وهناك كفار. فلا يجوز أن تخلط هذه المفاهيم بعضها ببعض ولا مكان لما يسمى بالنظام العالمي الجديد أمام هذه القسمة الثابتة التي تجعل للمسلمين دارهم وشريعتهم وولاءهم وتميزهم وتوجههم.
وأما الحديث عن العمومات من الأمال المشتركة ومعروف أن ضحية ذلك هم المسلمون، والواقع المرير لا يمكن أن نتحدث عنه في هذه العجالة، فالمسلمون هم الضحية، كما أشار الدكتور طه العلواني في مقدمة ضافية ووعي واضح جدًّا أن المسلمين هم الضحية الوحيدة لمسألة ما يقال بالنظام العالمي الجديد. من الأسباب التي أدت إلى اختلاط المصطلحات بعد الغزو الفكري وما أشرنا إليه من ترك المنهجية العلمية الثابتة في هذا الباب وقد استفاد من المنهجية العلمية كثير من الباحثين وثبت هذه الأمور.(7/1852)
من الأسباب الأخرى الخلط بين كلام الفقهاء في العلة في الجهاد والعلة في القتل، ولذلك لا يجوز أن نضع مكان الجهاد الحرب لأن الحرب جزء من الجهاد فينبغي أن تكون القاعدة هي الجهاد. والجهاد بالثلاثة الأمور التي يخير فيها، وأما الخلط بين قضية مقصد الجهاد عند الفقهاء ومقصد القتل أو العلة في القتل هذا خلط كبير أدى ضياع الصورة الصحيحة ونحن نتحدث وننقل كلام أهل العلم في هذا الباب، فإن العلة في الجهاد هي مقاصد الجهاد التي سبق ذكرها والتي أشرت إليها وقد أشير أيضًا في نهاية حديثي عن شيء منها لم أشر إليه من قبل. وأما تحديد العلة في القتل فهي المقاتلة فنقلت العلة في القتل إلى العلة في الجهاد أو العلة في القتال، وفرق بين العلة في الجهاد ومقاصد الجهاد وبين العلة في القتل؛ لأنه لا يقتل إلا من قاتل وعلى ذلك تخرج نصوص الفقهاء في هذا المجال. ومما ينبغي التنبيه إليه أن هناك رسالة اعتمد عليها بعض الباحثين منسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية اعتمد عليها الدكتور عبد العزيز الخياط، وهذه الرسالة من أولها إلى آخرها مبنية على الفرق بين العلة في القتال والعلة في القتل , والتسوية عدم إدراك الفرق بينها والتسوية بين هذا وهذا حتى قالوا: إن العلة في القتل هي المقاتلة ونقلوا هذه العلة إلى مسألة الجهاد، وبنيت هذه الرسالة على هذا الأساس ومقارنتها بكتب شيخ الإسلام مجتمعة تدل على أن هذه الرسالة لا يصح نسبتها إليه، ولذلك العلة في الجهاد عند شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المقاصد الكبرى التي تحدث فيها كثير من الإخوان، وهذه الرسالة بحثها بعض الباحثين وأثبت عدم نسبتها وهو الشيخ سليمان بن حمدان.
من الأمور المهمة أيضًا ونحن نتحدث عن العلاقات بين المسلمين والكفار أن نستنقذ المسلمين إلى المفاهيم الصححية؛ لأن هذا هو الحل وهذا هو الصحيح. سنعيش فترة معينة لا ندري كم تطول في حالة التيه والغثاء الذي نحن فيه، لكن لا بد من إبراز الصورة الصحيحة للإسلام والمفاهيم الإسلامية لعلنا ـ إن شاء الله ـ نستطيع أن نخرج من هذا الذي نحن فيه ونسلم للأجيال القادمة تراجم للعلماء الذين يتحدثون عن قضايا الإسلام في هذا العصر الآن فيجدون تراجمهم وهم يتحدثون عن الإسلام بصورته الصحيحة.(7/1853)
لا بد من حديث مختصر عن مقاصد الشريعة والكليات الإسلامية والعقيدة الصحيحة لنعيش بالحق وللحق، وهو مقصود الإسلام الذي نعيش له وبه.
من الأمور المهمة في دراستنا للعلاقات الدولية وفي نظرنا أيضًا إلى أمورنا الداخلية، أولا: أن نثبت المقاصد المشار إليها في العلاقات بين المسلمين وغيرهم. وقد سبق شيء منها.
والأمر الثاني: وهو مهم أيضا تبغيض عبادة غير الله للناس عامة.
الحديث عن الآمال المشتركة أو ـ كما تفضل الدكتور طه العلواني ـ عدم فهمنا لأعدائنا وما يريدونه منها لا يجعلنا نوقف المسلمين على الإسلام الصحيح تبغيض عبادة غير الله سواء من الأديان المبدلة أو من المظاهر المنحرفة عن الشريعة الإسلامية , ومعلوم أن الأديان منسوخة , وأن الموجود الآن في العالم إما قديم منسوخ وإما قديم مبدل وإما جديد شرع من دون الله، والتشريع من دون الله هو أفة البشرية، فإن التشريع من دون الله هو الذي جعلهم يختارون غير الإسلام أو يبدلون الذي اختار الإسلام يبدل في داخل الإسلام حتى يكون تبديله قد غير حقيقة الإسلام. وخطر التشريع من دون الله يكفي فيه قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} .
وهي قضية تتصل بالأمور الإجماعية عند العلماء وهو أنه لا يجوز نقل الحكم المحرم عن صورته المشروع للممنوع ولا الممنوع للمشروع، وشأن التشريع من دون الله هو نقل المشروع ليكون ممنوعًا والممنوع ليكون مشروعًا في جميع المجالات أو في أكثر المجالات سواء ما يتعلق بالأمور الضرورية أو الحاجية أو التحسينية.(7/1854)
الأمر الثالث: وهو مهم جدًّا، الدعوة إلى تمييز المسلمين عن غيرهم وهذا أمر لا غبار على المسلمين أن يطلبوه, وليست مهمتنا هي إدخال هذه الأمة في الأمم الأخرى حتى كما هو الحال، فالشريعة الإسلامية بدلها القوانين الوضعية ـ والولاء لله ولرسوله والمسلمين واعتصامهم بحبل الله الميتن بدله ـ والعياذ بالله ـ الولاء للكفار والدخول في مناهجهم، ليست مهمتنا هي إدخال هذه الأمة في الأمم الأخرى وإنما مهمتنا هو تثبيت هذه الأمة على أساسياتها العقائدية والتشريعية ثم بعد ذلك الانتقال لدعوة الأمم الأخرى.
والدعوة إلى تمييز المسلمين عملًا بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} .
تمييزهم بشريعتهم وولائهم واجتماعهم على ذلك وأخذ حقوقهم وجمعهم على شريعة الله واستقلال توجههم واجتماعهم على كلمة سواء هو الأمر الذي ينبغي أن يعتني به المسلمون ويدرسون من خلاله التأصيل الصحيح للعلاقات الدولية , ويكون للمسائل الاستثنائية كلامها الخاص الذي لا يعود على الأمور الأصلية بالتشويش أو الإبطال.
المناهج الموجودة في العالم مناهج محادة لله ولرسوله، فلا يمكن أن يطوع المسلمون ليتعايشوا مع هذه المناهج أو تكون بينهم وبين هذه المناهج آمال مشتركة.
لا أطيل في هذا الموضوع ولكنني أعود فأقول: إن المنهجية العلمية وهي التي ينبغي أن تحكم دراستنا لقضايا الإسلام وهي التي ينبغي أن نقدم بها قضايا الإسلام، كما هي واضحة جلية ويكون للأصل حكمه وللاستثناء حكمه ونقدم الإسلام بصورته من خلال مقاصد الشريعة مجتمعة لتصحيح الاعتقاد وإقامة الشريعة وجمع المسلمين على ذلك وتقديم الصورة الصحيحة للإسلام في جميع المجالات سواء في العلاقات الدولية أو غيرها. وألا نكون نهبًا لمبادئ الكفار ونِحَلِهم وضلالاتهم وخططهم التي ما جنى المسلمون منها إلا الشر والفساد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله وأتوب إليه وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(7/1855)
الشيخ محمد الزياني:
بسم الرحمن الرحيم. أحمدك ربي وأصلي وأسلم على خير خلقك محمد وعلى آله وصحبه.
أبدأ بأن أؤكد على ذلك الاقتراح القيم الذي تقدم به الأخ من السودان الشقيق وأتمنى وآمل من الله العلي الكريم أن يشرف مجمع الفقه الإسلامي بأن يكون الباديء في هذه الخطوة الكبيرة التي نراها بداية الطريق لتضميد جراح العالم الإسلامي الذي أصبح يعاني الآن من حالة الفقدان.
أيها الأخوة، كان بودي ونحن نتحدث عن الحقوق الدولية في الإسلام أن نستشعر هذه الخطوة التي سار عليها المجمع في طرح هذه القضايا وهذا يدل ـ كما اعتقد ـ على وعي كبير بأهمية هذه القضايا وعلى تقدير لها، وعلى حرص المجمع على أن يناقش العالم الإسلامي في مختلف مستوياتها، كان بودي أن نؤكد على هذا التوجه لهذا المجمع وفي هذا الإطار أشكر كل الشكر القائمين على هذا المجمع لما أثاروا هاتين القضيتين: قضية الغزو الفكري، وقضية الحقوق الدولية في الإسلام.
أما ما يخص قضية الحقوق الدولية في الإسلام فإني أقول: إنه هناك الكثير مما يجب أن يقال ولكني شخصيًّا، حرصًا على مهابة هذا المجمع، وحرصًا على توجهاته، فإني سأختصر مداخلتي في بعض النقاط البسيطة. هذه النقاط تتوجه نحو الأبحاث، والسؤال على أي شكل وبأي منهج تم بحث الحقوق الدولية في الإسلام في هذا الوقت؟ أهو من خلال ما تفضل به الشيخ التسخيري من خلال المفترض أم من خلال الواقع؟ أهو من خلال التراث أم من خلال الواقع المعاش؟(7/1856)
أعتقد أن معظم الأبحاث قد توجهت إلى معالجة هذا الموضوع من خلال التراث، من خلال ما هو موجود في النظام الإسلامي حول الحقوق الدولية أو العلاقات الدولية في الإسلام. وأعتقد ـ كما أنت أعلم ـ أن هذا الموضوع يمثل أنصع نقطة في نظامنا الإسلامي ذلك أن الإسلام شهد مرحلة حياة مزدهرة أدت إلى وجود نظام للعلاقات الدولية يمكن لنا نحن المسلمين أن نفتخر به وأن نقول إننا نملك النظام الأمثل في هذه العلاقات. والصور الكثيرة في التاريخ الإسلامي التي تدل على نصاعة وقوة وعظمة هذا النظام أنتم أعلم بها ولا أريد أن أشوش وقتكم أو آخذ من وقتكم في ذكرها، لكن المشكلة هي أن هذا النظام ظل طوال الوقت رهين مجتمعاتنا الإسلامية وحتى إن تناولته ندواتنا أو مجامعنا أو مؤسساتنا فإنما تتناوله من خلال تقديم ورقات تحاول أن تعيد ما اشتملت عليه الكتب والندوات والأبحاث من علوم ومعارف تفسر هذا النظام ولكن المشكلة لم نتوجه بهذا التراث الناصع الجيد، وبهذا النظام القوي إلى الغرب، لم نحاول أن نترجم ما عندنا ليفهم الغرب ما هو موجود في النظام الإسلامي. وهنا أود أن أشير إلى نقطة اختلف معها مع الدكتور طه جابر العلواني في المعرفة الإسلامية للغرب صحيح أن الغرب يعرف الإسلام أكثر من المسلمين أنفسهم، ولكن هناك مستويين من المعرفة: المستوى الرسمي والمستوى الشعبي، أم المستوى الرسمي فقد سخرت له كل الظروف وكل الإمكانيات من أجل معرفة أشياء دقيقة قد لا تتصورون أن يكون هناك البحث فيها خاصة إذا جئنا للتوجهات البحثية عند النظام الصهيوني لو كشف لنا ما عندهم من توجهات بحثية لرأينا عجبًا أن هناك قضايا دقيقة وجزئية يبحثها هؤلاء حول الإسلام ولا نعير لها اهتمامًا. أما المستوى الآخر من المعرفة الغربية للإسلام وهو المستوى الشعبي فأنا أؤكد وأعتقد جازمًا أن الغرب في مستوياته الشعبية لا يعرف عن الإسلام إلا كل شرٍّ؛ لأن الآلة الإعلامية الغربية قد سخرت لتقديم المسلم في صور متعددة أنتم أعلم بها، ولو وجد إعلام إسلامي بمعنى الكلمة لاستطاع أن يقنع الغربيين في مستوياتهم الشعبية بما هو الإسلام؟ ما هي عظمة الإسلام؟ وفي هذا الإطار يحضرني مثال واحد. فيلم واحد عن جهاد شيخ مجاهد من مجاهدي الإسلام شد أنظار الغربيين لأشهر متعددة وهم يتدافعون حول دول العرض من أجل مشاهدة هذا الفيلم وأثره حتى في أطفالهم، فماذا لو نحن امتلكنا آلة إعلامية غربية تحاول أن تقدم كتابًا أو فيلمًا عن نظام الحقوق في الإسلام، الحقوق الدولية في الإسلام ما هي؟ حقوق الفرد، حقوق المجتمع، حقوق الدولة ما هي؟ الغرب يجهل كل شيء في مستوياته الشعبية. أما المستوى الرسمي فهم صحيح أنهم يعلمون كل شيء. وفي هذا المجال أود أن يقترح على المجمع أن يتبنى فكرة ترجمة كتاب عن الحقوق الدولية في الإسلام، عن حقوق الفرد، عن حقوق المجتمع، عن حقوق الدول في الإسلام وفي تعاملها وفي هذا الإطار أيضًا أرجو أن يتوجه المجمع لنقطة لم تتناولها البحوث على الرغم من أهميتها وهي حقوق الأقليات في النظام الدولي الإسلامي، حقوق الأقليات في المجتمعات الإسلامية تلكم القضية التي أعتقد أنها هي القنبلة الموقوتة التي سيكون محاربة الإسلام من خلالها في الأشهر القريبة القادمة وستعلمون ذلك إن شاء الله، هذه الأقليات ستستخدم ضد الإسلام والمسلمين، وما أحوجنا إلى أن نوجه أنظار العالم إلى أن المجتمع الإسلامي له أمثل النظم في معاملة الأقليات في مجتمعاته الإسلامية.(7/1857)
أما على صعيد ما توجهت إليه الأبحاث من ناحية الواقع ـ ذلك من خلال التراث ـ أما من خلال الواقع فلا أعتقد أن الأبحاث قد تناولت ذلك باستفاضة , ولعلي ربما لم أطلع عليها ولكنني سمعتها من خلال العرض الذي تفضل به الشيخ محمد علي التسخيري.
هل هناك حقوق دولية معاصرة الآن؟ هذا سؤال يجب أن نتوقف عنده. ومن وضع هذه الحقوق الدولية؟ وله نحن المسلمون لنا مساهمة في وضع هذه القوانين؟ من الذي يمثل هذا القانون الدولي؟ هل هي الأمم المتحدة أم مجلس الأمن، أم من؟ بمعنى ما هو الإطار الذي نجد فيه الحقوق الدولية في المجتمع المعاصر وخاصة في ظل هذا الوضع الذي نحن فيه الآن، في ظل انهيار الشيوعية وانحسار الحكم في العالم إلى قطبية آحادية نتج عنها شرعية دولية تغيرت فيها المفاهيم وتغيرت فيها الأوضاع رأسًا على عقب وأصبحنا نحن المسلمين ـ كما تفضل بعض الإخوان ـ بأننا المستهدف الوحيد في النظام العالمي الجديد؟ ثم هل ترك النظام العالمي الجديد إمكانية لأن نتحدث نحن المسلمين على الأقل على حقوق دولية؟ هذه بعض أسئلتي كان بودي لو تناولها الباحثون وفي هذا المجال وكنت أود وكنت حريصًا جدًّا على ألا أثير أي قضية تتعلق ببلدي ولكني ومن خلال ما سمعت من آراء برز في ذهني الآن تساؤل وفق الحقوق الدولية في الإسلام، ووفق المعاصرة للحقوق الدولية وفق الشرعية الدولية الجديدة، نطالب الآن بتسليم مسلمين اتهما على فرض أنهما أذنبنا، فهل يجوز لنا شرعًا أن نقدم هذين المسلمين إلى بلد كافر ليحاكما فيه وفق قانون بعيد عن شريعتنا؟ طولبنا ـ وهذا كلام بعيد عن أزمة الخليج هو معاصر ـ طولبنا بأن ندمر أسلحتنا فهل هذا مشروع لنا وفق حقوقنا الدولية في الإسلام؟ هل هذا يتوافق مع قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} .
هل يصح لنا شرعًا أن ندمر أسلحتنا؟ هذه بعض الملاحظات وددت أن أتوجه بها إلى البحاث لا إلى المجمع. ولكن الشكر كل الشكر وللمجمع كل التقدير.(7/1858)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
لعل جلستنا اليوم كانت جلسة متميزة كما أحس كلنا بذلك إذ أنها تناولت قضايا يحس بها كل واحد منا إحساسا ذاتيًّا، إحساسًا خاصًّا، وتناولت جلستنا هذه مواضيع وبحوثًا مؤصلة ومركزة ليست شخصية وإنما هي أصلية. وكلمتي مع تقديري لكل ما استمعت هي موجهة للأمانة العامة ثم لرئاسة المجلس هو أن هذا المجلس نتكلم فيه بكل حرية في كل ما يختلج في نفوسنا ولكنه من ناحية أخرى هو مضبوط بقواعد وبأطر وبأسس في إنشائه، وفي أهدافه ويحدد له غاياته ووسائل بلوغ تلك الغايات، ولذا فإني أريد فقط بالنسبة للذين سيتولون صياغة القرارات أو التوصيات أن يلائموا دومًا بين هذه المبادئ التي قام عليها المجمع والتي هي خط لا يجوز الخروج عنه وبين القرارات المتخذة. وشكرًا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم:
نظرًا لانتهاء الوقت بل لتجاوزه نأتي على اختتام هذه الجلسة ونقول: إنه في الدورة الخامسة لهاذا المجمع صدر قرار بشأن النظام للجنة الإسلامية للقانون الدولي الإسلامي وأنه يكون من مهام هذا المجمع حسب ما أحالته إليه المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية. وقد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة من كل من: الشيخ طه العلواني، الشيخ عابد السفياني، الشيخ معروف الدواليبي، الشيخ محمد على التسخيري، والمقرر الشيخ رأفت سعيد لصياغة قرار ويكون من مشمولاته أن يعهد للأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بأن تؤلف لجنة على مستوى الإدراك والفقه والعلم والتخصص في مجال الحقوق الدولية لتضع صياغة معينة ومحاور رئيسة تعدها إعدادًا وصياغة للحقوق الدولية في الإسلام ثم تعرض على المؤتمر في دورة لاحقة ـ إن شاء الله تعالى ـ موافقون؟
وبهذا نرفع الجلسة والشيخ الحبيب له كلمة.
الدكتور محمد عطا السيد:
سيدي الرئيس أنا تقدمت باقتراح لتكوين لجنة معينة وأظن ثُنِّي هذا الاقتراح ولا أدري لماذا تجاهلت الرئاسة هذا الاقتراح؟
الرئيس:
ليس اقتراحك هو الوحيد وإنما هناك مجموعة اقتراحات والمقرر يكتب يا شيخ عطا جميع الاقتراحات ولجنة الصياغة تعد ـ إن شاء الله تعالى ـ ما يمكن التوصل إليه.(7/1859)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 70/ 6 / 7
بشأن
الحقوق الدولية في نظر الإسلام
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 ـ 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: " الحقوق الدولية في نظر الإسلام".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، رأى ما يلي:
أولا:
يثني المجلس على الجهود المشكورة التي بذلت في البحوث التي قدمت ونوقشت في دورته السابعة حول هذا الموضوع، وقد رأى أن الموضوع من الأهمية والسعة بحيث يدعو إلى مزيد من البحث والدراسة في الجوانب المتعددة التي ما زال الموضوع في حاجة إليها.
ثانيًا:
يتقرح المجلس تشكيل لجنة تحضيرية لإعداد ورقة عمل لندوة متخصصة تعقد لمعالجة تفاصيل هذا الموضوع والخروج بمشروع لائحة للحقوق الدولية في الإسلام تعرض على المجلس في دورته القادمة.
ثالثًا:
يقترح المجلس أيضًا أن يكون من محاور ورقة العمل ما يلي:
1 ـ مصادر القانون الدولي الإسلامي والعلاقات الدولية وهي: القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتطبيقات العملية عند الخلفاء الراشدين، كما يستفاد من اجتهادات الفقهاء في هذا.
2 ـ المقاصد والخصائص العامة للشريعة الإسلامية، والتي تترك أثرها العملي على المواقف كلها:
(أ) المقاصد الشرعية.
(ب) الخصائص العامة.
3 ـ مفهوم الأمة ووحدتها في الإسلام.
4 ـ مذاهب الفقهاء في أقسام الديار.
5 ـ الجذور التاريخية للحالة القائمة في العالم الإسلامي.
6 ـ علاقات الدولة الإسلامية في داخلها (الشعب والأقليات) .
7 ـ علاقات الدول الإسلامية بالدول الأخرى.
8 ـ موقف الدولة الإسلامية من المواثيق والمعاهدات والمنظمات الدولية.
رابعا:
يقترح المجلس على اللجنة التحضيرية أن تقوم بوضوع أوراق شارحة يسترشد بها الباحثون في تفصيل هذه المحاور وأن يكون ذلك في خلال الأشهر القادمة.
والله ولي التوفيق.(7/1860)
رسالة
معالي الدكتور محمد معروف الدواليبي
حول
الغزو الفكري
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي في منظمة المؤتمر الإسلامي، سيادة الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة، حفظه الله:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فإنني حين استجبت لدعوتكم الكريمة لحضور هذه الدورة السابعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي في جدة، لم أكن أنوي أن أقدم كلمة لي في أحد موضوعات هذه الدورة.. غير أنني في الأسبوع الماضي، وبتاريخ 3/ 5/ 1992، حين كنت أعد الحجز للقدوم إليكم، حملت إلينا الأخبار العالمية خبر ندوة " أمريكا والإسلام وتحديات التسعينات" التي قد نظمها قبل أيام "معهد دراسات الشرق الأوسط الأمريكي في واشنطن "، وما قد جاء فيها من توصيات أعدتها لهذه الندوة "لجنة العمل الأمريكية الإسرائيلية المعروفة ـ إيباك ـ"، والتي اعتبرت في هذا الوقت تصعيدًا جديدًا مقصودًا لتشويه حقائق الإسلام، والزعم بأنه يهدد الحضارة الغربية!! وأن الإسلام قد أصبح بعد سقوط الشيوعية هو العدو الأول، والتحدي الوحيد للغرب!! كما قد نشرته جريدة الشرق الأوسط العربية الدولية بتاريخ 3/ 5/ 1992م على الصفحة (16) منها.
ويؤسفنا جدًّا أن هذه التوصيات الإسرائيلية قد جاءت اليوم ونحن في مرحلة يسعى فيها العالم إلى إقامة نظام عالمي جديد يدعو إلى التعايش فيه بين جميع الأمم والشعوب في أجواء تسود فيها الدعوة إلى التعاون والعمل المشترك لخير المجمع الإنساني كله، بعيدًا عن الأحقاد والعصبيات والصراعات العقائدية والإيديولوجية.(7/1861)
كما يؤسفنا أن هذه المخاوف قد عبرت عنها اليوم عدة مراجع وشخصيات عالمية سياسية في الغرب من قبل ومن بعد.. ومنها "مجلة الشؤون الدولية" بتاريخ يناير (كانون الثاني) 1990م، التي تصدر من كمبردج في إنكلترا، وهي من أهم المجلات الأكاديمية المتخصصة. وكذلك فعل الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون في كتابه "الفرصة السانحة"، وخاصة ما قد جاء فيه من أن الكثيرين من الأمريكيين قد أصبحوا ينظرون إلى المسلمين كأعداء وإنهم شعوب غير متحضرة، ودمويون، وغير منطقيين!! وكذلك ما قد جاء فيه من الدعوة إلى مواجهة "الأصولية الإسلامية" المصممة على العمل لتطبيق الشريعة الإسلامية!! وعلى أن الإسلام دين ودولة.. مع شكواه أخيرًا من أن بعض زعماء المسلمين يسيطرون بالمصادفة على ثلثي البترول في العالم. ويضاف إلى ذلك كله أيضًا ما قد نشرته أخيرًا مجلة "نيوزويك" الأمريكية في عدد 2 يوليو (تموز) 1990م من حديث لوزير خارجية إيطاليا "جياني ديمكنس"، وكان حينذاك يشغل رئاسة المجلس الأوروبي للمجموعة الأوروبية، حيث قال: بلزوم "بقاء الحلف الأطلسي" بعد انهيار الشيوعية، وذلك: "لأن المواجهة بعد الشيوعية يمكن أن تكون مع العالم الإسلامي".(7/1862)
ولذلك كله، فقد رأيت أن أسارع إلى لفت نظر السادة أعضاء "مجلس الفقه الإسلامي" في جدة إلى تلك التوصيات الإسرائيلية الخطيرة الصادرة من ندوة "معهد دراسات الشرق الأوسط الأمريكي في واشنطن ". وكذلك أيضًا إلى تلك التشويهات لحقائق الإسلام الإنسانية من قبل شخصيات سياسية كنا نجلهم أن يقعوا فيها، راجيًا من مجمع الفقه الإسلامي الكريم أن يتخذ ما يراه مناسبًا وحكيمًا تجاه تلك التشويهات والتوصيات، لا بالرد الصحفي والإعلامي المثير، وإنما فيما أرى بدعوة "معهد الدراسات" المذكور، وكذلك تلك الشخصيات الكبرى إلى حوار علني ودي لديهم ضمن أدب الحوار القرآني الإسلامي من أجل السلام العالمي الذي أمر به الله سبحانه وتعالى حيث قال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وحيث قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وذلك من أجل التعارف الذي أمر به الله فيما بين الشعوب. ومن أجل التعريف بحقائق الإسلام السلمية، ورسالته العالمية الإنسانية: العقلانية الخطاب، والعلمية في الحوار، والداعية لجميع الأمم والشعوب قبل أربعة عشر قرنًا إلى نظام عالمي جديد إنساني، يقوم على التعاون والتكافل في شؤون الحياة الكريمة فيما بين جميع بني الإنسان على اختلاف الأعراق، والأجناس والأوطان، والأديان، وعلى أساس: "إن الخلق كلهم عيال الله، وإن أحبهم إليه أنفعهم لعياله" كما أعلنه رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، ما لم يقاتلونا في الدين أو يخرجونا من ديارنا.. ويسرنا أن نعلن أن كل ما عدا ذلك هو جهل بحقائق الإسلام، بل افتئات عليه، وداع إلى الإفساد في الأرض، وإننا لدعوة "معهد دراسات الشرق الأوسط في واشنطن" للحوار لمنتظرون، إن كانوا لخير الأسرة البشرية عاملين وفي ذلك فليتنافس المتنافسون..
الدكتور محمد معروف الدواليبي(7/1863)
دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلامي
بداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهته
إعداد
الدكتور عبد السلام داود العبادي
ممثل المملكة الأردنية الهاشمية
في مجلس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله الكريم وبعد.. فهذه دراسة عامة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلامي تعرض بإيجاز لبداياته ودوافعه وأبعاده والنتائج التي حقها في بلاد المسلمين مع عرض موجز لسبيل مواجهته، أقدمها للدورة السابعة لمجمع الفقه الإسلامي راجيًا أن ينفع بها وأن تساعد في تكوين تصور شامل للخطة اللازمة لمواجهة هذا الغزو ليس في العالم الإسلامي فحسب إنما في كشف تجنيه على الإسلام وعمله على تشويه مبادئه وقيمه في جميع أنحاء العالم، وفاء بواجب الدعوة إلى هذا الدين الذي شاء الله سبحانه أن يكون خاتمة الرسالات الإلهية وللناس كافة وحرصًا على إحقاق الحق ووضع الأمور في نصابها العلمي الصحيح وبخاصة أن عصرنا هذا يدعي بأنه عصر الموضوعية والأمانة في مجالات العلوم والمعرفة.
والواقع أن المواجهة الفكرية التي يتعرض لها الإسلام مواجهة شاملة وشرسة تتطلب الإعداد والتخطيط وبذل للجهود الواسعة المضنية في مجالات التأليف والبحث والنشر والإعلام والاستفادة من كل وسيلة متاحة لعرض المواقف الإسلامية بأمانة وموضوعية ورد كل الشبهات والمطاعن التي افتعلها ويفتعلها أعداء الإسلام حوله.
وإني أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون في هذه الدراسة مشاركة في هذا الواجب الكبير.(7/1864)
بدايات الغزو الثقافي:
بدأت ملامح الغزو الثقافي تظهر بوضوح عقب الاتصال الذي تم بين الإسلام والغرب في الأندلس، فهنالك اطلع الغرب على حقيقة الإسلام فأخذ ينتشر بينهم في أوروبا انتشارًا سريعًا فأراد المستنفذون فيه من حكام ورجال دين أن يوقفوا انتشاره، فندبوا الكثيرين لدراسة الإسلام: دراسة المفتعل للمطاعن والمدعي لها هادفين شرحه إلى قومهم شرحًا منحرفًا وذلك حتى يوقفوا انتشاره الذي أخذ يكتسح أوروبا اكتساحًا يسهل عليه ذلك ما كانت تعيشه أوروبا من اضطهادات من الكنيسة ورجالها ومن الحكام وأعوانهم (1) ، يقول سيرت أرنولد: " ولقد بلغ من تأثير الإسلام في نفوس معظم الذين تحولوا إليه من مسيحي أسبانيا مبلغًا عظيمًا حتى سحرهم بهذه المدنية الباهرة واستهوى أفئدتهم بشعره وفلسفته، وفنه الذي استولى على عقولهم وبهر خيالهم، كما وجدوا في الفروسية العربية الرفعية مجالًا فسيحًا لإظهار بأسهم وما تكشف عنه هذه الفروسية من قصد نبيل وخلق قويم. أضف إلى ذلك أن علوم المسيحيين وأدابهم لا بد أن تكون قد بدت فقيرة ضئيلة إذا ما قيست بعلوم المسلمين وأدابهم التي لا يبعد أن تكون دراستها في حد ذاتها باعثًا على الدخول في دينهم" ويقول أيضا: "ولما كان أشهر رجال الدين قد تأثروا تأثرًا عميقًا من جراء اتصالهم بالمسلمين جاز لنا أن نحكم بأن تأثير الإسلام في مسيحي أوروبا كان عظيمًا وليس أدل على صحة هذا القول من التفكر في عقد ذلك المجمع بمدينة طليطلة سنة 936م للبحث في أحسن الوسائل التي تحول دون أن تفسد هذه العلاقات من صفاء الدين المسيحي ونقائه (هكذا!!) .
ويقول: " من ذلك نستطيع أن ندرك بسهولة كيف أن عوامل التأثير في الآراء وإقامة الشعائر الإسلامية بالإضافة إلى هذه الجهود الواضحة التي بذلت في سبيل تحول هؤلاء المسيحيين قد
أدت إلى ما هو أكثر من مجرد التقارب والاتصال بل إنها سرعان ما عملت على زيادة الداخلين في الإسلام" (2)
__________
(1) يراجع في ذلك كتاب الدعوة إلى الإسلام: ص 116، وما بعدها
(2) الدعوة إلى الإسلام: ص 123 ـ 124.(7/1865)
فالإسلام دين الفطرة والعقل تتقبله العقول السليمة البعيدة عن التعصب بكل يسر وهو دين السهولة والبعد عن الخرافات والتعقيد، وهو الدين المنظم لكل ناحي الحياة الإنسانية، فحقيقة الإسلام وأنظمته هي التي يسرت لها هذا الانتشار السريع في كل مكان يقول الفيلسوف الإنكليزي الشهير كارليل: "وما كاد يظهر الإسلام حتى احترقت فيه وثنيات العرب وجدل النصرانية وكل ما لم يكن بحق كان حطبًا ميتًا أكلته نار الإسلام" (1) .
ويرى المستشرق الألماني كارل بكر أن السبب في الحروب الصليبية هو أن الإسلام لما انبسط في العصور الوسطى أقام سدًّا في وجه انتشار النصرانية ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها (2) .
لذلك اقتنع رجال الكنيسة وملوك أوروبا بأن مد الإسلام يهددهم في عقر دارهم فسلكوا في مواجهته سبيلين: سبيل الحرب العادية، وسبيل الحرب الفكرية المتجنية، وكثيرًا ما تلاقى هذان السبيلان.
__________
(1) عن كتاب آراء مشاهير كتاب الغرب في الإسلام: ص 22
(2) التبشير والاستعمار: ص 36(7/1866)
سبيل الحرب العادية:
فالسبيل الأول فشلت فيه أوروبا كثيرًا، فلقد استطاع الإسلام في سنتين أن يثبت أقدامه في أوروبا لمدة ثمانية قرون، هذا في غرب أوروبا، وفي شرقها استطاع أن يستولي على مركز الكنيسة الشرقية في القسطنطينية. واستطاع الإسلام أيضًا أن يقضي على الحملات الصليبية الأولى قضاء مبرمًا وهو في هذه الأيام يقضي على الحملات الصليبية الثانية الواحدة تلو الأخرى.
فهو حطم صليبية فرنسا في الشمال الأفريقي وغيره من المناطق، وصليبية بريطانيا في دول إسلامية عديدة، وها هو قد بدأ يعود إلى صفوف اتباعه كلهم روحًا دافعة تعيدهم إلى رحاب الحق وتنشر بهم كل خير. وإن وصف هذه الاحتلالات الاستعمارية الحديثة بالصليبية ليس تجنيًا من غير دليل , بل يكفي دليلا على ذلك:
ـ القول المشهور الذي قاله الجنرال الفرنسي غورو قائد القوات الفرنسية التي دخلت دمشق بعد الحرب العالمية الأولى عندما زار قبر صلاح الدين الأيوبي "ها قد عدنا يا صلاح الدين" (1) .
ـ قول الجنرال اللنبي عندما دخل القدس في فترة الحرب العالمية الأولى سنة 1918م "اليوم انتهت الحروب الصليبية" (2) .
ـ ما قاله جورج بيدو الذي تولى وزارة الخارجية الفرنسية سنة 1963م: "أنه لن يترك الهلال يتغلب على الصليب" (3) .
ـ ما اعترف به الفرنسيون من أن الإسلام هو الذي يخيفهم في أفريقيا مثل قول "غي موليه رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق": "إن الحركة الإسلامية التي تتسع في أفريقيا هي التي تهدد الإمبراطورية الفرنسية في المغرب " (4) .
ـ ما فعله هؤلاء المحتلون من اضطهادات للمسلمين ومحاربة للإسلام في جميع المناطق التي احتلوها وذلك ليسهل عليهم البقاء فيها.
ـ يقول زايير: "إن شعوبنا هي الوحيدة التي أرادت أن تحمل إلى الشرق عقائدنا وآراءنا كما تحمل إليه تجارتنا فكأننا نريد أن نستعمره في كل شيء" (5) .
ـ تشجيع هؤلاء المحتلين للمبشرين تشجعًا كبيرًا مما هو معروف على مستوى العالم الإسلامي، بل ظل تشجيعهم حتى بعد أن استقلت البلاد الإسلامية بحجج الثقافة ونشر العلوم والمساعدة في الإغاثة وعون المحتاجين وعلاج المرضى وغير ذلك من الحجج.
__________
(1) التبشير والاستعمار: ص 36
(2) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي
(3) عن كتاب التبشير والاستعمار: ص 178 نقلا عن مصادر غربية
(4) عن كتائب التبشير والاستعمار: ص 178 نقلًا عن مصادر غربية
(5) التبشير والاستعمار: ص 38(7/1867)
سبيل الحرب الفكرية المتجنية:
وأما السبيل الثاني والذي هو سبيل الحرب الفكرية المتجنية فقد كان فرسانها الأوائل الرهبان الذي كان العلم مقتصرًا عليهم في أوروبا، فأخذ هؤلاء يشوهون حقائق الإسلام ويعرضونها عرضًا منفرًا على الأوروبيين، وألفوا ودبجوا في ذلك المقالات والكتب والصحف فأغروا قلوب المسيحيين على الإسلام وزرعوا فيهم حقدًا وضغينة أصبح فيما بعد من البدهيات عندهم والذي نرى أثره حتى إلى هذه الأيام، فلقد بلدوا الشعور الغربي نحو المسلمين فأصبحوا لا يتحركون لما يصيب المسلمين من كوارث ومصائب وذلك لما ترسخ في نفوسهم من حقد ورغبة في انقراض المسلمين.
وسائلهم:
ثم تبع هؤلاء الرهبان في عملهم هذا خلق كثير تخصص في ذلك ووقف حياته عليه، ويدلل على مدى الجهد الذي بذلوه في حربهم هذه عدد الكتب والمؤلفات التي أصدروها لهذه الغاية , فإن خيال الإنسان قد لا يطيق تصور عدد الكتب التي ألفوها والنشرات الي طبعوها والمجلات والجرائد التي أصدروها طاعنين ومتهكمين ومستهزئين بكل مظاهر الإسلام , حتى أن القارئ لكثير مما كتبوا لا يستطيع منع نفسه من الضحك على جهلهم بل تجاهلهم لحقائق الإسلام.
ومثال ذلك الكتاب الذي ألفه بوديه سنة 1625م مؤرخًا عن الإسلام وهو الكتاب الفرنسي الأول عن الإسلام والذي منه وقف الفرنسيون على حقيقة الإسلام ولقد اعتمد مؤلفه على الكهنة البيزنطيين والأسبان , وهؤلاء هم الذين احتقروا الإسلام والمسلمين احتقارًا وأسفروا لهم عن حقد وضغينة (1) ، ولا أريد أن أمثل على هذه الكتب التي نهجت هذا النهج فالأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى (2) .
فإننا لا نكاد نمسك ونقرأ أي كتاب غربي يتكلم عن الإسلام أو الشرق "فإننا سنجد فيه أشياء كثيرة مبعثها التحامل، لا يقرها منطق ولا عقل بل تشنيع خال من الحق والعدل تتجلى فيه سوء النية تجليًا لا يقبل الرد" (3) .
وقد قاد هذه الحرب الفكرية المتجنية فريقان، رجال الكنيسة، وملوك أوروبا وأمراؤها خوفًا من الإسلام الذي أصبح يهددهم في عقر دارهم وذلك بما امتاز به الإسلام من سرعة الانتشار في البلاد التي صل إليها وهذا ما نبه إليه الكثيرون منهم، يقول غاردنو: "إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوروبا" (4) .
ـ فقام الفريق الأول (قادة الكنيسة ورجالها) بتشجيع حركة التبشير والاستشراق , ووقف أعداد كبيرة من الرهبان عليها فقد ورد في كتاب المستشرقون البريطانيون: فبينما كان التاجر يسعى في تحصيل النفع المادي من علاقاته بالشعوب الشرقية إذ المبشر الإنجيلي يسبقه تارة أويتبعه حثيثًا تارة أخرى وقد امتلأ حماسة شريفة أن يحقق أمر معلمه المسيح بالذهاب إلى كل العالم والتبشير بالإنجيل إلى كل مخلوق، وقد وجد أن مما يساعده على تحقيق ما يرمي إليه من الخلاص الروحي أن يتعلم ما للجماعة التي سيلقاها من لغة وطرق تفكير، وقد ازداد هذا التعليم لزومًا حين وجد الداعي المسيحي نفسه وجهًا لوجه أمام دين تبشيري آخر، هو الإسلام وأمام دعاة قاموا بدعوتهم، مستندين إلى ثقافة ناضجة وفلسفة لاهوتية دقيقة (5) .
وذلك ليقوموا بكل ما يستطيعون من تشويه وتزييف يهدفون منه هدفين:
الأول: حماية الكنيسة والمكاسب التي حصلت عليها من الزوال بانتشار الإسلام.
والثاني: غزو الشرق بهذه الأفكار محاولين نشر دينهم وثقافتهم وأفكارهم، وتظهر نتائج هذه المحاولة بما قامت به أوروبا من حروب صليبية أشعلها وزاد في جذوتها ما اطلع عليه الأوروبيون من الإسلام عن طريق هؤلاء الرهبان ومن تبعهم (6) .
يقول البابا: "أوربنانيوس الثاني في مجمع كليرمون 1095م وذلك عندما دعا للحروب الصليبية: "إن أهل الإسلام رجال ضعفاء تعوزهم الشجاعة للقتال وجهًا لوجه فيعمدون إلى الهرب واستعمال السهام السامة" هكذا تشويههم وتهميشهم شمل حتى الحقائق المسلمة للمسلمين في سبيل الحروب الصليبية.
__________
(1) المستشرقون لنجيب العقيقي: ص 40
(2) اشترايت ودندنغر أصدر بين عام 1916 وعام 1931م سبعة مجلدات ذكر فيها أسماء مصادر ومراجع تدور حول المبشرين وتسهيل أعمالهم مما يدلل على مدى الجهود التي بذلت في التبشير والذي هو وجه من وجوه هذه المعركة الفكرية "التبشير والاستعمار: ص 26
(3) المستشرقون والإسلام، لحسن الهراوي: ص 30
(4) عن كتاب التبشير والاستعمار: ص 42
(5) المستشرقون البريطانيون د. أح. اربري: ص 14 ـ 15
(6) قريب من هذا في كتاب المستشرقون للعقيقي: ص 36(7/1868)
واستمرت هذه الحروب ما يقرب من قرنين فساعدت هي بدورها على ترسيخ هذه العداوة وتقويتها فلم تَخْبُ جذوتها من تلك الأيام، فبهذا الاتصال عرف المسيحيون قوة الإسلام وحقيقته واطلعوا على مظاهر القدرة ومكامن العطاء عند المسلمين والتي تتجلى بفهمهم للإسلام وتطبيقه، واطلعوا أيضًا على خيرات البلاد الإسلامية فطمعوا بها وعزموا من تلك الأيام على احتلال هذه البلاد بكل الوسائل وعلى الاستمرار في حرب الإسلام بكل ما يستطيعون.
وأما الفريق الثاني (ملوك أوروبا وأمراؤها) فقد شجعوا المستشرقين الأوائل والمبشرين تشجيعًا قويًّا , وذلك أولًا: للوقوف في وجه الإسلام الذي أصبح يدق عليهم الأبواب.
وثانيا: للهجوم في المستقبل عليه واستعادة ما أخذ منهم بل والقضاء عليه تمامًا وذلك لأن هؤلاء المستشرقين (1) والمبشرين قد ساعدوا ملوكهم وولاتهم في استيلائهم على الشرق، يقول ذلك نجيب العقيقي في كتابه المستشرقون ومن ثم يمجدهم تمجيدًا واضحًا ويقر لهم بالفضل الواسع علينا فيقول مثلا: "في سبيل هذه الثمار التي يقتطفها الغرب من الشرق أحسن ملوكه صلات المستشرقين فضموهم إلى حاشيتهم أمناء أسرار لهم وانتدبوهم سفراء وقناصل وتراجمة وموظفين في سلكي الجيش والسياسة إلى بلدان الشرق، ومنحوهم ألقاب الشرف الفخمة كبارون وكونت وكراسي التدريس....." (2) .
وواضح أن المسيحية الروحانية لا تقر مثل هذه التصرفات كما لا يقرها المسيحيون المتنورون.
__________
(1) جلى هذه الفكرة كتاب التبشير والاستعمار خاصة بالنسبة للمبشرين
(2) المستشرقون، للعقيقي: ص 50(7/1869)
ومضت الأيام وتعددت اتصالات الغرب بالشرق المسلم من اتصال الأندلس إلى اتصال صقلية إلى الاتصال الذي تم بالحروب الصليبية إلى الاتصلات التجارية التي بدأت بشكل قوي في نهاية القرن السادس عشر واستفاد الغرب من هذه الاتصالات الشيء الكثير باعتراف الكثير من مفكريه وفلاسفته، فلقد أخذ الغرب مظاهر الحضارة المادية عن الإسلام فقوى وأبدع في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وفي هذه الفترة أخذ المجتمع الإسلامي يبتعد عن الإسلام بمفهومه الحضاري الشامل، فضعفت شوكته وتفرقت بلاده فاستطاع الغرب احتلال أكثر بلاد الإسلام بعد أن استطاع افتعال المبررات والوصول إلى بعض مراكز القوة فيه وبعد خدعة حكام هذه البلاد وعقده معهم المعاهدات الزائفة الخادعة، وكان يدفعه إلى هذا الاحتلال رغبته الأولى في محاربة الإسلام والقضاء عليه في عقر داره، والثانية رغبته في السيطرة على خيرات العالم الإسلامي وكنوزه التي يتصور أن المسلمين ليسوا أهلًا لها. هكذا استطاع العدو السيطرة على بلاد المسلمين لفترات طويلة، فأخذ يفكر في كيفية استمرار هذا الاحتلال وفي كيفية التنفيس عن حقده على الإسلام، وفي كيفية الإبقاء على التخلف والضعف بين أظهر المسلمين , فانصب تفكيره على الإسلام وعلى الوحدة التي ينشئها الإسلام بين متبعيه، الإسلام الذي انتشر في هذه البلاد وخلق من أهلها قوة تهدد كل شر، فالإسلام هو عدوهم الأول والأخير فيجب أن يكون هو الهدف الأول لمخططاتهم العدائية التي تهدف إلى القضاء عليه تمامًا , وقد شملت هذه المخططات التشويه والتزييف لكل قيمة من قيم هذا الإسلام الخالد , وشملت أيضًا محاولة التبشير بالمسيحية بين المسلمين عسى أن يكون بذلك القضاء النهائي على الإسلام , وقد استعانوا على ذلك بحالة الضعف التي يعيشها المجتمع الإسلامي. وحالة القوة والرقي المادي التي يعيشها الغربيون فصوروا للمسلمين أن الإسلام هو دين الضعفاء , وأن المسيحية هي دين الأقوياء , فما على المسلمين إذا أرادوا القوة والتقدم إلا ترك الإسلام إلى غير رجعة.
ومن هنا قوى وضع اتجاه المبشرين والمستشرقين الذين كانوا أهم وسيلة من وسائل المستعمرين في هذه الحرب الفكرية، والتبشير سلك لهدفه هذا طرقًا عدة منها التعليم المدرسي في دور الحضانة ورياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية للذكور والإناث والجامعات والعمل الخيري في المستشفيات والملاجئ والعيادات (1) . وتميز الاستشراق بصورة الأكاديمي فألفوا الكتب وكتبوا المقالات في المجلات والصحف وأخذوا ينشرون أفكارهم من فوق كراسي الجامعات وفي أجواء المؤتمرات التي يدعون إليها.
__________
(1) يراجع في ذلك كتاب التبشير والاستعمار(7/1870)
والأدلة على هذا الهدف الاستعماري الخبيث يستطيع كل متجرد عاقل أن يتصيدها من كتاباتهم وأعمالهم فمثلًا يقول الرئيس فيليب فونداسي رئيس المكتب الخاص الفرنسي أي مصلحة التجسس الفرنسي في كتاب صدر سنة 1951م ناصحًا الحكومة الفرنسية بمحاربة الإسلام في أفريقيا السوداء فيقول: "فإننا إذا ما نظرنا إلى الإسلام تحت تأثير العطف المجرد أو تحت دافع رد الفعل بعد نظرتنا إلى المعتقدات الوثنية، فإننا نسر برؤيتنا هذا الدين ضعيفًا جدًّا وقد طرأ عليه ذلك التغيير الكبير وأصبح ذا شكل كبير الاختلاف عن أصله. ولكن الإسلام يمكن أن يكون خاصًّا (كما في أفريقيا السوداء) ولكنه لا يكون أبدًا هادئًا جامدًا فهو في رقي دائم يجمع شتات قواه وذلك بتطهير عقيدته تدريجيًّا ويؤلف كتلة طبيعية بالرغم من شوائبه ومن أشكاله المختلفة ... " (1) .
ويقول سيكارد: "إنه يجب التقليل من الإسلام بين الشعوب الخاضعة لنا لأنه ضد مصلحتنا" (2) .
ويقول القس سيمون في كتاب له: "إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السمر وتساعدهم على التملص من السيطرة الأوروبية" (3) .
ويقول لورانس براون: "إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرًا أو أمكن أن يصبحوا أيضا نعمة له، أما إذا بقوا مفترقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير" (4) .
وتقول مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية: "إن شيئًا من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي ولهذا الخوف أسبابه منها أن الإسلام منذ أن ظهر في مكة لم يضعف عدديا بل دائمًا في ازدياد واتساع ثم إن الإسلام ليس دينا فحسب بل إن من أركانه الجهاد ولم يتفق شعبًا دخل في الإسلام ثم عاد نصرانيًّا" (5) .
وقال مجلة مراكش الكاثوليكية التي يصدرها الفرنسيسكان: "إن فرنسا لا يمكنها أن تنجح في إخضاع أهالي المغرب إلا بإبعادهم عن الديانة الإسلامية" (6) .
ولا ننسى في هذا المجال قول غلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق بأنه لا يمكن السيطرة على المسلمين إلا بنزع القرآن من ما بينهم.
__________
(1) الاستعمار الفرنسي في أفريقيا السوداء: ص 28
(2) المستشرقون والإسلام، لحسن الهراوي: ص 32
(3) عن كتاب التبشير والاستعمار
(4) عن كتاب التبشير والاستعمار
(5) عن كتاب التبشير والاستعمار
(6) دعوة نصارى العرب إلى الإسلام، لخليل قبرصي(7/1871)
هكذا قرر الغربيون حرب الإسلام حربًا فكرية متجنية فأخذوا يشوهون الإسلام في أذهان الناس وكانت حربهم هذه على الإسلام من جهات ونواح مختلفة , وفي ذلك يقول أحد كرادلة الإفرنج في حفلة تدشين كنيسة الإسماعيلية "لا يمكننا القضاء عليه ـ أي الإسلام ـ إلا إذا قوضه كلٌّ من جهته حتى نصل إلى محوره" (1) .
وقد خرجوا على الناس بأفكار جديدة حاولوا أن يلبسوها أثواب الحقائق المسلمة وهي بعيدة عن ذلك كل البعد ومنها:
1 ـ القرآن كتاب مسيحي يهودي كتبه محمد، فالإسلام دين مخترع ملفق من الأديان السابقة , ولم يقتصر الأمر على ذلك بل يقول جون تاكلي: "يجب أن نُري هؤلاء الناس أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا وأن الجديد ليس صحيحًا" (2) . فليس للمسلمين أصالة فكرية أو ثقافية، فلا قيمة ذاتية لهم فيجب عليهم أن يندمجوا في الحضارة الأوروبية القائمة.
2 ـ الإسلام دين مادي لا روحية فيه مطلقًا فلا مجال للصفاء النفسي والمحبة فيه.
3 ـ الإسلام دين الحيوانية والاستغراق في الملذات.
4 ـ هاجموا شخصية الرسول ووصفوه بكثير من الأوصاف السيئة كما هاجموا القواد المسلمين في كل العصور.
5 ـ القول بأن الفلسفة الإسلامية فلسفة فكر يوناني بأحرف عربية ,وأن الفقه الإسلامي هو قانون روماني بأحرف عربية.
6 ـ مهاجمة اللغة العربية والدعوة إلى العامية ومهاجمة , الأحرف العربية والدعوة إلى الكتابة بالأحرف اللاتينية.
7 ـ إثارة النعرات القومية في مختلف نواحي العالم الإسلامي ليتم تفريقه إلى دويلات متنازعة متصارعة , وهكذا تتعدد مقولات الطعن والتجني , وقد ركزوا على ربط تأخر المسلمين في هذه الأيام بالإسلام: فالمسلمون يتأخرون في هذه الأيام لأنهم يتمسكون بالإسلام فعليهم أن يتركوا الإسلام إذا أرادوا التقدم، يقول هنري جب: "المسلمون لا يفهمون الأديان ولا يقدورنها قدرها , إنهم لصوص وقتلة ومتأخرون , وإن التبشير سيعمل على تقديمهم" (3) .
__________
(1) دعوى نصارى العرب إلى الإسلام، لخليل قبرصي
(2) التبشير والاستعمار: ص 45
(3) التبشير والاستعمار: ص 45(7/1872)
والمهم أن من غاياتهم:
1 ـ إخراج المسلمين من دينهم ليمكن غزوهم فكريًّا ودينيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، والدعوة للتنصير بالتبشير بالمسيحية ما هي إلا وسيلة لا أكثر ولا أقل.
2 ـ محاولة إيجاد أناس بأسماء وطنية وبعقليات ونفسيات وثقافات وعادات أوروبية لا يثقون بالثقافة الإسلامية مطلقًا , وهؤلاء هم من الذين يتخرجون على كتبهم أو في جامعاتهم سواء في الشرق أو الغرب , وهؤلاء هم الذين أعدوهم ليكونوا متنفذين في بلاد المسلمين بحجة حصولهم على الشهادات ووصولهم للمراكز العلمية والمادية.
وهؤلاء هم الذين دعوا إلى التجديد في الإسلام ومثلوا الاتجاه الذي يمالئ الاستعمار في دعواته ويسير في طريق اتباع الغرب في كل شيء.
3 ـ وإذا لم يتولد الإخراج من الدين يتولد التشكيك وزعزعة العقيدة، وبعد ذلك تعرض الحضارة الغربية وتبين بأنها هي الأفضل، فيحدث الانضمام إليها والتبني لبعض فلسفاتها ونظمها.
4 ـ تجميد كل فعاليات المسلمين وتقطيع العلاقات بين الشعوب الإسلامية بأي وسيلة ممكنة.
5 ـ إفساد الخصائص الدينية في النفوس والمجتمعات وإيجاد جماعات متدينة متزمة ومتعصبة للإسلام تظهر بمظهر التأخر والجهل بكل مظاهر الحضارة , فينفر الجيل الجديد من الإسلام لأنهم صوروا له أن هذه الفئة هي التي تمثل الإسلام.
والهدف من كل ما مر هو السيطرة على البلاد الإسلامية والقضاء على الإسلام تمامًا.(7/1873)
ونال هؤلاء النتائج التالية:
(أ) ما نالوه في الغرب:
1 ـ لقد استطاعوا تشويه الإسلام والمسلمين في نظر شعوب الغرب فلقد صوروا لهم الدين الإسلامي بصورة سيئة وبأن المسلمين أبطال التعصب والتزمت حتى كره الغرب المسلمين. يلاحظ هذه الناحية كل من يتعمق في موقف الأوروبيين فيما يجري من مذابح على الأرض الإسلامية دون تحريك ساكن في الغرب بينما إذا قتل إنسان غير مسلم في أي مكان في العالم تقوم قيامة أوروبا مطالبة بالعدل والرحمة والسلام. يقول محمد أسد في كتابه الإسلام على مفترق الطرق: "لا تجد موقف الأوروبي موقف كره في غير مبالاة فحسب ـ كما هي الحال في موقفه لسائر الأديان والثقافات عدا الإسلام ـ بل هو كره عميق الجذور يقوم في الأكثر على صور من التعصب الشديد. وهذا الكره ليس عقليًّا فقط، ولكنه أيضا يصطبغ بصبغةعاطفية قوية ,لا تقبل أوروبا تعاليم الفلسفة البوذية أو الهندوكية ولكنها تحتفظ دائما في ما يتعلق بهذين المذهبين بموقف عقلي متزن مبني على التفكير , إلا أنها حالما تتجه إلى الإسلام يختل التوازن ويأخذ الميل العاطفي بالتسرب". (1) .
2 ـ استطاعوا بخلقهم هذا الشعور في الغرب تشجيع الغربيين على غزو المسلمين والقضاء عليهم وكأنهم وهم يقومون بهذا العمل يشعرون أنهم يحققون عملًا إنسانيًّا رفيعًا وذلك بتخليص الإنسانية من الخطر على التقدم والحضارة الإنسانية.
__________
(1) عن الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي، لمحمد البهي: ص 185(7/1874)
(ب) ما نالوه في العالم الإسلامي:
1 ـ جعلوا كثيرا من المسلمين يتشككون بكل القيم الإسلامية وينظرون إلى الإسلام وكأنه متهم في قفص وجعلوا أيضا كتاب المسلمين يعتمدون على أقوالهم في بحوثهم وكتبهم حتى في ما يتعلق بتاريخ الإسلام والمسلمين.
2 ـ ولدوا بهذا رغبة عند كثير من المسلمين لترك دينهم، ولكنهم بقوا منتسبين إليه شكلًا، وذلك عندما صور الغرب لهم بأنه مركز الخير. ولما كانت القيم الغربية مختلفة وقد أخذ المسلمون باعتناقها اختلف المسلمون في ما بينهم فسهل استعمارهم، وذلك لأن الفكرة هي أهم ما يحرك البشر فهي مادة التوجيه، فالاستعمار الفكري أشد أنواع الاستعمار وأطوله , ولذلك حرر الإسلام أتباعه فحرك طاقاتهم وأطلقها نحو خير الإنسانية وتحقيق سعادة الأفراد والجماعات.
3 ـ استطاعوا تقسيم المسلمين إلى أعراق وقوميات، وإن نظرة إلى العالم الإسلامي في هذه الأيام توضح المدى الذي وصلوه في ذلك.
4 ـ استطاعوا تجميد فعاليات المسلمين تمامًا فضعفوا وطال استعمارهم فانتشر بينهم المرض والجهل والفقر ومظاهر التخلف , ومن حيث لا يشعرون ولدوا بهجومهم هذا رد فعل قوي عند المسلمين، فأخذ علماء المسلمين يعيدون غرس القيم الإسلامية في نفوس المسلمين، فالمتهم الذي وضع في القفص ظلمًا وعدوانًا لم يعدم ممن يثبت براءته من كل ما اتهم به , ويضع مكانه من اتهموه ظلمًا وعدوانًا , وقوي رد الفعل هذا حتى استطاع بما عمله أن يعيد الروح الإسلامية من جديد إلى المجتمعات الإسلامية , فأخذت هذه المجتمعات تدحر المعتدين في المعركة تلو المعركة , وتبدأ بإعادة بناء حياتها على قيم الإسلام وقواعده.
5 ـ شغل المسلمين عن الجهاد والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة بإحدام النقاش والجدال بينهم في الأمور الخلافية البسيطة , ومحاولتهم تطوير هذا الاختلاف بالفكرة إلى عداوة وبغضاء بين المسلمين؛ فقد قام المستشرقون وتلامذتهم بإثارة الأمور البسيطة التي كان المسلمون قد اختلفوا فيها من جديد , وذلك حتى يشغلوا المسلمين ويفرقوا كلمتهم مثل الخلافات المذهبية في العبادات والمعاملات , وكذلك بإثارة أمور لا علاقة لها بتبليغ الرسالة وإنما هي ترف فكري لشغل المسلمين عن هذا التبليغ كالجبر والاختيار، بل إثارة خلافات في منتهى البساطة وعدم الاهمية كالخلافات في ضم اليدين أو إسبالهما في الصلاة.(7/1875)
هكذا قصد المعتدون إلى إشغال المسلمين عن دينهم والجهاد في سبيله وتبليغه إلى جميع البشر بخلافات سفسطائية لا طائل تحتها كان المسلمون الأوائل يأبون التحدث فيها فلما سئل مالك عن الاستواء وكيفيته قال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة" وطرد السائل لأنه لا يريد شغل المسلمين بهذه الأمور التي تضيع وقتهم الذي يجب أن يصرفوه في تبليغ الدعوة والجهاد في سبيلها تنفيذًا لأمر الله ورسوله.
ويظهر هذا السلوك الاستعماري بوضوح في ما قامت به القاديانية من إثارة موضوع المسيح عليه السلام: "هل قتل وصلب أم لا، وهل رفع إلى السماء أم لم يرفع، ثم هل رفع وهو ميت أم وهو حي، ثم بإثارة موضوع نبوة ميرزا غلام أحمد، فبهذا يشغل المسلمون بغير الأمور الهامة بالنسبة لهذا العصر عصر الإعداد والقوة والعمل والكفاح , يقول أبو الحسن الندوي عن القاديانية: إنها بقيت مقتصرة على إثارة المناقشات الدينية والمباحثات حول موت المسيح وحياته ونزوله ونبوة ميرزا غلام أحمد مما لا اتصال له بالحياة العامة والمسائل الإسلامية والحركات التي كانت مظهرا للغيرة الإسلامية، والشعور السياسي في هذه البلاد" (1) .
فهم يريدون بإبراز هذه الأمور الخلافية إضاعة جهودهم في معارك جانبية بعيدة عن معركة الإسلام الكبرى معهم أنفسهم.
يقول الأستاذ محمد المبارك في رسالته ذاتية الإسلام أمام المذاهب والعقائد: "ومن هنا يتبين خطأ من يصرفون همهم إلى أمر قد يكون في ذاته مطلوبًا أو ممنوعًا في الإسلام، ولكن في مقابلة أمر أخطر منه بكثير , فالبلاد الإسلامية مبتلاة في هذا العصر بخطرين عظيمين هما الاستعمار والإلحاد، أي الاستيلاء على الأرض والاستيلاء على العقيدة , أي إتلاف ثرواتها المادية والمعنوية وسلبها. ولو تم الاستيلاء على البلاد وتهديم العقيدة واستمر لما أمكن إقامة شعائر الدين ولا القيام بأوامره وتطبيق أحكامه. ولذلك فإن صرف أذهان الناس إلى قضايا أخرى وجعلها محور النضال الإسلامي إلهاء عن أهم القضايا الأساسية التي هي الاستيلاء على البلاد الإسلامية أو السيطرة عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فهل يجوز في مثل هذه الحال تقسيم المسلمين إلى من يقولون بأن التراويح ثمانية ومن يقولون بأنها عشرون وإلى القائلين بتكرار الجماعة أو عدمها أو احتدام معركة السنة والبدعة في أمور لا تمس العقيدة، أنا لا أقول إنه لا تبحث هذه الأمور بحثًا علميًّا بل أقول إنه يجب التنبيه حينما يكون الأمر ماسًّا بالعقيدة ويحسن التنبيه إلى الطريقة الصحيحة في العبادات لأن العبادات توقيفية فلا زيادة ولا نقصان فيها عمَّا أمر النبي ـ صلوات الله عليه ـ أو فعله ومع ذلك فإذا كان ذلك يحدث فتنة أو يحدث خصومة بين فئتين من المسلمين وجب ترك ذلك لما يترتب عليه من منكر أعظم , ولما ينشأ عنه من تقسيم المسلمين إلى فئات متعددة في ظروف وأحوال لا يجوز فيها تفتيت القوى ولا الاشتغال إلا بالقضايا الأساسية الكبرى". (2)
__________
(1) الفكر الإسلامي الحديث: ص 28
(2) ذاتية الإسلام: ص 13 ـ 14(7/1876)
6 ـ تمجيد القيم المسيحية والدعوة للدعوات الإنسانية المتعددة وإشغال المسلمين بها وتبين أن الأديان كلها قد جاءت للرحمة والسلام والجهاد ليس فيه أي معنى من معاني الرحمة فهو ليس من الإسلام دين الرحمة والسلام.
إن الأوروبيين قد سلكوا كل سبيل في تشويه القيم الإسلامية والصرف عنها , وقد نال الجهاد الشيء الكثير من هذا، ولا أريد هنا أن أذكر الشبه التي افتعلوها على نظام الجهاد - فهي محل بحث مستقل - ليصوروا الجهاد في أنظار المسلمين بأنه أمر يجب التخلص منه بدون تردد.
ومع تصويرهم لنظام الجهاد بهذا الشكل يأخذون في تمجيد القيم المسيحية الغربية والتدليل على أنها دعوة للسلام ورسالة المحبة , ويربطون بين هذا وبين رقي الغرب المادي في كل مجال من مجالات الرقي والتقدم، ثم يقارنون ذلك مع تأخر المسلمين في كل مجال من مجالات الحياة , ويعللون ذلك بأن الإسلام هو سبب تأخرهم. ويصفون من يسير وإياهم في هذا الطريق ويؤمن بما يقولون بالتقدمية والتسامح , بينما يوصف من يرفض ذلك ويتهم بالرجعية والتزمت.
ومع كل ما مر يشجعون بل وينشرون الدعوات التي تدعي الإنسانية والتعاون بين كل البشر والتي تقول أيضًا: إن الأديان جاءت للرحمة والسلام والمحبة، ولهذا نرى الحركات الإنسانية المختلفة الأشكال والأساليب تنتشر في أغلب مناطق الإسلام، ولقد أصبحت الدعوات الإنسانية ستارًا لكثير من الدعوات الهدامة المنحرفة.
ويسير مع هذا تشجيعهم للدعوات الجديدة والمذاهب الحديثة كالوجودية والشيوعية وتكوين أحزاب تتبنى آراء غربية في السياسة والاقتصاد. ويشابه هذه الدعوات في أهدافها دعوى أن الإسلام دين لا دولة , ففي هذه الدعوات قصر للإسلام على الأفراد دون الجماعة، ففيه إلغاء للشخصية الإسلامية بشكلها الجماعي , وبالتالي يؤدي ذلك إلى إلغاء الجهاد الذي يقوم على أكتاف الجماعة.
ولتشجيعهم هذا وجه آخر وهو ترجمة الكتب الأجنبية الفكرية التي تبحث فيها الدعوات المختلفة والنظريات المتعددة , فهم يحاولون قصر الترجمة على هذا الشكل بهدف إبعاد ما يفيد المسلمين في حياتهم المادية (1) .
ومما عجلوا به نشر الفوضى الأخلاقية بين المسلمين، فالأمم بأخلاقها فإذا ذهبت أخلاقها ذهبت هذه الأمم، فشجعوا الانحرافات الجنسية , وروجوا بضاعة الجنس ترويجًا تامًّا في السينما والإذاعة والتلفزيون والمسارح والمجلات والكتب والصحف.
ولا أريد أن أطيل في هذا فهو معروف تمامًا , وهو من أخطر ما يمكن أن يصرف المسلمين عن دينهم وجهادهم وحتى أوطانهم وبلادهم، وأثره فيما نراه من جيوش الشباب الضائعين الذين يتكالبون على هذه الشهوات.
__________
(1) يراجع في ذلك كتاب في وكر الهدامين، للدكتور محمد حسين(7/1877)
7 ـ ولكي ينجحوا في دعواتهم السابقة أصر هؤلاء على أن يبقى المسلمون متأخرين فكريًّا , فالجهل هو سبب كل بلاء , وإنني لا أجزم أن قضية دعاة الإسلام ليست في عدم عمل الناس به مع علمهم إياه , بل قضيتهم عدم علمهم به؛ لأنهم لا يعلمونه حق العلم، لهذا كان تأخير التعليم الديني في المدارس هو خطوة من خطوات التي سلكها المستعمرون في سبيل صرف الناس عن الإسلام، وكذلك أن في تأخير المسلمين اقتصاديًّا وجعل بلادهم في التخطيط الاقتصادي مقصورة على الزراعة البدائية وإبعادهم عن المجال الصناعي المتقدم هو من أهدافهم في إبعاد مظاهر القوة عن المسلمين.
وهناك تأخير لفئة خاصة من المسلمين عملوا له بكل اندفاع وتخطيط وهو تأخير الفئات التي تمثل الإسلام حتى يبتعد الناس عن الإسلام عندما يرون مظهره في دعاته وحملته , وهذا واضح مما نلاحظه في مختلف بقاع الإسلام ومجتمعاته.
هذا عدا عن محاولة دعم جماعات توصف بأنها حاملة للإسلام وممثلة له , وهي أبعد ما تكون عن روح الإسلام وذلك بتزمتها ومحاربتها التقدم المادي في كل ناحية , مما يكره الناس بها وبما تمثل.(7/1878)
سبل المواجهة:
بعد هذا الاستعراض لبدايات الغزو الثقافي وأبعاده وما حققه من نتائج في بلاد العرب والمسلمين وغيرها من بلاد الدنيا , كيف تكون المواجهة؟ ليست القضية بهذه السهولة، ومما يمكن معالجته في بحث عاجل ولا في دراسة محدودة، إنما هو أمر في غاية الأهمية , ويتطلب تكاتف الجهود وإعداد الخطط والبرامج والدراسات والبحوث، وإنني أقترح نقاطًا للبحث في هذه القضية الكبرى:
1 ـ الحرص على بيان سماحة الإسلام وأنه جاء لخير الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة. وبحيث يكون ذلك على المستوى العالمي وباللغات الحية جميعها.
2 ـ الاستفادة الفاعلة والمدروسة من أساليب العصر في البيان وبخاصة في مجالات الإذاعة والتلفزيون وعبر الأقمار الصناعية والتي لا تعرف الحدود مما يمكن من إيصال كلمة الحق والخير إلى جميع أنحاء الدنيا دون إهمال لكل وسيلة متاحة مثل الصحف والمجلات وكتب التعريف وعقد المؤتمرات والندوات وإقامة المراكز والمساجد.
3 ـ الاستفادة من انتشار أفكار الحرية والديمقراطية في المجتمعات الإنسانية لنشر الفكر الإسلامي والتعريف به بعلمية وموضوعية.
4 ـ الاهتمام بمواجهة القضايا المعاصرة بحلول إسلامية والعمل على نقل حلول الإسلام لهذه المشكلات إلى التنفيذ والممارسة لأن التطبيق الناجح هو أفعل طرق الدعوة والبيان.
5 ـ العمل على تأكيد مظاهر وحدة المسلمين وتكاملهم على كل الأصعدة وحل خلافاتهم ومنازعاتهم فيما بينهم بالطرق السلمية وفق أحكام الشريعة المعروفة إفسادًا لمخططات الغزو الثقافي في تفتيت وحدة المسلمين وزرع الخلافات والمنازعات بينهم.
6 ـ العمل على بناء قوة المسلمين واكتفائهم الذاتي اقتصاديا وعسكريًّا.
7 ـ الحرص على النهوض بمناهج التربية والتعليم بهدف إعداد الأجيال الإعداد المناسب الذي يحصنهم من كل مظاهر الغزو الثقافي.
8 ـ تطوير مناهج إعداد الدعاة بهدف التأكد من إدراكهم لروح الإسلام ومنهجه في بناء الحياة الإنسانية بالإضافة إلى اطلاعهم على ثقافة العصر ليكون تعاملهم مع المجتمعات المعاصرة عن وعي وبصيرة.
9 ـ الاهتمام بخطب الجمعة وتطوير الأداء فيها لمواجهة كل مظاهر الغزو الثقافي وآثاره وتعريف المسلمين بدينهم التعريف السليم المتكامل.
10 ـ رد كل الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام بثقة وقوة ودون اللجوء إلى أساليب الدفاع التبريري مما يصلح لبيان مستقل ليس هنا مجال الحديث عنه.
11 ـ الاهتمام بدراسة الأفكار الوافدة والمبادئ المستوردة والتعريف بمظاهر قصورها ونقصها بأمانة وموضوعية.
12 ـ ترشيد الصحوة الإسلامية ومعالجة كل مظاهر التزمت والانغلاق وبناء الشخصية الإسلامية السوية التي تقدم للمجتمع الإنساني صورة مشرقة للتطبيق الإسلامي على المستوى الفردي والجماعي وفي كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور عبد السلام داود العبادي(7/1879)
الغزو الفكري
في المعيار العلمي الموضوعي
إعداد
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمع الفقه الإسلامي بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة المؤلف:
اتسمت أكثر كتابات الكاتبين الإسلاميين في العصور الحديثة حين يكتبون عن الغزو الفكري بالمعالجة العاطفية والروح الخطابية، وتغلب المنهج القديم الذي كان المسلمون يكتبون كثيرًا بمقتضاه وينظرون إلى الأمور من منظوره، وهو منهج خيالي موغل في رؤية الذات، مجانف للغة الواقع، عقيم غير منتج، طالما مشى عليه المسلمون من قبل فلم يجنوا إلا الخسارة بالرغم من أنهم على حق وأن أعداءهم على باطل، ولكن صاحب الحق إذا صرخ وبكى وغضب وزمجر لن يصل إلى ما يريد من إنصاف الناس إياه، من حيث يتقن خصمه المبطل لغة الحوار الهادئ والأغاليط، وفن الحديث فيربح الحلبة ويكسب الرهان، ويدفع المحق الثمن..، وما أتي إلا من أسلوبه العقيم القديم البالي الأهوج، وعقله الأرعن..
الواقع أن الحق شيء، والدفاع عنه شيء آخر.. الوقوف في وجه الخصم فن لا يتقنه إلا جهابذة الحكماء من العلماء الموفقين ذوي البصيرة النافذة, أولئك الذين يعتمدون دائمًا المنهج العلمي الموضوعي الهادئ، وينصفون الناس من أنفسهم، فلسنا اليوم في ساحة وغى نذكي الجنود بحماس الحرب، ولكننا في صراع فكري رهيب ومصيري، سلاحنا فيه العقل الذكي المنظم، ومنطلقنا الحق الذي نحمله وندفع عنه كيد الكائدين، ومعيارنا دائمًا المنهج العلمي المجرد.(7/1880)
ولقد والله يؤلمني جدّا ما أسمعه في أروقة المنتديات العلمية والمراكز الثقافية في العالم العربي الإسلامي؛ من سخرية من الكتاب المسلمين بالغمز واللمز من أسلوبهم الخطابي وطنطناتهم ومبالغاتهم ومجافاتهم مناهج البحث في هذا العصر، وبعدهم عن الموضوعية، وروح البحث العلمي المجرد، وكل ذلك سببه فيما أحسب ضيق العَطَنى وقصر النظر، وقلة الثقافة المعاصرة، والبعد عن معرفة الآخرين، وأفكارهم وأنماط سلوكهم وحياتهم، والتقوقع على الذات، والاكتفاء بالتشهير والتحقير للغير، من حيث يتخذ ذلك الغير هذا كله سلاحًا ضد المسلمين، يقول زورًا وبهتانا للناس: انظروا, أنا إنسان باحث موضوعي أريد الوصول إلى الحقيقة المجردة، وهؤلاء الكتاب المسلمون حاقدون شانئون، لا يريدون إلا محاربتي ومناصبتي العداء ... !! فاحكموا أنتم بيننا ... !!
أنا لا أريد للمسلم ولا سيما إذا كان كاتبًا أو عالمًا أو داعية أن يكون أسلوبه أسلوبًا سوقيًّا رخيصًا في معالجة القضايا المصيرية، فيكون قد جنى على دينه وقومه قبل كل شيء، بل أريد له أن يتأدب بأدب القرآن , قال تعالى مخاطبًا نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومعلما إياه أدب المناظرة مع المشركين الأعداء: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .
فما أعظم أسلوب القرآن، وما أبعد الكتاب الإسلاميين اليوم في الأعم الأغلب عن أدب هذا الوحي الأعلى؟ !(7/1881)
قرأت كثيرًا مما كتب في هذا الشأن الخطير مما كتبه الإسلاميون وخصومهم. فما وجدت من انطلق من قاعدة المنهج العلمي الموضوعي المجرد، بل وجدت خطبًا بليغة، وكلمات إنشائية جميلة، وقطعًا أدبية مونقة، ولكن لم أجد العقل المتزن الهادئ الحكيم الذي يعالج الأمور من جميع أطرافها فينصف الطرف الآخر قبل أن ينصف نفسه، فالكل يتصور الطرف الآخر بل ويصوره عدوًّا، ويصور عمله غارة أو إغارة، فلماذا لا نتصوره في مجال النقاش والمناظرة خصمًا كما يقول العلماء على الأقل؟! ولا والله ما وجدت الغارة ولا الإغارة على العالم الإسلامي إلا من المسلمين أنفسهم، ولا فعل أعداؤهم بهم من الغزو الثقافي وغيره قدر ما فعلوا هم بأنفسهم.
صحيح أن هنالك دوائر للاستكبار العالمي تمكر للمسلمين وتكيد لهم، وعلى رأسها اليهودية العالمية والفكر الاستشراقي، ودوائر التبشير وغيرها، ولكن هذه الجراثيم والميكروبات لا تعمل في جسم إنسان حتى يكون فيه قابلية واستعداد لها من ضعف مقاومة أو هزال أو هشاشة وغير ذلك، فإذا كان هنالك من يكيد للمسلمين وهذا حق لا مرية فيه , فإن هؤلاء ما بلغوا ولن يبلغوا من المسلمين ما بلغ المسلمون هم من أنفسهم، ولن يفتك الجرثوم في جسد حتى يكون الجسد مؤهلًا لذلك، مستعدًّا له.(7/1882)
أنا لا أدعو إلى مهادنة أعداء الإسلام وخصومه الأشداء، معاذ الإيمان، وما يكون لي ذلك!! ولكن أدعو إلى سحب البساط من تحت أرجلهم وإلى تعريتهم أمام الناس لينكشف عوارهم وزيفهم وضلالهم واللغة التي بها يتكلمون مغالطين ومخادعين، لغة العلم والمنطق والعقل.
ولا يذهبن بك الوهم قارئي الكريم فتظن أننا في طريقنا إلى وفاق أو وئام أو أنصاف حلول، لا، ولكن الشيء الذي نسعى إليه وحده هو إقامة الحجة عليهم فقط دون طمع بشيء آخر من تصديق أو ولاء.
إن الإغارة والغزو الفكري والثقافي للعالم الإسلامي ليس بجديد بل ولد مع ولادة الرسالة الإسلامية المحمدية، ولكن المسلمين كانوا من داخلهم في عافية فلم يتأثروا بالمكر والكيد الذي نفث فيهم، حتى إذا ما ضعفت النفوس، واضمحلت من الداخل روح المقاومة، وانهزم المسلم في ذاته، ظهر أثر هذا الغزو الثقافي وخطره وعقابيله.
إننا بحاجة أيها الناس إلى إصلاح البيت من الداخل، إلى إصلاح الإنسان المسلم والجماعة المسلمة، إلى لغة العقل والمنطق، إلى صفاء السريرة، وطهارة النفس الإنسانية من داخلها، وبعد ذلك لا يهمنا ألف غزو ثقافي وألف وألف، ولو غزانا أهل الأرض كلهم بكل أنواع الغزو، ومكروا بنا بكل ضروب المكر وأصنافه.
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} صدق الله العظيم.
أما بعد فهذه صفحات من الغزو الفكري أضعها في ميزان المنهج العلمي الموضوعي، أقدمها للدورة السابعة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، لعلها تحظى بالاهتمام والدراسة المستوعبة لتصبح ورقة عمل إن شاء الله.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} صدق الله العظيم.(7/1883)
خطة البحث
أقمت البحث على مدخل وأربعة أبواب وخاتمة، ودونك التفصيل:
المدخل: التعريف بالغزو الفكري، وشواهد وجوده في العالم الإسلامي، وخطره، وأهدافه.
الباب الأول:
التيارات المعاصرة لدى المفكرين الإسلاميين في مواجهة مشكلة الغزو الفكري؛ وفيه فصلان:
1 ـ الفصل الأول: التيارات المطروحة في الساحة.
2 ـ الفصل الثاني: التيار الموضوعي المقترح.
الباب الثاني:
أساليب الغزو الفكري ومدارسه؛ وفيه فصلان:
1 ـ الفصل الأول: أساليب الغزو الفكري؛ وفيه مباحث ثلاثة:
ـ المبحث الأول: التشكيك في النصوص الدينية.
ـ المبحث الثاني: اعتماد الروايات المشكوك بها والآراء الشاذة.
ـ المبحث الثالث: أساليب أخرى في المجال التاريخي.
2 ـ الفصل الثاني: مدارس الغزو الفكري المشبوهة وفضحها؛ وفيه مبحثان:
ـ المبحث الأول: أبرز مدارس الغزو الفكري.
ـ المبحث الثاني: طرق محاربة هذه المدارس المشبوهة وفضحها.
الباب الثالث:
ظواهر الغزو الفكري، وفيه فصول ثلاثة:
1 ـ الفصل الأول: ظاهرة سوء فهم الإسلام أو سوء تعظيمه.
2 ـ الفصل الثاني: ظاهرة البديل عن الإسلام.
3 ـ الفصل الثالث: ظاهرة تهميش دور الإسلام في أهله.
الباب الرابع:
أسباب قيام الغزو الفكري والعوامل المساعدة له؛ وفيه فصلان:
1 ـ الفصل الأول: أسباب قيام الغزو الفكري في العالم الإسلامي.
2 ـ الفصل الثاني: العوامل المساعدة لقيام الغزو الفكري.
الباب الخامس:
تفتيت الغزو الفكري ورد حملاته؛ وفيه فصلان:
1 ـ الفصل الأول: الوقاية والعلاج للحالة الراهنة.
2 ـ الفصل الثاني: الغزو الفكري المعاكس.
خاتمة:
خلاصة لكل ما سبق(7/1884)
المدخل إلى البحث
التعريف بالغزو الفكري، وشواهد وجوده
في العالم الإسلامي، وخطره، وأهدافه
المطلب الأول: التعريف بالغزو الفكري:
الغزو الفكري هو: "مجموعة من الشبهات والأغاليط مصوغة صياغة علمية متقنة، توجه إلى عقول المسلمين بطرق مختلفة وبأيد شتى، يراد منها تشكيك المسلمين في دينهم وحضارتهم، ورجالاتهم بغية الوصول إلى تسخيرهم لمآرب عدوهم وغاياته".
المطلب الثاني: شواهد وجوده في العالم الإسلامي:
الغزو الفكري ليس جديدا في العالم الإسلامي، بل هو موجود منذ وجد الإسلام، ولكن اشتد أواره بعيد الحروب الصليبية وعلى وجه الخصوص بعد واقعة المنصورة حيث أسر لويس الرابع عشر ثم فدى نفسه ورجع إلى وطنه ,فنصح لرجاله أن يبتعدوا منذ ذلك اليوم عن المواجهة المسلحة وأن يدرسوا الإسلام وأحوال المسلمين ليصلوا إلى ثغرات ينفذون منها إلى هذا الدين وأهله، ومنذ ذلك اليوم ولد الاستشراق وداء التبشير وما يتبع ذلك من الصراع الحضاري الرهيب إلى يومنا هذا.
وشواهد وجود هذا الغزو في العالم الإسلامي لائحة واضحة، وآثاره ظاهرة للعيان تتجلى في محاولاتهم الدائبة لهزيمة المسلم من داخل كيانه بشتى الأساليب والمكر، فهم لا يطمعون في مهاجمة المسلمين بقدر ما يطمعون في تشكيكهم وتأليبهم على دينهم وأمتهم وتاريخهم ليكونوا هم معاول هدم لهذا الدين من الداخل بأيدي أهله.
والذي يدل على نيلهم بعض النجاح في بغيتهم تلك؛ إنهم تواصلوا بأساليبهم الخبيثة الماكرة إلى توظيف عقول بعد غسلها، عقول كانت من قبل يرجى أن تمتلئ بالحق، ملؤوها بالأغاليط والشبهات ثم وظفوها ضد أمتها ودينها وحضارتها من حيث استراحوا هم وربحوا الرهان، وأضحى المسلمون معهم كما قال الشاعر:
لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري
فليس أنكى على الأمة أن تختلس أبناءها، ثم تجندهم ضدها، وتدمرها بأيديهم , وهم عن ذلك غافلون بالأباطيل والمغالطات يخدعون بها أنفسهم وما يشعرون.
المطلب الثالث: خطر الغزو الفكري وأهدافه:
يكمن خطر الغزو الفكري في أنه أسلم عاقبة لمن يستخدمه من الغزو المباشر العسكري أو الاقتصادي، وأقل مؤنة، وأشد نكاية وتأثيرا في المغزو، فهو يستخدم دائما الأسلوب العلمي الهادئ والحوار المفتوح، وإرادة الخير والنهضة بالآخرين، مغالطة وكذبًا وتزويرًا وتزييفًا للحقائق من باب "كلمة حق أريد بها باطل" وذلك من أجل الخديعة والمكر بالمسلمين، لذلك لا يتنبه لهذا الغزو العامة من المثقفين والبسطاء والسذج من الناس، لشدة تلبسه وخفائه ومن هنا يأتي الخطر، ثم هو أي التحدي الثقافي آخر خط للدفاع عن الإسلام والأمة الإسلامية فإذا سقط انتهى كل شيء.
لكن.. ترى؛ ما هي أهداف هذا الغزو الثقافي الخطير؟!
ليس المراد كما يتوهم البعض ويحلو لهم أن يحلقوا في الخيال الشعري، أن يُنَصِّروا المسلمين أو يهودوهم، فذلك قد انتهى زمانه وولى، وكان المراد أن يردوهم عن دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا إلى أي شيء من إلحاد أو علمنة أو وجودية أو دهرية أو ما شابه ذلك كي يصبحوا بلا إسلام.
إذن ليست المشكلة أن يزداد النصارى أو اليهود، لا، فهم راضون بما هم فيه، بل المشكلة أن ينقص المسملون ويقل عددهم وتضمحل مقاومتهم، ليضحوا عبيدًا لغيرهم من الأمم القوية بعد أن يرجعوا ضعفاء مزرعة لغيرهم خدمًا للآخرين.
فإذا كان الإسلام يعطي أتباعه معنى السيادة والعزة والكرامة، فلينته الإسلام من المسلمين وبأيدي المسلمين أنفسهم بشتى السبل حتى يصل الأسياد إلى ما يحلمون به من السيطرة والاستعباد والإذلال.(7/1885)
الباب الأول
التيارات المعاصرة
لدى المفكرين الإسلاميين
في مواجهة مشكلة الغزو الفكري
الفصل الأول: التيارات المطروحة في الساحة.
الفصل الثاني: التيار الموضوعي المقترح.
الفصل الأول
التيارات المطروحة في الساحة
ليس موضوع وجود الغزو الفكري وخطره أمرًا متفقًا عليه بين الكتاب والمفكرين المسلمين في هذا العصر، فهذه مسألة تقديرية تخضع لعوامل شتى، فضلًا عن مواجهة المشكلة؛ وسأتكلم عن التيارات الفكرية في هذا الموضوع تلك المطروحة في الساحة ودونك التفصيل:
التيارات المطروحة في الساحة:
هنالك ثلاثة تيارات لدى الكتاب المسلمين في الاعتراف بهذه المشكلة ومواجهتها:
1 ـ التيار الأول: التيار العلماني (1) ؛ وهو المعجب بالفكر الغربي المنذهل به الذي يعمل لتسود مقولات هذا الفكر فيما بين أبناء قومه، فهو إذن يرى في مقولات هذا الفكر بركة وإقبالًا، فلا يرى فيها شيئا يقال له غزو فكري بل هو تلقيح فكري جاء من قوم ذوي حضارة إلى قوم متخلفين، وسبب تخلفهم في زعمهم الدين الذي يسمونه (غيبيات) .
وهؤلاء قوم من أبناء جلدتنا ينتمون إلى العروبة، وبعضهم ينتمي شكليًّا إلى الإسلام، والجدير بالذكر أن كثير منهم من أصحاب الكلمة النافذة في أقوامهم ومن رجال الفكر والقلم!!!
فهؤلاء لا يعترفون بوجود شيء يقال له غزو فكري فضلًا عن معالجته أو مواجهته، لأنهم من أصبحوا دمى في أيدي أرباب الغزو الفكري وأدوات ووسائل، يرون في هذا الغزو ما يراه المريد الصادق من بركات شيخه لا يرى فيها أي غزو، بل يراها يمنًا وبركة وسعدًا، يشرف بها ويتسعد!!!
2 ـ التيار الثاني: وهو التيار الساذج الأبله؛ الذي يقوم في عقول السوقة والعامة وأشباه العامة، وأنصاف المثقفين وهو الذي يجنح إلى أنه يوجد غزو فكري للمسلمين، ولكنه تافه ولا قيمة له؛ لأنه مجموعة جهالات وأكاذيب سرعان ما يكتشف المسلمون زيفها وعوارها فيبتعدون عنها. ومثل هذه المقولة سببها ضيق أفق هؤلاء وغفلتهم عما يحيط بهم، وعدم تقديرهم حجم خصمهم وقوته، وهؤلاء أقرب الناس لأن يقعوا في براثن هذا الغزو الثقافي الخطير.
3 ـ التيار الثالث: وهو قريب من التيار الثاني ولكنه مصحوب بكثير من التساهل والتواكل وترك العمل بالأسباب اعتمادًا على قوة الإسلام، فهم يقولون: إنه يوجد غزو فكري ماكر وقوي، ولكن لن يضرنا ما دمنا مع الله، والإسلام دين الله وهو الحق، فلن يؤثر فيه مكر الماكرين، وكيد الكائدين، وغزو الغزاة المارقين!!
والحق أن هؤلاء لن يضرونا بشيء إذا كشفنا أغاليطهم وضلالاتهم، وإلا فلماذا هاجم القرآن الكريم مقولات خصومه، وفندها ورد عليها، فلو كان الأمر كما يقولون لتجاهلها القرآن الكريم وأعرض عنها (2) .
__________
(1) العلمانية شيء غير العلم، فالعلمانية يقابلها الإيمان، والعلم يقابله الجهل، فالعلمانية في جوهرها هي (توظيف المقولات العلمية المحايدة لتأييد فكر مناهض للدين على وجه العموم وللإسلام على وجه الخصوص) ، ولكنها لا تظهر للناس على هذه الشاكلة من الحقيقة المجردة بل تلبس لبوسًا مخادعًا فيقال عنها من لدن أنصارها (فصل الدين عن الدولة) أي الدين للأفراد فقط وليس للحكم ولا للجماعة
(2) انظر رد القرآن الكريم على مقولات أهل الكتاب في سورة البقرة، وآل عمران، ورد القرآن الكريم على المنافقين في سورة البقرة والنور والمنافقون وغيرها(7/1886)
الفصل الثاني
التيار الموضوعي
يتمثل هذا التيار عند بعض المفكرين الإسلاميين ـ وهم قلة ـ في قيام غزو فكري للعالم الإسلامي قوي ماكر ومنظم وخطر، له رجاله ومخططوه ومدارسه وأساليبه وطرقه وأهدافه وغاياته.
تخطيطه غالبا من خارج العالم الإسلامي وتمويله، بينما تنفيذه من داخل المسلمين بأيديهم وأيدي أهله وأبنائه من الذين هزموا من الداخل وفقدوا الهوية الإسلامية، وفقدوا ذواتهم أولًا ففقدوا بعدها كل شيء.
والمفروض لدى هؤلاء المفكرين وصاحب السطور منهم أن لا يترك الأمر على عواهنه، بل أن يعد للأمر عدته وأن يبحث بتأن وترو عن أسباب هذا الغزو ووسائله، وأن يدرس الدارسة العلمية المتأنية المستوعبة ليصار إلى مواجهته بأساليبه وأدواته التي غزانا بها، فنقابل الغزو الفكري بدفاع متين ثم بغزو فكري معاكس.(7/1887)
الباب الثاني
أساليب الغزو الفكري ومدارسه
الفصل الأول: أساليب الغزو الفكري.
الفصل الثاني: مدارس الغزو الفكري المشبوهة.
الفصل الثالث: طرق محاربة هذه المدارس المشبوهة وفضحها.
الفصل الأول
أساليب الغزو الفكري
يعتمد الغزو الفكري للإسلام منهجين اثنين للوصول إلى غايته في هدم الإسلام وتقويضه من الداخل، وسأذكر هذين المنهجين في مبحثين اثنين، ودونك التفصيل:
المبحث الأول
التشكيك في النصوص المقدسة في المجال الديني
(أ) التشكيك في القرآن الكريم
شكك الغزاة في القرآن الكريم من جهة نزوله، ومن جهة موضوعاته، ومن جهة إعجازه، ومن جهة معانيه وأحكامه، ومن جهة لغته، وغير ذلك.
وأبرز ذلك كله؛ التشكيك في أمور ثلاثة:
1 ـ في نسبة القرآن إلى الله عز وجل.
2 ـ وفي متن الآيات.
3 ـ وفي شخصية محمد عليه السلام.
أما في نسبة القرآن الكريم إلى الله ـ عز وجل ـ فقالوا: إن القرآن ليس وحيًّا من عند الله، ولكنه من عند محمد فهو من نوادر الأعمال الإنسانية الرائعة , وأنه مقتبس من التوراة والإنجيل وأنه لذلك ليس معجزًا لا في نظمه، ولا في معانيه.
وأما في متن القرآن فقالوا إنه حرف وبدل، وإنه متناقض ومتعارض بعضه مع بعض , وإن في نصه أخطاء كثيرة علمية وتاريخية ولغوية وأخلاقية (1) ، ولا مجال للرد على هذه المفتريات الآن بل العمل على الكتب المتخصصة.
وأما في شأن شخص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمن أحسن الكتب التي دافعت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتاب (خاتم النبيين) للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله.
(ب) المطلب الثاني: التشكيك في السنة المشرفة:
وأما السنة فلقد صوب إليها الغزاة من السهام أكثر مما صوبوا للقرآن الكريم، ذلك لوجود البعد البشري في السنة، فشككوا في الصحابة الكرام في عدالتهم وضبطهم اعتمادا على بعض الروايات الواهية الساقطة والمقولات الهابطة. وشككوا في بعض الأحاديث النبوية مدعين تناقضها بعضها مع بعض، أو مخالفتها للعلوم الحديثة ومقولاتها الطبيعية، وشككوا كذلك في علم مصطلح الحديث, وفي رجال الحديث وأئمته الجهابذة، ورجال الجرح والتعديل.
وانظر في ذلك كتابًا نفيسًا ألفه الدكتور محمد محمد أبو شهبة اسمه: (دفاع عن السنة) تجد طلبتك إن شاء الله تعالى فأحيلك عليه؛ لأن المحل محل اختصار.
__________
(1) انظر: الفكر الإسلامي الحديث، للدكتور محمد البهي، وحقائق الإسلام وأباطيل خصومه، للعقاد(7/1888)
المبحث الثاني
اعتماد الروايات المشكوك بها والآراء الشاذة في المجال التاريخي
لا يزال الغزاة يتمسكون بالمنهج التاريخي تاركين وراءهم ظهريًّا المنهج الإسلامي العلمي في تنخل الرواية، وهذا هو منهج مدرسة الاستشراق وأذنابها من المأجورين في بلادنا، ولقد تحدثت بما فيه الكفاية عن هذا الموضوع الخطير في كتابي (من ذخائر الفكر الإسلامي) فليرجع إليه (1) .
__________
(1) انظر: من ذخائر الفكر الإسلامي للمؤلف(7/1889)
المبحث الثالث
أساليب أخرى ماكرة للغزو الثقافي
1 ـ الحيلولة بين المسلمين وتمكنهم من التقنية الحديثة، فإذا لم يستطع الغزو الثقافي ذلك عمد إلى تزهيدهم فيها، وإذا فرضت عليه مصلحة تمكين المسلمين من بعض تقنية العصر حرص على تلويثها بما يفقدهم أصالتهم فيصبحون بها قوة مضافة إلى قوته.
2 ـ ومن أساليبه أيضا إثارة النعرات العرقية باسم إحياء الحضارات القديمة والتراث القومي للشعوب والأمم.
3 ـ ومن ذلك محاربته اللغة العربية وتشويهه للتاريخ الإسلامي والنيل من عظمائه وعلمائه.
4 ـ ومن ذلك استغلال وسائل الإعلام لترسيخ القيم الاستهلاكية الغربية في المجتمعات الإسلامية.
5 ـ ومن ذلك إزالة القدسية عن النصوص الدينية والفكر الإسلامي بتصنيفه ضمن التراث الإنساني العام.
6 ـ وجعل المسلمين دائمًا في حالة دفاع واستجابة مستمرة للتحدي.(7/1890)
الفصل الثاني
مدارس الغزو الفكري المشبوهة وفضحها
أبرز مدارس الغزو الفكري ثلاثة: العلمانية، والحداثة، والاستشراق.
المبحث الأول
العلمانية
(أ) العلمانية في التاريخ:
في غمرة صراع مرير وقاس بين بعض حكام أوروبا في القرون الوسطى وبين نظام كنسي اتسم بالطغيان والأنانية والشر والفساد وهو إلى ذلك يضفي على نفسه حلة العصمة والقداسة باسم الدين ويغلو في استغلال الدين استغلالًا شائنًا، ثار العقلاء والأحرار، وأعلنوا فصل الدين عن الدولة هناك، وانطلقوا يسيرون شؤونهم بمنأى عن تلك السلطة القائمة.
وجاء الاستكبار الصليبي العسكري والسياسي الحديث للبلاد الإسلامية التي ليس فيها شيء من تلك الأوضاع السيئة التي دعت إلى فصل الدين عن الدولة في أوروبا، فدعت في بلاد المشرق الإسلامي إلى فصل الدين عن الدولة فأبعد الإسلام عن جميع الميادين، وحصلت ازدواجية في كل شيء، حتى حرر المسلمون أنفسهم بالجهاد الإسلامي من ربقة هذا الاستكبار وجدوا أنفسهم أمام تركة ضخمة من القوانين، وجيش جرار من ضحايا الغزو الثقافي في ميدان الفكر، يحرضونه على المحافظة على المستورد من تلك القوانين ولو ناقض دين الأمة وحضارتها بلا أي مبرر.
(ب) العلمانية في العصر الحديث:
لئن كانت العلمانية ضرورة أو حاجة في أوروبا أمام طغيان سلطان الكنيسة فلا حاجة لنا بها نحن المسلمين لأنه ليس عندنا كهنوت ولا كنيسة، ولا يملك أحد لأحد مغفرة ولا جنة ولا حرمانًا، فالإسلام يختلف عن غيره بهذه البساطة والفطرة.
ولكن الغزاة أرادوا إزالة الإسلام من الحلبة، فهم يخشونه ويخافون منه ويحسبون له ألف حساب، ولذلك أقنعوا الناشئة من شبابنا بقضية فصل الدين عن الدولة، واستبقاء الدين للعبادة فحسب وعزله عن مكانته القيادية في المجتمع الإسلامي فأحدثوا فكرة العلمنة وروجوا له بشكل ملحوظ حتى أصبحت لدى أكثر ناشئتنا من المسلمات لأنهم أفاقوا عليها لا يعرفون غيرها , فظنوا أنها هي القاعدة والأصل، ولم يعلموا أنها دواء وصف لمرض في غير بلادنا ولغير أقوامنا..!! (1) .
__________
(1) انظر في ذلك كتاب (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) للدكتور محمد البهي في مواطن متعددة(7/1891)
المبحث الثاني
الحداثة
الحداثة أو (تحديث الإسلام) دعوة استكبارية معادية للإسلام ظاهرها جميل براق وحقيقتها سم رعاف تعد رد فعل عنيفًا على الإسلام، ومعنى ذلك (تهجين الإسلام ومسخه) أو (قصره على الأمور شكلية) وتفريغه من محتواه.
والأنكى من ذلك ما يقوله هؤلاء: إن تطبيق الشريعة الإسلامية يعد تطرفًا , وهو شعار تردده وسائل الإعلام وأبواق الدعاية الغربية وبعض ما يصدر في البلاد الإسلامية نفسها.
ومن دعوة الحداثة الزائفة هذه تفسير النصوص الدينية بالتفاسير الاعتباطية المدسوسة المسمومة مما يفرغ الدين من محتواه الأصلي وجعله جرابًا يوضع فيه ما يريد هؤلاء من الأفكار المستوردة الغربية عن الإسلام باسم الإسلام الحديث أو تحديث الرؤية الدينية، ومن ذلك كتب طبعت ونشرت لكتاب مسلمين عرب ثبت بالدليل القاطع أنهم لم يكتبوا شيئًا من ذلك وإنما كتب في غير بلاد المسليمن ومن دوائر استشراقية بحتة، واستأجروا لها من يكتب اسمه عليها من العرب المسلمين حملة الدرجات العلمية الرفيعة.
إننا ندعو إلى تحديث الأساليب في عرض الإسلام من صياغة جديدة وابتكار جذاب، وما شاكل ذلك. أما في جوهر الإسلام وثوابته فلا، وألف لا.
وهل دخلت النحل والأديان الزائفة إلى عقول الناس إلا من هذا الباب ... !!(7/1892)
المبحث الثالث
الاستشراق
وأما الاستشراق فهو أخطر مدرسة لمحاربة الإسلام بالإسلام فالاستشراق هو تلك الدوائر التي رصدت لها العقول والأموال وتوفرت على دراسة الإسلام دراسة ناقدة لتبحث عن الثغرات، ورجالها غالبًا من اليهود أو من رجال الكنيسة، فالدفاع ليس علميًّا بل ديني بحت.
ولقد ظهر من هؤلاء نيكلسون شيخ الاستشراق الذي كتب في التصوف الإسلامي بروح نصرانية فحور وبدل وغير وافترى على الحقيقة العلمية المجردة، وجاء بعده تلاميذه وأتباعه، وهم إلى يومنا هذا لا يفتأون يكذبون على الإسلام ورسول الإسلام , ومن هؤلاء كارل بروكلمان وأضرابه.
وأشهد أنه كان منهم منصفون؛ فمنهم من أسلم مثل د. روجيه جارودي وموريس بوكاي، ومنهم من بقي على دينه مع الإنصاف للحق.
وبالجملة؛ فالاستشراق في جملته إحدى الوسائل والأساليب المعتمدة للغزو الفكري الثقافي للإسلام في الماضي والحاضر.(7/1893)
الفصل الثالث
طرق محاربة هذه المدارس المشبوهة وفضحها
المبحث الأول
الوعي الفكري الإسلامي وانتشاره
هذا الوعي الفكري أضحى أمرًا ضروريًّا للمسلمين اليوم، ولا يقوم به إلا المفكرون المسلمون من العلماء ذوي الوسطية والاعتدال.
والواجب على هؤلاء المفكرين نشر هذا الوعي الفكري بين المسلمين بكل طرق النشر من خطابة وتدريس وكتابة وتأليف، والواجب على المسلمين مساعدة هؤلاء المفكرين في رسالتهم تلك حتى تؤتي أكلها وتعطي ثمراتها.
كما ينبغي كتابة الرسائل والردود العلمية وطبعها وتوزيعها، والعمل على ترجمتها للغات الحية.(7/1894)
المبحث الثاني
إقامة المراكز العلمية ودور الدرس والتحصيل
هذا؛ ومن أهم طرق محاربة هذه المدارس المشبوهة:
(أ) فتح المدارس والمعاهد العلمية الشرعية والكونية مع الإشراف على المناهج.
(ب) وإقامة الجامعات والكليات الإسلامية، ودعمها حسيًّا ومعنويًّا.
(جـ) وبناء المراكز العلمية وإقامة المحاضرات، وإصدار المجلات الإسلامية الحديثة بأقلام واعية.(7/1895)
الباب الثالث
ظواهر الغزو الفكري
الفصل الأول: ظاهرة سوء فهم الإسلام أو سوء توظيفه.
الفصل الثاني: ظاهرة البديل عن الإسلام.
الفصل الثالث: ظاهرة تهميش دور الإسلام في أهله.
الفصل الأول
ظاهرة سوء فهم الإسلام أو سوء توظيفه
من أبرز ظواهر الغزو الفكري ظاهرة سوء فهم الإسلام بحيث يصبح الإسلام في نظر أهله ومعتنقيه طقوسًا مجردة خاوية لا روح فيها، لا تقدم ولا تؤخر، فهي مبتسرة جوفاء، سرعان ما ينذبها المثقف اللقن لأنه لا يوجد فيها طلبته في هذا العصر.
وسوء فهم الإسلام عادة يكون عند كثير من المتدينين ومن لف لفهم، ولذلك يكونون دائمًا مثلًا سيئًا منفرًا، وهو المطلوب.
ومثل هؤلاء يحرص أصحاب الغزو الفكري ورجاله على إبرازهم وإعطائهم حجمًا في المجتمع الإسلامي أكبر من حجمهم الحق للتشويه فقط والتنفير من الإسلام.
ومثل سوء الفهم سوء التوظيف للإسلام: فهنالك مستغلون من الساسة والتجار ومحترفي السياسة ورجال الأعمال يتخذون من الدين مطية لمآربهم، فهؤلاء وأمثالهم يبرزهم الغزاة على أنهم قادة الفكر الإسلامي وزعماؤه، ليبعدوا الناس عن الإسلام الذين هم هؤلاء المستغلون رجاله والدعاة إليه!!(7/1896)
الفصل الثاني
ظاهرة البديل عن الإسلام
هنالك من المفاهيم الوطنية القومية ما يحمده الإسلام ويقره عنصرًا رديفًا مؤيدًا، فلا يصلح لأن يكون عقيدة أو دينًا، وذلك كالقومية العربية، والولاء للوطن، والشهادة في سبيل الله، وما إلى ذلك.
ولكن رجال الغزو الفكري يتقصدون أن يبالغوا في هذه القضايا، ويحلو لهم لغاية في أنفسهم أن يجعلوا منها بدائل عن الإسلام.
فنصبوا من القومية العربية التي نعتز بها كلنا دينًا بديلًا عن الإسلام، بحيث صار الإسلام من مقومات القومية العربية وليس العكس.
ونصبوا من الوطنية وثنًا يعبد من دون الله ـ حاشا لله ـ كما قال شاعرهم:
لو بدا لي موطني وثنًا لهممت أعبد ذلك الوثنا!!
وقس على ذلك الشهادة والشهداء، والأمة والدولة، ...
فهذه المفاهيم على ضرورتها للمجتمعات الإنسانية، لا تصلح دينًا ولا عقيدة ولا فكرًا؛ لأنها تفتقر إلى مقومات ذلك، فكيف تصلح بدائل عن الإسلام؟!
والعجب من بعض المسلمين من المفكرين والكتاب والأدباء من يدعو إلى هذه المبالغات الجوفاء التي ظهر عوارها وانكشف زيفها وباطلها وبهرجها.(7/1897)
الفصل الثالث
ظاهرة تهميش دور الإسلام بين أهله
بقي من الظواهر تهميش دور الإسلام بين أهله؛ ومعنى ذلك أن يجعل دور الإسلام في الحياة الاجتماعية مقتصرًا على توافه الأمور وصغائرها، فتصغر مساحته فوق خارطة العمل الوطني، وتضعف قيمة كلمته بإفقارهم وتجويعهم، ووضعهم دائما في مؤخرة الركب، وهذه خطة ماكرة وضعها خصوم الإسلام زمن الاحتلال العسكري والسياسي فلما ذهبوا بقيت بيد أذنابهم وتلاميذهم.
ألا وإن دور الإسلام دور رائد، فالإسلام ليس قزمًا ودوره ليس هامشيًّا، ولو سعى إلى ذلك خصوم الإسلام وغزاة الفكر الإسلامي وجب أن نسعى إلى ذلك بكل ما نستطيع.(7/1898)
الباب الرابع
أسباب قيام الغزو الفكري
والعوامل المساعدة له
الفصل الأول: أسباب قيام الغزو الفكري في العالم الإسلامي.
الفصل الثاني: العوامل المساعدة لقيام الغزو الفكري.
الفصل الأول
أسباب قيام الغزو الفكري في العالم الإسلامي
تكاد تنحصر هذه الأسباب في ضربين: أسباب خارجية، وأسباب داخلية، ودونك التفصيل:
المبحث الأول
الأساب الخارجية للغزو الفكري
تتجلى هذه الأسباب الخارجية فيما يلي:
1 ـ الطمع في خيرات العالم الإسلامي ونهبها عن طريق استعباد المسلمين.
2 ـ إذلال المسلمين لشفاء الأحقاد في نفوسهم على الإسلام.
3 ـ تسخير المسلمين لرغبات السادة المستعبدين.
4 ـ المكر للمسلمين للعداوة الدينية المتأصلة في نفوس الغزاة.
5 ـ إضعاف شأن المسلمين وشوكتهم كي لا يفكروا يومًا بمقارعة أعدائهم.(7/1899)
المبحث الثاني
الأسباب الداخلية للغزو الفكري
وتتجلى في ما يلي:
1 ـ وجود الاستعداد الواضح في العالم الإسلامي لقبول مقولات الغزو الفكري، فالغزو كالجرثوم لا يفتك في البدن إلا بوجود الاستعداد في البدن لقبوله.
2 ـ الخواء الفكري عند المسلمين، بحيث قد يوجد العلم ولا يوجد الفهم أي حسن التوظيف لذلك العلم كما قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} .
3 ـ الخواء الأخلاقي والتربوي لدى كثير من الناشئة المسلمين لفقدان التربية الحق.(7/1900)
الفصل الثاني
العوامل المساعدة لقيام الغزو الفكري
هنالك نوعان من العوامل المساعدة، نوع في الدعاة إلى الإسلام من العلماء، ونوع في الأمة.
المبحث الأول
العوامل المساعدة في الدعاة إلى الإسلام
وتظهر فيما يلي:
1 ـ انعدام الوسطية (1) وظهور كل من طرفي الغلو والانحلال.
2 ـ فشو الخلاف (2) المذموم وانتشاره بين الكتاب والعلماء.
3 ـ عدم التكامل (3) في شخصية العلماء الدعاة في الأعم الأغلب بحيث ينقص العالم الداعية عنصر من العناصر المهمة في دعوته وهي ثلاثة: العلم الصحيح، والتربية الصحيحة، وشروط الدعوة إلى الله وروحها.
وعدم التكامل هذا يورث نقصًا أو ازدواجية في شخصية الداعي تحدث خللًا في دعوته يؤثر ليحدث قابلية لغزو فكري معادٍ.
__________
(1) انظر كتابي: خصائص الفكر الإسلامي في مواضع متعددة
(2) انظر كتابي: معيار المعايير أو أصول الخلاف العلمي
(3) انظر كتابي: من ذخائر الفكر الإسلامي(7/1901)
المبحث الثاني
العوامل المساعدة في الأمة الإسلامية لقيام الغزو الفكري
1 ـ نالت الشعوب الإسلامية استقلالها السياسي ولكن الكثير منها لم تحقق استقلالها الثقافي والتربوي فاحتفظت بنقاط ضعف فيها كثير من الازدواجية والانشطار بين العلم والدين وبين العلم والأخلاق، حتى العلم لم يعد هو المقصود لذاته بين الناشئة بل الشهادات فقط ولو بغير علم وهذا أمر خطير.
2 ـ وكذلك الفراغ التربوي في كثير من بلاد العالم الإسلامي فنسبة الأمية عالية في معظم البلاد الإسلامية، والكثيرون محرومون من تربية تنمي مواهبهم.
3 ـ يبقى لدينا عامل مهم جدًّا وهو ربط الحقيقة العلمية بالحقيقة الدينية، فهذا أمر شبه مفقود في العالم الإسلامي إلا في القليل النادر، فالتعليم الصحيح هو الذي يمر على الإيمان والقلب قبل أن يمر على الفكر والعقل.(7/1902)
الباب الخامس
تفتيت الغزو الفكري ورد حملاته
الفصل الأول: الوقاية والعلاج للحالة الراهنة.
الفصل الثاني: الغزو الفكري المعاكس.
الفصل الأول
الوقاية والعلاج للحالة الراهنة
أرى ـ والله أعلم ـ الوقاية والعلاج لما عليه المسلمون اليوم من آثار الغزو الفكري يكمن في أمرين اثنين:
1 ـ الوسطية بمعناها الإسلامي الشامل في الأمة ومفكريها وعلمائها.
2 ـ والتكامل في فهم الإسلام.
فإذا ألحقنا بهذين الأمرين عنصرًا مساعدًا لهما وهو:
3 ـ الوعي الإسلامي العام بمفهومه الكلي.
نكون قد وضعنا سدًّا منيعًا في وجه أي غزو ثقافي أو فكري مهما كان مصدره، ومهما كانت رجاله وأصحابه.(7/1903)
الفصل الثاني
الغزو الفكري المعاكس
ولعل أعظم أسلوب للدفاع هو الهجوم.
فلماذا لا نهاجم فكريًّا وثقافيًّا ولدينا الوسائل، والأدوات والقدرات..!!
وأجل ما نهاجم به ثلاثة أمور:
(أ) افتتاح الجامعات الإسلامية في بلادنا وبلادهم وتخريج أجيال من العلماء الواعين الدعاة معهم العلوم والإجازات مع الشهادات العالية والدرجات الجامعية.
(ب) وافتتاح دوائر لدراسة الاستشراق ومقارنة الأديان ويتوفر على هذه الأمور الممهمة برجال من التخصصين بالدراسات الإسلامية.
(جـ) وافتتاح مراكز ثقافية متكاملة (جامع وجامعة، ومعهد ومدرسة وقاعات للمحاضرات ومكتبة) كلها في مبنى واحد، في بلاد الإسلام وفي بلاد الغرب تقوم عليها خيرة أهل التخصص في العلوم الإسلامية معهم لغات أجنبية ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.(7/1904)
خاتمة
خلاصة لكل ما تقدم
وفي الختام؛ أستطيع أن أوجز البحث في عناصر:
1 ـ الغزو الفكري حقيقة قائمة لها من يؤيدها، وهي خطر على الأمة الإسلامية إن لم يتدارك، وهو أمر قائم ومنظم وخطر , تخطيطه من خارج البلاد الإسلامية وتنفيذه من داخلها.
2 ـ أساليب الغزو الفكري التشكيك في الحقائق الإسلامية بينما مدارسه المشبوهة هي العلمانية والحداثة والاستشراق.
3 ـ ظواهر الغزو الفكري: سوء فهم الإسلام أو سوء توظيفه، وظاهرة البديل، وظاهرة التهميش.
4 ـ أسباب قيام الغزو الفكري: الاستعداد من الداخل , والمكر من الآخرين.
والعوامل المساعدة له: انعدام الوسطية , والخلاف المذموم , وعدم التكامل في اختيار الدعاة.
5 ـ تفتيت الغزو الفكري ورد حملاته، الواقية والعلاج للحالة الراهنة، والهجوم على الغزو الغربي بغزو فكري معاكس.
هذه أبرز القضايا التي بحثت في هذه العجالة المتواضعة , فإن أصبت فمن الله وله الفضل والمنة، وإن أخطأت فمني وأستغفر الله تعالى وأستقيله , فإن أصبت فلي أجران؛ وإن أخطأت فحسبي الأجر الواحد.
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} صدق الله العظيم.
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور(7/1905)
أبرز مصادر البحث ومراجعه
1 ـ البهي (د. محمد) : الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي.
2 ـ العقاد (عباس محمود) : حقائق الإسلام وأباطيل خصومه.
3 ـ خالدي وفروخ (د. مصطفى خالدي ود. عمر فروخ) التبشير والاستعمار.
4 ـ أبو زهرة: (محمد) : خاتم النبيين.
5 ـ الفرفور (محمد عبد اللطيف) : خصائص الفكر الإسلامي.
من ذخائر الفكر الإسلامي.(7/1906)
الغزو الفكري وأساليب المواجهة
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
الغزو الفكري وأساليب المواجهة
في عالم يغص بالانحراف والضياع الفكري والأخلاقي، والظلم، ظهر الإسلام العظيم منحة ربانية ترسم للإنسانية الطريق الخالد الوحيد لتكاملها المطرد، وخلاصها من كل ما يزري بها ويجرها إلى الانحطاط.
ورغم أن العوامل الكثيرة كانت ضد مثل هذه الإنطلاقة، إلا أنها كانت تمتلك ـ من جهة أخرى ـ عناصر أهلتها لتحقيق غايتها الكبرى.
وأهم هذه العناصر:
(أ) طاقات الإسلام الذاتية القادرة على النفوذ إلى الأعماق، نتيجة انسجامها مع البنية الإنسانية، والفطرة.
(ب) القيادة الحكيمة للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
(جـ) تأييد الله تعالى، فهو ولي المؤمنين: {وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخدَعُوكَ فَإِنَّ حَسبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصرِهِ وَبِالمُؤمِنِينَ وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِم لَو أَنفَقتَ مَا فِي الأَرضِ جَمِيعا مَّا أَلَّفَت بَينَ قُلُوبِهِم وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَينَهُم إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
ولا ننسى أيضًا ـ أن الظروف الزمانية والمكانية ـ رغم ما كانت تتمتع به من عناصر سلبية ـ كانت مهيأة لظهور مثل هذه الدعوة، بل وانتصارها في زمن قصير.
وعلى أي حال، فقد ظهر الإسلام وعم نوره الأرض.. إلا أنه ـ وبشكل طبيعي ـ واجه من يومه الأول مقاومة، من كل أولئك الذين جاء للقضاء على ظلمهم، وجهلهم، وتعصبهم، وابتزازهم للحقوق فخططوا له ما شاءوا وقاوموا ما مكنتهم قوتهم من ذلك. وحفل تاريخ العصبة الإسلامية الأولى، بل تاريخ المسلمين على مر العصور، بألوان من الحرب، والمقاومة الكافرة، والتآمر الحاقد لإطفاء هذه النور {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2) .
__________
(1) سورة الأنفال: الآيتان 62 و63
(2) سورة التوبة: الآية 32(7/1907)
وكانت الحرب الثقافية والسلوكية هي أخطر ما ووجه به الإسلام في صدره الأول؛ وخصوصًا بعد أن قويت شوكته العسكرية وتوطدت أركانه، بل راح ينطلق مهاجمًا القوى الكبرى آنذاك، وقاضيًا بالتالي على شوكتها، خلال ربع قرن، وهو عمر لا يعد شيئًا بالمقياس التاريخي.
وإذا ركزنا على صدر الإسلام بالخصوص، وجدنا أن نقطة الاختراق الرئيسية ـ تقريبًا ـ والتي نفذ منها العدو الكافر إلى فكر المسلمين، وبالتالي إلى سلوكهم هي (الإسرائيليات) فقد أضفت طابعها ـ مع الأسف ـ في مختلف حقول المعرفة، ونجحت إلى حد كبير في جر الأمة إلى مسارب لا تحمد. هذا وإن كنا لا نتناسى الرواسب الأخلاقية والحضارية التي بقيت كامنة، سواء في نفس بعض العرب الذين أسلموا، أو في نفوس الشعوب التي دخلت الإسلام بعد ذلك، فنقلوها بشكل شبه طبيعي إلى الساحة الإسلامية، وربما صبغوها بالصبغة الإسلامية، بل وقد تكون هذه العملية انطلت على من جاءوا بعدهم، فحسبوها إسلامية أصيلة، وراحوا بها يتعبدون.
ولا نريد أن نطيل في هذ الجانب ـ وإن كان مهمًا جدًّا ـ(7/1908)
نظرة إلى الفترة الفاصلة بين الصدر واليوم:
وإذا أردنا أن نلقي نظرة على الفترة الفاصلة بين عصر صدر الإسلام وقرننا الأخير، وجدنا أن الاختراق الثقافي والحضاري والسلوكي المنحرف، قد زاد عنفًا وقوة حتى تحول إلى تيار عرم، وذلك كلما اتسعت النقاط التي ينفذ منها بالتدريج.
إن المتتبع لفترة القرنين الثالث والرابع الهجري مثلًا، يجد ـ إلى جانب الثراء العلمي والأدبي وغيرهما ـ حالة منحطة جدًّا على المستويات السياسية والاجتماعية والأخلاقية على الأقل في الطبقات العليا من المجتمع.
فههنا صراع عنيف بين العنصريات (العربية والفارسية والتركية وغيرها) ، وهناك تقاتل وتناحر بين الطوائف الإسلامية يذكيه ذوو الأطماع، وهناك اختلاف في المستويات الاقتصادية صارخ، فبين أن تزف عروس للخليفة ببغداد من مصر، وتصرف عليها من الأموال ما يزلزل الخزينة المصرية بكاملها، وبين أن يظل عالم كبير يئن من الجوع والفقر، ولا تنجيه إلا صدقة من حاكم مترف.
وعلى أي حال، فلنعبر هذه العصور المتمادية إلى عصرنا الأخير.
فكما تجمعت قوى ثلاثة في الصدر الأول ضد الثورة الإسلامية الكبرى الأولى، وهي:
(أ) ـ المترفون والمستغلون.
(ب) ـ الجاهلون العقائديون المتعصبون.
(جـ) الحاقدون على الشعوب.
نجد أن هذه القوى تجمعت من جديد ـ وبشكل أكثر ضراوة وأدق تخطيطًا ـ على الأمة الإسلامية اليوم، بل وزادت من قدرتها ونشاطها عندما واجهت الثورة الإسلامية المباركة في إيران، وما تركته من آثار على إيقاظ الشعوب، وتحريك الجيل الإسلامي ـ اليوم ـ نحو تطبيق الإسلام الأصيل، بعيدًا عن التشويه والتحريف.(7/1909)
لقد تجلت الصيغ الماضية في كل من (الاستعمار، الصليبية، الصهيونية) .
وكان هذا التلاحم الحاقد الخطير، وهذا التمهيد المتبادل بينهما، وبالتالي هذا الهجوم الكاسح على العالم الإسلامي.
وقد صدقت الثورة الإسلامية أروع الصدق، حين أطلقت على هذا الثالوث عنوان (الاستكبار العالمي) منتبهة إلى علتة وجذوره النفسية.
وإذا تجاوزنا ـ أيضًا ـ تفصيلات هذا الهجوم، مستقرئين أهدافه من خلال طبيعة العمل، وتصريحات القائمين به، عرفنا أنه كان يعمل على إطفاء بصيص العقيدة الإسلامية المتبقي في النفوس، ولقد كان هذا البصيص ـ الذي سلم من خلال عصور الغفلة ـ كافيًا في بعث الصلابة والثبات في أبناء هذه الأمة، وشدها بنوع من التماسك، الأمر الذي يعرقل كل مخططات الكفر!!
وكان التخطيط عمومًا يسير عبر الأساليب التالية:
(أ) إيجاد الخواء الحضاري في الأمة الإسلامية.
(ب) بث التعالي الحضاري الغربي، وتأكيده بشتى الأساليب.
(جـ) الملء الحضاري بالمطلوب.
ورغم أن هناك نوعًا من الطولية بين هذه الأساليب، إلا أن هذا لم يمنع من أن تعمل إلى جنب بعضها البعض وفي عرض واحد.
ومن الواضح التالي: أن الكفر إذا استطاع أن ينفذ هذه الأساليب، فإنه سيحقق بغيته من إطفاء الشعلة العقائدية، أو إفراغها من محتواها الثوري، وهذا يعني فناء الشخصية الإسلامية، وتمهيد السبيل لتحقيق حلم القوى الثلاثة الحاقدة الجشعة.(7/1910)
فلنستعرض ـ إذن ـ تفصيلات كل أسلوب من هذه الأساليب الثلاثة ـ طبعًا باختصار ـ لتتوضح أكثر فأكثر.
الأسلوب الأول:
خلق الخواء في الشخصية الحضارية الإسلامية، أو فلنعبر عنه بقطع الأواصر السليمة الأصيلة، بين الأمة وإسلامها في شتى الجهات، فإذا انقطعت العلائق خوى الوجود الإسلامي، وماتت الروح المطلوبة، وذوى النشاط والتأثير المفروض.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (1) .
ونستطيع هنا أن نستعرض قائمة طويلة من تفصيلات هذه الخطة الماكرة إلا أننا سنقتصر على المهم منها , وهي:
1 ـ العمل على تأجيج الخلافات بين المسلمين، لكي ينسوا قضيتهم الكبرى، وينخرطوا في مشاكل جانبية، الكثير منها مصطنع، وهم إذ يفعلون ذلك يمهدون للنفوذ الأجنبي بلا ريب، ولو عن طريق شيء من الانتصار المذهبي الضيق على حساب الطرف الآخر. ولا ننسى في هذا الصدد، ما عمله المستشرقون الحاقدون في هذا المضمار، للإيقاع بين المسلمين، فضلًا عما كان للتركة التاريخية في هذا المجال من أثر محطم، وإلى جانب هذا التأجيج الخبيث، نجد عملية إلهاء المسلمين بقضايا فكرية جانبية، غاية أثرها أنها تصنع مواقف متباينة، من نمط من السلوك الفردي غير الطبيعي.
وقد وجدنا نظير ذلك، عندما التهى المسلمون ـ سابقًَا ـ بقضايا (خلق القرآن) وأكلت منهم هذه المسألة الجهد الكثير وربما سالت لأجلها دماء ودماء.
__________
(1) سورة الحج: الآية 31(7/1911)
2 ـ وعلى هذا الغرار، سعيًا لتمزيق الشخصية الإسلامية الواحدة، عمل الاستكبار العالمي على تفتيت كل عناصر الوحدة الأخر فراح ـ مثلًا ـ يحارب لغة القرآن (اللغة العربية) وذلك لدى غير العرب، في حين راح يروج اللغة العامية لدى المسلمين العرب، وهي عملية ماكرة خبيثة، تعمل على إبعاد الأمة عن مصادر الإشعاع، وتجعلها حِكرًا على جماعة متخصصين فقط، كما راح الاستعمار ـ من خلال عملائه ـ يمزق الأرض الإسلامية إلى دويلات صغيرة ـ بعد أن قضى على الدولة العثمانية ـ بشتى الأساليب الماكرة، وإذا تمزقت هذه الدويلات، راح يزرع مفهومًا ضيقًا للوطن، يتلخص في التراب الإيراني أو العراقي أو الكويتي أو اللبناني وما إلى ذلك، وتأكيدًا لهذا المعنى، راحت كل منطقة تدرس تاريخها الخاص بها، وتوسعة في التآمر، راحت المناطق تؤكد على تاريخها ـ هي ـ ما قبل الإسلام وما أدعته لأنفسها من حضارات سخيفة، وقد ساعدت الاستعمار ـ في ذلك ـ أحزاب قومية ومحلية خبيثة، أنشأها ـ هو ـ لتحقيق مراده في هذا المجال.
هذا بالإضافة إلى روح التمزق القومي التي خلقها ـ كأخطر فكرة وأخبثها ـ لتحقيق الهدف نفسه على صعيد آخر.
3 ـ بث الشبهات العقائدية في أذهان الجيل الناشئ، ولما لم يكونوا بمستوى الرد عليها، فإن الشبهة سوف تتحكم في النفس، وحينئذٍ يتحقق الانفصام المطلوب.
4 ـ تشجيع العزلة لدى العلماء، سواء العزلة عن البحث في القضايا الاجتماعية المهمة، أو عن المشاركة الاجتماعية الفعالة، واختيار التقوقع والزهد بمفهومه المنحرف، المبعد عن المسيرة الاجتماعية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، العمل على خنق كل صوت علمي حر، يحاول أن يمد الجسور إلى لب العمل الاجتماعي، واتهامه وتجريحه وتحريفه، وتحريك الغوغاء ضده.
كل هذا لإيجاد الانفصام بين ورثة الأنبياء ـ وهم العلماء ـ والأمة، فلا تركن إلى ركن ركين، خبير بالأمور.
وإذا انسد على الأمة باب الفكر الأصيل، انفتح عليها باب الأوهام أو الفراغ ـ على الأقل ـ وهو المطلوب من قبلهم في هذه المرحلة.(7/1912)
5 ـ توسيع الهوة بين الحياة القانونية والشريعة الإسلامية من خلال استيراد القوانين الغربية، وترويج لفكرة العلمانية، والوقوف بوجه أية محاولة تقنينية للشريعة الإسلامية وغير ذلك. مما أدى إلى البعد التدريجي للحياة الاجتماعية عن مخططات الشريعة (1) .
6 ـ ترويج الفساد الأخلاقي بين أبناء الأمة، وذلك كمقدمة للفساد العقائدي.
وقد تم استغلال كل وسائل التمييع لبث الروح الشهوانية، وتحريك الغرائز في الشباب، والشهوة ـ إذا أثيرت ـ ملكت على المجتمع لبه، وهوت به في أحكام كاذبة، حتى غدا الشاب يشعر ـ مع ثور الشهوة ـ أن الإسلام هو الذي وقف سدًّا حائلًا بينه وبين إشباع لذاته المسعورة، متناسيًا كل المقاييس الواقعية النوعية، وكل الأضرار الناتجة عن هذه النظرة الثائرة، الأمر الذي يقوده ـ أحيانًا ـ للانضمام إلى معسكر الشك وربما الكفر في كثير من الأحيان.
والخلاصة: إن الاستعمار إذ يشيع هذه المادية الأخلاقية، فإنه يمهد السبيل للمادية العقائدية، إذ غالبًا ما تؤدي الحياة المادية التي يعيشها الإنسان إلى العقيدة المادية، تمامًا كما تؤدي العقيدة المادية إلى السلوك المادي المنحرف.
فإذا حدد الإنسان مركزه من الكون على أساس أن هذه الحياة هي كل الشوط وأنه يجب أن يشبع غريزة الذات فيه ـ تمامًا ـ منها، وأن لا شيء وراء المادة، إذا اعتقد ذلك فقد فتح الباب على مصراعيه؛ لأن يعب من اللذات، ويظلم الآخرين، وحينئذ يذوب عنده أي معنى للفضيلة والرذيلة، وسيكون لهؤلاء مستقبل مظلم ـ غالبًا ـ إذ سيفرون إلى المخدرات والمسكرات.
أما العكس، فواضح أيضًا، فالأخلاق والعمل، لهما تأثيرهما في تعميق الفكرة وإذابتها، إنهما يحولان الفكرة العقلية إلى أحاسيس وعواطف تصبغ سلوك الإنسان ولا يتأتى لأية فكرة ـ ما لم تتحول إلى هذا المستوى ـ أن تصبغ السلوك الإنساني.
إن العلاقة بين الإيمان والعمل علاقة تبادلية.
ثم إن المادية الخلقية، وما نعبر عنه ـ نحن ـ بالمعاصي، تبعد النفس عن مقام تلقي اللطف الإلهي، وهكذا يجد المنحرف أخلاقيًّا نفسه ـ في نهاية المطاف ـ مكذبًا بآيات الله: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} (2) .
في حين يقوم العمل الصالح بتعميق الفكرة والسمو بها: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (3) .
وعلى أي حال، فسوف نستعرض بعض الأساليب اللاأخلاقية، التي استخدمها الاستكبار العالمي، ليحقق هذه الغاية، عندما نتحدث عن الاختراق في جانبه الخاص بالشعب الإيراني.
__________
(1) ولا ننسى أن نشير ـ هنا ـ إلى أن ضغط الجماهير المسلمة من جهة، ومحاولة بعض الحكام العملاء التخفيف من الضغط الجماهيري، وحماية أنفسهم من السقوط، دفعاهم لطرح فكرة التقنين من جديد، إلا أنها دعوة معروفة الدوافع والنتائج
(2) سورة الروم: الآية 10
(3) سورة فاطر: الآية: 10(7/1913)
7 ـ العمل الحثيث على تسليم أزِمّة الأمور لحكام عملاء، أو جهلة بالإسلام وأحكامه، ليقوموا بالمساعدة على إبعاد الأمة عن جذورها الأصيلة، بشتى الأساليب وليس أقلها خطرًا، أسلوب عرض الإسلام عرضًا رجعيًّا ميتًا، يفقده أي روح تغييرية، ويحوله إلى سلوكات فردية، بعيدة عن القضية الإسلامية الكبرى.
وهؤلاء الحكام ـ بطبيعة الحال ـ سيقومون بفصل الحياة الاجتماعية عن الدين وعزل المفكرين الإسلاميين الأصليين، أو ربطهم بركاب الحاكم، ولكي لا يتحركوا إلا وفق هواه , وترويج الفساد الأخلاقي، وفسح المجال للشبهات والتشكيك، وأمثال ذلك.
وهكذا تحركت عملية إبعاد الأمة عن منابعها، على محاور متناسقة:
1 ـ المحور الفكري.
2 ـ المحور التشريعي.
3 ـ المحور الأخلاقي.
4 ـ المحور الحضاري (التاريخ، اللغة، التقاليد ... ) .
5 ـ المحور السياسي.
وظنت أنها استطاعت أن تحقق هدفها المنشود، وهو إيجاد الفراغ في الحياة الإسلامية كلها، تمهيدا لخطوة الملء التالية.(7/1914)
الأسلوب الثاني:
يتجسد في عملية فرض التعالي الحضاري للثقافة الغربية، كي تكون هي المثل الأعلى للأمة الإسلامية، فتنساق باتجاه الغرب بشكل طبيعي، خصوصًا بعد أن تنجح عملية التفريغ السالفة.
وقد استغلت هذه العملية الثانية مختلف الوسائل لتحقيق هدفها. منها:
أولًا: التطور العلمي، ذلك أن المسلمين، بعد أن وضعوا أسس التقدم العلمي، وكانوا هم السباقين في طرح الطريقة التجريبية في الحياة الطبيعية، تخلفوا عن الركب العلمي، في حين راح الغرب ـ وخصوصًا عبر نهضته الصناعية ـ يطور العلوم ويسير بها سجحًا، حتى بلغ بها شأوًا عظيمًا، الأمر الذي أدى من جهة إلى نتائج مادية محسوسة كبرى، ومن جهة أخرى، ترك آثارًا تشكيكية ضخمة أيضًا، على مجموع الأفكار والنظريات حتى تلك التي ما كان الشك ليطاولها من قبل، وعلى أي حال، فقد كان هناك تقدم علمي رائع، وإن لم يواكبه تقدم حضاري مطلوب.
وقد واجه الغرب العالم الإسلامي بنتائج نهضته العلمية مع حملة دعائية واسعة، تركز على أن هذا التقدم العلمي، هو في الواقع نتيجة نهضة عقلية وحضارية كبرى، الأمر الذي يستلزم أن يتجه معه العالم الإسلامي، إلى نفس الوجهة الغربية حتى يحصل على نفس النتائج.
وراحت الدعاية الغربية تعمل عملها، ونسي أبناء العالم الإسلامي ما صاحب هذا التقدم من وحشية وبربرية، وجشع، وانحطاط خلقي وإنساني مقيت.
ثانيًا: الشعارات البراقة: فقد وجد الغرب أن الاحتفاظ بأعماله الوحشية وطرحها على حقيقتها، أمر لا يساعده في تحقيق مآربه، ومن هنا بدأت أكبر عملية ابتزاز وتسابق، في طرح الشعارات المحببة أصلًا إلى القلوب العامة. وهكذا رحنا نجد سوق المزايدات ملأى بشعارات (الحرية، والديمقراطية، والإرادة الإنسانية، والاشتراكية، والعدالة، والتحرر الوطني , والاستقلال، والتقدم، وحقوق الإنسان، وأمثال ذلك ... ) . وقد ساعده على الإغراء، أن هذه الشعارات وجدت لها ـ أحيانًا ـ بعض المصاديق، الأمر الذي خدع الكثير من أبناء الأمة، وجعل الغرب في عينيه المثل الأعلى.
هذا في حين كان الواقع الغربي مليئًا بالعنصرية، والوحشية، والجشع، والسعي لبسط النفوذ وقهر الشعوب الضعيفة، وامتصاص دمائها.
وثالثًا: تسخير شتى الإمكانات العسكرية، والاقتصادية، والإعلامية والمالية، والثقافية لتأكيد هذا التعالي بشتى السبل.
وهذا ما سنراه بعد قليل، عند حديثنا عن الأسلوب الثالث.
ولكن قبل الانتقال إلى الحديث عنها، يجب القول إن العوامل التاريخية، وحالة الانحطاط التي أصابت أبناء الأمة، وما شاع فيها من أخلاق العزلة، والبعد عن الواقع، والتفكك، هذه العوامل شكلت عاملًا مساعدا قويًّا في مجال الانخداع بالأحابيل الغربية. وإلا فأي فكر سليم، وأي استقرار للتاريخ العربي والشرقي، وأي تمعن في طاقات الإسلام وثروته الموروثة، يوضح الأمر بشكل جلي ليس عليه غبار؟ ! ورحم الله من قال: إن القابلية للاستعمار هي أشد ضررًا من الاستعمار نفسه.(7/1915)
أما الأسلوب الثالث:
فهو عملية ملء الفراغ الفكري والفراغ في الشخصية بالنتاج الغربي، أو قل النتاج الذي يضمن للغرب أن يحقق مآربه دون عائق أو مانع.
هذا وقد شملت عملية الملء ـ هذه ـ مختلف الجوانب في حياتنا الاجتماعية، فعلى الصعيد الفكري: راحت الأفكار الغربية ـ الغريبة على ثقافتنا ـ تروج وتعكس روحها هنا وهناك، وراح الناس ينقسمون إلى مجاميع، تناصر هذه الفكرة الغربية أو تلك وكلتاهما غربية تقيأهما الغرب، والتقمهما هؤلاء، فهنا فكرة القومية، وهناك الوطنية، وهنا الديمقراطية، وهنا أيضا فكرة فصل الدين عن السياسة، وهذا يحلل الحياة الاجتماعية على أساس أنها بنى فوقية للوضع الاقتصادي، وهذا يتبنى الفكر الليبرالي معالجًا القضايا الاجتماعية والدينية وحتى الغيبية ـ إن كان يؤمن بها ـ على ضوئه، وهكذا اقتصرت الثقافة على تلقي الفكر الغربي، والتأمل فيه، بل وتقليده فكريًّا.
وهذا المعنى نفسه انعكس على الفن والأعمال الفنية، كما ترك بصماته المؤثرة على الأدب والشعر.
أما الملء في المجال الخلقي، فحدث عنه ولا حرج، حتى لقد عادت الصفة الغربية للعادة أو السلوك معيارًا للأخلاق الفاضلة، وهكذا شملت عملية الملء المجال التشريعي، والنفسي، وأمثالهما.
وهذا وقد أشرنا إلى أن الاستكبار العالمي استخدم شتى إمكاناته، في مجال فرض التعالي الحضاري الغربي، والواقع أنه استخدم تلك الوسائل ـ بشكل أقوى ـ في مجال ملء الفراغ الفكري، والفراغ الاجتماعي، وهذه الوسائل كثيرة منها:
هذا الأسطول الإعلامي الضخم، الذي تشرف عليه عقول جشعة مفكرة، في كيفية تقديم الغذاء المناسب، وتحريف الحقائق، وتزويق الأكاذيب، إلى الحد الذي يقل نظيره في التاريخ. كما أن منها عملية الاستشراق الضخمة، التي عبرت بكل وضوح عن التلاحم الثلاثي الآنف، في دفع هذه الحملة الثقافية الاستعمارية للاطلاع على ما لدى المسلمين، واكتشاف نقاط ضعفهم، وضربهم من خلال تلك النقاط، واكتساب شخصية علمية لدى المسلمين وتحريف الحقائق، وتقديم الطبخات الغربية للأذواق الإسلامية، وتشويه الحضارة.(7/1916)
ومن تلك الأساليب: أسلوب البعثات الثقافية، وإنشاء الجامعات في الأرض الإسلامية، أو تربية الطلاب المبعوثين منها إلى الغرب وإشباعهم بالأفكار المادية، وتحويلهم بالتالي إلى عملاء فكريين، يرجعون إلى بلادهم فيبشرون بالحضارة والفكر الغربيين، ويعملون على إنقاذ شعوبهم من جهلها وتخلفها.
كما أن منها أيضًا: الاستفادة من الحكام العملاء، الذين أمسكوا أَزِمَّة الأمور في تمرير المخططات المختلفة.
ويعد أسلوب الاستفادة من الأحزاب العميلة من أخطر الأساليب في هذا المجال.
والواقع: إنه لولا ما يحمله الفكر الغربي من نقص ذاتي وانحراف ونبو من قبل الفطرة تجاهه من جهة، وما تملكه الأمة من نور عقائدي حتى على مستوى (البصيص المتبقي) ، ووجود بعض العلماء والمفكرين الواعين الذين انتبهوا للخطر من أول الأمر، لأمكن لتلك الحملة الظالمة أن تحطم الشخصية الإسلامية بالكامل، وتترك الإسلام محطمًا، منعزلًا، بعيدًا عن الحياة الاجتماعية، في حين تترك الأمة مكبلة إلى الأبد بالقيود الفكرية والحضارية الغربية الغريبة عليها.(7/1917)
الفصل الثاني
الاختراق الحضاري الثقافي للمجتمع الإيراني
والواقع؛ إننا نستطيع أن نمثل لكل ما سبق عبر ملاحظة واقع المجتمع الإيراني، قبل الثورة الإسلامية.
فلقد كانت الخطة الاستكبارية ماكرة ومركزة جدًّا، باعتبار ما لإيران من مميزات حضارية، وجغرافية، وتاريخية، وخصائص أخرى.
وقد شملت الحملة المحاور التالية:
المحور السياسي، المحور الثقافي، المحور الأخلاقي، والمحاور الأخرى أيضًا.
أما على المحور السياسي: فلا نود إطالة الحديث فيه، لوضوحه وانكشافه.
فلقد كان النظام المسلط على إيران، قبل الثورة، يحكي جبروت التسلط الغربي، ويعكس ماهيته أشد انعكاس , وكان التراب الإيراني مركز القواعد الغربية، كما كان النظام الشاهنشاهي محور التآمر الغربي على المنطقة العربية والإسلامية، بل ومنطقة جنوب آسيا إلى حد كبير، وكان قد أحكم قبضته على الشعب ـ أو هكذا ظن ـ حتى عدت إيران جزيرة الأمان في تصورهم.
وقد قام هذا النظام بكل المهام الملقاة على عاتقه من قبل الاستكبار، ونفذ مخططات الاختراق على مختلف الأصعدة، ولكن كم لشاه إيران بالأمس من نظير اليوم في العالم الإسلامي؟ !(7/1918)
أما على صعيد المحور الثقافي: فنود أن نقف عنده قليلًا، ونورد له بعض الأمثلة، التي تبين عمق المأساة الثقافية، التي ابتلي بها الشعب الإيراني.
وقبل كل شيء، يجب أن نتذكر أن المطبوعات والكتب والصحف كانت حكرًا على النظام، ومن يسمح لهم النظام بنشر كتبهم، اللهم إلا ما شذ وندر ـ وقد عاث العملاء الفكريون في إيران فسادًا ما له نظير ـ.
فلنركز على الحقبة الأخيرة من تاريخ إيران، لنقف مجملًا على بعض الخطوط الفكرية التي طرحت نفسها على الساحة باسم المثقفين، أو منوري الفكر ـ كما كانوا يطلقون على أنفسهم ـ لنعرف أنهم كانوا أهم مسرب للفكر والثقافة الغربية إلى الساحة الإيرانية.
والملحوظ في الأمر أن هذه الحركة طرحت شعارات أخاذة تستهوي إليها القلوب. وقد مر بنا، أن هذا يعد من أهم أساليب الاستكبار، في عملية الاختراق، نحو جسم الأمة.
فمن هذه العناوين: فكرة (البروتستانتية الإسلامية!!) .
وكان الأرمني الميرزا يعقوب خان ـ وهو عميل إنكليزي معروف ـ في طليعة من طرحوا هذه الفكرة. فهو يكتب من حدود سنة 1290هـ إلى الشاه ناصر الدين، متحدثًا عن (لزوم المزج بين الإسلام والعلوم الغربية) ، فيقول: "إن انطلاقة الرقي، وضرورة الإصلاحات، يمكن الاستجابة لها بكل سهولة، من خلال خلق نوع من الانسجام بين المقررات والمناسبات القديمة، والمناسبات ومقتضيات المقررات الحديثة في هذا العصر".
ويستطرد قائلًا:
"لقد انمحت ـ الآن ـ ضرورة الجهاد في المجال الديني ـ تمامًا ـ وما علينا بعد هذا إلا تعميم الجهاد في الأمور الدنيوية هذه". (1)
ويبدو ـ من هذا النص ـ كيف حاول هذا الأرمني الحاقد أن يبقى لفظ الجهاد، مبعدًا إياه عن موضع الخطر على العدو المهاجم.
إلا أن الأخطر من هذا الميرزا كان ولده الميرزا ملكم خان، هذا العقل المفكر للماسونية في إيران، والمعتبر أبا للمثقفين الإيرانيين.
يكتب الميرزا ملكم خان عن نفسه: "لقد صممت أطروحة أمزج فيها بين عقل السياسة الغربية، وحكمة الديانة الشرقية، وقد علمت أن تغيير إيران إلى الشكل الأوروبي سعي لا نفع فيه، ومن هنا عرضت فكرة التطور المادي في إطار ديني، ليدرك المواطنون تلك المعاني جيدًّا، وقد دعوت أحبة وأناسًا معتبرين وفي محفل خاص، تحدثت عن لزوم (تهذيب الإسلام) " (2) .
وقد جاءت على لسان هذا العميل ألفاظ، من قبيل:
(إسلام العلم) ، (إسلام الحب) ، (إسلام العقل) وأمثالها، محاولًا ـ بذلك ـ تعميق ما يريد من هدف خبيث.
وعلى هذا الغرار جرى الميرزا يوسف خان، فهو يقول: "نعم، إن على الإنسان ـ دائمًا ـ أن يقوم بعملية تكميل وتغيير لقوانين الماضين، وفقًا لمقتضيات عصره واحتياجاته.. ومن بين الغربيين نجد دولة الإنكليز مدافعة دائمًا عنا، وإني لسعيد أن تفقد الدولة العثمانية عدة الولايات، ولا تفقد الدعم والتأييد من قبل الشعب الإنكليزي".
وهكذا نصل إلى الميرزا فتح على أخوند زاده، الذي يعلن بكل صراحة؛ لأنه إنسان تحميه روسيا (عميل روسي) وأنه جاء لهدم الدين والرجعية، وإيقاظ شعوب آسيا من نوم الغفلة والجهل، وإثبات وجوب البروتستانتية الإسلامية.
__________
(1) كتاب فكرة الرقي لفريدون آدميت، وهو أحد الماسونيين: ص 45 ـ 48
(2) كتاب فكرة الرقي لفريدون آدميت، وهو أحد الماسونيين: ص 64 ـ 65(7/1919)
وأخيرًا نجد عبد الرحيم طالبوف يكتب حول (تحديث الإسلام) ، فيقول: "إن أحكامنا الشرعية كانت جيدة لما قبل ألف سنة، ولكنها في عصرنا ـ نحن ـ يجب أن تضاف إليها 30 ألف مسألة جديدة".
وعلى هذا الغرار، يأتي أمثال كسروي، ليعلن فكرة (الدين النظيف) وشريعت سنكلجي، ليطرح فكرة (الإصلاح الديني) بعد أن دعمته دكتاتورية رضا خان المقبور. هذا وقد ألف الإمام القائد كتابه (كشف الأسرار) للرد على أمثال هذين المنحرفين العميلين.
وهكذا استمر هذا الأخطبوط الخبيث، واستطاع أن يؤثر على بعض المفكرين المنتسبين للإسلام وبعض الشباب، مما أوجد خطين مقلدين للغرب ـ وإن كانا متعارضين ظاهرًا ـ وهما: خط الاشتراكية الإسلامية، وخط الليبرالية الإسلامية، وهما: أخطر الخطوط، وأشدها انحرافًا، بل وعمالة.
الأمر الذي عانت منه الأمة الأمرين، كما عانت منه الثورة الإسلامية ـ وخصوصًا بعد نجاحها ـ حتى استطاعت أن تكشف حقيقة عمالتهما معًا للدول الغربية إذ التحما إلى جانب قوى الاستكبار العالمي، لضرب الثورة الإسلامية وعرقلة مسيرتها الظافرة.
ولا ننسى أن نشير ـ هنا ـ إلى تفصيلات هذه الحركة، من عملها على فصل الأمة عن تاريخها الإسلامي، واعتبار الفتح الإسلامي نوعًا من الاستعمار، وعلى ما أسمته بتطهير الفارسية من اللغة العربية، بل وحتى على تغيير الحروف الفارسية على غرار تغيير الحروف التركية، وغير ذلك مما لا يستوعبه صدر هذا البحث الموجز.(7/1920)
ولننتقل ـ بعد هذا ـ إلى مجال الفساد الأخلاقي لنجد الحملة ـ هنا ـ أكثر ضراوة وإمعانًا.
إذا شئنا أن نستوعب كل المساحة الثقافية ـ من خلال المنظور الإنساني الإسلامي ـ كان من المحتم القول بأنها ـ أي المساحة الثقافية ـ تمتد إلى حيث تمتد التركيبة الإنسانية نفسها، وهذا يعني شمولها للجوانب الإنسانية الثلاثة التالية:
1 ـ الجانب التصوري والعقائدي، بما يشمل كل المفاهيم التي يملكها الإنسان عن الكون والحياة والإنسان، وبالشكل الذي تناول السنن التاريخية والقوانين الحاكمة كلها.
2 ـ الجانب الإحساسي العاطفي: بما يشمل الغرائز والميول الأصيلة والمعدلة تبعًا للتربية الخاصة، وتكوين المصاديق المتعالية، كتحويل حب الذات الضيقة إلى حب الذات المتسعة الخالدة، من خلال الإيمان بالآخرة.
3 ـ الجانب السلوكي العملي: وهو بطبيعة الحال يسري لكل موقف يتخذه الإنسان، حتى فيما بينه وبين نفسه، كما أنه متأثر بالجانبين السابقين تمام التأثر، وخصوصًا بالجانب الثاني، بعد أن فسر المحللون النفسيون الإرادة الإنسانية بالشوق المؤكد، رغم أن الشوق المؤكد هو المرحلة الأخيرة التي تسبق تصميم الإنسان على العمل ـ كما نعتقد ـ فإن الإنسان يبقى يمتلك الحرية في أحرج الضغوط العاطفية.(7/1921)
الترابط بين المساحات الثلاث:
وإذا قبلنا الحقيقة الماضية كان علينا أن نؤمن بالكل الثقافي المترابط، وأن نعتبر أي انفصال بين الأجزاء عملية مؤقتة، وأي قول بالفصل الدائم بين المساحات مجازفة يكذبها الوجدان والنصوص الشريفة، كما أن هذا الإيمان والقبول يفتح أمامنا بابًا تربويًّا وإعلاميًّا واسعًا، ننفذ من خلاله إلى المقصود أولًا، ونكتشف أيضًا ـ عبره ـ التآمر الإعلامي على الوجود الثقافي ثانيًا.
وإننا إذ تأملنا واقعنا الوجداني رأينا حقيقتين مهمتين:
الأولى: هي هذا الترابط المحكم بين أبعاد الكل الثقافي الإنساني بما يمكن أن يرجع كل الإنسان إلى المحور الواحد المسيطر وهو النفس الإنسانية، فهي التي تتثقف في الواقع، وإن كانت المسارب أو المظاهر متفاوتة.
الثانية: أنه ونتيجة لهذا الترابط وهذه الوحدة الوجدانية فإن أي تنافر بين جزئين منها يعد أمرًا طارئًا على التركيبة الطبيعية الإنسانية سرعان ما تتغلب عليه لتحقيق الانسجام الكامل. ومن هنا نستطيع أن نفسر الكثير من النصوص القرآنية من قبيل: قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} (1) .
وقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} (2) .
وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} الآية (3) .
وغيرها من النصوص الشريفة.
وعلى ضوء هاتين الحقيقتين، علينا أن نعالج ثقافتنا على كل الأصعدة، ونلاحظ مدى النفوذ الغربي فيها.
__________
(1) سورة الماعون: الآيتان 1 ـ 2
(2) سورة الروم: الآية 10
(3) سورة فاطر: الآية 10(7/1922)
العدو يستهدف كل الجوانب:
ويبدو أن العدو ـ في حملته الثقافية ـ استهدف الجوانب الثلاثة بشكل عرضي وفي آن واحد، إدراكًا منه لهذا الترابط، وتحقيقًا لمهمته الرئيسة، وهي قتل الشخصية الإسلامية في وجود الفرد والأمة، وبالتالي تحقيق الأرضية السهلة لعملية الاستغلال الكبرى.
فعلى الصعيد التصوري: عمل الإعلام الغريب "واسمحوا لي أن أسميه بالإعلام الاستكباري العالمي نظرا لطبيعته ودوافعه الحقيقية الكامنة في طغيان الحيوانية والمادية في وجوده" عمل هذا الإعلام على التغريب الثقافي عن العقيدة والتصورات الأصيلة مستغلًا فترات الجهل، والاتجاهات القشرية الخالية من روح الإسلام، والمركزة على جوانب جزئية عابرة، مكبرة إياها، وجاعلة هذه الجوانب هي محور الصراع وتضارب الآراء عاملة ـ بالتالي ـ على نسيان التصورات الإسلامية التغييرية الكبرى، وترك الميدان الاجتماعي لكل المبادئ المدعية للعدالة والإصلاح، وهي في الواقع ضد ذلك.
ومن هنا رأينا اتجاه الكثير الكثير من جيلنا الشاب نحو المبادئ المادية التي احتلت زورًا موقع البطولة الثورية، والمطالبة بالقضاء على الظلم بعد أن أخلته هذه الآراء القشرية وأبعدت المسلمين عنه ـ لسبب أو لآخر ـ متغافلة أن الإسلام هو دين الصراع ضد التفرعن والفراعنة والطغاة، وهو دين الجهاد المتواصل ضد أي نمط من أنماط الظلم والاستبداد والاستغلال.
ثم إن العدو- وتأكيدا لعملية التغريب الآنفة - راح يزرع الشبهات تلو الشبهات في النفوس تجاه الإسلام عقيدة ونظامًا، وتجاه إمكان تطبيق الإسلام، وهو دين المجتمع القبلي ـ كما يدعون ـ فكيف يمكن تطبيقه في مجتمع القرن العشرين؟!
ولم تكن الشبهات عادية وإنما هي تشمل الحقول الفلسفية والمنطقية تمامًا كما تشمل الجوانب العملية، وهذه الشبهات عندما تصب في روح الشباب الفارغ فإنها تعصف برؤيته ومفاهيمه، وإذا تم ذلك ضمن الاستكبار انحرف الإحساس فالعمل بلا ريب. وإذا تمهد السبيل للنفوذ الغريب جاء دور الفكر الإلحادي المسموم لتحقيق المرحلة النهائية من العملية، ليصوغ الإنسان المسلم مبشرًا للماركسية بقيمها الواطئة أو الرأسمالية بجشعها ولؤمها، وعلى أي حال، يغدو عدوًّا للأمة وعميلًا للأجانب الأعداء.
وأما على الصعيد العاطفي: فإن خطته الخبيثة يمكن أن تتلخص بعمليتين: الأولى عملية إضعاف الروح الأخوية الإسلامية، روح إحساس المسلم أينما كان بألم المسلم الآخر، وإحلال الروح المحلية، والقطرية، والقومية، وحتى الوطنية الضيقة وغيرها. أما العملية الثانية فهي عملية توجيه العواطف والدوافع نحو المادية السلوكية، الأمر الذي يترك أثره على الجانبين العقائدي والعمل بكل قوة، فتحول المادية العاطفية إلى مادية عقائدية.(7/1923)
وقد استغل الاستكبار الغربي لتحقيق هذا الهدف كل الوسائل وما زال يستخدمها حتى يومنا هذا في أرضنا الإسلامية ونذكر منها النماذج الخلقية المنحطة، والمجلات والصحف الخليعة، والإذاعة المسموعة والمرئية، والسينما والمسارح، ومحلات الدعارة وبيوتها، والملاهي والمراقص والحفلات الماجنة، ومعسكرات الشباب ومنظماته، و (البلاجات) والمسابح المشتركة والرياضة وتعاطي الخمور، والتشجيع على استهلاك وسائل التجميل، والتشجيع على ارتكاب الجريمة، ودفع المجتمع نحو المخدرات واستغلال الإبداعات والأعمال الفنية لهذا الغرض، ومن تلك الفنون المستغلة: الزخرفة والرسم والموسيقى، واستغلال النتاجات الأدبية كالقصة والشعر، وتربية الشعب على تقليد الغرب الخليع في مختلف الشؤون كاللباس والسكن والسلوك، وفسح المجال للجمعيات والعناصر المدنسة من الصهاينة والبهائية والماسونية، ورواد نوادي الروتاري والملحدين، ليساعدوا في إذكاء نار الفساد، ونشر أفلام الخلاعة (والفيديو) وإشاعة عملية المراسلة غير النزيهة بين الجنسين، وتشجيع عمليات المقامرة في (الكازينوهات) العامة الكبيرة منها والصغيرة، وفي المسابقات الرياضية، وسباق الخيل من قبل المتفرجين وغير ذلك الكثير والكثير من الأساليب الرخيصة، ونؤكد هنا أن الكثير من هذه الوسائل الإعلامية اكتسبت ضعتها من أهدافها الوضيعة لا من طبيعتها كوسائل إعلامية مجردة.(7/1924)
وبالتالي فعلى الصعيد العملي: كان هدفه المرحلي هو إبعاد النظام الإسلامي عن توجيه الحياة الإنسانية، وإحلال النظام الغربية المادية محله، بشكل كلي، أو في غالب الأحوال، وهنا أيضًا تنوعت الأفكار التي مهد بها لهذه العملية، فشملت:
ـ فكرة فصل الدين عن السياسة، وقصر الحياة الدينية على الشؤون الشخصية والعبادية، وترك الشؤون الاجتماعية للفكر التنظيمي الغربي.
ـ وترويج الاتجاه الليبرالي المتحرر من التقيد بالتوجيهات الدينية.
ـ وتحبيذ العلمانية في الحكم بكل صراحة، أو بشيء من غطاء دستوري يذكر الإسلام كدين الدولة تمويهًا، في حين يحجر عليه أن يصوغ مجمل الحياة الاجتماعية إلا بما لا يتعارض مع المصالح الغربية والشخصية الضيقة.
وقد مهدت لهذه الفكرة أفكار أخرى مخادعة من قبيل: (فكرة تعقد الحياة، ولزوم التطوير في كل مجالاتها، وعدم قدرة النظم الدينية على مواكبة هذا التطور، باعتبارها تؤمن بالمطلقات التشريعية، وهذه المطلقات لا تنسجم مع عملية التغيير المستمر، وكذلك فكرة التخويف من الحكومة الدينية، أو ما يسمونه بالاستبداد الديني، مذكرين بما جرى في القرون الوسطى من الظلم الكنسي، وكيف وقفت الكنيسة إلى جانب الإقطاع المستبد، وأن هذا لا ينسجم مع الدولة الديمقراطية (الحديثة) ، وغير ذلك من الأفكار التي مهدت ـ كما قلنا ـ للعلمانية، فإذا بنا نجد الأرض الإسلامية تضج من وجود الحكم العلماني المغلف، دون أن يشعر أكثر الأفراد بمدى الجريمة التي ترتكب عبر ذلك.
والأنكى من ذلك، إن البعض من علماء الغرب ووسائله الإعلامية المحلية العميلة راحت تدعو لإعادة النظر في الإسلام نفسه!!
فهناك من يدعي أن الإسلام قد استنفذ أغراضه التاريخية.
وهناك من يرفع نداءه طارحًا فكرة (البروتسستانتية الإسلامية) .
وهناك من يطرح النظم الغربية أساسًا يجب أن يحور الإسلام نفسه بحيث ينسجم معها، فنجد شيوع تعبيرات: (الديمقراطية الإسلامية، والاشتراكية الإسلامية..إلخ) .
ولما لم يجد أذنًا صاغية راح البعض يطرح الأفكار التلفيقية التي تأخذ من هذا ضغثًا ومن ذاك ضغثًا وتقدمه على أساس أنه الإسلام المواكب لمسيرة التطور!! وهذا القسم الأخير هو أشد الأقسام خطورة على جيلنا الإسلامي الناشئ "واذكر أننا عانينا في إيران من كل الأفكار الماضية كثيرًا، إلا أن الاتجاه التلفيقي بشكله الغربي أو الشرقي كان يشكل عقبة كأداء في عملية أسلمة الحياة الاجتماعية أسلمة كاملة، الأمر الذي اضطرت الثورة الإسلامية معه إلى الضرب بيد من حديد بعد أن تآمر على كل المكاسب الإسلامية".(7/1925)
الفصل الثالث
خطوط المواجهة الإعلامية للغزو الثقافي
ونستطيع أن نميز في مجال مواجهة الغزو الثقافي الآنف على الصعيد الثقافي والإعلامي خطوطًا، أهمها خطان:
أولًا ـ الخط الإعلامي الثوري البناء, وقد امتاز هذا الخط بميزات منها:
(أ) وعيه للإسلام وعيًا نافذًا، وإدراكه العميق الأصيل لنظرته الحياتية التغييرية الشاملة.
(ب) إدراكه لأبعاد الغزو الثقافي ومساربه ومظاهره.
(جـ) تركيزه على محور المشكلة دون إهمال لجوانبها وفروعها وتفصيلاتها، وبالتالي دعوته للتغيير الثوري والإصلاحي في آن واحد.
(د) تقديمه الطروحات الإسلامية للجيل، وبعث حركة ثقافية جديدة.
(هـ) تحريك الحس الإسلامي الحماسي المطلوب وعدم الاكتفاء بالتنظير الفكري الجاف وهذا النوع هو الذي استطاع أن يقدم خدمات جلية على صعيد المواجهة وينقذ الأمة من وهدتها.
ثانيًا ـ الخط الإعلامي السطحي: والذي تميز بما يلي:
(أ) بطرح الإسلام شعارًا براقًا، والتذكير بالأمجاد دونما عمل على تقديم الطروحات الحياتية.
(ب) بتحبيذ الإصلاحات الجانبية والغض عن الكثير منها خوفًا من الانفلات.
(جـ) باتباع أسلوب المساومة السياسية مع الحكام المرتبطين، مهما بلغ بهم الارتباط، والاكتفاء منهم ببعض الظواهر الكاذبة.
ولهذا نجد جماهيرنا المسلمة تمج هذا الأسلوب، وترفض التعامل معه كإعلام إسلامي، مما أفقده تأثيره، لا على صعيد المواجهة فحسب، بل وحتى على صعيد التأثير الجزئي، فلم يعد يحقق حتى ما يقصده العلماء ـ من خلال تسخيره ـ من تخدير وتغطية، وأمامنا تجارب حديثة جدًّا حاول فيها أمثال هؤلاء التمويه وتشويه الإرادة الإسلامية من خلال إعلام واسع الأبعاد وعلى الصعيد العالمي، فكذبتها الجماهير المسلمة وأسقطتها من على عروشها العاجية.(7/1926)
الإعلام القرآني جوهر النهوض:
وإذا أردنا أن ننهض في مجال الإعلام المواجه والمربي في آن واحد، لم يكن لنا من سبيل إلا سبيل القرآن والدعوة القرآنية، إننا مسلمون قبل كل شيء، لنا تصوراتنا ونماذجنا الخاصة بنا، والمستقاة من خالق الكون العليم بما يصلحه، والقرآن هو نموذجنا الأسمى في شتى المجالات، فهو: (الكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع) وهو: (ناطق لا يعيى لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعز لا تهزم أعوانه) وهو: (كتاب الله؛ تبصرون به وتنطقون به، وتسمعون به) ؛ فعلينا أن نعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي، فهو: (البحر الذي لا يدرك قعره) (1) .
إنه كتاب التوعية، والتوعية في الإسلام تسبق أية خطوة أخرى.
الإسلام دين التوعية والتربية.. وهو بمقتضى واقعيته وفطريته يقرر لزوم القيام بتوعية أي إنسان يراد له أن ينضم إلى معسكره، وأي مجتمع يراد للإسلام أن ينفذ إلى عمقه.. إنه يعرض جوهرته الثمينة، لأنه يعلم أن قيمتها ستنكشف بكل وضوح للجميع.. ولذا فهو يرفض أي تقليد في العقيدة، ويدعو للبحث والبرهنة: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} .
وهو يرفض أي عملية إكراه عقائدي {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} .
كما يريد من الأمة أن تكون من أولي الأيدي والأبصار، قوية في بصرها وبصيرتها.. وفي مجال التعامل مع الآخرين يأمر بالدعوة البينة الواضحة قبل كل شيء يقول القرآن الكريم.
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] .
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 15] .
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] .
وفي هذا يقول آية الله السيد الصدر في كتابه (اقتصادنا) :
"والأمر الآخر: أن يبدأ الدعاة الإسلاميون ـ قبل كل شيء ـ بالإعلان عن رسالتهم الإسلامية، وإيضاح معالمها الرئيسية، معززة بالحجج والبراهين، حتى إذا تمت للإسلام حجته، ولم يبق للآخرين مجال للنقاش المنطقي السليم، وظلوا بالرغم من ذلك مصرين على رفض النور..، عند ذلك لا يوجد أمام الدعوة الإسلامية ـ بصفتها دعوة عالمية تتبنى المصالح الحقيقية للإنسانية ـ إلا أن تشق طرقها بالقوى المادية، بالجهاد المسلح" [1/ 275] .
__________
(1) نصوص متفرقة عن الإمام على (ع) ـ تلميذ القرآن وتلميذ الرسول المبعوث بالقرآن في: (نهج البلاغة)(7/1927)
وقد جاء في كتاب (الكافي) للمرحوم الكليني عن الصادق (ع) قوله:
((قال أمير المؤمنين (ع) : بعثني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى اليمن، فقال: "يا علي لا تقاتلن أحدًا حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لئن يهدي الله ـ عز وجل ـ على يديك رجلًا خير لك مما طعلت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي)) [وسائل الشيعة: 11/ 30]
إنه أسلوب القرآن قبل كل شيء، الذي علمه الله لموسى وهارون (ع) : {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 ـ 44] .
إنها الدعوة ـ حتى عند مواجهة الطواغيت ـ عسى أن يهتدوا إلى الحق.
وها نحن نجد الرسول العظيم يكرر عبارة: ((أدعوك بدعاية الإسلام)) في رسالته إلى كسرى أنوشيروان، وقيصر إمبراطور الروم، تطبيقًا لهذا التعليم الإسلامي السامي.
وهكذا راح الدعاة يبثون الدعوة إلى الأقطار. وقد ذكرت أسماء بعض الدعاة الأوائل الذين أرسلوا لتحقيق واجب الدعوة إلى الله، ومنهم:
عبد الله بن حذافة السهمي ـ مبعوث الرسول إلى إيران.
حاطب بن أبي بلتعة ـ مبعوث الرسول إلى مصر لدعوة المقوقس.
دحية الكلبي ـ مبعوث الرسول إلى روما.
عمرو بن أمية ـ مبعوث الرسول إلى اليمامة.
عمرو بن العاص ـ معبوث الرسول إلى عمان.
حرملة بن زيد ـ مع وفد معه إلى مدينة (أيلة) الواقعة على ساحل البحر الأحمر.
المهاجر بن أبي أمية ـ مبعوث الرسول إلى ملوك حمير.
خالد بن الوليد ـ مبعوث الرسول إلى همدان (مدينة قرب بحر عمان) .
علي بن أبي طالب (ع) ـ مبعوثه الثاني إلى هذه المدينة.
حذيفة بن اليمان ـ مبعوث الإسلام إلى الهند.
عبد الله بن عوسجة ـ مبعوث الرسول إلى قبيلة حارثة بن قريظ.
جرير بن عبد الله البجلي ـ مبعوث الرسول إلى قبائل ذي الكلاع الحميري.
وغيرهم ممن حمل مهمة الدعوة إلى الشعوب.
وإذا أردنا أن نجد التطبيقيات السياسية لهذا الأصل في التعامل الدولي، أمكننا أن نلحظها في بعثات الإيضاح المرسلة من هنا إلى هناك، وفي أساليب توضيح الحقيقية عبر الوسائل السماعية والبصرية، وفي مذكرات الإيضاح الموجهة، والمذكرات التفسيرية المقدمة إلى المؤتمرات الدولية.
ومما تميز به العلاقات الدولية الإسلامية: أنها تنظر لعملية التوعية والإيضاح ـ كرسالة إلهية ومبدأ ضروري ـ يجب الالتزام به قبل القيام بأية خطوة عكسرية أو سياسية أو غيرها تجاه الدول الأخرى.
أما ما نجده من السياسة الماكرة القائمة ـ بالفعل ـ فهو اعتماد هذه السياسة التوضيحية ـ باعتبارها مناورة سياسية ـ فإذا لزم الأمر، قلبت الحقائق وتغيرت الموازين.(7/1928)
الهدف الرئيس والأهداف المرحلية للإعلام:
الهدف الرئيس ـ بكل اختصار ـ هو تعبيد الأرض لله تعالى، وإيجاد المجتمع المؤمن العابد المحقق لخلافة الله في الأرض، وإذا وجد مثل هذا المجتمع، فإنه سيكون الأمة الوسط التي تطمح الأمم للوصول إلى مستواها، والأمة الشاهدة على البشرية جمعاء، باعتبار ما لها من علو حضاري، نفسي ومادي، وحينئذ سيكون الدين كله لله، ويتحقق هدف الخلقة الإنسانية {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
ويجب أن تصب كل التشريعات والسلوكيات والأقوال والأفعال وتتسمر كل الأحداق بهذا الهدف الكبير الكبير، وتسترخص الغوالي لتحقيقه، إنه عظيم ترخص في قباله دماء الأنبياء والطاهرين، وجهود الصالحين عبر التاريخ.
إلا أن هناك أهدافًا مرحلية (تنتهي إلى ذلك الهدف الكبير) يعمل الإعلام القرآني على الوصول إليها بشتى الوسائل الممكنة فما هي؟
نستطيع أن نذكر أهم هذه الأهداف المرحلية في النقاط التالية:
الأولى: ترشيد إنسانية الإنسان: ذلك أن للإنسانية خصائص ومعالم إذا رشدت ونميت ضمنت للإنسان مسيرة متوازنة، أما إذا تلاشت من على سطح الوجود الإنساني، فحينئذ يكون الفسق على السبيل القويم، وحينئذ تكون المسيرة المكبة على وجهها، وعندئذ يتوقع الإجرام كله، وهذه المعالم باختصار هي: (التعقل السليم، والإرادة الحرة، والخلقية الفطرية، والدوافع المنضبطة) وإذا لم نكن هنا بصدد عرض البرنامج الإسلامي، الواسع الأبعاد لترشيد هذه الجوانب فإن من الطبيعي الإشارة إلى بعض مكوناته حينما نتحدث عن الأساليب الإعلامية.
الثانية: التوعية بالإسلام عقيدة ومفاهيم وتشريعًا، باعتباره السبيل الوحيد للوصول إلى ذلك الهدف الكبير، وكلما تعمق وعي الأفراد لهذه الرسالة، وطروحاتها وخططها وحلولها للمشاكل الإنسانية، واتضحت معالم الفرق بينها وبين المبادئ الوضعية وبانت خصائصها الرئيسية، استطاع المجتمع المسلم أن يخطو على طريق الهدف الكبير خطًى أسرع وأثبت في نفس الوقت.
الثالثة: التوعية بكل ما يحيط بالأمة من أحداث وظواهر ومؤامرات وتفاعلات لها كلها أثرها على تعيين المواقف المبدئية والمتحركة.
الرابعة: إيجاد الأرضية الصالحة لتطبيق الإسلام، في كل الأرض الإسلامية، وبالتالي في شتى أنحاء العالم، ويشمل هذا الجانب أمورًا نتحدث عنها في الأساليب التفصيلية.
الخامسة: تحقيق معالم الفرد المسلم والأمة المسلمة.(7/1929)
العدة المطلوبة والأسلوب الأمثل:
أما العدة المطلوبة للإعلام الإسلامي العامل على النهوض والمقاومة فيمكن تلخيصها فيما يلي:
الأول: القدرة العلمية والثقافية إلى الحد المستوعب لكل جوانب الإسلام وأهدافه العامة. فليس من المعقول أن يطلب من الإعلام تحقيق الأهداف السالفة دون أن يكون مزودًا بمثل هذه القدرة، ويمكننا أن نرد الكثير من نقاط الضعف الإعلامية إلى افتقادها، وتواجد السطحية في الفهم.
الثاني: الاستيعاب اللازم للفهم الاجتماعي العام، ومعرفة التحرك العالمي السياسي والاجتماعي وأساليبه، ومحاوره، وتوفر الخبراء الهادفين والمحققين بكل جدارة.
الثالث: معرفة أساليب العرض، أو ما يمكن أن نطلق عليه بفن الإعلام المناسب، وهو بالضبط ما كان قدماؤنا يطلقون عليه اسم: (معرفة حال المخاطب) ، فيجب أن نعرف من نخاطب، وكيف نخاطب، وأنى يتم ذلك؟ وهذا هو مضمون التحلي بالحكمة في مجال الدعوة إلى الله.
الرابع: الإيمان العميق الواعي بالإسلام وأهدافه الكبرى، وتأصل ذلك في نفوس الإعلاميين إلى الحد الذي يحملهم على التضحية بكل غالٍ ورخيص في سبيل الهدف السامي.(7/1930)
الخامس: التخلص من كل تبعية، أو ضيق أفق، أو مصلحة شخصية، والتجرد من كل ذلك لصالح الحقيقة.
والواقع أننا نعتقد أنه يكمن في هذه النقطة أحد أهم شروط النهضة الإعلامية، وإن إعلامنا الإسلامي اليوم مبتلى في الكثير الكثير من مقولاته بالتبعية للحكومات المتسلطة على شعوبها بالحديد والنار، فهو لا يعدو أن يكون دمية تتحرك بإرادة الحاكم القزم، وباتجاه تحقيق مصالحه.
وإلا فبماذا تسمي إعلامًا ينتسب للإسلام، وهو يسكت عن كل أنماط الخيانة الأخلاقية، أو الخيانة الاقتصادية، أو الانحراف السياسي والعمالة المفضوحة، أو الاستسلام للعدو الصهيوني الغاشم، أو يردد نفس تهم الاستكبار العالمي ضد أبطال المقاومة الإسلامية، أو يدعو للتستر على الجرائم؟ ! وربما بلغ من النذالة إلى الحد الذي يعلن فيه أن فكرة الحكم الإسلامي فكرة لا إسلامية، لا لشيء، إلا ليرضي الحكم المسلط على رقاب الشعب، وإلا ليبارك قبضة الجلاد التي تشدد الخناقة على رقبة الجيل المسلم المتوثب. أو قد يبلغ بهم الأمر إلى مهاجمة الأنبياء كداود وسليمان (عليهما السلام) لأغراض قومية وما إلى ذلك. أو ربما اتجهوا إلى التأكيد على اللغات غير العربية مع إهمال العربية نفسها أو المحلية العامية تنفيذا للمآرب الاستعمارية.
السادس: ملاحظة الأرضية الإيمانية المتوفرة في أوساط الأمة الإسلامية، فإنها خير مساعد وعدة على انطلاق الإعلامي في مسبحه المناسب، وتتجلى لنا أهمية هذا العنصر حينما ندرك أنه بنفسه شكل سد المقاومة الرئيس أمام الهجوم الإعلامي الغريب حيث تخلى عن الساحة حتى أولياؤها الفكريون والسياسيون.(7/1931)
السابع: التمتع بالخصائص القرآنية الإعلامية: وهذه الخصائص واسعة الأبعاد قد لا يمكن الإحاطة بها إلا لدراسة تحقيقية عميقة، ومن هنا فإننا نكتفي بالإشارة للبعض منها بما يتناسب وحجم هذا الحديث، وما نذكره منها يتلخص فيما يلي:
أولًا ـ استحضار النظرة الغيبية إلى جانب الحسابات المادية، وذلك في كل تحليل أو توقع مستقبلي والابتعاد عن النظرة المادية الحسابية الجافة فإن التصورات القرآنية المعطاة تؤكد أن المسيرة المنسجمة مع العدل تنسجم معها القوى الطبيعية القائمة في خلقتها على الأساس نفسه، في حين لا يتوفر الانسجام المطلوب مع الانحراف، وهو ما يلخصه المقطعان القرآنيان الكريمان:
{فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} (1) .
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (2) .
وكذلك كل النظرات الإسلامية في التاريخ والحياة والإنسان، ومن ذلك ما قلناه من الترابط بين أجزاء التركيبة الإنسانية.
ثانيًا ـ الموضوعية: والاتصاف بروح التبعية للحقيقة ـ أيًّا كانت ـ وحتى لو خالفت مصلحة شخصية، أو استدعت التضحية الغالية، ويبالغ القرآن في تحقيق الروح الموضوعية، وعدم النظر إلى الواقع الموضوعي من خلال رؤية مسبقة إلى الحد الذي يدعو فيه الخصم إلى افتراض نقطة الصفر في الحوار، وعدم الإيمان بشيء والانطلاق منها إلى الحقيقة الموضوعية فيقول مخاطبًا الكفار: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (3) .
ثالثًا ـ الهدفية في كل خطوة: ذلك أن الهدفية لا تتنافى مطلقًا مع الموضوعية في التصور الإسلامي؛ لأن المؤمن مطمئن تمام الاطمئنان أن الحقيقة الموضوعية ـ مهما كانت ـ تشكل آية من آيات الله تعالى وهدى إليه سبحانه.
وإذا انعكست الهدفية على حياة الداعية العامل، صرف النظر عن كل أنماط اللهو السخيف، والتضييع الوقتي فيما لا طائل تحته، وبالتالي لا تجد في نماذجنا الإعلامية ما يهدر هذا الوقت الثمين.
إن الهدفية القرآنية نلحظها في كل قصة، وفي كل مثل، وفي كل عبارة، ففي كل موضوع عبرة، ومع كل حديث اعتبار، وكل شيء يعبر عن مادة للدراسة وخدمة الهدف من خلالها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (4)
ويكفي أن نتابع آية قصة قرآنية لنكتشف الهدفية التي تتجلى أروع تجل.
__________
(1) سورة الفجر: الآيتان 12 ـ 13
(2) سورة نوح: الآيات 10 ـ 12
(3) سورة سورة سبأ: الآية 24
(4) سورة يوسف: 111(7/1932)
رابعًا ـ التنسيق والانسجام بين كل الخطوات والجوانب: وذلك انعكاسًا للتنسيق القرآني فإذا الصورة المتشعبة تسودها روح واحدة، وهذه الخصيصة نتيجة طبيعية للخصائص السابقة وخصوصًا الهدفية بعد افتراض وحدة الهدف وشموله لكل جوانب التصور وأي اختلال لها يعني الانقلاب على الهدف: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) .
في حين تتضاعف السرعة إلى الهدف عند التناسق: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) .
وإذا لاحظنا ضرورة هذه الخصيصة للتأثير المطلوب أدركنا سر ضياع الكثير من الأفكار الصحيحة المطروحة في إعلامنا اليوم بعد أن كانت تكذبها الأعمال والأطر المنافقة والمساومة، والأقوال الأخرى من صاحب الفكرة نفسه.
خامسًا ـ الواقعية والتفاعل المستمر مع الأحداث الاجتماعية: وعدم الغرق في تصورات طوبائية، فإن من خصائص القرآن الكريم أنه رغم كونه دستورًا عامًّا لكل المسيرة البشرية، فهو ينسجم مع ما يبدو من ظواهر، ويعالجها على ضوء تلك التصورات العامة الأصيلة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (3) .
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (4) .
وينبغي هنا أن نذكر بأننا نقصد بالواقعية هنا: ملاحظة الواقع والعمل على تطويره إلى المفروض، لا ما يبدو أحيانًا من تفسيرات تتجه بالواقعية إلى عملية الإذعان للواقع، والتلون وفق متطلباته إذعانًا واستسلامًا له.
والواقعية تتطلب أن تطرح الأساليب البديلة الصحيحة عند العمل لإصلاح ظاهرة منحرفة، وذلك نظير ما نلحظه في الآية الكريمة على لسان لوط (ع) : {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} (5) .
وما نجده في تعبير الإمام علي عليه السلام ـ حين يعمل على محو التعصب القبلي الممقوت، يطرح التعصب لمكارم الخلال حين يقول:
"وأما الأغنياء من مترفة الأمم، فتعصبوا لآثار مواقع النعم فقالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل ... " [نهج البلاغة: ص 295] .
__________
(1) سورة الصف: الآية 3
(2) سورة فاطر: الآية 10
(3) سورة المجادلة: الآية 1
(4) سورة الأنفال: الآية 7
(5) سورة هود: الآية 78(7/1933)
سادسًا ـ المنطقية في العرض والابتعاد عن السطحية: إن القرآن يربي المسلم على التأمل والبرهنة والتعقل واستقراء الأدلة القوية ومن ثم إصدار الحكم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) .
أما الاتهامات الواهية، أو حتى التوقعات التي تمتلك دليلًا من الواقع، وطرح الآراء ونسبتها إلى الإسلام فهو الانحراف الكبير: {قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (2) .
ومن هنا يتخلص الإعلام الإسلامي من ركام المقالات والتحليلات الواهية، التي تترك أثرها السلبي على الأفكار، وتلقي بتبعاتها على كواهل هؤلاء الكتاب والمحللين، ولا أستطيع هنا تحديد المساحة التي يجب أن تحذف من الإعلام المتداول في مناطقنا الإسلامية ـ حين تطبيق هذا الشرط ـ إلا أنني متأكد من لزوم حذف المساحة الكبيرة مما ينشر بلا ريب.
سابعًا ـ التفاعل الوجداني الحراري العاطفي مع الهدف وحمل هم الرسالة للعمل على زرع الحماس الإسلامي للقضية الإسلامية من خلال ذلك.
إن كلام الداعية يجب أن يكشف للسامعين عن تألمه لقضيته وحماسه لأهدافه، وخشوعه أمام ربه وكلماته العليا، وتفاعله معها، وهو أمر يريبه القرآن في نفوس أتباعه: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} . [سورة الزمر: الآية 23]
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (3) .
__________
(1) سورة البقرة: الآية 111
(2) سورة يونس: الآية 59
(3) سورة الحديد: الآية 16(7/1934)
ثامنًا ـ الأخلاقية الإعلامية: ونعني بها الالتزام الكامل بالأخلاق الإسلامية في المجال الإعلامي، فلا يلقى القول على عواهنه، ولا تشاع الفاحشة، ولا يتهم المؤمن، ولا يرد على القضاء، ولا تنمى روح التحاسد والتباغض والتحاقد، ولا تستخدم الألفاظ التي تمجها الأخلاقية الإسلامية. وإنما يعمل الإعلام الإسلامي على توفير البيئة الصالحة التي تتفتح فيها الفطرة عن طاقاتها المبدعة، وبالتالي: تسير بالإنسان نحو أهدافه الأصيلة.
يقول القرآن الكريم واصفًا المؤمنين: {وَعِبَادُ الرَّحمَنِ الَّذِينَ يَمشُونَ عَلَى الأَرضِ هَونًا وإذا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاما وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِم سُجَّدا وَقِيَاما وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرِف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاما إِنَّهَا سَاءت مُستَقَرّا وَمُقَاما وَالَّذِينَ إذا أَنفَقُوا لَم يُسرِفُوا وَلَم يَقتُرُوا وَكَانَ بَينَ ذَلِكَ قَوَاما وَالَّذِينَ لَا يَدعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَها آخَرَ وَلَا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزنُونَ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ يَلقَ أَثَاما يُضَاعَف لَهُ العَذَابُ يَومَ القِيَامَةِ وَيَخلُد فِيهِ مُهَانا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورا رَّحِيما وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحا فإنه يَتُوبُ إلى اللَّهِ مَتَابا وَالَّذِينَ لَا يَشهَدُونَ الزُّورَ وإذا مَرُّوا بِاللَّغوِ مَرُّوا كِرَاما وَالَّذِينَ إذا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم لَم يَخِرُّوا عَلَيهَا صُمّا وَعُميَانا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَب لَنَا مِن أَزوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعيُنٍ وَاجعَلنَا لِلمُتَّقِينَ إِمَاما} (1) .
تاسعًا ـ تنويع الأساليب الإعلامية: وهو ـ في الواقع ـ مقتضى تطبيق مبدأي، الحكمة، والموعظة الحسنة.
والحديث عن تنوع الأساليب القرآنية بالذات حديث واسع، فالقرآن بأساليبه الرائعة استطاع أن يصوغ أمة هي في طليعة البشر من شراذم متخلفة، كانت تتعثر خلف المسيرة البشرية ... ، ويكفي هنا أن نشير ـ مثلًا ـ إلى روعة الاستفادة من أسلوب الجمل المعترضة أو العبارات المعترضة في الحديث لتحقيق الهدف المطلوب، وتبدو لنا هذه الروعة إذا تأملنا كلمة "سبحانه" في الآية القرآنية الشريفة: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} (2) .
والحديث هنا كما قلنا واسع الأبعاد.
__________
(1) سورة الفرقان: الآيات 63 ـ 74
(2) سورة النحل: الآية 57(7/1935)
عاشرًا ـ العالمية في الاهتمام: وذلك انطلاقًا من عالمية الإسلام نفسه، وسعيه لحل المشكلات الإنسانية جمعاء، ومن هنا فإن أي دراسة أو اهتمام محلي يجب أن يتم في هذا الإطار العالمي العام، وعلى هذا الضوء يجب أن يهتم الإعلام الإسلامي بقضايا المظلومين والمحرومين والمستضعفين، ويتفاعل معها بكل حرارة، في حين يقف أمام كل حركة استكبارية يقوم بها الطغاة المجرمون.
حادي عشر ـ رصد التحركات التآمرية للشياطين على وجود الأمة الإسلامية، والعمل على توعية الأمة بها بشكل دائم. إنها إذن المرابطة الدائمة في هذا المجال، والمرابطة عمل جهادي يندب القرآن الأمة إليه، وإنه الحذر الدائم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (1) .
وهي مهمة جسيمة يجب أن ينهض بها الإعلام الإسلامي.
ثاني عشر ـ التأكيد على النقاط المشتركة الجامعة، ومن ثم الاتجاه لحل الخلافات في النقاط المختلف عليها، وهذا أحد أساليب الحكمة في الدعوة.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2) .
وأخيرًا؛ فإن ما أشرنا إليه من خصائص لا يستوعب حتى الجزء الأكبر من الخصائص الإعلامية للمعجزة الإسلامية الإعلامية (القرآن الكريم) وإنما ذكرنا ما يفتح الأبواب أمام دراسة موسعة في هذا المجال.
__________
(1) سورة الأعراف: الآية 27
(2) سورة آل عمران: الآية 64(7/1936)
الفصل الرابع
التشكيك في أهم مصدرين
للتصور والأحكام الإسلامية
والمقصود بهما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فهما في الواقع مصدرا الشريعة والمنبعان الرئيسان لكل التصورات والمفاهيم والأحكام الإسلامية.
وإن الإسلام ليفتخر بهذه الميزة وهي أنه وضع لكل الأجيال إلى يوم القيامة هذين المنبعين الأصيلين الخالدين.
والإنسان الطبيعي يستطيع أن يدرك بأقل تأمل فيهما هذه الصفة (صفة المنبعية) التامة فلا يحتاج للاستدلال بهما إلى دليل للحجية ولا للعمل بظواهرهما إلى مستند برهاني كبير , وإنما هو ينطلق من المسلمات العرفية لدى المسلمين بل لدى العقلاء جميعًا.
إلا أن هناك أمرين أوجدا بعض العقبات في الاستدلال بهذين المنبعين الكريمين الأمر الذي قد يترك أكبر الآثار السلبية ويخلق الفراغ الفكري الهائل الذي ينفذ منه الفكر الغريب المعادي.(7/1937)
وسوف نبحث هذه العقبات في مرحلتين:
القرآن الكريم والشبه المثارة حول الاستدلال به:
والقرآن الكريم هو خصوص ما بين الدفتين دونما زيادة أو نقيصة ولقد أُحصيت آياته فبلغت (ستة آلاف وثلاثمائة واثنين وأربعين آية) (1) .
"والحديث حول حجيته موقوف على تمام مقدمتين أولاهما ثبوت تواتره الموجب للقطع بصدوره، وهذا ما لا يشك فيه مسلم امتحن الله قلبه للإيمان، والثانية ثبوت نسبته لله ـ عز وجل ـ وعقيدة المسلمين قائمة على ذلك وحسبهم حجة ثبوت إعجازه بأسلوبه ومضامينه وتحديه لبلغاء عصره ونكولهم عن مجارته , وإخباره بالمغيبات التي ثبت بعد ذلك صدقها ومطابقتها لما أخبر به كما ورد في سورة الروم وغيرها وارتفاعه عن مستوى عصره بدقة تشريعاته إلى ما هناك مما يوجب القطع بسموه عن قابليات البشر مهما كان لهم من الشأن".
الحكمة في وجود المتشابه في القرآن الكريم:
يصرح القرآن الكريم في الآية السابعة من سورة آل عمران بوجود آيات محكمات هن أم الكتاب، وآخر متشابهات فيقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) .
وقد اختلف المفسرون في المراد من المحكم والمتشابه، وترددت نظرياتهم بين كون التشابه قائمًا على أساس علاقة اللفظ بالمعنى ومدى دلالته وظهوره فيه وكونه أي التشابه في مجال تطبيق المعنى المفهوم على مصاديقه وتجسيداته الخارجية. فالمتشابه: هو ما حصل تردد في دلالته على المعنى المراد ـ على رأي ـ أو ما حصل معه التردد في أفراد المعنى الذي يدل عليه، والمحكم ما يقابله.
ولسنا نريد هنا الدخول في مجال عرض الاتجاهات الرئيسة في هذا المجال وترجيح أحدها على الآخر.
وإنما نقصد أن نعرض إلى مسوغات احتواء القرآن الكريم على آيات وألفاظ متشابهة يحصل التردد في فهم تطبيقاته , وهل يتنافى ذلك مع كونه كتاب الهداية العامة للبشرية؟
وسنحاول فيما يلي التعرض إلى ما قيل في هذا المجال وتوضيحه أولًا ثم نحاول التعقيب على ما ذكر إما بالرد أو بالتكميل.
__________
(1) المدخل إلى أصول الفقه: ص 20
(2) سورة آل عمران: الآية 7(7/1938)
الآراء في هذا المجال:
نستطيع أن نحصر أهم ما قيل في توضيح الحكمة من مجيء كل الآيات المتشابهة أو بعضها وذلك في نقاط كما يلي:
1 ـ الامتحان والتربية على الاستسلام والخضوع:
فقد ذكر الشيخ محمد عبده: "إن الله سبحانه أنزل المتشابه ليمتحن قلوبنا في التصديق به فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب واضحًا لا شبهة فيه عند أحد من الأذكياء ولا من البلداء لما كان في الإيمان به شيء من معنى الخضوع لما أنزل الله تعالى والتسليم لما جاءت به رسله" (1) .
ويؤكد هذا بالالتفات إلى ما قالته الآية: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} في حين {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (2) .
وقد أكد هذا الرأي صاحب (مناهل العرفان) فقال في مجال تعداد حكم بعض أنواع المتشابه: "ثانيتهما الابتلاء والاختبار أيؤمن البشر بالغيب ثقة بخبر الصادق أم لا؟ فالذين اهتدوا يقولون: آمنا , وإن لم يعرفوا على التعيين , والذين في قلوبهم زيغ يكفرون به وهو الحق من ربهم، ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة والخروج من الدين جملة" (3) .
ونقل السيوطي عن بعضهم أنه ذكر فوائد للمتشابه الذي استأثر الله بعلمه ومنها: "ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوقف فيه والتفويض والتسليم ... " (4) .
ثم قال: "ورابعتها إقامة دليل على عجز الإنسان وجهالته مهما عظم استعداده وغزر علمه، وإقامة شاهد على قدرةالله الخارقة، وأنه وحده هو الذي أحاط بكل شيء علما وأن الخلق جميعًا لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وهناك يخضع العبد ويخشع ويطأ من كبريائه ويخضع" (5) .
ومما لا ريب فيه أن الامتحان والابتلاء يشكل نوعًا أساسًا من أنواع تربية الإنسان المسلم على أن يتحلى بالصفات التي يريد الله أن تتقوم شخصيته بها , وأهم هذه الصفات بل الملكات المتأصلة صفة التعبد والاستسلام لله تعالى في كل شيء يثبت أنه منه تعالى عرف الحكمة فيه أم لم يعرف، وقد وضع الإسلام لغرس هذه الملكة في أعماق المسلم برنامجًا واسعًا وأساليب مختلفة يمكن أن يذكر منها ما نحن بصدده، كما يمكن أن يذكر منها أسلوب عرض قصص المستسلمين الأطهار (كإبراهيم وإسماعيل) وكذلك القصص التي تحكي الإلهية الواسعة التي هي فوق ما يتصوره الإنسان الحبيس في سجن ضعفه وإمكانه حتى لو كان ذلك الإنسان موسى (ع) .
ومنها نظام العبادات.. إلى غير ذلك مما ليس هناك محل ذكره.
وعليه فيقف الممتحن أمام هذه الآيات المتشابهة موقفين تبعًا لمسبقاته وتصوراته واستسلامه فإما الاغترار واتباع الرأي ابتغاء الفتنة وإما الاستسلام لله تعالى وإرجاع الأمر إليه.
__________
(1) تفسير المنار: 3/ 170
(2) سورة آل عمران: الآية 7
(3) مناهل العرفان: 2/178
(4) مناهل العرفان: ص 193
(5) مناهل العرفان: ص 179(7/1939)
2 ـ الدفع نحو التعمق والتوسع الفكري:
وقد ذكر عبده أيضًا أن وجود المتشابه "كان حافزا للعقل المؤمن إلى النظر كي لا يضعف فيموت فإن السهل الجلي جدًّا لا عمل للعقل فيه، والعقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها، والدين أعز شيء على الإنسان فإذا لم يجد العقل مجالًا للبحث في الدين يموت عامل العقل فيه، وإذا مات فيه لا يكون حيًّا بغيره" (1) .
وذكر العلامة الطبرسي ذلك باختصار حيث قال: "فإن قيل لم أنزل الله تعالى القرآن المتشابه؟ وهلا جعله محكمًا؟ فالجواب: أنه لو جعل جميعه محكمًا لاتكل الناس كلهم على الخبر واستغنوا عن النظر...." (2) .
كما أن الفخر الرازي ذكر ما يقرب من هذا المعنى حيث قال في هذا الصدد: "باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه، يضطر الناظر فيه إلى تحصيل علوم كثيرة مثل اللغة والنحو وأصول الفقه مما يعينه على النظر والاستدلال" ثم يقول:"باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه يضطر الناظر فيه إلى الاستعانة بالأدلة العقلية فيتخلص من ظلمة التقليد، وفي ذلك تنويه بشأن العقل والتعويل عليه، ولو كان كله محكمًا لما احتاج إلى الدلائل العقلية، ولظل العقل مهملا.." وأخذ هذا المعنى الشيخ صبحي الصالح فقال: "لعل اشتمال القرآن على المتشابه وعدم اقتصاره على المحكم وحده، أن يكون حافزًا للمؤمنين على الاشتغال بالعلوم الكثيرة التي تقودهم على فهم الآيات المتشابهات فيتخلصون من ظلمة التقليد، ويقرأون القرآن متدبرين خاشعين" (3) .
ولربما عبر عن هذا المعنى بلسان آخر وهو حصول الثواب بإعمال النظر في القرآن الكريم وهو ما قاله المرحوم الطبرسي من أنه: "لولا وجود المتشابه لكان لا يحصل لهم ثواب النظر واتعاب الخواطر في استنباط المعاني" (4) .
__________
(1) رشيد رضا، تفسير المنار: 3/ 170
(2) مجمع البيان: 2/ 410
(3) مباحث في علوم القرآن: ص 286
(4) مجمع البيان: 2/ 410(7/1940)
وقال الفخر الرازي أيضا: "متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب".
كما أنه قد يعبر عنه بلسان آخر هو: "لسان ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات العلمية".
وهذا ما جاء في المجمع حيث يقول: "ولكان لا يتبين فضل العلماء على غيرهم" (1) .
ونقل السيوطي عن بعضهم قوله: "ومنها ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات، إذ لو كان كله محكمًا لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق ولم يظهر فضل العالم على غيره" (2) .
ويرى السيد الحكيم: "أن نوعا من المتشابه وهو الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم إنما ورد في القرآن الكريم بهذا الأسلوب كبعض المسائل الكونية وغيرها لينطلق في تدبر حقيقتها واكتشاف ظلماتها المجهولة" (3) .
هذا ومما لا ريب فيه أن القرآن الكريم أوجد بنزوله مرحلة فكرية جديدة ونقل المجتمع من حضيض التفكير الجامد الضيق إلى سمو فكري متفتح ونضج بلغ في مراحله التالية إلى مستوى فلسفي لاتصله أية فلسفة ومستوى علمي جوال قاد العالم خلال قرون ومستويات فكرية تشريعية وأخلاقية ما رأى الكون لها مثيلًا.
يقول الدكتور محمد يوسف موسى: "إن القرآن كان من أهم العوامل التي دفعت المسلمين إلى التفلسف ثم بيان ما اشتمل عليه من فلسفة، سواء ما يتعلق منها بالإنسان، وما يتعلق بالله وصلته جل وعلا بالإنسان، ومن الحق أن القرآن قبل كل شيء هو كتاب العقيدة الحقة، والشريعة الصالحة لكل زمان ومكان , والأخلاق التي لا يقوم مجمع سليم إلا بها" (4) .
ويقول السيد الأستاذ الخوئي: "لأنه الكتاب الذي يضمن إصلاح البشر ويتكفل بسعادتهم وإسعادهم، والقرآن مرجع اللغوي ودليل النحوي، وحجة الفقيه، ومثل الأديب، وضالة الحكيم، ومرشد الواعظ، وهدف الخلقي، وعنه تؤخذ علوم الاجتماع والسياسة المدنية وعليه تؤسس علوم الدين، ومن إرشاداته تكتشف أسرار الكون ونواميس التكوين".. (5) .
ويقول الأستاذ المطهري: "إن الفلاسفة المسلمين استطاعوا بإلهام من القرآن الكريم وكلمات الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأئمة الأطهار (ع) أن يوجدوا مدرسة فلسفية تعتمد الاستدلال المنطقي المتقن" (6) .
ولعل من أهم الدوافع نحو الفلسفة بالخصوص والتوسع الفكري على العموم وجود هذه الآيات المتشابهة على اختلاف أصعدتها الفلسفية والعلمية والاجتماعية والتي تدفع المسلم المتأمل في القرآن بحكم تطلعه إلى فهم معناها، تدفعه لذلك التوسع.
__________
(1) مجمع البيان: 2/ 410
(2) المناهل: 2/ 193
(3) مجلة رسالة الإسلام، العدد 5، 6 السنة الثانية: ص 32
(4) القرآن والفلسفة: ص 5
(5) البيان في تفسير القرآن: ص 3
(6) علل الانحراف نحو المادية، ص 167، طبع مشهد، انتشارات طوس(7/1941)
3 ـ تقريب الأمور العميقة إلى الأفهام:
ويتوضح ملخص ما ذكره العلامة الطباطبائي في هذه الحكمة بمتابعة الخطوات التالية:
أولًا: إن الارتباط بالله تعالى والمعاد وما إلى ذلك من تفصيلات العالم الغيبي أمر ضروري للإنسان بل هو روح التصور الإسلامي عن الواقع.. وهذا يستدعي أن يعرف المسلمون القدر الضروري عن نوعية هذه العلاقة.
ثانيًا: إن الإنسان حبيس ضعفه وتصوراته الخاصة الحسية والعقلية التي توفرت له خلال حياته.. ومختلف مراتب الناس على ضوء كمية التصورات التي لديهم.
ثالثًا: وعلى ضوء مما سبق ولأجل الكشف عن القدر الضروري لنوعية العلاقات الآنفة لجميع الإنسانية فقد اتبع القرآن أسلوب التمثيل والتشبيه ليقرب تلك المعاني العالية إلى الإذهان فيقرب الأمر المعنوي المجرد إلى الأذهان المختلفة عبر ذلك التمثيل بحقائق حسية.
رابعًا: إلا أن من الواضح أن الممثل قد لا يتوافق مع الممثل به في مختلف الجوانب والخصائص خصوصًا وهما من عالمين مختلفي القوانين والأحكام (عالم المجردات وعالم الماديات)
وعدم التوافق هذا قد يجر إلى محذورين يخالفان الغرض الأساس لهذا التمثيل وهو الهداية القرآنية:
(أ) نقل الخصائص الحسية للممثل به إلى الممثل وهذا يعني تغير الحقيقة وانقلاب الغرض.
(ب) وقد يلتفت الإنسان إلى الفرق بين الممثل والممثل به فيبدأ بعملية تجريد الممثل به من الخصوصيات مما قد يؤثر في تشويه الصورة المطلوبة إعطاؤها إما بزيادة أو نقصان.
خامسًا: وتخلصًا من هذه المحاذير يلجأ القرآن إلى توزيع المعاني التي يريد إعطاءها إلى أمثال مختلفة وإعطاءها صيغًا مختلفة حتى يفسر بعضها بعضًا وينتهي الأمر إلى تصفية عامة تنتج ما يلي:
(أ) إدراك القارئ للقرآن أن هذه الصور هي مجرد أمثال لا تعبر عن كل الحقيقة ولا تكسب الواقع العيني كل خصائصها.
(ب) بجمع هذه الأمثال إلى بعضها ينفي بكل واحد منها الخصوصيات الحسية الموجودة في المثال الآخر.
وبذلك تتحقق الهداية القرآنية العامة ويتخلص من نقائص هذا الأسلوب الذي لا مفر منه (1) .
__________
(1) الميزان: 3/ 58 إلى ص 65(7/1942)
وقد عبر ابن اللبان في كتابه "رد الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات" عن رأي أخص من هذا فقال بتلخيص من صاحب المناهل: "ليس في الوجود فاعل إلا الله، وأفعال العباد منسوبة الوجود إليه تعالى بلا شريك ولا معين فهي في الحقيقة فعله وله بها عليهم الحجة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون".
ومن المعلوم أن أفعال العباد لا بد فيها من توسط الجوارح مع أنها منسوبة إليه تعالى وبذلك يعلم أن لصفاته تعالى في تجلياتها مظهرين: مظهرًا عباديًّا منسوبًا لعباده وهو الصور والجوارح الجثمانية، ومظهرًا حقيقيًّا منسوبًا إليه، وقد أجرى عليه أسماء المظاهر العبادية المنسوبة لعباده على سبيل التقريب لإفهامهم والتأنيس لقلوبهم , ولقد نبه تعالى على قسمين، وأنه منزه عن الجوارح في الحالين، فنبه على الأول بقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (1) .
فهذا يفيد أن كل ما يظهر على أيدي العباد فهو منسوب إليه تعالى، ونبه على الثاني بقوله فيما أخبر عنه نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحيح مسلم ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)) وقد حقق الله ذلك لنبيه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (2) . وبقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (3) وبهذا يفهم ما جاء من الجوارح منسوبًا إليه تعالى فلا يفهم من نسبته إليه تشبيه ولا تجسيم، ولكن الغرض من ذلك التقريب للأفهام والتأنيس للقلوب ... " (4) .
__________
(1) سورة التوبة: الآية 14
(2) سورة الفتح: الآية 10
(3) سورة الأنفال: الآية 17
(4) مناهل العرفان: 2/ 193 ـ 194(7/1943)
4 ـ إعطاء الكل والتركيز على البعض:
ذكر الفخر الرازي رأيًّا يقرب من الرأي السابق فقال: إن القرآن يشتمل على دعوة الخواص والعوام، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق , فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي محض، فيقع في التعطيل , فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وما توهموه، ويكون ذلك مخلوطًا بما يدل على الحق الصريح.
فالقسم الأول: وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابه.
والقسم الثاني: "وهو الذي يكشف عن الحق الصريح هو المحكم".
وعبر عنه الشيخ عبده بتعبير آخر فقال:
"إن الأنبياء بعثوا إلى جميع الأصناف من عامة الناس وخاصتهم وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وهناك من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء، وإنما يفهمه الخاصة منهم عن طريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله تعالى والوقوف عند حد المحكم فيكون لكل نصيبه على قدر استعداده" (1) .
ويعلق السيد الحكيم على هذا النص بعد رد إشكال العلامة عليه فيقول: "إذا عرفنا دور المحكم والمتشابه أمكننا أن نتصور بسهولة أن بعض المعاني لا يدركها إلا الراسخون في العلم دون العامة خصوصًا المعاني التي ترتبط ببعض المعلومات الكونية الطبيعية كجريان الشمس {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أو تلقيح الرياح {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أو جعل الماء مصدرًا للحياة {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فإن كل هذه المعلومات حين تتكشف لدى العلماء تكون من المعلومات التي أشار إليها القرآن الكريم ويعرفها الخاصة دون غيرهم" (2) .
ومما يؤكده أن الراغب الأصفهاني في مفرداته ذكر أن من المتشابه ما "يجوز يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفي على من دونهم وهو الضرب المشار إليه بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في علي رضي الله عنه: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) " (3) .
فتكون بعض الآيات متوجهة إلى القادة الفكريين بالخصوص على أساس أنهم سيعرفون الواقع المراد بالتفصيل للأمة ككل.
ولعله إلى مثل هذا الرأي يشير الزرقاني فيقول: في مجال تعدد الحكم من "وجود المتشابه".
"أولاهما: رحمة الله بهذا الإنسان الذي لا يطيق معرفة كل شيء، وإذا كان الجبل حين تجلى له ربه جعله دكًّا وخر موسى صعقًا فكيف لو تجلى سبحانه بذاته وحقائق صفاته للإنسان؟ ومن هذا القبيل أخفى الله على الناس معرفة الساعة رحمة بهم كي لا يتكاسلوا ويقعدوا عن الاستعداد لها، وكي لا يفتك بهم الخوف والهلع أو أدركوا بالتحديد شدة قربها منهم ولمثل هذا حجب الله عن العباد معرفة آجالهم، ليعيشوا في بحبوحة أعمارهم" (4) .
وواضح أن هذا النص غير دقيق في تعبيره وإلا فلا معنى لتصور إمكان تجلي الله تعالى بذاته وحقائق صفاته وإنما يقصد أن النفس والتصور الإنساني يكلّ غالبًا عن تصور أقصى ما يمكن تصوره في الساحة الآلهية.
كما أن من الواضح أنه يجمع إلى صف هذه الحكمة (حكمة إعطاء الناس على قدر إمكاناتهم) حكمة بث الأمن والأمل بإخفاء بعض الأمور عنهم جامعًا الحكمتين تحت عنوان رحمة الله بالإنسانية.
__________
(1) تفسير المنار: 3/ 170 ـ 171
(2) رسالة الإسلام، العددان 5، 6، السنة الثانية: ص 28
(3) معجم المفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني: ص 261 ـ 262
(4) مناهل العرفان: 2/ 178(7/1944)
5 ـ تحقيق بعض جوانب الإعجاز:
فإن في هذا التشابه بعض ضروب الإعجاز ففيه الإعجاز البلاغي حيث يقول الزرقاني:
"لأن كل ما استتبع فيه شيئًا من الخفاء المؤدي إلى التشابه، له مدخل عظيم في بلاغته وبلوغه الطرف الأعلى في البيان، ولو أخذنا في شرح هذا لضاق بنا المقام، وخرجنا جملة من هذا الميدان، إلى ميدان علوم البلاغة وما حوت من خواطر وأسرار، للإيجاز والإطناب والمساواة ... " (1) .
وفيه الإعجاز العلمي حيث تنكشف على الزمن حقيقة ما رمى إليه القرآن من الآيات التي تشكل نوعًا متشابهًا لدى من لم يكونوا مطلعين على حقيقتها في حين يكشف العلم عن الواقع بعد قرون مما يؤكد النسب السماوي للقرآن.
وكذا يمكن إدخال بعض الآيات المخبرة بالغيب، وإن كان ذلك يحوي نوعًا من الأشكال.
__________
(1) مناهل العرفان: ص 180(7/1945)
6 ـ القرآن دستور يحوي بعض الإجمال ولا يمكن التفصيل فيه:
ويقصد بهذا أن يقال: إن القرآن لو أراد أن يبين كل جوانب الحقيقة ويعين المصاديق الصحيحة وينفي الباطل منها لكان ذلك يستدعي مجلدات ضخمة ولم يكن من الممكن إنزاله على ذلك النمط.
ويتضح هذا عند ملاحظة قصر فترة حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانشغاله بالمشاكل الهائلة، وعدم قدرة المسلمين على استيعاب تلك المجلدات الضخمة، وحفظها من الضياع وأمثاله.
ولهذا يشير الزرقاني ـ بنوع من الإجمال ـ فيقول:
"ثانيتها: تيسير حفظ القرآن والمحافظة عليه؛ لأن كل ما احتواه من تلك الوجوه المستلزمة للخفاء دال على معانٍ كثيرة زائدة على ما يستفاد من أصل الكلام لو عبر عن هذه المعاني الثانوية الكثيرة بألفاظ، لخرج القرآن في مجلدات واسعة ضخمة، يتعذر معها حفظه والمحافظة عليه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1) .
7 ـ التعبير العام الذي لا ينفر المذاهب عنه:
ويقول الفخرالرازي في تقريب هذا الوجه إنه "لو كان آي القرآن كله محكمًا بالكلية، لما كان مطابقًا إلا لمذهب واحد، وكان بصريحه مبطلًا لجميع المذاهب المخالفة وذلك منفر لأرباب المذاهب الأخرى عن النظر فيه، أما وجود المتشابه والمحكم فيطمع فيه كل مذهب أن يجد فيه كل ما يؤيد مذهبه، فيضطر إلى النظر فيه، وقد يتخلص المبطل من باطله إذا أمعن فيه النظر فيصل إلى الحق".
__________
(1) المناهل: 2/ 181؛ والآية في سورة الكهف: الآية 109(7/1946)
ملاحظات حول الوجوه السابقة:
الملاحظة الأولى:
هي أنه يلزمنا أن نلحظ هذه الوجوه كلها أو أكثرها ـ لو تمت في نفسها ـ ونعتبرها ردًّا على سؤال: لم ورد المتشابه في القرآن الكريم؟
وذلك لأن البعض منها إنما يصح في بعض الآيات المتشابهة دون غيرها، وقد التفت إلى هذه النقطة بعض الباحثين.
الملاحظة الثانية:
إن بعض الوجوه السابقة لا يمكن المساعدة عليه، وخصوصًا الوجه الأخير، فإن القرآن هو الفارق بين الحق والباطل وهو المقياس الحق ولا يمكن لهذا المقياس أن يكون عامًا مضللًا يُمَكّن كلًّا من تصحيح مذهبه والتمسك به ضد الآخرين.
وكذا بالنسبة للوجه الخامس في قسمه البلاغي، فإن البلاغة تركز أول ما تركز على إيصال المعنى بالدقة وبإطار لفظي جميل إلى السامع، أما الإبهام والتشابه فقد يتنافى والغرض البلاغي اللهم إلا إذا كان هناك غرض آخر يستدعيه.. فلا يمكن أن يكون التشابه معللًا بأنه ضرب من ضروب البلاغة أو ناتج لها.
الملاحظة الثالثة:
إن أكثر ما ورد من وجوه قد تعتبر تسويغات لما وقع ولذا فإن روح المسألة تتركز في الحكم الثلاث (الثالثة، والرابعة، والسادسة) والتي يمكن جمعها تحت عنوان: "عدم إمكان خلو القرآن من المتشابه" وذلك بعد ملاحظة دور القرآن كموضح لأعمق الحقائق، وكدستور عام، وكهادٍ يمنح كلًّا بمقدار ما يستطيع تقبله.
هذا هو روح الجواب وما ذكره من وجوه أخرى فهي ترتبط به وتدور حوله.
الملاحظة الرابعة:
إن أهم إشكال يمكن أن يورد على وجود المتشابه يلخص في تعبيرين:
الأول: أن القرآن الكريم هدى، ونور، وذكر، وفرقان، وحكيم، وما شابه ذلك في حين أن التشابه لا ينسجم مع هذه الصفات؛ لأنه يوقع الإنسان في حيرة من معرفة الحقيقة وربما كان بعض ما فيه لا يمكن معرفته مطلقًا.
الثاني: ما ذكره الفخر الرازي من أن وجود المتشابه في القرآن كان سببًا لاختلاف المذاهب والآراء وتمسك كل واحد منها بشيء من القرآن بالشكل الذي ينسجم مع مذهبهم ونضيف على هذا فنقول:
إن بعض الآيات التي يشير إليها المستشكلون قد تُجعل ـ بل جُعِلت ـ ذريعة للتمسك بعقائد تتناقض تمام التناقض مع العقيدة الإلهية بل تقضي عليها من الأساس وهذا يعني نقض الغرض الذي جاءت من أجله الرسالة.. وهذا من مثل عقيدة التجسيم الذي يساوق تقديم صورة هزيلة عن الله تعالى مما ينتهي إلى إنكاره في الواقع وكذا من مثل عقيدة الجبر التي تنفي المسؤولية الأخلاقية وتوجد مشاكل كبرى، وعقيدة نفي العصمة عن الأنبياء التي تنتهي إلى التشكيك في أقوالهم وغير ذلك.
وعليه فإن هذا الإشكال ـ بهذين التعبيرين ـ لا يمكن أن يدفع بهذه الوجوه التي مهما تصاعدت قيمتها فإنها قد لا تعادل هذا الخسران الأساس الكبير الذي يجر الأمة إلى الضياع والتمزق ويقضي على العقيدة ويفقد القرآن ـ والعياذ بالله ـ صفته الهادية، أو أن يقال بتعادل الربح والخسران.(7/1947)
وهذا يدعونا لأن نتطلب وجود ما يعصم الأمة عن التفرق والتمزق والعقيدة من الانقلاب على أهدافها فما هو هذا المرجع الذي يجب الرجوع إليه؟
ما يبدو من الآية والروايات الشريفة أمران هما:
(أ) الآيات المحكمات:
ويفهم الإرجاع إليها من جعلها أمًّا للكتاب، والأمية لا ريب تعني المرجعية فهي التي تنفي إدخال صور باطلة في تصور الإنسان عن الآية أو إدخال مصاديق باطلة للمفهوم منها، ويحتاج هذا إلى رسوخ علمي في نفسه.. ويبقى مجال كبيرة للتشابه خصوصًا لأولئك الذين في قلوبهم مرض ليغروا به الآخرين.
(ب) الراسخون في العلم:
وهم المرجع الثاني والأكثر عمومية لحل التشابه، فهم الذين يفسرون الدستور الإلهي، ويعطون تفصيلاته ولهم يرجع في الفصل بين الحق والباطل، فهم محور وحدة الأمة وملجأ العلم ومنتهى السبل. ولكن من هم هؤلاء الراسخون في العلم؟ إن الروايات المتواترة معنى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتركز بصورة عامة على مرجعية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأهل البيت للأمة في كل ما يبدو لها من غموض في كل شيء ومن جوانب الغموض هذا التشابه الذي يلاحظ في بعض الآيات القرآنية وأهم هذه الأحاديث حديث الثقلين الذي سلمت به الفرق الإسلامية.
والذي أكد اقتران العترة بالكتاب ولزوم التمسك بهما معًا وأن الرجوع إليهما معًا عاصم من الضلال , وأنهما لن يفترقا إلى يوم القيامة , وهكذا الأحاديث النبوية المختلفة في علم الإمام (ع) مثل حديث ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) ولقد أكد أهل البيت على مرجعيتهم في كل الأمور , فهذا نهج البلاغة يصفهم بأنهم: موضع سر النبي، وملجأ أمره، وأنهم أساس الدين وعماد اليقين إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، وهم أزمّة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق، وهم كمثل نجوم السماء إذا خوى نجم طلع نجم، وهم شجرة النبوة ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم وعندهم أبواب الحكم وضياء الأمر، وإن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم يسبقوا، وهم عيش العلم وموت الجهل وإن بهم عاد الحق إلى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه (1) .
ويقول الإمام في نص رائع يعين المرجع في الشبهة "فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والباري من ذي السقم، واعملوا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه , فالتمسوا ذلك من عند أهله فإنهم عيش العلم وموت الجهل. هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم وظاهرهم عن باطنهم , لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق" (2) .
__________
(1) راجع: ص 734، نهج البلاغة ـ صبحي الصالح
(2) نهج البلاغة، صبحي الصالح: ص 205 ـ 206(7/1948)
منابع التشكيك في الحجية:
حجية الظواهر القرآنية من الأمور المسلمة رغم ما حدث من تشكيك ويمكننا أن نحصر هذه المنابع في أمرين طرحهما بعض الجامدين أو الموتورين وربما تبعهم آخرون وهما:
أولا: ما نسب إلى بعض الإخباريين من دعوى التوقف عن العمل بظاهر القرآن لأحد أمرين:
الأول: حصول علم إجمالي بطرق مخصصات من السنة وهذا العلم الإجمالي منجز لمتعلقه ومانع من جريان الأصول في أطرافه وحتى لو جرت هذه الأصول لتعارضت وسقطت عن الحجية وهكذا يسري الإجمال لكل الظواهر ويتم التوقف عن العمل.
إلا أن جوابه واضح تمامًا ذلك أن هذا العلم الإجمالي ـ بعد الفحص والعثور على المخصصات ـ ينحل إلى علم تفصيلي بالعمومات المخصصة والمطلقات المقيدة، وشبهات ابتدائية في غير هذه الموارد تجري فيها الأصول.
الثاني: ما ورد من الأحاديث الناهية عن تفسير القرآن بالرأي إلا أن الواضح أن العمل بالظاهر ليس تفسيرًا بالرأي، فالتفسير إنما هو للأمور الغامضة لا الظاهرة.(7/1949)
ثانيًا: ما ذكر من شبهة التحريف بالنقيصة في بعض آياته الأمر الذي لا يفسح المجال للعمل بالظواهر القرآنية لاحتمال فقدان القرائن.
ومنبع هذه الشبهة بعض الروايات التي ربما يستدل بها لهذا الغرض وهي واردة في مختلف كتب الحديث السنية والشيعية.
إلا أن المسلمين عموما من كلا الفريقين لم يرتضوا مطلقًا هذا الاستدلال استنادًا للأدلة القاطعة الحاكمة بعدم تحريف القرآن في طليعتها الآيات القرآنية الدالة على حفظ القرآن من أي باطل.
وقد ذكر المحقق الكركي وهو من أكابر علماء الإمامية: " أن ما دل على الروايات على النقيصة لا بد من تأويلها أو طرحها فإن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنة المتواترة، والإجماع، ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه وجب طرحه ".
وعلق السيد الخوئي على هذا بقوله: (1) .
"أشار المحقق الكركي بكلامه هذا إلى ما أشرنا إليه سابقًا، من أن الروايات المتواترة قد دلت على أن الروايات إذا خالفت القرآن لا بد من طرحها فمن تلك الروايات إذا خالفت القرآن لا بد من طرحها فمن تلك الروايات ما رواه الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بسنده الصحيح عن الصادق عليه السلام (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) . إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورًا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه" (2) .
وهكذا تندفع هذه الشبهة بعد حصول الإجماع الإسلامي على سلامة القرآن من التحريف بالزيادة أو النقصان ولا مجال لما يبدو أحيانًا من التهاتر الرخيص والذي يمهد السبيل لأعداء الإسلام كي يشككوا بالاستدلال بكتاب الله العزيز.
__________
(1) البيان في تفسير القرآن: ص 234
(2) وسائل الشيعة: ج 18؛ كتاب القضاء: ص 86(7/1950)
السنة النبوية ودفع الشبهات عنها:
ربما أمكن القول بأنه لم تواجه أي رسالة أو عقيدة ما واجهه المبدأ الإسلامي من هجوم شرس على مختلف الصعد، وبشتى الأساليب الممكنة خلال تاريخه الطويل. السيف، والعذاب، والتهم، والإشاعات، والتشويه، والتشريد، واللغو والتحريق، والتشكيك في كل شيء.
وكل ذلك أمر توقعه الإسلام وأعد له عدته، ومن ورائه مدد الله وعونه.
وكذلك يجب أن يتوقعه كل عامل لصالح الإسلام وإعادته إلى واقع الحياة اليوم ويعد له عدته، على أساس إن ذلك سنة تاريخية:
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (1) .
ولعل أخطر ما في الحملات التشكيك بالمنابع الأساس لهذا المبدأ السامي وإضعاف الثقة به. ومن ثم إذابة كل ما يتوقع من خير تضيفه هذه لمنابع لأحكام الصورة الإسلامية الأصيلة، وتعميقها في النفوس، ومنحها أصالتها التي بها تقارع وتقاوم ثم تبني وتتقدم.
ولسنا هنا بصدد عرض تاريخي بقدر ما نحن بسبيل مواجهة فعلية مع المشككين اليوم.
لقد واجه المنبع الرئيس الأول للتصورات والتشريعات الإسلامية (القرآن) سيل التشكيك في نسبه السماوي أولًا، وفي مضامينه ثانيًا، وفي حجية هذه المضامين ودورها وغير ذلك , ولكنه كان أقوى من أي هجوم، وتقهقر التشكيك وصدق وعد الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
ولم نعد نسمع التشكيك في كتاب الله إلا حسيسًا لا قيمة له.
ومن ثم استعرت الحملة ـ وإلى يومك هذا ـ ضد المنبع الرئيس الثاني (وهو السنة النبوية المباركة) لكي تنال منها، ومن قدرتها على إعطاء الصورة الأصيلة عبر الدس أولًا والتشكيك بعد ذلك في مجموع الأحاديث التي تتحدث عن السنة ووصفها بعدم الجدية لوجود الدس والتعارض وأمثال ذلك.
والواقع ـ أيها السادة ـ أن المسألة خطيرة مصيرية يجب أن لا نمر بها مرور الكرام، بل نقف عندها وقفة واع فقيه بالأبعاد الخطيرة لها.
وقد آثرت في هذه الفرصة التعرض للشبه المثارة بشيء من التفصيل بما يسمح لي الوقت راجيًّا أن يكون حديثي هذا منطلقًا للاستيعاب الأكثر لجوانب الموضوع.
__________
(1) سورة سبأ: الآية 34(7/1951)
اتباع السنة والعمل بالحديث من الضرورة:
لا أغالي إذا ادعيت أن الضرورة العلمية بين المسلمين قائمة على لزوم اتباع سنة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يوم القيامة، بل والعمل بها من خلال مضامين الأحاديث الواصلة إلينا.. ومن هنا فكل تشكيك بذلك إنما هو مجرد شبهة في قبال ضرورة. وقد انصب التشكيك في الواقع على الوعاء الموصل للسنة الشريفة، وهو الخبر وخصوصًا لخبر غير المفيد للعلم ويدعى اصطلاحًا بخبر الواحد. ولكن التأمل في المستندات المطروحة المنبهة على هذه الضرورة ينفي كل تشكيك فالتأمل في الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (1) .
وملاحظة مفهومها من عدم لزوم التبين إذا كان المخبر غير فاسق يؤدي إلى حجية قول هذا المخبر.
وكذا التأمل في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (2) .
وغير ذلك من الآيات، ولو لم يكن قولهم حجة لم يكن مجال للحذر.
وكذا التأمل في التواتر المعنوي الذي تشع به الروايات الكثيرة وأخيرًا التركيز على السيرة الإسلامية القطعية على العمل بخبر الثقة وإن لم يفد علمًا كل ذلك ينبهنا لهذه الضرورة والبديهة.
__________
(1) سورة الحجرات: الآية 6
(2) سورة التوبة: الآية 122(7/1952)
دوافع المشككين:
يمكننا أن نلخص دوافع المشككين على اختلافها بما يلي:
1 ـ فسح المجال للاقتباس الفكري:
ذلك أن السنة إذا كانت محكمة في التشريع والمفاهيم إلى جنب القرآن الكريم أعطتنا صورة كاملة مفصلة عن النظام الكامل الشامل للحياة , وبالتالي لم يكن هناك أي مبرر للتوجه إلى النظم الأخرى لاستجدائها وتطبيقها، أما إذا أقصيت فقد انفتح الباب على مصراعيه، للآراء والأهواء المستوردة من قبل عملاء الغرب والشرق وهذه هي الطامة الكبرى التي ابتلي بها من يسمون بالمثقفين اليوم، وقد واجهت ثورتنا الإسلامية الفتية منهم أشد الضربات وكانوا أعظم الممهدين للعدو.
2 ـ العجز والضحالة في الفهم:
فقد يؤدي هذا العجز، وقلة الثقافة وعدم التعمق، إلى تبني مثل هذا الرأي لئلا يبتلى بالعواقب، وربما كان للشبهات المثارة دورها في تعميق هذا الاتجاه.
3 ـ توحيد الموقف:
فقد أغرى حب توحيد الموقف الإسلامي بعضهم للرضوخ لهذا الرأي ظانًّا أنه به يستطيع أن يوحد الموقف بإرجاع الجميع إلى القرآن الكريم وحده ولكنه لا يدري أنه كالمستجير من الرمضاء بالنار، إذ سيمزق الوحدة بشكل فظيع. ويمكننا أن نذكر هنا بعض العوامل الأخرى.(7/1953)
بعض الشبهات المطروحة وأجوبتها: ونحن هنا نذكر بعض الشبهات المثارة ليقف الإخوة على مدى ضحالتها، ويندفعوا للتعمق في الإجابة عن أمثالها:
أولا: ذكروا أن هناك بعض الروايات التي تتحدث عن الاكتفاء بكتاب الله عن غيره أو تنهى عن كتابة الحديث وأمثال ذلك.
ولكن المرء يكاد يجزم بأن هذه الروايات ـ لو صحت أسانيدها ـ إنما هي بصدد بيان فضل كتاب الله وعظمته، وأن لا وحشة على من كان معه القرآن، فهو خير أنيس للمؤمنين لا أن تكون بصدد جعله المصدر الوحيد للتشريع، كيف والقرآن نفسه يدعو إلى الاقتداء والتأسي والطاعة لرسول الله والأخذ بما يخبر به المخبرون عن الإسلام وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما الروايات التي ادعي فيها أن بعض الصحابة نهوا عن كتابة الحديث فلا علاقة لها بنفي العمل بالروايات وإنما كانت ـ فيما أعتقد ـ تعبر عن تحوط من قبلهم لئلا يقع الخلط بين الحديث والقرآن. وبغض النظر عن صحة هذا التحوط وعدمها فإنها لا دلالة فيها على ما يطلبه المشككون هؤلاء.
ثانيًا: ذكروا أن في الروايات ما هو معارض لغيره من الروايات نفسها ولما لم يكن من الممكن أن تتناقض السنة فيجب التوقف في المجموع.
ومن الواضح سخف هذا الاستدلال ذلك أن الروايات المتعارضة لها مساحة قليلة فإذا أريد التوقف فليكن في هذه الدائرة لا غير.
ثم إنه كثيرًا ما يكون التعارض ابتدائيًّا ـ أي بالنظرة الأولي ـ ولكن بمجرد التأمل ينحل ذلك التعارض بحصول جمع عرفي ظاهر بين التعارضين، أو بتخصيص أو تقييد أو تقدم لأحدهما على الآخر باعتباره قرينة والقرينة مقدمة على ذي القرينة أو باعتباره يرفع الموضوع أو يتصرف في الحكم مثل تقدم حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) على غيره من الأحكام الأولية.
نعم إذا استحكم التعارض توقفنا عن العمل بهما معًا.
ويجب أن نلاحظ هنا أن التعارض طبيعي الوقوع فقد يكون في الأصل ناشئًا من عملية تدرج في إعطاء الأحكام، أو من سقوط شيء وغيابه عن الراوي مما يغير المدلول، أو من وجود خبر مدسوس لا نعلم بدسه فنتصوره حجة علينا.(7/1954)
ثالثًا: راح بعض الأشخاص يتحدث عن روايات تتنافى مع القرآن الكريم، ولكنه لم يستطع أن يذكر إلا بعض الروايات. على أن الكثير مما يذكر كمصداق لذلك يرجع إلى تخصيص أو تقييد لمطلق قرآني وهو أمر واقع بشروطه المذكروة في محلها. نعم إذا رأينا الخبر منافياً تمامًا لمضمون القرآن ضربنا به عرض الجدار ولم يكن إلا زخرفًا.
رابعًا: راح بعض الناس يذكر أن الأحاديث كانت موجهة للمخاطبين بها بالفعل فلا تشمل غير عصرهم من العصور.
وهذه الشبهة هي من أوهى الشبهات؛ ذلك أن المسلم به الواضح في خلد جميع المسلمين والموحى به من تعليمات القرآن أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحدث لا مع عصره فحسب , بل مع كل العصور، وأن حلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، وأنه أسوة حسنة لكل المؤمنين عبر التاريخ.. مما أوجد لدى المسلمين آنذاك قاعدة الاشتراك، أي اشتراك غيرهم معهم في الأحكام، فمتى ما شك في اختصاصهم هم بحكم، أو حتى اختصاص الرسول بحكم دونهم جاءت قاعدة الاشتراك حاكمة في البين.
خامسًا: وراح هؤلاء يسوقون الأمثلة على تغير المصطلحات عبر الفترات الزمانية فمصطلحات (الوطن) و (الاشتراكية) و (الرعية) وغير ذلك قد تغيرت رأسًا على عقب، ومن هنا فما أدرانا أن ما نفهمه من الروايات هو المقصود الواقعي منها.
ونحن لا نشك في أن بعض ظواهر اللغة والكلام متطورة عبر مؤثرات مختلفة لغوية وفكرية وإشراطات تاريخية معينة، فيختلف المعنى الظاهر في عصر الصدور عن ما يظهر في عصر آخر. والمعول عليه هو الظهور في عصر الصدور لا غيره.
إلا أن هناك أصلًا عقلانيًّا ممضى حتمًا من قبل الشارع المقدس بالإقرار يسمى بـ (أصل عدم النقل) أو كما يسميه العالم الشهيد السيد الصدر بـ (أصالة الثبات في اللغة) يحل المشكلة موضحًا أن العقلاء يبنون على هذا الأصل باعتبار البطء في حدوث أي تغيير في المفهوم من اللفظ مما يجعله في نظرهم أمرًا استثنائيًّا، فمتى ما شككنا في تغير ما بنينا على عدمه فلا مشكلة في البين مطلقًا.(7/1955)
سادسًا: وذكروا أن هناك الكثير من الروايات المفتراة فكيف نتأكد من الصدور والحال هذه؟
والجواب على هذا واضح بعد الذي قدمناه , إذ أننا بعد التجاوز عما يؤدي إلى العلم بالمضمون من الروايات قلنا: إن الشارع عبدنا بمضمون أخبار الآحاد التي يرويها الثقات , وأكمل كشفها الناقص تعبدًا لا وجدانًا فنحن معذورون إذا عملنا بها وخالفت الواقع وهي منجزة علينا فليس لنا المخالفة فما علينا إذن إلا الفحص والتمحيص الدقيق في السند والمتن والمداليل، ومتى ما انتهى البحث فنحن معذورون أمامه تعالى.
سابعًا: وربما طرح بعضهم شبهة تقول إن تعليمات الرسول خصوصًا في المجال الاجتماعي كانت تقتضي كونه وليًّا للأمر لا مخبرًا عن الشارع المقدس، أو على الأقل يقال بوقوع الخلط بين ما يصدر بصفة الولي وما يصدر بصفة المشرع.
ولكن الواقع هو أنه كانت تصدر منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلك التعليمات باعتباره حاكمًا لها جانب مؤقت ولكن كل تلك التعليمات كانت تحمل معها قرائنها اللفظية والحالية وهي أمور متميزة عند العلماء , ولو من قياس حالها إلى الحالة السارية عمومًا، وهل يشك أحد بأن الأمر بحفر الخندق مثلًا كان أمرًا وقتيًّا متناسبًا مع تلك الحرب بظروفها؟
ثامنًا: وقد طرحت فكرة اجتهاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأمور الأمر الذي لا يعبر عن تشريع خالد والذي نعتقده أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لا يعدو بيان الواقع التشريعي الخالد من خلال وصوله إليه بالوحي أو بيان التعليم الاجتماعي اليومي بصفته ولي الأمر، وفي المجال الثاني هذا كان يتم التشاور والعزم لا في المجال الأول، والفرق بين المجالين واضح للمتأملين، أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ملتزمًا تمام الالتزام بعرض الواقع التشريعي قبل كل شيء وعدم إبداء أي رأي من عنده، بل لقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد التحم بالوحي والحقيقة فلا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
تاسعًا: ولما لم يجدوا ما ذكروه راحوا يركزون على أن خبر الواحد لا يفيد إلا ظنًّا وأن الظن لا يغني من الحق شيئًا غافلين عن أن الأدلة القطعية التي سبقت لحجية خبر الواحد استثنت هذا الظن وأمثاله من عموم النهي عن اتباع الظن وأنزلته منزلة العلم باعتباره السبيل العقلاني الطبيعي للوصول إلى الشريعة، وأنه لا يمكن تكليف الناس جميعًا بتحصيل العلم بكل موارد الإسلام وأحكامه.
فالظن المنهي عنه هو الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل قطعي.
عاشرًا: وأخيرًا راح بعض الأشخاص يستعرض بعض الروايات التي ادعى أنها تخالف العقل والعلم ولأجل التقليل من أهمية المجموع الروائي العام، ونحن نسمع كثيرًا عن مخالفة العقل هذه وعند التأمل نجدها تخالف ذوقًا عقلانيًا مثلًا أو ميلًا عامًا دون أن تصل إلى مستوى المخالفة القطعية. نعم لو وصلت إلى هذا الحد ـ وذلك بعيدٌ جدًّا ـ فقدت الوثوق المطلوب. أما قصة مخالفة البحوث العلمية فيجب فيها أن نتذكر التغييرات الكبيرة التي تطرأ على هذه البحوث وعدم قطعيتها وأنها فرضيات متغيرة.(7/1956)
وخلاصة القول: إن كل ما طرح من شبهات حول الأحاديث والسنة لا يمكنه أن يصمد للنقد والاعتراض.
نقطتان هامتان: وهنا نود أن ننبه إلى نقطتين هامتين في ختام هذا البحث هما:
النقطة الأولى: أننا إذا رفضنا هذا الاتجاه الخطر فإن ذلك لا يعني مطلقًا أن نتجه إلى قبول كل ما يرد عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من دون تمحيص وتحقيق في المتون والأسانيد، بل حتى إننا لا نجيز أن يعتمد العلماء على استنتاجات غيرهم من العلماء في هذا السبيل إلا أن تكون شهادة، كلا وإنما تجب ملاحظة الأسانيد والرواة فردًا فردًا، والتحقق من توفر الوثوق المطلوب، وعدم التنافي الثابت مع القرآن الكريم والسنة المقطوع بها، وإننا لنرى من المناسب أن ننقل نصًّا جاء عن علي (ع) تلميذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جواب من سأله عن أحاديث البدع، وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر , فقال: إن في أيدي الناس حقًّا وباطلًا، وصدقًا وكذبًا وناسخًا ومنسوخاً، وعامًّا وخاصًّا، ومحكمًا ومتشابهًا، وحفظًا ووهمًا، ولقد كذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على عهده حتى قام خطيبا فقال: ((من كذب علي متعمدًا فليبتوأ مقعده من النار)) وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام، لا يتأثم، ولا يتحرج.. فهذا أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله شيئًا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمد كذبًا فهو في يديه ويرويه، ويعمل به ويقول أنا سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه ولو علم أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا يأمر به، ثم إنه نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ , فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه إنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفًا من الله، وتعظيمًا لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ولم يَهِمْ بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل به وحفظ المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاص والعام، والمحكم والمتشابه فوضع كل شيء موضعه.. [نهج البلاغة، صبحي الصالح: ص 325 ـ 327] .
بهذه الدقة يتعرض تلميذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الرواة في عصره وهو ألصق ما يكون بعصر الرسول فكيف بنا ونحن نعيش هذا الفاصل الزمني البعيد؟ إن الأمر يتطلب ـ لا محالة ـ جهدًا وبذلًا للوسع في هذا المجال. وهذا ما يقودنا إلى التأكيد على النقطة الثانية.(7/1957)
النقطة الثانية: وهي نقطة هامة جدًّا يجب التركيز عليها وملخصها:
إننا إذ نرفض الشبهات الماضية ونرفض القبول المطلق لكل ما جاء، نمتنع ـ في نفس الوقت ـ عن تسليم السنة ـ حتى الموثوق بها ـ إلى كل فرد مهما كان مستواه، وفسح المجال له ليفهم منها ما يشاء وينسبه إلى الإسلام، فإن هذا المنحى خطر جدًّا وإن كان دعاته اليوم كثر في عالمنا الإسلامي متذرعين بأن الإسلام لكل الناس , فلماذا تحصرونه بأيدي عدة قليلة، خالطين بذلك بين هذا وبين كيفية فهم الواقع الإسلامي واستنباطه من النصوص. مثلهم في هذا مثل من يدعو لتسليم الذرة لكل من يطلبها ليستخدمها كيف يشاء بحجة أنها وجدت لصالح الجميع!
إن ملاحظة ما سبق، وإدراك احتياج فهم الواقع الإسلامي من الكتاب والسنة الشريفة إلى دراسات تخصصية معمقة في المجالات اللغوية والفقهية (أصولًا وفروعًا فقهية) والتفسيرية والرجالية وغيرها لهو مما يمنع بتاتًا من نفي التخصص والخبرة وعدم الركون إليهما.
وإننا لننبه أمثال هؤلاء إلى الآثار الخطيرة التي تنجم عن رأيهم هذا من:
شيوع الفهم القاصر للإسلام، وفقدان العمق والأصالة التي تميزه عن غيره، وفسح المجال للأهواء أن تتلاعب بالمقدرات الإسلامية، وعدم قدرة الصور الناتجة على الصمود أمام الإشكالات والشبهات.
هذا بالإضافة إلى أنه يجعل المذاهب بعد الأفراد فويل للأمة من مثل هذا اليوم الرهيب.. يوم يفتي فيه العسكري، ويدلي فيه هذا الموظف برأيه في الإسلام وذاك الملك وهذا الرئيس وهم لا يمكلون مستوى فهمه واستنباطه.
إننا نسأل هؤلاء:
هل تستطيعون أيها السادة أن ترونا مبدأ فيه بعض ما في الإسلام ولا تخصص فيه؟
إننا نؤكد لزوم الحاجة إلى الأخصائيين الإسلاميين ونسميهم بـ (الفقهاء) ، ولزوم أن يكونوا عدولًا لا يذعنون لهوى نفسي، ولا يركعون أمام ظالم أو طاغوت، ويتجلى هذا اللزوم في الميادين التالية:
(أ) ميدان فهم الأحكام والنظم الإسلامية للحياة الإنسانية، واستنباطها من منابعها الرئيسة.
(ب) مجال القضاء وفصل الخصومات.
(جـ) مجال قيادة الأمة، فلا يمكن تسليمها لجاهل بالإسلام غير إخصائي فيه. إذ الإسلام تجربة حياتية بشرية كبرى لا يمكن أن تقوم عليها إلا القيادة الواعية لها المؤمنة بها المطبقة لأحكامها المتشبعة بروحها.
وهذا بالضبط ما اصطلحنا عليه بمبدأ (ولاية الفقيه) والذي يعتبر تطبيقه في نظامنا الإسلامي الميزة الإسلامية الكبرى له والأساس الأول الذي أتحفنا بالوصول إليه ثورتنا الإسلامية الكبرى بتوجيهات وقيادة القائد الفقيه الكبير الإمام الخميني.
ومن هنا تؤكد المادة الخامسة من دستورنا الإسلامي ضرورة تسليم ولاية الأمر والأمة للفقيه العادل التقي، العارف بالعصر، الشجاع المدير المدبر الذي تميل إليه أكثرية الجماهير المسلمة وتذعن لقيادته.(7/1958)
الفصل الخامس
حول الحكم والدولة
تعريف الحكومة والدولة ونظام الحكم:
الدولة: ويراد بها (المجموع الكلي المكون من شعب ونظام يسير عليه الشعب وحكومة تدير هذه المسيرة) .
الحكومة: يعرفها رسو بأنها: (هيئة وسيطة بين الرعايا وصاحب السيادة من أجل الاتصال المتبادل بينهما، مكلفة بتنفيذ القوانين وبالمحافظة على الحرية المدنية والسياسية على السواء لأوامر رئيس الدولة) .
وواضح أنه يعبر بها عن الهيئة التنفيذية لأوامر رئيس الدولة التي يريد تطبيقها على رعاياه، على اختلاف في نوعية صاحب السيادة هذا.
ولا ريب في أن تعريفه هذا إنما يصدق على بعض الحكومات لا كلها، أما ما نقصده من الحكومة، فهو: (الهيئة الكلية التي تشرف على إدارة الشؤون العامة في مجتمع ما) .
فالشيخ والرئيس والأمير والملك جزء من هذه الهيئة، كما أنها تقوم بتمشية الأمور في "الشؤون العامة". و "الشؤون العامة" هذه تختلف باختلاف المجتمعات، والاجتهادات، فقد لا تتجاوز في مجتمع ما، تعيين أوقات الخروج للصيد وتقسيم الناتج، وقد تشمل ـ كما في المجتمعات الحاضرة ـ أغلب المجالات فلا يخرج عنها إلا بعض القضايا الشخصية جدًّا.
وعندما نطلق تعبير "نظام الحكم" فإننا نعني به المبادئ العامة التي تحدد كيفية الحكم والحاكم وعلاقة الشعب بالحكومة وعلى ضوء ذلك يعرف دورها.(7/1959)
ضرورة الحكومة على ضوء وظيفتها:
وتوجد هنا بعض النظريات:
يرى آدم سميث أن أهداف الحكومة هي:
1 ـ حماية المجتمع من الفوضى على المجتمعات المستقلة الأخرى.
2 ـ حماية كل عضو في المجتمع ـ بقدر الإمكان ـ من فقدان العدل، أو كبت أي عضو منه، وتطبيق العدالة بدقة.
3 ـ إنشاء منظمات عامة لا تنشد مصلحة فرد أو مجموعة من الأفراد بل تسعى لمصلحة المجتمع بأسره.(7/1960)
ويرى بركس أن هدف الحكومة المباشر هو: تأمين سيادة القانون والأمن العام، ونشر النظام. فإذا حصلت على ذلك وجب عليها أن تحدد حدود الحرية الفردية، ويضع هدفًا أساسًا لها وهو العمل لنشر الفكرة الإنسانية والحضارة في العالم. أما ويلنبي فيضع أهدافًا عامة لكل حكومة وهي:
(أ) تحقيق النظام في بلادها وحفظ استقلالها من بين الدول الأخرى.
(ب) العمل للحصول على أوسع نطاق من الحرية، ويرتبط بالحرية تقوية الجهاز الحاكم لأجل الحفاظ عليها كما يرتبط بها تثقيف المواطنين كي يكونوا قادرين على ممارسة الحرية.
(جـ) العمل لتحقيق الرفاهية العامة ورفع المستوى الاقتصادي والفكري والخلقي.
ويحدد لاسكي أهدافها في: (قيامها بتمكين مجموع الأفراد من تحقيق مستوى اجتماعي طيب بأعلى مستوى ممكن، وتنحصر واجباتها في تنظيم مجموعة من الأعمال المنسقة، ومن الطبيعي أن ذلك التنظيم يزداد ويقل حسب الظروف القائمة، وليس للحكومة أن تقوم بالسيطرة على جميع فعاليات الإنسان وإنما عليها أن تصنع مفتاح التنظيم الاجتماعي وعليها أن تحقق ما يدور في خلد الرعية من نظام أفضل) .
ويرى جاكوبسن وليمان: إن الأهداف هي كما يلي:
1 ـ تأمين الحرية من الانتهاك، وتأمين العدل الداخلي للشعب فلا يكون للحكومة مسوغ إلا نجاحها في ذلك.
2 ـ تحقيق سعادة الفرد.
3 ـ تحقيق الرفاهية العامة.
4 ـ حماية الأخلاق.
وهكذا رأينا اختلاف الآراء في أهداف الدولة مما يعين مقدار ضرورتها , وإذا أردنا أن نختار أجمع ما ذكر اخترنا ما قاله "لاسكي" مع بعض التوضيح أو التعديل.
والواقع: إن التجمع الإنساني ضرورة لا بد منها لأفراد الإنسان وذلك على اختلاف في دواعي التجمع، أهي الغريزة الداعية للتجمع مباشرة أو غريزة الاستخدام التي تدفع كل فرد لاستخدام الفرد الآخر أو ما إلى ذلك؟(7/1961)
ولا بد للمجتمع من نظام يعين المسير ويحل التناقض في النزعات ووجهات النظر، كما لا بد لهذا النظام من معين ومنفذ له على ضوء مصلحة معينة، ومن هنا تنشأ فكرة "نظام الحكم".
وواضح أن أهداف هذا النظام تختلف باختلاف تصور الإنسان لوجوده ومركزه من الكون من جهة وبمقدار بساطته وتعقيده من جهة أخرى.
فالمجتمع الذي ينظر للإنسان كفرد حيواني يريد أن ينعم بالراحة والسعادة، تختلف متطلباته عن المجتمع الذي ينظر للإنسان كموجود استخلفه الله العظيم ليعمر الأرض ويتكامل بالتدريج، فيصنع مجتمع الأرض العادل العابد الذي لا يشرك بالله.
وبتعبير آخر فإن اختلاف إيديولوجية المجتمع تؤثر بشكل أساسي على الأهداف التي يتوخاها من التجمع.
من هنا رأينا الحكومات في بعض المجتمعات تؤكد على الجانب العسكري مثلًا؛ لأن الاتجاه العام هو بناء المجتمع القوي صافحة عن تحقيق السعادة بالمعنى الذي نفهمه. كما رأينا الحكومات الأخرى تركز على جانب الثقافة؛ لأن وجهة النظر الاجتماعية كانت تعينها هدفًا لها.
هذا وتختلف وظيفة الحكومة على ضوء تعقد المجتمع وبساطته فبينما لم نكن في السابق إلا هيئة أو فردًا يدير القبيلة أو المجموعة ويحل نزاعاتها نجد أنها تطورت إلى فرد تعينه هيئة كبرى تخطط للدفاع عن المجتمع، وتنظم وضع الأمن في داخله، وتشرف على وضع القوانين التي تسد بها بعض الفراغات الاجتماعية رأيناها في هذا العصر وهي تقوم بمهمة سن القوانين المختلفة وإدارة شؤون المجتمع الدفاعية والخارجية والداخلية والمالية والثقافية والفنية والصحية وشؤون المواصلات والزراعة والصناعة وأمثال ذلك.
ذلك أن تعقد الحياة الاجتماعية يغير كثيرًا من الشؤون الشخصية إلى شؤون عامة مما يلقي بعهدتها على الدولة، كما أن تعقد المجتمع يخلق ترابطًا قويًّا بين شؤونه مما لا يدع مناصًا من السيطرة على مختلف الجوانب لتحقيق السيطرة العامة والإدارة الاجتماعية.
فاختلاف الإيديولوجيات وتعقد المجتمع هما العاملان الرئيسان في تطوير وظائف الحكومة.(7/1962)
تنبيه مهم:
يكاد يجمع الذين عينوا وظيفة الحكومة على أن عليها أن تحقق سعادة الإنسان وتؤمن راحته وحتى الذين نادوا بنظم الحكم التي تعمل لصالح المجتمع أرادوا من خلال ذلك أن يوضحوا أن راحة الفرد تكمن في تحقيق الاحتياجات الاجتماعية.
وكل هذا التركيز على سعادة الفرد وراحته يكمن في أنه حق طبيعي له ـ كما يعبر جون لوك ـ وعندما نركز على الحق نفسه ونتساءل عن علة كونه حقًّا لا نجد لذلك موضحًا إلا أن نقول:
إن الإنسان يمتلك في أعماق وجوده طاقات فطرية تهيئه لأن يسير مسيرة كمالية بملء إرادته وشعوره، وهذا يعني أنه يستحق أن يفسح له المجال للوصول إلى كماله، مثلًا الإنسان له أن يعرف، وفي أعماقه دوافع للمعرفة , فإذا منع من ذلك فقد منع من حقه، وفي الإنسان دوافع خلقية ووجدان عملي يعين له الحسن والقبيح , فإذا منع من السير الطبيعي وِفْقَه فَقَدَ من حقه، ومن هنا ركز الفلاسفة على أن كل موجود يولد وقد وصل إلى كماله النفسي فعلًا إلا الإنسان فإنه يولد موجودًا يحمل الاستعدادات النفسية الهائلة التي يسير إليها طبق نظام منسجم مع أهدافه الكمالية.
فإذا كانت الإيديولوجية التي يحملها المجتمع بهذا وترى أن لمجموع الإنسانية غاية عظمى فإن حق الإنسانية على ضوء هذا سوف يوجب على الدولة أن تنظر في أمر تنظيم شؤون الفرد الحاضر والمجتمع الحاضر في مسيرتها نحو الكمال كما تخطط لئلا تغلق على الأجيال الآتية أبوابًا تسير من خلالها إلى الكمال. وعلى أساس من هذا تكون مسؤولية الحكومة كبيرة جدًّا ومسؤولية وضع النظام تعمل عليه الحكومة أكبر من ذلك. وللحديث عن رأي الإسلام في وظيفة الحكومة مجال واسع.
إن التربية العقائدية والتخطيط لمستقبل الأجيال يعد أهم وظيفة تقوم بها الحكومة.(7/1963)
ضرورة الحكومة في رأي الماركسية:
ترى الماركسية أن الإنسانية حتى مع فرض تجمعها لا تحتاج بالضرورة إلى الحكومة ومن هنا كانت المجتمعات في المرحلة البدائية الشيوعية لا تدار من قبل حكومة، وإنما بدأ الاحتياج لها بعد تشريع الملكية الذي غرس في نفسية الإنسان حب الذات , وعند نشوء الطبقية المقيتة احتيج لحكومة كمنسق لمتطلبات الوضع الاقتصادي ومعبر عن احتياج الطبقة الحاكمة إلى إعمال نفوذها على الطبقة المحكومة , أما إذا وصل المجتمع إلى الشيوعية الأصيلة وهي المرحلة العليا من التطور الاجتماعي الإنساني فلن يحتاج إلى مثل هذه الهيئة الحاكمة بعد زوال مبررها وهو التناقض الطبقي.
وهنا يقول الإمام الصدر:
"ومن حقنا أن نتساءل عن هذا التحول الذي ينقل التاريخ من مجتمع الدولة إلى مجتمع متحرر منها، من المرحلة الاشتراكية إلى المرحلة الشيوعية، كيف يتم هذا التحول الاجتماعي؟ وهل يحصل بطريقة ثورية وانقلابية فينتقل المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية في لحظة حاسمة، كما انتقل من الرأسمالية إلى الاشتراكية؟ أو أن التحول يحصل بطريقة تدريجية فتذبل الدولة وتتقلص حتى تضمحل وتتلاشى؟
فإذا كان التحول ثوريًّا آنيًّا، وكان القضاء على حكومة البروليتاريا سيتم عن طريق الثورة، فمن هذه الطبقة الثائرة التي سيتم على يدها هذا التحول؟ في حين تقول الماركسية: إن الثورة الاجتماعية على حكومة، إنما تنبثق دائما من الطبقة التي لا تمتلكها تلك الحكومة، فلا بد إذن في هذا الضوء أن يتم التحول الثوري إلى الشيوعية على أيدي غير الطبقة التي تمثلها الحكومة الاشتراكية، وهي طبقة البروليتاريا، فهل تريد الماركسية أن تقول لنا إن الثورة الشيوعية تحصل على أيدي رأسماليين مثلًا؟(7/1964)
وإذا كان التحول من الاشتراكية وزوال الحكومة تدريجيًّا.. فهذا يناقض ـ قبل كل شيء ـ قوانين الديالكتيك التي ترتكز عليها الماركسية , فإن قانون الكمية والكيفية في الديالكتيك يؤكد: إن التغيرات الكيفية ليست تدريجية بل تحصل بصورة فجائية، وتحدث بقفزة من حالة إلى أخرى، وعلى أساس هذا القانون آمنت الماركسية بضرورة الثورة في مطلع كل مرحلة تاريخية بوصفها تحولًا آنيًّا. فكيف بطل هذا القانون عند تحول المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية.
والتحول التدريجي السلمي من المرحلة الاشتراكية إلى الشيوعية كما يناقض قوانين الديالكتيك كذلك يناقض الأشياء. إذن كيف يمكن أن نتصور أن الحكومة في المجتمع الاشتراكي تتنازل بالتدريج عن السلطة وتقلص ظلها حتى تقضي بنفسها على نفسها، بينما كانت كل حكوم أخرى على وجه الأرض تتمسك بمركزها وتدافع عن وجودها السياسي إلى آخر لحظة من حياتها؟ فهل هناك أغرب من هذا التقليص التدريجي الذي تتبرع بتحقيقه الحكومة نفسها فتسخو بحياتها في سبيل تطوير المجتمع؟ بل هل هناك ما هو أبعد من هذا عن طبيعة المرحلة الاشتراكية والتجربة الواقعية التي تجسدها اليوم في العالم؟ فقد عرفنا إن من ضرورات المرحلة الاشتراكية قيام حكومة دكتاتورية مطلقة السلطان، فكيف تصبح هذه الدكتاتورية المطلقة مقدمة لتلاشي الحكومة واضمحلالها نهائيًّا؟ وكيف يمهد استفحال السلطة واستبدالها إلى زوالها واختفائها؟
وأخيرًا فلنجنح مع الماركسية في أخيلتها، ولنفترض أن المعجزة قد تحققت، وأن المجتمع الشيوعي قد وجد، وأصبح كل شخص يعمل حسب طاقته، ويأخذ حسب حاجته أفلا يحتاج المجتمع إلى سلطة تحدد هذه الحاجة، وتوفق بين الحاجات المتناقضة فيما إذا تزاحمت على سلعة واحدة، وتنظم العمل وتوزعه على فروع الإنتاج؟ (1) .
وهذه النقطة الأخيرة أمر مهم يوضح ضرورة الدولة في أي مجتمع حتى المجتمع الخيالي الشيوعي الذي يفترض فيه ذوبان غريزة حب الذات من الإنسان ـ وهو أمر ينكره وجدان الإنسان ـ وعمق هذه الغريزة الضارب في وجود أي إنسان. نعم حتى في ذات المجتمع توجد فراغات وشؤون عامة تحتاج فيها إلى سلطة تقوم على ملئها وتسييرها.
ويتوضح هذا عندما ندرك وظائف الحكومة اليوم وتعقدها وأنها ليست كلها قائمة على أساس تناقض المصالح الطبقية.
__________
(1) اقتصادنا: 1/ 211 ـ 212(7/1965)
على أننا لو آمنا بما قلناه في التنبيه الماضي من وجود هدف إنساني عام وهو الكمال وبناء المجتمع العابد، ولاحظنا أنه ليس لهذا الهدف حد ومجال متصور، عرفنا أن الحكومة تحتفظ بدورها في مختلف مراحل الوجود الاجتماعي للإنسان.
على أن ما يمكن تصوره من عوامل نقلت المجتمع من الشيوعية البدائية إلى المرحلة التي عملت الملكية فيها عملها في التقسيم الطبقي يمكن تصور وجوده في المرحلة الشيوعية أيضًا وبشكل أشد خطرًا. ومعه ألا نحتاج للهيئة المسلطة التي تمنع من هذا السير التحولي؟
وعلى أي حال فإن الواقعية تقتضي تكذيب الماركسية والتأكيد على ضرورة الحكومة في كل عصر إنساني خصوصًا مع ملاحظة الوظائف المتشعبة التي تقوم بها في هذا العصر كما في التخطيط الصناعي والزراعي والصحي وأمثال ذلك.
وقد أكد المفكرون هذه الضرورة ومنهم أرسطو الذي اعتبرها من عمل الطبع و"إن الإنسان بالطبع كائن اجتماعي وإن الذي يبقى متوحشًا ـ بحكم النظام لا بحكم المصادفة ـ هو على التحقيق إنسان ساقط أو إنسان أدنى من النوع الإنساني" (1) .
هذا ونقل عن "المذهب الفوضوي" قوله بعدم ضرورة الحكومة مستدلين بأن طبيعة الإنسان خيرة وعاقلة فلا حاجة للحكومة , وأنها تجر المصالح لطبقة خاصة وتهمل مصالح الأفراد، وأنها تقيد الحرية الفردية وأمثال ذلك.
وهذه أمور لا نرى حاجة في تفنيدها أو تفنيد تسويغها لعدم الحكومة. أما رأي الإسلام فسوف نستعرضه إن شاء الله.
__________
(1) السياسة، ترجمة أحمد لطفي: ص 96(7/1966)
نشوء الحكومة:
ولا يهمنا إلا التعرض باختصار لبعض الآراء في نشوء الحكومة، فقد ذهب "بودان" الفرنسي إلى أن أصل الحكومة هو التكوين الأسري وذهب "فريزر" إلى أن أصل تشكيل الحكومة هو الدين الذي جمع العائلات ووضع القانون. ويرى "أوبنهمير" الألماني أن أصلها هو القوة. في حين ذهب بعض الفلاسفة إلى الأصل الفطري لتشكل الحكومة باعتباره نتيجة حتمية للتجمع وهو أمر فطري، وهم من مثل (أرسطو والفارابي وابن خلدون) أو تعتبر الحكومة فطرية باعتبار نشوئها على أساس نزعة سياسية في الإنسان تدعو للسيطرة على الآخرين.
وهناك نظرية العقد الاجتماعي التي تدعي نشوء الحكومة على أساس اتفاق اجتماعي للدخول تحت قانون وحكومة.
وأخيرًا لا بد وأن نشير إلى النظرية الماركسية القائلة بنشوء الحكومة على أساس التناقض الطبقي حيث تقوم الطبقة الغالبة بإنشاء القدرة السياسية التي تحمي مصالحها الاقتصادية.
وقد ادعت الماركسية أن تفسيرها هنا كباقي تفسيراتها يقوم على أساس من بحوث حولت التاريخ إلى علم بعد أن كان ضربًا من التخيل والمصادفة.
ولكن الواقع أن الماركسيين لا يستطيعون ـ كما لا يستطيع غيرهم ممن فسروا نشوء الدولة وغيرها على أساس من العامل الواحد ـ أن يقيموا دليلًا علميًّا قاطعًا ينفون به كل الاحتمالات الأخرى ما عدا احتمالًا واحدًا وذلك لاختلاف التجارب الطبيعية التي يقوم بها العلماء الفيزيائيون , فيثبتون بها انحسار العامل في شيء معين، عن التجارب الاجتماعية التاريخية التي هي أكبر من عمر الفرد حتمًا، فلا بد أن يعتمد فيها على الأخبار والحدس وربما الفرض المحض أحيانًا.
وللتفصيل في هذا المجال يراجع الكتاب القيم (اقتصادنا) ص 58 ـ 67.
وعليه فلا نستطيع أن نجزم بعامل معين لنشوء الحكومة وبالتالي مجموع عناصر الدولة وربما اجتمعت عوامل في ذلك. وإذا كانت قد نشأت على أساس عامل واحد أول الأمر فلا يعني ذلك أنه العامل الوحيد لنشوء الحكومات بعد ذلك، والذي ترتبط به الحكومة وجودًا وعدمًا.(7/1967)
احتياج الحكومة إلى مبرر وجداني للحكم:
إذا شئنا طرح البحث في مجال إنساني منطقي عام يمكن أن يكون مقبولًا من قبل كل إنسان ذي فكر سليم، وجب أن نلتزم بمقياس إنساني عام مقبول لدى الجميع.
وإذا فتشنا عن هذا المقياس العام الذي يجب التحاكم إليه في كل أمر أريد معرفة منطقيته وإنسانيته فسوف لن نجد لأول وهلة ـ وبغض النظر عن كل نزعة أو ميل فكري ـ إلا الوجدان الأخلاقي في الإنسان، وهوجانب فطري أصيل لا يختلف في روحه، ولا يختفي اختفاء تامًا عن حياة الإنسان , وإن أمكن أن نتصور طغيان بعض الشبهات وتغير تطبيقاته فحتى الذين أنكروا الفطرة وأنكروا في ضمنها الوجدان لم يستتطيعوا أن يتخلصوا ـ عفويًّا ـ من أحكامه. وإلا فما معنى أن نتصور ادعاء الإنسانية والتكامل في نظرية لا تؤمن بالفطرة وهذا يعني أنها لا تؤمن بوجود سبيل فطري وإمكانات أصيلة هيئ لها الإنسان، ومن حقه أن يسير نحوها ومع عدم وجوده لا معنى لأن يكون هذا المبدأ إنسانيًّا دون ذاك، ولا معنى لسير هذا نحو التكامل دون ذلك.
فنفس التصاق المبادئ بالإنسانية والكمال له تأثير وجداني عميق.
وعليه فإن الوجدان الإنساني سوف يكون هو الحاكم الأصيل بمنطقية المبدأ وإنسانيته أو عدمها.(7/1968)
وعندما نراجع الوجدان نجد أنه يتطلب في كل حكومة وجود عاملين رئيسين هما:
الأول: استمداد حق الحكم من مصدر مؤهل لذلك وبتعبير آخر استمداد حق التصرف وتقييد الحريات ممن له ذلك.
الثاني: قيام الحكم على أساس المصلحة الاجتماعية والفردية، فإذا استطاع الحكم أن يوفر هذين العاملين معًا، فقد وفر صيغة منطقية وجدانية له، وإلا عاد ظلمًا وجبروتًا.
وتوضيح الأمر: أنه يمكن تصور عمل الحكومة في المجالات التالية:
1 ـ قيامها بتحديد الحريات الشخصية بتوجيه السير ومنع التجول في أماكن خاصة، وأمثال ذلك، ويشمل هذا قيام الدولة بفرض بعض الوظائف الاجتماعية على أفراد لا يرون لها ضرورة.
2 ـ قيامها بتحديد الحريات الاقتصادية بمنع بعض الأفراد من إشباع غريزة حب الذات والسيطرة على بعض الأموال من طرق معينة، وفرض الضرائب وغير ذلك.
3 ـ قيامها بحل النزاعات والضرب على يد المعتدي ومنع الظالم من ظلمه وأمثال هذه المجالات.
ومن الواضح أن الوجدان إذا كان يكتفي في المجال الثالث بكون تدخل الحكومة هو لمصلحة المجتمع والفرد بمنع الظلم والضرب على يد الظالم ظلمًا وجدانيًّا لا ظلمًا تراه الدولة كذلك لمصلحتها الخاصة، إذا كان يكتفي هنا بالمصلحة فهو لا يكتفي بها في المجالين الآخرين، وإنما يتطلب مع ذلك وجود تولية أو توكيل ممن له الحق في هذا التحديد. رغم أن الإنسان يمتلك في الأصل حريته الطبيعية الأخلاقية في أن يفعل ما يحلو له، وكان ذلك انعكاس لكونه مخلوقًا إراديًّا له الحق أن يفعل وأن لا يفعل في كثير من الأمور والمجالات.(7/1969)
أشكال الحكم الرئيسة:
وإذا أردنا أن نستعرض أشكال الحكم الرئيسة أمكننا تصنيفها كما يلي:
1 ـ الحكم الإسلامي بكلا أطروحتيه "أطروحة الشورى وأطروحة الإمامة ونياباتها".
2 ـ الحكم الاستبدادي "الفردي، أو الفئوي، أو الحزبي".
3 ـ الحكم الديمقراطي " الملكية الدستورية، الجمهورية ".
هذه هي الأقسام الرئيسة المفروضة.
هذا وقد يتحول بعض هذه الأنماط إلى النمط الآخر نتيجة سوء التطبيق أو نتيجة نقص في النظام نفسه أو اقتباس النظام شيئًا من النظام الآخر.
وذلك كأن يمنح الشعب مثلًا رئيس الجمهورية حق الحكم المطلق فيصبح مستبدًّا تمامًا، أو أن يمتلك الحكم الاستبدادي الحزبي نوعًا من الديمقراطية في إطاره الحزبي وإن كان مستبدًّا على الشعب، أو أن يرى الحاكم الإسلامي في نظام الإمامة وجوب العمل برأي الأكثرية مثلًا في أمر ما، وأمثال ذلك.
ونرى أن هذه الأقسام الثلاثة تختلف عن بعضها اختلافًا جوهريًّا.(7/1970)
موقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادة:
وفيه فروع مترابطة:
الفرع الأول ـ الإسلام والحكم:
وبسط الحديث إلى حد ما في هذا الموضوع يستدعي مراجعة بعض الأقوال الشاذة التي نفت أن يكون الإسلام قد جاء ليعطي نظامًا للحكم , ثم التعقيب عليها بالنظرة المخالفة وبيان الحق والواقع.
ولعل "علي عبد الرازق" مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم" هو الذي أثار هذه الضجة، وإن كنا نستطيع أن نجد الشواذ ممن أيده كخالد محمد خالد , وبعض الكتاب الآخرين وبعض المستشرقين أيضًا. وتتلخص نظريته في أن الإسلام لم يخطط نظامًا ـ ولو بنحو المبادئ العامة للنظام ـ في مجالات الحكم وأنه ليس إلا دعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة، وإذا كان الرسول زعيمًا فليست زعامته زعامة حكم وسلطان بل هي زعامة دينية لا ربط لها بالزعامة السياسية.
وقد استند في نفيه هذا لتخطيط الإسلام للحكم إلى الأمور التالية:
أولًا ـ القرآن: كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} (1) .
{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (2) .
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (3) .
و {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (4) .
وخلاصة الاستدلال أن من لم يكن مسيطرًا ولا وكيلًا وإنما هو مجرد مبلغ ومبشر ونذير ليس حاكمًا أيضًا (5) .
ثانيًا ـ السنة الشريفة: ويستند فيها إلى أحاديث ووقائع من مثل ما يلي:
(أ) جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأصابته رعدة شديدة , فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((هون عليك فإني لست بملك ولا جبارًا , وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة)) .
(ب) قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) .
ثالثًا ـ الدليل العقلي: ويتلخص في ادعاءات ثلاثة:
(أ) أن من المعقول أن ينظم العالم في وحدة دينية ولكن ليس من المعقول أن ينظم العالم في حكومة واحدة فذلك يوشك أن يكون خارجًا عن طبيعة البشرية.
(ب) أن مسألة الحكم غرض دنيوي خلى الله بينها وبين عقولنا.
وأخيرًا فإن دولة الرسول خلت من كثير من أركان الدولة.
وهو يقول: "ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى، ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟ " (6) .
هذا وقد نقل الأستاذ عبد الحميد متولي بعض الاستنادات الأخرى لبعض العلماء والمحدثين تدعيمًا لوجهة النظر هذه وهيك
أولًا: أن المؤسس الحقيقي للدولة الإسلامية هو أبو بكر.
ثانيًا: أن الدين حقائق ثابتة لا تتغير والدولة نظام متغير.
ثالثًا: فشل الحكومات الدينية واستبدادها وعدم القبول للتطوير، و "القوة تحتل من طبيعة الحكومة الدينية مساحة واسعة.. وهي تستمد تبرير قسوتها وبطشها من نفس الغموض الذي تستمد منه سلطتها" كما يقول خالد محمد خالد في كتابه: " (من هنا نبدأ) .
__________
(1) سورة الإسراء: الآية 54
(2) سورة الشورى: الآية 48
(3) سورة الإسراء: الآية 105
(4) سورة الغاشية: الآيتان 21، 22
(5) الإسلام وأصول الحكم: ص 71 ـ 75
(6) الإسلام وأصول الحكم: ص 78(7/1971)
دوافع القول بهذه النظرية:
يختلف الباحثون حول دوافع القول بها، فبينما يعتبرها بعضهم نظرية قائمة على البحث النزيه، يرى البعض الآخر إنها جزء من مخططات الاستعمار.
ولكن الأستاذ متولي يرى أن الطرفين جانبا الحق وأن الدوافع تكمن في ما يلي بتلخيص:
1 ـ إن علي عبد الرازق كان يريد أن يثبت هدفه الأساسي، وهو أن الخلافة ليست أصلًا من أصول الحكم في الإسلام، وذلك ليضرب به هدف الملك فؤاد ملك مصر الذي أراد الاحتلال البريطاني أن يجعله خليفة للمسلمين بعد أن قام أتاتورك بعزل الخليفة العثماني وإقامة النظام الجمهوري في تركيا.
2 ـ خشية بعضهم من أن يسيطر الفقهاء على شؤون الدولة وبث روح الجمود فيها وهو ما أصيب به الفقه الإسلامي بعد سد باب الاجتهاد.
وقد ناقشه بقوله: "ولقد فات أصحاب هذا الرأي أنه إذا كان مما لا يمكن إنكاره أن الأخذ بالرأي الآخر (القائل بأن الإسلام دين ودولة) مما يؤدي بلا ريب إلى الإعلاء من مقام رجال الفقه الإسلامي، فليس من شأنه أن يؤدي حتمًا إلى أن يكون رجال الفقه أو الدين من الحكام، فلم يكن هذا هو الشأن حتى في صدر الإسلام فمعاوية ويزيد وعمرو بن العاص (وكثير غيرهم من رجال الحكم في ذلك العهد) لم يكونوا من علماء الفقه والدين".
3 ـ التأثر بالفكرة الغربية "فصل الدين عن الدولة".
ويمكننا أن نكون الرأي الحق بملاحظة نقاط ثلاث:
النقطة الأولى:
إن النظر المنصف إلى الإسلام ونصوصه وتاريخه وضروراته لا يدع مجالًا للمكابرة في أنه يجعل مسألة الحكم في إعداد أهم المسائل التي يعالجها ويضع مبادئها.(7/1972)
فلنلاحظ هذا بشيء من التفصيل:
(أ) طبيعة الإسلام:
وإذا تصفحنا خصائص الإسلام عرفنا أن أهم الخصائص وأبعدها غورًا في وجوده هي الواقعية، فالإسلام دين واقعي ينسجم مع الفطرة الإنسانية والواقع التكويني الذي يعيشه الإنسان، ولا يتناقض مع نفسه ومع هدفه السامي مطلقًا.
وهذه الواقعية هي التي تفرض أن يهتم الإسلام بمسألة الحكم تمام الاهتمام وذلك:
أولًا: لأن الإسلام جاء دينًا شاملًا لكل نواحي الحياة الإنسانية، مخططًا لكل سلوك، ومعينًا لكل نظام , وليس هناك في حياة الإنسان سلوك ولا فرضية لا يدخل تحت نظام خاص وحكم خاص.
وهذا ما نستكشفه من عمل الإسلام على إعطاء رأيه في كل مجال، ومن روايات متعددة تؤكد هذا المبدأ من مثل:
1 ـ الرواية الصحيحة التي رواها الكافي عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن حماد عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال سمعته يقول:
"ما من شيء إلا وفيه كتاب وسنة " (1) .
2 ـ وما رواه الكافي أيضًا عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: ((خطب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا قد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه)) .
والرواية صحيحة أيضًا.
وغيرهما من الروايات التي تؤكد رأي الإسلام حتى في "أرش الخدش".
ولعل وجود مفهومي " الحلال والحرام " اللذين لا يخرج عنهما أي فعل أكبر موضح لأن الإسلام أعطى رأيه بالعموم أو بالخصوص في كل سلوك إنساني وعين مذاهبه السياسية والاقتصادية والتربوية وغيرها وقام نظمه فيها على أساس من مذاهبه العامة.
ولا يمكن مع هذا أن نفترض الإسلام غافلًا عن مسألة الحكم أو تاركًا إياها للظروف والتطورات والتقلبات التي تفرض نفسها على المجتمع الإسلامي وتحكمه وتفرض سيطرتها عليه دون أن تستمد منه ولايتها ومبادئها العامة على الأقل.
__________
(1) وسائل الشيعة(7/1973)
وثانيًا: فإنا حتى لو غضضنا النظر عن مسألة الشمول التي اقتضتها الواقعية الإسلامية، نجد أن الإسلام بلا ريب أعطى الأمة نظامًا اقتصاديًّا كاملًا يقوم على مذهب محدد، كما أعطانا نظامًا للعقوبات وآخر للشؤون الشخصية , ورابعًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، وكل هذه النظم يمتلك الحكم فيها مساحة مهمة بحيث لا يتصور قيام كل منها كنظام إلا بافتراض وجود الدولة الإسلامية التي تحتل ذلك الموقع وتسير على هدى الإسلام وتعيينه لوظيفتها.
يقول الأستذا المرحوم محمد المبارك: "إن مجموع هذه الأحكام الجنائية والمالية والدولية والدستورية لا يمكن أن يعقل إيرادها والالتزام بها التزامًا يعتقد المؤمن بالإسلام بوجوبه والإثم بتركه إلا إذا كان القرآن يفرض على المسلمين تنظيم الحكم وإقامة الدولة.
ولا يعقل أن يقدم الإسلام في قرآنه هذه الأحكام لدولة لا تؤمن أو لا تقوم على أساس عقيدته ومبادئه، ولا يقول بهذا إلا من فقد رشده أو غالط نفسه أو قصد المراوغة والخداع". (1)
والطريف أن نجد جاك روسو يسوغ رفضه الدين العالمي الذي يتدخل في الشؤون المدنية بأن ذلك يؤدي إلى الاعتراف برئيسين وسلطانين وقانونين وهو ما لا ريب في سخفه وعدم إمكانه فيقول: "قد ينقسم الدين على ضوء علاقته بالمجتمع التي تكون إما علاقة عامة أو خاصة إلى نوعين: وهما دين الإنسان ودين الوطن.
الأول: وهو بلا معابد ولا هياكل ولا طقوس، مقتصر على العبادة الداخلية المحضة لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية يكون دين الإنجيل النقي والبسيط، التوحيد الحقيقي وهو ما يمكن أن نسميه: القانون الإلهي الطبيعي.
الثاني: وهو مدون في بلد وحيد يمنحه آلهته وشفعاؤه الخاصون وحماته وله عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوانين وفيما عدا الأمة التي تعتنقه، يكون كل إنسان بالنسبة له كافرًا، أجنبيًّا، بربريًّا، وهو لا يمد واجبات الإنسان وحقوقه خارج حدود هياكله. كانت هذه هي أديان الشعوب الأولى جميعها التي يمكن أن نطلق عليها اسم القانون الإلهي المدني أو الوضعي.
__________
(1) نظام الإسلام والحكم والدولة محمد المبارك ص13(7/1974)
ثمة نوع ثالث من الأديان أكثر غرابة، إذ إنه بتقديمه للبشر تشريعين وطنيين يخضعهم لواجبات متناقضة ويمنعهم من أن يكونوا في آن واحد مؤمنين ومواطنين. ذلك هو دين اللامين، ودين اليانيين والمسيحية الرومانية، ويمكن تسمية هذا الدين بدين الكاهن، وينشأ عنه نوع من القانون المختلط والانطوائي لا اسم له إطلاقًا.
وإذا ما نظرنا سياسيًّا إلى هذه الأنواع الثلاثة من الأديان وجدنا أنها تنطوي على أخطاء.
فالثالث واضح كل الوضوح أنه سيء، ومن العبث إضاعة الوقت في البرهان على ذلك، إذ إن كل ما يفرق الوحدة الاجتماعية لا قيمة له، وجميع المؤسسات التي تضع الإنسان في تناقض مع نفسه لا قيمة لها" (1) .
وروسو هنا ينظر للدين نظرة المشرع الوضعي المؤمن بالديمقراطية والنظام المدني وهو يحاسب الدين على ضوء خدمته لهذا النظام. فيقسم الدين إلى دين روحاني عالمي لا ربط له بالحياة، وآخر إقليمي ذي هياكل وهو يسند القانون الوضعي، وثالث عالمي متدخل في شؤون الإنسان ويرى أن الثالث واضح البطلان.
والواقع أن الدين العالمي المتدخل لو كان يعترف بقانونين وسلطانين ووطنين أحدهما للدين والآخر للدولة، فما أسخفه وما أبعده عن الواقع.
ولكن الإسلام هو الدين العالمي المنظم لشؤون الإنسان على ضوء علم وحكمة إلهيين واسعين لا يسمح بقيام نظام وسلطة أخرى إلى جنب سلطته وحكومته وإلا ألقى الإنسان في تناقض مع نفسه كما فعلت المسيحية المحرفة بتدخلها القليل في شؤون الإنسان واعترافها بالنظم المدنية.
إن الإسلام يعتبر نفسه هو الحاكم وهو المسيطر وهو المطاع وهو الموجه لشؤون الحياة، كما ستأتي بعض النصوص في ذلك. وهو الذي يربط بين شؤون الدنيا والآخرة ربطًا تامًّا حتى أنه دعا لأن تكون الحياة بمفهومها الواسع عبادة وقربة إلى الله، فلا معنى للقول بعد ذلك، بأن هذا من أمور الدنيا وذاك من أمور الآخرة وهذا من أمور الدين وذلك من أمور الدولة والدنيا وأمثال ذلك.
__________
(1) في العقد الاجتماعي: ص 206، 207(7/1975)
وثالثًا: لأن القرآن والإسلام دعوة انقلابية تربوية تريد أن تربي الإنسانية العابدة تنفي كل بذور الجاهلية في العقيدة والنظام والأخلاق والتقاليد وغيرها.
والتربية تعني أول ما تعني مسك أَزِمّة الأمور ثم وضع برنامج تربوي عام وخلق التلاؤم بين مختلف نواحي الحياة ونظمها خدمة لذلك الهدف التربوي العام الذي بينته الآية الكريمة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
تحقيقًا لمدارج التكامل الإنساني ومن هنا يتغير هدف الحكومة في الإسلام ويختلف عن أهداف الحكومة في المجتمعات الوضعية ـ كما قلناه ـ حيث ركزت على تحقيق رفاهية المواطنين وراحتهم في حين يطلب الإسلام من (الإمام) وهو عنوان الدولة الإسلامية أن يراقب تحولات المجتمع ويسوقه نحو كماله في مختلف الجوانب. كما سيأتي مزيد توضيح لهذه النطقة.
رابعًا: فإن طبيعة العقيدة الإسلامية تقضي أن تستمد الحكومة ولايتها وقدرتها ومبادئها من الإسلام فإن أساس الإسلام هو التوحيد الخالص وولاية الله الحقيقية ومالكيته للكون والإنسان ولن يملك أي إنسان ولاية على آخر إلا بسماح الله له وقد رأينا من قبل أن الحكومة بطبيعتها تحتاج إلى من يمنحها هذه الولاية ووفقًا للعقيدة الإسلامية وأساسها التوحيدي الحنيف لا يملك حتى الناس أنفسهم سلطة تولية الآخرين عليهم إلا بإذن إلهي.
ومن هنا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما في حديث الغدير المتواتر , وكان الإمام أولى بالمؤمنين كما سيأتي:
هذا بيان موجزة عن اقتضاء طبيعة الإسلام وواقعيته لأن يضع الإسلام أسس دولته الخالدة خلود رسالته.
__________
(1) سورة الذاريات: الآية 56(7/1976)
(ب) النصوص الإسلامية:
والنصوص الإسلامية التي تشير من قرب أو بعد إلى التحام مسألة الحكم بالإسلام كثيرة نلاحظ منها ما يلي: يقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (1) .
و {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) .
و {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (3) .
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (4) .
وروي عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قول المقطوع به: ((من مات وليس في عنقه بيعة لإمام فقد مات في جاهلية)) وحديث الغدير الذي أكد فيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأمثال ذلك.
بل إذا لاحظنا الأدلة القاطعة التي تؤيد وجهة النظر هذه التي استقي بعضها من الروايات، عرفنا أن مسألة الحكم تشكل معلمًا بارزًا من معالم الإسلام وبدونها لا يكمل الدين، بل يشكل نظام الإمامة امتدادًا للنبوة مع فوارق بينهما.
ولكنا نكتفي هنا بذكر نص واحد عن الإمام الرضا (ع) يقول فيه:
"يا عبد العزيز، جهل القوم، وخدعوا عن أديانهم، إن الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، بين فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام وجميع ما حتاج إليه الأمة فقال عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (5) .
وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (6) .
وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يرحل ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبلهم" (7) .
__________
(1) سورة النساء: الآية 105
(2) سورة النساء: الآية 65
(3) سورة الجاثية: الآية 18
(4) سورة المائدة: الآية 44
(5) سورة الأنعام: الآية 38
(6) سورة المائدة: الآية 3
(7) عيون أخبار الرضا: 1/ 216(7/1977)
(ج) التاريخ الإسلامي:
ولا نجدنا بحاجة إلى استعراضه لوضوح قيادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة والأئمة لشؤون الحكم، وما كان الهدف المعلن للإمام الحسين (ع) إلا استلام الحكم من يزيد، وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(د) الضرورة الإسلامية:
فإن مسألة الحكم وارتباطها بالإسلام لم يختلف فيها أحد، فحتى الخوارج الذين رفضوا حكام عصرهم نسبوا الحكم إلى الله غافلين عن أن الله لا بد وأن يعين من يطبق شريعته على الأرض ويقود عملية التربية الكبرى.
النقطة الثانية:
بالنسبة إلى الدوافع التي ذكرت للقول بفصل الإسلام عن مسألة الحكم نود أن نقول:
إن علائم التعمد والتحريف واضحة في كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ولعل مؤلفه كان أدرى بأن ما يستدل به لا يتجاوز ما لا تستقيم دلالته على مدلوله أو ما لا يعدو كونه قصة تاريخية لا تملك سندًا شرعيًّا أو ظنًّا لا يغني عن الحق شيئًا.
أما الدوافع التي ذكرت بعد ذلك، فالدافع الأول منها سياسي محض وفرض وهم، إذ كيف يمكن أن نتصور بريطانيا تعمل على إرجاع الخلافة الإسلامية ولو في شخص رجل منحرف مثل الملك فؤاد، وهي التي عملت المستحيل وتوسلت بكل السبل لإفناء الخلافة العثمانية بفعل تحريك العميل الصهيوني الكبير أتاتورك وتحريك العرب وإثارة الروح القومية فيهم؟ وأمثال ذلك فلا يعدو هذا إلا وهمًا. نعم يمكن أن نتصور الاستعمار البريطاني نفسه يدفع أمثال "علي عبد الرازق" لفصل الإسلام عن مسألة الحكم وبالتالي خلق روحية الحكم المدني وجعل الدين ذا دور غير أساسي في التشريع وهو ما طبقه الاستعمار فعلًا في الدويلات التي شكلها بشكل غير مباشر وصاغ قوانينها الوضعية معطيًا للإسلام بعض المجالات القليلة كالشؤون الشخصية من زواج وطلاق وأمثالهما.
وأما الدافع الثاني: وهو التخوف من سيطرة الفقهاء على الدولة وتجميدها فقد رأينا الدكتور متولي يرده بأن الحكم الإسلامي يعزز مكانة الفقيه ولكنه لا يجعله رجل الدولة الوحيد ثم يذكر مثلًا للحاكم الإسلامي مجسدًا حكامًا مثل يزيد , ولم يكن يزيد بن معاوية من الفقهاء.(7/1978)
والرد قد يمكن توجيهه إلى حد ما طبق الأطروحة التي تعتمد الشورى أساسًا , وإن أمكن القول بأن أهل الحل والعقد المتدينين سوف يميلون بالطبع إلى رجال الفقه والدين، فإذا افترضنا هؤلاء ممن ابتلوا بالجمود كان من المتوقع للدولة الجمود على وضعها وعدم تطورها وهذا ما يرفضه المنطق الاجتماعي ولكن النقص الأساسي في الرد يكمن في تمثيله بحكام امتلكوا الأمر بالجور والقهر والقتل وشوهوا وجه التاريخ الإسلامي بالظلم والهتك والمكر , فهل يرضى الدكتور أن يمتلك أمر الأمة أمثال يزيد؟ إنها والله الداهية الدهياء , على أن الرد لا ينسجم مع النظرية التي تعطي الفقيه الدور الأساسي في الأطروحة ضمن شروط خاصة كما سنبين.
وأم الدافع الثالث: فهو دافع متوقع جدًّا بعد نفوذ الغرب وتصوره عن الدين وتشبع المثقفين العرب بذلك , وبهر الغرب لهم بنظامه الديمقراطي الذي يفصل بين الدين والسلطة , وهو أمر ينسجم مع الدين المسيحي المنحرف , والذي لم يعد سوى دين ينظم جوانب العبادة الشكلية لا غير، وسنوضح هذه النقطة في البحث التالي عن العلمانية.
والشيء الهام الذي نود التنبيه عليه في هذا المجال هو أن نقاط الضعف الكبرى الموجودة في بعض التصورات لنظام الحكم في الإسلام، كان لها أكبر الأثر في موقف هؤلاء إن لم تكن هي الدافع الرئيس لذلك.
ولكن هنا نلخص بعضها المحتمل قويًّا تأثيره في هذا الموقف:
(أ) ضعف الأدلة المقامة على نوعية نظام الحكم " الشورى " المستقل عن عنصر الولاية وقبوله كلها للمناقشة الدلالية وبعضها للمناقشة السندية، ولعل كلمة خالد محمد خالد تشير إلى ذلك.
(ب) غموض نظام الشورى وعدم احتوائه ـ على الأقل ـ على المبادئ الضرورية لتكوين أي نظام.
(ج) تأرجح تطبيق هذا النظام بين تطبيقات مختلفة.
(د) تعميم عنوان (ولي الأمر) لكل من مسك بأزمة الأمور، وتعيين وجوب طاعته حتى ولو كان فاسقًا.
(هـ) وجود نقاط ضعف ولعل أهمها ما جاء في تفسير حديث (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) .
فإذا ضممنا إلى ما تقدم المستوى الفكري غير المتحول الذي وصل إليه بعض الفقهاء في العصور الأخيرة , والجمود الذي ابتلوا به على أثر إغلاق باب الاجتهاد والتبعية المطلقة للرئاسة الدينية للدولة القائمة , وحدوث الكثير من العقبات في وجه الفقيه غير المجتهد. إذا ضممنا إليه كل ذلك عرفنا جانبًا هامًّا من جوانب هذه الدعوة الخطيرة.(7/1979)
النقطة الثالثة: مناقشة أدلة هذا الاتجاه.
وهنا لا بأس بالتعرض للرد الموجز على الأدلة المذكورة:
أولًا ـ الآيات القرآنية:
من قبيل {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} ومن الواضح لكل من لاحظ هذه الآيات أنها آيات مكية إلا الآية الكريمة: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (1) , ولاحظ أسباب نزولها وأنها كانت تطيب من خاطر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان يتألم كثيرا لإعراض بعض المشركين ووقوفهم بوجه دعوتهم الكبرى، فتخبره أن لا يبخع نفسه على أن لا يكونوا مؤمنين , فليس عليه إلا البلاغ , أما إذا رفضوا الإسلام فليس هو بوكيل حفيظ عليهم، أنها لا تدل على المدعّى المذكور وليست بهذا الصدد.
ويوضح هذا ـ بالإضافة لملاحظة سباق الآيات وأسباب نزولها ـ الآيات الكثيرة التي ذكرنا بعضها , والتي تؤكد أن الرسول هو الشهيد على هذه الأمة , وتوجب طاعته وقيادته {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (2)
و {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) و {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (4) .
وكلها تتحدث عن قيادته ومسؤوليته تجاه أمته وأنه أولى بها من نفسها.
أما الكافرون المكذبون فليس هو بمسؤول عن تكذيبهم وإنما سيجزون بما كفروا يوم القيامة.
وكذلك يوضح ذلك موقف الرسول العملي وقيادته للحياة العامة وعدم اقتصاره على مجرد التبليغ والإنذار بالضرورة.
__________
(1) سورة النساء: الآية 80
(2) سورة البقرة: الآية 143
(3) سورة النساء: الآية 59
(4) سورة الفتح: الآية 29(7/1980)
ثانيًا ـ الأحاديث النبوية:
فلو غضضنا النظر عن أسانيدها ولم نناقش رواتها واحدًا واحدًا ـ وهو طبيعي ـ فإن الحديث الأول واضح الدلالة على أن الحاكم الإسلامي حتى ولو كان هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس ملكًا جبارًا مستبدًا يحكم بهواه ويقتل بغير حساب، ويقهر رعيته بالرهبة والجبروت , وإنما ينبغي أن يكون الرحيم العطوف الودود برعيته كما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكما كان الخلفاء وها هو على تراه في أصحابه كأحدهم وهو يكتب إلى عامله على مصر (مالك الأشتر) كتابًا رائعًا يقول فيه من جملة ما يقول: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم , فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.." [نهج البلاغة، صبحي الصالح ص 427] .
أما حديث ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم ... )) فإنه أقوى دلالة على المطلوب لو صح وإن كان من الممكن النقاش فيه على أساس أن المقصود من أمور الدنيا الأمور التجريبية التي يدركها الإنسان بالممارسة وليست مسألة الحكم أمرًا من هذا القبيل بل هي العمود الرئيسي للمجتمع الذي يعمل الإسلام على بنائه , وخصوصًا بالنسبة لفترة ما بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن الكلام كل الكلام في صحة هذا الحديث وذلك:
(أ) كيف يعقل أن لا يعلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو الذي يعيش في مجتمع أهم زراعة فيه هو زراعة النخل , إن تأبيره ضروري لإنتاجه حتى لو فرضناه غير متصل بالسماء في هذه الأمور على الأقل؟ وكيف لم يرد عليه الفلاحون؟
(ب) إن الإسلام كما قلنا أعطى رأيه في مختلف الشؤون الدنيوية بعد أن ضبط كل تصرفات الإنسان تحت عنوان الحلال والحرام كما مر، وقد تدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مختلف شؤونهم الحياتية حتى بصفته ولي الأمر , فقاد الجيوش ووجههم في مختلف الأمور كما في المجال الصحي وفي المجال الاقتصادي وأمثال ذلك.
(ج) وقد قام بعض العلماء بمناقشة هذا الحديث سندًا ودلالة فاغنونا عن البحث فيه.(7/1981)
ثالثًا ـ الأدلة العقلية:
وكلها لا تصلح دليلًا على المدعي.
أما استبعاد إمكان الحكومة العالمية، فهو قائم على أساس أنه يفرض على الجميع نمطًا واحدًا من السلوك رغم اختلاف المناطق بينهم. المفروض هو أن يكون الموجه الواحد للعالم والحكومة الواحدة متمثلًا بحكومة الإسلام والإمام , ولا يوجد أي مانع عقلي أو واقعي من ذلك، بل إن بعض كبار المفكرين والسياسيين في العصر الحديث يعدون ذلك إحدى الضرورات التي لا غنى عنها للبشرية، على أنه لا يهمنا رأي هؤلاء بعد أن وعد الله المؤمنين بالدولة العالمية التي تملأ الأرض قسطًا وعدلًا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (1) .
إن الإسلام كما هو واضح من مختلف جهاته يريد أن ينسق مسيرة الأرض الواحدة نحو تكاملها، وهذا لا يفرض إلا وحدة عامة , ولا مانع فيه من الاختلاف في بعض التطبيقات مراعاة للظروف.
وأما مدعاه في أن مسألة الحكم أمر دنيوي خلى فيه الرسول بيننا وبين عقولنا فقد توضح أمره بما سبق.
وأما المدعى الثالث في أن الرسول لم يبن الدولة ولا وضع مبادئ الحكم ولم يوص بشيء، ولا عين تفصيلات الشورى، فالواقع فيه أن الرسول لاحظ كل ما يتعلق بهذا الأمر فخطط لإقامة الدولة الإسلامية أروع تخطيط يتناسب ـ طبعًا ـ ومستوى الاحتياجات في عصره , ثم بين أهم مبدأ في نظام الحكم بأن جعل الحاكم الأول في الدولة هو المعصوم العالم السائر على خط الإسلام الذي يعين شكل التنظيم الإداري وهو يختلف باختلاف الظروف.
وأما ما ذكره البعض تأييدًا له فهو أيضًا غير صحيح، إذا المؤسس الحقيقي لنظام الحكم الإسلامي هو النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة النور: الآية 55(7/1982)
وأما ما قيل من أن الدين نظام ثابت والدولة نظام متغير فهو أمر يخلط فيه بين جوانب الدين الثابتة التي تعالج أمورًا ثابتة وجوانب الدين المرنة التي تعالج أمورًا متغيرة كمسألة نوعية التنظيم والإدارة , فإن الجوانب المتغيرة من الحياة كعلاقة الإنسان بالطبيعة أو كبعض العلاقات الاجتماعية تحكمها ضوابط عامة يكون تطبيقها مرنًا يختلف باختلاف الظروف مثل قواعد (منع الضرر) و (التزاحم بين الأهم والمهم) و (نمو الإنتاج) وأمثال ذلك.
ومن تلك الجوانب أسلوب الإدارة المختلف باختلاف الظروف , ولذا شكل منطقة فراغ يملأها الإمام وربما عمد إلى الشورى في ذلك، أما الشكل العام الذي ينسجم مع الضوابط العامة فهو أمر ثابت لا يتغير , وسيأتي مزيد حديث عن هذا البحث التالي.
أما مسألة فشل الحكومات الدينية فليس يعني أن كل حكومة دينية فاشلة مطلقًا خصوصًا بعد أن نجد الحكومات المذكورة لا تتبع النظام الإسلامي الكامل , وتحيد عن الصيغة الإسلامية بأي شكل تصورناها , وهل يتحمل الإسلام وزر عمل الطاغية يزيد والحجاج وباقي حكام الجور وبعض الخلفاء العثمانيين وأمثالهم.
وربما يحلو لبعض الكتاب مثل (طه حسين) أن يجعل الزمان غير مناسب للحكومة الإسلامية التي أرادها علي (ع) ولذلك لم ينجح في إنشاء دولة العدل بعد أن مال الناس إلى ملكية معاوية , فيقول: "كان علي (ع) يدير خلافة وكان معاوية يدير ملكًا , وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر الملك قد أطل".
ولكن طه حسين لم يلتفت إلى أن وجود العقبات في وجه أمير المؤمنين لم يكن من مقتضيات التطور الاجتماعي , وإنما هي حالة طارئة وجدت بفعل عوامل معينة ولم تكن لتستطيع الثبات بوجه العدل العلوي لو فقدت أحد مقوماتها صدفة , كأن لم يخدع بعض الناس فيعلن الثورة على أمير المؤمنين مما خلق الضعف الكبير في الدولة الإسلامية التي يقودها , وأفشل التطبيق الإسلامي النظيف وحرمنا الكثير من الخيرات.
ورغم كل هذا فإن الفرص التي أتيحت للحكم الديني كي يشمل المجتمع شكلت أروع تجربة بشرية على الإطلاق.
بل أن هناك أنماطًا من التطبيق المنحرف لنظام الحكم الإسلامي هي أفضل بكثير من تطبيق أي نظام لا إسلامي بشهادة التاريخ.(7/1983)
الفرع الثاني ـ العلمانية الغربية وآثارها على العالم الإسلامي:
والمقصود بالعلمانية ـ المأخوذة من كلمة (العالم) أي (الزمان) ـ أن يكون الحكم بيد قادة زمنيين لا يلتزمون بالدين تشريعًا وتنفيذًا.
ومن الخطأ تفسيرها بأنها مذهب يدعو للاستفادة من العلم الحديث مثلًا أو أنها مجرد مذهب يدعو لإقامة التنظيم الإداري والاجتماعي على أسس عملية مدروسة وأمثال ذلك.
وقد نشأ هذا المذهب من خلال إرهاصات عديدة وصراعات بين السلطة الدينية والسلطة المدنية في الغرب. وهو ما اعترفت به المسيحية بادئ الأمر.
مما خلق هذا التناقض المرير وأدى في النهاية إلى هذا المذهب.
وقد ذكر بعض الكتاب أن دعاة العلمانية يسوقون الحجج التالية لضرورة بناء الدولة العلمانية واستمداد التشريع والتنفيذ من غير الدين بل وعدم إعطائه محلًا لائقًا في المجتمع، وهي:
1 ـ أن الدولة الدينية تعني سيطرة رجال الدين مما يعني تحكمهم بمصائر الناس.
2 ـ أن قوانين الدولة الدينية ثابتة كنظرتها إلى الحقييقة وهي تؤدي بالتالي إلى بقاء المجتمع وعدم تطوره، وهذا شبيه بما قاله الماركسيون لرد الفلسفة المثالية، والقول بتطور الحقيقة نفسها.
3 ـ من النادر وجود دولة ينتسب جميع مواطنيها إلى دين واحد فإذا كانت دينية وقع التمييز بين المواطنين.
4 ـ إن الدين له تصورات معينة عن الكون والحياة والإنسان والتاريخ، والدولة الدينية تتبع تلك التصورات مما يعوق التقدم العلمي ويقود إلى فجائع حفل بها التاريخ.
5 ـ جاء في تصريحات بعض القادة العلمانيين، أن المناداة بدولة دينية تعني إعطاء إسرائيل مسوغًا لقيامها واعتدائها، وهي بالتالي خدمة للصهيونية العالمية.
هذا في حين تتمتع الدولة العلمانية بالخصائص التالية:
1 ـ الحركية والاستمرار والتطور الاجتماعي.
2 ـ مركز حقوق متساو لجميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية.
3 ـ سيطرة الشعب على الحكم وكونه مصدر السلطات.
4 ـ فسح المجال لحركة التقدم العلمي.(7/1984)
العلمانية والإسلام:
لا ريب في أن المسيحية قنعت بنصيب ما منحتها إياه بعض العلمانيات المعتدلة , بحيث تقوم بنشاط معين في إطار الدولة العلمانية في قبالة العلمانية الماركسية التي رفضت أي نشاط متصور لها. وهذا ما حدث أخيرًا في إيطاليا مثلًا.
ولكن ما هو موقف الإسلام منها؟ وهل تمتلك مسوغاتها في الحقل الإسلامي؟
إننا نرى أن الإسلام لم يدع منذ البدء مجالًا لحدوث هذه النتيجة بعد أن قرر:
أولًا: وحدة السلطتين الدينية والسياسية بل جعل تعيين الإمام (وهو القائد السياسي والديني في آن واحد) إتمامًا للدين وإكمالًا للنعمة السماوية على الأرض كلها , ولم يسمح بأي انفصال جوهري بينهما، وأي انفصال رئي بعد ذلك فإنما كان يعبر عن تطبيق غير سليم للإسلام.
وإذا رجعنا إلى ملاحظة صفات الإمام أو الحاكم في الإسلام لم يبق مجال مطلقًا لتصور عملية تكريس للذات ومصالحها، بعد فرض علمه الفقهي الواسع والتزامه الكامل بتطبيق الشريعة الإسلامية المقررة. هذا والتاريخ يشهد على السيرة الممتازة التي سار فيها قادة المسلمين، بغض النظر عن بعض الذين تحدوا وطغوا. وإذا نظرنا إلى نظام (نيابة الفقيه عن الإمام) وولايته وجدنا أن الفقيه لا يمتلك هذا المقام إلا بعد توفر شروط أهمها (الكفاءة، والعدالة، والفقه العميق) ويفقد أي قدرة بفقدان أي منها، والأمة المشبعة بروح هذه الشروط هي المراقبة لسير هذا الفقيه كما أن مجلس الفقهاء العدول الأكفاء هو الحارس الأمين على السير الصحيح (1) .
وحتى إذا نظرنا لنظام الشورى ـ بدون ولاية لشخص ما ـ نجد أنه أفضل بكثير من أي نظام زمني يسلم أموره كلها لآراء الشعب لأنه يسير وفق تشريع سماوي مسبق وطبق ضوابط شرعية.
وعلى أي حال فإن الإسلام لم يفسح المجال مطلقًا لظهور هذه الثنائية بين السلطة المدنية والسلطة الدينية وهي من أفدح الأخطاء التي تفقد السلطة السياسية دورها الحقيقي في نفس الوقت الذي تشوه حقيقة الدين وتوجيهه للحياة.
ثانيًا: خطط الإسلام للجانب المتغير من الحياة فوضع القواعد العامة والأحكام الظاهرية والاضطرارية وفتح مناطق فراغ يملأها الحاكم الإسلامي الفقيه العادل على ضوء مشورته ومتطلبات الظروف إلى جانب إشباعه للجانب الثابت في الحياة الإنسانية ـ وهو الجانب الفطري الأصيل ـ بقوانين ثابتة. فلا مجال إذن للجمود وأمثال ذلك.
وقد تصور هؤلاء أن الدولة الدينية لما كانت تقوم على الإيمان بحقائق فلسفية مطلقة ثابتة بل وتؤمن بلزوم الإطلاق في الحقيقة بمعنى (مطابقة الفكرة للواقع الخارجي) فهذا يعني الإيمان بقوانين اجتماعية ثابتة لا تتغير مطلقًا وهو لا يعدو مجرد خلط وسخف , فالإيمان بالحقيقية المطلقة شرط لأن تفرض إمكان المعرفة وحصول اليقين بالواقع الموضوعي الخارجي , ولا ربط له بالإيمان بثبات كل النظم الاجتماعية أو عدمه.
إن الإسلام يؤمن بتطور كثير من الجوانب الاجتاعية في نفس الوقت الذي يؤمن فيه بثبات الحقيقية الفلسفية؛ لأنهما مجالان لا ربط بينهما ولا يخلط بينهما إلا جاهل أو مغالط.
__________
(1) يراجع كتاب (حول الدستور الإسلامي) وقد صدر عن منظمة الإعلام الإسلامي ـ قسم العلاقات الدولية(7/1985)
ثالثًا: إن الإسلام أعطى الدين مفهومه الصحيح فلم يعد مجرد شأن شخصي يمكن أن يتنازل عنه الفرد لصالح النظام الاجتماعي العام ـ كما تصوره الغربيون ـ ومن هنا قالوا: بأن إقامة الدولة الدينية تعني إعطاء امتيازات شخصية لاتباع الدين دون غيرهم , وإنما عاد الدين كل شيء في حياة الإنسان؛ لأنه تصورات واقعية عن الكون والإنسان يثبتها المنطق الصحيح، ونظم تعالج مسيرة الإنسان على ضوء علم إلهي غير محدود وحكمة شاملة، ومع هذا التصور والمبدأ يختل التقييم. إن الدين حينئذ يحاول أن يبني الإنسانية الصالحة لا أن ينظم مجرد علاقة روحية شخصية للفرد بخالقه. وانطلاقًا من هذا المبدأ فمن الطبيعي أن نتوقع للإسلام أن يقوّم الحياة كلها ولا يسلم أموره بيد دولة لا تؤمن له، ومن الطبيعي بحكم نقطة كونه مخولًا من رب الإنسانية أن يدعو الناس جميعًا للدخول تحت سلطته. كما أن من الطبيعي أن يكون المسلم المنسجم مع أهداف أوسع حقوقًا كما يكون أكثر تحملًا للمسؤوليات في الدولة المسلمة.
وهذا لا يعني أن الإسلام يعمل على وضع تمييزات كبرى في دولته بين المسلم وغير المسلم , وإنما يقيم توازنًا بين الحقوق والمسؤوليات , كما هو مبين في متون الفقه الإسلامي.
وربما نجد بعض المفكرين المسلمين يعالجون المسألة من سبيل آخر فيدعون أن كون الدولة مسلمة في الأقطارالإسلامية أمر طبيعي , وسائر وفق القوانين الديمقراطية بعد انتخاب الأكثرية المسلمة لها. وهذا الإصلاح أمر لا مسوغ له بعد ملاحظة حقيقة التصور الإسلامي للحكم. وإن الإسلام لا يحكم من خلال هذا المنطق وليس لمبدأ الأكثرية تأثير إلا في إطار سماح المذهب الإسلامي للحكم. والواقع أننا يجب أن لا نجعل الديمقراطية هي الأصل الذي يقرر مصير الحكم الإسلامي، والتشريعات الإسلامية للحياة فالعكس هو السبيل المنطقي الصحيح.(7/1986)
رابعًا: ولا تجدنا هنا بحاجة لتوضيح موقف الإسلام من التقدم العلمي واحتضانه للعلماء في مختلف المجالات , ويكفيه أنه صنع ـ رغم الانحراف في تطبيقه ـ الحضارة العلمية الناصعة في عصر كانت أوروبا تغط فيه في سبات قائل، والواقع أنه لا يمكن تقديم رقم واحد يوضح وقوف الإسلام أمام أي تقدم إنساني في حين يمكن تقديم الأرقام الكثيرة على تنمية الإسلام لروح التقدم الإنساني والبحث. وقد فرض الإسلام ـ كفاية ـ العمل على كون المجتمع الإسلامي دائمًا في طليعة المجتعات. نعم كان التقدم العلمي في الإسلام إنسانيًّا أي منسجمًا مع التقدم الأخلاقي لا متعارضًا معه وهذا له مجاله الرحب من الحديث.
وعليه:
فإن العلمانية تفقد أي مسوغ لها في الإطار الإسلامي , وإنما حمل لواءها الاستعمار وعاونه بعض المسيحيين والمسلمين المتفرنجين , ورفعوا لواء الإصلاح ونجحوا في ما قاموا به على اختلاف في درجات النجاح , ولكن النتيجة لم تكن إلا التخلف وربط مسيرة الأمة بعجلة الغرب وفقدان الأمة جل خصائصها الإيجابية , وتحكم الطغاة فيها بمختلف الألوان.(7/1987)
الفرع الثالث ـ الإسلام والسيادة في الدولة:
اتضح من البحوث السابقة أن الإسلام يعتبر نفسه هو المسؤول الأول والأخير عن نظام الحكم في الأمة المسلمة، ولذا لا يبقى أي شك في أن السيادة في تصور الإسلام لله تعالى باعتباره المولى الحقيقي. وبهذا الاعتبار نستطيع أن نقرر منطقية الحكم الإسلامي ووجدانيته.
ولذا فلسنا مع الدكتور عبد الحميد متولي في رده العنيف على طرح "مشكلة السيادة" في البحوث الإسلامية مدعيًا أنها نظرية نشأت في ظروف فرنسية , وأن الظروف التي دعت لطرح المشكلة هي ظروف أوروبية محضة وقد زالت فعلًا، ومؤكدًا أن العلماء المسلمين لم يبحثوها، وإن بحثها الحديث يولد أضرارًا منها: نسبة بعض الأخطاء إلى بعض الخلفاء والعلماء , ومنها ادعاء الثيوقراطية للنظام الإسلامي , مع أن الثيوقراطية في نظر علماء الغرب تعتبر الشكل المعروف للدولة في حياة البشرية في حالتها البدائية، كما أنها تعني في بعض صورها (نظرية التفويض الإلهي) التي استند إليها السلاطين لتسويغ استبدادهم، وأخيرا يقول: "مما تقدم يتبين أن الإسلام في غير حاجة إلى إثارة تلك المسألة أو المشكلة التي لا تؤدي إثارتها إلى حل مشكلة من مشكلاته، وإنما تؤدي إلى خلق مشكلة جديدة الإسلام عنها في غنى" (1) .
والواقع: إننا لم نتفهم كيف عادت هذه المسألة أمرًا غير ذي بال؟ وكيف لم تكن مطروحة لدى المسلمين رغم أنهم جميعًا استدلوا على صحة ما يقولون بدليل شرعي يثبت في نظرهم أن الله منح السيادة لهذا الشخص مباشرة أو لمن يصل إلى هذا المنصب عن طريق وبشروط معينة ولو كان ذلك عن طريق انتخاب الأمة أو أهل الحل والعقد.
إننا إذا عزلنا الحاكم عن هذه المسألة لم يكن يملك فرض أي حكم عام.
ولعل وضوح كون السيادة في الإسلام لله هو الذي صور للدكتور المذكور أن المسلمين لم يعرفوا هذا المبدأ.
أما ما ذكره من الأخطار (في تصوره) فليست إلا أخطاء في البحث أو النسبة وكشفًا لفضائح كان ينبغي أن تكشف كما في مجال عمل بعض حكام السوء والمتملقين لهم، وسيتبين أن النظام الإسلامي يختلف تمام الاختلاف عن الثيوقراطية الغربية وقد أشار إلى ذلك المودودي في كتابه.
نعم لم يكن هناك إلا نزاع صوري بين من جعل حق السيادة لله من السنة كالمودودي، ومن جعلها حقا للأمة كالخفيف فإن هذا الأمر الأخير أيضًا إنما يتصورها حقا للأمة بإعطاء الله هذا الحق لها إذ يستدل على مبدأ الشورى بمثل {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} مع فرض أن المولى هنا في مقام الشريع لا الإخبار عن حق مسبق للأمة بل حتى لو كان يخبر فإنما يخبر عن جُعل إلهي مسبق لهذا الحق للأمة.
وعلى أي حال فالاتفاق الإسلامي حاصل على أن حق السيادة لله لا غير، وإنما يبحث عمن أعطاه الله هذا الحق.
__________
(1) راجع مبادئ نظام الحكم في الإسلام: من ص 165 إلى 193(7/1988)
خامسا: أما ما ذكر من قبل بعض القادة العلمانيين فهو أمر غريب حقًّا.
ذلك أننا إذا استندنا إلى هذا المنطق تجاهلنا:
أولًا: كل التعاليم الإسلامية الداعية إلى الحكم الإسلامي، وإقامة نظام الحياة الاجتماعية على أساس ديني ...
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) .
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) .
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) .
وتناقضنا مع إيماننا:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (4) .
__________
(1) سورة المائدة: الآية 44
(2) سورة المائدة: الآية 47
(3) سورة المائدة: الآية 45
(4) سورة النساء: الآية 65(7/1989)
وثانيًا: فإن إسرائيل لم تقم على منطق سوى السيف والقوة والاعتداء ومثل هذا التقول يكاد يعطيها الحق في القيام باعتبار أنه يشكل الدليل التالي: إسرائيل تقوم على أساس الدين الواحد.
وفكرة كون الدين أساسًا للحياة هي فكرة صائبة. فإسرائيل تقوم على حق.
في حين أن الواقع في المسألة الإسرائيلية:
1 ـ إنها لا تؤمن بأي دين حتى اليهودية , وليست سوى قاعدة استعمارية استكبارية زرعها الكفر ليفجر المنطقة الإسلامية ويسوقها إلى أهدافه الرخيصة.
2 ـ إنها لم تستند في قيامها إلى مثل هذا المنطق، استنادًا حقيقيًّا. بحيث يفسح لها المجال في القيام وإنم كانت ذريعة سبقتها القوة والغضب.
3 ـ إن فلسطين هي أرض إسلامية منذ مئات السنين وحتى اليوم فلا بد أن يدعو هذا المنطق (منطق قيام الحكم على أساس ديني) إلى قيام حكومة إسلامية فيها، خصوصًا إذا علمنا أن أكثر يهودها قد جاءوا من أماكن أخرى وأن أكثر أهاليها الحقيقيين قد شردوا في البلاد.
وثالثًا: إذا كان هناك من يستغل مبدأً صحيحًا ويطبقه تطبيقًا خاطئًا فهل هذا يعني أن نرفع أيدينا عن المبدأ الصحيح؟
فمثلا إذا كان من ادعوا (المهدوية) في التاريخ أناسا منحرفين فهل هذا يعني أن نرفع أيدينا عن الإيمان بفكرة (المهدوية) التي كثرت الروايات وتواترت على صحتها , لا لشيء إلا لأن بعض الأشخاص استغلوها غاية الاستغلال؟ أو فلنقل إن كان هناك أنبياء مزيفون فهل هذا يلزمنا بعدم الإيمان بمبدأ النبوة مطلقًا؟(7/1990)
الخلاصة
في حديثنا عن الغزو الفكري ذكرنا في الفصل الأول أن الإسلام صنع المعجزات في تقدمه لفتح القلوب إلا أنه واجه أصنافًا من المعارضين فيهم (المترفون، والجاهلون، والحاقدون) .
ورأينا أن تخطيطهم عمومًا يسير عبر الأساليب التالية:
(أ) إيجاد الخواء الحضاري في الأمة الإسلامية.
(ب) بث التعالي الحضاري الغربي وتأكيده بشتى الأساليب.
(ج) الملء الحضاري بالمطلوب من أفكارهم.
وانتقلنا في الفصل الثاني لضرب مثال من الاختراق الحضاري الثقافي للمجتمع الإيراني لنجد أن الحملة تشمل المحاور (السياسية والثقافية، والأخلاقية) ، ووجدنا أن التغريب بأبشع صوره مورس في هذه البلاد ـ عقائديًّا وأخلاقيًّا حتى بلغ الأمر إلى محاربة الفكر الإسلامي بشكل صريح وعلني , والقضاء على كل ما ينتسب للإسلام حتى التاريخ الهجري.
وفي الفصل الثالث: حاولنا أن نميز بين خطين في المواجهة الإعلامية للغزو الثقافي، وهما:
1 ـ الخلط الإعلامي التغييري، وقد امتاز بوعيه للإسلام ونظرته التغييرية وإدراكه لأبعاد الغزو وتركيزه على محور المشكلة وتقديمه للطروحات الأصيلة وتحريكه للحس الحماسي.
2 ـ الخلط الإعلامي السطحي، وحاولنا تأييد الخط الأول بالعودة إلى القرآن الكريم ومعرفة بعض جوانب منهجه الإعلامي.
وفي الفصل الرابع درسنا نمطين من التشكيك في أهم منابعنا وهما (القرآن والسنة النبوية الشريفة) وحاولنا دفع كل الشبه المذكورة.
وفي الفصل الخامس: تحدثنا باختصار عن الحكم والدولة في الإسلام وعملنا على نفي الاتجاهات المتخاذلة التي تنفي وجود التخطيط لدولة إسلامية.
والله أسأل أن يوفقنا لإقامة هذه الدولة على كل الأرض الإسلامية.
الشيخ محمد علي التسخيري(7/1991)
الغزو الفكري
إعداد
الدكتور أبو بكر دكوري
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من أساليب الغزو الفكري إثارة الشبه حول تطبيق الشريعة:
يتعرض الإسلام اليوم لمختلف أنواع الغزو الفكري كل ذلك للتشكيك في صلاحيته لمسايرة تطورات العصر ومتطلبات المدنية ويقصد من كل ذلك محاولة عزل المسلمين عن دينهم الحنيف ومصدر قوتهم الحقيقية.
ولما كانت الشريعة هي التي تمثل الحياة العملية والسلوك الديني والاجتماعي في حياة المسلمين، وبتمسكهم بها يسعدون ويتفوقون على كافة شعوب الأرض. فإنها جديرة بأن توجه إليها سهام الأعداء، فكان لزامًا علينا نحن المسلمين أن ندافع باستمرار عن هذه الشريعة الغراء ونذود عنها أمام الهجمات المتواصلة من المدنية الغربية والشيوعية على حد سواء، وما هذا البحث إلا مساهمة متواضعة مني في هذا السبيل فبالله التوفيق وعليه التوكل.
أقول: الشريعة في اللغة المواضع التي ينحدر الماء منها، قال الليث: وبها سمى ما شرع الله لعباده من الصوم والحج والنكاح وغيره شريعة (1) .
__________
(1) راجع لسان العرب: 2/ 299، والنهاية في غريب الحديث ودائرة معارف القرن العشرين: 5/ 378(7/1992)
ويقول الشيخ محمود شلتوت في كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة) : "إن الشريعة هي النظم التي شرعها الله أو شرع أصولها ليأخذ الإنسان بها نفسه في علاقته بربه وعلاقته بأخيه المسلم وعلاقته بأخيه الإنسان وعلاقته بالكون وعلاقته بالحياة" (1) .
ومن هذا التعريف نعرف أن الشريعة هي كل شيء بالنسبة للمسلم، إن تمسك بها سعد في الدنيا ونجا في الآخرة؛ لأنها صادرة من عند الله تعالى الذي خلق كل شيء بما فيه الإنسان والزمان والمكان، فكان طبيعيًّا أن يكون أدرى بما يصلح لهذا الإنسان وما يسعده في كل زمان ومكان , وقد صدق الله العظيم بما حين قال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) .
ومن تتبع الشريعة الإسلامية وأمعن النظر في أدلتها وأحكامها، يجد أنها تمتاز عن أي قانون آخر بأنها مزجت بين الدين والدنيا من حيث ترتيب الأحكام الشرعية بهما سواء في ذلك ما يتعلق بالعقوبات أو ما يتعلق بتحقيق مصالح العباد، وهذا ما حمل المسلمين على طاعة الشريعة في السر والعلن وفي السراء والضراء؛ لأنهم يؤمنون بأن الطاعة نوع من العبادة يقربهم إلى الله تعالى، وأنهم مثابون على هذه الطاعة، ومن استطاع منهم أن يرتكب جريمة ويتفادى العقاب فإنه لا يرتكبها مخافة العقاب الأخروي، وغضب الرب عليه وكل ذلك يساعد على قلة الجرائم، ويؤدي إلى حفظ الأمن وصيانة نظام الجماعة، بخلاف القوانين الوضعية فإنها ليس لها في نفوس من يطبقها أو تطبق عليهم ما يحملهم على طاعتها، فمن استطاع منهم أن يرتكب جريمة ما وهو آمن من سطوة القانون، فليس هناك ما يمنعه من ارتكابها من خلق أو دين، لذلك نلاحظ كثرة الجرائم وازديادها في الدول التي تطبق القوانين.
__________
(1) راجع كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" ص 22
(2) سورة المائدة: الآيتان 15 ـ 16(7/1993)
موقف الناس من الشريعة الإسلامية:
يختلف الناس في تصورهم للشريعة الإسلامية وفي تعاملهم معها باختلاف حالاتهم وبيئاتهم، فهناك فريق تلقى هذه الشريعة بالقبول وهم المؤمنون الصادقون الذين فهموا الإسلام عقيدة وشريعة , فهؤلاء وجدوا في الشريعة الخلاص، ووجدوا فيها السعادة، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "إن أحكام الشريعة ما شرعت إلا لمصالح الناس" (1) . فما دام الأمر كذلك فيجب التمسك بالشريعة شرعًا وعقلًا، أما شرعا؛ فلأنها صادرة عن الله تعالى، فلا يجوز للمسلم أن يعدل عنه، يقول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (2) .
وقال في آية أخرى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (3) .
وقد حذر الله المسلمين من التحاكم إلى غير ما أنزل، أو الرضا بغير حكم الله تعالى فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (4) .
وقال في آيات أخرى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {الظَّالِمُونَ} {الْفَاسِقُونَ} (5) .
__________
(1) راجع الموافقات: الآية 2/ 92
(2) سورة القصص: الآية 50
(3) سورة الجاثية: الآيتان 18 ـ 19
(4) سورة النساء: الآية 60
(5) سورة المائدة: الآيات 44 ـ 45 ـ 47(7/1994)
ومن هذه الأدلة يتبين أن المسلم ملزم باتباع الشريعة من غير خيار , قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) .
ولا يكفي ذلك بل لا بد بعد العمل بالشريعة من الرضا التام والتسليم المطلق , وفي ذلك يقول تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) .
هذا من حيث الشرع، وأما عقلًا فلأننا باستقراء أحكام الشريعة الإسلامية يتبين أنه روعي فيها مصالح العباد، ففيها العدالة وفيها المساواة وفيها اليسر وفيها المرونة وفيها الكمال والسمو والدوام؛ لأن نصوصها لا تقبل التعديل والتبديل مهما مرت الأعوام وطالت الأزمان، وهي مع ذلك تظل محتفظة بصلاحيتها في كل زمان ومكان، ومن تتبع التاريخ وجد أنها ما من مجتمع حكم فيه شرع الله إلا سعد هذا المجتمع، ولاشك أن قانونًا يتمتع بكل هذه الميزات ويجري على تحقيق العدالة الاجتماعية وإسعاد المجتمع البشري باختلاف أجناسهم وطبقاتهم وأوطانهم، لجدير بأن يتشبث به العقلاء ويذودوا عنه وهذا ما فعله المؤمنون الصادقون كما أسلفت.
الفريق الثاني: وهم المعادون للإسلام , إما جهلًا بتعاليمه السامية، وإما حسدًا من عند أنفسهم كما هو شأن اليهود والنصارى، فهؤلاء لا يستغرب أن يقفوا موقف العداء من الشريعة الإسلامية ويتهموها بأبشع التهم، لينفروا الناس منها، وذلك كوسيلة من وسائل الغزو الفكري للصد عن الإسلام والقضاء على نفوذه.
وأهم شبهة يثيرها أعداء الإسلام حول الشريعة الإسلامية ويروجونها في جميع المحافل ادعاؤهم بأن الشريعة الإسلامية لا تصلح للعصر الحاضر، وبعد التحقيق يتبين أن ادعاءهم هذا لا يقوم إلا على الجهل والافتراء، إذ أنهم لم يقدموا أي دليل ملموس ولا حجة بينة على دعواهم، وهذا لا يكون مقبولًا لدى ذوي العقول المفكرة، ولو أنهم قالوا أن مبدأ معينا أو مبادئ بذاتها لا تصلح للعصر الحاضر وبينوا السبب في عدم صلاحيتها لكان لادعائهم قيمة علمية، ولوجب مناقشتهم لتزييف أقوالهم, أما أن يدعوا أن الشريعة كلها لا تصلح للعصر ولا يقدموا على قولهم حجة واحدة؛ فذلك دليل على أنهم مدفعون بدافع الحقد على هذا القول وهذا الزعم الباطل، ولكن نظرًا إلى أن بعض السذج تأثر بمثل هذه الترهات فجعل يعادي الشريعة الإسلامية وينتقص من مكانتها، نجد لزامًا علينا أن ندافع عن هذه الشريعة الغراء، ونرد على ما يثيره هؤلاء المغرضون المفترون من شبهات حول الشريعة، ويكفينا للرد عليهم ما يقوله بنو جلدتهم، وأبناء عقيدتهم من النصارى المنصفينن يقول العلامة سانتيلانا: "إن في الفقه الإسلامي ما يكفي المسلمين في تشريعهم المدني إن لم نقل إن فيه ما يكفي للإنسانية كلها" (3) .
__________
(1) سورة الأحزاب: الآية 36
(2) سورة النساء: الآية 65
(3) انظر كتاب روح الدين الإسلامي لعفيف طبارة: ص 310(7/1995)
ويقول البحاثة الأمريكي "هوكنج" أستاذ الفلسفة بجامعة هارفرد في كتابه روح السياسة العالمية وذلك معرض حديثه عن مصير الثقافة الإسلامية: "إن سبيل تقدم الممالك الإسلامية ليس في اتخاذ الأساليب الغربية التي تدعي أن الدين ليس فقط ما يملى من حياة الفرد اليومية ومن القانون والنظم السماوية (1) .
وإنما يجب أن يجد المرء في الدين مصدرًا للنمو والتقدم، وأحيانًا يتساءل البعض عما إذا كان نظام الإسلام يستطيع توليد أفكار جديدة وإصدار أحكام مستقلة تتفق وما تتطلبه الحياة العصرية، فالجواب على هذه المسألة هو أن في نظام الإسلام كل استعداد داخلي للنمو , لا بل إنه من حيث قابليته للتطور يفضل كثيرًا النظم الأخرى، والصعوبة لم تكن في انعدام وسائل النمو والنهضة في الشرع الإسلامي وإنما في انعدام الميل إلى استخدامها، وإني أشعر بكوني على حق حين أقدر أن الشريعة الإسلامية تحتوي بوفرة على جميع المبادئ اللازمة للنهوض". (2) ويقول الدكتور "انريكو انسابا توحيد": "إن الإسلام يتمشى مع مقتضيات الحاجات الظاهرة فهو يستطيع أن يتطور دون أن يتضاءل في خلال القرون ويبقى محتفظًا بكامل ما له من قوة الحياة والمرونة فهو الذي أعطى للعالم أرسخ الشرائع ثباتًا. وشريعته تفوق في كثير من تفاصيلها الشرائع الأوروبية". (3)
هذه بعض شهادات علماء القانون في الغرب المسيحي الذي لم يعم التعصب بصيرتهم فأنصفوا الشريعة الإسلامية.
ولا يفوتنا كذلك أن نذكر القرار الذي اتخذه المؤتمر الدولي المنعقد في لاهاي سنة 1932م للقانون المقارن باعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا من مصادر القانون المقارن. فهؤلاء المؤتمرون الذين لهم مكانتهم العلمية وخبرتهم القانونية لم يتخذوا هذا القرار إلا لإيمانهم المطلق وقناعتهم التامة بأن الشريعة الإسلامية غنية بالمبادئ والنظريات التي تكفل سد حاجات الفرد والجماعة في الحاضر القريب والمستقبل البعيد.
ومن الشبه التي يثيرونها ادعاؤهم بأن بعض أحكام الشريعة مؤقت:
يرى بعض الأوروبيين أو بعض أذنابهم ممن تتلمذ عليهم أو تثقف بثقافتهم يرون أن الشريعة تصلح للعصر الحاضر إلا أن بعض أحكامها جاءت مؤقتة، ويقصدون بذلك بعض الأحكام الجنائية التي لا مثيل لها في القوانين الوضعية كالرجم والقطع فيحاولون التلخص منها بادعاء أنها أحكام مؤقتة، وهذا أكبر دليل على جهلهم بالإسلام؛ لأن أحكام الإسلام دائمة لا مؤقتة ولأن ما لم ينسخ منها قبل موت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يجوز نسخه بأي حال إلى يوم القيامة، وقد صرح القرآن بأن الإسلام قد اكتمل عقيدة وشريعة فلا زيادة فيه ولا نقص , وذلك في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4) .
__________
(1) هكذا في الأصل ولعل صوابه: "النظم السياسية
(2) روح الدين الإسلامي: ص 312
(3) روح الدين الإسلامي: ص 312 نقلا عن كتاب: "الإسلام وسياسة الحلفاء
(4) سورة المائدة: الآية 3(7/1996)
ومن الشبه التي يثيرونها حول الشريعة ادعاؤهم بأنها من آراء الفقهاء وابتكاراتهم:
ويحاولون أن يقنعوا الناس بأن ما تتمتع به الشريعة الإسلامية من مبادئ ونظريات سامية ومتميزة لا يرجع إلى كونها من عند الله تعالى، وإنما يرجع إلى عبقرية علماء المسلمين وجودة تفكيرهم واتساع أفقهم، وهذه الدعوى خطيرة؛ لأنه يقصد منها سلب قدسية الشريعة، وإقناع المسلمين بعدم وجوب طاعتها، لأنها من آراء الرجال، فإذا ثبت ذلك فلكل عصر رجاله، وهم أدرى من غيرهم بمشكلات عصرهم، وأقدر على وضع حلول لهذه المشكلات نظرًا إلى اختلاف الأحداث والوقائع من عصر لآخر ومن بيئة لأخرى.
وللرد على هذه الشبهة نقول: إن فقهاء الإسلام قد بذلوا مجهودًا كبيرًا في خدمة الفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية، ولكن دورهم محدود يتمثل في أنهم وجدوا أمامهم شريعة غنية بالمبادئ، والنظريات فقاموا بشرح النظرية أو المبدأ، وبينوا شروط تطبيق كل منهما، وحاولوا جمع ما يدخل تحت هذه النظريات والمبادئ من جزئيات، وهم في كل هذه الاجتهادات وهذه المحاولات يقيدون أنفسهم بنصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية، فتبين خطأ من يظن أن الفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية من ابتكار المسلمين، يقول الشهيد عبد القادر عودة: "إن الفقهاء لم يبتكروا نظرية المساواة المطلقة ولا نظرية الحرية الواسعة ولا نظرية العدالة الشاملة، وإنما عرفها الفقهاء من نصوص القرآن والسنة التي جاءت بها" (1) .
وقد أورد أمثلة كثيرة من المبادئ والنظريات القانونية، أخذها الفقهاء من نص القرآن كنظرية الطوارئ المسماة في عرف القانون بنظرية تغيير الظروف، فإن فقهاء الشريعة قد أخذوا هذه النظرية , من هذه النصوص القرآنية قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . (2) .
وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3) .
وقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (4) .
وكأخذهم نظرية إعفاء المكره والمضطر من قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (5) .
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (6) .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) (7) .
وليس الفقهاء هم الذين ابتكروا نظرية إعفاء الصغير والمجنون والنائم من العقاب، وإنما أخذوا ذلك من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يصحو وعن المجنون حتى يفيق)) (8) .
ولا هم الذين فرقوا بين أحكام العمد وأحكام الخطأ وإنما أخذوا ذلك من نص القرآن , كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ أَن يَقتُلَ مُؤمِنا إِلاَّ خَطَئا وَمَن قَتَلَ مُؤمِنا خَطَئا فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهلِهِ....} (9) .
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (10) .
وقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (11) .
وهكذا نجد الأمثلة كثيرة جدًّا كلها تبطل الدعوى بأن مبادئ الشريعة ترجع إلى آراء الفقهاء.
__________
(1) راجع كتابه: "الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه": ص 59
(2) سورة البقرة: الآية 286
(3) سورة الحج: الآية 78
(4) سورة الأنعام: الآية 119
(5) سورة النحل: الآية 106
(6) سورة البقرة: الآية 173
(7) رواه ابن ماجه في الطلاق 16 بلفظ "إن الله تجاوز عن أمتي ... " الحديث
(8) رواه البخاري في الطلاق وفي الحدود وكذلك رواه كل من أبي داود والترمذي والنسائي، والإمام أحمد، راجع مسنده: 1/ 116 ـ 118
(9) سورة النساء: الآية 92
(10) سورة البقرة: الآية 178
(11) سورة الأحزاب: الآية 5(7/1997)
ومن الشبه التي يثيرونها للحيلولة دون تطبيق الشريعة الإسلامية، قولهم إن الإسلام فيه فرق دينية كثيرة، ولكل فرقة منها فقه مستقل عن فقه غيرها، فإذا تقرر تنفيذ الشريعة الإسلامية في قطر ما فَفَقْهُ أية فرقة منها يكون على أساسه القانون؟
فنقول لهم أن هذا الاعتراض الذين يعلقون عليه آمالًا كبيرة في تفريق كلمة المسلمين، وينالون منه بغيتهم في إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحياة العامة والخاصة للمسلمين، ليس هو بمعضلة أصلًا كما يظنون؛ لأنه لم يَحُل دون تطبيق الشريعة الإسلامية عبر قرون طويلة وفي أكثر من بلد إسلامي؛ لأن الجهاز الأساسي لقانون الإسلامي الذي يشتمل على ما فرض الله تعالى من الأحكام والقواعد والحدود القطعية لم يزل ولا يزال معترفًا به على صورة واحدة بين جميع فرق المسلمين وطوائفهم، ولم يكن بينهم شيء من الخلاف في ذلك قديمًا وحديثًا، وإنما الخلاف في تبعير الأحكام والمسائل الاجتهادية وقوانين دائرة الإباح وضوابطها وحسب، أما ما يعتبر قانونًا يلزم به الناس فلا بد من أن ينعقد عليه إجماع الأمة أو أغلبيتها ويسلم به جمهور أو تجري به الفتوى من علماء الأمة المعتمدين، أما ما يستخرجه إمام من الأئمة بقياسه واجتهاده أو ما يصدره من فتوى على أساس الاستحسان، فإنه لا يرقى إلى درجة القانون، فعندما يقول العلماء في كتبهم: "هذا ماعليه الفتوى" أو "عليه الجمهور" أو "عليه الإجماع " يقصد منه أن هذا ليس مجرد رأي أو اقتراح فقط، وإنما أصبح جزءًا من القانون لإجماع المسلمين أو اتفاق جمهورهم عليه، فالحكم الشرعي إذا انعقد عليه الإجماع أصبح قانونًا رسميًّا لا يجوز مخالفته في أي زمان ولا مكان، ولا يجوز إعادة النظر فيه، فإن لم ينعقد عليه الإجماع فما ارتأته الغالبية من أهل الحل والعقد من المسلمين في كل بلد يعد قانونًا لذلك البلد، ويكفينا أن يكون ما يحتكم إليه المسلمون في بلد إسلامي مصدره الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة.(7/1998)
ومن الشبه التي يثيرها البعض ادعاؤهم بعدم قدرة الشريعة على الاستجابة لمتطلبات العصر الحديث، فكثيرًا ما يقولون: كيف يصلح قانون قديم مر عليه أربعة عشر قرنًا ليلبي حاجات مجتمع عصري ودولة متحضرة؟
وبعد إمعان النظر في هذه الشبهة يتبين أن مثيريها لم يفهموا شيئًا من الشريعة الإسلامية، لاعتقادهم أن الشريعة مجرد أحكام محدودة مقيدة بنصوص قديمة محدودة وهذا الاعتقاد هو الذي دفعهم إلى القول بأن النصوص الشرعية لا تستوعب الأحداث المتنوعة والمتطلبات العصرية.
نقول لهم: إنهم وقعوا في هذا الخطأ عندما سووا بين القوانين الوضعية التي وضعها البشر وبين الشريعة الإسلامية التي تكفل بوضعها خالق البشر , فنحن نعلم أن القوانين الوضعية القائمة الآن تختلف اختلافًا جذريًّا عن القوانين القديمة التي كانت تطبق حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلادي، لأن القوانين الوضعية الحديثة تقوم على نظريات فلسفية واعتبارات اجتماعية وإنسانية لم يكن لها وجود في القوانين القديمة، ونحن وإن كنا نتفق معهم في الاعتقاد بعدم صلاحية القوانين القديمة للعصر الحاضر، ولكن لا نتفق معهم حين يقيسون الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية، وهذا القياس الذي دفعهم إلى القول بأنه ما دامت القوانين التي كانت سائدة حتى أواخر القرن الثامن عشر لا تصلح لعصرنا الحاضر، فكذلك الشريعة الإسلامية التي كانت سائدة في العصور الوسطى , ولا يخفى بطلان هذا القياس لأن القياس إنما يكون بين متماثلين، ولا تماثل بين الشريعة والقوانين الوضعية، فبينهما اختلافات أساسية، وتتميز الشريعة بمميزات جوهرية والقاعدة المعروفة لدى جميع العلماء أنه إذا انعدمت المساواة والمماثلة بين شيئين فلا قياس، أو كان القياس باطلًا، وبذلك يبطل ادعاؤهم بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر؛ لأنه بني على قياس باطل وما قام على الباطل فهو باطل (1) .
ولو تتبعنا نصوص الشريعة لوجدنا فيها من القواعد والمبادئ ما يتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان وتطورت الجماعة وتعددت الحاجات وتنوعت؛ لأنها جاءت عامة إلى آخر حدود العموم، مرنة إلى آخر حدود المرونة، فلا تضيق بما يمكن أن يستجد من حالات، فكل ما عرض للناس من الحاجات والمرافق في مختلف أيامهم يمكن لعلماء الإسلام أن يجدوا له حلًّا شرعيًّا , إما بالنص بوجه من وجوه دلالائه المتعددة، وإما بالقياس على النص بنوع من أنواع القياس الكثيرة، أو بغيرهما كالإجماع والاستحسان والمصالح فكل ذلك مما يثبت به الحكم الشرعي إذا توفرت الشروط.
__________
(1) تاريخ التشريع الإسلامي: 1/ 13 ـ 14(7/1999)
ومن الشبه التي يثيرونها: اتهامهم الشريعة بالهمجية والوحشية:
وكثيرًا ما يذكرون على سبيل المثال عقوبات رجم الزاني وقطع يد السارق وطريقة تنفيذ حكم القصاص في الشريعة الإسلامية.
وأنا كنت أحضر دورة للغة الفرنسية في باريس عام 1983م، فرأيتهم أكثر من مرة يعرضون على التلفزيون صورة لشخص نفذ فيه حكم الإعدام في المملكة العربية السعودية، والرجل ملطخ بدمائه وفي بعض المرات يكون رأسه مفصولًا عن جسده، ويعرضون الصورة مدة طويلة بدون أن يذكروا الجرائم التي ارتكبها هذا الشخص حتى استحق هذه العقوبة، وقصدهم من ذلك إثارة المشاهدين وتنفيرهم عن الإسلام؛ لأنهم لو ذكروا لهم ما ارتكبه هذا الشخص من جرائم منافية لكل القيم الدينية والمبادئ الإنسانية لوجدوا أن هذه العقوبة كانت مناسبة له، بل وخفيفة في حق هذا الشخص، ولكن يتعمدون إخفاء ذلك ولسان حالهم للمشاهدين انظروا إلى وحشية الإسلام فإنه دين يتسم بالقسوة والهمجية ولا يصلح دينًا للإنسان المتحضر أو للمجتمع الراقي إلى آخر ما يقولونه من أباطيل.
ونقول: إن هؤلاء يصدق فيهم قول الشاعر العربي:
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرًّا به الماء الزلال
فهؤلاء قد نجم عن فساد ذوقهم ومرض قلوبهم وطمس بصيرتهم أمران:
أحدهما: أنهم أصبحوا لا يرون الباطل باطلًا ولا يقيمون وزنًا للقيم والمبادئ الخلقية، فالزنا مثلًا واللواط وشرب الخمر والتعري في الأماكن العامة والتزاوج بين الرجال يعتبر عندهم أمورًا عادية، ولا يتحملون أن يلام عليها الإنسان فضلًا عن أن يعذب عليها، ولا يخفى على إنسان عاقل ما في هذه المعاصي من أضرار مادية ومعنوية للأفراد وللمجتمع فلا يستسيغها إلا من كان مريض القلب فاسد الذوق.(7/2000)
ثانيهما: أنهم لا يهمهم أمر الأبرياء والمظلومين الذين وقعوا ضحايا لهؤلاء المجرمين، بينما يظهرون شفقتهم على هؤلاء المجرمين ويتأملون لما ينالهم من عقاب شرعي يستحقونه، فهذا منتهى الوقاحة ومنتهى الضلال؛ لأنهم يقولون: إن الرجم عقوبة تتسم بالوحشية , ولكنهم يغضون الطرف عما يقوم به الزاني من إشاعة الفاحشة في المجتمع وإلحاق العار بالأسر الكريمة , وتدمير مستقبل البنات بحيث يقضين كل حياتهن في شقاء لا يتقدم لهن أي إنسان شريف، أضف إلى ذلك تفشي الأمراض الفتاكة في المجتمع بما فيها الأمراض المستعصية على الطب الحديث والقديم، وهي الأمراض التي تهدد بقاء جنس الإنسان على هذا الكوكب الأرضي، وما أمر "السيدا" أو " الأيدز " بخاف على أحد. وكذلك اختلاط الأنساب بحيث يقضي الإنسان كل عمره ينفق على ولد يظن أنه ولده، يعالجه إذا مرض ويسعى جاهدًا من أجل تعليمه وتربيته، ويسعى من أجل إسعاده وتأمين مستقبل سعيد له، فإذا هو في حقيقة الأمر ليس ولده، ألا يستحق كل من تسبب بهذه الجرائم عقوبة تكون جزاء له وتكون رادعة لأمثاله من الوقوع في مثل هذه الجرائم , وتطهر المجتمع من المجرمين؟ فعندما يرجم الإسلام الزاني بالحجارة جزاء له على كل ما ارتكبه من جرائم في حق الأفراد وفي حق المجتمع، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها، ولكن عندما ترجم حكوماتهم الشعوب البريئة بالقنابل المحرقة والصواريخ المدمرة لأجل استعمارها ونهب خيراتها، أو عندما تنزل هذه الحكومات على معارضيها السياسيين أشد أنواع العقوبات، فإنهم لا يرون في كل ذلك بأسًا , ومن ذا الذي يعرف الوسائل والطرق القاسية التي تتوسل بها الحكومات المتحضرة في هذا الزمان إلى استنطاق المتهمين حتى يعترفوا بجرائم على أساس الشبهات فقط؟ كل ذلك أمر سائغ ومقبول أما عندما توقع الشريعة الإسلامية عقوبة مناسبة لمجرم محترف يتهمونها بالوحشية , فيا عجبًا لهذا العالم المتحضر وقد صدق الشاعر العربي عندما قال:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل(7/2001)
وإذا انتقلنا إلى عقوبة قطع يد السارق نجد أنه خير وسيلة لمعاقبة من يرتكب مثل هذا النوع من الجريمة، لأن السارق يريد أن يعيش عيشة كريمة على حساب الآخرين، فكم من أسر بريئة تشردت بسبب اللصوص، وكم من شخص كدا واجتهد وعانى كثيرًا من المتاعب طيلة سنوات عديدة لتوفير مال يعتمد عليه في حالة عجزه عن العمل , إما لكبر وإما لمرض، فيأتي لص يبدد كل هذه الأمال ويستولي في دقائق على هذه الثروة التي جمعت في عشرات السنين , وكثيرًا ما يتم ذلك تحت تهديد بالسلاح , بل وبالقتل والجرح في بعض المرات، فهل يليق في نظر العقلاء أن يحبس هذا المجرم وينفق عليه من أموال الشعب، يأكل ويشرب وينام ملء جفونه؟ وهل هذه عقوبة رادعة؟ طبعًا لا، بدليل أن السارق لا يكاد يخرج من السجن حتى يسرق مرة أخرى ويعود إلى سجنه؛ لأنه يجد في السجن مرتعًا خصبًا يأكل ويشرب وينام كما يريد دون أي تعب أو عناء.
وما ذنب الشعب حيث تؤخذ منه الضرائب، والرسومات المختلفة لينفق على هؤلاء المجرمين الذين يهددون أمن البلاد وأمن المواطنين؟ أليس من المناسب عقلًا قطع يد اللص جزاء وفاقًا لما ارتكبه في حق الأبرياء؟ فيتعذب بالقطع وتتشوه خلقته به، فنكون قد عاملناه على نقيض قصده؛ لأنه ما قصد السرقة إلا ليتمتع بالحياة بدون أي تعب ولا معاناة، بل وبتخريب بيوت الآخرين، فنفوت عليه هذا القصد بقطع يده؛ لأنه حتى لو كسب المال بالسرقة فإنه لا يمكن أن يتمتع به، ولا أن يكون سعيدًا في الحياة لأجل علامة العار التي تلازمه أينما حل وارتحل، وقد أثبتت التجارب أن هذه العقوبة رادعة تحقق الأمن والاستقرار في أي مجتمع ينفذ فيه هذا الحكم الشرعي، فقد رأيت بنفسي عندما دخلت الديار المقدسة لأول مرة في عام 1967م دكاكين مليئة بالذهب والماس يتركها أصحابها بدون إغلاق، وإنما يكتفون فقط بإسدال أستار من القماش الرقيق عليها، فيذهبون إلى المساجد لأداء صلاة الظهر، ثم يعودون إلى بيوتهم للغداء والراحة ولا يعودون إليها إلا بعد صلاة العصر، فيجدون هذه الدكاكين كما تركوها لم تمس بأي أذى، ولا يشك إنسان في أن سر ذلك يرجع إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في المملكة العربية السعودية.
أما الدول التي تدعي الحضارة والتقدم المادي، فلا يخفى على أحد ما يجري فيها من الفوضي وعدم الاستقرار على الرغم من البلايين والدولارات التي تنفق في الأمن، فمثلًا في مدينة نيويورك التي تعتبر أكبر مدن العالم وأكثرها تحضرًا وتطورًا، فإنه يجري فيها في كل ثانية عشرات الجرائم وذلك حسب إحصائيات الحكومة الأمريكية نفسها.
فنطلب من هؤلاء أن يتركوا المغالطات وأن يتخلوا عن تعصبهم الأعمى ويعودوا إلى الشريعة الإسلامية إذا ما أرادوا الأمن والاستقرار والسعادة؛ لأنها صادرة عن الله تعالى الذي خلق البشر، فهو أعلم بما يصلح لهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
الدكتور أبو بكر دكوري(7/2002)
مصادر البحث
1 ـ القرآن الكريم.
2 ـ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
3 ـ المعجم المفهرس لألفاظ الحديث.
4 ـ صحيح البخاري.
5 ـ صحيح مسلم.
6 ـ نيل الأوطار.
7 ـ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير.
8 ـ لسان العرب لابن منظور.
9 ـ دائرة معارف القرن العشرين لمحمد فريد وجدي.
10 ـ حقائق الإسلام وأباطيل خصومه للعقاد.
11 ـ الموافقات للإمام الشاطبي.
12 ـ الإسلام عقيدة وشريعه لمحمود شلتوت.
13 ـ مبادئ الإسلام لأبي الأعلى المودودي.
14 ـ التشريع الجنائي الإسلامي المقارن للشهيد عبد القادر عودة.
15 ـ الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه للشهيد عبد القادر عودة.
16 ـ روح الدين الإسلامي لعفيف طبارة.
17 ـ تاريخ التشريع الإسلامي لمناع قطان.(7/2003)
من أساليب الغزو الفكري:
الطعن في القرآن الكريم
عرض وتفنيد
الدكتور محمد نبيل غنايم
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
ملخص البحث
1 ـ هذا البحث تعريف موجز بالغزو الفكري في ماضيه وحاضره وتعريف بتاريخه ووسائله، وبيان لأهدافه وأنواعه.
2 ـ وهو يعرض لمطاعن أعداء الإسلام من مبشرين ومستشرقين في القرآن الكريم، وقد عرض معظم هذه المطاعن في أسلوب موجز وعرض سريع لينتقل من ذلك إلى الأهم وهو مناقشتها والرد عليها.
3 ـ ناقش هذا البحث مطاعن الأعداء في القرآن الكريم في سبعة بنود مناقشة تفصيلية تكشف بالأدلة عن كذبها وتقيم الحجة على بطلانها.
4 ـ قدم هذا البحث أربعة عشر دليلًا على أن القرآن الكريم وحي وليس بشريًّا ولا من عمل محمد صلى الله عليه وسلم.
5 ـ وقدم هذا البحث خمسة أدلة عامة وستة تفصيلية وتطبيقية على أن القرآن الكريم غير مقتبس من الكتب السابقة.
6 ـ وقدم خمسة أدلة على أن القرآن الكريم معجز بل هو المعجزة الكبرى والخالدة للنبي صلى الله عليه وسلم.(7/2004)
7 ـ وقدم هذا البحث سبعة أدلة مختلفة على إبطال دعوى التحريف والتبديل في القرآن الكريم.
8 ـ وقدم هذا البحث أربعة أدلة إجمالية واثني عشر ردًّا تفصيليًّا على مزاعم الغزاة بأن القرآن الكريم يناقض بعضه بعضًا فأبطل هذا الادعاء.
9 ـ ورد هذا البحث في سبع فقرات على ادعاءات الغزاة بما زعموه أخطاء في القرآن الكريم.
10 ـ أثبت البحث أن القرآن الكريم قدم في الماضي وما زال يقدم في الحاضر وسيظل يقدم في المستقبل وإلى أن تقوم الساعة كل ما يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم، ولو أخذ الناس به فلن يحتاجوا إلى شيء آخر.
11 ـ أكد البحث أن القرآن الكريم لم تنقض عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، وما زال يتسع للعديد من الدراسات والبحوث.
12 ـ أكد البحث أن القرآن الكريم كتاب الله المحفوظ بعنايته الميسر للذكر، الهادي إلى صراط الله المستقيم.
13 ـ مهما حاول الأعداء والغزاة النيل من القرآن الكريم فستدور الدائرة عليهم وترتد سهامهم إلى نحورهم وسيبقى القرآن الكريم عاليًا شامخًا منتصرًا محفوظًا إلى يوم الدين ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .(7/2005)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أيده تعالى بالقرآن , وجعله أعظم معجزاته وأقوى أدلته , ورضي الله تعالى عن أصحابه الذين حفظوه وجمعوه وتدارسوه، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين فتعلم القرآن وعلمه، وبعد.
فهذا البحث عن: أسلوب خبيث من أساليب الغزو الفكري وهو "الطعن في القرآن الكريم" وقد جعلته في ثلاثة فصول. تناول الفصل الأول منها تعريفًا بالغزو الفكري بصفة عامة في ماضيه وحاضره وأهدافه ووسائله وأنواعه وذلك بشكل موجز.
أما الفصل الثاني فجعلته لسرد مطاعن الغزاة في القرآن الكريم وقسمته طبقًا لهذه المطاعن إلى سبعة بنود، تناول كل بند منها مجالًا من مجالات الطعن في القرآن. فبند عن بشريته، وآخر عن اقتباسه، وثالث عن عدم إعجازه، ورابع عن تحريفه، وخامس عن أخطائه العلمية واللغوية والتاريخية والتشريعية، وسادس عن تناقض آياته مع بعضها البعض، وسابع عن عدم تقويمه للنظريات والمبادئ العامة.
وخصصت الفصل الثالث ـ وهو بيت القصيد ـ لتفنيد تلك المطاعن والرد عليها وإبطالها، فتناولتها بندًا بندًا وناقشتها فكرة فكرة , وقدمت الأدلة النقلية والعقلية على إبطالها، ففي البند أولًا قدمنا أربعة عشر دليلًا منوعًا على أن القرآن وحي من عند الله وليس بشريًّا أو من عمل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي البند ثانيًا قدمنا خمسة أدلة عامة وستة تطبيقية على أن القرآن ليس مقتبسًا من التوراة ولا الإنجيل، وفي البند ثالثًا قدمنا خمسة أدلة على أن القرآن معجز وفي قمة الإعجاز، وفي البند رابعًا قدمنا سبعة أدلة على أن القرآن الكريم معافى من أي تحريف أو تبديل على عكس الكتب السابقة، وفي البند خامسًا ذكرنا أربعة أدلة إجمالية على إبطال دعوى التناقض بين بعض آيات القرآن ثم وضحنا ذلك في اثني عشر موضعًا مما استندوا إليه ووضحنا بطلانه، وفي البند سادسًا ناقشنا ما أسموه أخطاء في القرآن الكريم حتى بينا أنهم هم المخطئون وأن القرآن الكريم في قمة الأداء والمعنى ولكنهم لا يفهمون، وفي البند سابعًا ناقشنا موضوع النظريات التي يتساءلون عنها وبينا ما قدمه القرآن في هذا المجال مما لم يسبق إليه ولم يلحق فيه. ودعمنا ذلك كله بأقوال العلماء والمفكرين وبعض المنصفين من أعداء الإسلام والقرآن.
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا البحث وأن يجعله خالصًا لوجهه إنه خير مسؤول وأعظم مأمول.(7/2006)
الفصل الأول
الغزو الفكري ماضيه وحاضره
إن عداوة اليهود المشركين، ومن على شاكلتهم من المبشرين والمستشرقين للإسلام والمسلمين قائمة منذ فجر التاريخ، فقد عادوا رسالات الله التي جاءت كلها بالإسلام، وتآمروا على رسل الله الذين حملوا إليهم هذه الرسالات، وقتلوا الأنبياء الداعين للإسلام، وعبدوا العجل وغيره من الأصنام، وآمنوا بالجبت والطاغوت، واتبعوا ما تتلوا الشياطين، وحرفوا كتاب الله تعالى وبدلوه، وكتبوه بأيديهم واشتروا به ثمنًا قليلًا، وكفروا بأنعم الله تعالى الظاهرة والباطنة، وبدلوا قولًا غير الذي قيل لهم، وعصوا أوامر الله تعالى واعتدوا على حدوده وحرماته، وظل حالهم كذلك حتى بعث الله تعالى خاتم النبيين والمرسلين محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فازدادت عداوتهم وأفصحوا عن حقدهم، فكانوا ـ رغم علمهم به ـ أول كافر به، ولم يكتفوا بكفرهم، بل شنوا على المؤمنين به حملات العداء والتشهير، ووضعوا أيديهم في أيدي المشركين والنصارى لمهاجمة الإسلام ورسوله وكتابه وكل من آمن به، وصدق الله العظيم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (1) .
وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تشير إلى ما قام به اليهود والنصارى ضد الإسلام ورسوله وأصحابه، من كفرهم به، وصد الناس عن الإيمان به، ومحاولات تشويهه والنيل منه، وشن الحروب على أهله، ونقض العهود معهم، وتدبير المؤامرات ضدهم، وخيانة الأمانات إلى غير ذلك؛ يقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
ويقول: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (3) .
فهذا عن كفرهم بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقرآن، أما عن صدهم عن سبيل الله وعن الإيمان , فمنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} (4) .
وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (5) .
وأما عن تلبيس الحق بالباطل فيقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) .
__________
(1) سورة المائدة: الآية 82
(2) سورة البقرة: الآية 101
(3) سورة البقرة: الآية 89؛ قال السيوطي: أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس أن يهودًا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك , وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه. فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو الذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله: [وَلَمَّا جَاءهُم كِتَابٌ مِّن عِندِ اللهِ ... ] الآية، لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي، هامش المصحف الشريف بتفسير الشيخ حسنين مخلوف
(4) سورة النساء: الآيتان 51 و 52
(5) سورة آل عمران: الآية 99
(6) سورة آل عمران: الآية 71(7/2007)
بل حاولوا مع المسلمين أن يردوهم إلى الكفر بعد الإيمان، وفي سبيل ذلك كان بعضهم يدخل الإسلام أول النهار ويكفر آخره ليحذو حذوه المسلمون، يقول الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (1) .
وقال سبحانه: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) .
روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم. فأنزل الله فيه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} إلى قوله: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . (3)
هذا قليل من كثير مما كان عند اليهود والنصارى من العداوة للإسلام والقرآن والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين.
وقد استمرت هذه العداوة تتنامى وتتضاعف بمرور السنين حتى لبست أثوابًا جديدة في العصر الحديث، وتجلت فيما يعرف الآن: بالغزو الفكري الذي يصوب سهامه المسمومة إلى أغلى ما يعتز به المسلمون من كتاب الله تعالى وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول الدكتور دراز رحمه الله: "ومن تتبع أنواع المجادلات التي حكاها القرآن عن الطاعنين فيه رأى أن نسبتهم القرآن إلى تعليم البشر كانت هي أقل الكلمات دورانًا على ألسنتهم، وإن أكثرها ورودًا في جدلهم هي نسبته إلى نفس صاحبه، وهذا الرأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم "الوحي النفسي" زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءوا برأي علمي جديد وما هو بجديد، وإنما هو الرأي الجاهلي القديم لا يختلف عنه في جملته ولا تفصيله، وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة منسوخة بل ممسوخة من الماضي في أقدم أثوابه، وكان غذاء هذه الأفكار المتحضرة في العصر الحديث مستمدًا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجرة في عصر الجاهلية الأولى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} (4) .
وقبل أن نتناول هذه السهام الحديثة نقف وقفة قصيرة مع هذا الغزو الحديث نتعرف من خلالها على تاريخه وأهدافه وأنواعه وأساليبه.
__________
(1) سورة البقرة: الآية 109
(2) سورة آل عمران: الآية 72
(3) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي , هامش المصحف الشريف بتفسير الشيخ حسنين مخلوف والآيات من سورة آل عمران الآيات 71 ـ 73
(4) سورة البقرة: الآية 118؛ وانظر النبأ العظيم، د. محمد عبد الله دراز: ص 67 هامش(7/2008)
تاريخ الغزو الفكري:
عرفنا أن الحملة على الإسلام ومصادره قديمة، منذ بزغت شمسه، أما الغزو في ثوبه الجديد، فقد بدأ بعد فشل الحروب الصليبية، وذلك أن الصليبيين لما خسروا المعارك الحربية ضد الإسلام وأهله، ولم يتمكنوا من الاحتفاظ ببيت المقدس، فكروا في حروب أخرى للقضاء على الإسلام الذي هو سر قوة المسلمين ومصدر توجيههم فلجأوا منذ ذلك الوقت إلى الغزو الفكري، يقول غاردنر: "لقد خاب الصليبيون في انتزاع القدس من أيدي المسلمين ليقيموا دولة مسيحية في قلب العالم الإسلامي ... " ثم يقول: "والحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ هذه المدينة بقدر ما كانت لتدمير الإسلام"، أما ليفونيان فيرى ـ وهو على حق ـ "أن الحروب الصليبية كانت أعظم مأساة نزلت بالصلات بين المسلمين والنصارى في الشرق الأدنى، لقد أحب الصليبيون أن ينتزعوا القدس من أيدي المسلمين بالسيف ليقيموا للمسيح مملكة في هذا العالم، إنهم لم يستطيعوا أن يقيموا تلك المملكة، ولكنهم تركوا بعدهم العداوة والبغضاء، خابت دول أوروبا في الحروب الصليبية الأولى من طريق السيف، فأرادت أن تثير على المسلمين حربًا صليبية جديدة من طريق التبشير (1) .
وكان "ريمون لل" الأسباني أول من تولى هذا الغزو التبشيري، فقد استطاع في عام 1299م، أن يحصل على إذن من الملك يعقوب صاحب أرغونة ليبشر في مساجد برشلونة محتميًا بالسلطة المسيحية في أسبانيا، ثم جال في بلاد الإسلام وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة" (2) .
وظلت عمليات التبشير تتنامى وتتكاثر وتتكون لها جمعيات ومؤتمرات عالمية كما يذكر ذلك "أدوين بلس" في كتابه "ملخص تاريخ التبشير" من مثل مؤتمر القاهرة 1906م برئاسة "زويمر" وكتابه "العالم الإسلامي اليوم"، ومؤتمر "أدنبرج" التبشيري 1910م، ومؤتمر لكنو التبشيري في الهند 1911 (3) .
أما عن الاستشراق وهو الجناح الثاني من أجنحة الغزو الفكري، فقد بدأ منذ دقت جيوش الفتح الإسلامي أبواب أوروبا، وتحققت لهم السيادة العالمية في شتى المجالات، فبدأ الأوروبيون الذين كانوا غارقين في ظلام العصور الوسطى يبحثون عن أسباب نهضة المسلمين، وبدأ بعض رجال الكنيسة يدرسون اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وزادت هذه الدراسات وكثر الاهتمام بها في أعقاب فشل الحروب الصليبية، ولما قامت النهضة الأوروبية، وتفتحت أنظار الأوروبيين إلى استعمار البلاد العربية والإسلامية ـ وهذا هو الجناح الثالث للغزو ـ كثر اهتمام الأوربيين بالدراسات الشرقية الاستشراقية فشجعوا عليها وفتحوا لها أقسامًا خاصة في جامعاتهم، وبدأوا يعقدون المؤتمرات والجمعيات، وينشرون التقارير والمجلات، وبدأت هذه الأعمال الاستشراقية تحقق ثمارها ونتائجها في مهاجمة الإسلام وتشويهه والنيل منه، فالتقت في ذلك مع التبشير وأعمال المبشرين، وتضافرت معها، ومن أشهر المستشرقين: المستشرق الإنجليزي جب، والفرنسي ماسينيون، والإنجليزي مرجليوت، والمجري جولدزيهر، والألماني بروكلمان، وغيرهم كثيرون (4) .
__________
(1) انظر: التبشير والاستعمار، خالدي وفروخ: ص 115
(2) التبشير والاستعمار: ص 115
(3) انظر: أجنحة المكر الثلاثة، عبد الرحمن حبنكة: ص 28 ـ 54
(4) انظر: التبشير والاستعمار: ص 115؛ وأجنحة المكر الثلاثة: ص 115؛ وانظر أيضا الفكر الإسلامي الحديث: ص 447 ـ 452(7/2009)
ويذكر الدكتور محمد البهي أن الغزو الفكري بدأ بعد الحرب الصليبية، وذلك أن الاحتكاك في هذه الحروب على مدى قرنين جعل الصلييبيين يقفون على أمرين هما: عقيدة الإسلام في قوتها وضعف المسلمين في مجتمعهم، وسعة ما يملكون من ثروة في بلادهم ,فبدأوا بعد الفشل في الحرب يعدون أنفسهم ويرسمون خططهم انتهازًا لزيادة ضعف المجتمع الإسلامي وتفككه، والاستفادة من ثروته، وأعقب هذا الاتصال الاقتصادي نفوذ سياسي ثم استعمار عسكري منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين، وقد استخدم هذا النفوذ السياسي والعسكري للتنفيس عن الهزيمة الصليبية في الحروب الماضية، وعن الحقد الصليبي على بقاء بيت المقدس في ظل السيادة الإسلامية يقول:
فكيف يستمر للغرب نفوذه السياسي على الشرق الإسلامي؟
وكيف يبقى تخلف المسلمين؟ وكيف تنفس النفس الصليبية عن حقدها؟
ليس له ـ الغرب ـ هنا طريق آخر لتحقيق هذه الغاية سوى تناول "مادة التوجيه" المحلية وجعلها غير صالحة، ولم يكن هناك في توجيه الشرق الإسلامي سوى "الإسلام" والتراث الإسلامي الذي خلفه المسلمون في شرح إسلامهم، فإفساد الإسلام والتراث الإسلامي إذن غرض أول للمستعمر الغربي (1) , وهذا ما سنبينه في الفقرة التالية.
__________
(1) الفكر الإسلامي الحديث: ص 16(7/2010)
أهداف الغزو الفكري:
لا تختلف أهداف الغزو الحديث عن مؤامرات الماضين ومكائدهم فهي كلها تدور حول النيل من الإسلام وتشويه حقائقه ورموزه الكبيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وصد الناس عن الإيمان به والدخول فيه، وإفساد من تم إسلامهم بالتنصير أو التشكيك والإلحاد، وبذلك وغيره يتم القضاء على الإسلام واستغلال أهله وأرضه، يقول الدكتور عبد الحليم محمود: "ولقد غزانا الغرب في العصور الحديثة بكل ما يملك، بالسلاح والقلم، وقد كانت مهمة القلم في هذا المجال واسعة متنوعة، فقد تناول كُتّابهم الإسلام عقيدة وتشريعًا وأخلاقًا وتاريخًا محاولين أن يزيفوا الحقائق في كل ميدان من ميادين الدين، وحاولوا أن يقللوا من شأن الإسلام ومن شأن العرب، وحاولوا بكل ما أتوا من وسائل في الدعاية أن يبعثوا في النفوس روح التحلل والفساد الأخلاقي ... "، ثم يقول: "إن الغربيين يريدون بكل وسيلة القضاء على الإسلام كقوة لها ذاتيتها وأصالتها ومنهجها في الحياة وهم يستعملون من أجل ذلك كل الوسائل" (1) .
ويقول الدكتور البهي: "فإفساد الإسلام والتراث الإسلامي إذن غرض أول للمستعمر الغربي، واختار وسيلة لذلك فيما أبرزه من المفارقة بين الغرب والشرق من تقدم الأول وتأخر الثاني، وابتدأ العلم وابتدأت الدراسة هناك تبحث عن أسباب هذه المفارقة وتركزت الأسباب أخيرًا في المقابلة بين المسيحية والإسلام، المسيحية دين المتقدمين والإسلام دين المتخلفين...." (2) .
ويضيف الشيخ محمود شاكر ... " لم يكن غرض العدو أن يقارع ثقافة بثقافة، أو أن ينازل ضلالًا بهدى، أو أن يصارع باطلًا بحق، أو أن يمحو أسباب ضعف بأسباب قوة، بل كان غرضه الأول والأخير أن يترك في ميدان الثقافة في العالم الإسلامي جرحى وصرعى لا تقوم لهم قائمة، وينصب في أرجائه عقولًا لا تدرك إلا ما يريد لها هو أن تدرك، ولا تبصر إلا ما يريد لها هو أن تبصر، ولا تعرف إلا ما يريد لها هو أن تعرف، فكانت جرائمه في تحطيم أعظم ثقافة إنسانية عرفت إلى هذا اليوم كجرائمه في تحطيم الدول وإعجازها مثلًا بمثل، وقد كان ما أراد الله أن يكون، وظفر العدو فينا بما كان يبغي ويريد ... " (3) .
__________
(1) القرآن والنبي: ص 20، 396
(2) الفكر الإسلامي الحديث: ص 17
(3) مقدمة الظاهرة القرآنية: ص 12(7/2011)
ومن هذا يتبين أن الهدف الرئيسي لأئمة الغزو الفكري وقياداته هو القضاء على الإسلام وأصوله وتراثه، وهناك أهداف أخرى سياسية واقتصادية واجتماعية كالحيلولة دون وحدة الأمة الإسلامية، ونهب خيراتها وثرواتها وبذر بذور التفرق والقومية بين صفوفها، ولكنا إذا أمعنا النظر في هذه الأهداف وجدناها ترجع في حقيقتها إلى الهدف الرئيسي الديني: " وهو القضاء على الإسلام وعلى كل ما يقويه ويحفظه ".
وقد أحصى هذه الأهداف إجمالًا وتفصيلًا الأستاذ عبد الرحمن حسن فقال: "وأخطر أهدافهم في الأمة الإسلامية تحويل المسلمين عن دينهم وتقطيع أوصال جماعتهم الإنسانية الكبرى، وبثها إلى وحدات صغرى متقاطعة متنافرة متدابرة يقاتل بعضها بعضًا، ولتحقيق ذلك لجأ الغزاة إلى الأعمال الجزئية الآتية:
1 ـ التشكيك بصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
2 ـ إنكار كون القرآن كتابًا منزلًا من عند الله.
3 ـ أن الإسلام ليس دينًا سماويًّا ولكنه ملفق من اليهودية والنصرانية.
4 ـ التشكيك في صحة الحديث النبوي.
5 ـ التشكيك بقيمة الفقه الإسلامي.
6 ـ التشكيك في قدرة اللغة العربية على مسايرة التطور العلمي.
7 ـ تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضاري وإضعاف ثقتهم فيه.
8 ـ إضعاف روح الإخاء الإسلامي ببث الأفكار القومية والنعرات العصبية" (1) .
__________
(1) أجنحة المكر الثلاثة: ص 94 ـ 97(7/2012)
وسائل الغزو الفكري:
اتخذ الغزاة من الوسائل كل ما يؤدي أو يساعد على تحقيق أهدافهم جملةً وتفصيلًا، ولم يتركوا وسيلة تساعد على تحقيق هدف ولو جزئي إلا استعملوها، ولذلك نجدهم تارة يستخدمون السلاح، وأخرى يستخدمون السلام، وحينًا يستخدمون العلم، وتارة يستخدمون الطب، وأخرى يستخدمون المساعدات الاقتصادية بأشكالها المختلفة من مساعدات غذائية إلى مساعدات كسائية، إلى مساعدات نقدية كمعاشات ومرتبات شهرية أو مكافآت سنوية، وفي مناسبات كثيرة يكون الكذب والباطل وإثارة الشبهات والضلالات وسيلتهم لتحقيق تلك الأهدف أو بعضها، بل إن ذلك يكاد يكون الطابع العام مع كل الوسائل السابقة، يقول الشيخ محمود شاكر: "وميادين معركة الثقافة والعقل ميادين لا تعد بل تشمل المجتمع كله في حياته وفي تربيته، وفي معايشه، وفي تفكيره، وفي عقائده، وفي آدابه وفي فنونه، وفي سياسته، بل كل ما تصبح به الحياة حياة إنسانية كما عرفها الإنسان منذ كان على الأرض، والأساليب التي يتخذها العدو للقتال في معركة الثقافة أساليب لا تعد ولا تحصى لأنها تتغير وتتبدل وتتجدد على اختلاف الميادين وتراحبها وكثرتها، وأسلحة القتال فيها أخفى الأسلحة" (1) .
ويفصل الدكتوران خالدي وفروخ هذه الوسائل ويعددانها ويبينان أن العدو لم يترك واحدة منها، ولم يفوت مناسبة إلا واستخدمها، فما دامت الغاية واضحة والهدف محددًا نحو الإسلام فقد سلكوا كل السبل الشريفة وغير الشريفة لتحقيق هذه الغاية يقولان: "ولقد استخدم المبشرون جميع الطرق في سبيل التبشير، واستغلوا جميع المناسبات؛ فصناعة التطبيب والتعليم والوعظ، ونقل الكتب من لغة إلى لغة كلها يجب أن توجه توجيها يفيد التبشير.. والمبشرون مجمعون على أن جميع الوسائل ـ مهما كانت ـ يجب أن تستغل في سبيل التبشير، حتى أعمال البر يجب أن تستغل استغلالًا بحتًا، من ذلك قولهم ـ المبشرين ـ كان التطبيب والتعليم من وسائل التبشير ويجب أن يبقيا كذلك، أما أعمال الإحسان فيجب أن تستعمل بحكمة كي لا تذهب في غير سبيلها، يجب أن تعطى الأموال أولًا للبعداء عن الكنيسة ثم تقل تدريجيًّا كلما اقترب أولئك من الدخول في الكنيسة ... " "وكان المبشرون يتخذون من زيارة المسجونين ومن العمل في المستشفيات وسيلة إلى التبشير.. كما لجأوا إلى الرشوة يفسدون بها ضمائر الذين يستميلونهم , واتخذوا سماسرة يجلبون لهم الذين كانوا يرضون أن يبدلوا دينهم، وكانوا يدفعون عن كل رأس عشرة قروش ذهبًا ... " (2) .
__________
(1) مقدمة الظاهرة القرآنية: ص 11
(2) التبشير والاستعمار: ص 48 ـ 50(7/2013)
أما الدكتور البهي فيبين أن أعداء الإسلام من مبشرين ومستشرقين ومستعمرين اتخذوا لتحقيق أهدافهم في القضاء على الإسلام وإضعافه وإضعاف أهله وسيلتين أساسيتين هما:
1 ـ خلق جيل جديد من أبناء المسلمين يكون تابعًا لهم متحدثًا باسمهم، متشبعًا بثقافتهم، مقتنعًا بأهدافهم، راضيًا بسيادتهم واحتلالهم.
2 ـ قيام الغربييين بالتركيز على تشويه الإسلام والسخرية من المسلمين.
يقول رحمه الله: "وسائل الاستعمار لإضعاف المسلمين في إسلامهم تنحصر في توجيه الفكر الإسلامي نحو تحقيق هذه الغاية، وقد برز هذا التوجيه في صورتين تنم كلتاهما عن هذه الغاية:
الصورة الأولى: قيام بعض مفكري المسلمين بحركة تقدمية في الإسلام، تبغي تقرير سلطة المستعمر وتثبيت ولايته على المسلمين من الوجهة الإسلامية.
الصورة الثانية: قيام بعض الغربيين الأوروبييين المسيحيين بإبراز الخلافات المذهبية، وتأكيد الفجوات والثغرات بين طوائف المسلمين وشعوبهم من الوجهة الشعوبية أو الجغرافية، أو نظام الحكم، مع شرح كثير من مبادئ الإسلام شرحًا يشوهها وينحرف بها عن أهدافها الأصلية، وذلك كله بالإضافة إلى تمجيد القيم المسيحية والحضارة الغربية والنظام السياسي والسلوك الفردي للشعوب الغربية" (1) .
وهذا الذي حصره الدكتور البهي في هاتين الصورتين لا يختلف عما ذكره العلماء السابقون من وسائل متعددة بل يتفق معه تمامًا، وكل ما هنالك من فرق أن السابقين فصلوا الوسائل والدكتور البهي جمعها، فالطب والتعليم والمساعدات والزيارات والإعلام والثقفافة والبر والإحسان و ... و.... كل ذلك ينتهي إلى إحدى هاتين الصورتين، والهدف النهائي هو: القضاء على الإسلام وتنصير أهله، أو إضعاف شأنه ومكانته عند أهله وغيرهم بما يثيرونه حوله من شبهات وأباطيل، وسيقوم بذلك أحد شخصين أو هما معًا؛ إما مسلم ضعيف الإسلام صنعه الاستعمار على هواه، وإما كافر حاقد لا يريد بالإسلام وأهله خيرًا كالمبشرين والمستشرقين، ومن هذا يتبين لنا أن أعداء الإسلام سلكوا كل الوسائل واتخذوا كل الأساليب، واستغلوا كل المناسبات، ووجهوا كل الخطط، وقضوا على الأساليب المضادة لتحقيق أهدافهم الخبيثة في القضاء على الإسلام وأهله.
__________
(1) الفكر الإسلامي الحديث: ص 28(7/2014)
أنواع الغزو الفكري:
يتخذ الغزو الفكري صورًا وأشكالًا بعضها واضح مكشوف تحت عنوان خبيث هو تحقيق الإصلاح والتقدم الحضاري، وبعهضا خفي حتى لا يثير أية مشكلة تتعلق بقوانين البلاد وأمنها وتقاليد أهلها فمن ذلك:
(أ) الاستشراق والتبشير:
وهما جناحان لطائر واحد فكلاهما يصب في الآخر ويدعمه ويسانده، فالاستشراق هو الجانب النظري والعلمي والتبشير هو الجانب العلمي والحركي (1) , ولكنهما يسعيان لغاية واحدة ويتعاونان في الوصول إلى هدف واحد وكلاهما يستخدم خطط الآخر وأساليبه ويتبادلانها، ولهذا النوع مراكز عديدة يتحرك من خلالها لتحقيق الهدف المشترك منها:
1 ـ أجهزة التعليم من مدارس ومعاهد وجامعات.
2 ـ الجمعيات والمراكز الثقافية.
3 ـ الأندية الرياضية والاجتماعية.
4 ـ المنشآت الطبية والدوائية.
5 ـ الملاجئ وجمعيات التكافل الاجتماعي.
6 ـ الكنائس وتحركاتها التبشرية.
(ب) الاستعمار العسكري والاقتصادي والسياسي:
حيث يغرق الدول الفقيرة بديون تكبلها ثم يتدخل في شؤونها الداخلية والخارجية بدعوى حفظ مستحقاته وديونه، وقد يلجأ إلى الاستعمار العسكري وإقامة القواعد الدائمة، ثم يعمل على بث أفكاره ومبادئه بين أبناء تلك الشعوب عن طريق حكامها أو عن طريق الأقلام المريضة للعملاء الذين يصنعهم أو يشتريهم من أهل تلك البلاد.
(ج) الماسونية والصهيونية:
وهي حركات سرية عنصرية استخدمت الشيوعية والاستعمار في هدم الأديان والقيم الدينية والسيطرة على الشعوب النامية والتخطيط لقيادة العالم والاستيلاء على مقدرات الأمم.
(د) عملاء الاستعمار من الوطنيين:
وهؤلاء يروجون للأفكار الدخيلة سواء منها ما ينتمي إلى المعسكر الشرقي أو المعسكري الغربي، ومن هؤلاء من يدعو إلى ترك اللغة الفصحى، وتشجيع العامية (2) . ومنهم من يدعو إلى تغيير الأحكام الشرعية لأنها قاسية ولم تعد صالحة للتطبيق (3) . إلى غير ذلك.
(هـ) تلاميذ المستشرقين والمبشرين:
ممن درسوا على أيديهم أو تتلمذوا على أفكارهم، ولم ينالوا الشهادات العالمية العالية من ماجستير ودكتوراه إلا بعد ترديد هذه الأفكار والاقتناع بها والدفاع عنها (4) .
(و) إنشاء ومساندة الفرق الضالة المرتدة عن الإسلام:
فقد ظهر في القرن الماضي بعض من ادعى النبوة وحرف الإسلام وشوه العقيدة وأفسد العبادة وغير القيم والأخلاق , فغذاهم الاستعمار وساعدهم ووقف إلى جانبهم حتى أثمرت دعواتهم الباطلة فرقًا تضم جماعات من الناس مثل: البابية والبهائية والقاديانية وغيرها من الحركات التي ادعت زورًا وبهتانًا أنها حركات تجديد وإصلاح في الإسلام والمسلمين (5) .
__________
(1) انظر: التبشير والاستعمار: ص 224
(2) انظر: الفكر الإسلامي الحديث: ص 18
(3) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي: ص 12 وما بعدها
(4) انظر مقدمة رد مفتريات على الإسلام، د. عبد الجليل شلبي: ص 12 ـ 14؛ والفكر الإسلامي الحديث: ص 19، 195
(5) انظر: الفكر الإسلامي الحديث: ص 17(7/2015)
الفصل الثاني
مطاعن الغزاة في القرآن الكريم
(أ) لماذا الطعن في القرآن:
من المعلوم أن القرآن الكريم هو كتاب الله الخالد الذي تولى حفظه بنفسه كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) .
وهو معجزة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكبرى التي تحدى بها الإنس والجن إلى يوم الدين: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (2) .
وهو مادة الإسلام ومصدره الأعظم في العقيدة والعبادة والتشريع والأخلاق والمعاملات وجميع نظم الحياة، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (3) .
وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (4) .
كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينظر نزوله بالأحكام والإجابة عن الأسئلة. والفصل في الخلافات والأوامر والنواهي والحلال والحرام وشؤون العباد. وكان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرجعون إليه ـ مستعينين بالنسبة النبوية ـ في كل ما يتنزل بهم أو يطرأ عليهم، وكذلك سار التابعون والأئمة المجتهدون والمفسرون والمحدثون والفقهاء والمتكلمون، والخلفاء والوزراء والفلاسفة والعلماء. وهكذا كان القرآن الكريم ـ وما زال ـ مرجع الإسلام والمسلمين في كل شيء إما بالنص عليه أو بالفهم والاجتهاد في ضوئه، ونظرًا لهذه المكانة السامية، والمنزلة الكبرى لكتاب الله تعالى كان القرآن الكريم مستهدفًا من قِبَل الغزاة على اختلاف أجناسهم ووسائلهم، فسلطوا حربهم في الدرجة الأولى عليه، ووجهوا معظم سهامهم المسمومة إليه؛ لأنه كما ذكرنا أساس الإسلام، فإذا قضي عليه ـ وهذا مستحيل ـ قضي على الإسلام، وفي ذلك يقول جون تاكلي: "يجب أن نستخدم كتابهم ـ القرآن الكريم ـ وهو أمضى سلاح في الإسلام ضد الإسلام نفسه لنقضي عليه تمامًا، يجب أن نري هؤلاء الناس ـ المسلمين ـ أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأن الجديد فيه ليس صحيحًا " (5) , ونحو ذلك من الأقوال التي سنتعرف عليها في الفقرات القادمة.
__________
(1) سورة الحجر: الآية 9
(2) سورة الإسراء: الآية 88
(3) سورة الإسراء: الآية 9
(4) سورة الأنعام: الآية 38
(5) التبشير والاستعمار: ص 70؛ وكتابنا: في التشريع الإسلامي: ص 61(7/2016)
(ب) بداية الطعن في القرآن:
يردد الغزاة من أعداء الإسلام اليوم ما ردده أجدادهم من أعداء الإسلام في الماضي منذ فجر الدعوة الإسلامية، ومع البدايات الأولى لنزول القرآن الكريم في مكة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد حكى القرآن الكريم ما قاله المشركون واليهود والنصارى على القرآن الكريم وعلى سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) .
فالآيات تبين أن المشركين وأضرابهم من الكافرين ادعوا ظلمًا وزورًا وبلا بينة أن القرآن من صنع محمد وكذبه، وساعده في ذلك آخرون (2) .
وادعوا مرة أخرى أن القرآن من أساطير الأولين يملى على محمد ويكتبه صباحًا ومساء، وقد رد الله تعالى عليهم في آيات أخرى بما أفحمهم وبين أنه من عند الله ووحيه، وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (3) .
__________
(1) سورة الفرقان الآيات 4 ـ 6
(2) قيل قوم من اليهود، وقيل عبيد كانوا للعرب من الفرس أحدهم: أبو فكيهة مولى الحضرميين، وجبر، ويسار، وعداس وغيرهم؛ انظر تفسير ابن عطيه: 11/ 5
(3) سورة النحل: الآيات 101 ـ 103(7/2017)
فالآيات تبين أن المشركين ادعوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه يفتري القرآن الكريم ويختلقه كما ادعوا أن شخصًا أعجميًّا يساعده في ذلك (1) فرد الله تعالى عليهم بأن القرآن من تنزيله ـ عز وجل ـ ولكنهم يجهلون، وقد نزله الله تعالى بوحيه ليثبت المؤمنين ويهدي ويبشر المسلمين، وأما ادعاؤهم أن شخصًا أعجميًّا يساعده فينقضه الواقع ويبطله البيان فكيف بأعجمي لا يكاد يُبِينُ يعلِّم محمدًا هذا البيان العربي الحكيم المبين؟ وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إلى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2) .
وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) .
هكذا كان موقف أجداد الغزاة المعاصرين ـ من المشركين واليهود والنصارى ـ من القرآن الكريم إبان نزوله على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وظل الأمر كذلك حتى نشر الله تعالى الإسلام وأقام دولته ومكن له في الأرض، وسُمِع دوي القرآن الكريم في أرجاء المعمورة، وقامت المساجد في القرى والمدن وعقدت مجالس العلم ومدارسه في كل مكان، ونشأت علوم كثيرة لخدمة القرآن.
__________
(1) قيل إنه: بلعام، وقيل يعيش، وقيل جبر ويسار وقيل سلمان وهذا ضعيف؛ انظر: تفسير ابن عطية: 8/ 510
(2) سورة الصف: الآيات 6 ـ 8
(3) سورة البقرة: الآيات 89 ـ 91(7/2018)
وبعد دهر نبتت نابتة الشيطان في أهل كل دين، وجاءوا بالمراء والجدل، وشققوا الكلام بالرأي والهوى، وعندئذ نجم الخلاف وانتهى الخلاف إلى الجرأة، وأفضت الجراة يومًا إلى رجل في أواخر دولة بني أمية يقال له الجعد بن درهم، وكان شيطانًا خبيث المهب تلقى مذهبه عن رجل من أبناء اليهود يقال له طالوت، فكذب القرآن في اتخاذ إبراهيم خليلًا، وفي تكليم موسى، وإلى هذا وشبهه , وكان من قوله "إن فصاحة القرآن غير معجزة، وإن الناس قادرون على مثلها وأحسن منها" ولم تكد دولة بني العباس ترسي قواعدها حتى دخلت بعض العقول إلى فحص إعجاز القرآن، فقام بالأمر كهف المعتزلة ولسانها " النظّام " فأتاه من قبل الرأني والنظر (1) , واستمر الأمر كذلك إلى أن تبنى المعتزلة فتنة القول "بخلق القرآن" في زمن الخليفة المأمون، الذي أيديهم وتبنى وجهة نظرهم ومبادئهم التي منها تقديم التحسين العقلي على الشرعي، ومما زاد في كثرة الفتن أمر المأمون بترجمة التراث الروحي للثقافات الأخرى من فارسية ويونانية (2) .
ويقول الدكتور عبد الحليم محمود: "ومهما تحدث المتحدثون عن الازدهار والقوة والمجد في عصر المأمون، ومهما قالوا من أنه العصر الذهبي للأمة الإسلامية، فإنه مع ذلك عصر يتسم بسيئتين: الأولى: دخول المأمون في النزاع الذي كان بين علماء المسلمين في مسألة خلق القرآن، لقد دخل المأمون في هذا النزاع بقوة الدولة رغبة ورهبة، لقد دخل متحيزًا لفئة منكلًا بالفئة الأخرى، لقد تحيز للمعتزلة وهم قوم حكموا أهواءهم في الدين، وحسبوا أن ما يقولونه هو حكم العقل..، والثانية: أنه برغم موقف جمهور المسلمين الحاسم من التراث الروحي للأمم الأخرى، وبرغم معارضتهم الشديدة للغزو الفكري، فإن المأمون تحداهم تحديًا سافرًا، آمرًا بترجمة التراث الروحي والأخلاقي للأمم الأخرى يونانية كانت أو فارسية أو غيرهما" (3) .
__________
(1) مقدمة الظاهرة القرآنية: ص 40
(2) وكان ذلك سنة 212؛ انظر كتاب دول الإسلام: الذهبي: 1/ 130، وانظر في إبطال القول بخلق القرآن، شرح العقيدة الطحاوية: ص 173 ـ 176، ص 298
(3) القرآن والنبي: ص 148 ـ 152(7/2019)
ثم تتابعت العصور على ذلك الجدل في القرآن وعلى ما هو أشنع منه حتى أفضينا به في العصر الحديث إلى أقبح الشناعة يوم فرض الاستعمار الغربي الغازي على مدارسنا منهجًا من الدراسة يضعف دراسة اللغة العربية، وينحيها رويدًا رويدًا، ويشجع العامية ويدعو إليها حتى يقطع الصلة بين الأمة وكتابها العزيز فيصبح كتابًا غير مفهوم، فيهجره الناس، كما فعل المشركين من قبل: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} (1) .
وبهجر القرآن وعدم القدرة على فهمه يكون قد تم القضاء على المصدر الأعظم للإسلام وبالتالي يتم القضاء على الإسلام.
وقد سلك الغزاة الجدد في سبيل القضاء على القرآن كل السبل والوسائل، ولكن كان الله تعالى ـ وما يزال ـ لهم ولأمثالهم بالمرصاد ففشلت كل محاولاتهم، وضلت جميع وسائلهم، وبقي القرآن الكريم وسيبقى إلى يوم الدين كما أنزله الله تعالى قويًّا عزيزًا محفوظًا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) .
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (3) .
__________
(1) سورة الفرقان: الآية 30
(2) سورة الحجر: الآية 9
(3) سورة البروج: الآيات 19 ـ 22(7/2020)
(ج) ماذا يقول الغزاة عن القرآن الكريم؟
قال الغزاة عن القرآن الكريم كلامًا كثيرًا ـ وما زالوا يقولون ـ منه ما يتعلق بنزوله، ومنه ما يتعلق بموضوعاته، ومنه ما ينصب على إعجازه، ومنه ما يعود إلى معانيه وأحكامه، ومنه ما يتعلق باللغة، وبالعلم، وبالتاريخ، ومنه ما يتعلق بالتشريع والأخلاق، ومنه ما يتعلق بالنظم والنظريات، ومعنى هذا أنهم لم يتركوا سبيلًا إلى النيل من القرآن الكريم إلا سلكوه، ولم يجدوا وسيلة لتحقيق هدفهم إلا أخذوا بها وسعوا إليها، ونحن في هذه الفترة نعرض نماذج مختلفة ومتعددة من أقوالهم، ثم نقوم في الفصل الثالث إن شاء الله بتفنيدها واحدة واحدة.
1 ـ قالوا: إن القرآن ليس وحيًا من عند الله، ولكنه من عند محمد، فهو من نوادر الأعمال الإنسانية، وتأليف كتاب ما في نهاية البلاغة والفصاحة لا يعد معجزة (1) يقول موريس بوكاي ـ وهو يعقد موازنة بين الإنجيل والقرآن ـ: "ومرة أخرى تفرض الموضوعية أن نشير إلى ادعاء هؤلاء الذين يقولون ـ بدون أي أساس ـ إن محمدا مؤلف القرآن" (2) .
ويقول المستشرق نيكلسون: "والقارئون للقرآن من الأوروبيين لا تعوزهم الدهشة من اضطراب مؤلفه ـ وهو محمد ـ وعدم تماسكه في معالجة المعضلات، وهو نفسه لم يكن على علم بهذه المتعارضات، كما لم تكن حجر عثرة في سبيل صحابته الذين نقل إيمانهم الساذج القرآن على أنه كلام الله" (3) . وتقول الموسوعة الروسية (4) : "كتب القرآن في زمن الخليفة الثالث عثمان (644 ـ 656) ونظر إليه المسلمون نظرة تقديس، ويبدو من الدراسات التي بين أيدينا أن القرآن ظل يتحور ويتطور حتى بداية القرن الثامن، على أن تحليل مواضيع القرآن قد دلت على أن بعض أجزائه ترجع إلى زمن محمد وبعضها الآخر لا بد من إرجاعها إلى أزمان متأخرة أو متقدمة".
وهكذا لم يكتف الغزاة بنسبة القرآن إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما نسبوه إلى غيره، ممن لحقوا به أو سبقوه.
__________
(1) الباكورة الشهية في الروايات الدينية لطائفة من المبشرين والمستشرقين: ص 183؛ والإسلام في مواجهة الاستشراق العالمي: ص 511
(2) الكتب المقدسة والمعارف الحديثة: ص 105؛ وانظر: رد مفتريات على الإسلام ص 232
(3) الصوفية في الإسلام. نيكلسون: ترجمة نور الدين شريبه: ص 7 ـ 8؛ انظر: الفكر الإسلامي الحديث: ص 168 وص 177 وما بعدها
(4) الموسوعة الروسية: 28/ 964؛ انظر: كتابنا دراسات في الثقافة الإسلامية: ص 216(7/2021)
2 ـ وقالوا: إن القرآن مقتبس من التوراة والإنجيل، اقتبسه محمد، فأكثر القضايا الشرعية فيه مقتبسة من كتاب التوراة، وجميع القصص فيه ما عدا قصتي صالح وهود مقتبس من التوراة، فإذا نسخنا من القرآن كل ما هو مقتبس من التوراة من الشرائع والسير لا يبقى فيه إلا ما لا يستحق الذكر، واستشهد بعضهم على ذلك بمثل ما ورد في القرآن الكريم من قصص الأنبياء والوصايا كالتي في سورة الأنعام والتي في سورة الإسراء (1) . فمثلها موجودة في التوراة، وأكدوا ذلك بأن القرآن اعترف بهذا في قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} (2) .
ومن القائلين بذلك الخوري الحداد، وقد عرض الأستاذ محمد عزة دروزة أقواله التي منها: "إن الدعوة المحمدية كانت في العهد المكي كتابية إنجيلية توراتية مسيحية يهودية، وإن القرآن نسخة عربية من الكتب السماوية السابقة المنزلة على الأنبياء السابقين ومقتبس منها، وإنه كتاب توراتي إنجيلي يهودي نصراني في موضوعه ومصادره وقصصه وجدله ... " (3) .
ولم يكتفوا بنسبة الاقتباس هذه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل أضافوا عليها كذبًا آخر حيث نسبوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اقتباسه واتباع الهوى والنفس في النقل، يقول الدكتور البهي عنهم: "والإسلام الذي وضعه محمد تأثر فيه بالتعاليم الدينية السابقة عن تعاليم اليهودية والمسيحية، وبالأخص مسيحية الكنيسة السريانية.. ثم إن محمدًا في اقتباسه من المسيحية حرف الفهم فيما اقتبسه؛ لأنه حكم نفسه ومنزلته وقيمته الإنسانية في فهمها، فقد أنكر ألوهية المسيح متأثرًا بنفسه كإنسان، ولم يرق هو في تصور نفسه إلى منزلة عيسى حتى يتصور أنه إله كما كان عيسى" (4) .
__________
(1) آيات الأنعام: 151 ـ 153، وآيات الإسراء من الآية: 23 إلى الآية: 39
(2) سورة الشعراء: الآيتان 196 و 197
(3) القرآن والمبشرون: ص 94؛ الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص 593؛ ورد مفتريات ص 93
(4) الفكر الإسلامي الحديث: ص 168(7/2022)
3 ـ وقالوا: إن القرآن ليس معجزًا، ويمكن أن يحاكى ويؤتى بمثله؛ لأنه كلام بشر صيغ في أعلى وأرفع الأساليب العربية بلاغة وفصاحة (1) ومنهم من اعتبر الإعجاز في هذا المجال فقط ـ مجال الفصاحة والبلاغة والنظم ـ وذلك يرجع إلى عبقرية محمد لا إلى أن القرآن معجز في ذاته، يقول الخوري الحداد: "إن المسلمين يلتمسون اليوم للقرآن الشمول من كل وجه، ويحاولون أن يجدوا فيه إعجازا إلهيًّا في العقيدة، وإعجازًا إلهيًّا في الشريعة، وإعجازًا إلهيًّا في الفلسفة، وإعجازًا إلهيًّا في العلم الحديث، وفاتهم جميعًا على أن تاريخ الإسلام يجهل مثل هذا التفكير ومثل هذه المحاولات وأن القدماء إنما جمعوا على أن إعجاز القرآن هو في نظمه"، ثم قام الخوري بعد ذلك بالطعن في نظم القرآن، ونقض رأي القدماء في إعجازه ليخلص من ذلك أن القرآن ليس معجزًا (2) .
وهكذا يدعي الخوري كذبًا أن القدماء أجمعوا على أن الإعجاز القرآني في النظم فقط، ثم نقض ذلك كما أنكر ما يذكره المسلمون في الماضي والحاضر من تعدد جوانب الإعجاز في القرآن الكريم وعدم توقفها أو اقتصارها على النظم، وهو يرمي من وراء ذلك الكذب والإنكار أن ينتهي إلى أن القرآن ليس معجزًا.
4 ـ وقالوا: إن القرآن قد حرف وبدل، واستدلوا لذلك بمثل قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) .
وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (4) .
وادعوا أن جزءًا من القرآن قد ضاع من سورة الأحزاب كان مكتوبًا في ورقة فأكلها جدي، كما ذكر تيوثاوس أسماء سور لا أساس لها من كتاب الله وهي سور الخلع والحفد والنورين، وقد أخذ هذه الأسماء من أدعية قنوت (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم. (6) ..
__________
(1) الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص 10
(2) القرآن والمبشرون: ص 328
(3) سورة البقرة: الآية 106
(4) سورة النحل: الآية 101
(5) كقوله صلى الله عليه وسلم: (نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد....)
(6) رد مفتريات على الإسلام: ص 102(7/2023)
5 ـ وقالوا: إن آيات القرآن يناقض بعضها بعضًا في اللفظ أو في المعنى، وضربوا لذلك أمثلة ـ لا أساس لها من الصحة كما سيتبين بعد ـ كقوله إن الآية 15 من سورة يونس، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (1) تتناقض مع الآية 101 من سورةالنحل، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
والآية 106 من سورة البقرة: وهي قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3)
تتناقض مع الآية 27 من سورة الكهف، وهي قوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (4)
والآية 9 من سورة الحجر، وهي قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (5) تتناقض مع الآية 39 من سورة الرعد، وهي قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (6) .
وهكذا الآية 4 من سورة السجدة تتناقض مع الآية 4 من سورة المعارج والآية 1 من سورة البلد مع الآية 3 من سورة التين، والآية 44 من سورة الزمر والآية 4 من سورة السجدة مع الآية 3 من سورة يونس، والآيتان 13، 14 من سورة الواقعة تتناقضان مع الآيتين 39، 40 من سورة الواقعة، والآية 85 من سورة الحجر تتناقض مع الآية 72 من سورة التوبة، والآية 274 من سورة البقرة تتناقض مع الآية 28 من سورة التوبة، والآية 47 من سورة الأحزاب تتناقض مع الآية 65 من سورة الأنفال، والآية 20 من سورة آل عمران تتناقض مع الآية 89 من سورة النساء، إلى غير ذلك من الأمثلة (7) التي تتشابه جميعها في القيام على أساس واحد وهو الجهل وعدم المعرفة، أو العلم المكتوم بالحقد والكراهية أو هما معًا.
ومن التناقض في المعاني ما يقوله العقاد عن هؤلاء الأعداء: "قرأنا لبعضهم أخيرًا كتابًا عن الشيطان يلم فيه بصفة إبليس في الإسلام ويستغرب فيه ـ من هذا الدين ـ أن يقول عن الله إنه أمر الملائكة بالسجود لآدم ... مع أنه الدين الذي اشتهر بغاية التشدد في إنكار الشرك وتكفير كل ساجد لغير الله ... " (8) .
__________
(1) سورة يونس: الآية 15
(2) سورة النحل: الآية 101
(3) سورة البقرة: الآية 106
(4) سورة الكهف: الآية 27
(5) سورة الحجر: الآية 9
(6) سورة الرعد: الآية 39
(7) رد مفتريات على الإسلام: ص 37
(8) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: ص 276(7/2024)
6 ـ وقالوا: إن في القرآن أخطاء كثيرة، وأنه يتعارض مع العلم، واستشهدوا لذلك بأمثلة منها:
أـ ما ذكره فردريك بلس من أن القرآن الكريم لم يفرق بين مريم والدة عيسى ـ عليه السلام ـ وبين مريم ابنة أخت موسى وهارون، يقول بلس: "خاطب القرآن مريم على لسان قومها بعد أن ولدت عيسى ولم يكن لها زوج بقوله: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (1) .
ثم إنه قال: كيف تكون مريم أخت موسى التي عاشت قبل المسيح بألف وأربعمائة سنة هي أم المسيح" (2) .
ب ـ قول تيموثاوس: "جاء في القرآن في سورة الكهف عند الحديث عن ذي القرنين قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} (3) .
وعلق المجلس الملي القبطي على ذلك مستغربًا ومستنكرًا: "الشمس تغيب في بئر"!! وقال البيضاوي إن الإسكندر الأكبر رآها ورأى طينها وماءها وناسًا عرايا حولها ... " (4) .
جـ ـ ومن الأخطاء التاريخية قولهم: جاء في سورة القصص: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (5) .
وجاء في سورة غافر: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} (6) .
وهذا خطأ لأن الملك احشويروش ملك الفرس الذي جاء ذكره في سفر استير كان له وزير يهودي يسمى هامان، وعاش هذا الملك بعد فرعون بنحو ألف سنة , وهذا هو خطأ القرآن في نظرهم (7) .
__________
(1) سورة مريم: الآية 28
(2) التبشير والاستعمار: ص 41
(3) سورة الكهف: الآية 86
(4) رد مفتريات على الإسلام: ص 128
(5) سورة القصص: الآية 8
(6) سورة غافر: الآية 36
(7) رد مفتريات على الإسلام: ص 158(7/2025)
د ـ ومن الأخطاء اللغوية ـ في زعمهم ـ رفع اسم إن كقوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (1)
, ونصب الفاعل في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (2) .. ونصب المضاف إليه في قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} (3) .
إلى مثل ذلك من الأمثلة (4) التي تدل على جهل كامل باللغة العربية وأسرارها.
هـ ـ ومما زعموه من الأخطاء التشريعية: عدم اتسوية بين المرأة والرجل في الميراث وغيره، وإباحة الطلاق وتعدد الزوجات، وقطع يد السارق حيث يصبح السارق بعد قطع يده عالة على المجتمع، وتحريم المطلقة على زوجها حتى تنكح زوجًا آخر (5) .
وـ وأخطاء أخلاقية منها: إباحة الكفر عند الإكراه كقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (6) .
ز ـ ومن الأخطاء العلمية ـ في زعمهم ـ ما جاء في سورة لقمان من قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (7) .
وقال رجال المجلس الملي القبطي إن هذا يتعارض مع العلم فقد أثبت العلم أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة فكيف يقول القرآن إنها راسية وثابتة (8) .
__________
(1) سورة طه: الآية 63
(2) سورة البقرة: الآية 124
(3) سورة هود: الآية 10
(4) انظر ذلك في: رد مفتريات على الإسلام: ص 169 وما بعدها
(5) انظر ذلك في: رد مفتريات على الإسلام: ص 174
(6) سورة النحل: الآية 106
(7) سورة لقمان الآية 10
(8) رد مفتريات على الإسلام: ص 130(7/2026)
7 ـ هناك مطاعن أخرى تأخذ صفة العموم كقول دي بوي: "جاء القرآن للمسلمين بدين ولم يجئهم بنظريات (1) وتلقوا فيه أحكامًا ولم يتلقوا فيه عقائد" (2)
وما قاله مرجليوث وطه حسين عن الشعر الجاهلي ثم تطبيق ذلك على القرآن بما يبين أنه صورة للبيئة وانطباع لها أكثر من الشعر الجاهلي المنتحل.
وهكذا نجد الهجوم الصليبي اليهودي على القرآن الكريم من شتى الجوانب، في أصله ونزوله، وفي أصالته وتقليده، وفي إعجازه وإنسانيته، وفي بلاغته وفصاحته، وفي ألفاظه ومعانيه، وفي صحته وخطئه، في سلامته وتناقضه، وفي أحكامه وتشريعاته، وفي مضمونه ومحتواه، ولكنه ـ كما سنبين في الفقرات التالية إن شاء الله ـ هجوم هش ومعركة خاسرة، وسهام طائشة مردودة إلى نحور أصحابها من الغزاة الحاقدين أعداء القرآن والمسلمين.
__________
(1) يريد ـ كما يقول العلمانيون ـ أن الدين خاص بالآخرة , أما شئون الحياة والسياسة والاقتصاد والمجتمع فلها أنظمتها الخاصة التي تختلف من بيئة لأخرى ومن شخص لآخر وفق المصالح والمنافع
(2) القرآن والنبي: ص 100(7/2027)
الفصل الثالث
تفنيد المطاعن السابقة والرد عليها
في هذا الفصل نذكر المطاعن السابقة حسب ورودها في الفصل السابق لنناقش كلًّا منها ونقيم الأدلة على زيفها وبطلانها في الفقرات التالية:
أولًا ـ قولهم إن القرآن بشري من عمل محمد وليس وحيًا.
والرد على ذلك من عدة جوانب:
(أ) أن القرآن الكريم كان الدليل الذي قدمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمشركين لإثبات نبوته وصدق دعوته، فدل ذلك على أنه كلام غير عادي، وليس من عند محمد، إذ لو كان عاديًّا أو من عند محمد لما صح أن يكون دليلا لأنه لا يخرج عن كلامهم، ولا بد أن يكون الدليل شيئًا آخر، وقد أحس المشركون بذلك لولا عنادهم واستكبارهم، وفي ذلك يقول الشيخ محمودشاكر: "ولم يكن من برهانه ولا مما أمر به أن يلزمهم الحجة بالجدال حتى يؤمنوا إنما هو إله واحد، وأنه هو لله نبي، بل طالبهم بأن يؤمنوا بما دعاهم إليه، ويقروا له بصدق نبوته، بدليل واحد هو هذا الذي يتلوه عليهم من قرآن يقرؤه ولا معنى لمثل هذه المطالبة بالإقرار لمجرد التلاوة إلا أن هذا المقروء عليهم كان هو نفسه آية فيها أوضح الدليل على أنه ليس من كلامه هو , ولامن كلام بشر مثله، ثم أيضًا لا معنى لها البتة إلا أن يكون في طاقة هؤلاء السامعين أن يميزوا واضحًا بين الكلام الذي هو من نحو كلام البشر والكلام الذي ليس من نحو كلامهم".
ثم انتقل إلى قضية التنجيم (1) في نزول القرآن الكريم وابتدائه قليلًا مبتاعدًا ثم تكاثره وتتابعه ليبين أن قليله ككثيره في الدلالة على أنه موحى به، ودليل على نبوة حامله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "وكان هذا القرآن ينزل عليه منجمًا، وكان الذي نزل عليه يومئذ قليلًا كما نعلم، فكان هذا القليل من التنزيل هو برهانه الفرد على نبوته، وإذن فقليل ما أوحي إليه من الآيات يومئذ، وهو على قلته وقلة ما فيه من المعاني التي تنامت وتجمعت في القرآن جملة كما نقرؤه اليوم مُنْطَوٍ على دليل مستبين قاهر يحكم له بأنه ليس من كلام البشر، وبذلك يكون دليلًا على أن تاليه عليهم ـ وهو بشر مثلهم ـ نبي من عند الله مرسل" (2) .
وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحي إلي، فأن أرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)) (3) .
__________
(1) التنجيم أي نزول القرآن منجّمًا أي مفرقًا على دفعات على مدى ثلاثة وعشرين عامًا ما بين آيات إلى سور حتى اكتمل نزوله قبل وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقليل
(2) مقدمة الظاهرة القرآنية: ص 21
(3) صحيح مسلم بشرح النووي: 2/ 186، والسراج الوهاج: 1/ 126(7/2028)
فالقرآن هو آية الله تعالى في الأرض، آيته المعجزة من الوجه الذي كان به معجزًا للعرب ولكل البشر وللثقلين جميعًا. ومن هنا كان حقًّا على كل عاقل، وعلى كل بليغ، وعلى كل متذوق، وعلى كل فاهم أن يقر وأن يعترف حيث لا مناص له عن ذلك بأن القرآن وحي الله، وآيته لخلقه ولا دخل لأي بشرية فيه لا من محمد ولا من غيره، يقول الشيخ شاكر: "لقد فات بيان القرآن طاقة بلغاء الجاهلية وكانت له خصائص ظاهرة تجعل كل مقتدر بليغ مبين، وكل متذوق للبلاغة والبيان لا يملك إلا الإقرار له بأنه من غير جنس ما يعهده سمعه وذوقه، وأن مبلغه إلى الناس نبي مرسل، وأنه لا يطيق أن يختلقه أو يفتريه؛ لأنه بشر لا يدخل في طوقه إلا ما يدخل مثله في طوق البشر، وأنه إن تقول غير ما أمر بتبليغه وتلاوته بان للبشر كذبه، وحق عليه قول منزله من السماء سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (1) .
(ب) أو نزوله منجمًا في ثلاثة وعشرين عامًا على حسب الغايات الربانية، والأهداف التربوية على الرغم من حاجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنزوله قبل ذلك أو في وقت أسرع دليل على أنه وحي يوحى، يمضي حسب المشيئة الإلهية وليس الأهداف والرغبات الشخصية، وكم من مرة كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حاجة ماسة لنزول الوحي فيتأخر عنه، وكم من مرة نزل على غير ما يحب ويتوقع، يقول الكتور دراز: " بل كان يأتي أحيلنًا على خلاف ما يحبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويريده فيخطئه في الرأي، ويأذن له في الشيء لا يميل إليه، فإذا تلبث فيه يسيرًا تلقاه القرآن بالتعنيف الشديد، والعقاب القاسي، والنقد المر، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2) .
__________
(1) سورة الحاقة: الآيات 44 ـ 47
(2) سورة التحريم: الآيتان: 1، 2(7/2029)
وقد وضح ذلك الدليل بشيء من التفصيل الأستاذ مالك بن نبي في حديثه عن الخصائص الظاهرية للوحي وتطبيقها على القرآن ومن هذه الخصائص التنجيم فقال: "يضم الوحي في مجموعه ثلاثة وعشرين عامًا، فهو لا يكون ظاهرة مؤقتة أو خاطفة، ولقد نزلت الآيات منجمة بين كل وحي وما يليه مدة انقطاع تتفاوت طولًا وقصرًا، ولقد ينقطع الوحي مدة أطول مما ينتظره النبي وبخاصة عندما يلزمه أن يتخذ قرارًا يعتقد أن من الواجب ألا يصدره قبل تصديق السماء عليه " وأوضح مثال على ذلك موقفه إزاء قرار الهجرة، فلقد غادر أصحابه مكة فارين بدينهم بينما كان يعقد أنه لا بد فيما يتعلق بشخصه أن ينتظر أمرا صريحًا من الوحي، ومثال آخر: عندما كان الأمر بالنسبة له يحتم اتخاذ قرار في موقف محير مريب، بينما ينتظر ـ على أحر من الجمر ـ وحي الله الحاسم، ولقد تعرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمثل هذه الحيرة في حادثة الإفك (1) التي لم يفصل فيها الوحي إلا بعد شهر من الانتظار على مضض (2) .
وهكذا كان ينزل القرآن الكريم وفق المشيئة الإلهية ولتحقيق الغايات التربوية في المناسبات والنوازل بالرسول والأمة في مدى ثلاثة وعشرين عاما يعزز الجهود ويثبت الأفئدة ويواسي المصابين، ويبشر الصابرين، ويشد من أزر المجاهدين، يقول مالك بن نبي: "وكلما كان الإسلام ينتشر في رُبا الحجاز ونجد كان الوحي يتنزل بالدرس الضروري في المثابرة والصبر والإقدام والإخلاص يلقنه أولئك الأبطال الأسطوريين، أبطال الملحمة الخارقة.. ولو أن القرآن كان قد نزل جملة واحدة لتحول سريعًا إلى كلمة مقدسة خامدة، وإلى فكرة ميتة، وإلى مجرد وثيقة دينية لا مصدرًا يبعث الحياة في حضارة وليدة، فالحركة التاريخية والاجتماعية والروحية التي نهض بأعبائها الإسلام لا سر لها إلا في هذا التنجيم" (3) .
وفي هذا كله يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (4) .
__________
(1) انظر الآيات: 11 ـ 26 من سورة النور؛ وانظر: لباب النقول في أسباب النزول، وتفسير ابن عطية: 1/ 449 ـ 475، وعون الباري لحل أدلة صحيح البخاري: 4/ 220 ـ 237 وغيرها
(2) الظاهرة القرآنية: ص 220، والنبأ العظيم: ص 24
(3) الظاهرة القرآنية: ص 222
(4) سورة الفرقان: الآيتان 32، 33(7/2030)
(ج) الوحدة الكمية في القرآن الكريم؛ وهذا دليل آخر من أدلة الوحي، وذلك أنه على الرغم من نزول القرآن منجمًا كما أشرنا من قبل، إلا أن بين آياته كلها وآيات السورة الواحدة، والسورة مع السور الأخرى ترابطًا وانسجامًا لا يستطاع لعبقرية بشرية، ويعرض علينا الدكتور دراز نماذج متعددة من هذه الوحدة سواء منها القطعة الواحدة (الجملة) من القرآن مع غيرها منه، أو في السورة الواحدة مع آياتها أو في السور جميعها مع بعضها البعض، أو في القرآن كله من أوله إلى آخره، ونكتفي هنا بهذه الفقرة من كلامه في هذا المعنى يقول رحمه الله: "فإن كنت قد أعجبك من القرآن نظام تأليفه البياني في القطعة منه حيث الموضوع واحد بطبيعته، فهلم إلى النظر في السورة منه حيث الموضوعات شتى والظروف متفاوتة لترى من هذا النظام ما هو أدخل في الإعجاب والإعجاز، ألست تعلم أن ما امتاز به أسلوب القرآن من اجتناب سبل الإطالة والتزام جانب الإيجاز ـ بقدر ما يتسع له جمال اللغة قد جعله هو أكثر الكلام افتتانًا، نعني أكثره تناولًا لشؤون القول وأسرعه تنقلًا بينها من وصف إلى قصص إلى تشريع إلى جدل إلى ضروب شتى، بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون، والشأن الواحد فيه تنطوي تحته شؤون وشؤون، أو لست تعلم أن القرآن ـ في جل أمره ـ ما كان ينزل بهذه المعاني المختلفة جملة واحدة، بل كان يتنزل بها آحاد مفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة، وأن هذا الانفصال الزماني بينها والاختلاف الذاتي بين دواعيها كان بطبيعته مستتبعًا لانفصال الحديث عنها على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينها منزعًا للتواصل والترابط، ألم يكن هذان السببان قوتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام، وتقطيع أوصاله، إذا أريد نظم طائفة من تلك الأحاديث في سلك واحد تحت اسم سورة واحدة. وسبب ثالث كان أجدر أن يزيد نظم السورة تفكيكًا، ووحدتها تمزيقًا، ذلك هو الطريقة التي اتبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السور من تلك النجوم، وإنها لطريقة طريفة سنريك فيها العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني ... " (1) .
__________
(1) النبأ العظيم: ص 145، 146(7/2031)
وهكذا يقدم لنا الدكتور دراز الأسباب والأدلة التي جعلت من هذا التنجيم في نزول القرآن مع هذا التأليف والانسجام بين ما نزل أولًا وما نزل آخرًا، وما هو مكي وما هو مدني، وما هو في القصص وما هو في الأحكام، وما هو في السلم وما هو في الحرب، وما هو في الأخلاق والشؤون الاجتماعية وما هو في المعاملات والشؤون المالية، نسيجًا مختلفًا عن تأليف البشر ونظامًا لا ترقى إليه عبقرية ولا تطيقه أية قوة غير إلهية، ومن هذا يثبت أن القرآن ليس بشريًّا وإنما هو وحي الله العظيم.
وفي توضيح هذا المعنى أيضا يقول الأستاذ مالك بن نبي: "الوحي ظاهرة منجمة فهو في أساسه متفاصل شأن مجموعة عددية، أي أنه متكون من وحدات متتالية هي الآيات، وهذه الخاصة توحي إلينا بفكرة الوحدة الكمية، فكل وحي مستقل يضم وحدة جديدة إلى المجموعة القرآنية، بيد أن هذه الوحدة القرآنية ليست ثابتة، فهي لا تماثل الوحدة التي تزيد في مجموعة الأعداد حين يضاف واحد إلى ثلاثة أو أربعة أو خمسة ليؤيد إلى الوحدة العددية التالية، فإن للوحي مقياسًا متغيرًا هو كميته أو سعته، تلك السعة التي تتراوح بين حد أدنى هو الآية وحد أقصى هو السورة"، ثم يمضي في تفسير هذا المعنى ببيان صلته بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لينتهي من ذلك إلى نفي أي تأثير بشري في هذا الوحي، وتأكيد خلوصيته وتمام نسبته إلى الوحي الإلهي فيقول: "وتأمل هذه الوحدة يتيح لنا بعض الملاحظات المفيدة عن العلاقة بين الذات المحمدية والظاهرة القرآنية، إذ هي تتناسب في الزمن مع الحالة الخاصة التي سميناها (حالة التلقي) عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولقد رأينا ـ بصفة خاصة ـ أن إرادته تنعدم مؤقتًا؛ إذ هو عاجز في تلك اللحظات عن أن يغطي وجهه المحتقن المتفصد عرقًا، فعن هذه الذات العاجزة فجأة ـ وللحظات ـ تصدر وحدة التنزيل، على هذه الذات الغارقة في حالة لا شعورية تقريبًا يطبع الحي فجأة فقراته الوجيزة.. ههذ الوحدة تؤدي بالضرورة فكرة واحدة، وأحيانًا مجموعة من الفكر المنتظمة في أسلوب منطقي يمكننا ملاحظته في آيات القرآن، ودراسة هذه الفكر في ذاتها وفي علاقاتها ببقية حلقات السلسلة تكشف عن قدرة خالقه ومنظمة لا يمكن أن تنطوي عليها الذات المحمدية في تلك الظروف النفسية الخاصة بحالة تلقيها الوحي بل حتى في ظروفها الطبيعية ... " (1) .
__________
(1) الظاهرة القرآنية باختصار: ص 223(7/2032)
ويؤكد الدكتور دراز هذا المعنى بالنظر في أي آية من آيات القرآن أو سورة من سوره فيقول: "اعمد إلى سورة من تلك السورة التي تتناول أكثر من معنى واحد، وما أكثرها في القرآن فهي جمهرته، وتنقل بفكرتك معها مرحلة مرحلة، ثم ارجع البصر كرتين: كيف بدئت وكيف ختمت؟ وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت؟ وكيف تلاقت أركانها، وتعانقت؟ وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها ووطأت أولاها لآخرها؟ وأنا لك زعيم بأنك لن تجد البتة في نظام معانيها أو مبانيها ما تعرف به سواء أكانت هذه السورة قد نزلت في نجم واحد أم في نجوم شتى ... " (1) .
ثم يتعجب ويستنكر كيف يوجد بعد هذا النظام البديع والترتيب المعجز من يقول إنه بشري؟ وكيف يكون عاقلًا أو فاهمًا بعد اطلاعه على هذا النسيج العجيب من يقول إنه إنساني؟ ومتى وأين وجدنا إنسانًا لديه مثل هذه القدرة على هذا العمل العظيم؟ حاشا لله أن يكون من عند غير الله. يقول: "أي تدبير محكم، وأي تقدير مبرم، وأي علم محيط لا يضل ولا ينسى ولا يتردد ولا يتمكث كان قد أعد لهذه المواد المبعثرة نظامها وهداها في إبان تشتيتها إلى ما قدره لها حتى صيغ منها ذلك العقد النظيم، وسرى بينها هذا المزاج العجيب؟ سبحان الله! هل يمتري عاقل في أن هذا العلم البشري، وأن هذا الرأي الأنف (2) البدائي الذي يقول في الشيء: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لقلت أو فعلت أو قدمت أو أخرت، لم يك أهلًا لأن يتقدم الزمان ويسبق الحوادث بعجيب هذا التدبير، أليس ذلك وحده آية بينة على أن هذا النظم القرآن ليس من وضع بشر، وإنما هو صنع العليم الخبير؟ بلى" (3) .
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (4) .
__________
(1) النبأ العظيم: ص 154
(2) أنف كل شيء أوله أي أن هذا الرأي مغرق في البدائية والجهل
(3) النبأ العظيم: ص 157
(4) سورة النساء: الآية 82(7/2033)
أما الأستاذ مالك بن نبي فيسوق أمثلة لهذه الوحدة الكمية منها الوحدة التشريعية في سورة النساء، والوحدة التاريخية في سورة المنفافقون.
(د) ومن الأدلة أن القرآن وحي إلهي لا صنع بشري ولا عمل محمدي أسلوب القرآن وصوره الأدبية العالية، ذلك الأسلوب القرآني الفريد المتميز الذي فاق جميع الأساليب العربية المعروفة وغير المعروفة إبان نزوله مما جعل أصحاب البلاغة وأساطين الفصاحة يتحيرون معه فلا هو شعر مثل أشعارهم ولا رجز ولا سجع ولا نثر، إنه ذلك كله وأعظم من كل ذلك، ذلك الأسلوب الذي استحوذ على إعجاب الماضين والحاضرين، وكل من يسمعه رغم التقدم العلمي الكبير الذي لم يعد يحفل بالصور والأساليب الأدبية والتعبير البياني، يقول الدكتور دراز: "أما الأسلوب القرآني فإنه يحمل طابعًا لا يلتبس معه بغيره، ولا يجعل طامعًا يطمع أن يحوم حول حماه، بل يدع الأعناق تشرئب إليه ثم يردها ناكسة الأذقان على الصدور، كل من يرى بعينين أو يسمع بأذنين إذا وضع القرآن بإزاء غير القرآن في كفتي ميزان ثم نظر بإحدى عينيه، أو سمعه بإحدى أذنيه إلى أسلوب القرآن، وبالأخرى إلى أسلوب الحديث النبوي (1) وأساليب سائر الناس، وكان قد رزق حظًّا ما من الحاسة البيانية والذوق اللغوي فإنه لا محالة سيؤمن معنا بهذه الحقيقة الجلية وهي أن أسلوب القرآن لا يدانيه شيء من هذه الأساليب كلها، ونحسب أنه بعد الإيمان بهذه الحقيقة لن يسعه إلا الإيمان بتاليتها استدلالًا بصنعة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} على صانع {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) .
وهكذا يؤكد أسلوب القرآن الفريد وتميزه العجيب وتفوقه على كل الأساليب أنه صنع الله ووحيه، وليس للصنعة البشرية أي موضع فيه، يقول الأستاذ مالك بن نبي: "إن القرآن يؤكد صراحة سمو بيانه الذي أعجز به العبقرية الأدبية في عصره حين قذف في وجوه معاصريه بهذا التحدي المذهل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) ولم يذكر التاريخ أن أحدًا قد أجاب على هذا التحدي، وبهذا يمكن أن نستخلص أنه قد ظل دون تعقيب، وأن إعجازه الأدبي قد أفحم عبقرية ذلك العصر" (4) .
ليس ذلك العصر فحسب بل جميع العصور وكل العبقريات والإنس والجن إلى يوم القيامة.
__________
(1) رغم أن صاحبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أوتي جوامع الكلم
(2) سورة الشورى: الآية 11؛ والنبأ العظيم: ص 100
(3) سورة البقرة: الآية 23
(4) الظاهرة القرآنية: ص 232(7/2034)
(هـ) ودليل آخر على أن القرآن وحي الله لا عمل محمد وذلك هو مضمون الرسالة الذي احتواه القرآن الكريم في وضوح وشمول وإيجاز وإطناب وإجمال وتفصيل، ذلك الشمول التام لمفردات الإسلام وكلياته من عقائد وعبادات وتشريع وأخلاق ومعاملات وقصص وحكم وأمثال وحلال وحرام وترغيب وترهيب وعلوم وتاريخ وأخبار ماضية وحاضرة ومستقبلة، هذا كله وغيره لم يكن لنا أن نعرفه لولا حديث القرآن الكريم عنه ذلك الحديث القديم الجديد الذي لا يشبع منه العلماء ولا تنقضي عجائبه، يقول الأستاذ مالك بن نبي: "إن رحابة الموضوعات القرآنية وتنوعها لَشيء فريد طبقًا لتعبير القرآن نفسه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) .
فهو يبدأ حديثه من ذرة الوجود المستودعة باطن الصخر والمستقرة في أعماق البحار ـ كقوله تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (2) إلى النجم الذي يسبح في فلكه نحو مستقره المعلوم كقوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (3) .
وهو يتقصى أبعد الجوانب المظلمة في القلب الإنساني فيتغلغل في نفس المؤمن والكافر بنظرة تلمس أدق الانفعالات في هذه النفس وهو يتجه نحو ماضي الإنسانية البعيد، ونحو مستقبلها، كما يعلمها واجبات الحياة، وهو يرسم لوحة أخاذة لمشهد الحضارات المتتابع ثم يدعونا إلى أن نتأمله من عواقبه عظة واعتبارًا، وإن درسه الأخلاقي لهو ثمرة نظرة نفسية متعمقة في الطبيعة البشرية تصف لنا النقائص التي ينهى عنها وينفر منها، والفضائل التي يدعو إلى التأسي بها من خلال حياة الأنبياء، أولئك الأبطال والشهداء في سجل ملحمة السماء، وعلى هذا الأساس يدفع القرآن المؤمن إلى الندم الصادق حين يعده بالغفران، أساس التربية الجزائية في الأديان السماوية ... " (4) .
__________
(1) سورة الأنعام: الآية 38
(2) سورة لقمان: الآية 16
(3) سورة يس: الآية 40
(4) الظاهرة القرآنية باختصار: ص 237(7/2035)
(و) ودليل آخر على أن القرآن وحي من الله تعالى لا صنعة لأحد فيه ذلك الأثر البالغ والتأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم في قلوب كل من يقرأه أو يستمع إليه، والشواهد على ذلك كثيرة في الماضي والحاضر مما يؤكد أن القرآن الكريم كان وما يزال وسيظل وراء إسلام الآلاف والملايين، ولولا العناد والاستكبار لآمن به كل من سمعه ونَقَدَ ما يدعو إليه. لقد بكى النجاشي حين استمع إليه من جعفر بن أبي طالب في أعقاب الهجرة إلى الحبشة، وقال قولته المشهورة: "إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مكشاة واحدة"، وكان سببًا في إسلامه فور وصول كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه (1) .
ولما قرأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعضه على الوليد بن المغيرة ـ وهو الذي جاء لإغراء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببعض المغريات لعله يرجع عن دعوته ـ ارتد إلى قومه وهو يقول: "والله لقد سمعت كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه" وقال عتبة بن ربيعة لقومه بعد أن استمع من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجزء من سورة فصلت: "يا قوم أطيعوني في هذا الأمر اليوم، واعصوني فيما بعد، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلامًا ما سمعت أذناي كلامًا مثله، وما دريت ما أرد عليه" (2) .
وقال توماس كارليل في كتابه "الأبطال" عن القرآن: "هذا صدى متفجر من قلب الكون نفسه".
يقول مالك بن نبي في تعليقه على ذلك: "وفي هذه الصرخة الفلسفية نجد أكثر من فكرة جافة لمؤرخ، نجد بعض ما يشبه الاعتراف التلقائي لضمير إنساني سامٍ بُهِتَ أمام عظمة الظاهرة القرآنية، وإن العقل الإنساني ليقف فعلًا حائرًا أمام رحابة القرآن وعمقه ... " ويضيف: "إنه لو أتيح لأحد من الناس أن يقرأ القرآن قراءة واعية يدرك خلالها رحابة موضوعه، فلن يمكنه أن يتصور الذات المحمدية إلا مجرد واسطة لعلم غيبي مطلق" (3) .
وهكذا يكون تأثير القرآن الكريم باعتراف الأعداء دليلًا على أنه وحي وأنه غير بشري.
__________
(1) خاتم النبيين: 1/ 496
(2) خاتم النبيين: 1/ 470
(3) الظاهرة القرآنية: ص 238(7/2036)
(ز) التحدي القائم إلى يوم القيالمة: فنحن نعلم أن الله تعالى تحدى العرب أن يأتوا بمثل القرآن - إن كان بشريًّا أو كان محمد كاذبًا - فعجزوا، فسهل عليهم الأمر وتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، فسهل عليه الأمر أكثر وتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فعجزوا، فثبت من ذلك أنه ليس من كلام البشر وإلا لاستطاعوا إليه سبيلًا لتوفر كل الأسباب الداعية إلى ذلك عندهم. فعجزهم هذا المطبق دليل على أنه وحي يوحى. يقول الشيخ شاكر: "ظل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة ثلاثة عشر عامًا، والمسلمون قليل مستضعفون في أرض مكة، وظل الوحي يتتابع وهو يتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ثم بعشر سور مثله مفتريات، فلما انقطعت قواهم، قطع الله عليهم وعلى الثقلين جميعًا منافذ اللدود والعناد فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (1) .
وكذلك كان، فكان هذا البلاغ القاطع الذي لا معقب له هو الغاية التي انتهى إليها أمر هذا القرآن، وأمر النزاع فيه، لا بين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين قومه من العرب فحسب، بل بينه وبين البشر جميعًا على اختلاف ألسنتهم وألوانهم , لا بل بينه وبين الإنس والجن مجتمعين متظاهرين، وهذا البلاغ الحق الذي لا معقب له من بين يديه ولا من خلفه هو الذي اصطلحنا عليه فيما بعد وسميناه "إعجاز القرآن" (2) .
وإعجاز القرآن هذا هو دليل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صدق نبوته، وعلى أنه رسول من الله يوحى إليه هذا القرآن، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعرف إعجاز القرآن من الوجه الذي عرفه منه سائر من آمن به قومه العرب.." إلى أن يقول: "فالقرآن المعجز هو البرهان القاطع على صحة النبوة، وأما النبوة فليست برهانًا على إعجاز القرآن" (3) .
__________
(1) سورة الإسراء: الآية 88
(2) مقدمة الظاهرة القرآنية: ص 24؛ وانظر أيضًا النبأ العظيم: ص 44 ـ 88
(3) مقدمة الظاهرة القرآنية: ص 17 ـ 18 باختصار(7/2037)
(ح) ومن الأدلة على أن القرآن وحي إلهي لا عمل بشري أنه صحح العقائد الإلهية؛ فقد كانت العقيدة في الله قبل القرآن الكريم يشوبها الكثير من الشرك والانحراف عن التوحيد حتى جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقرآن من عند الله، فأبطل الباطل وأتم الناقص، وأقام المعوج حتى استقامت عقيدة التوحيد كما لم تكن من قبل , وذلك دليل على أن القرآن وحي من عند الله، فلم يكن لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا لغيره لولا الوحي الإلهي أن يقوم بذلك، يقول الأستاذ العقاد رحمه الله: " فالله رب العالمين، مالك يوم الدين، لم يكن نسخة محرفة من صورة الله في عقيدة من العقائد الكتابية، بل كان هو الأصل الذي يثوب إليه من ينحرف عن العقيدة في الإله كأكمل ما كانت عليه وكأكمل ما ينبغي أن يكون، ومن ثم كانت هذه العقيدة الإلهية في الإسلام مصححة متممة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات، أو في مذاهب الفلسفة، ومباحث الربوبية، فهي عقيدة كاملة صححت وتممت عقيدة في الهند في: الكارما والنرفانا (1) لأنها عقيدة في خواء أو فناء مسلوب الذات لا تجاوب بينه وبين أبناء الحياة، وهي عقيدة كاملة صححت وتمممت عقيدة المعلم الأول أرسطو بين فلاسفة الغرب الأقدمين؛ لأنه كان على خطأ في فهم التجريد والتنزيه، ساقه هذا الخطأ إلى القول بكمال مطلق كالعدم المطلق في التجرد من العمل والتجرد من الإرداة، والتجرد من الروح، ودين يصحح العقائد الإلهية ويتممها فيما سبقه من ديانات الأمم وحضارتها ومذاهب فلاسفتها , تراه من أين أتى؟ ومن أي رسول الله مبعثه ومدعاه؟ من صحراء العرب، ومن الرسول الأمي بين الرسل المبعوثين بالكتب والعبادات، إن لم يكن هذا وحيًا من الله فكيف يكون الوحي من الله؟ ليكن كيف كان في أخلاد المؤمنين بالوحي الإلهي حيث كان، فما يهتدي رجل أمي في أكناف الصحراء إلى إيمان بالله أكمل من كل إيمان تقدم إلا أن يكون ذلك وحيًا من الله، وإنه لحجر على البصائر والعقول أن تنكر الوحي على هذه المعجزة العليا؛ لأنه لا يصدق عليها في صورة من صور الحدس والخيال" (2) .
__________
(1) صورتان من صورة التنزيه للإله عند الهنود القدماء، وهما بالمعاني الذهنية اشبه منهما بالكائنات الحية، وإحداهما ـ وهي النرفانا ـ إلى الفناء أقرب منها إلى البقاء، وانظر حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: ص 44
(2) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: ص 54 ـ 55(7/2038)
إذن تصحيح العقيدة في الله بهذا الشكل التوحيدي النقي الذي صحح أعوجاج العقائد السابقة وأتم نقصانها لا يستطيعه شخص أمي من بيئة صحراوية، ولا عبقري من بيئة حضارية، فلم يكن لهذا ولا ذاك أن يصل إلى هذا الكمال الذي لم يعرف إلا من القرآن إلا عن طريق الوحي الإلهي، فتحصّل من ذلك القرآن الذي صحح هذه العقائد الإلهية لا بد أن يكون وحيًا ويستحيل أن يكون غير ذلك، فالذي جاء به لم يسبق إليه، ولن يلحق فيه، ويضيف الدكتور دراز أن الإسلام والقرآن لم يصححا عقيدة التوحيد فحسب، بل إنه "يشرح حدود الإيمان مفصلة، ويصف لنا بدء الخلق ونهايته، ويصف الجنة وأنواع نعيمها، والنار وألوان عذابها كأنهما رأي عين، حتى إنه ليحصي عدة الأبواب وعدة الملائكة الموكلة بتلك الأبواب.. ثم يخبر عن مستقبل الإسلام في نفسه، وفي شخص كتابه ونبيه، وعن مستقبل حزب الله وحزب الشيطان ... " (1) .
(ط) أمية النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا دليل آخر على القضية التي ننحن بصددها وهي إثبات أن القرآن وحي إلهي لا عمل بشري محمدي. فقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشهادة الجميع أميًّا لا يقرأ ولا يكتب فكيف لأمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة أن يؤلف مثل هذا الصرح العظيم بل أقل منه ملايين الدرجات، هذا فضلًا عما تضمنه القرآن الكريم من تاريخ الماضي السحيق الذي لا يعرفه العلماء المتخصصون، فكيف بالأميين، وكذلك الإخبار عن المستقبل والعلماء لم يستوعبوا الحاضر بعد، وما اشتمل عليه القرآن من حقائق علمية لم يعرفها المتخصصون منذ بضع سنوات وما زال بعضها غير معروف، فكيف بأمي في أمة أمية يعرف ذلك لو لم يكن وحيًا، والمتتبع لمؤتمرات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم يعرف الكثير من ذلك الذي اشار القرآن الكريم إليه منذ نزوله ولم يعرفه العلماء إلا هذه الأيام، وقد اندهش الكثيرون منهم لما وجدوا ذلك في القرآن وآمن بعضهم ولولا الكبر والعناد لآمن الآخرون. وهذا بالإضافة إلى ما في القرآن الكريم من الأحكام التشريعية العظيمة والأخلاق الفاضلة الكريمة، من كل ما يحفظ للإنسانية أمنها وسلامتها وسعادتها، فكيف بمحمد الأمي يعرف كل ذلك لو لم يكن القرآن الكريم وحيًا إلهيًا؟
__________
(1) انظر: النبأ العظيم: ص 40، 42(7/2039)
يقول الدكتور دراز: "فلينظر العاقل: هل كان هذا لنبي الأمي ـ صلوات الله عليه ـ أهلًا بمقتضى وسائله العلمية لأن تجيش نفسه بتلك المعاني القرآنية؟ سيقول الجهلاء من الملحدين: نعم، فقد كان له من ذكائه الفطري، وبصيرته النافذة ما يؤهله لإدراك الحق والباطل من الآراء، والحسن والقبيح من الأخلاق، والخير والشر من الأفعال، حتى لو أن شيئًا في السماء تُناوله الفراسة أو تلهمه الفطرة، أو توحي به الفكرة لتناوله محمد بفطرته السليمة وعقله الكامل، وتأملاته الصادقة ,ونحن قد نؤمن بأكثر مما وصفوا من شمائله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكننا نسأله: هل كل ما في القرآن مما يستنبطه العقل والتفكير، ومما يدركه الوجدان والشعور؟ اللهم كلا، ففي القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتية التي لا مجال فيها للذكاء والاستنباط، ولا سبيل إلى علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة والتلقي والتعلم" (1) .
وفي ذلك كله يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) .
ويقول سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (3) .
ويقول عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (4) .
ويقول تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (5) .
ويقول الشاعر: كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
__________
(1) النبأ العظيم: ص 36
(2) سورة الشورى: الآية 52
(3) سورة العنبكوت: الآية 48
(4) سورة الجمعة: الآية 2
(5) سورة الأعراف: الآية 158(7/2040)
(ي) أضاف الأستاذ مالك بن نبي كثيرًا من الأمور التي تدل كل منها ـ فضلًا عن جميعها ـ تدل على أن القرآن وحي من عند الله تعالى وليس بشريًّا من عمل محمد منها: إرهاص القرآن: أي أخباره عن بعض أحوال المستقبل فجاءت فيما بعد كما أخبر القرآن كقوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (1) .
والقرآن لم يكن ثقيلًا في بداية نزوله ونجومه ولكن أصبح كذلك بعد اكتماله ووفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو ثقل الفكرة الدينية والإيمان وليس مجرد القرآن , فقد حفظه الله تعالى ويسره للذكر، ومنها تصدير أو ختم بعض الموضوعات والقصص القرآنية بالإشارة إلى أن ما قصصناه عليك من أنباء الغيب كقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (2) في صدر قصة يوسف , وقوله في نهايتها: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (3) .
ومثل ذلك في قصة مريم (4) , وفي قصة نوح (5) وهكذا.
ومن ذلك: فواتح بعض السور ببعض الحروف المقطعة التي لا مجال للعقل فيها (6) .
ومنها: المناقضات التي كانت تقع بين الميول والاتجاهات الطبيعية لدى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين ما يعتريه خلال تلقيه الوحي، فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (7) .
حيث صادرت الآية الكريمة إرادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الترديد والحفظ أثناء عملية الوحي ووعدته في آية أخرى بالحفظ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (8) .
وبالإضافة إلى هذه المناقضات كانت هناك الموافقات العدة مع البحوث العلمية الحديثة كقوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} (9) .
هذا التوافق الذي يخص شكل الأرض ودحو قطبيها، تلك الخاصة المساحية التي أثبتها العلم الحديث عمومًا، ويضاف إلى ذلك المجاز القرآني والقيم الاجتماعية التي جاء فيها القرآن بما لا يحصى (10) .
__________
(1) سورة المزمل: الآية 5
(2) سورة يوسف: الآية 3
(3) سورة يوسف الآية: 102
(4) سورة آل عمران: الآية 44
(5) سورة هود: الآية 49
(6) كأوائل السور: البقرة، آل عمران، الأعراف، يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، مريم، الطواسين، الحواميم، ق، ن
(7) سورة طه: الآية 11
(8) سورة القيامة: الآيات 16 ـ 19
(9) سورة الأنبياء: الآية 44
(10) بتصرف من الظاهرة القرآنية: ص 325 ـ 360(7/2041)
(ك) بقيت قضية أخرى تتعلق بادعاء "بشرية القرآن" وذلك بتفسير هذه البشرية من الجانب النفسي وهو "اللاشعور" وقد حلل الأستاذ مالك بن نبي هذه المقولة وأبطلها أولًا لغموضها , وثانيًا لأنها في أولها , فاللاشعور مهما اختلف عن الشعور فهو لا يخرج عن كونه نشاطًا إنسانيًّا نفسيًّا، ولا علاقة له بالوحي، يقول: "لعبت كلمة لا شعور دورًا نظريًّا هامًّا في تفسير الظاهرة القرآنية، فإذا أردنا أن نفهم معنى هذا المصطلح في نظريات علم النفس وجدناه في منتهى الغموض، فهو لا يعني شيئًا محددًا كما تعني مثلًا المصطلحات المعروفة كالتذكر والإرادة، إن نظرية "اللاشعور" ما تزال في مرحلة نشوئها ومع ذلك فقد استخدموها لكي يفسروا لنا ـ كما يدعون ـ الظاهرة القرآنية بطريقة موضوعية، ومن الصعب علينا أن نعتقد أن هؤلاء المؤلفين قد بذلوا أقل الجهد لكي يتفهموا الموضوع، فمما لا شك فيه أن الذات الإنسانية تحتوي على مجال معين تتكون فيه الظواهر النفسية الغامضة التي لا تخضع لسلطان الشعور كالأحلام مثلًا، فهذا المجال المظلم الذي تدوي فيه بعض طوارئ الحياة النفسية الشعورية في الفرد ذو علاقة واضحة بالحالات الشعورية، فلو أردنا لأطلقنا لفظ "لا شعور" على هذا المجال المظلم، وجميع العمليات التي تتم فيه أشكال محورة خاصة لفكرة أو واقع مر الشعور، فيمتص اللاشعور هذه العناصر الشعورية ويودعها مخيلته لكي يقلبها غالبًا إلى رموز، إلى أحلام، إلى حديث نفسي، إلى إلهام، ولكن هذه الرموز تحتفظ بمعالم الفكرة أو الواقع الذي تولدت عنه، لا شك أن هذه العلاقة تتفاوت في غموضها، ولكن التحليل قد يكشف عنها، إذ من الممكن أن نجد في حلم أو كابوس الطريقة التي اتبعها "اللاشعور" في صياغة رمزه بالرجوع إلى حادث سابق تسبب فيه، فهو حساسية خاطفة، أو تذكار قاس، أو هو راجع إلى يسر الهضم أو عسره.. إلخ، فاللاشعور يعمل هنا عمل المستقبل الكهربي بالنسبة للمولد الكهربي الذي هو الشعور، وعليه ففي هذا المجال الأخير يجب أن نلتمس دائمًا مصدر العمليات النفسية التي يصفونها باللاشعورية، وعندما يتضح أن فكرة ما لا تخضع مطلقًا للذات الشعورية فمن الممكن أن نفهم من هذا أنها بالضرورة أجنبية عن هذه الذات، وأنه لا محل لها في اللاشعور"" (1) .
وهكذا يثبت الأستاذ مالك بن نبي أمرين: أولهما أن اللاشعور في الإنسان غير مستقل عن الشعور، ولكنه ترجمة محورة له ورموزه معبرة عنه فهو بهذا عملية نفسية إنسانية، وثانيهما: أن اللاشعور إذا جاء بشيء مستقل عن الشعور ولا علاقة له به كان ذلك خضوعًا وفي المستقبل فهو ليس من اللاشعور النبوي بل هو بالضرورة أجنبي عن هذه الذات، ولا مجال لذلك إلا أن يكون القرآن وحيًا وهو المطلوب.
__________
(1) الظاهرة القرآنية: ص 214 ـ 215(7/2042)
(ل) دليل السيرة النبوية: فقد عرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين قومه على مدى أربعين سنة قبل الوحي بالصادق الأمين، وأصبح ذلك علمًا عليه، فإذا أطلق انصرف إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم تمنع العداوة التي كانت عند المشركين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعوته، أن يستمروا على ما عرفوه ويشهدوا به في كل مكان كما حدث من أبي سفيان عند هرقل ملك الروم (1) , فمن غير المعقول بعد هذا الرصيد الطويل وهذه الشهادة العامة أن يكذب محمد في نسبة القرآن إلى الله (2) .
وصدق الله العظيم: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (3) .
وكان الواجب عليهم بعد هذا الإقرار النبوي أن يأخذوا منه الدليل على صدقه في نسبة القرآن إلى الله، لا تكذيبه والشك فيه.
__________
(1) رواه الشيخان: انظر الحديث بتفاصيله في عون الباري لحل أدلة صحيح البخاري: 1/ 77 ـ 112
(2) النبأ العظيم: ص 23
(3) سورة يونس: الآية 16(7/2043)
(م) دليل العقل والمنطق: ومؤداه أن العقل والمنطق يقضي بأن ينسب محمد القرآن إلى نفسه لو كان من عنده ليكسب من وراء ذلك التفوق على أقرانه بهذا البيان العظيم البلاغة الفائقة، كما يفعل بعض الأدباء والعلماء الذين يسطون على أعمال غيرهم ليحققوا من وراء ذلك شهرة ومكانة، ولكن محمدًا لم يفعل ذلك، بل نسب القرآن ـ على حقيقته ـ إلى الله لأنه ليس فيه حول ولا طول، فإذا قيل: إنما فعل ذلك ليحقق منزلة أعظم ومكانة أكبر واستجابة أعم، أجيب بأن ذلك غير صحيح، وإلا لنسب كل أقواله ـ كالسنة النبوية ـ إلى الله، فإذا لم يفعل دل ذلك على أن لله قولًا موحى به هو القرآن الكريم، وللنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولًا آخر وهو السنة النبوية المطهرة (1) .
(ن) وأخيرًا يقدم لنا الدكتور البهي دليلًا حاسمًا في هذه القضية يسأل فيه المنكرين إن كانوا يؤمنون بوحي سابق نزل على موسى وعيسى وغيرهما أو لا يؤمنون، فإن كانوا يؤمنون فالقضية واحدة ولا بد لهم أن يسلموا إما بالجميع أو بإنكار الوحي عمومًا، أما أن يؤمنوا به في جهة وينكرونه في جهة أخرى فهذا لا يقبله العلم ولا المنطق والموضوعية، وإن كانوا ينكرون الوحي بعامة فلن يجدي معهم أي دليل. يقول: "لو واجهنا بالقرآن غير المسلم من متعصبي أهل الكتاب، فإنه ـ القرآن ـ لا يكون له دليل هداية واقناع على أن القرآن وحي من الله، وإنما الذي يجب أن يسلك معه مطالبته بتحديد موقفه من الوحي كقضية عامة للديانات الثلاث، وليست قضية الإسلام وحده , فما يقوله الغرب المسيحي باسم العلم تأييدًا لوحي عيسى أو موسى يصح أن يقال تأييدًا لوحي محمد، فإذا كان الوحي كأمر غير عادي يخضع للطريقة العلمية الحديثة، أو لا بد أن يقف عند حد اعتقاد المؤمنين به في كل دين فكل أنواع الوحي سواء في هذا أو ذاك، أما الأمر الذي يجب أن ينكره البحث العلمي ـ بهذا التحديد ـ فهو أن يناقش نوع من الوحي ويتشكك فيه باسم العلم، ثم يصان نوع آخر منه على أنه بديهي التسليم، وبعيد عن مجال الجدل العقلي والنظري أو العلمي التجريبي" (2) .
__________
(1) النبأ العظيم: ص 22
(2) الفكر الإسلامي الحديث: ص 194(7/2044)
وبعد، فقد ثبت لنا بالعديد من الأدلة القطعية التي قدمناها في هذه الفقرة سواء منها ما يتصل بذات القرآن الكريم من حيث لفظه ونظمه وأسلوبه وبلاغته ونزوله وترتيبه، ومن حيث مضمونه وما احتواه من عقائد صحيحة وأحكام مناسبة ومعاملات سليمة وأخلاق فاضلة، ومن حيث أخباره الماضية العتيقة والمستقبلة البعيدة وأسراره التي لم تحل وغيبياته التي لم تكشف , أو ما يتصل بذات الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث أميته وسيرته وحالته في التلقي، وحرصه على الحفظ وانتظاره قبل اتخاذ القرار وبعده عن الشعور واللاشعور، كما رأينا أن العقل والمنطق والعلم والموضوعية كلها تشهد بأن القرآن الكريم وحي إلهي عظيم، فلا مجال بعد ذلك كله إلا الاعتراف والتسليم لأي باحث متدبر وعالم عاقل، وسيبقى القرآن الكريم عزيزًا يغلب كل مغالب، ويعلو على كل شاعر وكاتب، وستنقضي الأحقاب والأجيال قبل أن تنقضي عجائبه وقبل أن يحيط الناس بكل ما فيه: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} (1) .
أما من ينكر بعد كل ذلك فهو إما ممن غرق في حمأة العناد ممن يقولون: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (2) .
أو ممن لا يجدون طمأنيتهم إلا في اضطراب الشك يقولون: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (3) .
وهؤلاء وأولئك لا سبيل لنا عليهم ولا ينفعهم نصحنا إن كان الله يريد أن يغويهم، إذ ليس من شأننا أن نسمع الصم أو نهدي العمي، ولا الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم فإذا هم لا يسمعون، أو يضعون أكفهم على أعينهم فإذا الشمس الطالعة ليست بطالعة: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (4) .
وإنما سبيلنا أن ننصب الحجة لجاهلها من طلاب الحق ونوضح الطريق لسابلها من وراء اليقين (5) , ولعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات، وفي أساليب تربيته معجزات، وفي نبوءاته الصادقة معجزات، وفي تشريعاته الخالدة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات ومعجزات، لعمري إنه في ترتيب آية على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات. (6)
__________
(1) سورة الأعراف: الآية 53
(2) سورة الأعراف: الآية 132
(3) سورة الجاثية: الآية 32
(4) سورة المائدة: الآية 41
(5) النبأ العظيم: ص 78
(6) النبأ العظيم: ص 211(7/2045)
ثانيًا ـ قولهم: إن معظم القرآن مقتبس من التوراة والإنجيل، فإذا نسخنا منه ما هو مقتبس منهما لم يبق منه ما يستحق الذكر (1)
وهذه دعوى باطلة وغاية في السخف والنكارة والرد عليها من عدة وجوه:
(أ) فالقرآن الكريم لا يشبه التوراة ولا الإنجيل في اللفظ أو الأسلوب أو النظم، فالقرآن كما رأينا في الفقرات السابقة في قمة البلاغة والفصاحة والبيان والإعجاز، أما التوراة والإنجيل ـ بعد تحريفهما ـ ليس في أي منهما شيء من البلاغة ولا الفصاحة ولا البيان، بل إنهما عند الاطلاع على أي منهما يتبين أنهما يقعان في أدنى درجات التعبير والبيان، وفيهما الكثير من الركاكة والألفاظ السوقية حتى ليقلان في أحيان كثيرة عن مستويات التعبير العادية والصحفية.
(ب) أن القرآن الكريم في موضوعاته ومعانيه وما يقدمه من عقائد وعبادات وحلال وحرام وأخلاق ومعاملات يختلف كثيرًا جدًّا عما في التوراة والإنجيل وبخاصة بعد تحريفهما، بل إن فيهما الكثير مما يرفضه القرآن الكريم كما ترفضه العقول السليمة والفطرة الصحيحة، وإذا كان بينهما بعض التشابه في بعض الوصايا والأحكام وأصول العقيدة والشريعة ومكارم الأخلاق، فهذا أمر طبيعي ولازم بين كل الرسالات والكتب السماوية، بل وفي كل المجتمعات المتحضرة؛ لأن المصدر لهذا كله واحد وهو الله تعالى الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب وأودع في كل نفس فطرتها الصحيحة؛ ولأنها جميعًا تهدف إلى غايات واحدة وهي: إصلاح الناس وإسعادهم في الدنيا والآخرة، ولذلك قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (2) .
فهذا في الأصول، وأما الفروع فإنها مختلفة غالبًا لاختلاف الأحوال والبيئات , ولذلك قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} . (3) .
__________
(1) انظر في هذه الدعوى: إسلام في مواجهة الاستشراق: ص 539 ـ 565، والفكر الإسلامي الحديث: ص 168
(2) سورة الشورى: الآية 13
(3) سورة المائدة: الآية 48(7/2046)
(ج) أن الله سبحانه وتعالى ـ وهو رب العالمين ومنزل الكتب كلها ـ قد جعل القرآن الكريم ـ وهو وحيه الذي تولى بنفسه حفظه ـ مصدقًا لما سبقه من الكتب ومهيمنًا عليها قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1) .
فالقرآن الكريم يصدق الكتب السابقة ويؤيدها ويوافقها فيما لم تمتد إليه يد التحريف، كما أنه الحكم على هذه الكتب فيما أصابه التحريف وما لم يصبه لأنه الكتاب الوحيد الذي تولى الله تعالى حفظه فبقى كما أنزله الله، فكيف يكون القرآن حاكمًا عليها وهو مقتبس منها؟
(د) أننا قد عرفنا في الفقرة السابقة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أميًّا ولم يجلس إلى معلم قط، ولم يعرف شيئًا من القراءة والكتابة، ومن باب أولى لم يطلع على الكتب السابقة، وقد بعث في مكة وهي إبان بعثته ـ صلى الله عليه وسلم ـ خالية من اليهود والنصارى أو على الأقل من الكثرة التي يمكن أن يكون لها تأثير ما في ثقافته ونشأته، ونحن نعلم أن الاقتباس مرحلة عالية من الفهم والعلم لدى من يقتبس منه، فإذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أميا ولم يلتق بمعلم ولم تكن البيئة يهودية ولا نصرانية فمن أين له حينئذ الاقتباس أو القدرة عليه، قد يقال إن ورقة بن نوافل وبحيرا الراهب قد التقى بهما محمد ولدى كل منهما علم بالكتب السابقة؟ فيجاب عن ذلك بأن التاريخ لم يذكر من اللقاء بينهما وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا مرة أو مرتين، وكان لقاؤه بالراهب وهو صغير، فهل يعقل لصغير في لقاء واحد أو لقاءين أن يقتبس كل ذلك الذي لا يحصى علمًا وخبرًا وأحكامًا؟ فكيف إذا علمنا أن ما تناقلته كتب التاريخ التي سجلت مادار في هذه اللقاءات لم تشر من قريب أو بعيد إلى شيء مما في التوراة والإنجيل أو القرآن، وكل ذلك مسجل ومحفوظ فمن أين وعلى يد أي معلم تعلم محمد التوراة والإنجيل حتى يقتبس منهما؟ وذلك الرومي الحداد "بلعام" الذي زعم المشركون أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعلم منه، كان أعجميًّا لا يعرف من العربية إلا بضع كلمات، فإذا كان فاقد الشيء لا يعطيه ـ كما نعلم ـ فكيف يعلم هذا الأعجمي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التوراة والإنجيل أو هما معًا فضلًا عن أن يعلمه هذا الكلام المعجز "القرآن الكريم"؟ وإذا كان "بلعام" معلمًا فلماذا لم يسرعوا إليه ويتعلموا منه كما فعل محمد كما يدعون؟ وإلى هذا الافتراء العجيب يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (2) .
وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) .
__________
(1) سورة المائدة: الآية 48
(2) سورة النحل: الآية 103
(3) سوة الفرقان الآيات 4 ـ 6(7/2047)
(هـ) وإذا كان مقتبسًا من كتبهم كما يزعمون , فلماذا كفروا به وكذبوه؟ ألم يخبرهم الله تعالى في كتبهم أنه سيرسل محمدًا وينزل عليه قرآنًا وعليهم أن يؤمنوا به؟ إن كفرهم بالقرآن والرسول وتكذيبهم لهما دليل قاطع على أنه شيء آخر غير التوراة والإنجيل، كما أن هذا الكفر بالقرآن والرسول كفر بالتوراة والإنجيل، قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) .
وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
(و) أن القرآن الكريم نفسه أكد أن بينه وبين الكتب السابقة تشابهًا وصلة ولكن على طريقته الخاصة وبأسلوبه الفرد الذي يصدق ما بقي صحيحًا في الكتب السماوية السابقة، ويصحح ما أصابه التحريف فيها، ويفصل الأحكام الكلية ويبين الأحكام الفرعية بما لم يسبق إليه، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) .
يقول الأستاذ مالك بن نبي: "إن القرآن يؤكد مستعلنًا صلته بالكتاب المقدس، فهو يطلب دائمًا مكانه في الدورة التوحيدية، وهو بهذا وذاك يثبت باعتداد التشابه بينه وبين التوراة والإنجيل وهو يؤكد هذه القرابة صراحة، ويلفت إليها النبي نفسه كلما وجدت مناسبة" (4) .
__________
(1) سورة البقرة: الآيات 89 ـ 91
(2) سورة البقرة: الآية 101
(3) سورة يونس: الآية 37
(4) الظاهرة القرآنية: ص 240(7/2048)
إذن فليس التشابه كما يزعمون اقتباسًا قام به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكنه تنزيل رب العالمين الذي أنزل هذا وذاك، ويبقى للقرآن بعد ذلك التشابه التفرد المطلق والعجيب والمختلف عن الكتب السابقة في كثير من الأمور ولنأخذ لذلك بعض الأمثلة التي تقطع باستقلالية القرآن عما سواه وبطلان دعوى الاقتباس:
1 ـ في قضية التوحيد: يعرض القرآن الكريم العقيدة الغيبية الخاصة بطريقة أكثر مطابقة للعقل، وأكثر تدقيقًا، وفي اتجاه أكثر روحية، فالله واحد، ومخالف للحوادث، وهو رب العالمين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} على حين نجد هذه القضية في الكتب السابقة يشوبها التشبيه والقومية، ثم اخترعت المسيحية من جانبها للإله ذاتًا إنسانية في الأقانيم الإلهية، وبهذا نشأت عقيدة جوهرها "الرب الحي بجسد إنسان" وتولد عن هذه العقيدة التفسير المسيحي الذي أنشأ عقيدة دينية ثالوثية قائمة على الثالوث الأقدس، وقد أشار الأستاذ العقاد أيضًا إلى هذه القضية وبيان التفاوت فيها بين القرآن وغيره ليخلص من ذلك إلى إبطال القول بالنقل أو الاقتباس، يقول: "جاء الإسلام بالدعوة إلى إله منزه عن لوثة الشرك منزه عن جهالة العصبية وسلالة النسب، منزه عن التشبيه الذي تسرب من بقايا الوثنية إلى الأديان الكتابية.. وللباحث في مقارنات الأديان أن يقول ما يشاء عن هذا الإله الواحد رب العالمين، ورب المشرقين ورب المغربين إلا أن يقول إنه نسخة مستمدة من عقائد عرب الجاهلية أو عقائد الفرق الكتابية التي خالطت عقائد الجاهليين على النحو الذي وصفه جورج سيل في مقدمته لترجمة القرآن الكريم، فإن العقيدة الإلهية التي تستمد من تراث الجاهليين لن تكون لها صبغة أغلب من صبغة العصبية، ولا مفخرة أظهر من مفاخر الأحساب، ولن تخلو من لوثة الشرك ولا من عقابيل العبادات التي امتلأت بالخبائث، وحلت فيها الرقى والتعاويذ محل الشعائر والصلوات، ومعجزة المعجزات أن الإسلام لم يكن كذلك بل كان نقيد ذلك في صراحة حامسة حازمة لا تأذن بالهوادة ولا بالمساومة ... " (1) .
2 ـ قضايا الآخرة: من قيامة وبعث وحشر وحساب وجنة ونار إلى غير ذلك من المشاهد، لم تلق الكتب العبرية عليها إلا شعاعًا خافتًا، ولكن القرآن الكريم يبرز هذا المجال الأخروي إبراز مؤثرًا، يقص رواية الخلود الأخروي بنبرة خاشعة رهيبة في أسلوب فاق الذروة في بلاغته، وقد ثبت في أنحائه صورًا ومشاهد تسكب الخشية في قلوب العباد مما لا يمكن معه لإنسان حتى في هذه الأيام أن يصدف عن هذه المشاهد الهائلة (2) وهي مشاهد لا تحصى ولا تعد في القرآن الكريم حيث لا تكاد تخلو سورة من القرآن عن شيء منها إلا نادرًا.
__________
(1) حقائق الإسلام: ص 53
(2) الظاهرة القرآنية: ص 244(7/2049)
3 ـ قضية الخلق: في الكتب السابقة لا نجد لها تفسيرًا شافيًا ولا صورًا توضيحية فكل ما هنالك إشارات مجملة كهذه الجملة "وقال الله ليكن نور فكان نور" (1) على حين نجد القرآن الكريم يولي هذه القضية اهتمامًا كبيرًا، ويقدم بشأنه العديد من التفاصيل والتوضيحات التي تزيل أي لبس أو غموض بشأنها، ويتدرج القرآن الكريم في ذلك ـ شأنه في كل الأحوال ـ فيبدأ بالحديث عن وحدة مادة الكون الأولى في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (2) .
ثم يحدثنا عن الحالة البدائية لتلك المادة في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (3) .
ثم ينتهي إلى الظاهرة الحيوية في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (4) .
وهناك آيات كثيرة تكمل هذه اللوحة النموذجية لصورة التكوين في القرآن. (5) .
4 ـ قضية الأخلاق: تقوم في الكتب السابقة على أساس سلبي، فهي تأمر الناس بالكف عن فعل الشر في حالة , وبعدم مقاومة الشر في حالة أخرى، أما القرآن الكريم فيأتي بمبدأ إيجابي أساسي وهو لزوم ووجوب مقاومة الشر، فهو يخاطب معتنقيه بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (6) .
في حين يعيب على الآخرين وينكر عليهم أنهم كانوا يسكتون عن المنكر: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (7) .
كما أن القرآن الكريم يحترم منافع الآخرين بإزاء المنفعة الشخصية، كما يقيم الأخلاق على أساس من فكرة الجزاء والثواب، فيقيم القرآن الكريم بناءه الخلقي على أساس القيمة الخلقية للفرد، وعلى العاقبة الدنيوية للجماعة (8) .
__________
(1) سفر التكوين، الإصحاح الأول، فقرة 4
(2) سورة الأنبياء: الآية 30
(3) سورة فصلت: الآية 11
(4) سورة الأنبياء: الآية 30
(5) الظاهرة القرآنية: ص 246
(6) سورة آل عمران: الآية 110
(7) سورة المائدة: الآية 79
(8) الظاهرة القرآنية: ص 248(7/2050)
5 ـ ويقارن الأستاذ مالك بن نبي (1) بين قصة يوسف في القرآن الكريم والتوراة وينتهي من المقارنة بأن ما بين القصتين من الاختلاف أكثر مما بينهما من الاتفاق، وأن ما اتفقا فيه يتميز فيه القرآن بالوضوح والبيان بما يجعله ذا طباع خاص متفرد ويبطل فكرة الاقتباس من أساسها، يقول الأستاذ مالك بن نبي: "إنه لم يثبت أن كان بمكة وضواحيها أي مركز ثقافي ديني ليقوم بنشر فكرة الكتاب المقدس التي عبر عنها القرآن ... ومن ناحية أخرى: لو أن الفكرة اليهودية المسيحية كانت قد تغلغلت حقًّا في الثقافة والبيئة الجاهلية فإن من غير المفهوم ألا توجد ترجمة عربية للكتاب المقدس، وهناك حدث مؤكد فيما يتصل بالعهد الجديد الإنجيل وهو أنه حتى القرن الرابع الهجري لم تكن قد وضعت له ترجمة عربية، نعرف هذا من مصادر الغزالي الذي اطر أن يلجأ إلى مخطوط قبطي كي يحرر رده". (2)
وقد ذكر الأب شدياق أن أول نص مسيحي ترجم إلى العربية كان مخطوطًا بمكتبة القديس بطرسبرج كتب حوالي 1060م بيد رجل يدعى "ابن العسال".
وهكذا لم تكن توجد ترجمة عربية للإنجيل، فهل كان يمكن أن توجد ترجمة للتوراة وهي الأقدم؟ إن القرآن الكريم يقول لليهود: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) .
أفليس هذا دليلًا على أنه لم يكن يوجد من يقرأ العبرية من العرب من ناحية، وعلى أنه لم تكن توجد ترجمة عربية للتوراة من ناحية أخرى؟ وعليه فلا شيء أقل احتمالًا من وجود تأثير توحيدي في البيئة الجاهلية لانعدام المصادر اليهودية والمسيحية المكتوبة فيها بحيث يصبح من المستحيل أن نقول بإمكان حدوث امتصاص لا شعوري للذات المحمدية في هذا الوسط الجاهلي (4) .
__________
(1) الظاهرة القرآنية: ص 252 ـ 306
(2) يشير إلى كتاب الغزالي: الرد الجميل على من ادعى ألوهية المسيح لصريح الإنجيل
(3) سورة آل عمران: الآية 93
(4) الظاهرة القرآنية: ص 310 ـ 312؛ وانظر مقارنات أخرى في: الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص 543 ـ 565(7/2051)
6 ـ ويضيف الأستاذ العقاد فارقًا آخر بين القرآن والكتب السابقة وذلك في صدر حديثه عن النبوة قبل سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يبين أن دعوى الاقتباس دعوى باطلة ولا محل لها، يقول رحمه الله: "نمت نبوة الإسلام نماءها الأوفى حين خلصت من دعوى الخوارق والمغيبات وهي آية النبوة الكبرى في عرف الأقدمين، وفرق الإسلام بين طريقين شاسعتين في تاريخ الأديان: طريق موغلة في القدم تنحدر إلى مهد النبوات الوثنية حيث تشتبك العبادة بالسحر والكهانة، ثم تتقدم في خطوات وئيدة يلتقي فيها الخبل باليقظة، وتختلط فيها الخرافة بالإلهام الصادق والموعظة الحسنة، وطريق تليها، موغلة في المستقبل يفتتحها صاحب النبوة الأخيرة فيعلن أنه يفند السحر والكهانة ويزري بقداسة الجنون أو جنون القداسة، ويروض بصيرة الإنسان على قبول الهداية وإن لم تروضها له روعة الخوارق ودهشة الغيب المجهول؛ لأنه يروض البصيرة الإنسانية على أن تنظر وتبصر ولا يستوي الأعمى والبصير ... " إلى أن يقول: "وأبعد شيء عن البحث الأمين أن تنعقد المقارنة بين هذ النبوة الإسلامية ونبوءات أخرى تقدمتها فيزعم الباحث أنها نسخة محرفة منها أو منقولة عنها، فإن الفارق بين نبوة تقوم حجتها على هداية العقل والضمير، ونبوءات تقوم حجتها الكبرى على الغرائب والأعاجيب لهو من الفوارق البينة التي لا يمتري فيها باحثان منصفان، ودع عنك الفارق بين نبوءة تدعو إلى رب العالمين، ونبوءة تدعو إلى رب سلالة أو رب قبيل، وربما اعترى الخطأ مقياسًا من مقاييس البحث فتساوت لديه الزيادة والنقص وتعادل أمامه الراجح والمرجوح، فإما أن يرجح النقص على الزيادة فذلك هو الخطأ الذي لا ينجم إلا من زيغ في الطبع أو عناد يتعامى عمدًا عن الشمس في رائعة النهار". (1) .
__________
(1) حقائق الإسلام: ص 58 ـ 61(7/2052)
ثم يقول: "وبعد ستة قرون من آخر رسالة في بني إسرائيل يستمع العالم إلى صوت من جانب الجزيرة العربية يدعو إلى رب العالمين رب العربي والأعجمي، ورب الأبيض والأسود، ورب كل عشيرة وكل قبيلة، لا يستأثر بقوم ولا يؤثر قومًا على قوم إلا من عمل صالحًا واتقى حدود الله، صوت نبي ينادي كل من بعث إليه أنه لا يعلم الغيب ولا يملك خزائن الأرض، ولا يدفع السوء عن نفسه فضلًا عن قومه، ولا يعلم أن الخوارق والمعجزات تنفع أحدًا لا ينتفع بعقله ولا يتفكر فيما يسمع من نبي أو رسول، صوت نبي يقول للناس إنه إنسان كسائر الناس، وهو بشير يهدي إلى الرشد والحق، نذير يحذّر من الباطل والضلال. أي مشابهة بين الصوتين؟ بل أي اختلاف قط بينهما يجاوز هذا الاختلاف؟ يرثي لمن يقول: إن الصوتين سواء، فأما من يقول: إن النداء باسم رب العالمين نسخة محرفة من النداء برب القبيلة بين شركائه من أرباب القبائل، فإنما هو خطأ حقيق أن يسمى عجزًا في الحس؛ لأنه أظهر للحس من أن يحتاج إلى إطالة بحث أو تعمق في تفكير" (1) .
كما يضيف بعد حديثه عن الشيطان في العقائد السابقة والعقيدة الإسلامية قوله: "بهذه العقيدة الوجدانية الفكرية أقام الإسلام عرش الضمير وثل عرش الشيطان، ومن حق البحث الأمين على الباحث المنصف أن يضيفها إلى عقائد الإسلام في الله وفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي الإنسانية ـ فإذا عرف الإنصاف فما هو بقادر على أن يزعم أن الإسلام ديانة محرفة من ديانة محرفة من ديانة سبقت، وإذا عرف الصواب فما هو بقادر على أن يجحد مرتقاه في أطوار الإيمان وأنه غاية ما ارتفع إليه ضمير المؤمن في ديانات الأقدمين والمحدثين". (2)
وقل مثل ذلك في العبادات والمعاملات وغيرها من الأحكام مما يقطع ويبطل أي شبهة في القول باقتباس القرآن الكريم من الكتب السابقة، فمقاصد القرآن الكريم وتوجيهاته وعقائده وعباداته وأخلاقه ومعاملاته وقصصه وأخباره وحلاله وحرامه وحكمه وأمثاله ولفظه ونظمه وبلاغته وفصاحته تختلف عن كل من التوراة والإنجيل اختلافًا يوحى بانقطاع الصلة بينهما اللهم إلا في القليل النادر منهما الذي بقي صحيحًا.
هذا هو حكم العقل والنقل والواقع فمن لم يقبل بهذه الموازين فقد ظلم نفسه وأوردها موارد الضياع والهلكة، وما له من الله من عاصم وويل للذين ظلموا من النار.
__________
(1) حقائق الإسلام: ص 72، 73
(2) حقائق الإسلام: ص 105(7/2053)
ثالثًا ـ قولهم: إن القرآن ليس معجزًا أو أنه مجرد عمل إنساني نادر:
وهذا قول منكر وادعاء باطل لأسباب كثيرة منها:
1 ـ ما سبق أن أشرنا إليه في الفقرة الأولى من أدلة أثبتت أن القرآن الكريم وحي من عند الله تعالى ومن هذه الأدلة إعجازه المتواصل والمستمر بشكل فاق كل الحدود وتجاوز كل ما ذكره العلماء من أنواع الإعجاز وفنونه إلى حد لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
2 ـ أن التحدي بالقرآن كان وما زال قائمًا ولم يستطع أحد إبان نزوله ولا بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحتى الآن وإلى أن تقوم الساعة، لم يستطع ولن يستطيع أحد أن يأتي بمثله ولا بعشر سورة من مثله ولا بسورة واحدة من مثله، ومعنى ذلك العجز الكامل في الماضي والحاضر والمستقبل ليس للبشر وحدهم، ولكن للجن أيضا أنه معجز وأن إعجازه مستمر.
3 ـ أن هذه المقولة ليست جديدة فقد قالها المشركون إبان نزول القرآن وادعوا أنهم يستطيعون الإتيان بمثله، ولكنهم عجزوا عن الوفاء بما قالوا فبقي كلامهم وكلام المعاصرين اليوم مجرد ادعاء لا قيمة له ولا دليل عليه، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (1) .
قال السيوطي: اخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: ((قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم بدر صبرًا عقبة بن أبي معيط وطعمة بن عدي والنضر بن الحارث , وكان المقداد أسر النضر فلما أمر بقتله , قال المقداد يا رسول الله: أسيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول: في كتاب الله ما يقول، قال: وفيه أنزلت هذه الآية: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا} الآية)) (2) .
وجاء المبشرون والمستشرقون اليوم يرددون نفس المقولة بادعائهم أن القرآن عمل إنساني نادر غير معجز، فهل استطاعوا أو استطاع أسلافهم المشركون أن يقولوا شيئًا مثله أم عجزوا كما عجزوا , فتبين بطلان مقولتهم وسخفها؟ قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (3) .
__________
(1) سورة الأنفال: الآية 31
(2) لباب النقول في أسباب النزول بهامش المصحف الشريف
(3) سورة الطور: الآيتان 33 ـ 34(7/2054)
وفي ذلك يقول الدكتور المطعني: "في هذه الآية صور القرآن الأمين موقفهم في مواجهة الدعوة حيث قالوا إن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد افترى القرآن، وادعى أنه من عند الله، ثم طالبهم في الآية الثانية بأن يأتوا بكلام مثل القرآن في علو منزلته، أي كلام غير مقيد بطول أو قصر كثر أم قل، فمحمد ـ عليه السلام ـ بشر مثلهم وعربي مثلهم، فإذا كان هو صاحب هذا الكلام بحق فليحاكوه إن كانوا صادقين في دعواهم، والقرآن في هذه المواجهة يثيرهم ويحرك مشاعرهم ليأتوا بكلام مثل القرآن وجعل هذا الإتيان شرطًا في صدقهم فإن لم يأتوا فما هم بصادقين.
إن بواعث الخصوم على المحاكاة هنا لا بد أن تكون قد بلغت درجة الفوران، ولكنهم لم يقدموا على المحاكاة، فما هو السبب؟ أهو زهدهم في المحاكاة مع القدرة عليها؟ أم هو رغبتهم عن الصدق مع شدة افتقارهم إليه؟ إنهم لو كانت المحاكاة في مقدرتهم وأتوا فعلًا بمثل القرآن لقضوا في تلك الجولة على الرسالة والرسول, ولكنهم لم يفعلوا مع قيام كل الدواعي الشعورية والخصومية على تلك المحاكاة المدعاة، وليس لهذا التقاعس والقصور أي تفسير مقبول إلا عجزهم الفعلي عن المحاكاة لأن "المحاكى" فوق طاقة البشر والجن.. لقد تحدى القرآن خصومه، واستحثهم على الدفاع عن أنفسهم ولكنهم وجموا أمام ذلك التحدي وهم أحوج ما يكونون إلى الدفاع عنها، إنهم عاجزون وكفى" (1) .
وقد ذكر الله تعالى أنهم لم يستجيبوا للتحدي ويأتوا بمثل القرآن أو بشيء من مثله فليعلموا أنما هو من عند الله، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2)
, ثم جاء القرآن بعد ذلك التدرج في التحدي من مثل القرآن إلى عشر سور من مثله إلى سورة واحدة من مثله لينتهي بعد ذلك إلى إثبات العجز المطلق لكل الكائنات , فقال في سورة البقرة ليشمل التحدي أهل الكتاب مع المشركين: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيبٍ مِّمَّا نَزَّلنَا عَلَى عَبدِنَا فَأتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثلِهِ وَادعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّم تَفعَلُوا وَلَن تَفعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ} (3) ..
ثم أكد في سورة الإسراء أن العجز عن محاكاة القرآن شامل للجن أيضًا مع الإنس فقال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (4) .
وبهذا حكم الله تعالى بالعجز على الجميع من لدن نزول القرآن أي قيام الساعة، فهل هناك إعجاز أعظم من ذلك؟ وهل هناك دليل على صدق الرسول والرسالة أقوى وأوضح من ذلك؟
__________
(1) الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص 518 ـ 519
(2) سورة هود: الآيتان: 13، 14
(3) سورة البقرة: الآيتان: 23، 24
(4) سورة الإسراء: لآية 88(7/2055)
4 ـ وإليك الآن صورًا محدودة من الإعجاز المستمر للقرآن الكريم، وقد أقر بها المنكرون والعلماء من غير المسلمين، من هذه الصورة: ما يتصل بالكون بصفة عامة كخلق السموات والأرض وما بينهما، ومنها ما يتصل بالأرض نفسها وما فيها من آيات، ومنها ما يتصل بحركة النجوم والكواكب والليل والنهار والرياح، ومنها ما يتصل بالماء، ومنها ما يتصل بالإنسان وخلقه إلى غير ذلك وهو كثير جدًّا عرف العلماء بعضه، وما زالوا يجهلون الكثير مما وعد الله تعالى بتعليمهم إياه في قوله: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1) .
وفي آية جامعة - أو تكاد - يقدم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بعض آياته للعاقلين تؤكد أن القرآن الكريم وحي معجز , قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) .
يقول الدكتور المطعني: لقد خطا العلم خلال القرنين الأخيرين خطوات لم يسبق لها مثيل في شتى المجالات، ولم يظهر للآن مكتشف علمي يتنافر مع دلالات القرآن الحكيم، وموقف العلوم الحديثة من دلالات القرآن يتخذ ثلاث سمات:
الأولى: التوافق التام بين المعارف الحديثة ودلالات القرآن الكريم وهذه هي السمة الغالبة.
الثانية: تصحيح دلالات القرآن لأخطاء كانت عن بعض الظواهر العلمية.
الثالثة: وقوف العلم الحديث من بعض دلالات القرآن الكريم موقف العاجز عن الوصول إلى فهم الحقيقة العلمية التي يشير إليها القرآن، وأمل العلماء في هذا الفرع كبير في أن يصل العلم البشري في عصر مقبل إلى فهم الحقيقة القرآنية إذا ما توفرت بعض الظروف اللازمة لذلك الفهم.
فمما وقع التطابق فيه تامًّا مسألة انفصال السموات والأرض بعد أن كانتا كتلة واحدة، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (3) .
والرتق هو الالتصاق بلا فصل، والفتق هو الفصل بينهما بالهواء (4) .
وقد أثبت العلم الحديث ذلك بعد أن ذكره القرآن من ألف وأربعمائة عام.
ومما صححت فيه الدلالات القرآنية أخطاء كانت شائعة من عهد أرسطو إلى عصر النهضة؛ أن العيون المائية تستمد ماءها من بحيرات جوفية في أعماق الأرض، فجاء القرآن وصحح هذا الخطأ وأشار إلى أن العيون المائية تستمد تموينها المائي من مياه الأمطار حيث جاء فيه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} (5) .
وقد أثبت العلم ذلك وقارن العلماء بما قاله أرسطو وما ذكر القرآن , فتبين لهم خطأ أرسطو ومن تباعه من العلماء فترة طويلة وثبت صحة ما قاله القرآن الكريم (6) .
__________
(1) سورة فصلت: الآية 53
(2) سورة البقرة: الآية 164
(3) سورة الأنبياء: الآية 30
(4) كلمات القرآن تفسير وبيان للشيخ حسنين مخلوف؛ وانظر: الصحاح في اللغة والعلوم مادة رتق: ص 365؛ وفتق: ص 842
(5) سورة الزمر: الآية 21
(6) انظر: الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص 582 ـ 583(7/2056)
5 ـ وأما ما قاله "الخوري الحداد" من أن القدماء أجمعوا على أن إعجاز القرآن في نظمه فقط تم تشكيكه في ذلك بعد لينتهي من ذلك أي مقولة أهله وأصحابه من أن القرآن غير معجز فقد تولى الرد عليه بشكل واضح ومفصل ومفحم الأستاذ محمد عزة دروزة، ونحن بالإضافة إلى ما ذكرناه في الفقرات السابقة من إبطال هذه المقولة وإثبات إعجاز القرآن نجتزئ من ردود الأستذا دروزة العديدة بعض ما قاله , يقول: "والخوري كاذب من حيث الأصل في قوله إن القدماء مجمعون على أن إعجاز القرآن في نظمه وحسب , فهناك آثار وأقوال قديمة كثيرة ينطوي فيها تقرير كون إعجاز القرآن في نظمه وفي محتواه على السواء، فالقرآن حينما يقرر أنه كتاب هداية وإرشاد، ونور وشفاء، وتبشير وإنذار، إما يقرر إعجاز القرآن في المحتوى في الدرجة الأولى الذي يمثله ما في القرآن المكي والمدني معًا من إعجاز إلهي في العقيدة، وإعجاز إلهي في التشريع، وإعجاز إلهي في الحكمة، وإعجاز إلهي في الإرشاد أي خير سبل السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، وإعجاز إلهي في التبشير والإنذار والترغيب والترهيب، وإعجاز إلهي في عرض بدائع الكون ومشاهد عظمته وروعة نواميسه الماثلة في كل شيء، والبرهنة بها على وجوب وجود الله وقدرته وإحاطته، وإعجاز إلهي فيما احتواه قصصه من مواعظ وأمثال وتذكير وحكم بالغة، وإعجاز إلهي فيما احتواه من الغيبيات السالفة والغيبيات الآتية، وإعجاز إلهي في صلاح ما أتى به من كل ذلك لكل زمان ومكان وجنس ولون وعقل وثقافة، وكل هذا بارز ملموح بكل قوة وبكل روعة وبكل نفوذ وبكل قطعية في مختلف سور القرآن المكية والمدنية، ولا يمكن أن يكابر فيه ويتعامى عنه إلا أحمق غبي أو حقود مغرض، والقرآن في متناول جميع الناس في كل مكان وزمان، ومن هذا المنطلق قرر القرآن أنه المعجزة الكافية لصدق رسالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما تضمنته آيات سورة العنكبوت: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) .
ثم يقول: والآن نورد الدليل على كذب الخوري، فالخوري يجعل كتاب (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي) مصدرا رئيسيا من مصادره وينقل عنه كثيرا، أن السيوطي أورد حقا أقوال لبعض العلماء بأ إعجاز القرآ هو في نظمه وبلاغته فإه قال: إن جمهور العلماء يقررون أن إعجازه هو في نظمه ومعانيه على اختلاف نواحيها" (2) . مقتطفات عديدة من أقوال عدد منهم ومن جملة ذلك فصل للخطابي أحد علماء القرآن في القرن الرابع الهجري نورده كمثال على أقوال العلماء القدماء.
__________
(1) سورة العنكبوت: الآيتان 50 ـ 51
(2) الإتقان في علوم القرآن: 2/151(7/2057)
يقول الخطابي: وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور منها: أنعلمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني، لا تدرك أفهامهم جميع معاني الأياء المحمولة على تلك الألفاظ ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه المنظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فتواصلوا باختيار الأفضل من الأسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، إنما يقوم الكلام بهذه الاشياء الثلاثة: لفظ حاصل، معنى به قائم، رباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الامور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الالفاظ افصح ولا اجزل ولا اعذاب من الفاظه، ولا ترى نظما احسن تاليفا وأشد تلاوة وتشاكلا من نظمه، اما ما معانيه، فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فإن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، مخرج من هذا أن القرآن صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف متضمنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ودعائه إلى طاعته وبيان طريق عبادته من تحليل وتحريم وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعا أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعائد منهم، منبئا عن الكوائن المستقلة في الأعصار الآتية من الزمان جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل عنه، ومعلوم أن الإتيان أوكد للزوم ما دعا إليه، وأنبأ عن وجوب ما أمر به ونهى عنه، ومعلوم أن اإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتنسق أمر يعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله، ومناقضته في شكله، ثم صار المعاندون له يقولون مرة: إنه شعر لما رأوه منظوما، ومرة أخرى إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعا في القلوب وقرعا في النفوس يرهبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف، ولذلك قالوا: إنه له لحالوة وإن عليه لطلاوة، وكانوا مرة يقولون بجهلهم إنه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجله والعجز، وإنك لا تمسع كلاما غير القرآن منظومصا ولا منثورا إذا قرع السمع خلص منه إلى القلب من اللذة والحلاوة، قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (2) .
__________
(1) سورة الحشر: الآية 21
(2) سورة الزمر: الآية 23(7/2058)
وقال ابن كثير رحمه الله: ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1) .
فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه، وكل من لفظه ومعناه لا يجاري ولا يداني، يقول ابن عطية في تفسير هذه الآية الكريمة: أحكمت أتقنت وأجيدت شبه ما تحكم من الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكاه وأوامره على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أزمنة مختلفة فتم على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل، إذ الإحكام صنعة ذاتية، والتفصيل إنم هو بحسب من يفصل له والكتاب بأجمعه محكم ومفصل (2) . فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير ونهي عن كل شر كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} (3) .
ثم قال دروزة: ولو كان الخوري يخضع للحق والحقيقة أو يتحراها لكان راعى ما قاله جمهور العلماء القدماء، ولما قال ما قال عنهم من الموقف السلبي بأسلوب حاسم، ومن غبائه أنه لا يخطر لباله أن كتب القدماء والكتب التي ينقل عنها ليست عنده وحده، ونحن إذ نركز الكلام في هذا المبحث على الإعجاز الإلهي في المحتوى فليس ذلك منا إغفالا للإعجاز الإلهي في النظم القرآني، فهذا من المسلمات التي لا تتحمل إطنابا جديدا، وقد وفاها العلماء قديما وحديثا حقها بما لا محل للمزيد عليه، وإنما كان ذلك منا؛ لأنه مقتضى الكلام والحافز عليه من جهة، ولأننا نعتقد أن الإعجاز القرآني هو في المحتوى في الدرجة الأولى هو ما اهتم القرآن للتنويه به أكثر والله أعلم (4) .
__________
(1) سورة هود: الآية 1
(2) تفسير ابن عطية: 7/233 ـ 234
(3) سورة الأنعام: الآية 115
(4) راجع: القرآن والمبشرون: ص 334 ـ 335، ص 327 ـ 328(7/2059)
ومما سبق يتبين بكل قوة ووضوح بطلان ما ادعاه المبشرون والمستشرقون في الماضي والحاضر من أن القرآن غير معجز، وتبين بما لا يقبل ذرة من الشك، الإعجاز العظيم للقرآن الكريم فيما عرفناه من لفظ ومعنى ونظم ومحتوى وعلم طبيعي أو أخلاقي وغيب ماضي وغيب مستقبلي إلى ما لم نعرفه بعد من أسرار وأن إعجاز هذا باق إلى يوم القيامة، وصدق رسول الله: إلا أنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله؛ فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (1) . من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" (2) .
وبعد هذا الوصف الشائق الشامل المروي عمن أنزل عليه القرآن والذي هو أدرى الناس بمدى إعجازه على الذين ادعوا أنه ليس معجزا أن يأتونا بما لديهم من توراة وإنجيل لنرى أي الكتب خير وأيها أصدق. فهل بقي بعد هذا كله أي شبهة أو أثر لتلك المقولة السخفية: أن القرآن ليس معجزا! وإذا كان القرآن غير معجز فما المعجز إذن وكيف يكون الإعجاز؟ حقا إذا لم تستح فاصنع ما شئت!!
__________
(1) سورة الجن: الآيتان: 1، 2
(2) المسند: 1/91، وسنن الدارمي: 2/435، وسنن الترمذي: 8/218، حديث رقم 2070، انظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي، تحقيق الدكتور محمد رأفت سعيد: 1/42، وهامشها، وذكره ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز؛ المقدمة: 1/13 ـ 14 وهامشها(7/2060)
رابعا ـ قولهم: إن القرآن قد حرف وبدل:
وهذا قول كاذب وادعاء باطل، ساقهم إليه حقد دفين وبغض شديد وفهم خاطئ للقرآن الكريم، أرادوا به أن يردوا الصاع صاعين للقرآن الكريم الذي فضحهم وعراهم وأثبت تحريفهم للتوراة والإنجيل، وأردوا أن يحاربوه ويهاجموه بنفس سلاحه فوضعوا كعادتهم الكلمات في غير مواضعها، واستخدموا لسوء فهمهم الألفاظ في غير معانيها، وعادت سهامهم المسومة إلى نحورهم، وإليك بيان ذلك بالتفصيل:
1 ـ فأما قولهم: إن القرآن قد حرف وبدل فيرده المعلوم من تاريخ القرآن على مر العصور والكثير من الآيات القرآنية التي تبين كيف كان ينزل القرآن على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكم كان حريصا على حفظه ومراجعته مع الروح الأمين جبريل ـ عليه السلام ـ وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يمليه على أصحابه ومن بينهم كتاب الوحي ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ فور نزوله، فانضم بذلك تدوين السطور إلى حفظ الصدور عند أكثر من واحد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ أَوَلَم يَكُن لَّهُم آيَة أَن يَعلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسرَائِيلَ وَلَو نَزَّلنَاهُ عَلَى بَعضِ الأَعجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكنَاهُ فِي قُلُوبِ المُجرِمِينَ لَا يُؤمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} (1) .
وقال: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (2) .
وقال: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (3) .
وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَلَا مِن خَلفِهِ تَنزِيلٌ مِّن حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (4) .
وقال: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (5) .
إلى غير ذلك من الآيات التي تؤكد نزوله وتلقيه وحفظه بإحكام وإتقان، فمن الذي حرف إذن وبدل! جبريل الذي نزل به بأمانة؟ أم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي تلقاه
بلهفة وعناية، أم أصحابه الذين حفظوه وكتبوه تحت مراجعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟
__________
(1) سورة الشعراء: الآيات 192 ـ 201
(2) سورة النمل: الآية 6
(3) سورة القيامة: الآيات 16 ـ 19
(4) سورة فصلت: الآيتان 41 ـ 42
(5) سورة هود: الآية 1(7/2061)
2ـ ينفي القرآن الكريم أن يكون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان له أي تدخل في نزول القرآن الكريم بحروفه وكلماته ومعانيه، وأنه مجرد حافظ ومبلغ، ثم مفسر ومبين، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (1) .
وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}
(2) .
إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي بقطع ووضوح أي تدخل من سول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آيات القرآن فمن الذي بدل إذن؟
3ـ عرفنا من الفقرة السابقة ـ الأولى ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينتظر الوحي ونزوله بالقرآن الكريم فيما يخصه شخصيًا وفيما يخص الأمة وفيما يخص الرسالة وفي اتخاذ القرارات، وفي إجابات الأسئلة التي توجه إليه، ورغم الحرج الذي كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعرض له سواء فيما يخصه شخصيًا أو فيما يخص الناس، كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينتظر بفارغ الصبر نزول الوحي بالقرآن الكريم، فلو كان يمكنه التحريف أو التبديل أو الزيادة أو النقصان لفعل ذلك خصوصًا في أوقات الشدة أو فيما يخصه ويخص بيته كحديث الإفك، ولكان يغير ما يسمه شخصيًا بالعتاب والمؤاخذة كسورة عبس أو سورة براءة وموافقة من بعض المنافقين أو موضوع أسرى بدر أو خلافاته مع زوجاته ... إلى غير ذلك.
4ـ إن الله تعالى تولى بنفسه حفظ القرآن الكريم من أي تغيير أو تحريف أو زيادة أو نقصان، من نزوله إلى قيام الساعة، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) .
فلا يمكن أن يصل إليه أي تحريف مهما كان وهذا بخلاف الكتب السابقة التي ألقى الله تعالى مسؤولية حفظها على أهلها فامتدت أيديهم إليها بالتحريف والتغيير، قال ابن عطية في تفسير هذه الآية: (المعنى: لحافظون من أن يبدل أو يغير كما جرى في سائر الكتب المنزلة) ، وفي آخر ورقه من البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما أن التبديل فيها إنما كان في التأويل، وأما في اللفظ فلا، وظاهر آيات القرآن أنهم بدلوا اللفظ، ووضع اليد على آيه الرجم هو في معنى التبديل الألفاظ (4) . وقيل: لحافظون باختزانه في صدور الرجال والمعنى متقارب، وقال قتادة هذه الآية نحو قوله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (5) . (6) .
فمن يستطيع أن يغير ما حفظه الله؟ ثم كيفق يحدث ذلك؟ وأين هو؟ وقد عرفنا من الفقرة الأولى أن القرآن وحى في لفظه ونظمه ومعناه وترتيبه فمن عساه يغير حرفًا من ذلك الوحي؟
__________
(1) سورة الحاقة: الآيتان 41ـ42
(2) سورة النساء: الآية 82
(3) سورة الحجر: الآية 9
(4) البخارى، باب المناقب
(5) سورة فصلت: الآية 42
(6) تفسير غبن عطية: 8/285.(7/2062)
5ـ جمع القرآن الحكيم بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرتين: المرة الأولى في خلافه أبى بكر بمشورة عمر رضى الله عنهما بعد موقعة اليمامة، وكان هذا الجمع بإشراف كاتب الوحي زيد بن ثابت رضى الله عنه وكان عبارة عن ترتيب الصحف المتفرقة من جلد وحجارة وعظام بناء على المحفوظ في الصدور بحيث يضمها رباط واحد بدل بعثرتها وتفرقها، وكان ذلك خوفًا من مرور الوقت بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفاة الصحابة القراء الحافظين فيختلف الترتيب فيما بعد عما نزل وحفظ فجمعه أبو بكر في إطار واحد وأجمع عليه الصحابة وحفظ ذلك المصحف المجموع المرتب عند أبى بكر ثم عمر ثم حفصة رضوان الله عليهم أجمعين، أما المرة الثانية فكانت في خلافة عثمان رضى الله عنه حين بلغه أن خلافات قد بدأت تظهر في قراءة القرآن نتيجة كثرة الفتوحات ودخول أجناس جديدة بلغاتهم في الإسلام فكان لا بد من حسم الأمر وقطع دابر الاختلاف مهما كان ولو صغيرًا، وقام عثمان بتشكيل لجنة بقيادة زيد بن ثابت رضى الله عنه أيضا لكتابه القرآن من مصحف أبى بكر بلغه واحدة هي لغة قريش، وقد تم ذلك ونسخ منه عدة نسخ وزعت على جميع العواصم في الأمصار الإسلامية لتكون المرجع الذي يعتمد عليه ويرجع إليه، وبذلك تم قتل الفتنه منذ ولادتها والحمد لله
(1) ومن يومها والأمة الإسلامية تتلقى القرآن الكريم بهذا لرسم العثماني بالتواتر المنقطع النظير حتى يومنا هذا، ولم يتح ذلك لغير القرآن الكريم فهو أصدق وثيقة على الإطلاق بالدنيا، وقد حاول بعض الأعداء تغيير بعض الآيات والكلمات ففضحهم الله تعالى أكثر من مرة وبقى القرآن بحمد الله تعالى وحفظه كما نزل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تطبيقًا وتحقيقًا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
فأين ذلك التغيير الذي تدعون؟ وأين التحريف الذي تزعمون؟ وقد شهد بذلك بعض المنصفين من غير المسلمين يقول لوبلو: (إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر) ، وكان ((موير)) قد أعلن ذلك قبله إذ قال: (إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد إلى يد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف قد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل يستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يعد أكبر حجه ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا والذي يرجع إلى الخليفة المنكوب عثمان الذي مات مقتولًا) (2)
__________
(1) مدخل إلى القرآن الكريم: ص 40
(2) انظر: مدخل القرآن الكريم: ص 36ـ38، انظر: تفسير ابن عطية: 1/50ـ53.(7/2063)
6ـ لم يبق بعد ذلك من حجج أو شبهات إلاَّ ما استندوا إليه 0 لسوء فهمهم ـ من بعض الأيات، أو فهموها ولكن حقدهم أعمى بصائرهم حتى قالوا ما قالوه؛ فقد كان من رحمة الله تعالى بعبادة وتيسيره عليهم أن تدرج معهم في تكاليفه وتشريعاته في نقلهم من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام ونظامه وضوابطه، وقد اقتضى هذا التيسير والتدرج أن ينسخ الله تعالى بعض الآيات ويأتي بآيات أخرى وأحكام أخرى أخف وأيسر، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرف أصحابه بذلك بعد نزول جبريل عليه السلام بالتغيير وتعريفه بالنسخ، فالمغير إذن هو الله تعالى، والمبدل هو الله عز وجل لا رسوله وأصحابه وأمته، هذا باب معروف من أبواب علوم القرآن والتشريع الإسلامي وهو ((النسخ)) وفيه يقول الله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) .
وقد يكون النسخ للتلاوة والحكم معًا وقد يكون لأحدهما مع بقاء الآخر وذلك المعروف في القرآن الكريم، وفد نعى الله تعالى على المشركين وعلى من جاء بعدهم إلى يوم القيامة ممن يشبههم في مقولتهم عن ذلك النسخ بأنه تحريف وتبديل كما فعل اليهود والنصارى ووصفهم الله تعالى بالجهل وسوء الفهم، فقال الله تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
فالناسخ والمبدل هو الله تعالى رحمة بعباده وتيسيرًا عليهم لعلمه عز وجل بما ينفعهم ويصلحهم، أما اليهود والنصارى فقد كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويكتبون الكتاب بأيديهم ويكذبون ويقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا.
__________
(1) سورة البقرة: الآية 106
(2) سورة النحل: الآية 101(7/2064)
7ـ وأنا ما نقص من سورة الأحزاب أو غيرها فليس كما يقول تيموثاوس لأن جديًا أكله، وإنما لأن الله تعالى نسخه، ومن ذلك الآية المشهورة في رجم الزاني والزانية (الشيخ والشيخة إذ زنيا فإرجموهما البته نكالًا من الله والله عزيز حكيم) (1) .
وغيرها مما ورد في حديث عمر رضى الله عنه (2) . وهذا مما نسخ تلاوة وبقى حكمًا؛ وأما أسماء السورة التي ذكرها تيموثاوس وأدعى أنه فقدت من القرآن الكريم في أساس لها فسور القرآن الكريم أربع عشرة ومائة توقيفًا وإجماعًا وتواترًا، وما هذه الأسماء التي ذكرها إلا أسماء وردت في قنوت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعض أدعيته، وليست أسماء لسور القرآن، فالقرآن كما أشرنا من قبل، حفظ في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصدور والسطور، ثم جمع في عهد بلغة واحدة في عدة مصاحف ثم بقى هكذا وسيظل إلى أن تقوم الساعة محفوظًا بحفظ الله وعنايته.
وأنا ورد في الموسوعة الروسية مما سبقت الإشارة إليه فتخريف من قائليه ومدونيه يدل على عدم فهمهم للقرآن الكريم الذي جمع بين أخبار الماضيين والحاضرين والمستقبل، وظنوا أن ذلك الجمع تطور من الكتاب الذين تلقوه ولم يفهموا أن ذلك من إعجاز العظيم وأن يد التحريف لا تمتد إليه.
__________
(1) تفسير غبن كثير: 3/465.
(2) انظر سنن ابن ماجه بتحقيق الألباني: 2/81، حديث رقم 2553، وتفسير ابن عطية: 12/1 وهامشها(7/2065)
يقول الأستاذ مالك بن نبي: (ولقد أمتاز القرآن الكريم بميزة فريدة هي أنه تنقل منذ أربعه عشر قرنًا دون أن يتعرض لأدنى تحريف أو ريب، وليست هذه حال العهد القديم ((التوراة)) الذي لم تعترف له بالصحة الدراسة النقدية للشراح المحدثين فيما عدا واحدًا من كتبه هو كتاب (أرمياء) وليس العهد الجديد (الإنجيل) بأسعد حالًا فقد ألغى مجمع أساقفة (نيقيه) كثيرًا من أخباره مما زرع الشك حول ما تبقى منه وهو (الإنجيل) وهذه الأخيرة بدورهما لا تعتبر الآن من الصحاح لأن النقد أثبت أنها قد وضعت بعد المسيح بأكثر من قرن أي بعد عصر الحواريين الذين تنسب إليهم تعاليم المسيحية، وعلى هذا فإن شكوكًا كثيرة تحوم حول القضية التاريخية للوثائق اليهودية والمسيحية)
(1) .
ثم يقول: (هذا التحديد الكامل للنص القرآني على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه يعد ظاهرة جديرة بالملاحظة من وجهة علم الاجتماع وعلم النفس بخصوص الوسط العربي في العصر المحمدي، فتلك نقطة جوهرية تستحق البحث والوقوف أمامها، إذ ليست هناك مشكله تدوين بالنسبة للقرآن كما هو الأمر بالنسبة للكتاب المقدس وهي أيضا مؤيده بحقائق التاريخ التي ينبغي أن تلفت إليها انتباه القارئ ليلاحظ هو أيضا توافق واقع التاريخ مع هذه الآية: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، ومع ذلك فإن لهذا لحفظ تاريخه، فكلما كان الوحي يتنزل كانت آيات القرآن تثبت في ذاكرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته، وتسجل فورًا بأيدي أمناء الوحي حيث كانوا يستخدمون من أجل ذلك كل ما يصلح للكتابة كعظام الكتف أو قطع الجلد، حتى إذ قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان القرآن محفوظًا في الصدور مدونا في الصحف، فكان من الممكن كلما دعت الحاجة إلى مقارنة الآيات بعضها ببعض، ولا سيما حين يعرض اختلاف من نوع صوتي أو لهجى، وفضلًا عن ذلك فسنجد أن هذه المقارنة تحد مرتين، والطريقة التي نفذت بها هي ذاتها حدث فذ في تاريخ الصناعة العقلية الإنسانية، فللمرة الأولى تتجلى الصفات الطريقة المنهجية في عمل عقلي، كما تتجلى الدقة التي هي الآن وقف على التفكير العلمي ... وبهذا يكون القرآن الكريم هو الكتاب الديني الوحيد الذي يتمتع بامتياز الصحة التي لا جدل فيها بحيث لم يثر النقد أية مشكله حوله سواء أكان ذلك من حيث الشكل أم الموضوع (2) . فمن أين يجئ التحريف والتبديل؟ وكيف يقع بعد كل هذه الإجراءات الربانيه والنبوية والصحابيه والإسلامية؟ أليس ذلك كمل رأينا مستحيلًا؟ وهذا ما جعل المستشرق الفرنى الأستاذ دمومبين يقول في كتابه عن الإسلام: (إن المصنف لا مناص له من أن يقر بأن القرآن الحاضر هو القرآن الذي كان يتلوه محمد) (3) .
__________
(1) الظاهري القرآنية: ص 111ـ 112؛ انظر أيضا: الإسلام في مواجهة الاستشراق ص 273 ـ 276
(2) الظاهرة القرآنية: ص 113ـ114 بإختصار
(3) القرآن والنبي: ص 59(7/2066)
خامسًا ـ إدعاء التناقض في القرآن:
أدعى أعداء الإسلام والقرآن أن القرآن يتناقض بعضه بعضًا، أحيانًا في اللفظ وأحيانًا في المعنى، وساقوا لذلك عددًا من الآيات الكريمة لا تناقض بينها في شيء ـ كما سنرى ـ إلاَّ في فهمهم البليد، أو سبب حقدهم البغيض، وقد ذكرنا في الفصل الثاني نماذج من هذه الدعوى وسنناقشها في هذه الفقرة لنبيين بطلانها، وقبل هذه المناقشة نذكر بما سبق أن قدمناه من الحقائق التي تؤكد عدم وجود أي ثغرة للتناقض في القرآن الكريم.
1- فهو ـ كما عرفنا ـ من وحي الله تعالى والتناقض مستحيل عليه عز وجل.
2- وهو معجز والإعجاز قمة الأداء فإذا دخله التناقض لم يكن كذلك.
3- وهو محفوظ بعناية الله تعالى في صدور عبادة وسطور مصاحفهم، فكيف يقع التناقض فيه وهو من مظاهر الخلل لا الحفظ.
4- وهو الذي أثبت الله له الإحكام ونفي عنه الباطل فكيف يقع التناقض فيه؟
بعد هذه الحقائق الثابتة الكافية في إبطال هذه الدعوى نسوق الآيات التي إستشهدوا بها لنبين سوء فهمهم وجهلهم وحقدهم البغيض للقرآن.
(أ) قالوا إن الآية: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (1) .
تتناقض مع الآية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
وذلك الذي زعموا لأنهم فهموا أن الآية الأولى تنفي التبديل في القرآن والآية الثانية تثبته، وهكذا فهموا فهل هذا فهم صحيح؟ كلا لأن الآية الأولى تنفي أن يقوم رسول الله ** بتبديل شيء من القرآن تلبيه لطلب المشركين لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس له من أمر القرآن شيء فهو لا يستطيع أن يغير أو يبدل فيه شيئا وإلاَّ تعرض للعذاب العظيم، والآية الثانية تؤكد هذا المعنى لأنها نسبت التبديل إلى الله تعالى وحده، وهذا ينفي إمكانية ذلك لغير الله تعالى فمضمون الآيتين واحد وهو أن المبدل هو الله وليس محمدًا، أما التناقض الحقيقي فهو في موقف المشركين الذين كانوا يطالبون الرسول بالتبديل والتغيير، فإذا وقع من الله تعالى تبديل عابوا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتهموه بالكذب والافتراء، وما أشبه تناقض اليهود والنصارى يتناقض المشركين فكلهم يقولون على الله ورسوله وكتابه ما لا يعلمون.
__________
(1) سورة يونس: الآية 15
(2) سورة النحل: الآية 101(7/2067)
(ب) قالوا: إن الآية {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (1) .
تتناقض مع الآية: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}
(2) .
وليس ذلك صحيحًا لأن الآية الأولى يبين الله تعالى فيها أنه يراعى أحوال العباد ومصالحهم فإذا نسخ آيه أو حكمًا فإنه يأتي بما هو خير منه للناس في معاشهم ومعادهم والآية الثانية تبين أنه لا يستطيع أحد أن يبدل كلام الله أو شيئا منه، فهل نفلا التبديل عن الخلق يشمل الخالق عز وجل؟ كلا. فأين التناقض؟
(ج) قالوا: إن الآية: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) .
تناقض الآية: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (4) .
فهل هذا صحيح؟ كلا، فالآية الأولى تؤكد حفظ الله تعالى للقرآن من أن تمتد له يد التحريف والتغيير كما امتدت إلى الكتب السابقة، ولكنها لا تحجر على الله تعالى أن يمحو وينسخ ما يشاء من آياته ويثبت ويبقى ما يشاء، كما جاء في الآية الثانية، فهم يخططون بين الله تعالى وخلقه وحاشا الله أن يكون كذلك فهو سبحانه يمحو من الأحكام ما يشاء، ويثبت من الأحكام ما يشاء، وما يمحوه أو يثبته لا تمتد إليه يد أحد بالتغيير أو التبديل لأن الله حافظه.
__________
(1) سورة البقرة: الآية 106
(2) سورة الكهف الآية 27.
(3) سورة الحجر: الآية 9
(4) سورة الرعد: الآية 39(7/2068)
(د) قالوا: إن الآية {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (1)
تتعارض مع قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (2)
فهل هذا صحيح؟ كلا والله فالعدد في الآيتين يقصد به حقيقة وإنما هو كتابه عن الطول، وهذا معروف في البلاغة وفي عرف الناس، كلفظ السبعين في قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (3)
فلا يعنى ذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو استغفر لهم أكثر من سبعين يغفر الله لهم، وإنما معناه: لا فائدة من الاستغفار لهم فلن يفغر الله لهم، ولذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((لو علمت أنى إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت)) (4) . وكما تقول لصديقك: جئتك عشر مرات أو أكثر، تريد أنك زرته كثيرًا، فالقرآن يعبر عن يوم القيامة بألف سنه أو خمسين ألف سنة ولا يريد عدد السنوات، وإنما يريد أنه يوم طويل، فأين التناقض إن كنتم تفهمون؟
__________
(1) سورة السجدة: الآية 5
(2) سورة المعارج: الآية 4
(3) سورة التوبة: الآية 80
(4) رواه أحمد والبخاري والترمذي النسائي وابن أبى حاتم وغيرهم، انظر تفسير ابن عطية: 2/581(7/2069)
(هـ) قالوا: إن الآية {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} والآية {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} متناقضتان، فالآية الأولى تنفي القسم والثانية تثبته. وهكذا يقولون لأنهم لا يفهمون العربية واستخداماتها ودلالات حروفها وتنوعها، لقد ظنوا أن (لا) نافيه، ورتبوا على ذلك أنه لا أقسم فكيف يقسم بعد ذلك؟ ونقول لهم: إن (لا) ليست نافيه ولكنها تأكيد للقسم كقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (1) .
وهذا شائع في اللغة العربية لمن يعرفها ويتذوقها (2) . فلا تناقض بين الآيتين.
(و) قالوا: إن الآية {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3) .
تتناقض مع الآية {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (4) .
والآية {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (5) .
فهل هذا صحيح؟ كلا، لأنهم فهموا خطأ أن الآية الأولى تقصر الشفاعة على الله، والآيتان الأخريان فيهما الشفاعة لغير الله، وهذا فهم خاطئ فالأمر كله لله تعالى، وما دام الأمر كذلك فليس لأحد شفاعة من دون الله، ولكن إذا أذن الله لأحد أن يشفع كان له ذلك بإذن من الله، فالأمر كله لله إن إذن في الشفاعة وجدت وإن لم يأذن فلا شفاعة، فأين التناقض؟
__________
(1) سورة النساء: الآية 65.
(2) انظر: مفتريات على الإسلام: ص.70.
(3) سورة الزمر: الآية 44
(4) سورة السجدة: الآية 4
(5) سورة يونس الآية 3.(7/2070)
(ز) قالوا: إن الآيتين {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} (1) .
تتناقض مع الآيتين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} (2) .
وهذا خطأ لأن الآيتين الأوليين تتحدثان عن السابقين المقربين، وهم كما تشير الآية الأولى كانوا الكثيرين في صدر الإسلام ثم قالوا بعد ذلك، أما الآيتان الآخريان فتتحدثان عن أصحاب اليمين بصفة عامه، وهؤلاء كثيرون بحمد الله في أمتنا وفي الأمم السابقة، أو في عصر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفيمن جاء بعد ذلك، فلا تناقض لأن الموضوع مختلف.
(ح) قالوا: إن الآية {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (3) .
تتناقض مع الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (4) .
لأن الأولى تأمر بالصفح والثانية تأمر بالقتال. فهل هذا صحيح؟ كلا، لأن الآية الأولى من سورة الحجر وهي مكية ولكم يكن قد نزل الأمر بالجهاد بعد فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه مأمورين بالصبر والصفح والعفو، فلما هاجروا إلى المدينة إذن الله لهم في القتال وفرض عليهم الجهاد كما جاء في الآية الثانية، إذن لا تناقض لأن كل أيه في مرحله ولآن لكل آيه موضوعًا ومناسبة وليستا في موضوع واحد.
(ط) قالوا: إن الآية {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (5) .
تتناقض مع الآية {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (6) .
لأن الآية الأولى حرمت الربا فعلًا، والثانية فرضت الجزية وليس الربا على أهل الكتاب، فأين الربا المحرم من الجزية المفروضة؟ أليس التناقض في زعمهم وحدهم؟
__________
(1) سورة الواقعة الآيتان 13ـ14
(2) سورة الواقعة: الآيتان 39ـ40.
(3) سورة الحجر: الآية 85
(4) سورة التوبة: الآية 72.
(5) سورة البقرة: الآية 275
(6) سورة التوبة: الآية 29.(7/2071)
(ى) قالوا: إن الآية {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}
(1) .
تتناقض مع الآية {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) .
حيث الآية الأولى تأمره بترك الكافرين والمنافقين، والثانية تأمره بقتالهم وعدم تركهم، وهذا غير صحيح لأن الآية الأولى أمر بترك الأذى لا بترك الجهاد، والأذى منه ما هو قولي وما هو فعلى ثم جاءت الآية الأخرى لتؤكد على الجهاد ومهما كان عدد المسلمين قليلًا فالفرد منهم بعد التخفيف من الله بفردين والجهاد من صميم التوكل على الله. فلا تناقض كما رأينا.
(ك) قالوا: إن الآية {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (3) .
تناقض الآية {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (4) .
فالآية الأولى ذكرت أنه ليس على الرسول إلاَّ البلاغ، والآية الثانية أمرته بقتال المنافقين وجهادهم. هكذا يقولون فهل هذا صحيح؟ كلا، فالآية الأولى تتحدث عن أهل الكتاب والمشركين، والثانية تتحدث عن المنافقين، والأولى تبين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس مسؤولًا إلاَّ عن التبليغ حتى لا يحزن عليهم، أما الثانية فتبين وجوب قتالهم وعدم الحزن عليهم لأنهم قد أبلغوا وأساءوا إلى أنفسهم وإلى المؤمنين فلا تجوز مصادقتهم ولا السكوت عنهم ولا الحزن عليهم، فأين التناقض؟.
وهكذا قدموا نماذج أخرى من هذه الأمثلة التي تدل كما رأينا على أحد أمرين، إما جهل باللغة العربية وبلاغتها ودلالات ألفاظها وطرق أساليبها ولذلك لم يفهموا فحكموا بالتناقض بين غير المتناقضين، وإما أنهم يفهمون ولكن حقدهم أعمى عيونهم وبصائرهم حتى قالوه ما قالوه.
__________
(1) سورة الأحزاب: الآية 48.
(2) سورة الأنفال: الآية 66
(3) سورة آل عمران: الآية 20
(4) سورة النساء: الآية 89(7/2072)
(ل) أما التناقض من جهة المعاني فيقدم لنا الأستاذ العقاد نماذج منها ويرد عليها نكتفي ببعضها يقول: (قرأنا لبعضهم أخيرًا كتابًا عن الشيطان يلم فيه بصفة إبليس في الإسلام ويستغرب فيه من هذا الدين أن يقول عن الله إنه أمر الملائكة بالسجود لآدم، مع انه الدين الذي اشتهر بغاية التشدد في إنكار الشرك وتكفير كل ساجد لغير الله، ومرد الخطأ فيما بدر إلى الكاتب من التناقض بين التوحيد وبين السجود لآدم أنه فهم السجود بمعنى الصلاة دون غيرها من معاني الكلمة في اللغة العربية، وفاته أن الكلمة عرفت في اللغة العربية قبل أن يعرف العرب صلاة الإسلام، ولم يفهموا منها أنها كلمة، تنصرف إلى العبادة دون غيرها، لأنهم يقولون: سجدت عينه أي أغضت، وأسجد عينه أي غض منها، وسجدت النخلة أي مالت، وسجد أي غض رأسه بالتحية وسجد لعظيم أي وقره وخشع بين يديه، ولا تناقض على معنى من هذه المعاني بين السجود لآدم وتوحيد الله، وإنما السجود هنا هو التعظيم المستفاد من القصة كلها، وهو تعظيم الإنسان على غيره من المخلوقات، وبعضهم يرى أن الإسلام مناقض بطبيعته للعمل والسعي في سبيل الحياة لأنه يفهم من الإسلام أنه التواكل وتسليم الأمر إلى الله بغير حاجة إلى الحول والقوة لأنه لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، وجهل هؤلاء بالفهم أكبر من جهلهم باللغة لأن الإسلام إلى الله وحده وتحريم الإسلام لغيره يأتي على المسلم أن يسلم للظلم أو يسلم للتحكم من الناس أو من صروف الحياة، وينهاه أن يستسلم للخيبة وللقسمة الجائرة، وأن يستسلم لكل قضاء لا يرضاه، ويعلم أن الله لا يرضاه، وبعضهم يرى أن الإسلام والسلم نقيضان لأنه يفهم من كلمة أسلم أنها التسليم في الحرب أو التسليم قبل الحرب خوفًا من القتال، فكل مسلم فهو خاضع للسيف هزيمة بعد الحرب أو خوفًا من الحرب قبل إشهارها عليه، وهؤلاء الذين يتحذلقون على اللغة العربية التي يجهلونها يفوتهم أن كلمة أسلم في ميدان الحرب هي نفسها مأخوذة من إعطاء اليد أو بسطها للمصافحة، وأن المقصود بهذه الكلمة في الدين أنها استقبال الله والاتجاه إليه، فمن أسلم وجهه لله فقد استقبل طريقه وأعطاه وجهه ولم يتحول عنه إلى غيره ... ) وهكذا نجد الأستاذ العقاد يعزو ما فهمه أعداء الإسلام على أنه تناقض فيه إلى خلل في أنفسهم راجع إلى سوء فهمهم للإسلام وللغة العربية يقول: (ويندر أن نقرأ في كلام ناقد من الأجانب عن اللغة العربية شيئًا من مآخذ التناقض في الإسلام إلاَّ بدا لك بعد قليل أنه مخطئ، وأن مرد الخطأ عنده إلى جهل الإسلام أو جهل اللغة العربية، وبعضهم يجهلها وهو من المستشرقين لأنه يستظهر ألفاظها ولا يتذوقها، ولا ينفذ إلى لبابها من وراء نصوص القواعد والتراكيب.. وأكثر ما اطلعنا عليه من النقائص المزعومة فهو من قبيل هذه الأخطاء في التفرقة بين الكلمات على معانيها المطلقة وبين هذه الألفاظ على معانيها التي قيدها الاصطلاح أو خصصتها لغة القرآن الكريم، وفيما عدا هذه النقائص وما إليها يروع الباحث في الإسلام ذلك التناسق بين عقائده وأحكامه وأخلاقه) (1) .
وهذا الذي نبه إليه الأستاذ العقاد ذكرته مستشرقة إنجليزية واعترفت به على إخوانها من المستشرقين والمبشرين، وهذا أبلغ رد على هؤلاء الجاهلين الحاقدين تقول المستشرقة تشاريس وادي: (إن الغربيين لم يعرفوا الإسلام إلاَّ من الغربيين ولم يعرفوه من اهله، ولا من مصادره، فهم عرفوه من أعدائه، ولو أن هؤلاء حذقوا اللغة العربية وتذوقوا بلاغة القرآن لأدركوا إعجازه وأنه تنزيل من حكيم حميد) (2) .
وبهذا بطلت دعوى هؤلاء الأعداء بتناقض آيات القرآن وألفاظه أو معانيه، وبقي القرآن، وسيبقى إلى قيام الساعة في قمة العظمة من البلاغة والفصاحة والاتساق والانسجام محفوظًا بعناية الله لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد وكيف لا وهو تنزيل الحكيم الحميد سبحانه وتعالى.
__________
(1) حقائق الإسلام: ص 276ـ278 بتصرف واختصار
(2) رد مفتريات على الإسلام: ص 104(7/2073)
سادسًا ـ ادعاؤهم أن في القرآن أخطاء كثيرة وأنه يعارض مع العلم:
عرفنا من قبل أن أعداء الإسلام اتهموا القرآن الكريم بالوقوع في أخطاء كثيرة، بعضها تاريخي، وبعضها لغوي، وبعضها تشريعي، وبعضها علمي، وسقنا هناك أمثلة مما قالوه، ونحن هنا بعون الله تعالى وتوفيقه نبين بطلان هذه الاتهامات، وزيف الافتراءات وردها على أصحابها الحاقدين الجاهلين، وإليك البيان:
(أ) ما زعمه (فردريك بلس) أن القرآن الكريم لم يفرق بين مريم والدة عيس عليه السلام وبين مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، ويشير بذلك إلى قوله تعالى في قصة أم عيس: ما زعمه (فردريك بلس) أن القرآن الكريم لم يفرق بين مريم والدة عيس عليه السلام وبين مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، ويشير بذلك إلى قوله تعالى في قصة أم عيس: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (1) .
يقول بلس: (فكيف تكون مريم أخت موسى التي عاشت قبل المسيح بألف وأربعمائة سنة وهي أم المسيح) (2) .
__________
(1) سورة مريم: الآية 28
(2) التبشير والاستعمار: ص 41(7/2074)
ونقول: إن بلس أساء فهم القرآن الكريم ولم يتذوقه لغته العربية شأنه في ذلك شأن كل إخوانه ممن سبقت الإشارة إلى جهلهم بالإسلام واللغة العربية في الفقرة السابقة، فلم يعرف بلس أن هذا الخطاب من باب الكناية في علم البلاغة، فليس المقصود أنها أخت هارون عليه السلام في النسب والسن، وإنما أخته في الدين والخلق والعفة، فكما أن هارون عليه السلام لا يقع منه الفحش فكذلك مريم عليها السلام لا يقع منها ذلك، ومن ذلك قولنا وقول السابقين: يا أخا العرب، يا أخا اليهود، ونحو ذلك لمن يتخلق بأخلاقهم ولو لم يكن من بني جلدتهم، ولا يمت لهم بصلة، فليس المراد من: يا أخت هارون، أنها أخته من أبيه وأمه، وإنما هي أخته وشبيهته في التقوى والطهارة، والأمر كذلك فيما جاء عنها في سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} (1) .
وهي ليست ابنته نسبًا إنما هي ابنته في الدين والتقوى ورعاية الله عزَّ وجلّ وبركته واصطفائه (2) . وقد يكون عمران هذا ليس أبا موسى وهارون ولكنه عمران بن ماثال رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود عليهما السلام (3) . وسواء كان المراد هذا أو ذاك فمريم ليست ابنة أو اختا لأي منهما على الحقيقة، ولكن كما عرفنا على المجاز، قال ابن عطية: واختلف المفسرون في معنى قوله عزَّ وجلّ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} .
فقالت فرقة: كان لها أخ اسمه هارون لأن هذا الاسم كان كثيرًا في بني إسرائيل تبركًا باسم هارون أخى موسى عليهما السلام. وروى عن المغيرة بن شعبة ((أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسله إلى نجران في أمر من الأمور، فقالوا: إن صاحبك يزعم أن مريم هي اخت هارون (4) وبينهما في المدة ستمائة سنة، قال المغيرة: فلم أدر ما أقول، فلما قدمت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكرت ذلك له، فقال: ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون باسم الأنبياء والصالحين)) (5) . وفي هذا إشارة إلى أن الأخوة على الحقيقة وأن مريم كان لها أخ يسمى هارون تبركا باسم هارون أخي موسى عليهما السلام. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالمعنى أنه اسم وافق اسما، وقال السدي وغيره: بل نسبوها إلى هارون أخي موسى لأنها كانت من نسله، وهو كما تقول لرجل من قبيلة: يا أخا فلانة، ومنه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إن أخا صداء أذن، ومن أذَّن فهو يقيم)) (6) . وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: ليست بأخت هارون أخي موسى، فقالت عائشة: كذبت، فقال لها يا أم المؤمنين: إن كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال فهو أصدق وأخبر وإلاَّ فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة، قال: فسكتت (7) . وقال قتادة: كان في ذلك الزمن في بني إسرائيل رجل عابد منقطع إلى الله عزَّ وجلّ يسمى هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته، قيل: إذ كانت موقوفة على خدمة البيع، أي يا هذه المرأة الصالحة، ما كنت أهلًا لما أتيت به، وقالت فرقة: بل كان في ذلك الزمن فاجر اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ، ذكره الطبري، ولم يسم قائله، والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلًا لهذه الفعلة فكيف جئت بها أنت؟ (8) .
__________
(1) سورة التحريم: الآية 12
(2) انظر: رد مفتريات على الإسلام: ص 164
(3) انظر: تفسير ابن عطية: 2/83
(4) وهذا يؤكد أن الادعاء قديم يردده المعاصرون
(5) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل (الدر المنثور)
(6) أخرجه الترمذي في الصلاة وابن ماجة في الآذان وأحمد في مسنده: 4/169
(7) أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن سيرين (الدر المنثور)
(8) انظر فيما سبق: تفسير ابن عطية: 9/459ـ461(7/2075)
إذن فنحن أما عدة أقوال بعضها يستخدم الأخوة على حقيقتها وهارون المذكور أخو مريم من النسب، والبعض يستخدمها على المجاز والكناية سواء كان هارون عبدًا صالحًا أو أخا موسى، ولم يقل أحد كما رأينا إنها تعني أخت هارون أخا موسى على الحقيقة حتى يجئ هؤلاء المغفلون ويستنكرون ذلك على القرآن ويعتبرونه خطأً فاحشًا فالاستنكار عليهم ولا خطأ من فهمهم أو من حقدهم لأن أحد الأقوال إن مريم أم عيسى هي أخت هارون وموسى عليهم جميعًا السلام لأن بينهم كما قال ستمائة عام أو كثر. ولذلك تراجع كثير من مرددي هذه الدعوى القديمة عن ذكرها، ولكن بعض المعاصرين يحييها وذلك دليل جهله وتخلفه.
(ب) قول تيموثا قول تيموثاوس: جاء في القرآن في سورة الكهف في الحديث عن ذي القرنين قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} (1) .
وعلق المجلس الملي القبطي على ذلك بهذه الجملة: (الشمس تغيب في بئر) مستغربًا ومستنكرًا، ثم أكدوا ذلك بقول البيضاوي: (إن الإسكندر الأكبر رآها ورأي طينها وماءها وناسًا عرايا حولها) (2) .
والواقع أن هذا الإدعاء باطل كسابقه، راده ـ كغيره ـ إلى الجهل وسوء الفهم للغة العربية وألفاظها ودلالاتها وبلاغتها، فلم يقل أحد إن الشمس تغيب في بئر حقيقي كما فهموا وعبروا، وإنما التعبير تشبيه تمثيلي كأن الشمس عند الغروب على سطح المحيط، وعند اختلاط الصفرة والحمرة من أشعتها مع ماء المحيط تبدو لمن يراها من بعيد كأنها تسقط في عين حارة ملتهبة أو بئر متفجرة بالنيران، وكثيرًا ما رأينا الرسامين يعبرون في لوحاتهم عن هذا المنظر (منظر الغروب) كما عبر عنه القرآن الكريم، فالكلام ليس على الحقيقة ولكنه التشبيه والتمثيل، وحين رجعنا إلى التفسير وجدنا هذه المقولة من كلام كعب الأحبار الذي كان يهوديًا ثم أسلم، فبضاعتهم ردت إليهم، واستغرابهم واستنكارها يرجع إلى توارتهم.
__________
(1) سورة الكهف: الآية 86
(2) رد مفتريات على الإسلام: ص 128(7/2076)
قال ابن عطية: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} على وزن فعلة أي ذات حمأة، ويقرأ عاصم في رواية أبي بكر والباقون (في عين حامية) أي حارة، وقد اختلف في قراءة ذلك معاوية وابن عباس، فقال ابن عباس رضي الله عنهما (حمئة) وقال معاوية (حامية) فبعث إلى كعب الأحبار ليخبرهم بالأمر كيف هو في التوراة؟ فقال لهما: أما العربية فأنتما اعلم بها مني (1) . ولكني أجد في التوراة أنها تغرب في عين ثأط، والثأط الطين ... وذهب الطبري إلى الجمع بين الأمرين فقال: يحتمل أن تكون العين حارة ذات حمأة فكل قراءة وصف من أحوالها وذهب بعض البغداديين إلى أن في بمنزلة عند كأنها مسامتة من الأرض فيما يرى الرائي لعين حمئة) (2) .
وقال الدكتور عبد الجليل شلبي: (وما تقوله الآية هو أن هذا الرجل جال في الأرض حتى وقف على شاطئ بحر أو محيط فرأي الشمس عندما تصل في مرآه إلى الأفق تغيب في الماء وأن الماء الأزرق حيث تغيب الشمس تشوبه صفرة أو حمرة تجعله عكرًا، فهذه هي عين الماء الحمئة، ليست البئر) (3) .
فتبين من ذلك أن المقصود التشبيه والتمثيل وليس الحقيقة كما فهم رجال المجلس القبطي، وإذا فرض أنها على الحقيقة فهي من توراتهم كما روى عالمهم القديم كعب الأحبار.
__________
(1) هكذا يكون الأدب، وكان الواجب على هؤلاء الجاهلين المعاصرين أن يقتدوا بسلفهم في الأصل، ويردوا علوم العربية وألفاظها إلى أهلها ما داموا لا يفهمون!!
(2) تفسير ابن عطية: 9/393 ـ 394
(3) رد مفتريات على الإسلام: ص 129(7/2077)
(ج) نسبوا إلى القرآن الكريم أخطاء تاريخية ـ في زعمهم ـ كحديثه عن هامان الذي ذكره القرآن وزير الفرعون مع أنه كان بينه وبين فرعون ألف سنة ولم يكن وزيرًا له بل كان وزيراٍ للملك أحشويروش ملك الفرس، كما جاء في سفر (استير) يشيرون بذلك إلى قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (1) .
وقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} (2) .
وللرد على هذا الزعم نقول:
1- لا مانع أن يكون هناك أكثر من شخص باسم هامان في قرون مختلفة.
2- إن فرعون لقب ملك مصر في زمن موسى عليه السلام وليس اسما لشخص، فلا مانع أن يكون قد استوزر هامان أكثر من فرعون أو ملك.
3- أنهم اعتمدوا على سفر من أسفار التوراة، وقد علمنا ممن الفقرات السابقة أن القرآن أصدق منها لأنه محفوظ بعناية الله، وهي امتدت إليها أيدي التحريف فلا يحتج بالمحرف على الصحيح، بل العكس هو الصحيح، وقد أكد ذلك الدكتور عبد الجليل شلبي فقال: (جاء اسم هامان في أوراق بردية (3) . أما هامان استير فشخصية خيالية والدارسون المحدثون يثبتون أن قصة استير كلها قصة موضوعة خيالية لا أصل لها ورجحوا أنها مقتبسة من أسطورة بابلية قديمة، ولكنها صورت إلى ما يناسب طبيعة اليهود من اعتمادهم على النساء في التجسس، ودفعهن إلى الملوك والقواد لاستمالة قلوبهم بجمالهن وإغرائهن بمفاتن أجسادهن ... ويرى الباحثون أن القصة وضعت نموذجًا لتحتذيه الإسرائيليات، أما أدلة كذبها فهي أنها لم تذكر في غير التوراة) (4) . فليس هناك إذن خطأ تاريخي ولا غيره، إنما إفك وافتراء اخترعه أعداء القرآن ليلحقوا به أي نقص، وأنىَّ لهم ذلك؟
__________
(1) سورة القصص: الآية 8.
(2) سورة غافر: الآية 36
(3) يريد أنه مصري لا فارسي
(4) رد مفتريات على الإسلام: ص 158ـ159(7/2078)
(د) ونصبوا أنفسهم حكامًا على لغة القرآن ـ وهم الجاهلون بها وبأولياتها ـ فقالوا إن في القرآن أخطاء لغوية منها رفع إسم إن كقوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (1) .
ونصب الفاعل في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} . (2)
ونصب المضاف إليه في قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} (3)
إلى نحو ذلك من السخافات والجهالات، ولمزيد جهلهم سموها لغوية، وإنما هي كما يريدون نحوية، وهي تدل دلالة قاطعة على خيبتهم ورسوبهم في امتحان أوليات النحو العربي حيث لم يفهموا من المفعول به، ولم يعرفوا الفرق بين المنصرف وغير المنصرف كما لم يعرفوا إعراب المثنى، فإبراهيم في الآية الكريمة مفعول به لا فاعلا؛ لأن الله تعالى هو الذي ابتلاه، وضراء مضاف إليه ولكنها من الممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة فتجر بالفتحة ولا تجر بالكسرة كما ظنوا، أما اسم الإشارة: هذان بعد إن ففيه قراءات عديدة بالرفع بالألف، وفي إن قراءات عديدة، والبعض يعمل إن والبعض يلغي عملها، والبعض بفسرها تفسيرات أخرى غير إن المؤكدة الناصبة. (4)
وهكذا ليس في الأمر خطأ نحوي كما زعموا ولكن بعض ما زعموه جهل، والبعض الآخر له تفسيرات أخرى ولكنها صحيحة ومعروفة في اللهجات العربية والنحو العربي وعند أهل الفن والاختصاص، وأين هؤلاء من أولئك؟
__________
(1) سورة طه: الآية 63
(2) سورة البقرة: الآية 124.
(3) سورة هود: الآية 10
(4) انظر في ذلك تفسير ابن عطية: 10/47 – 49(7/2079)
(هـ) وأما ما زعموه من وجود أخطاء تشريعية في القرآن الكريم من مثل: عدم التسوية بين الرجل والمرأة في الميراث وغيره، وقطع يد السارق، وإباحة الطلاق وتعدد الزوجات، ونحو ذلك، فهو زعم باطل وضلال مبين، ومرده إلى أمرين: (1) أحدهما: أنهم لم يفهموا حكمة التشريع الإسلامي العظيم، والثاني: أنهم يفهمون، ولكنهم بحقدهم على الإسلام يروجون بهذه الأباطيل إلى العلمانية لهدم الإسلام والقضاء على أحكامه وتشريعه، ولا مانع من اجتماع الأمرين معًا فيهم فهم يجمعون كما رأينا بين الجهل والعلمانية.
وبالرجوع إلى فلسفة التشريع الإسلامي العظيم يتبين جماله وعظمته فيما شرع وقرر وبيَّن من أحكام، فهو يسوي بين الذكر والأنثى في جميع الأمور ولا يستثني من ذلك إلاَّ أمور خاصة قليلة تتناسب مع خصائص ومسؤوليات كل نوع، فهو إنما ميز الرجل على المرأة في الميراث لأنه ألقى على الرجل مسؤوليات مالية كثيرة أعفي منها المرأة، ولو قارنا بين ما يبقي الرجل من الميراث بعد قيامه بمسؤولياته وبين ما أخذته المرأة من الميراث لوجدنا أن حظ المرأة أعظم، وهي التي كانت قبل الإسلام بلا ميراث، وما تزال في الغرب بلا نصيب.
__________
(1) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي: ص12، وما بعدها(7/2080)
وأما قطع يد السارق فلحماية المجتمع من خطره وحمايته أيضًا من الهلاك، فقطع يد سارق واحد ـ زجرًا له وردعًا لغيره ـ يقي المجتمع مما آل إليه أمره الآن في ظل الغياب هذا الحد الشرعي إلى كثرة السارقين وتفشي خطرهم ونهب أموال المجتمع إلى معوقين. أي أنهم جميعًا سارقون. ولو أقيم حد الله مرة لكان السارق قد درع وأمن المجتمع كله من هذا البلاء، ونحن نعلم أن الإسلام لا يطبق هذا الحد إلاَّ بعد استيفاء الجوانب والأدلة التي لا تجعل للسارق عذرًا أو شبهة فيما فعل، وهذا من عظمة الإسلام.
واما إباحة التعدد في الزوجات، فقد أحاطها الإسلام بسياج العدل والتقوى، وهو حينئذِ علاج لكثير من الأوضاع الاجتماعية غير الصحيحة، بدليل أن كثيرًا من الأوربيين والأوربيات قد امتدحوه، فأيهما أفضل: أن تكون المرأة زوجا أو خلية وعشيقة؟ وقد حرم الإسلام التعدد عند عدم العدل ليقي المرأة والمجتمع مما آل إليه أمره من الخيانات والأبناء غير الشرعيين.
وكذلك كانت إباحة الطلاق بابًا لحل العقيدة الزوجية، وخروجًا من عشرة غير موفقة وشركة غير مستقرة تنتهي به المشاكل وتستأنف بعده حياة جديدة، أما أن يبقيا على خلاف ونكد في ظل تحريم الطلاق، فذلك يدفع ـ كما هو واقع الآن ـ إلى الإجرام والجنايات الزوجية، ولذلك بدأت الصيحات تعلو في البلاد التي تحرمه منادية بتحليله كما فعل الإسلام، ونحن نعلم أن الإسلام لم يحله إلاَّ لحاجة وبعد استفاد كل وسائل التفاهم والإصلاح (1) .
فأين الأخطاء التشريعية في هذه الأسباب الحياتية الاجتماعية العظيمة؟
__________
(1) انظر: كتابنا في التشريع الإسلامي: ص 81ـ88(7/2081)
(و) ونسبوا إلى القرآن أخطاء أخلاقية منها أن يبيح الكفر عند الإكراه عليه كقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} (1) .
وكذبوا في قولهم إن هذا الخطأ أخلاقي بل هو قمة الكرم والأخلاق والجمال الإسلامي، فالمكره لا حول له ولا قوة إزاء المكره القوي الظالم وهو بين أمرين كلاهما مر، إما أن يموت في سبيل إصراره على الإسلام، أو يقول كلمة الكفر عند الضرورة ليخرج من المأزق ثم يستأنف الجهاد، وكلمة الكفر في هذه الحال أنفع للإسلام والمسلمين من إزهاق روح بريئة مسلوبة الإرادة، وفرق بين هذا وبين التضحية بالروح في سبيل الإسلام والدعوة، فهذه تضحية يحث عليها الإسلام ويرغب فيها ويجعلها أعظم الأعمال حين تقوم على الإرادة الصادقة والنية المخلصة، بينما المكره لا حول له ولا إرادة، فماذا يستفيد الإسلام من موته مكرهًا في سبيل المبدأ؟ إن الإسلام يقدم مصلحة الشخص وحياته في هذا الموقف ويأذن له في كلمة الكفر حتى يصبح حر الإرادة فيموت بحريته أو يعيش مسلمًا بإرادته، وهذا موقف أخلاقي أسمى وأعظم من الموت على الإسلام تحت الإكراه والظلم، وإذا رجعنا إلى سبب نزول الآية وقفنا على الحق، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: (كان عبد الله بن أبي السراج ومقبس بن صبابة وأشباهها ممن كان آمن برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم ارتد، فلما بين في هذه الآية – السابقة على آياتنا – أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنين المعذبين بمكة، وهم بلال وعمار وسمية أمة وخباب وصهيب وأشباههم، ولذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من اسلم من هؤلاء الضعفه، ويعذبونهم ليرتدوا ـ فربما سامحهم بعضهم بما أرادوا من القول، وروى أن عمار بن ياسر فعل ذلك فإستثناء الله في هذه الآية، وبقيت الرخصه عامه في الأمر بعده، وروى أن عمار إشتد عليه ما قاله فكلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له: ((كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحا بالذي قلت أم لا؟)) قال، لا، قال: فأنزل الله {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (2)
ولهذا أتضح لنا الأمر كان صعبا والإكراه كان شديدا فإذن الله لهم ولمن في مثل أحوالهم بذلك قولا وفعلا وهذه رحمة من الله وفضل. أما من ينشرح صدره لكلمة الكفر وبلا ضغط ولا إكراه، فهذا مغضوب عليه من الله وله عذاب عظيم.
__________
(1) سورة النحل: الآية 106
(2) تفسير ابن عطية: 8/515، وهامش: ص 517.(7/2082)
(ز) وإدعوا أن في القرآن أخطاء علميه لأنه يتعارض مع العلم، فمن ذلك قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (1)
ومعنى هذا أن الأرض ثابتة بينما أثبت العلم أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة.
وهذا إدعاء كاذب – كما نرى – فالقرآن الكريم لم يقل إن الأرض ثابته، وإنما قال: إن فيها رواسى وهى الجبال تقيها من الأضطراب حتى يستطيع البشر أن يقيموا عليها ويمارسوا كل أسباب الحياة من حل وترحال نوم وحركه وصناعه وزراعه، ولو كانت بلا رواسى لأضطربت وعجز الناس عن ألإستقرار عليها، ولا معنى حفظها من الأضطراب بالجبال والرواسى والأوتاد أن يكون غير متحركه، فنحن ننام في الطائره وهى مسرعه وفى لاقطار وهو يتحرك، وفى السفينه وهى تمخر عباب البحر، فإذا إضطرب واحد منها بخلاف سرعته المعتاده وحركته العاديه إستيقظنا وشعرنا بالدوار والتعب الخوف، وقد نطلب من السائق أن يعمل شيئا يسكنها لتثبت ولا يعنى تثبيتها أن تقف ولا تتحرك، بل أن ينقطع أضطرابها، وتستمر حركتها، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحركه في قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (2)
و (كل) : كلمة تشمل الشمس وتوابعها من الأرض والقمر والكواكب الأخرى، فالقرآن إذن يقرر حركة كل الكواكب والنجوم (3) ، وهو مع هذا يرسي حركتها ويمنعها من الاضطراب، بل إن القرآن الكريم كان أول من لفت مدارك العلماء لوظيفة الجبال من أنها أثقال لتثبيت الأرض في دورانها وحفظها من الإضطراب (4) .
فهل يقال بعد ذلك إنه يتعارض مع العلم؟ وكيف يقال ذلك وجميع ما تم التوصل إليه من حقائق العلم سبق القرآن الكريم إليه، وأخبر به، وما يزال فيه الكثير من الحقائق لم يصل إليها العلم بعد. يقول الدكتور دراز: (قول قاصر أن نقول إن القرآن دائرة معارف عصره، فلقد كانت لجميع العصور أوهامها التي أعتبرتها حقائق مقررة، ولم يثبت خطؤها إلا فيما بعد، ولكن القرآن في مسلكه بين محالات العلم لا يتأرجح أبدا، والحقائق التي يسوقها كانت وستظل لا تقهر) (5)
__________
(1) سورة لقمان: الآية 10
(2) سورة يسن: الآية 40
(3) رد مفتريات على الإسلام: ص 31.
(4) الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص576.
(5) مدخل إلى القرآن الكريم: ص 180.(7/2083)
سابعا – ومن المطاعن الحديثه:
قول دى بوي: (جاء القرآن للمسلمين بدين، ولم يجئهم بنظريات، وتلقوا فيه أحكاما ولكنهم لم يتلقوا فيه العقائد) (1) . وما قاله مرجليوت وطة حسين من التشكيك في الشعر الجاهلى لأنه لا يمثل البيئه الجاهليه وأن القرآن هو الذي يمثلها لبينتهوا من ذلك إلى أنه عمل إنسانى (2)
أما مقولة دى بوى فبطلانها ظاهر، فقد علمنا مما سبق بشمول الإسلام ولإتساقه في عقائده وعباداته وأخلاقه وتشريعاته وأحكامه، وتكاليفه بصورة لم يسبق إليها ولم يلحق بها، وقد إستطاع بما جاء به أن يخلق أمه ويبنى حضارة وينشر ثقافه في بضع سنوات، ونظرة منصفه إلى دستور الإسلام الحى القرآن الكريم والسنه النبوية ترينا وترى كل منصف ما في الإسلام من نظريات وقوانين ومبادئ وقواعد تحقق لكل من يأخذ بها اسباب السعاده والأمن في الدنيا والآخرة، كيف لا وهو تنزيل الحكيم الخبير، وتشريع الرحمن الرحيم،
يقول الدكتور عبد الحليم محمود: (فى هذه الفترة من صدر الإسلام – فترة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم – كان القرآن وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه يلبيان حاجات الأمه إعتقاديه كانت أو تشريعيه أو خليقه، وكانت الأسئله تترى موحهة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيجيب عنها الوحى القرآنى تارة وتجيب عنها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تاره أخرى، وأسئله المجتمع إذ ذاك لم تكن تنتهى إلى حد، وكانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة فقد سألوه عن الروح، وسألوه عن القدر، وسألوه عن الأزل، وسألوه عن المصير، وسألوه عن الله، وعن الإيمان الإسلام والإحسان والساعه، وسألوه عن الخمر والميسر والمأكل والمشرب، والأهله والمحيض، وسألوه عن كل ما يجول في أذهانهم، وكان القرآن سجلا يصور الكثير من الأسئله ويعطى الإجابه عنها) (3) .
__________
(1) القرآن والنبى: ص 100
(2) الظاهرة القرآنيه: ص56؛ الفكر الإسلامي الحديث: ص187.
(3) إقرأ الآيات التي صدرت بقولة تعالى: {يَسْأَلُونَكَ} وهى كثيرة.(7/2084)
ثم يقول: (أظن أننا بعد هذا لسنا بحاجه إلى الرد على الأستاذ دى بوى، فلقد رأينا بوضوح أن القرآن جاء للمسلمين بدين وبنظريات، وبأحكام وبعقائد) ، ولا شك أن الأمام الرازى كان أصدق رأيا وأعمق غورا إذ يقول معبرا عن الحقيقة: (إن الآيات الوارده في الأحكام الشرعيه أقل من ستمائة آيه، وأما البواقى ففى بيان التوحيد والنبوة والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين) ، ويقول: (وأما محمد علية الصلاة والسلام فإشتغاله بالدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أظهر من أن يحتاج فيه إلى التطويل، ولم يرفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وقد أكمل الله دينه، وأتم نعمته على المسلمين) ، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)
(لقد أكمل الله للمسلمين الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداوقد أتمه عز وجل فلا ينقصه أبدا وقد رضية فلا يسخطه أبدا) (2)
فدين هذا شأنه من الكمال والتمام ماذا ينقصه؟ لقد صحح العقائد التي أفسدتها الأمم السابقه، وقوم الشرائع التي إنحرفت عنها الأمم السابقه. وهدى الفطرة إلى أصلها الإلهى بعد أن أفسدتها القوانين والفلسفات الوضيعه، ووضع نظاما للعبادة ونظاما للمال، ونظاما للأسرة، ونظاما للعقوبات، ونظما للسياسة والإجتماع، والعلاقات الدولية والحرب والسلام وحتى نستطيع أن نقول بكل تأكيد وثقة، ولا تحتاج البشرية إلى شيء بقدر حاجتها إلى الإسلام، وإذا أخذت به فلن تحتاج إلى شيء آخر.
__________
(1) سورة المائدة: الآية 3
(2) القرآن والنبى: ص98-100.(7/2085)
ويقدم الدكتور دراز العديد من النظريات القرآنيا والقواعد والمبادئ التي جاء بها (1) فمن ذلك قوله (إن النفس الإنسانيه لا تتغذى بالحقائق النظريه وحدها فبجانب حاجة الإنسان إلى المعرفه والإعتقاد يحتاج في إلحاح إلى القاعدة العلمية القادرة على توجية نشاطه في كل لحظة من حياته، سواء في تصرفاته مع نفسه أو في عرقاته من غيره أو مع خالقه، ولقد قدم القرآن إلى هذه الحاجه النظام الوافى بأوسع وأدق طريقه ممكنه، وخط في كل فرع من فروع النشاط الإنسانى خطا واضحا يسلكه الإنسان في أمان واطمئنان) (2)
ويقول رحمة الله: (إذا كان القرآن بعيدا عن أي عامل خارجى قد اثر بصفة دائمه على عقول جد مختلفه فلا بد أن يكون ذلك راجعا إلى ما له من جاذبيه خاصه بتوافقه الكامل مع أسلوب الناس الفطرى في التفكير والسعور، وبإستجابته لما تتطلع إليه نفوسهم شؤونه العقيده والسلوك، وبوضعه الحلول الناجعه للمشكلات الكبرى التي تقلق بالهم، وبمعنى آخر أنه ينطوى على ما يشبع حاجتهم إلى الحق والخير والجمال، بما يجمع من صفات العمل الدينى والأخلاقى والأدبى في آن واحد) (3)
اما مرجليوت وطه حسين، فقد قدم الأول فرضه عن الشعر الجاهلى القائم على الشك فيه والقول بأنه منتحل لأنه لا يصور البيئة الجاهليه تصويرأ صحيحا. ثم جاء طه حسين في كتابة (فى الشعر الجاهلى) فكرر هذا الكلام ثم إنتقل إلى القرآن فذكر أنه اصدق من الشعر الجاهلى في تصوير البيئة، يريد من وراء ذلك أن يصل إلى أنه عمل إنسانى، ثم يشكك في قصة إبراهيم وإسماعيل كما ذكرهما القرآن.
أما القضية الثانيه وهى القول بأن القرآن عمل إنسانى فقد بحثناها بإستفاضه في البند أولا من هذا الفصل، وأما القضية الأولى وهى التشكيك في الشعر الجاهلى فإنها تتناول القرآن الكريم بشكل أو بآخر، ومن هنا كانت خطورة هذا المنهج الدراسى الغربى للشعر الجاهلى على القرآن الكريم، وفى هذا يقول الشيخ محمود شاكر: (لقد نشر مرجليوت فرضه سنة 1952 في إحدى المجلات الاستشراقيه، وفى خلال عام 1926 نشر طه حسين كتابه المشهور (فى الشعر الجاهلى) ، وربما لم يكن فرض مرجليوت ليحتوى على شيء خاص غير عادى لو أنه حين نشر لم يصادف ذلك الترحيب الحار من المجلات المستعربه ومن بعض الرسالات التي تقدم بها دكاترة عرب محدثون حتى لقد كسب هذا الفرض قيمة (المقياس الثابت) في دراسة الدكتور صباغ عن (المجاز في القرآن) فقد رفض هذا الدكتور رفضا مقصودا مغرضا للإعتراف بالشعر الجاهلى كحقيقة موضوعيه في تاريخ الأدب العربى، فالمشكلة بوضعها الراهن إذن تتجاوز نطاق الأدب والتاريخ وتهم مباشرة منهج التفسير القديم كله، ذلك المنهج القائم على المقارنة الأسلوبيه معتمدا على الشعر الجاهلى كحقيقة لا تقبل الجدل) (4)
__________
(1) انظر: مدخل إلى الرقآن الكريم: ص 106-113، ص: 175-179.
(2) المصدر السابق: ص 87.
(3) المصدر السابق: ص 69.
(4) مقدمه الظاهرة القرآنية: ص 56-57.(7/2086)
إذن فنظرية مرجليوت التي شككت في الشعر الجاهلى وجعلت بعض الدارسين ينكرونه على إعتبار أنه منتحل لأختلاف رواياته، ولأنه لا يمثل البيئة الجاهلية، ولأن فيه تقاربا مع الصور الدينيه التي جاءت في القرآن، ثم منهج الشك الديكارتى الذي أعتمده طه حسين مضافا إلى فروض مرجليوت في الشعر الجاهلى كان لهما تأثير على الثقة في القرآن الكريم الذي كان كثيرا ما تقارن فصاحته وبلاغته ولغته بهذا الشعر، وبذلك يصبح القرآن الكريم أيضا مجالا للشك، ومن هنا وجدنا طه حسين ينكر قصة إبراهيم وإسماعيل الوارده في القرآن الكريم ولا يعتبر ورودها فيه كافيا لأثباتها، ومن هنا قامت الدنيا وقعدت إبان ظهور هذه النظرية الخطيرة، وبدأ البحث الفعلى الجاد عن جوانب أخرى في إعجاز القرآن الكريم غير اللغه والبلاغه (اللفظ) الذين سادا في الشعر الجاهلى والأدب العربى عموما.
وقد ناقشنا قضية الإعجاز القرآنى برمتها في البند ثالثا وبينا أن إعجازه متعدد لا يقتصر على اللفظ أو الأسلوب أو اللغة أو البلاغة أو المعنى والمحتوى أو النظم والتركيب أو الموضوعات والأخبار أو ما مضى وما سيأتى ... إلخ، وبينا أن ذلك الإعجاز الشامل مستمر إلى يوم القيامه بصرف النظر عن ثبوت الشعر الجاهلى أو الشك فيه.(7/2087)
وبهذا تبطل نظريه مرجليوت وطه حسين في القرآن الكريم الذي لم يتأثر إعجازه بالشعر الجاهلى ولا غيره. ولقد عبر (لا متز) في كتابه (مهد الإسلام قبيل الهجرة) عن أسفة لأن هذا الكتاب لم يقدم معلومات أو تفاصيل توصف بها بلاده من حيث العلوم المناخيه والجوية، بينما يطيل تأملاته أمام النجوم والجبال والسحاب والمظاهر العاديه الأخرى التي يصفها بالعجائب، ورد عليه الدكتور دراز رحمة الله فجعل هذا المأزق حسنة من حسنات القرآن ودليلا من أدلة إعجازة وعظمته وبرهانا على أنه من عند الله وليس إنتاجا محليا أو صورة للبيئة كما أدعى مرجليوت وطه حسين، فقال: (وهنا يكمن في رأينا الدليل على أن القرآن ليس إنتاجا محليا لأن الحقائق التي يقدمها هي من النوع الذي يسهل على جميع العقول إدراكه وإستخلاص العقائد الأخلاقيه منه، ولهذا نرى مكانه سامقا فوق كل الإعتبارات الجغرافيه والعنصريه عنها، ولا يركز إلا على العبر والدروس التي تفيد في تربية الإنسان، إن هذا المنهج الكامل والمتكامل الذي ينفرد به القرآن وحده هو ذاته برهان وأى برهان) (1) . وبعد:
فهذا هو القرآن الكريم كتاب الله ووحية الذي قال فيه وقوله الحق:
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (2)
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (3)
{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (4)
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (5)
{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (6)
{الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (7)
{الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (8)
{وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ} (9)
{وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (10)
{مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (11)
{هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (12)
{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (13)
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} (14)
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (15)
وصلى الله على سيدنا محمد الهادى {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (16)
والحمد لله رب العالمين أولا وأخرا.
الدكتور محمد نبيل غنايم
__________
(1) مدخل إلى القرآن الكريم: ص 180-181.
(2) سورة هود: الآية 1
(3) سورة البقرة: الآية 2
(4) سورة فصلت: الآية 2
(5) سورة الأسراء: الآية 9-10.
(6) سورة الأعراف: الآية 2
(7) سورة يونس: الآية 1.
(8) سورة يوسف: الآية 1
(9) سورة ق: الآية 1
(10) سورة آل عمران: الآية 58.
(11) سورة يونس: الآية 57.
(12) سورة البقرة: ألآية 185.
(13) سورة المائده: الآية 16.
(14) سورة الكهف: الآية 1 –4
(15) سورة الفرقان: الآية 1
(16) سورة الشورى: الآية 53.(7/2088)
المراجع
1- القرآن الكريم.
2- أجنحة المكر الثلاثه. عبد الرحمن حنبكه، دار القلم، بيروت.
3- الإسلام في مواجهة الاستشراق. د. عبد العظيم المطعنى. دار الوفاء. المنصورة.
4- الباكورة الشهية في الروايات الدينية. مجموعة من المستشرقين.
5- التبشير والإستعمار. د. مصطفى خالدى د, عمر فروخ، المكتبه العصريه، بيروت.
6- التشريع الجنائى الإسلامى. أ. عبد القادر عودة، دار الثرات، القاهرة.
7- تفسير إبن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) غبن عطية. إدارة إحياء التراث، قطر.
8- تفسير إبن كثير (تفسير القرآن العظيم) إبن كثير، دار إحياء التراث العربى، بيروت.
9- حقائق الإسلام وأباطيل خصومه. عباس العقاد. المكتبه العصريه، بيروت.
10-خاتم النبين. محمد أبو زهرة. إدارة إحياء التراث. قطر.
11-دراسات في الثقافه الإسلامية. د. محمد نبيل غنايم وآخرون، مكتبه الفلاح. الكويت.
12-رد مفتريات على الإسلام. د. عبد الجليل شلبى. دار القلم، الكويت.
13-سنن ابن ماجه بتحقيق الألبانى. ابن ماجه. المكتب الإسلامى، بيروت.
14-شرح العقيدة الطحاوية، لأبن أبي العز الحنفى، المكتب الإسلامى، بيروت.
15-الصحاح في اللغة والعلوم، نديم وأسامه مرعشلى. دار الحضارى العربيه، بيروت.
16- صحيح مسلم بشرح النووى، النووى، المطبعه المصرية، القاهرة.
17-الظاهرة القرآنيه. مالك بن نبى، الأتحاد الإسلامي العالمى.
18-عون البارى لحل أدلة صحيح البخاري، صديق خان. إدارة إحياء التراث، قطر.
19- الفكر الإسلامي الحديث. د. محمد البهي. مكتبة وهبة. القاهرة.
20- في التشريع الإسلامى. د. محمد نبيل غنايم. دار الهدايه. القاهرة.
21-القرآن والمبشرون. محمد دروزة، المكتب الإسلامى، بيروت.
22-القرآن والنبى. د. عبد الحليم محمود / دار المعارف، القاهرة.
23-كتاب دول الإسلام. الذهبى. إدارة إحياء التراث الإسلامى، قطر.
24-لباب النقول في أسباب النزول. السيوطى. هامش المصحف الشريف. دار الشروق.
25-الإتقان في علوم القرآن، السيوطى. مصطفى الحلبى، القاهرة.
26-مدخل إلى القرآن الكريم. د. محمد عبد الله دراز. دار القلم، الكويت.
27-مقدمه الظاهرة القرآنيه. محمود شاكر، الإتحاد الإسلامي العالمى.
28-النبأ العظيم. د. محمد عبد الله دراز. دار القلم، الكويت.
29- الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع. الخطيب البغدادى، تحقيق. د. محمد رأفت سعيد. مكتبة الفلاح، الكويت.(7/2089)
الغزو الفكرى
فى التصور الإسلامى
إعداد
الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح
بسم الله الرحمن الرحيم
مصطلح الغزو الفكرى:
بداية نقف عند مصطلح (الغزو الفكرى) الذي يتردد في هذا العصر كثيرًا على ألسنة الباحثين والكاتبين والمتحدثين.
وإن وقفة إستقرائية تكشف في وضوح أن هذا المصطلح لم يسمع به قبل القرن الرابع عشر الهجرى (القرن العشرين الميلادى) .
ولكن ليس معنى عدم وجود المصطلح أو عدم استخدام المصطلح قبل القرن الرابع عشر الهجرى أن معنى الغزو الفكرى ومفهومه وموضوعه لم يكن موجودًا، لأن المستقرئ لأحوال الأمم والشعوب يجد أن مفهوم (الغزو الفكرى) كان موجودًا في القديم، وفى الحديث..
وكلمة: (الغزو) في اللغة العربية، تعطى معنى: القصد والطلب والسير إلى قتال الأعداء في ديارهم وانتهابهم وقهرهم والتغلب عليهم.
ومصطلح (الغزو الفكرى) قصد به: إغارة الأعداء على أمة من الأمم بأسلحة معينة وأساليب مختلفة لتدمير قواها الداخلية وعزائمها ومقوماتها.
وإنتهاب كل ما تملك (1) .
والفرق بين (الغزو الفكرى) ، (والغزو العسكرى) : أن الغزو العسكرى يأتى للقهر، وتحقيق أهداف استعمارية، دون رغبة الشعوب المستعمرة, أما الغزو الفكرى فهو لتصفية العقول والأفهام لتكون تابعه للغازى (2) .
وقد يكون الغزو الفكرى أشد وأقسى لأن الأمة المهزومة فكريًّا تسير إلى غازيها عن طواعية، وإلى جزارها عن رضا وإقتناع وحب، لا تحاول التمرد أو الخلاص.
وبهذا يظهر ما بين المصطلح واللغة من صلة، حيث إن كلمة الغزو، استعلمت في معناها، وهى الإغارة على أمة من الأمم للاعتداء عليها وانتهابها، ولكن عن طريق الفكر، وتدمير القوى المفكرة فيها، وهذا ما لفتت إليه كلمته: (الفكر) ، التي يطابق معناها في العربية معناها في المصطلح (3) .
ويمكن أن يقال: إن المصطلح استعار كلمة (الغزو) للفكر، لما بينها وبين الغزو في الحرب من علاقة في نهب الشعوب وتدميرها والسيطرة عليها.
ويمكن أن يقال: إن مصطلح (الغزو) مجاز على التشبيه بالحرب الفعلية في التدمير والتخريب والانتهاب والسيطرة على الشعوب ... لهذا شاع استعمال هذا المصطلح وأضرابه من المصطلحات التي تدل على هذا المعنى وتسير في فلكه (4)
ومما يسترعى الانتباه أن بعض العلماء والباحثين ينكرون ويستنكرون وجود (الغزو الفكرى) . معتبرين الحديث عنه مجرد (وهم) من الأوهام.
وهؤلاء العلماء إنما ينطلقون من تصورهم لعالم اليوم، باعتباره – رغم الحدود الدولية السياسية، والحواجز الجغرافية – وبسبب من التقدم الهائل في ثمرات (ثورة الاتصال) ينطلقون من تصورهم لعالم اليوم باعتباره (وطنًا واحدًا) ، لحضارة واحدة، يسمونها: (حضارة العصر) أو (الحضارة العالمية) أو (الحضارة الإنسانية) ويتصورون الأمم والشعوب والقوميات مجرد درجات ومستويات في البناء الواحد لهذه الحضارة الواحدة.
ومن ثم فليس في هذا التصور حدود – لها حرمة الحدود – تميز (أوطانا) متعددة، لحضارات متميزة ... ولهذا فإن عبور الفكر – كل الفكر – للحدود – كل الحدود – ليس فيه عندهم شبهة (غزو) ولا أثر (عدوان) (5)
وهذا التصور يُروَّجُ له بشتى الأساليب، فثمت دعوة إلى (فكر عالمى) وهناك دعوة إلى أن الحضارة الحديثة (حضارة عالمية) وهناك دعوة إلى (ثقافة عالمية) .
__________
(1) انظر: الدكتور توفيق الواعى، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 680، طبعة دار الوفاء، المنصورة، 1408هـ، القاهرة
(2) المصدر السابق: ص 680، بتصرف
(3) الدكتور توفيق الواعى، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 681، بتصرف وإضافة
(4) انظر: الدكتور توفيق الواعى، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 681 مع تصرف يسير
(5) الدكتور محمد عمارة، الغزو الفكرى، وهم أم حقيقة: ص6، طبعة الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية، بالأزهر الشريف، 1988م(7/2090)
وهناك حركة (البهائية) التي نشأت سنة 1260هـ - 1844م تحت رعاية الاستعمار الروسى، واليهودية العالمية، والاستعمار الإنجليزى، تزعم أنها جاءت بدين عالمى جمع البوذية، والبرهمية، الزرادشتية، المانوية، المزذكية، الفرق الباطنية، اليهودية، والنصرانية، والدهرية، وهذه الدعوة تجد رواجًا (1) .
وهناك علماء ومفكرون، ينكرون أن يكون عالم اليوم، وطنًا حضاريًّا واحدًا لحضارة عالمية واحدة ... وهؤلاء العلماء يدعون إلى ضرورة احترام (الحدود الحضارية) .. لأن العالم في تصورهم: هو أقرب ما يكون إلى (منتدى عالمى لحضارات متميزة) تشترك أممها في عضوية هذا المنتدى، ومن ثم فإن بينها ما هو (مشترك حضارى عام) .... وأيضًا، فإن هذه الأمم تتمايز حضاريًّا.. الأمر الذي ينفى الوحدة الحضارية، ويستدعى الحفاظ على (الهويات) الحضارية المتميزة.. لا لمجرد الحفاظ عليها – رغم أهميته ـ إنما لأسباب وطنية، وقومية، وعقدية، تلعب دورها في إنهاض أمم كثيرة من كبوتها وتراجعها لما لهذه الخصوصيات من قدرات على شحن شعوب هذه الأمم بالكبرياء المشروع والطاقات المحركة في معركة الإبداع.. ولما للتعددية من دور في إثراء مصادر (العطاء العالمى) . (2) .
وهؤلاء العلماء الذين ينكرون أن يكون عالم اليوم وطنًا حضاريًّا واحدًا لحضارة عالمية واحدة، يذهبون إلى أن التعددية الحضارية تكشف وتعرى روح الهيمنة والعدوان والإستعلاء التي تخفيها الحضارة المتغلبة على عالمنا المعاصر.
وهى الحضارة الغربية، تحت ستار: (وحدانيتها.. وعالميتها.. وإنسانيتها) كما أن هذه التعددية تقوم بدور فعال، في إذكاء روح المقاومة، عند الأمم المستضعفة حضاريًّا، ضد السمات والقسمات التي مثلت وتمثل (مأزق الحضارة الغربية) الذي يمسك اليوم بخناق إنسانها، وذلك حتى لا تعم مأساته كل بنى الإنسان؟ (3)
__________
(1) انظر: الندوة العالمية للشباب الإسلامى، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة: ص 64، طبعة الرياض، 1409هـ
(2) انظر: الدكتور محمد عمارة، الغزو الثقافى وهم أم حقيقة: ص 7 بتصرف
(3) المصدر السابق: ص7(7/2091)
وهؤلاء العلماء يعترفون بوجود: (الغزو الفكرى) ، وينبهون على مخاطره التي تعددت، وتكاد تحيط بالمجتمعات الإسلامية.
وهؤلاء العلماء: يرفضون دعوى (الوطن الحضارى الواحد لعالمنا المعاصر) ودعوى (الحضارة العالمية الواحدة) لهذا الوطن الواحد، ويقدمون بديلًا لها دعوى أن عالمنا هو أقرب ما يكون إلى (منتدى عالمى لحضارات متميزة) وأن الأمم المستضعفة حضاريًّا، لابد لها من النضال الحضارى، ضد نزعة التفرد والهيمنة، التي تمارسها الحضارة الغربية المتغلبة – بالاستعمار القديم والجديد – على غيرها من الحضارات..
فالتعددية لا الواحدية هي الحقيقة الممثلة للواقع الحضارى، في الواقع الذي نعيش عليه, ومن ثم فإن هناك حالات لتعدى (الحدود الحضارية) تمثل (غزوًا فكريًّا) لا شك فيه. (1)
وهذا التصور يؤيده واقع حياة الشعوب، فالذين يعايشون حياة الشعوب، والأمم ذات الحضارة الغنية والتاريخ القديم، والتراث العريق،.. أو يغوصون في تراث هذه الأمم وفلسفتهاو مذاهبها، وتقاليدها وأعرافها.. يدركون أن عالمنا به – حقًّا – أمم متعددة، تتميز كل منها بشخصيتها القومية والحضارية المتميزة.
وإننا إذا نظرنا في مذاهب هذه الأمم وأعرافها، وفى معايير الحلال والحرام والمشروع والممنوع لدى أبنائها، وفى موازين الأذواق، والحاسة الجمالية، وفى تصوارتها لمكان الإنسان من الكون، وتصوراتها لمصيره بعد الموت، وتصوراتها الفلسفية لهذا الكون، وما وراء المادة والطبيعة.. إذ نحن نظرنا إلى مذاهب هذه الأمم، في هذه القضايا الأمهات أدركنا السمات التي تمايز بينها – جنبًا إلى جنب – مع سمات تشترك فيها، فتجمع بينها. (2)
ولا يخفى أن الباحث الذي يسبر أغوار المواريث الفكرية لهذه الأمم، ويتتبع خيوط هذا التمايز الحضارى يجد أنها تضرب بجذورها في أعمق أعماق التاريخ.. حيث كان البابليون والآشوريون الفينيقيون والمصريون وغيرهم ممن أسهموا في الفكر الإنسانى، وكان لهم تمايز حضارى (3)
__________
(1) انظر الدكتور محمد عمارة، الغزو الفكري وهم أم حقيقة: ص8
(2) انظر الدكتور محمد عمارة، الغزو الفكري وهم أم حقيقة: ص 9.8
(3) راجع: الدكتور أحمد السايح، أضواء على الحضارة الإسلامية، ص 78، طبعة دار اللواء بالرياض، 1401هـ، 1981م(7/2092)
ولعل نظرة فاحصة إلى أمم مثل: الصين.. والهند.. واليابان ستفضى بالباحث إلى الاجتماع على حقيقة تميز الشخصيات القومية، والمواريث الحضارية، وطرائق العيش، والفلسفة، والحياة، وفى النظرة للكون وتصوره، لدى شعوب وأمم هذه الحضارات..
وكذلك الحال إذا نحن تأملنا الحضارة الغربية منذ اليونان وحتى نهضتها الحديثة.. والحضارة الإسلامية منذ تبلورها كثمرة لاندماج المواريث القديمة للشعوب التي دخلت الإسلام بعد الإحياء لهذه المواريث كثمرة لاندماج هذه المواريث في الفكر الإسلامي، الذي استصفاها وطورها وفقًا لمعاييره (1) حيث لم يكن المسلمون مجرد نقلة، ولكن إضافاتهم للأصول التي نقلوا عنها تشهد بأنهم زادوا وابتكروا، لأنهم كانوا ينظرون بعين إلى الثقافة اليونانية، وبالعين الأخرى إلى التعاليم الإسلامية. (2)
على أن الذي ينبغى أن نقف عنده: (أن التصور الذي يرى أن العالم وطنًا واحدًا لا غزو لفكر فيه تصور يقوم على انتصار الحضارة الغربية المتغلبة التي تعمل على مسخ الحضارات العريقة) .
إذن: لابد من التصور الذي يقوم على أن الفكر إذا نظرنا إليه على المستوى العالمى الإنسانى، وجدنا في هذا الفكر: (ما هو مشترك إنسانى عام) لا يختص بحضارة بذاتها، وفى هذا الفكر أيضًا ما يتميز بالخصوصية والاختصاص.
والتمييز في الفكر بين ما هو مشترك إنسانى وبين ما هو خصوصية حضارية إنما تحكمه وتحدده معايير موضوعية.
__________
(1) انظر الدكتور محمد عمارة، الغزو الفكرى وهم أم حقيقة: ص 9 بتصرف
(2) انظر: الدكتور توفيق الطويل. الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية: ص 151، طبعة مكتبة التراث الإسلامى. مصر 1990م(7/2093)
فكل العلوم التي موضوعها الطبيعة وظواهرها , والمادة وخصائصها، هي من قبيل الفكر، الذي هو مشترك إنسانى عام، وذلك لأن منهاجها تتميز بالحياد العلمى، لأن التجربة الملموسة بالحواس المادية هي السبيل لاكتشاف حقائق هذه العلوم، تلك الحقائق التي هي بنت الدليل، والتى لا تختلف باختلاف مذاهب وعقائد وأجناس وفلسفات المكتشفين، ومن ثم فهى لا تتغاير بتغاير القوميات والحضارات، بل هي واحدة على المستوى الإنسانى، كما أن موضوعاتها – المادة وظواهرها – واحدة هي الأخرى، لا تختلف ولا تتغاير باختلاف وتغاير الحضارات، فعلوم مثل الرياضيات بفروعها، ومثل الكيمياء، والطبيعة، والطب، والجيولوجيا ولم لن تختلف مناهجها وحقائقها وقوانينها باختلاف الحضارات قد تتمايز وظائف استخدام قوانينها ونظرياتها ومكتشفاتها, لكن حقائق علومها أي (فكرها العلمى) سيظل واحدًا مهما اختلفت المذاهب والعقائد والحضارات. (1)
والعقل البشرى استطاع بما اكتسب من خبرة ودربة ومرانة أن يصنف هذه العلوم, وأن يحكم ما بينها من وشائج، وأن يستفيد بما بينها من صلات وروابط.
والنتائج العلمية متصل بعضها ببعض، ويعتمد بعضها على بعض، ولهذا كانت الحضارات الإنسانية ملكًا لأمة بعينها، ولا هي وقف على جماعة من الناس؛ لأنها صرح هائل، قد اسهمت فيه كل أمة بنصيب (2)
ويلحق بهذه المنظومة من حقائق العلوم الطبيعية الخاصة بدراسة المادة وظواهرها وأسرارها على نحو ما وإلى حد كبير العديد من ثمرات التجارب الإنسانية في الوسائل والنظم والمؤسسات والخبرات التي ترشد أداء الإنسان وهو يسعى إلى تحقيق المقاصد والغايات..
فعلى الرغم من تمايز المقاصد والغايات والمثل، فإن تجارب الإنسانية في الوسائل، والنظم، والمؤسسات قد تكون صالحة في أحيان كثيرة للاقتباس – مع التطويع – وللتمثيل، والاستلهام.
هذا عن العلوم الطبيعية والتجارب المادية التي تمثل حقائقها وخبراتها فكرًا عالميًّا هو صميم (المشترك الإنسانى)
أما الشق الآخر من الفكر، الذي يدخل في صميم الخصوصية الحضارية، التي تتمايز بتمايز الحضارات فهو ذلك الذي ينطلق من العقائد، والمذاهب، والفلسفات.
فكما تميزت علوم (المادة) الثابتة بالعالمية، فغذت حقائقها، وقوانينها (مشتركًا إنسانيًّا عامًا) تميزت، وتتميز علوم العقائد والمذاهب والفلسفات بالخصوصية الحضارية، التي تجعلها وثيقة الصلة بطبائع الأمم ومعتقدات الشعوب، وطرائقها في الحياة (3)
__________
(1) انظر الدكتور محمد عماره، الغزو الفكرى وهم أمة حقيقة: ص 16
(2) انظر: الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح، أضواء على الحضارة الإسلامية: ص 92
(3) انظر: الدكتور محمد عمارة الغزو الفكرى وهم أم حقيقة: ص 18.17 بتصرف(7/2094)
الغزو الفكرى
لقد وضح لنا: أن هناك (غزوًا فكريًّا) مقصودًا، يعمل لإذابة الشعوب، وانسلاخها عن عقائدها ومذاهبها وحضاراتها، لتصبح مسخًا شائهًا تابعًا لغيره، يؤمر فيطيع.. ولقد عمل هذا الغزو على تضليل المجتمعات الإنسانية، وخداعها والتمويه عليها وقلب الحقائق وتشويه الحقيقة عن طريق تصنيع الكلمة , وزخرفه القول، والدخول إلى المخاطب. من نقطة الضعف، والاستغفال لإغرائه والإيقاع به، الإيحاء إليه، بسلامة الفكرة، وصحة المفهوم المزيف، الذي تحمله كلمات الغزو.
ولكم تهاوت أمم وشعوب وأجيال، وتساقطت في هاوية الضلال والانحراف والفساد الخلقى والعقدى والاجتماعى بسبب تصورات (الغزو) المزخرفة الخادعة، التي يرقص السذج والجهال على نغم إيقاعها، ويفتنون بسماعها وأناقة ظاهرها.
ولكم عانى الإنسان والشعوب من أولئك الذين يصنعون (الغزو الفكرى) ويصدرونه في موجات، تقتحم الديار والبيوت، لقد قِيدت الإنسانية إلى هاوية الضلال والانحراف، ولقد كان (للغزو الفكرى) في كل جيل، وفى كل عصر دوره التخريبى في حياة الناس، إلا أن البشريه لم تشهد في مرحلة من مراحل حياتها وضعا كان فيه (للغزو الفكرى) خبراء، ومتفلسفون، وأجهزة، ومؤسسات، كعصرنا الحاضر هذا، الذي اتخذ فيه (الغزو الفكرى) صبغة الفلسفة والنظرية والمبدأ الذي يعتنقه الأتباع، ويدافعون عنه، وينقادون له.
وقضية الغزو الفكرى أصبحت اليوم من أشد القضايا خطرًا، تبدو ظواهر هذ الغزو المدمر في قلوب وعقول كثير من المثقفين في هذا العصر. واضحة بينة، والسلاح الذي يستعمله (الغزو الفكرى) مدمر قتّال، يؤثر في الأمم والمجتمعات أكثر مما يؤثر المدفع والصاروخ والطائرة، وقد ينزل إلى الميدان ويعظم خطره حين تخفق وسائل الحديد والنار في تحقيق الهدف والوصول إلى الغاية، والخطر الذي يحتجنه هذا الغزو أكثر بكثير من قتل الإفراد، بل من قتل جيل بأسره، إذ يتعدى ذلك قتل أجيال متعاقبة.
والسلاح الذي يستعمله هذا الغزو هو سلاح الحيله والشبهات وتحريف الكلم، الخديعة في العرض (1)
__________
(1) راجع: إبراهيم النعمة، المسلمون أمام تحديات الغزو الفكرى: ص 7، طبعه شركة معمل ومطبعة الزهراء الحديثه , المحدودة. العراق 1986م(7/2095)
ومما لا ينكر أنه لم يواجه دين من الأديان ولا عيقدة من العقائد مثل ما واجه الإسلام من تحديات , فقد واجه الإسلام منذ فجر تاريخه تحديات عنيدة من مخالفيه، فقد واجه المشركين في مكة، واليهود في المدينة، ثم لما فتحت الأمصار وانتشر الإسلام فيها واجهت الثقافة الإسلامية أفكارًا شعوبية إلحادية وفلسفات وثنية كالفلسفات الفارسية، واليونانية والهندية، وغيرها, ولكن الإسلام ثبت أمام هذه التحديات وانتصر عليها , فقد كان المجتمع الإسلامي آنذاك يعى الإسلام وعيًا كاملًا.
ويدرك أخطار الأفكار والاتجاهات التي كان يطرحها الفلاسفة والزنادقة, وما تحمله من شبهات، وهى في جملتها تعمل على نقل الفكر من مجال أصالة الفطرة ومنطق العقل الصحيح وطريق التوحيد وطابع الإيمان إلى مجال الإلحاد والإباحية.
غير أن المجتمع تصدى لهم، وأخذ يكشف زيفهم، ويبين ما أنطوت عليه قلوبهم من كيد، ولم تستطع أن تنال من الإسلام عبر العصور،
على أن أخطر هذه التحديات هي تلك التي تواجهها المجتمعات الإسلامية اليوم، وهى تحديات تتمثل بالمواجهة السافرة حينًا، والمستترة أحيانًا، هذا التحدى الذي يتمثل حاليًا بالغزو الفكرى الغربى (1)
__________
(1) عز الدين الخطيب التميمى وآخرين: نظرات في الثقافة الإسلامية، ص31 دار الفرقان، عمان، 1404هـ، 1984م الأردن.(7/2096)
أسباب الغزو الفكرى
أولا – العداء الصليبى للإسلام والمسلمين:
والباحثون يدركون أن أوروبا اكتشفت الفكر الإسلامى في مرحلتين من مراحل تاريخها، فكانت مرحلة القرون الوسطى، قبل وبعد (توماس الإكوينى) (1) تريد اكتشاف هذا الفكر، وترجمته.. من أجل ذلك إثراء ثقافتها. بالطريقه التي أتاحت لها فعلًا تلك الخطوات، التي هدتها إلى حركة النهضة منذ أواخر القرن الخامس عشر الميلادى، وفى المرحلة العصرية والاستعمارية فإنها تكتشف الفكر الإسلامي مرة أخرى، لا من أجل تعديل ثقافى، بل من أجل تعديل سياسى، لوضع خططها السياسية مطابقة لما تقضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية أخرى، ولتيسير هذه الأوضاع طبق ما تقتضيه السياسات في البلاد الإسلامية (2) .
ويذكر المؤرخون أن الجيوش الأوروبية الصليبة لما هاجمت بلاد الإسلام كانت مدفوعه إلى ذلك بدافعين:
الدافع الأول: دافع الدين والعصبية العمياء التي أثارها رجال الكنيسة في شعوب أوروبا مفترين على المسلمين أبشع الافتراءات، محرضين النصارى أشد تحريض على تخليص مهد المسيح من أيدى الكفار – أي المسلمين – فكانت جمهرة المقاتلين من جيوش الصليبين من هؤلاء الذين أخرجتهم العصبية الدينية من ديارهم عن حسن نية وقوة عقيدة إلى حيث يلاقون الموت والقتل والتشريد، حملة بعد حملة، وجيشًا بعد جيش.
والدافع الثانى: دافع سياسى استعمارى، فلقد سمع ملوك أوروبا بما تتمتع به بلاد المسلمين من حضارة وثروات فجاءوا يقودون جيوشهم باسم المسيح، وما في نقوسهم إلا الرغبة في الاستعمار والفتح، وشاء الله أن ترتد الحملات كلها مدحورة مهزومة (3)
ويكاد يكون معروفًا أن أوروبا شنت حملات صليبية على الشرق الإسلامى، وقد بدأت الحروب الصليبية منذ منتصف القرن الحادى عشر، واستمرت حتى نهاية القرن الثالث عشر أي ما يقرب من مائتى وخمسة وعشرين عامًا في ثمانى حملات من الحملات المدججة بالعدد والمعدات، ويصف كاهن مدينة (لوبوى ريموند واجيل) سلوك الصليبين حينما دخلوا على القدس، فيقول: (حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقطعت رؤوس بعضهم فكان أقل ما أصابهم , وبقرت بطون بعضهم، فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النار، فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوه) (4)
وروى الكاهن نفسه خبر ذبح عشرة الآف مسلم في مسجد عمر – رضى الله عنه – يقول في هذا: (لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، فكانت جثث قتلى تعوم في الساحة هنا وهناك، وكانت الأيدى والأذرع المبتورة تسبح وكأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها. فإذا ما اتصلت زراع بجسم لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلًّا بمشقة) (5) .
ويذكر التاريخ أن الحملة الصليبية عند دخولها بيت المقدس في 15 مايو عام 1099 م قد ذبحت أكثر من سبعين ألف مسلم حتى سبحت الخيل إلى صدورها في الدماء، وفي أنطاكية قتلوا أكثر من مائة ألف مسلم.
فالأمر خطير، إنه حقد الشر على الحق، والرذيلة على الفضيلة، وعداوة الشرك للتوحيد، وخصومة الضلال للهدى (6) .
وقد صمدت الأمة الإسلامية في وجه هذه الحروب الوحشية التي سلبت ونهبت، وقتلت وفتكت.
__________
(1) توماس الإكوينى ولد سنة 1226م وتوفى سنة 1274م، ويعتبر من أعظم الفلاسفة واللاهوتيين في العصر المدرسى المسيحى. منحته الكنيسة الكاثوليكية لقب القديس.
(2) مالك بن نبى، إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامى، ص 8، طبعة دار الإرشاد، بيروت 1969م
(3) الدكتور مصطفى السباعى، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامى، ص 187، 188 طبعة دار الكتب الإسلامى، بيروت ودمشق 1398هـ1978م
(4) انظر: د. غوستاف لوبون. حضارة العرب: ص 2-4، ترجمة عادل زعيتر، الطبعة الثانية 1948م
(5) لوثروب ستودارد، حاضر العالم الإسلامي: 1/ 60، ترجمة نويهض
(6) راجع نادية شريف العمري، أضواء على الثقافة الإسلامية: ص 164، طبعة مؤسسة الرسالة، 1406 هـ بيروت(7/2097)
وبعد مضي أكثر من قرنين من حروب دامية اشتد وطيسها بين كتائب الإيمان وبين جحافل الشر، ارتدت الحروب الصليبية، وقد باءت هذه الحملات بالإخفاق والهزيمة، فالقديس (لويس التاسع) قائد الحملة الصليبية الثامنة، وملك فرنسا، وقع أسيرًا في مدينة (المنصورة) في مصر , ثم خلص من الأسر بفدية، ولما عاد إلى فرنسا، أيقن أن قوة الحديد والنار لا تجدي نفعًا مع المسلمين الذين يملكون عقيدة راسخة تدفعهم إلى الجهاد، وتحضهم على التضحية بالنفس، وبكل غال.
إذن: لابد من تغيير المنهج والسبيل، فكانت توصياته: أن يهتم أتباعه بتغيير فكر المسلمين، والتشكيك في عقيدتهم وشريعتهم، وذلك بعد دراستهم للإسلام لهذا الغرض، وهكذا تحولت المعركة من ميدان الحديد والنار إلى ميدان الفكر (1) ، لأن القضاء على الإسلام أو تحويل المسلمين عن دينهم لا يمكن أن يأتي عن طريق القوة المادية، والغزو المسلح.
ولقد بدأت حركة (الغزو الفكري) من منطلق ضرب المسلمين عن طريق الكلمة بعد هزيمة الحروب الصليبية – كما وجههم (لويس التاسع) – والعمل على ترجمة القرآن والسنة وعلوم المسلمين للبحث عن الثغرات التي يدخلون منها إلى إثارة الشبهات، وقد أعلنوا صراحة أن الإسلام هو عدوهم الأول، وأن أكبر غاية لهم هي ضرب وهدم قواعده (2) .
لقد فشلت الحروب الصليبية من الوجهة الحربية.. لكن بقي (الغزو الفكري) ينفث سمومه، ويثيثر الشكوك، وبقيت النزعة الصليبية تتوارى خلف ستار من الدبلوماسية والرياء السياسي تحرك ما تريد تحريكه، وتقف خلف الغزو الفكري بكل ما لها من قوة وعلم..
__________
(1) إبراهيم النعمة، الإسلام أمام تحديات الغزو الفكري: ص 12
(2) أنور الجندي، المد الإسلامي في القرن الخامس عشر الهجري: ص 126، طبعة دار الاعتصام بالقاهرة، 1982م(7/2098)
ولاشك أن العداء الصليبي للإسلام هو الدافع الأساسي والأصيل للغزو الفكري الذي تسلط على مجتمعات الأمة الإسلامية، ونجد أن هذا العداء أخذ (شكل السعار الوبائي لدى الأمم الغربية (الصليبية) فأخذوا مستميتين يوزعون السموم ذات اليمين وذات الشمال، ويفترون الأكاذيب، ويطمسون الحقائق، ويدبرون المكائد، ويتصيدون السقطات، ثم يدخلون في روع أنفسهم وبني جلدتهم أنهم أرقى عنصرًا، وأفضل عقلًا، وأفلح دينًا، وأنهم أوصياء على البشرية وسادة الإنسانية وهداتها ومرشدوها) (1) .
وقال (وليم غيفورد بلغراف) الإنجليزي المسمى بالحرباء: الكلمة المشهورة التي يلخص فيها عداء الغربيين للإسلام: (متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا أن نرى العربي يندرج في سبيل الحضارة، التي لم يبعده عنها إلَّا محمد وكتابه) (2)
(وجلادستون) رئيس وزراء بريطانيا يقول: (مادام القرآن موجودًا فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان) (3) .
ويرى غاردنر: (أن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوروبا) (4) .
ويوضح هذا العداء ويذكر بعض أسبابه المستشرق بيكر، فيقول: (إن هناك عداء من النصرانية للإسلام، بسبب أن الإسلام عندما انتشر في العصور الوسطى، أقام سدًّا منيعًا في وجه الاستعمار وانتشار النصرانية، ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها) (5) .
__________
(1) الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 704، 705
(2) انظر: الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية
(3) نادية شريف العمري، أضواء على الثقافة الإسلامية: ص 167
(4) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة: ص 13، طبعة بيروت دار القلم 1977
(5) انظر: عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة: ص 705 وانظر: عمر فروخ والخالدي , التبشير والاستعمار ص184 , طبعة المكتبة العصرية بيروت(7/2099)
ويقول في هذا المعني (لورانس براون) : (إن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الغربي) (1) ثم بين (لورانس براون) : أن خطر المسلمين هو الخطر العالمي الوحيد في هذا العصر، الذي يجب أن تجتمع له القوى، وتجيش له الجيوش، وتلتفت إليه الأنظار، فيقول حاكيًا أراء المبشرين: (إن القضية الإسلامية تختلف عن القضية اليهودية، إن المسلمين يختلفون عن اليهود في دينهم، إنه دين دعوة، إن الإسلام ينتشر بين النصارى أنفسهم وبين غير النصارى، ثم إن المسلمين كان لهم كفاح طويل في أوروبا، فأخضعوها في مناسبات كثيرة، على أن الفرق الأساسي بين المسلمين واليهود – كما يراه المبشرون – هو أن المسلمين لم يكونوا يومًا ما أقلية موطوءة بالأقدام) .. ثم يقول: (إننا من أجل ذلك نرى المبشرين ينصرون اليهود على المسلمين في فلسطين، لقد كنا نُخوَّف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر (باليابان وتزعمها على الصين) وبالخطر البلشفي، إلَّا أن هذا التخويف كله لم يتفق (لم نجده ولم يتحقق) كما تخيلناه، إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مُضطَهِد لهم (2) عدونا الألد، ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفر، فإن هناك دولًا ديمقراطية كبيرة تتكفل بمقاومتها، ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام) (3) .
__________
(1) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة: ص 705. وانظر عمر فروخ والخالدي، التبشير والاستعمار: ص 184، طبعة المكتبة العصرية بيروت.
(2) الواقع أن اليهود لا يضطهدهم المسلمون، ولكنهم هم الذين يضطهدون المسلمين ويتآمرون عليهم
(3) انظر: الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 706، وانظر عمر فروخ والخالدي، التبشير والاستعمار: ص 184(7/2100)
ولقد اشترك الاستعمار الغربي والجهد التبشيري والحقد الصليبي في حرب المسلمين، وتشتيت تراثهم، ونهب ديارهم، يخيم عليهم سحابة سوداء من البغضاء والكراهية، يتمثل هذا فيما حدث في العام 1918 م عندما دخل اللورد اللنبي القدس، وأعلن: (الآن انتهت الحروب الصليبية) كان هذا القائد يعبر عن الروح الأوروبية، الروح الصليبية التي ظلت متوهجة في أعماقهم طوال تلك الحقب، وبنفس الحقد الذي صدر عن الجنرال الإنجليزي، كان مسلك الجنرال الفرنسي (غورو) قائد الجيش الفرنسي في دمشق حين ذهب إلى قبر صلاح الدين، بعد أن جاءه راكبًا سيارة مكشوفة، وترجل إلى القبر، وقال قولته المشهورة: (نحن هنا يا صلاح الدين) وفي اليوم التالي عمل الشئ نفسه في حمص، حيث ذهب إلى قبر (خالد بن الوليد) – رضي الله عنه – وقال: (نحن هنا يا خالد) (1) .
هذا الحقد والضغن والمقت كان سببًا قويًّا في الإغارة على المسلمين، بشتى الأساليب والطرق والأشكال والألوان، وما زالت تلك الموجة تعلو وتشتد وتمتد ثقافيًّا وفكريًّا؛ لتخريب قواعد الإسلام والأخلاق الإسلامية وإشاعة الأفكار والتيارات الهدامة (2) ، وشغل الأمة الإسلامية، بكل ما هو هامشي في حياتها، حتى لا تدرك اليقظة الواعية، ولا تنتبه إلى ما يحاك حولها.
لقد وجد الغربيون، أن خير طريق لغزو العالم الإسلامي وإخضاعه، هو سلوك الغزو الفكري، فوضعوا الخطط، وحاكوا المؤتمرات للغارة على الأفكار والمفاهيم الإسلامية، وعلى كل ماله صلة بالإسلام حضارة وثقافة، وصارت قاعدتهم التي ارتكزوا عليها: (إذا أرهبك عدوك فأفسِد فكره ينتحر به، ومن ثم تستعبده) وانطلقت الصيحة إلى ضرورة نقل المعركة من ساحة الحرب إلى ميدان الفكر والمعرفة (3) فأغاروا على حضارة الإسلام وثقافته سعيًا وراء هدم عقائده وأفكاره، ونشر الأفكار الغربية بديلًا عنها.
__________
(1) انظر: الدكتور توفيق الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 707. وانظر كذلك: نجيب الكيلاني، الإسلامية والقوى المضادة: ص 142، طبعة مؤسسة الرسالة، 1407 هـ
(2) راجع الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 707
(3) انظر: عز الدين الخطيب التميمي وآخرين، نظرات في الثقافة الإسلامية: ص 33. وراجع عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة: ص 14(7/2101)
ولاشك أن الغزو الفكري أعمق أثرًا، وأشد فتكًا في حياة الأمة من الغزو المسلح؛ لأنه يتسلل إلى عقولها وقلوب أبنائها، ذلك أن الأمم تقاس بمقوماتها العقدية، والفكرية، وقيمتها الخلقية.
فالغزو الفكري الأخلاقي أخطر من الغزو المادي المسلح، لأنه يمضي بين الناس في صمت ونعومة وخفاء في الأهداف، مما يجعل الناس تدريجيًّا يتقبلون كل جديد ولو خالف قيمهم وعقائدهم وأفكارهم دون معارضة، ويتقبلون الذوبان في بوتقة أعدائهم، وهم ينظرون ولا يشعرون. (1) .
وإذا كان العداء الصليبي للإسلام والمسلمين سببًا رئيسيًّا دفع بالغرب إلى (الغزو الفكري) للمجتمعات الإسلامية فإنَّ هناك أسبابًا أخرى – غير العداء الصليبي – ساعدت على انتشار (الغزو الفكري) وعملت على هزيمة المسلمين أمام هذا الغزو، ونجد ذلك واضحًا في ثانيًا..
__________
(1) انظر: عز الدين الخطيب التميمي وآخرين، نظرات في الثقافة الإسلامية: ص 34(7/2102)
ثانيًا – الاستعمار الغربي للمجتمعات الإسلامية:
لقد تعرض المجتمع الإسلامي في آسيا وأفريقيا للطابع الأيديولوجي للمجتمع الأوروبي، سواء الحديث منه في القرن الناسع عشر، أو المعاصر في القرن العشرين، ولم تكن للمجتمع الإسلامي مناعة في رفض هذا الطابع وتحديه وعدم تقبله, فتعرض للغزو الأوروبي، من أجل الصناعة الغربية، منذ أثمر عهد النهضة الأوروبية ثمرته في التحرر والخلاص من سلطة الكنيسة، وفي استرداد الإنسان الأوروبي حرية الحركة في التجارة وفي شؤون المال على العموم، وحرية التفكير والتوجيه السياسي (1) .
وكان الوضع في البداية قبل الاستعمار تربصًا من جانب المجتمع الأوروبي بالمجتمعات الإسلامية، وانقضاضًا عليها من جانب، بينما كان استسلامًا من أي مجتمع إسلامي تعرض للتربص والانقضاض، وقبولًا للوصاية الأجنبية والاستغلال الأوروبي من جانب آخر (2) ، ومما هو مسجل في صفحات التاريخ: أن المجتمع الإسلامي وقع فريسة للاستعمار، فقد احتلت بريطانيا: الهند في سنة 1859 م ومناطق الخليج الإسلامي، وجنوب شبه الجزيرة العربية في سنة 1849 م، ومصر في سنة 1882 م، والسودان في سنة 1898 م.
واحتلت فرنسا: الجزائر في سنة 1845م، وتونس في سنة 1881 م، والمغرب في سنة 1912 م.
واحتلت إيطاليا: طرابلس الغرب في سنة 1911 م.
واحتلت هولاندا جزر الأرخبيل الأندونيسية تباعا منذ عام 1903م.
وروسيا احتلت القرم قبل القرن التاسع عشر في سنة 1873 م وسيطرت بإشرافها على المجتمعات الإسلامية في وسط آسيا، وهي: أذربيجان، وكازاخستان، وأوزبيكستان، ونوركيستان، وكزيخستان.. سيطرة تامة في القرن التاسع عشر، ولم يسلم من الاحتلال الأوروبي سوى: اليمن، والحجاز، وإيران، ووسط تركيا (3) .
__________
(1) انظر: الدكتور محمد البهي، الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي: ص 51، 52، بتصرف، طبعة دار الفكر، 1973 م
(2) المصدر السابق: ص 51
(3) راجع هامش: ص52 من المصدر السابق(7/2103)
ولا يخفي أن وقوع المجتمعات الإسلامية تحت سيطرة الاستعمار زاد من اتساع السوق الاستهلاكية لمنتجات الغرب الصناعية، وهذا أدى إلى تفوق الصناعة الغربية. وكلما قوي المجتمع الأوروبي وتفوق صناعيًّا، كلما زادت رقعة استعماره في قارة أفريقيا وقارة آسيا ...
وكلما زادت قبضة أوروبا على ما تم استعماره، وكلما اتسع نفوذها السياسي والاستغلالي، كما زاد ضعف المجتمع الإسلامي الذي وقع تحت سلطة الاستعمار، وزادت تبعيته وتقلبه لما يأتي من الغرب.
ويوم أن تحرك المجتمع الأوروبي لاستعمار المجتمعات الإسلامية، كان في قمة مجده، بما أنجره من الفصل بين الكنيسة والدولة، واستقلاله بالسلطة الزمنية، وبالحرية الفردية، في التفكير، والتوجيه، وبالحرية السياسية، كما كان في أشد الأوضاع حرصًا على اتجاه (العلمانية) كمثال للإنسانية..
استصحب الاستعمار معه هذا الاتجاه بما يستتبعه في الحكم والتوجيه والتشريع والاقتصاد في المجتمع الإسلامي الذي يتمكن منه.
وباستصحاب الاستعمار اتجاه العلمانية، ومحاولة تطبيق هذا الاتجاه، في المجتمع الإسلامي، وهو مجتمع يغاير في خصائصه، وتاريخه، وواقعه المجتمع الأوروبي، اضطر هذا الاستعمار إلى أن يسلك طريقا يمكنه من هذا التطبيق، وهو طريق عزل المجتمع الإسلامي كلية عن ماضيه، وعن تراثه العقلي، واالروحي، والتوجيهي، والسلوكي..
فإذا ما تم عزله أصبحت قيادته مسيرة وطيعة للمستعمر، وبالأخص للأجيال التي تنشأ في ظل هذه العزلة (1) .
__________
(1) راجع المصدر السابق: ص 54(7/2104)
ثالثًا – تقدم الغرب العلمي:
لقد كان الغرب يملك تقدمًا علميًّا فائقًا وتقدمًا ماديًّا هائلًا وعبقرية تنظيمية مبدعة، وروحًا من الجلد والصبر على العمل والإنتاج، وروحًا علمية في مواجهة المشكلات سواء من ناحية الدراسة أو من ناحية التنفيذ (1) .
ولا شك أن التقدم العلمي المذهل للغرب كان قويًّا دفاقًا، له من القوة والانتشار والاستيلاء ما بهر العقول، وفتن الألباب، ولا غرو فقد بز بذلك كل تقدم علمي عرفه العالم وسمعت عنه البشرية في التاريخ المترامي الأطراف، واستطاع أن يُخرج من الأسرار ويكشف من الاختراعات ما جعل أبصار الناس وعقولهم تتعلق به (2) ، وخاصة أن هذا العلم أصبح في خدمة الإنسان في كثير من مناحيه، فاتجهت الأنظار والعقول والقلوب إلى الغرب، تتطلع إلى ما فيه من اكتشافات تأتي بجديد (3) .
لقد واجه العالم الإسلامي مشكلة تقدم الغرب العلمي، وجها لوجه، وهذا التحدى السافر على طريق واحد, وهو صاحب الضارة العريقة، والرسالة الدينية الخاتمة، وصاحب الوصاية على البشرية بعد ما انسحبت كل الديانات والمذاهب القديمة متوارية من نوره الوهاج وحجته المشرقة، وصاحب الرقعة الواسعة، والثقافة المنشرة، والقوة الكبرى التي كان يحسب لها ألف حساب. فكان تحدي الحضارة المادية الآلية للعالم الإسلامي أعظم من تحديها لأي أمة، ولأي حضارة، ولأي ثقافة، وقد صاحب تلك الحضارة مذاهب فكرية، وفلسفات مادية، ونظم سياسية، واقتصادية، وعمرانية، واجتماعية، وخلقية، وكان لابد أن ينظر الناس – وخاصة الشعوب المختلفة – إلى هذه المذاهب والفلسفات، والنظم نظرة تقدير واحترام، لأنها نتاج تلك الشعوب المتقدمة، وحصاد تلك الأمم المتطورة التي فتتت الذرة، وصنعت الطائرة والصاروخ، وأدارت الأقمار (4) وغزت الفضاء، لتراقب سلوكيات الإنسانية كلها – وخاصة تحركات المجتمعات الإسلامية – ولتكتشف من الفضاء الواسع، ما يزيدها من العلم تمكينًا , وأصبحت المجتمعات الإسلامية تمجد الحضارة الأوروبية والتقدم العلمي والصناعي، واستطاع الغرب أن ينقل الإنتاج المادي إلى المجتمعات الإسلامية في أفريقيا وفي أسيا؛ لاستخدام هذا الإنتاج في تيسير الحياة والتغلب على صعوبات المشاق التي تصحب عادة الحياة الإنسانية المختلفة، أو البدائية، وذلك ليكون شواهد مادية، ترى وتختبر في التطبيق وفي واقع الحياة (5) .
__________
(1) انظر: محمد قطب، واقعنا االمعاصر: ص 343، طبعة مؤسسة المدينة، جدة 1407 هـ
(2) راجع الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 685
(3) د. أحمد السايح، أضواء على الحضارة الإسلامية: ص 150
(4) الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 686
(5) الدكتور محمد البهي، الفكر الإسلامي والمجتمع المعاصر: ص 54(7/2105)
رابعًا – الضعف الفكري، والتفكك الاجتماعي:
لقد أصيب المجتمع الإسلامي بالضعف الفكري والتفكك الاجتماعي، وذاق من جراء تلك الإصابة مرارة التأخر والضعف الفكري ما أصيبت به أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات إلا كانت الحالة انحطاطًا في التفكير واهتمامًا بالخرافات والأساطير.
والتفكك الاجتماعي نتيجة حتمية للضعف الفكري، لأن الضعف الفكري لا يكشف للإنسان مخاطر الانزلاق في الهاوية، ولهذا نجد أن المجتمعات الإسلامية ابتليت بالطوائف المتعددة والمتناحرة، والمذهبية التعصبية، وتعدد السلطنات والدويلات التي قامت على أساس شعوبي أو مذهبي، في هذا المجتمع أو ذاك.
وهذا كله جر المجتمع الإسلامي إلى فوضى قاتلة وتناحر حقيقي وسلب ونهب وقتل دون رادع أو وازع.. ومجتمع كهذا لابد وأن يتعرض لسيطرة المتربصين به. لقد كانت السلطة السياسية في المجتمعات الإسلامية تعيش في وضع مقلوب (في ذلك الوضع لابد أن تكتمل الصورة المقيتة لأي إمبراطورية على وشك السقوط، بغض النظر عن اللافتة التي ترفعها، سواء كانت إمبراطورية فارسية، أو بيزنطية، أو رومانية، أو عباسية. لابد أن تتفشى الرشوة، وتكثر مصادرة الأموال، وتتفاقم الاضطرابات الداخلية، مع الانحلال الخلقي، والانشغال بالتوافه عن الخطر الذي يدق الأبواب) (1)
وأساس انهيار الأمم يبدأ من الداخل، وقد يأتي تدخل خارجي ليعجل بالسقوط، ولكن يظل الانهيار الداخلي هو بداية النهاية وعاملها الأكبر، ويأتي الانهيار الداخلي حين تتكون طبقة مترفة تتحكم في الثروة، وفي الجماهير، فتنشر الظلم والانحلال، وتحيل حياة الأكثرية إلى جحيم تهون فيه الحياة (2) .
لاشك أن المة الإسلامية عاشت فترات من حياتها، كانت سببا في تأخرها وغفلتها، وطمع الطامعين في مجتمعاتها.
__________
(1) انظر الشيخ محمد الغزالي، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل: ص 110، طبعة دار الشروق، بيروت
(2) راجع المصدر السابق: ص 113(7/2106)
وأي أمة تضعف في أفكارها، ولا تعرف إلَّا القشور من أمرها، وتعيش في تناحر وتمزق لابد وأن تسقط، وينال منها من كان يهابها.
خامسًا – تخلف الشعوب الإسلامية عن ركب الحضارة:
إن المجتمعات الإسلامية حين أصابها الضعف الفكري، والتفكك الإجتماعي، انشغلت بالتافه من الأمور، فقادتها التفاهة إلى التخلف عن ركب العلم والتقدم والحضارة.. ومعنى هذا، أن المجتمعات الإسلامية انصرفت عن تعاليم الإسلام التي تدعو إلى العلم والمعرفة واستعمال العقل والفكر في كل ما من شأنه أن يأخذ بالناس إلى الطريق السليم، (وواكب هذا الانصراف انحطاط في القيم، ودعوات إلى الركون إلى المتع , والعبث بالأموال إلى حد السفه والجنون، والترف والفجور، حتى كان قواد هذا الركب في كل ناد وكل صحيفة مع جهل ضارب، ونفاق ناشب أظفاره، وفساد في كل مجتمع وناد، وتصارع على كل تافه وخسيس من المادة، وخراب للذمم، وبيع للشرف، وكره للقيم، وضياع للحق، وهضم للحقوق، وذبح للفضيلة) (1) .
وكان وضع البلاد الإسلامية كما صوره شاعر تركيا الإسلامي الكبير محمد عاكف: (يسألني الناس أنك كنت في الشرق مدة طويلة. فما الذي شهدت يا ترى، وما عسى أن يكون جوابي؟ أننى أقول لهم: إنني رأيت الشرق من أقصاه، فما رأيت إلَّا قرى مقفرة وشعوبًا لا راعي لها، وجسورًا متهدمة، وأنهارًا معطلة، وشوارع موحشة، رأيت وجوهًا هزيلة متجعدة، وظهورًا منحنية، ورؤوسًا فارغة، وقلوبًا جامدة، وعقولًا منحرفة.
رأيت الظلم والعبودية , والبؤس والشقاء، والرياء والفواحش المنكرة المكروهة، والأمراض الفاشية الكثيرة، والغابات المحرقة، والمواقد المنطفئة الباردة، والحقول السبخة القاحلة، والصور المقززة، والأيادي المعطلة والأرجل المشلولة..
__________
(1) راجع الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية، ص 696(7/2107)